قلتُ: وهذا مَهْمٌ عندي قطعًا لأنَّ أكثر الرواة وَرَواهُ بالجمع، فجاءَ واحدٌ فرواهُ بصيغةِ الوَاحدِ روايةً بالمعنى، كيف لا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أبا هُريرة رضي الله عنه لم يُدْرِك تلك الوَاقِعَة، وكان إسلامُ أبي هريرة رضي الله عنه بعد ما قُتِلَ ذو اليدين كما صَرَّح به ابنُ عمر رضي الله عنه؛ وإنْ كان لا بُدَّ لك من التأويلِ، فالأَوْجَه أَنْ يقال: إِنَّهخ لا يُريد به شَركته في تلك الصَّلاةِ بَل يُريد بيان تَثَبُّتِهِ بأنَّهُ يَحْفظها كأَنَّه صلاهَا خَلْفَه، وهذا ما يَفْعله الرُّواة عند بيانِ تثبتهم لأمرٍ، فينقلون كأنهم يَرَونَه الآن، فيقول قائل كأني أنظر إلى بياضِ ساقيه، وآخر كَأَنَّي أَرَاهَ يَرْفَع يديه، فهذا كله للتنبيه على مزيد إتقانِه وحفظِهِ فقوله: «بينا أَنَّا أُصلِّي» أيضًا مِنْ هذا الوادي، وليس بناءً على أَنَّه صلاهَا حقيقة، ثُمَّ إنَّ ذا اليدين هو ذو الشمالين ولقبه خِرْباق، لأَنَّهُ كان يَعْمَل بيديه واسمه عمير، وهو من سليم ابن ملكان بطن من خزاعة فهو خزاعي كما أَنَّهخ رجلٌ واحدٌ كان يُقال لعه ذو الشمالين وسماه النَّبي صلى الله عليه وسلّمذا اليدين وهو خرباق وعمير وخزاعى وسلمى، ومن لم يعرف وجه هذا الاختلاف ظَنَّ أَنَّهُما رجلان وقد بيَّنا لك وجه تعدد إسمه ولقبه ونسبته فلا تٍغْفَل، وقد نَظَمْتُهُ في البيتين، بيتان للحنفية وبيتان من جهة الشافعي رحمه الله. أما مِنْ جانِبهم فقلت:
*الذي كان شهيدَ البَدْرِ ** ذو الشمالين بنُ عبد عمرو
*ثم خِرْباق بن عمرو آخر ** ذو اليدين السلمي ذكروا ومِنْ جانبِ الحنفية:
*قيل عمرو عبد عمرو واحد ** وابنه هذا عمير قرروا(2/234)
*من سليم ابن ملكان ولا ** ابن منصور فَخُذْ ما حرروا وأَجْوَدَ شيءٍ ما ذكره النِّيْمَوي في «آثار السنن» أَنَّ أبا محمَّد الخُزاعي قال: ذو اليدين أَحدُ أجادِنَا وهو ذو الشمالين هَكَذَا نَقَله عن مسند أبي عبد الله محمَّد بن يحيى العَدَنِي - وذلك لكونِهِ شهادة على اتحادِهَما مِنْ أَهْلِ بَيتِهِ، وصاحب البيت أَدْرَى بما فيها، ولكنَّي كُنت أَرْغَب في أَنْ أَعْرِفَ أَبَا محمَّد الخُزّاعي مَنْ هو فرأيت مرةً رواية عنه في «الدر المنثور»، ثم وجدت تَذْكِرته في «الأنساب» للسَّمْعَاني أَنَّهُ مِنْ أهل الري من ذُرِّية ذي اليدين، عالمٌ نِبيهُ القَدْرِ جليلُ الشأنِ، فلا أرى شهادة أحدٍ تُوازي شهادته، وهذه مَنْ أَجلّ القرائن على كونِما رجلا واحدًا. وسنعود إلى بسطه إن شاء الله تعالى.
482 - قوله: (وسَجَدَ مثلَ سُجُوده) وقد عَلِمْتَ مَرةً، أنَّ بَعْضَا مِنَ الرُّوَاة ينفون السَّجدة رأسًا، وقد مَرَّ مني وجهه أَنَّ ذكره وحذفِهِ يُبْنَى على اجتهاد الرُّواة، فمن نَفَاهَا فإنَّما نَفَاهَا لأَنَّها لم تَكُن واجبة عليه حَسَب زعمه، وهذا إنَّما يُسَوَّغ له إذَا كانت تلك الواقعة قَبْلَ نسخِ فلا يكون موجبَا للسجود.(2/235)
482 - قوله: (فيقول نبئت أن عِمْرَان بن حصين)... إلخ واعلم أنَّ هُنَاك حديثان حديثِ عِمْرَان بن حُصَيْن رضي الله عنه، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مع تغاير بينهما، فحملهما النَّووي على تعدد الوقائع حَذَارًا عَنْ لزومِ الإضطراب فِي واقعة واحدة، حَمَلهما الحافِظُ رضي الله على الوَحدة وهو الأصوب عندي، والاضطراب لا ينفعنا، ولا يضر الشافعية، لأَنَّهما يتفقان في إثباتِ الكَلامِ في خلال الصَّلاة وهو المقصود، وإنَّما الاختلافِ في أمورٍ خارجية فلا يَضُرُّ أصلا، وإليه يُشِير هذا الراوي، ولهذا يستمد في حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه من تَفْصِيلِ عِمْرَان بن حُصَيْن، فَدَلَّ على أَنَّهما قِصة عندَهُ، فَإِنْ كان بعضُ أَلْفَاظِهِ لا تَنْزِل على الوحدة فدعها إِنْ كان وُجدَانُك شَهِد بحقيقةِ الحالِ.
باب المَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى طُرُقِ المَدِينَةِ، وَالمَوَاضِعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم
وقد مَرَّ نُبْذَة مِنَ الكلامِ على دَأْبِ النَّبي صلى الله عليه وسلّمباتخاذِ مكانٍ على حِدَة للصَّلاة في سَفَرِهِ، وهذه تُدْعَى المساجد في كتب التاريخ والسِيَر وإنْ لم تكن مساجد عند الفقهاء. ثم إنَّ الناس بنوا على بعض تلك المواضِع مساجد بَعْدَ النَّبي صلى الله عليه وسلّمإبقاءً لمآثِره صلى الله عليه وسلّمولذا يُفَرِّق الراوي بين التعبير، فتارةً يقول في موضِع المسجد، وهذا حيث لم يُبْنَ هناك مسجد، وأُخْرَى يقول في المسجد وهذا حيث بُني المسجد بعده صلى الله عليه وسلّم وكان سَفَره صلى الله عليه وسلّمهذا ممتدًا إلى سبعةِ أيامٍ، فتكون جملة مواضِع صلاتِه صلى الله عليه وسلّمخمسًا وثلاثين، إلا أَنَّ الرُّواةَ ذكروا بعضَها وتَرَكوا أكثرها لداعيةٍ دَعَت لهم.(2/236)
واعلم أنَّ هذا الحديث طويل ولم يَتَحَصَّل لنا منه شيء، لأنَّ فيه ذِكر آثار النَّبي صلى الله عليه وسلّمما قد عَفَت اليوم، وفيه مسألة: وهو أَنَّه كيفَ التَّحَرِّي لِمَا صَدَر عنه صلى الله عليه وسلّماتفاقًا، وما يترشّح من كلام الحافظ ابن تيمية رضي الله عنه أنّهُ يجب فيه التضييق، فاتباع ما صدر عنه صلى الله عليه وسلّماتفاقًا حسنٌ إذا كان بطريق الاتفاق، وأمَّا إذا تَعَمَّده وتَحَرَّاها فَلَعَلَّه لا يراه حسنًا، وعندي في تَحَرِّي الاتفاقيات أيضًا أجر. وكان ابنُ عمر رضي الله عنهما ممن يتحراها، وإِنْ أنكره جماعة إلا على سنن النَّبي صلى الله عليه وسلّمكَنُزُول المُحَصَّب فإِنَّ ابنَ عمر رضي الله عنه يراهُ سُنَّة، وأَمَّا ابنُ عباس رضي الله عنه فقد اشتُهر في اجتهاده، وكان عمَلُه بخلاف ابنِ عمر رضي الله عنه حتى صارت شدائِد ابن عمر رضي الله عنهما. ورُخَص ابن عباس رضي الله عنهما تُضْرَب بها الأمثال، وهو مراد السفَّاح بقوله حين أمر مالكًا رحمه الله أن يُصنِّف كتابًا: اتق فيه بشدائد ابن عمر رضي الله عنهما ورخص ابن عباس رضي الله عنه ووطئه للنَّاس توطئة.
484 - قوله:(بذي الحُلَيْفَة) على ستةِ أميالٍ من المدينة، ويُقال له اليوم آبار عليّ وهو غير أمير المؤمنين.
484 - قوله: (وليس عند المسجد)... الخ. وهذا يَدُلُّ على محوِ تلك الآثار في زمانِه فكيف بها اليوم.
486 - (عِرق) منتهى الجبل.
488 - قوله: (على القبور) وثَبَتَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلّمأيضًا وضع حجرٍ عند رأس قبر عثمان بن مظعون عَلَمًا له، ثم أفرط فيه النَّاس في زمانِنا، وأفسدوا فيه أي مفسدة.
488 - قوله: (سَلِمات) وهو في الأصل لنوع منه.
490 - قوله: (أدنى مر الظهران) ولفظ أَدْنَى صادق على جانبيه، ولذا عينه أَنَّه أَدْنَى من جانبِ المدينة.(2/237)
492 - قوله: (نحو) ظرف للصفة المشبهة أعني الطويل - والراوي عدد تلك المواضع بقوله وإن عبد الله بن عمر حدث.
أَبْوَابُ سُتْرَةِ المُصَلِّي
باب سُتْرَةُ الإِمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلفَه
وهذا لفظُ حديث أخرجه ابن ماجه وإسناده ساقط، ولذا لم يومىء إلى كونِه حديثًا وهذا من رفعةِ شأنهِ وعلوِّ كَعْبِهِ حيث لا يَلْتَفِت إلى أمثال هذه الأحاديث، وهو مذهبُ الجمهور، ومذهب مالك أَنَّ سُتْرَة الإِمام سترة له خاصة، وهو بنفسهِ سُترة للقومِ، وليست سُترته سُترة للقوم، فلو مَرَّ مار بين الإِمام وسُتْرَتِه فهو غير مارّ أمام القَومِ عنده، لكون الإِمام سُتْرَة لهم.
ثم ليُعْلَم أنَّ هذا الحديث أيضًا يُنْبِىءُ على أَنَّ صلاةَ الجماعةِ صلاة واحدة بالعدد، لا أَنَّها صلوات بعدد مَنْ فيها، ولذا اكتفي فيه بسُتْرَة واحدة، ولو كانت تلك صلوات لاحتاج كُلُّ مَنْ فيها إلى سُتْرَة سترة؟ مع أَنَّ الأحاديث فيها وَرَدَت عامة أعني بدون تَعَرُّض إلى حال الجماعةِ أو الاِنْفِرَادِ، فَهَلا حَملُوها على العموم؟ ولِمَ لم يقووا بوجوب السُّتْرَة لكل؟ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلّم«لا صلاةَ إلا بخطبة». فَلِمَ لم يوجبوا الخُطبة على رجل رجل؟ فكان المناسِب لهم أَنْ يَقِيسوا عليه قوله صلى الله عليه وسلّم«لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب؟» وشرحوه بمثله.(2/238)
والحاصل: أَنَّ الشريعةَ جعلت صلاةَ الجماعةِ نوعًا متغَأَيِرًا لصلاةِ المنفرد، وأقامت لكُلَ منهما بابًا، وحينئذٍ إجراءُ أحكامِ نوع على نوع منازعة بالشَّارع، ورفع صوت فوق صوته وافتيات عليه، ألا تَرَى أنَّه نَهَى عن البيع بما ليس عندك، ثُمَّ أقام للسَّلَم بابًا على حِدَة، فهل يُسَوَّغ لك أن تُخْرِجه من بابه وتُجْرِه تحت أحاديث النَّهي وتقُول بحرمتِه فكذلك صلاة الجماعة أَقَامَ لها صاحب الشَّرع بابًا مستقِلا وساقَ له مثل حديث: «إنَّما جُعِلَ الإِمامُ ليؤتم به» ثُمَّ لَمْ يَأمر فيه بالقِرَاءة للمُقْتَدي مع كونِها رُكْنًا ومع تعرضِه فيه إلى أمور أهون منها، بل صَحَّ فيه «إذا قرأ فأنصتوا»، ولكِنَّ الذين رَسَخَ في بواطِنهم عموم «لا صلاة...» الخ يُرجِّحون العموم على الخصوص، ويُجرون على نوع غيرَ حكمه، ويخلطون بين الأبواب فلا يأتونَها مِنْ حيث أُمِرُوا بإِتيانِها، نعم، وحبُّك الشيءَ يُعمي ويُصِمُّ، فحال صلاةَ الشافعية كحال بني إسرائيل حيث كانوا منفردين في حال الاجتماع أيضًا، ولم يكن فيها تضمن وصلاتنا مبنية على التضمن كما أخبرَ به النَّبي صلى الله عليه وسلّم «الإِمام ضامن»، وواحدة بالعدد كما أحبَّها النَّبي صلى الله عليه وسلّمعلى لفظ أبي داود، لقد أعجبني أَنْ تكون صلاة المؤمنين أو المسلمين واحدة فسمعنا وأطعنا، ووضعناه على الرَّأسِ والعين بلا كذب ومَيْن، وراجع لتفصيله رسالتي «فصل الخطاب» وقد مَرَّ البحث.
ثم إنَّ البخاري والبيهقي اختلفا في شرحه، فَذَهَب البخاري إلى إثبات السُّتْرَة، والبيهقي إلى نفيه، وإليه مال الحافظُ رحمه الله.
قلتُ: وما ذَهَب إليه البخاري أرجح وقد بيَّنَّا وجهه في العِلْم.
494 - قوله: (حَرْبَة) رُمْح صغير.
494 - قوله: (فيُصَلِّي إليها) أي قريبًا منها.(2/239)
494 - قوله: (فمن ثم اتخذها الأمراء)... الخ لأنَّ الإِمام في السلف يكون هو الأمير.
قال الشيخُ ابنُ الهمام رحمه الله: إنَّ السُتْرَة لربط الخَيَال وحَصْرِه، فإِنَّ الإِنسان مجبولٌ على أَنَّ خَيَاله يَنْبَسِط ويَطوف بكلِّ جانب إذا كان في مكان وَسيع، وحيثُ يكونُ المكان ضيقًا يَنْقَبِض هناك، وينقبِض حتى لا يَبْقَى له جَوَلان وتَطْوَاف فيما وراءه، فإِذا أَرَاد الشَّارعُ أن لا يجول خَيَاله بكلِّ جانبٍ وأَن يَمْقُلَ بين يديه كما يَنْبَغي له أمره بالسُّتْرَة لذلك.
قلت: والذي وَضَح لدي أَنَّها لقصر وَصْلَه المناجاة صونًا لها عن القطع، فإِنَّ المُصلِّي يُناجي رَبَّهُ ويواجهه كما أخرج أبو داود عن سَهْل في باب الدنو من السُّتْرَة: «إذا صلَّى أحدُكم إلى سُتْرَة فليدن منها لا يقطع الشيطانُ عليه صلاتَه». فتلك المناجاة والمواجهة قائمة بينه وبين القِبلة ما دام يُصلِّي، فإِنَّ رَبَّهُ بينه وبين القِبْلَة، ولذا حَكَم الشَّرع على المارِّ أَنَّه شيطان لأنَّه مَرَّ بين العبدِ ومولاه، فأَرَاد أَنْ يَحْصُر تلك المواجهة لئلا يَضِيق الطريق على المارين، فَنَهَى المصلِّي أَنْ يُصلِّي في حاقِّ الطريق، وإذا صَلَّى في غَيْرِ الطريق أمره أَنْ يَغْرِزَ سُتْرَة وأَمَر المارَّ أَنْ لا يَمُر بين يَدَي سُتْرَة ولكن يَمُر وراءها، وهدَّده وحذَّره ووعَّدَه، فلو مَرَّ بعد هذه التمهيدات أيضًا لم يكن إلا شَيْطَانًا مَقْصُوده الحيلولة بَيْنَه وبين رَبِّه، وقَطْع تلك الوَصْلَة التي قامت في الصَّلاة وهو عند أبي داود عن أبي سعيد الخُدْرِي مرفوعًا قال: «من استطاع منكم أَنْ لا يَحُول بَينَه وبين قِبْلَته أحد فليفعل». وعلى هذا لا أَتأوَّل في أحاديث القَطْع وأَحْمِلها على ظاهرها.(2/240)
وأقول: إنَّ المرأةَ والكلب والحمار كلها تقطع الصَّلاة، أي تلك الوَصْلَة، وهذا كما إذا جَرَى بيْنَكَ وبين أَحدٍ محادثة، فلو قَعَدَ رجلٌ في الوسطِ تراه أنَّه قَطَع كلامَك ومحادثَتك فهو أيضًا نوع من القَطْع أيضًا بدون تأويل ولا بُعْدَ فيه، فإِنَّ الشَّرِيعة قد تُخْبِر عن الغائِبات بما تَرَاه ولا نراه فأخبرت بإقامة الوَصْلَة، وكذلك أَخْبرَت بقطْعِها عند المرور، فما لنا أَنْ ننكِره أو نُؤوِّل فيه؛ نعم هذا قَطْعٌ على عُرْفِه وطَرِيقه، وإنْ لم يُسَمِّه الفقهاء قطعًا اصطلاحهم، فإن أحكامَهم تتعلق بعالم الشَّهادة وتلك الوصلة مِنْ عالم الغيب، وكذا الاستواء على العرش، والمعية، وقربه تعالى، كلها من باب واحد عندي، لا نُدْرِك كيفياتِها في غير أن نقول بتشبيه أو تجسيم كما يقوله الزائغون، فكما أَنَّ تلك الأشياء كلها على ظاهرها بدونِ تأويل عند الأئمة الأربعة، كذلك هذه المواجهة ووصلةِ المناجاة عندي.
والتحقيق عندي: أنَّها كلُّها تجليات من الله سبحانه وقد قلت فيه:
*رأيتُ بليلةٍ ظلماءَ نورًا ** على ألوانِ أطْوَارِ الخَلِيقَهْ
*تجلى في صفاتِ الكونِ شَتَى ** وتلك مله زجاجاتٍ رقيقَهْ
*كمِشكاة ترى المِصْبَاح فيها ** وذلك في زجاجاتٍ أنيقَهْ
*فَحَيَّز ناظري رُؤيَاه حتى ** عَبرَت مِنَ المجازِ إلى الحقيقَهْ
*عبارات ومعنىً ليس إلا ** وكلُّ الكون قد وسِعَت دَقِيقَهْ
*ومَنْ قصد النِّهاية في مداه ** رَأى كلَّ الورَى عبرَ الطريقَهْ وسيجيء البحث على معنى التَّجَلِّي بما يكفي ويشفي إنْ شاء الله تعالى.(2/241)
ثم إنَّ تلك الوَصْلَة لمَّا كانت مِنْ عالمَ الغيب لا يكون قطعه إلا فيه، ولا يكون محسوسًا، وهو مَحْمَل حديث : «أَفْطَرَ الحاجمُ والمَحْجُوم »، عندي أعني به إفطار حقيقة الصَّوم بدونِ تأويلٍ في نظر الشَّرْعِ، وإِنْ لم يَكُن إفسادًا في نظر الفقيه. فمن احْتَجم فقد أَفْطَر في نظر الغيب وإنْ بقي صائمًا في نظر الفقيه لما مَرَّ مني من قَبْل، أَنَّ الطَّهارة وإِنْ لمْ تكن شَرِيطة في الصيام لكنَّه لا شَكَّ في كونِها مطلوبة، فإِذا انْتَقَضَت بخروج الدم وانتقصت، انتقض صومه وانتقص، فكان إفطارًا عند الشَّريعة في الجملة، وإِنْ زَعَم أَنَّه صائمٌ ولا سيما إذ كان الصيامُ تحصيلا للتَّقْوَى وتشبهًا بالملائِكة، فإِنَّهم يتنفرون عن الدِّماء في غايته، ولذا قالوا: {وَيَسْفِكُ الدِّمَآء} (البقرة: 30). فذكروا من نقائِصه ما يُوجِب نقيصة في عالَمِهم وهو معنى قوله: «من أصبح جنبًا فلا صوم له». فإِنَّ الجنابَة قدحت في صَوْمِه وأدخلت فيه نقيصَة، والملائكة لا يدخلون بيتًا فيه جُنب.(2/242)
وأمّا قول عائشة رضي الله عنها: «عدلتمونا بالكلب والحمار». فيبنى على عَدَمِ القَطْعِ الحسي كما هو نَظَرُ الفقيه، وقد مَرَّ مني غير مرة أَنَّ التَعارُضَ بين الأحاديث قد يكونُ قصديًا يعني به الاطلاع على مراتب الشيء، وقد يُرَادُ به التنبيه على اختلاف العوالِم والأَنْظَار، فَترِد عليك الأحاديث في قَطْعِ المرأة الصَّلاة، وترد عليك أَنَّ عائشةَ رضي الله عنها كانت تكون تعترض في قِبلَتِه اعتراض الجِنَازة وهو يُصلِّي، وكذلك يَرِد عليك أَنَّ مَنِ احتجَمَ فقد أَفْطَر، ويَرِد عليك أَنَّه احتجم وهو صائم، وهكذا يُروى لك «من أصبح جُنبًا فلا صوم له»، ويُنقل أنَّه أصبح صائمًا وهو جنب مِنْ غيرِ احتلام، وذلك لأنَّه قد عنى في بعض هذه الرِّوايات حكم هذه الأشياء في عالم الغيب، وفي بعض آخر حكمها في عالم الشَّهادة. وقد مَرَّ منا أَنَّه لا يجبُ توافق الحكم بين العالَمين.
ثم إِنَّ أحمد رضي الله عنه جزم بقَطْع الصَّلاةِ مِنَ الكلبِ الأسود، ووقع هذا القيد في الرِّوايات أيضًا، وروى: أنَّه شيطان. ولعلَّ فيه معنى الإِيذاء وغيره. ما ليس في غيره، وهكذا سمعنا من الراقيين أَنَّهم يطلبون الكلب الأسود، وسمعنا أَنَّ الجِنَّ يظهرون ويتشكلون بشكل الكلب الأسود، وإنَّما جزم بالقَطْعِ فيه لأنَّه لم تَرِد فيه مادة في الجانبِ المُخَالِف، وتردد في قطع الحمار لأنَّه رُوِيَ فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّه جاء على أتان، كما مَرَّ الآن ولم يَقْطَع ذلك صلاته، ولذا قال فلم ينكر ذلك عَليَّ.
وكذلك تردد في المرأةِ لأنَّه ثبت اعتراض عائشة رضي الله عنها بين يَدَيه وهو يُصلِّي، أمَّا الكلب فلم يَرِدَ فيه شيء بخلافِه فَجَزَم به.(2/243)
قلت: وفي «الدر المنثور» أنَّ هؤلاءِ الثَّلاثةِ لا يُسَبِّحون، وروى في حديث صحيح الاستعاذة عند نَهِيقِ الحمار، فهؤلاء كالميت غافلون عن الذِّكْرِ فاعتراضُها حال الصَّلاة التي هي الذِّكْر الأكْبَر عُدَّ قاطعًا لها، ولذكر الله أكبر. ولعلك عَلِمْتَ مِنْ هذا البحث أَنَّ السُّتْرَة يجب أَنْ يكون واجبًا وهو مذهب الشافعي رحمه الله واستحبه الحنفية.
قلت: كيف وَوَرَدَ الوعيد في تَرْكِها فليتَ الحنفية اعتبروها أزيد مما في كتبهم. ولا يخفى أَنَّ الراوي قد يَتَعَرَّض إلى الخُصُوص لتردد فيه، فيُرِيد أَنْ يُشْهَرَ أمرُهُ ويُنوَّهُ ذكره كما فعل ههنا، فلعلَّ النَّاسَ تهاونوا فيها فأَرَاد بتعرُّضِه إليها أَنْ يَهْتَم بها النَّاس وهكذا فَعَله ابنُ عمر رضي الله عنهما في رفع اليدين، فَتَعرَّض في حديثهِ إلى الرَّفع في الموضِعين خاصة، وتَعرَّض إلى نفيهِ في السُّجود خاصة، وخَصَّصَهُ بالذِّكْرِ مِنْ سائِر أَفْعَال الصَّلاة، فَدَلَّ على أَنَّ في مض لمطمعًا، والشافعيةُ غفلوا عنه أو تَغَافلوا فإِنَّ الحديثَ يَضُرهم مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لدلالته على أَنَّ أَمْرَ الرفعِ صار خاملا في زَمَنِه إلى أَنِ احتاج إلى إِثباتِه وتأكيدهِ وتَشْهِيرهِ، وإلا فَمنْ يَتَعرَّض إلى أمر مُسَلَّم بين النَّاس، فذقه أنت فإِنْ كان الأمرُ كذلِك فمن أخمله إلا الصحابة رضي الله عنهم، وهل كان إذ ذاك غيرهم فانْظُر ماذا ترى.
495 - قوله: (الظُّهرَ رَكعتين والعَصْرَ رَكعتين) لا دليلَ فيه على الجمع أصلا، لأنَّ الراوي جَمَعَ بينهما في الذِّكْرِ فقط، كما يجمع بل أشراط الساعة، فيذكرها بالواو ويقول: يكون كذا وكذا مثلا. فيزعم الجاهل الغبي أَنَّ الوَقَائِع كلها تَتْرَى مع أَنَّها قَدْ تَكُون بينَها المئات مِنَ السِّنين.
باب قَدْرِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَينَ المُصَلَّى وَالسُّتْرَة(2/244)
باب الصَّلاةِ إِلَى الحَرْبَة
باب الصَّلاةِ إِلَى العَنَزَة
قال الفقهاء: يُسْتَحب أَنْ يَدْنوَ منها ما استطاع لئلا يَضِيق الطريق على المارين. وعند أبي داود ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّميصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمُد له صمْدًا.
496 - قوله: (وكان بين مُصَلَّى رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم قال الحافظُ رضي الله عنه أي مقامه في صلاتِه يعني به موضِع القدَمين.
قلتُ: بل المرادُ به مَوْضِعُ سجودِه وإلا لا يَبْقَى بينَه وبين القِبْلَة فُسْحَة لسجوده.
497 - قوله: (كان جدارُ المسجدِ عند المنبر: وإنَّما تَعَرَّض فيه إلى ذِكْرِ المنبر، لأنَّه معلوم مِنْ عَمَل الأمه أنها تُصَلِّي في يسار المنبر، فليقدر الفاصلة مما بين المنبر وجدار القِبْلة. وفي «الوفاء» للسَّمْهُودي أَنَّ وضع المنبر كان منحرفًا ولم أعرف السر فيه وقد يخطر بالبال أَنَّه رَاعَى فيه جهة القِبْلَة، فكره أَنْ يستدْبِرَها عند الخُطْبَةِ وغيرِها، فَوَضَعَهُ منحرفًا عن جِهَتِها لهذا والله تعالى أعلم.
وفي إسناده مكي بن إبراهيم وهو اسم راوٍ وليست نسبته إلى شيء، وهو تلميذُ أبي حنيفةَ رحمه الله وأَظنُّ أنَّه حنفي أيضًا وأكثر ثلاثيات البخاري بإسنادِهِ.
باب السُّتْرَةِ بِمَكَّةَ وَغَيرِهَا
قال الطَّحاوي في مشكِله إِنَّه لا بأْسَ بمرورِ الطَّائِفين أَمَامَ المُصَلِّي عند البيت لأنَّ الطَّواف بالبيتِ صلاة، ولا تُوجَد تلك المسألة في المذاهب الأربعة إلا عند الطَّحاوي. وهذا الباب ناظرٌ إليها إلا أَنَّ الصَّلاة في الحديث كانت على نحو ميل من مكة، ومسألة الطَّحاوي في داخل المسجد. وكانت تلك المسألة مهمة فَتَعَرَّض لها المصنِّف رحمه الله تعالى وترجم عليها.(2/245)
باب الصَّلاةِ إِلَى الأُسْطُوَانَة
قوله: (صلِّ إليها) يعني صلِّ إلى الأُسْطُوَانَة جاعلا إياها سُتْرَة، ولا تُصَلِّ في البين. وكان النَّبي صلى الله عليه وسلّميُصلي إلى أُسْطُوَانتِه في اعتكافِه، واستفيدَ منه أنَّ الصَّلاةَ إلى الأُسْطوانةِ مطلوبة من المنفرِد لئلا يَتَحَرَّج بها المارُّون. وفي «مِعْرَاج الدِّرَاية شرح الهداية» - وهو غير مطبوع : أَكْرَهُ للإِمام أنْ يقوم بين السَّارِيَتَيْنِ. ونَقَل الشوكاني عن أبي حنيفةَ رحمه الله تعالى في «النيل»: أَنَّ المُنْفَرِد يُصَلِّي بين السَّارِيَتَيْن بلا كَرَاهة، والمقْتَدون إِنْ كانوا اثنين فقيامُهما بين السَّارِيَتَيْن مَكْروهٌ أيضًا وإلا لا، لكونهم أذن صفًا. ولعل التفقه فيه أَنَّ الاثنين قِطعة مِنَ الصَّف فلم انفردا عنه، وأَمَّا الثلاث فما فوقَه فصفُّ مستَقِل فلا يُكْرَه ولم أَجِدْ هذه المسألة إلا في كتاب الشوكاني ولم يَكْتُب أَنَّه مِنْ أين أخذها، وأقول بعد التَّجرِبة أَنَّ مَذْهَبَ الحنفية ليس محققًا عند الشوكاني فلا أعتبر به. ولا أَعْتَمِد عليه في نَقْلِ مذهبنا إلا أَنَّ الوجدان يحكُم ههنا، أَنَّ المسألةَ تكونُ كَذلِك والله تعالى أعلم.
502 - قوله: (التي عند المُصْحَف) قال الحافظُ رحمه الله تعالى: إِنَّها أُسْطُوَانة مخلقة. ورد عليه السَّمْهُودي وقال: والتي عندَ المصحف غيرها.
ثُمَّ إنَّ الراوي يعلمها بأمارات حدثت في زَمَنِ عثمان رضي الله عنه لا أَنَّها كانت في زَمَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلّم
502 - قوله: (قال فإِني رأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلّم ولولا مِثْل هذه الوقائِع الضمنِيَّة لنفيت ثبوت النافلةِ عن النَّبي صلى الله عليه وسلّمفي المسجد.(2/246)
503 - قوله: (يبتدرون السَّوَاري عند المَغْرِب) وتلك الصَّلاة مستَحَبَّة عند الشافعية، ومباحة عند أبي حنيفة ومالك، كما قَرَّرَ ابنُ الهمام رحمهم الله تعالى.
وحاصله: أَنَّها تُرِكَ العمل بها ولم يقررها أحد كما قررها الشيخ رحمه الله تعالى فليراجعه. وعن أحمد رحمه الله تعالى في «العيني»: ما صَلَّيتها إلا مرةً حين بلغني الحديث. وكان هذا من دَأَبِ بَعْضِ المحدِّثين أنَّهم كانوا يَعْمَلون بحديث يَبْلغهم مرة خروجًا عن عُهْدَته، وعند الحافظِ رحمه الله تعالى ما صلَّيتها إلا مرة حتى بلغني الحديث، مكان حين، فانقلت منه المراد، وهو غلط من الناسخ، والصحيح كما نَقَلَهُ العيني فليُتنبه. ولعلَّ في «البدائع» أو كتاب الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: أنَّ أحمد رحمه الله تعالى سُئِل عنهما فلم يهتم بشأنهما، وقال: انْقَطَع بهما العَمَل، فدلَّ أَنَّ الصَّواب كما في العيني، وما في نسخة الحافظ رحمه الله تعالى سَهْوٌ.
وفي الخَارِج أَنَّ الأنْصار كانوا يُصَلُّونها بخلافِ المُهاجرين، وعند أبي داود عن ابنِ عمر رضي الله عنهما ما يدل على خُمولها في الصدر الأَوَّل، وفيه «ورخص في الرَّكعتين بعد العصر» ومرجع الضمير عندي ابنُ عمر رضي الله عنهما دون النَّبي صلى الله عليه وسلّم ثم في إسنادِهِ محمد بن جعفر.(2/247)
قلت: وهو غُنْدَر وقد تَحصَّل الفِقْهَ بمطالعة كُتُبِ زفر رحمه الله تعالى، وكان زُفر رحمه الله تعالى، ذهب إلى البَصْرَة لحاجةٍ له فأصرَّ عليه النَّاس أَن يقيم بها، فتوفي هناك ولم يدركه غُنْدَر، فَحصَّل الفِقَه من كُتُبِه، ثم إنَّ أهلَ البَصْرَة كانوا سَاخِطين عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فكان محمد بن جعفر يُلقي على النَّاس ويَذْكُر مسائله، لا يذكر اسم أبي حنيفة حتى إذا مدح النَّاس على مسائِله أَفْصَح باسمِهِ وقال: إنَّها هي مسائل أبي حنيفة، فسكت عليه الناس هكذا ذَكَرَهُ الطَّحاوي.
باب الصَّلاةِ بَينَ السَّوَارِي فِي غَيرِ جَمَاعَة
وقد مَرَّت المسألة عَنْ قريب أنَّه يجوز للمنفرد وإنْ كان المطلوبُ منه أَنْ يُصلِّي إلى الأُسْطُوانَة، أَمَّا المقْتَدُون فَعن ابنِ مسعود رضي الله عنه: أَنَّهما إِنْ كان اثنان فلا بأس، وكرِه للواحد. وكأَنَّ الاثْنين صفٌّ فلم يَعْبَأ بتخللِ السَّوارِي، بخلافِ ما إذا كان واحدًا، فإنَّه يُوجِب تخللها في صفَ واحدٍ، وذلك مناقضٌ لمعنى الصفِّ صورةً ومعنىً.
تنبيه: ونَسَبَ النَّووي إلى الحنفية أنَّ اليمينَ تنعقِد عندهم بالَّلاتِ والعُزَّى، وهو غَلَطٌ فاحشٌ وليس في أحد مِنْ كُتبنا، ومَنْشَأ غلطه ما في كتبنا لو قال: إن فَعَلْتُ كذا فأنا يهودي انعقد يمينه، ثُمَّ إن تَعَمدَهُ بالرضاء كفر أيضًا.
باب
506 - قوله: (يكونُ بينَهُ وبين الجِدَارِ)... الخ وفيه أَنَّ الفاصلة كانت بثلاثَةِ أَذْرُع، وفي الحديث المارِّ أَنَّها كانت بمَمَرِّ الشَّاة، والوجه أَنَّه أَرَادَ فيما مرَّ بيان الفاصلة إذا كان إمامًا، أمَّا ههنا فإنَّه كان منفردًا.
باب الصَّلاةِ إِلَى الرَّاحِلَةِ وَالبَعِيرِ وَالشَّجَرِ وَالرَّحْل(2/248)
والمرادُ به ههنا بيان مسألة السُتْرَة، وأمَّا ذِكْرُ البعير... الخ، فاحتراسٌ، وتتميمٌ، وكان بوب عليه في الأنجاس مرَّة لبيانِ الفَرْقِ بين الإبْلِ الواحد والعَطَن، فالبعير إذا كان واحدًا في سَفَرِه وأَمِنَ منه لا يكون في معنى العَطَن حيث يكون فيه الأنْجَاس مع كَثْرَةِ الإبل فَيَسْطُو بعضه على بعضٍ ويُخَافُ منه الإِيذاء، إلى غيرِ ذلك مِنَ المعاني.
تَرْجَم ههنا لبيان السُّتْرَة فقط لا للفَرْق المذكور، ثُمَّ مِنَ العجائبِ ما كتبه ابنُ خَالَوَيه في كتابه المسمَّى ب: «ليس» أَنَّ البعيرَ في لغةِ العرب بمعنَى الحمار أيضًا.
507 - قوله: (آخِرَتِه) ونَقَّح الحنفيةُ مناطَه فقالوا: إنَّ كلَّ شيءٍ بقَدْرِ الذِّراع في غَلْظِ الأُصْبَعِ لَيَصْلُح للسُّتْرَة، أما الخط عند فقدانها ففي «الهداية» أنَّه غير معتبر، وفي «الفتح» عن صاحِبَيْهِ أَنَّه معتبرٌ.
قُلْتُ: وهو الذي يَليقُ به العمل، لحديثٍ فيه عند أبي دَاوُد، وإن كان مضطربًا عند عامة المحدِّثين، فإنَّه رُويَ عن أحمد أنَّه قابِل للعمل، والخطُ يكونُ بشَكْلِ الهِلال، ولعله مانعٌ عن مُرور الشيطان كما نشاهده عن الراقين عند رَقْيِهم بمن صَرَعه الجِنُّ يَخُطُّون حوله خَطًّا ويُسمُّونَه الحِصَار، لأنَّ الجِنَّ يحصر به ولا يستطيع أَنْ يَخْرُج منه، كما فَعَلَه النَّبي صلى الله عليه وسلّممع ابنِ مسعود رضي الله عنه في ليلة الجِنِّ، ثُمَّ إنَّ قولَه: إلى آخرتِهِ، يَدُل على أنَّ الغَرْزَ ليس بِشَرْطٍ ويكْفي له الوَضْعُ أيضًا.
باب الصَّلاةِ إِلَى السَّرِير(2/249)
وفي نُسْخَة على السَّرِير وثَبَتَ السرير - بمعنى جارياني - في السِّيَر: وكان نَسْجُه مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ والحبال، ولذا حملت عليه، وإن كان السَّرِير تطلق على تخت عندهم أيضًا، فالنُّسخة إن كانت «بعلى» فالمسألة فيه جواز الصَّلاةِ فَوْقَ السَّرِيرِ، وقد مَرَّ مني أنَّها تجوز مطلقًا، لأنَّ الشَّرْطَ في السُّجود هو الإلقاءِ والطَّرْح، وذا يَحْصُل عليه بخلاف القُطْن، فإِنَّه لا يحصُل فيه الإِلقاء، بل يَحْتَاج إلى استمساكِ الرَّأْسِ فلا يَزَال يَخْسِف بهِ، وإِنْ كانت «إلى» فالمسألة فيه مسألة السُّتْرَة ويكون الحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلّمجعل السرير سترة وحينئذ تكون أمامه خشبته المعروضة دون القائمة، فإِنْ صَلَّى إلى قَائِمَتِهِ فهو ظاهرٌ.
508 - أما قوله: (فيتوسطُ السرير) فالظَّاهِر منه أَنَّه صلَّى على الأَرْضِ متوجِهًا إلى وسطه، وعليه تَرِدُ الألفاظ وإن صلح لغة على أنَّه صلَّى فَوْقَ السرير في وسطه.
508 - قوله: (فأَكْرَهُ أَنْ أُسَنَّحَهُ) - يعني آرى آجاؤل - واعْلَم أَنَّ مسألةَ المرورِ في الفقه فيما إذا مرَّ أمامَهُ من جانبٍ إلى جانبٍ، ولا تفصيلِ فيه فيما إذا كان قاعدًا فصلَّى خلفَهُ رجلٌ هل يَنْسَل أم لا؟
قلت: فليعمل بهذا الحديث ولا شك أَنَّ الانسلال أَفْيَد، وهو الخُروج من التَّخْت خُفْيَة، والسُنُوح أَقْرَب من المرور فلذا كانت تكرهه، والمرادُ من السُنُوح أن تواجهه بشخصِها - يعني ميرا شخص سامني آجائي .(2/250)
ثم إنَّ المُصلِّي إاذ كان في الصحراء جاز له المرور أمامه فيما وراء موضِع سجوده عند فَخْر الإِسلام واعتبر الشيخ رحمه الله تعالى موضِعَ نظره فلا يجوز له المرورُ فيه. أمَّا إذا كان في المسجد الكبير فيجوز له المرور، وإِنْ كان صغيرًا فلا، والكبير عندي ما كان في أربعين ذِرَاعًا. وراجع المسائل من الفقه. وفي حاشية «العناية» للشيخ سعد الدين: أَنَّه لو أَسْبَلَ غشاوة من السَّقْف كفاه للسُّتْرَة.
قلت: وعلى هذا فَمن كان لا بدَّ أَن يَمُرَّ بين يدي المُصلِّي فَلْسُسْبِلْ منديله أمامَهُ ثُمَّ ليمر، ولعلَّهُ يكون أَيْسر له مِن مرورِه كما هو.
باب يَرُدُّ المُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَينَ يَدَيه
وفي فِقْهنا: أَنَّه يرده بجهر آية فإِنْ كانت الصَّلاة جهرية يَرْفَعُ بها صوتَه أَزْيَدَ من قراءتِه، وإِنْ كانت سِرِّية ففيها ثلاث أقوال لمشايِخنا، قيل: تَجِبُ سجدة السَّهْو بجهر كلمة، وقيل: بما زاد على الآية، وقيل: بآية.
قلت: يَجُوزُ الجهرُ بآية في الصَّلاةِ السِرِّية لِمَا ثَبَتَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلّم وله أَنْ يَدْفَعه بالتسبيحِ أيضًا. ثُمَّ إِنَّ ابنَ دقيق العيد ذكر تفصيلا فيه لا أَذْكُره خوفًا من تهاونِ النَّاس.
قوله: (قاتله) وهو عندنا محمولٌ على مزيدِ الكرَاهةِ والتقبيح في القلب دون القِتال حسًا، وحَمَلَهُ الشافعية على ظاهره، فَجَوَّزُوا الدرء بالعملِ أيضًا ويُدرأ عندنا بما مَرَّ، وَذَكَر القِتال في سياق المُبَالغة فقط، وكَتَبَ النَّووي تَحْتَه مسائل الدية، أَنَّ قَتْلَ المارِّ وهو عَجِيب لأنَّه ربما يَخْبِطُ النَّاظر فيظن أَنَّ الحديثَ ورد في القَتْل مع أَنَّه ليس بمراد، فكان الأولى أَنْ لا يَذْكُرها، وعلَّله في الحديث أنَّه شيطان.(2/251)
قلت: ومن يَسْنَح بينه وبين مولاه فإِنَّه شيطان ولا ريب. ثم اعلم أَنَّ الشيطان من عالَمِ الأرواح أعني به أَنَّ له بَدنٌ مثالي يَتَصرف في الأجساد كتصرف الجِنّ، فكما أَنَّ الجنَّ يركب الإِنسان ويصرعه، ثُمَّ يتكلم بلسانه كذلك يَفْعَل الشيطان أيضًا والله تعالى أعلم بحقائق الأمور فأمكن، أن يركب على إنسان ويمر به أمام المُصَلِّي.
باب إِثْمِ المَارِّ بَينَ يَدَيِ المُصَلِّي
وفي مُسْنَد البزَّار أربعين سَنَة بالجزم، وفي حديث آخر مئة سنة كذا نَقَله الحافظ رحمه الله تعالى.
باب اسْتِقْبَالِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَهُوَ يُصَلِّي
وهل الاستقبال منحصرٌ في المواجهة أو هو أَوْسَع منه، ولعلَّ أهلَ اللُّغة يُخصصونَهُ بالمواجَهة. ثُمَّ الاستقبال المذكور مكروه عندنا مطلقًا بدون تَفْصيل الاشتغال وعَدَمِه، وفَرَّقَ المصنِّف بالاشتغالِ وعَدَمِه.
وحاصل تراجم المصنِّف رحمه الله تعالى: أنَّه لا يَقْطَع الصَّلاةَ شيء كما سيجيء مصرحًا، ولم يُبال بما يُروى في القَطْعِ بالمرورِ، ولذا لم يُخرج له حديثًا. ولنا: ما رُوِيَ عن ابنِ مسعود رضي الله عنه موقوفًا وهو مرفوع حُكْمًا: أَنَّ مَنْ مَرَّ أَمامَ المُصَلِّي فقد قَطَعَ عليه نِصْفَ صَلاتِه. وثَبَت منه أمران: كون المارِّ قَاطِعًا مطلقًا، وكذا ثَبَتَ منه عدم بُطْلان صلاتِه. واضطرب الشارحون في أَنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى مِنْ أَي لفظٍ أَخَذَ ترجمَتَه فقالوا مِنْ قِولِه: (وأنا مُضْطجِعَة) ثم تَحيَّرُوا فيه فإِنَّها لا تُؤْخَذ منه.
قلت: بل هي مأخوذة مِنْ قوله: «وأكره أَنْ أستقبله» ففيه كراهة الاستقبالِ صراحةً، ثُمَّ إِنَّ قولها: وأنا مضْطَجِعَة على السرير» صريحٌ في أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّمكان على الأرضِ، وقد مَرَّ مني التفتيش فيه في ذيل شرح لفظ «فيتوسط السرير».(2/252)
103 - باب الصَّلاةِ خَلفَ النَّائِمِ
وهي مكروهة إذا كان يَخْشى منه اللغط وإلا لا، ولعلَّها كانت مأمونة عنه فانْدَفَعت الكراهة.
512 - قوله: (على فِرَاشِه) وهذا يشير إلى كَونِها على الأرض.
512 - قوله: (فإِذا أرَادَ أَنْ يوتر)... الخ ولهذا أقول إنَّ عائشة رضي الله عنها ممن يُفَرِّق بين الوتر وصلاة الليل، بخلاف ابنِ عمر رضي الله عنهما فإِنَّه يُطْلق الوتر على جميع صلاة الليل، ثُمَّ الحديث دلَّ على تأكُّد أمر الوتر، بخلاف صلاةِ الليلِ، ولذا أَيْقَظَها النَّبي صلى الله عليه وسلّمللوتر دون صلاةِ الليل.
باب التَّطَوُّعِ خَلفَ المَرْأَة
513 - قوله: (فإِذا سجد غَمَزني) وفي النَّسائي لفظ صريح في أَنَّ مسه كان بدون حائلٍ، فأفادَ الحنفية في مسألة النَّواقض.
باب مَنْ قَالَ: لا يَقْطَعُ الصَّلاةَ شَيء(2/253)
أَي مِنْ فعلِ غير المُصَلِّي لمرورهِ أَمَامه ولا يريد أَنَّه لا يقطعها شيء ولو كان مِنَ المُصَلِّي، وقد عَلِمْتَ من عاداتِ المصنِّف رحمه الله تعالى أَنَّ رجحانِه قَدْ يكون إلى جانب ولا يريد الإِفصاح به، فيضع هناك لفظ «من» كأنَّه يعزوه إلى قائل مُبْهم، ولا يَتكفل به قوله: «وإني على سرير»... الخ وعدَّه المصنِّف رحمه الله تعالى مِنْ جِنْس المرور ولمَّا كان هذا النَّوع مِنَ المرور غير قاطع، عُلم أَنَّه لا يَقْطَع الصَّلاة شيء وهذا أيضًا مِنْ عاداتِ المصنِّف رحمه الله تعالى أَنَّه إذا اختار جانبًا ذَهَب يهدر جانبًا آخر كأنَّه لم يرد فيه شيء، قلنا كَيْفَ وقد صَحَّ فيه أحاديث عند مُسْلِم وأبي داود مِنْ أَنَّ الحمار والمرأة والكلب قاطعٌ للصَّلاةِ بأي معنىً كان، وإنَّما يَثْبُت خلافه إذا ثَبَت في حديث أَنَّ تلك الأشياء الثلاثة لا تَقْطَع الصَّلاة، فإِنْ أَرَاد بالقَطْعِ القطعَ فقهًا فمن أَنْكَره، ونحن أيضًا نقول: إنَّها لا تقطع بمعنى أَنَّها لا توجِب البطلان، أما إنَّها لا تقطع أصلا فلا نقول به.
1106 - باب إِذَا حَمَلَ جَارِيَةً صَغِيرَةً عَلَى عُنُقِهِ فِي الصَّلاةِ
باب إِذَا صَلَّى إِلَى فِرَاشٍ فِيهِ حَائِض
وتدخل فيه مسألتان: الأولى: مسألة الحمل. والثانية: مسألة ثياب الصبي. أَمَّا الحمل فإِنْ كان بالإِشارة فهو عَمَلٌ قليل كما في عالمكيرية، وإِنْ كان الاستمْسَاك فهو عملٌ كثير وفي الخارج أَنَّه كان يُشير بها بالنُّزول عند الركوع ولا بد، فَعَبَّر الراوي عن تَعلقُها بنفسِها، وعَنْ إشارتِه إيَّاها أنَّه صلَّى وهو حاملٌ لها، وإذا رَكَع وضعها، وما للرُّواة وللأنظار الفقهية فهذا توسع لا غير.(2/254)
قلت: فأين ذهب رفع اليدين؟ وإنَّما فَعَلَ النبي كذلك وهو في الصَّلاة بيانًا للجواز وهو التَّعليم الفطري، وهو ما يكون في ضمن الأفعال، أما ما يكونُ باللسانِ كما ترى اليوم فهو طريق مستحدثٌ مجعول، فكما أَنَّ الأبناءَ يتعلمون حوائِجَهم عن أوضاع آبائِهِم كذلك الأُمَّة تتعلم دينَها مِنْ نبيها.
وأمَّا المسألة الثانية: فقد مَرَّ عن الشيخ ابنِ الهُمام أَنَّ العِبرة فيه بحملِه، فإنْ كان الصبي بحيث يتعلق بنفسه ولا يحتاج إلى حمله، لا تنسب تلك الثياب إليه ولا تُعِد حاملا إياها وإلا نسبت إليه، ويُعدُّ وتفسد صلاته. وفي «المُنية» إذا كان الحصير كبيرًا وأحد جوانِبِه نجس لا بأس بالصَّلاة عليه في الموضع الآخر. وفي إسناده حفص وأنَّه رأى أبا حنيفة رحمه الله تعالى وهو من تَلامذةِ أبي يوسف رحمه الله تعالى، وعبد الواحد بن زياد أيضًا أرى له علاقة مع أبي حنيفة لما عند الدَّارقطني عند اختتامه عنه أنَّه يقول: عن أبا حنيفة رضي الله عنه عن تصدق مال خبيث ومن أين أخذه قال من حديث عاصم بن وفيه أنه دعي إلى لحم شاة ذبحت بغير إذن أهلها فأمره أن يطعمه المساكين.f
باب هَل يَغْمِزُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ عِنْدَ السُّجُودِ لِكَي يَسْجُدَ؟
ولا عجب إنْ كان يُشير إلى عدم نَقْضِ مسِّ المرأة.
باب المَرْأَةِ تَطْرَحُ عَنِ المُصَلِّي شَيئًا مِنَ الأَذَى
وقد تَرْجَم به مرَّة مِنْ قَبْل لييان صحة الصَّلاةِ وفسادِها، والمقْصُود بيان مسألة المرأةِ، وعليك أنَّ تُفَرِّق في مثل هذا التَّكرار.
520 - قوله: (إلى فَرْثِها ودمِها وسَلاها) هذا صريحٌ في نجاسة السلا فبطل التأويل المشهور وقد مرَّ منا كلام عليه.
520 - قوله: (اللهم عليك بقريش)... الخ قال الدِّمياطي: إنَّه أَوَّل دعاء دعا به النبي صلى الله عليه وسلّمعلى الكفار.(2/255)
كتاب مواقيت الصلاة
واعلم أَنَّ حديث إمَامة جبريل عليه السَّلام أساس الأحاديث في بابِ الأَوقاتِ وإن لم يخرجه الشيخان، لكن في حديثِ البابِ إيماء إليه فَحَصلت له نوعُ رِفعة، فلنشرح أَوَّلا ألفاظَه ثُمَّ لنعرِّج على مباحثِه.
باب مَوَاقِيتِ الصَّلاةِ وَفَضْلِهَا
521 - قوله: (أَخَّرَ الصَّلاةَ يومًا) وعند البخاري في بدءِ الخلق: «أخر العصر شيئًا» وعند أبي داود «كان قاعدًا على المنبر». فقوله: «يومًا دَلَّ على أنَّه لم يَكُن إذ ذاك أمير المؤمنين.
521 - قوله: (أنَّ جبريل نَزَل) وفي رواية للشافعي رحمه الله تعالى أَنَّه أَمَّهُ عند المقام تلقاء الباب، وهذا يَرد على مَنْ قال إن قِبلتَه صلى الله عليه وسلّمفي مكة كانت بيت المقدس، وإنَّما أَبْهم الأمر لأنَّه كان يُصلي مستقبلا بهما وذاك لأنَّه لا يُمكنه استقبالَ بيت المقدس فيما قلنا. وفي «سيرة محمد بن اسحق» أَنَّه نَزَلَ عند زوال الشمس ولذا سُميت بالأولى فتصدى الناس إلى بيان النكتة في نزوله في الظهر دون الفجر، فقيل: إنه كان نائمًا صبيحة الإِسراء فلم يحب جبرئيل عليه السلام إيقاظَه، وهو غلط ومنشأه الخلط بين السفرين في الليلتين ليلة التَعْرِيس وليلة الإِسراء، وإنَّما نام النَّبي صلى الله عليه وسلّمفي الأول دون الثاني، فما كان وقع في ليلة التعريس نقلوه في ليلة الإِسراء بمجرد اشتراك كونهما في الليل، ولا حاجة إلى بيان النُّكتة على ما حققتُ سابقًا من ادعاء فرضية الصلاتين قبل الإِسراء أيضًا، واتفق الكُل على أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّمكان يُصليهما قبل الإِسراء، وإنَّما تكلموا في صفتِهما هل كانت فريضةً أو تطوعًا.(2/256)
فذهب جماعة إلى فرضيتهما وهو الذي أختارُه، والأصلُ أَنَّهما صلاتان كانتا على بني إسرائيل كما هو عند النَّسائي فبقيتا على أُمَّةِ محمد صلى الله عليه وسلّموصلاهما النَّبي صلى الله عليه وسلّموأصحابُه حتى صارت خمسًا، وقد ذَكَرهما القرآن في غير واحدة مِنَ الآيات، وقد تُذْكَر معهما صلاة الليل أيضًا، وهي أيضًا من الابتداء ولم تنسخ بتمامها أصلا، وإنَّما غيَّر في صفتها وبقيت منها الوتر كما سيجيء تقريره، وحَمْلُها على الصلوات الخمس غير مرضي عندي، والوجه فيها: أَنَّ تلك الآيات كانت فيما لم تَكُن فريضة إلا هاتان ولا أجد فَرْقًا في صفة أدائهما قبل الإِسراء وبعده، فقد رُوِيَ في الصحيحين: أنَّه صلى بأصْحابه الفجر بالنَّخْلَة حين ذَهَبَ عامدًا إلى عُكاظ واستمع له الجِنّ، وفيه أنَّه جَهَرَ بالقراءةِ فثبتت الجماعةُ والجهرُ أيضًا، وهذه شاكلتها بعد الإِسراء أيضًا، فما الدليل على أنها كانت نافلةً؟ ومِنْ هذا التحقيق خرج غير واحدة مِنَ الآيات من التأويل وهي التي ذُكِرت فيها الصَّلاتان فقط كقوله تعالى: {فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} (ق: 39) فلا حاجة إلى إدخالِ الصَّلاةِ الخمس فيها.
وما وقع عند الدَّارقطني أنَّه نزل في الصبح فهو أيضًا وَهْمٌ عندي، والتبسَ عليه تَعْليم النَّبي صلى الله عليه وسلّمأعرابيًا في المدينة بتعليم جبريل إيَّاه في مكة، وكانت أَوَّل صلاة صلَّى به صلى الله عليه وسلّمهي الفجر، قال ابن كثير: صلاتُه صلى الله عليه وسلّمفي بيت المقدس ذاهبًا كانت تحية المسجد، وآيبًا كانت الفجر.(2/257)
521 - قوله: (صَلَّى فَصَلَّى) وفي غير صحيح البخاري أَنَّ جبريل عليه السَّلام صَلَّى به مرتين، وما في هذه الرواية يدل على إمامته يومًا فقط، فإِما أَن يُقال إنَّ الرَّاوي اقتصرَ في تلك الرِّوايات، أَوْ يُقال إنَّ الفِعلَ مُطْلَق يَصدُق على مرة كما يصدُق على ألف مرة، فيُقال ضرب لمن ضرب مرة ولمن ضرب مرارًا كذا قاله سيبويه كما في «الجامع الكبير» للشيخ بَلْبَان الفارسي، ولذا قالوا: إنَّ التثنية والجمع من خواص الاسم، وهو في الفعل لحال فاعله، وحينئذ تَنْدَرِج صلاة يوميه في فِعْلٍ واحدٍ، والرواية المُفَصَّلة عند أبي داود وفيها ذكر اليومين وصلاته فيهما مُفَصَّلة، وفي آخرِها «ثم لم يُسْفِر بعد» وتكلَّم المُحدَّثون في الجملة الأخيرَة وإن ثبَتَت فالأمر أيضًا سهل.
ثمَّ قيل: إنَّ الفاء في قوله: «فصلَّى» لبيان صلاتِه في عمره، يعني أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمصلَّى فيم بعد كما كان جبريل عليه السَّلام علمه، وقيل: بل هي لبيان التعقيب بين أجزاء الصَّلاةِ بحسب الإِمامة والاقتداء. وقد مَرَّ مني أنَّ الفاء قد تَدْخُل الأمرين المتَعاقِبين ذاتًا وإن كانا متقارنين زمانًا، فلا يخالف مسألةَ الحنفية في مقارَنَة الأَفْعَال بين الإِمام والمقتدي، وليس في أحدٍ من طُرُقِه تفصيل الأوقات إلا في رواية عند أبي داود، وعلله المحدِّثون أيضًا، نعم في حديثِ إِمَامةِ جبريل عليه السَّلام الذي شير إليه في هذا الحديث تفصيل ذلك، وفي مراسيل أبي داود عن الزُّهري والحسن أنَّه صلَّى أربعًا.
قلت: والمرسَلان معلولان لِمَا في البخاري أنَّ الصَّلاة قَبْلَ الهجرةِ كانت مَثْنَى مَثْنَى، وإنَّما قاسها الرَّاوي على الحالةِ الرَّاهِنة فذَكَرها أربعًا.(2/258)
521 - قوله: (اعلَمْ ما تُحَدِّثُ به) يعني أَنَّك لستَ بصحابي فأْتِ بسنَدِهِ ولا تَرْوِ مرسلا هكذا قالوا: والوجه عندي أَنَّ الاستبعاد على تعليمه فعلا، مع أنَّ التعليم القولي أيضًا كان كافيًا له، ولذا قال: أو إِنَّ جبريل هو أقامَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلّم يعني حتى تَعَلَّمَ الصَّلاةَ مِنْ فِعلهِ، فأجابه عروة: إني لا أَرْوِيه إلا بالإِسناد فَخُذْه مني فَذَكَره كما في الكتاب.
522 - (والشمسُ في حُجْرتِها) دلَّ على تَعْجيلِ العصر، وأجاب عنه الطَّحاوي أَنَّ الجُدر كانت قصيرة فلم تكُن الشمس تخرج منها إلا قُبيل الغروب، وكان الطَّحاوي قاله في العصر، فنقله بعضهم في التغليس، وفَهِم أنَّ الطَّحاوي جعلَه وجهًا للتغليس.
وحاصله: أَنَّ الصحابةَ إنَّما ذكروا التَّغْلِيس لِقَصر جُدْرَان مسجدِه فلم يكُنِ الضوء يَدْخله إلا بعد الإِسفار الشديد، ثم اعتُرِض عليه أنَّه تحميق لهم والعياذ بالله، وهذا كما ترى بناء الفاسد على الفاسد.(2/259)
ثم إنَّ الخلافَ في تأخيرِ العصر في الاستحبابِ دونَ الجواز فَيُسْتَحب تَأْخِيرُها عندنا قَبْل ضَعْفِ الشمس وهو المُرادُ من الإِحمرار والإِصفرار، والتمكُّن مِنَ النَّظرِ إلى قُرص الشمس وانكسارِ الشعاع، فإِنَّ هذه أمور لا تَحْصُل إلا عند ضَعْفِها، فإِذا ضعفت اصفرت، ويُتمكَّن النَّظر إليها. وفي «تحفة المحتاج» للشافعية رحمهم الله، أَنْ يُصلِّي العصر حين يَبْقى ربع النَّهَار أو خمسه. وصرَّح الشامي منَّا في «شرح قِصة الدَّجال» والتقدير في يومِهِ الطويلِ للصلوات: أنَّه يُصليها إذا بقي خمس النَّهار أو سدسه. فلم يَبْق بين الإِمامين فَرْق كثير، ولكنَّ المشغوفون بالخلافِ يتعسر عليهم التقريب، فيجعلون الخلافَ على طرفي نَقيض فإِذا نُقَّحَ وحقَّق هان، لأنَّه لم يَبْقَ إلا بسدس النَّهار فتشكر. وعند أبي داود في باب الجمعة مرفوعًا: أنَّه قال يومُ الجمعةِ ثنتا عَشْرَةَ، يريد ساعة لا يُوجد مُسْلِمٌ يسأل الله شيئًا إلا أتاه الله عز وجل، فالتمسوها آخِرَ ساعةٍ بعد العصر.
وهذا الحديث وإِنْ لم يُسق لهذه المسألة عبارة لكنَّه دلَّ على أَنَّ التَّأْخِير مُسَلَّمٌ في ذهن المُتَكَلِّم حتى ينبع مِنْ أَطْرافِ كلامِه، ويُعلم منه كأنه مفروغ عنه عنده فكأنَّه أَدَّاهُ كالعلم الحُضوري لا يغيب عنه، كذلك التأخير بالعصرِ ههنا فإِنَّه مُتكلم في باب آخر، والتأخيرُ لا يَزال يَخْرج من عَرْضِ كلامِه كالعِلم الحضوري لا يذهل عنه، وعند الترمذي عن أم سَلَمة كان رَسولُ الله صلى الله عليه وسلّمأشدَّ تعجيلا للظُّهر منكم، وأنتم أَشدُّ تعجيلا للعصر منه، وبوَّب عليه الترمذي بتأخيرِ العَصْرِ واستدل الإِمام محمد بما أخرجَهُ هو، وأخرجه الشيخان: إنَّما أجلكم فيما خلا مِنَ الأُمم كما بين صلاةِ العصر إلى مَغْرِبِ الشمس، وفي الحديث «أنا والسَّاعة كهاتين».(2/260)
فدلَّ على أنَّ وَقْتَ أَمَّتِه أَقل قليل، فلا يكونُ مِنْ صلاةِ العَصرِ إلى الغُروبِ إلا وقتًا قليلا، وهو محمول على المبالغةِ، وإلا فهو دالٌّ على أزيد من التأخير الذي أَرَدْنَاهُ وسيأتي الكلام فيه.
الفائدة الأولى: في ذِكْرِ الآيات التي فيها الإِيماء إلى الصَّلواتِ الخمس. واعْلَم أَنَّ المفسرينَ تعرضوا إلى عد الآيات التي فيها إيماء إلى الصَّلواتِ الخمس، وهي عندي عدة آيات على ملاحظ مختلفة، واعتبارات شتى، فمنها قوله تعالى: {فسبحان ا حين تُمسون وحين تصبحون وله الحمدُ في السموات والأرض وعشيًا وحين تظهرون} (الروم: 18) ومنها قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَوةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ} (هود: 114) ومنها قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءانَ الْفَجْرِ} (الإسراء: 78) ومنها قوله تعالى: {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَرَ السُّجُودِ} (ق: 40).(2/261)
فَذَكَر الصَّلوات الخمس في الآية الأولى في أربعة ألفاظ، فبدأ أَوَّلا بِذِكْرِ طرفي النَّهار وهو الصَّباح والمَساء، فدخلت صلاة الفجر في قوله {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}، والمَغْرِب والعشاء في قوله {وحين تمسون} لأنَّ المساء صالحٌ للعشائين، أمَّا صلاة العصر والظهر فَذَكَرهما في قوله: {وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} وذكرها في الآية الثانية في لفظين فقط أي طرفي النَّهار والزلف، وطرفا النَّهار هما نصفاه، فالصبحُ في نصف، والظهر والعصر في نصف آخر، أمَّا العشاءان فأدرجهما في الزُّلَف، وتمسك منها الحافظ مُغْلَطاي على وجوب الوتر، بأنَّ الزُّلَف صيغة جَمْع، وأقله الثلاث، فلا بد أَنْ تكونَ هناك صلاة ثالثة وهي الوتر، وقال الحافظُ رحمه الله إِنَّه تشديد من مُغْلَطاي وليس في الآيةِ ما يدلُّ عليه، ولم يِقْدِر على جوابه.
قلت: الْحافظُ وإنْ عَجَزَ عن الجوابِ لكِنْ أقول أنا: لا دليلَ في الآيةِ المذكورةِ على وجوب الوتر، أَمَّا جمعية الزُّلَف فهي باعتبارِ وقوع العشاء في هذه الحصة تارة، وتارةً في الحصةِ الأُخْرَى، فكانت باعتبار حِصَص الليل وساعاتِه من حيث تعجيلِ العشاء وتأخيره، فأخذها باعْتِبار أنواعِ الصَّلوات.(2/262)
أما الآية الثالثة: فهي على شَكِلَةِ حديث جبريل عليه السَّلام وبدأ فيها مِنَ الظُّهْرِ، ولف الأربع في قوله: {أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ} وفَصَل منها الفجر وعدَّها مستقلة، وذلك لأنَّ أَوْقَات الأربع كانت مُسَلْسَلة مِنَ الدُّلُوك إلى الغرب بخلاف الفجر، لأنَّها في طَرَف، وبينهما وبين الظُّهْرِ وقتٌ مُهْمَلٌ جَعَلَهُ الله لِمَنْ فاتَتْهُ وظيفتهُ مِنَ الليلِ أن يؤديها فيه، فتحسب له كأنَّما قَرَأَها من الليل، وهو تأويلُ قوله تعالى: {وجعلنا الليل والنَّهار خِلْفَة لمن أرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أو أراد شكورًا} (الفرقان: 62) والخلافة حيث يخلف ما في النَّهار عمَّا في الليل، وتَعرَّض في الآية الرَّابعةِ عن وَقْتِ الصبحِ والعصر أيضًا، بكون إحداهما قَبْلَ طُلُوعِ الشمس، وأُخْرى قَبْلَ غُرُوبِها تنبيهًا على وقتَيْهِمَا. وَذَكَرَ المَغْرِب والعِشَاء في قوله: {ءانَآء الَّيْلِ} على شاكلة {وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ}. بقيت الظُّهر فَجَعَلَها في أطرافِ النَّهار، والجمعية ههنا كجمعية الآناء والزلف هناك، باعتبارِ وقوعِ الظُّهْرِ تارةً في أوَّل وقتها، وأُخْرَى في غيره، فهي أيضًا باعتبارِ السَّاعات.
والحاصل: أنَّه حيث ثَنَّى الطَّرَف أَرَادَ به جَانِبيّ النَّهار وحيث ذَكَرَهُ بصيغةِ الجمع قَصَرَهُ على ساعاتِ الوقتِ، باعتبارِ وقوعِ الصَّلاةِ في أَجْزَائِها، لأنَّه لا يكونُ لشيء واحدٍ إلا طَرَفان، فلا تستقيمُ الجمعية إلا بأَخْذِها في الوقت. ولَعَلك عَلِمْتَ أَنَّ مِصْدَاق تلك الآياتِ واحدٌ، وإِنَّما تَفَنَّنَ فيها في العبارات لمعانٍ وَملاحِظ، عليك أَنْ تتأملَ فيها حتى تَذُوقَ حلاوتَها.(2/263)
الفائدة الثانية: واعلم أنَّ القرآن لم يَتَعرض إلى تعيين أوقات الصَّلوات غير الفجر والعصر، فحدَّد أواخِرَهما بطُلوعِ الشمس وغروبِها، وأَمَّا سائر أوقاتها فَتَرَكها على أسامِيها، كما ذَكَرَها الثَّعَالبي في «فقه اللغة» وراجع لها «شرح لأميةِ العجم» مِنْ قوله:
ولعلَّ مرادهما كراهة تَحرِّيها في ذلك الوقت، وليس مَذْهبًا لأحد أصلا، وإنَّما هو مِنْ ثَمَراتِ المبالغات، والشعف بالخلاف، كما قال بعض من الشافعية: إن الوتر بالثلاث باطل. وكذلك لم يَرِد في الأحاديث غير التقريب، ومَنْ حَمَلَها على غاية التَّحْدِيد، فقد تَكَلَّف بما لا يَقْدِر عليه هو، فإِذا لم تَقْدِر أنتَ على تَحْدِيدِ تلك الأوقات غير التقريب، فكيفَ ساغَ لك أَنْ تَحْمِل كلمات الرواة على أَنَّهم أرادوا به حق التعيين، أَلا تَرَى أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّملم يَأْمُر الرَّجُلَ حين جاء يسأله عن أَوْقَاتِها إلا بِأَنْ يُصَلِّي مَعَهُ يومين ويُشَاهِدَ أوقات الصَّلوات بعينِه ولم يَكتَفِ بالتعلِيم القولي، وذلك لأنَّ تحدَيدِها لا يمكن بمجَرَّدِ القولِ، ولعلَّ جبريل عليه السَّلام أيضًا، نَزَلَ لهذا السو فصلَّى به، وعَلَّمَهُ أوقاتها عَمَلا، ولذا تَرَى الرُّواةَ يُحَدِّدُونَ الأوقات، تارةً بِذِكْرِ المَسَافَةِ وأُخْرَى بذِكْرِ ظِلالِ الأشياء، ثُمَّ قد يُبالِغُون فيه حَسَب داعية هناك، وقد يَذْكُرونها برؤية مواقع نَبْلِهم، وفي العصر أنَّ الشَّمْسَ كانت حية، فهل ترى تلك التعبيرات كلها تَنْزِل على التقريب الذي أَرَدْنَاه أو على التحديد الذي راموه.
ثُمَّ أي تحديدٍ في قوله: وكان ظِلُّ الرَّجُل كطوله مَا لم تَحْضُر العصر، فأراد مِنْ أَوَّلِ كلامِهِ التحديد شيئًا ثُمَّ لم يَقْدِر فَعَدَل عنه إلى التقريب، فقال: ما لم تَحْضُر العصر.(2/264)
ولو أنَّ النَّاس فَهِمُوا هذه الدقيقة، لَمَا ضَرَبوا بَعْضَ الأحاديث على البعض، ولعَلِمُوا أَنَّ الدِّينَ أَبْقَى لهم فُسْحَة مِنْ عندِه وأَرَادَ أَنْ يُبْقي النَّاسَ في يُسر وكم مِنْ أشياء أَهمَلَها الشارع لذلك، ولا تسألوا عن أشياء إن تُبْد لكم تَسُؤْكُم.
الفائدة الثالثة: واعلم أنَّه انعقَدَ الإِجماعُ على أَوَّل وَقْتِ الفجر وآخرها، وكذا في أَوَّلِ وقت الظُّهر، واختلفوا في آخرها، وتَعَدَّدَت فيهِ الرِّوايات عن الإِمام، ومِنْ ههنا اختلف في أَوَّل وقت العصر، واتفقوا في آخرِها، ولهذا اتفقوا في أوَّلِ وقت المَغْرِبِ، وإِنَّما لم يَخْتَلِفوا في الفَجْرِ في أَوَّلِها وآخِرها، لكونِه مُتَعينًا في الحسِّ بانْبِلاجِ الفَجرِ، وطُلوعِ الشَّمْسِ، وكَذا أَوَّل وَقْتِ الظُّهر، لأنَّه مِنْ حين الزَّوال وهو أيضًا مشاهد، وفي آخر وَقْتِ العَصْرِ وأَول المَغْرِب، لأنَّه أيضًا يَنْتَهي بأمرٍ مُشَاهَد.
واخْتَلفوا في آخِر المَغْرِب، وَأَوَّل العِشاء وآخرها شيئًا، ومُعْظَم اختلافِهم في آخرِ وَقْتِ الظُّهْرِ وأَوَّل العصر وليس في سائرها إِلا نذر مِنَ الخِلاف. فقال مالك رحمه الله تعالى: بالاشتراك قَدْرَ أربع رَكَعَاتٍ بين آخر الظُّهْر وأَوَّل العصر، فَوَقْتُ العَصْرِ يَدْخُل عنْدَهُ بمصيرِ ظلِّ الشيء مثله، ولا يَخْرج وَقْتُ الظُّهر إلا بَعْدَ قَدْرِ أَرْبَع رَكَعَاتٍ، فقدر أَرْبَع ركعات مْشْتَرك يَصْلُح للظهر والعصر عنده، وإليه ذَهَب جماعةٌ وبعضٌ مِنَ الشافعية، إلا أنَّهم اختاروا أَدْنَى فاصلة بينهما بدونِ قولٍ بالاشتراك كأَنَّه وقتٌ مُهْمَلٌ عندَهُم.
ثُمَّ أكثر الشافعية رحمهم الله تعالى والجمهور إلى أَنَّه يَخْرُجُ وَقْتُ الظُّهْرِ بمصيرِ ظلِّ كل شيءٍ مثلَه ويَدْخل وَقْتُ العَصْر.(2/265)
وأمَّا الإِمام الهُمام فظاهرُ الرواية عنه في المَشْهُور أَنَّ وَقْتَ الظُّهر لا يخرج إلى أَنْ يَصِيرَ الظلُّ مثلَيه ثُمَّ يَدْخُل وقت العصر وليت شِعْري مِنْ أَيْنَ جعلُوها ظاهر الرواية مَعَ أَنَّ آخِرَ وقْتِها لم يُذْكَر في «الجامع الصغير والكبير» ولا في «الزيادات» ولا في «المبسوط»، وصَرَّح السَّرْخَسي: أَنَّ محمدًا لم يَتَعَرض إلى آخر وَقْتِ الظهر، وهو ظاهر «موطأه» حيث قال: وأمَّا أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإِنَّه قال: لا يَدْخُل وقتُ العَصْرِ حتى يَصِيرَ الظِّلُّ مثليه، ولم يَذْكُر آخر وقتِ الظهر عنه. وفي «البدائع» أنَّ آخر وقْتِهِ لم يُذْكَر في ظاهر الرواية. وكذا ليس ذكرهِ في «السِّيَرَ الكبير» ولم أرَ «السِّيَرَ الصغير» فإِذا خَلَتْ هذه الكُتب الستة عن ذِكْر آخر الوقت عُلِمَ أَنَّه لم يجىء في ظاهرِ الرِّواية، ولعلَّهُم أَرَادوا منه معناه اللُّغوي أي الرِّواية الظاهرة المشهورة على الألسنة دون التي في مُصْطَلَحِهم، والرِّواية الثانية عنه كَمَذْهَبِ الجمهور، وَنَقَلَ السيد أحمد الدَّحْلاني الشافعي رحمه الله تعالى رجوعَ الإِمامِ إلى هذه الرِّواية عن خِزَانة المفتين، والفَتَاوَى الظهرية وهما من المُعْتَبَرات،، وأما خِزَانة الرِّوايات فغير معْتَبَرة عندي، وفي عامةِ كُتُبِنَا أنَّها عن حسن بنِ زياد عن أبي حنيفةَ وجعلها في «المَبْسُوط» السَرْخسي عن محمد وبها أَفْتَى صاحب «الدُّر المختار»، ورَدَّ عليه ابنُ عابدين بأنَّها خِلافُ ظاهرِ الرِّواية فلا يُفْتَى بها، والأَرْجَح عندي ما اخْتَارَهُ صاحبُ «الدُّر المختار»، والثالثة: أَنَّ وقَتَ الظُّهْرِ إلى المثل ولا يَدْخُل وقْتُ العَصْرِ إلا بعد المِثل الثالث، والمِثل الثاني مهملٌ، وهي رواية أسد بن عمرو عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى. والرابعة: كما في «عمدة القاري» وصححها الكَرْخِي أنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ إلى أقل مِنْ قامتين ولا يَدْخُل(2/266)
وقْتُ العَصْرِ حتى يَصِير قامتين.
وبه قال مالك رحمه الله تعالى: إلا أنَّه حَدَّدَ الوقتَ المُهْمَل بِقَدْرِ أَرْبَع رَكَعات، وَجَعَلَهُ مشتركًا، ثُمَّ جاء المالكية فافْتَرَقُوا في تفصيلِهِ على فِرقتين: فقيل: إن القَدْرَ المُسْتَثْنَى في آخر المِثل، وقيل: بل مِنَ ابتداء المِثْل الثاني.
فإِذا حَقَّقْتَ الرِّوايات، فاعلم أَنَّ النَّاسَ جَعَلُوها روايات شتى، وهي تَنْحَط على مَحطَ واحدٍ، ومرجع الكُل عندي، أَنَّ المِثْل الأَوَّل وقتٌ مُخْتَصَرٌ بالظُّهْرِ، والمِثل الثالث بالعصر، والثاني يَصْلُح لهما، والمطلوبُ هو الفاصلةُ بينهما في العمل، فإِنْ عَجَّل الظُّهر فَصَلاها بعد الزَّوَال يُعَجِّل العصرَ ويصلِّيها على المِثل، وإِنْ أَخَّرَ الظُّهْرَ فصلاها على المِثل يُصلي العصر أيضًا مؤخِّرًا إبقاءً للفاصِلَة بينهما، فلا يُؤَخِّر الظهر مع تَعْجِيلِ العصر، لأنَّه رُبما يُوجِب الجَمْع مَعَ أَنَّ المطلوبَ هو الفاصلة، نعم تلك الفَاصِلة قد تَرْتَفِع لأَجْلِ السَّفر والمرض، فللمُسَافر أَنْ يَجْمَع بين الظُّهر والعصر في المثل الثاني.c
وكَذَلِكَ جَازَ للمستحاضَة أَنْ تَغْتَسِل ثُمَّ تَجْمَعَ بينهما في غُسلٍ واحد، ومِنْ ههنا اندفعت الشُّبْهة العظيمة، أَنَّ خُروجَ الوقتِ أو دُخولَه لمَّا كان ناقضًا لطهارة المعذور عندنا كيف أمر المستحاضة أَنْ تَجْمَع بين الصَّلاتين في غُسل واحد، لأنَّه يُوجب عندنا أَنْ تكونَ صلاتُها الثَّانية في حالة الحَدَث.(2/267)
والحل عندي: أَنَّه أَمَرها بالجمع في الوقت الصَّالح لهما، ومسألة النقض بالخُروج أَوْ الدُّخول فيما خرج الوقت المختص، أو دَخَل الوقت المختص، أمَّا الوقت الصالح لهما فلا كَلامَ فيه وما أَخْرَجَه أبو داود في باب الاستحاضة. والوضوء فيما بين ذلك، حمله بعض الأَعلامِ على ذلك وفَهموا أنَّ المرادَ به الوضوء فيما بين الصَّلاتين لانتقاضِ طهارتها بعد الصَّلاة الأُولى، وهو عندي للحَوائجِ الأُخر، يعني أَنَّه علَّمَها الغُسل لصَلاتِها، فإِنِ احتاجَت إلى غيرها لحمل المصحف، فإِنَّها تَكْتَفي بالوضوء فهذا الوضوء لحاجاتٍ تعتري لها فيما بين ذلك إذا انْتَقَضَتْ طهارتها، وكان تعليمه أيضًا مهمًا وهذا الذي وَعَدْنَاك في باب الاستحاضة في أَمْرِ طهارتِها، فإِنْ سَمَحَت به قريحتُك فهذا سبيلُ الجواب، وإلا كَفَاك رواية أبي داود على الشرح المشهور، ولا رَيْبَ أَنَّ اللفظَ يحتمله أيضًا.(2/268)
أمَّا ما قلت إنَّ الرِّوايات كلها تشير إلى معنى واحد وكلها شطر للمراد فبأن الرواية الأولى تدل على أَنَّ المِثْل الثاني للظهر، وَدَلَّتِ الثانية على أَنَّه وقت للعصر أيضًا فلزم القول بالاشتراك. وعُلِمَ أَنَّ المِثل الثاني صالح لهما، ولمَّا لم تَقَع العصر في المِثل الأَوَّل والظُّهر في المِثْل الثالث قَطْ لَزِمَ أَنَّ المِثل الأَوَّل وقتٌ مختصٌّ بالظُّهْرِ والثالث بالعصر بحيث لا تَصْلح إحداهما في وَقْتِ الأُخْرى، وأمَّا الرواية الثالثة مِنْ أَنَّ المِثل الثاني وَقْتٌ مُهْمَلٌ فلم تجيء لبيانِ مسألةِ الوقت بل لبيَانِ ما ينبغي في العمل، وهو الفاصلة بينهما، فينبغي ألا يصلِّيها جميعًا بل يَجْعل بينهما فاصلة، فإِن صَلَّى الظُّهْرَ في المِثل، عليه أَنْ يُصلِّي العصر في المثل الثالث، ويُهْمِل المِثل الثاني في البين؛ ومعنى الإِهمال إهماله عملا، وإِنْ كان في الحقيقة أَقرب إلى الظُّهْرِ لكنَّه إِنْ أَدْخَل فيه العصر تارةً يكون متحملا أيضًا.
وأما الرَّابعة فلبيانِ أنَّ تلك الفاصلة غير متَعيّنة، فيجوز أَنْ تكون بقَدْرِ المِثل الثاني، أو بما دونه كما أشير إليه بالرابعة، ولا استغراب في القولِ بالاشتراك، فإِنَّه ذهب إليه جماعةٌ من السَّلف كما في الطَّحاوي وهو مَذْهَبُ مالك رحمه الله تعالى ورواية عن الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى، وهو الذي تُشْعِر به مسائلهم فإِنَّهم قالوا: مَنْ طَهُرَت في آخر العصر يلزمها قضار الظُّهر أيضًا، وكذا مَنْ طَهُرَت في آخر العشاء تَقْضِي المَغْرِب أيضًا، ولولا الاشتراك لَما قالوا بقَضَاءِ الظُّهْر والمغرب بطهارتها في العصر والعشاء.(2/269)
ونقل الحافظُ في «الفتح» عن ابنِ عباس وعبدِ الرحمن رضي الله عنهم مثلَه، فظهرَ الاشتراك شيئًا في سائر المذاهب. لا يقال: إنه يؤول إلى مذهب الشافعية رحمهم الله تعالى في الجَمْع بين الصَّلاتين، فإِنَّه وقتيٌّ عندهم، كذلكَ يكونُ الجمعُ عند الحنفية أيضًا وقتيًا على هذا التقدير.
قلتُ: كلا، فإِنَّ الجمعَ الوقتي عندهم: هو تقديم إِحدَى الوقتيتين في الوقت المخْتَص للأخرى، أو تأخيرُها إلى الوقتِ المُخْتَص بتلك؛ والحنفيةُ لا يقولون به، فلا يجوزُ العصر عندَهم في المثل الأَوَّل لا في السَّفرِ ولا في المطرِ، ولا يجوز الظُّهْرُ في المثل الثالث كذلك، فتفَارَقا.
فإِنْ قلت: يُخَالف الاشتراكُ قولَه تعالى: {كتابًا موقوتًا} (النساء: 103) قلتُ: وماذا فهِمْتَ مراده، وهل فيه توقيت بحسب ظنِّك، أو كما وقَّتَه النَّبي صلى الله عليه وسلّم فإِنْ كانت «موقوتًا» بمعنى أنَّه وقَّت لها سبحانه وقتًا وبينه رسولُه، فليراجع له إلى ما بينه النبي صلى الله عليه وسلّم فإِنْ كان بالاشتراك فهو موقوتٌ بالاشتراك، وإن كان بالافتراق فكذلك.(2/270)
أمَّا مثل قوله صلى الله عليه وسلّم «وقت الظهر ما لم تحضر العصر» فهو أيضًا لا ينفي ما قلنا؛ فإِنَّ المراد به وقت الظهر المجموع، يعني مع الوقت المُخْتَص وغيره، ومن العصر وقته المُخْتَص، ثُمَّ إذا ظَهر اختلافٌ بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وتحقق عندَك خِلافٌ بين الأئمةِ، فإِيّاك وأَنْ تَظُنَّ في هذه المواضع أَنَّ القرآن أَو الأحاديث في يد أحد الطرفين، فإِنَّ القرآن إذا لم يَحْتَمله والأحاديث خالَفته، كيف يَسُوغ لمِثل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومِنَ الأئمةِ مثل مالك رحمه الله تعالى أَنْ يقولَ بما ليس له أَثرٌ في الدِّين بل نصٌّ بخلافِه، فلو كان معنى الموقوت ما كنتَ تَظنُّه لَمَا ذهبَ إليه مالك رحمه الله تعالى وجماعةٌ مِنَ السَّلَف، فخفض عليك شأنَك، ولا تُسْرِع في ردِّ ما لم تَسمعهُ أُذُنَاك؛ فإِنَّه ليس من العِلم وإنَّ مِنَ العِلم لجهلا.
تنبيه: واعلم أَنَّ السَّرَخْسي نبَّه على أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ ليس إلى المِثل فقط عند صاحبيه، بل يَبْقَى بعدَه شيئًا أيضًا فكان وَقْتُ الظُّهرِ عندهما مِثلا وشيئًا، لا كما هو المشهور عنهما، أَنَّه إذا صار المِثل فقد دَخَل وقتُ العصرِ وخرجَ وقتُ الظهر. إذا أتقنت هذا، فاعلم أنَّ حديث جبريل لا يَصدُق إِذَن إلا على مذهب الحنفية، لأَنَّه ليس فيه إلا تَعْجِيل الصَّلوات كلِّها في اليوم الأول، وتأخير كلها في اليوم الآخر مع إبقاءِ الفَاصلة بينهما، فإِذا صَلَّى الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس صلَّى العصر على المِثل وعَجَّلَ فيها أيضًا، ثُمَّ إذا أَخَّرَ الظُّهْرَ في اليوم الثاني وصلاها في المِثل الثاني أَخَّر العصرَ أيضًا وصلاها بعد المثلين وهذا عينُ مذهبِ الحنفية على ما حققت.(2/271)
وحديث جبريل صريحٌ في الاشتراك حيث صلَّى العصرَ في اليوم الأَوَّلِ حين صار ظلُّ كلِّ شيءٍ مثلَه؛ وصلَّى الظُّهْرَ في اليوم الثاني في عين ذلك الوقت. وعند الترمذي تصريح أنَّه صلَّى الظُّهْرَ في اليوم الثاني لوقت العصر بالأمس، فلا مَناص عن القولِ بالاشتراك، ولذا قال به مالك رحمه الله تعالى، ثُمَّ إنَّه يُخالف الشافعي رحمه الله تعالى وغيرَه في أَنَّ وقتَ الظُّهرِ يَخْرجُ بالمِثل، لأنَّه صلاها اليوم الثاني بعد المِثل، فليس فيه ما رامُوه مِنْ كَوْنِ وقتِ الظُّهْرِ إلى المِثل ولذا أَوَّلَ فيه النَّووي بما أَوَّل فراجعه.
وفي الروايات: أَنَّه نَزَل في اليوم الثاني بعد المِثل فعند النَّسائي: «ثُمَّ أتاهُ اليوم الثاني حين كان ظلُّ الرَّجُل مِثل شخصه، فصنع مِثلَ ما صَنع بالأمسِ صلَّى الظُّهْرَ اليوم...» الخ. وهذا صريحٌ في أَنَّه صلاها في اليومِ الثاني بعد المِثل، وهو وقتُ العصرِ عند الشافعيةِ رحمهم الله تعالى، ولا يَمْشِي فيه تأويل النَّووي.
«... وصلَّى العصر في اليومِ الثاني حين كان ظِلُّه مثلَيه... وهذا يَصْدُق لو كان صلاها قَبْلَ خَتم المِثل الثالث أيضًا، ولا بُدَّ من حَمْلهِ عليه كما سيجيء، وعادتُهم قد جرت بحذفِ الكسور. فتحصَّل أنَّه صلَّى الظُّهر تارةً في المِثْل وهو وَقْتُها المُخْتَص وتارةً في المِثْل الثاني وهو الوقْتُ الصَّالح لها، وكذلك صلَّى العصرَ تارةً بعد المِثل الأوَّل، وهو وقتٌ صالحٌ لها أيضًا، وصلاها تارةً بعد المِثل الثاني قبل نهايةِ المِثل الثالث، وهو الوقتُ المُخْتَص بها مع إبقاء الفَاصِلة بين الصَّلاتين في اليومين، وهذا عينُ مذهبنَا ولله الحمد أَوَّلا وآخرًا.
(2/272)
ثم اعلم أَنَّ وقتَ العصرِ عند الشوافِعَ رحمهم الله تعالى على خمسة أنحاء. قال النووي: قال أصحابنا: للعصر خمسة أوقات: وقتُ فضيلة، ووقتُ اختيار، وجوازٍ بلا كراهة، وجوازٍ مع كراهة، ووقتُ عذر. أمَّا وقت الفضيلة: فأَوَّل وقتِها، ووقتُ الاختيار يمتد إلى أَنْ يَصيرَ ظلُّ كلِّ شيءٍ مثلَيه، ووقت الجواز إلى الاصفرار، ووقت الجواز مع الكراهة: حالة الاصفرار إلى الغُروب، ووقت العُذر: هو وقت الظُّهْرِ في حق من يَجْمع بين الظُّهْرِ والعصر لسفرٍ أو مطرٍ، ويكونُ العصر في هذه الأوقاتِ الخمسة أداء، فإِذا فاتَتْ كلها بغروبِ الشمس صارت قضاءٍ. انتهى.
وقسمه الحنفيةُ إلى قسمين: وقتِ الاستحباب، ووقتِ الكراهة، وأرادوا من الاستحباب ما لا يكونُ مكروهًا، ومعلوم أَنَّ جبريل عليه السَّلام لم يَنْزِل لتَعْلِيم الوقت المكروه، فلم يستوعب في اليومين إلا الوقت المستَحب، فلو قلنا: إنَّه صلَّى العصرِ في اليومِ الثاني في المِثلين، يَلْزَم أَنْ تَبْقَى مِنَ الوقت المستحب أيضًا حِصةٌ ما، ولذا قلت: إنَّه صلاها فيه قُبَيل المِثل الثالث، ليُحاط الوقتُ المستَحب في يومَيه، فإِنَّ المِثْلَ إذا لم يتم جاز أَنْ يُقال إِنَّه صلاها على المِثلين، وهذا واسع في اللُّغة بلا نكير.
والحاصل: أَنَّ جبريل عليه السَّلام إنَّما نَزَل لبيان الأوقاتِ التي ينبغي أَنْ يُصلَّى فيها تقريبًا، ولم يَرِد التحديد أصلا، وإنَّما هو من باب التَّفَقُّه فمنهم مَنْ جَعَلَ وقتَ الظُّهْر إلى المِثل نظرًا إلى أحاديث التعجيل، ومنهم مَنْ جَعَلَه إلى المِثل وزيادة تارة وأُخْرَى إلى المِثلين نظَرًا إلى أحاديث التأخِير، ثُمَّ أَرَاد كلٌّ منهم أَنْ يجعلَه منصوصًا، فآل أمرُهم إلى ما رأيت مِنَ النِّضَال فصارت الحربُ سجالا.(2/273)
وهكذا أقولُ بالاشتراك بين المَغْرِبِ والعشاء، ففي المغرِبِ أيضًا روايتان عن الإِمام. الأولى: أنَّها إلى الشفقِ الأبيضِ، قالوا: إنَّه ظاهر الرواية. والثانية: أنَّها إلى الأحمر.
قلتُ: الأحمر، وقتٌ مختصٌ بالمغرب، وما بعدَ الأبيضِ وقتٌ مختصٌ بالعشاء، والأبيضُ يصلحُ لهما، والمطلوبُ هو الفاصلة، وترتفعُ تلك المطلوبية في السفرِ والمرض، فيجوزُ الجمعُ فيه كالجمع بين الظُّهرين في المِثل الثاني، وأظنُّ أَنَّ البخاري لم يَذْهَب إلى الجمعِ الوقتي كما اختاره الشافعية، وإليه تومىء الأحاديث لتعرضها إلى التأخيرِ والتعجيل، وهما أَصْدَق وأفيد على نظرِ الحنفيةِ، وإنْ صَدَقا على نظرهم أيضًا، لكِن ليس فيه لطف، لأنَّه إذا كان الجمعُ باعتبار الوقتِ فأي بحثٍ من التأخير والتعجيل، وأي حاجة إلى ذكرِهما؟ ويكفي له ذِكر الجمع فقط
أمَّا على طورنا، ففيه بيان معنى الجمع، لأنَّه لا جمع وقتًا وإنَّما هو جمع بحسب تأخير هذه وتقديم تلك، فذِكر التعجيل والتأخير مما لا بُدَّ منه، وسيجيء تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى.
باب قول الله تعالى {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلوةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الروم: 31)
واتقوه أي اخشَوا منه، ومعناه اتخذوه تُقاة.
قوله: ({وَأَقِيمُواْ الصَّلوةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}) وهذا طَرْد وعكس من صنائع البديع، ومِنْ ههنا قال النَّبي صلى الله عليه وسلّم- عند مُسْلِم - «إِنَّ بين الرجلِ وبين الشِّرك والكفر ترك الصلاة». أو كما قال: قال الشاه عبد القادر رحمه الله تعالى: إِنَّ تَرْكَ العِبادة اتباعًا للهوى أيضًا، نوعٌ من الشرك؛ ولذا قال: {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
باب البَيعَةِ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلاة(2/274)
والأصلُ أَنَّ العربَ كانوا يُصافحون عند البيع، فالبيعة بمعنى البيع إلا أنَّه انسلخ عن معناهُ، وصار يُستعمل بمعنى المعاهدة مطلقًا، وهي كما تكون على الإِسلام تكونُ على أمورٍ جزئية أيضًا؛ فالبيعةُ على إقامةِ الصَّلاةِ لمزيد التأكيد.
باب الصَّلاةُ كَفَّارَة
الفتنة - نكهاركي جيز - وهو كل شيءٍ يَحصُل به التمييز بين الأمرين.
وفي الحديث: «إِنَّ هذه الأُمَّة أكثرهم فتنة». وكنتُ أتفكر فيه أنَّه لِمَ ذاك؟ حتى تبين لي أَنَّ الأُمم السابقة أُهْلِكَت بعضُها بالإِغْرَاق وأُخْرَى بالقَذْفِ وأنواعٍ من العذاب، وهذه الأُمَّة لمَّا قُدِّر بقاؤها ابتُلِيَت بالفتن للتمْيِيز بين المُخلِص والمُنَافِق، فكان لا بُدَّ منها قال تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} (التوبة: 129)، ثُمَّ إنَّ المنافقين كانوا معروفين في عهدِ النَّبي صلى الله عليه وسلّميَعرِفُهم أكثرُ الصحابةِ رضي الله عنهم بأسمائِهم وأعيانِهم؛ إلا أَنَّ إقامة الشَّهادة عليهم واستباحة بيضتِهِم كان خلافُ المصلحةِ فأغمض عنهم لذلك، فانْدَفَعَ ما يختلجُ في الصُّدورِ.
525 - قوله: (فتنةُ الرَّجُلِ في أهلِهِ ومالهِ) يعني أَنَّ الرَّجُلَ يَضْطَرُّ إلى إدخالِ النقائص في دينه من جهةِ هؤلاء؛ وإنَّما أموالُكم وأولادُكم فتنة.
525 - قوله: (يكفرها الصلاة والصيام)... الخ فالصَّلاة والصَّوم عبادتان حقيقةً، ومكفِّرتان تبعًا.
شرح قوله: الصوم لي وأنا أجزي بهوتحقيق أَنَّ الصومُ يُؤخذُ في كفارة أم لا؟(2/275)
واعلم أَنَّهم ذَكَروا لقوله صلى الله عليه وسلّم «الصومُ لي... الخ» شروحًا عديدة استوعبها الحافظُ رحمه الله تعالى في «الفتح»، ولم يَتَعرض أحدٌ إلى زيادة فيه أَخْرجَها البخاري وأحمد في «مسنده»؛ ولمَّا كانت الجملة الأخيرة واقعة موقع الاستثناء لا يجوز الخوض في معناه قبل تعيين المُسْتَثنى، فلا بُدَّ علينا أَنْ نأتيك بتمام سياقه؛ ثم لنبحث عن معناه.
أخرجَ البخاري في باب ذِكْر النَّبي صلى الله عليه وسلّمورواية عن رَبِّه: «لكل عملٍ كفارة والصومُ لي وأنا أَجْزِي به» وفي «مسند أحمد» «كل عمل كفارة... الخ» والفرقُ بين اللفظينِ أَنَّ العملَ على لفظ البخاري من السيئات وكَفَّارته من الحسنات؛ والمعنى أَنَّ لكلِّ سيئةٍ من بني آدم كفَّارة من حسنة؛ وعلى لفظ «المُسْنَد» من الحسناتِ؛ فتكون كفارة للسيئات. والمعنى كلُّ حسنة تكونُ كفارة للسيئات، والجملة: «والصوم لي» على كِلا التقديرين وَقَع مَوقِع الاستثناءِ، يعني إلا الصومَ فإِنَّه لي وأنَا أجزي به.
والصواب عندي ما في «المُسْنَد» فصار الحديثُ هكذا: كل عمل كَفَّارة والصومُ لي وأنا أجزي به أي إلا الصوم فإِنَّه لي وأنا أجزي به كما هو في سياق آخر عندَهُ بلفظ الاستثناء هكذا: كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصوم فإِنَّه لي... الخ. فَدَلَّ الحديث على أَنَّ الحسنات كُلَّها تُؤْخَذ في الكفَّارات بخلافِ الصومِ فإِنَّه لا يُؤخذ به فيها، ولكِنَّه يُجزَى به لا محالَة، لكونِه له تعالى فهذه خاصةٌ للصوم دون سائر العبادات.
(2/276)
ويخالفه ما أخرجه الترمذي في باب شَأْنِ الحساب والقِصاص عن أبي هريرة رضي الله عنه: «المُفْلِس مِنْ أمتي مَنْ يأتي يومَ القِيامة بصَلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ ويأتي قد شَتَم هذا، وقَذَف هذا، وأَكَل مال هذا، وَسَفَك دم هذا، وضَرَب هذا، فيقعُدُ فيَقْتَص هذا مِنْ حسناتِه، وهذا من حسناته، فإِن فَنِيَت حسناتُه قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ ما عليه من الخطايا أُخِذ من خطايَاهم فَطُرِحَ عليه ثم طُرِح في النار» انتهى. وهذا صريحٌ في أَنَّ الصيامَ أيضًا يُؤْخَذ في الكفارات كما تُؤْخَذ سائر العبادات.
والوجه فيه عندي: أَنَّ الرَّاوي خَلَطَ فيه بين السِّيَاقينِ، والصحيحُ ما في «الموطأ» لمالك عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّمقال: «والذي نفسِي بيده لَخَلُوفِ فَمِ الصَّائمِ أطيبُ عند الله مِنْ رِيح المِسْك إنَّما يَذر شهوتَهُ وطعامَهُ وشرابَهُ مِنْ أَجْلي فالصيامُ لي وأنا أجزي به؛ كلُّ حسنةٍ بعشرِ أمثالها إلى سبعمائةِ ضَعف إلا الصيام فهو لي وأَنَا أجزي به» انتهى. فدلَّ على أَنَّ الخصوصية في الصَّوم أَنَّهُ يَدَع فيه شهوتَه لأجلِه تعالى، وهو معنى قوله: «الصومُ لي». كما تُشعر به الفاء بعد قوله: «إنَّما يَذر شهوتَهُ» ومعنى قوله: «وأنا أجزي به»، أَنَّ أجره غير محدود، يعلمُه الله تعالى، بخلاف أجورِ سائرِ العبادات، فإِنَّها تضعف إلى سبع مئة ضعف. وهذا هو أَصْوَبُ الشُّروح. وما ذَكَرُوه كلها احتمالات، وما أَخرجه البخاري غيره الراوي فكان الاستثناء في الأَصلِ مِنْ تضعيفِ الثَّواب، فَنَقَلَهُ إلى تكفير العمل، فأوهم أَنَّ الصيامَ لا يُؤْخَذ في الكفَّارَة؛ وعلى هذا ليس فيه ما يَدلُّ على خلافِ حديث الترمذي أَنَّ الصومَ لا يُؤْخَذ في الكفَّارة وإنَّما خفي مُراد حديثِ البخاري لاختلالٍ في سِيَاقِه كما علمت.
والحاصل: أَنَّ الحديثَ جاءَ على أربع:(2/277)
سياق الأول: ما في البخاري: «لكل عملٍ كفارة»؛ والثاني: ما في المسند «كل عمل كفارة». والثالث: «كل عمل ابن آدم له». والرابع: ما في «الموطأ» «كلُّ حسنةٍ بعشرٍ أمثالِها، إلا الصيام... الخ» وهذه القطعيات كُلُّها صحيحة عندي، ولعلَّه مِنْ بابِ حفظِهِ كل ما لم يحفظ الآخر، لا مِنْ بابِ الرِّواية بالمعنى، وأَحقُّ السِياق: كلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ له إلا الصوم، ووجه كونِه له، ما يَظْهَر مِنْ رِواية «الموطأ» وهو أَنَّ فيه تَرْك الأكلِ، والشربِ، والجماعِ، وليس ذلك في سائر العباداتِ غير الصوم، فإنَّ الصومَ عبارةٌ عن نفس تَرْكِ هذه الأشياء قصدًا، بخلافِ الصَّلاةِ والحج ونحوهِما مِنَ العبادات؛ فإنَّها ليس فيها تَفُويت الأكلِ، والشربِ، فإِنَّ الرَّجُل يأكلُ ثُمَّ يُصلِّي، ويُصَلِّي ثُمَّ يأكل؛ فليست الصَّلاةُ اسمًا لترك هذه الأشياء، وإنْ تَعَطَّلَ فيها عن بعض حوائِجه تلك المدة، والله تعالى أعلم.
525 - قوله: (إذًا لا يُغْلَقَ) قال العلامةُ الكَافِيجي إِنَّ «إذن» و«أنْ» الناصبة شيء واحد، وجاز كتابتها بالتنوينِ أو النُّونِ.
525 - قوله: (بالأغاليط) جمع أغلوطة، كلُّ شيء يلقي الناس في الغلط.
قوله: (مِنَ امرأة قُبْلة) وروايةُ البخاري تَدُلُّ على أَنَّ آية {إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَتِ} نزلت في تلك القِصة، وفي عامَّةِ الروايات أنَّها نَزَلت قَبْلَها وإنَّما استشهد بها النَّبي صلى الله عليه وسلّمفيها، ففيه مسامحة عندي.
ثُمَّ اعلم أَنَّ آيات الكفَّارة ثلاث {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء} (النساء: 48). والثانية: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَتِكُمْ} (النساء: 31). والثالثة هذه.(2/278)
ففي الأولى بيانٌ لكونِ مَغْفِرَةِ الذُّنُوب كُلِّها تَحْتَ المشيئةِ، فإِنْ شَاءَ غَفَرَها، وإنْ شاء عاقب عليها، وفي الثانية ذِكْرٌ لإِنعامه، وإخبَارٌ بِفَضْلِهِ، ووعدٌ منه بِمَغْفِرَة السيئات لِمن اجتنب الكبائر، وليس في التعليق ما يُفيد المعتزلة كما وهم، فإِنَّها سِيقَتْ في الوعدِ دون الإِمكانِ، أَمَّا الإِمكانُ فقد عُلِمَ مِنَ النَّص الأَوَّل.
فَعُلِمَ أَنَّ مَغْفِرَةَ الذُنوبِ كُلُّها ممكِنة ولكنَّها تحت مشيئتِه تعالى؛ وأَمَّا الوعد ففي صورة الاجتنابِ عَنِ الكبائِر لا أَنَّها مستحيلة عند عَدَمِه؛ وأَمَّا في الثالِثَةِ فتنبيه على سبب خاص لها وهو أَنَّ الحسناتِ أَحَد أسبابِ المَغْفِرَةِ للسيئات. وفي قوله: إلا اللمم أيضًا إشارة إلى الوعد بمَغْفِرَةِ الصَّغَائر، فهذا نوعٌ آخر، ووعدٌ آخر، وراجع لِكَفَّارَة الصَّغائِر والكبائِر «عقيدة السَّفَارِيني»، ثُمَّ إنَّ في الزيلعي «شرح الكنز» أَنَّ القُبلة صغيرةٌ، قلت: ولي فيه تردد.t
باب فَضْلِ الصَّلاةِ لِوَقْتِهَا
لم يَرِد مِنْ هذه الترجمةِ الإِشارةُ إلى مسألةِ التعجيلِ، بل هي أَوْسَع منه، وأَرَاد الآن مِنَ الصَّلاة لوقتِها أَلا تفوتَ عنه، وأوضحه الحافظُ رحمه الله تعالى.
527 - قوله: (أيُّ العَمْلِ أَحبُّ) واسمُ التفضيلِ ههنا بمعنى اسم المفعول، وهو نادرٌ، والأكثر في معنى اسمِ الفاعل.
527 - قوله: (الصَّلاةُ على وقْتِها) وفي لفظٍ: «الصَّلاةُ أَوَّل وقتِها» وأسقطَهُ الحافظُ رحمه الله تعالى مع أَنَّه رواية ثقة لكونه مخالفًا لأكثر الألفاظ، أَمَّا زيادةُ الثقة فقال جماعة: إنها تُقْبلُ مطلقًا. وقال آخرون: بل تُقبل بعد البحث جزئيًا، فإِنْ تحقق أَنَّها صحيحةٌ تُقْبَل وإلا لا. ولا حكم كليًا، وهو الحق عندي. وإليه ذهب أحمد رحمه الله تعالى وابن مَعِيْن وغيرهما كما ذكره الزيلعي في بحث آمين.(2/279)
قوله: (برُّ الوالدين) أي إطاعتُهما.
باب الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ كَفَّارَة
كذا في أكثر الرِّوايات وفي نسخة الكُشْمِيهني إذا صلاهنَّ لوقتها في الجماعة وغيرِها.
قلتُ: ولو حَذَفَ المصنِّف رحمه الله تعالى قوله: «وغيرها» لكان أحسن، لأنَّه يُشْعِر بالتَّوسِيع في أمر الجماعة، وقد يَخْطُرُ بالبَال أنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى مع الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة الجماعة.
528 - قوله: (مِنْ دَرَنهِ شيئًا) ولا يكون مِصداق الدَّرَن إلا صغيرة، لأنَّ الكبيرة صَدَاءٌ يأكلُ الحديد أيضًا.
528 - قوله: (يَمحو) والوضوءُ أيضًا يمحو الخطايا كما في الترمذي.
باب تَضْيِيعِ الصَّلاةِ عَنْ وَقْتِهَا
530 - قوله: (دخلتُ على أنس رضي الله تعالى عنه) كان أنس قَدِمَ دِمشق في إمارةِ الحَجَّاجِ يشكو الحجاح إلى الوليدِ بن عبد الملك وكان هو الخَلِيفة إِذْ ذاك فما أشكاه؛ وانظر إلى هؤلاء الصحابةِ رضي الله تعالى عنهم. إذا لقوا صُفوف قَيْصَر وكِسْرَى ماذا صنعوا بهم؟ ثُمَّ إذا أوذوا مِنَ المسلمين كيف تخوروا، وهم الذين قال الله فيهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَفِرِينَ} (المائدة: 54).
530 - قوله: (وهذه الصَّلاة قد ضيعت) وهو على حد قول المتنبي:
*تَخَالَفَ النَّاسُ حتى لا اتفاقَ لهم ** إلا على شَجَبٍ والخُلف في الشَّجَب
باب المُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَل
والمُناجَاة مِنْ كلِّ مصلَ إنَّما تكونُ في صلاةِ المنفرد؛ كما يشعِر به.(2/280)
قوله: (إِنَّ أحدَكُم إذا صلَّى...) الخ. فليست تلك الصَّلاةُ جماعة ليتشجع منها أحد من الشافعية رحمهم الله تعالى فيستدل به على الفاتحة، ويقول: إِنَّ الاستماعَ يُخَالِف المناجاة على أَنَّك قد عَلِمْتَ أَنَّ صَلاةَ الجماعة صلاة واحدة بالعددِ في نظرِ الشَّرْع؛ والإِمام يُناجي فيها فلا تَخْلُو عن المُنَاجَاة على طَوْرِنا أيضًا.
ثُمَّ لو أَخَذْنا المناجاةَ مِنْ كل فليست هي إلا في السِّرية وأمَّا في الجَهْرِية فهي مُنَازَعة لا مناجَاة، ومخالَفة لأمرِ الإِنصات والاستماعِ؛ لا مبادرة إِلى الامتِثَال، ولم أَرَ في نَقْلٍ عن الإِمام أَنَّ القِرَاءةَ في السِّرِية لا تجوز، أَمَّا في الجهرية فأمرُها كما صرَّح به النَّص.
531 - قوله: (فلا يَتْفِلَنَّ) وقد حققتُ مناطَه أَنَّه كان المُصلِّي على سَمْتٍ حسن، ولذا نَهَى عن إِقْعَاءِ الكَلْبِ، وافْتِرَاشِ الثَّعْلَب، ونَقْرِ الغراب، وبُروك الجَمَل، وأَنْ يَخْفِضَ رَأْسَهُ في الرُّكوعِ كالحمارِ، كلُّ ذلك لأجلِ كونِه على هيئاتٍ حسنة بين يدي رَبِّه، فالبُزَاق في اليمين وإنْ كان منها من أجل الملك لكن رعايته أيضًا لكون المُصَلِّي بين يدي ربِّه في هذا الحين، أَمَّا البُزَّاق أمامَهُ فهو أَشَدُّ وأشد وأَقْبحُ وأقبح.
ثُمَّ إنَّ سِيَاق الحديث - «مَنْ تَفَل أَمَامَهُ في الصَّلاةِ جاء يومَ القيامةِ وتفلُه بين عينَيْهِ» أو كما قال - ليس عندي كسياق: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} (الحجرات: 12). لأنَّ الحديثَ إنَّما سِيق بيانًا للجزَاءِ مِنْ جنس العمل، بخلاف الآية.(2/281)
- قوله: (اعتدِلوا) وَفَسَّرَهُ ابنُ دقيق العيد برفع العَجِيزة، ومجافاةِ العَضُدَينِ عَنِ الجنْبَين؛ ولم أَزَل أَتَفَكَّر في تفسيره، لأنَّ غايةَ ما يدلُّ عليه لفظُ الاعتدال، هو التعديل على خِلافِ نَقْرِ الدِّيك حتى رأيتُ كلامَ ابنِ العربي في العارضة فتبين منه المرادُ. وحاصله: أَنَّ الاعتدالَ لبيانِ الهيئةِ المتوسِطَّةِ بين القَبْضِ والبَسطِ، فلا يَبْسط في السجودِ بحيث يشبه بالمُسْتَلقى على وجهه، ولا يَقْبِضُ أعضاءَهُ حتى يصير كالعضوِ الواحد، ولا يَحْصُل لكل عضوٍ حظُّه مِنَ السجودِ مع ما في الحديثِ: أنَّ ابنَ آدمَ يَسْجُد على سبعةِ آراب، ولا يَتَيسر هذا إلا في الهيئةِ المسنُونَةِ فتفسيره به بهذا الطَّريق لا أَنَّه مدلولُ اللفظ. ثُمَّ إِنَّ التعديلَ المعروف أيضًا يدخُل في عمومِهِ.
باب الإِبْرَادُ بالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الحَر
والباءُ فيه للصِّلَةِ داخلة على المفعولِ به كما في قولِهم: أَخَذْتُ باللجامِ. وقوله تعالى: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} (المائدة: 6) وقوله صلى الله عليه وسلّمقرأ بالفاتحةِ. لا للسببيةِ؛ وتَعَرَّضَ إليهما الزَّمَخْشَرِي تحت قوله تعالى: {وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} (مريم: 25) وفسَّرَهُ أي افعلي فِعْلَ الهزِّ، فهو آكد من هُزي النَّخلة على معنى أَخْذِ الفعل على المعهُوديةِ بين النَّاس؛ وحينئذٍ يصيرُ لازمًا ويحتاجُ لتعديَتِه إلى الباء.(2/282)
فمعنى قوله هزي النَّخْلَة أي حَرِّكِيها، ومعنى قوله هُزي بالنَّخلة أي افعلي بها فِعْلَ الهزِّ الذي عَلِمَه النَّاس. ويكونُ مُسَلَّمًا فيما بينهم، ولا يكونُ كذلك إلا بَعْدَ الهزِّ بالمُبالَغة، يعني هُزِّيها حتى يقول النَّاس إنه هز، لا هزًا دون هزَ، فإِنَّه وإِنْ كان هزًّا في اللغة أَنَّهم إلا لا يُسَمُّونَه هزًا فيما بينهم، فهُزي كما هو المعروف والمعهود عندهم في هزِّ النَّخْل وهو بالمبالغة، وعلى هذا معنى قوله: «أَبْرِدُوا بالظُّهر» أي افعلوا به فِعْلَ الإِبرادِ، فيدلُّ على المبالغة لا محالة، وهكذا قولُهم: أخذتَ باللجام أي فَعَلْتَ به فِعل الأخذِ، أي أخذتَهُ بالشِّدَّة. فهذا تقريرُ المعهوديةِ المعروفة في هذه الأفعال، وأمَّا المعهوديةُ في المسحِ والقراءةِ والوترِ فكما مرَّ بيانُها وسيأتي بسطهما في مسألة الوتر.
قوله: (من فيح جهنَّم) وترجمته (بهاب) فإِنْ قلت: إنَّ الحَرَّ تابعٌ للشمس في الحسِّ والمشاهدةِ فما معنى تبعيته لجهنَّم؟ قلتُ: والشمس تابعة لجهنَّم ولا يَبْعُد أَنْ يكونَ إلقاءُ القمرين فيها يومَ القيامةِ لهذه المناسبة، والوجه المعروف وإلقاؤهما مشهور.
وتفصيلُ المقام أَنَّ الأَسبابَ إمَّا ظاهرة أو معنوية والأُولَى معلومةٌ بالحسِّ والمشاهدةِ لا حاجةَ إلى التنبيه عليها، وإنَّما تدلُّ الشريعة على أسبابٍ معنويةٍ غير مدرَكة بالحسِّ، وهو الذي يليقُ بشأنِها، فدلَّت على أنَّ معدن الخير والسرور كلها هو الجنَّة، ومعدن المهالك والشرور كلها هو جهنَّم، فالخِزَّانة هي في الجنة والنَّار، وهذه الدارُ مركبة من أشياء المعدنين وليست بخِزَانة في نَفْسِها، فالحرارَة وإِنْ كانت في النَّظرِ الحسي مِنْ أَجْلِ الشمس، إلا أنَّها في النظر الغَيْبي كلها من معدنها، فإِذا رأيتهما أينما كان فهي من معدنها.
(2/283)
فإِنْ قُلْتَ إِنَّ الصيفَ والشتاءَ إذا دارا على النفسين، فينبغي ألا يكون شتاءً عند نفسِ الصيف وبالعكس مع أنَّهما يجتمعانِ في زمنٍ واحدٍ باعتبارِ اختلافِ البلاد. قلت: ولعلَّ تَنَفُّسها بحرِّها من جانب وإِرْسَالها إلى الآخر، فإِذا تَنَفَّس مِنْ جانب صارَ شتاءً وإلى جانب صار صيفًا؛ ولعلَّ الحرَّ والبردَ كيفيتان لا تتلاشيان أصلا بل إذا غَلَب الحرُّ دَفَعَ القَرِّ إلى باطنِ الأرض، وإذا غلب القَرُّ دَفَع الحرَّ، إلى باطنها، لا أَنَّ إِحدى الكيفتين تَنعَدِم عند ظُهورِ الأخرى، وهذا كما في الفَلْسَفَة الجديدةِ أَنَّ الحركاتِ كلَّها لا تَفْنَى بل تَنتَقِل إلى الحرارة. والأصوات كلُّها مِنْ بدء العالم إلى يومِنا هذا موجودة عندهم في الجو فالشيء بعد ما وجِدَ تأَبَّد عندَهم. وأَمَّا عند اليونانيين: فلا حَرارةَ عندهم في الأجسامِ الأثيرية ولا بُرودة.
تحقيق لطيف في حديث الإِبراد
واعلم أنَّه عُلِّل الإِبراد بفيح جهنَّم فأشعر بكراهةِ الصَّلاة قَبْلَ الإِبرادِ، لأنَّ التسجيرِ مِنْ آثارِ غضبهِ تعالى، ولذا لا تسجر يوم الجمعة. وعند أبي داود مرفوعًا وصحح أبو داود إرسالَه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمكَرِه الصَّلاةَ نصفَ النَّهارِ إلا يوم الجمعة، وقال «إنَّ جهنم تُسْجَر إلا يوم الجمعة». انتهى.
ولذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى إِنَّ النَّوافِل تصح يوم الجمعة عند نصف النَّهار أيضًا. فإِنْ قلتَ: إنَّ التَّسْجِير ينتهي بالزوالِ فلا كراهة بعده. قلتُ: ولكن يَبْقَى الفيح وإِنِ انتهَى التسْجِير، ولذا أُورِد الحديث: بلفظ «الفيح» وهو أيضًا أَثَر مِنَ التَّسْجِير فلا ينبغي المواجهة عند غضبه تعالى، لأنَّه تعرض لصلاته بالرَّد.(2/284)
والحاصل: أَنَّا إِنْ نَظَرْنَا إلى التعليل فإِنَّه مُشْعِر بكراهَةِ الوقتِ، وإِنْ ذهبنا إلى عدمِ كراهتِه فلا يَرْتَبط به التعليل، لأنَّه ينبغي أَنْ يكون بأمرٍ حسي نحو قوله: فلا تتحملوا مشقةَ الحرِّ، ليكونَ إشارة إلى أَنَّ أمرَ الإِبرادِ للشفقةِ لا لمعنى في الوقت، بخلافِ الإِحالة إلى حهنَّم، فإِنَّه يوجِّهُ الدهنَ إلى كراهةٍ شرعية لا محالةَ، فإِنْ كان الأمرُ بالإِبراد على الشفقة، فلا كراهة في الصَّلاة بعد الزوال، وإنْ كان لمعنى شرعي ففيها ذلك.
والذي يتبين أَنّ ما هو من آثارِ الغضبِ هو التَّسْجِير دون الفيح، ولهذا المعنى نُهِيَ عن الصَّلاة عندما يستقِل الظِّل بالرمحِ، كما يدل عليه ما أخرجه مسلم: ثُمَّ اقْتُصِر عن الصَّلاةِ فإِنَّ حينئذ تَسْجُر جهنَّم، فإِذا قِيل الفيءُ فصلِّ. انتهى.
وفي حديثِ البابِ إحالة على الفيح دون التسجير، ولعلَّ الفيحَ من آثارِ الرحمة، لأنَّه من أَثَرِ تنفسِ جهنَّم، فلو كان الفيحُ من آثارِ الغضبِ، لَزِمَ أَنْ يكونَ موسمُ الصيف كلُّه أثرًا للغضب، فإِنَّ الصيفَ كلَّه من أجل فَيْحِ جهنم، وحينئذٍ لا تكون في الصَّلاةِ بعدَ الزوال كراهة أصلا، وإِنَّما أُمِرنا بالإِبراد شَفَقَة ورحمة. وحاصلُ التعليل: أَنِ اربعوا على أنفسكم فلا تصلوا في شِدَّةِ الحرِ التي تكون من أجل الفيح، فالتعليل بالحقيقة بشدة الحر وهو أمرٌ حسي فيكون مُشْعِرًا بكونِهِ للشفقة كما قررنا.(2/285)
أما قوله: «مِنْ فيحِ جهنم» فبيان للسبب الغَيْبي للحرَارة، ولا دَخْلَ له في التعليل، ويؤيدهُ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّمصلى بعد الزَّوالِ وقال: «ويفتح عند ذلك أبوابُ السماءِ فأُحِبُّ أَنْ يَصعَد لي فيه عَمَل» أو كما قال. فدلَّ على انتهاءِ أَثَرِ التسجيرِ بالزوال، وعدمِ كراهةٍ بعده، وأنَّ أَمْرَ الإِبراد لأجلِ الشفقة فقط. فإِنْ قلتَ: إذا كان في الصَّلاةِ عند التَّسجيرِ تعريضٌ لها بَرَدّها لكونِه مِنْ آثارِ غضبهِ تعالى، فكيفَ بصلاتِهِ صلى الله عليه وسلّمعند رؤيةِ آثارِ الغضب، فإِنَّه كُلَّما كان يَرى مَهْيَعة بادرَ إلى الصَّلاةِ، وهذا يدلُّ على أَنَّ السنةَ عند غضبه تعالى، هو الالتجاءُ بالصَّلاة.
قلت: فهذه حالات قد تكون بالصَّلاةِ عند السُّخْطِ تعريض لها بالرَّد، وقد تكونُ بفعلها التجاء إليه، وهكذا هو في الدنيا، قد تكونُ عاقبةُ العبدِ بالانسلالِ عن مواجَهةِ مولاه، وقد تكونُ بالخدمةِ له والتملقِ إيَّاه، فقسم النبي صلى الله عليه وسلّمههنا أيضًا على الحالات، فما كان من آثار غضبهِ كل يومٍ رأَى الملجأ منه بعَدَمِ المواجهةِ في ذلك الوقت، والتنكبِ إلى جانب، وما كان نادرًا لم يَرَ منه ملجأً إلا إليه، فهذه حالاتٌ تَشْهَدُ بها الفِطرَة السليمة.
ثمَّ اعلم أنَّ حديثَ الإِبرادِ حَمَله الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى على معنىً آخر، نقله الترمذي ما نصه: وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إنَّما الإِبرادُ بِصلاةِ الظهرِ، إذا كان مسجدًا ينتابه أهله من البعد، فأما المصلي وحده، والذي يُصَلِّي في مسجد قومِه، فالذي أُحِبُّ له أَنْ لا يُؤخِّر الصَّلاة في شدة الحرِّ. انتهى.(2/286)
ولم يرض الترمذي بهذا التأويل مع كونِه شافعيًا، ولم يصرِّح بخلافِه مع إمامه في موضع من كتابه إلا هذا، فقال: قال أبو عيسى: ومعنى من ذهب إلى تأخير الظهر - وهم الحنفية رضي الله عنهم - في شدَّةِ الحرِّ هو أولى وأشبه بالاتباع. وأمَّا ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى أَنَّ الرخصةَ لمن ينتابُ مِنَ البُعدِ وللمشقة على الناس فإِنَّ في حديث أبي ذرٍ ما يَدلُّ على خلافِ ما قال الشافعي رحمه الله تعالى - قال أبو ذر رضي الله عنه: كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلّمفي سفرٍ فأَذَّنَ بلال رضي الله عنه بصلاةِ الظُّهر فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «يا بلال أَبْرِد ثُمَّ أبرد». فلو كان الأمرُ على ما ذهبَ إليه الشافعي رحمه الله تعالى، لم يكن للإِبرادُ في ذلك الوقت معنىً، لاجتماعهم في السفرِ، وكانوا لا يحتاجون أنْ ينتابوا من البُعد. انتهى.
وقال الطحاوي: إنَّ تعجيلَ الظهرِ قد كان يُفعَل ثُمَّ نُسِخَ، وأَخْرجَ عن المُغِيرَةِ بن شُعْبَة قال صلَّى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلّمصلاةَ الظُّهرِ بالهَجِير، ثمَّ قال: «إِنَّ شدَّة الحرِّ من فَيحِ جهنَّم، فأبردوا بالصَّلاةِ» فأخبر المُغِيرَة في حديثه هذا، أَنَّ أَمْرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّمبالإِبرادِ بالظُّهر بعد أَنْ كان يُصلِّيها في الحرِّ. وفي «التلخيص الحبير» أنَّ الترمذي سأل البخاري عن حديث المُغِيرة فصححه، فَعُلِم أَنَّ الإِبرادَ هو الآخر فالآخر مِنْ فِعْلِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّموما احتجوا به مِنْ أحاديث التعجيل، إمَّا منسوخٌ أو محمولٌ على الشتاء، لِمَا روى أنسُ بنُ مالكٍ قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلّمإذا اشتدَّ البردُ بكَّر بالصَّلاةِ، وإذا اشتدَّ الحرُّ أبردَ بالصلاةِ ومثلُه عن أبي مَسْعُود.(2/287)
قال الطحاوي: وهكذا السنَّة عندنا في صلاةِ الظُّهر على ما يذكُرُهُ ابنُ مسعود، وأنس رضي الله عنه من صلاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأَخْرَجَ أبو داود عن الأسودِ أَنَّ عبدَ الله بنَ مسعود قال: كانت قَدْر صلاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّمفي الصيفِ ثلاثة أَقْدَام إلى خمسة أقدام وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام. انتهى.
وأوَّلَه الخَطَّابي فحمله على اختلاف الفُصولِ، فقال: وأمَّا الظِّل في الشتاء، فإِنَّهم يذكرون أَنَّه في تشرين الأول، خمسة أقدام وشيء، وفي كانون سبعة أقدام أو سبعة أقدام وشيء؛ فمعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه عنده: أَنَّ قَدْرَ صلاتِه صلى الله عليه وسلّمفي الشتاء خمسةُ أقدام إلى سبعةِ أقدام، يعني به خمسة أَقْدَام في تشرين الأول وسبعة أقدام في كانون. وهو عندي محمول على التَّارَات والأحيان دون الفُصول، فتارةً صلاها على الخمسة، وتارةً على السبعةِ ولو في فَصْل. والله تعالى أعلم.
باب الإِبْرَادُ بالظُّهْرِ فِي السَّفَر
539 - قوله: (حتى رأينا فَيْءَ التُّلُولِ) وعند البخاري في الأذان حتى ساوى الظلُّ التُّلُول، وهذا يدلُّ على أَنَّ وَقْتَ الظُّهر يَبْقَى إلى المِثلين لأنَّ التُّلُول في الغالبِ تكونُ منبطحة ولا تكون شاخِصَة فلا يَظْهرُ لها ظِلٌّ إلا بعد غاية التأخيرِ، فالمساواةُ لا تكونُ إلا بالمِثلين. وأقرَّ النَّووي بأَنَّه دالٌّ على التأخير الشديد، وأجابوا عنه بأَنَّه محمولٌ على الجمعِ في السفر.(2/288)
قلتُ: وهذا غيرُ نافذ، لأنَّ الجمعَ الوقتي لم يثبت عندنا أصلا، فهو مِنْ بابِ البِنَاءِ على ما ليس بثابتٍ، ثُمَّ إنَّه ليس بحجة للحنفية أيضًا، لأنَّ الراوي لم يَرْوِ بالمساواة حقيقتها، وتحديدِ الوقت بها، وتعليمِ مسألة المِثل والمِثلين منها، بل هو بصددِ بيان شِدَّةِ تأخيرهِ في ذلك اليوم، فبالغ فيه وعبره بالمساواة والتعبيرات اللاتي تَخْرج في سِياق المبالغةِ، لا تكون مدارًا للمسألة عندي، كالأوصافِ التي أُجريت مَجْرَى المدْحِ أو الذمِّ، ومِنْ هذا الباب ما وقعَ في أشعارِ بعضِ العلماءِ من نحو تعميم في علم النبي صلى الله عليه وسلّم فتمسكَ به بعضُ من لا عِلْمَ له على كونِ النَّبي صلى الله عليه وسلّمعالمًا للغيب كُلاًّ وجزءًا، ولم يَقْدِرُوا أَنْ يُفَرِّقوا بين بابِ العقيدة، وبابِ المدح، فإِنَّ المبالغاتِ تُسْتَحْسَن في النوع الثاني دون الأَوَّل، وهكذا بابُ الوعدِ والوعيد، تجيء فيها العبارات مرسلَة عن القُيودِ والشُّرُوط، وهو مُقْتَضى الحالِ فيهما، إلا أَنَّ الجاهلَ يهدِرُ هذه الدَّقائِق فيحملهما على الإِطلاقِ، ثُمَّ يضطرُّ إلى خَرْقِ الإِجماع ومخالَفةِ النُّصوصِ والسُنَّة، فنعوذ بالله مِنَ الجَهْل.
باب وَقْتُ الظُّهْرِ عِنْدَ الزَّوَال
قوله: (الهَاجِرَة) سمي به لأَنَّ الطُّرُق تُهْجَرُ في هذا الوقتِ.
540 - قوله: (إِلا أخبرتُكم ما دُمْتُ في مقامي هذا).(2/289)
541 - قوله: (وأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَه) وعند أبي داود في باب وَقْتِ صلاة النَّبي صلى الله عليه وسلّموكان يُصلِّي الصُّبح وما يَعْرِفُ أحدُنا جَلِيسَه الذي كان يَعْرفُه وكان يَقْرأ فيها الستين إلى المائة. فليحرره فإِنَّ بينهما تضادًا صراحةً، وليس هذا سهوًا من الكاتب، فإِن كان فَمِنَ الراوي، والظاهر أَنَّ الصَّواب ما عند البخاري، لأنَّ هذا الحديث أَخْرَجَهُ مسلم أيضًا بذلك السند، وفيه: «فيصرف الرجلُ الرجلَ فينظُر إلى وجهِ جليسهِ الذي يَعْرِفه فيعرفه» - فهذه القصة بهذا الإِسناد مروية عند الشيخين، وأبي داود، وليس اللفظُ المذكورُ إلا عند أبي داود فهو إمَّا وَهْمٌ مِنْ أحدِ رواته وهو الظاهر، أو من النَّاسخ.
541 - قوله: (وأحدُنا يَذْهَبُ إلى أَقْصَى المدينةِ رَجَعَ والشمسُ حية) والمتبادر من لفظِ الرُّجوعِ أَنَّه المرادُ من المسافة إيابًا وذهابًا، فيدلُّ على شدِّةِ التعجيلِ، والصوابُ أَنَّهما مسافة من جانبٍ فقط، كما تدل عليهِ الرِّواية الآتية في الباب الآتي، وفيها: «فيأتيهم والشمس مرتفعة». وتأويلُ الرجوع أَنَّه رجوع إلى أَهلِهِ في أَقْصَى المدينةِ لا إلى المدينةِ كما هو بَعْدَ عدةِ أحاديثَ مصرحًا في حديث سَيَّار: ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أَقْصَى المدينة والشمس حية. فتحقَّقَ أَنَّ تلكَ المسافة من جانبٍ واحد فقط، لا كما كان يُتوهم مِنَ اللفظ الأول.(2/290)
وقال الطحاوي إنَّه يَدُلُّ على التأخير مكان التعجيل، فإِنَّ الرَّاوي لم يستطع بيان تأخيره إلا بأْنَّ الحياةَ كانت باقية في الشمس، ولم تكُن ماتت بالكُلِّية، فهذا سِياق في التأخيرِ لا في التعجيلِ كما فهموه. على أَنَّ الخِلافَ فيه خلافُ الأفضليةِ كما في الظُّهْرِ في تعجيلها وتأخيرها، وكما في التَّغْلِيس. فذهب الإِمامُ الشافعي رحمه الله تعالى إلى التَّعْجِيل في الكُلِّ «غير العشاء، مشيًا على العمومات والإِطلاقات، كقوله صلى الله عليه وسلّمفي جوابِ سائلٍ أَيُّ الأعمال أفضل: قال: الصَّلاةُ لأَوَّل وقْتِها». وأَخَذَ الحنفيةُ بخصوص سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلّمرويت في صلواته فقسموها على تلك الأوقات، وهو صَنيعُنا وصنيعهم في مسألة الفاتحة، فإِنَّهم تمسَّكُوا بعمومِ قوله صلى الله عليه وسلّم«لا صلاةَ إلا بفاتحةِ الكتابِ».l
ونحن نَزَلنا إلى الخصوصِ، فتمسكنا بقوله: «إذا قرأ فأنصتوا» وأنت تعلم أَنَّ التَّمسكَ بالخصوص أَوْلَى وأقوى، وهو الأوجه فإِنَّ النُّزول من العمومات إلى الخصوص هو السبيلُ الأقوم.
542 - قوله: (فسجدْنَا على ثيَابِنَا) وهذا يُفيدنا في مسألة جواز السُّجود على الثياب مطلقًا، وعلى الشافعية رحمهم الله تعالى أَنْ يحملوه على الثِيَابِ المنفصِلَةِ دون الملبوسة.
باب ُ تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى العَصْر
قد مَرَّ أَنَّ أمثالَ هذه الألفاظ تُشْعِرُ بأَنَّه اختار في الجمع مسلك الحنفية، ولذا عُبَّر بتأخير واحد إلى الآخر مع أَنَّ أبا داود قد صَرَّح أَنَّه لم يَثْبُت حديث في جمع التقديم ومع هذا ذَهَبَ إليه بعضٌ من الأئمة.(2/291)
543 - قوله: (صلَّى بالمدينة) وهذا الحديثُ صريحٌ فيما رامه الحنفية من الجَمْع فعلا، فإِنَّه صلى الله عليه وسلّمجَمَعَ في المدينةِ، ولم يكن سفر ولا مطر، فلا بُدَّ أَنْ يكون الجمعُ فعلا فقط. وعند مسلم قال سعيد: فَقُلْتُ لابنِ عباس ما حمله على ذلك؟ قال: أَرَادَ أَلا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ. وأَصْرَح منه ما عندَهُ عن أبي الشَّعْثَاء. وهو جابرُ بنُ زيدٍ تلميذ ابن عباس راوي الحديث. قلت: يا أبا الشَّعْثَاء أَظُنُّه أخَّر الظهر، وعَجَّل العصر، وأَخَّر المغرب والعشاء، قال: وأَنَا أظنُّ ذلك، فلم يكن الجمع وقتًا.
ثمَّ هو مصرح عند النَّسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما نفسه قال: صَلَّيتُ مع النبي صلى الله عليه وسلّمبالمدينة ثمانيًا جميعًا، وسبعًا جميعًا، أَخَّر الظهر وعجَّل العصر، وأَخَّرَ المغرب وعَجَّل العشاء. انتهى.
وحينئذٍ لا يحتاج إلى القولِ بالنَّسْخ، كما اختارَهُ جماعة في تأويلهِ، وحَمَلَهُ النَّووي على المَرَضِ وقوَّاه.
قلتُ: والعَجَبُ منه كيف حَمَلَهُ على المَرَضِ فإِنْ كان النبي صلى الله عليه وسلّمجَمَعَ بينهما لأَجْلِ المرض، فهل كان القومُ جملتهم مَرْضَى فجمعوا بينهما؟، على أَنَّ الغَرَض مِنْ عدمِ الخوفِ والسَّفرِ ليس انتفاء هذين فقط، بل المقصودُ انتفاء الأعذارِ مطلقًا، ولذا وَرَدَ في بعض ألفاظِهِ ولا مَطَر؛ ولو سلَّمْنَاه فما معنى قوله: أَرَاد أَلا يُحْرِجَ أمته؟ فإِنَّ الواجبَ عليه أَنْ يقول: إِنَّما جُعِل لأجلِ المرض، وأَقَرَّ الحافظُ رحمه الله تعالى أَنَّ الجَمْعَ فيه على نظر الحنفية، وفي كتاب الصلاة للحافظِ شمس الدين السَّخاوي: أَنَّ وفدًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّمفَجَمَعَ بين الصَّلاتين لأجلهم في المدينة، وهذا صَرِيحٌ في أَنَّ الجَمْعَ لا للمرض كما أَوَّل به النَّووي.(2/292)
543 - قوله: (فقال أيوب: ولعلَّهُ في ليلةٍ مَطِيرَةٍ) ولعلَّ هذا الاحتمال من راوٍ تحته، وإلا فقد عَلِمْتَ مِنْ مسلم أَنَّ ما فَهِمَهُ تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما هو الجَمْعُ الصُّوري، كما ذهب إليه الحنفية، فلا بُدَّ أَنْ يكونَ ما في البخاري احتمالا مِنْ راوٍ آخر في ابتداءِ السند.
باب ُ وَقْتِ العَصْر
باب ُ وَقْتِ العَصْر
ولقد عَلِمْتَ الخِلافَ فيه، أَمَّا الخلافُ في الاستحباب فَذَهَب الحنفيةُ إلى استحباب التأخيرِ، وهو ظاهرُ القرآن، واستدلّ به العيني، وأَظُنُّ أَنَّ أصله من الحافظ قُطْبِ الدين الحلبي أو من الحافظ علاء الدين الحنفي شيخ شيخ الحافظ رحمه الله تعالى.
قال تعالى: {فَسَبِّح بحمدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمسِ وقَبْلَ الغُروب} (ق: 39) فجعل الفَجرَ قَبْلَ الطُّلوع، والعصر قَبْلَ الغُروب، ومعلومٌ أَنَّهم لا يمادون في العْرْفِ بطلُوعِ الشَّمس وغُرُوبِها، إلا ما كان أقرب إليه، فإِذا قلت: آتيك قبل الغروب، ثُمَّ أتيته بعد الطُّلوع تعد غَمْرًا وجاهلا، وإنْ كنت صادقًا في قولك فإِنَّك إذا جئت بعد الطُّلوعِ، فقد جئت قَبْلَ الغروب لا مَحَالة، وما ذلك إلا لأنَّ هذا التعبيرَ عندَهُم للإِتيان قُبَيل الغروبِ، فلا يَنتظرونَكَ إلا في هذا الوقت، فلو كان العصرُ بعد المِثْلِ الأوَّل لم يلطف قوله: «قبل الغروب» كما لَطَف إذا صليتها قُبيل الاصفرار والشمس حية، فكأنَّه لم يَبْقَ بعدَها إلا الغروب. ويؤيدُه النَّظَر الفقهي أيضًا، لأنَّ الشريعةَ قد نَهَتْ عن التَّطوعِ بعد هاتينِ الصَّلاتَين فلا صلاةَ بَعْدَ الفَجْرِ حتى تَطْلُع، ولا صلاةَ بعد المغرب حتى تَغْرُب الشمس، ففي تأخيرهما توسيع في التطوعاتِ، وفي التَّعجِيل تضييق لها.(2/293)
وأَخْرَج الطَّحاوي عن أبي قِلابة أَنَّها سُمِّيت العصر، لأنَّ سبيلها أَنْ تَعْصِر. فَدَلَّ على التأخير وعلى أَنَّ الأوقات متروكة على العُرف عندهم، ولا تحديد فيها فوقه. وعن عُمر كَتَبَ إِلى عُمَّالِه: «صلُّوا العصرَ والشمس مرتفعة بيضاء نَقِية قَدْرَ ما يسيرُ الراكب فرسخين أو ثلاثةً». وعن أَبي هريرة أَنَّه لم يُصَلِّ العصرَ حتى رأينا الشمسَ على رَأْسِ أَطْوَل جبلِ المدينة، وهو الوقت الذي ذهب إليه الحنفية.
544 - قوله: (والشمسُ لم تَخْرُج من حُجْرَتِها) قال الطحاوي: إنَّ الشَّمسَ لم تكن تَخْرج من حُجْرتِها إلا بقرب غروبِها لقصر حجرتها، فلا دَلالة فيه على التعجيل.
وَرَدَّ عليه الحافظُ رحمه الله: بأَنَّه قد عُرِفَ بطريق الاستفاضة، أَنَّ حُجُرَهنَّ لم تكُن مُتَّسِعَة، ولا يكون ضوءُ الشمسِ باقيًا في قَعْرِ الحُجْرة الصغيرةِ إلا والشمس مرتفِعَة، وإلا متى مالت جدًا ارْتَفَع ضوؤها عن قَاعِ الحُجْرَةِ ولو كانت الجُدر قَصِيرة.
وَرَدَّ عليه الحافظُ العيني وقال: لا فَرْقَ بين الحُجْرة الضيقة العَرْصة ومتسعتها بعدما كانت جدرانُها قصيرة أَنَّ الشمس لا تَحْتَجِب عنها إلا عند الغروب، وهذا الفَرْقُ إنَّما يمكِنُ عند ارتفاعِ الجُدْرَان.
(2/294)
ثُمَّ إِنَّ سِيَاقَ حديث أنس رضي الله عنه - عند الترمذي - لا دِلالة فيه على التعجيلِ فوقَ ما أَرَدْنَاهُ ووفِقَ ما أَرَادُوه، لأنَّه كان ابتُلي بزمن الحجاج، وكان الحجاج يميتُ الصَّلوات، ويُؤَخِّر صلاةَ الظُّهر إلى وقت العصر، حتى إنَّ الصَّحابة كانوا يُصلُّون العصر إيماءً كما ذكره العيني رحمه الله. وإِمَّا أنس رضي الله عنه فلم يَكُنْ يَدْخُل في صلاته، فإِذا جاءه أَحَدٌ ممن كان صلَّى معه في آخرِ وَقْتِ الظُّهر، رآه يتهيأ للعصر فكان تعجيله لأَمانته وإلا فقد يرويه هو عند النَّسائي، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلّميُصلِّي بنا العصر والشمسُ بيضاء محلقة. فَفَكِّرْ في لفظ التحليق، هل يفيدُ التأخير الذي أَرَدْنَاه أو التعجيل الذي أَرَادُوه؟.
547 - قوله: (تَدْعُونَها الأُولى) وإنَّما سُمِّيَت أُولى لِكَونِها أَوَّل صلاة أمَّ فيها جبريل عليه السَّلام، ولهذا بدأ محمد رحمه الله تعالى كتاب المواقيت من وقت الظُّهر على خِلاف دَأْبِ المتأخرين.
547 - قوله: (التي تَدْعُونَها العَتَمَة) لأنَّها كانت اسمًا لها في الجاهلية، وهي العشاء في الإِسلام.
547 - قوله: (وكان يَكْرَهُ النَّوم) لأجلِ خَطَرِ الفَوات.
547 - قوله: (والحديثَ بَعْدَها) لأنَّ الشريعةَ أرادت أَنْ تكونَ الفاتحة والخاتمة على الخير، فاستحْسَنَت أَلا ننامَ إلا على العبادة، ولا نشتغل بعد الاستيقاظِ بشيءٍ إلا بالعبادة.
550 - قوله: (فيذهَبُ الذَّاهِبُ) ... الخ. ولا بَأْسَ أَنْ تكونَ الصَّلاة ههنا بِتَعْجِيلٍ يسير، وهناك بتأخيرٍ كذلك، والفاصلة بقَدْرِ ميل.
550 - قوله: (العَوَالي) تسمى العُمْرانات التي في شرق المدينة بالعَوَالي، والتي في جانب غربها بالسَّوَافِل.(2/295)
وحاصل الحديث: أنهم كانوا يُصلُّون العصرَ في المسجد النبوي، ثُمَّ ينتشرون إلى القرى في عوالي المدينة، فَيَأْتُونَها والشمسُ مرتفعة، وهذا لا يدلُّ على تأخيرٍ فوق ما أراده الحنفية، فإِنَّه مما يَتَيسر على طريقنا أيضًا.
باب ُ إِثْمِ مَنْ فاتَتْهُ العَصْر
واختلفوا في تفسير الفوات، فقيل: فوات الجماعة، وقيل: دخولُها في الاصفرار كما فَسَّر به الأَوْزَاعي عند أبي داود قال: وذلك أَنْ تَرَى ما على الأرضِ مِنَ الشمسِ صفراء، وقيل: الغروب. ومَنْ فَسَّرَهُ بفواتِ الجماعة، فنظره أنَّ الصَّلاةَ بدون الجماعة كأنَّها لا يُعبأُ بها عند الشرع، فإِذا فاتته الجماعة وكأنَّما فاتته العصر.
والوجه عندي أنَّ الأحاديث لمَّا وردت بالوعيد على كلَ مِنْ هذه الأوصاف، جعلوها تفسيرًا للفواتِ مع أَنَّ كله مستقل برأسه، ومضمون على حياله، لا أنَّها تفسير له. وما تحقق عندي أَنَّ الفواتَ يبدأ مِن الاصفرار وينتهي بالغروب، فإِذا غَرَبَت الشمسُ، فقد فاتَت بجميع مراتبها، فهذا الفَوات هو الكامل.
- قوله: (وُتِرَ أهلَهُ ومالَهُ) والموتور: هو الذي قُتل له قَتيلٌ فلم يُدْرِك بقصَاصِه ولا دِيَتِهِ. ثُمَّ قيل: ما وجه تخصيص الوتر بالعصر؟.
وأجيب: بأنَّه لا اختصاصَ به، والحديثُ قد وَرَدَ في كلها في مواضعها، ويمكِنُ أَنْ يكونَ خَرَجَ على جوابِ سائلٍ، فلا يَدلُّ على التخصيصِ. قال شارحُ الجامعِ الصغير للسيوطي: إِنَّ الجماعةَ آكد في الفجر والعشاء، لكونِهما أَثْقَلُ الصَّلواتِ على المنافقين، وإِن العصر أفضلُها، وحينئذٍ يَظْهَرُ وجه التخصيص، ولابِدْعَ في تفاوت مراتب الفرض مع تساويها في وَصْفِ الفَرْضِيَّة كالجمعة، فإِنَّها آكد الفرائض كما صَرَّح به ابنُ الهُمام في «الفتح» وقد مرَّ.(2/296)
قلتُ: وأصابَ هذا القائل إلا أنَّه متأخر، ومثل هذا الدعوى ينبغي أَنْ ينقل من المتقدمين. ثُمَّ لا أَدْرِي أَنَّ الوعيد في فواتِ العصر لكونها أَفْضَل الصلوات كما قال هذا القائل، أو لكونِ وقْتِها مشتملا على الوقت المكروه؟ وأمَّا البخاري فلم يَحْكُم بكونها أفضل الصَّلوات وبوب بفضلها فقط، فقال: باب فضل صلاة العصر.
باب ُ مَنْ تَرَكَ العَصْر
فَرْقٌ بين الفوات والترك: فالفوات ما لم يَكُن عن عَمْدٍ، والترك ما كان عمدًا، ولذا عُوقِبَ به بحَبْط العمل، فالحَبْط مِنْ المصائبِ التي جاءت على عمله، والوترُ من وارادات الخارج.
وفي الحديث أَنَّ الأولين قصروا في صلاة العصر، وعن عليّ رضي الله عنه أَنَّ المرادَ منه سليمان عليه الصَّلاة والسَّلام.
قلتُ: وإذا ثَبَتَ عند مُسْلِم: «أَنَّها صلاةٌ كانت عُرضت على بني إسرائيل، فقصَّروا فيها، فإِن أتممتم فلكُم الأجرُ مرتين» - بالمعنى - فأيُّ حاجة إلى حَمْلِه على نبي من الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام فالأَوْلَى أَنْ يراد به مطلق الأمم، وقد فاتت عن النبي صلى الله عليه وسلّمأيضًا في غزوة الخندق. وحمله الحنفية على عذر المسايفة. والشافعية رحمهم الله على عَدَمِ نزولِ صلاة الخوف. والمالكية على عدم الوضوء. والله تعالى أعلم.
باب ُ فَضْلِ صَلاةِ العَصْر(2/297)
554 - قوله: (لا تضامُّون) وهو من الضم بمعنى لا تَزْدَحِمون. وفي رواية: من الضَيْم بمعنى الظُّلم أي لا يَحْرُم عن رؤيته أحدٌ أحدًا. وتلك الرؤية إنَّما تكون رؤيته للتجليات عندي دون رؤية عن الذات، كما اختاره الشيخ الأكبر رحمه الله، وقَسَّمَها إلى رؤية شمسية ورؤية قمرية، ثُمَّ لم يفسرها. ثُمَّ إنَّ رواية التجلي هي التي تسمى برؤية الذات؛ ألا تَرَى أَنَّكَ إذا رأيتَ اللَّهَ - جلَّ سبحانه - في منامك تقول: إنك رأيت ذاته مع أنَّك ما رأيت ذاته المباركة، بل نظرت إلى نحو تجلي فقط؟. ولا تنسب إليَّ ما لم أقله. فإِنِّي لا أُنْكِرُ الرؤية، ولكن أريدُ البحث في أَنَّ حقيقةَ الرؤيةِ هي رؤية الذات أَوْ ماذا؟ فالله سبحانه وتعالى يَتَجَلَّى لعباده يومَ الحشر على نحو ما تجلَّى لموسى عليه الصَّلاة والسَّلام فقال: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا} (الأعراف: 143) مع أنَّه كان سَأَلَهُ عن رؤية ذاتِه تعالى فتجلَّى له، وذلك لأنَّ رؤية ذاته تعالى لا تكون إلا بالتجلِّي، وفي ضمنِه تنكشف الذات أيضًا على ما تليق بشأنها، وتلك التَّجلِّياتِ لا نهاية لمراتبها، فالله سبحانَه وتعالى يَعْلَم أنَّه كيف يَتَجَلَّى، ولكن تجلِّيه هو عبارةٌ عن رؤيتِه، وقد مرَّ تقريره في أوائلِ الكتاب شيئًا في شرحِ الحديث الثاني، وهذا على مختارِ الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى. وراجع «الفتاوى للشاه عبد العزيز» رحمه الله تعالى؛ فإِنَّه تكلَّم جيدًا في هذا الموضوع.(2/298)
ثم إنَّه فَرْقٌ بين التجلِّياتِ ونحو الوجه واليد والعين، لأنَّ التَّجلِّيات صُوَرٌ مخلوقة - أُقيمت بين العَبْدِ وربهِ، لتعريفه إياه - وآثارٌ لأفعاله، بخلافِ الوجهِ وغيرِه، فإِنَّها من مبادىء الصفاتِ، وليست منفصلة عنه انفصال التجليات. وإنَّما عبَّر عن تلك المبادىء عن ألفاظٍ مختلفة، لاختلاف أفعالها فيما بعد، فَوَضَعَ لها أَلفاظًا كذلك تنبيهًا على هذا المعنى، وهي في الحقيقة من متعلَّقات الذات لا مغايرة عنها. وسمَّاها البخاري شؤونًا والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.
ومن ههنا تبين أَنَّ الاهتمام بها إِنَّما هو لكونِها دخيلا في رؤيتِه تعالى، وعند الدارقطني وقوَّاه أَنَّ النساء تحصل لهن الرؤية في العيدين، ولذا أُمِرْن أن يَحْضُرْنَ العيدين، وهو معنى قولها: «أليست تَشْهَدُ عرفة» تعني به أَنَّ المقصودَ بحضورهنَّ المُصلِّى هو الشهودُ فقط كما في عرفة، وفي الأحاديث أَنَّ بعضهم يَرَى ربه في هذين الوقتين كل يوم.
555 - قوله: (يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل)... الخ. وهو على حد قولهم: أكلوني البراغيث. فالواو علامة للجمع، وليست ضميرًا، والعُقْبَة، أي النَّوبة.
واختلف في أَنَّهم الحفظة أو السَّياحون، والطوافون في الأرض، والذين يَطْلُبون مجلس الذكر. فإِنْ قلتَ: وليس فيه ذِكْرُ الطائفة الأخرى، الذين جاءوا في العصر.(2/299)
قلتُ: وهو موجودٌ مفصلا عند النَّسائي، واختصره الراوي ههنا، وراجع رواية الصحيح لابنِ خزيمةَ، ففيه ذِكْرُ السؤالِ مِنَ الطائفة الأخرى أيضًا، فلا يُقال: إنَّه لِمَ اقتصر فيه على سؤالِ الذين باتوا دون الذين ظلُّوا. وسياقه على ما أخرجه الحافظُ رحمه الله تعالى في «الفتح»: تجتمع ملائكةُ الليل وملائكة النَّهارِ في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيجتمعون في صلاة الفجر، فتصعَدُ ملائكةُ الليل، وتثبتُ ملائكة النَّهار، ويجتمعونَ في صلاةِ العصر، فتصعَدُ ملائكةُ النَّهارِ، وتثبتُ ملائكةُ الليل، فيسألهم ربهم: كيف تركتم عبادي؟ فهذه الرِّواية تَنْفي كثيرًا من الاحتمالاتِ، فهي معتمدةٌ، ويحمل ما نَقَصَ منها على تَقصيرِ بعض الرواة. انتهى مع تغيير.
فإنْ قلتَ: إنَّه ينبغي التعاقب في المغرب مكان العصر، فإِنَّ الطَّرَف الآخر من النَّهارِ، وهو المغرب. قلتُ: وهذه اعتباراتٌ، فعدُّ المغرب ههنا من الليل، والعصر من الطرف الآخر، باعتبارِ أَنَّ النَّهار الشرعي يبتدأُ من طلوع الفجرِ، لا من طلوع الشمس، وينتهي بالعصر لا بالغروبِ، على خلافِ النَّهارِ العُرفي، والصَّلاةُ بعدها مكروهةٌ، فينسد الدفتر فينبغي أَنْ تعتبَر العصرُ آخرًا بهذا الاعتبار أيضًا.(2/300)
555 - قوله: (تركناهم وهم يصلون) وهل الملائكة يقتدون في الفجر أو لا؟ فلي فيه تردد ففي «الموطأ» لمالك رحمه الله تعالى عن سعيد بن المسيب أنَّه كان يقول: «مَنْ صلَّى بأرضٍ فَلاةٍ صلَّى عن يمينِه مَلَكٌ وعن شمالهِ ملكٌ، فإِنْ أَذَّنَ وأَقَامَ الصَّلاة صلَّى وراءه مِنَ الملائكةِ أمثال الجبال انتهى. فيمكنُ أَنْ يُقال إِنَّ اقتداءهم إذا ثَبَتَ في صلاةٍ ثَبَتَ في جميع الصَّلوات إِلا أَنَّ قولَه تعالى: {إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (الإسراء: 78) ليس بصريح في الاقتداء، لأن الشهودَ يمكن أَنْ يكون كما مَرَّ في قولها: «أليست تشهد عرفة» وقوله: «يشهدن دعوة المسلمين». ولذا بَحَثْتُ هناك أَنَّ الشهود يُطْلَق على غير الاقتداء أيضًا، وكذا قوله في الجمعة: «إذا قَعَدَ الإِمامُ على المنبر طووا الصحف وجلسوا يستمعون الذكر». لأنَّه ليس فيه ذِكْر اقتدائهم، فإِنْ كان إطلاقُ الشهودِ على مطلق الحضُور فقولهم: تركناهم وهم يصلون، ظاهر. وإِنْ كان على الاقتداء فلا يَصْدق قولهم إلا باعتبارِ الجنس يعني تركنَاهُم أي الذين ما كنَّا مقتدين بهم دون الذين اقتدينا بهم أو يُحْمَل على المَسْبُوقِ وغيرهم.
قلتُ: ولي ههنا إشكالٌ آخر في عبارة البخاري وهو أَنَّه لِمَ خَصَّصَ الحديث المذكور بترجمةِ فَضْل العصر مَعَ اشتمالِهِ على فَضْل الفجر أيضًا، ثُمَّ إذا بَوَّبَ على فَضْل الفجر لَمْ يُخْرجه هناك، وتلا قوله تعالى: {إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} فلعلَّه حَمَلَهُ على فَضْل العصر فقط، لأَنَّ حُضُورَهم في الفجر يُمْكِنُ أَنْ يكون مَحْمُولا على كونِها طرفًا من النَّهار بخلاف العصرِ، فإِنَّ الحضور فيها لِفَضْلِها في نَفْسِها لا لكونها طرفًا من النَّهار، فإِنَّ طرفه في الحس هو المغرب، فلو حضروا من أجل كونِها طرفًا لحضروا في المغرب دون العصر.(2/301)
فإنْ قلتَ: إذا كان التعاقبُ فيها فما نكتة تخصيص الفَجْرِ في النَّص قلتُ: لِكَونِ القراءة فيها جَهْرِيَّة فكان ذِكْرُ الملائكةِ أهم لدَلالتِه على شِدَّةِ اشتياقهم وشَغَفِهم باستماع القرآن، ولي جزم بأنَّهم يَشْهَدُون صلاةَ الجماعةِ دون المنفرد.
باب ُ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ الغُرُوب
قال النَّووي: هذا دليلٌ صريحٌ في أَنَّ مَنْ صلَّى رَكْعَة مِنَ الصُّبح أو العصرِ ثُمَّ خرجَ الوقتُ قَبْلَ سَلامِهِ لا تَبْطُل صلاتُه، بل يُتِمها وهي صحيحة، وهذا مُجْمَعٌ عليه في العصر، وأمَّا في الصُّبح فقال به مالك، والشافعي، وأحمد رحمهم الله تعالى. والعلماء كافة إلا أبا حنيفة رحمه الله تعالى فإِنَّه قال: تَبْطُل صلاة الصبحِ بطُلُوعِ الشمس فيها، لأنَّه دَخَلَ وقتُ النَّهي عن الصَّلاة بخلاف غروب الشمس. والحديثُ حجة عليه. انتهى.
واعلم أنَّ الشمس إنْ طَلَعت أو غَرَبَت في خلال الصَّلاة، فالصَّلاة جائزةٌ عند الثلاثة. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: تصح عصر اليوم خاصة، أمَّا الفجر فتتحول نفلا عند الشيخين. وهذا معنى ما في المتون من فسادها. وقال محمد رحمه الله تعالى: إِنَّها باطلةٌ أصلا. وفي رواية شاذة عن أبي يوسف رحمه الله تعالى: أنها تصح فريضة وسبيلُها أَنْ يُمسك عنها عند الطُلوعِ مراقبًا للشمس، فإِذا رأى وقت الكراهةِ قد خرج يُتم ما بقي. والحديث يَرِد علينا إلا على تلك الرواية الشاذة.
وأجاب عنه الطحاوي: أَنَّه وَرَدَ في المجانين إذا أفاقوا، والصبيان إذا بَلَغُوا، والنَّصارى إذا أَسْلَمُوا، والحُيَّضِ إذا طَهرن، وقد بقيَ عليهم من وقت الصُّبح مقدار رَكعة أَنَّهم لها مدركون. انتهى.(2/302)
فمعنى قوله: (أَدْرَك) أي لزمه القضاء دون البناء. والعجب من الحافظِ رحمه الله تعالى حيث رد عليه بما رَدَّ الطحاوي نفسه في كتابه، قال الحافظ رحمه الله تعالى: وللبيهقي من وجه آخر: «مَنْ أَدْرَك رَكعة من الصبحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشمسُ فليصلِّ إليها أخرى». ويُؤْخَذُ من هذا الرد على الطحاوي حيث قال: الإِدراك باحتلام الصبي، وطُهْر الحائض، وإسلامِ الكافر، ونحوها، وأَرادَ بذلك نُصْرَة مذهبه في أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ من الصبح رَكعة تَفْسد صلاتُه لأنَّه لا يكملها إلا في وقْتِ الكراهة.g
انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى. مع أَنَّ الطحاوي بعد سَرْدِ جوابه أَورَدَ عليه بعين ما أَوْرَدَ به الحافظ رحمه الله تعالى ما نصه هكذا: فكان من الحجة عليهم - أي الذين أخذوا الإِدراك بمعنى اللزوم دون البناء - لأهلِ المَقَالةِ الأولى - أي الجمهور - ما قد حدثنا عن أبي هريرة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلّمقال: «مَنْ أَدْرَكَ رَكعةً من صلاة العصرِ قَبْل أَنْ تَغْرُبَ الشمسُ فقد تمت صلاته؛ وإذا أَدْرَك رَكعةً من صلاة الصبحِ فقد تمت صلاته». ففيما روينا ذِكْرُ البناء بعد طلوعِ الشمس على ما قد دَخَل فيه قَبْل طُلُوعِها انتهى.
(2/303)
فالعجب من الحافظِ رحمه الله تعالى كل العجب أنَّه رَدَّ على الطحاوي ولم يَنْظُر إلى أنَّه رَدَّ عليه بنفسه بعد سطرين. ثُمَّ أقول: إنَّ الطحاوي ليس متفردًا فيه بل في «المدونة»: قال ابن وهب: وبلغني عن أُناس مِنْ أَهْلِ العلم أَنَّهم كانوا يقولون: إنَّما ذلك للحائِض تطهر عند غروب الشمس، أو بعد الصبح، أو النائم، أو المريض يفيق عند ذلك. على أَنَّه يمكِنُ تمشية جوابهِ على مسائِلنا أيضًا. ففي كُتبِ الأصول أَنَّ فخر الإِسلام رحمه الله تعالى والسَرَخْسي رحمهما الله تعالى اختلفا فيمن صار أهلا للصَّلاة في هذه الأوقات أَنَّه يُصلِّيها فيها أو يُمسك في الوقت المكروه. ثُمَّ يقضي بعدها؟ فقال واحد منهما أنَّه يصليها كذلك وصرَّح في «التحرير»، أنَّه ليست فيه رواية عن صاحب المذهب، فينفذ جواب الطحاوي على هذا القولِ بدون تمحل.
أقول: في «الدر المختار» عن «القنية»: أنَّ رجلا لو صلَّى قبل الغروب، ثُمَّ ذهبَ بها إلى الغروب بالتطويلِ لم يُكْرَه عندنا، وهو رواية عن الشافعي رحمه الله تعالى، ومصنِّفه حنفي في الفقه ومعتزلي في الاعتقاد، فلا تُقْبَل تفرداته إلا أَنَّ هذه المسألة رأيتُها في «أصول البزدوي» لفخر الإِسلام أيضًا، فلم أجد مساغًا للإِنكار، وإِنْ كنتُ مترددًا فيها. وما اعْتذر عنه صاحب «التوضيح» بعذر الخُشوعِ والخضوعِ لا ينفع.(2/304)
وظاهر «الموطأ» أنَّه يصليها إذا أَدْرَكَها بتمامها قبل الغروب، لا كما في المتون أَنَّه يُصلِّيها ولو أَدْرَكَ رَكعة منها قَبْلَ الغروب، ثُمَّ يُتمها بعد الغروب. قال محمد رحمه الله تعالى في باب الرجل يَنْسَى الصَّلاة أو تَفُوتُه عن وقتها: وبهذا نَأْخُذ إلا أَنْ يَذكرها في الساعة التي نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّمعن الصَّلاة فيها حين تَطْلُع الشمس حتى ترتفع وتَبْيَضَّ، ونصف النَّهار حتى تَزُول، وحين تَحْمَر الشمس حتى تغيب، إلا عصر يومه فإِنَّه يُصَلِّيها وإِنْ احمرَّت الشمس قَبْل أَنْ تَغْرُب. انتهى. والذي يظهر فيه أَنَّ الظاهر ما ذهب إليه محمدٌ رحمه الله تعالى. ولعلَّ فخر الإِسلام فرَّع على القولِ المرجوح، لأنَّهم اختلفوا في الصورَةِ المذكورة: أنَّ الكراهةَ في الفعلِ فقط، فحينئذ لو أَطَالَها إلى الغُروبِ لا تكون صلاته مكروهة. فاعلمه.
ثم إني تتبعتُ مرادهم بصحةِ عصرِ اليومِ، أَنَّهم يأمرون بأدائها أيضًا أو قائلون بالصحةِ فقط. والوجدان يحكم أَنَّهم إذا قالوا بصحتها فلا بُدَّ أَنْ يحكم بأدائِها أيضًا، لأنَّه معاملة الصَّلاة فإِذا صَحَّت لا بُدَّ من أدائها ولم أجده مصرَّحًا في كتبهم. وينبغي أَنْ يكون الأمر للترغيب فقط. وقد عَلِمْتَ آنفًا أَنَّ الصحةَ فيما إذا أَدْرَكَها بتمامها قَبْل الغروب، لا كما في المتونِ، إِن أَدْرَكَ رَكعة قَبْل الغروب يُتم بعدها. فليحرر.
(2/305)
وجملةُ الكلامِ أَنَّ الحديثَ لا يُفَرِّق بين الفَجْرِ والعصر، وظاهرهُ موافقٌ لما ذَهَبَ إليه الجمهورُ، وتفريقُ الحنفية باشتمالِ العصرِ على الوقْتِ النَّاقص دون الفَجْرِ عَملٌ بإحدى القِطعتين وتركٌ للأخرى بنحوٍ من القياس، وذا لا يَرِد على الطحاوي، فإِنَّه ذَهَبَ إلى النَّسخِ بالكُلِّية مِنْ الأحاديث التي وَرَدَت في النَّهي عن الصَّلاةِ عند طُلوعِ الشمس وعند غُروبِها، إلا أنَّ المَعْرُوف مِنْ مَذْهَبِ الحنفية خلافه، فإِنَّهم قائلون في العصر بصحتِها كما في الحديث. وذَهَبَ ابنُ حَزْمٍ إلى عكسه، وقال: إنَّ أحاديثَ النَّهي مَنْسُوخةٌ كلُّها بحديث: «مَنْ أَدْرَكَ رَكعة...» وعلى هذا لا حاجةَ إلى حَمْلِ حديث الإِدراكِ على صلاةِ النَّائم كما حَمَلَ عليه الشافعي رحمه الله تعالى بل لو تَعَمّدَه ينبغي ألا يكون عندَهُ بأْسًا فلم أَرَ جوابًا شافيًا عنه في أحد من كُتب الحنفية بعد.
والذي سَنَحَ لي أَنَّ النَّاس حَمَلوا الحديثَ المذكورَ على المواقيتِ وهو عندي في حق المسبُوق، فيكونُ مفهومه على طريقهم: أَنَّ الرَّكعَة الأُخرى بعد ما طلعت الشمس أو غربت، فتجري فيه الخلافية. وأما على ما اخترتُ فمفهومه: أَنَّ الرَّكعة مع الإِمام ورَكعة أخرى بعده وكلتاهما في الوقت قَبْلَ الطلوع في الفجر، وقَبْلَ الغروب في العصر، فلا تجري فيه الخلافية المذكُورة.
والدليل عليه: أَنَّ هذا الحديث وَرَدَ في أَرْبَعَةِ مَواضِع واتفق الكلُّ في الكلِّ أَنَّها في حق المَسْبُوق، واختلفوا في هذا فقط، فأَدْخَلُوه في مسأَلةِ الوقْتِ وهو عندي محمولٌ على نظائِرهِ.(2/306)
فالأول: الحديثُ العام الذي أَخْرَجَهُ مُسلم وغيره «فمن أَدْرَك رَكعة من الصَّلاة فقد أَدْرَك» ولا فَرْقَ بين هذا الحديث وحديث الباب، إلا أنَّه عامٌ لجميعِ الصَّلوات: الفجر والعصر وغيرهما سواء، وحديث الباب في حقهما فقط، ونُكتة تخصيصهما بالذِّكر اشتراكهما في بَعْض الأوصافِ، فلهُما دَخْلٌ في الرؤية، ولذا جمعهما الحديث أيضًا، فقال: «من صلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجنَّة». وقد جمعُهما القرآن في غيرِ واحدٍ من الآياتِ، كقوله: {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (ق: 39) واتفقوا في الحديث العام أنَّه في حق المسبوقِ قطعًا لِمَا عند مسلم من طريق آخر: «مَنْ أَدْرَكَ رَكعة مِنَ الصَّلاةِ مَعَ الإِمامِ فَقَدْ أَدْرَكَ» ففيه تصريح بكونِه في حق المسبوق. وإسنادُ هذين الحديثين واحدٌ، فأمكن أَن يدَّعي أحدٌ باتحاد الحديثين، عممه الراوي تارة وخصصه أخرى، فيكون مِنْ باب اختلافِ الرواة، أو اختلاف الراوي، تارةً كذا وتارةً كذا، ويكون القيد الثابت في واحدٍ ثابتًا في الآخر، فيكون كل منهما محمولا على المسبوق بالنَّص إلا أني حملتهما على أنَّهما حديثانِ، ثُمَّ قلتُ: إِنهما في حَقِّ المسبوقِ.
والثاني: ما أَخْرَجَه النَّسائي في باب مَنْ أَدْرَك رَكعة من الصَّلاة: عن سالم أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّمقال: «من أَدْرَكَ رَكعة من صلاة مِنَ الصَّلوات فقد أَدْرَكها إلا أنَّه يَقْضي ما فاته». وهذا صريحٌ أَنَّه في حق المسبوقِ، وفيه عن سالم عن أبيه قال: «من أَدْرَكَ رَكعة من الجمعة أو غيرِها فقد تمت صلاتُه» وهو أيضًا في حق المسبوق عندهم.(2/307)
والثالث: ما أخرجه أبو داود في باب يُدرك الإِمام ساجدًا كيف يصنع. وقد وقَعَ فيه الحديث المذكور قطعة منه عن أبي هريرة مرفوعًا: «إذا جئتم إلى الصَّلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدُّوها شيئًا، ومَنْ أَدْرَك الرَكعةَ فقد أدرك الصَّلاة». وأخرجه ابن حِبّان في «صحيحه» فعُلِم أَنَّه صحيحٌ عنده، وحَمَلهُ النَّاس على أَنَّ الرَّكعة فيه بمعنى الركوع، والصَّلاة بمعنى الرَّكعة وهو عندي على ظاهرِه. وحاصله: أن مُدْرِك الرَّكعة يعدُّ مدركًا للصَّلاة في نظر الشرع، ومَنْ أَدْرَك ما دونها فإِنَّه لا يُعدُّ مُدرِكًا لها، وإِنْ أَدْرَكَ فَضْلَ الجماعة.
والرابع: ما عند العيني عن الدَّارَقُطْني: «مَنْ أَدْرَكَ من صلاةٍ رَكعة قَبْل أَنْ يُقِيم الإِمام صُلْبَهُ فقد أَدْرَكها». فإِذا جعلوا هذه الأربعة في حقِّ المسبوق، جعلتُ حديث الباب أيضًا فيه، ثمَّ هو عندي مضمونٌ واحِدٌ، ذَكَرَهُ النبي صلى الله عليه وسلّممِرَارًا في أوقاتٍ مختلفة بطُرُق مختَلِفة، فهي إذن أحاديث لا أَنَّها حديث واحد، والاختلاف مِنَ الرواة وإِنْ أمكن فيه دعوى الاتحاد لكنه خلاف الوجدان.
ثم إنَّه قَدْ ظَهَرَ عندي بعد السبر، أَنَّ الشرعَ أَقامَ لذلك بابًا مستقلا، وعَدَّ مُدرِكَ الرَّكعة مُدْرِكًا للجماعة وكان مُهمًا، ولم يتعرض في موضعٍ إلى إجرَاءِ هذا الباب في المواقيت، فلم يَظْهَر لي بعدُ أَنَّ المُدْرِك لجُزْءٍ مِنَ الوَقْتِ مُدرِكٌ للوقت عنده أم لا؟ فإِذا لم يَظْهَر هذا الباب إلا في إدراك الجماعة كيف يَسُوغُ حملُه على المواقيت؟ فلا يكون إلا في حق المسبوق. فافهمه بالتفكُّر التام.(2/308)
ثم ما يدلك على أَنَّه في حق المسبوق دون الوقت أنَّه تعرض فيه إلى الرَّكعة ولو جاء في الوقت لتعرَّض إليه، وإنَّما تَوَهَّمَ كونه في مسألة المواقيت من أجل قوله: «قبل أَنْ تَطْلُعَ الشمسُ» فَفَهِمَ منه أَنَّ الرَّكعة قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشمس مع أَنَّه يَتَعلقُ بالفعلِ على معنى: مَنْ أَدْرَكَ الصبح قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشمسُ، لا أَنَّ تلك الرَّكعة قَبْل أَنْ تَطْلُعَ كما فُهِم.
ويتأتي هذا الشرح في جملة ألفاظه بلا كلفة ففي لفظ: «فقد أَدْرَكَ الصَّلاة» وفي لفظ: «فليصلِّ إليها رَكعةً أخرى» وفي معناه: «فليضف» وفي لفظ: «فليتم صلاته». فهذه كلها صادقة في حقِّ المسبوق. نعم، ههنا لفظٌ آخر أخرجَهُ الحافظُ رحمه الله تعالى من البيهقي يهدِمُ الشرحَ المذكور ولفظه: «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصبح رَكعة قَبْلَ أَنْ تَطْلُع الشمسُ ورَكعَة بعد ما تَطْلُع الشمس فقد أَدْرَكَ الصَّلاة» انتهى. وهذ صريحٌ في أَنَّ الحديث في الوقت لا في حق المسبوق، وأَنَّ الرَّكعةَ هي بعد طُلوعِ الشمس.
قلتُ: وهذه القِطعة من «الكبرى» موجودة عندي، ولم أجد فيه ما نَقَلَهُ الحافظُ رحمه الله تعالى، ثمَّ الشوكاني نَقَلَه في «النيل» عن «الفتح» وحذف حوالة البيهقي، ولعلَّه أيضًا راجعٌ إليه فلم يجدها فيه، ولذا حَذَفَ الحوالة. ولكنَّ الحافظ رحمه الله متقنٌ مُتَثَبِّتٌ في النقل عندي فلعلَّهُ يكون في نسخة منه عنده البتة. فالوجه فيه عندي: أَنَّ الحافظَ رحمه الله تعالى سها فيه، حيث نقلهُ إلى مسألة المواقيت مع أنَّه حديث آخر جاء في رَكعتي الفجر، واختصر فيه الرازي اختصارًا مخلاًّ، وهو في الحقيقةِ ليس من ألفاظِ هذا الحديث، والحديث على وجهه كما أخرجَهُ الترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا: «مَنْ لم يصلِّ رَكعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس». انتهى. وصححه الذهبي فأصلُ الحديث كان هكذا فغيروه كما ترى.(2/309)
والدليلُ عليه: أَنَّ هذا الحديث موجودٌ عندي بإِحدى وعشرين طريقًا:
خمس في «المسند»، وخمس في الدَّارَقُطْني، وثلاث في البيهقي، وطريقان في «الصحيح لابن حِبَّان» وطريقان في «المستدرك» وطريق في «الطبقات» للذهبي، وطريق في «كبرى النسائي» وطريق في الطحاوي، وطريق في الترمذي، ومدار الكُلِّ فَتادةُ، والصحابي فيها أبو هريرة.
ثم بعضهم يُصَرِّحُ فيه بمسألةِ أداء رَكعتي الفجر بعد الطُّلُوع. وآخرون يبهمون فيه، وينقلون لفظه قريبًا مما نَقَلَهُ الحافظُ رحمه الله تعالى، وهؤلاء أَرَادُوا مِنَ الرَّكعةِ الصَّلاة، فالرَّكعة قبل الطلوع هي صلاة الفجر، وبعد الطُّلوع هي سُنَّة الفجر، وربما يَقَعُ التخليط مِنَ الرُّواة. ومثله يفهمه المجرب وتنبه عليه الحافظ أيضًا في «تهذيب التهذيب» تحت ترجمة عَزْرَة بن تميم وأخرجه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «إذا صلَّى أحدُكم رَكعة من الصبح ثمَّ طلعت الشمس فليصلِّ إليها أخرى» انتهى. ثم قال: قال الخطيب: لا يحفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه سوى هذا، وتفرَّد عنه قتادة بالرِّواية ولم يُنبِّه عليه في «الفتح».
ثم ما يَدلُّك على أَنَّه في رَكعتي الفجر دون العصرِ أنَّه ليس في أحد من طُرُقِه ذِكْر العصر، بل في كلِّها ذِكْر الفجر فقط، وذلك لأنَّه لمَّا كان وَرَدَ في سُنَّةِ الفجرِ لم يَذْكُر فيه العصر، ولو كان هذا هو الحديث العام لجاء فيه ذِكْرُ العصر أيضًا في طريق من طرقه. فإِن قلتَ: إذا كان الأمرُ كما وصفتَ من كونِ الحديثِ في حق المَسْبُوقِ فما نُكتة ذِكره. قبل أن تطلع الشمس وقبل أن تغرب الشمس.(2/310)
قلتُ: أمَّا أَوَّلا: فلأنَّ أواخر أوقاتِها متعينة بالحسِّ، بخلاف سائرِ الأوقات، فإِنَّه لم يَرِد فيه غير التقريب مع أنَّه قد وُقِّت بهما في القرآن أيضًا قال تعالى: {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (ق: 39) فكان عُنْوَانًا لهاتين الصَّلاتين، فجاء في الحديث أيضًا تبعًا للقرآن.
وأمَّا ثانيًا: فلدفع إيهامِ أَنْ يُصلِّي رجلٌ رَكعة قبل الطُّلوعِ، ورَكعة بعدَه، ويصيرُ بذلك مُدْرِكًا للصَّلاة، فَقيَّد بكون الصبحِ قَبْل الطُّلوعِ، وصرَّح أَنَّه يكون مُدرِكًا لها بإِدراكها في الوقت، ولذا لم يَقُلْ: مَنْ أدرك من الصُّبحِ قَبْل الطُّلوعِ، وإِنَّما قال: «من أَدْرَكَ رَكعة من الصبح» يعني قَدَّم الرَّكعةَ على الصبحِ، ليكونَ إشارةً إلى أنَّ صلاة الصبح قَبْلَ الطُّلوع، ولو قدَّم الصبحَ على الرَّكعة، وقالَ: مِن الصبحِ رَكعة قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشمسُ، لأوهم أَنَّ تلك الرَّكعة قَبْلَ أَنْ تطلُعَ دون الصبح. وتلك اعتبارات ونِكات.
وثالثًا: فإِنَّ صلاة المسبوق عندنا على ترتيب صلاةِ الإِمام، فالرَّكعة الأخرى وإِنْ كان آخرًا حسًا، لكنَّه متقدمٌ حكمًا، فإِذا كانت رَكعة مع الإِمام قَبْلَ طُلوعِ الشمسِ حقيقةً، فَرَكعتُه الأخرى أيضًا قبلَهُ في نظر الشرع.
ثُمَّ إِنْ قُلتَ: إنَّ راوي الحديث أبو هريرة وفَتْوَاهُ على وَفْقِ مذهبِ الشافعية رحمهم الله تعالى. قلتُ: إِنَّه يُرْوَى عن ابن عباس رضي الله عنهما وفتواهُ كمذهبِ الحنفية كما في «مسند أبي داود الطيالسي». ثم اعلم أَنَّ فتوَى أبي هريرة قد رُوي في بعض الطُرقِ على شاكلةِ المَرْفُوعِ، وليس بمرفوعٍ في الحقيقة، ويظنُّه النَّاظِرُ مرفوعًا، وإِنَّما تنبهتُ له مِنَ البيهقي، لمَا مرَّ على شرح الطحاوي ردَّهُ عليه بفتوى أبي هريرة رضي الله عنه، وعبره ههنا بالفتوى فليحمل عليه المبهمات أيضًا.(2/311)
وفي «تخريج الهداية» للزيلعي: ولا يوجد هذا النقل عند غيره. أنَّ الحديثَ محمولٌ على المسبوقِ عند بعض العلماءِ كما قررتُ سابقًا؛ فهذا هو مَحْمَلُ الحديث عندي. بقي الفَرْقُ بين الفجرِ والعصرِ كما في المذهب، فليكِلْهُ إلى الاجتهاد أو إلى حديثٍ آخر، ألا تَرَى إلى ما نَقَلَهُ الترمذي في معنى الحديث: أنَّه عندَهُم لصاحبِ العُذْرِ، مثل: رجل يَنَامُ عن الصَّلاة، أو يَنْسَاها، فيستيقظُ، ويذكر عند طُلوعِ الشمس وعند غروبها. انتهى. هذا أيضًا اجتهاد، وإلا فلا دَلالةَ عليه في الحديثِ ولا حرف.
فإِذا عَلِمْتَ أَنَّ الحديثَ في حق المسبوقِ عندي وفي إِدْرَاكِ الجماعةِ لا في إِدْرَاكِ الوقْتِ، وأنَّ الصَّلاةَ كلَّها في الوقت وَقْبَل أَنْ تغرب؛ فاعلم أَنَّ المراد من الغرُوب هو الغروبُ الشرعي دون الحسي. والشرعي يَمْتدُّ من الاصفرار إلى الغروب، وحينئذٍ يكونُ حاصل الحديث: أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكعةً من صلاة العصر مع الإِمام قبل الاصفرار فقد أَدْرَكَ العصرَ؛ وذلك لأنَّ الوقتَ فيما بعد الاصفرار إلى الغروب وقت النافق فلا أحب أَنْ يَدْخُل في سياق التعليم، ولا دليل فيه على أنَّه لو أَدْرَك رَكعة قبل الغروب يتمها بَعْدَ الغروب ويكون بذلك مُدْرِكًا لها.
557 - قوله: (إنَّما بقاؤُكم)... الخ. هل المراد منه تقاصُر الأعمار بالنَّسبة إلى كل أُمة، أو بالنسبةِ إلى مجموع الأمم؟ فالظَّاهِرُ هو الثاني.(2/312)
وحاصله أنَّ الدنيا مَع أَشْهُرِها وسِنِينِها وأَيَّامِها لو فُرِض يومًا واحدًا لكانت زمان هذه الأمة فيهم كما بين العصر والغروب؛ يعني به أنَّه لم يبقَ مِنَ الدنيا إلا قليل. ثم إنَّ دورةَ هذه الأمة ألف سنة كما قال الشيخُ الأكبر، والشيخُ المجدِّد ثُمَّ الشاه عبد العزيز والقاضي ثناء الله مصنِّفُ التفسير المظهري» رحمهم الله تعالى، ويؤيده ما عند ابن ماجه «إنَّ لأمتي نصف يومٍ فإِنِ استقامُوا بعدَهُ استقاموا بقية يومِهِم وإلا فيهلكون سبيل من هلك» - بالمعنى - واتَّفقوا على أَنَّ المرادَ مِنَ اليوم فيه يومَ الآخِرة {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47) وقد شَهِدَ به التاريخ: أنَّ الداهية الكبرى التي هي فتنة التاتار، نَزَلَت بنا بعد خمس مئة سنة، فتزلزلَ بها بُنيان الدِّين إلا أنَّ الله سبحانه أتمَّ لنا ما وعدنا على رسوله، فتكاملت مدتها ألف سنة وكان الإِسلام في تلك المدة غالبًا على الأديان كلِّها شرقًا وغربًا وهي دورةُ الأمةِ المحمدية وبعدَها سلط علينا الأوروبا فَبَلَغَ حال منائرِ الإِسلام ومنابره إِلى ما ترى. والله المستعان.(2/313)
وحاصلُ التشبيهين في حديثي ابن عمر وأبي موسى رضي الله عنهما: أَنَّ العبرةَ عند ربك بالمجموع والخواتيم، فمن دَخَلَ في آخرِ اليوم كان كَمَنْ دَخَلَ في أوَّلهِ في إِحْرَازِ أَجْرِ ذلك اليوم، وهذا هو الأصلُ في باب الاجتماع، لأنَّ الأُمورَ التي تُدعى لها الجماعة لا يمكنُ فيها الشركة مرة واحدة، فلا بُدَّ أَنْ يَشْتَرِكوا فيه واحدًا بعد واحد، حتى أَنَّ مَنْ دَخَل فيها آخرًا يُعَدُّ ممَّن دخلَها أَوَّلا وإِنْ كان بينهم تفاوت في الأجور، لكنَّهم أَدْرَكوا الدعوة كلهم، فاللَّهُ سبحانه خلق الدُّنيا وسوَّى فيه مأدبة، ودعى لها دعوة، فمنهم مَنْ أَجابَ، ومنهم من صدَّ عنها، ودَخَلْنَا نحنُ في آخِرِهم وأكملنا بقية اليوم، فاستوفينا الأجرَ الموعود في اليوم كله، فكأنَّ الدنيا كلها كيوم واحد عند ربك، والمطلوبُ مِنَ الداخلينَ أَنْ يَعْمَلُوا إلى آخرِ اليوم، فَمنْ عَجَزَ عنه نَقَصَ أجرُهُ، ومَنْ قَامَ به وُفِّيَ أجرُه.
ولمَّا جفَّ القلمُ بالقيراطين لمن يُعْمَل إلى الغروبِ، واتفق أنَّه استأجرنا صاحب المأدبة في آخر اليوم فعملنا إلى مُدَّته استوفينا القيراطين نحن، فنحن وإِنْ دَخَلْنَا في آخر اليوم عند النَّاس إلا أنَّا عُومِلْنَا معامَلَة الذين دخلوا أَوَّلَ اليوم على قاعدة باب الاجتماع، فبقي تقسيم العاملين وعملهم في نظرنا وأما عند ربك فالعبرة بالمجموع والخواتيم.(2/314)
ومن هذا الباب: «هم القوم لا يَشْقَى جَلِيسهم»، فمن دَخَل معهم كان ملَثهم في استحقاقِ الأجر رحمةً من الله تعالى، ولم يُحْرَم من الأجر، وإِنْ كان في نظرنا هو التقسيم في الداخلين، لكنَّ الله سبحانه نَظَر إلى مجموعِ العمل وعدَّ الداخل في آخره بمن دَخَلَ في أوله، ومن ههنا ظَهَرَت المناسبةُ بين الترجمة والحديثين، بأَن مُدْرِك الرَّكعة مُدْرِكٌ للصَّلاةِ في نَظَرِ الشارع، ومُدْرِك الركوع مُدْركٌ للرَّكعة عنده، ومَنْ أَدْرَكَ من الصَّلاةِ رَكعة فَقَدْ أَدْرَكَ، كمن دَخَل في آخر اليومِ فقد أَدْرَك أَجْرَ اليوم كله، وما في كتاب الإيمان أَنَّ مُدْرِكَ الرَّكعَة لا يُعد مُدْرِكًا للصَّلاة، فمبْنَاه على أمر آخر، وهو نظر آخر ذُكِر في موضِعه.
وإن كنتَ فَهِمْتَه فاعلم أَنَّ حديث: «من أَدْرَكَ الصَّلاة...» الخ. إنَّما وَرَدَ في باب الاجتماع والجماعة لتعليم أَنَّ الدَّاخلَ فيها إلى أي جزءٍ منها يُعَدُّ داخلا؛ فبين أنَّ المدرِكَ من أَدْرَكَ رَكعة منها وبعدها، وإِنْ أَحْرَزَ شيئًا من الأَجْرِ أيضًا إلا أنَّه لا يُعَدُّ مدرِكًا لها في نظر الشارع.
ثُمَّ إنَّ الناسَ جَرُّوه إلى مسألةِ المواقيتِ، ولم يروا إلى أَنَّ إدْرَاك الوقت بجزءٍ منه بابٌ مستقل، لم يَرِد به الشرع، ولم يَتَعَرِّض إليه، فلو عَلِمْنَاه أَنَّه أيضًا بابٌ عِندهُ لعددناه من جزئياتِه، ولَحَمَلْنَاهُ عليه، بخلافِ إِدْرَاك الصَّلاة من إِدْرَاكِ الرَّكعة، فإِنَّه بابٌ مستقل أَقَامَتْهُ الشريعةُ في مواضع وتَعرَّضَت إِليه، فحملناه عليه، فإِذا علمناه بعد السَّبْر كذلك، لم يَسُغْ لنا أَنْ نحملَهُ على مسألةِ المواقيت.(2/315)
ثم إنَّ حقيقةَ الإِدْرَاك أَنَّها كانت على شَرَفِ الفوات فتلافاه على نحوِ تَقْصِيرٍ منه وأَدْرَكَها، كَمَنْ سابقَهُ أحد فسبقه فأَدْرَكه هذا بعد جِدَ واجتهاد منه، فهكذا حال مُدْرِك الرَّكعَة، فإِنَّ الإِمام قد سَبَقَهُ بصلاته وتَرَكَهُ خلفه فدخل هذا في الركعة، وأَدْرَكَه في عملهِ بهذا الجِدّ وعدَّهُ الشارعُ داخلا في هذا العمل، وكذلك حال مَنْ أَدْرَكَ الرُّكوع، فإِنَّه كاد أَنْ يَتَخَلف عن الأَجْرِ أي أجر تِلْكَ الرَّكعة فَجَدَّ واجتهدَ حتى أَدْرَكَ ركُوعَها فكأَنَّه أَدْرَك تلك الرَّكعة بما فيها، ولذا سقطت عنه الفاتحة مع أنَّه لا صلاةَ إلا بفاتحةِ الكتاب، وهذا مما قد أجمعوا عليه، فالرُّكوعُ عندي آخر موضع تُحْتَسَب فيه الشِّرْكةُ. وأمَّا مركزُ الصَّلاة فهو موضِع التأمين، وهو نُقْطَةُ مَرْكَزِ الدائرة، ومجتَمع الملائكة والنَّاس. وهناك وَعْدُ المَغْفِرَة فهو مقام الجمعِ، فمقام السَّبْقِ: التحريمة، ومقام الاحْتِسَاب: الركوع، ومقام الجمع: آمين.
(2/316)
فإِنْ شئتَ أَنْ تَعْرِفَ السابقين بسيماهم، فاحْفَظِ التحريمة تعرفهم وإِنْ شِئْتَ أَنْ تَتَوَسَّم المجتمعينَ مَع الملائِكَة فلا تَنْسَ مَوضِع التأمين تفوز بهم، وإنْ تُرِدْ أَنْ تَقِفَ على مَنْ أَدْرَكُوا الرَّكعَة آخرًا، فاذكر الرُّكوع تَفْرُسهم، ثُمَّ إِنْ فَاتَك التأمين فلا يَفُتك موضع التحميد فإِنَّه أيضًا موضع الوعد تلافيًا لمن فاته التأمين، وقد ورد في الخبر «أَنَّ الصدِّيق الأكبر رضي الله عنه تخلَّف مرةً عن التحريمة وأَدْرَكَ إمامه في الركوع، فأحرم بها، وقال: الله أكبر، ثُمَّ قال: الحمد لله، ثُمَّ رَكَع، فكأَنَّه كان اختصارًا منه للصَّلاة، فلمَّا فَرَغَ النبي صلى الله عليه وسلّمعن صَلاتِه أُوْحَيَ إليه أَنَّه سمع الله لمن حَمِده». فَجُعِل مكان التَّكْبِير عند الرَّفع مِنَ الرُّكوع، وقد كانوا يُكَبِّرون فيه قَبْل ذلك، فهذا نحو تَلاف فاعلمه.
ثم إِنَّ ههنا بحثًا آخرِ وهو أنَّه ما الذي أُريد مما قصروا فيه وأتممناه؟ فإِن كان المرادُ منه الشريعة فقد قصَّرنا فيها أيضًا، ومنَّا أيضًا مطيعون وعاصون مثلهم، فإِنْ كان مقابلةُ أفاضل هذه الأُمة بمَنْ سَلَفَ مِنْ أَفَاضِلِهم، فلا يَصِح عدُّ أفاضلهم من المقصِّرين، وأفاضلِنا من المؤتمرين، ولَكِن الأحسن حينئذٍ أَنْ يُفَرَّق بالقِلة والكَثْرَة، فإِنَّ أفاضِلَ هذه الأمةِ أكثرُ كثير بمن مضى من قبلهم، وإن كان بين الأَرَاذِل والأراذل فَهُم في التركِ والتقْصِير سواء، مع أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «لَتَّتَّبِعُنَّ سَنَن مَنْ قَبْلَكم شِبرًا بشبر وذراعًا بذراع» فأي أمرٍ قَصَّروا فيه وقُمنا بحقه؟(2/317)
والذي يَظْهَر أَنَّه باعتبارِ مجموع الأمة، لا باعتبار الأفاضلِ، ولا باعتبارِ الأَرَاذِل. والفَرْق بقِلَّة المقصِّرين فينا وكَثْرَتِهم فيهم، على عكس المطيعين، أَمَّا حديث الاتباع بمن قبلنا فهو ساكتٌ عن بيان القِلة والكَثرة إنَّما أَرَادَ به بيانَ الاشتراك في نوع الفعل، فجاز الاختلافُ بين الكم والكيف.
واحتج القاضي أبو زيد الدَّبُوسي وهو أَوَّلُ من دَوَّنَ علم الخلاف، وهو عِلْمٌ بين الفِقْهِ وأصول الفقه على مسألة المثلين، وتقريره أَنَّ قولَه صلى الله عليه وسلّم «إنَّما أجلكم... الخ» يفيد قِلَّة زمان مدة هذه الأمة بالنسبة إلى الأُمم الماضين، وزمان هذه الأمة مشبَّه بما بين العصر والمغرب، فلا بُدَّ أَنْ يكونَ قليلا بالنسبةِ إلى زمانِ النَّصارَى، إلا إذا كان وَقْتُ العصر من حين صَيْرورَة الظِّل مثلَيْهِ فإِنَّه حينئذٍ يَزيد وقتُ الظُّهْر أي مِنَ الزَّوال إلى المثلين على وَقْتِ العصرِ أي من المثلَين إلى الغُروب وإِنْ كان ابتداء العصرِ من المِثل كانا متساوِيين ولم يصح قولهم نحن أكثرُ عملا.
وتعقب عليه ابن حزم أَنَّ الوقتَ في المِثل يمضي أزيد من بقيةِ الأمثال كلِّها فلو كان وَقْتُ العصرِ من المِثل لبقي وَقْتُ الظُّهْرِ أزيدَ من بقيةِ الأمثال، وصحَّ قولهم نحن أكثر عملا.
قلتُ: وما قالَهُ صحيح إلا أنَّ هذه الزِّيادة لا تَظْهَر إلا في نظر الرياضيين، ولا يأتي التشبيه في مثل هذه الأمورِ الغامضة التي قَلَّمَا يُدْركها أحدٌ مِنْ أَهْلِ العُرْفِ، فلا بُدَّ أَنْ يكونَ في وَقْتِهم زيادة تصلح لكونها مُشَبَّهًا بها، ولا تكونُ إلا إذا زَادَ الوقتُ على المِثْل زيادة، على أَنَّ محمدًا رحمه الله تعالى إنَّما استشهدَ بهِ على مسألةِ استحْبَابِ تأخير الظُّهْرِ لا على المِثلين.
قلتُ: وحديثُ ابنِ عمر رضي الله عنه عندي يحتوي على أَمْرَين مُستَقِلَّين:(2/318)
الأول: بيان قِلَّة زمانِ هذه الأمة بالنِّسْبَةِ إلى الأُمم السالفة.
والثاني: التشبيه، وهما قِطعتان مستقلتان ليست إحدَاهُما تفسيرًا للأُخرى لِما بينهما من المُغَايَرة، تتضحُ بعدَ النَّظَرِ في سياقِهما، وقد بَلَغَ معنى القِطعة الأُولى مبلغَ التواتر، كقوله: «أنا والساعة كهاتين». فإِذا عَلِمْنَا أنَّ زمانَ هذهِ الأمة أقلّ قليل بالنِّسبةِ إلى الأُممِ وقدَّره بعضهم: بسدس النَّهار - لم يَبْقَ ريب في أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ أَزيدُ من المِثل، بحيث لا يَبْقَى بعدَه للعصرِ إلا بقَدْرِ السُّدس كما ذَكَرهُ ابن عابِدِين في مسألةِ أَهْلِ البُلغاء، أو بقَدْرِ خُمس النَّهار كما في «الفتح». فحديثُ التمثيل وإِنْ لم يَكُن حجة لنا إلا أَنَّ لِلقِطْعَة الأولى بعد النَّظَرِ إلى الخارجِ حجة لنا قطعًا: أَمَّا لمحمد فظاهر وأمَّا للقاضي فأيضًا ممكن.
557 - قوله: (قيراطين قيراطين) والإِعرابُ فيه عندي باعتبار المجموعِ، لأنَّ المعاني المعتورة أيضًا على المجموع إلا أَنَّ كُلَّ كلمةٍ لمَّا كانت صالحة للإِعراب ظَهَر الإِعراب فيها، كما قرروا في: عبد الله، حال كونِه عَلَمًا ومضافًا إليه.
557 - قوله: (هو فضل أوتيهِ من أشاء) قال المتكلمون: إِنَّ المُحال هو الترجح بلا مُرَجِّح دون الترجيح بمرجِّح، فالله سبحانه يَفْعَلُ ما يشاء، ويَحْكُم ما يريد، والمرجِّح إرادتُه ومشيئتُه، ولا حاجةَ بعدَهُ إلى مرجِّح آخر في جانب المقْدُور.
باب ُ وَقْتِ المَغْرِب
فأحالَها على اسمِها ولم يُوقِّت.
- قوله: (وقال عطاء)... الخ وهو جمع صُوري عندنا، وفي الحديث: «إنَّ أمتي لن يَزالوا على الخيرِ ما عجَّلوا العصرَ وأخَّروا السَّحور» - بالمعنى - وذلك لوقوعِ التحريفِ فيهما عن أهل الكِتاب. فوجبَ التحذيرُ عنه لتُحْفَظَ الحدود. أَمَّا الاحتياط فيه بعد الوقت فلغوكما قد يفعله الجهلاءُ من الصلحاء.(2/319)
559 - (مواقع نَبْلِهِ) ومعلومٌ أَنَّ السنة المتوارِثة في قراءة المَغْرِب هي التقصير، وإِنْ وَرَدَ التطويلُ أيضًا في بعضِ الأحيان.
560 - (إذا وَجَبَت) ومنه الواجب، وهذا كَمَن شال على رقبته حملا، فتلقاهُ واحدٌ في الطريق فأعطَاهُ حملا آخر ليحمِله فلزمه حمله كالضِّغْث على الإِبَّالة فهكذا الغَرَضُ، ثابت بالدَّليلِ القطعي، ويَلْزَمُ عليه إلا أَنَّ الواجب لمَّا ثَبَتَ بالدليل الظني لَزِمَهُ أيضًا، وسَقَطَ عليه، فالواجبُ هو الساقط بهذا الطريق. قاله فخر الإِسلام.
560 - (وإذا رآهم) وهذا نصٌ في رعاية حال القوم، وعند البيقهي: أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّمكان يقومُ للصَّلاةِ فإِذا رآهم لم يجتمعوا قَعَدَ - بالمعنى .
وفي «المبسوط» في باب التيمم: أَنَّ فضلَ الإِبرادِ بالظُّهْرٍ والإِسفارِ بصلاة الفجر، إِنَّما هو عند عدمِ اجتماعِ القوم، فإِنِ اجتمعوا قَبْلَه فالأفضل التَّعجِيل، وعُلِم من هذه الرِّواية تَعْجِيل العشاء أيضًا لحالِ القوم. وعند أبي داود: أَنَّه كان يقومُ في الرَّكعةِ الأولى مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ حتى لا يَسْمع وَقْعَ قدم وفيه عن أبي قَتادة رضي الله عنه: فظَنَنَّا أنَّه يريدُ بذلك أَنْ يُدْرِك الناسُ الركعةَ الأولى. وهذا من تَفْرِيعَات مَنْ ظَنَّ أَنَّ مُدْرِكَ الرُّكوعِ ليس بمدرك للركعة، وإلا فَلَيس مِنَ الصحابة رضي الله عنهم مَنْ كان يُنكر إدراك الركعة بإِدْرَاك الركوع فاعلمه.
باب ُ مَنْ كَرِهَ أَنْ يُقَالَ لِلمَغْرِبِ العِشَاء
والعربُ كانوا يَعْكِسُون في التسمية فكانوا يُسمون العشاء العَتَمَة، فَوَرَدَ الشرعُ بإِصلاحِه، وعَلَّمهم ما ناسب كل صلاة اسمها، فهذا مِنْ باب تعليمِ الآداب، لا مِنْ بابِ الأمر والنَّهي.(2/320)
واعلم أنَّه قد مرَّ منَّا التنبيه على أَنَّ تَعارُضَ الأدلةِ قد يكونُ لإِفادةِ المراتب، وقد يكونُ لكون الشيء مِنْ عالم الغيب.
والثالث لكونِه من باب المحاسِن فيوجد التعبير بالمكروه مع المنع عنه، وهذا لأنَّه يكون جائزًا في مرتبة ولكنَّه يمجُّه السمع، ويَنْبُو عنه الطَّبْع فيكرهه الشرع أيضًا، ولذا يُوجد إطلاق العَتَمَة في الأحاديث، وإنْ كان أقل قليلا مع إظهار الكراهةِ، فيدل على أنَّه مِنْ باب تهذيب الألفاظ فقط، ولو كان من بابِ عَدَمِ الجوازِ أو الكراهة لم يرد به الشرع. نعم، عند أحمد في «مسنده». مَنْ قال منكم يَثْرِب مكان المدينة فليقل المدينة المدينة عشر مرات - بالمعنى - فإِنَّه يُشْعِر بالكراهة شيئًا، والأمر بَعْدُ سهلٌ.
باب ُ ذِكْرِ العِشَاءِ وَالعَتَمَةِ، وَمَنْ رَآهُ وَاسِعًا
باب ُ وَقْتِ العِشَاءِ إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ أَوْ تَأَخَّرُوا
أَلانَ المصنِّف رحمَهُ الله كلامَهُ في هذا الباب، لورُودِ إطلاق العَتَمة أيضًا. وقال: (ومن رآه واسعًا) كأنَّه لا يَحمله على رَقَبَتِه فَيَنْسِب التوسعة فيه إلى مَنْ كان يَرَاه، وهكذا يَفْعَلُ المصنِّف رحمه الله تعالى في غير واحدٍ مِنَ المواضعِ، فَيَضَع لفظ «مَنْ» الموصول، إشارةً إلى أنَّه ذَهَب إليه ذَاهِبٌ فهو سائِغٌ ولا يَجْزِم به لِعَدَم الدَّليل القاطع عنده، أَوْ لِعَدَمِ اختياره لأسبابٍ سَنَحَت له، ثُمَّ أَتى بقطعات عديدة وَرَدَّ فيها إطلاق المشتق، وبطريق العلمية أيضًا.(2/321)
- قوله: (ويُذْكَرُ عن أبي موسى)... الخ، وهو عند أبي دَاود أيضًا. فمرضه بالنسبة إليه، وإلا فقد أَخْرَجَهُ المصنِّف رحمه الله تعالى موصولا في الباب التالي أيضًا وقد مرَّ منَّا أنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى قد يُمَرِّضُ لمعنى غير التضعيف وهو أنَّه يورد الحديثَ بالمعنى وقَدْ يَقْتَصِر على بعضه لوجود الاختلاف في جوازه، وإن كان المصنِّف يَرَى الجواز، نبه عليه الحافظ.
- قوله: (نتناوب) يعني كُنَّا نازِلين مِنَ الحَبَشَة في موضع فَكُنَّا نتناوب منه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وهذا التناوب وَرَدَ في الجمعة أيضًا فانْظُر ماذا يُفيد؟.
- قوله: (فَاعْتَمَ به) وهذا على صرافة اللغة، ولا كلام فيه، وإنَّما الكلامُ في إِطلاقِ العَتَمَة لأنَّها غَلَبَت عليها العَلَمِيَّة عندهم، كما قالوا في المُرْسَلِ والمُنْقَطِع لا فَرْقَ بين فعليهما مَعَ ثبوتِ الفَرْقِ بين اسمي المفعول، فيقولون: إنَّه مُرْسَلٌ إذا حَذَفَ التابعيُّ اسم الصحابي خاصة، ويقولون: أَرْسَلَهُ فلانٌ سواء سَقَطَ ذِكْرُ الصحابي أو راوٍ آخر مِنَ السَّنَد فَيُطْلَق المشتق على المنقطع أيضًا. وفي «الفتح» أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّمإنَّما اعتم به لما اشتغل بأبي بكر رضي الله عنه في بعضِ أمور المسلمين.
564 - قوله: (فإِنَّ راسَ مئة سَنَةٍ منها لا يَبْقَى ممن هو على ظَهْرِ الأرض أحدٌ) وقد مرَّ بعضُ الكلامِ عليه، والمرادُ به مَنْ كان حيًا في هذا الوقتِ على وجه الأرض، وأَبْعَدَ مَنْ قال: إِنَّ عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلام يَنْزِل بجسده المثالي بل يَنْزَل بجسده الأصلي ورده بحر العلوم في «شرح المثنوي» وأيضًا قال بعض الصوفية إِنَّ الخَضِرَ عليه السلام حيٌّ من عالم المِثَال.
باب ُ فَضْلِ العِشَاء(2/322)
اعلم أَنَّ حديثَ عائشة، وحديثَ أبي موسى رضي الله عنهما بعده حديثان متعدِّدَان، وواقِعَتان مختلفتان، وإنْ كان سطحهما واحدًا، فما في حديث عائشة رضي الله عنها واقعة قَبْلَ فُشُوِّ الإِسلام، وما في حديث أبي موسى رضي الله عنه واقعة متأخرة جدًا حين قَدِمَ أبو موسى رضي الله عنه مِنَ الحبشة في السَّنَة السابعة، وكان خَرَجَ مِنَ اليمنِ لزيارَةِ النبي الكريم عليه الصَّلاة والسَّلام، فنازعته الرِّيح حتى ألقَتْهُ في الحبشة فَسَكَن بها سبع سنين، ثُمَّ قَدِمَ مع جعفر رضي الله عنه ونَزَل بالبقيع، والبقيع: اسم لكل مكان فيه أُرُوم الشجر من أنواعٍ شتى، وكان مثل هذه الأمكنة كثيرة في أرضِ العرب، فيحتاجُ للتمييز إلى الإِضافات كما ترى ههنا «بقَيع بُطْحَان».
566 - قوله: (نَامَ النِّساءُ)... الخ. أي مَنْ كانوا في المسجد، ويُمكِن أَنْ يُرَاد به أَنَّه حان وَقْتُ النَّومِ. والأول أوجه.(2/323)
567 - قوله: (ما ينتَظِرُها أحدٌ من أهل الأرضِ غَيْركُم) قال السيوطي رحمه الله تعالى إنَّ الحصر بالنسبة إلى أهل الكتاب وادَّعى في شرح البخاري أَنَّ العِشَاء لم تَكُنْ في أحد مِنَ الأُمَمِ غير هذه الأمة، وتَمَسَّكَ بما عند الطحاوي في باب الصَّلاةِ الوسطى وليس هذا عند غيره: أَنَّ أول مَنْ صلَّى العشاء الآخرة نبينا صلى الله عليه وسلّم وقد مرَّ مني في أول كتاب الصَّلاة، أنَّ الصَّلاةَ كلها ثَبَتَت عن الأنبياء الآخرين أيضًا، إلا أنَّها لم تكُن مفروضة على أُممهم وكانت على بني إسرائيل الفجر والعصر فقط كما في النسائي إلا أَنَّ الشيخ السيوطي رحمه الله تعالى ذَهَبَ إلى أنَّ العشاء الآخرة لم يصلِّها نبي أيضًا فيمكِنُ أَنْ يقال: إنَّها مختصة بهذه الأمة بوصفِ الفرضية، ومن دونهم وإنْ صَلوها فعلَى شاكلة النافلة، وحينئذ معنى قوله: ما ينتظرها أي من حيث الفرضية، وقيل إنَّ الإِسلامَ لم يَفْشُ إذ ذاك إلى الأَطْرَافِ كما في متن الحديثِ فيكون الحصر بالنِّسْبَة إلى الكُفَّار.
قال الحافظُ: والمرادُ أنَّها لا تُصَلَّى بالهيئةِ المخصوصة، وهي الجماعة إلا بالمدينة، وبه صرَّح الدَّاودي، لأنَّ مَنْ كان بمكةَ مِنَ المستضعفين لم يكونوا يُصلُّون إلا سِرًا، وأمَّا غير مكة والمدينة مِنَ البلادِ فلم يَكُنِ الإِسلام دَخَلَها.
قلتُ: ويمكِنُ أَنْ يكون قوله بالنسبةِ إلى المسْجِدِ النَّبوي، فإِنَّ المساجدَ اليوم كانت تسعة كما عند الدَّارَقُطْني بإِسنادٍ ضعيف، وراجع كلام السمهوري فإِنَّه أيضًا ذَهَبَ إلى التعدد، وحينئذٍ يمكِنُ أَنْ يكون مراده ما يَنْتَظِرُها غيركم الذين قَدْ صلَّوْها في مساجدهم وَرَقَدوا؛ أمَّا دعوى السيوطي رحمه الله تعالى فتحتاج إلى تأمل.
باب ُ ما يُكْرَهُ مِنَ النَّوْمِ قَبْلَ العِشَاء(2/324)
ولا بَأس به إذا كان عِندَهُ مِنْ يوقِظُهُ، أو كان مِنْ عادتِه أنَّه لا يَسْتَغْرق وقت الاختيار بالنَّوم. وحَمَل الطحاوي الرخصة على ما قَبْلَ دخولِ وَقْتِ العشاءِ والكراهةَ على ما بعدَ دُخولِهِ.
باب ُ النَّوْمِ قَبْلَ العِشَاءِ لِمَنْ غُلِب
فقسم على الحالات وأَجَازَ لِمن غَلَبَ عليه النَّوم وكَرِهَهُ لمن لم يكُن كذلك.
569 - قوله: (فيما بين أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ)... الخ. قال الفراء - واسمه يحيى : إنَّ الشَّفَقَ هو البياض، قال الإِتْقَاني في «غاية البيان شرح الهداية»: إنَّ الإِمام محمدًا والفراء ابنا خالة، وهو متقدم عن الشيخ ابنِ الهُمَام رحمه الله تعالى، ونَقَل عن الخليل أَنَّ البياض قد يَبْقَى إلى نِصْفِ الليل، وهو باطلٌ عندي، فإِنَّ البياض الذي بعد الحُمْرَة يَعْقُبه الظَّلام والبياضات بعدَهُ تكون غير هذا البياض.
ولنا: ما عند الترمذي «حتى يَسْوَد الأفقُ» وليس هذا السواد إلا بَعْدَ البياض، أمَّا اللغة. فالتحقيق فيه عندي: أَنَّ الشَّفَقَ مِنَ الإِشفاقِ والشَّفَقَةِ هي الرِّقة فهو أَمرٌ بينَ البياضِ الناصع، والحُمْرَة القانية. واعلم أَنَّ الوَقْتَ في اليوم الواحدِ من انبلاج الصُّبحِ الصَّادقِ إلى طُلوعِ الشمسِ، يكون كما بين غُروبِها وغُروب الشَّفقِ الأبيض في ذلك اليوم كذا حققَه الرياضيون.(2/325)
ثم اعلم أنَّ تَرْدِيدَ وَقْتِ العشاء في الأحاديث مِنَ الثُلث والنِّصف إنَّما يُبْنَى على تَرْدِيد القُرْآن في صَلاةِ الليل، قال تعالى: {قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو وزد عليه...} (المزمل: 2 - 4) فقد وزع الله سبحانَه الليلَ كلَّهُ بين وظيفةِ العشاءِ وصَلاة الليل، فإِن جَعَلَ العشاء في النصف بقي النصف الآخر لصَلاةِ الليل، وإِنْ صلاها في الثلث بقي الثُلثان لصَلاةِ الليل وهكذا، وعليه الترديد في النُّزول، فيعلم مِنْ بعض الرِّوايات أَنَّه مِنَ الثُلث، ومِن بعض آخر أنَّه من النِّصف، ورجحَ الحافظُ أنَّه في الثلث الآخر.
والتحقيقُ فيه عندي أَنَّ الكلَّ صحيح، ويفصل بين النُّزول والنزول، فنوعٌ منه يكون على النِّصف، والآخر على الثُلث، ولا نَدْرِي ما كيفيات تلك النزولات، وأي فروق بينها، وسَيَرِدُ عليك تحقيقُ النزول وأشباهه إن شاء الله تعالى.
570 - قوله: (وكان ابنُ عمر رضي الله عنه لا يُبالي أَقَدَّمَها أم أَخَّرَها إذا كان لا يَخْشَى أَنْ يَغلِبَهُ النَّوم)... الخ، وهذا يدلُّ على جواز النَّوم حين أَمِنَ فَوَاتها.
571 - قوله: (قال ابنُ عباس رضي الله عنه: فَخَرج نبي الله صلى الله عليه وسلّمكأنِّي أَنْظُر إليهِ الآن)... الخ، وهذه الواقعة متأَخِرَة جدًا، فإِنَّ ابن عباس رضي الله عنه جاء السنة الثامنة وقد أَدْرَكها، ثُمَّ إِنَّ نحو قوله: (كأَنِّي أَنْظُر)... الخ، سَمَّاهُ النُحَاة استحضارًا وحكاية للحال والظاهر أَنَّه لم يُرِد بذلك بيان التثبُتِ فقط، بل أَرَادَ شِرْكته فيها.
571 - قوله: (على الصُّدْغ وناحية اللحية) وهي في اللغة ما نبَتَت على لحييه. ويقال لها في الهندية: دارهى. لهذا المعنى لأنَّها تنبُتُ على الضرس - داره .
باب ُ وَقْتِ العِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيل(2/326)
وهو مستحبٌ إلى الثُلث، وجائزٌ إلى النِّصف بلا كَرَاهة، وبعدَهُ مع كراهةٍ تنزيهية، كذا حَقَّقَهُ ابنُ أمير الحاج. وإليه ذَهَبَ الطحاوي. واخْتَارَ بعضُهم التحريم إلا أَنَّهم استثنوا منه المسافر، فيجوز له بعد النِّصف بدونِ كَرَاهة.
قلتُ: واستثني المسافر في المغرب أيضًا، فإِنَّ الحنفية إذا قالوا بالجمع الصُّوْري لَزِمَهُم القول بجوازِ تَأْخِيرِها وإِنْ كانت السُّنَّة فيها التعجيل. ونُسِبَ إلى داود الظاهري والحسنِ بنِ زياد من الحنفية أَنَّ وَقْتَ العشاء إلى نِصْفِ الليل.
572 - قوله: (ما انتظرتُمُوها) وقد وَرَدَت في فضيلةِ انتظارِ الصَّلاةِ بعد الصَّلاة أحاديث ولم أتحقق لها صورة العمل غير إشارة في «شرح الموطأ» للباجي: أنَّ السَّلف كانوا يَنْتَظِرون الصَّلاة بعد الصَّلاة وهكذا يُسْتَفَادُ من رِوَاية ابنِ ماجه ووجه التَّرَدد أني لا أرى في السَّلفِ شُهرة جُلوسِهم لانتظار الصَّلوات بعد الصَّلوات مع كَثْرةِ الأحاديث في فضيلتهِ فلا أدري هل المراد به تَعلقُ القلب فقط أو الجلوسُ الحسي أيضًا؟
باب ُ فَضْلِ صَلاةِ الفَجْر
قلتُ: وهذا مِنْ عادات المصنِّف رحمه الله تعالى أَنَّ الحديثَ إذا اشتمل على فائدةٍ، ويريد أَنْ بُنبِّه عليها، فإِنَّه يَذْكُرَها في الترجمة وإِنْ لم يُناسِب سلسلة التراجم، أعني به أَنَّ التَّراجِمَ إِذا تكون عندهُ مُسَلْسَلَة ثم تَبْدُو له فائدة في الأحاديث المستخرجة ويراها مهمة، فلا يَنْتَظر أَنْ يُبَوِّب لها بابًا، مستقلا، ولكِن يُفَرِّغْ عنها في ذيول هذه التراجم؛ وأسميه إنجازًا فقوله: والحديث، أي: الحديث بعد العشاء وإنْ لم يُناسب ذكره ههنا لأنَّه عَقَدَ الترجمةَ لفضلِ صلاة الفجر ولا مناسبة بينَهُ وبين الحديث بعد العشاء إلا أنَّه لمَّا كان مَذْكُورًا في الحديثِ المترجَم له ذكره إنجازًا.h(2/327)
وقد اضطرب في توجيهِهِ الشارحون، ولم يَأْتُوا بشيء فقال بعضُهم: معنى قوله: والحديث أي الذي جاء في فَضْلِ الفجر.
573 - قوله: (كنَّا عند النبي صلى الله عليه وسلّم... الخ، وظاهرٌ أنَّه بعد صَلاةِ العشاء.
573 - قوله: (لا تضامُّون) وهو من الضمِّ أو الضَيمِ بمعنى الظُلم. والمعنى على الأول: أنكم تَرَوْنَهُ بغير مزاحمة بعضهم لبعض. وعلى الثاني: معناه: بغير أن يَظْلِمَ بعضكم بعضًا لا تُضاهون (تمهين شبه نه قال: بريكا).
573- قوله: ({فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ})... الخ، لا أقول إنَّ المرادَ من التسبيح الصَّلاة بل المراد منه هو التسبيحُ المعروف إلا أنَّه ما يكون في ضمن الصَّلاة وهكذا لا أريد مِنْ قوله: «اركعوا واسجدوا» الصَّلاة ابتداء ولكن الركوع والسجود مستعملان في مسماهما؛ ثُمَّ المراد منهما ما يكونان في خِلال الصَّلاة وفائدة هذا التعبير، التنبيه على أَجْزَاء الصَّلاة وتعليمها، وحينئذٍ تَنْسَحب الآية على التسبيحات بعد هاتين الصَّلاتين أيضًا، فالأذكار بعد الفَجْرِ والعَصْرِ متطفلة وتابعة لهما دون الوقت، بخلافِها بعد المغرب فإِنَّها تابعة للمساء والصَّلاة معًا.
574 - قوله: (من صلى البَرْدَين) فيه تغليب. وفي الجامع الصغير للسيوطي رحمه الله تعالى أَنَّ الرؤية إِنَّما تكون في هذين الوَقْتَين، فجاء التَّخْصِيص لهذا، ثُمَّ رَمَزَ عليه السيوطي بالصحة، ومَنْ خَدَمَهُ أَقرَّ أَنَّ تلك الرُّموز من جانب الشيخ رحمه الله، وفي «حادي الأرواح» رواية أَنَّ التميز في الجنة بين الليل والنَّهار، إنَّما يكون بإِرخاء السَّتر، وكشفه بين أهل الجنة، وبين ربهم جل وعلا.
باب وَقْتِ الفَجْر
لمَّا فَرَغَ عَنْ فَضْلِها شَرَعَ في وقتها.(2/328)
قوله: (إنَّ زيدَ بنَ ثابت حدثه)... الخ، وزيد بن ثابت هذا قَدْ دَخَلَ في صلاةِ ليله صلى الله عليه وسلّم ومذهبه في الوترِ كمَذْهَبِ الحنفية، وراجع: «كشف الستر عن مسألة الوتر».
واعلم أنَّ الخِلاف فيهِ بيننا وبين الشافعي رحمه الله تعالى في الاستحبابِ دون الجوازِ فمذهبنا على ما يُعْلَم من كلام الطحاوي، أنْ يَشْرَع بغَلَس ثُمَّ يسفر بها بالإِطالة وهو مذهبُ محمد وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، كما يُستفاد مِنْ كتاب «الحجج» وصرَّح الطحاوي أنَّه قول أَبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله تعالى، ولم يَذْكر بينهم خلافًا، ثُمَّ وجدتُ في كتب أركان النَّقل أنَّه مذهب محمد رحمه الله فقط، ومذهبُ الشيخين أفضلية الإِسفار بداية ونهاية، وحدُّ الإِسفار عندنا أَنْ يَفْرَغَ عنها، وقد بقي عليها من الوَقْت ما لو أَعَادَ فيه صلاته لعارض وَسِعَهُ قبل الطُّلوع مع رعاية السنن.(2/329)
ومذهب الثَّلاثة استحباب التَّغْلِيس بداية ونهاية، فَيَدْخُل فيها كما طلع الفجر، ويفرغ عنها في الغَلَس، ويخالفه ما أخرجه المصنِّف عن ابنِ مسعودٍ رحمهما الله تعالى أنَّه قال: ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّمصلَّى صلاةً في غير وَقْتِها غير ذلك اليوم - يعني الفجر يوم المزدلفة . ومعلومٌ أنَّه لم يُصلِّها في ذلك اليوم إلا وَقَدْ طَلَع عليه الفَجْر، فَعُلِمَ أَنَّ الصَّلاة عَقِيب طُلوعِ الفَجْرِ صلاة في غير وَقْتِها، والصَّلاة في وَقْتِها أَنْ تُصَلَّى وقد دَخَلَت في الإِسفار كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلّم «أسفِرُوا بالفجر...» الخ، ومِنْ ههنا عُلِمَ أَنَّه لا يَصِحُّ حَمْلُه على تَحَقُّق طُلوع الفَجْرِ، فإِنَّك قد عَلِمْتَ أَنَّ الصَّلاةَ كما تَحَقَّقت الفجر كانت بمزدلفة ثُمَّ عدَّها ابنُ مسعود رضي الله عنه في غير وَقْتِها فلا تكون مأمورًا بها مع أَنَّا أُمِرْنا أَنْ نُسْفِرَ بها فالإِسفار هو وَقْتُها على نصِّ الحديث، وهي عند تَحقُّقِ الفجرِ في غير وَقْتِها على ما ذَكَرَهُ ابنُ مسعود رضي الله عنه، فَعُلِمَ أَنَّ الصَّلاة عند تَحقُّق الفجرِ صلاة في غيرِ وَقْتِها.
قال النَّووي: وقد يَحْتَجُّ أصحابُ أبي حنيفة رحمه الله تعالى بهذا الحديث على منعِ الجمعِ بين الصَّلاتين في السفر، لأنَّ ابنَ مسعودٍ رضي الله عنه قد أَخْبَرَ أنَّه ما رآهُ يَجْمَعُ إلا في هذه الليلة، ثمَّ رَدَّ عليه من وجوه منها أَنَّه متروكٌ الظَّاهِر بالإِجماع، لأنَّه لَمْ يَذْكُر الجمع بعرفة أيضًا مع أَنَّه مُجْمَعٌ عليه، ونَقَلَ الحافظُ رحمه الله تعالى رَدَّ النووي وسكت عليه.
قلت: والجمعُ بعَرَفة أيضًا مذكورٌ عند النَّسائي قال كان رَسولُ الله صلى الله عليه وسلّميصلِّي الصَّلاةَ لوقْتِها إلا بجمعِ وعَرَفات، فإِنْ كان خَفي على النَّووي فكيف خَفي على الحافظ.(2/330)
ثم إنَّه نيطت بالإِسفار أَعْظَمِية الأجْرِ، فقال في موضعِ التعليلِ فإِنَّه أعظمُ للأجرِ والصَّلاة قَبْل التحقُّقِ باطلة فضلا عن حصولِ الأَجْرِ لتحصُلَ بعد التحقُّقِ أَعْظَمِية. وفي رواية النَّسائي «كُلما أَسْفَرْتُم،فدَلَّ على مراتب الإِسفار في أَجْزَاءِ يوم واحد، وأَخْذ التكْرَارِ بحَسبِ الأَيَّام بعيدٌ، وعن يزيد الأَودي عند الطحاوي رحمه الله تعالى، قال: كان علي بن أبي طالب كَرَّم اللَّهُ وَجْهَهُ يُصَلِّي بنا الفجرَ ونحن نَتَرَاءَى الشمس؛ مَخَافَةَ أن تكون قد طلعت. وعن عَليّ بنِ رَبيعة قال: سمعتُ عليًا رضي الله تعالى عنه يقول: يا قنبر أَسْفِر أسْفِر. ومثله عن عمرَ بنِ الخطاب أنَّه كان يُنَوِّر بالفجر. كيف لا وقد أُمِرَ أَنْ يُسْفِرَ بالفجر، وراجعه بأسانيده عند الطحاوي، وعنده عن إبراهيم قال ما اجتمعَ أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلّمعلى شيء ما اجتمعوا على التَّنوير، وهو مَحْمُولٌ عندي على بدايتِهم في التَّغْلِيس ونهايتُهُم في الإِسفارِ، كما حملُهُ الطحاوي فافهم.
أمَّا ما تمسُّكوا بما نقل في سُنِّيَّة التغليس حتى إذا استشهد عمر رضي الله تعالى عنه، فليس فيه ما يدلُّ على مَذْهَبِهم، فإِنَّ التَّغْلِيس في البداية لا ننكره أيضًا، وما عَمِلَ به عثمان رضي الله تعالى عنه فهو الإِسفار بداية ونهاية، ليكون خُروجهم في وقتٍ يأمنُونَ فيه، ولا يَخافون أن يُغْتَالوا كما اغْتِيل عمر رضي الله تعالى عنه، وأمَّا ما تمسكوا به ممَّا روي في حديث جبريل عند أبي ادود في سِيَاق تأخيرِ عمر بن عبد العزيز في صلاة العصر أنَّه صلَّى الصُّبحَ مرةً أخرى فأَسْفَرَ بها ثُمَّ كانت صلاته بعد ذَلك التَّغْلِيس حتى مات لم يعد إلى أَنْ يُسْفِرَ. فقوله: لم يعد... الخ علله أبو داود.(2/331)
وعندي له وجه، ومعناه: أنَّه لم يعد إلى الإِسفارِ كما كان أَسْفَرَ بها في اليوم الثاني، وهكذا كان ينبغي، لأنَّ جبريل عليه السَّلام علَّمه آخر وقتها في ذلك اليوم، وقد عَلِمْتَ أنَّا لا نعني بالإِسفار أَنْ يُصلَّي بها بحيث لا يَبْقَى بعدَهُ وقتٌ، أو يَبْقَى وقتٌ لم يَسعْ للصَّلاةِ، أو وسعها لكنَّه لم يَسع لها مع مراعاةِ الآداب. والدليل عليه ما أَخْرَجَهُ أبو داود في حديث جبريل أنَّه: «لمَّا كان من الغَدِ صلَّى الفجر وانصرف، فقلنا: أَطَلَعَت الشمس؟» انتهى. فدلَّ على شِدَّةِ التأخيرِ بحيث توهم منه «طلوع الشمس ونحوه عند مسلم في حديث أبي موسى في قِصة تَعْلِيم الأوقاتِ أعرابيًّا «أنَّه أَخَّر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول قد طَلَعت الشمس أو كادت» انتهى.
(2/332)
فالصَّلاتين في هذين اليومين كانتا في شِدَّة الغَلَس مرةً، وفي شدة الإِسفار أخرى، ثُمَّ جَرَى عَمله على التوسط والذي يَظْهَر أَنَّ العملَ في عهدِ النبي صلى الله عليه وسلّمكان على التَّغْلِيس ولا يجب أن يكونَ بِقَدْرِ ما رامَهُ الشافعية رحمهم الله تعالى مع أَنَّ الزمانَ إذْ ذاك كان زمانَ الشدة في العمل، والنَّاس كانوا يَتَقَيَّدون بصلاةِ الليل، فلم تَكُنِ الجماعة تَخْتَل بالتغليس، ثُمَّ إذا نشأ الإِسلامُ وكَثُرَ المسلمون وعَلِمَ أَنَّ فيهم ضعفًا عَمَلَ بالإِسفار في زمن الصحابة رضي الله عنهم، لئلا يُفضي إلى تقليل الجماعةِ، وقد عَلِمْتَ فيما سَبَقَ أَنَّ بُطْأَ النَّاس وتعجيلهم ممَّا قد رَاعَاه النَّبي صلى الله عليه وسلّمأيضًا، فلو اجتمع النَّاس اليوم أيضًا في التَّغْلِيس لقُلنا به أيضًا كما في «مبسوط السَرَخْسي» في باب التيمم أَنَّه يُستحب التَغْلِيس في الفجر، والتعجيل في الظُّهْرِ إذا اجتمع النَّاس، ثُمَّ إنَّا لا ننازعك أنَّ الأمرَ كيف كان في عهدِ النَّبي صلى الله عليه وسلّمونرجو منك أن تعذرنا في العمل بالإِسفار، فإِنَّا قد أُمِرْنا به بصريحِ النَّص «أسفروا بالفجر» وليرَ كُلُّ امرىءٍ وظيفتَه ولا يبحث مما كان أو يكون، هذا هو الصراط المستقيم فاتبعوه. وبعد فقد نقل السخاوي عن الحافظِ ابن حجر كما في «شرح الإِحياء» أنَّه أقرَّ بكونِ مذهبِ الحنفية أَقْوَى.
والحاصل: أنَّ العملَ قد بقي مشتركًا بيننا وبينهم فلهم أَنْ يَحمِلُوه على مسائِلهم. ولنا: أَنْ نحمِلَهُ على مختارنا، أمَّا القول أي «اسفروا بالفجر» فهو لنا خالصًا إِنْ شاء الله تعالى فناهيك به إمامًا في حديث عائشة رضي الله عنها: «ما يعرفن من الغَلَس» فقوله: «من الغَلَس» ليس مرويًا عن عائشةَ رضي الله عنها، بل هو قياسٌ مِنْ راو آخر، كما يُعْلَمُ من ابنِ ماجه، وفيه «تَعْنِي من الغَلَس».(2/333)
وأمَّا ما عند البخاري «أَنَّه كان يُصلِّي بغَلَس» بطريق العادة فعلى ما علِمت فيه أنه مروي مَتنًا وسندًا عند الدارمي وفيه كان يغلس أو كانوا يغلسون بالشك - بالمعنى - وفي حديثٍ مرفوع «التغليس في الشّتاء والإِسفار في الصيف» وتتبعتُ طرقه فوجدتُ سندَهُ ساقطًا وفي إسنادِه سيف صاحب كتاب «الفتوح» وهو ضعيف بالاتفاق، ثم وجدته في «حلية الأولياء» وليس فيه هذا؛ والله تعالى أعلم.
577 - قوله: (كنت أَتَسحَّرُ في أهلي، ثُمَّ يكونُ سُرْعَةٌ بي أَنْ أُدْرِكَ صلاةَ الفجرِ مَعَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلّم ولعل هذا التَّغْلِيس كان في رمضان خاصة، وهكذا ينبغي عندنا إذا اجتمعَ النَّاس، وعليه العمل في دار العلوم بديوبند من عهد الأكابر.
باب ُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الفَجْرِ رَكْعَة
باب ُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلاةِ رَكْعَة
أخرجه أَوَّلا بتخصيص العصر، ثُمَّ بتخصيصِ الفجر، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مطلقًا، باب مَنْ أَدْرَك من الصَّلاة رَكعة، فأَمْكَنَ أَنْ يَكُون إشارةً إلى أَنَّ الحديثَ في العصرِ والفجرِ أيضًا في حَقِّ المَسْبُوق، كالحديث المُطْلَق، وقد مرَّ تقريره.
باب ُ الصَّلاةِ بَعْدَ الفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْس(2/334)
توجه المصنِّف رحمه الله تعالى إلى مسألةِ الأوقاتِ المكروهةِ، وَقَدْ وَقَعَ فيها انتشار كثير، ووجهُه: أنَّ الأحاديثَ تَنهَى عن الصَّلاة في تلك الأوقات، ثُمَّ تَرِدُ أحاديث أخرى بجوازِ الصَّلاةِ فيها، وقد تَنْسَحِب بعمومِها على تلك الأوقاتِ فَيَحْدُثُ التجاذب بين العمومين، فمنهم مَنْ يَتَحرى أحاديث النَّهي على عمومِها ويخصص بها أحاديث الجواز ومنهم مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الشريعةَ إذا وَرَدَتْ بالصَّلاة في تلك الأوقاتِ بعينها، فما لنا ألا نخصصها من تلك العموماتِ، كما في الرَّكعتين بعد العصر، فعموم قوله: «لا صلاة بعد العصر حتى تَغْرُبَ الشمس» يُوجِبُ نفيها، وخصوصُ ثبوت هاتين الرَّكعتين يُوجِب تخصيصهما عن هذا العموم. فهذا هو سِرُّ الخلافِ بين الأئمة رحمهم الله تعالى.
واعلم أَنَّ الأوقات المكروهة عندنا خمسة:(2/335)
الطلوع، والغروب، والاستواء. وهذه الثلاثة لا تجوز فيها الصَّلاةُ مطلقًا، لا صَلاة جنازة، ولا سجدة تلاوة إلا عصر يومه، وأمَّا بعد الفجرِ حتى تَطْلُع الشمس، وبعد العصر حتى تَغْرُبَ الشمس، فيكره فيهما التَّنفُّل، ولا بأس بأن يُصلَّى في هذين الفوائت وسجدةَ التلاوة، والصَّلاةَ على الجنازة. وإنَّما فَرَّقنا بين حكمها لوضوحِ معنى الكَرَاهة، فإِنَّها في الثلاثة الأول لمعنى في الوقتِ وهو مقارنةُ الشيطان، فاستوى فيها الفرائض وغيرها، وأمَّا في الأخيرين فقد ظَهَرَ أَنْ لا كَرَاهة في الوقتِ، ألا تَرَى أَنَّه لو نَوَى فَرْضَ الوقتِ فيهما، أو شَغَلَهُ بالإِطالة جاز. فالكراهةُ لحقُ الفَرْضِ لا لأَجْلِ الوقْتِ، ولو كانت للوقْتِ لَمَا جازَ تأخيرُ الفَجْرِ والعصر إلى آخر وقتها، وَلَمَا وَرَدَ النهيُ بعد ما قبلها علمنا أَنَّ الكراهةَ فيهما لمعنى في غير الوقت، وهو حقُّ الفَرْضِ ليصير الوقتُ المشغول به فلم تَظْهَر في حق سائرِ الفرائض، وما في معناها وهي الواجبات بعينها كسجدةِ التِّلاوةِ بخلافِ رَكْعَتيِ الطَّوافِ لأنَّ وجوبَها لغيرِه، وقد تَعَسَّرَ الفَرْقُ على شارحي الهداية بين سجدةِ التِّلاوة، وركعتي الطواف، فراجعه وحرره.
والحاصل: أَنَّ الحنفيةَ قالوا بكراهةِ تلك الأوقاتِ كلِّها لأجلِ قيامِ الدَّليل. واعترض عليه الشيخ ابن الهُمَام: أَنَّ النَّهْيَ في هذين الوقْتَيْن أيضًا مطلقٌ كما في الثلاثةِ المذكورةِ، وتخصيصُ النَّص بالرأي لا يجوزُ ابتداءً.
(2/336)
أقول: أمَّا مسألةُ التَّخْصِيص بالرأي فهي ما ذَكَرَهُ الشيخ وإنْ كان عَملُهم بخلافها، فإِنَّهم يُخصِّصُونَ الأحاديثَ في الأخلاقِ والمعاملات بالرأي بلا تساؤل؛ نعم، يتأخرون عن تَخْصِيصِ أحاديث العباداتِ، وذلك لانجلاء الوجُوهِ في الطائفة الأولى وخفائِها في الثانية، وقد صرَّح ابنُ دقيق العيد أَنَّ الوجه إذا كان جليًا جازَ التخصيصُ بالرأي بلا نَكير على أنَّه ليس تَخْصِيصًا ابتداءً، بل خَصَّصَ منه الوتْرَ، فعند الدَّارَقُطْني: «من فاتَ عنهُ وِتْرُهُ فليصلِّها بعد الصُّبح - بالمعنى - وصَحَّحهُ العراقي في «شرح الترمذي» وهو عند أبي داود أيضًا إلا أَنَّ لفظَهُ: «فليصَلِّها إذا ذَكَرَها». وعند الترمذي «فليصلها إذا أصبح». وهو مرسلٌ قوي الإِسناد، وعنده مرفوعًا أيضًا إلا أَنَّ فيه عبد الرحمن بن زيد بن أَسْلَم، وهو ضعيفٌ.
والحاصل: أنَّ النَّهيَ وإنْ ورد في كلِّها إلا أنَّ الإِمامَ فَرَّقَ بين حكمها لمَّا رأى من اختلافِ شاكلة الشريعة فيها، فإِنَّها عَلَّقتِ النَّهي في هذين على الفجرِ والعصر، فدَلَّ على أنَّه ليس فيهما ما يُوجِبُ نُقْصَانَ الوقت، ثم ثَبَتَ عنه صلى الله عليه وسلّمالرَّكعتين بعد العصر أيضًا، فَدَلَّ على أَنَّ فيهما صلُوحًا وتوسعًا، بخلافِ تلك الثلاثة؛ وأمَّا الآخرون فَلَم يُفَرِّقوا بينهما وتَرَكُوها على شَاكِلةٍ واحدة. فَنَظَرُ الحنفية دقيق.
وأمَّا مالك رحمه الله تعالى فأَسْقَطَ الاستواء مِنْ بينِ الأوقاتِ المكروهةِ، وَجَوَّزَ في الأربعةِ الفرائضَ دون النَّوافِل، ولعلَّه رَأَى أَنَّ الفَرائِضَ مِنْ إقامةِ اللّه فلا بَأْسَ باستثنائِها لقوتِها، فأَخْرَجَها عن النَّهي بخلاف النَّوافِل فإِنَّها مِنْ تِلْقَاءِ العبد.(2/337)
وأمَّا الشافعي رحمه الله تعالى فوافقنا في اعتبارِ الخَمْسةِ إلا أنَّه جَوَّزَ فيها الفرائضَ، والواجبات، وذوات الأسبابِ مِنَ النَّوافِل، ولم يُفَرِّق بينهما في الحُكْمِ كمالك رحمه الله تعالى، وإنَّما فَرَّقَ في النوافل بين ذواتِ الأسبابِ وغيرِها، لأنَّ النَّوافِلَ التي أقامَ الشرعُ لها أسبابٌ ورَغَّب فيها بنفسِها بدونِ تفصيلٍ كتحية المسجد - فكأنَّها خارجة عن قضيةِ النَّهي من جهته فليتركها على حالها - جائزة في جميع الأوقات. وأمَّا التي لا أَسْبَابَ لها مِنْ تِلْقَاءِ الشَّرع بل هي في طوع العبد إِنْ شاء فعل وإِنْ لم يَشَأ لم يَفْعَل، لا تَرْغيب فيها بخصوصِها فليمتنع عنها في تلك الأوقات.
قلتُ: ولعلَّك عَلِمْتَ أنَّ الصَّلوات كلَّها إذا جازت في تلكَ الأوقات - المكتوباتِ، والتطوعاتِ من ذواتِ الأسباب ، خَرَجَ أَكْثَرُ الأَفْرَادِ من أحاديث النَّهي، ولم يَبْقَ تَحْتَها إلا غير ذواتِ الأسباب من النَّوافِل، فصار عمومها قليل الجَدْوَى مَعَ صحةِ الأحاديثِ فيها بل تواترها في الوقتين الأخيرين، كما قال به أبو عمرو. فأخذناها بالنواجذ وعَمِلْنا بها مهما أمكنَ وجَعَلْنَاها أُسوة في البابِ، وسائرها مخصوصة بخلاف الخُصوم فإِنَّهم قد عَكَسوا الأمرَ وخَصَّصُوا الأحاديث العامَّة والضوابطَ الكلِّية بكل واقِعة وَرَدَت عليهم فأشعر به أيهما أولى؟ إلقاء الصَّلواتِ في أوقاتِ الشيطان أو صونُها عنها؟(2/338)
وَذَهَب بعضُ السَّلَف إلى جواز الصَّلاةِ بعد العصر والفجر، وحملوا النَّهيَ على سَدِّ الذرائعِ أي لِئَلا تَقَع صلواتُهم في عين الطُّلُوع والغروب، فالأوقاتُ المكروهة عندَهُم ثلاثة، والنَّهيُ عن هاتين الصَّلاتين ليس لكونِهما مِنَ الأوقاتِ المكروهة بل صِيانَةً للصَّلواتِ عن الوقوع في عينيهما، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلّم «لا يتحرَّى أحدكم فيصلِّي عند طلوعِ الشمس وعند غروبها». فالنُّطقُ وإِنْ كان بعد الطُّلوع وبعد الغروب إلا أَنَّ المحط هو عين الطُّلوع والغروب، وأنت تَعْلَم أَنَّه لم يَبْقَ حينئذٍ تحت أحاديث النَّهي عن هاتين الصَّلاتين فَرْد، وبقيت الأحاديث بلا مصداق.
582 - قوله: (لا تَحَرَّوْا بصلاتِكُم طلوعَ الشمسِ ولا غُروبَها) قال الشافعية رحمهم الله تعالى: إنه لا دَخْل لتحري العبد في الفرائضِ وكذا في ذواتِ الأسبابِ مِنَ النَّوافِل فإِنَّها ليست من تَحَرِّيه، وإنما هي مِنْ جِهَةِ الله تعالى، فلم تَبْقَ تحتَهُ إلا غير ذواتِ الأسباب، وهي التي فيها دَخْلٌ لتَحَرِّيهِ، وقد مرَّ أنَّ ظاهرَهُ أَوْفَقُ مِمَّا ذهب إليه بعض السلف.(2/339)
قلتُ: إذا صَدَعَ الشرعُ بكونِ الأوقاتِ الثلاثةِ أوقاتًا للشيطانِ، وبيَّنَ معنى الكراهة لكلِّ ذي عينينِ، فالجمودُ على ظاهرِ لفظِ التَّحرِّي لا نَدْرِي أهو مِنْ لَفْظِ النبي صلى الله عليه وسلّمأَوْ مِنْ جِهَةِ الرَّاوي جمود جامد، ثُمَّ إنَّك إنْ كان عندَكَ ذوقٌ مِنَ العربية فافهم أَنَّ قوله: «لا تَحَرَّوْا» ليس مدارًا للحُكْمِ بل تقبيحٌ عليه أيُّ تقبيح، فإِنَّه إذا تهاونَ في أَمْرِ الصَّلاة وفَعَلَ فِعْلَ المُنافِقِ ولم يحافظها على ما أَمَرَه الله، فصلاها متى أَرَادَ فكأنَّه أَلْزَمَهُ أنَّه يتحرَّى بذلك طلوع الشمس، فتهاونُه وقِلةُ مبالاتِه أُقيم مَقَامَ التَحرِّي على حد قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ} (البقرة: 210) فكأَنَّ تأخرهم عن تصديق الرُّسل وتأخيرهم فيه أُقيمَ مَقَام نَظَرِهم إلى إتيان اللّه في ظُلل من الغمام، فإِذن هو لمزيدِ التقبيح، وراجع الطيبي للفَرْقِ بين قوله: «لا تَحَرَّوْا بصلاتكم» وقوله: «لا يَتَحَرَّى أحدكم فيصلي»... الخ.
- قوله: (وقبل أن تغرب) وقد مرَّ مني أنَّ المرادَ منه قبل الاصفرار وهو الغروب الشرعي، والصَّلاة بعده مكروهة، فلا يَدْخُل في سياقِ التعليم، وأمر القرآن أرفع منه، فلا يُحْمَل نَظْمُه إلا على الأحب فالأحب في نظر الشارع، ولذا أقول: إنَّ المرادَ من قوله: {مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ} (المزمل: 20) ليس هو الآية، لأنَّه يُوجِب أَن تدخل الكراهة في نَظْمِ النَّص.
584 - قوله: (نهى عن بيعتين) لمَّا ذَكَرَ الراوي تثنية واحدة، وهي النَّهي عن صلاتين أَرَادَ أَنْ يَذْكُر معهما تثنية أُخْرَى، وهي النَّهي عن بيعتين وإِنْ كانت من باب آخر.
باب لا يَتَحَرَّى الصَّلاةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْس(2/340)
ولعلَّ البخاري لا يريد تفصيلا بين التَحري وعدَمِه، وإنَّما كان عندَهُ لفظٌ في الحديث، فأحب أَنْ يُترجِم به كما هو، أو يُقال: إنَّه لم يَسْنَح له فصل في الجانبين، وكان في اللفظِ صَلُوحٌ لهما فأَبْقَاهُ على حالِه، فَخَرَجَ من عُهدَةِ بتِّ القولِ في مَوضِع كَثُرَ فيه الاختلاف، ثُمَّ أقولُ: إِنه يُستفاد مِنْ تَراجِمه إطلاقُ النَّهي في الفجر فلم يفصل، ولعلَّهُ لا يُجيز سُنَّة الفجر بعد رَكعَتَيْهِ.
وأمَّا حديث قيس بن فَهْد فليسَ على شرطه، فَتَرَكَهُ ولم يَنْظُر إليه، وهو مرسلٌ كما عند الترمذي، ووصَلَهُ بعضُهم أيضًا. وأمَّا العصر فقد أَلانَ الكلامَ فيها، وأرَادَ أَنْ يفصل لما عنده حديث في الركعتين بعد العصر، وعن عمر رضي الله عنه أنَّه كانَ يُعَزِّرُ مَنْ صَلاهما، فألان الكلامَ لهذا التعارض وَوَسَّع.
587 - قوله: (ولقد نَهَى عنهما يعني الرَّكعَتَين بعد العصر) وعلى الهامش «يصليها» بالضمير المفرد وهكذا في أكثر المواضع لا يَزَال فيه تبادل النسختين في الهامشِ والصلب، فدار النَّظر في أَنَّ الحديثَ عنده في خُصوصِ هاتين الرَّكْعَتين أو الحديث عنده، هو الحديث العام فقط، ثُمَّ يذكر النهي عنهما تمسكًا بالعموم.
قلتُ: إِنْ كانَ عندَه حديثٌ مستقل في النَّهْي عن هاتين الرَّكعتين فهو نصٌّ لنا في البابِ، وتكون المسألة في غايةِ القُوَّةِ وإن أَدْخَلهما في عموم قوله: «لا صلاةَ بعد العصر... الخ» فليس نصًا فيه، بل يكونُ ظاهرًا ولا تَبْقَى فيه تلك القوة، وكيفما كان فالحديثُ حجةٌ لنا لأنَّ الظَّاهِرَ وإن لم يَكُن كالنَّص إلا أَنَّه لا ينحَطُّ عن كَونهِ على ما أخرجَهُ البخاري يَدلُّ على كونِه حُجَّةً نصًا فيه. وفيه: «سمعتُك تَنْهَى عن هاتين الرَّكعتين هناك تُصلِّيهما» مكان الضمير فليجري فيه اختلاف أَفْرادِ الضميرِ وتثنيته، وهذا صريحٌ في بَعْضِ النَّهي فيه مستقلا، وإذن لا يكونُ مِنْ بابِ التمسكِ بالعموم.(2/341)
باب ُ مَنْ لَمْ يَكْرَهِ الصَّلاةَ إِلا بَعْدَ العَصْرِ وَالفَجْر
واعلم أَنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى لم يُعد الاستواء من الأوقات المكروهة، وكأَنَّه لم يَصُح فيه حديث على شرطِهِ فتَرْجَمَ على نفيه، فبقيت مِنَ الخَمْسِ أربع، ثُمَّ لفها في اثنين بحيث أَخَذَ الوقت بعد الفجر أي عين الطُّلوعِ فاستتبع الطلوع أيضًا، وكذلك فَعَلَ في العصر، فأخذ بعد العَصْرِ إلى عينِ الغروب، فانْدَرَج عين الطلوع والغروب تحت الوقتين بعد الفجر وبعد العصر، وحينئذ ظَهَر معنى الحصر في الترجمة أي قوله: «إلا بعد العصر والفجر» ولا يدري أَنَّه أَرَادَ بذلك الصَّدْعَ بموافقه مالكٍ رحمه الله تعالى أو الإِغماض عنه فقط، لفقدان الدَّليل على شَرْطِهِ ثم لا يَخْفَى عليك أَنَّ الاستواء وإِنْ أَغْمَضَ عنه المصنِّف رحمه الله تعالى إلا أَنَّه صَحَّتْ فيه عدة أحاديث عند مسلم وابن ماجه وغيرهما.
باب ُ مَا يُصَلَّى بَعْدَ العَصْرِ مِنَ الفَوَائِتِ وَنَحْوِهَا
ولعلَّ المصنِّف رحمه الله تعالى وَافَقَ في الفَجْرِ مذهبَ الحنفية، فَتَرَكَ النهي فيه على إطلاقه، ولم يفصح فيه بتخصيص، فَدَلَّ على أَنَّ مَنْ فاتته سُنَّة الفَجرِ يَقْضِيها بعد طلوع الشمس، ولا يُصلِّيها بعد رَكْعَتَي الفجر. وأما حديثُ قيس بن فَهد فقد عَلِمْتَ أَنَّه ليس على شَرْطِه فلم يَنْظُر إليه، ولعلَّهُ يَضَع ترجمة التَّحَرِّي في الفجر إشارةً إلى هذا، وَوَضع في العصر ثلاثَ تراجم تُشِيرُ إلى التَّخْصِيص فيه، مَعَ أَنَّ شاكِلَةَ الحديث واحِدة فيهما، وذلك لعَدَم التَّفْصِيل عندَهُ في الفجر بخلافِ العصر.(2/342)
ثُمَّ إنَّ الشَّارِحَيْنِ الحافِظَيْن اختلفا في أنَّه ماذا أَرَادَ بزيادة «نحوها»؟ فَحَمَلَها كُلٌّ منهما على مسائِله، فَأَرَادَ بها الحافظُ ابنُ حجر: غير ذوات الأسباب مِنَ النَّوافِلِ، والحافظ البدر: الواجبات لعينها ونحوها من الصَّلواتِ التي جازت في هذا الوقتِ عنده.
قلتُ: لمَّا ثَبَتَت الرَّكعتان بعد العصر عند المصنِّف رحمه الله تعالى أَضَافَ في ترجمته نحوها، وأَجْمَلَ في الكلامِ للتردُّدِ عنده، ليَنظُر فيها العلماء، فهذا هو غَرَضُ المصنِّف رحمه الله تعالى عندي، أَمَّا إنَّه أَرَادَ بها ما اخْتَارَهُ ابنُ حجر أو ما ذَهَبَ إليه الحافظُ العيني، فَلَعَلَّهُ بمَعْزِلٍ عن نَظَرِهِ، لأنَّه لم يَرِد فيه الجزم بأحدٍ من الطرفين. وإنَّما أَبْهَم إحالة على النَّاظرين.
590 - قوله: (وكان يُصَلِّي كثيرًا من صَلاتِهِ قاعدًا تَعْني الرَّكعتين بعد العصر) وقد ذَكَرَهُ الراوي في غيرِ موضعِهِ، فإِنَّه لا تَعلُّق له بقوله: «قاعدًا» وإنَّما هو تفسيرٌ للضمير في قوله: «ما تركهما حتى لقي اللّه» فينبغي أَنْ يَذكُرَه مقدمًا لئلا يَخْتَلَّ الترتيب والمعنى، فاعلمه.
بقي الكلامُ في هاتين الرَّكعتين، ففيهما اضطراب من وجوه، فعندَ الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «إنَّما صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّمالرَّكعتين بعد العصر لأنَّه أتاه مالٌ فشَغَلَهُ عن الرَّكعتين بعد الظُّهْر فصلاهُما بعد العصر ثم لم يعد لهما» قال الترمذي: وحديث ابنِ عباس رضي الله عنه أصح، حيث قال: «ثم لم يَعُدْ لهُما» اه.(2/343)
وهذا صريحٌ في أَنَّه صَلاهُما مرَّةً واحدة فقط. ولم يداوم عليهما، وإنَّما كان حديثُ ابن عباس رضي الله عنه أَصَحّ من حديثِ عائشة رضي الله عنها لِمَا يأتي فيه من الاضطرَاب. قال الحافظُ: وفيه جَرِير عن عَطَاء، وسماعهُ منه بعد الاختلاط، وحديثُ عائشة رضي الله عنها هذا، يَدُلُّ على المُدَاوَمَةِ عليهما، حيث قالت: والذي ذهب به ما تَرَكهما حتى لقي اللّه.
ثُمَّ عند أبي داود عن عائشةَ رضي الله عنها نفسها: أَنَّها رَدَّتِ الأَمرَ إلى أُمِّ سَلَمَة رضي الله عنها حين استَخْبَرُوها عنهما، كأَنَّه لم يَكُن عندَها علمٌ بهما. وعند الطحاوي: أَنَّ معاويةَ رضي الله عنه أَرْسَلَ إلى عائشةَ رضي الله عنها يسألها عن السَّجْدَتَيْنِ بعد العصر، فقالت: ليس عندي صلاهما، ولكن أم سلمة حَدَّثَتني أَنَّه صَلاهُما عندها... الخ ولو قَطَعنا النَّظر عن هذا الاضطراب فهي بنَفْسِها تقول: إِنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّمكان يُصلِّي بعد العصر ويَنْهَى عنها، ويُواصِل ويَنْهَى عن الوِصَال، فحديثُ عائشة رضي الله عنها ليس دليلا على جواز الصَّلاة بعد العصر أصلا أو هو دليلٌ لنا لصراحتها أَنَّها كانت من خصائص النبي صلى الله عليه وسلّمكالوِصَال.(2/344)
أَمَّا إِحْداثُ مرتبة أُخْرَى فيه، والادعاء بجواز نفس الصَّلاة، وإرجاع الخُصوصية إلى المُداوَمَة، فتجريد منطقي لا يُعْتَبَرُ في كلام الشارع، ثُمَّ قد عَلِمْتَ أَنَّ أَصْلَ الخبر كان عند أُمِّ سلمة رضي الله عنها، ولذا أَدَّت إليها عائشة رضي الله عنها حين سُئِلت عنها فهي التي تَرْوي عن النَّبي صلى الله عليه وسلّمبإِسنادٍ فيه زيد بن هارون أنا حماد بن سَلَمَة عن الأَزرق بن قيس عن أُمَّ سَلَمَة رضي الله عنها قالت: يا رسولَ الله أفنقْضِيَهما إذا فاتتا؟ قال: «لا». فما ترى فيها الآن؟ وغايته ما اعتذروا عنه أَنَّ يزيد بن هارون عن حَمَّاد فيه شيء.
قلتُ: وقد تتبعتُ له مسلمًا فوجدتُ أنَّه أَخْرَج عِدَّةَ أحاديث بها الإِسناد.
ومرَّ عليه السُّيوطي في «الخصائص الكبرى» وصححه، وهو في «مسند أحمد» أيضًا، فإِذن هو في أَعْلَى مرتبةِ الحَسَن لذاته، وعند الطحاوي بأسانيد عديدة: أَنَّ عمر كان يُعَزِّرُ مَنْ كان يُصلِّي بعد العصر وذلك بمحضرٍ من الصحابة رضي الله عنهم، ولم يُنكِرْ عليه أحدٌ أيضًا، وعند الطحاوي عنه: أنَّه طَافَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمسِ، ولم يُصَلِّي رَكعتي الطَّواف حتى بَلَغَ ذو طَوَى. أَخْرَجَهُ موصولا، والبخاري معلقًا، وما ذلك إلا لخُروج وَقْتِ الكراهة. وقد صرَّح الترمذي بعبارةٍ كاد أَنْ تُومىء إلى إجماعهم على ذلك. وهذا نصه: والذي اجتمعَ عليه أَكْثرُ أهلِ العلم على كراهية الصَّلاةِ بعد العصر حتى تَغْرُبَ الشمس، وبعد الصُّبْح حتى تَطْلُع الشمس، إلا ما استُثْنِيَ من ذلك مثل: الصَّلاةُ بمكة بعد العصر حتى تَغْرُبَ الشمس، وبعد الصُّبْح حتى تطلع الشمس يعد الطَّواف. اه.
(2/345)
كيف لا وقد تواتَرت الأحاديث في النَّهي عن الصَّلاةِ في هذين الوقْتَيْن أَمَّا ما وَرَدَ فيه من الاستثنَاءِ فهو ضَعيفٌ عندَهُم وفي كتاب «النَّاسخ والمنسوخ» عن الأَثْرَمِ أَنَّه كان يقول: حديثُ عائشة رضي الله عنها في مُدَاوَمَةِ الرَّكعتين بعد العصر معلولٌ. وَنَقَل ابنُ الجوزي عن ابنِ عقيلٍ: أَنَّ النَّهيَ عن الصَّلاةِ بعدَ العصرِ والفجرِ لِئَلا يُلْزَم الدُّخول في عين الطُّلُوع والغروب، فالممنوعُ هو الوصل، كما هو مذهبُ بعضِ السَّلَف، ومنه ظَهَر وَجْهُ الجمع بين النَّهي عن الوصالين، قال القاضي ابن العربي: إِنَّ العِلَّة وإِنْ أَوْجَدَت الحُكْم ابتداءً لكن الحكم يَدُورُ على لَفْظِ الحديث انتهاءً. وقال علماءُ الأصول: إِنَّ الحِكْمَةَ لا يجب طَرْدُها وعَكْسُها والذي يَجِبُ فيه ذلك هو العِلَّةُ الفقهية، والنَّبي صلى الله عليه وسلّملمَّا كان مأمونًا عن هذا التَّخْلِيط، ساغ له أَنْ يُصلِّيهما بعد العصر.
وأَخْرَجَ السُيوطي رحمه الله تعالى: أنَّ أبا أيوب الأنصاري كان يُصلِّي بعد العصر في زمنِ عمر رضي الله عنه، فرآه عمر وهَدَّدَهُ على عادتِه في هاتين الرَّكعتين، فقال له أبو أيوب رضي الله عنه: لا أَتْرُك شيئًا كنت أَفْعَلُه في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلّم فقال له عمر رضي الله عنه: مالي ولك؟ إنَّما أَنْهَى عنها سدًّا للذرائع. وهذا يَدُلُّ أَنَّ مذهَبَهُ فيهما كمذهبِ بعضِ السَّلَفِ، وإذا عَلِمْتَ حال هاتين الرَّكعتين، فانصف من نَفْسِك أَنَّ العَمَل بهمَا أَوْلَى أو بالنَّهي الذي تواتر عنِ النَّبي صلى الله عليه وسلّم ولِمثْل هذا تركهما الدارمي، وعَمِلَ بقول عُمَر رضي الله عنه، وإليه مال أكْثَر السَّلَف.(2/346)
وأعلى ما في الباب عندي ما عن الليثِ بن سعد في «الطبقات» ونَقَلَهُ العيني: أَنه حَضَرَ بمكةَ في سَنَةٍ - أراه ثلاثة وثمانين - في موسمِ الحج، وانكَسَفَتْ الشمس بعد العصر، فلم يُصلوا صلاة الكُسوفِ مع كَونِها من ذواتِ الأسباب، فسألوا: أَنَّهم لِمَ لا يُصَلُّون صلاة الكُسُوفِ فقالوا: لكَرَاهةِ الوقتِ، وكان ذلك بمَحْضَر أُلوفٍ من التابعين رحمهم الله تعالى والصحابةِ رِضْوَان الله تعالى عليهم أجمعين.
وليث هذا حنفي كما صَرَّح به ابن خَلِّكان في كتاب «الخَراج» وقال الشافعي رحمه الله تعالى في حقه: إنه ليس عندنا بأدون من مالك رحمه الله تعالى إلا أَنَّ أصحابَهُ ضَيَّعُوهُ. وهذا الليث يَرْوِي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في باب قِراءَةِ الفاتحة خلف الإِمام عند الطحاوي رحمه الله تعالى، وقد نَقَلْنَا صورةَ الإِسنادِ فيما سَلَف. ثُمَّ لا يَخْفَى عليك أَنَّ تَقلِيدَ مثل الليثِ كتقليدِ المتقدمينَ. وفي مُسْنَدِ الدارمي: أَنَّه لمَّا حَدَّثَهُم حديث عائشة رضي الله عنها سألوه عنه، قال: وإنَّما عَمَلي على ما عَمِلَ به عُمر.
وإنَّما كان يَعْمَل بهما ابنُ الزبير رضي الله عنه تَعَلَّما مِنْ عائشة رضي الله عنها كما هو عند المصنِّف رحمه الله تعالى في الحجِّ قال: رأيتُ ابنَ الزبير رضي الله عنه يُصَلِّي رَكعتين بعد العصر، ويُخْبِر أَنَّ عائشةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّملم يَدْخُل في بيتها إلا صلاهما. قال الحافظُ رحمه الله تعالى: وكان ابنُ الزبيرِ فَهِمَ منه ما فَهِمَتْهُ عائشة رضي الله عنها، أي أَنَّ النَّهي عن الصَّلاةِ بعد العصر، مُخْتَصٌّ بِمَنْ قَصَدَ الصَّلاة عند غروبِ الشمس.(2/347)
ثُمَّ يَظْهَر مِنَ الرِّوايات أَنَّهما رَكْعَتَانِ فاتتاه بعد الظُّهْرِ فقضَاهُما بعد العصر، ومِنْ سُنَن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام أَنَّهم إذا فَعَلوا عِبَادةً مرةً داوموا عليها، وكثيرٌ من عبادتِنا من شَعَائِر عباد اللَّه، كما مرَّ عن الطحاوي رحمه الله تعالى.
باب ُ التَّبْكِيرِ بِالصَّلاةِ فِي يَوْمِ غَيم
واعلم أَنَّ التأخيرَ مستحبٌ عندنا في جميع الصَّلواتِ غير المغرب مطلقًا، والعصر والعشاء يوم غيمٍ فقط. وعند الشافعية رحمهم الله تعالى: يُستحبُ التعجيل في جميعها غير العشاء.
باب ُ الأَذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الوَقْت
وفيه حديث ليلةِ التعريسِ، والمسألةُ فيه عندنا أَنَّ الفَوائِتَ إذا اجتمعت فإِنَّه يُؤذِّنُ فقط ويقيمُ لسائِرها، ثم إِنَّ سُنِّيةَ الأذان لا لفائتة مَحْمُولٌ على ما إذا قضاها في البيت، أَمَّا إذا قَضَى في المسجد فلا يُؤذَّنُ لها.
ثم إنَّ واقعةَ ليلَةِ التعريس واحدة عند القفول من خَيْبَر ولا بُدَّ. ومنهم مَنْ زَعَم أَنَّها متعددة نظرًا إلى تَغَايُرِ الألفاظِ وتَصَرُّفات الرُّواة وهو بعيدٌ عندي.(2/348)
595 - قوله: (إنَّ الله قبضَ أرواحكم) وقبضُ الروحِ عند العامة: أَنْ يَذْهب الله بها، وحقيقته ما نبَّه عليه السُّهَيْلِي، وحاصله: أَنَّه قريبٌ مِنَ الغَطِّ والضَّغْطِ كَضَمِّ الأصابع على شيءٍ، وجعله صغيرًا بعد ما كان كبيرًا، مثلا: كأن عندك قُطْن مَنْفُوش فقبضته وضممت عليه أصابعك، فجعلته صغيرًا في يدك بهذا القبض بعدما كان منتفخًا في الخارج، وقبض الله سبحانه الأرواح عبارة عن تعطيلها عن بعض الأفعال، بعدما كانت ساريةً في الجسم تحركها، فإذا قُبِضَت فقد تَعَطَّلَت عن بعض أفعالِها كما تَرى في النوم. وترجمته في الهندية - بهينجنا - فالتوفي والإِرسال في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا}... الخ، عبارة عن تعطيلِها عن بَعضِ الأفعال ثم ردها إليها وإذا أراد الله أَنْ يتوفاها توفى الميت، فَيَقْبُضُ الأرواح قباضًا لا إرسالَ بعدها، فتتعطَّل عمَّا كانت تُشغَل فيه بالكلية، وهو بإِخراجِها عن أجسادها، لأن التَّعطُّلَ بالكلية لا يكون إلا بذلك، فإِنها ما دامت في الأجسادِ لا تزال تْشغَل ببعض تدبيرها، فإِذا نُزعت عنها وأُخرجت فقد تعطَّلت عن تدبيرها مطلقًا، ولم يَبْقَ لها معها تعلُّق التدبير أصلا. فهذا أيضًا نوعٌ من القبض، وهو القبض التام.(2/349)
وحينئذٍ انكشف معنى قوله صلى الله عليه وسلّمعند أبي داود: «ما من أحدٍ يُسلِّم عليَّ، إلا ردَّ اللَّهُ عليَّ رُوحي، فأُسَلِّمُ عليه» - بالمعنى - أي كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّممُعَطَّلا عن ذلك الجانب، مشغولا بجناب القُدُس، فإِذا سُلِّمَ عليه يَرُدُّ الله عليه روحه ويُشْغِلُه بذلك الجانب، حتى يَرُّدَّ عليه السلام، وليس معناه الإِحياء والإِماتة، وهو ما أرادَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفي عذر بلال عن نومه: «إن اللّه قَبَضَ أرواحَكم حين شاء، وردَّها حين شاء». ومعلومٌ أن بلالا لم يَتَوَفَّ كالميت، ولم تَخْرُج رُوحُه من جسده، ليكون الردُّ بمعنى إعادتها فيه، بل بمعنى أنها كانت تعطَّلت عن أفعالِ اليَقْظان، فلم تقدِر أن تُوقِظَ أحدًا وتحفظَ ما يحفظه ولكن اللّه سبحانه إذا ردَّها عليه، شُغِلت فيما تُشغل فيه أرواح الناس في اليقظة، وقَدَرَت على ما كانت تَقدِرُ عليه من قبل. فهذا هو حقيقته إن شاء اللّه تعالى، فذقه واحفطه في وعائك، وأَشْرِكْنَا في دعائك.
أما الفرقُ بين الروح والنفس، فألطف ما وجدته في كلام السُّهيلي، وَنَبْذَة منه: أنه شيءٌ واحدٌ تغايرت أسماؤه بتغايُرِ صفاته، فيُسمَّى روحًا باعتبار تجرُّدِه، ويسمَّى نفسًا باعتبار تعلُّقِه بالبدن، واكتسابه المَلَكات الردية كالماء، فإنَّه ماءٌ ما دام في الخارج، وإذا تشرَّبته الشجرةُ، فتغيَّرت أوصافه، يُسمَّى باسمٍ آخر، حتى لا تبقى له أحكام الماء، ولا يجوز به الوضوء.(2/350)
595 - قوله: (فلمَّا ارتفعت الشمسُ وابْيَاضَّتْ)، ولعلَّك تدري وتَفْهَمُ أنه لماذا ارتقب الارتفاع والابيضاض، ولم يُصلِّها إذا ذكرها، وما ذاك إلا أنه قد تواتر النهيُّ عن الصلاة حتى ترتفعَ الشمس. فهذا قولُهُ، وذاك فعلُهُ، فانظرهما، وفَكِّر في لفظ الابيضاض ماذا يُفيد؟ وأَصْرَحُ منه ما عند الدَّارَقُطْنِي: «حتى إذا أَمْكَنَنَا الصلاة». ثم ارجع إليه البصر كرتين لا يُفيدكَ إلا أنهم قبل الارتفاع لم يكونوا في مُكْنَة الصلاة، فلم يُصَلُّوها، فإن احْتَالُوا بأنه كان هناك واديًا حَضَرَ فيها الشيطان، فتنحَّوا عنها لذلك، فقل لهم: إنه لو كان هذا هو المؤثِّر، لكان حقّ العبارة أن تكون هكذا: «فلما زِلْنَا عن مكان الشيطان، وبعُدَ الشيطانُ عنا»، لتكون إشارة إلى وجه التنحِّي. ولا تجده ولا مثله في لفظٍ.
ثم هل المسألةُ عندك أن لا يُصَلِّي في كل مكان فاتتك الصلاة، أو سوَّيْتَها لجوابنا فقط. ثم مالك تَتَبَاعَدُ عن مكان الشيطان وتتقارن بزمانه، فإنه كنتَ تريدُ أن تقع عبادتك في حيَّز مرضاة الله، فاجتنب عن مكانِهِ وزمانِهِ جميعًا. ولا تدع الشيطانَ يفرحُ من عبادتك حين تَسْجُد وهو قائم بين يديك، ف: {إِنَّ الشَّيْطَنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} (فاطر: 6) ولعلّك تَفْهَمُ الآنَ أنه كان يتحرَّى أن يَخْرُج وقت المكروه، فلذا إذا ارتفعت الشمسُ وزُحزحت عنها الصُّفْرة، وجد مُكْنَة للصلاة فصلاها.
وفي كتاب «الآثار» لمحمد رحمه الله تعالى: وليس في غيره أنه جهر فيها أيضًا، وهو المختار عندي. هذا ما سمعت في الفجر. فإن شئتَ أن تَعْلَمَ حال العصر وأنه هل يُصلِّيها إذا ذكرها ولو عند الاصفرار، فراجع «الصحيح» لمسلم حتى يتبينَ لك شرحُ قوله: «لا صلاةَ بعد الفجر حتى تَطْلُع الشمس، ولا صلاةَ بعد العصر حتى تَغْرُبَ الشمس» بجزئيه من قِبَلِ صاحب الشرع.(2/351)
فعند مسلم في باب الصلاة الوسطى صلاة العَصْر، عن عبد الله قال: «حَبَسَ المشركونَ رسول الله صلى الله عليه وسلّمعن صلاةِ العصر حتى احمرَّت الشمس أو اصفرَّت». وعند البخاري في باب من صلَّى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت: «حتى كادت الشمس تغرُب». ومع هذا لم يصلِّها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمإلا بعد ما غَرَبَت الشمس، كما في البخاري في هذا الحديث. والاعتذار عنه بأنه لم يكن على وضوءٍ، أو انتظر أن يجتمعَ الناس، أو لم تَنْزِل صلاة الخوف بَعْدُ، فكلها لا يَعْلَقُ بالقلب. وبالجملة: إن الأحاديث في الأوقات المكروهة قد اشتهرت، وفيهما عندنا بيان من قِبَل صاحب الشرع أيضًا. أمَّا في الفجر، فما رُوِيَ عنه في ليلة التعريس. وأمَّا في صلاة العصر، فكما في غزوة الأحزاب، وأمسك النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفيها عن الصلاة حتى خرج الوقت المكروه، وحسبك قُدْوة بهما.
أمَّا صحة عصر اليوم عند الاحمرار عندنا، فقد مرَّ تحقيقه وأنه هل يُؤْمَرُ بها إذ ذاك أو يؤخِّرها. وكيفما كان، ولكنه لا يجب عليه أن يصلِّيها إذا ذكرها.
باب ُ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الوَقْت
ولم أر في فِقْهِ الحنفية أنهم قالوا بوجوب الجماعة على من قضاها بعد الوقت.
596 - قوله: (يوم الخَنْدَق)، وهي في السنة الرابعة أو الخامسة. وقد كان الخَنْدَق حُفِرَ على رأي سلمان الفارسي، فإنه كان من دَأْب العجم.(2/352)
596 - قوله: (ما كِدْتُ). واخْتُلِفَ في «كاد» في الإيجاب والنفي، والمختار أن شاكلتَه شاكلةُ سائر الأفعال، وحاصلُ قول عمر رضي الله عنه: أنه صلَّى العصر مُنْفَرِدَا بكُلْفَةٍ. ثم في عدد قضاءِ صلوات النبيِّ صلى الله عليه وسلّميوم الخَنْدَق اختلافٌ، فعند «الصحيحين»: أنه لم تَفُتْهُ إلا العصر. وعند الطحاويِّ: أنه فاتته الظُّهْر والعصر والمغرب، وفي إسناده الإمام الشافعيُّ رحمه الله تعالى، وصحَّحه ابن سيد الناس. فمن اقتصر على حديث «الصحيحين»، قال: إنه وَهمٌ. ومن سَلَكَ طريق الجمعِ بينها، قال كما قال به ابن سيد الناس: إن واقعة الخَنْدَق بقيت أيامًا، فكان هذا في بعض الأيامِ، وهذا في بعض. ثم في عَدِّ المغرب من الفوائت مُسَامحةٌ، فإنها لم تَفُتْهُ، ولكنها أُخِّرت عن وقتها شيئًا، فعبَّره عن الفوات. والحافظ ابن سيد الناس من شيوخ مشايخ الحافظ ابن حَجَر.
باب ُ مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَليُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، وَلا يُعِيدُ إِلا تِلكَ الصَّلاةَ
ر
يمكن أن يكونَ إشارةً إلى اختيار مذهب الشافعية. ويمكن أن يكونَ قولهُ: «إذا ذكرها» تَبَعًا للحديث فقط، فيجري الكلامُ فيه كما في الحديث. وفَهِمَ بحر العلوم في «الأركان الأربعة»: أن مبنى الخلاف بيننا وبين الشافعية لفظة: «إذا» فهي على ملحظِ الحنفية: شرطية، وعلى نَظَرِ الشافعية رحمهم الله تعالى: ظرفية. ولعلَّه أخذه مما ذُكِرَ في الكُتُب من الخلاف بين الإمام وصاحبيه في مسألة: إذا لم أُطَلِّقْكِ، وإن لم أُطَلِّقْكِ، حيث تطلُق في الصورة الأولى كما سكت، وفي الثانية: لا تُطْلَق حتى يموت أحدهما. وهذا عندهما. أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى: «فإذا» فيه «كإِن».(2/353)
قالوا: إن مبنى الخلاف فيه: أن «إذا» عند الإِمام: شرطية، وعند صاحبيه: ظرفية. قلت: والفرق بين إذا الشرطية والظرفية أن الأولى للوقت المُبْهَم، والثانية للوقت المُعَيَّن. والعاملُ في الظرفية فعل الجزاء. واختُلف في الشرطية، فقيل: فعل الشرط، وقيل: كالظرفية. ومنه ظهر وجهُ الفرقِ بين المسألتين عند الصاحبين. ومبنى الخلاف عندي هو: اختلاف التفقُّه فقط. وحاصلُ الحديث عندي: إيجابُ القضاء فقط.
ولا تعرُّضَ فيه إلى مسألة الأوقات المكروهة لنجعله هادمًا أو ناسخًا لها، فمسألة الأوقات قد فَرَغَ منها الشرع في موضعها، وحرَّرها وكرَّرها حتى صَدَعَ بالنهيِّ عن الصّلاة في تلك الأوقات، ثم ذكر مسألة إيجاب القضاء. وأما قوله: «إذا ذكرها»، فمعناه على المعهودية في الأوقات، يعني إذا ذكرها في الأوقات التي هي أوقاتها عند الشرع، أمَّا إذا ذكرها في الأوقات المكروهة، فليس ذلك وقتها عند الشرع. وإنما وقت التذكُّر وقتها إذا صلاها في غير وقت الكراهة. وهذا دَأْبُ الشريعة في غير واحدٍ من المواضع: إذا فَرَغَت عن ذكر الشرائط مرةً، تَسْكُتُ عنها في سائر المواضع، وتُرْسِلُ الكلامَ اعتمادًا على تمهيدها من قبل. ومن هذا الباب: أحاديث الإيمان، وأحاديث الوعد والوعيد.
والذي يغفُلُ عن هذا يجعلُ كلَّ حديث كلِّية، ثم يقع في الخَبْطِ. فهكذا ههنا، إذا مُهِّدَت مسألة الأوقات، وبُسِطَت في موضعها كلَّ البَسْطِ، لم تَبْقَ حاجةٌ إلى ذكرها في كلِّ موضعٍ، وصارت كأنها مفروغٌ عنها، ثم يكون بناء كلامه عليها نظرًا إلى تلك المعهودية. فمن جوَّز الصلاة في الأوقات المكروهة، فقد عضَّ بإبهام «إذا»، وترك التواتر المنصوص، وعَدَل عن المكشوف إلى المجهول، مع أنه لم يَثْبُت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمالصلاة في عين الطلوع والغروب ولو مرةً، ولو كان فيها وُسْعَةٌ لَثَبَتَتْ فيها أيضًا، كما ثَبَتَتِ الركعتان بعد العصر.(2/354)
قوله: (ولا يُعِيدُ إلا تلك الصلاةَ) أشار به إلى ما وقعَ عند أبي داود: «فإذا سها أحدُكم عن صلاةٍ، فَلْيُصَلِّها حين يذكرها، ومن الغد للوقت». وفي لفظٍ عنده: «فمن أَدْرَك منكم صلاة الغَدَاة من غدٍ صالحًا، فَلْيَقْضِ معها مثلَها»، وظاهره: أن كل من فاتَتْه صلاةٌ يُعيدها مرَّتين إذا ذكرها، ومن الغد إذا أتى وقتها. قال الحافظُ بعدما نقل كلام الخَطَّابي مِنْ حَمْلِهِ على الاستحباب أنه لم يَقُلْ أحدٌ من السَّلف باستحباب ذلك أيضًا، بل عدُّوا الحديث غلطًا من رَاوِيه. وحَكَى ذلك الترمذيُّ وغيره عن البخاريِّ. ويؤيِّدُ ذلك ما رواه النَّسائي أنهم قالوا: «يا رسول الله، أَلا نقضِيها لوقتها من الغد؟ فقال صلى الله عليه وسلّم لا، يَنْهَاكم اللَّهُ عن الرِّبَا، ويأخذَه منكم»؟
قلت: وهو عندي محمولٌ على الاستحباب، كما قال به الخَطَّابي: أنه يُشبه أن يكونَ الأمرُ فيه للاستحباب، ليُحْرزَ فضيلة الوقت في القضاء.اه. والحديث عندي صالحٌ للعملِ، فلا يُسوَّغُ إنكاره أو التخلُّص بنحوٍ من التضعيف. نعم، يجري البحث في أن مَنْ أَعاد الصلاة للتكميل، فهل يَسَعُ له أن يُصَلِّيهَا في الأوقات المكروهة؟ ويَلْزَمُ من أقوالهم أن ذلك واسع له. ثم رأيت في مناقب الإِمام الأعظم رحمه الله تعالى أنه فاتته صلاةٌ مرةً، فكان يُعيدها إلى زمانٍ طويلٍ.
ثم إنه يَنْوِي عند الإِعادة تلك الصلاة بعينِها، وتقع عنه نفلا، لا أنه يَنْوِي النفل أيضًا، كما قاله به بعض الحنفية. فإن الطحاويَّ قد صرَّح في مواضعَ من كتابه: أن المذهب عندنا هو الإِعادة. نعم، تقع نفلا، لأنه قد أسقط عنه الفرض بصلاته مرَّةً، وسنوضحه في حديث مُعَاذ بن جبل رضي الله عنه إن شاء الله تعالى، فاحفظه، فإنه ينفعك في مسألة إعادة الصلوات.(2/355)
قال الحنفيةُ: إن مَنْ صلَّى مرةً ثم أدركته الجماعة، فإنه يعيدها إلا الفجر والعصر. وذهب الشافعيةُ إلى الإِعادة في الصلوات الخمس. قلت: وإن كانت الإعادة في كتبنا في الثلاثة فقط، إلا أن نفسي قد تتحدَّث بجواز الإعادة في الخمِيس. والله تعالى أعلم.
597 - قوله: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) واسْتَشْكَلَ مناسبتَه بما قبله. قلتُ: والآية وإن وردت في موسى عليه الصَّلاة والسَّلام، إلا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمتلاها ههنا على معنى أن الصلاة للذكر، والذكرُ غير موقَّت. فالصلاة إذا صارت قضاءً، انتقلت إلى شاكلةِ الأذكار، وبقيت غير موقَّتة مثلها، فلا يُتوهَّم أنها كانت موقَّتة بالوقت، فإذا ذهب الوقت، فلا قضاء لها.
ثم هناك دقيقةٌ: وهي أن القرآن كثيرًا ما ينتقلُ إلى ذكر الأذكار عَقِيب ذكر الصلاة، فهل تدري لِمَ ذاك؟ والسِّرُّ فيه: أنه يُشير إلى أنكَ إذا فَرَغْتَ عن الذكر الموقَّت، فعليك بِذِكْرِكَ السابق الغير الموقَّت: {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (النساء: 103)، ولعلَّه نحو تلافٍ لِمَا عسى أن يقع منه من التقصير في صلواته. ولذا لَمَّا فَرَغَ عن صلاة الخوف، قال: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ} (النساء: 103) لينجبرَ به ما قد وقعَ من التقصير في صلاة الخوف، فإنه يكون فيها للإيابِ والذهابِ وغيرها. وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ} (النساء: 103)، وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوةُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً} (الجمعة: 10).(2/356)
وحاصلها: أن روحَ العبادة هو الذِكْرُ، وقد جعله الله في اختياركم، أمَّا الصلاةُ، فإنها موقَّتة، قد تكون وقد لا تكون، فإذا فَرَغْتُم منها، فادخلوا في وظيفتكم الأصلية المطلقة. ومحصَّلُه: أنك إذا لم تكن عندك من وظيفتِك الموظفة، فاشغَلْ أوقاتك بذكر الله. وراجع كلام الشاه ولي الله رحمه الله تعالى من «شرحه على الموطأ».
باب ُ قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ، الأُوْلَى فَالأُوْلَى
قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى: إن الترتيب مستحقٌ. وعند آخرين: إنه مستحبٌ. وقال مولانا عبد الحي: إنه لا دليلَ للحنفية على وجوب الترتيب، كما قال في مسألة المُحَاذاة. قلت: وقد مرَّ مني أن طلبَ النصوصِ في الاجتهاديات إتعابٌ للنفسِ، وعدولٌ عن سواءِ الصراط. أَلا ترى أن نبيَ الله صلى الله عليه وسلّملم يقضِ فوائته يوم الخَنْدَق إلا مْرتَّبة، وهذا القدر متفقٌ عليه.
بقي أن هذا الترتيبَ الذي عَمِلَ به: كان على أنه واجبٌ عنده، أو مستحب، فهو من مراتب الاجتهاد كما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يَصُف النساءَ إلا خلف الصفوف، حتى أَنه أقام العجوز مرةً خلفه، وجعل لها صفًّا وحدَها، مع أنه قال: «من صلَّى خلف الصف وحده، فلا صلاةَ له» - بالمعنى ، فهل كان هذا التأخير، لأن محاذاتَها بالرجالِ مُفْسِدَةٌ لصلاتِهم، أو لأمرٍ آخر. فهو أيضًا من مَدَارك الاجتهاد. فحكم وِجْدَانُ أمامِنا بالوجوب في الموضعين، ولا يُسوِّغُك الاعتراض عليه. نعم، لو أتيتَ بحديث يَدُلُّ على أنه صلى الله عليه وسلّمقضى فوائته غير مرتَّبةٍ، أو أقام النساء حِذَاء الرجال ولو مرَّةً، لكان كذلك مكان القول ذا سعة. أمَّا إذا لم يُنقل عنه بخلافِهِ، فأيُّ بأسٍ في حملِ عمله صلى الله عليه وسلّمعلى الوجوب.
باب ُ مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّمَرِ بَعْدَ العِشَاء(2/357)
إنما أعاد هذه الترجمة لتغايرُ السلسلة. واعلم أنهم تكلَّموا في المشتقِّ أنه هل يُستعمل بمعنى اسم الجنس، أم لا؟ واتفقوا في الجامد، فيُطَلق على القليل والكثير. والمشتّقُ يثنَّى ويُجمع، فتردَّدوا فيه لذلك، إلا أني رأيت في «الكشاف» في موضعين أنه جعلَ المشتقَّ اسم الجنس الأول في قوله: {كَيْدُ سَاحِرٍ} (طه: 69) والثاني: {وَلاَ يُفْلِحُ السَّحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طه: 69)، فقال: إن اسم الفاعل المفرد معرَّفٌ باللام يكون بمعنى اسم الجنس، فافهم.
باب ُ السَّمَرِ فِي الفِقْهِ وَالخَيرِ بَعْدَ العِشَاء
احتراسٌ عن توهُّمِ دخولِ المُذَاكرة بالمسائل تحت النهي عن السمر أيضًا.
600 - قوله: (ورَاثَ علينا حتى قَرُبْنَا من وقت قِيَامِهِ): يعني أنه أبطأ علينا اليوم، حتى ظننا أنه لا يأتي اليوم، لأنه حانَ وقت قيامه عن مجلسنا، فقال: «إن الناس قد صَلَّوْا، ثم رَقَدُوا». وقد مرَّ في حديثٍ أنه قال حين تأخَّر عنهم: «إنه ما ينتظرها أحدٌ غيركم»، فإمَّا أن يُحْمَلَ على أنهما واقعتان، وإن كانت الواقعةُ واحدةً، فالأَمرُ سهلٌ أيضًا.
601 - قوله: (وإنكم لم تَزَالُوا)... إلخ، وهذا من بابِ إقامة الشرعِ لمن انتظر الشيء، فإنه يَعُدُّه بمنزلة الداخل فيه.
باب ُ السَّمَرِ مَعَ الأَهْلِ والضَّيف
602 - قوله: (فليذهب بثالثٍ) يعني من أهل الصُّفة. (قال) يعني عبد الرحمن (فلا أدري) من قول الراوي إنه لم يحفظْ هل ذَكَرَ الخادمَ والزوجة أم لا؟ (وخادم بين بيتنا) يعني أن هذا الخادم كان يخدم في بيتنا وبيت أبي بكر رضي الله عنه.
602 - قوله: (وإن أبا بكر تعشى)... إلخ وفيه توسُّع الراوي، وإلا فالظاهرُ أنه أكل الطعام مع النبي صلى الله عليه وسلّم(2/358)
602 - قوله: (ثم لَبِثَ حيث صُلِّيَتِ العشاء)... إلخ يعني مكث هناك إلى تلك المدة، (ثم رجع) يعني بعد أداء الصلاة ومكث في حُجرة النبي صلى الله عليه وسلّم(فجاء) أي بعد ما مضى من الليل، وإنما رَاثَ عليهم لأنه اطمَأَنَّ أنه قد أمرَ أهله أن تُطعَمَ الضيوف.
602 - قوله: (فجَدَّعَ وسَبَّ) (كوسنى دئي) «وايْمُ الله» همزة وَصْلٍ، كما في الاسم والاثنين. «غنثر» ذباب الكلب «بني فراس» وكانت من هذه القبيلة «لا وقرة عيني» «لا» زائدة. وفيه حَلِفٌ بغير الله. واحفظ أنه حَلَفَ بمثله في أربعة مواضع: الأول: في قصة الإفك، والثاني: «أَفْلَحَ، وأبيه، إن صَدَقَ»، والثالث: في هذه الواقعة، والرابع: في موضعٍ آخر.
قال الشوكاني: إنه من فلتات لسانه صلى الله عليه وسلّم قلت: إنَّ تجويزَ سَبْقَةِ اللسان في مواضع الشِّرْك مُسْتَبْشَعٌ جدًا، والصواب ما ذكره جَلَبِي: أن المحظورَ هو الحَلِفُ الشرعي لِمَا فيه من التعظيم لغير الله بخلاف اللُّغَوِيّ، فإنه لتقوية الكلام فقط، وهو جائزٌ لعدم اشتماله على معنى محظورٍ، ومع ذلك أصلحه الشرع، وقد بقي في مواضع بَعْدُ.
قلت: ولا ينبغي لمثل هذا الحَلِفِ أن يسمَّى يمينًا، فإن اليمينَ والحَلِفَ قد شاع في العُرْف في مصطلح الفقهاء، فلا يَتَبَادَرُ الذهنُ إلا إليه، فلو سمَّاه النُّجَاةُ استشهادًا لكان أحسن وأحكم. ولعلَّه لم يكن في أذهانهم أيضًا إلا اليمين اللُّغَوِيّ، أي بمعنى الاستشهاد، ثم التُبَسَ الأَمرُ على الناس لشيوعه في اليمين الفقهيّ، فَذَهَلُوا عن النوع الآخر. وإذن فالتقصير في التسمية، لا في حقيقة هذا الحَلِف.
والجَلَبِي لغةً: رومية بمعنى المولوي والصوفي، والأوصاف في الرومية تتأخَّر عن موصوفاتها، بخلاف الهندية. وملا حسن جَلَبِي هذا أستاد أخي يوسف جَلَبِي مُحشي «شرح الوقاية».(2/359)
وهكذا أقول: إن الفقهاء لم يُحْسِنُوا في إطلاق الصِّحَّة على كراهة التحريم، فقالوا: من تعمَّد الحدَث بعد التشهُّد الأخير، صحَّت صلاته، مع أنها تُكْرَهُ تحريمًا. ومن هذا الباب قولهم: جَازَ في المحل المكروه، فإنه كلَّه موهمٌ بانتفاء الكراهة، فلو لم يُطْلِقُوا لفظ الجواز والصِّحَّة على المكروه، لما وَرَدَ علينا كثيرٌ من الإيرادات التي أوردها الخصوم لأجل هذا التقصير فقط، فإنه إذا قيل إنه صحيحٌ أو جائزٌ وَرَدَت علينا نصوصُ النهيِ فيه، فإذا قيل: إنه مكروهٌ اندفع، لأن ظاهر هذه الألفاظ تُوهِمُ انتفاء الكراهة أيضًا، فكان الأَوْلى تركه، وسيجيء توضيحه أزيد من هذا فانتظره، والله الموفِّق.
ثم ههنا دقيقةٌ تُفِيْدُك في مواضع، وهي: أن الشيءَ قد يكون جائزًا في نفسه ومحظورًا لكونه موهمًا لجانب آخر، فلا يُحْكَمُ عليه بالجواز أو بالحرمة كليًا، ولكن الأمر فيه إلى المفتي، فإن رَأَى أن الناس يتضرَّرون منه لإِيهامه خلاف المقصود، عليه أن يَمْنَعَ عنه. وإن لم يَرَ فيه ضررًا، فله أن يتركه على الجواز في نفسه على ما كان. وهذا الباب ممَّا تعرَّض إليه القرآن، بل أقامه فقال: {لاَ تَقُولُواْ رعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا} (البقرة: 104)، فقول: {رعِنَا} وإن جاز في نفسه، إلا أَنَّه لمَّا أَوْهَمَ بخلاف المقصود حيث كان اليهود يَلْوُون به ألسنتهم، ويُشْبِعُون الكسر، ويقولون: راعينا، لعنهم الله - نهى عنه القرآن. فمتى ما يرتفع هذا الإيهام، يَعُودُ جوازُ الإطلاق على حاله. فالمسألة في مثل هذه الأشياء أيضًا كذلك، هكذا يُعْلَمُ من باب الحظر والإِباحة من «الكنز».
فائدة(2/360)
واعلم أن الذكر باسم الله هو الذي عُرِفَ في الشرع ذكرًا، أمَّا تكرار اسم النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفلم يُعْهَد ذكرًا، فلعلَّه لا يكون فيه أجرًا لذكر، وإنما طريق ذكر النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وتحصيل الأجر منه: أن تُصَلِّي عليه، فالثواب بالنسبة إلى جَنَابه تعالى بذكر اسمه، وإلى جَنَاب النبيِّ صلى الله عليه وسلّمبالصلاة عليه، وبها وَرَدَ الشرع. وكذلك: يا شيخ عبد القادر الجِيلانِي، شيئًا لله لم يُعْهَد ذكرًا، فلا يترتَّب عليه أجرٌ، بل هو لغوٌ يُخْشَى أن يترتَّب عليه وِزْرٌ، لا سِيَّما إذا اعْتَقَد به ما خَالَفَ الشرع، وعلا فيه وتَجَاوَز عن الحدِّ، فإنها من الكلمات التي تُوهِمُ خلاف المقصود، فَيُنْهَى عنها.
وما في بعض الفتاوى من الرخصة، فمبنيٌّ على التكلُّم به بشرط إن لم يكن مُوهِمًا بخلاف المقصود، أمَّا اليوم، فقد فَسَدَت عقائد الناس بما تَقْشَعِرُّ منه الجلود، وكادت أن تَبْلُغ الكفرَ، بل ربما جاوزت الكفر، فينبغي أن لا يُفْتَى بمثل هذه الكلمات، لئلا يَدْخُل عليهم الشيطان من هذا الباب، فَيُفْسِدُ عليهم دينهم وهم لا يعلمون. فَلْيَرَ كلُّ إنسانٍ دينه، ولا يَتَشَبَّثْ من أقوال الفقهاء بما ليس بمرادهم.
602 - قوله: (وكان بيننا وبين قوم عقدٌ): يعني العهد، وقد كانت مدته تمَّت، وكان نُقَبَاء القوم جاءوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّمليتكلَّمُوا في أمرهم، فَقَسَمْنَا نقباءهم اثني عشر نقيبًا، ولا يَدْرِي كم كانوا مع كل نقيبٍ، فأكلوا كلُّهم وشَبِعُوا، وكان الطعامُ بعد قيامهم عنه كما كان حين وُضِعَ بين أيديهم.
حكاية(2/361)
وكَتَبَ ابن خَلِّكَان: أن السلطان محمود كان أميًّا مَحْضَا، فأراد أن يَرَى صلاة الشافعية والحنفية رحمهم الله تعالى، ويختار أعجبها إليه. فجاء القَفَّال الشافعيّ، وحَكَى عن صلاة الحنفية، فَطَلَب جِلْدَ كلبٍ، وألقى فيه النبيذ، ثم صلَّى يَرْكَعُ ويَسْجُد فقط، ولا يعدِّل الأركان، وإذا بَلَغَ موضع السلام حَدَثَ عمدًا، وقال: هذه صلاة الحنفية.
ثم حَكَى عن صلاة الشافعية رحمهم الله تعالى، فأَدَّاها مع التعديل كما أمره الله، فاسْتَحْسَنَ السلطانُ صلاةَ الشافعيةِ رحمهم الله تعالى وصار شافعيًا. ثم اتفق بعد زمان أن حنفيًا حَكَى عن صلاة الشافعية رحمهم الله تعالى، ويُقَال له القَفَّال أيضًا، فَطَلَبَ القُلَّتَيْنِ، وألقى فيهما أرطالا من النجاسات، ثم توضَّأ منه وصلَّى.
ولكني متردِّدٌ في هذه القصة، لأني رأيت في طبقات الحنفية: أن السلطان محمود كان حنفيًا فقيهًا، وتصانيفه تُوجَد في تلك الخطة، وطبقات الحنفية أَثْبَتُ عندي من طبقات الشافعية رحمهم الله تعالى. فتردَّدت في نقل ابن خَلِّكَان من وجوه، والله أعلم.
كتاب الأَذان
باب ُ بَدْءِ الأَذَان
باب الأَذَانُ مَثْنَى مَثْنَى
باب الإِقَامَةُ وَاحِدَةٌ إِلا قَوْلَهُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلاة
قوله: (بَدْء الأذان)، وهو كقوله: بَدْء الوحي، وقد مرَّ الكلام في تحقيق معناه. {هُزُواً وَلَعِباً} (المائدة: 58) (هنسى أوركهيل).(2/362)
قوله: ({إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ})... إلخ (الجمعة: 9). واعلم أني متردِّدٌ في أذان يوم الجمعة أنه كان بهذه الكلمات، أو بطريقٍ آخر، لأن أول ما دَخَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفي المدينة صلَّى الجمعة في بني سَالِم. وشرعية الأذان وإن كانت في السنة الأولى، لكنها بُعَيْد هذه الجمعة لمَّا شَاوَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأصحابَهُ، ثم كان من أمرهم ما كان.
واعلم أن الصلوات وإن صُلِّيَت بمكة، إلا أنهم لم يكونوا في مَكْنَةٍ من تشهيرها، فلمَّا دَخَلُوا المدينة واطمأنُّوا بها، شَاوَرُوا لتشهيرها، حتى نَقَلَ عبد الله بن زيد رؤياه. وذكر المحدِّثُون أنه رأى مثلَها آخرون أيضًا، إلا أن عبد الله بن زَيْد لمَّا سَبَقَ برؤياه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّمنُسِب إليه، وممَّن رأى مثلَه عمرُ رضي الله عنه، غير أنه لمَّا رأى عبد الله بن زيد سَبَقَ به لم يَقُصَّها على النبيِّ صلى الله عليه وسلّمحتى سَمِعَ التأذين. وما في بعض الرِّوايات: «فقال عمر رضي الله عنه: أَوَلا تبعثون رجلا يُنَادي بالصلاة، فقال صلى الله عليه وسلّم يا بلال قُمْ فَنادِ»... إلخ، فإنه يَدُلُّ على أن بَدْء الأذان كان بقول عمر رضي الله، فأجاب عنه الحافظ رحمه الله: أن هذا الأذان لم يكن بالكلمات المعروفة، بل أراد به مُطْلَق الإعلام. وثَبَتَ عن بلال رضي الله عنه: أنه كان ينادي بالصلاة جامعة إلى أيام، حتى رأى عبد الله بن زَيْد رُؤْيَاه، وحينئذٍ شُرِعَ الأذان المعروف. وأيَّدَه بأثرين، وَوَجَدْتُ لهما مُتَابِعَا آخر. فهذا الشَّرْحُ هو المختار عندي، وإن نَازَع فيه العَيْنِي رحمه الله تعالى.(2/363)
603 - قوله: (فَأُمِرَ بلالٌ)... إلخ، هكذا يُرْوَى بصيغة المجهول في جميع الطُّرُق. وأراد الحافظ رحمه الله أن يعيِّن الفاعلَ والآمرَ مَنْ هو؟ فأتي بروايةٍ تَدُلُّ على أنه النبي صلى الله عليه وسلّم قلت: وعلَّلها أبو حاتم، وقال: إن هذا اللفظ وَهْمٌ، فتفكَّرْتُ فيه إلى سنين حتى تبيَّن لي حقيقةَ الحال، وهو: أن أنسًا رضي الله عنه لم يكن حاضرًا عند أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلّمبلالا رضي الله عنه بالشافعية والوِتْرِيّة، وإنما رآه فيما بعد يُوتِرُ ويُشْفِع في أذانه، فَحُمِلَ على أنه لا يمكن إلا أن يكون فيه عنده أمرٌ من جهة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فلفَّ الفاعل لهذا. ولو حَضَرَ عند أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلّمبلالا رضي الله عنه وشاهده، لأَسْنَدَ إليه البَتَّة، ولكنه لمَّا لم يشاهده يأمره، وإنما هو أمرٌ فَهِمَه من عند نفسه وإن كان صوابًا، احتاط فيه، وأحبَّ أن لا يَنْسِبَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّمما لم يشاهده به، فأتى بالمجهول لهذا./
والغرض من هذا التحقيق أنه لو أَظْهَر الفاعل، لكان دليلا صريحًا على أن أذانَ بلال رضي الله عنه وإقامتِهِ، كان على أذان الملك النَّازِلِ من السماء وإِقَامتِهِ لكونه عِقِيْبَه بِأَمْرِه. ولمَّا لم تكن عنده مشاهدة بأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلّمإذ ذاك صراحةً، وإنما شاهده يؤذِّنُ ويقيم فيما بعده بزمنٍ، فحكاه كما شاهده، أمكن أن يكونَ على خلاف شاكلته أيضًا.
تَرْجِيْعُ الأَذَانِ وإِفْرَادُ الإِقَامَةِ(2/364)
واعلم أن الكلامَ في الأذان في موضعين: الأول في كلماته، والثاني في صفته. وهي عندنا: خمسةَ عشرَ كلمةً بتربيع التكبير وحَذْفِ التَّرْجِيع، وعند الشافعية رحمهم الله تعالى: تسعةَ عشرَ كلمةً مع التربيع والتَّرْجِيع، وعند مالك رحمه الله: سبعةَ عشرَ مع تَثْنِيَة التكبير وترجيح الشهادتين. ويُرْوَى تثنية التكبير عن أبي يوسف رضي الله عنه أيضًا، كما في «الدُّرِّ المختار».
قلت: أمّا تَثْنِيَة التكبير، فقد رُوِيَ عن أبي يوسف كما عَلِمْتَ. وأمَّا التَّرْجِيع، فصرَّح صاحبُ «البحر» أنه ليس بسنةٍ ولا مكروهٍ، وبه أُفْتِي. وفي «ملتقى الأبحر»: أنه مكروهٌ، والصواب كما في «البحر».
والتَّرْجِيْعُ عبارة عن خَفْضِ الشهادتين مرَّةً، ورفعها أخرى. وأمَّا التَّرْجِيْعُ بمعنى تَرْجِيع الصوت كصوت الغناء، فإنه لحنٌ ممنوعٌ، ولا شكَّ أن الأذانَ بمكة كان بالتَّرْجِيع حتى تسلسل إلى زمان الشافعي رحمه الله تعالى، فاختاره لهذا، فلا يمكن إنكاره، ولا يُسْتَحْسَن تأويله، كيف، وقد كان يُنَادَى بهِ على رؤوس المنائر والمنابر، فلا خلاف فيه عند التحقيق إلا في الأفضلية، وإن كان التأويل أيضًا ممكنًا، ذكره الطَّحَاويُّ، وصاحب «الهداية»، وابنُ الجوزي بثلاث عبارات، ومآلها إلى أمرٍ واحدٍ، فإن شِئْتَ، فارْجِع إليه.
قال عامة الحنفية: إن حُجَّتَنا في تَرْك التَّرْجيع: أذان بلال رضي الله عنه، وفي شفع الإِقامة: إقامة أبي مَحْذُورَة. قلت: والأجودُ عندي ما عبَّر به صاحب «الهداية»: أن حُجَّتَنا أذان المَلَك النازل من السماء وإقامته، وما في بعض طُرُقه من الإِيتار يُحْمَلُ على الاختصار ولا بُدَّ، فإنه قد ثَبَتَ عنه الشَّفْعُ، وذلك لأنه الأصلُ في الباب.(2/365)
نعم، ولنا أذان بلال أيضًا، فإنه أذَّن بمحضر النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي مسجده إلى عشر سنين بلا تَرْجِيع، وذلك هو أذانه بعدما رَجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّممن فتح مكة شرَّفها الله تعالى، وقد كان علَّم هناك أبا مَحْذُوْرَة التَّرْجِيع، فلو كان التَّرْجِيعُ أفضل لعلَّمه بلالا رضي الله عنه أيضًا، ولكنه تَرَكَ الأَمرَ على ما كان، ولم يُحْدِث في أذانه شيئًا جديدًا، فَعَلِمْنا أن السنةَ في الأذان هي التركُ، ولعلَّه كان بمكة لكونه أليق بحالهم، إذ كان المسلمون لا يَقْدِرُون بها أن يؤدُّوا صلواتهم جِهَارًا، فكيف بالنداء؟ فلمَّا فَتَحَ اللَّهُ مكةَ نَاسَبَ أن يُعْلِنَ بالشهادتين جِهَارًا ومِرَارًا ليُعْلَمَ أن الزمانَ قد انْقَلَبَ إلى هيئته بالأمس، فاسْتَحْسَنَ فيها التَّرْجِيعَ لهذا. ولو كان التَّرْجِيعُ من سنَّة نفس الأذان لَمَا تركه في مسجده أبدًا، لا سِيَّمَا بعدما أَلْقَاه على أبي مَحْذُورَة وعلَّمه، ولكنه استمرَّ العملُ في مسجده على الترك.
(2/366)
وخَرَجَ منه أصلٌ مهمٌ، وهو: أن الشيءَ الوجوديَّ قد يكون من جِنْسِ العبادات كالشهادتين، ثم قد يترجَّح تركه على فِعْلِهِ، ولا يتأتَّى فيه أن يُقَال: إن الوجوديَّ عبادةٌ، فَتَرْكُه تَرْكٌ للعبادة، فلا يكون إلا مفضولا كما رأيت في التَّرْجِيع، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمرَجَّحَ التَّرْكَ. ونحوه أقول في رفع اليدين: إنه وإن كان شيئًا وجوديًا، ونَقَلُوا في فضائلِهِ أشياء، إلا أنه يمكن أن يترجَّح تركه كترك التَّرْجِيع، فلا يُقَال: إن تركَ الرفع كيف يكون راجحًا مع كونه ترك عبادة؟ والسرُّ فيه: أن الفَضْلَ إنما هو فيما استمرَّ عليه عملُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أو انتهى إليه سواء كان وُجُوديًا أو عدميًا، فإن الانتهاءَ عند النهيِ عبادةٌ كالائتمار عند الأمر، مع أنه وَرَدَ عن أبي مَحْذُورة التركُ أيضًا، والكلامُ فيه مُطْنَبٌ، تركناه لانجلاء ترجيح الترك عند المصنِّف.
وأما صفته: فسُنَّ الوقف فيه على كلمة كلمة، غير أن التكبيرَ مرتين بمنزلة كلمةٍ واحدةٍ. والمراد من الوقف: هو الاصطلاحي، والمأثور في كلماته سكون أواخرها. وعن المُبَرَّد: الله أكبر - بفتح الراء أيضًا - ولا تُسَاعِدُه الرواية.
ثم هذا الوقف تَرَسُّل، أي أداء كل كلمةٍ في نَفَسٍ غير التكبير هو سنةُ الأذان، فلو حَدَرَ فيه وجمع بين كلمتي الأذان، اختلف فيه المشائخ: وفي «قاضيخان»: أنه يعيده، وهو المختار عندي. وفي عامة كُتُبنا عدم الإِعادة، ثم إن محمدًا رحمه الله تعالى كَشَفَ عن معنى الترسُّل حين ناظر أهل المدينة في تثنية التكبير، فقال: إن المراد بها التثنية في النَّفَس دون الكلمات. والحَدْرُ: أن يَجْمَعَ بين الكلمتين في نَفَسٍ، فَيَجْمَعُ التكبير أربع مراتٍ في نَفَسٍ، ثم صَرَّح أن خلافَه خلافُ السُّنة.(2/367)
قلت: وبه يُشْرَحُ قوله صلى الله عليه وسلّم «وأن يُوتِرَ الإِقامة»، أي الإيتار في النَّفَسِ والصوتِ، لا في الكلمات، إلا أنه يَخْدِشُهُ الاستثناء إلا الإِقامةَ، كما في بعض الروايات. وحينئذٍ يَلْزَمُ أن تكونَ السُّنةُ في لفظ: «قد قامت الصلاة»: أن يتلفَّظَ به في نَفَسَيْن، وليس كذلك، ولم يتوجَّه إلى جوابه أحدٌ.
قلت: والجواب عندي: أنه ليس باستثناء مما يُفْهَمُ من الظاهر، بل هو استثناء من مفهوم الكلام، وهو أنه لا فرقَ بين كلمات الأذان والإِقامة إلا بالشَّفْعِيَّة والوِتْرِيَّة غير: «قد قامت الصلاة»، فإنه ليس في الأذان. فالاستثناء مما يُفْهَمُ من الاتحاد بين كلماتهما، على أن المالكية حَكمُوا عليه بالإِدراج، والله تعالى أعلم بالصواب.
بقيت الإقامة، ففيها أيضًا خِلافٌ، فقال الإمامُ الأَعظمُ: إن كلماتها مثل الأذان، وقالت الثلاثةُ: بالإيتار فيها إلا بقوله: قد قَامَت الصلاةُ، وعند مالك رحمه الله تعالى: الإِقامة أيضًا مرةً. فينبغي عند مالك رحمه الله تعالى: عشر كلمات، وعند الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى: إحدى عشر كلمة، وعندنا: سبعة عشر كلمة. ولنا فيه ما رُوي عن أبي مَحْذُورَة، فإنه كان يُقِيْمُ مَثْنَى مَثْنَى. وكذلك كانت إقامة المَلَك عند أبي داود. وما في بعض طُرُقه من الإفراد، فيُحْمَل على أنه إحالةٌ على المعهود، ولا بُدَّ، لأنه واقعةٌ واحدةٌ.(2/368)
وطريقُ الاختلاف مسلوكٌ كما عند مسلم عن عمر رضي الله عنه في جواب الأذان، وهو محمولٌ على الاختصار عندهم جميعًا، وهذه صورته: عن جدِّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا قال المؤذنُ: الله أكبر الله أكبر، قال أحدُكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهدُ أن لا إله إلا الله، قال: أشهدُ أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهدُ أن محمدًا رسول الله، قال: أشهدُ أن محمدًا رسول الله»، وهكذا إلى آخر الأذان بإفراد الكلمات. على أنه أخرج الطَّحَاوِيُّ عن بلال التَّثْنِيَة في الإِقامة أيضًا، وأقرَّ به الشيخُ تقي الدين ابن دقيق العيد، ورَاجِعْ له «تخريج الهداية» للزَّيْلَعِي رحمه الله تعالى. قال الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى: ادَّعى الطَّحَاويُّ التواترَ في تَثْنِيَة الإِقامة عن بلال رضي الله عنه.
قلت: ولم أجده في «معاني الآثار»، نعم يُسْتَفَاد منه التواتر على ترك التَّرْجِيع، فيُمْكِن أن يكون قد اختلط عليه، فكان التواترُ بترك التَّرْجِيع، فَنَقَلَهُ في تَثْنِيَة الإِقامة، إلا أن يكون في تصنيفٍ آخر له غير «معاني الآثار»، فإن الطحاويَّ كثيرُ التصانيف، وأكبرُ ظني أنه في ترك التَّرْجِيع، والله تعالى أعلم.
وقال الشيخ نور الدين الطرابلسي - وهو متأخِّرٌ عن الشيخ ابن الهُمام رحمه الله تعالى : إن الإيتارَ كان بيانًا للجواز، فدلَّ كلامُهُ على جواز الإيتار عندنا، ولم أجد التصريحَ به في كلام أحدٍ من الحنفية غير ما صرَّح به الشيخ المذكور في ذيل كلامه. وهذا أيضًا ليس في صورة المسألة، بل في سِيَاق الجواب، والبخاري اختار أذانَ الحنفية وإقامة الشافعية رحمهم الله تعالى.(2/369)
وحاصل الكلام: أن بلالا رضي الله عنه لم يَثْبُت عنه الترجيع في الأذان، وكذلك المَلَك النازل من السماء، نعم ثَبَتَ في أذان أبي مَحْذُورة، فلا بدَّ أن يُقَرَّ بالأمرين، أي الترجيع وعدمه، ويجري الكلامُ في الاختيار فقط. ومَنْ أراد منَّا نفي التَّرْجِيع رأسًا، فقد تَطَاوَل وخَرَجَ عن حِمَى الحق، فإنه ثابتٌ بطُرُقٍ لا مَرَدَّ لها. بقيت الإِقامةُ، فهي عند أبي مَحْذُورة والمَلَكِ النازل: مَثْنَى مَثْنَى، وعند بلال بالإِيتار، وثَبَتَ عنه مَثْنَى أيضًا. هذا حال الأحاديث ممَّا هو على رسم الحسن أو الصحيح، أمَّا الضِّعَاف، ففيها اختلافٌ. وبالجملة لم يَسْنَحْ لي ترجيح التثنية بَعْدُ مع ثبوت كلا الأمرين قَطْعَا.
باب فَضْلِ التَّأْذِين
608 - (قوله:) (له ضُرَاط)، وفي بعض الألفاظ: «له حُصَاص»، وهو قبض الأذنين كما يَقْبِضُ الحمار. لا يُقَال: ما بالُ الشيطان يَفِرُّ من الأذان ولا يَفِرُّ من الصلاة، حتى يَخْطُرَ بين المرء ونفسه مع كونها أفضل؟ قلتُ: وهذا من باب الخصائص، فللأذان خواصٌّ، كما إن للصلاة خواصٌّ أخرى تَلِيقُ بشأنها. ولعلَّ الوجهَ أن الأذانَ يُبْنَى على الإِعلان والصَّدْع بالشهادتين، فلا يتحمَّله الشيطان، أمَّا الصلاة فمناجاةٌ مع ربه، فحقيقةُ الصلاة وإن جَلَت إلا أنها ليست بحيث لا يمكن للشيطان تحمُّلها، بخلاف حقيقة الأذان، فإنها ممَّا لا يستطيع أن يتحمَّلها الشيطان. فهذا الفرق يُبْنَى على تَغَايُرِ الحقيقتين لا على الفضل. على أنه وَرَدَ في الأحاديث: «إنَّ المؤذِّن يَشْهَدُ له كل رَطِبٍ وَيَابسٍ يوم القيامة»، وهذا اللعين لا يحب أن يَشْهَد لأحدٍ من المؤمنين.(2/370)
ونَقَل الحافظُ ابن حَجَر رحمه الله تعالى فيه حكايةً في مناقب الإمام الأعظم رحمه الله تعالى، فقال: ومن ثَمَّ اسْتَنْبَطَ أبو حنيفة رحمه الله تعالى للذي شَكَا إليه أنه دَفَنَ مالا، ثم لم يهتدِ لمكانه: أن يُصَلِّي ويَحْرِصَ أن لا يحدِّث نفسه بشيء من أمر الدنيا ففعل، فَذَكَر مكان المال في الحال. انتهى.
قلت: ما لك يا ابن حَجَر، فإنك تأتي بمناقب الإمام في مثل هذه الأمور، فإذا حَمِيَ وطيسُ المسائل تُعْرِضُ عنه كشحًا.
608 - (قوله:) (ثُوِّب) ويمكن عندي أن يكونَ التثويبُ مأخوذًا من الثَّوْبِ على عادتهم في الجاهلية، فإنهم كانوا يحرِّكُون ثيابهم على طَلَلٍ عند مهيعة، ثم اسْتُعْمِل في مطلق الإعلام. وفي عُرْف الفقهاء هو الإعلام بين الأذان والإقامة، وهذا مختلِف في البلاد والزمان، وأجازه أبو يوسف رحمه الله تعالى للقضاة، ومن ازدحمت عليه المسائل.
باب رَفعِ الصَّوْتِ بالنِّدَاء
608 - (قوله:) (سَمْحًا): يعني بدون لَحْنٍ وترجيعٍ في الصوت (سادى أورردان). وغَرَضُ المصنِّف رحمه الله تعالى أنه يرفعُ صَوْتَه، ويَجْتَنِبُ عن اللحن.
609 - (قوله:) (فارفع صوتك): يُشِيرُ إلى دَفْعِ توهُّم أنه لا حاجةَ إلى رفع الصوت في الصَّحَارِي، فعند مالك رحمه الله تعالى في «موطئه»: «من أذَّن في البادية، ثم أقام وصلَّى، يُصَلِّي خلفه الملائكةُ كأمثال الجبال» - بالمعنى - وعند أبي داود في باب فضل المشي إلى الصلاة، عن أبي سعد الخُدْرِي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «الصلاةُ في جماعةٍ تَعْدِلُ خمسًا وعشرين صلاةً، فإذا صلاها في فلاةٍ، فأتمَّ ركوعها وسجودَها بَلَغَتْ خمسين صلاةً». انتهى.(2/371)
واعلم أن فضيلةَ الجماعة أمرٌ مستمرٌّ، بخلاف الصلاة في الفلاة، فإنه قد يتَّفقُ له، فراعِ هذين البابين، فتركُ الجماعة عمدًا والذهابُ إلى الصلاةِ في الفلاة لتحصيل أجر الخمسين سَفَهٌ وحُمْقٌ، فإنك إن فعلته عمدًا يَفُوتُ عنك ثوابُ الجماعة أيضًا، وإن اتفق لك تُحْرِز ما وَعَدَ لك.
باب مَا يُحْقَنُ بِالأَذَانِ مِنَ الدِّمَاء
والإسلام عندنا كما يكون بقول: لا إله إلا الله، كذلك يكون بالفعل أيضًا، فلو رَأَى كافرًا يؤذِّن يَحْكُم عليه بالإِسْلام، كما لو رآه يُصَلِّي (المكتل) زنبيل (توكرا) مسحات (كدال) (خَرِبَتْ خَيْبر). وفي الصحيح: «أنه رَفَع يديه أيضًا»، وظني أن رَفْعَه يكونُ كما في التحريمة، لا كما في الدعاء، وحينئذٍ يكونُ عند التكبير. ويُسْتَفَادُ منه: أن الرفعَ شِعارٌ للتكبير. ولعلَّه تكبيرٌ فعليٌّ كما فَهِمَه الشافعيُّ رحمه الله تعالى، وفَهِمَ الحنفية أنه للاستقبال، وإن كان كما في الدعاء. فينبغي أن يكون عند قوله: «خَرِبَتْ خَيْبر»، لأنه دعاءٌ عليهم، لا عند التكبير. وراجِع تفصيله من رسالتي «نيل الفرقدين في رفع اليدين»، فلقد أَطْنَبْتُ الكلامَ فيه في فصلٍ مستقلٍ.
610 - قوله: (وإنَّ قَدَمي لَتَمَسُّ قَدمَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم، مع أنه قد مرَّ منه من قبل لفظ: «الفَخِذِ»، وقد بَحَثْتُهُ هناك مستوفيًا، فَرَاجِعْهُ.
باب مَا يَقُولُ إِذَا سَمِعَ المُنَادِي(2/372)
والوظائفُ في حق المُجِيب ثلاثةٌ: المثليةُ مطلقًا. واثانية: الحَوْقَلة مكان الحيْعَلَتينِ، وقال بعضهم بالجمع بينهما، واختاره ابن الهُمَام رحمه الله تعالى، وَنَقَلَه عن بعض المشايخ. قلت: المراد به الشيخ الأكبر، ثم تبيَّن لي أن مرضاة الشرع في عامة الأذكار هو التخيير دون الجمع، فأحيانًا كذا، وأحيانًا كذا، وهذا مخصوصٌ بباب الأدعية، فليراع أن بعض العادات تكون مختصَّةً ببعض الأبواب، فلا يَخْتَلِط بينها. وقد تحقَّق عندي أن عادة الشرع في الأدعية أن يأتي بها حينًا كذا، وحينًا كذا. أَلا ترى أنه وَرَدَت أدعيةٌ مختلفةٌ في وقتٍ معيَّنٍ، كما في دُبُر الصلوات؟ فهل يستطيع أحدٌ أن يجمعَ كلَّها في وقتٍ واحدٍ؟ ولكن الأمر أن يُؤْتَى بكلِّها في أزمنةٍ مختلفةٍ، وهذه هي صورة العمل بالجميع دون الجمع بينها.(2/373)
فالسنة عندي: أن يُجيبَ تارةً بالحَيْعَلة، وتارةً بالحَوْقَلة، وما يُتَوَهَّم أن الحَيْعَلة في جواب الحَيْعَلة يُشْبه الاستهزاء، فليس بشيءٍ، لأنه في جملة الكلمات كذلك إن أراد بها الاستهزاء، والعياذ بالله، وإلا فهي كلمات خيرٍ أُرِيْدَ بها الشركة في العمل لينال بها الأجر، فإنها نحو تلافٍ لما فَاتَه من الأذان، فلا بدَّ أن يعمل بعمله ليشترك في أجره. وأمَّا ما يفعله الناس من الصلاة عند الشهادتين، فلم يَرِد به الحديث، وإنما يفعلونه عملا بالأحاديث العامة التي وَرَدَت فيها الصلاة عند ذكر اسمه المبارك، ولا يَدْرُون أن الشرعَ قد راعاه بنفسه، فوَضَع الصلاة عَقِيب الأذان قُبَيْل الأدعية المأثورة لهذا، بل فيها فضيلتان، فإن الصلاةَ قبل الدعاء أيضًا سنةٌ، ولا يُرْفَعُ الدعاء إلا بها، فبالصلاة عَقِيب الأذان يحصل الأمران. وكذلك لا أصلَ لتقبيل الإبهامين عند الشهادتين كما شرع في بلادنا إلا أثرٌ أخرجه القاري، عن أبي بكر رضي الله عنه في «الموضوعات»، لكنه ضعيفٌ يَقْرُبُ المُنْكرَ. ثم لا يِخْفى عليك أن جواب الأذان إنما شرع لكلَ لفقدان العلامة بين المؤذن والمجيب، بخلاف الإمام والمقتدي، فنهى المقتدي عن القراءة في الجهرية. واستحب للمستمع أن يُجِيْبَ الأذان مع جهر المؤذن، فادْرِ الفرق بينهما. وما عن الحَلَواني أن الإجابةَ واجبةٌ، محمولٌ على الإجابة الفعلية، وجاءت روايات في إجابة الإقامة أيضًا مع قوله: أقامهما الله وأدامهما عند صيغة الإقامة، إلا أن أسانيدها ليست بذاك.
(2/374)
ثم في الجواب للأذان الثاني من يوم الجمعة ثلاثةُ أقوال: ففي «العناية»: أن الإمام إذا جَلَسَ على المِنْبَرِ، فلا صلاةَ ولا كلامَ غير جواب الأذان. وفي الزَّيْلَعِي «شرح الكنز»: نفي الكلام مطلقًا، فلا يجوز الجواب أيضًا. وفي «البناية»: جواز الكلام الديني مطلقًا، وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه كان يصحِّح كتابه إذا لم يَبْلُغْه صوت الإِمام، وعندي: له أن يُجيبه إذا لم يُجِبْ الأذان الأول.
فائدة
واعلم أن الأدعية بهذه الهيئة الكذائية لم تَثْبُت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولم يَثْبُت عنه رفع الأيدي دُبُر الصلوات في الدعوات إلا أقل قليل، ومع ذلك وَرَدَت فيه ترغيباتٌ قوليةٌ، والأمر في مثله أن لا يُحْكَم عليه بالبدعة، فهذه الأدعية في زماننا ليست بسنةٍ بمعنى ثبوتها عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وليست ببدعة بمعنى عدم أصلها في الدين، والوجه فيه ما ذكرته في رسالتي «نيل الفرقدين»: أن أكثر دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلّمكان على شاكلة الذكر، لا يزال لسانه رَطِبَا به، ويَبْسُطه على الحالات المتواردة على الإنسان من الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، ويتفكَّرون في خلق السموات والأرض. ومثل هذا في دوام الذكر على الأطوار لا ينبغي له أن يَقْصُر أمره على الرفع، فإنه حالةٌ خاصةٌ لمقصد جزئي، وهو وعاء المسألة. فإن ذُقْتَ هذا، نفِّس عن كُرَبٍ ضَاقَ بِهَا الصدر، لا أن الرفعَ بدعةٌ، فقد هَدَى إليه في قوليات كثيرة، وفعله بعد الصلاة قليلا، وهكذا شأنه في باب الأذكار والأوراد، اختار لنفسه ما اختاره الله له. وبقي أشياء رَغَّب فيها للأمة، فإن التزم أحد منا الدعاء بعد الصلاة برفع اليد، فقد عَمِلَ بما رغَّب فيه، وإن لم يكثره بنفسه. فاعلم ذلك اه.
باب الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاء(2/375)
والمسنون في هذا الدعاء ألا تُرْفَع الأيدي، لأنه لم يَثْبُت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمرفعها، والتشبُّث فيه بالعمومات بعدما وَرَدَ فيه خصوصُ فعله صلى الله عليه وسلّملغوٌ، فإنه لو لم يَرِد فيه خصوصُ عادته صلى الله عليه وسلّملنفعنا التمسُّك بها، وأمَّا إذا نُقِلَ إلينا خصوصُ الفعل، فهو الأُسْوَةُ الحسنة لمن كان يرجو الله والدار الآخرة، وينبغي لمن أراد أن يستنَّ بسنة النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأن يكتفي بتلك الكلمات، ولا يزيد عليها، إلا ما ثَبَتَ في نسخة الكُشْمِيهَني من زيادة: «إنك لا تُخْلِف الميعاد» في آخره، قاله ابن دقيق العيد، وعند البيهقي أيضًا.
وأمَّا زيادة: «والدرجة الرفيعة» بعد قوله: «والوسيلة والفضيلة». فلم تَثْبُت عندي في حديثٍ، فلا يُزَاد بها، لأنها زيادةٌ في خلال الكلمات، وَمَنْ كان لا بدَّ له أن يَزِيْدَ في تلك الكلمات، ففي الآخر كما ثَبَتَ عن ابن عمر رضي الله عنه: «أنه كان يزيد في تلبيته في الآخر: «لبيك وسعديك»... إلخ.
614 - (قوله:) (الوسيلة): ورأيتُ في روايةٍ: «أن طُوْبَى شجرةٌ في وسط الجنة، وفي سائر الجنة منها غصنٌ غصن». وبعده فيها ألفاظ يُتَبَادر منها أنها هي الوسيلة، فهذه عندي تُمَثَّل بعلائق الأمة بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم وعلى هذا، فدعاؤه للنبيِّ صلى الله عليه وسلّمليس لنفع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بل فيه خيره، وهو استيفاء حظِّه من شفاعته صلى الله عليه وسلّم ولذا قال في آخره: «حلَّت له شفاعتي»، فلدعائه دَخْلٌ في حلول شفاعته. وما نُقِلَ عن بعض المشايخ: أن دُعَاءَ الوسيلة تمَّ عليه، وحَصَل له هذا المقام في زمانِهِ، فهو عندي مصروفٌ عن ظاهره، لأن حصولَ هذا المقام للنبيِّ صلى الله عليه وسلّمليس مرهونًا بدعاء أحدٍ من أمته، بل هو مقطوعٌ به، والدعاء منا لاستيفاء حظ الشفاعة منه.(2/376)
614 - (قوله:) (مقامًا محمودًا)، ولعلَّ المقَام خارج الجنة في المحشر، والوسيلة داخلها، والله سبحانه أعلم.h
وصفته بالموصول لكونه علمًا. ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمله اختصاصٌ بالحمد، فاسمه محمد، ولواؤه لواء الحمد، ومَقَامُهُ محمودٌ، وأمته الحمَّادون، وتُلْقَى عليه في ذلك المقام مَحَامِدُ لا تَحْضُرُه الآن. وخاصة تلك الكلمات: أن يَحْيَى بها وجهُ الرحمن. وقال الشيخ الأكبر: إن الحمد يكون في الآخر، فإذا فَرَغَ عن الطعام اسْتُحِبَّ له الحمد، وإذا يَدْخُلُ أهل الجنة الجنة يحمدونه تعالى: {وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَلَمِينَ} (يونس: 10) وسُمِّي النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأحمدَ ومحمدًا، لكونه في آخرهم. اللهم صلِّ عليه صلاةً دائمةً مع دوامك، وصلاةً خالدةً مع خلودك، وصلاةً لا مُنْتَهَى لها دون مشيئتك، وصلاة عند كل طرفة عين، وتنفُّس كل نفس.
باب الاسْتِهَامِ فِي الأَذَان
والقرعةُ لقطع النزاع مَعْتَبَرةٌ عندنا أيضًا، إلا أنها ليست بحُجَّةٍ.
(قوله:) (ويُذْكَر: أَن أقوامًا)... إلخ. كان ذلك في حروب القادسية، استشهد مؤذِّنهم، فجَعَلُوا يختلفون فيمن يصير مؤذِّنَا بعده.
615 - قوله: (لو يَعْلَمُ الناسُ ما في النداء والصَّفِّ الأوَّل)... إلخ. قلت: ومن خصوصيات الصفِّ الأول أنه يكون أبعد من تسلُّط الشيطان من سائر الصفوف، هكذا يُسْتَفَاد من الأحاديث. واخْتُلِفَ في الصف الأول، والأكثرون: أنه ما يتصل من الشمال إلى الجنوب، والذين في مِحْراب الإمام إذا كان متسِّعًا ليسوا في الصف الأول، خلافًا لبعضهم.
615 - (قوله:) (ولو يعلمون ما في العَتَمَة والصُّبْحِ)، ويُعْلَمُ من بعض طُرُقه أنه سِيْقَ للتعريض على المنافقين، لا في فضل هاتين الصلاتين.
باب الكَلامِ فِي الأَذَان(2/377)
كَرِهَهُ الحنفية، وإن تكلَّم اخْتُلِفَ في الإِعادة.
(قوله:) (ولا بأس أن يَضْحَكَ)... إلخ، لا ينبغي أن يُفْهَم منه التوسيع في الكلام والضحك وأمثالهما، فإنَّ توارثَ الأمة على ترك السلام في خلاله.
(قوله:) (رزغ) كارا.
616 - (قوله:) (فلما بَلَغَ المؤذِّنُ حيَّ على الصلاة، فَأَمَرَه أن يُنَادِي: الصلاة في الرِّحَال)... إلخ، ففي هذا الحديث أنه أمَرَ بتلك الكلمات مكان حيَّ على الصلاة، ثم ليس فيه ذكر بقية الأذان. وعن ابن عمر رضي الله عنه في الحُدَيبية: «أنه أَمَرَ بها بعد الفراغ عنه». قلتُ: وعليه ينبغي العمل، فإن ابن عمر رضي الله عنه أكثر اتباعًا للأثر، وأقل اجتهادًا من ابن عباس رضي الله عنه، وفي طُرُقه تصريحٌ أنه كان يوم الجمعة. وعَدُّ الزَّرْغ(2) من أعذار الجمعة في فقهنا أيضًا. وروى محمد رحمه الله تعالى في كتاب «الحجج»: «إذا ابتلّت النعال، فالصلاة في الرِّحَال»، ثم فسَّر النعال بالأرض الصلبة، دون النعل المعروف. والحافظ رحمه الله تعالى لَمَّا لم يَظْفَرْ بكتاب «الحجج»، نقل تفسيره عن «غريب الحديث» لأبي عُبَيْد، وأبو عُبَيْد هذا كثيرًا ما يقول في كتابه: ومن الروايات التي تأوَّلناها على محمد بن الحسن، أي أخذنا شرحه منه. وعُلِمَ منه أن شاكلةَ الجمعة تُغَاير شاكلة سائر الصلوات عندهم، ولذا من تخلَّف منهم عن الجمعة لم يصلِّها في بيته. ولو كان حال الجمعة كحال سائر الصلوات، لأقاموا الجمعات في رِحَالهم أيضًا، فافهم.
616 - (قوله:) (وإنها عَزْمَةٌ): يعني أن صلاةَ الجمعة عَزْمة، فلولا أَمَرْت بهذه الكلمات أن ينادى بها في الأذان لحضرتم كلكم، وربما تحرَّجتم، فصلَّيت بالحاضرين، وأعلنت بتلك الكلمات لمن أَرَاد أن لا يَحْضُرها، ويصلِّي في بيته.
باب أَذَانِ الأَعْمى إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُخْبِرُه(2/378)
وفي «المحيط»: أنه مكروهٌ، والمختار ألا بأس به إذا كان عنده من يُخْبِره بالوقت، وبه حَصَل الجمع أيضًا.
617 - قوله: (إن بلالا يؤذِّنُ بليلٍ)... إلخ، وفيه مباحث: الأول: هي يُشْرَع تكرار الأذان لصلاةٍ واحدةٍ أو لا؟ فقال الشافعيةُ: إنه جائزٌ مطلقًا، ويُسْتَفَاد من كتاب «الأم» للشافعيِّ رحمه الله تعالى: أن فيه تفصيلا من نحو كونه عند الحاجة، وكونه في أمكنةٍ متعدِّدةٍ، وكون المؤذِّن متعدِّدًا ثم صَرَّح فيه بجواز التكرار إلى أربعة. وقال النوويُّ: يُسْتَحَبُّ أن لا يُزَاد على أربعةٍ إلا لحاجةٍ ظاهرةٍ، وهذا يَدُلُّ على جواز الزيادة على الأربعة أيضًا، وهذا التكرار عندهم إعلامٌ بعد إعلامٍ حتى جوَّزوه في الصلوات الخمس لا إعادة. ولعلَّ زيادة عثمان رضي الله عنه النداء الثالث أيضًا تحت هذه الضابطة، لأنه لمَّا رَأَى أن الشرعَ وَرَدَ بتكرار الأذان في الفجر، لكونه وقت الغَفْوَة والغَفْلَة، زاده في الجمعة أيضًا لظهور الاحتياج فيه إلى مزيد إعلامٍ.
والحنفية أيضًا أبَاحُوا أذان الجَوْق، إلا أن أذان الجَوْق يكونُ في وقتٍ واحدٍ، والتكرارُ عندهم يكون بطريقِ التعقيب، بل يُسْتَحَبُّ أن يترتَّبُوا فيه إذا اتسع الوقت.
قلت: وقد تمسَّك لأذان الجَوْق بما أخرجه مالك في «الموطأ» في باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يَخْطُب: «فإذا خَرَجَ عمر، وجَلَسَ على المنبر، وأذَّن المؤذِّنون، وقال ثَعْلَبة: جَلَسْنَا نتحدَّث، فإذا سَكَتَ المؤذِّنون، وقام عمر يَخْطُب، أنصتنا فلم يتكلَّم منا أحدٌ». اه.(2/379)
والثاني: هل يجوز الأذان قبل الوقت؟ فأجمع كلُّهم على أن الأذان قبل الوقت لا يَجُوز إلا في الفجر، فذهب الجمهور إلى جوازه في الفجر خاصةً، وقال إمامنا الأعظم ومحمدٌ رحمهما الله تعالى: إنه لا يجوز في الفجر كما في أخواته عندهم، وتمسَّك الجمهور بحديث ابن عمر رضي الله عنه، وعائشة رضي الله عنها في تكرار الأذان، وفيه تصريحٌ بأن الأذان الأول كان قبل الوقت.
والثالث: أنهم اختلفوا في وقته، فأجازه النوويُّ من نصف الليل، وهو تطاولٌ محضٌ ليس له مُسْكَة في الأحاديث، بل فيه ما يَدُلُّ بخلافه، كما في البخاري: «ولم يكن بين أذانيهما إلا أن يَرْقَى هذا، وينزل هذا». فدلَّ على تقارُب الأذانين جدًا، ومنه سَقَطَ تأويله: أن بلالا كان يُؤَذِّن قبل الفجر، ويتربَّص بعد أذانه للدعاء ونحوه، ثم يَرْقُبُ الفجرَ، فإذا قارب طلوعه نَزَلَ، فأخبر ابن أم مكتوم، فيتأهَّب ابن أم مكتوم بالطهارة، ثم يَرْقَى ويَشْرَعُ في الأَذان مع أول طلوع الفجر.اه.
وأنتَ تَعْلَمُ أنه لم يَحْتَجْ إلى هذا التصوير البعيد، إلا أنه لَمَّا التزم جوازه من نصف الليل، وكان الحديث يَدُلُّ على شدَّة التقارُب بينهما، حَمَلَه على أنه كان يُؤَذِّن بليلٍ، وكان يَجْلِسُ هناك ليصادف نزولُ هذا صعودَ هذا، فيَصْدُق التقارب. وكأنه كان بصدد الجمع بين ما اختاره وبين تعبير عائشة رضي الله عنها في شدَّة التعجيل، فلم يكن يَنْزِلُ حتى يجيءَ وقتُ أذان ابن أم مكتوم، ثم كان يَنْزِلُ بحيث يَقَعُ أذانُ ابن أم مكتوم في أول الطلوع، لئلا يُخَالِفَ مسألة التغليس أيضًا، وهذا كلُّه إنما يمشي إذا أخذ التقارُب فيه بين النزول والصعود.(2/380)
وقد عَلِمْتَ من متن البخاري ما بين الأذانين، فدَلَّ على قلة الفاصلة بين الأذانين جدًا، ولذا قال السُّبْكي: إن وقتَ الأذان الأول من سدس الليل بعد طُلُوعِ الصبح الكاذب، وصحَّحه. وإنما عبَّره ابن عمر رضي الله عنه بالليل توسُّعًا لبقاء بعض الظلمة بَعْدُ، فَحَمَلَه على الليل حقيقةً، ولعلَّ النوويَّ ذَهَبَ إليه، لأنِ رَأَى وقتَ العشاء إلى النصف بلا كراهة، فَجَعَلَ أذان الفجر في النصف الثاني، لأن هذا الأذان عندهم للفجر، فلا يكون إلا بعد انقضاء وقت العشاء، وهو إلى النصف بدون كراهة.
قلت: فهلا جَعَلَ للعشاء والفجر أذانًا واحدًا، فإنه إذا قدَّمه إلى النصف فما بعده أيسر. والذي تَدُلُّ عليه الأحاديث هو تقارب الأذانين جدًا، حتى بالغت فيه عائشةُ رضي الله عنها، قالت: «لم يكن بين أذانيهما»... إلخ. وهذا أيضًا مبالغة منها، ولم تُرِدِ الفاصلة بقدر هذا فقط، بل أرادت بيان شدَّة التقارُب بينهما. فإن كان حنفيٌّ يريد أن يَجْمَدَ على ظاهر تعبيرها، ويشدِّد على الشافعية، فليس بسديدٍ، فإن الشيءَ من باب المحاورات، والأخذ فيه بمثله، أخذٌ بكل حشيشٍ.
والرابع: أنه إن أذَّن قبل الوقت، فهل يُجْتَزِىء بذلك، أو يعيده في الوقت أيضًا؟ فادَّعى الشافعية أنه يُجْزِىءُ بذلك، واسْتَبْعَدَه الحنفية، وقالوا: كيف مع ورُود التكرار في متن الحديث صراحةً؟ والمختار عندنا أنه لا يُعْتَدُّ بالأذان قبل الفجر، ويجب الإعادة في الوقت، كما في سائر الأوقات عندهم أيضًا.(2/381)
والخامس: أن الأذان الأول كان للفجر، أو لمعنى آخر؟ فذهب الشافعيةُ أنه كان للوقت كالثاني على طريق الإعلام بعد الإعلام، وادَّعى الحنفيةُ أنه كان للتسحير لا للوقت. وتمسَّك له الطحاويُّ بما رُوِيَ عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، وهو عند مسلم أيضًا: «لا يَمْنَعَنَّ أحدَكم أذانُ بلالٍ، أو قال: نداءُ بلالٍ من سَحُوره، فإنه كان يُؤَذِّن ليَرْجِعَ قائمكم، ويُوقِظَ نائمكم»... إلخ فتبيَّن منه أن أذان بلال إنما كان لأجل أن يَرْجِعَ قائم الليل عن صلاته ويتسحَّر، ويستيقظ النائم فيتسحَّر، فهذا تصريحٌ بكونه للتسحير لا للفجر. وأمَّا للفجر، فكان ينادي به ابن أم مكتوم، ولذا كان يَنْتَظِرُ الفجرَ ويتوخَّاه.
وتحيَّر منه الحافظُ ولم يَقْدِر على جوابه، إلا أنه قال: لا تناقُضَ بين الأسباب، فَجَازَ أن يكون للتسحير أيضًا. ثم المذكور في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في جميع طُرُقه هو الأذان الواحد فقط، ولا ذكر فيه للثاني، فَحَمَل الحنفيةُ الساكتَ على الناطقِ، وَعَجَز عنه الحافظُ أيضًا، فإنه لا دليلَ فيه حينئذٍ على الاجتزاء بالأذان الواحد.
والسادس: أنه كان في رمضان خاصةً، صرَّح به أحمدُ رحمه الله تعالى كما في «المغني» لابن قُدَامة، وابن القطَّان كما في «الفتح»، وابن دقيق العيد كما في «التخريج» للزَّيْلَعِي.
والسابع: أن هذا الأذان كان بعين تلك الكلمات، أو بكلماتٍ أخرى غير المعروفة، فذهب السَّرُوجي منا أنه كان بكلماتٍ أخرى غير تلك الكلمات، وحمله الشافعية رحمهم الله تعالى على المعروف. فهذه سبعة مباحث.(2/382)
ولعلَّك فَهِمْتَ منها أن في استدلالهم نظرٌ من وجوهٍ: الأول: في ثبوت نفس التكرار، وإن سلَّمناه، فلنا أن نمنع كونه بكلماتٍ معروفةٍ، لِمَ لا يجوز أن يكون بكلماتٍ أخرى؟ وإن سلَّمناه، فلِمَ لا يجوز أن يكون في رمضان خاصةً؟ ولو سلَّمناه أيضًا، فَلِمَ لا يجوز أن يكون الأول للتسحير لا للفجر؟ فعليهم أن يُثْبِتُوا هذه الأشياء، ودونه خَرْطُ القَتاد.
قلت: لمّا رأيت الحنفيةَ يتأوَّلون بكون الأول في رمضان خاصةً، تتبعت له كتُبَ الفقه: أن المسألة عندنا هي أيضًا كذلك، أو هو مجرد احتمال واحتيال، فوجدتُ في «شرعة الإسلام» لشيخ صاحب «الهداية»: جواز العمل به في رمضان عندنا. وحاصلُ هذا الجواب: أنه لا نِزَاع في نفس التعدُّد، وإنما النزاع في تعدُّد الأذان للفجر، ولا دليلَ عليه من ألفاظ الحديث، بل فيها أنه كان للتسحير، وهو جائزٌ عندنا أيضًا.
وههنا جوابٌ آخر ساقه الطَّحاويُّ في «معاني الآثار»، وقال: يحتمل أن يكون بلالا كان يؤذِّن في وقتٍ كان يَرَى أن الفجرَ قد طَلَعَ فيه، ولا يتحقَّق ذلك لضعف بصره، لما رُوِيَ عن أنس رضي الله عنه: «لا يَغُرَّنَّكم أذانُ بلال، فإن في بصره شيئًا». وفي بعض ألفاظ عندي: «فإن في بصره سوءٌ». وقوَّاه ابن دقيق العيد، ثم أيَّده الطَّحاويُّ بما رُوِي عن عائشة رضي الله عنها من التقارُب الشديد بين أذانيهما، حيث قالت: «فلم يكن إلاّ مقدار ما يَصْعَدُ هذا، ويَنْزِلُ هذا»، فثَبَتَ أنهما كانا يَقْصُدَان وقتًا واحدًا، وهو طُلُوع الفجر، فيخْطِئُهُ بلال لِمَا ببصره شيء، ويُصِيبُهُ ابن أم مكتوم، لأنه لم يكن يفعله حتى يقول له الجماعة: أصبحت أصبحت.
(2/383)
وله جوابٌ آخر: «أن الأسودَ سَأَلَ عائشةَ رضي الله عنها عن وترها، فقالت: إذا أذَّن المؤذِّن، قال الأسودُ: وإنما كانوا يؤذِّنون بعد الصبح». وسماع الأسود عن عائشة رضي الله عنها كان بالمدينة، ثم هو يروي أذان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّمبعد الصبح، وعائشة رضي الله عنها لم تُنْكِر على تركهم التأذين قبله، ولا أنكر عليه غيرها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع أنها سَمِعَت من النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي تعدُّد الأذان ما سَمِعَت.
وله جوابٌ آخر أيضًا: ما أُخْرِجَ عن ابن عمر رضي الله عنه: «أن بلالا أذَّن قبل طُلُوع الفجر، فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأن يَرْجِعَ، فنادى: ألا إن العبدَ قد نام». فهذا ابن عمر رضي الله عنه يروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمما ذكرناه، وهو ممن قد رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «إن بلالا يؤذِّن بليلٍ»... إلخ فَثَبَتَ بذلك أن ما كان من ندائه قبل طُلُوع الفجر مما كان مباحًا له هو لغير الصلاة، وأننا ما أنكره عليه إذ فعله قبل الفجر كان للصلاة.
وقد رُوِيَ عن ابن عمر، عن حَفْصَة بنت عمر رضي الله عنهم في حديثٍ: «وكان لا يؤذِّنُ حتى يُصْبِحَ». فهذا ابن عمر رضي الله عنه يُخْبِرُ عن حَفْصَة رضي الله عنها: أنهم كانوا لا يؤذِّنُونَ حتى يُصْبِحَ». فهذا ابن عمر رضي الله عنه يُخْبِرُ عن حَفْصَة رضي الله عنها: أنهم كانوا لا يؤذِّنون للصلاة إلا بعد طُلُوع الفجر. وأَمْرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمبلالا أيضًا أن يَرْجِعَ فينادي: «ألا إن العبدَ قد نام»، يَدُلُّ على أن عادتهم أنهم كانوا لا يَعْرِفُون أذانًا قبل الفجر، ولو كانوا يَعْرِفُون ذلك لَمَا احتاجوا إلى هذا النداء. وأراد به عندنا - والله أعلم - ذلك النداء إنما هو لِيُعْلِمَهم أنهم في ليلٍ بَعْدُ حتى يُصَلِّي من آثر منهم أن يُصَلِّي، ولا يُمْسِك عنه الصائم. اه. بتغييرٍ.(2/384)
واعْتُرِضَ عليه من جهة الإسناد والمعنى جميعًا. أمَّا الأول، فقالوا: إن الصحيحَ وَقْفُه على عمر رضي الله عنه، فهو واقعةُ عمر رضي الله عنه مع مؤذِّنه، لا واقعة النبيِّ صلى الله عليه وسلّممع بلال وأُجِيبَ: إن حَمَّادًا إن سلَّمنا تفرُّده، فهو ثقةٌ مقبولٌ، مع أنه ليس بمتفرِّدٍ فيه، وله مُتَابَعَاتٌ شتَّى، وإحداها قوية، فلا يُمْكِن إنكاره وإنما اضْطَرُّوا إلى إنكاره لِمَا ثَبَتَ عندهم تقديم الأذان عن وقته، وهكذا قد يأتي الفِقْهُ على الحديث.
وأمَّا من جهة المعنى، فكما قال الترمذي: إن حديث حمَّاد لو كان صحيحًا لم يكن لهذا الحديث معنى، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن بلالا يؤذِّن بليلٍ»، فإنما أمرهم فيما يُسْتَقْبَلُ، ولو أنه أمره بالإِعادة حين أذَّن قبل طُلُوع الفجر لم يَقُل: «إن بلالا يؤذِّن بليلٍ». اه. وأُجِيبَ: بأن العمل في تكرار الأذانين كان مختلفًا، فكان بلالٌ يؤذِّن بالليل، وابنُ أمّ مكتوم في الصباح، ثم صَارَ ابنُ أم مكتومٍ مكان بلالٍ، فكان ابنُ أم مكتومٍ يؤذِّن في الليل، وبلالٌ في الصباح. هكذا ثَبَتَ في بعض الروايات، وأخرجها الحافظ في «الفتح».(2/385)
وزَعَم بعضُهم فيه قلبًا من الرَّاوي، والصواب أنه ليس بقلبٍ، بل محمولٌ على اختلاف الزمانين وعليه استقرَّ رأيُ الحافظ بعد تطريقه. فإذا ثَبَتَ أنه كان كذلك، فلنا أن نقول: إن قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «إن بلالا يؤذِّن بليلٍ»، إنما هو في زمانٍ كان بلالُ يؤذِّن بالليلِ وابن أم مكتوم في الصباح. وأمَّا أَمْرُه إياه أن ينادي: «ألا إن العبدَ قد نام» فجاز أن يكون في زمان كان بلالُ يؤذِّن فيه في الصباح واتفق في ذلك اليوم أنه أذَّن في الليل على عادته القديمة، أو ظنَّ أن الفجرَ قد طَلَعَ عليه، فاحتاج إلى الاعتذار عنه. فإن الأذان بالليل قد كان فَرَغَ عنه ابنُ أم مكتومٍ، وكان ينبغي له ألا يؤذِّن إلا بعد طُلُوع الفجر لئلا يقع الأذانان كلاهما في الليل، فلمَّا أذَّن هو أيضًا بالليل لَزِمَه أن يَعْتَذِرَ عنه، لأنه قد أذَّن قبل وقته الذي كان يؤذِّن فيه، فهذا هو وجهه، والله تعالى أعلم.
ثم إنك قد عَلِمْتَ عن حَفْصَة رضي الله عنها: أنهم كانوا لا يؤذِّنون للصلاة إلا بعد الفجر، وهكذا عن الأسود في حديث عائشة رضي الله عنها، وقد مرَّ آنفًا. وأخرج الطَّحَاويُّ عن سُفْيَان بن سعيد أنه قال له رجلٌ: «إني أؤذِّن قبل طُلُوع الفجر لأكون أول من يَقْرَعُ باب السماء بالنداء، فقال سُفْيَان: لا حتى يَنْفَجِرَ الفجرُ». وعن عَلْقَمَة عنده قال إبراهيم: «شيَّعنا عَلْقَمَةَ إلى مكة، فخرج بليلٍ، فَسَمِعَ مؤذِّنًا يؤذِّن بليلٍ، فقال: أمَّا هذا، فقد خَالفَ سنةَ أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم لو كان نائمًا كان خيرًا له، فإذا طَلَعَ الفجرُ أذَّن». وفي «التمهيد»، عن إبراهيم قال: «كانوا إذا أذَّن المؤذِّن بليلٍ أَتَوْهُ، فقالوا له: اتقِ الله، وأَعِد أذانك». ومن أراد التفصيل فليراجع الزَّيْلَعِي.
(2/386)
ثم ههنا دقيقةٌ أخرى يجب التنبيه عليها، وهي: أن الطَّحَاويّ ادَّعَى جوازَ الأكل في زمانٍ بعد طلوع الفجر أيضًا، ووافقه الداودي المالكي شارح البخاري، وأيَّده الحافظُ رحمه الله تعالى أيضًا، وأخرج أثرًا عن أبي بكر رضي الله عنه: «أنه أكل بعد الفجر»، وعن حُذَيْفَة مثله كما في «التفسير المظهري». واستشكل الحافظُ روايةَ الباب أيضًا، وقال: إنه جَعَلَ أذانَ ابن أم مكتوم غايةً للأكل، فلو أذَّن بعد دُخُول الصباح - كما يعلم من الرواية، وكان ابنُ أم مكتومٍ رجلا أعمى لا ينادي حتى يُقَال له: أصبحت أصبحت - لَزِمَ جوازُ الأكل بعد طُلُوع الفجر، وهو خِلافُ ما عليه الجمهور. فالظاهر أن حديثَ الباب مؤيِّدٌ لمن قال: إن حُرْمَةً الأَكل بتبيُّن الفجر، لا بنفس الطُّلُوع، وهو أقوى حُجَّةً، وهو أقوى حُجَّةً، كما قالوا. اه- مختصرًا.
قلت: ومن بقاياه ما تسلسل في كُتُب الفِقْه من رواية جواز الأكل بعد الطُّلُوع أيضًا، كما في «قاضيخان»، وإن كان الأحوطُ هو التركُ. وأصل البحث في القرآن: فمنهم من أراد منه التبيُّن التام، ومنهم من اكتفى بنفس التبيُّن، ولذا أقول: إن من أكل بعد الطُّلُوع وانتهى عنه قُبَيْل الانتشار، فإنه يقضي فقط ولا يُكَفِّر، واستدلَّ الطَّحَاوِيُّ على ذلك بقصة زِرّ بن حُبَيْش مع حُذَيفة في الصيام، ثم أخرج في باب التأذين قبل الفجر، عن حَفْصَة رضي الله عنها: ما مرَّ آنفًا، ولفظه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان إذا أذَّن المؤذِّن بالفجر، قام فصلَّى ركعتي الفجر، ثم خَرَجَ إلى المسجد، وحَرُمَ الطعامُ، وكان لا يؤذِّن حتى يُصْبِح». وعند أبي داود، في باب الرجل يَسْمَعُ النداء والإناء على يده، عن أبي هُرَيْرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا سَمِعَ أحدُكم النداءَ والإناءُ على يده، فلا يَضَعْه حتى يقضي حاجته منه».اه.(2/387)
فهذه الروايات تَدُلُّ على جواز الأكل بعد نداء الصبح أيضًا، وحينئذٍ دَعَتْ الضرورةُ إلى الأذان الآخر، ليُمْسِكَ من أراد الصومَ عَمَّا يُمْسِكُ عنه الصائمون، فيمكن أن يكون تعدُّد الأذان في ذلك الزمان، فإذا نُسِحَ الأكلُ بعد الفجر، نُسِحَ أحدُ الأذانين أيضًا، وهو الذي قبل الفجر. وقال بعضُ العلماء: إن الأذان قبل الفجر في عهد صلى الله عليه وسلّمكان لتعليمهم وقت السُّحُور، ثم لمَّا عَرَفُوه تُرِكَ. هذا زُبْدَة مقالهم، وملخَّص كلامهم في هذا الباب.
والذي تبيَّن لي هو أن الأذانَ الأولَ أيضًا كان للوقت كالأذان الثاني، ومن قال: إن الأذان الأولَ لو كان للفجر لَمَا كانت حاجةٌ إلى الأذان الثاني، ففيه مصادرةٌ على المطلوب، كيف وهذا أول النزاع؟ وقد بيَّنا في أول الكلام أن الأذانَ الثاني ليس إعادةً ليُتَوَهَّم منه إبطال العمل، بل هو إعلامٌ بعد إعلامٍ، وهو معقولٌ.d
وإنما التزم الحنفية أنه للتسحير ليَسْهُلَ الجواب عليهم، ولذا قالوا: إنه مخصوصٌ برمضان.(2/388)
قلتُ: ولا دليلَ عليه، وأمَّا ما قال به ابن القطَّان وابن دقيق العيد، فليس في أيديهما شيءٌ أيضًا إلا هذا الحديث، ولا نقلَ عندهم من الخارج أنه كان مخصوصًا برمضان، وإنما أبداه من قوله: «فَكُلُوا واشْرَبُوا»، ففَهِمَا منه أنه كان للتسحير، لأن الأكلَ والشربَ في الليل لا يكون إلا تسحيرًا، ولا يكون إلا في رمضان. وأصرحُ حُجَّةٍ عندهم على ذلك: حديث ابن مسعود رضي الله عنه لِمَا فيه تصريحٌ بعلَّة الأذان، وهي أنه: «لِيَرْجِعَ القائمُ، ويستيقظَ النائمُ». وحَمَلُوه على التسحير، فَغَلِطُوا في شرحه، مع أن المرادَ من القائم ليس هو القائمُ للصلاة، بل هو الذي قام عن فراشه، ثم ذهب لحاجته وتفرَّق في الفضاء وغيره، فمعناه أن بلالا يُؤَذِّنُ ليَرْجِعَ هذا القائم إلى الصلاة، وليقومَ من كان نائمًا، فيتأهَّبَ للصلاة. وعند الطَّحَاوِيِّ: «ليرجعَ غائبكم» بدل قائمكم، أي من كان غائبًا، ولم يكن موجودًا في بيته، وهو أصرح في هذا المراد.
ثم رأيتُ الشافعيَّ رحمه الله تعالى شَرَحَه بعين ما قلتُ. والحافظُ رحمه الله تعالى لَمَّا لَمْ يُدْرِكْ مراده تحيَّر منه، وَعَجَزَ عن جوابه، ولم يَقْدِر إلا على أنه لا تناقضَ في الأسباب، فجاز أن يكونَ للتسحير أيضًا، فكأنه التزم شرحه المشهور. وأمَّا إذا عَلِمْتَ حقيقةَ الحال، لم يَبْقَ لنا فيه استدلالٌ.(2/389)
بقي حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما، فليس فيه بيانٌ لِمَا كان بلالٌ يُؤَذِّنُ له، وإنما فيه: «أن بلالا يُؤَذِّنُ بليلٍ»، وأما لأي شيء هو، فلا حَرْفَ له فيه، وحَمْلُهُ على التسحير من بداهة الوَهْم لا غير، بل في طُرُقه ما يَدُلُّ على خلاف ذلك، وهو قوله في «صحيح البخاري»: «لا يَمْنَعَنَّكم أذانُ بلال»، فدلَّ على أن أذانه لم يكن مانعًا عن التسحير، لا أنه كان للتسحير كما فَهِمُوه، وهل تستطيع أن تفرِّق بينهما؟ ثم إنه لا ذِكْرَ للأذان الثاني في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في واحدٍ من طُرُقه، وإنما فيه الأذان الواحد، وهو قبل الوقت، وليس فيه علَّةُ الأذان، بل فيه نكتةُ التقديم، أي إن بلالا يُؤَذِّنُ بليلٍ ويقدِّمه ليرجعَ القائم إلى الصلاة، وليتأهَّب النائمُ.
أمَّا الأذانُ، فهو لِمَا عُهِدَ في الشرع، فَطَاحَ ما زَعَمُوه أنه للتسحير، وكفانا عن إثبات كونه للفجر. فإن الأذانَ لم يُعْهَد عند الشرع إلا للصلاة، مع أنه إذا قال: حيَّ على الصلاة، فليس معناه إلا أنه للوقت، وإذا كان الأمرُ كذلك، فلا يُنَاسب أن يُقَدَّم إلى نصف الليل كما زَعَمَه النوويُّ، بل هو كما قلنا في الصبح المستطيل قبل المستطير. بقي أن الأذانين هل كانا في رمضان خاصةً؟ فهو أيضًا مما لا دليلَ عليه.
617 - أمَّا قوله: «فكُلُوا واشْرَبُوا»، فهو متأتَ على ما فرضناه خارج رمضان أيضًا، وهذا لمن كان يريد صيام النفل، لا سِيَّما في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فإن بعضَهم كان يصومُ صومَ داود، وبعضَهم يصومُ أيامَ البيض، وآخر يصومُ الدهرَ فلا يُفْظِرُ. ولم يكونوا بقليل، فأمكن أن يكون قوله: «فكُلُوا واشْرَبُوا» بالنظر إلى هؤلاء.(2/390)
ويَدُلُّ على ما قلنا ما في «المسند»، و «الكنز»: «فمن أراد الصوم، فلا يمنعه أذانُ بلال حتى يؤذِّن». اه. فجَعَلَ الصومَ فيه بخيرته، فهل يُنَاسِبُ هذا في رمضان؟ فهو إذن لم يكن مُخْتَصًّا برمضان كما أنه لم يكن مستمرًّا في سائر السنة، أمَّا إنه لم يكن مستمرًّا في السنة كلِّها، فمما يَدُلُّ على ذلك ما في «السنن»: «إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمحذَّر في أمر الجماعة مرةً وعظَّم أمرها، وخَفَضَ فيها وَرَفَعَ، فقال ابن أم مكتوم: إني رجلٌ أعمى، وليس لي قائدٌ، فهل لي رُخْصَةٌ؟ قال: نعم، ثم سأله أنه هل يَسْمَعُ التأذين؟ قال: نعم، فلم يرخِّصه في ترك الجماعة». فهذا صريحٌ أنه لم يكن يؤَذِّن دائمًا، وفيه دليلٌ على أن لسماع الأذان مزيدَ دَخْل في حضور الجماعة. وفي «الطبقات» لابن سعد: «إن بلالا كان يُؤَذِّن إذا حَضَر بالمدينة، وإذا غَاب أَذَّن ابنُ أم مكتوم، وكان بلالُ إذا أذَّن أذَّن قبل الوقت». نقله عن الواقدي، وهو أعلم بهذه الأشياء.(2/391)
وبالجملة إني متردِّدٌ في ثُبُوت استمرار تعدُّد الأذان، ثم في أنهما كانا في مسجدين أو في مسجدٍ واحدٍ، فإن كانا في مسجدين خَرَجَ عمَّا نحن فيه، ولا دليلَ عليه في قول عائشة رضي الله عنها: «لم يكن بين أذانيهما إلا قدر ما يَنْزِلُ هذا وَيَصْعَدُ هذا». وليس فيه إلا شِدَّة التقارُبِ بينهما، لا أنهما كانا في مسجدٍ واحدٍ، ومن العجائب ما في «الوفاء» من الاكتفاء بأذانٍ واحدٍ لجميعِ أهل المدينة، وكان في المدينة يومئذٍ تسعُ مساجدَ، وكلُّهم كانوا يصلُّون على أذان بلال، وليس مذهبًا لأحدٍ، ثم إني أجدُ في أحاديثٍ عدمَ رِضَاء النبيِّ صلى الله عليه وسلّمبأذانه قبل الفجر، وهذا حيث كان الأذانُ واحدًا، وهو كما أسلفناه عن الطَّحَاويِّ: «لا يَغُرَّنَّكم أذانُ بلال، فإن في بصره شيئًا»، وهذا يَدُلُّك ثانيًا على أن أذانَ بلال قبل الفجر لم يكن للتسحير كما فَهِمُوه، وإلا لَمَا احتاج إلى الاعتذار عنه: «بأن في بصره سوء»، بل كان للفجر، ثم كان يقدِّمه لسوء في بصره، فأَمر الناسَ أن يتحقَّقوا الفجر بأنفسهم. وكذلك ما مرَّ عن حَفْصَة رضي الله عنها، والأسود عند الطَّحَاوِيِّ: «أنه كان لا يُؤَذِّنُ حتى يُصْبِحَ»، وعند أبي داود: ولا تُؤَذِّنْ حتى يَسْتَبِيْنَ لك الفجرُ». قال أبو داود: وهو منقطعٌ.
قلتُ: وقد أخرجه الحافظُ ضياء الدين المقدسي في «مختاراته»، فلا بدَّ أن يكون قابلا للعمل، وهو عندي بإسنادٍ قوي أيضًا. والحاصل: أني متردِّدٌ في كون هذين الأذانين في مسجدٍ واحدٍ، وفي استمرارهما سائر السنة، والذي تَلَخَّصَ عندي: أن الأذانين حين كان ينادى بهما كانا للصلاة قطعًا لا للتسحير، نعم لم يكن الأول مانعًا عن التسحير بخلاف الثاني.(2/392)
وعلى هذا ينبغي أن يُؤَوَّلَ ما رُوِيَ عن محمد: «أن الأذانَ الأولَ كان للتسحير»، بأن معناه: لم يكن مانعًا عن التسحير. ثم إن اكتفى بأذانٍ واحدٍ، كان المطلوبُ فيه أن يكونَ بعد الفجر، فإن وَقَعَ قبل الفجر بقليلٍ أَغْمَضَ عنه، ولم يرض به، وهو قوله صلى الله عليه وسلّم «لا يَغُرَّنَّكُمْ أذانُ بلالٍ، فإن في بصره سوءً». ففيه نداءٌ على عدم رضائه مع الإغماض عنه، وإن تقدَّم على وقته المعهود بزمنٍ طويلٍ لم يُغْمِض عنه، ولم يتركه حتى ينادي: «إن العبدَ قد نام». فحَمْلُه عندي: إذا قدَّمه على ما كان من عادته أيضًا، ثم لم يأمره بالإعادة.
فيُسْتَفَاد من الأحاديث: جواز الأذانين للفجر، مع كون الأول قبل الوقت. ويُسْتَفَاد: أن المطلوبَ كونهُ بعده إن اكتفى بالواحد، ولا إعادة إن قدَّم بقليلٍ.
ومحصَّل الكلام بعد هذا التطويل والإسهاب بحيث يَمَلُّ منه النُظَّارُ، وتَكِلُّ منه الأنظارُ: أن الحديث لم يُوَافِقِ الحنفية بتمامه، كما إنه لم يُوَافِقِ الشافعية بتمامه، لأنه ليس فيه: أن أذان الفجر إن تقدَّم على الوقت، وَجَبَ إعادته، كما في فِقْهِنَا، وكذلك ليس فيه: الأذان قبل الفجر مطلقًا، كما كَتَبَه الشافعية، والأصوبُ في الجواب: أنه ثَبَتَ الأمران، إلا أن الأمرَ انتهى إلى: أن لا يؤذِّن للفجر حتى يَسْتَبِيْنَ ولعلَّ بعض القطعات من تلك القصة لم تَصِلْ إلينا، فانْخَرَمَ به المراد.
باب الأَذَانِ بَعْدَ الفَجْر(2/393)
عَكَسَ المصنِّف رحمه الله تعالى في وضع التراجم، فبوَّب بالأذان بعد الفجر أولا، وبالأذان قبله ثانيًا إيماءً إلى أنه لا مَنَاص عن الأذان بعد الفجر، سواء أذَّن قبله أو لا. ومن ههنا عُلِمَ أن ما ذَهَبَ إليه الشافعيُّ رحمه الله تعالى من الاكتفاء بالأذان الأول فقط، والحنفية من نفي الفائدة في ذلك الأذان أصلا، ليس بسديدٍ: فإن الأذانَ بعده مما لا بدَّ منه، وقبله مفيدٌ ولو في الجملة مثل التهيؤ لها وغيره.
618 - قوله: (إذا اعْتَكَفَ)... إلخ، فَهِمَ منه المصنِّف رحمه الله تعالى: أن اعتكافه كان لارتقاب طُلُوع الصبح ليؤذِّنَ حين يتبيَّن له، ولذا ترجم عليه بالأذان بعد الفجر.
618 - قوله: (ركعتين خفيفتين) حتى تردَّدت عائشةُ رضي الله عنها: أنه هل قَرَأَ فيها شيئًا، أم لا؟ ورُوِيَ مثله عن ابن عمر رضي الله عنه، إلا أنه علَّله أبو نصر، ووجهُ إعلاله: أنه رُوِيَ عنه مرةً: «أنه رآه يقرأ فيهما بسورة الإخلاص إلى شهرين»، ورُوِي عنه أخرى: «أنه لم يَرَه هو، بل بَلَغَه عن أخته حَفْصَة رضي الله عنها، لأنه صلى الله عليه وسلّمكان يصلِّيهما في بيته، ولم يكن يَدْخُل عليه في تلك الساعة أحدٌ».
باب الأَذَانِ قَبْلَ الفَجْر(2/394)
لا يُقَال: إن الأذانين لو كانا بكلماتٍ واحدةٍ لَمَا حَصَلَ التمييزُ بينهما، ولَمَا أفاد تأذينُ ابن أم مكتومٍ فائدةً، فَلَزِم أن يكونا بكلماتٍ مختلفةٍ بحيث لا يَغْتَرُّ الصائمُ بالأذان الأول، ثم إذا سَمِعَ الأذانَ الثاني يُمْسِكُ عَمَّا يُمْسِكُ عنه الصائمون، لأنا نقول: إن التمايُزَ يَحْصُل من تِلْقَاء أصواتهما، وإن لم يَحْصُل من جهة كلماتهما، وأن الأذانين لو كانا بكلماتٍ مختلفةٍ ولم يكن بينهما التباسٌ على زعمكم، فما معنى قوله: «لا يَغُرَّنَّكم أذانُ بلال»، فإنه يَدُلُّ على أن أذانه كان بحيث لو اغترَّ منه مُغْتَرٌّ لاغترَّ، فَدَلَّ على وَحْدَة كلماتهما على طوركم أيضًا.
باب كَمْ بَينَ الأَذَانِ وَالإِقامَةِ وَمَنْ يَنْتَظِرُ الإِقامَة(2/395)
وقدَّره الحنفية بقَدْر أن يقضي الرجلُ حاجَتَه، ويَرْجِعَ إلى الصلاة، وأقلُّه أن يُصَلِّي فيه أربع ركعات إلا في المغرب، فإنه يُسْتَحَبُّ فيها التعجيل مهما أمكن. وقال ابن الهُمَام رحمه الله تعالى: يَنْتَظِرُ فيها أيضًا بقدْر ركعتين لورود الحديث فيه، وذهب إلى إباحتها كما في «القنية» أيضًا. وفي عامة الكُتُب: إن الصلاةَ قبل المغرب مكروهةٌ والأوجه ما اختاره ابن الهُمَام، وإليه ذَهَبَ مالكٌ رحمه الله تعالى. وقال الشافعيُّ رحمه الله تعالى: يُصَلِّي ويتجوَّز فيهما، وعن أحمد رحمه الله تعالى: أنه صلاهما مرةً، ثم لم يستمر عليهما، كما يُعْلَمُ من «مسنده». وفي العيني: أنه لم يصلِّها إلا مرةً حين بَلَغَه الحديث، وهكذا عُرِفَ من عادات المحدِّثين: أنهم كانوا يعملون بالحديث مرةً حين يَبْلُغُهم وإن لم يَذْهَبُوا إليه ولم يختاروه، وإنما يَبْتَغُون بهذا الطريق سبيل الخروج عن عُهْدَتِهِ. ونَقَلَه الحافظ في «الفتح»، وفيه سهوٌ، فكَتَبَ: حتى بَلَغَه الحديث، مكان «حين» فانقلب منه المراد. والصواب كما في العَيْنِي، كَمَا يَتَّضِحُ من «مسند أحمد» رحمهم الله تعالى.
والحديثُ حُجَّةٌ للشافعية، وأصرح منه ما عند البخاري في باب الصلاة قبل الغروب، ولفظه: «صَلُّوا قبل صلاة المغرب، قال في الثالثة: لمن شاء، كراهية أن يتخذها الناسُ سنةً». اه. لأن فيه صيغةَ الأمر، وأدناها أن تُحْمَل على الاستحباب، ولأن فيه تصريحًا بصلاة المغرب بخلاف حديث الباب، فإنه إن صَدَقَ عليها، صَدَقَ بعمومه. وقد عَلِمْتَ أن التمسُّك بالعموم دائمًا عندنا ليس بذاك. وأجاب عنه الحنفية رحمهم الله تعالى: أن المرادَ من الأذانين الأذانان في الوقتين للصلاتين، فاستقام الحديث على مذهبنا أيضًا، وليس بجيدٍ عندي، لأن المراد منه هو الأذان والإِقامة تغليبًا. والحديثُ على طورهم يَصِيْرُ قليل الجدوى، فإنه أمرٌ بديهي.(2/396)
والصواب في الجواب ما اختاره ابن الهُمَام من التزام الإباحة، وعليه تُحْمَلُ صيغة الأمر، لأنها وَرَدَت في صلاةٍ تَضَافَرَت الروايات بتعجيلها - أعني المغربَ - وحينئذٍ يَتَبَادَرُ الذهنُ أن لا يصلِّي قبلها بصلاة، فإذن لا تكون إلا لبيان الإباحة، ورفع إبهام الحظر، لا سِيَّما إذا كان فيه لفظ: «لمن شاء»، و «كراهية أن يتخذها الناسُ سنةً». والفرق في الأحاديث بالاستحباب والسنية غير نافع.
وعند أبي داود في باب الصلاة قبل المَغْرِب، عن أنس بن مالكٍ قال: «صلَّيت الركعتين قبل المغرب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: قلتُ لأنس: أرآكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: رآنا، فلم يأمرنا، ولم ينهانا». وهذا هو معنى الإباحة. وما يَحْكُمُ به الخاطر الفاتر أن الحديثَ على وجهه، هو الحديثُ العامُّ، وأراد الراوي أن يُجْرِيَ عمومه على المغرب، لأن المسألةَ عنده هكذا كانت، فأخْرَجَ المغرب من الخمس، وأدْخَلَها تحت حكم الحديث العامِّ، وركَّب منه عبارةً كما رأيت. وهذا بالحقيقة رواية المعنى، لا الرواية بالمعنى. وحاصلهُ: أن الروايةَ بالمعنى هي التي يَقْصُد بها الراوي سَرْدَ الرواية بألفاظها، فلم تَحْضُرْهُ الألفاظ، فرواها على المعنى، أي مراعيًا للألفاظ.(2/397)
وأمَّا رواية المعنى: فهي أن لا يَقْصُدُ سردَ الألفاظ من أول الأمر، بل يَقْصُدَ إعطاء المراد الجملي، كما يَقْصُد في المجالس العامة كالوعظ وغير ذلك، فيروي المعنى فقط إلقاءً للمراد بدون تعرُّض إلى الألفاظ. وإنما حَمَلَني على ذلك حكم الوجدان، ولأن الحديث في عامة ألفاظه لا يُوْجَدُ إلا على اللفظ العام، ولاشتراك الإسناد في الموضعين، ولنقل ابن الجوزيِّ في كتاب «الناسخ والمنسوخ»، عن الأَثْرَم تلميذ أحمد رحمه الله تعالى: أنه معلولٌ. ثم وَرَدَت في الحديث العامِّ زيادةٌ عند الدارقطني و«مسند البزار» هكذا: «بين كل أذانين صلاةٌ إلا المغرب». اه. وهو عجيبٌ، فإن استثناء المغرب يُنَاقِضُ صراحةً قوله: «صَلُّوا قبل المغرب». ولا يلتقي الأمرُ بها مع استثنائها حتى يلتقي السُهَيْل مع السُّهَا.
قيل: في إسناد الاستثناء حَيَّان بن عبد الله، وقال ابن الجوزيّ: إنه كذَّابٌ، ومَرَّ عليه الزَّيْلَعِيُّ وقال: إنه اثنان: ابن عبد الله: وهو كذَّابٌ، وابن عُبَيْد الله: وهو ثقةٌ، ونقل عن البزار: أن حيان ههنا هو ابن عُبَيْد الله، وهو بصريٌّ ثقة. ومرَّ عليه السيوطي في «اللآلىء المصنوعة»، وقال: وسها ابن الجوزيِّ في حكمه بالوضع، ثم قرَّره بما مرَّ. فالروايةُ صحيحةٌ، ويقضي العجب من مثل الحافظ حيث نَقَلَ عبارةَ ابن الجوزيِّ، ولم يَنْقُل عبارةَ البزَّار، ولا وجهَ له غير أنه كان فيه نفعٌ للحنفية ولا يريده، وإلا فالحافظُ ليس غافلا عن هذه الأشياء، والله المستعان.(2/398)
قلتُ: ولعلَّ الحديثَ كان بدون الاستثناء، إلا أن الراوي لمَّا لم يُشَاهد بهما العمل، ألحق به الاستثناء من قِبَل نفسه، كما فعل ابن عمر رضي الله عنه، وبنى نفيه على انتفاء المشاهدة عنده. فعند أبي داود قال: «سُئِلَ ابن عمر رضي الله عنه عن الركعتين قبل المغرب، فقال: ما رأيتُ أحدًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّميصلِّيهما»... إلخ. فليس عنده غير تلك المشاهدة، فبنى عليها النفي. وهكذا حالُ من زاد الاستثناء، فإنما زاده لأجل أنه افتقد بهما العملَ، لا أنه كان مرويًا عنده جزئيًا.
وتحصَّل من المجموع: أن في الباب ثلاث روايات: الأولى: الحديث العام بدون تعرُّض إلى المغرب نفيًا وإثباتًا، والثاني: الأمر بها جزئيًا، والثالث: استثناؤها عن الخمس. والذي يَدُور بالبال - وإن لم يكن له بال - أن الحديثَ المرفوعَ هو الحديثُ العامُّ، ثم من كان مذهبُهُ الصلاة قبل المغرب، رواها على اللفظ الثاني على طريق رواية المعنى وبيانًا للمسألة، لا على شاكلة سَرْد الرواية. ومن استثناها عن الخمس نظر إلى الخارجِ، ولمَّا لم يَجِدْ فيه أحدًا يَعْمَلُ بهما، أَخرجهما عن الأمر بالصلاة لا محالة، لا أن الاستثناء مرفوعٌ عنده، أَلا تَرَى أن ابن عمر رضي الله عنه لمَّا سُئِلَ عنهما لم يأتِ بصريح النهيِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وإنما نفاهما بناءً على مشاهدته وفُقْدَان العمل، هكذا فليفهم حال الاستثناء. ثم لم يَذْكُر راوٍ من رواة هذه الرواية أن واحدًا منهم كان يعمل بهما. وهذا يحقِّق أن من صلَّى بهما، فقد عَمِلَ بألفاظ الحديث، ومن تَرَكَهُمَا، فقد نَظَرَ إلى المشاهدة(2/399)
وبالجملة إن مذهب الإمام هو المذهبُ المنصورُ، وإليه ذهب الجمهور، كما صرَّح به النووي. ثم إنه مع التصريح بعمل الخلفاء الأربعة وغيرهم على الترك، أراد أن يَرُدَّ على أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فلينظر هل يُنَاسب هذا بعد ذلك؟ وإن تعدلوا هو أَقْربُ للتقوى. والله المستعان. وما تحصَّل عندي: أنهما قد عُمِلَ بهما في زمنٍ، ثم انتهى العملُ بالترك، كما مرَّ عن ابن عمر رضي الله عنه. وعند النسائي في باب الرخصة في الصلاة قبل المغرب: «أنَّ أبا تميم الجَيْشَانِيَّ قام لِيَرْكَعَ ركعتين قبل المغرب، فقلتُ لِعُقْبَةَ بن عامرٍ: انظر إلى هذا، أيَّ صلاةٍ يُصَلِّي؟ فالتفتَ إليه فرآه، فقال: هذه صلاة كنا نُصَلِّيها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم. اه. فَثَبَتَ منه الجزآن، أي أنها كانت في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم انقطع بهما العمل حتى أفضى إلى الإنكار عليهما. أَلا ترى إلى قوله: «أيَّ صلاةٍ يُصَلِّي؟» كيف يَتَسَاءلُ عنها كأنه لا يَعْرِفُ أصلها.
بقي عَمَلُ أبي تميم، فتلك أذواق للناس: فمنهم من لا يُحِبُّ أن يَتْرِكَ ما عُمِلَ به في عهده صلى الله عليه وسلّممرةً، ويُوَاظِبُ عليه، ويراه مُؤَكَّدًا لنفسه. ومنهم من يُرَاعِي السُّنَّةَ الأخيرة، فالأخيرةُ وهي ما استقرَّ عليها عملُه صلى الله عليه وسلّم وعَمِلَ بها أصحابُهُ صلى الله عليه وسلّمبعده، وقد عُرِفَ من أمر أصحابه رضي الله عنهم ما نبَّهناك عليه، أَلا تَرَى أن أبا مَحْذُوْرَة لم يَجِزَّ ناصيته بعدما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّممَسَحَ عليها، ومثله في الصحابة رضي الله عنهم كثيرٌ، وقد مرَّ منا مثله عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه مع عمر في الركعتين بعد العصر. وبالجملة: المسائل إنما تُؤْخَذُ من الأمر والنهي، لا من أذواق الناس، وإن للناس فيما يَعْشَقُون مذاهب.
باب مَنِ انْتَظَرَ الإِقَامَة(2/400)
يعني من جَلَسَ في بيته ينتظر الإقامة، فهل يُسَوَّغُ له ذلك؟
626 - قوله: (سَكَتَ المُؤذِّنُ بالأُولَى)، إنما سمَّاه بالأولى باعتبار الإِقامة، وليس بناؤه على تكرار الأذان، لأنه قد تحقَّق عندنا: أن التكرارَ لم يكن مستمرًّا، وإن عُمِلَ به في زمانٍ.
626 - (قوله:) (ثم اضْطَجَع على شِقِّهِ الأيمن حتى يأتيهِ المُؤَذِّنُ للإِقامة)، وهذا نوعٌ آخر من الانتظار، فلا يتمسَّك منه أحدٌ على أنه صلى الله عليه وسلّمكان يَجْلِسُ في بيته، ثم يَخْرُجُ إذا سَمِعَ الإِقامَةَ. وعند أبي داود، عن ابن عمر رضي الله عنه: «إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّممرتين مرتين»، إلى أن قال: «فإذا سَمِعْنَا الإِقَامَة توضَّأنا، ثم خَرَجْنَا إلى الصلاة». اه. وما بلغتُ كُنْهَ مراده، ولعلَّه وَقَعَ فيه نقصٌ في التعبير ولا بدَّ، وإلا لَمْ يُعْرَف ذلك من حال الصحابة رضي الله عنهم.
باب بَينَ كُلِّ أَذَانَينِ صَلاةٌ لِمَنْ شَاء
أطلق في هذه الترجمة، ولم يسمِّ المغرب، ثم لمَّا ترجم عليه في النوافل صرَّح بالمغرب، كما عَلِمْتَ مفصَّلا.
باب مَنْ قَالَ: لِيُؤَذِّنْ فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ وَاحِد
قوله: (مُؤَذِّنٌ واحدٌ). كلامُ الحافظ ههنا مشوَّشٌ، ولعلَّه فَهِمَ أن في عبارته قُصُورًا، لأنه ترجم أولا بتعدُّد الأذانين، ولمَّا أراد أن يُتَرْجِمَ على الأذان الواحد انتقل من حال الأذان إلى المُؤَذِّن، وقال: «مُؤَذِّنٌ واحدٌ» - فكان الأحسن أن يقولَ: «لِيُؤَذِّنْ في السفر أذانًا واحدًا»، لِتَّسِقَ نظمُ التراجم - مع أن كون المؤذِّن واحدًا لا يُوْجِبُ كون الأذان أيضًا واحدًا لِيَثْبُتَ مطلوبُهُ، لأنه يَجُوز أن يؤذِّنَ المُؤَذِّنُ الواحدُ آذانًا عديدةً، والمقصود هو الأذان الواحد.(2/401)
أقول: وبناءُ ترجمته على أن المُؤَذِّنَ الواحدَ لا يُؤَذِّنُ إلا واحدًا، ولذا اختار الشافعيُّ رحمه الله تعالى تعدُّد المؤذِّنين عند تعدُّد الأذان. فالمؤذِّنُ الواحدُ لا يُؤَذِّنُ إلا أذانًا واحدًا، والأذانُ المتعدِّدُ لا يكون إلا من المؤذِّن كذلك. وحينئذٍ إذا كان في السفر مؤذِّنٌ واحدٌ يكون الأذان أيضًا واحدًا، المصنفُ رحمه الله تعالى في باب الجمعة، فبَوَّب بالمؤذِّن الواحد يوم الجمعة، وعبَّر عن الأذان الواحد بالمؤذِّن الواحد، وهذا دليلٌ على أن المؤذِّنَ الواحدَ لا يُؤَذِّنُ عنده إلا أذانًا واحدًا، والله تعالى أعلم.
628 - (قوله:) (أَتَيْتُ النَّبِيَّ فِي نَفَرٍ من قومي)، وهذا الصحابي قد يقول: أتيت مع ابن عمي، ثم الراوي أيضًا يتبعه في التعبير.
(فَإِذَا حَضَرَتِ الصلاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لكم أحدُكم)، والمُتَبَادَرُ منه عندي: أن أمره ذلك إنما هو عند بلوغهم إلى بلدهم، وحَمَلَهُ البُخَارِيُّ رحمه الله تعالى على السفر، وسيجيءُ بعضُ توضيحٍ في الحديث الآتي.
628 - (قوله:) (ولْيَؤُمَّكُم أكبرُكم)، ومنه أُخِذَ الترتيبُ في الإِمامة، فَيَؤُمُّ الأعلمُ، ثم الأقرأُ... إلى آخره.
باب الأَذَانِ لِلمُسَافِرِ إِذَا كانُوا جَمَاعَةً، وَالإِقَامَةِ، وَكَذلِكَ بِعَرَفَةَ وَجَمْعٍ، وَقَوْلِ المُؤَذِّنِ: الصَّلاةُ فِي الرِّحالِ، فِي اللَّيلَةِ البَارِدَةِ أَوِ المَطِيرَة
الأحسنُ للمسافر عندنا أن يُؤَذِّنَ وَيُقِيْمَ، فإن اكتفى بالإقامة جاز، وإن تَرَكَهما كُرِهَ، وأشار من قوله: «إذا كانوا جماعةً» إلى توسيعٍ في حق المُنْفَرِدِ.(2/402)
630 - (قوله:) (إذا أَنْتُما خَرْجْتُمَا فَأَذِّنَا)، وهذا في السفر قطعًا. وما مرَّ من صيغة الجمع يَحْتَمِلُ أن يكونَ في السفر، كما حَمَلَ عليه المصنِّف رحمه الله تعالى، ويَحْتَمِلُ أن يكون بعد بُلُوغهم إلى بلدهم، كما هو المُتَبَادَرُ عندي، وقد وَرَدَ في طُرُقه ما يُشِيْرُ إليهما، ومن ههنا اندفع التناقضُ بين صيغة التثنية والجمع، فإن الأُولى محمولةٌ على الطريق، والثانيةَ على بلوغهم إلى وطنهم. أو يُقَال: إنهما في السفر، إلا أن الراوي قد يُرَاعي نفسَه وابنَ عَمِّه بالتثنية، وقد يُرَاعي نفسَه مع رُفَقَائِهِ، فيأتي بالجمع، كما يَدُلُّ عليه قوله: «ونحن شَبَبَةٌ»، لأنه يُسْتَفَاد منه: أنه كان معه رُفَقَاؤُه أيضًا.
ثم العجبُ من النَّسائي، حيث بوَّب عليه بما لم يَذْهَبْ إليه أحدٌ من الأمة، وهو: تعدُّد الأذان في السفر: نظرًا إلى صيغة التثنية فقط، مع أن التثنيةَ على معنى أنه ينادي به أحدُهما ويَقَعُ عن الآخر، لا أنه يُؤَذِّنُ كلٌّ منهما. فالتثنيةُ بطريق وقوعه عن أحدها أصالةً وعن الآخر حُكْمَا. ولقائلٍ أن يقولَ بمثله في الفاتحة، فإن الإمامَ يقرؤها أصالةً، وَتَقَعُ عن المقتدي حُكْمَا، فيُعَدَّان قارئين بهذا الطريق، فَصَدَقَ قوله: «لا صلاة لمن لم يقرأ»... إلخ عندنا بدون تكلُّفٍ أيضًا.
باب هَل يَتَتَبَّعُ المُؤَذِّنُ فاهُ هاهُنَا وَهاهُنَا؟ وَهَل يَلتَفِتُ فِي الأَذَانِ؟(2/403)
والحكمةُ في سَدِّ صِمَاخ الأذنين: أن يَحْتَبِسَ النفسُ، ويَقْوَى الصوتُ. ومن ههنا عُلِمَ أن وضعَ الإِصْبَعَيْن على الصِّمَاخين لا يكفي، بل لا بدَّ أن يُدْخِلَهُمَا فيهما، ومَنْ لم يَفْعَلْه، فقد خَالَفَ السُّنَّةَ. وفي كلام المصنِّف رحمه الله تعالى وجهان: الأول: أن يكونَ قوله: «المؤذن» مرفوعًا على أنه فاعلٌ، وهل يَلْتَفِتُ تفسيرًا له، وحينئذٍ يكون المذكورُ فيه مسألةَ التحويل عند الحَيْعَلَتَيْنِ. والثاني: أن يكونَ المؤذِّنُ مفعولا، والمعنى: هل يَتْبَعُ السامعون المؤذنَ، ويكون فاه بدلا عنه.
قوله: (وهل يَلْتَفِتُ في الأذان)، لا ينبغي أن يحوِّلَ صدرَه.
(قوله:) (وكان ابن عمر رضي الله عنه لا يجعل إصْبَعَيْهِ في أُذُنَيْهِ): إمَّا لأنه لم يَبْلُغْهُ الحديث، أو لكونه ليس بعزيمةٍ.
(قوله:) (لا بَأْسَ أن يُؤَذِّنَ على غير وُضُوءٍ): ولنا فيه قولان: الأول: الكراهيةُ مطلقًا، وهو المختار عندي، لموافقته حديثًا فيه وإن كان إسنادُهُ ضعيفًا. والآخر: كراهةُ الإقامة فقط. وأمَّا البخاري، فإنه لمَّا وَسَّع في مسِّ المصحف، ودُخُول المسجد وأمثالهما، فكذلك في الأذان.
باب قَوْلِ الرَّجُلِ: فَاتَتْنَا الصَّلاة
باب لا يَسْعى إِلَى الصَّلاةِ، وَليَأْتِ بِالسَّكِينَةِ وَالوَقار
(وكَرِهَ ابنُ سِيرينَ أن يقولَ: فاتتنا الصلاةُ)، وهذه الكراهة من باب تهذيب الألفاظ، كإِطلاق العَتَمَةِ على العشاء، وإطلاق يَثْرِب على المدينة. ويُسْتَفَاد منه: أن فواتَ الجماعة يُعَبَّرُ بفوات الصلاة في نظر الشريعة، وعليه حُمِلَت.
الاختلاف في المسبوقِ أهو قاضٍ أم مؤدٍ؟
قوله: (صلى الله عليه وسلّممن فاتته صلاة العصر)... إلخ، أي من فاتته الجماعةُ، وهناك احتمالات أخرى أيضًا.(2/404)
635 - (قوله:) (فَلا تَفْعَلُوا): صلى الله عليه وسلّمربهى مت كرو، وسيجيء عليه الكلام مبسوطًا.
635 - (قوله:) (ما أَدْرَكْتُمْ فصَلُّوا)... إلخ اعلم أن ترتيبَ صلاة المَسْبُوق عندنا كترتيب صلاة الإِمام، فما يُصَلِّيه مع إمامه هو آخرُ صلاته، وما يقضيه بعده أولُ صلاته، فالمسبوقُ عندنا كالمُنْفَرِد فيما يقضي. وقال آخرون بعكسه، فترتيبُهُ عندهم كما في الحسِّ، وعبَّر عنه الشيخُ الأكبرُ رحمه الله تعالى: إن المسبوقَ عندنا قاضٍ فيما بقي، وعند آخرين مُؤَدَ فيه. وتمسَّك الحنفيةُ بلفظ الفوات والقضاء، كما في بعض الروايات: «وما فَاتَكُمْ فَاقْضُوا»، فدلَّ على أن المسبوقَ قاضٍ فيما بقي، لأن الحديثَ سمَّى أول صلاته فائتةً، ثم أمره بقضائها، فدلَّ على أنه يصلِّي على ترتيب الإمام. وتمسَّك الشافعية بلفظ: «أَتِمُّوا» والإتمام لا يكون إلا في الآخر، فكأن ما يصلِّيها مع إمامه أولها، فلا يُقَال فيما بقي إلا أنه مُتَمَّمٌ وَمُؤَدَّى فيها.
قلتُ: والحقُ أنه لا تمسُّكَ فيه لهما، ومسائلُهم من باب التفقُّه. فللشافعيةِ أن يَحْمِلُوا الفواتَ على الفوات بحَسَبِ الحسِّ دون الحكم، كما جَازَ للحنفية أن يَأْخُذُوا الإتمام بحسبه. وتفصيله: إن أولَ صلاته وإن كانت فائتةً باعتبار الحسِّ والمشاهدة، لكنها لم تَفُتْهُ بِحَسَبِ الحكم عندهم، فهو قاضٍ لها في الحسِّ، ومُتَمِّمٌ في الحكم. فإن أول صلاته ليست إلا التي أدركها مع إمامه، وهذه لم تَفُتْهُ، وإنما فاتته ما هو أول صلاته باعتبار المشاهدة والحسِّ. وكذلك نقول في الإِتمام: إن المسبوقَ وإن كان في الحسِّ والمشاهدةِ مُتِمًّا لصلاته، إلا أنه قاضٍ لها في نظر الشارع، لأنه قد فاتته أول صلاته، وحينئذٍ يجري فيه الشرحان سواء بسواء.(2/405)
ولنا في المسألة حديثان ذكرناهما في رسالتنا «فصل الخطاب»، أحدهما: ما عند أبي داود، في الأذان: «أُحِيْلَت الصلاة ثلاث تحويلاتٍ»... إلخ، والآخر عند الترمذي غير أن في إسناده ليِّنٌ. ولتراجع كتب الأصول، فإنهم اختلفوا في أن صلاةَ المسبوقِ أداءٌ كاملٌ أو قاصرٌ، وأقاموا فيها المراتب.
باب مَتَى يَقُومُ النَّاسُ إِذَا رأَوُا الإِمَامَ عِنْدَ الإِقَامَة
باب لا يَسْعى إِلَى الصَّلاةِ مُسْتَعْجِلا وَليَقُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالوَقار
ويُعْلَمُ من بعض الأحاديث أنهم كانوا يَقُومُون لها بعد تمام الإقامة، ومن بعضها أنهم كانوا يَقُومُون في خلالها، وهكذا في كُتُبنا، ويراجع له الطَّحَاويّ «حاشية الدر المختار». والمسألةُ فيه: أن الإمام إن كان خارج المسجد، ينبغي للمقتدين أن يَقُوموا لتسوية الصفوف إذا دَخَلَ في المسجد، وإن كان في المسجد، فالمعتبرُ قيامه من موضعه. وكيفما كان ليست المسألة من مسائل نفس الصلاة، بل من الآداب، فإن قَامَ أحدٌ قبله لا يكون عاصيًا.(2/406)
(قوله:) (فلا تقوموا حتى تَرَوْنِي): قال العلماء: إن بلالا رضي الله عنه كان يُرَاقِبُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمفإذا رآه أقام. وأمَّا سائرُ الناس، فكانوا لا يَرَوْنه إلا بعد أن يَصِلَ إلى الصف. وكان المسجدُ من بيته بحيث لو خَرَج قدمُهُ منها وَقَعَ في المسجد، فكان بلالُ رضي الله عنه يُقِيمُ إذا خَرَجَ، فإذا وَصَلَ مَوْضِعَ الإِقامة وَجَدَ الصفوفَ قد سُوِّيَت، والإِقامةَ قد تمَّت. وأمَّا القيامُ قبل رؤيته فَعَدَّه عبثًا، كما قال مرةً: «ارْبَعُوا على أنفسكم، إنكم لا تَدْعُون أصمَّ ولا غائبًا»، حين رآهم يُبَالِغُون في الجهر. فليس فيه أن الجهرَ ممنوعٌ كما فَهِمَه بعضُهم، بل فيه إيذانٌ بكون جهرهم عَبَثًا، فهكذا القيام من قبل. وثم إنه إن كان بطريق المُثُول فممنوعٌ، كما عند أبي داود: «إنكم لتفعلون فِعْلَ فارس والروم مع عظمائهم».
والحاصل: أن الأنفعَ القيامُ عند رؤية الإِمام، وقبله عَبَثٌ، وكان القوم في عهده صلى الله عليه وسلّميَجْلِسُون مستقبل القبلة، فلم يكن في التسوية عُسْرٌ.
باب هَل يَخْرُجُ مِنَ المَسْجِدِ لِعِلَّةٍ؟
باب إِذَا قَالَ الإِمامُ: مَكَانَكُمْ، حَتَّى رَجَعَ انْتَظَرُوه
وفي «المِشكاة: «إن أبا هُرَيْرَة رضي الله عنه رَأَى رجلا خَرَجَ من المسجد بعد الأذان، فقال: أمَّا هذا، فقد عَصَى أبا القاسم صلى الله عليه وسلّم - بالمعنى - وأشار المصنِّف إلى الرخصة لذي الحاجة. وفي «البحر»: أنه يَجُوزُ لمن كان يُرِيْدُ العَوْدَ، أو كان ينتظم به أمرُ الجماعة. وهذا الذي كنتُ نَبَّهْتُك عليه: أن العمومَ قد يخصَّصُ بالرأي أيضًا، ولو ابتداءً، لأنه لمَّا وَجَدُوا الوجهَ فيه جَلِيًّا، خَصَّصُوه بالرأي.(2/407)
639 - (قوله:) (خرج إلينا يَنْطُفُ رأسُه ماءً). وقد مرَّ منا أنها واقعةٌ واحدة، وأن النبي صلى الله عليه وسلّمخَرَجَ فيها قبل أن يُكَبِّرَ، وأنه يَدُلُّ على جواز خروج الجُبُبِ من المسجد بدون طهارة كما في فِقْهِنَا، أو محمولٌ على أنه كان خاصةً له. ثم لمَّا كانت المساجدُ بيوتَ الأنبياء ومأواهم، حتى جَازَ لهم الدُّخُول والمُرُور فيها جُنُبًا، قُدِّرَ أن يَعْتَرِضَ عليه مثل هذه العوارض مرةً لِيُعْرَفَ منه ذلك. وههنا حاشية من المصنِّف رحمه الله تعالى في بعض النُّسَخ تَدُلُّ على مُضِيِّ تحريمته، وأنه يَجِبُ على القوم أن لا يَجْلِسُوا إن كانت التحريمةُ سَبَقَت.
قلتُ: ولو سلَّمنا أن المسألةَ كانت هذه، فقد مرَّ مني عن أبي داود: أن بعضهم جَلَسُوا في تلك الواقعة، فالتزامُ سبق التحريمة مع جلوس القوم مُشْكِلٌ عنده، وقد مرَّ أيضًا: أن مسائلَ القدوة أوسعُ عنده من الكل.
مسألة
في كُتُب الحنفية: أن قيامَ الصبيان في خلال الصفوف مكروهٌ، ولا أدري ماذا كان السلف يفعلونه، فإن الصبيان كانوا يَحْضُرُون الجماعات في زمنهم أيضًا.
باب قَوْلِ الرَّجُلِ: ما صَلَّينَا
والمصنِّفُ رحمه الله تعالى بصدد بيان تهذيب الألفاظ، وقد مرَّ ما عن ابن سيرين رحمه الله تعالى.
641 - (قوله:) (ما كِدْتُ أن أُصَلِّي)... إلخ. قد عَلِمْتَ فيه اختلاف آراء النُّحَاة، فإن حَمَلْتَه على رأي الجمهور، فالترجمةُ مأخوذةٌ من قول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وإن أَخَذْتَ رأيَ بعض النحاة، فيمكن أخذها من قول عمر رضي الله عنه أيضًا.
641 - (قوله:) (بعدما أفطر الصائمُ)، وهذا من بابالمحاورات، ولا يَستَدْعِي أن يكون هناك صائمٌ أيضًا.
باب الإِمامِ تَعْرِضُ لَهُ الحَاجَةُ بَعْدَ الإِقَامَة
باب الكَلامِ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاة(2/408)
وفي «الدر المختار»: أن الإِمامَ إن مَكَثَ بعد الإقامة، ولم يَدْخُل في الصلاة حتى طال الفصل يُعِيدُها، وإلا لا وأمَّا ضَبْطُ البطء. وعدمه، فعسيرٌ.
643 - (قوله): (فَحَبَسَهُ بعدما أُقِيمَتِ الصَّلاةُ): هذه واقعةٌ واحدةٌ، وما تُوهِمُه ألفاظ الترمذي: أنها كانت عادةً له فقد علَّله البخاري. وأمَّا الرجلُ فِلم يدركه الشارحان من هو.
قلتُ: وقد وَجَدْتُ اسمه، وهو مذكورٌ في «الأدب المفرد» للبخاري. ثم لمَّا اتضحَ أن احتباسه صلَّى الله عليه وسلَّم كان لحاجةٍ، ثم في واقعةٍ واحدةٍ فقط، لم يُخَالِفْه تضييق الفقهاء، فإنهم اختاروا الإِعادةَ فيما إذا طال الفصلُ، فليراجع له «الأدب المفرد»، فإِنه مهمٌ. ومَنْ يُمْعِنُ النظرَ فيه يَفْهَمُ أنه لا توسيعَ فيه، لأن الرجل كان من رؤساء القوم، وقال: إن له حاجةً لعلَّه ينساها بعد الصلاة، فأراد أن يُبَادِرَ بها الصلاة، فتبيَّن العُذْرُ. وإذا احْتَفَّت الواقعةُ بقرائنِ التضييق، فليقتصرها على مورها، ولا ينبغي التوسيع فيها لأجل واقعةٍ واحدةٍ وقد تردَّدت في تلك الرواية، وأتِعبْتُ لها نَفْسِي، فإنّ الحافين لم يُدْرِكا هذا الرَجل، رأيتُ إعلامه أهم، فَقَلَّبْتُ لذلك دفاترَ، حتى وجدت اسمه في «الأدب المفرد»، وقد وقع لي مثله كثيرًا. نعم لا يُقْتَنَصُ العلم براحة الجسم.
باب وُجُوبِ صَلاةِ الجَمَاعَة
اختار الوُجُوبَ، ولنا فيها قولان: الأول: أنها سنةٌ مؤكَّدةٌ، والثاني أنها واجبةٌ. وقال صاحب «البحر»: إنَّ أدنى الوُجُوب وأعلى السنة المؤكَّدة واحدٌ، فلم يَبْقَ خلاف. بقي أنَّ تَرْكَ السنةِ: عِتَابٌ، أو عِقَابٌ، فلا أَدْخُلُ فيه، وقد مرَّ بعضُ الكلام فيها.
وعند الشافعي أيضًا قولان: فقال بعضُهم: فرضُ كفاية، وقال آخرون: سنةٌ موكَّدةٌ.(2/409)
وهكذا عند أحمد رحمه الله تعالى قولان: ففي قولٍ: فرضُ عينٍ وشرطٌ لصحة الصلاة، وفي آخر: ليست بشرطٍ للصحة، مع كونها فرضُ عينٍ. والمشهور بيننا من مذهبه: أنها واجبةٌ.
والخلافُ في الحقيقة راجعٌ إلى نَظَرٍ معنويَ، وهو أنه قَلَّما يكون فرضٌ من الفرائض إلا تَتَطَرَّقُ إليه الأعذار، أَلا تَرَى أن الجماعةَ قد وَرَد فيها الوعيدُ على تاركها، ثم جاءت فيه الرخصةُ بأمورٍ يسيرةٍ، كحَضْرَة الطعام وغيرها. فَيَتَعَسَّرُ الحكم في مثله، فيجيءُ واحدٌ من المجتهدين، ويُلاحِظُه مع تلك الأعذار، ويَحْكُمُ على المجموع، فلا يُمْكِنُه الحكمَ بالوُجُوبِ والافتراض، لأنه إذا دَخَلَت تلك الأعذار في نظره، وحكم مُلاحِظًا إياها، فقد ثَبَتَ تَرْكُهَا، فانحطَّ عن مرتبة الفرض، وَنَزَل إلى النِّيَّة. ومن قَطَعَ نظرَه عن تلك الأعذار، ولاحَظَهُ من حيث هو هو، ورَاعَى الوعيدَ الواردَ فيه، لم يُمْكِنْهُ أن يَحْكُمَ عليه إلا بالافتراض، ثم جعل له أعذارًا من الخارج.
وهذا كالمُحَال بالذات وبالغير عند المعقوليين، فمن لاحظ هذا الغير مع الشيء أمكنه أن يَحْكُمَ على المجموع بكونه مُحَالا بالذات، لأن الغيرَ إذا لُوحِظَ في مرتبة ذاته، وحُكِمَ بعد اعتباره حكمًا على المجموع من حيث المجموع، صَحَّ أن يَحْكُمَ عليه بكونه مُحَالا بالذات. ومن لاحظ ذاتَ الشيء التي هي ذاته، وقطع النظر عن هذا الغير الذي هو سبب الاستحالة، لم يُمْكِنْه أن يَحْكُمَ عليه إلا بالإمكان بالذات، لأن ذاته لم تَنْطَو على شيءٍ يُوجِبُ الاستحالة، وإنما هو خارجٌ عنها على هذا التقدير، فلا تكون الاستحالةُ إلا مِنْ خارجٍ، ولا يُمْكِن أن يُحْكَمَ عليه إلا بكونه مُحَالا بالنظر إلى الغير. فالفرق بين المُحَال بالذات وبالغير لا يَرْجِعُ إلى كثير طائلٍ، وإنما هو من باب اختلاف الأنظار والاصطلاحات.(2/410)
وهكذا الوُجُوبُ والنِّيَّةُ، فمن رأى الوعيدَ الواردَ، وقطع النظرَ عن الأعذار، رآه حقيقةً بتَّةً واجبةَ العمل عليها، فَحَكَمَ بالوجوب، ثم إذا مرَّ على الأعذار الواردة عدَّها كأنها عوارض من خارج، فلا تُؤَثِّرُ في نفس الشيء، غير أن له بتلك الأعذار رخصةً بترك الجماعة، فيسقط بها الإثم. بخلاف من اعتبر تلك الأعذار، وأراد أن يَحْكُمَ على مجموع الأمرين، لم يَسَعْ له الحكم بالوجوب، لأنه خَفَّت تلك الحقيقة، وهانت في نظره لاشتمالها على رخصة الترك.
وهذه كُلِّيَّةٌ تَنْفَعُكَ في كثيرٍ من المسائل وهي التي دَعَتْهم إلى الاختلاف في صفة الوتر، فإِنَّ الوترَ لمَّا أُطْلِقَ على مجموع صلاة الليل، ولم تَكُنْ حتمًا بمجموعها، وإنما فوَّض الشارعُ قطعةً منها إلى حِسْبَة المصلِّي وطَوْعِهِ يتطوَّع بها كيف شاء، وكم شاء؟ ولم يُعْطِ فيها عددًا معيَّنًا من عند نفسه، صار ظاهرُه السُّنية، ولم يُمْكِنِ الحكم على المجموع بالوُجُوب ولا يمكن، كيف، وحصَّةٌ منها نافلةٌ قطعًا، والمجموع إذا اشتمل على رُخْصة الترك في بعضه لا يُحْكَمُ عليه بالوُجُوب.
وأما الحنفيةُ رحمهم الله تعالى، فلم يَحْكُمُوا على المجموع، بل أَفْرَزُوا منها حصةً أخرى فرأوها قد عيَّن وقتها وقراءتها وأمر بقضائها، فوجَدُوا شاكلتها كشاكلة سائر الواجبات، فحَكَمُوا عليها بالوُجُوب لا محالة، وهو الذي عُنِيَ من قوله صلَّى الله عليه وسلَّم «إن اللَّهَ أمدَّكم بصلاةٍ، هي خيرٌ لكم من حُمْر النَّعَمٍ». ا ه. لا يريد بذلك مجموع صلاة الليل، بل هذه الحصة التي قَصَرَ الحنفيةُ أنظارهم عليها، ولذا تراهم لا يُنَازِعُوننا في رُخْصَةِ الترك، فاتفقوا كلُّهم على أن تركَ الوتر لا يَجُوز، وكذلك في الوقت والقراءة، وإنما يُنَازِعُون في تسمية الوُجُوب لا غير.(2/411)
فلو أدْرَكْتَ حقيقته، عَلِمْتَ: أن لا نِزَاع بعد الإِمعان إلا قليلا.، ولو راعيتَ أن اصطلاح الواجب لم يكن عند المتقدِّمين، وإنما شاع بين المتأخِّرين فقط، خَفَّ عليك الأمرُ، فلا يُوجَدُ إطلاق الواجب في كتاب الطحاويِّ، وكذا في تصانيف محمد عامةً وإنما كان هذا الواجبُ، داخلا عندهم في السُّنة. نعم السُّنة كانت على أنحاءٍ: بعضها أكيدةٌ، وبعضها غير أكيدةٍ. ولعلَّ الأكيدةَ هي الواجب، وقد مرَّ آنفًا عن «البحر»: أن أدنى الواجب عينُ أعلى السنة الأكيدة. وبعد هذه الأشياء لم يَبْقَ خلافٌ إلا من باب الاجتهاد، أعني به الخلاف في إقامة المراتب، ولكنهم يبحثون فيه كأن الخلاف فيه خلاف النصوص، فافهم.
644 - (هَمَمْتُ): الهم في اللغة يُطْلَقُ في الشر، ثم أُطْلِق في الخير توسُّعًا. «ثم أُخَالِف» يعني به فراغه عن هذه الأشياء، ثم عَوْدُه إلى رجالٍ لم يَحْضُرُوا الصلاة.
644 - (قوله): «أُحَرِّقُ عليهم بُيُوتَهم» ولا يجب أن يكون التحريقُ حال كونهم فيها، بل يَصِحُّ إطلاقه وإن خرجوا منها، وهذا في اللغة واسعٌ.
(مرماة): قيل: لحمةٌ بين شِقَّي الغنم، وقيل: سهمٌ بدون نَصْلٍ يُسْتَعْمَلُ لتعلُّم الرمي فقط، وبالجملة هو شيءٌ. غير متقوَّمٍ. والحافظُ رحمه الله تعالى حَمَل الحديثَ المذكورَ على المنافقين، كما في البخاري، عن أبي هُرَيْرَة، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «ليس صلاةٌ أثقلَ على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأَتَوْهما ولو حَبْوًا، لقد هَمَمْتُ أن آمُرَ المؤذِّنَ فيقيم، ثم آمُرَ رجلا يَؤُمُّ الناسَ، ثم آخُذَ شُعَلا من نارٍ، فأُحَرِّقَ على من لا يَخْرُج إلى الصلاة بعد». ا ه. ثم حَمَل النفاقَ على العمل لمَا عند أبي داود، عن أبي هريرة، وفيه: «آتي قومًا ليست بهم عِلَّةٌ، فأُحَرِّقُها عليهم»، وفي روايةٍ: «لولا صبيانهم في بيوتهم».c
(2/412)
قلتُ: ولعلَّه أراد منه الانتصارَ لمذهبه، لأنهم إذا كانوا منافقين، فالوعيدُ فيهم لحال نفاقهم، لا على ترك الجماعة فقط، فلا يَثْبُتُ به الوُجُوب أو الفرضية، ويمكن أن يكونَ تحقيقُ المقام فقط، وهذا بابٌ نبَّهناك عليه في كتاب الإِيمان: من أن المقام قد يشتمل على أوصاف، ثم يَرِدُ عليه حكمٌ، فبعضُهم يُنِيطُ الحكمَ بهذه الأوصاف، وبعضُهم يُرَاعي اللفظَ فقط، ولا يَنْظُرُ إلى الأوصاف التي في الخارج. فمن نظر إلى أن الوعيدَ فيه على الترك، جعله دليلا على الوُجُوب، ومن نَطَر إلى الأوصاف الخارجية كنفاق المتخلِّفين، رآه دليلا على السنية فقط. ثم لا أدري أنه لِمَ حَمَلَ النفاقَ على العملِ مع أن الأفيدَ له الاعتقادي.(2/413)
قلتُ: أمَّا كونه في حقِّ المنافقين، فهو صحيحٌ عندي، وأمَّا أن المرادَ من النفاق: هو العملي أو الاعتقادي، فالنظرُ دائرٌ فيه. وهكذا في القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَفِقِينَ يُخَدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء: 142) وفي آيةٍ آخرى {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَرِهُونَ} (التوبة: 54) وفي آيةٍ آخرى {فويلٌ للمصلِّين الذي هم عن صلاتهم سَاهُون} (الماعون: 4 - 5) الخ.وقد عَلِمْتَ: أن الإتيان إلى الصلاة هو الإتيان إلى الجماعة، ومن فاتته الجماعة، فقد فاتته الصلاة في نظر الشرع، وحينئذٍ فالذين يتخلَّفون عن الجماعات، ويَتَكَاسَلُون فيها هم مُنَافِقُون في لسان القرآن ولذا سمَّاهم الحديث أيضًا منافقين. وأمَّا وجهُ التردُّد في تعيين النِّفَاق، فلأنَّ صَدْرَ الآية الأولى يَدُلَّ على كونها في النفاق الاعتقادي لاشتمالها على ذكر خِدَاعهم، وعَجُزَها على كونها في النفاق لقوله تعالى: {وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}، ومع هذا أظنُّ أنها في الاعتقادي.
أمَّا الثانية والثالثة، ففي النفاق الاعتقادي قطعًا، وحينئذٍ إن كان المراد في الحديث هو العملي، كما ذهب إليه الحافظ، فهو من باب إلحاق الجنس بالجنس عندي، فإِن نفاقَ العمل إذا بَلَغَ نهايته، وصار بحيث لا يتحمَّلُه الشرع أُلْحِقَ بالنفاق الحقيقي الاعتقادي.
(2/414)
والحاصل أن الآيات في حقِّ المنافقين. أمَّا الحديثُ، فيُمْكِنُ أن يكونَ في حقِّ المنافقين، كما يُمْكِنُ أن يكونَ في حقِّ المسلمين المُسْرفين، إلا أن نفاقهم العملي لمَّا بَلَغَ نهايته سدَّ مسد النفاق الاعتقادي، ثم أُلْحِقُوا بهم على طريق إلحاق الجنس بالجنس الآخر، وأُجْرِي عليهم ما يجري على المنافقين اعتقادًا. ثم الحديثُ اسْتُدِلَّ به على كراهة الجماعة الثانية وعلى عدمها، وكلاهما عدولٌ عن الصواب، وقد قرَّرناه في درس الترمذي.
باب ُ فَضْلِ صَلاةِ الجَمَاعَة
قوله: (وكان الأسودُ إذا فاتَتْه الجماعة ذَهَبَ إلى مسجدٍ آخر)... الخ. ولا يجبُ ابتغاء الجماعة في مسجدٍ آخر إذا فاتته جماعة المَحَلَّة. نعم يُسْتَحَبُّ له ذلك عندنا أيضًا. وفي الفِقْه: إن فاتت الجماعة يُجَمِّعُ مع أهله في بيته، وأمَّا من لم يَرْغَب في تحصيل جماعة المسجد أصلا وجَمَّعَ في بيته، فهل يُعَدُّ تاركًا للجماعة أو لا؟ فلم يتعرَّض إليها غير «الكبيري» فليراجعه.
قوله: (وجاء أنسٌ إلى مسجدٍ قد صُلِّيَ فيه، فأَذَّنَ وأَقَامَ، وصلَّى جماعةً)، واستدلَّ به من اختار الجماعة الثانية، ووسَّع فيها أحمد رحمه الله تعالى، وذهب الشافعيُّ رحمه الله تعالى ومالك رحمهما الله تعالى إلى التضييق كما صرَّح به الترمذيُّ. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الكبيري: أنها تَجُوزُ بدون الأذان والإِقامة إذا لم تكن في موضع الإِمام. ولعلَّ تركَ الأذان والإِقامة مع ترك موضع الإِمام لتغييرها عن هيئة الجماعة الأولى، وفي ظاهر الرواية: أنها مكروهةٌ. ثم إن رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى محلُّها فيمن فاتتهم الجماعة، لا أنهم تعمَّدوا ذلك أو تعوَّدوه.(2/415)
أمَّا أثرُ أنس رضي الله عنه، فلا دليلَ فيه لِمَا في «مصنَّف ابن أبي شيبة» «أنه جَمَع بهم وقام وَسْطَهم، ولم يتقدَّم عليهم»، فدَّل أنه قصد تغيير الشَّاكِلَةِ كما فعله أبو يوسف رحمه الله تعالى، غير أن أبا يوسف رحمه الله تعالى غيَّرها بترك الأذانين وموضع الإِمام، وأنسًا رضي الله عنه بترك التقدُّم عليهم، على أنه لم يُجَمِّعْ في مسجد مَحَلَّته، وإنما جاء إلى مسجد بني زُرَيْق، وجَمَّعَ بهم فيه. ومسألةُ الجماعة الثانية فيما إذا جمع أهل تلك المَحَلَّة في مسجدهم ثانيًا. ثم إن الهيثمي أخرجه، وبوَّب عليه بما يُعْلَمُ منه أنها كانت قضاءً للفائتة، وحينئذ خَرَجَ عمَّا نحن فيه، وهو عندي وَهْمٌ منه. والهيثمي صاحب «مجمع الزوائد» تلميذ الحافظ العراقي، و«مجمع الزوائد» كتابٌ نافعٌ جدًا.
قالوا إن الكُتُبَ على أربع مراتب: الأولى الصِّحَاح الست غير ابن ماجه، ثم «المسند» لأحمد رحمه الله تعالى في ستة مجلدات تحتوي على أربعين ألف حديث، ثم «مجمع الزوائد» للحافظ نور الدين الهيثمي، والرابعة «كنز العمال» إلا أن النقدَ فيه قليلٌ، ثم إن التكرارَ فيه مع تجديد الأذان والإقامة، ولا يقولُ به أحدٌ، فلا استدلالَ فيه أصلا.
قوله: (صلاةُ الرجل في الجماعة تُضَعَّفُ على صلاته في بيته)... الخ. فيه مقابلةٌ بين صلاة الجماعة والفَذِّ، لا بين جماعة المسجد وجماعة البيت، فإن الجماعةَ في نظر الشارع في المسجد دون البيوت، وحينئذٍ فالصلاة في البيت لا تكون إلا منفردًا، وكذلك صلاته في سوقه، فإن المساجدَ في زمن السلف لم تكن في الأسواق، ولم تكن صلواتهم فيها إلا منفردين.
(2/416)
وحاصل كلامه: إن الصلاة منفردًا - ولا تكون إلا في بيته، أو في سوقه - تَنْحَطُّ بكذا مرتبة من صلاة الجماعة، وإن شِئْتَ قلتَ: إن الصلاةَ في البيت مَفْضُولةٌ من الصلاة في المسجد، فإِنهما عبارتان عن معنى واحدٍ على الفرض المذكور. بقي تجميع فائت الجماعة في بيته، فهو بمعزلٍ عن النظر، لأنه من العوارض، لا أن الجماعات مشروعةٌ في البيوت لتبني عليها الأحكام.
والمصنِّف رحمه الله تعالى جَزَم بأن هذا الفضل مختصٌّ بالصلاة في الجماعة، كما جَزَمْتُ أن الملائكةَ لا يشهدون إلا في صلاة الجماعة، وفيها يَتَعاقَبُون، فمن صلَّى في بيته لا يَدْخُلُون في صلاته. والسرُّ فيه: أن الصلاة في نظر الشرع هي صلاةُ الجماعة، لأنها الفردُ الأكمل، ولا يكون المراد في المواعيد ومواضع الترغيب إلا هو، أمَّا أنه إذا لم يُصَلِّها بالجماعة، أو فاتته، فكم يُنْتَقَصُ منها؟ وهل يبقى لها وجودٌ أو تَنْعَدِم عن أصلها؟ فكل ذلك من مراحل الفقه. ونظيره ما مرَّ مني في بيان مراد قوله: «قبل أن تَغْرُبَ الشمسُ»: أن الغروبَ عند الشرع بالاصفرار، وإن كان الغروب حسًّا بعده، فإِن الشرع لمَّا صرَّح بكراهة الصلاة عند الغروب، إذن كيف يَعْتَبرُه في سياق التعليم؟ نعم إذا كان السياقُ سياقَ الذم أمكن أن يُرادَ به الاصفرار، كما في الحديث: «تلك صلاة المنافق»... الخ.
ولو علمتَ هذا الصنيع، علمتَ أن القرآنَ أيضًا مشى عليه، فلم يُرْخِ العِنَان لعاصٍ قطعًا، ولا تجدُ لهم فيه غير التشديد، نعم، إذا كان السياقُ سياقَ المغفرة، يُفْهَمُ منه أن لهم أيضًا تفصِّيًا.
باب ُ فَضْلِ صَلاةِ الفَجْرِ فِي جَمَاعَة(2/417)
650 - (قوله): (دَخَلَ عليَّ أبو الدَّرْدَاء) كان عمر رضي الله عنه بَعَثَ الصحابةَ رضي الله عنهم إلى النواحي، ونَصَبَهم على مناصب خاصة فبعث أبا الدَّرْدَاء نحو الشام للتعليم، ونَصَبَ ابن مسعود رضي الله عنه على تولية بيت المال، وعَمَّارًا رضي الله عنه لإِمامة الصلاة، وسعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه للإِمارة على الكوفة. وكان عمر رضي الله عنه جَعَل الكوفة والبَصْرَة معسكرًا. (جهاؤني). وفي «فتح القدير»: أن قريته قَرْقِيسَة نَزَل فيها ست مئة من الصحابة رضي الله عنهم.
وبالجملة كان الصحابةُ قد تفرَّقوا في النواحي والبلاد لإشاعة الدين، وتبليغ كلمة الإِسلام، ونشر الأحكام، فلو كان المالكية يَفْتَخِرُون بأن إمامهم من أهل المدينة معدن العلم، فلا نُنْكِرُ فضلهم في ذلك، غير أن أكثرَ الصحابة رضي الله عنهم كانوا نحو العراق، وهناك دُوِّن النَّحْوُ.
قيل إن بَدْءَه كان من عليّ رضي الله عنه، فإِنه سَمِعَ مرةً رجلا يقرأ: {إن اللَّهَ بَرىءٌ من المشركين ورسوله} (التوبة: 3) بكسر رسوله، مع أنه مرفوعٌ، فتفكَّر في أنه كيف يُخَلِّص الأمةَ عن هذه المهالك، فإِن فيها العرب والعجم، فأَمَرَ أبا الأسود الدُّؤَلي أن يَجْعَلَ قانونًا يحفظها عن الخطأ في الكلام، وأَصَّلَ له أصولا، فقال: كلُّ فاعِلٍ مرفوعٌ، وكلُّ مفعولٍ منصوبٌ وكلُّ مضاف إليه مجرورٌ، ثم قال: انْحُ نحوه، فَشَرَعَ فيى تدوينه، وبَدَأَ من أفعال التعجُّب، فصوَّبه عليُّ رضي الله عنه، ثم جمع الحروف المشبَّهة بالفعل، غير أنه ترك: «لكن»، فأمره عليّ رضي الله عنه أن يزيدها عليها. وبالجملة إن كان لهم فَضْلٌ لكون إمامهم من مدينة الرسول، فلنا أيضًا فَضْلٌ، فإن إمامنا من البلدة التي نزل فيها جنودٌ مُجَنَّدَةٌ من الصحابة رضي الله عنهم، حتى دار بها علمهم وسار، فاعلمه. والله تعالى أعلم بالصواب.(2/418)
651 - (قوله): (أَبْعَدُهم فَأَبْعَدُهم مَمْشى)، وليس هذا أجرًا لنفس الجماعة، بل هو من المكملات. ولا مُعْتَبر عندي بصِغَر الخُطَأْ وكِبَرِ كما نُقِلَ عن بعض السلف، لأن المراد عندي بُعْدُ المسافة وقُرْبُها، فإن كانت خطواتُه صغيرةً كان ثوابها أيضًا مثلها، فلا فرقَ بين صِغَرها وكِبَرها.
«والمَمْشَى» مصدر ميمي، والحقُّ عندي أنه حاصلٌ بالمصدر، وليس عند النحاة، وإنما عندهم: المصدر، واسم المصدر. قلتُ: وما يسمُّونه اسم المصدر هو الحاصلُ بالمصدر عندي، كالرؤيا في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى} (الإسراء: 60)... الخ ولذا لم يَقُل: رؤيته، لأنه مصدرٌ، والمراد ههنا: هو الحاصل به. ومن ههنا ظَهَر أن المراد من الرؤيا هنا ليس رؤيا المنام، بل رؤيا عين. وترجمته بالهندية. (دكهاوا).
651 - (قوله): (والذي يَنْتَظِرُ الصلاةَ حتى يُصَلِّيَهَا مع الإِمام، أعظمُ أجرًا من الذي يُصَلِّي ثم يَنَام): يحتمل أن يكونَ المرادُ من الأول: من صلَّى مع الجماعة، ثم لم يَزَل جالسًا في انتظار صلاةٍ أخرى حتى صلاها مع الإمام. ومن الثاني: من صلَّى مع الجماعة ثم نام، ولم يُحْرِز فضيلةَ الانتظار للصلاة الأخرى. ويحتمل أن يكون المرادُ من الثاني: من صَلَّى مُنْفَرِدًا ثم نام، ولم يرغب في الجماعة. فالمقابلةُ على الأول: بين المصلِّيين بالجماعة إذا انتظر أحدُهما لصلاة أخرى، ولم ينتظر الآخر وعلى الثاني: بين المصلِّي بالجماعة والمصلِّي في بيته منفردًا، وعليه حَمَلَ الحافظ رحمه الله تعالى، واستفاد منه سُنية الجماعة، فإِن الشرعَ قابل بين المصلِّي بالجماعة، والتارك لها بعذر النوم. وما يُبَاح تركُه بأعذار يسيرةٍ، لا يكون شأنه شأن الواجب. فَإِذا عَلِمْنا أن الجماعةَ يجوز تركها بعذر النوم وإن كان مَفْضُولا عَلِمْنَا أنها سنةٌ وليست بواجبةٍ.(2/419)
أقول: ينبغي أن لا يُحْتَجَّ بمثل هذه الأمور على المسائل الفقهية، فإن الحديث لم يُسَقْ لبيان سنية الجماعة ووجوبها، وإنما سِيقَ لفضل الجماعة، وإنما قَابَل بصلاة الفذِّ ليُظْهِرَ فضل الجماعة، فهو لِتَعْقِلَ صورة الحساب فقط، كما في حديث الزكاة: «في كل أربعين درهمًا درهمٌ»، لا يريد به بيان النصاب ليجب درهمٌ في أربعين درهمٍ، إنما يُريد به الحساب، فالخمسةُ في المائتين كالدرهم في الأربعين. وهكذا في قوله: «صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفذِّ» بكذا مرتبة؛ إنما سِيق لبيان الحساب، لا لصحة صلاة الفذِّ بمعنى عدم نقصان فيها.
ثم ذِكْرُ النوم ههنا أيضًا ضمني، والمراد به: عدم الانتظار، سواء نام أو اشتغل بأمرٍ آخر، لأنه إذا لم يُصَلِّها مع الجماعة، فصلاته مَفْضُولةٌ مطلقًا سواء نام أو لم يَنَمْ، وقد سَبَقَ نَقلا من إمام الحرمين على طريق الضابطة الكليَّة أن أخذَ المسائل لا ينبغي مما يَرِدُ في سياق التشبيه، فقد تُشَبَّهُ أمورٌ مرغوبةٌ بأمورٍ مكروهةٍ، كتشبيه صوت الوحي بصَلْصَلة الجرس، واستقرار الدين في المدينة برجوع الحية إلى حُحْرِها، وغير ذلك وإنما يكفي لصدقه صورة ما، فعلى هذا لو دَخَل رجلٌ في المسجد ولم يعلم متى يجيء الإمامُ، جاز له في بعض الأحوال أن يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا ثم ينام؛ فالجواز في بعض الصور يكفي لصِدْق هذا الحسابِ ولا يُوجبُ أن تكونَ الصلاةُ منفردًا.
ثم النومُ جائزٌ على الإطلاق، وللحنفي أن يقول: إن الرجلَ إذا كان مُنْكَسِرًا فاتِرًا، فله أن يُصَلِّيَ وينام عندنا أيضًا، فإن ضَعْفَه وانكساره له عذرٌ، ومن الأعذار في كُتُبنا ما هو أهون منه. ففي الفِقْه أن من يَزْدَحِمُ عليه الفتاوى، وهو مشتغلٌ في مراجعة الكُتُب، جَازَ له ترك الجماعة. وفيه: أن حنفيًا لو ناظر شافعيًا في رمضان، ورأى أن الصومَ يُضْعِفُه جَازَ له الإفطار.(2/420)
قلتُ: ولا ينبغي العمل بهما، فإنهم قاسوا المناظرة في المسائل على الجهاد في المعاركِ فأباحوا الإفطار وهذا فاسدٌ والفارقُ واضحٌ، وكذا الأُولى فإنها تُفْضِي إلى التهاون في أمر الجماعة.
والحاصل: أنه لا ينبغي أخذ المسائل الغير المعروفة بألفاظ مشتبهة فيما اشتهرت وظيفته واستقرت شريعته، والله تعالى أعلم بالصواب.
باب ُ فَضْلِ التَّهْجِيرِ إِلَى الظُّهْر
653 - (قوله): (الشهداءُ خمسةٌ)، وقد عَلِمْتَ أن الشهداءَ في الأحاديث أعمُّ ممَّا في الفقه، وكتب السيوطي رحمه الله تعالى رسالةً في الشهداء، وعدَّهم الأَجْهُوري المالكي إلى ستين، فلمَّا رأيت أن الأحاديثَ لا تستقرُّ فيه على عددٍ معيَّن، بدا لي أن تُوضَعَ له ضابطة، فاستفدتُ من الأحاديث: أن كل من مات في عِلَّةٍ مُؤْلمةٍ متماديةٍ، أو مرضٍ هائلٍ، أو بلاء مفاجىءٍ فله أجر الشهيد. فمن النوع الأول: المَبْطُون، ومن النوع الثاني: المَطْعُون، ومن الثالث: الغريق.
باب احْتِسَابِ الآثَار
باب ُ فَضْلِ صَلاةِ العِشَاءِ فِي الجَمَاعَة
قد قلتُ غير مرةٍ: إن الاحتسابَ مرتبةُ علم العلم، ومرتبةُ الاستحضار. وجيء به ههنا للتنبيه على أن في الذهاب إلى المسجد أيضًا أجرًا، ولو لم يُنَّبِّه عليه، لربما سَبَقَ إلى الذهن أنه لا أجرَ فيه، لعدم معنى الطاعة فيه ظاهرًا، فهو موضعُ ذهولٍ.
باب اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَة
وهو حديث ابن ماجه، إلا أن إسنادَه ضعيفٌ، ولذا لم يعبِّره بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم
باب مَنْ جَلَسَ فِي المَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ، وَفَضْلِ المَسَاجِد(2/421)
الانتظارُ في الأحاديث وَرَدَ بكلا النحوين: قبل الصلاة، وبعدها لصلاة أخرى. قلتُ: ولا يوجد العملُ بالنحو الثاني عند السلف كثيرًا.
660 - (قوله): (سبعةٌ يُظِلْهم الله) وفي بعض الروايات: «ستة»، ولا مفهومَ للعدد، وأمّا الظِّلُّ فيحمله كلٌّ على فَنِّه، فيقول البليغُ: إنه كِنايةٌ أو استعارةٌ عن العُطُوفَة، ويحمله الصوفي على الظِّلِّ في مرتبة التجلِّي. وسنوضحه إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب.
660 - (قوله): (رجلان تَحَابَّا في الله)... إلخ. قال السُّبْكي في «عروس الأفراح»: إن التثنية خاصٌّ، إلاّ أنه قد يَعُمُّ باعتبار الأثنينيات، فالمراد به: أيّ رجلين كانا. يمكن أن يُرَاد منه الحب في الله، والبغض في الله، وله شرحٌ آخر تؤيِّده الرواية أيضًا: أنهما ذكرا الله عند اجتماعها، وذكراه عند افتراقهما، وحينئذٍ ذكر التَّحَابُب تمهيدٌ، وذكر الله عند الاجتماع والافتراق مطلوبٌ. ويَدُلُّ الحديث على فضل ذكر الله عند الاجتماع والافتراق، وله حديث في الخارج، وله شروحٌ أخرى مذكورةٌ في الكُتُب، فلتراجع.
باب فَضْلِ مَنْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ وَمَنْ رَاح
وفي الهامش: «غدا» مكان «خرج»، وهو الأولى. وحاصله: أنه لم تَزَل معاملته بالمسجد غداةً وعشاءً.
662 - (قوله): (نُزُله)، والنُّزُل: أول ما يُهَيَّأ للضيف، ومحصَّل الحديث: أن المساجدَ تُدْعَى بيوت الله، فمن أتاها ينبغي أن يُعَدَّ له فيها نُزُلٌ.
باب إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا صَلاةَ إِلا المَكْتُوبَة
ذهب طائفةٌ من أهل الظواهر إلى ظاهر الحديث، وقالوا: إن أُقِيمَتِ الصلاةُ وهو في خلال الصلاة بَطَلَتِ صلاته، ولم يَذْهَب إليه أحدٌ من الأئمة غيرها. وقال الجمهور: بل يُتِمُّها ولا يقطعها. وراجع كُتُب الفِقْه.(2/422)
وأمَّا تفصيل المذاهب في الفجر، فقال الشافعيُّ رحمه الله تعالى في الجديد: إذا أُقِيمَتِ صلاةُ الفجر، فلا صلاةَ مطلقًا، فلا يَرْكَع ركعتي الفجر أصلا، لا في داخل المسجد، ولا في خارجه وقال في القديم مثل الحنفية، وبه قال مالك رحمه الله تعالى غير أنه فرَّق بين الدَّاخل والخارج، فقال: يَرْكعهما خارج المسجد إذا رَجَا أن يُدْرِكَ الركعتين كلتيهما، وإلاّ فلا وقال ابن العربي في «الاقتراب»: يَدْخُلُ فيهما إن رجا القعدة الأخيرة، وهذا مُخَالِفٌ لِمَا في عامة كُتُبهم.
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى على ما تقرَّر عندي من مذهبه: إنه يَرْكَعُهُمَا خارجه بشرط إدراك ركعة. ولعلَّ التخصيص بالركعة من الاجتهاد ناظرًا إلى مثل حديث: «من أَدْرَكَ ركعة، فقد أدرك الصلاة». ولا رواية عنه في داخل المسجد. وهذا هو المذهب عندي، كما في «الجامع الصغير» و«البدائع»، واختار صاحب «الهداية»، وصرَّحوا به في باب إدراك الفريضة. وصرَّح به علماء المذاهب الأخرى أيضًا كالقَسْطَلاني من الشافعية، وابن رُشْد والباجي من المالكية، ثم وسَّع محمد رحمه الله تعالى في إدراك ركعة، وأجاز بهما عند إدراك القعدة أيضًا.
ثم مشايخنا رحمهم الله تعالى وسَّعوا بهما في المسجد أيضًا، وأظنُّ أنَّ أول من وسَّع بهما في المسجد هو الطحاويُّ، فذهب إلى جوازهما في ناحية المسجد بشرط الفَصْل بينهما وبين المكتوبة، حتَّى لا يُعَدَّ واصلا بينهما وبين المكتوبة، وهو مثار النهي عنده ولعلَّك عَلِمْتَ أن القَيْدَين الَّذَيْن كان صاحب المذهب ذكرهما ارتفع أحدهما بتوسيع محمد رحمه الله تعالى، والآخر بتوسيع الطحاويِّ رحمه الله تعالى.
أمَّا أنا فأعمل بمذهب الإمام أبي حنيفة، وقد أفتى به الناس، غير أني لا أُنَازِعُ من صلاهما في المسجد، وأقول: لعلَّه أَخَذَ بقول محمد رحمه الله تعالى والطحاويِّ رحمه الله تعالى. هذا هو تحريرٌ لمذهب الإمام الأَعْظَم عندي.j(2/423)
وأمَّا مذهب الشافعيِّ رحمه الله تعالى، فقد عَلِمْتَه. وتمسُّكه من حديث الباب، فإنه يَدُلُّ على النهيِّ عن الصلاة بعد الإقامة مُطْلقًا، سواء كان في المسجد أو خارجه.
فكأن مَنَاط النهيِ عندهم: الدخول في سنة الفجر بعد الإقامة للفرض، ولمَّا لم يكن فيه فرقٌ بين داخل المسجد وخارجه عَمَّ النهيُ أيضًا بعموم المناط، ولم تَجُزْ ركعتا الفجر في الخارج والداخل مطلقًا. فأجاب عنه الطحاويُّ: أمَّا أولا: فبأن الحديثَ موقوفٌ وليس بمرفوع، كما يُعْلَمُ من صنيع البخاري في «صحيحه»، حيث لم يُعَبِّرْهُ بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وإن مال في «جزء رفع اليدين» إلى رفعه، ولكن العِبْرَة بما في «الصحيح» لأن دَأْبه في الخارج أوسع، وفي «الصحيح» أحكم. فإنه قد يَلْتَزِمُ في الخارج بعض ما يكون بديهي البُّطْلان، كدعواه في عدم ثبوت ترك الرفع عن أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم، ومنه قوله بعدم أدراك الركعة بإدراك الركوع عندهم، وكل ذلك مما لا يُقْبَلُ، كما فصَّلْته في «نيل الفرقدين»، و«فصل الخطاب».
وكذا الشافعيُّ رحمه الله تعالى عَبَّره في «الأم» بقول أبي هريرة، مع اختياره في الجديد مسألة الحديث. وكذا ترجمة ابن أبي شَيْبَة على الحديث المذكور تَدُلُّ على أنه موقوفٌ عنده، وهذا القدر يُوجِبُ التوقُّف في رفعه إن لم يُجْزَم به. وظنِّي أنه جاء بالنحوين: موقوفًا ومرفوعًا، وأجد في الصحابة كثيرًا: أنهم كانوا يستعملون عنوان الحديث المرفوع فيما بينهم على شاكلة الأمثلة السائرة، والمقدمات الدائرة، والمسائل المسلَّمة، وحينئذٍ لا يذكرون له إسنادًا ولا يهتمُّون به لعدم احتياجه إليه واستغنائه عنه عندهم.(2/424)
وقد وقع مثله في حديث: «من كان له إمام.....» الخ، وحديث النهي عن البُتَيْرَاء فزيدُ بن ثابتٍ أَفْتَى في سجدة التلاوة عند مسلم، وابن عمر رضي الله عنه في «الموطأ» بعين هذه الألفاظ: «من كان له إمام....» الخ فتبيَّن لي: أن هذا الحديث قد اشتهر فيما بينهم حتى استعملوه كالمسلَّمات، وإن ذَكَر له ابن الهُمَام إسنادًا صحيحًا على شرط الشيخين أيضًا، وراجع رسالتي، فإذا لم يتعرَّضُوا لإسناده في الصدر الأول، وتَدَاوَلُوه فيما بينهم كالمسلَّمات، خَفِي إسناده فيما بعد لا محالة. فجعل بعضهم يَزْعُمُ أنه موقوفٌ لصحة طُرُقه واستقامة إسناده، بخلاف إسناد المرفوع، ومنهم من يجعله مرفوعًا لاكتفائه بالثبوت في الجملة، وعدم تنقيره فيه، والأمرُ في مثله ما نبَّهناك آنفًا، فانظر فيه بعين الإنصاف، وإياك وخُطَّة الاعتساف.(2/425)
وأمَّا ثانيًا، فكما عَلِمْتَ أن المناط عنده ليس ما نقَّحُوه، بل هو وَصْلُه بين نافلة العبد، وفريضة الله مكانًا، وذلك لأن المناطَ لو كان ما ذكروه لاقتصر النهيُ على ما بعد الإقامة فقط، مع أنه ثَبَتَ النهيُ عنها قُبَيْل الإقامة وبعدها، وبعد الفراغ عن الصلاة أيضًا: فدلَّ على أنه لا دَخْل فيه للإقامة، فحديث مالك بن بُحَيْنَة في «الصحيحين»: أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلّمرأى رجلا وقد أُقِيمَت الصلاة يُصَلِّي ركعتين... فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم آلصبح أربعًا» وعند مسلم: «أَتُصَلِّي الصبح أربعًا»؟ ا ه. وَرَدَ فيما بعد الإقامة، وكذا حديث عبد الله بن سَرْجِسَ عنده، وفيه قال: «دَخَلَ رجلٌ المسجدَ ورسول الله صلى الله عليه وسلّمفي صلاة الغداة، فصلَّى ركعتين في جانب المسجد، ثم دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: يا فلان، بأي الصلاتين اعْتَدَدْتَ: بصلاتك وَحْدَكَ، أم بصلاتك معنا». وعند أبي داود قال: «يا فلان، أيتهما صلاتك: التي صلَّيت وَحْدَكَ، أو التي صلَّيتها معنا»، فهذان أيضًا فيما بعد الإقامة.
وأما النهيُ عنها بعد الفراغ عن الصلاة، فكما في حديث قَيْس بن عمرو عند أبي داود، قال: «رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّمرجلا يُصَلِّي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلاة الصبح ركعتان، فقال الرجل: إني لم أكن صلَّيت الركعتين اللتين قبلهما، فصلَّيتهما الآن، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وعند الترمذي: «مهلا يا قَيْس، أصلاتان معًا؟ قلتُ يا رسول الله، إني لم أكن رَكَعْتُ ركعتي الفجر، قال: فلا إذن». ا ه.(2/426)
أما قوله: «مهلا يا قَيْس»، فهو على وزَان قوله: «مهلا يا عائشة» حين سمعت اليهود يسلِّمون عليه بالسَّام عليك، أي: رِفْقًا، وعلى هذا يَلِيقُ أن يكونَ الخطابُ به قبل الشروع، مع أنه لا يُلائم سائر طُرُقه، فإِنه يَدُلُّ على أنه خاطبه بعدما فَرَغَ عنها. وكذلك لا يُلائِمُ قوله: «لم أكن» بالنفي في الماضي. ولعلَّ قَيْسًا لمَّا أراد أن يَرْجِعَ إلى بيته بعد الفراغ عنها، استوقفه ليعلِّمه المسألة، فقال: «مهلا».
ثم إن هذا اللفظ أخرجه مالك رحمه الله تعالى في صلاتهم قبل الفجر، والترمذي فيما بعدها، ويُتَوَهَّمُ منه أنه اضْطِرَابٌ. فعند مالك عن أبي سَلَمَة بن عبد الرحمن قال: «سَمِعَ قومٌ الإِقامةَ فقاموا يُصَلُّون، فخرج إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم فقال: أصلاتان معًا أصلاتان معًا» وذلك في صلاة الصبح في الركعتين اللتين قبل الصبح ا ه.
ولعلَّك عَلِمْتَ من هذه الأحاديث: أن النهيَ لا يختصُّ بما بعد الإقامة، بل يَعُمُّه وما بعد الصلاة أيضًا، وإذن لا يكون المثار ما قالوه، بل يجوز أن يكونَ المناط ما علَّل به الطحاويُّ: وأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبهذا النهيِ أن يُصَلِّي غير الفريضة في الموطن الذي صُلِّيَتْ فيه الفريضة، فيكون مصلِّيها قد وَصَلَها بتطوُّعٍ، فيكون النهيُ من أجل ذلك، لا لمن يُصَلِّي في آخر المسجد، ثم يَتَنَحَّى من ذلك المكان، فَيُخَالط الصفوف ويَدْخُل في الفريضة، ويَدُلُّ عليه ما رواه الطحاويُّ عن محمد بن عبد الرحمن: «أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلّممرَّ بعبد الله بن مالك بن بُحَيْنَة وهو مُنْتَصِبٌ يُصَلِّي ثَمَّةَ بين يدي نداء الصبح، فقال: لا تجعلوا هذه الصلاة، كصلاة قبل الظهر وبعدها، واجعلوا بينها فصْلا». ا ه.(2/427)
ولعلَّ الطحاويَّ حَمَلَه على عدم الفصل مكانًا، إلا أنه يَرِدُ عليه: أن لا يكون الفصلُ مطلوبًا في الظهر، ولا يقول به أحدٌ، وتفسيرُه عندي: أن سنةَ الظهر قد تُؤدَّى فى المسجد بخلاف سنة الفجر، كما يَظْهَرُ من حديث البخاري. ولعلَّه تعليمٌ لأمرين: جواز سنة الفجر، فإنه ليس بعدها، والأمر الثاني: الفصل. قال الطحاويُّ: فبيَّن هذا الحديثُ أن الذي كَرِهَهُ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّملابن بُحَيْنَة: هو وَصْلُه إياها بالفريضة في مكانٍ واحدٍ لم يَفْصِلْ بينهما بشيءٍ، فتحصَّل أن المناطَ هو الفصلُ، لا ما قالوه.
ثم يُعْلَمُ من الأحاديث: أن الفصلَ مطلوبٌ في المَكْتُوبات كلِّها وإن كان في سنة الفجر آكَدَ وأبلغَ، فعنده عن أبي هُرَيْرة رضي الله تعالى عنه مرفوعًا قال: «لا تكاثروا الصلاة المكتوبة بمثلها من التسبيح في مقامٍ واحدٍ». وعند مسلم في الجمعة، عن عمر بن عطاء، في قصة السائب مع معاوية. «فقال معاوية رضي الله تعالى عنه: لا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ، إذا صلَّيت الجمعة، فلا تَصِلْها بصلاةً حتى تتكلَّمَ أو تَخْرُجَ، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلّمأمرنا بذلك أن لا نُوصِلَ بصلاةٍ حتى نتكلَّمَ أو نَخْرُجَ». ا ه. ولذا أقول: إن الفصلَ عندي عامٌّ سواء كان بالمكان أو بالقول، وإن كان عند الطحاويِّ بالمكان فقط، وأنتَ تَعْلَمُ أن العبرةَ بعموم اللفظ لا لخصوص المَوْرِد، فالحديث وإن وَرَدَ في الجمعة، لكنه يَعُمُّ في سنة الفجر أيضًا. وعند النَّسائي: «عليكم بهذه الصلاة في البيوت»، ولم يَثْبُت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأداء السنن في المسجد إلا مرةً أو مرتين.(2/428)
فإن قلتَ: إن تصديره بقوله: «إذا أُقِيَمت الصلاة» يَدُلُّ على أن المناط: هو كونه مُصَلِّيًا بعد الإقامة، كما زَعَمَه الشافعية. قلتُ: نعم، وله أيضًا دَخْلٌ، إلا أنا لمَّا رأينا الإنكار قُبَيْل الإقامة وبعدها وبعد الفراغ، عَلِمْنَا أن الدعامةَ هو عدم الفصل.
ثم أخرج الطحاويُّ آثارًا عديدة تَدُلُّ على جواز السنة في ناحية المسجد، منها عمل العَبَادِلة الثلاثة: ابن عمر رضي الله عنه مع كونه راوي الحديث، وابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهما. وأخرج ابن أبي شَيْبَة نحو تسع من الآثار تَدُلُّ على جوازها خارج المسجد، وفي البعض إيهامٌ بكونها خارج المسجد أو داخله. ثم إنه وقع عند البيهقيِّ في الحديث المذكور استثناءُ ركعتي الفجر. وهو مُدْرَجٌ عندي، وليس بموضوع، ومن حَكَمَ عليه بالوضع، فكأنه أراد به الإدراج. ونقيضه في «كامل ابن عدي»، وهو أيضًا لا يَصِحُّ. وعندي: من روى الاستثناء أو النفي، كان هو في الحقيقة مذهبه، فاختلط بالمرفوع.
ثم أقولُ: والمناط على ما حقَّقت من مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو الجواز في الخارج دون الداخل، كونه مُصَلِّيًا في المسجد غير الصلاة المكتوبة بعد إقامتها. وحينئذٍ يكون الحكم مقصورًا على المسجد فقط، لكون المسجد داخلا في المثار. وإن كان للإقامه أيضًا بعض دَخْلٍ فيه عندي، لكن العُمْدَة فيه: هو كونه مُصَلِّيًا في المسجد وهو مدار الحكم بالجواز وعدمه. وهو الذي فَهِمَه ابن عمر رضي الله عنه، كما قال البهكلي في «شرح النَّسائي»، وقد فَهِمَ ابن عمر رضي الله تعالى عنه هذا المعنى، وأنه مُخْتَصٌّ بالمسجد، لا خارجًا عنه. وهو كذلك في «الفتح».
(2/429)
بقي الفرق بين داخل المسجد وخارجه هل اعتبره الشرع أو لا؟ ففيه أحاديث: منها حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله تعالى عنه: «أمَّا هذا، فقد عَصَى أبا القاسم صلى الله عليه وسلّم وزاد أحمد: «أمرنا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم إذا كنتم في المسجد فُنُودِي بالصلاة، فلا يَخْرُجْ أحدُكم حتى يُصَلِّيَ»، إسناده صحيح. وحديث: «إذا صلَّيتما في رِحَالكما، ثم أَتَيْتُمَا مسجد جماعةٍ...» الخ. وحديث «لا يَخْرُج أحدٌ من المسجد بعد النداء إلا منافقٌ إِلا رجلٌ يَخْرُجُ لحاجته، وهو يريد الرَّجْعَة إلى المسجد» (عب ق). وقد رُوِيَ: «لا صلاة لمن دَخَلَ المسجد والإمام قائمٌ يُصَلِّي، فلا يَنْفَرِدُ وحده بصلاةٍ، ولكن يَدْخُل مع الإمام في الصلاة». (طب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه).
والحاصل: أن المناطَ عند الطحاويِّ: هو عدم الفصل، مكانًا، دون الملام بعدم الاشتراك في الجماعة، أو بعد الإقامة، كيف وقد قال لقيس بعد الفراغ عن الجماعة: «أصلاتان معًا»؟، فهولعدم الفصل، قبل الإقامة كان، أو عندها، أو بعدها. قلتُ: والفصلُ عندي عامٌّ سواء كان مكانًا أو زمانًا وإن أخذه الطحاويُّ في المكان خاصةً، كما يُسْتَفَادُ من لفظ مسلم: «حتى نتكلَّم أو نَخْرُج» وقد مرَّ. وأمَّا عند الشافعية، فهو كونه مُصَلِّيًا بعد الإقامة، سواء كان خارج المسجد أو داخله. وعندي كونه مُصَلِّيًا في المسجد بعد الإقامة، فللمسجد دَخْلٌ بل هو المناط وقد عَلِمْتَ تغايرُ الحكمين في داخل المسجد وخارجه. وإذ قد راعاه الشرع في غير بابٍ واحدٍ، اعتبرناه في هذا الباب أيضًا.(2/430)
ثم ههنا حديث نقله العَيْنِي عن «صحيح ابن خُزَيْمَة»، ولو صحَّ لكان فاصلا في الباب: عن أنسٍ قال: «خَرَجَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّمحين أُقِيمَتِ الصلاةُ، فرأى ناسًا يُصلُّون ركعتين بالعَجَلة، فقال أصلاتان معًا؟ فَنَهى أن تُصَلَّيا في المسجد إذا أُقِيمَتِ الصلاةُ». ا ه. وفيه تصريحٌ: أن النهيَ مُقْتَصِرٌ على المسجد، وهو المناط على ما حقَّقت سابقًا، وهذا الحديثُ أَصْرَحُ فيه، لكونه واردًا في خصوص سنة الفجر، بخلاف الأحاديث المارَّة، فإنها وإن دَلَّت على الفرق بين الداخل والخارج، لكنها لم تُرْوَ في خصوص سنة الفجر.
فلقائلٍ أن يقولَ: إن هذا الفرق اسْتُفِيدَ مع الأحاديث العامة، وقد عَلِمْنَا عدمه في سنة الفجر بحديثٍ وَرَدَ فيها خاصةً، والترجيحُ عندك للخصوص دون العموم. فالذي هو حُجَّةٌ قاطعةٌ هو الحديث الصحيح على شرط ابن خُزَيْمَة، وأخرجه العيني، إلا أني أتردَّد فيه، لما في النُّقُول أن العَيْنِي كان سريعَ القلم جدًا، حتى نقل القُدُورِي بتمامه في يومٍ واحدٍ، وكانَ يَتَعَسَّرُ على الناس قراءة كُتُبه من أجل سرعة قلمه، فَيُمْكِنُ أن يكونَ فيه سهوٌ ثم أخرجه مالك أيضًا، لكن بحذف الجملة الأخيرة. وأخرجه الحافظ في «مسند البزَّار» بحذف: «في المسجد». ولنا أن نحمله على رواية وجوب سنة الفجر أيضًا، وحينئذٍ فهي داخلةٌ في الاستثناء، ولا سؤال ولا جواب.
(2/431)
وبعد هذا الإطناب والإسهاب، أريد أن أُلْقي عليك فرقًا بين ما وَرَدَ في صِيَغ الإنكار، فقال تارةً: «أصلاتان معًا» وتارةً: «الصبح أربعًا»؟ وأخرى: «بأي الصلاتين اعْتَدَدْتَ؟» فاعلم أن كلَّ ذلك إنكارٌ بأوصاف، ولا تعرُّض فيها لوقوعها بعد الإِقامة، ولا لكون الوقت وقت كراهة، وذلك لأنه من باب تلقِّي المُخَاطب بما لا يُتَرَقَّب، ولا يتأتَّى في ذكر السبب الواقعي، فحاصل الأول: أتجعل الصلاتين الموقَّتتين بوقتين في وقتٍ واحدٍ؟ وحينئذ يكون الإِنكار على عدم فَصْلِه زمانًا، ومحطُّه كراهة الجمع بين الصلاتين في وقتٍ واحدٍ. ويَصْلُحُ لعدم الفصل مكانًا أيضًا، فإِن «مع» كما في «القاموس»: تكون بمعنى «عند» أيضًا، فَيصِيرُ معناه: أتُصَلِّي صلاتين مكانهما على حِدَةٍ في مكانٍ واحدٍ؟ وحينئذٍ يفيد الطحاويّ.
وحمله ابن رُشْد على الاختلاف على الإمام، ولا يَظْهَرُ إلا إذا خالط الصفوف. وفي لفظ: «أَتُصَلِّي صلاةً واحدةً مرتين»؟ يعني لكون هذا الوقت وقت الفرض، فإذا وصل غيره، فكأنه صلَّى فرضين، ومحطُّه كراهة تكرار الفريضة في نظر صاحب الشرع. ولمّا كان الشروع في حديث ابن بُحَيْنَة بعد الإقامة ألزمه بقوله: «آلصبح أربعًا؟ ومحطُّه كراهة جعل الثنائية أربعًا.
وتلك مسائل من غير هذا الباب تُلْمَحُ من عرض الكلام، تأتي كلُّها على فقه الحنفية. وسوق التعبير يَدُلُّ عليها كأنها مفروغٌ عنها في نظر الشارع، فبنى عليها التعبير كأنه مسلَّمٌ ومعلومٌ، وبها يتأتَّى الإِنكار. فإِن فَرَضْنَا أن لا كراهة في: الجمع بين الصلاتين، أو تكرار الفريضة مرتين، أو جعل الثنائية أربعًا، لا يكون في هذه العبارات رَدْعٌ وتوبيخٌ.(2/432)
بقي قوله: (فلا إذن) قال الشافعي: معناه: فلا بأسَ إِذن، فدلَّ على جواز قضاء ركعتي الفجر إن لم يصلِّها قبل فرضه، وقال الحنفية رحمهم الله تعالى: معناه: فلا جوازَ إذن، إلا أنه لا يَظْهَرُ فيه منى الفاء، بخلاف ما اختاره الشافعية رحمهم الله تعالى، فإنها تكون فصيحةً. فتردَّدت لنظيره حتى وَجَدْتُ في «الكشاف» قُدِّرَ بمثله في قوله تعالى: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} (الطور: 15) دخلت الفاء فيها في موضع الإنكار. قال الزمخشري: معناه أمّا معجزاتُ الأنبياء عليهم السلام فكنتم تَزْعُمُونها سِحْرًا، فما تَنْظُرُون الآن من أهوال المحشر، فهي سِحْر أيضًا. وترجمته عندي (نهر بهى نهين). كما في الحديث: إنا كنا قد صلَّينا في رِحَالنا، قال: فلا تَفْعَلا، إذ أتيتما مسجد جماعةٍ.... الخ. (يعنى بهر بهى نهين) يعني: لا تفعلوا وإن كنتم صلَّيتم في بيوتكم، فالفاء في هذه المواضع كلِّها في محل الإِنكار.
وبعد هذا الإطناب والإسهاب، أريد أن أُلْقي عليك فرقًا بين ما وَرَدَ في صِيَغ الإنكار، فقال تارةً: «أصلاتان معًا» وتارةً: «الصبح أربعًا»؟ وأخرى: «بأي الصلاتين اعْتَدَدْتَ؟» فاعلم أن كلَّ ذلك إنكارٌ بأوصاف، ولا تعرُّض فيها لوقوعها بعد الإِقامة، ولا لكون الوقت وقت كراهة، وذلك لأنه من باب تلقِّي المُخَاطب بما لا يُتَرَقَّب، ولا يتأتَّى في ذكر السبب الواقعي، فحاصل الأول: أتجعل الصلاتين الموقَّتتين بوقتين في وقتٍ واحدٍ؟ وحينئذ يكون الإِنكار على عدم فَصْلِه زمانًا، ومحطُّه كراهة الجمع بين الصلاتين في وقتٍ واحدٍ. ويَصْلُحُ لعدم الفصل مكانًا أيضًا، فإِن «مع» كما في «القاموس»: تكون بمعنى «عند» أيضًا، فَيصِيرُ معناه: أتُصَلِّي صلاتين مكانهما على حِدَةٍ في مكانٍ واحدٍ؟ وحينئذٍ يفيد الطحاويّ.(2/433)
وحمله ابن رُشْد على الاختلاف على الإمام، ولا يَظْهَرُ إلا إذا خالط الصفوف. وفي لفظ: «أَتُصَلِّي صلاةً واحدةً مرتين»؟ يعني لكون هذا الوقت وقت الفرض، فإذا وصل غيره، فكأنه صلَّى فرضين، ومحطُّه كراهة تكرار الفريضة في نظر صاحب الشرع. ولمّا كان الشروع في حديث ابن بُحَيْنَة بعد الإقامة ألزمه بقوله: «آلصبح أربعًا؟ ومحطُّه كراهة جعل الثنائية أربعًا.
وتلك مسائل من غير هذا الباب تُلْمَحُ من عرض الكلام، تأتي كلُّها على فقه الحنفية. وسوق التعبير يَدُلُّ عليها كأنها مفروغٌ عنها في نظر الشارع، فبنى عليها التعبير كأنه مسلَّمٌ ومعلومٌ، وبها يتأتَّى الإِنكار. فإِن فَرَضْنَا أن لا كراهة في: الجمع بين الصلاتين، أو تكرار الفريضة مرتين، أو جعل الثنائية أربعًا، لا يكون في هذه العبارات رَدْعٌ وتوبيخٌ.
بقي قوله: (فلا إذن) قال الشافعي: معناه: فلا بأسَ إِذن، فدلَّ على جواز قضاء ركعتي الفجر إن لم يصلِّها قبل فرضه، وقال الحنفية رحمهم الله تعالى: معناه: فلا جوازَ إذن، إلا أنه لا يَظْهَرُ فيه منى الفاء، بخلاف ما اختاره الشافعية رحمهم الله تعالى، فإنها تكون فصيحةً. فتردَّدت لنظيره حتى وَجَدْتُ في «الكشاف» قُدِّرَ بمثله في قوله تعالى: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} (الطور: 15) دخلت الفاء فيها في موضع الإنكار. قال الزمخشري: معناه أمّا معجزاتُ الأنبياء عليهم السلام فكنتم تَزْعُمُونها سِحْرًا، فما تَنْظُرُون الآن من أهوال المحشر، فهي سِحْر أيضًا. وترجمته عندي (نهر بهى نهين). كما في الحديث: إنا كنا قد صلَّينا في رِحَالنا، قال: فلا تَفْعَلا، إذ أتيتما مسجد جماعةٍ.... الخ. (يعنى بهر بهى نهين) يعني: لا تفعلوا وإن كنتم صلَّيتم في بيوتكم، فالفاء في هذه المواضع كلِّها في محل الإِنكار.
(2/434)
والجواب الصواب عندي: أنه لا تمسُّكَ للشافعية في هذه الأحاديث، لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمإذا سَبَقَ منه الإنكار مرةً دَلَّ على أنه لم يَرْضَ به. نعم لم يَتَعاقَبْ عليه فيما بعد، وأي حاجةٍ إلى التعاقُب إذا أنكر عليه مرةً، وهذا كما رُوِيَ عن عائشةَ رضي الله عنها عند النَّسائي، في قصة حجة الوداع: «إني صُمْتُ يا رسول الله، وأفطرتُ، وأتممتُ فَقَصَرْتُ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّمأحسنتِ يا عائشة» رضي الله عنها، مع أنه لم يَثْبُت الإتمام عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّموخلفائه في السفر ولو مرةً، حتَّى تأوَّل فيه عثمان رضي الله عنه وأتمَّ، فهذا نحو مسامحةٍ وإغماضٍ عمَّا صَدَرَ منها، وهي لا تعلم المسألة، لا أنه استحسانٌ منه وإباحةٌ لِمَا فَعَلَتْهُ.
وأصرح حُجَّةً لنا في عدم قضاء سنة الفجر بعد الفرض ما أخرجه أبو داود في باب المسح على الخفين، وفيه: «فلما سلَّم - عبد الرحمن بن عَوْف - قام النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفصلَّى الركعة التي سُبِقَ بها، ولم يَزِدْ عليها شيئًا. ا ه. والظاهر أنه أراد نفي السنة، لا نفي سجدة السهو وإن بوَّب به أبو داود. وحينئذٍ تأيَّد شرح قوله: «فلا إذن» من جهة صاحب الشرع نفسه.
663 - (قوله): (يُقَال له مالك بن بُحَيْنَة) وهو خطأٌ قطعًا، لأن بُحَيْنَة ليست أم مالك، بل هي زوجته، وليس مالكٌ صدابيًا، فإنه لم يُسْلِم، ومات في الجاهلية، نعم ابنه عبد الله صحابي، وبُحَيْنَة أمه، فينبغي أن يُرْسَم الابن بالألف، ويُقْرأ مالك بالتنوين هكذا: عبد الله بن مالكِ ابن بُحَيْنَة، ليكون مالك أبوه، وبُحَيْنَة أمه، وهذا هو الصواب، وكان المناسب للبخاري أن يُنَبِّهَ عليه.
باب حَدِّ المَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الجَمَاعَة(2/435)
يريد به تحديد المرض المرخِّص لترك الجماعة، ويمكن أن يُرَاد به الإيماء إلى تحديد المسافة أيضًا، أي بكم مسافة يأتي المريض، والظاهر هو الأول.
واعلم أنه قد مرَّ الكلام في شركة النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي الصلوات بعدما ثَقُلَ عليه، فقال البيهقيُّ: إنه لم يشهد سبع عشر صلاة إحداها عشاء يوم الخميس، وأخرى فجر يوم الاثنين، والتزم أنه صلى الله عليه وسلّمكان لاحقًا في فجر الاثنين وقد دَخَلَ في ظهرٍ من تلك الأيام أيضًا. وتَبِعَهُ الزيلعيُّ في ذلك. واختار الحافظ غيبته خمسة أيام، كما يَلُوح من حديث مسلم، وقد مرَّ الجمع بينهما، ولم يُسَلِّم الشركة إلا في ظهرٍ من تلك الأيام. وعندي ثبتت شركته في أربع صلوات، ولا أدَّعي أنها كانت متواليات.
664 - (أَسِيفٌ) (نرم دل جو مغموم رهتاهو).
قوله: (صواحب يوسف) ولمَّا كانت عائشةُ رضي الله عنها تُضْمِرُ في نفسها أن لا يَتَشَاءَمَ الناس بأبيها، ولم تكن تُظْهِرُه بلسانها، شَبَّهها بصواحب يوسف، حيث كُنَّ يَكْتُمْنَ ما في قلوبهن أيضًا، ويُبْدِينَ غيره، فَيَلُمْنَ زَلِيخَا على حبِّها يوسف عليه السلام.
664 - (قوله): (فخرج يُهَادَى)... الخ. يقول الحافظ رحمه الله تعالى إنه لم يَخْرُج في تلك الصلاة، بل خَرَجَ في ظُهْرٍ من تلك الأيام، ويَلْزَمُه نقض السلسلة. قلتُ: بل خَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفي هذه العشاء، كما هو ظاهر السياق ولا حاجةَ إلى النقض.(2/436)
664 - (قوله): (حتى جَلَسَ إلى جَنْبِهِ... وزاد أبو معاوية: عن يَسَار أبي بكر رضي الله عنه) وهذا هو الصحيح، لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان إمامًا في تلك الصلاة، وهذا هو موقف الإمام إذا كان خلفه، رجلٌ وكان أبو بكر عن يمين النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وهو موقف الفرد من الإمام. وعند ابن ماجه: «جلس إلى يمينه»، وهو غلطٌ، وهذا الحديث عندي من اثني عشر كتابًا، ويلزم عليه: إمَّا مخالفة موقف الإمام، أو كونه صلى الله عليه وسلّممأمومًا، وكلاهما خلاف الواقع. وفي حديث ابن ماجه: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأخذ القراءة من حيث تركها أبو بكرٍ رضي الله عنه»، فلا أقل من أن تَفُوت عنه بعض الفاتحة، فتمسَّكْتُ منه على مسألة الحنفية، وبيَّنته مُفَصَّلا في رسالتي بالفارسية.
بقيت مسألة الاستخلاف، فهي محمولةٌ عندي على خصوصيته صلى الله عليه وسلّمعلى ما مرَّ: أنه لا يجوز لأحدٍ أن يَؤُمَّ النبيَّ إلا بتقريره، مع أنه جائزٌ إذا حُصِرَ الإمام وعند ابن ماجه: «إن أبا بكر رجلٌ حَصِرٌ»، فاسترحنا على هذا التقدير أيضًا. ثم إن بعضهم تمسَّك من هذه الواقعة على تسلسل الاقتداء إلى آخر الصفوف، كما يأتي في متن الصحيح: «والناس مقتدون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه» والجواب أنه اقتداءٌ لغويٌّ، فإِن المتأخِّر يُقَال له المقتدي بالنسبة إلى المتقدِّم.
ولم يذهب إليه من السلف أحدٌ غير الشعبي، وابن جرير، وبعضٌ آخر.
باب ُ الرُّخْصَةِ فِي المَطَرِ وَالعِلَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي رَحْلِه
وهو عذرٌ للجمعة عند فقهائنا أيضًا. ولكن استفتِ قلبكَ أولا، فإِنه خيرُ مُفْتٍ، وإن للإِنسان على نفسه بصيرةٍ، ولو أَلْقَى معاذيره.(2/437)
666 - (قوله): (أَلا صَلُّوا في الرِّحال)، ولعلّه نُودِي به عند تمام الأذان ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمرخَّص لعِتْبَان الأعمى في ترك الجماعة، ولم يُرَخِّص لابن أمِّ مكتومٍ، لأنه أحبَّ لابن أمِّ مكتومٍ أن يعمل بالعزيمة، ورخَّص لعِتْبَان أن يَعْمَل بالرُّخصة، هكذا قال الشاه ولي الله في «حجة الله».
قلتُ: ويمكن أن يُفَرَّق بينهما: بأن أحدهما كان يَسْمَعُ التأذين دون الآخر، فأكَّد الحضورَ لمن سَمِعَ النداء. فإن كان هذا، فهو منصوصٌ في الحديث. وحاصلُه: أن في الأعذار مراتب، فلعلَّ عُذْر ابن أمِّ مكتومٍ كان دون عُذْر عِتْبَان، فرخَّص لواحدٍ دون الآخر.
باب هَل يُصَلِّي الإِمَامُ بمَنْ حَضَرَ وَهَل يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِي المَطَرِ؟
يعني هل يجوز له أن يُصَلِّي بمن حَضَرَ، ولا يترقَّب لسائرهم فالجواب: أنه يجوز، لا سيَّما بعد ندائه بالصلاة في الرِّحال. ثم قوله: «ونَضَحَ طرف الحصير» في قصة عِتْبَان الآتية، أمكن أن يكون وَهْمًا من الراوي، فإِنه أكثر ما يُرْوَى في قصة أم سُلَيْم. والله تعالى أعلم.
باب إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاة
671 - (قوله): (إذا وُضِعَ العَشَاءُ وأُقِيمَتِ الصلاةُ، فابدَؤوا بالعَشَاء) هكذا في فقهنا وينبغي أن لا يُتَوَسَّعَ في مثل هذه المسائل، ولينظر الإِنسان لدينه أنه ما يقدِّم لغدٍ. وكيف يُسْتَدَلُّ بهذا مطلقًا، وفي «مشكل الآثار»: أنه في حقِّ الصائم، وفي صلاة المغرب خاصةً. وكان يَعْمَلُ به ابن عمر رضي الله عنه، لكونه كثيرَ الصيام، قليلَ الإفطار. وما أظرف ما رُويَ عن إمامنا رحمه الله تعالى: لأن يكون أكلي كلُّه صلاةً، أحبّ إليّ من أن تكون صلاتي كلُّها أكلا.
672 - (قوله): (ولا تَعْجَلُوا عن عَشَائكم) (بي مزه نهو جاق).
(2/438)
باب ُ إِذَا دُعِيَ الإِمَامُ إِلَى الصَّلاةِ وَبِيَدِهِ مَا يَأْكُل
أي جاز له أن يَفْرُغَ عنه. والنبيُّ صلى الله عليه وسلّمإنما طَرَح السِّكِّينَ، ودَخَلَ في الصلاة، لأن الطعامَ كان ممَّا لا يَفْسُد بالتأخير، مع أنه يمكن أن لا يكون له حاجةٌ فيه.
باب ُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ فَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَخَرَج
وكان زُرَارَة بن أبي أوفى - أحدٌ من التابعين إذا رَفَع مِطْرَقَتَه وسَمِعَ الأذانَ، وضعها كذلك، وكان حدادًا. وفي إسناده الأسود، وهو من أخصِّ تلامذة ابن مسعود رضي الله عنه، وكان يسألُ عائشةَ رضي الله عنها عن أمورٍ مهمةٍ، وابن أخي عَلْقعمة. لم يَتْحرُك عامًا إلا وحَجَّ فيه، وكان يهدي إلى عائشة رضي الله عنها الصدِّيقة. ثم هو من رواة الكوفة، ومذهبه تَرْكُ رفع اليدين. فانظر إلى جلالة قدره، وجلالة أساتذته، وملازمته معهم. ثم اقدر قدر مختاراته.
باب ُ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ وَهُوَ لا يُرِيدُ إِلا أَنْ يُعَلِّمَهُمْ صَلاةَ النبي صلى الله عليه وسلّم وَسُنَّتَه
يعني به: أن تلك صلاته لمَّا كانت لتعلُّمهم فقط، فهل بقيت فيها جهة لله، أو صارت لغير الله تعالى؟ فقال: إن الصلاةَ بمثل هذه النية لا تكون لغير الله. وهكذا تردَّدوا في تحية المسجد، فإن التحية ينبغي أن تكون لله تعالى، لا للمسجد.
677 - (قوله): (شيخنا هذا): وهو عمرو بن سَلَمَة الذي كانت أسْتُهُ تَنْكَشِف عند السجود، كما عند أبي داود وكان إمامَ الحيِّ.(2/439)
677 - قوله: (وكان شيخًا يَجْلِس)... الخ، يعني به جلسة الاستراحة. وفي «البحر» عن الحلواني رحمه الله تعالى: أن الخلافَ فيه خلافُ الأفضلية، وهو المختار عندي. فما في الكبيري: إيجابُ سجدة السهو على من جلسها محمولٌ عندي على ما أطالها فزادت على قَدْر السُّنة. وما أجابَ به الطحاويُّ رحمه الله أنه كان للعُذْرِ ليس بسديدٍ عندي. بل الجواب أنها كانت، ثم خَمَلَت خُمُولا أفضى إلى إنكارهم عليها كما في البخاري في باب المُكْث بين السجدتين، عن أيوب: «كان يَفْعَلُ شيئًا لم أرهم يفعلونه: كان يَقْعُدُ في الثالثة أو الرابعة»، وهذا يَدُلُّ على غاية خُمُوله. ونظيره الركعتان قبل المغرب، فإِنها أيضًا صارت خَامِلة، حتى قال فيها ابن عمر رضي الله عنه ما قال.
وفي «منتقى الأخبار» عن أحمد رحمه الله تعالى: إن أكثر الأحاديث تبني على ترك الجلسة، وهو من تصانيف الشيخ مجد الدين أبو البركات ابن تيمية الكبير - جد ابن تيمية المعروف - «ونيل الأوطار» للشوكاني: شرح «المنتقى». هذا وبالجملة كفانا لمفضوليته قول أحمد وما رُوي في البخاري، وللجواز: تصريحُ الحلواني. وهذا الذي أقول في مواضع عديدة، ولا أحب لفظ النسخ إلا حين يُسْفِرُ إسفارَ الصبح.
باب أَهْلُ العِلمِ وَالفَضْلِ أَحَقُّ بِالإِمَامَة(2/440)
اختار مذهب الحنفية، وقدَّم الأعلم على الأقرأ، وهو روايةٌ عن الشافعيِّ رحمه الله تعالى أيضًا. وفي المشهور عنه: تقديم الأقرأ، وهو روايةٌ عن أبي يوسف رحمه الله تعالى منا. واستدلَّ عليه المصنِّف رحمه الله تعالى بإمامة أبي بكر رضي الله عنه، فإِنه كان أعلمهم. ولو كان المقدَّم هو الأقرأُ، لكان أُبَيُّ أَوْلى بها، فإِنه كان أقرؤهم بنصِّ الحديث. ومن ههنا تبيَّن أن تقديمَه عند البخاريِّ كان من جهة علمه، لا لكونه إمامًا عامةً وإلا لا يَصِحُّ منه الاستدلال. ثم إن حديث تقديم الأقرأ عند مسلم، وتركه المصنِّف رحمه الله تعالى. وكذا التفريع عليه، وهو متمسَّك الشافعية.
قلتُ: الحديث وَرَدَ على عُرْفهم، لا على العُرْف الحادث. والأقرأُ عندهم كان أحفظهم قرآنًا، أي من كان القرآن عنده أَزْيَد، لأنهم كانوا أهل اللسان غير مُفْتَقِرين إلى تصحيح الحروف، ولمَّا فَشَا الإسلام إلى الأطراف، وقرأه العجمُ أيضًا، افْتَقَرُوا إلى تصحيح الحروف. فالمراد من الأقرأ في الفِقْه: هو المجوِّد دون الأحفظ وحينئذٍ خَرَجَ الحديث عن مَوْرِد النزاع، فإِن الخلاف في الفِقْه في تقديم المجوِّد أو الأعلم، لا من كان أكثر حِفْظًا للقرآن.(2/441)
ثم أَدَّعى صاحب الهداية رحمه الله تعالى: أن أقرأهم كان أعلمهم، وأَصَابَ، فإِن الصحابةَ رضي الله عنهم لم يكونوا يَأْخُذُون القرآن بدون الإمعان في معانيه ومبانيه، وإنما كانوا يَحْفَظُونه مع معانيه، فكان أقرأهم أعلمهم. ولا يَلْزَمُ من ذلك أن لا يكون بينهم فضلٌ في العلم، فإِن العلمَ أيضًا مُتَفاوت، كابن عباس رضي الله عنه، فإن سائرَ الصحابة رضي الله عنهم وإن أخذوا القرآن وتعلَّموه أيضًا، إلا أنهم لم يكونوا مثل ابن عباس رضي الله عنه. ولا رَيْبَ أن الحديثَ، وإن قدَّم الأقرأ في اللفظ، إلا أنه لم يَعْتَبِر جهة الترجيح إلا العلم، ولذا قال: «فإِن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسُّنة»، فَعُلِمَ: أن العلم هو جهة الترجيح عنده، دون الزيادة في حِفْظ القرآن.
وحينئذٍ حاصلُ الحديث: تقديم الأقرأ الأعلم، فإِن كانوا في قراءة القرآن وعِلْمِه سواء، فالترجيحُ بينهما من جهة العلم لا غير. ويُمْكِنُ أن يكونَ القارىء العالم أيضًا مُتَفَاوِتًا في العلم، فإِن المراتبَ لا نهايةَ لها، وكذا العلم. ولعلَّك عَلِمْتَ منه: أن فقهاءنا وإن لم يَعْمَلُوا باللفظ، وهو تقديم الأقرأ إلا أنهم قد عَمِلوا بالغرض، وهو الذي ينبغي. حيث عَلِمُوا أن غرضَ الشارع تقديمُ الأعلم، وإنما قدَّم الأقرأ في اللفظ نظرًا إلى أقرأ زمانه، وهو كان أعلم أيضًا. ومن ههنا سَقَطَ ما أَوْرَدَ عليه الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى.
(2/442)
نعم في صنيع الهداية قصور، وهو أنه صار مُسْتَدِلا بهذا الحديث، مع أنه ينبغي له أن يكون مُجِيبًا عنه. ولو أجاب عنه بما قال، ولم يَسْتَدِلَّ به لمذهبه، لَمَا وَرَدَ عليه ما أورده. ثم المراد من السنة في الحديث: هي المسائل التي عُلِمَتْ بمشاهدة هَدْي النبيِّ صلى الله عليه وسلّموهداه. والمراد في الفِقْه من الأعلم بالسنة: أن يُحْسِنَ من القراءة - أي التجويد - قدر ما يُحْسِن بها الصلاة مع كونه أكثر حِفْظًا لمسائل الصلاة. ثم إن با بكرٍ رضي الله عنه كان أعلمهم، بمعنى أكثرهم فَهْمًا، ثم تعلُّقًا بالله وأخشاهم، وإنما يَخْشَى اللَّه من عباده العلماءُ وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «إني أتقاكم لله وأخشاكم»، وإلا، فأبوا هُرَيْرَة رضي الله عنه كان أحفظهم للحديث منه.
680 - قوله: (فَنَكَصَ أبو بكرٍ)... إلخ. وظاهره: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يَدْخُل في تلك الصلاة، ولو دَخَلَ فيها لتعرَّض إليها الرَّاوي البتَّة. ومع ذلك قد أصَرَّ البيهقيُّ على شركته في تلك الصلاة، واستدلَّ عليه بروايتين.
قلتُ: وقد اجتمعت لديَّ هنا عشرةُ وجوهٍ فصاعدًا تَدُلُّ على شركته في الفجر، فلعلَّه اقتدى فيها من حُجْرَته الشريفة، ولم يَخْرُج إليها في المسجد، كما كانت النساء يَفْعَلْنَ يوم الجمعة، كما في «المدونة»، ولا نَقْلَ عندي على ذلك. ويُخَالِفُه ما عند النَّسائي، فإنه يَدُلُّ على أنه كان وصل الصف، والشافعيُّ أيضًا قائلٌ بشركته في الفجر، ولعلَّها لا تكون عنده إلا فجر يوم الاثنين. والحافظ اتَّبَعَهُ في الوَحْدَة، وخالفه في كونها فجرًا، وذهب إلى أن الصلاةَ التي دَخَلَ فيها هي الظهر. وتمام البحث فيه قد مرَّ من قبل.(2/443)
681 - قوله: (فذَهَبَ أبو بكر يَتَقَدَّم)، وهذا يَدُلُّ على أنه لم يَدْخُل بعدُ في التحريمة، والروايةُ المارَّةُ تَدُلُّ على سبقها، فهذا من تصرُّفات الرواة، فلا قلقَ فيه، فَسَلِ المجرِّب، ولا تسأل الحكيم.
باب ُ مَنْ قَامَ إِلَى جَنْبِ الإِمَامِ لِعِلَّة
فإن كان واحدًا، يتأخَّرُ عن إمامه بقليلٍ عند محمد رحمه الله تعالى، خشية أن يتقدَّمه فَتَضِيعُ صلاته. ثم إن كان اثنان، فمقامهما خلف الإمام، فإن قاما عن يمين الإمام ويساره، لا يُكْرَهُ عند أبي يوسف رحمه الله تعالى. وإن كان المقام ضيقًا، لم يُكْرَه عندنا أيضًا. وحينئذٍ لا قلقَ فيما يُنْقَلُ من مذهب ابن مسعود رضي الله عنه على أعذاره التي ذكرناها في الترمذي.
قوله: (لِعِلَّة). قال أهلُ اللُّغة: العِلَّة معناها: المرض لغةً، لا السبب والوجه، وإن كان مُسْتَعْمَلا فيه. يقول الشاعر:
*تَعَالَلْتِ كي أَشْجَى وما بكِ عِلَّةٌ ** تُرِيدِين قَتْلي قد ظَفَرْتِ بذلك وصنَّف صاحبُ «القاموس» رسالةً في أن العلل ليست بمعنى بيان السبب والوجه والإثبات بالدليل.
683 - قوله: (فَوَجَدَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّمفي نفسه خِفَّةً). وحَمَلَه الحافظُ على الظُّهْر. ولا أَتْرُك تبادُر العبارة، فالتزمتُ أنه قد دَخَلَ في العشاء التي أُهْرِيق عليه سبع قِرَبٍ من ليلته وقد مرَّ في البخاري من أواخر أبواب الوضوء، أنه قال لَهُنَّ: «قد فَعَلْتُنَّ، ثم خَرَجَ إلى الناس». وأَصْرَحُ منه ما عنده في بال الرجل يأتمُّ بالإمام: «فلمَّا دَخَل - أي أبو بكر في الصلاة، وَجَدَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّمفي نفسه خِفَّة، فقام يُهَادَى بين رجلين، ورجلاه تَخُطَّان على الأرض، حتى دَخَلَ المسجد»، وفي البخاري: «ثم خَرَجَ إلى الناس، فصلَّى بهم وخَطَبُهم».(2/444)
683 - قوله: (فكان أبو بكر يُصَلِّي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلّموالناس يُصَلُّون بصلاة أبي بكرٍ رضي الله عنه). يريد به الراوي: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان إمامًا، وأبا بكر مُبَلِّغًا، ونَسَبَ العَيْني إلى البخاري أن القُدْوَة عنده مُسَلْسَلة، كما ذَهَبَ إليه الشَّعْبِي من السَّلف، وابن جرير. وأنكره الجمهور، فإِن الكلَّ كانوا مقتدين بالإِمام بدون توسُّط، لا أن الصفَّ الأوَّل مقتدٍ للإِمام، والصفَّ الثاني مقتدٍ للصف الأوَّل، وهكذا ثمَّ وثمَّ. وثمرةُ الخلاف تَظْهَرُ فيما إذا رفع الإِمام رأسه عن الركوع والمقتدون، وبقي منهم واحدٌ في الركوع في أواخر الصفوف مثلا، ثم اقتدى به رجلٌ وأدركه في الركوع، فإِنه يُعَدُّ مُدْرِكًا للركعة، عند من اعتبر التَّسَلْسُلِ في القُدْوَة، وأمَّا عند الجمهور، فلا يُعْبَأُ به، ولا يُعَدُّ مُدْرِكًا للركعة بذلك الركوع إلا أن يُدْرِكَ الإِمام فيه.
قلتُ: وإن سُلِّم أن ما نسبَ إليه الشيخ صحيحٌ، مع أن الحافظَ رحمه الله تعالى يُنْكِرُهُ، فلعلَّه نشأ من مثل هذا التعبير، وقد عَلِمْتَ ما أراد منه الرَّاوي.
باب ُ مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ، فَجَاءَ الإِمَامُ الأَوَّلُ، فَتَأَخَّرَ الأَوَّلُ أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ، جَازَتْ صَلاتُه
باب إِذَا اسْتَوَوْا فِي القِرَاءَةِ فَليَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُم
باب إِذَا زَارَ الإِمَامُ قَوْمًا فَأَمَّهُم
هذه ترجمته، وسيذكُر لها حديثًا فيما بعد. أمَّا قوله: (أو لم يتأخَّر)، فمن باب التكميل، ولدفع توهُّم الاختصاص.
قوله: (فيه عائشةُ) واللفظ هذا يريد به: فيه عن عائشة رضي الله عنها.(2/445)
684 - قوله: (فصلَّى أبو بكرٍ): أي دخل في الصلاة. وظفِرْتُ برواية من «مصنَّف عبد الرزَّاق» تَدُلُّ على أنها واقعةٌ السنة الثالثة، وصرَّح فيها الراوي أنها واقعةٌ متقدِّمةٌ جدًا، كما يُعْلَمُ من تصفيقهم، فإنه كان في الأوائلِ ثم نُسِخَ إلى التسبيح، فَلْيَقْصُرها على مَوْرِدِها، ولا تُؤْخَذُ منها المسائل كالتخلُّص إلى الصف الأول. إلا إذا كانت فُرْجة. وقول الحمد، ورفع الأيدي، فإنها - كلَّ ذلك - مخصوصٌ بزمن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وقد صرَّح ابن الجوزيّ: أن رفع أبي بكرٍ يديه محمولٌ على الخصوصية، ولا ينبغي أن يُعْمَل بمثله. وهكذا يفعل الفقيه فيما يَفْقد فيه توارثُ العمل، فلا يجعله سنة.
وقد استشهد به الطحاويُّ رحمه الله تعالى على أن الكلامَ في واقعة ذي اليدين كان قبل النسخ، وكان في زمنٍ لم يُشْرَعْ فيه التسبيحُ للرجال، والتصفيقُ للنساء، لأنه لو كان متأخِّرًا، لَوَجَب عليهم أن يُسَبِّحُوا أو يُكَبِّرُوا، وهو الذي قد عَلِمُوه من تلقائه صلى الله عليه وسلّمحين تَنُوبُهم نائبةٌ في الصلاة. ولمَّا لم يُسَبِّحُوا وصفَّقوا عُلِمَ أنه واقعةٌ متقدِّمةٌ جدًا لا كما ادَّعى الشافعيةُ أنها متأخِّرةٌ، لأن أبا هُرَيْرَة رضي الله عنه كان شريكًا في تلك القصة، وهو متأخِّر الإسلام أيضًا، فَثَبَتَ تأخُّرها عن نسخ الكلام.
(حكم رفع الأيدي للأدعية في الصلاة)(2/446)
674 - قوله: (فَرَفَعَ أبو بكرٍ يَدَيْهِ) وهل يُسْتَحْسَنُ رفع الأيدي للأدعية في خلال الصلاة؟ فاستمع نُعْطِك ضابطةً كليةً في هذا الباب، لعلَّ الله يَنْفَعُك به في كثيرٍ من المواضع، وهي: أن التقريرَ من جهة النبيِّ صلى الله عليه وسلّمقد يكون على الفعل، وقد يكون على النية الناصحة، وادرِ الفرقَ بينهما، وتنبَّه له، ولا تختلط. فإن الفِعْلَ لا يكون سنةً بمجرد التقرير ما دام لم يتبيَّن أنه تقريرٌ عليه، أو تقريرٌ على النية. فإن الفعلَ ربما يكون مَرْجُوحًا، وإنما يَمْدَحُ عليه من أجل النية.
نعم إن نُقِلَ إلينا تعامُلُ السلف به، يكون دليلا على أن التقريرَ كان على الفعل، وهذا كما في الصحيح: «أن كلثوم بن هِدْم كان يقرأ بسورة الإِخلاص في كل ركعة مع قراءته بسورةٍ أخرى، فَشَكَا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأحدٌ من أصحابه، فسأله عنه، فقال: فيها صفة الرحمن وإني أحبُّها، فقال له: حُبُّك إياها أَدْخَلَكَ الجنة». - بالمعنى .
فهل ترى مع هذا الثناء البالغ أن المسألةَ هي التكرار بسورة الإخلاص في كل ركعة، ولكنه رحمك الله ثناءٌ على نيته مع الإغماض عن فعله، وهو الذي فَهِمَه الصحابةُ رضي الله عنهم. كيف وهم أذكياء الأمة، فلم يَعْمَل به أحدٌ منهم، وحَسَبُوه بشارةً في حقِّه خاصةً، ولو ظَنُّوه مسألةً، لَعَمِلُوا به واحدًا بعد واحدٍ حتى يتسلسل به العمل. ثم لمَّا نُقِلَ عنه السؤال عليه، عُلِمَ عدم الرِّضا به. ولو كان عند مَرْضِيًّا، لَمَا سَأَلَ عنه. وكذلك كل موضع لا يَرْضَى به الشارع يَنْقُلُ فيه أولا سؤاله عليه، ثم قد يتعقَّب عليه إغماضًا عنه عنده كما مرَّ آنفًا فيمن صَلَّى بعد الإقامة وحين الصلاة، أو بعد الفراغ عنها، فأظهر الكراهية من قبله، وقال: «آلصبح أربعًا». أو نحوه، ثم لم يُعَاقِبْهُ.(2/447)
وهكذا عند النَّسائي: «أن رجلا قام بعد التحريمة، وقال: الله أكبر كبيرًا... إلخ من رأيه، فأثنى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفقال: لقد ابْتَدَرَهَا اثنا عشر ملَكَا». وكذلك في رجلٍ آخر عَطَسَ، ثم حَمِدَ الله بكلماتٍ سَنَحَت له إذ ذاك. فكلُّ ذلك ثناءٌ على النيات الحسنة، لا تقريرَا على سنيةِ هذه الأذكار.
إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أن رَفْعَ أبي بكرٍ رضي الله عنه، وحمده لله جلَّ ذكره أيضًا من هذا القبيل، لا سِيَّما إذا جاء تحت الإنكار. فقد نَقَلَ الحافظُ رحمه الله تعالى عن «مسند أحمد»: «لِمَ رَفَعْتَ يَدَيْك؟» فجاء الرفع تحت السؤال أيضًا. فَعُلِمَ أن الرفعَ كان في غير موضعه، لِمَا قَدْ عَلِمْتَ أن سؤاله يكفي دليلا لعدم رضائه، ولا يجب التعاقبُ عليه لا سِيَّما عند الأعذار والأحوال الجزئية. ثم إن الأذكارَ محمودةٌ في الأحوال كلِّها، وعبادةٌ في الأزمان أجمعها، بخلاف الرفع، فإنه ليس عبادةً مقصودةً، فإذا وَرَدَ في غير محله، جاء السؤال.
فالرفعُ إن كان عبادةً، ففي موضعٍ مخصوصٍ، وهيئةٍ مخصوصةٍ. أمَّا إذا كان في غير محله، فهو قابلٌ للإنكار. وليس للرجل أن يَرْفَعَ متى شاء، وكم شاء؟ ولس مجردُ تَكثِيْرِهِ أمرٌ مطلوب، وإنما عُرِفَ عبادةً في موضعٍ مخصوصٍ فقط. فاعلمه، ولا تَرْفَعْ رأسك إلى كلِّ رفع اليدين، فإن بعضَه قد دَخَلَ تحت السؤال أيضًا، ولم يَرْضَ به الشارع.
684 - قوله: (ما كان لابن أبي قُحَافَة). هذا ما قلتُ لك في الدروس المارَّة: إنه لا يَلِيْقُ برجلٍ من الأمة أن يَؤُمَّ نبيًا، ولا يَؤُمُّ المهدي أيضًا عيسى عليه السلام إلا في صلاةٍ واحدةٍ، وهي أيضًا لكونها أُقِيْمَتْ له، وإنما نَاسَبَ أن يَقَعَ مثله مرةً أو مرتين، لِمَا عند أحمد رحمه الله تعالى في «مسنده»: «لَمْ يَمُتْ نبيٌّ حتى أَمَّهُ رجلٌ من أمته» - بالمعنى .
(2/448)
ثم إنه قد ثَبَتَ اقتداء النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي عِدَّة مواضع: الأول: عند قُفُوله من غزوة تَبُوك، وكان الإمامُ فيه: عبد الرحمن بن عَوْف، كما هو عند أبي داود، ومسلم في باب المسح على الخفين. والثاني: عند ذهابه إلى قُبَاء للصُّلح. والثالث: في مرض موته، وكان الإمام فيه: أبا بكر رضي الله عنه. ثم إن أبا بكر فَهِمَ أن ذلك الأمر لم يكن على وجه اللزوم، وأن أمره بالاستمرار من باب الإكرام والتسوية بقدره، فَسَلَكَ هو طريق الأدب والتواضع، كذا ذكره الحافظ.
684 - قوله: (وإنما التصفيقُ للنساء)، وحمله مالك رحمه الله تعالى على أنه تقبيحٌ لا تقسيم، يعني: أنه من فِعْل النساء، فلا يُصَفِّق أحدٌ.
باب إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِه
ولمَّا صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفي مرضه الذي تُوُفِّيَ فيه بالناس وهو جالسٌ يعني مع قيام القوم دَلَّ على أن الجَلوسَ خلف الإِمام الجالس ليس من لوازم الائتمام عنده، وهو مذهبُ الإِمام رحمه الله تعالى، وصرَّح في موضعين من كتابه بنسخ ما جاء في واقعة السُّقُوط عن الفرس، كما سيجيء.
قوله: (وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا رَفَعَ قبل الإِمام)... الخ، يعني: سُئِلَ ابن مسعود رضي الله عنه عن رجلٍ من المقتدين سها فرفع رأسَه قبل الإِمام، فماذا يفعل؟ فما أجاب به ابن مسعود رضي الله عنه هو الجواب عندنا.
قوله: (وقال الحسن).. إلخ، وهو المختار عندنا. ويُقَال لها مسائل السجدات، وقد ذكرها ابن الهُمَام رحمه الله تعالى في فصل مستقلٍ من «الفتح» والقاضي ثناء الله رحمه الله تعالى في «ما لا بُدَّ منه» - رسالة بالفارسية .(2/449)
687 - قوله: (فأَرْسَل النبيُّ صلى الله عليه وسلّمإلى أبي بكرٍ بأن يُصَلِّي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّميَأْمُرُك أن تُصَلِّي بالناس... فصلَّى أبو بكرٍ تلك الأيام. ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّموَجَدَ في نفسه خِفَّة، فخرج بين رجلين)... إلخ. حمل الحافظ قوله: «فصلَّى أبو بكرٍ رضي الله عنه» على السلسلة الواحدة، وادَّعى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأراد أن يَخْرُج في العشاء، فلم يَقْدِر عليه، حتى أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يُصَلِّي بهم، فكان أبو بكر رضي الله عنه يُصَلِّي في تلك الأيام. ثم إن قوله: «إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّموَجَدَ من نفسه خِفَّةً» حمله الحافظُ على صلاة الظُّهْر.
قلتُ: لمَّا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يُصَلِّي بالناس، انتقل الراوي إلى بيان إمامته في تلك الأيام، ثم بَدَأَ في ذكرِ ما كان تركه، فقال: «إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم.... الخ، أي: وأنه وإن كان أمره بالصلاة في أوَّل أمره، إلا أنه وَجَدَ بعد ذلك من نفسه خِفَّة، فَخَرَجَ إليهم وخَطَبَهم، أمَّا خروجه إليهم، فكما مرَّ في البخاريِّ: «أن أزواجه إذا صَبَبْنَ عليه القِرَب، أشار إليهن: أن قد فَعَلْتُنَّ، ثم خرج إلى الناس». ويُتَبَادَرُ منه أيّ تبادُرٍ أنه خرج في تلك الصلاة، لا خروجه في صلاة ظُهْرٍ من السبت أو الأحد.
وأمَّا خطبته إياهم، فكما أخرجه البخاري قُبَيْل باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمْ} (البقرة: 146) الخ: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي مرضه الذي مات فيه بِمِلْحَفَة، وقد عَصَّبَ رأسه بعِصَابة دَسْمَاء، حتى جَلَسَ على المنبر، فَحَمِدَ اللَّه وأَثْنَى عليه، ثم قال: أمَّا بعدُ - إلى أن قال - فكان آخر مَجْلِس جَلَسَ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم.(2/450)
689 - قوله: (إن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلّمرَكِبَ فَرَسًا، فَصُرِعَ عنه فَجُحِشَ شِقُّه الأيمنُ). وأعلم أن واقعةَ الجُحُوش في السنة الخامسة، كما نُقِلَ عن ابن حِبَّان وسَهَا الحافظُ حيث زَعَم أنها في التاسعة، وإنما حَمَلَه على ذلك تعبيرُ بعض الرواة فقط، حيث يَذْكُرُون قصة الجُحُوش وقصة الإيلاء في سياقٍ واحدٍ. وقصة الإيلاء عندهم في التاسعة، فجَعَلَ الحافظُ تلك أيضًا فيها، مع أن الراوي إنما جمعها مع الإيلاء لجلوسه فيهما في المَشْرُبَةِ، وقد تنبَّه له الزيلعي. ويقضي العجب من مثل الحافظ، كيف حَكَمَ به بمجرد هذا الاشتراك، مع أن الرُّوَاة يُصَرِّحُون أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان يُصَلِّي في مَشْرُبَتِهِ في قصة الجُحُوش، وأين كان له أن ينزل منها، فإِنه كان شَاكِيًا فيها، بخلافه في قصة الإيلاء.
ثم اعلم أنهم تكلَّموا في زيادة: «وإذا قرأ فأَنْصِتُوا»، فأراد بعضُهم أن يتردَّد فيه، مع أن مسلمًا صحَّحه. وصحَّحه جمهور المالكية والحنابلة، ولم يتأخَّر عن تصحيحه إلا من اختار القراءة خلف الإِمام، فأتى فِقْهه على الحديث، لا الحديث على فِقْهه. والذي يَرِيبُهم فيه: أن بعضَ الرُّوَاة لا يذكرونه في أحاديث الائتمام، فظنُّوه غير محفوظٍ، وكَشَفْتُ عن هذه المغلطة بِعَوْن الله سبحانه ومَنِّه عليَّ بأن حديث الائتمام قد صدرت عن هذه الرسالة مرتين: مرَّةً في تلك الواقعة، ومرَّةً أخرى في غير تلك القصة بعدها بكثير.(2/451)
فإذن هما حديثان مستقلان في هذا الباب، لا أنهما حديثٌ واحدٌ اخْتُلِفَ في ألفاظه، فما يَرْوِيه أنسٌ، وعائشةُ وجابر رضي الله تعالى عنهم من حديث الجُحُوش سِيقَ لبيان: إذا صلَّى قائمًا، فصَلُّوا قِيَامًا، وإذا صلَّى قاعدًا، فَصَلُّوا قَعُودًا أجمعون، وما يرويه أبو موسى، وأبو هُرَيْرَة رضي الله تعالى عنه، فهو حديثٌ آخر سِيقَ لبيان الائتمام لا غير، وفيهما: «فإِذا قرأ فأَنْصِتُوا»، وقد مَشَى فيها على أكثر صفة الصلاة للمتقدي، فلم يكن لَيَذَرَ حكمَ القراءة، وقد مَضَى على صفة الصلاة نسقًا، بخلاف حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأبي موسى. ولذا لم يأتِ فيه الأمر بالإنصات، ولعلَّهما لم يُدْرِكَا واقعة السُّقُوط، فإِنها في السنة الخامسة كما مرَّ، وأبو هُرَيْرَة رضي الله تعالى عنه أَسْلَم بعده بكثير.(2/452)
ثم اشْتَرَكَ الحديثان في بعض الأمور، فلمَّا رأوا أحاديث واقعة السُّقُوط خاليةً عن أمر الإنصات، سَرَى إلى الوهم أن حديثي أبي موسى وأبي هُرْيَرَة رضي الله تعالى عنهما في الائتمام أيضًا ينبغي أن يَكُونا خاليين عنه، وهذا كما قيل: إن الوَهْمَ خلافٌ. مع أنك قد عَلِمْتَ أنهما حديثان، فلا يجوز حَمْلُ أحدهما على الآخر، وليسا من باب السَّاكت والنَّاطق، ولا من باب الزيادة. ولعلَّه لم يَذْكُر قوله: «وإذا قرأ فأنْصِتُوا» في قصة السُّقُوط لعدم الاحتياج إليه إذ ذاك، بخلافه في حديثي أبي هُرَيْرَة وأبي موسى رضي الله تعالى عنهما، فإِنهما لمَّا كانا من باب أحكام الاقتداء، وَجَبَ التعرُّض إليه، لكونه دِعَامة في هذا الباب، وربَّما يَحْكُم الذهن بالاتحاد نظرًا إلى اشتراك بعض الألفاظ. وبعبارةٍ أخرى: إن حديثَ الائتمام يَرْوِيه خمسٌ من الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ أنس، وجابر وعائشة، وأبو هريرة، وأبو موسى رضي الله تعالى عنهم، مع الاشتراك والاختلاف في بعض الألفاظ، فظنَّه المحدِّثون حديثًا واحدًا. ولمَّا لم يَجِدُوا عند أكثرهم جملة: «إذا قرأ»، حَكَمُوا بكونه غير محفوظٍ، وقرَّرتُ أنهما حديثين اشتركا في بعض المادة.
(والدليلُ على ذلك). أمَّا أولا: فإن أبا هريرة، وأبا موسى رضي الله تعالى عنهما لم يُدْرِكَا قصة السُّقُوط، فحديثهما ليس حديثَ السُّقُوط الذي يرويه أنسٌ رضي الله تعالى عنه وغيره. وأمَّا ثانيًا: فلأن حديثهما لم يُسَقْ لإِصلاح مفسدةٍ، بل هو حديثٌ ابتدائي سِيقَ لتعليم أحكام الائتمام، كما استشعره أبو موسى رضي الله تعالى عنه. فعند مسلم في باب التشهُّد: «فقال أبو موسى رضي الله تعالى عنه: أَمَا تَعْلَمُون كيف تقولون في صلاتكم؛ إن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلّمخَطَبَنا فبيَّن لنا سُنَّتنا، وعلَّمنا صلاتنا»، ثم ساق حديث الائتمام.(2/453)
فدَلَّ على أن ما عند أبي موسى رضي الله تعالى عنه هو حديثٌ في سياق التعليم، بخلاف ما عند أنسٍ رضي الله تعالى عنه، وجابر رضي الله عنه، وعائشة رضي الله عنها، فإنه وإن اشتمل على ذكر الائتمام، لكنه سِيقَ عندما قاموا خلفه حال قعوده، فعلَّمهم سنة الاقتداء. فليس حديثهم ابتدائيًا، ولس فيه ذكر الإنصات مع قراءة الإِمام، والذي سِيقَ لتعليم ذلك، ففيه ذلك ولا بدَّ، والله هو الموفِّق. وهذا مهمٌّ لا يهتدي إليه إلا من يَهْدِي الله، وقد ذكرته في رسالتي «فصل الخطاب». بقيت مسألةُ اقتداء القائم خلف القاعد، فسنعود إليها قُبَيْل كتاب التهجُّد إن شاء الله تعالى، وقد ذكرنا نَبْذَةً منها فيما مرَّ.
689 - قوله: (فصَلَّيْنا وَرَاءَه قُعُودًا). وفي الحديث المارِّ: «أنهم صلُّوا خلفه قيامًا، ثم أمرهم بالقيام»، وتصدَّى الحافظُ رحمه الله تعالى إلى التوفيق بينهما. واختار الشيخُ العَيْني رحمه الله تعالى أنهما واقعتان قاموا في واقعةِ، ثم أُمِرُوا بالقُعُود، واتَّفَقَ بعدها أن سَلُّوا خلفه أيضًا، وقَعَدُوا فيه من أول الأمر، وهو الأرجح عندي.(2/454)
689 - قوله: (وإذا قال: سَمِعَ اللَّه لمن حَمِدَه، فقولوا: رَبَّنَا ولك الحمدُ) واعلم أن الشَّرْعَ لم يقسم في الصلاة إلا في موضعين: الأول: في القراءة، فَجَعَلَ للإِمام القراءةَ، وللمقتدي التأمينَ. والثاني: في التسميع والتحميد. فالإِمامُ يقضي وظيفته أولا، وهو قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلّينَ}، وهذا هو وظيفةٌ من جهة الإمامة، ثم يَلْحَقُ بسائر المصلِّين، ويُؤَمِّنُ معهم إحرازًا لفضيلة التأمين، والموافقة معهم ومع الملائكة. ولذا يُؤَمِّن خُفْيَةً كأنه من فعله، مع أنه قرأ جهرًا. فالقراءةُ جهرًا من وظيفته، فأراد إسماعها وأمَّا التأمينُ، فليس من وظيفته، فأدَّاه سِرًّا لنفسه، كما أن المقتدين أمَّنوا لأنفسهم. وذلك لأن الأذكارَ كلٌّ فيها أمير نفسه، ولم يُرَاع فيها شاكلة الجماعة، فيستقلُّ بها كلُّهم.
والموضع الثاني: هو التسميع، فالتحميدُ للمقتدين، والتسميعُ للإِمام، وهو المذهب عندنا في المشهور، وهو في عامة الروايات، وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى. وعنه في روايةٍ: الجمعُ وهو مذهب الصاحبين، واختاره شمس الأئمة الحلواني، ومحمد بن الفضلِ، والنَّسَفِي وغيرهم وهو أيضًا جائزٌ عندي، وتَشْهَدُ له الروايات على سبيل القِلَّة والعجبُ أن الروايةَ المشهورةَ عن الإمام في الروايات المشهورة، والروايةَ النادرةَ عنه في نادرةٍ من الروايات. فكأن القولَ المشهورَ نشأ نظرًا إلى عامة الروايات، ولمَّا جاء الجمعُ أيضًا في بعض الروايات جاءت روايةٌ عنه أيضًا كذلك.(2/455)
689 - قوله: (إنما يُؤْخَذُ بالآخِرِ فالآخِرِ)، وهذا تصريحٌ من المصنِّف رحمه الله بالنَّسْخ، وقد صرَّح به في موضعٍ آخر، وصرَّح هناك الحافظ رحمه الله: أن مقتضى الأدلة استحباب القُعُود خلف القاعد، ولا دليلَ على الوجوب. قلتُ: وإذا انتفى الوُجُوب على تصريح الحافظ رحمه الله، فلا ريبَ أن الأحوطَ هو القيام، لأنه ذَهَبَ إليه الإمامان الجليلان. وعندنا: العملُ بما عَمِلَ به الأئمة والأُمَّة أَوْلى.
باب ُ مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلفَ الإِمَام
تعرَّض إلى ما ينبغي للمقتدي مع إمامه من المُعاقبة، أو المُقَارنة. فاعلم أنه اتَّفق كلُّهم على أن المُبَادرة من الإمام مكروهٌ تحريمًا، مع صحة صلاته عندهم، وهذا يَدُلُّ على اجتماع الصحة مع الكراهية، خلافًا لابن تَيْمِيَة رحمه الله. واختلفوا في التعقيب والمقارنة. فذهب الشافعيُّ رحمه الله إلى الأول، وإمامُنا إلى الثاني.
قلتُ: والتعقيبُ بقَدْرِ ما يعلمه المقتدي من حال إمامه مستثنى عقلا، والفاء لا تَدُلُّ على التعقيب الزائد على ذلك، فدلَّ على أن نزاعهم في الفاء غير محرَّر، فإنها وإن كانت للتعقيب، لكنه يتحقَّق بالشروع بعد الشروع. ولا يَلْزَمُ لتحُّقق التعقيب أن يَشْرَعَ بعد فراغ الإمام، فنزاع الإمام إنما يكون ممن يدَّعِي الشروع بعد الفراغ، لا ممن يدَّعي الشروع بعد الشروع. فإن شروع المقتدي لا يكون إلا بعد شروع الإِمام. فهذا القَدْرُ من التعقيب يكفي للفاء، ولا يُنْكِرُه الإِمام أيضًا وأمَّا بعد ذلك، فيقول بالمقارنة، ولا حُجَّة في الحديث على التعقيب أزيد من هذا.
690 - بقي قوله: (لم يَحْنِ أحدٌ منا ظَهْرَه) فقد كَشَفَه ما عند مسلم: «أنه أمرهم بذلك حين بَدُنَ، فخشي أن يتقدَّموا عليه»، وقد عَلِمْتَ أنه مكروهٌ تحريمًا.
باب ُ إِثْمِ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَام(2/456)
ولعلّ الحكمةَ في تحويل رأسه حمارًا: أنه فَعَلَ فِعْلَ الحمار، ولم يَدْرِ أنه إمامٌ أو مأمومٌ، فرفع رأسه قبل الإِمام، ونَصَبَ نفسه مَنْصِب الإِمام مع كونه مأمومًا. ثم المذكور في الحديث هو الخَشْيَة أن يفعل به ذلك، لا أنه إخبارٌ به، ومع ذلك وقع مثله مرةً كما كتبه القاري، والعياذ بالله العلي العظيم.
ثم أقول: إنه محمولٌ على التهديد في الدنيا، ولا يَبْعُد أن يكون ما في الحديث حكمه في الآخرة، فَيْمسَخُ رأسه رأس حمار، والعياذ بالله تعالى.
باب ُ إِمَامَةِ العَبْدِ وَالمَوْلَى
وصرَّح الحنفية أن الكراهة فيها تنزيهية.
قوله: (والمولى)، قالوا: إنه مصدرٌ ميمي، وأورد عليهم أنه يذكَّر ويؤنَّث، فيُقَال: مولاة، والمصدر لا يذكَّر ولا يؤنَّث. وعندي أنه اسم مفعول أصله مولية، فحذف فيه كما حذف في لفظ المعنى، فهو لفظ آخر وليس مؤنَّث المولى.
قوله: (من المُصْحَفِ)، والقراءة من المُصْحَفِ مُفْسِدَةٌ عندنا، فتأوَّله بعضُهم أنه كان يَحْفَظُ من المُصْحَف في النهار، ويقرؤه في الليل عن ظَهْرِ قلب.
قلتُ: إن كان ذَكْوَان يقرأُ من المُصْحَفِ، فلنا ما رواه العَيْنِي رحمه الله: أن عمر رضي الله عنه كان ينهى عنه، ورأيتُ في الخارج: أنه كان من دَأْب أهل الكتاب، فإِنهم لا يتمكَّنون أن يقرأوا كُتُبهم عن ظَهْر قلبٍ، على أنه مخالفٌ للتوارث قطعًا.(2/457)
قوله: (وولد البَغِيِّ)، والكراهةُ فيه تنزيهيةٌ إذا كان صالحًا، وكذا في الأعرابيِّ، والغلام الذي لم يَحْتَلِم، وهو مذهب الشافعية، وتمسَّك له البخاريُّ بقولهصلى الله عليه وسلّم «يَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ»، فأطلق فيه ولم يَفْصِل بين أن يكون أعرابيًّا أو غلامًا، ولا يُمْنَعُ الغلام عن الجماعة، فإِذا لم يكن له مانعٌ، فأيُّ قصورٍ في إمامته؟ ثم أخرج حديثًا وَرَدَ في باب الولاية، فتمسَّك منه على الإِمامة الصغرى، لكونهما من بابٍ واحدٍ. وهذا على نحو ما حرَّره الأصوليون من اعتبار عين العلِّة في عين حكم الحكم، والجنس في الجنس، والعين في الجنس، والجنس في العين، والمتحقِّق ههنا هو الثاني.
فالحديث مَسُوقٌ في الإِمامة العامة، وكذا المراد من الإطاعة هو عدم البغاوة، دون الإطاعة في أفعال الصلاة، وتمسَّك منه المصنِّف رحمه الله على الإمامة في الصلاة. وإذن تمسُّكه منه على الإمامة الصغرى والإِطاعة فيها من باب اعتبار جنس الوصف - أي الإِمامة الصغرى - في جنس الحكم - أي الإِطاعة في أمر الصلاة - وأنت قد عَرَفْتَ أن التمسُّكَ بالعمومات ضعيفٌ عندي؛ ألا ترى أنّ كون الإمام قُرَشِيًّا من شرائط الإمامة العامة، بخلاف إمامة الصلاة؟ فإن تَمَسَّكَ أحدٌ من قوله: (اسْتُعْمِل) فسيأتي شرحه عن قريبٍ بما لا يَرِدُ علينا.
وتمسَّك الشافعية بإمامة عمرو بن سَلَمة عند أبي داود.
قلتُ: وجوابه على ما في حديثه من تَطَرُّق الاحتمالات: أنَّ البخاريَّ لم يخرِّجه ههنا، مع اختياره تلك المسألة، وأَخْرَجَهُ في النكاح، لأنه لا يَقُوم عنده حُجَّة على هذا المعنى أصلا، ولا أقل من أنه رأى فيه قصورًا. والجواب عندي: أن في القصة تقديمًا وتأخيرًا، فما ذكره من عُمْره هو عُمْر تعلُّمه القرآن دون عُمْر إمامته، كما يُعْلَمُ من مراجعة كتب الرجال، فإن كنتَ من رجال هذا الفن. فبارِزْ، وإلا فالزَمْ زاوية بيتكَ ولا تُنَازِعْ.(2/458)
693 - قوله: (وإن اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ) أي وإن جعله الإِمام الأكبر عاملا، كما هو مصرَّحٌ في بعض الطُّرُق، وإلا فالإمام الأكبر ينبغي أن يكون قُرَشِيًّا. ونقل الطرابلسي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أنه ليس بشرطٍ، وظاهر العبارة أنه شرطٌ إجماعًا.
باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ الإِمَامُ وَأَتَمَّ مَنْ خَلفَه
أشار إلى مسائل القدوة، وهي ضعيفة عند الشافعية جدًا، حتى قالوا بصحة صلاة القوم، وإن كان إمامهم مُحْدِثًا كما في الفتح، فكأن حقيقة الائتمام ارتفعت عندهم رأسًا، ولم تَبْقَ إلاّ عبارة عن الاجتماع في المكان، والاتباع صورةً وحسًّا، فهي ضعيفةٌ عندهم جدًا، وأضعف منه عند البخاري رحمه الله تعالى. وحينئذٍ لا بأس لو قَصَرَ الإِمام في التعديل وغيره وأتمَّهُ المقتدي وتَدَارَكه لنفسه.
بقي تمسُّك الإمام، فهو تمسُّكٌ في غاية الضَّعْفِ، لأن الحديث إنما وَرَدَ فيما قَصَرَ الأئمة في الأمور الخارجية، كصلاتهم في الوقت المكروه، لا في الواجبات والأركان التي هي أجزاءٌ للصلاة، كما قال به القاضي عِيَاض رحمه الله تعالى، وهو المُصَرَّحُ في غير واحدٍ من الأحاديث، فَحَمْلُه على الدواخل بعيدٌ جدًا.
694 - قوله: (فإِن أصابوا فلكم)، وفي كُتُب عديدة: «فلكم ولهم»، كما يقتضيه مقابلة: «فلكم وعليهم». وتمسَّك المصنِّف رحمه الله تعالى من عموم قوله: «فلكم وعليهم»، وهو في غاية الضَّعْف، فإِنه أمرٌ مُبْهَمٌ لا يدرى في أي قدرٍ يجري عمومه، وأين يُكَفُّ، فالطرد عليه والعكس غير سديدٍ.(2/459)
وتفصيله: أن الشافعية ومن نَحَا نحوهم لمَّا رأوا أن خطأ الإِمام لا يُؤَثِّر في صلوات المقتدين بنصِّ الحديث، عمَّمُوه في باب الحَدَث أيضًا، وقالوا: إذا أخطأ الإِمام فصلَّى بهم مُحْدِثًا، صحَّت صلاتهم أيضًا، ولا يُؤَثِّر خطؤه في صلاتهم أصلا، بل يكون لهم ما لهم وعليه ما عليه.
قلتُ: وهذا باطلٌ، لأنه صلّى بهم صلاةً سُلِبَ عنها اسم الصلاة، لأنه لا صلاة إلا بطُهُورٍ وتعميم قوله: «لكم وعليهم» إنما يجري فيما بَقِيَ عليه اسم الصلاة، كما وَرَدَ في مسلم: «لا ما سلُّوا»، يعني أن إطاعتهم تكون ما بقي اسم الصلاة، وإذا ارتفع عنها اسم الصلاة أيضًا، فلا طاعة لهم. ثم إن هذا التعبير لم يَرِدْ إلا في الانتقاص، لا في الارتفاع، فعند أبي داود، في باب جُمَّاع الإمامة وفضلها: «من أمَّ النَاس، فأصاب الوقت، فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئًا، فعليه ولا عليهم». ا ه. فهذا كما ترى فيما انتقص منها، لا فيما ارتفع عنها اسم الصلاة، لتندرج تحته مسألة الإمام المُحْدِث.
وفي «البحر»: أن الجماعة أفضل من الانفراد، ولو كان الإمام فاسقًا، وعليه ما عليه. فهذه المسألة من فروع قوله صلى الله عليه وسلّم «وعليهم ما عليهم».
ثم أقول: إنهم يَتَمَسَّكون من هذه المبهمات، ولا يَرَوْن إلى أحاديث الائتمام مع وضوحها، ومع كونها في الأشياء الوجودية، فإِنها للمتابعة في الأفعال، بخلاف هذه الأحاديث، فإنها في التروك، ولم يتَّضِح فيها أن أي قَدْرٍ من الاختلاف يُتَحَمَّل بين الإمام والمقتدي، وإنما فيه الإبهام لا غير.(2/460)
بقي أنه هل يجب علينا أن نُعَيِّن مِصْدَاقه بحَسَبِ مسائلنا أو لا؟ فأقول: إن الحديث لم يُسَقْ لِمَا فَهِمُوه؛ بل سِيقَ لتَسْلِيَة المقتدين في اقتدائهم بالأئمة الفُسَّاق، كما في الحديث الآتي: «ويصلِّي لنا إمام فتنة ونتحرَّج»، فهذا التحرُّجُ بحَسَب معتقداتهم الذهنية، أو الفِسْق الخارجي، كما يُسْتَفْتَى اليوم: إن إمامنا زوجته تَخْرُج بدون الحجاب، أو ليس بمتدِيِّن، أو يأكل الرِّبا، أو يصلِّي لغير الوقت مثلا. فهذه كلها نقائص من الخارج، لا أنهم تحرَّجُوا عن الاقتداء خلفهم لأن إمامهم كان يصلِّي بهم بدون طهارة، أو مع تَرْك التعديل، أو كان يُنْقِص في أجزائها، وحنيئذٍ لم يبقَ لنا حاجةٌ إلى تعيين مِصْدَاقه، لأنه لم يُسَقْ في أفعال الصلاة؛ بل سِيقَ لإزالة التحرُّج الذي حَدَث في أذهانهم بحَسَبِ الاعتقاد السوء للإمام، وهو ذهني، وهذا الذي أَرَدْنَاه بالدواخل والخوارج فيما مرَّ فأزاحه النبيُّ صلى الله عليه وسلّموعلَّمهم أن نياتكم معكم، وعاقبتهم معهم.
ومع هذا لو تبرَّعنا ببيان مِصْدَاقه كان أحسن فاعلم أن ما يُسْتَفَاد من كُتُب الحنفية في الاقتداء بالأئمة الذين يُميِتُون الصلوات أن يصلُّوها منفردين في أوقاتها، فإِن أدركوها معهم لا يُعِيدُون غير الظهر والعشاء. وأَقول من عند نفسي: لهم أن يُعِيدُوا سائرها إن خافوا الإيذاء منهم لقوله صلى الله عليه وسلّم «إن وَبَاله يكون عليهم». - بالمعنى - وقد مرَّ عن «البحر»: أن الإمام لو كان مُبْتَدِعًا، فإن لم تبلغ بدعته إلى حدِّ الكُفْرِ يَصِحُّ الاقتداء به، وهو أفضل من الانفراد، وكَتَبَ فيه هذا اللفظ، أعني: وعليه ما عليه.c
والابتداع قد يكون في أفعال الصلاة، وقد يكون في خارجها أيضًا.(2/461)
694 - قوله: (فإن أصابوا فلكم)، واتفق الشارحان أن هذه الأحاديث في الأوقات، فالمراد منها إصابة الوقت والخطأ فيه. وأما مسائل الشافعية فمن باب التَّفقُّه، وقد نَبَّهناك أنها لا تأتي تحت هذه الأحاديث، ولا يُنَاسِب استنباطها منها، ومع ذلك أدرجها الحافظ رحمه الله ههنا. وجملة الكلام: أن اللفظ وإن كان عامًا، لكن عمومه ليس بِمْنَوِيَ ولا مقصودٍ، والحديثُ أضيقُ ما حَمَلَ عليه الشافعية، فافهم.
باب إِمَامَةِ المَفتُونِ وَالمُبْتَدِع
قيل: الأحسن أن يقول: المُفْتَتَن، وقيل: الفَاتِن، ثم قيل: إن المفتون يُطْلَق على الفاتِن أيضًا. والمراد منه: من لا يَحْتَاط في دينه، ولا يَتَقَيَّدُ بالشرع في آدابه وعقائده حتى تذهب به نفسه كل مَذْهَبِ، لا من لم يكن يُحْسِنُ يصلِّي، أو يَقْصُر فيها، ليصِحَّ استدلال المصنِّف رحمه الله.
695 - قوله: (ويُصَلِّي لنا إمام فِتْنَة، ونَتَحَرَّجُ)، وهذا الذي نَّبْهتُك عليه آنفًا: أن الحديثَ لم يُسَقْ لبيان المَخْرَج، ولم يعلِّمهم الاقتداء بهم، ولم يرغِّبهم في تطلُّب الجماعة خلفهم. وإنما وَرَدَ في تسليتهم، وتفريج تحرُّجهم، وتبريد صدرهم، وإذهاب حرِّهم، وإطفاء لوعتهم عندما اضْطَروا إلى الاقتداء بهم، فشقَّ عليهم الاقتداء لِمَا يَرَوْنَه مفتونًا مبتدعًا.
وحمله الشافعية رحمهم الله تعالى على أنه وَرَدَ في صورة العمل، وهدى إلى المخلِّص في تلك الأيام، ونبَّه على ضعف رابطة القدوة جدًا فيمكن لهم أن يتداركوا لأنفسهم ما قَصَرَ فيه إمامهم، حتى يكون تكميله لهم وتقصيره عليه لا عليهم.(2/462)
وإذ قد عَلِمْت أنه لم يَرد في تقصيرهم في نفس أركان الصلاة؛ بل وَرَدَ في الأمور الخارجية التي أوجبت عليهم التشويش والتحرُّج في الاقتداء بهم، فكيف يمكن التكميل منهم فيما قَصَرَ فيه الإِمام في الخارج؟ وإنما يأتي التكميل من المقتدي فيما فَرَضْنَا أن الإمام قَصَرَ في أجزاء الصلاة، وإذا كان مَبْنَى التحرُّج عمَّا يفعله في الخارج لا يمكن تكميله في المقتدي في الصلاة؛ بل لا يُتَصَوَّر أيضًا.
ثم إن سبب تهُّيج هذه الفتن: أن أمر المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه كان يَسْتَعْمِلُ أقاربه، وكان بعضهم لا يُحْسِنُون العمل، فَقَدَحَ الناس فيهم، وبلَّغُوا أمرهم إلى عثمان رضي الله تعالى عنه، فلم يصدِّقهم وظنَّ أنهم يَغُرُّون بأقاربه بلا سببٍ، ولعلَّلهم لا يَطِيب بأنفسهم تولية أقاربه، فُيشُون بهم. ومرَّ على ذلك بُرْهةٌ من الزمان حتى جاءه محمد بن أبي بكر يَسْتَعْمِلُه، فأمر مروان - وكان كاتبًا له - أن يَكْتُب إذا جاءكم محمد بن أبي بكر فاقبلوه، فكَتَبَ مروان: فاقتلوه، مكان فاقبلوه، واتَّفق أن محمد بن أبي بكر فَعَلَ فِعْل المُتَلَمِّس، فَفَتَحَ المكتوب، فإِذا فيه أمر القتل، فرجع على أعقابه وقصَّه على عليّ رضي الله عنه، فطلب عليّ رضي الله عنه مروان، فلم يفعله عثمان رضي الله عنه، وعند ذلك أثارت تلك الفِتَن وهاجت حتى مضى عليه قَدَرُ الله، ثم إن عثمان رضي الله عنه وإن لم يَعْزِل أقاربه من أجل شكايات الناس، لكنه لم يَحْمِهم أيضًا.
(2/463)
وفي كُتُب التاريخ: أن عليًّا والزُّبَيْر وطلحة رضي الله عنهم لمَّا رأوا أن الحال بَلَغَ هذا المَبْلَغ أرسلوا إليه أولادهم أن يَحْرُسُوه، وكانوا يَزْعُمُون قبله أن البغاة لعلهم يستغيثون إليه، فيقضى بمأمولهم ويُنْجِحُ حاجاتهم، ولم يكن يَخْطُر ببالهم ما انتهى إليه الأمر. وبينما هم في ذلك إذ بَلَغَ عليًّا رضي الله عنه نبأ شهادته، ففرَّ ييَعْدُو ولَطَمَ حُسَيْنًا رضي الله عنه، وقال: أنت ههنا؟ واستشهد عثمان رضي الله عنه، فقال: ليس عندنا به علم، لأن البغاة نزلوا من فوق الجدار، ولم يَدْخُلوا من الباب. ثم رأيت: أن الناس أرادوا أن يُدَافِعُوا عنه فأبى عثمان رضي الله عنه، وقال: لا أحب أن تُسْفَكَ قطرةُ دَمِ امرىءٍ مسلمٍ من أجلي، حتى سألوه عُبَيْدة فأجاب: أن كل من يَغْمُدُ السيف منكم فهو حرٌّ. وهكذا منذ بَدْء الزمان: أن من لا يَنْتَصِر لنفسه، لا يُنْصَر له، ويَتَنَحَّى عنه الناس.
695 - قوله: (فقال: الصلاة أحسن)... الخ، وعُلِمَ منه أن المُسِيء لو فَعَلَ فِعْلا حَسَنًا، فهو حَسَنٌ، ولا يصير قبيحًا.
باب يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الإِمَامِ بِحِذَائِهِ سَوَاءً إِذَا كَانَا اثْنَين
وهو المسألة عندنا. نعم إذا كان اثنان، فالأحسن أن يتأخَّرا عنه.
697 - قوله: (فَصَلَّى أربع ركعاتٍ) وهي السنة بعد العشاء.
697 - قوله: (ثم قام.. فَصَلَّى خمسَ ركعاتٍ)، وهذا القيام لصلاة الليل، وقد عَلِمْتَ الاختلاف في عدد صلاته صلى الله عليه وسلّمفي تلك الليلة، وأن الرَّاوي قد اقتصر فيه على ذكر قطعة من صلاته، وترك باقيها.
باب إِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الإِمَامِ فَحَوَّلَهُ الإِمَامُ إِلَى يَمِينِهِ، لَمْ تَفسُدْ صَلاتُهُمَا(2/464)
وهكذا فَعَلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلّممع ابن عبَّاس رضي الله عنه في مبيته في بيت خالته. واسْتَفَدْتُ أن الكراهة إذا طرأت في الصلاة، ينبغي أن تُرْفَع في خلال الصلاة. ولا توجد تلك المسألة في الفقه، وإنما اسْتَنْبَطْتُها من هذا الحديث.
698 - قوله: (فصلَّى ثلاثَ عشرةَ ركعةً) هذه ركعات النبيّ صلى الله عليه وسلّمفي تلك الليلة. وقد اختصر فيه الرَّاوي في الرواية المارَّة.
وفي إسناده مَخْرَمة وعند الطَّحَاوي قَيْس بدله، والصواب مَخْرَمة كما في هذا الكتاب. ثم عن مَخْرَمة هذا أن تلك الخمسة هي ركعتان من صلاة الليل وثلاث الوتر، كما قرَّرناه سابقًا. والاضطجاع في تلك الواقعة قبل سنة الفجر بعد صلاة الليل.
باب إِذَا لَمْ يَنْوِ الإِمَامُ أَنْ يَؤُمَّ، ثُمَّ جَاءَ قَوْمٌ فَأَمَّهُم
ونية الإمامة ليست بشرطٍ عندنا أيضًا إلا في مسألة المحاذاة، فإِن مسائلها لا تأتي إلا عند نية الإمام إمامتها.
باب إِذَا طَوَّلَ الإِمَامُ، وَكَانَ لِلرَّجُلِ حَاجَةٌ، فَخَرَجَ فَصَلَّى
(نية المفارقة)
وهذا أيضًا من فروع القدوة، فجوز عند الشافعية أن يتحوَّل المقتدي إلى الاقتداء. وحملوا هذه الواقعة على أنه لم يَخْرُج عن صلاته، بل تحوَّل إلى الانفراد من خلال صلاته.
قلتُ: وعند مسلم صراحةً: «أنه سلَّم ثم صلَّى لنفسه في ناحية المسجد»، وعلَّل النووي هذا اللفظ. وعندنا لا سبيلَ للخروج عنها إلا بعملٍ مُفْسِدٍ، ولا أثر للنيات، فإن نَوَى المقتدي أن يَخْرُجَ عن الاقتداء، أو نَوىَ المُنْفَرِد أن يتحوَّل إلى الاقتداء، ليس له ذلك، وهما على حالهما كما كان. وإنما السبيل أن يسلِّم، أو يَعْمَلَ عملا يَخْرُج به عن صلاته، ثم يَدْخُل في صلاة أخرى.(2/465)
701 - قوله: (قال: كان مُعَاذ يُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وعلم أن الكلامَ في صلاة مُعَاذ رضي الله تعالى عنه مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وصلاته بقومه طويلٌ يحتاج إلى تَعَمُّل فِكْرٍ، وإمعان نَظَرٍ، وعليه تُبْتَنَى مسألة اقتداء المُفْتَرِض خلف المتنفِّل، واختاره الشافعية. فإن ثَبَتَ أن مُعَاذًا كان يصلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفريضته، ثم كان يصلِّي بقومه أيضًا ثَبَتَ اقتداء المُفْتَرِض خلف المتنفِّل وإلا فلا. ولا يجوز عندنا للتضمُّنِ المُعْتَبرِ بين صلاة الإمام وصلاة المقتدي، وكذا عند أحمد رحمه الله تعالى، وعند مالك رحمه الله تعالى في روايته. وعند الترمذي: أن الإِمام ضامنٌ، فلا بُدَّ أن يكون التضمُّن مُرَاعى.
ثم إن الطَّحَاويَّ ذكر في «شرح معاني الآثار»: أن الفريضة تحتوي على أمرين: ذات الصلاة، ووصف الفرضية، بخلاف النافلة، فليست فيها إلا ذات الصلاة. فإن قلتَ: قد اعْتُبِرَ فيها وصف النفليَّة، فاشتملت على الأمرين أيضًا كالفريضة. قلنا: كلا، فإن النفل وإن كان وصفًا، لكنَّ ذات الصلاة لا تنفك عنه عند الإطلاق بخلاف الفرضية، ولذا يُحْتَاجُ فيها إلى النية الزائدة على نفس الصلاة. فلا تَقَعُ فريضة إلاّ بعد نيتها بخلاف النفل، لأنه أدنى مرتبة الجنس، فَتَقَعُ عليه عند انعدام النية أيضًا.(2/466)
إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم: أنَّ الإمام إن كان متنفلا فصلاته نصف صلاة المقتدي المُفْتَرِض على الفرض المذكور، والشيء لا يتضمَّن إلا ما هو دونه أو يساويه، ولا يتضمَّن ما فوقه؛ بل يستحيل أن يتضمَّنه، ثم إن ههنا دقيقة أخرى غَفَلَ عنها الناس وغَلِطُوا فيها، حتى وقع فيه بعض من علماء المذاهب الأخرى أيضًا، فيَزْعُمُون أن المذهب عندنا هو التنفُّل دون الإعادة، فيعيدها ويَنْوِي النفل، وإعادة الصلاة بنية النفل هو الذي عَنَوْه بالتنفُّل والمذاهب الأخرى قائلةٌ بالإعادة، أي يصلِّي تلك الصلاة بعينها ولا ينوي النفل، حتى أنهم اختلفوا في أن أيًّا من صلاتيه تقع عن الفريضة: فقال بعضهم: إن الفريضة تَسْقُطُ بأُولى صلاتيه. وقال آخرون: بل تَسْقُطُ بأكمل منهما، ولا يُحْكَم على إحداهما بتًا، كما في «الموطَّأ» عن ابن عمر رضي الله عنه لمَّا سُئل عن ذلك فوَّضه إلى الله.
الحاصل: أن الحنفية عامتهم يُعَبِّرُون في صلاة مُعَاذ رضي الله عنه أنها كانت نافلة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّموفريضة في قومه، وتخالفه ألفاظ الأحاديث جملة. فإن الرواة كافة يُصَرِّحُون بأن مُعَاذًا كان يصلِّي بهم عينَ ما كان يصلِّي خلف النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولا يقول واحدٌ منهم: إنه كان يُصَلِّي خلف النبيِّ صلى الله عليه وسلّمنافلةً؛ بل كلهم يقول: إنه كان يصلِّي العشاء خلف النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ويُصَلِّي بهم أيضًا تلك.(2/467)
وهذا القصور في عبارات المتأخِّرين. والقدماء منا لم يقولوا إلا بالإعادة، ولم يفهم واحدٌ منهم أنه كان ينوي النفل، بل في الكُتُب الأربعة لمحمد رحمه الله تعالى لفظ الإعادة، وهي اسم لتكرار عين الصلاة، فيُصَلِّي العشاء ثم يصلِّيها ثانيًا بذلك الاسم، ولا ينوي النفل. وبه صَرَّح الطحاويُّ في موضعين، فنصُّ الطحاويِّ في واحدٍ منهما: فلا بأس أن يفعل فيها ما ذُكِرَ، ثم من صلاته إياها مع الإمام على أنها نافلة له غير المغرب... الخ. وفي موضعٍ آخر وممن قال بأنه لا يُعَاد من الصلاة إلا الظهر والعشاء الآخرة: أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد رحمهم الله تعالى ا ه. فصَرَّح أن الإعادة مُعْتَبَرَةٌ عندنا أيضًا، كما هو عند سائر الأئمة، إلا أنه في الصلاتين فقط.
ومعنى قوله على أنها نافلة: أي أنه لا ينوي النفل، ولكنه تَقَعُ عنه نافلة إذ سَقَطَ فرضه عن ذمته بأُولى صلاتيه إن كان نَوَى بها إسقاط الفريضة، وحينئذٍ اتَّضَحَ أن المذهب أنه يصلِّي صلاةً واحدةً مرتين، بمعنى أنها إن كانت عشاءً يُعِيدُها عشاءً، ولا ينوي غير العشاء، وإن ظهرًا فظهرًا، وهكذا. نعم إن نَوَى إسقاط الفريضة بأُولى صلاتيه لا تقع الأخرى إلا نافلةً، وذلك لأن ذمته قد فَرَغَت بالأُولى، فلا تقع الثانية إلاّ نفلا، ولعلك فَهِمْتَ الآن الفرق بين قولنا: تنقَّل بكذا أو صلّى نافلةً، وبين قولنا: صلَّى على أنها نافلة. فإن الأول يَدُلُّ على نية النفل، والثاني على أنه لم ينو إلاّ عينَ تلك الصلاة، ثم وقعت نفلا بدون نيةٍ منه.(2/468)
فإن قلتَ: إنك إذا نَوَيْتَ العشاء في الموضعين، فكيف تقع الثانية نافلة؟ قلتُ: كصلاة الصبيان، فإنهم لا يَنْوُون صلواتهم إلاّ بأسمائها كالفجر والظهر وغيرهما، ثم لا تقع عنهم إلاّ نافلةً، لا أنهم يَنْوُون نفلا ويُصَلُّون متنفِّلين من أول الأمر. فهكذا حال من أسقط الفريضة عن ذمته مرةً، فإنه أيضًا ينوي تلك الصلاة، ولا تقع عنه إلاّ نافلةً، وهو الذي عَنَاه الطحاويُّ بقوله: على أنها نافلة.
ثم إن الطحاويَّ لم يَذْكُر بين الأئمة خلافًا في نفس الإعادة، فعُلِمَ أن الإعادة متفقٌ عليها إجماعًا. وإنما الخلافُ في إعادة الكلِّ أو البعض منها، فذَهَبَ الشافعيةُ إلى أنه يُعِيدُ الصلوات الخمس، وذهب الحنفية رحمهم الله تعالى إلى أنه لا يُعِيدُ إِلاّ الظهر والعشاء. فلا ينبغي إقامة الخلاف في نفس الإعادة بعد هذا الصَّدْع والإعلان. ومن ههنا تبيَّن أن من قال: إنه كان يُصَلِّي في قومه تَطَوُّعًا، فقد أخذ بالثمرة، ثم وقع الناس في المغالطة من تعبيره. مع أن الحق ما حقَّقناه، وخلافه خلاف الصواب.
وإذا تقرَّر هذا، لم يبقَ بيننا وبين الشافعية خلاف في صلاة مُعَاذ رضي الله عنه، إلا أنهم قالوا: إن أُولى صلاتيه كانت فريضةً والأخرى نافلةً، وقلنا بعكسه. وحينئذٍ اعْتَدَلْنَا ككفتي الميزان، لا مَزِيَّة لهم علينا، لأن ما ادَّعُوه من باب الرجم بالغيب، فمن أين عَلِمُوا أن صلاة مُعَاذ رضي الله عنه خلف النبيّ صلى الله عليه وسلّمكانت هي الفريضة ولا يُعْلَمُ حال النية إلاّ من قِبَلِهِ، وما لم يبيِّن هو بنفسه، فجَعَلَ أُولى صلاتيه فريضة تحكم، لِمَ لا يجوز أن تكون تلك نافلة، والأخرى بعكس ما قلتم؟(2/469)
فإن قلتَ: إن مُعَاذًا رضي الله إذا نَوَى العشاء أول مرة على ما قلتم، وقع عن فريضة لا مَحَالة. قلتُ: كلاّ، فإنك قد عَلِمْتَ في مُفْتَتَحِ الكلامِ أن الفريضةَ تَحْتَاجُ إلى نيةٍ زائدةٍ على أصل الصلاة، وهي نيةُ وصف الفرضية، فإنه يتضمَّن أمرين: الصلاةَ، وذلك الوصف. فإذا أَطْلَق في النية ولم ينوِ هذا الوصف، لا تقع إلاّ نافلةً، ولعلّ صلاة مُعَاذ رضي الله عنه مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمكانت لإحراز فضيلة جماعة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وصلاته في قومه كانت لإسقاطها عن ذمته، بل هو الظاهر على أصلنا. فإنه كان إمام قومه، فلا بُدَّ أن ينوي صلاةً يَصِحُّ اقتداؤهم به، وذلك على ما قلنا. ولسنا ندَّعي أنه كان يَفْعَلُ كذلك؛ بل نقول: إنا نتوازن في الفِعَال حذو المثقال، ولا نرضى بِخطَّة عَسْفٍ.
على أنك قد عَلِمْتَ فيما سَلَفَ؛ أن الصلاةَ حقيقةٌ واحدةٌ تَشْتَرِكُ بين الفريضة والتطوُّع، وإنما تختلف من جهة لُحُوق الأمر وعدمه، فإذا لَحِقَ بها الأمر صارت فريضةً، وإلاّ بقيت نافلةً، فلا فرق بينهما إلاّ بلُحُوق الأمر وعدم لُحُوقه، وهو من الخارج لا من نفس حقيقتها، وعلى هذا، ففي الموضعين هي العشاء لا غير، وإنما الفرق بينهما بكون إحدى العشاءين مأمورًا بها، والآخرى غير مأمورٍ بها، وذلك لا يوجب سَلْب اسم العشاء عمَّا لم يُؤْمَر بها. أَلا ترى أن صلاة الصبيان لا تُسَمَّى إلاّ باسم العشاء مع عدم كونهم مأمورين بها؟
(2/470)
فَعُلِمَ أنه لا فرق في إطلاق الاسم على ما هو مأمورٌ بها، وعلى ما ليس بمأمورٍ بها، فهي العشاء في كلا الموضعين، نعم التي نَوَى بها براءة ذمته هي الفريضة لكونها مأمورًا بها بخلاف الأخرى، وذلك إليه، أسقط فريضته من أي صلاتيه شاء، وإنما يَصْعُب فَهْمُهُ على الذهن الذي ارْتَاضَ بإطلاق العشاء على الفريضة فقط، ولم يتَّفِقْ له أن يُعِيدَ العشاء على أنها نافلة كما في هذا الزمان.
وأصْرَحُ ما احتجَّ به الشافعيةُ رحمهم الله تعالى ما رواه الشافعيُّ عن جابر في هذا الحديث زيادة: «هي لهم فريضةٌ وله تطوُّعٌ»، أي يقع له تطوُّع، وهو في «المشكاة» أيضًا. قلتُ: وعلَّله الطحاويُّ، وكذا علَّله أحمد رحمه الله تعالى وقال: أخشى أن لا يكون محفوظًا، ونقله ابن الجوزي، وأبو البركات الحافظ مجد الدين ابن تيمية الحرَّاني أيضًا، وأراد الحافظ رحمه الله تعالى أن يقوِّيه شيئًا، فأخرج له طُرُقًا عديدةً، لكنه أَلانَ في الكلام، لأن مَقَالة أحمد رحمه الله تعالى بين عينيه.
قلتُ: والوجدان يحكم بأنه مُدْرَجٌ، لأن في إسناده ابن جُرَيْج، ومذهبه جواز اقتداء المُفْتَرِض خلف المُتَنَفِّل، ولعلّ الإدراج جاء من قِبَله، وإنما يتأخَّر في مثل هذه الأمور مَنْ لا يجرِّب الأمور، فلا يمكن أن يَثْبُت على قدميه، أمَّا مَنْ رزقه الله علمًا ووفَّقه، فهو على نور من ربه، يَحْكُمُ بحسب ذوقه: صدَّقه أحدٌ أو لا.(2/471)
والجواب الثاني له: أنا لو سلَّمنا أن مُعَاذًا رضي الله عنه كان يُصَلِّي بهم مُتَنَفِّلا، فأي دليلٍ عندكم على أنه صلى الله عليه وسلّمكان يَعْلَمُه أيضًا؟ فَرُبَّ أشياءَ قد فُعِلُت بمحضرٍ منه صلى الله عليه وسلّم ثم إذا اطَّلَعَ عليها نهى عنها، كالتيمم إلى الآباط والمناكب، والتمعُّك في التراب، وله نظائر غير محصورة، لا سِيَّما إذا كان عندنا ما يَدُلُّ على أنه إذا عَلمَه نَهَى عنه، فقد أخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملمَّا بَلَغَه خبرَه نَهَى عنه، وقال: «إمَّا أن تصلِّي معي، وإمَّا أن تخفِّف عن قومك»، وهو في «المسند» لأحمد والبزَّار، وحَكَمَ عليه ابن حَزْم بالإرسال واختلفوا في شرحه على ثلاثة أقوال.
الأول: ما شَرَحَ به الطَّحَاوِيُّ، وهو الأرجح، أي إمَّا أن تصلِّي معي فقط، فلا تُصَلِّ مع قومك، وإمَّا أن تُصَلِّ مع قومك، أي فلا تُصَلِّ معي، فَنَهَى على هذا التقدير عن الإعادة رأسًا، لأن الصلاة مرتين كانت تُوجِبُ التثقيل عليهم، لتأخُّره عَنهم بالصلاة مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّموهذا الشّرْحُ يُبْنَى على أنه لم يكن عند النبيِّ صلى الله عليه وسلّمعِلْمٌ من صلاته مرتين، فإذَا عَلِمَه نَهَى عنه، وعلَّمَه أن لا يُصَلِّي إلا مرَّة إمَّا معه، أو مع قومه، وذلك لأنه قال: «إمَّا أن تُصَلِّي معي»، فَعُلِمَ أنه لم يكن عن خبره من أنه يصلِّيها معه أيضًا. ولو كان له عِلْمٌ أنه يصلِّيها معه أيضًا، لم يَقُل له: «إمَّا أن تُصَلِّي معي».
(2/472)
والشرح الثاني للحافظ ابن حَجَر رحمه الله تعالى حيث قال: معناه إمَّا أن تصلِّي معي فقط، أو تُصَلِّي معي وتخفِّف عن قومك. وحاصله: أن المعادلة في الحقيقة بين الشيء والشيئين، فأمره بالصلاة معه فقط، فإِن أبى إلا أن يصلِّي مع قومه أيضًا، فعليه أن يخفِّف، وذلك لأن «إمَّا» و«أو» يقتضيان التَّقَابُل، ولا يستقيم التَّقَابُل بين الصلاة معه، والتخفيف عن قومه، بل الصحيح منه بين التخفيف والتطويل، أو الصلاة معه والصلاة معهم. وإنما اضْطَر الحافظ رحمه الله تعالى إلى هذا الشرح، لأنه أراد أن تكون إعادته في عِلْم النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لأنه نافعٌ له، وتعسَّر عليه قوله «إمَّا أن تصلِّي معي»، فجعل المقابلة بين الأمر والأمرين. فبناء هذا الشرح على أن النبي صلى الله عليه وسلّمكان يَعْلَمُ إعادته، فعلَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمإمَّا أن يصلِّي معه فقط، أو يصلِّي على عادته في الموضعين، فحينئذٍ، يخفِّف عنهم.
قلتُ: وحمل الأحاديث على المذهب بحذفٍ وتقديرٍ ممَّا لا يَعْجَزُ عنه الفحول، وهذا يمكن من كل أحدٍ، ولكن الأَرْجَحَ ما تَبَادر إلى الذهن بدون تَسَاهُلٍ وتَمَحُّلٍ، ولذا رجَّح ابن تَيْمَيِة شرح الطَّحَاوِيِّ.
والشرح الثالث لأبي البركات ابن تَيْمَية وهذا نصُّه من «المنتقى» قال: لأنه يَدُلُّ على أنه متى صلّى معه امْتَنَعَتْ إمامته، وبالإجماع لا تَمْتَنِعُ بصلاة النفل معه، فعُلِمَ أنه أراد بهذا القول صلاة الفرض، وأن الذي كان يصلِّي معه كان ينويه نفلا ا ه. وحاصل هذا الشرح: أن مُعَاذًا كان يُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وهو ظاهرٌ، فلا معنى لقوله: «إمَّا أن تُصَلِّي معي» فلا بُدَّ أن يُقَال إن صلاته في ذهن النبيِّ صلى الله عليه وسلّملم تكن أصلية، بل كانت نافلة، فأمره أن يُصَلِّي معه، أي الصلاة الأصلية، وهي التي أُرِيدَ بها إسقاط الفريضة، أو يخفِّف عن قومه.(2/473)
وبناء هذا الشرح على أن تكراره كان في علم النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولكن ما قدَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلّممن حاله هو أنه يُصَلِّي خلفه نافلةً، ومع قومه فريضةً، فعلَّمه أن لا يفعل كذلك فيما يأتي، بل إمّا أن يصلِّي معه الصلاة الأصلية وينوي بها إسقاط الفريضة، فلا يُصَلِّي مع قومه، وإمَّا أن يصلِّي معه كما كان يُصَلِّي بدون نية إسقاط الفريضة، وحينئذٍ فعليه أن يخفِّف عن قومه.k
قلتُ: ولا أراكَ تريبُ في أن أُرَجِّحَ من الشروح ما اختاره الطَّحاوي.
بقي نظير الحافظ بعدم صحة المقابل على هذا التقدير، فأقول في جوابه إن المعادلةَ قائمةٌ ولطيفةٌ، وهي عندي على حدِّ قوله تعالى: {افترى على اللَّه كَذِبًا أمْ بِهِ جِنَّةٌ} (سبأ: 8) فقابل بين الافتراء والجِنَّة، والذي يقتضيه سَوْقُ الكلام أن يكون هذا افترى على الله كَذِبًا أم لم يَفْتَرِ لأن المعادل صراحةً هو عدم الافتراء، ولكنه حذفه وأقام مقامه لازمه وهو الجنون، لأن الجنونَ لا افتراءَ له فهكذا نقول: إن أصل الكلام إمَّا أن تصلِّي معه، فاقتصر عليها، ولا تُصَلِّ بهم ثقيلةً أو خفيفةً، وإمَّا أن تُصَلِّي معهم، فعليك أن تخفِّف. وإنما حَذَفَ أن تصلِّي من المعطوف لأن المقصود من الصلاة معهم كان التخفيف، لا نفس الصلاة. فذكر الجزء المقصود ههنا، وحذف الصلاة معهم اختصارًا واعتمادًا على المعادل الآخر.
فأصل المعادلة بين الأربعة، حَذَفَ الاثنين منها، كما حَذْفَ من قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} (البقرة: 222) فإذا تَطَهَّرْنَ على ما قررنا، فإن ما بعد الغاية لا يَلْتَئِمُ فيه ممَّا قبلها، والجواب كما مرَّ: أن أصل الكلام حتى يَطْهُرْنَ وَيَتَطَهَّرْنَ.. الخ. فَحَذَفَ أحد المعادلين للقرينة الظاهرة، أما الكلام في إسناد رواية الطَّحَاوِيِّ، فقد ذكرناه في الترمذي.(2/474)
والجواب الثالث للطَّحَاوِي: أنا لو سلَّمنا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان يَعْلَمُ صنيعه ذلك، ومع ذلك لم يُنْكِرْ عليه، فأيُّ دليلٍ عندكم على أنه لم يكن في زمنٍ كان يصلِّي فيه الفرائض مرتين، ومرَّ عليه ابن دقيق العيد في «شرح عمدة الأحكام»، وقال: إن الطَّحاويَّ وإن حَمَلَه على زمان تكرار الفرائض، ولكن لم يبيِّن مُسْتَنَده في ذلك. قال الحافظ رحمه الله: وكأنه لم يَقِفْ على كتاب الطَّحَاويِّ، فإن الطَّحَاوِيَّ قد ذكره في باب صلاة الخوف، وذكر نسخه من قوله: «لا تُصَلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين»، قلتُ: ورجاله كلُّهم ثقاتٌ إلاّ خالد، وقد ذَكَرْتُ تحقيقه في درس الترمذي.
فهذه ثلاثة أجوبة للطَّحَاويِّ، وذلك تقريرها، والذي كُشِفَ لي بفضل المفضل المنعام: أنه لا تكرار ههنا أصلا إلا في واقعة، فإن ما يذكره الرواة في عادته هو صلاته مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّموصلاته في قومه فقط، أمَّا أنه كان يُصَلِّي بهم عينَ ما صلَّى خلف النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فلم يتكلَّم به أحدٌ منهم ولا حرفٍ، وإنما هو من بداهة الوهم، أَلا ترى إلى لفظ البخاريِّ: «كان مُعَاذ بن جبل يُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قومه...» الخ، فأين فيه أنه كان يكرِّر صلاةً واحدةً بعينها، وإنما فيه أن عادته كانت بصلاته معه صلى الله عليه وسلّم ثم الصلاة بهم بعد رجوعه عنه، وليس فيه أنها كانت عينَ تلك الصلاة.
(2/475)
والذي يتبَّين من الروايات أن ما كان يصلِّيها مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمهي صلاة المغرب، ثم يَرْجِعُ إلى قومه فَيؤُمُّهم في العشاء. ثم إن مُعَاذًا رضي الله تعالى عنه لم يكن متفرِّدًا في ذلك، بل كان هذا دَأْبُ قومه، فكانوا يُصَلُّون المغرب مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم يَرْجِعُون ويصلُّون العشاء في ظلمةٍ من الليل. فقد أخرج الطَّحَاوِيُّ في باب القراءة في صلاة المغرب، عن الزُّهْرِيِّ، عن بعض بني سَلَمة: «أنهم كانوا يُصَلُّون مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمالمغرب، ثم يَنْصَرِفُون إلى أهلهم وهم يُبْصِرُون موقع النَّبْلِ على قدر ثلثي ميل». ا ه- وعن جابر بن عبد الله قال: «كنا نُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمالمغربَ، ثم نأتي بني سَلَمة وإنَّا لَنُبْصِر مواقع النَّبْل». ا ه. وعن عليِّ بن بلال قال: «صلَّيت مع نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّممن الأنصار، فحدَّثوني أنهم كانوا يُصَلُّون مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمالمغرب ثم يَنْطَلِقُونَ يَرْتَمُونَ لا يَخْفَى عليهم موقع سهامهم، حتى يأتوا ديارهم، وهم في أقصى المدينة في بني سَلَمة». ا ه.
وبنو سَلَمة هؤلاء هم قوم مُعَاذ رضي الله تعالى عنه، وقد عَلِمْتَ من عادته ما كانت ثم إن قصة مُعَاذ رضي الله تعالى عنه يرويها جابر رضي الله تعالى عنه، وهو نفسه يروي ما كانت عادة قومه، فلا تكون عادة مُعَاذ رضي الله تعالى عنه خاصةً مع قطع النظر عن عادة قومه كائنةً ما كانت، فقد أخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله: «أن مُعَاذ بن جبل كان يُصَلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمالمغرب، ثم يَرْجِعُ إلى قومه فَيَؤُمُّهم». ا ه. قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.(2/476)
فدلَّ صراحةً على أن مُعَاذًا رضي الله تعالى عنه لم يكن يُصَلِّي العشاء مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بل التي كان يصلِّيها معه صلى الله عليه وسلّمهي المغرب، ثم كان يَرْجِعُ إلى قومه وهم بنو سلمة - فكان يَؤُمُّهم في العشاء، ومرَّ عليه البيهقي، ولمَّا لم يَتَنَبَّه على ما قلنا، علَّل ذكر المغرب زعمًا منه أن الصلاة التي كان يصلِّيها مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمهي العشاء، قلتُ: كلا، بل هو صحيحٌ، ولا مرد له ولا وجه لإعلاله بعد ما علمنا من عادة قومه أيضًا.
وإذا تبيَّنت وتيقَّنت أن أي صلاتي مُعَاذ كانت مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وأيها كانت مع قومه، عَلِمْتَ أنه لا تكرار ههنا، نعم اتَّفَقَ ذلك مرةً واحدةً فقط، حيث صلَّى مُعَاذ المغرب مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم لم يَزَلْ جالسًا معه صلى الله عليه وسلّمحتى صلَّى العشاء، فأبطأ عليهم، ثم أمَّهم بنحو سورة البقرة، وبلغ خبره إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فنهى عنه.
فهنا أمران: الأول صلاته مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي المغرب ومع قومه في العشاء، وهذه كانت عادته المستمرة. والثاني تكرار العشاء، ولم يكن ذلك عادة له، وإنما وقع مرةً فقط، ثم أنكر عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم واختلط على عامتهم هذان الأمران، فكلما يذكر الرَّاوي الأمر الأول يحملونه على الثاني وهو الذي حَمَلَ البيهقيُّ على إعلال لفظ المغرب مع أنه صحيحٌ، وأنكر القاضي أبو بكر بن العربي التكرار أيضًا كما مَّهدت القول فيه.(2/477)
ثم إن الدليلَ على أن التكرارَ في العشاء لم يكن عادةً له وإن كانت واقعة جزئية، ما ساقه أبو داود في باب تخفيف الصلاة، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: «كان مُعَاذ رضي الله تعالى يُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم يَرْجعُ فَيَؤُمُّنَا». قال مرة: «ثم يَرْجِعُ فيصلِّي بقومه». وهذا هو عادته وعادة قومه، وليس فيه أنه كان يُصَلِّي بهم عينَ ما كان يصلِّيها مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وبعد ذلك انتقل الراوي إلى بيان تلك الواقعة، فقال: «فأخَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلّمالصلاةَ - وقال مرةً: العشاء - فصلَّى مُعَاذ رضي الله عنه مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمالصلاةَ، ثم جاء يَؤُمُّ قومه، فقرأ البقرة» ا ه. وسياقه في المتفق عليه قال: «كان مُعَاذ بن جبل يُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم يأتي فَيَؤُمُّ قومه. فصلَّى ليلةً مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمالعشاءَ، ثم أتى قومه فأمَّهم». ا ه.
فانظر هل أدَّاه بطريق الواقعة، أو على شاكلة العادة، ثم انظر إلى ألفاظ الرجل الذي انحرف عن صلاته هل جعله عادةً، أو واقعةً؟ قالا: «وإن مُعَاذًا صلَّى معك العشاء، ثم أتى قومه فافتتح بسورة البقرة». فهذا كان من أمر معاذ رضي الله عنه، إلا أنه لمَّا ذُكِرَت واقعة العشاء فيما بعد، سَرَى إليَّ الوَهَمُ أن ما ذُكّرَ قبله من عادته هو أيضًا في العشاء، مع أنه ذَكَرَ أولا عادته، ثم انتقل إلى بيان الواقعة. والوَهَم يَعْمَلُ العجائب، وقد قيل: إن الوَهَم خلاق.
فإِذا تحقَّقت أنه لم تكن هناك إلا واقعة، وعليها غَضِبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمغضبًا لم يَغْضَبْ مثله، تحقَّقت أن لا دليل فيها للشافعية، وللحنفية مَسَاغٌ لأن يجعلوا مورد الغضب الأمرين أعني: إطالته، وإعادته. ثم إني تتبعت هذه الواقعة أنها متى كانت، فتبيَّن لي أنها كانت قُبَيْل بدر، وقد ذكرناها في تقرير الترمذي.(2/478)
هذا وبقي بعدُ خبايا في زوايا الكلام، والعلم عند الله العلام.
701 - قوله: (وأمره بسورتين) فليحفظ هذا اللفظ، لأن فيه أنه أمره بهما فَيَدُلُّ على الوجوب كما قال الحنفية؛ والشافعية لم يختاروا وجوب السورة، وإليه يُشِيرُ قوله: «فلولا صلَّيت بسبح اسم ربك الأعلى...» الخ أمَّا أنا، فلا أرى فرقًا بين الفاتحة والسورة في سِيَاق الأحاديث، غير أن الفاتحة واجبةٌ عينًا، والسورة واجبةٌ بدلا إلا أن من صَرَفَ جميع همته في إثبات الركنية للفاتحة فَتَرَ في إثبات الوجوب للسورة، ولم يَسَعْ له غير السنية، فإن لكل شِرَةٍ فَتْرَة.
باب تَخْفِيفِ الإِمَامِ فِي القِيَامِ، وَإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُود
باب إِذَا صَلَّى لِنَفسِهِ فَليُطَوِّل مَا شَاء
أراد أن ينبِّه على محل التخفيف، وهو القيام، فيطوِّلُ فيه ويَقْصُرُ بِحَسَبِ التارات والحالات. أمَّا الرُّكوع والسجود، فَيُتِمُّهُمَا في كل حال.
قلتُ: ويُعْلَمُ من سنة النبيِّ صلى الله عليه وسلّموهديه أنه كان لركوعه وسجوده مقدارًا محدودًا، بخلاف القيام فإنه كان يَخْتَلِفُ باختلاف الأحوال. ثم إن هذا في الفرائض، بقيت صلاة الليل، فكان ركوعها وسجودها وقيامها كلها غير منتظمةٍ، لأنها كانت صلاته لنفسه، والرجل مخيَّرٌ فيها.
مسألة: تردَّد في «البحر» فيمن يَقْدِرُ أن يصلِّي قائمًا منفردًا وبالجماعة قاعدًا، أيُّهما أفضل له؟ قلتُ: وعندي الأفضل هو الثاني لما عند أبي داود «أن المرضى في عهده صلى الله عليه وسلّمكان يُؤْتَى بهم إلى المساجد».(2/479)
702 - قوله: (من أجل فلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بنا) قيل هو مُعَاذ رضي الله عنه، وقيل هو أُبَيّ رضي الله عنه، لأنها واقعة الفجر، وتطويل مُعَاذ رضي الله عنه كان في العشاء، ومن يراهما متحدين يلتزم أن مُعَاذًا رضي الله عنه طوَّل فيهما. ومن جعلها قصة أُبَيّ رضي الله عنه، ثم رأى جملة: «فإن منكم مُنَفِّرين...» الخ في حديث مُعَاذ رضي الله عنه، حكم بكونها وَهْمًا في حديثه. وصنيع البخاري يَدُلُّ على أنها ثابتة فيهما عنده، وخالفه الحافظ رحمه الله تعالى، وقال: إنها وَهْمٌ في قصة مُعَاذ رضي الله عنه.
باب مَنْ شَكَا إِمَامَهُ إِذَا طَوَّل
أراد أن ينبِّه على جواز الشِّكَاية في أمر الخير المحض إذا احتاج إليه، فإن الصلاةَ خيرُ موضوعٍ، ثم شَكَى فيها رجلٌ، فهل يَجُوزُ ذلك؟ ولولا أن المصنِّف رحمه الله تعالى نبَّه عليه لربما تحيَّرنا فيه، فهو مهمٌ إذن. ومثله فِعْلُ المصنِّف رحمه الله تعالى في منع القارىء. عند قراءة القرآن، هل يَجُوزُ أن يمنعه عن قراءة القرآن؟ واستدلَّ على جوازه بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «حَسْبُكَ حين بَلَغَ القارىء إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} (النساء: 41) إلخ كما سيجيء.
والحاصل: أن الأمرَ إذا كان خيرًا محضًا في طرفٍ يشتدُّ على النفس النهي عنه من طرفٍ آخر، فهدى المصنِّف لمثله: أنه يجوز إذا كان لمعنى صحيحٍ، وفي إسناده قَيْس بن حازم، وقال أحمد رحمه الله تعالى فيه: إنه أفضل التابعين عندي، وقال آخرون: ليس في التابعين أحدٌ رأى العشرة المبشَّرة غيره، ثم مذهبه تَرْك رفع اليدين، كما في «المصنَّف» لابن أبي شَيْبَة، فلو كان الترك معدومًا محضًا، أو حاملا كما قالوا، لَمَا اختاره من كان رَأَى الأجِلَّة من الصحابة رضي الله عنهم.(2/480)
والحق أن التركَ لا يمكن إعدامه إلى يوم القيامة، وإن جَلَبَوا عليه بخيلهم ورجِلِهم، فإنه من سنة النبيِّ صلى الله عليه وسلّمتحيى إلى يوم الدين إن شاء الله تعالى، ولا ندَّعي أن الرفعَ ليس بسنةٍ أو خاملٍ، ولكن نُبيِّن حَمْلَةَ الخصوم علينا، حيث يريدون أن لا يبقى في الجنة للحنفية موضع.
705 - قوله: (أَحْسِبُ هذا) أي تلك الجملة، فإنها محفوظة في حديث مُعَاذ رضي الله عنه، وليست وَهْمًا كما قيل، ولذا أخرج له المتابعة.
باب ُ الإِيجَازِ فِي الصَّلاةِ وإكْمَالِهَا
يريد أن الإيجاز والإكمال يمكن اجتماعهما في صلاةٍ واحدةٍ.
باب مَنْ أَخَفَّ الصَّلاةَ عِنْدَ بُكاءِ الصَّبِي
باب إِذَا صَلَّى ثُمَّ أَمَّ قَوْمًا
أي كان يريد التطويل، ثم أَخَفَّها في خلال الصلاة، أو أَخَفَّها من أول الأمر، وصلاها ناويًا التخفيف من قبل، فأجاز بهما.
وأعلم أن الشافعية أجازوا بالاختصار والإطالة معًا لقياس العكس، وقالوا: إذا جَازَ التخفيف في الصلاة لمكان الحاجة جَازَ التطويل أيضًا، وفَرَّق الحنفية بينهما، وقالوا: إن الاختصارَ تركُ ما كان لله، والتطويلَ زيادةٌ لغير الله.
قوله: (وعن محمد أخشى عليه عظيمًا)، أي الكفر. واتفقوا على أن المراد منه كفر النعمة. قلتُ: والذي يَعْلَق بقلبي أن ينهى عنهما: أمَّا الطويل، فلسدِّ باب رعاية ذوي الهيئة، دون ذوي الحاجات. وأمَّا الاختصار، فلأن الفقهاء مَنَعُوا النساء عن حضورهنَّ الجماعات منفردات أو مع صبيانهن، فارْتَفَعَ باب الاختصار، واختار صاحب «الفَتَاوى»: جواز الإطالة في الركوع لإدراك الناس إذا لم يكونوا من رفقائه وممَّن يَعْرفُهُ، وإلا لا.(2/481)
707 - قوله: (أُرِيدُ أن أطوِّلَ فيها)، وهذا صريحٌ في التخفيف بعد إرادة التطويل، ورأيت في الخارج: «أنه قرأ فيها بالمُعَوِّذَتَيْنِ أو سُورَتَيْنِ مثلهما، فقال أصحابه: تجوَّزت يا رسول الله، فقال: أَمَا رأيت إلى الصبيِّ يَبْكِي، فَخِفْتُ أَن تُفْتَتَنَ به أمه». - بالمعنى.
707 - قوله: (فأسْمَعُ بكاء الصبيِّ)، يمكن أن يكون الصبيان في بيوتهنَّ ويَسْمَعْنَ بكاءهم من المسجد، أو يكونوا في المسجد مع أمهاتهم.
709 - قوله: (مِن شِدَّةَ وَجْدِ أُمِّهِ) الوجد: (دل بهرآنا).
باب مَنْ أَسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الإِمام
وهو جائزٌ بالاتفاق، وأفتى ابن الهُمَام رحمه الله تعالى بفساد الصلاة إذا جَهَرَ بالتكبير أَزْيَد من الحاجة، ورَدَّ عليه الحموي، وقرَّر عدم الفساد وإن زَادَ على قدر الحاجة.
712 - قوله: (فلا يَقْدِرُ على القراءة)، ولذا قلتُ فيما مرَّ: إن الاستخلاف في هذه الواقعة يمكن أن يُحْمَل على عذر الحَصْر، فإنه جائزٌ عندنا أيضًا، ولكنه عندي ضعيفٌ ههنا، فالأَوْلى أن يُحْمَل على الخصوصية، كما قال محمد رحمه لله تعالى.
باب ُ الرَّجُلِ يَأْتَمُّ باْلإِمَامِ، وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بالمَأْمُوم
باب هَل يَأْخُذُ الإِمَامُ إِذَا شَكَّ بِقَوْلِ النَّاسِ؟
وهذا الذي تَلَوْنا عليك من مذهب المصنِّف رحمه الله تعالى، هو عند الشيخ بدر الدين العَيْني رحمه الله تعالى، فاختار أن الاقتداءَ عنده مُسَلْسَلٌ، يقتدي الصف الثاني بالأول، ثم وثم. ونُسِبَ إلى الشَّعْبِي وابن جَرِير أيضًا. وصرَّح البخاري في «جزء القراءة». أن الركعة لا تُدْرَك بإدراك الركوع. وعلى هذا، فلو اقتدى رجلٌ برجلٍ بركوعه يَصِحُّ اقتداؤه به، ولا يُعَدُّ مُدْركًا للركعة.(2/482)
قلتُ: وما نَسَبَه إليه العَيْنيُّ رحمه الله من تَسَلْسُل الاقتداء، لا يجب أن يكونَ مختارًا له، ولعلَّه اتَّبَعَ في وضع الترجمة لفظ الراوي، ولم يُرِدْ التنبيه على التَّسَلْسُل.
قوله: (ائْتَمُّوا بي ولْيَأْتَمَّ بكم مَنْ بَعْدَكم). أخذه البخاري في الإمامة والاقتداء في الصلاة، فمعناه عنده. ولْيَأْتَمَّ بكم من بَعْدَكم من الصفوف. وقال الجمهور: إن الائتمام في تعليم الدين، فاقتدوا أيُّها الصحابة أنتم بي، وليقتدِ الذين بَعْدَكم فيما يأتي من الزمان بكم، وهكذا كل خَلَفٍ يقتدي بسَلَفِهِ، وليس المراد به إمامة الصلاة والاقتداء فيها خاصة.
713 - قوله: (فلَّما دَخَلَ في الصلاة، وَجَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي نفسه خِفَّةً، فقام...) الخ، وهذا أَصْرَح في أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمخَرَجَ إليهم في العشاء.
باب إِذَا بَكى الإِمَامُ فِي الصَّلاة
والبكاء إذا كان من وَجَعٍ أو مصيبةٍ يُفْسِدُ، وإن كان من ذِكْرِ الجنة أو النار فهو مطلوبٌ. وقد ثَبَتَ البكاء في الصلاة مرفوعًا، وإنما أخرج المصنِّف رحمه الله تعالى أثر عمر رضي الله عنه، لأن المرفوعَ لم يكن على شرطه.
قوله: (وقال عبد الله بن شَدَّاد) وهذا هو صحابي صغير السن، نَكَحَ حَمْزةُ رضي الله عنه أمَّه، وهو الذي يروي حديث: «من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة»، فلا أقل من أن يكون حديثه مرسل صحابي، مع أنه قد ثَبَتَ مرفوعًا أيضًا، وحقَّقناه في رسالتنا «فصل الخطاب».
باب ُ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ عِنْدَ الإِقَامَةِ وَبَعْدَهَا(2/483)
ويسويه بالنحوين عند الضرورة، والمراد من قوله: «بعدها»: بعد الإقامة قبل التحريمة، وإن جَازَ بعد التحريمة أيضًا. وكان في زمن عمر رضي الله تعالى عنه رجلٌ مُوَكَّلٌ على التسوية، كان يمشي بين الصفوف ويسوِّيهم، وهو واجبٌ عندنا تُكْرَه الصلاة بتركه تحريمًا، وسنةٌ عند الشافعية لانتفاء مرتبة الواجب عندهم، وذهب ابن حَزْم إلى أنه فرضٌ.
ثم اختلفوا في تضعيف الأجر عند اختلاف الصفوف واختلالها، ونَقَل السيُوطي قولين عن الشافعية: الأول: أنه يحصل التضعيف مع وزر النقصان. والثاني: أنه يَحْبَطُ ثواب التضعيف. وعندنا في الصيام أن الثواب يَحْبَطُ في الصوم المكروه، وقيل: يَحْصُل مع النقصان، وعندي يَحْبَطُ في صوم يوم النحر والفطر، فإنه حرامٌ إجماعًا، وفي سائر أيام التشريق يَحْصَل شيءٌ منه. وأمَّا في الصلاة، فَيحْصُلُ أصل التضعيف، ويَنْقُصُ منه ما نَقَصَ فيه من الكراهة، بَقِيَ أن حَبْطَ الثواب لمن خالف فقط، أو للكل؟ قلتُ من عند نفسي: إنه لمن اختلف فقط، ومن سوَّى منهم فقد أَحْرَزَ الأجرَ.
717 - قوله: (عمرو بن مُرَّة): هذا كوفي، ومذهبه تَرْكُ رفع اليدين، وراجع فيه مع النَّخَعِي، فقال له: إن كان أبوه رآه يرفع مرةً، فقد رآه ابن مسعود وأصحابه يتركه خمسين مرةً. وهو عند الطَّحَاويِّ أيضًا، وإسناده جيدٌ. ومعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه وأصحابه رَاجِعْهُ من رسالتي «نيل الفرقدين».
717 - قوله: (لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُم): يعني أن الظاهر يُؤَثِّرُ في الباطن، فإذا اختلف في الظاهر، يختلف عليه الباطل أيضًا، ويوجب الخلاف والشقاق فيما بينهم.
718 - قوله: (فإني أَرَاكُمْ) يعني أنكم إن لا تَسْتَحْيُون من الله فاسْتَحْيُوا مني، فإِني أراكم. وعن أحمد رحمه الله تعالى: أنه كان معجزةً من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم
باب ُ إِقْبَالِ الإِمامِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تَسْوِيَةِ الصُّفُوف(2/484)
719 - قوله: (فأقبل علينا)، وعند أبي داود: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان يأمرهم بالتسوية مُتَّكِئًا على خشبةٍ منصوبةٍ في المحراب، فإذا رآهم سَوَّوْا صفوفهم كَبَّرَ».
719 - قوله: (أقيموا صُفُوفَكُم، وتَرَاصُّوا). وأعلم أن صفوفَ المصلِّين لمَّا كانت على صفوف الملائكة عند ربهم، كما هو عند أبي داود، بولِغَ في الأمر بالتسوية والتَّرَاصِّ لتكون الحكاية على شاكلة المَحْكِيِّ عنه، ولكونها أكمل طريق لأداء العبادة، ولذا امتازت به الأمةُ المرحومةُ، حتى قيل: إن عبادةَ بني إسرائيل كانت على طريق الحَلَقَة، ولم يكن الصف فيهم.
باب الصَّفِّ الأَوَّل
في كتاب أبي الشيخ أبي حيَّان: أن الصفَّ الأوَّل أمنعُ من الشيطان من سائر الصفوف، وهو عندي من الشمال إلى الجنوب، لا من دخلوا مع الإمام في مَقْصُورَته. وقيل: بل هو الذي خلف الإمام في مقصورته.k
وهناك قولٌ ثالثٌ، وهو مهجورٌ: أنهم مَنْ دَخَلُوا في المسجد أولا أينما كانوا.
باب إِقامَةُ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاة
وهذا لفظ الحديث تَرْجَمَ به، وقد فرَّق الراغب بين التمام والكمال: بأن التمام في الأجزاء، والكمال في الأوصاف. وحينئذٍ ظَهَرَ منه تمسُّك ابن حَزْم.
قلتُ: إن الأوصاف إذا كانت مهمةً تُنَزَّل منزلة الأجزاء، لأنَّا قد عَلِمنا أن المختلِف في الصف لم يُؤْمَر بالإِعادة، ولم يُعَامَل بصلاته معاملة البطلان، ثم إن الحديثَ دلَّ على أن إقامة الصلاة أَمْرٌ وراء الصلاة، ففرَّق بين صلُّوا، وبين أقيموا الصلاة. وأوضحه البَيْضَاوِي وغيره.
باب ُ إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوف(2/485)
قال: ما أَنْكَرْتُ شيئًا، إلاّ أنكم لا تُقِيمُون الصلاة، وقد مرَّ عنه في باب تضييع الصلاة: «لا أعرف شيئًا ممّا كان على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّمإلا الصلاة، وقد ضُيِّعَتْ». فإنه كان هذا بالشام، والأوَّل في المدينة. وهذا يَدُلُّ على أن أهل المدينة كانوا في ذلك الزمان أمثلَ من غيرهم في التمسُّك بالسنن.
باب ُ إِلزَاقِ المَنْكِبِ بِالمَنْكِبِ وَالقَدَمِ بالقَدَمِ فِي الصَّف
قال الحافظ: المراد بذلك المبالغة في تعديل الصفِّ وسدِّ خلله. قلتُ: وهو مراده عند الفقهاء الأربعة، أي أن لا يَتْرُكَ في البين فرجةً تَسَعُ فيها ثالثًا. بقي الفصل بين الرجلين: ففي «شرح الوقاية» أنه يَفْصِلُ بينهما بقدر أربع أصابع، وهو قول عند الشافعية، وفي قولٍ آخر: قدر شبر.
قلتُ: ولم أجد عند السَّلَفِ فرقًا بين حال الجماعة والانفراد في حقِّ الفصل، بأن كانوا يَفْصِلُون بين قدميهم في الجماعة أزيد من حال الانفراد، وهذه المسألة أوجدها غير المقلِّدين فقط، وليس عندهم إلا لفظ الإِلزاق. وليت شعري، ماذا يَفْهَمُون من قولهم الباء للإِلصاق، ثم يمثِّلُونه: مررت بزيدٍ، فهل كان مروره به متَّصِلا بعضه ببعض، أم كيف معناه؟(2/486)
ثم إن الأمر لا يَنْفَصِلُ قطُّ إلا بالتعامل، وفي مسائل التعامل لا يُؤْخَذُ بالألفاظ، كلفظ: «فوق الصدر» عند ابن خُزَيْمَة، فإنه من توسُّع الرواة قطعًا، لأنه لم يَعْمَل به أحدٌ من الأئمة، ولا يُوجَدُ الرفع بهذا النوع في كُتُبٍ من الشافعية، إلا في «الحاوي» للماوردي، وهو أيضًا مسامحةٌ عندي. فإِن الرَّاوي أضاف لفظ: «على الصَّدْر» بعد مرور القرون، ثم لم يُرِدْ به إلا قريبًا من الصدر، ولس الطريق أن يُبْنَى الدين على كل لفظٍ جديدٍ بدون النظر إلى التعامل، ومن يَفْعَلُ ذلك لا يَثْبُت قدمه في موضعٍ، ويَخْتَرِعُ كل يومٍ مسألةً، فإن توسُّع الرواة معلومٌ، واختلاف العبارات والتعبيرات غير خَفِيِّ فاعلمه.
فاللفظ وإن كان يَصْلُح للوضع فوق الصدر، لكن لمَّا فَقَدْنا العملَ به عَلِمنا أنه من توسُّع الرواة، فهو بدعةٌ عندي. وسأل عنه أبو داود الإمامَ أحمد رحمه الله تعالى، فقال: ليس بشيءٍ، كذا في كتاب «المسائل». وهذا الذي عُرِضَ للمحدِّثين، فإنهم يَنْظُرُون إلى حال الإسناد فقط، ولا يُرَاعُون التعامل. فكثيرًا ما يَصِحُّ الحديث على طورهم، ثم يَفْقِدُون به العمل، فيتحيَّرون حتَّى أن الترمذي أخرج في «جامعه» حديثين صالحين للعمل، ثم قال: إنه لم يَعْمَل بهما أحدٌ، وذلك لفقدان العمل لا غير، وإلا فإسنادهما صحيحٌ. وكذلك قد يُضَعِّفُون حديثًا من حيث الإسناد، مع أنه يكون دائرًا سائرًا فيما بينهم، ويكون معمولا به فيتضرَّر هناك من جهة أخرى. فلا بُدَّ أن يُرَاعى مع الإسناد التعامل أيضًا، فإن الشرع يَدُور على التعامل والتوارث.
(2/487)
والحاصل: أنا لمَّا لم نَجِد الصحابة والتابعين يفرِّقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد، عَلِمْنَا أنه لم يُرِدْ بقوله إلزاق المِنْكَب إلا التَّرَاصّ وترك الفرجة، ثم فَكِّر في نفسك ولا تَعْجَل: أنه هل يمكن إلزاق المِنْكَب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة، ولا يمكن بعده أيضًا؟ فهو إذن من مخترعاتهم، لا أثر له في السلف. وعند أبي داود في باب وضع اليُمْنَى على اليُسْرى في الصلاة: «صفُّ القدم، ووضع اليد على اليد من السنة». قلتُ: ومراده استواء القدمين مع التَّجَافِي، فلا يبحثون عن إلزاق الكعبين أصلا، ولا يذكرون فيه إلا الصفّ ثم في النَّسائي في باب الصف بين القدمين: «أن رجلا صفَّ بين القدمين، فقال له ابن مسعود رضي الله عنه: خالف السنة، لو راوح كان سنةً». ومراده بعكس ما هناك، أي يَضُمُّ بين قدميه، ولا يَتْرُك فرجةً بينهما. وأراد بالمرواحة: التفريج بين القدمين. فالصف عند أبي داود بعكس ما في النَّسائي فتنبَّه، فإنه ليس من المصطلحات ليَلْزَم بالمخالفة. ولا تتوهَّم أن بين اللفظين تَنَاقُضًا، فإنه يبني على تعدُّد المعنيين، فالصفُّ بمعنى التفريج والاستواء سنةٌ، وهو بمعنى الضم بينهما مخالفٌ للسنة، فافهم وتشكَّر وما في «القنية»: إلزاق الكعبين في الركوع كما هو في «رد المحتار»، فلا أصل له كما في «السعاية». وتلخَّصَ أن الصفَّ بين القدمين سنةٌ لا غير، لأنهم لا يذكرون. ولا يتعرَّضُون إلى غيره، فحَسْبُهم قدوة.
باب إِذَا قامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الإِمامِ وَحَوَّلَهُ الإِمامِ خَلفَهُ إِلَى يَمِينِهِ، تَمَّتْ صَلاتُه(2/488)
يُرِيدُ أن هذا القَدْر ليس بعملٍ كثيرٍ ولا مُفْسِدٍ، وصورته كما عند مسلم، وقد مرَّ ثم أن هذه الترجمة قد مرّت مرةً مع تغييرٍ يسيرٍ، وهو أنه كان في الأُولَى «لم تَفْسُد صلاته»، وههنا: «تمَّت صلاته». والوجه فيه: أن المقصودَ أولا كان بيان موضع الإمام والمأموم فقط، وذكر مسألة التحويل إنجازًا، وههنا هي المقصودة. أو يُقَال: إن المقصود في الأول: بيان عمل القليل والكثير، وههنا: بيان تمامية الصلاة، مع أن بعضها صُلِّيت على خلاف ترتيب موضع المأموم حتى قوله عنه.
باب المَرْأَةُ وَحْدَهَا تَكُونُ صَفًّا
وفي الفقه: أن الصبيَّ إن كان واحدًا يقوم مع البالغين، وإلا فخلف الصفِّ، وكُرِهَ إن قام مع الصفِّ. وأمَّا المرأة، فليس موضعها إلا خلف الصفِّ واحدةً كانت أو جماعةً، ومن مثل هذا ذَهَبَ نظرُ إمامنا إلى أن مُحَاذَاتها مفسدةٌ أنه لم يتحمَّل صفها مع الرجال مطلقًا. ويَحْدُثُ في مثل هذه المواضع أذواقٌ، ومَنْ لم يَذُق لم يَدْرِ.
باب ُ مَيمَنَةِ المَسْجِدِ وَالإِمام
عيَّنه المصنِّف رحمه الله تعالى باعتبار الإمام، وعندي لا مَيْمَنَة له ولا مَيْسَرَة، لكونه اعتبارية في المسجد. أمَّا في الإمام، فيكون باعتبار استقباله إلى القبلة، وهذه المسألة لم يتعرَّض لها الفقهاء. نعم يُحْتَاج إليها في الحديث لِمَا فيه: «أن الرَّحمة تَنْزِلُ أولا على الإمام، ثم على يمينه، ثم على يساره».
باب إِذَا كانَ بَينَ الإِمامِ وَبَينَ القَوْمِ حائِطٌ أَوْ سُتْرَة(2/489)
أشار إلى مسألة اتحاد المكان بين الإمام والمأموم. قال الحنفية: إن المسجد كلَّه مكانٌ واحدٌ، فإن حالت الجدران، فهل يُشْتَرَط المنفذ، أو كفى علم انتقالات الإمام فقط، ولو بمجرد صوته؟ فالثاني هو المُفْتَى به، ولا حاجةَ إلى المنافذ أو غيرها، واعتبروا في الصحراء تباعُدَه قدر ثلاث صفوف إذا لم تتصل الصفوف، فإن كان بينهما طريقٌ أو نَهْرٌ تجري فيه السفينة مُنِعَ مطلقًا، ويُعَدُّ كأنه مكانٌ مختلفٌ، ويَشْهَدُ له أثر عمر رضي الله عنه، كما في «الحاشية»، ولعلَّه في «المصنَّف» لعبد الرَّزَّاق.
729 - قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميُصَلِّي من الليل في حُجْرَتِهِ...) الخ. اختلف الشارحون في تفسير الحُجْرَة، ما كانت؟ وحملها الطَّحَاوِيُّ رحمه الله تعالى على بيت عائشة رضي الله عنها، وحينئذٍ الفاصل هو الجدار. وحملها الشارحون على حُجْرَتِهِ التي كانت تُتَّخَذُ من الحصر لمُعْتَكَفِهِ في رمضان. قلتُ: والأرجح عندي أن يُحْمَلَ على التعدُّد، فإن حَمْلَ الجدار على الحصير مجازٌ بعيدٌ.
729 - قوله: (يُصَلُّون بصلاته). أَمْعِن النظر فيه، حيث لم يَقُل: صلاتهم، مع أنه الظاهر، وجعلهم مُصَلِّين بصلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وهل يُصَلِّي أحدٌ صلاةَ أحدٍ؟ وهل يأتي هذا التعبير على مسائل الحنفية أو الشافعية؟ فقد تكلَّمنا عليه وعلى مثله مِرَارًا، وسنعود إليه في باب الوتر شيئًا إن شاء الله تعالى.
729 - قوله: (فلم يَخْرُجْ...) الخ، ومعناه على مختار الشارحين: أي لم يَخْرُج من مُعْتَكَفِهِ إلى حيث كان يُصَلِّي صلاة الليل.(2/490)
729 - قوله: (إني خَشِيتُ أن تُكْتَبَ عليكم)، وههنا إشكالٌ: وهو أنه كيف خَشِيَ الكتابة، مع أنه قد أَعْلَن بأنَّ الفرائضَ خمسٌ لا تزيد ولا تَنْقُص؟ وأُجِيبَ بأن انحصار فريضة العمر في الخمس لا يُنَافي زيادة فريضةٍ في رمضان خاصةً، فمعناه: خَشِيتُ أن تُكْتَبَ عليكم صلاتكم هذه في رمضان، فلا يُنَافي ما افْتُرِضَ في خارجه. ثم ذَكَرَ له الحافظ رحمه الله تعالى جوابين من عند نفسه. والأرجحُ عندي أن الخَشْيَةَ خَشَيَةُ الجماعة، أي تُكْتَبَ عليكم الجماعةُ فيها، وللجماعة تأثيرٌ في الإِيجاب، ولذا أمرهم أن يُصَلُّوها في بيوتهم، ولا يجتمِعُوا بها. ولمَّا كان للوجوب اختصاصٌ بالجماعة، وَجَبَت صلاة الاستسقاء عندنا في قولٍ لكونها بالجماعة.
وهل للمواظبة والاعتناء دَخْلٌ في إيجاب شيءٍ أو تحريمه؟ فالجواب كما ذكره الشاه وليُّ الله في «حُجَّة الله»: أن الشيءَ قد يَجِبُ ويَحْرُم بالمواظبة أيضًا إذا كان الزمانُ زمانَ نزول الوحيِ، كنذر يعقوب عليه السلام بترك أحب الأشياء إليه، وكان أحب الأشياء إليه لحم الإبل، فلم يأكله لنذره واستمرَّ على تَرْكِه ذُرِّيَّتُه تبعًا لأبيهم، فلمَّا تمادى الأمر على ذلك حُرِّم على بني إسرائيل في التوراة.
قلتُ: ويُسْتَفَاد منه: أن حقيقة صلاة الليل مما تَصْلُح أن تكونَ فرضًا وإن لم يَحْكُم به عليها، لا يُقَال خَشْيَة الكِتَابة تَدُلُّ على عدم الكتابة في الحالة الرَّاهِنَةِ، وهذا يُخَالِفُ ما اخْتَرْتَ من وجوب قطعة من الليل، وهي الوتر. قلتُ: كلا، لأني حَمَلْتُ الخَشْيَة على الجماعة، والوتر وإن كانت مكتوبةً عندنا، لكنها ليست بالجماعة.
باب ُ صَلاةِ اللَّيل(2/491)
قيل هذه الترجمة أجنبية في تضاعيف تراجمه من هذا الباب، فإن أبوابَ صلاة الليل بعيدةٌ، ولم يَدْخُل المصنِّف رحمه الله تعالى في صفة الصلاة بَعْدُ. قلتُ: وهو إنجازٌ، لأنه لمَّا أخرج حديث: «صلاة الليل» أحبَّ أن يَضَعَ عليه ترجمةً الآن، وإن كانت قبل أوانها على دَأْبِهِ بالإنجاز، ويمكن أن يكون أراد تعيين القصة الماضية وفيه: «كان له حصير»، ومنه فَهِمَ الشارحون أن حُجْرَته كانت من حصيرٍ.
731 - قوله: (فإِن أفضلَ صلاة المَرْءِ في بيته إلا المكتوبةَ). والحاصل: أن الشريعةَ لا تُحِبُّ التطوعَ في المساجد، والمكتوبات في البيوت.
وأعلم أن مختار الطَّحَاوِيِّ في التراويح: أن الرجل إن كان حافظًا، فالأفضل له أن يُصَلِّي في البيت، وإلا ففي المسجد، وفي «الهداية»: أن السننَ عامةٌ في البيت، ولا أرى سنةَ الفجر ثابتةً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي المسجد. وأتى الحافظ زين الدين العراقي شيخ ابن حَجَر والعَيْنِي رحمهما الله تعالى - برواية تَدُلُّ على أن نسبة أجر الفَضْل في البيت والمسجد لنِسْبَة صلاة الجماعة والفرد - بالمعنى - وإسناده جيدٌ.
باب ُ إِيجَابِ التَّكْبِيرِ وَافتِتَاحِ الصَّلاة(2/492)
فاختار أنه فرضٌ واعلم أن التكبير بمعنى الذكر المُشْعِر بالتعظيم فرضٌ عندنا أيضًا أمَّا صيغة: الله أكبر بخصوصها، فقال بعضُ أصحابنا إنها سنةٌ، وذَهَب الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى إلى أنها واجبٌ، وقوَّاه بدلائل، وإليه ذهب صاحب «البحر» و«النهر» وصاحب «تنوير الأبصار»، وهو متن «الدر المختار»، وهو الذي اختاره ابن أمير الحاج في «شرح المنية». واعلم أن ابن نُجَيْم أفقه عندي من الشَّامي لِمَا أرى فيه أن أمارات التفقُّه تَلُوح، والشَّامي مُعَاصِرٌ للشاه عبد العزيز رحمه الله تعالى، وهو أفقه أيضًا عندي من الشَّامي رحمه الله تعالى، وكذا شيخ مشايخنا رشيد أحمد الكَنْكُوهِي - قُدَّسَ سرُّه - أفقه عندي من الشَّامي.
أمَّا السلام: فقالوا إن أولَ التسليمتين واجبٌ، والأخرى سنةٌ، وهو الراجحُ عندي، لكونه أقرب إلى الحديث، لِمَا ثَبَتَ عندي الاكتفاء بالتسليم الواحد. وقيل: كلاهما واجبان، فيُشْكِلُ عليه الحديث، وقد اسْتَرَحْتُ باختيار القول الأول، فلا تأويل عندي.(2/493)
ثم اختلف الشارحان في قوله: «وافتتاح الصلاة»، ولم يُدْرِكَا مراده بعد البحث والفحص أيضًا، واختار الحافظ: أن الواو بمعنى مع، لأنه رَأَى أن افتتاح الصلاة في الخارج لا يكون إلا بالتكبير، وما كُشِفَ لي في بيان مراده هو أن المصنِّف يُرِيدُ تَعْيين ما به افتتاح الصلاة، هل هو التكبير أو رفع اليدين؟ فقال إن الصلاة تُفْتَتَحُ بالتكبير، فلو رَفَعَ إحدى يديه، ولم يكبِّر لا يكون شارعًا في الصلاة، وهذا كاختلافهم فيما يَدْخُل به في الحج، وهو إحرام الحجِّ. فعندنا لا يَدْخُلُ في إحرام الحجِّ إلا بالتلبية مع النية، وهذا إحرامٌ قَوْليٌّ، أو بفعلٍ مخصوصٍ بالحجِّ، وهذا إحرامٌ فِعْلِيٌّ. وأما عند الشافعية: فلم يَتَنَقَّح بَعْدُ، وعليه قوله صلى الله عليه وسلّم«تحريمها التكبير - وفي لفظ - إحرامها التكبير»، يعني كما أن للحجِّ إحرامًا وإحلالا، وهو معروفٌ، كذلك للصلاة تحريمًا وتحليلا: فتحريمها بالتكبير، وتحليها بالتسليم.
فَعُلِمَ أن ما يَدْخُلُ به الرجلُ في صلاته هو التكبير لا رفع اليد فقط، وإنما أَدْرَكْتُ مراده بعدما رأيت حكايةً: أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى ذَهَبَ لعيادة أبي يوسف رحمه الله تعالى، وكان مريضًا فقال: إني كُنْتُ ظَنَنْتُ أنه يَبْقَى مِنْ بعدي، فحدَّثت نفسُ أبي يوسف رحمه الله تعالى. بأنه يُشِيرُ إلى إجازته بالقعود للدرس. فلمَّا صَحَّ أرسل أبو حنيفة رحمه الله تعالى إليه رجلا يسأله عن ثلاث مسائل: أولاها أن تحريمة الصلاة ما هي؟ فلم يُحْسِن في جوابه، فَعَلِمَ أنه لا يَلِيقُ أن يَجْلِسَ إليه الناسُ، فنقض حلقته، ودخل في حلقة أبي حنيفة.
(2/494)
وفي «مجموع زيد بن عليّ» - وهو زيدي من مُعَاصِري أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وإمام فِرْقة الزيدية، وهو ثِقَةٌ يروي الأحاديث الصِّحَاح، وهي أقرب المذاهب إلى أهل السنة من سائرهم. وسَبُّ الصحابة حرامٌ عندهم. إلا أن الآفة في كتابه من حيث جهالة ناقليه : أنه لمَّا وَرَدَ الكوفة، قَعَدَ أبو حنيفة رحمه الله تعالى بين يديه إكرامًا له وإجلالا، لكونه من أهل البيت، وفيه: أن أبا جَعْفَر رضي الله عنه سَأَلَ الإمامَ أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن تحريمة الصلاة، أهو بالتكبير، أم برفع اليد؟ فقال: بالتكبير. ولمَّا ذَهَبَ الإمام قال: نَعْمَ فقيهٌ. فَفَهِمْتُ أن البخاريَّ رحمه الله تعالى يُشِيرُ إلى هذه المسألة، واختار أن تحريمة الصلاة بالتكبير.
ثم اعلم أن الأصوليين قَسَّمُوا الخِطَاب على نحوين؛ وَضْعِي وتكليفي. فأما التكليفي، فكالوجوب وغيره، وأمَّا الوَضْعِي، فكالسببية والمسببية وعلائق الأشياء فيما بينها، وذلك لأنهم أرادوا تقسيم الأحكام إجمالا، فجعلوا بعضها وَضْعِيَّة، وبعضها تكليفيَّة، وهو حسنٌ ومهمٌ جدًا. فالتكبير والتسليم من الأحكام الوَضْعِيَّة، لأن التكبيرَ سببٌ للدخول، والتسليم سببٌ للخروج، وليس في الصلاة حكمًا وضعيًا غيرهما، ومنه ظَهَرَ وجه تخصُّص هذين في الحديث. ثم إن الخروج في باب الحجِّ يكون بالحَلْق، وهو جناية في غير أوانه، وكذلك السلام، وهو الخروج بصُنْعِه فاعلمه.
732 - قوله: (إنما جُعِلَ الإمامُ لِيُؤْتَمَّ) الخ.
يقول العبد الضعيف: والحديث وإن مرَّ مِرَارًا، ويأتي كذلك، إلاّ أنه ظَهَرَ لي الآن أن أتكلَّم على بعض مسائله، وهي مسألة اقتداء القائم بالقاعد، وإن تكلَّمت عليه فيما سَلَفَ أيضًا.(2/495)
فأقول إن الحديثَ بظاهره يُخَالِفُ كل من اختار وجوب القيام خَلْفَ القاعد من أئمة الحنفية والشافعية. واشتهر عنهم في الجواب عنه أنهم قالوا بالنسخ، وهو الذي اختاره البخاريُّ رحمه الله تعالى، ولا يَعْلَقُ بالقلب، لأن الحديثَ مُشْتَمِلٌ على أجزاءَ كثيرةٍ من تشريع عامَ، وضابطةٍ كلِّيَّةٍ على نحو بيان سنة، وسردِ معاملةٍ بين الإمام والمأموم. فالقول بنسخ جزء من الأجزاء من البيِّن، وإبقاء المجموع على ما كان ثَمَّ بواقعةٍ جزئيةٍ تَحتُمَلُ محامل، مما يُفْضِي إلى الاضْطِراب، ولا يشفي.
ولعَمْري، إنا لو لَمْ نعلم هذه المسألة، لَمَا انتقل ذِهْنُ أحدنا إلى أن صلاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمتلك قاعدًا كانت لبيان النَّسْخِ، وإنما حملناها عليه حِفْظًا للمذهب فقط، وإلا فالجمع بين الأحاديث يَحْصُلُ على مذهب أحمد ومحمد بن الحسن رحمه الله تعالى منا، ولا يُحْتَاج إلى النَّسْخِ. أَلا تَرَى أن ساداتنا لمَّا تَرَكُوا مسألة جواز الاستقبال والاستدبار، لم يُبَالُوا بوقائع تُنْقَلُ في هذا، وقالوا: إنها وقائع غير مُنْكَشِفة الحال. وحديث أبي أيوب تشريعٌ عامٌّ، فلا أَدْرِي، ولَسْتُ إخال أدري أنه ما الفرق بين هذين؟ فَذَهَبُوا إلى النَّسْح ههنا دون هناك.
ولقد تفرَّد الشيخ رحمه الله تعالى بحلِّه، فجمعته من تقاريرٍ له شتى عندي بَعْدَ جِدَ واجتهادٍ تامٍ، وفكرٍ بالغٍ، وتعمُّقِ نَظَرٍ، وإعمالِ درايةٍ، وإتعاب نفسٍ، فاجتمعت عندي عِدَّة أجوبة من كلامه، وها أنا أسردها على ما هذَّبتها، فهل من حرَ يَنْظُرُ بعين الإنصاف، ولا يَسْلُكُ مَسْلَكَ الاعتساف، وإنما وَضَعْتُ هذه في صدر الصحيفة، لأن كلها من الشيخ رحمه الله تعالى، ما خَرَمْتُ منها حرفًا، ولا زِدْتُ عليها حرفًا غير البيان والإِيضاح، وأرجو من الله سبحانه أن يكون هذا هو مراده إن شاء الله تعالى.(2/496)
تحرير المذاهب: وأعلم أن الشافعيةَ والجمهورَ مع الحنفية رحمهم الله تعالى في وُجُوب القيام خَلْفَ الإِمام القاعد، وعدم جواز القعود خلفه. وذهب أحمد رحمه الله تعالى إلى وُجُوب القُعُود خلف القاعد ولو كان القومُ أصحَّاء ثم ذَكَرُوا له شروطًا: من كون الإمام إمام الحيِّ، ومرضه ممَّا يُرْجَى زواله. ثم فرَّقُوا بين القُعُود الطارىء. والأصلي، فتحمَّلوا قيام القوم في الأوَّل دون الثاني، ووجه الفرق ما نُقِلَ عن أحمد رحمه الله تعالى.
وحاصله: أن وُجُوبَ القُعُود، وكراهة القيام خلف القاعد، إنما هو لأجل الشَبُّه بالأعاجم في إفراط التعظيم لعظمائهم، كما يتَّضِحُ من سِيَاق أبي داود. وذاك إنما يُتَصَوَّرُ إذا كان الإمام قاعدًا من أول الأمر، لأن قيامهم حينئذٍ يُعَدُّ من قيام الأعاجم، حيث إنهم أيضًا يَقُومُون بين يدي أمرائهم الجالسين. وأمَّا إذا أمَّهم الإمام قائمًا، واقتدى به القوم كذلك، ثم طَرَأَ على الإِمام عُذْرٌ فَقَعَدَ فلا يُعَدُّ قيامهم للتعظيم، فإنهم كانوا قائمين من قبل، وإنما أَوْرَث صورةَ التعظيم قعودُ الإمامِ.
وبعبارةٍ أوضح: إن التعظيمَ إنما هو في القيام للقاعد، دون القُعُود للقائم، فههنا قَعَدَ الإِمام مع كون القوم قائمين، ففيه قُعُودٌ للقائم، دون القيام للقاعد، وبينهما بَوْنٌ بعيدٌ، واسْتَفْتِ قلبَك إن شِئْتَ، فهذا هو الذي دَعَى الإِمامُ إلى الفرق بينهما.r(2/497)
وأمَّا مالك رحمه الله تعالى، فالمشهور عنه أنه لا يَجُوز اقتداء القادر بالقاعد مطلقًا، لا قائمًا ولا قاعدًا. وروى وليد بن مسلم عنه جَوَازَه عند قيام القوم، وحَمَلَها الناسُ على اختلاف الروايتين. وعندي ليس كذلك، بل مذهبهُ هو مجموعُ الروايتين، وقد نَبَّهْتُكَ فيما سَلَفَ أن روايةً قد تَرِدُ عن إمام، ثم تَرِدُ أخرى، وتكون كلتاهما كاشفتين عن وجهة وجهة، ولا يتمُّ المراد إلا بهما، ثم يحملهما الناس على الروايتين. وما الفرق بين الروايتين عن إمامٍ، وبين الحديثين عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلّم حيق يَطْلُبُون جهة التوفيق والقدر المشترك بين المرفوعين، ولا يَطْلُبُونها بين الروايتين، ولو سلك الناس هذا المسلك، لاسترحنا كثيرًا.
وحاصل مذهبه على هذا التقدير: تجويزُ القيام خلفَ القاعدِ مع تقبيح ابتغاء اقتداء القائمين بالقاعد مع تمكُّن الاقتداء بالقائم القادر. ولا بحثَ فيها عن الجواز وعدمه، فالروايةُ الأولى عندي لبيان عدم الابتغاء، وأنه ينبغي أن لا يَقْتَدِي القادرُ بالمعذور مهما أمكن الاقتداء بالقادر. والروايةُ الثانيةُ لبيان جوازه في الجملة، فهي تَكْشِفُ الروايةَ الأولى، وتوضِّحُ أن نفي الاقتداء في الرواية الأولى محمولٌ على عدم الانبغاء، لا على النفي رأسًا، فهذه كاشفةٌ عن وِجْهة، وهذه عن وجْهة، والمراد بتمامه في المجموع.(2/498)
إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أن ههنا أمرين: الأولُ: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «إذا صلَّى قاعدًا، فصلُّوا قُعُودًا»، والثاني: إشارتُه إليهم بالقعود حين اقتدوا به قائمين. ويجب علينا لتفصِّي عنهما، فنقولُ في الجواب عن القول على ما أَجَابَ به ابن دقيق العيد: إن في قوله: «إذا صلَّى قاعدًا»... الخ إحالةً على موضع القعود، وليس المراد القعود بدل القيام، أي إذا قَعَدَ الإمامُ في قَعْدَتِهِ فاقعدوا أنتم أيضًا، ولا تختلفوا عليه. ولا بُعْدَ فيه، لأن حديث أنس رضي الله عنه يَشْتَمِلُ على سلسلة في أفعال الصلاة، من القيام إلى الركُوع، ومن الركُوع إلى القيام، ومن القيام إلى السُّجُود، ومن السُّجُود إلى القُعُود، فأي بُعْدٍ في إرادة هذا القيام، وهذا القُعُود. وأوْرَدَ عليه هو بنفسه أن الألطف في هذا المراد: إذا قَعَدَ فاقعدوا، ليُوَافِق قرائنه: إذا كبِّر فكبَّروا... الخ، مع أنه غَايَرَ بين السياق، وقال: «إذا صلَّى قاعدًا... الخ، فدَلَّ على أنه لم يُرِدْ به ذلك.
قلتُ: وجوابُه عندي: أن أفعالَ الصلاة على نحوين: بعضُها عبادةٌ كالرُّكُوع والسُّجُود، وبعضُها يُشْبِهُ العادة أيضًا كالقُعُود والقيام، فإِنهما من الأحوال العامة أيضًا ولا يتعيَّنان في العبادة، فأَدْخَل عليها لفظ الصلاة للفرق بين العبادة والعادة والتمحُّض للعبادة، وهكذا فَعَلَه القرآن، فإذا ذَكَرَ الركوعَ والسجودَ أطلقهما، وقال: {ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ} (الحج: 77) وإذا ذَكَرَ القيامَ أَتْبَعَهُ بلفظٍ يُشِيرُ إلى كونه عبادة، فقال: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ} (البقرة: 238)، ولم يَأْمُر في موضع بالقيام مطلقًا كما أَمَرَ بالركُوع والسجُود، وذلك لأن: {وَقُومُواْ} لا يتعيَّن للعبادة، بخلاف الركوع والسجود.(2/499)
والجواب الثاني: أن الحديثَ ليس ابتدائيًا ليدُلَّ على مطلوبية القُعُود أو وَجُوبه من جهة الشارع، بل وَرَدَ في سِيَاق التعليم حين تَعَنَّتُوا باقتدائه قاعدًا، فهو إذن لذمِّ التعنُّت في اقتداء القائم بالقاعد، وتفويت المشاكلة المطلوبة بينه وبين إمامه، وكراهية الإِفراط في التعظيم والتشبُّه بالعَجَمِ. وفَرْقٌ بين الأمر بالشيء ابتداءً، وبين الأمر به في نحو سِيَاق الإِصلاح. فإِن الأولَ أقربُ إلى الوُجُوب، والثاني يَنْزِلُ على الإِباحة أيضًا. أَلا تَرَى إلى قوله: «صلُّوا في مَرَابِض الغنم»، ليس الأمر فيه للوُجُوب، لأنه ليس ابتدائيًا كما مرَّ، فكذلك ههنا، وإنما وَرَدَ في سِيَاق الإِصلاح.
وحينئذٍ لم يَخْرُج منه تحريم القيام خَلْفَ القاعد، بل إباحته القُعُود خَلْفَ القاعد أو تحسينه، كما يُسْتَفَادُ من إشارته بالقُعُود، ويَدُلُّ عليه ما عند مسلم في حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه: «إنما جُعِلَ الإمام لِيُؤْتَمَّ به، فلا تَخْتَلِفُوا عليه». وعند الترمذي كما سيجيء: «فليصنع كما يصنع الإمام»، كل ذلك طلبًا للمشاكلة. ويتَّضِحُ ذلك مما عند أبي داود، في باب الإمام يصلِّي من قُعُود، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: «رَكِبَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّمفَرَسًا بالمدينة، فَصَرَعه على جِذْم نخلةٍ، فانفكت قدمه، فأتيناه نَعُودُه فوجدناه في مَشْرُبة لعائشة رضي الله تعالى يُسَبِّح جالسًا، قال: فقمنا خلفه، فَسَكَتَ عنّا، ثم أتيناه مرةً أخرى نَعُودُه فصلَّى المكتوبةَ جالسًا فقُمْنَا خلفه فأشار إلينا فَقَعَدْنا، قال: فلما قضى الصلاة قال: إذا صلَّى الإمامُ جالسًا، فصلُّوا جلوسًا. وإذا صلَّى الإمامُ قائمًا فصلُّوا قيامًا ولا تفعلوا كما يَفْعَلُ أهلُ فارس بعظمائها» ا ه.(2/500)
فسكوتُه في اليوم الأول دليلٌ صريحٌ على عدم وُجُوب القُعُود خَلْفَ القاعد، وعدم حُرْمة القيام خلفه، ولذا لم يُشِرْ إليهم بالقُعُود، ولا علَّمهم شيئًا في هذا الباب، حتى إذا أحسَّ منهم التعنُّت فيه، حيث جاؤا في اليوم الثاني أيضًا واقتدوا به، فحينئذٍ عَنَّفَهم على تعنُّتهم ذلك وابتغائهم الإِمام القاعد. مع أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان سوَّى لهم إمامًا قادرًا في المسجد النبوي ليصلِّي بهم، ثم صلَّى في المَشْرُبَة مُتَنَحِّيًا عنهم، ومع ذلك لم يَتْرُكُوه حتى اقتدوا به في صلاته قاعدًا، ولمَّا فَعَلُوا ذلك في اليوم الثاني عَلِمَ أنه لم يكن ذلك منهم اتفاقًا، بل كان قَصْدًا فمنعهم عن ذلك.
ولو رَاعَيْتَ معه قوله عند مسلم: «إن كِدْتُم آنفًا تَفْعَلُون فِعْلَ فارس والروم. يَقُومُون على ملوكهم وهم قُعُود، فلا تَفْعَلُوا ائْتَمُّوا بأئمتكم...» إلخ، لعَلِمْتَ أن النهيَ عن القيام خَلْفَ القاعد إنما هو للإفراط في التعظيم، إلا أنه يُخَالِفُ منصب الائتمام فمعنى الكراهة: هو الإفراط في التعظيم والتشبيه بالتمثُّل للأمراء، ولذا أَغْمَضَ عنهم في مرض الموت، لأنهم لم يَقُومُوا له، وإنما كانوا قائمين من قبل، ثم خَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمهو وأمَّهم قاعدًا، فلم يُوجد منهم التعنُّت في الاقتداء، ولا الإفراط في التعظيم. وإنما اسْتَشْعَرَ ذلك منهم في واقعة الجحوش، فنهاهم.
(3/1)
والقول بنسخ الأول من الثاني لا يَقْبَلُه الذَّوْقُ، فإن الراوي لا يذكرهما كالناسخ والمنسوخ، بل يَذْكُرُ واقعتين في سلسلةٍ واحدةٍ وقعت مرةً كذا، ومرةً كذا، على أنَّا لو حَمْلَنَاهُ عليه يَلْزَم النسخُ مرتين: الأول نسخُ القيام بالقعود، ثم نسخُ القُعُود بالقيام في مرض الموت، على ما اختاره البخاريُّ والجمهور، وكذا لا دليلَ فيه على ما ذَكَرَهُ ابن حِبَّان أنها كانت نافلةً في اليوم الأول، ومكتوبةً في الثاني فسكوتُه في اليوم الأول إنما كان لكون صلاته نافلةً تَجُوزُ فيها الصُّوَرُ كلُّها بخلاف اليوم الثاني، فإنها كانت فريضة، ولا يتحمَّل فيها هذا التوسُّع.
وفيها الخلاف، وذلك لأن كونها مكتوبةً أو نافلةً تعرَّض إليه الراوي من قبله في ذَيْل القصة، لكونه مناطًا لجواز القيام أو حرمته، وليس في الحديث إيماءٌ إليه، ولا بناءٌ عليه، حيث قال: «وإذا صلى قاعدًا، فصلُّوا قُعُودًا»، ولم يُومِىء إلى هذا التفصيل، بل صرَّح أنه كَرِهَ القيام لأجل الإفراط في التعظيم. ويُقِرُّ به ما رامه مالك رحمه الله على ما قرَّرناه فنهى عن اقتداء القاعد مطلقًا وإن اقتداه قاعدًا، لأنه فهِمَ أنه تعنَّت في ذلك لِمَ لا يقتدي بإمامٍ قادرٍ مثله؟ وإن كان لا بُدَّ فاعلا فعليه أن يقومَ، فإنه فرضٌ، والكلُّ فيه أميرُ نفسه، فلا يَسْقُطُ عن ذمته، وهو الذي تُظْهِرُه رواية وليد بن مسلم عنه. ويَحُومُ حوله ما اختاره أحمد رحمه الله تعالى، فإِنه فرَّق بين القعود الطارىء والأصلي، بناءً على أن الإِفراطَ في التعظيم، والتشبُّهَ بالأعاجم، إنما هو في الثاني دون الأول.(3/2)
وعُلِمَ من هذا التقرير: أنه لم يَعَمَلْ بإطلاق الحديث أحدٌ منهم، ثم لو سلَّمنا، فهذا الفرق إنما ذَكَرَه الرَّاوي في صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّموما الدليل على أن الصحابةَ رضي الله عنهم أيضًا كانوا مُفْتَرِضِين في اليوم الثاني؟ فجاز أن تكون صلاتُهم على أنها نافلةٌ، بل هو الظاهر، لأن المسجدَ لم يَخْلُ عن الجماعة في هذه الأيام، وهؤلاء لم يَكُونُوا ليتركوا صلاة الجماعة في المسجد، وإنما جاؤوا للعِيَادة، واتَّفَقَ أن وَجَدُوه يَصَلِّي سُبْحَةً أو مكتوبةً، فاقتدوا به على أنها نافلةٌ لهم، والقُعُود في مثلها مطلوبٌ تحصيلا للمشاكلة، وإنما الكلام فيما إذا صلُّوْها فريضةً، وليس في الحديث.
والجواب الثالث: أن الحديثَ لو دَلَّ على وُجُوب القُعُود، وحُرْمة القيام خَلْفَ القاعد لقوله صلى الله عليه وسلّم «إذا صلَّى قاعدًا»... الخ، لدَّل على وُجُوب القيام، وحُرْمة القُعُود خَلْفَ الإِمام القائم لقرينةٍ، وهي قوله صلى الله عليه وسلّم«إذا صلَّى قائمًا...» الخ، مع أنه لم يَذْهَبْ إليه أحدٌ.
والأصل: أنّ حال المُنْفَرِد مُنْحَصِرٌ في صورتين، وهما: العقودُ والقيام؛ بخلاف حال المصلِّي مع الإِمام، فإنها أربعةٌ ذَكَرَ منها في الحديث اثنان وبقي اثنان وهما: القعود خلف القائم، والقيامُ خلف القاعد فمن تمسَّك به غَفَلَ عن هذين، وقاس حاله مع إمامه على حاله في الانفراد. وهذا يَدُلُّك ثانيًا على أن الحديث لم يَرِدْ إلاّ في طلب المشاكلة، وهو بالقيام خَلْفَ القائم، والقُعُود خَلْفَ القاعد. بقيت صورة الاختلاف، فلم يتعرَّض لها في الحديث، فليَكِلْهُمَا إلى اجتهاد الأئمة، أو إلى حديثٍ آخر، وإلاّ لَزِمَ عدم جواز القُعُود خَلْفَ القائم أيضًا بعين هذا الحديث.(3/3)
والجواب الرابع: أن الحديث ينبني على فرضٍ ذهني وحكمٍ معهودٍ عند الشارع، وهو: أن القاعد لا يُصَلِّي بالناس في المسجد، والمفترِض القادر لا يُصَلِّي في البيت، وحينئذٍ لا يكون قوله: «وإذا صلَّى قائمًا...» الخ إلاّ في حقِّ الفرائض. فإِن قوله هذا، وإن كان عامًا في الظاهر، إلا أنه مقصورٌ على المكتوبات بالنظر إلى هذا الفرض، لأن صلاة الإِمام قائمًا في المسجد لا تكون إلا فريضةً. وكذا قوله: «وإذا صلَّى قاعدًا» الخ، وإن وَرَدَ عامًّا، لكنه على الفرض المذكور لم يَرِدْ إلا في النافلة، لأنه إذا فَرَضْنَاه قاعدًا، فلا يكون في المسجد، بل في البيت، ولا يكون فيه إلا النَافلة، أو فريضة المنفرِد.
فهاتان القضيتان وإن كانتا كُلِّيَّتَيْنِ لفظًا لكنهما مَخصُوصَتَان معنى، وكثيرًا ما يَرِدُ الكلامُ على فرضٍ ذهني، ثم إذا عُرِّيَ عن تلك القرائن المُحْتَفَّة والمعهودة بين المخاطَب والمتكلِّم أورث مثل هذه قلقًا، أَلا تَرَى إلى شاكلة أحاديث تنصيف الأجر وَرَدَت بدون تفصيلٍ بين الفرض والنفل، ففي الصِّحَاح عن عِمْرَان بن حُصَيْن مرفوعًا قال: «من صلَّى قائمًا فهو أفضل ومن صلاها قاعدًا، فله نصف أجر القائم. ومن صلاها نائمًا فله نصف أجر القاعد». ا ه. وكذلك ليس في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران: 191) الخ... ولا في قوله: {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (النساء: 103) تفصيلٌ بين الفرض والنفل.(3/4)
فلو تعرَّض في واقعة السقوط إلى هذا التفصيل لفَاتَ ذلك الوضع. فإِذا مَشَى في أحاديث تنصيف الأجر على شاكلة الإِبهام مَشَى عليها في أحاديث السُّقُوط أيضًا، ولم يتعرَّض فيها إلى القيام: أنه متى يَجِبُ ومتى لا يَجِبُ؟ وكذا إلى القُعُود أنه متى يُجُوزُ ومتى لا يَجُوزُ؟ بل تركهما على ما عُهِد من شأنهما في الخارج نعم إذا وَقَعَ التميُّزُ في الخارج، وخرجت الأقسام، فصار بعضُها فريضةً وبعضٌ آخر نافلةً، خَرَجَ بنفسه: أن القيام في الفرض لا يَسْقُطُ بخلافه في النافلة.
ثم إنك لو نَظَرْت إلى عادتهم في الخارج، ما كانت؟ لعَلِمْتَ أن الحديثَ مقصورٌ بجزأَيه على النافلة، لأنهم كانوا مَشْغُوفِين بالاقتداء خلفه صلى الله عليه وسلّمأينما وجدوه يُصَلِّي، وإنما كانوا يَفْعَلُون ذلك من أنفسهم بدون ترغيب منه، كما فعلوه في صلاة الليل، فاقتدوا به، حتى قال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «خَشِيتُ أن تُكْتَبَ عليكم» فصلاتُهم هذه ما كانت لإِسقاط الفريضة، ولم تكن تُدْعَى لها، ولكنهم كانوا يَدْخُلُون فيها تحصيلا للبركة، وإحرازًا للأجر، وتوفيرًا للثواب، ونَيْلا لشرف الاقتداء بخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام وهو الذي فَعَلُوه في واقعة السقوط.(3/5)
وحينئذٍ مخاطبة النبيِّ صلى الله عليه وسلّمإياهم بهذا الحديث لا يتتناول إلا الصلوات النافلة التي عَلِمَ الدخول فيها من أحوالهم، فهو إذن في حقِّ الصلاة التي لا يُدْعَى لها الناس، وهي النافلة، ولا رَيْبَ أنه يتحمَّل فيها القُعُود من القدرة على القيام. وفي فِقْهِنَا أيضًا: أن الإمام إن صلَّى التراويح قاعدًا، فللقوم أن يَقْعُدُوا أيضًا تحصيلا للمشاكلة. فمعنى قوله: «وإذا صلَّى جالسًا، فصلُّوا جلوسًا»، أي: في الصلاة التي عَرِفْتُ من عادتكم الاقتداء فيها. نعم، إذا غَفَلَ عن عادتهم تلك في الخارج، سَرَى إلى الوهم أنه عامٌّ في أنواع الصلوات كلِّها.
وأمَّا وَجْهُ التفصِّي عن إشارته، فَيَنْكَشِفُ بعد المراجعة إلى ما أَخْرَجَه أبو داود في الأذان، في حديثٍ طويلٍ من أحوال الصلاة، وفيه قال ابن أبي ليلى: وحدَّثنا أصحابنا قال: «كان الرجل إذا جاء يسأل، فيُخْبِرُ بما سَبَقَ من صلاته، وأنهم قَامُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّممن بين قائمٍ وراكعٍ وقاعدٍ ومصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم... حتى جاء مُعاذ رضي الله عنه، قال: فقال معاذ: لا أراه على حالٍ إلا كُنْتُ عليه، قال: فقال: إن مُعَاذًا قد سَنَّ لكم سنةً، كذلك فافعلوا». ا ه. مختصرًا بدون تغيير في اللفظ.(3/6)
وله مُتَابِعٌ عند الطبراني، وفي إسناده عُبَيْدُ الله بن زَحْر، ورأيُ البخاري رحمه الله تعالى حسنٌ في حقِّه. ثم وَجَدْتُ له مُتَابِعَيْن آخرين أيضًا، وظاهره: أن الناس كانوا يَدْخُلُون في الجماعات، فَيُصَلُّون أولا لأنفسهم ما فَاتَهم من صلاة إمامهم، حتى إذا قَضَوْه اتبعوه فيما بقي، واشتركوا معه في الأفعال حتى جاء مُعَاذ رضي الله عنه، فدخل أولا فيما كان الإِمامُ يصلِّيه، ثم اشتغل بأداء ما فاته من صلاته كما هو شاكلة القضاء اليوم. وأنت تَعْلَمُ أنهم لا بُدَّ لهم في هذه الصورة أن يَخْتَلِفُوا على إمامهم، فيكون أحدهم قاعدًا مع قيام إمامه، وقائمًا مع قعود إمامه، وهو الذي يقوله الراوي «من بين قائمٍ وراكعٍ وقاعدٍ»... الخ، فيُشِيرُ إلى هذه الاختلافات على إمامهم.
فلعلَّ هؤلاء الذين دَخَلُوا في صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي مَشْرُبَتِه، واقتدوا به عَمِلُوا بهذه السنة، وقد كانت نُسِخَت، فدلَّهم على أنه يجب مع الإِمام ائتمامه، لا الاختلاف عليه، فعليكم أن تَعْمَلُوا بسنة مُعَاذ رضي الله عنه، وهو: القضاء فيما بَعْدُ لئلا يُوجب الاختلاف على الإِمام، فأشار إليهم بالجلوس لذلك. وعليه فليُحْمَل قوله: «وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا»، أي لا تُشْغِلُوا أنفسكم بقضاء ما فات أولا، ليلزم عليكم القيام عند جلوسه، والجلوس عند قيامه، ولكن صَلُّوا أولا بصلاة الإِمام فصَلُّوا جلوسًا إذا صلَّى جالسًا، وكذا في القيام.(3/7)
وإليه يشير ما عند الترمذي في باب ما يذكر في الرجل يُدْرِكُ الإِمامَ ساجدًا، كيف يصنع عن مُعَاذ رضي الله عنه مرفوعًا: «إذا أتى أحدُكم الصلاةَ والإِمامُ على حالٍ، فليَصْنَعْ كما يَصْنَعُ الإِمامُ». ا ه. يريد أن المسبوقَ ينبغي له أن يَتْبَع إمامَه في الأول، ولا يَشْتَغِلَ بقضاء أول صلاته، وليَصْنَعْ كما يَصْنَعُ إمامَه. وكذلك ما عند أبي داود، في باب الرجل يُدْرِكُ الإِمامَ ساجدًا... الخ، عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه مرفوعًا: «إذا جِئْتُم إلى الصلاة ونحن سجودٌ فاسجدوا ولا تَعُدُّوها شيئًا...» الخ.
ثم ليمعن النظر أنه ما الفرق بين القُعُود عن القيام، وبين القُعُود للتشهُّد؟ فإن قلتُ: إنه بوضع اليدين على السُّرَّة في الأول، وعلى الفخذين في الثاني. قلتُ: هو مسألةٌ اجتهاديةٌ اختارها أبو حنيفة رحمه الله تعالى، ولا تصريحَ لها في الحديث مع أنه يترشَّح من بعض عبارات فقهائنا أنه لا فَرْق بينهما، وحينئذٍ يَلْتَبِسُ الأول والثاني، ولا يتميَّز أحدهما عن الآخر أصلا. وعلى هذا يُمْكِن أن يكونَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفي القَعْدَة للتشهُّد. وهم فَهِمُوا أنه في القَعْدَة بدل القيام، فَقَامُوا.
وأنت تعلم أنه لا سبيلَ حينئذٍ إلى علمه إلا بالتعليم، فأشار إليهم أن اجلسوا، ليَعْلَمُوا أنه في القَعْدَة للتشهُّد، لا لأن فرض القيام سَقَطَ عنهم بالاقتداء. ولا يُقَال يمكن أن يكون سقوطُ القيام عن ذمَّة المقتدي كسقوط فرض القراءة عندكم، لأنا نقول: كلا، فإن القراءةَ خلف القارىء مُنَازَعةٌ، والقيامَ خلف القائم مُوَافَقةٌ. والوجه: أن القراءةَ يتحمَّلها الإمام عن المقتدي، وتُحْتَسَبُ قراءتُه عن قراءتِه، بخلاف الأفعال من القيام والقعود وسائر الأذكار فإن الإمام لا يتحمَّلها عن المقتدي، وكلٌّ فيها أميرُ نفسه، فلا تتأدّى إلا بفعله ومن ههنا تبيَّن وجه التفصِّي عن إشارته بالقُعُود أيضًا.(3/8)
732 - قوله: (ربَّنَا ولك الحمدُ) وقد وَرَدَت صيغة التحميد بأربعة أنحاءٍ. بذكر اللهم وعدمه، وكذا بذكر الواو وحذفها. ولطف الصيغة التي فيها الواو أنها تدلُّ على أن لربنا شيءٌ آخر أيضًا، كما أن له الحمد، وإنما حَذَفَه لِيَذْهَبَ ذهنُ السامع كل مَذْهَبٍ ممكنٍ. وراجع لنكتة الحمد في القَوْمة ما عند مسلم في باب الشفاعة من سجود النبيِّ صلى الله عليه وسلّموالاستئذان لها، وفيه ثلاثةَ ألفاظ: في لفظٍ: «أنه يَحْمَدُه أولا، ثم يَقَعُ ساجدًا». وفي لفظٍ «أنه يَحْمَدُه ساجدًا». وفي لفظٍ «أنه يَسْجُدُ له ثم يَحْمَدُه». وقد وَرَدَت كلُّها في المقام المحمود.
وظَهَرَ لي أن الوجهَ هو الأول، والباقي من تصرُّفات الرواة، فإِنه يَحْمَدُه أولا، ثم يَخِرُّ ساجدًا، وهذه الحقيقة من تقديم الحمد على السجود سَرَت في الصلاة، فقدَّم الحمد في القَوْمة على السجود لهذا. ولفظ مسلم يقتضي أن السجودَ من خصائص الحَضَرَة الربانية، فحيثما تحقَّقت الرؤية ثَبَتَ السجود هناك، كما في ليلة المِعْرَاج إذا تجلَّى له ربُّه خَرَّ ساجدًا هناك كالثوب البالي. والله أعلى وأجلَّ ولعله بَدَأ بمثله في الشفاعة، فافتتح باب الشفاعة بالتحميد، ثم سَجَدَ ولعلَّ الحمد في القَوْمة ليتدارك المسبوقُ ما فاته من الحمد، كما ذكره في «الفتح» للقنوت، ثم رأيته في البجيرمي عن البرماوي. فهو لإِدراك الذكر فقط، ولو كان أُنْمُوذَجًا من القيام لأدرك الركعة بإِدراكه، وليس كذلك.
ثم المشهور عن إمامنا رحمه الله تعالى التقسيم في التسميع والتحميد بين الإِمام والمقتدي، وهو المذكور في عامة الروايات وعنه: الجمع للإِمام، وهو عند البخاري. وعند الشافعيِّ رحمه الله تعالى: التسميع للمقتدي أيضًا، ولم يذهب إليه أحدٌ من غير ابن سيرين على ما أعلم، والله تعالى أعلم.A
(3/9)
باب ُ رَفعِ اليَدَينِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأُولَى مَعَ الاِفتِتَاحِ سَوَاء
قال الحافظ رضي الله عنه: قد وَرَدَ الرفعُ في الأحاديث قبل التكبير وبعده ومعه، واختار الأول صاحب «الهداية» منا فَيَرْفَعُ يديه أولا، ثم يكبِّر. أمَّا الثاني، أي التكبير، ثم الرفع فلم يَذْهَبْ إليه أحدٌ من السلف وإن وَرَدَ في الحديث.
قلتُ: إن الصور عندي اثنتان فقط: قبله ومعه. أما الثاني، فهو من تصرُّف الرواة، وليس من السنة في شيءٍ، فإنه قد تبيَّن لي بعد السَّبْر أن الرفعَ بعد انقضاء التكبير لغوٌ، فلو كَبَّرَ حتى فَرَغَ عنه لا يأتي بالرفع أصلا، كذا في الزَّيْلَعِي «شرح الكنز»، وصرَّح به الشافعيُّ رحمه الله تعالى في «الأم» وكذا في «المغني» فَلَزِمَ منه أن الرفعَ للتكبير، فإذا خَتَمَ الكبير، فَاتَ محل الرفع. وذلك لأني سَبَرْت الشرعَ، فرأيتُ أن لا رفعَ عند القيام إلى الثانية والثالثة، مع أن الأظهرَ أن يكونَ الرفعُ فيهما أيضًا، كما كان في الأولى، ولكنه لم يُنْقَل عنه الرفع في هاتين، وذلك لانقضاء التكبير فيهما في الارتفاع، وتمامه إلى القيام، وحينئذٍ لو رَفَعَ لكان بعد التكبير، فلو كان الرفعُ عند الشارع بعده أيضًا لوضعه في قيام الثانية والثالثة البتَّة، كما كان وضعه في قيام الأولى. فَعلِمْتُ منه أن مَرْضِيَّ الشارع تركُ الرفع بعد التكبير، فَقَصَرْتُ على الصورتين فقط، وإن كانت الألفاظ تحتمل الثالثة أيضًا.(3/10)
735 - قوله: (كان يَرْفع يديه)... الخ والشافعية يَزْعُمُون أنه أصرحُ حُجَّةً لهم قلتُ بل هو يَضُرُّهم من طَرَفٍ آخر، ويترشَّح منه ما يخالفهم، فإِن كنتَ فَطِنًا تَعْرفُ مظانَّ الكلام، ففكِّر أن ابن عمر رضي الله عنه، لِمَ خَصَّصَ الرفع من بين سائر صفات الصلاة؟ وَلِمَ نَّوه بذكره واهتمَّ بأمره؟ يدُلُّك على خمُولِه في زمنه. ولذا لم يتوجَّه إلا إلى الرفع خاصةً، ولعلَّه رأى فيه تركًا فأراد إحياء الرفع، ورمي التاركين بالحصى، ولو لم يكن هناك تاركون، فمَنْ ذا الذي كان يَرْمِيهم؟ نعم، لو كان في طريق من طُرُق روايته ذكرٌ لصفاتٍ أخرى أيضًا لحَمَلْنَاه على الاختصاص فقط، إلا أنه لمَّا لم يتعرَّض إلا إلى هذا الجزء خاصةً، عَلِمْنَا فيه خُمُولا في زمانه، بحيث احتاج إلى الاستدلال والتفصيل. ولو كان الرفع فاشيًا ولم يكن هناك تاركٌ كما زَعَمُوه فأيُّ حاجةٍ دَعَتْهُ إلى اهتمامه أي اهتمام؟
235 - قوله: (وإذا كبَّر للرُّكوع). قال الشافعية: يبدأ الرفع مع التكبير، ثم يمُدّه حتى يملأَ به الانحناء.
قلتُ: وفيه عُسْرٌ لا يخفى، ثم رأيت في «شرح الإحياء». من التنبيه ذكر أن الرفع مع الانحناء مُتَعَسِّرٌ أو مُتَعَذِّرٌ فإِن كان لا بُدَّ له من الرفع عند الركوع، فالأولى أن يَرْفَعَ أولا، ثم يُكبِّرَ وينحني، ولا ينبغي أن يمشي على ظاهر شاكلة الألفاظ، فإِنها تَدُلُّ على أنه كان يرفع بعد انقضاء التكبير، وهكذا ما اختاره الشافعية رحمهم الله تعالى في الرفع من الركوع من أنه يرفعهما حين الارتفاع أيضًا غَلَطٌ، بل يرفعهما حين يَنْتَصِبُ قائمًا.(3/11)
وفي كتاب «المسائل» لأبي داود عن أحمد رحمهما الله تعالى: أنه رآه يرفع يديه حين انتصبَ قائمًا. والسِّرُّ في ذلك أنهم فَهِمُوا هذا الرفع للانتصاب، فوضعوه في الارتفاع ليكونَ قبله، مع أنه للذهاب إلى السُّجُود، وحينئذٍ نَاسَبَ أن يكونَ في الانتصاب. وبالجملة إن الرفعَ إن كان في نظر الشارع، فهو في الابتداء: إما في ابتداء الركعة الأولى للافتتاح، أو ابتداء الركوع، أو عند ابتداء السجدة، أو بين السجدتين، والأخيرُ قليلٌ جدًا مع ثبوت ترك الأَوَّلَيْن أيضًا، وكان به اعتناءٌ للصغار دون الكبار، فإِنَّهم كانوا يتركونه أيضًا. أمَّا كَثْرَةُ العمل، فلم تتبيَّن بعدُ، وإن صَرَّح ابن رُشْدٍ في «بداية المجتهد»: أن مالكًا في رواية ابن القاسم اختار الترك من أجل التعامل.(3/12)
735 - قوله: (وكان لا يفعلُ ذلك في السُّجُود)، والشافعية جَعَلُوه دليلا على ترك الرفع في السُّجُود. قلتُ: بل تعرُّضه إلى النفي في السُّجُود دليلٌ على أنه كان هناك الرافعون في السُّجُود أيضًا، فأراد إخماله بذكر نحو من الاستدلال. والآن كيف ترى الحال في حديث ابن عمر رضي الله عنه، فإِنه يريد نفي الرفع في السُّجُود، ويترشَّحُ منه الإيجاب، ويريد إيجابه في الموضعين ويترشَّحُ منه النفي فيهما، وهذا كما قيل: إن في مِضَ لَمَطْمَعًا. ثم إن حديث مالك بن الحُوَيْرِث عند النَّسائي: «أنه رَأَى النبيَّ صلى الله عليه وسلّمرَفَعَ يديه في صلاته، وإذا رَكَعَ، وإذا رَفَعَ رأسَه من الركوع، وإذا سَجَدَ، وإذا رَفَعَ رأسَه من السجود، حتى يحاذي بهما فروع أذنيه»، ا ه. لم أر أحدًا شَرَحَه، وقد مرَّ عليه ابن القيم في «الهدي»، والحافظ في «الفتح» والعجبُ أنهم يستدلُّون منه ولا يَشْرَحُونه أصلا، فإن ظاهره تعدُّد الرفع في القَوْمة، ففيه الرفع أربع مراتٍ: عند الركوع، وعند الرفع منه وهو في الانتصاب على ما مرَّ، وعند السجود وهو أيضًا في الانتصاب، وعند الرفع منه والذي يَظْهَرُ أنه أراد به ما بين الأمور الأربعة، فهي ثلاث: عند الركوع، وعند الرفع منه، وبين السجدتين، وإنما أَرادَ أنَّ الرفعَ في القَوْمة للمعنيين، فهو رفعٌ واحدٌ للرفع من الركوع وللسجود معًا. فَأَوْهَمَت عبارته بتعدُّد الرفع، ولم يكن مُرَادًا أصلا، ولذا لم يذكره في الرواية الثانية من النَّسائي، فانكشف أنه إيهامٌ لفظي فقط.
(3/13)
ولم يَثْبُت تعدُّد الرفع في القَوْمة عن أحدٍ من السلف، وكل لفظٍ لم يُوجَد مِصْدَاقه مع وفور العمل في الخارج، فهو إيهامٌ تعبيريٌّ لا غير. وبعكسه، إن العمل إذا ثَبَتَ بأمر في الخارج، وتبيَّن مِصْدَاقه، فهو سنةٌ ثابتةٌ لا يمكن رفعها ونفيها من أحدٍ، ولو أَجْلَبَ عليه بَرِجِلِهِ وَخَيْلِهِ، فلا يتمكَّن أحدٌ على نفي الترك رأسًا، كما لا يتمكَّن على إثبات تعدُّد الرفع في القَوْمة نظرًا إلى الألفاظ فقط ما لم يتبيَّن العمل به في الخارج. فالتوارثُ والتعاملُ هو معظم الدين، وقد أرى كثيرًا منهم يتَّبِعُون الأسانيدَ ويتغافلون عن التعامل، ولولا ذلك لَمَا وَجَدْتُ أحدًا منهم يُنْكِرُ ترك الرفع، ولكن الله يفعل ما يشاء.
ويَتَبَادَرُ من كلام الشارحين أن في ذهنهم تعدُّد الرفع في القَوْمة في هذا الحديث، وحنيئذٍ لا بُدَّ للعمل به من بيان صورة، ولكنه لم يتوجَّه أحدٌ منهم إلى أنه ماذا تكون صورة العمل به في الخارج أمَّا أنا فقد أن الرفعَ فيها واحدٌ بالعدد، فهل ثَمَّ داعٍ أو مجيبٍ إذن.
وكذلك في الباب حديث عند ابن ماجة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يرفعُ يديه عند كل تكبيرة»... الخ، وأعلَّه كلُّهم، وما ذلك إلا لأنهم فَقَدُوا به العمل، ولم يستطيعوا أن يَعْمَلُوا بكلِّه، فاضْطَرُّوا إلى الإعلال. وتبيَّن لي شرحُه بعد مرور الأزمان وتقليب الأجفان: أن المراد من الرفع هو انتقال اليدين من مكانٍ إلى مكان، أي كانت يداه تنتقل من مكانٍ إلى مكانٍ عند كل تكبيرةٍ.(3/14)
فإن قلتَ: إن الرفع بهذا المعنى لا حاجة إلى ذكره، قلتُ: كلا بل أراد به الرَّاوي أن يفهرس الرفع، ومَنْ جنسه الرفع المختلف فيه وإن تغيَّرت شاكلته، واستفدتُ منه مهمةً أخرى وهي: أن شعارَ التكبير هو الرفعُ، فإذا كبَّر رَفَعَ، وحينئذٍ صار تعرُّضه إليه مهمًا جدًا، وراجع له «نيل الفرقدين» وفي التوراة لمَّا وَقَعَ الحَرْبُ بين موسى عليه الصلاة والسَّلام وبين العَمَالِقَة، لم يَزَلْ موسى عليه الصلاة والسَّلام داعيًا رافعًا يديه حتى كادت الشمس تَسْقُطُ، فَثَقُلَت يداه وسَقَطَت، فجاءه هارون عليه الصلاة والسَّلام، فأمسكها أن تسقط قبل الفتح. وبالجملة هذا الفهرس كفهرس عدد التكبيرات في بعض الأحاديث، وليس من البديهي المُسْتَغْنَى عنه.
باب ُ رَفعِ اليَدَينِ إِذَا كَبَّرَ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَع
والحديث وإن مرَّ من قبل أيضًا، لكنّ المصنِّف رحمه الله تعالى دَخَل الآن في المسألة المشهورة. وأعلم أن الأحاديثَ الصِّحاح في الرفع تَبْلُغُ إلى خمسة عشر، وإن سَلَكْنَا مَسْلَك الإغماض، فإلى ثلاثة وعشرين. ولنا: حديثُ ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا، ومرسلٌ آخر في «التخريج» للزَّيْلَعي فقد ثَبَتَ الأمران عندي ثُبُوتًا لا مردَّ له ولا خلاف إلا في الاختيار، وليس في الجواز. فما في «الكبير» شرح «المنية»، و«البدائع»: أنه مكروهٌ تحريمًا، متروكٌ عندي. نعم، إن كان عندهما نقلٌ من صاحب المذهب، فهما معذوران، وإلا فالقولُ بالكراهة في مسألةٍ متواترةٍ بين الصحابة رضي الله عنهم شديدٌ عندي.(3/15)
ثم تَتَبَّعْتُ الكُتُبَ للتصريح بالجواز فوجدتُ أبا بكرٍ الجَصَّاص قد صَرَّحَ في «أحكام القرآن» تحت قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ} (البقرة: 183) أن المسألة إذا وَرَدَت فيها الأحاديثُ والصِّحَاحُ من الجانبين، فالخلاف فيها لا يكون إلا في الاختيار لا سِيَّما إذا كانت كثيرةَ الوقوع، وعدَّ منها: الترجيعَ في الأذان، وإفرادَ الإِقامة، والجَهْرَ بالتسمية، ورَفْعَ اليدين، وحينئذٍ فاسْتَرَحْتُ حيث تخلَّصت رقبتي من الأحاديث الثابتة في الرفع. والجَصَّاص من القرن الرابع، حتى إن الكَرْخِي الذي هو من مُعَاصِري الطَّحَاوي من تلامذته، فرُتْبَتُهُ أعلى من الكبيري و«البدائع»، وصاحب «البدائع» أرفع رُتْبَةً من الكبيري.
وقد اشتهر في مُتَأَخِّري الحنفية القول بالنسخ، وإنما تعلَّمُوه من الشيخ ابن الهُمَام، والشيخ اختاره تَبَعًا للطَّحَاوِيِّ. وقد عَلِمْتَ أن نسخَ الطَّحَاوِيِّ أعمُّ ممَّا في الكُتُب، فإِن المفضولَ بالنسبة إلى الفاضل، والأضعفَ دليلا بالنسبة إلى أقواه، كلُّه منسوخٌ عنده، كما يتضح ذلك لمن يُطَالِعُ كتابَه، كيفما كان إذا ثَبَتَ عندي القول بالجواز ممَّن هو أقدم في الحنفية، وسَاعَدَتْهُ الأحاديث أيضًا، فلا محيد إلا بالقول به، وخلافه لا يُسْمَع، فمن شاء فلْيَسْمَعْ.
736 - قوله: (إذا رَفَع رأسه من الركوع)، وفي «الفتح»: «أنه حين الرفع»، وقد مرَّ مني أنه في الانتصاب دون الانتقال، وهو الصواب، وخلافُه خلاف الحديث وخلاف إمامهم، وعليه فرَّع الشافعيُّ رحمه الله تعالى مذهبه، فاختاره في الموضعين وتَرَكَهُ بين السجدتين، وإن اختار محدِّثوهم بعد القعدة الأولى أيضًا.
736 - قوله: (ويقول: سَمِعَ اللَّهُ لمن حَمِدَه) وقد مرَّ أنه يَرْفَعُ بعد التحميد، ولا يَرْفَعُ مع التحميد.(3/16)
واعلم أنه تكلَّم السلفُ في معنى رفع اليدين وما قُصِدَ به. ففي «المجموع» شرح «المهذب»: أن الشافعيَّ صلَّى عند محمد بن الحسن رحمه الله تعالى فَرَفَعَ، فسأله عنه، فقال: تعظيمًا لله. وعن ابن عمر رضي الله عنه: إنه زينةُ الصلاة. وعلى هذا تكرُّره في الصلاة مُوجِبٌ لإحراز الثواب، وازدياد الزينة.
وفي «فتح القدير» من الجنائز، عن أبي يوسف رحمه الله تعالى: إنه للافتتاح لكونه هيئةَ الدخول في الصلاة، فلا يكون إلا مرةً. ومن ههنا تبيَّن أنه لا يُسْتَبْعَدُ أن يكونَ الاجتهادُ سَرَى في اختيار الرفع، فمن جعله تعظيمًا لله أو زينةً للصلاة أحبَّ تكثيره، ومن رآه للافتتاح قَصَرَه عليه. ولعلَّ مِلْحَظ الحنفية أن رفعَ اليدين للتحريم فعلا كتحويل الوجه عند التسليم للتحليل فعلا، فينبغي أن يكونَ مرةً فقط كالتسليم. أو للاستقبال والإِقبال على الله والتوجيه إليه، وحينئذٍ نَاسَبَ أن يكونَ في الابتداء فقط، فإِن الآدابَ عند اللقاء لا تتكرر. ثم حرَّرتُ أنه يقوم مقام المصافحة، كما في حديث الحجر الأسود وهو يمينُ الله، واستلامُه يقومُ مقام المصافحة.(3/17)
أمَّا السلامُ في الصلاة، فهو تحيَّةُ الوَدَاع. وكان يُسَلَّم أولا: «السلامُ على من قِبَل عباده» فعلَّمهم النبيُّ صلى الله عليه وسلّممكانه: «السلامُ عليكم ورحمةُ الله». ثم إن قوله صلى الله عليه وسلّم تحريمها التكبير... الخ معناه أن التكبيرَ شيءٌ يَحْصُل به الدخول في الصلاة، والتسليمُ شيءٌ يَخْرُج به عن الصلاة، فوضع في التسليم هيئةً تَصْلُح للانصراف، فناسب في وِزَانِهِ أن تكونَ عند الدخول أيضًا هيئةٌ تُؤْذِنُ بالإِقبال على الله، فوضع رفعَ الأيدي مستقبلا إياه. وحينئذٍ تحصَّل أنه للإِقبال دون التعظيم، وإن كان الإِقبالُ أيضًا تعظيمًا، فهو ضمنيٌّ. بل كل فعلٍ في الصلاة، ففيه نوعُ تعظيمٍ، وإنما الكلامُ فيما قُصِدَ به، لا ما تضمَّنه سواء قُصِدَ به أو لا. ثم تبيَّن لي في حكمته أنه من سنة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين قال: {هَذَآ أَكْبَرُ} (الأنعام: 78) ولعلَّه يكون رفع إذ ذاك أيضًا، فأصلح الشريعة.
قوله: (وأقام الله أكبر مقامه)، ثم سَبَرْتُ الشريعةَ، فوجدت أنه يُقَال عند رؤية الهلال: الله أكبر، وفي الحديث: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان إذا رأى الهلال قال: الله أكبر، وصَرَفَ وجهه عنه»، والصرفُ لئلا يتوهم أن التكبيرَ للهلال. وفي «تاريخ الخميس» - ومصنِّفه شافعي المذهب - عند ذكر إبراهيم عليه السلام: إن الرفعَ في المواضع الثلاثة كان من ملَّته، ثم تتبعتُه حتى وجدتُ في «تفسير الشاه عبد العزيز» أن رفعَ اليدين من ملَّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. والذي يَظْهَرُ أن ما هو من دِينِهِ هو الرفعُ فقط، أمَّا حَمْلُه على المواضع الثلاثة فمشى على مذهبه، أو تمشيةً له، فالتكبيرُ عندي للإقبال على الله وقوله: «إني وَجَّهْتُ وجهي للذي..» الخ للإِخلاص، ولذا اختار أبو يوسف رحمه الله تعالى دعاءَ التوجيه في الصلاة.
(3/18)
والتكبيرُ: أيضًا يَعْمَلُ عملَ التوجيه، فهو لجعل الشيء لله فإِن المشركين كانوا يُهِلُّون بأسماء طواغيتهم لذلك ولذا يكبِّر عند الذبح. ولعلَّه في أذان المولود، وعند صلاة الجِنَازة أيضًا لهذا. فصار على نَقَاضَةِ الإِهلال لغير الله فهذه أنظارٌ ومعانٍ لا يُنَاقِضُ بعضُها بعضًا، فراعها تُعينك في العمل برفع اليدين وتركه والله تعالى أعلم.
737 - قوله: (إذا صلّى كبَّر ورَفَعَ يَدَيْه) وفي «صحيح مسلم» «ثم رفع يديه»، وحَمَلَه الحافظُ على صورتين مُتَغَايِرَتَيْن وقد مرَّ مني أنه لا ينبغي أخذ الصور من تعبيرات الرُّوَاة فقط، بل الأمر كما حقَّقه الشافعيُّ رحمه الله تعالى. ثم هذا حديث مالك بن الحُوَيْرِث بالبَصْرَة، وحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه بالمدينة. أمَّا في مكة، فلم يُنْقَلِ الرفع إلا عن صغارهم، وأمَّا أهل الكوفة، فحديثُهم الترك.
باب إِلَى أَينَ يَرْفَعُ يَدَيهِ؟
فعندنا يَرْفَعُ حِذَاء أُذُنيه، والمشهور عند الشافعية رحمهم الله تعالى حِذَاء مَنْكِبيه. ووردت الأحاديث بالأنواع كلِّها، ورُوي عن الشافعيِّ نفسه رحمه الله تعالى أنه وفَّق بينها: أن يرفَعَ يديه، بأن تكون الكفان حِذَاء المَنْكِبين، والإِبهامان والأصابع حِذَاء شحمتي الأُذُنين وفروع الأُذُنين. وهذا يَدُلُّ على أنه لا خِلافَ فيه بيننا وبين الشافعيِّ رحمه الله تعالى، ومع ذلك لم يَزَلِ الخلافُ يُنْقَلُ فيه.
أقول: إنها صورٌ مختلفةٌ، فتارةً كذا وتارةً كذا، وكلُّ واسعٌ، والخلاف في الأولوية.(3/19)
738 - قوله: (وقال: رَبَّنَا ولك الحمدُ)، وهذه الرواية تَدُلُّ على الجمع بين التسميع والتحميد للإِمام، وعامةُ الروايات على التقسيم، وقد مرَّ. ثم أقول: إن تحميدَ المقتدي في جواب تسميع الإِمام عندي، فلا يقوله إلا في حال الانتصاب، ولا يقوله في الحركة الانتقالية. وعند الشافعية يجمع المقتدي بين التسميع والتحميد أيضًا. قلتُ: وليس له أثرٌ في الأحاديث، ولا عَمِلَ به أحدٌ من السلف غير ابن سيريِن.
باب ُ رَفعِ اليَدَينِ إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَين
اختار الرفعَ بعد القَعْدة الأولى عند الانتصاب أيضًا، وهو أحدُ الوُجُوه عند الشافعية رحمهم الله تعالى، ونفاه الشافعيُّ رحمه الله تعالى.
739 - قوله: (رواه حمَّاد بن سَلَمَة)... الخ، واعلم أنه اخْتُلِفَ في وقفه ورفعه، فأشار المصنِّف رحمه الله تعالى إلى رفعه، وذهب أبو داود إلى وقفه، حيث قال: الصحيحُ قول ابن عمر رضي الله عنه، وليس بمرفوعٍ.
باب ُ وَضْعِ اليُمْنى عَلَى اليُسْرَى(3/20)
والمختارُ عندنا أن يضعهما تحت السُّرَّة. والمشهورُ عن الشافعيِّ رحمه الله تعالى فوق السُّرَّة وتحت الصدر. وفي «الحاوي» رواية فوق الصدر أيضًا، وهو مؤوَّلٌ عندي كما سيجيء. وعن أحمد رحمه الله تعالى: إن الكلَّ واسعٌ. وذهب مالك إلى الإِرسال في المكتوبات، والوضع في النوافل في رواية القاسم عنه. ثم الوضع عنده تحت السُّرَّة كما نقله الوزير ابن هُبَيْرة في «الأشراف»، بل جعلها الرواية المشهورة عن مالك رحمه الله تعالى، ولم يَرِدْ للإِرسال عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمشيءٌ. نعم رُوِيَ ذلك عن بعض التابعين، كما في «المصنَّف» لابن أبي شَيْبَة. وأمَّا كيفية الوضع، فلم تَثْبُت فيها الأحاديث من الطرفين، ولا نصَّ فيه، والذي يُظَنُّ أنه كان عندهم على التخيير، وصرَّح ابن المنذر: إن الشرعَ لم يتعرَّض لهيئة الوضع، ولذا لم يَرِدْ في هذا الباب كثيرُ شيءٍ لا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولا عن الصحابة، غير أنَّ بعضَهم عَمِلَ كذا، وبعضَهم كذا، ولذا خيَّر فيه أحمد رحمه الله تعالى واختاره ابنُ جرير، وصرَّح الترمذيُّ أن كلَّ ذلك واسعٌ عندهم ا ه.
وحاصله: أنه لا نصَّ فيه لأحدٍ، وإنما عُنيَ بالوضع عدم الإِرسال لا غير تحصيلا لهيئة الحِزَام بين يدي الملك. والوضعُ فوقها وتحتها كلُّها صورٌ غير مقصودةٍ على التعيين، وكان الشرعُ أرسله إلى طبائع الناس ليفعلوا فيه ما شاؤوا. ثم إنه وَقَعَ عند ابن خُزَيمَة في حديث وائل لفظ: «على الصدر» أيضًا، وهو معلولٌ عندي قطعًا، لأنه لم يَعْمَلْ به أحدٌ من السلف، ولا ذهب إليه أحدٌ من الأئمة، إلا ما وقع في كتاب «الأنوار» للأَرْدَبِيلي.(3/21)
وفي عامة كُتُب الشافعية: فوق السرة وتحت الصدر، قال ابن حَجَر المكي في «شرح المشكاة» إن معناه قريبٌ من الصدر، ولعلَّ هذا هو مَحْمَل كلام «الحاوي» أيضًا. ومرّ عليه ابن القيم في «إعلام الموقِّعين» - وقال: إن الحديثَ رواه ابن خُزَيْمة وجماعةٌ، مع أنه لم يروه غير ابن خُزَيْمة، اللهم إلا أن يكون مراده منه أصل الحديث بدون هذا اللفظ. ثم عند البزَّار في هذه الرواية: عند الصدر، وفي «المصنَّف» لابن أبي شيبة: تحت السُّرَّة، فاضْطَربت الروايةُ جدًا. وأول من نبَّه على تلك الزيادة الأخيرة العلامة القاسم بن قُطْلُوبُغَا. ثم إن لفظ: «تحت السُّرَّة» لم يوجد في بعض نسخه، فظنَّ المُلاّ حياة السِّنْدِهي أنه وَقَعَ فيه سقطٌ وحذفٌ، ثم صار متن الأثر مرفوعًا.
قلتُ: ولا عجبَ أن يكون كذلك، فإِني راجعت ثلاث نَسُخ «للمصنف»، فما وجدته في واحدةٍ منها. والحاصل أن رواية وائل رواها غيرُ واحدٍ، ولم يَرْوِها أحدٌ على لفظ ابن خُزَيْمَة، وإنما زادها راوٍ بعد مرور الزمان، فهو ساقطٌ قطعًا، فلا يجمد عليها مع فقدان العمل به. ثم إن الشيءَ قد يكون مسمَّى، ولا يكون مدارًا للعمل. قال تعالى: {إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} (سبأ: 46) ومعلوم أنه لم يذهب أحدٌ إلى أن المأمورَ به هو القيام كذلك، بل معناه منفردًا أو جماعةً.f
وحينئذٍ لو سلَّمنا تلك الزيادة لم يَلْزَم كون المراد به الوضع على الصدر، بل المراد ما ذكرنا أي الوضع على خلاف الإِرسال.
باب ُ الخُشُوعِ فِي الصَّلاة(3/22)
هو مستحبٌّ مع أنه لا بدَّ منه، بل هو الروح، فدلَّ على أن الشيءَ قد يكون مما لا بدَّ منه، ثم لا يكون واجبًا، وذهب الغزالي رحمه الله تعالى إلى أنه فرضٌ. قلتُ: وذلك يُنَاسِبُ منصبه لا منصب الفقهاء؛ لأنه يُوجِب أن لا تَصِحَّ صلوات المسلمين عامة.
742 - قوله: (وإِني لأَرَاكُمْ)... إلخ، وكانت رؤيته من وراء الظهر معجزةً منه، كذا نُقِلَ عن أحمد رحمه الله تعالى، وَثَبَتَ الآن في الفلسفة الجديدة: أن القوة الباصرة في الأعضاء كلِّها.
742 - قوله: (قال: أقيموا الركوع)... إلخ، وهذه قطعة من حديث مسيء الصلاة، وتدلُّ على أنه كان قَصَر فِي الركوع والسجود شيئًا، وقد وَقَعَ فيه لفظ الانتقاص عند الترمذيِّ، أي: «وما انْتَقَصْتَ انْتَقَصْتَ من صلاتك، فدلَّ على أن ترك التعديل لا يُوجِب البطلان بِلْ يُورِث النقصان، فلا يكون إلا واجبًا كما قلنا. ولا بِدَعَ في أن يكون الواجب عندنا، والفرض، والذي لا يكون شرطًا لصحة الصلاة عند الشافعية سواء، وحينئذٍ لا يبقى نِزَاعٌ في مرتبة الواجب، فإن الخلاف آل إلى التسمية.
742 - قوله: (أَقِيمُوا الركوعَ)، وقد مرَّ الفرقُ بين اركعوا، وأقيموا الركوع. فالثاني أبلغ، لأنه يُسْتَعْمَلُ في موضعٍ لولاه لانعدم الشيءُ، فترجمة قوله: يقيمون الصلاة (بربا ركهتي هين نمازكوحتى كه اكرا به بربانه ركهتي تواو سكي هستي دهي جاتي).
باب ما يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِير(3/23)
المختارُ عندنا وعند الحنابلة: سبحانك اللهم وبحمدك... إلخ. وعبد مسلم: أن عمر رضي الله عنه جَهَرَ به مرةً في صلاته للتعليم. واختار الشافعيُّ ما عند البخاريِّ رحمهما الله تعالى: «اللهم باعد»... إلخ، وهو أولى بالنظر إلى قوة الإِسناد. وما اخترناه أحرى بالنظر إلى العمل. وسُئِلَ أحمد رحمه الله تعالى عنه، فقال: أَخْتَارُ ما اختاره عمر رضي الله عنه. واعلم أنه وقع الضررُ الكثيرُ بالاغترار بقوة الأسانيد والإغماض عن التعامل، مع أن الإسناد إنما كان لصيانة الدين فقط، لئلا يَدْخُل فيه ما ليس منه، فما درَسُوا به وما رَسُوا،حتى خفَّ التعامُلُ في نظرهم، مع أنه الفاصل في الباب عندي. ولا استفتاح عند مالك رحمه الله تعالى، ونقل عنه أبو بكر ابن العربي: أنه كان يَسْتَفْتِحُ بنفسه، ولا يأمر به الناس.
قلت: وحينئذٍ صار حاصله الاستحباب عنده. واستدلَّ بقوله صلى الله عليه وسلّم «كانوا يَفْتَتِحُون الصلاةَ بالحمد لله رب العالمين». واستدلَّ منه الحنفيةُ على الإسرار بالتسمية، فأجاب عنه الشافعيةُ: أن الحمدَ لله اسم لتلك السورة، فمعناه أنهم كانوا يَفْتَتِحُون الصلاةَ بتلك السورة، والتسميةُ جزءٌ منها فلم يَثْبُت إسرارها. وأجاب عنه الحافظ الزَّيْلعِي: أن الآيةَ بتمامها ليست اسمًا للسورة، وإنما اسمها «الحمد» فقط. ثم إن التسميةَ سنةٌ عندنا في ظاهر الرواية، وواجبٌ في روايةٍ، ورجَّح الشيخ السيد محمود الآلُوسي وجوبها.
744 - قوله: (يَسْكُتُ بين التكبير وبين القراءة إسْكَاتَةً)، واتفق الثلاثةُ على أن السكوتَ كان للاستفتاح، فجاء البيهقيُّ وتمسَّك منه على أن السكوتَ يُطْلَقُ على القراءة سِرًّا أيضًا. وحينئذٍ يجوز أن يكونَ الأمرُ بالإنصات محمولا على القراءة سِرًّا.(3/24)
قُلْتُ: لَمْ يُطْلَقْ السكوتُ ههنا على القراءة سِرًّا كما فُهِمَ، بلْ مراده من السكوت: هو سكوته عن التكبير، فهو باعتبار ما قبله لا ما بعده. وهذا على نحوِ ما يقوله أهل العُرْف: قال فلان كذا، ونقل فلان كذا، وسَكَتَ عليه، أي لم يُرِدْه وإن تكلّم بعده، فلم يَصِحَّ النظير.
قوله: (اغسل خطايايَ بالماء والثلج والبَرَد). قال ابن دقيق العيد: معناه أن الناس يَعُدُّون الثلجِ والبَرَد باطلا، فاصرفه يا ألله في غسل خطاياي، وقال آخرون: إن هذه الأشياء فيها قَرٌّ، فَأُحِبُّ أن يُطْفِأَ بها حرّ خطاياه، وحاصله: أن اطفِ حرَّ خطاياي بقَرِّ هذه الأشياء.
باب
لم يُتَرْجِم فيه بشيءٍ، ثم أخرج حديث الكسوف وتعدُّد الركوع فيه، ولعلَّه قَطَعَ النظر عن الاستفتاح إشارةً إلى مذهب مالك رحمه الله تعالى، ولذا تصدَّى إلى بيان الأذكار، وحَذَفَ دعاء الاستفتاح من الترجمة. ثم أخرج حديثًا فيه: أنه قام طويلا، وركع طويلا، وسجد طويلا، فاندرجت فيه الأدعية، وقد جاءت مفسَّرة في الخارج في عين هذا الحديث.
بقيت مسألة تعدُّد الركوعات، فاعلم أنه صَحَّ عنه ركوعان في «صحيح البخاري» و«الموطأ» لمالك، والروايات قد بَلَغَت فيه إلى خمس ركوعات، كما عند أبي داود، ورواية الثلاث عند مسلم، فذهب النوويُّ إلى حَمْلِها على تعدُّد الوقائع، وهو باطلٌ قطعًا، فإن الكسوفَ لم يقع في عهدِ صلى الله عليه وسلّمإِلا مرةً يوم مات إبراهيم عليه السلام، كما حقَّقه المحمود شاه الفرنساوي في رسالته. وقد نقل فيها الحساب القمري إلى الحساب الشمسي، وفي ضمنها عيَّن أعداد الكسوف في زمنه صلى الله عليه وسلّموعيَّن وقته، فلم يحقِّق فيه إِلاّ كُسُوفًا واحدًا.(3/25)
أما خسوف القمر، فهذا الفاضل يكتب فيه شيئًا، وهو في السنة السادسة، كما في «صحيح ابن حِبَّان». ثم إنه غَلِطَ في موضعٍ، حيث أنكر النَّسِيءَ عند العرب، مع أنه ثابتٌ عنهم، فيكون في السنة عندهم ذو الحجة اثنين، هو شائِعٌ في مشركي أهل الهند أيضًا، وهكذا كان عند العرب، وقد أنكره هذا الفاضل وليس بصحيح، فاعلمه.
والحاصل: أن المحقَّق أنها واقعةٌ واحدةٌ فقط، وركع النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفيها ركوعين. أمَّا روايات الثلاث والخمس فكلُّها معلولٌ، كما قاله ابن دقيق العيد، فإنها عند التحقيق آثار الْتَبَسَتْ بالمرفوع. ووجهُ الاجتهاد في تعدُّد الركوع عندهم أنهم لمَّا رأوا النبيَّ صلى الله عليه وسلّمزَادَ على ركوعٍ واحدٍ، ثَبَتَ عندهم جنسُ الزيادة، فحملوه على الجواز بقدر الحاجة.
ولنا ما عند أبي داود: «فإذا رأيتموه، فصلُّوا كأحدث صلاةٍ صلَّيتموها» - بالمعنى - وأقرَّ بصحته أبو عمر. ووجه التمسُّك منه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملمَّا صلَّى بهم صلاةَ الكسوف وركع فيها ركوعين، ثم لم يقل: صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي، أو: مثل صلاتي هذه، بل أَحَالَها على أحدثِ صلاةٍ وهي الفجر، فَعُلِمَ أنه وإن كان ركع فيها بنفسه ركوعين، لكن الذي عَلِمْنَاه هو أن نصلِّي بها على شاكلة صلاة الفجر في عدد الركعات والركوع، لأنه لو أراد كذلك لم يكن ليتركَ الأقربَ عند التشبيه واختار الأبعدَ، فإنه كما قيل: جعل البديهي نظريًا. ولكان الأحسن والأسهل حينئذٍ أن يُقَال: صلُّوا كصلاتي هذه. كذا كان يقرِّره شيخي المحمود، ثم جاء «البدائع» مطبوعًا، فرأيت فيه نحوه عن أبي عبد الله البَلْخِيّ، وهو من كِبَار الحنفية.
(3/26)
745 - قوله: (هِرَّةٌ)، والتاء فيه للوَحْدَة دون التأنيث. ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمرآها في جهنم، وإن كان دخولها في المستقبل، فإن حديدَ النظر يرى ما في المستقبل في زمن الحال بنحوٍ من الوجود، كرؤية الشجرة في البَذْر.
باب ُ رَفعِ البَصَرِ إِلَى الإِمَامِ فِي الصَّلاة
يريد به أن النظرَ إلى إمامه جائزٌ، وإن كان النظرُ إلى السماءِ ممَّا يُخَافُ عليه خطفُ البصر، فترجمته هذه ناظرة إلى الوعيد الوارد في رفع البصر إلى السماء، واستدلَّ عليه بلفظ: «حين رَأَيْتُمُوني» فدلَّ على جوازه رؤية الإمام.
747 - قوله: (حتى يَرَوْنَه قد سَجَدَ): محمولٌ على كِبَرِ سِنّهِ.
748 - (قوله): (تَنَاوَلَ شيئًا)، وفي لَفْظٍ: «أردتُ»، وقد عَلِمْتَ أن عالم الغيب كالمَبْدَأَ لعالم المثال، وعالم المثال كالمَبْدَأَ لعالم الأجسام، وكل مَبْدَأَ تُلْمَحُ فيه التطورات البعدية ولو بنحوٍ من الوجود.
قوله: (الجنةَ والنارَ مُمَثَّلَتَيْنِ)... إلخ، وهذا أعلى ما يمكن أن يُسْتَدَلَّ به على ثبوت عالم المثال، ثم إن هذا التمثيل في واقعةٍ أخرى غير واقعة الكسوف. وسقراط وأفلاطون أيضًا أقرَّا بثبوت عالم المثال. وهكذا أرسطو في اثولوجيا. وقد حقَّق فيه أن أفعال الباري لا تُعَلَّل بالأغراض، وقرَّره وأوضحه كما هو حق. وقد قرَّر السيد الجُرْجَانِي في «حاشية حكمة العين»: مسألة وَحْدَة الوجود ببيانٍ أوضح وأَوْفى، فراجعه.
باب ُ رَفعِ البَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلاة(3/27)
وفيه الوعيد، ثم إنه دار البحثُ فيهم في رفع البصر عند الدعاء خارج الصلاة، فأجازه الشيخ عابد السِّنْدهِي في سالته في هذا الموضوع. وكذلك قال الدَّوَّاني: إنه لا غائلةَ في كون السماء قِبْلة للدعاء. والشيخ عابد السِّنْدِهي من شيوخي بواسطتين، لأن الشيخَ محمود الحسن رحمه الله تعالى وقَدَّس سرَّه، قد استجاز من الشاه عبد الغني قُدِّس سره، وهو من تلامذة السِّنْدِهي، ثم الشيخ فخر الدين العراقي ذكر في رسالته «التبيان في حقيقة الزمان والمكان» أن المكانَ أَثرٌ لصفةٍ من صفاته، وهذا هو حال الزمان، فإِن الدهرَ أثرٌ لصفة من صفاته، الفعلية، وإليه أُشير في قوله: «وأنا الدهر».
والتحقيقُ عندي: أن ما من شيءٍ في العالم بقضِّه وقضيضه إِلا ينتهي إلى صفةٍ من صفات الله تعالى، وليس فيه شيءٌ مستقلٌّ. فالزمانُ أثرٌ والدهرُ مَبْدأُ له، نعم ذلك الدهر مرجعه إلى صفةٍ من صفاته تعالى، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وراجع لتذكرة العراقي «نفحات الأنس» للجامي رحمه الله تعالى.
باب ُ الالتِفَاتِ فِي الصَّلاة(3/28)
751 - قوله: (يَخْتَلِسُهُ الشيطانُ)، فَمَثَلُ الشيطان كَمَثَلِ الكلب بعينه، حيث يشتركُ معه في كثيرٍ من أوصافه وخواصِّه، فَيَلَغُ في الأواني ويَشَمُّهَا، فَيُفْسِدُ الطعام والشراب كالكلب. وكذلك يَسْطُو على الإِنسان إذا غَفَلَ شيئًا، ثم إذا ذكر الله تَلكَّأ عنه: {إن الذين آمنوا إذا مَسَّهُمْ طائِفٌ من الشيطان تذكَّرُوا فإِذا هم مُبْصِرُونَ} (الأعراف: 201)، وهذا مَثَلٌ للكلبِ بعينه، فإِنه يَسْطُو عليك كلما يجدك غافلا، فإذا رفعت عصاك فرَّ مُسْتَثْفِرًا ذنبه. وهذا هو معنى الخَنَّاس، فحالُ الشيطان مع الذكر كحال الكلب مع العصى. وأشياءُ عالم الغيب كلُّها عندي على الحقيقة بدون تأويلٍ ولا استعارةٍ حتى إن صلاةَ المُلْتَفِت لو مُثِّلَت له، لرأى فيها موضع الالتفات مَجْرُوحَةً مُخْتَلَسَةً.
باب هَل يَلتَفِتُ لأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ، أَوْ يَرَى شَيئًا، أَوْ بُصَاقًا فِي القِبْلَةِ؟
عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: «رَأَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّمنُخَامةً في قِبْلَةِ المسجد...» إلخ والمصنِّف رحمه الله تعالى حَمَله على داخل الصلاة، وفي عامة طُرُقه: «إنه رآه خارج الصلاة»، ولعلَّه نَظَرَ إلى قوله: «وهو يُصَلِّي». ثم إن المناجاة والإقبال على الله المواجهة، كلها حكايات عن شيءٍ واحدٍ.
باب ُ وُجُوبِ القِرَاءَةِ لِلإِمَامِ وَالمَأْمُومِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، فِي الحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَمَا يُجْهَرُ فِيهَا وَمَا يُخَافَت(3/29)
فعمَّم فيها بالأنواع كلِّها، وَجَهَر به، ولم يتكلَّم في حقِّ المقتدي بحرفٍ وأخفاه، مع أن جملة الخبر ومحطَّ النظر هو ذلك لا غير. وهذا يَدُلُّ على أن في النفس منه شيءٌ: ولو كان هناك مُنْصِفٌ، لكفى له صنيع المصنِّف رحمه الله تعالى، وشفاه في هذا الباب. فإِنه مع شَغَفِهِ بإِيجاب الفاتحة على المقتدي، لم يَجِدْ إلى إثباته سبيلا، وذلك لأن قولَه صلى الله عليه وسلّم «لا صلاةَ لمن لم يَقْرَأ بفاتحة الكتاب» لم يَقُمْ عنده دليلا على الإيجاب، وإِلا لجَهَر به على عادته، فإِنه إذا وَجَبَت عنده على المقتدي، فكيف بها إذا كان إمامًا عادلا. نعم وجد لها مساغًا في رسالته، فعمل فيها بما قيل.
*لقد وَجَدْتُ مكان القول ذا سَعَةٍ ** فإن وَجَدْتَ لسانًا قائلا فَقُلْ وكذلك لم يَقْدِر أن يفرِّق بين الفاتحة والسورة، لفقدان الاستدلال على الفرق بينهما. وأقضي التعجُّب من هؤلاء الذين يَجْعَلُون المصَنِّف رحمه الله تعالى إمامهم في ذلك، ثم لا يَرَوْنَ إلى فَتْرَتِهِ وشِرَتِهم. وإذا فَتَرَ إمامُهم، فما تُغْنِي عنه شِرَتهم، وأين تقع منه. فلْيُغْمِضُو أعينَهم، فإن الصبحَ قد انْبَلَجَ لكلِّ ذي عينين.
فاعلم أن ههنا مسألتين ينبغي التمييزَ بينهما.(3/30)
الأولى: رُكْنِيَة الفاتحة، ولا بحثَ فيها عن المقتدي، فهي ركنٌ عند من ذهب إليه سواء كان في حقِّ الإِمام، أو المنفرد، أو المقتدي أيضًا، والجمهور فيها مع الشافعية. والثانية: مسألة قراءة المقتدي، فذهب أبو حنيفة وأحمد ومالك رحمهم الله تعالى إلى عدم وجوبها في الجهرية، وهو قول القديم للشافعيِّ، ثم اختار القراءة فيهما حين وَرَدَ بمصر قبل وفاته بسنتين. ثم لا أدري هل اختار في الجهرية الوجوب أيضًا، كما يقول به الشافعية، أو الاستحباب فقط. وكان ينبغي للشافعية رحمهم الله تعالى أن يُفْتُوا بقوله القديم، فإن الشافعيَّ رحمه الله تعالى بقي عليه إلى خمسين سنةً من عمره، ولم يَقُلْ بالقراءة في الجهرية إِلا في سنتين من عمره.
أمَّا في السرية، فقال مالك رحمه الله تعالى باستحبابها فيها، ومنع عنها في الجهرية. وبه قال أحمد رحمه الله تعالى، إِلا أنه أجاز بها في الجهرية إذا لم يَبْلُغْه صوتُ الإمام، ولم يذهب أحدٌ إلى وجوبها إلا الشافعيّ رحمه الله، تعالى. ففي الزَّيْلَعِي و«البناية»، قال أحمد رحمه الله تعالى: ما سمعنا أحدًا من أهل الإسلام يقول: إن الإِمامَ إِذا جَهَرَ بالقراءة،لا تُجْزِىءُ صلاة من لم يقرأ. ا ه. وهو في «المغني» لابن قُدَامة أيضًا: وقد كان عالمٌ حنبليٌّ قد اتْحَفَنِي بجزءٍ منه، وقد جاء اليوم مطبوعًا، إِلا أنه مملوءٌ من أغلاط الناسخين. وهذا الكتاب من الكُتُب الأربعة التي قال فيها عز الدين بن عبد السلام: أنها من كانت عنده كَفَتْهُ: «السنن الكبرى» للبيهقي، و«المُحَلَّى» لابن حَزْم، و«شرح السنة» للبغوي، و«المغني» لابن قُدَامة. وفي فتاوى الحافظ ابن تَيْمِيَة: بخلاف وجوبها في حال الجهر، فإنه شاذٌّ، حتى نَقَل أحمد رحمه الله تعالى: الإجماع على خلافه. ا ه.
(3/31)
وكفاك كلام أحمد رحمه الله تعالى بهذا الإشباع، ونَقْلُ ابن تَيْمِيَة الإجماع عنه يَدُلُّ على أن وجوبَ القراءة في الجهرية خلاف الإجماع، أو لم يذهب إليه أحدٌ من أهل الإسلام. وأمَّا الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى فالمحقَّق عندي من مذهبه: أنه حَجَرَ عن القراءة في الجهرية، وأجاز بها في السِّرية، كما نَقَله صاحب «الهداية» عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى، وإن أنكره الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى، حيث قال: لم أجده في «الموطأ» وكتاب «الآثار».
قلت: والصواب ما ذكره صاحب «الهداية» فإن تَنَاقُل المشايخ بروايةٍ يكفي لثبوتها، ولا يُشْتَرط أن تكون مكتوبةً في الأوراق أيضًا، فقد تكون روايته عن إمامٍ، وتُنْقَلُ على الألسنة، ولا توجد في الكُتُب. واختار ابن الهُمَام رحمه الله الكراهةَ تحريمًا مطلقًا. وإنما تَنَحَّيْتُ عنه لمكان الاختلاف في نقل مذهبنا. وراجع له رسالتي «فصل الخطاب في مسألة أمِّ الكتاب».
هذا ما سمعتَ حالَ الأئمة، أمَّا حال الصحابة رضي الله عنهم، فالذي يَظْهَرُ بالمراجعة إلى الآثار خصوصًا، لا بإجمال من اختار جانبًا، ثم ذهب يَسْتَرْسِلُ في نقل العمل: أنه ذهب بعضُ السلف إلى تركها رأسًا، وبعضُهم إلى تركها في الجهرية، وبعضُهم إلى إجازتها في الجهرية مرةً، وتركها مرةً كعمر، وأبي هريرة رضي الله عنهما، وبعضُهم إلى استحبابها فيها مؤكدًا كعُبَادة، وبعضُهم إلى قراءتها في السَّكَتَات، وأقلُ قليل إلى إيجابها، أو تأكُّدِها في الجهرية على كل حالٍ، كمكحول عند أبي داود.
والحاصل: أن من كان يقرأ في الجهرية: أَقلُ قليلٍ، والذي كان يقرأ في سَكَتَاتها: أكثرُ منه، والذي كان يقرأ في السرية دون الجهرية: أكثرُ كثيرٍ، وبعضُهم كان يقرأ في السرية حينًا، ويترك حينًا.(3/32)
أما حالُ الأحاديث المرفوعة، فليس فيها ما يَدُلُّ على وجوبها على المقتدي، لا في الجهرية، ولا في السرية. وليس فيه عن الصحابة إلا ترجيح أحد جانبيها، ولم يبتدىء الشارعُ في تشريع القراءة للمقتدي بشيءٍ، لا بالفاتحة، ولا بالسورة، لا في السرية، ولا في الجهرية. وإنما ابتدأ بها بعضُهم فكَرِهَها، بل كان خالي الذهن عن قراءتهم، حتى خالَجه بعضٌ منهم، فُعُلِمَ الآن أن فيهم قارئًا أيضًا.
وكذلك لا يُعْلَمُ من حال المقتدين أنهم كانوا يهتمُّون بالفاتحة أَزْيَد من سائر السور، ولكن من كان يقرأ منهم يقرأ ما بدا له، حتى جاء رجلٌ فقرأ ب: {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى}، وبعضهم قرأ التشُّهد أيضًا، فلا يُعْلَمُ اعتناؤهم بالفاتحة، كما راه الشافعية. وإنما كان من يَقْرَأُ منهم يما يقرأ من عند نفسه بدون أمر من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولولا هناك مُنَازَعٌ لَخَفِيَتْ عِنْد قراءةُ من قرأ إلى ما بعده أيضًا، ولكن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملَمَّا سألهم، فقال بعضُهم: لا، وقال بعضُهم: نعم، واعتذر بعضُهم عن قراءته، فقال هذا يا رسول الله، كما عند أبي داود. كأنه يَعْتَذِر أنه إن لم يَفُتْهُ الاستماع، أباح لهم إباحةً مَرْجُوحَةً، فقال: «إن كنتم لا بُدَّ فاعلين، فلا تفعلوا إِلا بأمِّ القرآن». فعلى الشافعية أن يَشْكُرُوا لهذا المُنَازع حيث أخرج لهم الإباحةَ المَرْجُوحَةَ من أجله.
(3/33)
أمَّا الوجوب، فأين هو؟ وهل تكون شاكلةُ الوجوب أن لا يكون الشارعُ نفسه بخِبْرَةٍ منه، حتى إذا عَلِمَه جعل يسأل عنه ويفتِّشه، بل السؤال عمَّا لا يَعْلَمُ استنكارٌ له قطعًا، فلم يَأْمُرْ بها صراحةً، ولكنه استثناها عن النهيِّ. وهل يُفِيدُ هذا النوع من الاستثناء غير الإباحة. فإن راعيت صحة قوله: «إن كنتم لا بد فاعلين...» إلخ لا تَخْرُجُ منه الإباحةُ أيضًا إِلا إباحةً مَرْجُوحَةً، وتِلك الإباحة أيضًا ارتفعت كما يُعْلَمُ مما في «السنن»، فانتهى الناس عن القراءة فيما جَهَرَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فَتَرَكَ القراءةَ فقهاؤُهم، وبقي بعضُهم يقرؤون بعد أيضًا. ولذا قلتُ: إن القارئين في الجهرية كانوا أقل قليلٍ.
ثم ههنا سِرٌّ، وهو: أن النهيَّ عمَّا يكون خيرًا مَحْضًا لا يمكن إِلا من صاحب الوحي، فعن علي رضي الله تعالى عنه: «أن رجلا صلَّى بالمُصَلَّى تطوُّعًا، فقال له الناس: أَلا تَمْنَعُ هَذا يُصَلِّي؟ قال: ما رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلّميُصَلِّي، ولكن لا أمنعه مخافةَ أن الْحَقَ بمن نَعَى عليه القرآن، فقال: {أرأيتَ الذي يَنْهَى * عَبْدًا إِذا صَلَّى} الآية. (العلق: 9 - 10).
ومن هذا الباب: اختلافهم في الأوقات المكروهة، فمنهم من نَهَى عن الصلوات فيها،نظرًا إلى كراهة تلك الأوقات، ومنهم من تَلَكَّأ عن النهيِّ، فأجاز بها فإنها خيرُ موضوعٍ أينما كانت، ومتى كانت، فلم يتقدَّموا إلى الحَجْر عنها. وكذلك القرآن خيرٌ كلُّه والحَجْر عنه موضع تَأْمُّل، فلمَّا قرؤوا به من عند أنفسهم بدون سابقية عهدٍ منه، لم يَرْضَ به، وأَظْهَرَ الكراهة أيضًا. ومع ذلك لم يَنْهَ عنه ما دام أمكن تحمُّله، كحضور النساء في الجماعات، لم يُرَغِّبْهُنَّ فيها أصلا، ولكن مع هذا لم يَنْهَ عنها أيضًا.[(3/34)
وهذا الذي راعاه عمر رضي الله تعالى عنه، حيث كانت زوجته تختلف إلى المساجد في أوقات الصلوات، وكان يُعْجِبُه أن لا تفعل ذلك، فأبت إِلا أَن تَفْعَلَه، ولم يَقْدِر عمر أن ينهاها صراحةً، فجاء يومًا مُتَنَكِّرًا هيئته، ووضع القدم على ذيل مِرْطها، وكانت تذهب لصلاة الصبح بَغَلَسٍ، فاسترجعت وانكفأت، وقالت: ما قال عمر - رضي الله تعالى عنه - حقٌ، فإنَّه فَسَدَ الزمان اليوم. فالقراءة في الجهرية عندي كحُضُورِهِنَّ الجماعات، والإباحة فيهما بمنزلةٍ واحدةٍ، فمن شاء فليتركها على حالها، ومن شاء بالغ فيها. ويَقْرُبه ما نُقِلَ عن الحلواني من فتواه: أنه لا ينبغي أن يُنْهَى العوام عن الصلوات وأن صلُّوها في الأوقات المكروهة، فإنها وإن كُرِهَت على مذهبنا، لكنها تكون جائزةً على مذهب الشافعية، ولو مُنِعُوا عنها أمكن أن يَمْتَنِعُوا عن أصلها، ويتركوها رأسًا.
قلتُ: وهذا التهاونُ لم يكن في زمن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فكان المناسب له أن يَنْهَى عنها كما قد نهى. ثم لمّا ظهرت المذاهب، وفشا التكاسُل في الدين، وتُرِكَ العمل به على المذهب، ناسب للمتأخِّرِين أن لا يمنعوهم عنها لأجل المخافة المذكورة.
والحاصل: أن النهيَّ عن الخير المحض لا يكون إلا إذا لم يتحمَّله المقام أصلا، وذلك أيضًا من جهة الشارع لا غير، كما نهى عن القراءة في الركوع والسجود، لأنه مناجاةٌ، وهذه الهيئة لا تَصْلُح لها أصلا. ومع ذلك جوَّزه البخاريُّ فيهما، وترك حديث مسلم. فإن شئتَ قلتَ: إنه أجاز بها للمقتدي إجازةً مَرْجُوحَةً، ولم يرض بها. وإن شئتَ قلتَ: إنها رخصةٌ لا عزيمةٌ، وهذا أَيْسَرَ على الموجبين.(3/35)
وأجاب القائلون بالوجوب: إن سؤاله صلى الله عليه وسلّم «لعلَّكم تَقْرَؤُن خلف إمامكم». كما في «السُّنن»، ليس عن نفس القراءة، بل عن الجهر بها، فمعناه: لعلَّكم تَجْهَرُون بها خلف إمامكم. قلتُ: وهو تأويلٌ لا مُسْكَةَ له في ذخيرة النقل، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمسألهم عن نفس القراءة، وهم يَحْمِلُونه على الجهر بالقراءة، وهل يَلْصَقُ بالقلب أن يكون هناك أحدٌ يَجْهَرُ بها، مع رؤيته أن الصحابةَ رضي الله عنهم كلَّهم ساكتون، ولا يَجْهَرُونَ بشيءٍ. ثم لو سلَّمنا أنه كان جَهَرَ بها، فلم يَرِدْ السؤالُ عنه ولا عليه، بل هو عن القراءة، وإنما الجهرُ وسيلةٌ لعلمه صلى الله عليه وسلّمأنه قرأ شيئًا. واحتال فيه آخرون: إن السؤالَ إنما هو بما زاد على الفاتحة دون الفاتحة نفسها، فمعناه: لعلَّكم تَقْرَؤُن خلف إمامكم ما زاد على الفاتحة أيضًا.
قلت: وهذا أيضًا باطلٌ. ففي الدَّارَقُطْنِي: «هل منكم من أحدٍ يقرأ شيئًا من القرآن»، وحسَّنه. فدلَّ على أن الفاتحةَ وغيرها عنده سواء، وإن السؤالَ كان عن شيءٍ من القرآن دون السورة، وإنه لا وجوبَ عنده على المقتدي. فقال: «هل منكم من أحد»، فلو كانت واجبةً على الكلِّ لسألهم أجمعين، هكذا: هل تقرؤون أنتم؟ لا: «منكم من أحدٍ»، فإنه يَدُلُّ على أنه ليس عنده هناك قارئًا إِلا أحدٌ منهم، وليست هذا شاكلة الواجب. وفيه أن القراءةَ خلفه تُنَاقِضُ منصب الائتمام، ولذا قال: «خلف إمامكم»، مع أن الظاهر خلفي، فَعَدَل عنه، وانتقل إلى بيان منصب الائتمام لتَعُمَّ الفائدة. وحينئذٍ محطُّها: أن خلف الإمام ليس موضع القراءة. وقد يَحْتَالُون بأن قوله: «فانتهى الناس عن القراءة...» إلخ من قول الزُّهْرِيِّ...
(3/36)
قلتُ: ويقضي العجب من قولهم ما حملهم على ذلك، فإننا لو سلَّمناه، فالزُّهْرِيُّ تابعيٌّ، ولا يذكر إلا من حال الصحابةِ ثم إن من جعله من قول الزُّهْرِيِّ غَرَضُه أن الزهريَّ قاله نقلا عن أبي هُرَيْرَة، وأخفى به صوته، فثبَّتهم مَعْمَرٌ فيه، فكان إسناد القول إلى مَعْمَر أو الزهريِّ لهذا، فَزَعَمُوا أنه من تلقاء أنفسهم. فعند أبي داود في حديث ابن أُكَيْمَة الليثي عند بيان الاختلاف، وقال ابن السَّرْح في حديثه: قال مَعْمَر، عن الزُّهْرِيِّ، قال أبو هريرة: «فانتهى الناس». وقال عبد الله بن محمد: الزُّهْرِيُّ من بينهم، قال سُفْيَان: وتكلّم الزهريُّ بكلمةٍ لم أسمعها، فقال مَعْمَر: إنه قال: «فانتهى الناس...» الخ. نعم بقي شيءٌ، وهو أن قوله صلى الله عليه وسلّم «لا تفعلوا إلا بأمِّ القرآن»، وإن لم يَدُلَّ على الوجوب، لكن تعليله بقوله: «فإنه لا صلاةَ إلا بها» يَدُلُّ على الوجوب قطعًا، وبه يَتُمُّ الاستدلال.
قلتُ: كلا، فإن قوله قبل التعليل لمَّا دلَّ على الإباحةِ المرجوحةِ ولا بُدَّ، لم يَصْلُح التعليل أن يَدُلَّ على الوجوب في حقِّه. كيف؟ وإنه طفرةٌ من الإباحة إلى الوجوب، وليس بسديدٍ. وهل يناسب عندك أن من كان بصدد إيجاب شيءٍ في آخر كلامه أن يسأل عنه أولا، ويقرِّر إباحته في ابتدائه، ثم يُوجِبه في آخره كأنه سَنَحَ له الآن وجوبُه وإيجابُه، إلا أن يُفْرَضَ أنه تكلَّم خالي الذهن عن الوجوب، فإذا كان عند ختم كلامه سَنَحَ له كسنوح السوانح أن يُوجِبَه، فعلَّله بالوجوب. وهو كما ترى، ليست شاكلة كلام العوام، فضلا عن كلام خير الأنام.(3/37)
وحينئذٍ وَجَبَ علينا وعليهم أن نَشْرَحَ الحديثَ، فإن ظاهره غير مستقيمٍ. ثم استفتِ نفسك - فإنَّ بين جَنْبَيْك مُفْتٍ - إنه إذا خَاطَبَ المقتدين بذلك الكلام، وسألهم عن القراءة، فهل يُنَاسِبُ الإِيجاب في حقِّهم، أو في حقِّ غيرهم كالمنفرد والإمام؟ فإن كنتَ تستطيعُ أن تسمعَ كلامَ الخصم وتَفْهَمَه، فاعلم أنه إيجابٌ على المنفرد دون المقتدي. اسْتُدِلَّ بإِيجابها في الجنس على إباحتها للمقتدي، ولو لم نأخذه في الجنس، وحملناه في حقّ المقتدي، لنَاقَضَ آخِرُ الكلام أولَه. فإن أوَّله يَدُلُّ على إباحتها في حقِّ المقتدي إباحةً مَرْجُوحَةً، وتعليل الإباحة بالواجب لا يَصِحُّ إلا باعتبار كون الوجوب وصفًا لها في جنس الصلاة. وبعبارةٍ أخرى: إنهم حَمَلُوا التعليلَ على أنه حكمٌ بالإيجاب في حقِّ المقتدي، ونحن حَمَلْنَاه على كونه وصفًا للفاتحة، وإن لم يتحقَّق هذا الوصف في حقِّ المقتدي. والتعليل بالوصف شائعٌ عندهم، بل هو لطيفٌ جدًا، بل لا عبارةَ - كترجيح الفاتحة من بين السُّوَر مع كونها مباحةً في حقِّ المقتدي - أَدَلُّ وأَوْفَقُ من هذه.
وحاصل الحلّ عندي: أني أَبَحْتُ لكم الفاتحة من بين السُّوَر لمعنى الترجيح فيها، وهو امتيازها بوصفٍ من بين سائر السُّوَر، وهو: وجوبها على المنفرد والإمام عينًا. وليس هذا الوصف في أحدٍ من السُّوَر، فإنها واجبةٌ بدلا، وليست فيها واحدةٌ منها واجبةً عينًا لا على الإِمام ولا على المنفرد. وحينئذٍ صَلَحَت الفاتحةُ أن تتحمَّل قراءته. ونظيره قولك لابن سبع سنين: صلِّ، فإنه لا دينَ لمن لا صلاةَ له. ونظائرُه كثيرةٌ، وإذن هو من باب استدلال الجنس على الجنس الآخر.(3/38)
وحاصله: أنه على وِزَان قولهم: أكرم زيدًا، فإنه أهلٌ لذلك. أعني: إن إباحةَ الفاتحة في حقِّ المقتدي دون غيرها من السُّوَر، لكونها أصلا لذلك، لأنه لا صلاةَ إلا بها، وإن تحقَّق هذا الوصف في حقِّ غير المقتدي من المنفرد والإمام. وإنما صَلَحَ هذا الوصف مُخَصِّصًا إياها من بين السُّوَر لخلو سائر السُّوَر عنه مطلقًا، فلا يتحقَّق هذا الوصف في شيءٍ منها، لا في حقِّ المنفرد، ولا في حقِّ الإمام، وحينئذٍ لو تحقَّق في الفاتحة في الجنس صَلَحَ مُرَجِّحًا أيضًا. وممن صَرَّح بأن قوله: «لا صلاةَ لمن لم يَقْرَأ...» الخ، في المنفرد دون المقتدي: الإمام أحمد رحمه الله تعالى عند الترمذي، وسُفْيَان عند أبي داود.
ومما يَدُلُّك على أنه في حقِّ المنفرد دون المقتدي: أن صلاة غير المقتدي تُعْتَبرُ أنها فعله، كالمفعول المطلق عند النُّحَاة. فإِنَّ الضربَ في نحو: ضربت ضربًا، فعلُ المتكلِّم. بخلاف المفعول به، فإنه لا يكون من فِعْلِه، بل فِعْلُه يقع عليه، فهو محل فِعْله، كزيد في نحو: ضربت زيدًا. فإِن زيدًا ليس من فِعْل المتكلِّم، بل فعله - وَقَعَ عليه. والفرق الآخر: أن المفعولَ المطلق إذا كان من فِعْله، يكون قائمًا به لا محالة، فإِن الضربَ قائمٌ بالضارب بخلاف المفعول به، فإِنه إذا لم يكن من فِعْله يكون مُنْفَصِلا عنه، نحو: زيد في المثال المذكور، فإِنه مُنْفَصِلٌ عن الضارب قطعًا. فصلاة غير المقتدي اعْتُبِرَت عند الشرع كالمفعول المطلق، فتكون قائمةً بالمصلِّي، وتُعَدُّ كأنها من فَعْلِهِ، ويَجْرِي عليها ما يَجْرِي على هذا التقدير، ويكون بناء الكلام عليه.(3/39)
أمَّا صلاة المقتدي فإنها اعتباران في العرف بحَسَب المقامين: مقام بَسْطٍ واستيفاءٍ لتمام الحال، ومقام اكتفاءٍ واختصارٍ، حيث لا تكون داعية لاستيفاء الحال. فيقولون في المقام الأول: إنه صلَّى مع الإِمام، فيَحْكُون عنها كأنها كالمفعول المطلق للإِمام، والمفعول به للمقتدي، فيُضِيفُون الصلاةَ إلى الأمام كأنها من فِعْله، وإلى المقتدي كأنها ليست من فِعْله، فلا تُنْسَبُ إليه إلا كنسبة المفعول به المنفصِل إلى الفاعل، ويُطْلَقُ عليه أنه يُصَلِّي مقيَّدًا، كالصلاة خلف الإِمام، والصلاة بصلاته. ويقولون في مقام الاختصار: إنه يُصَلِّي، فَيَحْكُمُون بالنظر إلى حكمه المُنْسَحِب عليه، ولا يَذْكُرُون كونه خلف الإِمام حسب داعية المقام، فيُحَلِّلون صلاة الجماعة التي كانت صلاةً واحدةً بالعدد إلى صلواتٍ بحَسَبِ عدد من كان فيها، ويَحْكُون أن فلانًا صلَّى كأنها فِعْله.
وبعبارةٍ أخرى: إن صلاةَ الجماعة صلاةٌ واحدةٌ بالعدد في العُرْف والعبارة، وهو عند أبي داود من إحالة الصلاة ثلاثة أحوال قال: وحدَّثنا أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلّمقال: «لقد أَعْجَبَنِي أن تكونَ صلاةُ المسلمين أو المؤمنين واحدةً». اه. لا صلوات بعدد من فيها، وإنما ذلك عند التحليل حتى يَتْرُكُون بيانَ الحال بتمامه، ونَقْلَ صورته بتمامها. وبالجملة كانت صلاةُ الجماعة مُفْرَدَةً لا تثنيةً ولا جمعًا، فحلَّلوها إليهما، حيث يريدون نَقْلَ حاله بالنظر إلى حكم نفسه المُنْسَحِب عليه، وكلا الاعتبارين وَارِدَان في ألفاظ الحديث بحَسَبِ المقامات.(3/40)
فالأول نحو حديث: «إذا أُقِيمَتِ الصلاة، فلا تَأَتُوها تَسْعَون، وأتوها تَمْشُون وعليكم السَّكِينة». اه. جعل الصلاةَ كأنها ليست من فِعْله، بل هي مُنْفَصِلةٌ عنه: أتاها، فهي مَأْتِيةٌ، يَرِدُ عليها، ويَصْدُرُ عنها. وجعلها مفردةً في العبارة لا تثنيةً ولا جمعًا. وكقوله تعالى: {إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (الجمعة: 9). وقوله: {وَإِذَا نَدَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ} (المائدة: 58). وعن عبد الرحمن ابن عبد القاري في قيام رمضان: يُصَلِّي الرجل لنفسه، ويُصَلِّي الرجل، فَيُصَلِّي بصلاته الرَّهْطُ، والناس يُصَلُّون بصلاة قارئهم. وحديث عائشة فيه: «فصلَّى في المسجد، وصلَّى رجالٌ بصلاته». وفي صلاةٍ في مرض موته: فجعل أبو بكرٍ رضي الله عنه يُصَلِّي، وهو قائمٌ، بصلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وفي «الفتح»: عن عِتْبان بن مالك، عن أحمد: «فقاموا وراءه، فصلُّوا بصلاته». وعند النَّسائي من حديث عبد الله بن سَرْجِس، قال: «يا فلان، أيهما صلاتك التي صلَّيت معنا، أو التي صلَّيت لنفسك» اه. ففي هذه الأحاديث كلِّها اعْتُبِرَت صلاة الجماعة كأنها ليست من فِعْله، بل من فِعْل الإِمام، ثم المقتدي يأخذ منها حظَّه بنوع ربطٍ مع إمامه.(3/41)
وأمَّا الاعتبارُ الثاني، فنحو حديث البَيَاضي عند مالك في العمل في القراءة: «أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلّمخَرَجَ على الناسِ وهم يُصَلُّون، وقد عَلَتْ أصواتهم، فقال: إن المُصَلِّي يُنَاجِي ربَّه، فلْيَنْظُرْ بما يُنَاجِيه به، ولا يَجْهَرْ بعضُكم على بعضٍ بالقرآن». اه. وكان ذلك في رمضان. وعند ابن عبد البَر: «والناس يُصَلُّون عُصَبًا عُصَبًا»، وهو مَسُوقٌ لغير المقتدي. ومثله حديث السُّتْرَة عند أبي داود: «إذا صلَّى أحدُكم، فلْيُصَلِّ إلى سُتْرته، وليَدْنُ منها». وكذا: «إذا كان أحدُكم يُصَلِّي، فلا يَبْصُق قِبَل وجهه، فإن اللَّهَ قِبَل وجهه إذا صلّى». ساق الكلامَ فيه بالنظر إلى حال المصلِّي في نفسه، ولذا لم يَذْهَبْ أحدٌ إلى إيجاب السُّتْرَة لكلَ في صلاة الجماعة، لأنهم حَمَلُوا الحديثَ المذكورَ في المنفرد، وقد مرَّ تقريره. وإذا سَمَحَت نفسُك بقَبُول هذا ولم تُمَاكِس، فحديث: «لا صلاةَ لمن لم يقرأ بأمِّ القرآن» يَنْسَحِبُ على كل صلاةٍ مفردةٍ من عدد الصلوات في حقَ من يُوصَف بأنها فِعْلُه.
(3/42)
ولذا لم يَصِفْهم في هذا السياق بكونهم خلف الإمام، فإذن هو في صلاة المنفرد أو الإِمام دون المقتدي. فالحديثِ وَرَدَ في صلاة المنفرد، كما أقرَّ به أحمد وسُفْيَان رحمهما الله تعالى، وهم نَقَلُوه إلى صلاة الجماعة، وأنه جاء بالنظر إلى حاله في نفسه، وهم نقلوه في حاله مع غيره، فسبحان من لا يَسْهُو ولا يَنْسَى. ثم اعلم أنه ليس اعتبارُ الشريعة في قراءة المقتدي أنها ليست عليه، بل اعتبارُها أن قراءةَ الإمام له قراءة. وقد أَخْرَج له الشيخُ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى إسنادًا على شرط الشيخين من «المسند» لأحمد بن منيع، وهو مفقودٌ اليوم، فَرَاجَعْتُ له «المطالب العالية في زوائد الحديث الثمانية» للحافظ بن حَجَر رحمه الله تعالى، لأن الحافظَ رحمه الله تعالى قد جَمَعَه من ثمانية «مسانيد»، إلا أني لم أجده فيه، فَحَدَثَ في نفسي اضطرابٌ حتى عَلِمْتُ أن نسخةَ «المسند» المذكور لم تكن عند الحافظ رحمه الله تعالى بتمامها، فحينئذٍ زال القلق، وظَنَنتُ أنه يكون في الحصة التي لم تَبْلُغ الحافظُ رحمه الله تعالى.(3/43)
ثم في حاشية الشيخ أبي الحسن السِّنْدِهي على «فتح القدير» المسماة «بالبدر المنير» - وهي إلى النكاح فقط : إن شرح الهداية رواية وجوب العيدين والكسوف، ووجوب الاستسقاء بأمر الإمام. وقد صرَّح الحموي في «حاشية الأشباه»: أن الصوم يجب بأمر القاضي، وحينئذٍ لو أَمَرَ بالاستسقاء يَجِبُ أيضًا. وبه أَفْتَى النووي، أي بالوجوب بأمر الإمام، كما في شرح «الجامع الصغير». وكان العلماء خَالَفُوه في زمنه. وقد تحقَّق عندي أن فتاوى الحموي تكون أكثرها مأخوذةً من النووي. وقد مرَّ مني عن قريبٍ: أن الوجوبَ من جهة أمر الإمام عارضي يَقْتَصِرُ على زمانِ إمارته، فهو وجوبٌ وَقْتِيٌّ. ومن هذا الباب: حرمة الدخان كما قاله المُنَاوي. فإذا مات الأميرُ، انتهت الحرمة، وعادت الحِلَّةُ على الأصل، وهذا كلُّه في الأمور الانتظامية، أمَّا في الأمور الشرعية، فلا دَخْل لأمر الإمام فيها.
ثم إن أمرَ الخلفاء الأربعة فوق أمر الأمير وتحت التشريع، فَيُتَّبَعُ بهم في بعض الأمور الانتظامية كالتشريع، كالجماعة في التراويح. وأَرَى كثيرًا من الأمور الانتظامية فَعَلَها عمرُ رضي الله عنه في زمنه، ثم الحنفية جَعَلُوها مذهبًا وعَامَلُوا معها ما يُعَامَلُ مع الشرعيات. ونظائرُها تُوجَدُ في المذاهب الأربعة، وهكذا ينبغي لقوله صلى الله عليه وسلّم «اقتدوا بالَّذَيْن من بعدي: أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما». ولعلَّ منصبهم بين بين. ومرَّ الرازي على تفسير آية الإطاعة: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} (النور: 54) ثم أُولي الأمر: بالإجماع. وفسَّره في الآية الثانية: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) أنه أبو بكرٍ رضي الله عنه، مع أنه لم يكن خليفةً في حياته، ولا حاكمًا.
(3/44)
ومتى نُفَتِ الصلاة، فهو باعتبار انتفاء الفاتحة فما فوقها. وأرى أن هذا يُطْرَد فيما هو على اسم الصحيح أو الحسن، وكفى بهما عن الضِّعَاف. وأرى أن هذا ليس اتفاقًا أو جِزَافًا، بل حكايةٌ عن الواقع وعن الحقيقة. فالصلاةُ بترك الفاتحة خِدَاجٌ، وبترك الفاتحة فما فوقها مَنْفِيَّةٌ، على أن في نفس قوله: «لا صلاةَ لمن لم يقرأ بأمِّ القرآن» بدون قوله: «فصاعدًا»، إشارةً إلى السورة، وبناءً للكلام عليه، وذلك للفرق بين قولهم: قرأها، وقرأ بها. وأَوْضَحَه الحافظُ بن القَيِّم في «بدائع الفوائد».
وحاصلُه: أن الفعل إذا عُدِّي بنفسه، فقلتَ: قرأتُ سورةَ كذا، اقتضى اقتصارُك عليها لتخصيصها بالذكر. وأمَّا إذا عُدِّي بالباء، فمعناه: لا صلاةَ لمن لم يأتِ بهذه السورة في قراءته، أو في صلاته، أو في جملة ما يقرأ به، وهذا لا يقتضي الاقتصارُ عليها، بل يُشْعِرُ بقراءة غيرها معها. ا ه. ثم أَطَالَ الكلامَ في نظائره وتقريره. وعلى هذا، فالفاتحةُ في الحديث تكون من جملة قراءته، فَيُدلُّ على القراءة بغيرها.
هذا، وبالجملة لا حُجَّةَ لهم في الحديث على مسألة الرُّكنية كما عَلِمْتَ، والله تعالى أعلم. ثم أقول: إن المسألةَ إذا كانت مما يَكْثُرُ وقوعها، ثم لا تَجِدُ للعمل بها صورةً ونظمًا عند الشارع، كان ذلك دليلا على عدم اعتبارها في نظره، فنقول: إن أحدًا لو أَدْرَكَ إمامه بعد قراءة الفاتحة، فلا يَخْلُو: إما أن يَقْرَأَ بالفاتحة، ويَشْتِغِلَ بها، لأنه لا صلاةَ لمن لم يقرأ بها. أو يُوَافِقَ إمامه بالتأمين، ثم يقرأ بها. فعلى الأول: يَرْزَمُ ترك الأمر بالموافقة، وعلى الثاني: تَنْقَلِبُ الوظيفة، فإن التأمين شُرِعَ عَقِيبَ الفاتحة لا قبلها.(3/45)
فانتفاهُ التأصيل والتفريع، واختلالُ النظم، دليلٌ على أن المقتدي لم يُوَسَّع له في حلقة القراءة، ولذا تراهم اختلفوا، فقال قائلٌ: إن المقتدي يتبع سكتات الإِمام، ولا ينازِعُ معه. وإذن لا بدَّ للإمام أن يَسْكُت سكتةً تَسَعُ قراءته، وذلك أيضًا غير معهودٍ عنه صلى الله عليه وسلّم فإنه لم يَثْبُتْ عنه إِلا سكتةً للاستفتاح، والثانية للتأمين، أو ليترادَّ إليه نفسه. أمَّا السكتةُ الطويلة بحيث تَسَعُ الفاتحة، فتلك قد عرفها الموجِبُون لا غير، كيف وإنه يَسْتَلْزِمُ قلب موضوع الإمامة؟ نعم لا بأس به عندهم، فإنهم يَلْتَزِمُون فوق ذلك من اختلاف نية الإمام والمأموم، وصحة صلاته مع فساد صلاة الإمام، إلى غير ذلك من التوسُّعات في مسائل القُدْوَة كما قد عَلِمْت. وقال قائلٌ: يقرأها بعد الثناء، وقال آخر: بعد قراءة الإمام.
وكل ذلك التشويش، لأن الشريعةَ لم توسِّع له في الحلقة، ولذلك يَطْلُب هذا موضعًا لها، ولا يجده، ثم تَشْمِئزُّ إليه نفسه، لأنه لا صلاةَ إِلا بها، فيضْطَرُّ تارةً بوضعها ههنا، وتارةً ههنا. وهل هذا هو شاكلة الواجب الذي يتكَّرر في كل صلاةٍ أربع مرات؟ ثم لم يَثْبُت له نظمٌ ولا يَسْتَقِرُّ فيه رأيٌ؛ فذقه. وهذا الذي كنتُ أقول فيما مرَّ: إِنَّا لو سلَّمنا الرفعَ عند الرفع من الركوع، فما تكون له صورة العمل؟ فإن الرفعَ عند الرفع من الرُّكُوعُ مُتَعِسِّرٌ أو مُتَعَذِّرٌ، ولذا قلتُ: إن بناء الشرع ليس على الفاتحة، ولا على رفع اليدين. وهذا الذي كنتُ أَقْصِدُ من الاختلال، وعدم التأصيل والتفريع. وقد فَرَغْتُ من مسألة القراءة خلف الإِمام بقدر ما قَصَدْتُ إلقاءه في هذا الكتاب. ومن شاء الاطلاع على تفاصيلها، فليرجع إلى رسالتنا «فصل الخطاب».
755 - قوله: (شَكَا أهل الكُوفَة) يعني من جُهَلائِهِمْ الذين كانوا لا يُحْسِنُون الصلاة.(3/46)
755 - قوله: (وأُخِفُّ): من التخفيف، وفي نسخةٍ: «وأَحْذِف». واستدلَّ منه الشيخُ العَيْنِي رحمه الله تعالى على عدم فرضية القراءة في الأُخْرَيَيْن، وسكت عليه الحافظ رحمه الله تعالى.
قلتُ: وإنما تكلَّم الشيخُ رحمه الله تعالى ههنا في مقابلة الحافظ رحمه الله تعالى، وإلا فالمختارُ عنده وجوب الفاتحة في الأُخْرَيَيْن، وإن كان في غير ظاهر الرواية، كما في «شرح الهداية»، وهو المختار عند الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى.m
قلتُ: والدلائلُ على وجوبها كثيرةٌ، ولم أَرَ لعدم الوجوب إِلا أَثَرَيْن: أحدهما عن ابن مسعود، والآخر عن عليّ رضي الله عنهما، غير أن الفصلَ إنما يكون بالتعامُل، فلينظره. بقي تمسُّك العَيْني رحمه الله تعالى من نسخة: «أحذف»، فالإِنصافُ أن المرادَ منه التخفيف.
فائدة
واعلم أن الشيخَ العَيْنِي كان أسنَّ من الحافظ رحمهما الله تعالى، وقد بقي بعده ثلاث سنين، وكان عمره تسعين، وكان يُؤَلِّفُ: «شرح الهداية في نور المصباح»، وألَّف: «شرح الكنز» في ثلاثة أشهر.
755 - قوله: (أَمَّا إذا نَشَدْتَنَا...) إلخ، يعني إذا تُنْشِدُنا بالله، فاعلم أن ما ذكرناه كان حيلَة للشِّكاية، أمَّا حقيقةُ الأمر، فهو هذا... إلخ.
757 - قوله: (ارجع فَصَلِّ). هذا الحديث: حديثُ مُسِيء الصلاة. قال الشيخُ تقي الدين ابن دقيق العيد: إنه يجب على المُحَدِّث أن يَجْمَعَ طُرُقه، فإِنه تعليمٌ لشرائع الصلاة من قِبَل صاحب النبوة. قال الحافظ ابن حَجَر رحمه الله تعالى: أني امْتَثَلْتُ أمره، فأخذت عنه ثمانين مسألةً، ويُعْلَمُ من طُرُقه كما هو عند الترمذي: أن الرجل كان قَصَر في التعديل. وبالجملة، فالإِمام البخاري رحمه الله تعالى أَخْرَج في هذا الباب عِدَّة أحاديث، غير أنه لم يَجدْ حديثًا صريحًا يَدُلُّ على تعيين الفاتحة، ولذا لم يُتِرْجِمْ بها عينًا، نعم في رسالته ذهب كل مذهب.
فائدة(3/47)
واعلم أن المصنِّف رحمه الله تعالى قد شدَّد الكلامَ على مسائل أبي حنيفة رحمه الله تعالى في رسائله، ولم يكن ذلك يَلِيق برِفْعَة شأنه. وقد سَمِعْتُ من بعض الفضلاء قصةً في وجه نَكَارته من الحنفية، وهي: أن ملك بُخَارا أمر المصنِّف رحمه الله تعالى أن يُعَلِّمَ أبناءه في بيته، فأجاب المصنِّف رحمه الله تعالى: من شاء فليأتنا، ولا حاجةَ لنا إلى الذهاب إلى بيت أحدٍ، فَغَضِبَ عليه الملك وأَجْلاه. فخرج البخاري رحمه الله تعالى إِلى خَرْتَنْك - موضع بَسَمَرْقَنْدِ - وألقى بها عصاه، ودعا ربه: أنه لم يَبْقَ له بعد ذلك في الحياة حاجة، فتُوُفِّيَ في يوم العيد. قيل: إن الذي ساعد الملك على إخراجه أبو حفصٍ الصغير، وهو تلميذ أبي حفصٍ الكبير - تلميذ الإِمام محمد رحمه الله تعالى - وهذا هو سبب نَكَارة البخاري رحمه الله تعالى من الحنفية.
قلتُ: ولي فيه تردُّد لِمَا ذَكَرَ الحافظُ رحمه الله تعالى فى مقدمة «الفتح»: أن أبا حفصٍ الصغير كان رفيقًا للبخاري في أسفاره، حتى أنهما كانا يَتَهَادَان أحدهما إلى الآخر، فما دام لا يتحقَّق للتغاضُب بينهما سببٌ، لا أَثِقُ بتلك الحكاية. والله تعالى أعلم بالصواب.
باب القِرَاءَةِ فِي الظُّهْر
باب ُ القِرَاءَةِ في العَصْر(3/48)
واعلم أن المصنِّفَ رحمه الله تعالى لمَّا لم يَجِدْ دليلا للفرق بين الفاتحة والسورة كما عَلِمْتَ، ترجم على نفس القراءة: الفاتحة وغيرها سواء. ومن العجائب ما نُسِبَ إلى ابن عباس رضي الله عنه من عدم القراءة في العصرين، وما ينقله بعض الرواة: «إن كنا نعرف قراءته من اضْطِرَاب لحيته، فهو إمارةٌ مَحْضَةٌ، قلتُ: فأين ذَهَبَت الفاتحةُ، لو كانت رُكْنًا عنده، فالقراءة فيهما إنما تُبْنَى على التعامُل والتوارُث، ولمَّا لم يكن هناك اختلافٌ لم ينازع أحدٌ منهم في لفظ الاضْطِرَاب أنه ما يفيد، ولو كان لوَقَعَ الجَلَب والشَّغْبُ؛ وهذا يَدُلُّ على أن المسائل لا تُبْنَى على ألفاظ الرواة فقط بل الفاصلُ هو التعامُل لا غير.
759 - قوله: (يُطَوِّل في الأُولى)، وحُمِلَ من جانب الشيخين: على أن الطولَ من أجل الاستفتاح، لا من تِلْقَاءِ القراءة. قلتُ: والظاهرُ مذهب محمد رحمه الله تعالى لِمَا عند أبي داود: «كان يُطَوِّل حتى ينقطع خسخسة الأقدام». أقولُ: والأحسنُ أن يستوي بينهما إِلا إذا رَجَا إدراكَ الناس، فيطوِّل على ما هو في الحديث.(3/49)
762 - قوله: (ويُسْمِعُنا الآية أحيانًا). واختلف مشايخنا في وجوب سَجْدة السهو إذا جَهَرَ في السِّرِّيَّةَ. فقيل: تَجِبُ ولو بكلمةٍ. وقيل: بآيةٍ تامةٍ. وقيل: بأكثر من الآية، وأَخْتَار الثاني، وإن جَازَ حمله على الثالث أيضًا، فإِن الجهرَ بالآية لا يَسْتَلْزِمُ الجهر بتمامها، فإِنك تقول: ضربتُ زيدًا، مع أنك لا تَضْرِبُ إِلا بعضه، فكذلك الفعل إذا وَقَعَ على محلٍ لا يوجب استيعابه لغةً، وحينئذٍ جَازَ أن يعبِّر بجهر الآية فيما إذا جَهَرَ ببعضها، إِلا عند ابن جَنِّي، فإنه يقول: إن قولهم: ضَرَبْتُ زيدًا، مجازٌ فيما إذا ضرب بعضه، وخَالَفَهُ الجمهورُ في ذلك. ثم إن الجهرَ بها كان للتعليم، أعني به تعليمَ ما يَقْرَأُ، لا تعليم الجهر نفسه، وهكذا كان الجهرُ بالتسمية، فلم تكن سنة بل تعليمًا لما يقرأه، واسْتُحْسِنَ الجهرُ بها في السِّرِّيَّة لدفع المارِّ.
باب ُ القِرَاءَةِ فِي المَغْرِب(3/50)
763 - قوله: ({وَالْمُرْسَلَتِ عُرْفاً} (المرسلات: 1)... إنها لآخِرُ ما سَمِعْتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلّميَقْرَأُ بِها في المغرب). واعلم أن الاختصار في القراءة مستحبٌّ في المغرب، فحمله الطحَاويُّ على أنه قَرَأَ ببعضها ولم يقرأ بتمامها. ثم لو سُلِّم أنه قرأ بتمامها، فلا بأس أيضًا، فإن التطويلَ أيضًا جائزٌ بشرط عدم التثقيل على القوم، واشتباك النجوم، وقد مرَّ مني: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمخَرَج في مرضه في المغرب أيضًا»، وهو صريحٌ عند النَّسائي. وأوَّله الحافظُ رحمه الله تعالى: أنه خرج من ناحية بيته إلى ناحيةٍ أخرى. ثم إن أبا داود قال: إن تطويلَ القراءة في المغرب منسوخٌ، مع أنك قد عَلِمْتَ أن قِراءته ب: «المرسلات» كان في مرض الموت، فكيف يمكن القولُ بالنسخ إن لم يُحْمَل نسخه على ما قاله الطَّحَاويُّ، وإذا قال الطحاويُّ: إن رفعَ اليدين منسوخٌ، جَلَبُوا عليه من كل جانبٍ، مع أنه يتكلَّم ممن اختار الوُجُوبَ، ونسخُ الوُجُوب لا يُوجِبُ نسخَ الجواز، على أن النسخَ عنده ليس بمعنى رفع المشروعية، بل إذا جاء أمرٌ، ثم ثَبَتَ عنه بخلافه، يُطْلِقُ عليه النسخَ كما عَلِمْت منَّا مرارًا.
واعلم أن في إسناد هذا الحديث: مروان، وفي نفسي منه شيء، فإنه صار سببًا لإثارة فتنة شهادة عثمان وطَلْحَة رضي الله عنهما، وهو الذي كَتَبَ لمحمد بن أبي بكر: أقتلوه مكان فاقبلوه، كما مرَّ. ومع هذا كان صادق اللهجة غير كذوبٍ، فتُعْتَبَرُ روايته. قال المُقْبَلي - وهو زيدي - إن البخاري لفرط تعصُّبه من الحنفية يأخذ الروايات من الرجال المجهولين، ولا يأخذها من نحو محمد رحمه الله تعالى، وهذا الزيديّ لمّا اشتغل بالحديث فَتَر في زيديته.
باب ُ الجَهْرِ فِي المَغْرِب(3/51)
765 - (قوله): (عن محمد بن جُبَيْر بن مُطْعِم عن أبيه...) إلخ، وكان جاء لافتكاك أُسَراء بدر، وسَمِعَ هذا الحديث، ثم أَسْلَم بَعْدُ، كما في «معاني الآثار» مفصَّلا، وللمحدِّثين نزاعٌ في أنه هل يُعْتَبَرُ بسماع الكافر أو لا؟
باب الجَهْرِ فِي العِشَاء
باب القِرَاءَةِ فِي العِشَاءِ بِالسَّجْدَة
باب القِرَاءَةِ فِي العِشَاء
باب يُطَوِّلُ فِي الأُوْلَيَينِ، وَيَحْذِفُ فِي الأُخْرَيَين
وهو سنةٌ عند الجمهور، وواجبٌ عندنا، ولا دليلَ له عندي.
766 - (قوله): (فَسَجَدَ)، قد تَفْسُد بها الصلاة عندنا في السِّرِّيَّة، وهو مُشْكِلٌ، فإِن السجدة من جنس أفعال الصلاة، فينبغي أن لا تَفْسُد بها الصلاة كالأذكار في غير موضعها، مع كونها غير مشروعةٍ.
767 - قوله: (فَقَرَأ في العِشَاء في إحدى الرَّكْعَتَيْنِ)، وقال الحافظُ رحمه الله تعالى: وَقَرَأَ في الثانية: {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ} (القدر: 1).
باب القِرَاءَةِ فِي الفَجْر
قوله: (قالت أُمَّ سَلَمَة) إلخ، وهذا في حُجَّة الوداع.
772 - قوله: (في كلِّ صلاةٍ يُقْرَأُ) أتردَّدُ في رفعه ووقفه، وأمَّا قوله: (وإن لم تَزِدْ على أُمِّ القرآن)، فمن قول أبي هُرَيْرة رضي الله عنه، وهذا يَدُلُّ على استحباب السورة عنده، ثم تبيَّن لي أن أبا هريرة رضي الله عنه إنما قاله في حقِّ المسبوق، لِمَا عند مالك: «من فاتته الفاتحة، فقد فاته خيرٌ كثيرٌ».
باب الجَهْرِ بِقِرَاءَةِ صَلاةِ الفَجْر(3/52)
قوله: (وقالت أَمُّ سَلَمَة رضي الله عنها: طُفْتُ وراءَ النَّاس...) إلخ، وقد مرَّ أنه كان في حَجَّة الوداع، وكانت أُمُّ سَلَمة رضي الله عنها شاكيةً، فَطَافَتْ من وراء الناس والنبيُّ صلى الله عليه وسلّميُصَلِّي صلاة الفجر يَقْرَأ بالطور يَجْهَرُ بها.
773 - قوله: (عَامِدين إلى سُوق عُكَاظٍ)، واتفقوا على أنه قبل الإسراء حين كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّميَذْهَبُ إليهم لتبليغ الإِسلامِ.
773 - قوله: (وأُرْسِلَتْ عليهم الشُّهُب)، واستشكل الحديث، فإنه يَدُلُّ على أن الحَيْلُولة وإرسال الشهب بَدَأَ من زمن نبوته صلى الله عليه وسلّم مع أن إرسال الشُّهُبِ من بَدْءِ الزمان، والجواب كما في الهامش عن الكِرْمَاني إنها وإن كانت من قبل أيضًا، إلا أَنه غَلُظَ أمرها في زمنه صلى الله عليه وسلّم وههنا إشكالٌ آخر: وهو أنه يُعْلَمُ من سِيَاق القصة أن إرسال الشُّهُب وضربهم في مشارق الأرض، كانا في زمانٍ واحدٍ، مع أن ضَرْبهم في الأرض حالُهم في أوائل نبوته، وإرسال الشُّهُب فيما بعدها بكثير.
بقي أن هذه الشُّهُب هي النجوم بعينها، أو شيءٌ آخر؟ فالتحقيق أنها هي النجوم بعينها، لا كما في هيئة بطليموس، فإنه ثَبَتَ اليوم الخرق والالتئام في الأجسام الأثيرية، وشُوهِدَت في الشمس مشاعيل وغُبْشَات، ثم الشياطين: أُطْلِقَ عامةً على الجن. وفي كُتُب السير: إن هؤلاء الجن كانوا من نَصِيبِين، وهو قريبٌ من الموصل، وبقربه بابل. قيل: إن قصة هاروت وماروت كانت في زمن إدريس عليه السلام، وهناك بُعِثَ نوح، وبعده إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، ولعلَّ جِنَّ نَصِيبينِ جاؤا لهذه السلسلة.
773 - قوله: (توجَّهُوا...) إلخ، ولعلَّهم لمَّا رأوا الشُّهُب تَطَلَّبوا أمرها، فإذا لم يتحقَّق عندهم أمرٌ قَعَدُوا قانطين؛ ثم اتفق أنهم رَأْوْه يُصَلِّي فيما بعده بكثير.
773 - قوله: (بنخلة) موضع عند الطائف، وهي غير بطن النَّخْلة.(3/53)
773 - قوله: (وهو يُصَلِّي بأصحابه صلاةَ الفجر) وثَبَتَ فيها الجهرُ والجماعةُ والقراءةُ، وهي شاكلةُ الفريضة، فلا دليل على كونها نفلا قبل الإسراء.
قوله: (وإنما أُوحِي إليه قولُ الجِنِّ)، قال ابن عباس رضي الله عنه: إن شهودَ الجِنِّ واستماعهم لقراءته، كلُّه كان بخبر الوحي، ولم يَطَّلِع عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمحين قالوا ذلك. وعند مسلم، في باب سجدة التلاوة، عن ابن مسعود رضي الله عنه: «أنه آذنته الشجرة بتلك القصة». وهو في البخاري أيضًا في التفسير. واعتمد المفسِّرون على قول ابن مسعود رضي الله عنه، لأنه أكبرُ سنًا منه، ولعلَّ ابن عباس رضي الله عنه لم يكن وُلِدَ بَعْدُ. ثم في إسناد مسلم: مَعْن، وهو ابن أخٍ لابن مَسعود رضي الله عنه، وكان ابنه القاسم كثيرُ الملازمة لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، فاقْدِر قَدْرَ الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، حيث يتعلَّمُ منه الدينَ ذريةُ ابن مسعود رضي الله عنه.
774 - قوله: (وسَكَت فيما أُمِرَ...) الخ، أي من السورة، ويَحْمِلُه البخاري على السِّرِّيَّة، إلا أنه يُرْوَى عنه عند الطحاويِّ بأَسنادٍ جيدٍ: إني قد عَلِمْتُ الدينَ كلَّه، إلا أني لم أتحقَّق القراءةَ في السرية، ولا أدري ماذا مراده، فإِنه يُرْوَى عنه القراءة أيضًا. واضْطَرَب الحافظُ رحمه الله تعالى هناك، واستشعر أنه تَنْهَدِمُ منه ركنية الفاتحة. قلت: ولا تمسُّك فيه للحنفي، فإنه يُخَالف الوجوبَ أيضًا.
774 - قوله: (وما كَان ربُّك نَسِيًّا)، وشرحه في القاموس بما لا يوجد في شروح الحديث، فراجعه.
774 - قوله: (أُسْوَةٌ): صفةٌ مُشَبَّهةٌ كالقدوة، وجِيئَت بصلة «في» للتجريد، ولو كان مصدرًا لما كان مناسبًا.
(3/54)
باب الجَمْعِ بَينَ السُّورَتَينِ فِي الرَّكْعَةِ،وَالقِرَاءَةِ بِالخَوَاتِيمِ وَبِسُورَةٍ قَبْلَ سُورَةٍ، وَبِأَوَّلِ سُورَة
وهو جائزٌ عند الطَّحَاويِّ، وكَرِهَه في «الكبيري» في بعض الصور.
قوله: (القراءة بالخَوَاتِيم)، والمستحبُّ عندنا: أن يقرأ في ركعة بسورة بتمامها.
قوله: (وبسُورَةٍ قبل سُورَةٍ)، كَرِهَها ابن نُجَيْم، وقال: إن رعايةَ الترتيب من واجبات القراءة دون الصلاة، فلا تَلْزَم سجدة السهو بتركها، وذلك لأن الترتيبَ حادِثٌ بعد جمع القرآن، والرواياتُ التي تَدُلُّ على خلافه كلُّها قبل جمع القرآن، فلا تكون حُجَّةً علينا. ثم جاء الملا نظام الدين وحسَّن كلامه. ثم استدلّ صاحب «البحر» على الفرق بين التطوُّع والفريضة، حيث لا يكره اختلال الترتيب في النافلة: بأنَّ كلَّ ركعةٍ من النفل صلاةٌ برأسها.
أقولُ: إن المشهورَ أن ترتيبَ الآيات توفيقيٌّ، وإِمَّا ترتيبَ السور فاجتهاديٌّ، وقيل: توفيقيٌّ أيضًا، غير الأنفال والتوبة، وهو المختار عندي، ولكنه لمَّا لم يَبْلُغ عند الصحابة رضي الله عنهم إلى حدِّ الوجوب، وبقي من باب المحسَّنات، ظنَّ أنه كان عندهم اجتهاديٌّ.
م - قوله: (وقال عُبَيْد الله)، وقد وصله الترمذيُّ.
774 م - قوله: (رجلٌ من الأنصار)، وهو اسمه: كلثوم بن هِدْم، متقدِّم الإِسلام، وكان إمامُ قومه.
774 م - قوله: (كلما افتتح...) إلخ، وظاهره تركُ الفاتحة أيضًا، وتمسَّك منه العَيْني رحمه الله تعالى لمذهب الحنفية. قلتُ: والذي يُظَنُّ به: أنه كان يَقْرَأُ الفاتحةَ وسورةَ الإخلاص على التعيين، وسورةً أخرى أيضًا لا على التعيين، وإلا فالحديثُ لا يَسْتَقِيمُ على مذهب الحنفية، فإنه يَلْزَمُ عليهم أيضًا تركُ الواجب. بقي لفظ: «الافتتاح»، ففيه وَسْعَة، خُذْه بأي اعتبارٍ شِئْتَ.
774 م - قوله: (لا تَرَى أنها تُجْزِئُك)، يُشِيرُ إلى وجوب ضمِّ السورة.
تحقيقُ لفظِ الإجزاءِ والصِّحَّة(3/55)
واعلم أن هذين اللفظين ممَّا يَكْثُر وقوعهما في كثيرٍ من عبارات فقهائنا مع اشتمال المقام على الكراهة، فيقولون: صَحَّت الصلاة وأجزأت، مع أنها تكون مكروهةً عندهم. وهذان اللفظان يُشِيرَان إلى انتفاء الكراهة، فَيَزْعُمُ الخصومُ أنها غير مكروهةٍ عندنا، ثم يُورِدُون علينا ويردُّون علينا. ولو وَضَعَ الفقهاءُ مقامهما لفظًا آخر، لم تَرِدْ علينا تلك الإيرادات، ولم يَسْتَوْحِشْ منه الخصوم. والآن أريدُ أن أُلقيَ عليك حقيقة هذين اللفظين.
فاعلم أن قولَ الفقهاء: «صحَّ» ليس مأخذوًا من قولهم: «صحَّ المريض» ليدُلَّ على الصحة باعتبار الأوصاف، بل بحَسَب الأجزاء فقط. قالوا: «إنها صَحَّت»: أرادوا بها تَمَامِيَة الأجزاء، وإن اشتملت على نقصان في أوصافها. واللفظ يكون موضوعًا لمعنىً في اللغة، ثم يَنْسَلِخُ عنه في العُرْف، والبُلَغَاء يستعملونه بالنظر إلى الاستعمال الأول، فيضْطَرِبُ فيه العوام لذهولهم عن استعماله الأول، وشيوعه في غيره عندهم. ولا يُقَالُ له: تعدُّد المعاني، بل: تعدُّد موارد الاستعمال، كما مرَّ منا في لفظ المسح والنَّضْح.(3/56)
فالمسحُ في حق الأَرْجُل: بالإِسالة، وفي الرأس: بإِمرار اليد المبتلَّة. وكذلك نَضْحُ البحر يكون بالأمواج، ونَضْحُ النواضح بحملها ماءً كثيرًا، ونَضْحُ الإنسان بالرشِّ. فهل تَرَاه أنه اختلفت معانيه؟ كلا، بل هو لفظٌ واحدٌ لمعنىً واحدٍ، وإنما اختلف بحَسَبِ اختلاف الموارد. أَلا تَرَى أن الرشَّ في البحر لا يكون إلا بقدر عِظَمِهِ، وهو بالأمواج، وكذلك في النواضح. فهو في جميع المواضع بمعنى الرَّشِّ، إلا أن الرشَّ والرشَّ مختلفٌ، ومن هذا التحقيق اندفعت اعتراضات الخصوم بأسرها، ومع ذلك ول تَرَكَها الفقهاءُ لكان أحسن، فإِنه وإن صَحَّ باعتبار الأصل، إلا أنه يُوقِعُ الناس في الغلط وترجمته صحَّ عندي بالفارسية (شد) لا (درست شد) وكذلك ترجمة أجزاء (روان شد) وبالأردوية (كجه- هو كيايا جل كيا).
774 م - قوله: (حُبُّك إيَّاها...) إلخ، وقد مرَّ أنه تصويبٌ للنية دون العمل، مع أنه سَبَقَ منه الاعتراض عليه أيضًا، حيث قال: «ما يَمْنَعُك أن تفعلَ ما يأمرك به أصحابُك»، وفيه: أن الأحسنَ أن لا يُعَيِّن سورةً من القرآن لشيءٍ من الصلوات، كما في «الكنز». واستثنى منه ابن نُجَيْم التقيد بالسور التي ثَبَتَت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فالتعيينُ بقدره يجُوزُ.
775 - قوله: (شُعْبَة): وهو واسطي، وعلمه من أهل الكوفة، وكذلك شيخه عمرو بن مُرَّة، وهكذا إسناد ابن مسعود رضي الله عنه كلُّه من أهل الكوفة.
775 - قوله: (هذًّا كَهَذِّ الشَّعْر)، ولعلَّهم إذا لم يَتَغَنُّوا هذُّوا به، والمراد منه القراءة بالسرعة. ولعلَّ التشبيه بهذِّ الشَّعْر باعتبار هَذِّهم عند الحفظ، وإلا فهم كانوا يَنْشِدُون الأشعار بتمطيطٍ وتطويلٍ، لا بالسرعة.(3/57)
775 - قوله: (النظائر)، وفي بعض النُّسُخ: «القرائن»، وكنت أراه بمعنى المتناسبة فقط. ثم رأيتُ في القاموس أن القَرينين يقال للبَعِيريْن كانوا يَشُدُّونهما في حبلٍ بشجرةٍ: واحدًا في هذا الطرف، والآخر في ذلك الطرف. ولعلَّهم كانوا يَشُدُّونهما لمناسبةٍ في طبعهما ليستأنسا بهذا الطريق، فلا يفترقا. ويُقَال لهما: القرينان، ويُقَال لهذا الحبل الذي يُقْرَنُ به البعير القَرْن، فحينئذ ذُقْتُ حلاوة هذا اللفظ، فإنه يَدُلُّ على التناسُبِ الشديدِ بين هاتين السورتين، لا على المناسبة في الجملة، فكانت هَاتِيكَ النظائر متناسبة بحيث لا يمكن افتراقها كالقرينين من البعير.
775 - قوله: (فَذَكَرَ عِشْرِين سُورَةً)، واستدلَّ منه الكِرْمَاني الشافعي على أن الوترَ ركعةٌ، لأن المعروفَ في عدد ركعاته صلى الله عليه وسلّمإحدى عشرة، فإِذا صارت عشرون سورةً لعشر ركعاتٍ، سورتان في كل ركعةٍ، لَزِمَ أن يكون الوترُ ركعةً، تمامًا لإحدى عشرة. قلتُ: لِمَ لا يجوز أن تكونَ صلاتُه ثلاث عشرة ركعة؟ فصارت عشرون سورةً لعشر ركعاتٍ، وبقيت الثلاث للوتر. كيف، وقد عدَّ أُبَيُّ بن كعب رضي الله عنه تلك السور مفصَّلة، كما هو عند أبي داود.
باب يَقْرَأُ فِي الأُخْرَيَينِ بِفَاتِحَةِ الكِتَاب
باب مَنْ خَافتَ القِرَاءَةَ فِي الظُّهْرِ وَالعَصْر
باب إِذَا أَسْمَعَ الإِمَامُ الآيَة
وفيه ثلاثةُ أقوالٍ عندنا: قيل: إن ضَمَّ لسورة يُوجِبُ سجدة السهو، وقيل: لا يُوجِب بل يُكْرَه، وقيل: لا يُسَنُّ ولا يُكْرَه، وهو قول فخر الإسلام، هو المختار عندي.
باب يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى(3/58)
وفي إسناده أبو نُعَيْم: وهو ابن دُكَيْن، وله قصة: وهي أن أحمد بن حنبل وابن معين رحلا إلى عبد الرزَّاق في اليمن ليأخذا منه الأحاديث، فتبعهما رجلٌ كان أدون منهما، فلمَّا رَجَعَا عنه، قال ابن معين: أريد أن أَحْضُرَ أبا نُعَيْمٍ فأجرِّب حفظه، هل تغيَّر أو لا؟ وقد كانا أخذا منه أحاديث قبل ذلك، فجمع ابن معين ثلاثين حديثًا من أحاديثه، وأَدْخَلَ بعد كل عشرٍ منها حديثًا من غيره لم يُحَدِّث به أبو نُعَيْم، لينظر أنه هل يعرف حديثه من غيره أو لا؟ فقال له أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى لا تَخْتَبِرْه، فإنه على حفظه، فأبى ابن معين إلا أن يفعله، حتى جعل يُلْقِي عليه حديثًا حديثًا، فكلما يَبْلُغُ إلى العاشرة، يقول أبو نُعَيْم: ليس هذا من حديثي.s
فلمَّا بَلَغَ الموضع الثالث، عرف أبو نُعَيْم أنه اختبره، فقال لأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: أما هذا فأورع من ذلك، وللذي تبعهما: أمَّا هذا فأصبر من ذلك، ولا أراك إلا أنت يا ابن معين، وضرب صدره برجله. فقال له أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى:: ألم أقل لك إنه على حفظه كما كان.
ثم ابن معين كان حنفيًا كما مرَّ، ومن مقالته: إنا نتكلَّم في رجالٍ قد ضربوا الأخبية في الجنة قبلنا بمئتين، ولمَّا بَلَغَتْ أبا حاتم مقولتُه هذه، أطبق الكتاب، وما زال يبكي في مجلسه، ثم قال: وما بنا في الكلام عليهم من حاجة إلا دَعَتْنَا ضرورةٌ، فنتكلَّم عليهم لهذه.
باب جَهْرِ الإِمَامِ بِالتَّأْمِين
باب فَضْلِ التَّأْمِين
باب جَهْرِ المَأْمُومِ بِالتَّأْمِين
اختار المصنِّف رحمه الله تعالى القولَ القديمَ للشافعيِّ رحمه الله تعالى، مع أن الأقربَ إلى الحديث هو الجديدُ.(3/59)
قوله: (قال عطاءٌ: آمِينَ دُعَاءٌ). بقي أن سنةَ الدعاء هي الجهر والإخفاء، فالذي يَظْهَرُ أن الأصلَ الإخفاءُ، وثَبَتَ الجهرُ. بالعوارض أيضًا، ولا يَصِحُّ التمسُّك من النص على خلاف الجهر إلا بعد ثبوت سنة الإسرار من الحديث، كما سيجيء منا الإِشارةُ إليه.
قوله: (وأَمَّنَ ابن الزُّبَيْر)، ولعلَّه حين كان يَقْنُتُ في الفجر على عبد الملك، وكان هو يَقْنُتُ على ابن الزُّبَيْر رضي الله عنه، وفي مثل هذه الأيام تجري المبالغات أيضًا.
قوله: (وكان أبو هُرَيْرَة رضي الله عنه...) إلخ. وهذا حين كان مؤذِّنًا في البحرين، فانظر أن أبا هُرَيْرَة رضي الله عنه يَهْتَمُّ بالتأمين ما لا يَهْتَمُّ بالفاتحة، فأين ذهبت الفاتحة؟ وهو الذي يقوله عند مالك في «موطأ»: «لا تسبقني بآمين»، فهمُّه بالتأمين أكثر منه بالفاتحة، مع أنه لا تعلُّقَ له بالجهر.
قوله: (وقال نافع...) إلخ. وهذا عامٌّ لخارج الصلاة وداخلها، وقد ثَبَتَ عندنا أنه كان يقول: آمين خارج الصلاة أيضًا. واعلم أن مذهب الإمام: إخفاء التأمين للإِمام والمأموم، وهو روايةٌ عن مالك رحمه الله تعالى، ومذهبه: إخفاؤه للمأموم، وتركه للإِمام رأسًا، وهو أيضًا روايةٌ عن إمامنا. وذهب الشافعيُّ رحمه الله تعالى في القديم: إلى الجهر لهما، وفي الجديد: إلى الجهر للإِمام دون القوم. وعن أحمد رحمه الله تعالى: الجهر بالتأمين. ولكن لا أعلم ماذا تفصيله عنده.
قلت: وما ظَهَرَ لي هو أنه ثَبَتَ الجهر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمقطعًا، لكن لا على طريق السُّنية، بل للتعليم أحيانًا، أي لتعليم أنه ما يقرأ. نبَّه عليه الجُرُجَاني في «حاشية الكَشَّاف»، ومحمد البِرْكِلي في «تفسيره»، وهو من علماء الروم، متقدِّم عن ابن الهُمَام رحمه الله تعالى. وصرَّح في «البرهان» بجوازه، وهو الذي قال به صاحب «الهداية» في التسمية: إن الجهرَ بها كان تعليمًا، فلو أجاب بمثله في التأمين لاسترحنا.(3/60)
وعندي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى نصًّا أنه يجوز الجهرُ به في قنوت النازلة، فسلَّمْتُ الجواز في الصلاة أيضًا. وأكثر السلف كانوا يُسرُّون به كما في «الجوهر النقي» عن ابن جرير الطبري فتحصَّل: إن الجهرَ جائزٌ، والإِسرارَ به سنةٌ، وهو المختارِ عندي. ومن قال بكراهة الجهر، فقد قَصَرَ. ثم ههنا ثلاثة أحاديث:
الأول: «إذا أَمَّنَ الإِمامُ، فأَمِّنُوا».
والثاني: إذا قال الإِمامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلّينَ}، فقولوا: آمين».
والثالث: «إذا أمَّنَ القارىءُ، فأمِّنُوا».
وتمسَّك الشافعيةُ بالأول، فإِنه صريحٌ في جهر المأموم والإِمام، فإنه أَمَرَ المأمومَ أن يُؤَمِّنَ عند تأمين الإِمام، فأوجب أن يكونَ تأمينُ الإِمام جهرًا، ليتمكَّن المقتدي أن يُؤَمِّنَ على تأمين إمامه، وإذا كان تأمينه جهرًا لهذا الحديث، فعلى شاكلته تأمين المأموم. وأجابوا عن قوله: «إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}...» إلخ: أنه على حذف المعطوف، أي: فأَمَّنَ، وأُقِيمَ المعطوف عليه مقامه، لكونه دالاًّ عليه وسببًا لعلمه، وليس بناء على الترك، بل لأن المطلوبَ في التأمين هو الموافقةُ مع الإمام.(3/61)
وحينئذٍ لا بُدَّ أن يُحَال تأمين المأموم على قراءة الإِمام بقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} إلخ، ليصيرَ المقتدي بعد سماعه على أُهْبَةٍ من تأمينه، فيُؤَمِّنُ إذا فَرَغَ الإِمامُ من قراءته ويُؤَمِّنُ، وتتحصَّل الموافقةُ المطلوبةُ، ولو علَّق تأمينَه على تأمين الإِمام لفاتت الموافقة، فإِن تأمِينَ القوم حينئذٍ يقع بعد تأمين الإِمام لا محالة، ولا تَحْصُلُ الموافقة. فإِذن قوله: «إذا أَمَّنَ الإِمامُ فَأَمِّنُوا»: لبيان موضع الالتقاء، ولبيان الجهر بهما. وقوله: «وإذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} إلخ، بأنه يَدُلُّ على التقسيم كقوله: «إذا قال الإِمامُّ: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد»، على ما قرَّرنا، فقلنا بالتسميع للإِمام، والتحميد للمقتدي. كذلك قال المالكية ههنا: إن الإِمام يقرأ فقط، فلا يُؤَمِّنُ، ويُؤَمِّنُ المقتدي فقط ولا يقرأ، فهو على التقسيم.
قلتُ: ولعلَّهم قاسُوا التأمين في الصلاة على التأمين في الخارج، وليس في الخارج إِلا المقاسمة بين الدعاء والتأمين، فيدعو واحدٌ ويُؤَمِّنُ آخرون. فهكذا جعلوا الإِمام داعيًا، والمأمومين مُجِيبين، فلو أمَّنَ الإِمامُ أيضًا لا نقلب الموضوع، وصار الداعي مُجِيبًا، فَيَقْتَصِرُ على قوله فقط، ولا يَبْسُطُ يده إلى حقِّ غيره.
وأجابوا عن الحديث: بأن معناه: إذا حملكم الإِمامُ على التأمين، بأن يقرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلّينَ}، أو: إذا بَلَغَ الإِمامُ موضِعَ التأمين، فأمِّنُوا. وليس معناه: إذا قال الإِمام: آمين، ليكون دليلا على تأمينه. وجعلوه من باب أَنْجَدَ وأَعْرَقَ أي: دخل في النجد والعراق، ولا أرى التأمين ثابتًا في اللغة بهذا المعنى، فإِن التَّعْدِية بهذا الطريق لو ثَبَتَت عندهم، لكان نادرًا جدًا، كما سيأتي في الجنائز.
(3/62)
والحاصل: أنهم حملوا هذين الحديثين على معنين متغايرين، بحيث صار كلٌّ منهم مُسْتَدِلاًّ من أحدهما، ومُجِيبًا عن الآخر، وذلك لأنهم أشكل عندهم جمع أحد اللفظين مع الآخر، لأن اللفظَ الأول ينادي بتأمين الإِمام، واللفظ الثاني يُشِيرُ إلى تركه، فبنى كلٌّ منهم مذهبه على واحدٍ منهما، وتأوَّلَ في الآخر حسبما أدَّى إليه اجتهاده وذوقه، وللناس فيما يَعْشَقُون مذاهب.
وما كَشَفَ اللَّهُ عليَّ سبحانه: أن أحد الحديثين لا يلتقي مع الآخر، وهما وَرَدَا في مَطْلَبَيْنِ. فالحديث الأول، أي: «إذا قال الإِمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} إلخ وَرَدَ لبيان وظيفة القوم عند فراغ الإِمام عن قراءته، وذِكْرُ فضيلة التأمين فيه استطرادٌ، وإنما أُحِيلَ فيه على قراءة الإِمام دون تأمينه لنكتة ذكرها الشافعية، وهي: تحصيل التوافق بين التأمينين، والحديث الثاني، أي: «إذا أمَّن الإِمامُ...» إلخ سِيقَ لبيان فضيلة التأمين فقط، وتأمين الإِمام فيه تمهيدٌ لذكر تأمين المأموم، وبيانٌ لموضع تأمينه.
والدليل على ذلك: أني قد تتبعت لذلك نحوًا من مئة طريقٍ، فلم أجد حديث: «إذا أمَّنَ الإِمام...» الخ إلا هذا القدر فقط، ولم أجده قطعةً من حديث الائتمام في شيءٍ من طُرُقه، بخلاف حديث: «إذا قال الإِمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}... إلخ، فإِنه قطعةٌ من حديثٍ طويلٍ في الائتمام، وفيه: «وإذا قرأ، فأنصتوا» سرده الراوي تارةً بتمامه، واقتصر على قطعة منه أخرى. فهذا الحديث هو الذي يَلِيقُ أن تُنَاط به مسألة التأمين، لأنه سِيقَ لبيان صفة الصلاة بتمامها، ووظيفة الاقتداء وما عليه من جهة ائتمامه بإمامه. ومع هذا لم يَذْكُر فيه تأمين الإِمام، بل ذَكَرَ من قوله القراءةَ ب: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فقط.(3/63)
فعُلِمَ أن الإِمامَ يُخْفِي به، بخلاف الحديث الثاني، فإِنه لم يجيء لهذا المعنى، والمقصود منه: بيان فضل التأمين فقط، وأَمَّا ذكر تأمين الإمام، فهو تمهيدٌ لبيان تأمين المأموم وموافقته إياه، وإذا كان الإحالة فيه على تأمين الإمام لهذا، لم تَبْقَ فيه دلالة على الجهر أصلا، وطاح ما كان يُتَبَادَرُ من قوله: «إذا أمَّنَ»: أن الإمامَ يَجْهَرُ به أيضًا، لأنه تبيَّنَ أن الإحالة على تأمينه لبيان موضع الالتقاء والتوافُق فقط، لا ليسمعه المقتدي، فَيُؤَمِّنُ عليه.
نعم لو وردت الإحالةُ عليه في أحاديث الائتمام، لكان فيه بناء على الجهر، كما في قوله: «إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}» بناء على جَهْرِه بذلك، لأنه في سياق التعليم ممَّا يقوله الإِمامُ والمأمومُ، ولا يمكن امتثاله للمأموم إِلا أن يَجْهَرَ به الإِمامُ، وإِلا فكيف يَعْلَمُ موضع تأمينه، وأنه متى يُؤَمِّنُ فلو كان فيه: «وإذا أَمَّن...» إلخ، لدلَّ على جهر التأمين، كما دلَّ على جهر القول: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}... إلخ. وإذن ما يَصِحُّ: أن ذكر تأمين الإمام لمجرَّدِ الارتباط تأمينٌ للمقتدي - وَتَعَذُّرِ الابتداء من قوله: «فَأَمِّنُوا»، فليس المقصودُ فيه تأمين الإمام.
(3/64)
وبعبارة أخرى: أن «إذا» في قوله: «إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ظرفية، والترتيب لبيان جزء فجزء، أي: إن تأمين المأموم مترتِّبٌ ومسبَّبٌ عن قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، وليس تأمينهم مترتِّبًا على تأمينه، بل هما معًا. وأمَّا في قوله: «إذا أمَّنَ الإِمامُ، فأَمِّنُوا»، فإن شِئْتَ جعلتها شرطية أو ظرفية فيها تحت قوله تعالى: {إِذَا جَآء نَصْرُ اللَّهِ} وابن دقيق العيد في قوله صلى الله عليه وسلّم «إذا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا»: بأن الفاء فيه للتعقيب أو المقارنة، ونقل فيهما الخلاف بالعكس، كما نقله أبو حيَّان. وعندي أنها لا تَنْسَلِخُ عن معنى التعقيب مطلقًا، إلا أن التعقيبَ عندي أعمُّ من الذاتي والزماني، واعتبر اللُّغَوِيُّون الذاتي أيضًا، فتدخلُ بين الشرط والجزاء، والعِلَّة والمَعْلُول، والفرق بين الشرطية والظرفية قد مرَّ، فتذكَّره.(3/65)
فإن كان الأمر كما قرَّرت من تغايرُ، الحديثين، فالأسبقُ في الباب هم الحنفية رحمهم الله، لأنهم بنوا مذهبهم على الحديث الذي سِيقَ لذلك نصًّا، وهذا يَدُلُّ على أن الإمام لا يَجْهَرُ بالتأمين، بل وظيفته القراءة ب: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}... إلخ. ثم يُؤَمِّنُ أيضًا، لكن لا من حيث إمامته، بل لكونه مصليًا، فَيُؤَمِّنُ لنفسه سِرًّا، كما يُؤْمِّنُونَ لأنفسهم سِرًّا. ومن ههنا تبيَّن أن تأمينه لمَّا لم يكن من جهة الإمامة، بل من جهة لُحُوقه معهم وانفراده في نفسه، لم يَنْقَلِبْ الموضوع. فللإمام وظيفتان: وظيفةٌ من جهة إمامته، ووظيفةٌ من تلقاء كونه مصليًا. ويؤيِّدُ ذلك ما أخرجه النَّسائي في هذا الحديث: «فإِن الإمام يقولها»، فنبَّه على ثبوت تأمين الإمام على خلاف ما قال به المالكيةُ. ودلَّ على إسراره على خلاف ما قاله الشافعيةُ، لأن الإمامَ لو كان يَجْهَرُ بها، لَمَا كان للتنبيه على تأمينه معنىً، فإنه يسمعه كلُّ واحدٍ. ففي قوله: «فإن الإمامَ يقولها» تنبيهٌ على أن تأمينَه يكون سِرًّا، بحيث لو لم ينبِّه عليه لَمَا عَلِمَه المقتدون.(3/66)
ثم إنه ليس في ذخيرة الحديث ما يَدُلُّ على أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأمر المأمومين أن يَجْهَرُوا بها، بل من جَهَرَ منهم جَهَرَ برأيه. نعم في حديث وائل: أنهم جَهَرُوا بها، مع اختلاف فيه بين سُفْيَان وشُعْبَة. وأمَّا ما أعَلَّ به البخاريُّ حديث شُعْبَة، فقد أجابوا عنه بالنقولِ الصريحةِ، ويَظْهَرُ من «مسند أحمد» أنه توقَّف فيه، وهو الاعتدال. ومن العجائب أن هذه السنة مما تَعُمُّ به البَلْوَى، ثم لم تَصِلْ مرفوعةً إلى الحجازيين إلا من طريق وائل وعِدَادِه من أهل الكوفة. قال الدَّارقُطْني: قال أبو بكر: هذه سنةٌ تفرّد به أهلُ الكوفة. ا ه. ثم إن سلَّمنا أن اللفظ كما قال به شُعْبَة، فلا يزيدُ على كونه واقعةٌ وليس ضابطةً كُلِّيةً، ولا نُنْكِر ثبوت نفس الجهر بها ولو مرارًا، وهو جائزٌ عندنا أيضًا بدون كراهة. وإنما الكلام في السنية، ولا تَثْبُت إلا بالأمر من جهة الشارع واستمراره عليه، وليس بثابتٍ، ولن يَثْبُت إن شاء الله تعالى.
وبالجملة إذا لم يأتِ فيه شيءٌ من المرفوع، وهدى القرآن إلى سُنَّة الدعاء، فوضعناها على الرأس والعين، وَعَمِلْنَا بها. قال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (الأعراف: 55) وقال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} (الأعراف: 205)، فهذه سنة الدعاء، عَلِمْنَاها من القرآن، وتعلَّمناها منه، فلو عَلِمْنَا من حديثٍ مرفوع أنه أمر المقتدين بالجهر، أو استمرَّ عليه، لاتَّخَذْنَاه سنةً، ولرجَّحنا الخصوصَ على العموم، ولكن لَمَّا لم يُنْقَلْ فيه إلينا شيءٌ من المرفوع، إلا ما نُقِلَ عن أهل الكوفة، وهو واقعةٌ، عَملْنا بالعموم الواردة فيه.(3/67)
فإن قلتَ: إن قوله: «إِذا أَمَّنَ الإمامُ أفاد الجهرَ إفادة قوله: «فأمِّنُوا» أيضًا، لكونه على شاكلةٍ واحدةٍ. قلتُ: كلا، وإلا لَزِمَ الجهرُ في جواب الأذان، والجهر بالتكبير والتحميد للمأموم في حديث الائتمام، لاتحاد الشاكلة هناك أيضًا. أَلا تَرَى إلى قوله: «إِذا كَبَّرَ، فَكَبِّرُوا...» إلخ، لم يذهب هناك أحدٌ إلى أن القومَ أيضًا تَجْهَرُ به مع الإمام، فَقِسْ عليه قوله: «إِذا أمَّن، فأَمِّنُوا»، لا تجد بينهما فارقًا إن شاء الله تعالى، فلم يَخْلُصْ لهم في المرفوع لجهر القوم شيءٌ. نعم، لهم لجهر الإمام. قوله: «إذا أمّن الإمام...» إلخ، وفيه أيضًا نظرٌ، لأنه يمكن أن يكون تعليقًا بأمرٍ معلومِ الوجود، لأن موضعَ تأمينه معلومٌ، فلا حاجةَ إلى أن يَجْهَرَ الإمامُ بها أيضًا. وفي التعليم كفايةٌ بل في قوله: «فإن الإمام يقولها» بناء على الإخفاء، فقوله: «إذا أمَّن» يستدعي وجوده فقط، لا جهره.
ثم إن ابن الهُمَام رحمه الله قال في «الفتح»: إن الحديثَ عبارةٌ في تأمين القوم، وإشارةٌ في تأمين الإمام. قلتُ: وهذا إنما يَصِحُّ على رأي صدر الشريعة، فإنه قال: إن المنطوقَ إن كان مقصودًا أصليًا، فهو عبارةٌ، وإلا فهو إشارةٌ، بخلاف الشيخ رحمه الله، فإنه صرَّح في «التحرير»: أن المنطوقَ مطلقًا عبارةُ النص فلعلّه ذَهَلَ عَمَّا حَقَّق في «التحرير». ولعلَّك عَلِمْتَ منه: أن تمسُّك البخاري على جهر الإمام والمأموم لا يَصِحُّ من هذا الحديث. والذي يَخْطُر بالبال: أن المصنِّف رحمه الله حَمَلَ التأمين في الصلاة من باب تشميت العاطس وردّ السلام، ويشترط فيهما أن يكونَ بصوتٍ، يَبْلُع الحامد أو المُسَلِّم، فلا يمكن إحياء هذا الحق إلا بالجهر. فهكذا تأمينُ القوم إذا كان جوابًا لدعاء الإمام، وَجَبَ أن يكونَ بالجهر كردِّ السلام، وتشميت العاطس، فأُخِذَ منه جهر القوم بهذا الطريق، وللمانع فيه مجالٌ وسيع.(3/68)
بقي الحديث الثالث، فأخرجه المصنِّف رحمه الله في الدعوات، لأنه فَهِمَ أن القاريء لا يَقْتَصِرُ في الصلاة، فيجوز أن يكون في الخارج وفي الصلاة، بخلاف الإمام، فإنه لا يكون إلا في الصلاة، فأخرجه في كتاب الصلاة، وأخرج لفظ القاريء في الدعوات. ومثل هذه الغوامض غير نادرةٍ في كتاب المصِّنف. ثم إنه لم يَتَنَقَّحْ عندي أنهما حديثان عند البخاريِّ، أو من باب الاختلاف في الألفاظ فقط، وهذا من دَأْبه: أنه إذا لم يتبيَّن عنده اختلاف الحديث من اختلاف الألفاظ، يُتَرْجِمُ عليهما تَبعًا للألفاظ. وعندي: هو حديث واحدٌ سِيْقَ لأحكام الصلاة دون الخارج. ثم لا أدري ماذا كان لفظ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم والحاكم في هذا الباب: هو الوِجْدَان لا غير.
بقي اختلاف سُفْيَان وَشُعْبَة في حديث وائل، فوجهُهُ عندي: أنه من باب حِفْظ كل ما لم يَحْفَظْهُ الآخر. والحديث يَسْقُطُ على مذهب الشافعية: «وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّمجَهَرَ فيها بالتأمين دون جهر الفاتحة»، وهو مذهب الإمام الشافعيّ رحمه الله، فكان في تأمينه جَهْرٌ وَخَفْضٌ معًا؛ الجهرُ في نفسه، والخفضُ بالنسبة إلى الفاتحة. فما يرويه شُعْبَةُ أيضًا صحيحٌ، وما يُؤَدِّيه سُفْيَان أيضًا صحيحٌ، إلا أن كلاهما يُؤدِّيَان حصةً من المراد، فجهرُه أدَّاه سُفْيَان، وخفضُه بالنسبة إلى الفاتحة ذكره شُعْبَة، والأمران صحيحان، هذا هو الرأي عندي. والناس حَمَلُوه على الاختلاف، فاضْطَرَّ كلٌّ إلى إعلال ما عند الآخر، ولا حاجةً إليه عندي.(3/69)
ومن العجائب: أن شُعْبَةَ قائلٌ بجهر آمين وسُفْيَان بإخفائه، كما ذكره ابن حَزْم. وحينئذٍ ماذا تَنْفَعُك رؤيته بالجهر إذا كان عَمَلَه بالإخفاء. والراوي إذا رَأَى بخلاف ما رَوَى، فانظر فيه ماذا تَرَى. وقد بَسَطْتُ الكلامَ فيه مع شواهده فيما ألقيت في درس الترمذي. وذكرت نبذةً منه في «كشف الستر»، فليراجعه من أواخره.
وبالجملة، قد تبيَّن لي بعد السَّبْر: أن بناء الشريعة ليس على الفاتحة خلف الإمام، ولا على رفع اليدين، ولا على الجهر بالتأمين. فإنه ليس في «الذخيرة» حديثٌ قوليٌّ في رفع اليدين، ولا في إيجاب الفاتحة على المقتدين ابتداءً في الصلاة كلها، ولا في الجهر بالتأمين مطلقًا، والمراد من البناء: هو التأصيل والتفريع. نعم هناك حديثٌ قوليٌّ في التأمين بناؤه على الجهر، وهو عند أحمد رحمه الله: «إن اليهود ما حَسَدُوا عليكم كما حَسَدُوا على التأمين، فأَكْثِرُوا من قول: آمين»، أو كما قال: وقد وجَّهناه في رسالتنا «كشف الستر».
باب إِذَا رَكَعَ دُونَ الصَّف
يعني هل يُعْتَبَرُ ويُعْتَدُّ بتلك الركعة أو لا؟ فمذهب المصنف أن مدرك الركوع ليس بمدرك للركعة وهو من تفريعات الأخذ بقراءة الفاتحة فإِنه إذا لم يُدْرِك الفاتحةَ لم يُدْرِك الركعة أيضًا، لأنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وهو أخذٌ شديدٌ يُخَالِفُه تواتر السلف.
بقيت الصلاة خلف الصفِّ كيف هي؟ فهي مكروهةٌ عندنا، خلافًا لأحمد، فعنده: باطلةٌ إن كان في الصفِّ فرجةٌ، فصلاها متخلِّفًا عنه. ونَسَبَه الحافظُ رحمه الله تعالى إلى البخاريِّ رحمه الله تعالى أيضًا، مع أن الحديثَ يَدُلُّ على صحة صلاته، حيث لم يأمره بالإِعادة.(3/70)
ثم وجهه أن صلاته هذه وإن عُدَّت صحيحةً، إِلا أن المسألةَ في المستقبل بُطْلان صلاة المصلِّي خلف الصفِّ وحده، لقوله: «ولا تَعُدْ»، فإذا نهاه فيما يأتي أن يعودَ إليه، لم يَجُزْ لأحدٍ أن يفعل مثله. وحَمَله الجمهور على ظاهره وتمسَّكُوا به على الصحة، والأولى له أن يُشِيرَ إلى رجلٍ ليتأخَّر عن الصفِّ، فَلْيَصُفَّ معه، ويَشْهَدُ له مُرْسَلٌ في «مراسيل أبي داود». والفتوى: على أن لا يفعله اليوم لقلة العلم وكثرة الجهل، فلعلَّه لا يتأخَّر ويقاتله، فَيُفْسِدُ عليه صلاته. وفيه دليلٌ على أن مُدْرِكَ الركوع مُدْرِكٌ للركعة، فإن هذا الرجل أدرك إمامه في الركوع، وركع دون الصفِّ، ثم دَبَّ إلى الصفِّ، وعُدَّ مُدْرِكًا للركعة عندهم.
783 - قوله: (ولا تَعُدْ)، وفيه تصويبٌ للنية، وتخطيةٌ للعمل. وقد مرَّ تفصيله من قبل، فإِنه بابٌ مستقلٌ.
وقُرِىء على ثلاثة أوجه: من العود، والإِعادة، والعدو.
باب إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي الرُّكُوع
واللفظُ يَحْتَمِلُ شرحين: الأول أن يَبْسُطَ التكبير ويَمُدَّه على الحركة الانتقالية بحيث يَعْمَرُ به الانحطاطُ كلُّه. والثاني: أن يُتِمَّ عدده. واللفظُ وإن كان أقرب إلى الأول، لكن مراد البخاريِّ هو الثاني، لأنه اشتهر عن بني أُمَيَّة أنهم لا يُتمُّون التكبير ويُنْقِصُون عدده، فلم يكونوا يَأْتُون به في الخفض، وكان يُقَال لمن كانوا يُتِمُّونهُّ: مُتِمُّ التكبير. فهذا اللفظ قد كان شاع عندهم في إتمام العدد. بقي أن بني أُمَيَّة لِمَ كانوا يتركونه في الخفض؟ فبعد ما عُلِمَ فسقهم، لا حاجةَ لنا إلى بيان منشأ أفعالهم. نعم، عن عثمان أيضًا مثله، وهذا الذي ينبغي أن يُطْلَبَ له تأويلٌ.(3/71)
784 - قوله: (صلَّى مع عَليَ رضي الله تعالى عنه) أي بالبصرة. ودلَّ الحديثُ على جريان التهاونُ في أعداد التكبير في زمن الراوي، ولذا يتعرَّض إلى أعداده وإتمامه، ومن ههنا تبيَّن شرح ما رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «أنه كان يُكَبِّرُ في كل رَفْعٍ وخَفْضٍ»، مع أنه ليس في القَوْمَةِ إِلا التسميع والتحميد، فإنه عمومٌ غير مقصود أراد به الرَّدَّ على من ترك التكبير عند الخفض، لا نفي التسميع، ومن غَفَل عنه اضْطرب لحلِّه، ونُقِلَ هذا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أيضًا. وظني أنه إذا لم يكن يُكَبِّرُ، لم يكن يَرْفَعُ يديه أيضًا، فإِن التكبيرَ والرفعَ قرينان، فإِذا تُرِكَ أحدهما تُرِكَ الآخر. ولعلَّ منشأ فِعْلَه ما عند أبي داود، في الجهاد: «وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّموجيوشُه إذا عَلَوا شَرَفَا كبَّروا، وإذا هَبَطُوا واديًا سبَّحوا». ثم يقول الراوي: «وعليه وُضِعَت الصلاة»، أو كما قال.
قلتُ: وهذا اجتهادٌ من الراوي، مع مخالفته لجماهير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وإن سلَّمناه، فلنا أن نقول: إن التكبيرَ عند الانحطاط وإن كان في الخفض حَسَنًا، لكنه مُعْتَبَرٌ في القَوْمة شرعًا، لأن ابتداءه منها، فأصله في القومة وإن كان بَسَطه في الانحدار أيضًا، وهذا إبقاءُ التكبير دون ابتدائه، وحينئذٍ صارت شاكلته في الثنايا والصلوات واحدة. ولعلّ ابن عمر رضي الله تعالى عنه تَرَك الرفعَ بين السجدتين لمثل هذا، وإلا فهو ثابتٌ ثبوتًا لا مردَّ له، كما عَلِمْت سابقًا. ولما عَلِمْنَا أنه اجتهد في أمر التكبير، فتركه في بعض المواضع من اجتهاده، واختاره في البعض، خَفَّ رفعه أيضًا، وأمكن أن يكونَ ذلك أيضًا بنوعٍ من اجتهاده. لا أقول بالاجتهاد في نفس الرفع، حاشا وكلا، بل في اختياره وترجيحه على الترك، وإصراره عليه، وتَنْوِيهه بشأنه.
(3/72)
باب إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي السُّجُود
والمراد من الإتمام ههنا: ما كان المراد منه في الباب السابق، وقد مرّ: أن اللفظ وإن احتمل غيره أيضًا، ولكن عيَّناه لِمَا علمناه من التاريخ: أنه قد جرى عندهم البحث في الإتمام والتقصير بحَسَب عدد التكبير، فَحَمَلْنَاهُ عليه.
297 - قوله: (أَوَلَيْسَ تِلْكَ صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم، فانظر كيف حمل التكبير، حتَّى ظنَّ المُنْكَر سنةً والسنة مُنْكرًا، واحْتِيجَ إلى بيان أن التكبيرَ عند كلِّ خَفْضِ ورفعٍ سنةُ أبي القاسم صلى الله عليه وسلّم وتَرَاجِمُ البخاري هذه ناظرةٌ إلى ما عند أبي داود في حديث ابن أَبْزَى، وكان لا يُتِمُّ التكبير. وكان المختار هو الإتمام، فترجم به إيماءً إلى ما قلنا.
باب التَّكْبِيرِ إِذَا قَامَ مِنَ السُّجُود
788 - قوله: (إنه أحمق). أقول، وههنا واقعتان، وأبو هريرة في إحداها، ولا يجب أن يكونَ في الأخرى أيضًا، فلا يَلْزَمُ أن يكونَ هذا اللفظ في حقِّه.
789 - قوله: (حين يقومُ من الثِّنْتَيْنِ): يمكن أن يكونَ الراوي أراد به إتمام التكبير، ويمكن أن يكونَ إشارةً إلى ما اختاره مالك: إلى أن التكبيرَ في الثالثة ليس عند النهوض، بل إذا بَلَغَ في القيام، كما كان عند التحريمة أيضًا في القيام، واعلم أن هناك سؤالا من جانب الحنفية على الشافعية، وهو: إن التكبيرات إذا كانت ثِنْتَيْنِ وعشرين، فإِنْ قُلْنَا بجلسة الاستراحة يَلْزَم: إما الزيادة عليها إن قُلْنَا بالتكبير عند الرفع منها، أو يَلْزَم ترك التكبير عند الرفع، مع أن المعهودَ من صلاته صلى الله عليه وسلّمهو التكبير عند كل خفضٍ ورفعٍ. وقال الشافعيةُ رحمهم الله تعالى: إنه يطوِّل التكبيرَ الواحدَ، ويَبْسُطُه على الجلسة، ويرفع بذلك التكبير، وهو كما ترى.(3/73)
واعلم أن الشاميَّ نَسَبَ إلى الطَّحَاويِّ التكبيرَ في القَوْمَةِ، أو يُكَبِّرُ ثم التسميع بعده. قلتُ: وهذا ليس بجيد، فإنه خلاف التعامُل، ولا ينبغي بناء المسائل على الألفاظ. والذي أرى أنه نُسِبَ إليه، لما في «معاني الآثارُ» قوله: وذلك أنا رأَينا الدُّخُول في الصلاة يكون بالتكبير، ثم الخروج من الرجوع والسجود يكونان أيضًا بتكبيرٍ. وكذا للبرماوي الشافعي كتابٌ في الفِقْهِ، وذكر فيه: أنه كان أولا التكبير عند الرفع من الركوع أيضًا، حتَّى اتفق مرةً أن أبا بكرٍ رضي الله تعالى عنه تخلَّف عن ركعةٍ، وأدرك الإِمامَ في الركوع، فقال: «الله أكبر، الحمد لله، الله أكبر»، فكان التكبير الأول للافتتاح، والتحميد خُلاصةً للفاتحة، والتكبير الثالث للركوع، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام وقال: «إن ربَّه رضي بتلك الكلمات، وشرع لكم التسميع». ومن هنا شُرِعَ التسميع، غير أني لم أر تلك القصة إلا في كتابه.
باب وَضْعِ الأَكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ فِي الرُّكُوع
والتطبيق عندي بضم اليدين بدون تشبيك. وبَالَغَ في بيان الضم من ذكر التشبيك، كما عند مسلم، وهو هيئة القيام بين يدي الملك، وكانت فيه مَشَقَّة، ثم رخَّص بالاعتماد على اليدين. وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يراه عزيمةً، فإن العطايا على قدر البلايا، ولم يكن يراه مَنْسُوخًا عن أصله. ومن طَعَن عليه، فقد أفرط في التعصب، فإنه ثَبَتَ عن عليّ رضي الله تعالى عنه أيضًا. ولكن الجمهور لما تَرَكُوه وَجَبَ العملُ بما فعلوه. وقد بَسَطْنَا الكلامَ فيه في رسالتنا: «نيل الفرقدين»، فراجعه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في ترك الرفع.
باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ الرُّكُوع
باب اسْتِوَاءِ الظَّهْرِ فِي الرُّكُوع(3/74)
باب حدّ إتْمَام الرّكُوعِ والاعْتِدَالِ فِيهِ والاطْمَأْنِينَة
قوله: (والا طمأنيته)، والصحيح كما في الهامش: والطمأنينة. وحدُّ الإِتمام غير مُنْضَبِطٍ.
792 - قوله: (ما خلا القيامَ والقعودَ قريبًا من السَّوَاء)، فجعل الراوي ههنا التسوية بين المواضع الأربعة: الركوع، والسجود، والقومة، والجلسة. واستثنى القيام والقعود، لأنه ثَبَتَ التنوُّع في قيامه جدًا، فتارةً جَعَلَه أطول من أطول، وأخرى قَصَرَه حسبما دَعَتْهُ الحاجةُ، بخلاف تلك المواضع الأربعة، فإنها كانت على شاكلةٍ واحدةٍ غالبًا. وعند مسلم ما يَدُلَّ على التسوية بين القيام والقعود، وبين هؤلاء الأربعة بدون استثناء، والظاهر أنه مسامحةٌ. والتسويةُ راجعةٌ إلى الأربعة فقط، ولا حاجةَ إلى تأويل ألفاظ الرواة عند ظهور المراد جُمُودًا على لفظهم فقط، ومن تأوَّل فيه أراد منه التناسُب، أي: إن كان قيامه طويلا، فسائرُ الأفعال أيضًا كانت طويلةً بحَسَبِهِ، وإن كان قصيرًا، فسائرُها أيضًا كذلك. والأرجح عندي كما في «صحيح البخاري».
باب أَمْرِ النبي صلى الله عليه وسلّمالَّذِي لا يُتِمُّ رُكُوعَهُ بالإِعَادة
793 - قوله: (ارْجِعْ فَصَلِّ) وعُلِمَ منه: أن الصلاةَ إذا اشتملت على كراهة التحريم وَجَبَت إعادتها، ومقتضاه أن تجب الإِعادةُ على من ترك الجماعةَ، وصلَّى في بيته مُنْفَرِدًا، فإِن الجماعةَ واجبةٌ، فإذا تَرَكَهَا وَجَبت إعادتُها. وتردَّد فيه ابن عابدين الشامي، لأنه إن قُلْنَا بوجوب الإِعادة، فلا فائدةَ فيه لأنه إن يُعِدْها يُعِدْها مُنْفَرِدًا. وإن قُلْنَا بعدم وجوبها، يَلْزَمُ نقض الكلية.(3/75)
قلتُ: ولي جَزْمٌ بأنه لا يعيدها، والكلية فيما كانت في الإِعادة فائدة. ولا تمسُّك فيه على فرضية التعديل، لأن الأمر بالإِعادة ليس مبنيًّا على فرضيته، كما زَعَم، بل أمكن أن يكون ضربًا من التعزير، وهو الظاهر من الأمر بإِعادة عمل عمل عمله مرةً. وحينئذٍ لم يَبْقَ فيه دليلٌ على ما راموه. فأمعن النظر فيه، فإِن المعاني تختلف باختلاف الاعتبارات، وذلك عند أهل العرف كثيرٌ.
ثم اعلم أن حديثَ مُسِيء الصلاة لا يرويه إلا أبو هريرة ورِفَاعة بن رافع. وفي جملة طُرُق حديث أبي هُرَيُرَة رضي الله عنه: «ثم اقرأ ما يتسَّر معك من القرآن».
وتمسَّك منه الحنفية على عدم ركنية الفاتحة. قلتُ: وهذا ليس بصحيحٍ، لأن الفاتحةَ وإن لم تكن رُكْنًا، لكنها واجبةٌ عندنا أيضًا. والسياقُ سياقُ التعليم، فلو فرضنا أنه لم يعلِّمه الفاتحة يَلْزَم درج كراهة التحريم في سياق التعليم، ولا يجوز أصلا، مع أنها مذكورةٌ في حديث رِفَاعة صراحةً، وإن كانت مجملةً في حديث أبي هُرَيْرَة، على أن التيسيرَ مُعْتَبَرٌ في الطول، لا في العرض، كما مرَّ تقريره في المقدمة.(3/76)
وحاصله: إن الله تعالى لمّا عَلِمَ الاستثقالَ عليهم في القيام بالليل، رخَّص لهم أن لا يطوِّلوه كما كانوا يفعلونه في الليل كلِّه، أو أكثره، بل لهم أن يقوموه حسبما تيسَّر لهم. فهذا تيسير في حصص الليل، لا في الفاتحة كما فَهمُوه، ثم أقول: إن قوله: «ثم اقرأ ما يتسر معك من القرآن»، ليس بناء على ركنية الفاتحة، بل لكون الرجل بدويًا أعرابيًا لا يدري أنه كان عنده شيءٌ من القرآن، أم لا. وحينئذٍ ينبغي أن يكون التعبيرُ هكذا، ولذا قال: «وإلاّ فاحمد الله، وكَبِّرْهُ»، فدَلَّ على أنه كان ممن لا يُسْتَبْعَدُ منه أن لا يكون عنده قرآنٌ أصلا، وإذن لا يُلائِمُه أن يأمره بالفاتحة والسورة تفصيلا، وإنما الأَلْيَقُ بحاله الإِجمالُ، فيقرأ بما يَقْدِرُ، ولذا ورد عند الترمذيِّ: «فإن كان معك قرآن»... إلخ. وتُرَاك فَهِمْت الآن حسن التعبير.
793 - قوله: (حتى تَطْمَئِنَّ راكعًا)، وفي حديث أبي حُمَيْد الساعدي حتى جعلنكا فقار مكانه، ومنه يَعْلَمُ قدر التعديل، وقدَّره فقهاؤنا بتسبيحةٍ، وما وراءها فسنةٌ.(3/77)
793 - قوله: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلِّها) تمسَّك به الشيخ ابن الهُمَام على وجوب الفاتحة في الأُخْرَيَيْن أيضًا، واختاره العيني رحمه الله تعالى. والمشهور أنها مستحبةٌ لِمَا ثَبَتَ عن عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما: «أنهما كانا يُسَبِّحان في الأُخْرَيَيْن». وقوَّى ابن أَمير الحاج في «شرح المنية» الاستحباب. وعن الحسن بن زياد بالوجوب، نحو ما اختاره الشيخ. ويمكن الجواب عن استدلاله بأن قوله: «ثم افعل...» إلخ لا يَرْجِعُ إلى القراءة وإن جعله الشيخ محطًّا، بل المحطُّ عندنا هو التعديل، لأنك قد علمت فيما مرَّ أن هذا الرجل قد كان خفَّف في صلاته وترك التعديل، كما في لفظ الترمذي: «فأَخفَّ في صلاته». وإذن التَّبَادُرُ أن أمره يَنْصَرِفُ إلى ما قَصَرَ فيه، لا إلى القراءة. ثم ذكر له بعض الأشياء تكميلا وتتميمًا، وجعل الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى محطِّه الفاتحة وسورة.(3/78)
ثم إن كنت سَمْحًا تَقْدِرُ أن لا تُنَازِعَ المُخَاطب قبل أن تفهم كلامه، فاعلم أن الأمرَ لمطلق الطلب عندي، فيندرجُ تحته الوجوب والاستحباب معًا، لا على طريق القول بعموم المجاز، ولا الجمع بين معاني المُشْتَرك، بل على ما هو رأي المَاتُرِيدِي. فإِن الأمرَ - مثلا - اضرب حكايةٌ من قوله: افعل فعل الضرب، ونحو: صلِّ حكايةٌ من قوله: افعل فعل الصلاة. وحقيقةُ الصلاة لا تختلف بين الفريضة والنافلة، فتتناول كِلْتيهما، وهكذا الصومُ والحجُّ كلُّه يتنوَّع وينقسم إلى الفريضة، والواجب، والمندوب مع اتحاد الحقيقة في كلِّها. فإذا وُسِّع التفصيل في المحكي عنه مع اتحاد العبارة، فليكن في الأمر أيضًا. كيف، وهو حكايةٌ عنه فكما أن الفريضةَ، والواجبَ، والمستحبَ كلَّها تدخُلُ في لفظ الصلاة بدون تكلُّف، كذلك فلتدخل كلُّها في الأمر، ويكون الأمر لطلب تلك الحقيقة فقط على صفتها التي في الخارج. وليس هذا من الجمع بين معاني المُشْتَرَك في شيءٍ، بل هو طلبٌ للحقيقة المختلفة بحَسَب الأنواع.
فالتنوُّع في الأمر ليس من قِبَل نفسه ومدلوله، بل من جهة اختلاف تلك الحقيقة، فإِن كانت واجبةً يكون طلبها أيضًا واجبًا، وإن غيره فغيره. وهل يَلْصَق بالقلب أن مِصْدَاق قوله تعالى: {صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) هو الصلاة التي صلَّى عليه مرةً في عمره، والباقية خارجة عن مِصْدَاقه، بل الأمر فيه لطلب مطلق الصلاة على النبيِّ: إن كانت واجبةً فوجوبًا، وإن كانت غيره فغيره. وليس هذا الاختلاف من جهة الأمر، بل لاختلاف تلك الحقيقة بعينها. وإذا فَهِمْتَ أن اللفظَ الواحدَ يُطْلَقُ على الأنواع المختلفة في زمانٍ واحدٍ، ولا يكون ذلك عندهم مجازًا، ولا جمعًا بين معاني المُشْتَرَك، فكذلك الأمر لطلب هذه الحقيقة، وإن اختلفت بحَسَب العَوَارِض.
(3/79)
فاعلم أن قوله: «افعل في صلاتك كلِّها» أيضًا يتناول الوجوبَ والاستحبابَ، فمعناه: أن اقرأ القرآن في كلِّ الصلاة، فمتى كان واجبًا فوجوبًا، ومتى كان مستحبًا فاستحبابًا. وحينئذٍ جاز أن تكون القراءةُ واجبةً في الأُوَلَيَيْنِ، ومستحبةً في الأُخْرَيَيْن مع دخولها تحت أمرٍ واحدٍ، ولا يَثْبُت ما رامه الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله. أمَّا دخول الأنواع المختلفة تحت لفظٍ واحدٍ، فالاتحاد حقيقة الفرض والنفل، وإنما الفرقُ من حيثُ لُحُوق الأمر وعدمه، وذلك من العَوَارِض، فلا تختلف بها الحقيقةُ. وأَبْعَدَ من ذهب إلى تبايُن تَيْنِكَ الحقيقتين، وقد قرَّرناه من قبل، والتفصيل في «فصل الخِطَاب». وبعد، فلي بعض تردُّد في استحباب القراءة في الأُخْرَيَيْن لمكان الاختلاف، وتجاذُب الأدلة، لأنه ليس في المرفوع كثيرُ شيءٍ يَدُلُّ على الفرق بين الأُولَيَيْن والأُخْرَيَيْن.
فإِن قلتَ به، لَزِمَ على ترك ما رُوِي عن علي رضي الله عنه في العَيْنِيِّ، وابن مسعود رضي الله عنه في «المصنَّف» لابن أبي شَيْبَة. وإن اتَّبَعْتَ أثرهما، يَلْزَمُ على خلاف تبادُر الحديث، فلذا أتوقَّف فيه. وإنما لم نَقُلُ بوجوب السورة في الأُخْرَيَيْن لِمَا عن قَتَادة في البخاري مرفوعًا: «أنه كان يقرأ في الظهر في الأُولَيَيْنِ بأمِّ الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأُخْرَيَيْن بأَمِّ الكتاب...» إلخ، فقام الدليل على التخصيص.
قلتُ: ومع ذلك ثَبَتَ القراءةُ بالسورة أيضًا، فلا مناص إلا بالقول بالجواز، وهو قول فخر الإِسلام منا، وهو الأصوب عندي. ولعلَّ الأكثر من فِعْل النبيِّ صلى الله عليه وسلّمتركها، وهو السنة. وقد ذكرت بعض الكلام فيه في رسالتي «فصل الخطاب»، من شاء فليرجع إليها.
باب الدُّعاءِ فِي الرُّكُوع
(3/80)
باب ما يَقُولُ الإِمامُ وَمَنْ خَلفَهُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوع
ولعلَّه نظر إلى ما أخرجه مسلم: «أمَّا الركوع، فعظِّمُوا فيه الرَّبَّ. وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجدٌ، فادعوا فيه، فَقَمِنٌ أن يُسْتَجَابَ لكم». بالمعنى. وهذا يَدُلُّ على أن الدعاء ينبغي في السجود، أمَّا الركوع، ففيه تعظيم الرب جلَّ مجده. قلتُ: وتعظيم الرب لا يُنَافي الدعاء، فله أن يُعَظِّم ربه ويدعو بدعاءٍ مُخْتَصَرٍ أيضًا. فإن كان البخاري أراد به إسقاط ما عند مسلم، فليس بصحيحٍ، وإن كان أراد دفع الإيهام فقط، فهو ناهضٌ. ثم العمل عندي ينبغي أن يكون على حديث مسلم لأن الحديث جعل التعظيمَ في الركوع، والدعاءَ في السجود، فدلَّ التقابُل على أن المراد من التعظيم غير الدعاء، وإن كان الدعاء أيضًا جائزًا. والله تعالى أعلم.
بقي شيءٌ، وهو أن التعظيمَ أزيدُ في السجود من الرجوع، فينبغي أن يكونَ أمر التعظيم في السجود، مع أن الحديث جعله في الركوع. فكان للشارحين أن يَكشِفُوا عن معنى التعظيم لِيَظْهَرَ وجهُ اختصاصه بالركوع، وقد كَشَفُتهُ بحمد الله في «رسالتي»، فليراجع.
ثم إن ابن أمير الحاج صرَّح بجواز الأدعية كلِّها، حتى في الجماعات بشرط عدم التثقيل على القوم. وراجع «المواهب اللدنية» لمواضع الأدعية من الصلاة، فإِنه بَسَطَها جدًا. وما في «المبسوط» لشمس الأئمة من عدم جواز الأذكار في الفرائض، فهو متروكٌ عندي، والمختار ما قرَّره ابن أمير الحاج.
باب فَضْلِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْد
وقد مرَّ: أن المشهورَ التوزيعُ، وفي روايةٍ: الجمع للإِمام، وبه أفتى بعضَ الكبار مِنَّا كالحلواني، والفضل بن محمد، وأبو عليّ النسفي.
126 - بابٌ(3/81)
أشار إلى مذهب الشافعيِّ رحمه الله تعالى: أن القنوت الراتبة في الفجر في السنة كلِّها، وفي الوتر في النصف من رمضان فقط. وإنما لم يُتَرْجِم به، لأنه لم يُرِدْ تنويره.
797 - قوله: (يَقْنُتُ في الركعة الأخرى). وهذه قنوت النازلة، وهي قنوت النازلة، وهي عندهم في الصلوات الخمس، ويَجْهَرُ بها، ولو في السِّرية. قلتُ: والجهرُ في السِّرية غريبٌ جدًا، واستدلَّوا بما عند أبي داود، وهو ضعيفٌ عندنا. وتكلَّم الطحاويُّ في قنوت النازلة، ويُتَوَهَّمُ النسخ من عبارته، فليتركه. فإِن الشيخ العَيْني رحمه الله تعالى نَقَلَ عن الطحاويِّ ما يَدُلُّ على أنها ثابتةٌ عندنا أيضًا. وقنوت النازلة عندنا في الجهرية، كما في «شرح الهداية» للأمير الإتقاني، وفي شرح شمس الدين النووي: جوازها في الصلوات مطلقًا.
797 - قوله: (يَلْعَنُ الكُفَّار). ذِكْرُ الأسماء في الصلاة مُفْسِدٌ عندنا، غير أن في الدعاء قولين: الأول إن كان ذكرها في سِيَاق الدعاء عليهم لم يُفْسِد، وإن كان في سِيَاق الدعاء لهم أَفْسَد. وفي قول: أَفْسَدَ مطلقًا، والمختار هو الأول، فلا حاجةَ إلى الجواب.
799 - قوله: (مَنِ المُتَكَلِّمُ)، اخْتَلَفَ في جوابه التفتازاني والجُرْجَاني، فقال التفتازاني: إن الجواب لمن قال: من التائب؟ التائب زيد. وقال الجُرْجَاني في «حاشية الكشاف»: إن حقَّ الجواب: زيد التائب. قال الكَافِيَجِي: إن الجُرْجَاني محرومٌ من المعاني، إِلا أن عندي له وجوهًا ذكرتها.
799 - قوله: (رأيت بِضْعَةً وثلاثين)، وفي روايةٍ: «اثني عشر ملكًا». وهما عندي في واقعتين.(3/82)
799 - قوله: (أَيُّهم يَكْتُبُهَا)، وعند مسلم «أيهم يَصْعَدُ بها أول». وقد ثَبَتَ عندي تجسُّد المعاني وتَجَوْهُر الأعراض بالعقل والنقل، فلا بُعْدَ عندي في صُعُودها. واعلم أن حديث عرض الصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلّملا يقوم دليلا على نفي علم الغيب، وإن كانت المسألة فيه: أن نسبة علمه صلى الله عليه وسلّموعلمه تعالى كنسبة المُتَنَاهي بغير المُتَنَاهي، لأن المقصودَ بعرض الملائكة: هو عرض تلك الكلمات بعينها في حَضْرَتِه العالية، عَلِمَها من قبل أو لم يَعْلَمْ، كَعَرْضِها عند رب العزة، ورَفْع الأعمال إليه.
فإن تلك الكلمات مما يحيا به وجهُ الرحمن، فلا بنفي العرضُ العلمَ، فالعرضُ قد يكون للعلم، وأخرى لمعانٍ أُخَر. فاعرف الفرق.
1127 - بابُ الاطْمَأْنِينَةِ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ
والمراد به تكامُل الهيئة باستقرار كل عضوٍ مكانه، وقد مرّ منا: أنه لا اعتناءَ للشرع بطول القيام، فإنه ورد بالأنحاء كلِّها حسب الحاجات، أمَّا التعديلُ في المواضع الأربعة، فله اعتناءٌ به، وراجع له «كشف الستر».
800 - قوله: (حتَّى نقولَ: قد نَسِيَ): يعني من طول قَوْمَتِه. ولفظ «قد نَسِيَ»، وإن دَلَّ على الطول، لكنه من طرفٍ آخر دَلَّ على أنه لم يكن من عادته.
802 - قوله: (فَأَنْصَبَ هُنَيَّةً) (به كئي تهوري ديركي لئي): أي بقي هُنَيَّةً ساكنةً أطرافُه. وفي «الهامش» «فأَنْصَت» بالتاء مكان الباء، واستعمله الراوي ههنا في السكون على الأطراف، مع أنه للإصغاء والتهيُّؤ للاستماع.
802 - قوله: (أبو يزيد): وهو عمرو بن سَلَمة، وفيه جلسة الاستراحة، وقد مرَّ مني جوابه، وحملها الطحاويُّ على الضرورة.
باب يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَسْجُد
وقد مرَّ: أن المرادَ به بَسْطُه على الأنحناء.(3/83)
قوله: (وقال نافع: كان ابن عمر يَضَعُ يَدَيْه قبل رُكْبَتَيْهِ). قال الحافظ؟ وإنه مُتَرْجَمٌ به، لا له. وقد وَرَدَ فيه الحديث بكلا النحوين، وقد تكلمنا عليه في درس الترمذي. قال النووي: لا يَظْهَرُ ترجيح أحد المذهبين على الآخر من حيث السُّنَّة. ا ه.
803 - قوله: (كان يُكَبِّرُ... في رمضانَ وغيرِه). وإنما تعرَّض الراوي إلى رمضان لمكان بعض الزيادات في هذا الشهر، فنبَّه على أنه لم تكن فيه زيادةٌ في باب التكبيرات.
804 - قوله: (يَدْعُو لِرِجَالٍ)، وفي «البحر»: إنه لو دعا على معيَّن لم تَفْسُدْ صلاته. وهذا من الأُحْجِيَّة: أن التلفُّظ بزيدٍ فقط مُفْسِدٌ، والدعاء عليه غير مُفْسِدٍ. فالجزء مُفْسِدٌ، والكلُّ ليس بمفسدٍ. وهذا كما أن دِيَة الأطراف قد تزيد على دِيَة النفس. وتعرَّض إليه صدر الشريعة في «شرح الوقاية»، فراجعه.
804 - قوله: (وأهلُ المَشْرِق يومئذٍ من مُضَرَ): أراد به شرق العرب، فإِن الإِسلام لم يَخْرُج من جزيرة العرب بَعْدُ.
805 - قوله: (كَذَا جاء بِه مَعْمَرٌ)، هذه نغمةُ الاستفهام. سأله سُفْيَان عن عليّ رضي الله عنه.
805 - قوله: (قال: لقد حَفِظ)، وقد كان في المجلس مَعْمَر، وسُفْيَان، وابن جُرَيْج، والزُّهْرِي. ثم قال ابن جُرَيْج: إني أحفظ لفظ الساق مكان الشِقِّ.
باب فَضْلِ السُّجُود
قيل: إنه يَحْرُم على النار أن تَأْكُلَ أعضاءَ السجود. وقيل: الرأس، والجبهة فقط. وفيه خلافٌ بين النووي في «شرح مسلم»، والحافظ رحمه الله تعالى، فليحرَّر كلام الحافظ، فإن كلامه مُؤَثِّرٌ هنا. ولا بُعْدَ أن يكون فيه غلطٌ من الناسخ، فإن نسخته الجديدة مملوءةٌ من الأغلاط وصححتها، فبلغت أغلاطها إلى خمس مئة. والعلم عند الله سبحانه وتعالى.
806 - قوله: (يُحْشرُ الناس)، هذا كلامٌ مُسْتَأْنَفٌ.(3/84)
806 - قوله: (فيأتيهم الله)، وقد مرَّ مني: أن الأفعال اللازمة المُسْتَعْمَلة في الحضرة الإلهية يُرَاد بها: تَعَلُّق تلك الصفة بالمحل، والمتعدية منها يُرَاد بها: إحداث هذا المحل وإيجاده. فالإتيان والنزول والاستواء كلها أفعال لازمة، فَيُرَاد بها: تَعَلُّق هذه الصفات بالمحل، وهذه كلُّها تجلِّيات للرب جلَّ مجده.
806 - قوله: (كلاليب): هي علائق النفس تَتَجَسَّدُ هناك.
806 - قوله: (بآثار السجود). وعند مسلم ما يَدُلُّ على استثناء دَارة الوجه فقط. قلتُ: ولعلَّ الحال يكون مختلفًا، فتأكل النارُ بعضَهم غير دَارة وجههم، وبعضَهم أعضاءَ سجودهم كلَّها. واسْتُفِيدَ منه: أن العبادات أيضًا تَذْهَبُ إلى جهنم، إِلا أن النار لا تُؤَثِّرُ فيها أصلا.
806 - قوله: (حَمِيل السيل) (روكا ملغوبا).
806 - قوله: (ثم يفرغ الله من القضاء) إطلاق الفراغ مشاكلة فقط فإنه إذا لم يكن له شغل لم يكن له فراغ.
806 - قوله: (لك ذلك ومِثْلُهُ معه. قال أبو سعيد: إني سمعته يقول: ذلك لك وعشرة وأمثاله). قيل: ولعلَّهما حديثان، فحَفِظَ كلٌّ ما لم يحفظه الآخر. وقيل: المثل جنس يَصْدُق على الكثير أيضًا، فيقع على الأمثال. وما تبيَّن لي أن لفظَ الحديث كان: «ومثله عشر مراتٍ» بالتعاطف هكذا: مثله، ومثله، ومثله،... إلخ. فاستوفى أبو سعيد كلَّه في لفظٍ، واقْتَصَرَ آخرُ على مرةٍ منها.
باب يُبْدِي ضَبْعَيهِ وَيُجَافِي فِي السُّجُود
باب يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيهِ القِبْلَة
باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ السُّجُود(3/85)
قال الحافظ رحمه الله تعالى: إن حديث ابن بُحَيْنَة المُعَلَّق ههنا ظاهره وجوب التفريج المذكور، لكن أخرج أبو داود ما يَدُلُّ على أنه للاستحباب، وهو حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله تعالى عنه: «شكا أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمله مَشَقَّةَ السجود عليهم إذا انْفَرَجُوا، فقال: اسْتَعِينُوا بالرُّكَب». وترجم له بالرخصة في ذلك، أي: في تركِ التفريج. قال ابن عَجْلانِ - أحد رواتهِ : وذلك أن يَضَعَ مِرْفَقَيْهِ على رُكْبَتَيْه إذا طال السجود وأعْيَا. وقد أخرج الترمذيُّ الحديثَ المذكورَ، ولم يقع في روايته: «إذا انفرجوا»، فترجم له: ما جاء في الاعتماد إذا قام من السجود، فجعل محل الاستعانة بالرُّكَب لمن يَرْفَعُ من السجود طالبًا للقيام. واللفط مُحْتَمِلٌ لِمَا قَال، لكن الزيادة التي أخرجها أبو داود تُعَيِّنُ المراد. ا ه.
قلتُ: شرح أبي داود مرجوحٌ عندي، أمَّا شرح الترمذي فله وجهٌ. وحاصله على ما نقله الحافظ: أن المرادَ من الاستعانة بالرُّكَب: الاستعانةُ عند النهوض من السجود، دون الاستعانة بالمِرْفَقَيْن حال السجود، لكن لفظه عندنا هكذا: باب الاعتماد في السجود. وظاهرُه رَاجِعٌ إلى شرح أبي داود، لكن لمَّا نقل عنه الحافظ ما يَدُلُّ على الاعتماد حين القيام، نَاسَبَ أن يُؤَوَّل في النسخة التي بأيدينا أيضًا، بأن يُقَالَ: معنى الاعتماد في السجود: الاعتماد في القيام من السجود. ثم هذا التأويلُ لا يجري فيما أخرجه الترمذيُّ من متن الحديث عندنا، لأن فيه: «أن أصحابه اشتكوا مَشَقَّةَ السجود عليهم إذا تَفَرَّجُوا، فقال: استعينوا بالرُّكَب». وهذا يَدُلُّ على أن الشِّكَاية كانت في حال السجود، لا في حال القيام من السجود.(3/86)
وأخرجه الطَّحَاوِيُّ في باب التطبيق في الركوع، وليس فيه لفظة: «إذا تفرَّجُوا». ولذا وَسِعَه أن يَحْمِلَهُ على الاستعانة بالرُّكَب في الركوع على خلاف التطبيق. فتحصَّل من المجموع ثلاثة شروح: الأول للترمذيِّ، وحاصلُه على لفظ الحافظ: اسْتَعِينُوا بالرُّكَب عند القيام من السجود لئلا يَشُقُّ عليكم التفريج. والثاني للطَّحَاوِيِّ: أي اسْتَعِينُوا بالرُّكبِ في الركوع بالقبض عليها - على خلاف التطبيق - مخافةَ أن تَسْقُطُوا. والثالث لأبي داود: أي اسْتَعِينُوا بالمرافق في حال السجود خَشْيَةَ أن تَتْبَعُوا ولا يحتمل لفظ أبي داود غير هذا الشرح، بخلاف لفظ الترمذيِّ، فإنه وإن كان على اللفظ الذي عندنا، لكنه يحتمل أن يُرَادَ فيه من الاستعانة: الاستعانةُ عند القيام، كما مرَّ منا تأويله.
قلتُ: وقد تكلَّم عليه الطَّحَاوِيُّ عند بيان التفقُّه فيه بما يَدُلُّ على أنه أدرك سرَّ الصلاة. فقال ما حاصله: إن بُنْيَة الصلاة تُبْنَى على المُرَاوَحة، والتفريق بين الأعضاء، والمجافاة والتفرُّج بينها، وعدم استعانة بعضها من بعض، وعدم اعتماد أحدها على الآخر، فإنه أَمَرَ في القيام بصف القدمين وهو تفريقُهما. وكذلك في السجود بأن يُؤَدِّيه على سبعة آراب، ومآلُه هو التفريقُ بينها، وعدمُ استعانة بعضها ببعض، وهو محطُّ التفريج. فإذا كان الحال في القيام والسجود كذلك، فينبغي أن يكونَ في الركوع أيضًا مثله، فَيُفَرِّقُ بين الأيدي ولا يُطْبِقُ، لأنه أيضًا نوعُ استعانةٍ ولعَمْرِي هو كلامٌ في غاية المتانة.
فإذا كان الأمر كما حرَّره الطَّحَاوِيُّ، فلعلَّهم ما كانوا يَسْتَعِينُون في صلواتهم بالرُّكَب عند الخرور إلى السجود، والرفع منه، فرخَّص لهم في ذلك: أن يَسْتَعِينُوا بالرُّكَب.(3/87)
فالصوابُ عندي أن الحديثَ محمولٌ على الاستعانة بالرُّكَب عند النهوض، وعند الخُرُور إلى السجود، ولا يأباه إلا لفظ التفرُّج عند الترمذيِّ. ويمكن شرحه: أن المراد من التفرُّج في السجود: هو عدم الاعتماد، وعدم الاستعانة عند القيام منه، والذهاب إليه كذلك. مع أنه ليس عند الطَّحَاوِيِّ، وهو الذي رَامَهُ عمر رضي الله عنه من قوله، كما عنده: «أَمِسُّوا» فقد سُنَّت لكم الرُّكب»، فإن لفظَ الإمساس ناظرٌ إلى ما قلنا. وعند الترمذيِّ عنه: إن الرُّكَب سُنَّت لكم، فخذوا بالرُّكَب». ورواه البيهقي بلفظ: «كنا إذا رَكَعْنَا جعلنا أيدينا بين أفخاذنا، فقال عمر: إن من السُّنَّة الأخذ بالرُّكَب».
ولفظ عمر رضي الله عنه هذا، ولفظ المرفوع: «استعينوا بالرُّكَب» بمعنى، فليس هذا الاستعانة في السجود أصلا كما ضرح أبو داود. ثم يُسْتَفَادُ من الحديث أن تلك الاستعانة رُخْصَةٌ، ومعنى الرَّخْصَةِ فيه ظاهرٌ. ولذا كان ابن مسعود رضي الله عنه يُطْبِقُ بين يديه عملا بالعزيمة، ونحوه عن عليّ رضي الله عنه أيضًا. فالطعنُ عليه تَعَسُّفٌ، على أن الأُسْوَةَ عنده صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وكان طَبَّق فيها. وقد عَلِمْنَا من عادات الصحابة رضي الله عنهم: أنه إذا اتفق لهم أمرٌ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمدَاوَمُوا عليه، وذلك غيرُ قليلٍ منهم.
والحاصلُ: أن الطَّحَاوِيَّ أخذ الاستعانةَ بالرُّكَب عند الذهاب إلى الركوع، وأخذها الترمذيُّ عند النهوض من السجود، وأخذتهما عند الذهاب، وعند النهوض كليهما، فإن العُسْرَ فيهما على السواء. وإنما حَمَلَني على ذلك الشرح تفقُّه الطَّحَاويِّ، وترجمة الترمذيِّ على ما نقلها الحافظُ رحمه الله، فهو الشرح للحديث عندي، ولا بحثَ لنا عن ترجمة الترمذيِّ. فليكن على لفظ الحافظ رحمه الله، أو على ما في أيدينا، فلا تُسْرِعْ في الرَّدِّ والقَبُول، فرُبَّ عَجَلَةٍ تُفْضِي إلى عَثْرَةٍ.(3/88)
باب السُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُم
وحاصلُه: أن يَسْجُدَ بحيث يكونُ الساجدُ سبعًا، لا أن يَسْجُدَ هو ويكون السبعُ آلاتٍ له فقط. وفي الخارج: أن الأشعارَ أيضًا تَسْجُدُ، ولذا نهى أن يُصَلِّي مقصوصًا. وفي الآثار: أن الثيابَ تَسْجُدُ أيضًا، فنهى عن كفِّها. فإذا كان حال الثياب والأشعار هذا، فما بال الأعضاء. وادَّعَيْتُ منه: أن اليدين أيضًا تركعان، كما أنهم تَسْجُدَان، وليستا بمُعَطَّلَتَيْن. واختار ابن الهُمَام: أن وضُعَ السبعة واجبٌ. وفي المشهور: وجوب وضع الجبهة وإحدى الرجلين فقط، ووضعُ البواقي سنةٌ.
قلتُ: ولعلَّ للجبهة مَزِيَّةً على سائر الأعضاء، اختصاصًا بحقيقة السجود ما ليس لسائرها، كما يُعْلَمُ ذلك من الأدعية الواردة في السجود، فأمكن أن يكونَ القولُ المشهور كاشفًا لهذا المعنى. وحينئذٍ ينبغي أن يبقى في النظر فقط دون العمل. وبعبارةٍ أخرى: إن القول المشهور ليس لبيان ما ينبغي في العمل، بل لبيان اختصاص الجبهة بحقيقة السجدة.
قوله: (لم يَحْنِ). وقد مرَّ أنه كان حين بَدُن النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وكانوا خِفَافًا، فلو قَارَنُوا معه في الأفعال، ربما أمكن أن يتقدَّمُوا عليه، وقد نُهُوا عنه. فلذا أُمِرُوا بالتعقيب، لأن التعقيبَ سنةٌ وأصلٌ. ولذا قلتُ: إن من صلَّى مع الإِمام، وليس معه غيره، يتأخَّرُ عنه بيسيرٍ، كما هو عن محمد رحمه الله تعالى، لئلا يتقدَّم، فَتَفْسُدُ صلاته.
باب السُّجُودِ عَلَى الأَنْف
وهو روايةٌ عن إمامنا رحمه الله تعالى، ونقل الشاميُّ الرجوعَ عنها، فلا يُجْزِىءُ الاقتصار عليه إلا من عُذْرٍ. قلتُ: ولعلَّ الإِمامَ لم يَرْجِعْ عنه ثم اعلم أن الجبهةَ واحدٌ، والجبين: اثنان، وهما قرنا الرأس.(3/89)
812 - قوله: (وأَشَارَ)، فسمَّى الجبهةَ، وأَشَارَ إلى الأنف. ويجري فيه ما ذَكَرَهُ صاحب «الهداية» في باب المهر: أن التسميةَ إذا تَعَارَضَتْ بالإِشارة، فهل تُعْتَبَرُ بالإِشارة أو بالتَّسْمِيَةِ. ثم حرَّر أن العبرةَ عندنا بالإِشارة، فإنها أبلغ بالتعيين. وحينئذٍ لمَّا كانت الإِشارةُ إلى الأنف، دَلَّت على أن الاقتصارَ عليه كافٍ. واعْتَرَضَ عليه ابن دقيق العيد أن قوله إلى الأنف تعبيرٌ من الراوي، لاتحاد جهة الأنف والجبهة، فكيف تعيَّن كونها إلى الأنف؟ لِمَ لا يجوز أن يكونَ أشار إلى الجبهة، ولمَّا كانت جبهته جهة الأنف، عبَّر عنه الراوي بما ترى؟
812 - قوله: (ولا يَكْفِت الثياب)، دلَّ النهيَّ على سجود الثياب أيضًا، وَسَيُبَوِّبُ المصنِّفُ رحمه الله تعالى بباب عقد الثياب لِمَا يُتَوَهَّمُ من النهي الإطلاق، مع أنه ثَبَتَ إذا خاف الانكشاف، كما في التوشُّح، والمخالفة بين الطرفين والعقد.
باب السُّجُودِ عَلَى الأَنْفِ في الطِّين
قال الفقهاء إذا كان وَحْلا لا يمكن السجود عليه حيث يَدُسُّ الوجهَ فيه، يُؤَخِّرُ الصلاة.
باب عَقْدِ الثِّيَابِ وَشَدِّهَا، وَمَنْ ضَمَّ إِلَيهِ ثَوْبَهُ إِذَا خافَ أَنْ تَنْكَشِفَ عَوْرَتُه
يريدُ أن العقدَ عند خَوْف الانكشاف ليس من الكفِّ الممنوع.
814 - قوله: (فقيل للنساء: لا تَرْفَعْنَ رُؤُوسَكُنَّ... إلخ. دلَّ على أن المعتبر في السَّتْرِ: هو السَّتْرُ في نفسه، فلو تعمَّق أحدٌ في النظر ورآها لم يمنع، ثم هذا كله عند سَعَةِ الثياب. أمَّا في الحديث، فكان لقلّة الثياب إذ ذاك، كما صَرَّح به الراوي عند مسلم.
باب لا يَكُفُّ شَعَرًا(3/90)
وذلك لِما مَرَّ: «أنها تَسْجُدُ أيضًا»، إِلا أن الحديثَ فيه لَمَّا لم يكن على شرطه، أخرج له حديثَ السجود على سبعة أَعْظُم... إلخ، وإنما أراد بذلك التنبيه على سجود تلك الأعضاء، وأنها تَسْجُدُ أيضًا، بمعنى: «إنَّ لها سجودًا برأسه، إِنَّ الإنسَانَ ساجدٌ وتلك آلاتها فقط.
باب لا يَكُفُّ ثَوْبَهُ فِي الصَّلاة
والسَّدْلُ والكفُّ ممنوعان عندنا أيضًا، فالمطلوبُ هو الاعتدالُ في الصلاة. أمَّا تفسيرُ السَّدْل فراجعه من «المغرب» للطبري، فإنه لخصَّ فيه «المعجم» وذكر فيه لغات فقه الحنفية. وأمَّا لُغَاتُ فقه الشافعية، فمذكورةٌ في «التهذيب».
باب التَّسْبِيحِ وَالدُّعاءِ فِي السُّجُود
وجملةُ الأحاديث أن الأدعيةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمثَبَتَ في عِدَّة مواضع: بعد التحريمةِ قبل القراءةِ، وبعد القراءةِ قبل الرُّكُوعِ، وفي الرُّكُوعِ، وفي القَوْمةِ، وفي السَّجْدَةِ، وبين السجدتين، وبعد التشُّهد قبل التسليم. ولو عدَّدنا ما عند الطبراني لازداد موضعٌ آخر، وهو: «أنه قال بعد الفاتحة: آمين ثلاث مراتٍ». وفي لفظٍ: «أنه قال: آمين، ثم قال: اللهم اغفر لي». ثم إذا دَعَا أحدٌ في غير المواضع المشهورة أحيانًا، حسَّنه الشارع أيضًا، ولم يُعَنِّفْهُ عليه. وقد قدَّمنا عن المحقِّق ابن أمير الحاج: أن الأدعيةَ والأذكارَ كلَّها تجوز في الصلوات كلِّها، وفي الفرائض أيضًا بشرط عدم التثقيل على القوم، غير أن المكتوباتِ لما كان مبناها على التخفيف، كما تَدُلَّ عليه قصة مُعَاذ رضي الله عنه وغيرها، لم يَجْرِ العملُ بها عندنا في المكتوباتِ، حتى تَرَكُوا ذكرها في الكُتُب أيضًا، بخلاف النوافل، فإِنَّها على رأيه فإِن شاء طوَّلها أطول من أطول، فوضعوها فيها. وفي «المبسوط» ما يَدُلُّ على عدم جوازها في المكتوبات.(3/91)
817 - قوله: (يتأوَّل القرآن): أي هذه كانت صورة العمل بالاستغفار المأمور به في سورة الفتح. وعن عائشةَ رضي الله عنها: «أنه صلى الله عليه وسلّمجعلها وظيفةً له بعد نزولها، قاعدًا وقائمًا، آيبًا وذاهبًا»، لأنه كان فيها خبرُ وفاته، فكان الإِكثار في آخره. وحينئذٍ لو ادَّعى أحدٌ أن هذا الدعاء ينبغي أن يَقْتَصِرَ عليه صلى الله عليه وسلّمولا يكون سنةٌ في حقِّنا، كان له وجهٌ.
باب المُكْثِ بَينَ السَّجْدَتَين
واعلم أن التَّعْدِيلَ في المواضع الأربعة سنةٌ في تخريج الجُرْجَاني، وعند الكَرْخِي: واجبٌ في الركوع والسجود، وسنةٌ في القَوْمَةِ والجِلْسَة، واختار الشيخُ ابن الهُمَام الوجوبَ في المواضع كلِّها. ثم في كُتُب الحنفية: إنه فرضٌ عند أبي يوسف رحمه الله تعالى، وواجبٌ عندهما. وهذا يَدُلُّ على ثبوت الخلاف بين أئمة الحنفية، ولم يتحقَّق عندي بينهم خلافٌ، لأن الطحَاويَّ لم يَذْكُر فيه خلافًا، بين أئمتنا، مع كونه أعلم بمذهبنا.(3/92)
وفي «البدائع» عن أبي حنيفة لمن تَرَكَهُ: أخشى عليه أن لا تَجُوزَ صلاته، فدَلَّ على عناية الإمام بالتعديل جدًا. فمن نَسَبَ إلينا أن معاشرَ الحنفية لا يُبَالُون به، فقد أتى ببهتانٍ عظيمٍ. والذي ظَهَرَ لي: أن لا خلافَ في المسألة أصلا، فإن التعديلَ بقدر انقطاع الحركة الانتقالية فرضٌ عندنا أيضًا، وهذا هو الذي يعني الشافعية بركنيته، وقدر تسبيحةٍ واجبٌ، وبعد ذلك فهو سنةٌ، وإذن لم يَبْقَ بيننا وبينهم خلافٌ. ثم اعلم أن الأدعيةَ في القَوْمة وردت في «الصحيحين». وأمَّا في الجِلْسَة، فمذكورةٌ في «السنن» مع مناقشته فيها، فدَلَّ على خِفَّة أمرها في الجلْسَة بالنسبة إلى القَوْمة. وهي فريضةٌ عند أحمد في الجِلْسَة، وأقلُّها أن يقولَ: اللهم اغفر لي. قلتُ: وينبغي الاعتناء بها للحنفي أيضًا، لأن الركوعَ والسجودَ لا يأتي فيهما التقصير، لمكان تلك الأذكار الموضوعة فيها، بخلاف القَوْمة والجِلْسَة، فإن التقصيرَ يأتي فيهما كثيرًا. ولذا أقول باعتناء الأذكار فيهما أيضًا.
818 - قوله: (قال أيُّوبُ: كان يَفْعلُ شيئًا لم أَرَهُم يَفْعَلُونَه: كان يَقْعُدُ في الثالثة أو الرابعة) فيه دليلٌ على خُمُول جَلْسَة الاستراحة وقلَّتها جدًا. ومع ذلك ثَبَتَت في الروايات، وصرَّح الحلواني بجوازها، ومن صرَّح منها بالكراهة، فلْيَحْمِلْها على تطويلها على القَدْر المُعْتَاد، وإلا فهو مخالفٌ للحديث.
818 - قوله: (لَمْ أَرَهُمْ)، وفيه دليلٌ على شِدَّة خمول جِلْسَة الاستراحة، فإن القائلَ تابعي لا يَنْقُلُ إلا من عمل الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعين. وهو حُجَّةٌ قاطعةٌ عندي لنفي جِلْسَة الاستراحة، لأن أقوى الحُجَجِ عندي: هو التوارث والتعامُل، لا سِيَّما إذا كان فيما يَكْثُرُ وقوعه، كَجِلْسَة الاستراحة.
باب لا يَفتَرِشُ ذِرَاعَيهِ فِي السُّجُود(3/93)
واعلم أن المطلوبَ عند الشارع أن يكونَ المصلِّي في صلاته على أعدل حالٍ وأحسن هيئةٍ قال تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31) من ههنا حذَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأن يختار أقبح الهيئة في صلاته، كانبساط الكلب، والتفات الثعلب، ونَقْرَة الدِّيك، أو الغُرَاب، وعُقْبَة الشيطان، وبروك الجمل، وتوطين البعير، وتذبيح الحمار.
فمن كان خُلِقَ على أحسن تقويمٍ، لا ينبغي له أن يَحْضُرَ بين يدي خالقه على هيئة الأنعام.
وعند أبي داود وعن ابن عمر: «أن اليدين تَسْجُدَانِ أيضًا». وسجودهما: بأن تكون صاعدةً من الأعلى وخافضةً من الأسفل. وبالافتراش تَنْعَدِمُ تلك الهيئة، فَيَنْعَدِمُ سجودها، وقد مرَّ أن الشرعَ أراد حِفْظَ الصلاة عن الهيئة القبيحة والتشبُّه بالحيوانات، وفي الافتراش ذلك، فإِن الكلبَ يَفْتَرِشُ ويُقْعِي، ولو فعله أحدٌ في التراويح إذا تَعِبَ وَسِعَه ذلك.
باب مَنِ اسْتَوَى قاعِدًا فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاتِهِ، ثُمَّ نَهَض
الآن تَرْجَم المصنِّفُ رحمه الله تعالى على جَلْسَة الاستراحة، وَفَهِمَ منها الحافظُ رحمه الله تعالى: أنه اختارها، وأنها سنةٌ عنده. قلتُ: أمَّا كونها سنةً، فقد عَلِمْتَ حاله ممَّا قاله أيُّوبُ رضي الله عنه آنفًا، نقل عن أحمد رحمه الله تعالى من عدم ثبوتها في الأحاديث إِلا قليلا، ومن اختياره الترك بنفسه، وإن ثَبَت عنه في الآخر، فهو الكِبَر لا للرُّجُوع عنه كما فُهِمَ، وأمَّا كون المصنِّف رحمه الله تعالى اختاره، فلا دليلَ فيه أيضًا، لأنه لم يُفْصِح به، بل وضع لَفظ: «مِنْ إشارةً إلى خِفَّة أمرها، كأنه أشار إلى مُسْكة من اختار الرفعَ، والنظرُ إذا دار في مسألةٍ فَعَلَ فيها المصنِّفُ رحمه الله تعالى كذلك، ولا يتولَّى به بنفسه.(3/94)
وقد مرَّ مِنَّا أن من جَلَس جَلْسة الاستراحة، فلا يَخْلُو إمّا أن يُكبِّرَ للنهوض تكبيرةً أخرى، أو يطوِّلَ تكبيرةَ الرفع من السجود، أو يقطعها. فعلى الأول يَلْزَمُ الزيادة على أعداد التكبير، وعلى الثاني يَلْزَمُ العُسْر، وعلى الثالث يَلْزَمُ خلاف المعهود من التكبير عند كل خفضٍ ورفعٍ. وليس هذا إِلا لِمَا عَلِمْتَ من خُمُولها، فإِن الشيءَ إذا خَمَلَ ونَدَرَ، قلَّ عنه البحثُ، والفحصُ والتأصيلُ، والتفريعُ كما مرَّ آنفًا في قراءة الفاتحة ورفع اليدين.
باب كَيفَ يَعْتَمِدُ عَلَى الأَرْضِ إِذَا قامَ مِنَ الرَّكْعَة
واعلم أن الاعتمادَ على الأرض في القِعْدَة مكروهٌ بلا خلافٍ، وإنما الخلاف في الاعتماد عند النهوض. واختاره الشافعيةُ، وكان ابن عمر رضي الله عنه يفعله. وبوَّب أبو داود: بكراهية الاعتماد على اليد في الصلاة، وأخرج فيه عن ابن عمر حديثًا اخْتُلِفَ في ألفاظه، ولفظ عبد الملك: «نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّمأن يَعْتَمِدَ الرجلُ على يديه إذا نَهَضَ في الصلاة...» إلخ. وهذا عينُ نقيض ما ذَهَبَ إليه الشافعيةُ، إلا أنهم لمَّا اختاروه التزمتُ جوابه، لكن أنكرتُ كونه سنةً - أعني كونه مطلوبًا عند الشرع - فأمرُه عندي أخفُّ من جِلْسَة الاستراحة أيضًا.(3/95)
والذي يَظْهَرُ عندي أن ابن عمر رضي الله عنه كان يَفْعَلُه من اجتهاده، لأنه لم يكن يتسعينُ بالرُّكَب عند الخُرُور إلى السجود والرفع منه. فإِذا رفع رفع كذلك، زعمًا منه أو وضعَهما على الرُّكْبَتَيْن انقطاعٌ لسجودهما، ونقصٌ فيه، فإِنهما إذا ارتفعتا للسجود، فتمامية سجودهما: أن تَذْهَبَا إليه كذلك بدون وقوف في البين، فإِذا لم يضعهما على الرُّكْبَتَيْن عند السجود لذلك، لم يضعهما عند الرفع منه أيضًا، لتبقى شاكلتهما في الصورتين واحدةً. ونحوه قرَّرنا فيما قبل من كلام الطَّحَاوِيِّ رحمه الله تعالى: إن بُنْيَةِ الصلاة تُبْنَى على التفريج، وعدم اعتماد بعض الأعضاء على البعض. فإِذا كان الأمرُ عنده كذلك، فلعلَّه لمَّا كبَّر وثَقُل جهدْ في القيام بدون اعتمادٍ على الرُّكب، فاضْطَرَّ إلى وضعهما على الأرض، وهكذا يكون في الفروع.
فإِن الإِنسانَ إذا اختار جانبًا، ثم تظهر له فروع، يُكَمِّلُها ويُرَتِّبُهَا على الأصل الذي اختاره، وهو معنى الاجتهاد. وعندي فإن الجزئيَّ الواحدَ قد يَصْدُقُ عليه ألف كُلِّيَّات. كذلك الصورةُ الواحدةُ قد تَدْخُلُ في عِدَّة ضوابط، فالنظر في أنها إلى أيِّ الضوابط أقرب لِيَنْسَحِبَ عليها حكمها، هو الاجتهاد، ولا يهتدي إليه غير المجتهد. فصورةُ الاعتماد إنما حَدَثَت من نحو هذا، ولا أراها ثابتةً من السُّنية. والله تعالى أعلم.
824 - قوله: (وكان ذلك الشيخُ يُتِمُّ التكبيرَ): أي يَسْتَوْفي عددها، ويأتي بتمامها، ولا يُنْقِصُ منها شيئًا. وذلك لأنا قد عَلِمْنَا من الخارج: أنه كان وقع فيها حذفٌ من بني أُميَّة.(3/96)
قوله: (واعْتَمَدَ على الأرض). ولا أحفظُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمشيئًا في ذخيرة الحديث إلا قوله: «استعينوا بالرُّكَب»، أو «أمِسُّوا بالرُّكَب»، وبوَّب عليه الترمذيُّ بالاعتماد في السجود، فزاد فيه لفظ السجود من عنده، مع أنه ليس في نسخة الحافظ. وعنده ما يَدُلُّ على أن الترمذيَّ حمل الاستعانةَ على الاستعانة عند الرفع. وقد مرَّ الكلامُ فيه مبسوطًا عن قريبٍ.
باب يُكَبِّرُ وَهُوَ يَنْهَضُ مِنَ السَّجْدَتَين
وقد مرَّ أن السُّنة: أن يجعلَ الانتقالَ مَعْمُورًا بالذكر. واختصر المصنِّفُ رحمه الله تعالى حديث أبي سعيد في إمامته، وهو عند النَّسائي مُفَصلا. وإنما تَقَرَّضَ فيه الراوي إلى جهره بالتكبير، لِمَا عَلِمْتَ من حذف بني أُمَيَّة بعدها. أمَّا المصنِّفُ، فلعلَّه يريد به التعريض إلى حيث يُنْكِرُون بالتكبير عند النهوض من القِعْدَة. وقالوا به عند المالكية عند بلوغه في القيام، لتكونَ شاكلتُها وشاكلةُ الركعة الأولى واحدةً.
قلتُ: وإن حصل به التناسُب، لكن الأمرَ في مثله على النقل عن السلف، لا على التناسُب فقط.
826 - قوله: (لقد ذَكَّرني): فيه تعريضٌ إلى عثمان رضي الله عنه.
باب سُنَّةِ الجُلُوسِ فِي التَّشَهُّد
والمسألةُ رباعيةٌ: فعندنا: الافتراش فيها. وعند مالك رحمه الله تعالى: التَّوَرُّك فيها. وعند الشافعية: الافتراشُ في الأولى والتَّوَرُّك في الثانية، وفي الثنائية التَّوَرُّك فقط. وعند أحمد رحمه الله تعالى: كلُّ تشهُّدٍ بعده سلام، فقيه تَوَرُّك، وإلا فافتراش. والصواب ما ذكره ابن جرير في «اختلاف الفقهاء»: أن الصُّوَرَ كلَّها ثابتةٌ، فالترجيحُ في الاختيار. وراجع أدلتنا من الطَّحَاوِيِّ، و«الجوهر النقي». والمصنِّفُ رحمه الله تعالى ذَهَبَ مذهب الشافعية.(3/97)
قوله: (جِلْسَة الرَّجُلِ) وعندنا فرقٌ بين جِلْسَة الرجل والمرأة، فإِنها تَتَوَرَّكُ لكونه أستر لها، ولنا في ذلك مرسلٌ في «مراسيل أبي داود». وممَّا يَدُلُّك على الفرق بين الهيئة في صلاتهما: ما قال أحمدُ رحمه الله تعالى: إنها لا تَرْفَعُ يديها عند الركوع والسجود، فليتنبَّه. ثم اعلم أن الافتراشَ والتَّوَرُّكَ في اللغة قريبٌ من السواء، فإن في التَّوَرُّك افتراشًا، وفي الافتراش جلوسًا على الوِرْك أيضًا، فلا فصلَ في هذين اللفظين، فإِنهما صالحان للنظرين، إِلا أن الراوي إذا قابل بينهما، دَلَّ على أنه قَصَدَ الفرق بينهما.
827 - قوله: (يَتَرَبَّعُ)، وكنا نَحْمِلُهُ على التَّربُّع المشهور، ثم عَلِمْنا من كُتُب غريب الحديث: أن التَّربُّعَ يُطْلَقُ على جلوس المتشِّهد أيضًا، كتورُّك الشافعية. ونقله الحافظ رحمه الله تعالى، وغرضُه منه أن يَجْعَلَ فِعْلَ ابن عمر رضي الله عنه مُؤيِّدًا لمذهبه.
827 - قوله: (إنما سُنَّةُ الصلاة تَنْصِبَ رِجْلَكَ الْيُمْنَى)، وهذا صريحٌ في مذهب الحنفية رحمهم الله تعالى. وادَّعَى الحافظُ رحمه الله تعالى أنه صادقٌ على مذهبه أيضًا، فإِن نَصْبَ اليُمْنَى يُسْتَحَبُّ في التورُّك عندهم أيضًا. وأقول: ويقضي العجب من الحافظ كيف حَمَلَهُ على مذهبه، مع التصريح عند النَّسائي بافتراش الرجل اليُسْرَى، والجلوس عليها، فكيف سَاغَ له حَمْلُهُ على مذهبه؟ بَقِيَ أن ما ذكره ابن عمر رحمه الله من سنة الافتراش، هل هي في قِعْدَة الأولى أو الثانية؟ فقال الحافظُ رحمه الله تعالى: إنها في الأولى.(3/98)
قلتُ: بل هي في الأخيرة، لِمَا أخرجه مالك رحمه الله تعالى عن عبدِ الله بنِ دِينَار: «أنه سَمِعَ عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وصلَّى إلى جَنْبِهِ رجلٌ، فلمَّا جَلَسَ الرجلُ في أَرْبَعٍ تربَّع، وثَنَى رِجْلَيْهِ، فلمَّا انصرف عبدُ الله، عاب ذلك عليه. فقال الرجل: فإِنك تَفْعَلُ ذلك فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إني أَشْتَكِي». وهذا صريحٌ في أن الإِصلاح وَقَعَ في القِعْدَةِ الأخيرةِ، دون الأولى، كما قاله الحافظُ.
827 - قوله: (إن رِجْلَيَّ لا تَحْمِلاني). وتمسَّك منه الطحاويُّ أنه يَدُلُّ على أن الرِجْلَيْنِ ممَّا يُسْتَعْمَلانِ في القِعْدَة، وهذا أصدقُ على مذهبنا للجلوس فيه على اليُسْرَى، ونَصْبِ اليُمْنَى بخلاف في التَّوَرُّك، فإِن اليُسْرَى أو اليُمْنَى لا تُسْتَعْمَلانِ فيه، بل هُمَا مهملتان. فلو كانت رِجْلاه تَحْمِلانِهِ لاستعملهما في قِعْدَته، وهو بالافتراش.
828 - قوله: (فَقَالَ أَبو حُمَيْدٍ...) إلخ، وفي حديثه عند الترمذيِّ: رفع اليدين أيضًا وحَكَم عليه الطَّحَاوِيُّ رحمه الله تعالى بالانقطاع، وعلَّله ابن القطَّان المغربي، وابن دقيق العيد أيضًا. قال الطَّحَاوِيُّ رحمه الله تعالى: محمد بن عمرو بن عَطَاء لم يُدْرِك صلاة أبي حُمَيْدٍ، وإنما يرويها عن رجلٍ، كما ذكره عَطَّاف بن خالد، والرجلُ الآخر هو: عباس بن سَهْل. وراجع له رسالتي «نيل الفرقدين»، فقد بَسَطْتُ فيها الكلامَ.
باب مَنْ لَمْ يَرَ التَّشَهُّدَ الأَوَّلَ وَاجِبًا لأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلّميَامَ مِنَ الرَّكْعَتَينِ وَلَمْ يَرْجِع
باب التَّشَهُّدِ فِي الأُولَى(3/99)
ولمَّا لم تَكُنْ مرتبةُ الواجب عند المصنِّف رحمه الله تعالى، فالمراد منه عنده الفرضُ، أي من لم يَرَ التشهُّد فرضًا. وذلك لأنه رأى أن تركه يَنْجَبِرُ بالسجود، ولو كان فرضًا لَبَطَلَتِ الصلاةُ أصلا، وذاك بعينه دليلُ الوجوب عند الحنفية رحمهم الله تعالى. فإِنهم قالوا: إن تَرْكَهُ إذا انْجَبَرَ بالسجدة، عُلِمَ أنه ليس بفرضٍ، كما قاله البخاريُّ. وإذا احتاج إلى جابرٍ، عَلِمْنَا أنه مهمٌ، وليس كالسُّنة التي لا يَجِبُ بتركها شيءٌ فإذا هو بين بين، وهو الذي نعني بالوجوب.
ولما لم تكن تلك المرتبة عند الآخرين، تُوجَدُ في كُتُبِهِم مسائلَ عجيبةً. ففي كُتُب الحنابلة: أن الفرضَ على ضربين: الأول ما يكون فرضًا، وشرطًا لصحة الصلاة مثلا. والثاني ما لا يكون شرطًا لها. قلتُ: والثاني هو بعينه الواجب عندنا. وكذا في كُتُب المالكية: أن الوجوبَ على نوعين: وجوبُ سُنَّةٍ، ووجوبُ افتراضٍ. وقد اضْطَرَّ الشافعيةُ إلى القول بالواجب في باب الحَجِّ، لأنهم رأوا هناك جِنَايات، ثم تلا فيها بالأجزئية، فقالوا بوجوبها.
فائدة
واعلم أن الشيءَ الواجبَ، وواجبَ الشيءِ أمران. والثاني قليلٌ، فإِنه في الصلاة والحجِّ. وهو ما يُوجِبُ تركه النقصان، بخلاف الأوَّل. والفرقُ بينهما: أن الشيءَ الواجبَ يُطْلَقُ على مجموع ما يتركَّبُ من أجزاء: بعضُها أركانٌ، وبعضُها واجباتٌ ومستحباتٌ، كالوتر والأُضْحِيَة وصدقة الفطر مثلا. فإِنه واجبٌ عندنا، مع أنه يشتمل على الأركان وغيرها أيضًا. بخلاف الثاني، فإنه يُطْلَقُ على جزءٍ خاصَ منه دون المركَّب كالتعديل، أو الفاتحة، وضَمِّ السورة في الأُوَلَيْنِ، فأُسمِّيها واجبَ الشيءِ دون الشيء الواجب، وهذا الإِصطلاح أخذته من كلام صاحب «الهداية».(3/100)
ثم لمَّا رَأَى الحنفيةُ في الصلاة والحجِّ أمورًا يُورِثُ تركها نقيصة، ولا يُوجِبُ فسادًا، سمُّوها باسمٍ مستقلٍ، وهو الواجبُ، أي واجبُ الشيء. وكان أولا في هاتين العبادتين فقط، ثم اسْتُعْمِلَ لفظ الواجب في مواضع أخرى أيضًا. وفي الحديث لطيفةٌ، فعند أبي داود: «ومنا المتشهِّد في قيامه» (يعني همين تشهد قيام بين بر هنا برا). وهذا يَدُلُّ على أنه لم تكن في أذهانهم الفاتحة، وإنما كانوا يَفْعَلُون أمورًا في اجتهادهم، فإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّميَعْلَمُها ربَّما يُقِرُّهم عليها، وطالما يَنْهَى عنها.
باب التَّشَهُّدِ فِي الآخِرَة
لم يُتَرْجِمْ بالآخرة فَرْقًا بين الأولى والآخرة، بل لأجل كون الحديث في الأخيرة.
831 - قوله: (قُلْنَا السَّلامُ...) إلخ. ولعلَّه كان عندهم في السلام تعليمٌ إجماليٌّ، ولم يُفَصَّل لهم بَعْدُ. ثم إن السُّهَيْلِي ذكر فَرْقًا بين السالم والسلام، فقال: إن السالَم من سَلِمَ من العيوب، والسلامَ من سلَّم غيره من العيوب. وعامَّتُهم يُفَسِّرُون السلام بمن سَلِمَ من العيوب، مع أنه يُطْلَقُ في هذا المعنى السليم، دون السلام. والصواب: ما ذكره السُّهَيْلي.
831 - قوله: (على جِبْرِيلَ) والجبر القوة، وإيل هو الله، فمعناه العبد القوي لله تعالى، وكذلك: مِيخَا بمعنى الصديق والحميم، وإسْرَاف بمعنى المصطفى، وعزرا بمعنى الناصر.
831 - قوله: (التَّحِيَّات...) إلخ. قيل: التحيَّةُ في اللغة بمعنى دعاء الحياة، ثم انْسَلَخَ عنه، وأُطْلِقَ في الدعاء مطلقًا. والمراد بها الآن: العباداتُ القوليةُ، ومن الصلوات: العبادات الفعليَّة، ومن الطِّيِّبَات: العبادات المالية. ثم كان هذا تحيَّةٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلّملربه في ليلة المِعْرَاج. فردَّ عليه ربُّه: السلامَ عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته.(3/101)
831 - قوله: (السلام علينا) إلخ: تكميلٌ من جانب النبيِّ الكريم عليه الصلاة والتسليم. وعند البيهقيِّ ومالك في «موطئه»: أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه كان يراه تحليلا للصلاة، ولذا كان يأتي بتلك الجملة في آخرها. وعند الجمهور: المُحَلِّل هو: السُّلامُ عليكم ورحمة الله، دون السلام الذي في التشهُّد. وتمسَّك منه الشاه إسماعيل رحمه الله تعالى في «الإيضاح» على أن الجمعَ المُعَرَّفَ باللام يُفِيدُ الاستغراق.
قلت: وهو عندي في باب الأدعية، والنذر، والأيمان مسلَّمٌ، لأن مبناها على الألفاظ فقط. أمَّا في غيرها، فلا أُسَلِّم فيها قطعية العموم.
باب الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلام
والأدعيةُ على أنواعٍ: منها ما ثَبَتَتْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فهي جائزةٌ كلُّها، كما صرَّح به في «البحر». وأمَّا التي كانت من تأليفه، ففيها تفصيلٌ من كونها تُشْبهُ كلام الناس، أو لا. وراجع تفصيله من الفقه. ثم إني أتعجَّبُ من المصنِّف أنه كيف تَرَكَ الصلاةَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولم يُبَوِّبْ عليها، وبَلَغَ إلى الأدعية مع كون حديثها عنده في الأدعية، وهي سنةٌ عند الجمهور. وقال الطحاويُّ رحمه الله تعالى: تفرَّد الشافعيُّ رحمه الله تعالى في القول بافتراضها. فإِن قلتَ: إنه أشار به إلى خلاف الشافعيِّ رحمه الله تعالى، فإنها لا تَنْزِلُ عن السُّنية عند أحدٍ، فلا يُنَاسِبُ ترك ذكرها رأسًا. وبالجملة لم يتبيَّن لي وَجْهُهُ إلى الآن، ولعل الله يُحْدِثُ بعد ذلك أمرًا.
832 - قوله: (يَدْعُو في الصَّلاةِ): أي في مواضع الأدعية المأثورة.(3/102)
832 - قوله: (من فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ)، ولم يكن يتبيَّن لي في التعوُّذ منها وجهٌ، فإنها في الحياة، حتى رأيت في «البدور السافرة» رواية: «أن من كان في قلبه بغضٌ من عثمان رضي الله تعالى عنه، فإنه لا يَأْمَنُ في قبره من فتنة الدَّجَّال»، فتبيَّن أن أثر تلك الفتنة تَسْرِي إلى القبور أيضًا، وحينئذٍ تبيَّن لي وَجْهُهُ ومن ههنا ظهر وَجْهُ القِرَان بين التعوُّذ من عذاب القبر، والتعوُّذ من تلك الفتنة. والمراد من فتنة المحيا: المعاصي، ومن الممات: سؤال النَّكِيرَيْن.
باب مَا يُتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، وَلَيسَ بِوَاجِب
ويختارُ منها ما يكون أوفق لحاجته، والأحبُّ أن يختارَ الجوامع من الأدعية.
835 - قوله: (السَّلامُ عليك أَيُّهَا النَّبِيُّ). واعلم أن النِّدَاءَ والخِطَابَ لاستحضار المنادي في ذهنه، سواء كان حاضرًا في الخارج، أو لا. ولذا غَايَرَ ابن الحاجب بين النداء والنُّدْبَة، وعرَّفها على حِدَةٍ.
باب مَنْ لَمْ يَمْسَحْ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ حَتَّى صَلَّى
هكذا عند الحنفية، ويَمْسَحُمُهَا بعد الفراغ من الصلاة.
باب التَّسْلِيم(3/103)
وهي عند الجمهور: تسليمتان، والمختارُ عندنا: أنهما واجبتان. وفي «فتح القدير»: أن الأولى واجبةٌ، والثانية سنةٌ في روايةٍ. وعند مالك رحمه الله تعالى: هي تسليمةٌ فقط، ويَشْهَدُ له حديثان: أحدهما عند أبي داود، في باب الوتر، والثاني عند النَّسائي، في باب الجمع بين الصلاتين. فإِذا نُقِلَ العمل بهما في الخارج، وصَحَّ فيها الحديثان، فكأنها دخلت عندي في فهرس أحكام الدين، ولا يَصِحُّ إنكارها. ولذا اخترتُ الروايةَ الغير المشهورة. ثم عند مالك رحمه الله تعالى: هي تسليمةٌ واحدةٌ للمنفرد، وتسليمتان للإِمام والمقتدي إن كان خلف الإِمام، أي لم يكن في جانب المَيْمَنَةِ والمَيْسَرةِ. فله ثلاثُ تسليماتٍ: تسليمتان لمن عن يمينه ويَسَاره، وتسليمةٌ لإِمامه. فكأنه جَعَلَ سلامَ التحليل كسلام التحية، وراعى فيه ما يُرَاعَى من المصالح عند اللقاء.
باب يُسَلِّم حِينَ يُسَلِّمُ الإِمَام
يُشِيرُ إلى المقارنة، كما هو مذهب الحنفية دون التعقيب.
باب مَنْ لَمْ يَرَ رَدَّ السَّلامِ عَلَى الإِمَامِ، وَاكْتَفَى بِتَسْلِيمِ الصَّلاة
فيه تعريضٌ إلى مالك رحمه الله تعالى، فإنه يقول بردِّ السلام على الإِمام أيضًا، كما عَلِمْتَ آنفًا. وعند الجمهور: سلامُ الإمام في النية فقط، فإن كان في جهته يَنْوِيه فيها، وإِلا ففيهما. وراجع الفقه.
باب الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاة(3/104)
بوَّبَ الآن على الأذكار بعد الصلاة، كما كان بوَّب أولا على الأدعية في خلال الصلاة. واعلم أن الأدعيةَ على نحوين: نحو ثَبَتَ دُبُر الصلوات قُبَيْل السُّنة، ونحو آخر ثَبَتَ في الأوقات المُنْتَشِرَة. والمصنِّفُ رحمه الله تعالى بصدد بيان النحو الأول. وصورةُ العمل بها: أن يأتي بها بدلا، ومن أراد الجمعَ، فقد خَالَف السُّنة. ومع هذا، لو فعله أحدٌ لا يَمْنَعُ لِمَا مرَّ أن العبادات ممَّا يتعسَّرُ عنها، فكيف بالذكر فإنه أفضلها. ولذا لا يتقيَّدُ بوقتٍ دون وقتٍ، بخلاف سائر العبادات، فإن لها وقتًا.
فيقول تارةً: «اللهم أنت السلام...» إلخ، كما عند الترمذيِّ. وتارةً: «اللهم أعنِّي على ذكرك...» إلخ، كما عند أبي داود. وأخرى كلمة التوحيد، كما عند البخاري. وهذا هو مَرَضِيُّ الشارع: أن يُؤْتَى بها حينًا كذا، وحينًا كذا لا أن يَجْمَعَ بينها. ولذا أقول: إن السُّنة في جواب الحَيْعَلَة: أمَّا الحَيْعَلة، أو الحَوْقَلة، دون الجمع. وقد مرَّ مِنَّا التنبيه عليه في باب الأذان. نعم الأدعية التي وردت في الأوقات المنتشرة، الأمر فيها إليكَ، أتيتَ بها كيف شِئْتَ. ثم إن هذا الموضوع قد صار مُفْرَزًا بالتصنيف، فصنَّف النوويُّ رحمه الله تعالى كتاب «الأذكار»، وابن السُّنِّي «عمل اليوم والليلة»، «والأمالي للحافظ بن حَجَر رحمه الله تعالى. فإنه عَقَد أربعةً وثمانين مَجْلِسًا لإملائه بمصر، ثم انْدَرَسَتْ تلك المجالس بعده حتى جاء السيوطي رحمه الله تعالى، وشرع الإملاء، ثم انْقَطَعَتْ بعده بالكليِّة.d
وكذا صنَّف الجَزَرِي فيها «الحصن الحصين».
رفع الصوت بالذكر(3/105)
841 - قوله: «إن ابن عبَّاسٍ أَخْبَرَه: أنَّ رفع الصوت بالذِّكْرِ حين يَنْصَرِفُ الناسُ من المكتوبة، كان على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه: كُنْتُ أَعْلَمُ إِذا انْصَرَفُوا بذلك إذا سَمِعْتُهُ». ا ه. وفي الحديث الثاني، عن ابن عباس رضي الله عنه: (كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّمبالتنكير). تَمسَّك بظاهره ابن حَزْم، وذَهَبَ إلى سُنِّيَة الجهر بالتكبير دُبُر الصلوات، وأنكرها الجمهور. واخْتُلِفَ في توجيهه: فقيل: إن المراد بالتكبير تكبيرات الانتقالات في خلال الصلوات، أي كنتُ أَعْرِفُ انقضاءَ الصلاة بانقطاع تلك التكبيرات. وقيل: المراد به تسبيح فاطمة رضي الله عنها، أي إذا كان الناس يُسَبِّحُون بها، كنتُ أعرفُ أنها قد انْقَضَتْ. وقيل: المراد به: القول بالله أكبر، وكان الأمراءُ يفعلونه في الجيوش أَوَانَ الحرب.
والذي تبيَّن لي في بيان مراده: أن هذا الحديث والحديث الأول متحدٌ سندًا ومتنًا، فالمراد من التكبير: هو الذكر مطلقًا، كما في الحديث الأول، لا خصوصَ التكبير، كما سيقت إليه الأذهان. وهذا موضعٌ مُشْكِلٌ، فإنك إن رَاعَيْتَ لفظ التكبير، دَلَّ على سُنيته لا مَحَالة. وإن رَاعيت لفظ الذكر، فهو يُنَاقِضُهَا. ويُشْكِلُ في مثل هذه المواضع تعيين اللفظ على مثل البخاريِّ أيضًا، وهذا الذي عَرَاه في حديث: «إذا أمَّنَ الإِمَامُ...» إلخ. ففي لفظٍ: «إذا أمَّنَ القارىءُ»، وفي لفظ: «إذا قال الإمامُ: غير المغضوب عليهم...» إلخ. ولمَّا لم يَنْفَصِلْ عنده شيءٌ، بَوَّبَ على كلَ ما ناسب له. فينبغي الغَوْر عند تغايرُ اللَّفْظَيْنِ من حديثٍ: إنهما متبادلان، أو متصادقان، أو مجامعان لتبيين صورة العمل. وقد ظَهَرَ لي: أن اللفظَ في الحديث: هو الذكر، وقَصْرُه على التكبير مسامحةٌ للراوي.(3/106)
ثم إن الشافعيَّ رحمه الله تعالى حَمَلَ الجهرَ بالتكبير على التعليم، وبمثله قال صاحب «الهداية» في التسمية، والبِرْكِلي، والجُرْجَاني في التأمين. فالأصلُ في جملة الأذكار هو الإخفاء. نعم وَرَدَ الجهر بها أحيانًا، لفائدة وداعية، ولا تَثْبُتُ به السُّنية، وإنما تَثْبُتُ أن أكثر عمله صلى الله عليه وسلّمكان بالجهر. وقد ثَبَتَ عندي جَهْرُ الأذكار والأدعية كلِّها تقريبًا غير التشُّهد والتسبيحات، حتى جهر الآية في السِّرِّية أيضًا، فدَلَّ على أن معاملة الجهر والإخفاء هيِّنٌ عند الشرع، لا أن الجَاهِرَ بالتأمين مُتَّبِعٌ للسُّنة، والمُسِرَّ بهِ مُخَالِفٌ لها، وإنما بَالَغ فيه المبالعون فقط.
ثم إن تسبيحَ فاطمة رضي الله تعالى عنها علَّمها إياه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعند النوم، لا دُبُرَ الصلوات. وإنما سُمِّيَت بتسبيح فاطمة رضي الله تعالى عنها، لكونها على الصِّفة التي علَّمها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعَقِيب الصلوات أيضًا. وقد وَرَدَتْ فيها ثلاث صفاتٍ: تقسيم المئة على التسبيح، والتحميد، والتكبير ثلاثًا، مع زيادة التكبير لواحدة تكملةً للمئة. وكذلك مع زيادة كلمة التوحيد تكلمة للمئة. والثالث: ما رآه رجلٌ في النون من تقسيمها أرباعًا، والرابع: لا إله إلا الله.
وما عند مسلم من الصفة الرابعة، فهي وَهْمٌ نشأ من تقسيم ثلاث وثلاثين على الثلاث، ولَيْسَتْ صفةً مستقلةً. فتلك مئة على جميع الصفات، وكلُّها عندي على سبيل التبادل، فحينًا كذا، وحينًا كذا. والأحسنُ فيها ما عليه اليوم عمل الأمة، وهو ترتيبٌ حسنٌ عندي. ولو خَالَفَ الترتيبَ، لا بأس لِمَا في الحديث: «بأيهن بدأت أجزأ عنك». ولو جمع بينها لا يكون آثمًا، كما لا يكون سنةً، فإنها خيرٌ محضٌ. والأذكار إذا أتى بها في غير محلِّها في الصلوات، لم يَمْنَعْ عنها الشارع، بل ربما أَثْنَى على صاحبها، فكيف بما كانت خارج الصلاة.(3/107)
وإليه تَرْجِعُ مسألةَ الفاتحة عندي، فإن أحدًا إذا قرأها بدون عهدٍ منه، ولا سابقيَّة أمرٍ وعنايةٍ، لم يَمْنَعْ عنها صراحةً لكونها من القرآن، وأباحها إباحةً مرجوحةً، وتحمَّلها لكونها قرآنًا وخيرًا محضًا.
843 - قوله: (ذَهَبَ أهلُ الدُّثُور): أي المال الكثير، وأصله في المال الذي يكون بعضه فوق بعض. (يعني وه مال ته به ته هو).
843 - قوله: (أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُم). وقد مرَّ الكلامُ في لفظ الإدراك، ماذا حقيقته؟ وأن حديث: «من أَدْرَكَ...» إلخ وَرَدَ في المسبوق، ولم يَرِدْ في مسألة المواقيت. وأن الإدراك فيه كالإدراك ههنا. سَبَقَهُم ناسٌ، فأدركوهم بعدهم. وليس هذا في الأوقات أصلا، بحيث جلس يَرْقُبُ الشمسَ حتى إذا لم يَبْقَ إِلا قدر ركعةٍ، قام ودَخَلَ في الصلاة، وعُدَّ بذلك مُدْرِكًا لها. كيف، وبناءُ الكلام على مثل هذا الرجل بعيدٌ من الشارع، فمن أخلَّ فيه، المتعمِّدُ فقد خَالَفَ الحديثَ. والشافعيةُ أدخلوا تحته النائم، والناسي. والتحقيقُ فيه مرَّ سابقًا.
844 - قوله: (وعن الحَكَم، عن القاسم بن مُخَيْمِرَة). القاسم هذا من تلامذة عَلْقَمَة من أهل الكوفة.
باب يَسْتَقْبِلُ الإِمَامُ النَّاسَ إِذَا سَلَّم(3/108)
اعلم أن الإمامَ إن أراد الانصرافَ إلى بيته، سلَّم وانْصَرَفَ. وإن أراد القعودَ، فالسُّنة له أن يَسْتَقْبِلَ القومَ، وبه جَزَمَ المصنِّفُ رحمه الله تعالى، وصرَّح به الجُوْزَجَاني في «مبسوطه». وأمَّا التيامُنُ أو التياسُرُ المعمولُ بهما في زماننا، فليسا من السُّنة في شيءٍ، وإنما هما عند إرادة الانصراف إلى البيت، لا عند الجلوس بعد الصلاة. فعن عليّ عند الترمذي أنه قال: «إن كانت حاجتُه عن يمينه أخذ عن يمينه، وإن كانت حاجتُه عن يَسَارِهِ أخذ عن يساره»، فهما عند الانصراف لحاجته. وما عن البَرَاء بن عَازِب عند أبي داود: «من حبِّهم بكونهم في مَيْمَنَة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فهو لأن يقع بصرُه عليهم عند التسليم أولا، لا عند الجلوس بعد الصلاة دائمًا». وغَلِطَ فيه الناسُ من عبارات بعض المتأخِّرين، مع أنهم أرادوا بيان الجواز الفِقْهِي، فحملوه على بيان السنة. فإن كنتَ تريد السُّنة، فالسَّنةُ في الاستقبال. وإن كنتَ تريد الجواز، فافعل ما شِئْتَ.
846 - قوله: (صَلاةَ الصُّبْحِ)، هي واقعةُ صُلْح الحُدَيْبِيَة في السنة السادسة، حين رَجَعَ بعد ذبح دم الإحصار.
846 - قوله: (نَوْء) وقد ذُكِرَ في «غياث اللغات» تحت لفظ التاريخ، فراجع تحقيقها منه. ثم اعلم أنه قد مرَّ مني في أوائل الكتاب: أنه لا تأثير للنجوم في الكون أصلا إلا في الحرارة والبرودة، فهي من الآثار الطبيعية. أمَّا السعادةُ والنُّجُوسةُ، فلا تأثير لها فيها، ولا يقتضيها العقلُ، ولا تَشْهَدُ بها التجربة. ثم لو سلَّمنا أن للنجوم تأثيرًا في المطر، فهو كحال المواسم. ومما ينبغي أن يُعْلَمَ أنه ذهب الشيخ الأشعريُّ أن لا خَوَاصَ في الأشياء، فمن قال: إن النارَ مُحْرِقةٌ، بمعنى كون الإحراق فيها، فهو كافرٌ. كذا نقله الأَلُوسي في «روح المعاني». ونسب إلى المَاتُرِيدِيَّة: أن في الأشياء خواص، إلا أنها بإذن الله تعالى.(3/109)
قلتُ: ولا يَكْفُرُ بمجرد هذا القول، ولكن يُنْظَرُ إلى حال نيته، فإن عدَّها من الأسباب العادية، فلا كفر، وإن ادَّعى لها الإِحراق لذاتها، كفر. والمؤاخذةُ اللفظيةُ لم تَرِد في الشريعة في باب الكفر. فإن الألفاظَ المُوهِمَة قد وردت في القرآن والحديث أيضًا، فالفصلُ بالنية لا غير. وأصلُ هذا الاختلاف في سلسلة العِلَّل. فقيل: إن المُؤَثِّرة منها هي القريبةُ والبواقي شرائط. وقيل: المُؤَثِّرة هي الأولى. وقيل: المُؤَثِّرُ المجموع. وقال بحر العلوم في «شرح المَثْنَوي». إن المُؤَثِّرة عند أهل السُّنة والجماعة هي الأولى فقط، وعند المُعْتَزِلة هي القريبة، والفلاسفةُ على قولين: قيل: المجموع، وقيل: الأولى.
أقول بل المُؤَثِّر عندهم هو مجموع السلسلة، فإذا تحقَّقت تلك السلسلة بأسرها، أَوْجَبَتْ تحقُّق المعلول، وهو الإيجاب. وليست الأولى فقط مُؤَثِّرة عندهم. فإذا كانت المُؤَثِّرة عند أهل السُّنة والجماعة هي الأولى فقط، فالمُؤَثِّرُ في الأكوان كلِّها هو الله سبحانه، والبواقي شرائط، كما قال به المَاتُرِيدِيَّة. ونِعْمَ ما قالوا، فإن كان الشيخُ الأشعريُّ قال بما نقله الأَلُوسي رحمه الله تعالى، فظاهرُه فاسدٌ.
ثم إنهم تكلَّموا في مسألة توحيد الأفعال، فقيل: إن اللَّهَ سبحانه خالقٌ، والعبدَ كاسبٌ. وقال الدَّوَّاني في شرح «العقائد الجلالي»: إنه من مجموع القدرتين، وهو باطلٌ عندي. فإنه لا تقوُّم لقدرة العبد بدون قدرة الحقِّ جَلَّ مجده، فمن أين يَحْصُلُ المجموع. فإنه يستدعي جزءين مستقلَّين برأسهما ليَحْصُلَ بهما الثالث، وههنا لا حقيقةَ لقدرة العبد، ولا تقوُّم لها إلا بقدرة الله تعالى.(3/110)
قلتُ: ولا نظيرَ في الكون لنسبة فعل العبد إليه تعالى، فإن هذا الربط قد أحاط بالمخلوقات بأسرها، فمن أين يجيء النظير. وقيل: إن أصلَ الفعل من الخالق، ووصفَه من العبد. وبالجملة أُبْهِمَت عليهم تلك المسألة، وقد تعرَّضْتُ إليه في الرسالة، أي «ضرب الخاتم ومرقاة الطارم» شيئًا.
باب مُكْثِ الإِمَامِ فِي مُصَلاهُ بَعْدَ السَّلام
واعلم أن السُّنة الأكثرية بعد الصلوات: الانصراف إلى البيوت بدون مَكْثٍ إلا بقدر خروج النساء. وكان في الأذكار والأدعية كلٌّ أميرَ نفسه، ولم تَثْبُت شاكلة الجماعة فيها، كما هو المعروف الآن، إلا في نزرٍ من المواضع، وقد مرَّ الكلامُ فيها. وكنا نظنُّ أن المصنِّفَ رحمه الله تعالى يُرِيدُ بيان جواز هذه الشاكلة، إلا أنه نَقَلَ أثر ابن عمر، فتبيَّن منه أنه دخل في مسألةٍ أخرى، وهي: جواز النافلة في مكان الفريضة. واستحبَّ الحنفيةُ أن يتحوَّلَ عن ذلك المكان، فيتقدَّمُ أو يتأخَّرُ، ولهم في ذلك مادةٌ كبيرةٌ. فعند مسلم، عن معاوية، وفيه: «فإِن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأمرنا أن لا نوصل صلاةً بصلاةٍ حتى نتكلَّمَ أو نَخْرُجَ». وعن أنس رضي الله عنه عنده في خطبة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «أيُّها الناس إني إمامكم، فلا تَسْبِقُوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيامِ، ولا بالانصراف». ا ه.(3/111)
والمراد من الانصراف عندي: هو انصرافُه عن القِبْلَة بعد السلام، ولا شكَّ أن انصرافَ المأمومين بعد انصراف إمامهم لا يَخْلُو عن استحبابٍ، وإن كان جائزًا قبله أيضًا. ويمكن أن يُرَادَ من للانصراف: التسليم، أي انصرافه عن الصلاة. فالسُّنة هو أن يَفْصِلَ بين الفريضة والنافلة إمَّا بالمكان، أو بالكلام، كمامرَّ منا تحقيقه. وبه صرَّح صاحب الهداية، إلا أن الناس يَمْكُثُون في زماننا بعد الفرائض، ويُصَلُّون السُّنن في ذلك المكان بعينه. وينبغي أن لا يُحَرَّض الآن على أداء السُّنن في البيوت، لظهور التَّوَاني في أمور الدين، فإِنهم إِن يَرْجِعُوا إلى بيوتهم بدون أداء السُّنن في المساجد، ربَّما يَتَكَاسَلُون في أدائها، فيتركونها رأسًا. وراجع ما عند أبي داود، عن ابن عمر رضي الله عنه.
848 - قوله: (وقال لنا آدمُ) ولعلَّه تأوَّل فيه، لأنه أخذه مذاكرةً.
848 - قوله: (ويُذْكَرُ عن أبي هُرَيْرَةَ رَفَعَه: لا يتطوَّع الإمامُ في مكانه»، ولم يَصِحَّ). وهو عند أبي داود، ولا بأسَ إذ صحَّ عند مسلم من طريقٍ آخر. فعدنا يُصَلِّي التطوُّعَ في غير مكان الفريضة، وذلك آَكَدٌ في حقِّ الإِمام.
849 - قوله: «هِنْد الفِرَاسِيَّة» وقد أَطَالَ الحافظُ رحمه الله تعالى الكلامَ في اختلاف الفِرَاسِيَّة والقُرَشِيَّة. قلتُ: ويمكن أن تكونَ فِرَاسِيَّة صُلْبِيَّة، وقُرَشِيَّة موالاة أو بالعكس.
باب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ، فَذَكَرَ حَاجَةً فَتَخَطَّاهُم
فَثَبَتَ التَّخَطِّي، مع أنه قد نهى عن التَّخَطِّي في الخارج، فهذا جائزٌ إذا لم يَتَأَذَّ به الناسُ، لكونه ممن يَتَبَرَّكُ به الناسُ من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم
851 - قوله: (فَكَرِهْتُ أن يَحْبِسَنِي)، أي يْشْغِلُني التفكُّرْ فيه عن الإقبال على الله (يعني خيال بي أوردل لكارهي).
(3/112)
باب الانْفِتَالِ وَالانْصِرَافِ عَنِ اليَمِينِ وَالشِّمَال
وظاهرٌ من هذه الترجمة أن المرادَ من الانصراف في الأحاديث: هو الانصرافُ إلى البيت، سواء كان من جانب اليمين، أو اليَسَار، دون الجلوس بعد الفراغ متوجِّهًا إلى جهة اليمين أو اليَسَار، كما وُهِمَ. وقد مرَّ التصريحُ به عن عليِّ رضي الله عنه عند الترمذيِّ.
قوله: (ويَعِيبُ على مَنْ يَتَوخَّى، أو من يعْمِدُ الانتفالَ عن يمينه) حاصلُه أنه مختارٌ في الانصراف من أيِّ الجانبين شاء انصرف، وقد أجاز الشرعُ بتأديب الزوج زوجته، والأب ابنه. وكذا كلُّ من كان له حقٌّ على تأديب أحدٍ أن يُؤَدِّبه على ترك المستحبِّ أيضًا، ولا ينبغي التأديبُ عليه لغيرهم، وإنما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأكثر ما يَنْصَرِفُ إلى اليَسَارِ، لكون الحُجُرَات في تلك الجهة.
تنبيه
واعلم أن القيامَ عند ذكر ميلاد النبيِّ صلى الله عليه وسلّمبِدْعةٌ لا أصلَ له في الشرع وأحدثه ملك الإرْبِل كما في «تاريخ ابن خَلِّكَان»: أنه كان يَعْقِدُ له مجالس، ويَصْرِفُ عليها أموالا. وقد ألَّف ابن دِحْية المغربي كتابًا في الميلاد. وأجازه السيوطي وابن حَجَر رحمهم الله تعالى قياسًا على قوله: «قوموا لسيِّدِكم لسعد بن مُعَاذ رضي الله عنه» حين دعاه أن يقضي في بني قُرَيْظَة.
قلتُ: وهو قياسٌ مع الفارق، فإنه قياسُ أحكام عَالَم الأرواح على عَالَم الأجسام، وقياسُ الموهوم على المُحَقِّق مع مُغَايَرَةِ الأحكام بين العَالَمَيْنِ، فهو قياسٌ مُهْمَلٌ. إلاّ أن البِدْعَةَ قد تكون مكروهةٌ تنزيهًا، وقد تكون مكروهةً تحريمًا، كالنهيِّ، فإنه قد يُفيدُ التحريم، وقد يُفِيدُ التنزيه، فيجري هذا التقسيم في البِدْعَةِ أيضًا.(3/113)
ولذا اعترضَ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى على صاحب «الهداية» حيث قال) إن تحليقَ ربع الرأس يكفي للتحليل عن إحرام الحجِّ، قياسًا على ربع الرأس في باب الوضوء، فقال ابنُ الهُمَام رحمه تعالى: إنه من قياس الشَّبَه، لا من قياس المعنى، فإنه يكون باشتراك العِلَّة المقتضية للحكم. وقياسُ الشَّبَهِ يكون كتشبيه أهل المعاني، فَجَزَم أن تحليقَ الربع لا يكفي. وكذا في «الهداية»: إن الاستقبالَ إلى الحجر الأسود، كالاستقبال عند التحريمة، فاعترض عليه: إنه قياسٌ صوريٌّ. وقد أَجَبْتُ عنهما.
باب ما جاء في الثُّوم النِّيءِ والبصل والكُرّاث
ويُسْتَبْعَدُ من المصنِّف رحمه الله تعالى أنه صَدَرَ أولا بقول النبي صلى الله عليه وسلّم ثم رواه بالمعنى. ولم يَفْعَل كذلك في موضعٍ من كتابه غير هذا. واعلم أن كلَّ شيءٍ له رائحةٌ كريهةٌ يُكْرَهُ أن يَذْهَبَ به إلى المسجد. وكذا يُكْرَه له أن يَدْخُلَ في المسجد، وريحُه في فمه. ولعلَّ تلك الكراهة فوق التنزيه لِمَا في الفِقْهِ: أن السَّمَّاك لو كان القومُ يتأذَّى منه، يجوز إخراجه من المسجد. وكذا الجذامي، والمبروص. وفي «الموطأ» لمالك: «أنهم كانوا يَطْرُدُونَ نحو هؤلاء من المسجد إلى البقيع». وهي المسألةُ في قراءتهم الأذكار في هذا الحال، فينبغي أن لا يُجِيبَ المؤذنَ وهو يأكل النتن، ولا يَدْخُلُ المسجدَ إلا بعد إزالة رائحته. وفي الحديث: «إنكم إذا استيقظتم من الليل فنظِّفُوا فَمَكم، فإنكم ما تكلَّمُون بكلمةٍ من الذكر إلا يَضَعُها المَلَكُ في بطنه - بالمعنى .
وتفرَّد ابن حَزْم حيث ذَهَبَ إلى حُرْمَة هذه الأشياء، لأنها مانعةٌ عن الجماعة، وهي فرضُ عينٍ عنده. وقال الجمهور: إنها حلالٌ كلُّها، إلا أنها ممنوعةٌ في الأوقاتِ المخصوصةِ لأجل العوارض، فليست فيها كراهةُ الأكل، بل كراهةُ الذكر، أو الإتيان إلى المسجد بعد الأكل.(3/114)
والعجبُ على تَهَوُّرِ هؤلاء الذين يَحْكُمُون بالحُرْمَةِ على الأشياء التي أُكِلَت في عصر النبوة وحضرتها. فإذن هي حلالٌ إِلا ماوقع في بعض الكُتُب من حُرْمة النتن أو التمباك، فالوجهُ فيه أنهم صَرَّحُوا أن المباحَ في نفسه قد يَصِيرُ حرامًا من حكم الأمير من جهة أن الله أمر بطاعتهم، فقال: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ} فحينئذٍ لو رَأَى الأميرُ أن يَمْنَعَ الناسَ عن أكل شيءٍ لمصلحةٍ بَدَتْ له، يجب عليهم أن لا يَأْكُلُوه، ويَحْرُم عليهم. إِلا أن تلك الحُرْمة تَقْتَصِرُ على مدَّة إمارته فقط، ولا يتجاوزها، فهي حرمةٌ مؤقَّتةٌ. ومن هذا الباب تحريم التمباك، فإنه قد نهى عنه بعض السلاطين، فاحفظه.
قوله: (فلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا)، مع أنه لم يكن في خَيْبَر مسجدٌ، فإذن هو مسجدٌ عارضيٌّ كان يُعَدُّ للصلاة ما دام القيام هناك، كما مرَّ منا من قبل.
فائدة
واعلم أن الزَّيْلَعِيَّ إذا يُخَرِّجُ حديثًا غريبًا، يُنَبِّهُ أولا على غرابته، ثم يُخَرِّجُ ما يكون في معناه. بخلاف الحافظ، فإنه يُخَرِّجُ أحاديث الشافعية، ولا يُنَبِّهُ على غرابتها.
باب وُضُوءِ الصِّبْيَانِ، وَمَتَى يَجِبُ عَلَيهِمُ الغَسْلُ وَالطُّهُورُوَحُضُورِهِمُ الجَمَاعَةَ وَالعِيدَينِ وَالجَنَائِزَ، وَصُفُوفِهِم
وهو صحيحٌ عندنا أيضًا، وسَهَا من نَسَبَ إلينا خلافه.
قوله: (ومتى يَجِبُ عليهم الغَسْلُ والطَّهُور)، ولم يَجِبْ عنه، لأن وُجُوبَهُمَا عند وُجُوبِ سائر الأحكام وهو عند الاحتلام، إلا أنه يُؤَمَرُ قَبْلَه للاعتِياد. وقال أحمد رحمه الله تعالى: ويُفْتَرَضُ عليه إذا بَلَغَ عَشْر سنين.(3/115)
قوله: (وحُضُورِهم الجَمَاعَةَ) وصلاتهم تقع عندنا نَفْلا وإن صَلُّوها فريضةً. ولا بِدْع عندي ولا بُعْد في أن تَقَع عنهم فرضًا مع كونهم غيرَ مكلَّفِين، كالإسلام فإِنَّهم قالوا: إن الصبيَّ إذا أسلمَ يقعُ عن فَرْضِه وإن لم يكن فَرْضًا عليه. فهكذا الصلاة، فإِنه لم يُصَرِّح أحَدٌ بخلافِهِ، وإن لم يصرّح به أيضًا. ونَسَب إلينا النوويُّ أَنَّ حجَّ الصبيِّ لا يُعتبرُ عندنا، وهو باطِلٌ. نعم يقعُ نَفْلا ولا يُعتبرُ عن حَجَّةِ الإِسلام.
قوله: (وصُفُوفِهم) ويَصُفُّ الصِّبيانُ مع الرِّجَالِ في صلاةِ الجنازة عندنا، وكذا في المكتوبةِ في بعض الصُّور. وراجع تفصيله في كُتُب الفقه.
858 - قوله: (الغُسْلُ يومَ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ على كُلِّ مُحتَلِم) وهو من الحُلْم - بالضم - لا مِن الحِلْم - بالكسر . والغُسْل واجب عند مالك رحمه الله تعالى، لكنهم يَقْسِمُون الوُجُوبَ إلى: وُجوبِ سُنَّة، ووجوبِ افتراض. وعندي هو واجِبُ في بعض الصور عندنا أيضًا، وإن لم يصرِّحُوا به لكنه تقتضيه قواعدهم، وهو عند تأذِّي القوم، كما حققه ابن عباس رضي الله عنه - عند أبي داود - حين سُئِل عن وُجوبِ الغُسْل. فقال: «إنَّ الناسَ كانوا في قلة الثياب في أول أمْرِهم فيعرقون وينتشر عنهم النتن. فإِذا وَسَّع اللَّهُ عليهم زال الوجوبُ»، لانتفاء العلة. وعُلِم منه أن الوجوب فيه يَدُورُ مع عِلَّة التأذي، فلو تحقق الآن يعود الوجوب أيضًا.
ثُم إنَّه يجوزُ عندي أن يَدْخُل الوجوبُ والاستحبابُ تَحْتَ أمرٍ واحدٍ، كقوله تعالى: {صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56).g(3/116)
أطلق على الفَرْض والنَّفْل جميعًا، وبَعيدٌ عندي كل البُعْد أن يكونَ مصداقُه هو صلاتَه مرةً في عمره فقط، وأما الباقيةُ فتبقى خارجةً عنه. فالحقُّ أن الأمر كما في اللغة للطلبِ فقط، وصِفَةُ الوجوب والتطوع من الخارج. نعم إذا ورد مُؤقتًا يُحْمَل على الوجوبِ. وقد بسطتُ الكلامَ عليه في رسالتي «فصل الخطاب»، وكشف الستر» شيئًا.
863 - قوله: (ولو مَكَانِي مِنْه ما شَهِدتُه - يَعْني من صِغَرِهِ) وله شَرْحانِ فراجع الحاشية.
قوله: (أَتَى العَلَمَ الذي كان عِنْد دارِ كَثِير بنِ الصَّلْت) ولَعلَّه كان هناك موضِعٌ مُرْتَفِعٌ، وهو تعريفٌ له بشيءٍ حَدَث بعد عَصْر النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفإِن تلك الدارَ لم تكن في زَمَنِه صلى الله عليه وسلّم
باب خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى المَسَاجِدِ بِاللَّيلِ وَالغَلَس
باب انْتِظَارِ النَّاسِ قِيَامَ الإِمَامِ العَالِم
باب صَلاةِ النِّسَاءِ خَلفَ الرِّجَال
ويستفاد من الأحاديث أن النِّسَاءَ كُنَّ يَحْضُرْنَ الجماعات في المكتوباتِ والعيدين مطلقًا. وكذا في هذا الكتاب: «لا تمنعوا إماءَ اللَّهِ عن المساجدِ». فهذا عَمَلٌ وذاك قَوْلٌ. ومع ذلك ذهبَ الفقهاءُ إلى التضييق. ومَنَعَهُنَّ المتأخرونَ مِن الخروج مطلقًا. ويؤيد ما عند أبي داود عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: «لو أَدْرَكَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّمما أحدثَ النِّساءُ لَمَنَعُهنَّ المساجدَ كما مُنِعَتْ نساءُ بني إسرائيلَ». وهو عندي عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا. وقِصَّةُ عمرَ رضي الله عنه مع زوجَتِه حيثُ كانت تَذْهَبُ إلى المسجد. وهي في البخاري ومَرَّت من قِبَلْ. ورَاجِع كَرَاهةَ خُرُوجِهنَّ عن ابن المُبَارك عن الترمذي.(3/117)
واعلم أن ههنا سِرًّا وهو أَني لم أَرَ في الشريعة تَرغيبًا لهن في حضورهن الجماعة، بل عند أبي داود ما يخالِفُه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا قال: «صلاةُ المرأةِ في بيتِها أَفْضَلُ مِن صلاتها في حُجْرَتِها، وصلاتُها في مَخْدَعِها أَفْضَلُ مِن صلاتِها في بيتها». ا ه. وهذا يدلُّ على أنَّ مَرْضَى الشَّرْع أن لا يَخْرُجن إلى المساجدِ. وفي حديث آخر: «إنْ كان لا بُدَّ لَهُنَّ مِن الخروجِ فليخرجن تَفِلاتٍ بدونِ زينةٍ، فلا يَتَعَطَّرْنَ، فإِن فَعَلْن فهنَّ كذا وكذا». يعني زوانٍ. فهذه إباحةٌ لا عن رضاءٍ منه، كإباحة الفاتحة للمُقْتَدين. فلم يرغِبْهُنَّ في الخروج، ونهى الأزواجَ عن مَنْعِهنَّ عن الخروج أيضًا.
وهكذا فَعَل في باب الصدقة، فأمر المتصدِّقين بإِرضائهم. قالوا: «وإن ظلمونا قال: وإن ظلموكم». ثُم هَدَّد العاملين أيضًا. ونحوه سَلك في طاعةِ السلطان فأوجبها ما لم يكن كُفْرًا بَواحًا، ثم أوعد السلاطين الجائرين أيضًا. وهكذا صَنيعه في النكاح فقال: «لا نكاح إِلا بوليَ». ثم أثبت لها حَقَّا فقال: «الأيم أحقُّ بِنَفْسها من وَليِّها». فهذه كلُّها أبوابٌ من قَبيل واحدٍ. وسنقرره في النكاح إن شاء الله تعالى.
866 - قوله: (كُنَّ إذا سَلَّمْنَ مِنْ المَكْتوبةِ قُمْنَ، وَثَبت رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّموَمَنْ صَلَّى مِن الرِّجَالِ) وذلك لئلا يلزمَ الاختلاطُ في الطريق.
باب سُرْعَةِ انْصِرَافِ النِّسَاءِ مِنَ الصُّبْحِ، وَقِلَّةِ مَقَامِهِنَّ فِي المَسْجِد
باب اسْتِئْذَانِ المَرْأَةِ زَوْجَهَا بِالخُرُوجِ إِلَى المَسْجِد
يقول: على الرجال أن لا يبادِرُوا بالخروج، وعليهن أن يَتَسارَعْنَ إلى الخروجِ، ولا يكثرون في مقامهن في المسجد، لئلا يتحرَّجَ الرجالُ، فعليهم انتظارُ خروجِهنَّ، وعليهن السرعةُ إلى القيام.(3/118)
872 - قوله: (ولا يَعْرِفُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا) وهذا صريحٌ في عدم معرفةِ الشَّخْص دونَ معرفةِ الذَّكَر من الأُنثى، كما أوَّل به النوويّ.
872 - قوله: (لا يُعْرَفْنَ مِن الغَلَس) أي لا يُعْرَفُ الرجالُ من النساءِ.
كتاب الجُمُعَة
باب فَرْضِ الجُمُعَة
واعلم أنَّ الجُمعةَ امتازت عن سائر الصّلوات بشروطٍ إجماعًا. فلم يذهب أحدٌ منهم إلى التسوية بين الجُمعة وسائر الصّلوات. نعم اختلفوا في شرائطها: فشرَط إمامُنا لها المِصْرَ، والآخرون شرطوا العدد. فقال الشافعيّ رحمه الله تعالى: أربعين رجلا، وهو عند أحمد رحمه الله تعالى، وفي رواية عنه: خمسون. وعند مالك رحمه الله تعالى: ثلاثونَ، وفي رواية: عشرون. وراجع «نيل الأوطار». فلو كان في قرية أقلُّ من عشرين رجلا لا جمعةَ عليهم إجماعًا بين الأئمة. أما عند الإمام فلفقدان المِصْر، وأما عندهم فلفُقْدان العدد، فَمَنْ أوجب الجمعةَ مطلقًا فقد خَرَق الإِجماع.
وعن الشافعيّ رحمه الله تعالى أنّها فرضٌ على الكفاية. نقله الخَطَّابيّ رحمه الله تعالى - وهو أوّلُ شارح على أبي داود. وادَّعى النّاس أنّها فَرْضُ عينٍ بالإجماع.
قلت: ولعلّ تلك الروايةَ ثابتةٌ عنه، فإنّك إن راعيت شرائطَها ثُم أردت أن تحكم عليها لا يَسُوغ لك إلا الحُكْم بالفَرْضِ المعيَّن. وإن قطعت النظر عنها جاز لك أن تقول: إنّها فرض كفاية، بمعنى أنّها واجبةٌ على البعض دون البعض لفقدان الشرائط في حقهم. وهذا كأَمرِ الجماعة، فإنّك إن نظرت إلى الوعيد الوارد على تاركها تحكمُ بالوجوب بتًا. وإن لاحظت معه المعاذير الواردة فيها لا يَسُوغ لك إلا الحكمُ بالسنيِّة فاعلمه. وقال الشيخ ابن الهمام: إنّ الجمعة آكَدُ الفرائض وقد مرّ.(3/119)
ثم اعلم أنَّ الجمعة فُرِضَتْ بمكة ولم يتمكن النبيُّ صلى الله عليه وسلّممن إقامتها فيها حتى ورد المدينة، فنزل في قُباء أربعةَ عشرَ يومًا ولم يُقِم الجمعة، وأوّل جمعة أقامها في بني سالم مَحَلَّةٌ من المدينة. ونقل الحافظ رحمه الله تعالى في «التلخيص» أنَّ الجمعة فُرضَت بمكة، ولم يَنْقُل إسناده وهو موجود عندي، إلاّ أنّ فيه راويًا ساقطًا.
قوله: (إذا نُودي) وفي ألفاظ النِّداء تفتيشٌ أنها كانت بالكلمات المعروفة أو غيرها.
قوله: (فاسعَوْا)، وفرَّق اللّغويون بين قوله: سعى له، وسعى إليه. ومعناه ههنا فامضوا كما في قراءة عمرَ رضي الله عنه.
قوله: (ذلكم خيرٌ لكم) ومرَّ عليه ابنُ تيمية وقال: إنَّ السَّعي إليها فرضٌ بالإجماع، ومع ذلك أطلق عليه لفظ الخير. وفيه دليل أنَّ الخيرَ يطلق على الفَرْض كما قلت في حديث «أمراء الجَوْر»: «فإنّها لك نافلة»، أطلق لفظ النّافلة على المكتوبة. وفي أحاديث فضل الوضوء أنه يتوضأ فتنحَطّ عنه سيئاته، حتى تبقى له الصّلاة نافلة.
876 - قوله: (ثُم هذا يومُهُم الذي فُرِض عليهم) واختَلف فيه الشّارحون، فقيل: إنّه افترِض عليهم عينًا، ثم اختلفوا فيه، وقيل: بل فُوِّض إلى اجتهادهم فلم يُصيبوا وأخطأوا في تعيينه.
فائدة
واعلم أن السبت هو التّعطيل في اللُّغة العِبْرانية. وقد ثبت عندي من التوراة أن السبت كان اسمًا للجمعة ولا أدرى متى وقع فيه التحريف، وكُتِبَتْ شروح التوراة في بيت المقدس وبابلٍ ويقال لها «كمارى»، وفيها أنَّ موسى عليه الصّلاة والسّلام كان يَعِظُهم يوم الجمعة ويبشِّرُهم بنبأ النَّبيِّ السّبتيّ، وفي الرِّوايات أنّه لما حارب مع العمالقةِ وكادت الشّمس أن تغرُبَ قبل أن يُفتَح له، دعا اللَّهَ سبحانه أن يُؤخِّر غروب الشّمس وكان غدًا الجمعة.(3/120)
وفي الإنجيل أنّهم صلبوا رجلا يوم الخميس، فبادروا فيه لئلا يأتي عليهم السَّبت، فدلَّ ذلك كلُّه على أن السَّبت في التّوراة هو يوم الجمعة.
ثمّ اعلم أن تكوين العالم بدأ من يوم السّبت المعروف الآن. وتمَّ يومُ الخميس ولم يَخْلُق في يوم الجمعة هذه شيءٌ واستوى الرّحمن على العرش كما يليق بشأنه المقدَّس، وبعد مرور أزمانٍ - يعلم اللَّهُ قدرها - خلق آدم في آخِر ساعة من يومِ الجمعة. فتبادر إلى الأوهام أنه خُلق في يوم الجمعة من هذا الأسبوع. والصّواب عندي ما قرّرت. ولذا ترى في الآيات أنّ الله سبحانه وتعالى كلما ذكر خَلْقَه العالَمَ ذكر بعده الاستواء على العرش لأنّه كان في الخارج كذلك، فإنّه لما فرغ من تكوين العالم استوى على عرشه ولم يخلق شيئًا، حتى إذا كان في جمعةٍ أخرى بعدها بكيثر خلق آدم.
ثمّ اعلم أن الجمعة تذكرةٌ لحفلةٍ تقوم في الآخرة على قدر تلك الأيام، فيجتمع فيها المؤمنون والأنبياء والصّديقون على منازلهم، وتحصل لهم الرؤية كما في الأحاديث.
876 - قوله: (اليهُودُ غدًا والنَّصَارَى بَعْدَ غدٍ) عندي: تنقلب الأيام والجهات في المحشر، فأوّل أيام الدنيا هو السّبت وآخرها الجمعة، فتكون الجمعة في المحشر أوّل أيامه، فنحاسَب أولا، ويكون الآخَرون سابقين كما في الحديث. وقد مرَّ معنا التنبيه على أنَّ عند المصنّف صحيفةً فيها نحو مئةُ حديث وأوَّلُها: «نحن الآخرون السّابقون»، فإذا أراد المصنف رحمه الله تعالى أن يُخرِج حديثًا منها أخرج أولا هذا الحديث، ثم أخرج الحديث الذي يريده إشارةً إلى أنّ هذا الحديث من تلك الصحيفة، كما عند مسلم أيضًا صحيفةٌ وهو يشير إليها أيضًا بنحوٍ آخر، وقد قرّرناه من قبل والغافل يذهَل عنه، ويُتعِب نفسه، ويُضيَّع وقته في إيجاد المناسبات ولا يستطيعه، فتشمَئِزُّ نفسه ففرِّج عنك الكرب فإنه لا تكون له مناسبةٌ غير أنه يكون إشارةً إلى الصحيفة فقط.(3/121)
باب فَضْل الغُسْلِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَهَل عَلَى الصَّبِيِّ شُهُودُ يَوْمِ الجُمُعَةِ،أَوْ عَلَى النِّسَاء
عبرُ بالفضل فلعلّه إشارةٌ إلى عدم وجوبه.
قوله: (وهل على الصّبيِّ شهودُ يوم الجمعةِ، أو على النِّساء) ولم يُجِبّ عنه لأنَّه لم يكن عنده لذلك دليلٌ من الحديث الذي أخرجه. وذهب الجمهور إلى عدم وجوب الجمعة على هؤلاء، ومع ذلك اتّفقوا على أنّهم لو شهدوا الجمعة تقع عن فَرْض الوقت، واستثناؤهم موجودٌ في صريح الرواية عند أبي داود وغيره.
877 - قوله: (إذا جاء أَحَدُكُمْ الجمعةَ فليغتَسِل) ولفظ أحدِكم يدل على أن الآتي ليس كلا منهم بل فيه استثناء في نظر الشارع، وفي رواية تالية: «غسل يوم الجمعة واجب»، وهو عندي: محمول على الجنس أو على المبالغة، ولا يصح تأويل الواجب بمعنى الثابت وقد مرَّ الكلام فيه آنفًا. وفيهِ دليلٌ على أن حال الجمعة ليس كسائر الجماعات، بل لها شرائطُ ليست لغيرِها كما قرَّرنا.
قوله: (فناداهُ عُمَرُ رضي الله تعالى عنه وكان يخطُب). وفي «فتح القدير»: أنّ الأمر والنّهي في الخُطبة يجوز للإمام دون القوم، والرجل الجائي هو عثمان ذو النورين رضي الله عنه، كما هو عند التّرمذي. ولم يأمره بالرجوع والغُسْل، فدل على عدم الوجوب.
879 - قوله: (كلِّ مُحْتَلِم) ودلّ مفهوم النّعت أن لا وجوبَ على الصِّبيان والنِّسوان، وبه وافق الترجمة.
باب الطِّيبِ لِلجُمُعَة
880 - قوله: (الغُسلُ يومَ الجمعة واجبٌ على كل محتلِم وأن يَسْتَنَّ) قيل: إن الاستنان إذا لم يكن واجبًا فكيف يجب الغسل، فإنّ السياق واحد؟ وأجيب: بأن قوله: «وأن يستن» مدرَج.
880 - قوله: (أما الغُسْل فأشهد أنّه واجِبٌ، وأما الاستِنان فالله تعالى أعلم) وهذا يدلُّ على أن الراوي فَهِم الكلَّ مرفوعًا.
(3/122)
باب فَضْلِ الجُمُعَة
باب
881 - قوله: (غُسْلَ الجنابة) مفعول مطلق للتشبيه.
881 - قوله: (ثُمَّ راح فكأنّما قرَّب بَدَنَةً) الخ. وفيه مراتب الفضل في حضور الجماعة. وتلك الساعاتُ تبتدِىء من الصّبح عند الجمهور. ومن الزَّوال عند المالكية. فتكون تلك لحظاتٍ خفيفة تمسكًا باللفظ. فإِنه في اللّغة يُستعمَل فيما بعد الزَّوال. وتمسّك الجمهور بتعامل السّلف وكانوا يروحون من غداة الجمعة ثم يَرجِعون إلى بيوتهم بعد قضائها ويَتغذّون ويَقيلون. والمسائل لا تُبنَى على اللّفظ الواحد بل لا بد من النّظر إلى التعامل كما مر منا التنبيه عليه. ثم عند النّسائِّيّ مرتبةٌ سادسةٌ أيضًا: وهي مرتبة البَطّ والعصفور. والبَدَنة عندنا تطلق على البعير والبقر. وعندهم على الأوّل فقط. ووافقهم على كلِّ ذلك اللغويون كلُّهم.
قوله: (شاة) والتاء في الحيوانات تكون للوِحْدة دون التأنيث، وهي تَعمُّ المَعِزَ والضّأن.
881 - قوله: (قرَّب دجاجةً) واعلم أنه لم يُرِد بهذا السياق تعليم مسألة الأضحية، بل أراد التنبيه على مراتب الحاضرين في الجمعة الأول فالأول، وذِكْرُ هذه الحيوانات على نحو التشبيه وتَنزيلُه مَنزلة الأضحية لا يُؤخَذُ عنه جوازُ أضحيةِ الدّجاجة كما قاله بعضُ الجاهلين، ولذا لم يَجْرِ بِهِ تعامُلُ السَّلَف ولا عَمِل به واحدٌ منهم، وإلاّ وجب أن تَصِحَّ أضحية البيضة أيضًا، فإِنّها ثَبَتَت عند مسلم في رواية أيضًا.
881 - قوله: (فإِذا خرج الإِمام) إلى المسجد إن لم يكن فيه، أو إلى المِنْبَر إن كان فيه.
881 - قوله: (حضرت الملائكة يَستمِعون الذّكر) تَمَسَّك به الشيخ العينيّ رحمه الله تعالى على وجوب الاستماع. قلت: وهو استنباطٌ لطيفٌ لكن كَونُه حجةً قاطعةً على الوجوب فيه خَفَاء. وقد مرّ معنا في جواب الأذان عند الخطبة ثلاثةُ أقوال للحنفية. والأرجح عندي أن يُجيبَه إن لم يكن أجاب الأذان الأوّل.(3/123)
باب الدُّهْنِ لِلجُمُعَة
883 - قوله: (إلا عُفِر له ما بينَهُ وبينَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى) وعند مسلم: وزيادة ثلاثة أيام، بحساب الحسنة بعشرة أمثالها، ولا يَستقيم الحسابُ إلاّ إذا عُدَّت الأيامُ من صلاة الجمعة إلى صلاة الجمعة فإنّها سبعة، وإن عَدَدْتَها من اليوم إلى اليوم حَصَلَت الثمانية، ومع زيادةِ ثلاثةِ أيام يَحْصَل أحدَ عَشَر.
884 - قوله: (أمّا الطّيبُ فلا أَدري) هذا مع أنّ ابن عباسٍ رضي الله عنه يرويه بنفسه عند أبي داود ولعله نفي عِلْمه بِلِحاظِ قَيْدٍ في نفسه كالوجوب مثلا.
885 - قوله: (إنْ كانَ عِنْدَ أَهْلِهِ) ولمّا كان عندهم طِيبُ الرّجال ما خَفِي لونَه وظَهَر ريحُه على عكس طِيبِ النّساء سَئَلَ أنّه إذا لم يكن عنده من طيب الرّجال، فهل له أن يَتطيَّب بطيبٍ عند أهله؟ فأجابه ابن عباس رضي الله عنه أنّه لا يَعْلَمُه.
باب يَلبَسُ أَحْسَنَ ما يَجِد
886 - قوله: (حُلَّةَ سِيرَاءَ) قال سيبويه: إنه يجوز بالإِضافة والنَّعت كِلَيْهما، وكانت من حريرٍ. والسِّيَراء المُخَطّط.
886 - قوله: (وللوَفْد إذا قَدِموا عليك) وكانت له عِمامةٌ يَلْبَسها للوفود.
886 - قوله: (مَنْ لا خَلاق له في الآخِرة) وذهب بعض العلماء إلى أنّ لابسَ الحرير وشاربَ الخمر يُحرَم منهما في الجنّة أيضًا. لأنّه تَتَشَوَّف إليهما نفسُه ثم لا يُعْطَى، ولكن لا تَشْتهي.(3/124)
886 - قوله: (كَسَوْتَنِيها) كأنّ عمر رضي الله عنه فَهِم أنَّ ما يكون حرامًا يَحْرُم به الانتفاعُ مطلقًا، فأجاب عنه أنّ هذا الطّرْدَ غَلَطٌ، ولكنَّه حرامٌ لُبْسُه فقط، فقال: إنّي لم أَكْسُكَها، ويَسْتَفيد منه الفَقيه أنّ البيعَ يَعتمِد المُلكَ دون الاسْتِعْمال. ثمّ أقول: إنّ الحرام إذا لم يُنْتَفع منه بجْزءٍ من جُزْئِيِّاته فَجُمْلَتُه أيضًا حرامٌ، وإلا لا كالحرير، فإِنه وإن كان حرامًا لكن جاز للنِّساء، ولو كان حرامًا بجميع جُزْئياته لما جاز بيعُه وشراؤُه وحَرُمَت التّصرّفاتُ كلُّها. وفِي «الهداية»: أنّ الكِسْوة قد تكون من ألفاظِ العارية، وأُخْرَى من ألفاظ الهِبَة، وتُبنَى على القَرائِن.
قوله: (فكَسَاه عمرُ بنُ الخطَّاب أخًا له بمكّة مُشْرِكًا) قد عَلِمْتَ أنّ المُلك يَثْبُت فيه للمُسْلِم أيضًا فكيف بِمَن كان كافرًا. ويُمْكِن أن تُجْرَى فيه مَسألةُ كونِ الكفَّارِ مُخاطِبين بالفروع، وفيها ثلاثةُ أقوالٍ للحنفية: قيل: إنّهم مُخَاطِبون أداءً واعتقادًا، وقيل: لا أداءً ولا اعتقادًا، وقيل: اعتقادًا لا أداءً، كذا في المنار. وهذا البحث كلِّه في عذابِ الآخِرة، فيُعَذَّب عند الأَوّلين على تَرْكِهما، وعند الثّاني لا يُعَذَّب إلا على ترك الإِيمان، وعند الثَّالث على تَرك الاعتقاد فقط، ولم يَذْهَبُ أحدٌ منهم إلى إيجاب قَضَاء الصّلوات أو الصّيام بعد الإِسلام، والمختار عندي هو الأول، واختاره صاحب البحر في شرح المنار ولم يُطْبَع، وهكذا عند الشّافعيّةِ والمالكيّة والحنابلة.(3/125)
واعلم أنّ ما يَظْهَر بعد سَبْر فِقْه الحنفيّة أنّهم يُغايرون بين أحكام المسلم والكافر في كثيرٍ من الأحكام؛ بخلاف الآخرين فَهُم فَهِموا أنّ الدّين إذا نزل من السّماء وجب على العباد قَبوله كائنًا ما كان، فإِذا ترافعوا إلينا نَحْكُم بينهم بشريعتنا ونُخْبِرُهم على قَبولِه فإِنّ الدّار دارنا، نَعَمْ إذا كانوا في دار الحرب فالجَبْر غيرُ ممكنٍ لانقطاع الولاية. وفَهِم الحنفيّة أنّا إذا تركناهم وما يَدينون ذِّمةً لنا فَحُكْمُهم في دارنا كحكمهم في دار الحرب فَتَرْكُهم وما يَدينون. وراجعْ الهداية من نكاح الكافر، ومن العِدَّة من نكاحِ أهلِ الشِّرك فإنّه أهمُّ ويَحتاج إلى تحريرِ المقام.
تنبيه
واعلم أنّ الصِّحة والفساد من أحكام الدنيا، والحِلَّ والحُرْمة من أحكام الآخرة، فالأقوال الثّلاثة في الحلّ والحرمة.
باب ُ السِّوَاكِ يَوْمَ الجُمُعَة
وهذا الحديثُ لمّا كان على شَرْطه فكان المناسب له أن يُخَرِّجه في أبواب الوضوء لأنَّه من سُنَن الصَّلاة والوضوء على اختلاف الأصلين. ومع هذا لم يُخَرِّجه فيه وراجع الكلام في أبواب الوُضوء، ومُرادُ الحديث أنّي مأمورٌ بالسّواك ولولا مَخافةُ المشقّةِ لأَمَرْتُكُم به أيضًا كما قد أُمِرْت.
باب مَنْ تَسَوَّك بِسِوَاكِ غَيرِه
ولو بَوَّب به في أبواب الوضوء لكان أَحْسَن، فإنّ هذا البابَ ليس له كثيرُ تَعَلّقٍ مع أبواب الجمعة، وهو جائزٌ عندنا أيضًا إذا لم يُوجِب كراهةً، سِيَّما إذا كان القصدُ تحصيلَ التبرّك وكان المحلّ صالحًا.
باب ما يُقْرَأُ فيِ صَلاةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَة
وفي «البحر» أنّه يَنْبَغي المُراعاة في القراءة للسُّوَر المسنونة.
(3/126)
باب الجُمُعَةِ في القُرَى وَالمُدُن
ولم يُترجم لهذه المسألة إلا البخاريّ وأبو داود.
واعلم أنّ القرية والمِصْر من الأشياء العُرْفِية التي لا تكاد تَنْضَبِط بحالٍ وإن نُصَّ، ولذا ترك الفقهاء تَعريفَ المِصْر على العُرْف كما ذكره في «البدائع»، وإنما تَوَجّهوا إلى تحديد المِصْر الجامع، فهذه الحدود كلُّها بعد كونها مِصْرًا. فإِنَّ المِصْر الجامع أخصُّ من مُطْلق المِصْر، فقد يَتَحَقَّق المِصْرُ ولا يكون جامعًا.c
ورأيتُ في عبارة المتقدّمين أنّهم إذا ذَكروا الاخْتلاف في حدود المِصْر يَجعلونه في الجامع، ويقولون: اختلفوا في المِصْر الجامع الخَ، فَتنبّت منه أنّهم لا يَعْنُون به تَعريفَ مُطْلق المِصْر، والنّاس لما لم يُدْرِكوا أمرَهم طَعنوا في تلك الحدود. فمنها ما قال ابن شجاع: إذا كان أهلُها بحيث لو اجتمعوا في أَكبر مساجدهم لم يَسَعْهم ذلك. فقالوا: إنّه يَصْدُق على أكثر القرى ولا يصدق على المسجد الحرام - أعزّه الله وأدام حُرْمَته - فنقضوا عليه طَرْدًا وعَكْسًا ولم يَتفقّهوا مُراده أيضًا، فإِنَّ هذا التعريفَ ليس للمِصْر بل للمِصْر الجامع.(3/127)
وحاصله أنّ المِصْر الجامع هو الذي يَكْثُر أهله بحيث لا تَسَعُهم مساجدهم فَيَحتاجون إلى بناء مسجدٍ يَسَعُهم، وهو الذي بناه صاحب «العناية» فقال: قال ابن شجاع: أَحْسَنُ ما قيل فيه إذا كان أهلها بحيث لو اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يَسَعْهم ذلك حتى احتاجوا إلى بناء مسجدٍ آخر للجمعة، وهذا الاحْتِياج غالبٌ عند اجتماع من عليه الجمعة ا ه. فَفَكِّر في لفظ حتى احتاجوا الخ فإِنَّه ليس عند عامّتهم مع أنّه لا يحتاج إليه إلاّ أنّه يُفيدُك في تحصيل المراد. ويُستفاد منه ما قلنا من أنّ الحدّ المذكور فيمن وجبت عليهم الجمعة فاحتاجوا إلى بناء مسجد، لا فيمن لم تجِب عليه الجمعة بعدُوهم بِصَدَد إقامتها فجعلوا يُقدِّرون مساجدهم هل تسعُهم أو لا؟ وهذا أيضًا باعتبارِ الأغلب، فإِنَّه وَسِعهم أو لم يَسَعْهم ثمّ لم يَبْنوا مسجدًا آخر فإِنّه لا يَخْرُج عن كونه مِصْرًا، بشرطٍ إن كان مِصْرًا من قبلُ وكانت الجمعة واجبةً عليهم. ولعلك قَطعتَ النّظر عمّا يَقعُ في الخارج ونزلتَ إلى العبارات فقط ولذا وقعتَ في الخَبْط ولو رَاعَيْتَ الحال في الخارج لما تَردّدتَ فيه فإنّهم يفعلون في الخارج كذلك، فإِذا كَثُر أهلُ قريةٍ لم تَسَعْهم مساجدهم فإنهم يحتاجون إلى بناء مسجدٍ يَجْمعون فيه.
(3/128)
وأَوْلى الحدودِ ما رُوي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: كُلّ بلدةٍ فيها سِكَكٌ وأسواقٌ ولها رَساتيق «وترجمته باندى»، ووالٍ يُنصِف المظلوم من ظالمه، وعالم يُرجَع إليه في الحوادث. وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى وذَكَرَه أصحابُ المتون: أنَّه كلَّ مَوضعٍ له أميرٌ وقاضٍ يُنفِّذ الأحكام ويُقيم الحدود، وهذا الحدّ ناظرٌ إلى ما في «الدُرّ المختار» من كتاب القضاء أنّ المِصْر شرطٌ لِنَفاذ القضاء في ظاهر الرِّواية، فالقضاة لا يُنصَبون إلاّ في المِصْر عندنا، ولذا عَرّف به أصحابُ المتون. فإِن قُلتَ: وعلى هذا يَنبغي أن لا تَجِب الجُمُعات على أهل المِصْر أيضًا في هذا العَصْر لِعَدم صِدْقِ الحدِّ المذكور، فأين القضاة، وأين إقامة الحدود؟ قُلتُ: وقد صَرّح أصحابُنا أن المُلك إذا صار دارَ الحرب يَجْمَع بهم مَنِ اتّفق عليه القومُ، هكذا في المبسوط والشامي.
892 - قوله: (بِجُواثَي من البحرين) وعند أبي داود قريةٌ من قُرى البحرين، واحْتَجّ به القائلون بإِقامة الجمعة في القرى. قلت: كيف وجُوَاثَي لم تكن قريةً أصلا بل كانت مِصْرًا. وفي الصّحاح: أنّ جُواثًا حِصْنٌ بالبحرين، وهو الذي يُعْلم من أشعار الجاهليّة فيقول امْرُؤُ القَيْسَ:
*وَرُحْنا كأنّا من جَوَاثَي عَشِيّةً ** نُعاني النِّعاج بين عِدْلٍ ومِحْقَبِ فإِنَّه يُشَبِّهه حال رُجوعه من الاصْطِياد بحال التّجار عائدين من جُواثَي مَلآنَةٌ أَخْرَاجُهُمْ من أنواع الأمتعة فَعُلم أنّها كانت مَتْجَرًا لهم وكان أَسْلَمَ أهلُها، ثمّ إذا ظهر الارْتِدَاد في قبائل العرب بعد النَّبيّ صلى الله عليه وسلّمحاصَرَهم الكفّار، فقال قائلٌ منهم وكان مَحْصورًا من عَساكِرِ الرِّدة يُخاطِب أبا بكرٍ رضي الله تعالى عنه:
*ألا أبْلِغ أبا بكرٍ سلامًا ** وفتيانَ المدينةِ أَجْمَعينا
*فهل لكم إلى قومٍ ضِعافٍ ** قُعودٍ في جُوَاثَي مُحْصَرينا(3/129)
*كأنّ دِماءَهم في كلّ فَجٍ ** دماءُ البُدْنِ تَغْشَى النّاظِرينا ويقول آخر:
*والمسجِدُ الثّالث الشّرْقيُّ كان لنا ** والمِنْبَرانِ وفَصْلُ القولِ بالخُطَبِ
*أيّامَ لا مِنْبَرَ في الناس نَعْرِفُه ** إلا بِطِيبَةَ والمَحْجُوجِ ذي الحُجُبِ يشير إلى المنبر بِجُوائي، أما كونها قرية فهو كما في القرآن: {لولا أُنزِل هذا القرآنُ على رجلٍ من القريتين عظيم} (الزخرف: 31) فأطلقت على مكة أيضًا شرَّفها الله تعالى ثُمّ إن أهل السِّيرَ صرَّحوا بأن هذا الوَفْدَ قد حضر المدينةَ مرتين: مرةً في السنة السادسة، ولعلها واقعةٌ تلك السنة، وأُخرى في الثامنة، وقَدِّر في نفسك أنه كم تكون البلادُ التي دخل إِليها الإِسلام في تلك المدة. ثم يقول الراوي: «إنَّ الجُمعَة فيهم كانت أولَ جُمعةٍ بعد جُمعةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم فلو كانت الجُمُعاتُ تُقام في القُرى الصغيرة، وفي العشرين والأربعين من الرجال كما قالوا. كيف جعلها أولَ جُمعةٍ؟ ألم تكن في تلك المدةِ قريةٌ أسلم من أهلِها عشرون نفسًا؟ فهذا من القرائن الدالة على أن لا جمعةَ في القُرى. ولنا أيضًا ما في البُخاري : «مَنْ أحبَّ أن ينتظرَ الجمعةَ من أهل العوالي فَلْيَنْتَظِر، ومَنْ أَحب أن يرجِع فقد أَذِنْتُ له».
قوله: (وزاد الليث: قال يونسُ: وكتَب رُزَيْقُ بنُ حُكَيم إلى ابن شِهاب - وأنا معه يومئذٍ بوَادِي القُرَى : هل ترى أن أُجَمِّع؟ ورُزَيقٌ عامِلٌ على أرض يَعْمَلُها وفيهاجماعةٌ من السودان وغيرهم، ورُزَيقٌ يومئذٍ على أيْلَةَ، فكتب ابن شهاب - وأنا أسمعُ - يأْمُرُهُ أن يُجَمِّع) ووادي القُرى في الجانب الغربي من العرب، وهناك قريةُ شُعَيب عليه الصلاة والسلام. ويونس من سكان أَيْلَة.(3/130)
قوله: (ورُزَيقُ عَامِلٌ... إلخ. يعني كان واليًا على أَيْلَةَ، ولم يكن إذ ذاك فيها، بل كان في أطرافها ونواحيها يحييها، فكتب إلى ابن شِهاب من نواحي أيْلَة إلخ.
قلت: أولا: يمكن أن يكون ذلك الموضعُ من فِنَاءِ المِصْر، ولا تحديد فيه عندنا، بل يُصغَّر الفِناء ويكبر بحسب صِغَر المِصْر وكِبَرِه. فقد يكون الفِناء إلى أميال. وقد ألف فيه صاحب «مراقي الفلاح» رسالة ولم تطبع.
ثم إنَّ السائل لعلَّه لم يسأله عن مسألة القرية والمصر، بل عن مسألة أخرى: وهي اشتراط الإِذْن من الأمِير لإِقامة الجمعة. وكام مذهبُ عمر بن عبد العزيز اشتراط الإِذن لها. ولما كان رُزَيقٌ عاملا له على أَيْلَة، زعم أن إذْنه بإقامةِ الجمعة يمكن أن يكون مقصورًا عليها، ولا يتجاوز إلى ما حواليها، فحقِّقها، أَنَّه هل له إذنٌ في إقامة الجُمُعات في حوالي تلك المدينة أَم لا؟ فأجابه أن وِلايَتَك كما انسحبت على أَيْلَة كذلك على ما حواليها أيضًا، فيجب عليك أنْ تتعهد فرائِضَهم وتراعي رعايَتهم، لأنَّ كُلَّكُم راعٍ وكلَّكُم مسئولٌ عن رعيتِه. فتمسَّك بهذا الحديثِ العام.
وحاصل الحديث عندي: أن الإِنسان لا يخلو مِن نحو رعاية، فلو لم يكن له أحدٌ تجِب عليه رعايةُ ويُسأل عنها. ولعلك فهمت منه أن الحديث المذكور لما كان في مسألة الإِذْن، لم يناسب إخراجه في تلك الترجمة، فإِنها في مسألة أخرى، بل هو أقربُ إلى مسألة الاستئذان، لأنه ورد في باب الوِلاية والرعاية لا للفَرْق بين القُرى والأمصار.(3/131)
وهذا يَدُلّك ثانيًا: أن رُزَيقًا أراد الاستئذان للجُمعة دون إقامة الجُمعة في القرى، كيف وقد ثبت عن عليَ رضي الله تعالى عنه - بإِسنادٍ على شرط الشيخين - عند عبد الرزاق أنه: «لا جُمُعةَ ولا تشريقَ إلا في مِصْر جامع». والنووي أخرجه بإِسنادٍ ضعيفٍ وحَكَم عليه بالضَّعْف مع أن له إسنادًا يَشْرُقُ كشروق شمس الضحى. وبه يقولُ حُذيفةُ اليماني رضي الله تعالى عنه. وأما أَثَرُ عمر رضي الله تعالى عنه: «جَمِّعُوا حيثُ ما كنتم» فخطابٌ للوُلاة، وكانوا يكونون في الأمصار دون القرى.
ومن ههنا فأدرك السِّر في اختلافهم في إقامة الجُمعات في القرى مع كونها من متواترات الدين. وذلك لأنَّ الأمراء إذ ذاك كانوا في الأمصار وكان الناس مجتهدين في العمل فكانوا يصلونها مع الأمراء ولا يتخلفون عنها، فلما ظهر التواني في الأحكام ولم يرغب الناس في أدائها في الأمصار وجلسوا في قراهم ظهر الخلاف: فذهب ذاهبٌ إلى أن عدمَ أداءِ السَّلف في القرى كان مبينًا على نفيها في القرى، وذهب آخرون إلى أن ذَهابهم إلى الأمصار كان لحوائجهم على عادة أهل البوادي وإن كانت الجمعةُ جائزةً بقراهم أيضًا، وهما نظران للأئمة رحمهم الله تعالى.(3/132)
وأما ما رُوي عن أنس رضي الله تعالى عنه: «إنه كان يُجمِّع وقد لا يُجَمِّع فمعناه أنه كان يُجمِّع حين ورد البصرة، وإذا أقام بقريةٍ لا يُجمِّع، وهذا عين ما قلنا لا أنه كان يُجمِّع، وهو في قرية. وأما ما يأتي من أثر عطاء عند البخاري رحمه الله تعالى قال: «إذا كنتَ في قريةٍ جامعةٍ ونُودي بالصلاة من يوم الجُمعةِ، فَحقٌّ عليك أَن تَشْهَدَها سمعتَ النِّداء أو لم تَسْمَعْه». فهو صريحٌ لمذهبنا لأنَّه نُقِلَ فيه الحافظ رحمه الله تعالى زيادةً عن عبد الرَّزَّاق، وفيه: قلت لعطاء: «ما القريةُ الجامِعة؟ قال: ذاتُ الجماعة، والأمير، والقاضي والدُّور المجتمعة، الآخذُ بَعْضُها ببعضٍ مِثْل جدة. ا ه. وهذا يدل أن اصطلاح الجامعة قد كان فشا فيهم، ولذا قلت: إنهم بصددِ حَدِّ المِصْر الجامع.
باب هَل عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الجُمُعَةَ غُسْلٌ منَ النِّساءِ وَالصّبْيَانِ وَغَيرِهِم
باب
يشير إلى أن الغُسْل مسنونٌ ليوم الجمعة أو لصلاتها، والمشهور أنه للصلاة. ومع ذلك أقول: إنه لو اغتسل أحدٌ للصلاة ثم سبقه الحدث فتوضأ، حصل له الثواب وأَحْرَز الأَجْرَ إن شاء الله تعالى.
894 - قوله: (مَنْ جاءَ مِنْكُم الجُمعةَ فَليغْتَسِل) فدَّل الحديث على تفصيل في وجوب الغُسْل يوم الجمعة، وأن الجائي ليس كلاًّ منهم، ولذا قال: «من جاء».(3/133)
قلت: إذا لم يكن «من» ههنا للتعميم عند المصنف رحمه الله فكيف أفاده في قوله: «لا صلاةَ لِمَنْ لم يقرأ بفاتحةِ الكتابِ» فإِن يأخذِ المصنفُ رحمه الله عمومَه في الأحوال كلِّها من الانفرادِ والاقتداء، ساغ لنا أن نأخذَ عمومَه في الأشخاص، أي: من كان من المنفرد أو الإمام فلا صلاةَ له إلا بالفاتحة، ولا بِدْع في أن يكون الخطابُ عامًّا والمخاطبُ خاصًّا، فجاز إرادةُ الخصوص مع وُرُود صيغة العموم كما في قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} (البقرة: 232)، فالخطاب وإن كان عامًّا في الظاهر، لكنه خاصُّ بالأولياء بالنظر إلى أن المخاطبين هؤلاء. وكذلك الخطابُ في حديث: «ائذنوا للنساءِ إلى المسجد - بالمعنى - عامٌّ. والمرادُ منه الأزواج فقط. ولعلك عَلِمت أن الخطاب وإن عَمَّ لكن التكليف قد يكون بالخاصِّ. وحينئذٍ ساغ لك أن تُريدَ بالموصولِ في الحديثِ هُم الذين جازتْ في حَقِّهم القراءةُ.
باب الرُّخْصَةِ إِنْ لَمْ يَحْضُرِ الجُمُعَةَ في المَطَر
وهو المسألة عندنا، غيرَ أنك مأمورٌ بالاستفتاءِ عن قلبك.
باب مِنْ أَينَ تُؤْتَى الجُمُعَةُ، وَعَلَى مَنْ تَجِب
وهذه مسألة أخرى غير مسألة القرية والمِصْر، وهي أن الجمعة إذا وجبت في مصر بشرائطها فعلى مَن يجبُ شهودُها؟ ومَن كان في حواليها؟ وفيها عدة أقوال للحنفية بسطها الشُرُنْبلالي في رسالته «تحفة أعيان الغِنى في أحكام الفِنا» منها: أنها تَجِب على أهل هذا البلد فقطِ ولا تجب على مَنْ حوله من القرى قريبةً أو بعيدةً. والمختار عندي أنها واجبة على مدى صوت الأذان، وهذا في خارج المصر. أما في المِصْر فلا يشترط سماع الأذان أصلا. وعن أبي يوسف أن الجمعة على مَنْ آواه الليل إلى أهله، وهي المسافة الغدوية. قلت: وهو أَعْسَرُ في العمل.(3/134)
قوله: (قال عطاء...) إلخ. وقد مَرَّ أن عطاء يقول بعين مذهب الحنفية، والعجب من المصنف رحمه الله أنه حذف تلك القطعة.
قوله: (سَمِعْت النِّدَاءَ أو لم تَسْمَعْه) وهذا لداخلِ البلد. وما قلت من وجوب الجمعة على مَنْ سمع النداء فهو للخارج عن البلد، وإليه يشير إلى قوله تعالَى: {إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ} (الجمعة: 9)، ثُم قد مَرَّ معنا التنبيهُ على أنَّ عطاء تابعيٌّ، وقد قَيَّدَ القرية بالجامعة. فدل على أن اصطلاح الجامعة قد كان ساريًا في زمنهم أيضًا.
قوله: (وكان أنسُ رضي الله عنه) وقد مَرَّ أنه موافق للحنفية وليس تَجْمِيعُه في قَصْرِه. قلت: وقد أخرج الحافظ عن ابن أبي شيبة أنه كان يشهد الجمعة من الزاوية، وهي على فَرْسَخَيْن من البصرة. وهكذا في «مصنف» عبد الرزاق كما أخرجه الحافظ رحمه الله تعالى أيضًا.
902 - قوله: (كان الناسُ يَنْتَابُونَ). وقد مرَّ التنبيه على لفظ الانتياب وأنه لا يفيد المجيءَ متواليًا. وغَلِط صاحبُ «الصراح» في ترجمته (بيابي آمدن) فإِنه قَطَع النظر عن الأفعال المتخللة في البين، ووصل الفعل من الفعل، وجعل الكُلَّ في سلسلة واحدة، فترجم بِلَفْظٍ دَلَّ على التوالي. ومعناه عند، التحقيق الحضورُ نوبةً بعد نوبة، فإِن شهدوا الجمعة فذاك، وإِلا صَلُّوا في بيوتهم الظهر. ولو كانت الجمعةُ عزيمةً على أهل القُرى لشهدوها البتة. وقد أقرَّ القرطبي شارح مسلم بكونه حجةً للحنفية.
باب وَقْتُ الجُمُعَةِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْس(3/135)
ووقتُها عند الجمهور وقتُ الظهر، وعند أحمد رحمه الله تجوز في وقت العيدين أيضًا، لأنها أيضًا من أعياد المسلمين فتصح في الضحوة، ونُسِب إلى ابن الزُّبير رضي الله عنه أيضًا، قال ابن تيمية: إنه كان كثيرَ التفردات. ونحوه نُسِب إلى ابن مسعود رضي الله عنه. قلت: وهذه النسبة لا تصح إليهما وقد كشفتُ عنه، ولا تَمَسُّك في لفظ الرواح، لما مَرَّ أن المسائل لا تُبنى على اللغة ما لم يشهد بها العملُ.
وأما قوله: «ونَقِيل بعد الجُمُعَةِ» فلا دليل فيه، والتمسَّكُ به سحابةُ صيفٍ، ومعناه عند الجمهور أنهم بعد أداء الفجر لا يرجعون إلى بيوتهم ويجلسون في انتظار الجُمعة، فإِذا قَضَوها ورجعوا إلى بيوتهم طَعِموا وقالوا، أي القيلولة الفائتة، فهو كقولهم: أتزرتُ السَّراويل.
باب إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ يَوْمَ الجُمُعَة
وفي العيني: أنه لا إبراد في الجُمعةِ. وفي «البحر»: أن فيها ذلك. والأرجح عندي ما اختاره العيني رحمه الله.
قوله: (وإذا اشتَدَّ الحَرُّ أَبْرَدَ بالصلاةِ، يعني الجُمُعَة). قلت: والحديث عندي وَرَدَ في الظهر، وأجراه الراوي في الجُمعة من عند نفسه، لأنه ورد في الجمعة من جهة صاحب الشرع، والله تعالى أَعلم، فهو إذن إلحاقٌ بالقياس.
باب المَشْيِ إِلَى الجُمُعَة
جزم أنَّ العَدْوَ ليس بواجبٍ فَعَبَّر بالسَّعْي عن المشي وإنْ كان السَّعْيُ في اللغة بمعنى العَدْو، وإذا كانت صلتُهُ «إلى». وإنما عَبَّر عنه بالسَّعْي على معنى عدمِ الاشتغال بأَمْرٍ سواها. قلت: واختلاف المعاني باختلاف الصِّلات ليس بِمُطَّردٍ عندي، فلا تُبْنى عليها المسائلُ.(3/136)
قوله: (وقال ابن عباس رضي الله عنه: «ويَحْرُمُ البيعُ حِينَئذٍ) وفي «الهداية» في باب الجمعة: أن الصناعاتِ كلَّها حرامٌ في هذا الوقت. وفي: مكروهات البيع: أنها مكروهةٌ تحريمًا. فلا أدري أهو من اختلاف النظر، أَم نشأ مما نُقِلَ عن محمد رحمه الله أَنَّ كُلَّ مكروهٍ تحريمًا حرامٌ؟ وقال الشيخ ابن الهُمام رحمه الله: إنَّ كلَّ نهي لغيره فهو لكراهةِ التحريم وإن كان قطعيًا. قلت: وهذا لا يمشي في الخُلْع، أما المصنف رحمة الله فاختار الحرمة.
907 - قوله: (مَن اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ) قد استقرَّ أئمةُ الحديث على أنه متى ورد لفظ «في سبيل الله» فهو في الجهاد. ولذا ترجم به الترمذي في الجهاد، وحَمَل الصيامَ في سبيل الله على الجهاد. وترجمة البخاري تشيرُ إلى تعميمهِ شيئًا. واختُلِف في تفسيره بين الحنفهية، فقيل: هو مُنْقَطِع الغزاة. وقيل: مُنْقَطِع الحاجِّ. قلت: بل هو أعمُّ منهما نظرًا إلى صَلوح اللغة. نعم، كَثُر استعمالُه فيهما، فساغ أن يكون عامًّا في الحديث أيضًا كما أراده المصنف رحمه الله. وإِن أخذنا رأي الترمذي وغيرِه، فلعل المصنِّفَ أَلْحَقَ الجمعةَ بالجهاد، فتمسك لها بما ورد في الجهاد.
باب لا يُفَرَّقْ بَينَ اثْنَينِ يَوْمَ الجُمُعَة
لأن الجمعة جامعةٌ للجماعات، فلا يُفَرِّقُها بالتَّخَطّي لأَنَّ فيه معنى التأذِّي.
910 - قوله: (فَصَلَّى ما كُتِبَ لَهُ) وتَمَسَّك به الحافظ ابن تيمية على نَفْي السُّنَنِ القبلية يوم الجمعة، وأنه لا تحديدَ فيها، بل هي في خِيرَةِ الرَّجُل كم أَدْرَكَ صَلَّى. قلت: ولنا ما في قِصَّة سُلَيْك: «أركعت الركعتين قبل أن تجيءَ» - بالمعنى - كما عند ابن ماجه وسنذكره. فهو مَحْمُولٌ على السُّنةِ القَبْلية دونَ تحيةِ المسجد.
باب لا يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخاهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَيَقْعُدُ في مَكانِه(3/137)
ويَقْعُدَ بالنصب أولى ليفيدَ النَّهيَ عن المجموع.
باب الأَذَانِ يَوْمَ الجُمُعَة
كان الأذانُ في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّموصاحبيه واحدًا، ولَعلَّه كان خارجَ المسجد كما عند أبي داود، فإِذا كَثُر الناسُ زاد عثمانُ أذانًا آخر على الزَّوْرَاء خارجَ المسجد، ليمتنعَ الناسُ عن البيع والشراء.
والظاهر أن الأذان الثاني وهو الأول انتقل إلى داخلِ المسجد، ثم الأُمة أخذت بِفِعْله وتعاملوا به واحدًا بعد واحدٍ، إِلا ما نَقَلَ أَبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى عن بعض أَهل المغرب: أَنه لا تَأَذينَ عندهم غير مرة واحدة. ثم إذا تَسَلَّط بنو أمية نقلوا الثالث على المنارة، والذي كان على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّمجعلوه في المسجد - أمام الإِمام ولم أجد على كون هذا الأذان داخلَ المسجد دليلا عند المذاهب الأربعة إِلا ما قال صاحب «الهداية» إنه جَرَى به التوارث، ثُم نَقَله الآخرون أيضًا. ففهمت منه أنهم ليس عندهم دليلٌ غير ما قاله صاحب «الهداية»، ولذا يلجأون إلى التَّوارث، أما الإِقامة فكانت مِن قبلُ في المسجد. بقي أذانُ الجَوْق: ففي «الدر المختار» أنه مُحْدَثٌ.
قلت: وعلى مَنْ يَدَّعِي الإِحداثَ أن يُجيب عما في «الموطأ» لمالك - ص 36 : أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يُصلُّون يومَ الجُمعة حتى يخرجَ عمرُ بن الخطاب، فإِذا خرج عمر وجلس على المنبر وأَذَّن المؤذنون. وقال ثعلبة: «جلسنا نتحدثُ فإِذا سَكَت المؤذنونَ وقام عمرُ يخطبُ أَنْصَتْنا فلم يتكلمْ مِنَّا أَحَدٌ». ا ه- فإن قوله: سكت المؤذنون، وأذن المؤذنون، بصيغة الجَمْع يدلُّ على تَعَدُّدِ الأذانين في عده رضي الله تعالى عنه.
باب ُ المُؤَذِّنِ الوَاحِدِ يَوْمَ الجُمُعَة
أي الأذان الواحد.(3/138)
وقد مَرَّ معنا وجه تعبير الأذان بالمؤذن. وهو في ذهن الراوي أن الواحد لا يُؤذِّنُ إلا أذانًا واحدًا.
قوله: ((إِذا جَلِّس على المنبر)) وعند أبي داود: أن هذا الأذان كان في عهده صلى الله عليه وسلّمعند باب المسجد، وفي لفظ: على المنارة.
913 - قوله: (زادَ التأذينَ الثالثَ) أي باعتبار التشريع، وإلا فهو أول باعتبار التأذين به. والثاني ما كان في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم والثالث هو الإقامة. وقد مرَّ معنا التنبيه على أن مَنْصِب الخلفاء بين الاجتهاد والتشريع، فالمجتهدون يمشون على المصالح المُعتبرة، والخلفاء على المصالح المرسلة أيضًا.
باب يُجِيبُ الإِمامُ عَلَى المِنْبَرِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاء
ومرَّ معنا الأقوال في جواب الأذان عند ذلك مرارًا.
باب الجُلُوسِ عَلَى المِنْبَرِ عِندَ التَّأْذِين
كان التأذينُ يومَ الجمعة حين يجلس الإِمام، يعني به أن أذان يوم الجمعة كان على خلافِ دأب سائر الأيام، ففي سائر الأيام كان يُقدم شيئًا، وفي الجمعة كان مُتَّصِلا بالخطبة بدون مُكْثٍ طويل بعده، وكان خارجَ المسجد على سقف بيت أنصاريّ، وكان للصلاة ولم يكن للخطبة أذان.
باب ُ التَّأْذِينِ عِنْدَ الخُطْبَة
وفي «الفتح» عن الطبري: أن هذا الأذانَ كان في زمن عَمرِ رضي الله تعالى عنه أيضًا، إلا أنه لم يكن مُشْتهِرًا اشْتِهَارَه في زمن عثمان رضي الله تعالى عنه. إِلا أنه حَكم عليه بالانقطاع، ولعل زيادةَ عثمان رضي الله تعالى عنه الأذان الثالث كزيادة أذان بلال رضي الله عنه في الفجر.
واعلم إن مفعول القول لا يكون إلا جملة فيلزمه «إن» - بالكسر - إلا في لغة بني سُلَيم إذا كان مُصَدَّرًا بحرف الاستفهام، فحينئذٍ يصح أن يكون مفعولُه مُفْردًا.(3/139)
917 - قوله: (ولتعملوا صَلاتي) وأخطأ ابن حَزْم خطأ فاحشًا حيث ذهب إلى أن تلك الصلاةَ كانت نافلةً، مع أنها كانت صلاةَ الجمعة كما هو منصوصٌ عند البخاري.
باب ُ الخُطْبَةِ عَلَى المِنْبَر
وفي «الفتح»: أن المِنْبر وُضِع له في التاسعة. وثبت عندي في الخامسة. قوله: (كان جِذْعٌ يقومُ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أي يتكىءُ عليه. وتسامَحَ الرَّاوي في اللفظ. وظاهر كلام السَّمْهُودِي أن تلك الجِذْعَ كانت عَمودًا من عُمُدِ الحصة المُسْقَفة يتكىء عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وحينئذٍ يكون اتكاؤه بطريق الاستناد لا بطريق التأبط.
وعند الدارمي روايةٌ تدلُّ على أنه كان يتكىء بذلك العَمود على الإبط. وقد ثَبت أنَّ الحنَّانَة دُفِنت يوم وُضِع المنبر. وأَقَرَّ المُحَدِّثون أن الخشبة التي قام عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفي قصة ذي اليدين كانت هي الحَنَّانة. فثبت أنَّ قصة ذي اليدين قِبلِ بناء المِنْبر. وَوَضْعُ المِنْبر ثَبَت عندي في الخامسة فَثَبت تَقَدُّمُ قصة ذي اليدين، وإذن لا بد أن تكونَ قبل نَسْخ الكلام.
باب ُ الخُطْبَةِ قائمًا
والقيام واجبٌ عند الشافعية، وسنةٌ عندنا.
باب يَسْتَقْبِلُ الإِمامُ القَوْمَ، وَاسْتِقْبَالُ النَّاسِ الإِمامَ إِذَا خَطَب(3/140)
وكان طريق الاستماع عند السلف أنهم كانوا يجلسون للخُطبة كما يجلسون اليوم في مجالس الوعظ، بدون اصطفاف. وهو الذي عناه الراوي بالاستقبال. ثُمَّ جرى الاصطفاف فيما بعد. وفي «المبسوطِ»: أَن الإِمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يستقبل الإِمام ويَصْرِف وَجْهه إليه. وهو في الصفِّ، فالسُّنَّة هي الاستقبال. أما الاصطفاف فلا يُحكم عليه بِكَوْنه بدعةً، لأَنه ثبت أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان يذهب إلى النِّساء لأَخْذ الصدقة يوم العيدين وهُنَّ في صفوفٍ بعد. فدلَّ على ثبوت الصفِّ أيضًا.
باب ُ مَنْ قالَ في الخطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ: أَمَّا بَعْد
قيل: إن أول مَنْ سُبِقَت عنه تلك الكلمةُ داودُ عليه السلام، وهي التي عُنيت بقوله تعالى: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (ص: 20). قال سيبويه: إن أصله مهما يكن من شيءٍ بعد من الغايات مَبْني على الضَّم. وللنُّجَاة في «إذ» الشرطية قولان، قيل: إن العامل فيه فِعْلُ الشرط، وقيل: فعلُ الجزاء. واتفقوا في الظرفية أنَّ العامل فيها فِعْلُ الجزاء.
924 - قوله: (لكنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ) أي جماعةً ومن خصائص الجماعة أنها تجلِبُ الوجوب، ولذا أمرهم أن يصلوا بها في البيوت. وحينئذٍ لم يخالف ذلك ما مرَّ معنا من وجوب صلاة الليل، وأنَّ النَّسْخ لم يرد فيها، وإنما ورد التخفيف من التطويل. وأنه تأكد بها الوتْرُ مع تغيير الشاكلة يسيرًا، لأنه لو كانت تلك الصلاة نُسِخت كما فهموه، لم يكن لخشية افتراض صلاةٍ نُسِخت معنىً. وفي «الصحيح» لابن حِبان: «خَشيتُ أن تُفْرَضَ عليكم الوِتْرُ». قلت: الوِتْر فيه بالمعنى العامِّ الشاملِ لصلاة الليل أيضًا، فتنبَّه.
باب ُ القَعْدَةِ بَينَ الخُطْبَتَينِ يَوْمَ الجُمُعَة(3/141)
وهي سنةٌ عندنا. وفَرَّق اللغويون بين الجلوس والقعود ولم يستقروا على شيءٍ. ولو ثبت أن القعودَ يكون من القيام بخلاف الجلوس فإِنَّه من الاضطجاع، لكان مُعتبَرًا ههنا أيضًا.
باب ُ الاسْتِماعِ إِلَى الخُطْبَة
وهو واجبٌ على القوم. ويجوز للإِمام أن يأمُرَ ويَنْهَى عند الحاجة خلالَ الخُطبة. وللقوم أن يمنعوا بالإِشارة مَنْ كان يَلْغط.
وذهب أحمد ومالك أيضًا إلى الوجوب. وهو القول القديم للشافعي رحمه الله تعالى. وفي الجديد: أنه مُستَحبُّ. ومِن تفاريعه وجوبُ الفاتحة على المقتدي، فقد كان يختار أولا وجوب الاستماع، ثم رجع إلى وجوب القراءة. ثم أنه لم يأت للقول الجديد إلا بوقائع في عهده صلى الله عليه وسلّملا تخالِفُنا أصلا. وصرَّح الشيخ ابن الهمام رحمه الله تعالى - مِنَّا - بجواز الكلام للإِمام عند الحاجة.
929 - قوله: (مَثَلُ المُهَجِّر) والهَاجِرة في أصل اللغةِ لِنِصْف النهار، ثُم أُطلق في التكبير تَوَسُّعًا، وهو من الصبح عند الجمهور، ومن الزوال عند مالك رحمه الله تعالى. وعند أبي داود - ص 150 - في: باب فضل الجمعة في حديث طويل: «فإِذا جَلَس الرجل مَجْلِسًا يَسْتَمْكِنُ فيه من الاستماع والنظر - إلى الإمام - فأَنْصَتَ ولم يَلْغُ، كان له كِفْلان من أَجْر، فإن نأى وجلس حيثُ لا يسمعُ فأَنصَتَ ولم يَلْغُ كان له كِفَّلُ من الأَجْر، وإن جَلَس مَجْلِسًا يستمكن فيه من الاستماع والنظر فَلَغا ولم يَنْصِت كان عليه كِفْلان من وِزْر - إِلخ وكِفْلان مِن وِزْر مع اتحاد الشَّرْط في الصورتين.
باب إِذَا رَأَى الإِمامُ رَجُلا جاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ، أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَين
باب ُ مَنْ جاءَ وَالإِمامُ يَخْطُبُ صَلَّى رَكْعَتَينِ خَفِيفَتَين(3/142)
وهو مذهب الشافعي، وأحمد، ومذهب مالك وأبي حنيفة أنه يَقْعُد كما هو ولا يصلي، ولا يترك فريضةَ الاستماع والإنصات.
ويقضي العَجَب من الشيخ النووي كلّ العجب حيث نَقَلَ عن القاضي عياض أنه هو مذهبُ الجمهور من الصحابة والخلفاء الراشدين، ثم قال: إن ما أَوَّل به الخصومُ قصة سُلَيك تأويلٌ باطل يَرُدُّه صريحُ الحديث.
وجملةُ المقال في هذا الباب أن هناك أمرين: واقعة سُلَيك، وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم
أما واقعة سُلَيك فكما في الأحاديث: أنه دخل ورسولُ الله صلى الله عليه وسلّميَخْطُبُ يومَ الجمعة، فقال: «أصليتَ»؟ قال: لا، قال: «قُمْ فَصَلِّ الركعتين» - مسلم .
وأما القول فكما في «الصحيحين» بعده: «إذا جاء أحدُكُم يومَ الجمعة والإِمامُ يخطُبُ فليركع ركعتين وليتجوَّز فيهما». والتفضِّي عن القول مُشْكِل فإِنه تشريع، أما الواقعة فيمكنُ حَمْلُها على الأعذار، فمنها ما عند النِّسائي في «كبراه»: أنَّ هذا الرجلَ دخَل بِهيئةٍ رَثَّةٍ ولم تكن عليه ثيابٌ، فأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأن يتصدَّقَ عليه الناسُ فَرَعَّبهم فيه، فَأَمَرَه بالصلاة ليرى الناسُ هيأَته البذة فتصدقوا عليه. هكذا في «المسند»، و«صحيح ابن حِبَّان»، والطحاوي. وبَوَّب عليه النسائيُّ بالحَثِّ على الصدقة، إشارة إلى ما هو الأَهم في قِصَّته.(3/143)
فإِن قلت: لو كان كما قلتم لَمَا أمره بالركعتين في الجمعة الأخرى، وفي التي بعدَها أَيضًا، فهل كان يريد الإِراءة كلَّ مرة؟ وإِذن لا يكون المقصودُ إلا تَحْرِيضَه على تحية المسجد، والتصدُّق عليه يكون تَبَعًا. قلتُ: وفي الجمعة الثالثة تَرَدَّدَ الراوي. ولا بُعْد في الجُمُعتين أن يكون أَمْرُه لذلك، وعند ابن حِبَّان فيه زيادة وهي: «لا تَعُودن لِمِثْل هذا». ا ه. فحملوها على النَّهي عن تَرْك هاتين الركعتين. قلتُ: بل نَهْيُّ عن الإِبطاءِ عن الجمعة وحُضُوره في وقت الخطبة حنى لزِمه إمساكُها، فهو كقوله لأبي بَكْرة رضي الله عنه حين بادر إلى إِدْرَاك الرُّكوع: «زادك اللَّهُ حِرْصًا ولا تَعُد». وقد اختلفوا في شَرْحه أيضًا كما مرّ.
ثم عند مسلم - ص 287 - أَنه جاء ورسولُ الله صلى الله عليه وسلّمقاعِدٌ على المِنْبر، فدلَّ على أنه لم يكن دَخَل في الخُطبة بَعْدُ، بل كان يريدْ الخطبة سيما على مذهب الشافعية، فإِن القِيام من شرائط الخطبة عندهم. فلزِمهم أن يقولوا إِنَّه لم يكن دَخَل في الخطبة.
وتمسك الشيخ العيني رحمه الله تعالى برواية النسائي، وليس فيه ما رامه فلا يتم التقريب، ولذا عَدَلْت عنه إلى حديث مسلم. وبه يَتم مقصوده إن كان غرضُه أنه صلى الله عليه وسلّملم يكن دخَل في الخطبة، وإن كان مقصودُه أنه كان بدأَ الخطبةَ إلا أنه أمسك عنها. فله ما عند الدَّارقطني: أنه كان أمسك عن خطبته. وهو مرسَلٌ جيد، وهو صَرِيح في أنه كان دخل في الخطبة، إلا أنه أمسكها ريثما صلى الرجل صلاته وحَثَّ فيه على التصدق عليه، ولا يُدْرَى أنه استأنفَ خطبته بعده، أو بَنَى عليها، والظاهر الأول.
وبقي أنه هل يجوز للإِمام أن يتكلم في الخطبة؟ فالأحسن عندي أن لا يوسع فيه. وينبغي أن يُقْتَصر على النبيِّ صلى الله عليه وسلّموإن صَرَّح الشيخ ابنُ الهُمام رحمه الله تعالى بجوازه عند الحاجة.(3/144)
ثم إنه ما الدليل على كونها تحيةَ المسجدِ كما فهموه؟ لمَ لا يجوز أن تكون سنةً قَبْلِيةً للمجمعة؟ فعند ابن ماجه بِسَندٍ قويَ: «أصليتَ الركعتين قَبْل أن تجيءَ»؟ ومعلومٌ أن تحية المسجدِ لا تكون إلا بعد المجيءَ. ولذا أخرجه الزَّيلَعي في السُّنة القَبْلِيَّة، وحَكَم عليه أبو الحجاج المِزّي الشافعي وابن تيمية بكونه تَصْحِيفًا من الكاتب. والصواب: «قبل أن تَجْلِس».
قلتُ: كيف يُحْكم عليه بالتَّصْحِيف مع أن الإِمام الأَوْزاعي، إِسحاق بن رَاهُويه رحمهما الله تعالى بَنَيا عليه مذهبهما، فذهبا إلى أَنه يصليهما في البيت وإلا ففي المسجد، وإن دخَل الإِمام في الخطبة. وقد مرَّ معنا أن الحديث إذا ظهر به العملُ انقطع عنه الجدل. ثم رواية جابر رضي الله عنه ومَذْهبُه كما في جزء القراءة أنه كان يصلِّي بهما في المسجد وإنْ خطب الخطيب، وإن كان قَدْ صلَّى في البيت.
وهذا يدل على صِحَّة لفقظ: «قبل أن تجيءَ»، لأن قوله ذلك ناظر إلى لفظ: «قبل أن تجيء»، يعني به أَنه لا يقتصر عليهما في البيت، بل يصلِّيهما في المسجد أيضًا على سُنَّة سليك، وإن لم يكن مذهبه كمذهبنا.
ثمَّ سؤالُه عن الركعتين إنما يتأَتَّى إذا كان عن السُّنةِ القَبْلية، أما عن تحية المسجد فإِنه حَضَر بمرأَى عينيه ولم يُصَلِّ فما معنى السؤال؟ اللهم إلا أن يقال إِنه لم يقع بصرُه عليه ابتداءً، فإِذا رآه سئل عنها. وأَوَّله الحافظ بأن المرادَ منه قَبْل أن تجيءَ من ذلك المكان إلى هذا المكان، فإِذن السؤالُ عن الصلاة في المسجد دون البيت. قلتُ: وهو غَنيُّ عن الردِّ. بقي القول: فجوابه أن الدَّارقطني تَتَبَّعَ على «الصحيحين» في عدة مواضعَ، وتتبَّع على البخاري في نحو مئة موضع ونَيِّف، وكلها في الأسانيد إلا هذا الحديث فإِنه تَكلم فيه في المتن. وقال: إن أَصْلَه «واقعة» جعَلَه الراوي «ضابطة». فالصواب أنه مُدْرَج من الرَّاوي.(3/145)
قلتُ: ويؤُيده صنيعُ البخاريّ، فإِنه أخرج هذا القول مِرارًا ثُمَّ يُترجِم عليه بهذه المسألةِ مع أنه اختارها، فلو كان القول هو الأصل عنده لأَخرجه البتة لكونه صريحًا فيما ذهب إليه، لكنه لم يُخَرِّجه في أبواب الجمعة، وتمسك به في مسألة أخرى، وهي مثنوية الصلاة مع أن لها أحاديثَ أخرى أصرَحُ منه عنده، والذي سيق له الحديث هو الركعتان عند الخطبة. فَتَرْك التمسك منه على مسألةٍ مذكورة صراحةً والتمسُّك على مسألةٍ ضمنيةٍ دليلٌ واضحٌ على أنه لم يثبت عنده القولُ، ولكنه واقعةٌ كما قال الدارقطني.
وقد تحقق عندي أَن من عادة البخاري أن الحديث إذا كان صحيحًا عنده في نفسه، وتكون فيه مسألة لا يقوم هذا الحديثُ حجَةً عليه لأَمرٍ سَنَح له، لا يترجم على هذا الجزء وعلى هذه المسألة.
ثم أقول: إن السُّنَّة لو كانت جَرَت بهذا القول وإن الداخل في المسجد يصلِّي تحية المسجد، وإن خطب الإِمام، فلم أمسك النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعن خطبته كما مرَّ عن الدارقطني، فإِذا نظرنا إلى فِعْله صلى الله عليه وسلّمأنه لم يكن دَخَل في الخطبة على لفظ مُسلم، أو دخلها ثُمّ أمسك عنها على ما عند الدارقطني عَلِمنا شَرْحَ قولِهِ من فِعْله صلى الله عليه وسلّم وهو أَنَّ المراد من قوله: «والإِمام يخطُبُ»أي كاد أن يخطب، ولا بِدْع في إِطلاق «خطب» إذا كان بصدد الخُطبة ولم يبق منه غيرُها، على أن عند مسلم - ص 217 : «إذا جاء أحدُكم وقد خَرَج الإمامُ» إلخ فدل على أن الأمر فيما لم يخطب بَعْدُ وهو بصدد أن يخطُب.(3/146)
وهذا يذلك ثانيًا على أن المرادَ من قوله: «خطب» أي قارب الخُطبة وبلغ مَوْضِع الخُطْبة. وفي بعض اللفظ عند البخاري ص 156 : «والإِمام يخطُبُ، أو قد خَرَج»، وليس فيه «أو» عندي للتنويع بل للشك من الراوي، فما دام لم ينفصل لفظُ النبيّ صلى الله عليه وسلّملا تُبنَى عليه المسألة. وهو كذلك بالشك عند أبي داود أيضًا.
وقد سَلَك الطحاوي في جوابه مَسْلَكًا آخر وهو إقامة المعارضة بنحو ما رُوي في «الصحيح»: «أن رجلا شَكَا إِليه القَحْط وهو يَخْطِب، فاستسقى له ولم يأمُرْه بأَداء تحية المسجد». وكذلك جاء عنده رجل آخر يسألهُ عن حاجته، فأمره أن يَقْعُد ولم يأمُرْه بالركعتين.
باب ُ رَفعِ اليَدَينِ في الخُطْبَة
واعلم أنه ثبت كراهةُ رَفْع الأيدي في الخطبة. وحَمَله العامة على أن هذا الرَّفْع كان للتفهيم، كما شاع الآن في الخطباء والواعظين، أنهم يحرِّكُون أيديهم للتفهيم. فلعلَّه فَعَله بِشْرٌ وكرهه الناس. وقالوا: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يكن يزيد على الإشارة بالأصابع.
قلتُ: والأرجح عندي أن تلك الإشارة كانت للدعاء للمؤمنين، فإنه مسلوكٌ في الخُطبة فأنكروا عليه، لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يكن يَرْفَعُ له إلا أصبُعُه المباركة. هكذا شَرحه البيهقي، ونقله شارح الإحياء في «الإتحاف».(3/147)
قلتُ: ويؤيده ما عند مسلم - لقد رأيت بِشْرَ بن مروان يومَ الجمعة يرفعُ يديه - أي للدعاء - وأصْرَحُ منه ما عند الترمذي ففيه: وبِشْرُ بن مروانَ يخطُبُ، فرفع يديه في الدعاء. وإنما حَمَله النَّاسُ على تحريك الأيدي، لخمول هذا النوع. والطريق المعروف في الدعاء الآن رَفْع الأيدي كلتيهما. ثُمَّ تَتَبَّعْتُ ذلك أنَّ الدعاء هل يكون بِرَفْع الأصبع؟ ففي «الدُّر المختار» عن «القُنية» في باب صفة الصلاة: والإشارة لِعُذْرٍ كَبْرد يكفي فجوِّز بالإشارة عند العذر، كأنه اختصار من رَفح الأيدي. وفي «البحر»: أن الدعاء على أربعة أنحاء: دعاء رَغْبة، ودعاء رَهْبة، ودعاء تَضَرّع، ودعاء الخفية، وجعل الدعاء برفع الأصبع من الضَّرْب الأول.
«وفي البحر» في باب الوتر عن مولى أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه كان يرفَعُ يديه في القنوت للدعاء، وتارة يكتفي بالأصبع أيضًا. ونُسِب ذلك إلى إمامنا أيضًا. ثم إنهم لا يكتُبون أن تلك الإشارة تكون بِظَهْر الأصبع أو ببطنها.
قلتُ: إن كانت اختصارًا من الدعاء، فالأَظْهر أنها تكونُ ببطنها. وإن كانت للتفهيم وغيره فهو مُخيَّرٌ فيه إن شاء فَعَل بالظَّهر أو بالبَطْن.
قوله: (فَمَدَّ يَدَيْه ودَعَا) وهذا كان كهيئةِ الدعاء المعروف.
باب ُ الاسْتِسْقَاءِ في الخُطْبَةِ يَوْمَ الجُمُعَة
وهو ثلاثة أقسام: الدعاءُ له بعمد الصلواتِ الخَمْس، وفي الأوقات سوى الخَمْس، والصلاة له. واختلفوا في النوع الأخير.
قوله: (الكُرَاع) يُطلق على كلِّ ذات قوائم أربع ولا سيما الخيول.
933 - قوله: (جَوْد) هو المطر الذي تكون قطراتُه كبيرة. وفي «فتح الباري» أنه قال بعد ما مطرت السحاب: «لو كان أبو طالب حيًا لقرَّت عيناه، فإنه كان يُستسقى بوجهه في زمن صِبَاهُ. وفيه قال:(3/148)
*وأَبيضُ يُسْتَسْقَى الغمامُ بِوَجْههِ ** ثمال اليتامى عِصْمَةٌ للأَرَامِل فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «مَنْ ينشدنا قصيدته هذه؟ فقام عليٌّ رضي الله عنه من ساعته، لأن أبا طالب كان أباه فجعل ينشد له بيتًا فبيتًا». فَلما عَلِمْت من إعجاب النبي صلى الله عليه وسلّمقصيدتُهُ ونَعْتُه بالاستسقاء. نظمت فيه قصيدةٌ أيضًا بالفارسية وَوَصَفَته فيها بذلك، وأوَّلُهَا:
*اي آنكه همه رحمت مهداة قديري ** باران صفت وبحر سمت ابر مطيري ... إلخ الأبيات.
933 - قوله: (اللهم حَوَالَيَنَا وَلا عَلَيْنَا) قال الطِّيبي: إنَّ الواو ههنا للتعليل كما في قولهم: تجوعُ الحُرَّةُ ولا تَأْكُلُ بثديها.
باب ُ الإِنْصَاتِ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمامُ يَخْطُب
قوله: (فَقَدْ لَغَا) وهو على اللغة، أي اشتغل بما لا يعنيه، فإنه كان تكفيه الإشارة. وقد مرَّ عن الشيخ ابن الهمام رحمه الله تعالى أنه يجوز للإمام عند الحاجة دون القوم. وفيه حكاية عن المثنوي: «صلى ثلاثةُ رجالٍ وكانوا حمقاءَ، فَتَكَلَّم أحدُهم في الصلاة. فقال له الآخَرُ وهو يصلِّي: إنَّ الكلامَ في الصلاةِ مُفْسِدٌ». فقال الثالث: فَشُكرًا لله حيثُ لم أتكلم».
باب ُ السَّاعَةِ الَّتي في يَوْمِ الجُمُعَة(3/149)
واختلفوا في تعيينِها، وبقائها، ورَفْعها على عدة أقوال ذكرها الحافظ رحمه الله في «الفتح»، ولا نطوّل الكلام بذكرها: فذهب أحمد وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلى أنها بَعْد العصر. قال أحمد: وأكثرُ الأحاديث إلى أنها بعد العصر. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إنَّها من الخُطبة إلى الصلاة. واحتج بحديث أبي موسى الأشعري. وعَلَّلَهُ أحمد رحمه الله تعالى وأشار إليه البخاري أيضًا. وعَدَّها الشاه وَلِيُّ الله رحمه الله تعالى من ساعات الإجابة في هذا اليوم، وإن كانت الموعودة هي ما بعد العصر، وهو جَمْع حَسَنٌ.
قلتُ: والظاهر أنها بعد العصر والموعودة هي هي، وفيها خُلِق آدم عليه السلام. وفي الأحاديث في فَضْل الجمعة أنه خُلِق فيها آدمُ. ولما كان الفَضْلُ فيها من جهة خَلْق آدم عليه السلام، ناسب أن تكون تلك الساعةُ هي ساعةَ خَلْقِهِ فإن قيل: لما كانت تلك الساعةُ لأجل يوم الجمعة، والبركةُ فيها من جهة الصلاة، فينبغي أن تكون متقدمةً عليها أو معها، لا بعدها.m
فإن المقصود مُتأخِّر.
قلتُ: بل هي كالوقوفِ تُقَدَّم على طواف الزيارة، مع أن المقصود هو هذا الطواف. وعند أبي داود: «أن ابتغوا تلك الساعةَ في آخِر ساعاتِ العصر». وحَسَّنه المُنْذري، وعلَّله الحافظ رحمه الله تعالى. وَقَدْ أَجَبْتُ عنه. وفيها مذاكرة بين عبد الله بن سَلام وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما ذكَرَها الترمذي وابن ماجه. وفيها قال عبد الله بن سَلام: هي بعد العصر إلى أن تَغْرُبَ الشَّمْسُ. فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: «فكيف تكون بعد العَصْرِ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يوافِقُها عبدٌ مُسلم وهو يصلِّي، وتلك الساعةُ لا يُصلَّى فيها؟ فقال عبدُ الله بن سلام: «أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «مَنْ جَلَس مجلِسًا ينتظرُ الصلاةَ فهو في الصلاة». قال: بلى. قال: «فهو ذاك».(3/150)
وعُلم منه أن عبدَ الله بن سلام أجابه بنوع تأويل، وحَمَل قوله: «وهو يُصَلِّي» على انتظار الصلاة، فإنه الصلاةُ حُكْمًا. ويُتَوهَّم من ابن ماجه أن هذا التفسير مرفوعٌ، والصواب أنَّه مُدْرج، فلا تَغْفُل وقد تنحَّيت عنه. وعندي معنى قوله: «وهو قائم يُصلِّي» وهو ثابتُ القدم في صلاته حيث يداومُ ويحافظ عليها. فذلك الوَعْدُ لِمَنْ كان يصلِّي الصلاة والجُمُعات، ويقومُ بِحَقِّها لا لِمَنْ تغافَل عنها وجعلها وراءَ ظهره، حتى إذا حضرتِ الجمعةُ وأدركَ تلك الساعةَ طَمِع في أن يَحْصُل له ذلك الأَجْرُ. ثُمَّ رأيتُ نحوه عن كَعْب الأحبار عند «شارح الإحياء» وفي التوراة أن تلك الساعةَ بعد العَصْر. وهو الصَّواب عندي.
935 - قوله: (وأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا). ولذا قلتُ: إن حديثَ أبي داود يَدُلُّ على التأخير الشديد في صلاةِ العَصْر.
باب إِذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنِ الإِمامِ في صَلاةِ الجُمُعَةِ، فَصَلاةُ الإِمامِ وَمَنْ بَقِيَ جائِزَة
ولا تَصِح الجمعةُ عند الشافعي رحمه الله تعالى إلا إذا كان القومُ أربعين رجلا. وعندنا تَنْعَقِدُ بأربعةٍ مع الإِمام. وفي رواية: بثلاثة، فإن نفروا بعد التحريمة فهل يتم ظهرًا أو جمعة؟ راجِعْهُ في الفقه.(3/151)
قوله: ({تَرَكُوكَ قَائِمَا)}(الجمعة: 11) فإن قلت: كيف وهم أتقى الناسِ في الأَرَضِين وأزهدُهم بعد الأنبياء والمرسلين؟ قلتُ: والجواب كما في «التوشيح» للسيوطي: أن الخُطبة في الجمعة كانت على شاكلة العيدين بعد الصلاة، ثم قدِّمت عليها. فلعلهم حَمَلوا استماعَها على الاستحباب، وظَنُّوه كسائر الخُطَبِ، ولم يَرَوْهُ عزيمةً عليهم، ولا سيما إذا كان عند النَّسائي: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان ينادي بعد العيدين أَنْ: «مَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَمْكُثَ فَلْيَمْكُث، وَمَنْ شاء أن يذهبَ فليذهب». وتَرَدَّد فيه الحفاظُ فَدَلَّ على التوسيع في خطبة العيدين. وفي «الدرُّ المختار». أن استماع جميع الخطب واجب.
قلتُ: ولا يناسِبُ هذا التوسيع،بل ينبغي أن يُفَصَّل في الأمر. أما قوله في البخاري: «ونحن نصلِّي»، فهو على نحو تجوُّز من تعبيرِ سِلسلةِ الشيء بالشيء نفسه، فأطلق الصلاة على ما بقي من متعَلَّقات الصلاة. وهذا كما أنك تقول: اذهب للصلاة، مع أن الإمام لَمَّا يَخْطُب بعد. وذلك لأنك تَعُد الخُطْبَةَ والصلاةَ والدعاءَ كلَّها صلاةً لكونِها في سلسلةِ تسميةٍ للمجموع باسم العُمدة فيه. فلما كانت الصلاةُ هي المقصودةَ، والخطبةُ قبلها والدعاءُ بعدها من متعَلَّقاتِهَا، عَبَّروا عن المجموع بالصلاة. ولا يقولُ من أَهْل العُرْف واحدٌ منهم إنه يذهبُ للخُطبة. ثم للصلاة. ثم الدعاء مَثَلا، ولكنهم يعبِّرُون بالصلاة. فهذا هو الوجه في تصحيح ذلك المقال، فدع عنك القيل والقال.
قوله: ({وإذا رَأَوْا تجارةً أَو لَهلأ انفضوا إليها}) (الجمعة: 11) وإنما سُمِّي لهوًا عتابًا. قالوا: ومِنْ هؤلاء الاثني عَشَر العشرةُ المُبشَّرَةُ.
فائدة:(3/152)
قال شيخنا مولانا شيخ الهند: إنَّ الكلام كُلَّما صدَر من عظيم ازداد تَطَرّقَا للمجاز. قلتُ: بل كلامُ كلِّ عظيمٍ يحتوي على علومٍ كثيرة، ولذا تجِدُ الفَرْق بين القرآن والحديث. فكلامُ العظيم أَشْمَلُ، وكلامُ الأوساط أَصْرَح، لأن كلامَهم يكون منسلِخًا من علومٍ عديدة. فينزل إلى الصَّراحة لا محالة. ولذا ترى الناس يتناولون تصانيف الأَقْرَبَ فالأَقْرب بزمانهم، لأنه يكون أَشْبَهَ بذوقهم. ولذا أقول: إن مرادَ اللفظ لا يتعيَّنُ إلا بالتعامل، فإنه يَخْلُص به المرادُ، ويتميز المقصودُ عن غيره، بخلاف اللفظ، فإنَّه وإن صُرِّح لكنه لا تنقطع عنه احتمالاتُ المجاز وغيره. وقد بلوتهم أنهم يسَوُّون القواعد للنقيضين، فأي رجاءٍ منها بعده، فإذا رأى أحدُهم حديثًا ضعيفًا وافق مذهبهُ يُسَوِّي له ضابطةً، ويقول: إن الضعيف يَنْجَبِر بِتَعدُّد الطرق. وإن رأى حديثًا صحيحًا خالف مذهبه يُسوِّي له ضابطةً أيضًا، ويقول: إنه شاذُّ، وهكذا جَرَّبْتُهم في مواضعَ يفعلون كذلك، فيجعلون القواعد حَسَب مرادهم من الطرفين. لا أريدُ به هَدْر هذا الباب، بل إن الطرد لا يليقُ به إذا اتضح ثورٌ من حِراء، وأين البيان بعد العيان؟
باب ُ الصَّلاةِ بَعْدَ الجُمُعَةِ وَقَبْلَهَا
قيل: إنه يشيرُ أنه ليس فيه حديثٌ عنده، ولذا أخرج حديث الظهر. وقيل: بل يشيرُ إلى القياس على الظهر، فالسُّنن قبل الجمعة مِثْلُها قبل الظهر. أما السُّنن البَعْدية فقد ثَبَت الحديثُ فيها عند مسلم. وأما القبلية فقال ابن تيمية: إنه لم تثبت فيه سُنَّةٌ مستقلة، بل كان الأمر فيها عندهم على الإِطلاق بِحسَب سعة الوقت، فكم شاؤا صَلُّوا.(3/153)
قلتُ: ولو صَحَّ لفظ ابن ماجه: «قبل أن تجيء» المار آنفًا لَصَلَح حجةً للقبلية أيضًا. واحتج به الحافظ الزَّيلعي رحمه الله تعالى للقَبْلية كما مَرَّ، ولها رواية عند الزَّبِيدي في «شَرْح الإحياء» أيضًا. ثم الأَرجح عندي في البَعْدية أن يقدم الشَّفْع على الأربع كما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه. وثبت في أحاديث الأَرْبع والركعتان أيضًا.
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوةُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10)
باب ُ القَائِلَةِ بَعْدَ الجُمُعَة
أَمْرٌ بعد الحَظْر فلا يفيد إلا الإِباحة. وهكذا فليقس عليه قوله: «لا تَفْعَلوا إلا بِأُمِّ القرآنِ» فلا يفيد الاستثناء غير الإباحة.
938 - قوله: (على أَرْبِعَاءَ في مَزْرَعَةٍ) وكانت تلك المزرعةُ تُسْقى من بئئر بُضَاعة كما عند البخاري في: باب تسليم الرجال على النساءِ والنساء على الرِّجال، عن سَهْل قال: «كنا نَفْرَحُ بيوم الجمعة.
قلتُ: ولِمَ قال: كانت عجوز لنا تُرْسِل إلى بُضَاعة... إلخ، وليس التصريحُ به إلاّ في هذا الموضع. نَبَّه عليه الياقوتُ الحَمَوي في «مُعْجَم البلدان» ولم ينبه عليه غيره. وهذا هو مراد الطحاوي بكونه جاريًا في البساتين، أي كانت المزارِعُ تُسقى منها فلم يكن الماءُ يستقر فيها، وكان الماء ينبع فيها من التحت، ويخرج من الفَوْق وهو أيضًا نوعٌ من الجريان. والناس لَمَّا لَمْ يُدْرِكُوا مرادَه طَعَنوا فيه.
كتاب الخَوْف
باب ُ صَلاةِ الخَوْف
فيها فوائد:(3/154)
الفائدة الأولى: في تحقيق صفات تلك الصلاة، وتَنْقيحها، وترجِيح بعضِها على بعضٍ من حيثُ التَّفَقُّه: فاعلم أنه قد ثبت فيها صفاتٌ عديدة سردَها أبو داود والنَّسائي، وكلها تؤول إلى ستةٍ كما نقحها ابن القيم في «زاد المعاد» وقال: إنَّ النَّاس حمَلوا الأحاديث فيها على صفاتٍ مستقلة مع كون أكثرِها من اختلاف الرواةِ. ونَقَل عن أحمد رحمه الله تعالى أن تلك الأحاديثَ الستةَ كُلُّهَا صِحاح.
قلتُ: إن الصفاتِ كُلَّها جائزةٌ عند الكلّ، كما صرَّح به القُدوري في «التجريد»، وعلي القاري، وصاحب «الكنز» في المُسْتَصفى، وكذلك في عبارة الكَرْخي، و«مراقي الفلاح». فلا يُؤخذ بما في «فتح القدير»، ففيه إيهامٌ شديدٌ بعدَم جواز الصِّفات غير ما اختارها أصحابُ المتون، وكذا إيهامٌ في «فتح الباري» في «المغازي». والصَّواب أنها جائزةٌ كلُّها عند الكلِّ. كيف وقد صَحَّت الأَحاديثُ في كلها، فلا سبيل إلا بالتزام الجواز. نعم يجري الكلام في الترجيح. فالصِّفَةُ المشهورة في متون الحنفية: أنَّ الإمامُ يُصلِّي بالطائفة الأُولى ركعةً، وتذهبُ تلك وِجَاه العَدُو، وتجيء الطائفةُ التي لم تصلِّ بعدُ وتصلِّي خَلْفَه ركعةً. ثُمَّ يُسلِّم الإمامُ وتمضي هذه وِجاه العَدُو، وترجِعُ الأُولى وتركع ركعةً أُخرى، كالمسبوق وتُسَلّم، وتذهب إلى مكانِ الطائفة الثانية. وتجيءُ تلك وتُتِمُّ صلاتَها كاللاحق، وتركع ركعةً ثُمَّ تُسَلِّم. هذه صفتُها في عامّة متوننا، وهي أحسن الصفات باعتبار بقاء ترتيبِ الصلاة. ففيها فراغُ الإِمام قبل المُقْتدي دون العكس، وفيها فراغُ الطائفة الأولى أولا والثانيةِ ثانيًا كما يقتضيه الترتيب، إلا أنَّ فيها قُصورًا أيضًا، وهو كَثْرةُ الإياب والذهاب، وهذا مَشْيٌ في الصلاة دونَ الصلاةِ مَاشِيًا، فإن الصلاة ماشيًا لا تجوز عندنا.(3/155)
ولنا صفةٌ أخرى في الشروح، وليس فيها ذلك المحذور، وهي:أن الطائفة الثانية بعدما صلَّت ركعةً مع الإمام تُتِمَّ صلاتَها في مكانها وتُسَلِّمُ، ثُمَّ ترجِع الأُوْلى وتُتِم صلاتَها، فَقَلَّ فيها المشيُ أيضًا وإن لزِم فراغُ الثانية قبل الأولى.
أما الشافعية فاختاروا أن الإمام يصلِّي بطائفةٍ ركعةً، ثم يقوم الإِمام ويُتِمُّون هؤلاء لأنفسِهم ويذهبون إلى العدو، وينتظرُ الإمام الطائفةَ الأخرى حتى إذا جاءت صلَّى بهم ركعةً، ويسلِّم. وتقومُ تلك الطائفةُ وتُتِم لأنفسِهم. وقال المالكية: إن الإمام بعد الركعةِ الأخرى ينتظرُ القومَ في القعدة، حتى إذا أدركوه في القَعدة يُسَلِّم بهم.
وهذه الصفة وإن كانت أحسنَ بحسبِ قِلَّة المشي لكن فيها قَلْبُ موضوع الإمامة، فإنَّ الطائفةَ الأُولى فَرَغت قبل الإِمام، وفيها أنا لإمام ينتظرُ للطائفة الثانية، وللتسليم أيضًا عند المالكية، وإذا أشدُّ على الحنفية من كَثْرة المشي، ولعلَّ الشافعية رحمهم الله تعالى رَجَّحوها لضعف رابطة القدوة عندهم، فلم يَرَوا في ذلك الاختلال بأسًا، وهي قويةٌ عندنا فرأنيا كَثْرَةَ المشي أهونَ.
الفائدة الثانية: في النظر في الآية، وما يترشح منها من صفة الصلاة، وذِكْر بعض الاعتبارات المناسبة: قد تكلموا في الآية، هل تثبت منها صفةُ صلاتِنا أم صفةُ صلاتِهم؟ فتكلم من الشافعية البيضاويُّ، ومن الحنفية صاحبُ «المدارك»، والشيخُ الآلوسي، وهذا الشيخ قابل «مقامات الحريري» بكتاب سمَّاه «المقامات الخيالية» لكنه لم يُطبع. والذي عندي أن الآية لا توافِقُ واحدًا منهما بتمامه، بل سَلَكَت مسلك الإِجمال في موضع التفصيل.(3/156)
وأكبر ظني أن القرآن أَجْمَل فيه قصدًا ليتوسَّعَ الأَمْرُ، ولو صرَّح لَتَعَيَّنَتْ تلك الصِّفَةُ، فقال: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ} (النساء: 102) نُسِبَ إلى أبي يوسف رحمه الله تعالى أن صلاةَ الخوف كانت مخصوصةً بِعَهْد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لأنها شُرِعت حال كونه فيهم. وأما بعدَه فلا حاجةَ إليها فَتُصَلِّي هذه الطائفة خَلْفَ إمام، وتلك الطائفة خلفَ إمامٍ آخرَ على الصفة المعهودة، بخلافه صلى الله عليه وسلّم فإنَّ كلا منهم كان يتنافس أن يصلِّي خلفه، فاحتيج إلى صلاةِ الخوف.
ولا دليلَ عليه عندي. فلعلَّهُ مسامحةٌ في النقل عنه، وذكر فيه صفة الركعةِ الواحدة وسكتَ عن حال الركعة الثانية، وكانت هي مَوْضِع الانفصال. ثم إنَّه عَبَّر عن صلاةِ الطائفةِ الأولى بالسجدة فقال: {فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ} (النساء: 102)... إلخ فتبادر منه أنهم بَعْد الركعة تَحَوَّلُوا إلى وِجَاه العدو ولم يُتِموا لأَنْفُسِهم بَعْدُ. ول أتموها لأَطلق عليها الصلاة، فإطلاقُ السجدةِ على صلاتِهم يؤيدُ الحنفيةَ، لأنه يَدُلُّ على عدم تمامية صلاتهم بعد، بخلافها على مذهب الشافعية، فإنهم يقولون: ثُمَّ إذا بدأ ذِكْر الطائفة الثانية قال: {وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ} (النساء: 102) أي لم يدخلوا معك في التحريمة: {فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} (النساء: 102) فَعَبَّر عن ركعتها بالصلاة. فتبادَر منه أنهم أتمُّوا صلاتَهم في ذلك المكان. وهذا أقرب إلى الشافعية، فإنَّ الطائفة الثانية عندهم لا تَرْجع حتى تُتِمَّ صلاتها، ومِنْ ههنا قام البحث:
فقال الحنفية: إن المراد من قوله: {فَلْيُصَلُّواْ} فليسجدوا بقرينةِ: {فَإِذَا سَجَدُواْ}. وقال الشافعية: المراد مِنْ قوله: {فَإِذَا سَجَدُواْ} فإذا صلوا بقرينة قوله: {فليصَلُّوا.(3/157)
والحاصل:} أن لفظ السجدة في الطائفة الأولى أَقْرَبُ إلى الحنفية، ولفظ الصلاة في الطائفة الثانية أقربُ إليهم. نعم لو ذهبنا إلى الصِّفة التي في الشروح لانطبقت الآية على مذهبنا بجزئيها. فإنَّ الطائفة الأُولى ترجع بعد ركعة، وتجيء الطائفةُ الأخرى وتُتِمُّ صلاتَها أولا، ثم ترجع وهذه الصفة بعينها في الآية. ثم أقول من جانب الحنفية على صفة المتون: نكتةَ التعبيرِ لركعة الطائفة الثانية بالصلاة مع أن المرادَ منها هي الركعة، تُرِكَ، فإذا تركه على السجدة فلو أخذ في السجدة ولم يغير التعبير لدل على اتحاد السلسلة، وأن الطائفة الثانية تأخذ من حيث أنه لو قال: «ولتأتِ طائفةٌ أُخْرَى لم يُصَلّوا فليسجُدُوا معك» لتُوُهِّم منه شروعُ الطائفةِ الثانية من حيثُ تَرْكُها الأُولى، وهي السجدة، وإن لها هي تلك الركعة فقط، فعبَّر بالصلاةِ تنبيهًا على أن عليهم الصلاةَ تامةً، كالمسبوق. وذلك لما قاله سيبويه: إن الفاء للسَّرْد، والواو للجمع.(3/158)
ومعنى السَّرْد أنها تجعلُ الشيءَ في سلسلةٍ واحدةٍ. فالمجيءُ في قولك: جاءني زيدٌ فعمرٌو مجيءٌ واحدٌ، تَعَلَّق أولا بزيد، ثم بعمرو، لدلالة الفاء على عدم نقضِ سلسلة المجيء. بخلافه في قولك: جاءني زيدٌ وعَمْروٌ فإنهما مجيئانِ مجيءُ زيدٍ ومجيءُ عمرو. ولا دِلالة لها على كَوْن المجيء في سلسلةٍ أو في سلسلتين وحينئذٍ لو قال: {فليسجُدُوا} لدلت الفاء على اتحاد سلسلةِ سجدة الطائفة الأولى بسجدة الطائفة الثانية، لأن الكلام المليح أن يُفْتح من حيثُ تَرْكُها الأُولى، مع أن المقصود صلاتُها برأسِها مستقلِةٌ. فإذا عُلِم أن الصلاة على الطائفة الثانية تامّةٌ، يُعلم حالُ الأولى بالمقايسة، وإن عَبَّر عن صلاتها بالجسدة. على أن تعبيرَ ركعتهم بالصلاة ليس نظرًا إلى حالهم، بل إلى حال إمَامِهِمْ، وصلاتُهُ قد تمت عَلى ذلك، وهؤلاء قد صلُّوا بصلاته، فعبَّر عن ركعتهم بالصلاة لذلك، ولا سيما على نظر الحنفية فإن صلاة الجماعة عندهم صلاةٌ واحدة بالعدد، وهي صلاة الإمام، وهي في حَقُّه فعله، وفي حق المأمومين مفعول به كما علمت تحقيقه. وتلك اعتبارات متناسبة تجري في كلام البلغاء، يذوقها من كانت قريحتُهُ ارتاضت بمثلها.
قوله: ({وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ}) (النساء: 102) قلتُ: وزِيْدَ لَفْظُ «الجِذْر» عند ذِكْر الطائفة الثانية، لأنهم آئبون من وِجاه العدو مُدْبِرين، فخِبف عليه أن يَهْجُمُوا عليهم، بخلاف الطائفة الأُولى.
قوله: ({وَلا جُنَاحَ عليكم إنْ كان بكم أذىً مِنْ مطرٍ أو كُنْتُمْ مَرْضَي)}(النساء: 102) - يثقل عليكم حمله .
قوله: ({أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ}) (النساء: 102) ولكن {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} (النساء: 102) ولَمَّا أَخَذَ القرآنُ المطرَ والمرضَ عذرًا في مواضعَ، اعتبره الشافعي رحمه الله تعالى عذرًا في مواضعَ، كالجَمْع بين الصلاة عندهم.(3/159)
الفائدة الثالثة: فيما يُستفاد منها في ركعات الصلاة. والظاهر من القرآن أن للإِمام ركعتين، وللقوم ركعةً ركعةً، كما ذهب إليه بعضُ السلف أيضًا وإن لم يذهب إليه من الفقهاءِ الأربعةِ أَحَدٌ. وهو مذهبُ جمور السَّلَف.
وقال الجمهور: إنَّه اكتفَى بِذِكْر ركعةٍ للقوم، لأن الأُخْرى ليست لهم مع الإِمام، وإنما يصلُّونها لأَنفسهم، والقرآن بصدَدِ ذِكْر صلاة الإِمام والمأموم كيف صفتها، وقد ذهب بعضُ السلف إلا الاجتزاء بالتكبير فقط إِنْ تعذرت الصلاة. وأخذت منه أن التكبيرَ والأذكار رُوْحُ العبادة، فإذا تَعَذَّرت عادت إلى الأصل، ويمكن أن يكون التكبيرُ عندهم كالتَّشَبُّهِ بالمصلين عندنا حرمةً للوقت، ولا صلاةَ عندنا في حال المُسَايفة، فإذا تَعَذَّرَتْ تَأَخَّرَتْ.
الفائدة الرابعة: في التنبيه على أنَّ القرآنَ لم يتعرضْ إلى بيانِ صفةِ الصلاة في غيرها: واعلم أن القرآن لم يتعرض إلى بيان صفةِ صلاةٍ من الصلوات إلا صلاةَ الخوف، فقد تعرَّضَ إلى بيان صفتها شيئًا. وأما سائر الصلوات فاكتفى بِذِكْر أجزائها فقال: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ} (البقرة: 238)، وقال: {واركَعُوا واسْجُدُوا} (الحج: 77) وقال: {فَسَبِّح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ} (طه: 130) وقال: {ورتِّل القآرن ترتيلا} (المزمّل: 4) وقال: {إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (الإسراء: 78).
فذكرَ القيامَ والركوعَ، والسجودَ، والقراءة، والتسبيح، ولم يذكرِ لها صفةً. ولَعلَّك عَلِمت أني لا أقول بالمجاز في تلك الآيات: من إطلاق الجُزْء على الكلّ، ولا أقولُ إن المرادَ من الركوع هو الصلاة مثلا، بل المرادُ من الركوع هو الركوعُ نَفْسُه. لكن ما يتحققُ منه في ضِمن الصلاة، فالمأمورُ به هو هذه الأجزاءُ في ضمن الصلاة. وفائدة ذِكْرِهَا كذلك التنبيهُ على أهمِّ أَجزاء الصلاة.(3/160)
الفائدة الخامسة: في بيان أنها نزلت في قَصْر العدد أو في الصفة: واعلم أنهم أطالوا الكلام في تحقيق أنها نزلت في قَصْر العدد أو الصفة؟ أعني بِقَصْر العدد قَصْرَ الركعات، وهو في السَّفَر، وبِقَصْر الصفة قَصْرَ الجماعة، وهو في صلاة الخوف. وذلك لِعدم إدراكِ كلِّ طائفةٍ الجماعة بتمامها، فلهذه ركعةٌ ولهذه ركعة. وسمَّاه ابنُ القيِّم قَصْر الهيئة. وإنما اختلفوا فيه لأن قوله بَعْد: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} (النساء: 101) يشيرُ إلى أن القَصْر رخصةُ تَرْفيه لا رُخْصَةُ إِسقاط، حيثُ نَفَى الجُناح عن القَصْر فيجوز القَصْرُ وتَرْكُه، وحينئذٍ لو قلنا: إن الآية في قَصْر العدد قَوِي مذهبُ الشافعية، وإن قلنا إنها في قَصْر الصِّفة أو قَصْر الهيئة خرج عَمَّا نحن فيه، قيل: وهو الأرجح لاتِّسَاقِ النَّظْم حينئذٍ، ولو حملناه على الأول لا يكونُ لقوله: {إِنْ خِفْتُمْ} مفهومٌ، فإنَّ القَصْر في السفر جائزٌ بدون الخوف إجماعًا.
والحاصل أنَّ الصُّوَر أربعٌ: الإِقامةُ مع الأَمْن وفيها الإِتمام إجماعًا. والسَّفَرُ مع الخوف وفيها القَصْر إجماعًا عددًا وصفةً.Y
والسَّفَر مع الأَمْن ففيها الخلاف: قال الحنفية: إن القَصْر فيها حَتْمٌ. وقال الشافعية رحمهم الله تعالى: بل هو جائزٌ، والإِقامة مع الخوف ففيها قَصْر الصِّفة إجماعًا.(3/161)
والذي عندي أنها نَزَلت في قَصْر الهيئة واستتبعت قَصْر العددِ أيضًا، لأن صلاة الخوف لا تكون إلا في حال السفر عادةً، فإذا كان المخاطبون في حال السَّفر وواجهَهُم العَدُوُّ نزلَتْ صلاةُ الخوف، فالمقصودُ منها بيانُ قَصْر الصِّفة، إلا أنه ذكَر فيها قَصْر العددِ لكونهم مسافرين إذ ذاك. وقد مرَّ معنا في أوائل الكتاب في تحقيق كون الحدود كفارةً أو زواجِرَ أَنَّ القرآنَ ربما يَنْزِلُ بشيءٍ ثم يُومىءُ إلى مورد نزوله أيضًا، فيتضمن الكلامُ بَعْضَ ما في المورد مع عُموم الحُكْم. وحينئذٍ اندفع عنه السؤالُ المشهور كما عند مسلم عن عمرَ رضي الله تعالى عنه: «أن الله تعالى شَرَعَ القَصْر في السَّفَر عند الخوف، ونحن آمِنون الآن». - بالمعنى . وحاصل الدَّفْع أن الخوف ليس قيدًا لِقَصْر العدد، بل لأنَّ الآية نزلتْ في قصر الصِّفة، وهو مقيد بالخوف. أما القَصْر للمسافر قَصْرُ العدد، فجاء ذِكْرهُ لكونهم مسافرين إذ ذاك، ولا تَعَلُّقَ لهذا القيد بِقَصْر المُسَافر.
الفائدة السادسة: فيما اختاره البخاري من تلك الصفات: والظاهر أن البخاري اختار منها صِفَةَ الحنفية وكأَنَّ أقربَ الصفاتِ عنده بِنَظْم النص هي تلك. ولذا تلا الآية ثم ذَكر تلك الصفةَ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه، وحديثُهُ أصحُّ ما في الباب. ثم إنه لم يخرِّج صفة الشافعية في هذا الباب، وأخرجها في المغازي، وهذا أوْضَحُ القرائن على أنه اختار صفةَ الحنفية إن شاء اللَّهُ تعالى.
الفائدة السابعة: في شَرْح حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه: فاعلم أنَّ حديثَ ابن عمرَ رضي الله تعالى عنه يدلُّ على أن الطائفة الأُولى بعد الركعة انصرفت وِجَاهَ العَدُو. ثُمَّ جاءت الطائفةُ الثانيةُ ورَكعتْ مع الإِمام ركعةً ثم سَلَّم الإِمام.(3/162)
وهذا القَدْر موافِقٌ لمذهب الإمام، ولا يتأتى الحديثُ على مذهب الشافعية أصلا. نعم فيه قوله: «فقام كلُّ واحدٍ منهم فَرَكعَ لِنَفْسِه»، ففيه إبهامٌ أنهما كيف أَتَمَّا الركعة الثانية؟ والظاهر منه صِفَةُ الشروح على ما مَرَّت.
باب ُ صَلاةِ الخَوْفِ رِجالا وَرُكْبَانًا
ولا صلاة عندنا ماشيًا ولا في حال المُسَايفة. والصلاةُ ماشيًا غيرُ المَشْي في الصلاة، فلا تَخْلِط بينهما. وكان الظاهرُ من قوله: «راجلا» أن تكون صلاةُ الخوفِ جائزةً ماشيًا، لكنه لما فَسَّرَهُ بالقائم دَلَّ أنه اختار مذهب الحنفية، ولم يجوِّز الصلاةَ ماشيًا. وكذا لا تجوزُ عندنا راكِبًا إذا كانت تسيرُ دابَّتُهُ، إلا إذا كان مطلوبًا.
943 - قوله: (عن ابن عمرَ رضي الله تعالى عنه نحوًا مِنْ قولِ مجاهد) وفيه إشكالٌ شديدٌ وإيهام نضيد. أما أولا: فلأنه لم ينقل قول ابن عمرَ رضي الله تعالى عنه ما هو. وأما ثانيًا: فلأنه عَكَس في العبارة، والظاهر «عن مجاهدَ نحوًا من قول ابن عمرَ رضي الله تعالى عنه» فإنَّ مجاهدًا تابعي، وابنَ عمرَ رضي الله تعالى عنه صحابيٌّ، فينبغي إحالةُ التابعي على قولِ الصحابي. وأما ثالثًا: فلأن ما نَقَلَهُ لا يُفَهم له معنىً، ولذا اختلف الشارحان في تحصيل مرادِه، لأنه ذَكَر الشَّرْط ولم يذكر جزاءه، فقال: عن ابنِ عمرَ رضي الله تعالى عنه نحوًا من قول مجاهِدَ.(3/163)
943 - قوله: (إِذَا اخْتَلَطُوا قِيامًا)... إلخ وهذا كما ترى لا يظهَرُ له معنىً، فقال الحافظ رحمه الله تعالى: إن «قيامًا» تصحيفُ «إنما». وحاصل مقال ابن عمر رضي الله تعالى عنه: أنهم إذا اختلطوا - يعني في القتال - فإنَّما هو الإشارة بالرأس. وأما قولُ مجاهد إذا اختلطوا فإنما هو إشارةُ الرأس. ولما كان بين قول ابن عمر رضي الله عنه وقول مجاهد مغايرةٌ يسيرةٌ زاد لفظ: «نَحْوًا» من قول مجاهد، لأنه ليس لفظ الذِّكر في قول مجاهد، وإنما هو في قول ابن عمر رضي الله عنه.
وحاصله: أن الإشارةُ بالرأس تكفي عند القتال إذا تعذبت الصلاة، وتجوز الإشارة عندنا أيضًا للراكب. وجوَّز محمد رحمه الله تعالى جماعةَ الراكبين خلافًا للشيخين. وراجع التفصيل في الفقه: قلتُ: وأخرج مالك رحمه الله تعالى صفتها عن ابن عمر رضي الله عنه في «موطئه» وليس فيه ذِكْرُ مجاهد، ولا ذِكْر الإشارة بالرأس، فليحرره.
باب يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا في صَلاةِ الخَوْف
ولم أتحصَّل هذه الترجمةَ، فإن الحراسة مرعية في الصفات كلها، ولا اختصاص لها بصفة دونَ صفة. ولقائل أن يقول: إنه تَرْجَم به لِذِكْر الحراسة في متن الحديث. فهذه الترجمةُ نظرًا إلى لفظِ الحديث لا إشارةً إلى مسألةٍ أو دَفْعَا لمغلطة. ثم إن الصورةَ المذكورة في الحديث أنفعُ فيما لو كان العَدُوُّ قِبَلَ القِبْلَةِ.
944 - قوله: (فَكَبَّر وَكَبَّرُوا مَعَه) فاشتركوا كلّهم في التحريمة إلى الركوع، ثُمَّ اختلفوا في الركوع وتناوبوا فيه، وكذلك في السجود لاحتياجهم إلى الحراسة فيهما.(3/164)
قوله: (وَأَتَتِ الطائفةُ الأُخْرَى) يعني أن الطائفة الأُولى تَسْتَأَخِرُ بعد ركعةٍ وتتقدم الطائفةُ الأُخْرَى إلى مكانِ الأُوْلى، لا أنها كانَتْ ذهبتَ لَوَجْهٍ، ثم أتت ههنا، ولا أدري لِتَقَدُّم هؤلاء وتأخُّر هؤلاء وجهًا غير أنه أُرِيد به استيفاءُ أَجْر الصفِّ الأول للطائفةِ الثانية أيضًا. فإن قلتَ: إذا لم يَعْتَن بالصفِّ الأول في الصلوات الخمس بهذه المناسبةِ، فَمَنْ سَبَق إليه سَبَق، فأيّ اعتناء به ههنا حيث يتقدَّمُ هذا ويتأخَّرُ هذا. قلتُ: والوَجْه أن التأخُّر في الصلوات الخمس كان مِنْ جهته، بخلافه ههنا، فإنَّ الإِمامَ جَعَلَهُمْ صَفَّين فتقدَّم بعضٌ وتأَخَّر بعضٌ بِأَمْرِه، فتدارَكَهُ بهذا الطريق.
باب ُ الصَّلاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الحُصُونِ وَلِقَاءِ العَدُو
يعني إذا نهض كلُّ فريقٍ إلى صاحبِهِ ودخل في الحرب، وقد علمتَ أنه لا صلاةَ عندنا في حال المُسَايفة، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يُصَلِّها يومَ الأَحزاب.
قوله: (تُسْتَر) مُعَرَّب «شوستر». و «ما يَسُرُّني بِتلك الصلاةِ الدُّنْيا وما فيها». قيل: يعني بها الفائتةَ، قاله تَأَسُّفًا على فواتها. أقول: ولعلَّ المراد بها الصلاةُ التي أَدَّاهَا، فإنها فَاتَتْ عنه لأَجْل شَغْل الجهاد.
باب ُ صَلاةِ الطَّالِبِ وَالمَطْلُوبِ، رَاكِبًا وَإِيمَاء
وهذا عامٌّ في الخوف وغيره. وقد مرَّ أن صلاةَ الطَّالِب لا تصح عندنا بالإِيماء، بخلاف المطلوب على ظَهْرِ الدابة. ولا تمسُّك فيه، لأنهم كانوا مطلوبين.
قوله: (لا يُصَلِّيْنَّ أَحَدٌ العَصْر إلا فِي بني قُرَيْظَة) وكان هؤلاء طالبين، والظاهر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمإذا كان أَمَرَهُم بالتعجيل فَلَعَلَّهم لم ينزلوا عن ظهور دَوَابِّهِمْ وَصَلُّوا عليها.(3/165)
قلتُ: وتَمَسُّكُ المصنِّف رحمه الله تعالى به في غاية الضَّعْف، فإنَّه تَمَسَّكَ بالسكوتِ وليس فيه أنهم صلوا رُكْبَانَا أَوْ قائمين. ثُمَّ إِنَّ أَمْرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمإياهم بهذا التعجيل على نظير تعجيل موسى عليه السلام، حين أُمِر أَنْ يذهب إلى فرعونَ، وتَرَك زوجتَهُ وهي في المَخَاضِ، وكتعجيلِ إِبراهيم عليه الصلاة والسلام حيثُ تَرَكع زوجتَهُ وهي في العَرْصَةِ الخالية، حيث لا ماء ولا كلأَ. فهذا نحو تَأَسَ بالأنبياء عليهم السلام في التبادر بالامتثال.
باب ُ التَّبْكِيرِ وَالغَلَسِ بالصُّبْحِ، وَالصَّلاةِ عِنْدَ الإِغارَةِ وَالحَرْب
وهذا هو التكبير الذي كان في الجيوش، وعند الحروب. وفي نسخة: التكبير.
947 - قوله: (وصَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَس) يعني في غزوة خَيْبر، لا أنه كان سُنَّةً مستمرةً ليُسْتَدلَّ به في مسألةِ المواقيت.
كتاب العِيدَين
باب في العِيدَينِ وَالتَّجَمُّلِ فِيه
وعندنا شرائِطُهما شرائِطُ الجُمعة، وكذا تكبيراتُ التشريق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، خلافًا لصاحبيه، فإِنه يكبِّرُ في القُرى أيضًا.
948 - قوله: (من إِسْتَبْرَقٍ) وهو الحريرُ الغليظ، ويقال للرقيق السُّنْدُس. وقد علمت أن المِلْك يعتمد على الاستمتاع في الجملة، والحريرُ جائزٌ للنِّسَاءِ فلا بَأْسَ بِبَيْعه وشرائِهِ.
باب ُ الحِرَابِ وَالدَّرَقِ يَوْمَ العِيد
949 - قوله: (جَارِيَتَانِ تَغَنِّيَانِ) وقد مرَّ معنا أن النَّظر إلى الأجنبية: وجهها وكَفَّيها يجوزُ في المذهب عند الأمن من الفتنة، ويُمْنَع عنه في الفتوى سدًّا للباب. وفي «الخارج»: أنهما كانتا تدففان أيضًا.(3/166)
949 - قوله: (فَاضْطَجَع على الفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ) وفي رواية: أنهما اتَّقَتَا الدُّفَّ لما دخل عمرُ رضي الله تعالى عنه. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «إن الشيطانَ لا يدخُلُ فَجَا دَخَلَ فيه عمر رضي الله تعالى عنه»، أو كما قال. واستُشْكِل أنه إذا أباح غناءهن أولا، فكيف عدَّه من الأمور المُنْكَرة التي تَحْضُرُها الشياطين آخِرًا.
قلتُ: وليعلم أن المُغَنِّي يُسمَّى مَنْ يَنْشُد بتمطيطٍ، وتكسير وتهييج، وتشويق بما فيه تعريضٌ بالفواحش، أو تصريحٌ بها. وفي الحديث الآتي عند البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها: «وَلَيْسَتَا بِمُغْنِّيَتَيْنِ». قال القُرْطُبِي في «شرحه»: لَيْسَتَا مِمَّنْ يعرفُ الغِنَاء كما تعرِفْه المغنياتُ المعروفات بذلك. ولا أرى المُحَدِّثين يبيحون الغناءَ. أما المعازف فَنَقَل قومٌ الإِجماع على تحريمها. ونَقَل العيني رحمه الله تعالى في «شرح الكنز» عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في: باب ردّ الشهادة حُرْمَةُ التغني مطلقًا، ولي جَزْمٌ بأنه ليس نَفْيًا للأصل، بل بِحَسَب الأحوال. وأَبَاحَهُ ابنُ حَزْم، وإليه مال الغزالي في «الإِحْيَاء». ثم حُرِّر أن بعضَ المباحات تصِيْرُ صغيرةٍ بالإِصرار على نحو ما قالوا: إن الصغيرةَ تصيرُ بالإِصرار كبيرة.
قلتُ: وهو تحقيقٌ جيدٌ أَحْرى بالقَبول. وأيُّ بُعْدٍ في صيرورةِ المباح صغيرةً إذا كان بعضُ المباحات أَبغضَ عند الله تعالى، كما عند ابن ماجه: «أن أبغض المباحاتِ عند الله الطلاقُ»، فوَصَفَ الطلاقَ المباح بكونه مبغوضًا، وحينئذٍ لا بُعْد في بلوغه مرتبةَ الصغيرة بالإِصرار.(3/167)
ومن هذا الباب ما عند أببي داود: «مَنْ سَرَّه أَنْ يَتَمَثَّل له الناسُ قيامًا فليتبوأ مقعدَهُ من النار». ومع ذلك ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي باب ذَهاب النساءِ والصِّبيان إلى العرس عند البخاري «أنه قام لهم مُمتنًا». وفي نسخة: «مثيلا». وفي لفظ: «ممثلا». اه. وذلك لاختلاف الأحوال فيه. فالشيء قد يكون مِنْ آخِر مراتب الإِباحة بحيث لا تبقى بعدها إلا مرتبةُ المنع. وفيها تتجاذبُ الإباحة والنهي فيبَاحُ لكونها كذلك في نَفْس الأمر. ويُنْهَى عنه لكونِهِ يُخشى أن تَنْجَرَّ فتقع في الحرام. وأحسنُ الطُّرق وأعدلُهَا ما اختاره النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفَحَوَّل وجهه عنه. وفي رواية: «غط»، دلالةٌ على أنه وإن أغمضَ وسامح عنه، لكنه ليس راضيًا ولا مُتَلَذِّذًا به. فلو نهى عنه صراحةً لَفُقِدت الإباحة، ولو لم يَغْمُض عنه وَحَظِي به لارتفعت الكراهة أصلا. وهذا هو حالُ الإِباحة المرجوحة.
ولعلك عَلِمْت منه الفَرْقَ بين طريق النبي صلى الله عليه وسلّموبين أبي بكر رضي الله عنه حيثُ كان طريقُه الإِغْماض، وطريقُ أبي بكر السَّخَطَ والاغتياظ، فلو سلك النبيُّ صلى الله عليه وسلّمطريقَ أبي بكر رضي الله عنه لَحَرَّمَ الغناء، ولم تَبْقَ منه مرتبةٌ في حدِّ الجواز. ولو فَعَل أبو بكر رضي الله عنه مِثْلَ ما فعله النبي صلى الله عليه وسلّملم يُسْتَحْسن منه، لأنه لا يُحرَّم ولا يَحِل بإِنكاره شيءٌ، فالأليق بشأنهِ ما يَنْسَدُّ به الباب.
وقال الشاه إسماعيل: إنه كان فِعْل الشيطان، لكن ليس كُلُّ فِعْلِه حرامًا وإن كان قبيحًا. وهو أيضًا يؤوَّلُ إلى ما قلنا آنِفًا. وحينئذٍ فالحاصل أنه فرّق بين قليل الغناء وكثيرهِ، والاعتيادِ به وعدِمه. فالقليل منه مباحٌ والإِصْرار يَبْلُغُ حَدَّ الْمُنْع، وبِمْثله الفَرْقُ في الدُّفِّ.(3/168)
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لو كان بطريق الإِلهام فممنوعٌ. ثم إن الفَرْق بالقلة والكثرة شَائِعٌ: ففي فِقْهنا أنالأشربة من غير الأربعة يجوزُ القليلُ منها دون الكثير، وكذا الحرير يجوزُ بِقَدْر الأصابع الأربعة دون الكثير، وهكذا في القرآن: {إلا مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفةً مِنْهُ} (البقرة: 249) فأباح الغَرْفة ومنع عمَّا زاد. ومن هذا الباب حديث الائتمام: «إنما جُعِل الإِمَامُ لِيؤتَمَّ به»، وفيه: «إِذَا صلى قاعِدًا فصلوا قعودًا». ليس فيه إلا أَحَبِّيةُ القعودِ وجوازُ القيام كما استقرَّ عليه الحافظ رحمه الله تعالى. وراجع مسألة القيام من «المدخل» لابن الحاج المالكي.
949 - قوله: (مِزْمَارةُ الشَّيْطَانِ) (بانسرى)، وذكرها بطريق الإِلزام وإلاّ فلم تكن هناك مِزْمَارة.
950 - قوله: (بَنُو أَرْفِدَة) لَقَبٌ للحبشَةِ، ثم قيل: إنها واقِعَةٌ قبل نزولِ الحِجَاب.
باب ُ سُنَّةِ العِيدَينِ لأَهْلِ الإِسْلام
باب ُ الأَكْلِ يَوْمَ الفِطْرِ قَبْلَ الخُرُوج
951 - قوله: (يخطُب) وهذه خطبةُ العيد بعد الصلاة. ويُتوهَّم منتعبير الراوي كَوْنُهَا قُبَيْلَها: «فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا». وفيه الترجمة.
باب ُ الأَكْلِ يَوْمَ النَّحْر
والمستحبُ في ذلك اليوم أن يأكلَ من أُضحيته.
وعلم أن الأُضحيةَ تجوز في القرى قبيل الصلاة بعد الطلوع، بخلافها في المِصْر. قال الترمذي: بعد سَرْدِ الحديث: «والعملُ على هذا عند أهل العِلم أَنْ لا يضحِّي بالمِصْر حتى يصلِّي الإِمامُ. وقد رخَّص قومٌ من أهل العلم لأهل القُرى في الذَّبْح إذا طلع الفَجْرُ». اه. وهذه العبارةُ تشيرُ إلى أنه لا جُمعةَ في القرى.(3/169)
954 - قوله: (جَذَعة) وهو في اللغة: ما تَمَّتْ له أربعةُ أشهر. وفي الحديث أنه كان له خاصّةً لقوله: «ولَنْ تُجْزىءَ لأَحَدٍ بَعْدَك».
باب ُ الخُرُوجِ إِلَى المُصَلَّى بِغَيرِ مِنْبَر
واعلم أن السُّنة أن يخرجَ الإِمام بدون مِنْبر. فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمهكذا كان يخرج ولم يكن مِنْبرٌ بالمُصلَّى أيضًا. نعم يُعْلم من الروايات أنه كان هناك موضعٌ مرتَفع يخطُب عليه، لما في البخاري «ثُمَّ نَزَل»، ثم بَنَاهُ كَثِير بن الصَّلْت في عهد الخلفاء من لَبِن وطِين. ثم إن من السُّنة تقديمَ الصلاةِ على الخُطبة. وإنما قَدَّمها مراونُ على الصلاةِ لأنه كان يَسُبُّ عليًا رضي الله عنه وكان الناس يقومون عنها، فقدَّمها على الصلاةِ لهذا. وأما تقديمُ عثمانَ رضي الله عنه فكان لِمَصْلَحةٍ أُخرى.
955 - قوله: (أَحَبُّ إليَّ مِنْ شَاتَيْنِ) أي إحداهما التي ذبحتها ولم تُعتبر، والثانية هذه. كانت تلك أحبَّ شَاتيه لا أنَّ تلك كانت أسمنَ وأحبَّ من الشاتين.
باب ُ المَشْيِ وَالرُّكُوبِ إِلَى العِيدِ والصّلاةِ قَبْلَ الخُطْبَةِ بِغَيرِ أَذَانٍ وَلا إِقامَة
واعلم أنه لم يَثْبُ الأذانُ والإِقامةُ للعيدين في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وإنما تفرَّد به ابنُ الزُّبير رضي الله عنه. وكم له مِثْلُ هذه التفردات كما مرَّ من قبل. نعم كان بلالٌ ينادي بالصلاة جامعةً، ولذا أُجيز بنحوه في الكُسوف أيضًا. ونعم ما قال أحمد رحمه الله تعالى: الأصلُ في العبادات أن لا يُشْرِع منها إلا ما شرعه اللَّهُ، والأَصل في المعاملات أن لا يُحْذَر منها إلا ما حَذَّرَ اللَّهُ منه.
باب ُ الخُطْبَةِ بَعْدَ العِيد(3/170)
حدثنا أبو عاصم: أخبرنا ابن جُرَيج قال: أخبرني حسن بن مسلم، عن طاوس. واعلم أن الحسن هذا من أَخصِّ تلامذة طَاوُس وهو يسأل عن رَفْع اليدين ويحقِّقُه عن طَاوُس. فعلم أن رَفْعَ اليدين ليس شيئًا بديهيًا كما فَهِمه الخُصومُ. ثم الحسنُ هذا من رواة البخاري.
964 - قوله: (لم يُصَلِّ قَبْلَها ولا بَعْدَهَا). وفي «البحر»: لا يُصلِّي فيه صلاةَ الضُّحَى أيضًا وإن اعتاد عليها. وعن عليَ رضي الله عنه أنه رأى رجلا يُصلِّي بالمُصَلَّى، فقال له الناس: «ألا تَنْهَى عنها؟ قال: لم أَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّميصليها في ذلك اليوم، إلا أني لا أمنُعه خشيةَ أن أدخل في قوله: {أرأيتَ الذي يَنْهَى عَبْدًا إذا صَلَّى} (العلق: 9). وقال مولانا عبد الحيِّ رحمه الله تعالى: إن عدَمَ ثبوتِ الصلاة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمبالمُصَلَّى، لا يدل على كراهة الصلاة فيه في ذلك اليوم. قلتُ: بل يَصْلُحُ حجةً عند المجتهد، فله أن يَحْمِل هذا العدمَ لكون الصلاةِ في ذلك مكروهةً بالمصلى، كما قررت في مسألة المحاذاة. ومطالبةُ النصوص في مواضع الاجتهاد وليس دأبًا صحيحًا.
باب ُ ما يُكْرَهُ مِنْ حَمْلِ السِّلاحِ في العِيدِ وَالحَرَم
ولم يُتعرَّض إلى هذه المسألة في كُتُبنا لا نَفْيًا ولا إثباتًا. وأتى المصنف رحمه الله تعالى بلفظ «من» - وهي للتبعيض عندي - في جميع كتابه، فتكون إشارةً إلى التقسيم فيه.(3/171)
966 - قوله: (أَنْتَ أَصَبْتَنِي) معناه أَنك صِرْتَ سببًا لذلك، لأنك إذا أجَزْتَ حَمْلَ السلاح في ذلك اليوم، فأصابتني جِراحةٌ من حَرْبة، فكأَنك أصبتني بها. ولولا أنت أجزت حَمْلَ السلاح لما كان كذلك. أو يقال: إن الحجَّاج حَسَد على ابن عمر رضي الله عنه، وأراد أن لا يرجِع إليه الناسُ في فتاواهم. فأشارَ إلى رجلٍ أن يُصِيبَهُ بحربة مسمومةٍ ففعل، ومات ابنُ عمرَ رضي الله عنه من أثر هذه الجراحةِ، فَعَرَّض إلى ذلك.
باب ُ التَّبْكِيرِ إِلَى العِيد
واعلم أن السُّنة في العيد أن تُصَلَّى عَقِيْبَ خروجِ وَقْت الكراهة، فإنْ قضيَتْ في أول يوم فلا قضاء لها عند الإِمام رحمه الله تعالى، إلا عِنْد صاحبيه رحمهما لله تعالى، فإنها تجوز في اليوم الثاني أيضًا. وراجع التفصيل في الفقه. وفي نسخة: «التكبير» بدل «التبكير».
والتكبير سنةٌ جهرًا للأضحى، وللفِطْر سِرًّا عند ابن الهمام رحمه الله تعالى. ومنع منه «صاحبُ البحر» أصلا.
قال الشيخ ابنُ الهُمَام رحمه الله تعالى: إن التكبيرَ ذِكْرُ الله، كيف يُنْهى عنه فهو في الأحوال كلِّها. وقال ابن نُجَيم رحمه الله تعالى: إنَّ حقيقة البدعة هي - هو يعني - جَعْلُ أَمْرٍ لم يثبت عن السلف رحمهم الله تعالى معمولا به.
قلتُ: والقويُّ ما ذهب إليه ابنُ الهُمام، فقد أخرج الطحاوي رحمه الله تعالى رواياتٍ تَدُلُّ على ثبوتِ التكبير عند السَّلف، بل على الجَهْر أيضًا، فالمختار عندي أن يأتي به في الفِطْر أيضًا.
باب ُ فَضْلِ العَمَلِ في أَيَّامِ التَّشْرِيق
واعلم أن العبادة في تلك العشرة أفضلُ منها في سائر السَّنَة، حتى قيل: إن أفضلَ النُّهُرِ نُهُر عشرةٍ ذي الحِجَّة، وأفضلَ الليالي ليالي رمضانَ، ثُمَّ عَمَلُ السَّلَف في تلك العشرة ماذاكان؟ فلم يظهَر لي غيرُ الصيام والتكبير.(3/172)
فالعبادةُ الخاصَّة في هذه الأيام هي هاتان فقط. وثبت فيها التكبيرُ من غُرَّة ذي الحِجة، كأنه شِعَارٌ لهذه الأيام، بل شعاريتُهُ أَزْيدُ من التلبية. فما في المتونِ فهو بيانٌ للواجب لا لوظيفةِ هذه الأيام. وعليه فَلْيُحْمَل ما رُوي عن الإِمام رحمه الله تعالى أَن شرائطَ التكبير شرائطُ الجمعة. فإنه يجوزُ لأصحاب القرى أيضًا.
وذِكْرُ اللَّهِ لا حَجْر عنه بحال، واستدل عليه بما روي عن عليَ رضي الله تعالى عنه: «ولا جُمْعَةَ ولا تَشْرِيق»... إلخ.
وتتبَّعْتُ أنه هل أرادَ أَحَدٌ من التشريقِ أيضًا؟ فرأيت في «غريب الحديث» لأبي عبيد أنه لم يَبْلُغْه عن أحدٍ منهم غيرُ الإمام رحمه الله تعالى. وأبو عبيد هذا تلميذُ الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ومستفيدٌ من مُحمدٍ، ومدوِّن لِعِلْم غريب الحديث، ويُعَدَّ في الفِقْه مِثْل محمد. وعن بَعْض السَّلف رَحِمهم الله تعالى أنهم حملوا قوله تعالى: {وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (البقرة: 185) على تلك التكبيرات الفاضلة في الخارج أيضًا.
قوله: ({أَيَّامٍ مَّعْلُومَتٍ}) أيَّام العَشْر، والأَيَامُ المعدوداتُ أيامُ التشريق. إنما فَسَّر ابنُ عباس رضي الله تعالى عنه المعدودات بِأَيَّامِ التشريق لكونِ لَفْظِ المعدوداتِ مُشْعِرًا بالقلة، أيَّامِ التشريق ثلاثة، فَفَسَّرها بها.
قوله: (وكان ابنُ عمرَ رضي الله تعالى عنه وأبو هريرةَ يَخْرُجَانِ إلى السُّوْقِ في الأيامِ العَشْر يكبران) وقد مر معنا أن التكبير من وظائف هذه الأيام. وهو مَحْمَلُ تكبير محمد بن علي الباقر بعد النافلة. وأما ما في الفِقْه من إتيانِهِ دُبُرَ الصلواتِ المكتوبات فقط، فهو بيانٌ للواجب. فعند الإمام رحمه الله تعالى من صبيحة عرفةَ إلى عَصْر يوم النَّحْر، وعند صاحبيه إلى عَصْر اليوم الرابع.(3/173)
قوله: (ويكبر الناس بتكبيرهما) ويُستفاد منه ومما أخرجه البخاريُّ من الآثار في الترجمة التالية: أنَّ المطلوبَ في التكبير الموافقةُ فيه مِمَّن في حواليه. وعليه ما عند الترمذي: «أن الله أكبر يملأ الميزان» ولم يَحْكُمْ عليه الترمذي. وعند مسلم: «أن سبحانَ الله نِصْفُ المِيْزان»، وكذلك «الحمد لله». فلو صَحَّ ما عند الترمذي فَوَجْه الفَرْق بين كون «الله أكبر» الميزانَ كلَّه وسائر الأذكارُ «نِصْفُ الميزان»: أن التكبير يطلب الموافقة وذلك بالجَهْر، وعند ذلك يملأُ الجوَّ بما فيه فيكون الميزان كله. لأن كِفَّةَ ميزانِ الآخرة كما بين السماءِ والأرض كما يُسْتفاد من الأحاديث وسنقرِّرُه.وليست هذه الخصوصيةُ في الأذكار غيرَه.
ثم اعلم أنهم يُطْلِقون الأيَامَ العَشْر - والعاشر منها يومُ النَّحْر والصومُ فيه حَرامٌ - فيذكرون العَشْر ويريدون به التِّسْع. وقد يَخْطُر بالبال أنَّ الإمساك في نصف يوم النحر كأنه نِصْفُ صَوْمٍ في نَظر الشارع، فإنَّ المستحبَّ في هذا اليوم الأكلُ من أُضحيته، ولا تكون إلا بعد الصلاةِ فلزِم الإِمساكُ، وعليه ما في «المُسْتَطْرَف» من حكاية العجوز.
969 - قوله: (ما الْعَمَلَ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا في هذه) وفي نسخة: «ما العَمَلُ فِي أَيَّامِ العَشْرِ أَفْضَلَ من العملِ في هذه». وهذا يقتضي نَفْيَ أَفضليةِ العمل في أيامِ العَشْر على العمل في هذه الأيام. قلتُ: وهو تَصْحِيْفٌ عِنْدي. والصواب كما في الصُّلب، لأن هذا الحديث كثيرُ الطُّرُق، وفي سائرها ذُكر فَضْلُ العمل في الأيام العَشْر، وقد أطال الحافظ رحمه الله تعالى الكلام فيه.(3/174)
969 - قوله: (قال: ولا الجِهَادُ في سبيلِ اللَّهِ) وحاصلُ الحديث على ما قالوا أَنَّ العملَ في هذه الأيام أفضل من ذلك العملِ إذا كان في غير هذه الأيام. فليس فيه تفضيلُ الشيء على نَفْسه باعتبار زمان واحدٍ ليلزم المُحال، بل باعتبار الأزمنة المختلفة. ثم قالوا: إنه ماذا يكون حينئذٍ معنى قوله: «ولا الجهادُ في سبيل الله»؟ فقالوا: إنَّ كونَهُ مَفْضُوْلا أيضًا معقولٌ، لأن الاشتغال بالجهاد فيها يوجِب فواتَ الحج.
أقول: والصوابُ عندي أنْ تفضل الأَعمال المختَصَّة بهذه الأيام على جميع الأعمال في سائر السَّنة. وقد علمت أنها بعد التتبع ليست إلا الصيام والتكبير. وإذَن معناه أَنَّ التكبير والصيام في هذه الأيام أَفضَلُ من سائر الأعمال فيما سواها. فالعملُ وإن كان عامًّا في اللفظ لكنه خَصَّصْناه بهذين نظرًا إلى الخارج. ولا ريب أن الفَضْل في تقديم الوظيفةِ الوقتية. وهذا الشرح أخذتُهُ مِنْ الزَّيْلعي. ثم هذا كلُّه إذا لم يكن الجِهَادُ فرضًا، فإن الكلام في الفضائل دون الفرائض.
باب ُ التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى، وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَة
باب ُ الصَّلاةِ إِلَى الحَرْبَةِ يَوْمَ العِيد
وهو يومان إنْ تَعَجَّل، فإن تأخَّر فالثالثة أيضًا.
قوله: (وإذا غَدَا إلى عَرَفَة) هذا هو التاسعة.
قوله: (وكان عُمَرُ رضي الله عنه يُكَبِّرُ في قُبَّةٍ بمنَى) وهذا ما قلت: إنَّ التكبير من سُنَّة هذه الأيام، وأما بعد الصلوات فواجِبٌ.
قوله: (وكُنَّ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ) ولا دليلَ فيه على جَهْرِهنَّ بها كما يدلُّ عليه حديثُ الترمذي.(3/175)
970 - قوله: (ويُكَبِّرُ المُكَبِّرُ فلا يُنْكَرُ عَلَيْهِ) وشعارية التكبير في هذه الأيامِ أَزْيَدُ من شعارية التلبيةِ. حدثنا محمد - وهو البخاري نفسه - حتى تَخْرُجَ الْحَيْضُ، وليس لهن غيرُ التكبير ويدعون بدعائهم، أي بدعائهم للمؤمنين في خلال الخُطبة، لأنه لم يَثْبُت عنه صلى الله عليه وسلّمبعد صلاةِ العيدين دعاءٌ، فالسُّنة الخاصَّة في ذلك قاضيةٌ على عموم الأحاديث في الأذكار بعد الصلوات.
وفي «المدخل» لابن الحاج المالكي: أن السَّلف الصالحين كانوا يجلِسُون بعد الصبح والعصر في المسجد، لهم زَمْزَمةٌ وَدَوِيُّ كَدَوِيِّ النَّحْل، فهذه أحوالهم لأنفسِهم دونَ حالِ الجماعة.
باب ُ حَمْلِ العَنَزَةِ أَوِ الحَرْبَةِ بَينَ يَدَيِ الإِمامِ يَوْمَ العِيد
باب ُ خُرُوجِ النّسَاءِ وَالحُيَّضِ إِلَى المُصَلَّى
باب ُ خُرُوجِ الصِّبْيَانِ إِلَى المُصَلَّى
قد كان ترجم أولا: بأن لا يُحْمل السلاح يومَ العيد، وترجم ههنا بجواز الخروج مع الحربة ليجعلها سُتْرةً.
باب ُ اسْتِقْبَالِ الإِمامِ النَّاسَ في خُطْبَةِ العِيد
باب ُ العَلَمِ الَّذِي بِالمُصَلَّى
976 - قوله: (قد خرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلّميومَ أصحىً إلى البَقيع) وهو بَقِيْعُ المُصَلَّى لا بقيعُ الغَرْقَد كما فهمه العَيْنيُّ رحمه الله تعالى وفيه يقول الشاعر:
*أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَغَيَّر بعدنا ** بقيعُ المُصلَّى أم كَعَهْد القرائن
باب ُ مَوْعِظَةِ الإِمامِ النِّسَاءَ يَوْمَ العِيد
باب إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلبَابٌ فِي العِيد(3/176)
باب ُ اعْتِزَالِ الحُيَّضِ المُصَلَّى
978 - قوله: (فَلمَّا فَرٍعَ نزل) وهذا يدلُّ على أنه كان هناك موضعٌ، مرتِفعٌ خطب عليه وإن لم يكن مِنْبرٌ في عهده صلى الله عليه وسلّمعلى ما مرَّ.
978 - قوله: (قلت لعطاء: زكاةَ يومِ الفِطْر؟ قال: لا) وجزم هذا الراوي بكونها صدقةً عامّلا ولم تكن صدقة الفطر وإنِّي متردِّدٌ فيه.
979 - قوله: (الفَتْخُ) خَاتِمٌ كبير ويُلْقِين للاستمرار التَّجَدُّدِي (دالتي كئين)
979 - قوله: (فَقَالتِ امرأةٌ واحدةٌ مِنْهنَّ) وهي أسماءُ بِنْتُ يَزِيد التي عُرِفت بخطيبة النِّسَاءِ.
979 - قوله: (قال عبدُ الرَّزَّاقِ): وهو صاحبُ المصنِّف - بالفتح - واعلم أن التصانيفَ إلى زَمَنِ أحمدَ رحمه الله تعالى كانت فيها الآثارُ والمرفوعاتُ مختلِطةً، ثم فَصَل أحمدُ رحمه الله تعالى بين المرفوعات والآثار ودَوَّن المرفوعات فقط. وأول مَنْ جَرَّدَ الفِقْه عن الحديث محمدُ بنُ الحسن، وهو السرُّ فِي عَدَمِ رضاءِ المُحدِّثين عن الحنفية.
فائدة مهمة في: بيانِ ما وقعَ منهم في الْجَرْح والتعديل يَنْبَغي الاعتناءُ بها(3/177)
واعلم أن ما جَرَّبناه في هذا الباب وَسَيُجَرِّبُهُ مَنْ كان لم يجرِّبْه: أنهم في غير مَوْضع الخلاف لا يَرَوْن ألا حال الرَّاوي بحسب الظاهر. فإن كان عندهم قائمًا صائمًا لا يخالِفُ ظاهرَ الشَّرْع ويتعاطى العلم يوثِّقُونه بلا نكير، حتى رأيتُ أنه وَثَّقُوا بَعْضَ مَنْ رُمُوا بالكُفْر ولم يجرِّحُوه بإِكْفَارٍ أحدٍ عند ثبوت صلاحه عندهم، نعم إذا دخلوا في موضع الخلاف فليست لهمِ ضابطةٌ فيه ولا سيما في حقِّ الحنفية. فإنَّ المحدِّثين لم يزالوا منهم في سَخَط، حتى إن بَعْضَهُم تأخَّر عن أَخْذِ حديثهم أيضًا. فانْظُر إلى تَحَامُلِ القوم إنهم يأخذون من نحو عبد الرَّزَّاقِ مع كونه شِيعيًا وإن لم يكن سابًا للصحابة رضي الله عنهم وهم مع ذلك عن أحاديث الحنفية لمعرِضُون.
فالذي ينبغي الاعتماد عليه في هذا الباب أن يُنْظَر إلى حال الرَّجُل نَفْسِه، فإنْ تحقَّقَ عندنا بعد السَّبْرِ صلاحُهُ وحِفْظُهُ فإِذَن لا نعمل فيه بقوْلهم، إن رضا الناس غايةٌ لا تُدْرِك، ونعملُ بما جَرَّبنا فيه وعَلِمنا من حاله، فإن البيان ليس كالعيان. نعم إذا لم تُعْلم حالهُ فإذن ليس لنا فيه سبيلٌ إلاّ بالاعتماد على ما قالوا. لا أريد به رَفْعَ الأمانِ عن ما قالوه، بل أريدُ بيانَ مرتبة الأَخْذِ بما قالوه. فعليك أن تتأمل فيه لتنجلي لك حقيقةُ الحال.
باب ُ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ بِالمُصَلَّى
النحِر مُخْتَصُّ بالإِبِل، والذَّبْح فيما سواه، ثُمَّ الْفَرْق بينهما مستحب، وكذلك الأضحية مُسْتَحَبَّة في المُصَلَّى.
باب ُ كَلامِ الإِمامِ وَالنَّاسِ في خُطْبَةِ العِيد، وَإِذَا سُئِلالإِمامُ عَنْ شَيءٍ وَهُوَ يَخْطُب(3/178)
وقد مر منا تحقيق المسألة، والتَّصْريح عن ابن الهُمَام بأن مسألة الاستماع مقتصِرة على ما سوى الإمام. ولعل المُصنِّف رحمه الله تعالى يُشِير إلى أنَّ في خُطبة العيدين سعةً بالنسبة إلى خُطبة الجمعة. وهو المختار عندي وإن كان في كُتُبنا أنهما سواء.
985 - قوله: (فَلْيَذْبَحِ بِاسْمِ اللَّه) وصيغة «بسم الله والله أكبر» بالواو وبدونها، وهكذا على الطعام مجملة، ولفظُهُ قبل الوضوء كما في «معجم الطبراني»: «بسم الله والحمد لله». وحَسَّن العَيْنيُّ إسناده، ورأيتُ فيه عِلَّة. ثُمَّ إنَّه لم يجيء للإِهلال غيرُ التكبير، ولذا ورد قُبَيل الصلاة، وقُبَيل الذبح، بخلاف التسبيح وغيره، فإنه لم يرد لهذا. وأعني بالإهلال جَعْلَ شيئًا خالِصًا لله تعالى.
983 - قوله: (فهل تُجزىءُ عني) ومن استعمالاته: أجزأ الإِبِل بالرُّطْب عن الماء، وأجزأ اللبن عن الطعام والشراب، وأما لفظ صح فمقابل للكسر، وقد مَرَّ تحقيقُ هذين اللفظين.
باب ُ مَنْ خالَفَ الطرِيقَ إِذَا رَجَعَ يَوْمَ العِيد
قيل: للتفاؤل، لأن العَوْد من طريقٍ بدأ منه يُشْبِ نَقْضَ العمل. وقيل: إظهارًا لشوكة المسلمين.
986 - قوله: (تَابَعَهُ) وإطلاقُ المتابعةِ فيه خلافُ مُصْطَلَحِهِم لِتَغَايُر الصحابي رضي الله تعالى عنه، فهو إذن شاهد، نعم يُعْلم من بَعْض النُّسخ أنها متابعةٌ على اصطلاحهم أيضًا.
باب إِذَا فاتَهُ العِيدُ يُصَلِّي ركْعَتَينِ، وَكَذلِكَ النِّسَاءُ، وَمَنْ كَانَ في البُيُوتِ وَالقُرَى(3/179)
واعلم أن قضاءَ ركعتي العيد بعد الفوات مسألةٌ أُخرى، ويتأتَّى على مذهب مَنْ لا يقول بالجُمعة في القُرى أيضًا. ففي مبسوطات فِقْهنا: مَنْ فاتتهه سئخنَّةُ العيد. فإنه يصلِّي ركعتين أو أربعًا في بيته. ولم يكتب أحَدُهم ماذا يفعلُ مع التكبيرات. ثم إن هذا القضاءَ ليس كقضاءِ المكتوبات، فإنه يَبْقَى واجِبًا بعد الفوات أيضًا، بل هو كقضاء السُّنة.
وفي «العناية»: أن للسُّنة أيضًا قضاءً، ولكنها تَنْحَطُّ عن السُّنية إلى الاستحباب. والسرُّ فيه أن السُّنة تثبت باستمرار فِعْله صلى الله عليه وسلّم وتكون محفوفةً بالخصوصية الوقتية، فلا يبقى له طالبٌ بعد الفوات، بخلاف الواجب والفَرْض، فإنه يَثْبُبُ بالأمر، فإذا فات عن وقته بقي الأَمْرُ طالبًا له. وهذا معنى ما كتبه الأصوليون أن الموجِب في الوقت هو الأَمْرُ، فإذا لم يؤده في الوقت استمر طلب الأَمْرِ منه، وليس هكذا حال السنة فإنها تكون محفوفة بالخصوصية، فإذا فاتتا عن وقتها لا يبقى لها طالب بعده. ومن العجائب ما في «مختصر خليل» أن قضاءَ السنن حرامٌ.
قوله: (قال عِطاءٌ: إذا فَاتَهُ العِيْدُ صَلَّى رَكْعَتَيْن) فعطاء يقول بالقضاءِ، مع أنه قد مَرَّ عنه في باب الجمعة ما أَصْرَحُ منه في موافقته للحنفية: أن لا جُمْعَة في القُرَى. ولذا ينبغي التمييز بين مسألة الجمعة في القُرى وقضاءَ العيدين.
ثم إن مسألته في العيد في الفائتة دون المؤداة ولا نزاع فيها، والمصنف جمع بينهما، ولا دليلَ في كلام المصنف رحمه الله تعالى أنه أجاز العيد في القُرى أو لا، لأنه بَوَّب بالفائتة دون المؤادة. فيجوزُ أن تكون الإعادةُ من جهة الفوات لا لكونِ العيد في القرى. ثُمَّ إنهم لم يقولوا بالقضاء عن الجُمْعةِ، بل يُصلِّي الظهر، لأن الجمعة بَدَلٌ عنها فلا تقام بها إلا عند استجماع شرائِطِهَا، والاستيقان بتحقيقها.(3/180)
قوله: (وَصَلَّى كَصَلاةِ أَهْلِ المِصْرِ) وقد ثبت عندي أنه فاتَتْهُ العيدُ فَصَلَّى كذلك، وحينئذٍ خرج أَثَرُ أَنَس رضي الله تعالى عنه عن مَوْضِع النِّزَاع، فإنَّ القضاء لا يُنْكَرُ هنا أيضًا. نعم، أَثَرُ عِكْرِمَةَ صريحٌ في إقامة العيد في القُرى.
باب ُ الصَّلاةِ قَبْلَ العِيدِ وَبَعْدَهَا
الصلاةُ قَبْلها مكروهةٌ حتى الإِشراق أيضًا، وأما بعدها فجازت في البيتِ دون المُصَلَّى.
كتاب الوِتْر
باب ُ ما جاءَ في الوتْر
واعلم أن الكلام في أبواب الوِتْر في مواضع: في الفَرْق بينها وبين صلاةِ الليل، وفي صفتها أواجبة هي أم سنة؟ وفي ركعات الوتر، وأنها بتسليمةٍ أو بتسليمتين.فنقول: والذي يتَّضِح من صَنِيْع المحدِّثين كافةً أنهما صلاتانِ متغايرتان عندهم. فإنهم يُبَوِّبُون لكلَ منهما بابًا بابًا، ثم يذكرون صلاةَ الليل في أبواب الوِتربوالعكس، لارتباطٍ بينهما. وهو نَظَرُ الحنفية، فإنهم قالوا: إن الوِتْرِ قِطْعةٌ من صلاةِ الليل صارت صلاةً برأسِعا مستقلةً بقراءتها، وصفتِها، وركعاتها.
وأما الشافعية رحمهم الله تعالى فلا فرق عندهم بينهم، إلا أنَّ أَقلَّ الوِتْر عندهم ركعةٌ، واتفقوا على أَنَّ أكثَرَهَا إحدى عشرة ركعةً، واختلفوا في ثلاثَ عشرةَ، وأما من حيثُ كونُها صلاةَ الليل فتجوز عندهم ألفَ ركعةٍ بسلامٍ واحدةٍ، وسنوضِّحُه في صلاة الليل.(3/181)
ومِنْ ثَمَّة اختلفوا في صفتها: فَمَنْ لم يفرِّق بينها وبين صلاةِ الليل لم يَسُغ له القولُ بوجوبها. ومَنْ فَرَّقَ بينهما ساغ له أن يفرِّق بين صِفَتَيْهِمعا فيقول بوجوب الوِتْر وسُنِّيةِ صلاةِ الليل أو استحبابها. وقد مرَّ أن في إيقاظ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأَهْلَهُ للوِتْر دون صلاة الليل، والأَمْرَ بأدائها في أوَّل الليل لِمَنْ لا يَثِقُ بالانتباه في آخر الليل، وإيجاب القضاء على مَنْ فاتته، وإفرازها بالقراءة، وتعيين وقتها وركعاتِهَا لآياتٌ دالَّةٌ على الوجوب. واتفقوا على عدم جواز تَرْكها أيضًا. فحينئذٍ لم يَبْقَ نِزَاعٌ إلا في إطلاق لَفْظ الوجوب، وهذا كما ترى مما لا ينبغي فيه النزاع.
ثم الأفضل عندهم أَنَّ الوِتْر ثلاثٌ بتسليمتين، فإنْ كانت بتسليمةٍ فالأفضلُ أن تكون بقعدةٍ على الأخيرة. فإن صلاها بقعدتين على الثانية والثالة مع تسليمةٍ واحدةٍ، فقيل إنه مَفْضولٌ، وقيل: غير صحيح. ثم قالوا: إنه إن صلاها خمسًا فطريقُها أن يصليها بقعدةٍ على الأخيرة، أو بقعدتين على الرابعةِ والخامسةِ، ثم إن شاءَ سَلَّم على الرابعة والخامسة فقط، وقِسّ عليها حالَها إلى إحدى عشرةَ. وإن أَرَدْتَ أن تكتفي بواحدةِ الوِتْر فذا عندهم جائزٌ أيضًا.
أما عند مالك فظاهرُ موطئة إن الوِتْر ثلاثٌ بتسليمتين وجوبًا ولا تصح بواحدةٍ. وتأوَّله الشارحون وقالوا معناه نَفْيُ الكمال، وذهبوا إلى استحباب الثلاثِ مع صحَّة الواحدة. وقريبٌ منه مذهبُ أَحمد رحمه الله تعالى.
قلتُ: لم يَثْبتُ عن النبيّ لله الاكتفاءُ بركعةٍ واحدةٍ قط بحيث لا يكون قَبْلَها شيءٌ ولا بَعْدَها شيءٌ، كما أقرَّ به الشيخُ عمرو بنُ الصَّلاح. وكذا ليس عندهم للفَصْل بينَ ركعاتِ الوتر شيءٌ غير المُبْهَمَاتِ.(3/182)
ولنا في كونها ثلاثَ ركعاتٍ وأن لا تسليمَ بينها صرائح ضوامَر من النصوص. وأما المصنِّف رَحِمه الله تعالى فقد وَافَقَنَا في تَغَايُرِ الصلاتين. ولعلَّه وافقنا في الوجوب أيضًا، كما سيجيء تقريره، وكذا في أنه ثلاثُ ركعات ولذا لم يُخرِّج في الباب الأَحاديثَ التي تَدُلُّ على كونِ الوِتْر خَمْسَا إلى ثلاثةَ عشرَ، نعم خالفنا في كونها بتسليمةٍ وجَزَم بكونها بتسليمتين. ثُمَّ لم يستطع أن يستدلَّ عليه إلا بأثرٍ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه. فلنا أيضًا آثارٌ عن عمر، وعليَ، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم.
وفي «المُدَونة» من قِيام رمضان: أَنَّ آخِرَ ما صلَّى بها الوِتْر بعد التراويح ثلاثُ ركعاتٍ، وعند الطحاوي: أنَّ عمرَ بن عبد العزيز أَثْبَتَ الوِتْر بالمدينة بقولِ الفقهاءِ ثلاثًا لا يُسلِّم إلا في آخِرِهنَّ. وعنده عن أبي الزِّنَادِ عن السبعة: سعيد بن المسيَّب، وعروةَ بن الزُّبير، والقاسم بن محمد، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وخارجةً بنِ زيد، وعبيد الله بن عبد الله، وسُلَيمان بن يَسَار، في مشيخةٍ سواهم أَهلَ فِقْهٍ وصلاحٍ وفضلٍ، وربمااختلفوا في الشيء، فأخذ بقول أَكثرِهم وأفضلِهم رأيًا، فكان مِمَّا وَعَيْت عنهم على هذه الصفة: أن الوِتْر ثلاثٌ لا يُسلَم في آخَرِهنَّ... إلخ. وفيه عبدُ الرحمن بن أبي الزِّناد، وفيه لَيِّن.
قلتُ: وعَلَّق عنه البخاري في الاستسقاء.(3/183)
995 - قوله: (صلاةُ الليلِ مَثْنَى مَثْنَى). واعلم أنه قد تكلَّمنا عليه مرةً في: بابِ الحِلَق في المساجد، والآن سُنِح لنا أن نعود إليه ثانيًا مع إفادات جديدةٍ تركناها مِنْ قبل. فاعلم أَنَّ أَخْذَ المَثْنى في التعبير ليس لنكتةٍ فيها، بل التدرُّج من الأقل - إذا لَمْ يُدْر أنه كم يُصلَّى - طريقٌ فطري أو هو لِدَفْع مضرةٍ في ذِكْر غيره من العدد. فإنه لو قال: صلاةُ الليل أربعٌ، لانحصرت صلاةُ الليل فيه، لكونِ هذا العددِ أقلَّ من الأكثر، وأكثرَ من الأقلّ، فلا بد للتخصيص من نكتةٍ، وحينئذٍ تبادر إلى الذِّهن اختصاصُ صلاةِ الليل به، ولانحصر الوِتْر في الخَمْس، وقد مرَّ تقريره.
فإن قلت: إنَّ المثنويةَ إذا قامت بالسلام ثَبَتَ أنها ثلاثُ ركعاتٍ بتسليمتين. فترجَّح ما ذهبوا إليه ولا سيما إذا كان هذا الحديثُ قوليًا، وخلافُهُ إِنْ ثَبَتَ فإنه فِعْلِيُّ، والقولي مقدَّم.
قلتُ: إما ترجيحُ القولِ على الفعل فلكون القولِ تشريعًا عامًا والفعل واقعةً جزئيةً غيرَ معلومةِ الحال على الأَغْلَب، والأَمرُ ههنا بِالعْكْس. فإن فِعْلَه صلى الله عليه وسلّمههنا مدّةَ عُمره على الوَصْل كما يرويه مَنْ رأَى وِتْرَه الدهر كلَّه. وهي عائشة رضي الله عنها، ومَنْ كَان ذهب لرؤية وِتره وهو ابن عباس رضي الله عنه، لا يحكي إلا أنها ثلاث بسلامٍ واحدٍ في آخِرِهنَّ. وأمَّا القول فَهو مُبْهَم يحتمل الوّجُوهَ ولا يقولُ عاقلٌ بترجيح هذا النحو من الفِعْل على مِثْل هذا القول.(3/184)
ثم اعلم أَنَّ كلَّ أَمْرٍ حُمِل على خصوصيته صلى الله عليه وسلّملا بد أن يكونَ أفضلَ وأَحْرَى في باب العبادات، فإنَّ اختصاصَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّملا يكون إلا بما هو أَفْضَلُ، كالوصالِ وغيرهِ، بخلاف نحوِ الاستقبالِ والاستدبارِ. فإِنَّا لو حملناه على الخصوصيةِ لا يكون دليلا على أفضليتِهِ، بل يجوزُ أن يكون استقبالُهُ صلى الله عليه وسلّملكونِهِ أَشرفَ في نفسه من الكعبة، فانتفَتْ عِلَّة الكراهة وهي الاستهانة.
على أنه قد مر معنا أَنَّ مسألةَ صلاة الليل فيه تمهيدي. والمَسُوق له بيانُ نَضَد الوِتْر بصلاة الليل، وأنه كيف يجعلُهَا آخِرًا؟ فهداه أنه يَجْعَلُهَا آخِرًا بأن يَضُمَّ معها واحدةً في الآخِر، فيصيرُ ما قد صَلَّى مِنْ مَثْنَاه قبلَه، أو مجموع صلاة الليل وِتْرًا إن اعتبرناه على طريقِ صِفَةِ الشيء بحال متعلقة، فبناؤه على أَنَّ الوِتْر ثلاثٌ، أما كونُهَا مفصولةً بسَلام، فهو أَمْرٌ آخَرُ لم يتعرض إليه في هذا الحديث، ولا أُريد تَعْلِيمُهُ منه، وإنما عَلَّمه منه نَضْدَ الوِتْر بصلاةِ الليل، كما مر عن صحيح مسلم - ص 298 : إنَّ سائلا سأله: كيف أوتر صلاة الليل؟ وإذا لم يبين له عددًا لأنه في إبان الصبح لا يدرى كم يدرك من الركعات، بدأ من مثنى لأنها أقل، ولعله يكتفي بها فقط. فالتسليم على كلِّ مَثْنى ليس مقصودًا، بل هو لِفَرْض أن صلاتَه هذا القدر فقط إن لم يدرك وقتًا بعدها، أو يزيد عليها مَثْنَى أُخْرَى إن أدرك وقتًا، ثم إذا خَشِي الصبح يُبادر إلى الوِتْر. ولما كان الوِتْر مُركَّبَا من مَثْنَى وركعة، فَصل الراوي مثناها في الذِّكْر فقط، ونَبَّه على أن حقيقة الإتسان قامت بواحدةٍ، فهي في النظر فقط بيانٌ للإيتار لا للفَصْل في العمل أيضًا.(3/185)
وبالجملة أنَّ المَثْنَويَّة عندنا قامت بالقعدة، وعند الشافعية بالسلام، فلزِمهم أن يقولوا بالتسليم على مَثْنَى الوتر أيضًا. فثبتَ التسليمُ بين الركعتين، والركعة من الوتر بخلافِهَا عندنا، فإنها باعتبار القعدة سواءٌ كان فيها التسليم أو لا، وهذا القَدْر قد بَيَّناه مِنْ قبل.
والآن نريد الخوض في لَفْظ: «تُوْتِرُ له مَا قَدْ صَلَّى» أنه ما يفيد؟ وأنه ما الفَرْقُ بينه وبين قوله: «فاوتر بواحدة». وقد وعدناك بيانَه مرارًا وأَوفيناه أيضًا، ولكنا نفيدك الآن فائدةً لم تكن على خبرةٍ منها بعد.
فاعلم أنا قد مَهدنا مِنْ قبل أن الفِعْل المتعدي إذا اعتبرت فيه المعهودية يصيرُ لازِمَا، وحيئنذٍ يتعدى بحرف الجر، كقوله: قرأ الفاتحة، وقرأ بالفاتحة، ومسح رأسه، ومسح برأسه. ومِنْ هذا الباب أَوْتَره وأوتر به. وحينئذٍ معنى قوله: أَوْتِر به أَن الواحدة هي الوِتْر المعهود عند الشرع. ومعنى الأَيثار بها أن يفعل بها فِعْل الوتر، وحينئذٍ يكون الحديثُ دليلا على أن الوِتْر ركعةً كما ذهب إليه الشافعية رحمهم الله تعالى.
قلتُ: وإن كان حقُّ اللفظ هو هذا، إلا أنَّه لما تبين لنا انتفاءُ كونِ الركعة صلاةً مُعتبرة من جهة صاحب الشرع، وتَرَكْنا تبادُرَه. فإن مِثْل تلك النِّكَات إنما يجري في القرآن للتيقُّنِ بِحِفْظ. أما في الأحاديث فَلِفُشُوِّ الرواية بالمعنى، لا يُؤْمَنُ بِهَا أنه من لَفْظ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأو لا. ولنا أن نعارِض بما في البخاري في عين هذا الحديث: «تُوْتِرُ لَهُ ما قد صَلَّى» مكان «أَوْتِر بواحدةٍ»، وهذا أَقْعَدُ على نَظَرِ الحنفية. فإنَّ الإيتار فيه على صرافة اللغة فلا بد أَنْ يكون هناك مُوْتِرًا - بالفتح - يُؤتَر بتلك الواحدةِ، وهو مَثْنَى بِنَصِّ الحديث، فخرج أَنَّ الوِتْر ثلاثٌ.(3/186)
فإن قلت: إنَّ قوله: «أَوْتِر بواحدةٍ» كقولهم: أَنتِ واحدةٌ فهي للبينونة. وحينئذٍ تكونُ تلك الواحدةُ منفصلةً من المَثْنَى الأخيرة أيضًا، كانفصالها عن سائر المَثْنَوياتِ وذلك بالتسليم، فيثْبُتُ التَّسْلِيْمُ بين الرَّكْعتين والركعة.
قلتُ: أولا في تفتيش لفظ الواحدِ: إنه يستعملُ بمعنيين: الأول لمفتتح العدد، ويقابله الاثنانِ والثلاثُ، وترجمته «إيك». والثاني بمعنى المنفرد. قال التِّبْرِيزي في شرح قول الحماسي:
فإن قلتُ: إنَّ الواحدة مقابلة للمَثْنَى فتكون منفصلة بسلامٍ كانفصالها. قلت: إن الواحدةَ لو كانت مقابلة للمَثْنَى لكان الكلامُ هكذا: صلاةُ الليل مَثْنَى مَثْنَى، فإذا خَشِيت الصُّبْحُ فواحدة. وحينئذٍ استقامت المقابلةُ بين المَثْنَى والواحدةِ، وانساق إلى الذِّهن أن الأَمْرَ الذي قامت به المَثْنَويةُ قامت به الوحدة أيضًا، وهو السلام، ولكن الشارع عَدَل عنه، وقابل بين المَثْنَى والإِيتار بالواحدة لإفادة التفصِّي شيئًا فشيئًا، وحينئذٍ لا يتم ما راموه.
(3/187)
ثُمَّ إنَّ مما يَدُلُّك على أن الواحدةَ في مِثْله تتعلَّقُ بالأخيرة، ولا يجِبُ أن يكون حالُهَا مع الأخير كحالها مع ما قَبْلِها ما قال الفرَّاءُ: معي عشرةٌ فَأَحِّدْهُنَّ، أي اجعلهن أحدَ عشرَ، أي بزيادةِ واحدةٍ بعد العشرة. فدلَّ على تَعَلُّقِهِ بالأخير، وإنْ كان أثَرُهُ على ما قَبْلَه أيضًا. ونُقِل أن ثالثَ ثلاثةٍ معناه جَاعِلُ الاثنين ثلاثًا بعد كونه معدودًا فيها. وحُكِي عن سيبويه في ثَالِث ثلاثةٍ عشرةَ وجهان: بتنوين ثالث، وبدونها، أي مع الإضافة، ولذا ذكر له الرَّضِيُّ معنيين: الأول الثالثةَ عشرةَ من ثلاثةَ عشرةَ، والثاني الثالثَ من ثلاثَ عشرةَ ودلَّ الأوّلُ على تعَلُّقِهِ بالأخير - يعني تيره مير سي تيره تير هوان ياتيره مير سي تيسرا - ثُم قال الشافعية: معنى قوله: «أوْتِر بواحدةٍ» أي مجموع ما صَلَّيْت قَبْلَه، فيكون حالُهَا مع المَثْنى الأخيرة كحالِهَا مع سائر المثنويات، فهي منفصلةٌ بسلام. وقلنا: بل معناه: أَوْتِر بها الشَّفْعَ الأخيرةَ حقيقةً وإن انسحب الحُكْم على ما قَبْلَهِا أيضًا حُكْمَا، على طريق صفة الشيء بحالِ مُتعلَّقِة. والحديث يدل مَنْ حاقه على أن الواحدة متعلقة بالمَثْنَى الأخيرة فقط، فالمعنى: أوتر بها الشفعَ الأخيرة، فإنَّ قوله صلى الله عليه وسلّم «واجعل آخِرَ صلاتِكَ وترًا» صريحٌ في أنه أُريد بالإيتار المَثْنَى الأخيرة فقط، وهي آخِرَ صلاته. وحينئذٍ تكون تلك وترًا حقيقةً، وسائرُ الصلاةِ وترًا على طور وَصْفِ الشيء بحال مُتَعلِّقِه، كيف وأنَّه نَفْسَه قد وصف أوَّل صلاتِهِ بالمَثْنَوية فقال: «صلاةُ الليل مَثْنَى مَثْنَى» فهي مَثْنَى حقيقةً فلا تكون وِتْرًا. كذلك وإنَّما تَصِحُّ وِتْرِيتُهُ على طريق ما قلنا، فهي شَفْعٌ حقيقةً ووِتْرٌ مجازًا. وإذا علمت أن حالَ المَثْنَى الأخيرةَ غيرُ حالِ سائر المثنويات، لم يجب أن يكون حالُهَا في الفصل عَمَّا قبلها كحالِ سائر(3/188)
المثنويات، وجاز أن تكون المثنوياتُ كُلُّهَا مفصولةً بسلام، وتلك موصولة بواحدة. وهذا معنى ما رواه ابن أبي شَيْبة - وصححه العِراقي - «صلاةُ المغربِ وِتْرِ صلاةِ النهار، فأوتروا صلاةَ الليل» لم يذهب فيه أحدٌ إلى أن صلاةَ المَغْرب أوترت النهايات كُلَّها. بل المعنى أنها خرجت من بينها وِتْرًا بنفسها، وإن اتصفت النارياتُ بالوِتْرية، فعلى طور صِفة الشَّيء بحال متعلَّقِه فليُقَس عليها حالُ الإيتار وظيفة الليل أيضًا. فليس معناه أن الواحدة جعلت مجموعَ صلاةِ الليل وِتْرًا. فحالها مع المَثْنَى الأخيرة والتي قبلها سواء، بل معناه أنها مع المَثْنَى الأخيرة خرجت وِتْرًا من بين سائر صلاة الليل.
والحاصل: أن النهاريات كما اختتمت بصلاةِ وِتْرٍ كذلك اختموا صلاةَ الليلِ بالوتر، وعلى الوتر - وبعبارةٍ أخرى - إن وِتْر النهار كما لم يكن مقومًا لسائر النهاريات، كذلك وتر الليل ليس مقومًا لسائر ركعات الليل ليكون تَعَلُّقُه بالجميع سواء، بل معناه أن آخِرَ النهاريات صلاةً وِتْرٌ كذلك فلتكن صلاةُ الليل وترًا، لتصير الوظيفتان - أي وظيفة الليل والنهار - على شاكلةٍ واحدة. وتتصف الوظيفتان بصفة الوترية فتجلبان معنى الأَحِبَّية، «إن اللَّهَ وِتْرُ يحِبُّ الوِتْر» فكان الإيتار لمعنىً والناسُ حملوه على معنىً. فافهم ولا تعجل لتنجلي لك حقيقةُ الحال. وإنما تكلمنا عليه الآن بحسَبَ أذواق العربية وإن كان الأَمُرُ يبتني على ما ثبت عنه في الخارج ولا يبنى ولا ينهدم من الألفاظ شيء. وقد بقي بَعْدُ خبايا في زوايا الكلام، وفيه كلام أطول من هذا، وليراجع له رسالتي «كَشْف السِّتر في مسألة الوِتْر».(3/189)
991 - قوله: (وعن نَافِع: أن عبد الله بنَ عمر كان يُسَلِّم بين الركعةِ والركعتين في الوِتْرِ، حتى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حاجَتِهِ) قيل: إن «حتى» ههنا بمعنى «كي»، وحينئذٍ لا يَدُلُّ على كَوْنِ التسليم عادةً له، وإنَّما معناه أَنه كان يُسَلِّم عند سُنُوح الحاجة. وقيل: بل هي للترقي. فمعناه أن التسليم كان من عادته، حتى إنه كان يتكلم بين الركعة والركعتين أيضًا، فهو لكمالِ الانفصال. وقد استدلَّ صاحبُ «الْمُغْني» على كونها للترقيِّ من قول الشاعر:
*وكان امرؤٌ من جُنْدِ إبليس فارتقى ** به الحالُ حتى صار إبليسُ من جُنْدِهِ قلتُ: ولعل «حتى للتَرَقِّي» هي «حتى العاطفة» للغاية كما في قولهم: مرض فلانٌ حتى لا يرجونه، ومات الناسُ حتى الأنبياءُ، ومن جزئياته حتى للتَرَّقي فاخترعوا لها اسمًا على حِدة، وشرطوا لها شرائِطَ، ولذا احتاجوا إلى إثباتها. ولو قالوا: إنها هي العاطفة، وقد تفيد الترَّقي أيضًا لما احتاجوا إلى تَجَشُّمِ الاستدلال، ولا وجه لإنكارها، وكيفما كان ثبتَ السَّلامُ عن ابن عمر رضي الله عنه في الوسط.
قلتُ: ويَرْوي هذا الحديثَ آخَرُون أيضًا، ومذهبهم أن الوِتْر ثلاثٌ بسلام واحدٍ، فعلم أن الحديثِ ليسَ نصًّا في الفصل، إنما هو اجتهادُهُ ثم إن مذهبَهُ نَقَضَ الوِتْر أيضًا، فهلاّ اختاروه أيضًا مع أنه لم يذهب إليه من الفقهاءِ الأربعةِ أحدٌ.(3/190)
وفي قيام الليل ما يدل على أنه كان يفعلُ ذلك من رَأَيه، وليس فيه عنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمشيءٌ. وهكذا لم يثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمالكلامُ أيضًا قط، فهو أيضًا من اجتهاده، ثم إِنَّ ظاهر هذا التعبيرِ الكلامُ بعد الركعة قبل الركعتين، ولم يختره الشافعيةُ رحمهم الله تعالى أيضًا. وقد يذهبُ وَهْلي إلى أنه يمكن أن يكون كلامُهُ هذا بين الركعة الأخيرة من الوِتْر وركعتي الفَجْر. وقد ثبت نَحْوُه عن عائشةَ رضي الله عنها وإن كان الظاهرُ منه ما اختاره الشافعية.
وليُعْلَم أن الحافظ رحمه الله بعد خَتْم باب التشهد نَبَّه على فائدة، وهي أنهم لم يختلفوا في ألفاظ التشهد الأول إلا ما رُوي في «مصنَّف» عبد الرزاق عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يرى قولَهُ «السلام عليك أيها النبي»... إلخ نَسْخًا للصلاة، ولفظه: «وكان ابن عمر رضي الله عنه يرى التسليمَ في التشهد نَسْخَا في الصلاة». وصرَّح نافعٌ أن المرادَ به السلامُ عليك أيّها النبيُّ... إلخ.
قلتُ: ورأيت هذه الروايةَ بعينها عن سالم، عن ابن عمرَ رضي الله عنه في «مصنِّف» ابن أبي شيبة أيضًا، ثم قال سالم: «أما أنا فَأُسلِّم». قلتُ: ومن ههنا عُلِم وَجْهُ اجتهادِ ابن عمرَ رضي الله عنه في الكلام بين الركعة والركعتين من الوِتْر. فإنَّه إذا كان يرى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلّميسلم في تَشَهّدِه وكان عنده نَسْخَا للصلاة، حَمَله على الفصل وأنه فَرَغ من صلاته.(3/191)
ثُمَّ عند مالك في «موطئه» عن ابن عمر رضي الله عنه: «أنه كان يقرأ بالسلام في تَشَهُّدهِ في صلاته»، وهذا يُوجِب أن لا تصح صلاتُهُ على الفَرْض المذكور. فإنَّه إذا كان التسليمُ عنده نَسْخًا فليزَم أنه كان ينسخُ صلاتَه بالتسليم في التشهد، مع أن اختلافَه لو كان، لكان في ركعات الوِتْر دون سائر الصلوات، فإنَّها متواترةٌ، فما لم يُفَصِّل مَاذَا كَانَ مَذْهَبُه؟ لا ينبغي التَّمَسُّك بحديثه. على أنه قد تبيَّن عندنا مَنْشَؤُه، وهو أن الرواية في النوافل ليست عنده إلا بالمَثْنَى، فَجَعَل الوِتْر أيضًا مَثْنَى وركعةً طردًا للباب، ولا يصِحُّ على طريقنا. وقد أوضحناه في تقرير الترمذي أبْسَط من هذا.
ثم ههنا حديث في «مستدرَك» الحاكم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: أنه كان يتكلم بين الركعتين والركعة من الوِتْر، وهو صَعْبٌ جدًا، وقد كشف اللَّهُ علي سبحانه مرادَه بعد عشر سنين ونَيِّف. وصورة الجواب: أَن الركعة هي واحدةُ الوِتر، أما الركعتان فهي سُنَّةُ الفَجْر، والمقصودُ منه إثباتُ الكلام بين الوِتْر وسُنَّة الفجر. ولما كانت الواحدةُ ثالثةَ الوِتر وذكرتها بالواحدة تَبَادَرَ إلى الذِّهْن أنها ثالثةٌ الوِتْر، والركعتان هما مثناه، مع أن الأمر ما قلنا، والدليلُ عليه ما في «الصحيحين» عنها: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان يحدِّثُها بعد الوتر إن كانت مستيقظَةً، ثم يُصلِّي سُنَّةَ الفَجْر وسندُه وسَنَدُ حديث «المستدرَك» واحدٌ، وتمامه في رسالتي «كَشْف السِّتْر».
واعلم أن محمد بن نَصْر، ومحمد بن مُنذر، ومحمد بن خْزَيمة، ومحمد بن جَرِير يقال لهم: المحمدون الأربعة. قيل: إنهم كانوا في أوَّلِ أَمْرِهم على مذهب الشافعية رحمهم الله تعالى، ثُمَّ صاروا مُستقلِّين بالاجتهاد.(3/192)
قوله: (قال القاسِمُ: ورأينا أُنَاسَا مُنْذُ أَدْرَكْنَا يُوْتِرُون بثلاثٍ، وإنَّ كُلاًّ لَوَاسِعْ، وأرجو أن لا يكونَ بشيءٍ منه بأسٌ) وكلام قاسم هذا صريحٌ في علم العامة أنه كان بالثلاثِ، وهو تابعيٌ فقيه. وأما رأيه فعلى رأي الحافظ جوازُها بالركعة أيضًا، لأنه حَمَلُهُ على كونِها واحدةً أو ثلاثًا.
قلتُ: ولِمَ لا يجوزْ أن يكون مرادُهُ التعميمَ في الثلاثِ والخَمْس وغيره، بأن تكونَ الركعتان أو أزيد قُبَيل الثلاث، ولا سيما مامر معنا عن الطحاوي من مذهبه في هذا البابَ، فإن كان مذهبُهُ هوالثلاثَ - كما هو ظَاهِرُ لَفْظِ الطحاوي - تَعَيَّن أن التخييرَ منه في الثلاثِ، وفي ما فوقه لا فيما دونَ الثلاثِ، كما فَهِمه الحافظ رحمه الله تعالى.
قوله: (فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذلك قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحدُكُمْ خمسينَ آية)... إلخ فهذه السجدةُ في داخل الركعات لا أنها خارج الصلاة بعد الوتر، كما شاع في بعض البلاد. وفي «المنية»: أنها بِدْعَةٌ. وترجم عليها النَّسائي. قلتُ: وكان المناسبُ أن لا يترجم عليها، لأنها لم يَظْهَر بها العملُ. وكذلك فَعَل النسائي في حديث: «فأذِّنا فأقَيما» فترجم بتعدد الأذان في السفرِ، ولم يذهب إليه أحدٌ. وقد مرَّ الكلام فيه.
باب ُ سَاعاتِ الوِتْر
والكلُّ ثابت، واستقرت عادتُهُ على الآخِر الليل. وعند أبي داود حذر هذا، وقوَّى هذا.
باب ُ إِيقَاظِ النبي صلى الله عليه وسلّمأَهْلَهُ بِالوِتْر
باب لِيَجْعَل آخِرَ صَلاتِهِ وِتْرًا
دلَّ على تَغَايُرِ الصلاتين قطعًا.(3/193)
998 - قوله: (اجْعَلُوا آخِرَ صلاتِكُمْ بالليل وِتْرًا) وهذا دليلٌ على أن الوِتْر ثلاثٌ إنْ جعلت «الآخِر» مفعولَه الأول، «والوِتْر» مفعوله الثاني. ولو جعلت «الآخِر» ظرفًا «والوِتْر» مفعولَه الأول لم يحصل منه هذا المُرَادُ.
باب ُ الوِتْرِ عَلَى الدَّابَّة
قال الحافظ: ولولا أنَّ البخاري ترجم بهذه لدلَّ على اختيارِه وجوبَ الوِتْر، لأن صنيعَ تراجِمِه يشيرُ إلى الوجوبِ، ولكنه لما جَوَّزَ الوِتْر على الدَّابة عُلِم أنه لم يذهب إليه.
قلتُ: بل هذا الاحتمال قائمٌ بعد، لجواز أن يكون البخاريُّ يختارُ جواز أداءِ الواجب على الدَّابة. فإنه لا نصَّ فيه، وهو مختارٌ في مسائله، ولا يلزم من عدمِ اختيار الحنفية والشافعية رحمهم الله تعالى تلك المسألةَ أن لا يختارها البخاريُّ أيضًا. أما ابن عمر رضي اللَّهُ عنه فالجوابُ عنه عندي أنه مِمَّنْ لَمْ يكن يُفَرِّق بين الوِتْر وصلاةِ الليل، وكان يُطْلِقُ الوِتْر على المجموع. فيمكن أن يكونَ ما ذكره مِنْ وِتْره على الدَّابة هي صلاةَ الليل، وما ذكره عند الطحاوي أنه كان ينزل لها هي وِتْر الحنفية، وبه يَحْصُلُ الْجَمْعُ بين الروايتين. وعن ابن عمر رضي الله عنه آثارٌ عديدةٌ في «النزول» عند محمد في «مُوطَّئه»، وفي إسناده محمدُ بنُ أَبَان بن صالح وهو مُتَكلَّم فيه، وباقي الإسناد صحيحٌ. وقد ثبت له النزولُ عن غيرِ واحدٍ منهم مع عمرَ رضي الله عنه أيضًا، وهو في «المصنَّف» لابن أبي شَيبة. ولفظه: «كانوا يَنْزِلُون على الأرْضِ للوِتْر».
باب ُ الوِتْرِ في السَّفَر
باب ُ القُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَه(3/194)
ولم يكن عنده حديثٌ في قنوت الوِتْر، فأخرج قنوتَ النازلةِ إشارةً إلى قنوتِ الوِتْر، وهو عندنا في جميع السَّنة، ولا قنوتَ في الفجر. أما عند الشافعي رحمه الله تعالى فهو في الفَجْر في السَّنَة كلِّها، وفي الوتر في آخِر رمضان. ثم القُنوتُ الراتبةُ قبل الركوع عندنا. وأما قنوتُ النازلة فيجوز قَبْلَه وبعدَه، والظاهر أن الأوْلَى بعده.
1001 - قوله: (قَنَت بعدَ الرُّكوعِ يسيرًا) وهو في قِصة أصحاب بئر مَعُونة حين بعث سبعين نَفَرَا واسْتُشْهد منهم تسعةٌ وستّون، فقنت فيها أربعينَ يومًا، أو شهرًا: هكذا شَكَّ فيه الراوي.
1002 - قوله: (قلت: قَبْل الرُّكوعِ أو بَعْدَه) ولعل هذا قنوتُ الراتبة وهو في الوتر عندنا، وفي الفجر عند الشافعية رحمهم الله تعالى.
1002 - قوله: (فقال: كَذَبَ)... إلخ. وهذا قُنوت النازلة. وحاصله: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يَقْنُت للنازلةِ إلا شَهْرًا بعد الركوع - قال الحافظ: معناه لم يقنت متواليًا - أما الرَّاتِبة فَقَنَتها قبل الركوع. وقال النيموي في «آثار السنن»: إنها في الوِتْر.
قلتُ: وليس في لفظ الحديث أنها في الوتر، فتكون عندنا في الوِتْر، وعند الشافعية رحمهم الله تعالى في الفجر.
1002 - قوله: (إلى قومٍ مُشْرِكينَ دونَ أُولئك) يعني أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يكن بَعَثَ هؤلاء إلى أولئك الذين عَدُروا، لأنه كان بينهم وبينه صلى الله عليه وسلّممعاهدةٌ، وإنما كان بَعَثَهم إلى قومٍ مشركين، ولكنْ غَدَرَ أولئك.(3/195)
1004 - قوله: (عن أنسٍ قال: كان القُنوت في المَغْرِب والفَجْر) قال أحمد: إن القنوتَ في الْمَغْرِب نادرٌ. قلتُ: وذلك لكون الركعة الأخيرة فيها سرًا، فإن يَقْنُت فيها يقنت جهرًا، والجهر في السرية غيرُ معروفٍ، وإنْ أسرَّ به يبقى القوم غافلين لا يدرون ما يفعلُ إمامُهُم. ثم لم يَكْتُب أحدٌ منهم أنه كيف قَنَت في السِّريَّة. ولعلَّه قرأه حهرًا. وأما في رمضان في الوِتْر فلما كان بعد الجهر يَعْلَمُ القومُ أَنه قانتٌ فيقنتون لأنفُسِهم أيضًا.
كتاب الاسْتِسْقَاء
باب ُ الاسْتِسْقَاءِ، وَخُرُوجِ النبي صلى الله عليه وسلّمفي الاسْتِسْقَاء
قال صاحب «الهداية»: الاستسقاءُ عندنا دعاءٌ واستغفار. فتوهمَّ منه بعضٌ نَفْيَ الصلاةِ رأسًا، مع أنه قال بُعَيْده: «قلنا: إنه فَعَله مرةً وترَكه أخرى فلم يكن سنةً»، فخرج أنه أنكر السُّنية دونَ الجواز.%
وقد حققه المحقق ابنُ أمير الحاج وبسطه جدًا.
قلتُ: والسرُّ فيه أن الاستسقاء على أنحاء: بِرَفْع الأَيدي في عامَّة الأحوال، ودُبُر الصلوات، وفي المُصَلَّى، وفيه التفاصيل والخلاف. ويُشترط له الإمامُ الأكبر فَحُكْمِ الإمام على المجموع، فلم يَسَع له الحُكْمُ بالسُّنية. وأفرز الشافعي رحمه الله تعالى الثالث فقط، فوَسِعِ ذلك، ونظيره الوِتْر على ما مَرَّ. فمن حَكَم على المجموعِ حَكَم عليه بالسُّنية، ومن أفرز القِطعةَ الأخيرةَ منه حَكَم بالوجوب، ونحوه الجماعة فَمَنْ حَكَمْ على مجموع ما وردَ فيها من الأَوامر وأَعْذَار الترك حَكَم بالسُّنية، ومن نظر إلى الأَوامر فقط حَكَم بالوجوب. وقد مرَّ تقريره.(3/196)
ويقرأ فيها سرًا، ولا تُسنُّ الخطبة، ولصاحبيه خلافٌ فيهما، والعمل على مَذْهب الصاحبين. ويستحبُ تحويلُ الرِّدَاء للإمام عندنا دون القوم كما في «فتح القدير». والنفي في المتون محمولٌ على نَفْي الوجوب. راجع تفصيله في شَرْحِ «المِنية» لابن أمير الحاج.
ونقل الشيخ شمس الدين السَّرُوجي عن العلامة القاسم بن قُطْلُوبغا سأَلَ شَيْخَه ابنَ الهُمَام عن إسناد هذا الحديث. فكتب أنه أخذه من «إتحاف الخيرة بزوائد المسانيد العشرة» للبُوَصَيْري، وقد جمع فيه البوصيري عشرة مسانيد. ثُمَّ كتب الشيخ أن البُوصَيْري ذكر فيه أنه لما سرد هذا الإسناد عند الحافظ رحمه الله تعالى فلم يُتِمَّه. حتى أن الحافظ رحمه الله تعالى تَبَسَّم وقال: وفيه رائحة حديث «مَنْ كان له إمام»... إلخ فتعجب مِنْ فَرْط ذكائه. ثم قال البُوصيري: فعلمت من تبسُّمه أنه ليس براضٍ عنه غير أنه لم يردَّه صراحةً أيضًا.
وليس هذا تخصيصًا بل بابٌ مستقلٌّ ومسألة زائدةٌ في حقِّ المقتدي، كحديث: «البِكْر تُسْتأذنُ في نفسها وإِذْنُها صِمَاتُهَا». فليس قوله: وإِذْنُها صِمَاتُها» تخصيصًا بل وضعًا مستقلا. وعلى هذا فإيجابُ القراءةِ على المقتدي من العمومات، كاشتراط الإِذْن باللسان على البِكْر.(3/197)
ومعلوم أن الشريعةَ إذا أقامت لها بابًا مستقلا وأَفرزتها من الحُكْم العام، فليس لأحد أن يُجْرِها تحت العموم ويجري علهيا أحكامَها. فهكذا لَمَّا علمنا أن الشريعةَ نصبت لأحكام الائتمام بابًا مستقلا، ولغير الائتمام بابًا أيضًا. فَنَقْلُ أحاديثِ أحدِ البابين إلى الآخر إلغاءٌ لِغَرَضِها. فراجع أحاديث الائتمام: لم يأمر في واحدٍ منها المقتدي أن يقرأ مع إمامه، ولم يقل: وإذا قرأ فاقرؤوا، مع أنه مرَّ فيها على جملةِ أفعالِ الصلاة تقريبًا، فترك هذا الرُّكْن الذي قد سبق على سائر الأركان، وصار مدارًا لصحة الصلاة، وسِمَّةً لأهل الحديث مستعبدٌ جدًا، بل صحَّ فيها جملة: «إذا قرأ فأَنْصِتُوا» صحَّحه مسلم، وجمهور المالكية، والحنابلة. ولم يتأخَّر عن تصحيحه إلا مَنِ اختار القراءة خلفَ الإمام، فسرى فِقْهُه إلى الحديث.
ثم اعرف الفرق بينَ سياقِ الاستثناء عن صريح النهي كما في قوله: «فلا تفعلوا إلا بأم القرآن»، وبينَ استثناءِ الفاتحة عن أمر الإنصات، أي أَنصتوا إلا بالفاتحة، ولم يَرِد في طريق. فجاء الشافعية وحملوا السياق الأوَّل على الثاني، مع أنه وَرَد في الحديث: «إذا قرأ فأنصتوا» ثم لم يَرِد فيه الاستثناء بالفاتحة. فدلَّ على أن الفاتحة وغيرَها في أَمْر الإنصات سواءٌ.(3/198)
والحاصل: أن لنا في هذه المسألةِ دلالاتٍ من الأحاديث، ونصَّا من القرآن: {إذا قُرىء القرآنُ فاسْتَمِعُوا له وأَنْصِتُوا} (الأعراف: 204) وليس عندهم لإيجابِ القراءة في الجهرية والسرية على المقتدي شيءٌ، إلا جَهْرهم بالمبالغات. ثم إنه صحت في هذا الحديثِ زيادة «فصاعدًا» أو ما قام مقامَها نحو: ما تيسر، وما زاد، وحينئذٍ يكون معناه انتفاءَ الصلاة بانتفاء الفاتحة مع عناية «فصاعدًا». وحاصِلُهُ انتفاءُ الصلاة بانتفاءِ القراءةِ مطلقًا. فلا يصلُح هذا الحديثُ أن يقومَ حجةً على مسألة الرُّكْنِيةِ أَصْلا، لدلالتها على انتفاءِ الصلاةِ بانتفاء القراءة، وقد قلنا به أيضًا. وإنما الكلامُ في انتفاء الصلاةِ بانتفاء الفاتحة خاصة، ولم يدلَّ عليه أصلا، بل متى ما تنظر في الأحاديث ترى أنَّها جعلتِ الصلاةَ عند انتفاءِ القراءةِ بالفاتحة خِدَاجًا لا منفية عن أصلها، كحديث أبي هريرة عند مسلم «مَنْ صَلَّى صلاةً ولم يقرأ فيها بأمِّ القرآنِ فهي خِدَاجٌ».
باب ُ دُعاءِ النبي صلى الله عليه وسلّم «اجْعَلهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ»
1006 - قوله: (اجعلها سِنينَ كَسِنِي يوسفَ عليه السَّلام). وهذا ضدُّ الاستسقاء، وهو دعاءُ القَحْط، فظهرت المناسبة. وفي إسناد عبد الرحمن بن أبي الزِّنَاد. وهذا هو الراوي في إسناد الطَّحَاويِّ في فَتْوى الفقهاء السبعة: على كونِ الوتر ثلاثًا لا يُسَلِّم إلا في آخِرِهِنَّ.
1006 - قوله: (هذا كلُّه في الصُّبْح) أي مع الجهر، كما سيجيءُ في التفسيرِ.
1007 - قوله: (إدبارًا) (روكردانى).
1007 - قوله: (الدُّخان) (ذهند).
1007 - قوله: (فقال: يا محمَّدُ)... إلخ لأنه كان مُسْتَجَابَ الدعوات فيما بينهم أيضًا.(3/199)
قوله: (فقد مضت الدخان)...إلخ والمرادُ من الدُّخَان عند الجمهور ما هو من أشراط الساعة، وبعدها الساعة بمئة سَنة فخرج الجوابُ عن الآية التي أوردها ابنُ مسعود رضي الله عنه. وهي: {أَنَّكُمْ عائدُون} (الدخان: 15). نعم لو قامت الساعة بعد الدُّخَان بدون فاصلة لَوَرَدَتْ الآيةُ على الجمهورِ.
فائدة:
واعلم أنه إذا تَعَارَض العمومان القطعيَّان في جزئي ولا يُدْرَى أنه يَدْخُل في أيِّ العمومين، يتردَّد فيه النظر. ومن ههنا اندفع ما عُرِضَ للمعتزلةِ في القول: بالمنزلةِ بين المنزلتين. فإنهم جَعَلُوا ارتكابَ المعصية نَقْصًا في إذعانه، وقد مرَّ تفصيله في كتاب الإيمان.
باب ُ سُؤَالِ النَّاسِ الإِمامَ الاسْتِسْقَاء إِذَا قُحِطُوا
* وَأَبْيضُ يُسْتَسْقَى الغَمامُ بِوَجْهِهِ ** ثِمَالُ اليَتَامى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ
* وَأَبْيضُ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ ** ثِمَالُ اليَتَامى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ
باب ُ تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ في الاسْتِسْقَاء
1010 - قوله: (اللهُمَّ أَنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إليك بِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلّم ليس فيه التوصُّلُ المعهودُ الذي يكون بالغائب حتى قد لايكون به شعورٌ أصلا، بل فيه توسُّلُ السَّلف، وهو أن يُقَدِّم رجلا وذا وجاهةٍ عند الله تعالى ويأمرَه أن يدعو لهم، ثم يحيل عليه في دعائه، كما فُعل بالعبَّاس رضي الله عنه عَمِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولو كان فيه توسُّلُ المتأخرين لما احتاجوا إلى إِذْهَاب العبّاس رضي الله عنه معهم، ولكفى لهم التوسُّل بنبيهم بعد وفاتِه أيضًا، أو بالعباس رضي الله عنه مع عدمِ شهوده معهم.(3/200)
وهذا النحو جائزٌ عند المتأخرين وَمَنَع منه الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى وإني متردِّدُ فيه، لأنه أَتى بعبارةٍ عن الإِمام من «تجريد القُدوري» أن الإقسام على اللهِ بغير أسمائه لا يجوزُ، فتمسَّك بنفي الإِقسام على نفي التوسل. فإن كان التوسُّل إقْسَامًا فالمسألة فيه كما ذهب إليها ابن تيمية رحمه الله تعالى، وإن لم يكن إقْسامًا يبقى جائزًا. وأما التمسُّك بقوله صلى الله عليه وسلّم «إنَّما تُرْزَقُون بِضُعفائِكم»، فليس بناهضٍ، لأنه ليس على التوسل، بل معناه أن الله تعالى يرزُقُكم برعايةِ الضعفاءِ، والرعاية لكونهم فيكم لا للتوسل اللساني فقط: اللهم ارزقنا بوسيلةِ فلان.
وصِفَةُ استسقاءِ العباس، ما أخرجه الحافظ رحمه الله تعالى: «اللهم لم يَنْزل بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولم يُكْشف إلا بتوبةٍ، وقد توجَّه القومُ بي إليك لمكاني من نَبِيِّك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغَيْثَ» اه.
باب ُ الاسْتِسْقَاءِ في المَسْجِدِ الجَامِع
قوله: (والانتهاك) من النَّهْك وهو التذليل. وفي التصريف: أَنَّ كلَّ كلمةٍ تكون فاؤها نونًا لا يأتي منها الافتعال.
1013 - قوله: (وانقطعتِ السُّبُلُ) لأن المواشي إذا هَلَكَتْ انقطع السَّفَر.
1013 - قوله: (آكَام) (هيله) ظِراب (وه هيله جولمبا جلا كيا هو) أودية (جو كهرى جكه هو).
باب ُ الاسْتِسْقَاءِ في خُطْبَةِ الجُمُعَةِ غَيرَ مُسْتَقْبِلِ القِبْلَة
باب ُ الاسْتِسْقَاءِ عَلَى المِنْبَر
باب ُ مَنِ اكْتَفَى بِصَلاةِ الجُمُعَةِ فِي الاسْتِسْقَاء(3/201)
1014 - قوله: (مِنْ بابٍ كان نحوَ دارِ القَضَاءِ) وهذا تعريف بأمرٍ في زمنِ الرَّاوي، وإنما سُمِّي دار القضاء، لأن عمر رضي الله عنه كان أَوْصَى ابنه أن يؤدى دَيْنه بِبَيْع مالِه، فكانت تلك الدارُ بيعت لقضاءِ دَيْنه، ومنه سُمِّيت دارَ القضاءَ، لا مِنْ قضاء القاضي.
باب ُ الدُّعاءِ إِذَا تَقَطَّعَتِ السُّبُلُ مِنْ كَثْرَةِ المَطَر
يعني أن المطرَ رَحْمةٌ، فهل يدعو لإِمْساكِه؟
باب ُ ما قِيلَ: إِنَّ النبي صلى الله عليه وسلّملَمْ يُحَوِّل رِدَاءَهُ في الاسْتِسْقَاءِ يَوْمَ الجُمُعَة
باب إِذَا اسْتَشْفَعُوا إِلَى الإِمامِ لِيَسْتَسْقِيَ لَهُمْ لَمْ يَرُدَّهُم
يعني أن التحويل يكون بالمُصَلَّى وهو الاستسقاء الكامل، أما ههنا فإنه كان في الخطبة فلم يستقبل القِبلة أيضًا، فأين يكون للتحويل؟
باب إِذَا اسْتَشْفَعَ المُشْرِكُونَ بِالمُسْلِمِينَ عِنْدَ القَحْط
باب ُ الدُّعاءِ إِذَا كَثُرَ المَطَرُ: حَوَالَينَا وَلا عَلَينَا
واعلم أن الحديث يَتَضَمَّن قِطْعتين: فَقِصَّة قريش في مكة، وأما ما يذكُرُه بعد قوله: «وَزَادَ أَسْبَاطٌ» فقصَّتُه بالمدينة. قال الدِّمياطي: إن هذا الخلط من جانب المصنِّف رحمه الله تعالى، فإنه لو كان في متن حديث واحدٌ لحملناه على أنه من أحَدِ رواته، ولكنَّ المصنف رحمه الله تعالى زاد ههنا قطعةً من عندِ نَفْسه، مع أنه لا حاجةَ إليها، وهي قوله: «وزاد أَسْبَاطٌ»... إلخ، فإذن هو من جانب المصنِّفِ رحمه الله تعالى. وتَصَدَّى الحافظ رحمه الله تعالى لجوابه، وحَمَلَه على تعدد الواقعة.
قوله: (فانحدرت السحابة) (بادل أتركيا).
(3/202)
باب ُ الدُّعاءِ في الاسْتِسْقَاءِ قائِمًا
باب ُ الجَهْرِ بِالقِرَاءَةِ في الاسْتِسْقَاء
باب كَيفَ حَوَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم ظَهْرَهُ إِلَى النَّاس
باب ُ صَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَين
باب ُ الاسْتِسْقَاءِ في المُصَلَّى
باب ُ اسْتِقْبَالِ القِبْلَةِ في الاسْتِسْقَاء
باب ُ رَفعِ النَّاسِ أَيدِيَهُمْ مَعَ الإِمامِ في الاسْتِسْقَاء
هكذا ينبغي مع قعودِ القوم، وقد رأيتُ قيامَ بَعْضِ الصالحين منهم أيضًا.
1022 - فَقَامَ بهم على رِجْلَيه على غَيْرِ مِنْبَرِ وعند أبي داود: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأَمَرَ مرةً بإخراج المِنْبَر أيضًا. ثم اعلم أن التحويلَ في الوسط، وقد ذكره بعضُ الرواةِ مؤخَّرًا. فتنبَّه فإنّه مِنْ تصرفاتِ الرواة.
1029 - قوله: (بِشَقَ المُسَافِرُ) وذكره في «القاموس» من إحالة البخاري. وقيل هو من البَاشِقُ، قِسْمٌ من البازي. ومعناه مَشَى كالبَاشِق، أي لم يستطع أن يقطع السبيل. فإنَّ الباشِقَ لاعوجاج مَخَالِبِهِ لا يستطيعُ المَشْي.
باب رَفعِ الإِمامِ يَدَهُ فِي الاسْتِسْقَاء(3/203)
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّملا يَرْفَعُ يَدَيْه في شيءٍ من دعائه إلا في الاستسقاء. وفي «مراسيل» أبي داود: أنه كان لا يَرْفَعُهُما كلَّ الرفع إلا في الاستسقاء، فَعُلِم أنَّ المرادَ منه المبالغةُ في الرَّفْع البليغ. وَمَنْ تَوهمَّ منه على نَفْي رَفعْ الأيدي في غيره فقد أَبْعَدَ عن الصواب. وقد أخرج الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى نحوًا من ثلاثينَ حديثًا على ثبوت الرَّفْع عند الدعاء. فهذا التوهم غَلَطٌ قطعًا. ثُمَّ هذا الرَّفْع البليغ في الاستسقاء على نظير ما عند أبي داود عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه من تقسيم الأدعية، وفيه دعاءُ ابتهال، ويبالغ فيه بالرَّفْع.
باب ُ ما يُقَالُ إِذَا أَمْطَرَت
باب ُ مَنْ تَمَطَّرَ في المَطَرِ حَتَّى يَتَحَادَرَ عَلَى لِحْيَتِه
وعند مسلم أنه كان يقول: حديث عهدٍ بربِّه. يعني به أنه لم يتلوَّث بعد بالأدناس البشرية. وفي «الأدب المُفْرَد» للبخاري أنه كان يضع أوَّل الثمرة على عينيه... إلخ. وذلك أيضًا لهذا المعنى. وعند الترمذي أنه كان يُعْطيه أصغرَ ولد عنده.
باب إِذَا هَبَّتِ الرِّيح
هكذا فعل الفقهاء فذكروا الصلواتِ عند الفزع في الملحقات.
1034 - قوله: (عُرِف ذلك في وَجه النبيِّ) ولا تدخل فيه مسألة خُلْف الوعيد، بل هو باب آخَر. فإن وَعْد الله لآتٍ البتة، لا يُدْرى التفاصيل فيه، والشرائط له، والموانع عنه، فيحدث التردد للمتذلل الخاشع. ومَنْ لا نظر له إلى جَناب الكبرياء فإن لا يزال جالسًا مطمئنًا على أريكته، ولا يَحْسَبُ العذَابَ إلا عارِضًا ممطرًا.
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «نُصِرْتُ بالصَّبَا»
لما ذكر الرِّيح دخل في تَقْسِيمها أيضًا.(3/204)
1035 - قوله: (الصِّبَا) (بروا) دَبُور (بجهوا)، والنُّصْرَةُ بالصِّبَا إشارةٌ إلى غزوة الأَحزاب.
باب ما قِيلَ في الزَّلازِلِ وَالآيات
1036 - قوله: (ويتقارَبُ الزَّمانُ) قيل: المرادُ به عدمُ البركة في الأيام. وقيل: قُرْب القيامة وزمان الساعةِ.
1036 - قوله: (الْهَرْج) (كربر) (نَجْد) وهي العمرانات في شَرْق الحجاز، وكان فيه الكُفَّارُ الغِلاظ. ثُمَّ إنَّ ربيعةَ ومُضَر أَخَوَان. وكان في ربيعة ناسٌ هيِّنون ليِّنون، وكان وَفْد عبد القيس منهم بخلاف مُضَر، فإنهم كانوا أشداءَ ومنهم قُرَيش.
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ}(الواقعة: 82)
باب لا يَدْرِي مَتَى يَجيءُ المَطَرُ إِلا اللَّه
وقد مرَّ تحقيقُ الجَعْل مرارًا، أي تجعلون نصيبَكُم الكذاب أنتم.
كتاب الكُسُوف
باب ُ الصَّلاةِ في كُسُوفِ الشَّمْس
واعلم أنه لم تنكسفِ الشَّمْس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلا مرةً، كما حققه المحمود شاه الفرنساوي في كتابه «إفادة الإفهام في تقويم الزمان». والروايات في تَعَدُّدِ الرَّكعاتِ بلغت إلى سِتة ركوعاتِ في ركعتين، كما في «تهذيب الآثار» للطبري.
والأرجح عندي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمركع ركوعين في بكعةٍ، والباقي أَوهام. كانت فتاوى الصحابة فاختلطت بالمرفوع، وإذن لا أتمسك من رواياتٍ وَرَد فيها ركوعٌ واحِدٌ بل أحمِلُهَا على الاختصار، نعم ثَبَت عن الحصابة رضي الله تعالى عنهم أَزْيَدُ من الركوعين أيضًا، لأنهم حملوا الزيادةَ على ركوعٍ على التخيير، فجوَّزُوها إلى ثلاثةٍ وأربعةٍ حتى تنجلي الشمس.(3/205)
ولنا حديث قولي عند أبي داود وقد مَرَّ تقريرُهُ ولنا أيضًا ما أخرجه الطحاوي عن المغيرةَ ابن شُعْبة: أن الشمسَ انكَسَفَت في عهده، فلم يُصَلِّ لها إلا برُكُوْعٍ واحدٍ. مع أنه قد أَدْرَكَ صلاتَه صلى الله عليه وسلّمفي الكسوف وراواها. والذي يظهَرُ أن تلك الصلاةَ من جزئياتِ ما عند الحاكم: «إذا حَزَبه أمرٌ بادر إلى الصلاة». والكسوف أيضًا أمرٌ عظيم، فينبغي فيه أيضًا المبادرة إليها، فتكون السُّنة فيها على الشاكلة المعهودة.
أما النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفإنه وإنْ ركع ركوعين لكنَّه لم يعلمنا إلا أن نأتي بها كأَحْدَثِ صلاةٍ صلاها، وفيها ركوعٌ واحد، فتعَدُّدُ الرُّكوعِ مخصوصٌ به صلى الله عليه وسلّم
بقي نُكْتةُ تعدُّد ركوعهِ صلى الله عليه وسلّم فنقول أولا: إنه ليس بلازمٍ علينا وإن كان لا بدَّ منها، فقد ذكر مولانا شيخُ الهند رحمه الله تعالى أن تعدُّدَه كتعدُّدِ السجود في الصلاة عند تلاوة آيةِ سجدة، فكما تعدَّدت السجدةُ لداعية كذلك يجوزُ أن يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلّمركع رُكوعين، لأنه شاهَد فيها ما لم يكن يشاهدُ في عامَّة الصلوات، والسجودُ عند ظهور آيةٍ معروفٌ عند الشَّرْع، ثُمَّ رَأَيْتُ مِثْله عن عبد الله البَلْخي في «البدائع». وذكرته لشيخي فَسُرَّ به جدًا.(3/206)
ثم لهذا الركوع نظائرُ منها عند الترمذي (2269) من سجود ابن عباس رضي الله تعالى عنه عِنْدَ سَمَاع خَبَرِ وفاةِ ميمونةَ رضي الله تعالى عنها، ومنها ما في السِّيَر من هيئة النبيِّ صلى الله عليه وسلّمشبه الرَّاكع حين دَخَل مَكَّة، ومنها هيئتُهُ حينَ مَرَّ من ديار ثمود، ومنها ما في أثر أبي بكر رضي الله تعالى عنه حين رأى نُغَاشيًا فركع عند رؤيته، كل ذلك سجودٌ أو ركوعٌ عند الآيات. وما قالوا إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان ركع فيه ركوعًا طويلا، وكان الصحابةُ يرفعون رؤوسَهُم يرون أنه هل قام منه أم لا؟ فتوهمَّ المتأخرون منهم تَعدُّدَ الركوع، فإنه ركيكٌ عندي وإن كان أصلُهُ في «المبسوط» للسَّرَخْسِي.
1040 - قوله: (فَصلَّى بِنَا رَكْعتَيْن) فلم يُخرِّج البخاري أول إلا ما لم يكن فيه تعدُّدُ الركوع. وأَقرَّ الحافظ رحمه الله تعالى أنه أشار إلى جوازِ الاكتفاء بركوعٍ واحدٍ وإن كان الكمالُ في الرُّكوعَيْن. وَوَجْه الاستدلال منه أنه حَمَل الصلاةَ على الصلاة المُطْلقة وليس فيها إلا ركوعٌ واحدٌ. وحيئنذٍ قَوِي تَمَسُّكُ الحنفيةِ بِما عند أبي داود، فإنه على نَحْو تَمَسُّك الإمام، لأنا نَحْمِل قوله: «فَصَلُّوها كأَحدثِ صلاةٍ صَلَّيْتُمُوها»...إلخ أي صلاةِ الفَجْر وفيها ركوعٌ واحد. ولو كان التَّشبيه في العدد فقط، لناسب أن يُحِيل على صلاةٍ صَلاها في الكُسوف، فَتَرْكُ الأَقْرَبِ والإِحالةُ على الأَبعد دليلٌ على أنه أَرادَ به وَحْدَة الرُّكوع أيضًا.
أما الخُطبة فإنها ليست من السُّنَّةِ عندنا، وهي من سُنَّة الصلاةِ عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وأما خُطبة النبيِّ صلى الله عليه وسلّمعندنا فكانت لأجْلِ الحاجة. وراجع لأدلة الحنفية «شَرْحَ العيني»، والطحاوي و«الجَوْهر النَّقِي».
باب الصَّدَقَةِ في الكُسُوف(3/207)
وأخرج فيه أحاديث تدل على تَعَدُّدِ الركوع. وأما قبل ذلك فقد أخرج أربعةَ أحاديثَ ولم يخرِّج في واحدٍ منها تَعَدُّدَ الركوع كما هو نَظَر الحنفية.
ثم إن الشافعيةَ رحمهم الله تعالى إذْ ذهبوا إلى تعدُّدِ الركوع اختلفوا اختلافًا شديدًا في أنه: هل يأتي بالفاتحةِ في القيام الثاني أم لا؟ وما ذلك إلا لِحُبِّهِم بإيجابها على كل مُصَلِّ في كل حالٍ مع أن الوَجْه فيه عندي أنه تُجْزِئه للقيامِ الواحد، لا أنهما قِيامان. فلا أرى ما يُثْبِت في الأحاديث أنه قرأ بالفاتحة والسوة في القيام الثاني أيضًا، كما قاله الشافعية رحمهم الله تعالى. والله أعلم بالصواب. ويدلُّ عليه ما قالوا كما عند الترمذي أنه إذا يَرْفَعُ عن الركوعِ الأوَّلِ يرفعُ بتكبيرٍ، حتى إذا كان في آخِر ركوعٍ من تلك الركعة يَرْفَعُ بالتسميع، فدلَّ على أن الركوع الأصلي هو هذا، والباقي كان عارضًا، ولذا لم يكن فيه إلا التَّكْبيرُ مع أنَّ المعهودَ فيه التسميعُ.s
باب ُ النِّدَاءِ بِ- «الصَّلاةَ جَامِعَةً» في الكُسُوف
ذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أَنْ يُنَادَى بِمْثلهِ في العيدين أيضًا. ثم أن الصلاةَ بالنصب منصوبٌ على الإغراء، وجامعةً حال، ومعناه أنه لا يكون فيها جماعاتٌ، بل تكون جماعةً جامِعةً للجَمَاعاتِ، (نمازايني ايني مسجد مين مت يئر هو بلكه ايك جماعت هوكى) وهو مأخوذٌ من قوله تعالى: {وإذا كانوا في أَمْرٍ جَامِعٍ} (النور: 62)، ومنه أُخِذ المِصْر الجامع، ثم تلقتْهُ الأُمةُ وقالوا المسجد الجامع.
باب خُطْبَةِ الإِمامِ في الكُسُوف
باب هَل يَقُولُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ أَوْ خَسَفَت
1046 - قوله: (فاقْتَرَأَ) الافتعالُ للمبالغة، يعني قَرَأَ قراءةً طويلةً.(3/208)
1046 - قوله: (فَقَامَ وَلَمْ يَسْجُد) والمتبادَر أنه قطعةٌ من القيام الأوَّل فلا تكونُ القراءةُ فيه.
1046 - قوله: (فقلتُ لِعُرْوَة: إنَّ أخاكَ يومَ خَسَفَت بالمدينةِ، لَمْ يَزِد على رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ الصُّبْحِ؟1 قال: أَجَل، لأنه أخطأ السُّنَّة) يعني قلتُ لعروةَ بن الزبير: إن أخاكَ الكبيرَ عبدَ الله بنَ الزُّبير صَلَّى بالناسِ في المدينة صلاةَ الكُسُوف كالصُّبح بركوعٍ واحدٍ ولم يزد عليه، فقال له عروةُ: إنَّه أخطأ السّنة.
قال العَيْنِي: كيف وعبد الله بن الزبير كان خليفةً إذ ذاك، وقد صَلَّى خَلْفَه كثيرٌ من الصحابة رضي الله تعالى عنهم؟ فإن كان أخطأ السُّنة هو فهل أخطؤا كُلُّهم وصلُّوا خِلاف السُّنة ولم يتكلم أحدٌ منهم بِحَرْف؟ أقول: ولعل لفظ: «مِثْلَ الصُّبْح» مأخوذٌ مِنْ لَفْظ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمعند أبي داود: «كَأَحدثِ صلاةٍ صَلَّيْتُمُوها».
وحينئذٍ ثَبَتَ وحدةُ الرُّكوع من رواية البخاري أيضًا، وَحَصَل تفسيرُ ما عند أبي داود من التشبيه، أَنَّه في وَحْدةِ الرُّكوع لا في تعدُّد الركعتين. فإنه لم يَثْبُت عنه في لفظٍ: أنْ صَلُّوا كصلاتي هذه، بل أتى فيه إما بالأمر بالصلاةِ المُطْلَقَةِ، أو بالتشبيه بصلاة الصبح. وفيه إيماءٌ إلى ما قلنا وتَشْييدُ ما ذهبنا.
باب قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «يُخَوِّفُ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالكُسُوفِ»
قوله: (إيتانِ مِنْ آياتِ اللَّهِ) فإن قلت: إنَّ الكُسوفَ والخُسوفَ من أسبابٍ معلومةٍ، وحسابٍ معلوم لا تخويفَ فيهما أصلا، فما معنى كونهما آيتينِ؟(3/209)
قلتُ: هو في غاية الجهل، فإنَّ الأشياءِ كلَّها بالأسباب. وحينئذٍ حاصلُهُ أن لا يتعلق التخويفُ بشيءٍ، ولكن ينبغي للمُعْتَبرِ المُتَبَصِّرِ أن يَعْتَبِرَ بتصرُّف الرياح، وتَقَلُّبِ الليل والنهار، وجريان الفُلْك في البحار، وقيامِ السماء بدونِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، بلى إنَّ في ذلك لآياتٍ لأُولي الأبصار وينبغي للخائف الخاشع أن يخشى عند كلِّ حادثةٍ تَحْدُث على خلاف الأصول العامّة، ولا يبحث عن قاعدتِهِ وإن كانت داخلةً تحت أصلٍ في نَفْس الأمر لا محالة، وذلك لأنَّ اللَّهَ فَعَّالٌ لما يريد، فسلسلةُ الأسبابِ كلّها مقهورةٌ تحت الإرادة، فهو اللَّهُ سبحانه إن شاء جعل عليكم الليل سَرْمدًا إلي يوم القيامة، مَنْ إلهٌ غيرُ الله يأتيم بضياءٍ أفلا تَسْمَعون، بل فاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تخشاه.
ثم اعلم أنَّ القرآنَ ربما لا يتعرضُ إلى أسباب الأشياء في نفس الأمر ما هي؟ وكيف هي؟ ويمشي على الظاهر فقط، لأنها تحتاجُ إلى ممارسةِ علم ومزوالةِ فنونٍ، ثُم فكر بعد فكر، وبعد ذلك أيضًا يجري فيها اختلافُ الآراء وفَحْصُ العلماء، فلَوْ بَحَث القرآنُ عنها لربما اختل طريقُ الهداية، ولم يَبْق فيه حَظُّ للعَوام، فإنَّ الإنسان فُطِر على الاعتماد على تحقيقه فيما أمكن التحقُّق منه. بل فيما لا يمكن أيضًا، فلو بنى القرآنُ كلامَه على حركةِ الأرض مَثلا لكذَّبته فِرَقٌ من الناس الذين يعتقدون بِحرَكَةِ الفُلْك.
وقد وقع مِثْله حيثُ جَرَت عليه المناهضةُ إلى مئتي سنة ونَيِّف حين حقق علماء أوروبا حركة الأرض، وَزَعَم الإنجيليون أنه اتِّباعُ غيرِ سبيل الإنجيل، وتكذيبٌ به، فلو فَعَل مِثْله القرآنُ لانْسَدَّ أو تَعَسَّر طريقُ الهداية على الناس، ولبقي الناس يكذبونه إلى آلاف السِّنِين، فإن التحقيق عند اليونانيين أن المتحرِّك هو الفَرَك.(3/210)
وهكذا في جملة المواضع لو تَصَدَّى القرآنُ إلى أسبابها على ما هي في نفس الأمر، ولم يُدْركها النَّاسُ لِقُصور عِلْمهم ووُفورِ جِهْلِهِم، لاستمروا على ما أُوتوا من العِلْم، {وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) ولكذبوا بالقرآن وما اتخذوه سبيلا واعلم أن المتابعةَ تكونُ بين الأقران، لا بين المتقدِّم والمتأخِّر، مع أنه قد جعلها ههنا بني المتقدِّم والمتأخر. وقد تعرَّض الحافظ رحمه الله تعالى إلى جوابه في موضع آخَرَ: أن المتابعةَ ههنا وإن كانت في اللفظ بين المتقدِّم والمتأخِّر، ولكن مَحَطَّها بين الأقران، أعني يكون مآلُها ومَرْجِعُها إلى المتابعةِ بين الأقران.
باب ُ التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ في الكُسُوف
باب ُ طُولِ السُّجُودِ في الكُسُوف
1049 - قوله: (أن يهوديةً جاءت تسألُها فقالت لها: أعاذَكِ اللَّهُ مِنْ عذابِ القَبْر) وفي الأحاديث أنه كَذَّبها وقال: «إنه سيكونُ لليهودِ دونَ المُسْلِمين».
1050 - قوله: (ثُمَّ أَمَرَهم أن يتعوَّذُوا من عَذَابِ القَبْر) وهذا في خُطبة صلاةِ الكسوف في السَّنة التاسعة. فحمله الناسُ على أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يطلِع عليها قبلها، فقال ما قال.
أقول: ولا ينبغي التزامُ عدم علمه صلى الله عليه وسلّمعلى مِثْل هذا الأمر الأَهَم إلى تلك المدةِ الطويلة - جمودًا على ظاهر هذا اللفظ - حتى عَلِمه قبل وفاته بسَنة، ولكنَّ الأمرَ أنه كان يَعْلَمُه، وإنما اطَّلع إذ ذاك على بَعْضِ التفاصيل.
باب ُ صَلاةِ الكُسُوفِ جَمَاعَة
باب ُ صَلاةِ النِّساءِ مَعَ الرِّجالِ في الكُسُوف
باب ُ مَنْ أَحَبَّ العَتَاقَةَ في كُسُوفِ الشَّمْس(3/211)
باب صَلاةِ الكُسُوفِ في المَسْجِد
باب لا تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِه
وفي «البدائع» أنَّ أقلَّها اثنان، ويختار في الأكثر ويشترط الإمام عندنا لكل جماعةٍ جامعةٍ للجَمَاعات، أو مأمورة وإن كانوا في اقرى يُصَلُّونَ فُرَادَى. وعند أبي داود في هذا الحديث أنه قال في هذه الصلاة: «أُفٍ أُفٍ». وعن أبي يوسف أنه إن تكلَّم في الصلاة بحرفين لا تَفْسُد صلاته، فإن زاد فسدت. ومرَّ عليه الخطابي رحمه الله تعالى ولم يأت بشيءٍ.
والجواب عندي أن كُتُب اللغة والنحو مشحونةٌ بأن «أف» حكايةٌ عن صوت مخصوصة، فما الدليل على أنه كان تكلَّم بهذه الكلمةِ، لم لا يجوزُ أن الرَّاوي أراد به حكايةَ صوتِه، وحينئذٍ يجوزُ أن لا يكون تكلَّم بها.
باب ُ الذِّكْرِ في الكُسُوف
باب ُ الدُّعاءِ في الخُسُوف
1059 - قوله: (يَخْشَى أَنْ تَكُونَ الساعةُ) واستُشْكِل أنه كيف خَشِي الساعةَ مع أنه لم تجيء بَعْدُ مُقَدِّمَاتُها؟
والجواب بحذف حَرْف التشبيه، أي قام فَزَعًا كالخاشي للساعة، وهو عندي محمولٌ على ما مرَّ في اضطرابه صلى الله عليه وسلّمعند رؤية الريح والسَّحاب، وهو حالُ الخاشع الخاضع، وهو معنى ما قاله عمر: «لو تخلصت رأسًا برأسٍ أرضيت» مع كونه مُبَشِّرًا بالجنة. وذلك عند تزاحمُ الأسباب، فإن الله تعالى وإن وَعَدَه بالأمن في طرف، لكن يعارِضُه الكسوفُ من طرفٍ آخر حتى لم يبق منها إلا قَدْرُ تسعة أصابع، ولا تتوجه الأذهان عند طُرُوّ المخاوف والمهالك إلى التطبيق، وإنما يستحضرُهُ مَنْ سَكَنَ قلبُهُ واطمأن فؤادُهُ.(3/212)
وأما مَنْ كان هالِكَا في هَيْبة الجلال، ذائبًا من خيفة النكال فيذهل عن القواعد كلِّها على عكس حال الرحمة، حيث خَشي جبريلُ عليه السلام أَنْ تُدْرِك الرحمةُ فرعونَ حين تكلم بكلمة التوحيد، فَدَسَّ في فيه الترابَ ولم يمكنه أن يتكلمَ بها، فهذا باب يعرِفُه أصحابُهُ.
1059 - قوله: (فإذا رأيتُم شيئًا مِنْ ذلك فافزَعُوا إلى ذِكْر الله).. إلخ وانظر إلى كمالِ المُصنِّف رحمه الله تعالى، إذ أخرج هذا الحديثَ غيرَ مرةٍ، ولم يخرج هذا اللفظ إلا تحت ترجمة الذِّكْر. وقد يفعلُ بالعكس أيضًا، فيترجم بِلَفْظ ولا يخرِّجه في الحديث المترجَم له مع أنه يكون فيه عنده في طريق منه فيبدي عجائبَ في صَنيعيه.
باب ُ قَوْلِ الإِمامِ في خُطْبَةِ الكُسُوفِ: أَمَّا بَعْد
وقد مَرَّ أنه لا خُطْبةَ فيه عندنا، وإنما كانت خُطبتُهُ صلى الله عليه وسلّممن الخُطَبِ العامة لا من متعلَّقَاتِ الصلاة كما يُعْلم من سياق البخاري. وعن مالك رحمه الله تعالى أن كلَّ صلاةٍ فيها الخُطبة ففيها الجَهْرُ، وما لا خُطبةَ فيها لا جَهْرَ فيها أيضًا. ولما لم تكن فيها الجَهْرُ عندنا لم تكن الخُطبة أيضًا. وعن سَمُرَةَ بن جُنْدُب أنه لم يَسْمَع فيها قراءةً. وعن عائشةَ أنه قَرَأ فيها سورةَ كذا وكذا
قلتُ: ويمكنُ أن يُحْمَلَ ما رَوَتْهُ عائشةُ رضي الله تعالى عنها على الحَذَر منها فقط، مع كونها امرأةً لا يبلُغُها صوتُ الإمام إلا بعد صفوفِ الرِّجال.
باب ُ الصَّلاةِ في كُسُوفِ القَمَر
باب الرَّكْعَةُ الأُولَى في الكُسُوفِ أَطْوَل(3/213)
وذكر ابن حِبَّان في سيرته صلاتَه صلى الله عليه وسلّمبالجماعة في خُسوف القمر السنة الخامسة. قال الحنفيةُ رحمهم الله تعالى: يُلَّى فيه فُرَادَى. وقال الآخرون: بل مِثْلُ كُسوف الشمس. وقال صاحب «الهَدْي»: لم يُنْقل أنَّه صلَّى في كُسوف القمر في جماعةٍ إلا ما ذكره ابنُ حِبَّان.
قلتُ: وأَكْبَر ظَنِّي أن في بعض كُتُب الحنفية: أَنَّ الجماعة في الخُسوف محتملةٌ وإن لم تكن سُنّةً.
باب ُ الجَهْرِ بِالقِرَاءَةِ في الكُسُوف
فذهب أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى إلى الإسرار بها. وذهب صاحباه ومالك رحمهم الله تعالى إلى الجَهْر لِثبوت الخطبة فيها. وكلّ صلاةٍ ثبتت فيها الخُطبة ففيها الجَهْر. وقد عَلِمْت أن الخُطبة لم تكن من معلِّقَاتِ الصلاة عندنا، فلزِم الإِسرار.
كتاب سُجُودِ القُرْآن
باب ما جاءَ في سُجُود القُرْآن وَسُنَّتِهَا
باب سَجْدَةِ {تَنزِيلٌ} السَّجْدَة
وهي واجبةٌ عندنا، وعند الجمهور سنةٌ، وَوَجْهُه أنه ليس عندهم مَرْتَبةِ الواجب. وجَزَم المصنِّفُ رحِمه الله تعالى بسُنِّيتِها، ورأيتُ نَقْلا عن أحمد رحمه الله تعالى أنها مُؤكَّدةٌ في الصلاة، وغيرُ مؤكدةٍ في الخارج.
ولنا استقراءُ القرآن العزيز، فإنه إما أَمَر بها، كقوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} (العلق: 19) أو حَكَى استنكاف المنكرين عنها، لقوله: {وإذا قُرِىء عليهمُ القرآنُ لا يَسْجُدُون} (الانشقاق: 21) أو أَثْنَى على مَنْ سجدها عند سماعها، كقوله تعالى: {وإذا تُتْلَى عليهم آياتُ الرَّحْمن خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيًّا} (مريم: 58) أو حَكَى فِعْل الأنبياء في السجود، وكلّها تدلُّ على الوجوب.
أما الأول فظاهرٌ، لأنه أمَرَ بِهَا، وأَمْرُهُ تعالى مُفْتَرضُ الطاعةِ.(3/214)
وأما الثاني: فأيضًا كذلك، لأنه لا يستحقُّ الذمَّ إلا بِتَرْك الواجب.
وأما الثالث: فقد أمرنا باقتداء الأنبياءِ السابقين فيما لم نمنع عنه.
ولنا أيضًا ما عند مسلم: «إذا تلا ابنُ آدم آيةَ السجدةِ فسجد اعتزل الشيطانُ يبكي ويقول: أمِر ابنُ آدم بالسجود فَسَجَد فله الجنة، وأُمِرْتُ بالسجودِ فلم أَسجُد فلي النار». قال النووي: إنَّه مقولةُ إبليس.
قلتُ: وهو في سياقِ التسليم دون الترديد. وللشافعية أن يقولوا: إنَّ الوعيد معقولٌ على تَرْك المُسْتَحب إذا قَارَن تَركه تَرْك الواجباتِ أيضًا، ألا تَرَى أنه يُنْكَرُ على المعصيةِ مِنْ طَالِحٍ ما لا يُنْكَر على تلك المعصيةِ إذا كانت مِنْ صالحٍ. فتلك المعصيةُ وإنْ تُذْكر في السياق لكن تُرَاعى عند الوعيدِ أفعالُهُ الأُخَر أيضًا. وحينئذٍ يمكن أن يكونَ الوعيدُ على تَرْكِهم سجودَ التلاوة في الذِّكْر فقط، ويكونُ مَحَطُّه تَركَهُم السجودَ الصلوية أيضًا.
والحاصل: أن الوعيدَ وإن كان على تَرْك سُجودِ التلاوة، لكنه نظرًا إلى تركهم السجود الصلوية أيضًا. وقد مرَّ نَحْوُه في كتاب الإيمان: عند تحقيق كونِ الحدودِ كفاراتٍ أو زواجرَ، وكذا في بَحْثِ وجوب الجماعة.(3/215)
1067 - قوله: (قرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمالنَّجْمَ بمكَّةَ فسجَد فيها وسجَد مَنْ مَعُه غيرَ شيخٍ)... إلخ. وفي الروايات أنه سجدَ معهم المشركون أيضًا. قال المفسرون: وذلك لإجراء الشيطانِ تلك الكلماتِ على لسانهِ صلى الله عليه وسلّم تلك الغرانيق العُلَى وإنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لتُرْتَجَى فزعموا أنه يَمْدَحُ طواغِتَهُمْ فسجدوا لها. ولما استصعب العلماءُ تَمَكُّنَ الشيطانِ مِنْ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمبهذه المَثَابَةِ، قالوا: إنَّ الشيطَانَ أهونُ على اللَّهِ مِنْ أنْ يُسَلِّطَه على رسوله بشيءٍ وقد سَبَق منه الوَعْدُ: {أنَّ عبادي ليس لك عَلْيهم سُلْطَانٌ} (الحجر: 42) وإنما لَبَّس هو عليهم فقرَأَها بلهجةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بحيث لم تَتَميَّز عندهم قراءتُهُ من قراءةِ النبي صلى الله عليه وسلّم وكلُّ ذلك عندي خلافُ الواقع، ويُوجِب رَفح الأمانِ عن الشَّرْع، فإنه إذا لم يَقْدِر على تَمَثُّلِهِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي الرؤيا. فأَنْ لا يَقْدِر على إجراء كلمةٍ على لسانِه في اليقظة أَحْرى.
فأقول: أما أولا: فأيّ داعيةٍ إلى التزام التباسِ اللهجةِ باللهجةِ، ألا ترى أن الأغلاطَ قد تَقَعُ في المجامع بدونه أيضًا.
وأما ثانيًا: فيمكن أن يكون سجودُهم حين أَسْلموا كلُّهم في أوائل حالهم. فقد أخرج الحافظ رحمه الله تعالى عن الطبراني: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملما أَظْهَرَ الإسلامَ أَسْلَم أَهْلُ مكةَ، حتى إنه كان يقرأُ السجدةَ فيسجُدون، فلا يَقْدِر بعضُهم أن يسجدَ من الزِّحَام، حتى قَدِم رؤساءُ قريش: الوليدُ بنُ المغيرة، وأبو جَهْل وغَيْرُهُما، وكانوا بالطائف، فرجعوا وقالوا: تَدَعُون دينَ آبائِكُم» اه.(3/216)
فهذا وإنْ نظر فيه الحافِظُ لكنه يدلُّ على أنهم أسلموا في أوَّل أَمْرِهم، ثُم ارتدُّوا بعد رجوعِ صناديد الكفار إليهم، وحينئذٍ لا بأسَ بِحَمْل سجودِهم إذ ذاك. فإنْ قلت فَلِمَ وَصَفَهم في الرواياتِ بالشِّرْك، كما في الروايات: «وَسَجَد معه المُشْرِكُون». قلتُ: لأنهم وإن كانوا مُسلمين عند السجودِ إلا أنَّهم لما صاروا مُرتدِّين - حين الحكاية - صحَّ وَصْفُهم به باعتبار الحالةِ الراهنة، وإنما العبرةُ للخَواتيم. وقد أخرجه الطحاوي رحمه الله تعالى أيضًا في باب: فَتْح مكةَ عُنوةً وإسنادُهُ ضعيفٌ. ثم رأيت هذه الحكايةَ في «تاريخ ابنَ معِين»، فإنه ذكرها في أوله وبدأ كتابَه بها.
وأما ثالثًا: فلم لا يجوز أن يكون المرادُ من الغَرَانِيقِ الملائكةَ، ولا سيما إذا وَصَفَهم اللَّهُ تعالى بالأجنحةِ. وكذلك الغُرْنُوق طائرٌ، وحينئذٍ فالملائكة أَشْبَهُ منها بالنسبةِ إلى الأصنام، فأولى أن يكونوا هم المرادين بها، فلما تلاها النبيُّ صلى الله عليه وسلّموصفًا لهم، حملوه على أنها صِفَةٌ لأَصْنَامِهم. ثم رأيتُ حكايةً في «معجم البلدان» لياقوت الحَمَوي تحت لفظ: اللاّتِ والعُزَّى والمناة، ولم أرَها في غيره، أن وظيفةَ قريش في الجاهلية كانت: والّلاتِ والعُزَّى تلك الغرانيقُ العُلَى... إلخ.
ومن هنا انكشف مدلول آخَر في قوله: {وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى} (النَّجْم: 20) أيضًا فإنهم تكلَّمُوا فيه حتى كاتب فيه ابنُ المُنَيِّر وابنُ الحاجب، وصَنَّف محمدُ بنُ إسحاق رسالةٌ في ترديد تلك القصَّة التي عند المفسرين. ومحمد بن إسحاق هذا معاصرٌ، للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وضَعَّفَهُ الناسُ، والعجبُ منهم أنَّه إنْ أتَى بالضِّعَاف في باب المغازي جعلوا يُجَرِّحُونه، والدَّارقطني يأتي بالمختلَطات في بابِ الأحكام ثُم يبقى إمامًا، وقد طالع أحمدُ رحمه الله تعالى كُتُبَهُ ومع ذلك لا يرضى عنه.(3/217)
والحاصل: أنه لا بُعْد في أن يكونَ أحدٌ منهم قرأ تلك على طَوْر وظيفتِهِ عند تلاوة النبيِّ صلى الله عليه وسلّمسورةُ النجم، ثُم وقع النَّاسُ في الغلط، ولا حاجة إلى التزامِ ما التزموه. أما تفسير قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَنُ فِى أُمْنِيَّتِهِ} (الحج: 52) فسيجيءُ تَحْقِيْقُه على وَجْه ألطف إن شاء الله تعالى.
باب ُ سَجْدَةِ ص
باب سَجْدَةِ النَّجْم
عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنه قال: «ليس من عزائمِ السجود، وقد رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّميَسْجُدُهَا». وأخرجه النَّسائي: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمسَجَد ص فقال: «سَجَدَها داودُ توبةً، ونحنُ نَسْجُدُهَا شُكْرَا». وروى البخاريُّ عن العَوَّام قال: «سألتُ مجاهِدًا عن السجدة في ص. قال: سئل ابنُ عباس فقال: {أولئك الذين هَدَى اللَّهُ فَبُهُدَاهُمُ أقْتِدِه} (الأنعام: 90)، وكان ابن عَبَّاس يَسْجُدُ فيها» اه.
قال الزَّيْلَعي: إنَّ حديثَ ابن عباس بَعْدَ النَّظَرِ إلى طُرُقه أولى أن يكونَ لنا، فإنه ذُكِرَ فيه سجودُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّملها، ثُمَّ تَلا الآيةَ المشيرةَ إلى الإتيان بها، وأَمَر بالسجودِ بتلاوتها، وسجدها بنفسه. فدلَّ على أنه ذهب إلى السجود فيها.(3/218)
ومعنى قوله: «ليست من عزائمِ السُّجُودِ» أي نسجُدُها شُكْرًا فقط لا توبةً كما سجدها داود. ومعنى: «سَجَدَهَا تَوْبَةً» أنه سجدها لتقرُّرِ سَبَبِهَا في حقِّه عليه الصلاة والسلام، بخلافها في حَقِّنا، فنحن نسجدُهَا شُكرًا لما أنعم اللَّهُ على داودَ عليه الصلاة والسلام بالغفران. فإذن هو بيانٌ لحقِيْقَتها لا لِحُكْمِها. وأما حُكْمُهَا فكما وَصَفَه مِنْ فِعْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم إياها. وأيضًا يمكنُ أن يكونَ مرادُهُ عدم لزوم السجود خاصة، بل تتأدَّى بالرُّكوع أيضًا، لما في الآيةِ مِنْ ذِكْر الرُّكوع فقال: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} (ص: 24).
وفي «الفتاوى الظهيرية»: أنَّ سجدةَ التلاوةِ تتأدَّى عندنا بالركوع، سواءٌ، تليت في الصلاة أو خارجِهَا. وهو المختار عندي، وعليه عملُ السَّلف وإن لم يكن في عامَّة كُتُبِنَا. ففي «المُصنَّفِ» لابن أبي شَيْبَةَ: أن السَّلَف إذا كان أحدُهم يقرأُ القرآنَ ويَمُرُّ على آيةِ سجدةٍ، يركعُ في الطريق». فدلَّ على ما قلنا.
وقد تمسَّك الحنفيةُ على تلكِ المسألةِ بتلك الآية، حيث ذُكِر فيها الرُّكوعُ بَدَل السجود. وأَقرَّ به بعضُ المفسرِّين وإن ردَّ عليه الشيخ ابنُ الهُمَام. وهذا الاستدلالُ ناهضٌ عندي، واعتراض الشيخ ابنِ الهُمَام رحمه الله تعالى ساقط كما سنقرره.
ثم إنَّه لا سجدَة في «ص» عند الشافعية، وعندهم في «الحجِّ» شجدتان، وعندنا في «الحجِّ» سجدةٌ واحدةٌ. وعند أحمد رحمه الله تعالى فيها سجدتان وفي «ص» أيضًا سجدةٌ، فازداد عددُ السجدات عنده.
وأنكر مالكٌ رحمه الله تعالى أن يكونَ في المُفَصل.(3/219)
قلتُ: تَعَدُّدُ السجودِ في الحج محمولٌ عندي على تعدُّدِ القراءة، فإنهم لما اختلفوا في مَوْضِع السجود في سورةٍ باعتبار اختلافِ القراءةِ، كما عند الطحاوي، فأيُّ بُعْد لو التزمنا تَعَدُّدَ آياتها باختلاف القراءة أيضًا. فيمكن أن تكونَ سجدةً واحدةً باعتبار قراءةٍ وسجدتين باعتبار قراءةٍ أخرى.
باب ُ سُجُودِ المُسْلِمِينَ مَعَ المُشْرِكِينَ، وَالمُشْرِكُ نَجَسٌ لَيسَ لَهُ وُضُوء
ولعله اختارَ أداءَ السجود بدون طهارة. وذهب إليه الشَّعْبِيُّ من السَّلَفِ، واستدل بسجود المُشْرِكين، فإنهم نَجَس وليس لهم وضوءٌ، ثُمَّ سَجَدُوا على سجودِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم
قلتُ: والجواب عنه سَهْلَ، فإنه لا دليلَ على عبرةِ سجودِهم أيضًا، بل الراوي لما لَمْ يجد لَفْظًا عَبَّرَ عن خُرورهم على جباههم بالسجود وإن لم يكن سجدةً فِقْهًا. وفي قول البخاري رحمه الله تعالى دليلٌ على ما مر معنا أن النجاسةَ في المُشْرِكِ فوقَ نجاسةِ الاعتقاد.
أما الجواب عن أثر ابن عمرَ رضي الله عنه: فأولا: إنه أثرٌ لم يَتَّبِعْه الصحابةُ رضي الله عنهم. وثانيًا: في الهامش: «على وضوء» بحذف «غير»، فتردَّد النَّظرُ في مذهبه. ثُمَّ التفقه له لو كان اختارَ أداءَ السجودِ على غير وضوءٍ أنها عبادةٌ على اللِّسَان لا على الجَسَد، والعبادةُ على اللِّسَانِ أذكارٌ ولا وضوءَ فيها، ولخفاءِ معنى الصلاةِ فيها. وراجع الهامش.
باب ُ مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ وَلَم يَسْجُد(3/220)
ظاهرُ الروايةِ أنها تَجِب على التراخي، وفي الرواية الشاذَّة كما في «التاتارخانية» أنها على الفور. وعندي كلاهما صحيحٌ، فإن اعتمد على نَفْسه فكما في ظاهر الرواية، وإلا فكما في «التاتارخانية». ولا رَيْب في أن عظمةَ كلامِه تعالى تَقْتَضي أن تُسجد على الفور، فإنه كآدابِ المَلِك عند الحضور في مجلسه، وتلك الآدابُ تجب عند الحضور بدون تراخٍ، فكذلك ينبغي أن يسجُدَ عَقِيْبَ التلاوةِ أو السَّمَاع بلا تَوَقُّف. ولعلَّ تَعَدُّدَ الرُّكوع في صلاة الكسوف أيضًا من باب أداءِ آدابِ الحضرةِ الآلهِيَة المتجلية إذ ذاك، فهذا هو الأصل، نعم لو تَرَاخى فيها لا تفوتُ عنه.
1072 - قوله: (أَنَّه قَرَأَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم {وَالنَّجْمِ} فلم يَسْجُدْ فِيها). قلت: عدمُ سجودِه على الفورِ لا يوجِبُ عدمَ السجودِ فيها رأسًا. ثُم إنَّ زَيْدَ بنَ ثابتٍ لما كان فيه بمنزلةِ الإمام ولم يَسْجُد هو لِعُذْرٍ لم يَسْجُد النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأيضًا. وقال الشيخ ابنُ الهُمَام رحمه الله تعالى: إنَّ رَجُلا لو قَرَأَ سجدةً على قومٍ، يستحبُّ لهم أن يجعلوا فيها صورةً للصف ويجعلوا التَّالي إمامًا إلا أنه لا يتقدمهم، لعدم كَوْنِ الجماعةِ حقيقةً. وخرج منه أن التالي لو سجدَها يتأكَّدُ الوجوبُ في حقِّ السامعين أيضًا. وإن أخَّرها هو تتأخَّر عن القومِ أيضًا.
باب ُ سَجْدَةِ: {إِذَا السَّمَآء انشَقَّتْ}
تَعْرِيضٌبالماليكة، لأَنَّه ليس عندهم في المُفَصَّلات سَجْدَةٌ.
باب ُ مَنْ سَجَدَ لِسُجُودِ القَارِىء
باب ُ ازْدِحامِ النَّاسِ إِذَا قَرَأَ الإِمامُ السَّجْدَة
أي يُستحبُّ أن يجعلوا الصف عند أداء السجود، كما مرَّ عن ابن الهُمام رحمه الله تعالى ويشيرُ إليه قوله: «إنَّك إمامُنا».(3/221)
باب ُ مَنْ رَأَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُوجِبِ السُّجُود
اختار مذهبُ الجُمهور أنها سُنةٌ. وقيل لِعْمَران ابن حُصَين: «الرَّجُلُ يَسْمَعُ السجدةَ ولم يجلس لها، قال: أرأيت لو قعد لها»، وجوابُ «لو» محذوفٌ، أي لا يجبُ عليه شيءٌ: فإذا لم يجب على المستمَع القاعدِ لها، فَعَدَمُهُ على السَّامِع غير القاعد لها بالأَوْلى.
قوله: (كأَنَّه لا يُوْجِبه) هذا فَهْمٌ مِنْ البخاري. ويمكن أن يقال: إن لفظه مُبْهَم، فاحتمل أن يكون معنى قوله: «ولم يَجْلِس لها» أي سمِع آيةَ السجدة فذهب مارًّا ولم يجلس لها، ففيه نَفْي الجلوس، وهو ليس بواجبٍ عندنا أيضًا. نعم تجِب على ذِمَّته ويؤديها متى وَجَد فُرصةً. والصريحُ فيما أراده البخاري رحمه الله تعالى ولم يكن لها جَالِسًا، ثُم الأَقْرَبُ أَنَّ الأَخْذَ بهذه الشِّدَّةِ في باب العربية إنما يُنَاسِبُ في القرآنِ العزيز، أو الأَحاديث التي تُعَيَّنُ كونُها مرويةً باللفظ لا غَيْرِ.
قوله: (وقال سَلْمَان: ما لهذا غَدَوْنَا) كان سلمانُ رضي الله عنه خَرَج من صلاةِ الصُّبْح، فجعل قاصُّ يَقُصُّ، فحدَّثَتِ به نَفْسُهُ أنه لا يجلس له. فتلا آيةَ السجدة ليجب عليه المُكْثُ لها، فقال سَلْمانُ: «ما لهذا غدونا». أي إنَّما غَدَوْنِا لأَجْل الصلاةِ. وقال عثمان: إنما السجدةُ على مَنْ اسْتَمَعها. وظاهرُهُ أنه ذَهَب إلى السنية. أما فَرْقُ السماعِ والاستماع فغيرُ متأتٍ عندي، لكونه من الأمور القلبية، كقوله تعالى: {فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ} (الأَعْراف: 204) مع أَنَّه لا يستمِعُ إلا مَنْ شاء الله.(3/222)
قوله: (لا يَسْجُدُ لِسُجُودِ القَاصِّ) وفي الفِقه: لو ذكر اسمَ اللَّهِ على عادتِهِم عند السؤال، لا يُنْدَبُ للسامع أن يقول: جَلَّ ذِكْرُهُ أو نحوُهُ، بخلافِ ما لو سمعه من غيرهِ فأَنَّه يُنْدبُ له أن يقول كلمة مشعرة بالتعظيم، كما يُنْدَبُ الصلاةُ عند سماعِ اسمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قلتُ: بل يُنْدبُ عند السماع من سائلٍ أيضًا.
1077 - قوله: (عَمَّا حَضَرَ) قال الحافظ رحمه الله تعالى: متعلِّقٌ بقوله: أخبرني، أي أخبرني راوٍ عن عثمانَ، عن رَبِيْعَةَ عن قِصَّةِ حُضُورِه مَجْلِسَ عمرَ رضي الله تعالى عنه.
1077 - قوله: (وَزَاد نافِعٌ عن ابنِ عمرَ رضي اللَّهُ تعالى عنه: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ السُّجُودَ إلا أَنْ نَشَاءَ) قال الحافظ رحمه الله تعالى: أي زاد نافعٌ في مَقُولةِ عمرَ رضي الله تعالى عنه. وقال العَيْني رحمه الله تعالى: في مقولةِ ابن عمرَ رضي اللَّهُ تعالى عنه.
(3/223)
قلتُ: وقِصَّةُ عمرَ رضي الله عنه هذه أقوى ما يُمكنُ أن يُحتجَّ به على سُنِّيةِ السجودِ، فإنه تلا سورةَ النَّمل يومَ الجمعة فسجد لها مرةً، ثُمَّ لم يَسْجُد لها في الجمعة التالية، ثُمَّ قال: «إنَّما نَمُرُّ بالسجودِ فَمَنْ سجد فقد أصاب، وَمَنْ لم يسجد فلا إِثْم عليه». وذلك بِمَحْضَرٍ من الصحابة رضي الله عنهم، ولم أَرَ عنه جوابًا شَافيًا بعدُ، وما فتح الله عليّ أنه تبين لي أن الأُسوةَ لعمرَ رضي الله عنه في صنيعه في السجود - في جُمعةٍ دون جمعة - ما عند أبي داود عن أبي سعيد الخُدْري أنه قال: «قرأ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّموهو على المنبر «ص»، فلما بَلَغ السجدةَ نعزَل فَسَجَد وسجد الناسُ معه، فلما كان يومٌ آخَر قرأها، فلما بلغَ السجدةَ تَشَزَّنَ الناسُ للسجود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إنما هي تَوْبَةُ نَبِيَ، ولكني رأيتُكُمْ تَشَزَّنْتُم للسجودِ، فنزل فَسَجَدَ وسَجَدُوا» اه. فخرج منه وَجْهُ اجتهاد عمرَ رضي الله عنه في ذلك.(3/224)
قوله: (وإنْ كان سجودُهُ في «النَّمل»، وسجودُهُ صلى الله عليه وسلّمفي «ص») فهذا هو الذي دعا عمرَ رضي الله عنه إلى سجودِهِ في جُمْعةٍ دون أخرى، فإنَّه اتَّبع فيه ما كان عنده من أُسْوَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وقد ثبت عندنا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان التزمَ السجودَ فيها بعده، وكان يسجدُها. وإذن لم يَبْقَ قلقٌ فيما فَعَلَه عمرُ رضي الله عنه، فإنه حكايةٌ لِفِعْله حين كان لا يرى السجودَ فيها عزيمةً، كما أخرج أحمدُ رحمه الله تعالى في «مسنده»، والحاكم في «مُسْتدركِه»، والمُنْذرِي في «الترغيب» وقَوَّاه عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه فهذا أنه قال: «رأيتُ رؤيا: إنِّي أَكْتُبُ سورةَ «ص»، فلما بَلَغْتُ السجدةَ رأيتُ الدَّوَاةَ والقلمَ وكُلَّ شيءٍ يَحْضُرُني انقلبَ ساجِدًا.قال: فَقَصَصْتُهَا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم فلم يَزَل يَسْجُدُ بِهَا» اه. ونحوه عند ابنِ كثير في «تفسيره».
وعند البيهقي «فَغَدَوْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلّمفَأَخْبَرْتُهُ، فَأَمَر بالسجودِ فيها». اه. ففيه دليلٌ على أنه كان في أوَّل أَمْرِه يرى فيها رُخْصَة، لما رأى أبو سعيد رضي الله عنه رؤياه أَمَر بالسجودِ فيها.
والحاصل: أنه قد تبين عندنا عُمر رضي الله عنه، وانكشفَ وَجْهُه، وهو أنه كان فيما كان السجودُ رخصةَ، فإِذَا عَزَمَ الأَمْر تَحتمَّ بالسجود.ويمكنُ أن يقال: إن النفي راجِعٌ إلى القيد، والمعنى أَنَّ السجدةَ ليست واجبةً بِعَيْنهَا، فمن لم يسجد فلا أثم عليه، لأن الرُّكوعَ أيضًا ينوب عنها، وهو روايةٌ عندنا في خارج الصلاة أيضًا، كما في «الفتاوى الظهيرية».
(3/225)
وذكر الإمام الرازي في تفسيره: أنَّ أبا حنيفة رحمه الله تعالى استدل عليه من قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} (ص: 24). وفي «فتح الباري»: أنَّ بعضَ السَّلَف أنكروا سجدة «ص»، لعدم كونِ لَفْظِ السجود في آيتها.
قلتُ: وإذن ذَهَب بعضُ السَّلف إلى نَفْي السجود رأسًا نظرًا إلى لَفظ الركوع، فإثبات السجودِ فيها مع التزامِ أدائها بالركوع أَهْوَنُ. وحينئذٍ معنى مارواه ابن عمر رضي الله عنه: أنَّ اللَّهَ لم يَفْرِض السجودَ إلا أنْ نشاءَ، أي لم يَفْرِض علينا السجودَ بِخُصُوصه، بل كفى عنه الرُّكوعُ أيضًا، إلا أن نشاءَ السجدةَ فنأتي بها.
باب ُ مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ في الصَّلاةِ فَسَجَدَ بِهَا
باب ُ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ مِنَ الزِّحَام
لو قرأ الإمامُ آيةَ السجدة، ثُمَّ ركع واجتزأ بركوعِهِ عن الجسود، فَسَدت صلاةُ القوم في بعض الصُّور، كما في «القِنية». وقال المخدوم الهاشم رحمه الله تعالى: إنَّ تفرداتِه غيرُ مقبولةٍ، لأنه معتزليُّ الاعتقاد وإن كان حنفيَّ المذهب. وقد استمدَّ كتابه من نحو خمسةَ عشرَ كتابًا من كُتُب المعتزلة.
كتاب تقْصيرِ الصَّلاة
باب ُ ما جاءَ في التَّقْصِيرِ، وَكَمْ يُقِيمُ حَتَّى يَقْصُر
قال الحافظ رحمه الله تعالى في هذه الترجمةِ أَشْكَالٌ، لأن الإقامةَ ليست سببًا للقَصْر، ولا القَصْرَ غايةُ الإِقامة. فقيل: إنه انقلب اللَّفْظُ. والمعنى: كم يَقْصُر حتى يقيمَ؟ وقيل: كم مدة يقيم حتى يَقْصُر، وعددُ الأيام المذكورة سببٌ لمعرفةِ جوازِ القَصْر فيها.(3/226)
واعلم أنه لم يبلغ حديثٌ مرفوعٌ في تجديد مدةِ القَصْر إلى مَرْتبةِ الصحة، وحديث ابن عباس رضي الله عنه في فَتْح مكةَ ومدة الإِقامة فيه تسعةَ عشرةَ، على اختلافٍ فيه، وحديث أنس رضي الله عنه في حَجَّة الوَداع ومدة الإقامة فيها.
باب ُ الصَّلاةِ بِمِنًى
باب كَمْ أَقامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم في حَجَّتِه
قال: «صليتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمركعتين بمنى، وأبي بكر وعمرَ، وعثمانَ رضي الله عنهم صدرًا من إمارته. ثُمَّ أَتَّمَهَا.
واعلم أن القَصْر رخصةٌ عند الشافعية، وعزيمةٌ عندنا. قال الحافظُ ابنُ تيميةَ رحمه الله تعالى: والذي عَلِمْنَاه مِنْ سُنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلّمهو القَصْرُ لا غير، وهو مذهبُ أبي بكر وعمرَ رضي الله عنهما، وكذلك مذهب عثمانَ رضي الله عنه فوافقنا في المسألة. وأما إتمامُه فليس بناءً على جوازِ الإِتمام، بل بناء على التأويل. وقد نُقِلَ على وجوهٍ عند الطحاوي وأبي داود، وتكلَّلم فيها الحافظُ رحمه الله تعالى فَذَكَر أنها لا تُوْجِبُ الإِتمام.(3/227)
قلتُ: وسها الحنفيةُ حيث أضاعوا وقتَهم في الجواب عن تلك التأويلات. فإنه لو كان فيها قَلَقٌ لكان في تأويل عثمانَ رضي الله عنه. أما مسأل القَصْر والإِتمام فلا أثر لها فيها، فإنه لم يَتِم إل بالتأويل، فَمَن كَانَ لا يرتضى بها فلينازع مَنْ كان أَتَمَّ بتلك التأويلاتِ إن كان له هِمَّةٌ لمقاومته، وليس لهم حَقٌّ علنيا، فإنَّا لم نَقُل بجواز الإِتمام بتلك التأويلات. وقد غالط فيه بعضٌ من الشافعية، وغَلِظ فيه بتعضٌ من الحنفية، فجعل يتكلمُ في الجواب عما أوردَهُ، ولم يَدْرِ أن مسألةَ وجوبِ القَصْر غيرُ سألةِ جواز الإِتمام بتأويل دون تأويل. وليس للشافعيةِ في جواز التقصير إلا ما عند الدارقطني عن عائشةَ رضي الله عنها أنها قَصَرَتْ في فتح مكةِ وأَتَمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فلما أَخْبرَتْهُ قال: أَحْسَنْتِ. قال ابن تيمية: وهو موضوع.
قلتُ: كلا لا أَزْيَدَ من أن يكون معلولا، كما قال به ابنُ كثير، لأنها لم تكن في هذا السَّفَر مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم كما قال به محمد بن إسحاق في سيرته. ونَقَل تلك العلةَ عند المِزِّي في رواية النسائي فاستحسنها. وأيضًا فيه: «كان يَقْصُر ويتِمُّ، ويُفْظرُ ويَصُوْمُ». وإسنادُهُ مستقيمٌ. والجواب عندي أن هذا التحسينَ من باب عدم التعاقب على أمرٍ ماضٍ سبق عنها قبل الاستفسار مِنْ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فإنها لو كانت في هذا السَّفَر لكانت تابعةً، فلعلَّها نَوَت الإِقامةَ فَأَتمَّت ولم تدر أن نيةَ الإِقامةِ إنما تعتبرُ من المتبوع دون التابع، فإذا رَدَّت الأَمْرَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّملم يعاقِبْها عليه، وكأنه أَغْمَضَ عَمَّا فعلَتْه وهي غيرُ عالِمة.
(3/228)
وأُجيب عن الثانية أنَّ فيها تَصْحيفًا، والصحيح أن الضمائرَ فيها للمؤنث. أي تَقْصُر وتُتِمم... إلخ فهو حكايةٌ عن فِعْل عائشةَ رضي الله عنها. وقيل: يَقْصُر أي في السفر. ويتِمُّ أي في الحَضَر، أو يَقْصُر في السفر إذا لم يَنْو الإِقامة ويتِمُّ إذا نواها.
وبالجملة لما لم يَثْبُتِ الإِتمامُ في السَّفَر إلا عن عثمانَ وعائشةَ رضي الله عنهما، وهو أيضًا بالتأويل، ثبت أن المَذْهَبَ مَذْهَبُ الحنفية رحمهم الله تعالى، وإليه ذهب الجمهور. ولذلك لما بلغ إتمامُ عثمانَ رضي الله عنه عَبْد الله بن مسعود رضي الله عنه استرجع، كما في الحديث الآتي. فإن قلت: لَمَّا كان مذهبُ ابن مسعود رضي الله عنه كما وصفت، فَلِمَ ائتم به وصَلَّى خَلْفَه أربعَ ركعاتٍ؟ على أنه يثبتُ عنه جوازُ اقتداءِ المفترضِ خَلْفَ المتنفل. فإنَّ عثمان رضي الله عنه حينئذٍ متنفِّلٌ في الشَّفْع الأخير عنده، وهو باطِلٌ عندكم.
قلتُ: هذه المسألةُ مُجْتَهَدٌ فيها، والاقتداء في جِنْسِ هذه المسائلِ بجوزُ من واحدٍ لآخَر، كما في «الدر المختار» عند تعديد الواجبات، فَصَرَّح في ضِمْنه: أنَّ المتابعةَ تَصِحُّ عندنا في الاجتهادات كلها. وأَوْضَحَهُ الشَّافعيُّ رحمه الله تعالى، ونقله الحافظ ابن تيمية عن الأئمة الأربعة.(3/229)
قلتُ: فهذا بابٌ عندنا وسيعٌ، فيتَّبع الإمام في رَفْع اليدين والتأمين أيضًا لو اتفق الاقتداء بشافعي رحمه الله تعالى. وقد قدمنا الكلام فيه مبسوطًا. ويَدُلُّ عليه أن الخليفةَ هارونَ الرشيد اقتصد مرةً فقام إلى الصلاةِ ولم يتوضأ، فاقتدى به أبو يوسف رحمه الله تعالى وما ذلك إلا لكون الاقتداء جائزًا، ولولا ذلك لما كان أبو يوسف رحمه الله تعالى ليقتدي به فإنه أَوْرَعُ من ذلك، كما في «البحر الرائق»: أنه كان يبكي عند نَزْعه، فسأله الحاضرون عن بكائِه، فقال: إنما أبكي من أجل ما قَصرتِ في قضائي عن هارون الرشيد، فإنه وذميًا ترافعا إليّ مرةً في أَمْرٍ فلم أعبأ بالأميرِ لكونه أميرًا، ورَكَنْتُ إلى الذِّمي. فَمَنْ كان بكاؤه لهذا، كيف يُظنُّ به أن يكون اقتدى بالخليفة مع عدم جوازه عنده؟ فإنه إذا لم يعبأ به في القضاء، فما في الاقتداء.
ثُمَّ لو تكلَّم إمامٌ شافعي لا يجوز الاقتداء به عندي، وذلك لأن نَقْض الطهارة من خارج غير السبيلين مختلفٌ فيه اختلافًا فاشيًا بين الصحابة رضي الله عنهم، بخلاف مسألة الكلام، فإنه لا دليلَ له عندهم غيرُ واقعة مُبْهَمة لا يُدْرَى مُسْتقرُّها ومستودَعُها فافترقا.
قوله: (آمَنَ ما كَانَ) وصيغةُ التفضيل بينهما مضافٌ إلى المصدر، فتكون مَصْدرًا على ضَابطَتهم لكونها جزءًا من المضاف إليه فلا يصح حَمْلُهَا. قلت: ولكنَّ السيد الجُرْجَاني صَرَّح في «حاشية المتوسط»: أَنَّ الفِعْل بعد دخول حروفِ المَصْدر لا يَنْسلخ عن معناه بالكلية، ولا يأخذ جميعَ أحكام المصدر. وقر مر معنا الفرق في قوله: أعجبني أن يقوم زيدٌ، وقوله: «قيامُ زيدٍ. ثم إنَّه إشارةٌ إلى آية القرآن وهي: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} (النساء: 101)، وأنها في قَصْر الهيئة لا فِي قَصْر العدد، وقد مَرَّ البحثُ فيه.
(3/230)
باب فِي كَمْ يَقْصُرُ الصَّلاة
ومسافةُ القَصْر في المذهب مسيرةُ ثلاثةِ أيام ولياليها. ثُمَّ حَوَّلُوها إلى التقدير بالمنازل، فاختلفوا فيه على أقوال: منها ستةَ عشرَ فَرْسخًا. كل فَرْسخ ثلاثةُ أميال، فتلك ثمانيةٌ وأربعونَ مِيْلا، كمافي الحديث. وبه أُفتي لكونه مذهبَ الآخَرِين. وهي عند الظاهري على اللغةِ، فكلُّ ما يطلقُ عليه السَّفَر لغةً تكون مسافةُ القَصْرِ عنده.
قوله: (وسَمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلّميومًا وليلةً سفرًا) يعني جَعَله من جزئيات السَّفَر لا أنه قصره عليه. ولعل المصنف رحمه الله تعالى أرادَ الإِطلاق في السَّفَر كمذهب داود الظاهري.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: وفيه ما يدلُّ على اختياره أن أقلَّ مسافةِ القَصْر يومٌ وليلةٌ ولما لم يكن عند المصنف رحمه الله تعالى في القَصْر والإِتمام حديث، أخرج له حديثَ الحجِّ والسفر للحاجات العامة، كقوله: «لا تُسَافِر المرأةُ ثلاثًا»، فإنه لم يقع في مسألةِ الإِتمام والقَصْر، بل وَرَدَ في سَفَر الحاجات، واختلفت فيه الروايات. وفي بعضها: مَسيرةُ يومٍ ولَيْلَة، وهو عندي مُخْتَلِفٌ باختلاف الأحوال، والأحاديث في هذا الباب صُدِّرَت عن حضرةِ الرسالة تارةً كذا، وتارةً كذا، وليست محمولةً على اختلافِ الرواة. وفي كُتب الحنفية عَامَّةً عَدَمُ جوازِ السَّفَر إلا مع مَحْرَم.
قلتُ: ويجوزُ عندي مع غير مَحْرم أيضًا بِشَرْط الاعتماد والأَمْن من الفتنة. وقد وَجَدْتُ له مادةً كثيرةً في الأحاديث أما في الفِقْه فهو من مسائل الفِتن.
باب يَقْصُرُ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِه
وهو المسألة عندنا.
1089 - قوله: (وبِذِي الحُلَيْفَةَ رَكْعَتَيْن) أي قَصَر فيها وقد خَرَج للحجِّ، لا أنه قَصَد ذا الحُلَيفة وقَصَر فيها.
باب يُصَلِّي المَغْرِبَ ثَلاثًا في السَّفَر(3/231)
ونقل العَيْنِي أَنَّ ابن دِحْية المغربي - وهو مِنْ حُفَّاظ الحديث - أفتى بِقَصْرِ المَغْرِب أيضًا ولم يذهب إليه أَحَدٌ. وقد كَشَفَت عن مَنْشَأَ غَلَطه في رسالتي «كشف الستر» من أَواخرها، وخلاصته: أن منشأه ما رُوي عن أبي موسى الأشعري - كما في الهامش - أنه سَلَّم في الْمَغْرِب بين شَفْع المغرب وركعتها. فأخرجه الهَيْثَمي في سجود السهو، وأشار إلى أنه سَبَق منه التسليمُ سهوًا، لا أنه كان بناءً على القَصْر في الْمَغْرِب. وهذا هو منشأ غَلَط ابن دِحْية، وهو كثيرُ الغرائب فاعلمه.
1092 - قوله: (وأَخَّر ابنُ عُمَر الْمَغْرِب، وكان استُصْرِخَ على امرأَتِهِ)... إلخ. واختلف الرواة في بيان تأخيره تلك الليلة: ففي بعض الروايات أنه نزل بعد غيبوبة الشَّفق. وجمع بين المغرب والعشاء.s
وفي بَعْضٍ أَنَّه أَخَّرَ الْمَغْرِب إلى رُبُع الليل.
والصواب عندي أنه واقعةٌ واحدة، وهي على وجهها عند أبي داود وفيه: «حتى إذا كان قبل غيوب الشفق نَزَل فَصلَّى المغربَ، ثم انتظر حتى غاب الشَّفَقُ فَصَلَّى العشاءَ، ثم قال: إنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّمكان إذا عَجِل به أَمْرٌ صَنَع مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتُ». اه. وحَمَله الحافظ رحمه الله تعالى على تَعَدُّد الواقعة، وهو بعيدٌ عندي، بل هو واقعةٌ واحدةٌ اختلف فيها الرواةُ من حيث المبالغةُ في بيانِ التأخيرِ والجمع فيها على عين مذهب الحنفية رحمهم الله تعالى. وفيها تفسيرٌ لِجَمْع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأيضًا أنه كيف كان. وما يدلُّك على أنها واقعةٌ واحدةٌ ما عند أبي داود، ولم يُرَ ابنُ عمرَ رضي الله تعالى عنه جَمَع بينهما إلا تلك الليلة، يعني ليلة اسْتُصْرِخَ على صفيةَ رضي الله تعالى عنها. وعن مكحول عن نافع أَنَّ ابنَ عمرَ رضي الله تعالى عنه فَعَل ذلك مرةً أو مرتين - بالشَّكِ .(3/232)
وقد ذَكَرَ القاضي أبو الوليد الباجي: أن في لفظ الجَمْع إيماءً إلى أن الجَمْع كان صُوْرِيًا. وإلا فالأَظْهرُ أن يقال: صَلَّى الْمَغْرِبَ في وقت العشاء، ولكنه عدل عنه إلى لَفْظ الْجَمْع إفادةً لتأخير الصلاة الأُوْلى، وتعجيل الثاني، والجَمْع في وَقْتِيْهِما.
باب ُ صَلاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّوَابِّ، وَحَيثُما تَوَجَّهَتْ بِه
والاستقبالُ شَرْطٌ عند التحريمة عند الشافعي رحمه الله تعالى، ومُستحبٌ عندنا. وعند أبي داود (ص 173) باب التطوع على الراحلة: «أنَّ سولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّمكان إذا سَافرَ فأراد أن يتطوَّعَ، استقبل بناقَتِهِ القِبْلة فَكَبَّر، ثُم صَلَّى حيث وَجَّهَهُ رِكَابُه». اه. وَحَمَلَهُ ابنُ أميرِ الحاجِّ على الاستحباب.
باب ُ الإِيمَاءِ عَلَى الدَّابَّة
وهو المسألة عندنا، فإنه لا يَقْدِرُ عليها إلا على الإيماء. ووسع أزيد منه، فراجع مسائل طهارة السَّرْج ونجاسته في الفِقْه.
باب يَنْزِلُ لِلمَكْتُوبَة
وهو المسألة عندنا وعندهم إلا إذا كان وَحَلٌ لا يمكن السجود على الأرض، فإنَّه يصليها في دابته، أو كان مطلوبُهُ «نحو المشرق» ولم تكن قِبْلته في تلك الجهة.
باب ُ صَلاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الحِمَار
ترجم أولا بالصلاة على الدابة مطلقًا، ثم توجَّه إلى الحمار خصوصًا لكونه حرامًا. واختلف العلماءُ في ثبوتِ الصلاة على الحمارِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم مع اتفاقهم على جوازِ الصلاة عليه. وأما ترجمةُ المصنِّف رحمه الله تعالى فبناؤها على أَثر أَنس رضي الله تعالى عنه. وإنما كان أنسُ ذهب إلى الشام ليشكوَ لِعبدِ المَلِك مما يلقاه من الحَجّاج.
(3/233)
باب مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ في السَّفَرِ دُبُرَ الصَّلاةِ وَقَبْلَهَا
وفي نسخة: وقبلها، واختلفوا فيه، فقيل: لا يتطوع أصلا لا قبل المكتوبة ولا بَعْدَها، لأَنَّ المكتوبة إذا قُصِرت في السفر، فَتَرْك التطوع أَوْلى. وقيل: يُصلِّي البعدية دون القَبْلية. وذلك لأنَّ القَبْلة كانت تُؤدَّى في البيت، بخلاف البعدية فكانوا يَرَوْنه يصليها فلم يَسَع منهم نَفْيُها، بخلاف القَبْلية فإنهم إذا يَرَوْه يصلِّيها حملوها على التَرْك. وقيل: بالفرق بين النهارية والليلية، فيصلِّي التهجُّد فقط. وقال محمد بن الحسن رحمه الله تعالى: يَتْرُكُهَا إن كان سائرًا، ويصلِّيها إن كان نازلا. وَمَنْ ذهب إلى إتيانِ الرواتب في السَّفَر قال: إن الرواتِبَ كانت من أَصْلِها منحطة عن المكتوبات، ولا تضاهيها، فلا يلزم بالقَصْر في المكتوبات تَرْك التطوع. فلو قلنا بإتيانها مع القَصْر في المكتوبات لم يلزم الخُلْف.
قلتُ: وقد روى ابنُ أَبي ليلى عند الترمذي مرفوعًا: «أن ابنَ عَمرَ رضي الله تعالى عنه صلَّى مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمالظُّهر في السفر ركعتين، وبعدها ركعتين». قال أبو عيسى. وسَمِعْت محمدًا يقول: ما روى ابنُ أبي ليلى حديثًا أعجبُ إليَّ من هذا، فلا ينبغي إنكارُها مطلقًا، نعم لم يثبت عنه السُّننُ في الصِّحاح. والعمل عندي على ما قاله محمدُ بن الحسن رحمه الله تعالى.
قوله: ({أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}) (الأحزاب: 21) أي فِعْلا وتركًا. والأُسْوة صفةٌ مشبَّهة، وترجمته (بيشوا). فهو من باب التجريد على حَدِّ قوله: لقيت من فلانٍ بحرًا. فالبحر مأخوذ منه، والاثنيين ههنا تخييلية بأَخْذ الشيءِ من ذلك الشيء بعينه.(3/234)
1102 - قوله: (صَحِبْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّمفكان لا يزيدُ في السَّفَر على ركعتين وأبا بكر وعمرَ وعُثْمَانَ كذلك) وإنما لم يذكر عليًا لأنه بعد البَيْعة ذهب إلى الكوفة، فأين كان يَصْحبه ثُم الظاهر أنَّ قول ابن عمر رضي الله تعالى عنه هذا في بيان القَصْر لا في بيان تَرْك السُّنَن.
باب مَنْ تَطَوَّعَ في السَّفَرِ في غيرِ دُبُرِ الصَّلوَاتِ وَقَبْلَها
وهذه النسخةُ هي الأرجح، وتُشْعر بأن نَفْي التطوع في السفر عنده محمولٌ على ما بعد الصلاة خاصَّةً، فلا يتناولُ ما قبلها وما لا تعلق له بها من النوافل المطلقة، كالتهجد والوِتْر، والضحى. والفَرْق بين ما قَبْلها وما بَعْدَها أن التطوعَ قَبْلَها لا يُظنّ أنه منها، لأنه يَنْفَصِل عنها بالإِقامة وانتظار الإِمام غالبًا ونَحْوٍ ذلك، بخلاف ما بعدها فإنَّه في الغالب يتصل بها، فقد يظنُ أنه منها: كذا قال الحافظ رحمه الله تعالى. وفي بعض النُّسخ: في غير دُبُر الصلاةِ وقبلها وهو مرجوح، فصلَّى ثماني ركعات. وعند أبي داود تصريحٌ بالسلام فيها على كل ركعتين. واختلفوا «أنها كانت شُكْرًا» للفتح وصادفت وَقْت الضحى، أو كانت صلاةَ الضُّحَى المعروفة.
1104 - قوله: (صلَّى السُّبْحَةَ باللَّيْل) هذه هي الليلية، وهي ثابتةٌ كثيرًا.
باب ُ الجَمْعِ في السَّفَرِ بَينَ المَغْرِبِ وَالعِشَاء(3/235)
واعلم أن المصنف رحمه الله إمَّا جنَح إلى الجمع صورةً أو الجمع فِعْلا على اصطلاحنا، أو لم يَحْكُمْ فيه بجانب، لأنه إمَّا ترجم بعينِ لَفْظِ الحديث، وهذا يُشْعِر أَنَّه لايريدُ فيه فَصْلا وإلا لزاد لفظًا يتعينُ به مرادُهُ في موضع الخلافِ، أو ترجم بالتأخير. وقد مَرَّ أن عُنوانَ تأخير صلاةٍ إلى صلاة أقربُ بِنَظَر الحنفية. ثُمَّ إنَّ البخاري صوَّبَ جَمْع التأخير وعلَّل جَمْعَ التقديم، فبوَّب بتأخير الظهر إلى العصر، ولم يبوِّب بتقديم صلاةٍ إلى صلاة.
وقد صرَّح المالكيةُ أن الْجَمْعَ في التأخير فِعْليُّ فقط، وفي التقديم وقتي، فثَبت نَفْيُ جمع التقديم وقتًا من كلام البخاري رحمه الله تعالى، ونَفْيُ جمع التأخير وقتًا من تصريحِ المالكية، وهو مذهب الحنفية أن الجَمْعَ عندهم فِعْلٌ فقط، كما عرفت.
وقد مر معنا أن الجَمْع عندي محمولٌ على اشتراك الوقت فإنَّ المِثْل الأول للظهر خاصَّة، والثالث للعصر كذلك، والثاي مشترَكٌ يصلح لهما، إلا أن المطلوبَ هو الفَصْل، ويرتَفِع ذلك في السَّفر والمرض. وقد ذكر الطحاوي رحمه الله تعالى جماعةً من السَّلَف ذهبوا إلى اشتراك الوقت.
قلتُ: ولاأحسبُهم إلا أنهم يكونون قائلين بالفَصْل بين الصلاتين في غير السَّفَر والمرض وإنْ ذهبوا إلى اشتراك الوقت، وهو معنى الموقوف كما مَرَّ. ثم ما هذا التأخير في التزام اشتراك الوقت، ألا ترى أنهم يكتبون وقتًا في صَدْر الباب، ثُمَّ يَقْسِمُونه إلى مستحبٍ وغيره، وقَسَمه الشافعيةُ إلى خمسةٍ، كما مرَّ. فإذا قالوا في صدر الباب: إنَّ وقت العصر إلى غروب الشمس، ثُمَّ صرحوا أن آخِر وقتها مكرُوهٌ تحريمًا، فأيُّ بُعْدٍ في تقسيم المِثْل الثاني بأنه وَقْتُ الظهر والعَصْر معًا، فهو وَقْتُ الظهر ويصِحُّ فيه العَصْرُ أيضًا، فإنَّه أيضًا قِسْم.(3/236)
وبه يَنْحَلُّ حديثُ حَمنة رضي الله عنها في باب الحيض، وفيه أنه أَمَرَها أن تَجْمَع الصلاتين في غُسْل، فإنَّه ينبني على اشتراك الوقت عندي كما مر، ولا سيما إذا رواه الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى في «مسند» أبي عَروبة الحَرَّانِي - تلميذ الطحاوي : فلا يقالُ: إنه اختار نَقْضَ طهارة المعذور بخروج الوقت، وهو لا يَدْري هذا الحديثَ، بل قالها وهو يعلم أن حَمنة رضي الله عنها قد أُمِرَت أن تَجْمَع بين الصلاتينِ في غُسْل، وإذن وَجَب أن يكونَ اختار اشتراك الوقت، وجوَّز الوَصْلِ للمعذور مع مطلوبيةِ الفَصْل لغيره.
واعلم أنَّ أوَّل مَنْ دَوَّن مذاهبَ الصحابة رضي الله عنهم الطحاوي رحمه الله تعالى فَصَنَّف كتابه «اختلاف العلماء»، ثُمَّ محمد بن نصر، وابن جرير، وابن امُنْذر بعده، ثم أو عمرو خامس خمسة. والناسُ بعدَهم تَبَع لهم في هذا الباب، ولذا يُعتمد على الطحاوي رحمه الله تعالى في هذا الباب ما لا يُعَتَمدُ على غيرهِ.
باب هَل يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ إِذَا جَمَعَ بَينَ المَغْرِبِ وَالعِشَاء
وقد مَرَّ أنه يُؤذن في السفر ويقيم لهما، فإن اكتُفِي بأذَانٍ مع تَعَدُّد الإقامة جاز.
1109 - قوله: (ولا يُسَبِّحُ)... إلخ وعندي يُستفاد من الحديث حَذْف الرواتب لِمَنْ جمع بين الصلاتين. ولذا يقولُ الراوي عند ذِكر الجَمْع: سبعًا جميعًا وثمانيًا جميعًا في العصرين والعشاءين. وقد صَرَّح العارف الجامي رحمه الله تعالى في مناسكهِ بِحَذْفِ الرواتب عند الجَمْع بالمُزْدَلِفة.
باب يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى العَصْر إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزيغَ الشَّمْس
باب إِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَما زَاغَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِب(3/237)
فترجم بتعبيرِ الحديث بعينه ولم يُفْصِح بشيء، وقد مَرَّ أنه أَصْدَقُ على مذهب الحنفية.
111 - قوله: (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّمإذا ارْتَحَل قَبْلَ أَنْ تَزِيْغَ الشَّمْسُ)... إلخ. والمذكور فيه جَمْع التأخير فقط وعند الترمذي وغيره جَمْع التقديم أيضًا. ولفظه عند الترمذي عن معاذ رضي الله عنه: «وإذا ارْتَحَل بعد زَيْغ الشمس عَجَّل العصرَ إلى الظهر، وصلى الظُّهْر والعَصْر جميعًا ثُمَّ سَاروا» اه. وهذا صَرِيْحٌ في جَمْع التقديم وحَمْله على الجمع الصُّوري أو الجمع فعلا لعبد. فإنه إن قلنا أنه كان الجمع فعلا، لزم أن يقال: إنه كان يجلِسُ معطِّلا حتى إذا جاء آخِرُ وَقْتِ الظهر قام فصلَّى. ثُمَّ عجل العَصْر فصلاها مع الظُّهْر، وهذا يوجِب الإخلال بمقاصدِ السفر، لأن أكثرَ وقته يضيعُ في انتظارِ آخِر وقت الظهر، والمقصودُ قَطْعُ السفر لا تَطْوِيْلُه بالجُلُوس.
قلتُ: والجواب أنه معلولٌ وقد ذَكَرْتُ وَجْهَه في الترمذي، ولئن سلمت فالجواب: أن الحالاتِ في السفر على أنحاء، قد يكونُ النَّفْع في السير عقيبَ الزوال: بأن يَرْتَحِل حتى إذَا كان آخِرُ وقت الظهر يَنْزل ويَجْمع بين العصرين، وقد يكون النَّفعُ في المُكْث حتى يمكنَه الْجَمْعُ بينهما فيجمع بينهما، ثُمَّ يَرْكَبُ مَطِيَّته ويتتابعُ في السير حتى ينزل للجَمْع بين العشاءين، ولا يحتاجُ إلى نزولهِ للعَصْر القَطْع لسَفَره. فالتمادي في الصورة الأُولى في الأول، وفي هذه في الآخِر.(3/238)
ويَشْهَد له ما في «الفتح» عن البيهقي: «أنه كان إذا نَزَل مَنْزلا في السفر فأعجبه أقام فيه، حتى يَجْمَع بين الظهر والعَصْر ثم يَرْتَحِل، فإذا لم يتهيأ له المَنْزل مَدَّ في السَّير فسار، حتى ينزلَ فيجمع بين الظُّهر والعَصْرِ» اه. فدلَّ على أنه قد كان يقيمُ بالمنزل إذا أعجبه، ويَبْقى هناك حتى يَجْمَع بين العصرين ثم يرتحل، ويُتابع في السَّفر حتى يمكن له الجَمْعُ بين العشاءين، وإنْ لم يتهيأ له لم يكن يَنْزِل له.
وفي «الجامع» للترمذي: «أنه قد كان يُؤخِّر الظُّهر في السَّفر حتى يُساوي الفيءُ التُّلول». فدل على شِدَّة تأخيره وطول إقامته، ويحصل في مِثْله الجَمْعُ بدون تكلُّف. ولعلك علمتَ منه أن ما رواه الترمذي من حديث معاذ رضي الله عنه أيضًا صحيحٌ، ولا حاجة إلى إعلاله كما فَعَله الجمهور. والاختلاف يُبنى على اختلاف صُوَر السفر، والجَمْعُ فيه جَمْعُ فِعلا في كل حالٍ، وما يتبادر فيه مِنْ جواز جَمْع التقديم فَفَرْطٌ من الوَهْم.
باب ُ صَلاةِ القَاعِد(3/239)
واعلم أن المصنِّفَ رحمه الله تعالى لم يترجم للفَرْق في جوازِ القعود وعدمه بين التطوّعِ والفريضة، ولا أَوْمأ إليه في مَوْضع، مع اتفاق أهل الإجماع على عَدَم جوازه في المكتوبات إن قَدِر على القيام، لأنه عَلِم أن لا تفصيلَ فيه في الأحاديثِ القوليةِ، ففوَّضه إلى الخارج، فمتى ما أجازت له الشريعةُ بالقعودِ جاز له القعودُ، وأينما نَهَت عنه لم يَجُز له. ألا ترى إلى حديث عِمْرَان عند البخاريّ رحمه الله تعالى - كما سيأتي بعد عدة أحاديث : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّمعن صلاةِ الرَّجُل قاعدًا فقال: «إنْ صلَّى قائمًا فهو أَفْضَلُ، ومَنْ صلَّى قاعِدًا فله نِصْفُ أَجْر القائم، ومَنْ صَلَّى نائمًا فله نِصْفُ أَجْرِ القاعد«اه. فلم يتعرَّضِ فيه إلى تفصيلٍ بين القيام والقعود، متى يجوزُ ومتى لا يجوز، لأن الحديث سِيق لبيانِ التَّنْصِبف.(3/240)
وأما مسائلُ القيام والقعود فكما قد عَلَّمته الشريعةُ مِنْ قَبْل، فيكون بَني ما في الحديث وبين تفاصيل القيام والقعود عمومٌ وخصوصٌ من وجه. ومِن ههنا تَبيَّن جوابُ ما قيل إنَّ حديثَ عمران لا يَصْدُق على الفريضةِ ولا على التطوع. فإنَّا إنْ حملناه على الفريضةِ لَمْ يَصِحَّ أَوَّلُ الحديثِ: «إنْ صلّى قائمًا فهو أَفْضَلُ»، لأنَّ القيامَ فَرْضٌ فيها، وإنْ حَمَلناه على التطوع لَم يَصِحَّ آخِرهُ، لأنَّ التطوُّعَ لا يجوز نائمًا عند أحدٍ إلا ما في «الغاية» عن الشيخ شمس الدين: أَنَّها تجوزُ مُضْطَّجِعَا أيضًا في قول، وقال ابن الهُمام رحمه الله تعالى: لا أعرف قولا بجواز النافلة مضطجعًا عن أحد من أصحابنا، وكذا قوله: «وَمَنْ صلَّى قاعدًا»... إلخ، لا يأتي على المكتوبةِ ولا على التطوُّع، فإنه إنْ أخذناه بلا عُذْرٍ لم يصدق في حَقِّ المكتوبة لأن المكتوبة قاعدًا بدون لاعُذر لا تصح مطلقًا فلا أحر فيها أصلا وإن أخذناه مع العُذْر لا يستقيمُ عليه تَنْصِيفُ الأَجْر. فالجواب أن الحديثَ وَرَد في مسألة التنْصِيف فقط. وأَما مسائلُ جوازِ القعود والقيام فتبقى على ما مَهدها الشَّرْعُ، ويبقى معها عُمومٌ وخصوصٌ من وَجْه.
ثُمَّ اعلم أن التنْصِيف في الحديث ليس باعتبار قيام الأَصِحَّاء، بل باعتبارِ قيام المَعْذُورين وقعودِهم. وقد صَرَّح ابنُ الهُمَام رحمه الله تعالى: أن العَجْز على نَحْوين: حقيقي، وحُكْمي. والأول أن يَتَعَذَّر عليه القِيَامُ ولا يُمكَّنُ منه أصلا، والحُكْمِي أن يُرَخِّص له الشَّرْعُ بالقعود، مع أنه لو تَكَلَّفَ على نَفْسِهِ أُمْكِن له القيامُ أيضًا، فهذا القاعدُ المعذورُ إن صلَّى قاعدًا فله نِصْفُ أَجْرِ قيامه لو تكلَّفَ وصلَّى قائمًا، لا نِصْف أَجْرِ الصحيح، فإنَّ قعودَه إذا كان بالعُذْر فهو كقيامِ الصحيح.
باب ُ صَلاةِ القَاعِد(3/241)
واعلم أن المصنِّفَ رحمه الله تعالى لم يترجم للفَرْق في جوازِ القعود وعدمه بين التطوّعِ والفريضة، ولا أَوْمأ إليه في مَوْضع، مع اتفاق أهل الإجماع على عَدَم جوازه في المكتوبات إن قَدِر على القيام، لأنه عَلِم أن لا تفصيلَ فيه في الأحاديثِ القوليةِ، ففوَّضه إلى الخارج، فمتى ما أجازت له الشريعةُ بالقعودِ جاز له القعودُ، وأينما نَهَت عنه لم يَجُز له. ألا ترى إلى حديث عِمْرَان عند البخاريّ رحمه الله تعالى - كما سيأتي بعد عدة أحاديث : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّمعن صلاةِ الرَّجُل قاعدًا فقال: «إنْ صلَّى قائمًا فهو أَفْضَلُ، ومَنْ صلَّى قاعِدًا فله نِصْفُ أَجْر القائم، ومَنْ صَلَّى نائمًا فله نِصْفُ أَجْرِ القاعد«اه. فلم يتعرَّضِ فيه إلى تفصيلٍ بين القيام والقعود، متى يجوزُ ومتى لا يجوز، لأن الحديث سِيق لبيانِ التَّنْصِبف.(3/242)
وأما مسائلُ القيام والقعود فكما قد عَلَّمته الشريعةُ مِنْ قَبْل، فيكون بَني ما في الحديث وبين تفاصيل القيام والقعود عمومٌ وخصوصٌ من وجه. ومِن ههنا تَبيَّن جوابُ ما قيل إنَّ حديثَ عمران لا يَصْدُق على الفريضةِ ولا على التطوع. فإنَّا إنْ حملناه على الفريضةِ لَمْ يَصِحَّ أَوَّلُ الحديثِ: «إنْ صلّى قائمًا فهو أَفْضَلُ»، لأنَّ القيامَ فَرْضٌ فيها، وإنْ حَمَلناه على التطوع لَم يَصِحَّ آخِرهُ، لأنَّ التطوُّعَ لا يجوز نائمًا عند أحدٍ إلا ما في «الغاية» عن الشيخ شمس الدين: أَنَّها تجوزُ مُضْطَّجِعَا أيضًا في قول، وقال ابن الهُمام رحمه الله تعالى: لا أعرف قولا بجواز النافلة مضطجعًا عن أحد من أصحابنا، وكذا قوله: «وَمَنْ صلَّى قاعدًا»... إلخ، لا يأتي على المكتوبةِ ولا على التطوُّع، فإنه إنْ أخذناه بلا عُذْرٍ لم يصدق في حَقِّ المكتوبة لأن المكتوبة قاعدًا بدون لاعُذر لا تصح مطلقًا فلا أحر فيها أصلا وإن أخذناه مع العُذْر لا يستقيمُ عليه تَنْصِيفُ الأَجْر. فالجواب أن الحديثَ وَرَد في مسألة التنْصِيف فقط. وأَما مسائلُ جوازِ القعود والقيام فتبقى على ما مَهدها الشَّرْعُ، ويبقى معها عُمومٌ وخصوصٌ من وَجْه.
ثُمَّ اعلم أن التنْصِيف في الحديث ليس باعتبار قيام الأَصِحَّاء، بل باعتبارِ قيام المَعْذُورين وقعودِهم. وقد صَرَّح ابنُ الهُمَام رحمه الله تعالى: أن العَجْز على نَحْوين: حقيقي، وحُكْمي. والأول أن يَتَعَذَّر عليه القِيَامُ ولا يُمكَّنُ منه أصلا، والحُكْمِي أن يُرَخِّص له الشَّرْعُ بالقعود، مع أنه لو تَكَلَّفَ على نَفْسِهِ أُمْكِن له القيامُ أيضًا، فهذا القاعدُ المعذورُ إن صلَّى قاعدًا فله نِصْفُ أَجْرِ قيامه لو تكلَّفَ وصلَّى قائمًا، لا نِصْف أَجْرِ الصحيح، فإنَّ قعودَه إذا كان بالعُذْر فهو كقيامِ الصحيح.
(3/243)
1113 - قوله: (إنما جُعِلَ الإمامُ ليُؤتَّمَ بِهِ) أي جُعِلَ الإمامُ ليُقْتدى به في أقواله، فيسمع المؤتمُّ ما يَقُوْلُهُ، ويتبع فيه، ولا يكون الإِمامُ مَنْ لا يُسْمع لِقَوله، ولا يُبَالي بِأَمْرِه، فالتقدُّمُ والتأخُّرُ في الأفعال ليس من الائتمام في شيءٍ، وحينئذٍ صَلُح الحديثُ أن يُسْتدَّل به على تَرْك الفاتحةِ خَلْف الإمام، فإنَّ الإمام يجهرُ بِهَا كي يسمعَها المقتدي، وهذا يَقْرأُ ولا يُصْغِي لقراءته، فهل تعدُّ مُتَّبِعًا أم مُشَاغِبَا.
ثُم لا بأس أن نعودَ إلى مسألةِ وجوبِ القعود خَلْفَ الإمام القاعد أو عدَمِه وإن فَصَّلناها مِنْ قبل، لأَنَّا قد دخلنا الآنَ في حديث الجُحُوش، فبانَ لنا أن نُعِيد أشياءَ، لعلَّ اللَّهَ ينفعك بها.
فاعلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكما لم يفصل بين التطوُّع والفريضةِ في حديثِ عمران كما علمت، كذلك لم يفصل بينهما في حديث الجحوش. والجمهور على أنه في الفريضةِ إلا ابنَ القاسم، فإنه ذَهب إلى أنَّه في النافلة. أما قوله في البخاري: «فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ» فليس صريحًا في كونهِ في الفريضة، لأنه وَقَع هذا اللَّفْظِ في النافلة أيضًا عند البخاري رحمه الله تعالى، ولستُ أَدَّعِي أنه في حَقِّ النافلة، ولكن أقولُ: إنَّ له وجهًا أيضًا.
1115 - قوله: (إن صلَّى قائمًا)... إلخ. وحاصِلهُ عندي أن الإمام إن اضطر إلى القعودِ لِعُذْر وصلَّى في بيته قاعدًا، فلم لا تصلون أنتم خَلْفَه لِيناسِب لكم القعودُ أيضًا من حيث رعايةُ الإمامة والاقتداء؟ بل عليكم أن تبتغوا إمَامًا آخَر صحيحًا يصلِّي بكم قائمًا لتتمكنوا مِنْ القيام خَلْفَه.(3/244)
فالحاصل: أنَّ الحديث سِيق لِذمِّ التعنُّت في الاقتداء بالإِمام المعذور، لا لإِيجاب القعودِ على المقتدي، وإنْ كان قادِرًا على القايم فليس فيه إلا تحسينُ القعودِ عند قعود الإمام. ولا يخرجُ منه تحريمُ القيامِ خَلْف القاعد ولا حَرْف، مع أنَّ الواجِب عند أحمد رحمه الله تعالى هو القعودُ ويَحْرُم القيام.
وما قاله المالكية رحمهم الله تعالى: إنَّ الجالِس ليس له أن يؤمَّ القائمين ولا الجالسين، فمرادُهم أيضًا أنه لا ينبغي له ذلك، وأيُّ حاجةٍ إلى إِمامتِهِ إذا تيسَّر له الإمامُ الصحيح. لأن الوليد بنَ مسلم روى عن مالك رحمه الله تعالى أن الجالسَ لو قام خَلْفَ القاعِدِ فهو جائزٌ. فانكشف منه أَنَّ نهيه عن إمامةِ المعذور كان على طريقِ الأنبياء.
وأما أحمدُ رحمه الله تعالى فإنَّه فَرَّق بين القعودِ الأَصلي والطارىء. وذلك لأنه فَهِم أن تقبيحَ القيامِ خَلْفَ القاعد لمشابهةِ الأعاجم في قيامهم لعظمائهم، فإذا كان القعودُ طارئًا ارْتَفَعَ مناطُ التقبيح، لأن قعودَ الإمام مِنْ عُذْر سماوي ولا ذَنْب فيه للمُقْتَدِين فلا لَوْم عليهم في قيامهم، لأنه لا يكون حينئذٍ من قيامِ الأعاجم كما هو ظاهر. ولذا عَنَّفهم في واقعة الجحوش، لكونه مُصَلِّيَا في بيته، وتعنَّت هؤلاءِ في الاقتداء به في اليوم الثاني أيضًا. وإنما أغمض عنهم في قِصة مَرَضِ الموت لأنه هو الذي خرج إليهم فأمَّهُم، فلم يكونوا مْتَعَنِّتِين أصلا. وما فَصَّله ابن حِبان من كون الصلاةِ في تلك الواقعة فريضةً أو نافلةً فلا دخل له أصلا، ولا إيماءً إليه في لفظه صلى الله عليه وسلّم والله تعالى أعلم.
باب ُ صَلاةِ القَاعِدِ بِالإِيمَاء(3/245)
قيل: إن الحديثَ لا ذِكْر فيه للإِيماء، فكيف ترجم به؟ وأجيب أنه يمكن أن يكونَ في نسخة المصنف «بإيماء» مكان نائمًا، وقيل: إن نظره إلى لفظ النَّسائي وفيه «بإيماء». ثم اتفق المحدِّثون على أنه تصحيفٌ، والصواب «نائمًا»، فلا يمكن بناءُ الترجمة عليها أيضًا. فإن قلت: إن النائِمَ فَسَّره المُحشِّي بالمضطجع، والمضطجع لا يصلِّي إلا بالإيماء فَثَبَتْ ترجَمَتُهُ. قلتُ:هَبَّ، لكنَّ المصنف رحمه الله تعالى ترجم بإيماء القاعد دون المضطجع. ويمكن أن تُحمل ترجمتُهُ على رأي الذين يُجوِّزون الإيماءَ حالَ القعود أيضًا، كما في «الفتح»، فتصِحُّ ترجمته على مذهبِ هذا البعض. وعندي نَظَرُهُ إلى أَنَّ القاعِدَ له نِصْفُ الأجر كما نطق به الحديثُ، مع أنه لم يترك إلا القيامَ، فلا وَجْه له إلا أنه بالقعود نَقَص في ركوعه وسجوده أيضًا، كما في الحِسّ أنَّ الرُّكوعَ من القيام أتمُّ منه من القعود، وكذلك السجود، فإنَّ الانخفاضَ في سجدةِ القائم يَحْصُل ما لا يَحْصُل في سجدة القاعد، فإذا أدخل النقيصةَ في أركان الصلاة، وكانت تلك الثلاثةُ أركانَها، حَسُن تنصيفُ الأَجر، ثم إنه لا بُعْد أن يُعبِّر عن هذين الركوع والسجود الناقِصَين بالإِيماء وإن عَبَّر عنهما الفقهاءُ بالركوع والسجود.f
ولا يجب على المصنف رحمه الله تعالى أن يَتَّبِعهم في التعبير أيضًا، ألا ترى أنَّ الحديثَ سَمَّى سجودَ تارك التعديل نَقْرًا. فهذه تعبيراتٌ وملاحظاتٌ لا حَجْر فيها، فعبَّر كيف شئت ولا حرج.
باب إِذَا لَمْ يُطِقْ قاعِدًا صَلَّى عَلَى جَنْب(3/246)
بوَّب بالاضطجاع وتَرَك الاستلقاء، وهو المختار عند الشافعية. ويجوز عندنا الاستلقاء أيضًا. واستدل له الزَّيْلَعِي بما أخرجه النَّسائي، وليس في «صغراه»، فالظاهر أنه يكون في «الكبرى»، وفيه الاستلقاء أيضًا. وتمسَّك الشافعيةُ بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران: 191) حيث اقتصر على الصُّور الثلاثِ ولم يتعرَّض إلى الاستلقاء.
قوله: (وقال عَطَاء)... إلخ سقط عنه الاستقبال. ثُمَّ في القدرةِ بالغير كلامٌ في كُتُبِنَا، وليراجع له «شَرْحُ الوِقاية».
1117 - قوله: (فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْب)... إلخ. واعلم أن الصحابي في هذا الحديث، وفي حديث تنصيفِ الأجر - المار آنفًا - واحدٌ، ولكنَّ الظاهر أنهما حديثانِ مختلفانِ لاختلاف مَتْنِ الحديثين. ثم لا يخفى عليك أنَّ الحديث لم يفصل فيه بين مُتنفلٍ ومُفْتَرِض مع أنه لا يأتي إلا على النافلةِ، وعليه فليعتبر قوله: «إذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا»... إلخ. لم يَسُقْه في الفريضة أو النافلة خاصَّةً، بل أطلقه، فيحملُ على ما لا يخالِفُ قواعِدَ الشَّرْع.
فشاكلةُ حديثِ الجحوش، والسقوط عن الفرس كشاكلةِ أحاديثِ تنصيفِ الأجر، والتخيير بين الصلاة قائمًا وقاعدًا وعلى جَنْب، وشاكلةُ أحاديثِ الائتمام: «إنَّما جُعِل الإمامُ ليؤتمَّ به». فيبقى بين هذه الأحاديثِ ومسائل جواز القعود وعدمِه عمومٌ وخصوصٌ من وَجْهٍ، قد تجتمعُ في مادة وقد لا تجتمع في أخرى، فعليك أن تَحْمِلها على مَحَالِّهَا، وتأتي البيوتَ من أبوابها. ثم معنى قوله في الحديث: «فإنْ لم تستطع» أي فإن لم ترغب، والمرادُ منه في الفِقْه عدمُ القدرة لا عدمُ الرغبة.
باب إِذَا صَلَّى قاعِدًا، ثمَّ صَحَّ، أَوْ وَجَدَ خِفَّةً، تَمَّمَ ما بَقِي(3/247)
وهو مذهبُ الإماام رحمه الله تعالى، خلافًا لمحمد رحمه الله تعالى بناءً على خلافية أُخْرى، وهي اقتداءُ القائم بالقاعد، فإذا لم يَجُز عنده هناك عَدَل عنه في هذه أيضًا. ودلَّ ذلك على شِدَّةِ مراعاتِهِ بين شاكلةِ الإِمام والمقتدي، حتى لم يتحمَّل الاختلاف بينهما في القعود والقيام أيضًا. ومن فروعه عَدَمُ جوازِ اقتداء المتوضىء خَلْفَ المتيمم عنده، ثُمَّ هذا من مراحل الاجتهاد، ويعتبرُهُ المجتهد إلى أيِّ مرتبة شاء.
وأما صلاةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفتنقل على الأَنحاء كلها، وقد صلَّى قائمًا وركع وسجد وهو قائم، وقد صلَّى قاعدًا وركع وسجد كذلك، وقد صلَّى قاعدًا، فإذا بلغ قبيل الركوع قام وركع وسجد وهو قائم. وهذا يُشْعِر بأنَّ الأحبَّ عند الشارع أن يكونَ الركوعُ والسجودُ عقيبَ الكلام، وهذا الذي كنتُ نَبَّهتك عليه: أَنَّ ركوعَ القائم وسجوده أَتمَّ ولذا عَبَّر البخاري رحمه الله تعالى عن رُكوعِ القاعد وسجوده بالإِيماء.
ثُم إنَّ ابنَ شاهين أخرج حديثًا في «كتاب الناسخ والمنسوخ» يدُلُّ على عدم جواز اقتداء المتوضىء بالمتيمم، وادَّعى أنه منسوخٌ. والذي تبين أنَّه من باب الاقتداء بالقاعد، أعني أن الشارع رَغَّب في كونِ حالِ الإمام أقوى من المقتدي، فعليه أن لا يتحرَّى الاقتداء بالمعذور، كالقاعد والمتيمم مثلا، بل ينبغي له أن يكون إمامُهُ على حال قويَ مِثْله. فإذا كان يَقْدر على القيام نَاسَب له أن يكون إمامُهُ أيضًا مِثْلَه، وكذلك إِنْ كان متوضئًا حَسُن أن يكون إمامُهُ أيضًا كذلك. فالنهي عنه مَحْمولٌ على نَهْي التحري عنه والتَطُّلبِ له، وليس فيه مسألةُ الجواز وعدمه، والله تعالى أعلم.(3/248)
1119 - قوله: (فإنْ كُنْتَ يَقْظي تَحَدَّثَ مَعِي) واعلم أنَّ في الكلام بعد سُنة الفجر ضَيِّقٌ عند الحنفية. وثبت عن السلف أنهم كانوا يكرهونه أيضًا، وفيهم أسوةٌ للحنفية، ومَنْ أَراد الاطلاعَ على آثارهم فلييراجع «مصنف» ابن أبي شيبة، نعم ثَبَت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمالكلامَ بعدها، ولا يُقاس كلامُ أَحَدٍ على كلامِهِ.
1119 - قوله: (وإنْ كُنْتُ نائمةً اضْطَجَعَ). قال النَخَعي: إن الاضجطاع بِدْعَةٌ.. ثُمَّ نُسِبَ ذلك إلى الحنفية، مع أنه لم يَقُلْهُ مِنَّا أَحَدٌ. والصواب أنَّ الكلَّ ثابتٌ، ولكنه لم يكن من العبادات، بل كان عادةً له صلى الله عليه وسلّم فمَنْ أرادَ تحصيلَ الأَجْر في اتباع عاداتِهِ صلى الله عليه وسلّمفله في ذلك سلفٌ، فَلْيُحْرِزِ الأَجْر ولا حَرَج. ومَنْ قصد أن يَتَّبع في عباداتِهِ فليفعل، ولْيَحْظَى بما قدر له.
كتاب التَّهَجُّد
(3/249)
فيض الباري شرح صحيح البخاري 2
محمد أنور شاه الكشميري
الملف الثاني للكتاب
المحدث الكبير والفقيه المحقق الحجة المولود سنة 1292 والمتوفى سنة 1352 رحمه الله تعالى
كتاب التَّهَجُّد
(3/250)
---
كتاب التَّهَجُّد
صحيح البخاري
باب ُ التَّهَجُّدِ بِاللَّيل
واعلم أن التفعُّل ههنا للتجنُّب، بمعنى إزالة الهُجُود. وقال العلماء: إنَّ اسم التَّهَجُّد لا يَصْدُق إلا بعد الهُجُود، فلا يطلق على صلاة الليل قبل الهُجُود. وفي «المِشْكَاة»: «أن هذا السفر جهد وثقل، فَمَنْ صلَّى ركعتين بعد العشاء في أوليهما: «إذا زُلْزلت»، وفي الثانية: «قل يا أيُّهَا الكافرون» كَفَتاه عن التَّهَجُّد». فهذا تهجُّدُهُ قبل النوم، ولكنه لا يخالفُ ما قاله العلماءُ، فإنه تَهَجُّدٌ حُكْمِي. وباب آخَر: ألا ترى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأَمَر النَّاسَ أن يجعلوا الوِتْر في آخِر صلاةِ الليل، ثُمَّ أَوْصَى للبعض أن يُصَلُّوه قبل النوم. فهذا كلُّه تقسيمٌ على الأَحوال.
ثم إنَّ التَّهَجُّد - وهي صلاة الليل - مُغَايرٌ للوِتْر عندنا ذاتًا، وهما مُتَّحِدَان عند الشافعية، فإنْ صلاهَا قبل النوم سُمِّيت صلاةَ الليل، وإنْ صلاها بعدما استيقظ من نومه سُمِّيت تَهجُّدًا. فالفرق بينهما وصفي، وكذا الوِتْر عندهم. فالوِتْر والتهجُّد وصلاةُ الليل كلُّها عندهم متحدةٌ ماصَدُقًا، ومتباينةٌ مفهومًا واعتبارًا، وهي إحدى عشرةَ ركعةً، ثم قالوا: إنَّ ههنا صلاةً أخرى، وهي النَّفْل مطلقًا والرجل مخير فيها إن شاء صلاها مئة فصاعدًا، بخلاف الوِتْر فإِنَّها لم تثبت فوق إحدى عشرةَ في أَصَحِّ الروايات، فلها رَكَعَاتٌ معدودة.
(4/1)
---(4/1)
وقلنا: أما الفَرْقُ بين صلاة الليل والتهجُّد فكما ذكرتم، لكنَّ الوِتْرَ صلاةٌ مستقلة، مغايرة ذاتية، متميزة بوقتها، وقضائها، وركعاتها، وتعيين قراءتها. وإنَّما التبست في بادىء النَّظر لارتباطِهَا بصلاة الليل شَيْئَا. فَإِذَا تَقدَّمت وصُلِّيت بعد العشاء قبل النوم، كما كان أبو هريرة وبعضٌ آخَرون يَفعَلُه امتازت عن شاكلةِ صلاة الليل. وقد مرَّ أنها ليست للإيتار فقط، بل صارت صلاةً برأسها، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلّم «إن الله أمدكم بصلاة»... إلخ فدلَّ على أن الوِتْر صلاةٌ مستقلة لا أنه للإيتار فقط.
وأما الأحاديث فلا ريبَ أنها وردت بالنَّحْوين: فحديثُ عائشة رضي الله عنها عند أبي داود وغيرِهِ: «كَان يُوْتِر بأربعٍ، وثلاثٍ»... إلخ، يُبنى على نظر الحنفية، وفصل الوتر عن صلاة الليل. وحديث ابنِ عمرَ رضي الله عنه يُبنى على إطلاقِ صلاةِ الليل على المجموع. فعن ابن عمَر رضي الله عنه: أنَّ النبيَ صلى الله عليه وسلّمكان يُوْتِر على الدابة. أطلق فيه الوِتْر على صلاةِ الليل، ولا حَرَج، فإنَّ الوِتْر منها في الحِسِّ. وفي بعض الملاحظات. وروى الطحاوي عنه مرفوعًا: «أنه صلى الله عليه وسلّمكان يَنْزلُ له». فلعلَّه أرادَ به الوِتْر من صلاةِ الليل. فروايته الأولى تُبْنَى على إطلاقِ الوِتْر على مجموع صلاة الليل. والثانية على فَصْله منها فلا تعارض. وقد أشكل عليهم الْجَمْعُ بينهما، فحمله الشافعيةُ على مذهبهم، وحمله الطحاويُّ على أنَّ الوِتْر على الدابة كان فيما كان فيه توسيعًا، فإذا عزم الأَمْر وتحتم الوِتْر نزل لها صلى الله عليه وسلّم والمختار عندي ما سمعتَ آنفًا.
صحيح البخاري
(4/2)
---(4/2)
ثُم إنَّ هذه من أنظار الرواة واعتباراتهم لا يُعقد منها شيءٌ ولا ينقض، ولا يصاغ منها أمرٌ ولا يكسر. والقومُ قد بَثُّوا مسائلهم على تعبيراتِهم فقط، فوقعوا في حيرة. والأمر ما حَقَّقْناه في مَوْضعه فتذكره. وما يُعْلَم من صنيع الأئمة أَنَّهما صلاتانِ متغايرتان عندهم كالبخاري. فإنَّه بَوَّبَ للوِتْر، ثُمَّ بَوَّب للتهجد وصلاة الليل. فهذا يدلُّ على أنهما صلاتان عنده. وهكذا صنيعُ غيرهِ. ثم إنَّ الشافعية إذا دخلوا في باب الوتر قالوا: إن الوِتْر ثلاثٌ بالتسليمتين، وكتبوا في آخِر بابه أنه يجوزُ بركعةٍ أيضًا. فاختاروا للعَمل الصورةَ الأُولى فقط، وإذا نزلوا على الجائزات وَسَّعوا بركعةٍ وغيرها. فَعُلِم أن الخلافَ بِحَسَب العمل قليلٌ، وإنما يظهَرُ الجدلُ عند بيانِ الصور الجائزة.
قوله: ({وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ}) (الإسراء: 79) واختُلِفَ في تفسيرِ النافلة، فقيل: فريضة زائدة لك، خُصِّصْتَ بها من بين أمتك. ثُمَّ ادَّعى النوويُّ رحمه الله تعالى أنه نُسِخ عنه أيضًا. وقيل: عبادة زائدة في فرائضك، وقيل: زائدة لك خاصَّة وليست كفَّارةً بخلافِ أُمَّتِك، لكونك لا ذَنْبَ عليك.
(4/3)
---(4/3)
أقول: إنَّ النَّفْل ههنا على صرافة اللغة، لا ما في الفِقْه بالمعنى المقابل للفَرْض، فإنَّه وُضِع له لَفْظُ التطوُّع الدال على كونه من طَوَع العبد بدون إيجابٍ من الله تعالى، أو إعطاء من عنده، بخلاف النَّفْل فإنه يكون من جهةِ النافل بمعنى إعطاءِ الزيادة من جانبه، ومنه نَفَّل الغنيمةَ. فالسَّهم هو الحِصةُ المعيَّنةُ، وما يزيدُهُ الإمام من جانبه لأحد يقال له النَّفْل، لأنه إعطاءٌ منه زائدًا على حِصته، وفَضْلُ منه، فالنَّفل صِفةُ النافل، والتطوع من جانب العبد، فقال: {نَافِلَةً لَّكَ} (الأنبياء: 72) أي مِنْ الله تعالى، لا نافلةً مِنك لله تعالى. وعليه قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} (الأنبياء: 72) (بخشش) فَنَسب النَّفْل إلى نَفْسه، أي أعطيناك إسحاقَ ويعقوبَ عطية من عندنا. فإِذَن هو بمعنى بلا شيءٍ واستحقاق منك، وترجمته (مفت) أ يمجانًا، أو هو فَضْلٌ لك وترجمتُه (بحت).
لكن علي طَور ما قلنا، والنَّفْل بهذا المعنى لا يَضَادُّ الْفَرْض كما في «المشكاة» في أحاديث فَضْل الوضوءِ: «إنَّ الوضوءَ يُكفِّر من الخطايا حتى تكونَ صلاتُهُ نافلة»، أو كما في أحاديث أمراءِ الجَوْر: «فإن صَلَّيت لِوَقْتِهَا كانت لك نافلةً» على شَرْح الحنفية، فإنَّ النافلة أطلقت على الصلاة المتكوبة في الموضعين، كيف وقد مر أنَّ بِنِيَّة النافلةِ والفريضةِ واحدةٌ، وإنَّما الفَرْق من حيثُ لحوقُ الأوامر بواحدةٍ دون أخرى، وذلك من الطوارىء، فالصلاة اسمٌ للهيئةِ المشاهدة المخصوصةِ فقط، ولا تَعَلُّقَ لمسمَّاها بكونِها نافلةً أو مكتوبةً.
صحيح البخاري
(4/4)
---(4/4)
وأخطأ الرازيّ حيثُ زعم أن الصلاةَ لَفْظٌ مشتَرَكٌ بين النافلة والمكتوبة، فجعلهما حقيقتَيْنِ مختلفتين مع أنَّ الصوابَ ما قلنا، لأن اختلافَ النَّفْلية والفَرْضية حَدَث من قبلِ الخارج، وذلك لا يُوْجِب اختلافَ الحقيقة. ولعلك عَلِمت منه أنَّ الآية لا تدلُّ على كونِ التهجُّد تَطَوُّعَا في حقِّه صلى الله عليه وسلّم ومَنْ استدل عليه فكأَنَّه لم يُمْعِن النَّظر. وقد بَيَّنا أنَّ صلاةَ الليل كانت واجبةً أولا، ثُم لم يُنْسخ حرفٌ منها، غيرَ أنه نَزَل الأَمْرُ إلى التيسير، فَحَملُوه على نَسْخ الأَصْلِ. نَعم غُيرت في صفةٍ منها شيئًا، فأُكِّدت منها قطعةٌ سُمِّيْت بِاسمٍ على حِدَة، وهو الوِتْر، وجُعِل له وَقْتٌ وهو آخِرُ الليل لِمَنْ يَعْتَمِد الانتباه وإلا فأوَّلُ الليل، وأَمَرَ بقضائه.
ورُدِّد في وقتِ العِشاء مراعاةً لِوَقْت الوِتْر، ففي بعض الروايات وَقْت العشاءِ إلى النِّصف، وفي البعض إلى الثُّلُث، وإلى جميع الليل. والنَّاسُ زَعَمُوه اختلافًا فتصدُّوا إلى وَجْه التوفيق.
وعندي: هذا الترديدُ مَبنِيٌّ على ترديد القرآن في صلاة الليل، قال تعالى: {يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَه أو انْقُص منه قليلا أو زد عليه}.
(4/5)
---(4/5)
وحاصله: أن الليل كلَّه مَقْسومٌ بين العشاءِ وصلاةِ الليل، فإن صلَّى العشاءَ في النصف الأول يُصلِّي التهجُّد في النصفِ الآخر، وهكذا في جانب القِلَّة والزيادة. ومِنْ ههنا جاء الترديدُ في نزولِ الربِّ تبارَك وتعالى، فإنَّه على النِّصْفِ، والثلث، حَسَب الترديد في صلاةِ الليل. فَرَاع هذه الترديدات كلَّها كيف تَنْحَطُّ على مَحَطَ واحدٍ واعتبره، ولا تَزْعُمْها شكَّا من الرواة. وإذا دريت أن الوِتْر قطعةٌ من صلاةِ الليل، هان عليك أن تَدَّعِي وجوبه، ولولا طريقُهُ. طنيًّا لَقُلْنَا بافتراضه، إلا أنَّ كونَ هذا المقطوعِ والمُؤكَّد وِترًا وعُلِم من أخبارِ الآحاد فاكتفينا بالقَوْل بوجوبهِ. والبسط في رسالتنا «فَصْل الخِطَاب في مسألة أمِّ الكِتَاب».
1120 - قوله: (قال: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ)... إلخ. ولَعَلَّه كان يَدْعُو بهذا الدعاء عقيبَ اليقظة قُبَيْلَ الوضوءِ.
1120 - قوله: (أَنْتَ قَيِّمُ السمواتِ) وهي علاقة الَقيُّومِيّة التي اعتبرها الشَّرْع، وهي أَقْرَبُ من عَلاقَةِ الخالقية، وليست تلك عِنْدَ الفلاسفةِ، وعندهم عَلاقَة العِلِّية والمبدئية. فاللَّهُ عندنا حَاكِمٌ على الإطلاق، يفعلُ ما يشاءُ ويَحْكُمْ ما يريدُ، وعِلَّةٌ عند الفلاسفة، فإنه لا قدرةَ عندهم له إلا على جانبِ واحد، تعالى اللَّهِ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا، كذا نقله الحافِظ ابنُ تيمية رحمه الله تعالى.
صحيح البخاري
(4/6)
---(4/6)
قلتُ: وهوالصوابُ من مذهبهم، فإنَّ ابن رشد لَخصَّ «مقالات أرسطو» وذكر فيه: أنَّ المُمْكِنَ عنده مايوجَدُ تارةً وينعدِمُ أخرى، والممتَنِعُ ما لا يوجَدُ أبدًا، والضصروريُّ ما يوجَدُ أبدًا. وصرَّحوا أن الفَلَك ضروريُّ. وعلى هذا لا يُقال في البسيط أن فيه حَيْثِّيثن: حيثية الإمكان بِحَسَب ذاته، والامتناع باعتبارِ الغير. نعم يمكن أن يُقال إنه واجِبٌ باعتبار ذاتِه، ومُمْكِنٌ باعتبارِ حركتِه. فحيثيةُ الإمكان ليست بالنَّظَر إلى الذاتِ، بل باعتبار الحركة. أما كونُ ذاتِهِ ممكنًا باعتبار، وواجبًا باعتبار، فهذا مما لا يُسَوَّغُ عنده. ثم قال: إنَّ أوَّلَ مَنْ أوجده ابنُ سينا، فهو يَنْظُر إلى طبيعةِ الشيء ودوام وجودِهِ، فيحْكُمْ عليه بِحُكْم النَّظر إلى طبيعتهِ، وبِحُكْمٍ آخَر بالنظر إلى وجودِهِ، بخلاف الفلاسفة، فإنَّهم عدلوا عن إخراج الاعتبارين في الأشياء الدائمة. وحيئنذٍ لم يَبْقَ لاسمِ واجبِ الوجود مَزَّيَتُهُ، فإن الفَلَكِ عندهم أيضًا واجِبُ الوجودِ.
ومِنْ ههنَا تَبَيَّنَ أن ما استدل به ابنُ سينا على إثباتِ الواجب لا يتأتَّى على قواعدِهِمْ. فإنَّه قال: إنَّ من الأشياءِ ما هي ممكنةٌ بحسبِ ذواتها، دائمةٌ باعتبارِ وجودها، فلا بد أن تنتهي إلى عِلة واجبةٍ، فإن الدوام لا يَخْلو عن سببٍ، فثبت الواجب. وهذا كما ترى يُبنى على القولِ باعتبارين في شيءٍ واحدٍ وقد أنكروه. نعم للفلاسفة على هذا المطلب دَلِيلٌ آخَر على طورهم، وهو أنَّ التسلسلَ في العلل مُحال، فلا بد أن تنتهي إلى واجب وهو المراد. وراجع التفصيل في مواضعه.
قوله: (أَنْتَ نُوْرُ السَّموَاتِ)...إلخ. وفي «المِشْكَاةِ»: «إنَّ اللَّهَ تعالى خَلَقَ الأَشياءَ في الظلمة، فَرَشَّ عليها مِنْ نُورِهِ، فمن أصابَه اهتدى، ومَنْ أخطأه ضَلَّ» أو كما قال.
1120 - قوله: (أَنْتَ مِلْكُ السَّموَاتِ).. إلخ. وذكر عَلاقَة المِلْكية.
(4/7)
---(4/7)
1120 - قوله: (أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ ولقاؤَكَ حَقُّ) ففي الأَوَّلِيْنَ قَصَر، وأما اللقاء فلم يكن من أشياءِ القَصْر فَنَكَّرَه.
1120 - قوله: (وَبِكَ خَاصَمْتَ) أي في الدَّيْن، (وإليك حَاكَمْتِ) أي فيه.
1120 - قوله: (وَزَادَ عَبْدُ الْكَرِيْم)...إلخ. وهو ابن أبي الْمُخَارِق. ضَعَّفَه الترمذي في جميع المواضع، وليس الجَزَري وهو ثقة. وعَدَّه المُنْذِرِي في الترغيب والترهيب من رجال البخاري وإن كان في المتابعات، وردَّ عليه الحافظ رحمه الله تعالى وقال: ذكره في سَرْد القصة لا في الإسناد، وهذا كَذِكْر الشيطانِ وأمثالِهِ في قَصَص القرآن ولا يَلْزِم مِنْ الذِّكْر في ذيل القِصَّة ثِقَتُهُ أصلا.
صحيح البخاري
قلت: والصواب ما قاله الحافِظُ رحمه الله تعالى. ثم أقولُ إنَّ «عبد الكريم» هذا وإن لم يكن مِنْ رِجال البخاري، إلا أنَّه يمكنُ أن يكونَ البخاريُ أخرج عنه قِطعةً ههنا لِما شَهِد بِصِدْقِه قَلْبُهُ في خصوصِ هذا المقام.
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ قِيَامِ اللَّيل
1121 - قوله: (وكُنْتُ أَنَامُ في المسجد) وقد عَلِمْت أَنَّ ابنَ عمرَ رضي الله عنه كان مِمَّنْ أرادَ أن يبني بيتًا من مَدَر، فلم يُعِنْه النَّاسُ عليه، فلا بأس لِمِثْلِهِ أن ينامَ في المسجدِ.
1121 - قوله: (كَطَيِّ البِئْر) كنوئين كي من.
قوله: (لم تُرَع) وهو وإنْ كان جَحْدًا لكنَّ ترجمتَه النهيُّ، أي لا تُرَاعُوا، ويمكن حَمْلُهُ على الجَحْد أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ طُولِ السُّجُودِ في قِيَامِ اللَّيل
(4/8)
---(4/8)
1123 - قوله: (يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ ما يقرأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِيْنَ آيةً) واعلم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان نهاهم عن الاقتداءِ به في صلاةِ الليل، لأنَّه لم يكن يُرَاعي فيه حال الضفعاء، والمَرْضَى. ودل هذا أَنَّ بناءَها كان على الانفراد، وإليه أشار القرآنُ بقوله: {نَافِلَةً لَّكَ} (الإسراء: 79) فَفَصَلَهُ عن الخمسة وقال: {أَقِمْ الصلاةَ لِدُلُوك الشَّمْسِ إلى غَسَقِ الليل وقرآنَ الفَجْرِ} فهذه خَمْسُ صلوات أَمَرَ بِإِقَامتِهَا، وإقامتُهَا أَنْ يُؤَدِّيَهَا مع الجماعاتِ في مساجدَ يُنَادَى بِهَا، ثُم ذَكَر التهجُّدِ فقال: {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} فعبَّر عنها بالنافلة لعدم شَركة الجماعةِ فيها، فإنَّ الصلواتِ الخَمْسَ فيها شركاءُ معك، كالسَّهْم يشترِكُ فيه الغانمون كلُّهم.
وأما النَّفْل فلا يكون فيه للجماعةِ حَقٌّ، كذلك هذه الصلاة نافلةً لك، فلا تدخل الجماعةُ معك فيها، فهي حالُكِ الأحاديُّ وَوِظِيْفتُكَ الانفرادية، ولذا قال إمامنا رحمه الله تعالى: إن التداعِي في صلاةِ الليل مكروهةٌ. وَحَدُّ التداعي عندي - كما في العُرْف - بِأَنْ يُدْعَى لها الناسُ. وما ذَكَرَه المُفْتُون فهو تحديدٌ للعَمَل لا أنه مَنْقُولٌ عن صاحبِ المذهب.
ثُمَّ إنَّ النَّسائي بَوَّب عليه بأن تلك السجدةَ الطويلةَ كانت على حِدَة لا في ضمن الصلاة.
قلتُ: وهو بعيدٌ عن الصواب، بل كانت ممن أركانِ الصلاة. أمَّا السجدةُ المفردة فاستحبَّها الشافعيةُ في أوقاتٍ مختلفة: بِأَنْ يسجدَ بها متى شاءَ، وهذا في غَيْر مَوْضع الشُّكْر أيضًا.
قلتُ: ولا أَصْلَ لها عندنا، نعم في الكتب في سجدة الشكر قولان، ولا بُدَّ من القول بالجواز. وأمَّا ما اعتاد بها الناسُ بعد الوِتْر والتراويح فمنع منها في «الكبيري شَرْح المنية».
صحيح البخاري
(4/9)
---
باب ُ تَرْكِ القِيَامِ لِلمَرِيض(4/9)
واعلم أن المصنف رحمه الله تعالى أخرج ههنا متنًا واحدًا له سَنَدَانِ وَحَوَّل بينهما، وجعل في كتاب التفسير في تفسير سورة «والضحى» (2738) متنَين بِسَنَدَيْن، هكذا قال: سَمِعت جُنْدُب بن سفيان قال: اشتكى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّمفلم يَقُم ليلةً، أو ليلتين، أو ثلاثًا، فجاءت امرأةٌ فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكونَ شيطانُك قد تَرَكَكَ».I
..إلخ. والمرأةُ هذه امرأةُ أبي لَهَب كما يَنْطِقُ به خُبْثُ تعبيرِهَا. وعنه قالت امرأةٌ: «يا رسولَ الله مَا أَرَى صَاحِبَك إلا أَبْطَأَك»... إلخ. والمرأةُ هذه هي أُمُّ المؤمنين خديجةُ رضي الله تعالى عنها كما يُشْعِرُ به مخاطَبَتُهَا إيَّاهُ صلى الله عليه وسلّم وإنَّما ذَكَرَتْهَا تَحَسُّرًا، ثم ذَكَر فيهما نُزولَ الآيةِ، ولا يُتَوهَّم الاضطرابُ بينهما.
والجواب: أنَّ الآيةَ نَزَلَتْ بعدهما، إلا أنه ليس مَوْضِع التحويل، فإنَّه يدل على كونهما قصةً واحدةً، ومتنًا واحدًا من إسنادين مع أنهما متنانِ مختلفان بإسنادين كذلك، كما يتضِحُ من كتاب التفسير، وفي مِثْله لا يناسب التحويلُ، إلا أنَّ المصنِّفَ رحمه الله تعالى لما أخرجهما في كتاب التفسير لم يبالِ بهذاالإيهام.ولعلَّ غَرَضَه ههنا التنبيه على كَوْنِ هاتين القطعتين في واقعةٍ واحدةٍ وإن كان الحديثانِ مُخْتَلَفِين: الأول في امرأةِ أبي لهب، والثاني في أُمِّ المؤمنين.
صحيح البخاري
باب تَحْرِيضِ النبي صلى الله عليه وسلّم عَلَى صَلاةِ اللَّيلِ وَالنَّوَافِل مِنْ غَيرِ إِيجَاب
ويستفادُ من كلام البخاريِّ أنَّ صلاةَ الليلِ لم تُنْسخ عنده بتمامِها، وهو المختارُ عندي على خلاف ما يُعْلَم من مسلمٍ وأبي داود.
(4/10)
---
1126 - قوله: (يا رُبَّ كاسيةٍ) وربَّ، ومُذْ، ومُنْذ، لا تحتاج إلى مُتَعَلَّق، ومجرُورُهَا يكونُ في الأكثر مبتدأ. قال النحاة: إنَّ المنادى ههنا مَحْذُوفٌ.(4/10)
قلتُ: بل إذا أُريد به اللفظُ يصبر عَلَمًا لِنَفْسِهِ، وحينئذٍ تكون هي المُنَادى.
واعلم أن محمدَ بنَ مقاتل هذا تمليذ عبد الله بنِ المبارك، وهو تلميذُ الإمام أبي حنيفةَ رحمه الله تعالى، فإذَن هو حنفيُ يُرْوى عنه في الفقه.
قوله: (وكانَ الإنسانُ أكْثَرَ شيءٍ جَدَلا) (الكهف: 54) فَتَرْكُ العملِ والاعتمادُ على القَدَر سَمَّاه القرآنُ جدلا. وحَاصِله أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يَرْضَ مِنْ تَمَسُّكِهِ بِالقَدَر، فإنَّ المرءَ إذا لم يستطع القيامَ على شيء فهو عُذْرٌ صحيح، ويغمض عنه عند الكرام. أمَّا إذا لم يهيىء نَفْسَه واحتال بالقَدَر ولاذَ به فهو مُجَادِلٌ لا معذورٌ، ولذا لم يَرْضَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلّم
1129 - قوله: (إنِّي خَشِيْتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ) وهل من السُّنَن الإلهية إيجابٌ شيءٍ بالتزام الناسِ أمرًا كالتزام الفريضة في زمن نُزولِ الوحي؟ فما يُعْلَم من سُنَن الدين أنه قد يُوْجَبُ لكونِهِ محبوبًا عند الله سبحانه وتعالى. كالتراويح، فإنهم إذا التزموه خَشِي النبيُّ صلى الله عليه وسلّمافتراضَه، وقد يُشَدَّد من جهةِ الله سبحانه معاتبةً أيضًا، وهذا إذا شدَّد المرءُ على نَفْسه مضادةً كما في قصة البقرة.
ثُمَّ في «البدائع» عن القاضي عياض: أنَّ الشُّروعَ في النَّفْل نَذْر فِعْلِيّ، فيجبُ كالنذر القولي، وهذا يفيد الحنفية. قلتُ: ويُسْتأَنسُ له من هذا الحديث أيضًا، فإنَّه يُشْعِر بأن الشيءَ قد يَجِب بالالتزام أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ قِيَامِ النبي صلى الله عليه وسلّم باللَّيْلِ حَتَّى تَرِمَ قَدَماه
(4/11)
---(4/11)
كان يَفْعَلُ ذلك عند نزول أوائل المُزَّمِّل صيانةً للقَدْر المفروض، فإنه أَمْرٌ بقيامِ الليل كلِّه إلا قليلا. وفي الروايات: أنَّ اللَّهَ سبحانه كان خَيَّره في قيام الليل فأحيا كله إلى سَنَةٍ من عند نَفْسِه حتى تورَّمت قدماه، ونزل التيسير. وقد مَرَّ معنا التردُّد في كتاب الإيمان، أنَّ المأمورَ به كان هو القيامَ بالليل كلِّه أو بَعْضِه، كما يُشْعِر به أوَّلُهَا، أو القرآن كما يُشْعِر به قوله: {وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً} (المُزَّمِّل: 4) والقيامُ يتأدَّى بِتَرْك الهُجُود فقط. فالنظرُ يَدُور في أن الأصلَ هو القيامُ والترتيل تكميلٌ له، أو الأصلَ هو الترتيلُ والقيامُ لأجْل الترتيل والذي ظهر لي أنَّ المأمورَ به هو القيامُ، والترتيلُ تكميلٌ له، ولذا أشار إليه الحافظُ رحمه الله تعالى أن قيامَ الليل يتأدَّى في ضِمْن الأذكارِ وغيرِهَا أيضًا.
(4/12)
---(4/12)
1130 - قوله: (أفلا أَكُوْنُ عَبْدًا شَكُورًا) قيل: إنَّ الهمزةَ تقتضي الصَّدْر، والفاء تقتضي الدَّرْج، فكيف التوفيقُ بين مقتضاهما؟ فَقَدَّرَ له الزمخشريُّ فِعْلا وقال: أصله أأتركُ قيامَ الليلِ فلا أكونُ عبدًا شكورًا، فيكونُ الفِعْلُ الأول سببًا، والثاني مُسبَّبًا. وحاصِلَهُ أنه لو تَرَك الصلاةَ لم يكن عبدًا شكورًا، وخاصله جمهورُ النحاةِ وقالوا بترجيح حَقِّ الاستفهام على حَقِّ الفاء، فبقي الاستفهام على صَدَارَتِهِ، والعطف وإن اقْتَضَى الدرج لكنه تُرِكَ مقتضاه ههنا. وحينئذٍ حاصله أن المغفرةَ لا تقتضي تَرْكَ الاجتهادِ والعبادة، فإن الاجتهادَ قد يكونُ لتكفيرٍ، وقد يكون لأداء الشُّكْر، وهذا هو الأَصوب عندي، وإليه يشيرُ قوله تعالى: {نَافِلَةً لَّكَ} (الإسراء: 79). وفي قوله: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ} (الإسراء: 79)... إلخ إشارةٌ بليغةٌ إلى أنَّ للتهجُّدِ دخلا في وصولِ المقام المحمود. ثُمَّ إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان يَقْسِمُ لَيْلَه أسداسًا: السدسان الأَوَّلان - وهما الثلث - للعَشَاء، ثم السُّدس للاستراحة، ثُم السدسُ الرابع والخامس في العبادة، ثُمَّ للاستراحةِ، وهذا في الأَغلب.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَر
والسَّحَر سُدُسُ اللَّيل الآخِر.
1132 - قوله: (الصَّارِخ) وفي «سيرة العراقي» أنه كان عندَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمدِيكٌ أَبْيض.
*وكان عند النبيِّ الديك أبيض له ** كذا المُحِبُّ الطبريُّ نَقَلَه
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ تَسَحَّرَ فَلَمْ يَنَمْ حَتَّى صَلَّى الصُّبْح
صحيح البخاري
باب ُ طولِ القِيَامِ في صَلاةِ اللَّيل
(4/13)
---
يعني ثبت عنه النَّوْمُ عند السَّحَر بعد قيامِ اللَّيل، كما في الباب السابق. وثَبَت عنه أنه تَسَحَّر فلم ينم حتى صَلَّى الصُّبْح، وذلك في رمضانَ غالبًا.(4/13)
قوله: (خمسين آية) وتعجَّب الحافِظُ رحمه الله تعالى على قِلَّة تلك الفاصِلة. قلتُ: ولا عجب فيه من صاحبِ الوحي، فإنه تنامُ عيناه ولا يَنَامُ قَلْبُهُ.
صحيح البخاري
باب كَيفَ كانَ صَلاةُ النبي صلى الله عليه وسلّم وَكَمْ كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم يُصَلِّي مِنَ اللَّيل
وقد مر معنا أن الحافظ رحمه الله تعالى جعَل سُؤاله راجعًا إلى العدد، كأنه لم يكن عالِمَا بِعَدد صلاةِ اللَّيل فَعَلِمه أنها مَثْنَى مثنى. وسؤاله عندي عن نَضْد الوِتْر مع صلاةِ الليل، أي أين يضَعُهُ، بعدَها أَم قَبْلَها؟ فكأَنَّه كان عالِمَا بصلاةِ الليل والوِتْر من قَبْل، فأرادَ أن يتحقَّقَ عن تَرِتِيبهِمَا، فأجابه أن يجعلَ الوِتْر في آخِر صلاتِهِ، فيجعلها وِتْرًا. وهذا هو المُصرَّح في سياق «مسلم». ونكتةُ قوله: «مَثْنَى مَثْنَى» قد قَدَّمناها مِنْ قَبْل مشروحةً ومُفَصّلة.
ثم إنَّ صلاةَ لَيْلِهِ صلى الله عليه وسلّمثبتت إحدى عشرةَ، فذاك وَهَمٌ في الرواية فقط، أمَّا عادتُهُ صلى الله عليه وسلّمفقد ثَبَتتَ بالنَّحْوَين.
1140 - قوله: (مِنْهَا الوِتْر وَرَكْعَتَا الفَجْر) وإنما يَذْكُرُهما الراوي مع الوِتْر لاتحاد مَوْضِعِهِما. فإنَّه كان يُصلِّيهما حيث كان يصلِّي الوِتْر. وهما في الحقيقةِ صلاتانِ مختلفتانِ. وكأن لهاتين شَبَهًا بصلاةِ الليل وشَبَهًا بصلاةِ النَّهار، فيعدهما الراوي تارةً في الليليةِ، وأُخْرى في النهاريةِ، رعايةً للشَّبَهَيْن، فإنَّهما في آخِر جزءٍ من الليل، وأوَّل جزءٍ من النهار.
(4/14)
---
ثُم اعلم أنَّ روايةَ القاسِم بن محمد عن عائشةَ رضي الله عنها هذه أخرجها الدارقطنيُّ أيضًا، وفيها: أن وِتْره كان بواحدةٍ، وليس فيها ذِكْر سائر صلاةَ لَيْلهِ صلى الله عليه وسلّم فظنَّه الشيخُ النِّيمَوِي رحمه الله تعالى دليلا على كونِ الوِتْر بواحدةٍ.(4/14)
قلتُ: وتلك الروايةُ هي هذه الرواية بعينها متنًا وسندًا، واختُصِرت عند الدارقطنيِّ رحمه الله تعالى. وأخرجها البخاريُّ رحمه الله تعالى مُفَصلةً، وفيها وِتْرُهُ بثلاثَ عشرةَ ركعةً كما رأيت، فليُتَنَبَّه. ومِثْل هذا قد وقع من الرواةِ كثيرًا، ومَنْ لا ينظرُ إلى طُرُق الروايات يقع له مِثْلُهُ كثيرًا. وقد كَشَفْنَا عن وُجوهِ التعبير وما رامه الرواة شيئًا من قبل فتذكره. والتفصيل في «كَشْف السِّتر عن مسألة الوِتْر».
صحيح البخاري
باب ُ قِيَامِ النبي صلى الله عليه وسلّمبِاللَّيلِ وَنَوْمِهِ، وَما نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيل
هذا الذي نَبَّهْتُكَ عليه: إنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى ذَهَب إلى شرعيةِ بَعْضِ صلاةِ الليل، ونَسْخ البَعْض، ولذا أتى بِحَرْف التَّبْعِيْض. ثُمَّ هذه الإشارةُ على ما حَرَّرْتُ من قبل، أَنَّ «مِنْ» في سائر كتابه للتبعيض. والشارحون قد يجعلونَها بيانيةً، وقد يجعلونها تَبْعِيْضيَّةً. وإنَّما اخترت ما اخترت ليكونَ النَّسق في جميع كتابه واحدًا. وراجع كلامَ الرَّضِيِّ للفَرْق بين البيانيةِ والتبعيضية.
ومِمَّنْ صَرَّح بِعَدِم نَسْخِهَا القاضي أبو بكر العربي وهو المختار عندي. وَلَعلَّهَا كانت مشروعةً من الابتداء حين كانت الصلاتان فقط، ولذا نَجِدُ ذِكْرَها مع الصلاتين في غيرِ واحدٍ من الآياتِ. قال تعالى: {وَسَبِّح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طلوعِ الشَّمس وقَبْلَ الغُرُوبِ ومِنَ اللَّيل} (ق: 39)... إلخ، ثُمَّ بقيت حِصَّةٌ منها إلى زَمن افتراضَه الخَمْسِ وإن تَغَيَّرت شَاكِلَتُهَا شيئًا.
(4/15)
---
تحقيق ما يستفاد من ترديد القرآن في صلاة الليل في سورة الزمل(4/15)
واعلم أن هذه الآيةَ جَعَلت الثُّلُثَ الأوَّل للعشاء خاصةً، والثُّلُبَ الآخِر لصلاةِ الليل خاصةً. ثُمَّ جعَلَت السُّدُسَ الأَوْسَطَ صالحًا لهما. فإن صَلَّى فيه العشاء صار النِّصفُ لها، وإن صَلَّى فيه صلاةَ الليل صار الثُّلُثَانِ لها. ثُمَّ جَعَلَتْ النِّصْفَ دعامةً في هذا التقسيم، أي ينبغي لك يا محمدُ أن يكونَ النِّصْفُ بِمَرأَى عَيْنَيك حتى تَقْسِمَ ليلَك بين العِشَاءِ وصلاةِ الليل بِحَسَبه. ولذا قال الفقهاء: إنَّ تأخيرَ العِشَاء بعد النِّصْف مَكْروهٌ تنزيهًا أو تحريمًا على القولين. والمختارُ عندي الأوَّل، كما هو عند الطَّحَاوي. فإن زِدْت عليه شيئًا فلك فيه خيرٌ، وإن انتقَصْت منه فلا بأسَ عليك. فأنت في الصُّوَرَ كُلِّها على خِيَرة بعد أن يكون النِّصْفُ ملحوظًا في ذِهْنِك، ولذا جاء التعبيرُ في النَّصِّ كما رأيتَ مردِّدًا.
قوله: (وَطَاءً مُواطأة). قلتُ: والتفسيرُ في غَيْرِ مَوْضِعه. والذي يلائِمُهُ هو تفسيرُ الوطأ به. فإنَّ الوِطَاء - بالكسر - معناه المواطأة والموافقة، أي ما يخرجُ من اللسانِ يوافِقُه القَلْبُ. أما الوَطَأ - بالفتح - فمعناه وَطأ الشيء أي دَاسه. ومن العجائب أنَّ المشهورَ في كُتب التجويدِ من قراءة حَفْص هو الوِطَاء - بالكسر - مع أن قراءةَ أهلِ الهند هو الوَطَاء - بالفتح: وهُم يقرؤون قِراءَةَ حَفْص، فلا أدري من أين اشتهر هذا. ولَعَلَّك عَلِمْت أنَّ ابنَ عباس رضي الله تعالى عنه إنَّمَا فَسَّر قراءةَ الكسر دون الفتح.
صحيح البخاري
(4/16)
---
1141 - قوله: (يُفْطِرُ مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لا يَصُومَ مِنْهُ). ولَمَّا لم يُوَاظِب النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفي باب الصيامِ والصلواتِ على عادةٍ كلية، لا باعتبارِ حِصَص الليل، ولا باعتبارِ المِقْدَار، بقي تعبيرُ الرواةِ عن وظائِفِه كما ترى، فاعلمه.
صحيح البخاري(4/16)
باب ُ عَقْدِ الشَّيطَانِ عَلَى قافِيَةِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيل
وفي «الفتح»: أَنَّ الشيطانَ يأتي بِحَبْلٍ طَوِيْلٍ، ثُمَّ يَنْفِثُ فيه يقول: عليك لَيْلٌ طَوِيْلٌ... إلخ، ويَعْقِد عُقدة. قلتُ: وَلَعَلَّ حَبْلَه هذا من عالم المِثَال. وَتَفَطَّن الحافِظُ رحمه الله تعالى من هذا العَقْد أنه مُشيرٌ إلى وجوبِ صلاةِ الليل شيئًا، فإنَّ حقيقةَ النَّفْلية لا يليق بها العَقْدُ، فاحتال لِدَرء الوجوب وقال: إنَّ هذا العَقْدَ فِيْمَن نام عن صلاةِ العِشَاء. وسيجيء ما فيه عندي.
1142 - قوله: (فَذَكَرَ الله)... إلخ. وهذه الأذكارُ مما جاء قَبْل الوضوءِ عقيبَ النوم، كالحمد الذي مَرَّ في أَوَّل التَّهَجُّد.
1142 - قوله: (نَشِيْطَا) (سبك جان - هلكى طبيعت)
(4/17)
---(4/17)
1143 - قوله: (أَمَّا الذي يُثْلَغُ رَأْسُهُ)... إلخ. واعلم أنَّ الذي نام عن صلاتِهِ في الليلِ وَرَد فيه ثلاثةُ ألفاظ: العَقْدُ على القَفَا، وثَلْغُ الرأس، والبَوْل في الأُذن. والدليل على الوجوب هو الثاني فقط، بخلاف الأَوَّل والثالث، فإنَّهما مَضَرَّتَان كَوْنِيَّتَان. وذلك لأنَّ ثَلْغَ الرأسِ عذابٌ من جهةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى. فَصَلَحَ حُجَّةً على الوجوبِ، بخلاف العَقْد والبول فإنَّهما ضَرَرانِ من جهة الشيطان كَوْنًا، أي يسقط هو عليه، فلا يثبت منه الوجوبُ. فإن الشيطانَ في سجيته عداوةُ الإنسان، فيراقبه في الأحوال كلِّها حتى يُفْسِد عليه طعامَه، وشرابَه ونومَه، وأَمْرَه كُلَّه، فإذا وَجَد موضِعَا يمكنُ أن يُفْسِده، لم يُفلِته حتى يُفْسِدَه، فلم يكن من نوع العذاب. ألا ترى أنَّ الجُنُب لو نام على حالِهِ، ولم يَغْتَسل ومات على جنابته لا تحضُرُه الملائكة. فهذا ضَررٌ عظيم له، إلا أنه لا يثبتُ به الوجوبُ حتى جاز له أن ينامَ على جنابته وإنْ كُرِه. وقد علمت فيما مَرَّ أَنَّ الحِلَّ والحُرمة والإيجاب والنهي إنما تَثْبُت بِتَوجُّهِ الخطابِ من صاحبِ الشرع ولا دَخْل فيها للأنظار المعنوية، بمعنى أنها لا تدورُ عليها، وإن كان المأمورُ به مما ينبغي أن يكونَ حَسنًا، وكذلك المنهي عنه قَبِيْحًا، ولكن ليس كلُّ قبيحٍ منهيًا عنه، ولا كُلُّ حسن مأمورًا به. والتفصيل قد سبق غير مرة.
ثم قوله في حديث سَمُرَةَ - مرفوعًا - الآتي «وينامُ عن الصلاة المكتوبةِ» ودليلٌ على أنَّ ثَلْغَ الرأس جزاءٌ لِتَرْك المكتوبة دون صلاةِ الليل. وهذا الذي حَمَل الحافِظَ رحمه الله تعالى على تأويل السابق. فلا يقومُ حجةً على وجوبِ صلاةِ الليل، فيخالفُ ما قَرَّرتُ سابقًا.
صحيح البخاري
(4/18)
---(4/18)
قلتُ: بل الثَّلْغُ جزاءٌ لِتَرْكِهِ صلاةَ الليل. وإنَّما جاء ذِكْر تَرْكِهِ المكتوبة في السياق لكونه تَرَكَها أيضًا، وذلك لأن هذه الرواية تأتي في الجنائز أيضًا في صَدْر الجزء السادس ممن الصحيح (1185) والراوي اقتصر فيها على تَرْك القرآنِ فقط، ولم يذكر تَرْك المكتوبةِ. فظهر به المناط. وإنَّ ذِكْر المكتوبة كان في ذيل تقبيحه. ففيها: «والذي رأيتُهُ يَشْدَخُ رأسَه فرجلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يَعْمَل فيه بالنهار، يفعل به إلى يوم القيامة»... إلخ فَتَرْكُ المكتوبةِ جريرةٌ عظيمةٌ، إلا أن هذا الجزاءَ المخصوص لِرَفْض القرآن، وله المدخل فيه خاصَّةً. ولذا ترى يذكُر معه تَرْكَ المكتوبةِ تارةً، ولا يذكُر أخرى. وهناك أتى الحافظ رحمه الله تعالى برواية: «إنَّ الشيطانَ يأتي بحبل في سبعينَ ذراعًا. فَيَنْفُثُ فيه: عليك ليلٌ طويل». فيفوتُ عنه وِتْرُهُ - بالمعنى. وفيها لفظُ الوِتْر، فهذا يفيدُ الحنفية رحمهم الله تعالى.
فإن قلتُ: الذي نام بعد ما صلَّى العشاءَ فذلك رجلٌ نام على خير، فَلِم مَكَّنَ اللَّهُ تعالى منه الشيطانَ؟ قلتُ: ومِثْلُه يَرِد على طَعَامِ مَنْ ترَك التسميةَ أيضًا. والوجه أنَّ في مِثْلِه وَرَدَالتقبيحُ من الشارِع فَحَسْب، أما بابُ الإِيجابِ فَأَمْرُ آخَر. ثم إنَّ البخاري أخرجه في باب تعبير الرؤيا (21043) وفيه في ذلك الرجل: «إنا أَتينا على رجلٍ مُضْطَجِعٍ، وإذا آخَرُ قائمً عليه بصخرةٍ»... إلخ. وفي صدر الجزء السادس: «مضطجعٌ على قَفَاه».
(4/19)
---(4/19)
وإنما عُذِّب مُضْطَجِعًا على قَفَاه، لأنه كان نامَ عن قرآنه كذلك. ولَمَّا كان القرآنُ في الرأسِ، ثَلَغ رأسَه جزاءً من جِنْسٍ عَمِلَه. فَذِكْر النَّوْمِ عنه بالليل، وتَرْك العملِ به في النهار يؤيده أيضًا، فإنَّ الصلواتِ سواءٌ كانت ليليةً أو نهاريةً تَرْكُهَا سواء، فَلا دَخْلَ لليلتها في ثَلْغ الرأس، فالعذابُ بِتَرك المكتوباتِ على تَرْك الليلةِ والنهاريةِ سواء، فلا تَظَهر لِذِكْر الليل فائدة. على أن ثَلْغَ الرأسِ لا يناسِبُ جزاءً لِتَرْكِ الصلاةِ بخلاف تَرْك القرآن. فهو جزاءٌ لِتَرْك القرآنِ قطعًا، ولأجله شُرِعَت صلاةُ الليلِ، وهو الذي يَتَرشَّح من قوله: {ورَتِّلِ القآن ترتيلا} (المزمل: 4) فالمأمورُ به هو القرآنُ والصلاة لأَجْلِ ترتيلِ القرآنِ فيها. ولذا خَصَّصَ أَهْلَ القرآنِ بمزيدِ التأكيدِ بها وقال: «فأوتُرُوا يا أهلَ القرآنِ». والحاصل: أنَّ المقصودَ أولا هو حِفَاظةُ القرآنِ وهي أَوْكَدُ على الحِفَاظ. ثُمَّ عمَّت الوظيفةُ لسائر الناسِ، ووجب الوتر في صلاة الليل على مَنْ حَفِظَ القرآن ومَنْ لم يَحْفَظه.
صحيح البخاري
باب إِذَا نَامَ وَلَمْ يُصَلِّ بَالَ الشِّيطَانُ في أُذُنِه
وبوله أَخَفُّ من الوعيد وأَرْفع من التقبيح. فأشدُّهَا الثَّلْغُ، ثُمَّ البول، والعقد أخفُّهَا. وبالجملة هو ضررٌ كونيٌّ لا يقومُ حجَّةً على الوجوب وإن استشعر الحافظ رحمه الله تعالى منه الوجوبَ، ثُمَّ رام عنه التفضيِّ بوَجْهٍ مَرَّ ذِكْرُهُ.
1144 - قوله: (ذُكِرَ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلّمرجلٌ)... إلخ. قال الحافظ رحمه الله تعالى: وهو ابنُ مسعود رضي الله تعالى عنه. قلت: بل هو رجلٌ آخَرُ، ولو كان هو لما أخفى اسمه، كما صرح به في رواية أُخْرى، وقال: وبال الشيطانُ مرةً في أُذُنِ صاحبِكم، يعني نَفْسه بالمعنى.
صحيح البخاري
(4/20)
---
باب الدُّعَاءِ وَالصَّلاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيل
صحيح البخاري(4/20)
باب ُ مَنْ نَامَ أَوَّلَ اللَّيلِ وَأَحْيَا آخِرَه
قوله: (مَنْ يَدْعُوْنيِ)... إلخ. وهذا النِّدَاءُ عندما يَنْزِلُ الربُّ تبارك وتعالى. وفي «الفتح» - في المجلد الأخير - نَقْلا عن البيهقي: أن الأئمةَ الأربعةَ اتفقوا على أنَّ النزولَ لا يَكْتَنِهُ معناه، ونؤمنُ به كما هو، ولا نَبْحَثُ عن كيف. فراجعه فإنَّه مهم، لأنَّ البخاريَّ رَمَى محمدًا رحمه الله بالجَهْمِيَّة وقال: إنَّه جَهْمِي. مع أن محمدًا صرَّح بنفسه: أنَّ الاستواءَ على العرش وَنَحْوَهُ مَعْلومٌ وكَيْفَهُ مَجْهولٌ. ثُمَّ إنَّ الرواةَ اختلفوا في وقت النزول، ومال الحافظ رحمه الله إلى الترجيح.
قلتُ: بل الكلُّ صحيحٌ، ولعل النزولاتِ متعددةٌ، وتنوُّعُهُ بِحَسَب ترديدِ القرآن في وقتِ صلاةِ الليل من النِّصْف وغيرِهِ، وإنما خُصَّ الليلُ بالنزولِ لكونه فَارِغَا من الشُّغْل بغيرِ الله تعالى. ثم إنَّ النزولَ في لسان الصوفية رحمهم الله تعالى عبارةٌ عن نَحْو تَجَلَ من الله سبحانه وتعالى. وسيمُرّ عليك كلماتٌ في تفسسير التجلِّي، وهو أَشْكلُ المسائلِ عند الصوفية. وهو مخلوقٌ عندهم وصورةٌ من صُورِ الأفعال الإلهية، تُنْصَبُ بين العبدِ ورَبِّه لمعرفتِهِ تعالى، ويُنْسب إليها ما يُنْسَب إليه تعالى مع كونه مُنْفَصِلا عنها.
واعلم أنَّ المتكلمينَ على طائفتين: طائفةٌ تُسَمَّى بالأشعرية، وهم المنسوبون إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري. وتَبِعَه أكثرُ الشافعية والمالكية رحمهم الله. وطائفة ثانية تُسَمى بالماتُرِيدية، وهم المنسوبون إلى الشيخ أبي منصور الماتُرِيدي.h
وكان الشيخانِ معاصرين، وأبو منصور كان أصغرَهما وتبعه أكثرُ الحنفية. وليس الخلافُ بينهما إلا في نزر مِنْ مسائلَ ذكرَها العلماءُ.
(4/21)
---(4/21)
فذهَبَتِ الأشاعرةُ إلى أَنَّ الله تعالى قديمٌ وكذا صِفَاتِهِ السَّبْع. وأما نحو الترزيق والإحياء والإماتة فَسَمَّوها صفاتِ أفعال، وهي عندهم اعبتاراتٌ وإضافاتٌ لا أنها صفاتٌ حقيقيةٌ زائدةٌ على الذَّات. فالخلق باعتبارِ إضافته إلى الرِّزْق يُسمَّى ترزيقًا وهكذا، وتلك الإضافةُ حادثةٌ ليست قائمةً بالباري تعالى. قلتُ: ولا دليلَ عندهم على ذلك، فإنَّ للقدرةِ والإرادة أيضًا تعلّقَا بالحوادثِ ولم يذهب أحدٌ إلى حْدُوثها.
وأما الماتُرِيدية فقسموا الصفات إلى صفات ذاتية: وهي ما يُوْصَفُ بها تعالى ولا يوصف بضِدِّهَا كالعلم والقدرة، وإلى صفاتٍ فعليةٍ: وهي ما يوصَفُ بها تعالى وبأَصْدادها كالإحياء والإماتة، فإنَّ اللَّهَ تعالى يُوْصَف بالإحياءِ والإماتة معًا. فصفاتُ الفِعْل عندهم أيضًا قديمةٌ، كالصفات الذاتية. ولم أجد هذا التعريفَ في كُتُب الكلام، نعم هو في «الدر المختار» من كتابِ الأيمان.
صحيح البخاري
ثُمَّ نحو الإحياء وغيرهِ عند هؤلاء راجع إلى صِفةٍ حقيقة سَمَّوها بالتكوين، واختارها البخاريُّ أيضًا. فصفةُ التكوِين اسمٌ لصفةِ كليةٍ تحتها جزئياتٌ، كالترزيق، والتصوير، والإحياء، والإماتة، وهي قديمةٌ.
أقول: إنَّ ههنا أمورًا غير هذه تُنْسَبُ إلى الباري تعالى، كالنزول إلى السماءِ وغيره أُسمِّيةِ أَفْعَالا وليس نوعُهُ قديمًا، بل كُلُّهَا حوادثُ. وهي عند الماتُرِيدية حادثةٌ مخلوقةٌ للباري تعالى. وأما على مَشربِ الحافظ ابن تيميةَ رضي الله عنه فالصفاتُ الحادثةُ قائمةٌ بالباري وليست بمخلوقةٌ. فإنه لا يرى بقيامِ الحوادث بالقديم بأسًا. ويدَّعِي أنَّ ذلك هو مذهبُ السَّلَف، ويُنكر استحالةَ قيامِ الحوادثِ بالقديم. وفَرَّقَ بينَ الحادثِ والمخلوق: بأنَّ المخلوقَ يُطْلَقُ على المنفصل، فسائِرُ العالمَ حادثٌ ومخلوقٌ، بخلافِ الصفات فإنَّها حادثةٌ وليست بمخلوقةٍ لقيامها بالباري تعالى.
(4/22)
---(4/22)
قلتُ: وتساعِدُهُ اللغةُ. فإنَّه يُقالُ: إنَّ زيدًا مُتَّصِفٌ بالقيام، ولا يقالُ إنَّه خالقٌ له، فكذلك يقالُ: إنَّ اللَّهَ تعالى مُتَّصِفٌ بالنزول ولا يقال: إنه خَالقٌ له. وإليه جَنَح البخاريُّ رضي الله تعالى عنه وصرَّح أنَّ الله تعالى مُتَّصِفٌ بصفاتٍ حادثةٍ، غير أنَّ الشارحين أوَّلُوا كلامه.
قلتُ: ورُوي عن الأئمةِ الثلاثة بسندٍ صحيح في كتاب «الأسماءِ والصفات»؛ مَنْ قال: إنَّ القرآن مخلوقٌ فهو كافرٌ، ففيه دليل على أنهم قالوا بحُدُوث الكلامِ اللفظيّ، وأنكروا كونَه مخلوقًا. فإنَّ الكلامَ النفسيَّ قَدِيْمٌ، واللفظيَّ حادثٌ عندنا، وسيأتي تفصيله في آخر الكتاب.
صحيح البخاري
باب ُ قِيَامِ النبي صلى الله عليه وسلّمبِاللَّيلِ في رَمَضَانَ وَغَيرِه
قال عامَّة العلماء: إنَّ التراويحَ وصلاةَ اليل نوعانِ مختلفان. والمختار عندي أنهما واحدٌ وإن اختلفت صفتاهما، كعدم المواظبة على التراويح، وأدائها بالجماعة، وأدائها في أول اللَّيل تارةً وإيصالها إلى السَّحَر أُخرى. بخلاف التهجُّد فإنه كان في آخِر الليل ولم تكن فيه الجماعة. وجَعْلُ اختلافِ الصفات دليلا على اختلاف نوعيهما ليس بجيِّدٍ عندي، بل كانت تلك صلاةً واحدةً، إذا تقدَّمت سُمِّيت باسم التراويح، وإذا تأخَّرت سُمِّيت باسم التهجُّد، ولا بِدْعَ في تسميتها باسمين عند تغايُرِ الوَصْفَين، فإنَّه لا حَجْر في التغاير الاسمي إذا اجتمعت عليه الأُمةُ. وإنَّما يثبُتُ تغايُرُ النَّوْعَيْن إذا ثَبَت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأنه صلى التهجُّدَ مع إقامَتِهِ بالتراويحِ.
(4/23)
---(4/23)
ثُمَّ إنَّ محمدَ بن نَصْر وَضَعَ عدَّة تراجِمَ في قيام الليل، وكتب أنَّ بعض السَّلَف ذهبوا إلى مَنْع التهجُّد لِمَن صلَّى التروايح. وبعضُهم قال بإباحة النَّفْل المطلق فلَّ اختلافُهُم هذا على اتحادِ الصلاتين عندهم. ويؤيده فِعْل عمرَ رضي الله تعالى عنه، فإنَّه كان يصلِّي التراويحَ في بيته في آخِر الليل، مع أنه كان أَمَرَهم أن يؤدُّوهَا بالجماعةِ في المسجد، ومع ذلك لم يكن يدخُل فيها. وذلك لأنه كان يَعْلم أَنَّ عملَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمكان بأدائها في آخِر الليل، ثُمَّ نَبَّهَهُم عليه قال: «إنَّ الصلاةَ التي تقومون بها في أول الليل مفضولةٌ عمَّا لو كُنتم تقيمونَها في آخِر اللَّيل». فجعلَ الصلاةَ واحدةً، وفَضَّل فيامَها في آخِر الليلِ على القيامِ بِهَا في أوَّلِ اللَّيل. وعامَّتُهُم لما لم يُدْرِكوا مُرَادَه جَعَلُوه دليلا على تَغَايُرِ الصَّلاتَيْن وزعموا أنهما كانتا صَلاتَيْن.
ثُمَّ إنَّ التراويحَ لم يَثْبُت مرفوعًا أَزْيَدُ من ثلاثَ عشرةَ ركعةً إلا بطريقٍ ضَعِيْفٍ. لا أقول: إنَّها لم تكن في نفس الأمْر، بل إنَّما أنكِر النَّقْل عنه بطريق صحيحٍ، فبقي الحالُ مستورًا فيما زاد. فجاز أن يكونَ صلاها بالعددِ المشهور، وجاز أن يكونَ اقتصرَ على هذا القَدْر فقط، إلا أن الثابتَ عَنه هو ثلاثَ عشرةَ. نعم اتفقوا على ثُبوتها عشرينَ ركعةً عن عمر رضي الله عنه، وخَفَّف في القراءة، وكافأها بازدياد الركعاتِ فجعلها عشرينَ مكانَ العَشَرةِ. وهو الذي أراده الراوي عند مالك رحمه الله تعالى في «مُوطَّئه» (ص40) وكان القارىء يقرأُ بسورةِ البقرةِ في ثماني ركعات، فإذا قام بها في اثنتي عشرةَ ركعةً رأى الناسُ أنه قد خَفَّف اه.
صحيح البخاري
(4/24)
---(4/24)
وفي «التاتاراخانية»: سأل أبو يُوْسُف أبا حنيفةَ رحمهما الله تعالى: هل كان لعمرَ رضي اللَّهُ عنه عَهْدٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي عشرينَ ركعةً؟ فقال له أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لم يكن عمرُ رضي الله عنه مُبْتَدِعًا. وبقي الوِتْرُ ثلاثَ ركعاتٍ كما كان. ثُمَّ إنَّ أئمةَ المذاهبِ الأربعة قَلَّدُوه على كونِ التراويح عشرينَ ركعةً. وَمَنْ زاد عليها جعلها نَفْلا مُطلقًا وحالا انفراديًا يصلِّيها الرَّجُلُ لنفسِه. أمَّا العِشرون فوضَعُوا لها الجماعةَ.
1147 - قوله: (يُصلِّي أربعًا) ولا دليلَ فيه للحنفيةِ في مسألةِ أفضليةِ الأَرْبع، فإنَّ الإِنْصافَ خيرُ الأَوْصاف. وذلك لأنَّ الأَرْبع هذه لم تكن بسلامٍ واحدٍ، بل جمع الراوي بين الشفعين لِتَنَاسبٍ بينهما، نحو كونِهما في سلسلةٍ واحدةٍ بدون جلسة في البين، كالترويحة في التراويح، فإنَّها تكونُ بعد أرْبع ركعات. هكذا شرحه أبو عُمر في «التمهيد». وتشهدُ له رواثةٌ صريحةُ في «السنن الكبرى» للبيهقي: «يصلِّي أربعًا ثُمَّ يتروح»... إلخ. والحافظ رضي الله تعالى عنه مَرَّ عليه في موضعين ورآه كالجائزاتِ، وأخفى بهع صوتَه لأنه عَرَف أنه يفيدُ الحنفيةَ شيئًا، وقد عَلِمْتَ أنَّ عَمَله صلى الله عليه وسلّمإذا ثَبَت في الخارج بالتسليم بَيْنَهما، فلا تُمسُّك في هذا الإِجمال.
1147 - قوله: (ثُمَّ يصلِّي ثلاثًا) ولفظ «ثُمَّ» للتراخِي، وكانت هذه الثلاثُ بسلامٍ واحدٍ عندي. ولو ثَبَت عندي سلامُهُ صلى الله عليه وسلّمبعد ركعتي الوِتْر لَحَملْتُ هذه الثلاثَ على التسليمتين أيضًا كما قلتُ في الأَرْبع ولكنَّه صلى الله عليه وسلّملم يَرْكع بركعةٍ واحدةٍ قط، فلم تحتملِ التسليمَ في البين. والله يعلم أني لا أتبع الهوى. ولكني حكمت بما أراني ربيّ وهو العلمي الخبير.
(4/25)
---(4/25)
1147 - قوله: (تَنَامُ) إلخ.. ولعلها لم تعلم بعادتها في الوتر، فسألت عن نَوْمه قبل الوِتْر، فإنه يخاف منه الفوات. فأجاب أنه تنام عيناهُ ولا ينامُ قَلْبُه، فلا يخافُ الفواتَ منه إن شاء الله تعالى. ثُم إنَّ صلاتَه صلى الله عليه وسلّمفي الليل أيضًا كانت بعد النَوْم، إلا أن مَحَطَّ سؤالِها هو الوِتْرُ فقط.
1148 - قوله: (وإنَّ عينيَّ تَنَامَانِ) إلخ. وعندي هذه حكايةٌ عن حالته في اليقظة وإن كان الناسُ حَمَلُوها على النوم. أعني أنَّ للأنبياءَ عليهم السلام عند التفاتهم إلى عالم القدس حالةً في اليقظة لا تعبر إلا به كما في «تنوير الحوالك» للسّيوطي رحمه الله في قصة الأَذان عن عبد الله بن زيد: أنه رأى المَلَكَ يؤذِّن بين النوم واليقظة. وسمَّاه نحوًا مِنْ الكشف. وذكر الشيخُ الأكبرُ رحمه الله تعالى أَنَّ ما يراه العوامُ في المنام يراه الأولياء في اليقظة فإذن هو أَمْرُ معنويُّ فهو في حالَي اليقظة والنوم سواء.
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ الطُّهُورِ بِاللَّيل وَالنَّهَارِ، وَفَضْلِ الصَّلاةِبَعْدَ الوُضُوءِ بِاللَّيلِ وَالنَّهَار
وهذه الترجمة أليقُ بأبوابِ الطهارة، إلا أنَّ المصنِّفَ وَضعها في الصلاة لكونه بصدَدِ إثبات تحية الوضوء. ثم إنَّ إدامة الطهور سميت بسلاح المؤمن، لأن الشيطانَ يأنس من النجاسات والألواث، ويَنْقِرُ من الطهارة. ولأنَّ المرءَ يأمن بَعْدَها عن فواتِ الصلاة: باللَّيل والنَّهار. ووَسَّع الشافعيةُ رحمهم الله تعالى فيها حتى أَجازوها في الأوقاتِ المكروهةِ أيضًا. وأما المصنِّفُ رحمه الله تعالى فلم يوسِّع هذا التوسيعَ، حيث حجر عن مطلقِ الصلاة عند طلوعِ الشمس، وألان الكلامَ فيما بعد العَصْر وبعد الصُّبْحِ. وقد علمتَ التفاصِيْلَ فيما مَرَّ.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُكْرَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ في العِبَادَة
(4/26)
---(4/26)
قالت طائفةٌ مِمَّن أدعوا العملَ بالحديثِ مِمْ غيرِ عِلْمٍ وعمل: إنَّ الاجتهادَ في العبادة بِدعَةٌ. قلت: فأين هم من قوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (الذَّاريات: 7). كيف وَصَفَهم بالاجتهاد. ومِثْلَهُ غيرُ قليلٍ في القرآن، ودَعْوَى النَّسخ جَهْلٌ. وقد ورد في فَضْل إكثارِ العبادةِ والاجتهاد في العمل غَيْرُ واحدٍ من الأحاديث، مع الترغيبِ في القَصْد فِي العمل. وهذا الباب إينا يُشْكِلُ جَمْعُهُ على مَنْ لا يُرْزَقُ فَهْمَا سليمًا.
واعلم أن وراء ذلك سرًا، وهو أنَّ الله تعالى خَلَق الناسَ على طبائعَ مختلفةٍ: فمنهم: مَنْ يكون قويَّ الهِمَّة قَوِيَّ العَمَل، فيعملُ بِأَخْذِ العزائم ويُعْرِضُ عن الرُّخَصْ، يُحِبُّ أن يستغرق أوقاتِهِ كلَّها في طاعة الله عز وجل، ويُنْفِقُ ماله حى يقومَ وما عنده شيءٌ ويُغازي في سبيله حتى يَفْقِد نَفْسه ومالَه. لكنَّ هؤلاء قليلون لو شِئت لعددتُهم على الأصابع.
ومنهم مَنْ هو دون ذلك، فلا يستطيعُ أن يسيرَ سَيْرَه فيطلب في الدِّيْن فسحةً ورخصةً، وعلى قَدْر كل منهم جاءت الأحكامُ. غيرَ أنَّ عامةَ الناسِ كما قد سُيِّرت يَضْعُفونَ عن الأحكامِ الصعبةِ، فجاءت عامةُ أحكامِ الشرع أيضًا تُبنى على اليُسْر. ففرَضَ عليهم في اليوم والليلة خَمْسَ صلواتٍ فحسب. وأُبيح لهم جَمْعُ قِنطار من الأموال بعد أداءِ الزكاةِ، وجُعِلَ لأنفسِهم وأعينِهم وزوَّارهم حَقٌّ، فلم يَرغَبوا إلا بصوم داودَ.
(4/27)
---(4/27)
ولما كان خيرُ الأعمالِ ما ديم عليه نُهوا عن الإِكثارِ في العبادةِ والاجتهاد في العمل فوقَ ما يُطِيْقُون، لئلا يَفْتُروا، فإنَّ إثْرَ كلِّ شرة فترة. كيف وقد كان مُعَلِّمَا للأجلافِ والأَعرابِ، فشرَع لهم من الدِّين ما تَيسَّر لهم، ولم يكلِّفْهم إلا بما يُطِيقون، ولم يرغِّبْهم إلا بما تُرجى الإدامةُ منهم عليه، فقال: «لن يشادَّ الدِّيْنَ أَحدٌ إلا غَلَبَه». أو كما قال - أي كأنَّ في الدِّين أحكامًا لو شاء الرَّجلُ أن يأخذَ بِكُلِّها عَجَز، فسدِّدُوا وقارِبُوا، فكان هذا ضربًا من التعليم، ونحوًا من البيان، ولا يريدُ به الذَّمَّ على مَنْ جعل نَفْسه لله وجعل دُنْياه وراءَ ظهره.
(4/28)
---(4/28)
فدع العباراتِ وخُذْ بالمرادِ، فإنَّ ذلك سبيلٌ السداد. ومَنْ لا يراعِي أساليبَ الكلامِ يختبِطُ بكلِّ وادٍ. مِنْ أجلِ ذلك خَبَطُوا فِي مراد غير واحدٍ من الأحاديث: منها ما في «المشكاة»: «إذا سلط عليكم أمراءُ ظلمةٌ فلا تدعوا عليهم وأَصلحوا أنفُسَكم، فاإنَّكم كما تكونون كذلك يُؤمَّرُ عليكم». - بالمعنى - فسبق إلى بعضِ الأوهام أَنَّ في الحديثِ نهيًا عن الدعاء على الأمراء ولو كانوا ظالمين، ولم يفقهوا أنه ضَرْبٌ من البيان، ونَوْعُ من العُنوان فقط. والغَرَضُ منه توجِيهُ الناسِ إلى أَمْرٍ أَهمَّ منه. فإنَّ الإنسانَ في سجيته أَنه إذا ابْتُلِي بِأَمْثَالِ تلك المظالمِ يذهل عن أحوالِ نَفْسه، ويجعلُ الدعاءَ على الظالم وظيفتَهُ. فَوَجَّههِ الشَّرْعُ إلي أَمْرٍ قد يكونُ غَافِلا عنه في هذا المَوْضِع مع كونه أَهَمَّ، وهو إصلاحُ أحوالِ نَفْسهِ أيضًا. وعلَّمهم أنَّ الاشتغالَ بإِصلاحِ أعمالهم أَقْدَمُ وأَهَمُّ من الدعوة عليهم فقط. فإنَّها ماذا تُغني عنهم إذا كانوامشغوفين بالأَهواء واللذائذ، فأَوْلى لهم بهذا العذاب، ثُمَّ أولى لهم. فالأصلُ النافع لهم أَنْ يقدِّمُوا ما ذهلوا عنه رَأَسًا إلى إصلاحِ النَّفْس، وأن يُؤخِّرُوا ما جعلوه بمرأى أعينُهم، أي الدُّعاء عليهم.
صحيح البخاري
فالحديث لم يَرِد في ذمِّ الدعاءِ عليهم، بل في ذَمِّ ذهولِهم عما كان أنفعَ لهم وأهمَّ، وكان ذلك نَحْوَ تعبيرٍ لهم لهذا المَقْصد في غاية الفصاحة والبلاغة فلم يدرِكوه، وعَضُّوا بالألفاظ فلم يُوَفَّقوا لإِدراك المراد. وذلك لأنَّ فيه تنزيلَ شيءٍ ليس له عبارةٌ في نَظَر الشَّارع مَنْزِلَةَ العدم. وإنَّما احتاجَ إلى هذه العنايةِ ولعبادتِهم بتلك الجهةِ، وذهولِهم عن الأهمَّ الأَقْدَم.
(4/29)
---(4/29)
ومن هذا الباب ما روي فِيْمَن صلَّى التهجُّدَ ثُمَّ تَرَكَه أَنَّه لو لم يُصلِّه لكان أَحْسَنَ بالمعنى جَعَلَه الناسُ أيضًا معركةً لِبَحْثِهم في فَضْل مَنْ تهجَّدَ ثُمَّ تَرَكه، ومَنْ لم يتهجَّد رأسًا، وما ذلك إلا لعدم عنايتِهم بأنحاء الكلام، وفَهْم المَرَام. ولو تَفَحَّصُوا فيه لعلموا أن في الحديثِ تأكيدًا أكيدًا للتهجُّد، وليس فيه المفاضلة بين هذين، ولا حرف. فهو كقول الأستاذ لتلميذه عند تأديبه: لو أنك ما تعلمت كان خيرًا لك، فكما أن كلَّ أحَدٍ يعلم أنه ليس فيه تحريضٌ على عدمِ تَعَلُّمِه، بل فيه تأكيدٌ لِتَعَلُّمِ حَقَّ التعلم. كذلك في قَوْل النبيِّ صلى الله عليه وسلّمليس فيه بيانُ المفضوليةَ مَنْ تهجَّد ثم تركه، بل فيه ترغِيبٌ وتحريضٌ لِمَن أَدَامَ عليه، وتعنِيفُ وتعبيرٌ على مَنْ صَلاهُ ثُمَّ تَرَكَه.
ومِنْ هذا القبيل قولهُ صلى الله عليه وسلّم «مَثَلُ أُمْتِي كَمَثَلِ الْمَطَر، لا يُدْرى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَم آخِرُهُ». فحمله بَعْضٌ مِنْ الكبار على ظاهره، وجَوَّز فَضْلَ بَعْضٍ مَنْ يأتي من أمته على بعضِ الصحابة رضي الله عنهم، مع أَنَّه ضَرْبُ مَثَلٍ لِبيانِ الخيريةِ في جميع أُمَّتِهِ على حَدِّ قوله:
*تَشَابه يومًا بأسُهُ ونوالُهُ ** فما نحن ندرِي أيّ يوميه أَفْضَلُ
(4/30)
---(4/30)
*أيوم نداه الغُمْر أم يوم بأسِه ** وما منهما إلا أَغَرٌّ مَحَجَّلُ وبالجملة كثيرًا ما يُساق الحديثُ على مجرى محاوراتِ الناس ومخاطباتهم. ومَنْ يذهلُ عن أساليب الكلام وأنواع الخطابات يَعَضُّ بالألفاظ، فيقع في الأغلاط. فإنَّما عَنَى من النَّهي عن الإِكثار في العبادةِ والاقتصادَ في العَمَل، لئلا يكونَ من بابِ طَلَبِ الكُلِّ فَوْت الكُلِّ، وأَمْعِن النظر في قوله: «إنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حتى تَملُّوا» تجد المعنى فيه ما ذكرنا، فافهم واستقم. ثُمَّ في الحديث: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان له خشبٌ يتكىءُ عليه في الصلاة إذا عَيي». فثبت منه جوازُ الاتكاء في النافلة، وبه قلنا. وفيه ما يدُلُّ على طولِ قيامِه أيضًا.
صحيح البخاري
باب ما يُكْرَهُ مِنْ تَرْكِ قِيَامِ اللَّيل لِمَنْ كانَ يَقُومُه
صحيح البخاري
باب
وفيه محمد بن مقاتِل، وهو تمليذُ ابن المبارَك من الحنفيةِ، كذا قاله الحافظ ابنُ تيميةَ رحمه الله تعالى.
1153 - قوله: (هَجَمَتْ عَيْنُكِ) أن كهين دهنس جائينكى.
1153 - قوله: (نَفِهَتْ نَفْسُك) نفس جور هوجا ويكا.
وحاصل الكلام: أنَّ الكمال ليس في الاجتهاد فقط، بل في رعاية الحقوقِ ومراعاةِ الجوانب. فعَلَّمه أن يعملَ بما هو الأعلى والأَوْلى. ومن الطبائع النازلة مَنْ يَعُدُّ الكمالَ في سهر الليالي وصيامِ الدَّهْر فقط وإن فاتَت عنه الحقوقُ.
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيلِ فَصَلَّى
*وَفِينَا رَسُول اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ ** إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الفَجْرِ سَاطِعُ
*أرَانَا الهُدَى بَعْدَ العَمى فَقُلُوبُنَا ** بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ ما قالَ وَاقِعُ
*يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ** إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ
(4/31)
---(4/31)
والرَّجُل إذا تعارَّ مِن الليل يسبقُ منه اللَّغَطُ والسُّخْط فأَصْلَه الشَّرْع وجَعَل مكانَه هذا الذِّكْر.
1155 - قوله: (وفِيْنَا رَسولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابِهُ)... إلخ. وتفصيلُ الواقعة أن عبد الله بِنَ رَوَاحةَ جامع مرةً أَملا مِنْ إمائه، فغارت عليه زوجتُهُ وأرادات أن تقتُلَه، فأنكر عبدُ الله أن يكونَ جامعها. وقال: إنِّي أقرأُ القرآنَ. فأنشأ هذه الأبياتِ بداهةً. ولم تكن تعلمتِ القرآنَ فحسِبْتهُ قرآنًا. فقالت: صَدَّقْت كلامَ اللَّهِ وكذَّبْتُ عيني. ولما بلغَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمقِصَّتهُ ضَحِك. أخرجها الدارقطني مفصلة.
قلتُ: وفيها حُجَّةٌ على شهرةِ أَمْر الجُنُب عندهم بأنه لا يقرأُ القرآنَ، حتى كان يعرِفُه مَنْ قرأ القرآنَ، ومَنْ لم يقرأ، وقد مر معنا الاستدلالُ بها على خلاف البخاري رحمه الله تعالى.
1156 - قوله: (كأَنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ إِسْتَبْرَقٍ) إلخ. أي مكان الجناحين.
1156 - قوله: (أَنْ يَذْهَبا بي إلى النار) أي لاراءة شأْنِها.
(4/32)
---(4/32)
1158 - قوله:(قد تَواطَتْ في العَشْر الأواخِرِ) أي في كونِ ليلةِ القَدْر فيها. واعلم أَنَّ الشَّارِحين جُمْلَتهم ذهبوا إلى أنَّ القيامَ المشروعَ لحال ليلة القَدْر إنَّما هو في أَوْتارِ العَشْر الأواخِر فقط. وقد تبينَ لي كَوْنُهُ في جميع العَشْر وإن كانت ليلةُ القَدْر في الأَوتار فقط. ولذا سُنَّ الاعتكافُ في العَشْر كُلِّها، وهو مرادُ الأحاديث عندي إن شاء الله تعالى وإن لم يذهبْ إليه أحدٌ ثُم لا يخفى عليك أني لا أخالفهم في باب المسائل بحيث يُوجِب اختلافًا في عملٍ أو اعتقادٍ، وإنما أَذكرُ التوجهياتِ والمحامِل للأحاديثِ على نحو ما يُفْهِمني رَبِّي. فلا ترم بي أني أخالِفُ السَّلفَ أو أساميهم في شيء. فإِنَّ المُعْتَقَد ما اعتقدوه، والسبيلَ ما سَلَكُوه، والأحكامَ ما أسَّسوها، والفروعُ ما فروعها. بيد أنَّ الرجلَ إِذ يَسْنَح له أَمْرٌ مما لا يجب فيه تقليدُهم يبوح به. وبعد فما أُريدُ منه إلا الإصلاح ما استطعت وإنما المَقْبُوح مَنْ خالفهم في مسائلهم، أو اخترع سُنَّة غَيْرَ سُنَّتهم، أو نهج غَيْرَ منهجهم. فذلك أَمْرٌ مما نستعيذُ منه بربِّنا الكريم.
صحيح البخاري
باب ُ المُدَاوَمَةِ عَلَى رَكْعَتَي الفَجْر
ومَنْ ههنا ذهب الحَسَن البصري رحمه الله تعالى إلى وجوبها، وهو رواية عن أبي حنيفةَ رحمه الله تعالى أيضًا.
قوله: (ثمان ركعات) والعجب من الراوي حيث ترك فيه ذِكْرَ الوِتْر مع كونِه دعامةً في أحاديث صلاة الليل. وهو مذكورٌ عند أبي داود في هذه الرواية بعينها: «وركعتين جالسًا». وهاتان الركعتان ليستا عند البخاريّ رحمه الله تعالى في غير هذا الموضع. ولكنَّه لم يترجم عليهما لأنه لم يذهب إليهما. وتردَّد فيها مالك رحمه الله تعالى أيضًا كما مرّ، مع أن الأحاديثَ قد صحَّت فيهما.d
(4/33)
---(4/33)
بقي أن الجلوسَ فيهما اتفاقي أو قصدي؟ فاختار النووي رحمه الله تعالى الأول. وعندي المختار هو الثاني لأنهما لم تَثْبُتا عنه قائمًا قط. فَحَمْلُ فِعْله في جميع عُمُرِه على الاتفاق مما يصادِمُ البداهةَ، وإذن هو قَصْدي، وقد مَرَّت نكتتُه مِن قبل.
1159 - وقوله: (ولم يَكُنْ يَدَعْهُما) ولم يَثْبُت عند ركعتي الفَجْر في غزوة تبوك حِين أَمَّهُ عبدُ الرحمن بنُ عوف. قلت: وهو يفيدُنا، فنحن نقول: لعلَّه صَلاهُما بعد الطلوع.
صحيح البخاري
باب الضِّجْعَةِ عَلَى الشِّقِّ الأَيمَنِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الفَجْر
نسب إلى إبراهيم النَّخَعِي أنه ذهب إلى كونِها بدعةً، قلت: مرادُه التوغلُ والمبالغةُ فيها كالاضطجاع في المسجد، فإِنَّه صلى الله عليه وسلّمكان يضطجِعُ في بيته، قال الشافعي رحمه الله تعالى: إنَّه كان للفَصْل، فلو جاء أَحدٌ إلى المسجدِ حصل الفَصْلُ أيضًا. وبالجملةِ هو جائزٌ وليس مطلوبًا إلا أن يفعلَها اتِّباعًا له صلى الله عليه وسلّم
صحيح البخاري
باب مَنْ تَحَدَّثَ بَعْدَ الرَّكْعَتَينِ وَلَمْ يَضْطَجِع
وكَرِهَهُ الحنفيةُ رحمهم الله أيضًا. حتى قال بعضهم: إنه لو تكلم بعد سُنَّة الفجر يعيدُها. ورأيت في «المدونة» أن مالِكًا رحمه الله تعالى بعد سُنَّةِ الفَجْر لم يكن يَنْحَرف عن القِبْلةِ حتى يصلِّي الفَرْض، ولم يكن يتكلم بينهما. وقد مر معنا أنه أَمْرٌ مطلوبٌ بلا مرية، إلا أنه لا وَجه لعدم الجواز فتذكره. نعم لا قياسَ على كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفإِنَّ أفعالَه كلَّها كانت عِبادةً.
صحيح البخاري
باب ما جاءَ في التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى
(4/34)
---(4/34)
اختار مذهب الشافعي رحمه الله تعالى. واختار الطحاوي رحمه الله تعالى مَذْهب الصاحبين، وهو الأَقْوى دليلا عندي. ثم اعلم أن اختلافَ أفضليةِ الأربع والمَثْنَى فيمَن أراد أَنْ يصلِّي الأربعَ فما فَوْقها أنه بسلامٍ واحدٍ أو بسلامين. أَمَّا مَنْ أراد مِن أول الأمر أن لا يأتي إلا بِشَفْع فقط فلا اختلاف فيه. وحينئذٍ فَتَمَسُّك المصنِّف رحمه الله تعالى بنحو تحيةِ الوضوءِ، وصلاةِ الاستخارة وغيرِها في غيرِ مَوضعه، فإِنَّه مِمَّا لا نِزَاع فيه لأَحد.
قوله: (وقال يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ): وهو تابعي صغير قاضي المدينة. قلت: وعن يحيى بنِ سعيدٍ هذا ما يعارضُه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه بسندٍ صحيح: «أنه رآه يصلِّي أربعًا قبل الظهر بسلام واحدٍ». وعن عائشةَ رضي الله تعالى عنها - في البخاري - في باب الركعتين - ص 157 ج 1 - قبل الظهر: «أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان لا يَدَعُ أَرْبعًا قبل الظُّهْر». وهو عندي بسلام واحد. وأقرَّ ابنُ جرير أنَّ أكثرَ عملِهِ صلى الله عليه وسلّمكان على الأربع.
قلت: وقد ثَبَت عنه صلى الله عليه وسلّمالركعتان قبلها أيضًا، فإِنكارُه شطط. وقولها: «كان لا يدع» إلخ لا ينفي ما قلنا، لأن هذا التعبيرَ يُستعمل فيما يغلِبُ وجودُه أيضًا، فالاستمرارُ فيه عُرْفِي. ومِنَ النَّاسِ مَنْ جعلَهُ دليلا على نَفْي الركعتين، فاضطر إلى حَمْل أحاديثِ الركعتينِ على صلاةٍ أُخْرى غير سُنةِ الظهر. والأقربُ عندي أنه ثَبت عنه كِلا الأَمْرين، وأنه كان الأَكثرُ هو الأَرْبعَ، كما أقَرَّ به ابنُ جَرِير رحمه الله تعالى.
1162 - قوله: (فَلْيَرْكَع رَكْتَين مِن غَيْرِ الفَرِيضَةِ) وهي صلاة الاستخارة، وقد عَلِمت أنها لا تقومُ حُجةً على الحنفية رحمهم الله تعالى أصلا، وكذا الأبواب بعده كلّها، فإِنَّه فيما أُريدَ فيه الركعتانِ مِن بدء الأمر إِلا في بعضِ المواضع، وسيجيء.
(4/35)
---(4/35)
1162 - قوله: (عَاجِل أَمْري وآجِلِه) إلخ. والمشهور الآن أن يجمع بين الألفاظِ الخمسة. «ويُسَمِّي حَاجَتَه«. وهذا أصلُ ما يكتبون الأسماء في العُوَذَة. ثُمَّ إنَّ الموعودَ بعدها أنَّ اللَّهَ تعالى يَقْدِرُ له الخَيْرَ، وذلك كان دعاءه. لا أَنَّه يرى رُؤيا، أو يُكلِّمه مُكلِّم وإن أمْكِن ذلك أيضًا.
ثُمَّ البخاريّ رحمه الله تعالى خَرَّجَ لِمُدَّعَاه حديثَ تحيةِ المسجدِ. وقد عَلِمت أنها خارِجةٌ عن مَوْضع النِّزاع. وكذا الركعتانِ قبل الظهر أو بعدها فكلُّها مما لا يصلُح حجةً على الحنفية. نعم أخرج البخاري في ذلك حديثًا قَوْليًا أيضًا من أبواب الجمعة، وفيه: «إذا جاءَ أَحَدُكم والإِمامُ يَخْطُب، أو قد خرج، فليصلِّ رَكْعَتين». وقد أشبعنا الكلام فيه مِن قَبْل، مع التنبيه على أنَّ الدارقطني لم يتكلم في مَوْضِعٍ من متون البخاري إلا في هذا المَوْضِع، وقال: إنَّه كانَ في الأَصل قِصَّةُ سُلَيك، فأخذ منها الراوي المسألةَ ورواها بالمعنى، وجعلَها حديثًا قوليًا.
صحيح البخاري
قلت: ولم يَتَنبَّه الدارقطني إلى أنَّ الإِمامَ الهُمام البخاري أيضًا مُطَّلِعٌ على هذه العلة، ولذا لم يُخرِّجْه في أبواب الجمعة مع اختيارِه مسألة الحديث، وأتى به غير بابه، وتمسك به على مسألة أخرى. وما ذلك إلا أنه تَفَطَّن لِعِلَّته. وهو صنيعُه في غير واحدٍ من المواضع فإِنَّه بَوَّبَ فيما مرَّ، وأخرج له حديثَ الركعتين بعد الوِتْر جالسًا، ولم يُترجم عليه بالمسألة الصريحة، وهي الركعتان بعد الوِتر جالِسًا. وذلك لأَنِّي قد جَرَّبت مِن عادات البخاري أنَّه إذ يَظهَرُ له التردُّدُ في لفظٍ من ألفاظ الحديث لا يترجم عليه خاصَّةً ويترجم على سائرِ ألفاظهِ. وكأنَّه بهذا الطريق يشيرُ إلى تردُّدِه في ذلك اللفظ. هذا وإنْ لم يتنبَّه له أَحَدٌ، لكنه هو التحقيقُ إن شاء اللَّهُ تعالى فاحْفَظْه.
(4/36)
---
صحيح البخاري(4/36)
باب الحَدِيثِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الفَجْر
1168 - قوله: (فإِنْ كُنْتُ مستيقِظَةً حَدَّثَني) إلخ. وقد مَرَّ معنا أنه ثَبت الكلامُ بعدها ولا وَجْه لِعَدَم الجوازِ مع أنَّ المطلوبَ التحرُّزُ عنه. ولنا آثارٌ في «المصنَّف» لابن أبي شيبةَ رحمه الله تعالى.
1168 - قوله: (فإِنَّ بَعْضَهُم يَرْوِيه: رَكْعَتَي الفَجْر؟) وحاصله أنه سُئِل عن لَفْظ عائشةَ رضي اللَّه تعالى عنها أَنَّه بدون الإضافة أو مع الإِضافة؟ فأَجاب سفيانُ أَنه بالإضافة، ويُستفاد من بعض الألفاظ أَنَّ فيه اضطرابًا آخَر: وهو أن المتبادَر من ركعتي الفجر فَرْضُهَا، وقد، أردتُ مِنْ سُنَّتها فاستعصوا به التلامذةُ شُيوخِهم.
صحيح البخاري
باب تَعَاهُدِ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ، وَمَنْ سَمَّاهُما تَطَوُّعًا
لم يذهب إلى وجوبِهَا لشُهرة إطلاق التطوع عليها. وهي واجبةٌ عندنا في رواية شاذة. فما في الفِقْه: أن التراويحَ وسُنةَ الفجر لا تَصِح قاعدًا بدون عُذْر يُبنى على تلك الرواية.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُقْرَأُ في رَكْعَتَي الفَجْر
(4/37)
---
وعن مالك رحمه الله تعالى أنه يُقْتَصَرُ فيها على الفاتحةِ فقط، والجمهور على أنه يَضُمُّ سورةً مختصَرةً أيضًا. وفي «معاني الآثار»: أن الإمام أبا حنيفةَ رحمه الله تعالى قرأ فيها بالجزء مرةً في ركعةٍ. ورأيتُ نحوه عن عائشة رضي الله تعالى عنها وذلك حين فاتت عنه وظيفة الليل فاستدرَكها فيها. وفي «رد المختار» عن «القنية»: أنَّ الإمام إنْ كان دَخَل في الفريضة صحَّ له أَنْ يقْتَصِر على الفاتحة، كما هو مذهبُ مالك رحمه الله تعالى. ورأيتُ في بياض المخدوم الهاشم السِّنْدِهي: أَنَّ صاحب «القنية» يأخذُ النقول عن كتب المعتزلة. فلينظره النَّاظِرُ، وقد مرَّ معنا أنه معتزلي في الاعتقاد، وحنفيٌّ في الفِقْه إلا أنَّ الآفَةَ قد تَدْخُل مِنْ جهة اعتقاده.(4/37)
1171 - قوله: (هَلْ قَرأَ بِأُمِّ القرآنِ) وهو كنايةٌ عن التخفيف في القراءة في غايتها، إلا أنه ارتيابٌ في قراءة الفاتحة. ويُستفاد منه أن الفاتحةَ في الدِّين المحمدي في كلِّ ركعةٍ، وهو الذي نَعْني بكونِهَا واجبةً عَيْنَا.
صحيح البخاري
باب التَّطَوُّعِ بَعْدَ المَكْتُوبَة
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ بَعْدَ المَكْتُوبَة
1172 - قوله: (فأَمَّا الْمَغْرِبُ والْعِشَاءُ ففي بَيْتِهِ) وظاهِرُه أن السُّنن في النهاريات كلِّها كانت في المسجد، مع أنها لم تَثْبت في المسجد إلا نادرًا. واالحل أنَّ ابنَ عمر رضي الله عنه كان يَدْخُل عليه في النَّهَار، فَأُمكن له أن يرى سُنَنها في النهار. أما المَغْرِب والعشاء فكانت تلك ساعةً لا يدخل عليه، فأَخْبِر بها بعد سؤاله عن حَفْصَةَ رضي الله عنها، فالتخصيص لهذا. والله تعالى أعلم.
صحيح البخاري
باب ُ صَلاةِ الضُّحى في السَّفَر
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ لَمْ يُصَلِّ الضُّحى وَرَآهُ وَاسعًا
(4/38)
---
صحيح البخاري
باب صَلاةِ الضُّحى في الحَضَر
صحيح البخاري
باب ُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْر
«ثَماني رَكَعَات» نعم هذه تَصْلُح حجةً للبخاري، لما فيها من التَّصريح بالسلام على كل ركعتين عند أبي داود - ص 190 - وإن اختلف في كونِها صلاةَ الضُّحى، أو صلاة الشُّكْر. وسماها الراوي الضُّحى عند أبي داود، فلا أدري هل أراد به تسميَتَها بذلك الاسم، أو لكونِها في وَقْت الضحى؟ وقد كَثُرت الأحاديثُ القولية في ثبوتها. وقَلّ ثبوتها فِعلا، حتى ظن ابنُ عمرَ رضي الله عنه أنها بِدْعة. وحَرَّر ابن تيمية رحمه الله تعالى أنها صلاةٌ بعد الرجوعِ من السفر سواءٌ سميتها تحيةَ المسجد، أو صلاةَ الضحى. وقد يتخايلُ كونُها بدعةً، لعدم ثبوتِها فِعْلا. فإِنَّها لو كانت مُستحَبةً لورد الفعل بها ولو مرة.(4/38)
فاعلم أنَّ الفضائِلَ والرغائبَ لا تَنْحَصِرُ فيما ثبت فيه فِعْلُه صلى الله عليه وسلّمفقط. فإِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان يَخُصُّ لِنَفْسِه أمورًا تكون أليقَ بشأنِه، وأَحْرى لمنصبه. وإذ لم يستوعِبِ الفضائلَ كلَّها عَملا وجْب أن يُرِغِّبَ فيها قولا لِتَعْمل بها الأمةُ، فمنها صلاةُ الضحى، فإِنه إذا لم يعمل بها بمعنى أنه لم يَجْعلْها وظيفةً له دلَّ على فَضْلها قولا لتعمل بها أُمَّتُه وتُحْرِزَ الأَجْر. ألا ترى أنهم تكلموا في ثبوتِ الأَذان من النبي صلى الله عليه وسلّمفعلا مع كونِه من أفضل الأعمال.
(4/39)
---(4/39)
فالفضل لا يَنْحَصِرُ فيما ثَبَتَ فِعْله منه، فإِن كلاًّ يختار لِنَفْسه ما ناسب شَأَنَه، ومن هذا الباب رَفْعُ اليدين بعد الصلواتِ للدُّعاءَ قَلَّ ثبوتُه فِعْلا، وكَثُر فَضْله قولا، فلا يكون بِدْعةً أصلا. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الفَضْل فيما ثبت عَمَلُه صلى الله عليه وسلّمبه فقط، فقد حادَ عنِ طريق الصَّواب، وبنى أصلا فاسدًا يخبرك عن البناء، مع أنَّ أدعيةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمقد أَخَذت مَأخذ الأَذكار وليس في الأَذكار رَفْعُ الأيدي. ونحن في جَلْجتنا إذا لم نَفَزُ بالأَذكارِ فينبغي لنا أن لا نُحَرم من الأدعيةِ ونَرْفَع لها الأيدي، لثبوتِه عنه عقيبَ النافِلةِ وإِنْ لم يَثْبت بعد المكتوبة فإِذا ثَبَت جِنْسه لم تكن بِدعةً أصلا مع وُرُود القوليةِ في فَضْله، بخلاف المصافحة في العيدين فإِنها لم تَثبت في الجنس أيضًا، نعم ثبتت عند اللفاء فقط. وتلك فروقُ أَدَقُّ من الشَّعر، يراعيها المتطلِّبُ لسُنة نَبيَّه أَمَّا مَن اتَّبع الهَوى ولم يُوفَّق للفَرْق بين الضَّلالةِ والهُدَى فقد غوى. ومن ههنا انحل حديثٌ آخَرُ وهو: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان يقولُ بعد صلاة الفجر: «اللهم أَنْتَ السلامُ»... الخ. مع ثبوتِ الفَضْل الكبير لِكلمةِ التوحيد بعد الصبح قولا، فَلَعَلَّه يَكونُ هناك أحمقٌ يَزْعُم التناقضَ بين فِعْله وقوله. والأمر أنَّ الفَضْل لكلمةِ التوحيد ولا ريب، والفَضْل في دعائه اللهم أنت السلام أيضًا، إلا أنه اصطفى لنفسه ما كان أحسنَ لِشأنهِ عند ربِّه. وأخبرنا بكلمة التوحيدِ ليأتي بها مَنْ كان آتيًا ولا يُحْرم مِن الأَجْر.
صحيح البخاري
فائدة:
(4/40)
---
اعلم أنَّ تقديمَ الوِتْر إلى أوَّل الليل كما هو المعمول به اليوم ثَبَت عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وضَمَّ الركعتين مع الوِتْر ثبت عن أبي هريرةَ رضي الله تعالى عنه، وبه يحصل العَمَلُ لقوله: «لا تُوتروا بثلاث...» إلخ.
صحيح البخاري(4/40)
باب الصَّلاةِ قَبْلَ المَغْرِب
وقد أخرجه في الأَذان أيضًا بلفظ عام: «بين كُلِّ أَذَانَينِ صلاةٌ». وأخرج ههنا بلفظ «المَغْرِب» خَاصةً وحصل لي الجَزْمُ بأنها روايةُ المعنى، لا روايةٌ بالمعنى. فإِنَّ الراوي استنبَطَ المسألةَ من الحديث العام: «بَيْنَ كُلِّ أذانينِ صلاةٌ». ثم أَجْرَى عُمومَه في المَغْرب وتَرك الصلواتِ الأَرْبَعَ ثُمَّ عَبَّر عنها بقوله: «صَلُّوا قبل المغرِب» وما حاشى به، لأنه قد تعلَّمها من الحديث العام، وفيه تلك، وهذا وإن لم يَقْرَع سَمْعَك لكنَّه أَقْرَبُ إلى الصواب إِن شاء الله تعالى، وإياك وأن تَظُنَّ أني تقوَّلْتُ قولا لم أُسْبق به هزوًا ولَعِبًا، بل أُشْهِدَ اللَّهَ أَني لم أزل أَتفكَّر فيه سنين، واستفتيت قلبي حتى إذا أفتاني وشفاني تقدمت إلى مثله، وعمدتي فيه أبو بَكْر الأَثْرم فإِنه قال: إنه معلولٌ، كما في كتابه «الناسخ والمنسوخ».
(4/41)
---
1183 - قوله: (كَرَاهيةَ أَنْ يَتَّخِذَها النَّاسُ سُنةً) قلنا إنَّ الجوازَ باقٍ بَعْدُ، كما أقر به الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى. وجملة الكلام فيه أنَّ خمولَها وانقطاع التعامِل عنها أَوْجَب لنا أن لا نقولَ باستحبابها. وهو المختار عند مالك رحمه الله تعالى. ألا ترى إلى ما أخرجه البخاري ص 158 ج 1 - من قَوْل مَرْثَد بن عبد الله يتعجَّبُ من أبي تميم على أنه كان يأتي بهاتين الرَّكْعَتَيْنِ. وكذا عند أبي داود - ص 189 - عن ابن عمر رضي الله عنه يقول: ما رأيتُ أَحَدًا في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّميُصَلِّيهما. فَإِنَّه دليلٌ واضِح على خمولهما في عهد صاحب النبوة، حتى أفضى إلى التعجُّبِ مِمَّن صَلاهما. والله تعالى أَعْلم.
صحيح البخاري
باب ُ صَلاةِ النَّوَافِلِ جَمَاعَة(4/41)
ولا جماعةَ فيه عندنا، وكُرِه له التداعي. وهو على اللغة عندي، فإِنَّ اللَّه سبحانه لما جعلنا في مُكْنةٍ مِن تَرْكها وفِعْلها رأسًا، فأين ينبغي أن نتداعى له الناس. فالنِّداء مِن خصائص المكتوبة. وفَسَّر الحلواني بما فوق الثلاث.
(4/42)
---
قلت: وإنَّما أراد الحلواني ضَبْطَه ليتمشى عليه العوم لا تفسيرَه. فإِنَّ اللَّفْظَ مُنْكشِفٌ في معناه، بَيِّنٌ في مرادِه لا يحتاجُ إلى تفسيرِ، فما ذَكَره أَنْسَبُ للفَتْوى. ثُمَّ تَتَبَّعْت النوافِلَ الداخلةَ في بنية الصلاةِ فوجدتُها كذلك، لا جماعةَ فيها أيضًا، وكلٌّ فيها أميرُ نَفْسِه. وهو الشاكِلةُ في جملة الأَذكار الداخلةِ في صُلْب الصلاةِ، فتجِدُ كُلَّها على المقتدي أيضًا. وذلك لأن كُلاًّ منهم منفرِدٌ فيها، يَفْعَلُها لِنَفْسِه. فالتضمن إنَّما رُوعي حيثُ كان الشيءُ فَرْضًا. وليعلم أن النيابةَ تجري في الأقوال دون الأفعال، فهي على الكلِّ ثُمَّ النيابةُ في الأقوال، إنما اعتُبرت حيثُ كان القولُ مما لا بُدَّ منه كالقراءة. أما الأقوال التي لو تركت رأسًا لم تكن عليه تِبعة، فإِنَّها لا تحتاج إلى عِبرة النيابةِ. فإِن قلت: إنَّ صلاةَ الكسوفِ والاستسقاء والتراويح سُنٌة، فلزِم أَن لا تكون جماعةً. قلت: كأن تلك مستثناةٌ من ذلك. على أن صَرَّح في «الغاية» بوجوبِ صلاةِ الكُسوف.
فائدة:
قال الفقهاء: إنَّ الجماعةَ في النوافل مكروهةٌ إِلا في رمضانَ. ولم يَفْهمُ مُرادَهم بعضُ الأغبياء، فَحَمله على جوازِ الجماعةِ في النَّفْل المطلق في رمضان، مع أنَّ مرادَهم التراويحُ لا غيرٌ فافهمه، فإِنَّ العِلْمَ لا يتحصَّلَ إِلا بعد السَّبْر.(4/42)
1186 - قوله: (وَيزيدُ بنُ مُعَاويةَ عَلَيْهِم...) إلخ. وكان على العَسْكَر في زمن معاويةَ رضي الله عنه. وكان فيهم من الصحابة رضي الله عنهم أبو أيوب فَتُوفِّي في الروم. ثُم جَرَتِ السُّنة في السَّلْطنةِ العثمانيةِ أنَّهم إذا نَصَبُوا خليفةً ناطوا به العِمامة على روضَتِه.
صحيح البخاري
باب ُ التَّطَوُّعِ في البَيت
(4/43)
---
1187 - قوله: (اجعَلُوا في بُيُوتِكم مِن صَلاتِكُم). قلت: وفي «المصنَّف» لابن أبي شيبة بإِسناد قوي إن النافلة في البيت بخمسٍ وعشرينَ ضعفًا بالعلانية، فالنسبةُ بينهما كالنسبةِ بين المكتوبة بالجماعة والبيت. فمن تَوهَّم مِن قوله: «اجعَلُوا في بيوتِكم...» إلخ جوازَ المكتوبة في البيتِ فقد غَفَل، فإِنَّه في النوافلِ فَحَسْب.
صحيح البخاري
كتاب فَضْلِ الصَّلاةِ في مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالمدِينَة
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ الصَّلاةِ في مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالمَدِينَة
1189 - قوله: (لا تُشَدُّ الرِّحالُ...) إلخ. وقد افتتن الحافظُ ابنُ تيميةَ رحمه الله تعالى لأجل هذا الحديث في الشام مَرَّتين. فَحُبِس مرةً مع تلميذِه ابنِ القيِّم رحمه الله تعالى، وأخرى وَحدَه حتى تُوَفِّي فيه. وكانَ مِنْ مذهِبه أنَّ السفرَ إلى المدينةِ لا يجوز بِنِيَّة زيارةِ قَبْره صلى الله عليه وسلّم لأجل هذا الحديث. نعم يُستحَب له بنيةِ زيارةِ المسجد النبويّ، وهي من أعظمِ القُرُبات، ثُم إذا بلغ المدينةَ يُستحب له زيارةُ قَبْرِه صلى الله عليه وسلّمأيضًا، لأنه يصيرُ حينئذٍ من حوالي البلدة، وزيارةُ قبورها مُستحبةٌ عنده. وناظرَهُ في تلك المسألةِ سراجُ الدين الهندي الحنفي، وكان حسن التقرير، فلما شَرَع في المناظرةِ جَعَل الحافظ ابن تيميةَ رحمه الله تعالى يَقْطَعُ كلامَ الهندي، فقال له: ما أنت يا ابنَ تيميةَ إِلا كالعُصْفور... إلخ.
(4/44)
---(4/43)
وقال الشيخ ابن الهُمام رحمه الله تعالى: إنَّ زيارةَ قبرِه صلى الله عليه وسلّممستحبةٌ، وقريبٌ من الواجب. ولَعلَّهِ قال قريبًا من الواجبِ نظرًا إلى هذا النِّزاع. وهو الحقُّ عندي، فإِنَّ آلافَ الأُلوف مِن السَّلَف كانوا يَشُدُّون رِحالَهم لزيارةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ويزعُمُونها مِن أعظم القُرُبَاتِ، وتجريدُ نِيَّاتِهِم أنها كانت للمسجدِ دونَ الروضةِ المباركةِ باطل، بل كانوا يَنوُون زيارةَ قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمقطعًا. وأَحْسَن الأجوبةِ عندي أن الحديثَ لم يَرِدِ في مسألةِ القبور، لما في «المسند» لأحمدَ رحمه الله تعالى: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلى مسجدٍ لِيُصَلَّى فيه إلا إلى ثلاثةِ مَساجِدَ». فدلَّ على أنَّ نَهْي شَدِّ الرِّحال يقتصِرُ على المساجد فقط، ولا تعلُّقَ له بمسألةِ زيارةِ القُبور. فَجَرُّهُ إلى المقابرِ مع كونِهِ في المساجدِ ليس بسديدٍ. قال الشافعي رحمه الله تعالى: بلغني أنَّ الحافظ ابنَ تيميةَ رحمه الله تعالى كان يَنْهى عن شَدِّ الرحال لها، أما لو ذَهَب بدون الشَّدِّ جاز. قلت: مَذْهَبُه النَّهْي عن السَّفَر مُطلقًا، سواء كان بِشدِّ الرِّحال أو بدونه.
1190 - قوله: (إِلا المَسْجِدَ الحَرَامَ) وفي المفاضَلَة بين المسجدِ الحرامِ والمسجد النبوِيّ كلامٌ. وحقّق في الحاشيةِ أن الاستثناءَ لزيادةِ الأجْرِ في المسجد الحرام. ثم ادعى العلماءُ بتضعيفِ أجْر المَسْجِد النبوي بعده، إلا أنَّ ما استدلوا به لا يُوازي روايةَ الصحيح. بقي أَنَّ الفَضْل يَقْتَصِر على المسجدِ الذي كان في عَهْدِ صاحبِ النُّبوة خاصَّةً أو يَشْمَل كُلَّ بناءٍ بعدَهُ أيضًا؟ فالمختار عند العَيْني رحمه الله تعالى أنه يَشْمَل الكُلَّ، وذلك لأنَّ الحديثَ وَرَدَ بِلَفْظِ: مسجدي هذا». فاجتمع فيه الإِشارةُ والتسميةُ. وفي مِثْله يُعْتبر بالتسميةِ، كما يظهَرُ من الضابطةِ التي ذكرها صاحِبُ «الهداية».(4/44)
(4/45)
---
صحيح البخاري
تنبيه: قال الطحاوي رحمه الله تعالى: إنَّ الفضيلة في الحَرَمين تَخْتَصُّ بالفرائضِ، أما النوافل فالفَضْلُ فيها في البيت. قلت: وهو الصواب، فإِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يؤدِّها إِلا في البيت مع كونِه بِجَنْب المَسْجِد.w
صحيح البخاري
باب ُ مَسْجِدِ قُبَاء
1191 - قوله: (وكانَ لا يُصَلِّي مِنَ الضُّحَى) وغَرَضُ الراوي بيانُ صلاتِ التي وقعت في وَقْت الضُّحى، وليس مرادُه الصلاةَ لمشهورة بذلك الاسم. ثُم إِنَّ الصالحينَ فَرّقُوا بينِ صلاةِ الإِشراق والضُّحَى، وهما واحدٌ عند الفقهاءِ، وإِنَّما الفَرْق بالتعجيلِ والتأخير.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْت
صحيح البخاري
باب ُ إِتْيَانِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ ماشِيًا وَرَاكِبًا
وإنما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّميذهَبْ إِليهم يومَ السَّبْت، لأنَّ أهلَها كانوا يَشْهَدُون المدينةَ للجُمُعة، فإِن بقي أَحَدُ منهم فَلَعَلَّه كان يريدُ لقاءه. وهذا يُبنى على عدمِ إقامةِ الجُمعةِ في قُباء. ثم إِنَّ هذه من اتفاقياتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وقال الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى: إِنَّ اقتفاءَ الاتفاقياتِ على طريق الاتِّفاق سُنةٌ، بخلافه على طريق الاستمرار. ولا أرى العلماءَ يَسْتحسِنُونَ رَأيَه.
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ ما بَينَ القَبْرِ وَالمِنْبَر
(4/46)
---
قيل: إنه ترجم «بالقبر» مع أَنَّه أخرج في الحديث لفظ: «البيت. قلت: وأخرج الحافظ رحمه الله تعالى فيه لفظ «القبر» أيضًا، على أن بيتَه كان هو قبرَهُ في عالَم التقدير، فصح كونه بيتًا وقبرًا، وحينئذٍ فيه إخبارٌ بالغيب، وأصحُّ الشروحِ عندي أن تلك القطعة من الجنةِ، ثُم تُرْفع إلى الجَنَّة كذلك. فهي روضةٌ مِن رياض الجَنَّة حقيقةً بلا تأويل، لا على نَحْو قوله: «إذا مَرَرْتُم برياضِ الجنةِ فارْتَعُوا».(4/45)
1196 - قوله: (ومِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي) وفَهِم الشارحون أَنه يُعاد المِنْبرُ ثُم يوضَعُ على الحَوْضِ. والمرادُ عندي أن المِنبر يبقى على مَوْضِعه، ويبسط الحَوْض من ههنا إلى الشام، فهو الآن على الحَوْض. بقي الكلام في أَنَّ الحَوْضَ دونَ الصراط أو بعدَه. فمال ابنُ القيِّم رحمه الله تعالى إلى أنه بَعْدَه، وأتى عليه بروايتِه. وإليه مال الحافِظُ، وهو الأَوْجه عندي كما في رسالتي «عقيدة الإِسلام». ونقل السُّيوطي رحمه الله تعالى في «البدور السافرة» قولين ولم يَحْكُم بجانب.
صحيح البخاري
باب ُ مَسْجِدِ بَيتِ المَقْدِس
1197 - قوله: (لا تُسَافِرِ المرأةُ يَوْمَين) الخ، وهذا يختلف عندي باختلاف الأحوال، فلا تعيين فيها. وقد مرَّ الكلامُ فيه.
صحيح البخاري
كتاب العَمَلِ فِي الصَّلاة
صحيح البخاري
باب اسْتِعَانَةِ اليَدِ في الصَّلاةِ، إِذَا كانَ مِنْ أَمْرِ الصَّلاة
أجاز المصنِّف رحمه الله تعالى بالعَمَلِ القليلِ عند الحاجةِ.
قوله: (وقال ابنُ عباس رضِي الله عنه...) إلخ. وحاصِلُه التوسيعُ فيه.
قوله: (ووَضَع أبو إِسحاق قَلَنْسُوةً... إلخ). وأجازَهُ فقهاؤُنا أيضًا.
(4/47)
---
قوله: (ووَضَع عليٌّ كفّه...) إلخ. وفي العبارة رِكَّة، وهي أنه أخرج المستَثْنى منه كالواقعة، والمستثنى كالعادة، فاختلَّ المرادُ. وَوَجْهه أن المصنِّف رحمه الله تعالى روى القِطعةَ الأُولى بالمعنى، والقطعة الثانية باللفظ. وحاصله: أن عليًّا رضي الله عنه لم يكن يَرْفَعُ كَفَّه بعد عقد اليدين إلا لِحَاجَةٍ، كالحَكَّة أو إِصلاح الثوب، وللحنفيةِ في تحديد العمل الكثيرِ خَمْسةُ أقوال. والأَصل ما ذكره السَّرَخْسي رحمه الله تعالى أنه مُفوَّضٌ إلى رأي المبتَلَى به.(4/46)
والأرجح عندي أن تُتَتَبَّع أفعالُه صلى الله عليه وسلّمفَيُحْكَم بالجوازِ بِقَدْر مَا ثَبَت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمويُمْنَع عَمَّا زاد عليها. وهذا فيما لم يَقُم فيه دليلُ التخصيص، وحيث قام دليلُ التخصيص فإِنه يُقْتصرُ عليه، ولا يجوزُ للأمة، ويكون مفسِدًا لصلاتهم. لكن لا ريبَ أن التفويضَ إلى رَأي المُبتلَى به مُشْكِل في العمل. فإِنَّ كلَّ عملٍ اعتاد عليه الإِنسان يراه قليلا، وما لم يَعْتَد عليه يراه كثيرًا. كما وقع للأميرِ الكاتب الإِتْقَاني لما جلس للتدَّريس بالشام، أفتى بفسادِ الصلاةِ بِرَفْع اليدين، وزَعَم أنه عَمَلٌ كثيرٌ يُفْسِد الصلاةَ. فردَّ عليه الشيخُ تقيُّ الدين السَّبْكي وقال: إنَّ الخلافَ فيه في الأفضليةِ دونَ الجوازِ، وقَرَّره فلم يَقْدِر على جوابه.
صحيح البخاري
باب ما يُنْهى مِنَ الكَلام في الصَّلاة
صحيح البخاري
باب ما يَجُوزُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالحَمْدِ في الصَّلاةِ لِلرِّجال
وهي تبعيضيةٌ عندي على ما عَلِمت من عادتي. ولعلَّه ذهب إلى مَذْهَبِ مالك رحمه الله تعالى ولم يَخْتَر مذهبَ الشافعيِّ رحمه الله تعالى، وإلا ترجم بعدم فسادِ الصلاة من الكلام ناسيًا، مع أنه قد أخرج حديثَ ذي اليدين غير مرةٍ، والمسألة فيه تلك.
(4/48)
---
1199 - قوله: (فَلمّا رَجَعْنَا مِن عِنْد النَّجاشي...) إلخ. قال الحجازيون: إِنَّ هذا رجوعُهم إلى مكة، وقد نُسِخ الكلام. وحديثُ ذي اليدين بَعْدَه بالمدينة، فثبت جوازُ الكلام ناسِيًا. وقال الحنفية: إن رجوعَهم كان مرَّتين، كما في السِّيرة لمحمد بن إسحاق:
الأول لما سَمِعوا أنَّ كُفَّار مكةَ أسلموا جميعًا، فلما دخلوها عَلِموا أَنَّهم قد أُرْجِف بهم، فرجعوا على آثارِهم إلا قومًا: منهم ابنُ مسعود رضي الله عنه، فإِنَّهم نزلوا لزيارتِه صلى الله عليه وسلّمثُم ارجِعُوا إلى الحبشةِ.(4/47)
والثاني: لما سَمِعُوا هجرةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّموأصحابه، فوجدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلّميصلِّي الحديث بطوله. وذلك بعد قِصة ذي اليدين، وحينئذٍ نُسِخ الكلامُ وأُمِر بالكسوتِ، فتكون قِصَّةُ ذي اليدين منسوخةً. وقد أطال الطحاوي في البحث عنه فراجِعْه.
وما يدلُّكَ على أن الكلامَ نُسِخ بالمدينةِ حديثُ زَيْدِ بنِ أَرْقَمِ الذي أخرجه المُصنِّف رحمه الله تعالى. فإِنَّه مِمَّن لم يدخل مكةَ قط، مع أنه يروى أنه وُجِدَ زمانَ جوازِ الكلام ونَسْخِه كليهما، فدلَّ على أن الكلام كان جائزًا في المدينة أيضًا إلى زمنٍ أَدْرَكَه زيدُ بنُ أرقم، ثم إنَّه نُسِخ كما رواه. فلو كان نَسْخُ الكلامِ بمكةَ كما زَعَموا لم يكن لزيدٍ بنِ أَرقم أَنْ يُدْرِكه ويرويه، ويروي نَسْخه أيضًا، مع أن الآية مَدنيةٌ باتفاقٍ بيننا وبينهم فادِّعاءُ النَّسْخ بمكةَ بعيدٌ جدًا. ومعنى قوله تعالى: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ} (البقرة: 238) أي متأدِّبين، فالسكوتُ من لوازِمه لا مِن مَدلولِه هذا هو المرادُ عندي. ولما اختار الشافعيُّ رحمه الله تعالى القُنوت في الفجر، أراد من الصلاةِ الوسطى الفَجْرَ لِيَرْتَبِطَ بها القنوتُ. فالقُنوت عندَه على الدعاءِ المعروف.
صحيح البخاري
(4/49)
---
باب مَنْ سَمَّى قَوْمًا، أَوْ سَلَّمَ في الصَّلاةِ عَلَى غَيرِهِ مُوَاجَهَةً، وَهُوَ لا يَعْلَم
وإنَّما قَيَّدَه بكونِه على غير مواجهةٍ، لينسلِخ مِن كلامِ النَّاس. فإِنَّه إذا كان على مُواجَهتِه بحيث كان المُسَلَّم عليه بين يديهِ يصيرُ من جِنْس كلام النَّاس. ثُم إنَّك قد عَلِمت سابقًا أنه إن سَمَّى أحدًا فإِنْ كان في ضمن الدعاء ففيه قولان، وإِلا فَسَدَ قولا واحدًا.(4/48)
قوله: (وهُو لا يَعْلَم) قيل أي لا يَعْلَمُ المُسلَّم عليه، فيكون تأكيدًا لقوله: على غَيْره مواجهةً. وحاصله أنَّ المُسَلَّم عليه لم يكن حاضِرًا. وقيل: وهو أي المُصَلِّي المُسلِّم - على صيغة اسم الفاعل - لا يَعْلَم أن الصلاةَ تَفْسُد بالتسليم والتسمية أو لا. وحينئذٍ يُرْجع إلى مسألةِ عبرةِ الجَهْل والنِّسيان. وقد عدَّها المصنِّفُ رحمه الله تعالى عُذرًا في مواضع، واعتبره فقهاؤنا قليلا. وقد مرَّ البحثُ في العلم ذيل قوله: «افعل ولا حَرَج». والمناسبةُ أنَّهم كانوا أولا يُسلِّمون على جبريل وميكائيل، مع كونِ المُسلَّم عليهم غيبًا، وكانوا يسمونه أيضًا، فَثَبت السَّلام والتسميةُ، ولما لم يعلموا طريقَ التسليم حتى عَلَّمَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلّم ثَبَت جَهْلُهم بالمسألةِ أيضًا.
صحيح البخاري
باب التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاء
وطريقته أن تَضْرِب بَاطِنَ أُصْبَعَيك على ظَهْر يَدِك اليُسْرى لا الكَفَّ على الكَفِّ، فإِنَّه يُشْبِهُ اللَّعِب. وأَنْكَره مالكٌ رحمه اللَّهُ تعالى وقال: إنَّ لهنَّ أيضًا التسبيحَ. وشَرْحُ الحديثِ عنده: أنَّ التصفيقَ من أفعالِ النِّساء، فلا ينبغي أن يُؤتِي به. فكأنَّه حَمَله على التقبيحِ دونَ التشريع والأَمر عند الثلاثة على التوزيع كما في الحديث. ثم إنَّه يجوزُ أن يمنع المارّ بالتسبيح، أو بِجَهْر آيةٍ في السِّرية، فيستغني عن التسبيح أيضًا، كذا في «الدار المختار».
(4/50)
---
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ رَجَعَ القَهْقَرَى في صَلاتِهِ، أَوْ تَقَدَّمَ بِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِه
والمشي الكثير مُفْسِدٌ عندنا إذا كان بثلاثِ خطواتٍ متوالياتٍ، أما إذا كانت متفاصلات فلا. كذا صرَّح به محمد بنُ الحسن رحمه الله تعالى في «السير الكبير» عند رواية حديث: «انفلات الدابة» الذي أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في الصفحة التالية.
صحيح البخاري
باب ُ إِذَا دَعَتِ الأُمُّ وَلَدَهَا في الصَّلاة(4/49)
صحيح البخاري
باب ُ مَسْحِ الحَصَا في الصَّلاة
قال الفقهاء: إنَّ الجوابَ مُفْسِدٌ مطلقًا. ثُم إنه هل يجوزُ له ذلك أم لا؟ فإِنَّهم فَصَّلُوا فيه: فقالوا: يجوزُ في النافلة دون الفريضة. يعني أنه إنْ كان في النافلةِ يقطعُ صلاتَه ويجيب، وإن كان في الفريضة يَمْضِي فِيها. لا يقال: إنَّ الحديثَ يدلُّ على وجوبِ القَطْعِ مطلقًا بدون تفصيل بين الفريضةِ والنافلة، لدلالَتِه على استجابةِ دعاءِ أُمِّه عليه.
(4/51)
---
قلت: قد عَلِمت فيما مرَّ أن بابَ الدعاءِ غيرُ بابِ التشريع، فيمكنُ استجابةُ الدعاء مع كونِ المسألة عدَمَ الإِجابة أيضًا. كما في «المسند» أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمخرج مِن عند عائشةَ رضي الله عنها مرةً وقد قال لها: «قَطَع اللَّهُ يَدَيْكِ». ثُم رَجَع فرآها قد اعوجَّت يداها، فدعا لها فبرئت. وذلك لأنَّ السُّنَّة في الدعاء إجراؤه على الألفاظ، ولا يُرَاعي فيه الأَغراض. وفي كتاب «التعليم والمتعلم»: أنَّ شمسَ الأئمة الحَلْوَاني مَرِض مرةً، فحضر تلاميذُه لعيادَتِه ولم يحضر واحدٌ منهم. فلما جاء سُئِل عن سَببِ تَخَلُّفِه، قال: كانت أمي مريضةً ولم يكن هناك أحَدٌ يقومُ بها. فقال له: يُبارَكُ لك في عُمُرك، ولا يُبارَك لك في عِلْمِك، فهذا التلميذُ وإن اعتذر عذرًا صحيحًا، لكنه حُرِم من بركة في عِلْمه. ثم إنَّ الحَلْواني لم يقل له ذلك سَخطةً عنه، ولكنَّه بَيَّن له حقيقةَ الأمر، لما في الحديث: «أن خادِمَ الوالِدَين يُزادُ في عُمُره، وخادِمَ الأستاذ يُزاد في عِلْمِه». وهذا التلميذُ لَمَّا رجَّح جانِبَ عُمُرِه ذَكَّره الحلواني بالحديث. فجُرَيجٌ هذا أيضًا لم يكن عاصِيًا وإلا لم يُبَرِّئه صبيّ. ولكنه استُجِيب فيه دعاءُ أُمِّه على السُّنة التي في الدعاء.(4/50)
1206 - قوله: (اللَّهُمَّ أُمِّي وصَلاتي) قال مولانا شيخ الهند رحمه الله تعالى: «وفي الأَدب المفرد»: أنه قاله في نفسه، لا أنه تكلم بلسانِه. فاندفع الاضْطِرَاب.
1206 - قوله: (وَمَنْ أَبُوك؟) وفيه أن حُرْمة المصاهرةِ تَثْبُت من الزنا. وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى، والحنابلة في أقوى القولين، والحنفية. فَمَنْ قال إنَّ الجمهورَ فيها مع الشافعية؟
صحيح البخاري
باب ُ بَسْطِ الثَّوْبِ في الصَّلاةِ لِلسُّجُود
وافق الحنفية لِدلالَتِه على جوازِ السُّجُودِ على ثوبِ اللابس.
صحيح البخاري
(4/52)
---
باب ُ ما يَجُوزُ مِنَ العَمَلِ في الصَّلاة
ولما عَلِم المصنِّف رحمه الله تعالى أَن ليس كُلُّ عملٍ جائزًا، ولا كُلُّ عَملٍ مُفْسِدًا أتى بِحَرْف التبعِيض.
1210 - قوله: (لِيَقْطَعَ الصلاةَ عليَّ) أي إِمَّا بالمُرُورِ في قبلتي، أو بأن يُلجأني إلى العملِ الكثير. واختار الأَوَّل في «أحكام الجانّ». وفي «مصنف عبد الرزاق» أَنَّه عَرَض له في صورة الهِرَّة - وفي تذكرةٍ عندي ابن أبي شَيْبة .
صحيح البخاري
باب إِذَا انْفَلَتَتِ الدَّابَّةُ في الصَّلاة
1212 - قوله: (ثُمَّ اسْتفْتَح بسورةٍ أَخرى ثُمَّ رَكَع) وفيه تصريحٌ بأن الاستفتاحَ وقع بالسُّورة. والشافعيةِ قالوا بالفاتحة أيضًا. والسِّر أنَّ الحديثَ جَعَله قِطعاتٍ من قيام، وهم جعلوها قيامًا على حِدَة. وما ذلك إلا لِشَغَفِهم بقوله: «لا صلاة...» إلخ، فبالغوا بِمثْلِه.
صحيح البخاري
باب ُ ما يَجُوزُ مِنَ البُصَاقِ وَالنَّفخِ في الصَّلاة
صحيح البخاري
باب مَنْ صَفَّقَ جاهِلا مِنَ الرِّجالِ في صَلاتِهِ لَمْ تَفسُدْ صَلاتُه
وفي «البحر» قولان. قيل: إنْ كان النَّفْخُ مُهجًا أَفسد الصلاةَ وإلا لا. وقيل: إن كان مَسْمُوعًا أَفْسَدها وإِلا لا.
قوله: (ويُذْكَر عن ابنِ عَمْرو) وإِنَّما مَرَّضَه لأنه لم يكن على شَرْطِهِ، مع أَنَّه أخرجه أبو داود.
صحيح البخاري(4/51)
باب إِذَا قِيلَ لِلمُصَلِّي: تَقَدَّمْ، أَوِ انْتَظِرْ، فَانْتَظَرَ، فَلا بَأْس
يعني أن تعليمَ مَنْ لم يكن في الصلاة لمن في الصلاة يفسد صلاته أو لا؟ ففي «القنية»: أن رجلا لو سهى عن عدد ركعاته مَثَلا، فعلَّمه رجلٌ بِجَنْبه، فعمل به على فَوْرِه أفسدَ صلاتَه. وإن مكث حتى تحرى في نفسه، ثم قام لم تَفْسد - وفي تذكرةٍ عندي أنه ليس مُختارًا عند الشيخ رحمه الله تعالى.
(4/53)
---
1215 - قوله: (لا تَرْفَعْنَ رُؤُوسَكُنَّ). واعلم أن الحديثَ في تعليم المسألةِ خارجَ الصلاةِ، والترجمةَ في الإِصلاحِ في خلالِ الصلاة، فأين هذا من ذاك؟ إلا أن يُقال: إنه أخذَ ترجمَتَه منه بِنَوْع استنباط.
صحيح البخاري
باب لا يَرُدُّ السَّلامَ في الصَّلاة
وجَوزه «خواهر زاده» بالإِشارة كما في «فتح القدير» نَقْلا عنه. ومَنْع عنه الطحاوي رحمه الله تعالى. وقال: يشيرُ لإِخبارِ أنه في الصلاةِ، ولا يُردُّ عليه السلام. وَوَرَد الحديثُ بالنَّحْوين، وكيفما كان الإِشارةُ للرَدِّ غير مُفْسِدة.
1217 - قوله: (فردَّ عليه) وأخرج الطحاوي رحمه الله تعالى أنه كان بَعْدَ الفراغِ من الصلاةِ.
صحيح البخاري
باب ُ رَفعِ الأَيدِي في الصَّلاةِ لأَمْرٍ يَنْزِلُ بِه
وقد مر معنا أنَّ ما فعله أبو بكر رضي الله عنه ينبغي أن يقتصر عليه، ولا سيما إذا جاء رَفْعُه تحت السؤالِ من صاحبِ النبوة.
صحيح البخاري
باب ُ الخَصْرِ فِي الصَّلاة
صحيح البخاري
باب يُفْكِرُ الرَّجُلُ الشَّيءَ فِي الصَّلاة(4/52)
يعني إذا فاته الخشوعُ لأَجْل التَّفكُّر في شيء فماذا يكونُ منه؟ أو إذا سها عن ركعاتِه فاشتغل في تَعْيِينِها فماذا عليه من التَّبِعة؟ ففي الفقه: أنه إنْ تَفَكَّر وهو يؤدِّي أفعالَ الصلاةِ لا شيءَ عليه، وإنْ قام يتفَكَّر فيها فعليه السهو. ولعل ترجمةَ المصنِّف رحمه اللَّهُ تعالى ليست ناظرةً إلى هذه المسألة. والله تعالى أعلم بالصواب. قال عمرُ رضي الله عنه: إنِّي لأجهز جيشي وأنا في الصلاة. وفي «معاني الآثار». ونحوه ما حَكى المستغفري من قول عمرَ رضي الله عنه في خطبةِ الجمعةِ بالمدينة: «يا رسارية الجبل». وهو إذا ذاك كان على نَحْو خمس مئةِ مثلٍ قريبًا من إيران.
صحيح البخاري
كتاب السَّهْو
(4/54)
---
صحيح البخاري
باب ما جاءَ فِي السَّهْوِ إِذَا قامَ مِنْ رَكْعَتَيِ الفَرِيضَة
1224 - قوله: (ثُمَّ قَام يَجْلِس فقامَ النَّاسُ مَعَه...) إلخ. وعند أبي داود من باب: مَنْ قام من ثنتين ولم يتشهد، وكان مِنَّا المتشهدُ في قيامه. قلت: فليسأل المشغوفينَ بالفاتحة: ما قولُهم في هذا الرجل؟ فإِنَّ الظاهرَ أَنه تَرَكَ الفاتحةَ، ثُمَّ ماذا يستفادُ منه هل كانت الفاتحةُ عندهم ركنًا على المقتدِي، أو كانت تلك وغيرها سواء؟ فالذي يظهرَ أنها كانت واقعةً من أوائل الإِسلام حين لم يَتَعَلَّمُوا كثيرًا مِن المسائل. فذهب اجتهادُ بعضِهم أن تَشَهُّدَه إذا فاتَ عنه في القعودِ فليأتِ به في القيامِ، فتشهَّد به لذلك، والله تعالى أعلم.
1224 - قوله: (كَبَّرَ قَبْلَ التسليمِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْن) والخلاف في كون سجدتي السهو قَبْلَ التسليم أو بعده في الأفضلية، كما في «الهداية». وقد وَضَعه القُدُوري كما في «التجريد» في الجواز. قلت: وهو مَبْنيٌّ على الرواية الشاذَّةِ. وحَمْل الأحاديثِ على تلك الرواية عَسِيرٌ.
صحيح البخاري
باب إِذَا صَلَّى خَمْسًا
صحيح البخاري(4/53)
باب إِذَا سَلَّمَ فِي رَكْعَتَينِ، أَوْ فِي ثَلاثٍ، فَسَجَدَ سَجْدَتَينِمِثْلَ سُجُودِ الصَّلاةِ أَوْ أَطْوَل
(4/55)
---
وإنما لم يتمسك به الشافعية رحمهم الله تعالى في مسألةِ كلامِ النَّاسِ، لكَوْنِهِ قبل نَسْخِ الكلام بالاتفاق. ثُم إنه تلزمُ على مسائل الحنفية في تلك الصورة القَعْدَةُ على الرابعة لئلا ينقلبَ فَرْضُه نَفْلا. وقد مر معنا التَّفَقُّه في ذلك، وهو أنَّ الصلاةَ في شريعتِنا إما ثنائيةٌ، أو ثلاثيةٌ، أو رُباعيةٌ، وليس تقومها إلا بالقعدةِ، فلزم بالقعدة على الرابعة. وإلا لا تكون رباعيةً بل تكون شيئًا آخَرَ، وحينئذٍ ثبت كونُ القعدةِ من ضرورياتِ الشَّرْع فلا بد أن يكونَ قعد فيها. وفي «المعجم» للطبراني نَفي القعدةِ على الرابعةِ صراحةً، فأشكل الأَمْرُ علينا، ولا بدَّ له مِن جواب.
قلت: ولم أسمع منه جوابَه، ولا أتَّفَق لي السؤالُ عنه. والله تعالى يدري ما كان جوابُه عنده، ولا رَيْبَ أن الأَمْر أمرُّ.
صحيح البخاري
باب ُ منْ لَمْ يَتَشَهَّدْ في سَجْدَتَيِ السَّهْو
ذهب المصنف رحمه الله تعالى إلى نَفْي التشهد. ولنا ما أخرجه الطحاوي في «معاني الآثار» مرفوعًا - وإسنادُه قويّ عن عبدِ الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا صلَّى أحدُكم فلم يَدْر أثلاثًا صلى أم أربعًا؟ فلينظُر أَحْرى ذلك إلى الصواب فليتمه، ثم يسلِّم ثم يسجِد سجدتِي السَّهْو ويتشهد ويسلِّم». وأخرج الترمذي عن عِمرانَ بنِ حُصَين - بإِسناد فيه أَشْعَثَ وحسَّنه الترمذي: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمبهم فَسَها، فسجَد سجدتَينِ، ثُم تشهَّد ثُمَّ صلَّى».
(4/56)
---(4/54)
1228 - قوله: (قلت: لمحمد - بن سيرين - في سجدتي السَّهْو تَشَهُّدُ؟ فقال: ليس في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه). قلت: وهذا يُشعِر باتحاد القِصَّتين في حديث أبي هريرةَ رضي الله تعالى عنه وعِمرانَ بن حُصَين رضي الله عنه. وهي قِصة ذي اليدين. وعْمَلها النوويُّ رحمِه الله تعالى على التعدُّد. ثُم عند أبي داود في باب سجدتي السهو عن محمد بن سيرين قال سَلَمة بن علقمة لابن سيرين: قلت: فالتشهد؟ قال: لم أسمع في التشهد، وأحبَّ إلى أن يتشهَّد. ثُم إنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى أفرز سؤالَ علقمةَ من ابن سيرين، وجوابه إيَّاه من الحديث المرفوع، لكونه رأى ابنَ سيرين، فرواه على حِدَة.
صحيح البخاري
باب مَنْ يُكَبِّرُ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْو
ولا يكبر لهما عند الجمهور تكبيرًا جديدًا. وعند مالك رحمه الله تعالى لهما تكبيرٌ جديد على شاكِلة الصلاة، فكأنهما الصلاةُ الصغرى.
صحيح البخاري
باب إذَا لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا، سَجَدَ سَجْدَتَينِ وَهُوَ جالِس
وقد مرَّ الكلام فيه، والخلافُ بين «الجوهرةِ» و«فتح القدير» في وجوب سجدتي السهو عند العمل بالتحرِّي.f
وأنَّ الأقربَ عندي ما في «الجوهرة»، وأن الحنفيةَ أَسْعَدُ بالأَحاديث في هذا الباب.
1231 - قوله: (فَلْيَسْجُد سَجْدَتين) وعَمِل به بعضٌ من السلف تَبَعًا لظاهر الحديث ولم يوجبوا على الساهي شيئًا غيرَ السجدتين، إلا أن الأحاديثَ لما بلغت فيه مرتبةَ الصِّحة لا بد وأن تُراعى تلك التفاصيلُ من التحرِّي وغيرِه.
صحيح البخاري
باب السَّهْوِ فِي الفَرْضِ وَالتَّطَوُّع
وهو مذهبُ الجُمهور أن التطوُّع والفَرْض في أحكام السهو سواء. وذهبت جماعةٌ إلى الفَرْق بينهما لكونِ التطوع بِطَوْعه بخلاف الفَرْض.
(4/57)
---(4/55)
قوله: (وسجد ابن عباس سجدتين بعد وتره...) إلخ. لا يقال: إن البخاري رحمه الله تعالى أدخل الوِتْرَ في التطوعِ فلا يكون واجبًا عنده. لأنا نقول: إنَّ المكتوبةَ إنما أُطْلقت في العُرْف على الصلواتِ الخمس فقط. فإِن لم يجعلْه البخاري من المكتوبة وعَدَّه من التطوع لم يخالف مذهبَ الحنفيةِ أيضًا.
صحيح البخاري
باب إِذَا كُلِّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَاسْتَمَع
صحيح البخاري
باب الإِشَارَةِ في الصَّلاة
وقد علمتَ أن الإشارةَ ليست بِمُفْسِدة عندنا وإن كرهها الحنفية، ووَسَّع فيها الشافعية. ونُسِب إلى الطرفين أن الأذكار إذا استُعْمِلَت في حاجاتِ الدنيا وأخرجت مُخْرج الكلام، انسلخت عن كونها ذِكْرًا. ونُسِب إلى أبي يوسف رحمه الله تعالى أنها لا تخرجِ عن كونها ذِكْرًا بمجرَّد النية. وفي «تذكرة الدارقطني» أنه كان يتهجَّدُ مرةً، وكان تلامِذَتُه مشغولين في أَخْذِ النقول، إذ اختلفوا في اسم راوٍ: هل وهو نصيرٌ أَم بشيرٌ - أي بالنون أو الباء ؟ فلما قام الدَّارقطني من سجدته جعل يقرأ سورة {ن} وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ كأنه أشار إلى أن «نصير» بالنون. والمختار عندي ما قاله أبو يوسف رحمه الله تعالى، فإِنَّه أسهلُ لنا ونرجُو من الله سبحانه أن نعمل به وندخلَ جنته أيضًا.
صحيح البخاري
كتاب الجَنَائِز
صحيح البخاري
باب فِي الجنَائِزِ، وَمَنْ كانَ آخِرُ كَلامِه: لا إِلهَ إِلا اللَّه
(4/58)
---(4/56)
قوله: (من كان آخِرُ كلامِهِ لا إلهَ إِلا اللَّهُ...) إلخ. واعلم أن هذه الكلمةَ كلمةٌ إيمانٍ وكلمةُ أَذكارٍ فإِذا قالها الكافرُ ليدخل بها في الايمان فهي كلمة إيمانٍ، وإذا ذَكَر بها المسلم فهي ذِكْرٌ كسائر الأذكار. وعليه قوله صلى الله عليه وسلّم «أَفَضْلُ الذِّكْر لا إلهَ إِلا اللَّهُ». والموزونُ في حديثِ البِطَاقة عندي هو كلمةُ الذِّكْر دون الإِيمان. فإِنَّ الإِيمانَ لو وُزِن بالكفر فإِنَّه يقابِلُه، فلا يوزنُ بالأعمال. ولعلَّ اسمَ اللَّهِ يخرج من كَفَّة الأعمال عند الوزن، فإِن اسمَ اللَّهِ لا يُوزَن معه شيءٌ، وإِنه يَرْجُحُ الدنيا بما فيها. وإنما وُزِن لهذا المُسْرِف على نفسه ليرى أَهْلُ المَحْشَرِ وَزْنَه مرةً.
ولعل هذا الرجل قاله بنهايةِ الإِخلاص فنالَ حَظَّه منه كاملا، فإِنَّ الناس وإِن كانوا سواءَ في أَصْل الإِيمان إِلا أنهم يختلفون في التلبيس بتلك الكلمة على مراتب لا تُحصى. فإِنَّ التَّلبُّسَ بتلك الكلمة شيءٌ وراء الإيمان، وهذا التَّلبُّسُ كالتَّلَبُّس بالصلاة، كما عند أبي داود - ص 115 : «أَنَّ الرجلَ لينصرفُ وما كُتِبَ له إِلا عُشْرُ صلاتِه، تُسْعُها، ثُمنُهها، سبعُها، سدسُها، خمسُها، رِبعُها، ثلُثُها، نصفُها»، وأظنُّ أن يكون مِن الناسِ مَنْ لا يكون له حظٌّ منها والعياذ بالله.
فالحاصل: أن الفَضْلَ لِلمذكور ههنا لهذا الذِّكْر. ولذا قال الفقَهاء: إنها ليست ضرورية عند الاحتضار، نعم لو ذَكَرِها تَحْصُل له هذه الفضيلةُ الموعدةُ إن شاء اللَّهُ تعالى. وفيه قِصة أبي زُرْعَة وأبي حاتم. بل قالوا: «إنَّ المحتضَرَ لو جَرَت على لسانِهِ كلمةُ كُفْرٍ لا يُحْكَم به، فإِنَّ الوقتَ وقتُ الشدة، لا يشعرُ الإِنسانُ بما يقول، ولا يدري بما يجري على لسانه. فلا يُحْكم عليه بشيءٍ في مِثْلِ هذا الأوَانِ.
(4/59)
---(4/57)
ثم العبرةُ في كونها آخِرًا أن يتكلم بها ثُمَّ لا يتكلمُ بعدها بشيء وإن بقي حيًا، فإِنَّه يَعُدُّ أنها من آخِر كلامه. نعم إذا قالها ثُم تكلَّم بكلمةٍ أخرى انتهت آخِرِيَّتُه فليُعِدْهَا وليقلها ثانيًا. والتلقينُ أيضًا لهذا المعنى، أي ليتنبَّه المحتضرَ ويتكلم بها ويصيرُ آخِرُ كلامه لا إله إلا الله. ولا يُشترطُ فيه قولُه: محمدٌ رسول الله، فإِنه ليس بِذِكْر وإن كان رُكْنَ الإِيمان، وقد فَصَّلناه في كتاب الإِيمان.
صحيح البخاري
1239 - قوله: (وإنْ زَنَى وإِنْ سَرَقَ) ليس المرادُ منه المؤمنَ العاصي، بل مَنْ كان زَنَى في زمنِ الجاهلية ثُمَّ أَسْلَم، فإِنهُ يغفر له ما قدَّم ويدخل جنَّة ربِّه إن شاء اللَّهُ تعالى.
صحيح البخاري
باب الأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الجَنَائِز
وقد علمت ما حقُّ لَفْظِ الاتباع، وأنه أَقْرَبُ بمادَّتِه إلى نظر الحنفية، وأن الخلاف في المشي أمام الجنازة وخلْفَها في الأفضلية دون الجواز.
1239 - قوله: (وإِبرارِ المُقْسِم) وهو إما أن يحلِف بِفِعْلِ الغير فإِذَن يكونُ بنفسِه حالِفًا ويستحب للآخرِ أن يأتي بما حلَف عليه، لئلا يكونَ حانِثًا، وإما يحلِف غيرُه وحينئذٍ لا يكون واحدٌ منهما حالِفًا.
1239 - قوله: (وَرَدِّ السَّلام) واتفق الكُلُّ على أن الجواب يكفي من واحدٍ من بين الجماعة مع ورود صيغ العموم، وهذا هو شاكِلَةُ الصَّيَغ في الفروض على الكفاية، فإِنَّ الخطاب فيها يكون مع الكل، ويكون المقصودُ الإتيانَ بها من المجموع من حيثُ المجموعُ. وهذا هو صنيعُ أحاديثِ إيجاب الفاتحة، فإنها مطلوبةٌ من المجموع على طريقِ الفَرْض على الكفاية، فأخذوها واجبةً على الكل كَفَرْض العين، ونحوه صنيعُ أحاديثِ السُّتْرة، فإِنَّ الخطاب فيها عامٌ، كأن وَضْعَ السترة على كلَ مع أنها إذا كانت للإِمام خرج الكلُّ عن العُهْدة.
(4/60)
---(4/58)
وإنما تردُ تلك الأحاديثُ بهذا العمومِ لأنَّ المأمور به فيها قد يكون مطلوبًا مِن كلِّ واحدٍ أيضًا باعتبار أحوالِ الإِنسان، فإِنَّه إذا صلى مُنفرِدًا وجب له أن يَغْرِز السُّترةَ لنفسه، فإِذا كان مع الجماعةِ فإِمامُهُ قد كفى عن فريضة، وكذلك الفاتحة تجِب عليه عَينًا إذا صلَّى لنفسه، وإذا صَلَّى مع الجماعة صارت مطلوبةً من المجموع، ويتحملُها الإِمام عنه، فصارت قراءتُه له قراءةً. وهذه اعتباراتٌ يفهمهما المُنْصِفُ دون المتعسِّف، والله يهدي مَن يشاء إلى صراطٍ مستقيم.
1239 - قوله: (وتَشْمِيتِ العَاطِس) قيل: واجب، وقيل: مستحب.
1239 - قوله: (نهانا عن آنية الفضة) والنَّهْي عن الأواني عامٌّ للنِّساء أيضًا وإِنْ جازلَهُنَّ الحُلِيّ.
صحيح البخاري
باب ُ الدُّخُولِ عَلَى الميِّتِ بَعْدَ المَوْتِ إِذَا أُدْرِجَ في أَكْفَانِه
1241، 1242 - قوله: (لا يَجْمَعُ اللَّهُ عَليك مَوْتَتَيْنِ) تعريضٌ بِعُمَر رضي الله عنه، فإِنه كان يُنْكِر موتَه، وقد مرَّ معنا تحقيق مسألة حياةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمبِقَدْر الإِمكان فتذكره.
قوله: (قد خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُل) (آل عمران: 144)، ولا تَمَسُّك فيه للشقي القادياني:
أمَّا أولا: فبأَنَّ الخُلُو» ليس بمعنى الموت، كما قال تعالى: {أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} (آل عمران: 144). وأما ثانيًا: فبالمعارَضَةِ من قوله تعالى: {ما المسيحُ بنُ مريمَ إِلا رَسُولٌ...} (المائدة: 75) إلخ. فإِنَّ الآيتين نَزَلتا على النبيِّ صلى الله عليه وسلّموشاكِلَتُهما واحدٌ، فكما أن الاستثناء في الآيةِ الأولى أوجَب حياةَ نبيِّنا صلى الله عليه وسلّم كذلك الاستثناءَ في الثانية أيضًا أوجَب حياةَ المسيحِ عليه الصلاة والسلام بدون فَارِق.
وأما ثالثًا: فبقراءةِ ابنِ عباس رضي الله عنه وفيها: «مِنْ قَبْلِهِ رسلْ» فلم يَثْبت الاستغراقُ.
(4/61)
---(4/59)
أما رابعًا: فبأُنَّ اللام فيه ليس للاستغراق بل للجِنْس، فإِنه على الأوَّل غيرُ مفيدٍ، لكونِه استدلالا من الكليِّ على الجزئيِّ، وإذا تحصلت عِلمًا كليًا فقد استغنيت عن الجزئي، ألا ترى أنك إذا تيقنت بخُلُو جميع الرسل لم تشك في خُلُو رسول دون رسول، بخلاف ما إذا كانت اللام فيه للجنس فإِنَّه يكون مفيدًا جدًا، كالتمثيل والاستقراء. وحينئذٍ يكونُ حاصِلُه الاستدلالَ بِخُلُو جنس الرسل على خُلُو هذا الرسل مثلا، وهو مفيد كما ترى، مع أن الزَّمَخْشري قد صرَّح بأن اللام للجنَس أو العهد. ثم الاستغراق يُستفاد من القرائن ولا قرينةَ ههنا.
وأما التفتازاني فذهب في «التلويح» إلى أنَّ مدلولَ اللام هو تعيينُ المدخولِ بين المتكلِّمِ والمخاطَب فقط، والأقسامُ الأربعةُ توجَدُ من القرائن، ثُم الموصولُ والإِضافة أيضًا تنقسِمُ إلى تلك الأقسام، فانظر الشرح «مئة عامل» المنظوم.
1243 - قوله: (ما يُفْعَلُ بي) دَلَّ على أن المخاطَب إذا لم يكن عنده عِلْمٌ مِثْلُ ما عند المتكلم يجبُ عليه التردد، ولا ينبغي له أن يقعُدَ مطمئنًا مستريحًا، فإنَّ العلم الجملي لا يُغني ولا يكفي فإِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّموإن كان يعلمُ ما يُفعلُ به، ولكن لم يكن عنده منه إلا عِلْمٌ جمليٌّ ولم يُحِط علمه بما في عِلْم الله كما أخبر به اللَّهُ سبحانه: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآء} (البقرة: 255) فإذا لم تَحْضُر عنده تفاصيلُ ذلك لم يسكن جأشُه، ولم يبرح مُضطرِبًا مهمومًا مُتفكِّرًا في الآخِرة دائمَ الأحزان لها.
صحيح البخاري
(4/62)
---(4/60)
وإنما أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلّممن قوله: «وما يُدريك أنَّ اللَّه أكرمه» الزَّجْرَ على تجاسُرِه بين يدي صاحبِ النُّبوة، والجزمِ بما لا يعلمُ نهايةَ أَمْرَه دونَ الرَّدِّ على إكرامه، فإِنه رجا له الخيرَ. ومِن هذا الباب قولُ عائشة رضي الله عنها: «عصفورٌ من عصافيرِ الجّنَّةِ، وقد مرَّ في العلم ما يتعلق به».
صحيح البخاري
باب ُ الرَّجُلِ يَنْعى إِلَى أَهْل الميِّتِ بِنَفسِه
أي لا بأسٌ بأخبارِ الميتِ بنفسهِه.
1245 - قوله: (نَعَى النَّجَاشيَّ) واللغويون فَرَّقُوا بين نعاه، ونَعَى إليه، وبه، ولكن مراعاةَ الصِّلاتِ لا يُؤاخَذُ بها في العبارات، أو يقال: هناك النَّعْي بالمعنيين.
صحيح البخاري
باب ُ الإِذْنِ بِالجَنَازَة
وفي «الهداية»: أَنْ لا بأس بالإِذْن بالجِنازة، فلا بأسَ بالإِعلام إذا كان المطلوبُ تكثيرَ الجماعة، وأما إذا كانَ فخرًا ورياءً فهو ممنوعٌ. ثُمَّ إِنَّ الشارحين حملوا الإِذن في قول صاحب «الهداية» على الإِذْن للمُكْث والذَّهاب إلى بيته، ولا رَيْب أَنَّ مِثْله أيضًا عُلِم من السَّلف، فإِنَّهم كانوا يُرَخِّصون للناس إذا صَلُّوا. وأخرج المصنِّف رحمه الله في هذين البابين عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما، ومال الحافظ إلى تَعَدُّد حَدِيثهما، وأنهما واقِعتانِ.
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ مَنْ ماتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَب
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِلمَرْأَةِ عِنْدَ القَبْرِ: اصْبِرِي
1248 - قوله: (لم يَبْلُغُوا الحِنْث) وتخصيصُ عَدَمِ الحِنْث لشفاعَتِهِ وإن كان الحُزنُ على الكبير أزيدَ. وثبتت الرواياتُ في فضل مَنْ مات لها ولدٌ واحدٌ أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ غُسْلِ المَيِّتِ وَوُضُوئِهِ بِالمَاءِ وَالسِّدْر
(4/63)
---
صحيح البخاري
باب ُ ما يُسْتَحَبُّ أَنْ يُغْسَلَ وِتْرًا(4/61)
وحَنَّطَ ابنُ عَمرَ رضي الله عنه ابْنًا لسعيدٍ بن زيد، وحله وصلَّى ولميتوضأ... إلخ. فيه رَدٌّ على مَنْ زَعم وجوبَ الغُسْل والوضوءِ مِنْ غِسْل الميت أو حَمْله. قوله: (وقال ابنُ عباس: إنَّ المُسْلِمَ لا يُنْجُسُ وقد مَرَّ أن المُشرِكَ نَجِسٌ عنده. واتفق الحنفيةُ على نجاسةِ الميت المُشْرِك. ولهم في غُسالة الميتِ المُسْلم قولان: قيل: نجس، وقيل: حُكْمُها حُكْم الماءِ المستعمل، وحملوا رواية النجاسةِ على مَنْ كانت على بدنِه نجاسةٌ، والأقربُ هو الثاني.
1254 - قوله: (ومَشَطْناهَا) ولا يجوزُ الامتشاطُ عندنا لما رُوي عن عائشةَ رضي الله عنها: «على ما تَنْصُون مَوْتَاكُم» مِن قولها، وذِكْرُ الامتشاط ليس بمرفوع، واستبعده الحافِظُ رحمه الله تعالى.
قلت: وللحنفيةِ أن يحمِلوا الامتشاطَ على تسويةِ الأَشعارِ بالأيدي، لحصولِ غَرَض الامتشاط من التسويةِ، وهذا وإن كان حَمْلا على المجاز، لكنه ليس ببعيدٍ كلّ البعد.
1254 - قوله: (ثَلاثَة قُرون) والخلاف في جَعْلها قَرْنين أو ثلاثًا في الأفضلية، وكذا في القميص.
صحيح البخاري
باب يُبْدَأُ بِمَيَامِنِ المَيِّت
1255 - قوله: (ومواضِعِ الوضوءِ منها) وثبت مه الوضوء أيضًا، إلا أنَّ المشايخ تَرَدُّدْوا في المضمضة والاستنشاق لِتعسُّرهما في الميت، ثم أخرجوا لهما سبيلا أيضًا.
واعلم أنه لا توقيتَ في غَسْل الميت عند مالك رحمه الله، وإنمَا هو التطهيرُ فقط بما حصل، وما رُوي فيه محمولٌ عنده على الاتفاق. وأعجب منه ما نقله ابنُ العربي عن مالك رحمه الله أَن التثليث في وضوء الحي أيضًا ليس بِسُنةٍ كما في الميت، مع إقراره بِثُبوت الاستمرار على التَّثْلِيث، وقال: إن المقصودَ هو الاسباغُ فقط، ونحوه اشتراطُ المِصْر لإِقامة الجمعة عندنا.
(4/64)
---
صحيح البخاري
باب ُ مَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنَ المَيِّت
صحيح البخاري
باب هَل تُكَفَّنُ المَرْأَةُ في إِزَارِ الرَّجُل(4/62)
والحديث فيه وإن لم يكن صريحًا في تقديم الوضوء، إلا أَنه يُمْكِنُ الاستئناس به.
صحيح البخاري
باب يَجْعَلُ الكَافُورَ في آخِرِه
صحيح البخاري
باب ُ نَقْضِ شَعَرِ المَرْأَة
وفيه دليلٌ على أن الماء لا يكون مقيَّدًا مِن خَلْط الكافور، خلافًا للشافعي.
صحيح البخاري
باب كَيفَ الإِشْعَارُ لِلمَيِّت
والشِّعَار ثوبٌ يلي الجسد، وهو عندنا قميصٌ للرجل والمرأة، ويُعَبِّرُ عنه الفقهاءُ في النساء بالدِّرْع. وما كان يظهَرُ لإِطلاق القميص في الرجال والدِّرع في النساء وَجْهٌ وجيه، حتى رأيتُ أن الشيخ ابنَ الهُمام مرَّ في باب النفقة على لَفْظ الدِّرْع. وفَسَّرَهُ بما يكون الشِّقُّ فيه على المَنْكِبين، والقميص بما كان شِقُّه على الصَّدْر، حينئذٍ تَبيَّن لي وَجْه اختلاف التسمية في النوعين.
وعند الشافعية الكَفَنُ عبارةٌ عن ثلاثِ أرديةٍ سابغةٍ مِن القَرْن إلى القدم ولا فَرْق بينهما إِلا بالتسمية. فإِذن الشِّعارُ عندهم رداءٌ يلي الجسد، وعندنا هو قميصٌ من العنق إلى القدم كما عرفت. ثم لا يُخْفَى عليك أن القميص المعروف في بلادنا لا تكون فيها خِياطةٌ ولا تسمها إبرةٌ، إنما هو رداءٌ مشقوقٌ فقط، نعم يلبس به الميتُ كالقميص.
(4/65)
---(4/63)
وفي كتب الفقه: أن قميص الميت كقميص الحي، إلا أنه لا يكون فيه دِخْرِيص، لأن الميتَ لا يحتاجُ إلى المَشي وغيره. ولم يصرح واحدٌ منهم أنه لا يخاط أيضًا، وظاهر كلماتهم أنه يُخاط، مع أن التعاملَ بخلافه، فلا أدري أنهم تسامحوا في التعامل فلم يخيطوه، أو تُسُومح في عباراتهم، فإن ظاهِرَها الخياطة. ومن ههنا علمت أن إطلاقَ القميصِ عليه لكون يُلْبس كالقميص، وإلا فهو رداءٌ مشقوق، وحينئذٍ لا تَرِد عليك الرواياتُ التي فيها نَفْي القيمص، لأنه يصح لك أن تقول: إنه رداء وليس بقميص، نظرًا إلى عدم الخياطة، وعدم الدِّخرِيص، ويصح لك أن تقول: إنه قيمص نظرًا إلى الشِّق واللِّبْسَة. فهذا تأويلُ هذه الروايات وإن كنتُ لا أرضى به. والصواب عندي أن تُحمل على ظواهرِها، فإِنَّ الخلاف في الأفضلية دون الجواز، وللفقيه أن يُرجِّح واحدًا منهما، وسيجيءٌ الكلامُ فيه.
ثم ههنا بَحْثٌ للشيخ ابن الهُمَام وهو: أَن الإِزار إذا كان اسمًا شرعيًا - وقد علم أنه للحيِّ ما يسترُ النِّصْفَ السافل، والرداء ما يسترُ النصف العالي - فمن أين أَخَذَ الفقهاءُ كونَها في الميت رداءين سابغين مِن القَرْن إلى القدم؟ أقول: وحاصِلُه التشديدُ في التسمية فقط، وليس بشيء، فإِنَّ العمل إذا فَشى بالرداءين من غير نكيرٍ فهو المراد، سواء سميتها بالرداء والإزار أو غير ذلك. والاتحاد في التسمية فقط لا يوجب أن يكون إزارُ الميت ورداؤه أيضًا كالحيّ، فإِنَّ اختلافَ اللِّبسة بينهما أَمْرٌ معروفٌ، والفاصل هو التعاملُ دون التسمية. فالذي لا بد للميت هو: الإِزار والرداء المعروفان فيه دون ما هو المعروف في الحيِّ، وغايته الكلام في التسمية، أي ينبغي أن لا يُسمَّى هذان الثوبان إزارًا ورداءً، لا أنه ينبغي أن يكون ثيابُ الميت كثيابِ الحيِّ الواحد في الأعلى، والآخر في الأسفل، فإِنه لم يعهد من ثياب الميت، كذلك ولم يَجْرِ عليه التعاملُ بذلك.
(4/66)
---
صحيح البخاري(4/64)
ولو نظر الشيخ رحمه الله تعالى إلى قوله: «وزَعَمَ أَنَّ الإِشُعَارَ الْفُفُنَهَا» لم يبحث هذا البحث، فإِنَّ المرادَ منه اللَّفُّ فقط. وكذا ما ذكره ابنُ سيرين رحمه الله تعالى من قوله: «أَنْ تُشْعَرَ ولا تُؤزَرَ» أي لا يُجْعَل مِثْلُ الإِزار بل يُلَفُّ به، فهم لا يريدون بالقيمصِ والإِزار أن يؤتى بتلك الثياب المهيأة مِن قَبْلُ ليلبس بها، ولكنهم أرادوا أن تؤتى بثياب يلبس الميت بها كما يلبس القميص والإِزار، ففيه هيأةُ الإِلباس لا عينُ هذا اللِّباس. ثم أنه ليس في الحديث إلا قوله: «أَشْعِرْنَها» أي اجعلنها شِعَارًا. أما إنه ما كيفيتها مِن كونها ساترةً للنِّصْفِ أو سائِرِ البَدَنِ فليس فيه أصلا.
قوله: (وقال الحَسَنُ الخِرْقَة...) إلخ. واختلف في موضعها في الفقه: وراجع له الكبيرى. ويعلم من قوله الحسن إنها مِن الحْقو إلى الركبتين، وهو مذهبُ زفر رحمه الله تعالى، وهو الذي اختاره البخاري. وهذا أحد الموضعين الذين وافقه البخاري فيه. والثاني في الحيل، وفيه تردُّد. وهذا القول هو الأقرب، فإِنَّ المقصود منها سَتْرُ العَجيزَة.
صحيح البخاري
باب يُجْعَلُ شَعَرُ المَرْأَةِ ثَلاثَةَ قُرُون
صحيح البخاري
باب يُلقَى شَعَرُ المَرْأَةِ خَلفَهَا
واعلم أن الاختلافَ على ثلاثة أنحاء اختلاف جواز - وهو أشدها - واختلاف أفضلية، واختلاف اختياره. والاختلاف في هذه المسألة من النوع الثاني، وقد وَرَد الأَمْرُ بالنَّحْوين ثُم رجَّح الفقهاءُ مختاراتِهم من الوجوه الفقهية فلينظر فيه الناظر: أنَّ الأحاديثَ إذا وردت بالأمرين فهل للفقهاءِ أن يرجِّحوا واحدًا منهما من اجتهادهم، أو لا بدَّ لهم فيه من حديث مُرجِّح؟ والذي يظهَر من صَنِيعهم أنهم يجوِّزون الترجيحَ من الاجتهاد أيضًا.
(4/67)
---(4/65)
ويمكن أن يكون الخلافُ فيه من النوع الثالث أيضًا، أي العمل بما راج ببلدته مع قَطْع النَّظر عن تَتَبِّع الأَفضل، فإِن الإنسانَ فُطِر على الحب بما عَمِل به عُلماءُ بلدته، وعليه اختياراتُ المذاهب. ألا ترى إلى ملك رحمه الله تعالى فإنه إذا كان بالمدينة - شَرَّفها الله - يُراعي عَمَلَ بلدته أكثرَ مما يراعي بما سواه، ويَزْعُمه فاصلا في الباب. وكذلك الشافعي رحمه الله تعالى يَعْمل بما عَمِل به أهلُ الحجاز، ونحوه أبو حنيفة رحمه الله تعالى يعض على ما عَمِل به الصحابةُ رضي الله عنهم في بلدته. ولعل رَفْعَ اليدين وتَرْكه أيضًا من هذا الوادي.
جَرى كُلُّ بما رأى أهلُ بلدته يفعلُه مِن رَفْعٍ أو تَرْك، وقد حققنا سابقًا.
ومن ههنا علمت أن اختلافَ الاختيار غيرُ اختلاف الأفضلية. وقد تحقق عندي أن التلامذةَ في السلف كانوا يأخذون بعمل شيوخهم، وهكذا عُلِم مِن حالِ بعض الصحابة رضي الله عنهم أيضًا.
فائدة
واعلم أن ابن إدريس من أوداء مالك رحمه الله تعالى، وهو مِن أهل الكوفة، وما يقوله مالك من قوله: «بلغنا» فإنه يأخذ منه، وكذلك ما ينقله عن عمل عليِّ رضي الله عنه فإِنما يأخذه عن ابن إدريس هذا.
صحيح البخاري
باب ُ الثِّيَابِ البِيضِ لِلكَفَن
والأَحْسن بِحَسَب الألوان هو البياضُ.
1264 - قوله: (سَحُولية) قريةُ في اليمن.
19 - بابُ الكفَنِ في ثَوْبَينِ
وقَسَمُه الحنفيةُ على ثلاثةِ أنحاء: كَفن سُنَّة، وكِفاية، وضرورة، والثَّوبان هو الثاني، والتفصيل في الفِقْه.
1265 - قوله: (ولا تُخَمِّرُوا رَأْسَه). واعلم أنهم اختلفوا فيمن مات مُحْرِمًا.
فقال الشافعيّ رحمه الله تعالى: إنه لا يُخمَّر رَأسُه لأنه من محذورات إِحرامِه، فيراعي فيه سبيلُ الأَحْياء، وتمسك بهذا الحديث.
(4/68)
---(4/66)
وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إذا مات الإِنسانُ انقطع عنه عَمَلُه، فيكون كسائر الأمواتِ فيُخَمَّر رأسُه أيضًا. والحديث حَمَلُوه على التخصيص، فإِنه ليس لكل أَحَدٍ أن يُقْطَع فيه بأَنه يُبعث أيضًا يوم القيامة على ما مات عليه من العمل. وإنما فاز رجلٌ بهذه البشارة لمكان النبيِّ صلى الله عليه وسلّم والبشاراتُ لا تكون ضوابطَ لِيَعْمل بها كُلُّ عامل، ثُمَ يَرْجُو بها، ولكنَّها من حقائقِ الغيب تكونُ مودَعةِ لواحدٍ غَيْرِ مُعَيَّن في الظاهر، ومُعَيَّن عند الله العظيم، فإِذا وقعت لواحدٍ لا يبقى فيها حَظُّ للآخرَ. أَلا ترى إلى قوله: «سَبَقَكَ بها عُكَّاشَةُ». فإِن البِشارة بتلك المنزلةِ قد كانت سَبَقَت لواحدٍ ذي نصيبٍ، فبادَر إليها عُكّاشة ففاز بها، فإِذا أَرادها آخَرُ منهم، أجيب أنها كانت لواحدٍ في عِلْم اللَّهِ وقد صارت له.
وكقوله: اقبلوا البُشْرَى بني تميم. فقالوا: إِذا بَشَّرْتَنا فأَعْطِناه»، فجاءه أَهْلُ اليمن فقال لهم: «اقبلوها أنتم إذ لم يَقْبَلْها بَنُو تميم». فَقَبِلُوها فصارَتْ لهم.
وأظنُّ أن قوله صلى الله عليه وسلّمفي حمزةَ رضي الله عنه: «لولا صفيةُ لَتَركْتُه تأكُلُه السِّباع حتى يُحْشَرَ يومَ القيامةِ من بطونِها» من هذا الباب، فإِنه لو تَرَكه لكانَ مُختصَّا به ولم يكن مسألةً وشريعةً مستمرَّةً في الشهداء.
(4/69)
---(4/67)
ومن هذا الباب ما في بعض «التذكرة»: أن رجلا رأى سيبويه في المنام فسأله عن مغفرَتِه، فقال: غُفِر لي، فسأله عن سَبَبِها، فأجابه أَنَّه اختار أَنَّ اسمَ اللَّهِ مُرْتَجِل. فلو حاكاه أَحدٌ الآن، وجعل يكتبُ عليه رسالةً ثُم يَدَّعِي المغفرةَ لنفسه لأنه غُفِر لفلانَ بِمثْله، فإِنه أَحْمَق، أَلا يَدْري أنها كانت بِشارةً فاز بها سِيبويه، وليست ضابطةً للمغفرةِ. ونحوه ما في «التذكرة» أيضًا: أن رجلا رأى باسم الله مكتوبًا مطروحًا فعظَّمه ورَفَه، فَغُفِر له. فلو فَعَله أحدٌ لا يجِب له أن يستحق به الجنةَ، فإِنها أَفعالٌ إِلهيةٌ، وأسرارٌ ربَّانيةٌ جرت مع آحَادِ النَّاس، فلا يُحْكَم بها، فإِنها لا تكون بمادتها بتلك المنزلةِ، وإِنما يريدُ اللَّهُ أن يَمُنُّ بها على أحدٍ فيفعلُ ما يشاء، ويحكم ما يريد. ومن هذا الباب ما يظهَرُ من رحمته على بعض المسرفين يومَ القيامة.
صحيح البخاري
إذا علمت هذا فاعلم أن الوُجْدان يشهد بكونِ عدمِ التخمير من خصائصه، فيختصُّ به فقط، لا أَنه يُخَمَّر رأسُ سائر المُحْرِمين أيضًا. ومن هذا الباب مَنْ جاءه يسألُ عن شرائع الإسلام، فأخبر ببعضها وبَشَّر عليها بقوله: «أَفْلَح وأبيه إِنْ صَدَق». ومرَّ تقريرُه في الإِيمان.
ثم عند مسلم زيادةُ لفظٍ وهي: «لا تُخَمِّرُوا رأسَهُ ولا وَجْهَه»، مع أنَّ أَثَرَ الإِحرام في الرأس فقط دون الوَجْه، على خلاف المرأة. واعتذر عنه النووي في شَرْحه. وكذا يَرِد عليهم قَوْلُه «اغسِلوه بماءٍ وسِدْرٌ، فإِنه إزالة التَّفَث مع كونه طيبًا أيضًا فاعتذر عنه.
صحيح البخاري
باب ُ الحَنُوطِ لِلمَيِّت
صحيح البخاري
باب كَيفَ يُكَفَّنُ المُحْرم
(4/70)
---
وأخرج فيه قوله: «ولا تُحَنِّطُواه». قلتُ: ولم يُحْسِن المُصَنِّف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة، فإنَّ عدمَ التحنيط مُختصُّ بهذا المُحَرِم فقط، لا أنه حُكْم سَائِر الأَموات.
صحيح البخاري(4/68)
باب ُ الكَفَنِ في القَمِيصِ الَّذِي يُكَفُّ أَوْ لا يُكَف
وقوله: يُكَفُّ مضعّف وفي نسخة ناقص، وهي محرفةٌ عندي، ثُمَّ الأُولى عندي مجهولا.
وحاصله: أن قميصَ الميت لا يجب أن يكون مِثْل الحيّ، بل يجوزُ مكفوفًا أو غيرَ مكفوف، بخلاف قميص الحيّ، فإنه يكونُ مكفوفًا (ترباهوا). وهذا يُشْعِر بأن القميصَ في ذِهْنه يكون مَخِيطًا، وهو ظَاهِرُ فِقْهِ الحنفية، وإنْ كان العملُ بخلافِهِ، كما مرَّ معنا البحث فيه.
1269 - قوله: (أَعْطِني قَمِيْصَك)... إلخ. قلتُ: ولا بأسَ بإعطاءِ القميص مُرُوءَةً. وقيل: أَرَادَ به أن يُكَافىء قميصه الذي كان كَسَاه عباسًا يوم بدر، فإنَّه إذ جاءَ أسيرًا في أُسراءِ بَدْر لم تكن عليه ثيابٌ، وكان طويلَ القامةِ فلم يَصْلُح له غيرُ قميصِ عبدِ اللَّه - فإنه كان طويلا - فكان أعطاه إيَّاه، فأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأن يكافئه في الدنيا. وقيل: أَسَلم يومئذٍ أَلْفٌ من المنافقين لأَجْلِ هذا الإحسان.
(4/71)
---
ثم في «الفتح»: أَنَّ عبدَ الله كان أَوْصَى ابنه - واسمه أيضًا عبد الله - أن يَسْأَل النبيَّ صلى الله عليه وسلّمعن قَميصه ليُكفَّنَ فيه. ولا بُعْد في أن يكون حصل له تصديقٌ اضطراري، ثُم استمرَّ به حتى رَسَخِ ببواطنِهِ قبل وفاته، إلا أنَّ الأُمةَ كافةً لَقَّبته برأس المنافقين. وقد كان حَسَد النبيَّ صلى الله عليه وسلّمفي أول أَمْرِهِ، لأن أَهْلَ المدينةِ قبل مَقْدَمِه صلى الله عليه وسلّمكانوا أرادوا أن يجعلُوه رئيسَهم، فَلَمَّا قَدِم النبيُّ صلى الله عليه وسلّموهاجر إليهم، صار هو الأمير. كيف لا وقد كان أميرًا في الأرواح، وفي مسجد بيت المَقْدِس عند مُجْتَمع النَّبيين وسوف يكون أميرًا في المَحْشَر أيضًا، فلم يزل هذا المنافقُ يغتمُّ له، ثُم اللَّهُ يَدْري إلى ما آل إليه أَمْرُه.(4/69)
1269 - قوله: (أَنَا بَيْنَ خِيْرَتَيْنِ). وفي الروايات: إني لا أزيدُ على السبعين. ومَرَّ عليه الغزالي رحمه الله تعالى في «المُسْتَصْفَى» ولم يبلغ حَقِيْقَتَهُ وقال: إنَّ الآية لا يُفْهَمُ منها التخييرُ أصلا، فكيف يمكن أن يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفَهِمه؟ ثم حكم عليه بالوَضْع. قلتُ: سبحانَ الله، كيف وهو حديثٌ في صحيحِ البخاري؟ والحَلُّ أنه من بابِ البلاغة، وهو تلقي المخاطَب بما لا يترقَّب. فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّملما لم يُنْه عن الصلاةِ عليه صراحةً مَشَى على مُحْتَمل اللفظ، وليس فيه إلا: أنَّ استغفارَكَ غيرُ مفيدٍ له، فلم يبحث عن النَّفْعِ الأخروي، فإنه لما أراد أن يُصلِّي عليه اكتفى بِسَعَة الألفاظ فقط، ولم يكن فيها إلا عَدَمُ نَفْع صلاته. فَصَلَّى عليه شفقةً وحِرْصًا حتى نزل صريحُ النَّهْي.
صحيح البخاري
(4/72)
---
قوله: ({وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم}) (التوبة: 84)... إلخ. وحينئذٍ صار أَبْعَدَ الناس عن الصلاةِ عليهم. وأين عمرُ رضي الله عنه من النبيّ صلى الله عليه وسلّمفإنه كان نَبيَّهُم وأَوْلَى بأَنفُسِهِم، فأراد أنْ ينتفعَ بالمحتَمِلات، فإنه آخِرُ الحِيَل، لعلَّ اللَّهَ ينفعُهُ بها.
ونظيرُهُ قوله صلى الله عليه وسلّم «مَثَلُ أُمتي كَمَثَلِ المَطَرِ، لا يُدْرَى أوَّلُهَا خيرٌ أم آخِرُهَا». لم يُدْرِك مرادَه نحو أبو عمرو، والتزم أَنَّ غيرَ الصحابي مما يمكن أنْ يكونَ مِثْلَ الصحابي، مع أنه باطلٌ قطعًا، ولم يَحْمِله عليه إلا مُحْتَمل اللفظ، والمَشْي على المُحْتَمَل إنما يليقُ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّمدونَ غيره. والطِّيبيّ لما كان حاذِقًا في العربية أدرك حقيقةَ المرادِ، وقال إنه نحوُ قوله:
*تَشَابَهَ يومًا بأسُهُ وَنَوَالُهُ ** فما نحن ندري أيُّ يومَيه أَفْضلُ(4/70)
*أيوم نداه الغُمْر أم يوم بأسه ** وما منهما إلا أَغَرُّ مُحَجّلُ فهو مِنْ باب تَجَاهُل العارف من صنائع البدائع، لا من باب العقائد والمسائل. والحاصل: أَنَّ أُمَّتِي خَيْرٌ كُلُّهَا.
صحيح البخاري
باب ُ الكَفَنِ بِغَيرِ قَمِيص
1271 - قوله: (كُفِّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إلى قوله: «لَيْسَ فيها قَمِيْصٌ ولا عِمَامَةٌ») وهو حُجَّةٌ للشافعية رحمهم الله.
(4/73)
---
قلتُ: وروى أبو داود - بِسَندٍ فيه يزيدُ بنُ زياد - عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كُفِّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي ثلاثة أثوابٍ نَجْرَانِيَّة: ثوبانِ وقميصُهُ الذي مات فيه» اه. (393) - باب: الكفن - ويزيد بن زياد هذا عالمٌ جليلٌ القَدْر، كما أقَرَّ به الذَّهْبِيّ. وقد حَسَّن الترمذيُّ حَدِيْثَه في باب: الذي يُصِيْبُ الثَّوْبَ. وأخرج عنه مسلمٌ مقرونًا مع الغير، واختلط في آخر عمرهِ. وقالوا: إنَّ من قدماءِ تلامذتِهِ سفيانَ، وقُتَيْةَ، وهُشَيْم، وكونُ هشيم من القدماء مذكورٌ في التخريج (1210).
ولنا أن نقول: إنَّه صَحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأنَّه أعطى قميصَه ابنَ أبي. وعند النَّسائي: أنه أعطَى قميصَه رجلا من الشهداء. وحينئذٍ ساغ لنا أَنْ نقولَ: إنَّ نَفْي القيص مَحْمولٌ على عَدَمِ كونِهِ مخيطًا، وإنما عَبَّر الفقهاءُ عن هذا الرداء بالقميص لأنه يُقَمَّص. وقد عَلِمْت من قبل أن القَمِيْصَ عندنا في الحقيقةِ رداءٌ يُقَمَّصُ به فقط، لا يكونُ فيها الكُمَّان ولا الدَّخَارِيص ولا الخياطة، فلم تَبْقَ حقيقتُهُ إلا رداءً يُلْبَس كما يُلْبَسُ القَمِيْصُ.
(4/74)
---(4/71)
هكذا يُعلم من الموطأ - لمحمد رحمه الله تعالى ، وأصله في الموطأ لمالك أيضًا إلا أن في إسناده سهو، ففيه عبد الرحمن بنُ عمرو بن العاص، مع أنه عبدُ الله بن عمرو بن العاص: «أن الميتَ يُقَمَّصُ، ويُؤزُ، ويُلَّفُّ بالثوبِ الثالثِ» يعني به أن الميتَ وإن لم تكن في كَفَنِهِ هذه الثياب، لأن الكَفَن عبارةٌ عن ثلاثة أَرْدِية، ولكنه يُلْبَسُ الثوبَ الأول كالقميص، والثاني مكانَ الإزار، وكذلك الثالثُ يُلَفُّ به. فهذا الذي عناه عبدُ الله بن عمرو - على أن نَفْي القميص يدل على شيوعِهِ في زمن الراوي كما مر معنا التنبيه في حديث ابن عمر رضي الله عنه في رَفْع اليدين ، فإنَّ النَّفْي قد يترشَّح منه الإيجابُ أيضًا، كما قيل: إنَّ في مض لمطمعا. فلو أَوَّل به حنفيٌّ وادَّعَى ثبوت القميص في كفنه صلى الله عليه وسلّممع حَمْل النَّفِي على ما ذكرنا لساغ له ذلك، ولكن لَسْتُ أَرْضَى بهذا التأويل. والأَصْوبُ عندي أنْ يُلتزم ويُقَرّ بما قاله الخُصوم، لأن الخِلاف معهم ليس في الجواز وعدمه.
صحيح البخاري
ثم إنَّ المالكيةَ اعتذروا عنه بوجهٍ آخَرَ وقالوا: إنَّ القَمِيْصَ وإن ككان في كَفَنِهِ صلى الله عليه وسلّم ولكنَّه لم يكن معدودًا في ثيابه الثلاث، بل كان زائدًا عليها. وإنَّما اضطُّروا إلى هذا التأويل لأن الكَفَنَ عندهم خَمْسَةُ أبواب.
فائدة:
(4/75)
---(4/72)
بقي الكلام في العمامة: ففي كُتُب الحنفية أنها تجوزُ للأَشراف، والأشراف عندهم يُطلق على السِّيد، لا كما في عُرْفنا اليوم. فإنَّ الأشرافَ في عُرْفنا يقابل الأَراذل والسقاط من الناس. والذي يظهَرُ لي أن تَرْكَهَا أَوْلى، فإنها إذا لم تكن في كَفَنِهِ صلى الله عليه وسلّمففي غيره أَوْلَى. ومع هذا لو عَمَّمُوا أحدًا مِنْ ذوي الفَضْل لا تكون بِدعة، لأن ابنَ عمرَ رضي الله تعالى عنه قد عَمَّم ابنه. وفي «الكنز»: أنه كُفِّن في سبعة أثواب. والعَجَبُ من السُّيوطي رحمه الله تعالى حيث رمز عليه بالصحة، ولم يَرَ أنها تخالِفُ صحيح البخاري، ومحملها أن الراوي تسامح فيها، فَعَدَّ مجموعَ الثياب التي أُتِي بها لِكَفَنِهِ صلى الله عليه وسلّموإنْ كان كُفِّن في بعضها. ففي الروايات: أنهم أتوا بِحُلَّة ليُكَفَّنَ فيها، فلم يناسِبْها الصحابة. وكذا في الرواية: أَنَّ مولاه شقران قد كان ألقى قطيفته تحته صلى الله عليه وسلّمعلى غفلة من الصحابة رضي الله عنه، فلما استشعروا بها أمروا بها فأُخْرِجت، وقيل: بَقيت تحته صلى الله عليه وسلّم
*وأُلقِيتْ في قبره قَطِيْفةٌ ** وقيل: أُخْرِجت وهذا أَثْبَتُ وكذلك يمكن أَنْ يكونوا أَتَوا بقميصٍ فلم يناسبوه أيضًا. ومن ههنا اختلف في التعبير، فمن نظر إلى الأثواب التي جيء بها للكفن عَدَّها سبعًا، كما في «الكنز». ومَنْ نظر إلى الأثوابِ التي كُفِّن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفيها عَدَّها ثلاثًا، كما في البخاري، وتلك أنظارٌ تَصِحُّ كلُّهَا.
فائدة:
(4/76)
---(4/73)
واعلم أنَّ الرافضي عند علماء الجرح والتعديل، مَنْ سَبَّ الصحابةَ رضي الله عنهم، ومَنْ كان حُبُّه مع أهل البيت أَزْيَدَ كان يُسمُّوْنَه شِيعيًّا، ولم يكن العرف عندهم كما شاع الآن، فإنَّ الشيعيّ والرافضي عندنا واحد. فإذا ظهر عندهم من حال أحد أن وجهته إلى أهل البيت رموه بالشَّيعية وغيرها، وليس بشيءٍ فإِنَّا إذا فتشنا عن حاله لا نجده إلا نَاصِحَا لله ولرسوله، فليتنبه. ولا ينبغي أن يتأثر من جرحهم إذا ثبت عنده حال رجل بخصوصه من عِلْمه ودِينه، كأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى، فإنه قد بلغ عندنا عِلْمُه وحالُهُ على ضوء الشمس في رابعةِ النهار، واختبرناه بكل ما يمكن، فما وجدناه إلا تِبْرًا أحمر، فلا نتأثر فيه بما قيل. وقال: نعم مَنْ لم يبلغ عندنا حالُهُ وَفَضْله إلا جمليًا، فلا سبيل لنا إليه إلا بالاعتماد على ما قالوا: ولا يحسبن جاهلٌ أو متجاهل أبي أُهْدِر علمَ الجرح والتعديل، أو استخفُّ به، فإنه هو المحك. ولكن أُنبِّه الممارِسَ المزوالَ للفن، فإنه يَمُرُّ مِثْلُ ذلك كثيرًا، فيرى من رجالِ البخاري مِنْ لم يخلصوا من الجرح. ثُمَّ يقلق في مكانه، وتضطرب نَفْسُهُ. أليس قد أقرَّ الحافظ رحمه الله تعالى أن التعصُّب بالمذاهب أيضًا دخل في هذا الباب؟ ثُمَّ الناس أيضًا على أنحاء: بين شديدٍ ولين، فلا سبيلَ إلى الفصل إلا التجربة والممارسة والتفطن لما قالوا، والتنبه على ما فعلوا، وذكل كله للمشتَغِل العاني دون المستريح المجاني، فإنه ليس له إلا الاتباع، ولا عبرة برأيه ف.ي هذا الباب، بل لا حَقَّ له أصلا فاحفظه.
صحيح البخاري
باب ُ الكَفَنِ وَلا عِمَامَة
صحيح البخاري
باب ُ الكَفَنِ مِنْ جَمِيعِ المَال
خالف فيه مالكًا رحمه الله ونَفَى العِمَامة.
صحيح البخاري
باب إِذَا لَمْ يُوجَدْ إِلا ثَوْبٌ وَاحِد
(4/77)
---
صحيح البخاري(4/74)
باب إِذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنًا، إِلا ما يُوَارِي رَأْسَهُ أَوْ قَدَمَيهِ، غُطِّي بِهِ رَأْسُه
صحيح البخاري
باب ُ مَنِ اسْتَعَدَّ الكَفَنَ في زَمَنِ النبي صلى الله عليه وسلّمفَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيه
وهو كَفَنُ ضرورة، وهو بما قدر، فإن لم يوجد إلا رِدَاء، إن غطى به الرأس انكشفت الأقدام، وإن غُطّيت الأقدام انكشفت الرأس، ينبغي أن يُعطى الرأسُ ويجعل على قدميه الإِذْخِر، كما في الباب الآتي.
صحيح البخاري
باب ُ اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الجَنَائِز
1278 - قوله: (نُهِيْنَا عن اتِّباع الجنائز، ولم يُعْزَم علينا)... إلخ. كيف أشارت إلى المراتب في النهي، فدلت على أنه ليس بنهي عَزْم وإن كان مطلوبًا، وتلك المراتب لا يُدْرِكُهَا العلماء، ومنهم مَنْ لا يكاد يفهمه، فسبحانَ اللَّهِ ما أعلم وأَزكى نساء زمانه صلى الله عليه وسلّم حيث سبقوا على أُولي العِلْم ببركة صُحبة نبيِّنّا صلى الله عليه وسلّم
تنبيه: قد سبق معنا فيما مرَّ أنَّ لَفْظَ الاتباع بمادتِه أَقْرَبُ إلى الحنفية، وأَعْدَلُ الأقوال عندي أن لا يُؤخذ بالألفاظ بتلك الشدة. فإنَّ رعايةَ الحقيقة والأَخْذَ بها بهذه المثابةِ، إنما يليقُ بِشَأَنِ القرآن العزيز، فلا ينبغي الجمودُ عليه في باب الأحاديث، ولا تُبنى عليه المسائل فإن الاتباع في العُرف يُستعمل في الأمور الحِسيَّة والمعنوية كليهما. ويطلق على المشي مع أحدٍ مطلقًا، تقدم أو تأخر. وحينئذٍ لا يكون لفظُ الاتِّباع دليلا لنا وإن صَلَح لغةً.
(4/78)
---(4/75)
قوله: ((ألا فَزُورُوهَا)) وفيها روايتانِ عن إمَامِنا نقلهما الشَّامي: الأُولى إجازتُهَا للرِّجَال فقط، والأخرى الإجازةُ مطلقًا. والمختار عندي الجَمْع بينهما على أنهما ليستا روايتين عن الإمام رحمه الله، بل هما وجهتين لروايةٍ واحدةٍ في الحقيقة، فظنَّ أنهما روايتان مستقلتان. ولذا تصدَّى الشامي إلى الترجيح. والأمر عندي أن تقسم على التارات والحالات، فإن كانت صابرةً لا يُخْشى منها الجزع وهَتْك الحدود جاز لها أن تَخْرُج، وإلا لا. بقي السَّفَر إلى المزارات والمقابر كيف هو؟ أقول: يجوزُ للمقابر المُلْحَقة بالإجماع. وتُستحب زيارةُ النبي صلى الله عليه وسلّمبالتواتر. وأمَّا ما سواها من المقابر فلا نَقْل لَهَا عندي من الأئمة، نعم نُقولُ من المشايخ، فلذا أَكُفُّ عن اللِّسَانَ.
صحيح البخاري
باب ُ حَدِّ المَرْأَةِ عَلَى غَيرِ زَوْجِهَا
صحيح البخاري
باب ُ زِيارَةِ القُبُور
واعلم أن الإحداد بالموتِ متفقٌ عليه عند جميع الأئمة، أما في الطَّلاق فهو عند الحنفيةِ فقط، وهو مختار النَّخَعِي أيضًا. وهذا النَّخَعي من أساتذةِ إمَامِنَا رحمهما الله. ثُمَّ إنَّه يحِب لَحقِّ الزَّوْج، ويجوز لغيره أيضًا ثلاثة أيامٍ عند محمد رحمه الله وعليه الاعتماد عندي، وإن كان في الكُتُب عدمُ الجواز.
(4/79)
---(4/76)
واعلم أن هناك فائدة ينبغي أن تحفظَها ولا تَنْسَها، وهي أن الفقيه الغَيْرَ المُحَدِّث إذا رأى في الفِقْه سكوتًا عن أَمرٍ ربما يَحْمِله على النَّفي فيصرِّح به، فيجيء المتأخِّرُ ويظن أنه منقولٌ عن أئمتنا فيتضرر به، فإنه يد يخالِفُ صريحَ القرآن. فيجب على الفقيه أن يشتغل بالحديث والقرآنِ أيضًا لتبقى مراعاتُهُما بمرأى عينيه. ومَنْ لا يشتغلُ بالحديث فإنه لا يحصلُ له علم بكثيرٍ من المسائل التي تتعرض لها الأحاديث ولم يتعرض لها فقهاؤنا، وذلك لعدم كونها من موضوع فَنِّهِم. وقد مرَّ معنا التنبيه في الأوائل أن التقليدَ لا يحكم إلا بعد النظر إلى الأحاديث. وكذا الأحاديث لا يستقِرُّ مرادُهَا عندنا إلا بعد النَّطر إلى أقوال السَّلَفِ، فمن أراد أن يحصلَ له عِلْمُ السَّلَف فليَجْمَع بين الأَمْرَين.
1270 - قوله: (جَاء نَعْيُ أبي سُفْيَانَ) وهو والدُ أُمِّ حبيبة.
قوله: (حينَ تُوفِي أَخُوها) قال الحافظ رحمه الله: إنَّ الذي مات بالحبشةِ مات على النصرانية فلا معنى للإِحداد عليه، والآخَرُ بقي بعدها حَيًّا، فعلى مَنْ كانت تحد. ثُم أجاب مِنْ عنده: أن الذي أرادَتْ عليه الإِحْدادِ هو الذي مات على النَّصْرَانية، ولا بأس به فإنَّه أَمْرٌ فِطْريّ. أقول: ولا تَعَرُّضَ إليه لعدم بناءِ مسألة عليها، نعم مَنْ أَراد أن يضعَ شَرْحًا على البخاري فعليه أن يدخلَ في تلك المباحث.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «يُعَذَّبُ المَيِّتُ بِبَعْضِ بُكاءِ أَهْلِهِ عَلَيهِ»إِذَا كانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِه
(4/80)
---(4/77)
واعلم أنَّ في مسألة البابِ خلافًا بين عائشةَ وابنِ عمر رضي الله عنهما. فقالت عائشةُ رضي الله عنها إنالكيت لا يعذب ببكاء الأهل، فإنه من فعلهم فلا تزره نفس الميت وابن عمر رضي الله عنه يثبته. وجات عائشة رضي الله عنها. عَمَّا رواه ابنُ عمرَ رضي الله عنه، بأنه سها فيه، فإنَّها كانت واقعة جزئيةً لا مرأة يهوديةٍ وكانت تُعذَّب، فجعلها ابنُ عمرَ رضي الله عنه ضابطةً كليةً للمسلمين وغيرهم.2
قال العلماء: إن تخطئتَها ليس بذاك، فإنَّه رواه غيرُهُ أيضًا لا يمكن الوَهْم كم كُلِّهم. وقد ذكر العلماءُ للحديث سبعةَ وجوه سَرَدَها الحافظ رحمه الله واختار منها البخاريُّ رحمه الله: أن العذابَ فيما كان النَّوْحُ من سُنَّتِه، وأَمَّا إذا لم يكن مِنْ سُنَّته فإنَّه لا يُعذَّبُ.
وحاصِلُهُ: أنه قسم على الحالات، فجعل بَعْضَه حرامًا، وبعضَه جائزًا، والذي هو حرامٌ هو أن يَرْضَى به الميتُ فيكون رضاؤه بالبكاءِ سببًا لعذَابِهِ. ولفظ «البَعْض» في الحديث أيضًا يَدُلُّ على أن بَعْضَه جائزٌ كما سيجيء، واستدل عليه بآيةٍ وحديث.
(4/81)
---(4/78)
وحاصله: أنَّ الإنسانَ مأمورٌ بإصلاح نَفْسه ورعيته، فيُؤاخَذُ بتركِ إصلاح نَفْسِهِ ورعيتِهِ معًا. وأما إذا نهاهم عن البكاءِ ثُمَّ فعلوه بعد موته فله ضابطةٌ أُخْرَى، وهي كما ذكرت عائشةُ رضي الله عنها. وهذا الذي عُني بالتقسيم على الأحوالِ. وتفصيلُهُ أَنَّ الشَّرْعَ كما يُؤاخِذ المباشِرَ كذلك قد يؤاخذ المُسَبِّب أيضًا، وقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) لا يُخَالِف أَخْذَ المسبِّب فإنَّ التسبيبَ أيضًا مِنْ فِعْلِهِ كالمباشَرَة، فلم يكن مِنْ وِزْرِ الآخَر بل وِزْر نَفْسِهِ والمرءُ يُؤاخَذُ به لا محالة إلا أنَّ المُؤاخَذَةَ في المباشِر مطلقٌ، وفي مؤاخذة المسبِّب تفصيلٌ، وهو الذي رُوعي في قوله صلى الله عليه وسلّم «لا تُقْتَلُ نَفْسٌ»... إلخ. ففيه المؤاخذةُ مِنْ المُسبِّب.
فإذا عَلِمت أَنَّ الشَرْع وَرَد بِأَخْذِ المباشِر والمُسَبِّب كِلَيْهِمَا فالطَّرْد على واحدٍ منها وتَرْك الآخَر حَمَقٌ قَطْعَا. ولكن يجري في مِثْله التَّقْسِيْم على الحالات. ولذا قلت فيما مَرَّ: إِنَّ الشَّرْعَ نَصَب القواعِدَ، وقد يَصْدُق على جزىءَ واحدٍ قواعدُ شَتَّى وحينئذٍ يتعسَّر إدخالُهُ في واحدٍ منها وَتَرْك التجاذب، فيحتاجُ إلى النَّظر في أَنَّ هذا الجزئي بأيِّ القواعِد أَقْرَب فيلحق بها، ويقسم بينها. وهذا التقسيمُ الصحيحُ هو وظيفةُ المُجْتَهِد، وهو على نحو ما قال الدَّوَّاني: إنَّ أُلوفًا من الكلياتِ تَصْدُق في مَحَلَ فيصيرُ مجموعُهَا جزئيًا.
صحيح البخاري
(4/82)
---(4/79)
والجواب الثاني: أن التعذيب عبارةٌ عن تعبيرِهِ بما أَثْنُوا عليه بعدَهُ، كقول الملائكة لأبي موسى الأشعري عند الترمذي: «أهكذا كنت؟» حين غُشِي عليه وناحَت عليه زَوْجَتُهُ. وأَرْجَحُ الأجوبةِ عندي ما ذكره ابنُ حَزْم رحمه الله: إنَّ أهلَ الجاهليةِ كانوا يَذْكُرونَ في النياحةِ أفعالَ الميت التي تكونُ مِنْ أَعْظَمِ الكبائرِ وموجِبات النار، نحو قولهم: إنَّك قاتَلْتَ فُلانًا فلم تَتْرُك منهم أحدًا، وأَغَرْتَ على فلانٍ إلى غير ذلك من الشنائع. وكانوا يذكرونها افتخارًا وَمَدْحَا للمَيِّت على ظَنِّهم الفاسدِ. وكانت تلك الأشياءُ كُلُّها من أفعالِ الميت، فكان العذابُ من أَجْل أفعالِهَا لا من أجل البكاء. ويوضِّحُهُ ما عند المُصَنِّف رحمه الله في الصفحة الأخرى: إنَّ الميتَ يُعذَّب في قَبْره بما نِيح عليه، وما نِيح هو معاصِيه بِعَيْنَها التي اقترفها وليست مِنْ فِعْل غيره. وهذا أَعْجَب الشُّروح إليَّ.
1284 - قوله: (فَلْتَصْبِر) وفي بعضِ الروايات: «فلتصبري» وفيه دليلٌ على أنَّ «اللام» قد تَدْخُل على الأَمْر الحاضِر أيضًا، كما قاله الكُوفيون خلافًا للبَصْريِّين.
1284 - قوله: (تُقْسِمُ عَلَيْهِ) وهو من باب إبرار المُقْسِم فلو كان من لفظها: أَنَّها تُقْسِم عليك أَنَّك لتأتِيَنَّهَا، لا يكونُ واحِدٌ منهما حالِفَا. وإنْ كان: أني أحلِفُ أَنَّك لتأتيني، ويصيرُ المتكلِّم به حالِفَا، ويُستحب إبراره للآخَر. وترجمته في الهندية تقسم عليه آي (واسطه ديتي هين) قال الحافظ رحمه الله تعالى: ثُمَّ بقي هذا الولد حيًّا إلى زمنٍ مع التصريح بدخولِهِ في النَّزْع.
(4/83)
---(4/80)
قلتُ: وينبغي أن يُعدَّ هذا من مُعجزاتِهِ صلى الله عليه وسلّم والعَجَب من السُّيوطي رحمه الله تعالى أنه تَمسَّك فيه بروايةٍ تكاد تكونُ موضوعةً، ولو أتى بهذه لكان أحسن، نعم ينبغي للطبيبِ أن يَبْحَث في أنه هل يمكنُ عَوْدُ الروحِ بعد الدخول في النَّزْع أم لا؟ فإن أُمكن فلا يخلو إما أن يَطَّرد ذلك أو لا. وعلى الثاني تكونُ معجزةً، وعلى الأول لا تكون معجزةً لدخوله تحتَ الضابطةِ الطبية. وأما إذا كان لا يمكنُ العَوْدُ أصلا فهو معجزةٌ مُطْلقًا. والذي يظهر من كُتب الطبِّ أن الطَّبْع إذا صار مغلوبًا في البحران يرجِعُ إلى القلبِ كليلا، فإذا رجع إليه قَوِي لكونِ القَلْب مَعْدَن الحياة فيكتسب منه قوةً وجعل يدافِعُ المرضَ حتى يدفَعَه. فهذا يدلُّ على أن العوْدَ بعد النَّزْع ممكنٌ وإن لم يكن مُطَّرِدًا فيكونُ معجزةً في هذه المادة. وقد قال لي بعضُ أقاربي: أني دخلت في النَّزْع مرةً، فرأيتُ أن شيئًا ينزع من قدمي، فإذا بلَغ إلى السُّرّةِ تَفَلَّت وبلغ إلى مَوْضِعه كالبرق، ولم أزل أُحُسُّ كذلك حتى بَقِيْتُ حيًّا.
صحيح البخاري
1285 - قوله: (لَمْ يُقَارِف) والمقارفة الإتيان بما لا ينبغي (ناشايان كام). قال الشارحون رحِمهم الله تعالى: إنَّ عثمانَ رضي الله عنه كان قد جامع بَعْضَ جوارِيه في تلك الليلة وله العُذْر أيضًا، فإنَّ مَرَضَها لما طال وتمادَى ولم يكن يخطر بِبَالِهِ أنها تُتوفَّى في هذه الليلة اشتغل بِمِثْلِهِ، ولكنَّه لما كان مُشْعِرًا بِغَفْلَتِهِ في عدم إقامته بحقِّ التمريض أظهر عنه المَلالَ. ونقل الحافظ رحمه الله تعالى في تفسيره عن الطحاوي: لم يُقاول الليلةَ ثُمَّ رَدَّ عليه.
(4/84)
---(4/81)
قلتُ: ليس مَا ذَكَره الطحاوي روايتَه ولا بَدلا عن اللفظ، بل أراد الطحاويُّ رحمه الله تعالى بيانِ المراد. وحاصله: أن تلك الواقعةَ لما لم تَثْبُت بالروايةِ فلا حاجةَ إلى التزامها. ويمكن أن يكونَ اشتغل بالتحديث والمقاولةِ مع كونه لا ينبغي له في مِثْل هذا الأوان، فَكَرِهَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم نعم لو ثَبت في رواية أنه كان جَامع لكان لالتزامِه وَجْه. أمَّا إذا لم يَثْبُت فلا حاجةَ لنا إلى تقديرِهَا مِنْ أجل لَفْظ المَقَارَفة هكذا يعلم بالمراجعة إلى مُشْكِلة.
مسألة
يجوزُ للأجانب إنزالُ الميتِ في القبر عند الحاجة، وإن كان الأَوْلَى هو الزَّوْج والأَقارب.
قوله: (قد كان عُمرُ رضيا للَّهُ عنه يقولُ بَعْضَ ذلك) وكأنَّ ابنَ عباس رضي الله عنه لم يُسَلِّم عذابَ الميتِ بِبُكَاءِ الحيِّ.
قوله: (صَدَرْتُ مَعَ عمرَ رضي اللَّهُ عنه) وهذا آخِرُ حجة، ثم استُشْهِد بَعْدَهُ.
قوله: (إنَّ اللَّهَ لَيزيدُ الكافِرَ عذابًا)... إلخ. وهذا مضمونٌ آخَرُ غير ما مرَّ. وفيه: أنَّ العذابَ عليه من معاصيه، ولكنَّ اللَّهَ يزيدُهُ عذابًا من نياحَتِهم وقد آخَذَهُ القرآنُ أيضًا في واضعَ. ونَبَّه ابنُ المنير على أنَّ مِنْ سُنَّة اللَّهِ تعالى أن العبدَ إذا ازداد في الكفر يزادُ عليه بعضُ الكفر نكالا. ومنه قوله تعالى: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} (البقرة: 10) فاقترفوا الكُفْرَ هؤلاء من عِنْد أَنْفُسِهم فعُوقِبُوا بِكُفْرٍ آخَرَ من عنده تعالى.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُكْرَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى المَيِّت
(4/85)
---(4/82)
«مِنْ» ههنا أيضًا تبعيضيةٌ عندي، وذلك لأنه لا بد كون بَعْض مراتبِ النياحة تحت الجواز وإن لم نَقْدِر على تحديدها، لما قد ثَبَت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمالإغماضُ عن بَعْضِهَا كنياحةِ أُمِّ الأَخِ لجابر رضي اللَّهُ عنه حين استُشِهِد. وفي البخاري: أنَّ امرأةً بايعت النبيَّ صلى الله عليه وسلّموترخَّصَت في النياحة مرةً قضاءً عَمَّا كان علهيا من نياحةٍ في الجاهليةِ. فأجاز لها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم واضطَّرَبَ فيه الشارحون، والصواب ما ذكره القرطبيُّ رحمه الله تعالى أنه لا بُدَّ مِنْ إقامةِ المراتب، والتحديد يَتَعَسَّر في مسألة. ولذا صَرَّح السَّرَخْسِي رحمه الله تعالى: أنَّ المسألةَ فيه عندنا أن يُفوَّضَ إلى رأي المُبْتَلَى به. لا أريدُ به فَتْحَ بابِ النياحة، ولكن أريدُ فيه المستثنياتِ.
ثم لا بدَّ مِنْ الفَرْق بين الإغماضِ الرضاء. فالذي أقول هو الإغماضُ في بعض الأحيان مع إظهار عدم الرضاء منها، وهو الذي أرادَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفي الباب الآتي فلم تبكي، أو لا تبكي، فما زالت الملائكةُ تُظِلُّه، ففيه عَدَمُ الرضاء مع الإِغْماض.
صحيح البخاري
باب
وظنيِّ أنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى يريدُ أن يشيرَ إلى المُسْتثنياتِ، إلا أنَّه لم يتكلَّم بها لكونها غيرَ مُنضبطةٍ، فدلَّ على أن تَرْك الترجمةِ قد يكونُ لهذا المعنى أيضًا.
صحيح البخاري
باب لَيسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الجُيُوب
ومعناه على المَشْهُور ليس على طريقتِنَا وسُنَّتِنَا. وكان سُفيانُ الثوريُّ يمنع عن تأويلهِ ويقول: إنَّ مِثْلَ هذا الحديث ينبغي أن يترك على ظاهرِهِ ولا يُؤوَّل، فإنَّه يخف منه الوعيد. والمقصودُ زَجْرُ الناسِ عنه والتخفيفُ يُخُلُّ به.
صحيح البخاري
باب رَثَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم سَعْدَابْنَ خَوْلَة
(4/86)
---(4/83)
1295 - قوله: (عَام حَجَّةِ الوَدَاع) ويقول بعضُهُم عامَ الفَتْح، فهو مِنْ اختلافِ الرواة.
1295 - قوله: (يَتَكَفَّفُوْنَ) (اته يسارين).
1295 - قوله: (إلا أُجِرْتَ بِهَا) وترشَّحَ منه أنه لَعله تَطُوْلُ حياتُهُ ولا يموتُ في هذا المَرَضِ. ولذا سأل عنه فقال: «يا رسولَ الله أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟» كأنه يسخبرُهُ عن حياته وموته، ولكنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يجبه صراحةً. والمرادُ من التخليف على هذا التقدير بقاؤه حياتُهُ. ويمكنُ أن يكونَ مرادُهُ: أنَّك تذهبُ إلى المدينةِ وأصحابُكَ معك ذاهبون، أفأَتخلَّفُ عنهم فلا أَقْدِرُ على الذَّهَابِ معك؟ فالتخليفُ إذن بمعنى بقائه يمكةَ وعدم ذهابه معه. وكأنه يستخبرُه عن هجرتِهِ هل تَتِمُّ أو لا؟ فإنَّ الصحابةَ رضي الله تعالى عنهم كانوا يَعُدُّون الموتَ في غيرِ دَارِ هِجْرَتِهِم نَقْصَا. ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلّم «إنك لن تُخَلَّف»... إلخ يعني إنك إن بقيتَ ههنا ولم تَبْلُغ إلى المدينةِ فلا بأس، فإنَّك أن تعمل عملا صالحًا فَنَفْعُهَا نائلٌ إياكَ لا محالة، فهذا القَدْرُ من المنفعةِ حَاصِلٌ لك بمكةَ أيضًا.
1295 - قوله: (لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ) أي تَطُول بك الحياةُ. أشار فيه إلى بقائِهِ وحياتِهِ وانتفاعِ المؤمنين وَتَضَرُّرِ الأعداء، فوقَع كما أَخْبر فكان فَاتْحًا. فإن قلت: إنَّ التخلُّفَ في الأول كان بمعنى التخلف عن الذَّهَاب معه دون الحياةِ. وههنا بمعنى الحياةِ، فهو فَكُّ في النِّظَام. قلتُ:: وهذا البحثُ يناسِبُ مرتبةَ القرآن، أمَّا الحديثُ فلا يُشددُ فيه بذلك.
(4/87)
---(4/84)
1295 - قوله: (اللهم أَمْضِ لأصحابي)... إلخ. وفيه دليلٌ على أن الوفاةَ في غير دار الهجرة كانت تُعَد نَقْصَا ولو كان بِأَمْرٍ سماوي. قلتُ: ولكنَّ هذا النقصَ يكون تكوينيًا. أعني به أن شاكلةَ حَشْرِ أهل المدينة لَعلَهَا تغايرُ شاكلَةَ حَشْرِ أهل مكة، فالله تعالى يَدْري ما الفرق بين الْحَشْرَين. وبالجملةِ مَنْ مات بمكَةَ لا يُحْشَر كَحَشْر أهلِ المدينة، وهذا الذي عنيت بالنقصِ التكويني.
1295 - قوله: (يَرْثي) أي يرق له. وفي اللغة فَرْق بين قولِهِ رَثَاهُ ورَثَى لَهُ.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُنْهى مِنَ الحَلقِ عِنْدَ المُصِيبَة
و «من» ههنا تعبيضةٌ أيضًا. فلو احتاج عند المصيبةِ إلى الحَلْق جاز، والحلقُ عند المصيبةِ رائجٌ في كُفَّار أهل الهند إلى يومنا هذا.
صحيح البخاري
باب لَيسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُود
1297 - قوله: (ودعا بِدَعْوَى الجَاهِلِيةِ) أي يقولُ بِقَوْلٍ عُرِفَ في أهل الجاهلية في مِثْل هذا الموضع.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُنْهى مِنَ الوَيلِ وَدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ المُصِيبَة
ولا ريبَ في جوازِ الويل في بعض المواضع، فإنَّه قد وَقَع في التنزيل أيضًا. نعم يمنع عنه عند بَعْضَ الاحتفافات فاستقام التبعيضُ، واعتبرَ المصنِّفُ رحمه الله تعالى في مِثْلَ هذه التراجم أولا ما ينهى عامًّا. ثم بَيَّن ما كان منه ممنوعًا بمن التبعيضية. وهو الذي أجابه الجاربردى في الفَرْق بين قوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ} (البقرة: 23)، وقوله: فأتوا من مثله بسورة، فإن المطلوبَ فيه هو الإتيان بهذا القدر من أوَّل الأَمْر، لا تخصيص بعد تعميم. وهذه فروق يعتبرُهَا البليغُ ويشمئز منها البليدُ.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ جَلَسَ عِنْدَ المُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْن
(4/88)
---
يعني يجوزُ للمُصَابِ أن يجلِسَ في ناحيةِ البيتِ ولا يُعَدّ ذلك مِنْ الجاهلية.(4/85)
1299 - قوله: (لما جَاءَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمقَتْلُ ابنِ حارِثَةَ).. إلخ أي لما جاء القاصِدُ بِنْعِيْهِ، فهذا محاورة.
1299 - قوله: (فَاحْثُ في أَفُوَاهِهِنَّ التُّرَابَ) لم يُرِد به الحقيقة، ولكنَّها كلمةٌ جرت في العُرْف عند الكراهةِ لشيءٍ. وقد مر معنا التنبيه على أنه يُستفاد من هذا الحديث إباحةُ بعضِ مراتبِ النِّياحة مع بقاء الكراهة، وهي التي أشار إليها بقوله: «فاحْثُ في أفواههن»... إلخ. فذقه ولا تعجل ولله درِ عائشة رضي الله عنها أنها قد فهمت حقيقة الكلام حيث قالت: فقلت: - أي في نفسي - أَرْغَم اللَّهُ أَنْفَك لم تفعل ما أَمرَك رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّمولم تترك رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّممن العناءِ، أي لو كنتَ قعدت في بيتك ولم تُواجِه رسولَ الله صلى الله عليه وسلّمبما يكرُهُه كان أحسنَ لك، فلا أَنَّك تفعلُ ما يَطِيب بنفسه، ولا تمتنِعُ عما يكرهُه. فهذا كله يأتي في محل الكراهةِ مع إمكانِ الإِغماض عنها. وهذا الذي أرادَتْ مِنْ قولها: «ولم تترك رسول الله صلى الله عليه وسلّم... إلخ. أي إذا كان بكاؤهُنَّ في حدِّ الإغماض، فلك أَنْ لا تُخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلّمفتدعهن وبكاءهن. ولكنَّك لا تَقْدِر أن تفعلَ ما أُمِرت به، ولا تَرْجِعُ عن أخبَارِه أيضًا. ولو كان بكاؤهن حَرامًا ونياحةً ممنوعةً لما جاء مِثْل هذا التعبيرِ. فافهمه وفكِّر فيه ساعةً تجد المعنى ما قلنا إن شاء اللَّهُ تعالى. وقيل: إنَّ المرادَ منه حقيقتُهُ كما كان عمر رضي الله عنه يفعله. وهو عند البخاري رَحِمه الله تعالى في باب البكاء عند المريض.
(4/89)
---(4/86)
ثم إنَّ مسألةَ العلماءِ في مَنْع الصلاة على غيرِ الأنبياء إنَّما هي عِنْد ذِكْر اسمِهم عُرْفًا وشعارًا. والأحاديثُ إنَّما جاءت في حاجاتٍ خاصَّة. وفي هذه الصِّيغة فيها نِكات خاصَّة: ففي الأموات أنهم مِنْ أهل الصلاة، أي أداء صلاةِ الجنازة عليهم، فإذا فاتت تُدُورِكت بالدعاء بِلَفْظِ الصلاة، مع أنه في أكثر الألفاظِ من لَفْظ الراوي في الحديث الفعلي، ومِنْ فِعْل الملائكة فلا يُقَاس عليه. وفي مُنْتَظِر الصلاةِ أنه في الصلاةِ حُكْمَا، والجزاء من جنس العمل. راجع «العمدة» (2701).
وفي الزكاةِ أنها قرينةُ الصلاةِ فإذا أَتَى بها أُثِيب بالصلاة، وهي له زكاةٌ ورحمةٌ. وكذا في الصوم، مع أنَّ المُفْطِر للصَّائم في حُكْمه، وراجع المناسبة بينها وبين العيادة. وفي قصة امرأة جابر التي حكاها الحافظ كانت اقترحت بهذا اللفظ فدعا لها به. وهكذا في الصفِّ الأول صَلَّت عليهم الملائكةُ، فَصَلَّى عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلّمكما عند «ابن أبي شيبة» (ص253). وكذا في آيةٍ تلاها عُمرُ عند البخاري في الصَّبْر عند الصدمةِ الأُولى. وراجع ما في «النهاية» عن الخطَّابي في مادة الصلاة والتي ظهر من روايات «الدر المنثور» تحت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ} (الأحزاب: 56) أنَّ الصلاةَ في كُلِّها بمعنى «نمار»، ثُمَّ هي أقسامٌ، وعليه ما في «الكنز» وعليه ما في «الزرُّقاني على المواهب» من صلاةِ الجنازةِ عليه صلى الله عليه وسلّمعَنْ عَليّ. «والقول البديع» (ص 8) وراجع ما في: «نُزُل الأبرار» (ص 123) عن الحافظ بن القيم.
صحيح البخاري
(4/90)
---(4/87)
وقال في «عروس الأفراح» (ص139): وقال سيبويه في باب ما ينتصِبُ على المدح: إنَّ الحمدَ لا يُطْلَقُ تعظيمًا لغير اللَّهِ تعالى. وذكر في باب آخر: أنه يُقال: حمدتُهُ إذا جزيتُهُ على حَقِّه. وهذا الكلام هو التحقيق اه. وقوله تعالى: {ألم تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسبِّح له مَنْ في السمواتِ والأَرْضِ كُلُّ قد عَلِم صلاتَه وتسبِيْحَه} (الآية: 41) اه. من سورة النور وكلام ابن القيم في «القول البديع» (ص43) هذا وقد صار شِعارًا للأنبياء فَيُترك لِغَيْرِهم مُطلقًا. ويحتمل أن يكونَ لَفْظُ الصلاةِ لا يخلو عن معنى الثناء والشكر بمعنى «درود» إن لم يكن في كلِّها بمعنى نماز. وما ذكرناه من وَجْه الترك هو في «القول البديع» (ص 42) عن البيهقي.
ولما كان فيه معنى الثناء والتعظيم لا مطلقُ الدعاء اقتصر على مَوْرد النَّص ومَنْ يستحِقُّه به. وهو في «القول البديع» (41) عن الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى وهذه اللعنة والعياذُ بالله العليِّ العظيم وهذا أَوْجَهُ وراجغ سياق «مسلم» (2129).
واعلم أنَّ الملائكةَ تساعِدُ بني آدم فيما يحتاجُ إليها من جوابٍ، أو تأمين على دُعائه، أو إذا احتاجوا إلى ثالثٍ، وهو في كتاب الأيمان (ص106) وتُسلِّم على بني آدم إذا لَقِيتهم، فإن رَدُّوا عليك رَدَّت عليك وعليهم الملائكة. وراجع «الروض». وعند الترمذي (193): لَيُصلُّون على مُعَلِّم الناسِ الخيرَ. وذلك لأنَّ صلاتَهم هي كذلك. وفي «العلو» للذهبي (120) وهو في «الحصن» عند ابن ماجه لا الصحيح: «أكل طعامَكُم الأبرارُ، وأفطرَ عندكم الصائمون، وصلَّت عليكم الملائكةُ وذَكَرَكُمْ اللَّهُ فِيْمَنْ عنده». ولم أجد اللفظ الأخير في ذوق «ونزل الأبرار» إلا في لفظ «مسلم»: «لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يذكرون اللَّهَ إلاّ حَفَّتْهُمْ الملائكة». اه.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ لَمْ يُظْهِرْ حُزْنَهُ عِنْدَ المُصِيبَة
(4/91)
---
أي وبَثَّه إلى اللَّهِ كما في الآية.(4/88)
قوله: (الجَزَع: القَوْلُ السَّيِّيءُ) أراد به تحديدَ الجَزَع الممنوع، ولكنه أين يحصل، ولا ينفع فيه غيرُ الوجدانِ الصحيح. فإنه هو الفَارِقُ بين جَزَعٍ وَجَزَع.
113 - قوله: (أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبما كان منهما) أي سَخِطَ أبو طلحةَ على امرأتِهِ حيث لم تخبرْهُ بوفاةِ ابنه حتى جامعها في الليل. فقصَّ القِصَّة على النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفدعا النبي صلى الله عليه وسلّملهما بما صَبَرت ولم تَجْزَع.
صحيح البخاري
باب ُ الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى
وقد مَرَّ في حديث: «الأعالُ بالنياتِ» عن الشافعيّ رحمه الله تعالى أن المصائب مُكفِّراتٌ مطلقًا، صبر عليها أو لم يَصْبِر، لكونها تعذيبًا، ولا فرق فيه بين الصَّبر وعَدَمِهِ، نعم يُحْرَمُ من تضاعُفِ الأُجور.
قوله: (أولئِكَ عليهم صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهم ورحمةٌ) وفيه دليلٌ على جوازِ لَفْظِ الصلاةِ على غير الأنبياء عليهم السلام أيضًا، ونُقِل عن الفقهاءِ الأربعةِ قَصْرُها على الأنبياءِ عليهم السلام إلا بوساطَتِهم. أقول: وهو الذي ينبغي عليه العملُ، وإلا فيتساهلُ الناسُ فيه فيستعملونَها في كلِّ مَوْضع. نعم لا بد للتَّفَصِّي في الآية من حيلة. وما قيل إنَّ الصلاةَ فيها بمعنى الرحمةِ فليس بشيءٍ، فإنَّ الكلامَ في لَفْظ الصلاةِ بأيِّ معنىً كان./
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ»
صحيح البخاري
باب ُ البُكَاءِ عِنْدَ المَرِيض
(4/92)
---(4/89)
1303 - قوله: (إنَّا بِفِرَاقِكَ يا إبراهيمُ لمحزُنونَ) اعلم أنَّ حَرْفَ النِّدَاء في لغةِ العربِ ليس للخِطَاب كما فهم، ولذا سَمَّى علماء المعاني قولهم: «أيها العصابة» اختصاصًا. وفَصَّل ابنُ الحاجب أيضًا بين حَرْف النَّدْب وحَرْف النِّدَاء إن جَعَلَهُمَا صاحبُ «المُفصَّل» واحدًا. وقد ثَبَت عن الصحابةِ رضي الله عنهم قولهم: «السلامُ عليك أيها النبيُّ» بلا نكير. ومن هذا الباب قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «يا إبراهيم» لابنهِ الميِّت، فلا بأس به، ويقول حسان رضي الله عنه في قصيدته:
قوله: (ظِئْر) يقال لِزَوْج المُرْضِعة أيضًا. والمشهور أن عُمرَه إذ ذاك كان ثمانيةَ عشرةَ شَهْرَا. وقيل: سنتين. فلو صحَّ لدلَّ على مذهب أبي حنيفةَ رحمه الله تعالى في الرَّضاعةِ، فإنَّ مدتَها عنده سنتان وستةِ أشهر، فتكون المرضعة له لأَجْل تكميلِ مدةِ رِضاعَتِهِ.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُنْهى عَنِ النَّوْحِ وَالبُكاءِ، وَالزَّجْرِ عَنْ ذلِك
1306 - قوله: (فما وَفَتْ مِنَّا امرأةٌ) أي ما وَفَت حَقَّ الوفاء، وإلا فالتعميمُ لا يستقيمُ في حَقِّ الصحابياتِ رضي الله عَنْهن.
صحيح البخاري
باب ُ القِيَامِ للجَنَازَة
(4/93)
---(4/90)
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّميقومُ لها في أول أَمْرِهِ، ثُمَّ تَرَك واختلف الصحابةُ رضي الله عنهم في علّة قِيَامِهِ. فقيل: إنَّها كانت جنازَةَ يهودي، فَكَرِه أن تَعْلُو رأسَه. وقيل كان تعظِيمًا للملائكةِ. وقيل: تعظيمًا لأَمْر المَوْت كما يَظْهَر مِنْ لَفْظِهِ: «أليست نَفْسَا». وادَّعَى الطحاوي النَّسْخ بما عند أبي داود، وفيه: «أنَّ حَبْرًا من اليهودِ جاءه وقال: ونَحْن نقومُ لها أيضًا. فَتَرَك النبيُّ صلى الله عليه وسلّمالقيامَ لَهَا». وأقل: إنَّه كانَ ثُمَّ تُرك، وأكفَّ اللِّسَانَ عن لَفْظِ النَّسْخ. وَتَرْكُهُ هو المَرْوِيّ عن محمدٍ رَحِمَه الله تعالى. ثُمَّ إنَّ الظاهِرَ أن قيامَه كان حُرمةً للميت. والله تعالى أعلم.
47 - بابٌ مَتَى يَقْعُدُ إِذَا قامَ لِلجَنَازَةِ
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ تَبِعَ جنَازَةً فَلا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ فَإِنْ قَعَدَ أُمِرَ بِالقِيَام
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ قامَ لِجَنَازَةِ يَهُودِي
وقد عَلِمت أن الأَمْر بالقيام كان في زمنٍ، فلمَّا تُرِك القيامُ تُرك الأَمْر به أيضًا. ونُقِل عن بعضِ الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يَأَمُرُون فيما بعد أيضًا. ولعلَّه لم يَبْلُغْهُمْ خَبَرُ التَّرْكِ فَجَرُوا على أَمْرِهِم الأَوَّلِ.
1309 - قوله: (لقد عَلِم هذا)... الخ، وكان قد نَسِي ثُم تَذَكَّر. ثُم إنَّ القِيام للميتِ يدلُّ على أنَّ اتِّباعَ الجنازةِ لأَجْل التعظيمِ لا للاستشفاع. فإِنْ كان كذلك فالمشيّ خَلْفَها أَفْضلٌ، وإنْ كان للاستِشْفاع فأمامَها، لكونِه مَحلَّ الشافِع.
50 - بابُ حَمْل الرِّجالِ الجِنَازَةَ دُونَ النِّسَاءِ
(4/94)
---(4/91)
وما ذكرهُ صاحِبُ «الكنز» من الترتيب، فهو على ما قيل خطابُ الإِمام لأبي يوسف رحمهما الله تعالى. ثُم هذا الترتيب لمن أرادَ الحَمْل من المتبعين، لا لمن حَمَلوه أولا، بقي الأَرْبع الأُوَل لا حاجة إلى دورهم، نعم لو تناول كل في الحمل فعليهم الترتيب المذكور.
1314 - قوله: (فَإِن كانت صالحةً قالت: قَدِّمُوني)...الخ، وهذا كلامه على السرير عند الغُسْل.
51 - بابُ السُّرْعَةِ بِالجِنَازَةِ
أي مِنْ غير تزعزع.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ المَيِّتِ وَهُوَ عَلَى الجِنَازَةِ: قَدِّمُونِي
واعلم أنَّ مسألة كلام المَيِّت وسماعِهَ واحدةٌ وأنكرها حنفيةُ العَصْر. وفي رسالةٍ فير مطبوعة. لعليِّ القاري: أنَّ أحدًا من أئمتنا لم يَذْهَب إلى إنكارِها، وإنما استنبطوها مِن مسألةٍ في باب الاييمان، وهي: حلف رجلٌ أن لا يكلِّم فلانًا فكلَّمه بَعْدَما دُفِن لا يَحنَث، قال القاري: ولا دليلَ فيها على ما قالوا، فإِنَّ مَبْنَى الأَيْمان على العُرْف وهم لا يُسمُّونه كلامًا، وأنكره الشيخ ابنُ الهمام رحمه الله تعالى أيضًا في «الفتح»، ثم أَوْرَد على نَفْسه: أنَّ السَّماع إذا لم يَثْبت فما معنى السَّلام على القبر؟ وأجاب عنه: أنهم يسمعون في هذا الوقت فقط، ولا دليلَ فيه على العُموم. ثُم عاد قائلا: أنه ثَبَت منهم سَماعُ قَرْع النِّعال أيضًا: فأجابَ عنه بِمثْله.
(4/95)
---(4/92)
أقول: والأحاديثُ في سماع الأمواتِ قد بلغت مَبْلغَ التواتر. وفي حديثٍ صحَّحه أبو عمرو: أن أحدًا إذا سَّلَّم على الميتِ فإِنه يَرُدُّ عليه، ويعرِفُه إن كان يَعْرِفُه في الدَّنيا - بالمعنى - وأخرجه ابن كثير أيضًا وتردَّد فيه. فالإِنكار في غير مَحَلِّه، ولا سيما إذا لم يُنقل عن أحدٍ من أئمتنا رحمهم الله تعالى، فلا بد من التزام السماع في الجملة، وأما الشيخ ابن الهمام رحمه الله تعالى فجعلَ الأَصْل هو النَّفّي، وكلَّ مَوْضِع ثبت فيه السَّماعُ جَعَله مستثنًى ومقتصِرًا على المَوْرد.
قلت: إذن ما القائدة في عُنوان النَّفي؟ وما الفَرحق بين نفي السَّماع، ثُم الاستثناء في مواضِعَ كثيرةٍ، وادعاء التَّخصِيص، وبين إثبات السَّماع في الجملة مَعَ الإِقرار بأنا لا ندري ضوابِطَ أسماعِهم، فإِنَّ الأحياءَ إذا لم يَسْمعُوا في بَعْضِ الصُّوَرِ فمن ادَّعى الطَّرْد في الأموات، ولذا قلتُ بالسماع في الجملة، بقي القرآنُ فأَمْرُه صَعْبُ، قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} (النمل: 8) ، وقال: {وما أَنْتَ بِمُسمِعَ مَنْ القُبورِ} (فاطر: 22) ، وهو بظاهِرِه يدلُّ على النَّفْي مُطلقًا، فقبل بالفرق بين السَّماع، والإِسماع، والمَنْفي هو الثاني دون الأَول، والمطلوبُ هو الأوَّل دونَ الثاني، وأجاب عنه السّيوطي:
*سماعُ مَوْتى كلام الخُلْقِ قَاطبةً ** قد صَحَّ فيها لنا الآثارُ بالكُتُبِ
*وآيةُ النفي معناها سَمَاعُ هدىً ** لا يَسْمَعُون ولا يُصْغون للأَدَبِ قلت: نَزَل الشيخُ رحمه الله تعالى فيها على الغَرض. وحاصل الآية على طَوْره: أنَّ هؤلاء الكفارَ كالمَوْتَى، فلا تَنْفع هدايتُك فيهم، لأن نَفْعها إنَّما كان في حياتِهم وقد مَضَى وَقْتُها، كذلك، هؤلاء وإنْ كانوا أحياء إلاّ أنَّ هدايتَك غيرُ نافعةً لهم، لكونِهم مِثْلَ الأمواتِ في عدم الانتفاع، فليس الغرضُ منه نفيَ السماع بل نفي الانتِفاع.
(4/96)
---(4/93)
صحيح البخاري
قلت: عدمُ السَّماع والسَّمْع والاستِماعِ كُلّها بمعنى عَدَم، العمل، لأنَّ السَّمْع يكونُ للعمل، فإِذا لم يَعْمَل به فكأنَّه لم يَسْمَعْه، تَقولُ، قلتُ له مرارًا أن لا يتركَ الصلاةَ، لكنْه لا يَسْمَعُ كلامي، أي لا يعمل به، يُقال في الفارسية نشنود، يعني عمل نمى كند، فلو قال الشيخ رحمه الله تعالى: إنَّ مَن في القبور لا يعملُون لدُخعل الكلامُ في اللغة، ولم يبق تأويلا، بل الأحسنُ أن يُقال: مانتى نهين، فإِن قلت. إِنَّ الأمواتَ إذا ثَبَت لهم السَّماعُ، فعل لهم الانتفاعَ به أيضًا أو مجردُ سماعِ الصوتِ فقط.
قلت: الصوت، مَنْ مات على الخيرِ فإِنَّه ينتفعُ به أيضًا. وأما مَنح مات على الشرِّ والعياذ بالله فأَنى أَنْ ينتفِعَ إذا لم يَنْتفِعَ إذا لم يَنْتَفِع به فِي الدنيا، وليس له إلا سماعُ الصَّوتِ، والوزجه الثاني: في التَّفَضِّي عن الآية أنَّ هذا السماعَ الذي نحن بصددِ إثباتِه مِن عالَم البَرْزَخ، أخبرنا به المُخْبر الصادقخ فآمَنَّا به، أما في عالِمنَا فهو معدومٌ ولا يَلْزمُ للقرآنِ أن يعبر بما يأتي على العالمين، فجاز أن يكونَ نَفْيُ السماع بحسب عالَمنا، فإِنَّ التشبيهاتِ تكونُ للتوضيح فقط، ولَمَّا كان مَنْ القبور كالعدَم في عالَمنا، ليس لهم سَماعٌ، ولا عِلْمٌ، ولا شيءٌ، جاز له أن ينفيَ عنهم السَّماعَ أيضًا، والقولُ: بأنَّ الأمواتَ إذا ثبت لهم السَّماعَ عند القرآنِ لم يستقم له التشبيهُ بالأموات جَهْلٌ وسَفَهُ، فَإِنَّ التشبيهِهَ إنماوَرَد بِحَسَب عِلْمنا وعالمنا وإنْ ثبت السماعُ عنده وإذ كانوا معدومين في عالمنا لطف التشبيه لا محالة، أما قولُه صلَّى اللهاُ عليه وسلم : «نَم كَنَوْمَةِ العَرُوس»، فقد مرَّ الكلام عليه فلا نعيده.
53 - باب مَنْ صَفَّ صَفَّينِ أَوْ ثَلاثَةً عَلَى الجِنَازَةِ خَلفَ الإِمامِ
54 - باب الصُّفُوفِ عَلَى الجِنَازَةِ
(4/97)
---(4/94)
واستَحبَّ فقهاؤنا أن يكون2 الناسُ ثلاثَ صفوفٍ وإن قَلُّوا، فإِنْ كانوا سبعةْ يَصُفُّ الواحِدُ في الثالث وإن كُره ذلك في المكتوبةِ.
صحيح البخاري
باب ُ صُفُوفِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجالِ عَلَى الجَنَائِز
قالوا في المكتوبة: إنَّ الصبيَّ إن كان واحدًا يَقُومُ معهم ويجوزُ في الجنازةِ مُطْلقًا، لأنَّ الترتيبَ فيها غيرُ مُرَاعَى.
1321 - قوله: (أَفَلا آذَنْتُمُونِي، قالوا: دَفَنَّاه في ظُلْمةِ اللَّيل)... الخ، قال أحمدُ رَحِمه الله تعالى: ثَبَت سنةُ أحاديثَ في الصلاةِ على القَبْر. ثم هل هي وقائعٌ متعددةٌ أم واقعة واحدة؟ فلينظر فيه، ومذهبُه الصلاةَ على القبرِ تجوزُ إلى شَهْرٍ لِمَنْ كان له يُصلِّي عليه من أَهْلها وإن كان صلَّى عليه مرةً، وهو مذهبُ الشافعي، وقال أبو حنيفَة ومالكٌ رحمهما الله تعالى: لا يُصَلَّى على القَبْر إنْ صلَّى عليه مرةً، وإلا يُصَلَّى عليه ما لم يَتَفَسَّخ.
(4/98)
---(4/95)
أما الصلاةُ على الغائبِ فلم تَثْبُت إلا واقعةٌ النَّجاشي. أما واقعة ابن معاوية الليثي فاختلفوا فيها، والظاهر أنه مُنْكر. فإذا لم تَثْبُت تلك الصلاةُ في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّممع أنَّ كثيرًا مِنْ المسلمينَ ماتوا في دراِ غربةٍ في عهدِه صلى الله عليه وسلّمنَاسَبَ أن تُخْتَمَ بِعَهْدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمولا سيما إذا لم يَجْرِ عليها توارثُ الأُمة أيضًا. بخلافِ الصلاةِ على القَبْر فإن بعضَهم عَمِلوا بها فيما بعد أيضًا. فلو شئت أدعيت الخُصوصية وتمسَّكْت بما عند مسلم. «أنَّ هذه القبورَ مملوءةٌ ظُلْمَةً على أَهْلِهَا، وإنَّ اللَّهَ يُنوِّرُهَا لهم بِصَلاتِي عليهم» - بالمعنى . وهذه الخاصِّية لم تكن إلا لصلاتِهِ صلى الله عليه وسلّمفلا تَقاس عليها صلواتُ الآخَرِين مع أن النبي صلى الله عليه وسلّمكان نهاهم أن يدفنوه بدونه فإذا دفنوه ولم يؤذنوه صلى عليه ثانيًا. وهذا معقولٌ فإنَّه لم يكن أن يصلُّوا عليه مع كونِ النبي صلى الله عليه وسلّمفيهم ولا سيما إذا كان نهاهم أيضًا. وقد شَهِدَ التوارثُ إلى يومنا هذا أنه لا يُصلِّي على الجنازةِ إلا الإمامُ وفي «الوفاء» للسُّمْهُودي: أن الأئمة كانوا يُنَصَبون بأَمْر النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وأَظُنُّ أنه صلى الله عليه وسلّملم يكن يَخْرج عن المدينةِ إلا بعد ما يَنْصِبُ لهم إمامًا يصلِّي بهم وفي «الطبقات» لابن سعد: «أنه نَصَبَ ابنَ أُمِّ مكتوم أمامَ المدينةِ مرةً. فكان يؤذِّنُ ويؤمُّ بهم». ولا أرى أذانَه بالليلِ إلا في تلك الأيامِ. وقد مرَّ البحثُ في أذانه: أنه كان دائمًا أوفي زمنٍ معيَّنٍ؟ والظاهر هو الثاني. فإن بيتَه كان بعيدًا، وقد كان استَرْخَص النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأيضًا في عدم حضورِ الجماعة. فقال له: هل تسمع التأذين؟ قال: نعم. فلمْ يُرَخِّص له. فَدلَّ على أَنَّ المؤذِّنَ كان غيرَه.
صحيح البخاري
(4/99)
---(4/96)
وبالجملةِ قد يَسْبِقُ إلى الذِّهْنِ أنا لو سلَّمنا أنَّ أذانَه كان بالمجسد النبويِّ، وكان قَبْل الفَجْر فلعلَّه كان في زمنِ إمامَتِه بالمدينةِ. فإذا دريتَ أن نَصْبَ الأئمةِ كان داخلا في ولايةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم عَلِمْت أنه لم يكن لأَحَدٍ أن يُصلِّي بها إلا بعد نَصْبه من جهةٍ، فإذا صلَّوا عليها فقد غَلِطُوا. ولذا أعادها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعلى قَبْرِهَا، لأنه كان وَليًّا. وفي عامة كُتُب الحنفيةِ: أنَّ الصلاة على القبر إنَّما تَصِحُ للوَلِيِّ فقط إذا لم يكن صلّى عليه وفي «المبسوط»جوازُ الإعادةِ مطلقًا لغير الولي أيضًا إذا أعادها الولي.
قلتُ: وهذا أَيْسَرُ في الأحاديثِ. فظهر منه أنَّ إعادةَ صلاتِهِ صلى الله عليه وسلّمكانت من باب الولايةِ، لا مِنْ بابِ الصلاةِ على القبر ثُمَّ. أَمْعِن النظرَ في قوله: «ولا يَجْلِسِ الرَّجُلُ على تَكْرِمَتِهِ في بيته، ولا يَؤُمَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ إلا بإِذْنِه». يفيدك أنَّ هؤلاءِ الذين صلُّوا عليه بدونِ إذنهم من النبيِّ صلى الله عليه وسلّمقد جاؤا بأَمْرٍ عظيم. فإنَّ الجلوسَ على التَّكْرِمة في البيتِ والصلاة بدون الإذن في ولايته من باب واحدةٍ على أنهم لم يُوْقِظُوه صلى الله عليه وسلّم لِخِفَّةِ أمره في أذهانِهم. فقويَتْ داعيةُ الصلاةِ لذلك أيضًا. فإنَّه رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَر لو أَقْسَمَ على الله لأبرَّه. فإذا احتفت هذه الصلاةُ بِمثل هذهِ القرائن قَصَرْنَاهَا على مَوْردها، ولم نجعلها سخنةً قائمةً وشريعةً مستمِرَّةً.
(4/100)
---(4/97)
أما الصلاةُ على الغائب ففيه على ما مرَّ أنه لم يكن بالحبشةِ أحدٌ يُصلِّي عليه فصلى عليه لذلك. مع ما عند ابنِ حِبان في «صحيحه» عن عِمران بن حُصَين أن الصحابةَ رضي اللَّهُ تعالى عنه كانوا لا يَظُنُّون إلا أَنَّ جنازَتَه بين يديه، فقد كانت جنازتُهُ كُشِفت له صلى الله عليه وسلّم وحينئذٍ لم تبق من باب الصلاةِ على الغائب، وبالجملةِ لا تُترك سنةٌ فاشيةٌ مستمرةٌ لأَجْل الوقائعِ الجزئيةِ التي لم تَنْكَشِف وجوهُها ولم تُدْرَ أسبابها.
صحيح البخاري
باب ُ سُنَّةِ الصَّلاةِ عَلَى الجَنَائِز
وحاصل هذه الترجمةِ أنَّ صلاةَ الجنازةِ تشتركُ مع سائر الصلوات في الشرائط كما هو مذهب الجمهور. واستدل عليها بقطعاتٍ وَرَدَ فيها إطلاقُ الصلاةِ عليها. أما سجدةُ التلاوةِ فلم يَنْكشف الحالُ فيها لاضطراب النُّسَخ. وقد علمته مرارًا مع بيانِ وَجْه اختلاف السَّلف في هاتين وهو خَفاءُ لَفْظ الصلاة فيهما. ومَنْ فَرَّق بين صلاةِ الجنازة وسجدةِ التلاوة فلعلَّ وَجْهه أن لصلاةِ الجنازة تحريمًا وتحليلا فكانت صلاةً، بخلاف سجدةِ التلاوة فإِنَّها لا تحريمَ لها ولا تحليلَ إلا ما رُوي عن مالك رحمه الله تعالى أنه يُكبَّر لها. وبالجملة شاكلةُ السجدةِ صارت كالأَذكار وقد مرَّ أنه لا تُشترط لها الطهارةُ.
قوله: (وإذا أَحْدَثَ يَوْمَ العيدِ أو عِنْدَ الجنازةِ يَطْلُبُ الماءَ ولا يَتَيَمَّمُ) خالف فيه الحنفيةُ، فإِنه يصِحُّ لها التيممُ عندنا، بالتفصيل المذكور في الكتب.
قوله: (وإذا انتَهَى إلى الجنازة...) إلخ. هكذا عندنا.
(4/101)
---(4/98)
قوله: (قال ابن المسيَّب...) إلخ. يعني به أن لا قَصْر في صلاة الجنازة وهو المذهب عندنا. وقال أَنَس رضي الله عنه: التكبيرةُ الواحدةُ استفتاحُ الصلاة. وهذا نَظَرٌ في معنى التكبير. وحاصل هذه الترجمة أن صلاةَ الجنازةِ لما كان لها تحريمٌ وتحليلٌ، ومراعاةُ الأوقاتِ والصفوف والإِمام ورَفْع اليدين، والنهي عن التَّكَلم مع إطلاقِ لَفْظ الصلاةِ عليها مِن لسان صاحبِ النُّبوةِ، ووُرُودِ القرآن به، ظهر أنها يُشترط لها ما يشترطُ لسائر الصلوات من الطهارة وغيرِها. ثم إنَّ رَفْع اليدَيْن فيها إنْ كان مع كلِّ تكبيرٍ كما هو مَرْوي عن مشايخ بَلْخ، فهو مُستقىً من الصلاة المطلقة وإِلا فلا دليلَ عليه من لَفْظ الحديث.
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ اتِّبَاعِ الجَنَائز
صحيح البخاري
باب ُ مَنِ انْتَظَرَ حَتَّى تُدْفَن
صحيح البخاري
باب صَلاةِ الصِّبْيَانِ مَعَ النَّاسِ عَلَى الجَنَائز
وقال زيدُ بن ثابت: إذا صليتَ فقد قَضَيت الَّذي عليك. يعني أن الاتِّباع إلى المَقْبرة ليس من الواجباتِ، فإِنْ فَعَل فله في ذلك أَجْر.
قوله: (وقال حُمَيْد بنُ هِلال: ما عَلِمنا على الجنازةِ إِذْنًا) وهو ما في «الهداية»: أن الإِذْن لا يجبُ على الوَلي.
قوله: (قيراط بخمس شعيرات) رابعة عشر من درهم. وقِيراطُ الشافعيةِ أقلُّ منه. وأمّا قيراطُ الآخِرَةِ فكالجبل.
صحيح البخاري
باب ُ الصَّلاةِ عَلَى الجَنَائزِ بِالمُصَلَّى وَالمسْجِد
ولا يُصلَّى على الجنازةِ في المسجد عندنا، وعند مالك رحمه الله تعالى. والأفضلُ عند الشافعي رحمه الله تعالى أن يصلَّى خارجَ المسجد، وجاز في المسجد أيضًا. ثم قال العلامة القاسم: إِنَّها مكروهةٌ تحريمًا. واختار الشيخ ابن الهُمَام رحمه اللَّهُ تعالى التنزيه.
(4/102)
---(4/99)
قلت: بل هي إساءةٌ على ما سماها صَدْرُ الإسلام أبو اليسر، وهو مَرْتَبةٌ بين التحريمِ والتنزيه، وكذلك لا يناسِبُ وَضْع الجنازة في المسجد، ويُعلم من صَنيع البخاري رحمه الله تعالى أنه متردِّدُ في ذلك. ولنا ما عند أبي داود: «مَنْ صَلَّى على جنازةٍ فلا شيءَ له»، وعند ابن ماجه مَنْ صلَّى على جنازةٍ في المسجدِ فليس له شيءٌ». قال النووي رحمه الله تعالى. وفي النُّسخة الصحيحة: «فلا شيء عليه».
وصحَّح الزَّيْلَعي الأول. وقال: إنَّ في النُّسخ الصحيحة «فلا شيءَ له».
قلت: ويؤيدُ لفْظَ ابن ماجه: «فليس له شيء» وهو لا يحتملُ التصحيفَ ليُقَال إنه تقريرٌ عليه. واعتمد على الزيلعي أزيد من النووي. وكذا صحَّحه الخطيب البغدادي، وهو صاحب النسخة وهو مذهب ابن أبي ذئب، وهو راوي الحديث كما ذكره النووي. إلا أنَّ في إسناده مَوْلى التَوْأَمةِ وفيه مقال. لأنه كان اختلط بآخِرِه إِلا أَنَّ العلماءَ صرَّحوا بأنَ سماع ابن أبي ذئب عنه قبل الاختلاط. وعلى هذا فالإِسنادُ حَسَن، ولو قلت: صحيحٌ، فأيضًا سائغ. وعند ابن أبي شيبة أيضًا: «فلا صلاةَ له».
وقد استدلَّ محمد رحمه الله تعالى في «مُوطئه» أن مُصَلَّى الجنائز في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّمكان بِجَنْب المسجدِ. فهذا دليلٌ قويٌّ على أن صلاةَ الجنازةِ ينبغي أن تكون خارجَ المسجد، حتى أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّملما بلغه نَعْيُ النَّجاشيّ خَرَج إلى خارج المسجد ولم يصلِّ فيه. ولم يَثْبُت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأنه صلَّى في المسجدِ إِلا مرةً أو مرتين.
(4/103)
---(4/100)
وللشافعيةِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمصلى على ابني بيضاءَ في المسجدِ. هكذا عند مسلم. وهو وَهْم فإِنَّ سَهْلا عاش بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وإنما هو سَهْلُ بن بيضاءِ. قال السَّرَخْسي في «المبسوط»: وفيه مِن تَطَرُّقِ الأَعذار ما لا يخفى نحو كونه معتكِفًا، أو لِعِلَّة المطر. بقِيت واقعةُ سعد بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فما تحصَّل لي فيها بعد التنقيح: أنَّ أمهاتِ المؤمنين إنما أَرَدْنَ الدعاءَ عليها فقط، فمرَّ بها مَنْ في المسجد وصلَّى عليه خارِجَ المسجد، فتسامح فيه بعضُ الرواةِ وعبَّروا عن دعائهنَّ في المسجد بما أَوْهم صلاتَه في المسجد، مع ثبوت الإِنكار من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم عليها. هكذا يُستفاد من «الطبقات» لابن سعد.
صحيح البخاري
ثُم إنَّ البخاريَّ رحمه الله تعالى لم يخرِّج حديثَ ابني بيضاء، بل أخرج حديثَ النجاشي وهو حُجةٌ للحنفيةِ. وحينئذٍ وَسِع لي أن أقول: إنَّ البخاريَّ ذهب إلى مَذْهب الحنفيةِ. ولا تمسُّك في صلاتِهم على عمرَ وأبي بكر رضي الله عنهما في المسجد، فإِنَّهما قد دُفِنا في روضته الشريفة، ولم يكن الطريقُ إليها إِلا من المسجد، فلما رأوه أنه لا بد مِن إدخالهما في المسجد للدَّفن توسَّعوا في الصلاة عليهما أيضًا.
فائدة:
واعلم أنَّ الفرق بين الأحاديثِ القوليةِ والوقائع الجزئية: أنَّ تقديرَ المقدَّرات يُستبعدُ في النَّحو الأَوَّل. لأنَّ الكلام إذا تَمَّ في مراده فالتقدير زيادةٌ مستغنىً عنها، نعم يَسْهُل تأويلُها أعني به تغييرَ مرادِها بنحوِ اعتبارٍ دون الاحتمالات الخارجية.g
(4/104)
---(4/101)
وأما النحو الثاني فإِنه لا عُسْر في حَمْلها على المحامل فلا يُستبعد فيه إِخراجُ الاحتمالات كما علمت آنفًا في الصلاةِ على سَعْد رضي الله عنه. وكما مرَّ أنَّه صلَّى خمسًا الحديثَ. فإِنَّه يحتمِلُ أن يكونَ جلَس على الرابعة، ويحتمل أن لا يكون جلس. فلمَّا استوى الاحتمالانِ فلو حملناه على الجلوس لم يَبْعُد، كيف وإِنَّه محتمِلٌ أيضًا، بخلاف الأحاديثِ القوليةِ، فإِن إبداءَ الاحتمالاتِ فيها قد يعودُ زيادةً على معناها.
1329 - قوله: (جاؤا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّمبرجلٍ منهم وامرأةٍ زَنَيا) وسيجيء الكلامُ في أنَّ رَجْمهما كان على شريعتِه، أو على شريعةِ موسى عليه السلام. وادَّعى الطحاوي رحمه الله تعالى أنه كان بِحُكْم التوراة. وربما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّميَحْكُم بالتوراةِ فيما لم يَنْزل فيه شَرْعُه، فإِذا نزلت ترك العملَ بها. ولا يُسمَّى هذا نسخًا.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُكْرَهُ مِن اتِّخَاذِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُور
1330 - قوله: (لَعَن اللَّهُ اليهودَ والنَّصارَى...) إلخ. وقد قدَّمنا شَرْحه فيما مَرّ مع بيانِ سَهْو بعض الشارحين سهوًا بينًا. وتمسك به اللعين القادياني دجَّالُ هذه الأمة على وفاةِ عيسى عليه الصلاة السلام. ولم يَدْر أنَّ الأنبياءَ الذين آمَن بهم اليهودُ قد آمَن بهم النَّصارى أيضًا، بل آمنَّا بهم أيضًا، إلا عيسى عليه الصلاة والسلام حيث أنكره اليهودُ والنَّصارَى كلاهما. والباقون كلُّهم مشترِكون فلا دليلَ فيه على كُفْرِه لعنه اللَّهُ وملأَ حضرتَه نارًا.
(4/105)
---(4/102)
ثُم لو سلَّمنا ما يتفوَّه به هذا الشقيُّ لوَجَب أن يكونَ على قبرِه مَسْجِدٌ كما يقتضيه الحديثُ ولا يجدهُ ولو رجع إلى بطن أُمِّه، فهو حيُّ على رغمه كما قد أخبره الله سبحانه، وتواتر به رسولُه الكريم. ثُم هذا الآخَرُ الزَّنِيمُ له أقاويلُ في تحقيق قَبْرِه عليه الصلاة والسلام يناقضُ بعضها بَعْضًا. فيزعُم تارةً أنه في كشمير المشهور بقبر «يوز آسف». ويدَّعِي أنه مُحَرَّفٌ من لَفْظ المسيح، ولا يستحيي. ونِعم ما قال رجلٌ من أهلِ كَشْمير: إنه لو كان قبرَ عيسى عليه السلام لكان إلى بيتِ المَقْدسِ، مع أنه إلى بيتِ الله. وقد رَدَّ عليه العلماءُ وكتبوا الرسائلَ لردِّ مقالَتِه، فأَلقموه حجرًا فجزاهم اللَّهُ تعالَى خيرًا.
صحيح البخاري
باب ُ الصَّلاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ إِذَا ماتَتْ في نِفَاسِهَا
صحيح البخاري
باب أَينَ يَقُومُ مِنَ المَرْأَةِ وَالرَّجُل
يعني أنها وإن كانت لا تصلِّي في حياتها، لكنها إذا ماتت فقد انتهت أحكامُ النِّفاس ويصلَّى عليها كما يصلَّى على غيرها.
1331 - قوله: (قَامَ عليها وَسَطَها) وعندنا يقومُ مِن الرجلِ والمرأة حِذاءَ الصَّدْر. وعند الشافعي يقومُ مِن الرجلِ حِذَاءَ الرأسِ، ومن المرأةِ حِذاءَ العَجيزة. وهو روايةٌ شاذةٌ عن إمامِنا أيضًا كما في «الهداية». وظنِّي أن مسألةَ الحنفيةِ قويةٌ، فإِنَّ قيامَ الإِمام مقام عقد اليدين، ولهم حدث أبي داود. ولا دليل في لفظ «الوسط» فإِنَّه قد قيل فيه أَنَّ المتحركَ منه ساكنٌ، والساكِنَ متحركٌ ولم يتعين واحدٌ منها.
صحيح البخاري
باب ُ التَّكْبِيرِ عَلَى الجَنَازَةِ أَرْبَعًا
ورُوي عن أبي يوسف خَمْسُ تكبيراتٍ أيضًا. ولنا ما مرَّ آنِفًا.
1333 - قوله: (خَرَجَ بهم إلى المصَلَّى) أشار الراوي إِلى أنه لم يُصَلِّ عليه في المسجد.
(4/106)
---
صحيح البخاري
باب ُ قِرَاءَةِ فاتِحَةِ الكِتَابِ عَلَى الجَنَازَة
صحيح البخاري(4/103)
باب ُ الصَّلاةِ عَلَى القَبْرِ بَعْدَ ما يُدْفَن
كما في «التجريد» للقدُوري، وصرح يحيى بن منقاري زاده أستاذ الشُّرُنْبلالي في رسالته: «الاتباع في مسألة الاستماع«بالاستحباب، إلا أنها تكونُ كالثناء عندنا لا كالقراءة. واستحبَّها أحمدُ رحمه الله. وقال الشافعية: أَنْ لا صلاةَ إِلا بفاتحةِ الكتاب. ولا ريبَ في أَنَّ أكثرَ عملهِ صلى الله عليه وسلّمكان على التَّرْك. وصرَّح ابنُ تيميةَ رحِمه اللَّهُ أن جُمهورَ السَّلف كانوا يكتفون بالدعاء ولا يقرؤون الفاتحةَ، نعم، ثبت عن بعضهم. ثم هي عند الشافعية بعدَ التكبيرةِ الأُولى ففات عنهم الاستفتاح. فقلت لهم أن اقرؤوا بها أربعَ مرات لأن كلَّ تكبيرة في صلاةِ الجنازة تقوم مقامَ ركعةٍ. فأَوْلى لكم أن تقرؤا بها أربع مرّات، فإِنَّه لا صلاةَ لمن يقرأُ بها.
1335 - قوله: (وقال: لتعْلَمُوا أنَّها سُنَّة).
قلت: وهذا مِن دأب ابنِ عباس رضي الله عنه أنه يُطلق على بعضِ مختاراتِه لَفْظَ السُّنَّة، كما فَعَله في الإِقعاء مع أنَّ ابن عمرَ صرَّح بنقِيضه وقال: «إن الأقعاءَ ليس بسُنَّة. على أن في «النسائي» «أنه قرأ بفاتحةِ الكتابِ وسورةٍ، وجَهَرَ بِها». وفي «المنتقى» لابن الجاردو وكله صحيح: أنه ضَمَّ سورةً أيضًا. فعلى الشافعيةِ أن يقولوا بالجَهْر وضمِّ السورةِ أيضًا إذ قالوا بِبَعْضِها. ثُمَّ في «تاريخ مكة» للأزرقي - وهو إِمَامُ الحديث متقدِّم على البخاري - عن ابن عباس رضي الله عنه: أَنَّه سُئل عَمَّا يفعل داخلَ البيت. قال: يكبِّر عند الأَركانِ كالتكبيراتِ على الجنائز». مع أنه ينفي الصلاةَ في داخل البيت، فعلم أنْ لا فاتحةَ عنده في الجنازة. وتلك مبالغاتٌ فقط تأخذُ الرَّجُلَ عند الأحوال.
صحيح البخاري
(4/107)
---
باب المَيِّتُ يَسْمَعُ خَفقَ النِّعَال
1338 - قوله: (هذا الرَّجُلِ) وفي «تنوير الحوالك» أنه إشارةٌ إلى المعهودِ في الذِّهن.(4/104)
1338 - قوله: (وأمَّا الكافِرُ أو المُنَافِقُ) وقد مرَّ في الأَيْمان أنَّ السؤال في القبر عند بَعْضِهم يكون من المسلمِ والمنافقِ دون الكافرِ، وفيه نَظَر كما مرَّ.
1338 - قوله: (تَلَيْتَ) وهو في الأَصْل تَلَوْتَ، فصار تَلَيْت رعايةً لقرينة دَرَيْت، كما قيل في الغدايا والعشايا. وترجمته (ترني بيروي زكي).
1338 - قوله: (إِلا الثَّقَلَين) والعذاب فيه مِن أشياء عالم آخَرَ، كسعة القَبْر وتضييقه. فإِنَّها كلَّها مِن عالَم الغيب على أنَّ أوزانَ الأشياءِ ومقاديرَها ليست بأَمرٍ متعيَّن، فإِنَّ الشيءَ الواحِد يُرى صغيرًا وكبيرًا باعتبار آلاتِ النَّظر. وكذا يختلفُ وزنُ الشيء الواحدِ عند وَزْنِه بخط الاستواء، ثم وَزْنِه عند القُطْبين. وقد ذكر «نيوتن» أن الشيءَ الواحدَيختلفُ ثِقَلا وخِفّةً بحسبِ تَجَاذُبِ الأَرض. فإِذَا وَزَنْتَ شيئًا على الأَرْض ثُمَّ وَزَنْته في الهواء تجدُه أَثْقَلَ فإِذَا عَلِمت أَنَّ الشيءَ الواحِدَ يمكنُ أن يكونَ صغيرًا وكبيرًا بحسب المَرْأَى، وكذلك اختلف وَزْنُه بحسب اختلافِ المواضع لم تبق للبَصَر حقيقة. فربَّ شيءٍ تَرَاه صغيرًا يمكنُ أن يكونَ كبيرًا في الواقع وبالعكس، فطاحت المقاديرُ رأسًا.
(4/108)
---(4/105)
بقي حالُ الأصوات، فقد تَسْمَعُ من بُعُد بعيدٍ، وقد لا تسمع مِمَّن هو في البيتِ. فأيُّ بُعْد في رؤيةِ الميتِ قبرَه القصيرَ مبسوطًا في ستين أو سبعين ذِرَاعًا مثلا، فقد شاهدنا اختلافَ المقاديرِ لشيءٍ واحدٍ في هذا العالم فما البعدُ فيه عند اختلافِ العالَمين. على أنه يمكنُ أن يكونَ في الأرضِ شيءُ يقبض ويبسط، كالجسم التعليمي عند الفلاسفة، فيصيرُ ممدودًا عند الثواب، ومقبوضًا عند العذاب. وأيضًا يمكنُ أن تترفعَ عنه الحُجُب إلى مسافةٍ متعينةٍ مع بقاء في نَفْسه، كما ترى في بعض الآلاتِ الجديدة: يُرى منها باطنُ الإِنسان من فَوْق جِلْده. ثُم لا حاجةَ في إثبات عذابِ القبر إلى ما قاله الصوفية: أن العذاب على البدنِ المثالي دون المادي. وحينئذٍ لا بعد أن لم نشاهدا أحدًا يعذب في قبره، فإِنَّ الأسهل أن يقال: إنه مِن عالَم الغيب وإقامةُ الدلائل العقليةِ عليه جَهْلٌ، وَمَنْ يُطِيقُ ذلك. وإنَّما يشتغلُ به مَنْ لا يَعْرِفُ الفَرْقَ بين الخَطَابة والبُرْهَانِ.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَحَبَّ الدَّفنَ في الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ أَوْ نَحْوِهَا
ثبت منه جوازُ تمنِّي جوار الصالحين.
قوله: «ففقأ عينه» وإنما فقأت عينه فقط لأَنه كان مَلَكَ الموتِ وإِلا لاندقَّتْ السمواتُ السَّبْعُ مِن لَطْمَةِ غَضَبِه. وإِنَّما غَضِب عليه لأَن مِن سُنَّة مَلَكِ الموتِ بالأَنبياء أن يكلِّمهم بالتخيير، فلمَّا تَرَكها وأخبَرهُ بالوفاةِ أخذْتهُ الغَضْبةُ فلَطَمه.
(4/109)
---(4/106)
1339 - قوله: (بكُلِّ شَعْرةٍ...) إلخ. فاللَّهُ تعالى يدري ماذا صار عُمُرِه لو وَضَع يدَه على مَتْن الثَّوْر. واللَّعِين القادياني يتعجَّب من عُمُر المسيحِ عليه السلامَ، مع عِلْم اللَّعين أنَّ نوحًا عليه السلام عاش ما عاش. وفي البخاري: أنَّ كلَّ نبيِّ يخيّرُ بين البقاءِ والفناء قبل وفاتِه، فلو أرادَ أن يعيشَ لعاش بما أراد. وقد يَسْخَرُ اللعينُ أنَّ عيسى عليه السلام إذا لَمْ يَنزِل بَعْدُ، مع أنَّ الزمانَ قد انقلب ظهرًا لبطن، فماذا يفعلُ إِنْ ينزل بعده سَخِر اللَّهُ منه أَلا يدري أنه لو جاز إنكارُ المتواتراتِ بِمِثْل هُزْئه لصحَّ إنكارُ القيامةِ أيضًا. فإِنَّا قد انتظرنَاها ولم تأتِ بَعْدُ فلعلَّها لا تقومُ والعياذ باللَّه. وقد حُكي في القرآنِ مِثْلُه عن بعضِ الملاحدةِ فأَحْي سُنَّتَهم: {ويقولونَ متى هُو؟ قُل: عِسى أن يكونَ قريبًا} (الإِسراء: 51).
1339 - قوله: (عند الكَثِيب الأَحْمرِ) ولم يتحقق لي قبره بعد، إِلا أَني أسمع الآن أن السلطان عبد الحميد قد بَنَى على قبره قُبةً، فلا أدري من أين حصل له العِلْم بذلك. ولعله اعتمد فيه على خَبر اليهود.
صحيح البخاري
باب الدَّفنِ بِاللَّيل
صحيح البخاري
باب ُ بِنَاءِ المَسَاجِدِ عَلَى القَبْر
وقد ورد فيه النهيُّ عند الطحاوي في «معاني الآثار» بأسناد ضعيفٍ. ولكنَّه لئلا تقلَّ الجماعةُ مع أن المطلوبَ تكثيرُها إذا لم تُقصد الشهوةُ والرياء ولذا بَوَّب البخاري بالدَّفْن بالليل ليشيرَ إليه.
صحيح البخاري
باب مَنْ يَدْخُلُ قَبْرَ المَرْأَة
وأقاربُ الميت أَوْلى. ويجوز للأَجنبي أَيضًا عند الضرورة، ويجوزُ للزَّوْج أيضًا. وما اشتُهر من أنَّ الزوجَ بعد الوفاةِ يصيرُ كالأجانب فليس بشيءٍ.
صحيح البخاري
باب ُ الصَّلاةِ عَلَى الشَّهِيد
(4/110)
---
قال الشافعي رحمه الله تعالى: لا يُصلَّي على الشهيدِ. وفي عباراتِ بعضهم أنها حرامٌ.(4/107)
قلت: وما أشبه هذا التشديد بما في حواشي «مختصر خليل» أنَّ قضاءَ السُّنة حرام مع أن في كتبِ المالكيةُ: عامةً نَفْي القضاء فقط. وقال المالكيةُ: إن المسلمينَ إن نهضوا إليهم واستُشْهِدوا لا يصلَّى عليهم، وإن نهضَ الكفارُ إلينا يصلَّى عليهم. فكأنَّهم قَسَموا على الأَحوال، وفهموا أن في معنى شهداء أُحُدهم الذين هجم عليهم الكفّارُ، وبه يتمُّ أَثَرُ الظُّلْم. بخلاف ما إذا هجمنا عليهم فإِنَّه يخِفُّ به أَثَرُ الظُّلْم ولا يكون في معنى شهداء أُحُد، فإِنَّ الكفار فيه كانوا هجموا علينا. وقال أحمد رحمه الله تعالى: إِنَّها مستحَبةٌ، وإن ترَكَها جاز، وهي واجبةٌ عندنا على كلِّ حالٍ بقي المصنِّف رحمه الله تعالى فلم يُفْصِح بشيءٍ، وأحال الفَصْل إلى الناظرين.
1343 - قوله: (يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَين مِن قَتْلَى أُحُد في ثوبٍ واحدٍ) ولا يجوز الجَمْعُ بين الاثنين إلا بالفَصْل بينهما بنحو إِذْخِر أو غيره. وعليه حَمَله عامّةُ الناس. وما ألطف شَرْحَ الحافظ ابنِ تيميةَ رحمه الله إن معنى الجمع في ثوب شَقُّه لهما، ليُلَفَّ واحِدٌ في نِصْفِه، والآخَر في نِصْفِه الآخَر. وهذا معنى الجَمْع بين الاثنين في ثَوْبٍ، وهو واسِعٌ باعتبار العربية.
قوله: (أَكْثَرُوا أَخذًا للقرآنِ؟) والنَّظَرُ دائرٌ في أَنَّ تقديمه للتعظيم فقط، أو لكونِه أَوْلى بالإِمامة كما في قوله: «يَؤم القومَ أقرؤهم»، وللنظر فيه مجالٌ وسيع.
(4/111)
---
قوله: (ولَم يُصَلَّ عَلَيْهم) وهو دليلٌ للشافعيِّ رحمه الله تعالى أَو لأَحْمدَ رحمه الله تعالى. وقال المحدِّثون: إنَّ مذهبَ أحمدَ أقربُ إلى الحديث. فالحديث واردٌ علينا. ولنا في جوابه سبيلان. الأول ما سَلَكه الطَّحاوي رحمه الله تعالى، ثُم تَبِعه الزَّيْلَعي، ثم تَبِعه ابن الهُمام. والآخَرُ ما اختاره العَيْني رحمه الله تعالى. والأَرْجح عندي ما قاله الزيلعي رحمه الله تعالى.(4/108)
وحاصل ما ذهب إليه العَيْنيُّ رحمه اللَّهُ تعالى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يُصَلِّ عليهم إذ ذاك، ثُم صلَّى عليهم قُبيلَ وفاتِه كما تَشْهَدُ به الرواية التالية. وفيها: فصلَّى على أَهْلِ أَحُد صلاتَه على الميتِ». وفَهِم الشيخُ العَينيُّ رحمه الله تعالى أنه بهذا الصنيعِ يفوزُ باستدلال من حديثِ البخاري، وأنت تَعْلم أنَّ علماءَ المذاهب كلَّهم يتفاخرون بموافقةِ حديث البخاري إيَّاهم لكونِه أصحَّ عندهم. وأَوَّله النوويُّ رحمه الله تعالى وقال: إنَّ المرادَ مِن الصلاة هو الدعاءُ. وردَّ عليه الشيخُ رحمه الله تعالى وقال: إنه ليس بتأويلٍ بل تحريفٌ. فإِنَّ المفعولَ المطلقَ للتشبيه، فقوله: «صلاته على الميت» صريحٌ في أنه صلَّى عليهم كما يُصَلَّى على الجنائز.
صحيح البخاري
(4/112)
---
أقول: والصوابُ كما قاله النوويُّ رحمه الله تعالى. فإِنَّي تَتَبَّعْتُ الرواياتِ فتبيَّن أَنَّ صلاتَه تلك كانت في السَّنة التي مات فيها وكانت في المَسْجد النبويِّ، وإليه يشيرُ لَفْظ البِخاريُّ؛ ثم انصرفَ إلى المِنْبر»، وأين كان المِنْبر في أُحُد. فَخُرُوجُه صلى الله عليه وسلّمفي تلك الواقعةِ إنَّما هو في المَسْجِد لا إلى أُحُد. وإنما أراد بذلك أن يَدْعُو لهم قُبيلَ خروجِه من الدنيا أيضًا لمزيدِ فَضْلهم. وحينئذٍ ظهر ما عند أبي داود أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمصلَّى على قَتْلَى أُحُد بعد ثماني سنينَ، كالموَدِّع للأَحياء والأمواتِ. انتهى. فإِنَّه بعد تلك السَّنةِ لم يبق في الدنيا إلا قليلا، فأَرادَ أن يُوَدِّعَ الأمواتَ أيضًا كما ودَّعَ الأحياءَ فدعا لهم. وسها مَنْ زَعَم أن خُروجَه كان إلى أُحُد، فإِنَّه على ثلاثة أميالٍ من المدينةِ. ولكنَّ البخاريَّ لما بوَّب على هذا الحديثِ بالصلاةِ على الشهيد، صاغ للعينيِّ أن يَحْمِله على الصلاة المعهودة.(4/109)
ومُحَصَّلُ مختارِ الزيلعي: أن النفيَ محمولٌ على نَفْي الصلاة مُنفرِدًا، ولكنه كان يصلِّي على العشرةِ والعشرةِ وحمزةُ رضي اللَّهُ معهم. ويشهد له ما أخرجه الطحاويُّ عن أبي مالك الغِفَاري قال: كان قَتْلَى أُحُد يُؤتَى بِستعة وعاشرُهم حمزةُ رضي اللَّهُ عنه. فيصلِّى عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم ثُمَّ يُحملون. ثُم يُؤتَى بتسعةٍ فَيُصلِّي عليهم وحمزةُ مكانَه، حتى صلَّى عليهم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّمولخَّص الذهبيُّ كتاب البيهقي - ولم يُطبع - ومرَّ فيه البيهقي على رواياتِ الطحاوي تلك، وظن أسانيدَه مستقيمةً ولم يَرَ فيها بأسًا.
(4/113)
---
قلت: ولعلَّه تَرك حمزةَ رضي اللَّهُ عنه مكانَه في كلِّ مرةٍ لمزيدِ البركة، فإِنَّه يُبعث يومَ القيامةِ سيدَ الشهداءِ وإن كفت الصلاة مرةً أيضًا. ثُم عند أبي داود في باب الشهيد يُغَسَّل عن أنس: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّممرَّ بحمزةَ رضي الله عنه وقد مُثِّل به، ولم يُصَلِّ على أَحَدٍ من الشهداء غيرِه». ومرادُه أنه لم يُصلِّ مستقِلا إِلا على حمزةَ رضي الله عنه كما علمت. فإِنَّه لما كان موجودًا في كلِّ مرةٍ، وكان الآخَرُون يحملونَ واحدًا بَعْد واحدٍ، فكأنَّه صلَّى عليه مستَقِلاّ ولم يُصَلِّ على غيره. كذلك وسأل ابنُ الماجِشُون مالِكًا رحمه الله عن الصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فأجاب: أنَّه صلَّى عليه كما صلَّى على حمزة رضي الله عنه. وفي السِّير: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمصلَّى عليه عِدَّةَ صلواتٍ. فسأله ابنُ الماجِشون مِن أين تقول هذا؟ فسرَد مالك رحمه الله تعالى إسنادَه. وقد استوفينا دلائلُه فيما ألقيناه في درس الترمذي.
صحيح البخاري(4/110)
أما وَجْه الخلافِ في الصلاةِ عليهم مع كونِ المسألةِ مما يَكْثُر بها البلوى: أنَّ الأَصْلَ في هذا البابِ هو غزوةُ أُحُد، وقد جُمِعَ فيها رجالٌ في صلاةٍ، فعدها بَعْضِهم صلاةً، ولم يعتبرْها بعضُهم لعدم كونها على الشاكلة المعروفةِ، فإِنَّها لم تكن عليهم فُرَادَى فُرَادَى، على أنَّ الشهداءَ يفقدون من المعركة كثيرًا كما يكون اليوم أيضًا، فلا يُصلَّى عليهم. فإِذا صُلِّي على البَعْضِ دون البَعْضِ سرى الخلافْ أَلا ترى أن مالكًا رحمه الله تعالى بنى تفصيلَه في الصلاة كلَّه على شهداءِ أُحُدٍ فندخل في ضمان الله تعالى كما دخلوا، ونستغني عن الصلاةِ كما استغنوا. وإنْ خرجنا إليهم انتفت تلك المظلوميةُ ولا نكون في معنى شهداء أُحُدٍ، وحينئذٍ يُصلَّى على قتلانا.
صحيح البخاري
(4/114)
---
باب ُ دَفنِ الرَّجُلَينِ وَالثَّلاثَةِ في قَبْر
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ لَمْ يَرَ غَسْلَ الشُّهَدَاء
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ يُقَدَّمُ في اللَّحْد
وإنما احتاجوا إليه لكثرة القَتْلى، وإِلا فالجَمْع لا يجوزُ.
1346 - قوله: (ولم يُغَسِّلْهُم) وترجمته (غسل نه دلوايا) واعلم أن التعديةَ في اللغة الفارسية تحصل بزيادة حَرْفٍ على الفعل اللازم، كقولهم: (خوردن وخورانيدن). فليُبْحث في الصَّرف أنَّ مِثْل هذه التعديةِ توجدُ في لغة العرب أيضًا أم لا؟ ولا أراها ثابتةً فيها ولكن ترجمت التفعيل ههنا على طريق التعدية في اللغة الفارسية، يقال: «غسله««أوسكو غسل دايا وغسَّله» «أوسكو غسل دلوايا». والغَرَض مِن هذا التفتيشُ أنه لو ثَبت في الصَّرْف هذا النوعِ من التعدية لكان للمالكيةِ وَجْهٌ في تأويلهم حديثَ التأمين. فإِنَّهم يقولون: معنى قوله: «إذا أَمَّن الإِمام» «وجب أمام آمين كهلوائي». وقد مرَّ تفصِيلُه وليس فعْلٌ في لغةِ العرب عندي يدل على تسخير أحدٍ بهذا الفِعْلِ بِعَيْنه.
صحيح البخاري
باب ُ الإِذْخِرِ وَالحَشِيشِ في القَبْر(4/111)
صحيح البخاري
باب ُ هَل يُخْرَجُ المَيِّتُ مِنَ القَبْرِ وَاللَّحْدِ لِعِلَّةٍ؟
وَكرِه الحنفيةُ إخراجَه إِلا لحاجةٍ شديدةٍ، حتى قالوا إنَّه لا يُخْرَجُ وإن سقط القَبْرُ.
1351 - قوله: (لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دعاني أبي) وكان جابرُ رضي الله عنه حينئذٍ لم يَبْلغِ الحِنْثَ فلم يدخل في الحَرْب. قوله: (فإِذا هو كيومَ وَضَعْتُه) وراجع ما عند مالك في «موطئه».
قوله: (هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ) والصحيحُ «غير هُنَيَّةِ من أُذْنِه».
صحيح البخاري
باب ُ اللَّحْدِ وَالشَّقِّ فِي القَبْر
(4/115)
---
إن كان المرادُ من الغيرِ بني إسرائيل فالحديثُ يدلُّ على مزيدِ تأكيد اللحد، وإن كان المرادُ أَهْلَ مكةَ فَيَخِفُّ الأَمْرُ.
صحيح البخاري
باب إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ، هَل يُصَلَّى عَلَيهِ، وَهَليُعْرَضُ عَلَى الصَّبِيِّ الإِسْلامُ؟
يعتبر عندنا بإسلام الصبيِّ المُميِّز ولا يُعتبرنا بارتداده، وعند الشافعيةِ رحمهم اللَّهُ تعالى لا يُعتبر بإِسلامه أيضًا. وكنتُ أَتحيرُّ أنَّهم ماذا يقولونَ في إسلام عليَ رضي الله عنه، فإِنَّه أسلم صبيًّا يدلُّ عليه قولُه:
قلت: لم أجِدْه في تصانِيفه. ثُم رأيتُ الشِّبلي نسبَ إلى الحافظِ ابن تيمِيةَ رحمه الله تعالى أنه قائلِ بإِسلام مَن صَدَّق النبيَّ والقرآنَ وإن بقي على اليهودية. ولم أجِدْه أيضًا في تصانيف ابن تيميةُ رحمه الله تعالى، ولعلَّه أيضًا افتراءٌ عليه.
قوله: (وكانَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنه مع أُمِّهِ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ) لأَنَّ أُمِّه أسلمت مِن قبل، حتى قيل: إنها أسلمت بعدَ خديجةَ رضي الله عنها، ولم يكنِ العباسُ أظهرَ إسلامَه بَعْدُ. فكان ابنُ عباس رضي الله عنهما مع أُمِّه وكانت خيرَ الأَبوينِ دِينًا.
قوله: (الإِسلامُ يَعْلُو ولا يُعْلَى) هذا باعتبار التشريع ظاهرٌ، وأما باعتبارِ التكوين ففيه تفصيلٌ.(4/112)
1354 - قوله: (أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسولُ اللَّهِ) وغ»رَضُ المصنِّف رحمه الله تعالى أن ابنَ صَيَّاد لو شَهِدَ برسالَتِه، لحَكَم عليه بالإِيمان، مع كونه صبيًّا إذ ذاك.
1354 - قوله: (فقال عُمرُو رضي اللَّهُ عنه دَعْنى يا رسولَ اللَّهِ أَضرِبْ عُنْقَه...) إلخ. وإنَّما لم يذره النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفيقتله، لأنه كان حينئذٍ صبيًّا كما في الحديث. والوَجْه الثاني ما بيَّنه بنفْسِه الشريفة: وهو أنَّه: «إنْ يكن هو فلن تُسلَّط عليه«. وفيه سرٌ عظيم ينبغي الاطلاع عليه:
(4/116)
---
فاعلم أنَّ التكوينَ قد يناقِضُ التشريعَ، لأن التكوِينَ ليس تحتَ التكليفِ. فلو انكشفَ التكوينُ على أَحَدٍ لا يتغيَّرُ به التشريعُ أصلا، فلو كُشِف لأَحَدٍ أنَّ فلانًا يُخْتم له على الكفر - والعياذ باللَّهِ لا يجوزُ له أن يُعامل معه معاملةَ الكفار في الحالة الراهنة. وهو الذي عَرَض لعليَ رضي اللَّهُ عنه حين سأله ابنُ الكواء: أنه يُفتح له أو لا؟ قال: لا. قال: فَلِمَ تُحارِب إذَن؟ قال: إِني مأمورٌ. يعني به أنَّ التكوينَ وإن كان جرى بالهزيمة أَلا أَنَّ التشريعَ على مكانه لا يتغيرُ به، كما لو لم يُكْشَف عليه.(4/113)
فلا ينبغي لأَحَدٍ أن يعملَ بالتكوينِ إِلا للنبيُّ خاصَّةً، فإِنَّه قد يأخذُ جِهةَ التكوينِ أيضًا كما أخذ في قَتْل الدجَّال. وهو الذي راعاه في قِصَّة رَجُلٍ اعترضَ على تقسيمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّمفقال: هذه قسمةُ لم يُرَد بها وَجْهُ اللَّهِ - والعياذ باللَّه - ولما قال عمرُ رضي الله عنه: دَعْني أَضْرِبْ عُنُقَ هذا المنافق. قال: «لَعلَّه يخرجُ من ضِئضِىءِ هذا رجالٌ يقرأونَ القرآن لا يجاوِزُ حناجِرَهم». فلم يقتله، والسِّرُّ فيه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمإذ يخبرهم بأمر بنفسه يناسِب له أن يراعيه، فإِنه إِذا أخبرَ أن عيسى عليه السلام يَقْتُلُ الدجَّال يناسِب له أَن لا يتولى قَتْلَه بنفسه، وإِذا أخبر أنه يخرج منه قومٌ كذا، ناسب له أن لا يستبيحَ بَيْضَتَهُم. فهذا عملٌ بالتكوين وذا لا يناسبِ إِلا للنبيِّ خاصَّةً.
صحيح البخاري
1354 - قوله: (آمَنْتُ باللَّهِ...) إلخ. وإِنَّما لم يتوجه لجوابه صراحةً تصغيرًا لأَمْرِه، وتَوجَّه إلى ما يليقُ بِشَأنِه على حَدِّ قوله تعالى: {وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس: 22).
1354 - قوله: (يَأتيني صَادِقٌ وَكَاذِبٌ...) إلخ. وهذا هو شَأنُ الكُهان.
(4/117)
---
1354 - قوله: (خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ) وهذا أصلٌ عظيمٌ أن لا تَخْلُيطَ في أنباءِ المرسلين، بخلاف الدجاجِلَةِ والكهانِ، فإِنَّهم يَخْلِظون بين الحقِّ والباطل.(4/114)
1354 - قوله: (هو الدُّخُّ) واتفق الشارِحون على أنه كان خبأ له الآية: {يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} (الدُّخان: 10). ثُمَّ قيل: إنه اطلع عليه لاستراقها إبليس، وإلقائها عليه. قلت: لا حاجةَ إلى هذا العُذْر، بل الكَهَانَة قد تكون فِطْريةً كما ذكره ابن خَلْدُون. ثم ذَكَرَ العلومَ التي لها دَخْلٌ في اكتساب المغيبات. فالأنبياءُ عليهم السلام يُوحَى إليهم، والكُهان أيضًا تلقى في نفوسهم أشياءُ ناقصةٌ غير أنه لا يوثَقُ بها لبناءِ أَكْثَرِها على الكذب، بخلاف أنباء المرسلين، فإِنَّهم يَحْكُونِ عن الأَصْلِ، فلا تحتمل الكَذِبَ أصلا. ومرَّ عليه الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى وقال: المرادُ به أَني أرى شيئًا كالدخان، وفي الحديث: «أن عَرْشَ إبليسَ على الماء، فلعلَّه رأى شيئًا عليه عَرْشُ إبليس. قلت: وتجلَّى الربُّ مَجْدُه لما كان في الضبابة جعل يَحْكي عنه وجلس في الدُّخِّ فإِنه أيضًا كالضبابة.
1354 - قوله: (إنْ يكن هو...) إلخ. وفي «الفتح» روايةٌ أنَّ قَتْله قَدَرٌ على يَدِ المسيح عليه السلام. وهذا الآخر الزنيم لعين القاديان يَزْعُم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم تُكْشف عليه حقيقةُ الدَّجَّال كما هي - والعياذ بالله، ولا يَدْري أن قولُهُ: إن يكن هو ليس للشك بل هو على حد قوله: {إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَبِدِينَ} (الزخرف: 81)، وإنما يخرجُ التعبيرُ هكذا حيثُ يقصد إبرازُ الجزء الواحد على طريق الضابطة الكلية، فتأتي فيه العبارةُ كما ترى. أو كقوله في المُحَدَّث: «إنْ يكن من أمتي أَحَدٌ فَعُمَر» - أو كما قال ، ويجيءُ تحقيقُه إن شاء الله تعالى.
(4/118)
---(4/115)
وفي البخاري تَصريحٌ بأنه كان يَعْلم أنَّ ابن صَيَّاد لم يكن الدجَّالَ الأكبرَ، كما في الجهاد. وفي «مصنف عبد الرزاق»: «أيُّها الناسُ إنَّ ابنِ صَيَّاد ليس الدجَّال الأكبر» - وفيه قال: أكثرَ الناسُ في مُسَيْلمةَ قبل أن يقولَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّمفيه شيئًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنَّه كَذّابٌ بين ثلاثينَ دجالا، يخرجون بين يَدَي المسيح». فالثلاثون مقيَّدُون بهذا القيد، ويمكن أن يكونَ بعده عليه الصلاةُ والسلام أيضًا دجَّالون آخَرُون. وحينئذٍ لا تعارُض بين الأحاديثِ المتعارضة في عدد الدَّجَاجِلَة. فإِنَّ بعضَها فيمَن يظهَرُون قَبْله عليه الصلاة والسلام.
صحيح البخاري
قوله: وآخرون فيمن يخرجون بعده والأمر عند الله تعالى «يختل» داؤ كرنا.
355 - قوله: (بيَّن) ليس معناه أنه بَيَّن بلسانه، بل غَرضُه أَن لو تَرَكْته لانكشف أَمْرُه.
1356 - قوله: (فقال: أَطِع أبا القَاسِم، فأَسْلَم) ولعلَّه لم يبلغ الحُلْم إذ ذاك. ولما أَسْلَم قبل أن يُغَرْغِر اعتُبر إسلامُه.
حديث أبي هريرة في أن: «كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطْرِ»
واعلم أنَّ الحديثَ المذكورَ لم يَزْل معركةً من زمنِ الأئمة، حتى سُئل عنه عبدُ الله بنُ المبارك، ومحمدُ بن الحسن. ونَقل أبو عبيد - وهو تلميذ محمد - كلماتٍ عن شيخه في شرح هذا الحديث ينبغي أن يراعيها الباحِثُ أيضًا. وبحث عليها الحافِظُ ابن القيم رحمه الله تعالى في «شفاء العليل» على نحو ثماني وريقاتٍ، وجزم بأن المرادَ مِن الفطرة الإِسلامُ. وادَّعَى أنه هو عُرْف القرآنِ والحديث.
وحينئذٍ حاصل الحديث: أن كلَّ مولودٍ ولو كانت في بيت كافر فهو محكومٌ عليه بالإِسلام عنده حتى يتكلمَ، أو يبلغَ الحِنْث، كذا يُستفاد من حديث «مسلم». فإِن قلتَ: فما بال صِبيان المشركين الذين ماتوا في صِباهم لا يصلَّى عليهم، فإِنَّهم حينئذٍ مُسلمون.
(4/119)
---(4/116)
قلتُ: لأنَّ هذا الحديث وَرَد في النجاة وعدمِها، فهو من باب الآخرة دون أحكام الدنيا، فلا يصلَّى عليهم في الدنيا، ويُحْكَم عليهم بالإسلام باعتبار الآخرة، وينجون من عذابِ الله. واستدل عليه بقوله تعالى: {فِطْرَة اللَّهِ التي فَطِرَ النَّاسَ علهيا ذلك الذِّيْنُ القَيِّم} (الروم: 30) حيث جعل فيه الفطرة دينًا. قلتُ: ليس فيه ادَّعاه لقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} (التوبة: 36) ذلك الدِّين القيِّم. فجعل فيه الأمْرَ التكويني وهو كونُ عِدّة الشهور إثنا عشرَ شهرًا دَيْنًا، وحكم بأن النسئة خلافُ الدَّين. فالصوابُ عندي أنَّ الفِطرة من مقدِّمات الإسلام لا عَيْنه. فهي جِبِلَّة متهيئةٌ لقبولِ الإسلام وبعبارةٍ أُخْرى هي استعدادُ في الولد له بُعْد من الكفر وقُرْب من الإسلام. وبعبارةٍ أُخْرَى هي عبارةٌ عن خلوٍ بُنيتهِ عَمَّا يَحُثُّهُ على الكُفْر.
(4/120)
---(4/117)
وحينئذٍ حاصلُ الحديث: أنَّ الوَلَد المولودَ مِنْ بطن كافرٍ ليس في بُنْيتِهِ جزءٌ من الكُفْر. ولولا القوادِحُ ولاموانِعُ لبقي أَقْرَبَ إلى الإيمان، وأَقْبَل له، وليس فيه حُكْم بالإسلام، وأي فائدة في الحُكْم بالإسلام، ثُمَّ الحُكْم باليهوديةِ والنَّصرانية بعد بُرْهة. وهذا الاستعدادُ القريبُ هو الذي سمَّاهُ اللَّهُ دِينًا في قوله: {فِطْرَةَ الَّهِ التي فَطَر الناسَ عليها} إلخ وفي الحديث أيضًا ما يدلُّ على هذا المعنى، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمسَمِعَ في سَفَر صوتَ راعٍ يقولُ: اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ فقال: على الفطرةِ، فإنَّها كلمةٌ يعتقِدُ بها العرب أيضًا. ولما شَهِد بالتوحيد والرسالةِ قال خرج من النار. فتبيَّن أنَّ الفِطْرةَ غيرُ الإيمان. فإنَّه لم يَحْكُم عليه بالنجاةِ اللازمة للإيمان ما لم يَسْمع منه الشهادتينِ مع حُكْمه عليه بكونِهِ على الفِطْرة. فالفطرةُ شيءٌ لا يوجِب النجاةَ، بخلافِ الشهادتين فهي مقدِّمةٌ للإيمان، كالأمانة فإنها ليست بإيمانٍ أيضًا، بل مقدمةٌ له وهي عبارةٌ عن عَدَم خداع أحدٍ، ومنه اشتقَّ الإيمانُ وهو معنى قوله: «لا إيمانَ لِمَنْ لا أمانةَ له». وهو المرادُ بقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَةَ} (الأحزاب: 72)... إلخ وقد قررناه فيما سِبق.
صحيح البخاري
فإن قلت: إنَّ الفهطْرةَ إذا لم تكن عينَ الإسلام لم يكن في الحديث مَدْحُ الإسلام، مع أنَّ المسوقَ له ذلك. قلت: كيف لا؟ مع دلالته على أنه ليس في فِطرةِ الإِنسان شيءٌ يخالِفُ الإِسلام،أو يَجُرُّه إلى الكُفْر: بل فيها ما يُبْقى به أَقْرَبَ إلى الإِسلام وأَقبلَ له، لولا العوائقُ فهو مَدْحٌ عَظِيم. وهو معنى قولهم: إنَّ الإِسلام دينٌ فِطْري، فإِنْ قلت: إنَّ الفِطْرة إذا كانت عبارةً عن الاستعداد فهو الطَّرفان فما بقي مَدْحُ الإِسلام.
(4/121)
---(4/118)
قلت: بلى ولكنَّ استعدادَ الإِسلام قريبٌ، واستعدادَ الكُفْر بعيدٌ لكونِه من جهة الموانِع. فهو مَدْحٌ للإِسلام أي مدح، ولا سيما إذا اسُتدل عليه بِتَمْثيل البهيمة، فإِنْ قلت: فما معنى قولهه صلَّى صلى الله عليه وسلّم «إِنَّ الشقاوةَ والسعادةَ في بَطْن الأم» - بالمعنى ، وقول الخَضِر عليه السلام: «طبع يوم طبع كافرًا».
قلت: إن الشقاوةَ والسعادةَ أقربُ إلى التقدير، وهو نحوٌ من عِلْمه تعالى، فيُقَدِّر باعتبارِ ما يؤولُ إليه الحالُ من الكَفحر والإِيمان، والفِطرةُ أقربُ إلى الحسِّ على ما عرفت: أنها عبارةٌ عن خُلُوِّها عما يحضُّه على الكُفْر وعدم اشتمالِها على جُزءه من الكُفْر والإِيمان حِسًّا، فليس في بُنيتِه ومادتِه ما يوجِبُ الكُفْر، وبعبارةٍ أُخْرى أنَّ الْفهطرة تلبس بهيئةٍ لو استُبقي عليها لم يَعْدِل إلى الكُفْر فَخُلُوّه عن الكُفْر مُطْلقًا هو المسمَّى بالفِطْرة، وهو المقدمةُ للإِسلام، وهذا أَمْرُ غير التقدير، بخلاف الشقاوةِ والسعادةِ، فإنَّها عبارةٌ عمَّا عَلِمه اللهاُ مما يأتيه بعد البلوغ من حسنة أو سيئة، فإِن أحسنَ إِسلامه يُقَدَّرُ له السعادةُ، وإن أساء تُقَدَّرُ له الشقاوةُ، فيهما يحتمعان مع الفِطْرةِ على حَدِّ قولهم: إنَّ في الهَيُولَى استعدادًا لجميع صُوَر النوعيةِ، مع أنها لا تتناوبُ عليه إلا صورةً بعد صورة، وتكونُ كلُّ منها معدةً للأُخْرى، ولا يمكنُ اجتماعُهَا لتضادها، فإنَّها جواهرُ عندهم. والجواهر عنده متضادةٌ فلا يمكن تواردها إلا بالتناوب، كالماء فإنه يتكون من هواء، فما دام اتصفَ بالصورةِ المائية لم يمكن أن يتصَفَ بالصورةِ الهوائية، إلا أن فيه استعدادً بعيدًا لتلك الصورةِ أيضًا. فإذا سخن الماءُ ازدادَ فيه استعدا الصورةِ الهوائية شيئًا فشيئًا، فإذا تمَّ استعدادُهَا الصورةَ الأُولى وتلبَّس بالأُخْرى.
ولي فيه نَظْم:
*ولادَ الوليد على فِطْرةٍ ** كتكريرِ لَفْظٍ بلا فائدة(4/119)
(4/122)
---
صحيح البخاري
*فأبدوا قيودًا وأبديتُهُ ** عرا عن الكُفْرِ أو زائدِهِ يعني به أن الفطرةَ بمعنى الخِلْقة لغةً، فلا فائدة في ذِكْرِهَا بدون قَيْد، فإنَّه على وزان قولهم: «كلُّ مولودٍ يُخلق على الخِلْقة» ولا معنى له، فلذا أبديتُ فيه قَيْدًا ليكونَ مُفِيْدًا، وهو الخِلْقَةُ المتهيأةُ للإِسلام والخاليةُ عن الكُفْر.
*كجرةٍ تُكْسَرُ من صدمة ** وإلا فتبقى مدى زاهده فالفِطْرة كالقارورة إن حَفِظتها من التصادم تبقى في يدكِ سالمةً أبدَ الدهر، وإن تغافلت عنها تَتَكَسّر بأدنى صَدْمة تُصِيْبُهَا.
ثم ذكر الشيخُ الفَرْقَ بين الفطرةِ ولاشقاوة. فقال:
*فكان الشقيُّ على فِطْرةٍ ** وأمَّا الشقاءُ ففي عائده فالشَّقْيّ أيضًا كان على الفِطْرة في بدءِ أمره، لكنَّه لما لم يَحْفَظهَا وغيرها صار مآلُهُ إلى الشقاوةِ، فالفِطْرة لا تناقِضُ الشقاوةَ، ألا ترى أن الحديثَ بنفسه حَكَم على كلِّ مولودٍ بالفِطْرة، ثُمَّ ذَكَرَ شقاوتهم وهو اليهودية والنصارنية، فدل على أنَّ الشقاوةَ لا تصادِم كونَه على الفِطْرة فافهم. وقد نبهناك فيما مرَّ أن التعدية في العربية هل تثبتت على طريق الفارسية أيضًا أم لا؟ بأن تدل على تسخيرِ أحدٍ بذلك الفعلِ واستعمالِهِ به، كما إذا أَمَّن عند المالكيةِ (جب آمام آمين كهلواوى). قال أبو حَيّان: إنَّ تعديةَ الأفعالِ مطردٌ والتفعيل سماعي. وقال بعضهم: إنهما مُطردان. وقال آخرون: إنهما سماعيان، ولكن ينبغي أن يُنْظر في معنى التعدية ماذا أرادوا به والذي أرى أنَّ التعديةَ بهذا المعنى ليس عندهم إلا ما مرَّ في قوله: «لم يغسلهم» من التفعيل، وكذا في قوله: «يَهوَّدانه وينصَّرانِه» فلينظر فيه.
(4/123)
---(4/120)
وحينئذٍ فحاصل الحديث: أنَّ كلَّ مولودٍ يولَدُ على الفطرة باعتبار الأَصْل. وأمَّا يهوديتُهُ ونصرانيتُهُ فباعتبار جَعْل الوالدَين وتغييرِهم خَلْقَ الله وَمَسْخهم فِطْرَتَه لا باعتبار الأصل، فإنْ قُدِّر ذلك حتى آلَ إليه الحالُ سُمِي بالشقاوةِ.
فإن قلت: إنَّ الفطرةَ إذا كانت مقدِّمة للإيمان دون الإيمان بعينه، لم يتناسب مقابلَتُهُ بالأديان كالهيوديةِ والنصرانيةِ، فدلَّ على أنها عينُ الإِسلام، لأنَّه أيضًا دِيْنٌ فَصَحَّ التقابل. قلت: بل التقابل صحيحٌ على ما قلت أيضًا، لأن المعنى أن الولد كان قريبًا من الإسلام، فَضَيَّع والداه فِطْرَته فأضاعوه، وأيّ شيءٍ أضاعوا. فإن قلت: إن الحديث يقتصر حينئذٍ على أحكام الدين عبدت فطرتهم. وأما من استمروا على فِطْرتهم كَذَرَاري المسلمين فلا يكونُ لهم فِيْهِ حُكْم.
صحيح البخاري
قلتُ: بلى، ولكنَّ الحديثَ لم يُسق لهم، وإنما سِيق لِمَنْ صاروا إلى الكُفْر بعد التبديل كما ترى في المُشَبَّه به، ففيه أيضًا بيانُ المُغَيِّراتِ. وحينئذٍ تَبيَّن لك أنه لا ينبغي فيه ذِكْر الإسلام، فإنَّه ليس من المُغَيِّرات.
قوله: ({لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}) (الروم: 30) نهى في صورة الخَبَر. والمعنى أنَّ عَدَم التبديلِ كان الدِّيْنَ القَيِّم ولكن الناس يشاقونه ويخالفَونه، وإلا فالتبديل مُشَاهد. فإن قلت: يلزمُ على ما اخترتَ مِنْ تفسير الفطرةِ نحاةُ أولاد المشركين كافَّةً، فإنَّهم ماتوا على الفِطْرة قبل طُرُو التبديل.
(4/124)
---
قلتُ: النجاةِ تدورُ على الشقاوةِ والسعادةِ وهي في عِلْم الله لا على الفِطْرة فقط، وإن كانت الفطرةُ دخيلةً أيضًا إلا أنَّ المدار على الشقاوةِ والسعادة السابقتين على الفطرة لما قد علمت أنهما من التقدير، وهو نَحْوٌ من العِلْم السابق على الكل. ولذا ذكر في الحديث إنتاج الحيوان، وكونه سليمًا وهذا كلَّه في الْخِلْقة ولم يذكر القَدَر فاعلمه.(4/121)
ومنهم مَنْ قال: إن الفطرةَ هي قولهم: قالوا: بلى. قلتُ: إنْ أرادوا به القَصْر عليه فليس بجيدٍ، وإن أرادوا أنه أيضًا من جزئياتٍ الفطرةِ فصحيحٌ. فإنَّ الإسنانَ مفطورٌ على الإقرار بالربوبية، وفيه أقوالٌ أُخَرُ ذكرها الشارحون فراجعها. وسيجيء البحثُ على نجاتهم وعدمِها فيما يأتي والله تعالى أعلم.
صحيح البخاري
باب ُ إِذَا قالَ المُشْرِكُ عِنْدَ المَوْتِ: لا إِلهَ إِلا اللَّه
ويعتبر فيه إذا قالها قبل النَّزْع، فإن دَخل في الغرغرة فهو إيمانٌ اليأس، وهو غير معتبر عند الجمهور. ونُسِب إلى الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى أنَّه اعتبر إيمانَ فِرَعون. قال الشَّعْرَاني: وهذا مدسوسٌ والشيخُ رحمه الله تعالى بريءٌ منه.
قلتُ: بل هو مختارُ الشيخِ رحمه اللَّهُ تعالى وليس بمدسوسٍ، وقد نَقَل بحرُ العلوم في «شرح المثنوي» عباراتٍ عديدةً للشيخ رحمه الله تعالى تدلُّ على هذا المعنى. ومرادُ الشيخ رحمه الله تعالى عندي أن قوله بتلك الكلمةِ اعتبر من حيثُ كونُهُ إيمانًا، لا من حيث كونُ توبةً.
(4/125)
---
وليُعلم أنَّ في قِصَّة فرعونَ إشْكَالا وهو: أنَّ في الحديث: أن فرعونَ لما أرادَ أنْ يقول: لا إله إلا الله، دسَّ جبرائيلُ عليه السلام في فِيه الطِّيْنَ كي لا تدرِكَه الرحمةُ. وهو في الظاهر رضاءٌ بالكُفْر نعوذُ باللَّهِ من ذلك. وأجاب عنه الشيخ الآلوسي رحمه الله تعالى في «تفسيره» وحاصله: أنَّه يجوزُ التمني بموتِ كافرٍ شديدٍ في الكُفْر إذا كان المسلمون يتأذون منه. ونقله عن «مبسوط» خَواهِرَ زَادَه روايةً عن أبي حنيفةَ رحمه الله تعالى.(4/122)
قلتُ: بل المسألةُ موجودةٌ في نَفْس القرآنِ. قال تعالى حكايةً عن موسى عليه الصلاة والسلام: {ربَّنَا اطْمِثِ على أموالِهِمْ واشْدُد على قلوبِهم فلا يُؤمِنوا حتى يَرَوا العذَابَ الأليم} (يونس: 88). ثُمَّ إنَّ ظاهرَ القرآن أنَّه تكَلَّم بتلك الكلمةِ وإنَّما لم تُعتبر منه لكونِهِ إيمانَ اليائس، وإنَّما خشي جبرائيلُ عليه السلام نظرًا إلى سِعَة رَحْمَتِهِ تعالى، فإنه أُمكن أن يُغْفَر له خَرْقًا للعادة. ثُم أقول: إن الكلمة التي قالها فِرعون وهي: {ءامَنتُ أَنَّهُ لآ إِلِهَ إِلاَّ الَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرءيلَ} (يونس: 90) لا تتعينُ إيمانًا في حال الاختيار أيضًا إلاّ أن ينوي بها ذلك. فإنَّه أحاله على بني إسرائيل، فإنْ أراد بتلك الجملةِ إيمانَه فذاك، وإلا فتحتَمِل معانٍ أُخْرى أيضًا.
(4/126)
---
وكتب السُّيوطي رحمه الله تعالى رسالةً في تأييد الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى. وَرَدَّ عليه القاري رحمه الله تعالى وسمَّاهَا: «فِرّ العَوْن من مُدَّعي إيمانِ فرعونَ»، وقد شدَّد في اسمه جدًا. فإن قلت: وعلى هذا ينبغي أن يُعتبر إيمانُ قوم يونس عليه السلام أيضًا، فإنَّه كان عند مشاهدةِ العذاب. قلتُ: أمَّا أولا: فلأنَّهم قد استثناهم القرآنُ بِنَفْسه فلا يقاس عليهم. وأما ثانيًا: فبالفَرْق بينهم وبين فرعونَ، فإنَّه آمن حينَ أحاط به عذابُ الاستئصال، وهؤلاء آمنوا بمجردِ الرؤية قَبْلَ أن يدخلوا في العذابِ. وسيجيءُ تحقيقُ الكلام في التفسير أبسطَ منه.
صحيح البخاري
باب ُ الجَرِيدِ عَلَى القَبْر
والجريد هو الغُصْن التي جردت عنها أورَاقُهَا. وفي «الدر المختار»: إنَّ إنباتَ الشجرةِ مُسْتحبٌّ. وقال العيني رحمه الله تعالى: إن إلقاءَ الرياحين ليس بشيءٍ، ولم يَمْنع عن إنباتِ الشجرةِ. وفي «العالْمكِيرية»: أنَّ إلقاءَ الرياحين أيضًا مُفِيد: قلتُ: والاعتماد على ما ذكره العيني.(4/123)
قوله: (أَشَدَّنا وَثْبَةً الَّذِي يَثْبِ قَبْرَ عثمانَ بن مَظْعون رضي الله تعالى عنه). قيل: يُفْهم منه أَنَّ قَبْرَ عثمانَ رضي الله عنه كان مرفوعًا ولم يكن لاصِقَا بالأرض.c
قلتُ: لم لا يجوز أن يكونوا يثِبون في الطُّوْلِ لا في العرض؟ ولو فَرَضْنا أنَّ هؤلاء الصبيانَ كانوا صغارًا فيتعذَّرُ عليهم الوُثوبُ عرضًا أيضًا. قال الشيخ ابن الهُمام رحمه الله تعالى: كُره أَنْ يُرْفَع القَبْرُ فَوْقَ شِبْر.
قوله: (فَأَجْلَسَنِي على قَبْر) والجلوسُ على القَبْر مكروهٌ تحريمًا عند ابن الهُمَام رحمه الله تعالى كما في «الفتح»، وتنزيهًا كما في «الطحاوي»، واختار الطحاوي أن النهيَّ عنه فيما إذا جلَس للبَوْل والغائط، وإلا فلا. قلتُ: بل النهيُ مطلقٌ، فالجلوس عليه خلافُ الأَوْلى.
(4/127)
---
قوله: (وكان ابنُ عمرَ رضي اللَّهُ تعالى عنهما يَجْلِسُ) إلخ... المرادُ الاتكاءُ دونَ الجلوسِ عليه.
صحيح البخاري
باب ُ مَوْعِظَةِ المُحَدِّثِ عِنْدَ القَبْرِ، وَقُعُودِ أَصْحَابِه حَوْلَه
يعني أنَّ الموعظةَ ليست من الأذكار والأشغال المكروهة عند القبر.
1362 - قوله: (بَقِيْع الغَرْقَد) أي مَقْبرة أَهْلِ المدينة، وهو غيرُ بَقِيع المُصَلَّى.
قوله: (مِخْصَرَة) من الخاصرة.
1362 - قوله: (مَنْفُوسَةٍ) ولا يدرى أن روح طبي أَوْ غيره ولا ريب في كونِ الروح الطبية منفوخةً، أما الروحُ المجردةُ فليت بمنفوخةٍ، بقي البَدَنُ المِثالي فلينظر فيه.(4/124)
«كلُّ مُيسَّرٌ لِما خُلِق له» وهذه الجملةُ جزيلةٌ المعنى فليُمْعَن النَّظرُ فيها. وحاصل الجواب: أن الإنسان مختارٌ في عالم الشهادة، ومجبورٌ بالنَّظر إلى عالم الغيبِ الذي تحقَّق بالأدلةِ المسعية، وإلا فنحن مختارون في العالم المشهور قطعًا، ولا خبرَ لنا بعالمٍ غيرِهِ. فافعلوا الخير وامتنعوا عن الشرِّ في موطن الاختيار. فإن المسبوقَ بالخير لا يأتي منه الشرُّ والمسبوقُ بالشر لا يأتي منه الخيرُ أصلا، ولا يُيسر للسعيدِ إلا الأعمالُ الصالحةُ، وللشقيِّ إلا الأعمالُ الطالحةُ. فقولُكُم: «أفلا ندع العمل في غير محلِّهِ، فإنكم إن سَبَق لكم الخيرُ لا يُيسر لكم إلا هو، فإيَّاه تعملون. وكذا إن قُدِّر لكم الشرُّ لا ييسر لكم إلا هو، ففيه تقتحمون. فليس الخيرُ والشرُّ من عندِ أنفسكم وإنما استُعملتم به فعملتُم. وهذه الجملُ بهذه السذاجةِ لا يمكنُ أن تخرج إلا من صاحبِ النُّبوةِ.
صحيح البخاري
باب ُ ما جاءَ في قاتِلِ النَّفس
وفي فِقْه الحنفية لا يُصلِّي عليه العلماء، ومَنْ صار مُقْتَدىً للناس - بالفتح - وهكذا قاتل الوالدين والباغي، لأنه لم يبق من تعزيرِهم عندنا شيءٌ غير الصلاة، فليس عليهم تعزير.
(4/128)
---
1363 - قوله: (ومَنْ حَلَف بملةٍ غيرِ الإسلام).. إلخ. وصورته أن يقول: إنْ فعل كذا فهو يهوديٌّ، أو نصراني، وهو عندنا يمينٌ منعقِدٌ، فإن حَنِث كفَّر. وقد صرَّح سيبويهٍ أن الشرط والجزاء أيضًا يُسمَّيانِ حَلِفًا. فإن فَعَله وهو يدري أنه يصيرُ به يهوديًا صار كافرًا، وإلا فلا، إلا أنه تَبْقَى الشَّناعةُ على حالِهَا. والصورة الثانية: أن يجعلها محلوفًا به، فيقول باليهودية والنصرانية: لأفعلن كذا، وحينئذٍ معنى قوله: «كاذبًا» أنه ليس قلبِهِ تعظيمُها، إلا أنه تكلَّم بما دلَّ على التعظيمِ.
1364 - قوله: (بَدَرَني عبدي): أي صورةً، وإلا فهو مَيِّتٌ على أَجَلِه.(4/125)
قوله: (وعُذِّب بها في نارِ جَهنَّمِ). وفيه زيادة أيضًا وهي: خالدًا مُخَلَّدًا فيها». وعلَّل الترمذي هذا اللفظَ في «جامعه» ولا وَجْه له. إِلاّ أنَّ قاتلَ النَّفْس ليس له الخُلودُ إجماعًا، فاضْطُر إلى التأويل. قلت: وليس مرادُ الحديثِ تخليدَه بعد الحَشْر كما فُهِم، بل معناه أنه يُعَذّب به إلى الحَشْر، كذلك فالتخليد راجِعٌ إلى القيد، أي التوجاء والخنق والطعن مثلا، أي لا يزال يَفْعلُ هذه الأفعالَ ما دام يكونُ في جهنَّم، وليس راجِعًا إلى المُكْث في النَّار ليلزم خلودُه في النَّار، إنَّما هو خلودُ الفِعْل ما دام في النَّار، فافهمه. وقد شيَّدْناه بنظائره كما سيجيء.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاةِ عَلَى المُنَافِقِينَ وَالاِسْتِغْفَارِ للمُشْرِكِين
1366 - قوله: (خُيِّرْتُ). وقد علمت أنه مِن باب تَلَقّي المخاطَب بما لا يَترقَّب.
1366 - قوله: ({وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}) (التوبة: 84) واستنبط منه الحافظ ابن تيميَّة رحمه الله تعالى أنَّ القِيام على القَبْر جائِزٌ في نَظَر القرآن، ولذا نهى عنه، فثبتت زيارةُ القُبور في حوالي بلده.
صحيح البخاري
(4/129)
---
باب ُ ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى المَيِّت
وفائدة الثَّناء على الميتِ لو كانت لكانت أنا. ويعلم من «الفتح» أنَّ فيه سببيَّة أيضًا. ففيه روايةٌ أنهم إذا أثنوا على عَبْدٍ يقول لهم اللَّهُ تعالى: «إنكم أثنيتُم مَبْلَغ عِلْمِكم، فاذهبوا فقد فَعَلْتُ حَسَب ثنائِكم، وتجاوزتُ عَمَّا جَهِلتم - بالمعنى . وهو الذي يترشَّحُ مِن قوله في الحديث الآتي: «وَجَبَتْ». وكيف ما كان لا ريبَ في كونِ ثناءِ الناسِ أمارةً حسنةً للمِّيت كما يُعلم مِن قوله: «أنتم شُهَدَاءُ اللَّهِ في الأَرض». فإِنَّ الشهادةَ تكونُ على أَمْرٍ ماضٍ، فكأنَّ الخيريةَ تقدَّمت، وهؤلاء شهدوا بها فقط، وليس فيها لشهادَتِهم فقط دَخْلٌ.
صحيح البخاري(4/126)
باب ُ ما جاءَ فِي عَذَابِ القَبْر
وهو ثابتٌ عند أهل السنَّة والجماعة كافةً بالتواتر. وما نُسِب إلى المعتزلةِ أنهم يُنْكِرون عذابَ القَبْر فلم يثبت عندي إلا عن بِشْر المَرِيسي وضِرار بنِ عمروِ. وبِشْرٌ كان يختلف إلى دَرْس أبي يوسف رحمه الله تعالى، فلما بلغه من شأَن بِشْر قال: إني لأَصْلِبنَّك - وكَان قاضيًا - فَفَرَّ المَرِيسي خائفًا، ثُم رَجَعَ بعد وفاته. أما ضِرارًا فلا أَعْرف مَنْ هو.
والحاصل: إِنه لم يثبتُ عندي ما نسبُوه إلى المعتزلةِ. أما أهلُ السُّنة والجماعةِ فلهم فيه قولان: قيل: العذاب بالرُّوح فقط. وقيل: بالروح والجسدِ مِعًا. ومال إلى الأَوَّل الحافظ ابنُ القيِّم رحمه الله تعالى. والأقرب عندي هو الثاني وذهب الصوفيةُ إلى أَنَّه على الجسد المثالي، وهو أكثف من عالم الأرواح، وألطفُ من عالم الأجساد.
(4/130)
---
فالحاصل: أن شيئًا من العذاب يَبْدأ من القبر، ثم يَتِم العذابُ عند دخوله في جهنَّم، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (غافر: 46). قال الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى: إنَّ آلَ فرعونَ غيرُ فرعونَ. والأَمْرُ بإِدخال النارِ للآلِ دونَ فِرْعونَ. قلت: صنيعُ القرآن أنه يَذْكُر الآلَ ويريد مع ما أُضِيف إليه اختصارًا. وكان في الأَصل هكذا. ادخلوا فرعونَ وآلَه أشدَّ العذاب، فلفَّهما في لفظ واحدٍ وقال: «آل فرعون»، فافهم.
قوله: «غدوًا وعشيًا» وهذا في القبر.
صحيح البخاري
باب ُ التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ القَبْر
صحيح البخاري
باب ُ عَذَابِ القَبْرِ مِنَ الغِيبَةِ وَالبَوْل
صحيح البخاري
باب الْمَيِّتِ يُعْرَضُ عَلَيهِ مَقْعَدُهُ بِالغَدَاةِ وَالعَشِي(4/127)
قوله: (ومن فِتْنةِ المَسِيحِ الدَّجَّال) وفي «البدور السافرةِ» مرفوعًا أَنَّ مَنْ كان دَخَل في قَتْل عثمانَ فإِنَّه يؤمنُ بالدجال في قبره. ولو صحَّ عند المحدِثين لدلَّ على أنَّ أَثرَ فتنةِ الدجال يَبْلغ إلى القبور أيضًا. وحينئذٍ تَظْهَرُ للتعوُّذِ منه نكتةٌ أخرى. ثُمَّ إنَّ هذا الابتلأَ إنما يكونُ من آثارِ معاصيه التي اقترفها في الدنيا.
صحيح البخاري
باب ُ كَلامِ المَيِّتِ عَلَى الجنَازَة
أي التابوتِ.
صحيح البخاري
باب ُ ما قِيلَ في أَوْلادِ المُسْلِمِين
(4/131)
---
وانعقد الإِجماع على نجاةِ أولادِ المسلمين. وقال مولانا النانو توي رحمه الله تعالى: أن مُقتعضَى الأدلةِ التوقُّفُ فيهم أيضًا. أَمَّا أولادُ المشركين فتوقَّف فيهم أبو حنيفةَ رحمه الله تعالى. وصرَّح النَّسفيُّ في «الكافي»: أن المرادَ منه نجاةُ بَعْضِهم وهلاكُ بَعْضِهم لا عدمُ العِلْم. وهو مذهبُ مالِك كما صرَّح به أبو عمرو في «التمهيد». وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى كما صرح به الحافظ. وعن أَحمد رحمه الله تعالى فيه روايتان: إحداهما بالتوقف على وَفْق الآخرين، والأُخرى بالنجاةِ. واختار الثانيةَ ابنُ القيِّم رحمه الله تعالى في «شفاء العليل». وسيجيء تفصيلُ المذاهب في الباب التالي.
صحيح البخاري
باب ما قِيلَ في أَوْلادِ المُشْرِكِين
واعلم أنهم اختلفوا في أولاد المشركين: فَنُقِل عن أبي حنيفة رحمه الله التوقَّفُ. وصَرَّح النسفيُّ في «الكافي»: أن المرادَ بالتوقف في الحُكْم الكلي، فبعضُهم ناجٍ وبعضُهم هالكٌ، لا بمعنَى عدمِ العِلْم أو عدم الحُكْمِ بشيءٍ. وهو مذهب مالك، صرَّح به أبو عمرو في «التمهيد». وإليه ذهب الشافعي كما صرَّح به الحافظ. وعن أَحمد روايتان. واختار الحافظ ابنُ القيِّم النجاةَ كما في «شفاء العليل»، وهو الذي نَسَبه إلى ابن تيميةَ. ولكنَّ المنقولَ عنه عندنا هو التوقُّفْ كما في «فتاواه».
(4/132)
---(4/128)
فلا أدري أتعددت الرواياتُ عنه، أو وقع منه في النَّقْل سَهْوٌ؟ وذَهَب الحمَّادانِ، والسُّفّيانانِ، وعبدُ اللَّهِ بن المُبارك، والأَوْزَاعيُّ، إسحاق بن رَاهُويه كلّهُم إلى التوقُّف. ثم جاء الأشعريُّ واختار النجاةَ. ثُم جاء الشافعية واختاروا قول الأشعريِّ وشهروه، ونوَّهُوا بِذِكْره، حتى إِنَّ النوويَّ لم يَنْقل فيه مذهبَ الشافعيِّ وتَرَك ذِكْره رأسًا، واختار النجاةَ تَبَعًا للأَشعريِّ. وإليه ذهب الحافظ وعزاه إلى البخاريِّ رحمهما الله تعالى أيضًا. والذي عندي أنه وَافق المتوقِّفين كما يُعلم من كتاب القَدَر. وعند ابنِ كثير في سورة «بني إسرائيل»: أَنَّ مذهبَ الأشعريِّ أيضًا هو التوقُّفُ. وإذن لا أَدري كيف نُقِل عنه قولُ النجاة. ولا أَقَلَّ مِن أنه تعارُضُ النَّقْل عنه. هذا في ذَرَارِي المُشْرِكين. أما ذَرَاري المسلمِين فَمُقْتَضَى الدليلِ أَن يُتوقَّفَ فيهم أيضًا إلا أن الإِجماع قد قام بنجاتِهم. وحسنئذٍ معنى قوله: «الله أَعلمُ بما كانوا عاملين» في حَقِّهم أنه قد شاءَ عَمَلَ الخيرِ منهم وسبق ذلك منهم. فهو إبهامٌ في اللَّفْظ مع التَّعْيين في الخارج.
1384 - قوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ بما كانوا عَامِلين). قلت وهذا نَصٌّ في الباب الذي لا مَهْرب عنه ولا مَعْدِلَ. فإِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمسُئِلَ عنهم، ثُم أجابهم بالتوقُّف فيهم. فالمسئلة هي التوقُّف، وما يُخالِفُه من المُبهَمات ينبغي تأويلُه قطعًا. وأَوَّله مَنِ اختار النجاةَ بتأويلٍ رَكِيكٍ لا يُعبأ به، فقال: إنَّ الحديثَ أَحالهم على العمل، وإذ لم يوجدُ منهم عملُ الشَّرِّ فينجون لا محالةَ. قلت: كلا، بل الحديثُ أحالَ على العِلْم بالعمل دونَ العَمَلِ نَفْسِه. فهذا الحديثُ يقطع عِرْقَ العمل.
(4/133)
---(4/129)
فإِنْ قلت: إِنَّ المُمهّدَ في الشَّرْع أنَّ الهلاكَ والنجاةَ يدوران على العمل. قلت: فَمَنْ قال لك هذا؟ بل كما أنَّ النجَاةَ بالعملِ ضابِطةٌ في العاملين، كذلك النجاةَ أو الهلاكَ بالاستعدادِ ضابِطةٌ أُخْرى. وهذا فِيمَن لم يُدْرِكوا زَمَنَ العملِ. وأيُّ بُعْدٍ في تَرتُّب الثمرةِ على الاستعداد، فَمَن يكون فيه استعدادُ الخيرِ ينجو، ومَنْ يكون فيه استعدادُ خلافِه يَهْلِك، فالفَضْلُ كما يكونُ بالعمل كذلك يكونُ بما سَبَق في علم الله. وكذلك ينبغي أن يكونَ، فإِن العمل إنما يكون مِمَّن أدركوا زمانَه. وأما مَنْ لم يدرِكوا زمانَه فليس فيهم إِلا الاستعدادُ، وما علمه الله منهم فعليه الفَصْلُ فافهم، ولا تعجل فإِنَّ على أَثَرِ عَجَلةٍ كَبْوةً. على أنَّه ذكر في «الفتح» امتحانُ أهلِ الفَتْرة والمجانين، فيقال لهم: أن ألقوا أَنْفُسَكم في النار، فمن يَفْعل ينجُوا، ومنْ يأَتي يَهْلِك. فكذلك يمكنُ أن يكونَ للصبيان أيضًا عملٌ في المَحْشَر يُناط به هلاكُهُم ونجاتُهم، والله أعلم.
صحيح البخاري
باب
أحال الفَصْل إلى الناظرين ولم يترجم بشيءٍ، وذَكَر مادته فقط.
1386 - قوله: (والصِّبْيانُ حَوْلَه فأولادُ النَّاس) ومِن هنا فَهِم الحافظُ أَنَّ البخاريَّ رحمه الله تعالى اختارَ النجاة، لأَنَّ أولادَ الناس الذين حَوْلَه لا يكونون إِلا مَنْ هو ناج.
أقول: وفي لفظٍ آخَر من هذه الرواية: أنَّ هؤلاء الصبيانَ كانوا بعضَهم لا كُلَّهم. فلم تثبتِ النجاةُ مطلقًا، ولا كلام في نجاةِ البعض، وإنَّما الكلامُ في نجاة الكَلِّ. وذا يْثبُتُ لو ثَبَت كونُ مَنْ حوله كلَّهم، ولم يثبت.
1386 - قوله: (ويَلْتَئِم شِدْقُهُ) وهكذا يَصْنع به إلى القيامة. وهو معنى قوله: «خالدًا مخلدًا» على ما مر معنا تحقِيقه ولم يدركِ الناسُّ مرادَه فاضطروا إلى إِعلالٍ وتأويلٍ.
فائدة:
(4/134)
---(4/130)
واعلم أَنَّ أَقْربَ نظيرٍ لِعذابِ القَبْر عندي ما يحُسُّه المرء في رؤياه. والعذاب اسمٌ لنَوْعٍ مِن الإِدراك والإِحساس، ولا يكون إِلا حِسِّيًا في العالم الّذي يكون فيه. فإِنَّ ما يراه صاحبُ الرؤيا فهو حسيٌّ في حقه وإن لم يكن في حقِّنا. كذلك العذابُ أيضًا حسيٌّ في حقِّ مَنْ يعذِّب وإنْ لم يكن في حَقِّ مَنْ هو ليس في عالِمه. لا أريد به أن العذابَ خياليٌّ فقط، فإِنَّه زندقةٌ وإِلحاد، ونعوذُ بالله العظيم من الزَّيْغ وسوءِ الفَهْم.
1386 - قوله: (شَيْخٌ وصِبْيانٌ). قلت: ولا دليلَ فيه على الاستغراقِ مع التصريح بلفظ: «أَكَثْرَ الصِّبْيان» في هذه الرواية بعينها. وهل أَدْرَكْت مرادَه؟ فأسمع: إنّ معناه أَني رأيتُ عنده من الصِّبيان ما لم أَرَ مِثْلَهم في موضِعٍ من تَطْوافي هذا. وقد فَهِمه الطِّيبيُّ ولم يُدْرِكه الحافظ رحمه الله تعالى، وإنَّما كان هؤلاء عندَه لكونهم على الفِطْرَةِ. ولإِبراهيمَ عليه الصلاة والسلام مزيدُ اختصاصٍ بها، حتى يقال للحنفية دينُ الفِطْرة، أَلا ترى أنه كيف أجاب أباه «آزَرَ» مِن فطرتِه مع كونِه صبيًا إذ ذاك. فلما ظهرَ له مزيدُ اختصاص بالفِطْرة ناسبَ أن يكونَ مَنْ ماتوا على الفطرةِ عنده.
صحيح البخاري
باب ُ مَوْتِ يَوْمِ الاثْنَين
قال السيوطي رحمه الله تعالى: إنه أفضلُ الأيام للموت، لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمتُوُفِّي فيه وإن كان أفضلُ الأيام مطلقًا هو الجمعةَ.
صحيح البخاري
باب ُ مَوْتِ الفَجْأَةِ؛ البَغْتَة
(4/135)
---(4/131)
واعلم أن موتَ الفَجْأةِ مما وَقَع منه الاستعاذةُ في الأحاديث، ومع ذلك هو موتُ الشهادةِ. فهو مما يليقُ منه الاستعاذةُ من جهة أنَّ المرءَ لا يَقْدِر فيه على الوصية وغيرها مما لا بُدَّ له منه. وإذا أصيبَ بها بسببٍ سماويَ فإِنَّه موجب للشهادة كرامةً من اللَّهِ. ولا يحسبنَّ رجلٌ أَنَّ كل ما يوجِبُ الشهادةَ يكونُ مطلوبًا لا محالةَ. فإِنَّ ما لا يكونُ مطلوبًا قد يوجِب الشهادةَ كموت الفجأة.
صحيح البخاري
باب ُ ما جاءَ فِي قَبْرِ النبي صلى الله عليه وسلّموَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وهو مسلم كما هو مذهبُ الحنفية.
1391 - قوله: (لا تَدْفِنِّي) لأَنَّه قُدِّرَ أن يُدْفَنَ فيه عليه الصلاة والسلام.
1392 - قوله: (فإذا قُبِضْتُ فاحْمِلُوني) - وذلك لأنه يمكنُ أن تكونَ أجازتُها في حياته رعايةً له، ولا تكون عن صميم قلبٍ، فإِذا مات لم يَبْق هذا الاحتمالُ، فأمر أن يستأذنوا مرةً أُخرى.
قوله: (تبوءوا الدَّارَ والإِيمان) يعني إيمانَ بين هكاناليا، أي صار مكانُهم ومستقرُّهم الإِيمانَ. هذا هو المرادُ، لا استعارةَ فيه كما زعموا.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُنْهى مِنْ سَبِّ الأَمْوَات
صحيح البخاري
باب ُ ذِكْرِ شِرَارِ المَوْتَى
لا بأسَ بِسَبِّها إِنْ كان مِن أَشْقَى الخَلْق، كأَبي لَهَب. ولذا بَوَّب بعده: باب شِرَار الموتى. والله تعالى أعلم بالصواب.
24 - كِتَابُ الزَّكَاة
صحيح البخاري
باب ُ وُجُوبِ الزَّكَاة
صحيح البخاري
باب ُ البَيعَةِ عَلَى إِيتَاءِ الزَّكاة
(4/136)
---
الصواب: أنها فُرضت بمكة، إلا أن نَصْبَ النُّصُب والمقادير كان بالمدينة، ونحوها صدقة الفطر، والجمعة، فكلها فُرِضتْ بمكة. ثم فُصِّلت بالمدينة، لا كما في «الدر المختار»: أنها فُرضت بعد الهجرة بالمدينة.(4/132)
قوله: (قال ابن عباس). وكان المصنفُ أخرَجَه نحوه في أوائل الصلاة أيضًا. وغرضُه أن الصلاة والزكاة كانتا في جميع الأديان السماوية، نعم اختلفت طُرُقها وتفاصيلها.
1395 - قوله: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله) واختلف في أنَّ الكفار مخاطبون بالفروع، أم لا، مع الاتفاق على أن ثمرته لا تظهر إلا في الآخرة، فلا قضاء عليهم للصلوات والصيام الماضية عند المثبتين أيضًا، وتمسك النافون بهذا الحديث، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأمر معاذًا أن يدْعُوهم إلى الفروع، بعد أداء الشهادة والإِيمان. وليس بصحيحٍ، فإنَّ ترتيبَ التعليم عند الفريقين كذلك، فيكون تعليمُ الإِيمانِ أولا، ثم الأعمال ثانيًا. وقد مرّ أن المختار عندي أنهم مخاطبون بالفروع، اعتقادًا وأداءً، وتظهر ثمرته في الآخرة.
1395 - قوله: (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)، تمسَّك به ابن الهُمَام على أن الفقراءَ مصارفُ الزكاة، لا مستحقوها، ولذا لم يُفصِّل بين صِنفٍ وصنف. وراجع «شرح الوقاية». وهو وإن كان أصوليًا، لكنه ليس كابن الهُمَام، فإنه أحذقُ منه، لكنَّ كلامَه هنا صواب، فراجعه.
1397 - قوله: (لا أزيد على هذا)، وفي بعض الألفاظ: «لا أتطوع»، كما أخرجه المصنفُ في الصوم، وفي «المستدرك»: «هل قبلهنَّ شيء أو بعدهنّ»؟، قال: «افترض الله صلاة خمسًا» - بالمعنى ، وقد مرّ محملُه عندي، أنه محمولٌ على خصوصيته.
1398 - قوله: (شهادة أن لا إله إلا الله) وعقد بيده، والعقدُ دلَّ على أن ذكرَ الشهادة ليس للاستئناف، بل معدودٌ من الأربعِ الموعودة. وقد مرّ تفصيله في كتاب الإِيمان.
(4/137)
---(4/133)
1399 - قوله: (كفر من كفر)... إلخ، نقل النَّووي عن الخَطَّابي أن الارتدادَ قد كان عمَّ بلادَ العربِ كُلَّها. وهذا النقلُ فضلا عن كونه مضرًا، خلافُ الواقع. وقد مر مني عن ابن حَزْم: أنه لم يرتدَّ إلا شِرْذِمةٌ قليلةٌ منهم، نعم قالوا: لا نؤدي الزكاة إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه، فقال بعضهم: إن أمر الدعاء كان مختصًا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم كما في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْولِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ} (التوبة: 103)، وليس ذلك لأحدٍ بعدَه، ومن تكونُ صلاتُه سكنًا لهم بعدَه؟.
صحيح البخاري
والحاصل: أنهم أبَوْا أن يؤدوا زكاة أموالهم إليه، وأن يجعلوه أميرًا، بل قالوا: منا أمير، ومنكم أمير، فيكون لكل قبيلة أمير، وتؤدي الزكاة إليه، وهذه بغاوة لا ارتداد. فالصواب أنه لم يرتدَّ منهم إلا بعضُ من لحق بمُسيلِمة، وإنما أجمل فيه الراوي، لأن محطَّ كلامِهِ، بيان ما جرى بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لا بيان تفاصيلهم، فلفَّه في قوله: «كفر من كفر».
ثم حاصل مناظرتهم على ما نصحَّحها القوم أن عمر رضي الله عنه حمل قوله صلى الله عليه وسلّم «حتى يقولوا لا إله إلا الله على العموم، فلا يجوزُ قتال من قال ذلك كائنًا من كان، وفهمَ أبو بكر رضي الله عنه أن الامتناعَ عن أداءِ الزكاة أيضًا يُحلُّ القتلَ، لقياس جامعٍ بين الامتناع عن الزكاة، والامتناعِ عن الشهادة.
(4/138)
---(4/134)
وملحظها عندي أرفعُ من مصطلحات الفِقه، وقد مرّ منه شيء، والتفصيل في رسالتي «إكفار الملحدين في شيء من ضروريات الدين». ثم إن تأخُّرَ عمر رضي الله عنه لم يكن لعدم تنقيحِ مناط التكفير عنده، كيف وقوله: «من فرق بين الصلاة والزكَاة» يدل صراحةً على أن تركَ الصلاة كان من مُوجبات القَتْل عندهما بالاتفاق، فإن إكفارَ مَنْ أنكر ضروريات الدين من ضروريات الدين، وليس معنى قول عمر رضي الله عنه: «حتى يقولوا: لا إله إلا الله»: إن السيف يرفعُ عنهم بعد تلك الكلمة، وإن أنكروا شيئًا من ضروريات الدِّين، وهل يقوله إلا مصاب، فكيف بعمر رضي الله عنه
ولكنه كان لمَا أشرنا إليه من قبل، فتذكره: «لو منعوني عَنَاقًا» قيل: إنه لا يؤخذُ في باب الزكاة إلا الثَّنيّ، فما معنى قوله: «عناقًا»؟ فإنه اسم لما أتى عليه أربعة أشهر، نعم يضم عند تكميل النصاب، فقيل في جوابه: إن «لو» ههنا للفرض. وقيل: إن الكبار إذا ماتت قبل حَوَلان الحول، وبقيت الصغار، ففيها ثلاث روايات عن إمامنا: الأولى: سقوط الزكاة عنها، والثانية: الأخذ بواحد منها، وحينئذٍ صح أخذ العَنَاق أيضًا، والثالثة: أنه يجب عليه الثَّنِيّ، ويؤديه بعد الشراء. ثم في بعض الألفاظ: «لو منعوني عقَالا». بدل: «العَنَاق». فقيل: هو على المبالغة. وقيل: كان من عاداتهم أنهم إذا أَعطُوا السِّنَّ الواجب أعطوا معه حَبَلَه أيضًا. فإِعطاء العِقَال، وإن لم يذكر في الفقه، إلا أن عُرْفَهم كان كذلك. وقيل: العِقَال: اسم لزكاة السَّنَة. وقيل: يُطلق العِقَالُ على العُرُوض أيضًا، فهو مقابل للنقد:
*أَتانا أبو الخَطَّابِ يضرِبُ طَبْلَه ** وَرُدّ ولم يأخذ عِقَالا ولا نَقْدًا
صحيح البخاري
باب ُ إِثْمِ مانِعِ الزَّكاة
(4/139)
---(4/135)
واعلم أن الزكاة في الفقه: في السوائم، ومال التجارة، والنقديْن، فحسب. فاعتبروا النمو بنحويه: أعني حقيقة، أو تقديرًا. فالنقد هو النَّماء كله، بخلاف العُروض، فليس النماء فيه إلا بنية التجارة، وهو النماء الحكمي. ويُعلم من الأحاديث أنَّ في المال حقوقًا واجبةً أخرى، إلا أنها منتشرة، كما يدل عليه قوله: «ومن حقها أن تُحلبَ على الماء»، وبوّب عليه الطحاوي أيضًا.
والعلماء بحثوا في وجوب حقِّ غير الزكاة، فأنكره الأكثرون، وهو عندي ثابت، إلا أنه غير متعيّن، فهو إما من ملحقات الزكاة، أو يجبُ عند الحوائج، ولو ادَّعيت أن إطلاقَ الزكاة إنما كان على مجموع ما عليهم من الزكاة، وتلك الحقوق، فلا بعد أيضًا.
ثم إنهم ماذا يقولون في الآيات التي نزلت في الزكاة بمكة، مع اتفاقهم على أن الزكاة فرضت بالمدينة؟ وهل المخرَجُ عنها إلا بأنها كانت منتشرةً بمكة، وأُطلق عليه لفظ الزكاة، ثم ماذا يقولون في الآيات التي وردت في ذم البخل؟، وهل البخلُ يقتصرُ على عدم أداء الزكاة، فإن كانت الزكاة واجبة بمكة، وأُطلقتْ على الحقوق المنتشرةِ أيضًا، وكان البخلُ على عرْفهم لا على منعِ الزكاة فقط، ثبت أنَّ في المالِ لحقوقًا سوى الزكاة أيضًا، أي الزكاة المصطلحة، وأن الامتناع عن تلك الحقوق أيضًا بخل، وجالبٌ للوعيد، وحيئذٍ يَخرُجُ غير واحدٍ من الآيات عن التأويل، ولم تبق حاجةٌ إلى حملها وقصْرِها على منعِ الزكاة فقط.
(4/140)
---(4/136)
1402 قوله: (شاة يحملها على رقبته)، وهو السنة في السارق في بلدتنا، فإنه يُجاء به يحملُ على رأسه مالُه الذي سرقَه. ويُحتملُ أنْ تكونَ تلك الشاةُ والإِبل مما لم تؤد زكاته، أو من الخيانة والسَّرقة. والمصنفُ أخرج بعده حديثَ النقديْن، وهذا في السوائم. وظني أن المعاصي تركبُ العاصي يوم القيامة، كما أنها ركبتْه في الدنيا، تذهب به إلى أين شاءت، وكذلك الطاعات، تنقلبُ له مراكبَ يركَبُها، كما أنها ركبت عليه في الدنيا، فساقته حيث شاءت، وهو تأويل قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} (الأنعام: 31).
1403 - قوله: (مُثِّل له يوم القيامة ماله شُجاعًا)، لعل بين المال والشجاع مناسبةٌ، فإنَّ الحياة توجد كثيرًا على الكنوز المدفونة، واشتهر ذلك عند أهل العرف أيضًا اشتهارًا لا يسع إنكاره. ولعل المال لهذه المناسبة ينقلبُ حيةً في المحشر له زَبِيْبتَان. وسمعت عن ثقةٍ أنَّ في العرب حيةً تكون على رأسها قرنان، ويمكن أن تكون الزَّبِيْبتَان هما هذان القرنان (أنا مالك) هذا هو التمثيل: كقوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} (مريم: 17) ففيه تمثَّل الملك.
صحيح البخاري
باب ما أُدِّيَ زَكاتُهُ فَلَيسَ بِكَنْز
قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلّمقبل نزولِ النُّصُب والمقادير، كان يوظف عليهم قِطعة من المال حسب الحاجة، وكانت تصرفُ في مهمات الإِسلام، فلما جاء الله بتفاصيل الزكاة، وافترضت عليهم، وَسَّع لهم في هذه الأموال، هكذا يُعلم من كلامِ ابن عمر رضي الله عنه.
(4/141)
---(4/137)
ثم الناسُ في تفسير الكنز على أنحاء، فقال معاوية رضي الله عنه: إن الكنز هو المال الذي لم تؤد زكاته. وقال أبو ذر رضي الله عنه: إن المال الفاضل عن حاجته كنزٌ مطلقًا، سواء أدَّى زكاته، أو لا. وأقول اتباعًا لبعض السلف: إنه اسم للمال الذي لم تؤد زكاته، ولا الحقوق المنتشرة فيه. والأقرب عندي أن يفوضَ تفسيرهُ إلى العرف، ويترك إلى رأي المبتلى به. وترجمته: خزانة.
ولا يمكنُ تحديدُه أصلا، كلفظ التبذير، والإِسراف، والتوكل، كلها مما يعلمها أهل العرف، ويتعسرُ حدودها، ولا أعرف زمانًا من عهد النبوة افترض عليهم صرْفَ جميعِ المال، إلا أنه إذا لم يكن يبق في بيت المال شيءٌ، ودعت الحاجة، فحينئذٍ يجبُ عليهم أن ينفقوا بكل ما يمكن، وهذه المسألة إلى الآن، فالوعيد في النص عندي منصرفٌ إلى كل ما يُطلقون عليه كنزًا في العرف، ولعله هو مذهب أبي ذر رضي الله عنه. وأتردَّدُ فيما يُنقل عنه. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
ويُحكى أن أبا ذر رضي الله عنه لما احتُضِرَ، جعلت امرأتُه تبكي، فسأل عن بكائها، فقالت: إني أبكي لأنك ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلّموتموت الآن، ولا أجد ما أكفِّنُك فيه، فقال: إذا متُّ، فاطلُعي على تلول، ونادي بذلك، يعينُك أحدٌ فطلعت، فإذا هي بقافلةٍ فيها ابنُ مسعود رضي الله عنه، فلما أخبرَ الخبرَ بكى، وأعطى عِمَامته، فكانت كفنه رضي الله تعالى عنه.
صحيح البخاري
باب ُ إِنْفَاقِ المَالِ في حَقِّه
صحيح البخاري
باب ُ الرِّيَاءِ في الصَّدَقَة
قوله تعالى: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمنِّ والأذى)، ولما كانت الصدقات تحبط بهذين نبَّه عليهما القرآن.
صحيح البخاري
باب لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ، وَلا يَقْبَلُ إِلا مِنْ كَسْبٍ طَيِّب
(4/142)
---(4/138)
فإنَّ الله طيبٌ يحبُّ الطيِّبَ، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أَنفِقُوا من طَيِّباتِ ما كَسبْتم ومما أخرجْنَا لكم من الأرض ولا تيمَّمُوا الخبيثَ منه تنفقون ولستُم بآخِذيْه إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} (البقرة: 267) نعم، سبيل المال الخبيث، وإن كان هو التصدق، لكنه لا يُؤجَرُ عليه، وإن أُجر على الفعل - أي امتثال أمر الشارع - .
صحيح البخاري
باب ُ الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّب
صحيح البخاري
باب ُ الصَّدَقَةِ قَبْلَ الرَّد
قوله تعالى: (ويربى الصدقات)، يعني أن الله يمحقُ رِبَاكم، ويعطي الرِّبا من جانبه على صدقاتكم، وهو إلى سبع مئة ضِعف، إلى ما شاء الله تعالى، فإن كنتم تحبون الربا، فخذوه عني، وتصدقوا في سبيلي وفسره العامةُ: أن الله تعالى لا يُبارِكُ فيما أخذتموه من الربا، وإنما يبارِكُ لكم فيما أنفقتم في سبيل الله. وليس بجيد عندي، بل مخُّ الآية هو النهي عن الربا المعروف، والحثُّ على أخذ الربا من عنده تعالى، فمن أخذه من الله فسيأكله رَغيدًا، ومن أخذه من الناس يقع في نهر الدم، ثم لا يقدرُ أن يخرج منه إلى قيام الساعة.
ومما ينبغي أن لا يُذْهلَ عنه أن نَظْم القرآنِ لا يؤدي المرادَ فقط، بل ينبِّهُ على الحقائق، ويرمُزُ إليها، فعلى المترجِمِ له بلغةٍ أخرى أن يراعي ذلك النظم، ثم ينظرُ إلى لغة أخرى، أنها هل تؤدي مُؤدَّاه أو لا، ومن لا يبالي بذلك ربَّما يُغيرُ المراد، حتى يوجبُ تغييرَ تلك الحقائقِ المرموزِ إليها؛ وإنما تُحس مضرَّتَه عند إلحاد ملحد. كما وقع في لفظ: التوفي والخلو، فإن الناس تسامحوا في بيان معناهما، فانبعث أشقاهم، وجعل يدَّعي أنه المسيح الموعود، بئست أمٌّ ولدته، ويا ليتها لم تلدْه.
(4/143)
---
قوله: (والله لا يحبُّ كلَّ كفارٍ أَثيم) ودَلالته على رفع الإِيجاب الكلي، مع أن المرادَ منه السَّلبُ الكلي. وتعرَّض إليه التَّفْتَازاني في «المُطَوَّل» فلم يؤد حقه.(4/139)
1410 - قوله: (كما يُربي أحدكم فلوه)، ذكر فيه صورة التَّضعيف، يعني أنك إذا أنفقت في سبيل الله درهمًا، فالله تعالى يُربِّيْه لك حتى يكون رَبَّاه أضغافًا مضاعفة، فيضعفه شيئًا فشيئًا حتى يبلغَ يوم الحشر إلى هذا القدر، فهو كتربية الفَلُو، لا أنه يُضعَّف لك دُفعة واحدة، فافهمه، فإن تشبيهات الأنبياء عليهم السلام ليست بهينة، بل تبني على الحقائق، فهذه هي الحقيقةُ التي أُريدت أن تكشفَ بها، ولعلك تفهم الآن ما لطف قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ} (البقرة: 261) فكما تتدرج الحبة الواحدة إلى هذه الحَبَّات، كذلك صدقتُك تربَّى من عند الله، وتكون أضعافًا مضاعفةً، حتى تبلغَ نهايته بقدر الإِخلاص، إلى ما شاء الله أن تبلغ.
صحيح البخاري
باب اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَالقَلِيل مِنَ الصَّدَقَة
قال بعضهم: معناه أن اتقوا النار، وإن بقي عليكم شِقُّ تمرة لأحد من ذوي الحقوق، فأدوه أيضًا، فإن هذا القدرَ من الحقوق أيضًا يوجب النار، فاتقوها بأدائه. وقيل: إن النار إنما وجبت لأجل المعاصي، فخلصوا أنفسَكُم منها، ولو بشق تمرة، فإن التَّصدقَ بمثلِهِ أيضًا ينفعكم. فالموجبُ للنارِ في الصورة الأولى إمساكُ شقِّ التمرة، والنجاة بأدائها. والموجب لها في الصورة الثانية معاصيه التي اقترفها. وشقُّ التمرة لتخليص نفسه عنها.
فالحاصل أن فيه أن التصدق بمثل هذه مفيدٌ لدفع النار، وليس فيه أن عدمَ التصدق به يُوجب النار، وبينهما بَوْن بعيد فبكلمة طيبة (شرافت كا كلمه)، يعني: كلمة الشرافة.
(4/144)
---
قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) (ثابت قدمى - جى كى حوصله وإلا أندرسي دكماكاتا نهين) تحامل: حمل الوِقر بالمشقة.
صحيح البخاري
باب أَيُّ الصَّدَقَةِ أفضَلُ، وَصَدَقَةُ الشَّحِيحِ الصَّحِيح(4/140)
أي الحريص على المال. واعلم أن القياسَ يقتضي أن لا تعتبرَ الوصيةُ أصلا، لأنه لمّا أشرَف على الموت خَرَجَ المالُ عن مِلْكِهِ، وتحوَّل إلى مِلك الورثة، لكن الشرعَ منَّ علينا، فاعتبرها في الثلث، فهي من المَبَرَّات لا غير.
صحيح البخاري
باب
1420 - قوله: (أينا أسرعُ بك لحوقًا)، كأنهنَّ كنَّ على طمعٍ من أن يلحقْنَه أولا.
1420 - قوله: (فأخذوا قصبة يذرعونها)... إلخ، وذلك بعد ما خرج من عندهن، ولو كان بين يديه لما كان فيه قلق أيضًا، فإنَّ المقصودَ كان هو الإِخفاء، والإِبهام على السنة في مثل تلك الأبواب، فطاح ما كفر به هذا اللعين، فإنَّ من أصوله أن الأنبياء عليهم السلام قد لا يفهمون ما يُوحى إليهم أيضًا والعياذ بالله. نعم، هذا من دَجَلِهِ، والذي ينبغي عليه الاعتقاد أن أنباءهم لا يشوبها كذب، فلا يغلَطُون فيها، ولا يُغالَطُون، وإنما هو طريق من لا يخبر إلا بالدَّخ، فيخلِطُ معه ألف كذبة من عند نفسه، فإنْ وجدتَ في موضعٍ نقصًا أو زيادةً من أخبار الرسل، فإنما هو من جهة الرواة، ولكونها منقولة بطريق خبر الآحاد، فلا يُؤْمَنُ بكونها من لفظ النبي صلى الله عليه وسلّم لا أن أخبار الأنبياء عليهم السلام قد تشتمل على الغلط، ونعوذُ بالله من الزَّيغ، وأن عدمَ القطعيات بالظنيات ليس من دأب الإِنسان.
(4/145)
---(4/141)
وأما قصة الحُدَيْبِيَة فهي أيضًا مما تمسك بها على كفره، مع أنه لم يرد فيها توقيت، ولا أنه سافر لذلك. وأما الرجاء والقصد، فليس من الأخبار في شيء، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمأخبر أبا بكر رضي الله عنه بغلبة الروم، فرجى أبو بكر رضي الله عنه أن يكون هذا في المدة التي مادَّها، ثم لم تُغلب الروم فيها. ولذا قال له عمر رضي الله عنه: ومتى قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إنها تكون في تلك السنة؟، فالأخبارُ عن الأنبياء عليهم السلام لا يحملُ الغلط أصلا، نعم، الرجاء والقصد أمر آخر، فإنَّ بناءهما يكونُ على الأسباب الظاهرة.
والحاصل: أن الأمة إذا أجمعتْ على صِدق أخبار الأنبياء عليهم السلام، فخلافُه بنوعٍ من الحيل، والتمسك بالمحتَمَلات كفرٌ بحتٌ.
صحيح البخاري
باب ُ صَدَقَةِ العَلانِيَة
صحيح البخاري
باب ُ صَدَقَةِ السِّر
بحث العلماءُ في المفاضلة بين صدقةِ العلانية والسر، وكذا في الجهر بالقرآن والإِسرار به. وفي الفقه أن الأفضل في الزكاة والفرائض أن يجهرَ بها، وفي النافلة أن يسر بها. قلتُ: ليس لها ضابط كليُّ، والأقرب أن يقسم على الحالات، فتارة كذا، وتارة كذا، «حتى لا تعلم شماله»، وعند مسلم: «حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله»، وهو قلبٌ من الراوي قطعًا.
صحيح البخاري
باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيَ وَهُوَ لا يَعْلَم
(4/146)
---(4/142)
وهو معتبر عندنا أيضًا بشرطِ التَّحري. وتمسك له البخاري رحمه الله بقصة رجلٍ من بني إسرائيل، وهذا طريقه فيما قصها الله علينا من أمورهم، كما في «الحسامى»، أن شرائعَ مَنْ قبلنا حجةٌ، بشرط عدم النَّسخ، بل طريقة تمسُّكه أوسع منه، فيتمسك بالعمومات والإِطلاقات كثيرًا، بل لا بأس عنده من التمسك بالوجوه الفاسد المذكورة في كتب الأصول. ثم إن مسألة الحنفية في الزكاة، ولا يعلم ههنا أنها كانت زكاةً أو صدقةً نافلة، والمصنف رحمه الله لرفعه محله لا يُبالي بهذه الأمور، فيتمسك بالنافلةِ للفرض، وبالعكس، لما علمت أن طريق الاستدلال عنده أوسعُ من الكل.
1421 - قوله: (أما صدقتك على سارق، فلعله أن يستعف عن سرقته)، وحاصله أنه كَفى للصدقةِ وِجْهنُه من الخير، ولا يشترط أن يكون خيرًا من كل جهة.
صحيح البخاري
باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ لا يَشْعُر
صحيح البخاري
باب ُ الصَّدَقَةِ بِاليَمِين
وفي «الهداية»: أن التصدق على ابنه لا يُعتبر، وراجع كلامَه للفرق بين الغنى، والابن. والفرقُ عندي أنهم أداروا الفقر والغنى، على العلم فقط، دون الواقع بخلاف تحقيق الأصول والفروع، فإنهم فهموا أنه لا تعسُّر في معرفتهم، فينبغي أنْ يُدار على الواقع، وإنما يُقطعُ النظرُ عن الواقع، ويُدار على العلم فيما تعسر الاطلاع على حقيقته. ولما كان المتصدَّقُ عليه ابن الرجل، أو أباه لم يتعسر له تحقيق الواقع؛ فأديرَ الأمرُ عليه، ولذا لم يعتبروه إذا ظهر أنه ابنه.
(4/147)
---(4/143)
أما المصنف رحمه الله فذهب إلى الاطلاق، فلعله لا فرقَ عنده في الصورتين. أما الحديث فلا يردُ على الحنفية، لأنه لا دليلَ فيه على أن صدقته كان فريضة، أو نافلة، فإن كان الثاني فلا تُنكره أيضًا، كما عرفت آنفًا. ثم لا بد له أن يعتبرَ التَّحري، وإن لم يذكره في اللفظ، فإن إضاعَته تُوجب إلفاءَ قيد الفقر المنصوص، فإنَّه إن كان التصدقُ جائزًا على الغني تحرى بكونه فقيرًا، وإلا لزمَ أن لا يكون الفقرُ شرطًا، وتصح الزكاة للفقير وغيره سواء، وهذا بالطلٌ قطعًا، فقيدُ التَّحري وإن لم يكن مذكورًا في عبارة المصنف رحمه الله، لكنه لا بدَّ منه.
والحاصل: أن المصنف رحمه الله ذهب إلى التوسيع، ولم يفرق بين الغني، وبين الأصول والفروع، ثم ينبغي للأصوليين أن يُمعِنُوا أنظارهم في هذا الحديث، أنه هل يفيدُ جواز المشي على التَّحري عند إبهام الحال أم لا؟ واختلفوا في القبلة عند عدم التَّبيُّن، أنها جهة التَّحري، أو الكعبة شرفها الله تعالى. وثمرتُه تظهرُ فيما إذا ظهر الخطأَ بعد الصلاة، فذهب جماعة ممن قال: إنها الكعبة شرفها الله تعالى، إلى أنه يُعيدها، ومن قال: إنها جهة التَّحري، ذهب إلى أنه لا يعيدها، والأول منسوب إلى المالكية.
1422 - قوله: (لك ما نويت) فيه تقسيمه على الجهات، كما فعل في التصدق على القريب، حيث اعتبر فيه الجهتان، فجعل فيه أجران: أجرُ التصدق، وأجرُ صِلة الرَّحم، وهذا من علوم النُّبوة.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَمَرَ خادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِل بِنَفسِه
دخل في آداب الصدقة.
قوله: (أحد المتصدقين) وهذا اللفظُ لا يُوجب مساواةَ الأجر بينهما، وإن أمكن التساوي أيضًا في بعض المحال، بحسبِ تفاوت النيات والإِخلاص.
1425 - قوله: (غير مفسدة)، أي لا تريدُ إفسادَ مال الزوج.
(4/148)
---
1425 - قوله: (لا ينقص بعضهم أجر بعض)، وهذا أيضًا لا يستلزمُ المساواةَ، بل معناه أنه يوفر لكلٍ مقتضى عمله.
صحيح البخاري(4/144)
باب لا صَدَقَةَ إِلا عَنْ ظَهْرِ غِنًى
أي ينبغي له أن يتصدَّق، ويتركَ الغنى خلفه، وليس له أن يتصدقَ بكله، هكذا فهمه الشارحون.
أقول: وله معنى آخر أيضًا، وهو أن للرجل استظهارًا بالمال وإعانةً منه، فينبغي أن يتصدقَ بحيث لا يفوتُ عنه هذا الاستظهار.
قوله: (وهو رد عليه)، فالمصنف رحمه الله ردَّ جميعَ تصرفاتِ المديونِ من العتق، والهبة، والصدقة إذا لم يقض دينه.
قلتُ: إن كان مرادُه بالردِّ عدم القَبُول، فهو من باب الآخرة، فلا يكونُ في كلام المصنف دليلا على بطلان تلك التصرفات، فيجوز كون بعضها صحيحًا في الدنيا، مع كونه مردودًا في الآخرة، نعم إن كان مراده الردَّ باعتبار عدم الصحة، ففيه دليلٌ على بطلانها عنده لأن الصحةَ والبطلانَ من أحكام الدنيا، وفصَّل فيها إمامنا رحمه الله أيضًا، فراجعه من الفقه.
قوله: (يريد إتلافها)، يعني إنَّ السخاوةَ مع ركوب الديون ليس من النية الصحيحة في شيء، وإنما السبيل أن يقضي دَيْنه أولا، ثم ينفقُ ما شاء.
قلتُ: وهذا أيضًا ليس بمطَّردٍ، فإنَّ التصدقَ بجميع المال قد يعد محبوبًا، كما تصدق أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله، وإن كانت الضابطةُ العامةُ هي التصدق عن ظهر غنىً.
قوله: (إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله)، ولعله استشارةٌ لا نذر.
(4/149)
---
1427 - قوله: (اليد العليا خير من اليد السفلى). وفي شرحهما أقوال: فقيل: المتعففة والسائلة. وقيل: المعطية والآخذة. وقيل: الأُوْلى يد الله، والثانية يد المخلوق. والأحاديث وردت بكل منها، إلا أنَّ الرواةَ قد وقع منهم الخلطُ في بعض المواضع، فذكروا أحدهما موضع الآخر، كما في الرواية الآتية، فجعل اليد العليا المعطية، والسفلى السائلة، مع أنه رُوعي فيه الطباق، والمنفقة تقابلُها الآخذة، كما أن السائلَة تقابلُها المتعففة.(4/145)
ثم الذي يخطرُ بالبال أن الثالثَ ليس شرحًا للحديث، بل هو مضمون مستقل، أدرجه الشارحون في جملة الشروح، نظرًا إلى مجردِ لفظ اليد. والله تعالى أعلم بالصواب.
1427 - قوله: (ومن يستعفف يعفه الله) أي من يتكلف العِفَّة، جعلها الله له مَلَكَة. وههنا بحث للعقلاء: أن الأخلاق والمَلَكات هل تكون فطريةً، أو مكسوبةً؟ وبحث عليه الدَّوَّاني أيضًا. والذي يظهر أنها فطريةٌ، كما يدل حديث وفد عبد القيس، لما تسارع شُبَانهم إلى النبي صلى الله عليه وسلّموتركوا رَوَاحِلَهم غير معقولة، وتخلف عنهم رئيسهم الأشَج، فعقل رِكابهم، واغتسل، ثم حضرَ مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم فبشَّرَه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمبالخصلتين: الحلم. والأناة، وأخبر أنهما فطريتان فيه.
صحيح البخاري
قلتُ: ونقلُ الجبل عندي أهون من تغير الجِبِلَّة، اللهم إلا أن يكون من الألوف واحدٌ ذو حظٍ، ممن أكرمه الله فتغيرت جِبِلتُه برياضات ومجاهدات، وقليلٌ ما هم.
صحيح البخاري
باب ُ المَنَّانِ بِمَا أَعْطى
ولما كان من دأب المُعطِي أنَّه قد يَمن بما أعطى على مَنْ أعطى، وذلك يُحبِطُ أجره. فأصلحه الشرع، ونبه عليه لئلا ينقُضَ غَزْلَه.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَحَبَّ تَعْجِيلَ الصَّدَقَةِ مِنْ يَوْمِهَا
(4/150)
---
1430 - قوله: (كنت خلفت في البيت تبرًا من الصدقة) وإنما تسارع إلى إنفاقه، مع أنه لم يكن من مال نفسه، لئلا يمضي عليه اليوم، فيكون عنده من الدنيا شيء. والنهار الشرعي ينتهي بالعصر. ولذا تتعاقبُ فيه الملائكة، والتفصيل مر من قبل.
صحيح البخاري
باب ُ التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا
صحيح البخاري
باب ُ الصَّدَقَةِ فِيما اسْتَطَاع
وهذا أيضًا بابٌ يختلفُ باختلاف الأزمان، فالأولى في بعضها عدم التحريض.(4/146)
1431 - قوله: (فصلى ركعتين لم يصل قبلُ ولا بعدُ) وهو المذهب عندنا، واعتَرضَ عليه مولانا عبد الحي رحمه الله أنه لا دليل فيه للحنفية، لأنه يدل على نفي الصلاة لا على نفي جوازها.
قلتُ: كيف ولما احتمل عدم صلاته نفيَها اتفافًا، ونفيها على أنها ليست بجائزة، جاز للمجتهد أن يحملَه على أحدهما، ولا محذورَ في ترجيح المجتهد لأحد الاحتمالين في النص، ولا يجبُ إقامةُ الدليل على ترجيح المحتملات، فإنه يكفي له اجتهاده أيضًا، ولا يعد هذا خلافًا للنص قطعًا. كيف والنص قد احتَمَله فحمَلَه عليه، وإنما يتردد فيه من لا يفرق بين المنصوص والاجتهاديات.
1432 - قوله: (اشفعوا)... إلخ، وأصوب الشروح: أن اشفعوا أنتم، ولا تترقبوا أن أقضي على وَفْق شفاعتكم، فإنَّ الله يقضي على لساني ما شاء، فقد أخالفكم أيضًا، ولكن لكم أجرُ الشفاعة في الصورتين، فلا تضيعوه، وقد جعل بعضهم قوله: (ويقضي الله)... إلخ، جملة مستأنفَة، بمعنى أن ما يُجري الله على لساني يكون صوابًا كله، وهذا مرجوح.
1433 - قوله: (لا توكي فيوكى عليك)، ولا بد فيه من لِحاظ الشرائط والموانع، إلا أن استيفاء الشرائط، واستقصاء الموانع ليس من سُنة أبوابِ الترغيب والترهيب.
صحيح البخاري
باب الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الخَطِيئَة
(4/151)
---
1435 - قوله: (فتنة الرجل في أهله وماله) أي بسبب أهله وماله، كقوله صلى الله عليه وسلّم «دخلت امرأة النار في هرةٍ ربطتها»... الحديث - بالمعنى ، أي دخلتها بسبب هرة.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ تَصَدَّقَ في الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَم
صحيح البخاري
باب ُ أَجْرِ الخَادِمِ إِذَا تَصَدَّقَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ غَيرَ مُفسِد
وقد مرّ مني الالتزام بعبرة طاعات الكفار وقُرُبَاتِهم، وإن لم تكن مُنْجيةً لهم، أما عباداتهم فلا عبرةَ بها أصلا، والأحاديث كلها وردت في القُرُبَات.(4/147)
1436 - قوله: (أسلمت على ما سلف من خير) أي إنما تشرَّفتَ بالإِسلام، لمَلَكاتٍ كانت في نفسك من قبل، فلتلك الملكات مدخلٌ في إسلامك. وراجع أبا داود كتاب الجهاد من حديث صخر.
صحيح البخاري
باب ُ أَجْرِ المَرْأَةِ إِذَا تَصَدَّقَتْ أَوْ أَطْعَمَتْ مِنْ بَيتِ زَوْجِهَا غَيرَ مُفسِدَة
ولا يذهب أحدٌ من لفظ المثْلِ إلى المساواة فإن أجر كل منهم بحسَبِ عملِهِ، ولما كان الفعلُ من جنسِ واحدٍ جُوزيَ كلُّ منهم من أجرِ ذلك الجنس. ولكنه على قدر عملِهِ. وقد سبرتُ الشرعَ فعلمتُ أن الفعلَ الواحدَ إذا تقوّم من متعدد، فإِنه يُطلق على كلِّهم اسمًا واحدًا، كما مر في الحديث السابق. «فهو أحد المتصدقين». فجعل الخازن أيضًا متصدقًا.
(المقتدي ينصت خلف الإمام)
وهو معنى قول صاحب «الهداية»: إن حظ المقتدي من القراءة هو الإِنصات - يعني أن القراءةَ فعلٌ واحدٌ يتقوَّمُ من الجماعة - بمعنى أنه لا بد له لتكميله شيءٌ من الإِمام، وشيء من المقتدين.
(4/152)
---
ثم يتم هذا الفعل من المجموع، فالقراءة تكونُ من الإِمام. ولكنها لا تتم ما دام يقرأ المقتدي، فعليه أن ينصتَ ليتمكن الإِمامُ من قراءته، بدون مُنازعة، فالقراءة فعلٌ واحدٌ يتحصَّلُ من المجموع، فهذا قارىءٌ، وهذا منصت لقراءته، فكأن إنصاتَه استظهارٌ لها. فحظُّ المقتدي منها هو الإِنصات، فالقراءة على ما هي عليه، إنما تتحصَّلُ من المجموع من حيث المجموع، وهي من هذه الحيثية فعلٌ واحد، وإن تركَّبَ من الفعلين عند التحليل، أعني قراءةَ الإِمام، وإنصاتَ المفتدي، إلا أنها عند التركيب فعلٌ واحد، وعلى هذا النظر، لو شئتَ سميتَ المفتدي أيضًا قارئًا، إلا أن حظَّهُ منها هو الإِنصاتُ، فافهم، ولا تعجل في الردّ والقَبُول.
صحيح البخاري(4/148)
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلعُسْرَى} (اللّيل: 5 - 10)
قوله: (فسنيسّره لليسرى)... إلخ، واعلم أنك قد عرفتَ منا فيما سبقَ أنَّ الكفرَ قد يُزاد على الكفر المكتسب نِقمةً وعذابًا، فكذلك الحسناتُ أيضًا، يمكن أن تُزاد عليها جزاءً ورحمة، فإنَّ العبد إذا أحسنَ طاعة ربه، فالله يزيدُ له حسنًا على حُسْنِهِ، ويوفقه لليسرى والحسنات الأخرى. ولا بُعد أن تكونَ في تلك الآية إشارةٌ إليه. ثم يدخل فيها مسألة التقدير، وأجاد فيه الشاه عبد القادر رحمه الله في «الفوائد»، فراجعها من الكهف، من قوله تعالى: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف: 49).
(4/153)
---
والذي نلقي عليك شطرًا مما سَنَحَ لنا، أن الأسبابَ والمُسبِّبَات كلها إنما هي باعتبار حسّنا وحِسْبَتِنا في ذلك العالم، فهذا مؤثرٌ، وهذا متأثرٌ، أما بالنظر إلى عالَم الغيبْ - فلا مؤثِّر هو، إلا أن مشاهدتنا لمّا اقتصرت على هذا العالم فقط، ولم تتجاوز إلى عالم الغيب وإنما عرَّفَناه من جهة الشرع فقط - نزل التكليف أيضًا بحسب ذلك العالم، فالعالم الذي فيه التكليف فيه التأثير، والتأثر أيضًا، وما ليس فيه تأثيرٌ إلا للَّه الواحد القهار، ليس فيه تكليفٌ، فمن أتى بأحكام أحد العالَمين على الآخر، فقد ضلّ وغوى.(4/149)
ومن أظلم ممن خَرَقَ العالمَ المشهودَ، وجعل يبحثُ فيه عن أحكام الرب الودود. فالإِيرادات التي تعرِض على مسألة التقدير، كلُّها نقضٌ لمشاهدة نفسه عند التحقيق. ألا ترى أن الرجلَ لا يتعطَّلُ عن الأسباب لدُنياه، فإذا عرضت له الآخرة تمسَّك بالتقدير، وخَرَق ما شاهده من تأثير الأسباب، ودخل في عالمٍ آخر، وإلى بما فيه، وتعلَّل منه، مع كونه في هذا العالم، وصدق الله العلي العظيم: {وَكَانَ الإِنْسَنُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً} (الكهف: 54)، فلو فعل مثلَه في دُنياه، فلم يأكل، ولم يشرب، ولم يكتسب مالا، ولم يرفع إلى الأسباب رأسًا، لكان لنا محل صبر، ولكنه لمَّا تظهر له الدنيا، يرى أن الأسباب هي المؤثرة الحقيقية، وإذا لاح له من أمر الآخرة شيءٌ زَعَمها معطلةً لا تأثيرَ فيها، فيا لجَوْرِه:
*أصمْ عن الشيءِ لا أُريدُه ** وأسمعُ خلقَ اللهاِ حينَ أُريدُ
فيرى الأسبابَ أكسدُ شيءٍ لعُقباه، وأنفق شيءٍ لدنياه، فيا ويلاه ويا ويلاه.
صحيح البخاري
قوله: (اللهم اعط منفق مالٍ خلفًا) أي بدلا عنه.
1442 - قوله: (اللهم اعط ممسكًا تلفًا) أي اجعل التَّلفَ في ماله، فلا يحصل له غير النقصان.
صحيح البخاري
باب ُ مَثَلِ المُتَصَدِّقِ وَالبَخِيل
(4/154)
---
صحيح البخاري
باب ُ صَدَقَةِ الكَسْبِ وَالتِّجَارَة
قوله: (وتعفو أثره)، أي تمحو آثار أقدامه، قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيّبَتِ مَا كَسَبْتُمْ} والظاهر أنها التجارة، {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الاْرْضِ} (البقرة: 267) كالعُشْر وغيره. ثم إن القرآن عمّم مما خرج من الأرض، ولم يُشر إلى نصابٍ فيه، فدل على مسألةِ الحنفيةِ من وجوبِ العُشر في كل ما خرج، قليلا كان أو كثيرًا. ولذا صرح ابن العربي أن الأسعدَ بالآية في هذا الباب هم الحنفية.
31- باب عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَليَعْمَل بِالمَعْرُوفِ(4/150)
1445 - قوله: (ليمسك عن الشر) يعني إن عَجَزَ أن يأتي بصدقة وُجُودية، فلا يعجِزُ عن سلبية، وفيه تنزيل من فن البديع، كما في قوله:
*وخيل قد دلفت لهم بخيل
** تحية بينهم ضربٌ وجيعٌ
ليس فيه تشبيه الضرب الوجيع بالسلام، بل فيه تنزيله مكان السلام، وعليه قوله صلى الله عليه وسلّم «منْ لم يتغن بالقرآنِ فليس مِنَّا»، يعني مَنْ لم يجعل القرآنَ مكان غنائه، فهو كذا، فينبغي للإِنسان أن يريحَ قلبَهُ بالقرآن، مكان الغناء، فإنَّ من سجية الإِنسان أنه إذا ضَجِر يُسلي همومَه بنحو الغناء، فعلَّمَه الشرعُ أن الذي يَليقُ به أن يطلبَ سكون قلبِهِ وراحته من القرآن، مكان الغناء، وسمَّاه بعضهم ادّعاءً، وليس بجيد، ولو سَمَّاه قيام الشيء مَقَام غيره لكان أدلّ على مُرَاده.
صحيح البخاري
باب قَدْرُ كَمْ يُعْطِي مِنَ الزَّكاةِ وَالصَّدَقَةِ، وَمَنْ أَعْطَى شَاة
صحيح البخاري
باب ُ زَكاةِ الوَرِق
(4/155)
---
قوله: (ومن أعطى شاة)... إلخ، إنما ذكرها تبعًا للحديث على عادة المصنف رحمه الله، في تراجمه. وكَرِه الحنفية أن يعطيَ أحدًا قَدْر النِّصاب، وراجع تفصيله من الفقه، فقد بلغت مَحِلَّها، فهو على وزان قوله تعالى:{حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ} (البقرة: 196) يعني أن تلك الشاة قد قطعت المسافة التي وجبتْ لها.
وحاصله: أنك أديتَ زكاتَه، وما جاء قبلنا فهو هدية. وفيه دليلٌ على أنَّ تبدلَ المِلك يُوجبُ تبدل العين، ولكنه ليس بمطَّردٍ، وفيه استثناء. ففي «البداية» من البيوع الفاسدة: أن المشتري لو ربح بالمبيع في البيع الفاسد لا يَطيبُ له نفعه، بخلافِ البائع فيما ربح في الثمن، فإِنه يطيب له، ثم ذكر الفرق بينهما. وراجع ترجمة الشاه ولي الله «للموطأ» من البيوع، فإنه حرَّر هناك أصولا لعلها تنفعك في مواضع. وأما أنا فلا أدخل في هذا الباب، ولا أتعرضُ إلى بيانِ الضوابط من قبلي.(4/151)
واعلم أنه ما من فنٍ إلا ولي فيه رأيٌ غير الفقه، فإني فيه مقلدٌ صِرْفٌ، ولا أرى فيه حقًا، إلا لمن حصل له الاجتهاد.
صحيح البخاري
باب ُ العَرْضِ في الزَّكاة
واعلم أن أداءَ السِّنِّ المُسمَّى في الشرع صحيح بالإِجماع، وإنما الخلافُ في دفع القِيَم، فجاز عندنا الاستبدال بالقيمة، إلا في الهدايا والضحايا، كما في «الكنز»، وذلك لأن المقصودَ ههنا الإِراقة، وذا لا يحصل بالقيمة. وإليه مال البخاري كما صرح به ابن رشيد في تراجمه، والشيخ ناصر الدين بن المُنَيِّر، والحافظ في «الفتح».
(4/156)
---
قوله: (قال معاذ لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب: خميص، أو لبيس هناوا في الصدقة مكان الشعير والذرة) قال الحافظ: إنه لم يكنْ زكاة: بل كان جِزْية. قلتُ: بل ذِكرُ الشعير والذرة تُشعِرُ بكونها مسألة العُشْر دون الجِزْية، ومسألة العُشْر والزكاة عندنا واحدة. والظاهرُ أنها كانت صدقةُ الفِطْر، ولا بأس بها عند المصنف رحمه الله على ما علمتَ من توسُّعِهِ في الاستدلال، فساغ له أن يتمسك من الاستبدال في صدقة الفِطْر على جَوَازِ الاستبدال في الزكاة أيضًا.
قوله: (وأما خالد فقد احتبس أدراعه) وهذه القِصة طويلة، وفيها وقْفُ المنقولِ، فيُحمل على ما اختارَه محمدٌ: أنه صحيح بشرائطه في الفقه. أو يقال: إنه إرصاد، وهو غير الوقف، ثم الإِرصاد وإن لم يبوِّبوا له، لكنه مذكورٌ في ذيل المسائل، ومعناه حبسُ شيءٍ لمصالح، كالخيل وغيره. ثم ليس فيه ما يدلُ على أنَّ الوقفَ عدَّ من زكاته أولا، بل فيه أن خالدًا ليس عنده شيء تجبُ عليه الزكاة، فلم تطلبون منه الزكاة؟ لا أنه كان وَقَفَ مالَه فاعتد عن زكاته، فإِنها مسألة أخرى، لم يبحث عنها ههنا.(4/152)
(ولم يستثن)... إلخ، أي لم يفصل، وجعلها كلها سواءً. ثم إن المصنف أخرج حديثًا يدلُ على الاستبدال صراحةً، ولكنه لا يردُ على الشافعية: فإِنَّهم قالوا: إن هذا الاستبدال جائز لورودِ النص به، وإنما أنكروا في غير ما ورد به النص، فأوجبوا فيه العَين خاصَّةً، ولم يجيزوا بالاستبدال، إلا أن المصنف تمسك به على العموم. ثم إن حديث محمد بن عبد الله هذا عن أبيه، أخْرَجَه المصنفُ، ولم يخرجه مسلم، لأن عبد الله بن المثنى الأنصاري منسوبٌ إلى سوء حِفْظِه، وهو من أخصِّ تلامذة زُفَر، فيمكنُ أن يكونَ قويًا عنده، أو يكون اعتمد على فقاهتِهِ.
1448 - قوله: (عشرين درهمًا أو شاتين)، وثبت من تلك المُعادلة أنَّ الحسابَ فيه تقريبي.
صحيح البخاري
(4/157)
---
باب لا يُجْمَعُ بَينَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَينَ مُجْتَمِع
صحيح البخاري
باب ما كانَ مِنْ خَلِيطَينِ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَينَهُمَا بِالسَّوِيَّة
قال الجمهور: إن المرادَ من المتفرقِ والمجتمعِ بحَسَب المكان، أي ما كان متفرقًا في المكان، لا ينبغي له أن يُجمعَ في مكان واحد، وكذلك ما كان مجتمعًا في مكان لا ينبغي له أن يُفرِّقه في أمكنته. وذلك لأن الجمعَ والتفريقَ بحسَبَ الأمكنة مؤثرٌ عندهم في زيادة الواجب ونقصانه.
وتفصيله: أن أربعينَ شاةً لو كانت بين رجلين مناصفةً تجبُ عليها شاةٌ واحدةٌ عند الجمهور، بشرط الاتحاد في الأشياء التِّسع المذكورة في كتبهم. من الراعي والمَرْعى والمحلب وغيرها، حتى لو كانت أربعون شاة لأربعين رجلا، وكانت متحدة في الأشياء التِّسع تجبُ فيه شاة واحدة أيضًا.(4/153)
ثم اختلفَ هؤلاءِ في اشتراط النِّصاب لكلَ وعدمهِ، فَنَفاهُ الشافعي، كما عرفت من المثال المذكور. واعتبره مالك، فلا يجب عنده في الصورة المذكورة شيء ما لم يكن عند كل منهما نصاب تامٌّ. وأما عند الحنفية، فلا عبرة بالاتحاد في هذه الأشياء، ولا تأثيرَ له، وإنما الاعتبارُ بالمِلك. ويُسمَّى الأول بخُلطَةِ الجِوار، فإِنها ليست بخُلطة في الحقيقة، وإنما اعتبرت من جهة المكان، فنسبت إليه، وإنما تصح هذه الخُلطة عندهم عند الاتحاد في الأشياء المذكورة، ويُسمَّى الثاني بخُلطة الشُّيوع، وهي الخُلطة بحَسَبِ المِلك، فإذا كانت لرجلين ثمانون شاة، وليست بمُتَميزة في الأَملاك، تجبُ فيها شاتان عندنا.
(4/158)
---
ونقَّح بعضهم الخلاف المذكور بأنَّ الزكاةَ عند الجمهور على القطائع، وعند الحنفية على الملاك. وتمسك الجمهور بالحديث المذكور، فإنَّه يدُل على أنَّ الجمعَ والتفريقَ بحَسَبِ المكان مؤثرٌ، ولذا نهى عنهما. فأجاب عنه الحنفية، وقالوا: معناه عندنا: «لا يجمع بين متفرق»، أي باعتبار المِلك، فإذا كان المِلكُ متفرِّقًا لا يُجمع، كخمسٍ من الإِبل لرجلين، وحال عليها الحول، فلا يجعلها المُصَّدِق كملك رجلٍ واحدٍ، لتجبَ عليه الصدقة، فحملوه على خُلطة الشُّيوع.
1450 - قوله: (خشية الصدقة)، والخشيةُ خَشْيتان: خشيةُ السَّاعي، وخشية المالك. وكذلك النهيُ نهيان: النهي عن جمعِ المتفرِّق، والنهيُ عن تفريق المجتمع، فحصل من ضربِ الاثنين في الاثنين أربعة أقسام: النهيُ عن جمع المتفرقِ للساعي والمالك، وكذلك النهيُ عن تفريق المجتمع لهما.
مثال الأول: كخمس من الإِبل بين اثنين، وحال عليها الحولُ، وأراد الساعي أن يأخذ منها الصدقة، فجمع بين المِلكين، وعدَّهما كملكِ رجلٍ واحدٍ، ليس له ذلك.
صحيح البخاري(4/154)
ومثال الثاني: كثمانين من الغنم بين رجلين، فأراد أن لا تجب عليهما إلا شاة واحدة، فجعل مِلكاهما كمِلك رجلٍ واحدٍ، لتتغيَّرَ الفريضةُ من شاتين إلى شاة واحدةٍ، ليس لهما ذلك.
ومثال الثالث: كان لرجلٍ واحدٍ ثمانون شاة، - أي مجتمعة - في مِلكِ رجلٍ واحد، وأراد السَّاعي أنْ يأخذ منها شاتان، فجعلها كأنها في مِلكِ رجلين ليس له ذلك.
ومثال الرابع: كان لرجل أربعونَ شاةً، فأراد أنْ لا تجبَ عليه الصدقةُ، فجعلها كأنها في مِلك رجلين ليس له ذلك. ولعلك علمتَ منه النهي في الحديث، يصلح أن يكونَ للساعي، أو للمَالك، أو لكليهما، على مختارِ الحنفية.
(4/159)
---
قوله: (وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية)أي إذا حضر الساعي بعد تمام الحول، فإِنه يأخذُ الواجبَ من المجموع، ولا ينتظرُ تقسيمَهما، ولكن على الخليطين أنْ يتراجعا بينهما بحَسَبِ الحساب. مثلا: لو كان بين رجلين إحدى وستون إبلا: ست وثلاثون سهمًا منها لواحد، والباقي للآخر، فجاء السَّاعي وأخذ بنتُ لَبُون ممن كان له ستٌّ وثلاثون سهمًا، وبنت مَخَاض ممن كان له خمس وعشرون سهمًا، فإنَّهما يتراجعان بينهما، فإن كلَّ ما يأخذُه الساعي يكون مشتركًا بينهما بهذه النِّسبة، فيجب على مَنْ له ستٌ وثلاثون سهمًا أنْ يردَّ خمسًا وعشرين من بنتِ اللَّبُون إلى صاحبه، وكذلك يجبُ على صاحبه أن يردَّ ستًا وثلاثين سهمًا من بنت المَخَاض إلى صاحبه.
ولعلك فهمت منه أن التراجُعَ يستقيمُ على مذهبنا أيضًا.(4/155)
وابن حزمٍ لما لم يُدرك حقيقةَ مذهب أبي حنيفة رحمه الله زعم أن التراجعَ لا يَستقيمُ على مذهبنا. بل أقول: إنه أصدقُ على مذهبنا، فإنَّ الزكاة عند الجمهور على القطائع، فالنصابُ في الصورة المذكورة عندهم واحدٌ، والواجبُ فيه عندهم الجَذَع، فيأخذه الساعي، ويرجع صاحب الجَذَع على الآخر بقدر حصة، فإِن الجَذَعَ على هذا التقدير ليس مشتركًا بينهما لعدم الشركة ملكًا، بل ذهبَ من واحدٍ منهما، فيرجع مالكه على صاحبه بقدر ما أدى عنه لا محالة، وحينئذ لم يصدق التفاعل، فإِنه يقتضي الشركة في الفعل، ولا رجوعَ ههنا. إلا من جانبٍ واحد، وهو مالك الجَذَع.
(4/160)
---
أما على مذهبنا فالتفاعل على ظاهرها، كما علمت، فيلزمُ عليهم أن يأخذوا التفاعلَ باعتبار اختلاف الأزمان، أي قد يرجع هذا على هذا، وقد يرجع ذلك على هذا، فإنَّ الواجبَ الذي أخذه مالكٌ قد يكون مِلكًا لهذا، وقد يكون مِلكًا لذلك، وكل من يكون له الملك يرجع على صاحبه، فاستقام التراجع على مذهبهم أيضًا. إلا أنه بنوع من التأويل، وهو صادق على مذهبنا بدون كُلفة. وراجع الأمثلة من قاضي خان. وأما ما في الحواشي فهو مثال على مذهب الشافعية.
صحيح البخاري(4/156)
والحاصل: أن الجمهور أخذوا القِطعتين في خُلطة الجِوَار. والحنفيةَ حملوها على خُلطة الشُّيُوع، فوقعوا في بُعدٍ من ألفاظ الحديث. فإنَّ الجمعَ والتفريقَ لا يتبادرُ منه إلا ما كا بحسَبِ المكان، ولا يأتي هذا التعبير في الجمع والتفريق مِلكًا، فأقول: إن الجملة الأولى في خُلطة الجوار، كما قالها الشافعية. والثاني: في خُلطة الشيوع، فَوَافقتُهم في التعبير، وخالفتهم في المسألة، بأن النهيَ عن خُلطة الجِوَار عندهم لكونها مؤثرًا. وقلتُ: بل لكونها مفضيًا إلى التخليط والتلبيس في الحساب، فإنَّ الشياه إذا كانت ترعى في مراعي مختلفة، فجمعها في مرعىً واحد لا يُوجب ذلك تغييرًا في الفريضة أصلا لكنه فعلُ لغوٍ لا فائدةَ فيه. نعم، ربما أمكن أن يفضي إلى التخليط في الحساب، فنُهي عنه. وأما عند الجمهور فالنهيُ عنهما لكونهما مؤثرين في تغيير الفريضة، على ما علمت تفصيلَه.
وأما الجملة الثانية فقد أخذتُها في خُلطة الشُّيُوع، وإنما حملني على هذا الفك تغاير شاكلتي الجملتين، فإنَّ الظاهر أنه موضعُ الإِضمار، لمضي ذكر الخليطين قبل ذلك، فينبغي أن يكون: وهما يتراجعان بالسوية، ولكنه وضع المُظْهَرَ موضع المُضْمَرَ، وعبَّر عنهما بالخليطين، فاستبان لي أن الأولى في خُلطة الجِوَار، والثانية في خُلطة الشُّيُوع.
(4/161)
---
قوله: (قال طاوس وعطاء: إذا علم الخليطان أموالهما فلا يجمع مالهما) أراد به نفيَ خُلطة الجِوَار، واعتبار الخُلطة باعتبار المِلك.(4/157)
قوله: (وقال سفيان: لا تجب حتى يتم لهذا أربعون، ولهذا أربعون) وهو وإن كان يحتملُ الشرحين، فإنَّ بعض القائلين بخُلطة الجِوَار أيضًا شرطوا النِّصاب، فإنْ كان الواجبُ عنده في الصورة المذكورة شاةً واحدةً، فهو مذهب الآخرين، وإن كان شاتين ففيه مُوَافقةٌ للحنفية، لكن ما يظهر بعد التعمُّقِ فيما قاله الطحاوي في «مشكله» من مذهب سفيان: أن سفيانَ موافقٌ للحنفية، فعليه ينبغي أن يُحمل كلامُه. وإليه ذهب البخاري وابن حزم، كما يظهر من كلام ابن رشد في «قواعده» ونقل العيني أيضًا عبارةَ ابن حزم، إلا أنها غير مفصِحة.
صحيح البخاري
باب ُ زَكاةِ الإِبِل
1452 - قوله: (ويحك إن شأنها - الهجرة - شديد) قال سِيْبَوَيْه: إن الويلَ لمن يَستحِقُّه، وويحك لمن لا يَستحِقُّه.
واعلم أنَّ الحديثَ صريحٌ في أنَّ الهجرة من دار الحرب إلى دار الإِسلام لا تجبُ مطلقًا، وإن كانت عزيمةً إذا وُجِدَ دارُ الإِسلام على وجهه. أما القرآنُ فإِنَّه استمر بالذمِّ على تاركها، وذلك لأن من دأب القرآن أنه إذا استحبَّ أمرًا استمر بمدحه، وكذا بالذم على تاركه. نعم، يُوميءُ إلى الجوازِ من عَرْض كلامه، كالهجرة، فإنَّه كرِه تركَهَا، فاستمر بالذم على مَنْ تَرَكَها، ومع ذلك أشار إلى الجوازِ في قوله: {فإنْ كان من قومٍ بينَكم وبينَهم مِيْثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسلَّمةٌ إلى أهلِهِ} (النساء: 92) فترشَّح منه أن المؤمنَ له أن يَمكُثَ في دار الحرب، فإنْ قُتِلَ، ففيه الحكم المذكور، فالمقصودُ منه ذكر الكفارة، والمرموزُ جَوَازُ المُكْثِ في دار الحرب، وهذا بخلاف دأب الحديث، فإنَّه قد يصرحُ بالجائزات أيضًا، وإن لم تكن مرغوبةً عنده.
1452 - قوله: (من وراء البحار) وهذا كقولنا في العُرف: (سات سمندريار).
(4/162)
---
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَلَيسَتْ عِنْدَه(4/158)
وقد مر أن المصنفَ جَوَّز الاستبدال بالقيمة، وأنه أخرجَ فيه عن الأنصاري، وهو عبد الله بن المُثَنَّى - حنفيُ المذهب - ونُسِبَ إلى سوءِ الحفظ، وكان عنده حديث طويل في باب الزكاة، فَبسَطَ المصنفُ رحمه الله قِطعاته في هذا الباب. ثم قيل: إنه لِمَ ذكر - بنتَ المَخَاض - في حديثه؟ والجواب: أن المصنف قاسَهُ على بنتِ اللَّبُون، وإنما لم يُخرِّج حديث بنتِ المَخَاض مع كونه عنده، كما في صدر الصحيفة، ليدل على أنَّ المسألةَ أعمُّ منه.
صحيح البخاري
باب ُ زَكَاةِ الغَنَم
صحيح البخاري
باب لا تُؤْخَذُ في الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلا تَيسٌ، إِلا ما شَاءَ المُصَدِّق
صحيح البخاري
باب ُ أَخْذِ العَنَاقِ في الصَّدَقَة
صحيح البخاري
باب لا تُؤْخَذُ كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ في الصَّدَقَة
صحيح البخاري
باب لَيسَ فِيما دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَة
1454 - قوله: (فإذا زادت على العشرين ومئة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة). واعلم أن الفريضة في مئة وعشرين، حِقتان بالإِجماع. ثم اختلفوا: فعندنا تُستأنَفُ الفريضةُ - كما في الأول - إلى مئة وخمسين، إلا أنه لا تجبُ فيه بنتُ لَبُون وجَذَعة، ففي كل خمسٍ شاة إلى مئة وخمس وأربعين مع الحِقتين؛ فإذا صارت خمسًا وأربعين بعد المئة تجب فيها حِقتان، وبنتُ مخَاض. وفي مئة وخمسين ثلاث حِقَاق، هذا هو الاستئنافُ الأول، ثم تُستأنَفُ الفريضة، وتجبُ فيها بنتُ لَبُون أيضًا، على خلافِ الاستئناف الأول. ففي مئة وخمس وسبعين ثلاث حِقَاق وبنت مَخَاض. وفي مئة وستٍ وثمانين ثلاث حِقَاق وبنتُ لَبُونَ.
(4/163)
---(4/159)
وفي مئة وست وتسعين أربع حِقَاق إلى مئتين، ثم تُستأنَفُ الفريضة، كما بعد مئة وخمسين، فتجبُ في كلِّ خمسٍ شاةٌ، فإذا صارت مئتين وخمسًا وعشرين، ففيها أربعُ حِقَاق وبنتُ مَخَاض، وكذلك في ستٍ وثلاثين بنتُ لَبُون إلى ستٍ وأربعين، ثم إلى خمسين حِقَة، ففي مئتين وخمسين خمس حِقَاق، وهكذا إلى ما لا نهاية له، فيدورُ الحسابُ على الخمسينيات، وتجبُ في كل خمسين حِقَّة، وكذلك في كل أربعين بنت لَبُون، إلا أنها تجبُ على ستٍ وثلاثين، وتبقى إلى ست وأربعين، فلا يدورُ الحسابُ عليه.
إذا علمتَ هذا، فاعلم أنَّه لا ريبَ في أن الحديثَ أقربُ إلى مذهب الأئمة الثلاثة، فإنَّ الفريضة عندهم بعد مئة وعشرين تتغيرُ على كل أربعين إلى بنتِ لَبُون، وعلى كل خمسين إلى حِقَّه، فإذا صارت مئة وثلاثين تجبُ بنتا لَبُون وحِقَّة، لاشتمالها على أربعينتين وخَمْسِينة، ثم إذا صارت مئة وأربعين تجبُ حِقَّتان وبنت لَبُون، لاشتمالها على أرْبعينَةٍ وخَمْسينتين، فإذا دار الحسابُ بعد مئة وعشرين على الأربعينيات والخمسينيات إلى الأبد، تَبَادر منه أن يكون هو مراد الشارع. نعم لو انقطع في موضع لكان محل رِيْبة، فإذا استمرّ، ولم ينقطع في موضع، علمنا صحتَه. وأما على مذهبنا فالحديث - وإن كان صادقًا أيضًا - لكنه على مذهبهم أصدق، والحقُّ أحقُّ أن يُتبع.
(4/164)
---(4/160)
وتفصيله: أن قوله: «في كل خمسين حِقَة»، مطَّردٌ على مذهبنا أيضًا، إلا أن قوله: «في كل أربعين بنت لَبُون» ينتقضُ في موضع - وهو الاستئناف الأول - لما عرفت أنها ليست عندنا في الاستئناف الأول بنت لَبُون أصلا، ثم إنها وإن كانت في الاستئناف الثاني لكنَّ الفريضةَ لا تدورُ على الأربعين عندنا، فتجبُ بنت لَبُون من ستٍ وثلاثين إلى ست وأربعين، والأربعون واقع في البَيْن، فقوله: «في كل أربعين بنت لبون»، وإن صدق على مذهبنا أيضًا لكنه ليس بلطيف، لأنه لا يظهرُ لتخصيص هذا العدد معنىً، لكونها واجبةً فيما دونه، وفيما فوقه أيضًا؛ ويمكن أن يُجاب عنه أن بيانَ النُّكتة ليس بضروري، وكفى له الصدق مطلقًا.
صحيح البخاري
ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلّمفي نِصَاب الشِّيَاه: «فإذا زادت، فثلاث شياه إلى ثلاث مئة»، مع أن ثلاث مئة ليس بمدارٍ، لأن الواجبَ إلى تسعٍ وتسعين، وثلاث مئة هو الثلاثُ بعينِها، فكذلك نقول في الأربعين، فإنَّ بنتَ اللَّبُون تذهب إلى ست وأربعين، فهذا صادقٌ، وإن لم تكن فيه نُكتةٌ. فإن قلت: إن الحِقَّة عندنا تجبُ من ستٍ وأربعين إلى خمسين، فلم يبق في قوله: «في كل خمسين حِقَّة» أيضًا لطفٌ على مذهبنا، فلا بد له من نُكتةٍ. قلتُ: إن الأمرَ كما زعمت، فإن الحِقَّة تجبُ من ستٍ وأربعين، وتذهب إلى خمسين، إلا أن الفريضةَ لما كانت تعودُ من الخمسين، أحال عليه، لُيعلم محلُّ الاستئناف، فلطف على مذهبنا أيضًا.
نعم بقي شيءٌ في قوله: «في كل أربعين بنتُ لَبُون»، فإنه وإن كان صادقًا على مذهبنا - كما عرفتَه - لكنه لا لطفَ فيه، فقيل في جوابه: إنه ليس من الضروريات أن تذكرَ له نُكتةٌ، وصِدْقُه على مذهبنا يكفي للخروج عن عُهْدَةِ قولِه صلى الله عليه وسلّم كما علمت آنفًا، على أنه لا دليل في قوله صلى الله عليه وسلّمعلى كونه مدارًا، ولذا تَرَكَ ذكرَه في بعض الروايات، واكتفى بالخمسين.
(4/165)
---(4/161)
فأخرج الطحاوي في «معاني الآثار» وهذه صورة إسناده: حدثنا سليمان بن شُعيب - تلميذُ الإِمام محمد، ثقة - حدثنا الخَصِيْبُ بن ناصح - فيه لِيْنٌ - حدثنا حمَّاد بن سَلمَة، قال: قلت لقيس بن سعد - قاضي مكة : أكتب لي كتاب أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم - قاضي المدينة - فكتبه لي في ورقة، ثم جاء بها وأخبرني أنه أخذه من كتاب أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، وأخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلّمكتَبه لجده عمرو بن حزم في ذكر ما يخرج من فرائض الإِبل، فكان فيه: «أنها إذا بلغت تسعين ففيها حِقَّتان، إلى أن تبلغ عشرين ومئة؛ فإذا كانت أكثر من ذلك ففي كل خمسين حِقَّة، فما فَضَلَ فإنَّه يُعاد إلى أول فريضة الإِبل، فما كانت أقل من خمس وعشرين ففيه الغَنَمُ في كل خمس ذود شاة». اه- .
ثم ساق إسنادًا آخر: حدثنا أبو بكرة: حدثنا أبو عمر الضرير: حدثنا حماد بن سلمة، ثم ذكر مثله، فارتفع بهذا الإِسناد ما في الخَصِيْب من الضَّعف، وكذلك عند أبي داود عن علي في حديث صَدَقات الإِبل، فإن كانت أكثرَ من ذلك ففي كل خمسين حِقَّة، اه- .
وذكر فيه للأربعين، كما في حديث الطحاوي؛ ثم أخرجَ أبو داود هذا الحديثَ بعينِهِ عن حارث الأعور، وعاصم بن ضَمْرة.... إلخ. فصار عاصم مُتَابعًا للحارث، فارتفع الضَّعف المذكور، لكون عاصم ثقةً. والبيهقي - وإن تصدى إلى الكلام في حَمَّاد بن سَلَمة - لكنه مدفوعٌ بما ذَكَرنَاه، فيما أملينا على الترمذي، مع أنه أخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده»، وأبو داود في «مراسيله»، كما في «مشكل الآثار».
صحيح البخاري
(4/166)
---(4/162)
وبالجملة فقد عُلم من هذين الحديثين أن العمود في الصدقة بعد عشرين ومئة، هو الإِدارة بالخمسينيات، أما الأربعينيات فذَكَرَه في ذيل الحساب، لا لكونها مدارات. ولذا قد تُذْكر، وقد تحذف. ونظيرُه قوله صلى الله عليه وسلّمفي صدقة الغنم: «إذا زادت على مئتين ففيها ثلاث شياه إلى ثلاث مئة»، ويُتوهم منه أن الوظيفة الواجبةَ لعلها تنتهي إلى ثلاث مئة، مع أنها تبلغُ إلى تسعٍ وتسعين وثلاث مئة. فذكرُ ثلاث مئة ليس لكونها مدارًا، بل هو واقع في البين. إلا أنه لما كان عددًا مُعتدَّا به ذكرها لذلك، ولأن طريقَ الحساب بالعشرات والمئات، وحذفِ الكسور. ولأنك قد علمت فيما مرّ أن الفريضةَ تجبُ على عدد. ثم تذهب إلى عدد، لكنَّ العَمُود فيه يكون عددًا معينًا. وينكشف ذلك في بعض الملاحظ، كما علمت في نُصُب الشياه، فإنه انكشف آخرًا أن المدارَ والعددَ الأصلَ كان هو المئة، وإن تغيرت الفريضةُ في بعضِ المواضع قَبْلها وبَعْدها أيضًا.
وهكذا نقول في نصاب بنت اللَّبُون، فإنه في الحقيقة وظيفةُ الأربعين، وإن ابتدأت من ستٍ وثلاثين، وانجرت إلى خمس وأربعين على ما علمته سابقًا. وهكذا الحِقَّة، فإنها وظيفةُ الخمسين حقيقةً، ألا ترى أن الواجبَ في مئة وخمسين ثلاث حِقَاق بالاتفاق، وفي مئتين أربع حِقَاق، وإن اختلفوا في التفاصيل.
والحنفية وإن خالفوا في الاستئناف، لكنه خَرَجَ من حسابِهم أيضًا أن المنظورَ في وجوب الحِقَّة هو الخمسون، ولذا أوجبوا على مئة وخمسين ثلاثُ حِقَاق، لاشتماله على ثلاث خمسينيات، وكذلك في المئتين أربع خمسينات، فانكشف منه أن الحق، وإن وجبت من ستٍ وأربعين، لكن العدد الاصلي هو الخمسون؛ وحينئذٍ لَطُف ذكرُ الخمسين على مذهبنا أيضًا، وذلك لثلاثة وجوه:
الأول: لكون الخمسين موضعُ الاستئناف.
والثاني: كون دأب الحساب العدُّ بالعشرات، وترك الكسور.
(4/167)
---(4/163)
والثالث: فلكونه مدارًا، باعتبار كون الحِقَّة من وظيفة الخمسين في نظر الشارع، كالشاة للمئة. إلا أن هذا النظر انكشف بعد المئتين. كما انكشف في الشياه بعد ثلاث مئة، وإن كان هو المقصود من أول الأمر.
وبعد اللُّتَيَّا والتي أن الحديثين حُجتان لنا، أما حديث علي عند أبي داود فَزَعَمه الشافعية أنه حجة لهم، لإِدارته على الخمسينيات، فعدم ذكرِ الأربعينيات فيه عندهم محمول على الاختصار.
قلتُ: بل هو حجةٌ لنا، وتَركُ ذكرِ الأربعينيات قصدي، لا لأنه مختصر من المطول، كما فهموه. وذلك لأن التفصيل الذي رواه ابن أبي شيبة عن علي موافقٌ للحنفية قطعًا. فإذا علمنا مذهبَه من الخارج، وجبَ علينا أن نحملَ مرفوعه أيضًا على ما اختاره في الخارج. نعم، لو لم يثبت لنا مذهبه لكان للتأويل في مرفُوعِهِ مَسَاغٍ، وهو مذهب ابن مسعود، وإبراهيم النَّخعي - كما في الطحاوي ، وسفيان الثوري - كما في كتاب «الآثار» - بسندٍ قوي.
صحيح البخاري
ثم في حديث على شيءٌ يخالفنا، وهو أنَّ في خمس وعشرين خمسةً من الغنم؛ مع أن الواجبَ فيه بنتُ مَخَاض، فإن كان بالتقويم فلا بأس بها عندنا أيضًا، مع أنَّه تكلم فيه سفيان الثوري، وقال: إنه غَلَطٌ وَقَعَ من بعض الرواة، فإن عليًا أفقه من أن يقول هكذا. وحديث أبي داود هذا وإن ترددَ بعض الرواة في وَقْفِهِ ورفعه، إلا أنه صحَّحَ رفعَه ابن القطان في كتاب «الوهم والإِيهام».
(4/168)
---(4/164)
وليعلم أنه يُعلم من البخاري أن عليًا كان عنده كتابٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي أحكام الزكاة. فإذا علمنا من الخارج مذهبَه على وَفْقِ مذهب الحنفية، حكمنا برفعِهِ قطعًا، وأن مذهب الحنفية على وَفْقِ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّمعنده. وإن استدلال الحنفية مذكور في البخاري، ويقضى العجب من مثل الحافظ أنه نقل جميع قطعات هذا الكتاب، ولم يذكر ما كان فيه من أحكام الزكاة. وقد يدورُ بالبال أنه أهمَلَه قصدًا، فإنَّ الصدقات فيه كانت موافقةً لمذهب الحنفية. وهذا من دأبي أَني إذا لم أجد شيئًا في البخاري. ثم أجدُ تفصيلَه في الخارج بطريقٍ صحيح، أعزوه كُلَّه إلى البخاري.
ولذا قلت: إن استدلال الحنفية من كتاب البخاري. واحتج الشافعية بما عند أبي داود من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند آل عمر، وفيه عينُ ما اختارَه الشافعية من التفصيل. وكان شيخُنَا مولانا محمود حسن يقول: إنه مُدْرجٌ من الراوي، ثم وجدتُ عند الدارقطني ما أحْكَمَ رَأيَه ودلَّ صراحةً على أنه مدرجٌ.
والفصل عندي في هذا الباب أن زكاةَ الإِبل قد أخذت بالنحوين. ومن المُحال أن يكون علي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما قد أخذا الزكاة على مختارِ الشافعية وغيرهم بالكوفة. ثم يكون أبو حنيفة اختارَ خلافَه، وهو بالكوفة أيضًا، فلا بد أن تكون الزكاةُ أُخِذت بالكوفة، كما اختاره الحنفية، وبالمدينة كما اختاره مالك، وآخرون، فهما متواتران قطعًا، والرجل مخيرٌ بينهما بأي نحو شاء أدَّاها. وإنما الخلافُ في الاختيار لا غير، هكذا صَرَّح به ابن جرير في «تهذيب الآثار»: هذا باب أخذ العَنَاق... إلخ وقد علمت تفصيلَه فيما مر، وأنه جائز عندنا أيضًا في بعض الصور، وهو فيما إذا ماتت الكبار، وبقيت الصغار فقط.
صحيح البخاري
باب ُ زَكاةِ البَقَر
(4/169)
---(4/165)
ولم يكن عند المصنف في هذا الباب حديثٌ على شرطه، فأراد أن لا يخلو كتابَه من تلك المسألة المهمة أيضًا، لأنه قد بَسَط فيه الفِقه أيضًا، فأشار إليها فقط، ومضى، ولله درُّه ما أدقَّ نَظَرَه.
صحيح البخاري
باب ُ الزَّكاةِ عَلَى الأَقَارِب
اختار التعميم، ولم يُفَصِّل بين الأصول والفروع، وغيرهم. وعندنا لا تجوزُ على الأصولِ والفروع. ولما لم يكن الحديث في الزكاة لم نحتجْ إلى جوابه. أما المصنفُ فطريقُه أوسعُ في الاستدلال، كما علمت.
1461 - قوله: (فقسمها)... إلخ، دل على أنها كانت صدقةً، ولو كانت وقْفَا لم يقسمها.
1462 - قوله: (زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم)، ولا بد للحنفية أن يحملوه على التطوعِ، فإن الزكاةَ لا تصرفُ عندنا على مَنْ وَجَبت نفقتُه عليه.
صحيح البخاري
باب لَيسَ عَلَى المُسْلِمِ في فَرَسِهِ صَدَقَة
صحيح البخاري
باب لَيسَ عَلَى المُسْلِمِ في عَبْدِهِ صَدَقَة
واعلم أن الخيلَ إذا كانت تُعلفُ للركوب أو الحمل أو الجهاد، فلا زكاةَ فيها إجماعًا، وإن كانت للتجارة ففيها زكاة إجماعًا. وأما إذا كانت تُسامُ للدَّرِ والنَّسل - وهي ذكورٌ وإناث - تجب فيها الزكاة، كذا في «البدائع».
(4/170)
---(4/166)
ثم العبيد إذا كانوا للتجارة تجبُ فيهم الزكاة إجماعًا، فلا بد أن يرادَ من العبيد عبيدُ الخِدْمة عندهم أيضًا. قلتُ: فكما أنهم حملوا العبيد على الخدمة، كذلك حَمَلنا الفرسَ عليها أيضًا. وأخذ عمرُ زكاتَها، كما بينه الزَّيْلَعي. ووجه خفاءِ المسألة فيها أن الخيلَ كانت في عهده صلى الله عليه وسلّمفي غاية القِلَّة، حتى لم تكن في بدرٍ إلا ثلاثةُ أفراس، فأين كان لهم ما يَسُومونها للنَّسل حتى تجبَ فيها الزكاة. مع أنَّ المأخوذَ منها ليس في حكم الزكاة عندنا من كل وجه، فله أن يؤدي عن كل فرس دينارًا، أو يقومها، ثم يؤدي عنها زكاتَها بحسبها، بخلاف زكاةِ السوائم، فإن المأخوذَ منها معينٌ من جهة الشرع. وكذا لا يُجبَرُ صاحبُها أن يدفعَ زكاتَها إلى بيت المال، بخلاف زكاة السوائم، فإِنها حقُّه فقط، وليس له أن يدفعها بنفسه.
وبالجملة صارت المسألة فيها كالاجتهاديات، فمتى يردُ لفظُ الصدقة فيها نحملهُ على الزكاة، ويحملونه على التطوع، وهذا هو صنيعنا وصنيعهم في أمثال هذه الأحاديث، وما ذلك إلا لعدم انكشاف الحال.
صحيح البخاري
باب ُ الصَّدَقَةِ عَلَى اليَتَامى
صحيح البخاري
باب ُ الزَّكاةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالأَيتَامِ في الحِجْر
وحاصلُ الحديثِ أن الخيرَ لا يترتبُ عليه الشر إذا استعمله بالمعروف، نعم، إن استعمله لا على وجهه أنتجَ الشَّرَّ.
1465 - قوله: (ما أعطى منه المسكين) أي ما دام يعطي المساكين من ماله.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَفِى الرّقَابِ وَالْغَرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 60)
صحيح البخاري
باب ُ الاسْتِعْفَافِ عَنِ المَسْأَلَة
صحيح البخاري
(4/171)
---
باب ُ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ شَيئًا مِنْ غَيرِ مَسْأَلَةٍوَلا إِشْرَافِ نَفسٍ {وَفِى أَمْولِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات: 19)
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا(4/167)
أي فكذلك الرِّقاب، بأن يؤدي عنه بدَل الكتابة، أو يعينَ عليه. والغارم: المديون، بشرط أن لا يكون عنده نِصاب. وعند الشافعي هو الذي تحمَّلَ غَرَامةً، وإن كان له مال.l
ويُعلم من كلام «البدائع»: أن تفصيل الشافعية محتملٌ عندنا أيضًا، فلتراجع عبارته.
واختلف أئمتنا في تفسير (في سبيل الله)، فقيل: مُنْقَطَع الغُزَاة؛ وقيل: مُنقَطَع الحجاج. والمراد منه عند البخاري جميع أبواب الخير، ولا يشترط فيهم الفقرُ عندنا أيضًا، ولا يُشترط عنده التمليك في الزكاة أيضًا. ولذا جوز الإِعتاق عن مال الزكاة، وعندنا يشترط التمليك. وفي «البحر» إن المراد من الإِطعام في القرآن هو الإِباحة، ومن التصدُّقِ التمليكُ. وراجع الفرقَ بين الإِباحة والتمليك من «شرح الوقاية» - من باب التيمم والعارية.
قوله: (في أيها أعطيت)... إلخ، وهو مذهب الحنفية، فلا يُشترطُ عندنا صرفُها إلى جميع الأصناف.
قوله: (عن أبي لاس، حملنا النبي صلى الله عليه وسلّمعلى إبل الصدقة للحج)، قلنا: إن كان أُعطي لهم للركوب فقط، فذا جائز عندنا أيضًا، وإن كان ملَّكَهم، فراجعْ له الفِقه، فإِنه صحيحٌ أيضًا على مذهب أحد صاحبيه. والظاهرُ أنَّ فيه تمليك المنفعة دون العين.
1468 - قوله: (ما ينقم ابن جميل) أي ما يُكْره أو سكوابرانهين معلوم هوتا.
(قصة ابن جميل وتَمنُّعه عن دفع الزكاة).
(4/172)
---(4/168)
وقصته أن النبي صلى الله عليه وسلّمكان دعا لسَعةِ ذات يده، - وكان في بؤسٍ وشدَّةٍ - فأغنَاه اللهاُ تعالى ببركة دعائه صلى الله عليه وسلّم فكان يَحضُر الجماعةَ ما دامت سارحته وَسِعتها المدينة، فلما كثرتْ من ذلك جعل يسكُن البادية، وترك الجماعةَ، وكان يحضُر الجمعة فقط، فلما صارت أكثرَ من ذلك تركَ الجمعة أيضًا، حتى إذا جاءه ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلّميطلبُ زكاةَ ماله، قال: إني لأراها جِزْيةٌ، فمنع النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأن تؤخذَ منه الزكاة، فلم تؤخذ منه حتى لم يأخذ منه الخلفاء أيضًا رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
قلتُ: وكان ينبغي لابن جميل أن يؤديَ زكاتَه بنفسه، وإن كان الخلفاء لم يأخذوها منه، رجاءً من الله أن يتوب عليه. فإِن عدم قَبُوله صلى الله عليه وسلّمزكاتَه إنما كان لأمر تكويني، ولا يرتفع عنه التشريع. وقد قدَّمنا التنبيهَ على أن التشريعَ لا يرتفعُ بحال، وإن انكشف التكوين. وأجد أن بعضهم لُعن من لسان صاحب الوحي، ثم آلَ أمرُهم إلى الخير آخرًا، فلعله يتوبُ فيتوبُ الله عليه.
صحيح البخاري
(نسبة الإغناء إلى الرسول صلى الله عليه وسلّممن باب المجاورة)
(4/173)
---(4/169)
1468 - قوله: (فأغناه الله ورسوله)، ونسبة الإِغناء إلى الرسول ههنا على طريق المجاورة فقط، فإِن المباشر حقيقةً هو الله تعالى، ورسولُه مسبِّبٌ فقط. إلا أنه يُسامَحُ في العرف، فيسندُ الفعل إلى المسبِّب، كالمُبَاشر، فهذه دقيقةٌ ينبغي أن لا يُغْفَل عنها. وقد نَبَّه عليها القرآن أيضًا، وهو قوله تعالى {لاَ تَقُولُواْ رعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا} (البقرة: 104) حيث لم ينه عنه ابتداءً، حتى إذا رأى في إطلاق هذا اللفظ مضرةً، من حيث إن اليهود كانوا يلوون ألسنتَهم فيه، نهى عنه. فالمسألة في إطلاق الألفاظ التي يكون لها وِجْهةٌ من الجَوَاز أن يُغمضَ عنها ما لم تقع منه مضرةٌ. وهذا كما ترى في نسبة الإِغناء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإِنه إن أوْهَمَ نسبتُه إليه على طريق الحقيقة فهو ممنوعٌ قطعًا، وإن لم يبالغ فيه الجهلاء، وأطلقوه على وجهِهِ فهو جائزٌ ولا ريب، كيف وقد وقع في الحديث ونحوه لفظ: يا رسول الله.
1468 - قوله: (وأما العباس) قيل: إن العباس إنما أنْكَرَ الزكاة لأنه أحسَّ ترفعًا في كلام عمر. أما عمر فإنه كان عمر، لكنَّ العباسَ كان عمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإنما عم الرجل صِنْو أبيه، فَكَرِه منه الكلام.
وحينئذٍ معنى قوله: (ومثلها معها) إنكم تزعُمون أنه ينكرُ الزكاةَ، وأنا ضامنٌ له أنه يُعطي لكم زكاته مرَّتين. وقيل: إنه لم يُنكر الزكاةَ، ولكنه صلى الله عليه وسلّمكان يستوفي منه الزكاة لسنتين، فأنكرها، لأن زكاتَه كانت دينًا على بيت المال، ثم طلب عمر منه الزكاة. ثم إنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلّمكان يستقرضُ منه زكاتَه، ويصرِفها في المصارف الأخرى التي كانت على بيت المال. فإِذا جاء فيه مالٌ كان يؤدي منه عما صرَفَه من الزكاة.
(4/174)
---(4/170)
ولذا أفتيتُ لأصحاب المدارسِ أنْ يصرفوا مالَ الزكاة الذي عندهم في غير مصارفها دَيْنًا عليهم، فإِذا جاء عندهم مالٌ في ذلك المصرفِ يؤدُّوه عما صَرَفُوه من مال الزكاة.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (البقرة: 273) وَكَمِ الغِنَى
قال السيوطي: معناه لا يسألونَ الناسَ فيُلحِفُوا إلحافًا، يعني به أن المدحَ ليس على عدمِ سؤالهم المقيد بالإِلحاف. فإِن السؤالَ منفيُّ عنهم رأسًا، ولكن من عادة الإِنسان أنَّه إذا سأل وسأل، فإنَّ سؤاله ينتهي إلى الإِلحاف لا محالة. وقال الشيخ ناصر الدين بن المُنَيِّر: إن القيدَ لمزيد التقبيح على نحو قوله: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَتِكُمْ عَلَى الْبِغَآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} (النور: 33) وقوله: {لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَفاً مُّضَعَفَةً} (آل عمران: 130).
وفي «الكنز» أن السؤالَ حرامٌ على مَنْ كان عنده قوتُ يومٍ وليلة. وراجع أقسامَ الغني من «البحر». وقد اختلفت الروايات فيه عند الطحاوي. والفصلُ عندي أنه يختلِفُ باختلافِ الأحوال والأشخاص، وليست فيه ضابطةٌ كُليةُ، وبهذا يحصلُ الجمع في جملة الروايات في ذلك.
قوله: (يحسبُهم الجاهلُ أغنياءَ من التَّعفُّف) والتفعُّلُ للتكلف، وليس على معنى أنَّهم يتكلفونَ فيه، فإنه مذمومٌ، بل على معنى أنهم ليسوا بأغنياء في الحقيقة، ولكنهم يتكلّفُون ويَظهرُون كأنهم أغنياء تَعفُّفًا عن السؤال.
1478 - قوله: (والله إني لأراه مؤمنًا)... إلخ، وهو على حدِّ قولِ عائشة لولدٍ ماتَ من الأنصارَ: «عصفورٌ من عصافير الجنة»، وقد قررناه في مواضع.
صحيح البخاري
باب ُ خَرْصِ التَّمْر
(4/175)
---(4/171)
واعلم أن السَّلاطين كانوا يَبعثُون أمينًا لهم - يُسمَّى الخَارِصُ - إلى أصحابِ النخيلِ، لِيَحْزِرَ ثمارهم، ثم يُخلِّي بينهم وبين ثمارهم، فإذا بلغ وقت الجُذَاذ، يستوفي منه بحساب ما خَرَصَ. والنفعُ فيه أن لا يخونَ فيها أصحابَ المال، فيتضرَّر منه بيت المال، وأن يبقى المالكون في فُسحة من الإِنفاق كيف شاؤوا، فكان ذلك أيسرُ لبيت المال والمالكين جميعًا. واعتبره الحنفية أيضًا، إلا أنهم لم يجعلوه حجةً ملزمةً، وإليه ذهب مالك. فإنْ وقع الاختلافُ بين الخارِصِ والمالك لا يُقضى عليه بقولِ الخارصِ فقط.
فإن قلت: فأيُّ فائدةٍ في الخَرْص؟ قلتُ: الفائدةُ ما قد علمتَه آنفًا من اليُسر للجانبين. ومن سوءِ بعض عباراتِ أصحابِنا، نُسبَ إلينا عدمُ اعتباره مطلقًا، وليس بصواب، فإن الأحاديثَ قد وردت به صراحةً. وجعل الشافعيُّ قولَ الخارص حجةً إن ظهرَ خلافُه بعد الكيل. ولهم في التَّضمِين قولان: التضمين، وعدمه، والأظهرُ هو الأول. قلتُ: وعلى الثاني لم يبق بينَنَا وبينهم كثيرُ فرقٍ.
والحاصل: أن الخَرْصَ ليس أمرًا فاصلا عندنا. والنفعُ فيه أن يبقى للمالكين تذكارًا للخرص، فلا يرزأوا حق الفقراء. والذي يدل على أن الخرصَ تخمينٌ فقط، قوله صلى الله عليه وسلّمللخارصين: «دعوا الثُّلُثَ، فإن لم تدعوا الثلث، فدعوا الربع»، فدل على أنه أمرٌ تقريبيُّ فقط. وليس من اللازم أن يكون ما خَرَصه صحيحًا، فإن الإِنسانَ قد يغلطَ في الحزْرِ، فأمرهم أن ينقِصُوا منه الثلث أو الربع، لئلا يتضرَّرَ به المالكون. ولو كان أمرًا فاصلا لما ردد بالثلث أو الربع، فإن الثلث قد يزيد على الربع بمقدارٍ كثير، فالاستثناء بالترديد مع التفاوتِ الفاحش بين الثلث والربع، يدلُّ على أنه أمر تخمينيٌّ لا غير. وقد اختلف الناسُ في شرح الجملة المذكورة على أقوال، وجرَّها كلٌّ منهم إلى مذهبه. وقد ذكرناها ما لها وما عليها في أمالي «جامع الترمذي».
(4/176)
---(4/172)
1481 - قوله: (فألقته بجبل طيء)، وفي الشروح: إنه لم يمت، ولقي النبيَّ صلى الله عليه وسلّمبعد ما رجع.
1481 - قوله: (إني مُتعجل إلى المدينة)، لا يريد به السرعة في السير، بل الذهابَ من أقرب الطريقين.
1481 - قوله: (هذا جبل يحبنا)... إلخ، فيه دليلٌ على أنَّ في الجمادات أيضًا شعورًا. ثم إن أُحدًا من الجنة، وأن عَيْرًا من جهنم. وظني أنه إذنْ لا يكونُ يسبِّحُ، وقد رأيت في رواية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّممرّ على الجندان - جبل بناحية مكة - فقال: «سبق المفردون» وكنت أتفكَّرُ في معناه، وأنه لم قال هذا عند هذا الجبل؟ حتى رأيت في «الوفا» للسَّمْهُودي، أنه كان يشير إلى قولِ شاعر:
صحيح البخاري
باب العُشْرِ فِيما يُسْقَى مِنْ ماءِ السَّمَاءِ وَبِالمَاءِ الجَارِي
قوله: (ولم ير عمر بن عبد العزيز في العسل شيئًا) ولنا في وجوب العشر مرسلٌ جيدٌ، أخرجه الزَّيلعي. وما عند أبي داود: «في كلِّ عَشْرة أَزُقَ زِقٌّ»... إلخ - بالمعنى - .
1483 - قوله: (وكان عثريا)، وهو من العثور، وهو الشجر الذي لا يحتاج إلى سَقْىٍ، بل يشربُ الماءَ بعروقِهِ، كالشجر على شطِّ الأنهار.
(الكلام حول العام والخاص والمبهم والمفسر)
(4/177)
---(4/173)
1483 - قوله: (قال أبو عبد الله: هذا تفسير الأول)... إلخ. وحاصل ما ذكرْ المصنفُ أنَّ حديث ابن عمر مبهمٌ، ليس فيه بيانٌ للنِّصاب، وحديث أبي سعيد الآتي حديث مفسرٌ لما فيه من بيان النصاب. وأرادَ من الحديثِ المبهمِ الحديثَ العام، ومن المفسر الحديثَ الخاص. فإِذا تعَارض الخاصُّ والعام، والمبهم والمفسر، يحملُ المبهمُ على المفسر، والعامُّ على الخاص، لما في المفسرِ والخاص زيادة ليست في المبهم والعام. والأخذ بالزائد فالزائد أولى (تعارض العام والخاص). وقلنا في المسألة الأصولية: إن العام والخاص إذا تعارضا، فإن كان الخاص مؤخرًا متراخيًا يُجعل ناسخًا للعام بقدر ما تناوله الخاص، ويبقى العامُّ محكمًا في الباقي، وإن لم يُدر التراخي، أو التاريخ يعطى له حكم التعارض، ويصار إلى الترجيح. وأقول في مقابلة تعبيرهم: إنَّا نُعطي كلَّ ذي حقٍ حقَّهُ، كما أنهم يأخذون بالزائد فالزائد. قال الشوكاني: لما تعارض الأمر بالإِنصات والقراءة أخرجنا الفاتحة عن حكم الإِنصات، وأبقينا حكمه فيما بقي. قلتُ: لما تعارض الأمران أخرجنا المقتدي عن حكم القراءة، فأخذناه بحَسَب الأشخاص، كما أخذه الشوكاني باعتبار القراءة.
صحيح البخاري
باب لَيسَ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أَوسُقٍ صَدَقَة
واعلم أنَّ النِّصاب في السوائم والنقدين إجماعًا.
أما الزرعُ والثمارُ ففيهما أيضًا نصابٌ عند الثلاثة، وأما عند الإِمام أبي حنيفة ففي قليلها وكثيرها العُشر، وهو ظاهر القرآن. كما علمته من قبل، وأقر به ابن العربي. وبذلك عملَ الخليفة العَدْل عمر بن عبد العزير، فكتب إلى عُمَّاله أن يأخذوا العشر من كل قليل وكثير، كما أخرجه الزيلعي، فدل على أنه جرى به التعامل. وهو مذهب مجاهد، والزهري، وإبراهيم النَّخَعي، كما في «فتح القدير» أيضًا.
(4/178)
---(4/174)
وأما قوله صلى الله عليه وسلّم «ما أخرجته الأرض ففيه العشر» فهو للإِمام أبي حنيفة خاصة، لا يشاركه فيه أحد. فإذا شهدَ لنا ظاهر القرآن، والحديثُ الصريح، وتعامل السلف، لم يبق ريبٌ في ترجيح مذهبنا.
أما وجه قوله صلى الله عليه وسلّمفي حديث أبي سعيد: «ليس فيما دون خمسةِ أوسقٍ صدقة» فهو عندي محمولٌ على العَرِيّة، كما سنفصله.
قال ابن الهمام: تعارض فيه العام والخاص في مِقْدَار خمسة أوْسق، ولا ريب أن الاحتياط بالإِيجاب، فقلنا به. وقال صاحب «الهداية»: إن الحديث ورد في زكاة التجارة دون العشر، وذلك لأنهم كانوا يتبايعون بالأوْسَاق، وقيمةُ الوَسْق يومئذ كانت أربعين درهمًا، فيكون قيمة خمسة أوسق مئتي درهم، وهو نصاب الزكاة. وحاصله أنهم نقلوا حديثَ التجارة إلى باب آخر، فَحدَثَ التعارض، مع أن الحديث العام كان في العشر، وذلك في زكاة التجارة، فلا تعارض أصلا.
وقال الشيخ بدر الدين العيني في «شرح البخاري»: إن المراد من الصدقة، الصدقاتُ المتفرقة، وهي من الحقوق المنتشرة التي قد تجبُ في الأموال سوى الزكاة، فالحديث عنده ليس من باب العُشر. كما حمل عليه الجمهور، ولا من باب الزكاة، كما قال به صاحب «الهداية»، بل من باب الحقوقِ المنتشرة. وحاصله أن تلك الحقوق لا تؤخذُ ممن كان عنده هذا المقدار.
قلتُ: ويرد على هذه الأجوبة كُلِّها ما عند الطحاوي ص 215 - ج1: «ما سقت السماء، أو كان سَيْحًا، أو بَعْلا ففيه العُشر إذا بلغ خمسة أوْسق»... الحديث؛ وإسناده قوي. وفيه سليمان بن داود، وليس بابن أرقم الذي هو ضعيف، بل هو رجل آخر صَرَّح به أبو بكر بن عاصم الظاهري في «كتاب الديات». فإِنه يدلُّ على أن الحديثَ في العشر لا في الصدقات المتفرِّقة، كما ذهب إليه العيني. ولا من باب التجارة، كما اختاره صاحب «الهداية».
صحيح البخاري
(4/179)
---(4/175)
والذي وضح لدَيّ في هذا المطلب أنه محمولٌ على العَرِيَّة، وتفصيلُه ينبني على مقدمةٍ، وهي أن زكاةَ السَّوائم، والخارج من الأرض من حقوق بيت المال، فيأخُذَها الساعي ويرفعها إليه، وليس لأصحاب الأموالِ أن يدفَعُوها إلى المساكين بأنفسهم. أما زكاةُ الثمارِ الرَّطْبة فيلزم من كُتُب الحنفيةِ أنَّه يجوزُ دفعُها للمالكين أيضًا، ولا يجب دفعُها إلى بيت المال، وإن لم يكتُبُوه، بشكل المسألة، فإِنها مما يَتَسَارعُ إليه الفساد، فيتعسَّر حملُها إلى بيت المال، أو يتعذر، فيصرفها المالك في مصارفها بنفسه. كما قال الشيخ ابن الهمام في قوله صلى الله عليه وسلّم «ليس في الحضْراوات صدقة».
إنَّ النفي فيه محمول على صدقةٍ تُرفع إلى بيت المال، فلا دليلَ فيه على نفي الصدقة رأسًا. فخرجَ منه أن المسألةَ فيما يتسارعُ إليه الفساد، أن لا ترفعَ زكاتُه إلى بيت المال، بل يؤديها صاحبها بنفسه. وفيه إشارة إلى أن إطلاقَ الصدقة في عُرفهم كان على صدقة تُرفع إلى بيت المال. وأما ما كان يصرِفه الرجل بنفسه فلم تكن تُسمَّى صدقة، وهذا عرف معقول. فإِن بيتَ المال إذا لم يأخُذْها وتركها إلى المالكين لينفقوها في سُبُل الخير كيف شاءوا، صارت في نظره كأن لم تكن، لم يبق له عنها بحث. فهي عفو بمعنى عدم أخذها منهم، لا بمعنى عدم الوجوب رأسًا.
كيف والله سبحانه قد أوجب فيه العُشرَ عندنا. وبعبارة أخرى أنه إذا لم تظهر، لوجوبها ثمرةٌ لبيت المال صارَ كأنه لم يجب في نظره، فصحَّ التعبيرُ بالعفو مرة، ونفي الصدقة أخرى. ومن ههنا ظهر لك شرح آخر لقوله صلى الله عليه وسلّم «عَفَوت عن صدقةِ الخيل»، فلعله لم يرد بذلك نفيَ الزكاة رأسًا، بل عدم وجوب أدائها إلى بيت المال على شاكلة الأموال الباطنة، فصار عفوًا بهذا المعنى.
(4/180)
---(4/176)
إذا علمت هذا، فاعلم أن العربَ قد جرت عادتهم بأنهم كانوا يُعيرون أشجارًا للفقراء ليأكلوا من رطبها، فأباح لهم الشرع أن يفعَلُوها في خمسة أوسق، ثم أمر عامِليه أن لا يأخذوا منها شيئًا، لأنه يُؤدي إلى تثنية الزكاة في سنة. أو امتناعِ الناس عن الإِنفاق بأنفسهم، وكان مما لا بُد لهم بحَسَب عاداتهم، فعفى عنهم لهذا. وحينئذٍ صارت شاكلتُه شاكلة قوله صلى الله عليه وسلّم «عفوت عن صدقة الخيل»، وقوله صلى الله عليه وسلّم «وليس في الخضراوات صدقة» على شرحنا. فإنَّ الزكاةَ في كلها منفية باعتبار رفعِها إلى بيت المال، لا لعدم وجوبها.
بقي مطالبة البرهان، على أن تلك الخمسة هي التي في باب العَرِيَّة، أو غيرها، وأنَّ عدمَ أخذ الزكاة من هذه الخمسة لكونها عَرِيَّة، أو لعدم وجوب الزكاة فيها. فأقول وبالله التوفيق: أما إن خمسة أوْسُق هذه هي التي فيها العَرِيَّة، فلما أخرجه الطحاوي: ص 212 عن أبي هريرة مرفوعًا «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمرخص في بيع العَرَايا في خمسة أوْسُق، أو فيما دون خمسة أوسق»... إلخ، فلما رأيتُ أنه رخص فيه بالعَرِيَّة في هذه الأوسق، ثم رأيت في باب الزكاة تلك بعينِها لم توجب فيها صدقة، قلتُ: ما بالُ هذه اعتبرت في الموضعين: خمسة ههنا، وخمسة هنالك؟ وحينئذ تَحدَّس لي أنَّ بينهما ربطًا لا محالة، أَوْجَب الرُّخصةَ فيها في الموضعين.
صحيح البخاري
(4/181)
---(4/177)
ولم أزلْ أتفكَّر فيه حتى ظهر لي أنَّ الشرعَ لما رخصه بالعَرِيَّة في تلك المِقْدَار بنفسه نظرًا إلى أنه يتصدق فيها بنفسه، وجب له أنْ يُخففَ الصدقة عنها، كي لا يؤدي إلى تثنية الزكاة في سنة واحدة. وحينئذٍ حكم ذِهني أن خمسةَ أوْسُق في باب الزكاة هي التي رخصَ فيها في البيوع. ومن ههنا ظهر وجهُ اختلافهم في وجوب العشرِ في خمسةِ أوسقٍ، وذلك أنَّ صدقَتَها لمّا لم تكن ترفعُ إلى بيت المال حمله بعضهم على نفيها في هذا المقدار مطلقًا، وحمل بعضهم على أنَّ صدقَتَها وإن لم تُرفعْ إلى بيت المال، لكنها لم تخل عن إيجاب حق، قالوا بالعشر، كالحلب يوم ورود المواشي، تركه الشارع إلى حسبة المالكين، ولم يدخل فيه. فكذلك الصدقة في خمسة أوْسُق.
ثم لم أزل أطلب له نقلا، فوجدت في «كتاب الأموال» لأبي عبيد أن الخمسة في باب الزكاة هي خمس العَرَايا، فلله الحمد على التَّوَاردِ.
وأبو عُبيد هذا تلميذُ محمد، ومعاصرٌ لأحمد، وابن مَعِيْن.
ثم إنهم إن اختلفوا في تفسير العَرِيَّة، فذلك بحثٌ آخر يجيءُ في موضعه. فثبت الأمر الأول.
(4/182)
---(4/178)
وأما إن التخفيف فيها نظرًا إلى كونها عَرِيَّة لا لنفي الزكاة رأسًا، فقد كشفه ما عند الطحاوي: ص 315 عن مكحول بإِسناد جيد مرسلا: «خففوا في الصدقات، فإنَّ في المال العَرِيَّة، والوصية»، وهو في «مراسيل أبي داود»، و«التمهيد» لأبي عمر، إلا أنَّ لفظ أبي داود: «الواطئة»، وأبي عمر و«الوطية»، بدل «الوصية»، وهي ما تَطَأُه الأرجل، ولعل الصواب، كما في «المراسيل». فدل على أنَّ أمرَ التخفيف في الصدقات لم يكن، لأنه لا زكاةَ فيها، بل لكونها العَرِيَّة فيها، وبه أمر الخلفاء أيضًا، كما أخرجه البيهقي أن أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما كانا يأمران سُعاتهما، أن لا يخرُصُوا خُمس العَرَايا. وبمثله شرحوا ما عند أبي داود: ص 226: «إذا خَرَصتُم فجُزوا ودعوا الثُّلث، فإنْ لم تدعوا الثلث فدعوا الربع». ونقل الخَطَّابي أنه قال في «شرحه»: إن معناه أن اتركوا لهم ذلك ليتصدقوا منه على جيرانهم، ومن يطلب منهم، لا أنه لا زكاة عليهم في ذلك. اه- .
فلما جاز لهم أن يحملوا رفعَ الصدقةِ عن الثلث والربع، رعاية لهم ليتصدقوا على الجيران، لا لانتفاء الزكاة فيها، جاز لنا أيضًا أن نحملَ نفي الصدقة في خمسةِ أوْسُق لمعنى العَرِيَّة، لا لعدم الزكاة فيها. والعَرِيَّة عندنا أيضًا تصدقٌ على الققراء، فإِن هم جوَّزوا التخفيف في الثلث الذي أمكن أن يزيد على خمسة أوسُقٍ بمرّات، فقد جوّزناه في أقل منه، فلم جلبوا علينا؟
صحيح البخاري
وحينئذٍ خرج جزءُ الجواب من نفس الحديث، أعني كونَ تلك الخمسة من العَرِيَّة، وأن نفَي الصدقة عنها نظرًا إلى العَرِيَّة، وهذا ما كنا نريده.
(4/183)
---(4/179)
ومحصل الجواب أن النفي في حديث أبي سعيد ليس لثبوت النِّصاب في الثمار، وأن خمسة أوسق تبقى في ناحية بيته، لا تجبُ عليه فريضة الله، بل لأنه يتصدَّقُ فيها بنفسه، فلا تُؤخذ منه صدقة ترفعُ إلى بيت المال. وأما حديث ابن عمر فبيانٌ للواجبِ في نفس الأمر، سواء رُفع إلى بيت المال، أو أمر بأدائه بنفسه، فلا تعارض أصلا.
ثم إني تمسكتُ للمذهب بما عند الطحاوي: ص 213 بإِسناد قوي، ولم أر أحدًا منهم تمسك به عن جابر بن عبد الله: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمرخص في العَرِيَّة في الوَسْق، والوَسْقين، والثلاثة، والأربعة؛ وقال: في كل عشرة أقناء قنو، يُوضع في المسجد للمساكين». اه- . والقِنَوْ: العِذْق بما فيه من الرطب. ومرادُه عندي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمإنما أجاز بالعَرِيَّة إلى أربعة أوْسُق. وأما المسألة فيما زاد فهي كما ذكرها فيما بعد، أعني إيجاب العُشر، حتى أوجب في عشرة أَقْنَاء قِنوًا. وحينئذ صار الحديثُ صريحًا فيما رامه الحنفية.
وإنما لم يتمسك به الطحاوي، ولم يخرجه في باب الزكاة لأنه يمكن أن يكون الأمرُ بوضع الأَقْنَاء من تلك الأَوْسُق التي أجاز فيها بالعَرِيَّة، وحينئذ لا يكون القِنْو زكاةً، وعشر إبل من العرية.k
وأما ما قررت من المراد، فالاستدلال منه قائم.
ثم إن الحديث أخرجه ابن أبي شيبة متنًا وسندًا في «مصنفه»، ومر عليه الحافظ في موضعين، ولم ينقله بتمامِهِ، بل قال بعد قطعة منه... الحديث. وأنا أعلمُ ما يريدُ، ولعله تفطَّنَ أن الجملة الأخيرةَ تنفعُ الحنفية، فأراد أن يتركَهم في غَفْلة. وقد جربتهُ مِرارًا في مثل هذه المواضع. وهذا الحديث أخرجه أبو داود: أيضًا في باب حقوق المال إلا أن لفظه: «أمر من كل جادّ عشرةِ أوسقٍ من التمر بقِنْوٍ يعلق في المسجد للمساكين». اه- . فانقلب منه مرادُه، ولم تبق لنا منه حجة، وغَلِطَ المحشون في شرحه. قلتُ: وينبغي الاعتماد على لفظ الطحاوي، والمصنف.
(4/184)(4/180)
---
صحيح البخاري
باب ُ أَخْذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ وَهَل يُتْرَكُ الصَّبِيُّ فَيَمَسُّ تَمْرَ الصَّدَقَة
نُقِلَ عن أبي حنيفة أنَّ حق الفقراء يتعلقُ عند بُدُو الصلاح. وعن أبي يوسف: أوان الحصاد. وعن محمد: بعد الحصاد، وهو ظاهر القرآن، قال تعالى: {وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (الأنعام: 141)، ولعل المصنفَ مال إلى مذهب الإِمام، حيث جعل الاستيفاءَ عند الحصادِ وصِرَام النخل، وذكر الوجوبَ في تراجم أخرى. وليس مراده أن الوجوبَ أيضًا حين صِرَام النخل، بل الوجوبُ قَبْله، نعم، الاستيفاء عند الحصاد.
قوله: (وهل يترك الصبي)... إلخ، وهذا إنجاز على ما مرّ من اصطلاحنا.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ بَاعَ ثِمَارَهُ أَوْ نَخْلَهُ أَوْ أَرْضَهُ أَوْ زَرْعَهُ، وَقَدْ وَجَبَ فِيهِ العُشْرُ أَوِ الصَّدَقَةُ، فَأَدَّى الزَّكاةَ مِنْ غَيرِهِ، أَوْ بَاعَ ثِمَارَهُ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَة
واعلم أن هذه الترجمةَ مشكلةٌ. والمرادُ من النخل هي التي عليها الثمار، ومن الأرض هي التي عليها الزرع، لأن الصدقةَ لا تجبُ في نفس النخل والأرض. وقوله: «أو باع ثماره، ولم تجب فيه الصدقة» تعميم بعد تخصيص. والحاصل: أن المالكَ إن باع ثمارَه، أو زرعَه. فقط، أو مع النَّخيل والأرض معًا، فهو جائز مطلقًا. سواء باعها بعد ما وجب فيه العُشر أو قبله، لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يمنع أحدًا عن بيع ثماره، أو زرعه بعد بدوِّ الصلاح، ولم يفرق بين مَنْ وَجَبتْ عليه الصدقة، وبين من لم تجب، فدل على أنه جائزٌ مطلقًا.
(4/185)
---
نعم، إذا باع بعد ما وجب فيه العُشر يؤدي العشرَ من غيره لا محالة، فإِنَّها قد بِيْعت، وقد تعلقت الزكاة بذمتِهِ، فيُعطي قيمَتَها قدر العُشر من عنده. وقد علمتَ أن الاستبدال بالقيمة جائزٌ عنده. ولعلك علمتَ أنَّ هذه الترجمةَ أليقُ بالبيوع، وإن أمكن دَرْجُها في الزكاة أيضًا.(4/181)
ثم الإِشكالُ فيها أنه لا يَدري ماذا أراده المصنف من قوله: وقد وجب»؟ هل أراد الوجوب باعتبار النصاب، أو باعتبار الوقت؟ وعلى الأول معناه: أن الثمارَ أو الزرع كانت أزيدَ من خمسة أوْسُق، فوجب فيها العُشر، لوجود نصابه، لأنه لا زكاة عنده فيما دونها. وعلى الثاني معناه: حان وقت أداء الصدقة.
ويتردد مثله في قوله: «أو باع ثِمَارَه، ولم تجبْ فيه الصدقة»، أي عدم وجوب الصدقة، لكونها لم تبلغ مِقْدَار النصاب، أو لعدمِ حُلول أجل الصدقة.
وكذا لا يَدري ماذا أراد من لفظ الصدقة بعد العشر؟ هل هو تفنُّنٌ في العبارة فقط، أو المراد منه الصدقة المتفرقة؟ والذي يظهر أن الواجبَ في المسألة المذكورة، وإن كان هو العُشر، لكنه أراد إدراجَ الصدقةِ المتفرِّقةِ في الثمار أيضًا، فلفها في لفظ الصدقة.
قوله: (ولم يخصّ)... إلخ، هذا اللفظُ قد يُستعمل فيما يكون مختارًا ومطلوبًا، وقد يُستعمل فيما يكون متروكًا، ولا يصحُّ هذان المعنيان ههنا. وقد استعملَهُ المصنفُ فيما مر. وفيه: لم يخصَّ المذهب... إلخ، وكذا في موضعٍ من الصيام، والخُمس والوقف، فأردت أن تبقى شاكلتُه في جميع المواضع سواء. فأخذته بمعنى «لم يفرق»، فإنَّه يمشي في سائر المواضع.
صحيح البخاري
(4/186)
---(4/182)
1486 - قوله: (نهى النبي صلى الله عليه وسلّمعن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها)... إلخ، واعلم أن البيعَ على رؤوس الأشجار إما يكون بشرط القطع، وهو جائزٌ بلا خلاف، بَدَا صلاحُها، أو لم يَبْد، وعلى الثاني وإن لم يَصْلُح لأكله، لكنه يكون عَلَفًا لدوابه. أو يكون بشرط التَّرك، وذا لا يجوز عندنا مطلقًا. وأما الشافعي فجوَّزه بعد بُدُو الصلاح لا قَبْله، فَعمِلَ بمنطوقِ الحديث، ومفهومُه يكونُ بشرط الإِطلاق، فهو جائزٌ عندنا مطلقًا. لكن يجبُ القطعُ على المشتري إذا طالَبَه البائع. ولعلك علمتَ منه أنَّ الحنفية لم يعتبروا قيدَ - قبل البدو وبعده - مع كونه في أكثر الأحاديث. فإن قلتَ: إنَّ الشافعية أيضًا لم يعتبروه فيما باعَه بشرط القطع، فلزمَ عليهم ما يلزمُ علينا. قلتُ: كلا، لأن هذه الصورةَ خارجةٌ عن قضية الحديثِ، لكونها مُستثناةً عقلا. والاستثناءُ العقلي لا يورثُ الظنية في الباقي. ألا ترى أنه إذا باعَ بشرطِ القطع لم يبق فيه محلٌ للنزاع، أما إذا باعه بشرط الإِطلاق فهذا راجع إلى الأول. فإنه وإن سكت عن ذكر القطع، لكنه إذا أمَرَه يجبُ عليه القطعُ في الحال، فصار في حكمه. وفي «الهداية» أنه جائزٌ بعد البدو، وعند مشايخ بلخ، لا قبله، وعليه يُحمل الحديث.
بقي البيعُ بشرطِ التَّرك، ففيه ربا، مع أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمقد نهى عن بيعٍ وشرط. والحاصلُ أنَّ البيعَ بشرط القطع مستثنىً عقلا. وبشرط التركِ ممنوع، للنهي عنه، فلم يبق إلا بالإِطلاق. واعتُبر فيه تفصيلُ البُدُو وعدمه عند مشايخنا ببلخ أيضًا، فهو محملُ الحديث. لأن البيعَ بالشرطين الأولين نادرٌ، فلا يُحملُ الحديث إلا على ما يكثُر وقوعُه، وهو بشرط الإِطلاق. وقد تكلم فيه ابن الهُمَام في «الفتح» فراجعه، فإنَّه جيّد جدًا. وسنعود إلى تقريره في موضع آخر أيضًا إن شاء الله تعالى.
صحيح البخاري
باب هَل يَشْتَرِي صَدَقَتَه
(4/187)
---(4/183)
وهو جائزٌ في الفقه، وإنما نَهى عنه الحديث، لأنه لا يخلو عن نحو مُرَاعاة من الموهوب له، فيصيرُ له المَثَلُ السَّوْء، وهو - العَودُ في القيء - .
والحاصل أن الشرعَ لا يحملُ المراعاةَ فيما وهبَهُ بنفسه، بنحو قوله: «لا تَعُدْ في صدقتك».... إلخ، وإنما نهاه النبي صلى الله عليه وسلّمعن شراء فرسه الذي كان تصدق به، لأنه ظن أنه يبيعه برُخْصٍ، فاستُحِبَّ له أنْ يعملَ بما هو أولى وأحرى. وإن جاز شراؤه. أما شراء الثالث، فلا ريبَ في جَوَازه.
ثم اعلم أن الرجوعَ عند عدم الموانع السبعة، وإن جاز قضاءً، لكنه مكروهٌ تحريمًا، أو تنزيهًا دِيَانة، ولا بدَّ لجوازِهِ: إما القضاء، أو رضا الموهوب له، فإذا لم يرض به الموهوبُ له، ولم يكن القضاءُ. لم يجز الرجوع مع انتفاء الموانع السبعة أيضًا، كما في «الكنز». والمفتون غافلون عنه، فيفتون بحكم القضاء، ولا يدرون أنه لا يجوز لهم إلا الإِفتاء بالديانات، كما علمتَه في كتاب العلم مفصلا.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُذْكَرُ في الصَّدَقَةِ لِلنبي صلى الله عليه وسلّم
واعلم أنَّ الصدقاتِ النافلة يجوزُ دفعُها إلى آل النبي صلى الله عليه وسلّم وإن تردد ابن الهُمَام، والزَّيْلعي في النافلة أيضًا. ثم آل النبي صلى الله عليه وسلّمعندنا: آل عباس، وحَمْزة، والحَارث، وآل جعفر، وعلي. وحمزةُ وإن لم يكن له ولدٌ ذَكَرٌ، لكن لفظ الآل ليس عندهم منضبطٌ كل الانضباط، فيطلقُ عليه أيضًا. فأخذوا من الأعمام ثلاثةً، واثنان من أبناء العمِّ. وأما عند الشافعية: فهم كل بني هاشم، وبني عبد المطلب.
(جواز دفع الزكاة لآل النبي صلى الله عليه وسلّمعند فقدان الخُمُس)
(4/188)
---(4/184)
ونقل الطحاوي عن «أمالي أبي يوسف»: أنه جاز دفعُ الزكاة إلى آل النبيِّ صلى الله عليه وسلّمعند فُقدان الخُمُس، فإنَّ في الخُمُس حقَّهم، فإذا لم يوجد، صح صرفُها إليهم. وفي «البحر» عن محمد بن شجاع الثَّلْجي عن أبي حنيفة أيضًا جوازه. وفي «عقد الجيد» أن الرازي أيضًا أفتى بجوازِه. قلتُ: وأخذُ الزكاةِ عندي أسهلُ من السؤال، فأفتي به أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي أَزْوَاجِ النبي صلى الله عليه وسلّم
ذهب جماعةٌ إلى أنه لا يجوزُ التصدُّق على جميع أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وقال الآخرون: بل من كانت من بني هاشم فقط، وهي زينبُ بنت جَحْش. وحينئذٍ لا إشكال في قوله: «أعطيتها مولاةً لميمونَةَ من الصدقة»، فإنها لم تكن هاشميةً، فتجوز الصدقة على مولاتها. ثم إن النِّسبة قد تكون ولاءً، وقد تكون نَسَبًا. واشتهرَ الوَلاءُ فيما بينهم، حتى لا يكاد يتميَّزُ بين الولاء والنسب. فيقال: فلان هاشميٌّ، مع كونِهِ هاشميًا ولاء. وكذا يقال في النسب أيضًا: هاشميٌّ، فتشْتَبِهُ الأنساب كثيرًا.
1492 - قوله: (هلا انتفعتم)... إلخ، يدل على أنَّ الجِلدَ يطْهُر بعد الدبغ، خلافًا لمالك.
صحيح البخاري
باب إِذَا تَحوَّلَتِ الصَّدَقَة
وقد مر أن تبدُّلَ المِلك لا يوجبُ تبدلا في العين دائمًا، فللفقيه أن ينظرَ فيه، ويضعَ له ضَابطَةً.
صحيح البخاري
باب ُ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الأَغْنِيَاءِ، وَتُرَدَّ في الفُقَرَاءِ حَيثُ كانُوا
(4/189)
---(4/185)
واعلم أن نقل الزكاةِ عندنا إنما هو عند كون أقاربه خارِجَ بلدِه، وإلا فالصرفُ على أحوجِ بلدِهِ أولى. أقول: مسألة الحنفية هذه إنما تمشي في الأموال الباطنة، أما الأموال الظاهرة فيأخذُ زكاتَها الساعي، ولكن السُّعاة كانوا قد يصرفونها أيضًا إلى فقراء البلد. ثم لا يدرى أن المسألة عندهم كانت كذلك، أي جوازُ صرفِ زكاة تلك الأموال أيضًا على أهل البلد، أو كان الوُلاة يُرَخصُونَهم خاصة.
واعلم أنَّ المصنفَ موافِقٌ لنا في مصارف الصدقات، وحُجَج الخصوم فيها ضعيفةٌ جدًا، وليس عندهم إلا المشي على القواعد فقط.
صحيح البخاري
باب ُ صَلاةِ الإِمَامِ، وَدُعَائِهِ لِصَاحِبِ الصَّدَقَة
قوله: (وصل عليهم)، وفيه الصلاة على غير الأنبياء عليهم السلام أيضًا. وضيَّقُوا في إطلاقها حملَة المذاهب الأربعة، وإليه ذهب ابن العربي، والقاضي عياض، مع أنهما يأخذان بظاهر القرآن. ومثله في «الفتح» عن ابن عباس، أي ينبغي أن لا تستعملَ الصلاةُ فيما سوى الأنبياء عليهم السلام. قال المُفْتُون: ويُمنع عن إطلاقها، لأن الصلاةَ صارت شعارًا للروافض، فإنهم يصلون على آل النبيِّ صلى الله عليه وسلّم
قلتُ: بل لأن الصلاةَ فيها معنى التعظيمِ والتوقير بغايته، على عكس اللعنة، فإنَّ فيها معنى التحقيرِ والإِبعادِ عن رحمة الله. ولا نعلمُ مَنْ يستحقُّ التوقيرَ بهذا اللفظ ممن لا يستحقه، فهو وإن كان سائغًا من حيث كونه دعاء، لكنه لا يجوزُ من هذه الحيثية. بخلاف صاحب الوحي، فهم جَعَلُوه من باب اختلاف عصر وزمان، وجعلتُه من باب اختلاف دليلٍ وبُرْهان. وذلك لأن القرآنَ إذا أُورِدَ بإِطلاقها، لم يناسب بشأنه أن يحملَ على اختلاف عصر وزمان. وقد مرّ الكلامُ فيه مرةً فراجعه.
صحيح البخاري
باب ُ ما يُسْتَخْرَجُ مِنَ البَحْر
(4/190)
---(4/186)
ولا خُمُس فيه عندنا أيضًا، ونقلَ فيه المصنفُ آثارًا متعارضةً، لعدم الفصل عنده. ثم قيل: إن العنبرَ روثُ الثور البحري. وقيل: إن الشمع تأكله دابته، فلا ينهضم، ويخرج كما هو. وإنما أتى المصنفُ بقصة بني إسرائيل في هذا الباب، لذكر معاملة البحر فيه لا غير.
صحيح البخاري
باب في الرِّكازِ الخُمُس
والركاز عندنا يُطلق على الدَّفين، والمخلوق في الأرض سواء. نعم، المَعْدِن والكنز متقابلان، فالمَعْدِن ما خُلِق في الأرض، والكنز ما دُفن فيها. والخُمُس عندنا فيهما، إلا في دفائن أهل الإِسلام، فإنَّ حكمَها حكم اللقطة. وقال الشافعي: الركاز هو الدفين. ولا خُمُس عنده في المَعْدِن. واحتج بقوله صلى الله عليه وسلّم «المَعْدِنُ جُبَار، وفي الرِّكَاز الخمس» فإنَّه صريحٌ في كون المعدن غير الركاز، فهما شيئان.
والوجه عندنا أنَّه إذا حَكَمَ على المعدن بكونه جُبَارًا، تُوُهِّم منه كون المالِ الخارج منه أيضًا جُبَارًا، لا شيء فيه، فقال: «وفي الرِّكاز الخمس»، ففي الأول بيانٌ لحكم المحلِّ، أي إن حَفَرَه أحدٌ فمات فيه لا شيء له. وفي الثاني بيانٌ للحالِّ، أي ما خرج منه. وإنَّما لم يكتف بالضمير تعميمًا للمسألة، فإن الركاز عامٌ، كما علمته. قلت: ولمّا كان مناط الخمس في دفائن الجاهلية، كونها في حكم الغنيمة، وذلك متحقِّقٌ في المَعْدِن أيضًا. فإنَّ أراضي الكفار إذا حَوَتْها أيدينا، وَوَجبَ فيها الخُمُس، لزمَ أن يجبَ الخُمُس فيما خلق فيها أيضًا، لأنها غنيمةٌ بما فيها، فالمناط مشتركٌ. هذا هو نظرُ الحنفية.
(4/191)
---(4/187)
أما الشافعية فقرَّقُوا بينهما مع تسليم المناط، بأن الدَّفينَة تكونُ من جِهتهم، فيكونُ حكمُها حكم سائر أموالهم من وجوب الخُمُس فيها، بخلاف المَعْدِن، فإنَّه ليس من جهتهم، بل مخلوقٌ من الله تعالى، فكأن المناطَ لم يتحقق فيه عندهم. وعندنا تحقق في الموضعين، فوجب الخُمُس مطلقًا، فلا فرق في تحقيق المناط، بل في تحقُّقِه.
قوله: (وأخذ عمر بن عبد العزيز)... إلخ؛ وهذا مُوَافقٌ للشافعية، فإنَّه لم يأخذ منه الخُمُس.
قوله: (وقال الحسن)... إلخ، وهذا أقربُ إلى الحنفية، لأنه أوجبَ الخُمُس في الرِّكَاز مطلقًا، وما فرق به يوجب الخمسَ في مَعْدِن دار الإِسلام أيضًا. فإنَّ الأراضي لتقادُمِ العهد بالكفر كانت للكافرين، ثم تحولت إلى مِلك المسلمين، فحكمُها يكون كحكم الغنيمةِ، وإنْ وُجدَ فيها المَعْدِن في دار الإِسلام.
قوله: (فعرفها سنة)... إلخ، أي إن ظن أن مالكَه مؤمنٌ. والحاصل أن الحسنَ لم يفرِّق بين ما يوجد في ظاهر الأرض، وما يوجد في باطنه، كما هو المذهب عندنا.
قوله: (وقال بعض الناس)... إلخ، واعلم أن هذا أول موضع استعمل المصنف فيه هذا اللفظ، ولم يردْ به أبا حنيفة في جميع المواضع، كما زعم، وإن كان المراد ههنا هو الإِمام الهُمَام، بل المراد في بعضها: عيسى بن أبان، وفي بعضٍ آخر الشافعي نفسه، وفي آخر محمد. ثم لا يستعمله المصنف للرد دائمًا، بل رأيته قد يقول: بعض الناس، ثم يختاره، وقد يتردد فيه. وذكر المصنف في «كتابه» مالكًا باسمه، وكذا الشافعي، فإن المراد بابن إدريس ههنا هو الشافعي. ولم يسمّ أحمد إلا في موضعين، وابن مَعِين في موضع.
صحيح البخاري
(4/192)
---(4/188)
وحاصل إيراده أن أبا حنيفة استدل على مذهبه بالاستعمال اللغوي، فإنَّه يقال: أركَزَ المعدن فثبت منه إطلاق الرِّكَاز على المَعْدِن لغةً. وإذا ثبت كون المعدن ركازًا باللغة ثبت وجوبُ الخُمُس فيه بالنص، لقوله صلى الله عليه وسلّم «وفي الركاز الخمس». قال البخاري: ولو سلمناه لزمَ أن يجبَ الخُمُس في المالِ الموهوب والثمار والربح أيضًا بعين هذا البيان، فإنَّ الرجلَ إذا وهب مالا أو ربح فيه أو كثرت ثماره، يقال له: أرْكَزت، فأُطلق فيه الرِّكَاز على المال المذكور أيضًا، ولم يذهب أحد إلى وجوب الخُمُس في المال المذكور.
وأما تقرير المناقضة، فبأنه قال هذا البعض أولا: إن الخُمُس واجبٌ في المَعْدِن، لأنه رِكاز، وفي الرِّكَاز الخُمُس، ثم قال: لا يؤدي الخُمُس من الرِّكَاز، ولا بأس بكتمانه. والرِّكَاز عنده متناوِلٌ للمعدن، فصار مآله، إلا أنه لا يؤدي الخمس من المعدن.
قلتُ: وقد أجاب عنه العيني، فراجعه؛ وأجاب ابن بَطَّال عن المناقضة: إن الذي أجازه أبو حنيفة كتمانه فيما إذا كان محتاجًا إليه، وتأوَّل أنَّ له حقًا في بيت المال، ونصيبًا في الفيء، فأجاز له أن يأخذ الخُمُس لنفسه عِوضًا عن ذلك، لا أنه أسقط الخمس عن المعدن بعد ما أوجبه.
وقال الطحاوي: إن الواحد إن زعم أنه من مُستحقِّي الخُمُس، وإن رَفَعَه إلى بيت المال لا يُعطى منه، وَسِعَ له أن يصرفه إلى نفسه، وكذا في فقه الحنفية: إن المال الذي يُرفع إلى بيت المال إذا تعين له المصرفُ، وقد علم أنه لا يُصرفُ إليه، وَسِع له كِتمانه، وصرفُه إليه بنفسه، فليس هذا مناقضة. بل نقل جزء من باب إلى باب آخر. وقد مر مني أنه يجوزُ للمجتهد، فإِن الجزءَ الواحدَ قد يندرجُ تحت أبوابٍ شتى، فيدرِجُه المجتهد تحتَ باب منها باجتهاده.
(4/193)
---(4/189)
ولنا حديث أخرجه أبو يوسف في «كتاب الخَرَاج» إلا أن في سندِه عبد الله بن سعيد المقْبُري، وهو ينسب إلى الضَّعْف. وأيضًا أخرج محمد في «الموطأ» وفيه: فتلك المعادن إلى اليوم لا تؤخذ منها إلا الزكاة. قال محمد:... قال صلى الله عليه وسلّم «وفي الركاز الخمس، قيل: يا رسول الله، وما الرِّكَاز؟ قال: المال الذي خلق الله يوم خلقها»... إلخ. ففسر فيه الركاز بالمعدن، «وفي الركاز الخمس» بالنص، فثبت الخمس في المعدن أيضًا. ولنا أيضًا ما عند أبي داود: كتاب اللقطة عن عبد الله بن عمرو بن العاص في حديث: «وما كان في الخَرَاب، يعني ففيها وفي الرِّكَاز الخُمُس». انتهى. حيث أوجب فيه الخمس في ظاهرها وباطنها، والمسألة عندي من باب التفقُّه، والنص المذكور فيها ليس نصًا لأحد من الطرفين.
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْعَمِلِينَ عَلَيْهَا} (التوبة: 60)
وَمُحَاسَبَةِ المُصَدِّقِينَ مَعَ الإِمامِ
وهم من مصارِفِ الزكاة أيضًا، ثم هل يُشترط كونهم مفلسين أو لا؟ اختُلف فيه.
قوله: (محاسبة)، وهو موضع الترجمة، والذي يظهرُ أنْ تكونَ ترجمتهُ هكذا: ومحاسبة الإِمام مع المصدقين. لأن لفظ «مع» يُستعمل في التابع دون المتبوع، والمصنف عكس فيها، فاستعمل «مع» للمتبوع، وقال: محاسبة المصدقين مع الإِمام.
صحيح البخاري
باب ُ اسْتِعْمَالِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَلبَانِهَا لأَبْنَاءِ السَّبِيل
يعني هل يجوز أن يسقَي أبناءَ السبيل من ألبان إبل الصدقة، وأن يعطيهم ظَهْرَها؟ ولعل الحنفية لا يمنعون عنها أيضًا. أما إذا وهبها لهم فلا نزاع في جواز هذه الأشياء، ولم يتوجه إلى هذه المسألة أحدٌ غير الإِمام المصنف.
صحيح البخاري
باب ُ وَسْمِ الإِمامِ إِبِلَ الصَّدَقَةِ بِيَدِه
(4/194)
---(4/190)
وكان وسْمُ عمر: «الوقف لله» كما في «الفتح». فدل على جواز الكتابة بنحو هذا على الدواب. وفي «شرح الجامع الصغير» للعزيزي الشافعي أن الكتابة على الثبور، لا تجوز عند أبي حنيفة، وما في كتبنا فهو خلافُه. والله تعالى أعلم بالصواب.
صحيح البخاري
باب ُ فَرْضِ صَدَقَةِ الفِطْر
ويقال لها بالفارسية: سرسايه، فانكشف منه حقيقة قولهم: رأسٌ يَمُونُه ويلي عليه. واختُلِف في فرضيتها ووجوبها، والمصنف جزم بالأول، ولم يشترط لها نصابًا، وهو مذهب الشافعي، خلافًا لأبي حنيفة فيهما، فهي واجبة عنده، وكذا يشترط لها النِّصاب عنده. غير أن بين نصابها ونصابِ الزكاة فرقًا، فإنَّ النماء ليس بشرط في نِصَاب صدقة الفِطر، بخلاف الزكاة.
قلتُ: لا ريب أن الظاهر ما ذهب إليه الشافعي، لأن الأحاديثَ عامةٌ، لا تعرُّضَ فيها إلى نِصَابٍ. نعم، لنا استنباطاتٌ، كإِطلاق الزكاة على صدقة الفطر في غير واحد من الأحاديث، ويتبادَرُ من إطلاق الزكاة عليها، أن يشترطَ لها أيضًا ما يشترطُ للزكاة، فيثبت لها النِّصَابُ من هذا الطريق. لكن لما كان باب صدقة الفطر بابًا مستقلا، ناسب أنْ تتعرضَ الأحاديثُ إلى نِصَابها أيضًا كذلك. والتمسكُ لها من الإِطلاقات والعُمُومَات لا يكفي، وجرُّ أحكام بابٍ إلى باب لا يشفي. فالأولى عندي أن يكون المختارُ في العمل مذهب الشافعي، فإنَّه لا بأس بأداء الصدقة عند أحد، وهو الذي ينبغي في الأضحية.
صحيح البخاري
باب ُ صَدَقَةِ الفِطْرِ عَلَى العَبْدِ وَغَيرِهِ مِنَ المُسْلِمِين
صحيح البخاري
باب صَدَقَةُ الفِطْرِ صَاعٌ مِنْ شَعِير
واختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال:
الأول: أنها تجبُ على الموْلى عن عبده.
والثاني: أنها تجب على العبد، إلا أنَّ مَوْلاه مأمورٌ أن يُمكِّنَ عبده على أدائها، وهو مذهب أهل الظاهر.
(4/195)
---
والثالث: أنها واجبة على العبد، لكنَّ مَوْلاه يؤديها عنه.(4/191)
ثم إن المولى هل يخرِجُها عن عبيده المسلمين فقط، أو الكافرين أيضًا؟ فقال الشافعي بالأول، واحتج بحديث الباب. والجواب عنه: أما أولا: فبأن مالكًا تفرَّدَ فيه بقيد «من المسلمين» كما ذكره الترمذي. قلتُ: ولكن الشيخَ أخرجَ له متابعات في «الإِمام».
وأما ثانيًا: فبأن القيدَ المذكورَ راجعٌ إلى المَوَالي. وأما ثالثًا: فبأن رواية ابن عمر ومذهبه، إخراج الصدقةِ عن العبيد مطلقًا.
وأما البخاري فزعم بعضهم أنه اختار مذهب الشافعية نظرًا إلى هذه الترجمة. قلتُ: لا دليلَ فيها على ما راموه، بل هو متردد فيه، أو هو موافق للحنفية، ولذا حذف القيدَ المذكور من الترجمة الآتية، وإنما ذكره في الترجمة الأُولى نظرًا إلى لفظ الحديث، للإِشارة إلى عبرته، ولذا حذفه من الترجمة الثانية، كأنه أشار بذلك إلى أنه ينبغي أن يُمعِنَ النظرَ في أن هذا القيدَ اتفاقي، أو مدارٌ للحكم. وإنما قلنا: إن الظاهر أنه وافقَ الحنفية لا لكونه تلميذ إسحاق ابن رَاهُويَه، ومذهبُه كمذهب الحنفية، وهو مذهب ابن عمر، وهو راوي الحديث، كما في «الفتح» وقد أقر به الحافظ أيضًا، ولمّا علمنَا مذهبَ شيخه ناسبَ أن نحمل ترجمته أيضًا على مذهب شيخه، ومن ههنا اندفع التكرارُ، وظهر الوجهُ، لوضع الترجمة الثانية.
وقال ابن المُنَيِّر: إن المصنف توجَّه في الترجمة الثانية إلى مسألةِ أنها تجبُ عليه أو عنه؛ وقد علمت الاختلافَ فيها، والفرقَ بينها.
قلتُ: وليس الأمرُ كما زعمه، فإنَّه ترجم بصدقةِ الفطرِ على الصغير والحر والمملوك، فدلَّ على أنه لم يتعرَّض إلى بيان هذا الفرق. فالظاهرُ أنه ذهب إلى وجوبها عن العبد مطلقًا، مسلمًا كان، أو كافرًا. والله تعالى أعلم بالصواب.
صحيح البخاري
باب ُ صَدَقَةِ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَام
صحيح البخاري
(4/196)
---
باب ُ صَدَقَةِ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْر(4/192)
قال الشافعي: إن المراد من الطعام هو البرُ، فيُخرج منه صاعًا كالشعير. قلتُ: كيف وأن أبا سعيد قد صرح أن طعامَنا يومئذ لم يكن غير الشعير، والزبيب، والأقط، والتمر، كما يأتي في البخاري في هذه الصفحة من باب الصدقة قبل العيد. وأين كان البرُ في زمنه صلى الله عليه وسلّم ليكون طعامَهم؟ وإنما كثُرَ في زمن معاوية، كما في البخاري من الباب الذي بعده: فلما جاء معاوية وجاءت السمراءُ؛ قال: أرى مُدا من هذا يعدِلُ مدين. اه- .
ومن ههنا ظهر السر، لاختلافهم في البُر أنَّ الواجبَ منه صاعٌ أو نصفُ صاعٍ، وذلك لأنه كان قليلا في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يخرج أمرُه من الخاصة إلى العامة. ومن هذا الباب اختلافهم في زكاة الحُلِي والخيل، فإنَّهما أيضًا كانا قليلين، فلم يشتهر أمرُهما على وجهه. فقال قائل بوجوب الزكاة فيهما، وأنكرها آخرون. ولنا عمل الخلفاء الأربعة، كما في «العيني»، وكفى به قُدوة.
صحيح البخاري
باب ُ صَاعٍ مِنْ زَبِيب
صحيح البخاري
باب ُ الصَّدَقَةِ قَبْلَ العِيد
والمشهور عندنا أنه كالبر، فيُخرج منه نصفُ صاعٍ، وفي رواية غير مشهورة أنه كالشعير، فيخرج منه صاعًا. قلتُ: وهو المختار عندي.
أما الجواب عن حديث أبي سعيد الخدري، قال: «كنا نعطيها في زمان النبيِّ صلى الله عليه وسلّمصاعًا من طعام... وزبيب». اه- . فبأنه لا دليل فيه على أن إخراجَهم القدرَ المذكورَ كان لكون القدر الواجب ذلك فإنَّه قد يجوز أن يكون تحريًا للفضل، فإنَّهم لما أخرجُوا من سائرِ الحبوب صاعًا، أخرجوا من الزبيب أيضًا نحوه. وعند الطحاوي. وأبي داود ما يشير إليه أيضًا. قال أبو سعيد: «أما أنا فلا أزال أُخرجُ كما كنت أخرج»؛ ولفظ أبي داود: «لا أُخرج أبدًا إلا صاعًا». اه- .
(4/197)
---(4/193)
وكأن هذا من دأب الصحابة، أنهم إذا عَمِلوا بأمر في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمثابروا عليه. قلنا: أما أبو سعيد، فله أن يُنفقَ مالَه كله في سبيل الله، فما بالصاع، ولكن الفاصل أنَّ الصاعَ المذكورَ كان واجبًا عليهم أولا، ولا يثبتُ ذلك من القول المذكور.
صحيح البخاري
باب ُ صَدَقَةِ الفِطْر عَلَى الحُرِّ وَالمَمْلُوك
1511 - قوله: (وكانوا يعطون)... إلخ، واعلم أن تقسيمَ صدقة الفِطر كان إلى الأمراء. وقد ثبت في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمأنَّ الناس كانوا يبعثُونَ بصدقاتِهم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ثم إنه كان يقسِمُها حسَبَ ما يراه الله عز وجل. وهو معنى قوله: ليجمع، أي ليجمع للإِمام ليصرفها في مصارفها من تعارفه، كالزكاة، فلما علمنا من عمل السلفِ هذا، ناسبَ أن نحملَ عملَ ابن عمر أيضًا على ذلك.
صحيح البخاري
باب ُ صَدَقَةِ الفِطْرِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالكَبِير
قوله: (قال أبو عمرو)... إلخ، وليست هذه القطعة في الشرحين. وهو مذهب الشافعي. وأما عندنا فلا زكاة في مال اليتيم، وهو مذهب ابن مسعود. وليراجع ألفاظ هذه الآثار أيضًا، لينجلي لك الحال.
صحيح البخاري
كتاب الحَج
صحيح البخاري
باب ُ وُجُوبِ الحَجِّ وَفَضْلِه
ولنقدم قبل الخوضِ في المقصود جُمَلا:
الأولى: أن العلماءَ اختلفوا في السنة التي فرض فيها الحج على أقوال: فقيل: سنة خمسٍ، حكاه الوَاقِدي. وقيل: سنة ست. وقيل: ثمان. وقيل: سنة تسع، ولكل منهم مُسْكة تمسكوا بها، فليطالعها في مواضعها من شاء.
(4/198)
---(4/194)
الثانية: اختَلف الناسُ في وجوب الحج، هل هو على الفور أو على التراخي؟ وكيف ما كان، التسارع إليه مطلوبٌ، وحينئذٍ يُشكل حجُ النبي صلى الله عليه وسلّمفي العاشرة مع فرضيته في الأعوام الماضية على اختلافها. فقيل في الجواب: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان يترقَّبُ أن تعوَدَ الأيامُ على هيئتها، وقد كانت العربُ خلطتها لمكان النسيئة عندهم، فلم تكن أشهر الحج في محلها، فإذا عادت ذو الحجة في موضعها عَزَمَ على الحج، ونادى بين الناس.
قوله: (ومن كفر)... إلخ، أي لم يحج، وإنما عبَّرَ عنه بالكفر تهويلا، وعلى تعبير القرآن جاء حديث ابن ماجه: «فليس على الله أن يموتَ يهوديًا أو نصرانيًا».
1513 - قوله: (فجعل الفضل ينظر إليها)، واعلم أن الحجابَ عندنا داخلُ الصلاة وخارِجُها سواءً فجاز كشفُ الوجه والكفين عند أجنبي، بشرط الأمن من الفتنة. واختُلف في الرِّجلين، والفتوى على الحجاب مطلقًا، وذلك لانقلابِ الزمان، وظهورِ الفتن. وإنَّما صرفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّموجه الفضل احتياطًا، كما هو المذكور في الحديث.
1513 - قوله: (إن فريضة الله على عباده في الحج قد أدركت شيخًا كبيرًا)، واعلم أنهم اختلفوا في وجوب الحج على المعْضُوب. فقيل: يجبُ عليه إذا مَلك الزادَ والراحلَة، ومُؤنَة من يرفعُه ويضعُه ويقودُه إلى المناسك. وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة. وهو قول الشافعي. وقيل: لا يجبُ وهو المشهور عن إمامنا. فقيل: معنى الحديث: أن الحج فرضٌ على الناس، فأدرك أبي أيضًا زَمَنَ افتراض الحج. وراجع التفصيل من «فتح القدير».
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجَ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (الحج: 27 - 28)
1514 - قوله: (يركب راحلته)، والخلافُ فيه في الأفضلية، ووافقنا ابن عباس، كما عند أبي داود.
(4/199)
---
صحيح البخاري(4/195)
باب ُ الحَجِّ عَلَى الرَّحْل
وهو شرطٌ عندنا إن كانت المسافةُ مسافةَ الرَّحل، وأما الشغدف والهودج فلا.
1516 - قوله: (قال عمر)، أراد به الإِعداد للحج والاهتمام به.
1517 - قوله: (زاملته)، وهي الراحلة التي عليها الزاد. وفي «الفتح» عن ذي النورين أنه كان يحجُّ على البعير، وكان يحمل عليها الحبوب، ثم يقعد عليها، فدل على جواز القُعود على الحبوب.
1518 - قوله: (ولم أعتمر)، واعلم أن الحنفية والشافعية اختلفوا في أمر عائشة، فقال: إنها كانت معتمرةً، فلما دنت أيام الحج، ولم تخرج عن حيضها أَمرَها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأن تخرجَ عن عمرتها، وتفسخها إلى الحج، ثم تقضيها. وأنكره الشافعية. وهذا اللفظُ ظاهرٌ للحنفية، وسيجيءُ تفصيله.
1518 - قوله: (فأعمرها من التنعيم)، ومن ههنا قلنا: إن الحاج يُهلّ من الحَرَم، والمعتمر من الحِلِّ ولا فرق بينهما عند المصنف. والحديثُ حجةٌ عليه، لأنه لو جاز للمعتمر أن يُهلَّ من الحرم لما بعثها إلى التنعيم.
صحيح البخاري
باب ُ فَضْلِ الحَجِّ المَبْرُور
وهو ما لا جِنَاية فيه. أما الحجّ الأكبرُ المشهور بين الناسِ. وهو الحج الذي يكون يومَ الجمعة، فلا أصلَ له في الشرع، وهو في القرآن بمعنى آخر. ثم إنه مكفرٌ للصغائر والكبائر جميعًا، أو للأولى فقط، فرجَّح ابن نُجيم الثاني، ومال الأكثرون إلى الأول.
صحيح البخاري
باب ُ فَرْضِ مَوَاقِيتِ الحَجِّ وَالعُمْرَة
وادَّعى الشافعيةُ أنَّ فرضيةَ المواقيتِ كانت قُبيل حَجة الوداع. وادَّعى الحنفيةُ أنها كانت قَبْلها بكثير، لما سيجيء. ثم إن تلك المواقيت كلها وقَّتَها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمأولا؟ فقيل: نعم؛ وقيل: غير ذات عِرْق، فإنَّها وقّتها عمر. والصوابُ هو الأول. نعم، اشتهرت بعضها في زمن عمر، فنُسبت إليه.
(4/200)
---
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة: 197)(4/196)
1523 - قوله: (وتزودوا فإِن خير الزاد التقوى)، وفسره السيوطي بما يُتقى به من السؤال، وهو المال. وليس بمرادٍ عندي، بل التقوى على معناه المعروف. والمراد أنه الزاد الحِسِّي، فقد علمتم أنه لا بد لكم، فسوف تأخذونه، ولكن ههنا زاد آخر أقومُ وأهم منه، وهو التقوى، فهو زادٌ معنوي فلا تَنْسَوه، واجعلوه أيضًا من زادكم، فإنَّه خيرُ زادٍ لمن تزوَّدَه. ويؤيِّدُه ما عند أبي داود، أنَّ رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلّمالزاد، فقال: «زوّدك الله التقوى». وإنما أوَّل به السيوطي، لأن تعليل قوله: (وتزودوا) بقوله: (فإنَّ خيرَ الزِّاد التقوى) بظاهره غيرُ مستقيمٍ.
قلتُ: حرف «إن» في كلامهم لا يجيءُ بمعنى العلة المنطقية، بل لمجردِ التناسُبِ بين الأمرين. والتناسُب بين الزَّادين ظاهرٌ، فالمقصود منه الأمر بهذا وهذا. أي تزوّدوا للحج واتقوه أيضًا، فأبرَزَه في شاكلةِ التعليل، لا أنه تعليل منطقي، فإنَّ المقصودَ فيه لا يكون إلا أمرًا واحدًا، والتعليل يكون لتقريره فقط. وههنا المقصود أمران، وقد فصلنا الفرقَ بينهما في رسالتنا «فصل الخطاب»، فإنهم حَمَلوا قوله صلى الله عليه وسلّم «فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ»... إلخ، على التعليل المنطقي، فناقض أوَّلَ الحديث آخره، وكان محل «إن» لمجرد التناسب، ولكنهم لم يحملوه عليه. ثم قيل: إن الظاهر: التقوى خير الزاد، مكان (خير الزاد التقوى)، فراجع للفرق بينهما كلامَ الزَّمَخْشَري.
صحيح البخاري
باب ُ مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلحَجِّ وَالعُمْرَة
قد علمت أنَّ المصنفَ لم يفرق بين ميقات الحج وميقات العمرة، ولا شيءَ عنده غير العمومات، وقد علمت المسألة عندنا.
(4/201)
---(4/197)
1524 - قوله: (ممن أراد الحج والعمرة) تمسك به الشافعية على أن الإِحرام إنما يجبُ على مَنْ دخل مكة معتمرًا أو حاجًا، أما مَنْ لم يردهما، بل أرادَ التجارةَ أو غيرها، فليس عليه إحرام. ويجبُ عليه الإِحرام عندنا مطلقًا، لأنه لتعظيم البقعة المباركة، فيستوي فيه الحاجُّ وغيره، فكأن الإِحرام عندنا لازمٌ لمن دَخَلها. وأما عند الشافعية فموقوفٌ على إرادته إحدى العبادتين. وقوله: «فمن أراد الحج والعمرة» نص لهم.
قلنا: إن التمسك به يتوقف على مقدمةٍ أخرى، وهي كون تلك الإِرادة غير لازمةٍ عليه، فإن قلنا: إن إرادة إحدى العبادتين واجبةٌ عليه، فلا تمسُّك لهم فيه. وقد علمت أن وِزانَه وِزانُ لفظ الخير، وهذا يستعمل في الفرائض أيضًا، ولا دليل في لفظ الإِرادة فإِنها كما تكون في المُستحبَّات تكون في الفرائض. فإنَّها مما لا بد منه في جميع الأفعال الاختيارية.
وبعبارة أخرى نقول: إن مَنْ مرّ بالمواقيت يجبُ عليه أن يريدَ إحدى العبادتين عندنا، وعند الشافعية هو مخيّر، إن أراد أن يفعل فعل، وإلا لا. وفهموا أنَّ الحجَ والعمرة إذا توقف على إرادته لا يكون واجبًا أصلا. قلنا: إنما يتم ذلك لو ثبت أن الإِرادة لا تُستعملُ إلا في الجائزات، وليس بثابتٍ، فإنَّها تُستعمل في الواجبات، كلفظ الخير. وليس مرادُنا من الأفعال الاختيارية ما هي في اختيارنا من جهة الشرع، فإنَّ الواجبات تجبُ علينا، ولكن المرادَ منا الاختيارية لغةً ولا شك أن الواجبَ الشرعي أيضًا اختياري بحَسَب اللغة، بمعنى أن الوجوبَ لا يَسلُبُ الاختيار عن المكلف.
(حيلة لدخول مكة من غير إحرام)
(4/202)
---(4/198)
ثم إنَّ المسألةَ عندنا في الآفاقي، أما من كان يسكن داخل الميقات، فله أن يدخُلَها بدون إحرام لرفع الحرج عنه، وهذه هي الحيلةُ لمن أراد أن يدخلَ مكة بدون إحرام، أن ينوي عند مروره بالميقاتِ موضِعَا في داخل الميقات، ولا ينوي البيت، وحينئذٍ لا يجبُ عليه الإِحرام، لأنه لم ينو الموضعَ الذي يجبُ عليه الإِحرام لأجله، فإذا دخله يلحقُ بأهله، فيكونُ له حكم داخلِ المواقيت، ويسقط عنه الإِحرام. ثم المسألةُ فيمن يقعُ في طريقه الميقاتان، أن يحرم من أولاهما، فإن أحرم من الثانية له ذلك، ولا يجبُ عليه شيءٌ بمرورِ أوْلى الميقاتين بدون إحرام، ولم أجد تلك المسألة إلا عند محمد في «موطئه» فليحفظ.
صحيح البخاري
باب ُ مِيقَاتِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَلا يُهِلُّونَ قَبْلَ ذِي الحُلَيفَة
صحيح البخاري
باب ُ مُهَلِّ أَهْل الشَّأْم
صحيح البخاري
باب ُ مُهَلِّ أَهْلِ نَجْد
واعلم أن المواقيتَ عند فقهائنا على نحوين: ميقاتٌ زماني، وميقاتٌ مكاني. أما الأول: فهو أشهر الحج. وأما الثاني: فما فصَّلُوه من البُقَع. وقالوا: لا يُقدَّمُ الإِحرام على الأول، ويستحب له أن يُقدِّمه على الثاني. فيستحب أن يُهل أهل المدينة قَبْلَ ذي الحُلَيْفة، فإنها ميقاتهم، وأنكره البخاري، ولذا قال: لا يهلوا قَبْلَ ذي الحُلَيْفة، وإنما خصَّصَ أهلَ المدينة بالذكر مع كون المسألة عامةً، لكون ميقاتهم أقربَ المواقيت، فإذا وجبَ عليهم أن يخرجوا إلى ميقاتهم ويُهلوا منها، فغيرهم ممن كانت مواقيتهم على بعد، أولى أن يُحرموا منها.
(4/203)
---(4/199)
قلتُ: أما المسألة في أهل المدينة خاصة، فينبغي أن تكون كذلك عند الحنفية أيضًا، وأرجو أن لا تكون خلافًا لمسائلهم، فإنَّ أهلَ المدينة لما كان ميقاتُهم أمامَهم، فلا حاجة لهم إلى تقديم الإِحرام، مع أن في إحرامِهم بميقاتهم تأسي بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم بخلاف غيرهم، فإنَّ لهم في التقديم عملا بالعزيمة، وتماديًا في الإِحرام، مع أنه لا يلزمُ عليهم مخالفةً للسنة أيضًا، فافترقا.
صحيح البخاري
باب مُهَلِّ مَنْ كانَ دُونَ المَوَاقِيت
وقد مر أنَّ إطلاقَ الحديثِ يقتضي التسويةَ بين مُهَلِّ الحج والعمرة، وإنما قلنا بالفرق بينهما لما قام عندنا من الدليل عليه من الخارج.
صحيح البخاري
باب مُهَلِّ أَهْلِ اليَمَن
قد علمتَ من عادة المصنفِ، أنَّ الحديث إذا كان عنده بطرقٍ عديدة، يُخرجْه مرةً بتراجمَ عديدةٍ وفوائدَ جديدة.
صحيح البخاري
باب ذَاتُ عِرْقٍ لأَهْلِ العِرَاق
قوله: (فانظروا حذوها من طريقكم)، دلّ على جوازِ الإِحرام إذا مرّ بحذائِها، ولا يشترط المرورُ عليها خاصة.
صحيح البخاري
باب
واعلم أنَّ الشجرةَ صارت اسمًا بالغلبةِ لذي الحُلَيْفة. ويقال لها الآن: بئر على. وهذا غير علي بن أبي طالب. ولفظ الراوي يُشعرُ بالتغاير بين الشجرة، وذي الحُليفة. ثم المُعَرَّسُ موضعٌ قريب منها، ولكن لا تتميزان لاندِراس الرسوم والمعالم. والذي يُظن أن أولها ذو الحُلَيْفة، ثم المُعَرَّس، ثم العقيق - وادي - . وتلك المواضعُ كلها متقاربةٌ، كما ذكره السَّمْهُودي في «الوفا».
(4/204)
---
ثم اعلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمخرج من المدينة يوم السبت بعد الظهر، لخمسٍ بَقَيْنَ من ذي القعدة، وكان الشهر تِسعًا وعشرين، ودخلَ مكةَ يوم الأحد، لأربع ليالٍ خَلَونَ من ذي الحجة، فتلك تسعة أيام. وبعد حذفِ يومي الدخولِ والخروج، تبقى سبعة أيام، لسفره صلى الله عليه وسلّم
صحيح البخاري(4/200)
باب ُ خُرُوجِ النبي صلى الله عليه وسلّم عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَة
صحيح البخاري
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «العَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ»
1534 - (قل: عمرة في حَجّة)، وهذا نصٌ للحنفية أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان قارنًا من أول إحرامه، فإنَّ وادي العقيق عند ذي الحليفة، وهي ميقات أهل المدينة.
وبالجملة قد ثبت قِرَانُه صلى الله عليه وسلّمثبوتًا لا مردَّ له، وإنما اختلف الصحابة في نقل حجه صلى الله عليه وسلّم لأنه كان معاملةَ ألوف من الصحابة، فنقل كلٌّ منهم حَسَبَ ما سمع من تلبية النبي صلى الله عليه وسلّم وأنت تعلَمُ أن القارن له أن يُلبي كيف شاء. فمن سمع منه: لبيك بحجة زَعَمَ أنه مفرد، وأصاب حَسَب زعمه، وكذلك من سمع: لبيك بعمرة، ظنَّ أنه متمتِّع، والأمر ما قررنا. وإنما لم نبسط في إثبات قِرَانه صلى الله عليه وسلّم لأنَّ علماءَ المذاهب الأربع، كادوا أن يتفقوا على ذلك، بل قد اتفقوا مع اختلافٍ بينهم، في أنه كان معتمرًا في أول أمره، ثم قَرَن، أو كان قارنًا من أول الأمر. وراجع «الطحاوي» فإنَّه قد بَسَطَ الكلامَ في المسألة بما لا مزيد عليه. ونقل القاضي عِيَاض أنَّه صنف في إثبات قِرَانه صلى الله عليه وسلّمألفَ ورقةٍ. وأرى أنَّ للمالكيّة اعتناءً بتصانيف الطحاوي أزيدَ من الحنفية.
صحيح البخاري
باب غَسْلِ الخَلُوقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثِّيَاب
(4/205)
---
واعلم أنَّ الخَلُوق اسم لنوع من الطيب، يُجعل فيه الزعفران، والزعفرانُ مباحٌ أكلا، ومحرم تطيُّبًا لأجل اللون، لا أريد للمحرم، بل للرجل في سائر أحواله. ثم إنَّ من تطيَّبَ قَبْل الإِحرام، وبقي أثره، أو عينُه بعده جاز عندنا، وإنما محذورُ إحرامه أن يتطيَّبَ بعد الإِحرام بخلاف اللباس، فإنَّ المحظورَ منه محظورٌ ابتداءً وبقاءً. وقالت المالكية: إن الباقي إن كان أثرًا للطيب، فجائزٌ، وإن كان عليه فلا.(4/201)
1536 - قوله: (وهو متضمخ بطيب)، وهو محمولٌ على طيب الإِحرام، فإنه لا بأس بالتضمخ بطيبٍ قبل الإِحرام على ما علمت. وقد كان يختلجُ في صدري أن العربَ كانوا يحجون من زمن الجاهلية، ولم يُعلم من حالهم التفريطُ في أمر الحج، نعم، كان فيهم بعض تعمق وإفراط، حيث كانوا يطوفون بالبيت عُراةً، زعمًا منهم أن الطوافَ إنما يليق في ثياب لم تتلوث بمعاصيهم، فإذا كان حالهم هذا، فكيف فَرَّط هذا الرجل، وتطيِّبَ في الإِحرام؟ ثم رأيتُ في كلام القاضي أبي بكر بن العربي: أنهم كانوا يُفرِّطون أيضًا، لكنه كان في العمرة دون الحج. وذلك لكونها من أفجر الفجورِ في زمنِ الحج عندهم. والله تعالى أعلم بالصواب.
1536 - قوله: (وهو يغط) - لمبى لمبى سانس لى رهى تهى.
1536 - قوله: (وانزع عنك الجبة)، وقد علمتَ أن الثوبَ المخيطَ من محظوراتِ الإِحرام، ابتداءً وبقاءً.
صحيح البخاري
باب ُ الطِّيبِ عِنْدَ الإِحْرَامِ وَما يَلبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجّلَ وَيَدَّهِن
صحيح البخاري
باب مَنْ أَهَلَّ مُلَبِّيا
صحيح البخاري
باب ُ الإِهْلالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الحُلَيفَة
(4/206)
---
لعله أشارَ إلى مُوَافقةِ الحنفية والشافعية في مسألة التَّطيُّبِ قبل الإِحرام. أما الشَّمُّ فهو مكروهٌ عندنا، ويُجاز للتداوي. وكذا يجوزُ شدُّ الهِمْيَان، ولبس المخيط على غير هيئتِهِ، كما إذا ارتدى بالقميص. ولا يجوزُ عندنا التطيب بالزيت، لكونه أصلَ الطيب، وإن جاز أكله.
1537 - قوله: (وكان ابن عمر)... إلخ، فلم يكن يستعمل الطيب قبل الإِحرام، ولا بعدَه. فمذهبُه أضيقُ من مالك أيضًا، ومذهب إبراهيم كمذهبنا.
1537 - قوله: (كأني أنظر إلى وبيص الطيب)... إلخ، دل على جواز بقاءِ جِرْم الطيب بعد الإِحرام.(4/202)
1538 - قوله: (كنت أطيب)... إلخ، استدل منه النووي على أن «كان» لا تستدعي الاستمرارَ، لكونها واقعةً واحدةً ههنا. وقال الشيخ ابن الهُمَام: إنه كذلك سيما إذا كان خبرُه مضارعًا. قلتُ: وهو صحيح لغةً، غير أنه في العرفِ للاستمرار، وهو مستقيمٌ ههنا أيضًا بحذف فعلِ الاتصاف، ولا ريب أنَّ اتصافها بذلك دائمٌ.
قوله: (ولحله قبل أن يطوف)... إلخ، قيل: إن المحلل عندنا هو الحلق. وإنِّما يظهرُ تحليله في حق الجِماع بعد طواف الزيارة.v
وقيل: بل المحلل اثنان: الحلق، والطواف؛ فالأول: محللٌ لجميع المحظورات غير الجماع؛ والثاني: محللٌ للجماع. وكيفما كان يَحِلُّ له بعد الحلق كل شيء، إلا الجماع. وقيل: إلا الجماع، والطيب، وهو رواية شاذة.
صحيح البخاري
باب ُ ما لا يَلبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَاب
صحيح البخاري
باب ُ الرُّكُوبِ وَالارْتِدَافِ في الحَج
وذكر ضابطةً في «كتاب المناسك» أنَّ كل ثوبٍ مخيطٍ مُستَمسِكٍ على الجسد إذا لُبس بطريقه المعروف، كانت جنايةً عندنا.
(4/207)
---
1542 - قوله: (ليقطعهما أسفل من الكعبين)، وهو واجبٌ عند الثلاثة، ومستحبٌ عند الحنابلة، لأن بعض الرواة لم يذكروه. قلنا: إنه ساكت، فيحمل الساكت على الناطق. ثم الكعبَ في الحج هو العظمُ النابتُ في وَسَط القدم، وخَلَطَ من نقله في الوضوء.
1542 - قوله: (مسه الزعفران)، قال الحنفية: إن المحظور في الإِحرام هو الطيب، وفي الإِحدادِ اللون، وإنما يُكره الطيبُ فيه لأجلِ الزِّينة.
قوله: (لا يحك جسده)، وهو جائز عندنا.
قوله: (ويلقي القمل)، وهكذا عندنا، ويتصدَّق فيه دون البَقِّ، لكون القملِ متولدةً من جسد، دون البق. ثم اعلم أنه يجوزُ له لُبس السراويل بعد فتقِهِ، وإلا تكون جنايةٌ، فإِن لبسه عند الحاجة وجب عليه الدم، ولا يأثم، وهذا من خصائص الحج، أن المعذورَ يرخصهُ الشرعُ بأشياء، ثم يوجِبُ عليه الدم، كحلق الرأس عند التأذِّي، هكذا ذكره الطحاوي.(4/203)
صحيح البخاري
باب ُ ما يَلبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ وَالأَرْدِيَةِ وَالأُزُر
قوله: (الثياب المعصفرة)، ونهى عنها الحنفية أيضًا.
قوله: (ولا تتبرقع) إذا مس وجهها، أما إذا كان مُجَافيًا لا يمسُّ وجهها، فلا بأس به.
قوله: (بالحليِّ)، وهي مكروهةٌ تنزيهًا عندنا، كما في «البدائع»، ويشهد له حديث أبي داود، غير أنه اختُلف في وقفه ورفعه، وجنح المصنف إلى وقفه. وعمل به الحنفية، فحملوه على الكراهة تنزيهًا.
1545 - قوله: (انطلق النبي صلى الله عليه وسلّممن المدينة بعدما ترجّل، وادّهن، ولبس إزاره، ورداءه)... إلخ، هذا بيان لإِعداده للإِحرام، ولم يكن أحرم بَعدُ، لأنه جامَعَ بعدَه. ولبس الإِزارِ، والرداء لم يكن لكونه مُحرِمًا، بل لكون ذلك لباس العرب. وإنما يتبادَرُ منه الإِحرام، لكونه لُبْسة المحرم في عرفنا.
(4/208)
---
1545 - قوله: (إلا المزعفرة)، قال الطحاوي: إن المزعفرة إذا لم ينفض اللونَ جاز، واستدلَ بروايةٍ فيها يحيى بن حميد الحماني، وهو الأزدي، من علماء الكوفة، وكان يحيى بن مَعِين يوثقه حتى الموت، وتردد فيه بعضهم، ولعله لا ذَنْب له: غير أنه حنفيٌ، وإن من الذنوب ما لا يغفَرُ عند بعضهم.
واعلم أن الراوي لم يتعرض إلى طَوَافه صلى الله عليه وسلّمالنَّفل، مع ثبوته في الخارج، لأنه كان بالليل. وإنما لم يَطُف النبي صلى الله عليه وسلّمبالنهار، مع كونه أفضل العبادات في تلك البقعة الشريفة، مخافةَ أن يقعَ الناسُ في مَغْلَطة.(4/204)
مسألة: قال الحنفية: إن الحاج يقطعُ التلبيةَ عند رمي الجمار. والظاهر أنَّ التلبيةَ لما كانت للبيت، ينبغي أن تنقطعَ عند البيت. قلتُ: والسِّر في ذلك أن التلبيةَ إعلانٌ بالإِجابة والحضور. وذا لا يناسبُ له، وهو قائمٌ بين يدي الجِمار، فناسب قَطْعَها عندها، فإذا انقطعت عندها لهذا المعنى انقطعت بعدها رأسًا، على أن معاملة المحرم إلى الجمار كانت مع الجماعة، ثم صارت أحاديًا وانفراديًا، فيأتي بها الحاجُّ متى شاء، مع الجماعة أو قبلها، أو بعدها، فانقطعت تلبيتُه أيضًا.
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ بَاتَ بِذِي الحُلَيفَةِ حَتَّى أَصْبَح
فكأنه من المُستَحَبَّات، ولم يعدها الحنفية مُستحبًا.
صحيح البخاري
باب ُ رَفعِ الصَّوْتِ بِالإِهلال
والرفعُ مطلوبٌ بشرطِ التحرُّزِ عن الإِفراط.
1548 - قوله: (سمعتهم يصرخون بهما جميعًا)، وهذا حالُ بعض الصحابة، وفيه حجةٌ للحنفية على ما لا يخفى.
صحيح البخاري
باب التَّلبِيَة
(4/209)
---
واعلم أن الإِحرامَ عندنا قوليٌّ وفعليٌّ. ونعني بالقوليَّ التلبية، فإِذا لبىَّ ناويًا. فقد أحرم، وبالفعلي أن يسوقَ الهدْي ناويًا، فعلم أن المرء لا يصير مُحرمًا بمجرد النية، ما لم يقترن معها قولٌ، أو فعل مخصوص بالحج. ثم لا يُشترط ذكر النسك أو النسكين في التلبية، بل كفى له النية. وصرَّح علي القاري أنّه يُستحب الوقوفُ في كلمات التلبية في أربعة مواضع: لبيك اللهم لبيك، لبّيك لا شريكَ لك لبيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والملك، لا شريكَ لك.
والأفصحُ فيها: «إن» بالكسر، كما هو مروي عن محمد، ورُوِي عن أبي حنيفة الفتح. وهو مخالفٌ للذوق، فاغتممتُ لها حتى رأيت في «الكشاف» أن فيه روايتين عنه - الفتح، والكسر - فعلمتُ أن الفتحَ محمولٌ على الجوازِ، والكسرَ على الاختيار؛ وحينئذ زال الاضطراب. والأولى أن لا يزيدَ على تلك الكلمات، وإن أبى إلا أن يفعَلَها، ففي آخرها، كما رُوِي عن ابن عمر.
صحيح البخاري(4/205)
باب ُ التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ، قَبْلَ الإِهْلالِ، عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّة
صحيح البخاري
باب ُ مَنْ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَة
صحيح البخاري
باب ُ الإِهْلالِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَة
ولا يمنعُ الحاجُّ عن الأذكار كلها، وإن كان الفضلُ في الوظيفةِ الوقتية، وهي التَّلبية.
1551 - قوله: (ثم أهل بحج وعمرة)، وفيه حجةٌ صريحة للحنفية.
1551 - قوله: (وأهل الناس بهما)، وفيه توسع. والمعنى أنَّهم أهلُّوا بهما، ولو بتخلُّلِ حِلَ.
(4/210)
---
قوله: (ونحر النبي صلى الله عليه وسلّم، واعلم أن بَدَنات النبي صلى الله عليه وسلّمالتي كان أهداها ثلاثٌ وستون؛ وجاء عليٌّ بسبعٍ وثلاثين، فتلك مئة. والنُّكْتة في العدد المذكور أنَّ ذلك كان عُمُر النبي صلى الله عليه وسلّمفأهدى من كل سنة بَدَنة، ولعل عليٌّ نحر منها ثنتين وثلاثين، وأظن أن ذلك عُمُره، بقيت منها خمس، فنحرها النبي صلى الله عليه وسلّمفي وقت آخر، وهي التي ذكرها الراوي ههنا. وحينئذٍ لا حاجةَ إلى إعلال رواية أبي داود: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمنحر خمسًا منها، فإِنها كانت من بَقَايا هَدَايا عليَ، نحرها في مجلس آخر.
1551 - قوله: (وذبح رسول الله صلى الله عليه وسلّمبالمدينة كبشين)، وهذه قِطعة من حديث آخر في الأُضحية، ولا تعلقَ لها بحديثِ الحج.
صحيح البخاري
باب ُ التَّلبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ في الوَادِي
1555 - قوله: (مكتوب بين عينيه: كافر)، تردد الشيخُ الأكبر في صورة ما يكون بين عيني الدَّجَال، هل هي بصيغة الماضي أو بصيغة اسم الفاعل؟ قلتُ: وفي تلك الرواية دليل الثاني.
1555 - قوله: (وأما موسى)... إلخ، والسرُّ فيه أنه عليه الصلاة والسلام لعله لم يحجّ في حياته، وكذا عيسى عليه السلام، ولذا يحجُّ بعد نزوله. وقد ثبت حج أكثر الأنبياء عليهم السلام. ثم تلك الوادي هي: الأزرق.
(4/211)
---(4/206)