فيض البارى شرح صحيح البخارى 1
محمد أنور شاه الكشميري
المحدث الكبير والفقيه المحقق الحجة المولود سنة 1292 والمتوفى سنة 1352 رحمه الله تعالى
كتاب بَدْءِ الوَحْي
باب كَيفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم
الحمد لله رب العالمين والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
قال الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المُغِيْرة بن بَرْدِزْبَه الجُعْفِي البُخَاري رحمه الله تعالى:
(بسم الله الرحمن). وليُعْلم أن حديث: «كل أمر ذي بال».. إلخ، اضطربت فيه الألفاظ الواردة، بعضها: «باسم الله»، وبعضها: «بحمد الله». وخَالَ بعضُهم التعارض، وظن اختلاف الألفاظ اختلاف الحديث. والحال أن الحديث واحد، ومع اضطراب كلماته حسَّنه الحافظ الشيخ أبو عمرو بن الصَّلاح، وهو شيخ الإمام النووي، دقيقُ النَّظر، واسع الاطِّلاع، وليس صاحبه النووي مثله في الحديث. فالعمل بالحديث إما بصورة الجمع، فيراد ذكر الله، ويؤيده ما ورد في رواية: «بذكر الله»، وإما يرجَّح اللفظ الأول، لأن أول ما نزل من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ}، فالتَّأسي به يحصل بالشروع بالبسملة، وأيضاً يؤيده افتتاح كُتُب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الملوك، وكُتُبِهِ في القضايا بالبسملة. وراجع «الفتح» و «العمدة» للتفصيل.
وبالجملة: فلا إيراد على الإمام البُخاري في افتتاحه الصحيح بالتسمية دون التحميد، وما يُذكر من حمل الابتداء بالحقيقي في لفظ، وبالإضافي في لفظ، أو العرفي، فلا يُعبأ به، لأن مدارَ ذلك على تعدُّد الحديث. وذِكَرُ الاحتمالات التِّسْعةِ من بين صحيح وباطل ههنا كلها من سَقْط الكلام.(1/1)
(باب): لفظُ الباب مضاف. أو مبني كمَثْنَى وثُلاث. قال الرَّضِيّ: إن المفردات على سبيل التوارد مبنية. وقد عَلِمت من عادات المصنِّف رحمه الله تعالى أنه يُصدِّرُ الأبواب بصيغة السؤال، ولا يجيب عنه، بل يوجه النَّاظر إلى الحديث ويكون الجواب فيه.
(بَدْء): مهموز، وقيل: بدو، بمعنى الظهور، والأول أولى، لما في بعض النسخ: «كيف ابتداء الوحي» ولأنه نظير قوله فيما بعد: «بَدْء الأذان» و «بدء الحيض»، فهذا بَدء الوحي على شاكلة أخويه. واعتُرضَ عليه، أنه لو قال: كيف كان الوحي؟ لكان أحسن، لأنه تعرض فيه لبيان كيفية الوحي مطلقاً، لا لبيان كيفية بدء الوحي فقط. وأجاب عنه شيخ الهند رحمه الله تعالى أن البدء ههنا عام، سواء كان زمانياً، أو مكانياً، أو باعتبار صفات المَوْحَى إليه، فيدخل فيه سائر ما يتعلق بالوحي، وجواب آخر للشاه ولي الله رحمه الله تعالى فراجعه من تراجمه.
وما سنح لي بعد الإمعان في صنيعه، والنظر إلى نظائره، كبدء الأذان وبدء الحيض، أن البَدء عنده لا يختصُ بالحصة الابتدائية، بل يعتبر مما يضاف إليه لفظ البدء بما فيه من أحواله أولاً، ثم يضاف إليه لفظ البدء ثانياً، ثم يُسأل عنه أن بدء هذا المجموع كيف كان؟ وحينئذٍ فيندرج تحته جميع أحواله، وهكذا فعل المصنف رحمه الله تعالى فيما بعد أيضاً. فقال: «بدء الأذان، وبدء الحيض»، ثم لم يقتصر على أول الحال فقط، بل ذكر حالهما من الأول إلى الآخر، ففهمت من صنيعه أنه لا يريد من لفظ البدء البداية في مقابل النهاية، بل بدؤه بعد أن لم يكن، ووجوده من كَتْم العدم، فهو سؤال عن هذا الجنس بتمامه، أنه كيف بدأ؟(1/2)
فالحاصل: أن معناه، السؤال عن جنس الوحي، وجنس الأذان، وجنس الحيض، أنه كيف جاء من كتم العدم إلى ساحة الوجود؟ وحينئذٍ معناه كونه بعد أن لم يكن، لا بدايته قبل نهايته، وهذا التصرف في لفظ البدء مستفادٌ من كلام المصنف رحمه الله تعالى نفسه، لا أني تصرفت في كلامه، وصرفته عن ظاهره.
وبعبارة أخرى، معناه: كيف بدأت تلك المعاملة مع المخلوقات؟ ولك أن تقول: إن بدء الوحي مقصود بالذات، وبقاءه مقصود بالتبع. أما معنى الوحي فسيجيء الكلام فيه عن قريب.
ولعمري أن المصنف رحمه الله تعالى أبدع في بدء كتابه، فصدَّره بالوحي على خلاف دأب المصنفين رحمهم الله تعالى، إشارة إلى أن أول معاملة العبد مع ربه إنما تقوم بالوحي، ثم بالإيمان، ثم بالعلم، ثم بسائر الأعمال، كما قال تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَبُ وَلاَ الإِيمَنُ} الآية (الشورى: 52) ثم علَّمَه ما علمه بالوحي، فهو مقدمه للإيمان والأعمال، فهو مقدمٌ طبعاً، فلا بد أن يكون مقدَّماً وضعاً.
(وقول الله عزَّ وجل) أراد به التوجيه إليه، والرعاية له والاستيناس منه، دون الاستدلال به. ثم اعلم أن المصنف رحمه الله تعالى ربما يذكر قطعة آية ولا يذكرها بتمامها. ويكون مقصوده في اللاحق أو السابق، فيتحير هناك الناظر، حيث لا يرى لها مناسبة بالمقام، فاعلم ولا تغفُل. وإنما انتخبها المصنف رحمه الله تعالى من بين سائر الآيات لكونها أبسط آية في باب الوحي، والغرض منه بيان مبدأ الوحي، أنه هو سبحانه وتعالى، وأنه إذا كان مبدأ هذا الوحي هو مبدأ وحي نوح عليه السلام والنبيين من بعده، فوجب لأهل الكتابين أن يؤمنوا به كما آمنوا بوحيهم، وأنه لما كان مبدؤهما واحداً، فإنكار هذا الوحي كأنه إنكار لوحيهم أيضاً.(1/3)
وقوله تعالى: (كما أوحينا) بيان سنة، أي إيحائنا سنة قديمة من لَدن نوح إلى يومنا هذا، وليس بأمر جديد ليتوحش منه متوحش، ويتأخر عنه متأخر. وإنما خص نوحاً بالذكر، ولم يذكر آدم عليه السلام، لأن الوحي قبله كان في الأمور التكوينية، ولم يكن فيه كثير من أحكام الحلال والحرام، كما ذكره الشاه ولي الله رحمه الله في رسالته: «تأويل الحديث».
وذكر الشاه عبد العزيز رحمه الله تعالى: أنه لما هبط آدم عليه السلام من الجنة أعطي بذوراً للزرع، وأكثر أحكامه كانت من هذا القبيل، ثم تغيرت شاكلته من زمن نوح، فنزلت الأحكام والشرائع، كما يُعلم من التفاسير، أن الكفر إنما ظهر في السِّبط السادس من قابيل، وأول رسول بعثه الله تعالى لِزَهْقِهِ هو نوح عليه الصَّلاة والسَّلام ولم يكن قبله كفر، ومن ههنا صار لقبه: «نبي الله» فإنه أول نبي بعث لإزهاق الكفر، والناس كلهم الآن من نسلِهِ، فهو آدم الثاني، ومنه نُشر العالم من بعد لفه، كذا ذكره المؤرخون.
ثم إنه لما بُعث ودعا الناس إلى التوحيد ولم يؤمنوا به، وكان من أمره ما كان، واستقر فُلْكُه على الجُوْديِّ، نزلت الشريعة وبعض من الحلال والحرام. فعند النَّسائي من كتاب الأشربة من الطِّلاء - ما يدل على بعض أحكام شريعته عليه الصَّلاة والسَّلام - عن أنس بن سيرين. قال: سمعت عن أنس بن مالك يقول: إن نوحاً صلى الله عليه وسلّم نازعه الشيطان في عود الكَرْم، فقال: هذا لي، فاصطلح على أن لنوح ثلثها وللشيطان ثلثيها.
وإن نوحاً قد كان وضع عود الكَرْم، ومن كل حيوان زوجين حين ركب الفُلْك وطغى الماء، فإذا استوت سفينته ونزل منها نازعه الشيطان في عود الكرم وادّعاه لنفسه، فإن الخمر يتخذ منه، ثم انفصل الأمر كما في الحديث.(1/4)
قلت: وهو يفيدنا في جواز المُثَلث من الأشربة، فإن الثلث صار لنوح عليه الصلاة والسلام، فيكون حلالاً البتة، وصار الثلثان للشيطان فإن بقي فيه شيء من الثلثين لم يحل، لكون حظ الشيطان باقياً، فإذا ذهب ثُلثاه بقي حق نوح عليه الصَّلاة والسَّلام فيكون حلالاً. قال ابن رشيد في «التهافت»: إن تعليم القيامة لم يكن قبل التوراة: أقول: بل هو مدار النبوة، وأساس الأديان السماوية، وشرائع الأنبياء، فلا بد أن يكون تعليمه من بدء الأمر، فإن الشريعة وإن اختلفت، إلا أن أصولها لم تختلف قط. وفي التفاسير: إن حرمة الخنزيرة كانت من زمن آدم عليه السلام. نعم تحتاج أمثال هذه النقول من المفسرين إلى الانتقاد، فكيف بالقيامة واعتقاد حقيتها، فإنها من أصول الدين؟
شرحُ الحديث على نحو ما قالوا
واعلم أن الحديث تكلموا عليه قديماً وحديثاً، وهو من أساس الدين، حتى رُوي عن الشافعي رحمه الله تعالى: أنه يدخُلُ فيه نصف العلم. ورُوي عن أحمد رحمه الله تعالى: أنه ثُلث الإسلام، أو ثُلث العلم. وقيل: ربعه كما قيل:
*عُمدة الخيرِ عندنا كلماتٌ ** أربعٌ قالهنَّ خيرُ البريه
*اتق الشُّبْهات، وازْهَد، ودع ما ** ليس يَعْنِيْك، واعمَلَنَّ بنيه
ونسبهما علي القاري رحمه الله تعالى إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وهو سهو منه، بل هما لشاعر آخر كما يُعلم من شرح «عقود الجمان» للسيوطي رحمه الله تعالى.
ثم الحديث مروي عن إمامنا أبي حنيفة أيضاً في «مسنده» بلفظ: «الأعمال بالنيات» رواه عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التَّيمي، عن علقمة، عن أبي وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «الأعمال بالنيات».. إلخ. ورواه بهذا اللفظ ابن حبان في «صحيحه»، والحاكم في «أربعينه»، وصححه.(1/5)
واقعته: ما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن ابن مسعود رضي الله عنه: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أُمُّ قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر فتزوجها. قال: فكنا نسميه: مهاجرَ أم قيس.
قال ابن دقيق العيد: لم يُصنِّف أحد في شأن ورود الأحاديث، إلا ما بلغني عن أبي حفص العُكْبَري، أنه صنف في هذا الموضوع شيئاً، ولو فعله أحد لنفع جداً.
وإنما لم يقل: «الأفعال بالنيات» لأن بين العمل والفعل فرقاً، فالعمل ساختن والفعل كردن يعني أن العمل فيما يتمادى ويطول، بخلاف الفعل، ولذا قال: {وَاعْمَلُواْ صَلِحاً} (المؤمنون: 51) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ} (البقرة: 277). ولم يقل: افعلوا وفعلوا، دلالة على الدوام والاستمرار.
ذكر الكلام في الفرق بين النِّيَّة والإرادة
واعلم أنَّ المعتبر في الإرادة هو إصدار المراد، ولا يعتبر فيه غرضٌ للمريد، بخلاف النية، فإنها يعتبر فيها غرض، ولذا لا يكاد يُتْرك معها ذكر الغرض، فيقال: نويت لكذا، بخلاف الإرادة، فإنها تُستعمل بدون ذكر الغرض أيضاً، فيقال: أراد الله سبحانه، ولا يجب معه ذكر الغرض، ولذا لا يقال: نوى الله، بل يقال: أراد الله.
أقول: حاصله أن النية لما اعتُبر فيها الغرض، فلو أطلق لفظ النية في جنابه تعالى لأوهم تعليل أفعاله بالأغراض، مع أنهم قالوا: إن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض وقد مر منا تحقيقه في المقدمة، وأنه لا استحالة في كون أفعاله تعالى معللة بالأغراض، وأن ما زعموه في إبطاله باطل. نعم، لما استعمل الإرادة في لسان الشرع دون النية اقتصرنا في الإطلاق على ما ورد به الشرع، ورأينا التحرُّز عما لم يَرِد به الإطلاق أولى. وكذا حجروا على إطلاق العزم فيه تعالى، وقد وقع في مقدمة مسلم، وجوَّزَه التِّبَرِيزي، والله تعالى أعلم.(1/6)
واعلم أنهم تكلموا على هذا الحديث، وأطالوا فيه الكلام من الجانبين، وحَمَلَهُ كلٌّ على مسائله، وجرَّه إلى مختاراته. ولما لم يكن فيه بُدٌّ من التقدير، إذ لا معنى لكون ذوات الأعمال بالنيات، لثبوتها حِساً وصورة من غير اقتران النية بها، فمنا من قدَّر الثَّوار بدليل قوله فيما بعد: «فهجرته إلى الله ورسوله» وهذا هو الثواب، ومنا من قدَّر الحكم كشارح «الوقاية»، فمعناه عندنا: ثواب الأعمال أو حكم الأعمال بالنيات، على اختلاف التقديرين. وقدر الشافعية الصحة، لأن متعلَّقات الظروف لا تكون إلا من الأفعال العامة، والصحة منها، فإن الثواب بعد الصحة، فمعناه عندهم: صحة الأعمال بالنيات. وعلى هذا فالأعمال عند عدم النيات تصير خالية عن الثواب عندنا وباطلة عندهم. ثم بنوا عليه اشتراط النية في الوضوء.
أقول: وكلام شارح «الوقاية» وإن كان أولى من غيره، إلا أنه خلاف الوجدان. أما تقدير الثواب والصحة فلا يصح عندي.
أما الأول: فلأن تقدير الثواب يؤدي إلى تخصيصين في الحديث: الأول بالدار الآخرة، فإن الثواب والعقاب من أحكام الآخرة. والثاني: تخصيصه بالطاعات فقط، لأنها هي التي يثاب عليها.
بخلاف المعاصي، فإنها يعاقب عليها، فلو قلنا: ثواب الأعمال بالنيات، يقتصرُ الحديث على أحكام الآخرة، ثم على الطاعات. وأحكام الدنيا والمعاصي تخرج عن قضية الحديث ومدلوله، ولا تُبقي له علاقه بها، مع أن الحديث عام قطعاً، فإن المعاصي مذكورة في آخر الحديث صراحةً كما قال: «ومن كانت هجرته إلى دنيا».. إلخ فعُلِم أن الحديث لم يَرِدْ في الطاعات فقط. على أن صحة الأعمال والطاعات هي كونها بحيث يترتب عليها الثواب فإذا خلت عن الثواب فقد بطلت، فصار مآل تقدير الثواب والصحة واحداً، فيلزم عليهم ما لزم على من قدَّر الصحة أيضاً.(1/7)
والتزمه المصنفون إلا أنهم رأوا فيه نفعاً يسيراً في الجواب عن مسألة النية، فرضوا بهذا النفع اليسير بالضرر الكثير، واختاروا هذا التقدير مع أنه لا يجدي أيضاً كما سيجيء.
وأما الثاني: أي تقدير الصحة فيؤدي إلى تخصيصين أيضاً: الأول بأحكام الدنيا، فإن الصحة اسم لاستجماع الشرائط والأركان، بحيث يَسْقط الفرض عن ذمته، وكذا البطلان نقيضه، وهما من أحكام الفقه والدار الدنيا، وحينئذٍ يقتصر الحديث على أحكام الفقه والدار الدنيا، ولا يَشْملُ أحكام الآخرة. والثاني أن من الأفعال ما لا يقال فيه: صَحَّ أو بَطَلَ، فإن الصحة تجري فيما فيه جهتان، الحِلة والحُرمة، أما الحرام قطعاً أو الحلال قطعاً فلا يقال فيه: إنه صح أو بطل، مثل من قتل رجلاً أو زنى أو سرق، فلا يقال فيه: إنه صَحّ قلته وزِناه وسرقتُه أو بطل. فيكون الحديث ساكتاً عن هذه الأحكام، مع أنه عام لجميع الطوائف كما علمت. على أن الصحة والبطلان بهذا الاصطلاح من المصطلحات الحادثة، ولا ينبغي أن يُحمل الحديث على مصطلحات الفنون، بل يجري على صرافة اللغة، هذا كلام على شرحهم.
أما الكلام على مسائلهم فقال الحنفية: إن النية لا تُشترط في الوضوء، وقالوا بصحته بدونها. والحديثُ واردٌ عليهم، فقال بعضهم: إن الحديث إنما ورد في العبادات دون القُرُبات والطاعات، ونحن نلتزم أن الوضوء بدون النية لا ينعقدُ عبادة. أما أنه لا يصلح لكونه مفتاحاً للصلاة، فلا يدل عليه الحديث أصلاً.
قال الشيخ زكريا الأنصاري: العبادة يشترط فيها النية ومعرفة من يُتقرَّب إليه. والقُرْبة يُشترط فيها معرفة من يتقرب إليه دون النية، كتلاوة القرآن. والطاعة لا يشترط فيها شيء، كالنَّظر الموصل إلى الإسلام.(1/8)
ثم أقول مراعياً مسائل الدين إجمالاً: إن الدين مركبٌ من خمسة أشياء: العبادات، والعقوبات، والمعاملات، والاعتقادات، والأخلاق. أما الأخلاق والاعتقادات فالبحث عنهما في فنونهما، والبواقي مذكورة في الفقه.
أما العبادات فالمقصود منها: الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج. والنية شرط لصحتها بالإجماع.
وأما المعاملات فأيضاً خمسة: مناكحات، ومعاوضات مالية، وخوصمات، وتركات، وأمانات. ولا تُشترط النية لصحتها بالإجماع.
وأما العقوبات فخمسة أيضاً: حد رِدَّة، وقذف، وزنا، وسرقة، وقصاص. ولم يَشتَرِط فيها النية واحد منهم.
فيا ليت شعري كيف زعموا أن الحديث واردٌ علينا وموافق لهم؟ مع أنهم أخرجوا عنه المعاملات والعقوبات بتمامهما أيضاً، فلو كان الحديث يرد علينا في الوسائل فقط، فقد ورد عليهم في المعاملات والعقوبات.
ثم أقول: إن من الوسائل ما يشترط فيها النية عندنا أيضاً، كالتيمم، والوضوء بالنَّبيذ، فإنها شرط للصحة فيهما. والعجب أن الإمام الأَوْزَاعي، والحسن بن حَيّ، لا يشترطان النية في التيمم أيضاً كما في العيني، فقد سبقوا إمامنا أبا حنيفة في عدم اشتراط النية.
أما اشتراط النية في التيمم عندنا، فلأن الأرض ليست طهوراً بطبعها، وإنما هو بالجَعْل، كما قال صلى الله عليه وسلّم «جُعِلتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً». وإنما يُسْتعمل الجعل فيما ينصرف الشيء عن حقيقته، فالأرض ليست بطهور في أصلها، وإنما جُعلت طهوراً لهذه الأمة كرامة لها، بخلاف الماء فإنه ليس طهوراً بالجعل، بل أُنزل على هذه الصفة كما قال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآء مَآء طَهُوراً} (الفرقان: 48)، فلا يحتاج فيه إلى النية، بل تقع به الطهارة بمجرد استعماله، نعم، لا يكون عبادةً بدون النية كما هو مُصرَّح في كتبنا، بخلاف التراب، فإنه ليس طهوراً بالطبع، فاحتاج إلى ضمّ النية ليظهر معنى الجَعْل.(1/9)
وهذا كما شرط الشافعية النية للجمع عند الجمع بين الصلاتين، فإنه لو مضى وقت الصلاة الوقتية ولم ينو جمع التأخير، يكون فاسقاً عندهم، فلا بد له أن ينوي الجمع قبل مضي الوقت في التأخير، وقبل السلام في التقديم. فكذلك شرطنا النية في التراب. بقي النَّبيد، فلعلهم شرطوا النية فيه لأجل نقص في معنى الطَّهورية، فإنه لم يبق على الصفة التي أنزل عليه، وإن كان طهوراً وطاهراً.
ويقول العبد الضعيف: معناه أن النَّبيذ ماءٌ مُطلق عندنا، إلا أنه ليس كالقَرَاح، فكأنه بين المُطلق والمقيد، وكثير من الحقائق ما يدور النظر فيها ولا يزال يتردد ولا يقنع إلا بعد إقامة المراتب. فالنبيذ إن قلنا: إنه ماء مقيد فلا يُناسب أذواقنا، وإن قلنا: إنه مطلق فكذلك، فإنه ليس كالقَرَاح، فصار نظر إمامنا أنه أقرب إلى الإطلاق، فوضعه تحت المطلق وفوق المقيد، وشَرَط فيه النية إظهاراً لدنو رتبته، ولو علم الخصوم مُدْرَك إمامنا لما طعنوا عليه في هذه المسألة، وهذا كالحقيقة القاصرة تعسَّر عليهم دَرْجُها في الحقيقة المطلقة، وكذا في المجاز، فأقاموا المراتب، وجعلو فوق المجاز وتحت الحقيقة وسمَّوها: حقيقة قاصرة.
فالحاصل: أن في الوسائل أيضاً نية عندنا ولو في الجملة. ولو تعمقنا النظر فالنية مرعية في الوضوء من الماء المطلق أيضاً، فإنهم إن أرادوا بالنية الملفوظة والعبارة المخصوصة فلن يجدوا إليها سبيلاً.(1/10)
وقد صرح ابن تيمية وغير واحد من العلماء: أن التلفظَ بالنية لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّممدة عُمُره، ولا عن واحد من الصحابة والتابعين، ولا من الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى. وإن أرادوا بها النية التي تكون قبيل الأفعال الاختيارية، فنحن وهم فيه سواء ولا ننكرها أصلاً. والنية قبل الصلاة ليست إلا أن يعلم بقلبه أنه أيُّ صلاة يصلي، فكذلك في الوضوء. ولا أرى أحداً من الحنفية أنه يتوضأ ثم لا يكون له شعور في نفسه أنه يتطهر أم لا، فالنية أمرٌ قلبي لا مَنَاص عنها في الأفعال الاختيارية. وإن أرادوا بها زائداً على هذا القَدْر، فليس إليه إيماء في الحديث ولا حرف ولا شيء.
وجملة الكلام أن النية التي لا تصح العبادات والأعمال بدونها لا تزيدُ على ما قلنا. وهي توجد في وضوء الحنفية والشافعية سواء بسواء، فأين الخلاف وأين الإيراد؟ اللهم أن يفرض كفَرَض - المنَّاطقة زيداً حماراً - أن رجلاً جاء وقد مَطَر السحاب من فوقه وابتلت أعضاء وضوئه، فإنه لم توجد منه تلك النية، فهل يُباح له يجتزىء بذلك الوضوء ويصلى؟ فلو كان الاختلاف في هذا الجزء الذي قلما يتفق أن يُبتلى به في عمره الأولى أن يفرزبالبحث عنه ويترك تحت مراحل الاجتهاد، ولا يدخل في مراد الحديث لئلا يصير مرادُه نَظَرياً بعدما كان بديهياً. ولكن يُعلم من كلام الطرفين أنهم يزعمونه، كأنه مصرَّحٌ في الحديث، فيُلزِم كل واحد منهم الآخر أنه خالف الحديث مع أن الحديث لا مِسَاس له بموضع النِّزاع، كما ستعرف عن قريب إن شاء الله تعالى.(1/11)
فالحاصل: أن الحديث إن قصرناه على العبادات كما يُعلم من كلام الطرفين، وعلى الثواب، كما يعلم من كلام فقهائنا، فنحن نلتزم أن الوضوء بدون النية لا ينعقد عبادةً. أما أنه لا يصلح للشروع في الصلاة، ولا يقع مفتاحاً لها فلا نسلِّمه، فإنه أمرٌ حسي، ومعنى الطهورية فيه أظهر، فيقع المفتاحية بلا مِرية. وإن ادعوا أن الضروري منه هو الذي يقع عبادة ولا تصح الصلاة إلا به، فذلك نداء من بعيد. ثم إنهم إن أرادوا بالعبادة ما مر تفسيرها في كلام شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، فعليهم أن يُقيموا عليه دليلاً، أن الضروري هو الوضوء بهذه الصفة. وإن أرادوا بها ما يؤجر عليه فمسلم. ونحن نلتزمه ونقول: إنّ في وضوئنا أيضاً أجراً وإن لم يكن عبادة بالتفسير الذي مر، فإن القُرُبات والطاعات أيضاً عبادة، بمعنى أنها يؤجر عليها.
ثم نُورد عليهم سوى ما ذكر: أنكم أوجبتم الدِّية في الخطأ مع أنه لا نية فيه. وقلتم بطهارة الثوب ولا نية فيها أيضاً. فما الفرق بين طهارة الأَنجاس والأحداث؟ حيث جعلتم النية شرطاً في إحداهما دون الأخرى، فأجابوا عن الأول: أن الحديث إنما ورد في الخطاب التكليفي، وهو متعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء والتخيير، دون الوضعي، وهو أن يكون هذا سبب ذلك أو شرطه، كالدُّلوك للشمس والقتل من الثاني. وعن الثاني: أنه من قبيل التُّروك دون الأفعال. قلتُ: وكلها تفلسف وأمارة عن عدم إدراك المراد وعدم إصابة المرمى.
هذا خلاصة كلام الأكثرين منهم، ويحوم حوله كلمات الباقين، والأمرُ بعد في الخفاء(1/12)
والذي أراه: هو أن الحديث لم يَرِد في وجود النية وعدمها كما يُشعر به تفاريعهم. وإنما ورد في بيان الفرق بين النية الفاسدة والصحيحة فقال: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» فهذه نية صحيحة. وقال: «ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها» فهذه نية فاسدة، فالحديث فصَّل بنفسه آخراً ما أجمله أولاً. وصرَّح بأنه لم يرد في بيان حكم الأعمال التي فيها النية والتي ليست فيها النية، بل جاء لبيان منفعة النية الصحيحة ومفسدة النية الفاسدة، وللتنبيه على أن للأعمال ربطاً بالنيات، فلا يغتر أحد بحسن علانيته مع قُبح سريرته، فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وليأتكم وهذا الذي يناسب علوم النبوة.
أما الكلام في الصحة، والبطلان، والجواز، والكراهة، فإنما هو وظيفة الاجتهاد. وما يجبُ عليه التنبيه من جهة النبوة. هذا لأن رجلاً يصلي طول ليله، ويصوم طول نهاره، ويجاهد بنفسه وماله، ويحج ويسعى، ومع ذلك لا يزن عمله عند الله جَنَاح بعوضة إذا كان لغرض من الأغراض الدنيوية، وهذا كله لفساد سريرته. ويكون رجل آخر فلا يكون له عمل صالح يُذكر، فييأس من مغفرته، ثم تخرُج له بِطاقة وتُوزَن بسائر أعماله الطالحة فيزنها ويرجحها، وهذا لحسن طويته وطيب نيته. حتى إن الأعمالَ قد تنقلب بالنيات حسنات، كما أنها قد تنقلب بها سيئات. قال تعالى: {فأولئك الذين يُبدلُ ا سيئاتهم حسنات} (الفرقان: 70).(1/13)
والحاصل: أن بركة الأعمال ومحقها تناط بالنيات على نحو ما عند «ابن ماجه» في: باب التوفي على العمل، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «إنما الأعمال بالنيات كالوعاء، إذا طاب أسفله طاب أعلاه، وإذا فسد أسفلُهُ فسد أعلاه». وإسناده ضعيف. وكما في الحاشية: الإناء يترشح، بما فيه. والظاهر عنوان الباطن. فتنوع الأعمال وتلوُّنها تدور بالنيات. وليس عملٌ إلا وله صِبْغ بلون نيته؛ إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً. فالنية الصحيحة مثمرة للبركات، وتوجب النمَّاء في الأعمال. والفاسدة تمحو الأجور وتحبط الأعمال. وفي مثل هذا قص الله سبحانه: {مَنْ كَان يريدُ الحياةَ الدنيا وزينتَها نُوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يُبْخَسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار} (هود: 15، 16) فنعى على من كان نيته هكذا أنه قد حبط عمله. وقال تعالى: {كالذي ينفقُ ماله رئاء الناس ولا يؤمن با واليوم الآخر فثلهُ كَمَثَلِ صفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صَلْداً} (البقرة: 264) {ومثلُ الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات اللَّهِ وتثبيتاً من أنفسهم كمثلِ جنةٍ بربوة أصابها وابلٌ فآتَتْ أُكْلَهَا ضِعفين} الآية (البقرة: 265).
ولما انكشف الغطاء عن وجه المقصود، وظهر أن الحديث ورد في جميع أنواع الأعمال، ولم يختص بحكم دون حكم. وإنه لم يتعرض إلى ما فيه نيته وما ليست فيه تلك، ولكنه جاء مادحاً لمن نوى نيةً حسنةً، وقادحاً فيمن نوى نيةً فاسدةً فحبط عمله، علم أن ما ليس فيه نية خارج عن متناول الحديث. وأن الحديث لا مِساس له بموضع النزاع، فينبغي أن يفوض صحة الوضوء بالنية وعدمها إلى الاجتهاد. وما يدلك على أن الحديث عام كما قلتُ ما قال البخاري نفسه باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحِسبة، ولكل امرىء ما نوى، فَدَخل فيه الإيمانُ، والوضوءُ، والصلاةَ، والزكاةُ، والحجُ، والصومُ والأحكام... إلخ.(1/14)
ثم الحديث لما كان عاماً عندي فينبغي أن يكون التقدير أيضاً كذلك كالنماء، والزكاة، والعبرة، والثمرة، والحِسبة: فمعناه، نماء الأعمال وزكاؤها وعبرتها وحسبتها بالنيات. ولست أريد من العبرة والحِسبة الفقهي، لئلا يرجع الكلام إلى موضوعه بالنقض، بل أريد على حد قوله صلى الله عليه وسلّم «إنما الأعمال بالخواتيم»، وفي لفظ: «العبرة بالخواتيم» أو ما سواها من الألفاظ التي تدل على اعتناء جانب الموافق، وعدم البطلان بجانب المخالف. وهذه الألفاظ كلها كذلك. وكأن تقدير الألفاظ إليك بعد ما عرفت حقيقة المراد. فهناك ثلاثة أشياء: العمل، والنية، والغاية. فأشار إلى الأول بقوله: «فمن كانت هجرته» فالهجرة عمل، وإلى الثاني بقوله: «إلى الله» فهو نية، وإلى الثالث بقوله: «فهجرته إلى الله ورسوله» وهو غايته، وهكذا في الجملة الثانية.
الفرق بين القرينتين
قد سبق إلى بعض الأذهان أن قوله: «وإنما لكل امرىء ما نوى» مؤكد لقوله: «إنما الأعمال بالنيات» مع أنهما يفترقان من وجوه. منها كما قال الشيخ السِّندي: أن الجملة الأولى جملة عرفية تجربية وليست بتشريع. أقول: وله نظائر كقوله: «لكل أمةٍ أمين، وأمينُ هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح». «ولكل شيء زينة، وزينة القرآن آخر البقرة». فكون الأمين في كل أمة وكون الزينة في كل شيء أمر يعلمه أهل العرف أيضاً ويستعملونه فيما بينهم. ثم جاءت الشريعة ونبهت على أن تلك الحقيقة سرت إليها أيضاً، فدلت على أمين هذه الأمة. وهذا مما لا يُعلم إلا من تلقائه على حد. «وزينة القرآن» وهي لا تُقتنى إلا من جهته، فبيَّن أنها البقرة، وكذلك: «الأعمال بالنيات» جملة يستعلمونها أهل العرف ويقوله: هذه ثمرة أعماله يعني عملون كي بهل.5(1/15)
والجملة الثانية: «وإنما لكل امرء ما نوى» حكم من جانب الشرع وتشييدٌ لما جرى بينهم وتحقيقٌ لما اعتبروه. وقيل: إن الأولى علة فاعلية، والثانية غائية، ففي الأُولى بيان للنية وهي مؤثرة، وفي الثانية بيان للغاية والثمرة. إلا أن الأغبياء جعلوا الغاية أيضاً علة فاعلية لفاعلية الفاعل، إلا أن يفرَّق بين الفاعلية للشيء وبين الفاعلية لفاعلية الفاعل للشيء. وحينئذٍ وإن كانت الغاية فاعلية، لكنها لفاعلية الفاعل للشيء، دون الشيء نفسه. وقيل: أن الأولى في حال الأعمال، والثانية في حال العالمين. وقيل: مفاد الأُولى ضرورة النية في الأعمال، فهي المدار لحبطها وعبرتها. والثانية في تعيين المنوي، فإن لكل امرىء ما نوى، فلا بد أن يعين المنوي.
ثم ما المراد بقوله: «ما نوى» هل المراد منه الغاية والثمرة؟ أو عين ما نوى؟ والأظهر عندي هو الثاني. فكلٌ يجدُ في آخرته عينَ عمله وعين ما ينويه في دُنياه. ولهذه الدقيقة ورد الجزاء بعين ألفاظ الشرط. والناس لما لم ينتقل أذهانهم إليه شمروا للجواب عن اتحاد الشرط والجزاء، مع أن في الحديث أذان من الله ورسوله إلى من هاجر إليهما في الدنيا أنه يجدُ هجرته تلك بعينها في الآخرة. ومن هاجر إلى دنيا أو امرأة لا يجدها إلا تلك {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، (الكهف: 49) وقال تعالى: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} (الكهف: 49) فهذه حقيقة غَفَلَ عنها الناس، وفهموا أن في الدنيا أعمالاً وفي الآخرة ثمراتها. ثم أشكل عليهم مسألة التقدير، وقالوا: إن الأعمال لما كان من إقداره وتقديره، فترتب الجزاء عليها غير ظاهر. وفيه نظم لي طويل:
*وليس جَزَاءُ ذاك عينَ فِعَالِنَا ** وقد وجدوا ما يعملون وعوَّلوا
*وفي الحَال نارٌ ما تورط ههنا ** ولكنَّ سِتراً حالَ سوف يزولُ وسنقرره إن شاء الله تعالى في مقامه.
هل يُشترط سُنُوح الجُزئيات لإحراز الثواب؟(1/16)
فقوله: «إنما الأعمال بالنيات» يُشعر بكفاية النية الإجمالية، وقوله: «إنما لكل امرىء ما نوى» يُشعر بتفصيلها. فإنه إذا وجد ما نواه ولم يجد ما لم ينوِ، فقد لزم منه التفضيل. والذي يظهر أن النية الإجمالية كافية لإحراز الثواب قطعاً ولا يجب سنوحها. ألا ترى أن من ربط فرساً في سبيل الله يحصل له الأجر على روثه، وبوله، واستنانه، وريِّه، وعلفه، وشربه، مع أنه لم يَسْنَح له هذه الجزئيات عند ربطه في سبيل الله. نعم، بسط النية دخيل في انبساط الأجر، فإن الأعمال وثمارها تابعة للنيات، فقبضها بقبضها وبسطها ببسطها.
والحاصل: أن الحديث فَرَّق بين النية الفاسدة والصحيحة نصاً. أما كونها مجملة أو مفصلة فلم يعط فيه تفصيلاً من عنده. وقوله: «ما نوى» أيضاً مجملٌ ومعناه: ما نوى نية إجمالية أو تفصيلية.
بقي أن القدر الضروري هو النية نفسها، أو يشترط شعورها أيضاً. والأوضح أن النية في مرتبة العلم كافية، وهي التي تسبق الأفعال الاختيارية، ولا يشترط في مرتبة علم العلم. وحينئذٍ فصورة الذهول ليست بمذكورة في الحديث.
وحاصله: أن النية العرفية تكفي لإحراز الثواب، ولا يشترط شعورها وتقررها واستحضارها. وهو العرف في هذه المواضع، ولا ينساق الذهن إلى المرتبة المنطقية، وهي علم العلم، فلا يُحْمَلُ عليها الحديث أصلاً. بخلاف الخصوم، فإن كلامهم أقرب إلى مرتبة علم العلم.(1/17)
تنبيه: ومما ينبغي أن يُحْفَظَ ولا يُذْهَلَ عنه ما اختاره الغزالي فيما يتعلق بالثواب: أنه إن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أُجِرَ بقدره، وإن تساويا فتردَّد القصدُ بين الشيئين فلا أجر. وأما إذا نوى العبادة وخالطها شيء بما يغاير الإخلاص، فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف: أن الاعتبار بالابتداء، فإن اعتراها فساد بعد الشروع - والعياذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر - فنرجو من رحمة الله أن يتغمده بغفرانه ولا يُحْبِطَ عَمَلَه. فعلى المحسن الخاشع المريد وجهَ الله أن يصحح نيته، ويسعى فيهما عند الشروع في العمل، ويبذل في استقامتها جهده، ثم يسأل الله أن يقيمَه. وهي غنيمة باردة للإنسان الذي خُلِقَ ضعفَياً، وصدق الله عزَّ وجلَّ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185).
وثانياً: أن الأجساد هي البادية في هذا العالم والنية مستورة بالمرة. وينعكس الأمر في المحشر، فتكون النيات متبوعة والأعمال تابعة، وتكون هي البادية. فيراها أهل المحشر كلهم عِيَاناً، كالأجساد في هذا العالم، فإن ظهورَ كل شيء ما ناسب مكانه ومحله، والمحشر هو محل ظهور النيات، فإن الله سبحانه لا ينظر إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم، ومن يرائي يرائي الله، ومن سمع سمع الله به. فهذه كلها ظهور النيات. وعلى هذا لو اشتمل عمل على ألف نية، تكون ألف عمل يوم القيامة، والله تعالى على ما يشاء قدير.
وقوله: «إنما الأعمال بالنيات» بحرف القصر في مقابلة من زعم عبرة الأعمال ونماءها بالنية الفاسدة، أو أن الأعمال لا تأثير فيها للنيات، فجيء «بإنما» على طريق قصر القلب، كما قال عبد القاهر في «إنما».(1/18)
ثم تحير الشارحون في وجه حذف البخاري قطعة من الحديث وهو قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله... إلخ» مع أنه ذكره من غير طريق الحُميدي مستوفى، وقد راجعت نُسخة الحُميدي - غير مطبوعة - فوجدت تلك القطعة فيها. فعُلم أن التصرف من جانب المصنف رحمه الله. ومحصل الجواب أن الجملة الأولى المحذوفة تشعر بالقربة المحضة، والجملة المذكورة تحتمل التردد. فلما كان المصنف رحمه الله كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا بعبارة هذا الحديث، حذف الجملة المُشعرة بالقُربة المحضة فراراً من التزكية. كذا في «الفتح» والتفصيل في الشروح.
أما وجه مناسبة الحديث مع الترجمة فمن وجوه ذكرها الشارحون، وما يحكم به الخاطر الفاتر هو أن ورود الأفعال إنما هو بالوحي وصدورها بالنيات. فالوحي مبدأ لوجودها، والنية مصدر لصدورها ونعني بورود الأفعال مبدئياً، أي الأوامر والنواهي. فالأوامر والنواهي ليست إلا من تلقاء الوحي، فيكون مبدأ لها. وكذلك صدورها لا يعتبر في الشرع بدون النية، فتكون مبدأ أيضاً. فالأفعال ذو حظ من الطرفين، والعلاقة هي الوحي في جهة: والنية في جهة. فالوحي والنية علاقتان لها: إحداها لوجودها، والثانية لصدورها والله تعالى أعلم.
ولنا أن نقول في وجه المناسبة، ولنمهد لذلك مقدمة: إن كل شيء إنما يعرف بآثاره، فإن كانت آثارهُ حسنة، كان الشيء حسناً، وإن كانت قبيحة، كان الشيء أيضاً كذلك. كيف لا وإنما الثمرة تنبىء عن الشجرة، ولذا تراهم عدوا الاستدلال من الأثر على المؤثِّر تحولٌ من الحُجة.(1/19)
وبعد ذلك نقول: إن أحوال العرب قبل مبعثه صلى الله عليه وسلّم غير خافية من له شيء من الخِبرة، فإن ظلمات الكفر والطغيان قد كانت متراكمة على ضواحي الدنيا، لم يكن يُعرف الحق من الباطل، ولم يكن فيهم من كان يعبد الله على حرف، وكانت الكلمة الإبراهيمية قد انطمست، والملة الحنفية قد اندرست وانعدمت، ومصابيح الهداية أطفئت، ورياح العلوم الحقة ركدت، حتى إنهم كانوا عاجزين أن يفهموا أن لهم رباً، فنحتوا الأصنام وعبدوها.
أما أخلاقهم فلا تسأل عنها، كان سفك الدماء، وهتك الأعراض، ونهب الأموال من عظم مفاخرهم، يبولون كما يبول الإبل، يمشون وهم عراة، لا يفرقون بين المحارم وغيرها، يرثُ أكبر الأبناء زوجةَ أبيه، يئدون البنات، قاموا لعصبية الجاهلية، ودعوا لعصبة الجاهلية، وإذا هاج شر قَضم بعضهم كالفحل، وعاثوا في الأرض، حتى انقطعت السُّبُل والتجارة، وتعذر الخروج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا في تَرَحٍ وَمَرَحٍ، إذ بعث الله فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فلم يترك شيئاً من دينهم ودنياهم إلا وعلمهم، حتى سادوا الناس وملكوا الأرض، فضُرِبت بهم الأمثال، واهتزت الأرض من الأنوار الإلهية، وملئت عدلاً وأمناً، وأخرجت الكلمة شطأه حتى قامت على سوقها ليغيظ بها الكفار، فمن كان صاحب تلك الآثار وقريبها، ما ظنك به؟ لا ريب في حسن نيته وكونه موحى إليه، ومن هنا ظهرت المناسبة من وجه آخر.
باب
حديث صلصلة الجرس(1/20)
واعلم أن المصنف لما فرغ عن النية التي هي مبدأ الأعمال من جهة، شرع في الوحي الذي هو مبدؤها من جهة أخرى، وهو المقصود ههنا. أما الوحي والكلام فيه فالحق أنه خارج عن موضوعنا كما ذكره الشيخ الأكبر في «الفتوحات»، أن ما لا يحصل لنفسه لا يُدْرِكُ كُنْهَه. وذكر أنه دخل مرة في ملأ من الأولياء وهم في ذكر من المقام الموسوي، فَوَكَلوا الكلام إليه، فقال: لا يحل لي أن أتكلم فيه، لأنه لا يحصل لي، فكذلك الوحي لا يُدْرِك كنهه إلا لمن اتصف به. ولم يرو في هذا الباب عن السلف شيء كثير، إلا ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه: أن الوحي هو القذف في القلب - أي في الآية التي سنتكلم عليها آنفاً - ولم ينفصل الأمر منه، فإن القذف والقذف يتغايران فلا ندري ما كيفيته، فإننا أيضاً نقذف في قلوبنا. وقد ذكر العلماء أقسامه. والأولى عندي أن يقتصر على ما اقتصر عليه النص، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} إلخ (الشورى: 51).
تفسير آية الوحي إجمالاً
واعلم أولاً أن الوحي على ثلاثة أنحاء: الأول: أن يُسخَّر باطن المُوحى إليه إلى عالم القدس، ثم يُلقى في باطنه، فلا توسُّط للملَك في هذا النوع.
الثاني: ما يكون فيه دخل لحواس المُوحى إليه، فَسمِعَ فيه الصوت، وهو صوت الباري تعالى عند البخاري، بحيث لا يُشبه أصوات المخلوقين، ليس فيه مخارج ولا تقطيع. وقال الشيخ المجدِّد السَّرهندي رحمه الله تعالى: وليس بجزء ولا كل وليس بزماني ولا مكاني وسيجيء الكلام فيه.
والثالث: أن يجيء المَلَكَ وهو على نحوين:
الأول: أن يُسخر الملك باطن النبي.
والثاني: أن يتمثل بنفسه في صورة البشر، كقوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} (مريم: 17).(1/21)
إذا علمت هذا فاسمع منا تفسير الآية: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} أي نبي ورسول، فالمراد منه هو النبي أو الرسول وإن كان اللفظ عاماً، وإنما لم يقل: لنبي أو رسول صراحة، حذراً عن شبهة المصادرة على المطلوب. فإنهم لما قالوا: {لولا يُكلمنا ا..} (البقرة: 118)، أجابهم بأنه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ} وحينئذٍ لا يناسب وصفه بالنبوة أو الرسالة، لأنه أول النزاع، وهو اعتراضهم أن الله لم لا يكلم واحداً منا ويكلم هؤلاء فأجاب بنحو تعميم في اللفظ مماشاة معهم كما قال الرسل: {إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} (إبراهيم: 11) {أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} والمراد منه عندي: الإعلام بخفية، وهو النوع الأول، ويدخل فيه الإلهام والمنام. ولا يقصر على الإلهام والمنام فقط كما قالوا: {أَوْ مِن وَرَآء حِجَابٍ} إشارة إلى النوع الثاني: وهو ما تيسر له صلى الله عليه وسلّمليلة المعراج ولموسى عليه الصَّلاة والسَّلام على الطور.
الكلام في أنه صلى الله عليه وسلّم هل جمع بين الرؤية والكلام ليلة المعراج؟
بقي الكلام في أن النبي صلى الله عليه وسلّمهل جُمع له بين الكلام والرؤية ليلة المعراج أو كانت الرؤية بدون الكلام والكلام من وراء حجاب؟ فالله أعلم به. نعم، التفسير المذكور يُبنى على الفصل بينهما، فإن قوله: {مِن وَرَآء حِجَابٍ} حينئذٍ يدل على أنه لم تكن وقت الكلام رؤية، بل حصل له الكلام بدون الرؤية. وإن قلنا بالجمع له بين الرؤية والكلام أي كانا معاً، فالجواب على حديث مسلم أن الرؤية أيضاً كانت في الحجاب: «عن أبي موسى: أن حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».
وفي «القاموس»: سبحات وجه الله: أنواره. فعُلم منه أن الحجاب لا يُكشف، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه. فالرؤية في الحجاب، والحجاب هو النور.(1/22)
وعند مسلم «نورٌ أَنَّى أراه»؟ يؤيده فإنه لا ينفي الرؤية مطلقاً، ولكنه ينفي اكتناهه والإحاطة به والتحديق إليه ورؤيته متمكناً؛ فإن كمال النور يمنع الإدراك، وحينئذٍ لو كانت بدون الحجاب لأمكن أيضاً. فالنبي صلى الله عليه وسلّمحصل له الرؤية ألبتة، ولكنها كانت رؤية دون رؤية، وهي التي تليق بشأنه تعالى؛ فإنه لا يمكن لأحد أن يتقرر بصره على وجهه تعالى، وهو العلي العظيم، فإن مهابة كبريائه مانعةٌ عن النظر إليه متمكناً، ولكنه رؤية دون رؤية، كما يتيسر لنا لأحد من الكبراء في الدنيا بطريق مسارقة النظر.
ولذا ترى الألفاظ فيها واردة بالإيجاب مرة والنفي أخرى. ولا تريد أن تؤدي تلك الرؤية في العبارة إلا جاء التعبير هكذا موجباً مرة ونافياً أخرى. ونظيره قوله تعالى: {وما رميتَ إذا رميتَ ولكنَّ ا رمى} (الأنفال: 17) فجاء فيه النفي والإثبات معاً، فهكذا أمر الرؤية. والحق أن المعاملات الربانية كلها لا توفيها الألفاظ كما هي، فيحدث هذا العُسر لضيق نطاق البيان. فاختلاف الإثبات والنفي ليس تنافياً وتضاداً، بل كل منهما أحد طرفي المراد. وإذا هو رؤية المتأدب، ورؤية بين رؤيتين، ورؤية دون رؤية. فلو شئت أن تثبتها أثبتها، ولو شئت أن تنفيها نفيتها، لا بمعنى أنها لم تحصل، بل بمعنى أنها رؤية تتحمل الإثبات والنفي معاً.(1/23)
وحينئذٍ لو كان لفظ مسلم: «نُورٌ أَنَّى أرَاه» لصح أيضاً، فإنه رأى ربه ألبتة وكان نورانياً. وقد وقع إطلاق النور عليه في القرآن أيضاً: {ا نور السموات والأرض} (النور: 35). ولكن هذا أيضاً رؤية دون رؤية، فإن شئتَ أثبتها وقلت: كان نورانياً حين رآه. وإن شئتَ نفيتَ عنه وقلت: «نور أنَّى أراه» فإنها ليست رؤية بتمامها وكمالها. وفي لفظ: «رأيت نوراً» وهذا أيضاً يحتمل المعنيين: أي رأيت نوراً فحسب دون الذات، ومنعني النور عن رؤيتها. أو رأيت ذاتاً منوراً. وقد فهم الناس التقابل بين هذين الاحتمالين، وهما عندي واحد، فإن الرؤية التي حصلت له صلى الله عليه وسلّمكانت رؤية حقيقة وأمكن أن تكون بدون الحجاب أيضاً، إلا أن مهابة الكبرياء مَنَعَ التحديق إليه، فصارت بين بين، وكان كما قيل:
*فبدا لينظرَ كيف لاحَ فلم يُطِق ** نظراً إليه وردَّه أشْجَانُه ولكنه صلى الله عليه وسلّمتشرَّف برؤيته تعالى، ومَنَّ عليه ربُّه بها وكرَّمَه، وتفضَّل عليه بنوالِهِ، وأفاضَ عليه من أفضاله، فرآه رآه كما قال أحمد رحمه الله تعالى مرتين. إلا أنه رآه كما يرى الحبيبُ إلى الحبيب، والعبد إلى مولاه، لا هو يَمْلِكُ أن يَكُفَّ عنه نظرَه، ولا هو يستطيع أن يُشِخص إليه بَصَرَه. وهو قوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} فالزيغ: أن يتغافل عن جمال وجهه، فلا يراه مستجمَعاً. والطغيان: أن يراه، ولكن يتجاوز عن حَدِّه، فيقع في في إساءة الأدب. وهذا إثبات لرؤيته في غاية اعتدال. فالحاصل: أنها كانت بحيث لا يصفُها واصف، أمَّا أنَّها كيف كانت؟ فلا تَسأل عنها، فإنها كانت وكانت.
*أَشْتَاقُهُ فإذا بَدَا ** أطرقتُ من إجلالِهِ ولو كانت رؤية منام لما احْتِيج إلى تلك الاحتراسات.(1/24)
ومن ههنا اختلفوا في نفس الرؤية لعامة المسلمين في الجنة. هل تحصل برفع الحجاب؟ أو تكون في الحجاب؟ فجنح الشيخ الأكبر إلى أن رداء الكبرياء لا يُرفع في الجنة أيضاً، فإن المرئي في الرداء يُعَدُّ ذاتُهُ مرئياً عُرفاً، كما لو رأيت رجلاً في ملبوس، لا تقول إلا أنك رأيتَ ذاته حقيقة. ولا يُشترط لرؤية الشخص رؤيته مجرداً عن اللباس. وإنما يكون المراد منه ما هو المعروف، والمعروف فيها ما قلنا. فكذلك الله سبحانه يكون مرئياً البتة، إلا أن رؤيته تكون في رداء الكبرياء عنده، وهي التي بَشَّر بها الله سبحانه عبادَه بالغيب. وذهب العلماء إلى أنها تكون برفع الحجاب، على ما وقع من تشبيه رؤيته برؤية القمر ليلة البدر. وهذا التشبيه لا يَرِدُ على ما اختاره الشيخ، كما سبقت الإشارة إليه، فإن المراد في الأحاديث من عدم الحجاب عنده، سوى حجابه الذي هو نورده ورداؤه الكبرياء، والرؤية مع الرِّداء رؤيةٌ للذات عرفاً وشرعاً بلا تأويلٍ وتأمل.
قلتُ: وليس هذا اختلافاً وإنما هو اختلاف الأنظار، ونَظَرُ العلماء أحكم، ونظر أرباب الحقائق أسبق وألطف، فهم يُمَثِّلون على ما يظهر من ظاهر الشريعة، وهؤلاء يراعون ما كَشَفَ الله سبحانه عليهم من حقائق الشريعة وخبيثة أسرارها. وفي الحديث: «لكلِّ آيةٍ ظهر وبطن، ولكلِّ حدَ مطلع». والأمر إلى الله سبحانه. وسيجيء بقية الكلام فيه إن شاء الله تعالى في موضعه في آخر الكتاب.(1/25)
ولعله صلى الله عليه وسلّمتشرَّف بالإيحاء أولاً، ثم انتهى الأمر إلى الرؤية، وكانت عِياناً. ولذا انتقل إلى تحقيقه وتثبيته في سورة النجم. ولم يكن في الإيحاء أمر بديع في حقه، فذكره كأنه أمرٌ مفروغٌ عنه. وإذا نزل إلى ذكر الرؤية أكَّده بأنها كانت بالفؤاد والعين معاً. وكانت بدون الطغيان والزيغ. وهذا على نحو ما وقع لموسى عليه الصَّلاة والسَّلام: الكلام أولاً ثم الرؤية ثانياً. ولكنه رآه تعالى ثم غُشي عليه؟ أو لم يره وغَشِي قبله. فأمرٌ يعلمه الله سبحانه، إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلّمرآه قطعاً ولم يُغْشَ عليه، ولكن خَرَّ ساجداً كما كان يليق بهذا الوقت، وبقي صاحياً لم يأخذه غَشْيٌ، مؤدِّياً وظيفة العبودية، مؤدَّباً في حضرة الربوبية.
فانظر كيف ذَكَرَ رؤيتَه حيث لم يجعلها مقصودة بالذكر؟ فكأنها أمرٌ مما لا يُنكر، إذ كان صلى الله عليه وسلّمدُعِي لذلك، وإنما اهتم برفع ما يمكن أن يقع فيه من اشتباهات، فأزاحها وأكدها بما لا مزيد عليه، فنفى عنه: الضلال، والغِواية، والنُّطق عن الهواء، والزيغ، والطغيان، وذَكَرَ عِلْمَه، وحال معلِّمِهِ، والمباسطة بينهما، وأثبت له الرؤية بالفؤاد، والعين، وأنه قد تصادقا عليه، فما رآه البصر صدَّقه الفؤاد ولم يكذبه، ولا تردد فيه، وما ذاك إلا لأنها كانت رؤيةً بصريةً يَقَظَةً. {فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} ( الأعراف: 185) ولكن {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} (النور: 40) والله تعالى أعلم.
(أنواع الوحي)(1/26)
ثم لنرجع إلى ما كنا بصدده ونقول: إن قوله: {مِن وَرَآء حِجَابٍ} إشارة إلى النوع الثالث مع قَسِيمَيْه. فإن قلت: إذا قال في الثالث: {فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآء} فهذا وحي، والأول أيضاً كان وحياً، فلم يستقم التقابل بين الأقسام. قلتُ: بل الأول وحي، وهذا إيحاء، وبينهما فرق، فإنه جاءت المعهودية الشريعية في الوحي، وهو ما عُرِف نزولُه على الأنبياء، يَعْرِفون به شريعتهم، بخلاف الإيحاء، فإنه على صَرَافة اللغة كالنبوة والنبي، فإن النبوة على صرافة اللغة فيقال: قد نبأنا الله من أخباركم، ولا يقال: إنه نبي ذلك. ولهذه الدقيقة نُسِب الإيحاء إلى غير الرسل أيضاً. بخلاف الوحي فقال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}.. إلخ (النحل: 68)، وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمّ مُوسَى} (القصص: 7).d
فالإيحاء ههنا على اللغة بخلاف الوحي، فإنه لم يُستعمل إلا في شأن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام. وأيضاً إنما صح التقابل بينهما لأن بينهما عموماً وخصوصاً. فإنهما يشتركان في التسخير ويختلفان بمجيء المَلَك في الثالث دون الأول.
ولذا جمع ههنا بين الإرسال والإيحاء فقال: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ} إلخ. ففي هذا النوع إيحاء أيضاً، إلا أنه بتوسط المَلَك. والحاصل: أن الله سبحانه لا يُكَّلَم مشافهة، ولا يليق بشأن العبد أن يكلِّمه عِياناً، فإما يكلمه خُفْيَةً، أو مِن وراء حجاب، أو بتوسط المَلَك. أما الفرق بين الكشف والإلهام، فكما قال الشيخ المُجَدِّد السَّرْهَنْدِي: إن الكشف أقرب إلى ما سمَّوه أهل المعقول بالحِسِّيات، والإلهام إلى ما سمَّوه بالوجدانيات، ولعل الإلهام أقرب إلى الصواب من الكشف، فإن الكشف: رفع الحجاب عن الشيء، والإلهام: إلقاء المضمون.(1/27)
2 - (أحياناً يأتيني) وفاعله باعتبار الظاهر هو الوحي. ولكن المصنف (رواه) بوجه آخر عن هشام في بَدْء الخلق قال: «كل ذاك يأتي المَلَك». ويُعلم منه أن الفَاعل بالحقيقة هو الملك. والصلصلة قيل: هي صوت المَلَك بالوحي، وقيل: هي صوتُ حَفِيْفِ أجنحة المَلَك، وعليه اعتمد الحافظ.
2 - (مثل صلصلة الجرس) والصلصلة: صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أُطلق على كل صوت له طنين، ولا يَرِدُ أنه تشبيه محمودٍ بمذموم، فإن التشبيه لا يلزم فيه التساوي من جميع الوجوه، بل يكفي اشتراكهما في صفة. ووجه الشَّبه ههنا هو تدارك الصوت بدون مبدأ ومقطع، فكما أن صوت الصلصلة والسلسلة متدارك ومسلسل، كذلك صوت الوحي يكون بسيطاً بدون مبدأ ومقطع. وهذا بخلاف أصواب البشر، فإنه ينطوي على مبادىء ومقاطع، فهذا هو وجه الشبه. وما ألطف ما قال الشيخ الأكبر: إن صوت الباري جل ذكره يُسمع من كل جهة، ولا تتعين له جهة. وصوت الصلصلة أيضاً كذلك، فوجه الشَّبه حينئذٍ مجيئُهُ من جميع الجوانب ومن جميع الجهات. ونُقِل أنَّ موسى عليه السلام كان يسمع كلامه تعالى على الطُّور من كل جهة.
ولذا أقول: إن الصلصلة هي صوت الباري تعالى على خلاف ما اختاره الشارحون.
واعلم أن ههنا مطلبان:
الأول: ثبوت الصوت للباري تعالى ولا تردد لي في ثبوته، ولكن لا كأصوات المخلوقين سبحانه وتعالى. واختاره البخاري أيضاً في آخر كتابه.
والثاني: أن تلك الصلصلة هل هي صوت الباري عَزَّ اسمُهُ أم لا؟ وأختار فيه من عند نفسي أنها صوت الباري تعالى، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.(1/28)
والسِّرُّ فيه أن ذلك الصوت ثابت في ثلاثة مواضع: عند صدوره من الحضرةِ الربوبية، وعند تلقِّي المَلَك، وعند إلقائه على النبي. فمبدؤه من فوق العرش ومنتهاه إلى النبي، وليس مقصوراً على هذا الموضع فقط، فينبغي أن لا يُغْفَلَ عنه، فإنه يتحدس منه أنه شيء واحد من هناك إلى ههنا. ويُستفاد من كلامهم أنهم قَصَرُوا ذلك الصوت على الموضع الأخير فقط، فحكموا عليه أنه صوت أجنحة الملائكة. وفي حديث النَّواس بن سمعان عند الطبراني وأخرجه الحافظ في باب قول الله عز وجل: {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَعَةُ} (سبأ: 23) تحت حديث أبي هريرة ما نصه: «أَخَذَتْ أهلَ السمواتِ منه رَعْدَةٌ، خوفاً من الله، وخَرُّوا سُجَّداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل فيكلمه الله بما أراد» اه.
(وبالجملة): الصوت هو صوت الباري تعالى. ويجيء الكلام في ثبوت الصوت وسائر صفاته تعالى في آخر الكتاب مبسوطاً إن شاء الله تعالى.
ثم إن هذا الصوت هل يبلغ إلى النبي بعينه كما يبلغُ إلى أهلَ السموات؟ أو يتلقاه المَلَك ويحفظه كما تُحفظ الأصوات في الألواح المعروفة اليوم: - بما يسمى بالفونوغراف 0؟ فأمرٌ يدور النظر فيه. ولم يتعرَّض إليه الحديث. فلذا اكتفيت بقدر ما أثبته الحديث، وكففت عما سكت عنه الحديث. فإن قلتَ: في إثبات الصوت تشبيهٌ؟ قلتُ: كلا، فإنه صوتٌ بحيث لا يُشبه أصوات المخلوقين، فلا تشبيه. والتنزيه عند أهل السنة ليس كتنزيه الفلاسفة. وكذا التشبيه عندهم ليس كتشبيه المُشبِّهة. بل نقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11) فنفى المِثليَّةَ وأثبتَ السمع والبصر بدون تأويل وتشبيه، فليس ربُّنا مجرداً عن السمع والبصر منزهاً عنهما كما زعمه عقلاء الفلاسفة، ولا مشبَّهاً سمعُهُ بسمعنا، وبصَرُهُ ببصرنا، كما توهمه جهلاء المشبِّهة، وإنما أمرنا بين التَّعطيل الصِّرف والتشبيه البحت كما قال الشيخ الأكبر:(1/29)
*فلا تَنْظُر إلى الحقِّ ** وتَعْرُوهُ عن الخَلْقِ
*ولا تنظر إلى الخلق ** وتَكْسُوهُ سوى الحقِّ
*ونَزِّهْهُ وَشَبِّههُ ** وقُمْ فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ وترجمةُ قوله: ونَزِّهْهُ وشَبِّهْهُ: (أور تنزيه كي جااور تشبيه دائى جا)
2 - (وهو أَشَدُّه عَلَيّ) ولمَّا كان في هذا النوع تسخيرٌ لباطنِهِ وانسلاخٌ عن بعض أوصافه، كان شديداً من سائر أنواعه، وإن كان الوحيُ كلُّه شديداً. وهو إشارة إلى النوع الأول: (فَبَفْصِم عني) إي إذا انقطع الوحي فيُقْلِع ويَتَجلّى ما قد غشيتني من الشِّدة. (وقد وَعَيت عنه ما قال) إنما جاء بصيغة الماضي إشارة إلى مزيد التثبُّت فيه، ودفعاً لِمَا قد يختلجُ، من أنه إذا كان مثل الصَّلصلة فلعله لا يَفْهَمُ معناه، أو يتعسَّر فهمُهُ، فأزاحه أنه كان يَعِيهِ ويحفظه بدون تردد، وإنما التشبيه لمعنى آخر.
2 - (وأحياناً يتمثل)... إلخ إشارة إلى النوع الثالث. ولعل العسر لو كان فيه لكان على جبريل عليه السلام، بعكس ما في الأول، لأنه هو التاركُ لصورته الأصلية، والنازلُ إلى الصورة البشرية، وترك النَّشأة هو الموجب للعسر والشدة. وإنما لم يذكر الثالث لنَدْرَته وكونه مخصوصاً في الإسراء. فإن قيل: كيف تَمثُّلُه مع عِظَمِ جُثَّته؟ قلت: هذا أمر لا ندخل فيه، ونؤمن حقاً بما أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلّم وهو كقوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} (مريم: 17).(1/30)
وسئل إمام الحرمين عنه في الطواف، فأجاب بما تفصيله من «الفتوحات»: إن الأرواح على نوعين: طيبة، وخبيثة. فالأُولى: الملائكة، والثانية: الجِنّ، ثم جعل الشيخ رحمه الله الملائكة، والشياطين، والنفوس الناطقة الإنسانية عالماً برأسه. وسمّاه: عالم الأرواح، وقال: إن أشياء هذا العالم تتمكن أن تتصور بصور متنوعة، وتتشكَّل بأشكالٍ مختلفة، وتَكْبُر ما كانت صغيرةً، وتَصْغُر ما كانت كبيرةً، بلا زيادة أمر ونقصانه، بخلاف الأجساد، فإنها لا تتمكن أن تتغير بتلك التغيرُّات، وهذه المسألة تسمى اليوم: بتجسد الأرواح، وتروُّح الأجساد.
قلتُ: وهكذا قال الصدر الشِّيرازي، وهو صوفي شيعي لا يَسُبُّ الصحابة رضي الله عنهم، ولكنه يُسيىء الأدب في شأن الأشعري والرازي، وذكر أن أرواح المرتاحين رضي الله عنهم، تقدر على ذلك. قلتُ: ولا أعلم أحداً من علماء الإسلام قال بتشكّل أرواح الإنسان غير الشيخ الأكبر.
2 - (فأعي ما يقول وقوله: (وعَيْتُ) يدلّ الثاني على الفهم مع الصوت، والأول على الفهم بعده، كما هو الطريق المعروف عند مخاطبة رجل برجل. والفرق ما أشرنا إليه. (لَيَتَفَصَّدُ) مأخوذ من الفَصْد: وهو قَطْع العِرق لإسالة الدَّم. شُبِّه جبينُه بالعِرْقِ المفصود مبالغةً في كثرة العَرَق. وفي قولها بيان لما رأته من الشدة، ودَلالة على كثرة معاناة التَّعب، لما في العَرَق في شِدَّة البرد من مخالفة العادة. وقد وردت في بيان نقله أخبار، فلتُطْلَب من مواضعها. والله تعالى أعلم.
باب
الحديثُ الثَّالث
3 - (الرؤيا) قد كنتُ حققتُ في سالفٍ من الزمان أن الرؤيا ليست بنومٍ ولا يقظة، بل هي حاله متوسطة بينهما، ولذا لا تزال تتسلسل ولا تنقطع إلا بالنوم الغَرِق أو اليقظة، ثم اطلعتُ بعد زمن طويل على «دائرة المعارف» لفريد وجدي، فرأيت فيها تحقيق أهل أوروبا الآن بعين ما كنت حققته سابقاً.
رؤيا الأنبياء(1/31)
ولا شك أنه وحي وإن احتاج إلى التعبير، ولذا لما رأى إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام أنه يَذبح ابنه تَشمَّر للذبح، وكان من شأنه كما قصَّه الله سبحانه وتعالى، ولولا أنها وحي لما اجترأ على مثل هذا. واعلم أن أهل الكفر كانوا يذبحون أولادهم تقرُّباً إلى الله، ولم يكن هذا في دين سماوي قط. وتأويل رؤياه ما وقع منه فحسب، وبه تمّ الاختبار والابتلاء، ولم يكن الذبح مراداً من أول الأمر، فلما صدَّقه وامتثل به وأجراه على ظاهره، ناداه ربه: {أنْ يا إبراهيمُ قد صدَّقتَ الرؤيا} (الصافات: 105)، ثم فداه بكَبْشٍ، فإن شاكلةَ وحي الرؤيا على خلاف شاكلة الوحي الصريح، فإنه قد يكون أُنموذجاً يكفي لصدقتها في الخارج نحو من الوجود، لا كما قال الشيخ الأكبر: إن إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام كانَ مأموراً بذبح الكَبْش من أول الأمر، ولكنه شدَّد على نفسه، وأراد أن لا يُؤَول رؤياه، بل يُجربها على ظاهرها، فكشف الله سبحانه عن مراده: أنه ذَبْحُ الكَبْش.
ومعنى قوله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ} عنده أي أمضيتها على ظاهرها، مع أن المراد منها ما كان هو ذبح الكَبش، دون ذبح الولد. فإن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، أقرب فهماً لهذه الأمور من الأولياء والصواب أنها تحتاج إلى التعبير كرؤيا يوسف عليه الصلاة والسلام وكرؤيا نبينا صلى الله عليه وسلّمفي دار هجرته، فذهب وهْله إلى أنها اليمامة وكانت هي المدينة، وفي هزيمة المسلمين، ثم في فتحهم،. فرأى سيفاً، هَزَّها مرة فانقطعت، ثم هَزَّها مرة أخرى فعادت كأحسن ما كانت، وفي كَذَّابَيْن حيث رأى في يديه سواران من ذهب، وفي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أُرِيْهَا في سَرَقَةٍ من حرير وغيرها. وما نقل في واقعة الحُدَيْبِيَة فافتراء محضٌ ليس له إسناد ولو ضعيفاً.(1/32)
اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلّم واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلّمينتظر الوحي في الأمور كلها، فإذا لم ينزل عليه وَدَعَتْ له حاجة اجتهد. ثم لا يُتْرَكُ على الخطأ لو وقع فيه، ولا يَسْتَقِرُّ عليه حتى الموت قط، وهو تأويل قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول ولا نبي إلا إذا تمنَّى ألقَى الشيطانُ في أُمْنِيَّتِه}... إلخ (الحج: 52) وسنعود إلى تفسيره إن شاء الله تعالى. وما ذكره المفسرون من القصص ههنا فكلُّها باطلة. وقول إبراهيم عليه الصَّلاة والسلام {هَذَا رَبّى} (الأنعام: 76) من هذا القبيل عندي. والناس ذكروا عنه وجوهاً من رَطْبٍ ويابس، وما نُلْقِي عليك الآن هو أنه لم يكن هناك شيء في الخارج، بل السلسلة كلها حكاية عن انتقالاته التدريجية الفكرية، حتى انتهى إلى العِلم الحقيقي. ولم يكن لهذا المعنى لفظ يؤدي مؤدَّاه، فسبق الوَهْم من مجرد التعبير إلى ما سبق، وكان المراد منه هو التدرّج، ولذا كرر قوله: {هَذَا رَبّى} ثلاث مرات. معناه: أنه اجتهد في أنه ربه أم لا؟ ثم اجتهد واجتهد حتى تبيَّن له أنَّ مَنْ كان محطاً للتحوُّلات، ومحّلاً للتغيرات، وآفلاً بعد كونه طعالعاً، ومُظلماً إثْرَ كونه مضيئاً ومستضيئاً، لا تليق به الأولوهية، فتبرَّأ منه حنيفاً مسلماً. ولفظ الاجتهاد حادثٌ، والتدرج لم يكن في الخارج بلفظ، ولكنه نية على نحو التقادير، وما المانع عنه عند ظهور الحُجة شيئاً فشيئاً، فإبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام ما كان له أن يعتقد بقوله: {هَذَا رَبّى}، ولكنْ تَدرجَ نحو العلم الحقيقي شيئاً فشيئاً حتى بلغ إلى حقيقة العِلم، ولم يستقر على ما يلوح من ظاهر الألفاظ، ولو كلمحة برقٍ خاطفٍ، فاعلمه.
الرؤيا الصالحة في النوم(1/33)
وعند المصنف في التعبير: «الرؤيا الصادقة». وبينهما فرق ظاهر، فإن رؤيا الأنبياء لا تكون إلا صادقة. وقد تكون غير نافعة، كرؤياه صلى الله عليه وسلّمفي أحد: وإنما بُدىء بذلك ليكون له تمهيداً وتوطِئةً لما يكون في اليقظة. كتسليم الحجر عند مسلم، وكسماع الصوت عند بناء الكعبة أن: «اشْدُدْ عليكَ إزارَكَ» وهو في البخاري عن جابر، وهذا الصوت عندي صوت المَلَك، وكرؤية الضوء، وكلها لتقريبه إلى عالم الرُّوحانيات وعالم الغيب.
3 - (فَلَقِ الصبح) قال ابن أبي جَمْرَة: إنما شبهه به دون غيره؛ لأن شمس النبوة كانت الرؤيا مَبَادىء أنوارها، فما زال ذلك النور يتسع حتى أشرقتِ الشمس، فمن كان باطنه نورياً كان في التصديق بَكْرِياً كأبي بكر، ومن كان باطنه مظلماً كان في التكذيب خفَّاشاً كأبي جهل، وبقية الناس بين هاتين المنزلتين، كل منهم بقدر ما أُعطي من النور. كذا في «الفتح» من كتاب التعبير.
3 - (ثم حُبِّبَ إليه الخلاء) وهذا على نحوٍ من مجاهدات الصوفية وخلواتهم ثم إن اعتكاف الفقهاء وخلوات الصوفية عندي قريب من السَّواء. والفرقُ من جهة تعيين الأيام.
3 - (اللياليَ ذَوَاتِ العَدَد) وأُبهم العددُ لاختلافِهِ. وفي تفسير «روح المعاني»: عن الصفيري أن النبي صلى الله عليه وسلّمكان يذهب إلى حِراء في رمضان، ويمكث إلى أربعين يوماً. قلت: أما ذهابه في رمضان فقد تحقق عندي. وأما مكثُهُ إلى الأربعين فلم أقف عليه سوى ما ذكره الصفيري. ولا أدري حاله؟ وقد تحقق عندي أنه كان يذهب خارج رمضان أيضاً، كما يُستفاد الإكثار من هذا الحديث.(1/34)
وأما وجه خَلوته في حِرَاء خاصة. فكما عند الحافظ في التعبير: عن ابن أبي جمرة، أن المقيمَ فيه كان يمكنه رؤية الكعبة، فيجتمع لمن يخلو فيه ثلاث عبادات: الخلوة، والتعبد، والنظر إلى البيت. وفيه أيضاً: أن جدَّه عبد المطلب كان يخلو به أيضاً، وكان على الفِطرة، ويمكن أن يكون على الحنيفية. وتِنْقَلُ من كلماته ما يدل على إقراره بالقيامة، وأخلاقه الحسنة، وكان أُخْبِرَ بنبوته صلى الله عليه وسلّمبأن ابنه هذا يكون له شأن من الشرق إلى الغرب، وعلى هذا أمكن أن يكون ناجياً، إلا أنْ يثبت عنه الشِّرك وعبادة الأصنام. والله تعالى أعلم.
3 - (جَاءَهُ الحقّ) أي جبرائيل عليه السلام، أو المراد أنه انكشف له الحال الآن، وتحقق جلياً أن سماعَ الصوت ورؤية الضوء وسلام الحجر وغيرها، كان تمهيداً للأمر الذي بُعث به.
(اقرأ) ليس من باب التكليف، بل من باب التَّلقين والتلقي لما يقوله، كما إذ يَحْضُر الصبيُّ قِبَل المعلِّم وكتابُهُ معه، فيقول له أستاذه: اقرأ، لا يريد بذلك تكليفه بالقراءة، ولكنه يكون تلقيناً له أن أقرأ كما أقرأ لك الآن.
3 - (ما أنا بقارىء) واختُلف في هذا التركيب إنه مفيد للقصر أم لا، وذهب السكَّاكي إلى أنه يُفيد القصر، وهو المختار عندي، ولكنه ليس بمطَّرِد. قيل: (ما) في المرة الأولى نافية، أي لستُ بقارىء، وفي البواقي استفهامية، أي أيَّ شيء أقرأ؟ والأرجح عندي أنها كلها نافية، وترجمته: مين وه شخص نهين جس سى قراءت هوسكى.
3 - (فعظَّني) ذكر العلماء: أنه كان ضَرْبَاً من التنبيه. وقال الصوفية - كَثَّرهم الله تعالى : إنه كان للإلقاء في القلب، وللتقريب إلى المَلَكِيّة وإحداث المناسبة بها، وفيه أن للمعلِّم حقاً على المُتعلِّم.(1/35)
فقال: اقرأ بسم ربك... إلخ وإنما أضاف لفظ الاسم ولم يقل: اقرأ بربك، تبرُّكاً باسمه تعالى، فكما أن ذاتَه مَجْمَعُ البركات، كذلك صفاتُهُ وأسماؤه تعالى، فأدخل لفظَ الاسم وتبرَّك به إيذاناً بذلك، وإنما بدأ بالقراءة لأنها الأهمُّ إذ ذاك، وأما اسمُ الله تعالى فيصلحُ لبداية جميع الأمور، وليس له اختصاصٌ بشيء دون شيء.
الكلامَ في أولِ السُّورِ نُزُولاً
واعلم أنه اختُلف في أول ما نزل من القرآن، فقيل: وهو الصحيح: أنه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ}، وهو الظاهر من هذا السياق، وله أدلة أخرى، مذكورة في موضعها. والقول الثاني: {يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ}، ويُؤيده ما في الصحيحين، عن أبي سَلَمة عن جابر: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يُحدِّث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «بينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فإذا المَلَكُ الذي جاءني بحِراءَ جالسٌ على كرسي بين السماء والأرض، فرجعت فقلت: زمِّلوني فدثَّروني، فأنزل الله: {يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ}.
والجواب عنه بوجوه، منها: أن المراد منه نزولُهَا بعد زمنِ الفترة، كما يؤيده السياق. وقوله: فإذا المَلَك الذي جاءني بحِراء أيضاً يدلُّ على سابقيةِ عَهدٍ وتقدُّم خبرٍ. ومنها: أنه اجتهاد من جابر وليس مرفوعاً، وهو الأصوب عندي. والتوفيق عسير جداً، وبه قال الكرماني كما في «الفتح» في سورة المدثر. والقول الثالث: الفاتحة، وله مُرْسَل عند البيهقي. قال البيهقي: إن كان محفوظاً فيحتمل أن يكون خبراً عن نزولها بعد ما نزلت عليه «اقرأ» و «المدثر».(1/36)
والجواب أن يُلْتَزَمَ بتعدُّدِ نزولها، فلعلها نزلت أولاً بغير صفة القرآنية، ونزلت أخرى بصفتها. وفي «الإتقان» رواية في ترتيب السور مسلسلة بأئمة النحو، فأمعنت فيها النظر، فبدا لي أنه قد سرى في هذا الباب اجتهاد، فالطرد والعكس عليه مشكل. ثم ههنا نُكتةٌ نبّه عليها الحلبيُّ في سيرته، وكأنه أراد منها تأييداً لمذهب الحنفية أن الفاتحة إذا لم تنزل أولاً، فكيف يكون حَال الصلوات عند من جعلوها ركناً.
هل التَّسمية جزءٌ من كلِّ سُورة؟
فقال الشافعية: إنها جزء من كل سُورة وجزءٌ من الفاتحة أيضاً. وقال الحنفية: إنها ليست جزأً للفاتحة، ولا من كل سورة، قيل: أول مَنْ كتب هذه المسألة منا هو أبو بكر الرَّازي، وليست منقولة عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى. قلتُ: ومن رآها مكتوبةً بين كل سورتين يَحْكُمُ ذِهْنُه إلى أنها آية نزلت للفصل بين السور، كما ذكر في «الكنز». واعتُرض على الشافعية أن التسمية لو كانت جزءاً من كل سورة نزلت هناك أيضاً. وأجاب عنه الشافعية أولاً: بأن مضمون التسمية قد أُدِّيت في ضمن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ} وثانياً بأنها صارت جزأً بعد نزولها وهو كما ترى، فإن الكلام في صيغة التسمية لا في معناها.
3 - (حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ) رُوي بنصب الدال ورفعها.
3 - (يَرْجُفُ فُؤادُهُ) وفي «نوادر الأصول» للحكيم الترمذي - وهو غير الترمذي صاحب «الجامع» : أن القلب خاص، وهو موضع الإدراك، والفُؤاد يُطْلَق على وعائه. قال الشيخ الأكبر: إنه حنفي والخشية إنما كانت بالعجز عن حمل أعباء النبوة، وإنما لم تضطرب خديجة رضي الله عنها لأنها لم تكن صاحب الواقعة، وفَرْقٌ بين مَنْ يدخل في الشيء ويكون صاحبَة الواقعة، وبين من يسمعها من وراء وراء.
3 - (زَمِّلُونِي) ولا يذهب وَهْلُك إلى نزول المُزَّمِّل في هذه القصة، نظراً إلى مجرد اشتراك اللفظ، فإنه متأخر قطعاً.(1/37)
3 - (ما يُخْزِيك الله) أصلُ الخْزِي أن يفوَّض أمرٌ إلى رجل فلا يستطيع حمله فيتركه، فيُعَدُّ غُمْراً بين الناس وغيرَ أهل له.
3 - (تَكِسب) بفتح التاء وضمها أيضاً، والأول أفصح، وحينئذٍ يتعدى إلى مفعولٍ واحد، وعلى الثاني إلى مفعولين، أي وتَكْسِبُ الفقيرَ المعدومَ، أي المال.H
3 - (تَحْمِل الكَلَّ) أي الغرمات. وقولها: (وتُعين على نوائب الحق) كلمة جامعة لما تقدم وما لم يتقدم. كان بنو هاشم قد اشتهروا بهذه الأوصاف، ولذا قال لهم أبو طالب في قصيدته: يا قريش، إنما تقاطعون أُناساً بلغ مواساتهم إلى بكر بن وائل.
3 - (ابنَ عَمّ) فيه تَجَوُّز، لأنهم كانوا يتوسَّعون في بيان الأنساب.
3 - (العبراني) سُمِّي به لأن إبراهيم عليه السلام كان اختاره بعد عبوره من العراق إلى الشام. وفي نُسخة: «العربي» وهما شعبتان من أصل واحد، فلعله كان يكتب العربي أيضاً، وكذا السُّرياني منسوب إلى السريا وهو الشام. وبالجملة كان لسان اليهود العبراني، والتوراة والإنجيل كلاهما كانا بالعبري. أما التوراة العبرية فتوجد اليوم أيضاً، ولا يوجد أصل الإنجيل العبري. نعم، توجد تراجمه مع اختلاف فاشٍ بينها، وقد أقرُّوا أنه ليس من إملاء عيسى عليه السلام، ولكن جُمِع بعده بسنين. وجَمَعَ ملك من القسطنطينية نُسخة منه وسمّاها: سبعينية، وجمع فيها عقائد النصارى. ورأيت شارحاً من شرّاح الإنجيل يقول: إني كتبت هذا الشرح بعد مطالعة تسع مئة شرحاً.(1/38)
3 - (النَّاموس) أي مُبلِّغ الخير، وهو ضِدُّ الجاسوس. والآن يستعمل بمعنى القانون. يقال: نواميس النور، أي قوانيها. (أنزل الله على موسى عليه السلام) وهذا كما في القرآن: {إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} (المزمل: 15) وإنما أحال على موسى عليه السلام مع كونه نصرانياً، لأن الشريعة الجامعة عندهم هي شريعته. أما الإنجيل فقالوا: إنه من تتمته. وإنما نزل عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام للتزكية فقط. قلت: وهو باطل بنص القرآن، فإنه صريح في أنه نَسَخَ بعضاً من التوراة، فقال تعالى: {وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ} (آل عمران: 50). وكذلك يوم عيدهم، كان الأحد بدل السبت. وكذلك ليس في الإنجيل الختنة. ثم إن الخنزير كان حراماً في التوراة، والنصارى يُنْكِرُون حرمته.
قلتُ: وليس في الإنجيل حِلُّ الخنزير أصلاً، بل هو حرام في شريعة عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام أيضاً. ولذا يقتله بعد نزوله. وكان قَتَلَه عند ذهابه إلى بيت المقدس أيضاً، فكيف قالوا بِحِلِّهِ؟ {إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ} (ص: 7). والوجه فيه: أن ما حُرِّم في التوراة هو كل ذي ظُفُر، كما قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ}... إلخ (الأنعام: 146)، فاختلفوا في تفسيره فجعله اليهود من ذي ظفر، بخلاف النصارى فأحلوه، وغلِطوا في ذلك قطعاً، كما علمت أن عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام قَتَلَه حين ذهب إلى بيت المقدس. وسيقتله بعد النزول أيضاً. فالحاصل: أنه أيضاً نبيٌ مرسلٌ ذو شريعةٍ، ولكنها كانت شريعة كالتتمة للتوراة. ثم في بعض لفظه «ناموس عيسى» أيضاً وقد وجهه الحافظ، فراجعه.(1/39)
3 - (يا ليتني فيها جَذَعَاً) كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدَّعوة إلى الإسلام شاباً، ليكون أمكن لنصره. وبهذا تبين سِرُّ وصفه بكونه كان: «شيخاً قد عَمِيَ». قال الحافظ: ويظهر لي أن التمني ليس مقصوراً على بابه، بل المراد من هذا التَّنبيه على صحةِ ما أخبَرَه به، والتنويه بقوة تصديقهِ فيما يجيءُ به.
3 - (فتر الوحي) وفتوره عبارة عن تأخُّره مُدَّة، وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلّموَجَدَهُ من الرَّوع. واختُلِف في زمن الفترة كم كان؟ وكان ينزلُ إسرافيل عليه السلام في تلك المُدة ويُسَلِّيه، ويُقَوِّي روحانيته، لأن له مناسبة مع الأرواح ولذا قالوا: أن الأرواح بعد مفارقتها عن الأبدان تسكن في الصُّور، ومنها تخرج إلى أبدانها عند نفخه فيها، وأما جبريل عليه الصَّلاة والسلام فله مناسبةٌ تامة مع عالم الشهادة، ولذا كان ينزل بالوحي.
وَرَقَةُ وإسلامه
واتفقوا على إيمانه، حتى إن بعضاً منهم عَدُّوه في الصحابة رضي الله تعالى عنهم. نعم، كونه من هذه الأمة محلَّ تردُّد، فإنه تُوفِّي قبل ظهور دعوته. ويشهدُ لإيمانه رؤياه صلى الله عليه وسلّم حيث رآه في ثياب بيض، ثم لا يكون مقدَّماً على خديجة رضي الله تعالى عنها، والصِّديق الأكبر رضي الله تعالى عنه، بل يوضع بعدهما، فإنهما أسلما في زمن رسالته بدون تردد، بخلاف ورقة. واستحسنه الشيخ الأكبر أيضاً.
4 - (قال ابن شهاب) قيل: إنه تعليق. وقال الحافظ: بل هو موصول بعين هذا الإسناد، ولكن ليست القِطْعَةُ المذكورة عنده عن عروة، بل هي عن أبي سَلَمَة، فهذا تحويل لا تعليق. ثم التحويل على نحوين: الأول: أن يتغاير الإسناد في الأول ويتَّحِد في الآخر، وهو أكثر. والثاني عكسه، بأن يتَّحِدَ الإسناد في الأول ويتغاير في الآخر. وهذا النوع نادر، وهو المتحقق ههنا.
4 - (فأنذر) قيل: كان نبياً والآن صار رسولاً أيضاً. قلتُ: ولا أدخل في مثل هذه الأمور.(1/40)
4 - (وربَّكَ فكَبِّر) استدل به الحنفية: أن مُطلق الذِّكر المُشْعِر بالتعظيم يكفي للدخول في الصلوات، لأن قوله: «كبِّر»، معناه عظِّم، فالمأمور به هو مطلق التعظيم بأي صيغة كان، لا خصوص صيغة: الله أكبر، ولا سيما إذا ورد في سياق الصلاة، كما في قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى} فالسياق سياق الصلاة. والظاهر من الذكر هو الذي للشروع في الصلاة. فهذا دليل واضح على أن الضروري هو مطلق الذكر كما قلنا. وأجاب عنه ابن المُنَيِّر - وهو ركيك ، وقال: إن الإضافة في ذكر اسم ربه للعهد، فالمراد هو الصيغة المعهودة، أي: الله أكبر. وهو كما ترى نداء من بعيد. نعم، لك أن تقول: إنّ كبر ليس تفعيلاً من كبَّر المجرد، بل هو قصر من جملة: الله أكبر، كَ: سَبْحَلَ وهَلَّل من قوله: سبحان الله، ولا إله إلا الله. فإذاً لا يكون التكبير معناه التعظيم مطلقاً، بل يكون معناه هو القول ب: الله أكبر. ولا يثبت ما أراده الحنفية رحمهم الله تعالى.
ثم ههنا تتفيش ويقتضي تمهيدَ مقدمة وهي: أن النُّحَاةَ جعلوا (كَبَّر) قصراً من اللَّهُ أكبرُ، مثل سَبْحَل، وجعلوهما من وادٍ واحد، وهو عندي خطأ للفرق الجلي بينهما، لأن كبّر لفظ يفيد معنى بنفسه، بخلاف حَوْقَل وسَبْحَل، فإنه لا معنى له في نفسه، فوجب أن يُجعل قصراً من الجملة، بخلاف كبّر، فإنه موضوعٌ ومفيدٌ لمعنى بنفسه، ولا ضرورةُ فيه إلى أخذه من الجملة.(1/41)
والوجه فيه عندي أنه مأخوذ من جزء الجملة أي من أكبر في قوله: الله أكبر، وليس مأخوذاً من الجملة كمجرب ومرغن، وملبب (بالأردية)، بخلاف حَوْقَل، فإنه مأخوذ من مجموع جملة: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا بد. وإذا اتضح الفرق بينهما فالأولى أن يُفَرَّق في التسمية أيضاً ويُسمَّى مثل سَبْحَل نحتاً، لكونه منحوتاً من الجملة. ويسمى مثل كَبَّر وسَبَّح قصراً لكونه مأخوذاً من جزئها، فإن سبح مأخوذ من سبحان في قوله: سبحان الله. فالخطأ إنما هو ممن سمى الأخذ من مجموع الجملة قصراً، مع أنه ينبغي أن يسمى بالنحت، وهذا بالقصر.
ثم اعلم أنه لا بد في التفعيل من ذكر المفعول، بخلاف النحت. فإن المفعول يدخل في نفس مفهومه، فسبَّح يحتاج إليه، بخلاف سَبْحَل، فإنه صار لازماً واستغنى بمفعولٍ في معناه عن ذكر مفعول آخر.(1/42)
وإذ قد علمتَ: أن القصر ما يكون مأخوذاً من جزء الجملة لا من مجموع الجملة، لم يبق دليل في قوله كَبَّر على خصوص الصيغة، وصار معناه مطلق التعظيم. وكذا جاز لك أن تقول: معنى قوله {وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (البقرة: 185) ولتُعَظِّموا الله على ما هداكم، ومع هذا لا أُغَيِّر المسألة ولا أدَّعي أن المأمور به مطلقُ التعظيم بأي صيغة كان. وإنما تكلمتُ في تحقق المدلول وبيان اللغة فقط، مع بقاء المسألة بحالها، فإن اللفظ وإن صار صالحاً للعموم، إلا أن التعامل قد تواتر على صيغة الله أكبر قُبَيل الصلاة، وفي العيدين. ولم يَرِد في العمل غيرُهُ، والتعامل هو الفاصل في تعيين المراد عندي. فينبغي أن يُترك وجوب الصيغة وسُنِّيتَها تحت مراحل الاجتهاد، فإنه لا بحث لنا في العمل، لأن الحنفية كافة لا يشرعون صلواتهم إلا بتلك الصيغة، وإنما البحث في الأنظار فقط، فَلْيَكِلْهُ إلى الاجتهاد لا سيما إذا اختار ابن الهُمَام رحمه الله وجوبَهَا. ونُقِل عن الإمام الأعظم أنَّ مَنْ ترك التكبير، أي الصيغة المخصوصة، فقد أساء، فماذا بعده إلا الجدال. وسيجيء للمسألة أشياء أُخَر في موضعه.
ثم إن قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبّرْ} إشارة إلى الصلاة، وقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} إشارة إلى اشتراط الطهارة، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قالوا: أي الأصنام فاهجر. قلت: وعلى هذا لا يبقى له تعلق بمسألة الصلاة إلا أن يقال معناه: استمر على هجر الأصنام عند الصلاة وغيرها. ويكون المطلوب ههنا من الأمر هو دوام الهجران لا نفس الفعل. كما قرروا في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ}، والأَولى أن يُجْعل إشارة إلى طهارة المكان. كما أن الجملة الأُولى إشارة إلى طهارة الثياب، فتتعلق الجملتان بالصلاة، ويتسق النظم.(1/43)
تنبيه: واعلم أن الصلاة فريضةٌ عندي من أول أمر النبوة، نعم ما زالت تتحول صفاتها من حال إلى حال إلى أن آل الأمر إلى الخمس ليلة المعراج. ومعنى فرضية الخَمْس فيها بيان عدد المجموع مما فُرِض فيها مع ما قبلها. ثم أُمِدَّ بصلاة هي خير من خُمْر النَّعَم. وإذاً لا تأويل عندي في الآيات التي ذُكِرَت فيها الصلاتان فقط، كقوله تعالى: {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (ق: 39) فإنهما صلاتان فُرِضَتَا أولاً ثم زِيدت عليهما. وكذلك أجدهما قد صُلِّيتا بعين شاكلة الفريضة قبل فرضية الخَمس أيضاً، كما عند البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلّمصلى الفجر ببطن نخلة وَجَهَر فيها بالقراءة، وهي بعينها شاكلتها بعد فرضيتها. واتفقوا أيضاً على ثبوتهما إلا أنهم قالوا بكونهما نفلاً. وعندي لا دليل عليه.
فالحاصلُ: أنه لا خلاف في ثبوت الصلاتين من بدء الأمر كما في السير بإسناد فيه ابن لَهِيْعَة: أن جبرائيل عليه الصَّلاة والسَّلام علَّمه الوضوء عند نزول أوائل {اقْرَأْ} وعلمه الصلاة أيضاً. وابن لَهِيْعة عالم كبير احترقت كُتُبه، ثم كان يروي من حفظه، فاختلط فيها، فرواياته قبل الاحتراق مقبولة.
واستمر على ما يَرِدُ عليه والأجوبة عنه: (تابعه عبد الله بن يوسف).
باب
واعلم أن في المتابعة أربعة أشياء: المُتَابِع، والمتابَع، والمتابَع عنه، والمتابَع عليه. والبخاري يتفنَّن في ذكر المتابعات، فتارة يقول: تابعه فلان، وأخرى: تابعه عن فلان. فليعلم الفرق بينهما، فالفرق بين الأَوَّلين ظاهر، «وعنه»: هو ذلك الشيخ، «وعليه»: هو اللفظ، فعبد الله بن يوسف ههنا متابع (بالكسر)، ويحيى بن بُكَير الراوي شيخُ البخاري متابَع - بالفتح ، والليث متابَع عنه.
ثم المتابعَة إما تامة أو ناقصة، وقد بينها العلماء في أصول الحديث، وكذا المتابعة غيرُ الشاهد والفرق بينهما مذكور في «النُّخْبة» وغيرها من كتب الأصول.(1/44)
وفي هذا الحديث صفة أخرى للوحي.
5 - (وكان مما) قيل: مركب من «من» و «ما»، وقيل: «مما» بمعنى ربما، مركباً كان أو مفرداً، واستشهد له بقول الحماسي:
وإنما لمَمِا نضربُ الكبش بيضة.
5 - (لتعجل به) من باب تلقي المخاطبَ بما لا يترقب، فإن النبي صلى الله عليه وسلّمإنما كان ينازِع جبريل عليه السلام في القراءة، ولا يصبر حتى يُتِمَّها لمسارعته إلى الحفظ لئلا يتفَلَّتَ منه شيء، لا لأنه كان يستعجل ليستريح عن مشقة الحفظ ولا يقاسي تعبه فيما بعد، ولكنه تلقَّى بما لا يترقبه إظهاراً لعدم ابتغاء التحريك مع قراءته، وتعليماً لحسن الاستماع، وتأديباً لأمر القراءة، كما قال تعالى: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (طه: 114).
5 - (جَمْعُه لك في صدرك) وفيه اختلاف النسخ، والأفصحُ عندي أن يكون (جمعه) مصدراً.
5 - (قال: فاستمع له وأَنْصِتْ) واعلم أن الإنصاب والاستماع يقتصران على الجهرية، فإن ا لإنصاب مقدمة للاستماع ومعناه التهيؤ للاستماع.
5 - (ثم إنّ علينا بيانَه) قد وقع ههنا سوء ترتيب من الراوي: فذكر (أن تقرأه) في تفسير (بيانه) وهو وَهمٌ منه، لأنه تفسير لقوله: {وقرآنه} لا لقوله: {بيانه}، فنقل تفسير هذا إلى هذا، ويشهد له ما أخرجه البخاري في «التفسير» متناً وسنداً وفيه: {قرآنه}، أي أن تقرأه {وبيانه}، أي أن تبينه على لسانك. وهذا واضح في المراد، فلا تلتفت إلى التأويلات. ثم اعلم أن القرآن معناه اتساق النَّظْم، يقال: ليس لشعره قرآن بندش، ومنه سُمي القرآن قرآناً عندي.(1/45)
5 - (لا تحرك به لسانك)... إلخ، تكلَّم الناس في ربطه، فإن أوَّله وآخره في ذكر أحوال القيامة، وحينئذٍ قوله: {لاَ تُحَرّكْ}... إلخ لا يظهر له كثيرُ ربط، فقيل: لعلَّ النبي صلى الله عليه وسلّمحَرَّك شفتيه عند نزوله فنُهي عنه. وقد تعرَّض إليه الرازي إلا أنه لم يأتِ بالجواب الشافي. وقد عُرِف من عادته أنه يَبْسُط في الإيراد ويُجْمِل في الجواب، ولذا اشتهر عنه أنه يعترض نقداً ويُجِيب نسيئة.
وقد فتح الله عليَّ جوابَه، ولا بد له من تمهيدِ مقدمةٍ وهي: إن القرآن قد يكون له معنى بالنظر إلى سياقه، فإذا نُظِر إلى شأن نزوله يظهر منه معنى آخر. فالوجه في مثله عندي أن يَحْمِل ما يُفْهَم من النَّظْم مرادَه الأَوَّليّ، وما يُفْهَم من النظر إلى الخارج مرادَه الثانوي، وقَصْرُ القرآن على شأن نزوله ليس بوجيه عندي، ولم أر أحداً منهم صرح بالمراد الأوَّليّ والثانوي إلا مصنفٌ في «حاشية التلويح» حيث قال: إن للخمر إطلاقين، فما قاله الحنفية رضي الله تعالى عنهم مرادٌ أَوَّلِي، وما ذكره الشافعية أنَّ كلَّ مُسْكِر خمرٌ، فهو مرادٌ ثانوي. وكانت المسألة من علم الأصول، فعلى العلماء أن يَبْحثوا في أن نظم القرآن إذا أُعطِي معنىً ثم جاء الحديث يحمله على خلافِهِ، فهل يُعْتَبَر بنظمِ النص أو الحديث؟(1/46)
والذي ظهر لي فيه أن يُجعل مراداً أولياً وثانوياً كقوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ}... (البقرة: 230) إلخ قال الشافعية: إنه يتعلق بصدر الكلام، أي قوله تعالى: {الطَّلَقُ مَرَّتَانِ}... إلخ (البقرة: 229) وجعلوا ذكر الخُلْعِ جملةً معترضة، والخُلُع فسخٌ عندهم. وقال الحنفية رضي الله تعالى عنهم: إنه يتعلق بما قبله، وقالوا: إن القول تعلُّقه بصدر الكلام مع إمكان بتعلقه بما قبله فكذلك في النظم. قال الشافعية رحمهم الله تعالى: إن قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَنٍ} طلاقٌ ثالث لما عند أبي داود أن رجلاً سأل عن الطلاق الثالث، فقال: هو تسريح بإحسان، وحينئذٍ لو قلنا: إن قوله {فَإِن طَلَّقَهَا}... إلخ يترتب عليه، لَزِمَ أن يكون هذا الطلاق رابعاً.
قلتُ: التسريح بالإحسان تركُ الرَّجْعَة، وهذا مرادُهُ الأولى، ويدخل فيه الطلاق الثالث أيضاً على طريق المراد الثانوي، فإن الطلاق أيضاً صورة وقِسْمٌ من تَرْكِ الرَّجْعَة، وإذن لا يكون قوله: {فَإِن طَلَّقَهَا} بياناً للطلاق المستأنف بل يكون بياناً لأحد قِسْمي ترك الرجعة، فالمراد هو ما يُفْهَم من النظم. وما يدلّ عليه الحديث فهو داخل في مؤدَّاه أيضاً على طريق المراد الثانوي. وهذا هو الطريق في جميع المواضع التي يُخالف الحديث النص، فإنه يُوَفي حق النظم القرآني، ويؤل في الحديث.(1/47)
إذا أتْقنتَ هذا فاعلم أن الله تعالى لمَّا ذكر القيامة وأحوالها وكان المشركون مولَعين بالسؤال عنها تعّنتاً فقالوا: {أَيَّانَ مُرْسَهَا} (النازعات: 42) وأمثال ذلك، فحقَّق الله من أول الأمر أن لا يتكلم فيه بحرف، وأن لا يتعجل في تحصيل علمه وتفصيله، بل عليه أن يحفظ بقدر ما علَّمناه، وينتظرَ تفصيله فيما يأتي حسبما يريده الله تعالى شيئاً فشيئاً. وما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنه من تحريك شفتيه فهو مراد أيضاً لكن على طريق المراد الثانوي، وقد علمتَ أن قصر النَّظْم على ما ورد في شأن نزوله ليس بسديد، ولا سيما إذا خالف سياق القرآن، والله تعالى أعلم وعليه التُّكْلان.
باب
6 - (حدثنا عَبْدَانُ)... إلخ كان في الأصل تثنيةً ثم صار عَلَماً، وقيل: بل عَلَمٌ من الأصل نحو عثمان، وذكر الزَّمْخَشَرِيّ عند الكلام على لفظ الرحمن: إني كنت ذاهباً إلى الطائف فسألتُ عن البدوي هذا شخدف، قال: بل شغنداف يريد به الشغدف الكبير فكذلك عبدان، وحيثما كان بعده عبد الله فهو ابن المبارك. قال الحافظ: من دأب المصنف رضي الله تعالى عنه أنه يذكر المتن في التحويل لآخر الطريقين، وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: أنه يكون لآخر الطريقين أو للسند العالي.
قلت: ولعل ما ذكره الحافظ رضي الله تعالى عنه فهو عادة للبخاري خاصة، وأما ما ذكره ابن الصلاح فهو عادة عامة المحدثين، فالمتن ههنا لبشر بن محمد.
قلت: وهو كذلك إلا أنه قد يوجد خلافه أيضاً، فإنه أخرجه في مقام آخر من لفظ عبدان أيضاً.
6 - (أجودُ ما يكون) والجُودُ أبلغُ من السَّخَاء، ولذا يقال: إن الله سبحانه جَوَادٌ ولا يقال سَخِيٌ. واخْتُلِفَ في إعرابه، وأجاز ابن مالك الرفعَ والنصبَ.(1/48)
قلت: وهما صحيحان إلا أن رواية الكتاب بالرفع، وما قيل: إن النصب لا يجوز لأن ما مصدرية، فلا يصح الحمل، فليس بشيء، فإنّ حرف المصدر لا يُخْرج الفعل عن حقيقته بحيث لا يبقى بينه وبين المصدر الصِّرْف فرق، ولهذا ذهب السيد الجُرجاني رضي الله تعالى عنه في بعض حواشيه إلى أنَّ المصدر المُنْسَبِك لا يتجرَّد عن معنى الفعلية بالكلية. وفَرَّق ابن القَيِّم رضي الله تعالى عنه في «بدائع الفوائد» بين قولهم: أعجبني قيامُك، وبين قولهم: أعجبني أن تقوم: بأن الأول يَصْلُح فيما حَصَل التعجبُ من نفس القيام، أو من بعض أحواله، بخلاف الثاني، فإنه يختص بما حصل التعجب من نفس القيام. وأيضاً لا دلالة للأول على الزمان أصلاً بخلاف الثاني، فافترقا.
ومُحَصَّل الوجه المختار عندي: أن (أجود) اسم كان، و(في رمضان) حال، وحاصلاً خبرُه مقدَّر، والضمير في (يكون) للنبي صلى الله عليه وسلّم وليس في أجود ضمير. وهذا جائز في المشتق كما قيل في سيد الأنبياء لا ضمير فيه، وكان أجود ما يكون النبي صلى الله عليه وسلّمحال كونه في رمضان حاصلاً، يعني كان جوده الكثير في رمضان. وحينئذٍ لم يُحْكم فيه بكونه أجودَهم، ولكن المقصود منه أن جوده الكثير كان في رمضان، بخلاف صورة النصب، فهو كقولهم ضربي زيداً قائماً. (جبرائيل) إيل أي: الله، ومِيْكَا، وجِبْرَ، قريبٌ من معنى العبد، وحاصله عبد الله، وعَكَسَهُ بعضُهم أن إيل بمعنى العبد، ومِيْكَا وغيره بمعنى الله، وحينئذٍ شَاكِلَتُه كشاكله عبد الله وعبد الرحمن، حيث يبقى لفظ العبد ويتغير لفظ الله والرحمن.k
قلت: وهو القياس إلا أن علماءهم مصرِّحون بخلافه. (فيدارسه القرآن) ودَارَسَهُ في سنةِ رِحلته مرتين. أقول: ما كتب عمر رضي الله تعالى عنه في التراويح إلى البلاد لعله مأخوذ من مثل هذه الأمور.
باب
ذكر حديث هرقل(1/49)
واعلم أنه لا بد لنا أوّلاً أن نُلقي عليك ما في الحديث من القصة إجمالاً ليتضِح عندك أنه كيف اتفق اجتماع أبي سفيان مع قيصر في بيت المقدس. ثم نشرح لك الحديث. فاعلم أن السلطنة العظيمة قديماً كانت في الروم وإيران، وأصل إطلاق الرُّوم كان على إيطالية وكانت تُدعى برومة الكبرى، وعامة إطلاق الرُّوم في القرآن والحديث على نصارى إيطالية ويونان وقسطنطينية، وقد يُطْلق على مطلق النصارى أيضاً، ثم إيطالية وقسطنطينية كانتا بمنزلة واحدة، فلما جرت بينهما ريح الاختلاف جعل الملك العظيم دار مملكته القسطنطينية، وكان مَلِكَهم في زمنه صلى الله عليه وسلّمهِرَقلُ، وكان نصرانياً.
ثم إن لَقَبَ ملك الروم كان قَيْصَر، وملك إيران كِسْرَى، فهرقلُ اسمُهُ وقَيْصَر لقبه، وكذا اسم كسرى إذ ذاك خسرو برويز، وهو ابن هُرْمُز بن أَنُو شِيْروَان، وكان كسرى لقبه، فوقع الحرب بينهما في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم ولما كان قيصر نصرانياً وكسرى مجوسياً كان المسلمون يفرحون بفتح قيصر والمشركون بفتح كسرى. وفي هذا وقعت قصة اشتراط أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مع المشركين، وهو معروف، ويُستفاد منه جواز الفرح بفتح الكافر إذا كان أهونَ من الآخر، كما فَرِح المسلمون بفتح قيصر في مقابلة كسرى، فإنه كان مجوسياً وأشد كفراً من قيصر لكونه كتابياً.(1/50)
وكان قيصر نذر لله تعالى إن كشف الله عنه جَوْرَ فارس ليمشي إلى إيليا حافياً، فلما فتح له أوفى بنذره ووصل إليه، وكان تُبْسَطُ له البُسُط، وتُلقى على طريقه الرياحين فيمشي عليها، وكان أبو سفيان إذ ذاك كافراً لم يُسْلِم، وأسلم السنة الثامنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلّمصالح المشركين في الحديبية إلى عشرة سنين، وأدرك منها أربعة، فغدروا فيها فغزاهم في السنة الثامنة، وأرسل في تلك المدة الخُطُوط إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، فصدَّق كثيرٌ منهم، غير أنهم لم يلتزم منهم طاعَته إلا النجاشيُّ. أما كسرى مَلِك إيران فمن شقاوته مَزَّقَ كتابه صلى الله عليه وسلّم فلما بلغه خبره دعا عليه فَمُزِّقَ كلَّ مُمَزَّق، وكان هلاكه على يد ابنه.
وقصته: أن ابنه عَشِق على امرأته شيرين فقتل أباه. وكان شيرويته بن خسرو برويز مغرماً بالأدوية المقوية، فرأى يوماً دواء في حُقِّهَ، وزعم أنه دواء مقوي فأكله، وكان فيه سُمّ فهلك، فأصابهم دعاء نبي الله صلى الله عليه وسلّم ومُزِّقوا كلَّ مُمَزَّق.
وأما من كان صَدَّقه فَسَلِمُوا من الهلاك، ولو آمنوا به لأفلحوا كلَّ الفلاح، وكان هرقل محروماً حيث لم يؤمن به طمعاً في مُلْكِه، ولو آمن به لَسَلِمَ مُلْكُه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّمأشار إليه أيضاً، حيث كتب «أَسْلِمْ تَسْلَمْ»، ولكنَّه اسْتَحْمَقَ وآثر الدنيا على الآخرة.(1/51)
وبالجملة لمَّا كتب النبي صلى الله عليه وسلّمإلى الملوك كتب إلى قيصر أيضاً. وأبو سفيان خرج في تلك المدة إلى الشام للتجارة فوافق مجيء قيصر، ثم كان أمرهما كما في الحديث. وإنما بعثه بواسطة دِحْيَة الكَلْبِي، لأنه كان جميلاً، وكان الملوك إذ ذاك لا يقبلون الكتاب إلا من رسول جميل. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلّملم يبعث كتابه إلى هرقل بل بعث إلى عظيم بُصْرَى ليدفعه إلى هرقل، لأن ذلك هو الطريق في الملوك، فلما بلغه كتابه سأل هل فيهم من أهل قَرَابة النبي صلى الله عليه وسلّم فلما أُخْبِر به فتح الكتاب... إلى آخر القصة.
7 - (عند ظهره) لئلا يَسْتَحْيُوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب.
7 - (إن كذبني) بالتخفيف أي إن نقل إلى الكذب.
7 - (يأثروا) ينقلوا.
(سِجَال) فكأنه شبه المحاربين بالمُسْتَقِين بالدلو ليستقي هذا دلواً وهذا دلواً. وأشار أبو سفيان بذلك إلى ما وقع بينهم في غزوة بدر وغزوة أُحُد. واعلم أن هرقل كان عالماً بالتوراة وأحوال الأنبياء فلم يجعل هزيمة أصحابه صلى الله عليه وسلّمدليلاً على عدم صدقه، لأنه كان يعلم أن موسى عليه السلام أول من انهزم في مقابلة العمالقة فقال: يا رب ما هذا؟ قال: لا أبالي، أي هذه سنتي قد يكون النبي غالباً وقد يكون مغلوباً. نعم، إنما تكون العاقبة للأنبياء، ففتح الله في زمن يُوشَع عليه السلام.(1/52)
قوله: {وَلاَ تُشْرِكُواْ}... إلخ واعلم أن الإشراك بالله على عِدّةُ أقسام: الإشراك في الذات، والإشراك في الصفات، والإشراك في العبادة، والرابع: الإشراك في الطاعة، أما الأوَّلانِ فظاهران. وأما الثالث فيعم أن يكون عبادةَ الغير مع زعم كونه معبوداً، أو لا كبعض مشركي العرب حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) وأما الرابع، فنبه عليه الشاه عبد القادر رحمه الله، وهو أن يُتَّبِع في تحليل الحرام وتحريم الحلال غير الله سبحانه وتعالى، كما كان النصارى يتخذون أرباباً من دون الله، فهذا أيضاً نوع من الشِّرك، وسماه الشاه عبد القادر رحمه الله الشركَ في الطاعة، فاعلمه.
7 - (بالصلاة) واعلم أن الألفاظ التي لُوحِظت فيها القيود عند الشرع حقائق عندي لا مجازَ فيها ولا عموم المجاز، كيف مع أن أبا سفيان في زمن الجاهلية يستعمل الصلاة في تلك الحقيقة حقيقة، وإن لم يَكْتَنِه حقيقتَها فالشيء لا يصير مجازاً بتبدُّل الهيئة، وإلا يلزم أن تكون صلاة الحنفية مجازاً عند الشافعية وبالعكس. وكذا يلزم أن يكون إيمان أحدهما مجازاً عند الآخر، وهو باطل، خلافاً لبعضهم كما سيجيء.
7 - (وقد كنت أعلم) قال المازني هذه الأشياء التي سأل عنها هِرَقْل ليست قاطعةً على النبوة، إلا أنه يحتمل أنها كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه صلى الله عليه وسلّملأنه قال بعد ذلك: قد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنّ أنه منكم. وما أورده احتمالاً جَزَمَ به ابن بَطَّال وهو ظاهر كذا في «الفتح». وهو وإن صدقه صلى الله عليه وسلّملكنه كافر لما في المسند لأحمد: أنه كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلّمأني مسلم، فقال صلى الله عليه وسلّم «كذب بل هو على نصرانيته».
قال الحافظ رحمه الله: فعلى هذا إطلاق صاحب «الاستيعاب» أنه آمن، يعني به أَظْهَر التصديقَ، لكنه لم يستمر عليه ويعمل بمقتضاه.(1/53)
7 - (بسم الله الرحمن الرحيم) وإنما جمع بين اسم الله والرحمن، لأن اسم الله كان معروفاً عند بني إسماعيل، والرحمن عند بني إسرائيل، فجاء القرآن يجمع بينهما، وقال: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاْسْمَآء الْحُسْنَى} (الإسراء: 110).
7 - (عظيم الروم) فيه عدول عن ذكره بالمَلِك، لأنه معزول بحكم الإسلام، لكنه لم يُخْلِهِ من إكرام لمصلحة التألُّف. كذا في «الفتح».
7 - (إني أدعوك) والدعاية كالشِّكَاية، وعند مسلم بداعية الإسلام، أي بالكلمة الداعية إلى الإسلام.
7 - (أسلم تَسْلَم) لي فيه شبهةٌ، وهي أن هرقل كان مسلماً من قبلُ على دين عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام ولم تبلغه الدعوة إذ ذاك، فإن يكُ كافراً فمن حين الإنكار، فما معنى دعوته إلى الإسلام مع كونه مسلماً؟ لا يقال الإسلام على معناه اللغوي أي الإطاعة، لأن الذوق لا يقبله. فالأوجه أن يقال: إن الإسلام لقبٌ مخصوص بهذه الأمة، ولم يُطْلق على أحد من الأمم من حيث اللقبُ قال تعالى: {هُوَ سَمَّكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} (الحج: 78)، وقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً} (المائدة: 3)، وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران: 85)، فإطلاقه وإن شَمِلَ الكلَّ إلا أنه صار وصفاً مشتهراً لهذه الأمة فقط، وحينئذٍ فالإسلام أضيقُ من الإيمان، فإنّ الإيمان لا يختص بأمة دون أمة إجماعاً، وهذا على عكس ما سيجيء في كتاب الإيمان ولكنهما نظران.
ثم إن تكلّف متكلِّفٌ أن الإسلام وإن كان عاماً لكنه يتحول إلى نبي الوقت في زمانه، وإذاً معناه: أَسْلِم بنبي الوقت، لأن الإسلام قد انتقل إليه الآن أقول: والأفصح حينئذٍ أن يقول: أسْلِمْ لي، ليدلَّ على الانتقال والتحوُّل.(1/54)
7 - (يُؤْتِكَ اللَّهُ أجركَ مرتين) قال الحافظ: والأجرُ مرتين لكونه مؤمناً بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلّم ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إسلامه، ومن جهة أن إسلامه يكون سبباً لدخول أتباعه. وسيأتي التصريح بذلك في كتاب العلم إن شاء الله تعالى. وقد اشتملت هذه الجملُ القليلة التي تضمَّنها كتابُ النبي صلى الله عليه وسلّمعلى: الأمر بقوله: «أَسْلِم»، والترغيب بقوله: «تَسْلَم»، و «يُؤْتِكَ». والزَّجْرِ بقوله: «فإن تَولَّيْتَ»، والترهيب بقوله: «فإنَّ عليك»، وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى.
7 - (فإن تولَّيْتَ) وإنما لم يَقُلْ: فإن كفرتَ، لئلا يُغْضِبَه.
7 - (اليريسين) وفيه لغات، ومعناه الأَكَّارِين أي الزَّرَّاعين، ومرّ عليه الطحاوي في مشكله وتكلم كلاماً جيداً وحاصله: أن المراد منه الرعايا وسكانُ بلده. بقي أنه يخالف قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 64) فإنها تدل على أنَّ أحَداً لا يحمل إثمَ أحدٍ، قلت: الإثم إثمان: إثم التسبُّب وإثم المباشرة، وإثم التسبُّبب يكون عليه لأنه مِن فعله، ولا يخالف الآية، فإنها في إثم المباشرة، والوجه عندي أن معناه إثم إهلاكهم عليك، وأما إثم كفرهم فعليهم.
7 - ({سَوَآء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}) فإن قيل: إن القوم كانوا مشركين، وكانوا يعبدون غير الله، فكيف قال: إن التوحيد سواء بيننا وبينكم؟
قلت: إنما خاطبهم باعتبار مزعومهم ودعاويهم، فإن النصارى أيضاً يدَّعون التوحيد مع شركهم الجليّ، وكذلك أكثر المشركين لا يؤمنون بربهم إلا وهم مشركون، ولكنهم يدَّعون بألسنتهم التوحيد، فدعاهم إلى التوحيد الصحيح بعد اشتراكهم فيه بحسب الصورة على حد قوله: {إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} (إبراهيم: 11) في جواب قولهم: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} (إبراهيم: 10) فهذا مجاراة مع الخصم.(1/55)
7 - (ابن أبي كَبْشَة) تعريض بالنبي صلى الله عليه وسلّم فإن أبا كبشة كان رجلاً في الجاهلية ترك دين آبائه وعبد الشعرى، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلّمانتقل إلى دين آخر وترك دين آبائه، - والعياذ بالله مما أرادوه ، وقيل: إن أبا كبشة أحدُ أجداده، وعادةً العرب إذا انتقصت أحداً نَسَبَتْ إلى جَدَ غامض.
7 - (ملك بني الأصفر) والمراد منهم الرُّوم، وجعلهم العيني من ذرية إبراهيم، وليس بصحيح، وقد فصَّلته في عقيدة الإسلام في فصل مستقل. وأبو سفيان لم يكن إذ ذاك مسلماً، لأنه أسلم في فتح مكة، ثم صار من مخلصي الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
«وكان ابن الناطوري» هذا مقولة الزهري، وهذه القطعة سمعها الزُّهري من ابن الناطور بلا واسطة، ولعله حين أسلم وكان ابن الناطور عاملاً لهرقل باعتبار منصب المملكة وكان أُسْقُفًّا بحسب العهدة المذهبية، فإن المناصب المذهبية عند النصارى عديدة: بابا، وبطريق، وكاهن، وسقف، وبوب، راجع له «المقدمة» لابن خَلدون.
7 - (صاحب إيلياء) وتمسك منه الشافعية على جواز الجمع بين معاني المشترك، فإن معنى الصاحب المصاحب والحاكم، وقد جمع بينهما ههنا، لأن صاحب إيلياء هو الحاكم، وصاحب هرقل بمعنى المصاحب، يلزم الجمع بين المعنيين. قلتُ: بل هو بمعنى واحد، والفرق باعتبار المتعلَّق، فصاحب بلد يقال له الحاكم، وصاحب رجل يقال له المصاحب، فهذا الفرق راجع إلى المتعلق دون نفس معنى اللفظ، وترجمته في الهندية (إيليا والا أور هرقل والا). ثم إن الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى صرح أن المسألة المذكورة لم يصرح بها الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، وإنما أخذها الشافعية من بعض مسائله. ولو سلمنا فلنا أن نقول: إن الحديث ليس بحجة في مثل هذه الأمور، لأن الرواية بالمعنى قد فَشَتْ فيها، فلا يُؤمن بألفاظه من جهة النبي صلى الله عليه وسلّمبتاً.(1/56)
7 - (حَزَّاءً ينظر في النجوم) أي كاهناً، فالكهانة تستند تارة إلى الشياطين، وتارة تُستفاد من أحكام النجوم، والحَزَّاء في أصل اللغة الكاهن بالتخمين، أما مَنْ ينظر في النجوم فيقال له المنجِّم، ثم إن الشرع نهى عن الاعتماد عليهم قال الحافظ: فإن قيل: كيف ساغ للبخاري هذا الخبر المُشْعِر بتقوية أمر المنجمين والاعتماد على ما تدلّ عليه أحكامهم؟ فالجواب: أنه لم يقصِدُ ذلك، بل قَصَدَ أن يُبيِّن أن الإشارات بالنبي صلى الله عليه وسلّمجاءت من كل طريق، وعلى لسانِ كل فريق: من كاهنٍ، أو منجمٍ مُحقَ أو مُبطلٍ، إنسي أو جني. وهذا من أبدع ما يُشير إليه عالمٌ أو يَجْنَحُ إليه محتج.
تأثيرات النجوم
واعلم أنه لا يُنكر عن آثارها الطبيعية كالحرارة والبُرودة، لكن لا أثر لها في السعادة والنُّحوسة عند جمهور العلماء خلافاً لبعضهم.
7 - (يختَتِنُون) وكان الكفار أيضاً يختتنون تبعاً للملة الحنيفة. وكانت الخَتْنَة في دين عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام أيضاً لكن محى عنه البولوس.
7 - (ملك غسان) هو صاحب بُصْرى.
7 - (فسجدوا له) وكانت السَّجْدةُ عند بني إسرائيل وهي الانحناءُ لغةً. ثم الانحناءُ أيضاً جُعِل مكروهاً تحريماً في شريعتنا.
7 - (فكان ذلك آخر شأن هرقل) لما كان أمر هرقل عند كثير من الناس مستبهماً أشار الراوي إلى آخر حالِهِ.
كتاب الإِيْمَان
الإيمانُ وَمَعْنَاهُ اللُّغوي
الإيمان في اللغة: عبارة عن التّصديق، وقد يجيءُ بمعنى الوثُوق، لأنه إفعال من الأمن، وهمزة الإفعال إذا دخلت على الفعل المتعدي، فإما أنْ يعديه إلى مفعولٍ ثانٍ، أو يجعله لازماً على معنى الصَّيرورة.(1/57)
فالأول، أي التَّصديق، منقولٌ من الأَفعال المتعدية، يقال: آمنته فلاناً، أي جعلتُه آمناً منه، وآمَنْته غيري، أي جعلت غيري آمناً منه، وكلا المعنيين اللغويين، معنيان حقيقيان لِلَفظ الإيمان، وُضِعَ أولاً لجعل الشيء أمناً من أمر، ثم وُضِع ثانياً لمعنىً يناسبه وهو التَّصديق، فإنك إذا صَدَّقْتَ المخبر فقد أمنته من تكذيبِكَ إياه. وتعدِيتُهُ بالباء لتضمِينه معنى الاعتراف، فإنك إذا صدَّقت شيئاً فقد اعترفت به.
والمعنى الثاني منقول من الأفعال اللازمة، بمعنى صار ذَا أمن، فيتعدى بالباء، ليقال: آمن به، أي وثِقَ به، لأن الواثِقَ بالشيء صار ذا أمنٍ منه، وحينئذٍ لا يحتاج إلى التَّضمين. وأضاف الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى على معناه اللغوي، فبدأ قيداً آخر، وقال: إن الإيمان اسم للتَّصديق بالمغيبات خاصة، ولا يطلق الإيمان على غير ذلك، فلا يقال: آمنت بذلك في جواب من قال: السماء فوقنا، ولذا قال تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة: 3)، فقيَّد الإيمانَ بالغيبِ، لأنه لا يتعلق إلا به، وقال: إن الإيمانَ هو تصديق السامِعِ للمخاطب، واثِقَاً بأمانته، ومعتمداً على دِيانته.
وأصلُ الإيمان تبجيل الذاتِ وتعظيمها، ثم استعمل في التصديق مطلقاً، ويتعلق بالذوات والأخبار. فإن تَعَلَّقَ بالذات يُؤْتَى بالباء في صِلته، وإن تعلق بالأخبار فباللام لتضمينه معنى الإقرار، وعليه قوله تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} (يوسف: 17) أي بمقر لنا، ولم يقولوا: بنا، لأن المرادَ التصديقُ بخبرهم دونَ ذَوَاتِهِم، وفي خلافه يكون التَّضمين، ولم نجد تعديتُهُ بعلى إلا ما عند مسلم: (ما مِنْ نبيَ إلا أُتِي من الآيات ما مثلُهُ آمن عليه البشرُ) أي آمن معتمداً عليه البشر.(1/58)
ثم الكفر لغةً: الستر وجَحْدُ النِّعمة وتناسيها، وحينئذٍ لم يبق التقابل بين الإيمان والكفر لغة إلا باعتبار اللازم، فإنّ جحود النعمةِ والتناسي لا يجتمع مع التَّصديق بأحد، وتصديقه لا يجتمع معه جحود نُعمتِهِ، وأما ضِدُّه الصريح فهو الخيانة، كما أن ضِدُّ الكفر هو الشكر. ثم ههنا ألفاظ ينبغي الفرق بينها فالعلم دانستن والتصديق إن كان صفة القضية فمعناه: راست داشتن وإن كان صفة القائل فمعناه: راست كوداشتن وباوركردن والمعرفة شناختن واليقين إزاحة الشَّكِ وتحقيق الأمر، والفِكْر انديشيدن والفهم فهميدن فهذه ألفاظ ميزها أهلُ اللغة أي تمييز، فَرَاعِها تغنيك عن حدودِهِم الطويلة.
كتاب الإيمان
الإيمانُ وتَفْسِيْرُهُ عند الشَّرْع(1/59)
قال عامة الفقهاء والمتكلمين: إن الإيمان تصديق بأمور مخصوصة عُلِم كونُها من الدين ضرورة. فلنتكلم أولاً على معنى التَّصديق وما يتعلق به، ثم لنبحث عن معنى الضرورة فالتَّصديق هو الإذعان عند الحكماء، وهو إما إدراك أو من لواحق الإدراك، والحق عندي هو الثاني ثم التَّصديق قد يجتمع مع الجُحود أيضاً وهو كفرٌ قطعاً قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} (النمل: 14)، وقال تعالى أيضاً: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمْ} (البقرة: 146)، وقال تعالى: {فلما جاءهم ما عَرَفُوا كفورا به} (البقرة: 89) فانظر كيف اجتمع اليقين والإذعان، والمعرفة مع الجحود فيلزمُ على التعريفِ المذكورِ أن يجتمع الإيمان مع الجحود، واللاّزمُ باطلٌ، ولذا جعل الفقهاء الإقرارُ شرطاً للإيمان، لإخراج تصديق الجاحدين، فإن الجاحد لا يُقر بلسانه البتة، ومن أقر باللسان لا يمكن منه الجحود، فكأنهم فهموا أن الإقرار مقابلٌ للجحودِ فجعلوه شرطاً، أو شطراً، احترازاً عن مثل هذا اليقين والمعرفة. وحينئذٍ فالجواب عندهم: إن هؤلاء وإن كانوا مستيقنين به، لكنهم لم يكونوا يقرُّون بألسنتهم، بل كانوا يجحدون، فلم يعتبر تصديقهم، ولم يُحكم عليهم بالإيمان، لأن التصديق المعتبر ما كان مع الإقرار باللسان ولم يوجد، وهو الفاصل في الباب.(1/60)
واختلف فيه صدر الشريعة رحمه الله تعالى، والعلامة التَّفْتَازَاني رحمه الله تعالى، فقال صدر الشريعة رحمه الله تعالى: إن التصديق المنطقي أعم من الاختياري والاضطراري، والمعتبر في الإيمان هو الاختياري فقط؛ لأن الإيمان مُثَاب عليه، والثواب لا يترتب إلا على فِعله الاختياري، فما هو معتبر في باب الإيمان ليس بجامعٍ مع الجحود، وما هو بجامع معه ليس بمعتبر في الإيمان، وكأنه فَهِمَ أن الرجل إذا صدّق أحداً عن اختياره وطوعه، بدون إكراه مُكْرِه، لا يتمكّن على الجحود. والذي يجحدُ به لا يُمكنه التَّصديق عن اختياره. نحو أن يقعَ بصركُ على الجِدار، ويحصلُ لك الإذعان بوجوده اضطراراً، فهذا النوع من اليقين يمكن أن يجامع الجحود، فإنه ليس من فعله، بخلاف ما صدر عن اختياره، فإنه فعله، والظاهر أنه إذا فعل فعلاً عن اختياره لا يفعل نقيضه إلا أن يكون به جِنَّة، أو يكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً.
وادعى التفتازاني أن تلك المعرفة الحقة اليقينية المجامعة مع الجحود ليست بتصديق، بل هي من التصورات والتصديق اسمٌ لليقين المجامع مع التسليم، فكأنه أخرجَ تصديقَ الجاحدين عن مُسَمَّى التصديق ومتناولاته رأساً، وحينئذٍ ساغَ له أن يقول: إن المعتبر في الإيمان هو التصديق، وما وُجِد منهم هو اليقين المجامع مع الجحود، وهو تصورٌ وليس بمعتبر في الإيمان، وكأنه فَهِمَ أن التّصديق إذا قارنه التسليم لا يكون إلا اختياراً.v
وحينئذٍ فالتصديق عنده مساوٍ للإيمان، بخلافه على الأول، فإنه كان أعم من الإيمان.(1/61)
والذي يظهر عندي أن الصواب مع صدر الشريعة، فإن أرباب المعقول لعلهم لا يحكمون على تلك المعرفة اليقينية بكونها تصوراً، والظاهر أنها تصديق عندهم ثم العجب من صدر الشريعة كل العجب حيث اعترض على شيخ التسليم في «باب الزكاة» من «شرح الوقاية» بقوله: فانظر إلى هذا الذي أدرج ركناً زائداً في الإيمان... إلخ كيف، مع أن صدر الشريعة أيضاً قيدَ التصديقَ بالاختياري، وهذا الاختياري ليس أمراً وراء التسليم، على أنه مصرحٌ به في القرآن أيضاً: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً} (النساء: 65) فهذا التسليم هو الذي أضافه الشيخ رحمه الله، فلم يكن أمراً زائداً، كما ألزمه صدر الشريعة.
والحاصل: أن الفقهاء رحمهم الله شرطوا الإقرار لإخراج مثل هذا التصديق عن مُسمّى الإيمان. والشيخ الهروي: التسليم. وصدر الشريعة وإن عَمَّم التصديق أولاً، لكنه خصصه آخراً، وأراد منه الاختياري فقط، والتفتازاني خصصه من أول الأمر، وأخرجه عن مُسمّى التصديق ابتداءً، فلم يحتج إلى التخصيص، فالبيت واحدٌ وتلك أبوابه فأته من أيها شئت، ولعلك علمت مما ذكرنا مرامى الفقهاء والعلماء، وأنهم لماذا يختلفون في العبارات وماذا يريدون منها.(1/62)
ثم رأيتُ حكايةً في «الفتح» عن أحمد رحمه الله تعالى لا أرى في نقلها بأساً، وأريد أن أنبه على ما استفدت منها. قال أحمد رحمه الله: بلغني أن أبا حنيفة رحمه الله يقول: إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وكيف يكون هذا مع أنه رُوي عن ابن مسعود في الصحيحين، أن المرء إذا أسلم فأحسن في إسلامه، فهو كفارة له، وإلا فيؤخَذُ بالأول والآخر، فإنه يدل على أن الإسلامَ لا يهدم ما كان قبله مطلقاً، بل تبقى عليه المؤاخذة بعده أيضاً. واستفدت منه أن الإيمان عند أحمد رحمه الله كالتوبة الكلية، وهي عزمٌ على الإقلاع عن المعصية فيما يأتي، فمن أحسن بعد إسلامه، فقد صحت توبتُهُ وصار إسلامه كفارةً له، ومن أساء بعده ولم يقلع عن المعصية لم تصح توبته، فيؤخذ بالأول والآخر، وإذا كان الإسلام عنده كالتوبة، يكون وسيلة للأعمال، والأعمال مقصودة، فإنها المقصودة من التوبة، وإليه يشير ما نُقل عنه، أن الإيمان معاقدةٌ على الأعمال، أي أنه عقدٌ على التزام الطاعات على نفسه، والعقد يكون وسيلةً للمعقودِ عليه.
والإمام الهمام رحمه الله تعالى جعله من أكبرِ الأعمال وأساسها، ومقصوداً لذاته غير وسيلة لشيء. ثم لا اعتراض عليه بحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، فإنه إن كان عند أحمد رحمه الله حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فعنده أيضاً حديث صريح عند مسلم: «إن الإسلام يَهدِمُ ما كان قَبْلَه» فلو كان عند أحمد رحمه الله محمل لحديث الهدم، فيمكن أن يكون عند الإمام الأعظم رحمه الله أيضاً محملٌ لحديثه. والله تعالى أعلم.
بحث في معنى الإِقْرار(1/63)
واخْتُلِفَ في الإقرار، فقال المرجئة: إن الإقرار ليس بشطرٍ ولا شرطٍ للإيمان، فالتصديق وحده يكفي للنجاة عندهم، حتى اشتهر القول عنهم: بأنه لا تضرُ مع الإيمان معصية. وعلى خلافهم الكرَّامية، فإنهم زعموا أن الإقرار باللسان يكفي للنجاة، سواءٌ وُجِدَ التصديق أم لا، فكأنهما على طرفي نقيض. وعندنا لا بد من الإقرار أيضاً، إما شطراً أو شرطاً.
قال التفتازاني: إن الإقرار لو كان شرطاً لإجراء الأحكام فلا بد أن يكون على وجه الإعلان والإظهار للإمام وغيره من أهل الإسلام، وإن كان لإتمام الإيمان، فإنه يكفي مجرد التكلم به وإن لم يظهر على غيره. ومن جعل الإقرار ركناً كالتصديق فرّق بينهما بكون التصديق لا يحتملُ السقوطَ في حال، بخلاف الإقرار، فإنه يسقطُ عند الأعذار. وفي «المسايرة» وجَعْلُ الإقرار بالشهادتين ركناً من الإيمان هو الاحتياط بالنسبة إلى جعله شرطاً خارجاً عن حقيقة الإيمان. ثم إنه شرطاً كان أو شطراً، لا بد منه عند المطالبة عند الكل، فإن طُولِبَ به ولم يُقر، فهو كافر كفر عناد، وهو معنى ما قالوا: إنّ تَرْك العناد شرطٌ في الإيمان. كذا صرح به ابن الهمام رحمه الله.(1/64)
تنبيه: وههنا إشكالٌ يردُ على الفقهاءِ والمتكلمين وهو أن بعضَ أفعال الكفر قد توجد من المُصدِّق، كالسجود للصنم والاستخفاف بالمصحف، فإن قلنا: إنه كافر، ناقض قولنا: إن الإيمان هو التصديق. ومعلومٌ أنه بهذه الأفعال لم ينسلخ عن التصديق، فكيف يُحْكم عليه بالكفر؟ وإن قلنا: إنه مسلم، فذلك خلافُ الإجماع. وأجاب عنه الكَسْتلِّي تبعاً للجُرْجَاني: أنه كافر قضاءً، ومسلم دِيَانَة. وهذا الجواب باطلٌ مما لا يُصْغى إليه، فإنه كافر دِيَانة وقضاءً قطعاً، فالحق في الجواب ما ذكره ابن الهمام رحمه الله تعالى، وحاصله: أن بعض الأفعال تقوم مَقَام الجحود، نحو العلائم المختصة بالكفر، وإنما يجب في الإيمان التبرؤ عن مثلها أيضاً، كما يجب التبرؤ عن نفس الكفر. ولذا قال تعالى: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَنِكُمْ} (التوبة: 66)، في جواب قولهم: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} (التوبة: 65)، لم يقل: إنكم كذبتم في قولكم، بل أخبرهم بأنهم بهذا اللعب والخوض اللذين من أخصِّ علائم الكفر خلعوا رِبْقَةَ الإسلام عن أعناقهم، وخرجوا عن حِمَاهُ إلى الكفر، فدل على أنّ مثلَ تلك الأفعال إذا وجدت في رجل يُحكم عليه بالكفر، ولا يُنظر إلى تصديقه في قلبه، ولا يلتفت إلى أنها كانت منه خوضاً وهزأً فقط، أو كانت عقيدة. ومن ههنا تسمعهم يقولون: إن التأويل في ضروريات الدين غيرَ مقبول، وذلك لأن التأويلَ فيها يُساوِق الجحود وبالجملة: إن التصديق المجامعُ مع أخصِّ أفعال الكفر، لم يعتبره الشرع تصديقاً، فمن أتى بالأفعال المذكورة فكأنه فاقدٌ للتصديق عنده وأوضحه الجصَّاص، فراجعه.
المحورُ الذي يدورُ عليه الإيمان(1/65)
وإذا قد علمت أن التَّصديقَ والتسليمَ والمعرفةَ واليقينَ كلُّها يُجَامِعُ الجحود، فلا بد من تفسير يتميز به الكفرُ من الإيمان. كيف وهذا القرآن يشهدُ بمعرفة الكفار، قال تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمْ} (البقرة: 146) وهذا أبو طالب يُقِرُ بنبوتِهِ ونباهته صلى الله عليه وسلّمويُعْلنُ بها في أبياته، حتى دارت وسارت، فيقول:
*ودعوتَني وزعمتَ أَنَّكَ صادِق ** وصدقت فيه وكنت ثَمّ أمِيناً
*وعرفتُ دينَك لا محالةَ أنه ** من خيرِ أديانِ البَرِيَّةِ دِينا
*لولا الملامةُ أو حَذَارِ مَسَبَّةٍ ** لوجدتَّني سمحاً بذاك مُبِيناً وهذا هرقل عظيم الروم يقول: لو أني أعلم أني أَخْلُصُ إليه لتجَشَّمْتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغَسَلْتُ عن قدميه، وفي «فتح الباري»: عن مرسل ابن إسحق عن بعض أهل العلم: أن هرقل قال: ويحك، والله إني لأَعْلَمُ أنه نبيٌ مرسل، ولكني أخاف الرومَ على نفسي، ولولا ذلك لاتَّبعتُهُ. فهل تريدُ من التصديق أمراً وراء ذلك؟ فلما وُجِد منهم التصديقُ والتسليمُ والإقرارُ بهذه المثابة، وَجَبَ على التعريفِ المذكورِ أن يُحْكم عليهم بالإسلام، مع اتفاقهم على كونهم كافرين.
فأقول: إنّ الجزءَ الذي يمتاز به الإيمان والكفر، هو التزام الطاعة مع الردع والتبري عن دين سواه، فإذا التزم الطاعة فقد خرجَ عن ضلالة الكفر ودخل في هَدْي الإسلام. وحينئذٍ تبين لك وجه كفر هؤلاء الكفرة مع تصديقهم ومعرفتهم، وذلك لأن أبا طالب وإن أعلن بحقية دينه، إلا أنه لم يلتزم طاعته، ولم يدخل في دينه، ولذا قال: لولا الملامة أو حذار مسبة.... إلخ، فآثر النار على العار. وهكذا هِرَقل، وإن تمنى لقاءه وَبجَّلَه وعظمه بظهر الغيب، لكنه خشي الرومَ أشدَّ خشية، فلم يلتزم طاعته. وكذلك حال الكفار الذين أخبر الله سبحانه عن معرفتهم، فإنهم مع معرفتهم الحقَ، صفحوا عن كلمة الحق، ولم يَدِينُوا بدين الإسلام.(1/66)
ولذا أقول: إن الإيمان من الإرادات وترجمته في الهندية (ماننا) فهذا هو الصواب في تفسيره، فقد نقل الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى الإجماعَ على كون هذا الجزء مما لا بد منه في باب الإيمان، وحينئذٍ ينبغي أن يراد من الإقرار في قول الفقهاء: الإقرار بالتزام الطاعة. وإن كان المراد منه الإقرار بالشهادتين كما هو المشهور، يبقى الإشكال.
ثم إنهم اكتفَوا بذكر هذه الأشياء، وفسروا بها الإيمان، لأن الإيمانَ بعد تحقُّقِها يتحققُ في أكثر المواد، وإن تخلَّف عنها في بعض، فبالنظر إلى مواد الاجتماع، جعلت كاللوازمِ المساوية له. وزعم أنها عين الإيمان، ثم إذا أمعنتَ النظرَ في مادة الافتراق وعلمت أنها ليست بإيمان ولا لوازمَ مساوية له، وجب عليك أن تطلبَ أنَّ حقيقةَ الإيمانِ ماذا؟ فهذا الذي نبهناك عليه، هو حقيقة الإيمان، وذلك وإنْ لم يقرع سمعُكَ، لكنه هو الصواب إن شاء الله تعالى، فإن هذا الجزء لا يجامعُ الكفرَ بأنواعه، أي نوع كان.
ونُقِل عن إمام الحرمين رحمه الله تعالى وعن الأشعري رحمه الله تعالى أيضاً كما في «المسايرة»: أنّ الإيمانَ كلامٌ نفسيٌ، وكأنهم أرادوا به: أن القلب إذا تكلَّمَ بكلمة الشهادةِ وأذعن بها فقد تم الإيمان، لأنه لا يمكن منه الجحود بعده، بخلاف الإقرار باللسان، فإنه يمكن الجحود بعده أيضاً. فالإيمان على هذا التقدير ليس عِلماً من العلوم، بل قول من أقوال القلب. فقول القلب تصديقٌ وإيمان عندهم، وقول اللسان إقرار. ويمكن أن يُحْمَل عليه قول مَنْ قال: إن الإيمانَ قولٌ وعملٌ. ولست أريدُ أنّه مراد البخاري رحمه الله تعالى أو المحدثين، بل أريدُ أن له وجهاً أيضاً. وأما ما نُقل عن إمامنا رحمه الله تعالى: أن الإيمان معرفة.(1/67)
فالمراد منه المعرفةُ المصطلحةُ عند الصوفية رحمهم الله تعالى، وهي التي تحدثُ بعد الرياضات، وهي الإيمان الكامل. وتلك لا تجامِعُ الجحود أصلاً، بل قلما توجد في قلوب عامة المسلمين، وليس المرادُ منها المعرفة اللغوية ونحوه.
نُقل عن علي رضي الله عنه وأحمد رحمه الله: أن الإيمان معرفةٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان. وأما ما شَرَطَه جَهْمٌ، فقد ردّ عليه إمامنا رحمه الله، كما نقله أصحابنا، فالمراد من المعرفة ما يستوجب العمل، لا التي تجامع الجحود أيضاً، وهي التي تراد في مواضع المدح، وهي التي من الأحوال والأعمال.
أما الإيمان أو المعرفة إذا أطلق على غير هذا مما لا يكون معتبراً، فيُحْترسُ هناك ولا يُتركُ بدون تنبيه. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 8) فنبَّه أن إيمانهم غير معتبرٍ. ثم اعلم أنه أطلق في «الإحياء» الحال على الإيمان. أقول: والأولى لفظ العمل، لأن العمل في اللغة يختص بالاختياري وأما ما يقال: «مات زيد»، فمات فعلٌ، فهو اصطلاحُ النُّحاة. وأما أهل اللغة فلا يُسمُّونَه فعلاً، وإنما الفعلُ عندهم ما يصدر عن اختيار، فالإيمان فعلٌ اختياري، ولا بُدٌّ، فإن المرء لا يُثاب إلا على ما فعله من اختياره، بخلاف الحال، فإنه يُنبىءُ عن عدم الاختيار، ثم له وجه أيضاً، فإن الإيمان وإن كان عملاً في الابتداء، لكنه بعد الرسوخ يصيرُ حالاً غير اختياري، فإطلاق الحال عليه أيضاً صحيحٌ بنحو من الاعتبار.(1/68)
وعن أحمد رحمه الله: أنه معاقدةٌ على الأعمال، أي الإيمان عقدٌ، على أنه التزامٌ بأداءِ جميع الأعمال على نفسه. أقول: وحينئذٍ يكون الإيمان كالوسيلة، والأعمال مقصودة، فإن العقد وسيلةٌ، والمقصودُ هو المعقود عليه، مع أن الإيمانَ من أسنى المقاصد، وبعد اللُّتيا والتي أن الإيمان تصديقاً اختيارياً كان، أو معه تسليم، كلاماً نفسياً كان، أو معرفة، أو معاقدة، لا يفنك عن هذا الالتزام، والطاعة له صلى الله عليه وسلّمفي جميع ما جاء به. فأما أن يراد بألفاظهم هذا، أو يُزادُ عليها هذا الجزء. بقي إصلاح الاصطلاحات والألفاظ، فهذا أمر نَكِلُهُ إليك، ولسنا بصدده بعد وضوح حقيقة الحال. والله تعالى أعلم وملمُهُ أتم.
المَعْرِفَةُ شرطٌ في الإيمان أم لا؟
فالمشهور عن الأئمة الأربعة رحمهم الله: أنها ليست بشرط، بخلاف المعتزلة فإنها شرط عندهم، ومعناه عندهم: أن يكون عنده من الدلائل على التوحيد والرسالة ما يوجب اليقين، بحيث لا يزولُ بتشكيكِ المشكِّك، ويجبُ عند أئمتنا اليقين، ولا يجب سُنُوحُ الدلائل معه، وهو الحق، فإنه يُعلم من الصحيحين العبرةُ بإسلام رجالٍ أسلموا في الحروب والسيوف تلمع عليهم. وكذلك أمرنا أنْ نَكُفَّ سيوفنا عمن قال: لا إله إلا الله، لأنه دليل صادق على رضائه بالإسلام، والترك لدينه، وحسابُهُم على الله، وأين تحضرهم الدلائل في هذا الحين. وهذا معنى ما يقال: إن إيمانَ المقلدُ معتبرٌ عندنا، فمن آمن تقليداً وأذعن به قلبه، فإنه مؤمنٌ وإن لم يكن عنده دليل على ذلك، بخلاف المعتزلةِ وزعم بعض السفهاء: أن الاختلافَ في عبرةِ إيمان مقلدي الأئمة رحمهم الله تعالى وعدمها، وهو حمقٌ، والصواب ما علمت.(1/69)
والحاصل: أنّ أولَ الواجبات عند المعتزلة: هو المعرفة، ثم الإيمان. وعندنا: الإيمان، هو أول الواجب، وليست تلك المعرفة شرطاً أصلاً، ثم رأيتُ، في «جمع الجوامع»: أن لو حصل لرجل ظن، ولم يكن عنده اعتقادٌ جازمٌ، فهو أيضاً كاف لإيمانه، بشرط أن لا يخطر الكفرُ في قلبه، ولا يوسوس به صدرُهُ، ولا تترددُ فيه نفسُه.
قول وعمل
وفي عامّة نُسخ البخاري: قولٌ وفعلٌ، ولا أعلم وجهَه. ولفظ السَّلف: الإيمان: اسم للاعتقاد والقول والعمل، فلا أدري ما وجه تغييرِهِ عُنوان السلف، ووضعُ الفعل بدل العمل، مع أن الأظهرَ هو العمل. ولما أراد البخاري من القول ما يوافقُ الباطنَ اندرج الاعتقاد تحته. ولذا حذفه من مقولتهم. فالإيمان عند السلف عبارة عن ثلاثة أشياء: اعتقاد، وقول، وعمل. وقد مر الكلام على الأولين: أي التصديق، والإقرار، بقي العمل، هل هو جزءٌ للإيمان أم لا؟ فالمذاهب فيه أربعة:
قال الخوارج والمعتزلة: إن الأعمال أجزاءٌ للإيمان، فالتارك للعمل خارج عن الإيمان عندهما. ثم اختلفوا، فالخوارجُ أخرجوه عن الإيمان، وأدخلوه في الكفر، والمعتزلةُ لم يدخلوه في الكفر. بل قالوا بالمنزلةِ بين المنزلتين.
والثالث: مذهب المرجئة فقالوا: لا حاجة إلى العمل، ومدار النَّجاة هو التصديق فقط. فصار الأوَّلونَ والمرجئة على طرفي نقيض.(1/70)
والرابع: مذهب أهل السنة والجماعة وهم بين بين، فقالوا: إن الأعمال أيضاً لا بد منها، لكنّ تَارِكها مُفَسَّقٌ لا مُكَفَّر. فلم يُشددوا فيها كالخوارج، والمعتزلة، ولم يِهوِّنوا أمرها كالمرجئة. ثم هؤلاء افترقوا فرقتين، فأكثر المُحدِّثين إلى أن الإيمانَ مركبٌ من الأعمال. وإمامنا الأعظم رحمه الله تعالى وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أن الأعمال غير داخل في الإيمان، مع اتفاقهم على أن فاقدَ التَّصديق كافرٌ، وفاقدَ العمل فاسقٌ، فلم يبق الخلاف إلا في التعبير. فإن السلف وإن جعلوا الأعمال أجزاء، لكن لا بحيثُ ينعدمُ الكل بانعدامِهَا، بل يبقى الإيمان مع انتفائها.
وإمامنا وإن لم يجعل الأعمال جزءاً، لكنه اهتم بها وحرَّضَ عليها، وجعلها أسباباً سارية في نماء الإيمان، فلم يهدُرها هَدْر المرجئة، إلا أن تعبيرَ المُحدِّثين القائلين بجزئية الأعمال، لما كان أبعد من المرجئة المنكرين جزئية الأعمال، بخلاف تعبير إمامنا الأعظم رحمه الله تعالى، فإنه كان أقرب إليهم من حيث نفي جزئية الأعمال، رُمِي الحنفية بالإرجاء. وهذا كما ترى جور علينا فالله المستعان. ولو كان الاشتراك بوجه من الوجوه التعبيرية كافياً لنسبة الإرجاء إلينا، لزم نسبة الاعتزال إليهم، فإنهم قائلون: بجزئية الأعمال أيضاً كالمحدثين، ولكن حاشاهم والاعتزال، وعفا الله عمن تعصب ونسب إلينا الإرجاء، فإن الدين نُصْحٌ كله، لا مُرَامَاة ومُنابذة بالألقاب. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تعدد الاصطلاح في الإرجاء
صرح الشَّهرستاني في «المِلل والنِّحل» على تعدد الاصطلاح فيه، وقال: إن المرجئة على قسمين:
مرجئة أهل البدعة، وهم الذين أهملوا الأعمال وزعموا التَّصديق كافياً للنجاة، فلا يضر عندهم مع الإيمان معصية.(1/71)
والثاني: مرجئة أهل السنة، وهم المنكرونَ جُزئيتها، مع شَغفِهم بالأعمال والأوامر من حيث الائتمار، والنواهي من حيث الاجتناب. وعُدّ الحنفية من القسم الثاني. وفي عقائد الحافظ فضل الله التُّوْربِشْتي رحمه الله تعالى: عندي أن المرجئة هم الذين قالوا: إنه لا اختيار للعبد. والتوربشتي هذا حنفيُ متقدِّم على الرازي رحمه الله تعالى، وكتابه هذا أجودَ من «شرح المقاصد» وغيره. فليس النزاعُ بين الأئمة إلا في كون الإيمان مجموع الأجزاء، أو التصديق فقط. أما كون الأعمال واجبة، فلا اختلاف بينهم في ذلك.
شَرْحُ قَوْلِهِم: قَوْلٌ وَعَمَلٌ
فلنشرح أولاً مراد السلف، والكشف الغِطاء عن قولهم: الإيمان: قول وعمل، ثم لنبحث أن الأعمال هل تصلح لجزئية الإيمان أم لا؟ فاعلم أن قولهم هذا ليس نصاً في الجزئية كما فهموا، لأنه ليس من لفظ السلف أن الأعمالَ أجزاءٌ للإيمان، بل لفظهم: «قول وعمل» وهو يحتملُ شروحاً يصدقُ بعضها على مذهبنا أيضاً، بل هو أولى الشروح كما ستعرف.
الأول: ما فهمه عامةُ الناقلين وأرباب التصانيف، وهو أن الإيمانَ مركبٌ من القول أي الشهادتين والعمل، وهذا الشرحُ دائرٌ فيما بينهم. والإيمان على هذا الشرح ذا أجزاء كالجدار واللُّبِنات. ثم إنهم قالوا: إن المُخلَ بالتصديق فقط مع القول الظاهر، منافقٌ، والمخلُ بالتصديق والقول كافرٌ مجاهِرٌ، والمخلُ بالعمل فقط فاسقٌ. وحكمه: أنه لا يخلدُ في النار، ففرقوا بين جزءٍ وجزء فبانتفاء البعض حكموا بانتفاء الكل، كالتصديق، وبانتفاء بعض آخر لم يحكموا بانتفاء الكل، كالعمل. واستشكله الرَّازي وقال: إن الأجزاء كلها متساوية الأقدام في أن انتفاءَ بعضها أي بعض كان - يستلزمُ انتفاءَ الكل قطعاً، ولا نتعقَّلُ فرقاً بين جُزء وجزء. وأجابوا عنه بأجوبةٍ كلها مشى على القواعدِ وغَفْلةٍ عن الحقائق.
(1/72)
فقال قائل: إن الأجزاءَ على قسمين: حقيقةٌ، وعُرفيةٌ. وبانتفاء الأول ينتفي الكل، بخلافِ الثاني. والعمل من الثاني دون الأول، وحولَهُ تَحُومُ أجوبة أخرى. والحق في الجواب: أن المجموعَ المركبَ من الأجزاء لا يلزمُ من زوالِ بعض أجزائه انعدامُ هذا المركب أيضاً. نعم، تزول تلك الهيئة السابقة، لكن لا يقتضي التباينُ بينها وبين اللاحقة، وذلك كالإنسان مثلاً، فإذا أصابت بعض أعضائه عاهة، لم يخرج عن كونه إنساناً، نعم يقال من حيث الصورة: إنه إنسان ناقص، فإذا زاد النقصُ ربما خرجَ عن تسميته إنساناً ظاهراً، بل لا أجد أحداً من الأشياء يزولُ اسمه بزوال جُزء منه. نعم، ههنا مجال للنظر، فمن أهلكَ الحرثَ والنَّسل وفعلَ كلَّ مُنكَر، ولم يأت بخير ما، فلا علينا أن لا يُسمّى بأشرف أسماءِ الأمة.
فإن قيل: فما مِقْدَارُ الطاعات التي يَخْرُجُ بتركها من الإيمان؟ قلنا: عِلمُها عند الله، وعدم علمنا بمقدارها، لا يقتضي أن لا يكون لها مقدار في الواقع. وهذا كالسواد والبياض، إذا انتقصْتَ من السواد درجة، لا يأخذُ البياضُ مكانها. نعم، لا تزال تنحطّ منه درجة بعد درجة، حتى إذا انتفت جميع مراتب السواد، يجيء البياضُ بدله. فهكذا الإيمان والكفر، لا يزال الإيمانُ ينقصُ بالمعاصي، حتى إذا انتفت المرتبة التي هي مَدَار النَّجاة، استخَلَفه الكفر، فيصبح من الكافرين.l
والعياذ بالله فافهمه، فإنه يُنْجِيك من الشَّبهات. فالعملُ على هذا التقدير حاصلٌ المصدر، ومثلُهُ القول.(1/73)
والشرح الثاني: أن الإيمان تصديقٌ يظهرُه اللسان والجوارح. وحاصله: أنه التصديقُ المساعدُ بالقول والعمل، وحينئذٍ لا يكون الإيمانُ إلا التصديق فقط، ويبقى القول والعمل ساعداً ومُساعداً للإيمان لا أجزاء له. فالتصديقُ الذي يخلو عن الإقرار والأعمال، كأنه ليس بتصديق. وهذا أيضاً نظرٌ على حد قوله: «المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمونَ من لسانِهِ ويده»، «والمؤمنُ من أمِنَه الناسُ على دمائهم وأموالِهم». رواة الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وفي القرينتين حصرٌ، وهو يؤدي انتفاء اسم الإسلام والإيمان عند عدمِ سلامة الناس، وعدم الأمن منه، فمن كان مسلماً ينبغي أن يشهدَ له عملُهُ، وهو سلامةُ الناس من لسانه ويده، ومن كان مؤمناً يجب أن يأمَنَه الناسُ على دمائهم. وبدون ذلك، إسلامه وإيمانه، غير مصدَّقٍ من العمل، وإذا لم يصدَّق عمله، فإذن هو أمرٌ يدَّعيه هو، ولا ندري أهو كذا أم لا؟
الشرح الثالث: إن التصديق منسحب على القلب، والجوارح، فتصديق القلبِ هو التصديق الباطني المُسمّى بالإيمان، وتصديق الجوارح يُسمّى عملاً وأخلاقاً. فالشيءُ واحد من هناك إلى ههنا. ويختلف الأسامي باختلاف المواطن. فالإيمان على اللسان قولٌ، وعلى الجوارح عملٌ. وهذا أيضاً محتملٌ، كقول الأطباء: إن الإرادة شيءٌ واحد، وهي التي تُسمّى في اليد: بقوة التحريك، وفي القلب: بالإرادة. فهكذا ما دام التصديقُ في القلب فهو إيمانٌ. وبعد كونِهِ مجبُولاً عليه يصيرُ أخلاقاً. وبالظهور على الجوارح يسمّى أعمالاً. فهذه كلها أنظار، والأخير تفلسف. لا كما زَعَمُوه: أنه حدٌ كحدِ المناطقة، فجعلوا عليه الطرد والعكس. والأمرُ كما عَلِمْتَ أنه نظرٌ من الأنظار، وهو الذي يليق أن يدورَ في السلف، لا تحديدُهُ، فإنه من طريق الخَلَفِ المشتغلين في الفنون.(1/74)
وهناك شرح رابع: وهو أن الإيمان اسم للتصديق الذي يَعقبُهُ القول والعمل، فينبغي أولاً أن يُصدِّق، ثم يُقر، ثم يعمل، والقولُ والعمل على هذا التقدير مصدر، لا الحاصل بالمصدر، وهذا نحو ما نقل الحافظ في «الفتح» في: باب الإنصات للعلماء من كتاب العلم: عن سفيان: أول العلم الاستماع، ثم الإنصات، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر. وعن الأصمعي تقديم الإنصات على الاستماع. فانظر كيفَ رأيتَ قولَه هل هو تحديدٌ له وذكر لأجزائه؟ بل مُراده أن حقَّ العلم أن يترتب عليه تلك الأشياء، فهذه الأشياء من مقتضياته، وهو داع لها. فكذلك الإيمان ليس تصديقاً فقط، بل من حقِّه أن يصدقه اللسان والجوارح، وهو القول والعمل.
إذا علمتَ هذا فقد علمتَ أن قولهم: لا ينحصرُ في الجزئية، بل هو أحذُ شروحِهِ والظاهر أنهم ليسوا بصدد التحديد. وبيان الأجزاء، بل ببيان الأنظار، وأنَّ ما ينبغي أن يكون، وإذن يتأتَّى قولهم على مذهبنا أيضاً.
وإذ قد فرغنا من شرح مقولتهم، فلنعرِّج إلى أن الأعمالَ هل هي أجزاءٌ للإيمان أم لا؟
بحثٌ في أنَّ الأعمالَ أَجْزاءٌ للإيمانِ أم لا؟
والظاهر أنَّه أيضاً نَظرٌ جعلَهُ الناسُ عقيدة.
واعلم أن إطلاق الإيمان على الأعمال مما لا يمكن إنكاره، فقد تواتر به الحديث. لكن صنيع القرآن على خلافه. فإنه ينبىءُ أن الإيمان هو التصديق وحده من غير أن يعتبِرَ معه العمل، لأنه تعالى كلما ذكر الإيمانَ في القرآن أضافَهُ إلى القلب، وظاهره أن فعل القلب هو التصديق وحده.
والثاني: أنه تعالى عَطَفَ عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى. ولو كان ذلك داخلاً فيه، لكان مجرد ذكره عبثاً، فضلاً عن أن يُذكر بطريق العطف.
(1/75)
والثالث: أنه سبحانه وتعالى ذكر الإيمان في مواضع وصفاً للعُصاة، مقترناً بالمعاصي، فلو كانت الطاعةُ داخلةً في الإيمان، لكانت المعصية منافيةً له ممتنعة الاجتماع معه. قال تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ} (الحجرات: 9) فوصف المقتتلين بالإيمان، مع أن تقاتل المؤمنين حرام ومعصية. وأجاب الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى عن عطف القرآن، وقال: إن الأعمالَ وإن كانت داخلة في قوله: آمنوا، إلا أنها عُطفت عليه استقصاءً واستيفاءً للبيان، ولئلا يَذْهَل عنه. وهذه النُّكتةُ غير ما ذكروها من أن العطفَ قد يكون من عطف الخاص على العام، لأنها لا تتمشَّى ههنا. فإن الخاصّ في مثله يكون أشرف، وههنا المعطوف هو العمل، وهو أدونُ من الإيمان. فالعطف ههنا لبيان الاهتمام.
فعلم منه أن التخصيص بعد التعميم، قد يكون لزيادة اهتمام الأدنى أيضاً، لئلا يَذْهَل عنه ذاهلٌ فيتركه، ويُحرم عما قدِّر له من منازلِ الجنة. وكلامه وإن كان متيناً دالاً على فطانته، لكنّ الأمر هو كما قال الإمام الهُمام، لأن هذا الجواب وإن سلَّمناه في العطف، لكنه ماذا يقول في آية أخرى؟ قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَلِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}... إلخ (النحل: 97). فجعل الإيمانَ قيداً للأعمال، وليس فيها عطفاً.
بقي الجوابُ عن إطلاق الإيمان على الأعمال في الحديث، فلا نُنكرُ أنه أيضاً إطلاق، لكنه لا ينحصِرُ فيما قالوه، بل يجوز أن يكونَ من إطلاقِ الكل على الجزء، كما فهموه. ويجوز أن يكونَ من باب إطلاق المبدأ على الأثر، كما فهمنا، فالمبدأ هو الإيمان، والعمل أثره. ولو انحصر الأمرُ في أنّ الحديثَ أطلق الإيمان على الأعمال، والقرآن جعلها مغايرةً له، بعطفها عليه، كان اتِّباعُ القرآن، والتأويل في الحديث، هو الأَوْلى.(1/76)
فالحقيقة أدَّاها القرآن، والحديث ورد على الاعتبار، لأن القرآنَ يؤدي الحقيقةَ ويُوفِّى حقها، والحديث قد يَردُ على المصالح ويُراعيها أيضاً. فإن شئت أخذَ الحقيقة كما هي فلا تجدها إلا في القرآن. وقد رأيتُ أن القرآنَ لا يجعلُ الأعمال أجزاءٌ للإيمان، فكانت حقيقة الإيمان مغايرة للأعمال. كما قلنا، ولما أمكن أن يُفرِّطَ فيه مفرطٌ أزاحه الحديثُ وأطلق الإيمان على الأعمال، تنبيهاً على أهمية الأعمال، وتلافياً لما قد يسبق من عطف الأعمال على الإيمان من المغايرة، بحيث لا تبقى لها سراية في زيادته أيضاً. وهذا صنيع الحديث مع القرآن كثيراً، فما يتركُه القرآن يأخذه الحديث، وما يُشكل عليه يزيحهُ.
وبالجملة لا خلاف بعد الإمعان إلا في التعبير، فإن كان إمامنا رحمه الله تعالى غيَّر تعبيرَهم، وأخرج الأعمال عن حقيقة الإيمان، فله فيه سَلَفٌ وقدُوة، فإن ذلك صنيعُ القرآن، فلو كان المحدثون اختاروا جزئية الأعمال نظراً إلى إطلاق الإيمان على الأعمال في الأحاديث، فإمامنا رحمه الله تعالى اختار تغايرَهُما، نظراً إلى تغاير القرآن بالعطف، فأي الفريقين أحق، وأي النَّظَرين أصوب؟
وبعد اللُّتيا والتي إذا لم تكن نِسبة الأعمال إلى الإيمان كنسبةِ الأجزاءِ إلى الكل، ولا كنسبة الأوراق، والعُروق، والأغصان إلى الشجرة، فكيف نسبتُهُ إليها؟ فالجواب: أن النِّسبة بينهما على نَظَر الحنفية كنسبةِ الأصل إلى الشجرة والشجرة إلى الثمرة، فكما أن الشجرةَ نابتةٌ من أصلها، ثم الثمرةُ من تلك الشجرة، كذلك الأعمال تنبُت من الإيمان، فهو المبدأ وهذه آثارها. وكما أن الثمارَ تبدو وتسقط، تجيء وتذهب، كذلك حال الأعمال مع الإيمان فتكون قد وقد. وقوله تعالى: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآء} (إبراهيم: 24) فالأصلُ هو الإيمان، والفُروعُ هي الأعمال، ولعل حديث شُعب الإيمان أيضاً على الفرعية لا الجزئية.(1/77)
فلا أقول كما هو المشهور: أن نِسْبةَ الأعمال إلى الإيمان كنسبة المُكِّمل إلى المُكَّمل، ولا أجعله في التعبير مكملاً للإيمان، بل لا أحب أن أقول: إنها كنسبة الثمرة إلى الشجرة أيضاً، فإن المقصودةَ من الشجرة الثمار، فتكون الأعمالُ مقصودةً، والإيمان تابعاً مع أنه أصل وهي فرع تنبُت منها. فالتعبير الأوفى هو: الأصلية والفرعية.
ثم إني مع التتبُّعِ البالغ لم أجِدْ صورةَ الإيمان في المحشر، ووجدت صورَ الأعمال كلها تقريباً. وهو على ما أقول: إن الأعمالَ تتجسدُ في الآخرة، وتتحولُ الأعراضُ إلى الجواهر. فدل على أن الإيمان لعله منفصلٌ عن الأعمال. وإليه يُشير قوله صلى الله عليه وسلّم «مُلئت إيماناً وحكمة» فما صُبّ في صدره كان هو الإيمان، وهو المصبوبُ حقيقة، وإنما الأعمال ثمراته، والمقصود منها الإتيانُ بها، والحكمةُ غير العمل، وسيجىء تحقيقها.
نعم، رأيت صورة الإسلام والإيمان في رواية مرسل عن قتادة: أن الإيمان يجيءُ يوم القيامة ويقول: أنت المؤمن، وأنا الإيمان، فاغفر لمن كسبني، ويجيءُ الإسلام ويقول: أنت السلام وأنا الإسلام... إلخ. ولكنه لا يدرى أنه صورةُ الإيمان وحده أو المركب من الأعمال وههنا نَظَرٌ يفيدنا وهو: أن مدَار دخولُ الجنة على الإيمان عند الكل، وكذا الخلودُ في النار على الكفر. وإنما الأعمالُ للدخولِ أولاً والتجنُّبِ عن النار. فعُلم أن الإيمانَ غير الأعمال، وأنها خارجة عنه.
والقول الفصل ما اختاره الشاه ولي الله رحمه الله تعالى: أن للإيمان إطلاقين: الأول: الإيمان الذي هو مَدَارُ الأحكام في الدنيا، ولا ريب أنه عبارة عن الاعتقاد فقط. والثاني: ما هو مدارُ للأحكام في الآخرة، وهي النجاةُ السرمدية، والفوزُ بالجنان بدون عذاب. ولا ريب أنه عبارة عن مجموع الأعمال والأخلاق، والله تعالى أعلم بالصواب.(1/78)
وهذا الذي عناه الغزالي رحمه الله تعالى في «الإحياء»: أن الإيمانَ المبحوثُ عنه في علم الكلام لا يزيد ولا ينقص. ولذا اتفقوا على تسليم إسلام المصدِّق، وإن كان فاسقاً. وكذا اتفقوا على أنه ليس بمرتد ولا كافر. وأما الإيمانَ المبحوثُ عنه في الأحاديث، فإنه يزيد وينقص البتة.
وبالجملة من جَعَله مركباً كالكلِّي المشكِك، ومن جعله بسيطاً جعله كالمتواطىء، لا تفاوت في صِدْقِهِ على أفراده. فظهر أن النزاعَ ليس لفظياً، فإنه بعيدٌ عن أئمة الدين، بل الاختلاف في تحقيق حقيقة الإيمان، أنها التصديق فقط أو المجموع، على حد نزاعهم في مُسمّى الصلاة أنها اسم للمجموع من الأركان إلى الآداب، أو اسم للأركان فقط؟ وسيأتي عن قريب.
ذِكْرُ الزِّيادَةِ والنُّقْصَان
واعلم أن نفي الزيادة والنقصان وإن اشتهر عن الإمام الأعظم، لكني متردد فيه بعد. وذلك لأني لم أجد عليه نقلاً صحيحاً صريحاً، وأما مانسب إليه في «الفقه الأكبر» فالمحدِّثون على أنه ليس من تصنيفه. بل من تصنيف تلميذه أبي مطيع البلخِي، وقد تكلم فيه الذهبي، وقال: أنه جَهْمِيٌّ. أقول: ليس كما قال، ولكنه ليس بحجةٍ في باب الحديث، لكونه غير ناقد. وقد رأيت عدة نُسخ للفقه الأكبر فوجدتُها كلها متغايرة. وهكذا «كتاب العالم والمتعلم» «والوسيطين» الصغير والكبير، كلها منسوبة إلى الإمام، لكن الصواب أنها ليست للإمام.(1/79)
أما الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى فإنه وإن نسب الزيادة والنقصان إلى إمامنا رحمه الله تعالى، لكنّ في طبعه سَوْرَةٌ وحِدَّة، فإذا عَطَفَ إلى جانب عَطَفَ ولا يبالى، وإذا تصدى إلى أحد تصدى ولا يُحاشي، ولا يُؤمَنُ مثله من الإفراط والتفريط، فالتردد في نقله لهذا، وإن كان حافظاً متبحراً. ونقل في «شرح عقيدة الطحاوي» بسند أبي مطيع البَلْخي عن النبي صلى الله عليه وسلّمما معناه: أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. قال ابن كثير: وفي إسناده كلهم مجروحون. ورأيتُ هذا الحديث في «الميزان» في ترجمة البَلخي، فأسقطه الذهبي. ثم رأيت في «طبقات الحنفية» تحت ترجمة: إبراهيم بن يوسف تلميذ أبي يوسف، وأحمد بن عمران، أنهما كانا يقولان: بزيادة الإيمان ونقصانه، مع كونهما من كبار الحنفية. فهذا أيضاً كان يَرِيبُني.
ولما انعدمت النقول الصحيحة عن الإمام رضي الله تعالى عنه كِدْت أن أنفي عنه تلك النسبة، غير أني رأيت أن أبا عمرو المالكي نسبه في «شرح الموطأ» إلى شيخ إمامنا حَمّاد، وهو من المتقنين المتثبتين في باب النقل، فلا مناص من تسليم تلك النسبة أما المحدثون فكلهم إلى أن الإيمانَ يزيد وينقص. وأثبت شيء في هذا الباب عقيدة الطحاوي، فإنه كتب في أوله أنه يكتبُ فيه عقائد الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأبي يوسف رحمه الله تعالى. وأحسن شروحه شرح القُونوي، وهو حنفي المذهب، تلميذ ابن كثير. ويُستفاد منه أن الإمام رحمه الله تعالى إنما نفى الزيادة والنقصان في مرتبة محفوظة، كما سيأتي ولم ينفي مطلقاً، وكيف ما كان سلمت القول المذكور.
فنقول: إنّ الزيادةَ والنقصان في الإيمان يحتمل أربعةَ معانٍ:
الأول: الزيادة والنقصان في نفس الإيمان.
والثاني: الزيادة والنقصان في الإيمان باعتبار التصديق.(1/80)
والثالث: الزيادة والنقصان في التصديق، باعتبار انبساطه وانفساحه في الصدر، لا باعتبار الحقيقة، فالانفساح والانشراح غير التصديق.
والرابع: الزيادة والنقصان في الصورة الإيمانية التي هي صورته، وهو بالحقيقة راجع إلى الثالث. أما الزيادة والنقصان في التلبس بتلك الكلمة، فمُسلَّمٌ عند إمامنا أيضاً، وهذا كالزيادة والنقصان في التلبس بالصلاة عند أبي داود في «باب ما جاء في نقصان الصلاة» عن عَمَّار بن يَاسر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: «إن الرجل لينصرف وما كُتبَ له إلا عشر صُلاتِهِ تسعها، ثمنُهَا، سُبْعُهَا، سُدْسُها، خمسها، ربعها، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا». اه. فهذا المعنى لا ننكر في التلبُّس بالكلمة أيضاً.
وبعد ذلك أقول إن الزيادة والنقصان في الإيمان باعتبار التصديق، لم يجر البحث عنهما في السلف، لا نفياً ولا إثباتاً، فإن الكلام في أجزاء الشيء بعد التحليل، بحثٌ منطقيٌ. وإنما أوجَدَه المتكلمونَ من المتأخرين، وأول من تكلم فيه القاضي أبو بكر البَاقِلاني. والكلام في السلف، إنما كان في زيادة الإيمان ونقصانه، سواء كان من تلقاء الأجزاء أو من جهة السراية. وعلى هذا فالبحث عنه في «صحيح البخاري» لغو.
إلا أني أتكلم عليه يسيراً على طورهم. فأقول: إن الزيادة والنقصان في الإيمان بحسَبَ نفس التصديق، مما يمكن عقلاً قطعاً، وإن لم يتكلم فيه السلف. وغاية ما ذكروه في النفي أمران:(1/81)
الأول: أن التصديق ماهية من الماهيات، فلو قلنا بالزيادة والنقصان لزم التشكيك في نفس الماهيات، وهو باطل. قلتُ: الاستمداد في مثل هذه المسألة بقواعد الحكماء مما لا يزول عنك عاره. فالعجب من الشيخ ابن الهمام رحمه الله تعالى كيف اتسمد به مع أن المسألة في نفسه باطلة عند محققيهم أيضاً. وقد جوَّزَ بحر العلوم التشكيك في الماهية بنوعيه، على أنه يلزم حينئذٍ أن لا تكون الصلاةُ أيضاً ناقصة وزائدة بعين ذاك الدليل، لأنها أيضاً ماهية من الماهيات، مع أنَّ الزيادة والنقصان فيها مما لا ينكِرُه أحد.
والثاني: أنهم قالوا: لو جُوِّز التشكيكُ في التصديق. لزمَ اجتماعه مع الشك، لأنه إذا انتفى جزءٌ منه جاء جزءٌ من الشك بدله، فلا يبقى منجياً، فلا يكون إيماناً.
قلت: وهو أفحشُ من الأول، ألا ترى إلى سواد الثوب فإنه أضعفُ من سواد الغُرَاب بدَاهة، ولا يقول عاقلٌ إنه إذا كان أضعفُ لزمَ أن يكون فيه جزء من البياض، فكذلك لا يلزمُ من فوات جزءٍ من التصديق أن يجيءَ بدلَه جزء من ضِده. والحق أن السوادَ عَرْض عريض، وفيه مراتب لا يَعُدها عادّ، وبنقص واحد منها لا يجيء جزءٌ من البياض بدله، بل إذا نتفى جميعُ مراتبه ولم تبق مرتبة منه يجيءُ البياضُ قطعاً، وما دام مرتبةٌ من مراتب السواد باقية، لا يَحُكم عليه عاقلٌ أن جزأً من البياض موجودٌ فيه.(1/82)
ونحوه نقولُ في تقسيم الجسم، بأن تقسيمَ الجسم ليس إلى ما لا نهاية له كما زعمه الفلاسفة، بل ينتهي إلى العدم، فإنهم قالوا: إن الاتصال ذاتي للجسم، فإذا فات جميع الاتصالات فلينعدم الجسم لا محالة على قولهم، فإن ارتفاع الذاتي يستلزمُ ارتفاع الذات ومنشأ غلطهم: أن إعدام جميع الاتصالات ليس في طوق البشر؛ لأنه في الحقيقة إعدامٌ للشيء، والإعدامُ والإيجادُ كلاهما في يد المبدىء والمعيد، لا إله إلا هو، فإذا لم يقدروا على إعدام جميع الاتصالات، فهموا أن تقسيم الجسم لا ينتهي إلى نهاية، وليس كذلك، بل ليس هذا في قُدرَتِنَا. ولو استطعنا إفناء جميع الاتصالات لانْتَهَى التقسيم، وانعدم الجسم، إلا أنه بيد الواحد القهار، لا شريك له هو يحيي ويميت.
فكما أنّ الجسمَ لا يزالُ ينقسم، ويطلق عليه الجسم ما دام يبقى فيه اتصال ما، ولا يجيءُ العدم أصلاً إلا إذا فات جميع مراتب الاتصال، كذلك التصديق لا ينتفي إلا بعد انتفاء جميع مراتبه. ولا يلزمُ بانتفاء جزء منه أن يقومَ مَقَامَهُ جزءٌ من الكفر، فإن الإيمان أيضاً عَرْض عريضٌ. نعم بفوات مرتبة بعدمرتبة، يجيءُ زمان ينتفي فيه جميع مراتبه، ثم يطرأ الكفر عليه البتة. ولكنا لا ندري عدد هذه الأجزاء، وأنه متى يجيءُ زمان فوات جميعها؟ إلا أنه نعلم إجمالاً أنه يجيءُ وقتٌ ما قطعاً ينتفي فيه جميع مراتبه. وحينئذٍ ينسلخ عنه اسم الإيمان.(1/83)
وقد نبهتُك آنفاً على أن هذا البحث لم يجر في السلف، بل هو بحث عقلي، أوجدَه المتأخرون من جانبهم عقلاً. والسلف إنما اختلفوا في نفس الإيمان، لا في جزءٍ منه بعد التحليل. فمن قال: إنه قول وعمل، ذهب إلى الزيادة والنقصان أيضاً، لأنه إذا أدخل العمل في الإيمان، فمن عمل عملاً صالحاً فقد تم إيمانه. ومن نَقَصَ فيه انتقص إيمانه لا محالة على تحقيقه. ومَنْ لم يُدخل الأعمال في الإيمان، بل جعله عبارةٌ عن التصديق، لم يلزم عليه ذلك. فأصل النزاع في إدخال الأعمال في مُسمّى الإيمان، وإخراجها عنه، وإن الإيمان أمرٌ أو أمور. ولذا بوَّبَ البخاري فيما بعد: باب أمور الإيمان نعم، من يجعل الإيمان مركباً يلزمه أن يذكَر له أموراً، ومن يجعله بسيطاً لا تكونُ له أمور عنده. ولذا قيل: إن تلك المسألة ليست مستقلةً، بل من فروع الأُولى، أي كون الإيمان قولاً وعملاً.
هكذا كنتُ أفهمُ تحقيق الاختلاف، وإليه ذهب أكثر الشارحين. ثم رأيت زيادةً في مَقُولَة السلف، انقلب منها المراد ففهمتُ حقيقة الحال، وهي أنهم قالوا: الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فبان منه أنهم قائلون بالزيادة والنقصان في التصديق الباطني، دون الإيمان المركب. فإن عبارتَهم هذه تدلُ على أن الأعمال دخيلةٌ في ازدياد الإيمان ونقصانه، وسبب له، لا أنها داخلة وإن لها سرايةً وتأثيراً في نماء التصديق والإيمان، لا أنها أجزاء. فلم يكن الإخلال بالعمل عندهم كقطع الغصن من الشجرة، بل كعدم سقيها بالماء، فلا بد أن تيبس. وتبيَّنَ منه أن البخاري اختصر في نقل قولهم اختصاراً مخلاً.(1/84)
والحاصلُ: أن الأعمال على الشرح الأول كانت كالأصابع لليد، بخلاف هذا الشرح، فإنها أسباب. وإن الاختلاف على الأول كان بحَسَب الكمية، والآن جاء البحث في الكيفية فقولهم: الإيمان قول وعمل يحتمل شروحاً، كما مر، وقولهم هذا انحصر في السببية، وليس له شرح غيره. وحينئذٍ صارت تلك أيضاً مستقلة. ولم تَصِر من فروع الأولى. فإن الإيمان مركباً كان أو بسيطاً يصلحُ محلاً لاختلاف الزيادة والنقصان بهذا المعنى. ثم الزيادة والنقصان بهذا المعنى لا ينكره الإمام أيضاً، فإن الانفساخ والانشراح زائدٌ وناقصٌ قطعاً، وهو المبحوثُ عنه في القرآن. وعليه يحمل ما تلا المصنف من الآيات.
وحاصل الخلاف على هذا التقدير: أن الإمام الأعظم رحمه الله تعرَّض إلى أمرٍ لم يتعرض إليه السلف، فإنه تكلم في مرتبة محفوظة، وهي التي يدور عليها أمر النجاة، وليس بعدها إلا الكفر.s
فالتصديق وإن كان زائداً، أو ناقصاً، باعتبار مراتب الكمال، والانفساخ، والانشراح، إلا أن الإمام الهُمام أفرز بالبحثِ حصةً منه، وهو التصديق بمعنى انتفاء الشك، ولا تفاوت بين الانتفاءِ، والانتفاءَ. وإنما التفاوت في الانشراح والاسْتِيلاء.(1/85)
قال الغزالي رحمه الله: إن الإيمان قد يطلق على اليقين، بمعنى انتفاء النقيض، ولا تفاوت فيه، فإن الانتفاء رأساً لا تقام فيه المراتب، وقد يُطلق على استيلاء اليقين على القلب وجعلِهِ الجوارحَ تابعاً له وهو الأكثر، وهذا هو الذي فيه التفاوت، فوقع الالتباس بين المعنيين، فقيل ما قيل، فإما أن نقول: كما قال الغزالي، أي بتعدد الإطلاق في الإيمان. أو نقول: إن الإمام بحث في جُزء من الإيمان، لأن نَظَرَ الفقهاء يتعلق بالخلود والنجاة، أولياً، كان أو مآلياً، بخلاف أنظار المحدثين، فإنها تقتصرُ على النجاة الكاملة الأولية، ولا يمكن إلا بالأعمال الصالحة. فالفقيه يبحثُ عن مراتبِ التصديق عما هو مدارٌ للنجاة، ولو مآلاً، ومن الكفر عما يوجب الخلود. وهذا كالشهادة، فإن الفقهاء إنما يبحثون عنها باعتبار أحكامهم في الدنيا، والذين تجرى عليهم تلك الأحكام قليلون، بخلاف ما في الحديث، فإن إطلاقَ الشهادة فيه أعمُ وأعم.
ومثله وقع في كثير من المواضع، فالقرآن والحديث إنما تعرَّض إلى انفساحِ التصديق. والانفساحُ أيضاً تصديق في نظر، لأنه تابعٌ له ناشيء عنه، ولذا أطلقَ عليه البخاريُّ الإيمانَ، والإمام الهُمَام لم يتعرض إليه، بل تعرض إلى مرتبة مخصوصة، كما يدل عليه عبارة الطحاوي في «عقيدته»، وهي أثبتُ شيءٍ في هذا الباب. قال: الإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل في الخشية، والتَّقى ومخالفة الهوى، وملازمة التقوى... إلخ فجعل للإيمان أصلاً، وجعل الناسَ كلهم فيه سواء، وهو الذي لو انحط عنه الإيمان لجاء الكفرُ مكانَهُ، وأبقى التفاضل في أمور تتعلق بالإيمان من الخشية وغيرها. فالإيمانُ بمعنى التقوى والخشية، يزيد وينقص، والناس يتفاضلون فيه على نص الطحاوي نعم، هناك أصلُ الإيمان، وهو واحد، ولا تفاوت فيه.(1/86)
ومن ههنا علمت: أن هذا الاختلاف ليس من باب النزاع اللفظي على اصطلاح المناطقة، فإنه ليس من دَأْب المحصلين، فضلاً عن الأئمة المجتهدين، بل من باب الاختلاف في الأنظار، بمعنى أن هذا مؤدٍ لِطَرفٍ صحيح. وهذا أيضاً لطرفٍ آخر صحيح. وعند كل حِصةٌ صحيحة. والناجي عندَ واحدٍ ناجٍ عند آخر، وكذلك الهالك عند واحد هالك عند آخر. وإنما تعرض الإمامُ إلى تلك المرتبة، لأن الإيمانَ عند السلفِ كان عبارة عن المجموع، ولم يكن هذا المجموع مداراً للنجاة، بحيث تنعدم النجاةُ بانعدام جزء منه، فوجب أن يُنَبِّه على الحصة التي يدورُ عليها أمر النجاة، وهذا أيضاً كان أهم، فنبَّه الإمام على أن الإيمانَ المركبَ ليس مداراً للنجاة المطلقة، بل هو مدارٌ للنجاة الأولية.
أما الذي تنتفي النجاةُ بانتفائه مطلقاً فهو التصديق، ولذا لم ينقل أحد في لفظ الإمام: بأن الإيمان لا يزيد بالطاعة، ولا ينقص بالمعصية. وهو النقيض الصريح لما يقوله السلف، ويلزمُ منه انتقاءُ الزيادة والنقصان، بمعنى السراية والتأثير أيضاً، ولم يكن مراداً للإمام، فأُورِدَ النفيُ على غير محل الإيجاب.
والحاصل: أنه نُقل عن السلف: إثبات الزيادة والنقصان مجملاً، فأوهم ثبوتهما باعتبار نفس الإيمان، ثم نقل عنهم إثباتهما من تلقاء الأعمال، فتحققت السراية. وإذا كانت الأعمال أسباباً، لم يبق الإيمان إلا عبارة عن التصديق، والزيادة فيه على طريق السلف لا تكون إلا في نمائه ونوره، فانكشف الأمرُ وثَلَجَ به الصدر. وأن ما يزيد وينقص عندهم هو انبساط الإيمان، وللأعمال سراية فيه، وهو تصديق أيضاً إطلاقاً للشي على مبدئه. ولو أرادوا جُزئية الأعمال لقالوا: الإيمانُ يتحقق بالطاعة وينعدمُ بعدمها، فلم يتوجهوا إلى الجزئية، بل أرادوا به بيانَ سراية الأعمال وتأثيرها في الإيمان.
(1/87)
والإمام لما لم يقل: إن الإيمانَ لا يزيد بالطاعة، ولا ينقص بالمعصية، عُلم أنه لم يَرد بنفي الزيادة إلا الزيادة في مرتبة محفوظة، ولذا لم ينف الزيادة في الانبساط بالطاعات، وإنما نفاها عن أصل الإيمان الذي يحصل قبل الأعمال، وأبقى الزيادةَ والنقصانَ في الخشية والتقوى، كما مر عن الطحاوي رحمه الله تعالى، فلم يكن مورِد النفي عين مورِد الإيجاب، فمعنى قوله: لا يزيد ولا ينقص: أي أصله، ومعنى قولهم: يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، أي بهائه ونمائه، فأين الخلاف؟ نعم أدى كلَّ حِصة صحيحة. ولذا صرح الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى بكون مقولتِهِ من بدعة الألفاظ، فكأنه لم يجد بُداً من تسليم صحة مقولة الإمام رحمه الله تعالى.
ثم رأيت في «الكشاف» من الإمام الهمام رحمه الله تعالى نفسَه في الجواب عن الآيات التي تدل على الزيادة والنقصان، أن الإيمان كان يزيد في زمن النبي صلى الله عليه وسلّمباعتبار المؤمن به، لأن الشريعة كانت تنزلُ وتزيدُ يوماً فيوماً. أما إذا كملت الشريعة وتمّ الدين ولم يبق احتمالٌ للنسخ والتبديل، استحالت الزيادة فيها، فلا زيادة ولا نقصان في الإيمان بعد زمنه صلى الله عليه وسلّم واستفدت منه أن الإيمان عند الإمام رحمه الله تعالى إرادةٌ على إطاعة النبي صلى الله عليه وسلّمبجميع ما جاء به. وتلك الإرادة تنسحِبُ على جميع الشريعة، بحيث لا يشذُ عنها شاذ. فمعنى قوله: لا يزيد ولا ينقص أن يدخل جميعُ المؤمن به تحتَ الالتزام، لا أنه يلتزم بعضاً دون بعض آخر.(1/88)
فإذا كان الإيمان إسماً لالتزام الجميع بحيث لا يزاد عليه شيء ولا ينقص منه شيء فكيف يزيد الإيمان وينقص بهذا المعنى؟ فالنفي بالحقيقة راجعٌ إلى المؤمن به دون الإيمان. وإذن معنى قولهم: يزيد وينقص أي الإيمان بنفسه. ومعنى قوله: لا يزيد ولا ينقص أي باعتبار المؤمن به. وظاهر أنه لا تفاوت فيه بين إيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه وبين إيمان أدنى مؤمن من أمته صلى الله عليه وسلّم لأن إيمان أدنى مؤمن يشتملُ على جميع الأشياء التي يشتملُ عليها إيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فكما أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه التزم الإتيان بجميع الشريعة، كذلك أدنى مؤمنٌ من الأمة أيضاً التزم بجميعها، فلا فرق في هذا المعنى. إنما الفرق في الخشية والتُّقى ومخالفة الهوى. فلو وزنت إيمانَه بهذا المعنى لترجح إيمانه، على جميع أمته.
ونظيره ما روى الترمذي عن عبد الله بن عمر وقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّموفي يديه كتابان، قال: «أتدرون ما هذان الكِتَابان؟» قلنا: لا يا رسول الله إلا أن تُخْبِرَنا فقال للذي في يده اليمنى: «هذا كتابٌ من رب العالمين فيه أسماءُ أهلِ الجنة، وأسماء آبائهم، وقبائِلِهم، ثم أجمل على آخِرِهم، فلا يُزَادُ فيهم ولا يُنْقَصُ منهم أبداً»... إلخ فكما أن نفي الزيادة والنقصان راجع فيه إلى من فيهما من أسماء أهل الجنة والنار، كذلك نفي الزيادة والنقصان عن الإيمان راجع باعتبار ما فيه من الأحكام، وهي المؤمن بها.
بقيت الصورة المثالية فهي زائدة وناقصة قطعاً.(1/89)
وإذا سمعت أن الاختلافَ فيه اختلاف الأنظار فقط، فلننظر أن أي النظرين أنفع، فنقول: إن الإيمان إذا كان إسماً للمجموع لم تتضح له مزية على الأعمال في التعبير. ويتوهم كون جميع أجزائه متساوية الأقدام. ولما كان الإيمانُ من أسنى المقاصد، وأبرِّ الأعمال، وشرطاً لسائرها وأساسها ودِعامتها، لا كما يُتوهم مما قاله أحمد رحمه الله تعالى: أنه معاقدة، جعلناه منفرداً عن الأعمال تاماً بنفسه، ومختَتَمَاً بذاته، غيرُ منتظر إلى الأعمال، فلا يُخفف أمره، ولا تُحطّ رتبته، بجعله مركباً مع غيره، فإن الأعلى لا يعدّ مع الأدنى، والأصل مع الفرع، والتابع مع المتبوع، فلا بد أن يُظْهِرَ حقيقته في نفسه أيضاً، ويرى مكانه ومنزلته. ولا يمكن إلا بجعله منفصلاً عن الأعمال، وإذا انفصل أصلُ الإيمان لعظمة أمره عن الأعمال، فلا يكون إلا بسيطاً.
فما قاله السلف أيضاً نظر صحيح. وما قاله الإمام الهمام أيضاً نظر صحيح. إلا أنّ كلامَ السلف يُبْنى على النظر الإجمالي وعَدِّ متعلقات الشيء والفروع مع الأصل. وكلام إمامنا يكشف عن الحقيقةِ ويعطي كل ذي حظ حظه، ويضعُ كل شيء مكانه. ولا خلاف في الحقيقة كما مر مراراً. ثم بعد التفتيش عُلم أن هذه الأقوال لم تصدر عنهم في بيان العقيدة، وإنما هو من باب مقتضيات الأحوال، لأن السلف أرادوا الردَّ على المرجئةِ الآخذين من الإيمان التصديق فقط، والقائلين بأنه لا يضرُ مع الإيمان معصية. فكأنهم حطُّوا الأعمال عن مرتبها، وعطَّلُوها؛ وجعلوها كالمطروح في البين، وهذا جهل عظيم فردّ السلفُ عليهم واهتموا بذكر الأعمال، حتى أوْهَم بجزئيتها وانتفاء الإيمان بانتفائها.(1/90)
فقالوا: إن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فله تعلقٌ عظيمٌ مع الأعمال، حتى إن ازديَادَها مؤثر في زيادته، ونقصَانها في نقصانه، فأين هؤلاء من الإيمان؟ فكأنهم أرادوا بهذا القول أن لا يتهاون الناس في أمر الأعمال، ولذا تواتروا بذلك القول، وتتابعوا عليه، حتى صارَ علماً لأهل السنة والجماعة عندهم. ومن خالفهم في هذا القول رَمَوه بالإرجاء وغيره، لأنهم ابتلوا بهم، فمن خالفهم ولو في التعبير، أدخلوه في زمرتهم وحزبِهم، وزعَمُوه معيناً ونصيراً لهم.
ثم جاء إمامنا الأعظم رحمه الله تعالى ورأى في زمنه فتنة الاعتزال والخروج، وكانوا يقولون: إن مرتكب الكبير مخلد في النار، فأراد الردَّ على هؤلاء المتوغلينَ في أمرِ الإيمان والمعطين الأعمال ما ليس لها بحق، فلو قال: في مقابلتهم أيضاً كما قال السلف لكان إعانة لهم فغير عنوانهم، فقال: إن الإيمانَ لا يزيد ولا ينقص، فالأعمال ليس كما قلتم، بل هي وإن كانت أهم في نفسها، إلا أن أمرَ الإيمان أيضاً ليس بهينٍ، فهو أيضاً أمرٌ مستقلٌ وليس بتابع، بل أصلٌ وعليه يدور أمر النجاة. فلو لم يعمل أحدٌ طولَ عمره، وكان آخرُ كلامِهِ: لا إله إلا الله، دخل الجنة، لا كما قلتم: إن الرجل لو آمن وصدق أي تصديق، ثم صدرت عنه كبيرة لا يغفر له فجعل الأعمال كالمطروح في العبارة فقط، دون الحقيقة ليظهرَ استقلالُ الإيمان وتماميته بدونها، فأراد أن يكشفَ عن حقيقةِ الحال لئلا ينخدع أحدٌ من عبارة السلف، فيجعل الأعمال داخلة في الإيمان، مع أنها كانت دخيلة، فينفي النجاة بترك الأعمال.
تتمَّةٌ في بَحْثِ الزِّيَادةِ والنُّقْصَان(1/91)
وليعلم أن القرآن لا يدل بمنطوقه إلا على زيادة الإيمان، أما على نقصانه فلا، إلا أن يؤخذ عنه باللزوم، ويقال: إن الإيمان إذا ثبتت فيه الزيادة أمكن فيه النقصان أيضاً. وعند أبي داود حديث في كتاب الفرائض، عن معاذ رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «الإسلام يزيدُ ولا يَنقْصُ». واستدل منه معاذ رضي الله تعالى عنه في قصة التوريث ونحوه. روى الزَّبيدي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه: أن الإيمان يزيد ولا ينقص، ولعله كلام في مرتبة محفوظة، كما هو ملحظ الإمام، وهي التي تقبلُ الزيادة باعتبار الانبساط والانشراح، فلو كان مجرد الاتباع في التعبير شيئاً، فالاتباع بلفظ الحديث أولى كما رُوي عن الإمام رضي الله تعالى عنه.
محل الإيمان
نُسب إلى الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه أن الإيمان محله القلب، ونُسب إلى إمامنا رحمه الله تعالى أنه في الدِّماغ، كما في «مجمع البحار» ولا أعتمد عليه، لأني لم أجد تلك النسبة في أحد من كتب القدماء، مع أن في كتاب الجنائز من «الهداية»: أن الإمام إنما يقوم حذاء الصدر، لأن الإيمان في القلب، فدل على كونه محلَّ الإيمان عند الحنفية.
قلت: وذهب الأطباء إلى أن العلوم في الدِّماغ.
وصَدَع القرآن في غير واحد من الآيات أن الإيمان في القلب وقد تحقق عندي أن مَعْدِنَ الإيمان هو القلب، والمُظهِرُ هو الدِّماغ، ولقلة الفصل بين الانبعاث من القلب وظهوره في الدماغ قيل: إن الإيمان في الدماغ. وإنما اضطررتُ إلى التأويل المذكور، لأن القرآن صَدَعَ في غير واحد من الآيات بكون محله هو القلب، وإذن لا أصرفها عن ظاهرها.(1/92)
فائدة: واعلم أن القلبَ كأنه إنسانٌ صغير بين جَنبي الإنسان الكبير، عليه مدارُ صحته، وسَقمِهِ، وصلاحِهِ، وفساده، وقد خلقه الله تعالى منكوساً. ووجهه على ما ظهر لي: أن الله تعالى خلق الخلق على أنحاء: فمنه ما هو شاخصٌ من التحت إلى الفوق كالشجر. فإن أصله في الأرض وفرعه في السماء. ومنه ما هو منبسط في العرض كالحيوانات، فإنها خَلْق متوسط. وأما الإنسان فإنه لما هبط من السماء إلى الأرض صارَ خلقه كله من الفوق إلى التحت، فإن رأسه الذي هو أصلُهُ نحو الفوق على خلاف شاكلة الشجرة، فإن أصلها في الأرض وتنحدر أعضاؤُها كلها إلى التحت كاليدين، والرجلين، والأشعار، وحينئذٍ ناسب أن يكونَ القلبُ أيضاً إلى التحت، ففي خلقه إشعار بكونه عُلْوياً، على خلاف شاكلة سائر الخلق، ثم جعله في اليسار ليكون مِلْكُهُ في اليمين.
.
أقول: المعرفة أقرب من العلم وليست بإيمان، بل هي من مقدماته. وقال المعتزلة: إن المعرفة الحقة اليقينية شرط للإيمان كما مر، لأنه لا إيمان عندهم إلا بالاستدلال المفيد للقطع. وعندنا يكفي له الجزم وإن حصل بالتقليد، والاستدلال غير ضروري. ونقل النووي ههنا عن القاضِي عِيَاض: أن الإيمان يزيد وينقص لزيادة المعرفة ونقصانها، فدل على أنها غير الإيمان، وهذا صحيح جداً. وحينئذٍ تردد النظر في محلها هو القلب، أو الدماغ. نعم، المعرفة المكتسبة التي تحصل بعد الرياضات، وهي الإيمان الكامل، لا شك أن محلها القلب. وعلى هذا لو قال المصنف رحمه الله في الترجمة الآتية: وإن الإيمان فعل القلب، لكان أحسن.(1/93)
وأما محل المعرفة فذهب المصنف رحمه الله تعالى: إلى أنها في القلبواعلم أن الرُّوح: طبعي، وحيواني، ونفساني، ومحل الأول: الكبد، وفعله التغذية، ومحل الثاني: القلب وفائدته الحياة، ومَعْدِن الثالث: الدماغ، وفائدته الحِسّ والحركة والروح عندي بعد الإمعان واحد، وإنما تعددت أسماؤه باعتبار الاختلاف في المواطن. ثم إن الأطباء حرروا عشرة آلاف حكمة في البدن الإنساني، غير أنهم لم يذكروا لكون القلب منكُوسَاً حكمة، وقد ذكرتها. والعلم عند الله العليم الخبير.
النِّسْبَةُ بين الإسْلام والإِيْمَان
وقد جوَّز الغزالي رحمه الله تعالى بينهما النِّسبَ الثلاث من الأربع، غير العموم من وجه، باعتبارات مختلفة، ويقرُب منه ما قال الدَّوَّاني: أن الإسلام هو الانقياد الظاهري، وهو التَّلفظ بالشهادتين، والإقرار بما يترتب عليهما. والإسلام الكامل الصحيح لا يكون إلا مع الإيمان، والإسلام الظاهري قد ينفك عن الإيمان، قال تعالى: {قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} (الحجرات: 14) وأما الإسلام الحقيقي المعتبر عند اللَّهِ فلا ينفكُ عن الإيمان. وما وَضَحَ لدي: أن الإيمان يتدرج من القلب إلى الجوارح، على عكس الإسلام، فهما في مسافة ذهاباً وإياباً، فإن ظهر الإيمان على الجوارح، ورسخ الإسلام في القلب فهما واحد، وإن بقي الإيمان في القلب واقتصر الإسلام على الجوارح فهما متغايران.
(1/94)
وأعني باتحادِ المسافة وسراية الإسلامِ إلى الباطن نسبةَ الإحسان. كما سيجيء في حديث جبريل: «أن تعبد الله كأنك تراه» فالعبادةُ التي هي من الجوارح، إذا حصلت بحيث يجد العبد ربه بمرأى عينيه، فهذه أمارة على اتحاد المسافتين، فإن تلك الرؤية من صفةِ القلب، فإذا اجتمعت تلك الرؤية مع خشوع الجوارح، فقد اتحدت المسافتان، وحينئذٍ صار إيمانُهُ عينَ إسلامه، وإسلامهُ عينَ إيمانِهِ، لا فرق بينهما، وإلا فالإسلام على جوارحه والإيمان في قلبه، لم يسر ذلك إلى باطنه، ولم يَرْق هذا إلى ظاهره، والله تعالى أعلم بالصواب.
وإذ قد فَرَغنا من بحث التصديق، وأنه علمٌ أو عمل، يزيد وينقُصُ، أو لا، وإن محله ماذا؟ إلى غير ذلك من المباحث، فالآن نذكر: معنى الضرورة، والتواتر وماذا أراد منهما المتكلمون، وماذا قصَّر فيه القاصرون، فنقول:
بحثٌ في معنى الضَّرورَةِ وما يَتَعلَّقُ بها
والمراد من الضرورة ما يُعرف كونُهَا من دين النبي صلى الله عليه وسلّمبلا دليل. بأن تواتر عنه واستفاض، حتى وصل إلى دائرة العوامّ وعلمَهُ الكوافّ منهم، لا أن كلاً منهم يعلمه، وإن لم يَرْفَع لتعليم الدِّينِ رأساً، فإن جهلَه لعدمِ رغبتِهِ في تعليم الدين، وعلمته العامَّة، فهو ضروريٌّ كالواحدانية، والنبوة، وختمَهَا بخاتم الأنبياء، وانقطاعها بعده، والبعث والجَزَاء، وعذاب القبر سُمِّي ضرورياً لأن كلَّ واحدٍ يعلم أن هذا الأمر مثلاً من الدين. وإن كانت متوقفةً في نفسها على النظر والاستدلال، كالتوحيد، والنبوة، والبعث والجزاء، فإن كلَّ واحد منها وإن كان نظرياً في نفسه، لكن كونه من دينه صلى الله عليه وسلّممعلومٌ بالضرورة. وكذا لا يريدون بالضرورة أن الإتيانَ بها بالجوارح لا بد منه كما يُتَوهم.(1/95)
فقد يكونُ استحبابُ شيءٍ وإباحته ضرورياً، يكفر جاحده، ولا يجبُ الإتيان به كالسِّواك، فالضرورةُ في الثبوت عن حضرة الرسالة وفي كونه من الدين، لا من حيث العمل، ولا من حيث الحكم المتضمن، لأن الحديث قد يكون متواتراً، ويُعلم ثبوته عنه صلى الله عليه وسلّمضرورة، ويكون الحكم المتضمن فيه نظرياً من حيث العقل، كحديث عذاب القبر، ثبوته عنه صلى الله عليه وسلّممستفيض، وفهم كيفية العذاب مشكل. وليُعلم أن الإيمانَ هو التصديق بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلّموإن لم يكن متواتراً، والتزامُ أحكامِهِ، والتبرؤُ من كل دين سواه.ومن قَصَرَه من المتكلمين على الضروريات، فلأن موضوعَ فَنهِّم هو القطعي، لا أن المؤمنَ به هو القطعي فقط. نعم، التكفير عندهم إنما يكون بجحوده فقط. وأما الفقهاء فإنهم يبحثونَ عن أخبار الآحاد أيضاً، بخلاف المتكلمين. ولذا تراهُم يكَفِّرون بإنكار الأمر الظني أيضاً، وحينئذٍ كان الأنسب للفقهاء أن لا يعرِّفُوا الإيمانَ بالحدِّ المذكور، لأن قيدَ الضرورة يناسب موضوع المتكلمين دون الفقهاء. والمناسبُ لهم أن يقولوا: هو الاعتقاد بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلّمإن قطعاً فقطعاً، وإن ظناً فظناً.(1/96)
والسرُ فيه أن الموجِبَ لكفر الرجل في نفسه، هو إنكار قطعيَ. وأما المُنَبِّهُ للمُفتي في تكفيره، فقد يكون حديثاً آحادياً، فيُنبِّههُ على أن إنكارَ أمر كذا، كفر. ثم لا يكونُ ذلك الأمرُ في الواقع إلا قطعياً، ومثاله: أن رجلاً عالماً عدّ المتواترات والقطعيات وفهرسها، وذَهَلَ وغَفَلَ عن بعضها، فلم يُدْخله في ذلك الفهرس، فجاء واحد آخر ونبَّه على قطعيات أُخر، فأدخله بقول ذلك الواحد في هذا الفهرس، فقد تَنَبَّه بقول واحدٍ للقطعي. فهكذا الأمرُ ههنا لم يكْفُر الرجلُ إلا بإنكار قطعي في نفسه، لكن المُفتي قد يأخذُ مسألةَ التكفير من خبر واحد، فيجوز بناءُ التكفيرِ على الظني بلا خطر، لأن الظنَّ في طريق العلم بالحكم، لا في أمرِ الموجِبِ لكُفْرِ المكفَّر.
وهذا كإثبات الفرض والحرام بالقياس، نظراً إلى حقيقة الشيء، لا نظراً إلى طريق ثبوتِهِ، أو كالإجماع المنقول آحاداً. نعم، تكفيرُ المتكلِّمينَ يكون قطعياً، وتكفير الفقهاء قد يكون ظنياً، فليس هذا في الحقيقةِ خلافاً في المسألة وإنما هو اختلاف الفن والموضوع، فموضوع الفقهاء فِعْلُ المكلف، وكثير من مسائلهم ظني. وموضوع المتكلمين القطع، فلو تكلم متكلمٌ في الفقه يوافقهم في التكفيرِ، ولو ذهبَ فقيهٌ إلى فنِ المتكلمين، لا يَحْكُم به إلا بعد إنكار القطعيات.
أقسَامُ التَّوَاتُر
ثم إن التواترَ قد يكونُ من حيث الإسناد وهو معروفٌ، كحديث: «من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار».f(1/97)
وقد يكون من حيث الطبقة كتواتر القرآن، فإنه تواتر على البسيطة شرقاً وغرباً، درساً وتلاوةً، حفظاً وقراءةً، وتلقاه الكافةُ عن الكافة، طبقة عن طبقة، فهذا لا يحتاجُ إلى إسناد معين، يكون عن فلان عن فلان. وقد يكون تواترَ عملٍ وتوارث، بتواتر العمل على شيء من لدن صاحب الشريعة إلى يومنا هذا، كالسواك. والرابع: تواتر القدر المشترك، كتواتر المعجزات، فإن مفرداتها وإن كانت آحاداً، لكن القدر المشترك متواترٌ قطعاً، كسخاء حاتم، فإن أخباره وإن كانت آحاداً، إلا أن سخاءه معلومٌ متواتراً. وقد يجتمعُ أقسامٌ منها في شيء واحد.
وعلى هذا نقول: إن الصلاة فريضةٌ، واعتقاد فريضتَها فرضٌ، وتحصيل علمُها فرض، وجَحدها كفر، وكذا جهلُهَا، والسِّوَاك سنةٌ، واعتقادُ سنيتَه فرضٌ، لأنه ثَبَتَ متواتراً بأنحاء التواتر وتحصيل علمُهُ سنةٌ، وجحودهُ كفرٌ، وجهلهُ حِرمانٌ، وتركُه عتَابٌ أو عِقَاب.
ثم إن التواترَ يزعمه بعض الناس قليلاً، كما نقله الحافظ في «شرح نُخْبَةِ الفِكر»: أن بعضهم أنكروا مِثاله، وبعضهم ادعوا العِزَّة فيه، ولم يأتوا إلا بمثال أو مثالين. وهو على ما قلت كثير في شريعتنا، بحيث يفوت عنه الحصر، ويعجزُ الإنسان أن يفهرِسَه، ولكن ربما يذهل الإنسان عن التفاته، فإذا التفت إليه رآه متواتراً كالبديهي، وهذا مما ينبغي أن يُنَّبه عليه.
أَقْسَامُ الكُفْر
هذا آخرما أردنا تحريره في هذا المقام، لتكون على ذكرٍ من أمرِ الإيمان ومواضعِ الخلافِ فيه، ثم يأتي عليك أشياء في أثناء الكلام. وسنقررها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
وقد علمتَ أنّ الكفرَ بالمعنى اللغوي، لا يقابل الإيمان. نعم، يقابلُهُ بالمعنى الشرعي. قال الوَاحِدِيّ: وهو كفرُ إنكارٍ، وجحودٍ، ومعانَدَةٍ، ونفاقٍ، فمن لقيه بشيء من ذلك لم يُغفَر له.
أما كفر الإنكار: فهو أن يكفر بقلبه، ولسانه، ولا يعتقد بالحق، ولا يقر به.(1/98)
وأما كفر الجحود: فهو أن يعرف الحقَ بقلبه، ولا يُقرُ بلسانه، ككفر إبليس، وهو قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} (البقرة: 89) يعني كفرُ الجحود.
وأما كفرُ المعاندة: فهو أن يعرفَ بقلبه، ويقرَّ بلسانِهِ، ولا يقبلُ ولا يتدينُ به، ككفرِ أبي طالب.
وأما كفرُ النِّفاق، فبأن يقرَّ بلسانِهِ، ويكفرَ بقلبه.
باب الإِيمَانِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلّم «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ»
لما أراد المصنفُ رحمه الله تعالى أن يعدد أجزاء الإيمان، ناسب له أن يُنبه أولاً على أهمِّ أجزائِهِ، فصدَّر الباب بقول النبي صلى الله عليه وسلّمهذا: لاشتماله على لفظِ البناء الدالِّ على تَرَكُّبِ الإيمان صراحة، واحتوائِهِ على أهم أجزاءِ الإيمان، ومن ههنا ظَهَر وجهُ تخصيصُ الخمسِ في الحديث، وإلا فالإسلام يُطلق على أحكام مشروعة غيرها أيضاً.
ثم ادّعى أنه(قول) وأراد منه القولَ الصادقَ، الموافقُ للباطن، فاندرج تحته التصديق أيضاً. و(فعل) وهو غير العمل، وفي لفظِ السَّلف: «عمل». ولا يُعلم ما وجهُ تغييرِ لفظِ السلف، مع أنّ الأظهرَ هو العمل، وقد وقع في بعض نُسخ البخاري لفظ: «العمل» مكان: «الفعل» وكأنه استقى دعواه بجزئَيه من قوله صلى الله عليه وسلّم «بُني الإسلام على خمس» لأنه صلى الله عليه وسلّمفصَّلَ في الخمسِ القول والعملَ.(1/99)
فثبت: أن الإسلام والإيمان عنده واحد: (يزيد وينقص) وقد علمت أن لفظَ السلف: يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. واختصره البخاري اختصاراً مُخِلاً، فإن الصِّلة فيه دالةٌ على السِّراية، ولا يظهرُ منها معنى الجُزئية، فيكونُ الاستشهاد من كلامهم في غير موضِعِه، إلا أن يقال: إنّ المصنف رحمه الله تعالى أخذَ الباء في قولهم للتصوير، وحينئذٍ معنى قولهم: يزيد بالطاعة، أنّ الإيمان يزيد، أنْ يطيعَ ربه، وهذا المعنى وإن كان لا يوجدُ عند النُّحاة، إلا أنه مستعمل فيما بين المصنفين.
أما الجوابُ الجلي عن الآيات المتلوة: فلأن التمسك بها في غير محله، لكونها في شأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإيمانُ جميعهم كان كاملاً، فلا معنى للزيادة والنقصان في نفس الإيمان في حقهم، فإن أراد الزيادة والنقصان باعتبار النور والانفساخ، فلا نُنْكِرُهُ أيضاً. وقد مر أن نورَ الإيمان أيضاً عنده، فصح تمسكُهُ بقوله: {لِيَزْدَادُواْ إِيمَناً مَّعَ إِيمَنِهِمْ}. وليراجع له «الكشاف» فإنه جَعَلَ الظرفَ لغواً ومستقراً. والمعنى على الأول: أنهم كانوا على إيمان ثم زاد عليه إيمان، ولحق بإيمانهم السابق. وعلى الثاني: أنهم زادوا إيماناً مع كونهم متلبسِّينَ بالإيمان من قبل.(1/100)
ولما دلت الآية على زيادة الإيمان، أجاب من قِبَل الحنفية. وحاصل ما أجابه عن مثل تلك الآيات: أنّ الزيادةَ فيها راجعةٌ إلى المؤمن به فإن القرآن كان ينزلُ في زمنه صلى الله عليه وسلّمنجماً نجماً والأحكامُ تنزلُ تدريجاً، فإذا نَزَلَ حكمٌ وآمن به زاد إيمانه، وهذه الزيادةُ كانت في الحقيقة في المُؤْمَن به، فعبّر عنها بزيادة نفس الإيمان. وهذا الجواب نَسَبَه إلى الإمام الأعظم رحمه الله تعالى. قلتُ: وهذا إن صح عن الإمام رحمه الله تعالى فليس فيه أن أراد به توجيه تلك الآيات، بل المرادُ بيانُ معناها عنده، كما هو مَرويٌّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في «العمدة» و «الفتح» في تفسيرها.
قلتُ: ويتضحُ معناها كلَّ الاتضاح مما فصلها به ابن تيميّة رحمه الله تعالى، فقال ما حاصله: إن الناسَ في عهده صلى الله عليه وسلّمكانوا على نحوين، الأول: مَنْ إذا عُرض عليه الإسلام إجمالاً، آمن به، ثم إذا أتت عليه المصائب، والأعمالُ الشَّاقة، جعل يتأخرُ ويضيقُ صدرُهُ، ولا ينطلق لسانُهُ، نحو قول بعضهم: {لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرّ}... إلخ (التوبة: 81) وبعضهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَكُمْ} (آل عمران: 167)، والآخر: من كان آذا آمنَ مرة ثَبَتَ عليه، ولم تزدْهُ الدوائر والخُطوب إلا شِدَّةً، وثباتاً، واستقامةً، وإيماناً، وتسليماً، فهذا الذي زاد إيماناً مَعَ إيمانه، وسبقت له السوابق. فبضمِ هذا التقريرُ يتَّضحُ الجواب الأول، وحاصله حينئذٍ: أنهم عند نزول الأحكام تدريجاً كانوا يثبتُونَ على الإيمان، لا تعتريهم شبهةٌ ولا يُزَلْزَل إيمانهم من حمل المشاق، بل لا تزال قلوبُهم منشرحة، بخلاف الطائفة التي آمنت وجه النهار، فإذا نَزَلَ حكمٌ وشق عليها، كفرت في آخره فالبقاء على الإيمان مع تحمُّل الشدائد في سبيل الله هو مصداق الزيادة، والتأخر عنه هو المُسمّى بالنقصان.(1/101)
{وزِدْنَاهُمْ هُدَى} ولما كان الهُدى، والإسلام، والإيمان، والدين، والتقوى، كلها شيئاً واحداً عند المصنف رحمه الله تعالى، صحّ تمسكُهُ من زيادة الهدى على زيادة الإيمان، ومراده أن هذه كلَّها متحدةٌ مِصْدَاقاً، لا مفهوماً، كالمعنى والمفهوم والمدلول، فإنها متحدةٌ مصداقاً، لا أن كلَّها ألفاظٌ مترادفة، فإنه باطلٌ، لأن اتحاد المفهوم نادرٌ جداً، وهو أضيقُ من اتحاد الذاتِ واتحاد الوجودِ كليهما. كما ترى في الإنسان وحدِّه التَّام، فإنهما متحدان ذاتاً ومتغايران مَفْهُوماً. أما اتحادُ الوجود فهو أوسع من اتحادِ الذات. والمفهوم كليهما، فإنه يمكنُ مع تغاير الذاتين، والمفهومين، كما قال ابن سينا في الجنس والفصل، فإنهما متغايران ذاتاً، مع الاتحاد وجوداً. واعتراض المُلاّ حسن ساقط، فليراجعه في موضعه، وما قاله الأشعري: إن الوجود عينُ الماهِيّة، لم يَرِد به المفهوم، بل الوجود الحقيقي.
{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى} يعني كانوا من قبل أيضاً على هدىً، ثم زاد الله عليه هدًى من عنده، كما مر في قوله: {إِيمَناً مَّعَ إِيمَنِهِمْ} أي كانوا من قبل أيضاً على الإيمان، ثم زيدوا إيماناً، وفيه احتراس لئلا يظنَّ أحدٌ أنهم إذا زِيْدُوا هدًى وإيماناً، فلعلهم لم يكونوا على هدًى مِنْ قبلُ أيضاً.
(1/102)
ثم اعلم أن الاهتداء فِعْلهُم، والهدى كالثمرةِ له، والغرضُ منه أنهم فعلوا شيئاً واكتسبوه بالجِدِّ والاجتهاد، ثم زادهم الله شيئاً من جنس فعلِهِمْ، من عنده، مِنَّةً عليهم وكرامةً لهم. قال الشيخ ناصر الدين بن المنير: وكذا يكونُ في الكفر أيضاً، فبعض الكفر يكون من فعلِهِ، وكسبِهِ ثم يزاد عليه كفر، نِقْمَةً عليه وسخطةً عنه، ليزداد كفراً. ويمكنُ أن يكونَ هو المرادُ من قوله تعالى: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} (البقرة: 10)، أي كان مرضٌ في قلوبهم من كسبِهِم من قبل، فزِيْدُوا مرضاً على مرضهم.
{فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَناً} ويُعلم منه أن الإيمان يُطلق على ثباتِ قدمٍ أيضاً {إِيمَانًا وَتَسْلِيماً} الإيمان هو تبجيل الذات، والتسليم، هو التصديق بالقول، يعني إيمان ذات كاماننا أو تسليم بات كاماننا وتفصيله: أن متعلَّق الإيمان إن كان العقائد، فهو عبارةٌ عن التصديق. وإن كان متعلَّقه الذات، فهو عبارةٌ عن تبجيلها، أي اتباعها فيما يُؤمر ويُنهى.
(والحبُ في الله والبغض في الله من الإيمان) ولعل الحبُّ والبغض من الأحوال، لأنهما في الأكثر غيرُ اختياريين، ثم استدل المصنف من لفظ: «من»، فإنه للتبعيض، فدل على الجزئية. ونحن نقول: إنها للابتداء والاتصال كما في قوله صلى الله عليه وسلّم «أنت منِّي بمنزلةِ هارونَ من موسى»، فلا يدلُ على الجزئية، فالمعنى: أن الحبَّ في الله إنما يَبتدىءُ من الإيمان، ويتصل به، كما أن الشجرةَ تنبت من بَذْرها. وللبخاري رحمه الله تعالى إن يقول: إن ما نبت من الإيمانِ أيضاً إيمانٌ، وعلى هذا المِنْوال كلامُهُ، وكلامُنَا في الاستدلال. والجواب: هو يجعلُ «من» تبعيضية ونحن اتصالية وابتدائية. وكذا هو يجعل ثمراتِ، الإيمان ونورَه، إيماناً، ونحن نجعله زائداً عليه. فلا نُعيده في كل موضعٍ رَوْماً للاختصار.(1/103)
(وكتب عمر بن عبد العزيز) وهو وإن جعله مُركَّبَاً، لكن لفظَ الاستكمال إنما يُستعمل في الأوصاف، بخلاف التمام، فإنه باعتبار الأجزاء، وحينئذٍ فلا حجةَ فيه. ثم قد مر معنا مراراً أن للإيمان إطلاقين: الأول: على الإيمانِ الكاملِ المركبِ من الأعمال والأحوال، والثاني على المرتبة المحفوظة، وهو غير مركب، فالجزئية في كلماتهم راجعةٌ إلى المعنى الأول.
{وَلَكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} وهذه الآية أولى أن تكونَ حجةً لنا، من أن تكونَ علينا، لأنه لا شك في كمال إيمانه وبلوغه إلى أقصى مراتبه، فلا يمكن أن يكونَ طالباً لزيادة في الإيمان، ولذا قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى} فالإيمان كان حاصلاً، وإنما طلب زيادةً في المعنى الزائد. ويحتاج البخاري في الاستدلال به إلى مقدمة زائدة لا يتم الاستدلال إلا بها، وهي: أن الاطمئنان أيضاً من مراتب الإيمان، وقد مر بعض الكلام على الآية.
{نؤمن ساعة} وظاهره أنه ليس المرادُ منه الإيمان ساعةً فقط، بل ما في «الحصن الحصين»: «جددوا إيمانكم بقول: لا إله إلا الله» أي تجديده وإحضاره والتفكر فيه. ولا يخفى أن نَضْرة الإيمان ونَضَارَته وزهرَتَه ورِوَاءه، أمرٌ وراءَ الإيمان.(1/104)
لكن عند المصنف رحمه الله تعالى كلُّها من وادٍ واحد. {اليقين الإيمان كله} اليقين أيضاً يُطلق على معنيين: الأول: اعتقادٌ جازمٌ مطابقٌ للواقع. والثاني: استيلاؤه على الجوارح، بحيث تخضعُ له الأعضاء، وهو المعروفُ بين الصوفية رحمهم الله تعالى، وهو عينُ الإيمان. «والكل» لتأكيد الشيءِ ذي الأجزاء، فصح الاستدلال، قاله الكرماني. وهذا الشرحُ أقدم من «فتح الباري» إلا أن مصنفه ليس بمحدث، فيأتي فيه بحلِّ اللغةُ فقط، ويُكثرُ الأغلاط في فن الحديث - كما فَعَلَه علي القاريء في «شرح الموطأ» - وكان شرحه موجوداً عند ابنه، فلما لم يقدِرْ على تصحيحه، أتى به عند الحافظ رحمه الله فصححه، إلا أن تلك النُّسخَة المصححة لا توجد اليوم.
(وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما) والتقوى عنده عينُ الإيمان، وهو اسم لوقاية النفس عن الشرك، والأعمالِ السيئة، والمواظبة على الأعمال الصالحة، وبهذا التقرير صح الاستدلال «ما وصى به الخ» يريدُ أن الدينَ من لدن نوحٍ عليه الصَّلاة والسَّلام إلى يومنا هذا مع الاختلاف في الجزئيات، فكذلك الإيمانُ مع كونه ذي أجزاء أمر واحد. ومعلوم أنَّ الدينَ والإيمانَ، عند المصنف رحمه الله تعالى شيءٌ واحد. وللمانع فيه مجال وسيع.
(وقال ابن عباس رضي الله عنهما) قال أهل اللغة: المِنْهَاج: الطريق الواسع، بخلاف الشِّرعة، فإنها اسم للطرق التي تنشعب من السبيل، ولما اتحدَ المنهاجُ وتعددت الشِّرعة، حصل غَرضُ البخاري، وجوابه: أن الكلام في الإيمان لا في لفظ الشِّرعة، وإن كان الكلُّ عندكَ متقارباً. فالسنةُ تفسيرٌ للشرعة. واللف والنشر مشوش.
باب دُعاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ؛ لقَوْلِهِ تعَالَى:(1/105)
(لولا دعاؤكم) وفيه إطلاق الإيمان على الدعاء، وهو من الأعمال، لأن طريقهَ المعروفُ برفع الأيدي، فهو عملُ اليد واللسان، فصح استدلالُ المصنف رحمه الله تعالى. قلت: وعندي أن الآية لا تعلقَ لها بموضع النزاع، فإنها في حق الكفرة الفجرة، كما يدل عليه قول: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} والدعاء لا ينحصر في اللغة فيما شاع الآن في عرفنا، وهو ما يكونُ برفع الأيدي، بل هو كما في قوله: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ} الخ. وكما في قوله: {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ} (يونس: 22)، والمعنى: أن ربَّكم يكترثُ بكم ويُبالي بكم، لأنكم تدعونَه، ولولا ذلك لما عبأ بكم، على نحول قوله: {وما كان اللَّهُ معذِّبهم وهو يستغفرون} (الأنفال: 33) وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلّم «لا تقومُ الساعةُ حتى لا يبقى في الأرض أحد يقول: الله الله» فبقاء الدنيا ببركة اسم الله الأعظم.(1/106)
وإن ذهبنا إلى تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنه فنقول: إن مرادَه التنبيهُ على ما يُعبأ به عند الله، هو الإيمان، فإنّ رفعَ الأيدي فقط ليس أمراً يُعتدّ به، وإنما هو الإيمان الذي يرحم الله علينا لأجله. ولما اتفقوا على أن دعاءَ الكفارِ يُستجاب في الدنيا، كما في قاضيخان فلا بأس أن يكون في استغفارهم أيضاً نفعٌ، ولو في الجملة. وفي مسلمٍ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّمعن ابن جدعان - رجل مات في الجاهلية - هل يَنْفعُهُ تصدقهُ؟ قال: «لا فإنه ما قال: رب اغفر لي وارحمني قط». واستفدت منه: أن استغفارَ الكفارِ أيضاً ينفعُ شيئاً، ولو لم يكن منجياً من النار. وسيجيءُ الكلام فيه في أبواب الإيمان أزيد من هذا. وعلى هذا خرجتِ الآية عن ما نحن فيه، فإن الكلام في الإيمان والمؤمنين، والآية في الكفار، إلا أنّ تمسكَ المصنف رحمه الله تعالى تام، فإنه من قولِ ابن عباس رضي الله تعالى عنه: دعاؤكم إيمانكم، وهو صحيح على كل حال.
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه
وفي مصنف ابن أبي شَيْبة: الإسلام عَلانية، والإيمان ههنا، وضرب يدَه على الصدر. رجالُهُ كلهم ثقات، إلا رجلٌ وهو: علي بن.... وقد وثقوه أيضاً. وفي هذا إيماءٌ إلى أن الإيمانَ ينبعثُ من الباطن إلى الجوارح، والإسلامَ يسري من الجوارح إلى القلب، ثم في «فتاوى الحنابلة»: أنه إذا لم يُصلِّ رجلٌ، يمهله القاضي ثلاثة أيام، ويفهمه، ثم يقتله كفراً. وقال الشافعي: يقتله حداً. وقال الإمام الهُمام: بل يضربُ ضرباً شديداً حتى يسيلَ منه الدم. قلتُ: والحنفية قد وسعوا للقاضي أنْ يقتلَ من شاء من المبتدعة، فينبغي أن يدخلَ تحته تاركُ الصلاة أيضاً، كما هو في تذكرة الهاشم بن عبد الغفور السندي عن بعض كتب الحنفية ثم عن أحمد رحمه الله تعالى روايةُ الكفرِ في تركِ كلٍ من الخمس أيضاً. وسيأتي فيه الكلام مفصلاً.
(1/107)
باب أُمُورِ الإِيمَان
هذا البابُ كالأصل الكليّ تحته جُزئيات، ولما كان الإيمانُ عبارةً عن المجموع عنده، نَزَلَ إلى تعديد أموره، وأجزائه، ليدل على أنه شيءٌ ذو أجزاء، وإن كان يحكَمُ بالفسق بفَوَات بعض الأجزاء، وبالكفر بفوات بعض آخر. وهذا نظيرُ اختلافهم في الصلاة في أصول الفقه. فقال الشافعية: إن الصلاة اسم للحقيقة المعهودة من التحريمة إلى التسليم، وتدخل فيها المستحبات، والسنن والأركان، ثم ينتفي اسم الصلاةِ بانتفاءِ بعض الأجزاء، وتبقى مع انتفاءِ بعضِها. وقال ابن الهُمَام في «التحرير»: إنها اسم للأركان فقط، والبقية مكمِّلات لها، وعلى هذا لو فات جزء منها - ولا يكون إلا ركناً على هذا التقدير - يحكَمُ عليها بالبطلان بتاً.
أقول: والحقُ أن النزاعَ إن كان في أنه هل يمكن أن تكون حقيقةً مركبةً من أشياء ينتفي بعض أجزائها، ويبقى اسم الكل عليها أولاً؟ فالصواب مع الشافعية، فإنا نجدُ أشياءً كثيرة ينتفي بعض أجزائها، ومع هذا لا يرتفعُ اسم الكل عنها. وإن كان النزاعُ في أن المكمِّلات للشيء تكون أجزاءً لها دائماً، فالصواب إلى الحنفية. إلا أن نَظَرَ الشافعية في الصلاة أصوب، وما ذهب إليه الشيخ ابن الهمام نظرٌ معقوليٌ، لأنه يُبنى على تجريدِ النَّظَرِ عن بعض أجزائه. وأهل العرف لا يفرقون بين جزء وجزء، بل يجعلون الشيءَ عبارة عن مجموعِ أجزائه، وإن كان بعضُهَا أدخلُ في تقوم الكلِّ من بعض آخر. وتظهر ثمرتُهُ عندهم عند الفوات، فيرون الشيء معدوماً بفوات بعضها، دون بعض، مع أنه لا فرقَ عندهم في كونه جزءُ الشيء.(1/108)
والسرُ فيه: أن الشيءَ عندهم عبارة عما هو في الواقع، وليست في الواقع إلا الماهية مع عوارضها، والمجموعُ هو الذي يُعبَّر عنه بالشيء عندهم. أما حقيقته المعقولية، فهي مأخوذةٌ ومنتزعةٌ عنه، تحتاج إلى تجريدِها عن عوارضِها، فليست هي إلا نحو اعتبار، وهذا الاعتبارُ وإن كان واقعياً، يُبتنى عليه بعض الأحكام، إلا أنه بمعزل عن أنظار أهل العرف. أما في الإيمان فالأقربُ فيه نظرُ الحنفية، لأن الأعمال بعطفِهَا على الإيمان جُعلت مكمِّلات له، فلا يكون الإيمانُ مجموعاً مركباً، فجعلها أجزاء خلاف الظاهر، فالأظهر فيه ما اختاره الحنفية. نعم، يوجد إطلاق الإيمان على الأعمال في الأحاديث، بما لا يُحصَى، وهو على نظر الشافعية، فإما أن يقال: إن الأصلَ هو التصديقُ، والباقي تابع له، وهذا أوفقُ بالحنفية، أو يُلْتَزَمُ اختلافُ الإطلاق، فتارة أطلق على الجزء، وأخرى على الكل، وهذا أوفقُ بالشافعية.
(قوله تعالى: ليس البر) وإنما انتخبها من بين الآيات، إما لكونها أبسطُ في مراده، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلّمتلاها في جوابِ رجلٍ سأله عن الإيمان، كما في «الفتح»: أن أبا ذر رحمه الله سأل النبي صلى الله عليه وسلّمعن الإيمان، فتلا عليه: «ليس البر»... إلخ. ورجاله ثقات. قلت: وعندي قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون: 1)... إلخ أقرب إلى مقصوده من قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ}... إلخ، لأن في الآية الأولى تعديدٌ للأوصاف فقط، وليست جاريةً على الإيمان. وفي الآية الثانية الأوصافُ كلها جاريةٌ على الإيمان، لأن المعطوفاتِ كلها إما صفاتٌ مادحةٌ للمؤمنين، أو كاشفةٌ لهم، وعلى كلا التقديرين، كونُها من أمورهِ أظهر، بقي تفسيرُ قوله: {لَّيْسَ الْبِرَّ}... إلخ ونكتَةُ التعبيرِ بنفي البرِّ عما هو من أبرِّ البر، كالتولِّي إلى القبلة فسأذكره في الصيام.(1/109)
وهو مهم جداً. وقوله صلى الله عليه وسلّم «ليس من البرِّ الصيامُ في السفر» مع كونه من أعظم الطاعات من هذا الباب أيضاً فانتظره.
قوله: (قبل المشرق والمغرب) يعني أن أمرَ التولي إلى جهة، ليس لكون الله سبحانه وتعالى في تلك الجهة، ليتقيد بها دائماً، فلا طاعة في الإصرار عليها، بل البر والطاعة في الانصراف إلى الجهة المأمور بها، أي جهة كانت. قوله: «الإيمان بضع وستون شعبة».... إلخ. لما فرغ المصنف رحمه الله تعالى عن مباني الإيمان شرع في فروعه وشعبه، وذكر حديث الشعب. أقول: إن مفهومَ العددِ غيرُ معتبرٍ في الأحكام، فلا نتعرض إلى اختلاف العدد في الروايات. وقد تعرَّض الشارحون إلى تعديد تلك الشُّعب. والأحبُّ إليّ أن يُتتبع القرآن ويستوفى ذلك العدد منه، بأن يجعلَ كلَّ ما ذكر فيه مع الإيمان شُعبة من شعبهِ، فإن وفَّى به ذلك فهو المراد، وإلا فليفعل مثله في الحديث.(1/110)
والحاصل: أن الإيمان مُركب من أمور أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة منه، وإنما نبه على كون الحياء شعبةً من الإيمان، لكونه أمراً خُلُقياً، ربما يَذْهَلُ الذهن عن كونه من الإيمان، فدل على أن الأخلاقَ الحسنة أيضاً منه، وقد مر مني: أن ظاهرَ هذا التعبير يؤيدُ نظرَ الشافعية، لأن الشعب تكون أجزاءً للشجرة، ونحوه قوله تعالى: {كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ}... إلخ (إبراهيم: 24) فشبَّه الكلمةَ بالشجرة، والكلمة هي الإيمان، وثمارُهَا هي الأعمال، قد تكون وقد لا تكون مع بقاء الشجرة، كذلك الأعمال تكون قد وقع، مع بقاء أصل الإيمان، ولكنه بالعطف جعلها مغايراً له، فالنسبة إما كنسبة الأغصان إلى الشجرة، أو الأثر إلى المؤثر، والنظرُ دائر فيه بعد. ولنا أن نقول: إن للشعب نسبة أخرى إلى أصلها، وهي كونها نابتةٌ منه، وناشئةً عنه، وحينئذٍ لا تكونُ تلك الشعبُ أجزاءٌ، ينتفي الكلُّ بانتفائها، بل فروعاً يبقى اسم الكل مع انتفاء بعضها.
(1/111)
وقد علمت: أن الاختلاف في كونها فروعاً، أو أجزاء، لا يرجع إلى إكفار مُعدَمي الأعمال أو عدمه، بل هو اختلاف تعبير بحسَبَ الأنظار فاعلمه. وتفصيلُهُ أن أجزاءَ الشيء لا يجب أن تكونَ كلها مستاويةَ الأقدام، ألا ترى أن الإنسانَ يتركبُ من أجزاء ليست كلها على حد واحد، ولكن بعضها رئيسة وبعضها مرؤسة، كالقلب والدماغ، فإنهما جزءان له، وكذلك الأيدي والأرجل أجزاء له أيضاً، ولكن أين هذا من ذلك؟ فجزئية الأول بحيث نِيْط بها صلاحُهُ وفلاحه، وليس كذلك الثاني، وهذه هي الحال في الشجرة، فإن فيها جِذْعاً وأغصاناً وشماريخ وأوراقاً، وليست كلُّها متساوية الأقدام. نعم، هناك أجزاءٌ أخرى تكون على حد سواء، كاللبنَاتِ للجِدَار، فإن كان مرادَهم بائبات الجُزئية نحو تلك، فلا نُسلَّمها ولا نَرَاهَا ثابتةَ من الأحاديث، وإن أرادوا بها الجُزئية كما في الطائفة الأولى، فإنا نقول بها. أما الحديثُ فلم يعبر إلا بكونها شعباً، وفيه تردد بعد من حيث كونها فرعاً، وبحسب كونها جزءاً ولكل وجهة هو موليها.(1/112)
9 - قوله: (الحياء) وهو عندي لا ينقسمُ إلى نوعين: شرعيٌ وعرفيٌ كما قالوا،بل هو أمر واحدٌ، فمن غَلَبَ عليه ذكر الله استحى منه أن يهتكَ محارِمَه، ومن غلبتْ عليه الدنيا استحى منها، فالفرق باعتبار المتعلَّق، واعلم: أن بعض الأخلاق الحسنة التي هي مبادىء للإيمان مقدَّمة على الإيمان، يجيءُ عليها لون الإيمان كالأمانة، ولذا قال: «لا إيمانَ لمن لا أمانَةَ لَهُ» فالأمانةُ متقدِّمةٌ على الإيمان، وينبغي أن يقدَّم عليه الحياء أيضاً، إلا أنه لما عُدّت توابعُ الإيمان مع الإيمان، جُعِلَ شعبةً منه في الحديث، وكالجزء في التعبير فقط، ولعل الأمرَ كما قلنا، والله تعالى أعلم. وعلى هذا فالأحوال عند السلف تكون ثلاثة: الإسلام الخالص، والكفرُ الخالص، والثالث: ما يشتمل على صفات الإيمان والكفر، فإن الإيمانَ عندهم مُحركب، فيمكن أن يوجدَ في المؤمن خصائلُ الكفر، وفي الكافر خصائلُ الإسلام، ولا يمكن هذا على طورِنا، فإن الإيمان عندنا بسيط، فينحصر الأمرُ في الحالين فقط. فريق في الجنة وفريق في السعير.
باب المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِه(1/113)
والجملةُ تشتملُ على تعريف الطرفين، وهو مفيدٌ للقصر، وهو من الطرفين عندي. أي قد يكون لقصر المسندَ إليه على المسنَد، وقد يكون بالعكس، وقد تصلح جملة لكل منهما، لكن لا على سبيل الاجتماع، كما اختاره الزمخشري في «الفائق». وما قاله التَّفْتَازاني رحمه الله تعالى: إن القصرَ من طرفٍ فقط، والمبتدأ هو المقصور، فهو غَلَطٌ عندي. ثم إن هذا الحكم قد أخذته الشريعة من الاشتقاق، فالمسلم مَنْ سَلِم الناس من إيذائه، وذلك لأنه وُجِد فيه مأخذ الاشتقاق، وأما من آذى الناسَ ولم يَسْلَم منه الناس، فلم يوجد فيه مأخذُ اشتقاقِ الإسلام، فكأنه ليس بمسلم، وهذا على نحو ما تقول: إن العَالَم من اتصف بالعلم. والضارب من اتصف بالضربِ. فكذلك المسلم من اتصف بوصف السلامة. وعلم منه أن الإسلام كما هو معاملة مع الله سبحانه، كذلك معاملة مع الناس أيضاً.
واعلم أن الإسلام حقيقتُهُ ما يعبر عنه، بأن نقول: اطمئنَ أنت مني وأنا مُطمئنٌ منك، لأنه كان من عاداتهم قبلَ الإسلام: سفكُ الدماء، وهَتْكَ الأعراض، ونهبُ الأموال، فلما نزلت الشريعةُ أرادات أن تُعينَ لفظاً بأزاء ذلك المفهوم، ليدل عند أول قرع السَّمْع على الأمن، وهو لفظُ الإسلام، ليصيرَ الناسُ في الأمن بعد الخوف، والاطمئنان بعد الفزع.
10 - ولذا قال: (المسلمُ من سَلِمَ)... إلخ «والمؤمنُ من آمَنَهُ الناسُ على دمائِهم وأموالِهم» فكأنه أحاله على اللغة.
(والمهاجر)... إلخ هذا أيضاً نوعُ هجرةٍ وفيه قصر، والقصرُ باعتبارِ تنزيلِ الناقصِ منزلة المعدوم، ولا أقول بتقدير الكمال. وقد مر تقريره مرة فراجعه. (قال أبو عبد الله) وإنما أتى به لأجل التصريح بالسماع كما هو مذْهَبَه. والشَّعْبي اسمه عامر، شيخ الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
باب أَيُّ الإِسْلامِ أَفضَل
باب إطْعَامُ الطَّعَامِ مِنَ الإِسْلام(1/114)
لما فَرَغَ عن أجزاء الإسلام، أراد أن يذكرَ مراتبُ الإسلام، وههنا إشكال، وهو أنه كيف يَستقيمُ اختلاف الأجوبة مع اتحادِ السؤال؟ فإنه قد أجاب ههنا بأن الأفضلَ: «من سلم المسلمون» الخ وفي حديث آخر أجاب بغيره، والجواب المشهورُ أن الاختلافَ في الأجوبة باعتبار اختلاف حال السائلين. قلت: وفيه أن هذا الجواب لا يجري إلا فيما صدر عنه القول المذكور في جواب سائل. أما إن كان قاله بدايةً بدون سبق سؤال، فينبغي أن يذكرَ ما هو الأفضلُ في الواقع لا غير، ولا يتحمل فيه هذا الاختلاف.
والجواب الثاني: أن الاختلاف باعتبار اختلاف لفظ السؤال، دون حال السائل، ففي بعضه أيُّ الإسلام أفضل؟ وفي بعضه أيُّ الإسلام خير. والأفضلُ يكون بحَسَب الفضائل، وهي المزايا اللازمة كالعلم، والحياة، والخير باعتبار الفواضل، وهي المزايا المتعدية، فالتشتت في الجواب، باعتبار التشتت في السؤال، ولذا أجاب في الأول بالإسلام، وفي الثاني بإطعام الطعام. قلت: هذا الجواب يحتاج إلى تتبّعٍ بالغ، وإلى تعيين اللفظِ بعينه من صاحب الشريعة والسائل كليهما، وهو أمر عسير، لفُشو الرواية بالمعنى، فما الدليل على أن هذا من لفظه، وليس من الراوي.
والجواب الثالث للطحاوي في «مشكله» وحاصله: أن يجمعَ جميعَ أجوبتِهِ صلى الله عليه وسلّم ثم يجعلُ الأفضل نوعاً كلياً يندرجُ تحته جميع الأشياء التي حُكِمَ عليها بكونها أفضل. وحينئذٍ لا يكونَ الأفضل شخصاً لينحصر في فرد. ولا يمكنُ أفضلية الآخر معه، بل جملة ما وضعه صلى الله عليه وسلّمفي المرتبة الأولى يُجعلُ كالنوع، ويدرجُ تحتَهُ ما ورد في المرتبة الأولى، وهكذا ما وضعه النبي صلى الله عليه وسلّمفي المرتبة الثانية. يُجعلُ أيضاً كالنوع، ويدرجُ تحتَهُ جملةُ الأمور التي عُدت في المرتبة الثانية.(1/115)
وهكذا أقول: وهذا إنما يصلحُ جواباً إذا كان الاختلافُ في جواب الأفضلية، بذكر أمر مرة وأمر آخر مكانه مرة أخرى، كما في الحديث المار، فإنه أجاب مرةً بكون الأفضل «من سلم»... إلخ ومرة بكونه «إطعام الطعام» ولا يجري فيما إذا جعل أمراً في المرتبةِ الأولى في حديث، وجعل ذلك بعينه في المرتبة الثانية في حديث آخر، فإن كونَ الشيء في المرتبة الأولى، والمرتبة الثانية معاً غير ممكن، فلا يمكن أن تكون الصلاةَ مثلاً أفضلُ من الجهاد، ومفضُولةً منه أيضاً، فإن أُجيب بتعدد الجهات، فهذا غيرُ جوابِ الطحاوي رحمه الله تعالى، إلا أن يتتبَّعَ الطرق، فإن تحقق بعده أن التقديم والتأخير إنما جاء من قبل الراوي، فوضع ما كان في المرتبة الأولى في المرتبة الثانية، أو بالعكس، نفذ جوابه. وإن تحقق أنه كذلك من جهة صاحب الشريعة، وليس من جانب الراوي، بقي الاشكال ولا يدفعُهُ جواب الطحاوي رحمه الله تعالى.
12 - (تطعم الطعام) عبّر بالمضارع إفادةً للاستمرار التجدُّدي.(1/116)
12 - (وتقرأُ السلام) واستثنى منه فقهاؤنا مواضع عديدة لا يقرأ فيها السلام، وليراجع له «الدر المختار» من «باب الحظر والإباحة» واعلم أن صيغة: السلام عليكم ينبغي أن يفيدَ القصرُ لاشتماله على التعريف. قلت: لا قصر فيه. فإن شئتَ تفصيل المقام: فاعلم أن ما اشتهر عندهم أن الجملةَ الإسمية إذا اشتملت على المعرَّف باللام وحرف يعينُ على القصر في الجانب الآخر، يفيدُ القصر، إنما هو إذا كانت اسمية ابتداء غير معدولة عن الفعلية، وإن كانت معدولة عن الفعلية، فلا قصر فيها عندي، لأنه إذا لم يكن القصر في الأصل، كيف يكون في الفرعِ المعدولِ؟ ومر الزمخشري رحمه الله تعالى على قولهم: «السلام عليكم» وتفطَّنَ أنه ينبغي أن يفيدَ القصر، ثم لم يكتب فيه شيئاً شافياً، وكذا مر على قوله تعالى: {وَالسَّلَمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ} (مريم: 33) واختار أن اللام فيه للعهد. قلت: ولا يعلق بقلبي، فالجواب عندي: أن السلامَ عليكم معدولٌ عن جملة فعلية، أو كانت في الأصل: سلَّمتُ سلاماً، فلا تفيد القصر على ما بينا، فإن قلتَ فحينئذٍ ينبغي أن لا يكون جملة الحمد لله أيضاً مفيداً للقصر، لأنها أيضاً معدُولةٌ عن الفعلية، قلت: ما الدليل عليه؟ لم لا يجوز أن تكونَ إسمية ابتداء، وأي رِكَّة فيه؟ بخلاف قولنا: السلام عليكم.(1/117)
والحاصل: أن ما فيه بيانٌ للعقيدة، فالمناسب هناك جملةٌ إسمية لا غير، وما فيه إنشاءٌ، أمر جاز فيه أن تكونَ معدولةٌ عن الفعلية. وبعبارة أخرى: إن الجملةَ الفعلية قد يعتبرُ انسلاخُهَا عن معناها، فتفيدُ القصرَ، لأنها جملة إسمية على هذا التقدير ولا لمع فيها إلى الفعلية، كقولنا: الحمد لله، إذا قصدنا بها الخبر لأن الأصلَ فيه الإسمية، ولا لمع فيها إلى الفعلية، فتفيدُ القصر بخلاف ما إذا أردنا منها الإنشاء، فإن قيل: فحينئذٍ ينبغي أن لا يكون القصر في الحمد لله لأنه إنشاء، وجعلُهُ إخباراً ليس من الحمد في شيء، فإنه إخبارٌ عن الحمد، والإخبارُ عنه ليس بحمد. قلت: بل الإخبار عن الحمد أيضاً نوعُ حمد وإن جعل إنشاءً فلا قصر فيه أيضاً.
باب أَيُّ الإِسْلامِ أَفضَل
باب إطْعَامُ الطَّعَامِ مِنَ الإِسْلام
أفاد بإدخال لفظة: (من) على جملة الحديث: أن المذكورَ خصلةٌ من الإيمان، والنفي على ما مر محمولٌ على تنزيلِ الناقصِ منزلةِ المعدوم، واعلم أن طريقَ الشارع طريق الوعظ. والتذكير، فيختارَ ما هو أدخل في العمل، فلو قدَّرَ الكمالَ في مثل هذه المواضع، يفوتُ غرضُهُ، ولذا لم يكن السلف يحبونَ تأويل قوله صلى الله عليه وسلّم «من ترك الصلاة فقد كفر» بالترك مستحلاً، أو أنه فعلَ فعلِ الكفر، فإنه بالتأويل يَخِفّ الأمر فيفقد العمل.
باب حُبُّ الرَّسُولِصلى الله عليه وسلّم مِنَ الإِيمَان(1/118)
الباب الأولُ كانا عاماً لكل مسلم، وهذا خاص كالجزئي منه، وليس الحبُّ فيه هو الشرعي، أو العقلي، كما قاله البيضاوي: إن الحب عقلي، وطبعي، والمراد هو العقلي، وقد مر مني أن الحب صفة واحدةٌ، تختلف باختلاف المتعلَّق، إن صرفتَها إلى الآباء والأبناء، سميت طبعية، وإن صرفتها إلى الشرع، سُميت شرعية، فالفرق باعتبار المتعلَّق، كيف وقول الله تعالى: {قل إن كان آباؤُكُم وأبناؤكم وأزواجكم وعشيرتُكم وأموالٌ اقتَرفْتُمُوها وتجارةٌ تخشون كسَادَها ومساكنُ ترضَونها أحب إليكم من ا ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربَّصُوا}.. إلخ (التوبة: 24) أوجب أن يكونَ حبهما أزيدَ من الكل، وحب هذه الأشياء ليس إلا طبعياً. وعند المصنف رحمه الله تعالى عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلّم لأنتَ يا رسولَ الله أحبُّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال: «لا، والذي نفسي بيده حتى أكونَ أحب إليك من نفسك». فقال عمر رضي الله تعالى عنه: فإنك الآن أحب إلي من نفسي، فقال: «الآن يا عمر»، وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: لما حَضَرَ أحدٌ دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولاً في أولِ من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم وإني لا أترك بعدي أعزَّ عليّ منك، غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإن عليّ ديناً... إلخ رواه البخاري. وأمثاله كثيرةٌ تدل على أن نفسَ رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان أحب عندهم مما في الأرض جميعاً، ولم يكونوا يعلمون غير المحبةِ التي تكون فيما بينهم.(1/119)
ولم يخطر ببالهم الحب الشرعي، كما اتضح من قول عمر رضي الله تعالى عنه، فإنه قابلَ أولاً بين الحبِّ بنفسه والحب بالنبي صلى الله عليه وسلّم ومعلوم أن حبَّه بنفسه لم يكن إلا طبعياً. وكذا تواتر من حال غير واحد من الصحابة أنهم جعلوا أنفسهم تُرْساً، ووقاية للنبي صلى الله عليه وسلّمفي الغزوات كما رُوي عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه وغيره فالتقسيم تفلسف. والأمر كما قلنا، ولا تحمل ألفاظ الحديث إلا على ما تعارفه أهل العرف، واللغة، وليُعلم أنَّ حبَّ النبي صلى الله عليه وسلّمينبغي أن يكون من حيث ذاته الشريفة، لا من حيث أنه هدانا، والقصر عليه ليس بذاك، فهو محبوب لذاته المباركة الطيبة، ومحبوبٌ لأجل أوصافِهِ الحسنة، وملكاتِهِ الفاضلة، وأخلاقِهِ الكاملة أيضاً.
باب حَلاوَةِ الإِيمَان
ومقصودهُ أن الحلاوةَ من ثمرات الإيمان، ولما ذكر الإيمانَ وبيَّنَ أموره، وأن حب الرسول من الإيمان، أرْدَفَه بما يُوجد حلاوةَ ذلك.
16 - قوله: (ثلاث من كن فيه) إلخ، وفيه تلميح إلى قصة المريض، والصحيح، لأن المريض الصفراوي، يجدُ طعم العسل مراً، والصحيحُ يذوقُ حلاوته، على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئاً ما، نقص ذوقُهُ بقدر ذلك، فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يقوّي استدلال المصنف رحمه الله تعالى على الزيادة والنقصان.(1/120)
قال الشيخ أبو محمد بن أبي جَمْرة: إنما عبر بالحلاوة لأن الله شبَّه الإيمان بالشجرة في قوله: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ}(إبراهيم: 24) فالكلمةُ هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانُها اتِّباعُ الأمر، واجتناب النهي، وورقُها ما يَهُم به المؤمن من الخير، وثمرُهَا عملُ الطاعات، وحلاوة الثمر جَنْيُ الثمرة، وغايةُ كمالِهِ تناهي نضج الثمرة، وبه تظهر حلاوتها كذا في «الفتح». أقول: وإنما عبر بالحلاوة لأن أهلَ العرف يَعُدون المحبة من المذوقات، وهكذا يعبرون عنها في محاوراتهم، وفي القرآن: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} (النحل: 112) هذا واعلم أنه قد أشكل على القوم نسبة الذوق إلى اللباس في الآية الشريفة، فإن اللباس من الملبوسات، لا من المذوقات، ولم يُجبْ عنه أحد جواباً شافياً لطيفاً ليطمئن به القلب، وقد أجبتُ عنه وأثبتهُ في برنامجي ولا يسع الوقت ذكره.
باب عَلاَمَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَار
لما فرغ من الحُبِّ مطلقاً وكان عاماً، أرْدَفَه بذكر محبة الطائفة، وانتخب منها الأنصار، وجعلها علامةُ الإيمان، فذكر أولاً: الإيمان، ثم حلاوتَه، ثم علامته ومأخذ الحديث، قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَنَ} (الحشر: 9) وفي الآية استعارتان عند علماء البيان: الأولى: في الفعل استعارة تبعية، والثانية: في الإيمان استعارة أصلية. وعند النُّحاة هي من باب - علفتها تِبْناً وماءً بارداً، واختار العلامة فيه التضمين، في «حاشية الكشاف» وأنكر عليه ابن كمال باشا، وقال: إنه وَهْمٌ توهم من عبارة «الكشاف».(1/121)
والمعنى عندي: الذين جعلوا الإيمان مبوأهم، ومقعدهم، كأن الإيمان أحاط بهم، وهؤلاء قاعدون فيه، كقوله: {إن المتقين في جناتٍ ونَهْر في مقعدِ صدقٍ عند مليكٍ مقتدَرِ} (الفجر: 54، 55) فالإيمان ظَرْفٌ، وهؤلاء مَظْرُوفُون، وهو كناية عن كمال دينهم، وفيه ترغيب للمهاجرين بحبهم، ولذا جعله الحديث من علامة الإيمان وفيه تنبيه على أن حب أهل ورد الرجل، والخلص من أحبائه، أيضاً ضروري وإن كانوا أجانب، فإن حبَّ أقاربِ النبي صلى الله عليه وسلّممما فُطِرَ عليه كل مسلم، يعلمه من فطرَتِهِ، أما حبُّ الأنصار الذين فدَوْه من أموالهم وأنفسهم، لكونهم أجانب قد يَذَهَل الذهنُ عن حبهم، فنبَّه على أن حبَّهم أيضاً من علامات الإيمان، لكونهم حَلُّوا منه محلَّ أهلِ البيت من الرجل، وفي الحديث: «من بر الولد إكرام أهل ولد أبيه» (بالمعنى).
باب
هذا بابٌ بلا ترجمة، وهو متعلقٌ بالأول، لأنه لما ذكر الأنصار أشار إلى سبب تلقُّبهم بالأنصار، وإنما لم يترجم به لأنه بصدد أمورِ الإيمان: وليس هذا من أمور الإيمان، فوضع الباب وحذف الترجمة، وذكر فيه حديث بيعة العقبة، وفي قوله: «بين أيديهن وأرجلهن» إشكال، ولا يظهرُ وجه التخصيص في حق الرجال. قال الخطابي: معناه لا تبتهوا الناس كفاحاً بعضكم يشاهد بعضاً، كما يقال: قلت كذا بين يدي فلان، وفيه وجوه أُخَر ذكروها في الشروح {فعوقب في الدنيا فهو كفارة له} استدل به من قال: إن الحدود كفارات.
بحثٌ نفيسٌ في أنَّ الحدودَ كفَّارَاتٌ أم لا؟(1/122)
وفي هذه المسألة معركة للقوم، ولم يتحقق عندي ما مذهب الحنفية بعد؟ ففي عامة كُتُب الأصول: أنها زواجر عندنا، وسواتر عند الشافعية. وفي «الدر المختار» تصريح بأن الحدود ليست بكفارة عندنا وفي «رد المحتار» في الجنايات، من كتاب الحج عن «ملتقط الفتاوى» أنه لو جنى رجلٌ في الحج، وأدى الجزاءَ سقطَ عنه الإثم، بشرط أن لا يعتاد، فإن اعتاد بقي الإثم، وكذا صرح النسفي في «التيسير» من أنه لو أقيم عليه الحد ثم انزجر يكون الحدُّ كفارةٌ له، وإلا لا وفي الصيام من «الهداية» أيضاً إشارة إلى أن الكفارة ساترة، والكفارةُ والحدودُ من باب واحد. وفي التعزير من «البدائع» أيضاً تصريحٌ بأن الحدود كفارات.
وتكلم الطحاوي على مثل هذا الحديث في «مشكل الآثار» ولم يتكلم حَرْفاً بالخلاف، وكذا بحث العيني رحمه الله تعالى بحثاً، وسكت عن عدم كونها كفارات. وأقدمُ النقولِ فيه ما في الطبقات الشافعية من مناظرة الطَّالْقَاني الحنفي مع أبي الطيب وصرح فيها: أن الحدود كفارات، وهذا الطالقاني من علماء المئة الرابعة، تلميذ للقُدُوري. فلعل ما في كتب الأصول يُبنى على المسامحة، فالاختلاف إنما كان في الأنظار، فجعلوه اختلافاً في المسألة، فنظرَ الحنفية أنها نزلت للزجر، وإن اشتملت على الستر أيضاً، ونظر الشافعية أنها للستر بالذات، وإن حصل منها الزجر أيضاً.h
قلت: إن كان الأمرُ كما علمت، فالأصوبُ نظر الحنفية، وإليه يرشد القرآن، وغير واحد من الأحاديث، كما لا يخفى، ثم إنهم لما قرروا الخلاف ومشى عليه الشارحون أيضاً، وإن كان بحثُ الحافظين في هذا المقام كالبحث العلمي والتفتيش المقامي، لا كالانتصار للمذهب، لكنه مع ذلك اشتهر الخلاف، حتى نقل في كتب الأصول أيضاً.(1/123)
فاعلم: أن هذا الحديث وإن دل على كون الحدود كفارات، لكن يعارضُهُ ما رواه الحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «لا أدري الحدود كفارات أم لا؟» وادّعى الحافظ رحمه الله تعالى أن حديث الحاكم متقدم، وحديث الباب متأخر، وكأن النبي صلى الله عليه وسلّمتوقف في أول أمره، ثم جزم بكونها كفارات، ويرد عليه أن حديث عُبادة كيف يكون متأخراً مع أن بيعة العقبة إنما هي في مكة قبل الهجرة، وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند الحاكم متأخر عنه، لأنه أسلمَ السنة السابعة بعد الهجرة النبوية، وفيه تصريح بالسماع، فدل على أنه سمعه بنفسه في السنة السابعة. وأجاب عنه الحافظ رحمه الله تعالى أن هذه بيعة أخرى، بعد فتح مكة، وإنما حصل الالتباس من جهة أن عْبادة رضي الله تعالى عنه حضر البيعتين معاً، وكانت بيعة العقبة من أجل ما يتمدح به، فكان يذكرها إذا حدث تنويهاً بسابقيته.
(1/124)
وحاصله: أن ذكر ليلة العقبة ههنا لتعريف حاله، لا لأن تلك البيعة كانت فيها، فجاز أن يكونَ حديثُ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مقدماً وحديث عُبادة رضي الله تعالى عنه متأخراً. وعارضه العيني رحمه الله تعالى وقال: بل هي البيعةُ التي وقعت بمكة، والقرينة عليه أن فيه لفظ: «العصابة» وهو لا يطلق على ما زاد على الأربعين، وفي لفظ: «الرهط» وهو لأقل منه، فدل على قلة الرجال، في تلك البيعة؛ فلو كانت تلك ما كانت بعد فتح مكة، لاشترك فيها ألوفٌ من الناس، لشيوع الإسلام إذ ذاك، فهذه قرينة واضحة على أنها هي التي كانت بمكة، وحينئذٍ لا يحتاج إلى ما أوّل به الحافظ رحمه الله تعالى أيضاً، من أن ذكر الليلة لتعريف الحال، ويبقى الحديث على ظاهره. واستدل الحافظ رحمه الله تعالى على تأخر تلك البيعة لقرينة أخرى، وقال: ويقوي أنها وقعت بعد فتح مكة، بعد أن نزلت الآية التي في الممتحنة وهي قوله تعالى: {يأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَآءكَ الْمُؤْمِنَتُ يُبَايِعْنَكَ} (الممتحنة: 12) إلخ، ونزول هذه الآية متأخرٌ بعد قصة الحديبية، بلا خلاف. والدليل عليه ما عند مسلم عن عُبادة في هذا الحديث: «أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّمكما أخذ على النساء» قال الحافظ: بعد سرد الأحاديث: إن هذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية، بل بعد صدور البيعة، بل بعد فتح مكة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة بمدة، وعارضه الشيخ العيني رحمه الله تعالى، بروايات في البيعة الأولى، وفيها هذه الألفاظ أيضاً، فلم يكن دليلاً على أنها بعد نزول الممتحنة، وإن اشتركت الألفاظ.(1/125)
أقول: لا شك أن التبادر إلى الحافظ رحمه الله تعالى، فإن ألفاظَ الحديث كأنها مأخوذة من سورة الممتحنة. وأجاب الشيخ بوجه آخر أيضاً وقال: ما الدليل على أن المراد من العقوبة هي الحدود؟ لم لا يجوز أن يكونَ المرادُ منه المصائب الأخرى كما في الحديث: «أن الشوكة يشاكها الرجل أيضاً كفارة»، وحينئذٍ يخرج الحديث عن موضع النزاع. واعترض عليه الحافظ رحمه الله تعالى إن هذه المصائب لا دخل فيها للستر، فما معنى قوله: «فستره الله» إلخ، فإنما هي معاملة الرجل في نفسه. قلت: ومن المصائب ما يُشهر بين الناس كاشتهار القبائح والخزي، فيحتاج إلى الستر في مثل هذه، وحينئذٍ صح التقابل، واستقام قوله: «ثم ستره الله». ثم رأيت حديثاً في «كنز العمال» عن عبد الله بن عمرو بن العاص وفيه: «فأقيم الحد» فهو كفارة له، فهذا صريح في أن المراد منه الحدود، دون المصائب، ولكن في إسناده تردد وأسقطه ابن عَدِي، وعندي فيه اضطراب أيضاً.
ثم أقول إن الستر على نحوين: الستر عند الناس، وهو في الحدود، والستر عند الله، وهو بالمغفرة، والإغماض عنه، فالسترُ بهذا المعنى يصح في المصائب أيضاً، ويصح التقابل، وحينئذٍ حاصله أن من أصاب من ذلك شيئاً ثم غَفَرَ الله له في الدنيا فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه يوم القيامة أيضاً وإن شاء عاقبه. فإن قلت: ما الفرقُ بين الحدود والمصائب، حيث اخْتُلِف في تكفير الحدود دون المصائب، فإنها مكفرات اتفاقاً. قلت: الفرق عندي أن الحدود إنما تقام بأسباب ظاهرة كالزنا والسرقة، بخلافِ المصائبِ، فإنها بأسباب سماوية، ولا تجيءُ بأسباب ظاهرة، فإنك إن ضُرِبت الحد، تعلم أنك فعلت موجبُهُ، فلا يسعُ لك أن تقول: لم رجمتُ أو لم قطعت يدي؟ بخلاف ما شكيت أو مرضت لا تدري ما موجبه، فيسع لك السؤال عنه.(1/126)
وهذا كمن ضرب عبده لا عن سبب ظاهر، جاز له أن يقول لسيده: لم ضربتني. فلما كانت تلك المصائبُ لا عن أسباب ظاهرة، بل عن أسباب سماوية، ويسعُ السؤالُ عنها بحَسَب الظاهر، جعلَهَا اللَّهُ سبحانه كفارةً رحمةً، على عباده ومِنَةً عليهم، فكأنه جواب عن قولك: لم ابتليتني بتلك البلية قبل سؤالك عنها، بخلاف ما إذا حُدّ رجلٌ فإنه ليس له أن يسألَ عنه من أول الأمر، فجاز أن يكون كفارةً، وجاز أن لا يكون كفارة، ولا يتأتَّى فيه سؤالٍ: لِمَ. وهو ظاهر.
وقال مولانا شيخ الهند رحمه الله تعالى في وجه الفرق: إن المصائبَ وإن كانت كفارةً، إلا أنه لا تتعينُ أنها لأي معصية، بخلاف الحدود، فإنها كفارةٌ لما حُدّ له على التعيين عند من يراه كفارة، فالرجم كفارة للزنا الذي أتى به، وقَطْعُ اليد، كفارة للسرقة التي ارتكبها بخلاف المصائب، فإنها لا يُدرى بكونها كفارة لمعصية على التعيين.(1/127)
ثم لي تذكرةٌ مستقلةٌ في الجمع بين حديثي عُبادة رضي الله عنه وأبي هريرة رضي الله عنه بحيث يَصِح الحديثان من غير احتياج إلى النسخ، وحاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلّمكان يعلمُ حكمَ الحدود من حيث العموم، ولم يكن نَزَلَ فيها شيء خاص، فلم يكن يعلم حكمُها من حيث الخصوص، أما علمه من جهة العموم، فمما نزل عليه في تكفير المصائب مطلقاً، والحدُّ أيضاً مصيبةٌ بحسَب الظاهر، فينبغي أن تكون كفارةً، كما أن سائر المصائب كذلك، فكأن الحدود اندرجت تحت هذا العموم. ولما لم يكن نَزَلَ عليه شيءٌ في الحدود خاصة، والقرآن أيضاً لم يصرح فيها بشيء، توقفَ النبي صلى الله عليه وسلّموقال: «لا أدري الحدود كفارات أم لا؟» أي لا أدري من حيث الخصوص. ونظيرُهُ أنه صلى الله عليه وسلّمسئل عن الخمر في باب الزكاة فقال: «لم ينزل علي فيه شيء، غير تلك الآية الجامعة، {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}» فذكر القانونَ وبيَّن حكمه من حيث العموم، ونفى عن حكم جزئي، كذلك ههنا، فحديث عُبادة رضي الله عنه نظراً إلى العمومات، وحديث أبي هريرة في التوقف نظراً إلى خصوصِ الحُكم.
(1/128)
واعلم أن في حديث الحاكم بعد قوله المذكور زيادة وهي: «لا أدري التبع كان مؤمناً أم لا؟ ولا أدري خضر كان نبياً أم لا؟» وقد كنتُ متحيراً في مراده، فإنه صلى الله عليه وسلّممتى ادّعى علم جميعِ الأشياء لنفسه، فإنه إن كان لا يعلم هذه الأشياء، فقد كان لا يعلمُ كثيراً من الأشياء غيرها، فما معنى نفي علم هذه الأشياء خاصة؟ فلما راجعت القرآن بدا لي مراده، وهو أنّ القرآنَ ذكرَ الحدود ولم يتعرض إلى كونها كفارة في موضع. وكذا ذكر التبع، وخَضِرٌ عليه السلام، ولم يتعرض إلى إيمانهما فتبيَّن أنه يريدُ نفيَ علمه عما ذُكر في القرآن. أعني أنه صلى الله عليه وسلّموإن كان لا يدري غير واحد من الأشياء، ولكنه خصص هذه بنفي العلم، لكونها مذكورة في القرآن، ثم لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلّمتفاصيلها، فكأنه يريد أن كثيراً من الأشياء، وإن كنتُ لا أدريها، ولكن لا علم لي على وجه التفصيل ببعض ما ذكر في القرآن أيضاً، كالتبع، وخضر، والحدود فإنها مع كونها مذكورة في القرآن، لا أدريها بتفاصيلها، فخصَّها بالذكر لهذا المعنى. واستدل المدرسون بما في الطحاوي أن النبي صلى الله عليه وسلّمأُتِيَ بلص اعترف اعترافاً، ولم يوجد معه المتاع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما أخالُك سَرْقت»، قال: بلى يا رسول الله، فأمر به فقُطِعَ، ثم جيءَ به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم «استغفر الله وتُبْ إليه» ثم قال: «اللهم تُب عليه»، فلو كان الحدُّ ساتراً كما قال به الشافعية، لما احتاج إلى الاستغفار بعده، مع أن النبي صلى الله عليه وسلّمأمره بالاستغفار.
فعلم منه أن الحدودَ أصلُهَا للزجر، وإنما يصير ساتراً بعد لحوقِ التوبةِ.(1/129)
قلت: وقوله صلى الله عليه وسلّم «وتب إليه» يحتمل معنيين: الأول: «وتب إليه»، أي في الحالة الراهنة، ليصيرَ الحدُّ كفارةٌ لذنبك، وحينئذٍ يتم الاستدلال لأنه دل على أن الحدَّ لم يصر كفارةٌ بعد، والثاني: معناه في الاستقبال، بأن لا تفعله ثانياً، كما يقال للصبيان عند التأديب: تب تب، لا يكون معناه إلا الانزجارُ عنه في الاستقبال، وحينئذٍ يخرجُ عما نحن فيه ولا يتم الاستدلال، والظاهر هو الأول.
واعترض عليه الحافظ أن اشتراط التوبة للتكفير، مذهب المعتزلة، لا مذهب أهل السنة والجماعة. قلت: كلا، بل المغفرةُ قبل التوبة وتحت الاختيار، وبعدها موعودةٌ، فظهر الفرق. ثم إن البغوي من الشافعية أيضاً قائل به. يعني أن الحدودَ عنده أيضاً سواترُ بشرط التوبة.
وأصل البحث في القرآن، فرأيت جماعةً من المفسرين اختاروا التكفير، وجماعة أخرى يختارون أنها زواجر، ويُستفاد من صنيعهم أنهم يأخذونه من القرآن على طريق الاستنباط، وليس عندهم مذهبٌ منقح، ولذا لا يذكرون مذاهبهم، بل يبحثون كبحث العلماء. أقول: وتفحصتُ القرآنَ لذلك، وما رأيتُ في موضعٍ أنه ذكر الحدود ثم وعدَ بكونها كفارة، فمن نَظَرَ إلى عدم ذكر الوعد، ادّعى أنها ليست كفارة، ومن نظر إلى أنهم إذا أُقيمَ عليهم مثلُ هذه العقوبات الشديدة كالرجم والقطع، فينبغي أن تكون مكفراتٌ أيضاً، ذهب يدّعي أنهامكفرات. وكبيرُ نزاعِهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَآء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}... إلخ (المائدة: 33)، وفيه تصريحٌ بعد ذكر حدِّهم: أن لهم في الآخرة عذاب عظيم، فكأنهم لم يرتفع عنهم العذابُ بعد إقامة الحد أيضاً، وهذا يُشعر بعدم كونها مكفرات. ولهذا جَزَمَ البغوي بعدم كون الحدود مكفرات.(1/130)
قلت: ولي فيه تردد، لأنهم اختلفوا في شأن نزولها ففي الصحيحين: أنها نزلت في العُرَنيين، ومعلوم أنهم كانوا ارتدُّوا بعد إسلامهم، وحينئذٍ فالآية خارجةٌ عن موضع النزاع، لأن المسألةَ إنما كانت في المسلمين. أما التكفيرُ في حق الكفار، فلم يقل به أحد. وقيل: الآية في قُطَّاع الطريق، وإليه ذهب الجمهور، وهو المنقولُ عن مالك رحمه الله تعالى. وحينئذٍ يتمُ الاستدلال، لأن قطعَ الطريق يمكن من المسلمين أيضاً.
قلت: والآية عندي في حق العُرنيين، إلا أن الآية لم تأخذ ارتِدَادهم، وكفرهم في العنوان، بل أدارت الحكم على وصفِ قطعِ الطريق، فيدور الحكمُ أيضاً على قطع الطريق. ولا يقتصرُ على المرتدين والكفار فقط. ومع ذلك أقول: إن استدلال البغوي ضعيفٌ، لأني أجدُ المعصية الواحدة تختلف شدَّةً وخفة، باعتبارٍ حال الفاعلين. وهذا معقول، فقد تكونُ المعصيةُ من المؤمن، ويخف العقاب عليها رعايةً لإيمانه، وتكون تلك المعصيةُ بعينها من الكفار، ويُزاد في عقوبته لحال كفره. وعليه جرى العرفُ فيما بيننا أيضاً، فلا نؤاخذُ حبيبنَا على أمرٍ ارتكبه، كما نؤاخذُ به عدونَا على ذلك الأمر بعينِهِ. وحينئذٍ يمكن أن يكونَ ذكرُ العذاب في الآخر جرى لحالِ كفرهم، فإن المعصيةَ تزدادُ شَنَاعَةً بحسَبَ الفاعلين، فقطعُ الطريقِ من المسلمين شنيعٌ، وهو من المرتدينَ أشنع. فيمكن أن يكون جَرَى ذكرُ العذاب لحالِ الفاعلين، لا لحال الفعل.(1/131)
وعلى هذا لا دليلَ في الآية على أن المسلمَ لو فعل ذلك، والعياذُ باللَّه، ثم حُدّ حدَّه، كان له عذابٌ في الآخرة أيضاً، لأنه ليس جزاء للفعل. على هذا التقدير، بل الشَّنَاعة في الجزاءِ بشناعةُ الفاعلين. وهذا موضعٌ مشكلٌ جداً يتحير فيه الناظر، فإنّ الآية تكونُ عامّةً بحكمِهَا، ثم تشتملُ على بعض أوصاف المورد، فيحدث التردد، هل هي معتبرةٌ في الحكم أيضاً أم لا، فيعتبرُهَا واحداً ويُجرى الحكمَ على المجموع، ويقطعُ عنها النظرَ آخر، ويزعمُ أن تلك الأوصافَ مخصوصةٌ بالمورد، ويأخذ الحكمُ العام، ويُعدِّيه إلى غيره، مما ليس فيه هذه الأوصاف، وهذا مما يتعسرُ جداً، وكثيراً ما يقع في القرآن مثل ذلك، فإنه يُبيِّن حكماً عاماً، ويومي إلى الوقائع أيضاً ليبقى له ارتباط بالموضع والمورد أيضاً، فإذا ركب عبارةً تعطي حكماً عاماً مع الإيماءات إلى الوقائع تعسر إدارة الحكم على بعضها، وترك بعضها، وإدارة الحكم على المجموع، فاعلمه فإنه مهمٌ جداً.
وهناك آية أخرى تتعلقُ بموضوعنا: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللَّهِ} (النساء: 92) ومعناه عندي: أن إيجابَ الصيام عليه ليخافَ ويقلعَ عنه في المستقبل، ويندم ولا يعود إليه ثانياً، وحينئذٍ تكون تلك الصيام مغفرة له، لا أن مجردَ الصيام مغفرة له. وآية أخرى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} (المائدة: 45)، وقوله تعالى: {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} قال التفتازاني في المطول: إن التنوين في المسند على الأصل، فلا تحتاج إلى نكتة، أقول: إلا تنوين المنعوت، فإنها لا تخلو عن نكتة، بخلاف التنوين في المُسند إليه، فإنها لما كانت على خلافِ الأصل، لا تخلو عن نكتة مطلقاً، فالتنوين في المسند المنعوت كما في قوله:(1/132)
*صح أن الوزير بدر منير ** إذ تواري كما توارى البدو وفي المُسْنَد إليه، كما في قول عمرو بن أبي ربيعة المخزومي.
*وغابت قمير كنت أرجو غيابها ** وروح وريحان ونوم وسمر وعلى هذا التنوين في قوله: {كَفَّارَةٌ لَّهُ} يفيد أن في الحدودِ تكفيراً ما، فإن التنوينَ فيه ليس حشواً، على أن لفظَ الكفارة يدلَ على الستر، لا على التطهير كل التطهير، فلا دلالة في الحديث على أن الحدودَ مكفراتٌ بالكلية، بل على أن فيها شيئاً من التكفير والستر، ولعل الحنفية أيضاً لا ينكرونه.
تنبيه: واعلم أنه لا ينبغي أن يُبحثَ في الحديث عن المعاني الثواني، والمزايا، وأن يدارَ عليها المسائل، فإن الحق عندي: أن لفظَ الحديث ليس بحجةً في هذا الباب، لفشو الروايةِ بالمعنى، فلا يتعين أنه من لفظه صلى الله عليه وسلّم أو من تلقاء الراوي، فينبغي أن تؤخذَ الأحكامُ من القدر المشترك، وتُدَار عليه. وإنما ذكرت ههنا مسألة المعاني، وأيدت منها للمذهب لثبوتها من دلائل أخرى، وما جعلته مداراً، واستدلالاً.(1/133)
والفَصْلُ عندي: أن الأحوالَ بعد إقامة الحد ثلاثة: فإن تابَ المحدودُ بعده، صار الحد كفارةً له بلا خلاف. وإن لم يتبْ فلا يخلو، إما أنه انزجر عنه واعتبر له ولم يَعُد إليه، فقد صار كفارةً أيضاً وإن لم يبال به مبالاةً ولم يزل فيه منهمكاً كما كان، وعاد إليه ثانياً؛ فلا يصير كفارةً له. ولذا صلى النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعلى امرأة غَامِدِية وقال: «لقد تابت توبةً لو قُسِمَتْ على أهل المدينة لَوَسِعْتَهم». ولما لم تظهر تلك السماحةَ من مَاعِز رضي الله تعالى عنه، وعلم منه تأخر ما عند إقامة الحد، لم يصل عليه. فهذه أحوالٌ فليراعها، وهذا كالإسلام، إن اشتمل على التوبة هدمَ ما سبق منه من المعاصي، وإلا أُخِذَ بالأول والآخر، فإذا كان حالُ الإسلامِ الذي هو من أعظمُ المكفِّرَات ما قد علمت، فما بالُ الحدود التي تكفيرها مختلف فيه؟ ولما كانت الحدود تتضمنُ التوبة في عامة الأحوال، وقلما تكون أن تجرى عليه هذه العقوبات، ثم لا يتوبُ في نفسهِ ولا ينزجِرُ، سيما في عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم حُكِمَ في الأحاديث بكونها كفارةٌ مطلقاً.
باب مِنَ الدِّينِ الفِرَارُ مِنَ الفِتَن(1/134)
قد يأخذ المصنفُ رحمه الله تعالى لفظاً من الحديث، ويركِّبُ منه ترجمة بقطعة من الحديث، ويريدُ أن يجعلَهَا مفيدة، فيضيفُ إليها جُملة من عنده، ويدخل عليها: «من» التبعيضية، لتكون له دليلاً على تركب الإيمان. ونقول من جانب الحنفية: إنها ابتدائية كما مر تقريره. «والفتنة» شيءٌ يقع به التمييز بين الحق والباطل وبحث في «الإحياء» أن العُزْلة أفضل أو الخُلْطة؟ قلت: بل هو مختلِفٌ باختلاف الأحيان والأزمان ويُستفاد من الحديث أن العُزْلَة تكون أفضلَ في زمان مخافة أن تجرحَ الفتن دينه. والفتنة هي التي لا يُعلم سوء عاقِبَتِها في أول أمرها، ثم ينكشِفُ بعد حين وغرض البخاريُّ أن صيانتَه دينه من الفتن، وإن كان بعد حصولِ الدِّين، لكن ليس ذلك من الدِّين وأجزائه.
باب قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلّم «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ»
العلمُ، والمعرفةُ، واليقينُ قد يطلق على الأحوال أيضاً، والعلوم لا تكون أحوالاً إلا بعد استيلائها، وحينئذٍ تكون عينَ الإيمان، وهو المراد في قوله صلى الله عليه وسلّم «من ماتَ وهو يعلمُ أن لا إله إلا اللَّهُ»... إلخ، فالعلم ههنا بمعنى الإيمان، أي يؤمنُ بتلك الكلمة وكذا في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (فاطر: 28) وهم المؤمنون الذين رَسَخَ العلم في بواطنهم، وأُشْرِبَ به قلوبهم، وخالطت بها بشاشته، فأوجد فيهم نوراً، وحلاوة، وانبساطاً، فإن أريدَ به هذا النحوُ من العلم الذي هو من الأحوال، وهو الذي يستوجبُ العملَ، فهو عينُ الإيمان، وزيادتُهُ يكون دليلاً على زيادة الإيمان، ونقصانُهَ على نقصانه، وإلا فالاستدلال منه على طريق إلحاق النظير بالنظير، يعني كما أن في العلم مراتب، كذلك في الإيمان أيضاً، فإن العلمَ سببُ الإيمان، فإذا ثبت التشكيك في السببِ، ينبغي أن يثبتَ في مسببِهِ، أي الإيمان أيضاً.(1/135)
(وأن المعرفة فعل القلب)إن كان المرادُ من المعرفة هي الاضطرارية، كما في قوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمْ} فهي ليست بفعلٍ بالمعنى اللغوي، لأن أهلَ اللغةِ لا يسمون فعلاً إلا الاختياري، وإن كان المرادُ منها ما تتقررُ بعد التكرر، وتغلبُ على الجوارح، وتكونُ مكسوبة، فهي فعلُ القلب قطعاً، وعينُ الإيمان، إلا أن الأوضحَ حينئذٍ أن يقول: وإن الإيمان فعل القلب، لأنه أدلُ على مراده، ولكنه يتفنَنُ في أداء المقصود، فتارة، وتارة. وهو المراد بما نُقل عن إمامنا رضي الله تعالى عنه في «الإحياء»: أن الإيمان معرفة، وهكذا رُوِي عن أحمد رضي الله تعالى عنه أيضاً، إلا أنه إذا نُقل عن الإمام الهُمام رحمه الله تعالى جعلوا يُنكرونَ عليه، وإذا جاء عن أحمد رحمه الله تعالى مروا به كِرَامَاً.
*أصم عن الشيء الذي لا أريده ** وأسمع خلق اللَّه حين أريد وقد مر نُبذة من الكلام عند تحقيقِ محل الإيمان، وإن الأولى أن يقول المصنف رحمه الله تعالى: وإن الإيمانَ فعلُ القلب، فراجعه. وقد يتخايل أنه أراد منه الردَ على المعتزلة، فإنهم قائلون: بأن المعرفةَ أولُ الواجبات، ثم الإيمان كما مر، فالمصنفُ يردُّ عليهم بأن المعرفة هي فعلُ القلب، فتكون عينَ الإيمان، فهي الواجبُ الأول، لا أن المعرفةَ أمرٌ وراءَ الإيمان، لتكون أولَ الواجبات هي، ثم يكون الإيمانُ بعده واجباً آخر.H
{وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وتقريرُ الاستشهاد على كون المعرفةِ فعلُ القلب، بأن فيها إسنادُ الكسب إلى القلب، فكما أن الكسبَ فعلٌ، كذلك المعرفةُ أيضاً من فعله ومكسوباتِهِ، فمن اعترض عليه بأن الآية في الأيمان لا في الإيمان فهو غافل عن طريقته في الاستدلال.
20 - (أمرهم من الأعمال بما يطيقون) وهو طريق الحكيم، أي التشديدُ على نفسه، والتيسير على غيره، وهو طريق الأنبياء.(1/136)
20 - (يا رسول اللَّه) ولم أر صيغة الصلاة في كلامهم عند الخطاب، نعم في الغَيْبَة، وهكذا ينبغي أن يُقتفى آثارهم عند القراءة، فلا يَتَلَفظُ بها في مواضع الخطاب، وهو الرسمُ في الكتاب.
{قد غفر ا لك}... إلخ وجوَّزَ الأشاعرةُ وقوعَ الصغائرِ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل النبوة وبعدها، سهواً بل عمداً أيضاً، ونفاها الماتُرِيْديةُ مطلقاً. والجواب عن الآية عندي: أن الذنبَ غيرُ المعصية، وههنا مراتب، بعضها فوق بعض، ووضع لكلٍ لفظ، فالمعصيةُ عدولٌ عن الحكم، وانحرافٌ عن الطاعة، ومخالفةٌ في الأمر، وترجمته: نافرمانى فهذا أشدها. ثم الخطأ، وهو ضِدُّ الصواب، وترجمته في الهندية: نادرست. ثم الذنب، وهو أخفها، ومعناه: العيب، فالسؤال ساقطٌ من أولِ الأمر، لأن في الآية ذكرُ مغفرة الذنوب، أي ما يعدُّ عيوباً في ذاته الشريفة، وشأنِهِ الرفيعة. وقد سمعت: أن حسناتِ الأبرار سيئاتِ المقربين، فلعل ذنوبه من هذا القبيل. فالبحث ههنا بالصغائر والكبائر في غير موضعه، فإن هذا التقسيم يجري في المعصية، دون الذنوب بالمعنى اللغوي، بل هو موهم بخلافِ المقصود. ثم ههنا إشكالان.(1/137)
الأول: أن الأنبياءَ عليهم الصَّلاة والسَّلام كلهم مغفورون، فما معنى التخصيصُ في حقه فقط، مع كونهم مغفورين أيضاً. والثاني: أن مغفرةَ ما تأخر مما لا يُفهم معناه، فإنها تقتضى وجودَ الذنوب أولاً، ولم توجد بعد. والجواب عن الأول: أن الذي هو مختصٌ به هو الإعلان بالمغفرة فقط، أما نفس المغفرة فقد عمتهم كلُّهم، وذلك لأنه قد أبيحت له الشفاعة الكبرى، وقُدِّر له المقام المحمود، فناسب الإعلان بها في الدنيا، ليثبِّتَ فؤادَه يوم الفزع الأكبر، ويسكن جأشه، ولا ترجف بوادره، فلا يتأخر عن الشفاعة الكبرى، التي هي منزلته ومقامه، ولو لم يعلن بها في الدنيا، لتذكَّر ذنوبه أيضاً كما تذكروا، ولما تقدم إليها كما لو يتقدموا، فلما حلت به المغفرة التي لم تغادر شيئاً من ذنوبه، وأعلن بها عن المنائر والمنابر، إلى يوم الحشر، علم أنه هو المأذون فيها. وهو النبي الآسي والرسولُ المُوَاسي: ولهذا المعنى لما عرضت الشفاعة على النبين قالوا: ائتوا محمداً، فإنه قد غفر له ما تقدم من ذنه، فذكروا هذا الوصف، فالإعلان والاطلاع لهذا، لا لأن المغفرةَ لم تشملهم.
والجواب عن الثاني: أما أولاً فبالمنع بأن يقال: إنا لا نُسلِّم أن المغفرة تَستدعي وجودَ الذنوب أولاً، بل المغفرة على ما يأتي، بمعنى أنك إن صدر عنك ذنب لن نؤاخذه منك، فهي بمعنى عدم المؤاخذة. وأما ثانياً: فبأن الجميع موجودة في علمه تعالى فصحت المغفرة على الجميع دفعة، لعدم التقدم والتأخر في علمه تعالى. وثالثاً: إن المغفرةَ من أحكام الآخرة، وهناك كلها ماضيةٍ، وإن كان في الدنيا بعضها ماضية وبعضها آتية. وحكمة الاطلاع مرّت.(1/138)
ثم إنه قال الشيخ ولي الله قُدِّس سِرُّه العزيز: إن الوعد بالمغفرة مقتضاه العمل، والاحتياط لا عدم العمل وترك الاحتياط. ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلّمحين سئل عن عبادته مع مغفرة ذنوبه: «أفلا أكونُ عبداً شكوراً»، فعُلم أن مقتضى المغفرة هو الازدياد في العمل شكراً، وهذا يفيدك فيما قيل في البدريين: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
20 - (فغضب) ومَوْجِدَةُ النبي صلى الله عليه وسلّمإنما كان لأن سؤالهم كان مخالفاً للفطرةِ السليمة، فكان واجباً عليهم، أن يفهموه من فطرتهم، وهكذا ثبت منه في مواضعَ عديدة، فإذا أخطأ أحدهم في موضع، لم يكن موضع الخطأ غضب عليه، وإن كان موضعُ الاجتهاد، أغمض عنه، وستأتي عليك نظائره.
20 - (وأتقاك أي تحرزاً عن الشبهات والمناهي، وتصدياً إلى تقرب الله تعالى.
20 - (أعلمكم بالله أنا) فمن كان علمه زائداً كانت عبادتُهُ أيضاً مَرضِيَّة، لأن العبادةَ اسمٌ للطاعة حسب رضى المطاع، فمن كان أزيد علماً برضى المطاع، كان أفضلُ عبادةً، فإن التقرب يتوقف على معرفة رضاء المطاع، والزمان، والمكان، لا على تَحمُّل المشقة؛ فإن الشيءَ الواحدَ قد يكون أرضى لأحد، ولا يكون اخر، وكذا يكون أرضى له بزمان، دون زمان. فمعرفة هذه الأشياء هي الأهم، فإن الصلاة مشهودةٌ محضورةٌ، وهي عند الطلوع والغروب. مردودةٌ محظورة، فاعلمه فإن الطبائِعَ السافلة يتحرون الفضل في تحمّلِ المشاق، ولذا قيل: إن بعض الأولياء وإن كانوا أزيدَ طاعة كماً، لكنهم أنقصَ كيفاً عن الأنبياء بمراتب لا تحصى.
كما عند الترمذي في كتاب الدعوات: أن بعضهم كان يسبح الله في كل يوم مئة ألف مرة. وكان أبو يوسف رحمه الله يُصلي مئتي ركعة كل يوم في زمن قضائه، ولا حاجة لنا إلى ذكر ما عند الأولياء من إحياء الليالي وقيامها، وترك الاستراحة، والتبتل إلى الله عز وجل، والاعتزال عن الناس، فإنها أغنى عن البيان.
(1/139)
باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلقَى فِي النَّارِ مِنَ الإِيمَان
والأَوْلى أن يجعل الجملة بألفاظِهَا مبتدأ، ومن الإيمان خبره. وأراد به البخاري رحمه الله تعالى الردَّ على من ظن أن الاجتنابَ عن الكفر لا يكون إلا بعد تمامية حقيقة الإيمان، كباب المفسدات في الفقه، فإنه يكون بعد باب صفة الصلاة، فهكذا الاجتنابُ لا ينبغي أن يكون بعده، فنبَّه على أنه مع كونه بعد الإيمان من الإيمان.
باب ُ تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمَانِ فِي الأَعْمَال
واعلم أن هذه الترجمة لها ارتباط بما تأتي ترجمة أخرى بعدها، وهي: باب زيادة الإيمان ونقصانه... إلخ. وأخرج المصنفُ رحمه الله تعالى تحتها حديثَ أنس رضي الله عنه بمعنى حديث الباب، ثم عبّر بالتفاضل ههنا، والزيادة هناك.
وقوله: (تفاضل أهل الإيمان في الأعمال) ههنا على حد قولهم: تفاضل أهل العلم في المعاني والفقه، فلا يردُ أن العملَ إذا كان عينَ الإيمان عنده وداخلاً فيه، كان مآلُ الترجمة إلى تفاضل الإيمان في الإيمان، والمفاضلة بين الشيءِ ونفسه محال، فما معنى التفاضل في العمل؟ فإن الفصاحةَ أيضاً داخلةٌ في العلم، ومع ذلك صح قولهم: تفاضل أهل العلم في الفصاحة، فكذلك صح إطلاق التفاضل ههنا أيضاً، وإن كان العملُ داخلاً في الإيمان، ثم إن لفظ التفاضل يستعمل فيما بين الأنبياء، وسور القرآن، ولا يقال فيها: إن هذه زائدة وتلك ناقصة، وكذلك في الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام أيضاً، ولذا قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (البقرة: 253) ولم يقل: زِدْنا لإبهامه التنقيصَ في الجانب الآخر، والأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام ليس فيهم دُون ونقص، بل لم أر لفظَ النقصان في الإيمان أيضاً، إلا في آثار عند السفاريني.(1/140)
والحاصل: أن التفاضل في الأشخاص، والزيادة والنقصان في المعاني، فالمصنف رحمه الله تعالى نَظَرَ في هذه الترجمة إلى حال العاملين، فوضع التفاضلَ بينهم. وفيما يأتي نظر إلى نفس الإيمان، فوضع لفظَ الزيادة والنقصان؛ لأنهما يُستعملان في المعاني، ثم أقول في تمايز الترجمتين: إنه تعرض في هذه الترجمة إلى تفاضل الأعمال، وإن كانوا في الإيمان سواء، وفي الترجمة التالية إلى زيادة نفس الإيمان، سواء كانوا متفاضلين في الأعمال أم لا. أو بعبارة أخرى: إن الكلام في هذه الترجمة في الموصوفين، أي المؤمنين بحسب الأعمال، وفي الترجمة الأخرى في نفس صفتهم، وهي الإيمان دون الموصوفين، وإن كان ينجز أحدهما إلى الآخر.
وهذا الكلام على مختارِ الشارحين، أما عندي فتلك الترجمة من أشكل التراجم من وجوه.
الأول: أن المصنف رحمه الله فرق في الترجمة على الحديثين، فوضعَ ترجمةَ التفاضل على حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وزيادة الإيمان على حديث أنس رضي الله عنه، مع اتحادِ مادة الحديثين، وإن كانا متعددين على اصطلاح المحدثين، فإن وحدة الحديث وتعدده يدورُ عندهم على وحدَةِ الصحابي وتعددهِ، لا على اتحاد مضمون الحديث واختلافه، وبهذا المعنى قالوا: إن في مسند أحمد رضي الله عنه ثلاثين ألف حديث.
(1/141)
والثاني: أنه لا ذكر للعملِ في حديث أبي سعيد رضي الله عنه بل فيه ذكر الإيمان فقط، كما يدل عليه قوله: «أخرِجُوا من كَانَ في قلبه حبةُ خردلٍ من إيمان» ففيه ذكر مراتبِ الإيمان فقط، بخلاف حديث أنس رضي الله عنه، فإن فيه ذكرُ الخيرِ، وهو العمل، ولفظه: «يخرجُ من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزنُ شعيرةٍ من خيرٍ» فينبغي أن ينعكس حالُ التراجم، ويترجم على حديث أبي سعيد بزيادة الإيمان ونقصانه، لعدم ذكر الأعمال فيه، وعلى حديث أنس رضي الله تعالى عنه بالتفاضل في العمل، لمجيء ذكر العمل فيه، مع أن المصنف رحمه الله تعالى عكس في التراجم.
والثالث: أن اللفظين إذا وردا في الحديثين، فلم أخرج في الأصل لفظ الإيمان في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه والخيرَ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه ولم لم يخرج في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه لفظَ الخير في الأصل، والإيمان في المتابعة. وحاصله: أنه أخرج لفظ الإيمان والخيرِ في الحديثين، وجعل أحدهما أصلاً، والآخر متابعاً، فلم لم يعكس الأمر؟ ولم يجعل التابع أصلاً؟ والأصلُ تابعاً؟
والرابع: أن مسألة الزيادة والنقصان قد كانت مضت مرة، فلم أعادَها مرة أخرى، والشارحان لم يتكلما فيه إلا كلاماً سطحياً، مع أن المقام يحتاجُ إلى إيضاح وبيان وإتمام والحافظ ابن تيمية رحمه الله وإن تكلم في كتابه على مسألة الإيمان مفصلاً، لكنه لم يلتفت فيه إلى حل تراجم البخاري، ولم يكن ذلك موضوعه، ولو فعل لأحسن.
فأقول: أما الجواب عن الرابع فإنه سهل، وهو أن الترجمةَ السابقة لم تكن في مسألة الزيادة والنقصان قصداً، بل كانت استطراداً، ولذا لم يُخْرِّج لها حديثاً هناك، وههنا قصدي، فلذا أستدل عليها على نهج كتابه.
وأما الجواب عن الثالث: فهو أنه من علوم المصنف رحمه الله تعالى ولا ندري ما وجهه.(1/142)
وأما الجواب عن الأول، والثاني، فلا يتضح إلا بعد المراجعة إلى حديثهما عند مسلم، وسأذكره، ولكن أذكر أولاً جوابَ الحافظ، قال الحافظ رحمه الله تعالى في الجواب عن الأول، والثاني، ما حاصله: إن الحديثين لما كان صالحين لزيادة الإيمان ونقصانه، والتفاضل في الأعمال، ترجم بكل من الاحتمالين، وخصَّ حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه بالتفاضل في الأعمال؛ لأنه ليس في سياقِهِ ذكرُ التفاوت بين مراتبِ الإيمان، فلم تناسب به ترجمةُ الزيادة والنقصان، بخلاف حديث أنس رضي الله تعالى عنه ففيه التفاوت في الإيمان القائم بالقلب، من وزن الشعيرة، والبُرَّة، والذرة.
وأجاب عن الرابع: أن الزيادة والنقصان فيما مر كان في الإيمان، وأراد ههنا أن يتكلم في زيادة نقس التصديق ونقصانه. قلت: ما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى لا يغني شيئاً؛ لأن المصنف رحمه الله تعالى لم يتكلم في زيادة الإيمان باعتبارِ نفسِ التصديق بحرف، وإنما اختار تركُّب الإيمان والزيادة فيه، سواء كانت من تلقاء الأجزاء، أو الأسباب، ولذا لم يقابل بين التصديق، والأعمال، ليقال: إنه أراد في حديث أنس رضي الله تعالى عنه إثبات الزيادة والنقصان في نفس التصديق، وإنما الزيادةُ والنقصان عنده باعتبار المجموع؛ فإذن توجيه الحافظ رحمه الله تعالى من باب توجيه القائلِ بما لا يرضى به قائله.(1/143)
وكذا جوابه عن الأول، والثاني، غير نافذ؛ لأن تفاوتَ الموزونات وذكرُ المراتب ورد في حديث أبي سعيد رحمه الله تعالى أيضاً كما هو عند مسلم، ولئن سلَّمنا أن تفاوت المراتبِ ليس في طريق المصنف رحمه الله تعالى خاصة، فلا يصح الجواب أيضاً؛ لأنه لا ذكر للأعمال في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه عنده، كما أنه لا ذكر فيه لمراتب الإيمان، فحديثه لا يصلح لترجمة التفاضل، كما أنه لا يصلح لترجمة الزيادة والنقصان، فكيف ترجم بالتفاضل في الأعمال؛ فكلام الحافظ رحمه الله تعالى يصلح جواباً عن عدم ترجمته بالزيادة والنقصان، لا عن ترجمته بالتفاضل في الأعمال.
وحينئذٍ أقول: إن البخاري رحمه الله تعالى إنما خصص حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه بالتفاضل في الأعمال لأمرين.
الأول: أنه رحمه الله تعالى نظر إلى روايتهما المفصلتين: فحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أخرجه مسلم في «صحيحه» مفصلاً، وفيه ذكر الأعمال أيضاً. ولفظه: «يقولونَ ربنا كانوا يَصُومون مَعَنَا ويُصلُّونَ ويحُجُّون، فيقال لهم: أخْرِجُوا من عَرَفْتُم» ثم ذكر بعده مراتبَ الخير على الترتيب وفي آخره: «فيقبض الله قبضة من النار فيُخرجُ منها قوماً لم يَعْمَلوا خيراً قطُّ» وليس فيه ذكرُ الإيمان، وكلمةُ التوحيد، وإن كان معتبراً قطعاً لكونه مفروغاً عنه؛ فإن الأعمال لا عبرة لها بدون الإيمان. وأما حديث أنس رضي الله تعالى عنه فلم نجد فيه ذكر الأعمال في أحد من طرقه؛ بل فيه بعد ذكر الشفاعة «فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه»، وليس في آخره ذكرُ العمل، ولعل نظر المصنف إلى هذين المفصلين، وحينئذٍ لا شك أن الطريقَ الأول لاشتماله على ذكر الأعمال يصلح لترجمة التفاضل في الأعمال، وكذا الثاني أيضاً يصلُح لما ترجم به.
(1/144)
والثاني: أنه أخرجَ لفظَ الإيمان في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وعيَّنَ مُرَاده بذكر المتابعة، «بالخير» وهو العمل، فكأنه نبَّه على أن المراد من مراتبِ الإيمان في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، إنما هو مراتبُ الأعمال، فجعل لفظ الإيمان مفسَّراً، والخير مفسِّراً «بالكسر» وإطلاقُ الإيمانِ على الخير جائزٌ عنده، بل هو أوضحُ في مراده، وعَكَسَ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه، فأخرج لفظَ الخير في الأصل، وعيَّنَ مراده بإخراج لفظ الإيمان في المتابعة، فلما اختلف محطُّ الفائدة في سلسلة أسبابِ النجاة في الحديثين، بكون الأعمالِ في الأول، ومراتبُ الإيمان في الثاني، وضع عليهما التراجم كما ترى، ونبَّه عليه بإخراج المتابعات، شرحاً لما في المتن.
بقي أنه لم جعل الإيمانَ أصلاً والخير متابعاً في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، على عَكْسِ حديث أنس رضي الله تعالى عنه؟ فقد مر مني أنه من علوم المصنف رحمه الله تعالى.
والحاصل: أن حديث أبي سعيد لما اشتمل على ذكر الإيمان في الأصلِ، ولا بد أن يكونَ هناك أحدٌ أهلاً للإيمان أيضاً، فأخذ منه لفظَ أهلِ الإيمان، وأخذ من متابعة الخيرِ لفظَ الأعمال، وركَّبَ من مجموعِ الأصل والمتابعة ترجمة، فقال: تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه جعل الخيرُ إيماناً للمتابعة، ثم أخذَ من المجموعِ ترجمة زيادة الإيمان ونقصانه، وقد مرّ مني أنه لم يكن جرى ذكرُ تلك المسألة، على طريق المترجم له، بل كان ذكرُها استطراداً، فأراد أن يذكرها على طريق المترجم له أيضاً، كما قاله الحافظ رحمه الله تعالى: هذا كلام على ترجمة المصنف رحمه الله تعالى.(1/145)
أما الكلام في الحديث ففيه أيضاً غموضٌ ودقة: الأول أن المراد من الخير ما هو؟ والثاني: أن الذين يخرجون في الآخر من هم؟ فاعلم أنه اتفق الشارحون على أن الخير في الحديثين زائدٌ على نفس الإيمان، لقوله تعالى: {أو كسب في إيمانِها خيراً} (الأنعام: 158) فهذا دليل واضح على أن المرادَ من الخير هو العملُ الزائدُ على الإيمان، وكذا قوله تعالى: {فمن يعملْ مثقالَ ذرةٍ خيراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذرةٍ شراً يره} وأرادوا بالخير فيهما ما يعم الجوارح والقلب،
قلتُ: أما الخير في حديث أبي سعيد، فالمراد به أعمال القلب فقط، كحسنِ النية، وغيره، لأن فيه ذكر الخير بعد أعمال الجوارح؛ لأن الشفعاءَ لما يخرِجُونَ مَنْ كَان عندهم أعمال الجوارح. يقولون: ربنا ما بقي فيها أحدٌ مما أمرتنا به، وهم أصحاب أعمال الجوارح. فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقالٌ دينار من خير فأخرِجوه إلى آخر المراتب، فلا بد أن يراد من الخير غير أعمال الجوارح، فإنهم أُخرجوا في المرة الأولى، وإنما أذن في هذه المرة فيمن كان عندهم خير على مراتبه، فلا يكون إلا من الأعمال القلبية.
(1/146)
وأما في حديث أنس رضي الله تعالى عنه، فالمرادُ فيه من الخير هو نورُ الإيمان، وانفساحه وانبساطه، دون العملِ القلبي، بل ما هو من آثار الإيمان؛ لأنه لا ذكر في حديث أنس رضي الله تعالى عنه للأعمال أصلاً، بل فيه ذكر مراتبُ الخير من أول الأمر، مع ذكر لا إله إلا الله، فيكون قرينة على أن المرادَ منه ما هو من لواحق لا إله إلا الله، كالنماء مثلاً، ولأن في حديث أنس رضي الله تعالى عنه في بعض ألفاظه: «مثقال حبة برة أو شعيرة من إيمان»، فهذا دليل على أن تلك المراتب يجب أن تكون من الإيمان، فلذا جعلتُ الخيرَ فيه من لواحقه، وثمراته، بخلاف حديث الباب، فإنه لا ذكر فيه للإيمان في اللفظ، وإن كان معتبراً قطعاً، فلا علينا أن لا نريد فيه من الخير آثار الإيمان، مع أنه لا إيماء فيه في اللفظ إلى مراتب نفس الإيمان أيضاً.
وحينئذٍ فالتفاوتُ في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه راجع إلى أعمال القلب، والتفاوت في حديث أنس رضي الله تعالى عنه إلى ما هو من آثار كلمة الإخلاص، وعلى هذا التقرير فالأصل في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه لفظ: الخير وإنما أخرج المصنف رحمه الله لفظَ الإيمان في الأصل، والخيرَ في المتابعة، تنبيهاً على أن المراد من الإيمان ههنا هو الخير، الذي هو من الأعمال، وعكسَ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه للتنبيه على أن المرادَ من الخيرِ هو الإيمانُ. فإن قلت: إنك جعلت الخيرَ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه من آثار الإيمان، وآثارُ الشيءِ غيره، فلا يثبت الزيادة والنقصان في الإيمان، وهو خلافُ ما رَامَه المصنف رحمه الله تعالى.(1/147)
قلت: وقد مرّ مراراً أن آثارَ الإيمان عند المصنف رحمه الله تعالى أيضاً من الإيمان، فلا بأس في تفسيره الخير بالإيمان، والتفاوتُ فيها يكون عين التفاوت في الإيمان. ثم اعلم أن حديث أنس رضي الله تعالى عنه عند مسلم مفصل ومجمل، وليس في المفصل ذكرُ كلمة الإخلاص، إلا في المرتبة الرابعة، وهم الذين يقول النبي صلى الله عليه وسلّمفيهم: «ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك»، والمراتبُ الثلاثةِ قبلها لا ذكرَ فيها للكلمة، وهي مرادةٌ قطعاً، فإنها مذكورة في الثلاث منها في الطريق المجمل، ولفظه: «يخرجُ من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يَزِنُ شعيرة» إلى آخر المراتب وإنما حَذَفَها من المفصَّل؛ لأن المقصودَ ذكرُ ما به الفرق دون ما هو مشتركٌ في الكل، فحذفَ المشتركَ، وذكرَ المختص.
وعلى هذا الفرقُ بين حديثي أبي سعيد رضي الله تعالى عنه وأنس رضي الله تعالى عنه، أما أولاً: فبذكر الأعمال في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، دون أنس رضي الله تعالى عنه.
وأما ثانياً: فبأن الخير في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه من أعمال القلب، وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه من متعلَّقات لا إله إلا الله وآثاره، فالخير في حديث أنس رضي الله تعالى عنه من متعلَّقات الكلمة، لا من الأعمال القلبية، وفيه إيماءٌ إليه أيضاً دون حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، لعدم ذكر الكلمة في حديثه في أحد من طرقِه، ولعلك علمت مما قلنا أن الخيرَ عندي زائد على الإيمان في كلا الحديثين، إلا أنه من أعمال القلب في حديث الباب، ومن متعلَّقات الإيمان في حديث أنس رضي الله عنه؛ بخلاف ما اختاره الشارحون، فإنهم جروا فيهما على طريق واحد.(1/148)
ثم إن المراتب في الحديثين مشتبكة، والأخيرة مشتركة، فالذين أخرِجُوا في المرة الأخيرة، في حديث الباب، هم الذين أُخْرِجُوا في حديث أنس رضي الله عنه، وهم الذين ليس عندهم عملٌ من عمل الجوارح، ولا عندهم شيءٌ من أعمال القلب، ولا من ثمراتِ الإيمان شيء، وإنما يُخْرِجُهُم أرحمُ الراحمينَ بلا عملٍ عملوه، ولا خيرٍ قدَّموه.
بقي الكلامُ على الأمر الثاني: أي الذين يخرجُون بلا عمل، من هم؟ فالشيخ الأكبر رضي الله عنه لما رأى أنَّ هؤلاء عندهم التوحيد فقط، وليست عندهم الشهادةُ بالرسالة: ذهب إلى أنهم أهل الفترة، وإذ لم يدركوا زمن الرسالة؛ فنجاتُهم تدورُ على التوحيدِ فقط.
أقول: ليس الأمرُ كما قاله الشيخ الأكبر رحمه الله، بل هم الذين عندهم التوحيد والرسالة، وإنما اكتفى بذكر التوحيد، لأن تلك الكلمة صارت شعاراً للإسلام وعُنواناً له، فتضمنت الشهادة بالرسالة واستغنت عن ذكرها صراحة. ثم عندي حديثٌ قويٌ في امتحان أهل الفترة في المحشر، بأنهم يُؤمرونَ أن يلقوا أنفسهم في النار، فمن ائتمر منهم نجا، ومن أبى هلك، وكذا من زعم أنهم الذين عندهم القول بها فقط، أي مع ذهولٍ عن التصديق في الباطن، فقد أخطأ، لأنه لا عبرة به عند الشرع، فالمرادُ من هؤلاء الذين عندهم الإيمان والتصديق بالشهادتين؛ إلا أنه ليس عندهم من العمل والخير شيء، فيخرجون بمجرد بركة كلمة التوحيد ولا عمل، ولا خير، ولا شيء، ونحن نجيبُ المصنف رحمه الله تعالى عن استدلاله: أن الخير زائدٌ على الإيمان، فلم يُثبتُ الزيادةَ والنقصانَ في نفس الإيمان، بل في الخير، وقد مرّ أنه عبارة عن نور الإيمان، وهذا أمر زائدٌ على الإيمان، وإن كان المصنف رحمه الله تعالى يَعُدُّه من الإيمان، إلا أنه ليس مما نحن بصدده، وهو الإيمان الذي تدور عليه النَّجاة، ولما أُخرج من النار من لم يكن عنده عمل ولا خير أيضاً تبين أنّ مدار النجاة هو تلك الكلمة، وهي: الإيمان لا يزيد ولا ينقص.(1/149)
ثم إن النُّكْتَةَ في ذكرِ توحيدهم، وحذفِ شِهادتهم بالرسالة، وانفرادُ أرحمُ الراحمينَ بإخراجهم، أن هؤلأَ ليسوا بمختصين بتلك الأمة؛ بل هم من جميع الأمم، فراعى فيهم جهةَ العبُوديَّة فقط، دون الأممية، فإنها باعتبار الرسل، فحينئذٍ ناسب ذكر التوحيد، فإنه يشترك في الكل، بخلاف الرسالة، فإنها تتبدلُ بحسبِ الأعصار والأزمنة، فلذا ذكرَ الكلمةَ المتقرِّرة، وهي كلمة التوحيد، وحذفَ المتبدِّلة، وهي الشهادة بالرسالة. ثم هذا كله إذا كان حديثُ أبي سعيد رضي الله عنه، وأنس رضي الله عنه، متعدداً وأما إذا كان واحداً، فينبغي أن يستحصلَ مرادُهما بعد جمعِ الطرقِ، ورعاية الألفاظ، وحينئذٍ وجهُ التغايرُ في التراجم عدمُ تعيين اللفظ عنده.
وقد تحقق عندي أنه إذا لم يُبْد عنده ترجيح بين ألفاظ الحديث، يترجم على كلِ واحدٍ منها ترجمةً مناسبةً له، كما فعل في قوله صلى الله عليه وسلّم «إذا أمَّن الإمام فأمنُوا» وفي لفظ: «إذا أمّن القارىء» فالحديث واحد، فأخرج الأولَ في الصلاة: لأن لفظ «الإمام» يناسبُها، ووضع ترجمة مناسبة. وأخرج الثاني في الدعوات، فإن القراءةَ لا تنحصر في الصلاة، بل تكون خارجَها أيضاً. والذي عندي أن تُدَارَ المسألة على القدر المشترك، ولا ينبغي أخذها عن خصوصِ لفظ، فإنه لا يتعينُ أنه لفظُ صاحب الشريعة أو لفظ الراوي، والله أعلم.
حكمةٌ بالغة(1/150)
واعلم أن كلمةَ الإخلاص، لاستئصال الإشراك في العبادة، دون الإشراك في الذات، وعليه تُبنى دعوةُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأن منكري الربوبية أو المشركين في الذات كانوا أقل قليل، فلم يريدُوا بتلك الكلمة إلا الردَّ على الذين كانوا يشركون في العبادة، كما حَكى اللَّهُ تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) يعني أن الله سبحانه واحدٌ، وهؤء مقرِّبون إليه، والعياذ بالله. وقال تعالى: {فإذا رَكِبوا في الفلك دَعَوُوا ا مخلصينَ له الدين} (العنكبوت: 65) وقال تعالى: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (الصافات) ولم يقل: يجحدون، فعلم أنهم لم يكونوا منكرين لتلك الكلمة رأساً، لأن الاستكبار بعد العلم، وقد مر أن أول من بعث لدحض الكفر هو نوح عليه الصَّلاة والسَّلام، وقبله لم يكن إلا الإيمان فقط، ثم جاء إبراهيمُ عليه الصَّلاة والسَّلام وقابل مع قوم نمروذ، وكانوا يشركون في العبادة، فردّ عليهم بأبلغَ وجه وأتمَّ تفصيل. وعلى هذا فالملةُ الإبراهيمية هي استئصال الإشراك في العبادة.
(1/151)
بقي موسى وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام فلم يكونوا بعُثوا في مُقابلةِ الكفر، بل إلى بني إسرائيل، وكانوا مسلمين باعتبار قومهم، لأنهم كانوا من أولادِ يعقوب عليه الصَّلاة والسَّلام، ثم جاء بعدهم كلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم وقد انمحت آثار الأنبياء، واندرست تلك الكلمة، وانقطعت عن أصلها وفرعها، حتى لم يكن يعرفُها أحدىٌ. فأحيانها، وأسسها، وأقامها على سُوقِها، ليغيظ بها الكفار، فمن عَرَف تلك الكلمة، أو قالها، فقد قالها مقلداً إياه صلى الله عليه وسلّم لأنه هو الذي أحياها وعلَّمَها الناس، ولذا يقال له: إنه على الملةِ الإبراهيمية، وحينئذٍ القول بتلك الكلمة فقط تضمن الشهادة بالرسالة أيضاً، وعليه فليحمل حديث مسلم: «من قال: لا إله إلا الله دَخَلَ الجنة» ليس معناه ولو بدون الشهادة بالرسالة، بل معناه أن من قال تلك الكلمة مقلِّداً ومقتدياً به صلى الله عليه وسلّمدَخَلَ الجنة، فإنه قد أقر بالرسالة وشهد بها أيضاً، حتى أنهم صرحوا أن أحداً لو قالها بدون تقليده صلى الله عليه وسلّمكسنوح السوانح، لا يكون من الإيمان في شيء، فظهر منه وجه آخر لحذف الشهادة بالرسالة في الحديث.(1/152)
ثم اعلم أن صيغة الشهادة غلبت عليها جهة الإيمان، وليست من عامة الأذكار، بخلاف لا إله إلا الله، فإن فيها جهة كونها ذكراً من الأذكار أيضاً، بخلاف الشهادة بالتوحيد والرسالة، فإنها ليست ذكراً، بل هي إيمان، ولذا إذا تذكر الشهادة بالتوحيد، تضم معها الشهادة بالرسالة أيضاً، فإن الإيمان لا يتم بدونها، وتلك الكلمة بدون لفظ الشهادة قلما يذكر معها الجزء الثاني، لأنه تنتقل ههنا إلى الأذكار ويُراد بها أصحاب هذا الذِّكر، فمعنى قوله صلى الله عليه وسلّم «ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله» أي في أصحاب هذا الذكر، وهم الذين أدوا الشهادتين. ولا تَظُننَّ أن المراد من أصحاب هذا الذكر هم الذين ذُكروا بتلك الكلمة مراراً، فإنهم أصحاب الأعمال، بل أريدُ به أنه صار عنواناً للمسلمين لأجل هذا؛ فَذَكَرَ العُنوانَ المشهورَ وأرادَ المعنونَ المخصوص، وإنما عنونَهم بذلك ليُعلم وجهُ خروجهم من جهنم بدون عمل وخير.
وهذا وجه ثالث لحذفِ ذكرِ الشهادة بالرسالة، فدونك رابعاً أيضاً، وهو أن لا إله إلا الله لا تزالُ تَبقى المعاملةُ بها إلى الأبد، لأن الأذكارَ تبقى في الجنة أيضاً، وقد مرّ مني أنّ فيها جهة الذكر أيضاً بخلاف: محمد رسول الله، فإن فيه جهة الإيمان فقط، وليست فيه جهة الذكر، وإنما الذكرُ في حقه صلى الله عليه وسلّمهو الصلاة عليه، لا تلك الكلمة، فالمعاملة مع تلك الكلمة، وهي القول بها تنتهي بانتهاء تلك الحياة وليست معها معاملةٌ بعد انقطاع تلك النشأة، بخلاف كلمةِ التوحيد، فإن معها معاملة في المستقبل أيضاً، ولذا وردت في الحديث تلك الكلمة فقط، دون محمد رسول الله، فإن القول بها مضى في الدنيا، وأما في الجنة فليس هناك إلا الأذكار، وهو ليس منها.
23 - (قميصه يجره) هذا من عالم الرؤيا فلا تجري فيه مسألة الإسْبَال.(1/153)
23 - (تأولت) والتأويل عند السلف طلب المآل، وبيان المراد كما في قوله تعالى: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَى} أي مرادها ومصداقها، لا ما أصطَلَحَ عليه المتأخرونُ من صرف الكلام عن الظاهر.
23 - (الدين) فإن القميص كما يكون وقايةً للاّبس من الحر والقر والوقاحة، كذلك الدينُ يكونُ حافظاً لعرضِهِ في الدنيا والآخرة.
باب الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَان
وقد مر منى أن الحياءَ كالأمانة مقدمةٌ للإيمان عندي، والأمانةُ وصفٌ يعتمدُ بها الناس على حاملها في أنفسهم، وأموالهم، وليست بمعنى الوديعة التي في الفقه، ولذا أنكرت الأرض والسموات عن حملها، حين عرضت عليهن، لأنهنّ لم يكُنَّ بهذه المثابة، ولم يكن حاملة لتلك الأوصاف، وإنما سبق بها الإنسان مع ضَعفه؛ لأنه كان حاملاً لهذه الأوصاف، وبعبارة أخرى: إعطاء كل ذي حق حقه، ووضعُ كل شيء مكانه أمانةٌ، وضِدّها غش، وهو: حطُّ الشيء عن مرتبته، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلّمما معناه لأنس «يا بُنَيَّ إن قَدَرْتَ أن تُصبحَ وتُمسيَ وليس في قلبك غشٌ لأحد فافعل... إلخ» ثم المصنف رحمه الله يجعل «مِنْ» تبعيضية، ونحن نجعلها ابتدائية كما قررنا.
باب : {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَءاتَوُاْ الزَّكَوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} (التوبة: 5)
غرض المصنف رحمه الله: أن تلك الأعمال من الإيمان، فكما أنه لا نجاةَ في الآخرة بدون الأعمال كذلك لا يُكفُّ القتال عنهم في الدنيا إلا بها. قال الإمام الشافعي ومالك رضي الله عنهما: إن تارك الصلاة يقتل حداً لا كفراً.
(الفرق بين الحد والتعزير، والكلام في تارك الصلاة)(1/154)
والفرق بين الحد والتعزير، أن الحد لا يمكنُ ردُّه للقاضي أيضاً، فإنه من حقوق الله تعالى، بخلاف التعزيز فإنه مفوض إلى رأيه. وقال أحمد رضي الله عنه: إنه يقتل كفراً، وقال إمامنا الأعظم رضي الله عنه: إنه ليس بكافر، ولا يقتل، ولكنه يُحبس ثلاثاً، فإن عاد إلى الصلاة فبها وإلا يضُرب ضرباً يتفجر منه الدم، نعم، لو قتله الإمام تعزيراً وسع له كما وسع له قتل المبتدع.
قلت: وجاز في السرقة للقاضي أن يقطع اليد تعزيراً، وعليه أحملُ ما وقع فيه القطع فيما دون عشرة دراهم، وتمام البحث يجيءُ في السرقة إن شاء الله تعالى. وقد قال لي بعض الفضلاء: إن في تذكرة المخدوم هاشم السندهي إشارة إلى جواز قتل تارك الصلاة عندنا تعزيراً، ولنا عند أبي داود عن أبي مَحَيريزٍ أن رجلاً من بني كِنَانَة يُدعى المَخْدَجِيَّ سَمِعَ رجلاً بالشام يُدعى أبا محمد يقول: إن الوترَ واجبٌ، قال المخدجي: فَرحتُ إلى عُبادة بن الصامت رضي الله عنه فأخبرتُه، فقال عُبادة رضي الله عنه: كذب أبو محمدٍ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّميقول: خمسُ صَلَواتٍ كَتبهنَّ اللَّهُ على العباد، فمن جاء بِهنَّ لم يضيِّعْ منهنَّ شيئاً استخفافاً بحقِّهن، كان له عند الله عهداً أن يُدخِله الجنةَ، ومن لم يأت بِهنَّ فليس له عند الله عهدٌ، إن شاء عَذَّبه، وإن شاء أدخَلَه الجنة. انتهى. فلو كان تاركُ الصلاة كافراً لجزم بدخوله النار، ولكنه أبقى أمره تحت المشيئة، فعُلم أنه مسلم فاسق.
ونقل فيه مناظرة الإمام الشافعي وأحمد رضي الله عنهما. قال الشافعي لأحمد رضي الله عنه: سمعتك تقول. إن تارك الصلاة كافرٌ، قال: نعم، قال: فما سبيل إسلامه؟ قال: أن يصلى، قال: وهل تُقبل صلاة الكافر؟ فسكت أحمد رضي الله عنه.(1/155)
بقى تواتر السلف بإطلاق الكفر على ترك الصلاة، فالأمر عندي أنه بمعنى كفرٍ دون كفر، لأني لا أعلمُ من حالهم إلا أنهم عاملوا مع أمراء الجور معاملة الفُساق، حتى صلوا على جنائزهم وصلوا خلفهم الفرائض، وتمسك النووي رضي الله عنه بحديث الباب على قتلِ تارك الصلاة. وفيه نظر؛ لأن القتال غير القتل. وفي الحديث ذكر القتال، دون القتل، والقِتَال بمعنى الجِدال، كما في الحديث «أقتالاً يا سعد؟» وما عند الترمذي «فليقاتله» لمن مر بين يدي المصلى، فمن هذا الباب، وكتب النووي رحمه الله تعالى تحته مسائل الدِّية: بأنه لو قتل المارِّ أحدٌ هل يجبُ به الدِّية أم لا؟ فأوهم أن المراد من المقاتلة القتل، وهو غلطٌ، وكان الأولى أن لا يكتب هناك تلك المسائل. فإن الحديثَ لا تعلق له بمسألة القتل، وذكر تلك المسائل يوهم ذلك.
ثم عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى أنه يقاتلُ مع قوم تركوا الخِتَان، أو الآذان، وفهِمَ منه بعضهم أن الأذان عنده واجب.
قلت: بل القتال إنما هو على تركِ شعار الإسلام والأذان، والخِتَان، من شعارِهِ فمن نَسَبَ إليه وجوب الأذان منا فقد توهمَّ من هذه المسألة، فإذا ثبت عنه جواز القتال من هؤلاء، فمن تارك الصلاة أولى.(1/156)
ثم ههنا مهم: وهو أنه كيف امتنع عمر رضي الله تعالى عنه عن قتال مانعي الزكاة مع هذا الحديث الصريح؟ والحل ما في رسالتي: «إكفار الملحدين» وأوضحته في مواضع، وخلاصته: أن اختلاف الشيخين إنما كان في غرض مانع الزكاة، فجعله عمر رضي الله تعالى عنه بغيهم، وجعله أبو بكر رضي الله تعالى عنه الرِّدة، من حيث إن الإيمانَ اسم لالتزام كل الدين، فمن فرق بين الصلاة والزكاة، فكأنه لم يؤمن بالكل، ومن لم يؤمن بالكل، فهو كافر قطعاً. وهو نظر الحنفية: أن الإيمانَ لا يزيدُ ولا ينقص، لأنه لاتشكيك في الالتزام وقد مر الخلافُ في تحقيق الواقعة، والكشف عنها ولو تحقَّق عند عمر رضي الله تعالى عنه أنهم أنكروا الزكاة رأساً لأكفرَهَم هو أيضاً، ولم يتردد أصلاً، وذكر مثله العلامة الحافظ الزَّيلعي رحمه الله تعالى في «تخريج أحاديث الهداية» من الجزية وفي «المستدرك» عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّمعن ثلاث أحب إليّ من حُمْر النَّعم»، وذكر منها قوماً قالوا: نقرُّ بالزكاة في أموالنا، ولا نؤديها إليك، أيحلُّ قتالهم؟ انتهى مختصراً. وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين. فعُلم منه أنهم لم ينكروا الزكاة رأساً، كيف ولو أنكروها عن أصلها لما كان في كفرهم موضعُ رَيبٍ لمن له أدنى علم، فإنها من الضروريات وإنكارُها كفرٌ لا محالة، وإنما زعموا أن الزكاةَ جبايةُ مالٍ، كما يجبي السلطان من الرعايا جبايات من جهات، فكانت إلى النبي صلى الله عليه وسلّمفي عهده، وإذا وَلَّيْنا نحن ولاةً منا فقد سقطت، وبقيت كسائر الجبايات على رأى الوالى.(1/157)
ومنصبُ الخلفاء عندي فوق الاجتهاد، وتحت التشريع، من حيث أن صاحب الشريعة أمرنا باقتدائهم مطلقاً. ومن هذا الباب زيادة عثمان رضي الله تعالى عنه في الأذان، وجمعُ عمرَ رضي الله تعالى عنه الناس في التراويح خَلْفَ إمام واحد، فلا يرجع اختلافهم إلى مسائل الأصول. فلا يقال: إن الاختلافَ في الشيخين كان في حكم تعارضُ العموم والخصوص كما قرروا، ولعل الأمر يحوم حول ما قررنا، فافهم واستقم.
25 - (إلا بحق الإسلام) كالقصاص وزناً، المحصن، والارتداد.
باب مَنْ قَالَ: إِنَّ الإِيمَانَ هُوَ العَمَل(1/158)
وبعدُ الشيخ قطب الدين في بيان الغرض حيث قال: إن المصنف رحمه الله تعالى انتقل إلى الرد على المرجئة القائلين بأنه القول بلا إله إلا الله فقط، فقال رداً عليهم: إنه عملٌ وليس بقول فقط. وعندي قد فرغ عنه المصنف رحمه الله تعالى من قبل، وإنما يريد الآن النصَّ على أن الإيمانَ عملُ القلب كما كان نصَّ أولاً على أن المعرفة فعل القلب والعملُ لا يكون إلا اختيارياً، فالإيمان أيضاً فعلٌ اختياري، ووجه الإشارة أنه قصرَ الإيمانَ على العمل، أي أن الإيمان مقصورٌ على كونه عملاً لا يتجاوزَ إلى صفة أخرى، من كونه علماً أو غيره، ولا شك في أنه عملُ القلب، وأما من فسره بالمعرفة، فأراد بها ما تستوجبُ العمل، ولا ما تجامعُ الجحود، كما مرّ ولو كان غرضُ المصنف رحمه الله تعالى ما فَهِمُوه لقال: إن الإيمانَ عملٌ بدون القصر، لأن القصرَ إما قصر قلب أو إفراد ولا يصح واحدٌ منهما؛ لأن المعنى على الأول: أن الإيمانَ عملٌ ليس بقول، وعلى الثاني: أنه عملٌ وليس بمجموع القول والعمل، وكلاهما خلافُ المراد. وأما قصر التعيين فلا يحتملُه المقام. ومنه ظهرت المناسبة بين الآيات، والحديث، والترجمة، فإنها أطلقت العمل على الإيمان، بمعنى أن الإيمانَ من أكبر الأعمال، لا أن قوله تعالى: {بِمَا تَعْمَلُونَ} منحصرٌ في الإيمان، وكذا سُئل النبي صلى الله عليه وسلّمعن الأعمال، وأجاب بالإيمان، فاتَّضَحَ أن الإيمانَ عملٌ.
باب إِذَا لَمْ يَكُنِ الإِسْلامُ عَلَى الحَقِيقَةِ وكَانَ عَلَى الاسْتِسْلامِ أَوِ الخَوْفِ مِنَ القَتْل(1/159)
قالوا: إن هذا الباب كأنه دفع دَخَلٌ مُقدَّر، وهو أنك ادّعيت أن الإسلام والإيمان واحدٌ، مع أن الآيات والأحاديث، تدل على تغايرهما، فأجاب أَن الإسلام على نحوين: الإسلام حقيقة أي شرعاً، وهو المعتبرُ، وهو عينُ الإيمان. والثاني: الإسلام لغةً وهو غيرَ معتبر في الشرع، وهذا الذي أريد في قوله تعالى: {وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} لأن الآية عنده في حقِ المنافقين كما صرح به في التفسير، وحينئذٍ لم تكن عندهم حقيقة الإسلام، وإنما جيء في الآية بلفظ الإسلام على معنى الاستسلام، وليس على حقيقتهِ، فدعوى الاتحاد إنما هو في الإيمان والإسلام المعتبر، أما الإسلامُ غير المعتبر، فهو غير الإيمان قطعاً، وفي عقيدة السفاريني: أن الإسلامَ من خوف القتل لا يُعتبر عند البخاري، ولعله أخذه من هذه الترجمة.
قلت: وإن كان يتضح منه الدَّخْلُ ودفعه غاية وضوح، فإنه إذا لم يعتبر إسلامَ الخائفِ من القتل، كيف يحكمُ عليه بأن إسلامَه عينُ الإيمان، فلا جَرَمَ يكون مغايراً للإيمان، أما الإسلام الذي هو عينُ الإيمان، فهو ما يكون من طوع ورغبة قلب، بدون خوف، ولكنه كلام باطلٌ، لأنا نجدُ أقواماً أسلموا من خوف القتلِ ثم اعتبر النبي صلى الله عليه وسلّمإسلامَهم، نحو إسلام قوم لم يُحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا، صبأنا فقتلهم خالد ولم يعتبر إسلامَهم، ولما بلغ خبرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلّمرفع يديه وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»، فهذا صريح في أنه اعتبر إسلامهم، وعلى هذا فنِسبةُ هذا الكلام الباطل إلى المصنف رحمه الله تعالى لا يستقيمُ بحال.(1/160)
وعندي: غرضُه من هذه الترجمة الفرقُ بين الإسلام المعتبر، وغير المعتبر، لا دفع الدَّخلَ، وحاصله: أن الإسلام قد يكون حكاية، وإسمياً، ورسمياً، وانتحالاً. بدون استشعار القلب، وهو غير معتبر وغير مُنجي، واستدل عليه بقوله تعالى: {قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا}... إلخ أي هم يدّعون أ الإسلام رَسَخَ في بواطنهم وليس كذلك، وإنما عندهم اسم الإسلام، والحكاية، بدون المحكي عنه، وهذا غير معتبر وقد يكونُ الإسلام عن جذر قلب وصدق نية لا حكاية فقط، فهو المرضي عند الله تعالى. وهو المنجي حقيقة، كما قال: {إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَمُ} فجعل الإسلامَ ديناً مرضياً، وعلى هذا قوله: على الحقيقة ليس مقابِلاً للمجاز، كما فهموه، بل معناه في نفس الأمر. وإذا لم يكن الإسلامُ على الحقيقة بذلك المعنى، يكون حكائياً واسمياً لا حقيقة له في نفس الأمر.
(أو كان على الاستسلام) من السلم أي الصلح، فمعناه الإسلام صلحاً، يعني على طريق المصالحة مجبوراً، وادِّعاءاً فقط دون الواقع، والاستفعالُ فيه بمعنى الإتيان بشيء بدون سماحة نفس، بل عن كُرْه، وسَخَطٍ في الباطن، وهو أيضاً من خواصِّ هذا الباب، لأني أجدُ فيه هذا المعنى في مواضع، وإن لم يذكره علماء التصريف، كما في قوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَبِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآء} (المائدة: 44) أي أنهم لم يحملوا كتاب الله ولم يحفظوه برغبةٍ، وطواعيةِ نفس، ولكنه حمل عليهم حفظه على كره، ولهذا المعنى جيء بالاستحفاظ ههنا، كاستأسر أي عدُّ نفسه أسيراً مجبوراً.
يقال: استأسر الرجل إذا أُخِذ في جريرةِ فيسلم إليه نفسه مجبوراً، وكما في قولهم:(1/161)
ولم يدخل في مسألة اتحاد الإيمان والإسلام في تلك الترجمة وإنما تعرض إليها في ترجمة تأتي، وإنما يتبادر دخوله في تلك المسألة من جهة الآية، فإنها تفرق بين الإيمان، والإسلام، والمصنف قائل بالاتحاد، فخيِّلَ أنه توجه فيها إلى جوابه، والظاهر أنه أراد هُهنا بيانَ الفرق بين المعتبر من الإسلام، وغيره فقط، وإنما يتردد النظر في شرح تراجمه، لأنه كثيراً ما يذكر الشرط، ويحذف الجواب من الترجمة، ويُخرِجُ مادته في الحديث المترجم له، فكأن السؤال يكون في الترجمة، والجواب في الحديث، وإذاً يكونُ الحديثُ محتمِلاً للوجوه، يُحدثُ الترددَ، أنه ماذا أراد؟ كما ترى ههنا.
(أو الخوف من القتل) واعلم أن فيه أحوالاً: فمن أسلم كَرْها مع السخط في الباطن فهو كافرٌ قطعاً، لأنه ليس عنده سوى اسم الإسلام شيءٌ، وهو الذي أراده البخاري، والثاني: من أسلمَ وكان عنده أن قبولَ الأديان من الجائزات، فلم يختره لكونهِ حقاً في نفسه، بل كاختيار أحد الجائزات، فهذا حَسَنٌ، وهذا أيضاً حسن، فهذا النوعُ أيضاً كافر، وهذا أيضاً يمكن أن يدرجَ في مراده. والثالث: من أسلم كَرْها، ثم رضي به، كأنه عند الخوف من القتل، يَبْعثُ نفسَه أن ترى الإسلامَ حقاً وتعتقده عن صميم قلب، فهذا مؤمنٌ إجماعاً. ومن نسب إلى المصنف عدمُ الاعتبار بإسلامه، نظراً إلى ألفاظ هذه الترجمة فقد بَعُدَ بعداً بعيداً.
27 - (مالَكَ عَنْ فلان) قال الحافظ واسمه جُعَيل، وهو صحابي جليل القدر وله منقبة عظيمة. عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال لأبي ذر: «كيف ترى جُعَيلاً» قلت: كشكله من الناس - يعني المهاجرين - قال: «فكيف ترى فلاناً؟» قال: قلت: سيد من سادات الناس، قال: «فجعيل خير من ملاء الأرض من فلان». فهذه من منزلة جعيل المذكور.
(1/162)
27 (أرى) واتفق أئمة اللغة على أنه معروفاً بمعنى اليقين، ومجهولاً بمعنى الشك، ولعل الأول مأخوذٌ من الرؤية والثاني من الرأي كما صرح به الشيخ ابن الهمام رحمه الله تعالى في باب الصيام، وههنا مجهولاً أولى؛ لأن الحكمَ بمحضر النبي جزماً إساءةٌ للأدب، وقال قائل: بل الأول متعين للقَسَم، فإنه قال: فوالله إني لأراه مؤمناً، والقسَمُ لا يناسبه الشك. قلت: ويلزمه أن لا يجوز قولهم: والله لأظنه كذا، وهو باطلٌ قطعاً.
27 - (أو) وقَرَأه الشيخ العيني رحمه الله تعالى بهمزة الاستفهام، وواو العطف (أو) يعني أتقول كذا وهو مسلمٌ، وقيل: بل هو حرف عطف بسكون الواو (أو) والفرقُ بينهما أنه على الأول يكون الحكمُ بإسلامِهِ، بتاً من جهة صاحب الشريعة، بخلاف الثاني، فليس فيه بتٌ وحكمٌ قطعيٌ على إسلامه، ومعناه: مهلاً ما تقول، لعله يكون مسلماً، ولا يكون مؤمناً. وقال بعضهم: إنها بمعنى الإضراب. أقول: وإنما يفهم منها الإضراب للمقابلة، لا أنه أصل المعنى. ثم إنه طال نزاعهم في قوله تعالى: {أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات: 147) وسنعود إليه إن شاء الله تعالى في موضع آخر.
فإن قلت: إذا كان أمر جُعيل ما قد وُصِفَ في الحديث، فلا معنى للشك في إسلامه وإطلاق اسم الإيمان في حقه، قلت: هو كذلك، وإنما منعه إصلاحاً له وتنبيهاً على أنه لا ينبغي المبادرة في مثل تلك الأمور الباطنة التي قد تخفى على الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام أيضاً، سيما بحضرة صاحب الوحي، وإن كان صحيحاً في خصوص هذا الموضع فلو كان صوبه ههناً، ولم يمنعه لأمكن أن يستعمله في موضع آخر أيضاً لا يكون محلاً له، فمنعه مطلقاً سداً للباب، ولم ينظر إلى خصوصِ المقام.(1/163)
فإطلاق أحب الألقاب إلى الله تعالى بدون رؤية وروية هو مورِدُ النكيرِ فقط، وليس المرادُ ذم الصحابي المذكور، فإنه ذو منقبةٍ ومكان، ورتبةٍ عند الله، وعند رسوله، وهذا كما قالت عائشة رضي الله عنها لولد مات: طُوْبَى له عصفورٌ من عصافير الجنةِ قال: مهلاً يا عائشة، وقد كان هذا ولداً لأنصاري، ومعلوم أن أولاد المسلمينَ كلهم في الجنة، وإنما الاختلاف في أولاد المشركين، فهذا أيضاً إصلاح كالقاعدة الكلية، أي الجزمُ بأمور الغيب قبل العلم بها مما لا يُنَاسب مطلقاً، فكيف محضرٍ من صاحب الشريعة وهو أعلم، فينبغي أن يترقب ماذا يُلقى إليه من جانبه، ثم يتلقاه منه، لا أنه يتبادر فيفْتَات عليه، ولذا ترى الصحابة رضي الله تعالى عنهم أكثر ما يجيبونه بقولهم: الله ورسوله أعلم، ويتضح عندك مراده كل الاتضاح مما قيل في الفارسية. خطا اكرراست آيدتاهم خطاست وفي الحديث أيضاً «من فسر القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ» وغَفَلَ بعضهم عن هذا المعنى فجعل يأولُ في قصة عائشة رضي الله تعالى عنهما، وقال: لعل الولد كان من المشركين، ثم لما مرّ على الروايات ورأى أنه كان ولداً للأنصاري، ركب تأويلاً آخر باطلاً، وقال: إنه كان أنصارياً نسباً وقوماً فقط، وهذا كله كما ترى لعدم البلوغ إلى حقيقة المراد. أما المصنف رحمه الله تعالى فاستشهد بقوله فيه «أو مسلماً» فإنه دالٌ على تغاير بين الإيمان والإسلام في الجملة؛ فإنه نفى عنه اسم المؤمن، مع إثباتِ لقب المسلم، فثبتت الترجمة.
باب السَّلامُ مِنَ الإِسْلام(1/164)
وإفشاؤُه نشرُه سِراً وجهراً على مَنْ تَعْرف ومن لم تعرف. والمصنف رحمه الله تعالى في مثله يتبع ألفاظ الحديث، فإن كان الحديث جعل أمراً «من الإسلام» يترجم المصنف رحمه الله تعالى أيضاً بذلك، وإذا كان جعله «من الإيمان» يتبعه أيضاً، فتارةً يقول: «من الإسلام» وأخرى: «من الإيمان» لهذه النكتة وليس لمجرد التفنن في العبارة.
قوله: (الإنصاف من نفسك) يعني عن داعية نفس بلا رياءٍ أو حكم حاكم، وهذا إنصاف صادر من طبعه، وحينئذٍ يكون حرف «من» ابتدائية، والنفس فاعلاً معنى، ويمكن أن يكون معناه إجراءُ الإنصاف في معاملة نفسِهِ أيضاً، وحينئذٍ تكون النفس مفعولاً (للعالم) بالفتح، أي جميع الناس (من الإقتار) أي الافتقار، و «من» بمعنى «في» كما ذكره العيني رحمه الله تعالى، أو بمعنى عند ومع، كما اختاره الحافظ رحمه الله تعالى، فالإنصاف خُلُقٌ، والإنفاقُ يتعلق بحقوق الأموالِ، وإفشاءُ السلامِ أمرٌ بين الأمرين، والإيمانُ مجموعُ الثلاثة.
باب كُفرَانِ العَشِيرِ، وَكُفرٍ دُونَ كُفر
واعلم: أنّ هذه الترجمة أيضاً من التراجم المشكلة عندي، والجملةُ الأخيرةُ مرفوعٌ أي إعراباً، وإعرابُها حكائي عندي، لأنه قول عَطَاء بن أبي رَبَاح، ونقل نحوه عند ابن كثير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في تفسير قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ} أي بكفرٍ دون كفر. ولعل الحافظ رحمه الله تعالى لم يُدركه ولذا نسبه إلى عطاء، ولو أدركَهُ لنسبه إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنه، لأن عطاء تلميذ له، ولذا أظنُ أن عطاءَ لعله تعلَّمَه منه؛ فأصله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه فاعلمه. قال الحافظ: «دون» بمعنى أقرب، واختاره. وقيل: بمعنى غير، وجعله مرجوحاً.(1/165)
قلت: والمختارُ عندي ما جعله الحافظ رحمه الله مرجوحاً. ثم إن الحافظ رحمه الله بنى شرحَهُ على شرح القاضي أبي بكر بن العربي، وحاصله راجعٌ إلى تحقيق الحافظ ابن تيمية رحمه الله. ومحصَّلُ تحقيقه: أن الإيمانَ لما كان مركباً أمكن أن يوجدَ في المؤمن بعض أشياء الكفر، وفي الكافر بعض أشياء الإيمان، كالكِبْر فإنه من الكفر وقد يوجدُ في المسلم أيضاً، وكالحياء فإنه من الإيمان وقد يوجد في الكافر أيضاً فالإسلام عَرْضٌ عريضٌ، أعلاه: لا إله إلا الله وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما مراتبٌ لا تحصى، وكذلك الكفر أيضاً عرضٌ عريض، فكما أن الإيمانَ المنجي ما هو في المرتبةِ الأخيرة، كذلك الكفرُ المهلك أيضاً ما كان في تلك المرتبة. وبين أعلى الكفر، وأدناه مراتبُ لا تحصى. وعلى هذا فالكفرُ اسم للجحودِ والفسوق.
وأقرب نظائِرِه كالصحة والمرض، فيوجدُ في الصحيح بعض أشياء المرض، وفي المريض بعضُ أشياء الصحة، ولكن هذا التقرير يناسبُ وظيفة المُحدِّث، والمفسر، أما على طريقِ الفقيهِ والمتكلم، فإنهم لا يبحثون إلا عن النجاة وهي المرتبة الأخيرة، فلا يجتمعُ الإيمان مع الكفر عندهم أصلاً. قلت: كما أن المحدثين والمتكلمين اختلفوا في الحالةِ المتوسطة بين الإيمان والكفر، فأثبتها الأولون، ونفاها الآخرون، كذلك اختلف الأطباء في الصحة والمرض فذهب جالينوس إلى أن هناك ثلاثة أحوال: الصحيح فقط، والمريض فقط، والذي بينهما، وأنكره ابن سينا وثنَّى القِسْمة، فالأعمى عند جالينوس ليس بصحيحٍ من حيث فقدان حاسة البصر، ولا مريضٍ من حيث صحة بقية الأعضاء، وعند ابن سينا هو مريض.
(1/166)
ومن هذا التحقيق انحل كثيرٌ من الأحاديث التي أُطلق فيها لفظ الكفر على الكبائر، واستغنى عن التأويلات، كقوله صلى الله عليه وسلّم «من ترك الصلاة فقد كفر».فأول فيه بعضهم أنه ليس حكماً بالكفر، بل معناه أنه قُرْبُ الكفر. قلت: وليس بشيء، لأن الحديث يصفه به في الحالة الراهنة، ويرميه بالكفرِ ولا ينظرُ إلى حالة أخرى، وقال قائل: معناه من ترك الصلاة مستحِلاً، وهو أيضاً من هذا القبيلَ؛ لأنه لا يختص بالصلاة فإنه يكفر باستحلال كل حرام قطعي، وقال آخر: معناه أنه فَعَل فِعْل الكفر، وهذا نافذ، والرابع ما أراده الحافظ ابن تيمية رحمه الله أي فقد كفرَ بكفرٍ دون كفر، فلم يُكْفِرْه بكفر يوجب الخلود، بل بكفرٍ سُلِبَ عنه حُسْنُ الإسلام، وشأنَه بوصمة الكفر، وهذا أحسن من الكل.
ومقتضى هذا التحقيق جوازُ إطلاق الكافر على العاصي، لقيام مبدأ الكفر به والأعجب إليَّ: أن يحجزَ عنه إطلاق الكفر وإن صح ظاهراً، فإن فيه مفاسد لا تخفى. وقد سمعت أن نظرَ الحنفية لما كان مقتصراً على المرتبة الأخيرة - وهي التي تليق بوظيفتهم - لم يختاروا ذلك التحقيق كما مر مفصَّلاً.
إذا سمعت هذا فاعلم أن الحافظ رحمه الله جعل حاصلَ هذه الترجمة والترجمة الأخرى باب «ظلم دون ظلم» واحداً، وقال: إن المصنف رحمه الله لما أقام المراتب في الإسلام لزمَ منه أن يُقيم المراتب في الكفر أيضاً، وجعل «دون» بمعنى أقرب، ليكون أسهل في الإشارة في إقامة المراتب، فالكفر على هذا نوعٌ واحدٌ، تحته مراتب، بعضها أخف من بعض.(1/167)
أقول: إن هذه الترجمة لا تبتنى على تحقيق الحافظ ابن تيمية رحمه الله وإن كان تحقيقه جيداً، ولكن المصنف رحمه الله فيما أرى لم يُشر إليه، وكذلك «دون» في ترجمته بمعنى غير، على خلاف ما فهمه الحافظ رحمه الله، والوجه عندي أن المصنف رحمه الله استعمل هذا اللفظ في مواضع عديدة ومعناه هناك «غير» قطعاً، منها «باب من خص قوماً دون قوم بالعلم» أي سوّى قوم، وكذا أشار إليه الحديث أيضاً فإنه جعل الكفرَ نوعين، فالأول كفر بالله، والثاني كفران بالعشير، فجعله متغايراً بالمتعلَّقاتِ ولم يقم فيه المراتب كما تقول: تَصَورٌ فقط، وتصور معه حكم، فهذان نوعان للعلم، كذلك الكفر أيضاً نوعان: كفرٌ بالله، وكفران بالعشير، فهو كفرٌ غير كفر، كمغايرة النوع بالنوع.
(1/168)
ويمشي على هذا التقدير تقرير القاضي أيضاً، لأن كونَ كفر مغايراً لكفرٍ آخر لا ينافي إقامةُ المراتب، بل هذا أولى مما قالوه، فإن الكفر إنْ جعلناه نوعاً واحداً كما قالوه يلزمُ إثباتُ الأحكام المختلفة لأفراد نوعٍ واحد، وهو مستبعد بخلاف ما إذا جعلناه أنواعاً وغايرنا في أحكام الأنواع، فنوع منه موجبٌ للخلود، ونوع آخر للفسوق، كان على طريقٍ معروف ولم يكن فيه بعد، فلما كان تقريرهُ يمشي على هذا التقدير مع ملاءمته بكلام المصنف رحمه الله تعالى في مواضعَ أخرى، وإيماء الحديث إليه فالحمل إليه أولى، وينجلي الأمر مما في قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء} (النساء: 48) لأنهم اتفقوا أن «دون» فيها ليست بمعنى أقرب، بل بمعنى غير، فلذا جزمت أن «دون» ههنا بمعنى غير لا بمعنى أقرب، كما شرحوا به، فالمصنف رحمه الله تعالى عندي ليس بصدد بيان تقارب الكفر بالكفر، ولا بشرح الأحاديث التي أُطلق فيها الكفر على المعصية، كما ذهب إليه القاضي بل بصدد بيان التنوع فيه، وتؤيده نُسخة أخرى نقلها الشيخ العيني رحمه الله تعالى: وكفر بعد كفر. وقد كان يخطرُ ببالي أن طريقَ المصنف رحمه الله تعالى جمعُ الآيات المناسبة في ترجمة الباب وههنا لم يتعرض المصنف رحمه الله تعالى إلى قوله تعالى: {الأعرابُ أشدُ كفراً ونِفَاقاً وأجدرُ أن لا يعلمُوا حدودَ ما أنزل ا} (التوبة: 97) مع كونها صريحة في هذا المراد، ثم تبين لي أن المصنف رحمه الله تعالى إنما يريد مراتب الكفر التحتانية، وهذه تدل على الفوقانية وهي الكفر المهلك، ولما كان بين الكفرِ والكفرانِ اشتقاقاً، لم يبال باختلاف الألفاظ واستدل به على مراده، وهذا تقرير على مذاقهم.(1/169)
وأما ما سنح لي فأقول: إن المصنف رحمه الله تعالى لو كان أراد إجراء التوجيه المذكور في الأحاديث، لأخرج تحت هذا الباب حديثاً من الأحاديث التي أطلقَ فيها الكفرُ على المعاصي، أو الكافر على العاصي، ليتوجه ذهنُ الناظر إلى أن هذه الترجمة شرح لمثل هذه الأحاديث، ولكنه لم يشرْ إليه في مقام ولم يخرجْ تحته حديثاً كما وصفنا، بل ذكر أن كفراً يباينُ كفراً آخر، ولم يجعل الكفر شيئاً واحداً وعرضاً عريضاً. فإن قلت: إنه قد أخرج حديثَ كُفْران العشير قلت: الكفران ههنا بالمعنى اللغوي (حق ناشناسى) وهو قد يطلق على أمر لا يكون معصيةً أيضاً، ولو كان أراد الإشارة إليه، فلا أقل من أن يُخرِّج تحته قوله صلى الله عليه وسلّم «وقتاله كفر» ولكنه لم يخرج مثل هذه الأحاديث في باب من أبواب الإيمان، ولم يشر إلى: تأويلها في موضع من المواضع.
(1/170)
فإن قلت: إن الحديث قتاله كفر وقد أخرجه في الباب الآتي. قلت: لكنه لم يبوب عليه بكفر دون كفر بل بوب بباب آخر ولم يستفد منه هذا المعنى. والحاصل أنه إذا بوّب بترجمة أمكنت أن تكون إشارةً إلى تحقيق الحافظ ابن تيمية لم يُخرج تحتها حديثاً، أطلق فيه الكفر على المعصية، لتكون إشارة إلى شرحها، وإن أخرجَ حديثاً كذلك لم يترجم عليها بترجمة تكون مُشْعِرة بشرحها، ولو كان أراد التحقيق المذكور لجمع بينهما. ولما حجر في الباب الآتي عن إطلاق الكفر على العاصي إلا بالشرك، وقال: «ويكفر صاحبها» مكان ولا يكفر، وأيضاً لوجب عليه أن يقيدَ قوله: «ولا يكفر صاحبها» بقيد ما، كالكفر بالله ليتم مراده، ولا أخالُ عبارة المصنف رحمه الله تعالى تكون ناقصةً في مثل هذا الموضع، وأيضاً لما ذكر التحذيرَ من الإصرار على التقاتل في باب خوف المؤمن أن يحبط عمله، وخشية أصحابه صلى الله عليه وسلّمعلى أنفسهم النفاق، لأن حاصل هذه الترجمة أنه ليس بكافر في الحال، ولكنه يُخشى عليه سوء الخاتمة، أعاذنا الله منه وأماتنا على الملة البيضاء المحمدية على صاحبها الصلاة وألف ألف تحية.
فهناك تحذيرٌ من الكفر بكفرٍ يُوجب الخروجَ عن الملة، لا حكمٌ بالكفر بكفر دون كفر في الحالة الراهنة، كما سيأتي، وهذا يخالفُ تحقيق الحافظ ابن تيمية فإنه يُجوِّز إطلاقَ الكفر في الحال بكفر دون كفر، فينبغي أن يُلاحظَ في شرح هذا الباب هذان البابان أيضاً، فإن لهما تعلقاً بهذا الباب، وقد علمت: أن الترجمة التالية: ولا يكفر صاحبها يُشعر بعدم اختياره هذا التحقيق، وكذا فيما بعده يدل على التحذير من الكفر المُخْرِجِ عن الملة، وليس فيه تَعرّضاً إلى كفر دون كفر، مع عدم الإشارة إلى هذا التوجيه في باب من أبوابه، فلا يصح عندي إدخال هذا التحقيق في شرح تراجمه.(1/171)
ولعل المصنف رحمه الله تعالى إنما ترجم بكفر دون كفر نظراً إلى خصوصِ ألفاظِ هذا الحديث، ولما كان في الحديث الفعل الواحد مضافاً إلى الله والعشير، صار الكفر مختلفاً، وبوب بكفر دون كفر، ولم يرد التأويلُ في مثل تلك الأحاديث، ومثله يفعلُ المصنف رحمه الله تعالى في أبوابه ويضع التراجم نظراً إلى خصوص الألفاظ أيضاً، والمصنف رحمه الله تعالى لعلو كعبه، ورفعة محله لا يزيد لأجلنا حرفاً، ويتكلم على قدر علمه فيُوجب تحيراً للمحققين واعتراضاً للقاصرين، ولم يؤد أحدٌ حقَ تراجمه إلى يومنا هذا، فهي كًّوحاجي بعد، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.
29 - قوله: (أُريت النار) وفي الحديث الآخر: «إن لكل رجل من أهل الجنة امرأتان» فدل على كثرتهن في الجنة، وقد عجز الحافظ عن جوابه. والجوابُ عندي: أن هاتين من الحور العين كما في البخاري عن أبي هريرة: لكل امرىء زوجتان من الحور العين، وأيضاً الأكثرية عند مشاهدته إذ ذاك، ولا تنسحب على مجموع الزمان، والوجه كثرة الغِيبة واللعن فيهن، وكن النِّساء إذ ذاك حديث عهد بالجاهلية، وكثرة الغِيبة واللعن فيهن أمرٌ معلوم، فرآهنَّ أكثر أهل النار، ولهذا لا يلزمُ من ذلك كثرتهن بعد ما أدبهن أدب الإسلام؛ فإنهن يكن أرق قلوباً يتأثرن بالسرعة، فكما كن في الجاهلية أكثر لعناً، صرن في الإسلام أبعد عنه، والله تعالى أعلم. والحافظ رحمه الله تعالى لما ذهل عن هذا اللفظ تحير في الجواب، ولم يأت بما يميز القِشر عن اللباب.
(1/172)
29 - قوله: (أُريت النار) وفي الحديث الآخر: «إن لكل رجل من أهل الجنة امرأتان» فدل على كثرتهن في الجنة، وقد عجز الحافظ عن جوابه. والجوابُ عندي: أن هاتين من الحور العين كما في البخاري عن أبي هريرة: لكل امرىء زوجتان من الحور العين، وأيضاً الأكثرية عند مشاهدته إذ ذاك، ولا تنسحب على مجموع الزمان، والوجه كثرة الغِيبة واللعن فيهن، وكن النِّساء إذ ذاك حديث عهد بالجاهلية، وكثرة الغِيبة واللعن فيهن أمرٌ معلوم، فرآهنَّ أكثر أهل النار، ولهذا لا يلزمُ من ذلك كثرتهن بعد ما أدبهن أدب الإسلام؛ فإنهن يكن أرق قلوباً يتأثرن بالسرعة، فكما كن في الجاهلية أكثر لعناً، صرن في الإسلام أبعد عنه، والله تعالى أعلم. والحافظ رحمه الله تعالى لما ذهل عن هذا اللفظ تحير في الجواب، ولم يأت بما يميز القِشر عن اللباب.
باب المَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ، وَلا يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلا بالشِّرْك
باب {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} (الحجرات: 9) فَسَمَّاهُمُ المُؤْمِنين
والمراد من المعاصي هي الكبائر، أما الصغائر فأمرها هينٌ برحمة الله، فإن الحسناتِ يذهبن السيئات. {ولا يكفر صاحبها} أي عند الجمهور فإنهم قالوا: إن مرتكب الكبيرة ليس بكافر ما دام يكون جازماً بالشهادتين، ومقراً بهما، خلافاً للمعتزلة، فإنهم قالوا: بالمنزلة بين المنزلتين.(1/173)
أقول: قوله: «ولا يكفر صاحبها» على تقدير تحقيقه «كفر دون كفر» مُشْكِل؛ فإن موجبه أن يجوزَ إطلاقُ الكفر ولا يتأخر عنه. والجواب عندي: على تقدير التسليم أن مراده الإيذانُ بعدم إكفار صاحب المعصية من جانبه، والاقتصارُ به على المواضع التي ورد بها الشرع. فأينما حكم القرآنُ والحديثُ على أمر بكونه كفراً جَاز لك إطلاق الكفرِ عليه على طريق: كفر دون كفر، وإلا فلا يُسوَّغُ لك إِطلاق الكفر عليه. وهذا كَحَذْر الشريعة عن اللّعْن، فلا يُسوَّغ لأحدٍ أن يلعن أحداً من عند نفسه.
ووجه الإشارة أنه جاء بلفظ المضارع، فمعناه لا يكفر في المستقبل. أما الإطلاقُ الذي مضى من جانب الشرع، فهو ماض، والمنع في المستقبل مخافةَ شيوعه في المحل وغير المحل. وعندي شرحٌ آخر أيضاً: وهو أنه لا يكفر صاحبها، لأن المبتادر من إطلاق الكفر، هو كفر الخلود، فيمنع عن إطلاقِهِ دفعاً لهذا التوهم. وله شرحٌ ثالث أيضاً: وهو يُبنى على ما أخرجه الهيثمي في «الزوائد» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه عدّ عِدَّة أشياء ثم قال: ويقال بتركه: به كفر، ولا يقال: إنه كافر، ونحوه رأيت عن علي رضي الله تعالى عنه، ولكن في إسناده راوٍ كذاب. وعن الدارمي أيضاً مثله حيث قال: يقال: به كفر، ولا يقال: إنه كافر.
قلت: إنه لا يُسمَّى كافراً لأن إطلاقَ اسم الفاعل على من صَدَرَ عنه الفعل مرةً ولم يتكرر، ليس بلطيف في العُرْف، وإن جاز عقلاً. نعم إذا تكرر وصار صفةً له لَطُف إطلاقه.h(1/174)
ولذا يقال: إن الفعلَ للواقعة، فمن ضرب مرة يقال: إنه ضرب ولا يقال: فلان ضارب، وفلان سارق وفلان زانٍ، إذا لم يتكرر منه ذلك الفعل. فإن قلت: إن القرآن لم يقل بن كفرٌ بل أطلقَ لفظ الكافر في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ} (المائدة: 44) قلت: هذا إطلاق على الطائفة لا على الشخص، وكلامنا في الشخص دون الطائفة، فإنه يجوز أن يقال: لعنةُ الله على الكاذبين، بخلاف لعنة الله عليك، وإن كان كاذباً.
ويمكن أن يكونَ المصنفُ رحمه الله تعالى أراد منه بيانَ المسألة فقط. بأنه لا يكفر العاصي، ولم يكن أراد شرحَ الأحاديث التي وَرَدَ فيها إطلاق الكفر على المعاصي، وتأويلها بكفر دون كفر. ويحتمل أن يكونَ أراد من قوله: كفر دون كفر، إفادة التشكيك فيه، وأراد من المعاصي غير ما أطلق عليه الكفر. والمقصودُ أن ما أطلق عليه الكفرُ في الشرع فقد اندرج في باب كِفر دون كفر. وأما المعاصي من غير هذا النوع فلا يُطلق عليه الكفر، ولا يكفر صاحبها لهذا النوع. ولذا أخرج تحت هذا الباب حديث: «إنك امرؤ فيك جاهلية»، ولم يُخرج نحو: «قتاله كفر». وأخرج في الباب الأول حديث: كُفران العشير، لمجيء إطلاق الكفر فيه. فيقال في أمثال تلك المعاصي: فيك جاهلية، ولا يقال: فيك كفر. ومن ارتكب القتل والعياذ بالله يقال له: به كفر، هذا كلُّه على ما شرحوا به.
وأما الغرضُ منه على ما قررتُ مرادَه، فالصدع بعدم إطلاق الكفر على المعصية، والتصريح بأنه لم يرد من الباب السابق أن الكفر عرض عريض ولو كان ذهبَ إليه لجوَّز ذلك الإطلاق، فكأنه احتراسٌ منه، وتصريح بعدم إطلاق الكفر من ارتكاب المعصية، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.(1/175)
قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء} وهذه الآية نصٌ لأهل السنة والجماعة. وتأوَّل فيها الزَّمخشري. والشرك أخصُّ من الكفر، لأنه الكفرُ مع عبادة الغير، فهو أغلظُ أنواعه. فإنكار الرسالة كفرٌ وليس بشركٍ. وإنما ذكرَ فيها الشركَ خاصة والله أعلم، لأن أكثرهم كانوا يشركون في العبادة فوردت الآية ناعية عليهم. وإنما المراد الكفر مطلقاً. ثم استشهد المصنف رحمه الله تعالى من آية أخرى وفيها أيضاً إطلاقُ المؤمن على العاصي، لأن الاقتتال معصية، غير أنه يُوجبُ أن يكونَ اقتتالهم المذكور في الآية كبيرةً، ليثبت إطلاق الكفر عليها، حتى يلزم صحة إطلاق المؤمن على من فيه كفر دون كفر.
قلت: إنما أراد المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب إطلاق المؤمن على من فيه جاهلية، ولا ريب في كون الاقتتال من أمور الجاهلية. وحينئذٍ لا حاجة إلى جعل هذا الاقتتال كبيرة.
30 - قوله: (وعليه حلة) وفيه مسامحة من الراوي، لأن الحُلة اسم للثوبين من جنس، ولم يكن عليه ثوبان من جنس، لما عند المصنف رحمه الله تعالى في «الأدب» بلفظ: «رأيت عليه بُرْداً» وعلى غلامه بُرْداً. فقلت: لو أخذتَ هذا فلبستَه كانت حُلة ولأبي داود: فقال القوم: يا أبا ذر لو أخذت الذي على غُلامك فجعلته مع الذي عليك لكانت حُلة. ثم أجابه أبو ذرٍ بحكاية القصة التي كانت سبباً لذلك. ولفظُ الحديث وإن اقتضى المواساة دون المساواة، لكنه حَمَلَه على المساواة تشديداً على نفسه. وههنا دقيقة أخرى سنذكرها إن شاء الله تعالى في موضع آخر.
30 - (سابيت رجلاً) والرجل هو عَمَّار بن ياسر رضي الله تعالى عنه كان يطعن فيه أن أمه سُمية أمة. والحق أنها لم تكن أمة، بل اتُّخذت أمةً بالقهر. وفي «الفتح» أنه بلال.(1/176)
واعلم أنه قال أرباب التصانيف: إن سبَّ الصحابة رضي الله عنهم فسقٌ. وقال بعضهم: إن سبَّ الشيخين كفر، والمحققُ أن سبَّ الصحابة رضي الله عنهم كلِّهم أو أكثرهم كفرٌ. وسبَّ صحابي واحد أو اثنين فسق، وسب أحدهما الآخر ليس بكفر، فإنه يكون لداعية، لا لمجردِ تبريدِ الغيظِ. بخلاف سبِّ من بعدهم إياهم، فإنه ليس بسبب صحيح، بل لمجرد تبريد الغيظ. قد فإنهم انقطعوا عن الدنيا، ولم يبق لهم معاملة مع الناس، فلا يقعُ مَنْ يقعُ فيهم إلا لأجل الغيظ منهم، ثم إنهم اختلفوا في إكفار الروافض، ولم يكفرهم ابن عابدين رضي الله عنه. وأكفرهم الشاه عبد العزيز رحمه الله تعالى، وقال: إن من لم يكفرهم لم يدر عقائدهم. ثم فصل في المسألة وبه أفتى، والله أعلم.
31 - قوله: (لأنصر هذا الرجل) وهو عليٌّ رضي الله عنه.
31 - قوله: (القاتل والمقتول في النار) ومع هذا أقول: يمكن أن يكون بينهما فرقاً من جهة مباشرة القتل من جانب، وعدم المباشرة من جانب آخر، وإن كانا في النار. وعَرْضُ هذا الحديثَ في واقعة علي رضي الله عنه، ومعاوية رضي الله عنه في غير محلهخ فإنَّ الحديث فيمن قاتل على الظلم والجَور. وأما عليٌ رضي الله عنه فكان على الحق، وأما معاوية رضي الله عنه فكان أيضاً على الحق عنده. ولذا كان أكثر الصحابة رضي الله عنهم مع علي رضي الله عنه، ولا أعلمُ أحداً من الأنصار تخلّف عنه. غير أن المهاجرين اختلفوا، فتردد بعضهم، وسكت بعضهم، كابن عمر رضي الله عنه، ودخل بعضهم مع معاوية رضي الله عنه.(1/177)
ثم إن العقلَ يكادُ يعجز عن إدراك مما كان في صدورهم من تقوى الله، حيث كان علي رضي الله عنه يقول في ابن عمر رضي الله عنه: لله دره، وكان ابن عمر رضي الله عنه حين وفاته يبكي على تأخرِه عنه، لما تبين له الحق، ولا ينقل عنهما أن يكونَ أحدهُما طعن على الآخر. ولو كان الأمر كما هو الآن لصارا عدوين يغتابُ أحدهما الآخر ويقع فيه والعياذ بالله ثم هذا لا يناقض قوله «السيف محاء للذنوب» وهو أيضاً حديث قوي. لأن موردَه فيما لم يُرِدْ المقتولُ قتلَ صاحبه، بخلاف هذا الحديث. وإذا صح أن السيفَ محاءٌ، أي يمحو الذنوب، ظهر شرح آخر لقوله تعالى: {إني أريدُ أنْ تبوأ بإثمي وإثمكَ فتكونَ من أصحابِ النار} (المائدة: 29) وهو أن المراد من قوله: «أن تبوء بإثمي» مَحْوُه عنه من أجل سيفه.
وحاصله: إني أرضى أن تكون من أصحاب النار بإثمك، وينمحي إثمي من سيفك، لأن السيف محاء. فكأنه إذاً انمحى عنه إثمه من سيفه، ومن فعله، فكأنه باء به ورجع بإثمه، وذهب به معه. لا بمعنى أنه طُرِحَ عليه ليخالف قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) فالقاتلُ حملَ وزرَ نفسِه، ولكنه محى عن المقتول ذنوبَه أيضاً، فكأنه ذهب بذنوبه معه، وإن لم يحملها على نفسه.
والحاصل: أن قوله تعالى: {أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ} إنما هو بطريق محو الإثم عن المقتول، لا بحملِهِ على نفسه. وإنما ذكر هكذا في التعبير تهويلاً، والمراد ما قلنا، والقرينة عليه ما بينا أعني حديث المحو. وقد مر بعض الكلام في حديث هِرَقْل تحت قوله: «وعليك إثم اليريسين»، وقد شرحت هناك أن المراد منه: إثم إهلاك اليريسين عليك، أما إثم كفرِهم فعليهم.
باب ظُلمٌ دُونَ ظُلم(1/178)
والكلام فيه كالكلام في الترجمة السابقة، أي كفرٌ دون كفر. فقال الشارحون: معناه إن في الظلم أيضاً مراتب كالكفر، فدون عندهم بمعنى أقرب. وأقول: معناه إن ظلماً مغايرٌ لظلم، فدون عندي بمعنى «غير». وهذا حديث مرفوع في الخارج. ومن عادة المصنف رحمه الله تعالى أنَّ الحديثَ إذا لم يكنْ على شرطه ويكون مثبتاً لمقصودِهِ يضعه في الترجمة.
قوله: (فأنزل الله: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13)) ظاهر هذه الرواية أن نزولها على السؤال المذكور ههنا. وفي رواية أخرى في جواب قولهم: «أيّنا لم يَظْلِم» ألا تسمعون إلى قول لقمان: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. وظاهره أن تلك الآية قد كانت نزلت من قبل، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يعلمونها. قال الحافظ رحمه الله تعالى في جوابه: إن الآية نزلت في هذه القصة ثم استشهدَ بها النبي صلى الله عليه وسلّمأيضاً وبه تلتئم الروايتان. ثم إنهم اختلفوا في محصَّل السؤال والجواب: فقال الخطَّابي رحمه الله تعالى: كان الشركُ عند الصحابة أكبرَ من أن يلقَّبَ بالظلم، فحملوا الظلمَ على ما عداه من المعاصي. ولذا قالوا: أَيُّنا لم يَظْلم، وبيَّن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه عامٌّ للكفر وغيره من المعاصي، وإن كان المرادُ منه ههنا كُفْرَ الخلود فقط.
وقال الحافظ رحمه الله تعالى: بل إنهم حملوا الظلم على الأعم من الشرك، فما دونه، وخصصه النبي صلى الله عليه وسلّمبالشرك. فحاصلُ جواب النبي صلى الله عليه وسلّمعلى شرح الخطَّابي تعميمُ الظلم على كُفْر الخلود وغيره، وعلى شرح الحافظ تخصيصهُ به، أي أنكم زعمتم أنه عامٌّ للكفر والمعاصي مع أنه خاص بالظلم الذي ليس بعده ظلم.(1/179)
أقول: ومنشأ شرح الحافظ رحمه الله تعالى ترجمة المصنف رحمه الله تعالى، فإنه عمم الظلْمَ، وجعله ظلماً دون ظلم، ليمكن إطلاقه على الكفر والمعاصي سواءٌ بسواء، وتقام فيه المراتب. فحمل الحافظ رحمه الله الحديث أيضاً على العموم، ليكون ألصق بالترجمة. وعندي ما اختاره الخطَّابي رحمه الله تعالى أظهر، لأنه يُبنى على حمل كلامهم على ما هو المعروفُ بينهم، بخلاف شرح الحافظ رحمه الله تعالى، وذلك لأن المعروفَ في معنى الشرك والكفر عندهم، كان هو لفظَ الكفر والشرك، بخلاف الظلم، فإنه لم يكن عندهم معروفاً في الشرك والكفر، بل في سائر المعاصي. فعلى هذا حَمْلُ الظلم على ما وراء الكفر حَمْلٌ على ما كان المعروف المتعارف عندهم. ويلزم على شرح الحافظ حملُهُ على غير المتعارف عندهم، فإن الظلمَ لم يكن عندهم معروفاً في الكفر، فهو حَمْلٌ على غير المتعارف.
أما مناسبتُهُ للترجمةِ، فبأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما فَهِمُوا من الظلم غيرَ الشرك، وأطلق النبي صلى الله عليه وسلّمالظلمَ على الشرك أيضاً، ثبت إطلاق الظلم على كفر الخلود وغيره، وثبت منه ترجمة ظلم دون ظلم على هذا التقدير أيضاً. فإن قلتَ: إذا كان الظلمُ مشهوراً عندهم فيما وراء الكفر، والمشهورُ في الشرك والكفر كان لفظاً هما دون الظلم، فمن أين أراد النبي صلى الله عليه وسلّممنه الشرك؟ قلت: إذا كان الله هو المتكلمَ، والرسولُ هو الشارع، فلا سؤال، ولا جواب. وقال قائل: إنه أخذ التنوين للتعظيم، والظلمُ العظيم هو الشِّرك، قال تعالى: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. وقال آخر: إن اللبس يقتضي اتحاد المحل، فإن الشيءَ لا يختلطُ مع شيء آخر عند تغايرِ المحل. ولما كان محلُ الإيمان هو القلب، فلا يختلطُ معه غير الكفر، لأن ما وراءَه من الأفعال محلها الجوارح دون القلب، فلا لبس معها.(1/180)
وحينئذٍ لو كان المرادُ من الظلم غيرَ الكفر من المعاصي، لما صح قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَنَهُمْ} (الأنعام: 82). فإن قلت: إن الإيمانَ والكفرَ ضدان، فكيف يتحد محلهما، فلا يحصل اللبس. وأجاب عنه شيخنا الشيخ محمود حسن رحمه الله: أن الكفرَ وإن لم يختلط مع الإيمان حقيقة، إلا أنه يمكن أن يلتبسَ معه في القلب، والالتباس غير الاختلاط، لأن في الاختلاط يكونُ الجمعُ حقيقة، وفي الالتباس لا يكونُ الجمعُ حقيقة، بل توهم الجمع شهبة. ثم رأيت في كلام السُّبْكِي: أن تفسير النبي صلى الله عليه وسلّمبالشرك مأخوذ من قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُواْ} كما مرَّ عن شيخنا.
وعندي يمكن أن تكون هذه الترجمة مأخوذةً من مجموع قوله تعالى: {ظُلُمَتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} (النور: 40)، والحديث النبوي: «الظلم ظلمات يوم القيامة»، حيث جعلَ الظلمَ في الدنيا ظلمات يوم القيامة، والظلمات تفوق بعضها على بعض، فثبت ظلمٌ دون ظلم. فالمصنف رحمه الله لعله نظر إلى هذه وترجم بظلم دون ظلم، أما الاختلاط واللَّبس، فإنه وإن احتاج إلى اتحادِ المحل، لكنه يكفي له اتحاد الشخص أيضاً. وعلى هذا يصح اختلاط الإِيمان مع المعاصي، مع كونها على الجوارح، والإيمان في القلب. فإن محلَّهما هو ذلك الرجل بعينه، وهو واحد، وإيجادُ تغاير المحل في الشخص الواحد بأنه القلب للإيمان والجوارح، للمعاصي، نظر منطقي، وهو بمعزلٍ عن نظرِ أهل العُرف.(1/181)
ثم اعلم أنه يُعلم من سياق البخاري: «أن قوله: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} نزل بعد قوله: {الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَنَهُمْ بِظُلْمٍ}... إلخ، مع أن الأمر على العكس. والجواب: أنه أراد بتلاوته دفعَ الاستبعاد، وتفريجَ همهم، وعبَّره الراوي بالنزول كما تلا أبو بكر رضي الله تعالى عنه قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ}... إلخ (آل عمران: 144) في خطبة بعد وفاته صلى الله عليه وسلّمتسلياً لهم ودفعاً لاستبعادهم، فقال قائل منهم: كأنها نزلت الآن، وانكشف عنهم ما رابهم، فهذا توسّع في البيان لا غيرُ.
باب عَلامَةِ المُنَافِق
لما قدَّم تفاوت المراتب في الكفر عَقِّبَه، بكون النفاق أيضاً كذلك. ولا إشكال فيه على تحقيق الحافظ ابن تيمية رحمه الله، فإنه يمكن أن توجدَ في المؤمن خصائلُ النفاق، بل خصائل الكفر. نعم يشكلُ على الجمهور، فإن هذه الأشياء إذا كانت علامات على النفاق أوجب وجودها سلب اسم الإيمان عمن تحققت فيهم. فأجاب عنه بعضهم بأنها كانت علامات للمنافقين في عهده صلى الله عليه وسلّمخاصّة.
وأقول: العلامة غير العلة، فهذه علامات وأمارات للنفاق، وهي تتقدم على وجود الشيء، فيكون النفاقُ سابقاً عليها، وتلك علامات عليه. فمن تحققت فيه هذه، لا يحكم عليه بالنفاق، لأن تحققَ العلامة لا يستلزمُ تحقق المعلَّم عليه، بل يقال: فيه خَصلةٌ من النفاق. ولأن قيامَ المبدأ لا يوجبُ إطلاقَ المشتقِ عند الأدباء، ما لم يعتاد به حتى يصير له كالعَلَم كما مر.(1/182)
وبعضهم قَسم النفاق: إلى عملي واعتقادي كما فعله البيضاوي في «شرح مصابيح السنة». قلتُ: دعه، فإن النفاق أمرٌ واحدٌ، وهو العمل بخلافِ الاعتقاد، أو الاعتقادُ بخلاف العمل. أما الأول فكالمنافقين في زمنه صلى الله عليه وسلّم، فإنهم كانوا يعملون أعمال المسلمين، مع أن باطنَهم كان مملوأً ظلمةً وكفراً. وأما الثاني فكما ترى اليوم كثيراً من المسلمين، والمعصومُ مَنْ عَصَمَهُ الله.
33 - ثم إن قوله: (إذا حدث كذب) يتحقق فيما قال، أو فعل شيئاً في الماضي، فحكى عنه بخلافه.
33 - وقوله: (إذا وعد أخلف) يكون في المستقبل. وفيه أن الإخلافَ نوعٌ آخر غيرُ الكذبِ، وإن كان أهل العرف يعدُّونهما واحداً، وإنما كانت هذه علامة على النفاق، لأن الظاهرَ من حالِ المؤمن أن يخبرَ عن الواقع كما هو في نفس الأمر، وهكذا الأليقُ بحاله أن يوفِّى بما وعد، ويظهرَ الحق عند الخصومة، لكنه خالف الظاهر، فإذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر ولم يظهر الحق، فكان كذي الوجهين باطُنه غير ظاهره، فصلحت تلك الصفات، لكونها علائمَ على النفاق.
والفرق بين الوعد والعهد: أن الوعد يكون من طرف، والعهد من طرفين، وفي خلف الوعد عندنا، قولان: الأول: أنه مكروهٌ كراهةً تحريم، والثاني: كراهة تنزيه. هكذا نقله النووي رحمه الله تعالى. قلت: بل الأمر عندي أن يُقسَّم على الأحوال: فإن أرادَ الإِخلافَ عند الوَعْد كُرِه تحريماً، وإن أراد الإنجاز ثُم مَنَعه مانعٌ لا يكون مكروهاً. والعهد يقابله الغدر. والفجور معناه أن لا يتمالَكَ نفسَه عند الخصومة، وينزل إلى السِّباب يعني ابني آبى مين نه رهى أوكالى كلوج براتر آوى.
33 - قوله: (حتى يدعها) وإنما زادها لأنه إذا تركَ هذه الخصائل، حتى خرج عنها وخرجت عنه، لا يبقى عليه حكمُ النفاق، كما في تمثيل إيمان الزاني، أنه يصيرُ كالظُّلة حين يزني، فإذا فرغ منه رجع إليه.
تنبيه(1/183)
34 - قوله: (من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق) يدل صراحةً على تحقيق الحافظ ابن تيمية من أنه يوجد في المسلم أشياء الكفر.
باب قِيَامُ لَيلَةِ القَدْرِ مِنَ الإِيمَان
واعلم أني متردد في معنى القيام: أنه مأخوذٌ من القيام في الصلاة، أو أنه مقابلٌ للنوم فقط. وعلى الأول معنى قوله: {من يقم} أي من يصلي ليلة القدر فله كذا، وإِن كان مأخوذاً من الثاني فمعناه: من أحيا ليلة القدر فقط، سواء كان بالصلاة أو الأذكار، أو لم ينم، فله كذا كلفظ الوقوف في عرفات، فإنه لا يشترط فيها القيام وإن كان مستحباً. وكذا أتردد في قوله تعالى: {قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} (المزمل: 2) إن المأمور به هو القيام للصلاة، أو إحياء الليل، واختار المفسرون أنه القيام إلى الصلاة، فإن كان الأمرُ كما قال المفسرون، فالمقصود من الأمرِ بالقيام هو الصلاة، ويكون المقصود منه القراءة كما يستفاد من قوله: {وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً} (المزمل: 4) وإن كان المراد به مطلق القيام، فالمقصودُ هو القرآن، سواء كان في ضمن الصلاة أو غيرها، ومن ههنا أترددُ في النَّسخ أيضاً، أنه في القيام فقط، والقرآن باق إلى الآن، أو في تطويلِهِ مع بقاءِ نفس القيام، والمقصود هو قراءة القرآن في ضمن الصلاة.
فائدةٌ مهِمَّةٌ في معنى الاحْتِسَاب(1/184)
قوله: (إيماناً واحتساباً) واعلم أن الاحتساب كثيراً ما يُستعمل في الأحاديث. فاعلم أن اشتراطَ الإيمانِ ظاهرٌ، فإنه لا عبرة بالعبادات بدون الإيمان. أما الاحتساب فهو مرتبة علم العلم واستحضار النية، وعدم الذهولِ عنها واستشعار القلب بها. فإنا وجدناه بعد التتبع مذكوراً في مواضع، أما في مواضع الذهول، إذا يذهل عنها ذاهل، فيوجه الشارع هناك إلى الاحتساب كما في المصائب السماوية، فإنه لا أحدَ يرجو فيها الثواب، لعدم دخله واختياره فيها، فهذا محل التنبيه ليحصل له الأجر، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلّملمن مات ولدها: «فلتصبر ولتحتسب» فإن الموتَ أمرٌ سماوي مضى عليها كما يمضي على سائر الناس، وربما يمكن أن أَن يتوجَّه الذهنُ فيه إلى أجر، فكان موضع ذُهول.
فنبَّه على أنه وإن كان أمراً سماوياً، إلا أنه توفرَّ لها الأجرُ إن تصبر وتحتسب، أو في مواضع المشقة، والمجاهدة، كقيام الليل فيذهل فيه عن النية أيضاً من جهة أخرى، لأن ما فيه مِن حَمْل المشاق وإتعاب النفس، ومقاساة الأحزان، يعدُّه المرء طاعةً بنفسه، ولا يرى فيه جهة غير تلك الجهة على نقائض المصائب السماوية، فإنه لا يرى فيها جهةَ الطاعة. فوجه الشارع ههنا أيضاً إلى توفير النية ليزداد أجراً، أو في موضع يعدّه الرجل خفيفاً غير موجب لأجر، كما في الإنفاق على الأهل والمجيء من البُعْد للصلاة، فإن الأولَ واجبٌ عليه طبعاً وعرفاً، والثاني وسيلة. فالمرادُ منه توفير النيةِ، واستحضارُهَا، وإشعارُ القلب بها في تلك المواضع، فهو مرتبة عِلمِ العلم، دون العلم، وقد مر معنا أنه لا حاجةَ لإحراز مطلق الأجر إلى نية زائدة على ما تكون في الأَفعال الاختيارية، بل تكفي منها ما يكون قُبيل الأفعال الاختيارية.
(1/185)
نعم، لا بد من انتفاء النية الفاسدة، وبعده لا تجب عليه نية أخرى لتحصيل الثواب، وهذا الشرح أخذته من حديث «مسند أحمد»: «من هَمّ بحسنة كتب له عشر حسنات إذا أشعر به قلبه وحرص... الخ». فهذا هو الاحتساب عندي أي إشعار القلب، وهو أمر زائدٌ على نفس النية، فالنيةُ وإن كانت كافية لإحراز الأجر إلا أن في الاحتساب معنى ليس فيها.
باب الجِهَادُ مِنَ الإِيمَان
باب تَطَوُّعُ قِيَامِ رَمَضَانَ مِنَ الإِيمَان
باب صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَاباً مِنَ الإِيمَان
36 - قوله: (إيمان بي وتصديق)... إلخ. وهذا تنوينٌ في المُسند إليه، فلا تخلو عن فائدة، وإنما الخلاف في تنوين المسند، كما مر فتفيد التبعيض، وتدل على أن إيماناً دون إيمان (وتصديق برسوله) إن كان بأو العاطفة، فالغرض أنه لا فرق بين الإيمان والتصديق ههنا، إلا باعتبار المتعلق، وهو الله في الإيمان، والرسول في التصديق، بخلاف ما إذا كان بالواو العاطفة، قال الشيخ الأشعري: إن التصديق كلام نفسي، وهو قوي أيضاً. لأن الشريعة جعلت غايةَ القتال قول: لا إله إلا الله، فقال صلى الله عليه وسلّم «أمرتُ أن أقاتلَ الناسِ حتى يقولوا: لا إله إلا الله»، فجعل قولَ تلك الكلمة إيماناً، ومبدأ القول هو الكلام النفسي، والمرادُ منه قول النفس، فإذا قال النفس بتلك الكلمة تبعه اللسان، وأقر بها. وقد مر تفصيله من قبل.(1/186)
36 - (من أجر أو غنيمة) قيل: إن «أو» لا يناسب ههنا. فإنها للترديد بين الأمرين، ولا ترديد ههنا، فإن المجاهد لا يخلو عن الأجر بحال. قال القرطبي: إن الكلام في الأصل كان هكذا من أجر فقط، أو أجر وغنيمة، وكان فيه تكرار، فحذفَ الأجرُ من المعطوف، فصار من أجر أو غنيمة، والاختصار في مثل هذه الواضع شائع. لأن حصولَ الأجر معلومٌ، ومفروغ عنه، فصار ذكره حشواً، فحذفه اعتماداً على فَهْم السامع. ونظيره ما قرره الطحاوي رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلّم «إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف عن قومك»، فإن التقابل في الظاهر غير مستقيم، وسيجيء الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى.
أقول: والذي ظهر لي أنه يكفي لاستعمال «أو» العاطفة تغاير الحقيقتين فقط، وإن اجتمعا في الخارج، فلا يُشترط فيها المنافاة بحسبِ الخارج. وعلى هذا فاستعمال «أو» بين التابع والمتبوع لإفادة أن هذا أمرٌ وهذا أمرٌ آخر، كما في الحديث: «من أجر أو غنيمة»، فإن الغنيمة تابعة للأجر. ولما كان الأجرُ مغايراً للغنيمةِ صح استعمال «أو»، وهكذا قلت في قوله تعالى: {أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَنِهَا خَيْرًا} (الأنعام: 158) استدل به الزمخشري على أن الإيمان بدون الأعمال غير منج، وقال: تقديرُ الآية هكذا: لا تنفعُ نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو آمنت ولم تكسب في إيمانها خيراً لتصح المعادلة. وهذا صريحٌ في أن الإيمان بدون كسب الخير غيرُ منج، وهو مذهب المعتزلة. وأجاب عنه ابن الحاجب في «أماليه» وأبو البقاء في «كلياته»، والشيخ ناصر الدين في «حاشية الكشاف»، وكذا الطيبي في «حاشية الكشاف»، وابن هشام في «المُغنى»، وكلامُ الطيبي أجودُ من الكل.
(1/187)
والذي عندي هو أن «أو» ليست لبيان التنافي بين المعادلين، بل جيء بها لإفادة أن الإيمان شيءٌ آخر والكسبَ شيءٌ آخر. وحاصل المعنى: نفي الكسبِ والإيمانِ جميعاً، أي لا تنفع إيمانُ نفس لم تكن آمنت ولم تكسب في إيمانها خيراً. فانتفاءُ النجاة ليست لانتفاء الكسب مع وجود الإيمان، بل لانتفاءِ الإيمان وكسب الأعمال جميعاً، ولا نزاع فيه. فإن سمحت به قريحتُك بقَبوله فاقبله، وإلا فشأنك، وسنقررها بأبسط منه فيما سيأتي، فانتظره.
باب الدِّينُ يُسْر
يريد: أن الإيمانَ بعد كونه كاملاً بجميع أجزائه ينقسم: إلى العسر، واليسر، ومع هذا هو إيمان، فصار كالكلي المتكرر بالنوع.
(الحنيفية) واعلم أن القرآنَ جعل اليهودية، والنصرانية، مقابِلاً للحنيفيّة، قال تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَرَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرهِيمَ حَنِيفًا} (البقرة: 135)، فالقرآن يذمُ اليهودية، والنصرانية، ويمدح الحنيفية، ولا يُدرى وجهه، فإنهما أيضاً من الأديان السماوية، نعم، لو كانت المَذَمَّة على المتبعِين لما كان فيه إشكالاً، إلا أنها على هذه الأديان. فالوجه عندي: أن اليهوديةَ والنصرانية في الأصل ألقابٌ لأَتباعِ التوراةِ والإنجيل، ولما حرَّفُوهما وبدلوا كلام الله من بعد ما عَقَلُوه، واشتروا به ثمناً قليلاً، وباؤا بغضب من الله، صارت اليهوديةُ والنصرانيةُ، ألقاباً لأتباعِ التوارةِ المحرفة، والإنجيل المحرَّف الذي في أيديهم، فذمه القرآن، وقابل بينهما وبين الحنيفيّة لهذا.(1/188)
والحنيفُ في الأصل لقبٌ لإبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام، وهو الأصل في هذه اللقب، وسائرُ الناس فيه تبعٌ له. لأنه كان مبعوثاً إلى الكفار، بخلاف موسى، وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام فإنهما كانا مبعوثَيْن إلى بني إسرائيل، وهم مسلمون نسباً فلم يُلقبَا به، وإن كان حنيفين قطعاً. قالوا: الحنيف: هو المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحقِّ سُمّي به إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام لميله عن الباطل إلى الحق. قلت: الحنيف هو الذاهب إلى الدين الحق بدون التفاتٍ منه إلى الجوانب والأطراف، وإليه أشار الشيخ فريد الدين العطار:(1/189)
*از يكى كو وزد وئى يكسوى باش ** يك دل ويك قبله ويك روى باش وقد أمرَ اللَّهُ جميع الناس بالحنيفية فقال: {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَآء} (البينة: 5) ثم رأيت في «الملل والنحل»: أن الحنيف مقابل للصابيء، ويعلم منه أن الحنيفَ هو المعترف بالنبوة، والصابىء هو المنكر بالنبوة، ومر عليه الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى في مواضع، ولم يكتب شيئاً شافياً، وقال: إن قوم نمروذ كان صابئياً، وكان فيهم الفلسفة، ومن هؤلاء تعلِّمه الفارابي، ثم مر على تلك الآية: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَرَى وَالصَّبِئِينَ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَعَمِلَ صَلِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) ولمّا لم يدرك حقيقةَ الصابئين غَلِطَ في تفسيرها، ففسر قوله: {مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ} إلخ بالصابئين الذين كانوا مؤمنين، وزعم أن اليهود والنصارى كما أنهم مؤمنين في زمنهم مع بقائهم على اليهودية، والنصارنية، كذلك الصابئون أيضاً كانوا مؤمنين في زمانهم، مع بقائهم على الصابئية، مع أنهم لم يؤمنوا قط، فإن فريقاً منهم كان يتدينُ بأول المبادىء على طريق الفلاسفة، وفرقة أخرى كانت تتعبدُ بالنجوم في هياكلهم، وأخرى كانت تنحت الأصنام وتعبدها، صرح به في «روح المعاني» والجَصَّاص في «أحكام القرآن».
(1/190)
وقد بحث العلماء عن شؤون الصائبة، وأحسنُ من بحث عنهم هو الإمام أبوبكر الجصاص، تكلم عنهم في ثلاثة مواضع من تفسيره: «أحكام القرآن» كلاماً جيداً شافياً محققاً، وكذا ابن النَّديم في «الفهرست»فليراجع، وظني: أنهم كانوا يعتقدون بمخترعاتِهِم، وتسويلاتِ شياطينهم، وكان عندهم من أشياءِ النبوة أيضاً، إلا أنهم لم يكونوا يتبعون نبياً خاصاً، وقال بعضهم: إن المراد من {ومن آمن با} من يؤمنُ في المستقبل، وإنما اضطروا إلى هذه التوجيهات، لأن في ظاهر الآية تكراراً في قوله: {مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ} لما مر ذكره في صدرِ الآية أيضاً. والوجه عندي: أن {مَنْ ءامَنَ} الثاني استئناف للكلام السابق، للفصل بينه وبين ما يترتب عليه، فإن قوله: {فلهم آجرهم عند ربهم} مرتبط مع قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ} فأعيد بالاستئناف ليظهرَ الترتب. ثم إني رأيت في كُتُبِ أهل الكتاب أن الحنيفَ عندهم لفظ المذمة، والكاهِنُ من ألفاظ المدح، حتى إنهم كانوا يستعملونه في الأنبياء أيضاً، وفي عرفنا بالعكس: الحنيف من أوصاف الأنبياء، والكاهن من أوصاف الكفار. قال صلى الله عليه وسلّم «من أتى كاهناً وصدقه فقد كفر» أو كما قال، والحاصل: أن المرادَ من الحنيفية الآن هو الملةُ الإبراهيمية، وسيجيء بعض الكلام في باب التيمم.
39 - (لن يشادَّ الدين)... إلخ أي من أراد أن يعملَ بالعزائم فقط ولا يترخصَّ بالرخصِ، يكون مغلوباً من الدين، ويَغْلِبُ عليه الدين آخراً ولا يستطيعُ أن يداومَ عليه، فليعمل بالعزائم والرخص.
39 - (فسددوا وقاربوا) من السداد بالفتح، وهو: القصد. وحاصله عندي: أن اقتصدوا في الأعمال واتركوا التعمق، وترجمته في الهندية (ميانه روى كرو اور بلنديروازى نكرو) فاغتنمه غنيمةً باردةً، فإنه سهلٌ ممتنعٌ، وإن كثيراً من الناس عن حقيقتِهِ لغافلون، فلا يدركونَ مراد هذين اللفظين.(1/191)
39 - (واستعينوا بالغدوة)... إلخ وكان مولانا قطب العالم الشيخ الجنجوهي رحمه الله تعالى يؤوله بالذكر في الغدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلجة، وإن ورد الحديث في الجهاد.
باب الصَّلاةُ مِنَ الإِيمَان
واعلم أن ههنا إشكالين: الأول: أنه لا خفاء في أن العمل بالمنسوخ قبل نزول الناسخ مقبولٌ، فما وجه إشكال الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيمن ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ والجواب: أنه كان أول نُسْخ في الإسلام، كما رُوِي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه فلم يكونوا يعلمون المسألة. والإشكال الثاني على ترجمة المصنف رحمه الله. وحاصله: أنه لم يكن للصحابة تردد في الصلوات التي صُليت إلى بيت الله، إنما كان الترددُ فيما صليت إلى بيت المقدس، وإذن لا معنى لتفسيره بِالصلاة عند البيت، فإنه لم يكن لهم إشكال في تلك الصلوات، مع أنه روى النسائي وغيره في الحديث المذكور فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَنَكُمْ}: صلاتَكم إلى بيت المقدس، وعلى هذا فقول المصنف رحمه الله تعالى: «عند البيت» مشكلٌ، مع أنه ثابتٌ في جميع النسخ.
قال بعض العلماء: إن المرادَ من البيت هو بيتُ المقدس، و «عند» بمعنى إلى، فصار الحاصل: يعني إلى بيت المقدس.(1/192)
قلتُ: والمعروف من البيتِ عند الإطلاقِ بيتُ الله، دون بيتِ المقدس. وأجاب عنه النووي: أن المراد منه الصلوات بمكة، وهو أيضاً كما ترى، فإن الترددَ والشبهة إنما كان في الصلوات التي صُليت بالمدينة سبعةَ عَشَرَ شهراً إلى بيت المقدس. وقال الحافظ رحمه الله: مقاصد البخاري في هذه الأمور دقيقة وبيان ذلك: أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان النبي صلى الله عليه وسلّميتوجه إليها للصلاة وهو بمكة، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره: كان يصلي إلى بيت المقدس، لكنه لم يكن يَسْتدِبر الكعبة، بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس. وأطلق آخرون: أنه كان يصلي إلى بيت المقدس. وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة، فلما تحول إلى المدينة استقبلَ بيت المقدس، وهذا ضعيف، يلزمُ منه دعوى النَّسخ مرتين، والأول أصح، وراجع التفصيل من «شرح المواهب» للزُرْقَاني.
وكأن البخاري أراد الإشارةَ إلى الجزم بالأصح، من أن صلاتهم عند البيت كانت إلى بيت المقدس، واقتصر على قوله: «عند البيت»، ولم يقلْ إلى بيت المقدس، اكتفاءً بالأولوية، لأن صلاتهم إلى غير جهة البيت، وهم عند البيت، إذا كانت لا تضيع، فأحرى أن لا تضيعَ إذا غابوا عنه، فتديرُ الكلامِ هكذا يعني: صلاتكم التي صليتُمُوها عند البيت إلى البيت المقدس. قلت: إن «عند» ههنا للزمان، والمراد منَ البيت هو بيت الله. والمعنى: أن صلاتَكم إلى بيت المقدس لم تضع عند كون البيت قبلة، وحينئذٍ «عند» زمانية لا مكانية.
بحثٌ أنيقٌ في استقابلِ الكعبة واستقبالِ بيت المقدس، وهل كانا قِبْلتين، أم كانت الكعبة قِبلة لجميع الملل،
وهل النسخ وقع مرة أو مرتين؟(1/193)
بقى الكلام في أن استقبالَ بيت المقدس كان من الاجتهاد، أم من الوحي، فحقق ابن القيم رحمه الله تعالى في «هداية الحيارى» أن مكةَ شرفها الله وبيتَ المقدس كانتا قبلتين من قبل، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام عيَّنهما، فالقبلتان إبراهيميتان. وذهب جماعة إلى أن بيت المقدس لم تكن قِبلة قط، وإنما كان بنو إسرائيل مأمورينَ باستقبال التابوت في صلواتهم، ولم تكن لهم جهة متعينة لصلواتهم، وإنما كانوا يستقبلون بيت المقدس من عند أنفسهم، لا أنها كانت قِبلة لهم، ووجهه أن سليمان عليه الصَّلاة والسَّلام لما بناه في زمانه، وضع التابوت في البيت، فجعلوا يستقبلونه لأجل التابوت، لا لكونها قِبلة، إلا أنه لما استمر بها العمل اشتهرِ أنها قِبلتهم.(1/194)
قلتُ: ولي فيه تردد. والأصلُ أن الذبيحَ اثنان: إسحاق عليه الصَّلاة والسلام وقرب به في بيت المقدس، فكانت قِبلة لبني إسرائيل، وقرب بإسماعيل عليه الصَّلاة والسلام في بيت الله، فجعلت قبلة لِبَنِيْهِ، وفي التوراة تصريحٌ بأن يعقوبَ عليه الصَّلاة والسَّلام كان غَرَزَ خَشَبةً في بيت المقدس، وكان أوصى لبنيه أن يجعلوها قِبلةً عندما تفتحُ عليهم الشام، وكان أصل التعيين من أبيه، وحينئذٍ تحصَّلَ أن القبلتين كانتا على تقسيم البلاد، فبيت الله كانت قبلةً لأهلها، لأنهم كانوا بني إسماعيل عليه الصَّلاة والسَّلام، وبيت المقدس لأهل المدينة وأمثالهم، لأنهم كانوا من يهود بني إسرائيل، فلما كان النبي صلى الله عليه وسلّمفي مكة توجه إلى البيت تبعاً لأهل بلدته، لأن قِبلتَه إذ ذاك كانت هي البيت، لكونه في بلدة قبلتها تلك البيت، فلما تحول إلى المدينة توجه إلى ما كان أهلُ تلك البلدةِ يتوجهون إليها، على ما مر أن تقسيم القِبلتين كان على تقسيم البلاد، لا أن بيتَ الله كانت قبلةً ثم صارت بيت المقدس، قِبلة، بل كلتاهما كانتا قبلتين على السوية، إلا أنهما كانتا على تقسيم البلاد، فلم تكن القبلتان في مكة والمدينة من اجتهاده صلى الله عليه وسلّم بل كانتا على الأصل، يعني من لدن إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام، ولكنه توجه النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفي الموضعين بحَسَب تقسيم البلاد، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلّميحب أن يوجَّه إلى البيت، لأنه كان من بني إسمعيل، فكان يحب قبلة أجداده.
(1/195)
وعلى هذا التقرير، لا حاجةَ إلى القول بتكرر النسخ كما علمت. ولك أن تقول: إن حاله في الاستقبال يُشبَّهُ بحاله ليلة المعراج، فكما أنه عُرج به من بيت المقدس، ولم يُعرج به من البيت ابتداءً، كذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلّمبالاستقبال إلى بيت المقدس أولاً، ثم إلى البيت ثانياً، فإن المقرَّ ونهاية السفر هو بيت الله، وحينئذٍ لا بِدْعَ في تكرر النسخ. وقد عدّ السيوطي رحمه الله تعالى عِدَّة أشياء تكرر فيه النسخ، على أن بيتَ الله كالديوان الخاص، وبيتَ المقدس كالديوان العام، لا يكون إلا لحاجة، والمقرُّ الأصليُ هو الديوان الخاص، فهذا النظر أيضاً يؤيد كون البيت قِبلة بمكة، ثم بيت المقدس بالمدينة لحاجة، ثم البيتُ قِبلة إلى الأبد.
واعلم أن إطلاق الإيمان على الصلاة ليس من باب إطلاق الكل على الجزء كما قال بعضهم، بل لأن صلواتهم إلى بيت المقدس في ستةَ عَشَر أو سبعةَ عشَرَ شهراً إن ضاعت كلها، فكأنه ضاع إيمانهم، وهذا وإن كان فيه إطلاق الإيمان على الصلاة أيضاً، إلا أنه ليس من الباب الذي فهم، بل هو راجعٌ إلى باب السِّراية دون الجزئية، وحينئذٍ يضعُف استدلال المصنف رحمه الله تعالى منه.
40 - (أول صلاة صلاها صلاة العصر) وفي السير أنها الظهر وجمع الحافظ رحمه الله تعالى بينهما بأن أول صلاةً صُليت إلى بيت الله هي صلاة الظهر، نزل النسخ فيها بعد الركعتين وكان النبي صلى الله عليه وسلّمإذ ذاك في مسجد ذي القِبْلتين، وأول صلاةً صلاها بتمامها إلى البيت هي صلاة العصر، وكانت في المسجد النبوي.(1/196)
وفي «وفاء الوفى بأخبار دور المصطفى» للسَّمْهُودي وهو تلميذ ابن حجر رحمه الله تعالى ما يدل على أنها نزلت في المسجد النبوي، دون مسجد ذي القبلتين، والحافظ ذَهَلَ عنه. ثم رأيت في تفسير الشيخ محمود الآلوسي رحمه الله تعالى عن حاشية السيوطي رحمه الله تعالى على البيضاوي: أنه كان يرذُ توجيه الحافظ، ويرجح رواية السِّير على «صحيح البخاري»، والسيوطي رحمه الله تعالى وإن لم يكن مثل الحافظ، لكن رأيت الآلوسي رحمه الله تعالى أيضاً اختار ترجيح رواية السير، فترددت فيه بعده أيضاً.
قال العيني: إن هؤلاء أهل مسجد القِبْلتين، ومرّ عليهم المار في صلاة العصر، وأما أهل قُباء، فأتاهم آتٍ في صلاة الصبح.
40 - (وأهل الكتاب) قيل: إن كان المرادُ منهم اليهود فقد مر ذكرهم، وإن كان النصارى فليست قِبلتهم بيت المقدس، بل هي بيت لحم، جانب الشرق من بيت المقدس، وهو مولد عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام، فكان الأمران عندهم سواء، فَلِمَ سخطوا على التحويل عنها؟ والجواب: أن المراد منهم النصارى، ووجه إنكارهم أن النبي صلى الله عليه وسلّمإذا كان يستقبلُ بيتَ المقدس وهو بالمدينة، كان يقع استقباله إلى بيت لحم أيضاً، فإنهما في سَمتٍ واحد من المدينة، فلما ولَّى عنها لزمَ التحولُ عن قبلتهم أيضاً، فأنكروا لهذا. أو يقال: إنهم أيضاً كانوا يسمون بيت المقدس قِبلةً، فإنهم كانوا يدعون بتعبد الديانة الموسوية، والقبلة فيها بيتُ المقدس. والله تعالى أعلم.
40 - (قال زهير) قال الكَرْماني: إنه تعليق. قلت: والصواب ما قاله الحافظ رحمه الله تعالى: إن المصنف رحمه الله تعالى ساقه في التفسير مع جملة الحديث عن أبي نعيم عن زهير.(1/197)
40 - (فمر على أهل مسجد)40 - (اقتلوا) قال الحافظ رحمه الله تعالى: لم أجد روايةً سوى رواية زهير تدل على قتلِ رجلٍ قبل التحويل، لعدم وقوع غزوة في تلك المدة. أقول: إن نفي القتل مطلقاً مشكل، ويمكن أن يراد به القَتْلُ بمكة لا المدينة كما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى آخراً.
40 - (فلم ندر ما نقول) المشهور أن الشبهة كانت في صلواتهم. ويحتملُ عندي أن تكونَ الشبهةُ في دفن الموتى، فإنها دُفنت قبل القِبلة، وأثرُهَا باقي بعد التحول أيضاً، بخلاف الصلاة، ولذا خصَّها الراوي بالذكر. وعلى الوجه المشهورِ لا يظهرُ بتخصيص الموتى معنى، فإن الأحياء والأموات كلهم مشتركون في إضاعة الصلوات لو ضاعت وقد مر إن وجه الإشكال فيه كونه أول نَسْخ كما رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه. قلت: فيه نظر إلا أن يكون أولاً باعتبار الشُّهرة، فإنه أولُ نسخٍ اشتُهر، لنزاعِ أهل الكتابين فيه.
باب ُ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْء
قسم الإسلام إلى الحُسن وغيره بعد تقسيمه إلى العسر، واليسر، والحُسن أيضاً من الإيمان، كما أن حُسنَ الوجهِ من الوجه. واعلم أن ههنا إشكالاً: وهو أن المصنفَ رحمه الله تعالى تركَ قِطعة من الحديث وأخرجها النووي رحمه الله تعالى في «شرح مسلم» وقال: ذكره الدارقطني في غريب حديث مالك، ورواه عنه من تسع طُرُق، وثبت فيها كلَّها أن الكافرَ إذا حَسُنَ إسلامهُ يُكتب في الإسلام كل حُسَنَة عملها في الشرك. انتهى.
وهذه القطعة ليست في البخاري فقال قائل: إن المصنفَ رحمه الله تعالى حَذَفَها لإشكالها، لأنها تدلُ على أن حسناتِ الكافر أيضاً معتبرة.(1/198)
قلت: وهو كما ترى، والوجه عندي: أن تلك القِطعة الواردة في حديث أبي سعيد الخُدري رضي الله تعالى عنه ليست في أحدٍ من الروايات التي رُويت في هذا الباب، أي في معنى هدم معاصي الكفر بعد الإسلام، وإن كانت ثابتة في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، فحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «الإسلامُ يهدمُ ما كان قَبْله» وإن كان مغايراً لحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه بحسَب ضابطة المحدثين، إلا أنه لاتحادِ المعنى يمكنُ أن يكونَ واحداً عند المصنف رحمه الله تعالى.g
ولما لم ترد تلك القطعة في أحد من تلك الروايات سوى حديثِ أبي سعيد رضي الله تعالى عنه فيما أعلم تردد فيها وتَركها والله أعلم.
بقي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قلنا يا رسول الله أنؤاخذُ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال: «من أحسنَ في الإسلام لم يؤاخذْ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أُخِذَ بالأولِ والآخر». فقال النووي رحمه الله تعالى في «شرحه»: إن المراد بالإحسان الدخولُ في الإسلام ظاهراً وباطناً، ومن الإساءة عدم الدخول في الإسلام بقلبه، وكونه منقاداً في الظاهر مُظهِراً للشهادتين غير معتقدٍ للإسلام بقلبه، فهذا منافق باقٍ على كفرِهِ بإجماع المسلمين، فيؤاخُذُ بما عمل في الجاهلية، قبل إظهار صورة الإسلام، وبما عمل بعد إظهارِهَا، لأنه مستمرٌ على كفره. انتهى.
قلت: والمراد من إحسانِ الإسلامِ عندي أن يُسلم قلبُهُ، ويتضمن إسلامهُ التوبة عما فعل في الكفر، فلم يعد بعد الإسلام إليها، فهذا الذي غُفر له ذنبه. ومن إساءة الإسلام أن يُسلم ولم يتضمن إسلامُهُ التوبة عن معاصيه التي زلفها في الكفر، واستمر على ما كان، فهذا وإن صار مسلماً إلا أنه يُؤخذُ بالأول والآخر، وعلى هذا فحديث الهدم محمولٌ على ما تضمن إسلامُهُ التوبة، وحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه على ما لم يكن كذلك.
(1/199)
ثم ههنا حديث آخر عن حكيم بن حزام عند مسلم: أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّمأرأيتَ أموراً كنت أتحنثُ بها في الجاهلية هل لي فيها من شيء؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أسلمت على ما أسلفت من خير» وهذا يدل على اعتبار حسناتِ الكافر في كفره. وأوَّلَه الناسُ بتأويلات ذكرها النووي رحمه الله تعالى. وعندي لا تأويل فيه، بل هو على ظاهرِه، وليَ جزمٌ بأن طاعاتِ الكفار نافعة بتاً،كما مر في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه صراحةً من أن الكافرَ إذا حَسُنَ إسلامه يكتب له في الإسلام كلُ حسنة عملِها في الشرك.
إلا أن حسناتِ الكافر على نحوين منها كالحِلْم، وصلة الرَّحم، والإعتاق، والصدقة، فهذه كلُّها نافعةٌ له في الآخرة، وإن لم تكنُ منجية، فإن المنجيَ من النار هو الإيمان لا غير، إلا أنها تصير سبباً لتخفيف العذاب شيئاً، ولذا أجمعوا على أن الكافرَ العادل أخفُّ عذاباً من الكافر الظالم، وكذا عُلم من الشريعة تفاوت دركات العذاب، وليس هذا إلا لنفع الطاعات يسيراً.
بقيت العبادات، فلا تعتبرُ أصلاً، فما أول به النووي في «شرحه» قول الفقهاء، وقال: وأما قول الفقهاء: لا تصح من الكافر عبادة، ولو أسلم لم يُعتدّ بها، فمرادهم أنه لا يعتد له بها في أحكام الدنيا، وليس فيه تعرض لثواب الآخرة. انتهى. ليس بصواب عندي قطعاً، فإن عبادات الكفار ليست بمعتبرة في أحكام الدنيا ولا في أحكام الآخرة، ولذا لم تُذْكر في حديث حكيم بن حِزَام غير العتق وأمثاله، ولم تذكر فيها العبادات أصلاً.
فالحاصل: أن الطاعاتِ والقُرُباتِ، كلُّها نافعةٌ للكافر، أما العبادات فغيرُ معتبرةٍ أصلاً بلا تأويل والله أعلم بحقيقة الحال.
باب أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُه(1/200)
أي ينقسم الدين إلى الأحبِّ وغيره، كما انقسم إلى العسير، واليسير، والأحسن، وغيره. ثم ذلك أيضاً إيمان. قال العلماء: إن القليل الذي دِيْم عليه خيرٌ من الكثير الذي لم يداوَم عليه، كما في الحديث، ومثَّلَه الغزالي رحمه الله تعالى أن الماء إذا قَطَرَ على حجارةٍ قطرة قطرة، ولم يزل كذلك يقطرُ، فإنه يثقبُ فيه يوماً، بخلاف إذا صُبَّ صباً، فإنه لا يؤثر فيه بشيء.
(لا يمل) قيل: إن الملال لا يُنسب إلى الله تعالى، فالنفي فيه على سبيل المُشَاكلة، والمراد منه أن الله تعالى لا يتركَ الإثابة ما لم تتركوا العبادة. قلت: وشاكلتُه كاليد، والأصابع، والوجه، فما قُرر فيها يقرر فيه أيضاً. وسيجيء عليه الكلام في موضعه إن شاء الله تعالى ما يكفي ويشفي.
باب زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِه
وقد مر بعض الكلام عليه في باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال. ورُوي عن إمامنا الأعظم رحمه الله تعالى أن الإيمانَ يزيدُ ولا ينقص، وكأنه مأخوذٌ مما رُوي عند أبي داود في كتاب الفرائض عن معاذ بن جبل: «أنه ورث المسلم عن الكافر ولم يورثه من المسلم وقال: الإسلام يزيد ولا ينقص». قيل في شرحه: أي يعلو ولا يُعلى. وقد مر معناه: «أن رجلاً من اليهود» قيل: هو كعب الأحبار، وكذا وقع في بعض الروايات مُسمّى، وقوله يدل على حقية الإسلام عنده.
45 - (قال عمر رضي الله تعالى عنه): حاصلُ جوابِهِ القولُ بالموجَب، لأن نزولَ الآية في حَجَّةِ الوداع من يوم عرفة في عرفات لتاسع من ذي الحِجَّة.
باب الزَّكاةُ مِنَ الإِسْلام
واعلم أن قِصة هدا الرجل تُشبه بقصة ضِمام بن ثعلبة، فاختلفوا فيه أنهما واقعتان، أو واقعة واحدة، وأتى ضِمام في السنة الخامسة، فاعلمه.(1/201)
46 - (إلا أن تطوع) واستدلَ منه الشافعية على نفي وجوب الوتر، وليس بشيء. واستدل منه الحنفية أيضاً على أن النوافلَ تلزمُ بالشروع، وجعلوا الاستثناء متصلاً، أي فإنه يجب عليك. وجعله الحافظ رحمه الله تعالى منقطعاً. قلت: إن مالكاً رحمه الله أيضاً يوجب القضاء فيما أبطله بلا وجه. وأجمع الكلُّ في إيجاب القضاء بعد إفساد الحج. ونظر الحنفية في سائر العبادات كنظرهم في الحج.
وأحسنُ ما يُستدل به للمذهب ما اختاره صاحب «البدائع» وقال: إنه نذرٌ فعليٌ، فقسم النذرَ إلى قولي وفعلي، وجعل الشروعَ نذراً فعلياً، وهذا جيد جداً. أما الاستدلال بقوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَلَكُمْ} (محمد: 33) فليس بناهضٍ، لأن الآيةَ إنما سيقت لبطلان الثوابِ لا للبطلان الفقهي، كما يدل عليه السياق، فهي كقوله: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى} (البقرة: 264).
ثم أقول: إن الحديث خارجٌ عن موضع النِّزَاع، فإن الإيجاب المذكورَ فيه إنما هو الإيجابُ من جهة الوحي، ومسألة لزومِ النفل بالشروع إنما هو في إيجابِ العبد على نفسه شيئاً بِخَيْرَتِهِ وطوعه، فافهم ولا تعجل.
«وأبيه» وفيه حَلفٌ بغير الله. قال الشوكاني: وهو من فَلَتَات لسانِهِ صلى الله عليه وسلّم والعياذ بالله أن تجري على لسانه فَلْتة ما تكون فيه شوائب الشرك. مع أنه قد ثبت عنه في نحو أربعة أو خمسة مواضع، وقيل: إنه تصحيف «والله»، وقيل: إنه منسوخ وهو مهمل. وأحسنُ الأجوبة ما ذكره الجلبي في «حاشية المطول» على لفظ: «ولعمري»،
والشامي على «الدر المختار» في خطبته: أنه قَسَمٌ لغوي لا شرعي، والمقصودُ في الأول تزيينُ الكلام لا غير، والمطلوبُ من الثاني التأكيدُ مع تعظيم المحلوف به، والممنوعُ هو الثاني دون الأول، والمذكورُ هو الأول دون الثاني. ثم عندي أنه ينبغي الحجرُ عنه مطلقاً سداً للذرائع لئلا يتساهل فيه الناس.(1/202)
بقي أن هذا الرجل حلف على ترك السنن والمستحبات فكيف هو؟ قلت: أولاً في بيان المسألة: إن الأمرَ مع الوعيدِ على الترك يفيدُ الوجوبَ عند ابن الهمام رحمه الله تعالى وابن نجيم كليهما، والمواظبة الكلية بدون الوعيد على الترك يفيد الوجوب عند ابن الهمام رحمه الله تعالى، والسنة عند ابن نجيم، والفعل أحياناً مع الترك أحياناً يفيد السنية عندهما.
وههنا اختلاف آخر: وهو أن ترك السنة يوجبُ العتاب أو العقاب؟ فذهب الشيخ ابن الهمام إلى أن ترك السنة عِتابٌ، وابن نجيم إلى أنه يوجب العقاب. قلت: ولعل النزاع لفظي، لأن السنة التي يجبُ بتركها العقابُ عند ابن نجيم، داخلة في الواجب عند ابن الهمام رحمه الله تعالى، والإثم بترك الواجبِ متفقٌ عليه، فحينئذٍ فالإثم فيه عند ابن الهمام لكونه تركاً للواجب عنده، وإن كان عند صاحب البحر تركاً للسنة المؤكدة، فالإثم عند ابن نجيم يكون على تركِ الواجب، وترك السنة المؤكَّدةِ كليهما، غير أنَّ الإثمَ في الأول أزيدُ من الإثم في الثاني، وأنا مع ابن نجيم رحمه الله تعالى في تلك المسألة. هذا إذا كان الاختلاف المذكور من تفاريع الخلاف الأول، وإن كان الاختلاف فيه مبتدئاً فله وجه، ولا أدخلُ فيه، فإنه حكمٌ بالتأثيمِ على جميع الأمة.(1/203)
نعم، قال محمد رحمه الله تعالى في «موطئه»: ليس من الأمر الواجب الذي إن تَرَكَه تاركٌ أثم فخرجَ منه أن ترك السنة قد لا يوجبُ الإثم، كما أن التثليثَ سنةٌ وتركُهُ لا يوجب الإثم. قلت: وينبغي أن يُقيدَ بتركه أحياناً، أو بقدر ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلّملا مطلقاً. وهو الذي اختاره المحقق ابن أمير حاج تلميذ ابن الهمام رحمه الله تعالى وصرح بالإثم إذا اعتاد الترك. ثم إن عبارةَ محمد رحمه الله تعالى تدلُ على ثبوتِ مرتبة الواجب، فإنها تشعر بتقسيم الواجب عنده: إلى ما لا إثم بتركه، وإلى ما بتركه إثم، وليست تلك المرتبة عند الجمهور، وهي عند الشافعي رحمه الله تعالى في الحج فقط، وعندنا في جميع العبادات المقصودة، وتُوجد هذه المرتبة في «المبسوط» أيضاً. وليس له اسم في كتاب الطحاوي، وهو من المتقدمين، ولذا اعتنيتُ بلفظِ محمد رحمه الله تعالى هذا.
46 - (والله لا أزيد على هذا ولا أنقص) قيل في توجيهه: إنه محاروةٌ لتحفظ الأمور. وقيل معناه: لا أزيدُ عددَ الفرائض ولا أنقُص منها وهو مهمل. والأول ينتقض بما أخرجه البخاري في الصيام من طريق إسماعيل بن جعفر: والله لا أتطوع فإنه صريحٌ في نفي التطوع والقصْرِ على الفرائض، فسقط ما أجاب به المجيبون. والوجه عندي أن هذا الرجل جاء إلى صاحب الشريعةَ واسترخَص منه بلا وَاسطة، فرخَّصَ له الشارع خاصة، فيصير مستثنى من القواعد العامة، كما في الأضحية «ولا تجزىء عن أحد بعدك». وهذا أيضاً باب يعلمه أهل العرف، فلا أثر له على القانون العام، فمن أراد أن يترخصَ برخصتِهِ فليسترخَّص من الشارع، وإذ ليس فليس.
(1/204)
وأشار إليه الطِّيبي رحمه الله تعالى أيضاً إلا أنه لم يفصِحْ بمراده، وأراد الزرقانيُّ إعلالَ تلك الرواية من جهة إسماعيل بن جعفر. قلت: وهو غير مسموع، كيف وقد أخرجه البخاري. وعند أبي داود من باب المحافظة على الصلوات عن عبد الله بن فَضَالة عن أبيه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلّمفكان فيما علمني: وحافِظ على الصلوات الخمس، قال: قلت: إن هذه ساعات لي فيها أشغال، فمرني بأمرٍ جامع إذا أنا فعلتُهُ أجزأ عني فقال: «حافظ على العصرين» إلخ ومر عليه السيوطي رحمه الله تعالى وقال: ولعل هذا الرجل إنما فرضت عليه هاتان الصلاتان فقط، واستثناه النبي صلى الله عليه وسلّمعن الحكم العام.
قلت: بل التخصيص بهما لمزيد الاهتمام بهاتين الصلاتين، وقد ورد التأكيد بهما في حق جميع الأمة أيضاً، كما رواه أبو داود مرفوعاً «لا يلج النار رجلٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل أن تغرب». ورواه غيره: «من صلى البَرْدَين دخل الجنة» فليس في حديث فَضَالة غير ما في تلك الأحاديث، وحينئذٍ ليس هذا الرجل مخصوصاً من قاعدة كليةٍ كما زعمه السيوطي رحمه الله تعالى. وعندي عليه رواية أيضاً، وهنا إشكال آخر: وهو أنه كيف بشره بالفلاح على أداءِ الزكاة والصلوات الخمس فقط، مع أن في الإسلام أحكاماً غيرها. وجوابهُ أن في بعضِ طرقه: فأخبره بشرائع الإسلام.
باب اتِّبَاعُ الجَنَائِزِ مِنَ الإِيمَان
والمشيُ عندنا خلفَ الجنائز أولى لأنه للتعظيم. وعند الشافعي رحمه الله تعالى أمامها أولى لأنه للشفاعة، ولفظُ الاتباع بمادَّتِهِ أقربُ إلى نظر إمامنا رحمه الله تعالى.
47 - (واحتساباً) إنما جيء به لأن الناس لا يحتسبون فيه أجراً بل يحسَبونهُ من مراسم المودة، فهو موضعُ ذهولٍ عن النية، فنبَّه عليه الشارع لئلا يُذْهَل عنها ويُحرم عن توفير الثواب.(1/205)
47 - (حتى يُصلى عليها) قال العلامة القاسم في «فتاواه»: إن صلاةَ الجنازةِ في المسجد مكروهة تنزيهاً. وعند بعضهم مكروهة تحريماً. والعلامة القاسم تلميذ لابن الهمام كابن أمير حاج. وقال صدر الإسلام أبو اليَسَر: إنها إساءة، وهي رتبة بين التحريم والتنزيهة. وإنما اشتهرُ بأبي اليَسَر لكون تصانيفه أقرب إلى الفهم، ويسمى أخوه الكبير بفخر الإسلام أبو العسر، لكون تصانيفه على خلافه. وعند محمد رحمه الله تعالى: لا تجوز، لأن النبي صلى الله عليه وسلّمبنى له مكاناً منفصلاً إلى جنب المسجد ولو جازت فيه لما كان إلى بنائه حاجة ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلّمصلاة الجنازة في المسجد إلا مرةً أو مرتين، فلا تكون أصلاً وضَابطة، وخروج النبي صلى الله عليه وسلّممن المسجد للصلاة على النجاشي دليل على كراهيتها في المسجد، فإنه لم يكن هناك احتمالُ التلوث أيضاً، ومع ذلك لم يصل فيه. ولم يقف الحافظ ابن حجر رحمه الله على تعيينُ مصلى الجنائز، وذلك لأنه حج مرتين فلم يتفق له تحقيق الأمكنة، بخلاف تلميذِه السَّمهودي فإنه أقام بالمدينةُ مدةً مديدة وحققَ المواضع، فالعبرةُ لقولِ السمهودي في أمثال هذه المسائل.
باب خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لا يَشْعُر
وهذا التعبير مأخوذٌ من قوله تعالى: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَلُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} ( الحجرات: 2) واعلم أن هذه الترجمة لها تعلق وارتباط مما قبلها من التراجم: كفر دون كفر وباب المعاصي من أمر الجاهلية.(1/206)
وحاصلها عندي: التحذير من الجَرَاءة على المعاصي، وأنه ينبغي للمؤمن أن يخاف من سوء الخاتمة، ولا يغتر بكونه على صلاح الحال، فإن الكفر قد يطرأ في وسط العُمُر، وأخرى عند الموت، والعياذ بالله. وهذا كفر تكويناً لا تشريعاً، يعني أن الرجل ربما يرتكب المعاصي ولا يحكم عليه بالكفر لأجلها، لكنها قد تؤدي إلى سلب الإيمان عند الموت من جانب الله تكويناً، فحذَّر المصنف رحمه الله تعالى عن هذا النوع من الكفر، أو أراد به الرد على المرجئة خاصة القائلين: بأنه لا تضرُ مع الإيمان معصية، فرد عليهم: بأن المعاصي من شأنها إحباط العمل حتى تؤدي إلى سلب الإيمان أيضاً، كما كان رد قبلَها على المعتزلة في باب المعاصي من أمر الجاهلية.
ومن أقوى شبه المعتزلة: أن المعصيةَ دليلٌ لنقصان التصديق، فإن من أذعن بكون الحيةِ في هذا الحجر مثلاً، لا يُدْخِلُ يده فيها أبداً، فكذلك من صدَّق بأن الزنا موجبٌ للنار، ينبغي أن لا يأتي به. وإتيانُهُ دليلٌ على ضَعفٍ في تصديقه ونقصانٍ في اعتقاده.
قلت: كلا، بل الإنسان قد يقتحم المعاصي مع بقائه على التصديق واليقين، اعتماداً على أبواب المغفرة وتوثقاً برحمة الله تعالى. فإذا همّ بالسيئة تطلَّع قلبه في تلك الأبواب حتى يقعَ في المعصية. وهذا كالسارق يَسْرِقُ مع أنه مذعنٌ بأن السَّرِقة جَرِيْرة، وجزاؤه الحبسَ في الحكومة الحاضرة وما ذلك إلا لتطلعه في أبواب أُخر، فيزعم لعله لا يظفرُ به مثلاً، ولو ظفر به فلعله لا تثبت عليه جَرِيْرته، ولو ثبتت فلعله يُعفى عنه إلى غير ذلك من الاحتمالات. فكذلك فيما نحن فيه، يخوض الإنسان في المعاصي ويعتمد على رحمته تعالى، أو أنه يتوبُ قبل الموت وغير ذلك.(1/207)
وبالجملة قد يحدثُ بين الأسباب تزاحمٌ، فيميل القلبُ تارةً إلى هذا وأخرى إلى ذاك، على أن الناس خُلقوا على أصناف: فمنهم من تغلِبُ عليه القوة الشهوانية فيزداد في المعاصي ولا يحاشى، ومنهم من يكونُ على عكسِه فيزداد في الطاعات، ألا ترى أن كثيراً من الدُّعَّار واللصوص يفسدون في الأرض، ويعلمون كالشمس في نصف النهار أنهم يعُذَّبون بأصناف من العذاب، ثم لا يتوبونَ وذلك لِغلَبَةِ الشهوة والهوى فيهم.
وبالجملة الإقدام على المعاصي لا يوجب النقصان في التصديق الذي هو مدار النَّجاة.
ومن أقوى شبه المُرْجئة أن المؤمنَ العاصي لو دخل جهنم لزمَ دخولُ الإيمان فيها، وإذا لم يدخل الكفرُ في الجنة، فكيف دخل الإيمان في جهنم؟ والجواب: أن العاصي إذا دخل في النار يُنْزَعُ عنه إيمانه ويوضُع عند باب النار؛ كما يُنْزَعُ اليومَ ثياب المجرم عند باب السجن، ثم إذا خرج من سجنه يُعطى ثيابَه. كذلك المؤمن يُنْزَعُ عنه الإيمان عند إلقائه في النار، ثم يُعطى إيمانَه بعد تعذيبه على قدر ذنوبه وإخراجه من النار.
وقد علمت سابقاً أن المصنف رحمه الله تعالى تعرض في هذا الباب إلى التخويف المجرد، ولم يرض بأن يأولَ الأحاديث التي أطلق فيها لفظ الكفر على المعاصي: بأنه على طريق التخويف دون التحقيق. وقد مر من قبل بعض ما يتعلق به فراجعه.(1/208)
(كلهم يخاف النفاق) فمن أين جاز للمُرجئة أن يقعدوا مطمئنين بإيمانهم فعلى المؤمن أن يخافَ كل آن. أما اختلافهم في جواز القول: بأنا مؤمنٌ إن شاء الله تعالى، فلا يرجع بعد التحقيقِ إلى كثير طائل، فإن الترددَ في نفس إيمانه في الحالة الراهنة، غير جائز عند الكل، والاستثناءُ باعتبار الخاتمة جائز عن الكل، فمن مَنَعه فباعتبار الحالة الراهنة، ومن أجازه فبالنظر إلى الخاتمة فإنه لا يَعلمُ أحدٌ على ماذا يختمُ له، على الإيمان أو على الكفر؟ والعياذ بالله. قال صلى الله عليه وسلّم «والله لا أدري ما يفعل بي وأنا رسول الله ولا بكم». أو كما قال كما في الصحيح.
(ما منهم أحد يقول إيماني على إيمان جبريل وميكائيل) وفي هذا إشارة إلى أن المذكورين كانوا قائلين بتفاوت درجات المؤمنين في الإيمان. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في: «تذكرة الحفاظ» بإسناد صحيح: لا أقول: إيماني كإيمان جبريل. ونسب ابن عابدين الشامي إلى الإمام الأعظم رحمه الله تعالى عدم جواز الكاف والمثل كليهما في تلك العبارة. وفي «الدر المختار» عن أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى جواز الكاف دون المثل في رواية، وفي رواية أخرى الجواز مطلقاً. وجمعهما ابن عابدين أن جوازَ الكاف دون المثل لمن كان عالم العربية، وعدم جوازهما فيما لم يكن المخاطب صحيح الفهم، وجوازهما باعتبار نفسهما. وليراجع البحث من كتابه من باب الطلاق الصريح.
قلت: وفي «خلاصة الفتاوى» وجدت نقلاً عن محمد فقط، وعلى هذا لم تجىء في هذا الباب رواية عن الإمام رحمه الله تعالى وثبت النفي عن الصاحبين، وظاهره يدل على إثبات التفاوت في درجات المؤمنين بحسب الإيمان.
(1/209)
(وما يحذر من الإصرار)... إلخ فمن أصر على نفاقِ المعصية يُخشى عليه أن يُفضي إلى نفاق الكفر. وكأن المصنف رحمه الله تعالى أشار إلى ما عند الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مروفعاً: «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة». قال الحافظ: إسناده حسن. وهذا الخوفُ على الطالحين كما أن ما قبله كان في خوفِ الصالحين، فإنهم كانوا يخافون على أنفسهم النفاق، وهذا الخوف كان لصلاحِهم فلا يردُ أن إيمانَنَا أقوى منهم، لأنه لا يخطرُ ببالنا النفاق، وذلك لأنهم كانوا أخشى خلقِ الله بعد الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام. وطريق الخائف أن يخافَ على نفسه كل حين، بخلاف غيرهم من الناس فإن قلوبَهم خاليةٌ عن تلك الخشية، فلا تذوقُ من ذلك الخوف ذواقاً، ومن لم يذق لم يدر، بخلاف الطالحين فإنه يُخاف عليهم النفاق لسوء أعمالهم.
48 - (وقتاله كفر) قيل: مقابلته بالفسوق يقتضي أن يكونَ المرادُ من الكفر ههنا، الكفر المخرج عن الملة. والجواب: أنه أطلقَ الكفر على الفسوق تغليظاً، ولو قال: وقتاله فسوق، لساوى حال السِّباب، مع أن القتال أشدُ من السِّباب، فلإظهار هذه الشِّدة أطلقَ عليه الكفر.s
وهذا الذي يُعنونَ بقولهم: إنه محمولٌ على التغليظ.
والأصل: أن الحديث اتَّبع القرآن في ذلك، فإن الله تعالى أخبرَ عن جزاءِ القتل بالخلود - بأي معنى كان - والخلود جَزَاء الكفر، فاتبَّعه الحديث وقال: قتال المسلم كفر. وإن لم يحكم به الفقهاء في الدنيا، إلا أن الحديثَ يختارُ من التعبيرات ما هو أدعى للعمل فيشددُ فيه لا محالة.(1/210)
وقال الدَّوَّاني: إنه وعيدٌ ويجوز الخُلْفُ في الوعيد. وأنت تعلم أنه إنشاءٌ لا خبر. وقيل: إنه محمولٌ على التَّشبُه كقوله: «لا تَرْجِعُوا بعدي كفاراً يضربُ بعضُكم رقاب بعض» ومعلومٌ أن المرءَ لا يصير كافراً بضرب الرقاب، ولكن لما كان شأنُ القتل أن يجري بين مسلم وكافر، لا بين مسلم ومسلم فمن ضرب رقبة أخيه وقاتل، فقد تشبه بالكفار، وفعل ما يفعلُهُ الكفار، ومن تشبَّه بقومٍ فهو منهم. وهذا هو المختار عندي في الجواب، والله أعلم.
فائدة
قد سمعت أن بين هذه الأبواب الأربعة مناسبةً وارتباطاً، الأول: باب المعاصي من أمر الجاهلية. والثاني: باب كفرٌ دون كفر، والثالث: باب ظلمٌ دون ظلم. والرابع: باب خوف المؤمن أن يحبط عمله... إلخ، فإن فيها على المشهور إيمَاضَاً إلى ما نقلته عن ابن تيمية وتأويلاً للأحاديث التي أُطلقَ فيها الكفرُ على المعاصي. وقد بنيت لك ما سَنَحَ لي فيها - والله أعلم - لأن كلامَه مبهمٌ، فلكلٍ وجهةٌ هو مُوَلِيها. أما مطابقةُ جوابِ أبي وائل للسؤال عنهم، فبأن مقتضى الحديثِ تعظيمُ حق المسلم، والحكمُ بالفِسق على من سَبَّه بغير حق، وبالكفرِ على من قاتله، فكأنه قال: كيف تكون مقالة المرجئة حقاً والنبي صلى الله عليه وسلّميقول هذا؟
49 - (فتلاحى رجلان) أي تنازع. قال الحافظ: إن المخاصمةَ مستلزمةٌ لرفع الصوت، وهو محبطٌ للعمل بالنص، قال تعالى: {ولا ترفعوا أصواتكم} إلى أن قال: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَلُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} وبه يتضح مناسبة الحديث للترجمة. وقد خفيت على كثير من الشارحين.(1/211)
49 - (فَرُفعت) وفي رواية قويةٍ ما يَدلُ بظاهره على رفعِ أصلها عن هذه الأمة. أقول: بل المرادُ منها رفعُ العلم القطعي بها، لا رفعُ ليلة القدر كما فهمه الشيعة خذلهم الله، لأنا قد أُمِرْنا بالتماسها، ولو كانت رفعت مطلقاً لما كان لطلبها معنًى. ومن هنا ظهرت المناسبةُ للترجمة على وجه آخر أيضاً وهو: أن التنازع صار سبباً لرفع علم ليلة القدر، فكذلك المعصية قد تكون سبباً للحبط.
49 - قوله: (في السبع)... إلخ، واعلم أن الشارحين عامّة ذهبوا إلى أن المأمورَ به هو التماسُها في ليلة واحدةٍ من تلك الليالي. والمرادُ عندي أحياءُ كلها لأجل ليلة القدر. وهي وإن كانت في الأوتار دون الأشفاع، لكن القيامَ مطلوبٌ في الكل، فكأنَّ التماسَها يكونُ بالقيام في العشر، أو السبع، أو الخمس، وهو المعهود من حاله صلى الله عليه وسلّموحالِ الصحابة رضي الله عنهم. ثم أقول: إن قَسَمتَ الشهرَ على العشرات فليلة القدر في الأخيرة منها، وإن قسمتَها على الأسابيع فهي في الأسبوع الأخير، وإن قسمتَها على الأخماس فهي في الخمس الأخير، وكيف ما كان تكونُ في وترٍ منها. هذا، وإن لم يُقرعْ سمعُك به من قبل، لكنه هو التحقيق إن شاء الله تعالى.
باب سُؤَالِ جِبْرِيلَ النبي صلى الله عليه وسلّم عَنِ الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ وَالإِحْسَانِ وَعِلمِ السَّاعَةِ وَبَيَانِ النبي صلى الله عليه وسلّملَه(1/212)
والغرضُ منه احتراسٌ مما يشنأُ من قوله: إن الإسلام والإيمان واحد، مع أن هذا الحديثَ يدل على المغايرة. وحاصلُ جوابِهِ على ما قرر الحافظ رحمه الله تعالى: أن الإيمان والإسلام لكل منهما حقيقةٌ شرعية، كما أن لكلٍ منهما حقيقةً لغوية، وكل منهما مستلزمٌ للآخر بمعنى التكميل له. فكما أن العامَل لا يكون مسلماً كاملاً إلا إذا اعتقد، فكذلك المعتقدُ لا يكون مؤمناً كاملاً إلا إذَا عمل. وحيثُ يُطلق الإيمانُ في موضع الإسلام أو العكس، أو يطلقُ أحدهما على إرادتهما معاً، فهو على سبيل المجاز ويتبينُ المرادُ بالسياق، فإن وردا معاً في مقام السؤال حُمِلا على الحقيقة، وإن لم يردا معاً، أو لم يكن المقامُ مقامَ السؤال، أمكن الحمل على الحقيقة، أو المجاز، بِحَسَبَ ما يظهر من القرائن. ومحصَّلُ جوابه أن الإيمانَ والإسلامَ يفترقان إذا اجتمعا على صورة المقابلة، وحيث انفردا يكون أحدهما عينَ الآخر كما هو صنيعهم في المترادِفَات، فإنها إذا اجتمعت يفرَّق بينها في ذلك المقام خاصة.
وإذن فالفرق في حديث جبرائيل مقاميٌّ ولا يدل على أن الإسلام والإيمان متغايران حقيقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلّمبيَّنَ لوفدِ عبد القيس أن الإيمانَ هو الإسلام، حيث فسَّر الإيمانَ في قصتِهم بما فسرَّ به الإسلام ههنا. وفي ضمن الجواب استدل المصنف رحمه الله لمذهبه بالآية، بأنها صريحة في أن الدينَ والإسلام شيء واحدٌ فظاهر جوابه معارضُة وبعد الإمعان حُلّ. وقد يقرر الجواب بطريق آخر أيضاً: وهو أن الاتحادَ بين الدين والإسلام ثابت من الآية: {إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَمُ} (آل عمران: 19) واتحادَ الإسلام والإيمان ثابتٌ من حديث وفد عبد القيس فثبت اتحاد الكل.
والمصنف رحمه الله تعالى لم يفصِح بالجواب، وهذا دأبه كثيراً في كتابه، حيث يذكرُ مادةَ الجواب ولا يفصِحُ بمراده.(1/213)
أقول: وهذا الجوابُ غير مسقيمٍ، لأن التغايرَ المقاميُّ إنما يكون إذا كان اللفظان في عبارةٍ واحدة، وههنا لم يقع السؤال أولاً إلا عن الإيمانِ فحَسب، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلّميعلمُ أنه سائل بعد ذلك عن الإسلام أيضاً حتى يجاب بالتغاير المقاميِّ. وإنما ذكر أولاً حقيقةَ الإيمان على ما كان عنده بدون نظرٍ إلى مفهوم الإسلام، حتى إذا سُئل ثانياً عن الإسلام أيضاً أجابه كذلك، فالجواب بالفرق باعتبار المقام لا يمشي ههنا.
نعم، لو كان هناك سلسلة الأسئلة في عبارة واحدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلّمأجابَ عنها أيضاً كذلك لكانَ له وجه. فالوجه عندي: أن الجواب إنما يُلقى على السائل بقدرِ علمِهِ وفَطَانته، وسؤالُ جبرائيل عليه السلام وكذا حالُهُ لمَّا دلا على كمال فَطَانته، أجابه مفصلاً بذكر حقيقة كلٍ على حدة، بخلاف وفد عبد القيس فإن ضِمَام بن ثعلبة كان حديثَ العهد بالإسلام، فاكتفى في جوابه على الإجمال ولم يلتفت إلى بيان الحقائق.
وحاصله: أنه راعى حال المخاطُب في كلا الحديثين، كما أن الذي يعظُ الناسَ يراعي ما يحرِّضُ على العمل، فربما يذكر الضَّعاف من الأحاديث عند الترغيب والترهيب ولا يفصِّلُ في كلامه، ويقول: تارك الصلاة كافر، ولا يقول: كافر بكفرٍ دون كفر. بخلاف المعلم الذي يتصدى لإظهار الحقائق فيذكر حقيقةَ الأمرِ ويُنَبِّه على المسامحات، ويفصِّلُ في المتعلَّقات. فحاصل حديث جبرائيل عليه السلام: إعطاء العلم، وبيان الحقيقةِ كما يفعلُ المعلم وهو الأقرب بسياقه، بخلاف حديث وفد عبد القيس فإنَّ حاصِلَه التحريضُ على العمل، وفي مثله يتمشَّى على الإجمال فيُتسامحُ في البيان.(1/214)
قوله: (بارزاً يوماً للناس) والبروز: الظهور. وعند الحافظ رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلّمكان يجلسُ بين أصحابه، فيجيءُ الغريب فلا يدري أيهم هو. فجعلنا له مجلساً يعرفه الغريبُ إذا أتاه. قال: فبنينا له دكاناً من طين كان يجلس عليه.
(الإيمان أن تؤمن بالله)... إلخ فذكر تحته الأشياءَ الغائبة، كما مر تحقيق الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى: أن الإيمان لا يتعلق إلا بالمغيبات.
(وبلقائه): وهذا هو الجزءُ الذي يتميزُ به الإسلامُ عن سائر الأديان الباطلة.
فإن أهل يونان عقيدتهم أن العلومَ الحقَّة كلها تحصلُ في الأنفس بعد افتراقِها عن الأبدان، وتصيرُ جميعُ الأشياء مشهودةً لها، فيحصل لها بها سرورٌ، وهو جنتها ونعيمها، وإن لم يحصلُ لها العلوم أو حَصَلَتْ على خلاف ما كانت في الواقع، فهذا يكون غماً عليها أبداً وهو عذابُها وجحيمُها. وعندهم العقول بدل الملائكة، ولقاءه تعالى عندهم محال.
وأما هنادكة الهند فيقولون: بحلول الألوهية في الجُثْمان ويُسمونَها ديوتا، واوتار ويعبدونَها ويزعمونَ بالتناسخ، فليس أحدٌ منهم قائل باللقاء إلا أهل الدين السماوي، قال تعالى: {فمن كانَ يرجُوا لقاءَ ربه فليعملْ عَمَلاً صالحاً} (الكهف: 110). ثم اعلم أنه ليس بين الدنيا والقيامةِ مسافةٌ يصلُ إليها بعد قطعها، بل تظهرُ القيامةُ من هذه الدنيا بعد خرابها، كما تظهرُ الشجرة من النواة، فإن النواةَ تنشقُّ، وينفُضَ قِشرهَا، وتفنى صورتُها، ثم تظهر من حاقها الشجرة، كذلك الدنيا بعد الانفطار والاندِكَاكِ تفنى وتنعدِم، ومنها تخرجُ القيامة. وليست القيامةُ في بقعة أخرى وموطن غيرها، بل يسوَّي لها ذلك المكان وذلك الموطن.
ولي قصيدة بالفارسية في تمثل البرزخ والحشر وأطوار الوقائع، ومنها:(1/215)
51 - (ما الإحسان) قال الحافظ رحمه الله تعالى: وأشار في الجواب إلى حالتين: أرفعُها، أن يغلبَ عليه مشاهدة الحقِ بقلبه، حتى كأنه يراه بعينه وهو قوله: (كأنك تراه) أي وهو يراك. والثانية: أن يستحضرَ أن الحق مطلع عليه، يرى كل ما يعمل وهو قوله: (فإنه يراك).
وقال النووي: معناه إنك إنما تُراعي الآداب المذكورة إذا كنتَ تراه ويراك لكونه يراك، لا لكونك تراه، فهو دائماً يراك، فأحسن عبادتَه، وإن لم تره، فتأويل الحديث: فإن لم تكن تَرَاه فاستمرَ على إحسانِ العبادة، فإنه يراك. انتهى ملخصاً.
واعلم أن لفظَ الإحسانِ شاملٌ لجميعِ أنواع البر من الأذكار من الأذكار، والأشغال وغيرها. والأذكارُ تقالُ للأوراد المسنونة، وما ذكرهُ المشايخ من الضربات والكيفيات يقال لها: الأشغال. والنسبة في اصطلاحهم: ربطٌ خاصٌ سوى ربطِ الخالقية والمخلوقية، فمن حصل له ربطٌ سوى الربط العام يقال له: صاحب النسبة.
والطرق المشهورة في التصوف أربعة: السُّهْورْدِية، والقَادِرِية، والجشْتِية، والنَّقْشَبَنْدِية، والسلسلة السهروردية قد تسلسلت في أجدادنا من عشرةٍ متصلةٍ ثم ما نقل إلينا من الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد سُمِّي شريعةً. والتخلُّقُ بها يُسمَّى طريقةً، وحينئذٍ تنصَبِغُ الأعمال بصبغ الإيمان كما كان في السلف. أما اليوم فعلمٌ بلا عمل، وإيمانٌ بلا تصديق من الجوارح، «ربَّ تالٍ للقرآن والقرآنُ يلعنُهُ». ثم الفوزُ بالمقصد الأسنى، والنيلُ بالمأرب الأعلى يُسمَّى حقيقةً. ومن ههنا ظهر أن الطريقةَ والشريعةَ لا تتغايران كما زعمه العوامِّ.(1/216)
وقد كتب الغزالي أن بعضَ العلمِ لا يُضطرُ العَالِمُ إلى العمل به، وبعضه يغلِبُ عليه، ويستعملُ الأعضاء في الطاعات، وهذا هو الإيمان عند السلف، وهو المرادُ بما قلت: إن الإيمان ينبسِط من الباطنِ إلى الجوارحِ، والإسلام يدخل من الظاهر إلى الباطن. فإن التصديقَ إذا غلب واستعمل الأعضاء صارَ الإسلامُ والإيمانُ متحدين، وهو المراد باتحاد المسافتين، وإلى هذا المقام أشير في قوله: «أن تعبد الله كأنك تراه»... إلخ، فإن العبادة التي تتعلقُ بالجوارح إذا صدرت عنه بذلك الخشوعِ والخضوعِ فقد خَرَجَ إيمانه إلى الأعضاء ودخل إسلامه في القلب واتحدت المسافتان، وحينئذٍ فالإسلام والإيمان شيء واحدٌ، بخلافِ ما أذا بقيَ تصديقهُ في القلب ولم يظهر إلى الأعضاء، أو اقتصر إسلامه على الأعضاء ولم يحصل له الإحسان، فبقيَ إسلامه على الأعضاء فقط ولم يسرِ إلى القلب، فهذا الإسلامُ غير الإيمان، والإيمانُ غير الإسلام، وقد ذكرناه سابقاً أيضاً.
50 - (ما المسؤول عنها)... إلخ، ولم يقل: لست بأعلمَ منك، لأن الكناية أبلغُ من التصريح، كقوله تعالى {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا} (يوسف: 23) وذلك لكونه أبلغ.
50 - (إذا ولدت الأمة)... إلخ، أي تصير الأصول فروعاً والفروعُ أصولاً. فالمرادُ منه انقلابُ الأمورِ عند إبَّانِ الساعة. وفيه شروحٌ عديدٌ أخرى أكثرها مرجوحةٌ عندي. ويؤيدُ ما قلنا قوله صلى الله عليه وسلّم «إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة»، فهو الحريُّ بالأخذ، لأن الحديثَ يفسرُ بعضَه بعضاً. ثم إن التمسك فيه على جواز بيع أمهات الأولاد أو على عدم جوازه في غير موضِعه، فلم نلتفت إليه.(1/217)
50 - (في خمس)... إلخ أي علمُ وقتِ الساعةِ داخلٌ في خمس. ثم اعلم أن هذه الخمسَ لما كانت من الأمور التكوينية دون التشريعية، لم يُظْهِر عليها أحداً من أنبيائه إلا بما شاء، وجعل مفاتيحه عنده فقال: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} (الأنعام: 59) لأنهم بُعِثُوا للتشريع، فالمناسبُ لهم علومُ التشريع دون التكوين. ثم المراد منه أصولها. وأما علمُ الجزئيات فقد يُعطى منه الأولياء رحمهم الله تعالى أيضاً، لأن علمَ الجزئيات ليس بعلم في الحقيقة، لكونها محطاً للتحولات والتغيرات، ولأن علماً جزئياً لا يوصل إلى علمٍ جزئي آخر فكأنه ليس علماً. وإنما العلمُ علمٌ يوصِلُ إلى علمِ جميع أفرادِ ذلك النوع، وليس ذلك إلا علمُ أصولِ الشيء.
ألا ترى أن ألوفاً من المصنوعات تُجْلبُ إلينا من ديار الأوربا ونحن نشاهدها ونعلمها، ولكن لا علم لنا بأصولها، فأيّ علم حصَّلناه بتلك الجُزئيات؟ ولكنّ العلمَ هو العلمُ الكُلي يتمكنُ به صاحبه من علمِ الجزئيات من ذلك النوع بأسرها ويطلع على حقائقها، وإليه أشار سبحانه بالمفاتح، فإنك إذا أُوتيت مِفْتَاحَاً قَدَرْتَ على فتح المغاليق كُلِّها مهما أردت، وليس هذا الشأن إلا شأن العلم الكلي فلم يُعط أحدٌ إلا جُزئيات منتشرة.
أما العلمُ الذي كالمفتاح فهو عند ربك الذي لا تخفى عليه خافية، وحينئذٍ صح الحصر في قوله: {لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} بدون تأويل. أما تخصيصُ الخمس مع أن أصولَ الأشياءِ الأُخر أيضاً لا يعلمها إلا هو. فقيل: إن هذه أنواع والكل راجع إليها. قلت: بل لأن سؤال السائل لم يقع إلا عن هذا الخمس، كما ذكره السيوطي في شأن نزولها في «لباب النقول في أسباب النزول» وفي «الدر المنثور».
باب
هذا بابٌ بلا ترجمة والمناسبةُ ظاهرة، لأن هِرَقْل كان عالماً بالتوراة، وأنه أطلق الإيمان على الدين فقال:(1/218)
(هل يرجع أحد سخطة لدينه)، ثم قال: (وكذلك الإيمان)... إلخ فدل قولُهُ على أن الدينَ والإيمان واحدٌ عنده. وهذا الحديث أظهرُ في مقصوده مما سبق، لأنه أطلق الدينَ فيما سبق على مجموع الإيمان والإسلام والإحسان. وقال في آخره: «جاء يعلم الناس دينهم». ويمكن المناقشة فيه بأن النزاع في اتحاد الدين والإيمان. أما كونُ المجموع ديناً فليس محلاً للخلاف، وما أخرجه ههنا صريح في اتحاد الدين والإيمان، فكان أظهرُ في مقصوده. ثم البَشَاشةُ في حديثه إشارةٌ إلى مرتبةِ الإحسان.
باب فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِه
والمرادُ منه الاحتياطُ في الدين، وهو وإن كان خارجاً من الدين باعتبار بعض الجهات، لكن المصنفَ رحمه الله تعالى جَعَلَهُ أيضاً من الدين يعني إذا أحرزَ الرجلُ من دينه القدْرَ الضروري واحتاط بعد ذلك استبراء لدينه، فهل يُعدُّ ذلك من الدين مع أنه أحرز دينَه من قبل؟ فقد عُلم من الحديث أنه أيضاً من الدين وإن كان زائداً عليه من جهة أخرى. وهذا تقسيم آخر للدين والإيمان إلى من استبرأ لدينه، وإلى مَنْ لم يستبرىء. ولمن استبرأ لدينه زيادةُ فضلٍ على من سواه، فدل على ثبوت المراتب في الإيمان. ثم العبادةُ شيءٌ وجودي، والزهد: قِلةُ رَغْبَةٍ في الدنيا، والورع: احترازٌ عن الشُّبهاتِ، فهو شيء عدميٌّ.(1/219)
واعلم: أن هذا الحديثَ من مُهِمَّاتِ الحديث وتصدّى لشرحه العلماء والفضلاء، وكتبوا عليه رسائلَ مستقلة ولكنّ الحديثَ مهمٌ، وموضوعُهُ يحتاجُ إلى شرح الأئمة، ولا ينفعُ فيه كلام الآخرين، فإنه يتعلق بالحِلِّ والحرمة. ولا يمكنُ لنا الآن إلا شرحُ ألفاظِهِ فقط، ولو انكشفت حقيقته لوجدنا ضابطة الحلال والحرام من جهة صاحب الشريعة، ولكان هذا فصلاً في الباب، فإن ظاهرَ الحديث أن الحلالَ بيِّن في نفسه والحرام أيضاً كذلك، ولكن لا ندري ماذا أراد بقوله: «مشتبهات» فإن الاشتباه حاصل في كثير من المواضع، ثم لا تكون تلك بين الحلال والحرام، بل تكون تلك المشتبه إما حلالاً أو حراماً.
والحاصل: أن في الحديث ضَابِطةٌ كليةٌ للباب الفقهي، ولكن لم يتحصَّل عندنا منه شيءٌ غير حلِّ الألفاظ. ولما كان في المثل السائر: ما لا يُدْرَك كله لا يُترك كله، رأينا أن نتكلم عليه شيئاً. فنقول: إن الحديث بعد ذكر الحلال والحرام انتقل من الأحكامِ والمسائل إلى الحوادث والوقائع، وذكر ضابطةً عُرْفية، ولذا تعرض إلى استبراء العِرْض، فاندفع ما كان يخطر بالبال أنه لا دخل لذكر العِرض في باب الحلال والحرام، فمعناه أن الرجل إذا اتقى الشبهات ومواضعَ التهم فقد أحرز دينه عن الضياع وعِرْضَه عن القدح فيه، وهو مرادُ قول علي رضي الله تعالى عنه: إياك وما يَسبقُ إلى الأذهان إنكاره وإن كان عندك اعتذاره، فليس كل سامعٍ نكراً يطيقُ أن تسمعَه عذراً. فإنه ليس وارداً في المسائل فقط بل أعم منها. وكذلك الحديث وردَ صدرُهُ في المسائل وعجزُهُ في الحوادث مطلقاً. وقوله: «فقد استبرأ» على نحو استبراء المُدَّعى عليه عن نفسه في دار القضاء، أي فمن فعلَ كذلك وترك الشُّبهات فقد أحرزَ نفسَه عن أن تسري أوهامُ الناس إلى دينه كانت أو في عِرْضه. وترجمة قوله: «فقد استبرأ»... إلخ، تواس شخص في اينى دين اور آبروكى طرف سى صفائى بيش كردى.(1/220)
تحقيقُ لفظِ المُشْتَبِهَات
52 - (مشتبهات) رُوي من الإفعال والتفعيل والافتعال. واعلم أن المفسرينَ اختلفوا في تفسير قوله تعالى: {مِنْهُ آيَتٌ مُّحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ} (آل عمران: 7) فقيل: ملتبسات. واعتُرِض عليهم بأن الله تعالى قد وصف به جميعَ كتابه في موضع آخر، وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَباً مُّتَشَبِهاً} (الزمر: 23) ومعناه هناك كتاباً يصدِّق بعضه بعضاً، لا أنه يلتبسُ بعضُهُ ببعض، فإن هذا المعنى لا يليق أن يتصف به كتاب الله تعالى كما هو ظاهر، فأخذ بعضهم معنى التصديق في قوله: {وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ} أيضاً وهو مروي عن مجاهد. وذكره البخاري في التفسير. أقول: والمُتَشَابَه بمعنى المُصَدق، قريب من معنى المُحكم، وليس بينهما كثيرُ فرق، مع أن الله تعالى قابل بينهما وسَمَّى الذين يتبعونَ ما تشابه منه بالزائغين. وعلى هذا فتفسيرُ مجاهد مرجوحٌ، وكان ينبغي أن لا يذكره البخاري، والعذر عن البخاري رحمه الله تعالى يجيء في موضِعه.
فمعنى المتشابهات في قوله: {وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ} هو الملتبسات، وفي قوله: {كِتَباً مُّتَشَبِهاً} هو التصديق، أي مصدقاً بعضُهُ بعضاً. فإن قلت: إنه يوجب الانتشار في مطالب القرآن. قلت: لا انتشار فيه، لأن تغاير المعاني عند تغايرُ الصِّلات وإن كانت محذوفةً في اللفظ ليس من الانتشار في شيء. فالتَّشَابُه إذا كانت صلته «على» يكون معناه الالتباس، كما في قوله تعالى: {إِنَّ البَقَرَ تَشَبَهَ عَلَيْنَا} (البقرة: 70) أي التبس علينا، وهو المراد في قوله: {وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ} وإذا كانت صِلته اللام يكون بمعنى التصديق، وهو المراد في قوله: {كِتَباً مُّتَشَبِهاً} يعني متشابهاً لكم، أي مصدقاً بعضُهُ بعضاً.
والسِّرُ فيه عندي أن اللفظَ إذا تغاير معناه عند تغاير الصلات يكون مشتركاً معنوياً.(1/221)
52 - (لا يعلمها كثير من الناس) أي لا يعلم حكمُها، كما عند الترمذي بلفظ: «لا يدري كثير من الناس أَمِنَ الحلال هي؟ أم من الحرام؟». ومفهوم قوله: «كثير» أن بعضاً منهم يعلمها وهم المجتهدون، فحينئذٍ يكون الاشتباه في حق غيرهم. وقد يقع الاشتباه لهم أيضاً، حيث لا يظهرُ لهم ترجيحُ أحدُ الدليلين، كذا ذكره الحافظ.
52 - (لكل ملك حمى... إلخ) وعندنا يجوز الحمى للإمام فقط، كما كان عمر رضي الله تعالى عنه بَنَى رَبْضةً لخيل الجهاد دون غيره. أما الملوك فكانوا يتخذون الحِمى لأنفسهم، وذلك محظور في الشرع، وأما حِمى الله فهو مطلوبٌ لله تعالى أن لا يرعَى عبدَه حولَه، ففيه تشبيه محمودٍ بمذموم، ولا ينبغي أخذ المسائل والأحكام من التشبيهات، فاعلمه، فإنه مهمٌ، وقد يَغْلَط فيه الناس. ثم الحديث إنما جاء على عُرْف الملوك وعاداتهم، وكان من عادات ملوكهم اتخاذُ الحمى كما علمتَ.
52 - (ألا وهي القلب) ونِسبة القلب إلى الجسد كنسبة الأمير إلى المأمور وهو الأصل، والأعضاءُ كالفروع له، وهو: مَعْدِنُ العلوم والمعارفِ والأخلاقِ والمَلَكاتِ. وفي «الجامع الصغير» للسيوطي رحمه الله تعالى: «أن القلب ملك... إلخ»، وفي البيهقي: أن الأَذَنَ قِمْعٌ للقَلْب يُحضِرُ المسموعات عنده من الخارج، والعينان مسلمة يتقي بهما الحجر والشجر، واليدان جناحان، والرجلان البريد، والكبد رحمة، والطِّحال ضحك، والرِّئةُ نَفَس، فإن صح هذا لدل على أن الضَّحِكَ من الطِّحَال، ولم يذكر الأطباءُ له وجهاً. وما وَضَحَ لدي، أنه يحدث من انقباض الرئة مرة وانبساطه أخرى. والقلبُ هو أصلُ اللطائفِ كلها عندي غير الروح، فإنها من الخارج والنفسُ مَعِدنه الكبدُ الطالبة للذات والشهوات، والقلب بعد فنائه في اللذات والهوى يُسمَّى نفساً. وعليه مدار الصلاح والفلاح وهو مهبطُ الأنوار ومنبعُ الأسرارا.(1/222)
وفي الحديث أنه لما صوَّرَ آدم، طاف به الشيطان ودخل فيه ورأى فيه منافذ قال: إنه مخلوق لا يتمالك نفسَه. وفي تفسير «فتح العزيز» زيادة: وهي أن في يساره حُجْرَة مسدودة لا أدري ماذا فيها، وكان فيه القلب. قلت: ولما كان القلبُ مَظهراً لتجلياتِ الصمد الأحد، جعله اللَّهُ صمداً ولم يبق فيه منفذاً، فهو إذن كالقَّبةِ المُشرفةِ مسدودةٌ جوانبها، محكمةٌ أبوابُها وغرفُهَا، لا يدرى سره إلا الله العلي العظيم.
باب أَدَاءُ الخُمُسِ مِنَ الإِيمَان
53 - (كنت أقعد مع ابن عباس) وسبب ذلك في كتاب العلم عند المصنف رحمه الله تعالى ولفظه: «كنت أترجم بين ابن عباس رضي الله تعالى عنه وبين الناس»، لأن أبا جَمْرة كان يعرفُ اللغة الفارسية، وكانت المعاملات عنده تجيءُ في تلك اللغة فيترجِمُ لهُ.
53 - (أقم عندي) إن كان هذا الإعطاء أُجرة الترجمة كان دليلاً على جوازِ أخذِ الأجرةِ على التعليم أيضاً، وإن كان بسببٍ آخرَ فلا. ونقل أنه كان ذلك بسببِ الرؤيا التي رآها في فسخِ العمرة، أنه قبل حجه وعمرته، وقد كان فسخَهُ على فتواه، فسُرَّ به.
53 - (إن وفد عبد القيس) وأنهم أَتُوه مرتين: مرةً في السنة السادسة وأخرى عام فتح مكة. ومسجد عبد القيس بجُواثى، أول مسجدٍ صُليت فيه صلاةُ الجمعةِ بعد المسجد النبوي، فاحفظه فإنه ينفعُك في مسألة الجمعة في القرى، وسيجيء إن شاء الله تعالى تحقيقها.
(غير خزايا ولا ندامى) وفي ندامى مُشاكلة كما في الغَدَايَا والعَشَاي. وإنما قال لهم ذلك لأنهم جاؤا برغبةٍ منهم بدون الحرب. ثم ههنا إشكال وهو أنه وعد بذكر الأربع، فإن عَددْنا الإيمانَ بالله منها، يبقى سواه أربعاً، ويصير المجموعُ خمساً فيزيدُ العدد. وإن جعلنا المجموعَ تفسيراً للإيمان وأدرجْنَاه تحته لم يحصل إلا أمر واحد، وعلى كلا التقديرين لا يحصلُ العدد الموعود.(1/223)
فقال البيضاوي في «شرح المصابيح»: إن الإيمانَ بالله وحده أمرٌ واحد، وإقامِ الصلاة... إلخ تفسير للإيمان، والثلاثة الباقية تركها الراوي.
قلت: وحاصله هَدْر ما ذكره الراوي والأخذُ بما لم يذكره هو الرجم بالغيب. وقيل: إن العددَ باعتبار أجزاء التفصيل، فالإيمان واحدٌ ثم فصَّلَه في ذلك العدد. وقيل: إنه وَعَدَ بالأربع وزاد عليه بواحد عند الوفاء، فذكرُ إعطاء الخمس تبرع منه، ولا بأس في إعطاء الزيادة على الموعود. قلت: وهذا الجواب بعيد عن ترجمة المصنف رحمه الله تعالى بَوَّبَ عليه بكونه من الإيمان.
ويمكن أن يُجاب عنه أن إعطاءَ الخمسِ وإن كان خارجاً عن الإيمان، لكنه معدودٌ عند المصنف رحمه الله تعالى من الإيمان، لأنه قد علم من صَنِيْعِهِ أن جميع الأشياء المتعلقة بالإيمان إيمانٌ عنده. وقيل: إعطاءُ الخمسِ داخلٌ في إيتاء الزكاة، لأنَّه أيضاً من نوعه وهذا ألطفُ من جعله تبرعاً، سيما على مذهب الشافعية، فإنهم قالوا: في المعدِن الزكاة، وفي الرِّكاز الخمس. وقيل: إن الشهادتين ليستا من الأشياء الموعودة، وإنما ذكرهما تمهيداً ولكونهما لا بد منهما، والعددُ يبدأُ من قوله: إقام الصلاة.
أقول: ويرد عليه ما عند البخاري أنه ذكر الشهادتين وعقد واحدة. وهذا يدل على أنه عدَّها من الموعود. لا يقال: إن العقد كان للإشارة إلى التوحيد، لأنا نقول: المعهودُ فيها الإشارةُ بنصبِ المسبِّحة دون العقد. والراوي يذكر العقدَ. والأولى عندي أن يقال: إن الأربعة هو الإيمان مع ما بعده، وما بعده تفسيرٌ للإيمان. فإذا قلنا: إنها إيمانٌ، قلنا: إنها شيء واحدٌ، وإن نظرنا إلى الأجزاء قلنا: إنها أربعة، فهو واحد من جهة الإجمال، وأربعةٌ من جهة التفصيل.(1/224)
وبعبارة أخرى: أن المقصود كان الأمرُ بالإيمان، غير أنه قال: أربعة نظراً إلى أجزائه الداخلة فيه. وهذا يوافق غَرَضَ المصنفِ رحمه الله تعالى أيضاً، فإنه جعل أداء الخُمُس من الإيمان. وأيضاً يوافق لما ذكره في باب سؤال جبرائيل ما بينَه النبي صلى الله عليه وسلّملوفد عبد القيس، فإنه دليل على أنه عدَّ الأشياء الأربعة من أجزاءِ الإيمان وتفسيره. وكذلك بَوَّب في كتاب السِّير والجهاد بقوله: باب أداء الخمس من الدين، فدل على أنه معدودٌ عنده من الإيمان.
53 - (وحده) وفرق في «المطول» بين الواحد والأحد. فقال: إن الواحدَ مشتقٌ من الوَحَد، ويصيرُ أحداً بانقلاب الواو ألفاً، فالأحدُ اثنان: الأول من الوَحَد، وهو للعدد المقابل للاثنين، والثاني: للمنفرد عن الشيء. والأولُ لا يردُ إلا في سياق النفي، كقوله: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} أي واحداً. والثاني يُستعمل في الإثبات كقوله: {قل هو ا أحل} أي منفرد. ثم قيل: إن الواحد لا جمع له إلا أنه ثابت في شعر الحماسة:
53 - (إقام الصلاة... إلخ) قيل: إنه مجرور ومعطوف على الإيمان وتفسيره قد تم عند ذكر الشهادتين. ثم إنه بعد كونه معطوفاً على الإيمانِ إيمانٌ أيضاً. وقيل: بالرفع. وأقول: إنه داخلٌ في تفسير الإيمان، وهو الأقرب عندي وأوفق لغرض المصنف رحمه الله تعالى، ثم إنه قال الحافظ رحمه الله تعالى: إن الحج ليس بمذكور في أحد من طُرقه، لأنه فُرِضَ بعدَه وما ذُكِرَ في بعض طرقه من الحج معلولٌ عند المحدثين.
53 - (وصيام رمضان) وهو مصدرٌ لغةً، لا جمعُ صوم وفي كتب الفِقه من قال: عليَّ صيام يلزمه ثلث صيام فدل على أنه جمعٌ عندهم، ولعله عُرفٌ حادثٌ. وإلا فالصيام مصدرٌ وليس بجمع.
53 - (والحنتم) سبزرنك كى روغنى كهر يا جيسى مرتبان والحنتم وإن فسروها بالجرة الخضراء، ولكن لا يشترطُ أن تكونَ خضراءَ دائماً. بل هذا بالنظر إلى الغالب.
(1/225)
53 - (الدباء) توبنرى (النقير) ما يُتخذُ من نقر أصل النخلة. و(المزفت) وهو المُقيَّر، والقِيرُ والقَارُ واحد. والزفت ليست ترجمته رال كما في الغياث، بل هو نوع من الدُّهن يُجلب من البصرة. والنهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يُسرع فيها الإسكار، ثم ثبتت الرخصةُ في الانتباذ في كل وعاءٍ إذا لم يُسكر. رواه الترمذي في الأشربة قال: إن ظرفاً لا يُحلُّ شيئاً ولا يُحرَّمه، وكل مسكر حرام.اه.
باب ما جاءَ أَنَّ الأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالحِسْبَةِ، وَلِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى
الغرضُ منه الردُ على من قال: إن الإقرار باللسان كافٍ للإيمان. فقال: إن الإيمانَ عملٌ، وكل عملٍ لا بد له من النية، فعُلم أن الإيمانَ أيضاً لا بد له من النية القلبية. وأما الإقرار باللسانِ فقط فليس بإيمان. أقول: وظني أنه لا يكونُ هناك من يقولُ بكفايةِ الإقرار فقط، ولعل غَرَضَهم غيرُ ما نَقَلَ عنهم الناقلون.
(الحسبة) وقد مر منى أن الحسبة أمرٌ زائدٌ على نيةٍ صحيحة، فإن النيةَ مرتبةُ العلم، والحِسبةَ مرتبةُ علم العلم، أي استحضار تلك النيةِ واستشعارِهَا.
(والوضوء) وافقَ الحجازيين في اشتراط النية للوضوء، وسوَّى بين العبادات المقصودة وغير المقصودة. وقد مر منى أن الوضوءَ بلا نيةٍ لا ثوابَ فيه عندنا أيضاً، كذا في «خزانة المفتين». والبحث عن مسألة النية في العبادات قد مر منا في شرح الحديث الأول مستوفى، وأن حديثَ: «إنما الأعمال بالنيات» مخصوصٌ عند الكل، فإن طاعاتِ الكافر وقُرُباتِهِ كلَّها يصحُ و حاجة فيها إلى النية عند أحد.(1/226)
(والأحكام) لا يُعلم ماذا أراد بها المصنف رحمه الله تعالى. أما الفقهاءَ فيريدونَ بها مسائل القضاء، ولعل المصنف رحمه الله تعالى أراد منها بقية المعاملات، وهي خارجةٌ عن الحديث عند الشافعية وعند الحنفية على القول المشهور. قلت: وفي المعاملات أيضاً نيةٌ، إلا أن في المعاملات جهتين: جهة تتعلق بالعباد ولا عبرة للنية فيها، وجهة تتعلق بالله تعالى والنيةُ معتبرة فيها أيضاً. فالحديث عامٌّ عندي كما قاله المصنف رحمه الله تعالى.
(على شاكلته) فسَّره المصنف رحمه الله تعالى بالنية. وأصلَ معناه على مناسبةٍ طَبْعيَّة، فالإنسان إنما يعمل على طريقةٍ طبعية، ومناسبتها كيفما خُلِقَتْ وطُبِعَتْ، فمن طُبِعَ على السعادة يعمل لها، ومن طُبِعَ على الشَّقَاوة يعمل لها.
(ونفقة الرجل... إلخ) وقد مر أن النيةَ الإجمالية كافيةٌ لإحراز الثواب، وإنما الضروريُّ انتفاء النية الفاسدة فقط، فينبغي أن يَحْصُلَ الأجرُ في نفقة العيالِ بدون الاحتساب، لأن الاحتسابَ أمرٌ زائدٌ على النية. وقيَّدَ الاحتساب ههنا لأنه موضعُ ذهولٍ، لا يرجُو فيه الأجر أحد، فإنه أمرٌ طبعيٌ، فزاد الاحتسابَ تنبيهاً على هذا، كما مر مفصلاً.
(ولكن جهاد ونية) هذه قطعة حديثٍ قاله في فتحِ مكة. ومعناها أن الهجرة من مكةَ إلى المدينة قد خُتمت، لأن مكةَ صارت دارُ الإسلام، ولكن الجهاد والنية باقيانِ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم يتمنَّى أن يجتهدَ في الدين فلا يتأسَّف من انقطاع الهجرة، فإن المجالَ واسعٌ بعدُ، فالجهادُ باقٍ والنية باقيةٍ، فليجتهد فيها.
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِوَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعامَّتِهِمْ»(1/227)
وفيه تعريفُ الطرفين وهو يفيد القصر، إلا أن التفتازانيَّ يقول بالقصر من جانب واحدٍ، وهو المُعرَّف بلام الجنس فقط فالأميرُ زيدٌ وزيدٌ الأمير: معناهما واحد عنده، أي قَصَرَ الأعمَ على الأخصِّ. وفصَّل فيه الزمخشري أن القَصَرَ قد يكون من جانب المبتدأ وقد يكون من جانب الخبر أيضاً، فجوَّزَهُ من الطرفين، وهو الحق عندي. قال في «الفائق» في حديث: «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» إن الله مقصورٌ والدهرَ مقصور عليه. والمعنى أن الله هو الجالب للحوادث لا غير الجالبِ. قلت: بل فيه تعريفُ المبتدأ بحالِ الخبر كما في قوله:
*فإنْ قَتَلَ الهوى رجلاً ** فإني ذلك الرَّجُلُ وحينئذٍ معنى الحديث عندي: أيها المخاطب أنك تعرفُ الدهرَ من قَبْلُ بنسبة جلبِ الخير والشر إليه، فالله هو ذلك الدهرُ. وبمثله قرره الزمخشري في قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة: 5) في «الكشاف»، وعليه قوله صلى الله عليه وسلّم «هو الطهور ماؤه» عندي يعني: أنك تعلمُ الطَّهُورَ من القرآن: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآء مَآء طَهُوراً} (الفرقان: 48) فالطَّهُور الذي تعلمه هو هذا. ومعنى قوله: «الدين» مقصور على النصيحة فقط، وليس بغش فالمبتدأ مقصورٌ والخبر مقصور عليه. وكذا قوله: «الدعاء هو العبادة» معناه الدعاء مقصورٌ على صفةِ العبادة، لا أن العبادةَ مقصورةٌ على الدعاء كما فهمه الناس. فترجمته دعا عبادت هى هى والناس يترجمونه دعا هى عبادت هى. ثم النصيحة لله أن لا تشركَ به شيئاً، وللرسول أن تصدِّقه فيما جاء به، وللأئمة أن تطيعَهم، ولعامة المسلمين أن تتعامل معهم بالخلوص بدون غش، والله تعالى أعلم. وهذا آخر كتاب الإيمان.
كتاب العِلم
باب فَضْلِ العِلم(1/228)
واعلم أن العلم عند الماتريدية: صفةُ مُودَعة في القلب، كالقوة البَاصرة في العين، من شأنها الانجلاء بالشروط اللائقة بها، فالعلمُ واحدٌ مع تعدُّد المعلومات. نعم، تعدُّد الإضافات ضروري. بخلاف الفلاسفة فإنهم قالوا: إنه حصول الصُّورة، أو الصُّوَر الحاصلة، ولا مُسكَة لهم على ذلك. ومن ههنا عُلم أن العلمَ والمعلومَ متغايران بالذات، لا كما زعموا أنهما متّحدان بالذات. ويتعلق بالمعدوم، لاكالفلاسفة القائلين بتوسُّط الصور؛ فإنهم لما استحالوا العلم بالمعدوم، ذهبوا إلى إقامة الصُّوَر في البين، وقالوا: إن الصورة تَحصلُ أولاً، ثم يحصلُ العلمُ بالمعدوم بواسطتها.
قلت: وليس في هذا غير تطويل المسافة، فإنَّا نسأل كيف تُعلَّقُ تلك الصورة بذي الصورة؟ فإن كان بصورة أخرى يلزم التسلسل، وإن كان بالمعدوم فليكن تعلّقُ العلم أيضاً كذلك، على أنه يلزم عليهم أن يَحْصَلَ العلم قبل المعلوم، فإن المعلومَ عبارة عن الصورة من حيث هي هي، وهي مأخوذة عن درجة العلم التي هي عبارة عن الصورة من حيث الاكتناف. وتَقَدُّمُ المأخوذ منه على المأخوذِ أمرٌ بَدَهِيّ، فلزم أن يحصل العلم قبل المعلوم، وتقدم الصورة المطلقة التي هي عَلَمٌ على الصورة الملحوظةِ بقيد الاكتناف لا ينفع ههنا، فهذا كله جهل وسَفَه.
والحق أن العلم يتعلق بالمعدوم والموجود، ولا يحتاج إلى تخلُّل الصُّوَر. ثم إن العلم حُسْنَه وقُبْحَه بحسنِ المعلوم وقبحه. وقد أبدع المصنف رحمه الله تعالى في الترتيب، حيث وضع الوحيَ أولاً، ثم الإيمان ثم العلم، ثُمَّ الطهارة ثم الصلاة... إلخ.(1/229)
واعلم أن العلمَ إنما يُعدُّ كمالاً، لكونِهِ وسيلةً إلى العمل المُفْضِي إلى رضائه تعالى، فالعلم الذي ليس على هذه الطريقة، فهو وَبَالٌ على صاحبه، وإليه يشير آخرُ الآية: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} نبَّه فيه على ما به كمالُ أولي العلم والفوز بالدرجات. ثم إن العمل الصحيح يرضاه ربك، ولا علم به إلا من تِلقاء النبوة، فدعت الضرورة إلى الإقرار بالنُّبوة، ومَنْ أنكرها فهو صابئيٌّ مثل كفار يونان وعراق بعد نوح عليه الصَّلاة والسَّلام، فإنهم كانوا يُنْكرونها. ومرَّ ابن تيمية رحمه الله تعالى على تحقيقهم فلم يُدْرِكه. وقد ذكر الشَّهْرَسْتَاني مناظرة الحنفاء والصابئين في كتابه في نحو ثلاثين ورقة، وعَدَّها من غرائبه. ويتضحُ منها أنهم كانوا يُنْكِرون طَوْرَ النبوة.
ثم إن المفسرين تكلموا في فضل آدم عليه الصَّلاة والسَّلام ورأَوْا أنّ فضله من جهة العلم، وهي عندي عبوديته، لأن الخلافةَ يستحِقُّها باعتبار الظاهر ثلاثة: آدم، والملائكة، وإبليس. أما إبليس فقد علمتَ حالَه، وأما الملائكة فإنهم سألوا ربهم عن سرّ الخلافة لَمّا كان ظاهرُ حال بني آدم يُنبىء عن سَفْك الدماء وغيرها، ولم يُحْسِنوا في السؤال، غيرَ أنهم لمّا لم يُصِروا عليه غُفر لهم. وأما آدم عليه الصَّلاة والسَّلام فإنه لم يواجِه ربّه إلا بالتضرّع والابتهال حين ناداه: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} (الأعراف: 22) مع أنه كان عنده جوابٌ أفحم به موسى عليه الصَّلاة والسَّلام حين تناظر معه، كما في الحديث، إلا أنه لم يأت بحرف منه حين مواجهة ربه عبوديةً وطاعةً.(1/230)
ومن ههنا عُلم سر المناظرة بين موسى وآدم عليهما السلام، وإنما أظهر الله تعالى علمه لكونه وصفاً يمكن ظهوره، بخلاف العبودية، فإنها صفة مستورة في العبد لا سبيل إلى العلم بها، لا لكونه مَدَارَاً للفضل، فعُلِم أنّ فضل العلم إنما يظهر إذا كان العمل يساعده، كآدم عليه الصَّلاة والسَّلام، فإن علمه عُدَّ فضلاً وكمالاً لعبوديته وعَمَلِه حسب عِلْمه. كيف وإنه وسيلة العمل، والوسيلة لا تفوق ما هو وسيلة إليه.
ولعلك الآن ذُقت معنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ولا نُنْكِر فضل العلم، فإن مالكاً وأبا حنيفة رحمهما الله تعالى ذهبا إلى أن الاشتغال بالعلم خيرٌ من الاشتغال بالنوافل على عكس ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله. وعن أحمد رحمه الله روايتان: إحداها في فضل العلم، والأخرى في فضل الجهاد، كما ذكره ابن تيمية رحمه الله في «منهاج السنة»، ولكني أردتُ بيان جهة الخلافة على ما كانت عندي. والله يعلم الحقَّ وهو يَهدي للصواب.
قوله: (قول الله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ}... إلخ) فيه أيضاً سابِقِيَّة للإيمان على العلم، والآية سيقت لبيان فضل عامة المؤمنين، ثم للعلماء لا للثاني فقط. ومعنى قوله: {وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} أي الذين آمنوا ومع ذلك أُوتوا شيئاً آخر وهو العلم.
قوله: ({دَرَجَتٍ}) جمع درجة، يُستعمل في الجنة، كالدَّرَكَات جمع دَرَكَة في النار قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَفِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ}.
قوله: (وقوله عزَّ وجل: {رَّبّ زِدْنِى عِلْماً}) دلالته على فضل العلم واضحة.
باب ُ مَنْ سُئِلَ عِلماً وَهُوَ مُشْتَغِلٌ فِي حَدِيثِهِ، فَأَتَمَّ الحَدِيثَ ثُمَّ أَجَابَ السَّائِل(1/231)
59 - قوله: (فإذا ضُيِّعَتِ الأمانة) ومعنى الضياع: أن لا يبقى اعتمادٌ لأحد على أحد، لا في الدِّين ولا في الدنيا. وقد مرَّ مني أن الأمانة صفةٌ متقدمة على الإيمان، فيجيء أولاً لون الأمانة ثم يجيء عليه لون الإيمان. ولذا اشتق منها الإيمان. وفي الحديث تأديب للسائل بأن السؤال ينبغي أن يكونَ بعد الفراغ لا عند الاشتغال. ومَنْ سُئِل عند الاشتغال يَسَعُ له أن لا يقطع كلامه ويَمضي فيه. وفيه ترغيبٌ للمجيب أن يُجيبَ بعد فراغه إن شاء، وفيه إجازةٌ لتحقيق السؤال إذا لم يفهمه.
قوله: (إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله...) وفي ذلك حكايات عن الأئمة والمحدثين.
فنُقِلَ عن الشافعي رحمه الله أنه لم يكن في سَعَةٍ من ذات يده، وكان الناسُ يُهدون إليه تحائف، إلا أنه لم يكن يُمْسِكُهَا، وكان يُنفقها على الفور، وكان يعيش في عُسرةٍ وتلميذه ابن عبد الحكم كان صاحب الضَّيْعَة والنخيل، فكان يَخْدُمه كثيراً.k
واتفق أن الإمام الشافعي رحمه الله رحل إليه مرة فأمر الطبّاخ أن يهيىء له أنواعاً من الطعام، وكتب أسماءها، فأضاف عليها الشافعي رحمه الله طعاماً آخرَ وكتب بيده، فلما علمه ابن عبد الحكم أعتق عبده من شدة الفرح. فلما كان الشافعي رحمه الله ابن أربع وخمسين، وسمع نداء الرحيل، استفتاه الناس: مَنْ يجلس إليهم بعدَه؟ ومَنْ يتولّى التدريس؟ فجاء ابن عبد الحكم أمامه يرجو أن يُعَيِّن الإمام إياه، إلا أن الإمام الشافعي رحمه الله وَسَّد الأمر إلى أهله وقال: إنّ صاحب الحلقة بعدي يكون إسماعيل بن يحيى المُزَني خال الطحاوي، ولم يُبَالِ بما صنع إليه ابن عبد الحكم من المعروف مُدَّةَ حياته.(1/232)
وهكذا الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله، وكان صاحب طريقة لم يؤجِّرْ نفسه للتعليم مدة عمره، وكان متولياً للخانقاه إذ ذاك، وكان يدرّس فيه لوجه الله. وكان يأخذ منه بالمعروف غير مُتَأَثِّلٍ مالاً. وكان مَلِكُ مصر من أكبر معتقديه متى تَعْرُو له حادثة سُئِل عنها، مع كون الحافظ ابن حجر رحمه الله والعينيّ رحمه الله موجودَيْن في زمانه أيضاً، فلما دنت وفاته سأل الناسُ عمن يجلس مجلسه بعده؟ قال: العلاّمة القاسم بن قُطْلُوبُغَا، وإنما انتخبه من بين سائر تلامذته؛ لأنه مع كونه عالماً كان أورعهم وأتقاهم، ومن أدلة تقواه وورعه: أن علماء المذاهب الأربعة رحلوا لتأييده في مناظرة انعقدت بينه وبين الشيخ عبد البَرِّ بن الشِّحْنَة تلميذ ابن الهُمَام رحمه الله بين حضرة الملك. وبالجملة لما كان العلامة القاسم أهلاً عنده وسَّد إليه الدرس بعده.
وكذلك قصة الشيخ أبي الحسن السِّنْدي من أعيان القرن الثالث عشر، لم يكن يتكلم عند الدرس بحرف، وكان يجلس ساكتاً صامتاً، فلما دنا أجل شيخه سأله الناس أن يستخلف أحداً بعده، فاستخلف أبا الحسن، فتعجَّب الناس منه حيث عَيَّن رجلاً لا يُحْسِن التكلم أيضاً، غير أن الشيخ لما تولّى الدرس بعده عَرَفَ الناس أنه هو الذي كان أهلاً لذلك، فأفاض عليهم من بحور العلوم ما أدهش الناس.
باب ُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالعِلم
أي رفع الصوت بالعلم جائز عند الحاجة.
60 - قوله: (نمسح على أرجلنا...) أي نغسل أرجلنا، وإنما كَنَّى عنه بالمسح لعجلتهم فيه، لا كما يظهر من الطحاوي أن المسح على الأرجل كان في زمان ثم نُسِخ.
باب ُ قَوْلِ المُحَدِّثِ: حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا
(1/233)
باب ُ طَرْحِ الإِمَامِ المَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ العِلم
اعلم أنه لا فرق بين التحديث والإخبار لغة. وأما في الاصطلاح فمنهم من استمر على أصل اللغة، ونَقَل الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة كما في «الفتح». وصرح القاري أنه مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وهكذا يُستفاد من طبقات الحنفية للشيخ عبد القادر القُرَشي في ترجمة عبد الكريم بن الهيثم، أو عمرو بن الهيثم، وهو رأي البخاري، ولذا تجد في كتابه كثيراً في الصلب حدثنا مع نسخة عليه «أخبرنا»، وذلك لعدم الفرق بينهما عنده، ومنهم من فرّق بينهما كمسلم، فإنه كثيراً ما يحوِّل في الإسناد لأجل التنبيه على تغاير لفظي التحديث والإخبار فقط.
ثم إنهم اختلفوا في القراءة على الشيخ هل تساوي السماع من لفظه أو هي دونه أو فوقه؟ فذهب مالك وأصحابه ومعظم أهل الحجاز والكوفة والبخاري إلى التّسوية بينهما. قال السَّيوطي: وعندي: هؤلاء إنما ذكروا المساواة في صحة الأخذ بها رداً على مَنْ أنكرها لا في اتحاد المرتبة، وحُكِي ترجيح السماع عليهما عن جمهور أهل الشرق. قال النووي: هو الصحيح. وحُكِي ترجيح القراءة على السماع عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
قلت: وفي «بستان المحدثين»: عن محمد بن شُجَاع الثَّلْجي، لأبي الليث السمرقندي، أنهما سِيّان عنده، إلا أن محمد بن شُجَاع يُرْمى بالاعتزال. ويُعلم من «الموطأ» أن الإخبار أرجح من التحديث عند مالك، على عكس ما يُستفاد من «الموطأ» لمحمد ثم إن أكثرهم اتفقوا على أن التحديث يدل على السماع.
قلت: قد لا يدل عليه كما في حديث مسلم، في حديث الدجال: «إن الدجال يَقْتُل رجلاً فيقطعه جَزْلَتَيْن، ثم يُحييه فيسأله عنه، فيقول الرجل: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.. إلخ»، فدلّ على أنه يُستعمل عند عدم السماع أيضاً، إلا أن يكون هذا الرجل خَضِراً، لكن كونه خَضِراً غيرُ منصوص في المتن.(1/234)
61 - 62 - قوله: (مَثَلُ المسلم... إلخ) ووجه الشبه أن النخلة لا تنمو بعد قطع رأسها كالإنسان، ويكون فيها ذَكَرٌ وأُنثى وتلقح. حتى رأيت في بعض الروايات التي لا يُعْبَأ بها أنها عمة بني آدم، فإنها خُلِقت من بقية طينته. أما كونها كالمسلم فلكونها غير مُضِرّة بجميع أجزائها، كالمسلم يجيء بالسلامة لا غير، والأمر في باب التشبيهات سهلٌ بعدُ، فلا ضيق.
باب ُ ما جاءَ فِي العِلم
باب القراءةُ وَالعرضُ عَلى المُحَدِّث
قوله: (والعرض... إلخ) ولعل غرض المصنف رحمه الله تعالى أن التمييز فيما بين الألفاظ الثلاثة فيما قرأ على الشيخ، أما إذا قرأ التلميذ بنفسه فإنه يقول فيه أقرأني فلان والمقرىء هو المعلِّم. وههنا رأي آخر وهو أن التلميذ إذا سمع من شيخه يقرأ أو يُقْرَأ عليه لا يعبِّر بالتحديث أو الإخبار ما لم يقصد الشيخ إسماعه، كما يقول النَّسَائي في الحارث بن مِسْكِين: أخبرنا الحارث بن مِسْكِين قراءةً عليه وأنا أسمع.
63 - قوله: (فأناخه في المسجد) وعند البخاري من طريق آخر، فأناخه قريباً من المسجد، وهكذا حكى الحافظ رحمه الله تعالى عن مسند أحمد رحمه الله: أنه أناخه خارج المسجد، فلا حجة فيه للمالكية على طهارة أزبال مأكول اللحم وأبواله.
قوله: (ظَهْرَانَيْهم) وهو تثنية التثنية. فإن الظَّهْرَانِ تثنيةُ الظهرِ، ثم ثَنَّى فصار ظهرانَانِ وسقطت النون للإضافة، وبقيت ياء التثنية.
أقول: إنَّ المُثَنَّى والجمع قد يُنَزَّل منزلةَ المفرد، فيثنَّى ويُجمع كما في البخاري: حدثنا عَبْدَانُ... برفع النون مع أنه مثنَّى، باعتراف جميع أهل اللغة. ولكنه بعد العلمية نُزِّل منزلة المفرد، وعُوْمِلَ معه ما يعامل مع المفرد، فأُعرب بإعرابه، كما في قول الشاعر:(1/235)
أقول: أما شرح هذا الحديث فهو كما شرح به الخَطَّابي، وأما شرح حديث الباب فهو أعم مما قاله، ومن الاتكاء المتعارَف.
قوله: (اللهم نعم) هذا للتأكيد.
قوله: (قد أجبتك) أي أنه صلى الله عليه وسلّمسمع مقالته، وقال: قد أجبتك، مع أنه لم يُجِب الآن وهو موضع الترجمة.
قوله: (رواه موسى... إلخ). قال الحافظ رحمه الله تعالى: إنما عَلَّقه لأن سليمان... ليس على شرطه، وتعقَّب عليه العينيّ رحمه الله تعالى بأنه قد أخرج عنه في باب: يَرُدُّ المصلي من بين يديه.
قوله: (لا تسألوا الخ) روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الصحابة رضي الله عنهم لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلّمإلا ثلاثة عشر سؤالاً. أقول: ولعل مراده الأسئلة التي ذُكِرَت في القرآن، وإلا فهي كثيرة.
قوله: (فمن خلق الأرض) الخَلْق يكون مِنْ كَتْمِ العَدَم بالاختيار والقدرة، فالعالم بقَضِّه وقضِيْضِه مخلوق عندنا. وقال الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى: إنه لم يَقُل أحد من الفلاسفة بقدَم العالم، وكان أفلاطون أيضاً قائلاً بحدوثه، حتى جاء أرسطاطاليس المخذول فاعتقد بقدمه، وهو باطل قطعاً، وقائله كافر، واتفقت الأديان السماوية على حدوث العالم. نعم نُسب إلى بعض الصوفية قدم بعض الأشياء كالشيخ الأكبر، وقال الشعراني الشافعي رحمه الله تعالى: إن هذه العبارات كلها مدسوسة.
أقول: وقد تفرَّد الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى ببعض المسائل أيضاً، فإنه قد اعتبر إيمان فرعون وإن لم يكن توبة، فيعاقب بما فعل، لكنه لا يُخلَّد في النار عنده، ونَسَبَ بحر العلوم إلى الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى قدم بعض الأشياء. وظَنّي أن تلك النسبة صحيحة. وأما ما نَسَبَ الدَّوَّاني إلى ابن تيمية رحمه الله تعالى من قدم العرش، فليس بصحيح عندي، كما قلتُ فيما ألحقت بالقصيدة النونية لابن القيم رحمه الله تعالى:(1/236)
*واللَّهُ كان وليس شيءٌ غيره ** سبحانه جَلَّ العظيمُ الشانِ
*واللَّهُ خالقُ كلِّ شيءٍ غيره ** ما ربُّنا والخلقُ مُقْتَرِنَانِ
*لَسْنَا نقولُ كما يقول المُ ** لْحِدُ الزِّنْدِيْقُ صاحبُ مَنْطِقِ اليُونَانِ
*بِدَوَامِ هذا العَالَمِ المشهودِ وال ** أرواح في أزلٍ وليس بفَانِ
*وهو ابنُ سِينا القِرْمِطِي غدامدى ** شرك الرَّدى وشريطة الشيطانِ
*والعرشُ أيضاً حادثٌ عند الوَرَى ** ومِنْ الخطأ حكايةُ الدَّوَّاني
*وإذِ الحوادثُ لا نَفَادَ لها فلا ** يَصِل المضاء لحادث الإبَّانِ
*وكغايرٍ ماضٍ وما مِنْ فارقٍ ** فاثبُتْ فإنّ الكفرَ في الخِذْلانِ ولي قصيدة طويلة تزيد على أربع مئة بيت في إثبات الصانع وحدوث العالم المسماة: «بضرب الخاتم»، وأيضاً رسالة أخرى ذَكرتُ فيها ما لم أُسْبَقْ إليه.
فائدة
واعلم أن الحدوث الذاتي لم يَقُل به أحد من الفلاسفة حتى جاء ابن سيناء فاخترعه من عنده، يبتغي بذلك أن يتَّخِذ بين الإسلام والفلسفة سبيلاً، وكان فلاسفةُ اليونان قائلين بِقِدَمِ الأفلاك والعناصر بالشخص، وبِقِدَم المواليد الثلاثة: الجمادات، والنباتات، والحيوانات بالنوع، وقد بَيَّنْتُ بُطلانه في رسالتي. وقد صنف ابن رشد كتاباً سماه «تهافت التهافت» وتعقَّب فيه على الغزالي، وعلَّقْتُ عليه رسالة لدحض ما أَوْرَدَ على الغزالي، إلا أنه لم يتفق طبعه. وابن رشد هذا أحذق عندي من ابن سيناء، ويفهم كلام أرسطو أزيدَ منه.
«حج البيت»: قيل إن مجيء ضِمَام بن ثعلبة في السنة الخامسة وفرضية الحج في السادسة أو التاسعة، فكيف ذكر الحج فيه؟ وأجيب بأن فرضية الحج من قبلُ. وأما في السادسة أو التاسعة فتفصيلٌ لأحكامه، وفيه نظر وسيأتي.
باب ُ ما يُذْكَرُ فِي المُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ أَهْلِ العِلمِ بِالعِلمِ إِلَى البُلدَان(1/237)
المُنَاولة أيضاً حُجَّة، وإن اقترنت بالإجازة فهي الأقوى. وأما المُكَاتبة فهي أيضاً حجة بشرط تعيين الكاتب والمكتوب إليه. وقال بعض القاصرين: إن الخط يُشْبِه الخط، فلا تكون حُجة، وتوَّهم ذلك مما في «كتاب القاضي إلى القاضي»: أن الكاتب يُرسِل مع كتابه رجلين يشهدان بأن هذا كتاب فلان أرسله إلى فلان. والمحقَّق عندي أن الخط لا عبرة له في الدعاوي عند الجحود، كأن يدعي أحدٌ بأنَّ عنده كتابَ فلان، فيه إقرارٌ بألف درهم وهو يُنْكِره. وأما في سائر المعاملات: كالطلاق، والنكاح، والعتاق، فإنه معتبرٌ قطعاً، وفي عامة كتبنا تصريح بصحة وقوع الطلاق بالكتاب. وراجع «فتح القدير».
فائدة
قال ابن مَعِين: إن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كانَ يشترط في اعتبار الكتابة عدمَ النسيان من الأول إلى الآخر، وقال صاحباه بجوازها بشرط التذكر عند رؤية خَطِّه، ولا يُشْترط التذكّر من الأول إلى الآخر كما قال الإمام الهُمَام.
65 - (فاتَّخَذَ خاتماً) وعُلم منه أنه صلى الله عليه وسلّملم يكن يحب اتخاذ الخاتم ثم اتخذها لأجل الضرورة، فاحفظه كالأصل؛ فإنه يدلّ على أنه قد يُتْرَكُ في شيء مرضيٌّ عند الضرورة، وكان نَقْشُهُ: محمد رسول الله، على اختلاف في صورته، وكان نَقْشُ خاتم عمر رضي الله عنه: «كفى بالوت واعظاً» وكان نقش خاتم إمامنا رحمه الله تعالى: «قُلِ الخيرَ وإلا فاسْكُتْ»، وهذا يدلّ على أنه لا يجب كتابة اسم صاحب الخاتم على الفَصّ. وكان الخاتم في القديم أمارة لاختتام الشيء ويُختم الآن للتصديق، وقوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ} (الأحزاب: 40) على العُرْف القديم، فلا حُجَّة فيه للشقي القادياني.
فائدة(1/238)
واعلم أنّ المصنِّف رحمه الله تعالى ذكر في تلك الأبواب عِدَّة مسائل من أصول الحديث وعمدةِ التصانيف، وأجودُهَا في هذا الباب تصنيفُ الشيخ شمس الدين السَّخَاوي، تلميذِ الحافظ ابن حجر، المسمى ب«فتح المغيث» و «النُّكَتُ على ابن الصلاح» للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى أيضاً لطيف.
باب ُ مَنْ قَعَدَ حَيثُ يَنْتَهِي بِهِ المَجلِسُ، وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً فِي الحَلقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا
66 - (... فأعرض الله عنه) قد سبق إلى بعض الأوهام فضلُ الرجل الأول على سائرهم، وأنَّ الثالث محروم.
قلت: فإن كان ذلك معلوماً من الخارج فالأمر كذلك، أما في الحديث فلا دلالة فيه على ذلك، لأنه ليس فيه إلا الجزاء من جنس العمل، كما في قوله: «أنا عند ظن عبدي بي... إلخ» بَحَثَ الناس فيه أنَّ الذكرَ بالجهر أفضلُ أو بالسر؟.
قلت: وهذا البحث في غير موضعه، بل تخليط للمراد، فإن الحديث ناطق بأن الله تعالى يُعَامِلُ كُلاًّ بِحَسَبِ ظنه، فليس فيه إلاّ الجزاء من جنس العمل، فمن ذكره في ملأً يذكره في ملأً عنده، لأنه جزاء عمله، وكذلم من ذكره في نفسه يذكره في نفسه لأنه جزاء يوازي عمله، فلا تعرُّضَ فيه إلى الأفضلية ولا إيماء.
وهكذا الأمر ههنا، فمن أعرض عن ذلك المجلس فإنه لم يصب حظه من هذا المجلس وحُرِم عن أجره خاصة، وإن أمكن أن يكون هذا المستحي أفضل منه من جهة أخرى، فإن الحياء نصف الإيمان، ولأنه اصطفى لنفسه الخمول وتحرَّز عن الشهرة فهذا باب آخر، وفضيلة من جهة أخرى، كما في الحديث ولعله في كنز العمال أن من ترك الصف الأول لأجل أحد تواضعاً لله تعالى فإنه يَضْعُفُ أَجْرَهُ - أو كما قال - مع أن ثواب الصف الأول معلوم ولكن التأخر عنه قد يفضل التقدم إليه، فهكذا يمكن أن يكون المستحي أفضل من الداخل فيه. فمن قال: إن الثالث كان منافقاً فقد اقتفى لما ليس له بعلم.(1/239)
ونحوه ما عند الترمذي من حديث: «فلير أثر نعمته عليك» فإنه يدلّ على أن الفضل في إراءة النعمة. وحديث آخر «من ترك ثوب الزينة تواضعاً لله ألبسه الله حُلَلَ الكرامة يوم القيامة» - أو كما قال - يدل على أن الفضل في البذاذة. والوجه أنه لا تناقض بينهما لأنهما محمولان على بابي فضيلة فإراءة النعمة أيضاً باب وهو مطلوب بنفسه، والبذاذة فضيلة من جهة أخرى وباب آخر ومطلوب أيضاً، والشيء إذا كان ذا جهات يتأتى هناك مثل هذا فافهم.
وأما قوله فاستحى الله منه فمبنيٌّ على صنعة المشاكلة. قوله: (فرجة) بالفتح أو الضم وفيه حكاية عن أبي العلاء النحوي، وكان إمام اللغة فجرى بينه وبين الحجاج شيء، فاضطر إلى ترك العُمْرانات وسكن بالبادية يتقي بذلك شرّه، ومضى على ذلك زمان حتى شدا أعرابي بوفاته، وأنشد:
*ربما تَكرهُ النفوسُ من الدهرِ ** له فرجةً كحَلِّ العقالِ فلما سمع منه الفرجة بالفتح قال لا أدري أبموته أفرح أم بتحقيق هذه اللغة فإني كنت متردداً فيه.
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعى مِنْ سَامِعٍ»
عبّرهُ بقول النبي صلى الله عليه وسلّمإشارة إلى قوته، وإنما أراد به التنبيه على أن الحديث لا يختص بالحلال والحرام بل هو عام لكل ما سُمِع، وفيه أنه يمكن أن يكون في الأمة من يفضل الصحابة في الوعي والحفظ فهذا فضل جزيءّ. وأما الفضل الكليّ فلهم خاصة لما ثبت. سبقهم بالإسلام والنصر.
باب العِلمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَل
باب ُ ما كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم يَتَخَوَّلُهُمْ بِالمَوْعِظَةِ وَالعِلمِ كَي لا يَنْفِرُوا
هذه مقدمة عقلية، واستشهد لها بقوله: ({فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ}) فذكر أولاً العلم ثم أردفه بالعمل وقال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}... إلخ.(1/240)
68 - (يتخولنا) أي يتعهدنا وقتاً فوقتا لئلا يفضي إلى السآمة نكراني كرتى تهى قوله: (هل يستوي الذي يعلمون إلخ هل يستوي الذي يعلمون,,,إلخ)، نزّل فيه الفعل المتعدي منزلة اللازم. وذكر الأُشْمُوني: أن اللازم يُجعل بالتضمين متعدياً وكذا العكس، وليس بينهما تباين كما فهم. وتلك المسألة وإن كانت من المعاني - وأهل اللغة لا يعتبرون باعتبارات علماء المعاني - إلا أن تلك المسألة أتى بها الزَّمْخَشَري في «المفصَّل»، وهو كتاب في النحو، فاعتبروا بها؛ لأنهم يعتبرون بالنحو.
وأوثق كتاب في النحو الرَّضِيّ، وأما باعتبار جمع المسائل فالأُشْمُوني، وأما كتاب سِيَبَويْه فهو «الكتاب»، إلا أنه عسير جداً. وعلَّق عليه السَّيْرافي حاشية، وهو إمام النحو، فما يذكره يكون صحيحاً إلا أن إدراك مدارك سيبويه بعيد من شأنه.
69 - (يحيى بن سعيد)) هذا هو القطَّان إمام الجرح والتعديل وأول من صنف فيه، قاله الذهبي. وكان يفتي بمذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وتلميذه وكيع بن الجراح تلميذ للثوري وهو أيضاً حنفي. ونقل ابن معين: أن القطان سئل عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فقال: ما رأينا أحسن منه رأياً وهو ثقة. ونقل عنه أني لم أسمع أحداً يجرح على أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فعُلم أن الإمام الهُمام رحمه الله تعالى لم يكن مجروحاً إلى زمن ابن معين رحمه الله تعالى.(1/241)
ثم وقعت وقعة الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وشاع ما شاع وصارت جماعة المحدثين فيه فرقاً. وإلا فقبل تلك الوقعة توجد في السلف جماعة تفتي بمذهبه، ويحيى بن معين أيضاً حنفي، وعندي رسالة الذهبي وهو حنبلي الاعتقاد وشافعي المذهب وفيها: أنه كان حنفياً متعصباً، ولعل وجهه أن ابن معين جرح على ابن إدريس الشهير بالإمام الشافعي رحمه الله تعالى. وما قيل إنه غير الشافعي رحمه الله تعالى فليس بشيء، والحق عندي أنه وإن جرح عليه لكنه غير مناسب له فإن الشافعي رحمه الله تعالى له شأن لا يدركه ابن معين رحمه الله تعالى. ثم إن الدارقطني قد أقرَّ: أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى أسن منهم، وأنه لَقِيَ أنساً رضي الله تعالى عنه، وإنما الخلاف في روايته عنه. وجمع ابن جرير في كتاب «اختلاف الفقهاء» فقه أبي حنيفة والأوزاعي والشافعي رحمهم الله تعالى، ولم يأتِ بفقه أحمد رحمه الله تعالى ولا بمناقبه فسئل عن وجهه، فقال: إني جمعت فيه مذاهب الفقهاء ومناقبهم وأذكر مناقبه حين أذكر مناقب المحدثين، وأصرَّ على ذلك حتى استشهد بسببه. وكذا أبو عمر المالكي أيضاً ذكر مناقب هؤلاء الأئمة الثلاثة ولم يذزكر مناقب أحمد رحمه الله تعالى، والبيهقي أيضاً لم يقدح في أبي حنيفة رحمه الله تعالى مع كونه متعصباً، كما ذكره الشيخ شمس الدين في «الغاية»: أني سمعت من مشايخي أنه متعصب، ومر عليه ابن السبكي فقال: إن سمعت أن لحوم العلماء مسمومة من يأكله يموت.
(1/242)
قلت: هو كذلك لكن من الطرفين ثم لم أر محدثاً فقيهاً أو فقيهاً فقط، يقدح في أبي حنيفة رحمه الله تعالى. نعم من كان منهم محدثاً فقط فإنه جرح عليه ثم إنه نقل عن أبي داود ما يدل على أنه من معتقدي أبي حنيفة رحمه الله تعالى حيث قال: رحم الله أبا حنيفة كان إماماً. وأما البخاري فإنه يهجوه. وأما النسائي فقد ضعفه وشدد في حسن بن زياد، وقال: إنه كذَّاب وهو خلاف الواقع، وأما مسلم فلا يدري حاله غير أن الجارود رفيق سفره حنفي وأدبه العربي أعلى من مسلم.t
وكان مسلم يستعين منه في أشياء. وأما التِّرمذي فهو ساكت. وأما ابن سيد الناس والدُّمياطي فإنهما في ثلج الصدر عن الإمام ويوقرانه ويبجلانه حتى أنه مرّ على إسناد فيه الإمام الأعظم فصححه. وأما العراقي فلا يدري حاله إلا أن سلسلة تلمذته انتهت على المارديني وهو حنفي، فالله أعلم أنه هل تأدب لهذا التلمذة أم لا. بقي الحافظ ابن حجر، وهو ضَرُّ الحنفية بما استطاعه حتى أنه جمع مثالب الإمام الطحاوي والطعون فيه، مع أن أبا جعفر الطحاوي إمام عظيم لم يبلغ إلى أحد من أئمة الحديث خبره إلا حضره عنده بمصر وجلس في حلقة أصحابه وتتلمذ عليه.
والحافظ البدر العيني أسنّ من الحافظ ابن حجر، وقد سمع عليه ابن حجر حديثاً من مسلم، وحديثين من مسند أحمد.
69 - (قال يسروا الخ..) أخذ المضمون طرداً وعكساً وهو من باب المحسنات.
باب ُمَنْ جَعَلَ لاِءَهْلِ الْعِلْمِ أَيَّاماً مَعْلُومَة(1/243)
يريد أن مثل هذه التعينات لا تُعَدُّ بِدعةً، والبدعة عندي ما لا تكون مستندةً إلى الشرع، وتكون ملتبسةً بالدين، ولذا يقال إن الرسوم التي جرت في المصائب بدعة دون التي في مواضع السرور، كالأنكحة وغيرها فإن الأولى تُعَد كأنّها من الدين فتلتبس به بخلاف الثانية. والسر فيه أن رسوم المَسَرات أكثرُهَا تكون من باب اللهو واللعب فلا تلتبس بالدين عند سليم الفطرة، بخلاف رسوم نحو الموت فإن غالبَهَا يكون من جنس العبادات فيتحقق فيها الالتباس.
فائدة: وفي محق الرُّسُومات كتاب للشاه إسماعيل رحمه الله تعالى سماه: «إيضاح الحق الصريح» وهو أجود من كتابه «تقوية الإيمان» فإنه يحتوي على مضامينَ علمية، وكتابه «تقوية الإيمان» فيه شدة فَقَلَّ نفعه، حتى إن بعض الجهلة رموه بالكفر من أجل هذا الكتاب. قلت وجميع ما فيه موجود في كتاب «الاعتصام» للشاطبي رحمه الله تعالى. والله الهادي إلى الصواب. أما محمد بن عبد الوهاب النَّجْدِي فإنه كان رجلاً بليداً قليلَ العلمِ، فكان يتسارع إلى الحكم بالكفر ولا ينبغي أن يقتحم في هذا الوادي إلا من يكون متيقِّظاً متقِناً عارفاً بوجوه الكفر وأسبابِهِ.
باب ُ مَنْ جَعَلَ لأَهْلِ العِلمِ أَيَّاماً مَعْلُومَة
باب ُ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّين
الفقه والفهم والفكر والعلم والمعرفة والتصديق كلها ألفاظ متقاربة لا مترادفة، فالفقه: أن يفهم غرض المتكلم صحيحاً. والفكر: انديشيدن. والفهم: فهميدن. والعلم: دانستن. والمعرفة: شناختن. والتصديق: باوركردن. فهذه فروق نبه عليها أهل اللغة لا يُهتدى إليها بعد صرف الأعمال.(1/244)
71 - قوله: (إنما أنا قاسم والله يُعطي). واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلّمفي النَّظر المعنوي ليس بقاسمٍ كما أنه ليس بمعطٍ فإن الأمورَ كلَّها إلى الله سبحانه فمنه الإعطاء ومنه القسمة. وإن نظرت نظراً صورياً فهو معطٍ أيضاً كما أنه قاسمٌ، فكيف هذا التقسيم في القسمة والإعطاء بين الله ورسولِهِ فإنه يؤدِّي إلى اعتبار جهة الصورة والمعنى معاً. ثم تبيَّن لي أنه راعى جهة الصورة فقط في الجملتين كلتيهما؛ لأن الحديث واردٌ على طور أهل العرف وهم لا يعتبرون في الإعطاء الفاعلَ الحقيقيَّ، بل ينسبونَه إلى الناس فيقولون: زيد أعطى كذا. وموجبه أن يعزوَ إلى نفسه الإعطاء أيضاً كالقِسمة ويقول وأنا أُعطِي. إلا أنه نسبه إلى الله تعالى؛ لأنه عارضته جهة أخرى، وهي أن المُعطي يكون عالياً مستقلاً عند أهل العرف، والقاسم آلة، والآخذ سافلاً، واليدُ العليا خير من اليد السفلى، فأبقى الاستقلال لصاحب القوة وهو الله سبحانه. ونسب إلى نفسه ما ناسب ضعفه، فإن الإنسان خُلِق ضعيفاً فراعى الأدب في القرينتين، لا أنه راعى مسألة توحيد الأفعال. ثم رأيت في كلام الحافظ ابن تيميّة رحمه الله: أن الأنبياء عليهم السلام لا يملكون شيئاً حال حياتهم كما أنَّهم لا مِلْك لهم بعد وفاتهم، واستُدِلَّ عليه بهذا الحديث، وقال: «إنه قاسم لا غير ولا مِلْكَ له أصلاً. فحينئذٍ بقي الحديث على ظاهره بدون تأويل. وأما قوله تعالى: وما رميت إذا رميت الخ وما رميت إذا رميت,,,الخ (الأنفال: 17) فإنه روعِيَتْ فيه جهة الصورة والمعنى معاً وله وجهٌ أيضاً. («ولن تزال... إلخ») واختلف في تعيين مصادقِهِ وكلٌّ ادّعى بما بدا له.(1/245)
قلت: كيف مع أنه منصوصٌ في الحديث وهم المجاهدون في سبيل الله؟ ثم رأيت عن أحمد رحمه الله أن تلك الطائفة إن لم تكن من أهل السنة والجماعة فلا أدري من هي؟ ولم أكن أفهم مراده لأنك قد علمت أنها المجاهدون بنص الحديث. ولا يمكن عنه الغفلة لمثل أحمد رحمه الله فكيف قال إنها أهل السنة والجماعة؟ ثم بدا لي مراده: وهو أن المجاهدين ليسوا إلا من أهل السنة، فعلمت أنه عيَّنَهم من تلقاء جهادهم لا من جهة عقائِدِهم، ويشهد له التاريخ فإنه لم يُوفَّق للجهاد أحد غيرُ تلك الطائفة. وأكثر تخريب السلطنة الإسلامية كان على أيدي الروافض خذلهم الله ولعنهم.
71 - ومعنى قوله: (ولن تزال»): أي لا يخلو زمان إلا وتوجد فيه تلك الطائفة القائمة على الحق لا أنهم يكثرون في كل زمان ولا أنهم يغلبون على من سواهم كما سبق إلى بعض الأفهام، حتى أن غلبة الدين في زمن عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام عندي ليس كما اشتهر على الألسنة بل الموعود هو الغلبة حيث يظهر عليه الصَّلاة والسَّلام وفيما حواليه. أما فيما وراء ذلك فلم يتعرض إليه الحديث، والعمومات كلها واردة في البلاد التي يظهر فيها ولا تتجاوز فيما وراءها، وإنما هو من بداهة الوهم والسبق إلى ما اشتهر بين الأنام.
علي بن المَدِيني: قال البخاري: وما استحقرت نفسي بين يدي أحدٍ مثل ما استحقرتُ بين يديه.
باب ُ الفَهْمِ فِي العِلم
باب ُ الاغْتِبَاطِ فِي العِلمِ وَالحِكْمَة
72 - (مجاهد) وعند الطحاوي بإسنادٍ صحيح أنه صحب ابن عمر رضي الله عنه عشر سنين ولم يره يرفع يديه مع أن ابن عمر رضي الله عنه هو الذي رفع لواء رفع اليدين فاحفظه فإنه مهم جداً.
وترجمته، ريس كرنا. وهو غير الحسد لأن المعتبر في الحسد تَمَنِّي زوال النعمة عن الغير بخلاف الغِبْطة.(1/246)
73 - (قبل أن تُسَوَّدوا) ليس من المعارضة في شيء بل هي من باب التكميل أو الاحتراس، زاده البخاري من قبله.
فائدة
واعلم أن الشيخ جلال السُّيوطي رحمه الله صنّف كتاباً في المعاني والبيان وسماه «عقود الجمان» وهو وإن كان كتاباً حسناً إلا أنه لم يستوعب المسائل. وهكذا «المُطَوَّل».
وأقول بعد التجربة كالعيان: إن كثيراً من المسائل من تلك الأبواب تُسْتَنْبَط من الكشاف، ما شممت رائحةً منها في أحدٍ من الكتب في هذا الفن، وأظن أنها تبلغ إلى نصف ما في كتب القوم فعلى المتبصِّر أن يتفحَّصَ كتابه طلباً لتلك المسائل.
73 - (على غير ما حدثناه) يريد أنه بلغ سفيان من طريقين والذي ههنا هو من طريق إسماعيل بن أبي خالد.
(الحكمة) ونُقِل في «البحر المحيط» في تفسيرها نحوٌ من أربعة وعشرين معنىً، وفسرها الدَّوَّاني في شرح العقائد الجلالي: درست كارى وراست كردارى، وهو مراد السيوطي رحمه الله بإتقان العمل. وفي «فتح العزيز»: أنها حكمة أحكام الشرع. وطرد ابن كثير في تفسيرها على أنها السنة.
وما تحقق لي هو: أن الحكمة أمر غير النبوة وغير أمور الوحي بل هي مما يتعلق بأمور الفهم، والتمييز من باب الكلمات التي تضرب بها الأمثال، فإنها لا تكاد تكذب وتكون مفيدة جداً، كذلك الحكمة تُلقى في قلوبِ الخاشعينَ الزاهدينَ في الدنيا وتكون كلماتهم نافعة للناس، فهي من باب المقولات المفيدة يستفيد بها الناس في أعمالهم وفصل أَقْضِيَتِهِم.
73 - (يقضي). واعلم أن الفتوى غير القضاء فإن الفتوى يقتضي علم المسألة فقط والقضاء يقتضي علم الواقعة أيضاً، فهو يستدعي علمين بخلاف الفتوى فإنها تجري على الفروض المجردة ولا تعلق له بما في الواقع، والقضاء يجري على الوقائع فقط ولا تعلق له مع الفروض المقدرة فاعلمه، وسيجيءُ تفصيلُ الفرق بينهما أَزْيَدَ من هذا.
(1/247)
باب ُ ما ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي البَحْرِ إِلَى الخَضِر
74 - (تمارى هو والحُرُّ) هذا الحرُّ تابعيٌّ، ووجه التَّماري: أن الحرَّ كان عالماً بالتوراة، ولم تُذْكَر تلك القصة فيها.
74 - (في صاحب موسى) واعلم أنه يُعلم من هذا الطريق أن التماري في صاحب موسى من هو خضر أو رجل آخر؟ ويُعلم من طريق آخر أنه في تعيين الذاهب نفسه أنه موسى بن عمران أو موسى بن يوسف؟ أقول: وكلاهما صحيحان، والاختلاف باعتبار الرَّجلين فمع رجل في الذاهب ومع آخر في صاحبه، ولا وهم ولا اضطراب.
74 - (قال موسى: لا) وصدق موسى، لأنه كان نبي الوقت وهو يكون الأعلم في أمته قطعاً، إلا أنه أخذ عليه مؤاخذة لفظية حسب منزلته، حيث كان الأنسب له والأليق بشأنه أن يكل العلم إلى الله سبحانه وتعالى، ويتحرَّز عن الافتيات على الله صورةً، والادعاء ظاهر وتلك المناقشات لا تزال تجري مع الأنبياء عليهم السلام دون سائر الناس. ثم صيغة التفضيل في السؤال والجواب على العرف لا على طور أهل المعقول على حد قولهم: فلان أعلم بغداد فلا ضيق فيه.
74 - (فجعل اللَّهُ له الحوتَ آيةً... إلخ) وإنما أَبْهَمَ على موسى سبيله ولقيه تبكيتاً ومعاتبةً وإظهاراً لقصور علمه في كل موضع وكل مكان، ولذا ألقى عليه النسيان مرتين.
74 - (إذا فقدت) وقد كان أوصى به يوشع عليه الصَّلاة والسَّلام ولم يكن نبياً بعد.(1/248)
({وَمَآ أَنْسَانِيهُ}) نسبة النسيان إلى الشيطان كنسبة التثاؤب إليه، فهذه من الأمور الطبيعية نسبت إليه لمناسبة بينهما وبين الشيطان. وقد ثبت النسيان خمس أو أربع مرات عن النبي صلى الله عليه وسلّمأيضاً. فدلَّ على أن النسيان لا يكون عن تسلط الشيطان دائماً. ونسيان يوشع عليه السلام أيضاً من هذا القبيل، وإنما نسب إليه لما بينا، على أنه لا دليل على أنه كان نبياً إذ ذاك، نعم لو ثبت كونه نبياً لأشكل النسيان من جهة الشيطان ولكن إذا قلنا إنه من الأمور الطبيعية لم يرد شيء.
74 - (فوجدا خَضِراً) عند مسقط الفرات في خليج فارس في العراق كذا قيل. قلت: والصحيح عند «أيلة» ويقال لها الآن «العقبة» في الجانب الغربي في الشام، وصَحَّف بعضُهُم فكتب أبله وهو غلط. ولعل لقاءه خَضِراً في مدة إقامته بسيناء بعد العبور عن البحر.
(1/249)
أما البحث في أن خضراً كان نبياً أم لا فلا أحب أن أقتحم فيه، غير أنه كان حاملاً لنحوٍ من العلم وهو العلوم التكوينية، وموسى عليه السلام كان حاملاً لنحوٍ آخر وهو علوم الذات والصفات وعلم الشريعة وهو العلم الأعلى والمقصد الأسنى، بخلاف العلم الأول فإن كماليته في جانب الحق لا في جانب الخلق، وقد جُرِّب أن كشوف أهل التصوف من غير العلماء أكثرَها تكون في الأمور التكوينية. أما أهل العلم منهم فأكثرُها تتعلق بالأمور الإلهية، كالشاه ولي الله رحمه الله تعالى والشيخ الأكبر رحمه الله تعالى فإن كشوفهما تتعلق بحلِّ مسائل الصفات وغيرها، ونعمت الكشوف هي. وإنما أظهر أعلمية الخضر عليه السلام مع كونه مفضولاً، لأن موسى عليه السلام كان معاتَباً ومناقَشاً به إذ ذاك، ولو انعكس الأمر لأظهر أعلميةَ موسى عليه السلام، ولما علم خضر من حاله لم يقُل إلا ما حكاه النبيّ صلى الله عليه وسلّمعنه من قوله أنت على علم... إلخ. ولعلك علمتَ من هذه القصة ما قَدْرُ عِلْمِ العبد بجنب علم الله تعالى حيث أن موسى عليه السلام مع كونه نبياً لم يكن عنده علمٌ من الجزئيات الحقيرة بل لم يستطع أن يصبر على جزئي واحد من هذا العلم، وصدق خضر عليه السلام: {أنك لن تستطيع معي صبراً} (الكهف: 67) فكأنه لم يخلق لهذا النحو من العلم. وهذا الذي علمته كان من أمر موسى وخضر عليهما السلام. أما خاتم الأنبياء عليهم السلام فإنه تمنّى أن يكون موسى عليه السلام صَبَر ليعلم من عجائب قصصهما أزْيَدَ من هذا فكأنه أيضاً لم يكن أوتي تلك العلوم فهذه عقيدة موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم في علم الله تعالى. ولقد صدق الله تعالى: {وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) فالعبد عبد وإن عُرِجَ به فوق السموات العلى، والله تعالى سبحانه وراء الوراء وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
فائدة(1/250)
قد صنف الشيخ تقي الدين السبكي في الرد على الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى رسالة سماها ب«الاقتناص في الفرق بين القصر والاختصاص»، وقال فيها: إن التقديم لا يفيد القصر بل يفيد الاختصاص والفرق بين القصر والاختصاص أن الاختصاص اسم لإفادة الشيء بخصوصه بخلاف القصر فإنه اسم للإثبات والنفي جميعاً، وأحاله السبكي والزمخشري ولم أره في كلام الزمخشري.
باب ُ قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ»
يريد أنه غير مُضبِط بل مُختلِف باختلاف الأشخاص والأزمنة. وقصة العارف الجامي وذهاب أبيه إياه إلى درس العلامة الحيدرة في صباه مشهورة، وقد أحفظ أنا أيضاً كثيراً مما وقع لي في صِغَري كالواقع اليومي.
75 - (واللهم علمه... إلخ) وكان النبي صلى الله عليه وسلّمذَهب لحاجته فلما رَجَعَ ورأى ماءاً موضوعاً للوضوء استحسن خدمَتَهُ وفَرِحَ على فَرطِ ذكائه وفهمه، فدعا له فجعله الله تعالى تَرْجَمَان القرآن ببركةِ دعاءِ نبيه صلى الله عليه وسلّم ومن بركة دعائه أنه لما ذهب إلى اليمن، وألقى عليهم تفسير سورة البقرة، قال المسلمون هناك: إنه لو سمعه اليهود والنّصارى لآمنوا كلُّهم.
باب ُ مَتَى يَصِحُّ سَماعُ الصَّغِير
76 - (إلى غير جدار) واعلم أنه اختلف البيهقي والبخاري في وضع الترجمة على هذا اللفظ، فترجم البيهقي بنفي السُّتْرَة، والبخاري فيما سيأتي بإثباتها،وهذا يُبْنَى على الغور في معنى الغير.(1/251)
قال الشيخ العيني: إن غير في اللغة العربية قد يكون للنّعت فيقَدَّر له المنعوت، أي إلى شيء غير جدار. وقد تستعمل في الاستثناء فتنسلخ عن معناه. وتفصيل الفرق أنه إذا كان للاستثناء فهو للإخراج عن حكم ما قبله فقط بدون تعرُّضٍ إلى بيان المغايرة بينه وبين ما قبله، فمعنى قولك جاءني القومُ غيرُ زيد على الاستثناء إخراج زيد عن حكم المجيء لا بيان المغايرة بين القوم وزيد... فيمكن أن يكون زيد مغايراً للقوم، وأن لا يكون، ومعنى قولهم: جاءني رجل غيرُك، بيان المغايرة أي أن الجائي لم يكن أنت بل كان مغايراً منك فقط، فلفظ غير إذا كان للنّعت فهو لبيان مغايرةِ ما قبله مما بعده، وإن تبعه النفي لزوماً، فإن الجائي إذا كان رجلاً مغايراً منك فلم يكن أنت قطعاً وإذا كان للاستثناء فهو للإخراج عن الحكم فقط، ولذا قالوا: إن «إلا» في قوله: {لو كان فيهما ألهة إلا اللَّه}... إلخ (الأنبياء: 22) بمعنى غير، ومعنى الكلمة أنه لو لم يكن الله سبحانه وإن كان غيره واحداً كان أو ألفاً لفسدت السموات والأرض، فهو الذي أمسك السموات والأرض أن تزولا، فهو قيام السموات والأرض ولو لم يكن الله بفرض المحال لزالتا عن مكانهما، ولئن زالتا لم يكن أحد ليمسكهما من بعده. وغفل بعض الناس عنه فذهب يزعم أن معناها بطلان التعدد فقط، والتحقيق أنه لبيان فساد العالمين على تقدير وجود أحد غيره تعالى ولو كان واحداً أو ألفاً. إذا علمت معنى غير فاسمع أن البخاري أخذه للنعت، فمعناه أنه صلّى إلى شيءٍ مغايرٍ للجدار فثبتت السُّترة ولكنّها لم تكن جِداراً بل كانت شيئاً مغايراً له. وأخذ البيهقي بمعنى النفي المحض فمعناه أنه كان يصلي ولم يكن بين يديه جدارٌ، ولفظ غير وإن كان يستعمل للنفي المحض أيضاً، سيما إذا تقدّمته لفظة «من» و «إلى» كما في «المطول» لكن ما اختاره البخاري أوْلَى وعليه تظهر فائدة التعرّض إلى نفي الجِدار وخاصة، لأنه إذا لم يكن هناك جدار ولا غيرُهُ(1/252)
فالتعرض إلى نفيه خاصة لغو.
(وأرسلت الأتان... إلخ) وفي بعض طرقه أنه مرَّ بين يديهم راكباً ورأيت في بعض الشُّرُوح مسألة وهي: أن رجلاً لو مرَّ راجلاً وراءَ الإمام أثم وإن كان راكباً فلا.
قلت: ولا يتأتّى هذا على مذهبنا فإن المعتبر عندنا في المرور هو المحاذاة، فإذا حاذى أعضاء المارّ أعضاءَ المصلِّي أو عضواً منه اإثِمَ بدون تفصيلٍ بين الرُّكوب وعدمه. وأجاب بعضهم على ما اختاره البخاري من ثبوت السُّترة، أن مروره كان من وراء السُّترة.
قلت: نعم هذا الكلام يأتي على مسائلنا أيضاً بشرط أن يكون مروره خارج السترة، وفي كتب المالكية أن سترة الإمام ما كان بين يديه من خَشَبٍ أو رُمْحٍ أو غيرِهِما، ثم الإمام بنفسه سُترة للقوم، ويلزم منه أنه لو مرَّ أحدٌ داخلَ السترة قُدَّام الإمام فلا شيء عليه؛ لأن الإمام نفسَه سُتْرةٌ للقوم، فكأنه لم يمرّ بين أيديهم.
قلت: وهذا صادق في حق القوم أما في حق الإمام فلا يَصْدُق على مذهب المالِكيّة أيضاً، فإنه قد مرّ بين الإمام وسُتْرَتِهِ وإن لم يمرّ بين القوم وسترتهم. وإنما لا يكون مُرُورُهُ بين يدي الإمام إذا فُرِضَ مُرورُهُ وراءَ السترةِ مع أنه قد فُرِضَ مرورُهُ أمام الإمام، فيكون مارّاً بين يدي الإمام وإن لم يكن مَارّاً أمام القوم، فإن الإمام سترةٌ لهم على مذهب المالكية بخلافه على مذهبنا فإنّه يأثم مطلقاً؛ فإن سترة الإمام هي سترة للقوم وليس الإمامُ نفسُهُ سترةً للقومِ، فيكون المرورُ داخلَ السترةِ أمامَ الإمام كالمرورِ بين أيديهم بدونِ السُّترةِ، فإن حُكْمُهَا فيما وراءَها فقط.
قوله: (مجة مجها) هذه مُطَايَبَةٌ منه صلى الله عليه وسلّم
باب ُ الخُرُوجِ فِي طلَبِ العِلم(1/253)
(ورحل... إلخ) وقصته أنه رحل من المدينة إلى الشام حتى إذا بَلَغ الشام سأل الناس عن بيته فوصل إليه وناداه على بعيره، وكان عبد الله بن أنيس في عِلْيَتِهِ فأخرج رأسه من عِلْيَةٍ ورأى جابراً رضي الله تعالى عنه، فقال جابر رضي الله عنه: سمعت أن عندك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلّمفحدثني به؟ فحدثه، فأخذه جابر رضي الله تعالى عنه وصرف عنان بعيره إلى المدينة ولم ينزل عن بعيره، فَأَصرَّ عليه عبد الله بن أنيس أن يَنْزِلَ من بعيره ويُقِيْمُ عنده فأبى، ورجع القَهْقَرَى. والحديث الذي رحل جابر لأجله مذكور في حاشية الصحيح وفيه: فيناديهم بصوت.... إلخ.
باب ُ فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّم
وعَلَّمَ من المجرد معناه جانا. والقياس أن يكون معنى عَلَّم من التفعيل جنوايا إلا أن ترجمته سكهلايا؛ لأنه لا سبب للعلم إلا التعليم، وأتردد في أن هذا النوع من التعدية ثابت في لغة العرب أم لا؟ وقد أقرَّ به المالكية في قوله صلى الله عليه وسلّمإذا أَمَّنَ الإمام وقالوا معناه: إذا يحمِلُكُم الإمام على التأمين.
الغيث فريادرس، ويقال للماء الذي تَخْضَرّ به الأرض وينبت به الكلأ والعشب.
والعشب عام للرَّطْبِ والكلأ، ثم إن كتابة الهمزة بعد الألف غلط بل ينبغي أن تكتب فوق الألف هكذا «الكلأ» ولم تكن الهمزة في لغة العرب حتى أحدثها الخليل.Y
(«أمسكت الماء... إلخ») يعني فيها قابلية الإمساك دون الإنبات، وأَمْرُ التَّطبيق بين المُشَبَّه والمُشَبَّه به سهلٌ، فليراجعه من الشروح والحواشي.
باب رَفعِ العِلمِ وَظُهُورِ الجَهْل
ربيعة وهو ربيعة الرأي شيخ مالك رحمه الله تعالى، وأكثر فقه مالك رحمه الله تعالى منه. وحُكِي أن ربيعة تعلّم الفقه على أبي حنيفة رحمه الله تعالى.(1/254)
والرأي عند السلف بمعنى الفقه، وشاع في المتأخرِّين بمعنى القياس حتى أن بعض الشافعية يُلَقِّبون الحنفية بأهل الرأي هجواً لهم ولا يدرون أنه في الحقيقة مدحٌ لهم؛ لأن محمد بن الحسن هو أول من فَصَلَ الفقه من الحديث ودونه ولذا نسب إلينا الفِقْه ولُقِّبْنَا بأهلِ الفِقْه وأهل الرأي. فأهل الرأي بمعنى مؤسس الفقه ومدونه لا بمعنى القائِس والقائِفِ ليكون هجواً كما راموه ثم إن كلاً منهم أفرزوا فِقْهَهُمْ من الحديث ودَوَّنوه على حِدَة، إلا أنه بقي العارُ علينا كقولهم: البادي أظلم، وإلا فمن في المذاهب من ليس فقهه مفرزاً من الحديث؟ فأي اعتراض علينا؟ ثم في الكُتُب أن مُدَوِّن علمِ أصولِ الفقه هو الشافعيّ رحمه الله تعالى.
قلت: وعندي ثبت من التاريخ أنه أبو يُوسُف رحمه الله تعالى، وكان يُنَبِّه المحدثين في إملائه على بعض قواعد أصول الفقه. وفي «الجامع الكبير» أيضاً حِصَّةٌ منه: إلا أن رسالة الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى، لما كانت مُدَوَّنَةً مطبوعةً وأذاعها الشافعية، اشتُهِرَ أنّه مُدَوِّنُ أصولِ الفقه. والحنفية لما لم يرفعوا إليه رأسهم خَمَلَ ذكرُ أبي يُوسُف رحمه الله تعالى في هذا الباب.
ثم عند البخاري أن رفع العلم إنما يكون برفع العلماء ولا يُنْتَزَعُ انتِزَاعاً، وعند ابن مَاجَه بإسناد صحيح عن زياد بن حبيب «أنه يُنْزَعُ من الصُّدُور في ليلة» والتوفيق بينهما أن أوّل أمرِ الرَّفْعِ يكونُ كما في البخاري وهو برفعِ العلماءِ، ثم إبَّان الساعةِ يكونُ كما عند ابن ماجه أي يُنْتَزَع عن الصدور نزعاً، فلا تعارض لاختلاف الزمانين.
(أن يُضَيِّعَ نفسه) قالوا: معناه أن يَقْعُد في زاوية بَيْتِهِ ولا يُفشي العِلْمَ؛ فإنْ قُعُود العالم بلا فائدة هو ضياعُهُ، ويمكن أن يكونَ مرادَهُ أن يَذِلَّ نفسه. أي فلا يذهب مذهباً يوجِبُ ذُلَّ العلم.(1/255)
80 - قوله: (يُشْرَب الخمر) في القدوري: الخمر هي عصيرُ العنب إذا غلا واشتَدّ وَقَذَفَ بالزَّبَدِ. ولم يدرك عامةُ الناس معنى الاشتداد والصواب أن معناه ما نقول في محاوراتنا «يه أجا اته- كيا» أي صلح للاستعمال فبلوغها إلى ذلك الحد هو الاشتِدَار وهذا هو المُرادُ مما فسّروا به.
81 - («أن يقل العلم») وفي نُسْخَة على حاشية النَّسائي: يَكْثُر العلم. وهو أيضاً صحيح، فإنه يكون كثيراً كماً وقليلاً كيفاً كما نشاهد في زماننا فإن العلماء مع كثرتهم قليلون فهي كثرةُ قِلَّةٍ، قال المُتَنَبِّي:
*لا تكثر الأموات كثرة قلة ** إلا إذا شقيت بك الأحياء 81 - (تَكْثُرُ النساء) وهذا أيضاً قد تحقق في زماننا حيث يزيد عددهُنَّ على الرجال.
81 - (حتَّى يكون لخمسين) وأشكل على الحافظ هذا العدد.
قلت: وفي متن الحديث من طريق آخر قيد ذهل عنه الحافظ ويرتفع به الإشكال رأساً وهو «القيِّمُ الواحدُ الأمين» فالواحد الأمين اليوم أيضاً أعزّ وأنْدَر.
باب فَضْلِ العِلم
والفضل في أول الكتاب كان بمعنى الفضيلة. وههنا بمعنى ما بقي كما تقول فضل الوضوء. وإنما تَرْجَمَ به لمعنى الاستغراب فيه، فإن العلمَ يُعْطَى ثم لا يَنْقُص منه، كما أن النبي صلى الله عليه وسلّمأعطى فضل لَبَنِهِ ولم يَنْقُصْ من علمه شيء، بخلاف الأشياء إذا يُعْطَى منها فإنها تنقص ولا كذلك العلم.(1/256)
82 - (ليث بن سعد) وهو إمام مصر. قال الشافعي رحمه الله تعالى وهو عندنا ليس بَأَدْوَنَ من مالك رحمه الله تعالى إلا أن أصحابه أَضَاعُوه. وقال ابنُ خَلِّكان في تاريخه: إني رأيت في بعض الكُتُب أنه حنفيٌّ. عند الطحاوي في «باب القراءة خلف الإمام» إسناد فيه ذلك الليث وهذه صورته: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن قال حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال أخبرني الليث عن يَعْقُوب - وهو أبو يوسف - عن النُّعمان - أي أبي حنيفة - عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلّمقال: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» فهذا الإسناد أيضاً قرينة على كونه حنفياً لكونه تلميذَ أبي يوسف. قال الليْثُ: إني كنت أَسْمَع اسم أبي حنيفة رحمه الله تعالى وكنت مولعاً بِلُقِيِّهِ فوجدتُهُ بمكة قد أكب عليه الناس يستفتونه فبينما هم كذلك إذا أتاه آتٍ واستفتاه في حاجته فعَجِبْتُ على جوابه بداهَةً.
82 - قوله: (لأرى الرِّيَّ) وهذا من باب المحاورات فلا يقال إنه كيف رأى الرِّيُّ مع كونه غير مرئي؟(1/257)
حكاية: ذكر الشيخ الأكبر حكاية عن بَقي بن مَخْلَد في «الفصوص» أنه رأى في المنام أن النبي صلى الله عليه وسلّمسقاه لبناً فاستقاء بعدما استيقظ تصديقاً لرؤياه، فخرج اللبن في قَيْئِهِ. قال الشيخ الأكبر: كان هو العلم فلو كان تَرَكَه لكان أَحْسَن، ولكنه لما استقاء تحوَّل العلم إلى صورة اللبن: قلت: ولا بأس فإنه لو قُدِّرَ له من العلم النَبَوِيّ حِصّة يفوز بها ولا يَخِيْبُ منها بالاستقاء كما أن النبي صلى الله عليه وسلّمأعطى الفضل ولم ينقص من علمه شيء. (من هو بقي) كذلك بقي وإن استقاء اللبن لكنه لا ينقص من علمه الذي قُدِّرَ له وبَقِي محدِّثٌ جليلُ القَدْرِ من تلامذة أحمد رحمه الله تعالى، وصَنَّف في الحديث كتاباً جمع فيه ثلاثينَ ألف حديث (30.000) كذا ذكره الذهبي. وبَقِي من معاصري البخاري وقد أخذ عن أحمد كثيراً ولعله تَعَلَّم منه حين كان أحمد رحمه الله تعالى يجلس للدرس. ثم لما أَتَتْ عليه الحوادثُ في خَلْقِ القرآن تَرَكَهُ، وكان البخاري بَلَغَهُ مرة وهو صغير السن ثم رحل إليه بعد أن كان أحمد ترك الدرسَ، ولذا لم يخرِّج عنه البخاري إلا ثلاثة أو أربعة أحاديث منها. وكتاب بَقِي هذا لم يَفُزْ به الذهبي.
والذهبي ممن قيل في حقه أنه لو أقيم على أكْمَةَ والرّواة بين يديه يعرف كلاً منهم بأسمائِهم وأسماءِ آبائهم. ويتلو كتابَ بَقِي «مسند أحمد» فإنه جمع أربعين ألف حديثٍ، ثم «كنز العمال» فإن فيه أيضاً ذخيرة عظيمة للأحاديث.
باب الفُتْيَا وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ وَغَيرِهَا
ناظِرْ إلى حديث النهي عن جعل ظهر الدابة منبراً فإما أن يمشي راكباً أو ينزلَ ثم يتكلم بحاجته فيقول البخاري: إن الفُتْياشيءٌ يسيرٌ وليس تحت النهي.(1/258)
وقوله: (وغيرها) وقد استفدتُ من عادةِ البخاري أن الحديث إذا اشتمل على جزء مخصوص ويكون الحكم عاماً عنده فيصنع البخاري هناك هكذا، ويضع لفظَ «أو غيرها» دفعاً لإيهام التخصيص وإفادة للتَّعميم ثم لا يخرِّج له دليلاً فيما بعد.
فالمصنف رحمه الله تعالى ههنا أخرج من الحديث مسألة الدابة فقط، وإنما أضاف أو غيرها إفادة لتعميم الحكم فهذا فقه وبيان مسألة احتراساً. فطلب الدليل على هذا الجزء في كلامه بعيدٌ عندي. ثم كونه صلى الله عليه وسلّمعلى الدابة مذكورٌ في هذا الحديث بعينه إلا أنه في غير طريقه. وهذا أيضاً من دَأْبِهِ حيثُ يضعُ التَّرْجَمَةَ ويكونُ اللفظُ المُتَرْجَمُ عليه في طريق آخَر، ويُخَرِّجُهُ في موضعٍ آخر ويتركه ههنا عمداً تعميةً وإلغازاً، وربما لا يكون ذلك اللفظُ في كتابه بل يكونُ في الخارج ومع ذلك يُتَرْجِمُ على الحديث ناظراً إلى هذا اللفظ.(1/259)
83 - قوله: (اذبح) والأمر ههنا للإبقاء يعني ذبح هو نى ذى، واعلم أن في يوم النحر أربعة أفعال الرَّمي والذَّبح والحلق والطَّواف. ثم لا ترتيب في الطواف؛ فإنه عبادة في الأحوال كلِّها وليس بجناية. والنحر ليس بواجب على المفرد، نعم يجب الترتيب بين الرمي والحلق مطلقاً، وبين الذبح والحلق على القارن والمتمتع فقط. ولم يُعلم بعد أن هذا الرجل كان قارناً أو مفرداً، فإن كان مفرداً فأبو حنيفة رحمه الله تعالى أيضاً يقول كما في الحديث يعني أنه لا شيء عليه؛ لأن ذلك الذَّبح الذي قُدِّمَ عليه الحَلْق ذَبْحٌ غير واجبٍ ولكن كان أفضل له أن يُقَدِّمَ الذَّبْحَ قبل الحَلْقِ ولكنه إذا قَدَّمَ الحَلْقَ أَجْزَأَهُ ولا شيء عليه، إلا أن في بعض ألفاظِهِ ما سُئِل عن شيء قُدِّم أو أُخِّر إلا قال افعل ولا حرج. والصور كلُّها سبعةٌ مذكورةٌ في الفقه، وفي بعض الصور يتعين الدم عندنا. وأجاب عنه الطحاوي بأن قَوْلَه «لا حَرَجَ» هو على الإثم أي لا إثم عليكم فيما فعلتموه من هذا لأنكم فعلتموه على الجهل منكم لا على التعمد فلا جناح عليكم في ذلك. واستَشْهَدَ بروايةٍ فيها: «فجاءه رجل فقال يا رسول الله: لم أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قبل أن أذبح» فدلَّ على أنهم كانوا جاهلين لا متعمدين.
وبروايةٍ أخرى فيها: «وتعلموا مناسككم فإنها من دينكم». وبرواية أخرى فيها: «قد رَفَع الله الحرج عن عباده إلا من اقْترضَ من أخيه شيئاً ظُلماً، فذلك الذي حَرِجَ وهَلَك». ورواية أخرى نحوُها وهي عند أبي داود أيضاً فدَّلَّ على أنّه أراد نَفْيَ الإثم دونَ الجزاء.(1/260)
وهذا من خصائص الحج فإن الشارع يأمر فيه بشيء ثم يوجب معه الجزاء أيضاً، وإلا فقد يَتَخَايَلُ أن بَيْنَ امتِثَال الأمرِ وبين إيجابِ الجزاءِ تَنَاقُضٌ فاعلمه. والذي تحقق عندي أن يُلْتَزَمَ أن الجزاءَ أيضاً سَقَطَ عنه كما سَقَطَ الإِثْمُ لعذر الجهل؛ فإنه إذا لم يُشْعِرْ ينبغي أن لا يكونَ عليه حرجٌ أصلاً كما قال أحمد رحمه الله تعالى: إن أحداً لو خالف الترتيبَ بين هذه الأفعال جاهلاً لا يجبُ عليه الجزاء، والجهل في فقهنا لا يكاد أن يكون عذراً بخلاف الآخرين فإنهم اعتبروه كثيراً واعتبره البخاري أكثر كثيراً.
قلت: وما تحكم به شريعة الإنصاف أن الأمر بين تَضْيِيْقِ الحنفية وتوسيعِ البخاري فينبغي أن يُعْتَبَر بالجهلِ أكثر مما اعْتَبَرَ به الحنفية رحمهم الله تعالى، وأن لا يُوَسَّع فيه كما وَسَّعَ البخاري رحمه الله تعالى. ثم إن الحنفية عدُّوه عذراً عند ذكر عوارض الأهلية في أصول الفقه، وأَخْمَلُوا ذكرَه في كتب الفقه، والأحاديث مشحونة بكونه عذراً. فكان المناسب أن يستعملوه في فقههم ويَعْتَبِرونه عُذْراً في مسائلهم أيضاً، لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلّم فإنه كان زمان انعقاد الشريعة، والقومُ أُمِيُّون إذ ذاك وكم من أشياء تُتَحَمَّل في الابتداء ولا تُتَحَمَّل فيما بعد، وليس هذا تغييرُ مسألةٍ مِنِّي بل هو تغييرُ تَعْبِيرٍ وعنوانٍ، فإنه لو عَمَّمْتَ اعتبارَ الجهل في ظَرْفٍ فقد قَصَرْتَه على عهده صلى الله عليه وسلّممن طرفٍ آخر، فصارَ مآلُهُ أنه غير مُعْتَبَر بعدَه صلى الله عليه وسلّمإلا بقدرِ ما اعتبره فقهاؤُنا.(1/261)
وهذه الواقعة واقعة عهده صلى الله عليه وسلّمفلو اعتبرناه عذراً ونفينا عنه الجزاء والإثم لا يكون خلافاً للمذهب فإن مسألة إيجاب الجزاء على من خالف الترتيب لمن كان بعد عهدِهِ صلى الله عليه وسلّم ولا تجري على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإنما كان الصحابة في عهد النبوة فالمسائل المبسوطةُ في فقهنا لمن أراد اقتداء الإمام الهُمَام لا للصحابة الكرام. نعم فيه نفع وهو أنه لا نحتاج في الحديث إلى تأويل، ونخرج عنه كَفَافاً.
ونِعْمَ ما قال الغزالي رحمه الله تعالى: أن الخبر الواحد كان نَاسِخَاً للقاطعِ في زمنه صلى الله عليه وسلّم لأنه كان عندهم ذريعة التحقيق، ولذا تَحوَّلوا إلى بيت الله يخبر الواحد فإنّه كان عندهم خبره من قبل وكان الزمان زمان الرسالة، فأمكن تحقيقه أيضاً. أما فيما بعده فلا سبيل إلى تحقيق الخبر وتَثْبِيْتِهِ فيبقى ظَنِّيَاً فلا يكون ناسخاً، فكما فَصَّل الغزالي رحمه الله تعالى في نسخ القاطع بِخَبَرِ الواحدِ وفَرَّقَ بين عهده صلى الله عليه وسلّموبعدَ عَهدِهِ، كذلك فَصَّلْتُ في عبرةِ الجهلِ. وهذا تَصَرُّفٌ عقليٌّ اعتبرناه لنستريح عن الجواب والله أعلم بالصواب.
باب مَنْ أَجَابَ الفُتْيا بِإِشَارَةِ اليَدِ وَالرَّأْس
يعني به أن الإشارة هل هي معتبرةٌ أم لا؟ فالمصنِّف رحمه الله تعالى جعل الإشارة والكلام في باب الطلاق سواء، وعَرَضَ إلينا بعدم اعتبارِها.(1/262)
قلت: إنما ننكر الإشارة في المعاملات والحُكْم دون الأمور الأُخَر، ولم يأت المصنِّف رحمه الله تعالى بشيء يدلُّ على عِبْرَتِهَا في الحُكْم، وما ذكره ليس من باب الحُكْم بل من باب الفتوى فلو اعتمد أحدٌ على أحدٍ فذا جائز له، وإن أراد أن يُلْزِمَ عليه حجةً فكلا. والبخاري يجعلها حجةً في أبوابٍ شتّى كما سيجيء، وما استُدِلَّ به كلِّه في الأمور البَيْنِية دون الحُكْم فلا تقومُ حجةٌ علينا. وفي: «الأشباه والنظائر» أنه لو قال رجلٌ لجماعةٍ: من كان منكم طلْقَ امرأتَهُ فَلْيَنْكُسُ رأسه فَنَكَسُوا رؤوسهم، لا تَطْلُقُ امرأةُ واحدٍ منهم؛ وهذا لأن الإشارة لم تعد حجة عندنا.
86 - قوله: (أسماء) الأخت الكبيرة لعائشة رضي الله تعالى عنها.
قوله: (الكسوف) في السنة التاسعة بعد الهجرة يوم تُوفي إبراهيم عليه السلام.
86 - قوله: (وهي تصلي) قال الحافظ رضي الله تعالى عنه: أنها اقْتَدَتْ من حُجْرَتها. قلت: وهذا الاقتداء صحيح عندنا أيضاً فإنه يكفي لِصِحَّةِ الاقتداء علم انتقالات الإمام، ولكن لا أدري مِنْ أين أخذه الحافظ رحمه الله تعالى. غير أني رأيتُ في «المُدَوَّنَةِ» أن أمهاتِ المؤمنين كُنَّ يقتدينَ يومَ الجمعة مِنْ حُجْرِهِنَّ.
86 - قوله: (فقالت: سبحان الله) والذِّكر عندنا ليس بمفسِدٍ بحال، وظاهرُ عباراتِهم تُشْعِر بأن الذِّكْرَ بأي لسان كان، فإنه لا يُفْسِد الصلاة. وينبغي عندي أن يَقْتَصِر عدمُ الفسادِ على العربية والفارسية فقط. نعم يكره في بعض الأحوال.
86 - قوله: (فجعلتُ أَصُبُّ... إلخ) فعُلِم أن الصلاةَ لا تُفْسِدُ من مثلِ هذا العمل القليل. واعلم أن الغَشْيَ في القلب، والجنون والإغماء في الرأس.(1/263)
86 - قوله: (إلا أريته) وفي واقعةٍ أُخرى أنه رأى الجنة والنار ممثَّلَتَين في الجدار، والرؤية في كلا الموضعين من رؤية عالَمِ المِثَال. وفيه الكمية دون المادية كَشَبَحِ المرآة، فالعوالم متعدِّدة وهو رب العَالَمِيْن، كما أن الوجود متعدد عند الفلاسفة خارجي وذهني. وأنكر المتكلمون الثاني، نعم عندهم نحوٌ آخر من الوجودِ يسمّى بالتقديري وعند الدَّوَّاني نحوٌ آخر يسمى الدهري. فكذا عالم المثال أيضاً نحوٌ من الوجود. ثم إن عالمَ المثال ليس اسماً للحيِّز، بل هو اسم لنوعٍ من الموجودات، فأمكن أن يكونَ في هذا الحيِّز أشياء من عالم المثال. ثم اعلم أن ما يَرَوُنَه الأولياء من الأشياء قبل وجودها في العالم لها أيضاً نحو من الوجود، كما أن أبا يزيد البِسَطامي رحمه الله تعالى لما مرَّ من جانب مدرسةٍ وهَبَّتْ ريحٌ قال: إني أجد منها ريحَ عبدٍ من عباد الله، فنشأ منه الشيخ أبو الحسن الخرقاني. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلّم «إني أجد نفس الرحمن من اليمن» فنشأ منه الأويس القرني. فهذا أيضاً نحوٌ من الوجود وذكر الشيخ الأكبر أن الشيء إذا نزل من العرش فلا يمرّ بموضعٍ إلا ويأخذ حُكْمه وما من شيءٍ، يَنْزِل على الأرض إلا ويكونُ على السماء الدنيا قبل نزوله بسنة.
قلت: وهذا من أمور الغيب لا يعلمها إلا الله، ولكني أُسَلِّم أن الأشياء تنزل من السماء لما في الحديث أن البلأَ ينزل من المساء ويَعْرِجُ الدعاء من الأرض فلا يَزالُ يدافِعُ أحدُهُما الآخرَ إلى يوم القيامة فلا يَنْزِلُ هذا ولا يَعْرِج هَذا بل يبقى معلقاً أبد الدهر.(1/264)
86 - قوله: (المسيح) أصله عِبْري من «الماشيح» أي المبارك وليس عربياً، فاشتقاق أمثالِ تلك من العربية لا يَصِحّ. قيل: إن لقب الدجال المَسِّيْح بتشديد السين. قلت: بل لقبهما هو المسيح، ووجه الاشتراك في اللقَّب أن كلاهما قد أخبرا عن مَجِيْئِهِمَا في الكتب السّالِفة، فلما جاء المسيح المبارك جعله اليهود مسيحَ الضَّلالة والدجَّال وصاروا له أعداءً والعياذ بالله. ولما يَخْرُج الدجَّال يجعلونَه المسيحَ المباركَ. ولذا يكون أكثر اتباعه اليهود فجاء الاشتراك لهذا، ولذا ترى في الأحاديث المسيحَ مقيداً بالدجّال تارةً والضلالةِ تارةً وبلفظِ الهُدى أخرى؛ ليحصلَ التمييزُ بينهما. وراجع الفوائد للشاه عبد القادر رحمه الله تعالى فإنه أشار إليه.
86 - قوله: (بهذا الرجل) إشارة إلى الحاضر في الذهن، كما في تنوير الحوالك شرح الموطأ لمالك رحمه الله تعالى للسيوطي رحمه الله تعالى.
86 - قوله: (نم صالحا) يُستفاد منه أن القبورَ معطَّلةٌ عن الأعمال مع أن كثيراً من الأعمال قد ثبتت في القبور كالأذان والإقامة عند الدارمي، وقراءة القرآن عند الترمذي، والحج عند البخاري، وراجع له «شرح الصدور» للسيوطي رحمه الله تعالى.(1/265)
وهكذا في القرآن إيهام الجانبين ففي سورة يس: {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} (يس: 52) وهذا يدل على أنه لا إحساس في القبر وكلُّهم نائِمون. وفي آيةٍ أخرى {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} (غافر: 46) فهذه تدل بخلافه، والوجه فيه عندي: أن حالَ البرزخ تختلف على حسب اختلاف عمل العاملين في حياتهم، فمنهم نائمون في قبورهم، ومنهم متلذِّذون فيه، وإنما عُبِّرتْ الحياةُ البرزَخِيَّة بالنوم لأنه لم يكن له لفظ في لغة العرب يؤدي مؤدَّاه، ويصرِّح عن معناه وضعاً، فاختير اللفظُ الموضوعُ لنظيره تفهيماً، فلا شيء أشبه بالحياة البَرْزَخِيَّة من النوم. ولذا جاء في الحديث «النوم أخ الموت» فالنوم أشبه الأشياء بالموت، ولذا أَدْخَلَ القرآنُ النومَ والموتَ تحت لفظٍ واحدٍ وهو التَّوَفِي، ثم فرق بينهما فدل على أن فيهما بعضُ اشتراك وبعض امتياز قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاْخْرَى} (الزمر: 42) والحاصل أن البَرْزَخَ اسم لانقطاع حياة هذا العالمَ وابتداءِ حياةٍ أخرى وكذلك النوم فيه أيضاً نوعُ انقطاعٍ عن هذا العالم.
86 - قوله: (أما المنافق أو المرتاب) هكذا في أكثر الروايات، وفي البعض «أو الكافر» ونُسْخَةٌ فيه«والكافر» بدون الترديد.(1/266)
ومن ههنا قام البحث في أن السؤال مخصوص بالمنافق أو يُسأل الكافر المجاهر أيضاً؟ ومقتضى تلك النُّسخة أن يكونَ السؤال عن المنافق والكافر كليهما. وتَعرَّضَ إليه السيوطيّ في «شرح الصدور» فقيل: إن السؤال يختص بمن تَزَيّا بِزَيِّهِ ويَدَّعي الإسلام ويلتبس به. أما الكافرُ المجاهر فلا التِبَاس فلا سؤال فإنه للتمييز. وقيل: إن الكافرَ أَوْلى بالسؤال. والتَّرْدِيد في الرِّوايات من الراوي، وكلامُ الحافظ ابن القيِّم رحمه الله تعالى في «كتاب الروح» يُشْعِرُ بأن السؤال مخصوصٌ بالمُنَافِقِ فقط.أما النُّسخة عند البخاري بحرفِ الجَمْعِ فلا ينبغي أن يُدَار عليها المسألة؛ لأن في أكثرها التَّرديد، والكلامُ مستوفٍ في كتبِ الكلام.d
والمختارُ عندي أن السؤال يكونُ من الكافر أيضاً. ثم السُّؤالُ عندي يكونُ بالجَسَدِ مع الرُّوْحِ كما أشار إليه صاحب «الهداية» في الإيمان. وقال الصوفية: إنه بالجسد المثالي دون التُّرابي. قال العارف الجامي رحمه الله تعالى: إن الغالبَ في هذا العالم أحكامُ الأجسادِ، وأحكامُ الرُّوحِ مستورةٌ لظهورِ الجسد وخفاءِ الروحِ، وينعكس الحالُ في البرزخ وتظهر أحكام الروح. أما المحشر فيتساوى فيه الحُكْمَان والله تعالى أعلمَ. ولا بُعْد في تعذيب الجسد بعد تَمَزُّقِهِ فإنه يُبْنَى على عدم الشُّعُور في الجمادات وهو في حيِّز الخفاء، وقد تناقض فيه كلام الصدرِ الشيرازي فيلوحُ من بعضِ كلامه نفيُ العلمِ عنها، ومن البعض ثبوتُ العلمِ لها.(1/267)
والتحقيق عندي: أن الشعور البسيط ثابت لها قطعاً كما حَقَّقَهُ المحقِّقُون وتفصيله أن الشيرازي قال مرة: إن العلم كما لا يكون إلا بعد التجريد من جانب المعلوم كذلك لا يَتَحَقَّق إلا بعد التجريد من جانب العَالَم أيضاً، ولذا أنكر أن يكونَ القلبُ عالماً ومدركاً. وقال في موضع آخر: إن العلم عين الوجود وهذا مناقضٌ للأول كما ترى، وإذ قد ثَبَتَ الشُّعُورُ البسيطُ في الجمادات عندي فلا بِدَعَ في تعذيبِ ذراتِ الجسمِ في محالِّها وتعيينِ الوضعِ ليس بلازمٍ فتُعَذَّبُ كلُّ ذرةٍ في مكانِهَا، والله تعالى أعلم بالصواب.
باب تَحْرِيضِ النبي صلى الله عليه وسلّم وَفدَ عَبْدِ القَيسِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوا الإِيمَانَ وَالعِلمَ وَيُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَهُم
87 - (وربما قال النقير) والشك في الأصل بين المزفت والمقير، لا في النقير، ففيه مسامحة.
يعني إذا لم يكن عنده علمٌ يرتحلُ لتحصيلِهِ. قال الدَّوَّاني في «شرح العقائد»: يجب على الناس إقامة عالمٍ على المسافة الغدوية ليرجع إليه الناس في أمور دينهم، وإلا فهم آثمون.
قوله: (عبد الله) وهو ابن المبارك بعد مقاتل في جميع المواضع.
قوله: (زوجة) ولم يثبت في اللغة بالتاء وإنما هو زوج للقبيلتين.
قوله: (وقد قيل... إلخ) أي كيف تباشرها؟ وقد قيل: إنها أختك من الرضاعة.
واعلم أنهم اختلفوا في نصاب شهادة الرضاعة، فقال أحمد رحمه الله تعالى: شهادة المُرضعة تكفي لإثباتها. وعندنا حجُتها حجةُ المالِ كما في «الكنز». وقد وقع فيه التعارض في قاضيخان، ففي باب المحرمات: أنها لو شهدت بها قبل النكاح تُقبلُ وبعده لا. وفي الرِّضاع خلافُهُ. وقاضيخان أرفعُ رُتبةً من صاحب «الهداية». قال العلامة القاسم بن قُطْلُوبُغَا في كتاب «الترجيح والتصحيح»: أنه من شيوخِ صاحب «الهداية» ومن أجله عُلماءِ الترجيح.
والحاصل أن الحديث واردٍ علينا.(1/268)
والجواب عندي: أن الحديث محمول على الدِّيانة دون القضاء، وشهادة المرضعةِ معتبرةٌ دِيانةً عندنا أيضاً، كما في «حاشية البحر» للرملي شيخ صاحب «الدر المختار». والخير الرملي آخر أيضاً من علماء الشافعية، وهو أيضاً صاحب الفتوى. أنها تُقبل دِيانة لا حكماً. وهو مُرادُ الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى بما في «الفتح»: أنها تُقبل تَنَزُهَاً. ولا بِدْع فيه فإن الحديث كما يتعرض لمسائل القضاء، كذلك يتعرض لمسائل الدِّيانة أيضاً، وهذا كثير فيه، ولكن غفل عنه الناس. ثم إنه لا بد أن تعلمَ الفرقَ بين الدِّيانة والقضاء.
الفرقُ في معنى الدِّيانة والقَضَاء
واعلم أنهم فسروا الدِّيانة بما بينَّه وبين الله، والقضاءَ بما بينه وبين الناس، وفَهِمَ منه بعضُهم أن الدِّيانة تقتصر على معاملةِ الرجل نفسه، فإذا شَاعَ وبلغ إلى ثالثٍ خَرَجَ عن معنى الدِّيانة إلى القضاء، وهذا غَلَطٌ فاحِش، فإن مدار الديانة والقضاء ليس على الاشتهار وعدمِهِ، بل يبقى الأمرُ تحتَ الديانة ما لم يُرفع إلى القاضي، وإن كان اشتهرَ اشتهارَ الشمس في رَابِعَةِ النهار، فإذا رُفَع إليه فقد خرج عن الدِّيانة ودخل تحتَ القضاء، ولو لم يسمَعَهُ قرينك.
ثم إن القاضي من تولى من جهةِ الأمير لتنفيذِ الأحكام وإجرائها، بخلاف المفتي فإنه يُعْلِمُ مسائلَ الشريعة عند الاستفتاء ولا يحتاجُ إلى نَصْبِ الأمير، ولا له إجراء الأحكام. وقد علمتَ مرةً فيما سبق أن المفتي يحتاجُ إلى علمِ المسألةِ فقط، ويجيبُ على الاحتمالات والتقديرات أيضاً. مثلاً لو كان الأمرُ كذلك كان الجوابُ ذلك بخلاف القاضي فإنه يحتاجُ إلى علم الوَاقعةِ، ولا تعلُّقَ له بالتقديرات، فإنه نُصِبَ لإجراءِ المسائل، ولا يكون إلا بعد التحقيق عما في الواقع.(1/269)
إذا علمت هذا فاعلم أن مسائلَ الدِّيانات كلها يُفتي بها المُفتي ولا يحكم بها القاضي، وهكذا مسائل القضاء، يَحكم بِهَا القاضي ولا عَلاقةَ بها للمُفتِي، فإن الدِّيانة والقضاءَ قد يتناقضان حكماً، أي يكون حُكم الدِّيانة نقيض ما في القضاء. وقد صرحوا أنه لا يجوز لأحدِهِما أن يحكمَ بحكمِ الآخر، والمُفْتُونَ اليوم غافلون عنه، فإن أكثرهم يفتونَ بأحكامِ القضاء.
ووجه الابتلاء فيه: أن المذكور في كتب الفقه عامةً هو مسائل القضاء، وقَلَّما تُذكرُ فيها مسائلُ الدِّيانة. نعم، تذكر تلك في المبسوطات، ولا تُنَال إلا بعد تدرُّبٍ تامٍ، ولعل وجهته أن القاضي في السلطنة العثمانية لم يكن ينصبُ إلا حنفياً، بخلاف المفتيين فإنهم كانوا من المذاهب الأربعة، وكان القاضي الحنفي يُنَفِّذُ ما أفتُوا به، فشرع المُفْتُونَ تحرير حكم القضاء لينفِّذ القاضي، فاشتهرت مسائل القضاء في الكتب، وخملت مسائل الديانة، ثم لا يجبُ أن تتفقَ الديانة والقضاء في الحكم بل قد يختلفان.
ففي «الكنز»: إن ولدتِ ذكراً فأنت طالقٌ واحدة، وإن ولدتِ أُنثى فثنتين، فولدتهُما ولم يُدرَ الأول تَطلقُ واحدةً قضاءً. وثِنتين تنزهاً، أي ديانة. فههنا أخذ القاضي بالجانب المتيقن والمُفتي بالأحوط. ولو قال في هذه المسألة بعينها: إن ولدتِ أُنثى فثلاثة، فولدتهُما، فهي ثلاثةٌ دِيانةً وواحدةٌ قضاءً، فاختلفَ الحكمان حِلاً وحُرْمةً. ثم الأحوطُ ههنا واجبٌ كما صرحوا به، لا أنه مُستحبٌ، وهكذا الإقالة في الغرر الفعلي واجبةٌ عندنا دِيانة وليست بمستحبة. فظهر أن الدِّيانةَ لا تكونُ مستحبةً كما زعم أن العمل بالقضاء يكون واجِباً، وبالديانةِ يكون مستحباً، فليس الفرقُ بينهما من هذه الوجوه.(1/270)
ثم لي ترددٌ ههنا وهو أنك قد علمتَ أن الديانةَ والقضاء قد يتخالفان حِلاً وحُرمةً، فإن عَمِلَ الرجلُ المُبتلى به بالديانة وكانت الديانةُ فيه مثلاً أنه حرامٌ، ثم رَفَعهُ إلى القاضي فحكم بالحل، فهل يرتفعُ من قضائه تلك الديانة أم لا؟ وهل يصيرُ هذا الأمرُ حلالاً له بقضاء القاضي بعد ما كان حراماً له؟ فلا نَقْل فيه عندي غيرُ جُزئيةٍ واحدةٍ تُروى عن صاحبيه وهي: أن الزوجَ الشافعيُ إن طلق امرأته الحنفية طلاقاً كِنائياً، ثم أراد الرجوع لأن الكنايات رواجعُ في مذهبه، وأبت أن ترجع إليه لأنها بوائنُ عندها، فإن حكم القاضي الشافعي بالرجوع نفذَ ظاهراً وباطناً، ويصح رجوعه. وليست عندي ضابطةٌ كليةٌ يُستفاد منها أنه متى ترتفع الديانة من القضاء ومتى لا ترتفع.
ولذا أترددُ في ارتفاع الكراهةِ ديانةً فيما حَكَمَ القاضي بالرجوع في الهبة عند ارتفاع الموانعِ السبعة، لأن القضاء بالرجوعِ مع بقاءِ الكراهة ديانةً أيضاً ممكنٌ، ولكني مترددٌ فيه. والذي يظهر أنه يرتفع تارةً، وتارةً لا يرتفع.
وأول ما تنهبتُ على الفرقِ بين القضاء والديانة من كلام التَّفْتَازاني في «التلويح» لما ذكرَ صاحب «التوضيح» مسألة الاستعارة بين السببِ والحكم في باب الحقيقة والمجاز، وقال: لو نوى بالشراء الملك وبالعكس يُصدَّقُ فيما عليه ولا يصدق فيما له. قال التفتازاني: وفيما له أيضاً دِيانة يُفتي به المُفتي ولا يحكمُ به القاضي. ففهمتُ منه أن القضاءَ أمرٌ غير الفتوى.(1/271)
ثم لم أزل أفتشُ عن هذا الفرق في عبارات الفقهاء حتى وجدتُ في أصول العِمَادي لابن أبي صاحب «الهداية» مقدمةً مُمهدةً لذلك وقد بسطه الطحاوي في «مشكل الآثار» أيضاً وهذا الفرقُ معتبرٌ في المذاهب الأربعة. ففي قصة امرأة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك». وبحث عليه النووي هل كان هذا قضاءً أو فتوى؟ فإن كان الثاني فإنه يصحُ أن يفتَى به كل عالمٍ، وإن كان الأولُ فإنه لا يجوز إلا للقاضي. وعند الطحاوي ما يدلُ على أن هذا الفرق كان دائراً في السلف أيضاً: حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبي يوسف، عن عطاء عن السائب قال: سألت شُرَيحاً. فقال: إنما أقضي ولستُ أفتي. وهذا صريحٌ في أن القضاءَ غيرُ الإفتاء. وأن القاضي لا يجوزُ له أن يحكم بالدِّيانة ما دام قاضياً وجالساً في مجلس القضاء، فإذا تحوَّل عنه والتحقَ بسائرِ الناس، فإنه مفتىٍ كسائرهم ويسوَّغُ له ما يسوغ لهم.
فالحاصل: أن الزوجَ إن استقينَ بخبرِ المرضعةِ جَازَ له أن يقبلَ شهادتها، ويعملُ بالديانة ويفارِقَها، فإن بلغَ الأمرُ إلى القضاء لا يجوز له أن يحكم بتلك الشهادة. ومن ههنا تبيَّن أن مراد ابن الهُمَام رحمه الله تعالى من التنزه والتورع: الكراهةُ تنزيهاً دون الاحتياط فقط.
باب الرِّحْلَةِ فِي المَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ وَتَعْلِيمِ أَهْلِه
88 - قوله: (ففارقها) لعله بالتطليقِ لأنه لم يثبت كونُها مرضعةً بعدُ، وإنما الفسخُ فيما لو تحققَ كونها مرضعة. وإن كان المرادُ أنه فارقَها بأمر النبي صلى الله عليه وسلّمفلينظر فيه المجتهد أنَّ حكمَهُ هذا كان قضاءً أو دِيانةً. ومسائلنا تقتضي أن تكون ديانة، والله تعالى أعلم بالصواب.
باب التَّنَاوُبِ فِي العِلم
89 - قوله: (بني أمية) محلَّةٌ من المدينة.(1/272)
89 - قوله: (أطلقكن) هذه قصة طويلة والإيلاءُ فيه لغويٌ، وغرضُ المصنف رحمه الله تعالى إثباتُ التناوب بين عمر والأنصاري، لأن عمر رضي الله عنه كان نَكَحَ خارجَ المدينةِ، فكان يَحضُرُ المدينةَ انتياباً.
باب الغَضَبِ فِي المَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَه
كُلُّ سفيان بعد محمدِ بن كثير هو الثَّوري، لا ابن عُيَيْنَة.
90 - قوله: (لا أكاد أدرك... الخ) أي هو يُطوِّلُ الصلاة، فلا يُصلي الناسُ بصلاتِهِ لأجل تطويله. ثم إنه صلى الله عليه وسلّمغضب عليه لمخالفته الفطرةَ السليمة، فإنه طَوَّلَ الصلاةَ على من كانوا عمالاً وأصحاب نوَاضَح، وهو غير مناسب عقلاً ولا يحتاجُ إلى كثير فكرٍ، فكان عليه أن يراعيَهُ من فِطْرَتِهِ السليمة، ويصلي بهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلّميصلي بهم في تمام.
والحاصل أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يكن يغضب إلا عند هتكِ حرمةٍ من حُرُمَات الله، أو عند مخالفةِ البَدَاهَة، وصريح السفاهة، فإذا كان موضعَ عذرٍ أو موضعَ اجتهادٍ كان أسمحَ الناس. قال الحافظ: إن هذا الرجل أبي.
91 - قوله: (اللقطة) بفتح القاف أفصح، وهي مبالغةُ اسم الفاعل، ولقطة اسم مفعول كاللقمة والأكلة. ثم اعلم أن الوعاءُ اسم للظرفِ والخِرْقة التي على فمها يقال لها: العِفَاص، والخيطُ الذي يُشد به الخِرْقة يقال له: الوِكَاء.
91 - قوله: (سنة) واختلفت الروايات في «المبسوط» و «الجامع الصغير» في تقدير مدَّةِ التعريف؟ ففي «الجامع الصغير»: أنها سنة. وفي «المبسوط»: أنه بقدر ما يرى، وهو أسهل في الأحاديث.
91 - قوله: (ثم استمتع بها) ويجوز الاستمتاعُ بها للفقير والغني عند الشافعية. وعندنا للفقير فقط.(1/273)
وأجاب صاحب «الهداية» عن استمتاعِهِ مع كونهِ غنياً أنه كان بإذن الإمام، وهذا جائز عندنا وغَلِطَ في شرح مرادِهِ صاحب «العناية» وهو شيخ الشيخ ابن الهمام. وإن كان كتابه أرفع من «العناية» حيث علل بكونه محلاً مجتهداً فيه. والقضاءُ إذا لاقى محلاً مجتهداً فيه يصير مُجمعاً عليه، فهذا الشارح صَرَفَه إلى باب آخر مع أن صاحب «الهداية» قد جوَّزَ الاستمتاع به على المذهب. ثم اتفقت الحنفية والشافعية على أنه لو أقامَ المالكُ عليه البينةَ وجبَ عليه ردُّهُ.
ونُسِبَ إلى داودٍ الظاهري والبخاري أنه لا حق له في ماله بعد السنة، ويصيرُ بعدها مِلكُ الملتقط بتاً. واعلم أن العمل بمذهبه خاصة إنما هو قبل حكم القاضي، فإذا حكم القاضي بأمر وجبَ العملُ بحكمِهِ ولو من أي مذهب كان، فالذي هو رافعٌ لاختلافِ المذاهبِ الأربع عند الفقهاءِ هو القضاءُ.
91 - قوله: (حتى احمرت) وإنما غضِبَ عليه لأن السؤالَ كان مخالفاً للفِطرة السليمةِ، فإن الزمان كان زمان الديانة، والبعير مما لا يُخاف عليه السَّبُعُ، ولا يعجز عن الماء والكلأ، فلا حاجة إلى التقاطه. أما الآن فقد انقلب الزمان ظهراً لبطن فينبغي أن يلتقطَ البعيرُ أيضاً.
92 - قوله: (حدثنا محمد بن العلاء) وهذا غير واقعة الكسوف التي مثلت فيها الجنة والنار.
92 - قوله: (فلما أكثر عليه) أي بعض المخلصين بلا وجه وجيه وبعض المنافقين تعنتاً.
92 - قوله: (مَنْ أبَى) فسمّى أباه فارتفعت شبهة الناس عنه، وفي الشروح: أن الرجل لما رجع إلى بيته لامَتْهُ أمهُ وقالت: ما رأيت ولداً أعق منك، ما أعلمك أني ما فعلت في الجاهلية، أفكنت مفضحي بين الناس، قال: والله لو ألحقني النبي صلى الله عليه وسلّمبغير أبي لالتحقت به.(1/274)
92 - قوله: (سلوني) وكان هذا غضباً منه وسَخْطَةً، ولم يفهمه أحدٌ غير عمر رضي الله تعالى عنه فقال ما قال. وإنما غضبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّملكونه شارعاً بُعثَ لتعليم الشرائع، فجعلَ بعضُهُم يسألونه عن المغيبات، وكذلك بعض المنافقين سألوه سخرية فقط. وحاصلُ مقالة عمر رضي الله تعالى عنه أنَّا نكتفي للنجاةِ بالإيمان بالله ورسوله... إلخ، ولا نحتاج إلى أسئلة سواه.
قلت: وكان مناسباً أن يقعَ في حياتِهِ مثْلُ تلك الواقعةِ مرةً ليُعلَم أنه أيضاً تحت القدرةِ الإلهية أن يخبرَ رسوله بكل ما استخبَرُوه، ويلقمُ في أفواهِ المتعنتينَ حجراً. ثم اعلم أن في طرقه: «والقرآن إماماً»، وتتبعتُ إمامتَه في التنزيل أيضاً فلم أجد غير قوله تعالى: {كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً} وهذا كتاب. ومر عليه الطيبي في «حاشية الكشاف» وفهم لطفَه ولم يذقه أحدٌ غيرَه. ومعناه عندي أن كتابَ موسى مع جلالة شأنه يكتنه إمامته وكونه رحمة. وهذا أيضاً كتابٌ مثله في كونه إماماً ورحمة، ولكنه بلغَ في كونه إماماً ورحمة مبلغاً لا تُكتنه نهايته. ثم إنه إذا كان إماماً فلا يكون مأموماً ومقتدياً، فلا يقرأه المقتدي.(1/275)
وعند أبي داود أن رجلااً قرأ ب: {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} خَلْفه صلى الله عليه وسلّم والظاهر أنه لم يقرأ الفاتحة فلما فرغَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّمقال: «ما لي أُنازعُ القرآن» بصيغة الواحد المتكلم المجهول، وهذا في واقعة الظهر، فلو كانوا كلُّهم قارئين لَمَا كان لتخصيص المخالجةِ بنفسه معنىً، فإن المخالجةَ حينئذٍ تكون مع جميعِ القارئين لا مع النبي صلى الله عليه وسلّمفقط، فدل على أنه كان هو القارىء فقط، ولم يكن هناك قارىء من المقتديين غير هذا الرجل. ولعله أيضاً لم يقرأ بالفاتحة بل قرأ ب- {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} فكان أمرُ القراءة عنده بالفاتحة وغيرها سواء. وكيفما كان جاءت قراءتُهُ تحت الإنكار لِعِلةِ المنازعة والمخالجة، فلا ينبغي أن يقرأ خلف القارىء، فإن الصراطَ المستقيمَ الاستماعُ والإنصات عند القراءة: {وإذا قُرِىء القرآنُ فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} (الأعراف: 204) وهو وإن كان في الجهرية، لكنَّ الحديثَ صريحٌ في السرية، والمنازعةُ تحصل فيهما. وسيأتي التفصيل في موضعه.
باب مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيهِ عِنْدَ الإِمَامِ أَوِ المُحَدِّث
وإنما ترجمَ المصنفُ بلفظ الإمام لأن في طرق هذا الحديث: «وبالقرآن إماماً»، ولمّا كان هذا مُوهماً للتخصيصِ احترس وأضاف قوله: أو المحدث ليندفعَ التخصيصُ.
باب مَنْ أَعَادَ الحَدِيثَ ثَلاثاً لِيُفهَمَ عَنْه(1/276)
ولعله ناظرٌ إلى مقولةِ الخليل النَّحوي في جزء القراءة «يكثر الكلام ليفهم ويعلل ليحفظ». وقد كنت أظنُ أنه وَقَعَ فيه القلب. والأصل أن الكلامَ يُكثرُ ليحفظ، لأن التعليل أنفعُ للفهم، والتكرارُ أعونُ للحفظِ، حتى طالعت نُسخاً عديدة لذلك ولكن وجدتُ في جميعها كذلك، ثم بدا لي أن التعليلَ معينٌ في الحفظ أيضاً، كما هو مُعينٌ في الفهم، وكذلك التكرارُ أيضاً له دخل في الفهم كما يُعلم بالتجربة.
قوله: (هل بلغت) وإنما كرره مبالغةً وتهويلاً، وإنما جعلهم شَاهِدينَ لجحود الأمم يوم الدين، فاحْتِيْجَ إلى شاهد، فجعل اللَّهُ سبحانه أيضاً شاهداً وهو على كل شيء شهيد. وليس فيه إساءةُ أدبٍ، كما أن التسمية والاستعاذةَ قبل الخلاء ليست بإساءة، لأن الحفظَ لا يحصلُ إلا ببركة اسمه تعالى.
94 - قوله: (عبدة) وفي نُسخة لصمدة وهو غلطٌ من الكاتب.
94 - قوله: (سَلَّم) قيل: الأول للاستئذان، والثاني للقاء، والثالث للتوديع.
قلت: ولعل الظاهر أن يكونَ التثليث باعتبار مروره على الناس كما هو المعتاد في زماننا أيضاً، وإنما اكتفى بالثلاثِ لكونِهِ شارعاً تضبط أقوالهُ وأفعاله، فاختار الوسط إلا أني لا أتيقنُ به لفقدان النقل.
وحاصله: أنه صلى الله عليه وسلّمإذا كان يمر على جماعة عظيمة لم يكن يكتفي بسلام واحدٍ بل كان يُسلمُ مرةً في الأول، ثم إذا بلغ في الوسط سَلَّم، ثم إذا بلغ في الآخر سَلَّم. أما الأحاديث في التوديع فهي في «كنز العمال» فليراجعها.
باب تَعْلِيمُ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَه
97 - قوله: (ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب)... إلخ أجرُ الإيمان بنبيِّهِ وأجر الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلّم
97 - قوله: (يَطَؤُهَا) أي بملك اليمين. قوله: (أدبها) التأديب تهذيب دادان.(1/277)
قوله: (ثم أعتقها) وقد ذكرتُ ههنا أمورٌ فاختلف الشارحون في التعيين - منها: قلت: والأوجهُ أن الأمورَ المذكورة إلى الإعتاق عملٌ واحد والأمورُ بعد الإعتاق عمل آخر. فالأجرانِ على الإعتاق بما فيه وعلى النكاح، لأن الإعتاقَ عبادٌ مستقلةٌ. وسائرُ الأمور المذكورة قبلَه تمهيداتٌ له، وكذا التزوُّجُ بعد الإعتاق أيضاً عبادة مستقلة أخرى، فالأجران على هذين العملين.
ثم ههنا عَوِيْصَةٌ وهي: أن المرادَ من أهل الكتاب ماذا؟ إن كان اليهودُ فهو صعبٌ من حيث أنهم كفروا بعيسى عليه السلام، وصاروا كفاراً وحبطَ إيمانُهُم، فكيف يستحقون الأجرين. لأنه لم يبق حينئذٍ من عملهم غيرُ الإيمان بالنبي وهو عملٌ واحدٌ فلا يستحِقون عليه إلا أجراً واحد. وإن قلنا: إن المراد منهم النصارى كما يؤيده ما عند البخاري: «رجل آمن بعيسى» بدل قوله: «من أهل الكتاب» فدل على أن المراد منهم النصارى فقط دون اليهود، فهو أصعبُ لأن الحديثَ مستفادٌ من قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} (القصص: 54) وإنه نَزَلَ في عبدِ الله بن سلام وأصحابه باتفاق المفسرين، وكان يهودياً فعُلِم أن لهم أيضاً أجرين فيدخلون تحت أهل الكتاب أيضاً ولا بد.
قلت: ولا ريب في أن الحديث عام لليهود والنصارى، أما ما ورد في لفظ البخاري: «رجل آمن بعيسى»، فإنه يجعل تابعاً لما في أكثر الروايات: «رجل من أهل الكتاب» ويحملُ على اقتصارٍ من الراوي. والأصل كما ذكره آخرون ولا ينبغي أن تُدارَ المسألة على ألفاظِ بعض الرواة، سيما إذا وردت مخالفة للأكثرين.
فهذه قضية أبهمت على الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى حتى استقر رأيه على ما نُقِلَ عن الكِرْمَاني أن الأجرينِ لا يختصانِ بأهل الكتاب، بل كل من آمن بنبينا صلى الله عليه وسلّمولو بعد الكفر الصريح حتى المجُوسي والوَثني، فإنه أيضاً يُحْرِزُ الأجرين.(1/278)
قلت: هذا كلامٌ باطلٌ، فإنه خلاصةَ الحديثِ الوعدُ بالأجرين على العملين، وليس الكفرُ الصريحُ من البرِّ في شيء يستحقُ عليه الأجر، فلم يبق حينئذٍ إلا عملٌ واحد وهو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلّم وهو وإن كان من أبرِّ البرِّ وأزكى الأعمال، وأسنى المقاصد، لكنه عملٌ واحد لا يستحقُ عليه إلا أجراً واحداً. نعم، أجرُهُ يكون وِزَانُ عمله وهذا أمرٌ آخر.
وعندي حديثٌ صريحٌ في أنَّ الآيةَ عامةٌ، وأن الأجرين بالإيمان بنبيه وبالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلّم فعند النسائي في تأويل قول الله عز وجل: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ} (المائدة: 44) في حديث طويل فقال الله تبارك وتعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} (الحديد: 28) أجرين: بإيمانهم بعيسى وبالتوراة وبالإنجيل، وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلّم.. إلخ، فهذا أوضحُ دليلٍ على أن الأجرين على العملين من إيمانهم بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلّم ولما عجز الحافظ رحمه الله تعالى عن الجواب التزم هذا الباطل.
والذي عندي هو أنَّ عبد الله بن سلام وأمثاله أيضاً يَستحقُّونَ الأجرين، والذين دخلوا تحت النصِّ داخلون في قوله: «أهل الكتاب» أيضاً، ولا يردُ شيءٌ، لأن الذين كفروا بعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام وحَبِطَ إيمانهم، فإنهم الذين بُعث عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام فيهم، ودَعَاهم إلى شريعته، أي بني إسرائيل، فلما أبوَا هلكوا كما قصَّهُ اللَّهُ سبحانه، أما يهود المدينة فلم تبلغ دعوتُهُ إليهم، ولا وُجد منهم الانحراف عنها، وإنما أمرُهُم كما في التاريخ أنهم فروا من الشام إلى العرب حين اجتاحهم «بخنتصر» وبعد فرارهم بمئتين سنة بُعث عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام في الشام.(1/279)
فالذين تمت عليهم الدعوةُ بالتوحيد والشريعة جميعاً هم يهودُ الشام، أما يهود المدينة فلم تصل إليهم الدعوة أصلاً. كما في «الوفا» أنه وُجِد في جانب من المدينة حجر عند تلَ مكتوبٌ عليه: هذا قبرُ رسولُ رسول الله عيسى عليه السلام، جاء للتبليغ فلم يُقدَّر له الوصول إليهم. وقد وقع فيه تحريفٌ في «تاريخ الطبري» فسقط لفظ: الرسول، وصارت صورته هكذا: هذا قبرُ رسول الله عيسى، وكثيراً ما يسقطُ اللفظُ المكرر عند الكتابة ويتكرر اللفظ الواحدُ.
فشغب به الطائفة الباغية قاديانية وزعمت أنه أصرحُ دليل لهم على وفاة عيسى عليه السلام. وهذا هو دَيْدَنُ الزائغين من بدء الزمان، يستفيديون من أغلاطِ الرواة وتحريفِ الناسخين، ويتَّبِعُون ما تشابه منه، وأما الرَّاسخون في العلم فيتبعون المحكمات ويأخذون العلم من مكانه، قاتلهم الله ما أجهلهم أيتمسكون بما في الطبري ولا يستحيون أن تلك الواقعة بعينها موجودةٌ في «الوفاء» وفيه رسول رسول الله عيسى، فطاح ما ركبوا عليه من الجهل. وقد حقق أهل أوربا مجيء حواريين في الهند أيضاً، وقالوا: إنهما دُفِنا في بلدة مدارس، وكذلك حواريان مدفونان في إيطاليا، وحواري في تبت. وهكذا ثبتَ ذهابهم إلى يونان وقسطنطينة، أيضاً. والذي يدلك على أنهم لم يذهبوا إليهم من عند أنفسهم بل بعثهم عيسى عليه السلام: أن النبي صلى الله عليه وسلّملما كتب كُتباً إلى النَّجاشي والمُقَوْقَس ودُومة الجندل وغيرهم قال لأصحابه: «إني أبعثُكم كما بَعثَ عيسى عليه السلام الحواريين».
(1/280)
فنشأ منه جهلٌ آخر للنصارى، فإنهم استدلوا به على عمومِ بعثة عيسى عليه السلام، وقالوا: إنها لو لم تكن عامة لما بعث الحواريين إلى الأطراف، ولم يعلموا أن الدعوة إلى التوحيد لا تختص بنبي دون نبي، بل تجوزُ لهم الدعوةُ إلى الشريعة أيضاً إذا لم يكن فيهم نبيٌ. فأهل المدينة لم يكن لهم نبيٌ إذ ذاك وكانوا من بني إسرائيل، وهو رسولٌ إلى بني إسرائيل بنص القرآن، فلو كان دعاهم إلى شريعتِهِ لما كان فيه بأسٌ أيضاً، ولكنهم لم تبلغ إليهم دعوته.
وإذا كان أمرُهم ذلك، فالمسألة فيهم عندي أنه لو كان أحد منهم على دينٍ سماوي من قبلُ كعبد الله بن سلام، فإنه كان على اليهودية، ولم تشملهم دعوة عيسى عليه السلام بخصوصها، ينبغي أن يكون ناجياً. نعم، لو كان في الشام لما احتاج إلى خصوص الدعوة وكفته دعوة عامة، وهذا لم تبلغه الدعوةُ ولم يكن من سكان الشام وكان على دينٍ حقٍ فيكون ناجياً، لأنه لم يلتزم شريعة عيسى عليه السلام لعدم المطالبة من جهته لا للإباء منه. نعم، يخرج عن هذا الاستحقاق من كانت دعوتُهُ بلغت إليه ثم ردها. أما إذا كان قومُهُ يدعى في الشام وهذا كان غافلاً عن دعوته لعدم علمه، فإنه بعد الإيمان بالنبي يستحق الأجر مرتين إن شاء الله تعالى وكفاه التصديق إجمالاً.
ويتضحُ ذلك كل الاتضاح بعد البحث في معنى عموم، البعثة فاعلم: أن النبي صلى الله عليه وسلّممبعوثٌ إلى كافة الناس بلا خلاف. ثم قيل: إن إبراهيم ونوحاً عليهما السلام أيضاً كذلك، فإنه يقال لنوح: إنه أولُ نبيَ صلى الله عليه وسلّمفي الأرض. فتصدى العلماءُ لجوابه، لأن البعثةَ العامة قد عُدَّت من خصائصه صلى الله عليه وسلّم وتوجه إليه الحافظ رحمه الله تعالى في «الفتح» والسيوطي رحمه الله تعالى في «حاشية النسائي» ولكنهما لم يذكرا وجهاً قوياً.(1/281)
والذي ظهر لي: أن بِعثة الأنبياء كلهم عامة في حق التوحيد كما صرح به ابن دقيقٍ العيد، بمعنى أنه يجوز لهم أن يدعو إليه من شاؤوا سواء كانوا مبعوثين إليهم أم لا. ويجبُ على القوم إجابة دعوتهم ولا يسعُ لهم الإنكار بحال، فإن أنكروا استحقوا النار.
بقي أنه ماذا معيار بلوغ الدعوة وأنه هل يُشترط التبليغ إلى كل نفس أو مصر على رؤس الأشهاد؟ أو كفى له التبليغ إلى من حَضَرَه، فذلك مما لا علم لنا به. وإذاً فالتعبيرُ الأوفى أن يقال: إن مَنْ تحقق التبليغُ فيهم بأي نحو كان فإنه يُعَدُّ كافراً بالجحود، سواء كان ذلك النبي بُعث إليهم أم لا. ثم إن كانوا متعبدين بشريعة سماوية من قبل لا يجبُ عليهم الدخول في شريعته. ما لم تبلغهم الدعوة إلى الشريعة أيضاً، فإن بَلَغتْ وجب التعبدُ بها أيضاً، ويحمل ذلك على نسخ شريعة المدعو له، فإن لم تكن عندهم شريعة سماوية من قبل، وجبَ عليهم الدخول في شريعته بدون دعوة إليها، هذا فيمن بلغت إليهم دعوة نبي بخصوصها.
وأما الذين لم تبلغ إليهم الدعوة بخصوصها، ولكن بلغ إليهم خبر ذلك النبي كسائر الأخبار تحمل من بلد إلى بلد، يجب عليهم الإيمان به أيضاً، فإن آمنوا به نَجوا وإن أبَوا هلكوا، وتكون معاملتهُم مع ذلك النبي كمعاملتنا مع سائر الأنبياء عليه الصَّلاة والسَّلام، أعني التصديق فقط. ولا يجبُ عليهم التعبدُ بشريعته بمجرد بلوغ خبره إذا كانوا على شريعة نبي من قبل. وهذا كلُّه قبل هذه الشريعة الآخرة، وأما بعدها لا يسعُ لأحدٍ الانحراف عنها بحال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران: 85).(1/282)
وبالجملةِ دعوةُ التوحيد لا تختصُ بنبي دون نبي، بل هي عامة مطلقاً. وأما الدعوة إلى شريعته فخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلّم بمعنى أنه يجب أن يدعوَ إليها جميع من في الأرض، وقد تمت على أيدي الخلفاء الراشدين. وأما سائر الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام فكانت دعوتهم إلى شرائعهم مقصورة على أقوامهم وتبليغُ من سواهم كان في اختيارهم، ولم يكن فريضة عليهم. والسر في شُهرةِ عموم بِعثة هذين النبيين أنه لم يُبْعث لمناقضةِ الكفر غيرُ هذين. أما موسى وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام فإنهما بُعثا إلى بني إسرائيل وكانوا مسلمين نَسَبَاً فإنهم من أولاد يعقوب عليه الصَّلاة والسَّلام، بخلاف نوح عليه الصَّلاة والسَّلام فإنه أول من ناقض الكفر، ولذا لقِّب بني الله، وكذلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من رد على الصابئين وأسس الحنفية.
والنبي إذا رد على شيء يكون عاماً لجميع البلاد وهذه مقدمةٌ ينبغي أن يُبحث عنها أن النبي إذا ردّ على شيءٍ فهل يقتصرُ ردُّه على من بُعث إليهم أو يعمُ لمن في الأرض. وهذا في باب العقائد ظاهر، فإنها مشتركة في الأديان كلها فيعم الرد قطعاً، وأما في الشريعةِ ففيه نظرٌ، فالعموم من هذه الجهة، وللقومِ أجوبةٌ أخرى فليراجعه من «الفتح».(1/283)
إذا علمتَ هذا فاعلم أن عبد الله بن سلام إنما هو ممن بلغ إليه خبر عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام، ولا نظن بمثل عبد الله بن سلام إلا أن يكون صَدَّقَه لما قد علمنا من سلامة فطرتِهِ حين حضر بمجلس النبي صلى الله عليه وسلّموانطلق لسانُهُ بعد نظرة، بأن هذا الوجه ليس بوجه كذاب فلا نسيءُ به الظن. ولا نقول: إنه لم يصدقه، فإذا كان كذلك فقد كفاه عن عهدة الدخولِ في شريعته، لأنه لم تبلغ إليه الدعوة إلى شريعته وإن بلغ إليه خبره كما علمت، نعم لو كان بلغ إليه وصي عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام ودعاه إلى شريعته، لوجب عليه الدخول في شريعته أيضاً، ولكنه لم يصل إليه ومات دونه فكفَاهُ تصديقهُ به لإحراز أجر إيمانه.
وحينئذٍ بقاؤُه على اليهودية وعمله بالتوراة لا يمنعُ عن تحصيل الأجر، فلما ظَهَر النبي صلى الله عليه وسلّموآمن به أيضاً حصل له الأجر مرتين، لأنه أحرز إيمانَه مرة من قبلُ، وهذا إيمانٌ ثانٍ فيحصل له الأجر أيضاً. نعم، الذين كانوا في الشام وأنكروا به لا يحصلُ لهم بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلّمإلا أجرٌ واحد، بخلاف مَنْ كانوا في المدينة، فإنه ليس عليهم إلا التصديق لعدم بلوغ دعوة الشريعة إليهم، وكانوا على دين سماوي من قبلُ فيُحرزُون الأجر مرتين.
فإن قلت: وفي المعالم أن عبد الله بن سلام جاء النبي صلى الله عليه وسلّممع ابن أخيه، وقال: لو آمنت بجميعِ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام غير عيسى فهل يكفى ذلك للنجاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «كلا»، أو كما قال. وهذا يدلُ على أنه لم يؤمن به أيضاً.(1/284)
قلت: أولاً: إن إسناده ساقطٌ. وثانياً: إن سؤاله من باب الفَرض. وتحقيق المسألة لا أنه يُخبرُ عن حالهِ، بل يريد أنه لو فَعَلَه أحدٌ هل يُعتبر منه أم لا؟ وثالثاً: أنه لما آمن بعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام إجمالاً لعدم التفصيل عنده، ثم عنده التوراة من قبل إماماً ورحمة.
وهذه الشريعة الكاملة الجامعة الآن، فهل يجبُ عليه الإيمانُ بها تفصيلاً بعد هاتين أم لا؟ فهذا أيضاً احتمال من الاحتمالات. والحاصل: أنه إذا ظهر أمرهُ ونيتُهُ من الأحاديث القوية فلا نتركه لروايات ساقطةٍ ولا نُسيءُ به الظن ونأولُ فيما وردَ خلافه. وبعد هذا التحقيق انحلت العقدة التي عرضتْ على الحافظ رحمه الله تعالى فألجأتهُ إلى التزام باطل، والحمد لله. ثم قال قائل: إن مسألة إحراز الأجرين ينبغي أن تكون مقتصرةٌ على زمانِ عدم التحريف، فأما إذا حرفوا كتبهم وبدلوا كلام الله من بعد ما عَقَلُوه فلا ينبغي أن يحصل لهم الأجران. قلت: وهذا القائل خالفَ نصَ الحديث، فإن حديثه صلى الله عليه وسلّمإنما كان لأهل زمانه، وحالُهم إذ ذاك معلومٌ.
والذي عندي أن يُفصَّلَ في التحريف، فإن كان بلغَ تحريفُهم إلى حد الكفر البواحِ، ينبغي أن لا يحصل لهم الأجر مرتين، وإلا فالأمر كما في الحديث. نعم، يمكن اختلاف كلمات الكفر في الشريعتين كلفظ: الابن، فإنه مستعمل في الكتب السابقة بأي تأويل كان، وهو كفر في شريعتنا مطلقاً، فينبغي رعايته أيضاً. وراجع بحثه من «فتح العزيز» من تفسير قوله تعالى: {نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ} (المائدة: 18) إلخ من أن التأويلَ الباطل هل يُفيد شيئاً أم لا؟ فإن النصارى كفار قطعاً، لكنهم كذلك يدَّعون التوحيد أيضاً. والشريعة الغراء قد اعتبرت به بعض اعتبار، حيث ميَّزَهَم عن سائر الكفار في جواز المُنَاكحات مع نسائهم وأكل ذبائحهم.
(1/285)
فإذا خفف اللَّهُ فيهم في أمور الدنيا لرعايةِ دينٍ سماوي، فلا بُعد أن يغمض عنهم في الآخرة أيضاً ويمنحهم أجرهم مرتين بعبرة إيمانهم الأول أيضاً لمجرد ادعائهم. فإن قلت: إن الأجرين لهؤلاء الثلاثة فقط أو لغيرهم أيضاً، فالجواب كما قاله السيوطي رحمه الله تعالى في نظم له: أنهم يبلغون إلى اثنين وعشرين نوعاً. ومن ههنا ترددت أن هذا العدد محصورٌ أو فيه أمرٌ جامع، وما تحصل لي هو أن كلَّ عمل عُرِضَ على بني إسرائيل فقصَّروا فيه، فإن حافظنا عليها فلنا فيه الأجران. كما عند مسلم في صلاة العصر: «إنها صلاة فُرضت على مَنْ قبلكم، فإن حافظتم عليها فلكم أجران» - بالمعنى . وكما أن بني إسرائيل كانوا يغسِلون أيديهم قبل الطعام، فلو غسلناها قبل الطعام وبعده فلنا أجران الترمذي.
فإن قلت: إذا كان الأجران على العملين فأي فائدة في ذكر هذه الثلاثة؟ فإن كلَّ من يعملُ عملين يستحق أجرين. قلت: إنما خصَّصها لانضباطها والاعتداد بحالها. والحكم الشرعي إنما يجيءُ في نوعٍ أو في صِنْفٍ منضبط لا في الأشخاص، فإن ورد في شخص يعد من خصوصيته ولا يعم. ومن ههنا بحث في الأصول، أنه هل يجوز خلوّ حكم شرعي من الحكمة. ونسب إلينا أنه يجوز كما في استبراء البِكْر، فإن البكر لا شبهةَ فيها للعلوق، فلاستبراء فيها خال عن الحكمة ظاهراً، ومر عليه شارح «الوقاية» وقال: إن ما يجبُ هو أن لا يخلو صِنْفٌ منضبط عن الحكمة، لا أنه يجب وجودُها في كل جزء. وحينئذٍ فخلوّ هذا الجزئيِّ بخصوصه عن الحكمة لا يضرنا. ولم يقدر الشارحُ على غير هذا الجواب.(1/286)
وعندي جوابُهُ لكنَّ الوقتَ لا يتحملُ بيانه وقد فَصَّلتُهُ في بَرْنَامجي. وقد يقال: إن في هذه الثلاثة إشكالاً ولا يتبادرُ الذهنُ إلى حصول الأجرين فيها، فإن المنساقَ إلى الذهن أن الإيمان طاعةٌ واحدةٌ، وإنما الفرقُ في الفروع، فاعتبار هذا الإيمان وهذا الإيمان ربما يفضي إلى التعجب، فتعرَّض إليه الحديث بأن الإيمان وإن كان واحداً إجمالاً، لكنه لما تعلق بنبيَ بخصوصه تفصيلاً، ثم تعلق بنبي آخر كذلك صار متعدداً باعتبار الشخص، فإنه إذا آمن بنبي فهذا عملٌ، ثم إذا آمن بنبي آخر في زمانه فهذا عمل آخر متجدداً. وكذلك يتوهم أن العبدَ عبدٌ لمولاه، فلعله لا يستحق الأجرَ في خدمته، وكذلك التزوج لنفعه فلا يكونُ عليه الأجر أيضاً.
وقد يقال: إنه خصَّصَها بالذكر لأجل التنبيهِ والتحريضِ على هذين العَمَلين، فإن جمعهما عسير، لأن الكتابي إذا آمن بنبيه فالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلّميَشُقُّ عليه. فنبه على أنه بهذا الإيمان لا يُحرمُ عن أجر إيمانه، بل يبقى إيمانُهُ معتبراً ومأجوراً عليه كما كان، بل يضعَّفُ أجره فيحصل مرتين. وكذلك العبدُ إذا اشتغل بخدمة مولاه، ربما لا يجدُ وقتاً لأداء الصلوات ولا أقل من أن يتعسر عليه، فحرَّضَهُ على أن يؤديَ حق الله أيضاً ليحصل له الأجران. وهكذا الأمر في تزوج الجارية، فإن الطبائعَ الفاضلةَ نافرةٌ عنها، فحرَّضَ على إعتاقِها والتزوج منها، ليحصل له الأجران. وتوهَّم بعضهم أن العبدان صلى فله أجران على صلاته، وليس كذلك، بل الأجران على العملين: أجرٌ على خدمةِ مولاه، وأجر على أداء الصلاة.
باب عِظَةِ الإِمَامِ النِّسَاءَ وَتَعْلِيمِهِن
باب ُالْحِرْصِ عَلَى الحَدِيث
يريدُ أن التبليغَ لا يختصُ بالرجال، بل يعم النساءَ أيضاً. وكان هذا يومُ عيدٍ، ولعل التحريض كان في صدقَةِ الفِطر.(1/287)
قوله: «شنف» (بالى) قرط (در) أسعد الناس (يعني كسكى قسمت مين آب كى شفاعت زيادة بريكى).
99 - قوله: (خالصاً) وأكثرُ الأحاديث ساكتةٌ عن هذا القيد، وهو معتبرٌ قطعاً. والخُلوصُ في اللغة: ما لا غِش فيه. وفي الاصطلاح: قريب من معنى الحنيف، ثم لا تعارضَ بينه وبين ما رُوي: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فإن الأول فيمن يدخل في الشفاعة. والثاني فيمت يظهرُ في حقِّه النفع الكثير. وكذا لا يخالفُ ما عند البخاري ومسلم: «أن قوماً يخرجون بلا عمل عَمِلُوه بقبضة الرحمن ولا يكونُ خروجهم بيد النبي صلى الله عليه وسلّم فإنه يدل على أن شفاعته مختصةٌ بالعاملين. وأما الذين لا عملَ لهم فإنهم يخرجونَ بقبضة الرحمن، ولا تنفع الشفاعة فيهم مع وجود كلمة التوحيد عندهم. قلنا: إن الشفاعة نفعت لهم أيضاً، بيد أنَّ الرحمنَ توكَّل بإخراجهم ولم يفوضه إلى أحد، فهؤلاء أيضاً يخلصون عن النار ببركة الشفاعة، إلا أنهم لا يخرجونَ بيده الكريمة، بل يتولاهُم الرحمن بنفسه وقد بينا سره في كتاب الإيمان.
باب كَيفَ يُقْبَضُ العِلم
قوله: (أبو بكر بن حزم) قاضي المدينة دروس وحقيقته الفَنَاءُ بعد البِلى تدريجاً يعني برانا بن بيدا هونا أو رفنا هوتى جانا.
والتحقيق عندي: أن كل شيء يمر عليه الزمان فإنه يندرسُ ويفْنَى تدريجاً، أي يَبْلى فيبلى ثم يَفْنى. ولذا ترى الأجساد أنها تندرسُ لأنها يمر عليها الزمان. ولما كان الله عز وجل لا تبلغُ شائبةُ الاندارس إلى جَنَابِ قُدْسِهِ، كان عالياً عن الزمان أيضاً.
قوله: (وكتب عمر بن عبد العزيز) وهو أولُ من تهيأ لجمع العلم. قوله: (ينزعه) أي لا يسلب ما كان حاصلاً من قبل.(1/288)
قوله: (الفِرَبري) رحمه الله تعالى هو من تلامذة البخاري. وليس هذا من عبارة البخاري، إنما ألحقها صاحب النُّسخة، فهذا الإسناد عند الفِرَبري من غير طريق البخاري، وكثيراً ما يفعله الفربري، فإنه كلما يجدُ إسناداً غير إسناد البخاري يأتي به أيضاً.
باب هَل يُجْعَلُ لِلنِّسَاءِ يَوْمٌ عَلَى حِدَةٍ فِي العِلم
101 - (أبو سعيد) اسمه: سعيد بن مالك.
101 - قوله: (من نفسك) يعني اجعل لنا يوماً من نفسك ومن عندك، لأنه لا يليقُ بنا أن نُعيِّنَه من عندنا.
101 - قوله:(واثنين) عطفُ تلقين، وأثبت الحافظ رحمه الله تعالى أنه حكم الواحد أيضاً، فإن مفهومَ العدد لا يعتبر إجماعاً، نعم قد يعرضُ للمتكلم اعتباري في الذهن يكون سبباً لذكر العدد المخصوص، ولا يكون مداراً للحكم. وفي الحديث فيه قيد وهو «لم يبلغَ الحنث» والحِنْثُ في اللغة: ناشايان كام والمراد منه البلوغ، فلو كانوا بالغين فكذلك أيضاً، إلا أنَّ نفعَ الصبيان لعصمتهم وشفاعتِهم، ونفعَ البالغين لمزيدِ التأسفِ على وفاتهم والصبر عليهم.
باب مَنْ سَمِعَ شَيئاً فَرَاجَعَ حَتَّى يَعْرِفَه
هذا هو الترتيب الصحيح. ويردُ عليه سؤال عائشة رضي الله عنها. وحاصلُ جوابِهِ صلى الله عليه وسلّمأن الحسابَ اليسيرَ هو العَرْضُ فقط، والعذابُ لمن نُوقِش فيه.
وانعكس الترتيب في بعض طرقِهِ كما يأتي في الصفحة الآتية. فقدم فيه قوله: «من نوقش عذب» ولا يتأتى عليه سؤالُ عائشة رضي الله تعالى عنها، فإنه لم يقل بالعذاب لمن حوسب، وإنما أخبرَ به لمن نُوقش، فلا سؤال، فاحفظه ولا تغفُل. فإن الحديثَ إذا وردَ بألفاظٍ مختلفةٍ فليؤخُذ بجميع ما ورد من طرُقِهِ ثم ليخْتَر أقربَ ألفاظه وأعجبها إلى الذوق والتبادر، فإن الرواية بالمعنى فاشيةٌ، والتغييرَ من الرواة معلومٌ.f(1/289)
103 - قوله: (إنما ذلك العَرْض) واستفدتُ منه أنه يجوزُ للتفهيم تغييرُ عُنوانَ القرآن، كما غيره النبي صلى الله عليه وسلّممن الحساب اليسير إلى العَرْض، وهذا مهم فاعلمه. ثم العَرْض غير التعليم، قال الله تعالى: {وعَلَّم آدمَ لأَسماءَ كُلها ثم عَرَضَهُمْ على الملائكة} (البقرة: 31) فآدم معلَّم والملائكة معروضٌ عليهم. ولم يعلمهم من أسمائها شيئاً فلا إشكال في حديث عَرْض الأعمال.
باب لِيُبَلِّغ العِلمَ الشَّاهِدُ الغَائِب
قوله: (أبو شريح) صحابي.
(عمرو بن سعيد) والي المدينة من جهة يزيد: ولم يذكر المحدثون سُوء حاله، إلا أني رأيت حكايةً بالإسناد تدلُّ على شَقَاوتَه، حتى أخشى عليه سلبَ الإيمان، فلا أدري هل خفيتْ عليهم أو ماذا؟ وكيفما كان ذِكرُهُ ههنا في ذيلِ القصة لا أنه راوي الحديث ليعدّ من رواة الصحيح. ثم إن المسألة عندنا فيمن جَنَى خارج الحرم، ثم التجأ إليه، أنَّ جنايتَه لو كانت في الأطراف يُقتصُ منه في الحرم. فكأنها جعلت في حكم الأموال. وإن كانت في النَّفْس لا يُقتص منه في الحرم، ويُلجأ إلى الخروج حتى يُقتص منه. وعند الشافعية يقتص في الحرم، فحَرُمةُ الحرمِ أزيدُ عندنا من الشافعية. وتمسك الحافظ رحمه الله تعالى بقول عمرو بن سعيد. قلت: وأنا راض على هذا التقسيم، فإن الصحابيَّ في هذا الحديث يُوافقَنا في المسألة.
104 - قوله: (ولا يعضد) وراجع لتفصيله «شرح الوقاية» من الجاف والمنكسِرِ والنابت بنفسه، وعدمُ كونه مما ينبتُهُ الناس.
104 - قوله: (ساعة من نهار) وهي من طلوع الشمس إلى الغروب كما في «مسند أحمد».(1/290)
104 - قوله: (الخَرْبَة) في الأصل سرقة الإبل، ثم عمَّم. وفي بعض النُّسخ: الخزية بمعنى رسوائي وراجع «دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة للحبيب» فإنه تكلم في هذا الحديث كلاماً حسناً. وكتب أن الإمامَ أبا حنيفة رحمه الله تعالى قد فَهِمَه حق الفهم، وكان مصنفه من علماء السند، وأصله من الكشمير، وأجازه الشاه ولي الله قُدِّس سره بالكتابة، وحرر له أني أجيز لك ولمن كان لها أهلاً من أهل بلدك - وقد تكفل بطبعه غير المقلدين في زماننا، لأن مصنف الدراسات أيضاً لم يكن مقلداً، إلا أنه لم يكن متعصباً مثل هؤلاء، فإذا وجد كلمةَ حقٍ أقرَّ بها كما فعل ههنا - فإنه مدح الإمام على أنه هو الذي أدى حق الحديث وعمل به بدون تخصيص ولا تأويل.
104 - قوله: (إن الحرمَ لا يعيذُ عاصياً) قلت: هو من باب كلمةِ حق أريدَ بها الباطل، فإنه لا يصدُقُ على ابن الزبير أصلاً، بل يصدقُ عليه وعلى يزيد. وملخص القصة أن معاويةَ رضي الله عنه لما ولى يزيد أنكرَ عبد الله بن الزبير وأصحابَه أن يُبَايعوه ورحلَ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه إلى مكة، فاستخلف بعدَه مروان، ثم عبد الملك، فولى عبد الملك الحجاج المبير ظالمُ هذه الأمة، فتولى قتْلَ ابن الزبير رضي الله عنه وفعلَ ما فعل، وأحرقَ قرناً كَبْش إسماعيل عليه الصَّلاة والسَّلام، وتهدمت حِصةٌ من البيت أيضاً، والعياذ بالله.
105 - قوله: (وكان محمد) جملةٌ معترِضةٌ ومعناها: تصديقُ ما أخبرَ به النبي صلى الله عليه وسلّممن أنه وَقَعَ كما أخبر. وثبت أن رُبَّ غائبٍ أحفظ من السامع.
باب إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلّم(1/291)
واعلم أنَّ الجمهورَ على أن الكذبَ على النبي صلى الله عليه وسلّمعمداً من أشدِّ الكبائر. وذهب أبو محمد الجُويني - من كبار الفقهاء - إلى أنه كفرٌ. وأيَّده من المتأخرين الشيخ ناصر الدين بن المنير وأخوه الصغير زين الدين بن المنير. وأما من فرق بين الكذب عليه والكذب له تمسكاً، بقوله: من تكذب عليّ فإنه جاهل، فإن الكذب كيف كان ليس له في حال بل هو عليه في كل حال فلا يجوزُ الكذبُ في الترغيب والترهيب أيضاً. والكذب بكسر الذال اسمٌ، وبسكونها مصدرٌ.
قال العيني: من ذكر حديثاً موضوعاً بدون ذكر وضعِهِ أو غَلِط في الإعراب فهو أيضاً تحت هذا الوعيد.
قال الحافظ في «الفتح»: إن هذا الحديث ثابت عن ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم قلت: وهو عندي عن خمسينَ منهم. والحاصل: أنه حديثٌ متواترٌ قطعاً.
فائدة
واعلم أني لم أجد أتقن في باب النقل من المحدثين، ثم الفقهاء، ثم أهل اللغة فإنهم لا يأتون بحديث لا يكون له أصلٌ في كتب الحديث. وأما الذين أشربت قلوبهم فنَّ المعقول فإنه تبيَّن بعد الاستقراء أنهم لا عِلم لهم بأن الحديث ما هو؟ وأن البحثَ عن الأسانيد ماذا؟ ولكنهم إذا سمعوا الناس قالوا في كلام: إنه حديث، جعلوا يقولون: إنه حديث وإن كان موضوعاً.(1/292)
109 - قوله: (مكي بن إبراهيم) وهو حنفيٌ من أصحاب أصحاب أبي حنيفة رحمه الله. وهذا أول الثلاثيات عند البخاري، وهي أزيدُ عند الدارمي منه، فإن الدارميَّ أكبر سناً منه، وشيء منها عند ابن ماجه أيضاً وليست عند أحد من الصحاح غيرهما. وفي «مسند الإمام أبي حنيفة» الثنائيات أيضاً. وقد مرَّ أنه تابعيٌ رؤيةً وتبع التابعين رِوَايةً، فإنه ثبتَ رؤيتُهُ أنساً رضي الله تعالى عنه عند الكل. وادَّعى العيني أنه رأى سبعة من الصحابة. وردها العلامة قاسم بن قُطَلُوبُغَا وقال: إنه لم يثبت له غير رؤية أنس رضي الله عنه. وقال الحافظ رحمه الله تعالى: إن العلامة قاسم مُتقنٌ وهو في اصطلاحهم من لا يغلطُ في إسماء الرواة وألفاظ الحديث. قلت: بل هو حافظ، وإن لم يكن مثل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.
ثم إن «مسند الإمام» إنما جُمِعَ بعده، والمتداول في الأيدي هو «مسند الخوارزمي» وهو المشهور ب«مسند الإمام». وقد كان جَمْعَهَ عشرة من الناس منهم حفاظ، ثم جمعَ الجميعَ الخوارزمي ثم جمع «مسنده» أربعة من الأئمة أيضاً: منهم أبو بكر المقرىء، وأبو نُعيم الأصْبَهاني وهذه المسانيد مفقودة كلها. وأحسن ما يمكن جمع مسنده من أمالي أبي يوسف رحمه الله تعالى، وكان يملي في زمان قضائه. وقد حضرَ في مجلس إملائه أحمد رحمه الله تعالى وابنَ معين أيضاً وعن ابن مَعين عندي أن أبا يوسف رحمه الله تعالى كان يحفظُ في زمن حفظهِ ستين حديثاً في مجلس واحد، وليس في «الجامع الصغير» حصة من الأحاديث. نعم، في «المبسوط» حصة منها، لكن الآفة فيها أن الطابع لم يميز فيما بين كلام محمد وكلام الشارح، وكذا حذف الأسانيد فتعطلت عن الفائدة.
(1/293)
110 - قوله: (تسموا باسمي... إلخ) كان دأب العرب أنهم إذا دعوا أحد أو أرادوا توقيره، دعوه بكنيته دون اسمه، وعليه ما جاء في الحديث أن رجلاً دعا أحداً بأبي القاسم، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلّمفقال الرجل: إني لم أردكَ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلّمأن يُكْتَنَى أحد، يكنيته لئلا يحصلَ الالتباس، ولذا قال بعض العلماء: إن النهى مقتصر على زمانه، سواء تَكنَّى منفرداً أو مع اسمه الشريف. وفي المسألة أقوال عديدة ذكرها الشارحون.
110 - قوله: (من رآني في المنام... إلخ) والمعنى: من تعلقت رؤياه بي فهو تعلق صحيح، أي من تعلقت رؤياه بي في اعتقاده فهي رؤيا صحيحة، كذا قال صاحب «القوت».
واعلم أن اختُلف في رؤيته صلى الله عليه وسلّمومراد الحديث.
فقال بعضهم: إنه مخصوصٌ بما إذا رآه في حليته المباركة، واعتبر هؤلاء أطوارَ الحلية ولم يجوزوا المخالفة ولو بشعرة، فإن كان رآه في حليةِ صباه ينبغي أن تطابق بما كانت حليته فيه، وكذا في حلية الشباب والشيخوخة. ونقل البخاري عن ابن سِيرين في كتاب الرؤيا أنه كان يسأل الرائي عن حليته التي رآه فيها، فهذا دليلٌ على اعتباره أطوار الحلية، وهذه الجماعة قليلة.
وعممها بعضهم وقالوا: إن المرئي هو النبي صلى الله عليه وسلّمفي أي حلية كان إذا كان عنده أنه رآهُ، ولم يعتبروا المطابقةَ بين الحلية المرئية والحلية التي هي حليتُهُ. ولما ضيَّق الأولونَ في رؤيته وقيدوها بتقييداتٍ وسعَوا في اعتبار أقواله الحُلمية، بخلاف الجمهور فإنهم إذا وسَّعوا في أمر الرؤية ضيَّقوا في اعتبار تلك الأقوال، ولكنها تُعرضُ على الشريعة عند جميعهم، فإن وافقت قُبلتِ وإلا لا.وما ذكره النووي رحمه الله تعالى مضرٌ جداً، لأن ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلّمبه هو في رؤيته، ولم يخبرنا بأنه يقول له ويكلمه أيضاً، فما ثبتَ عنه يقظةً لا يُترك بما رئي مناماً.(1/294)
وأيضاً النائم ليس على يقينٍ من كلامه ولا من كلام تلك الصورة المُرتبة، وليست تلك صورةٌ بصرية، بل رؤيا حُلمية، وأكثر الناس لا يعرفون حقيقتها، فلذا لا يجبُ الأخذ بها. ولكن إذا لم تخالف حكماً ظاهراً من الشرع حَسُن العملُ بها أدباً مع صورته صلى الله عليه وسلّمأو مِثالها. ولا ندَّعي أنه قاله صلى الله عليه وسلّمفي الواقع، ولا أنه خاطبه، ولا أنه انتقل من مكانه، ولا أنه أحاط علمه الشريف بذلك البتة، وإنما الله أراه إياهُ لحكمةٍ علمها. وراجع له «شرح منهاج السنة» للسبكي.
وفيه حكاية ذكرها الشيخ عبد الحق رحمه الله تعالى: أن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلّمفي المنام يقول: اشرب الخمر، وكان الشيخ علي المتقي حياً إذ ذاكَ وهو حنفي، شيخ لمحمد طاهر صاحب «مجمع البحار»، وهو أيضاً حنفي كما صرح به هو بنفسه في رسالة خطية، وسها مولانا عبد الحي رحمه الله تعالى حيث عده من الشافعية ومن مصنفات شيخه «كنز العمال» رتب فيه كتاب السيوطي رحمه الله تعالى «جمع الجوامع» - فأجابه: أن النبي صلى الله عليه وسلّمإنما قال: لا تشرب الخمر، ولكن الشيطان لَبَّس عليك، والنوم وقت اختلال الحواس. فإذا أمكن في اليقظة أن يسمعَ رجلٌ بخلاف ما قاله القائل لعلة في الخارج أو من جهته، ففي النوم أولى. والدليل عليه أنك تشرب الخمر، فأقر به، وقال: نعم إني أشرب الخمر.(1/295)
وعندي أنه قال له: اشرب الخمر تعريضاً على حاله القبيح، ويفهم هذا المعنى من لهجة المتكلم وكيفية تكلمه، فاللفظ الواحد قد يكون لمعناه، وقد يكون للتعريض. ثم التعريض قد يكون قولياً وقد يكون فعلياً، يُعرف ذلك بالقرائن. وقالت هذه الطائفة: إن الحلية تُنبىء عن حال الرائي، فإن كان حاله حسناً يراه في حالة حسنة، وإلا ففي غير ذلك. وفيه أيضاً حكاية أن رجلاً رآه صلى الله عليه وسلّموعلى رأسه القَلنسوة الإنكليزية، فاستوحش منه، وكتب إلى مولانا الكنكوهي رحمه الله تعالى، فكتب إليه أنه إشارة إلى غلبة النصرانية على دينه.
ثم التحقيقُ أن رؤيتَه صلى الله عليه وسلّملا تتعين في رؤيةِ عين الذات المباركة، فإن الأحوال في رؤية الشخص مختلفة، فربما نرى شخصاً من الأحياء ولا يكون له علمٌ برؤيتنا ولو كان في المنام عين ما في الخارج لكان عنده شعور بها، فالمرئيُ إذاً والله تعالى أعلم قد يكونُ صورةً مخلوقة لله تعالى على مِثال تلك الصورة، أي أنه تعالى يخلق حقيقة على مثال صورتِهِ وروحانيته أرانا إياها وأوقع في نفسنا مخاطبتها إياها، وقد تكونُ روحه المباركة بنفسها مع البدن المثالي. ثم قد تكون يقظَةً أيضا كما أنها قد تكون مناماً.(1/296)
ويمكن عندي رؤيته صلى الله عليه وسلّميقظةً لمن رزقه الله سبحانه كما نقل عن السيوطي رحمه الله تعالى - وكان زاهداً متشدداً في الكلام على بعض معاصريه ممن له شأن - أنه رآه صلى الله عليه وسلّماثنين وعشرين مرة وسأله عن أحاديث ثم صححها بعد تصحيحه صلى الله عليه وسلّم وكتب إليه الشاذلي يستشفع به ببعض حاجته إلى سلظان الوقت، وكان يوقِّره فأبى السيوطي رحمه الله تعالى أن يشفع له، وقال: إني لا أفعلُ وذلك لأن فيه ضررُ نفسي وضررُ الأمة، لأني زرتُهُ صلى الله عليه وسلّمغير مرة ولا أعرفُ في نفسي أمراً غير أني لا أذهب إلى باب الملوك، فلو فعلتُ أمكن أن أحرم من زيارتِهِ المباركة. فأنا أرضى بضررِك اليسير من ضررِ الأمة الكثير.
والشعراني رحمه الله تعالى أيضاً كتب أنه رآه صلى الله عليه وسلّموقرأ عليه البخاري في ثمانية رفقة معه، ثم سمَّاهم وكان واحد منهم حنفياً وكتب الدعاء الذي قرأه عند ختمِه. فالرؤية يقظة متحققة وإنكارُهَا جهلٌ. ثم عند مسلم في لفظ آخر: «فسيراني في اليقظة» ولعله حديث آخر ومضمون آخر يقتصر على حياته صلى الله عليه وسلّم وفيه تبشير بالصحابية لمن كان رآه في المنام، ولكن الراوي شك فيه وقال: أو فكأنما رآني، فوقع التردد في أنهما حديثان أو واحد. ونقل العيني رحمه الله تعالى فيه زيادة أخرى «فإني أرى في كل صورة» وهي تضرُ الطائفة الأولى فإنها تُشعر بالتعميم وأن لا تخصيصَ بحلية دون حلية.(1/297)
أقول وظاهرُ حديث البخاري يؤيد الطائفة الأولى، سيما إذا كان من لفظه: فإن الشيطان لا يتكونني، وحينئذٍ صرفُ هذه الزيادة عن ظاهرها أولى، فإنها لا توازي حديث البخاري. وشرحُهَا عندي دفع استبعاد، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّمإذا كان في المنام هو ولم يتمكن الشيطان من تمثله، فكيف تكون رؤيته في زمان واحدٍ لأشخاصٍ عديدة في أمكنة كذلك. والجواب: أنه ممكنٌ لأنه يُرى في كل صورة. أما أن تلك صورة مثالية أو عينه صلى الله عليه وسلّمفهو تابعٌ لمنامه قد تكون كذا وقد تكون كذا.
ثم اعلم أن الأحاديث عامةٌ في الرؤيا تنبىء عن التقسيم الثنائي: الرؤيا من الله، والحُلُم من الشيطان. وشرحه العلماء بأن ظاهرَه إن كان خيراً فهو من الله، ويَسألُ عن تعبيره. وإن كان مشوهاً فهو تحزينٌ من الشيطان ولا يَسأل عن تعبيره وأمره كما في الحديث. وفي بعض الأحاديث التقسيم الثلاثي أيضاً: تحديث النفس، وتخويفٌ من الشيطان، وبشرى من الله، وقد كنت مدةً طويلةً أظن أن حديث الباب يبنىء عن التقسيم الثنائي، فإذا انتفى الحُلم تعيَّنَ أن يكونَ من الله تعالى، وهذا معنى قوله: «فقد رآني» أي رؤياه صحيحة وحق ومن الله لانتفاء مَدْخليَّة الشيطان منها، لأنه لا يمكنُ أن يتمثل به صلى الله عليه وسلّم(1/298)
أما الحظورُ بالبالِ أنه رآه أو انتقاشُ صورتِهِ المباكرة بتكررِ الخيال، فهما خارجان عن مصداق الحديث، فلم يدخلا تحت الشرط، فكذا في الجزاء أيضاً وإن كانا واقعين في الخارج. وبين الانتقاش والخطور فرق، فإن الرؤية في الأول متحققةٌ ولو كانت من أجل تصوره، ولا رؤية في الثاني غير الخطور بباله أنه رآه. ثم تبين لي بعد مرور الزمان أنه ينبىء عن التقسيم الثلاثي. والحديثُ لا يصرحُ إلا بانتفاء الحُلم فيه، فلا يمكنُ في رؤيته مَدْخليَّةُ الشيطان. نعم، يمكن أن يكون على طريق تحديث النفس أيضاً وحينئذٍ معنى قوله: «فقد رآني» أي تارة على طريق الرؤيا الإلهية، وأخرى على طور تحديث النفس، فبقي هذان الاحتمالان داخلين تحت مِصداق الحديث. وعلى الشرح الأول لم يكن فيه ألا احتمالُ كونِها من الله، سواءٌ كان ذلك رؤية لشخصه أو مثاله. والآن انفسحَ الأمرُ وأمكنَ أن يكونَ على طريق تحديث النفس أيضاً.
بقي الشق الرابع، وهو رؤيته على سبيل الخُطور، فهو خارجٌ عن قضيةِ الحديث مطلقاً، فإنها ليست برؤيته أصلاً، فلا يدخل تحت الشرطِ فكيف في الجزاء فإن قوله: «فقد رآني» يُصدَّق فيمن تحققَ فيه الشرط، وهو قوله: «من رآني في المنام» ورؤيته على سبيل الخطور ليست من الرؤية في شيء. وهكذا أخرجه السبكي أيضاً. وجملةُ الأمر أن ما بدا لي بعد مضي الدهر هو أن الحالَ في رؤيته صلى الله عليه وسلّمعلى ثلاثة أنحاء كما هو عندهم في الرؤيا العامة، وإن كنتُ أظن أولاً أنه على خلافها من كونه مبنياً على التقسيم الثنائي.
وبالجملة أن الرؤية قد تكونُ عنايةً من جهته صلى الله عليه وسلّم وتلك هي أعلاها، وقد تكون تلك على المثال دون الشخص بعينِهِ، وكلتاهما داخلتان في قضية الحديث أما الرؤية على طريق الخُطور بالبال، فقد أخرجه السبكي رحمه الله تعالى.(1/299)
بقي تحديثُ النَّفْسِ فهو داخلٌ بعد كما ظهر آخراً. وإنما اخترتُ هذا الشرحَ لأني رأيت الحالَ في الخارج كذلك، فلما أمكن شرحُ الألفاظ بما يطابق الخارج رأيته أولى. وتفصيله: أن القوةَ الخياليةَ بتكررِ الخيال، وممارستها قد تُحِدثُ في النفس صورةً، ولا يكون هذا إلا تصرفاً منها كما اشتهر في المثل في بلادنا: أن الهرةَ لا ترى في نومها إلا لحماً، فإنها تحبُّه وتمارسه حتى لا تكاد تغيب عن ذهنها صورتُهُ، فتلك هي رؤياها في نومها كما هي في اليقظة، فكذلك حالُ من أُغرِمَ بحب النبي صلى الله عليه وسلّموأكثر ذكره وطال فيه فِكرُه، ولم يزل مشغولاً به في اليقظة، فربما يصوِّر في نومه ما عَلِق به قلبه في اليقظة، فهذا أمرٌ ممكنٌ، بل واقعٌ ونوعُ بشارةٍ له أيضاً، فإن هذا الخيال وإن لم تكن له حقيقة لكنه مبارك.
والحاصل أن رؤياه صلى الله عليه وسلّم قد تكون كرامةً من الله تعالى، وهو بشرى المؤمن حقيقة، وقد تكون على طور تحديث النفس، فهذا أيضاً نوع بِشارة، وإن كانت ضعيفة ولذا يشتركُ فيها الصالح والطالح، ولو كان مع ذلك عناية من جانبه تعالى، فالأمر أعلى؛ وأما على طريق تحزين الشيطان فهذا أبعد وأبعد، نعم، يتحقق ذلك في الرؤيا العامة، هكذا حققه الشيخ المجدد السَّرهندي رحمه الله تعالى وأعلى درجته في عليين وبعدَه الشيخ ميرزا جان جانان الشهيد والشاه رفيع الدين رحمهما الله تعالى، فإنهم كلهم كانوا قائلين بالرؤية الخيالية أيضاً. ولعَمري أنه مذهبٌ محكمٌ مطابقٌ بما في الواقع، والله تعالى أعلم.
باب كِتَابَةِ العِلم
واعلم أن الاهتمام في عهده صلى الله عليه وسلّمكان بجمعِ القرآن فقط، ولم تكن هممهم مصروفةً إلى جمع الأحاديث، بل كانوا يحفظونَها عن ظهرِ قلب، إما بالألفاظ بعينها إن أمكن، وإلا فبالمعنى مع إبقاء المراد على حاله.(1/300)
ثم جَمَعَ أبو بكر الصديق مما تفرق من القرآن في مقام واحد، ثم أخذ عنه عمر رضي الله عنه نقولاً في زمان خلافته. أما عثمان رضي الله عنه فكتب جميع ما كان قرأه جبرئيل على النبي صلى الله عليه وسلّمفي العَرْضَةِ الأخيرة وأرسل نقوله إلى البلاد وما كانت عندهم من القراءات المختلفة أمر بحرقها لئلا يَشقَّ الناسُ عصاهم في أمر القرآن. ثم إنه ثبت عنه النهيُ عن كتابة الحديث وثبت عنه الإجازة أيضاً لبعض أصحابه صلى الله عليه وسلّم فقد رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: إني لا أعلمُ أحداً أحفظُ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّممني غير عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فإنه كان يكتب ولا أكتب، فكان عبد الله بن عمرو بن العاص جمع أحاديثه صلى الله عليه وسلّمفي كتاب وسمَّاه الصادقة.
وأخرج الطحاوي عن عمر رضي الله عنه أنه أراد أيضاً جمعَ الأحاديث واستخار إلى شهرٍ، فاستقر رأيهُ على أن لا يجمعها وقال: إني سمعت قوماً نزلت عليهم الصحيفةُ فكتبوا حديثَ نبيِّهم وانهمكوا فيها، حتى غَفَلوا عن صحيفتهم فضاعت، فرأى أن لا يجمع.(1/301)
ثم أول من صنف فيه من التابعين الزُّهْري، فجمع فيه السير والمغازي. ثم صنف ابن جُرَيج في زمن عبد الملك. وجمع مالك رحمه الله تعالى في «الموطأ» المرفوع مع الآثار. ثم جرَّد أحمد رحمه الله تعالى المرفوع من الآثار مع عدم التميز بين الصحيح والسقيم، حتى ظهر البخاري وصنف «صحيح البخاري» مميِّزاً بين الصحيح وغيره. حتى قيل في حقه: إنه أصحُّ الكتبِ بعد كتاب الله تعالى، ثم صنف الناس كتباً تَتْرى على اختلافهم إلى أن بلغ الأمر كما ترى. قلت: وإن جَمْعَ الأحاديث في زمنه صلى الله عليه وسلّموإن كان أحسنَ في بادىء الرأي، إلا أن المرضِيَّ عند ذلك كان أن لا تدونَ الأحاديثُ مثل تدوين القرآن، ولا تحفظُ حفظه، ولا تنتهي في الحتم نهايته، ولا تبلغُ في الاهتمام بألفاظها مبلغَه، ولا ينفي عنه الاختلاف والشبهات نفيها عنه، بل تبقي في مرتبة ثانوية يمشي فيها الاجتهادُ، وتفحصُ العلماء، وغور الفقهاء، وبحث المحدثين لينفسح عليهم أمر الدين، ويتوسع عليهم من كل جانب، وصدق حيث قال: «إن الدين يُسر» ثم رأيت أثراً عن الزهري في كتاب «الأسماء والصفات» قسم فيه الوحيَ وقال: إنه لا يُكتب منه إلا قسم واحدٌ، فعلمتُ أن انضباطَ نوعٍ دون نوع في زمنه صلى الله عليه وسلّمكانت هي المسألة، لا أن عدم كتابة الأحاديث كانت اتفاقاً فقط.
قوله: (ولا يقتل مسلم بكافر) وبظاهره أخَذَ الأئمة الثلاثة وقالوا: إن المسلم لا يقتل بكافر حربياً كان أو ذِمياً. وخالفهم أبو حنيفة رحمه الله تعالى في الذِّمي وقال: إن المسلم يقتل بالذمي وإليه ذهب داود الظاهري وأبو بكر الضحاك في كتاب الديات، وأبو بكر هذا بعد البخاري بزمن قريب.(1/302)
قلت: والمستأمنُ أيضاً كذلك فيقتلُ بالمستأمن أيضاً، وإن كان بعض عبارات الفقه يُوهم بخلافه، لكنَّ المذهبَ ما قررنا. واحتج الأئمة رحمهم الله تعالى بقوله: «لا يقتل مسلم بكافر» ونقل الحافظ في «الفتح» أن زفرَ رحمه الله تعالى قيل له: إنك تقولُ بقتل المسلم بالذمي مع أن الحدود مُندرئةٌ بالشبهات، وأي شبهةٍ أقوى من أن يقتصَّ من المسلمِ بالذمي مع قوله صلى الله عليه وسلّم «لا يقتل مسلم بكافر» فرجع عنه وقال: أشهد أني رجعت عن هذه المسألة. وأجاب عنه الطحاوي أن المرادَ من الكافرِ هو الحربيُّ دون الذمي، بقرينة قوله: «ولا ذو عهد في عهد» وشرحه بأن المسلمَ لا يُقتل بكافرٍ ولا يقتلُ ذو عهدٍ في عهده بكافر أيضاً. وحينئذٍ وجب أن يرادَ من الكافر الحربيُ فقط، ليستقيم التقابل بين ذي العهد والكافر.
وقال الشافعية: إن في الحديث قطعتين: الأولى في حكم القِصاص، أي لا يقتصُ من المسلم بقتل كافر حربياً كان أو ذمياً. وأما القطعة الثاني فلم تُذكر لحكم القصاص بل لحكمِ المعاهد، أي أنَّ القصاص وإن لم يجب لقتله، ولكن قتلُهُ حرامٌ، فلا يقتلُ ذو عهدٍ في عهده، كما في حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال: «إلا من قَتَلَ نَفْسَاً مَعَاهِداً له ذِمَّة الله وذِمَّة رسُولِهِ، فقد أخفر ذمة الله فلا يُرَح رائحة الجنة.. إلخ»، وهذا الحديث سِيق لبيان حِرمَةِ قتله، لا لأجل القِصاص. فكذلك القِطعة الثانية في حديث الباب إنما سيق لبيانِ حرمةِ قتلهِ، وليست مرتبطة بما قبلها، وحينئذٍ يمكنُ أن يكونَ معنى الحديث: أن المسلم لا يُقتلُ بحال بكافر، سواءٌ كان الكافر حربياً أو ذمياً. أما ذو عهد فإنه لا يقتلُ أيضاً، لأنه حَرَامٌ قتله، فلم يتعين مرادُهُ فيما ذكره الطحاوي وبقي الأمر في التردد بعد.(1/303)
وأجاب عنه الشيخ ابن الهُمَام أن الحديثَ إنما ورد في دماء الجاهلية وذهولها. والمعنى أن مسلماً بعد إسلامه لا يقتلُ في قصاص كافرٍ قَتَلَه في الجاهلية، فدعاوي الجاهلية لا يرافع بها بعد الإسلام. قلت: وهذا لطيف جداً: فإنه قطعة من خُطبة النبي صلى الله عليه وسلّمخَطَبها في فتح مكة. وإعلانُ هذه المسألة هو الذي يناسبُ المحلَ والمقامَ. وقد ورد عند البخاري حديث آخر عن ابن عباس، وشرحه العلماء بعين هذا، وفيه أنه قال: «أبغض الناس عند الله ثلاثة: مبتغ في الإسلام سنة لجاهلية، ومطالب دم امرىء بغير حق... إلخ». قال العلماء: إنه في دماء الجاهلية فلا يُبعد أن يكونَ هذا الحديث أيضاً في دمائها كما ادَّعاه الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى.
والجواب عندي: أنَّ حقنَ دمَ الذميِّ مستفادٌ من عهده بالمسلمين، حيث لم يعاهده إلا على حفظِ دمهِ ومالهِ. وعند الترمذي: أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا. فالمعاهدة لا تقع إلا على حفظِ دمه وعِرضِهِ ومالِهِ. فمن قتله من المسلمين فقد أَخْفَرَ ذمة المسلمين وافْتَاتَ عليهم، فيكون ناقضاً لذمتهم لأنهم ما عاهدوه إلا على أن دمَه يكون كدمهم، فلو لم يُقتل بقتلِهِ بَطَلَ معنى المُعاهدة فيُقتلُ لأجل معاهدتِهم إياه لا أصالة، فكأن قتل المسلم بالذمي من لوازِمِ عقد الذمة.
وحينئذٍ معنى الجملة الأولى: «لا يقتل مسلم وذمي بكافر، وإنما أخرجنا لفظ الذمي في العبارة فقد بياناً لحكمه، لأنه بعد عقد الذمة دَخَلَ في أحكام المسلمين في الدنيا لا أنه مقدَّرٌ ليكون تأويلاً. ومعنى القطعة الثانية كما ذكره الآخرون. وبهذا الطريق حصل الجواب عن الحديث مع بقاء موافقتهم في الشرح. ومن ههنا ظهر الجوابُ عما أُورِدَ على زفر رحمه الله تعالى فإن له أن يقول: يقتل لِخَفْره ذمة المسلمين وإزالةِ عصمتِها لا أصالة.(1/304)
ولي طريق آخر لم يسلكه أحدٌ، ويقتضي تمهيدَ مقدمة: وهي أن بيت الله كان تحت ولاية جُرْهم الذين تزوَّج فيهم إسماعيل ثم بقي كذلك في ذريتهم إلى زمان ثم تحول إلى يد خُزاعة، وليسوا بقريش، فإن لَقَبَ قريش شرع من قُصَيّ. واخُتِلف في خُزاعة أنهم كانوا مُضَرِيين أم لا؟ ثم لما صارت الولاية إلى قريش أخرجوا خزاعة ففروا إلى حوالي مكة وسكنُوا فيها، فعُلم منه أنه كانت عداوةٌ بين قريش وخُزَاعة من زمان طويل، فلما وقعَ صُلح الحُدَيْبِيَة دخل بنو خُزاعة في العهد مع النبي صلى الله عليه وسلّم وكان النبي صلى الله عليه وسلّمارتضع فيهم ودخل بنو بكر أو بنو ليث - هكذا يشك الراوي - مع قريش.(1/305)
ومضى عليه زمان حتى وقعت حربٌ بين بني خُزَاعة وبين بني بكر حليف قريش فأعانهم قريش على خلاف المُعَاهدة ونقضوها وقتلوا رجلاً من خزاعة، فجاء خزاعةُ وافدين إلى النبي صلى الله عليه وسلّموقد أخبره الله سبحانه عنهم قبل مجيئهم وكان يتوضأ وهو يقول: «سأنصر خزاعة». فسألته عائشة رضي الله عنها ممن تكلم يا رسول الله؟ قال: يجيء وَفْدُ خزاعة فلما جاؤا وقَصُّوا عليه القِصة وعدهم بالنُّصْرِة، وغزا قريشاً مع عشرة آلاف من صحابته وحاربهم من الطلوع إلى الغروب، وهي الساعة التي أَحلت له صلى الله عليه وسلّم فلما فتحت مكة أعلن النبي صلى الله عليه وسلّمبالأمن وكان رجل من بني بكر - أو ليث - يجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلّمولا يدرى أنه كان يريد الإسلام أم لا؟ فقتلته خُزَاعة بقتيل لهم على بني بكر - أو ليث - كما كانت عادتُهم في الجاهلية، فأُخبرَ به النبي صلى الله عليه وسلّمفَرَكب راحلتَه مُغضَباً وخَطَبَ: أن الله تعالى حبس عن مكة القَتْل أو الفيل». قال محمد، أي البخاري: اجعلوه كذلك على الشك فإني سمعت من شيخي هكذا إلى أن قال: «فمن قتل قتيلاً فهو بخير النظرين»... إلخ. وكانت هذه واقعةٌ قَتَلَ مَسلمٌ ذمياً، لأن الرجل وإن لم يكن ذمياً لكنه كان في حكمهم، لأنه لما أمر بالكفِّ عن القتال وأمن الناس فدخل هذا الرجل أيضاً في أمنه، والنبي صلى الله عليه وسلّمذَكَرَ فيه القصاصَ صراحةً، فإن النظرة الواحدةَ هي القصاصُ، فمورد الحديثِ يُقوي مذهبنا ويلزم عليهم أن يخصِّصوا النصَّ بما وراء المورد، فلا يكون له حكم في المورد.
(1/306)
وهذه المسألة اختلف فيها الأصوليون: أنه هل يجوز إخراج مورد الحديث عن حكم النص أولاً؟ والظاهرُ أنه لا يجوز، فعليهم أن يخصُّوا النصَّ بما وراء المورد. وإنما لم يقتص منه النبي صلى الله عليه وسلّممع جَوَازِه لأنه أعذره، وكان الموضِعُ تسامحٍ وإغماض، لأن إعلان الأمن كان عن قريب، واحتملت المدة أن لا يشيعَ خبرُهُ ولا يصل إلى الأطراف أو يقال: إنه عَفَى عنه، وهذا جائز بشرطِ عدم الخُصومة والمراضاة، كما في فقهنا: أن المستحب للقاضي أن يدعوهم إلى الصلح أولاً كالتحكيم. وفَعَلَه عمر رضي الله عنه في الحقوق المالية كثيراً. وإنما أدى الدية من قِبَلَ نفسه إطفاءاً لنار الفتنة.
ثم عند الترمذي في كتاب الديات ما هو أصرح منه في شموله سبب الورود أيضاً. عن أبي شُريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «ثم إنكم معشر خُزَاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني عاقلته فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين الخيرتين... إلخ» فهذا يدل على أنه كان ينبغي أن يقتصَّ منه إلا أنه أغمض عنه لمصلحةٍ رآها. ثم إن الحافظ نقل رواية عن الواقدي واستدل منه لمذهبه، إلا أنه لم يُسمِّه، فقلت: سبحان الله، وهل يُستدل بمثل الواقدي في أحكام الفقه؟ ولو فعله حنفيٌ لبقي عليه عارهُ أبدَ الدهر.
وتحصل من المجموع أربعة أجوبة:
الأول: أن المراد من الكافر هو الحربي دون الذمي، بقرينة مقابلته بالذمي.
والثاني: أن الحديث في وضع دماء الجاهلية.
والثالث: أن الذمي في حكمِ المسلم في النفس فقط والمال بنص الحديث وبالعهد فيدخل في المسلم بهذا الاعتبار.
والرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلّمأعلنَ في خُطبته بالقِصاص بين المسلم والذمي، فاعلمه.
112 - (قوله: ولا تحل لأحد بعدي) وهذا تكوينٌ ولا يخالفُ تسلط الكفارِ على مكة في زمان، لما في «الجامع الصغير»: أن مكةَ لا يُحِلها أحد حتى يُحلِها أهلها.(1/307)
112 - قوله: (ولا تلتقط) وإنما عَدَلَ إلى المجهول لكونِهِ أبلغَ من المعروف ههنا، لدَلالته على انتفاء الفعل رأساً. وهو حكم لُقطَةِ الحرم عند الشافعي رحمه الله تعالى، أي من التقطها يجبُ عليه التعريف دائماً لقوله: «إلا لمنشد». وعندنا حكمُها حكمُ سائر اللقطات. وإنما خصَّها بالذكر للاعتناء بشأنها، لأنه يمكن أن يفهمَ ناظرٌ عدم الإنشاد فيها، فإنه محل مجتمعُ فيه الناس من كل فجٍ عميقٍ، فلعله لا يظهر فيه للإنشاد كثيرُ فائدة لرجوع الناس إلى أوطانهم. فقال إن فيها الإنشاد أيضاً.
112 - قوله: (فمن قُتِل) يعني أن المسألةَ بعد اليوم تكونُ كذلك، كما هو صريح عند الترمذي وقد مر وإنما سامح في هذه الواقعة لما مر من قبل.
112 - قوله: (إما أن يقاد من أقاد) بمعنى قصاص دلوانا ويقاد يعنى قصاص دلوائى جائين وبظاهره أخذ الشافعي رحمه الله تعالى. وموجِبُ القتلُ عنده على التخيير: إما القصاص، وإما الدِّية. وعندنا: موجبُ العمد هو القصاص فقط. وإنما يُرجع إلى الدِّية بالمراضاة، فلو عفا الأولياء عن القِصاص أو سكتوا ثم طالبوا الدِّية بعد بُرهة ليس لهم شيء، وإنما عليهم ذِكْرُ مالِ الصلح في المجلس.(1/308)
قلت: والحديثُ صادقٌ على مذهبنا أيضاً فإنه جاز له أن يقتصَّ منه وأن يأخذ الدِّية عندنا أيضاً، وإنما لم يذكر رضا القاتل لأن رضا القاتل ببذل المال عن نفسه أمر بديهي والعسر إن كان ففي رضا أولياء المقتول على الدية فإنهم يأخذون المال بدل النفس. ومعلوم أنَّ النَّفْسَ أعز. ولذا لم يذكر شرط الرضا في القاتل، وإنما لا أدخل في هذا الباب لأنه من باب التفقه. ثم الحافظ العيني رحمه الله تعالى أطال الكلامَ ههنا وقال: إنه ليس فيه تخيير للأولياء، بل فيه تعريضٌ لهم بالأخذ بالأحسنِ والأصلح، ومراده أن خذوا بما كان أحسنَ وأصلح أما إنه خيرهم مستقلاً أو برضا القاتل؟ فإنه أمرٌ بمعزلٍ عن الحديث. وراجع كلامه إن شئت.
112 - قوله: (إلا الإذخر) وهو نوع من النبات مرجياكند وفي الفنجابى كترن بالنصب على الاستثناء. وعند ابن مالك يجوز الرفع أيضاً، وتقديره إلا الإذخر فإنه مُستثنى، وحينئذٍ المستثنى جملة كما في قوله تعالى: {فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً ؛ إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26، 27) وبه يندفع الإشكال عن الآية. وقد مر الكلام عليها. ولعل إجازته واستثناؤه بالوحي.
وليعلم أن تلكَ الصحيفة كانت عند أبي بكر رضي الله عنه، ثم عند عمر رضي الله عنه كما عند الترمذي في الزكاة وكانت في قِرَاب السيف، وكانت فيها أحكام الزكاة كما في البخاري أيضاً. وفي «مصنف ابن أبي شيبة» بإسناد جيد، يدل على أنها كانت فيها مسائل الزكاة على وفق مذهب الحنفية، إلا أن الحافظ لما جمعَ أحكام تلك الصحيفة أغمضَ عن تلك المسائل ولم يلتفت إليها، فعفى الله عنه حيث أخفى شيئاً كان فيه منفعةٌ للحنفية. ثم هذا من دأبي القديم أني إذا أجدُ أمراً في البخاري ولو كان مُجملاً، ثم أجد تفصيلُهُ في غيره أضيفُ ذلك التفصيلَ إليه، وعلى هذا ادَّعى أن مذهبَ الحنفية في باب زكاة الإبل ثابتٌ من البخاري.
(1/309)
114 - قوله: (فخرج) ولعل خروجه فيما بعد، لا عند واقعة القُرِطاس، لأن ابن عباس لم يكن هناك كما عند البخاري في موضع آخر، كأن يقول ابن عباس رضي الله عنه... إلخ. وهو الصواب فالمرادُ من الخروج ههنا خروجُه إلى تلامذته، وهذا وإن كان خلافَ الظاهر لكنه يجبُ المصيرُ إليه.
باب العِلمِ وَالعِظَةِ بِاللَّيل
العِظة: التذكير للغير. والعلم: التذكير لنفسه. والمصنف رحمه الله تعالى يُشير إلى قوله صلى الله عليه وسلّم «لا سمر بعد العشاء... إلخ» ويقول: إن العلم والعظة ليس من السمر، فيجوز.
قوله: (صدفة) هو محدث متشدد في حق الحنفية، وراجع له نيل الفرقدين.
115 - قوله: (ذات ليلة) قال الرضي: إن كلمة ذات مؤنث ذو، وتكون صفةً لموصوف محذوف، أي مدة ذات ليلة. وقال العيني رحمه الله تعالى: إنها مقحمة زعماً منه أنها بمعنى الحقيقة. قلت: وما اختاره الرضي أقرب، فإنه في هذا الباب أحذق.
115 - قوله: (ماذا أنزل) وهذا من باب تجسد المعاني، ثم ما رآه النبي صلى الله عليه وسلّمفهو أيضاً نحو من الوجود كالتقدير، فعلى هذا ما يقدر في ليلة البراءة هو أيضاً نحو من الوجود. وقد مر سابقاً أن للوجود أنحاءً من الجسماني، والرُّوحاني، والمِثالي، والعلمي، والذر، والتقديري كلها وجودات لشيءٍ واحد. وكذا كل وجود عالم برأسه، فهذه سبع وجودات وسبع عوالم، وهو الله سبحانه رب العالمين. وسيجيء تحقيقُ عالمِ الذر بما لم يقرعُ سمعك إن شاء الله تعالى. وبه ينحلُ حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه: «أن الله خلق سبع أرضين» إلخ وقد أشكل على الناس. وألف مولانا محمد قاسم النانوتوي فيه رسالة مستقلة. والوجه عندي: أن الحديث تعرَّض إلى أنحاء وجُودات الشيء، فالشيء واحدٌ وهو متعددٌ بتعدُدِ الوجُودات، لا أنها أشخاصٌ متعددة وأشياء كثيرة فافهم، وستنفعك هذه الإشارة إن شاء الله تعالى.(1/310)
115 - قوله: (صواحب الحجر) جمع حُجْرة، ثم إن كانت مُسَقَّفةً فهي بيت، وإلا فحجرة. وصرح السَّمْهُودي في «الوفا» أن لكل من أزواجه صلى الله عليه وسلّمكانت حجرة وبيتاً.
115 - قوله: (رب كاسية عارية) بفقدان العمل ولباسِ التقوى ذلك خير، وهي إن كانت مرفوعة فهي جواب رُبَّ، وإن كانت مجرورةً فجوابه محذوف.
باب السَّمَرِ فِي العِلم
وإطلاق السمر في العلم كإطلاق التغني في القرآن، وإلا فالسمر لا يكون إلا في غير العلم كالقصص والحكايات. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» وألطفُ شروحِهِ ما ذكره ابن العربي: أن مراده وضعُ القرآن موضعَ الغناء واختياره مكانه، فإن الغناءَ ألذُ عند عامة الناسِ، والمطلوب تركه، فإذا تركه لا بد أن يضعَ مكانه شيئاً آخر يتلذذُ به، فعلى المؤمن الخاشع أن يجعلَ القرآنَ مقامَه ويتنزه قلبه به، ويتركَ ما لا يعنيه، ويشتغل بما يعنيه. ومن لم يفعل كذلك واشتغل باللهو والغناء وأضاعَ فيه وقته وجعلَ القرآن خلفَ ظهره، فإنه ليس منه صلى الله عليه وسلّموليس على طريقه.
قوله: (أرأيتكم) قال النُّحاة: ضميرُ المنفصلِ فيه تأكيدٌ للمتصل. ومعناه: أرأيتم ومحصلُه أخبرني على حد قول سعدى في بوستان.
*دو لشكر بهم برزدنذا زكمين ** توكفتى زدند آسمان برزمين يعني: لو كنتُ هناك لقلتُ هذا وكذلك معناه، لو كنت فرأيت فأخبرت.(1/311)
116 - قوله: (لا يبقى)... إلخ وقد وقعَ في شرحه أغلاطٌ. ومعناه: أن كل من كان موجوداً في وقت تكلمه على وجه الأرض فإنه لا يتجاوزُ عن هذه المدة، فالذين وُلدُوا بعد هذه، لم يدخلوا تحت هذه المقُولة، وكذا لا حكمَ فيه بأن عمرَ أمته لا يزيد عليه. ومن ههنا قال المحدثون: إن دعوى الصُّحْبة بعد تلك المدة باطلة كما ادَّعى باباً رَتَن في بهتندا وردَّ عليه الذهبي فأخطأ في اسمه فكتبه «بطرند». وتصحيح اسم لسان من عالمِ لسان آخر أمرٌ عسير. وآخرهم وفاةً في مكة إنما هو عامر أبو طفيل، وفي المدينة جابر رضي الله عنه، وأنهما ماتا في تلك المئة كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلّم
ثم تكلم في الخضر أنه حي الآن أو مات هو أيضاً؟ ونسب إلى البخاري أنه ليس بحيِّ. وعند عامتهم هو حيّ. وأحسن ما يستدل به على حياته ما في «الإصابة» بإسناد جيد أنّه خرج عمر بن عبد العزيز مرة من المسجد ومشى مع رجل يتكلم معه فلم يعرفه الناس، فسألوه عنه فقال: إنه كان خَضِراً. والعرفاء أيضاً ذهبوا إلى حياته إلا أنهم قالوا: بالبدن المثالي كما صرح به بحر العلوم. ثم قيل في وجه الجواب: أنه يمكن أن يكون على وجه البحر إذ ذاك لا على وجه الأرض، فلا يدخل في قضية الحديث.
وعندي هو مخصوصٌ، فإن العموم على التحقيق ظني. ثم هو من رجال الأمم السابقة وغائب عن الأبصار، فلا بُعدَ في أن لا يشمَلَه الكلام ويبقى خارجاً عنه. ومن زوال كلام البلغاء لا يراها تأويلاً، بل هو الطريق المسلوك في العبارات.
(1/312)
117 - قوله: (عن ابن عباس) إنما سنه عباس ليرى صلاةَ ليله صلى الله عليه وسلّمولاستيفاء دينه منه، لما كانت جرت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلّممعاملة للدين، فكان يستقرض منه ويصرفه في مصارف الزكاة، ثم يؤديه إذا جاء عنده من مال الزكاة. واعلم أنه اخُتلف في عدد ركعات صلاة ليله صلى الله عليه وسلّمتلك، فقيل إنها إحدى عشرة وقيل ثلاث عشرة، ولم يترجح واحد منهما.
117 - قوله: (فصلى أربع ركعات... إلخ) وفهم الحافظ أنها قطعة من صلاة ليله صلى الله عليه وسلّم والركعتان الأخيرتان كانتا سنة الفجر. وعندي هي سنهُ بعدِية للعشاء. وصرح الشيخ ابن الهُمام رحمه الله تعالى بأن المؤكَّدة وإن كانت هي الركعتان، إلا أن الأربع أيضاً مأثور بعد العشاء. وعند أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قال: سألت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: ما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّمبعد العشاء إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات.
والتحقيق عندي: أن الراوي جمع فيه قِطعتين من صلاته صلى الله عليه وسلّم فذكر السنة البعدية وخَمْسَاً من صلاة الليل، وحذف منها الباقي كما هو مصرح عند أبي داود عن سعيد بن جبير. فجاء فصلى أربعاً ثم نام، فهذه هي السنة البعدية، ثم قام يصلي... فصلى خمساً. وعند أبي داود: فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثماني ركعات، ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن... إلخ، فصارت تلك إحدى عشرة ركعة صلى ثمانية منها في سلسلة وخمسة في سلسلة أخرى. فاقتصر الراوي على إحدى السلسلتين وترك الأخرى.(1/313)
أماالاستدلال بقوله: أوتر بخمس... إلخ على خلاف وِتْرية الثلاث فليس بناهض، بل يُبنى على خفاءِ حقيقة صلاته صلى الله عليه وسلّمفي تلك الليلة. فاعلم أن صلاته صلى الله عليه وسلّمفي تلك الليلة على ما يظهر من الروايات كانت هكذا: أربع ركعات، وثمان ركعات، وخمس ركعات، وركعتين. والأرجح عندي في الأربع أنها كانت سنة بعد العشاء كما مر، فمجموع صلاة ليله: ثلاثة عشر، والركعتان سنة الفجر. فصلى ثماني منها في سلسلة، وخمساً أخرى في سلسلة، يعني صلى ثماني ركعات، ركعتين ركعتين ولم يجلس بينهما للاستراحة، فصارت تلك سلسلة واحدة ثم جلس. وليست هذه الجلسة إلا جلسة الاستراحة، لا ما تكون في خلال الصلاة، ثم أتمها بخمسة أخرى، فصلى ركعتين من صلاة الليل وثلاثاً للوتر في سلسلة واحدة، ثم جلس جلوس الفراغ، ثم ركع ركعتي الفجر.
وإذا كانت صلاته في تلك الليلة هكذا، سرى فيه تفنن العبارات. فذكر بعضهم السنَّة بعد العشاء، وحذف ثمان ركعات من صلاة ليله، ثم ذكر ركعات الوتر مع قِطعةٍ من صلاة ليله، ثم ذكر ركعتي الفجر كما هو عند أبي داود عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: بتُ في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث فصلى النبي صلى الله عليه وسلّمالعشاء، ثم جاء فصلى أربعاً ثم نام - وهذا قريب من الصريح في أنها كانت سنة بعد العشاء، لأنه صلاها قبل النوم وبعد العشاء - ثم قام يُصلي فقمت عن يساره، فأدارني فأقامني عن يمينه، فصلى خمساً ثم نام - وهذه الخمسة من صلاة ليله، وسقط عنه ذكر الثمانية ههنا - ثم قام فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الغَدَاة.k
وهذا صريح في أن الركعتين كانتا سنة الفجر، لأنه فَصَلهما عن الخمس وذكرهما عند الخروج إلى الفرض.(1/314)
والدليل على أن ذكر الثمانية سقط من الراوي ما عنده عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس من طريق آخر: أنه قال: قام فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثماني ركعات، ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن - وبقي في هذا الطريق ذكر ثنتي الفجر - وأيضاً عنده في تلك القصة أنه صلى ركعتين خفيفتين ثم سلم، ثم صلى حتى صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر ثم نام - فذكر فيه مجموع عدد صلاة الليل بدون الفصل بين الثمانية والخمس. وقد علمت حال الاختلاف في بيان العدد المجموع بين إحدى عشرة وثلاث عشرة - فأتاه بلال فقال: الصلاة يا رسول الله، فقام فركع ركعتين ثم صلى للناس، وهذا أصرح في أنهما كانتا سنة الفجر لا غير - فيذكر الراوي تارة صلاته قِطعةً قِطعةً لأنها كانت في الخارج كذلك، وتارة يُعطى العدد المجموع لداعية له، وأخرى قد يتعرض إلى ركعتي الفجر وقد يحذفها. وإذا تبينتَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمصلى الثمانية في سلسلةٍ وفصل بين هذه القِطعة وقطعة أخرى بعدها لم يبعدُ حذفها من العبارة أَيضاً. ثم إذا لم يحصل له الفراغ عن صلاة ليله إلا بعد الخمس، تعرض إلى بيانه وقال: أوتر بخمس ثم فرغ عن صلاته، يعني تمت صلاته على هذا العدد ولم يتجاوزه.
وعبر عنه بقوله: لم يجلس بينهن، أي جلوس الفراغ، لأنه كان بصدد حكاية ما رأى من كيفية صلاته صلى الله عليه وسلّم ولم يره جالساً جلوس الفارغ إلا بعد الخمس، فرواه كما رأى، وليس هو بصدد بيان ركعات الوتر فقط أو الجلسات بينهما، وإنما أراد أن يحكيَ عن صورة صِلاته في تلك الليلة. وكان ذهب لذلك فكأنه أراد التصوير على اصطلاح علماء المعاني، ولم يكن منه بدٌ أن يذكرَ تلك القطعات كذلك. إلا أن بعض الرواةِ لما ذكرها إجمالاً ذكر العدد المجموع فقط، وبعضهم زاد ونقص حسب ما سنح لهم عند روايتهم.(1/315)
ثم إن الدليل على أن الوترَ من تلك الخمس كانت هي الثلاث: ما أخرجه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه في تلك القِصة بعينها وفيه: ثم فعل ذلك ثلاث مراتٍ ستَّ ركعات، كل ذلك يَستاكُ ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث.
وأشار الحافظ رحمه الله تعالى إلى تفرُّدٍ فيه. قلت: لا تفردَ فيه، بل له متابعاتٌ شتى أخرجها الطحاوي عن قيس بن سليمان، عن كريب مولى ابن عباس: أن عبد الله بن عباس حدثه... ثم أوتر بثلاث، وفيه غَلطٌ من الكاتب إنما هو: مَخْرَمة بن سليمان عن أبي إسحاق، عن المنهال بن عمرو، عن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وفيه: حتى صلى ست ركعات وأوتر بثلاث. وعنه عند النسائي عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوتر بثلاث. وهو عند الطحاوي أيضاً.
فتحصل من هذه المتابعات أن وتر النبي صلى الله عليه وسلّم في تلك الليلة كانت هي الثلاث. وإنما ذكر معه الركعتين من صلاة الليل لأنهما كانتا صُليتا معه في سلسلة كما علمت. وستعلم إن شاء الله تعالى أن المطلوبَ في نظر الشارع أن يصلي الوتر مع شيء من صلاة الليل، وهو معنى قوله: «لا توتروا بثلاث، أوتروا بخمس أو سبع... إلخ» فمعنى النهي عن الإيتار بالثلاث إفرازها عن صلاة الليل، والإيتار بها بدون أن يكون شيء قبلها. أما إذا كان قبلها ركعتان أو أربع ركعات، فقد خَرَجَ عن معنى النهي، لأن الوتر لما كانت لإيتار صلاة الليل، ناسب أن تكون قِطعة من صلاة الليل معها، ليظهر معنى الإيتار، وستعرف إن شاء الله تعالى.(1/316)
وقال مولانا شيخ الهند محمود حسن رحمه الله تعالى: الركعتان مع الوتر ليستا قِطعة من صلاة الليل، بل هما اللتان تصليان بعد الوتر قاعداً. وقد كان رحمه الله تعالى يُجري هذا الجواب في حديث عروة أيضاً. قلت: أم الأحاديث في الركعتين بعد الوتر فقد بلغت إلى الأربع وكلها صحاح، إلا أني لم أختر هذا التوجيه، لأن مالكاً رحمه الله تعالى أنكرهما ولم يخرج لهما في «موطئه» شيئاً، ورآه وهَمَاً مخالفاً لقوله صلى الله عليه وسلّم «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً» فإنه صريح في أن الوتر ينبغي أن يكون في آخر صلاة الليل، وحينئذٍ لو سُلِّم ثبوت الركعتين بعده لزم أن يكون الآخر هما هاتان، وتفوت آخرية الوتر. والبخاري رحمه الله تعالى وإن أخرجهما في كتابه إلا أنه لم يبوب على هذا اللفظ.
وقد تحقق عندي: أن البخاري رحمه الله تعالى إذا يخرج لفظاً ويكون فيه ضعف عنده لا يُترجم عليها، فهذا أيضاً دليلٌ على ضعف في المسألة عنده. ثم إن السلف أيضاً كانوا مختلفين فيها، فحملها على هاتين الركعتين، وإن كان ممكناً في حديث ابن عباس رضي الله عنه، إلا أني تركته لما علمت آنفاً. أما في حديث عُروة فحملُها على هاتين الركعتين مُشكلٌ، فإن عروةَ ممن ينكرهما رأساً كما هو في «قيام الليل» للمروزي، فهاتان غير ما في حديث عروة قطعاً. إن أمكن حملهما عليهما في غير حديثه، إلا أني لمّا لم أحملُهما في حديث عروة على الركعتين بعد الوتر لما علمت، وجعلتهما من صلاة الليل. لهذا المعنى أحببتُ أن تكون شاكلةُ الجواب في كلها واحدة، وإن أمكن الحملُ عليهما في حديث ابن عباس رضي الله عنه.(1/317)
أما المسألة في هاتين الركعتين فإنهما جائزتان عندي، غير أنهما تصليان قاعداً. وقد اتضحت لي حكمةُ القعود أيضاً، وهي: إبقاء آخرية الوتر ولو بوجه، فإنها وإن فاتت صورةً ناسب أن لا تفوت معنى أيضاً، فحرفهما عن شاكلة الصلاة التي صليت قبلهما، لتصير صلاة متميزةً مستقلةً ممتازةً عما قبلها ويبقى الوتر آخراً فيما جعل لها آخراً، وهي صلاة الليل. وأما الركعتان بعدها فكأنها صلاة أخرى لم يقصد تأخير الوتر عنها. ولما كان القعودُ فيها لتغيير الشكلة وإبقاء آخرية الوتر، كان قصدياً فلو صلاهما قائماً يفوت المعنى. والله تعالى أعلم بالصواب.
117 - قوله: (نام الغليم) قيل: وهو موضع الترجمة. قال الحافظ رحمه الله تعالى: بل هو مذكور في طريق آخر عنده في كتاب التفسير، وفيه: فتحدث مع أهله ساعة. قلت: وهو الصحيح، وهذا هو السمر الذي أراده.
باب حِفظِ العِلم
119 - (فما نسيتُ بعد) والظاهر عندي عدم نِسيانه جميع ما سمعه في عمره، لا أنه يقتصرُ على هذا المجلس فقط. والعلم الآخر إنما لم يبثه أبو هريرة رضي الله عنه لأنه كان يتعلق بالفتنِ وأسماء أمراء الجَور، كما نقل في «حاشية الصحيح» للشيخ أحمد علي رحمه الله تعالى فراجعه. ثم إن هذه الأمة إنما ابتُليت بالفتن لأنها رُفعَ عنها عذاب الاستئصال. وعليهم تقوم الساعة، فابتليت بالفتن للتمحيص.
باب الإِنْصَاتِ لِلعُلَمَاء(1/318)
وقد مر أن الإنصات صموت للاستماع. ومعناه توجيه الحواسِّ نحو المتكلم لما يُلقى إليه منه. وفي كتب غريب الحديث: أنه بمعنى سكتَ سكوتَ مُستمع، فقيل: إنه تقييد، وقيل: تشبيه فقط. والأول يفيدنا في مسألة القراءة خلف الإمام، وإن كان الثاني فلا يفيدنا، فإن معناه حينئذٍ أن يكون حالهُ مشابهاً لحالِ المستمعِ وإن لم يكن مُستمعاً حقيقة. وقد مر مني أن الآية تقتصر على الجهرية فقط، فلا تقوم حجةً عليهم في حق السرية.
121 - قوله: (رقاب بعض) مفعولٌ مطلق، أو حالٌ للتشبيه.
باب مَا يُسْتَحَبُّ لِلعَالِمِ إِذَا سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَيَكِلُ العِلمَ إِلَى اللَّه
وقد مر أن الاختلافَ فيه إنما كان لأن هذه القِصة لم تكن في التوراة، لأنها عَرَضت في التِّيه، وكانت التوراة نزلت قبل ذلك.
122 - قوله: (ليس موسى بني إسرائيل) وهذا اختلافٌ آخر. وقد مر التنبيه على تعدد الاختلاف فيه.
قوله: (هو أعلم منك) مناقشةٌ لفظيةٌ لتركِهِ الأليق بشأنه، فإن الأدب في مثل هذه المواضع أن يُوْكل العلم إلى الله سبحانه ولا يحكمُ من عند نفسه بشيء.
قوله: (وكان لموسى وفتاه عجباً) وإنما تعجَّب فتاه إذ ذاك لأنه كان مستيقظاً ناظراً إلى عجائب قُدرته تعالى من حياته واتخاذه في الماء سرباً. أما موسى عليه السلام فكان نائماً وإنما تعجَّب بعد ما استيقظ وعِلم قِصة الحوت.
قوله: (نصباً) وإنما ألقي عليه النصب تكويناً، مع الأمر بالانطلاق تشريعاً، فكان مأموراً بالانطلاق ومع ذلك يُلقى عليه النَّصبُ من جهة التكوين، فعلم: أنهما بابان قد يتحدان وقد يتخالفان، فلا يوافقُ التشريعَ التكوين، ولا التكوينُ التشريع دائماً، والنجاةُ في اتباع التشريع دون التكوين كائناً ما كان، وكذلك ألقي عليه النِسيان تكويناً فلا بُعد في نِسيانه مرة بعد مرة.
قوله: (قصصاً) بير ديكهتى هوئى.(1/319)
قوله: (مُسجى) وفي طريقه على متن البحر مضطجعاً.
قوله: (أنى بأرضك السلام) ولعله رد عليه السلام، ثم قال ذلك.
قوله: (خضر) نبي عند الجمهور، وليس داخلاً تحت شريعة موسى عليه السلام.
قوله: (أنت على علم... إلخ) ولذا قلت: إن الأعلم في قول موسى عليه السلام كان على العرف، فعند هذا طرفٌ من العلم وعند هذا طرف، والبعض مشتركٌ وإنما الفضل لموسى عليه السلام.
قوله: (فجاءت عصفورة) وهو أيضاً تكوينٌ ليضرب له مثلاً. وعلم منه عقيدة النبيين في علم الله تعالى وأنه لا يُوازى بعلم الله شيء.
قوله: (أقل لك) كلمة لك لمزيد التأكيد. قال الزمخشري: وكنت في سفر فقلت لأعرابي وهذا الشغدف، فقال: نعم هذا شغنداف، كما يقال في الهندية روتى بك كئى؟ جواب دياجائى كه روتى بلكه روت ثم الزمخشري يمر على مواضع من القرآن وربما يقول: إنه لمزيد التصوير، كما يقال: سمعت بأذني ورأيت بعيني ومراده في الهندية: فوتؤاتارنا على حد قول الشاعر:
*وعينان قال اللَّهُ كونا فكانتا ** فعولان بالألباب ما تفعل الخمر فقوله: «كونا» ههنا ألطف ما يكون، يعجِزُ عن إدراكه المعقولي، فإنه يقول: إن كل شيء بتكوين من الله تعالى، فلا وجه لتخصيص العينين. وسئل الشيخ صلاح الدين الصفدي السُّبكي عن قوله: إن واستطعماها، أوجز من قوله: {اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا} (الكهف: 77) فأجاب عنه السبكي وبيَّن الفرقَ بينهما ونكتة هذا التطويل.
قوله: (يريد أن ينقض) نسبَ فيه الفعلَ إلى الجماد، وهو مليحٌ جداً عن البُلغاء.
قوله: (لو صبر... إلخ) انكشف فيه عقيدة خاتم الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام في حق علمِهِ أيضاً.
122 - قوله: (أقتلت) وقد روي في التفاسير أن خَضِراً عليه الصَّلاة والسَّلام نَزَعَ اللحم عن كتفِهِ وأراه، فإذا فيه طبع يوم طبع: كافراً، وهذا لا يخالف حديث الفِطرة وسيجيء في موضعه تحقيقه.
(1/320)
باب مَنْ سَأَلَ وَهُوَ قَائِمٌ عالِماً جالِسا
أي أن السائلَ قائمٌ والمسؤول عنه جالس، فهذا مجلسٌ سَطحي ليس فيه اهتمام بالفقه. فهل يجوز السؤال في مثل هذا الحال؟ أو يقال: إنه كان عنده حديث في هذا المضمون، فأراد أن لايتركه خالياً عن الترجمة ويستفيدَ منه مَسْألة. وقد نُقل عن مالك ما يدلُ على أنه كان يكرهُ ذلك، فإنه مر على شيخ يحدث قوماً، فلم ير في المجلس فُسحةً فلم يقف، وذهب إلى وجهه ولم يجلس فيه، وقال: كرهت أن أُسمِعَ الأحاديث وإني قائم. وكان إذا حدَّث حدث بالوقَار والتؤَدة.
123 - قوله: (فرفع رأسه) لأنه كان جالساً وكان السائل قائماً.
123 - قوله: (فقال) لم يتعرض إلى استقصاءِ الأقسامِ واستيفاءِ الوجوه، بل عَدَلَ إلى مراده.
123 - قوله: (فإن أحدنا) والفاء ليست للتعليل على طريقَ المعقوليين بل لمجرد التناسب. وحاصله:أني أرى القتال على أنحاء.
قوله: (لتكون كلمة الله هي العليا) حُكِي أن تيمورَ لما قَتَلَ قوماً وجمع هامات المقتولين ووضع عليها سريره، واستوى عليها ظلماً وعلواً، سأل علماءَهم عن قتله هؤلاء، فتقدم للجوابِ من كان أهدى منهم، وقال: من قاتل لتكونَ كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله، ففطِن أنه رام به تخليص نفسه، فتركه.
باب السُّؤَالِ وَالفُتْيَا عِنْدَ رَمْيِ الجِمَار
وعند الترمذي: السعي ورمي الجمار لإقامة ذكر الله. ولما كان هذان الفعلان خاليين عن معنى الذكر ظاهراً، تعرض إليهما خاصة. ونبه على أنهما أيضاً لإقامة ذكر الله، فإنهما كانا من أفعال المُقربين، فأدخلهما الله تعالى في الحج وجعلَ حِكاية أفعالهم وتذكيرها ذكراً برأسه. ويفعلُ اللَّهُ ما يشاء ويحكمُ مايريد.(1/321)
وغرضُ البخاري أن هاتين إذا كانتا عبادة فالسؤال في خلال الذكر قادحٌ أم لا؟ أو نظره إلى ما روى ما حاصله: أن لا يقضي القاضي في حالة غير مطمئنة. وهذا أوانُ الذكر، فهل يفتى في تلك الحال بشيء؟ والجواب على الأول: أن الفُتيا ليس بقادحٍ في الذكر، لأنه أيضاً ذكر. وعلى الثاني أنه جائزٌ للمتيقظِ الفطنِ. ورأيت في تذكرة بعض المحدثين أن الطلبة كانوا يقرءون عليه، فكان يجيبُ كلاً في زمان واحدٍ، ويميزُ ما كان غلطهم من صوابهم، فهذا أمرٌ يختلفُ فيه أحوالُ الناس. وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاءً.
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}
وفي بعض الروايات الصحيحة أن هذا السؤال كان في مكة. وفي أخرى أنه كان في المدينة. وعندي كلاهما صحيح. واعلم أن الروح قد يطلق ويراد به المَلَك، قال الله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَئِكَةُ وَالرُّوحُ} (القدر: 4) وقد يُطلق ويقصد به المدبِّر للبدن، أعني الروح المنفوخة في الجسد. وادعى الحافظ ابن القيم رحمه الله أن المرادَ منه في تلك الآية هو المعنى الأول. وأما المعنى الثاني فلم يُذكر في القرآن إلا بلفظ النَّفس. ولم يُستعمل هذا اللفظ في المدبِّر للبدن وإذن سؤالهم عن الملك.
قلت: ولعل المراد منه ههنا هو المعنى الثاني، أي المدبر للبدن، لأن السؤال عنه هو الدائرُ السائر بين الناس. أما الروح بمعنى المَلَك فلا يَعرفونَه غير أهل العلم، فينبغي أن تحملَ الآية على المتعارف وإطلاقه على المدبر البدن ثبت في الأحاديث. روى الحافظ ابن عباس رضي الله عنهما أن الروحِ مخلوقٌ من مخلوقات الله تعالى... إلخ ونقله السُّهيلي في «الروض» وجعله موقوفاً.(1/322)
وما كنت أفهمُ مرادَه حتى طالعت كلام السُّهَيْلى رحمه الله فإنه قال: إن نسبة المَلَك إلى الروح كنسبة البشر إلى الملك، فكما أن الملائكة ينظرون إلينا ولا نراهم، كذلك الروح ترى الملائكة ولا يرونها، فتبين أنه ليس مراده كونها مخلوقة لله تعالى فقط فإنه أمر ظاهر، بل المرادُ أنه نوع مستقلٌ مخلوق لله تعالى كالملائكة والإنسان. والفرق بين الروح والنفس لا تجدُ ألطفَ من كلام السُّهيلي، فراجعه. وما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى يبنى على مكاشفات الصوفية.
125 - قوله: (من أمر ربي) واختلفوا أنهم هل أجيب لهم فيها أم لا؟ فقيل: لا، وقيل: نعم. ومنهم الغَزَالي، وكذلك اختلف في تفسير عالم الأمر والخَلْق، فقيل: إن المشهودَ عالم الخَلْق والغائب عالم الأمر، فما كان من عالم الأمر لا يمكنُ فهمُ كُنْهِهِ لمن كان من عالم الشهادة. وأن المرءَ يقيسُ على نفسه مثل سائر. وقال المفسرون: إن الخلق عالم التكوين والأمر عالم التشريع.
وحينئذٍ حاصل الجواب: أن الروحَ من أمرها. فوجدت من أمره تعالى. ولما لم تُعطوا من العلم إلا قليلاً فلا ينكشفُ عليكم حقيقتها أزيد منه، وعلى هذا فكأنهم مُنعوا عن السؤال عنها والخوض فيها، فلا يجوزُ البحث فيها إلا بعد رعاية قواعد الشريعة.
وقال الشيخ المجدد السَّرهندي رحمه الله تعالى: إن تحت العرش عالم الخلق، وما فوقه عالم الأمر. وذهب الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى: إلى أن ما خلق الله من كَتم العدم، بلفظ: كن، فهو عالم الأمر. وما خلق شيئاً من شيء كالإنسان من الطين، فهو عالم الخلق.
(1/323)
قلت: والشيءُ الأول يقال له: المادة، وهو مُسلَّمٌ عند الكل ولا ينكرها إلا مكابر. أما الهيولي فليس بشيء إنما هو أوهامَهم غلبت عليهم. وقد قيل: إن الوهم خلاق. والذي تحقق عندي في بيان مراده أمر آخر ويتوقف على مقدمة وهي: أن المتكلمين قالوا: إن الفعل مختصٌ بذي شعور، ومَنْ لا شعور فيه فلا فعل له. وأقر الطوسي في «شرح الإشارات» والصدر الشيرازي صاحب «الشمس البازغة»: على أن للطبيعة شعوراً.
وأقول: يمكن عندي أن يصدر الفعلُ ممن لا شعور له أيضاً، لكن لا بد من انتهائه إلى ذي شعور. كما أن ابن سينا خمَّس الحركة وسمَّى نوعاً منها حركة التسخير. والحاصل: أن الفعل لا بد أن ينتهي إلى شعور أو إلى ذي شعور. وإذا علمت هذا فاعلم أن القرآن لم يتعرض في الجواب إلى حقيقة الروح ومادتِهِ، بل ذكر العلة الصُّوْرية فقط، ويريدُ أن الروحَ محرِكٌ للبدن وانتهاء شعورها أمرُ الرب، فهذا علتها الصورية فقط. أما حقيقتها فلا يعلمها إلا هو.
باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاِخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ فَيَقَعُوا فِي أَشَدَّ مِنْه
يريدُ أنَّ العملَ بالمرجوح مع العلم بالراجح جائزٌ إذا كانت فيه مصلحة.
قوله: (الاختيارات) أي الجائزات. وكان النبي صلى الله عليه وسلّمأراد أن يُردَّ بناء البيت إلى البناء الإبراهيمي، إلا أنه لم يفعله لما في الحديث. وترك هذا الاختيار وهو موضع الترجمة.
باب مَنْ خَصَّ بِالعِلمِ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لا يَفهَمُوا
يعني العلم شيءٌ شريف فهل يخصُّ به أحداً دون أحد؟ فكان الباب الأول في الفرق بين الفَطِن الذكي والبليد الغبي. وهذا البابُ في الفرق بين الشريف والوضيع.(1/324)
128 - قوله: (إلا حرمه الله) واستشكله الناس. فإن ظاهره يدلُ على أنه لا حاجة للنجاة إلى سائر الفرائض، بل تكفي لها كلمةُ التوحيد فقط فحملَهُ بعضهم على زمنٍ قبل زمان نزول الأحكام. فإن مدارَ النجاة إذ ذاك كان هو التوحيد فقط. فعند مسلم في باب الرخصة في التخلف عن الجماعة، عَن عِتْبان: فإن الله قد حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغى بذلك وجه الله. وفي الرواية التي بعده قال الزُّهرى: ثم نزلت بعد ذلك فرائض وأمور، نرى أن الأمر انتهى إليها، فمن استطاعَ أن لا يغير فلا يغير.
قلت: وهو بعيد جداً، فإن الراوي معاذ بن جبل وهو أنصاريٌّ، ولا يمكنُ عدم نزول حكم إلا ورودَهم في المدينة، زادها الله شرفاً. وبعضهم قَسَم النار أي: نار الكفار ونار عصاة المؤمنين وحملوها على الأول. أقول: وتقسيمُ النار وإن كان صحيحاً في نفسه لكنه لا يصلحُ شرحاً للحديث. وقد صح في الأحاديث اختلاف أنواع العذاب.
أقول: والصواب عندي أن الائتمارَ بالطاعات والانتهاء عن المعاصي مراعى ههنا أيضاً وإن حذف ذكره من العبادة، لأن الشارعَ لما فرغ من ذِكرها مرة وتفصيلها باباً باباً، والترغيب فيها طاعة طاعة، والتحذير عنها معصية معصية، فقد استغنى عن تكريره في كل موضعٍ، لأنه بيَّنَ وأكَّد لسليم الفطرة أن هذه الأشياء أيضاً دخيلة في النجاة عنده، فلم تبق له حاجة إلى القيود في كل مرة، وهو الطريقُ المسلوكِ في العرف، فإنهم يرون المعلوم كالمذكور، وإنما يستوفون الكلام فيما يتعسر انتقال الذهن إليه.(1/325)
وإنما خصَّ الكلمةَ من بين سائر الأجزاء لكونها أساساً وأصلاً ومدارٌ للحياة الأبدية، فهي المؤثرة حقيقة. والأعمال وإن كانت دخيلة في تحريم النار، إلا أن المُؤَثِرة فيها هي تلك الكلمة. ثم تلك الكلمة وإن كانت هي المؤثرة، لكنها لا غنية بها عن تلك الأعمال. فالحاصل أن تحريم النار وإن دار بالمجموع لكنه خُصَّ من هذا المجموع ما كان أهم من بينها، وهو تلك الكلمة كالأصل للشجرة، فإنه لا حياةَ لها بدون الأصل. ثم إن هذه القاعدة مُطَّردةٌ في جميع ما ورَدَ فيه الوعد والوعيد، فلا يتعرضُ فيه إلى وجود شرط ورفع مانع، فإنه يكون عنده ملحوظاً على كنهه. وإنما يذكر الكلام مرسلاً لظهوره.
ثم اعلم أن من فطرةِ الإسان أنه يجعلُ كلياتٍ من عند نفسه، وليس هذا إلا لعدم إحاطته بأطراف الشيء وجوانبه، وليس حال العامة كالطبيب، فإنه إذ يحكم على دوائه بأنه مفيد أو مضر، لا يحكم إلا بظنه الغالب، لكن إذا جاءَه واحدٌ من الأغبياء يجعله كلياً ويزعمُ أنه مفيد أبداً ولا يمكن عنده خلاف ذلك، حتى إذا تخلَّف عنه الحكمُ مرةً يسبُّ الطبيب ويكذبُهُ، ولا يدري أنه لا يسبُّ إلا نفسه. فكذلك إذا أخبر الشارع عن أشياء غائبة وإن كان حكمُهُ عليها قطعياً، لكن تكون هناك شرائطَ وموانعَ معتبرة عنده، فيجيءُ واحدٌ من الأشقياء ولا يُراعي تلك الشرائط والموانع ويجعلُ الكلامَ المرسل كلياً. ثم إذا تخلَّف عنده الحكم يضطربُ ويقلقُ، فلا يلومن إلا نفسه.(1/326)
ولما كان حالُ الإنسان بين طرفي نقيض فقد يتداوى بدواء ويكون عندَه أنه نافعٌ قطعاً فلم ينفعه، فإنه لا يكذبُ نفسه، ولا يلزمُ الطبيب، ولكنه يعللُ تارة بأن الدواء كان رديئاً، أو لم يستعمله على وجهه، أو عدم حمايتِهِ نفسَه عن المضرات. ولكنه إذا مر على آية من آيات الله أو حديث من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلّمويبدو له فيه قلقٌ، فإنه لا يتعللُ بشيء ولا يطمئنُ قلبه بحال حتى يكونَ أولَ كافرٍ به. {قُتِلَ الإِنسَنُ مَآ أَكْفَرَهُ} (عبس: 17) فلا يخلو حالُهُ إلا من حُمق جلي، أو نفاق خفي.
والجواب الآخر: أن الشارع ذكر الخواص على طريق «التذكرة» دون «القرابادين» والتذكرة في مصطلح الطِّب: ما تذكر فيها خواص المفردات. والقرابادين: ما تذكر فيها خواص المُرَكبات. فحكمُهُ على العبادات وذكر خواصِّها على طور التذكرة فقط، ولا يمكنُ غيره في الدنيا، فإن التركيبَ لا يحصلُ إلا بعد انصرام العالم، فحكمه أيضاً لا يظهر إلا هناك. وهذا كالطبيب يحكمُ على المفردات أن هذا سُمٌّ، وهذا تِرْيَاقٌ، وهذا مُسهِّلٌ، وهذا قَابِضٌ، ثم إذا ركَّب دواءً من الأشياء الحارة والباردة معاً وكسر هذا سورة هذا، يخرج من بينها مزاجٌ ثالثٌ مع وجود الدواء الحار والبارد فيه ولا يأتي فيه قال وقيل، ولا يكذبُهُ أحدٌ لأنه ما كان ذكر من حرارته وبرودته إنما كان حاله بانفراده، فإذا مزج أحدهما بالآخر خرج منه مزاج آخر.(1/327)
وهكذا كلمة التوحيد فإنها تحرِّم النارَ بلا مِرية ولا فرية، إلا أنها إذا خالطتها المعاصي ماذا يصير مزاجه، فالله أعلم به. نعم، إن غلبت آثار الكلمة على المعاصي جرَّته إلى الجنة، وإن كان غير ذلك فالعياذ بالله. وإذا علمت أن المزاجَ المركبَ لا يحصلُ إلا في الآخرة، علمت أن مطالبةَ «القرابادين» في الحالة الراهنة جهلٌ وسَفَهٌ، وكأنه استخبارٌ عن أمرٍ لم يوجد بعد ومآلهُ الاطلاع على التقدير. وكذا المنعُ من بيان «التذكرة» أيضاً حمقٌ وغَبَاوةٌ، فإن في عدم الذكرِ مطلقاً ضررُ الأمة، فإنه وإن لم يحصل عندها بالتذكرة العلمُ التام لكنه لم يبق مجهولاً مطلقاً أيضاً وحصل نحو من العلم.
فإن قلتَ: ففي ذكر «التذكرة» بعض حرج وإشكالات. قلت: لا إشكالَ فيها للفطرة السليمة والجاهل بمعزل عن النظر، وبمثله ينحل حديث الكفارات. فإن الصلاةَ إلى الصلاة مثلاً لما صارت كفارةً ولم يبق له ذنبٌ، فماذا تصنع المكفرِّات الأُخر. وحله: أن مجموعَ المكفرات دخيلة في مجموع المعاصي، ولا يحصل هذا المجموع إلا في الآخرة. ولكن الشارع لما أراد الاطلاع على قطعة قطعة، جاء التعبيرُ كما ترى.
قوله من كان آخر كلامه وليس المرادُ من الكلمة ههنا ما كانت على طريق العقيدة، بل هي عملٌ من الأعمال الصالحة وحسنةٌ من حسناته، أجرُها عند الرحيل هو النجاة، فهذه فضيلةٌ لمن جرت تلك الكلمةُ على لسانه. ولما كانت على طريق الأذكارِ دون الإِيمان فلا يحكم بالكفرِ على مَنْ لم تجر تلك الكلمة على لسانه. ومعنى الآخرية أن لا يجري على لسانه بعدها شيء من كلام الدنيا، فمن قالها وأغمى عليه ليلاً مثلاً ومات فيه ولم يفق، فإِنه يُرجى له هذا الأجر الموعود إن شاء الله تعالى.(1/328)
قوله: (إذاً يْتكلوا) قد يسبقُ إلى الأذهان أن المرادَ منه الإتكالَ عن الفرائض، لأن الكلمةَ المجردة إذا صارت كفيلةً للنجاة فلم تبق حاجةٌ إلى الأعمال الأُخر. وليس بمراد قطعاً بل المرادُ الإتكال من فضائل الأعمال وفواضلها، لأن الإِنسانَ أرغبُ في دفع المضرة من جلب المنفعة، فإِذا علم أنَّ الكلمةَ والفرائض تكفي له لدفع النار، ذهب يقنع عليها، ويتكاسل عن النوافل، ولا يسابق إلى المدارج العليا.
وقد حكى الله سبحانه عن فطرته تلك بقوله: {الئَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً الخ}(الآنفال: 66) فالإِنسان لا يزالُ مجتهداً في آخرتِهِ، فإِذا تيقنَ نجاته فتر. وهذا أمرٌ مركوز في خاطره، ولذا منعه النبي صلى الله عليه وسلّمعن إخباره لأن الاكتفاءَ بالفرائض والافترارَ عن الفضائل نقيصةٌ لهم وحِرمان عن الطبقات العُلى، فأحب أن لا يتكلوا ويجتهدوا في معالي الأمور، لأن الله تعالى يحب معالي الهمم، وقد مدح حسان النبي صلى الله عليه وسلّمبقوله:
*له هممٌ لا مُنتَهى لكبارها ** وهمته الصغرى أجل من الدهر والدليل على أن المراد من الإتكال هو الإتكال عن الفرائض وأنه في طلب الدرجات ما رواه الترمذي عن معاذ بن جبل في هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «من صام رمضان، وصلى الصلاة، وحَجَّ البيَت لا أدري أذكرَ الزكاة أم لا؟ - إلاّ كان حقاً على الله أن يغفرَ له إن هَاجَرَ في سبيل الله، أو مكث بأرضه التي ولد بها» قال معاذ: ألا أخبر بها الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ذر الناسَ يعملون فإِن في الجنة مئة درجة.. والفِردوسُ أعلى الجنة... فإِذا سألتم الله فاسألوه الفِردوس. ففيه ذكرُ الفرائض أيضاً والتحريض على الدرجة العليا، فانكشف أنه لم يَردْ في الحديث المجمل الإتكال عن الفرائض.
(1/329)
وأن الحديث لا يختصُّ مرادهُ بكونه قبل نزول الأحكام. كيف وترك الفرائض لا يُرجى من عوام الناس؟ شأن الصحابة رضي الله عنهم أرفع. وعند الترمذي عن معاذ أيضاً قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلّمفي سفر فأصبحت يوماً قريباً منه نحن نسير، فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يُدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال لقد سألتني عن عظيمٍ وإنه ليسيرٌ على من يسَّرَه الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتأتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت»... إلخ. ففيه أيضاً ذكر الفرائض بتمامها.
وأيضاً عند البخاري وهو وإن كان عن أبي هريرة لكن المضمون واحد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم «من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقاً على الله أن يُدخله الجنة، جاهدَ في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها» قالوا: يا رسول الله أفلا نُبشر الناس؟ قال: «إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله».
فتبين من هذا: أن الحديث لم يردْ في القَدَر المُتحتم، وإنما أراد اتكالهم عن الفضائل والفواضل. والحاصل: أن هذا الوعدَ إنما هو بعد لحاظ جميع ما ورد في الشرع من الأوامر والنواهي، ثم الإتكالُ فيما وراء ذلك. ولما أراد أن يبشر به الناس أبهمَ في الشروط وتركَ استيفاء الأمورِ، فإِن البشارة باب آخر، والمناسب لها الإِجمال والإِبهام.
باب الحَيَاءِ فِي العِلم(1/330)
لما ورد الحديث في الطرفين فحديث ابن عمر رضي الله عنه يدُل عل حُسنِهِ، وحديث عائشة رضي الله عنها علي قُبحه، قسمه على الحالات وجعله في بعض الأحوال حسناً وفي بعضها قبيحاً، فإِن الحياء إذا كان عن تحصيل علم فهو مذموم، وإن كان كما استحى ابن عمر رضي الله عنه فهو ممدوحٌ، فإنه لم يتبدل بسكوته حلال أو حرام، ولكن فاتته فضيلة بالحضرة النبوية عليها الصلاة والسلام، ولعله يؤجر عليها في الآخرة. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه في جواب سائل: ما بخلت بالإِفادة ولا استحييت من الاستفادة. وعن الأصعمي: ذِلة السؤال خير من ذلة الجهلة مُدَّة عمره.
130 - قوله: (إن الله لا يستحي) وقد تأول الناس فيه، وإني لا أتأخرُ عن إسناد أمر أسنده الله سبحانه وتعالى بنفسه إلى نفسه، ولكن أكِلُ علمَ كيفيته إلى الله عزّ وجلّ. ولا أقول كما قال البيضاوي: إن الرحمة عبارة عن رقة القلب فإِسنادها إليه تعالى مجاز. ويا للعجب فإِن الرحمة إذا كان إسنادُها إلى الله تعالى مجازاً فإِلى مَنْ يكون حقيقة؟
130 - قوله: (أوتحتلم المرأة؟) واعلم أنه احتُلف في الاحتلام في حق الأنبياء، والحقُّ إنه يجوز في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلاّ أنه يكون لامتلاء كِيَسَة المنى ولا دخل فيه للشيطان. وما نقل عن محمد رحمه الله تعالى: أن لا غُسل على المرأة إذا احتلمت، فتأويلُه أنه إذا لم يخرج من عضوها الداخل إلى الخارج.
130 - قوله: (بم يشبهها؟) وفسروا العُلُو تارةً بالغلبة، وأخرى بالسبق.
باب مَنِ اسْتَحْيَا فَأَمَرَ غَيرَهُ بالسُّؤَال
وجه الاستحياء مذكور في لفظ الحديث هو قوله: «لمكان ابنته تحته» وهو معنى صحيح.
132 - قوله: (فأمرت المقداد) أي للسؤال في حق نفسه. وسأل هو أيضاً، لكنه على طريق الفَرَض بدون التعرُّض إلى الواقعة لمن هي، فلا تناقض.(1/331)
132 - قوله: (ففيه الوضوء) وذهب أحمد رحمه الله تعالى إلى أنّ الحديثَ من أحكام المذي دون الصلاة، فينبغي أن يكون الوضوءُ عقيب خروجه، لا عند القيام إلى الصلاة فقط. وهكذا نسبه الشوكاني في «النيل» إلى الحنفية أيضاً. قلت: ولا أترددُ في أن المطلوبَ عند الشرع هو إزالة النجاسات على الفور. والتلطخ بها زماناً مكروهٌ عنده قطعاً إلاّ أن أثرّه لمّا لم يظهر إلاّ عند القيام إلى الصلاة جاء الخمول في كتب الفقه كحكم الديانات، فإِنها قلما تُذكر في المتون وعامة الشروح.
ووجهه أن الفقهاء عامة يتعرضون إلى بيان الفرائض والواجبات، وقليلاً ما يذكرون المُستحبات والسننِ الزوائد. ولما كان هذا النوع من الوضوء مستحباً عقيبَ خروج المذي، وواجباً عند القيام إلى الصلاة، لم يذكروه إلاّ عند القيام إليها. ثم إنه إن توضأ عقيبه وقام إلى الصلاة متصلاً يتأدى في زمنه الفرضُ أيضاً، وفي بعض طرقه: غسل العضو فقط،وفي بعضها: غسل الانثيين أيضاً، وفي بعضها: غسل المرفقين أيضاً، وتصدى المحدثون إلى إعلاله. قلت: هو صحيح ويحمل على الاستحباب. وما ذكره الطحاوي الغُسل للعلاج لا يريد به العلاج الطبي، بل انقطاع التقطير في الحالة الراهنة، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلّمللمستحاضة أن تغتسلَ ولبعضها أن تجلس في المِرْكن.
الكلام في الربط بين القرآن والحديث والفقه كيف هو؟(1/332)
واعلم أن فهمَ الحديثِ والإطلاع على أغراض الشارع مما لا يتيسرُ إلاّ بعد علم الفقه، لأنه لا يمكنُ شرحُه بمجرد اللغة ما دام لم يظهر فيه أقوال الصحابة رضي الله عنهم ومذاهب الأئمة بل يبقى معلقاً، لا يُدرى وجوههُ وطرقه، فإِذا انكشف ما ذهب إليه الذاهبون واختاره المختارون خفَّ عليك أن تختارَ واحداً من هذه الوجوه، وهو حال الحديث مع القرآن ربما يتعذرُ تحصيلُ مرادِهِ بدون المراجعة إلى الأحاديث، فإذا ورردت الأحاديث التي تتعلق به قُرُب اقتناصُ غرضِ الشارع. وهذا من غاية علوه ورفعة محله، بل كلما كان الكلامُ أبلغَ كان في اجتمال الوجوه أزيدَ، ولا يُفهم هذا المعنى إلاّ من عُنِيَ به.
وأما الجاهل فيزعمه سهل الوصول لقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذّكْرِ} (القمر: 17) إلخ ولا يدري أنه ليس تيسرُه على قدر ما فهمه، بل معناه أنه يشتركُ في تحصيل معناه والاستفادة منه الأعالي والأداني، لكنه يكون بقدر نصيبهم من العلم. وهذا من غاية إعجازه، يسمعه الجاهلُ ويأخذ منه علماً بقدره، ويَرَاه الفحولُ ويُفعِمون منه دِلاءً بقدر أفهامهم، بخلاف كلام الناس فإِنه إن كان ملتحقاً بأصوات الحيوانات فإِنه لا يَلتفِتُ إليه البلغاء، وإن كان في مرتبة من البلاغة لا يُدرِكُ مرادَه الجهلاء. وهذا كتابٌ بلغ في مراتب البلاغة أقصاهما ولم يزل سحاب علومِهِ مَاطِراً على كافة الناس، عقلائهم وسفهائهم سواء بسواء، وهذا معنى التيسير لا ما فهموه.
باب ذِكْرِ العِلمِ وَالفُتْيَا فِي المَسْجِد
أي أن المسجدَ وأن بُنى للصلاة لكن العلمَ والفتوى أيضاً من أمور الآخرة، فيجوز أيضاً. والقضاء أيضاً يجوز عندنا دون الشافعي رحمه الله تعالى، لأنه ذكر وإقامةُ الحدِّ لا يجوز أنه من المعاملات، ويجوز تعليمُ الأطفال إذا لم يأَخذ عليه أجراً.(1/333)
133 - قوله: (إن رجلاً قام... الخ) خرج من المدينة يوم السبت وبيَّنَ مسائل الميقاتِ يوم الجمعة قبلَ السفر.
133 - قوله: (يهل من ذي الحليفة) وفي «الموطأ» لمحمد أن المدني لو مر على ذي الخليفة وأحرم من الجُحفَة لا يكون جنايةً، فدل على أنه إذا أحرمَ من أبعدِ الميقاتين فلا جناية عليه بمروره على أقربه بدون الإِحرام، وهذه مسألةٌ لم تذكر في عامة كتب الفقه.
قوله: (ذات عرق) قال الشافعية: إنها وقتها الفاروقُ الأعظم رضي الله عنه. وقلنا: بل وقتها النبي صلى الله عليه وسلّممن قبل، غير أنه اشتهر في زمن عمر رضي الله عنه، لأنه ظهرت الفتوح في زمنه وانتشرَ المسلمون في البلاد.
باب مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَه
أي لا حرج فيه، بل هو من المحسنات. وإنما تعرَّضَ في الجواب إلى ذِكرِ ما لا يجوز ولم يتعرض إلى ذكر الجائزات لكونه أخضَرَ وأنفع.
134 - قوله: (القميص) والضابطة فيه: أن كلَّ ثوبٍ مخيطٍ مُستمسِكٍ على الجسد بدون شد ولا يَلبَسه المحرمُ، وإن لم يجد الإِزار يجوزُ السراويل ويتخذه إزاراً، وإذا لم يجد النَّعلين يقطعُ الخفَّ أسفل من الكعبين. وقال الحنفية رحمهم الله تعالى: الممنوع في الإِحرام الطيب، وفي الإِحداد الزِّينة. وراجع المسائل من الفقه.
كتاب الوُضُوء
باب ُ مَا جَاءَ فِي الوُضُوء
الوضوء: هو الصفاءُ. والنُّور لغةً. وقد أخبرت الشريعة بِوَضاءَة أعضاءِ الوضوءِ في المحشر.(1/334)
قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ} قالوا: معناه إذا قمتم إلى الصُّلاة وأنتم محدِثون. ولا أقولُ بالتقدير بل أقول: معنى الأمر بالوضوء لمن كان محدثاً بالوجوب وإلا فعلى الاستحباب. ويجوز عندي دخول الفَرْضِ والمستحب تحت لفظٍ واحد وليس بمجاز. وإذا صح إطلاق الوُضُوءِ والصَّلاةِ على الفرض والمستحب فأي بأسٍ في إطلاق المشتقِ عليهما.
والعجب من الرَّازي في «المحصول» حيث قال: إنَّ الصلاة حقيقةٌ في الفريضة ومجاز في النافلة. قلت: كلا، بل الحقيقة والمسمَّى في الصورتين واحدةٌ، وإنما الاختلاف بحَسَب الأوصاف وهي من الخارج، فينبغي أن يميز بين الشيءِ وأوصافِه الطارئة من الخارج. وإذا كانت حقيقتُها في الصورتين واحدة لزمَ أن يصحَّ إطلاق اللفظ عليهما حقيقة.
ثم إنَّ الشريعة لم توجب عبادةً إلا وُضِعَ من جنسها نفلاً، وفي الفقه أن النذرَ إنَّما ينعقدُ فيما يكون من جنسِهِ واجب، فعُلم أن كلَّ نفلٍ من جنسه واجبٌ أيضاً، ومع هذا ذهب الرازي إلى أن لفظ الصلاة مجازٌ في التطوع. ثم كونُ الأمر للوجوب أيضاً لم يتحقق عندي، بل هو مشترك عندي كما هو رأى الماتُرِيدي، وراجع لتفصيله رسالتي «فصل الخطاب في مسألة الفاتحة خلف الإِمام». ثم إن هذه الآية وإن كانت آخرها نزولاً لكنها مما تقدم حكمها. أقول: وفي «سيرة محمد بن إسحاق» أن جبرائيل عليه السلام لما نزل بخمس آياتٍ من أوائل اقرأ، علَّمه الوضوءَ والصلاتين أيضاً، ومرَّ عليه الشيخ ابن حجر المكي الشافعي في «شرح المشكاة» وحسَّنه. قلت: وفي إسناده راوٍ تُكِلِّمَ فيه.
وَجْهُ القِراءتين في آيةِ الوضوء
على نحو المذهب المختار بعد إمعانِ نظرٍ، وإِعمال فكرٍ، وحَذَاقةٍ في الفنون العربية.(1/335)
قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} استدل بها الشيعة على جواز المسح بالأرجل على قراءة الجر، وهم لا يجوزون المسحَ على الخفين مع كونه مواتراً وتصدى لجوابهم علماءُ الأمة منهم: ابن الحَاجب والتَّفْتَازاني في أواخر «التلويح» وابن الهُمَام وآخرون.
وما فتح الله عليَّ في بيان وجه قراءة النصب: هو أن قوله وأرجلكم بالنصف مفعول معه وليس عطفاً، وفرق بين واو العطف والتي للمفعول معه، فإِن العطف لبيان شَرِكة المعطوفِ والمعطوفِ عليه في أمر، نحو جاءني زيد وعمر، ومعناه: أنهما مشتركان في المجيء. وإن قلنا: وعمراً بالنصب فمعناه بيان مصاحبتهِ مع زيد في الجملة. أمَّا إنها في الفعل خاصة أو في أمر آخر، فأمر مَوْكُولٌ إلى الخارج على حد قولهم: إذا خلى وطبعه ولا يدل على الشركة أصلاً، وإن لزمتْ في بعض المواد فمِنْ تلقاءِ المادةِ لا من تلقاءِ المدلول. ثم المصاحبة معناها المقارنة: وهي قد تكون في الزمان كقولهم: جاء البَردُ والجُبَّاتَ بالنصب ليس معناه أن الجباتَ اشتركت في المجيء مع البرد وأن الجائي هو البرد والجبات، بل معناه أن الجائي هو البرد، ثم له مصاحبة مع الجبات مصاحبة زمانية. وأما إنه في المجيء أو الخياطة مثلاً فهو أمرٌ خارج عن مدلول المفعول معه.
والمعنى: جاءَ البردُ وخِيْطت الجُبَّات في زمانه، فصاحَبَها زماناً، ولو كانت في الخياطة فجاء هذا وخيط هذا. وهذا أيضاً نوعٌ من المُصَاحبة. وقد تكون المصاحبة في المكان كقولهم: سرت والطريق، ليس معناه أن الطريق أيضاً سار كما سار المتكلم، فلا دَلالة فيه على الشَرِكة في الفعل، فإِنه لم يُسند السيرُ إليه، بل معناه أن السائر هو المتكلم، لكن الطريق قارنَهُ وصاحبهُ وبقي معه في آخر سيره، فكان مُصاحباً له مصاحبةً مكانية. وقد تكون بهما نحو قولهم: سرت والنيل، إذا اعتبرت جريَ الماء معك ساعة.(1/336)
وهناك أمثلة أخرى. منها قولهم: لو تركت الناقة وفَصِيلتَها لرضعتها، ليس معناه أن التركَ واقعٌ على الناقة والفصيلة كلتيهما، ليكون من باب العطف ولاشركة، بل معناه: لو تركت الناقة فقط وبقيت معها معاملة للفصيلة لرضعتها، كقوله تعالى: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} (المدثر: 11) لا يريد الشركةَ في الفعل، بل معناه ذرني فقط ثم انظر ماذا أفعلُ بهم. ونحو قول الشاعر:
*وكنتُ ويحيى كَيَدي واحدٍ ** نرمي جميعاً ونُرامي معاً لا يريد الشاعرُ الشركةَ في الكون فإِنه ليس بشيء، بل معناه كنت ويحيى مصاحباً معي، فالمراد هذا المجموع ثم كونهما كيدي واحد.4
وكقول الآخر:
*فكونوا أنتمُ وبني أبيكم ** مكان الكُليتين من الطِّحال وإنما قَطَعَه الشاعرُ عن إعراب ما قبله ونَصَبَهُ إعراضاً عن الشركة وإفادةً للمصاحبة كما قرره الرَّضي في قوله:
*للبْسُ عَباءَةٍ وتَقَرَّ عيني ** أحبُّ إليَّ من لُبْس الشُّفُوفِ فإِنه صرَّح أن نصبَ المضارع للقطع عن العطف ولإِفادة المصاحبة، وهو «واو» الصرف عندهم لصرفه عن حقيقتها التي هي العطف، لأن الشاعر إنما أراد أن لُبْسَ العباءةُ مُصَاحباً مع هذا أحبّ إليه، يعني هذا المجموع أحبّ إليه؛ ولا يريدُ أن هذا محبوبٌ وهذا أيضاً محبوب. ومرَّ عليه ابن هشام «في المغني» وقال: إن بعضهم أضافوا قِسماً آخر وسمَّوه «واو» الصرف كما في الشعر للبس عباءة الخ. ثم قال: ولا حاجة إليه، فإِنَّا نقدرُ الناصبَ ونقول: ولَلُبسُ عَبَاءةٍ وأن تَقرَّ عيني... إلخ. قلت: وليس الأمرُ كما زعمه لفسادِ المعنى. والوجه ما ذَكَره الرَّضي.(1/337)
ومن ههنا تبينَّ أن «الواو» في قوله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً} (المائدة: 17) ليس للعطف. ومعناه: أن الله إن أراد أن يُهلِكَ المسيحَ ابن مريم مع كون أمه ومن في الأرض في حمايته لا يملكُ أحدٌ أن ينقذه من الله. وليس الإِهلاك ههنا واقعاً على هؤلاء جميعاً، لأن المقصود هو إظهارُ القُدرةِ على إهلاك مَنْ جُعل إلهاً من دون الله وافترى عليه بالألوهية، ولو كان هؤلاء أعضاد آله، لا إهلاكُ من في الأرض.
والفرق بين إهلاكِ المسيح عليه السلام في حال مُصَاحبةِ جميع مَنْ في الأرض وحمايتهم إياه وإهلاك جميع مَنْ في الأرض غير خفي، فإِن في الإهلاك الأول قوةً ليست في الثاني، فهو على حد قوله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88) فعجزُهم في حال المظاهرة أبلغُ من عجزهم في غير هذا الحال، فكذلك إهلاكُ جميع مَنْ في الأرض، وإن كان دليلاً على قُدرته على إهلاكِهِ أيضاً، إلا أن إهلاكه، مصاحباً جميع من في الأرض إياه، أدلُّ على قدرته من إهلاكه في غير هذا الحال، فإن القدرةَ في صورة إهلاك الجميع ضِمنني بخلافه في تلك الصورة.(1/338)
والحاصل: أن المسوقَ له في هذا الموضع هو بيانُ إهلاك من اتخذوه إلهاً وهو يَتِم بالمفعول معه ما لا يتم بالعطف كما علمت. وعلى هذا صارت الآيةُ قاطعةً قاهرةً على من تفَّوَه بوفاة المسيح وتمسكِ بهذهِ الآية، ودلت كالشمس في رَابعة النهار على أنه لم يمت وأنه حيٌ بعد. وأنه تعالى لو أراد إهلاكَه لم يَمْنعه أحدٌ، فعُلِم أنه لم يَهلِك، ولو كان هَلَكَ لكان ذِكْرُ هلاكِهِ أحرى من بيان القدرة فقط. ولمَّا لم يذكره مع داعيةِ المقام، عُلِم أنه لم يهلكِ بعد، وإلا لكان هلاكُه أفحَم للنصارى.
ولكن الله سبحانه انتقل من بيان الهَلاك إلى بيان قدرتِهِ ثُمَّ صرَّحَ عليه في النساء وقال: {وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (النساء: 159) فأعلن أنه لم يَمتُ ولو كان ماتَ لكرره في ردِّ الألوهية، مع أنَّه ذكر مخاضَ والدته وكونُه مولوداً كسائر الناس، إلا أن وِلادَتَه لما كانت بالنفخ على خلاف ولادة عامة الناس، نبَّه على هذا الأمر البديع، ليُعلِم أن الإِنسانَ لا يصيرُ إلهاً بكونه منفوخاً ومخلوقاً من غير الطريق المعروف، إنما هو إله يخلق كيف يشاء. ولذا جاءت تحمِلُه على يديها ليراه الناسُ أنه وُلِد كما يولد الناس؛ فانظرْ كيف ذَكَرَ وِلادتَه على أتم تفصيل، ولم يذكر وفاته ولو إيماءً مع كونه أدلُّ وأقطعُ لحجة الخصم، فهذه الآية حجة قوية لا يأتيها الباطلُ من بين يديها ولا من خلفها إن شاء الله تعالى.
وإذا تحصَّلت الفرق بينهما، فاعلم أن قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب مفعولٌ معه، وليس لإِفادة الشَّركة. والمعنى: أن للرجلِ معاملة مع مسح الرأس، أما إنها معاملةُ المسح أو الغسل فهو مسكوت عنه.
(1/339)
ثم أقول: إن «الواو» قد لا تكون للشركة في الحكم و تجيء للمصاحبة فقط مع اشتراكها في الإِعراب وأُسَمِّيها واو المعية. واستنبطته من كلام الرَّضي في قوله: لَلُبْس عبادةٍ... إلخ، وعلى هذا أمكنَ «الواو» في قراءة الجر أيضاً للمصاحبةِ دون إفادة الشركة. والحسنُ فيه أن الآيةَ جَعَلت الوجهَ واليدينِ في طرف، والرأس والرجل في طرف آخر، لأنهما نوعان يشتركان في بعض الأحكام ويختصانِ ببعضٍ آخر، كسقوط الرأس والرجل في التيمم. وأشار إليه ابن عباس رضي الله عنه، ولعله في «الفوز الكبير» أن الوجهَ واليدَ مغسولان ويُعتبران في التيمم، والرأسَ والرِّجلَ قد يسقطان في حكم الغسل، فلهذين حكمٌ ولهذين حكم، ولذا جُمعا في الآية عند بيان المسح.
وفي تذكرة قديمة عندي أن اليد والوجه مغسولان في الأقوال كلها، بخلاف الرجل والرأس، فإن الشريعةَ تفردت ببيان وظيفتهما. وانحل به ما تعسَّر عليهم من قول ثُمَامة عند البخاري: آمنت مع محمد صلى الله عليه وسلّم فَفَهِمَ منه الشارحون أنه آمن معه مَعِيةً زمانية وليس بصادق، فاضطروا إلى التأويلات، ومراده أن ابتداءَ إيمانه قَارن وصَاحب مع بقاء إيمان محمد صلى الله عليه وسلّم فصحت المعيةُ، ولهذا الضيق استُشكَلت عليهم آية آخرى وهي: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ} (الصافات: 102) وقالوا: إن «مع» يتعلق بالسعي لا بقوله: «بلغ».
والحاصل: أن المعيةَ والمصاحبةَ تصدُقُ بالاقتران في الجملة، لا كما فهموه. وعند البخاري يكفيك الوجهَ والكفين بالنصب أيضاً من هذا الوادي، فإِنه مفعولٌ معه، فإِنه أدار الحكمَ على هذا المجموع ولم يُرد أن يحكمَ على كل واحدٍ على حدة.(1/340)
ثم اعرف الفرق بين قوله: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} وقولنا: وامسحوا رؤوسكم بدون الباء وهو الظاهر، لأن المسح متعدٍ بنفسه ومثل قوله: أوتره وأوتر به، وقرأ الفاتحة وقرأ بالفاتحة. وتعرض إليه الزمخشري تحت قوله تعالى: {وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} (مريم: 25) مع كون الهز متعدياً بنفسه. وسنقرر عليه الكلام مفصلاً إن شاء الله تعالى في باب الوتر. وجملة الفرق هاهنا أنه لو قيل: وامسحوا رؤوسكم لكفي إمرارُ اليد بدون الماء أيضاً عن عهدة المسح، لأنه لا تعتبر فيه البِلة لغةً، فإِذا اعتبرت فيه المعهودية الشريعية، وهي إمرار اليد المُبتلة، صار لازماً واحتاج في تعديته إلى الباء.
وحينئذ معنى قوله: {وَامْسَحُواْ} أي افعلوا فعل المسح، يعني المسح المعهود، فاقتصر على ما كان باليد المبتلة. ولعل العربَ لمَّا لم يكونوا يعتمُّون في عامة أحوالهم، جاء القرآن على عرفهم إذ ذاك وقال: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} ولم يتعرض إلى العِمَامة، ولذا عامةُ رواياتِ وضوئه صلى الله عليه وسلّمخاليةٌ عن ذكر المسح على العِمامة، ومتى كان معتماً تعرض هناك الراوي، كما عند أبي داود في بيان صفة المسح أنه مسح ولم يَنْقُض العِمامة.
ثم إنه لا إجمالَ في الآية عندي في باب المسح كما قرره علماؤنا. والإقتصار على الربع، إنما هو لأنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلّمدونه، ولو ثبت عنه صلى الله عليه وسلّمدون الربُع لقلنا بفرضيته، وبفعله علمنا أن الفرضَ هو الربع، ولو كان الفرضُ هو الكلَّ لما تنزل إلى الربع، وكذلك لو كان الفرض دون الربع لتنزل عنه بياناً للجواز، فإِذا اقتصر على الربع ثم لم يتنزل عنه، ثبت أن هذا القدرَ هو الفرضُ. ولا شكَّ أن مذهبنا هو الأحوط في هذا الباب، حتى أن بعض الشافعية أيضاً أَقرُّوا بذلك.(1/341)
قوله: (قال أبو عبد الله)... إلخ وظني أن المصنف رحمه الله انتقلَ إلى بيان مسألةٍ أُصولية، وهي أن الزِّيادةَ بخبر الواحد تجوز. ولذا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلّمقَدْر الفرض مع عدم ذكره في القرآن، وقد مر منا تحقيقه في المقدمة فراجعه.
وحاصل المسألة عندنا: أن الزيادةَ بالخبر إنما تمتنعُ في مرتبة الرُّكنية والشرطية، أما في مرتبة الوجوب أو الاستحباب فلا، ولعل نظرَ الشافعية في أمثال هذه المواضع أن الحكم إذا كان قطعياً بنفسه لا تؤثر فيه ظنية الطريق، فخبر الواحد وإن كان ظنياً في نفسه إلا أنه طريقٌ لبلوغ الحكم القطعي إلينا فقط، فلا يكونُ مؤثراً في الحكم. ونَظَر الحنفية أن خبرَالواحد وإنْ كان طريقاً لعلم الحكم، لكنه لازمٌ ولا انفكاك عن هذا الطريق الظني في تحصيل هذا الحكم القطعي. وإذا امتنع انفكاكُ طريق العلم عن الحكم وَجَبَ أن يُؤَثِّر فيه. ولم تصح مراعاة الحكم في نفسه، فظنية الطريق تسري إلى الحكم لا محَالة وتجعله ظنياً البَّتة.
وبعبارة أخرى: أن الشافعية ذهبوا إلى التجريد ونظروا إلى الحكيم في نفسه بدونِ ملاحظةِ حال الطريق، والحنفية لاحظوا الحكم وطريقُه، فلم يمكن لهم أن يحكموا على المجموع إلا بالظنية، فإِن النتيجةَ تتبع الأخسَّ الأرذل. وبعبارة أخرى: أن الشافعية جعلوا القرآنَ كالمتن والحديثَ كالشرع، فأخذوا المراد من المجموع، ونحن أخذنا القرآن أولاً ثم أَوجبنا العمل بالحديث ثانياً، فوضعنا هذا في مرتبتة وبعبارة أخرى أن الحنفيةَ يتخذون السبيل هو القرآن، إلا أنه لما ورد الحديثُ فيما سكت عنه القرآن يُخرِّجون له صورة العمل ويعملون به أيضاً، فكأنهم جعلوا حالَ القرآن مع الحديث كحالِ ظاهر الرواية مع النَّوادر.(1/342)
ومما يتعلقُ بموضوعنا هذا مسألةُ النَّسخ والتَّخصيص، والشيءُ بالشيءِ يُذكر. فاعلم أن المنسوخَ بعد نزول الناسخ يبقى قطعياً عندنا، بخلاف التخصيص فإِنه يَجعلُ العام ظنياً. ووجه الفرقِ أن المخصَّصَ يُصاحبُ العام زماناً، فكأنه لم ينعقد حجةً بعدُ حتى لحقه المخصَّصَ فأخرج عنه أفراداً، فيخطرُ بالبال خروج الأفراد الأُخر أيضاً لعلة مشتركة هناك. بخلاف الناسخ فإِنه يتراخى عن المنسوخ زماناً، فينعقدُ حجةً، فإِذا نزل الناسخ وكان المنسوخُ محكماً إذ ذاك وحجة، لم يؤثر فيه. وعليه يتفرع منعُ تعليل الناسخ دون المخصَّص، لأن تعليلَ الناسُ يستلزمُ أن يجوزَ إخراج أفرادٍ أُخرَ أيضاً، مع أن النصَّ لم يخرج إلا أفراداً معلومة، فيلزم المعارضة بالنَّص بخلاف المخصص.
باب لا تُقْبَلُ صَلاةٌ بِغَيرِ طُهُور
قد يُتخايل أن نفي القَبولِ لا يستلزمُ نفي الصحة. فقال قائل: إن القبولُ يطلق على معنيين: الأول: ما هو المعروف. والثاني: ما يرادف الصحة. قلت: بل هو ضِدُّ الرد، فمنعناه أن الصلاةَ بدون الطهور مردودة ولا حاجة إلى التقسيم، لأنه انعقد الإِجماعُ على أن الطهارة شرطٌ لصحة الصلاة. نعم، في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة بعض شذوذٍ، فعند البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه: أنَّه لا يسجدها على غير وضوء، إلا أن في الحاشية للشيخ أحمد علي السهارنفوري نقيضُه. أنه كان يسجدها على وضوء، فتردد فيه النظرُ أيضاً.(1/343)
أما في صلاة الجنازة فقد ذهب بعضهم إلى جوازها بدون طهارة. ولعل الوجهَ عنده خفاءُ لفظ الصَّلاة في صلاة الجنازة. والخفاءُ إنما يكون لنقص في المسمَّى أو زيادة فيه، فإِذا نَقَصَ شيءٌ من المسمَّى أو زاد فيه، يتردد فيه أنه بقي داخلاً في مسماه أو خرج عنه، كما قالوا في الطَّرَّار والنَّبَّاش: إنَّ الفظَ السارق خفيٌ فيهما، وكذلك ههنا خفيَ إطلاقُ الصلاةِ على صلاة الجنازة وسجدةِ التِّلاوة لمعنى النقص فيهما. أما سجدة التلاوة فظاهرٌ. وأما صلاة الجنازة فلعدم اشتمالها على الركوع والسجود.
وذهب الفقهاءُ الأربعة والجمهور إلى أنها داخلة في مسمَّى الصلاة، وسجدة التِّلاوة من أخصِّ أركان الصلاة، فينبغي أن يشترطَ لها ما يشترط للصلاة. وما نُسب إلى مالكٍ رحمه الله تعالى من أن الصَّلاةَ بدون الطهور جائزة عنده فهو باطلٌ.
135 - قوله: (ما الحدث) ولمَّا كان السؤالُ عنه حَال كوِنهِ في المسجد أجابَه: بالفُساء والضُّراط، لأنه قلَّما يقع في المسجد إلا هذان. ثم الحدثُ في المسجد عمداً مكروه تحريماً عندنا. وفي قول تنزيهاً كما في «شرح المُنية». وفي «طبقات المالكية»: أنه حرامٌ بتاً. والمعتكِفُ مستثنى عندي لمكان الضرورة.
فائدة
وراجع «الخير الجاري» وهو مِنْ تصنيف المُلا محمد يعقوب البمباني المحشي على «مختصر الحُسامي» وشرحه ملخص من العيني «والفتح». أخذ المطالب في العيني رحمه الله تعالى وأضاف عليه الفوائد في «الفتح» وأكثرُ اشتغالِ أهل الهند كان في الفلسفة والمنطق، وقليل منهم اشتغلَ بالفقه والأصول والحديث. فصنف الشيخ محمد عابد الهندي كتاباً في الفقه وكذا «فتاوي إبراهيم شاهي»، و«مجمع سلطاني»، «وخاقاني»، وليست بشيء ونحوها مطالب المؤمنين لعالِمٍ من لاهور، وقد بقي الاشتغال بالحديث في سلسلة الشاه ولي الله رحمه الله تعالى إلى ثلاثة أسباطٍ ثم انعدم.
(1/344)
باب فَضْلُ الوُضُوءِ وَالغُرُّ المُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الوُضُوء
والفضلُ ههنا بمعنى الفضيلة، وما بقي لا بمعنى الفضيلة فقط. واعلم أن الصلاة كانت في بني إسرائيل أيضاً. وعند النَّسائي: أنه فرضت عليهم صلاتان، لا كما في البيضاوي أنَّها كانت خمسين. وإذا ثبتت فيهم الصلاة فالأقربُ أن يكونَ الوضوءُ أيضاً. وقد ثبت في البخاري وضوء سارة. وعند الترمذي: «هذا وُضُوئي ووضوء الأنبياء مِنْ قبلي» فثبتَ الوضوء في الأمم السالفة في الجملة.
وإذا اشتركَ الوضوءُ بيننا وبين الأمم، فما وجه اختصاص التحجيل بهذه الأمة؟ ولقائل أن يقول: إنَّ وضوءنا أكثر من وضوئهم، فإِنه فرض علينا خمسَ صلوات في اليوم والليلة، فازداد وضوءنا على وضوئهم. وقال قائل: إن التَّحْجيل والعُزَّة بسبب الإِطالة، ولعلها لم تكن في الأمم السالفة. قلت: وعلى هذا ينبغي أنَّ مَنْ لا يطيلَ غرتَه وتحجيلَه من هذه الأمة لا يحصلُ له نفسُ التحجيل والغرة يوم القيامة، مع أنَّ الأمرَ عندي: أن نفس التحجيل من آثار نفسِ الوضوء وإطالتُها من إطالته، فكون التحجيل من آثار الإِطالة غير مُسُلَّم عندي.
ولم أجد في هذا الباب مع تتبُّع بالغٍ غيرَ ما في «حِلْية الأولياء»لإ لأبي نُعيم في صفات هذه الأمة: «متوضئين الأطراف». وفي التَّوراة: أني أجد في الألواح أمةً حمَّادين متوضئين... فاجعلها يا رب أمتي. وفي الدَّارمي عن كعب قال: «نجده مكتوباً محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّملا فظٌ ولا غليظٌ ولا صخَّابٌ في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، وأمته الحمَّادون، يكبرون الله عز وجل على كل نَجْدٍ، ويحمدونه في كل منزلة، ويتأزرون على أنصافهم، ويتوضئون على أطرافهم، مناديهمُ ينادي في جو السماء، صفُّهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء، لهم بالليل دَويٌّ كدوي النحل، ومولده بمكة، ومهاجره بطَيْبة ومُلكه بالشام. ا ه.(1/345)
فعَلِمت أنَّ لوضوء هذه الأمة اختصاصاتٌ ليست في الأمم الماضية، فلذا صار وضوءُنا وصفاً مشتهراً بنا. وظني أن الوضوءَ في الأمم السالفة كان على الأحْدَاث، بخلاف هذه الأمة فإِنَّه عند الصلوات أيضاً، وهو معنى قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} (المائدة: 6) فالمطلوب من هذه الأمة الوضوء عند كل صلاة وإن لم يكن واجباً، لا عند الأحداث فقط.
ولذا لا أقدِّرُ فيها: وأنتم مُحدِثون كما قدروه، فإِنه يختفي به رضا الشارع، وهو الوضوء لكل صلاة. وعند أبي داود: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّمأمر بالوضوء عند كل صلاة طاهراً أو غير طاهر.. فكان ابن عمر رضي الله تعالى عنه يَرى أنَّ به قوةً فكان يتوضأ لكل صلاة: فهذا دليل واضحٌ على أن المطلوبَ والمرضيَّ هو الوضوء عند كل صلاة، لا عند الأحداث فقط. واستحبه فيها فقهائنا أيضاً.
وبالجملة إذا عَلِمْت أن الغُرَّة والتحجيل من خصائص هذه الأمة، فإِذاً لا التباس بينها وبين الأمم السَّالفة، فإنَّ كل أمة تقوم مع نبيها، وإنَّما يحصلُ الالتباسُ لمن لم يكن يتوضأ من هذه الأمة، فإِنه لا تكون له هذه السيماء، فلعلهم يُحرَمُون عن الكوثر. فمن كان له شَغَفٌ ببيانِ الحِكَمِ في الأحكام الشرعية، فهذه حكمة الوضوء.
وقد تكلم الناسُ في حكمة مسح الرأس وكلها لا تستندُ إلى رواية. وقد تبيَّن لي روايةٌ في هذا الباب أخرجها المُنذري في «الترغيب والترهيب» وحاصلها: أنَّ من كان مسح رأسَه في الدنيا لا يكون أشعثَ يوم القيامة، ويكون رأسُه ساكناً، وأمَّا غيره فيكون أشعثَ الرأس.(1/346)
وقد صنَّفَ العلماء في بيان الحِكم تصانيفَ منها: «القواعد الكبرى» للشيخ عزّ الدين الشافعي رحمه الله تعالى، وقِطعة منها موجودة عندِي ومنها: «حجة الله البالغة» للشَّاه ولي الله رحمه الله تعالى وغيرهما. ثم في الفقه إنّ إطالة التحجيل إلى نصف السّاق ونصف السّاعد. ولا أدري في الغرة غير ما عند أبي داود عن علي رضي الله تعالى عنه: «أنَّه توضأ حتى إذا فرغ من وضوئه أخذ غَرْفة من ماء وأفاضه على ناصِيتَهِ، حتى استنّ الماء على صدره ولحيته» واستشْكَلَ عليهم شرحه، فإِنّه في الظاهر زيادةٌ في المِرَار وهو ممنوع، فشرحه بعضهم أنه كان للتبريد أو غير ذلك. وعندي أنّه كان لإِطالة الغرة والله تعالى أعلم بالصواب.
باب لا يَتَوَضَّأُ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيقِن
وفصَّل المالكيةُ فيما إذا شكَّ في الصَّلاة في الوضوء وبعد الوضوء، وذكروا له حكماً حكماً. وأما عندنا فالأمر كما في الفقه.
137 - قوله: (حتى يسمعَ صوتاً)... إلخ كنايةٌ عن تيقنِ الحَدَث، وإليه أشار البخاري في الترجمة وقد استوفينا الكلام في الفَرْق بين الكناية والمجاز في المقدمة، وهو مهمٌ فراجعه، وسيجيء أبسط منه في الشرح.
باب التَّخْفِيفِ فِي الوُضُوء
يريدُ به ضبطَ الغُسل في الوضوء شيئاً، وهو عسيرٌ، فأتىَ بلفظ التخفيف. وهو قد يكونُ باعتبار المياه، وقد يكون بحسب المِرَّار.
138 - قوله: (نام حتى نفخ) والمراد من النوم، إمَّا نومُه خلال الصَّلاةِ النافلة، أو بعد الفراغِ عنها قبل سُنّة الفجر، وهو الظاهر.
قوله: (توضأ من شن معلق) قال الحافظ: ولم يَغْسل النبي صلى الله عليه وسلّميديه في هذا الوضوء. والمراد من غسل اليدين هو ما يكون إلى الرُّسغين في ابتداء الوضوء؛ ولا أدري من أين أخذه الحافظ رحمه الله تعالى.(1/347)
138 - قوله: (وضوءاً خفيفاً) والتخفيف في إسالة الماء والتقليل في المِرار. وقد ثبت عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلّمتوضأ في تلك الليلة مرتين: مرة بعد ما أتى حاجته وأراد أَنْ ينامَ ولم يَغْسلْ فيه غير الوجه واليدين، ومرة أخرى حين قام إلى الصَّلاة، ولا أدري أي الوضوءين هو؟ ولعل التخفيفَ والتقليل راجع إلى الوضوءِ الأول، وترجمة المصنَّف رحمه الله تعالى ناهضةٌ على كِلا التقديرين. وعُلِم من هذا الحديث نوعٌ آخرَ من الوضوء، وهو بغسل اليدين والوجه فقط. وإنَّما حدث هذا النوعُ من صنيع القرآن، حيث أشار إلى المصاحبة بين الرأس والرجل، فإِذا سقط أحدهما في وضوءِ النَّوم سقط الآخر أيضاً، فانظر كيف انكشفت المصاحبة، وأنَّ لهذين حُكماً ولهذين حُكَماً، فإِذا غُسِلَ الوجهُ غُسِلت معه اليدان أيضاً، وإذا تُركت وظيفةُ الرأس تركت وظيفة الرِجْل أيضاً.l
ثم اعلم أن ما يأخذه القرآنُ في عُنوانه لا بد أن يكون معمولاً به أيضاً، ولو في أي مرتبة كان، ولا يكون نظرياً وعلمياً فقط كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: 115) فإنه عُنوان عام لم يُردْ به التوجيه إلى كل جهة، ولكنَّه ليس علمياً فقط أيضاً، بل ظهر به العمل في حق النافلة، وكقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَوةَ لِذِكْرِى} (طه: 14)، فإن ظاهره أن تنحصرَ الصَّلاةُ في الذكر، وهو وإن لم يكن معمولاً به في جميع الأحوال، لكنه ليس عقلياً صِرفاً، بل عُمِل به في صلاة الخوف كما نُقِل عن الزهري: أنه إذا تعذَّرت عليه الصلاةُ في الخوف كفى له التكبير. وكما في الفقه أنَّ الحائض تتوضأ وتجلس في وقت صلاتها وتذكر الله عز وجل. فهذا كله عَمَلٌ بعنوان القرآن ولو في مرتبة.(1/348)
والحاصل: أنه لا بد لعنوان القرآن أن يبقى معمولاً به ولو في أي صورة وأي مرتبة، ولمَّا جَعَلَ القرآنُ الوجه واليدين في طرف، والرأس والرِجْل في طرف - مع كون الرجل مغسولاً - لا بد أن يظهرَ لهذين حكمٌ خاصٌّ ولهذين أيضاً. وهو الذي ظهر به العمل في النَّوم والتيمم. وما عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه عند مالكٍ في الوضوء للجنابة من مسح الرأس بدون غسل الرجلين، فغير مُسلَّمٌ عندي ما لم يَثْبُت عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه جمع الثلاثة وترك الرابع، فينبغي أن يُحملَ على الوضوء الكامل، يعني مع غسل الرجلين أيضاً، واختصره الراوي.
138 - قوله: (فحوَّلني فجعلني عن يمينه) وصورته ما عند مسلم فأخذ بيدي من وراء ظهرهِ يعدلُني كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن، وهذا يفيدُك في أنَّ الكراهةَ إذا طرأت في خلال الصَّلاة يجبُ رفعُها فيها.
138 - قوله: (ثم صلى ما شاء الله) وقد علمت اختلافَ الروايات فيه.
قوله: (ثم اضطجع) وفيه تصريح بالاضطجاع. واختُلف في كونه بعد صلاة الليل أو بعد سُنَّة الفجر وليس بسُنَّة؛ ومن اضطجع اتباعاً له صلى الله عليه وسلّميَحْصُل له الأجر إنَّ شاء الله تعالى، ولكنه ليس من السُنَّة في شيء. وتفرد ابن حزم حيث جعله شرطاً لصحةِ صلاة الفجر، ولا دليل له على ذلك، ولكنَّه إذا أَخَذَ جانباً شدد فيه.
138 - قوله: (تنام عينه)... إلخ وهذا مِنْ باب الكيفيات كالكشف، إلا أنَّه في اليقَظَة، والمكشوفُ عليه يرى ما يراه الآخرون في اليقظة. وأما في ليلة التَّعريس فقد أُلقي عليه النَّوم تكويناً وفي الحديث: «إِني أُنَسَّى لأَسُن».(1/349)
138 - قوله: (رؤيا الأنبياء وحي) وقد مرَّ مني أنَّ رؤيا الأنبياء أيضاً يَحْتمل التقسيم الثلاثي. وعلى هذا لا حاجة لي إلى تأويلٍ في قوله: «إنْ لم يكُن من عند الله يمضه» في قِصة رؤياه في عائشة رضي الله عنها. وإنَّما أوَّلَها الشارحون لأنهم قَصَرُوا رؤياه على نحوين فقط، فافهم.
8ظصلى الله عليه وسلّم- قوله: (ثم قرأ: ({إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ}) وقد مرَّ الكلام عليه تحت حديث الوحي، فراجعه.
باب إِسْبَاغِ الوُضُوء
وهو بالتقطير بين الإِسالة والإِسراف، وبالتثليث وبإِطالة الغُرَّة والتَّحْجِيل.
139 - قوله: (ولم يُسِبعْ الوضوء) والمراد منه الوضوء الناقص، أو التقليل في المرات. وكَرِه الفقهاء تَكرَار الوضوء بدون تخلَّلِ عبادة أو تبدُّل مجلس، وقد ذكروه مفصلاً. ولا بأس في تكراره إن كان توضأ وضوءاً كاملاً أيضاً، فإِنَّه تبدل مجلِسُه صلى الله عليه وسلّم أو يقال: إنه لم يكن أسبغ وضوءَه أولاً، فلما بلغ جمعاً ووجد الماء أسبغَ فيه تحصيلاً لأكمل الطهارتين. وكثيراً ما نفعل مثله أيضاً، فنكتفي بالقدر الفرضي عند عِزَّة الماء، فإِذاً نجد الماء وتكون فيه سَعة نعيد الوضوء. لا يقال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلّملم يكن أدَّى قدر الفرض أَوَّلاً لأنا نقول: إن قول الراوي: الصَّلاة يا رسول الله لا يلائمه، فإِنَّه يدل على أنه كان على وضوء يصح به الصَّلاة فالجواب ما ذكرنا.(1/350)
قوله: (الصَّلاة أمامك) وأَخَذَ منه الحنفية أن تأخيرَ المغرب في المزدلفة واجبٌ، لأنه أخر المغرب بلا وجهٍ وجيه، فإنَّ الدفع إلى المزدلفة لا يكون إلا بعد غروب الشمس، فإِذا لم يُصلِّ المغرب مع حضور وقتها، عُلِم أن وقتَ تلك الصلاة تحولَ وقتها المعروفِ وصار وقته ووقت العشاء واحداً في هذا اليوم، وهو معنى قوله: «الصَّلاة أمامك» يعني ليس وقته ههنا. بخلافِ تقديم العصر في عرفة، فإِن، له وجهاً ظاهراً، فشرطوا له شروطاً وقصروه على مورِد النص ولم يوجبوه، فلا يَجْمع في عرفة إلا من يصلى مع الإِمام بشرائطه. أما في الجُمع فيجمع كل من يصلى منفرداً كان أو مصلياً بالجماعة.
ووجه تقديم العصر وتأخير المغرب ترجيحُ العبادة الوقتية، فإِنَّه لما تعارضت العبادتان الصلاة والوقوف وسَّعت الشريعةُ للوقتية ورجحتها على ما كانت وقتها العمر كله. وفَهِم الحنفية أنَّ هذا الجمع ليس أمراً بديعاً، بل هو على شاكلته المعروفة، فحملوه على الجمع للسفر وأنكره الآخرون وحملوه على الجمع للنُسُك.
ثم مِنْ مسائل الجمع الثاني أنه لو صلى أحدٌ المغربَ في عرفة يُعيدها قبل طلوع الفجر من يوم النَّحر، فإِن لم يعدها حتى طلع الفجرُ فإِنَّه لا يُعيدها بعده. وهذه المسألة أيضاً من فروعِ مسألة جوازِ الزيادة بالخبر، فإِنَّه ثبت بالنص القاطع أداءُ الصَّلاة في أوقاتها، وأنَّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً. ومقتضاها اعتبار الصَّلاة التي صُليت في وقتها وعدم إيجاب القضاء عليه. ثم جا خبر الواحد في إيجاب تأخيرها عن وقتها، ومقتضاها إيجاب الإِعادة إن صليت في وقتها المعروف، فلو جَوَّزنا الإِعادةَ بعد الطلوع أيضاً بطلَ عموم الآية الوقتية رأساً.
(1/351)
فقلنا: إنَّه يعيدُها إلى طلوع الفجر لأجل الخبرِ والليلُ باقٍ، ولا يُعيدها بعده لأجل النَّص القاطع، فإِنَّه قد صلاها في وقتها فينبغي أن تعتبر بالنص أيضاً، وبه حصل الجمع بينهما، فلم نهمل الخبر بالكلية ولم نترك الآية بالكلية، بل راعيناهما بقدر ما أمكن. وبعبارة أخرى. إنَّ العمل بالظني - وهو خبر الجمع - إنما يمكن إلى وقت الطُّلوع فقط، لأنَّ وقتَ العشاء باق، فإن أعادها فيه حصل الجمع، وبعد طلوعه يفوت العمل بالظني ولا يمكن الجمع لفوات الوقت، فلا طائل في إيجاب الإِعادة بعده، فإِن قلنا بالإِعادة بعد الطلوع أيضاً لزمَ تركُ القاطع بفوات الظني، وهو غير معقول.
ثم من مسائل الجمع أنَّه لا يُصلِّي بينهما نافلة ولا شيئاً كما في «المناسك» للعارف الجامي. ولم أر تلك المسألة في غير هذا الكتاب. وعند مُسْلِم: فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ، فأسْبَغ الوضوء، ثم أقيمت الصَّلاة فصلَّى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً. وفي بعض الروايات: أنَّهم أناخوا بعيرهم بعد أداء الصلاة. ووجه التوفيق: أنَّ بعضَهم فَعَل كذا. وبعضَهم فعل كذا. ومن مسائله أن الجمعَ في المزدلفة بأذان وإقامة، إلا إذا وقعت الفاصلة بين الصَّلاتين، فإنَّه يقيم للثانية أيضاً كما مَرَّ في رواية مسلم.
باب غَسْلِ الوَجْهِ بِاليَدَينِ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَة
الغُرْفة، كاللُّقمة، بمعنى اسم المفعول. والغَرْفة بالفتح للمرة، وهو الأفصح.
140 - قوله: (فرشَّ على رجله اليمنى) وإنما عبَّر بالرشِّ لأنَّه ضَرَبَ بها على رجله وغسلها شيئاً فشيئاً. وعن ابن عباس رضي الله عنه عند أبي داود: «فأخذ حَفْنَة من ماءٍ فضَرَبَ بها على رِجلِهِ وفيها النَّعل، فَفَتَلَها بها ثُم، الأخرى مثل ذلك». ولعله في واقعة أخرى. وإنَّما نقلتها ليعلم أنَّه قد يحتاج إلى الرشِّ ولا يكفي الإِسالة.(1/352)
باب التَّسْمِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ الوِقَاع
واعلم أنَّه لم يذهب إلى وجوبِ التسمية أحدٌ من الأئمة، إلا ما نُقل عن أحمد رحمه الله تعالى في رواية شاذة، مع ما ثَبَتَ عنه في الترمذي: أنه لم يثبت في هذا الباب شيء. ولذا أقول: لا بدَّ أن يكون في الباب روايةٌ قابلة للعمل عنده، وإن كان في أدنى مراتبِ الحسن، وإلا لم تجىء عنه تلك الرواية. وتفرد الشيخ ابن الهُمَام منا واختار الوجوب وقال: إن الأحاديث فيه لِتَعَاضُدِ بعضها ببعض بلغت مرتبة الحُسن، فانجبر الضَّعفُ بتعدد الطرق. ولعل البخاري أيضاً اختار الوجوب كما اختاره رفيقه في السفر داود الظاهري. وكنت أرى أنَّه ليس رجلاً محققاً، فلما طالعت كتبَه علمتُ أنَّه عالمٌ جليلُ القدر رفيعُ الشأن.
وإنَّما لم يسمَّ الوضوءَ لئلا يكون إشارةً إلى تحسين للأحاديث التي وردت في هذا الباب عنده. وحديث الترمذي ليس قابلاً عنده لترجمته أيضاً، فانْظُر رِفعة المصنِّف رحمه الله تعالى أنَّ ما يخرِّجُه الأئمة تحت أبوابهم لا يذكره المصنِّفُ رحمه الله تعالى في تراجمه، بل لا يحبُ أَنْ يشيرَ إليه أيضاً، مع أن في نيته إثباتُ التسمية عند الوضوء، إلا أنَّه لما لم يكن عنده حديث معتبر في هذا الباب خاصة تمسك من العمومات، وأدخلَ الوضوءَ تحتها، وضمَّ معه الجِمَاع، ليُعلم أن التسمية لما كانت مشروعة قبل الجماع، فأَن تكون قبل الوضوء أولى. فكأنَّه استدلال من النَّظائر.(1/353)
وقد يخطر ببالي أنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى مع كثرة قياساته كيف يُنْكِرُ القياسَ؟ ثم ظهر لي أنَّه يعمل بتنقيح المناط. ولم يُنبه عليه أحد من الشارحين. فالحديث وإن ورد في جزئية واحدةٍ من الجماع لكنه بعد تنقيح المناط صار عاماً، فبوَّبَ بالتسمية في كل حال. قلت: والنَّظر المعنوي يحكمُ بوجوب التسمية في كل حال، فإِنَّ الشيطان لا يزالُ يراقب الإنسان، ولا يجدُ موضعاً إلا ويلقي النقيصةَ فيه فعند الغائط يلعبُ بمقاعِدِ بني آدم، ويَشْتَرِكُ معه في الجماع والأكل، ويُفْسدُ الأواني، ويقطع الصلاةَ إذا لم تكن بين يديه سترة، ويوسوس في الوضوء، ويجلس على خَيَاشِيْمِهِ عند النوم، ويَضْحَكُ منه إذا قال في صلاته: «ها» إلى غير ذلك من مفاسده التي أَخْبَر بها الشرع. والمخلَّصُ هو التسميةُ لا غير.
ثم الذي يتضح: أنَّ الوجوب والحُرْمة لا يترتبان على الأنظار المعنوية، بل إنَّما يتعلقان بأمر الشارع ونهيه، فإِذا لحَقَهُ أمرُ الشارع أو نهيُه يكون واجباً أو حراماً. ولا شك أن الواجباتِ كلها تشتملُ على المنافع والمحرمات بأسرها على المضار، إلا أنَّه لا يلزمُ عكسه. ورُبَّ شيءٍ يكون مُضراً ثم لا يحرِّمُه الشارع شفقة على النَّاس ورحمة لهم، ورُبَّ شيءٍ يكون فيه منفعةً عظيمةً ثم لا يأمرُ به الشرع. نعم، يكون له صلوح للأمر، كالنوم حالة الجَنَابة، فإِنه لا تحضر جنازته ملائكة الله، وأي ضَرَرٍ أعظمُ منه؟ إلا أنه لم يوجب عليه غُسلاً تيسيراً له، وإنَّ الدين يُسرٌ.
(1/354)
141 - قوله: (لم يضره) ويتعين في مثله الضم إذا لحقه ضمير، صرح به سِيْبَوَيهٍ، ولا يجري فيه الوجوه الثلاثة كما في: لم يمد. قيل: المراد من الضرر صَرَعُ الصبيان، لا يقال: إنَّا قد نشاهدُ المضرَّة مع قراءة التسمية أيضاً، لأنَّا نقول: هذا بيان لبركة اسم الله. ومع هذا هناك شرائط وموانع لم تذكر، فإذا تحققت التسميةُ بوجودِ تلك الشرائطِ وارتفاع الموانع لا يكون إلا كما أخبرَ به الشرع، ولا يتخلفُ عنه الحكم البتَةَ.
باب مَا يَقُولُ عِنْدَ الخَلاء
باب وَضْعِ المَاءِ عِنْدَ الخَلاء
قد يُتوهم في أبوابه سُوءُ ترتيبٍ، فإنَّه أدخَلَ الاستنجاء خلال أحكام الوضوءِ، مع أن مقتضى الترتيب أن يذكرَها مقدَّماً على أحكام الوضوء. قلت: بل هو ترتيب حَسَنٌ جيدٌ، لأنَّه لما قدمَ الوضوءَ وكان هو الطريق المسلوك في تصانيفهم أراد أن يتعرض إلى حقيقة الوضوء شيئاً، فَذَكَرَ أولاً بعض أحكامِهِ لتعيين مِسمَّاه لا غير، كبحث الفقهاءِ أنَّ أيِّ قدرٍ من استعمال الماء يُسمَّى غَسْلاً، فذكر أولاً فضله وهو مقدمٌ على بيان الحقيقة. ثم توجَّه إلى بيانِ أنه شيءٌ لا يجبُ بالشك، ثم نزل إلى بيان التخفيف والإِسباغ فيه؛ ولا بحث فيه من الأعضاء الأربعة، لأنَّ التخفيفَ والإِسباغَ يجريان في عضو واحدٍ أيضاً. ثم تَعرَّض إلى غسل الوجه لمزيد تعيينها، حتى إذا بلغ إلى التسميةِ وتقررت حقيقتُه في الأذهان، انتقل إلى الترتيب الحسي، فذكر ما كان مقدَّما في الحس وهو آداب الخلاء، فهذه الأبوابُ تترى في بيان مُسمَّاه وتحقيقِ حقيقتِهِ، لا في بيان أحكام الوضوء.(1/355)
ثم إنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى أتى في المتابعة بلفظ: «أراد» إشارة إلى أنَّ هذا الدعاء إنما هو عند الإِرادة قبل دخول الخلاء، لا بعد الدخولِ فيه كما يتُوهم من ظاهرِ لفظه. قلت: ورَوى المصنِّف رحمه الله تعالى في «الأدب المفرد» بلفظ: «إذا أراد الدخول». صراحةً.
باب لا تُسْتَقْبلُ القِبْلَةُ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، إِلا عَنْدَ البِنَاءِ، جِدَارٍ أَوْ نَحْوِه
باب مَنْ تَبَرَّزَ عَلَى لَبِنَتَين
قالوا: إن الحديثَ لأهل المدينةِ ولمن كانت قِبلتُهم على سَمِتْهم. ثم إن الظاهر أن البخاري اختار مذهب الشافعي ومالك رحمهما الله تعالى، ولا يُدرى أنَّه اختار تفاصيلهم وفروعَهم في تلك المسألة أيضاً أم لا؟ أما استثناءُ المصنِّف رحمه الله تعالى فمأخوذٌ من حديث ابن عمر رضي الله عنه عندي، وليس مأخوذاً من حديث أبي أيوب رضي الله عنه كما تكلَّفَ فيه بعضهم، فقال: إن الغائطَ يقال للصحراء والفضاء، فكأن هذا الحديث لم يَرِد في البُنيان، وإنما جاء فيما ذهب لحاجّه إلى الصحارَى والفيافي. قلت: بل الغائطُ في اللغة للأرض المطمئنة والمنخفضة، وإنما كانوا يتحرَّون مكاناً منخفضاً ليحصلَ التسترُ، وهكذا العمل في أهل البوادي إلى يومنا هذا.(1/356)
وحينئذٍ صار الحديثُ حجة لنا بعدما كان حجة علينا، لأن الانخفاض يكون كالبنيان كما فعل ابن عمر رضي الله عنه فأناخ راحلته وبال إليها. ثم إن الراوي فَهِمَ غير ما فَهِموه، فعنه عند الترمذي: «فقدِمْنَا الشام - فوجدنا مراحيضَ قد بُنِيَت مستَقبَلَ القِبْلة فننحرف عنها ونستغفر الله» فهذا أبو أيوب جعل النهي على عمومه، البُنيانَ والصحارى سواء. ومن العجائب ما نسب ابن بَطَّال إلى البخاري أنه ليس في المشرق والمغرب عنده قبلةً على البسيطة كلها. قلت: وكيف نَسَبَه إليه مع أن أهل بخارى إنما يصلون إلى المغرب؟ فهل خَفِيَ على مثلِ البخاري قبلتَه مدَّة عُمُره؟ وإنما تَوهَّم من عبارته في أبواب القِبلة ليس في المشرق ولا في المغرب قبلةً وسيجيء شرحه في موضعه.
واعلم أن المذاهبَ في هذا الباب عديدةٌ ذكرها العلماء، ونذكر ههنا مذاهب الأئمة الأربعة فقط:
فمذهب الإِمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: كراهة الاستقبال والاستدبار في البناء والفضاء تحريماً. وهو إحدى الروايتين عن أحمد. والرواية الأخرى عنه جواز الاستدبار مطلقاً مع كراهة الاستقبال مطلقاً. وهو رواية عن أبي حنيفة كما في «الهداية». وفي «النهر الفائق» قيل: إنه كُرِه تنزيهاً، ومثله في «المسوى» «والمصفى».
ومذهب الشافعي ومالك رحمهما الله تعالى كراهتهما في الفيافي دون البنيان، فكأنَّهما فرَّقا في حكم الفيافى والبنيان، ولم يفرقا بين الاستقبال والاستدبار على خلاف ما رُوِيَ عن أحمد رحمه الله تعالى، فإِنَّه فَصَل بين الاستقبال والاستدبار، ورأى أمرهما في الكُنُف والصحارَى سواء، ولم يعرج إلى تفصيل بين الصحراء والبناء. وحجة أبي حنيفة رحمه الله تعالى في هذا الباب: حديث أبي أيوب رضي الله عنه وهو أصرحُ وأصحُّ وأنص وأمس بالمقام.
(1/357)
وحجتهم إجمالاً: حديث ابن عمر رضي الله عنه، وجابر رضي الله عنه عند الترمذي، وحديث عِرَاك عند ابن ماجه. أمَّا حديث ابن عمر رضي الله عنه فلفظه: قال: رقيتُ يوماً على بيت حفصة رضي الله عنها فرأيت النبي صلى الله عليه وسلّمعلى حاجته مستقبلا لشام مستدبرَ الكعبة. وأما حديث جابر رضي الله عنه فلفظه: قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلّمأن نستقبلَ القِبلة ببول، فرأيته قبل أَنْ يُقبَضَ بعامٍ يستقبلُها. وأما حديث عِرَاك فلفظه على ما رواه ابن ماجه عن خالد الحَذَّاء، عن خالد بن أبي الصَّلْت، عن عِرَاك بن مالك عن عائشة قالت: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلّمقوم يكرهون أَنْ يستقبلوا بفروجهم، فقال: «أَرَاهم قد فَعَلوها، استَقْبِلُوا بمقَعَدَتِي القِبْلَة».
وأجابَ الحنفية عن حديث ابن عمر رضي الله عنه وجابر رضي الله عنه أنهما فعلان، والفعل لا يعارضُ القولَ، كما بُسِط في الأصول. قلت: ولا أحبُّ هذا العنوان لأن فِعلَه صلى الله عليه وسلّمأيضاً حجةٌ كقوله، فغيرتُه إلى أنهما حكايتا حالٍ لا عموم لهما. وحديث أبي أيوب نصٌ في الباب، وتشريعٌ في المسألة، وحكمٌ على وصفٍ معلومٍ منضبط. وهذه الأحاديث لم يُعلم سببُها بعدُ، فكيف يُترك ما هو معلومُ السبب بما جُهِل سببه؟ وكيف يُهدر الناطق بالساكت.
ثم نظمت هذا الجواب وقلت:
*يا مَنْ يُؤَمّل أن تكو ** ن له سمات قَبُوله
*خذ بالأصول ومن نصو ** ص نَبِيِّهِ ورَسُولِه
*نصاً على سبب أتى ** بالساكت المجهوله
*دَعْ ما يفوتك وجهه ** بالبَيِّنِ المنقوله
*وخُذِ الكلام بغَوره ** لا عَرضِه أو طُولِه
*ليس الوقائع في شرا ** ئعه كمثل أُصُوله(1/358)
*لِتَطَرُّقِ الأعذارِ في ** فعلٍ خلافِ أُصُولِه وحاصله: أن ما رآه ابن عمر ورواه لا يُدرى أنه كان لنسخ النهي به أو لتخصيصِهِ بالبُنيان، أو لعذرٍ اقتضاه المكان، أو كان بياناً للنهي أنه ليس للتحريم. مع أنَّ نظَرَهُ في هذا الحال لا يمكِنُ أَنْ يكون محققاً، بل لا بد أن يكونَ ارتجالاً. ومن يجترىءُ على رسول الله صلى الله عليه وسلّمفَينْظُرَه في هذا الحال إلا أن يكون ساهياً أو خاطئاً.
وهو عند الطحاوي أيضاً أنَّه رآه محجوباً عليه بِلَبِنٍ، فحينئذٍ كثُر ما يمكن أن يكون رأى منه صلى الله عليه وسلّموهو في هذا الحال، رأسه الشريف فقط، مع أن العبرة فيه للعضو دون الصدر، فأمكن أن يكون منحرفاً بعضوه ومستقبلاً بوجهه وصدره، ثم لو سلمناه فما الدليل على أن استقبالَه صلى الله عليه وسلّمكان يُبنى على ما فَهِمَهُ ابن عمر رضي الله عنه؟ وإنَّما هو اجتهادُه وفهمُه وظنه، وليس عنده غيرَ تلك الرؤية المشتبهة شيء، وقد عارضه فهمَ أبي أيوب رضي الله عنه كما علمت، على أنَّ في حديث ابن عمر رضي الله عنه شيئاً آخر ذَكَرَهُ أحمد رحمه الله تعالى كما في العيني، ولم أكن أفهمُ مرادَه إلى زمان ولم ينتقل إليه أذهان عامتهم، وبعده يخرجُ حديثُه عما نحن فيه رأساً وينتقل إلى باب آخر.
وهو: أنَّ محطَّ حديثه المعارضةُ بمن رأى الكراهة في استقبال بيت المقدس، ولا بحث له عن استقبال البيت قصداً، ويتضحُ ذلك من سياقٍ سَاقه مسلمٌ عن عمه واسع بن حَبان قال: كنت أصلي في المسجد وعبد الله بن عمر مسنِدٌ ظهرَه إلى القبلة، فلما قضيت صلاتي انصرفت إليه من شقي، فقال عبد الله: يقول ناس إذا قعدت لحاجة تكون لك فلا تقعد مستقبلَ القِبلة ولا بيتَ المقدس. انتهى.(1/359)
فهذا يدلُّ صراحةً على أنَّ كلامَه إنما هو مع من كان يكره استقبال بيت المقدس ويعدّه كالقبلة. وقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلّمفي النَّهي عن الاستقبال بهما أيضاً، فعند أبي داود عن مَعقِل بن أبي معقل الأسدي قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّمأن نستقبلَ القِبلتين ببولٍ أو غائطْ فابن عمر رضي الله عنه إنما يُعارضُ بمن يعد كراهة استقبالِ بيت المقدس أيضاً كالبيت، ولا تعلق له بمسألة البيت قصداً، ولذا تعرَّض عند بيان رؤيته إلى بيت المقدس فقط.j
وما في بعض الروايات: مستدبرَ الكعبة، فهو لزوميٌّ ويُبنى على تحقيق السَّمت. وكونُهما على طرفين بحيث يُوجب استقبالُ أحدهما استدبار الآخر، وذلك غير معلوم. وإنما أراد به ابن عمر رضي الله عنه التقريبَ وما يَتَرَاءى في بادىء النظر فقط، ومسألة الاستدبار والاستقبال تُبنى على تحقيق ذلك السَّمت في نفس الأمر، ولا تتحققُ إلا أن يحقِّقَها علماء الجغرافيا كذلك. وعرض البلدتين مكة وبيت المقدس يختلف على أنَّه لا يرد علينا، لِمَا مرت رواية عن الإِمام في جواز الاستدبار.
قلت: والأحسن عندي أن يُجمع بين روايات الإِمام أيضاً، كما يُجمع بين الأحاديث، فتقام المراتبُ ويقال: إنَّ كراهةَ الاستقبالِ أشدُّ من كراهة الاستدبار، وبه حصل الجمعُ بين الروايتين.
وأما حديث جابر رضي الله عنه ففيه بعض ما مرَّ في حديث ابن عمر رضي الله عنه، مع أنَّ الظاهر أن رؤيتَه كانت في سفر من أسفارِه في الصحارَى دون البنيان، لأنه لم تكن له قَرَابة من النبي صلى الله عليه وسلّمليكون طَوَافَه على النبي صلى الله عليه وسلّمكأهل البيت، فالظاهرُ أَنْ يكون رآه في الصحارَى، وهذا خلافُ ما رَامه الشافعية رحمهم الله تعالى.(1/360)
وأجابَ عنهما بعضهم أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمكان أفضلُ من البيت قطعاً، فجاز له الاستقبال والاستدبار خاصة، بخلاف سائر الأمة. قلت: ومما ينبغي أن يُعلم أن الطريقَ المختارَ عند الجواب أن يُستشهدَ بأمر خاص رُوي في هذا الباب بعينه دون التمسكِ بالعمومات، وكونه صلى الله عليه وسلّمأفضلُ من البيت أمرٌ عامٌ، فالتمسك به على جواز الاستقبال والاستدبار غير مَرْضِيٍ عندي ما لم يؤت بخصائصه التي رُويت في هذا الباب بعينه، لأنه يجوز أن يقال: إن أفضليته إنما ظهرت في عالم التكوين، أما في المسائل فلم تظهر بعدُ، فإِنه مأمورٌ بالاستقبال كسائر الناس، وكثيرٍ من أحكامه في التشريع مثلَ أمته.
فالوجه عندي في تقريره أنَّه محمولٌ على خصوصيتِهِ صلى الله عليه وسلّم لكِنْ لا لكونه أفضل، بل لكونه مختصاً ببعض الأحكام مِنْ هذا الباب. فإِذا علمنا خصوصيتَه في هذا الباب هَان علينا أن نحمل استقباله أيضاً على الخصوصية. ومما وجدنا من خصائصه في هذا الباب ما في «المواهب»، عن الدارقطني: أن عائشة رضي الله عنها سألت النّبي صلى الله عليه وسلّم إنا لا نجدُ في خلائك شيئاً يا رسول الله قال: «أَمَا تعلمِ أنَّ الأرض تبلغ عَذِرات الأنبياء». وأسناده قوي بالمعنى . وعند الترمذي في المناقب أنه قال لعلي رضي الله عنه: «لا يجوز لأحدٍ أن يجنبَ في المسجد غير وغيرك» أي يمرُّ في المسجد جنباً، وحسَّنه الترمذي، وتصدى إليه ابن الجوزي فأدخله في الموضوعات فَهْمَاً منه أن الروافضَ لما رأوا فضيلة أبي بكر رضي الله عنه في إبقاء خَوْختِهِ خاصّة، أرادوا أن يتخرعوا له خصوصية أيضاً، فوضعوا له هذا الحديث. وردَّه الحفاظُ وقالوا: الحديث قوي.(1/361)
ثم ما زلت أتفكرُ في وجه الإِباحة لهما خاصة وأقول: لعلهما لم يكن لهما طريق إلا من المسجد. ثم رأيتُ في «السيرة المحمدية» أَنَّ موسى وهارون عليهما الصلاة والسَّلام لِمَّا بنيا المسجد في مصر أعلنا أَنْ لا يَقْعُدَ في المسجد جنباً غيرهما، فتبين لي أنَّ جواز الدخول جنباً لِمَّا مِنْ خصائص النبوة، ولذا تحت الخصائص ذكره صاحب «السيرة». وعلى هذا أقول: إنَّ مرورَه صلى الله عليه وسلّممن المسجد جُنباً أيضاً من هذا الباب، وليس من عدم وجدانه طريقاً آخر، وإنَّما رخَّص لعليٍ رضي الله عنه مع عدم نبوته، لما في الصِّحَاح: «أنت مِنِّي بمنزلة هَارونَ من موسى»... إلخ.
فلمَّا كان عليٌ رضي الله عنه بمنزلة هارون منه أباحَ له أيضاً ما أَبيح له، ثم صرَّح بقوله: «إلا إنه لا نبي بعدي»، أَنَّه لا ينبأَ بعده أحدٌ لئلا يُختَدَع منه دجَّال من أمته فيضل الناس بغير علم، كما وقع لميرزا غلام أحمد القادياني فادَّعى النبوةَ وجعله أمه الهاوية. وتمسك من مثل هذه الأحاديث مع صَدْعها بخلافه، لعنه الله.
ثم مسألةُ طهارة فَضَلات الأنبياء توجد في كتُب المذاهب الأربعة، ولَكِنْ لا نَقْلَ فيها عندي عن الأئمة إلا ما في «المواهب» عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى نقلاً عن العيني، ولكنِّي ما وجدتُه في العيني. وفي «كَنْزِ العمال» أنَّ أجساد الأنبياء نابتةٌ على أجساد الملائكة. وإسناده ضعيف. ومرادُه أن حالَ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام في حياتهم كحال الملائكة، بخلاف عامة الناس فإنَّ ذلك حالَهم في الجنة، فلا تكون فضلاتهم غير رَشَحَات عَرَقٍ.
(1/362)
والحاصل: أنَّ هذه عدة خصائصه تتعلقُ بأحكام الخَلاء جنساً أو نوعاً، فليكن الاستقبال أيضاً من خصائصه كأخواته هذه، وهذه الطريق أقرب من ادِّعاء الخصوصية أوَّلاً، فإِنَّ الذهنِّ إذا تصوَّر بعض خصائصِهِ من هذا الباب تيسر له أن يقيسَ عليها الأخرى ويُلحِقَها معها.
وأما حديث عِرَاك فقد استُشْكِل جوابهُ على النَّاس، فنازع بعضُهم في وصلِه وإرساله. فنُقل عن ابن أبي حاتم في «المراسيل» أَنَّ أحمد أَعَلَّهُ وقال: إن عِرَاكاً لم يسمع من عائشة رضي الله عنها. وأجيبَ أن مسلماً أثبت وأَخْرَجَ في «صحيحه» حديثَه عن عائشة رضي الله عنها من رواية يزيد بن أبي زياد مولى ابن عباس عن عِرَاك عن عائشة رضي الله عنها: جاءتني مسكينةٌ تحمِلُ ابنتين لها... إلخ.
قُلْتُ: أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أولى بالاتباع في هذا الباب، فهذا الحديثُ وإن كان صحيحاً عند مسلم لكنه معلولٌ عند أحمد. وقال الذهبي في ترجمة خالد بن أبي الصَّلْت: أنه منكرٌ. وصَحَّحَ البخاري وقفَه، ثُمَّ إن خالداً هذا جعفر بن ربيعة الضابط والحجة في عِرَاك، فإنَّه رواه عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تُنكر ذلك ولم يرفعه، وأوضح القرائن على وقفِهِ أَنَّه حَدَثَ بمجلس عمر بن عبد العزيز، عن عِرَاك، عن عائشة رضي الله عنها فلم يَعمَل به.(1/363)
رواها الدارقطني من طريق هارون بن عبد الله، والبيهقي من طريق يحيى بن أبي طالب كلاهما عن علي بن عاصم حدثنا: خالد الحَذَّاء، عن خالد بن أبي الصَّلْت قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز في خلافته وعنده عِرَاك بن مالك، فقال عمر: ما استقبلتُ القِبلة ولا استدبرتُها منذ كذا وكذا، فقال عِرَاك: حدثتني عائشة رضي الله عنها أمْ المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّملما بَلَغَهُ قولُ النَّاس في ذلك أمر بمقعدتِهِ فاستقبل القِبْلة، وهو عند الطحاوي أيضاً. ومع ذلك لم يعمل به عمر بن عبد العزيز، حتى إن مذهبه أن التَّفْل في جهة القبلة حرام، فكيف بالغائط وما ذلك إلا أَنَّه رآه موقوفاً.
ثم إن الحديث أجنبي في الباب ولا يرتبطُ مما رُويَ عنه صلى الله عليه وسلّمفي هذا الباب، لأنَّه لا يخلو إمَّا أَنْ يكون مقدَّماً على حديث أبي أيوب أو متأخراً عنه، فإنْ كان الأول فقد نَسَخَه حديث أبي أيوب، وإن كان الثاني فلا معنى لإنكارِه عليهم بعد الأمر به بنفسه، ولا يتعقل عاقلٌ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمنَهَاهم عن الاستقبال والاستدبار أولاً، ثم تعجَّب عليهم حين امتثلوا بأمره وانتهوا عن نهيه، فهذا الحديث يدل على كونه موقوفاً. وإِنما الأمر أنَّ عائشة رضي الله عنها هي التي تعجبت من فعلهم، ثم أمرتهم بما أُمِرَت، وليس ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلّمإِنْ شاء الله تعالى. ولعلَّ الدارقطني قد عدَّه من أفرادِهِ لمثل هذا.
(1/364)
ثم اعلم أنهم اختلفوا في معنى النَّهي ما هو، ليُعلَّم أن التفصيلَ في النهي أولى أو الإطلاق. فقال قائل: هو إكرام الملائكة وقيل: حرمة المصلين، وقيل: احترام القِبلة. وأيَّد ابن العربي الثالث بخمسة أوجه ذَكَرها في الشرح مفصَّلة. والظاهر أنَّ المعنى هو احترام القِبلة، لأنَّه نص عليه من جانبه، وقال: لا تستقبلوا القبلة... إلخ. فذكره بلفظه وأشار إلى أن النهي لأجله، ولذا أباحهما، لأنَّ التغوطَ في هاتين لا ينافي معنى الاحترام، فقد أخذه طرداً وعكساً وأدار عليه النهيُ والإِباحة كيف والقِبلةُ يوجه إليها عند الصَّلاة، فلا يُستقبل بها عند الغائط؟
ثم إنَّ العيني تمسَّك للمذهب مما أخرجه ابن حِبَّان في «صحيحه» من حديث حذيفة مرفوعاً: «من تفل تُجاه القِبْلة جاء يوم القيامة وتفلُه بين عينيه» وإذا كان حال التَّفْل هذا، فما بال الغائط؟ قلت: وهذا المضمون يوجدُ في عامة الكتُب مقيداً بقيدِ الصَّلاة وفيه: «فإنَّ ربَّه بينه وبين القِبْلة» فتردد النظرُ فيه أنَّ هذه المعاملةَ دائمةٌ أو تقتصرُ على حال كونِهِ في الصَّلاة فقط؟ واختار أبو عمرو أنَّه مستمر في جميع الأحوال.
ونقله الحافظ رحمه الله تعالى في «الفتح» واعتراه النسيان، لأنَّه يسقط به تفصيل الفيافي والبُنيان، ويبقى النَّهي على إطلاقه كما كان. نعم، لو ثبت أنه مقتصرٌ على حين الصلاة فقط، ولا يستمر في جميع الأحوال - لو هي استدلال العيني رحمه الله تعالى به والوجدان - يحكمُ أنه مستمرٌ، لكنه لا نقل عندي. وليكَن أخر الكلام أني لم أجد في أحدٍ من المرفوع التفصيل الذي ذهب إليه الآخرون، غير ما في هاتين الواقعتين مع ما فيهما وقد علمت حاله.(1/365)
144 - قوله: (شرِّقوا أو غربوا) واستنبطَ منه الغزالي أنَّ العالم منقسمٌ على الجهات الأربعة، وأنَّ المعتبر في الاستقبال هو الجهة. قلت: مسألةُ استقبالِ الجهة أو العين لا ترجِعُ إلى كثير طائل. ومبناها عندي على العُرف فقط دون الدقائق الهندسية، فإِنهم قالوا: إن المعتبرَ فيمن كان يشاهدُ البيتَ هو العين، ولمن كان بعيداً منه هو الجهة. ثم قالوا: إنَّ المعتبر في المُسَامتة وصولُ خطٍ خارج من جهة المصلى إلى البيت، فما دام أمكنَ أن يصلَ خطٌ بينه وبين البيت تصح صلاته، وإلا لا. قلت: وهذا في حق البعيد، أمَّا من كان قريباً فيمكن وصولُ الخطِّ مع الانحراف أيضاً، مع أنَّه لا تجوز صلاته، فَآل الأمرُ إلى العِرفِ. وقد طالعت له أسفاراً وزبراً. وما قاله المَقْرِيزي فلم أجد المقال يرجع إلى طائلٍ، فالتحقيق أنَّ الاستقبال لا يتوقف على البراهين الهندسية، بل يرجع إلى العُرف.
(1/366)
145 - قوله: (يُصَلَّونَ على أَوْرَاكِهم) وهنَّ النِّساء، وهو كناية عن عدم عِلْمِه بالمسائل. وتصدى الناس في بيان مناسبته مما قبله. قلت: إنه تعريض إلى وَاسع بن حَبَّان بأنك تتعجبُ من جلوسي مستدبرَ القبلة، وإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّممستدبراً قاعداً لحاجته، كما يتضح من سياق مسلم، ولفظه عن واسع: كنت أصلي في المسجد وعبد الله بن عمر رضي الله عنه مسندٌ ظهرَه إلى القِبلة، فلما قَضَيت صلاتي انصرفت إليه من شقى فقال عبد الله: يقول ناس... إلخ. وقال الحافظ رحمه الله تعالى: لأجلِ هذا الحديث أنَّ ابن عمر رضي الله عنه لعلَّه رأى منه في حال سجودِهِ شيئاً لم يتحقق عنده، فقدَّمها على ذلك الأمرِ المظنون ولا بعدُ أن يكونَ قريبُ عهدٍ بقولِ من نَقَلَ عنهم ما نقل، فأحبَّ أن يعرِّفه هذا الحكم لينقله عنه، على أَنَّه لا يمتنعُ إبداء مناسبةٍ بين هاتين المسألتين، بأن يُقال: لعل الذي يسجد وهو لاصقٌ بطنَه بوَرِكيه كان يظنُّ امتناعَ استقبالِ القبلة بفرجه على كل حال، فأشار ابن عمر رضي الله عنه إلى أنَّ السترَ بالثياب كافٍ، كما أنَّ الجدارَ كافٍ في كونه حائلاً بين العورة والقِبلة. ا ه.
(1/367)
145 - قوله: (يُصَلَّونَ على أَوْرَاكِهم) وهنَّ النِّساء، وهو كناية عن عدم عِلْمِه بالمسائل. وتصدى الناس في بيان مناسبته مما قبله. قلت: إنه تعريض إلى وَاسع بن حَبَّان بأنك تتعجبُ من جلوسي مستدبرَ القبلة، وإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّممستدبراً قاعداً لحاجته، كما يتضح من سياق مسلم، ولفظه عن واسع: كنت أصلي في المسجد وعبد الله بن عمر رضي الله عنه مسندٌ ظهرَه إلى القِبلة، فلما قَضَيت صلاتي انصرفت إليه من شقى فقال عبد الله: يقول ناس... إلخ. وقال الحافظ رحمه الله تعالى: لأجلِ هذا الحديث أنَّ ابن عمر رضي الله عنه لعلَّه رأى منه في حال سجودِهِ شيئاً لم يتحقق عنده، فقدَّمها على ذلك الأمرِ المظنون ولا بعدُ أن يكونَ قريبُ عهدٍ بقولِ من نَقَلَ عنهم ما نقل، فأحبَّ أن يعرِّفه هذا الحكم لينقله عنه، على أَنَّه لا يمتنعُ إبداء مناسبةٍ بين هاتين المسألتين، بأن يُقال: لعل الذي يسجد وهو لاصقٌ بطنَه بوَرِكيه كان يظنُّ امتناعَ استقبالِ القبلة بفرجه على كل حال، فأشار ابن عمر رضي الله عنه إلى أنَّ السترَ بالثياب كافٍ، كما أنَّ الجدارَ كافٍ في كونه حائلاً بين العورة والقِبلة. ا ه.
باب خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى البَرَاز(1/368)
قوله: (كن يخرجن) وعُلم منه أنهنَّ لم يكنَّ يخرجن في النهار قبل نزول الحجاب أيضاً. وفي المقام إشكالات عديدة: الأول: أنه يُعلم من رواية الباب أنَّ سَوْدَة رضي الله عنها خرجت قبل أن ينزلَ الحجاب، ثم قال عمر رضي الله عنه ما قال، وبعده نَزَلَ الحجاب، ويعلم مما أخرجه المصنف رحمه الله تعالى في التفسير أنها خرجت بعد ما ضُرِب الحجاب، مع أنَّ الرواية متسحدةٌ متناً وسنداً. وأجاب عنه الحافظ بتقسيم الحجاب، فمنه ما يكون بإدناء النِّقَاب عند الخروج وأُسمِّيه حجاب الوجوه. والثاني: أسميه حجاب الأشخاص. فما في الباب محمولٌ على خروجها قبل نزول حجابِ الأشخاص، وما في التفسير محمولٌ على خروجها بعد نُزُولِ حجاب الوجوه فصحَّ الأمران.
قلت: ولي فيه نظر، لأنَّ حديثَ البابِ يدُل على أنَّ عمر رضي الله عنه كان يحب التضييق، ولذا قال: قد عرفناكِ يا سوردُ رضي الله عنها حِرْصاً على أن يُنزلَ حكمُ الحجابِ أضيقَ منه. وحينئذ فالظاهر من قوله: «فأَنْزَلَ اللهاُ الحجاب» أَنْ يكونَ نَزَلَ التضييق كما أراده، لأنَّ الحجابَ يعدّه عمر رضي الله عنه مما وافق فيه ربه كما في البخاري. ومعلوم أنه لم يكن يحبُ إلا التضييق، مع أنه نَزَل فيه التوسيع. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم «قد أُذنَ لكُنَّ»... إلخ. كما في الرواية التي بعدها فهذا لا يتربط من السياق، لأن قوله: «فأنزل الله الحجاب»، يُشعر بنزول التضييق والرواية الأخرى بعدها تدل على إذن الخروج، وكذا لا يلتئمُ بقول عمر رضي الله عنه: وافقت ربي في الحجاب، فإِنَّ ربه خَالَفَه فيه ولم يُنزِل فيه التضييق كما أراد، فما معنى الموافقة؟(1/369)
فالوجه عندي أنَّ الروايَ قدَّم وأَخَّر هنا في سرد القِصة، والصحيح كما في التفسير أنَّها خرجت بعدَ نُزُول الحجاب. كان عمر رضي الله عنه يحبُّ حجاب الشخص فلم يوافقه الوحي فيه، وإنما عدَّ الحجاب من مُوَافقاتِهِ لنزول حِصة منه على وَفْقِ رأيه. ثم إنَّ قوله صلى الله عليه وسلّم «قد أَذن لكُنَّ» لم يكُن مستفاداً من الآية، بل لعله كان من وحيٍ غير متلوٍ أو استنباط منه. ولذا لم يذكر نزول آية هناك.
وسياقه في التفسير هكذا: عن عائشة رضي الله عنها قالت: خَرَجَتْ سَودةُ بعدما ضُرِبَ الحجابُ لحاجتها.... فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة أما والله ما تخفَينَ علينا فأَنْكَفَأت... فقالت: يا رسول إنَّي خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمره: كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه... فقال: «إنَّه قد أُذِنَ لكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لحاجتكنَّ» ففيه تصريح بأنَّها خرجت بعد نزول الحجاب، وليس فيه إِنَّه إذْنَ الخروج كان من وحي متلوٍ، بل يُمكِن أن يكون من وحي غير متلو.
هذا هو الترتيب عندي، فاندفع منه إشكالُ التعارُضِ بين الروايتين، وكذا لم تبق في قوله: «فأنزل الله الحجاب» رِكَّة، لأنَّه مقدَّمٌ في الأصل وإنَّما أخره الراوي فأوهمَ رِكَّةً، وكذا لم يبق في قوله: «قد أُذِنَ لكُنَّ» قلقٌ، لأنَّ الإِذن على هذا التقدير ليس مُستفاداً من جهة الآية شرحاً لها، بل من جهة أخرى، بخلاف ما إذا كان الترتيب كما في رواية الباب، فإِنَّه يدُل على أن الإِذن مستفادٌ من آية الحجاب وأنَّ التوسيع من جهة الوحي فيوهم رِكَّةً، لأن السياقَ يوجبُ نزولَ التضييق وكذا لا يرتبط مع قول عمر رضي الله عنه، فإِن قوله: إذا كان قَبْلَ نزول الحجاب كما في هذه الرواية ونزول الحجاب بعده.(1/370)
فالظاهر أنه نَزَلَ حَسَب رأيه وَوَافقَه الوحي فيه كما في البخاري عنه. وهذا كله لسوءٍ الترتيب، ولو كان الترتيبُ كما في التفسير لم يرد شيءٌ مِنْ هذا. ومن زَاول تصرفات الرواة لا يستبعد ما قلنا. وأمَّا من كان عنده عِلم بدون تجربة فإنَّه يضيق منه، فليكُن هكذا فإِنَّه الأولى بشأنه8 وللحافظ رحمه الله تعالى أن يقول: إن قوله: «فأنزل الله الحجاب» إشارة إلى أن الحجاب الذي نَزَلَ أولاً ولأجله عدَّه عمر من مُوَافقاته لا إلى الحجاب الذي نَزَل الآن، فإِنه لم ينزل في هذه الوَاقعة حجاب الشخص كما كان عمر يحبه ولا شيء.
والإِشكال الثاني: أنَّ هذه الرواية تدل على أن الآيةَ نزلت في قِصة سودة رضي الله عنها. وما عنده في التفسير يدُل على أنها نزلت في وليمة زينب رضي الله عنها. قال الحافظ: إِنَّ هناك واقعة أخرى أيضاً وكلها متقاربة وآخرها واقعةُ زينب رضي الله عنها، وفيها نَزَلت آية الحجاب، إلا أنَّ كلَّها لّما كانت متقاربةً نُسب نزولُها إلى هذه وهذه. قلت: والمتبادر من ألفاظ الأحاديث نزولها في كل منها، لا أنها نزلت في واحد منها ثم نُسب نزولُها إلى الأخرى لتقاربها فلتكن ما في قصة سودة رضي الله عنها غير ما نزلت في قصة زينب، إلا أنَّ الحافظ رحمه الله تعالى أتى برواية صريحة أنَّ الآية التي نزلت في قصة زينب رضي الله عنها هي بعينها نزلت في قصة سَودة رضي الله عنها، وإسنادُه لا بأس به.(1/371)
ثم اعلم أنَّ المشهور بآية الحجاب هي التي نَزَلت في قصة زينب رضي الله عنها، يعني قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِىّ} (الأحزاب: 53) ... إلخ. فلعلها هي الدَّعامة في هذا الباب والبواقي تفاصيلها. وليعلم أن في قصة زينب رضي الله عنها أيضاً إشكالاً، فعن أنس رضي الله عنه أن الحجاب نزل بعدما خرج القومُ حين أراد أَنس رضي الله عنه أن يدخلَ بيته الشريف. وعنه في تلك القِصة أنَّه نَزَل الحجاب ثم خرج القوم.
فإِن قلت: إن الآية التي نزلت في واقعة زينب رضي الله عنها ليس فيها حجابُ الوجوه ولا حجاب الشخص، بل فيها أمرٌ ثالثٌ وهو نهيُ الدخول عليهن. قلت: ويعلم منها بطريق العكس نهي الخروج عليه مع استثنائه عند الحوائج ثم اعلم أن هناك آياتٌ أخرى متعلقةٌ بمسألةِ الحجاب، فمنها: {قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَرِهِمْ} (النور: 30) إلخ. فحكم الرجال والنساء بغض البصر، ومنها: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ} (الأحزاب: 59). ومنها: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (النور: 31) والجِلباب: هو الرِداء الساتر لجميع البدن، والخِمار: ثوب صغير يُلقى على العمائم، وتجعله النساء على رءوسهنَّ لستر الجيب.
فإن قلت: إن إدناء الجِلباب يُغني عن ضرب الخُمُر على جيوبهن. قلت: بل إدناء الجِلباب فيما إذا خرجت من بيتها لحاجة، وضرب الخُمُر في عامة الأحوال، فضرب الخُمُر أيضاً محتاج إليه. ومنها: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (النور: 31) إلخ. قيل: الزينة هي الوجه والكفان، فيجوز الكشف عند الأمن عن الفتنة على المذهب، وأفتى المتأخرون بسترها لسوء حال الناس. وقيل المراد بها: الزينةُ المكتسبة من الثياب والحُلي، فما ظهرَ منها بعد مُرَاعاة التسترُ يكون عفواً.(1/372)
قلت: وهو المراد عندي، فإِن التي يعدُّونها أهل العرف زينةً هي هذه لا غير، وإليه يشيرُ قوله تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} (النور: 31) أي لئلا تنكشف زينتهم المكتسية. ومنها: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} إلخ (الأحزاب: 33) والخطاب فيها وإن كان خاصاً إلا أن الحكمَ عامٌ، ثم الخروج عند الحوائج ليس من تبرج الجاهلية في شيءٍ، إنما تبرجهم أن يخرجن كالرجال بالوقاحة وعدم التسترُ. فهذه نسق آيات الحجاب عندي والله تعالى أعلم بالصواب.
اطلاع: واعلم أن القَسْطَلاني أوضح مرادَ الحافظ رضي الله عنه في هذا الموضع فراجعه.
باب التَّبَرُّزِ فِي البُيُوت
وإنَّما ترجم البخاري باستثناء الجدار والبناء فيما مر، نظراً إلى هذا الحديث. وإنما لم تنتقل إليه أذهانُ العامة لأنه لم يترجم عليه بذلك. والمصنِّف رضي الله عنه إنما يترجم به على هذا الحديث لأنه قد فرغ عنه مرة وأدرجه فيما سبق.
واعلم أن الاقتصارَ على أحدهما جائزٌ والجمعُ مستحبٌ. وأفتى الشيخ ابن الهُمَام بسنيته في زماننا، لأن الناس لكثرة أكلهم يَثْلِطُون ثلطاً. وقد ثبت الجمع عن عمر رضي الله عنه كما في «الأم» للشافعي رحمه الله تعالى.r
ويُعلم مِنَ الروايات المرفوعة إشارةً أيضاً، كما في حديث المُغيرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمذهب لحاجة ثم جاءَه لطلب الماء، ويُستبعد أَنْ يكونَ النبي صلى الله عليه وسلّمجاءَه ولم يستنج بالحَجَرِ، لأنَّه يوجبُ التلوث والتنجُّس. ثم إذا استنجى بعده بالماء ثبت الجمعُ.(1/373)
باب الاسْتِنْجَاءِ بالمَاء150 - قوله: (غلام) قال الحافظ: إنه ابن مسعود رضي الله عنه. قلت: ولا أدري من أين عيَّنَه الحافظ رحمه الله تعالى، مع أنَّ الغلامَ لا يُطلق على شيخ كبيرِ السن، فإِنَّ كان هو لأجل أنه كان خادمَه، فآخرون أيضاً كانوا يخدمونه بمثله، على أنَّ في روايةٍ لفظ: «غلام من الأنصار» وهو من المهاجرين فالظاهر عندي أنه رجل آخر. والله تعالى أعلم.
باب مَنْ حُمِلَ مَعَهُ المَاءُ لِطُهُورِه
باب حَمْلِ العَنَزَةِ مَعَ المَاءِ فِي الاسْتِنْجَاء
يعني انَّ هذا القدرَ من الإِعانة جائزٌ، فلو حَمَلَ ماءً لمقتدى وَسِعَ له. والصَّبُ أيضاً غير مكروهٍ، وكُرِه دلكه.
قوله: (أليس فيكم)... إلخ وأخذ منه المصنف رحمه الله تعالى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمكان يستخدمُ أصحابه في مثل هذه الأشياء.
قوله: والوسادة وفي بعض النُّسخ: السواد، ومعناه النَّجوى، فإِنه لشِدَّة وروده كان يُعدُّ من أهل بيته، حتى إنه لم يكن له إلى الاستئذان حاجة.
قوله: (حمل العنزة) ده لكرى جس مين شام لكى هو.
باب النَّهْيِ عَن الاسْتِنْجَاءِ باليَمِين
153 - قوله: (فلا يتنفس في الإِناء) بل ينبغي أن يتنفسَ في الخارج، ولذا أقول: إن الشريعة التي تنهى عن التنفُّس كيف تتحملُ الوضوءَ والشُّرب من الماء وفيه لحوم الكلاب والنَّتَن والحِيَضِ.
قوله: (فلا يمس ذكره) واعلم أنَّ المسَّ ظاهرٌ وإنَّما عبَّر بالمسح في استعمال الحجارة على عادتهم، فإنَّ السلف لم يكونوا يستنجون كما يستنجون في بلادنا: من المشي والتَّنَحْنُح لقطع التقطير لكونهم أقوياء، فكان يكفي لأحدهم المسحَ في البول كما في الغائط فحصل الفرقُ بين المس والمسح، ومَنْ غَفَلَ عن عاداتهم يَضْطَرِبُ فيه.
(1/374)
باب لا يُمْسِكُ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ إِذَا بَال
باب ُ الاسْتِنْجَاء بِالحِجَارَة
نَقَّحَ منَاطَه أبو حنيفة رضي الله عنه بكل شيءٍ طاهرٍ تَافهٍ قالعٍ للنجاسة وعمم، مع أنه لا يرد في الحديث إلا الحجارة، وقد علمتَ أنَّ تنقِيحَ المناط يجري في المنصوص أيضاً وعلمتَ أيضاً أن طريقَ تعليمِ صاحبَ النبوة هو التعليم بالعمل، فما أراد أَنْ يُعَلِّمَ أمَّتَه عَمِلَ به وأمرَهم باقتدائه، لا بأن يهيىءَ عبارةً مطردةً منعكسة ثم يُعرضها على الناس، فإنه طريقٌ مُحدَثٌ غير فِطري فاستعمل الحجارةَ على عادتهم ولكونها سهلةُ الوصول، وكان الغرضُ أعم منه، وذهب داودٌ الظاهري أن غيرها لا يُجزىءُ عنه.
155 - قوله: (وكان لا يلتفت) هذا من الآداب. قوله: (استنفض) أراد به إزالة النجاسة.
باب لا يُسْتَنْجى بِرَوْث
156 - قوله: (ليس أبو عُبيدة ذَكَرَه) مع أنَّ الترمذيَّ رجَّحَه وخالف فيه شيخَه البخاري، وادَّعى أنَّ حديثَ أبي إسحاق عن أبي عُبيدة عن عبد الله... إلخ أصحُّ عنده من حديث زهيرٍ هذا، وذَكَرَ له وُجُوهاً في «جامعه». ومال الحافظ رحمه الله تعالى إلى ترجيحِ طريق زهيرٍ كما رجَّحه البخاري، وأجاب عما أورده الترمذِيُّ.
156 - قوله: (وألقىَ الرَّوثة) واعلم أنهمَّ اختلفوا في عدد الأحجار. فقال الشافعية: إن التثليث واجبٌ والإِيتار مستحبٌ، فلو استعمل رجلٌ الحجرين وأنقى يستنجي بثالثٍ وجوباً عندهم لا عندنا. وعندنا القلعُ واجبٌ والتثليث والإِيتار مستحب كما هو في «البحر شرح الكنز». وينبغي للمشتغل بالحديث أن يويِّدَ ما في «البحر» ليكون مذهبُنا أقربُ إلى الحديث.(1/375)
ثم الحافظ رحمه الله اعترض على الطحاوي بأنَّ التمسك منه على الاستنجاء بالحجرين لا يصح، لما ثبت فيه من زيادة: «وأْتِني بثالث» قلت: إن كان هذا اعتراضاً على الطحاوي فهو على الترمذيِّ أيضاً، لأنَّه أيضاً بوَّبَ عليه بالاستنجاء بالحجرين، فعُلِم أنَّه لم يقبل تلك الزيادة. ولنا ما عند أبي داود: «من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج»... إلخ. والإِيتار بإِطلاقه يشمل الثلاث فما فوقه.
أما استدلال صاحب «الهداية» منه على نفي سُنِّية العدد بأن الإِيتارَ يحصُل من الواحد أيضاً فغير ناهِضٍ، لأنَّا لو حملنا الإِيتارَ على الواحد أيضاً. لَزِمَ نفي الاستنجاء رأساً، لأنه إذا كان الواحدُ أيضاً تحت الاختيار فقد آل الخيار إلى نفس الاستجمار، مع أنه واجب اتفاقاً وهو كما ترى. علم أنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلّمالاكتفاء بالواحد، فحملَهُ على الواحد مَشْيٌ على مجرد اللفظ. وكذا حُمْلُ البيهقي على ما فوق الثلاث إبطالٌ لغرض الشارع وإخلاءُ الشيء من نوعه.
والذي تحصَّل لي من روايات هذا الباب، هو أنَّ مقصودَ الشارعَ هو الإِقلاعُ وإِزالةُ النجاسات، والثلاثُ يجزىءُ عنه في الأغلب، فجاء ذِكرهُ لهذا. والوِتريةُ مطلوبةٌ في الأحوال كلِّها، فَرُوعِيَت في هذا الباب أيضاً. ولما كان الثلاث فيه الاجتزاء والوِترية معاً كَثُرَ ذكره في الأحاديث، فَذِكرُ الثلاث لكونه قالعاً ومُجْزِئاً لا لكونه واجباً. ويشهدُ له ما أخرجه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها: فليذهب معه بثلاثة أحجار، فإنَّها تُجزىءُ عنه. فأشار إلى أنَّ المطلوبَ هو الإِنقاء والاقلاع، والتثليثُ بعينه للإجزاء.
(1/376)
وأما أن الوِتريةَ مطلوبةٌ فلما ورد: «ءن الله وِترٌ يحبُّ الوترَ» وحينئذٍ حُمِلَ قوله: «فليوتر» على ما فوق الثلاث ابتداءً، كما حَمَله البيهقيُّ إعدامٌ لغرضِ الشارع، فإنَّه لم يَرِد به الثلاثُ فما فوقه لكونه عدداً مخصوصاً، بل أراد الوترية وجعلها مقصودَة. نعم، الثلاث محبوبٌ لكونه أقرب إلى الطهارة ولتحقُّقِ الوِترية فيه.
ثم العجب منهم حيثُ وردَ ذلك العددُ بعينه في كثير من الأحكام فلم يَرَوه واجباً ففي الحديث: «أما الطِّيبُ فاغسُلْه عنك ثلاث مرات» قال النووي: إنما أمر به مبالغة في الإِزالة فإِن حصلت بمرة كفَتْه. في غير واحد من الموضع، وهو المُتَمَسَّك للحنفية في عدد الثلاث للتطهير في النجاسات الغير المرئية، وأما في المرئية فيكتفي عندهم إزالتها ولا عدد فيها.
وبعبارة أخرى إنَّ الشريعة إذا وردت بالإِيتار أعلنت معه بالاختيار، وقالت: من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج. وإذا وردت بالتثليث ذكرت معه الإِجزاءُ والاكتفاء، وهو قوله: فإِنَّها تجزىء عنه، فخرجَ أنَّ التثليثَ أيضاً مستحبٌ كاستحباب الإِيتار، وإِنْ كان التثليثُ للإِجزاء والإِيتارُ لتحصيل الوِترية، وصار إجزاء التثليثِ واستحبابُ الإِيتار مشروحين بالحديث بدون كُلفة، وخرج الوجوبُ من البين.
156 - قوله: (هذا رِكْس) وقد وقع عند ابن ماجه بدله: «رجس» وفي النهاية: الركس شبيه المعنى بالرجيع. قال تعالى: {اركسوا فيها} (النساء: 91) أي ردوا. وقال ابن سيد الناس: رِكس كقوله: رجع، يعني نجساً، لأنَّها أركست أي رُدَّت في النجاسة بعد أن كانت طعاماً. وقال الخطَّابي: الرِّكس: الرجيع من رَجَعَ من حالة الطهارة إلى حالة النَّجاسة. وفي رواية «رَكيس» فعيل بمعنى مفعول، فإِذن هو وصفٌ لا حكمٌ وترجمته: صلى الله عليه وسلّمراهوا ومآلُه إلى النجاسة. وعلى هذا يدور الحُكْم على هذا الوصف، فكلُّ ما يكون ركساً يكون نجساً.(1/377)
وحينئذٍ يكونُ حجةً لنا على نجاسة الأزبال مطلقاً، سواء كانت لمأكول اللحم أو غيره، لأَنَّا علمنا العلَّة من جهة الشرع، وهي تصدُق على الأزبال فإنَّها ركسٌ، فتكون نجساً لا محالة بخلاف الرجس فإِنَّه لا يفيدنا وإِنَّ كان صادقاً في نفسه، وذلك لكوزنه حكماً على تلك الرؤية فيقتصر على مورده، ولم تعط فيها ضابطة من صاحب الشرع، لنستعمله في المواضع الأخر، بخلاف الركس فإِنَّه وصفٌ حِسِيٌّ، فيدور عليه الحُكْم حيثما دار.
ولعلَّ الرجس رواية بالمعنى، لأنَّ مآل الركس هو الرجس كما عَلِمْت. ثم إِنْ قلنا: إن الرجس أيضاً وصف بمعنى بليدى فهو وصفٌ غير منضبطٍ لأنه محوِّل إلى الطبائع ويحتاج إلى الاستقراء، فلم تتحصل منه ضابطة. نعم، لو كان الرجس منضبطاً لصلُح أن يُعلل به أيضاً. وفي رواية ابن خزيمة أنها كانت رَوْثة حمار. ونقله الشوكاني في «النيل» وسهى فيه حيث جعله مرفوعاً فلا يبقى حجة لنا، لأنَّ معناه حينئذ أن كونه ركساً ورجساً لأجل كونه روثة حمار، وهو حيوانٌ غير مأكول اللحم، فلا يلزمُ منه نجاسةُ زِبْل مأكول اللحم، وهو في الحقيقة من جهة الراوي كما في «الفتح» فإِنه يذكرُ في بيان القِصة أنَّ الروثة التي جاء بها كانت روثةُ حمار، فهذا بيانُ واقعةٍ منه لا تعليل مِنَ النبي صلى الله عليه وسلّمفاحفظه. وقد تكلم ابن تيمية رحمه الله تعالى على المسألة في نحو خمسٍ وثلاثين ورقة واختار طهارة أزبالِ مأكول اللحم، وقد أَجبتُ عن كلامه في ورقة.
باب ُ الوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّة
باب ُ الوُضُوءِ مَرَّتَينِ مَرَّتَين(1/378)
وقد ثَبَت عنه صلى الله عليه وسلّمالوضوء مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، إلا أنَّ السنة الكاملة ثلاثاً ثلاثاً. ثم لو تركه أحد يأثم أم لا؟ فهذه مسألة لا أتعرض إليها فإنَّه أمرٌ عظيم؛ نعم، أقول: إنَّ الترك بقدر ما تركه النبي صلى الله عليه وسلّمجائز، فإِن ترك التثليثَ واعتاد عليه، مُنِعَ.
باب الوُضُوءِ ثَلاثاً ثَلاثا
ولعلَّ الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في بعض صفات وضوء النبي صلى الله عليه وسلّمفي زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما فاحتاجا إلى إرَاءَةِ صِفةِ وضوئه صلى الله عليه وسلّم وظاهر حديثهما الفصل كما هو مذهب الحنفية.
159 - قوله: (ثم أَدْخَل يمينه في الإِناء) لما يأتي من قوله صلى الله عليه وسلّم «إذا استيقظ أحدكم» وما يتعلق به. وإنما غمس يده في الإِناء لأن إناءهم لم يكن له أُذْن يومئذ، والأُذْن ترجمته توتى.
قوله: (ثم صلَّى ركعتين) أي تحية الوضوء.
قوله: «لا يُحَدِّث فيهما نفسه» ومرَّ عليه الطحاوي في «مشكِل الآثار» وقال: إنَّ الأفصح نفسَه بالنصب. قال بعضهم: إنَّ المرادَ بتحديثِ النفس هو ما كان له فيه دخل واختيار، فالخواطرُ غير المكتسبة تبقى خارجةً وصاحبها يكون مشمولاً في قضية الحديث. «قلت»: لا حاجة إليه، وليكن النفيُ عاماً كما في الحديث وإِنْ كان أمراً عسيراً، لكنَّه إذا كان في النوافل فلا بأس، فإِنَّه يُشَدَّد في النوافل ما لا يُشدَّد في غيرها، لكونها معاملة المرء ونفسه.
قوله: (غُفِرَ له) وأطلقه المتقدمون وفصل فيه المتأخرون.(1/379)
160 - قوله: (ما بَيْنَهُ)... إلخ وعند مسلم: «إلى صلاة أخرى». وعند المصنِّف رحمه الله تعالى في كتاب الرقاق عن عثمان رضي الله عنه في آخره قوله: (فلا تَغْتَروا) وهو يرجع إلى معنى قوله: «لئلا يتكلوا» فبيَّن أن الوعد بهذا الإطلاق موضع الاغترار، فلا ينبغي الغفلة عن الأعمال، فإِنَّ المغفرةَ إنما تحلُّ بالمجموع، والمجموعُ مكفِّرٌ للمجموع، وهو غير معلوم في الدنيا، فلا ينكشف الأمرُ إلا في المحشر، فلا تغتروا بهذا الوعدِ ولا تظنُّوا أَنَّ هذا القدرَ من العمل يكفي للنجاة، فعُلم منه أنه شيء اغترار لا موضع قرار، فإِذن هذا الحديث أيضاً في فواضل الأعمال لا في فرائضها. ومعنى الاغترار أن يغترَّ بهذا الوعد ولا يرغبُ في فضائل الأعمال.
باب ُ الاسْتِنثارِ فِي الوُضُوء
قالوا: وهو من النَّثْرَة والاستفعال بمعنى تحريك النثرة، والظاهر عندي أَنْ يكون من النَثَّر.
161 - قوله: (من استجمر) والجمهور على أَنَّ معناهُ استعمالُ الحِجَارة، وما نُقِل عن مالك أنَّه تجمير الكفن، فإِنه لا يليقُ بشأنه ومثلُ هذه النقول البعيدة توجد في مطاوي الأسفار وبطون الأوراق، فلا يُعتمد عليها.
باب ُ الاسْتِجْمَارِ وِتْرا
فلو أَنْقَىَ بالرابعة يَستعمِلُ الخامسة استحباباً تحصيلاً للإِيتار.
162 - قوله: (إذا استيقظ أحدكم)... إلخ ويدخل فيه عِدَّة مسائل، مِنْ أنَّ الحديثَ من متعلقات الوضوء أو المياة، فإِنَّ كان من مسائل الوضوء يخرج منه سُنية غَسْل اليدين قبل الوضوء، ولا أحفظ فيه حديثاً قولياً.
وأَنَّ النجاسة الموهومة هل لها أحكامُ التطهير؟
وأَنَّ أمر الغَسْل هل يختصُ بنوم من الليل أو النهار أو يعمهما؟
وأن سببَ الغسل ما هو؟
وأن التثليثَ ضروريٌ أم لا؟
وأنه إن غمس يده فيه فهل يفسد الماء أم لا؟(1/380)
فاعلم أن ابن رُشدٍ تكلم عليه أنَّه من أي البابين، أعني من باب الوضوء أو المياه، فإِن كان من مسائل المياه كان محطُّه صيانةَ الماء لا غير، وهو أولى عندي، بقي الغَسْل قبل الوضوء فيكون من باب الأولى، لأن صيانةَ الماءِ إذا كان مطلوباً في كل حالٍ كان للوضوء بالأولى، فالحديث وإن كان من باب المياه إلا أنه ينجرُّ حكمه إلى باب الوضوء أيضاً. ولا تناقض بين النظرين.
والحديثُ ناظرٌ إلى النجاسات الموهومةِ وأنَّ لها أحكام التطهير، ولذا أَمَرَهُ أن يغسل يده قبل إدخالها في الإِناء. ثم إنه لو غَمَسَهَا فيه بدون الغَسْل لا يفسدُ الماء، بشرط أن لم يكن على يده أثر نجاسة. نعم، كُرِه تنزيهاً، وهي الضابطة عندنا في النجاسات الموهومةِ كسؤور الدجاجة المُخَلاة إلا ما في «المنية». وأمرُ التثليث عندنا في النجاسات الغير المرئية خاصةً لحصولِ غلبةِ الظن بعده بالتطهيرِ. وهذا الحديث وأمثاله هو المتمسك في هذا الباب، وعند الترمذي: «فلا يْدُخِلْ يده في الإِناء حتى يُفرِغَ عليها مرتين أو ثلاثاً». وإنما وسَّع في الحكم ولم يؤكد لكون السبب أي وجودِ النجاسة محتمَلاً أيضاً، فحَكَم بقدر سببه.
والحديث حجةً لنا في مسائل المياه وها أنا أذكر مسألةَ المياه بقدْر الضرورة، وقد ذكرته تفصيلاً في درس «جامع الترمذي»، فاعلم: أن الماء يتنجسُ بالتغيُّرِ إجماعاً، وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى بدون فصل بين القليل والكثير، وعنه روايات أخرى. وعند الشافعي رحمه الله تعالى: إذا بلغ الماءُ قلتين لم يحمل الخبث وإلا تنجَّس، وهو الفاصل عنده بين القليل والكثير. وعندنا الأمر مفوض إلى رأي المُبْتَلى به، فإِن رأى أنَّ النجاسةَ وقعت في جانبٍ وخَلَصَ أثرها إلى جانب آخر فهو قليل، وإلا فهو كثير في حكم الجاري. وبعبارة أخرى: أنَّ الماء إذا كان جارياً أو في حكم الجاري فهو كثير وما وراءه فقليل. واختلفت الروايات عن أحمد رحمه الله تعالى.(1/381)
والحاصل: أن الموقَّت والمحددَ في الباب ليس إلا الشافعية، فإنَّ المحدِدَ من لا يحكم بمقدار العِلَّة وهم الشافعية، فإنَّهم قالوا: إنَّ الماء إذا كان ما دون القلتين ولو بدرهم تنجَّس بقليل والنجاسة وكثيرها، وإن كان قُلتين لا يتنجَّسُ ولو بِرَطل منها، وهذا هو غايةُ التحديد حتى أنهم قالوا: إنَّ النجاسة إذا أُخرجت من قلتي الماء ولم يبق أَثرُها فالمطروحُ نجسٌ والباقي طاهر. وأعجب منه ما رأيت في كلمات بعضهم: أنَّ ما دون القلتين يتنجس وإن كان الماء جارياً والباقي طاهراً، فهم الذين لا يحكمون بقدر العِلَّة، لأن حكمَ التَّنجيْس إن كان لحالِ النجاسة فالواجبُ أن يدارَ الحكمُ عليها، ويكون الحكم في القلتين وما دونهما سواء. ولكن المدار عندهم هو القلتان.
وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فليس بمحدد أصلاً، كما قرره الطحاوي، ومسألة العشر في العشر ليست مرويةً عن الإِمام، وأَمرُها معلومٌ ولا نذكره، ثم لا فرق بيننا وبين المالكية إلا أنهم اعتبروا التغيُّرَ باعتابر الحِسِّ، واعتبرناه بحَسَبِ ظن المبتلى به. وأنت إن تأملت ظهر لك إن شاء الله تعالى أن أقربَ الأنظار إلى الشريعة هو الإِحالةُ إلى ظن المبتلى به، ولا أراك شاكاً في أن ما اعتبرته الشريعة في أكثر الأبواب هو الظنُّ دون الحس، فإِن كان الأمرُ في الأبوابِ الأُخر هو هذا، فليكن في هذا الباب أيضاً كذلك.(1/382)
ثم ما من مذهب فيه إلا ويلزمُ عليه أَنْ يتركَ حديثاً من أحاديثِ الباب أن يؤوِّل فيه. فالمالكية يستدلون بحديث بئر بُضَاعة وأمثاله، ويتركون حديثَ القُلتين وحديثَ النَّهي عن البول في الماء الراكد وأمثالهما. وهكذا الشافعية يختارون حديث القلتين ويؤوِّلون في الباقي. والحاصل: أن كلاً منهم يأخذُ بحديثٍ في الباب ويجعلُه قاضياً على جميع الأحاديث، ويحصرُ فيه مسألة المياه، فيشكِلُ عليه جمعُ الأحاديث على مورد واحد فتارة يلجأ إلى تأويل هذا، وأخرى إلى إعلال هذا، فصار كما قيل:
إِذا سد منه منخر جاش منخر
وأمَّا إمامنا الأعظم فإِنَّه لدِقَّة نظره لم يترك في الباب حديثاً إلا وقد عَمِلَ به ووضعه على الرأسِ والعينِ بدون ريب، وقال: إنَّ الله تعالى خَلَقَ المياه على أقسام: فمنها ماء الأنهار، ومنها ماء الآبار، ومنها ماء الفَلَوات والقِفار، ومنها ما تُحْرَز في البيوت والديار، والشريعة الغراء قد أعطت لكلٍ منها حكماً حكماً.
فحديث بئر بُضَاعة إنَّما ورد في مياه الآبار بعد إخراج النجاسة عنها لا حَالَ كونها فيها.
وحديث القُلتين في مياه العيونِ التي في الفلوات، ويكون لها نبع من تحتها وأَخْرَجَهٌ من فوقها، ويَبْقَى في الصحارى على طريق الدوام يَستقي منه النَّاس، يَردُون عليها ويَصْدرون عنها، ولا يكون فيها تيقنُ النجاسة، غير أَنَّها لمَّا لم تكن مصونةً محفوظةً، تسبقُ الأوهامُ إلى نجاستها، ويتزَّهُ العامَّة عن استعمالها.(1/383)
وحديث ولوغِ الكلب وأمثاله في المياه المقطوعة المحرزة في الأواني. ولذا أخذها الحديث في العُنوان وقال: «طهورَ إناءِ إحدكم إذا ولغ فيه الكلب»... فلا يغمس يده في الإِناء. كما أنه أخذ عُنوان الفلوات في حديث القُلتين. فدلت الأحاديث من حاقِّها على أنَّها جاءت موزعةً على مياه. ثم إنَّه لمَّا لم يتفق في البيوت إلا أن يَلَغَ الكلبُ، أو تشربَ منه الهرةُ، أو تقعَ فيه الفأرة، أو يغمسَ أحد فيه يده، فقد أخذ كله في العُنوان ثم بيَّن له حكماً.
وحديثُ ماء الفلوات لا يكون فيها إلا ورود السِّباع، فذكر له حكماً أيضاً، فلمَّا علمنا أنها قد أقامت أبواباً عديدة في مسألة المياه، وقصدت أن تعُطي لكل منها حكماً حكماً فليأتها من أبوابها ولا يختلط بينها فمياه الآبار حكمُها أنها تتنجَّسُ بوقوع النجاسات، ثم يبقى سبيلٌ بنزحها كلها أو بعضها بعد إخراج النَّجاسة عنها فلا يكونُ نجساً بحيث لا يَطْهر أبداً، كما أنَّ المؤمن لا ينجس وأن الأرض لا تنجس. وهو معنى قوله: «إن الماء طهورٌ لا ينجسه شيء». أي بحيث لا يطهر أبداً أو بحيث كما زعمتم.
ومياه العيونِ حكمها أنَّها لا تتنجس من النجاسات الموهومة غير المقطوعة أصلاً، وذكر القُلتين لأنه إذا بلغَ هذا المقدارُ لا يظهرُ فيه أثر النجاسة غالباً ولم يرد به التحديد، ولهذا صح فيه لفظ: أو ثلاثاً فهو للتنويع والتقريب، وإن حمله الشافعية على الشك. على أنَّ حديث القُلتين لو حملناه على ما حملوه لكان غريباً في الباب، فإِن مسألةَ المياه مع كثرة الأحاديث لا يوجدُ فيها ذكرٌ للقلتين، ولا نعلمه إلا من تلقاء ابن عمر. ثم لم يرو عنه غيرَ هذا. فَندْرَته عندهم وعدمُ البحث عنه صريح في أنه ليس بمدارٍ بل نحو تعبير فاعلمه.6(1/384)
والمياه المحرزةُ حكمها أنَّها تتنجس ولا يبقى إلى تطهيرها سبيلٌ غيرُ طرحها، يل يتنجس معها أوانيها أيضاً. ولذا قال: «طهور إناء أحدكم...» إلخ فهذه أقسامُ المياه وتلك أحكامُها فَرَاعِها وأنزلها في مَنَازِلها، ولا تُدْخِلْ جملتَها تحت حديثٍ واحد.
تنبيه
وهناك سهوٌ ينبغي أَنْ يَتَنبَّه عليه النَّاظر، وهو أن الحنفية عند تقرير الاضطراب في حديث القُلتين قالوا: إنه رُوي عن ابن عمر أربعين قُلة. هكذا وجدناه في «فتح القدير» أيضاً، وكنت أظنَّ أن الصحيحَ ابن عمرو وسقط الواو من الناسخ وحينئذ يَخِفُّ الاضطراب، حتى إذا طُبع كتاب البيهقي وجدناه فيه عن ابن عمرو بن العاص، ففرحتُ منه فرحَ الصائم عند الإِفطار. فهذا سهوٌ قد تسلسل في الكتب فلا تَغْفُلْ عنه، والأمر كما قلنا.
أما حديث المستيقظُ فحجةٌ لنا في الباب واستدل به صاحب «الهداية» أيضاً بأنه إذا أُمرنا بغسل اليد عند احتمال النجاسة، علمنا أنها لو كانت على يده حقيقة نؤمرُ بغسلها بالأولى. ومعلوم أنَّه لو غمسها وعلى يده نجاسة لَمَا تغير منها الماء لقُلتها، ومع ذلك حكمت الشريعةُ بغسلها، وليس ذلك إلا لتنجس الماء بهذا الغمس عندها، فأمره أَنْ يغسلها قبل أن يُدخِلَها في الإِناء لئلا ينجسَ الماء كما يشير إليه التعليل بقوله: «فإنه لا يدري أين باتت يده» أي على موضع النَّجاسة أو غيره.(1/385)
فلا بد أن يكونَ لإِلقاء اليدِ المحتملة النجاسة تأثيرٌ في الماء عندها وهو النجاسة، ولذا مَنَعَه عن إلقائِها، وهو الذي فَهِمَه أحمد وإسحاق والشافعي رحمهم الله تعالى، كما يدل عليه عبارة الترمذي والحافظ ابن تيمية، لمَّا اختار فيه مذهب مالك رحمه الله تعالى جَعَلَه من باب النظافة، يعني أن إلقاءَها فيه حال كونِها محتملةَ النُّجاسة بعيدةٌ عن النظافة وإن لم ينجس الماء فهو كالنهي عن البصاق في الماء والتنفس فيه، مع أنهما لا يُنَجسان الماء عند أحد.
وقال في تقريره: إن للشيطان ملامسةٌ وملابسةٌ بالإِنسان، فإِنَّه يبيت على خَيَاشيم بني آدم ولذا أمره الشارعُ بغسل الخياشيم عند الانتباه، وهكذا له ملابسةٌ بيده أيضاً لكونها جارحة، فوردت الشريعةُ بغسلِها قبل غمسها لأجلِ هذا النظر المعنوي لا غير، فإن هو من باب النَّظافة دون النجاسة.
حتى أنَّ الشيخ ابن الهُمام رحمه الله تعالى أيضاً تأثر منه وقال: ليس فيه تصريح يتنجس الماء بتقديرِ كونِ اليد نجسة، بل ذلك تعليلٌ منها للنَّهي المذكور وهو غيرُ لازم، أعني تعليلَه بتنجس الماء عيناً بتقدير نجاستها، لجواز كونه لأعم من النجاسة والكراهة. فنقول: نهى لتنجُّس الماء بتقدير كونها متنجسة بما يغير، أو الكراهة بتقدير كونها بما لا يغير.
وحاصله: أنَّه يُمكن أن يكون الماءُ على تقدير غَمْسها مكروهاً لا نجساً، وإنما يكون نجساً إذا تغير، ولا دليلَ فيه على أنه يكونُ نجساً عند عدم التغير أيضاً، فإن النهي يكون عن المكروه كما أنه يكون عن النجس.
(1/386)
قلت: أمَّا ما ذكره الحافظ ابن تيمية فقد ذكرنا أنَّه لم يذهب إليه أحد من الأئمة، وكلهم حَمَلوه على باب النجاسة دون النظافة، ثم إنَّ ملابسَتَه إنما هي بمواضع الألواث، فإنه يلعب بمَقَاعِدِ بني آدم ويبيت على الخياشيم لكونها مواضع اللوث أيضاً، أو ملابسته ليُلقي منها الوساوس إلى القلب والدِّماغ، واليد بمعزلٍ منهما، فماله ولليد؟ مع أنَّ الذكر في الحديث لتَطْوَاف اليد وجولانها، فهو الدخيلُ في النجاسة لا ملابسة الشيطان، ولو كانت لتعرَّض إليها أيضاً كما تعرض إلى بيتُوتته على الخياشيم، على أن في الدارقطني: «أين باتت يده منه» وصححه ابن مَنْده الأصبهاني.
فهذا صريحٌ في أنَّ المدخل لبيتُوتة اليد على حصة من جسده، لا لبيتوتة الشيطان على يده فجعلَ الحديثُ اليدَ طائفاً وبائتاً، وجعل ابن تيمية رحمه الله تعالى الشيطان بائتاً. وذكرَ الحديث بيتوتَة اليد من جسدِهِ وذكر هو ملابسةَ الشيطان بيده، فأني هذا من ذاك؟.
وأما ما ذكره ابن الهُمَام فلست أُحَصِّلهُ أيضاً، لأنه لا معنى للكراهة إلا أنها لأجلِ النجاسةِ المحتملة، فالكراهةُ أيضاً من فروع النجاسات لا أنَّها باب آخر. وتفصيله: أن الماء عندنا إما طاهر أو نجس إن وقعت فيه نجاسة، وليس فيه قسم ثالث. أما كونه مكروهاً فليس إلا لأجل احتمال وقوع النجاسة، كما قالوا في سؤر الدجاجة المُخَلاة وليس حاله كالصلاة، فإِنها إما صحيحةٌ أو فاسدةٌ أو مكروهةٌ، فالكراهة فيها قِسم مستقلٌ وليست لأجل مِظنَّة سبب الفساد، فللكراهة أسبابٌ كما أنَّها للفساد، أعني أنَّ الصلاةَ تفسدُ بأسبابها وكذلك تكون مكروهةً بأسبابها.(1/387)
وليس مرجعُ الكراهة فيها إلى أسباب الفساد، فلا نقول فيها: إن أسباب الفساد إن تحققت فيها بطلت وإلا صارت مكروهة، بخلاف الماء فإِنَّ الحكم بالكراهة فيه ليس من أجل تحقق سبب مستقل لها، بل مرجعُها إلى سبب النجاسة، فإِن تحققت النجاسة فيه يُحكم بنجاسته، وإن تُرُدِّدَ في وقوعها يُحكم بالكراهة، فلم يكن للكراهة سببٌ مستقلٌ. وإذن لا معنى لكراهته إلا كونُه محتملَ النجاسة، فما نظر به الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى لم أفهمه نعم، لو كانت كراهةُ الماء لسببٍ مستقل ولم يكن مرجِعُها إلى النجاسة لكان لإِيراده وجه، فإِن الكراهةَ حينئذ كانت لأمر مستقلٍ لا تأثيرَ فيها للنجاسة، كما أن الصلاةَ تكون مكروهةً بأسبابها لا من جهة احتمال أسباب الفساد.
ويلوح من كلام ابن رُشد أَنَّ الكراهةَ عند المالكية قِسم ثالث، كما أن الكراهةَ في الصلاة كذلك عندنا، ولا تكون ناشئةً من جهة احتمال النجاسة. قلت: وهو كذلك عندهم. أمَّا كونها قِسماً مستقلاً عند الحنفية فلم يثبت عندي، وحينئذ ظَهَرَ الجوابُ عن نظر الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى على أظهر وجه، وبقي الحديث في مسائل المياه حجةً لنا، ولله الحمد على مألهم، والله تعالى أعلم.
(1/388)
والحاصل: أنَّ الشريعةَ أقامت أبوابَ النجاسة كما أنَّها أقامت أبواب النظافة، فإِرجاع أبواب النجاسات إلى أبواب التزكية والتحلي والتخليط بينها بإِقامة جرِّ ثقيلٍ مما لا ينبغي، فالبُصاق في الماء والتنفس فيه من باب النظافة قطعاً، ولذا لم يذهب فيه أحد إلى الفساد، لأنه لم توجد هناك نجاسة ولا احتمالها، بخلاف ما نحن فيه، فإِنَّه لو كان الغَسْل لأجل النظافة فقط، لكان النائم وغيره فيه سواء، كما ذكره صاحب «العناية» في قيد الدائم في قوله صلى الله عليه وسلّم «لا يَبُولنَّ أحدكم في الماء الدائم وسيجيء»: ولا دَخْل لنومِهِ، إلا أن يدَه احتملت التنجس لتَطْوَافها على مواضع الأنجاس وهو لا يدريه، فكان لا بد أن تنهاه الشريعةُ عن غَمْسِها، فهذا حجةٌ على المالكية قطعاً. وللأعذار الباردة مجالٌ وسيع.
باب ُ غَسْلِ الرِّجْلَين
وترجمة المصنَّف رحمه الله تعالى هذه ناظرةٌ إلى تفسير الآية. ومن العجائب أنَّ ما يجعلونَه لعنهم الله تعالى حجةً لمسح الأرجل هو بعينه حجة للغسل عند السلف، حتى إن بعضهم توهَّم منه نسخَ المسح، ولذا كان يُعجبهم إسلام جرير، لأنَّه أسلم بعد المائدة وكان يمسحُ على الخفين، فَعُلِكَ أنَّ حكم المسح باقٍ بعد نزول المائدة أيضاً. وفيها آية المسح بالرأس والأرجل. ثم لا يخفى عليك أن المسحَ بالرجلين قد ثبت عند الطحاوي بإِسناد قوي، ولكنه في الوضوء فعنده عن النَّزَّال بن سَبْرة بإِسناد قوي قال: رأيت علياً رضي الله تعالى عنه صلى الظهر ثم قعد للناس في الرُّحبة، ثم أتي بماء فمسح بوجهِهِ ويديه، ومسح برأسه ورجليه، وشرب فَضْلَه قائماً ثم قال: إنَّ ناساً يزعمون أن هذا يُكره، وإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّميصنع مثل ما صنعت، وهذا وضوء من لم يحدث.(1/389)
وليعلم أنَّ الوضوء في الشرع على أقسام: فمنها ما عَلِمت، ومنها للنوم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ومنها من عند الترمذي. والرواة أيضاً يراعونها، ولذا تراهم يقولون: توضَّأ وضوءَه للصَّلاة، فَعُلِم منه أن في أذهانهم أقساماً للوضوء يريدون به الاحتراز عنها، فلا عبرة لإِنكار ابن تيمية، وعند الترمذي في باب ما جاء في التسمية على الطعام فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلّميديه ومسح ببَلِلِ كفيه وجهه وذراعيه ورأسه، وقال: «يا عِكْرَاش، هذا الوضوء مما غيرت النار». وفي إسناده لين.
باب ُ المَضْمَضَةِ فِي الوُضُوء
وأخرجه ابن السَّكَن في «صحيحه» وفيه تصريحٌ بالفصل.
باب ُ غَسْلِ الأَعْقَاب
وإنما خصَّصها بالذكر لأنه لا يصلُ إليها الماء إلا بالاعتناء. ومرَّ عليه الطحاوي وجعله ناسخاً للمسح على الأرجل، ويُفهم من كتابه مشروعيةُ المسح في زمان ثم نَسْخه، لأنَّه أخرج عن عبد الله ابن عمرو وفيه: ونحن نتوضأ ونمسحُ على أرجلنا... إلخ. فَدَلَّ على أنهم كانوا يمسحون على الأجل حيناً ما؛ فلمَّا نادى بلالٌ بقوله: «ويلٌ للأعقاب من النار» نَسَخَ المسحَ وصار فرضُ الرجلين عو الغَسْل.
قلت: وهو كما ترى، لأن التعبيرَ بالمسح إنما هو لخِفَّة غسلهم وعدم اعتنائهم به، كما يُعلم من ألفاظه، ففي لفظ: فانتهينا إليهم قد توضؤوا وأعقابهم تلوح لم يمسها ماء. وفي لفظ: رأى قوماً توضؤوا وكأنَّهم تركوا من أرجلهم شيئاً. فهذا كلُّه يدل على أن ما يقصدُونه كان هو الغَسْل، إلا أنهم كانوا يتعجلون فيه لئلا تفوتهم الصلاة، فكأنهم كانوا يمسحون لا أنهم كانوا يمسحون لأجلِ أن فرضَ الرجل كان عندهم هو المسح ليثبت النَّسخُ.
باب ُ غَسْلِ الرِّجْلَينِ فِي النَّعْلَينِ، وَلا يَمْسَحُ عَلَى النَّعْلَين(1/390)
واعلم أنَّ المسحَ على الجَوْربين لم يثبت عندي مرفوعاً وإن كان جائزاً بشرائطه فقهاً، لأنَّ الترمذيَّ وإن صحح حديث المُغيرة في الجَوْربين، لكنَّه معلولٌ عندي قطعاً، لأن حديث المُغيرة واقعةٌ واحدة قد رُوي بنحو من سبعين طريقاً، وليس فيهما إلا أنَّه مسح على الخفين، فمن ذكر الجوربين فقد وَهِمَ قطعاً. ولذا كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدثُ بهذا الحديث كما نقله أبو داود وأسقطه مسلم أيضاً. وأما الترمذي فقد نظر إلى صورة إسناده فقط. وكذا ذَكَرَ النَّعلين فيه سهو أيضاً، وهو عند الطحاوي عن أبي موسى: أنه مسح على جوربيه ونعليه. وحمله الطحاوي على ما إذا كان النعلان على الجوربين. قلت: وحديثه ليس بمتصل ولا بقوي، وهو تأويلُ عامتهم في حديث المُغيرة، وقد قلت: إِنه معلوم قطعاً.
166 - قوله: (فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلّميمس)... إلخ، ومسُّ الركن اليماني جائزٌ عندنا أيضاً.
166 - قوله: (ويتوضأ فيها) وعند أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: فأخذ حَفْنَة من ماءٍ فَضَرَب بها على رجلِهِ وفيها النَّعْل فَفَتَلَ بها ثم الأخرى مثل ذلك، وقد مرَّ في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أخذ غَرفة من ماء فرشَّ، ولعله أيضاً عند التنعل، والحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى جعله صورةً مستقلة وقال: إن الرشَّ كافٍ في النعلين كالمسح في الخفين. قلت: وهو احتمالٌ لم يذهبْ إليه ذاهبٌ.
166 - قوله: (وأما الصُفرة) واعلم أن ابن عمر رضي الله عنه كان يستعمل الصُّفرة. ثم كان برفعُه إلى النبي صلى الله عليه وسلّممع أنه قد ثبت فيه الوعيدُ عن النبي صلى الله عليه وسلّم قلت: وردت فيه ألفاظٌ عديدةٌ مع صَبغ الأشعار والثياب ثم الصَّبْغ بالزعفران وغيره لا يُدرى أن أي هذه الأجزاء رفعه. ولعله تطرَّق فيه اجتهاده. نعم، يجوزُ التصفير علاجاً، ولم يتبين لي بعد في هذا الباب شيء صافٍ كافٍ. ولعل الله يُحدثُ بعد ذلك أمراً.(1/391)
قوله: (حتى بيعت)... إلخ يعني به أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان يُهِلُ حين يركب راحِلَته، وإنِّي لا أركب حتى يُظِلُّ يوم التروية، فلأجل هذا لا أُهلُّ إلا في هذا اليوم، ولا أهل عند رؤية الهلال كأهل مكة. وهذا أيضاً اجتهادٌ منه رضي الله تعالى عنه. قلت: إنه صلى الله عليه وسلّمكان يُهل إذا شرع في أفعال الحج، وإنما كان يُهِلُّ عند الانبعاث، لأنه كان يَقْدُم من المدينة وكان انبعاثه عند سفره، بخلاف ابن عمر رضي الله عنه، فإنه كان مقيماً بمكة من قبل، فلا عليه أن يُهلَّ ثم يركبَ يوم التروية. ولعله لم يرغب في تقديم الإهلال اجتهاداً منه، وإلا فالفارق موجودٌ والأولى هو القديم.
باب ُ التيَمُّنِ فِي الوُضُوءِ وَالغَسْل
وفي «شرح الوقاية»: أنَّ التيامن كان من عادته صلى الله عليه وسلّمثم إذا داوم عليه جاء الاستحباب. ثم التيامن ليس في أحدٍ من أقوام الدنيا غير الإِسْلام، حتى أن كتابتهم أيضاً من جانب الأيسر. وفي «المشكاة»: «أن الله تعالى خَيَّر آدم فاختار اليمين وكلتا يدي الرحمن يمين» فهذا اختيار آدم جرى في ذريته، كالسَّلام ورد الملائكة عليه صار سُنَّة له ولذريته، وأجدُ أشياءَ استحبها المقربون فوقعت بمكانٍ من القَبُول، ثم سُنَّت في الشرائع.
باب ُ التِماسِ الوَضُوءِ إِذَا حَانَتِ الصَّلاة
يعني أنه لا يَجبُ قبل الوقت.
169 - قوله: (ولم يجدوا) وكان في المدينة خارجاً منها.
169 - قوله: (من عند آخرهم) مختصر من أوَّلِهم إلى آخرهم، واختُلف في تَعداد الرجال فيه، وحمله الحافظ رحمه الله تعالى على تعدُّدِ الواقعة.
باب ُ المَاء الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ شَعَرُ الإِنْسَان(1/392)
قلت: إنَّ المصنَّف رحمه الله تعالى ذَكَرَ فيها مسألة الأنجاس والآسار دون مسألة المياه كما اختاره الحافظ رحمه الله، فهذه ترجمةٌ تتعلق بالأشياء التي قد تتفقُ أن تقعَ في الماءَ، ثم تُفسِدُ الماء أو لا تفسده. وإنما جاء ذِكْرُ الماء تبعاً لكونه محلَّ الوقوع. أما مسألة المياه أصالة فسيجيء ذكره. وذَكَرَ هذه الأشياء هناك تبعاً لكونها واقعة فيه. وهذا شبيهٌ بما في فِقْهنا من ذكر بعض الأنجاس في فصل المياه مع كون باب الأنجاس مستقلاً عندهم أيضاً، فلهذه الأشياء تعلق بالماءِ لكونها واقعةً فيه، وكونِ الماء محلاً لوقوعها. ولهذا قد ينجرُّ ذِكرها إلى المياه، وقد ينجرُّ المياه إليها.
ويبقى الفرق بالأصالة والتبعية، فالأصل في باب الأنجاس ذِكرها فقط، وذكر الماء لكونِهِ قد يتفق أن تقعَ فيه وإن أمكن وقوعُها في غيره أيضاً كالطعام واللبن والدهن وغيرها. وكذلك الأصل في باب الماء، ذِكرُ مسائله خاصَّة لا ذِكرُ الأنجاس، وإنَّما تذكر استطراداً لكونها واقعةً فيه. والحاصل: أن المصنَّف رحمه الله تعالى ذكر في ترجمته مسألة الأشعار أولاً، سواء وقعت في الماء أو الطعام، لا مسألة المياه.(1/393)
واعلم أن في الحديث باباً لا يوجد في الفقه إلا قليلاً، وهو أنَّ الشارع إذ يحكم على شيء بالنجاسة لا يحبُّ المعاملةَ معه والملابسة به، ويأمرُ بالاجتناب والتحرُّز عنه، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (التوبة: 28) وقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاْنصَابُ وَالاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَنِ فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة: 90)، وقال: {فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَنِ} (الحج: 30) فإذا حكم على شيء بكونه نجساً أمر بالتحرُّز عنه ونهى عن قُرْبانه، فعُلِم أنَّ الاجتناب والتحرز من لوازم النجس والرِّجْس. ورأيت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما غسل اليدين بعد المصافحة بالمشرك، فكأنَّه فهم معنى النجس، وأنَّه لا ينبغي أن يقربَ منه، ولهذا غسل يديه مع كون يدي المشرك يابساً، ومقتضاه أَلا يطلق النَّجِس على الثياب والمياه.
ثم اطلعت على كلام الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير وفيه وفيه: إنَّ إطلاق النَّجَس على المؤمن لا يجوز، لا حقيقة ولا مجازاً وحينئذ ظهر شرح لطيف لقوله صلى الله عليه وسلّم «إنَّ المؤمنَ لا يَنْجَس» وشرح آخر لقوله: «إن الماء طَهُورٌ لا ينجِّسه شيء» فإن مياه الآبار لا يتنجس بحيث لا تبقى معها معاملة، ويكون التجنب عنها ضرورياً في نظر الشارع بل يُستعمل بعد نزح البئر، فهذا عُرف قرآني في النجس فلاحَظَه بخلاف الفقهاء، فإنهم يحكمون على شيء بالنجاسة ثم يكتبونَ مسائلَ تُبنى على بقاء المعاملة معها كما قالوا: إنَّ الكلب إذا مر في المسجد يابساً لا يتنجَّسُ به المجسد.
(1/394)
وإنَّ المُصلي إن حَمَلَ جُرو كلب في كمِّه ولم يكن عليه نجاسةٌ تصحُّ صلاته. فباب الأنجاس لا يظهرُ أثرُها في الفقه إلا عند وقوعها في الماء أو المائع. أما قطعُ المعاملة عنها والملابسة بها، فهذا بابٌ مفقود في الفقه وإن ظهر في بعض الجُزئيات كما في «الكبيرى»: أنَّه يُكره لُبْس الثوب النجس خارجَ الصلاة أيضاً، فهذا يُشير إلى قطع المعاملة عنه ما دام نجساً. ونحوه نَسَبَ إلينا الشوكاني أييضاً، ولذا أقول: إنَّ أمر التوضؤ بخروج المَذْي وأمثاله محمولٌ على الفور لا عند القيام إلى الصلاة، فإِن المطلوبَ عند الشرع كونُ المؤمن على طهارةٍ وعدم تلطُّخه بالنجاسات. ولم يذكره من علمائنا إلا ما يستفاد من الجزئية التي ذكرتها عن «الكبيرى».
قوله: (وكان عطاء)... إلخ، واختار البخاري في الأشعار مذهبَ أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما قال ابن بَطَّال، وأيدَه بأثر عطاء، لأنَّه لما وسَّع فيه باتخاذِ الخيوطِ والحبال لَزِمَ أن يقولَ بطهارته جزماً، فلو سقطت في الماء لا تُفْسِدُه، إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يجوز الانتفاع بأجزاء الإنسان كرامةً له وتحرزاً عن الامتهان. وفي رواية عند الشافعي أنها نجسة، فأشكل عليهم أشعارَه صلى الله عليه وسلّملأنَّه ذهب جماعة إلى طهارة فَضَلاته صلى الله عليه وسلّمونُسِبَ إلى إمامنا أيضاً، إلا أنَّي لم أجده فاستثنوها. وأراد الحافظ رحمه الله تعالى إخمالَ هذه الرواية، لأنَّها أصعب عليه جداً، وصَدَعَ بها الشيخ العيني رحمه الله تعالى.(1/395)
قوله: (سؤر الكلب)... إلخ هذا هو الجزء الثاني من ترجمته. وفيه مسألةُ الآسار وتتعلقُ بها مسألة المرور فذكرها استطراداً. وسُؤرُ الكلب طاهرٌ عند مالك رحمه الله تعالى. وفي «المدونة»: أنه سُئل عن وجه الحديث المرفوع، فقال: لا أدري. ولعلَّه عدَّهُ من سواكن البيوت كالهرة، فصار من الطَّوَّافين فسقطت نجاستهُ عنده. ثم جاء فضلاء المالكية وقالوا: إنَّ الغَسْل منه لأجل صفاء الباطن، فإنَّه أطلقَ عليه لفظ الشيطان في الحديث، فهو من باب التزكية والتحلية دون النجاسة. قلت: فارتفع باب الآسار عند مالك رحمه الله تعالى، حتى أن سؤر الخنزير أيضاً غير مؤثرٍ في الماء عنده، فإنَّ الكلاب والسِّبَاع كلها يَرِدُون علينا ونردُ عليهم، فلا أثر لآسارهم في التَّنجِيسِ عنده.
واختار الشافعي رحمه الله تعالى نجاسةَ سؤرِ الكلب والخنزير خاصة، ولم ير بسؤرِ السِّباع بأساً. ثم شَرَطَ التَّسبيعَ في سؤر الكلب، وهو مذهب أحمد رحمه الله تعالى فيه وفي سائر النجاسات، حتى رأيت في كلام بعضهم التسبيع في الاستنجاء أيضاً.
والواجبُ فيه عندنا هو التثليث كما في البول والغائط، فإِنَّ سؤرَ الكلبِ ليس بأغلظ منهما. نعم، التسبيع مستحب كما في «الزَّيْلعي شرح الكنز». وصرَّح (الوبرى) باستحباب التسبيع عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما في «التحرير». وإنما اعتنيتُ بهذا النقلِ لأنه ليست في الكتب رواية عن أبي حنيفة، فيمكن أن يكونَ استحبابه من باب الخروج عن الخلاف، بخلاف ما في «التحرير» فإنَّه صريحٌ في كونه روايةً عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فصار التسبيع مستحباً على المذهب لا على طريق الخروج عن الخلاف، فإِنَّه باب آخر يجري فيما لا يكون فيه رواية عن الإِمام أيضاً.(1/396)
ثم إن راوي الحديث أبو هريرة أفتى بالثلاث أيضاً كما عند الطحاوي، وصححه ابن دقيق العيد. وما أخرج عنه الحافظ رحمه الله تعالى من فتوى التسبيع فإنه لا يضرُّنا، بل يؤكد الاستحباب، ثم فتوى الثلاث رفعه الكرابيسي كما في «الكامل» وهو حسين بن علي الكَرَابيسي من معاصري أحمد رحمه الله تعالى، من كبار العلماء - وإنما حَمَلَ ذكره لما جرى بينه وبين أحمد رحمه تعالى من الخلاف.
ومنه تعلَّم البخاريُّ وداود الظاهري مسألة: لفظي بالقرآن مخلوق، ولم أطلع عليه بِجَرْحٍ فيه، فإِن كانت هذه المسألةُ هي سببُ الجرح فيه، فالبخاري أيضاً يصيرُ مجروحاً. ومع هذا أتردد في رفعه، ولعله وَهَمٌ منه.
ثم فتوى التثليثُ وإن لم تكن مرفوعةً، لكن أخرجَ الطحاوي في باب سؤر الهرة إسناداً أن كلَّ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم وإنَّما كان يفعلُ ذلك لأن أبا هريرة لم يكن يحدثهم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلّمفدلَّ على أن فتوَاه وإن كانت موقوفةً لكنها في حكم المرفوعِ. قلت: الكُلِّية محل ترددٍ عندي، نعم، كل ما رواه ابن سيرينَ عنه فهو مرفوع قطعاً، ثم لا عليك أن تحمل التسبيع على زمان كان فيه التشديد في أمرِ الكلاب، ثم خُفِّف فيه، فلعل أمر التسبيع كان عند أمره بقتل الكلاب، وإذا خفف في الكلاب وأباح لهم الاصطيادَ بها خفف في أمر التطهير أيضاً.
ونظيره النهي عن استعمال الأواني المخصوصة بالخمر. ثم قال: «إن الأواني لا تحرم شيئاً ولا تحلله» فاستعملوا كلها غير أنه لا تشربوا مسكراً. وألزم الطحاوي أنكم لو عملتم بالتسبيع لأجل حديث أبي هريرة فعليكم أن تقولوا بالثامنة لحديث عبد الله بن مُغَفَّل ففيه: «وعفِّرُوه الثامنة بالتراب».(1/397)
قلت: وهو رواية عن أحمد رحمه الله تعالى أيضاً إلا أنَّ النَّووي حَمَله على أن المراد منه اغسلوه سبعاً واحدةً منهن بالتراب مع الماء، فكان الترابُ قائماً مَقَام غَسْله، فسميت ثامنة لهذا. وقد تصدَّى بعضهم إلى إثبات الاضطراب فيه. ففي رواية: «أولاهُنَّ بالتراب» وفي رواية: «أخراهن»، وفي أخرى: «إحداهن». قلت: بل ينبغي أن تجوزَ الصور كلها ولا اضطرابَ ولا حاحة إلى إقامة الترجيح كما قال بعضهم: إن الراجِحَ أولاهن.
ثم الوجه في الأمر بالثامنة عندي أنَّ الترابَ لمَّا كان له دخلٌ في التطهير عدَّه الراوي غسلاً مستقلاً، فهو داخلٌ في السبع، ودليله أنَّه أمَرَه في عين تلك الرواية بالتسبيع، ثم قال: وعَفِّرُوه الثامنة. ولو أرادَ الغسل ثمان مرات لقال: فاغسلوه ثمان مرات، وعفروه الثامنة... إلخ. ولكنه أَمَر أولاً بالتسبيع، فذكر العددَ المطلوب ثم فكَّكَ الراوي منها واحدةً وعدَّها ثامنة في التعبير فقط.
قال الحافظ ابن تيمية: إنَّ الكلب يكثر من فِيهِ اللعاب فيغلبُ على الماء ولا يتميز منه لكونه مائعاً أيضاً. وأنت تعلم أنه تغيَّرَ المناطُ، لأنه كان في أصل التغير وعدمه. ثم لا أدري ماذا أراد به؟ فإن أراد أنَّ الماءَ كان في الأصل طاهراً إلا أنه تنجَّس لأجل عدم تخليص اللعاب منه وهو نجس، فهذا مجرد اعتبار، لأنهم لا يعنونَ بحكم التَّنجيسِ على شيء إلا اختلاطُ النجَاسة به، ولا معنى لكون الشيء نجساً غيره وهل يتنجسُ الطاهر إلا باختلاط النجَاسة، فأي اعتبار هذا. وقد يتعللُ بأن لعابَه لزجٌ فلا يستحيل بالسرعة. قلت: وخرج منه مناطٌ آخر غير ما ذكره أولاً، وهو الاستحالة وعدمها، فالحافظ رحمه الله تعالى مع جلالة قدرِه اضطرب كلامهُ في المناط، ولا أظن بالشريعة أن تنوطَ أحكام النجاسة والطهارة فيها على الاستحالة وغيرها، مما لا يُدرى إلا بعد الممارسة الطويلة، ولشرحها موضع آخر.(1/398)
قوله: (وممرها)... إلخ وفي الكلب روايتان عن أبي حنيفة: في رواية أنه نجسُ العينِ، هو ما يكونُ نجساً بجميع أجزائه ولا يُستثنى منه شيء. وفي المشهورة أنه نجسُ اللحم، فإن صلَّى حاملاً إياه في كمه، صحت صلاتُه إذا لم ير عليه أثر نجاسة. قيل: إنما كانت تُقْبِلُ وتدبر لأنه لم يكن للمسجد إذ ذاك باب. قلت: ويمكن ذلك مع وجود الأبواب أيضاً كما هو مشاهد في زماننا، وعند أبي داود: تبول أيضاً، وحينئذٍ أشكل.
قوله: (قال الزهري)... إلخ قال الحافظ رحمه الله تعالى: إن البخاري اختار مذهبَ مالك رحمه الله تعالى. وقال العيني رحمه الله تعالى: إنه اختار مذهبَ أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وهو الأجه عندي. فإِنه لم يُفصح في ترجمته بما يدل على طهارة سؤر الكلاب، ولا أخرج حديثاً يكون دليلاً على ذلك، بل أخرج حديث الغَسْل سبعاً الذي يدل على كونه من أغلظ النجاسات. وأما أثر الزهري فلا دلالة فيه على طهارته عنده، بل رُوي عنه في «مصنَّف عبد الرزاق» الأمر بإراقة سؤرها.
أما ما أخرجه البخاري فهو نظيرُ مسألتنا: أَنَّ المُصلي إذا لم يجد إلا ثوباً نجساً هل يُصَلي عُرياناً أو في ذلك الثوب. فكما أنها لا تدل على عدم نجاسة هذا الثوب عندنا، كذلك قول الزهري فيمن لم يكن عنده غيرُ هذا السؤر، لا يكون دليلاً على طهارته وهو ظاهر.
وأمَّا أثر سفيان فأيضاً كذلك، ونظيرها ما عن محمد رحمه الله تعالى في النَّبيذ أنه يتوضأ منه ويتيمم، بل تردده يشعر بخلافه. والحاصل: أنه ليس في ترجمته شيء صريح يدل على طهارة سؤرِها عنده، فلا ينبغي لنا أن نعزو إليه هذه المسألة.
باب إِذَا شَرِبَ الكَلبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَليَغْسِلهُ سَبْعا(1/399)
وإنما تردد نظر الشارحين في مختاره لأنه أخرج المادَّة للطرفين تحت باب واحدٍ، فالأول: يدل على النجاسة. والثاني: يمكن أن يستدلَ منه على طهارته وإن كان ضعيفاً. قلت: ولا حجة في قصة الإسرائيلي على الطهارة. أمَّا أولاً، فلأنه لم يذكر أنه سَقَاه من خُفِّه أو حَفَرَ حُفرة ثم سقاه منه، وكذلك ليس فيه أنه غَسَلَ الخفَّ أولاً. وسكوتُه هذا ليس سكوتاً في معرض البيان، لأنه بصدد ذكر القِصة فقط لا ببيان المسألة. والرواةُ إذا سردوا قصةً لا يقصدون إلا ذكرَها على ما كانت في الخارج ولا يتعرضون إلى تخاريج المسائل ولا يراعونها في عباراتهم ثم يجيء علماءُ المذاهب ويأخذون المسائل من تعبيراتهم. وهذا طريق ضعيفٌ جداً فاحفظه فإِنه يُنجيك عن كثير من المضائق وستمر عليك نظائره في هذا الكتاب.
قوله: (وقال أحمد بن شَبِيبٍ)... إلخ وفيه لفظ مشكل وهو «تبول» كما مرَّ: ولعل البخاري تَرَكه عمداً. وقد ثبت عندي أنه من عادة البخاري حذفُ الجملة المشكلة أو اللفظ المشكل ولا قلق فيه، فإِنَّه يعلم من موضعه.
الحاصل: أن الشريعةَ لا تحكم بالنجاسة إلا بالمشاهدة الجزئية أو الإِخبار، فإِذا لم يكن هناك إِخبار ولا مشاهدة جُزئية، فاإنه لا تحكم بالنجاسة بمجردِ تطرقِ الأوهامِ وتوسوس الصدور. واعلم أن الشريعةَ لم تهدر الاحتمالات بالكلية وكذا لم تعتبرها بالكلية. والذي تبين لي أن تُقسَمَ على الأحوال فيعتبرُ مرة ويهدرُ أخرى. وإن كانت عامةُ عبارات فقهائنا تذهبُ إلى التعميم فإِنهم قالوا: إن ما يُحمل إلينا من دار الحرب فإِنه طاهر مطلقاً. وعندي أن مطبوخات الهندوسيين كلها مكروهةٌ لغلبة الظن بنجاستها، كما قالوا في سؤر الدجاجة المُخَلاة.(1/400)
قوله: (فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك) على الشافعية رحمهم الله تعالى. وهذا لا يردُ على الحنفية، فإِنهم قائلون بطهارة الأرض باليُبْس. وأبعد الخَطَّابي في تأويله بأنها كانت تبولُ خارجَ المسجد ثم تمر في المسجد. قلت: ما أظرفَ وأعقلَ هذه الكلاب فهلا قال: إنها كانت تستنجي أيضاً. ثم تجيء في المسجد واعلم أن ترك البولِ في أرض المسجد حتى اليُبس مستنكرٌ عندنا أيضاً فلم أرد به شرحَ الحديث من أن طهارةَ أرضِ المسجد عندهم كانت على هذا الطريق، بل أردت التعريضَ ليفهمَ الخصومُ أن الحنفية رحمهم الله تعالى أيضاً لهم مُسْكَةٌ في الباب.
والوجه عندي أن غرضَ الراوي منه بيانُ عدم علمهم الخصوصي بمواضع أبوالها، مع حصول العلم الكلي وجنسه عندهم، فإِنها إذا كانت تُقبلُ وتدبر فأمكن أن تبول أيضاً فيقول: إنه لم يحدثْ من هذا الجنس في تطهير المسجد أمر جديد، بل عُدَّت طاهرة كما كانت قبل ذلك. والحكمُ بالنجاسة لا يمكن عندنا إلا بمشاهدة جُزْئية أو إخبار صحيح. وأما الظُّنْون فلا تغني عن الحق شيئاً. وبمثله نقول في حديث القُلتين وبئر بُضَاعة أيضاً، فإنه ليس هناك إلا عِلمٌ كليٌّ في مرتبة الجنس دون العلم الجزئي فاعلمه.
ثم استدلَّ الشافعية على أنَّ الأرض لا تطهر إلا بالغسل بحديث بولِ الأعرابي في المسجد وإهْرَاق الدلو عليه كما أخرجه أبو داود. قلت: وهذا أيضاً سبيل آخر لتطهيرها عندنا وفيه نفع أيضاً، وهو إزالةُ الرائحة الكريهة، والتطهير على الفور. مع ورودِ التصريح بحفرِ هذا الموضع أيضاً، كما هو عند أبي داود، فكأنه اكتفى بإسالة الدلو في الحالة الراهنة ليطهر سطحها وأمرَ بعده بحفرها تطهيراً لباطنها. وكيف ما كان مسألة طهارة الأرض باليُبس مستقيمة على كل حال.(1/401)
175 - قوله: (إذا أرسلت)... إلخ واتفقوا على أنَّه إن قَتَلَ خنقاً لا يكون حلالاً، بل يكون ميتة، فلا بد من الجرح. وشَرَطَ بعضُهم الإِدماء أيضاً.
قوله: (فإِنما أَمْسَكَهُ)... إلخ وفيه إشارة إلى أن الكلب بعد فَنَائه في رضاءِ مولاه يصيرُ آلةً له، ولا يبقى له حكمة بل يصير كالمُدْيَة. قلت: فما ظنُّك بالعبد الذي انتصب لمعاداةِ مولاه في اتباعِ هَوَاه، فمثله كَمَثَل الكلب أو أسوأ منه، فالكلبُ بعد طاعة مالكه صار في حُكْم المالك، والمالكُ بمعصية مولاه صار أسوأ من الكلب. ووجه الاستدلال منه على طهارته: أنه لم يأمره بغسل لعابه ولو كان نجساً لأمر به، فدلَّ على أنه طاهر.
قلت: التمسكُ بالمبهمات بعد ورودِ الأحاديث المصرحة في الباب بعيدٌ جداً على أنَّه استدلال بالمسكوت، وهو في غاية الضَّعف، فإِنَّه كما لم يأمر بغسل لعابه لم يأمر بغسل الدم الذي خَرَجَ من جرحه، ولا أمر بإِخراج النجاسات التي في بطنه، فمن ذهب إلى طهارتها؟ وإنما لم يتعرَّض إلى الغسل لأنه معروفٌ في الصيد فاستغنى عن ذكره.
ومُحَصِّل الكلام: أنه لا يُظن بمثلِ المصنِّف رحمه الله تعالى أن يكونَ ذهب إلى طهارته مع وُرودِ القطعياتِ الدالة على النجاسة في الباب، وغايتُه أن يكونَ فوض الأمر إلى النَّاظر، ولذا أخرج الأحاديث للطَّرفين، وهذ أيضاً من دأبِهِ فإِنَّه إذ يرى قوةً في الجانبين يذكر الحديثَ للطرفين ولا يجزم بأحد الجانبين والله تعالى أعلم.
باب ُ مَنْ لَمْ يَرَ الوُضُوءَ إِلا مِنَ المَخْرَجَينِ: القُبُلِ وَالدُّبُرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوْ جَآء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَآئِطِ} (المائدة: 6)(1/402)
شَرَعَ في النواقض ووافق فيها أبا حنيفة رحمه الله تعالى في مسِّ الذكر والمرأة ولم يَرَ بهما وضوءاً. ووافق الشافعي رحمه الله تعالى في الخارج من غير السبيلين فلم يره ناقضاً. ثم أَخَرَج آثاراً عديدةً ولا علينا أن لا نلتفتَ إلى جوابها، لأن جوابَ الآثارِ أن يُؤتى بآثار أخرى تعارضها ولكنَّا نُجيبُ بخصوصها إن شاء الله تعالى. فلنتكلم أوّلاً على آية الوضوء يسيراً ثم لنعرَّج إلى جواب الآثار.
فاعلم أنه يشكلُ على تكرارِ الآية الواحدة كآية الوضوء في المائدة والنساء، فإِنَّه لا فرقَ بينهما إلا بلفظ منه في المائدة. ولا أجد التكرار مثله في باب الأحكام. نعم، قد يوجدُ في القصص لمقاصد ومعاني ذكرها المفسرون، مع أنه راعى فيها التفنن أيضاً.
والذي تحصل لي في دَفْعِه: أن آية المائدة إنما نزلت لتعليم الوضوء عند القيام إلى الصلاة، كما مرَّ أنَّ المطلوبَ في شريعتنا هو الوضوءُ لكل صلاة وإن كان فرضاً بعد الحدث، وللتيمم عند فَقْدِ الماء. وآيةُ النساء نزلت لتعليم التيمم من الجنابة عند فَقْدِ الماء. ثم لمَّا كان التيمم من الحدث الأصغر والأكبر سواءٌ، جاء الاشتراكُ فب بعض الأشياء، وإلا فالآية الأولى سِيْقت لبيان حكم الحدثِ الأصغر، والثانية لبيان الحدث الأكبر، وانجرَّ في ذيلهما ذكر بعض أشياء تبعاً، وحينئذ لم يبق في التكرار قلق. وسيأتي بعض الكلام في باب التيمم.
ثم اعلم أنَّ الآية عند الشافعي رحمه الله تعالى أقامت أصلين في النواقض:
الأول: الخارج من السبيلين، وهو المُشار إليه بقوله: {أو جاء أحدٌ من الغَائِط} (المائدة: 6) فنقَّح مناطه وقال: إنه الخروج من السبيلين.
والثاني: مسُّ المرأة وأَلحقَ به مسَّ الذكر أيضاً لكونهما من باب الشهوة.(1/403)
وعند الحنفية المراد من المُلامسة هو الجماع، كما ذَهَب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلي رضي الله تعالى عنه وغيرهما، واختَارَه البخاري وصرَّح به في التفسير، ولذا لم يُوجب من مسِّ المرأة والذكر وضوءاً. فالأصلُ عندنا واحدٌ، فإِنَّا فتشنا المناط في قوله: {أو جَاءَ منْكم أحدٌ من الغَائِطِ} فوجدنا المعنى المؤثرَ فيه خروجُ النَّجَاسة، ولم نجدْ للسبيلين أو غيرهما تأثيراً. وإذا علمنا أنَّه المؤثرُ في زوال الطهارة أدرنا الحكمَ عليه. وقلنا: إن الخارجَ النجسَ ناقضٌ مطلقاً.
وبالجملة حمل الشافعي رحمه الله تعالى الملامسةَ على مسِّ المرأة، فَكَان المسُّ عنده ناقضاً بالنص وأَلحقَ مسَّ الذكر من الحدث. ونحن جعلنا الخارجَ من السبيلين ناقضاً بالنص وألحقنا به الخارجَ من غير السبيلين بالحديث. غير أنَّ الثاني أخف عندي بالنسبة إلى النوع الأول وإن لم يصرح به فقهاؤنا. وذلك لما ثبت عندي اختلاف المراتب تحت شيء واحد وسنقرره عن قريب.
ومذهب الحنفية قوي. إنْ شاء الله تعالى - دِرَاية، ورواية. ويشهد له ما أخرج الترمذيُّ من حديث نقض الوضوء من القيء وسكت عليه، وصححه ابن مَنْده الأصْبَهاني، وأوَّله الشافعي رحمه الله تعالى وقال: إن المرادَ من الوضوء غَسْل الفم، وهو كما ترى. ثم قال الترمذي: وقد رأى غير واحدٍ من أهلِ العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّموغيرهم من التابعين الوضوءَ من القيء والرُّعَاف، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: ليس في القيء والرُّعاف وضوء، وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله تعالى انتهى.(1/404)
وقال الخَطَّابي في «معالم السنن»: قال أكثر الفقهاء: سيلان الدم من غير السبيلين ينقض الوضوء. وهذا أحوط المذهبين وبه أقول ا ه. فعُلِم أن مذهبَ الحنفية هو ما اختاره أكثر أصحابه صلى الله عليه وسلّمولا حاجة لنا بعد ذلك إلى تَجَشُّم استدلال.
ولكِنَّا نقول: إنَّ لنا ما أخرجه الحافظ الزَّيْلَعي من «كامل بن عَدي»: «الوضوء من كل دم سائل». إلا أن في النسخة سهواً من الكاتب فكتب: محمد بن سليمان وهو غير معروف، وبعد التصحيح هو: عمر بن سليمان وقد حررته في محله. وفيه أحمد بن الفرج وقد أخرج عنه أبو عَوَانة في «صحيحه» فصار الحديث قوياً.
وكذلك حديث آخر في البناء رواه ابن ماجه والدارقطني: «من أصابه قيء أو رُعَاف أو مَذْي فلينصرف وليتوضأ، ثم لْيبْنِ على صلاته»... إلخ والأصحُّ عندي أنه مرسل وإن تعقب عليه المارديني، ومالَ إلى رفْعِهِ، وفي التخريج للزيلعي أنَّه صحيح، ولعلَّه سهو من الكاتب، لأنَّ نسخته مملوءة من الأغلاط، فكان في الأصل غير صحيح فحرَّفه، لأن الأصح هو الإِرسال. والمرسلُ حجةٌ عند الأكثر سيما إذا التحق به فتاوى الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما في الزُّرْقَانِي وظَهَر به العمل.
ثم الأظهر عندي: أَنْ يُرادَ من الملامسة المباشرةُ الفاحشة، فيدخلُ فيها الجماع، بل لفظ الملامسةِ أصدقُ على المباشرة مما قالوه. وحينئذٍ صارت الملامسةُ أيضاً أصلاً مستقلاً، كالخروج من السبيلين، فإِن الغُسْل بالجماع لا ينوط بالإنزال، فلا يقال: إن الجماع ليس أصلاً مستقلاً، بل هو داخلٌ تحت الخارج من السبيلين.
(1/405)
وعلى هذا التقرير لا يردُ ما أورده الشيخ ابن الهُمَام على مذهب الشيخين: أنهما قالا: إنَّ المباشرةَ الفاحشة ناقضة مطلقاً، سواء خرج منه شيءٌ أو لا، وعللوه أنَّ المباشرة الفاحشة لمَّا لم تخلُ عن خُروج شيء في غالب الأحوال أُقيم غلبة الظنِّ فيها مُقَام خروجه، فقال الشيخ رحمه الله تعالى: إنَّ هذا الاعتبار إنَّما يناسب فيما لا يمكنُ إليه النَّظر بالحس، وههنا أمكن تحقيقهُ بالمشاهدة، فينبغي أن يُدارَ الحكمُ على حقيقة الخروج كما ذهب إليه محمد رحمه الله تعالى.
قلت: والراجح عندي مذهب الشيخين، لأن نقضَ الوضوء من المباشرة الفاحشة ليس لِمَا فَهموه، فإنه يرجعُ حينئذ إلى الأصل الأول، بل هي داخلة عندي تحت الأصل الثاني، فهي من جُزْئيات المُلامَسَة.
ثم اعلم أني أردتُ من المُلامَسة: الجماعَ، والمباشرةَ، الفاحشة كليهما، على طريقِ إِطلاقِ الشيء وإرادة بعض ما صدقاته وبعضُ مراتبه. فالجماعُ من أعلى مراتبه، والمباشرةُ من أدناه وأخذُ جميع المراتب غير لازم، ليقال: إِنَّه يلزم عليه كونُ مس المرأة أيضاً ناقضاً، لأنَّ الشافعية أيضاً لم يأخذوا بجميع مراتبها، وقيدوها بباطنِ الكفِّ وبكونها بدون حائل.
وهذا بابٌ غَفَلَ عنه النَّاس، فإن الشريعةَ تَرِدُ بشيء وتبقى مراتبُها تحت مراحل الاجتهاد، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُواْ النّسَآء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}(البقرة: 222) فمن أخذَه بجميع مراتبه، ومن ذهب إلى وجوبِ الاعتزال وحُرْمة القربان مطلقاً، ولكنهم أقاموا فيه المراتب.
فقال قائل: إنَّ المراد منه أدنى مرتَبةُ الاعتزال، وهو الاعتزال عن موضع الطَّمْث.(1/406)
وقال آخر: بل هو فوقه، فأراد من السُّرة إلى الركبة، وللغفلة على هذا اضطروا إلى التأويلات في كثير من المواضع، كقوله: «المؤمنُ لا يَنْجَس»، «وإن الماء الطهور لا يُنَجِّسُه شيء» ولو تركوا المراتبَ على الاجتهاد لَمَا احتاجُوا إليه، فسلبُ النجاسة عنه في مرتبة دون مرتبة، وهو معنى قول الطحاوي: أي كما زعمتم، أي ليست نجاستُه بهذه المثابة، وهذه المرتبة.
وهكذا أقول في مسألة الإستدبار والإستقبال تكلموا عليه من الجانبين وأطالوا الكلامَ، وحقيقة الأمر أن الشريعةَ لم ترد فيها بمراتب النهي، فالمطلوب أن لا يتوجه الإِنسان إلى القبلة عند الغائط أما أنَّ أي مرتبة من التَّوقِّي مطلوبٌ فلم يتعرَّض إليه الشارع وتركه تحت الاجتهاد. وهكذا لا تردُ الشريعة إلا بالأمرِ والنهي، ولا تُعَرِّج إلى مراتبه أصلاً، بل يقول تحت الاجتهاد. فيجيء أحدٌ من الأئمة ويقول: إنه واجبٌ، ويقول آخر: إِنه مستحب، وكذا يقول هذا: إنه حرام، ويقول هذا: إنه ليس بحرام. ووجه الاختلاف ما نبَّهناك عليه، فإِذا لم تَرِد مراتبُ الشيء مصرحة من جهة الشرع لا بد لهم أن يختلفوا فيه. ومن ههنا عُلِم ضرُورَة الاجتهاد، فإِنه لولاه لما علمنا مَرَاتب الشيء، ولا أدركنا غَرَضَ الشارع، فإِن الشارع إذا تركه ولن يعرج إليه، فإِذن ليس من يُنبِّهنا إلا المجتهد.
ولعلك ما دريتَ فِقهه بهذا القَدْر من البيان، وتحتاجُ إلى مزيد التِّبْيان. واعلم أنَّ هناك وظيفتان:
الأولى: وظيفةُ الواعظِ المذكِّر، فإِنَّه يحرِّض على العمل ويرغِّب إليه، فيختار من التعبيرات ما يكون أدعى لها، ولا يلتفتُ إلى تحقيق المسألة واستيفاءِ شَرَائطها وموانعها، بل يرسل الكلام، فَيَعدُ ويُوْعِد، ويرغِّب ويرهِّب مطلقاً، ويأمر وينهى، ولا يلتفت إلى مزيد التفاصيل.c(1/407)
، وهو يريدُ تلقينَ العلم وبيان المسألة. إما العمل بها فبمعزلٍ عن نظره، فيحقق البيانَ ويدقق الكلام ويستوفي الشروطَ ويختارُ من التعبيرات ما لا يكونُ مُوَهِماً بخلاف المقصود، بل يكون أدلَّ عليه وأقربَ إليه، فلا يرسل الكلام بل يذكرُه بشرائطه ويَعِدُ ويُوْعِد ويرغِّب ويرهِّب بشرائطه.
فهاتان وظيفتان ومنصب الشارع منصبُ المُذَكِّر قال الله تعالى: {إنما أنت مُذَكِّر لست عليهم بِمُصيْطِرٍ} (الغاشية: 21، 22) وليس له منصبُ المعلم فقط، فهو مذكِّرٌ ومعلمٌ معاً، فوجب أن يعبِّر بما هو أدعى للعمل، وأبعد عمَّا يوجب الكسل. وهذا هو التعليم الفطري، فإِن أكثر تعليماته صلى الله عليه وسلّم مستفادٌ من عَمَلِهِ، فما أمر به الناسَ عمل به أولاً، ثم تعلم منه الناس. ولذا لم يحتاجوا إلى التعليم والتعلم. ولو كان طريقُه كما في زماننا لما شاع الدِّين إلى الأبد ولكنه عَلَّمَ الناس بعمله، ثم إذا قال لهم أمراً اختار فيه الطريقَ الفطري أيضاً: وهو الأمر بالمطلوب والنَّهي عن المكروه ولم يبحث عن مراتبه. قال الله تعالى: {وَمَآ ءاتَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} (الحشر: 7) فهذا هو السبيل الأقوم.
أما البحث عن المراتبِ فهو طريقٌ مستحدَثٌ، سلكَه العلماء لفسادِ الزمان. وأما الصحابة رضي الله عنهم فإنَّهم إذا أمروا بشيء أخذوه بجميع مراتبه، وإذا نُهُوا عنه تركوه بالكلية، فلم تكن لهم حاجة إلى البحث. ولو كان الشارعُ تعرَّض إلى المراتب لفاته منصبُ المذكِّر، ولانعدمَ العمل، فإِنه إذا جاء البحثُ والجدلُ بَطَل العمل.
مثلاً لو قال تعالى: فاعتزلوا النساء عن موضع الطَّمْث ولا تقربوه فقطه واستمتعوا بسائر الأعضاء، لربما وقع الناس في الحرام، لأنَّ مَنْ يَرتعُ حول الحِمى يُوشكُ أن يقع فيه، وإنَّما أخذَ الاعتزال في التعبير ليكون أسهلَ له في العمل، ولا يقعوا في المعصية.(1/408)
والثانية: وظيفةُ المعلم والفقِيهوكذلك إذا أحب أمراً، أمر له مطلقاً، ليأتمر به النَّاس بجميع مراتبه، ويقع في حيز مرضاه الله تعالى مثلاً، قال: من ترك الصلاة فقد كَفَرَ، ولم يقل فَعَلَ فِعْلَ الكفر، أو مُستحِلاً، أو قارب الكفر، مع أنه كان أسهلَ في بادىء النظر، لأنه لو قال كذلك لفات غرضُه من التشديد ولانعدم العمل، ولذا كان السلف يكرهون تأويله.
فالحاصل: أنه إذا يأمرنا بشيء فكأنه يريدُ العملَ به بأقصى ما يمكنُ، بحيث لا تبقى مرتبةٌ من مراتبه متروكةً، وكذلك في جانب النهي، ولذا كان يقول عند البيعة: «فيما استطعتم» فبذل الجُهد والاستطاعة لا يكون إلا إذا أجملَ الكلام وإذا فصَّل يحدثُ التهاون كما هو مشاهد في عمل العوامّ وعامة العلماء. أما الذين لهم وَجَاهةٌ عند الله، وقَبُولٌ في جَنَابِهِ، فهمُ الذين لا تُلْهِيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله.
فإِن كنتَ هيناً ليناً تستطيعُ أَنْ تقبلَ ما ألقينا عليك من هذا التحقيق، فاعلم أنَّ القرآن أخذَ الملامسة في العُنوان، وهي تتناولُ مسَّ المرأة أيضاً.
لكنَّه لما كان في أدنى مرتبة منه حكمنا باستحباب الوضوء منه، ولم نقل بالوجوب، بخلاف المُبَاشرة الفاحشة فإِنها أشد، فقلنا بإِيجاب الوضوء منها، وبخلاف الجماع فإِنَّه أشدُّ من الكل فقلنا بإِيجاب الغُسْل.
(1/409)
والحاصل: أن إرادة المس باليد في مرتبةٍ تناول اللفظ، وإرادة المباشرة في مرتبة الغرض، يعني أن اللفظَ وإن كان يتناولُ المسَّ باليد أيضاً إلا أن الغَرَض منه هو الجماع والمباشرة، التي هي عبارةٌ من تماسِّ الفرجين. ولمَّا لم يكن المسُّ مراداً - وإن كان متناولات اللفظ - حكمنا بكونه ناقضاً في أدنى مرتبة، وأوجبنا الوضوءَ منه على خواصِّ الأمة، ومثله قلنا في لحوم الإِبل وما مسَّت النار. وعلى هذا فقد عملنا بالآية بجميع مراتبها. نعم، فرقنا في حكمها بالشدة والضَّعف، ويمكن أن يدخلَ في جُزْئيات المباشرة ما كان عليه العمل في ابتداء الإِسلام، أعني: الماء من الماء.
ثم اعلم: أنَّ الشريعةَ قد تدل على هذه المراتب بصنيعها ولا تفصحُ عنها، ولكنَّها تُفهمها بعرض الكلام وأطرافه، ومن جهة القرائن، فتنهى عن شيء ثم قد تردُ بفعله تارةً، فيحدثُ التعارض في بادىء النظر. والوجه أنه يريد أن لا يترتكبه الناسُ ويجتنبوا عنه، ومع ذلك يريدُ بيان المسألة والجواز، فيرد بالفعل تارةً ليُعْلَم جوازه. وهذا كالاستدبارِ نهى عنه الشرعُ كما نهى عن الاستقبال. ثم رُوي عنه الاستدبار عن ابن عمر رضي الله عنه كما فهمه الشافعية. وهذا ليُعلَم أن كراهيةَ الاستدبار دون كراهية الاستقبال، مع أن المطلوبَ التجنب عنهما، إلا أن الاستدبارِ متحملٌ في بعض الأحوال. ونظائرهُ كثيرةٌ وسنعود إلى إيضاحه في باب ما يستر من العورة بأبسط من هذا.
وبعد هذا التحقيق لم يبق تكرار في قوله: {جُنُباً} وقوله: {لَمَسْتُمُ} على أنَّ ذكر الجَنَابة والسُّكر في صدر الآية لكونهما منافيين للصلاة، ثم ذكر حُكمَ الاغتسال، ثم كرر: {لَمَسْتُمُ} لبيان التيمم، فاندفع إشكال الطبري.
(1/410)
قال ابن الهُمَام: وإنَّما ناسب حملُ اللمس على معنى الجماع ليكونَ بياناً لحكم الحدثين عند عدم الماء، كما بيَّن حكمهما عند وجوده. فإِن قلت: فما تقول في القهقهة فإِنه ليس داخلاً في الأصلين مع أنكم قلتم بوجوب الوضوء منه.
قلت: التحقيق عندي أن إيجابَ الوضوءِ منه ليس لكونه ناقضاً بل تعزيراً كما في «البحر»: أنَّ في الوضوء من القهقهة قولان: الأول أنه تعزيرٌ فقط. وفرّع عليه أنه لو قهقهه رجلٌ في الصَّلاة فوضوءُه باطل في حق الصَّلاة فقط، على أنَّه صح فيه مرسلُ أبي العالية عند الدارقطني وإن وَصَلَهُ الثقات، إلا أن الوجدان لا يحكمُ بوصله، فيمكنُ أن يكونَ وَهَماً. واختاره الأوزاعي أيضاً. ومن ههنا اندفع إيرادُ الزيادة على الكتاب بالخبر، فإِنّ القهقهة ليست داخلة في شيء من الأصلين اللذين ذكرهما النَّص في باب النواقض.
فإِن قلت: إنه لا مناسبةَ بين المرضِ والسفر، والإِتيان من الغائط واللمس، فإِن الأوَّلين من الحالات التي يتعسرُ فيها القدرةُ على الماء، والأخيران من النواقض، فكيف ناسبَ عدهما في سياق واحد؟ قلت: وإنما حَسُن سردُها في سياق واحد لدخولها كلها في حُكْم التيمم، فإِن قوله: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآء} (المائدة: 6) يشمل الكلَّ، سواء كان مريضاً أو مسافراً أو آتياً من الغائط أو جنباً، فإِن هؤلاءكلهم إذا لم يَقْدِروا على الماء لفَقْدِه أو لعدم القدرة على استعماله، فإِنَّهم يتيممون على أنه جَمَعَ العذرين والناقضين، فكأن جمع هذا وهذا وهو لطيف.
قوله: (قال عطاء) كذا المسألةُ عندنا.
وقال جابر رضي الله عنه: «إذا ضَحِكَ في الصَّلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء». قلت: وعنه عند الدارقطني: «من ضَحِكَ منكم في صلاتِهِ فليتوضأ وليُعد الصَّلاة» وتكلَّمَ عليه الدارقطني، على أن الوضوءَ عندنا في القهقهة فقط. والحق أنَّ جابراً لا يوافقنا.(1/411)
قوله: (وقال الحسن) وكذلك المسألة عندنا، إلا أنَّه إذا نَزَع خُفية يغسل رجليه فقط، ولا يعيد الوضوء.
قوله: (وقال أبو هريرة): قلت: وعنه في تفسير الحديث أنَّه... البخاري فيخالف البخاري أيضاً، لأنه أخصُّ من الخارج من السبيلين أيضاً، فإِذن هو نحو تعبير فقط.
قوله: (ويذكر عن جابر رضي الله تعالى عنه)... إلخ وأخرجه أبو داود وإنما عبَّر عنه بالتمريض لأنَّ في إسناده عبد الله بن محمد بن عَقيل. وحسَّنَ بعضُهم حديثَه وهو الراجح عندي. قال الترمذي: وعبد الله بن محمد بن عَقيل هو صدوق، وقد تَكَلَّم فيه بعض أهل العلم من قِبَل حفظه وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحُميدي يحتجون بحديث عبد الله بن محمد بن عَقيل. قال محمد (يعني البخاري) وهو مُقارِبُ الحديث.
قلت: والاستدلال منه غير تام، لأنَّه لم يَعلم أنَّه هل بَلَغَ خبرُه إلى النبي صلى الله عليه وسلّمأم لا؟ ثم إن الدم نجس بالاتفاق، فكيف مضى في صلاته مع وجود الدم النجس. قال الخَطَّابي في باب الوضوء من الدم في قصة رجلين كان النبي صلى الله عليه وسلّمبعثهما للحراسة على فم الشِّعب. وقول الشافعي رحمه الله تعالى قويٌّ في القياس، ومذاهبهم أقوى في الاتباع. ولست أدري كيف يصح هذا الاستدلال من الخبر والدم إذا سالَ أصاب بدنَه وجلدَه، وربما أصاب ثيابه، ومع إصابته شيء من ذلك - وإن كان يسيراً - لا تصح الصَّلاة عند الشافعي رحمه الله تعالى، إلا أن يقال: إن الدمَ كان يخرجُ من الجِراحَة على سبيل الذوق، حتى لا يصيبُ شيئاً من ظاهر بدنه، ولئن كان كذلك فهو أمر عجب.(1/412)
والوجه عندي أنه كان إبقاءً رجاءً للرحمة، فإنَّ الشهيد يجيءُ يوم القيامة واللونُ لون الدم والريحُ ريحُ المسك، فهذا من باب المناقب كالموت في السجدة. وكما في البخاري في قِصة شهادة القرَّاء، حيث استشهد رجلٌ من أصحابه صلى الله عليه وسلّمفخرجَ منه الدمُ فأخذ من دمِهِ وجعل يمسَحَه على وجهه ويقول: فُزت ورب الكعبة. ولم يبحث هناكَ أحدٌ أنَّ مسحَ الدم على الوجه كيف هو. وكقوله في رجل مات في إحرامه: «لا تخمِّرُوا رأسَه.... فإِنَّه يُبعث يوم القيامة مُلبياً» فإنَّه من باب البِشارة. وحملَه الخصومُ على الحكم الفقهي وليس بجيد وسنقرِرُه في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله: (وقال الحسن)... إلخ أي البصري ويمكنُ أن يُحمل على مسألة المعذورِ عندنا وهذه المسألةُ ذكرها الكبير أحسن من الكل. ثم إنهم ذكروا مسألة ابتداء العُذر، أي متى يصير معذوراً وهو بإحاطة الوقت، ومسألة بقائه وهو بظهوره مرة في وقت الصَّلاة، ولم يتعرضوا إلى أنَّه ماذاً يفعل في ابتداءِ عُذْرِه، فهل ينتظر إلى أَنْ يمضي الوقت فيتبين أنَّه كان معذوراً أولا، ثم يُصلي ويقضي ما فاته، أو يتوضأ ويصليِّ قبل التَّبيُّنِ ولم أرها إلا في «القنية» وفيها: أنَّه يتوضأ ويصلِّي مع عُذْرِهِ، فإِنْ أحاط عذرُه بالوقتِ صحت صلاته وإلا فيُعِيدُها.
قوله: (قال طاوس)... إلخ ولعلَّهَ دمُ المعذورُ، أو دم غيرُ سائلٍ، كما قال الحسن على ما عند ابن أبي شيبة بإِسناد صحيح: «أنه كان لا يرى الوضوء من الدم، إلا إذا كان سائلاً».
قوله: (وعَصَر ابن عمر).. إلخ وليس فيه أنَّه خَرَجَ إلى موضعٍ يلحقه حكم التطهير أم لا؟ مع أنَّه فرَّق بين الخارج والمُخرَج كما في «الهداية».
قوله: (وبزق ابن أبي أَوْفَى دماً)... إلخ، وهكذا عندنا إذا لم يكن الدم غالباً على البُزَاق.(1/413)
قوله: (وقال ابن عمر رضي الله عنه) قلت: وليس فيه أنَّه في أحكام النجاسة أو الصلاة، لأنَّكَ قد عَلِمتَ أن الأحسنَ عند الشرع هو إزالة النجاسة على الفور دون التَّلطُّخ بِها. فالوضوء من المَذْي، والمضمضةُ من اللبن، وكذلك غَسل المَحَاجم كلها ليس من أحكام الصلاة عندي، بل المقصود منها الإتيان بها على الفور. وقد تحقق عند أن التلطُّخَ بالنجاسات يوجِبُ نقصاً في العبادات في نظر صاحب الشرع، فقال صلى الله عليه وسلّم «أفطر الحاجِمُ والمحجوم» لهذا النقيصة والوضوء من الرُّعَاف والقيء، وترك الصيام للحائضة كلها لهذا المعنى، والله تعالى أعلم. وسنقرره في الصيام.
178 - قوله: (حدثنا قُتيبة)... إلخ وفيه الوضوء فهو من أحكام المَذْي عندي، فيستحب له أن يَغْسِلَ ذَكَرَه عقيبه. ولمَّا كان أكثر أحكام الفقه يتعلق بالحلال والحرام، خفي ذكرُ هذه الآداب، واقتَصرَت هذه الأبواب كلها على وقت الصلاة. ولعل الوجه فيه أن المنيَّ لمَّا كان من الشهوة القوية أوجب منه الغُسْل، وهذا من الشهوة الضعيفةِ فأوجبَ فيه الوضوءَ وغَسْل المذاكير فقط.
وما ذكره الطحاوي: أنَّه كان للعلاج، لم يرد به العلاج الطبي، بل دَفُع تذرِيقهِ في الحالة الراهنة، كما في الجديث من الغسل والجلوس في المِرْكن للمستحاضة، فإِنه أيضاً مؤثرٌ في تقليل الدم. وهذا يَدُلك ثانياً على أن تقليلَ النجاسة وعدم التلطخ بها مطلوبٌ في حدّ ذاته.(1/414)
179 - قوله: (حدثنا سعد)... إلخ أقول: والإِجماع منعقدٌ على إيجاب الغُسل بمجاوزة الخِتَانين، فلعل مراد عثمان أنه يتوضأ في الحالة الرَّاهنة ليتخفَّفَ أثرُ الجنابة، ولا يريدُ به نفيَ الغُسْل رأساً فإنَّه ضروري. وإنما تعرَّض إلى أمر زائد. كيف وقد صحَّ عنه فتوى الغُسْل. ويمكن أن يُحمل على زمانٍ لم يكُن حَصَلَ عليه الإِجماعُ، حتى إذا جَمَعَ عمرُ رضي الله عنه الناس وأعلنَ أنه من يعملُ بعده بحديث: «الماء من الماء» يُعَزِّرْه، فلا يُمكِن أن يقولَ به. ولذا قال الترمذي بعد إخراج حديث الجمهور: وهو قول أكثرِ أهلِ العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّموعدّ منهم عثمان رضي الله عنه أيضاً، على أن أحمد رحمه الله تعالى كان يعلله، كما في «الفتح».
179 - قوله: (كما يتوضأ للصَّلاة) وهذا يُشير إلى أنَّ للوضوء أقساماً في ذهن الراوي، ولذا قيَّده وقد ثبت نحو من الوضوء عند الطحاوي عن ابن عمر رضي الله عنهما: وهو وضوءُ مَنْ لم يحدث. وعند مسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّمللنَّوم. وهو أيضاً ليس بوضوءٍ تامٍ. وإذا ثبتت أقسامٌ في الوضوء فلا بُعْد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلّمالتزم لنفسه نوعاً منه لردِّ السلام أيضاً، كما في قصة مهاجر بن قُنْفُذ: «إني كرهت أن أذكر الله إلا على طُهْر» والكلام فيه طويل. وسَيجيء مفصلاً إن شاء الله تعالى.
180 - قوله: (أعجلت) تعجيل هو كئى تجهير.
180 - قوله: (قحطت) من القحط صلى الله عليه وسلّمني نه نكلا وهو مفصلٌ عند مسلم: وهو دليلٌ صريحٌ على أنَّ قوله: «الماء من الماء» كان في اليقظة لا في النوم، كما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه في الاحتلام. وقد مرَّ منَّا تأويله في المقدمة.
باب الرَّجُلِ يُوَضِّىءُ صَاحِبَه(1/415)
يعني هل يجوز الاستمداد في الوضوء؟ فأجاز الحنفية الصبَّ ومثله دون الدَّلك، فهذا أيضاً من باب إقامة المراتب، فأجازوا بعضها ومنَعوا عن بعضها. ثمَّ إن النبي صلى الله عليه وسلّمتوضأ بعدَه في المُزْدَلفة أيضاً، ولا بأس إذا كان بعد تبدُّل المجلس.
181 - قوله: (المصلى أمامك) وقد مرَّ مفصلاً أنَّ وقتَ المغربِ والعشاء في هذا اليوم صارَ واحداً في نظر الحنفية.
182 - قوله: (ومسح برأسه) وفي بعض طرقه: «ومسح بعِمامته»، فحديث المُغِيرة لا يقومُ دليلاً للحنابلة في الاكتفاء بالمسح على العمامة، ما لو يأتوا بدليل نصاً على مسح العِمَامة بدون المسح بشيء من الرأس. وأمَّا الحديثُ المُجمل فإِنَّه لا يكفي، فإِن الراويَ قد يكتفي بِذكْر العِمَامة، ثم إذا أراد التفضيلَ ذَكَرَ معه المسحَ على الرأس أيضاً، مع أن الواقعة واحدةٌ فلا يمكن إلا أَنْ يكون مَسَحَ على بعض الرأس وأدى سُنَّة التكميلِ على العمامة.
باب ُ قِرَاءَةِ القُرْآنِ بَعْدَ الحَدَثِ وَغَيرِه
لم يفصح المصنِّف رحمه الله تعالى بأن المرادَ منه: الأصغر أو الأكبر؟ وعُلم من الخارج أنها جائزةٌ عنده بعد الحدث الأكبر. وقوله: «وغيره» أي في الأوقات العامة.
وقوله: (لا بأس) وتُكره عندنا في الحمام كما في قاضيخان. وكذا لا يُقرأ عند الميت قبل غَسْله.
قوله: (وبكتب الرسالة) ومسُّ المصحف للمحدثِ حرامٌ عندنا مطلقاً، سواء كان مسَّ حروفَه أو بياضه. نعم، يجوزُ مسُّ بياض التفاسير. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى: أنه يجوز في المصحف أيضاً.(1/416)
أما قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة: 79) فقال مالك رحمه الله تعالى: إنه خبرٌ لا إنشاء. وذهب إلى التوسُّع كالبخاري، ومعناه: أنَّ المطهرون هم الملائكة فأخبر أن القرآنَ لا يمكن أن تقربَه الشياطين وتمسَّه، وأَن الملائكة هم الذين يمسُّونه، وليس بإنشاءٍ لِيَشتَرطَ الطهارة للمس. ومر عليه السهيلي وقال: إن {الْمُطَهَّرُونَ} وصفٌ للملائكة، فإنَّهم الذين يكونون دائماً على هذا الوصف، أمَّا بنو آدم يتنجسون مرَّة ويتطهرون أخرى، فهؤلاء متطهرون، أي طهارتهم كَسْبية لا مُطَهرون، لأنَّه يدل على دوام الطهارة، فلا يكون إلا الملائكة.
183 - قوله: (ثم اضطجع) واعلم أنَّ الحنفيةَ رأوا الاضظجاع بعد سُنَّة الفجر جائزاً، ولم يَروَه سنةً مقصودةً في حقه صلى الله عليه وسلّم أمَّا لو أراد أحدٌ أن يقتديَ بعادات النبي صلى الله عليه وسلّميؤجر أيضاً، ويصير مقصوداً في حقه. وقال إبراهيم النَّخَعي: إنه بدعة. ثم نَسَبَ إلينا أن الاضطجاع بدعةٌ عندنا، مع أنَّ الحنفية لم يقولوا به.
183 - قوله: (خفيفتين) وفي رواية: أنَّه كان يقرأ بسورة الإِخلاص، وقل يا أيها الكافرون. وعند الطحاوي أن الإمام الأعظم كان يقرأ تارةً بجزء. قلت: ولعلَّه إذا فات حزبُه من الليل فيطول القراءةَ تلافياً له. وفي «الدر المختار»: أنَّه قرأ مرَّةً داخلَ الكعبة نصفَ القرآن في رَكْعة قائماً على إحدى رجليه، ونصف القرآن في ركعة أخرى هكذا وتحير منه الشامي. قلت: وهو ثابتٌ مرفوعاً أيضاً، كما ذَكَرَهُ أصحاب التفاسير في سورة طه.
قال الحافظ ابن تيمية في بيان نُكتة تخفيف هاتين الركعتين: إِنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمكانَ يبدأ وظيفتَه من الليل بالركعتين الخفيفتين، فلما دخل في وظيفة النَّهار أحبَّ أن يبدأها بالركعتين الخفيفتين فلمَّا دخل في وظيفة النهار أحبَّ أن يبدأ بالركعتين كذلك، لتكون شاكلةُ الوظيفتين واحدة.(1/417)
ثم اعلم أنَّ هذا الحديث أخرجه الطحاوي أيضاً، وفي إسناده قيس بن سليمان مكان مَخْرمَة بن سليمان، وهو سهو من النَّاسخ قطعاً، فإِنَّه لا دخل لقيس في هذا الإسناد. فاعلمه.
باب ُ مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ إِلا مِنَ الغَشْيِ المُثْقِل
قال الأطباء: إنَّ الإغماء يكون في الدماغ، والغَشْي في القلب، وهو من النَّواقض عندنا أيضاً، فاعتبر فيه المراتب أيضاً، حيث عَدَّ الثقيلَ منه ناقضاً دون الخفيف.
184 - قوله: (فحمد الله وأثنى عليه) هذه الخُطبة للكسوف، وهي سُنَّة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إنها ليست من سُنن الصلاة، وإنما خَطَبها لداعية المقام. قلتُ: وهذا من مراحل الاجتهاد.
184 - قوله: (إلاّ قد رأيته) والرؤية غير العلم، فإنَّك ترى الجو من الفَلَك إلى السمك، ولا تعلم كُنُه ما في بطنك، فلا يُستدلَ على العِلمِ المحيط.
باب ُ مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} (المائدة: 6)
باب ُ غَسْلِ الرِّجْلَينِ إِلَى الكَعْبَين
قوله: (وقال ابن المسيب)... إلخ يعني أنها لا تمسح على الخِمار اختار فيه مذهبَ مالك، ولا شك أن الرأس اسم لمجموع العضو، فلا يكون المأمور بالمسح إلا هو، وهذا هو نظر المصنِّف رحمه الله تعالى.
والذي فيه عندي، أنَّ نظر الأئمة دائرٌ في أنَّ الفعلَ إذا أُمر بإِيقاعه على محلٍ، فهل يُشترطُ للامتثال به إيقاعُه على جميع المحل، أو يكفي على بعضه أيضاً؟ ولا إجمال في الآية كما قرروه، لأنَّه يكون إما بالاشتراك أو بالغرابة، وليس ههنا واحد منهما.(1/418)
نعم، إن ثَبَتَ أن الإِجمالَ قد يكون باعتبار مراد المتكلِّم أيضاً، فهذا النوع ممكن ههنا، إلا أن الإِجمال عندهم ينحصر في النحوين فقط.
فنحن معاشر الأحناف تفحَّصْنا حالَ النبي صلى الله عليه وسلّمفي المسح فلم نجد فيه أقلَّ من الرُّبُع فقلنا به، وعلمنا أن الإِيقاعَ على الربع يحكي عن لكل، ويقومُ مَقَامه في نظر الشارع، ويؤدي مُؤدَّاه عنده. لحديث المُغيرة رضي الله عنه، فإنه بعد اختلاف ألفاظه لا يدلُ إلا على أنه مسحَ على بعض الرأس، أي الناصية، وهو ما كان شريطةً، أما على العِمَامة فلأَداءِ سُنة الاستيعاب.
ولنا ما عند أبي داود: «أنه مسحَ مُقدَّم رأسه ولم ينقض العِمَامة» وفيه أبو مُعْقِل: إنه مجهول. قلت: وتبين لي اسمه وهو حَسَنٌ عندي، وهو عبد الله بن مَعْقِل كما في «الفتح» وفي «تهذيب التهذيب» عبد الله بن مَعقِل عن أنس في المسح على العمامة هو أبو مَعقِل يأتي في الكُنى، سمَّاه صاحب «الأطراف».
وأيضاً عندي مرسلٌ عن عطاء بن أبي رَبَاح: «أنُّ النبي صلى الله عليه وسلّمكان في سفر وكان على رأسه عِمَامة، فوضَعَها على رقبته ثم مسح رَأْه» فلمثل هذه الأحاديث قلنا: إن الاستيعابَ ليس بفرضٍ. وثَبَتَ في «الفتح» و«العُمدة» عن ابن عمر رضي الله عنه: «أنَّ المسح على الربع كافٍ للخروج عن العُهدة»، فعُلِم أن الاستيعاب لم يكن شرطاً عند السلف أيضاً.
ثم اعلم أنَّ الراوي توجه في قوله: «ولم يَنْقُض العِمامة» إلى أمرٍ مُهم، لأنَّ السُنَّة في المسح هو الإِقبال والإِدبار، فمسَّت الحاجةُ إلى تعليم المسحِ حالةَ التعمم، فإِنَّ الإِقبال والإِدبار متعذران في ذلك الحال، فالظاهر أنَّه أراد أن يعلِّمَ كيفية المسح حال التعمم. والله تعالى أعلم.(1/419)
وفي «مدارج النبوة» عن ابن الظهيرة: أنَّ الأقوى بما في الباب مذهبُ مالك رحمه الله تعالى. «قلت»: وفي «التفسير الكبير» عن البغوي: أنَّ الأقوى مذهبُ الإِمام الأعظم، ولعلَّهُ في «طبقات الشافعية» أيضاً.
وعن أحمد رحمه الله تعالى: أنَّ المرأةَ إن مسحت على مُقَدَّم رأسها أجزأها.
185 - قوله: (فَأَفْرَغ على يده) واعلم أنَّه قد مر منا الاختلافُ في غسل اليدين قبل الوضوء، هل هو من آداب المياه أو سُنن الوضوء؟ والذي يظهر أنَّه من باب اختلاف الأنظارِ فقط، لأنه إذا ثَبَتَ عسلهُما قبل الوضوءِ عند الطائفتين.
فالذين قالوا: إنَّه من آداب المياه لم يذكُروا له إلا حِكمة التقديم، وهي صِيَانة الماء، فهذا نظرٌ لا غير.
والذين قالوا: إنَّه من سُنن الوضوء، فكأنهم لم يلتفتوا إلى تلك الحكمة مع اتفاقِهم على أنَّه الوضوء. نعم، لو ثَبَتَ عن النبي صلى الله عليه وسلّمتركُه في وضوئه لكان محلاً للخلاف.
ثم إِنه وقع لفظُ الوضوء في حديث المستيقظ فقال: «فلا يَغمِس يدَهُ في وضوئه» فمن هنا دارَ النظرُ في كونه من أحكام الوضوء أو الماء، وحينئذ الأولى أن يسلمَ النظران ويقال: إن الغَسْل إنما هو لأجلِ صيانة الماء، لكنَّ موضِعَهُ قبل الوضوء كما في الحديث، فإِنَّ ماءَ الوضوء أولى بالصِّيانة، وحينئد يجتمع النظران ولا يبقى التناقض، ولا يذهب عليك أنَّ غَسلَ اليدين مرتين ههنا من فعله نفسه، وما يذكره من فعله صلى الله عليه وسلّمالذي رآه، ففيه كما في الرواية التالية: أنَّه كان إلى المرفقين فاعلمه.(1/420)
186 - قوله: (فأقبل بهما وأدبر) والإِقبال والإِدبار حركتان لا أنهما مَسْحتان، كما عن عبد الله بن زيد في الرواية الآتية عقيبها: «فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة» فحسبُه مرةً واحدةً مع ذكر الإِقبال والإِدبار. وكذا في حديث الربيع أخرجه الترمذي وغيره قالت: «مسح رأسه، ومسح ما أقبل منه وما أدبر، وصُدغيه وأذنيه مرةً واحدةً، ثم تقول هي: «مسح برأسه مرتين، بدأ بمؤخَّرِ رأسه، ثم بمقدَّمِهِ» فتبين أنَّ مَن ذَكَر التَكرار في المسح عنى به الإِقبال والإِدبار.
وقال أبو داود: أحاديثُ عثمان الصِّحاح كلها تدلُّ عل المسح مرة. على أنَّه روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أنَّ المسح ثلاثاً بماء واحد جائزٌ، كما في «الهداية» وفي قاضيخان عن أبي حنيفة: أنه لو ثلَّث المسح لا تكون بِدعةٌ ولا سُنة، وهو الرجح عندي، وإن كان في بعض الكتب أنَّه بدعة.
أما الإِقبال والإِدبار فقال النووي: قال أصحابنا: وهذا الردُّ إنما يُستحَبُّ لمنْ كان له شعر غير مضفور، أما من لا شعر له على رأسه، أو كان شعرُه مضفوراً، فلا يُستحب له الرد، إذ لا فائدة فيه. ولو ردَّ في هذه الحالة لم يُحسب الردُّ مسحةً ثانيةً، لأن الماءَ صار مستعملاً بالنسبة إلى ما سوى تلك المسحة. انتهى.
أقول وهو باطلٌ قطعاً، بل الإِقبال والإِدبار لتحقيق الاستيعاب، ويستوي فيه المضفور وغيرُه. وأما حكاية الاستعمال فليست كما قال، لأنه لا يحكم به إلا عند الانفصال وحكمه المسح كما ذكره الشاه ولي الله رحمه الله تعالى: أنَّ دأبَ الشرع أنه إذا خفَّفَ في أمرٍ يتركُ له أُنموذجاً لئلا يُذْهَل عن الأصل بالكُلية، كغسل الأرجُل إذا سقط حالَ المَخفف أقيم مُقَامه المسح أنموذجاً للغسل وتذكاراً له، وكذلك في مسح الرأس، كان الأصل فيه أيضاً هو الغَسْل، إلا أنَّه اكتفى بالمسح لِمَا نبَّهناك أنفاً.(1/421)
قلت: وعندي رواية عن علي رضي الله عنه «من الترغيب والترهيب»: أنه لئلا تنتشر الأشعار في المحشَرِ من طول المُكث». وإسناده ضعيف.
قوله: «في الإِسناد» وهو جد عمرو بن يحيى. ويعلم من «الموطأ» لمحمد رحمه الله تعالى: أن الضميرَ راجعٌ إلى السائلِ، لأن عبد الله بن زيد ليس جد عمرو، بل جد عمرو بن أبي حسن، كما في الرواية التالية: «شَهِدْتُ عمرو بن أبي حسن سَأل عبد الله بن زيد»... إلخ.
باب ُ اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاس
ذهب البخاريُّ إلى طهارةِ الماء المستعمل. قال الشيخ ابن الهُمَام وابن نُجَيم رحمهما الله تعالى: إنَّ العراقيين قاطبةً أنكروا روايةَ النجاسة عن الإِمام، وهم المُتَثَبِّتُون في نقل مذهب الإِمام عندي. وأثبَتَها ما وراء النهر من علمائنا، وهي ضعيفة جداً، لأنِّي لا أجدُ أحداً من السلف يُعَامِلُ الماءَ المستعمل معاملة النجاسات، إلا أنه لا شك أن المطلوب عند الشرع هو صيانةُ وضوئه عنه، كما عند الطحاوي عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا يَغْتَسِلُ أحدكُم في الماء وهو جنب»، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة فقال: «يتناوله تناولاً». وكذا نَهَى الرجلَ عن فَضلِ طَهورِ المرأة. عندي يُبتنى على هذه الدقيقة كما سيجيء تقريره.
والحاصل: أنَّ الماءَ المستعملَ طاهرٌ، لا دليلَ على نجاسته، إلا أنَّ التوقي منه. ثم إن البخاري رحمه الله تعالى استدل على طهارته بفضل طَهور رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولي في استدلاله نَظَرٌ ظاهرٌ، وإن كانت المسألةُ صحيحة في نفسها، لأن العلماء ذهبوا إلى طهارة فَضَلاته صلى الله عليه وسلّم فكيف بفضلِهِ، فلا تقومُ حجة على الطهارة مطلقاً. نعم، يَثْبت طهارة فضله خاصَّة، وبعد فالأمر سهلٌ، ونَسِبَ إلى مالك رحمه الله تعالى أنه مطهِّر أيضاً.(1/422)
187 - قوله: (الهاجرة) أي نصفُ النهار، سُمِّي بها لأنَّهم يهجرون الطريقَ في هذا الوقت ويجلسون في بيوتهم.
187 - قوله: (فضل وضوئه) أي المتساقط من الأعضاء.
قوله: (فصلَّى النبي صلى الله عليه وسلّم... إلخ ولا دليل فيه على الجمع، لأنَّ الراوي بصدد تعديد ما كان من أفعالِه صلى الله عليه وسلّم فجاء الاتصال في الذكر لهذا، لا لأنه تعرَّضَ إلى حال صلاته في الخارج. وهذا كتعديده أشراط الساعة، وربما تكون بينها مدة طويلة، فيجيء أحدٌ من الجهلاء ويظُنها متصلاً واحداً بعد واحد لمجرد القِران في الذِّكر.
قوله: (فمَسَح رأسي) انظر كيف ظهرَ الفرقُ بين قوله: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} (المائدة: 6) وقوله: وامسحوا رءوسكم، فإِنَّ المعتبرَ في الأول هو المسحُ المعهودُ في الشرع، وهو ما يكون بإمرار اليد المبتلة. وأما الثاني فهو على مجرد اللغة، ومعناه إمرار اليد لا غير، ولذا قال: «فمسح رأسي» ولم يَقُل برأسي، وأجد هذا المسح للتبريك في الكتب السَّابقة أيضاً. ومنه سُمِّي المسيح، كأنه مَسَحهُ ربُّه وصار مَسِيحاً بِمسحِهِ، ولذا كان محفوظاً عن نزعة الشيطان ومسحُ رأسِ الصبيان للتبريكِ رائج إلى الآن أيضاً.
189 - قوله: (كادوا يقتتلون) وهو واقعة صُلح الحُدَيْبِيَة.
باب
بَوَّب بلا ترجمة وقد ذكرنا وجهه.
190 - قوله: (فشربت من وضوئه) والظاهر أنه الباقي في الإِناء دون المتساقِطِ من الأعضاء.(1/423)
190 - قوله: (زَرِّ الحَجَلة) وقد أتى كل منهم في تشبيه ما كان أقربُ إليه في ذهنه وكان علامة لختم النبوة. وناسب أن يكونَ على الظَّهر على خلاف ما يكون على جبهة الدَّجَّال من: ك، ف، ر، يقرأه كل راءٍ، وذلك لأنَّ الختمَ يكونُ في الآخر، فناسب الظهر. وطبعه بالنقش المذكور للإشاعة والإِعلان، فناسب الوجه. ولم يكن الخاتم في حقِّ الوسط بل كان مائلاً إلى جانب اليسار، وذلك لأنَّه محل وسوسة الشيطان كما كُشِفَ لبعضهم أنَّ للشيطان خُرطوماً، فإذا وسوس في قلب ابن آدم جلس خلفَه ووسوس من هننا، فجعل الله سبحانه محفوظاً من الخاتم، فناسب ذلك المحل للختم.
باب ُ مَنْ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَة
ويُستفاد بلفظ «من» أنَّه يُشير إلى الاستدلال على الجمع فقط، لا أنَّه اختاره بنفسه أيضاً. واعلم أنَّ الخلافَ في الفصل والوصل بين الحنفية والشافعية ليس في الجواز وعدمه، بل في الأوْلَوية، مع أنَّ في «البحر» تصريحاً بأنَّ أصل السنة تتأدى بالوصل أيضاً وكمالُها بالفصل. وهو في «إمداد الفتاح شرح نور الإِيضاح» أيضاً، فلا حاجة إلى الجواب عندي.
وقد أجاب عنه الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى أنَّ المرادَ من قوله: «من كُفَّة واحدة» هو الاستعانة بيد واحدةٍ على خِلاف سائر الوضوء، فإِنه يُستعان فيه باليدين. فالراوي لا يريد الفصلَ والوصلَ، بل يريد بيانَ استعمال كفة لا كفتين.
وقال آخر: إنَّه من باب تنازع الفعلين، والذي وَصُحَ لدي: هو أنَّ حديث عبد الله بن زيد واقعة واحدة، وفيها الوصل لما في النسائي: «من ماء واحد» وروى: «غَرفة واحدة» لكن لا لكونه سُنة بل لكون الماء قليلاً. أما كونه واقعة فلما أخرجه البخاري في باب الغسل والوضوء من المِخْضَب يكونُ الغُسْل مرتين أيضاً سُنة لهذا الحديث بعينه، مع أنه لم يقل به أحد.(1/424)
ثم اعلم ولا تغفل أن هذا من دأبهم أنه إذا تكونُ عندهم واقعةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلّميُضيفونها إليه كالعادة له، ويعبرون عنها كأنها وضوء النبي صلى الله عليه وسلّمدائماً، ولا يمكن لهم غيره، فإنهم لم يَرَوه إلا كذلك، فلا بد أن يجعلوه كالعادة له، فإن الصحابة لم يتيسر لكل منهم الصُّحبة إلى زمان طويل، بل صَحِبَ بعضُهم مرةً فقط، وبعضٌ آخر أزيدَ منه وهكذا.ثم عبَّر كلُّ واحدٍ منهم عن فعله كما رآه في مدة إقامته.
فلمَّا كان النبي صلى الله عليه وسلّمتوضأ في بيته ووصل فيه بين المضمضة والاستنشاق وغَسْل ذراعيه مرتين، حكاه كذلك وجعله وضوءَ النبي صلى الله عليه وسلّم والذي يَذْهَل عن هذه الدقائق يَحسبُه عادةً وسُنة مستمرةً وقاعدةً مُنعقدة، ولا يدري أنه مجرد تعبير منه، لا أنَّه رأى من وضوئه مراراً، ثمَّ حقَّقَ المسألة، ثم أراد أن يذكرَها كما يذكرون المسألة، بيد أنَّه ينقل الواقعة، وهكذا يفعله الرواة في نَقْلِ سائر الوقائع، فيريدون بها حكايتها كما وقعت ولا يتعرضون إلى تخريج المسائل وهكذا فعلوا في مهر صفية رضي الله عنها فقالوا: «وجعل عِتْقَها صَدَاقها» وفعلوا مثله في حديث استقراض الحيوان بالحيوان. وسنقرره إن شاء الله تعالى.
وإنَّما هو إلى الفقهاء فإِنهم يُنَقِّحُون المناطَ، ويخرِّجُون عنها الأصول، ويُفرِّعون عليها الفصول، والناس غافلون عن هذا الصنيع. فربما يأخذون المسائل عن تعبيراتهم وليس بشيء عندي. والحاصل: أنَّ وضوء النبي صلى الله عليه وسلّمعند الصحابة هو ما رأوه ولو مرةً، فهذا عبد الله بن زيد ليست عنده غير تلك الواقعة وحكاية الحال، فنقلها كما رآها، فليُفهم.(1/425)
إلخ عنه قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّمفأخرجنا له ماءً في تَوْرٍ من صُفْر، فغسل وجهه ثلاثاً ويديه مرتين»... إلخ. وعند أبي داود في باب الوضوء في آنية الصفر عنه قال: «جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلّمفأخرجنا له ماءً في تَوْر» فدلَّ على أنَّ ما يحكي عبد الله بن زيد عن وضوئه صلى الله عليه وسلّمإنما هو واقعةٌ عنده. وعند النسائي عن أم عُمَارة أم عبد الله بن زيد ما يدلُّ على قِلة الماء في تلك الواقعة، وفيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلّمتوضأ فأُتي بماءٍ قَدْر ثلثي المُد» فكأنَّها تشير إلى ذلك. (باب قدر الذي يكتفى به الرجل من المار «نسائي») ولذا اكتفى النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفيها في الغَسْل إلى المِرْفَقين بالمرتين فقط، فلو كان الوصلُ سنةً كاملةً لحديث عبد الله بن زيد ينبغي أن ولنا ما أخرجه ابن السَّكَن في «صحيحه» ونقله الحافظ في «التلخيص الحبير» عن أبي وائل شقيق بن مسلمة، قال: «شَهِدْت علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان توضآ ثلاثاً ثلاثاً، وأَفْرَدا المضمضة من الاستنشاق، ثم قالا: هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلّمتوضأ». وأخرج أبو داود أيضاً حديثَ وضوئهما إلاّ أنه ليس فيه التصريح بالفصل. نعم، ظاهره الفصل قطعاً، وإن كان يُتوهَّمُ من بعض الألفاظ الوصل.(1/426)
ثم إنَّ عثمان رضي الله تعالى عنه إنما اهتم بوضوءِ النبي صلى الله عليه وسلّملأنَّه اختُلف في زمانه في صفة وضوئه كما في «الكنز». عن أبي مالك الدمشقي قال: حُدِّضتُ أَن عثمان بن عفان اختلف في خلافته في الوضوء، فأذن للناس فدخَلوا عليه فدعا بماء... إلخ، وهكذا فعله علي رضي الله عنه، وبَّوب أبو داود على الفصل. وأخرج تحتَه حديثاً، إلاّ أنه ليَّنَه لما فيه: ليث بن سليم. وقد جاء في شواهدِ أمَّاما في طلحة، عن أبيه، عن جده من الجهالات فرفعه الشيخ عمرو بن الصلاح وحَسَّنه. ثم تتبَّعتُ «مسند أحمد» لذلك فتبادر من وضوءِ غيرِ واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنه الفصل. والله تعالى أعلم.
ثم اعلم أنَّ الروايات التي وردت فيها غَرفة واحدةً للمضمضة والاستنشاق حَمَلها النووي على الجمع بينهما ستُّ مراتٍ، كل منهما ثلاث مرات. فكأنه أراد إجراء سُنة التثليث فيها أيضاً، وهو أحدُ وجوهِ الجمع عندهم وإِن كان عسيراً، ومرَّ عليه ابن القيم وقال: بل هي محمولة على وضوئه مرة مرة، فالجمع في غَرفة واحدةٍ إنما هو في وضوئه مرةً مرةً. وفي الغَرْفتين في وضوئه مرتين مرتين، لا أنه مضمض واستنشق ثلاثاً ثلاثاً، مع غسل سائر الأعضاء مرة مرة.
قلت: ما اختاره ابن القيم هو الأقربُ عندي. وليعلم أنَّ الترمذي نقلَ مذهب الشافعي كالحنفية، حيث قال: قال الشافعي رحمه الله تعالى: إن جَمَعَهُما في كَفًّ واحدٍ فهو جائز، وإن فَرَّقَهما فهو أحب. اه.
قلت: ذلك رواية الزَّعْفَراني عنه، وتلك كانت بالعراق حين استفادته من محمد رحمه الله تعالى، والمعتبرُ عند الشافعية ما اختاره بعده لما رجع إلى مصر.
191 - قوله: (كفة واحدة) قيل: الكُفَّة لم يثبت في اللغة بمعنى الكَفّ. وقيل: إنه فُعْلَة من نَصَر، بمعنى المرة والصواب أنه غَلَطٌ من الراوي.
باب مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّة(1/427)
جَزَمَ البخاري هنا بمذهب الإِمام الأعظم رحمه الله تعالى وترك مذهب الشافعية. قال الحنفية: إن الإِسباغ في المسح هو بالاستيعاب، لأنه لا يُنَاسبُه التثليث.
192 - قوله: (من ماء) هذا تصريحُ بكونِ الماءِ واحداً.
192 - قوله: (وقال مسح برأسه مرة) وفَهِمَ هذا الراوي عينَ ما فهمه الحنفية: أن الإِقبال والإِدبار حركتان، والمسحُ واحد. ولم يحملهما على التكرار في المسح كما فَهِمَه الشافعية رحمهم الله تعالى.
باب ُ وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَفَضْلِ وَضُوءِ المَرْأَة
واعلم أن تَطُّرَ الرجل والمرأة من إناء واحد جائزٌ بإِجماع المسلمين، وكذا تطهر المرأة بفضلِ الرجلِ أيضاً جائزٌ بالإِجماع. وأما تطهر الرجل بفضلها، فذهب جمهورُ السلف والأئمة الثلاثة إلى جوازه، سواء خَلتْ بالماء أو لم تخِلِ. وقال أحمد وداود: إنها إذا خلت بالماء واستعملته لا يجوزُ للرجلِ استعمال فضلها. وجمِعِ الخَطَّابِي بين أحاديث النهي عن الفضل وجوازه: بأن المراد من الفضل في أحاديث النهي المُتَساقط من الأعضاء، وفي أحاديث الجواز ما بقي في الإِناء.
وحاصله: أنه نهى عن استعمال الماء المتساقِطِ من الأعضاء، وأباح استعمالَ الماءِ الباقي في الإِناء، فلا تنافي بين الحديثين.
وقال آخرون: بل المراد به في الحديثين هو الباقي في الإِناء، والنَّهي لئلا تخطَر ببالِهِ الوساوس الشهوانية. ويرد عليهم قوله: «وليغترفا جميعاً»، فإن النهي إن كان لأجل الوساوس، فهي في حالة الاغتراف جميعاً أزيدُ وأكثر منها في حالة الانفراد. وحمله بعضهم على التنزيه، وهو الصواب، إلاّ أنهم لم يُبيّنوا مرادَ الحديث، وهو مع كونه بديهياً عسيرٌ. وكأنه من قبيلِ السهلِ المُمتنع، وقد كشفَ اللهاُ على مرادَه.(1/428)
فاعلم أنَّ النَّهي في الغسل ورد من الطرفين، كما هو عند أبي داود: نهى الرجل أن يغتسل بفضل المرأة، والمرأةَ بفضلِ الرجل» وفي الوضوءِ من جانبٍ واحدٍ فقط، فنهى الرجلَ عن فضلِ المرأة، ورأيتُ عكسَه أيضاً في بعض الروايات، إلاّ أن المحدثين عللوه. ومناطُ النَّهي عندي: هو صِيَانة الطَّهُور عن وقوع الماء المُسْتَعْمَل فيه، كما مرّ مني: أنَّ الماء المُسْتَعْمَل وإن لم يكن نجساً عند صاحب الشرع، إلاّ أن المطلوبَ الاحتزاز عنه والاحتياط فيه، لئلا يقع في مُغْتَسَلِهِ، وهو المذكور في فقهنا، حتى لو سقط الماء المُسْتعمَل في وَضُوئه وغَلَب عليه، لا يجوز الوضُوء منه، ولا يبقى مُطَهِّراً.
ولمّا كانت النساء أقل نظافةً، وأقل احتياطاً في أمور التطهير، خصَّ الرجل بالنهي عن استعمال فضلهَّن. ولو ثَبَتَ عكسه أيضاً، فالنهي عن فَضْل الرجال جَرْياً على مقتضى طَبْعهن، فإِنهنَّ يَرَوْن الرجال أقلّ نظافةً من أنفسهن، فراعى في الأول الواقع في نفس الأمر، وفي الثاني الواقع في زَعْمِهنَّ، لئلا تَتَوَسْوَس صدورهنَّ في استعمال الماء، فإِن عدم الوسواس في أمر التَّطَهّر مطلوبٌ. فناسب أن ينهى عن فَضْل الرجال أيضاً، حسماً لمادة الوَسَاوِس وقطعاً لِعرْقها، والمراد منها التي تقع في طهارة الماء وعدمها، دون الوَسَاوِس الشهوانية.
(1/429)
والحاصل: أن الحديث وَرَدَ على وَفْق طَبْع الرجال والنساء، وإن كان ما في طَبْع الرجل مُوَافقاً للواقع، وما في طَبْعهنّ مخالفاً له، إلا أن الغرضَ لمّا كان قَطْع الوَسْوَاس لم يُنَاظِر معهنَّ، وتركهن على فِطْرَتهن، ولا تبديل لخَلْق الله، نعم الوَسَاوِس التي تكون لا عن منشأ صحيح لم يعتبرها الشرع أصلاً، ولذا أباح الاغْتِرَاف معاً، لأنَّ الذين يكرهون استعمال السُّؤْر لا يَرَوْن به بأساً، أَلا تَرَى أن من يَكْرَه أن يأكل فَضْل طعامك، لا يَكْرَه أن يكألَ معك، لأنه لا يراه سُؤْراً فالدَّخْل فيه للسُّؤْر دن الوَسَاوِس. والمعنى أن لا يُسْئِر الرجلُ الماءَ للمرأة، ولا تُسْئِر هي له، فكما أنك تَكْرَه أن تُسْئِر طعامَك وشرابَك لجبيك، كذلك أراد الشرع أن لا يُسْئِر الزوجان أحدهما للآخر غِسْلَه.
فهذا الحديث من باب حُسْن الأدب، وسدّ الأوهام، وأول ما انتقل إليه ذِهْني من كلام الطَّحَاوِي، فإِنه بوَّب أولاً بسُؤْر الهرة، ثم بسؤو الكلب، ثم بسُؤْر بني آدم، وأخرج تحته حديث النهي عن اغتسال الرجل بِفَضْل المرأة وبالعكس، فكأنه أشار إلى أن المعنى في هذه الأحاديث هو السُّؤْرِيَّة الإِسْآر، دونَ الوَسَاوِسِ الشهوانية، فللَّه دَرُهُ ما أدقّ نَظَرِه.q
ويدُّلك على قلنا ما أخرجه النسائي عن أمُ سَلَمَة: «أنها سُئِلَت: أَتَغْتَسِلُ المرأه مع الرجل؟ قالت: نعم، إذا كانت كَيِّسَة». فأشارت إلى أن الأمر يدور على الكِيَاسة وعدمها، ولَمَّا كان الرجل كَيِّساً لم يُنْه عن استعمال فَضْل وضُوئه، يخلاف النساء، فإِنهنَّ لَسْن كذلك في عامة الأحوال، وإذا كانت كَيِّسَة تَعْرِف طريق آداب الماء وصيانته،، فلها أن تَغْتَسل معه.(1/430)
فإِن قُلْتَ: إذا كان الأمر كما وَصَغْتَ لِمَ نهى النساء عن اغتسالهنَّ بفَضْل الرجال؟ قُلْتُ: إن التَّقَاطُرَ في الاغتسال يمكن منهم أيضاً، فإِنَّه استعمالٌ للماء الكثير وغسلٌ لسائر البدن، والأواني كانت مُتَّسِعَة كالمِرْكَن، فيُشْكِلُ فيها التَّحَفُط من الرجال أيضاً، فلذا وَرَدَ فيه النهي للطرفين.
فإِن قلتَ: وحينئذٍ ينبغي أن يُنْهَى الرجل عن الاغتسال بفَضْل الرجل أيضاً، فَلِمَ خصَّصَ به الزوجين مع أن العِلَّة تشملهما؟ قلتُ: لتحقُّق الاغتسال كثيراً بين الزوجين، بخلاف غيرهما، وأراد بالمرأة في حديث التَّوَضُّؤ من كانت في بيته، ولم يقل في المرأتين شيئاً، لأنهن يَفْعَلْنَ ما هو عادتهنَّ.
والحاصل: أن الأقسام ستة فَضْل الرجل للمرأة، وبالعكس. وفَضْل الجنس للجنس، وكلٌّ منه إمَّا في الوُضِوء، أو الغسْل. والأحاديث وَرَدَت في الأربعة منها، وإن علَّل المحدِّثون واحداً منها كما مرَّ، ولم يَرِد في الاثنين لِمَا بيَّنَّا. وجملة الكلام أن الحديث لا دَخْل فيه للوَسَاوِس الشهوانية، بل وَرَدَ على طبائع الناس في السُّؤْر، فالنَّهي فيه كأمر الغُسْل بِغَسْل الميت، والوُضُوء بحَمْلِه، والمراد بالفَضْل: هو الباقي في الآنية، لا كما قاله الخطَّابي، وتَبَعِه الحافظ رحمه الله تعالى.(1/431)
قوله: (بالحميم)... إلخ، ويُتَبَادَرُ من ظاهر عبارته أنهما واقعتان: الأولى في استعمال الحَميم، والثانية في استعمال ماء النصرانية، مع أنها واقعةٌ واحدةٌ في مكة حين جاء للحج، فقضى حاجته، ثم طلب الماء وتوضأ بالحَمِيم من بيت نصرانية. والظاهر أن الماء إذا كان من بيتها، أنها غَمَسَت فيه يدها أيضاً، ولعلَّه كان من سُؤْرها، ومع ذلك توضّأ ابن عمر منه، فَثَبَتَ أن وُضُوء الرجل بفَضْل المرأة لابأس به. وهذا من عادات البخاري حيث يعتبر الاحتمالات القريبة، لأنَّه لمّا شدَّد على نفسه في باب الحديث، وأراد أن يخرِّج المسائل، ويَبْسُط فقهه في تراجمه، فلزمه أن يوسِّع في الإِشارات وطُرُق الاستدلال.
193 - قوله: (جميعاً) قال السِّيرافي: إنه يُسْتَعمل بمعنى كلّهم، وبمعنى معاً، والأول يدلّ على الاستغراق، والثاني على المَعِيَّة الزمانية وتفصيله: أن هذا اللفظ قد يُسَتْعْمَل للاستغراق وإحاطة الأفراد مع قطع النظر عن الاجتماع، وقد يُسْتَعْمَل للثاني، أي بمعنى الاجتماع والمَعِيَّة، وهو المناسب ههنا، فإن التعرُّض إلى اغتسال الرجال والنساء مطلقاً ليس بأهم، وإنما المفيد بيانُ اغتسالهما معاً. ثم أقول: والشيء بالشيء يُذْكَر، أن إمامنا رحمه الله تعالى ذهب إلى مقارنة المقتدي مع الإِمام في حميع أفعال الصلاة، واختاره صاحباه أيضاً، إلا في التحريمة والتسليم، والشافعي رحمه الله تعالى ذهب إلى التعقيب في جملة أفعالها غير آمين، وتمسَّك من أحاديث الائتمام، وفيها الفاء: «إذا كبر فكبروا...» إلخ، وهي للتَّعقِيب عندهم، فَلزمَ التَّعْقِيب في جميع الأفعال كما أراد.
قلت: وفي «شرح التسهيل»: أن في الفاء الجَزَائية قولان: التَّعْقِيب، والمقارنة، وحينئذٍ صحَّت الفاء على مذهبنا أيضاً، فلا تنافيها المقارنة الزمانية، فهي للتَّعْقِيب ذاتاً، والمقارنة زماناً عندي.
(1/432)
ولا بُدَّ أن يكون بين أفعال الإِمام والمأموم تقدُّماً وتأخُّراً ذاتاً، وإنما أراد الإِمام من المقارنة أن يدخل المقتدي في الرُّكن حين يدخل الإِمام، ولا ينتظر بلوغه فيه، فَيْركُ حين يَرْكُع، لا أنه ينتظر الإِمام حتّى إذا أتمَّ راكعاً رَكَع معه. ومعلومٌ أن رُكُوعَه لا يكون إلا بعد ركوع إمامه بْعدِيَّة ذاتية، وإن أراد المقارنة، فإن ركوع الإِمام كالعِلَّة لركوعه، وهو المُلْحَظُ في الجماعة عندي، لأن ظاهر أمر الجماعة أن تكونُ حركتهُم واحدةً، وصلاتُهم واحدةً، وقراءتُهم واحدةً، وسنعود، إلى تفصيله في مواضع إن شاى الله تعالى.
باب ُ صَبِّ النبي صلى الله عليه وسلّموَضُوءَهُ عَلَى المُغْمَى عَلَيه
ولعله أراد بيان مسألة الماء المستعمل.
باب الغُسْلِ والوُضُوءِ فِي المِخْضَبِ وَالقَدَحِ وَالخَشَبِ وَالحِجَارَة
باب الوضُوءِ مِنَ التَّوْر
قوله: (المِخْضَب والقدح)... إلخ، هذا في بيان الهيئة.
قوله: «والخشب والحجارة» هذا في بيان مادتهما.
195 - قوله: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم... إلخ، وهذا تصريحُ بأنه صلى الله عليه وسلّمجاءه في بيته وتوضَّأ، فكانت هذا واقعةٌ عند عبد الله بن زيد، وفيها تصريحٌ بغسل المرفقين مرتين. وأمَّا الغسل إلى الرُّسْغَين فهو ثلاثُ مرارٍ باتفاق الروايات.
198 - قوله: (اسْتَأْذَنَ)... إلخ، إما لأن القَسْمَ كان واجباً عليه، أو استحباباً لتطييب قلوبهنَّ.
198 - قوله: (بين رَجُلَيْن)، وفي تعيين الرجل الآخر اختلاف، وإنما أُبْهِمَ، لأنهم كانوا يتناوبون الأخذَ بيده الكريمة صلى الله عليه وسلّم تارةً هذا، وتارةً هذا: وكان العباس رضي الله عنه أَدَام الأخذ بيده لِمَا له من السن والعمومة، كذا قال النووي. وحمله العَيْنِي على تعدّد الوقائع.(1/433)
198 - قوله: (سَبْع قِرَب)... إلخ، وفي كتب السِّير: أن تلك السَّبْع كانت من الآبار السَّبْع، ولعلّ تعدّد السبع وعدم الحل دخلا في الشفاء، كما يكون مثل هذه الشرائط في باب العملياتِ والتعويذاتِ كثيراً.
198 - قوله: (ثم خرج إلى الناس)... إلخ، وخروجه هذا إنما هو في العشاء عندي.
ذِكْرُ عدد صلواته صلى الله عليه وسلّمفي مرض موته، وخروجه إلى المسجد
وتحقيقه على خلاف ما اختاره الحافظ ابن حَجَر رحمه الله تعالى
واعلم أنَّ الروايات في غَيْبُوبته صلى الله عليه وسلّمفي مرضه عن المسجد مختلفةٌ: فعند البخاري أنَّه غاب ثلاثة أيام، واختاره البيهقي وتَبِعَه في ذلك الزَّيْلَعِي. وعند مسلم أنَّه غاب خمسة أيام، واختاره الحافظ.
قلت: ولعلّ الحافظ رحمه الله تعالى عدّ الكُسُور أيضاً، ولعلّ ابتداءَ الغَيْبة عنده يكون من ليلة الخميس، وحينئذٍ لو اعتبرنا ذلك اليوم مع يوم الاثنين حصل الخَمْس، ومَنْ قال بثلاثة أيام، اعتبر اليوم التام، فارتفع الخلاف.
ثم إنَّهم اتفقوا على أنَّه خرج في صلاة من تلك الأيام، ولعلّه ظُهْر السبت أو الأحد، لأنَّ الغَيْبة لمّا كانت من عشاء الخميس على ما اختاره الحافظ، فلا يُمكِنُ أن يكون ظُهْر هذا اليوم، ولا من يوم الجمعة، وتُوْفِّي يوم الإثنين، فتعيَّن أن يكون إما ظُهْر السبت أو الأحد. والعجب من الحافط حيث جَعَلَ قدوتَه فيه الإِمام الشَّافعيّ رحمه الله تعالى، مع أنَّ الإِمام رحمه الله تعالى وإن اختار شركته في صلاةٍ واحدةٍ، إلاّ أنَّه ذَهَبَ إلى أنَّها الفجر، بخلاف الحافظ، فإِنَّه اختار أنَّها الظُّهْر.
أقول: والذي تبيّن لي: هو أنَّه صلى الله عليه وسلّمدَخَلَ في أربع صلوات بعد، الغَيْبُوبة:(1/434)
الأولى: العشاء التي غُشِيَ عليه في ليلتها - كما في رواية الباب - فإِنَّه لم يستطع أولاً أن يَخْرُج، ثم وجد في نفسه خِفَّة، وخرج إليها وصلَّى بهم وخطب النَّاس، كما عند البخاري، وفيه: قالت وخَرَجَ إلى النَّاس فصلّى لهم وخَطَبهم. وأَوَّله الحافظ رحمه الله تعالى، وقال معناه: إنه أراد الخروج، ثم يَقْدِر عليه.
والثانية: الظُّهْر من أي يوم كانت، وأَقَرَّ بها الحافظُ رحمه الله تعالى أيضاً.
والثالثة: المغرب كما هو عند الترمذي في باب القراءة بعد المغرب، عن أمّ الفَضْل قالت: «خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو عاصبٌ رأسه في مرضه، فصلَّى المغرب، فقرأ ب:المرسلات، فما صلاّها بعد حتى لَقِيَ الله عزّ وجلّ. وهو عند النَّسائي أيضاً، وأوَّله الحافظ بأنَّه خرج من مكانه إلى موضع في بيته، لا أنه خرج إلى المسجد.
والرابعة: الفجر من اليوم الذي تُوُفِّي فيه كما في «مغازي موسى بن عُقْبَة»، وهو تابعي صغير السِّن، وأقرَّ بها البيهقي أيضاً، ودخل فيها في الركعة الثانية، وصَلاها خلف أبي بكر رضي الله عنه. نعم، ظاهر البخاري خلافه، إلاّ أني جَمَعْتُ بينهما بأنه اقتدى من حُجْرَته، ولم يَخْرُج إلى المسجد.
فهذه أربع صلوات دخل فيها النبي صلى الله عليه وسلّمبعد غَيْبُوبته عن المسجد، ولم أَجِد شَرَكَته في العصر في يوم، وكذا لم أَجِد الترتيب في تلك الصَّلاة. وأقرَّ الترمذي أنه صلّى في مرض وفاته ثلاث صلوات، وزِدْتُ عليه رابعة، وهي المغرب.
وفي العَيْنِي: أنه ذهب جماعةٌ إلى القول بتعدّد الصلوات حتى نُقِل عن الضِّيَاء، وابن ناصر، وابن حِبَّان: أنَّ من أنكر تعدّد خروجه صلى الله عليه وسلّمإلى الصَّلاة، فإِنَّه جاهلٌ عن الحديث.(1/435)
ثم اعلم أني بالغت في هذا التفتيش، لأنه يُفِيدُنا في مسألةِ القراءةِ خلفَ الإِمام، لأنه ثَبَتَ عند الطَّحَاوي خروجُه في صلاة جَهْرِيَّة، وأخذ القراءةَ من حيث تَركَها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وحينئذٍ لا بُدَّ أن تَفُوتَه الفاتحة، كلُّها أَو بعضُها، فلو كانت رُكْناً لَزم أن لا تتِمّ صلاته صلى الله عليه وسلّم والعياذ بالله، فهذه آخره صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلّمكانت مُسْتَدَلاً للحنفية، ولم يَشْعُر به أحدٌ منهم غير ابن سيِّد الناس في «شرح الترمذي»، إلاّ أنه لم يُجِب عنه.
وعَرَضَ للحافظ رحمه الله تعالى إشكالٌ آخر، وهو: أنَّ الصَّلاة التي خَرَج إليها النبيّ صلى الله عليه وسلّمهي الظُّهْر عنده، فكيف أخذَ القراءةَ من حيث تَرَكَها أبو بكرَ رضِي الله تعالى عنه؟ فالتزم أنَّ أبا بكر رضي الله تعالى عنه لعلّه جَهَر بآيةٍ منها. وأمَّا على ما اخْتَرْتُ، فلا حاجة إلى هذا التأويل، فإِنه ثَبَتَ خروجُه إلى العشاء أيضاً، وهي جَهْرِيَّة.
ولفظ الطَّحَاوِي في قصة مرض موته: «وجَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلّممن نفسه خِفَّةً، فخرج يُهَادَى بين رجلين، فلمَّا أحسَّ أبو بكر، سَّبحوا به، فذهب أبو بكر يتأخَّر، فأشار إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّممكانك، فاسْتَتَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّممن حيث انتهى أبو بكر من القراءة»، ورواه ابن ماجه، والدَّارقّطِنيِّ، وأحمد في «مسنده»، وابن الجَارُود في «المُنْتَقى»، وأبو يَعْلَى في «مسنده»، والطَّبَرِي في «تاريخه»، وابن سعد في «الطبقات»، والبَزَّار في «مسنده».(1/436)
وإذ قد عَلِمْتَ أنَّه خَرَج في أربع صلواتٍ، منها الفجر والمغرب، أَمْكَن لنا أَنْ نقول: إنَّ ما عند الطَّحَاوِي قصةٌ في إحدى هاتين الصَّلاتين، وأخذ فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمالقراءةُ من حيث تركها أبو بكر رَضِي الله تعالى عنه، ولم يُدْرِك الفاتحةَ كلَّها أو بعضَها، ثم صحَّت صلاته، وحُسِبَت قراءة أبي بكر رَضِيَ الله تعالى عنه عن قراءته، فلو كانت الفاتحة ركناً لا تصحَّ الصَّلاة بدونها، فأين ذَهَبْتَ من صلاة النبي صلى الله عليه وسلّمهذه؟ وقد بَسَطْتُ فيه الكلام في رسالتي بالفارسية المسماة ب«خاتمة الخطاب في فاتحة الكتاب».
ومرَّ الحافظ على رواية ابن ماجه هذه - وهي عند الطَّحَاوي أيضاً - فَحَكَمَ عليها بالحُسْن، وحَكَمْتُ عليها بالصحة، وعَزَوْتُها إلى الحافظ رحمه الله تعالى، فاعترض عليَّ بعضُ المُدَّعِين بالعمل بالحديث: أنه خلافُ الواقع، فإن الحافظ رحمه الله تعالى لم يَحْكُم عليه بالصحة، فأَجَبْتُ له: أن الحافظ رحمه الله تعالى مرَّ عليها في موضعين، فحكم بالحُسْنِ في المجلد الثاني، وبالصحة في المجلد السادس.
باب الوُضُوءِ بالمُد
واعلم أنهم اتفقوا على أنَّ الصَّاع أربعة أَمْدَاد، واختلفوا في تقدير لمُدِّ: فقال العِرَاقِيُون: إِنَّ المُدَّ رَطْلان، وقال الحِجَازِيُون: إنَّه رَطْلٌ وثُلُث. وعلى هذا يكون الصَّاعُ ثمانية أَرْطَالٍ عند العِرَاقِيين، وخمسةُ أَرْطَالٍ وثُلُث عند الحِجَازِيين.(1/437)
قلت: ولا يمكن لأحدٍ أن يُنْكِرَ صَاعَ العِرَاقِيين، فإِنَّه كان مُسْتَعْمَلاً في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلّمقَطْعاً، لِمَا رُوِيَ من غير وجهٍ: «أنه كان يتوضأ بالمُدِّ». ثم أَخْرَج أبو داود عن أنس قال: «كان النبيِّ صلى الله عليه وسلّميتوضَّأ بإِناءٍ يسع رَطلين»... إلخ. وفيه شَرِيك، وأَخْرَجَ عنه مسلم، وعند النَّسَائِي عن موسى الجُهَنِي قال: «أتى مُجَاهِد بقَدَحٍ حَزَرْتُه ثمانية أرْطَالٍ، فقال: حدَّثني عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يَغْتَسِلُ بمثل هذا». وعند الطحاوي عن إبراهيم قال: «قدَّرْنا صاعَ عُمر، فوجدناه حَجَّاجِيّاً»، والحَجَّاجِيّ عندهم: ثمانية أرْطَال.
والحافظ لمَّا مرَّ على صاعنا سمّاه حَجَّاجِيّاً، ولم يُسَمِّهِ فَارُوقِيّاً، مع أنَّ الحجَّاج إنما صَنَعَ صاعَهُ على صاع عمر، وكان يَفْتَخِرُ عليهم بذلك، وهو صاع عمر بن عبد العزيز أيضاً، فأصله عن عمر رضي الله عنه، والحَجَّاج شَهَرَه لا أنه صنعه هو. ومنهم مَنْ أَرَادَ من كونِه عُمَريَّاً عمر بن عبد العزيز، وهو أيضاً عُدُولٌ عن الصواب. فإِن صاعَنا ثَبَتَ في عهده صلى الله عليه وسلّمثبوتاً لا مردَّ له.
وفي الباب روايات أُخْرَىَ تدلُّ على مذهبنا، إلاّ أنَّا لم نُرِدْ اشتيعابها، لأنَّه لا يسع لأحدٍ أن يُنْكِر على صاع الحنفية، وأقرَّ به ابن تيمية رحمه الله تعالى، إلاّ أنه قال: إنَّ الصَّاعَ في الوضوء والغُسْل ثمانية أَرْطَال، وفي صدقة الفِطْر خمسة أَرْطَال وثُلُث. ونحن نقول: إنَّ الاحتياط أن يؤخذ في جميع المواضع بثمانية أرْطَال.(1/438)
ثم اعلم أنَّه أخرج ابن حِبَّان في «صحيحه» عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّمقيل له: إِنَّ صاعنا أصغر الصِيعَان، ومُدَّنا أكبر الأَمْدَاد فقال: اللهم بارك لنا في صاعنا، وبارك في مُدِّنا»، ولا يبدو في بادي النظر مَحَطُّ سؤالهم، فإِنَّ كون الصَّاع صغيراً، والمُدّ كبيراً لا يظهر فيه معنى الشِّكَاية. وكنت متردداً في مراده حتى رأيت عبارة في «موطأ مالك» رحمه الله تعالى في الظِّهِار، انكشف بها المراد، وأخذت منه أَنَّ المُدَّ عندهم كان باعتبار طعام رجلٍ واحدٍ، وكان مِكْيَالُهم لطعامهم وشرابهم مُستْعمَلاً فيما بينهم في التجارات. وفي المقدار الكثير يطبخون الطعام كَيْلاً في زماننا أيضاً، وحينئذٍ حاصل سؤالهم: أن المُدَّ الذي نستعمله في البيوت في طعامنا كبيرٌ، والصاع الذي في التجارات صغيرٌ، فكأنهم شَكُوا من كثرة المصارف وقلة المال، فدعا لهم: «اللهم بارك لنا...» إلخ. وحملوه على البركة المعنوية، وحَمَلْتُه على البركة الحِسِّيَة أيضاً، حيث صار ثمانية أرْطَال في زمن عمر رضي الله عنه مع بقاء اسمه، ولعلّه زاد ثمنه، فبقاء الاسم والثمن مع زيادة الوزن هو ثمرةُ دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم فصاعنا من ثمرات دعائه صلى الله عليه وسلّم
وأمَّا وجه رَوَاجه في زمن عمر رضي الله عنه دون زمنه صلى الله عليه وسلّم فَوُفور الأشياء في زمن عمر رضي الله عنه، بخلاف زمن النبي صلى الله عليه وسلّم(1/439)
ويُسْتَفَاد مِنْ هذا الحديث تعدّد الصِيعَان في عهد النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكما قلت: إنَّ صَاع العِرَاقيين والحِجَازيين كلاهما كانا في زمنه صلى الله عليه وسلّم وإنْ كان أحدهما أقل استعمالاً من الآخر، على أنه يَنْهَدِم منه أصل المقدمة المتفق عليها أيضاً، لأنه يدلُ على أنَّ المُدَّ ليس رُبْع الصَّاع، فاختلفت الأَمْدَاد أيضاً، وحينئذٍ لا يكون أكبر الأَمْدَاد رُبْع أصغر الصِيعَان، ثم «الصُّوَاع» في سورة يوسف والصَّاع واحدٌ، مع أن الصُّوَاع أكبر من صاع الشافعية. وفي «الفنجاب»: مِكَيالٌ يُقَال له جها وظنّي أنَّه من الصَّاع مكيال آخر كروه، ولعلَّه من الكُرِّ. وليُعْلَم أن الناس إنما تحيَّروا في معرفة مقادير هذه المكاييل لفُقدانها في زماننا، وانقطاع العمل عمّا كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم فتعلَّلنا عنها بالاسم فقط، وهذا هو الحال في جميع الأشياء التي لا توجد بين الناس.
وقد تصدَّى صاحب «القاموس» لبيان تعداده، فقال: إنَّ المُدَّ مكيالٌ يسع حَثْيَة من حَثْيَة الرجل المتوسط، والصَّاع ما يَسَع أربع حَثَيَات كذلك.
قلت: ولو كان المقصودُ بيان استقامة الحساب على مذهب الشافعية، فإِنَّه يستقيمُ على مذهب الحنفية أيضاً، فإِنَّ صاعهم إن كان يتمّ بأربع حَثَيَات، فصاعنا يتمّ بستة حَثَيَات.(1/440)
وصاحب «القاموس» كما أنَّه لغوي كذلك حافظٌ للحديث أيضاً، وقد سَمِع مرّة أربع مئة سطر، فَوَعاها من ساعته. وقد صنَّف «القاموس» في اليمن، وهو شافعي، ومعتقدٌ لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، إلاّ أنه قد يتجاوزُ عن الحد في حماية مذهبه، وله رسالة بالفارسية سمَّاها: «نور سعادت»، وأتى فيها برواياتٍ لا أصل لها عند المحدِّثين، وهكذا قد يذكر لتأييد مذهبه أسماء الصحابة ولا يكون له أصلٌ، ولا يكون مقصوده منه إلاّ تكثير السواد، كما فعله في مسألة رفع السَّبِّابة، فإِنَّه لم يثبت عمَّا ذكره من عدد الصحابة قط. وهكذا فعل في رفع اليدين، فقد عدّ فيه جِماعاتٍ كثيرةً. مع أنه خلاف الواقع، كما سنحقِّقه في بابه إن شاء الله تعالى.
ولنا أحاديث عندالطَّحَاوي، وأبي داود، والنَّسائي، وقد مرَّ أن النَّسائي أذكى من مسلم، وأمَّا أبو داود، فهو حنبلي راوٍ لفِقه الإِمام أحمد رحمه الله تعالى، كمحمد وأبي يوسف لفقه الحنفية، ومَنْ عدَّه من الشافعية، فكأنَّه لم يقصد به إلاّ تكثيرَ السواد، ولا ريب أنَّه حنبلي فاعلمه.
ثم اعلم أنَّ ابن جَبْر هذا الذي في إسناد البخاري، هو الذي يفسِّر المُدّ: أنه رطلان عند أبي داود، ولم يُرْوَ في تحديد الماء في الوضوء عن الأئمة شيء، غير أَنَّه يتوضّأ وضوءاً بن الوضوءين، ووقَّته محمد رحمه الله هنا بالمُدِّ تبعاً للحديث، والحافظ رحمه الله تعالى لم يذكر اسمه، وضرب عنه كَشْحاً، وأغمض عنه، وأمَّا خمسة أمْدَاد في الغُسْل، فقيل: المُدِّ للوضوء، وأربعة أمْدَاد للغْسْل. وقيل هو للغُسْل إلاّ أنه إذا أراد الماء من الصَّاع فإِلى خمسة أمْدَاد.(1/441)
وقدَّره علماء الهِنْد أنه مئتان وسبعون «تولجة» وكتب فيه ابن حَزْم شيئاً في «المُحَلى»، وظنِّي أنَّه خلاف الواقع. وفي الأوزانِ رسالةٌ (للملامبين)، ولكنَّها نادرة، ورسالةٌ أخرى للمخدوم هاشم السِّنْدِهي، ورأيتها فوجدت فيها مثل ذلك. وسها مولانا عبد الحي رحمه الله تعالى في حساب نِصَاب الفضة والذهب، ووجهه أنَّه اعتبر بالأحمر ما هو عند الأطباء، وهو أربع شعيرات، وفي الخارج هي قريب من ثلاث شعيرات، وما حقَّق القاضي ثناء الله الفاني فتى رحمه الله تعالى فيه وهو الصحيح. قال الشيخ السِّنْدِي في بيان وزن الصَّاع:
*صاع كوفي هست أي مرد فيهم ** ذو صد هفتاد توله مستقيم
*باز ديناري كه دارد اعتبار ** وزآن از ماشه دان نيم وجهار وقد أضفت إليهما بيتين آخرين فقلت:
*درهم شرعي أزين مسكني شنو ** كان سه ماشه هست يك سرخه دو جو
*سرخه سه جوهست ليكن باوكم ** هشت سرخه ماشه أي صاحب كرم
باب المَسْحِ عَلَى الخُفَّين
وراجع لتعريف الخُفّ «الكبيري»، ويُشْتَرط عندهم أَنْ يكون بحيث يمكن فيه تتابع المشي، ولذا يستعملون في الإِبل الأخفاف، لأَنَّ الخُفَّ عندهم اسمٌ لِمَا يمكن فيه قطع المسافة وليست ترجمته موزة، بل هو خلاف المراد، لأنَّه لا يظهر منه هذا المعنى.
202 - قوله: (وإِنَّ عبد الله بن عمر سأل)، قيل: وجه السؤال أنَّه كان يعرفُ المسحَ في السفر، فسأل عن حالِ الإِقامة في البيوت أيضاً.k
قلت: ولا حاجةَ إلى هذا التأويل أيضاً، فإنَّ أمورِالدين تُعْرَف شيئاً فشيئاً، ومعلوم أنه لم يكن عندهم المدارس يتدرَّسُون فيها المسائل، بل كانوا يتعلَّمون المسائل بحسب الحاجات والواقعات. ثم لا يخفى عليك أن ابن عمر رَضِيَ الله عنه هذا الذي يسأل عن المسح، هو حامل لواء رفع اليدين، مع أنه لم يَثَّبُت عن الخلفاء الثلاثة.(1/442)
واعل أنَّه لا ذكر في حديث المُغِيرَة للجَوْرَبَيْنِ والنَّعْلَين أصلاً، وهو وهمٌ قطعاً، فإِنَّ هذه الواقعة قد رُوِيَت في نحو سبعين طريقاً، ولا يذكر أحدٌ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّممسح فيها على الجَوْرَبَيْنِ والنَّعْلَيْن. فما أخرجه الترمذي وهمٌ قطعاً، وإنما صحَّحه نظراً إلى صورة الإِسناد فقط.
205 - قوله: (يمسح على عِمَامته)... إلخ، وبظاهره أخذ أحمد رحمه الله تعالى، واختار أنَّ الفريضة تتأدى بالمسح عليها بشرط أنَّ تكون مُحَنَّكةَ، وشرائطها شرائط الخُفّ. وجزم الشافعي رحمه الله تعالى: أنَّه لو مسح على بعض الرأس والعِمَامة، خرج عن عهدة الاستيعاب، وهكذا قال الماليكة، إلاّ أنَّ القاضي أبو بكر بن العَرَبي منهم قال: إِنَّ القدر المستحب لا يَتَأَدَّى عندهم بالمسح عليها. ومذهب الحنفية أنَّه غير مُعْتَبَرٌ، وفي «الموطأ»: بلغنا أنه كان ثُمَّ تُرِكَ، ولذا وقع في بعض عباراتهم أنه بِدْعة عندنا. ومرَّ أبو عمرو في «التمهيد» على أحاديث المسح على العِمَامة، وحكم عليها بأنَّها مْعلُولة كلها. وقال ابن بَطَّال: الأصِيلي: ذِكْر العِمَامة في هذا الحديث من خطأ الأوْزَاعي. قال الحافظ: وله مُتَابعات أيضاً، وإن سلَّمنا تفرُّدَه، فإِنَّه لعلو كَعْبه، وجلالة قدره لا يوجبُ الإِعلال أيضاً، وأظنُّ أنَّ هذه واقعة عمرو بن الضَّمْرِي واقعة الخَضَر، والله تعالى أعلم.
قلت: والبخاري وإن أخرج حديث المسح على العِمَامة، إلا أنَّه لم يُتَرْجِم عليه بهذه المسألة، فدلّ على ضعفٍ فيه، لأنَّه تحقَّق عندي من عاداتِه أنَّ الحديث إذا كان قوياً عنده، ويكون فيه لفظ يتردَّد فيه النظرد يخرِّجه في كتابه، ولا يُتَرْجِم على ذلك اللفظ، ولا يخرِّج منه مسألة. فصنيعه هذا في المسح على العِمَامة يدلَّ على تردّد عنده فيه، ولذا تركه ولم يذهب إليه، والله تعالى أعلم.
(1/443)
وأجاب عنه بعض الحنفية: أنه سوّى عِمَامته بعد المسح، وظنَّه الرَّواي مسحاً، فعبَّر عن التسوية بالمسح على العِمَامة.
قلت: وهذا الجواب ليس بمرضيًّ عندي، لأنه يُفْضِي إلى تغليط الصحابي الذي شاهد الواقع وحكي عنه كما رأى، ومعلومٌ أَنَّهم من أذكياء الأمة، كيف يُمكِن أن يَخْفَى عليهم الفرق بين المسح والتسوية؟ وهذا الجواب في الأصل للقاضي أبي بكر بن العربي، وليس مراده ما فُهِمَ، ولفظه: إن المسح على العِمَامة لم يكن عن نصٍ، وإنَّما اختصر على مسح بعض الرأس وإمرار اليد عليها تَبَعاً لمسح البعض، كما نشاهد البعض إذا مسح على البعض وكان على الرأس عِمَامة».
وحاصله: أنَّ المسح على الرأس كان أصلاً، وعلى العِمَامة تَبَعاً، وهو الذي أراده الرَّاوي، أي أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلّمفعله على الرأس قصداً، ومسح على العِمَامة أيضاً، إلاّ أنَّه لم يفعله قصداً، بل وقع تَبَعاً، فمعنى التَّبَع: بلا قصدٍ، لا أنه كان في الحقيقة تسويته، وظنَّه الرَّاوي مسحاً، فإنَّه يوُجِبُ تغليط الراوي، وكم من فرق بينهما؟ وحاصل جواب القاضي على ما قرَّرت: أنَّ الرَّاوي ذكر المسح على العِمَامة كما وقع في الخارج، وإذا كان مَسَحَ بلا قصدٍ، فنقله أيضاً كذلك، وليس فيه تغليطٌ له بل فيه تصويبٌ، فادر الفرق بينهما، ولا تتعصب، فإِنَّ من العصبية لجهلاً.
وقد يُجَاب. أنَّ معناه أنه لم يمسح على العِمَامة، بل مسح على الرأس حال كون العِمَامة على الرأس، وحينئذٍ غرضُ الرَّاوي بيان طريق المسح حين التَّعَمُّم، كما تعرَّض إليه في حديث أبي داود: «أن النبي صلى الله عليه وسلّممسح على رأسه ولم ينقض العِمَامة».
وقوله: «مسح على العمامة» متحملٌ لهذا المراد عُرْفاً وعربية.(1/444)
والحق عندي أنَّ المسحَ على العِمَامة ثابتٌ في الأحاديث، كيف لا؟ وقد ذهب إليه الأئمة الثلاثة رَضِي الله عنهم، ولو لم يكن له أصلٌ في الدين لَمَا اختاروه البتة. وإني لَسْتُ ممن يأخذون الدين من الألفاظ، بل أَوْلى الأمور عندي تَوَارّث الأمة، واختيار الأئمة، فإنَّهم هُدَاة الدين وأعلامه، ولم يَصِل الدين إلينا إلا نهم، فعليهم الاعتماد في هذا الباب، فلا نُسِيّء بهم الظن، ولا نقول: إنَّ المسحَ على العِمَامة لم يَثْبُت في الدين، ومع ذلك ذهبوا إليه، ولذا لم يقل محمد رضي الله عنه: إنَّ المسحَ على العِمَامة لم يَثْبُت، ولكنَّه قال: إِنَّه كان ثُمَّ نُسِخَ. ومعنى النَّسخ قد علمته في المقدمة، فَرَاجِعه، فإِنَّه مهمٌ، وقد غَفَل عنه كثير من الناس، ولا يَرَوْن النسخ إِلا ما اشتهر عندهم، مع أنَّ النسخ في السلف أعمِّ منه، ولذا لا أجترىء على أَنْ أقول: أنه بدعة كما يُتَبَادر من بعض الكتب، بل هو مباحٌ كما صرّح به الرَّازِي منا في «أحكام القرآن».
وكان مولانا شيخ الهِنْد يقول بأداء الاستحباب منه، وإن لم يكتبوه في الكتب، قلت: بل ينبغي أن يلتزم أداة الاستحباب منه، لأن الإِباحة تُفِيدُ لو كان المسح على العِمَامة من باب العادات، وأمّا إذا كان سنة قَصْدِيّة، فلا بُدَّ أن يُقَال بأداء سُنَّة التكميل منه.(1/445)
والأحاديث في المسح على العِمَامة على أنحاءٍ: في بعضها ذكر العِمَامة فقط، وفي بعضها ذكر العِمَامة والرأس كليهما، وفي بعضها ذكر الرأس فقط. وقد جاء حديث المُغِيرَة على الطرق الثلاثة، فدلَّ على أنَّه لم يَمْسَح على العِمَامة في تلك الواقعة، إلاّ وقد أدّى القدر المجزيء على الرأس، ثم تفنَّن الراوي في بيانه، فاقتصر تارةً على ذكر المسح على الرأس، وأخرى على العِمَامة، وإذا أوعب القصة ذكرهما، فإِذا وجدنا في هذا الحديث ذكر مسح العِمَامة مكان المسح على الرأس تارةً، وبالعكس تارةً، وجمعهما الرَّاوي تارةً، يَسْبِقُ الذهن منه أن يكون في الأحاديث الأُخُر التي فيها ذكر المسح على العِمَامة فقط أيضاً كذلك، فما دام لا يَثْبُت أنه مسح على العِمَامة ولم يمسح معها على الرأس، لا تقوم الأحاديث المُجْمَلة في هذا الباب حُجَّة للحنابلة، لاحتمال أن يكون الأمر فيها أيضاً كما في حديث المُغِيرَة.
ويمكن عندي أَنْ يكونَ المسح على العِمَامة في الوضوء على الوضوء، فإِنَّه قد ثَبَتَ الوضوء عندي على أنحاءٍ كما مرّ من قبل، وإن أنكرها ابن تَيِمْيَة. وثَبَتَ الاقتصار على بعض أعضاء الوضوء وعلى المسح في بعض أنحاء الوضوء، وعلى هذا يمكن عندي أن يكون هذا أيضاً نوعاً من الوضوء. وتبيَّن لي بعد تَتَبُّع الطرق أن هذه الواقعة والتي تليها في الباب الآتي واحدةٌ «قال: أخبرني عمرو بن أُمَيَّة: أن أباه أخبره: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّميَحْتَزُّ من كَتِف شاةٍ، فَدُعِي إلى الصَّلاة، فألقى السِّكِّين، ولم يتوضَّأ»، وواقعة الباب أيضاً يرويها عمرو بن أُمَيَّة، عن أبيه، فإِن كانت تلك واحدة كما هو المُتَبَادَر عندي بعد جمع طرقها، فالأقرب فيها أنه لم يتوضّأ فيها وضوأً كاملاً، ولكنه اكتفى بالمسح على العِمَامة والخُفِّين، وحينئذٍ، فليكن هذا أيضاً نوعاً من الوضوء.
(1/446)
باب إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَيهِ وَهُمَا طاهِرَتَان
أراد به أن يُتَرجِّم بلفظ الحديث، ولم يُشِر إلى تحقيق المسألة: بأن الطهارة شرطٌ عند اللُّبْس أو عند الحدث، فإنَّه من مراحل الاجتهاد، ويجري السَّرْحَان في الحديث، ولو كان المصنِّف رحمه الله تعالى أراد أن يُشِير إلى هذه المسألة، لغيَّر لفظ الحديث شيئاً يمكن أن يَنْتَقِل إليه ذهن الناظر.
باب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ والسَّوِيق
دخل في مسألة الوُضُوء ممّا مَسَّت النار، واخْتَار مذهب الجمهور من عدم إيجاب الوُضُوء منه، وهو مذهب الأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين، وقد وَرَدَ في الأحاديث الوُضُوء منه أيضاً، فقال بعضهم: إنه منسوخٌ لِمَا عند أبي داود عن جابر رَضِيَ الله عنه: «كان آخر الأَمْرَيْن من رسول الله صلى الله عليه وسلّمتَرْك الوُضُوء ممّا غيَّرت النار». وزَعَمُوه صريحاً في النسخ.(1/447)
قلت: لم يُرِد به جابر رضي الله عنه بيانَ النَّسخ، إِنَّما أشار إلى ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلّم الوُضُوء، وتَرْكه في يوم واحدٍ، حيث قال: «قَرَّبْتُ للنبي صلى الله عليه وسلّمخبزاً ولحماً، فأكل، ثم دعا بوَضُوء فتوضَّأ به - فهذا هو الأمر الأول - ثم صلَّى الظُّهر، ثم دعا بفَضْل طعامه فأكل،ثم قام إلى الصَّلاة ولم يتوضَّأ» - وهو الأمر الآخر - فبيَّن جابر رضي الله عنه أنه توضَّأ منه، ولم يتوضَّأ أيضاً، والذي كان منهما آخراً هو عدم الوضوء، وإليه أشار أبو داود حيث قال بعد نقل حديث جابر الأول: «كان آخر الأمْرَين...» إلخ، قال أبو داود: هذا اختصار من الحديث الأول، فإِذن لا يريد بيان النسخ، أي أن الوُضُوء منه كان، ثم تُرِك، فكان آخر الأَمْرَين بهذا الطريق، بل أراد من الأَمْرَين الواقعتين كما ذكرهما هو قبله، ولا يَكْفِي للنسخ مجرد كونه آخراً، لأن ما يكون مُسْتَحَبّاً يَرِد فيه الفعل وتركه لا محالة، فلو كان ترك الوُضُوء آخراً بهذا الطريق، لَمَا كان فيه دليلاً على النسخ أصلاً.(1/448)
واختار الشَّاه ولي الله رحمه الله تعالى: أنه مُسْتَحبٌّ، وأزيد عليه شيئاً، فأقول: إنه مُسْتَحَبُّ الخَوَاصِّ دون العَوَامِّ، ومُسْتَحَبُّ الخَوَاصِّ هو ما يكون مُسْتَحَبّاً لأجل المعنى. فالمُسْتَحَبٌّ على نحوين: مُسْتَحَبٌّ لأجل الصورة، وهو الذي وَرَدَ الشرع باستحبابه، وهو الدائر في الفقه، ومُسْتَحَبٌّ لأجل المعنى، وهو ما يكون فيه إيمااءٌ إلى الفائدة فيه، ولم يَردِ الشرع باستحبابه صراحةً، ولمَّا أومأ إلى فوائد فيه، عَلِمنا أَنَّه مطلوبٌ، فقلنا: إنه مُسْتَحَبٌّ لأجل المعنى الموجب للاستحباب، وإن لم يكن من جهة الصورة. وليس هذا النوع من وظيفة الفقهاء، وأَسَمِّيْه مُسْتَحَبَّ خَوَاصِّ الأمة، كالوضوء للجُنُب، فإِنه أشار الشرع إلى معنى فيه، لما في «معجم الطبراني» في جُنُبٍ ينام ويموت: «إن الملائكة لا تَحْضُر جِنَازته». وبالوُضُوء تَنْدَفع هذه المَضَرَّة، فهذا المعنى أوجب القول باستحبابه.
ومن هذا الباب: الوُضُوء من مَسِّ الذَّكَر، ومس المرأة ولحوم الإِبل عندي. فأقول: إن الوضُوءَ مُسْتَحَبٌّ في جميعها، إلاّ أنَّه مُسْتَحَبُّ الخَوَاصِّ، ولا بُعْدَ فيه، فإن فقهاءنا أَوْجَبُوا الوُضُوء بأقلُ من هذه الأشياء، كالنظر إلى الأجنبية والغيبة مثلاً، فلو إلتزمنا الوُضُوء من مَسِّ الذكر والمرأة وغيرها الذي هو أفحش منه، لَمَا كان فيه بأسٌ، ولا خلاف للمذهب.(1/449)
أمَّا معنى «فيما مَسِّت النار»: فإنَّ الملائكة لهم تُبَاعِد وتُنَافِر عن الأكل والشرب بطباعهم الزكية، ومن أكل أو شرب المطبوخ الذي تَدَنَّسٍ بصنعهم ونَضَّجَتْهُ أيديهم، فكأنه وقع على بُعْدٍ بعيد من طَبْعهم، فلعلّ الشرع أمر بالوُضُوء منه تلافياً لهذا البُعْدِ، أمّا اليانع على الشجرد فإِنه بمَعْزِلٍ عن النظر، لأنه حديث عَهْدٍ بربه، وبركة من الله. وكان النبي صلى الله عليه وسلّميضع البَاكُورَة على عينيه، ويعطيه أصغر الولدان، وأمّا المطبوخ، فقد مَسَّته النار، ولَحِقَتْهُ صَنْعَة، البشر، وغيرَّته عمّا نزل إليهم، فمَحَقَت بركته، وبدَّلت قُرْب عهده بالبُعْد، ودَنَّسَتْهُ بأدناس البشر، فشأنه لا يكون شأن الثمر، فإِنه قد عُلِمَ من شأنه صلى الله عليه وسلّمأنه كان يَتَبَادر إلى ماء المطر، ويقوم فيه قائلاً: «إِنه حديثُ عهدٍ بربهٍ». ولم يكن يفعل مثله بسائر المياه، لأن هذا الماء بعد استقراره في حفرة أو بِرْكة تلطَّخ بأنواع الأدناس، ولن يبقَ على صفة حَدَاثة العهد.
فالحاصل: أن الوضوء من هذه الأشياء ليس كالوضوء من الأحداث والأنجاس، بل من باب التشبُّه بالملائكة والتقرُّب إليهم.
ولَمّا اختار المُصَنِّف رحمه الله تعالى مذهب الجمهور، لم يخرِّج أحاديث الجانب الآخر، وترك ذكرها رأساً، وهذا من دأبه. وإنَّما خصَّ اللحم بالشاة، لمكان الخلاف في لحم الإِبل، فإِنه ذهب أحمد رحمه الله تعالى إلى الوُضُوء منه ولو كان نِيئاً.(1/450)
وقال بعضهم: إن المرادَ من الوضوء هو الوضوء اللغوي. قلت: وهو خلاف المُتَبَادر عندي، لا لِمَا قاله ابن تَيْمِيةَ، فإِن أقسام الوُضُوء قد ثَبَتَ عندي في غير واحدٍ من الأحاديث، بل لأنه لا يَشْهَدُ به الوجدان، ولا يشْهَد به العمل، وإن كان لا بُدَّ لك أن تقول به، فالأَولى أن تستدلّ عليه بما أخرجه السيوطي في «الجامع الكبير» عن «المختارة» للضياء المَقْدِسي: «الوُضُوء الناقص ممَّا مَسَّت النار» فليُحْمَل الوُضُوء في هذه الأحاديث على الوُضُوء. الناقص على رواية «المختارة»، والحافظ ضياء الدين شرط الصِّحَّة في كتابه، وقال ابن تَيْمَيِة: إنه أحسن من «المستدرك» للحاكم، ثم إن حديث: «الوضوء ممَّا مَسَّت النار»، يشتمل على القصر، وقد وجَّهناه فيما أَمْلَيْنَاه في درس «الجامع» للترمذي.
208 - قوله: (يَحْتَزُّ)، ولم يكن الاحتزاز للأكل كما يفعلونه أهل أوروبا، بل للقطع لفقط، وقطعة اللحم إذا كانت كبيرة، لا بُدَّ من قطعها. ثم تلك أمورٌ يعرفها كلٌّ بِفِطْرَتِه السليمة: أن أيها يكون للضرورة، وأيها للتشُّبه بهم، فإِن كنت أوتيت من الإِيمان نوراً فاعرفه، فإِنَّ المؤمن ينظر بنور الله، وإلاّ فأنت وشأنك، وإنما يحادل في مثل هذه المواضع من لا حياء لهم ولا دين. وصَدَقَ الله: {وَكَانَ الإِنْسَنُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً} (الكهف: 54)، والجدل: بأن لا يريد العمل، ويتعلَّل بالشُّبُهَات، ويُخَاصِم المجرد هواه، فَلَسْنَا نَشْتَغِل بجوابهم، والله المستعان.
باب مَنْ مَضْمَضَ مِنَ السَّوِيقِ وَلَمْ يَتَوَضَّأ
ولمَّا كان عند المصنِّف رحمه الله تعالى بعض جزئيات ممَّا مسَّت النار، أراد أن يُبَوِّب لكلَ منها باباً باباً.(1/451)
209 - قوله: (صَهْبَاء)، وهي الموضع الذي رُدَّت فيها الشمس بين خَيْبَر والمدينة، وصحَّحه الطَّحَاوي في «مُشْكِل الآثار»، ونقل عن شيخه أنَّه أَوْصَى الأمة بحفظ هذه المعجزة الباهرة التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلّم، ونَسَبَ النووي إليه أن قائل بتعدّد القصة وهو سهوٌ منه، وإنّما صحَّحَ الطَّحَاوِي واقعة واحدة ولم يقل بتعدّدها أصلاً، ولعلّ النووي لم يَظْفَر بالأصل أو لم يرجع إليه، فوقع في الغَلَط، هكذا تكون الأغلاط في أخذ النقول بدون المراجعات إلى الأصول.
والذي تحصَّل لي في تنقيح القصة: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمبَعَث علياً رضي الله عنه لحاجةٍ قبل العصر، فذهب إليها ولم يصل حتى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثم لما أَخُبِر به النبي صلى الله عليه وسلّم دعا له فرُدَّت له الشمس». وما سوى ذلك، فكلَّه من اضطراب الرواة، أمّا إنه لم يصلِّ العصر، فالوجه عندي أنه تَزَاحَم عنده أمران: الأول: الأمر العام في أداء الصَّلاة في وقتها، والثاني: الأمر الخاص، وهو أَمرُ النبي صلى الله عليه وسلّمفي هذا اليوم بالفَرَاغ عن حاجته التي بعثه إليها قبل غروب الشمس، كما يجيء في البخاري في قصة بني قُرَيْظَة، حيث أمرهم النبي صلى الله عليه وسلّمأَنْ يُصَلَّوا العصر في بني قُرَيْظَة، فأدركهم الوقت قبل بلوغهم إليهم، فصلّى بعضهم العصر نظراً إلى الأمر العام، ولم يُصَلِّها بعضهم حتى فاتتهم الصَّلاة، لأنَّهم رجَّحُوا الأمر الخاص على العام، وفَهِمُوا أنَّهم أُمِرُوا بأن يُصلُّوا العصر في هذا اليوم في بني قُرَيْظَة وإن فافهم الوقت في الطريق. وهذا اجتهاد مُشْكِلٌ، لأنَّه إن رجَّحَ الأرمر الخاص، يَفُوته الأَمر العام، وإن عَمِلَ بالأمر العام، فإِنَّه الخاص. ثم إِنَّ هذه القصة في خَيْبَر، وسَهَى بعضهم حيث فَهِمَ أنها في غزوة الخَنْدَق، مع أنه ليس فيها رَدُّ الشمس، بل فيها غروب الشمس وفوات الصلاة.(1/452)
باب هَل يُمَضْمِضُ مِنَ اللَّبَن
وقد مرّ منِّي أن المَضْمَضَة لحال اللَّبَن، لا لحال الصَّلاة، فالمَضْمَضَة من متعلقات الأكل، وآدابه عندي، فيُسْتَحَبُّ عِقِيبه لا عند الصَّلاة خاصة. نعم قد يجتمع الفراغ عنه والقيام إلى الصَّلاة، وحينئذٍ يتأكَّد كما قلتُ في حديث المستيقظ، فإِنَّه من مسائل المياه في الأصل، ثم الصِيَانة مطلوبةٌ في مياه الوُضُوء بالأَوْلَى، فَيَنْجَرُّ إلى الوُضُوء أيضاً، وإليه يُشِير تعليله: «بأن له دَسَماً»، يعني به: أنَّه لحال الطعام.
باب الوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ مِنَ النَّعْسَةِ وَالنَّعْسَتَينِ أَوِ الخَفقَةِ وُضُوءًا
وظاهر الرواية فيه: أنَّ النَّوم عند تمكُّن المَقْعَدَة لا يُفْسِد، ويُفسد عند التَّجافي، وأمَّا الهيئة التي في كتب الفقه فأوَّل في فضَّلَها الطحاوي، ثُمَّ تبعه القُدُوري، ثم تبعه الناس، وفي «الدُّر المختار»: إن تمكَّن مقعده ونام، وإن طال، وفي عبارةٍ: وإن جلس مستنداً، فهذا هو المذهب. أمَّا الفَتْوَى فإنَّها تبني على المصالح واختلاف الزمان والمكان، فلا يُوَسَّع فيها في هذه الأيام، فإنَّها أيام يأكل فيها الناس كثيراً، فيُحْدِثُون مع تمكُّن المَقْعَدَة. وذهب بعضهم إلى أن النوم ناقضٌ مطلقاً، وقال آخرون: إنه غير مناقض، مطلقاً.
وحاصل ترجمة المصنِّف رحمه الله تعالى: أنَّ فيه تفصيلاً، فيكون ناقضاً تارةً غير ناقض تارةٍ ولم يَضْبطه، لأنه وغير مُمْكِن، ومذهب الحنفية مرَّ تفصيله.(1/453)
212 - قوله: (فلْيَرْقُد)، أي حتى يعلم أنَّه يَسْتَغِفرُ أو يَسُبَّ، وأنه ماذا يَقْرَأ، وفي «الدُّرِّ المختار»: أن الاختيار شرطٌ للصَّلاة، ومُرَاده أَنْ يكونَ بحيث يبقى له فَهْمٌ، فلا يَغْفُل عمَّا يفعل كُلِيَّةً، وفي «البحر»: أنَّه لو نام في قعدة التراويح لم تَفْسُد صلاته وإن غرقا... إلخ. قلتُ: وكأنَّ الحديث مأَخوذٌ من قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} (النساء: 43) إلخ. ومن ههنا ذهب الفقهاء إلى أنَّ الأغماء والجُنُون ناقِضَان، فإِنَّهم رأوا أَنَّ القرآنَ جَعَل العلم بما يقولون غايةً للصَّلاة، فإِذا كان بحيث لم يَكُن له أن يَعْلَم ما يقول، فإِنه لا يَقْرَب الصَّلاة، فجعلوا الإِغْمَاء والجُنُون ناقضتين، لأنَّه لا يَدْرِي فيهما ما يقول.
ومِنْ هذه الآية أُخِذَ أدنى مقدار الخُشُوع: وهو أنَّ يَعْلَم الرجل أنَّه ماذا يقرأ هو أو إمامه، فاعلمه فإِنَّه مهمٌ ثم الخُشُوع مُسْتَحبٌّ كما في «الاختيار شرح المختار»، ولم أجده في عامة كُتُبنا، وهو بالنظر إلى مَوْضع سُجُوده في حال القيام، إلى آخر ما قالوا، ولم أَزَل أَتَتَبَّعُ لهذا التفصيل مَأْخَذاً من كتب أصحابنا، فرأيته في متن «المبسوط» للجُوْزَجَانِي، وهو تلميذُ محمد بن الحسن رحمه الله تعالى. وعن أحمد رحمه الله تعالى في كتاب «الصَّلاة»: أنَّ المصلِّي في حال القيام يَحْني رأسه شيئاً، إلاّ أني أتردَّد في كون الكتاب المذكور من تصنيف أحمد، وفي «الفتح»: أنَّه تصنيفه.
212 - قوله: (لعلّه يَسْتَغِفر)... إلخ، أي ءَريد أن يَسْتَغْفِر، فَيْهجُر ويَسُبّ نفسه مكان استغفاره لها، وقيل: معناه أن يَمَلَّ عن الصلاة، فيَسُبّ نفسه لِمَ فُرِضَتْ عليه.
باب الوُضُوءِ مِنْ غَيرِ حَدَث(1/454)
أراد أن يُشِير إلى الوُضُوء المُسْتَحَبّ، فأَخْرَجَ تحته الوُضُوء وتركه، وهو مُسْتَحَبٌّ في نحو عشرين مَوْضِعاً كما في «الدُّر المختار»، وقد مرَّ مني أَنَّ الوضوءَ عند كل صلاة مطلوبٌ عند الشرع، وهو الظاهر من قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ} (المائدة: 6)، ولذا لا أُقَدِّر فيه: وأنتم مُحْدِثون، كم قَدَّره المفسِّرون، كيف وقد ثَبَتَ عند أبي داود بإِسنادٍ قوي: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمكان مأموراً بالوضوء طاهراً أو غير طاهر، فلمَّا شَقَّ عليه، أُمِرَ بالسِّواك عند كل صلاة». وعُلِمَ منه أيضاً أنَّ السِّوَاك بدل الوُضُوء، وكان الأصل هو الوُضُوء، إلاْ أنه لما شَقَّ عليه أُقِيَم أُنْمُوذَج الشيء مَقَام الشيء، وقد مرَّ مني عن «فتح القدير»: أنَّ السِّواك مُسْتَحَبٌ عند الصَّلاة عندنا أيضاً، ثم الوضوء من الأشياء التي تقدَّمَ حكمُها نزولَ النَّص، لأنَّ آية المائدة آخرها نزولاً، والوضوء كان فرضاً قبلها أيضاً.
باب مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ لا يَسْتَتِرَ مِنْ بَوْلِه
216 - قوله: (فسمع صوت إنْسَانَيْن)... إلخ، وهذا دليلٌ على أنَّ العذابَ محسوسٌ ومسموعٌ لمن كان له أذنان، لا أنه مُتَخَيَّلٌ فقط، نعم ه في عالم آخر، والناس يريدون أن يسمعوه في هذا العالم، فَيَقَعُون في الخَبْط، ألا أنّ الحواس الخمس في هذا العالم، ثم لا يدري أحدهما ما في عالم الآخر، فلا تدري الشَّامَّة ما السمع والذوق؟ ولا تدري السامعة ما الشمُّ والذوق؟ فهكذا لا يمكن أن يَكْتَنِهَ مَنْ في عالم الأجساد ما في عالم البَرْزَخ، إلاّ أَنْ يُسْمَعِه الله تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ} (فاطر: 22) ولم يدّعِ الشرع أَنَّ أحوال البرزخ من أحوال عالم الأجساد، ليُقَال إنَّا لا نسمع الصوت، ولا نرى أحداً في القبر معذَّباً إلى غير ذلك، فاعلمه.(1/455)
216 - قوله: (في كبيرٍ) أي بحَسَب نَفْسِه ووجوده، لا بحَسَب الإِثم. قال النَّووي ما حاصله: إِنَّ عدم الاجتناب من البول ليس بكبيرة في نَفْسِهِ، بل يُفْضِي إلى كبيرة، وهي الصَّلاة في تلك الثياب النجسة المستلزِمَة لبطلان الصَّلاة.
قلت: إنْ أراد به الصغائر لا يُعَذَّب عليها، فهو ليس بصحيحٍ، وإلا فعدم الإتقاء كبيرة في نَفْسِه، بل كان صغيرة تَصِير بالإِصرار كبيرة، فَمَنْ قلَّت مبالاته بأمر البول واعتاد به، فقد ارتكب الكبيرة، صلَّى فيها أم لا، لأنَّه قد مرَّ مني أن التطهُّرَ في عامة الأحوال مطلوبٌ، والتلظُّخ بالنجاسات مكروهٌ، وهذا وإن كان صغيرة، لكنه لمَّا أصرَّ عليه واعتاده، صار كبيرة حتى حقَّت عليه كلمة العذاب، والعياذ بالله.
216 - قوله: (لا يَسْتَتِر)... إلخ، وفي لفظ: لا يَسْتَنْزِه، وفي لفظٍ آخر: لا يَسْتَبْرِأ. وتوهَّم بعضهم: أن معناه إنه لم يكن يَسْتُر عورته عند البول. وقيل معناه: إنه لم يكن يَحْتَرِز عن رِشَاش البول.
أقول: ومُحَصَّل كلها واحدٌ مع فرق يسيرٍ بينها، فمعنى عدم الاستتار: أنَّه لم يكن يضع سُتْرة بينه وبين البول، ولا يتَّقي من رِشَاشه، فيعود إليه رِشَاشه. والاستنزاه والاستبراء: هو الاستنجاء على طريقٍ مسنونٍ، أعني به الطريق الذي يعمل به النَّاس لقطع التقطير: من التنحنح، والمشي خطوة أو خطوتين، كالنَّتْر عند ابن ماجه مرفوعاً، وهو عند الأطباء مُضِرُّ. فإِن كان ما أظنُّه صحيحاً، فالحديث على الأخيرين يَقْتَصِر على بول النَّاس فقط، ويكون معناه: أنَّه لم يكن يَحْتَاط في الاستنجاء ودفع التقطير، فابْتُلِي بالعذاب لأجل هذا التهاون، وعلى الأول يمكن أن يُرَاد من البول مُطْلَقه الشامل لبول الإِنسان وغيره، لأنَّ عدم الاتقاء من رِشَاش البول يتحقَّق في سائرها، ويكون معناه: أنه مُعَذَّبٌ لقلة مُبَالاته بالأبوال.
(1/456)
ثم قَتَّشْتُ عن وجه خصوصية البول في عذاب القبر، ليظهر أنَّ المراد به بول النَّاس أو مطلقه، فإِن كان ذلك المعنى مُخْتَصّاً ببول الناس، يقتصر الحديث على أبوالهم، وإن كان عامّاً فليَعُمَّ الحديث أيضاً حَسَب عمومه، ولم أرَ فيه شيئاً غير ما في «شرح الهداية»: «أنَّ أول ما يُسْأَل العبد عنه يوم القيامة، هو الصلاة». فناسب أن يكون أول ما يُسْأَل عنه في القبر هو الطهارة، لأنَّ البَرْزَخ مقدَّمٌ على الحشر والطهارة متقدِّمة على الصَّلاة، فناسب أن يُسْأَل في أول منزل من منازل الآخرة عن شرائط الصلاة.
وما وَضَح لديّ هو أنَّه لا دَخْلَ فيه لخصوصِ البول، بل النَّجاسات كلها مُؤَثِّرَة في العذاب، لأنَّ ملائكة الله تتأذَى عن النجاسات بطبعهم، والمعاملة في القبر إنما تكون معهم، فيقَعَ من جانبهم التعذيب لهذا، فالملائكة إنما يَسْتَأْنسُون بالطهارة، ويَتَنْفَّرون بالنجاسة، والبول نجاسةٌ حِسّاً، والنميمة معنًى، لأنَّها لحم الأخ.
وإنَّما خصَّ ذكر البول، لأنَّ الخِثَي والرَّوْثَةَ وعَذِرَةَ الإِنسان، وكذا سائر القَاذُورَات يَحْتَرِز عنها كلُ جاهل وعالمٍ من فِطْرَته، وقَلَّما يتحمَّل أن يتلطَّخ بشيء منها بخلاف البول، فإِنَّ عامةَ العرب لم يكونوا يبالُون به، كما صرَّح به الشارِحون في قصة بول الأعرابي: أنَّ بوله في المسجد كان على عادتهم في قلة المُبَالاة به. ولذا قال: «وما يُعَذَّبان في كبير».(1/457)
216 - قوله: (ما لم يَيبْسَا)... إلخ، قيل في وجه تخفيف العذاب: إنَّه من آثار تسبيح الجريدة، وإنما وقته باليَبْس، لأنَّها لا تُسَبِّح بعده. وقيل: بل هو ببركة يده الكريمة، ومثل هذه الواقعة عند مسلم في أواخره، وفيها تصريحٌ باستشفاعه صلى الله عليه وسلّملهما، ففي حديث جابر الطويل في صاحبي القبرين: «فأُجِيبت شفاعتي أن يرفع ذلك عنهما ما دام القضيبان رَطْبَان»، وهذا صريحٌ في شفاعته صلى الله عليه وسلّم وأنَّه لا دَخْل فيه للقضيب، نعم عدم اليَبْس أجلٌ فقط، فالتوقيق ليس لعدم التسبيح بعده، بل لأنَّه ضُرِبَت له هذه المدة.
ثم إنَّ الحافظين بَحَثَا في هاتين القصتين أنهما اثنتان أو واحدة، ومال الحافظ رحمه الله تعالى إلى التعدُّد، وقال: إنَّ ما في الباب قصة المُسْلِمَيْن في المدينة، وما في أواخر مسلم قصة الكَافِرَيْن في سفرٍ، وإلتزام تخفيف العذاب عن الكافر مع عدم النجاة. وذهب الشيخ البدر العَيْني إلى الوَحْدة.
أمَّا إلقاء الرَّيَاحين على القبور، ففي «الفتاوي الهِنْدِيَّة» عن «مطالب المؤمنين»: أنَّه جائزٌ تمسُّكاً بحديث الباب. قلت: وصرَّح العْيَني أنَّه لغوٌ وعَبَثٌ. وقال الخطَّابي: إِنَّ ما يفعله الناس على القبور لا أصل له كما في النووي، ومُصَنِّف «المطالب» ليس من الكبار لِيُثَق به، بقي البحث في أنَّ المُؤثِّرَ لو كان هو التسبيح، فهل ينقطع عنها التسبيح، بعد اليَبْس، فإِنه يخالف ظاهر قوله تعالى: {وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} (الإسراء: 44).
البَحْثُ في تسبيح الأشجار، قوله تعالى: {وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ}(1/458)
واعلم أنَّ المفسِّرين أخْرَجُوا آثاراً تحت قوله تعالى: {وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ}، ويُسْتَفَاد منها انقطاع التسبيح في زمان، مع أنَّ الآيةَ تدلُّ على العمومِ، ففي الآثار: أنَّ الثوبَ إذا كان أبيض، فإِنَّه يسبِّح، وإذا اتّسَخَ، فإِنه لا يسبِّح، وهكذا الماء إن كان جارياً يسبِّح، وإن ركد ينقطع عنه التسبيح، وكذلك المرأه إذا حاضت، وأمّا الحمار والكلب، فإنهما لا يُسَبِّحَان أصلاً، ومن ههنا تبيّن لي وجهُ كونهما قاطِعَيْن لصلاة المُصَلِّي، فإِذا كانت دونهما سُتْرةٌ لم يَضُرَّ مرورهما، ولذا غَضِبَت عائشة رضي الله عنها، وقالت: «عدَّلْتُمَونا بالكلاب والحُمُر». وقيّد الحائضة وإن لم يكن في عامة الطُرُق، لكنه عند أبي داود: «يقطع الصَّلاة: المرأة الحائضة، والكلب» ولم أرَ أحداً منهم تنبَّه لهذه الدقيقة.(1/459)
قلتُ: ولذا يتنجَّس بوقوع النحاسة، كما اختاره الحنفية، وهكذا الحال في الحجر إذا ثَبَتَ في مكانه وإذا أُقْلِع، والشجر إذا كان رَطْباً وإذا يَبِسَ. والذي تبيَّن لي - والله تعالى أعلم - أنَّ هذه الأشياء كلها تُسَبِّح في الحالين، كما شَهِدَ به النص، إلاّ أنه يتغيّر نوع تسبيحها، فإِن الاتساخَ والرُّكُود والقَطْع والقَلْع موتٌ لهذه الأشياء، وهكذا الإِنسان يُسَبِّح نوعَ تسبيحٍ ما دام حياً، وإذا مات وصار تراباً ولَحِق أجزاءه بالعناصر، فإِنَّه لا يُسَبِّح هذا التسبيح، بل بتسبيح العناصر، فيتغيَّر نوعُ تسبيحه، لا أنه لا يُسَبِّح أصلاً، لأنَّ القرآن صرَّح بأن تسبيحَ كل نوعٍ على حِدَة، فقال: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} (النور: 41) وهكذا يُسْتَفَاد الاستغراق من عامة الآيات، إلاّ في آيةٍ واحدةٍ، فإنَّها تُشِيرُ إلى التخصيص، فقال بعد ذكر السجدة - والسجدة والتسبيح من نوع واحد - {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} (الحج: 18)، قال الشيخ الأكبر في «الفصوص»: إن بُنْيَة الكافر لا تُسَبِّح، وتسبِّح أجزاءه.
قلت: ومراده ما مرَّ مني: أنَّ الهيئةَ الوحدانية لا تُسَبِّح، وإنما تُسَبِّح أجزاءه وعناصره من نوع تسبيحه.
والحاصل أنَّ الشجرَ الرَّطب يُسيَبِّح تسبيح النبات، وإذا يَبِسَ فإِنه يُسَبِّح تسبيح الجماد، وهو معنى قوله: «ما لم يَيْبَسا».
وليُعْلَم أن قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} ليس فيه استثناءٌ صراحةً، فإِن الاستثناء إخراجٌ عن الحكم، وليس له عندهم لفظ سوى «إلاّ» بل خاصٌّ وَرَدَ بنقيض حكم العامّ، وهو قوله تعالى: {وَإِن مّن شَىْء} (الإسراء: 44) إلخ، فليس فيه استثناء، بل تَعَارُض، فهو يُومِيء إليه.(1/460)
ثم أقول: ليس العذاب في القبر غير تلك المعاني التي يراها الرجل في حياته من الضيق والإِنشراح، فمن يرى في نومه أنه متلطَّخ بالنجاسات مثلاً، فإِنه تَشُمَئِزُّ نفسه، ويَضِيقُ صدره، وتَطُول عليه ساعاته، كذلك في القبر إذا يرى نفسه متلطِّخة بالنجاسة، فإِنه يَتَنَفَّر عنه، ولعلّ الغِيبَة تتجسَّد لحماً، ويكون بهذا الطريق عذابه. ونِعْمَ ما قال الصفدي:
*شَرُّ الوَرَى بمساويء الناس مَشْتَغِلٌ ** مثل الذباب يَرْاعَى مَوْضِع العِلَلِ ولا أجد أحداً من الحيوانات مُتَتَبِّعاً للنجاسات مثل الذباب والكلب، وفي الكلب معاني أخرى أيضاً، فمن عاداته الوُلُوغ في الأواني، فلا يَمرُّ بآنيةٍ إلاّ ويشَمُّها ويَلَغُ فيها، ومن عاداته أن يَسْطُوَ على الإِنسان، فإِذا هدَّده بالعصى فرَّ، ثم إذا تَغَافَل عنه شيئاً عاد إليه. وهو حال الشيطان، فإِنه أيضاً في مراقبة أحوال الإِنسان، فإِذا وَجَدَ موضع نقص فيه، وكذلك حاله مع الذكر كحال الكلب مع العصى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: 201)، فذكر الله مَطْرَدَةً للشيطان، وحياةً للقلب، فتلك الطبائع الإِبليسية التي في جِبْلَة الإِنسان هي التي تتمثَّل في القبر، ويزداد منها عذاباً، لا أُرِيدَ به أن العذاب في القبر تَخْييلٌ فقط، كما تَفَوَّه به بعض الملاحدة، بل أُرِيد تفهيمه وتقريبه إلى الأذهان بنوع من الأمثلة، فيُعَذَّب في القبر كما وَرَدَ في الحديث.
باب مَا جَاءَ فِي غَسْلِ البَوْل
(1/461)
باب
فَقَصَر البول على بول الناس، ونصَّ عليه، ولم يُرِد به مطلق البول، واختار طهارة بولَ مأْكُول اللحم، وحينئذٍ يقتصر قوله: يستزهوا من البول، على بول النَّاس عنده، بل يُسْتَفَاد من تراجمه: أنه اختار طهارة الأبوال سوى بول الإنسان، وقال الشارحون: إنه اختار مذهب داود الظاهري القائل بطهارة الأبوال والأذبال غير عَذِرَة الإِنسان والخنزير والكلب. قلت: وقد مرّ مني في الباب السابق: لفظ الاستنزاه والاستبراء يُشْعِرُ بأنَّ المراد منه بول الإِنسان، فإِنه لا يتحقَّق إلا في الإِنسان، فلفظ الاستنزاه في هذا الحديث يُوميء إلى أن المُرَاد به بول الناس خاصةً، وحينئذٍ يسقط الاحتجاج به على نجاسة سائر الأبوال.
والقرينة الثانية على أن المراد به بول الناس فقط: ما رُوِيَ عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أصابهم البول يَقْرِضُون جلدهم بالمَقَاريض. وأوَّلَهَ ابن دقيق العيد، وقال: إن المراد من قطع الجلد هو قطع الفَرْوِ دون قطع الجسد، فإِنه مُسْتَبْعَدٌ.
قلت: ورأيت في بعض الألفاظ قطع الجسد أيضاً، ثم رأيت في «مصنَّف ابن أبي شيبة»: «أنهم كانوا مأمورين بقطع الثوب في الدنيا، أمَّا قطع الجلد، فكان عذابهم به في قبورهم». فتبيَّن لي أن هذا القطع كان طريق عذابهم في القبر، وأظنُّ أن أثره باقٍ في هذه الأُمّة أيضاً، وإن كان خُفِّفَ فيه بنوعٍ، والله أعلم.(1/462)
والقرينة الثالثة: أن الرُّوَاة إنما يَتَنَاقَلُونه في بَوْل الناس، يعني أنَّ الرُّوَاة عند السؤال والجواب والمُرَاجعات إذ يأتون بهذا الحديث يريدون به بول الناس، وهذا يؤيِّد أنه محمولٌ على بول الناس عندهم، ولمَّا لم يكن عندي دليلٌ على التخصيص، رَاعَيْتُ الجانبين، فقلتُ باعتبار تَنَاقُل الرُّوَاة: إن المراد منه بول الناس، وهو مراد أَوْلَى، ولفقدان دليل التخصيص قلتُ: إنَّ المرادَ منه البول مطلقاً، وهو مرادٌ ثانوي. وهذا واسع عندي: أن يقتصر الشيء على أمر باعتبار مراده الأَوْلى ويُعَمَّم يَحَسب مراده الثانوي، ولأنَّه لا فارق بين بول الناس وغيره، فيلحق غيره به أيضاً.
وقد تحقَّق عندي تعدُّد المِصْدَاق، ولم يُنَبِّه عليه أحدٌ، إلاّ بعض شارحي «التلويح» حيث قال: إن خمر العنب مِصْدَاق أَوْلى للفظ الخمر، وما يقوله الجمهور مِصْدَاق ثانوي له. وهكذا أقول في البول، ثم أقول: إنَّ الحُكمُ إذا ورد على اسم يكون بعضُ ما صَدُقَاتِ مُسَمَّاهُ كثيرَ الوقوع، ثم خَصَّص الحديثُ هذا البعضَ الذي هو كثيرُ الوقوع بحكم، فهل يقتصر هذا الحكم على هذا البعض فقط، أو يدور على الاسم مطلقاً؟ والذي يتَّضِح: أنه يدور على الاسم، ولا يَقْتَصِر على هذا البعض، لأن الاقتصار فيه إذا كان لكَثْرَة الوقوع، فلا معنى للتخصيص، وههنا أيضاً كذلك، فإِنَّ حُكْمَ التعذيب وإن اقتصر على بول الناس، كما اختاره البخاري، إلاّ أن تخصيصه بالذكر لكَثْرَة المعاملة معه، فلا يَقْتَصِر الحكمُ عليه، بل يتعدَّى إلى سائر الأبوال، وحينئذٍ لا يحتاج إلى التقرير السابق أيضاً.
(1/463)
أما الأصوليون فلم يذكروا تعدُّد المِصْدَاق، نعم قسَّمُوا العُرْف إلى: لفظِيِّ، وعمليَ، واللفظي: أن يدلّ عليه اللفظ بوضعه. والعمليَّ ما تُرِكَ به العمل في بعض ما صَدُقَاتِه، وإن اشتمل عليه اللفظ لغةً كاللحم، فإِنه لا يُطْلَقُ في العُرْف على لحم السمك، وإن اشتمل عليه لغةً، فاعتبروا اللفظيَّ مطلقاً، وقد يَعْتَبِروُن بالعملي أيضاً، ويجعلونه مخصِّصاً كما في اللحم، فمن حَلَف أن لا يأكل اللحم، فإِنه لا يْحْنَثُ بأكل لحم السمك.
والذي أقول في مثل هذه المواضع: هو إقامة المراتب واختلاف الأحكام في بعض أفراد المُسَمَّى، ففي معنى اللحم مراتب يَسَعُ للمتكلِّم أن يريدَ بعضَها ويَتْرُكَ بعضَها، وهذا أيضاً وجه. وإقامة المراتب لم يتعرَّض إليها الأصوليون أيضاً، وكان مهماً. وما في حاشية «نور الأنوار» نقلاً عن «مُسْتَدْرَك الحاكم» أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّملما فَرَغ من دفن سعد، وابْتُلي بعذاب القبر، جاء إلى امرأته فسألها عنه، قالت: كان يرعى غنماً، ولا يستتر من بولها، فقال: «استنزهوا من البول»، فلم أجده في النسخة المطبوعة ولا في القدر الموجود من النسخة القلمية عندي، ولو ثَبَتَ لكان فصلاً في الباب، وسيأتي بعض الكلام في باب ما يقع من النجاسات... إلخ.
باب تَرْكِ النبي صلى الله عليه وسلّموَالنَّاسِ الأَعْرَابِيَّ حَتَّى فَرَغَ مِنْ بَوْلهِ فِي المَسْجِد
لعلّه يريد بيان ما هو الأنفع فيما بَالَ الرجل في:المسجد، ولم يدخل في مسألة التطهير بعد، وقد مرَّ في باب الماء الذي يُغْتَسل به شعر الإِنسان... إلخ.
باب صَبِّ المَاءِ عَلَى البَوْلِ فِي المَسْجِد
باب يُهَرِيقُ المَاءَ عَلَى البَوْل(1/464)
يَطْهُرُ السَّطْحُ بالصَّبِّ، والجَوْفُ بالجفاف أو بالحفر، لأنَّه إذا صَبَّ الماء يصير جارياً، واعلم أنَّ في فقهنا مسألة عجيبة وهي: أنَّ دَلْوَين إذا كان أحدهما نَجِساً والآخر طاهراً، ثم صُبَّا من الفَوْق معاٌ، يكون مجموع الماء الساقط طاهراً للجريان، فيراها النَّاظر ويَزْعُم أنَّها متفقٌ عليها بدون اختلاف، مع أنها تُبْنَى على أصل آخر اخْتُلِفَ فيه عندنا، وهو أن الجَرْيَ هل يُشْتَرَطُ له المَدَدَ أم لا؟ فقال بعضهم: إن الماء لا يُسَمَّى جَارِياً ما لم يكن له مَدَد، وأطلقه آخرون وسمَّاه جارياً بمجرد الجَرْي. ثم جعلوا يتفرَّعُون على قول من لم يَشْتَرِط المَدَدَ للجَرَيَان، كما رأيت المسألة المذكورة، فينظرها ناظر ويَغْفُل عن الأصل الذي اخْتُلِف فيه، وبظنها مُسَلَّمَة بدون اختلاف، فاعلمه.
قوله: (طائفة المسجد)... إلخ، وترجمة الناحية عندي (يكسو) وعلى هذا ما في «الموطأ» لمحمد رحمه الله تعالى: «أَحْسِن إلى غنمكِ وأَطِبْ مُرَاحها، وصلِّ في ناحيتها، فإِنَّها من دوابِّ الجنة»، معناه يكسوا ورايكطرف هو كرنما يثره، فيكون دليلاً على نجاسة أزبالَ مأْكُول اللحم وأبوالها، لأنه أمره بالتجنُب عنها، والصَّلاة في الناحية: أي في طرف منه.
قوله: (أعرابي) هو ذو الخُوَيْصِرَة وهو يماني، ورجل آخر تميمي، والأوَّل رجل صالح، والثاني شِقَّي رأس الخوارج، نبَّه عليه ابن الأثير.
باب بوْلِ الصِّبْيان
نَسَبَ ابن بطَّال إلى الشافعية: أن بول الصبي الذي لم يَطْعَم طاهرٌ عندهم، وأنكر عليه الشافعية، وقالوا: إنه نَجِسٌ عندنا إلاّ أَنه يكفي النَّضْح لتطهيره.(1/465)
قلت: ومذهبهم أنَّه إذا رَشَّ الماء على بوله، فقد طَهُرَ وإن لم تتقاطر منه قطرة، فإِنه صار مغلوباً، وحينئذٍ لاذنب لابن بطَّال إن نَسَبَ إليهم الطهارة، فإِنَّ النجاسة إذا لم تخرج بشيء، فكيف طَهُرَت بمجرد كونها مغلوبة، وقال الثلاثة: إنه نَجِسٌ يُغْسَل كسائر الأنجاس، إلا أنه لا يحتاج إلى المبالغة في غسله من الدَّلْك والعصر في كل مرَّة، وصرَّح محمد رحمه الله تعالى في «موطئه»: أن في بول الرضيع رُخْصَةً - أي تيسيراً - وهو مُقْتَضَى الأحاديث، فَوَرَدَ فيه خمسة ألفاظ: أَتْبَعَه بوله، ورَشَّه، ونَضَحَه، وصَبَّه، ولم يَغْسِلْهُ غَسْلاً، كما عند مسلم والآخر صريحٌ في نفي التأكيد.
قال ابن عصفور في حاشية «كتاب سيبويه»: إنَّ المجازَ لمّا كان له تطرُّق في لغة العرب كثيراً، وضعوا لدفعه طُرُقاً، منها التأكيد، فقولنا: جاءني جاءني: لبيان أنَّ الفعلَ هو المجيء حقيقةً دون مقدماته. وقولنا: جاءني أمس أمس: لدفع تطرُّق المجاز في الزمان، وقالوا: إنَّ لدفع التطرُّق في الفعل طريقٌ آخر، وهو التأكيد بالمفعول المُطْلَق، وعلى هذا قوله: «لم يغسله غسلاً»: للتأكيد ودفع تطرُّق المجاز، فمعناه أنَّه لم يغسله غَسْلاً مؤكَّداً، وهو الذي أراده بإِثبات الرشّ والنَّضْح، فالنفي والإِثبات يترقيان في المعنى والمآل، فقد عنى بالنفي نفي الغسل مؤكَّداً، وبالأمر أمر الرشّ ومثله.m(1/466)
ثم المسألة عند اختلاف الألفاظ ينبغي أن تُؤْخَذ بعد رعاية جميع الألفاظ، فَمَنْ نظر إلى لفظ النَّضْح والرشّ، فقد قطع نظره عمّا يجب عليه النظر إليه، وإنَّما اختلفت الألفاظ في بيان تطهيره، لأنه لم يكن فيه تأكيد، فاستخفَّ أمره، وعبَّر عنه تارةً بالنضح والرشّ، وأخرى بالصَّبِّ، فهذا مجرد تعبير وطريق بيان، لا مسألة منضبطة، وهكذا إذا يستخفُّ الأمر تَرِد فيه التعبيرات بكل نحو، ومن ههنا يُسْتَفاد الرخصة. ثم في «الدُّرِّ المختار» مسألةٌ سها فيها صاحبه وهي: أنَّ العَصْرَ إنما يُشْتَرط إذا غسل الثوب في الإِجَّانة، وإلاّ كفى له الصَّبُّ ولو لم يَعْصِرْه.
قلت: وهو سهوٌ بيِّن، فإِنَّ هذه المسألة كانت في النجاسة المرئية، فنقلها في غير المرئية أيضاً، كم في «الخلاصة»، والعجب من ابن عابدين حيث لم يتعقَّب عليه.
ثمَّ إن الطَّحَاوِي أجاب من لفظ الرَّشِّ بوجهٍ آخر، وقال: إنما أراد بالنَّضْح صَبَّ الماء عليه، فقد تُسَمِّي العرب ذلك نَضْجاً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلّم «إني لأعرف مدينة يَنْضِحُ البحر بجانبها» فلم يَعْنِ بذلك النَّضْح الرَّش، ولكنه أراد يَلْزَقُ بجانبها. انتهى.(1/467)
قلت: والنَّضْح في الأصل: إسالة الماء وقتاً فوقتاً، شيئاً فشيئاً، بخلاف الصَّبِّ: فإِنَّه إسالة الماء دفعة، ولذا يُقَال للإِبل الذي يُحْمَل عليه الماء للاستسقاء: النَّاضِح، لأنه يجيء بالماء وقتاً فوقتاً، وإن كان الماء عليه كثيراً، فالإِنصاف أن النَّضْح في الثوب هو بمعنى الرَّش دون الصَّب وإن لم يكن في البحر، والنَّاضِح كذلك، وهذا لتفاوت مَقَام وَمَقام، فنَضْح البحر وإن كان أَزْيَد من الصَّب والإِسالة، لكن نَضْح الثوب لا يكون كذلك، بل يكون بمعنى الرَّش، لأن نَضْح كل شيء بحَبَسه، فقلة الماء وكَثْرَته في البحر ليس مأخوذاً في نفسه اللفظ، بل هو لأجل المقام. وأما النَّضْحُ لغةً فمعناه: رشُّ الماء شيئاً فشيئاً فقط، وإن كان نَضْح البحر صَبّاً، فاعلمه.
وعفى الله عن النووي حيث قال: والأحاديث الصريحة تَرُدُّ على أبي حنيفة، مع كون ثلاثة ألفاظ من الخمسة لأبي حنيفة رحمه الله تعالى: «أَتْبَعَهُ بوله»، و «صَبَّه» و«لم يَغْسِله غَسْلاً»، على أن لفظ النَّضْح وَرَدَ في تطهير دَمِ الحيض، كما سيأتي، فلم يقل هناك أحد بالتخفيف، كما في بول الصبي.
باب البَوْلِ قَائِماً وَقَاعِدا
باب البَوْلِ عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَالتَّسَتُّرِ بالحَائِط(1/468)
واعلم أنَّ الشارحينَ توجَّهوا إلى أنه لِمَ لَمْ يخرِّج حديث البول قاعداً مع ذكره في الترجمة؟ قلت: وإنَّما لم يخرِّجه لشهرته، وإنما عمَّم في الترجمة دفعاً لتوهم الاقتصار. وفي الشامي: أنه جائز. قلت: وينبغي التضييق فيه في زماننا، لأنَّه صار من شعار النصارى، ولا ينزل عن كراهة التنزيه. أما بوله صلى الله عليه وسلّمقائماً، فمحولٌ على الأعذار. ففي «المستدرك» للحاكم: أَنه كان لوجع في مَأْبِضِه - أي باطن ركبتيه وإسناده وإن كان ضعيفاً، إلاّ أنَّه يصلح لبيان الاحتمالات. وعن الشافعي رحمه الله تعالى: أنَّ العربَ كانت تَسْتَشْفي لوجع الصُّلْب بالبول قائماً.
وأحسن الوجوه أَنْ يُقال: إن السُبَاطَةَ تكون مُلْقَى الكُنَاسَة، وتكون مخروطية في أكثر الأحوال، فلو بال قاعداً ارتد إليه بوله. وأمّا بوله بقُرْب الدّور مع أن المعروف من عادته الإِبعاد، فذكر القاضي عِيَاض رحمه الله تعالى: أنَّه كان مشغولاً بأمور المسلمين، فلعلَّه طال عليه المجلس، وحَفَزَه البول، فلم يمكنه التباعد، ولو تباعد لتَضَرَّر.
ويُسْتَفَاد من الحديث: أنه يجوز البول في الصحراء بدون الاستئذان من صاحبها. قال السيوطي رحمه الله تعالى في «حاشية النَّسائي»: إن تثليث الوضوء سنةٌ، وتركَه مكروهٌ تحريماً. وأمَّا تركه صلى الله عليه وسلّمالتثليث تارةً، فهو موجبٌ للثواب في حقه، فإن البيان واجبٌ عليه، والإتيان بالواجب موجبٌ للثواب قطعاً.
قلت: بل ترك التثليث ليس بمكروهٍ لأحدٍ من الناس عندي بشرط أن لا يتركه أزيد مما ثَبَتَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم ولا يَعْتَاد عليه.
225 - قوله: (خلف حائِطٍ)... إلخ، والحائط كانت أمامه.
225 - قوله: (فقام كما يقوم)... إلخ، تشبيهٌ في أصل القيام لا غير.(1/469)
قوله: (فأشار إليَّ)...إلخ، ويُسْتَفَاد منه: أنَّ الكلامَ في هذا الحال مما لا ينبغي، ولذا اكتفى بالإِشارة وما عند مسلم فقال: «أدْنُه - باللفظ - فَدَنْوَت...» إلخ، لعلَّه روايةٌ بالمعنى، والمُتَبَادَرُ أنه لم يتكلَّم في تلك الحال. ومنع مولانا الكَنْكُوهِي رحمه الله تعالى رَدَّ السلام حالة البول، ووسَّع فيه عند الاستنزاه والاستبراء والاستنجاء بالمَدَر. ومنعه مولانا محمد مظهر رحمه الله تعالى في حالة الاستنجاء أيضاً.
باب البَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْم
أشار إلى أنَّ البولَ عند السُّبَاطة ممّا لا يحتاج إلى الإذن من صاحبه لكونه معلوماً عُرْفاً.
226 - قوله: (يُشَدِّد)... إلخ، فإِنَّه كان يَبُول في القَارُورَة اتقاءً عن الرِشَاش.
226 - قوله: (قُرَضَه)، وفي بعض الروايت الصحيحة: «قَرَض الجلد» أيضاً كما مرَّ، وقد تحقَّق عندي أنَّ هذا القَرْض يكون في القبر تعذيباً، لا أنه كان في لدنيا تشريعاً، وإن كانت ألفاظ الرُّوَاة تشْعِر بخلافه، وأظُّن أنَّ العذابَ منه في هذه الأمة أيضاً من بقاياه، والله تعالى أعلم.
226 - قوله: (فقال حذيفة رضي الله عنه) ردٌّ على تجاوزه عن الحد، لا أمرٌ بالبول قائماً.
باب غَسْلِ الدَّم(1/470)
انعقد الإجماع على نجاسته، ولذا عبَّر بالغَسْل، وهكذا فعل في البول والمَذِيِّ والمَنِيِّ، فقال: باب ما جاء في غَسْل البول كما مرَّ، وقال: باب غَسْل المَذِيِّ والوضوء منه، وقل: باب غسل المَنِيِّ وفَرْكِهِ، كما سيأتي. فهذا دليلٌ على أنَّه ذهب إلى نجاسة المَنِيِّ على ما أرى، وفي عامة كتبنا؛ أنَّ المسفوح نَجِسٌ، وغير المسفوح ليس بَنجِسٍ، وبحث فيه شارح «المُنْيَة» في الكبيري، وجمع الشَّوْكَاني فقهه في رسالة سمَّاها «الدُّرر البَهِيَّةً»، ووضع فيها مسائل أخشى على العامل بها أن لا يُغْفَر له، منها: طهارة جميع الأشياء سوى دم الحيض، وغائط الإِنسان، وبوله. وقال: إنَّ شَحْم الخنزير ليس بحرامٍ، لأن القرآن سمّى لحمه حراماً، والشحم ليس بلحمٍ، فلا يكون حرماً، ونعوذ بالله منه.
227 - قوله: (وَتَنْضَحُهُ)... إلخ، وقد مرّ أن النِّضْح ههنا بمعنى الغَسْل عند الكل، وهو المراد عندنا في بول الصبي، فَشاكِلَتُه عندنا من ههنا إلى هناك واحدة، بخلاف الشافعية رحمهم الله تعالى.
228 - قوله: (أُسْتَحَاض) بضم الهمزة وفتح المثناة مجهولاً، وهكذا يُقْرَأ، لأن الاستحاضة ليست من صنعها وإنما تلقى عليها من أسباب سَمَاوِيَّة. ومعناه: أنه استمرَّ بي الدم، فلا يَرْقَأ، ولا تريد به الاستحاضة الفقهي: وهي الدماء التي تَنْقُص من عادتها أو تزيد عليها، وأهل اللغة لا يفرِّقون بين الدماء الفقهية، ويقولون: حاضت المرأة، إذا جاء الدم على عادتها، وإذا غَلَب عليها يقولون: أُسْتُحِيضَت، ثم الفقهاء يفصِّلونها إلى دم الحيض والاستحاضة، وهو موضوعهم. وأما اللغويون، فيحكمون على المجموع أنه استحاضة.(1/471)
228 - قوله: (فلا أَطْهُرُ) أي حِسّاً، ولم تُرِد به الطهارة الشرعية، بل معناه لا أَطْهُر حِسّاً،ولا أزال أتلطَّخ بالدماء لأجل جَرَيان الدم، فلا أَطْهُرُ حِسّاً. والشريعة قد تَحْكُم بالطهارة حال النجاسة الحِسِّية كالمعذور، وقد تحكم بالنجاسة مع الطهارة الحسِّية كالطُّهْرِ المتخلل، فهذه من اعتبار الشرع، فلا تريده، وإنما أرادت: أنَّ دمها غَلَبَ عليها فلا يسكن، ومنعها عن صلاتها، وبه يرتبط الجواب، لأنها لو كانت تَعْلَمُ أنها استحاضة، لم يكن فيه إشكالٌ. وإنما أَشْكَل عليها الأمر، لأنها إذا استمر بها الدَّمُ لم تستطع أن تتبيَّن حَيْضَها من استحاضتها، فسألت صاحب الشرع.
228 - قوله: (إنما ذلك دم عِرْقٌ)... إلخ، وهذه عِلَّةٌ منصوصةٌ تدلُّ على أنَّ الخارج من غير السبيلين أيضاً ناقضٌ، لأنه علَّلها بَكونها دم عِرْق، وإنما تحقَّق خروجه عن إحدى السبيلين لخصوص المقام، وإدارةُ الحكم على السبيلين في هذا المقام تركٌ للمَنْطُوق، وأخذٌ بالمسكوت، وهو كما ترى. وما قاله الحافظ رحمه الله تعالى: إنَّ المقصودَ من قوله: «إنه دم عِرْق»، توكيدٌ لعدم كونه دم الحيض، وليس بياناً لكونه ناقضاً، يأباه السياق أيضاً. ثم إن الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضاً موافقٌ للشافعية رحمهم الله تعالى في عدم النقض من الخارج من غير السبيلين، مع أن أحمد رحمه الله تعالى نصَّ على نقض الوضوء من الرُّعَاف، وقد مرَّ التصريح به.
(1/472)
228 - قوله: (فإذا أقبلت حيضتُك) بالفتح وبالكسر يوميء إلى التميز بالألوان. واعلم أنه لا عِبْرة للألوان عندنا في أيام الحيض، فما تراه من السَّوَاد إلى الكُدْرَة يكون كلها حيضاً. وذهب الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى إلى اعتباره، فجعل الأحمر الشديد والأسود منه حيضاً، ولم يَرَ باقي الألوان حيضاً. ولفظ الإِقبال والإِدبار يؤيده، فإِنه يُعْلَم منه أن دم الحيض دمٌ متميِّزٌ بنفسه، يُعْرَف إذا أقبل وإذا أَدْبَر. فالإحالة على الدم مُشْعِرٌ بأن دم الطمث مُغَايِر لدم الاستحاضة بنفسه، ومُتَمَيِّزٌ كَتمَايُز سائر المَاهِيَّات، ولذا اكتفى بالإحالة على الاسم، لأنه كان من الأشياء المتميِّزة بنفسه، كما في رواية: «فإِنه دمٌ أسود يُعْرَف».
قلت: ولا ريب أن الألفاظ المذكورة أقرب إلى نظرهم، إلا أنَّه يَصْدُق على مذهبنا أيضاً، فإِنه يمكن أن يُعْرَف الإِقبال والإِدبار باعتبار عادتها، فإذا جاء أوانُ حيضها ودَمِيت، فقد أَقْبَل حيضها، وإذا مضى زمان الحيض، فقد أَدْبَر، ثم أقول: إن في الباب لفظ آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّمأمر مستحاضة أن تَنْظُر عِدَّة الليالي والأيام الي كانت تحيضهنَّ من الشهر، فهذا إحالةٌ ظاهرةٌ على عادتها بدون تفصيلٍ بين الدماء وألوانها، وإن كان يَسُوغ لهم أيضاً أن يحملوه على التمييز، إلاّ أنَّ المُتَبَادر منه عدمه.
فالحاصل: أنَّ العُنوانَ الأول أقرب إلى الشافعية، والعنوان الثاني أقرب إلى الحنفية، وإن أمكن حَمْل أحدهما على الآخر، ولذا وَضَع أبو داود ترجمة بهذا اللفظ، وترجمة أخرى بذاك، لينبِّه على أنهما يُنْبئان عن النظرين.(1/473)
وأما قوله: «فإِنه دمٌ أسود يُعْرَف»، فقد أخرجه النَّسائي في موضعين، وأشار إلى إعلاله، وفي «العلل» لابن أبي حاتم: أنه مُنْكَرٌ. وحكي الطَّحَاوي عن أحمد رحمه الله تعالى في «مشكلة»: أنه مُدْرَجٌ. وإن سلَّمنا، فهو محمولٌ على الأغلب، لا أنه هو المَحَطُّ كما فَهِمُوه.
والذي تبيَّن لي أن الأمر في حديث فاطمة بنت أبي حُبَيْش إنما يَدُور على العادة دون التمييز، وإن كان لفظ الإِقبال والإِدبار أقرب إلى التمييز، لأنه أخرجه البخاري بعينه في باب إذا حاضت في شهر ثلاثَ حِيَض، وفيه: «ولكن دَعِي الصَّلاة قدر الأيام التي كنتِ تَحِيضِينَ فيها» مكان الإِقبال والإِدبارد فاتِّضحَ أنَّ الراوي لم يَقْصِد إِلا التَّفَنُن في العبارات، ولم يُرِد من قوله: «أقبلت وأدبرت» معنًى زائداً عمَّا في قوله: «قدر الأيام التي كنت تَحِيضين فيها»، فالأمر أنها كانت مُعْتَادة تعرف الإِقبال والإِدبار بحَسَب عادتها، لا أنها كانت تْعتَبر بالألوان وإلا لَمَا اختار التعبيرَ المُخِلَّ بالمراد.
228 - قوله: (فاغسلي عنكِ الدم)، المراد منه غَسْل اللَّوْث دون الغَسْل الذي هو فرض بالإِجماع، وهو مرادٌ قطعاً وإن لم يُذْكَر في هذا الطريق، وصحَّ فيه لفظ: «توضيء»، وإن تردَّد فيه مسلم. وقال: وفي حديث حمَّاد بن زيد زيادةُ حرفٍ تركنا ذكره.
قلت: بل هو صحيحٌ بدون تردّد كما أثبته الطَّحَاوي، وأخرج له مُتَابعات أيضاً، فلا تفرُّد، فيه ولا ترُّدد. وأقرّ به الحافظ رضي الله عنه أيضاً: ثم الإِسناد الذي أخرجه الطَّحَاوي فيه أبو حنيفة، ومرّ عليه ابن سيد الناس في «شرح الترمذي» وصحَّحه. وهكذا استشهد أبو عمرو في «التمهيد» بطريق أبي حنيفة والحافظ رحمهما الله تعالى. وإن أقرّ بتلك الزيادة، إلاّ أنه لم يَسْتَعِن بهذا الطريق، ونحن نفهم ما يريد، فافهم أنت أيضاً، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.(1/474)
والحاصل: أنَّ الأمر بالوُضُوء ثابتٌ فيه، ثم هو محمولٌ على الوُجُوب عندنا، وعلى الاستحبااب عند مالك رحمه الله، لأن عُذْر المْعذُور لا يَنْقُضُ طهارته عنده، ولذا تصدَّى بعض المالكية إلى إسقاطه، والله تعالى أعلم.
ثم ههنا خلافٌ آخر، وهو: أنَّ وضوءَ المَعْذُور للصَّلاة أو للوقت؟ فعند الشافعية للصَّلاة، وعندنا للوقت، فالمستحاضة إذا توضَّأت تصلِّي في الوقت ما شاءت من الفرائض والنوافل، ولا تَبْطُل طهارتُه بهذا العُذْر. وتمسَّك الشافعية بلفظ: «لكل صلاةٍ»، فإِنَّه صريحٌ في أنَّ طهارته اعْتُبِرت في حقّ الصلاة خاصةً، وأجاب عنه الحنفية: بتقدير المضاف، ومعناه: لوقت كل صلاة.
قلت: وأخرج العَيْنِي رحمه الله لفظ: «الوقت» عن «المغني» لابن قُدَامة، وإذن لم يَبْقَ هذا تأويلاً مع أنه لا حاجة إليه أيضاً، لأنه شاع في الدُّور الإِسلامية توقيت الأمور بأسامي الصلاة، فتقول: آتيك الظهر، وآتيك العصر، تريد وقته، فقوله: «لكل صلاة» صادقٌ فيما كانت طهارته للوقت أيضاً، ولعلّك فَهِمْتَ أن بين حذف المضاف وبين ما قلنا بَوْن بعيد، والفصل عندي: أَنّ الحديثَ صالحٌ للطرفين، ولا يتعيَّن لأحدٍ منهما.
والمسألة من مراحل الاجتهاد، لأنه لو ثَبَتَ لفظ وقت الصلاة، لم ينفصل منه الأمر أيضاً، لأنه يجري البحث بعده في السبب: هل هو الصلاة أو الوقت؟ ويَسُوغ لهم أن يقولوا: إن اللام للظرف، فوقت الصلاة ظرفٌ للوُضُوء لا سببٌ، وإنما السبب هو الصلاة، كما في قولنا: أتيت فلاناً لخمس مَضَيْنَ من رمضان، فإِن اللام فيه للظرف، لا للسبب، فالوُضُوء يجب على المْعذُور لأجل الصلاة في وقتها عندهم، فصحَّ ما في «المُغْني» «لوقت كل صلاة» على مذهبهم أيضاً، ولذا قلتُ: إن المسألة مفوَّضة إلى الاجتهاد، ولا تدخُلَ تحت النص.
(1/475)
ونظر الإِمام الهُمَام رحمه لله تعالى فيه: أنَّ العِبْرَةَ للوقت دون الصَّلاة، كما أنَّ العِبْرةَ في الجنون والإِغماء أيضاً للوقت، فَمَنْ جنَّ في رمضان بعدما أدرك جزءاً منه، يَلْزَم عليه قضاء رمضان بتمامه. وكذا من أُغْمِي عليه، وأحاط إغماؤه يوماً وليلةً، يسقط عنه قضاؤها، فالجنون والإِغماء عذران اعْتُبِرَ فيهما الوقت أيضاً، إلاّ أنه أخذ في الإِغماء وظيفة اليوم والليلة بتمامها، لأنه فَهِمَ أن بين الصلوات الخمس ربطاً، ولذا قال: إن الترتيب بين الفوائت مستحقٌ، وأخذ في باب الصوم وظيفة الشهر، وأَلْزَم كلَّه بإِدراك بعضه فالشهر في الجنون كالصلوات الخمس في الإِغماء، فمن لم يُدْرِك جزءاً من الشهر، وأحاط به الجنون جميع الشهر، فإِنه لا يَقْضي، كمن أحتاط بِه الإِغماء يوماً وليلةً.
وهكذا في مسألة الرَّجْعَة قالوا: لو انقطع دمها على العشرة، فإِنها تخرج عن عِدَّتها بمجردٍ مُضِيِّ الحَيْضَة الثالثة، وإن انقطع لأقل من العشرة، فإِنها تنتظر قدر الغُسْل، فاعتبروا فيها الوقت أيضاً. والظاهر أَنَّ البحث فيما إذا انقطع الدَّمُ لأقل من العشرة، أنَّ انقطاع حقّ الزوج - وهو الرجعة - يَنُوط بأمرٍ سماويّ - وهو الوقت - أو بفعل اختياري، كغسل المرأة، والذي فَهِمُوه أن إحالته على أمر سماوي أَوْلَى، وهو الوقت، بخلاف الفعل الاختياري، فإِنَّ إبطالَ حقًّ مِنْ فعل أحدٍ غيرُ معقولٍ فلم يَعْتَبِرُوا فيه فِعْلَها - وهو الغُسْل - بخلاف الوقت، فإِنه أمر سَمَاوِيّ، ورَاجِعْ فيه كلام الطحاوي من كتاب تلميذه أبي جعفر النَّحَّاس، فإِنه أجود وأحسن، ولا يمكن تلخيصه.(1/476)
وإذا عَلِمْتَ أن الإِمام اعتبر الوقتَ في حميع هذا الباب، سَهُلٌ عليك أن تَعْتَبَرِه في طهارة المَعْذُور، فطهارته أيضاً تَدُور بالوقت دون الصلاة، فإِنها فِعْلُه بخلاف الوقت، فإِنه أمرٌ سماوي، وأمارةٌ للصلاة، وهو الذي يُسْتَفَاد من الشريعة، فإنَّ المَعَذُور لا يزال ينتظر الوقت، فإِذا بلغ آخره يتوضَّأ ويُصَلِي،
والحاصل: أنَّهم اعْتَبَرُوا في الجنون الشهرَ كلَّه، وفي الإِغماء اليومَ والليلةَ، وفي المَعْذُور وقتَ الصلاة الواحدة كلَّه، فهو من مراحل اجتهادٍ لا غير.
تنبيه: وأعلم أنه قد ثَبَتَ في المُسْتَحَاضة الغُسْل لكل صلاةٍ، والحمع بين الصلاتين في غُسْل واستبعده الشَّوْكَانِي، وقال: إن الغُسْلَ لكل صلاة أمرٌ غسيرٌ مما لا يمكن أن يَأْمُرَ به الشرع، وهو مما لا يُصْغَى إليه، فإِنَّه ثابت قطعاً، كما قاله الحافظ رحمه الله تعالى، وأقرَّ به أبو داود، الدارمي: «أنَّ امرأةً مستخاضةً سألت ابن عباس رضي الله عنه عن نفسها، وكانت مُتَحَيِّرَة، فأمرها أن تَغْتَسِلَ عند كل صلاةٍ، فقيل له: إن فيه مَشَقَّة قال: لو شاء الله لشق عليها أزيد منه»، وبمثله أفتى علي رضي الله عنه، أمَّا تعدُّد الغُسْل للمُعْتَادة والمُبْتَدئة، فحمله الطحاوي على التبريد، وتقليل الدَّم، ودفع تقطيره، وهو المُسْتَفَاد بأمره زَيْنَب أن تَجْلِسَ في مِرْكَنَ... إلخ. والغُسْل لكل صلاةٍ أقطعُ للتقطير، فإِنْ تَعَسَّرَ، فالجمع في غُسْلٍ، وإلا فالوضوء لوقت كل صلاة، وهو الواجب عليها، أمَّا سائر الغسلاة فمستحبةٌ لها.
باب غَسْلِ المَنِيِّ وَفَرْكِهِ، وَغَسْلِ ما يُصِيبُ مِنَ المَرْأَة
باب إِذَا غَسَلَ الجَنَابَةَ أَوْ غَيرَهَا فَلَمْ يَذْهَبْ أَثَرُه(1/477)
واختار المصنِّف رحمه الله تعالى نجاسة المَنِيِّ كما هو مذهب الحنفية، ووضع تراجم ثلاث تَتْرَى تدلّ على هذا المعنى، فذكر فيها غسله، كما ذكر غسل البول والمَذِيِّ، وكذا في الباب التالي ولم يومىء إلى طهارته وعدَّه مع سائر النجاسات في الباب الآتي: باب إذا أُلْقِيَ على ظهر المصلِّي... إلخ، وفيه: «وفي ثوبه دمٌ أو جَنَابةٌ، أي مَنِيّ، إلخ، فَعادَل بين الدم والمَنِيِّ، وسَوَّى بينهما، فدلّ على كونه نجساً عنده.
ثم اعلم أنَّ فقهاءنا رحمهم الله تعالى وضعوا للتطهير أنواعاً: فالاستجمار في السبيلين، والدَّلك في الخُفَّين، والمسح فيما لا تتداخله النحاسة، والجفاف في الأرض، الفَرْك في المَنِيِّ، فهو تطهير له عند الشرع، وإن لم يكن منه القَلْع بالكلية، فقد لا يمكن بالماء أيضاً، كما هو المُتَبَادر من حديث عائشة رضي الله عنها الآتي، وفيه: «ثم أراه فيه بقعة أو بُقَعاً»، لأنَّ الظاهر أن الضمير رَاجِعٌ إلى المَنِيّ، وفي فقهنا: أنه يجب إزالة الرائحة واللون إلاّ ماشقَّ منها، وحينئذٍ لا بأس إن أردنا من الماء: هو المَنِيُّ، ومن البقعة: بقعته، مع أن المُتَبَادَرَ من لفظ الماء: المعروف، ومن البقعة: بقعة الماء،
وحاصله عندي: أنه كان يَذْهَبُ إلى المسجد مع بقاء أثر الغَسْل في ثوبه. ولم يكن يَنْتَظِر الجفاف.
والألفاظ الواردة فيه ثلاثةٌ:
الأول: «وإن بُقَع الماء في ثوبه» يقع الماء مبتدأ، وفي ثوبه خبره.h
والثاني: «وأثر الغَسْل في ثوبه».
والثالث: «ثم أراه فيه بقعة».(1/478)
وهذا الأخير هو الظاهر في مرادهم، إلا أنه لا ينبغي أخذ المسائل من ألفاظ الرُّوَاة لا سِيَّما عند اختلاف ألفاظهم، وكانت المسألة من الحلال والحرام، أو من باب الطهارة والنجاسة، وكذا لا مُسْكة لهم في لفظ الفَرْك، والمسح، والسَّلْت الواردة في هذا الباب، فإِن بعضها تطهيرٌ له، والبعضَ الآخر تقليلٌ في الحالة الراهنة، وإزالةٌ لجُرَمه المُتَقَذَّر وسَتْرُه عن أعين الناس. كذلك رَدَّ البعض بالبعض في المُخَاط في الثوب حالة الصلاة، مع أنَّ النجاسةَ القليلةَ عفوٌ عندنا، ثم لا دليلَ على أنه صلّى في الثوب الذي مسح عنه المَنِيَّ، ولم يَغْسِلْه، فلا دليلَ لهم في الأحاديث، ما لم يأتوا بما تكون صريحةً في أنَّه صلّى في الثوب حال كون المَنِيِّ فيه ولم يَغْسِلْه، واكتفى بالمسح السَّلْت. والعَجَب منهم حيث يحكمون بنجاسة المَذِيِّ، ويُوجِبُون الغُسْلَ بخروج المَنِيِّ، ومع ذلك ذَهَبُوا إلى طهارته.
باب أَبْوَالِ الإِبلِ وَالدَّوَابِّ وَالغَنَمِ وَمَرَابِضها
نُسِبَ إلى البخاري أنَّه اختار في النحاسات: مذهب داود الظاهري، كما نقله الكَرماني.
أقوله: أمَّا أنا، فلا أقولُ إلاّ بَقْدرِ ما يظهر من عبارته، وأَسْكُتُ عَمَّا سَكَتَ عنه البخاري، لأنه لا يَلْزَم باختياره بعض جزئيات الظاهرية، اختيار جميعها. وأمَّا الشَّارِحُون فيكتفون بالحكم الإِجمالي، فإِذا رأوا أنه وَافَقَ أحداً في بعض جزئياته، يحكُمُون عليه أنه اختار مذهب فلان، مع أنه مَجْتَهِدٌ في الفقه، فيأخذ ما شاء من مسائلهم، ويترك ما شاء، وليس من لوازم اختيار البعض، اختيار الكل.(1/479)
ثم اعلم أنه نُسِبَ إلى الظاهرية: طهارة الأبوال والأزبال مطلقاً، غير عَذِرَة الخنزير والكلب والإِنسان، ولم يتحقَّقَ عندي مذهبه، لأنَّ ابن حَزْم لمَّا مرَّ على حديث: «صلُّوا في مَرَابِض الغنم، ذهب إلى أنَّه منسوخٌ، والناسخ: ما وَرَدَ في تطييب المساجد، وهذا يُشْعِرُ بنجاسة أزبالها عنده. كيفما كان، لا أحبُ أن أعزُو إليه مذهب الظاهرية، فإِن شأنه أرفعُ منه عندي، فالذي يظهر من تراجمه: أنه أخذ الأبوال في الإِبل، وترك الأزبال. وسمَّى بالإِبل لحديث العُرَنِييِّن عنده، ثم زاد لفظ الدواب من عنده، وليس عنده دليل عليها من الحديث، فأبهمه، وهو تعميمٌ بعد تخصيصٍ لدفع توهُّم الاقتصار على المنصوص.
والظاهر عندي: أَنَّه أراد منها المركوب من الحيوانات، ثم زاد عليه «الغنم» للحديث عنده فيها، فما كان له دليلاً عنده سمَّاه، وما لم يكن له دليلاً من الحديث أبهمه، ثم إنه لم يُفْصِح بالحكم بأن تلك الأبوال طاهرةٌ أم نجسةٌ؟ لأنه من عاداته أنَّ الأحاديث إذا صَلُحت للطرفين، يُحِيلُ الحكمَ إلى الناظر، ولا يَجْزِم بجانبٍ إلاّ عند حاجة.
قوله: (مَرَابِضها).. إلخ، دخل في مسألة الأزبال، ولم يُعَيِّن من الحيوانات غير الإِبل والغنم المذكُورَيْن في الحديث.
قوله: (وصلّى أبو مُوسَى)، والمُتَبَادَرُ من هذا الأثر: أنَّه اختار الطهارة.
قوله: (والسِّرْقِين)... إلخ، يعني أنَّه لو أراد أن يَتَنَحَّى عن السِّرْقِين لوَسِعِه، فإِنَّ الأرض الطاهرة كانت بجنبه، إلاّ إنَّه لم يُبَال به مبالاةً، وزَعَم أنَّ: ههنا وثَمَّ سواء. لا دليل في قوله: «في السِّرِقِين» على أن الصلاة كانت على السِّرْقِين، فإِنَّ الظرفية مُوَسَّعَة. وسيجيء في البخاري: أنَّ البعيرَ كان خارج المسجد، وعَبَّر عنه الراوي أنَّه كان في المسجد.
(1/480)
واعلم: أنَّ بول الإِنسان وعَذِرَته نَجِسٌ بالإِجماع. واختلفوا في أبوال مَأُكُول اللحم وأزبالها.
فذهب أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعلى إلى نجاستهما.
واختار مالك رحمه الله تعالى، ومحمد بن الحسن في روايةٍ طهارتهما، وهو مذهب زُفَر. وتمسَّك القائلون بطهارة أبوالها من حديث العُرَنِيِّين، حيثُ أَبَاحَ لهم النبي صلى الله عليه وسلّمشربها فلو كان نَجِساً لَمَا أمرهم بشربها. وتمسَّكُوا في مسألة الأزبال من إباحته للصلاة في مَرَابِض الغنم.
فلنبحث أولاً في حديث العْرَنِيِّين بما فيه، ويَظْهَر في ضِمْنِه جواب الخصوم أيضاً.
فنقول: أنَّ في حديث العُرَنِّيين أربعة مباحث: البحث الأول في طهارة الأبوال ونجاستها، والثاني في جواز التدَّاوي بالمحرَّم، والثالث في مسألة الحدود، والرابع في المُثْلَة.
أمّا البحث الأول، فنقول: إن حديثهم إنما يَصْلُح حُجَّةً للطهارة، إن ثَبَتَ أن إباحة الشرب كانت على معنى الطهارة، وإن كانت تَدَاوِياً، فلا دليلَ فيه على الطهارة أصلاً، فإِنه يَجُوزُ أن يكونَ الشيءُ حراماً في نفسه، ثم يُبِيحُه الشارع لأجل الضرورة. وما يَتَبَادَرُ من ألفاظ الرواة هو أنه كان لأجل التَّدَاوِي، لأنهم ذكروا في السِيَاق مرضهم. وقالوا: «فاجْتَوَوُا المدينة، فَعُلِم أن الأمر بشرب الأبوال إنما كان استشفاءً. ولا إيماءَ في لفظ الحديث إلى أن بناءه مكان على الطهارة.
وأيضاً عند البخاري، في باب ألبان الأُتُن قال: «كان المسلمون يَتَدَاوَوْن بها - أي بأبوال الإِبل - ولا يَرَوْن به بأساً». ولِمَا عُرِف من أمر المسلمين أنهم كانوا يَتَدَوَوْن بها، فالأسبق إلى الذهن أن يكون ما في حديث العُرَنِيِّين أيضاً تَدَاوِياً. وفي كلام بعض الأطباء: أَنَّ رائحةَ بول الإِبل تَفِيدُ الاسْتِسْقَاء. وقال ابن سِينَا: إن أَلبانَ الإِبل تَفِيدُه.(1/481)
ثم لي فيه بحثٌ آخر: وهو أنَّ التَّداوي كان على طريق الشُرْب، أو على طريق النُّشُوق، فقد يترشَّح من الأحاديث: أنَّه كان على طريق النُّشُوق، دون الشُرْب. فأخرج الطحاوي عن أنس وفيه: «فقال: لو خَرَجْتُم إلى ذَوْدٍ لنا، فَشَرِ: تُم من ألبانها». قال: وذَكَر قَتَادَة: أنه قد حَفِظَ عنه: «أبوالها». فالرَّاوي فَصَلَ ذكر الأبوال عن الألبان، وهكذا في النَّسَائي أيضاً، وعنده: عن سعيد بن المُسَيِّب: «فَبَعَث رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى لِقَاح ليشربوا من ألبانها، فكانوا فيها». وليس فيه ذكر الأبوال؛ وعنده أيضاً: «فبعثهم النبيّ صلى الله عليه وسلّمإلى ذَوْدٍ له، فَشَرِبُوا من ألبانها وأبوالها»، وليس فيه: أن الشُّرْب كان بأمره، أو بدون أمره.
فللباحث أن يُمَعِنَ النظر في أن فصل الأبوال عن الألبان تارةً، والاقتصار على الألبان تارةً، ثم رفع الشرب تارةً، وأخرى عدمه، لِمَ ذاك؟ ثم في بعض الطُّرُق ذكر الألبان مقدّم على الأبوال، هكذا: «وأن يَشْرَبُوا من ألبانها وأبوالها»، كما يُشْعِرُ به ألفاظ الطحاوي والنسائي، وقد مرّت.(1/482)
وحينئذٍ يجوز أن يكون من باب: عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً، ولا تكون الأبوال للشرب، بل يمكن أن يكون الفعل محذوفاً من المعطوف مثلاً: «ويستنشقوا من أبوالها»، وإنما حُذِفَ لتقارب الفعلين، سِيَّما إذا ما رُوِيَ في «مصنَّف عبد الرزاق» عن إبراهيم النَّخَعِي: «أنه لا بَأْسَ بأبوال الإِبل، وكانوا يَسْتَنْشِقُون منها». فَعُلِم أن طريق التَّدَاوِي كان هو النُّشُوق، فيكونُ قرينَةً على حذف الفعل من نوعه، إلاّ أن هذا الأثر عند الطحاوي أيضاً، وفيه: «كانوا يَسْتَنْشِفُون بأبوال الإِبل» بدل: «يَسْتَنْشِفُون»، فوقع التردُّد في لفظ المصنِّف، ثم أن هذا كله ذكرته بحثاً محضاً، وليس بمختارٍ عندي، والظاهر أنهم شَربُوا أبوالها أيضاً، ولكنه كان تَدَاوِياً إن شاء الله تعالى.
أما البحث الثاني: فهو أن التَّدَاوِي بالمحرَّم جائزٌ أم لا؟ فكلام نَقَلَةِ المذهب فيه مُضْطَرِبٌ: ففي «الكنز»: أنَّ الأبوال لا تُشْرَب مطلقاً، لا للتَّدَاوِي، ولا لغيره.وفي رَضَاع «البحر»: أنَّ المذهب عدم الجواز، وجوَّزه مشايخنا رحمهم الله تعالى بقيودِ مذكورةٍ في الكُتُب. وفي «المستصفى»: أنه جائز لأجل الضرورة بالاتفاق. ولا أدري أنه أراد به اتفاق الأئمة، أو اتفاق المشايخ، وفي «فتح القدير»: أنه جائزٌ مطلقاً. وفي «الطحاوي»: أنَّه يجوز عند الضرورة بما سِوَى المُسَكِّرَات، ثم لا يُعْلَم أنه تحقيقه، أو مذهب لأحدٍ. وفي «الدُّرِّ المختار» في موضع: عدم جواز التَّدَاوِي إلا بطاهرٍ، وفي موضع آخر عن «النهاية»: يجوز إذا لم ينفع غيره، وشَهِدَ به طبيبٌ وَرِعٌ حَاذِقٌ مُسْلِمٌ.
وفي «غاية البيان» للشيخ أمير الكاتب والإتْقَاني: أنَّ أبا يوسف رحمه الله تعالى سأل الإِمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن رجلٍ خَرَج في أَصْبُعه خُرَاج، هل يُعَالِجُها بلف المرارة؟ فنَقَل أنه كرهه، فخرَّج منه بعضَ توسيع.(1/483)
قلتُ: ولعلّ المذهب أنَّه لا يَجُوز مطلقاً، فاللفظ من صاحب المذهب كان مطلقاً، وفصَّلَهُ المشايخ إلى الضرورة وعدمها، وخَرَّجُوا التفصيل. وأُرِيدَ من التخريج أنَّهم عَيَّنُوا ما كان مُرَاد الإِمام رحمه الله تعالى.، وفصَّلُوا ما كان أَبْهَمَهُ، لا أنهم خَالَفُوه فكان المذهب عدم الجواز، وجاء هؤلاء فجوَّزُوه في حالة دون حالة. وعندي عليه قرائن: فعند الطحاوي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أنه لا بأس بشدِّ السِّنِّ بالذهب، فإِذا حاز شدُّه بالذهب، فالتَّدَاوي بالمحرَّم أَوْلَى.
وفي المتون: أَنَّه يجوز شُرْبُ غير الأشربة الأربعة بقَدْر التَّقْوى دون التَّلَهِّي، ولا أدري أنَّ هذه القيود من الإِمام رحمه الله تعالى أو المشايخ؟ فإِن كان من الإِمام، فهو دليلٌ لحوازه عند الضرورة. وعنه: إجازة لُبْس الحرير في الجهاد، فلعلّ في المذهب تضييقاً مع المستثنيات. وأمَّا ما نُقِلَ من عدم الجواز مطلقاً فمحمولٌ على سدِّ الذرائع، ودفع التهاون، ولعلَّهم لم يتحقَّق عندهم الضرورة.
وثَبَتَ عند الطحاوي: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمأمر عَرْفَجَة أن يَتَّخِذَ أنفافاً نم ذهب لمَّا أنتن من وَرِقٍ»، وكذا: «أباح للزُّبَيْر بن العَوَّام، وعبد الرحمن بن عَوْف لُبْس الحرير لحِكَّةٍ كانت بهما».
وههنا أحاديث كثيرة تدلّ على المنع عند الطَّحاوِي وأبي داود منها: أنه قال: «لا تَدَاوَوْا بحرام». ومنها عند مسلم: «أنها داء ليست بدواء». وعند الطَّحَاوي: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم» وأوَّله في «العالمكيرية» بما بَيْنَو عنه السمع.(1/484)
ومعنى النهي عندي: أن يَتَتَبَّع الشفاء من الحرام؛، فلا يَتَدَاوَى من غيره مع وِجْدَان الحلال، فالمطلوب أن لا يَتَدَاوَى من الحرام ما دام تَيَسَّر له الحلال، وإليه يشير لفظ الجعل، فإِنه يُسْتَعْمَل فيما تَصْرفُ فيه عن حقيقته، كما مرّ تحقيقه في الحديث الأول،وبعده في مواضع. قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} (الواقعة: 82) يعني أنه ليس رزقاً لكم من الله تعالى، ولكنكم تجعلُونه رزقكم من عند أنفسكم، كذلك الله سبحانه وتعالى جَعَلَ لكم شفاءً في الحلال، وأنتم تَطْلبونه من الحرام، فَتَجْعَلُون الحرام مكان الحلال، أنتم من عند أنفسكم، فهذا تقيبحٌ لهم. وهكذا سائر الأحاديث لا تدلّ إلاّ على كراهة التَّدَاوِي بالمحرَّم، وعدم ابتغائه في حالة الاختيار، وإنما أُطْلِق في اللفط سدّ للذرائع، ودفعاً لتهاون الناس.
ثم إنَّه اختار بعضهم أنه ليس في الحرام شفاء أصلاً، وجَعَل يؤوِّل قوله تعالى: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَفِعُ لِلنَّاسِ} (البقرة: 219) بأن المراد من المنافع: هو منافع التجارة دون المنافع البدنية.
قلتُ: بل المراد بها المنافع مطلقاً، لا منافع التجارة فقط، لأن ما يكون مأكولاً ومشروباً، تكون ذاتُه مطلوبةً، بخلاف النقود، فإِنها آلةٌ لتحصيل وليست ذاتُها مطلوبةً، فلو أَرَدْنا بها منافع التجارة فقط، ولم نُرِدْ بها المنافع في أنفسها، لأدَّى إلى جعلها في حكم النقود.
(1/485)
ثم لا يَخْفَى عليك أن القرآن تعرَّض ههنا إلى مهمٍ تَحَيَّرَتْ فيه الأفكار، وكَلَّتْ منه الأنظار، وهو: أن الشرع إذ يحرِّم شيئاً، فهل يبقى فيه منفعة للبدن أيضاً؟ فتعرَّض القرآن إلى هذا الأصل العظيم: أنه يحرِّم أشياء مع وُجُود المنافع فيها، لأن ضَرَرَها يكون أَكْثَرَ من نفعها، ولذا قال: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219) فسلَّم أن فيهما نَفْعاً إلا أن إثمهما لمَّا كان أكبر حَرَّمَهُمَا، هذدا لا يُعْرَفُ إلاّ من جهته، فهو يْعلَمُ أن الإِثم أكبر، أو النفع أكثر، وبيده الميزان يَخْفِضُ ويَرْفَعُ.
ثم إنَّ الحديث إن كان محمولاً على التَّدْاوِي، لم تُسْتَنْبَطْ منه مسألة طهارة الأبوال. وإن حَمْلْنَاه على الطهارة، لا تُسْتَنْبَط منه مسألة التَّدَاوِي بالمحرَّم. فليت شعري، كيف أخذ الناس هاتين المسألتين من الحديث؟ مع أنَّه لا يمكن أن يُؤْخَذَ منه إلاّ إحداهما.
وأما البحث الثالث، فقال الشافعية رحمهم الله تعالى: إن في الحديث دليلاً على المُمَاثَلة في القِصَاص.
قلت: بل هو محمولٌ عندنا على السِّياسة. وعند النَّسَائي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَآء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ}... إلخ (المائدة: 33) أن النبي صلى الله عليه وسلّمدعا عليهم: اللهم عطشٌ من عطش آل محمد». وإنما دعا عليهم، لأنهم لما اسْتَاقُوا الإبل، وكانت فيها ناقته صلى الله عليه وسلّمأيضاً عَطِشَ أهله، كما في السِّيَر، فلهذا الدعاء أيضاً دَخْلٌ في هذا التعذيب، ولذا كانوا يَسْتَسْقُون، فما يُسْقَوْن حتى ماتوا عِطَاشاً. ثم إنهم قَطَعُوا الطريق، واستاقوا الإِبل، وقتلوا الرعاة، فجَنُوا جِنَاياتٍ عديدةً، وفي مثله الخِيَار إلى الإِمام: إن شَاءَ جَمَعَ الأَجْزِيَة، وإن شاء اكْتفَى بالقتل. وَرَاجِعْ كُتُبَ الفقه.(1/486)
أما البحث الرابع فبأنه قَبْلَ النهي عن المُثْلَة لِمَا عند النَّسائي: «أن النبي صلى الله عليه وسلّملم يَخْطُبْ بعده خُطْبَة إلاّ نَهَى فيها عن المُثْلَة»، وعن ابن سيرين عند الترمذي: إن هذه الواقعة قبل أن تَنْزِلَ الحدود. وتبيَّن في ضِمْن هذه المباحث: أن لا حُجَّة في الحديث على طهارة الأبوال.
وأما مسألة الأزبال: فقد ذهب مالك وزُفَر ومحمد رحمهم الله تعالى في رواية: إلى طهارة أزبال مأكول اللحم، ولا حُجَّة لهم فيما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلّم«صَلُّوا في مِرَابض الغنم» لأنَّا لمَّا تَتَبَّعْنَا طُرُقه لم نَجِدْ فيه معنىً يُخَالِفُ مذهبنا، فإِن الحديث ما لم تُجْمع طُرُقه، لا ينكشف مُرَادهُ، ويُعْلَم من هذا الطريق: أنَّ الصلاة في المَرَابِض مطلوبٌ أَمَرَ بها صاحب الشرع، ولا يظهر فيه معنى.
وهذا الحديث بعينه عند الطحاوي: «أن رجلاً سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلّمأُصَلِّي في مَرَابِض الغنم؟ قال: نعم»، فدلُ على أن الأمر ليس ابتدائياً، بل هو في جواب سائل، فلم تَبْقَ فيه شِدَّة، وانكسرت سَوْرَتُهُ، وعنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: «إذا لم تَجِدُوا إلاّ مَرَابِض الغنم، ومَعَاطِن الإِبل، فصلُّوا في مَرَابِض الغنم، ولا تُصَلّوا في مَعَاطِن الإِبل»، فلم تَبْقَ فيه مطلوبية أصلاً. وعُلِمَ أن أمر الصلاة في المَرَابِض إنما هو عند فُقْدَان مكان سواها، لا أن الصلاة مطلوبة فيها مع وِجْدَان مكان غيرها.(1/487)
ثم ظَهَرَ أنَّ الحديثَ وَرَدَ على عاداتهم، فإِنهم لم يكن عندهم مكانٍ مستوٍ غير مَرَابضهم، وكانت الغنم أعزَّ أموالهم، فكانوا يَسْكُنُون معها، ويَجْلِسُون في مَرَابِضها، ويَتَحَدَّثُون فيها، بخلاف الإِبل، فإِنه لا يَجْلِس في مكانٍ مُسَطَّح، على أنه لا دليلَ فيه على أنهم كانوا يُصَلُّون على الأبوال والأزبال أيضاً، لأنهم لَمَّا كان مَطْعَمُهم ومَشْرَبُهم ومَسْكَنُهم فيها، فلعلَّهم كانوا يْنَظِّفُون مكاناً لأنفسهم، ولصلواتهم أيضاً. ويدلُّ عليه ما عند محمد في «موطئه»، عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أَحْسِن مَرَابِضَ الغنم، وأَطِبْ مُرَاحها، وصَلِّ في ناحيته»، ورفعه البيهقي، وأَتردَّد في رفعه، ويمكن أن يكون وهماً، فدلَّ على الصلاة في الناحية، أي مُنَتَحِياً عنها.
وقد مرّ مني ترجمته في الهندية: يكسو هوكر. وقد مرَّ عن ابن حَزْم أنه ذَهَبَ إلى نَسْخِه، وقال: إنه منسوخٌ بما وَرَدَ في تطييب المساجد وتنظيفها عند أبي داود بسندٍ قوي، ولا أدري ما حَمْلَه على النَّسْخ، إلاّ أن يكونَ اختار نجاسةَ الأزبالِ والأبوالِ.
قلتُ: أمّا كونه منسوخاً، فالله أعلم به، ولكن ما تحقَّق لدي هو أنَّ المطلوب من هذه الأمة ابتغاءُ الوقت ومراعاتها، بخلاف بني إسرائيل، فإِنهم كانوا مأمورين بابتغاء الأمكنة، وكانت مُرَاعَاتُها عندهم أهم من مُرَاعَاة الأوقات، ولذا كانوا يطلبون البِيعَ والكنائس عند صلواتهم، ثم لمَّا بُنِيت المساجد أُمِرْنا بتقيُّد المساجد أيضاً.(1/488)
فالصلاة في المَرَابِض إنما كانت قبل بناء المساجد، كما في البخاري في باب الصلاة في مَرَابِض الغنم، عن أنس: «كان يُصَلِّي في مَرَابِض الغنم قبل أن تُبْنَى المساجد». وفي هذه الصفحة قبله بقليل: «وكان يُحِبُّ أن يُصَلِّي حيث أدركته الصلاة، ويُصَلِّي في مَرَابِض الغنم». وفي باب قول الله عزّ وجلّ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرهِيمَ خَلِيلاً} (النساء: 125): ثنا إبراهيم التَّيْمي، عن أبيه قال: «سمعت أبا ذرٍ قال: قلتُ: يا رسول الله، أيُّ مسجدٌوضع في الأرض أوَّل؟ قال: المسجد الحرام. قلتُ: ثُمَّ؟ قال: المسجد الأقصى... ثم أَيْنَما أَدْرَكَتْكَ الصلاة، فصلِّه، فإِن الفَضْلَ فيه». فدلّ على أنَّ الاعتناء أولاً كان بموضع تُدْرِكُهُ الصلاة فيه، ولَمَّا كانوا يَسْكُنُون في المَرَابِضِ، كانوا يُدْرِكُون وَقْتَها فيها، فكانوا يُصَلُّون هناك لهذا. ولذا قَرَنَ الرَّاوي بين الصلاة في المَرَابِض، وبين أَحِبِيَّة الصلاة حيث أَدْرَكَتْهُ، فهذا بمنزلة التَّرَقِي، يعني أنه كان يحب الصلاة، ولو أدركته وهو في المرابض، فَيُصَلِّي فيها أيضاً.
أما أدلة النَّجاسة، فأقول: أولاً إنه يُعْلَم من سِيَاق القرآن نحاستها، لأنه عَدَّ الفَرْث مع الدم، وقال: {نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} (النحل: 66)وأمّا عند الترمذي: «أنه صلى الله عليه وسلّمنَهَى عن أكل الجَلالٍة وألبانها»، وفي القاموس: الجَلَّة البَعْرة. فَعْلِمَ المناط، ولا منعنى فيها إلا أنها نَجِسَة، وفي الحديث: «من دَخَلَ المسجد، فَلْيُمِطُ الأَذَى عن نَعْلَيْه»، وقَصْرُه على عَذِره الإِنسان مستبعدٌ جداً. «وأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلّمنَهَى عن الصلاة في المَزْبَلة». «وأنه ألقى الرَّوْث، وقال: إنها رِكْسٌ».(1/489)
وأمّا ما نُقِل من أثر أبي موسى، فلا دليلَ فيه على أنَّ صلاتَه كانت على السِّرْقين، وإنما يُشْتَرَطُ للصلاة طهارة موضع أعضاء السجود، لا غير كما في «فتح القدير». وقي القُدُوري: أن الفرضَ في السجود وَضْعُ الجبهة وإحدى الرجلين فقط، إلاّ أن الصلاة تُكْرَه عندنا إذا كانت النجاسة في حواليه أيضاً. فأثره وإن كان الظاهر منه الطهارة، إلاّ أنه لا يتعيَّن في النجاسة.
باب مَا يَقَعُ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِي السَّمْنِ وَالمَاء
شَرَع المصنِّف رحمه الله تعالى في بيان مسألة المياه، وقد مرَّ بعض ما يتعلَّق بها في باب الماء الذي يُغْسَلُ به شعر الإِنسان... إلخ، وقد قدَّمنا أنَّ المقصودَ هناك كان ذكر مسألة الأسار، وكان ذكر الماء تَبعاً لكونه محلاً لوقوع هذه الأشياء.k
وأمَّا المقصود من هذه الترجمة فهو ذكر مسألة المياه أصالةً. وذكر الأنجاس فيها، لكونها واقعةً فيها، فَبَيْنَ الحال والمحل رَبْطٌ يُوجِبُ ذكر أحدهما عند ذكر الآخر. وهكذا فَعَلُوه في كُتُب الفقه، فيذكرون الأنجاس في باب المياه، ثم يَقْعِدُون لها فصلاً أيضاً، وذلك لَما نَبَّهُنَاك عليه آنفاً.
قوله: (وقال الزُّهْرِيّ: لا بَأْسَ بالماء ما لم يُغِيِّرْهُ طَعْمٌ أو رَيحٌ أو لَونٌ)، هذا صريحٌ في أنه دَخَلَ في مسألة المياه، ثم في تلك العبارة الطَّعْمُ وغيره: صفاتٌ للأشياء الساقطة، وفي المشهورة: وجعلوها صفاتٍ للماء، فقالوا: «ما لم يغيِّر طعمه، أو ريحه، أو لونه».
قوله: (قال حَمَّاد: لا بأس بريش الميّتَة)، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى في الأجزاء التي لا تتداخلها الحياة، كعظم الميتة، وقُرُونِها، وَشَعْرِها، وَوَبرِها.(1/490)
قوله: «قال الزُّهْرِي في عظام الموتى، نحو الفيل)... إلخ، انتقل فيه إلى ملحقات الباب، والفيل نَجِسُ العين عند أبي يوسف رحمه الله تعالى، وهو ما يكون حراماً بجميع أجزائه، ولا يكون شيءٌ منه مستثنىً ممَّا يُسْتَثْنَى من سائر الحيوانات.
قوله: (وقال ابن سِيرِين وإبراهيمُ: لا بَأْسَ بتجارة العَاجِ)، إنما ذكره لمجرد التَّنَاسُب، وإلا فأصل مسألة الطهارة والنجاسة تَتعلَّق من اللحم، ثم تَسْرِي إلى السؤر، فإِنَّ السؤر يَتْبَعُ اللحم. أمَّا المُلابَسة به، والمعاملة معه، فذلك من المتعلَّقات البعيدة، بقيت التجارة، فإِنها تُبْنَى على المِلْك، دون الطهارة والنجاسة.
ثم الشيء إذا تنجَّس، هل يَنْقَطِعُ منه الانتفاع أصلاً أم لا؟ فقال الحنفية رحمهم الله تعالى في دُهْنٍ سقطت فيه فأرة: أن بَيْعَه والاسْتِصْبَاحَ به كله جائزٌ، غير أنه لا يُسْتَصْبَحُ به في المساجد، فدلّ على جواز الانتفاع في الجملة. وأمَّا في شَحْم الميتة، فَحَجَرُوا عنه الانتفاع مطلقاً، حتى لم يجَوِّزُوا تَطْلِيَة السُّفُن أيضاً. فلمّا لم يكن جَوَاز الانتفاع دليلاً على الطهارة ضابطة مطردة، لم يكن في جَوَاز بيع أجزاء الميتة دليلٌ على طهارتها.
أما مسألة المياه، ففيها خمسة عشر مذهباً للعلماء، ونذكر منها أربعة، وسها مولانا عبد الحي رحمه الله تعالى في «حاشية الموطأ» في نقل مذهب الظاهرية.(1/491)
وقد عَلِمْتَ سابقاً أنَّ مالكاً رحمه الله تعالى اعتبر التغيُّر وعدمه، وللمالكية رحمهم الله تعالى ثلاثة أقوال كما في «مختصر ابن الحاجب»، وأشهرها: أن العِبْرَة بالتغيُّر وعدمه، فلو سَقَطَتْ قَطْرَةٌ من البول في قَدَح من الماء لم يَتَنَجَّسْ. وذَهَبَ أحمد رحمه الله تعالى في روايةٍ غير مشهورةٍ عنه، كما في «فتاوى ابن تَيْمِيَّة» رحمه الله تعالى إلى الفَرْق بين النجاسة الجامدة والمائعة، فالجامدة إذاً وَقَعَتْ في الماء وأُخْرَجَتْ من ساعته، لم تُنْجِّسْ، بخلاف المائعة. أمَّا إذا غيَّرت الماء، وظَهَرَ فيه أثرها، فذلك ممَّا لا خِلافَ في نجَاسته، سواء كانت جامدةً أو مائعةً. أمّا مذهب الإِمام أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى، فَغَنِيٌّ عن البَيَان.
إِذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم: أن الشارحين عامةً ذَهَبُوا إلى أن البخاري رحمه الله تعالى اختار مذهب مالك رحمه الله تعالى، وذلك لأنه أَخْرَجَ حديث الفأرة، وفيه: «أَلْقُوها وما حولها، وكُلُوا سَمْنَكم»، فدل على أنَّ الباقي طاهرٌ، ولأثر الزُّهْرِي الذي مرَّ في ترجمة الباب.
قلتُ: ولا دليلَ فيه على ما قالوا، والظاهر عندي: أنَّه اختار الروايةَ الغيرَ المشهورة عن أحمد رحمه الله تعالى التي ذَكَرْنَاها، وذلك لأنه أخرج أولاً حديث الفأرة، وهي نجاسةٌ جامدةٌ، وأَمَرَ النبي صلى الله عليه وسلّمفيه بأكل السَّمْنِ بعد إِخراجها، وطَرْح ما حولها. ثم بوَّب بالبول، وهو نجاسةٌ مائعةٌ، وأَخْرَج فيه حديثاً يَدُلُّ على النجاسة، فَخَرَج أن حكم المائعة، على خلاف حكم الجامدة، فَثَبَتَ الجزءان من الحديث. وتلك الرواية لَمَّا لم تَكُن مشهورةً فيما بين القوم، لم يَنْتَقِل إليها أذهانهم، فَحَمَلُوا كلام البخاري رحمه لله تعالى على مذهب مالك رحمه الله تعالى، ولعلَّ أمر الطَّرْح حينئذٍ لا يكون عنده إلا على الاستحباب.(1/492)
فالكلام هنا في أربع مواضعٍ: الأول في مختار البخاري رحمه الله تعالى عندي، وإيضاحه. والثاني في مختاره عند الشارحين، وإيضاحه. والثالث في الجواب عمَّا تمسَّكَ به الشَّارِحُون من كلامه، والرابع في الجواب عن استدلال البخاري، سواء كان مختاره ما نَسَبَهُ إليه الشارحون، أو ما حقَّقْتهُ.
أَمّا الأوَّل فقد عَلِمْتَهُ آنفاً.
أمّا الثاني، فقد عَلِمْتَ: أن البخاري رحمه الله تعالى اختار عندهم مذهب مالك رحمه الله تعالى، ولعلّه حملهم على ذلك أمران: الأول أنه بَوَّبَ في المجلد الثاني وقال: باب إذا وقعت الفأرةُ في السَّمْن الجامد والذائب... إلخ، فعمَّم بالنوعين، والثاني أنه علَّل الزيادة التي رُوِيَتْ في هذا الحديث، وهي: «فإن كان مائعاً، فلا تَقْرَبُوه». قال الترمذي بعد إخراج هذه الزيادة: سَمِعْتُ محمد بن إسماعيل يقول: حديث مَعْمَر، عن الزُّهْرِي، عن سعيد بن المُسَيَّب، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلّمفي هذا خَطَأْ. فدلّ الأمران على أن حكمَ الجامد والمائعَ عنده سواءٌ خلافاً للجمهور.
وهذا إنما يَصِحُّ على مذهب مالك رحمه الله تعالى فقط، فإِنَّ العِبْرَةَ عنده بالتغيُّر وعدمه، والجامدُ والمائعُ في ذلك سواءٌ، بخلاف الحنفية والشافعية رحمهما الله تعالى، فإِن القليلَ المائعَ عندهم يَتَنَجَّسُ بوُقُوع النجاسة مطلقاً، لعدم إمكان خُلُوصها منه، بخلاف الجامد، فإِنك لا تَطْرَحُ من الذائب شيئاً، إلا ويَخْلُفُه غيره قبل طَرْحِك منه.(1/493)
وبالجملة فرَّق الجمهور بين الجَامِد والمَائِع لِمَا قام عندهم من الدليل، بخلاف مالك رحمه الله تعالى، فإِنه مرّ على أصله، فلمّا سوَّى البخاري بين حكم الجامد والذائب في حكم الطهارة، كما صَرَّح به في المجلد الثاني، وعلَّلَ الزيادة التي تُبْنَى على الفرق بينهما، تَحَدَّسَ للشارحين أنه اختار مذهب مالك رحمه الله تعالى، وهذا إيضاحُ قولهم.
أمّا الثالث، وهو الجواب عنه، فأقول إن تعميمَه في الترجمة الثانية، لا يَنْحَصِر فيما زَعَمُوه، وذلك لأنه يمكن أن يكون أَتَى بِلَفْظِ الجَامِد تَبَعاً للحديث، وأضاف عليه الذَّائِب من قِبَلِهِ توجيهاً للناظر إلى طلب حكمه، فإِنك تَعْلَمُ أن كتابه يحتوي على مسائل الفقه أيضاً، فلا دليلَ فيه على تَسْوِيَة حكمها عنده. وكذلك جواب الزُّهْرِي لا يتعيَّن أن يكونَ للجامد والذائب كليهما، وإن وَقَعَ السؤال عنهما، بل يُمْكِن أن يكونَ أَجَابَ عن الجَامِد لأجل وُرُود الحديث فيه؛ وسَكَتَ عن حكم الذائب.
وأمّا ما شَرَحَهُ الحافظ رحمه الله تعالى، فلا أَرْضَى به، وكذا لا دليلَ في إعلاله الزيادة على ما قالوا، فإِنه يُمْكِن أن يكونَ لحالها في نفسها، لا لحال المسألة، بل هو الظاهر. وتَحَصَّل ممَّا ذكرنا أن البخاري لم يَخْتَرْ مذهب مالك رحمه الله تعالى عندي، بل اختار روايةً غير مشهورةٍ عن أحمد رحمه الله تعالى، وهي الفَرْق بين النجاسة الجامدة والمائعة.
(1/494)
أمّا الجواب عنه، هو الموضع الرابع، فبأن الحديث الذي أَخْرَجه يَدُلُّ على أنه في الجامد، وليس في الذائب، لِمَا قال ابن العربي: أن السَّمْنَ لو كان مائعاً، لم يكن له حولٌ لأنه لو نُقِلَ من أي جانب مهما نُقِل لخَلَفَه غيره في الحال، فَيَصِيرُ هو أيضاً ممَّا حولها، فيحتاج إلى إلقائه كلِّه، فليس في الحديث دليلٌ على التَّسْوِية بين حكم الجامد والمائع. ونُقِلَ أن عبد الله بن أحمد سأل أباه أحمد رحمه الله تعالى: أن الطرح إِنما يُمْكِنُ في الجامد دون المائع؟ فَغَضِبَ عليه أحمد رحمه الله تعالى، وأجاب: أنه تَطْرَحُ حَيْثَة منه.
قلتُ: وهذا لا يُتَصَوَّرُ إِلا إذا كان الإِناء وَسِيعاً، والشيء مائعاً ثخيناً، أمَّا إذا كان الإِناء عميقاً كالجَرِّ، والشيء رقيقاً لا يُتَصَوَّرُ فيه ما قال. ولعلَّه غَضِبَ عليه، لأنه ضَاقَ عليه جوابه. ثم إن عبد الله هذا حافظٌ، ومن أجله كُنِّيَ أحمد بأبي عبد الله، وله أخٌ واسمه صالح.
وبالجملة: أن الإِلقاء لمَّا لم يُتَصَوَّر إِلا في الجامد، تعيَّن ما لا يُتَصَوَّر فيه الإِلقاء، وهو الذائب نَجِسٌ. فحديث البخاري وإن لم يَدُل عليه بمَنْطُوقه، لكنه بمَفْهومه دليلٌ على الفرق بين حكم الجامد والذائب. ثم مَفْهُوم حديثه، قد جاء مَنْطُوقاً في حديث عند أبي داود عن أبي هُرَيْرَةَ، والنَّسائي عن مَيْمُونَة، وحينئذٍ مَفْهُومه مؤيَّداً بِمَنْطُوقٍ صريح الحديث.
بَقِيَ إعلاله، فالجواب عنه أنه صحَّحها إسحاق بن رَاهُويه، والذُّهْلي في «الزهريات» كما في الفتح. فظهر مما قُلْنَا: أنه لا دليلَ عنده على التَّسْوية بين حكم الجامد والذائب من نصِّ الحديث، بل حديث البخاري بِمَفْهُومه، وحديث أبي داود والنَّسَائي بِمَنْطُوقه صريحٌ في التَّفْرِقَة بينهما، وهذا هو مذهب الجمهور.
ثم نَقَلَ الحافظ في كتاب الأطعمة تحديد ما يُلْقَى، فَرَوى عن عطاء بن يَسَار أنه قَدْر الكفّ.(1/495)
قلت: لو كان المصنِّف رحمه الله تعالى اختار مذهب مالك رحمه الله تعالى لكان لهذا النقل فائدةٌ، أما إذا علمت أنه لم يذهب إليه فلا طائل تحته.
نعم ههنا شيء، لعله يختلج في صدرك، وهو أنَّ الأحاديث في نجاسةِ الماء بوقوع النجاسات كلها في المائعات غير حديث الفأرة، فذلك يؤيد رواية أحمد رحمه الله تعالى، أعني الفرق بين المائعة والجامدة. فحديث وُلوغ الكلب والنهي عن البول في الماء الدائم، وحديث المستيقظ كلها في النجاسة المائعة.
قلت: تلك الأحاديث إنما جاءت على الوقائع في الخارج، فإِنه لا يتفقُ في الماء الدائم إلا البول لا سيما لأَعراب العرب، فإِنهم لم يكونوا يحترزون عنه، بخلاف الغائط، فإِنه لا أحد يفعله بل يتقذره بطبعه، فلاة حاجة إلى النهي عنه. وكذا لا يتفق في البيوت إلا ولوغ الكلب والهرة، أو وقوع الفَأْرة، وفي الفَلَواتِ إلا ولوغ السِّباع، وكذا من عادات العامة غَسْل الأيدي والوجه بعد الاستيقاظ، ولا بد له من إلقاء اليد، لأن أوانِيهم لم تكن ذوات آذان، فأخذت الأحاديث تلك الوقائع كلها لهذا لا أنها جاءت بما تُنبىء عنه روايةٌ شاذةٌ عن أحمد رحمه الله تعالى.
واعلم: أنه لم يصنف أحدٌ، كتاباً في مختارات الإِمام البخاري كما صنفوا في مختارات سائر الأئمة، فالنظر فيها يدور على تراجمه فَيَجُرَّهَا كلٌّ من أهل المذاهب إلى جانبه ويفسِّرُها حسب مسائله، مع أنَّ البخاري عندي سَلَك مَسْلَك الاجتهاد ولم يقلِّد أحداً في كتابه، بل حَكَم بما حكم به فَهْمُه، ولذا أَوفى حقَّ تراجمه أولاً، ثم انظر أنه هل وافق أحداً أَم لا؟ ولمَّا لم يدوِّنْ فِقْهَهُ ساغ لي أيضاً أن أعزو إليه ما أفهم من تراجمه، ولذا قد أخالف الشارحين في مختاره كما فعلت في تلك الترجمة.(1/496)
وبعد فليس هذا، إلا ظن أو احتمال، والعلم عند الله العلام، فإن المصنِّف رحمه الله تعالى لو أفصح بِمُرَاده لحكمنا بالجَزْم، ألا أنه كثيراً ما يذكر مادة الجواب ثم لا يُفْصِحُ به، فيتردد النظر في شَرْح جوابه وذلك غير قليل في كتابه، ومثل ذلك له مقاصدُ أخرى تَعْلَمُها في مواضعها.
قوله: (اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّم) وجه تَنَاسُبه مع الباب أن الاعتبار للمعنى دون الصورة، كما أن دمَ الشهيد دمٌ صورةً إلا أنه مِسْكٌ معنىً. فكذلك العبرة في الماء للمعنى وهو التغيُّر وعدمه، وكأنه دفع ما يَرِد: أن النجاسة إذا وقعت في الماء فكيف يبقى الماء طاهراً؟ فأجاب بأن الاعتبار دون الصورة، فإذا وقعت في الماء ولم يتغير الماء فقد بقي على معناه وهو المعتبر في الباب، كما اعتُبِر في الدم. وقد يقال: إِنَّه يشيرُ إلى أنَّ العِبرة للغالب، فإذا كان ريحُ المسك غالباً على لون الدم كان في حُكْم المسك طاهراً. وكذلك الماء يُعْتبر فيه الغَلَبة. ويمكن أن يكون تَعَرَّضَ إلى العبرة بالأوصاف، فإنه ذَكَرَ في الترجمة الطَّعْم والريح، فأَراد التنبيه على أن الشيء يتغير بأوصافه كما أن الدم تَغَيَّرَ عن أصله لأجل ريح المسك، والله تعالى أعلم.
باب المَاءِ الدَّائِم(1/497)
وقد تكلم الشارحون في مناسبة قوله: (ننَحْنُ الآخِرُون السَّابِقُون) مع الباب، وذهبوا في بيانها كل مذهب وأبعدوا بُعْداً بعيداً. والأمر أنَّ هذا الأعرج كانت عنده صحيفة تحتوي على أحاديث، وقد أخذ عنها البخاري أحاديث، كما أن عند مسلم أيضاً صحيفةً عن همَّام وقد أخذ عنها أيضاً، ثم يشير كلٌّ منهما إلى تلك الصحيفة بطريق مخصوص. أما البخاري فيذكر أول حديثه وهو: «نحنُ الآخِرُون السابِقون» ثم يخرِّجُ ما يكون مناسباً لترجمته، وأما مسلم فيقول: فَذَكر أحاديثَ منها هذا الحديث. فإِبداء المناسبة في هذه المواضع تَكَلُّفٌ بارد. والوجه ما قلنا: إنَّه إشارةٌ إلى كونِ هذا الحديث من الصحيفة التي أولها حديث: «نحنُ الآخِرُون، السابِقون...» إلخ، كإِشارة مسلم إليها بقوله: «فذكر أحاديث» وهذا الحديث منها. وقد فَعَل المصنف رحمه الله تعالى مثله في كتاب الجمعة. وكتاب الأنبياء.
239 - قوله: (الماء الدَّائم الذي لا يَجْرِي) وقد تَعَسَّر الفَرْقُ على الناس بين الدائم والراكد، حتى كاد يختفي عليهم، فقال بعضهم: الذي لا يجري، صفة كاشفة، وعندي بينهما فرقٌ كثير، فالدائم للماء الذي يدوم أصلُه، ولا ينقطع، سواء كان تحته مددٌ كالبئر أو لا، والراكد ضد الجاري سواء كان دائماً أو لا. فالدوام باعتبار البقاء الزماني، وحينئذ قيد الذي لا يجري للاحتراز عما كان دائماً وجارياً، ولذا لا يذكر هذا القيد مع الراكد، فإِن الراكد معناه أنه لا يجري بخلاف الدائم، فإِنَّه قد يكون جارياً كالعيون، وقد لا يكون فاحتاج إلى هذا القيد. لا يقال: وحينئذ يقتصر النهي على الماء الذي لا يجري ولا يتناول الذي يجري.
قلت: وفي «مجمع الزوائد» النهيُ عن الدائم الذي يجري أيضاً، ولكنه وَهْم عندي، فروى: «الذي يجري» مكان «لا يجري»، والحُكْم عندنا فيهما سواء، فلا يبول فيهما، والأمر في القيود سهل.(1/498)
239 - قوله: (ثُمَّ يَغْتَسِلُ فيه) وقد ذكرنا وجوه الإِعراب فيه في «درس الترمذي» والأمر عندي أنه على حدِّ قوله تعالى: {ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام: 1)، كما قَرَّره الطيبي، فالنهي مقصور، على البول، وثم للاستبعاد وبيان المآل.
وهذا الحديث لم يعمل به غيرُ أبي حنيفة رحمه الله تعالى، لأنه اعتبر الجريان وعدمه، وقال: إن الماء الجاري لا يتنجسُ بوقوع النجاسة، بخلاف غير الجاري، ولا تَعَرُّض في الحديث إلى القُلتين وغيرهما. والتغيُّرِ وعدمِهِ. ولذا قلت: إنَّ حديث القُلَّتين أجنبيٌّ في الباب ولا نعلم تناقُله عند المراجعات مع كون المسألة كثيرةَ الوقوع.
فالذي يظهر من الحديث: أنَّ الماء الذي لا يجري يتنجس بمجرد وقوع النجاسة، وإِلا لكان البولُ فيه كَسَكب الماء، ولكان الجاري وغيره مساوياً، فلم يكن للتقييد معنى. وأجاب عنه ابن تيمية بوجوهٍ قد استوفينا الكلام فيه في «درس الترمذي» منها: أنَّ البولَ فيه ليس لمعنى النجاسة كما زعمتُم، بل لأنَّ البول في الماء الدائم يوجِب تغَيُّرِه ولو بعد حين، فإِنَّه لو لم يَنْهَ عنه لاعتاد الناس البولَ فيه، فنهى عنه لهذا.
قلنا: وإن كان كلامه لطيفاً إلا أنَّه يخالف الحديثَ وفَهْم الراوي أيضاً، لأنَّ الحديثَ يَسْتَبْعِدُ الاغتسالَ بعد البول. وفي رواية: «ثم يتوضأ منه» ولا استبعاد فيه، ألا أنه يتطهر مما نجَّسَه بنفسه ولا إيماء فيه إلى التغير ولا بناء عليه، لأنه استبعد البول ثُم الغُسْل في الحالة الراهنة لا بعد التَّغَيُّر.(1/499)
وأيضاً أخرج الطحاوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه لمَّا سئل عنه قال: «لعله يَمُرُّ به أخوه المسلم فيشرب منه ويتوضأ». فدل على أنه بعد البول لم يبق صالحاً للشرب والوضوء. وإنما قال: «لعله يمرُ به أخوه المسلم» لأنَّ الشربَ أو التوضؤ ممن بال فيه أبعد وأبعد، فلا يتفق إلا ممن يمر من إخوانه بعده فلا يرى فيه نجاسة في الظاهر فيشرب منه، مع أنه نجس. ومن ههنا عُلِم أن النهي في الحديث ليس من جنس النهي عن التنفس، والبُزَاق في الماء، والتغوط تحت الشجرة، فليس من باب الآداب، ولكنه من باب النجاسة قطعاً. ومنها أَنَّ البولَ نجسٌ، والماء طاهر، إلا أنه لما كان مائعاً لا يمكن تميزه عنه يقيناً معطلين عن استعماله، فتعطيلُه لأجل عدم تميُّزِ النجاسة منه لا لتنجُّسِه. قلت: وهذا عجيب لأنه لا معنى للتنجس إلا اختلاط النجاسة بحيث لا يتميز، وكذا التعلل باستحالة البول وعمده كلّه تفلسف.
والحاصل: أنه لم يَعْمل بظاهره إلا إمامُنا، فإِنه لم يفرق بين الراكد والجاري إلا هو، وألغاه الآخرون، فمنهم مَنْ قَسَمَ المياه باعتبار التغير وعدمه، ومنهم مَنْ جعل المدار على القُلَّتين، ولم يعتبر أحد منهم الفرق بين الركود والجريان إلا الإمام الهمام. وكذا لم يعتبر أحد منهم تقسيم الماء الفطري، فإِنه خلق على ثلاثة أنحاء، فراعينا. وأعطينا حُكْم كلِّ قسم على حِدَة كما حكم به الشرع، وهَدَرهُ وجعلوها كلها بمنزلة واحدة فاضطروا إلى التأويلات، والله تعالى أعلم.
باب إِذَا أُلقِيَ عَلَى ظَهْرِ المُصَلِّي قَذَرٌ أَوْ جِيفَةٌ لَمْ تَفسُدْ عَلَيهِ صَلاتُه(1/500)
(قوله): قَذَر كندكى نُسب إلى مالك رحمه الله تعالى أن طهارةَ الثوب عنده من سُنن اللباس لا من شرائط الصلاة، وكذا طهارةَ المكان سُنةٌ عنده. وذهب جماعة منهم إلى أنها من واجبات الصلاة وليست شريطة للصلاة، كما في «الفتح». وذكر الباجي في «شرح الموطأ» القولَ الأولَ.
وظني أن المصنِّف رحمه الله تعالى فرَّق بين الابتداء والبقاء: فلو دخل في الصلاة طاهراً، ثم أُلقي عليه قَذَرٌ بدون صُنْعِه لم تَفْسُد صلاته. ونحوه عن أبي يوسف رحمه الله تعالى: أن رجلاً لو سجد على موضعٍ نجس، ثم تَنَبَّه من فوره وسجد على مكان طاهر ولم يَمْكُث قَدْر ركنٍ جازت صلاتُه. فدل على الفرق بين الابتداء والبقاء عندنا أيضاً، إلا أنه اشترط الفور. والمصنِّف رحمه الله تعالى وإن لم يفصل بين الفور وعدمه إلا أنه فصل في حالة الاختيار وعدمه، ولعله يتحمل التمادي أيضاً.
قوله: (أو جَنَابةٌ)، وقد مرَّ أنه يدل على نجاسة المَنِيِّ عنده.
قوله: (لغيرِ القِبْلَة) فإِن كان بعد التحرِّي فكذلك المسألة عندنا، وإن كان بدون التحري فإِنه يعيدُها عندنا.
ثم إن هذه واقعة قبل الهجرة «سَلَى» بجه دان، وترجمته: «أو جهري» غلط (منعة) حامي. (يحيل) يعني يقول هذا الآخر: ما فعلت، ويقول له الآخر: ما فعلت تهكُّماً. وفي نسخة: «يجيل» أي كأن يسقط أحدُهما على الآخر.
240 - قوله: (دعَا عليهم) ولا تفصيل فيه أن هذا الدعاء كان خارجَ الصلاة أو داخلَها. وظاهر «الفتح» أنه كان بعد الفراع عن الصلاة. ثم إنه إن ضَمَّ معه كلمة الدعاء «له» أو «عليه» فقال: اللهم عليك بزيد، أو اللهم اهد لزيد، ففيه قولان، ففي قول تَفْسُد، وفي قولٍ آخَر لا تَفْسُد.
أقول: وهذا الأخير أختارُ فلا إشكال.(2/1)
أما تمسُّك البخاري بالحديث ففيه نظر، أما أوَّلاً: فلأنه لا يدري أنها كانت فريضةً أو نافلةً. وثانياً: أنه أعادها أم لا؟. وثالثاً: أنه لا دليل فيه على أنه كان يعلم أن على ظهره سَلَى جَزُور بخصوصه. ويمكن أن يكون أحسَّ منه ثِقْلاً فقط بدون علمه ما هو. ورابعاً: أنه ما الدليل على أنه تَمادى في صلاته لأنها كانت جائزة؟ لمَ لا يجوز أن يكون تَمَادَى عليها إبقاءً لأَثَرِ الظُّلم واستغاثةً في جَنَابِه تعالى، وَتَرَحُّماً منه كما قال في قصة حمزة رضي الله عنه: «لولا صفيته لتركته تأكُلُهُ السِّباع». فهذا أيضاً من باب إبقاء أَثر الشهادة، وتكميل أثر الظلم.
وكما في بئر معونة حيث استُشهد رجلٌ منهم وجعل يُلَطِّخ وجهه بدمه يقول: «فزت وربِّ الكعبة» فهذا أيضاً إبقاء للحالة المحمودة وهي الشهادة، فكذلك يمكن هنا أيضاً. وخامساً: أنه لا دليل فيه على أن هذا السلا كان نجساً، وفيه نظر لما في طُرُقه: «سلا جزور بين فرث ودم» وسادساً: لما في «سيرة الدِّمياطي»: أنها كانت أول واقعة دعا فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعلى أَحَد ولم يثبُت منه قبلها دعاءٌ على أحد فهل يصِح التمسكُ من هذه الواقعة الشاذة الفاذة، التي ترك فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلّمعادته المسمرة؟ يمكن أن يكون دعاؤه صلى الله عليه وسلّملحال النجاسة، فلو كان الدعاء لحال النجاسة لم يَجُز التمسك به أصلاً، فإِنه لا يدل إذَن على أن صلاته تلك كانت جائزةً مع النجاسة، بل الأقرب أنها كانت بَطَلت فحزِن عليها، ولأجل ذلك دعا عليهم. ثم في «الفتح» في المجلد الثامن عن تفسير ابن المنذر: أن هذه الواقعة قبل نزول قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} (المدثر: 4) وإنما نزلت تلك الآية بعد هذه الواقعة، فانفصل الأمر. ومن ههنا تَبيَّن أن الآية إنما سِيقت لاشتراط طهارة الثياب، لا لطهارة الأخلاق كما قالوا.(2/2)
باب البُزَاقِ وَالمُخاطِ وَنَحْوِهِ فِي الثَّوْب
وأجمعوا على طهارته إلا أنه نُسب إلى سلمانَ الفارسيّ أنه نَجِسٌ بعد تَفْله.
قوله: (وما تَنَخَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم... إلخ وقد مرَّ معنا أنَّ طهارةَ فضلات النبيّ صلى الله عليه وسلّمتوجد في كتب المذاهب الأربعة، ثم لا أدري أنها منقولةٌ عن الأئمة أم لا؟ إلا أن القَسْطَلاني نَقَل طهارتها عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى بحوالة العيني ولم أجدها فيه، ولخفاء تلك المسألة لم يُفْصِح بها البخاريُّ في كتابه، ومشى في كتابه على التسوية بينها وبين فضلات سائر الناس في أمر الطهارة والنجاسة، وهكذا فعل في الماء المستَعمل، وضُعِّفَت رواية نجاستِه عن الإِمام درايةً وروايةً، لإِنكارها مشايخ العراق مع كونهم أثبت.
باب لا يَجُوزُ الوُضُوءُ بالنَّبِيذِ وَلا المُسْكِر
واعلم أنَّ مَحَلَّ الخلافِ فيما إذا أُلقيت في الماءِ تُمَيراتٌ حتى صار حلواً رقيقاً غير مطبوخ ولا مُسْكر، فإن أَسكر أو طبخ فلا خلاف في عدم الجواز كما في «المبسوط». وفي «البحر» نقلاً عن قاضيخان: أن الإِمام رجع عنه إلى مذهب الجمهور، والطحاوي أيضاً تركه ولم ينتصر للمذهب المرجوع عنه، وأخرج له الترمذي حديثاً، وأبو داود، إلا أنه تكلم فيه بوجوهٍ كلها مدفوع، منها أن في إسناده أبو زيد وهو مجهول. ودفع بأنه مولى عمرو بن حُرَيْث رَوَى عنه راشد بن كَيسان العبسي وأبو روق، كما صرَّح به ابن العربي، مع وُرُوده عن أربعةَ عشرَ طريقاً بسطها العيني في «شرح البخاري». ومنها أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يكن في تلك الليلة، ودفع بأن ليلة الجن متعددة، كما في «آكام المرجان في أحكام الجان» والمشهورة منها ما في القرآن، وهي الدائرة على الألسنة، فأراد بالنفي كونه في تلك الليلة خاصة.(2/3)
وعند الترمذي في باب كراهية ما يُسْتنجى به، قال أبو عيسى: وقد روى هذا الحديث إسماعيلُ بن إبراهيم وغيره عن داود بن أبي هند، عن الشَّعْبي عن علقمة، عن عبد الله أنه كان مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمليلة الجن الحديثَ بطوله. وهذا صريحٌ في كونه في واحدٍ منها. ثم إن الزيلعي أخرج طُرُقَ هذا الحديث، وفي سنده عليُّ بن زيد بن جُدْعان، وأخرج عنه مسلم مقروناً مع الغير، واتفقوا على أنه صدوق إلا أنه سيِّىء الحِفْظ. قال ابن دقيق العيد: إنه أحسنُ من حديث أبي زيد، ولم أَرَ أحداً من المحدِّثين صحَّح حديثاً من أحاديث الوضوء بالنبيذ.
وقد مرَّ ابن تيمية على تلك المسألة في «منهاج السنة» وتكلم كلاماً لطيفاً جداً، ورأيتُ روايةً لم أر أحداً منهم يتمسك بها: أخرجها الزَّيْلعي عن الدارقطني، وفي إسناده سَهْوٌ من الكاتب في موضعين:
الأول: أنه كَتَب «هاشم بن خالد» مع أنه «هِشَام بن خالد» وهو من رواه أبي داود، أخرج عنه في باب الرجل يموتُ بسلاحه، وباب فِيمَنْ سأل اللَّهَ الشهادةَ.
والثاني: أن في آخر سنده ابنَ غَيْلان. قال الدارقطني: إنه مجهول.
قلت: بل هو عمرو بن غَيْلان كما سماه الزَّيْلعي بعده بقليل. وفي «الإصابة»: أنه صحابي صغير، وفي بعض طرقه عبد الله بن عَمرو بن غَيْلان، وهو من رجال ابن ماجه. وعَدَّه في «السنن الكبرى» تحت المَسْح على الرجلين من العلماء. والصحيح عندي أن عَمرو بن غَيْلان. وبعد هذا التصحيح يمكن تصحيحُ الحديث أيضاً، ولا أقلَّ مِن أن يكون حَسَناً لذاتِه. ثم إن بعض السلف أيضاً ذهبوا إليه، منهم سفيان وغيره، وهكذا صرَّح له الترمذي وفيه: قال إِسحاق: إن ابتُلي رجلٌ بهذا فتوضأ بالنبيذ وتيمم أحبُّ إليَّ. ومِثْله رواية عندنا أيضاً.
قلت: وذهب إليه الأَوزاعي أيضاً وبعضٌ من التابعين، كما في «مصنَّف ابن أبي شَيْبَة».(2/4)
ثم إن الترمذي قال: وقول مَنْ يقول: لا يتوضأ بالنبيد أقربُ إلى الكتاب وأشبه، لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً} (المائدة: 6). قلت: ولعله يشير إلى أن القول بجواز الوضوء بالنبيذ زيادةٌ على الكتاب. قلت: والزيادة عليه إنما تمتنع عندنا فلو كان فيه إشْكال لكان على مذهبنا. أما على مذهب الشافعية فإِنهم يجيزون الزيادة بخبر الواحد، فعبارتُه أقرب إلينا في مسألة الأصول.
والحل عندي أن النبيد وإن كان ماء مقيداً ألا أنهم يُحُلونه محل المطلق، لأنهم كانوا يجعلون الماء المالح حلواً بهذا الطريق، كتبريدنا الماء بالثلج فيلقون فيه تميراتٍ ليظهر حلاوتها، ثم يشربونها. وإنما كانوا يفعلون هذه لعِزَّة الماء الحلو عندهم، وهذا الطريق كان معروفاً كما في «بلوغ الأرب في أيام العرب» والكِرماني، وحينئذ دار النظر فيه، فإِن نظرنا إلى الاسم فهو مقيَّد، وإنْ رأينا مَحَل استعماله فهو مطلقٌ، وإن شئت قلت: إنه كان ماءً مطلقاً عندهم عُرْفاً، ولهذا التردد جاءت رواية التيمم مع الوضوء وراجع له «العقد الفريد» وكتاب «الناسخ والمنسوخ».
قوله: (ولا بالمُسْكِرِ) والحديثُ يخالف أبا حنيفة رحمه الله تعالى في مسألة المسكرات، ويوافق الجمهور. وغرض البخاري منه أنه إذا كان حراماً فعدم جواز الوضوء منه أظهر. قلت: ومسألة المسكر وإن استنصر له الطحاوي وأجاد فيه، إلا أن تَوَاتُرَ الأحاديثِ يخالِفُه.
باب غَسْلِ المَرْأَةِ أَباهَا الدَّمَ عَنْ وَجْهِه
لا يريد بيان مسألة الدم فقط، بل نظره إلى خصوص من غَسْل المرأة، لأنه اختار أن مسَّ المرأة غيرُ ناقض.
قوله: (عن وجهه) وإنما ذكره طِبْقاً للقِصَّة.
قوله: (قال أبو العالية: امسحوا)... إلخ يعني قال هذا عند وضوئه. ومعنى المسح على اللغة لا على العرف الحادث بمعنى إمرارِ اليد المُبْتَلَّة.(2/5)
باب السِّوَاك
واعلم أنَّ السواكَ مع كونِه متواتِراً لم يخرِّج المصنِّفُ أحاديثَ فضيلته، ولم يهتمَّ به في تراجمه، نعم أخرج في باب الجمعة حديثاً جيداً مع كونه أليق بباب الطهارة، ولا أدري ما وجهه؟ ولعله عدَّه من متعلقات الصلاة كما هو نظر الشافعية، ولذا أخرجه في كتاب الصلاة. ثم الحديث الذي أخرجه في باب الجمعة لفظه: «مع كلِّ صلاةٍ» فلم يعتبِرْه من أجزاء الطهارة، ولذا لم يُذكر في هذا الباب، والله تعالى أعلم.
ثم إنَّ الحنفيةَ قائلون باستحبابه عند القيام إلى الصلاة أيضاً إنْ أبطأ بعد الضوء.
قوله: (فاستَنَّ): فاستواه على أسنانه، مُشْتَقٌّ من السِّنِّ.
245 - قوله: (يَشُوص): أي إجراءِ السِّوَاك في داخل الفم.
باب ُ دفعِ السِّوَاكِ إِلَى الأَكْبَر
لعله يريد ترتيبَ إعطائه، ويُستفاد منه كونُه من أشياء الفضيلة.
قوله: (وقال عفان)... إلخ هذا مقاولة مع أن عفان شيخُه، فلعله أخذه منه مقاولةً لا مذاكرةً، وما يُسمع من الشيخ في سلسلة الكلام وإن لم يجلس للتحديث فهو مقاولةٌ، فإِن جلس للتحديث فهو مذاكرةٌ، فالتعهد في المذاكرة أزيدُ من المقاولة، فالمقاولة كمَجْلِس الوعظ.
246 - قوله: (أَرَاني أَتَسَوَّكُ) ويُعْلم منه أنها قصةُ الرؤيا، ومن بعض الألفاظ أنها قصةُ اليقظة كما عند أبي داود. فذهب بعضهم إلى التعدد وجُمع بأنه رآه أولاً في الرؤيا، ثم وقع في اليقظة، كذلك وقد كان يرى أشياءَ في المنام ثم تقعُ له مَثْلُها في اليقظة.
246 - قوله: (فقيل لي) وعلم منه أنه شيء فيه فضيلة حيثُ نزل فيه الوحيُ.
فائدة في معنى الرؤيا(2/6)
واعلم أن ما يرَونه الأنبياءُ عليهم السلام من أشياءِ الغيب في اليقظة يُقال له: الرؤيا أيضاً، لأن الرؤيا التي يراها النائم في نومه لا يراها غيرُه، وكذلك الأنبياء عليهم السلام يرون أشياء في اليقظة ولا يراها غيرُهم. وفي «الصحيح» لابن حِبان: أنا بِشارةُ عيسى، ورؤيا أمي، وكانت رأت نوراً من الشرق إلى الغرب عند ولادته، ثم أطلق عليه الرؤيا، وفي سفر الدانيال: أن يختم بعد سبعين أسبوعاً على الرؤيا، وعنى بها مشاهداتٍ الأنبياء عليهم السلام والنبوة، فما رأى النبي صلى الله عليه وسلّمكان رؤيا عين وإنما أطلق عليه الرؤيا لما قلنا. وسيجىء مزيد بحث في التفسير.
246 - قوله: (قال أبو عبد الله: اختصره نُعَيم) وفي «الميزان»: أن نُعَيماً هذا كان يُزَوِّرُ حكايات في أبي حنيفة رحمه الله تعالى. لا يقال: إن البخاري إنما أخرجه في الاستشهاد دون الأصول، لأنا نقول: إنه أخرج عنه في الأصول أيضاً كما في باب فضل استقباله القبلة... إلخ، وفي موضع آخر أيضاً، فينبغي أن يُؤوّل ما في «الميزان» ويقال: إن معنى التزوير عدمُ المبالاة لا أنه كان يزوّر بنفسه. ولا ريب في كونه مخالفاً لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، لأنه كان مُنْشئاً وكاتباً للقاضي أبي مطيع البلخي تلميذ الإِمام فأسر بأمره لأمر ثم كان يرميه بالجَهْمية بعد.
ومن مثل هذه الأشياء قال البخاري: «محمد بن الحسن جَهْمي» مع أن محمد بن الحسن يَرُدُّ على الجهم، ويقول: إن الاستواء على العرش صحيح، مَن خالفه فهو جَهْمي، كما في «الفتح» وفي «المسايرة» لابن الهمام: أَنَّ أبا حنيفة ناظر جَهْماً ثم قال في الآخِر: أخرج عني يا كافر. فالعجب أنهم كيف يَطْعَنوننا بالجهمية، والله المستعان.
باب ُ فَضْلِ مَنْ بَاتَ عَلَى الوُضُوء(2/7)
وضوءك للصلاة، وهذا وضوء لحال الأحداث لا لحال الصلاة، وأما الآن فهو خامل عندهم بحيث لا يكادُ يعرفونه، واشتهر عندهم الوضوء لحال الصلاة فقط، لأنَّه في المائدة وهو الذي في كُتب الفقه، وما عند مسلم: «الطُّهُور شَطْرُ الإِيمان» فإِنه يشمل جميع أنواع الوضوء. وصور التطهير، لا أنه الوضوء المعروف فقط.
247 - قوله: (ثم اضْطجِع على شِقِّك الأَيمن) وهو نوم الأنبياء عليهم السلام، لأنَّ التيامنَ من دَأْب الشرع في جميع المواضع، لأنَّ القلبَ لا يزال معلَّقاً فيه، فلا يغرق في النوم ولا يطرأ عليه الغفلة، وعند أبي داود أن نومهم بالاضطجاع على الظهر، فينبغي أن يفعل أولاً كما عند أبي داود، ثم يضطجع كما في «البخاري». والنوم على البطن من ضجعة أهل النار. وقالت الأطباء: إن النوم على الشقِّ الأيسر أيسر وأسهل، وأعون في الهضم، وأنفع للصحة.
247 - قوله: (وجهي إليك) منه ياوه جيز جواقبال على الله كى هى.
247 - قوله: (على الفطرة) يعني تموت كما جئت من عند الله تعالى يعني جيسا خدا تعالى كى يهان سى آئى تهى ويساهى جاؤكى.
247 - قوله: (قال لا ونبيك)... إلخ لأن في لفظ الرسول تكراراً وتمسك به بعضهم على نفي الرواية بالمعنى، لأنه لم يجوزه تبديل اللفظ. قلت: النهي ههنا لاستلزامه التأكيد، والتأسيس أولى.(2/8)
ثم إنَّ الروايةَ بالمعنى لا تمكن في اللغة العربية، لأنه لا ترادف عند التحقيق، ولا تركيب يؤدي مؤدَّى تركيب آخر. نعم يمكن تأدية المعنى المشترك فقط، فخصائص كل تركيب على حِدَة لا يفيدها تركيب آخر، ثم إنهم قالوا: إن أنساً رضي الله عنه وابن عمر ممن كانوا يرويان باللفظ وابن مسعود رضي الله عنه ممن كان يروي بالمعنى عند ذُهُول اللفظ مع التنبيه عليه، والإمام رحمه الله تعالى ممن كان يروي باللفظ، لأن يحيى بن مَعِين لمَّا وثَّقَه قال: ولا نَكْذِبُ بين يدي الله، فإنا ما رأينا أحسنَ منه رأياً، وكان لا يُحَدِّث إلا بما يحفظ، وكتبوا أيضاً: أنه كان من شرائطه عدم النسيان ما يرويه مُدَّةَ عُمُره.
وهو في الأصل منقول عن أبي يوسف رحمه الله تعالى، ثم إنَّ يحيى بن مَعِين ويحيى بن سعيد القَطَّان يقال هما حنفيان. قلت: وهو على طريق السلف لا كما شاع الآن، ثم إن رأيهما لم يكن حسناً في حق الشافعي رحمه الله تعالى، وإن لم يكن حسناً فإن الشافعي رحمه الله تعالى أجلُّ من أن يُخَرِّج فيه مثلهُما.
فائدة: واعلم أنه ينبغي للجُنُب أن يتوضأ إذا أراد أن ينام لما في «تنوير الحوالك»: عن ميمونة بنت سعد: «هل يَرْقُدُ جُنُبٌ؟ قال: لا أُحِب إلا أن يتوضأ، فإِني أخشى أن يموت فلا يَحْضُره جبرائيل». وقد نقله مولانا عبد الحيّ رحمه الله تعالى في «حاشية الموطأ» أيضاً، وكان ابن عمر رضي الله عنه يفعله إلا أنه لم يكن يمسح في ضوئه هذا، ولعله يكون عنده فيه قدوة، وفيه عندي أحاديث عديدة جيدة عن النبي صلى الله عليه وسلّم وقد صرَّحَ فقهاؤنا باستحبابه، وصرَّحوا بأن هذا الوضوء لا يُنْتَقَض من البول والغائط راجع «الدُّر المختار» و«عين العلم».
كتاب الغُسْل(2/9)
واعلم أنَّ الدَّلْكَ معتبر في الغسل لغةً، وأَقَرَّ به الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى في «الفتح»، ولذا شرطه المالكية، وما لا دَلْكَ فيه لا يسمى غسلاً، بل يقال له: الصَّبّ والإِسالة، ولكنه قد مرَّ معنا مرَّة أنَّ اعتبار جميع مراتب المسمَّى أن بعضها من مراحل الاجتهاد، فأخذ مالك رحمه الله تعالى بجميع مراتبه، وعمَّمه آخرون، ولا يقال فيه: إنه خلافُ النص، فإِن النص لم يتعرَّض إلى المراتب أصلاً، وإنما أمر بالمسمَّى، وقد قلنا به.
باب ُ الوُضُوءِ قَبْلَ الغُسْل
وتقديمه على الغسل سنة، والتوضأ بعده - إن توضأ قبله - بدعةٌ، إلا بالتفاصيل المذكورة في الفقه - وظني أنَّ هذا الوضوء كاملٌ حتى يمسح فيه أيضاً، وأما غسل الرجلين فأَمْرُه كما في «القُدُوري»: إن كان المغتسَلُ يجتمع فيه الماء يؤخرهما، وإلاّ فيغسلهما مع وضوئه. ثم في «فصول البقراطي»: أن الغسل بعد الجماع متصلاً قد يورث عِلَّة.
248 - قوله: (غرف) والغَرْفة بالفتح في الإِناء، والغُرفة بالضم في النهر، قال تعالى: {إلا من اغتراف غرْفَةً بيده} (البقرة: 249) .
باب ُ غُسْلِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِه
وهكذا بوَّب في الوضوء، ص 32 باب وضوء الرجل مع امرأته، فكأنه تَرَكَ مذهب أحمد رحمه الله تعالى، وقد مرَّ مني تفصيلُ المسألة، وأنَّ الفضل لا يصدق بالغسل حميعاً، وأن مناط أحاديث النهي هو الأَسآر.
250 - قوله: (الفَرَق) إناء يسع ثلاثة آصع، فإن كان ملآن يصير لكل منهما صاع ونصف، والمعروف في عادته في الغسل صاع، وقد مرَّ أنَّه لا تحديد فيه، والأمر تقريبي، وإن كان خالياً فالأمر تحقيقي، ويصير لكل منهما صاعاً صاعاً، فإنَّه لا يلزم بكون الفَرَق هذا القَدْر أن يكون الماء فيه أيضاً كذلك، فيمكن أن يكون الماء على قدر عادته.
(2/10)
باب ُ الغُسْلِ بِالصَّاعِ وَنَحْوِه
باب مَنْ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثا
وإنَّما ترجم له لعنايته به ولوروده في الأحاديث، والعناية ههنا كعناية أهل المعاني، وقد مرَّ أنه لم يعتن به أحد من الأئمة غير محمد رحمه الله تعالى، فإِنه اعتبره في الغسل اتباعاً للأثر لا تحديداً وتوقيتاً.
251 - قوله: (وأخو عائشة) أي رضاعاً.
251 - قوله: (الجُدِّي) منسوب إلى الجُدَّة، وهو الأفصح من الجدة، وبالفتح لَحْنٌ.
252 - قوله: (ثم أَمَّنا) وعو عند مسلم وأبي داود أبسط منه، وفي إسناده يحيى بن آدم، وهو من رجال الكوفة. راجع له «نيل الفرقدين»، فإن الحافظ رحمه الله تعالى غَلِطَ في شرح أثره.
باب ُ الغُسْلِ مَرَّةً وَاحِدَة
وهو جائز عندنا أيضاً.
257 - قوله: (ثم أفاض على جسده) وهو موضع الترجمة، وقد حصل لي التردُّد بعد المراجعة إلى طرقه في اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلّمفيه بالمرة الواحدة، ولعله جرى فيه على عادته بالتثليث، فإِن كان في هذه الواقعة هو التثليث، فالترجمة لبيان المسألة فقط.
باب ُ مَنْ بَدَأَ بِالحِلابِ أَوِ الطِّيبِ عِنْدَ الغُسْل
والحِلاب إناء معروف، وما قيل: إنه تصحيف جُلاب بمعنى كل آب أو بمعنى حَبُّ المَحْلَب فكلُّه شطط، لأنه استعمله المصنَّف رحمه الله تعالى في مواضع، والقول بالتصحيف في المواضع كلها، أو تغليط المصنِّف رحمه الله تعالى بأنه فَهِم معناه حَبُّ المَحْلَب للاستنفاق بينها بعيدٌ جداً، ولأنه ورد هذا اللفظ في الحديث صراحة وقد استشكل عليهم جمع الحِلاب والطِّيب.(2/11)
قلت: بل الجمع بينهما لكون التقابل بينهما تقابل التضاد، فإِن في الحِلاب يبقى ريح اللَّبَن، فأشار إلى أنه لا بأس بريحه ولونه إنْ ظهر في الماء، وكذا الطِّيب عند الغسل قد يبقى أثره بعد الغسل، فلا بأس به أيضاً. ونظره إلى الترجمة الآتية «باب مَن تطيَّبَ ثم اغتسل وبقي أثر الطيب» وإن كان استعمال الطيب هناك للجِماع ليحصل النشاط لا للغسل، والتطيب قبل الاغتسال أيضاً شائع في بعض البلاد، فيدَّهِنُون أولاً ثم يغتسلون، المعروف في بلادنا التطيب بعد الغسل فقط.
والحاصل: أن مَطْمَح نظره في هذه الترجمة أنه لو بقي في الماء أثرُ الحِلاب أو شيء من جنسه، فلا بأس به، وبعبارة أخرى أنه لا بأس بماء اختلط به شيءٌ طاهر. أما مسألة الطيب فجاء استتباعاً، وحينئذ لا يَرِدُ أنه لا ذِكْرَ له في الحديث على أنهما يشتركان في معنى بقاء الاثر، ففي الحِلاب يبقى أثر اللَّبَن، وفي التطيب يبقى أثر الطيب، فيقول: إنه لا بأس ببقائهما بعد الاغتسال.
258 - قوله: (نحوَ الحِلاب)، وفي الطرق إنه كان الحِلاب بعينه.
باب ُ المَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ فِي الجَنَابَةِ
أ(2/12)
قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى والثوري: أنهما واجبتان في الغسل واختاره أحمد وإسحاق مطلقاً. قلت: ولا ريب في ثبوتهما في غسله صلى الله عليه وسلّم وتعيين المراتب من باب الاجتهاد، فصار نظرنا أنهما واجبتان حيث شدَّد الشرع في الجَنَابة ما لم يشدِّد في الحَدَث الأصغر، فَنَهى الجُنُبَ عن قراءة القرآن، ولم يَنْهَ عنها المُحْدِث بالحَدَث الأصغر، فعَلِمنا أن للجنابة سِرايةً إلى الباطن أزيد من الحدث الأصغر، فقلنا بالافتراض. ومَنْ زعم أن الفرض لا يثبت بالخبر الواحد فقد سها، فإِنه يثبت بالخبر أيضاً إلا أنه لا يكون قطعياً، ولا يجب كونُ كلِّ فرض قطعياً. نعم ما ثبت بالكتاب يكون قطعياً قطعاً. ثم إن حفص بن غِياث هذا الذي في الإِسناد من خاصة تلامذة أبي يوسف، والبخاري إذا أخذ حديث الأعمش يعتمد فيه على حفص هذا.
قوله: (غُسلاً) الغُسْل بالضم: مصدر واسم، وبالفتح: مصدر، والغِسْل بالكسر: الماء ولكنه نادر. ثم إن استعمال المِنْدِيل جائز. راجع المسألة من «المنية» و«قاضي خان» وفي واحد منهما كراهةُ استعمال المِنْدِيل، وتُحمل على التنزيه. والحاصل: أنه ليس بسنَّة، وتكلم في لفظه واشتقاقه، وهو مشهور.
باب ُ مَسْحِ اليَدِ بِالتُّرَابِ لِيَكُونَ أَنْقى(2/13)
260 - قوله: (الحُمَيدي) رفيق الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى في سفره، وحامل لواء مذهبه، ومخالف لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولمّا كان البخاري من تلامذته اتَّبَع شيخَه في الخلاف أيضاً، وهذا هو الدَّأْب من القديم إلى الحديث أن التلامذة يتَّبِعون مشايخهم في أعمالهم، وأخلاقهم، وشمائلهم، وخصائلهم ومسائلهم. ونقل البخاري قصة حَلْقِ الحجاج رأس الإمام وإصلاحه له، مع أن مدارك الإِمام دقيقة، فإنَّ التيامنَ يمكن أن يكون باعتبار الحالق وباعتبار المحلوق كليهما. وكذا استقبال القِبلة. فليراعِ الحُمَيدي هذه الأمور أيضاً، وليحذر عن الطعن في حق الإِمام الذي مُعْظَم الأُمَّة على أثره. ولمثل هذه الأمور لم يكتب البخاري مناقبه في أحدٍ من تصانيفه، لأنه لما بلغته مَثَالِبُه ومناقبه، وغلب على ظنه مثالبه فقط، أعرض عن مناقبه.
ثم إن هذه أمور وعوارض تعتري الرجل، ولا يجب أن يستقرّ عليه رأيه، كما أنك تسمع اليوم فِسقَ رجل فتنفر عنه، ثم تبلغ إليك محاسنه، فيتبدل رأيك فيه وتُحِبّه. فهذه أمور ليست مما يستقر عليه الإنسان، بل تبنى على الإِخبار، وأَجِد في الصحيح كثيراً من الرواة من تلامذة أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى، لأنه ترجَّح عنده مناقبهم، ولا أر عن الشافعي رحمه الله تعالى حرفاً في هجو الإمام، بل ينقل منه المناقب، حتى إني لم أر مناقب أحمد رحمه الله تعالى أزيد ما رأيته في كلامه. فمنها: أني تحمَّلت عنه وقْرَيْ بعيرٍ من العلم. ومنها: أنه كان يملأ العين والقلب. وأنه إذا تكلم فكأنما ينزل الوحي.(2/14)
وينقل عن أحمد ومالك رحمهما الله تعالى بعضاً من المناقب. وشيئاً من المَثَالِب أيضاً. وسببه وقوع الفتن والمصائب من جهة الحنفية. وفي تاريخ الخطيب لفظ الكفر أيضاً في حق الإمام {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} (الكهف: 5). وهو شافعي في المذهب، وأجاب عنه السلطان... وسماه «السَّهْم المُصِيب في كَبِدِ الخطيب»، وقد طُبِع الآن، وليراجع في هذه الأمور الخارجُ والواقعُ، ألا ترى ماذا يفعل الناس اليوم؟ وكيف يتَّهِم بعضهم بعضاً.
واعلم أن مشايخنا رحمهم الله تعالى اختلفوا في جواز الاقتداء عند الاختلاف في الفروع بين الإمام والمأموم فقيل: إنه جائز إذا عَلِمَ من حال الإِمام أنه يحتاط في مواضع الخلاف وألا لا. وقيل: إذا شاهد إمامه يرتكب ناقضاً من النواقض المختلفة فيها كَمَسِّ المرأة، ومَسِّ الذَّكَر، أو خروج الدم من غير السبيلين، لا يجوز افتداؤه لمن كان يراه ناقضاً، وإلاّ صح.
قلت: والذي تحقَّق عندي أنَّه صحيح مطلقاً سواء كان الإِمام محتاطاً أم لا، وسواء شاهد منه تلك الأمور أم لا، فإِني لا أجد من السلف أحداً إذا دخل في المسجد أنه تفقد أحوال الإِمام أو تساءل عنه بَيْدَ أنهم كانوا يقتدون وينصرفون إلى بيوتهم بلا سؤال ولا جواب. وفي «فتاوى الحافظ ابن تيمية»: أن هارون الرشيد افْتَصَدَ مرةٌ ثم قام ليصلي، وكان أبو يوسف رحمه الله تعالى موجوداً هناك، فاقتدى به مع علم الناقض عنده. فإِن قلت: كيف الاقتداء مع تيقُّن الإِمام على عدم الطهارة عنده؟ قلت: إنما يتوجه السؤال إذا كان الإمام على أمرٍ باطل قطعاً، وهذه المسألة مجتهَدٌ فيها، أمكن فيها أن يكون الحق إلى الإِمام، وأمكنَ أن يكون في جانبٍ آخر، ولذا لا يسعك أن تحكم على صلاة الآخرين أنها باطلة عند الله تعالى، ولكن يَبْذُل الجَهْدَ ويتحرَّى الصواب لينال الثوابَ بقدر الاجتهاد.(2/15)
ولذا أقول: إن الإِمام إن كان شافعياً وتكلَّم ناسياً، ثم مضى في صلاته لعدم كونه ناقضاً عنده، ينبغي أن يَفْسُدَ صلاة المقتدي الحنفي لأن بين المسألتين فرقاً، فإِن مسألة التكلم قليلةُ الوقوع جداً بل ليست فيه إلا واقعة ذِي اليدين، فإِن تَمَّتْ على نظر الحنفية ينهدم مراد الشافعية عن أصله، وليس في أيديهم غيرها شيء، بخلاف مسألة النواقض، فإِنها كثيرة الوقوع من الصدر الأول، وما تكون كذلك لا يمكن فيها فصل الأمر أبداً.
ثم الذين قالوا بالجواز عند الاختلاف في الفروع افترقوا فرقتين:
فقال قائل منهم: إنَّ العبرةَ لرأي الإِمام، فإِن تحقق ناقض على مذهبه وانتقض وضوؤه لا يجوز الاقتداء به، وإلا جاز، ولا عبرة بحال المقتدي، وإليه ذهب الجصَّاص، وهو الذي اختاره لتوارث السلف، واقتداءِ أحدهم بالآخر بلا نكير مع كونهم مختلفين في الفروع، وإنما كانوا يمشون على تحقيقاتهم إذا صلَّوا في بيوتهم، أما إذا بلغوا في المسجد فكانوا يقتدون بلا تقدم وتأخر، ولن يُنْقَل عن إمامنا أنه سأل عن حال الإِمام في المسجد الحرام مع أَنَّه حَجَّ مراراً.
وقال آخرون: إن العبرة لرأي المقتدي، والقول الثالث فيه لنوح أفندي وهو فاضل ذكي متيقِّظ بعد الشيخ ابن الهُمَام، وله حاشية مبسوطة على «الدر المختار»، أودع فيها مباحث لطيفة، ويُعلم منها أنه رجل محقق، واختار أن الاقتداء إنما يصح عند تلاقي الرأيين: أي المقتدي والإِمام. وإلا لا، وهذا القول من جانبه وليس عن السلف. وهناك صورة أخرى وهي أن الإِمام صلى وكان على غير وضوء على رأيه وعلى وضوء على رأي المقتدي، مثلاً: كان شافعياً فمسَّ امرأة ثم أمَّ الناس، فهذا على وضوءٍ عند الحنفية، ومحدثٌ على مذهبه، فيجري فيه الاختلاف المذكور أيضاً.
(2/16)
قال الشيخ ابن الهُمام: إن شيخه سراج الدين تلميذ صاحب الهداية كان يختار مذهب الجصَّاص، وأنكر مرة أن يكون فسادُ الصلاة فيه مروياً عن المتقدمين، وإنما أوجده المتأخرون، فَذكَّرْتُه بمسألة «الجامع الصغير» في الجماعة الذين تحرَّوا في الليلة المظلمة، وصلَّى كلٌّ إلى جهة، مقتدين بإِمامهم، أنَّ صلاةَ مَن عَلِم إمامه على خطأ فاسدة، لاعتقاده إمامَه على خطأ، فإنها تدل على أن الاعتبار لرأي المقتدي عند السلف أيضاً، وليس إيجاداً من المتأخرين فقط، فلم يجبه شيخه.
قلتُ: الفرق ظاهر ونظير الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى، وكذا سكوت شيخه في غير محله، فإِنَّ معاملةَ القِبلة قطعية يمكن فصلها بالرجوع إلى الحِسّ بخلاف النواقض، فإِنه لا سبيل فيها إلى الفصل بعد اختلاف السلف فيها اختلافاً كثيراً، فلو علم المقتدي إمامه على خطأ في مسألة التحرِّي ينبغي أن لا تصح صلاته، بخلاف الاجتهاديات التي لا تزال الأنظار تدور فيها إلى الأبد، ووجه الفساد في المسألة المذكورة ليس ما فهمه الشيخ من مخالفة اعتقاده لإِمامه، بل هو ترك المتابعة له، وهي من الواجبات.
وكان مولانا شيخ الهند رحمه الله تعالى يذهب إلى مذهب الجصَّاص ويستعين بمسألة قضاء القاضي في العقود والفسوخ، فإِنه ينفُذُ ظاهراً أو باطناً مع شرائطها المذكورة في الفقه. وقد سبق مني في المقدمة أن أهل قُبَاء، إنما عَمِلوا بخبر الواحد وتركوا قِبلتهم الثابتة بالقاطع لهذا المعنى، لأنه كان عندهم طريق التحقيق والتثبيت، وفي مثله يجوز أن يكون الخبر ناسخاً للقاطع.(2/17)
والحاصل: أَنَّه لا نزاع في الجزئي القليل الوقوع، وإنما الكلام فيما تواتر فيه الخلاف كالنواقض. ثم لا يذهب عليك أن ابن نُجَيم في باب قضاء الفوائت، وابنَ عابدين في مقدمة «رد المحتار» وسَّعاً سهواً مُضِراً، حيث وسَّها للأُمِّيِّ الذي لا يعلم مذهبَ أحدٍ أن يستفتيَ في صلواته الخمسِ أيَّ عالم من علماء المذاهب الأربعة شاء، ويعمل بما شاء من فتاواهم.
أقول: وهذا باطل، فإِنَّ حاصله: أن الأُمِّيِّ ليس له مذهب والقياس على مسألة الاقتداء فاسد، فإِن الاقتداء لا مناص فيه عن المتابعة، بخلاف العمل بالمذاهب فإِن له أن يتقيد بمذهب ويتابعه في مسائله. أما العمل بمذهب الشافعي رحمه الله تعالى في صلاة، وبمذهب الحنفية في صلاة أخرى، فمسلكٌ غيرُ مستقيم، والتزام للتناقض، ولا نظير له في الدِّين.
وتحقيقه: أنَّ المسائلَ من مذهب واحدٍ تكون مُتَّسِقَة، أعني به أنه تكون بينها سلسلة وارتباط في ذهن المجتهد، فإِذا خلط في هذه المسائل، فيعمل تارةً بهذا وأخرى بهذا، يلزم التناقض، وإن لم يَبْدُ في بادىء الرأي، لأنها ربما تبنى على أصول مختلفة يخالف أحدهما الآخر، فإِذا عمل بتلك المسائل كلها ابتلي بالتناقض من حيث لا يدريه، فإِن تلك المسائل وإن لم تكن متناقضة إلا أن الأصول التي تتفرع عليها تلك المسائل تكون متناقضة، فلا يلوح التناقض بين تلك المسائل في بادىء الرأي مع أنه متحقق بعد الإِمعان.
(2/18)
ثم ما في كُتُب الفقه أنّ الرجوع عن التقليد بعد العمل غيرُ جائز، ليس معناه ما فهمه بعض القاصرين أنه لا يجوز كون الشافعي حنفياً أو بالعكس. وكذا ليس معناه عدم جواز ترك تحقيق بعد سُنُوح تحقيق آخر خلافه، لأنه يجوز التحوُّل من مذهب إمام إلى مذهب إمام آخر إن بدا له ودعته حاجة. وكذا يجوز للمجتهد أن يترك تحقيقه ويختار الجانب الآخر إن رأى فيه الصواب، فإِن الشافعي رحمه الله تعالى كان قائلاً بعدم وجوب الفاتحة على المقتدي في الجهرية، ثم رجع عنه واختار وجوبها قبل وفاته بسنتين. فهذا أيضاً جائز، بل معناه أنه إن اختار تحقيقاً في مسألة ثم عمل عملاً لم يكن صحيحاً على هذا التحقيق، وأراد أن يطلب له صورة الصحة فقال: إني أختار تحقيقاً آخر في تلك المسألة بعينها، تصحيحاً لعمله، فإِنه لا يجوز.
كحنفي صلَّى الظهر، ثم ظهر أن الدَّمَ كان يسيل منه، ومقتضاه أن يفسد طُهره، فأراد أن يُبقيها صحيحة فقال: إني أختار مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، فهذا غير جائز.
وما نقل عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه توضأ مرةً وصلى به، ثم لما عَلِمَ أن الماء الذي توضأ منه كانت فيه فأرة، وكان أزيد من القُلَّتين، قال: إني أختار مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، فَبَعْدَ تسليم صحته أقول: إنه جواب على أسلوب الحكيم، وليس من باب ترك التحقيق بعد العمل به، وغرضه أنا نحكم بنجاسة الماء عند العلم بها كما هو مذهبه، فلم يكن نجساً على مذهبه إلا بعد العلم بها، ولم تكن له حاجة إلى ترك تحقيقه، ولكنه نحو تعبير جرياً على أسلوب الحكيم.(2/19)
وإنما أنكرتُه لأنه لم يثبت عندي عن السلف الرجوع بهذا المعنى، وقدوتي في هذا الباب وعمدتي عبد الله بن المبارك، فقد قال الترمذي في باب ما جاء لا طلاقَ قبل النكاح: وذكر عن عبد الله بن المبارك أنه سئل عن رجل حَلَف بالطلاق أن لا يتزوج، ثم بدا له أن يتزوج، هل له رخصة أن يأخذ بقول الفقهاء الذين رخَّصوا في هذا؟ فقال ابن المبارك: إن كان يرى هذا القول حقاً من قَبْلِ أن يُبتلى بهذه المسألة، فله أن يأخذ بقولهم، فأما من لم يرضَ بهذا فلما ابتُليَ أحبَّ أن يأخذ بقولهم، فلا أرى له ذلك ا ه.
باب هَل يُدْخِلُ الجُنُبُ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ غَيرُ الجَنَابَةِ؟
صرَّح في هذه الترجمة بنجاسة المَنِيِّ وعَدَّه من القذر واختار أنَّ الماء المستعمل طاهر، وإليه ذهب الجمهور، وقال مالك: إنه مُطَهِّر أيضاً.
قوله: (ولم ير ابن عمر رضي الله عنه)... إلخ وهذا القدر عَفْوٌ عند مشايخنا القائلين بنجاسة الماء المستعمَل أيضاً، وفي «الدر المختار» أنَّ العِبرةَ عند اختلاط المستعمَل مع غيره للغالب.
262 - قوله: (غسل يده) يعني إن تيسَّر له الغسل قبل الإِدخال، فإِنه يغسلهما وإلا يسع له أن يدخلها في الإِناء، وتركيبه مذكور في «شرح الوقاية»، ونقل الشيخ العيني رضي الله عنه عن ابن عمر بإِسناد قوي أن الحائض إن أدخلت يدها في الإِناء تنجَّس، ولعل فيه تفصيلاً، عنده. وفي «الفتاوى» لابن تيمية عن أحمد رضي الله عنه: أن الجُنُب إن أدخل يده في الماء نجسه، فهاتان المسألتان تدلان على نجاسة الماء المستعمَل، وإنما ذكرتهما لتخليص رقابنا على رواية نجاسة الماء المستعمَل، فكأن لها مُسْكَة أيضاً. وغرض البخاري من هذه الأحاديث إثبات غسل اليدين قبل الاغتراف، والاغتراف قبل غسلهما عند الحاجة ليثبت به طهارة الماء المستعمل، وإن كان التوقي منه مطلوباً.(2/20)
263 - قوله: (حدثنا أبو الوليد: حدثنا شعبة)... إلخ هذا هو الإِسناد في قَدْر ماء وضوئه صلى الله عليه وسلّمأنه كان ثلثي المُدَّ عند النَّسائي.
باب ُ تَفرِيقِ الغُسْلِ وَالوُضُوء
باب ُ مَنْ أَفرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمِالِهِ فِي الغُسْل
فيه تعريض للمالكية، وإشارة إلى أَنَّ الموالاةَ ليست بشرط، واختار فيه مذهب الحنفية.
قوله: (ويذكر عن ابن عمر رضي الله عنه) أخرجه مالك في موطئه وفيه: أنه غسل رجليه بعدما بلغ المسجد النبوي. فثبت منه تركُ الموالاة.
265 - قوله: (فغسل قدميه) قلت: وفيه تأخير غسل القدمين فقط، وليس فيه أنه غسلهما بعد الجَفَاف أو قبله.
باب ُ إِذَا جَامَعَ ثُمَّ عَادَ، وَمَنْ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِد
باب ُ غَسْلِ المَذْي وَالوُضُوءِ مِنْه
ثم الغُسل عند كل جماع مستَحَبٌ عندنا، ولا يُدْرى أنَّه مستحبٌّ فقهيٌّ أو لكونه أنفع، وذهب بعضهم إلى الوجوب.
قوله: (ومن دار على نسائه في غسل واحد) ومراد البخاري من هذا الغسل هو الذي في الآخر بعد جماع الكُلّ.
267 - قوله: (ذَكَرْتُه لعائشة رضي الله عنها) وكان عند ابن عمر أن بقاء أثر الطيب بعد الإِحرام أيضاً جنابة، فهذه هي المسألة التي ذَكَرَ لها، وإليه مال مالك رضي الله عنه، ومذهب الجمهور أنه لا بأس بالطِّيب قبل الإِحرام، وإن بقي أثره أو جِرْمُه بعده.(2/21)
267 - قوله: (فيطوف على نسائه) وظاهره يخالف القَسْمَ، فقيل: إنه لم يكن واجباً على النبي صلى الله عليه وسلّملقوله تعالى: {وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَآء} (الأحزاب: 51) - الآية، وقيل: إنه يجوز مطلقاً بعد ختم الدورة الواحدة قبل شروع الدورة الأخرى. قلت: وليُحَرَّر أيستقيم على مسائل الحنفية أم لا؟ فإِني لم أرَ هذا التفصيل في فقهنا أقول هذه واقعة واحدة في حجة الوداع لم تقع إلا مرة واحدة، وإن كانت ألفاظ الراوي تُشْعِر بكونها عادة، ولكن عندي اتباعُ الواقع أولى، لأنه لم يُعْلَم في الخارج غيرُ هذه الواقعة، فليقصرها على موردها. قال ابن الحاجب: إنَّ «كان» لا يدلّ على الاستمرار لغةً لأنه من الكون، إلا أنه يُستفاد منه الاستمرار عُرفاً ولا سيما إذا كان خبره مضارعاً. قلت: وهذا صحيح إلا أن الواقعة ههنا ليست إلا واحدة كما سيجيء.
268 - قوله: (وهن إحدى عشرة) التسع منهن منكوحة، وثنتان سُرِّيَتَان.
268 - قوله: (قوة ثلاثين) وفي «الحلية» لأبي نعيم: «قوة أربعين كل رجل من رجال أهل الجنة»، وفي إسناده أبو حنيفة رضي الله عنه. وأبو نُعيم ليس من مخالفي أبي حنيفة رضي الله عنه بخلاف الخطيب. وفي الترمذي: أن قوة رجل من أهل الجنة كمئة رجل فمن ضرب الأربعين في المئة يحصل أربعة آلاف. كذا ذكره السيوطي. قلت: والذي تحقَّق عندي بعد هدم اختلاف الألفاظ وتعبير الرواة أنه أعطي في الدنيا ما يُعطَى سائرهم في الجنة، لكونه في الدنيا من رجال أهل الجنة، وليست وراءة إلا تعبيرات وتَفَنُّناً في العبارات، فليحملها عليه.
باب ُ مَنْ تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَبَقِيَ أَثَرُ الطِّيب
باب ُ تَخْلِيلِ الشَّعَرِ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيه(2/22)
قوله أنها طيبت فانظر كيف عبرت ههنا بكونها واقعة بخلاف الحديث المار عن قريب فعبرت فيه كأنه كان عادة له فقالت فيه كنت أطيب إلخ. فهذا كله من تصرفات الرواة وعلى المشتغل أن يتبع الواقع ولا يذهب بكل تعبير.
باب ُ مَنْ تَوَضَّأَ فِي الجَنَابَةِ ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ وَلَمْ يُعِدْ غَسْلَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مَرَّةً أُخْرَى
وحاصله: أنه إذا اغتسل بعد الوضوء فليس عليه أن يفيض الماء على أعضاء وضوئه ثانياً، فإن شاء أفاض عليها الماء، وإن شاء اكتفى بغسل سائر جسده، فقط ولمَّا قابل الراوي بين أعضاء الوضوء والجسد حيث ذكر أولاً غسلها وذكر بعده غسل الجسد بثم، ظهر أَنَّه أرادَ من الجسد غيرها، وثبت ما رامه المصنَّف رحمه الله تعالى «سائر» الأفصح أنه بمعنى الباقي، من السؤر بمعنى الباقي والفضل، وقيل: بمعنى الجميع من السور أي من سور البلد.
باب ُ إِذَا ذَكَرَ فِي المَسْجِدِ أَنَّهُ جُنُبٌ، يَخْرُجُ كَمَا هُوَ وَلا يَتَيَمَّم
باب ُ نَفضِ اليَدَينِ مِنَ الغُسْلِ عَنِ الجَنَابَة
باب ُ مَنْ بَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأَيمَنِ فِي الغُسْل
قال النُّحَاة: (كما هو) قد يكون للتشبيه، وقد يكون للمفاجأة، وهو المراد ههنا.(2/23)
قوله: (ولا يتيمم) ولا يجوز للجنب أَنْ يَدْخل المسجد عندنا، فإِنْ دخل ناسياً يتيمم ثم يخرج، وفي رواية غير مشهورة: يخرج وإن لم يتيمم. كذا في «رد المحتار»، وهي المختارة عندي، وإن كانت غير مشهورة، وهو المتبادَر في الحديث، فإِن النبي صلى الله عليه وسلّملو كان تيمم لَذَكَرَهُ الراوي، فهو سكوت في مَعْرِض البيان، وأصل الكلام في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَآئِطِ أَوْ لَمَسْتُمُ النّسَآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً} (النساء: 43) - الآية.
قال الشافعية رضي الله عنهم: إنَّ صدرَ الآيةِ في حُكْمِ الصَّلاةِ ثم انتقل إلى حكم المسجد، فلا يجوز للجنب أن يدخلَ فيه إلا بطريق العبور والاجتياز. وقال الحنفية: إن آخِرَها أيضاً في حكم الصلاة كأوَّلها، ومعناه: لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنباً إلا أن تكونوا مسافرين.6
ويَردُ عليه قوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فإِنه يوجب التكرار على هذا التقدير والجواب أنه أعادُهُ لبيان حكمه، لأنه لم يذكره أوّلاً، فهذا استئناف بإِعادة ما استؤنف عنه، وهو نوع من البلاغة.
ويَرِدُ على الشافعية أنه يجب عليهم تقدير المضاف، أي: لا تقربوا مواضع الصلاة ليكون المذكور فيها حكم المساجد، وهذا خلافٌ الظاهر، فإِن المتبادَر أنها في حكم الصّلاة دون المسجد، وأيضاً قوله: {عَابِرِى سَبِيلٍ} وإن صلح للعبور والاجتياز لغةً إلا أنَّ المتبادرَ منه عُرفاً المسافر، فيقال للمسافر: إنَّه عابرُ سبيل وابن سبيل.(2/24)
أقول: والذي تبين لي أن الآية سِيقت لبيان أحكام الصلاة، ثم انسحبت على ذكر مواضعها أيضاً، فالحكم في القطعة الأولى للعبادة، وفي الثانية لمواضع العبادة. فإِن شئت سمَّيتَه صنعةَ الاستخدام أو غيرها. وحاصلها عندي: لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكَارى، ولا تقربوا مواضعها جنباً إلا أن تكونوا مسافرين، فوافقتُ االشافعية في التفسير، والحنفية في المسألة، وكثيراً ما فعلته في مواضع.
أما الجواب عن الحديث فقد مرَّ معنا في باب الاستقبال والاستدبار: أنه يجوز أن يكون من خصائصه صلى الله عليه وسلّملِمَا عند الترمذي في مناقب علي رضي الله عنه: عن أبي سعيد مرفوعاً: «لا يَحِلُّ لأحدٍ غيري وغيرك أن يُجْنِبَ في المسجد» (بالمعنى) واستغربه الترمذي، وعدَّه ابن الجوزي في الموضوعات. قال الحافظ رضي الله عنه: إن الحديث قوي، وأخرج له متابعات، وقد مرض من قبلُ مفصَّلاً فراجعه.
(الترجيح والجمع عند اختلاف الرواية عن أبي حنيفة)
فائدة: واعلم أن الروايات إذا اختلفت عن إمامنا في مسألة، فعامة مشايخنا يسلكون فيها مسلك الترجيح، فيأخذون بظاهر الرواية ويتركون نادِرَها، وليس بسديد عندي ولا سيما إذا كانت الرواية النادرة تتأيد بالحديث، فإِني أحمله على تلك الرواية، ولا أعبأ بكونها نادرة، فإِنّ الرواية إذا جاءت عن إمامنا رحمه الله تعالى لا بد أن يكون لها عنده دليل من حديث أو غيره، فإِذا وَجَدتُ حديثاً يوافقها أحمَلُه عليها.(2/25)
نعم، الترجيح إنما يناسب بين الأقوال المختلفة عن المشايخ، فإِن التضاد عند اختلاف القائلين معقول، وربما يكون التوفيق بينهما خلافَ منشئهم، وحينئذ لا سبيل إلا إلى الترجيح، بخلاف ما إذا جاء الاختلاف عن قائل واحد، فإِنّ الأَولى فيها الجمع، فإِن الأصل في كلام متكلمٍ واحد أن لا يكون بين كلاميه تضاد، فينبغي بينهما الجمع أوّلاً، إلا أن يترجح خلافه، والأسف أنهم إذا مروا بأحاديث مختلفة يبتغون الجمع بينها عامة، وإذا مروا بروايات عن الإِمام إذا هم برجِّحون ولا يسلكون سبيل الجمع، فالأحب إليَّ الجمع بين الروايات عن الإِمام مهما أمكن، إلا أن يقوم الدليل على خلافه، فاعلمه ولا تعجل.
275 - قوله: (فكبَّر فصلينا معه)... إلخ واعلم أن في تكبيره صلى الله عليه وسلّماختلافاً واضطراباً ذكره أبو داود، فيُعلم من بعض الألفاظ أنه انصرف بعد أن كَبَّر، ومن بعضٍ آخر أنه انصرف قبل أن يكبِّر، فذهب ابن حِبَّان إلى تعدُّد الواقعة، وبعضُهم إلى وَحْدَتِها.(2/26)
قلت: والذي عندي أنَّ الواقعةَ واحدة وهي كما في البخاري، وفيه تصريح أنه لم يكن كَبَّر كما في باب هل يخرج من المسجد لِعِلَّة: «حتى إذا قام في مصلاه أنتظرنا أن يُكَبِّر»، وعند مسلم في باب متى يقوم الناس للصلاة «حتى إذا قام في مُصَلاة قبل أن يكبِّر ذَكَر فانصرف» وما في أبي داود في بعض ألفاظ «كبَّر» معناه: بلغ موضع التكبير، وكذا أن يكبِّر، وهذا التعبير عام، فإِنهم يُعَبِّرون عن القريب من الشيء بالشيء، وذهب البخاري رحمه الله تعالى إلى أن هذه الواقعة بعد التكبير ثم فرَّع عليه مسألة وهي جواز تقدُّم تحريمة المؤتم على تحريمة الإِمام، وهو مروي عن الشافعي رحمه الله تعالى في رواية، ووجه التفريع أن النبي صلى الله عليه وسلّمأعاد تحريمته بعد انصرافه، ولا بد لوقوعها في حالة الحَدَث، والظاهر من حال المقتدين أن تحريمتهم السابقة قد اعتُبِرَتْ واعتُدَّ بها، فلزم تقدُّم تحريمتهم على تحريمة الإِمام.
(رابطة الاقتداء بين الإمام والمأموم)
قلت: وأصل النزاع في رابطة القدوة: وَسَّع فيها الشافعية وَوَسَّعَ البخاري أزيد منهم، ولما كانت تلك الرابطة عندهم ضعيفة جداً تحمَّلوا تلك الاختلافات بأنواعها فيما بين المقتدي وإمامه، فجوَّزوا الاقتداء عند اختلاف الصلاتين ذاتاً وصفةً، ومن هذاالباب تقدُّم التحريمة على تحريمة الإِمام، وعدم سراية فساد صلاة الإِمام إلى صلاة المقتدي، وهذا كلّه لأنهم لم يَرَوْها شديدةً، بخلاف الحنفية، فإِنهم شدَّدوا فيها، ولذا عبّروا عنها بلفظ «التضمن» كما في «الهداية»، فانعكست عندهم التفريعات بأسرها.(2/27)
فالحاصل: أن مسائل القدوة عند الشافعية على خلاف مسائل التضمن عند الحنفية. ولما اختار المصنِّف رحمه الله تعالى مسائلهم على أوسع وجه، ذهب إلى جواز تقدم التحريمة أيضاً، ولعلك علمتَ مما سبق تمسك الإِمام البخاري إنما ينهض إذا سلَّمنا أنه صلى الله عليه وسلّمكان دخل في الصلاة وفرغ عن التكبير، وأن القوم لم يُعيدوا تحريمتهم، وفي كلا الأمرين نَظَرٌ، أما الأول، فقد عَلِمتَ. وأما الثاني، فلأنه روي أنَّ القومَ أعادوا تحريمتهم كما في الدَّارقطني أنهم كبَّروا بعد انصرافه صلى الله عليه وسلّم
على أنَّ المسألةَ عند المصنِّف رحمه الله تعالى أن الإِمام إن كان فرغ عن التكبير يجب على القوم أن لا يزالوا قائمين على هيآتهم، مع أنَّ روايةَ أبي داود صريحةٌ في أنه أمرهم بالجلوس. ففيه: عن محمد رحمه الله تعالى مرفوعاً قال: فكبَّر ثم أومأ إلى القوم أن اجلسوا، فذهب فاغتسل، وكأن هذا الراوي يناقض نفسه عند المصنِّف رحمه لله تعالى، فإِنه يذكر تكبير الإِمام، ومع هذا يقول: إنه أمرهم بالجلوس وهذا يناقض ثبوت التكبير عنده، لأنِّ الجلوسَ عنده فيما إذا لم يكبِّر الإِمام، وعبارة المصنِّف رحمه الله تعالى في بعض النسخ هكذا: «قيل لأبي عبد الله: إن بدا لأحدنا مثلَ هذا يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم قال: فأي شيء يصنع؟ فقيل: ينتظرونه قياماً أو قعوداً، قال: إن كان قبل التكبير فلا بأس أن يقعدوا، وإن كان بعد التكبير ينتظرونه قياماً». وحكى بعض المحدثين عن أبي داود في هذه الواقعة جلوسَ بعضٍ وقيامَ بعض.
ثم اعلم أنه ينبغي للرسول أن نقع له مثل هذه الواقعة مرة أو مرتين لقوله صلى الله عليه وسلّم «إنما أُنَسَّى لأَسُنَّ»، ولكونهم بشراً فينسون كما تَنْسَون، وهذا كمال في حقهم ورحمة في حق أممهم.
باب ُ مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَاناً وَحْدَهُ فِي الخَلوَةِ، وَمَنْ تَسَتَّرَ فَالتَّسَتُّرُ أَفضَل(2/28)
هذه الترجمة إذا كان في الفضاء وأَمِنَ من مرور الناس، وفي مراسيل أبي داود: أنه لو اغتسل في الفضاء فليَخُطَّ حوله خطّاً، لأن هناك أيضاً من عباد الله مَن يُسْتَحَى منهم، فالمطلوب التستر، ولو اغتسل عُرياناً لا يكون معصيةً.
قوله: (الله أحق) يعني أن الله سبحانه وإن كان يعلم سِرَّهم ونجواهم إلا أنه ينبغي أن يُسْتَحْيَى منه مما يُسْتَحْيَى فيما بين الناس، فهذا من الآداب.
278 - قوله: (يغتسلون عُرَاةً) ولعله كان في التِّيْهِ لانعدام العِمَارَات فيها.
278 - قوله: (ثوبي يا حجر) يدل على أن فيه شعوراً، ولكنه من نحو العلم الحضوري فقط.
قوله: (لَنَدبٌ) ترجمتُه في لساننا: ليكين. قلت: وإنما رُئي عليه من ضربه ندباً فقط، لأنه قُدِّر منه تفجُّر الأعين، وإلا لانعدم بضرب موسى، وأَنَّى كان للحجر أن يضربه نبي مغضَباً عليه ثم يبقى موجوداً، ألا ترى أنه وَكَزَ واحداً من أهلهم فقضى عليه، ولطم المَلَك ففقأ عينه، وأشار النبي صلى الله عليه وسلّمبرُمح إلى رجل ناداه في أُحُد يا محمد، وأراد أن يُبَارُزه فخرَّ يَتَدَهْدَه، ودعا بالويل والثُّبُور حتى ماتمُحْرَقاً، ولذا قيل: شر القتلى من قتله نبي، ولذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم القتال.
279 - قوله: (يغتسلُ عرياناً) أي بعد ما صحّ ممَّا ابتُلي به.
279 - قوله: (عما ترى) أي بعد النجاة إلى الآن.(2/29)
279 - قوله: (لا غنى بي عن بركتك) ما ألطفَ جوابَه وأملحه لفظاً، وأعمق معنىً، وأليق شأناً، فهذا لا يمكن إألا ممن اصطفاهم الله لنفسه. ومثله جواب موسى عليه السلام حين ناداه ربه: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} (طه: 21) فجعل موسى يَلُفُّ ثوباً على يده ويَمُدُّ إليها يده ليأخذها، فنُودي أَلا تعتمد علينا قال: بلى، ولكني بَشَرٌ خُلِقْتُ من ضعف. وكجواب إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام قال: {بَلَى وَلَكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} (البقرة: 260) . فهؤلاء الأنبياء عليهم السلام يُلْهَمون جوابَهم من جهته تعالى، وإلا فَمن يتكلم بين يديه إلا من بعد إذنه.
باب ُ التَّسَتُّرِ فِي الغُسْلِ عِنْدَ النَّاس
يعني لا بأس بالغُسل بينهم إذا كانت له سُترة تستره عن أعين الناس.
وحاصل المسألة عندي: أنَّ التسترَ في الفضاء مطلوب ولو بثوب، ولا أقلَّ من خطٍ، وإن لم يفعل وأَمِن المرور لا بأس، أما في المُسْتَحِمّ والمُغْتَسَل - كما في زماننا - فلا بأس بالغُسل عُرياناً.
280 - قوله: (فوجدته يغتسل) وفي الروايات أنَّه صلى ثمان ركعات، وفي ابن ماجه تصريح بكون التسليمتين على كل ركعتين ثم إنها كانت صلاة الضحى أو شكراً للفتح ووافق وقتها فلينظره.
281 - قوله: (تابعه أبو عَوَانَة) هو وَضَّاح بن يَشْكُر (وابن فُضَيل) اسمه: محمد.
باب ُ إِذَا احْتَلَمَتِ المَرْأَة
باب ُ عَرَقِ الجُنُبِ، وَأَنَّ المُسْلِمَ لا يَنْجُس
باب ُ الجُنُبِ يَخْرُجُ وَيَمْشِي فِي السُّوقِ وَغَيرِه(2/30)
وفي «الدر المختار» أن مُدْمِنَ الخمر لو وُجِدَ ريح الخمر من عَرَقه، فثوبه نَجِس. وفي «المبسوط» لمحمد رحمه لله تعالى أن غُسَالة الميت نَجِسة. وحَمَلَه المشايخ على ما اختلط بها نجاسة خارجة منه، بخلاف الكافر، فإنه جِيفة حياً وميتاً، فغُسالته نَجِسَة ولو لم يخرج منه شيء. وظني أنَّ المصنَّف رحمه الله تعالى ذهب إلى نجاسة بَدَنِ الكافر، ونُسِب إلى مالك رحمه الله تعالى أيضاً، واختاره الحسن البصري أيضاً، فلو غَمَسَ يدَه في الماء يصير نجساً، كما ذكره العيني، فكأنه أسوأ من الخنزير أيضاً حيث سؤره طاهر عند مالك في رواية، وهو ظاهر القرآن، فإنه قال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التوبة: 28) ... إلخ.
واعلم أن النَّجَس في اللغة: ما كان نَجِساً في ذاته كَعَذِرَةِ الإنسان وبوله، لا ما اختلطت به النجاسة. وعلى هذا لا ينبغي أن يُطلق النَّجَس على الثوب النَّجِس، بل يقال فيه: إنه متنجّس، لأن أهل اللغة لا يتعارفون إلا ما كان نَجَسَاً عندهم، وهو ما يكون متقذِّراً طبعاً، أما ما يكون نَجِساً بعد حكم الفقهاء، فإنه بمعزِل عن أنظارهم، ولذا لم يضعوا له لفظاً، ولمّا لم يكن عندهم لفظ موضوع لهذا النوع من النَّجَس اضطر الفقهاء إلى التوسيع في هذا اللفظ، فاستعملوه في النَّجَسِ والمُتَنَجِّس أيضاً، وأما أصل اللغة فكما قلنا.
وحينئذ ظهر معنى ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه: أن المؤمن لا يَنْجُس حياً وميتاً. ورَفْعُه معلول، وقد مرَّ عليه الوزير محمد بن إبراهيم فقال: لا يصح إطلاقه على المؤمن لا حقيقة ولا مجازاً، وهذا الفاضل زَيديٌّ، وعندهم أحاديث أهل السنة أيضاً حجةٌ، والحافظ رحمه الله تعالى لما جاء إلى الحج أجازه أيضاً في الحديدة كما ذكره في «الدُّرَر الكامنة».(2/31)
وقد مرّ أيضاً أن قوله صلى الله عليه وسلّم «إن الماء طَهورٌ لا ينجِّسُه شيء»، حمله الشيخ ابن الهُمَام على الماء الخاص، وأخذ اللام للعهد، وقيَّده الطحاوي بقوله: «كما زعمتم»، كما قَيَّد في سؤر الهرة، وانكشف بهذا التحقيق أنه ليس بنَجَسٍ حال كون النجاسة فيه أيضاً، فإن له صورةَ التطهير بإخراج النجاسة ونَزْحِ البئر، فماء الآبار ليس بنَجَس، ولكنه متنجِّس، إلا أنه لمّا كَثُر في الفقه إطلاق النَّجَس على المتنجِّس غُفِل عن هذا الإطلاق حتى لا يَسبقَ إليه ذهن أحد، وعليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}.
واعلم أنَّ في الآية حكمين: الأول: بنجاسة الكافر، والثاني: بحرمة دخولهم في المسجد الحرام. وقد علمتَ مذهب مالك رحمه الله تعالى في الجملة الأولى، وأما في الجملة الثانية فإنَّه قال: إن الكافرَ لا يدخل المسجد الحرام ولا غيرَه، مع أنه ثبت في أحاديث الصحيحين وغيرهما دخولهم في المسجد، ومرّ عليه القاضي أبو بكر بن العربي المالكي وقال: إن تلك الوقائعَ كلَّها قبل عامهم هذا، وإنما النهي فيما بعد عامهم هذا، ثم إن النَّصَ وإن خَصَّصَ المسجد الحرام بالذِّكر لكنه عَمَّم الحكم بالتعليل فقال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فالنهي عن دخولهم لكونهم أنجاساً، فيشمل المساجد كلها ولا يختص بمسجد دون مسجد.
وأما الشافعية، فلم أر عنهم شيئاً في نجاسة المشرك، وصرَّحوا أن الكافر لا يدخل المسجد الحرام، فوافقوا مالكاً رضي الله عنه في الحكم، وخالفوه في التعميم.(2/32)
وأما الحنفية فإنهم قالوا: إنَّ المشركَ ليس بنَجَسٍ، وله أن يَدخل المسجدَ الحرام وغيرَه، كما في «الجامع الصغير»، فأشكلتْ عليهم الآية. قلت: وفي «السِّيَر الكبير» أنَّه لا يدخل المسجد الحرام عندنا أيضاً، كما هو ظاهر النص، واختاره في «الدر المختار» لأن «السِّيَر» آخر تصانيف محمد رضي الله عنه.
بقي الكلام في الجملة الأُولى بعدُ، فأُجيب عنها أنَّ المرادَ من النجاسة نجاسةُ الشِّرْك دون نجاسة البدن، وهو كما ترى. فإن النجاسة وإن كانت نجاسة الشرك لكن الحكم أن لا يقربوا المسجد الحرام، والجواب حينئذ كما في «الكشاف» أن المراد من عدم القرب نهيهم عن الحج والعمرة فقط، كما في الصحيحين وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلّمبعد نزولها بعث أبا بكرٍ أميراً، وعليّاً رضي الله عنهما لينادي في الناس أن لا يَحُجَّ البيتَ عُريان ولا مشركٌ، فاستُفِيد منه أن الغرض من النهي هو منعهم عن الحج والعمرة، وفيه نظر بعدُ، لأنه يجري البحث في أنه هل يجوز ترك لفظ القرآن بعد ما انكشف الغرض أم لا؟ والذي يظهر أن ترك تعبير القرآن بحيث لا يبقى له حكمٌ وأَثَرٌ عسيرٌ جداً، وإنما يتوسع بمثله في الأحاديث لفُشوِّ الرواية بالمعنى، وأما في القرآن فإنه مشكل، ولا سيما إذا كانت المناسبة بين الجملتين ظاهرة كما هو هنا.
فإنه حكم في القطعة الأولى بكونهم أنجاساً، ثم فَرَّع عليه أن لا يقربوا، فهذان الحكمان يرتبطان جداً لما ظهر أثر اللفظ في الحكم أيضاً، ولذا اخترتُ رواية «السِّيَر الكبير» بأن دخولهم في المسجد الحرام غير جائز، وأن النجاسة فيهم أزيد من نجاسة الشِّرك، أما دخولهم في سائر المساجد فالأمر فيه موسَّع، لأن الأصوليين قالوا: إن العموم إنما يكون في الآحاد لا في الأزمنة والأمكنة، وإن ذهب إليه جماعة أيضاً، إلا أن المختار عندي أن العموم في الأفراد والآحاد فَحَسْب، لأن الأحوال والأزمنة والأمكنة ليست موضوعاً لها ليشملها اللفظ.(2/33)
وعلى هذا فالنجاسة عندي محمولة على ما هو المعروف لا على نجاسة الشِّرك، ومع هذا يقتصر النهي على المسجد الحرام، لأنه ليس من ضرورة العموم في الأفراد العموم في الأمكنة أيضاً ليعمَّ النهي سائر المساجد، وعُلِم من هذا الاختلاف أن العموم في الأفراد قويٌّ، وأما في الأمكنة وغيرها فضعيف، حتى أنكره بعضهم كما علمتَ.
وهكذا يعلم من كتبنا أنهم اعتبروا نجاستهم فوق نجاسة الشرك ففي «البدائع» عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في البئر سقط فيه كافر ثم أُخرج حياً أنه يُنْزَح كله، وكذا لو أسلم الكافر يجب عليه الغُسل في رواية، كذا في «الذخيرة» عن الحسن بن زياد، فدلّ على أن نجاسة هؤلاء أزيدُ من نجاسة الشِّرْك، إلا أنه لا يُدرى أنه إلى أين تجري وأين تُكَفُّ. وأجاب ابن رُشْد عن الإشكال المذكور: أن إطلاق النَّجَس عليهم أُجْرِي مجرى الذَّمِّ، فالله سبحانه وتعالى بالغ في ذمهم ونزَّلهم منزلةَ النَّجَس، لا أنهم أنجاسٌ حقيقةً، فلا يَرِدُ عليه شيء.
والحاصل: أن ههنا أربعة أجوبة:
الأول: أنَّ المراد من النجاسة نجاسة الشِّرك، وهذا لا ينفع في المسألة الثانية لصراحة الحكم بعدم القُرْبِ، على أنه حُمِل اللفظ على الغير المعروف، والمعروف هو النجاسة المتعارَفة التي تتقذرها الطبائع، ثم إنه لا يرتبط بالمسائل، لأن ما في الفقه يدلُّ على أن نجاستهم فوق نجاسة الشرك، لتعلق بعض أحكام النجاسة بأبدانهم أيضاً. نعم، إن اخترنا رواية «الجامع الصغير» فله وجه ونفاذ.
والثاني: أنَّ المرادَ من النجاسة هي التي تُعُورِفت عندهم مع التزام النهي عن دخولهم في المسجد الحرام، كما في رواية «السير الكبير».(2/34)
والثالث: أن المراد من النهي عن القُرْبِ هو الحج والعمرة دون الدخول مطلقاً، وفيه أنه يلزم عليه تركُ تعبير القرآن رأساً، وهو مُشكل ولا سيما إذا اتضحت المناسبة بين القرينين، فإن الحكم بالنجاسة يدلّ على أن الغرض عدم دخولهم مطلقاً دون المنع عن الحج والعمرة فقط.
والرابع: أن اللفظ النَّجَس أُخْرِج مخرج الذَّم، وما يُساق لأجل الذم أو المدح لا يُعتبر فيه اللفظ، ويكون المراد هو المعنى فقط، فكذلك فيما نحن فيه، لما أطلق عليهم النَّجَس ذَمّاً وشناعة لهم لا يجري عليهم ما يجري على النَّجَس حقيقة.
قوله: (سبحان الله) وفي النظم لابن وَهْبَان ما معناه: أن إخراج تلك الكلمات عن موضوعها ليس بصحيح. قلت: ورأيت كثيراً ما يُخْرِجونها عن موضوعها كما ترى ههنا، فإنها وإن وُضِعَتْ للتسبيح لكنه مستعمل في التعجب.
باب ُ كَينُونَةِ الجُنُبِ فِي البَيتِ إِذَا تَوَضَّأ
باب ُ نَوْمِ الجُنُب
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى عند الطحاوي أنه لا بأس بنوم الجُنُب من غير أن يتوضأ لأن التوضؤ لا يخرجه من حال الجنابة إلى حال الطهارة، وعندهما يتوضأ ثم ينام، لِمَا في «تنوير الحوالك» من «معجم الطبراني»: «أن ملائكة الرحمة لا تَحْضُر جنازة الجُنُب»، فهو ضرر عظيم، ويدور النظر فيما يشتمل المقام على الضرر مع عدم ورود الوعيد والنهي صراحةً، فينظر بعضهم إلى المعنى فيذهب إلى الوجوب، كما في «شرح المنهاج»: أن التسمية واجبةٌ عند الأكل عند الشافعي رحمه الله تعالى في رواية، وكالتسمية قبل الوضوء عند البخاري، فإن الشيطان يشترك في كل أمرٍ لم يُبْدَأ باسم الله ويمحق بركته، وهذه مَضَرَّةٌ عظيمة.
ويَنظر بعضهم إلى اللفظ، فإن كان ورد فيه الأمر أو النهي يقول به، وإلا لا، والظاهر أن الوجوب والحُرمة تدور على الخطاب دون المعنى كما مرّ مفصلاً.(2/35)
أقول: ولم يثبت عندي نومه صلى الله عليه وسلّمفي حالة الجنابة إلا بالغسل أو الوضوء، وثبت التيمم أيضاً كما في «المصنَّف» لابن أبي شَيبة، كما في «الفتح»، وفي «البحر»: أن التيمم فيما لا تُشترط فيه الطهارة صحيح مع وجدان الماء أيضاً، وهو مختار جماعة، وهو الصحيح عندي، وما رواه أبو إسحاق عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها في نومه صلى الله عليه وسلّمفي حالة الجنابة، فقد بَيَّنَه الطحاوي مفصَّلاً، وبَعْدَه لا يبقى فيه ما يُخَالفنا بشيء.a
فساق أولاً حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّمإذا رَجَعَ من المسجد صلى ما شاء الله ثم مال إلى فراشه وإلى أهله، فإن كانت له حاجة قضاها، ثم ينام كهيئته ولا يَمَسّ الماء»، ثم قال الطحاوي: إنه حديث مختصر اختصره أبو إسحاق من حديث طويل فأخطأ في اختصاره إياه.
والحديث الطويل ما رواه فهد: حدثنا أبو غسان حدثنا أبو إسحاق قال: أتيت الأسود بن يزيد، وكان لي أخاً وصديقاً، فقلت: يا أبا عمرو حَدِّثْني ما حدَّثَتْكَ عائشة رضي الله تعالى عنها أمُّ المؤمنين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ينامُ أوَّلَ الليل ويُحيى آخره، ثم إن كانت له حاجة قضى حاجته، ثم ينام قبل أن يَمَسَّ ماء، فإذا كان عند النداء الأول وَثَبَ»، وما قالت: نام فأفاض عليه الماء، وما قالت: اغتسل، وأنا أعلم ما تريد، «وإن كان جُنُباً توضأ وضوء الرجل للصلاة»، فصرح في هذا الحديث الطويل أنه إن أرادّ أن ينام وهو جُنُب توضأ وضوءه للصَّلاة، وأما قولها: «ولم يمسَّ ماء». فالمراد منه الماء الذي للغُسل، لا على الوضوء، لِمَا رواه غير إسحاق عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمإذا أراد أن ينام أو يأكل وهو جُنُب يتوضأ»، وهكذا روي عن الأسود من رأيه وهكذا رواه مسلم إلا أن في آخره جملة تناقضه وهي: «وإن لم يكن جُنُباً توضأ وضوءه للصلاة»، ولم يتعرض إليه أحد.(2/36)
ويمكن أن يوفَّق بينهما أنّ ما في الطحاوي فهو حالُهُ في أول الليل، وما عند مسلم، فهو حالُه في آخر الليل، أي: إن كان جُنُباً في آخر الليل اغتسل، وإن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة، وأشار محمد رحمه الله تعالى إلى ما ذكره الطحاوي. نعم كَشَفَه الطحاوي، ثم إني تتبعتُ إلى زمان لأَعْلَم أن مأخذ كلام الطحاوي ما هو؟ فبان لي بعد الفحص البالغ أن أصله يكون من محمد رحمه الله تعالى، ثم الطحاوي يُفَصِّله. قال محمد رحمه الله تعالى في «مُوَطَّئه»: هذا الحديث أوفقُ بالناس.
باب ُ الجُنُبِ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَنَام
288 - قوله: (غسل فرجه وتوضأ للصلاة) اختصر فيه الراوي اختصاراً مُخِلاًّ، والمراد توضأ وضوءه للصلاة، وانكشف ههنا أن غَسْلَ الذَّكَرِ والوضوء كله مطلوب في الحالة الراهنة، وأنه من أحكام الجنابة كما مَرَّ مراراً، فلا بد للمشتغل بالفقه أن يراعيَ الأحاديث ويمارسها ويزاولها، لأن في الشرع أحكاماً خَمَلَتْ في الفقه. فإن قلت: إذا كان مقلداً فلا حاجة له إلى النظر في الأحاديث، ويكفي له قول إمامه الذي يُقَلِّده. قلت: كلا بل لا يتحتَّم التقليد إلا بعد المراجعة إليها، فإنه إذا يمرُّ على الأحاديث والمسائل، ويرى مأخذها، يستقر رأيه، ويطمئن قلبه لا محالة، ويقلد من يقلد بعد ثَلْجِ الصَّدْرِ، كما حررناه من قبلُ، ومن كان تقليده تقليدَ الأعمى، فإنه على رِجْلِ طائر.
باب إِذَا التَقَى الخِتَانَان
باب غَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنْ رُطُوبَةِ فَرْجِ المَرْأَة(2/37)
واعلم أنه ذهب جماعة إلى إنكار النسخ في هذا الباب رأساً، وأن الأمر الآن كما كان يُوهمه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه عند الترمذي من قوله: «إنما الماء من الماء في الاحتلام»، وقد مر معنا تحقيقه في المقدمة وأنه ثبت فيه النسخ البتة، وأنه ينبغي أن يُؤَوَّلَ قول ابن عباس رضي الله عنه. وكذلك ما أخرجه البخاري عن عثمان: «أن الرجل إذا جامع امرأته ولم يُمْنِ يتوضأ وضوءه للصلاة، ويغسل ذكره». يُحْمَل على (أنه كان) قَبْلَ جمع عمر رضي الله عنه إياهم وإجماعهم على وجوب الغُسْل بمجاوزة الخِتَانَين.
فقد أخرج الطحاوي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّمتذاكروا عند عمر بن الخطاب الغُسْلَ من الجنابة، فقال بعضهم: «إذا جاوز الخِتَان الختانَ فقد وَجَبَ الغُسْل»، وقال بعضهم: «إنما الماء من الماء»، فقال عمر رضي الله عنه: «قد اختلفتم عليَّ وأنتم أهل بدر الأخيار؟ فكيف بالناس بعدكم؟ فقال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين إن أردتَ أن تَعْلَم ذلك فأرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلّمفسلهنَّ عن ذلك، فأرسل إلى عائشة رضي الله عنها، فقالت: إذا جاوز الخِتَانُ الخِتَانَ فقد وَجَبَ الغُسْل، فقال عمر رضي الله عنه عند ذلك: لا أسمعُ أحداً يقول: الماء من الماء إلا جعلته نَكَالاً».(2/38)
قال الطحاوي: فهذا عمر رضي الله عنه قد حمل الناس على هذا بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يُنْكِر ذلك عليه مُنْكِر. قلت وهذا أصرح شيء. وأقواه في أن الأمر كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وأن حديث: «الماء من الماء» منسوخ، ومع ذلك يتسلسل النقل عن عثمان أنه كان يختار حديث: «الماء من الماء» فالذي ينبغي أن نحمله عليه أنه كان قبل إجماع أهل الحَلِّ والعَقْد، وأما بعده فلا ينبغي تلك النسبة إليه كما وقع في «الفتح» ولذا عَدَّه الترمذي فيمن أوجبوا الغُسل بالمجاوزة. وأخرج الطحاوي أيضاً قال: اجتمع المهاجرون: أنه ما أوجبَ الحدَّ من الجلد والرَّجْم أوجبَ الغُسل: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فعدَّ عثمان رضي الله عنه أيضاً منهم.
وعبارة المصنَّف رحمه الله تعالى مع التكرار في الموضعين تُوهِم أنه ذهب إلى إيجاب الغُسل من الإنزال دون المجاوزة، ولذا أَلانَ في الكلام فقال مرة: الغُسْلُ أحوط، وأخرى: الماء أنقى، ويمكن أن يُؤَوَّل قوله: أنَّ الأحوط لا ينحصر في الاستحباب بل يُطْلَق على الواجب أيضاً عند تعارض الدليلين، يعني إذا تعارض الدليلان فاخترتَ الوجوب احتياطاً مثلاً، صَدَقَ قولُك إنك اخترت الأحوط على الواجب أيضاً. وأما إذا حُمِلَ قوله على الحكم، أي حكم الغسل أحوط، يعني: الأحوط له أن يغتسل، وإن لم يغتسلْ لا بأس، لأن الواجب فيه الوضوء لا غير، فحينئذ لا يكون لقوله وجهٌ، ويخالف الإجماع.
(2/39)
قلت: وإن فرضنا أنه أَلانَ الكلامَ واختار استحبابَ الغُسل، فلعله أوَّلَ قولَه صلى الله عليه وسلّم «إذا جاوز الخِتانُ الختانَ» أنه كناية عن الإنزال لخروج الماء بعدها في الأغلب، وحينئذ لا يكون الحديث المذكور عنده صريحاً في إيجاب الغُسل بالمجاوزة فقط، وإذا لم يَقُمْ عنده دليل على إيجاب الغُسل بمجرَّد المجاوزة أَلانَ في الكلام وقال: الغُسْل أحوط. ولذا لما أراد أن يُخَرِّج حديثاً يدلُّ على عدم وجوب الغسل بالمجاوزة بَوَّب عليه كما سيأتي: «باب غَسْلِ ما يُصِيب من فَرْجِ المرأة»، ونَظَرُه إلى إخراج الأحاديث كما ترى، إلا أنه أراد أن لا يُفْصِح بمراده احتياطاً، ولكنه وَجَّه الناظرين إليه فقط، فإن الموضع مُشْكِل، فأراد أن يُخَرِّج مادتَه من الأحاديث ومن أسماء الصحابة الذين ذهبوا إليه، ويشير إليه فقط ولا يتكلم بشيء.
ثم وإن رُوي عند مسلم في هذا الحديث: «وإن لم يُنْزِل» صراحةً لكنه ليس على شرطه ليكون عليه حِجَّة، وما كان على شرطه يَصْلُح أن يُجعل كناية عن الإنزال مع نقل الاختلاف فيه. فهذا وجه ما ذهب إليه البخاري واختيارُه لو كان اختاره. والله أعلم بالصواب.
والحاصل: أنَّ المسألةَ منفصلة، وإنما ذكرته بحثاً فقط ليظهر وجه ما للبخاري مع ورود هذه الصرائح في الباب.
كتاب الحَيض(2/40)
والحيض دم معروف حَدَّده فقهاؤنا، ولا تحديد في الخارج، وإنما يختلف باختلاف الأمصار والأعصار، ولذا ذهب مالك رحمه الله تعالى إلى أنَّه أمكن أن يكون ساعةً أيضاً، وإنما وَقَّتَه في باب العدة فقط، ولم يَرِد في هذا الباب من المرفوع شيء ولو بإسناد ضعيف، ومَرَّ عليه الزيلعي رحمه الله تعالى في تخريج الهداية، فلم يأت إلا بالمناكير - وهو رفيق للحافظ زين الدين العراقي رحمه الله تعالى، وكان يصنِّف في هذه الأيام تخريج الإحياء والزيلعي رحمه الله تعالى «تخريج الهدية»، وكان يرافق أحدُهما الآخر، فإذا ظَفِر أحدُهما بحديث نادر أرسله إلى الآخر ليستفيد منه في تصنيفه، وظني أن الزيلعي رحمه الله تعالى أحفظُ من الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى. وقد صنف الحافظ رحمه الله تعالى «فتح الباري» في اثنين وعشرين سنة، وصنَّف العيني رحمه الله تعالى «عمدة القاري» في عشرة سنين - وصرح ابن العربي رحمه الله تعالى أنه لا توقيت فيه.
وكنتُ أتمنى أن أرى مثلَه من قلم حنفي أيضاً إلا أني مع التتبع الكثير لم أرَ أحداً صرَّح به، ثم ذكر ابن العربي رحمه الله تعالى أنه صنف رسالةً مستقلة في هذا الباب، إلا أنها ضاعت منه في سفر فلم يقدر على جمعها ثانياً. أما في هذا العصر فلا توجد غير رسالة البِرْكِلي وهو معاصر لصاحب «الدر المختار»، إلا أنها لاشتمالها على الأغلاط قد انقطعت الفائدة منها، لأن المصنِّف رحمه الله تعالى ذكر في خُطبتها أنه جمع هذه الرسالة من كتب مملوءة بالأغلاط، فاجتهد في تصحيحها، ومع ذلك بقيت فيها أغلاط كثيرة.(2/41)
وقد راجعت تلك الرسالة فوجدتُ فيها أغلاطاً كثيرة، وشرحها ابن عابدين واتَّبَعَ الماتن، فاحتوى شرحه أيضاً على الأغلاط. ونِعْمَ ما فعله المالكية حيث وقَّتوه في باب العِدَّة، أما في معاملة بيتها وصلاتها وصيامها، فاعتبروا فيها رأيَها وفَوَّضوها إليه. والحاصل: أن دم الحيض غير موقت شرعاً وعرفاً، وليت الحنفية كتبوا مثله ولكن:
*ما كلُّ ما يتمنَّى المرءُ يُدْرِكُه ** تأتي الرِّياح بما لا تشتهي السُّفُنُ(توقيت مدة الحمل)
وهكذا الأمر في توقيت مُدَّة الحَمْل، فإنها أيضاً غير مُوَقَّتة، فقد تمتد إلى عشرة سنين لأجل المرض، مع أن فقهاءنا صرَّحوا أن أكثر مدة الحمل سنتان، ولم يكتب أحدٌ منهم أنها مدة طَبْعِيَّة. وأما بالعوارض فيمكن أن تزيد عليها، فلو كتبوه لاسترحنا.
وكان ينبغي للفقهاء أن يرجعوا إلى الأطباء. في مثل هذه الأمور، فإنّ لكل فنَ رجالاً، ثم إنه تحديد اجتهادي لا تحديد شرعي، والأصل فيما لم يَرِد فيه التعديد أن يرسل على حيالها ولا يقدَّر كما في أصول الفقه: أن نصب الحدود والمقادير لا يجوز بالقياس. ومرادهم من الحدود والمقادير كأعداد الرَّكَعَات ونحوها دون الحدود التي هي زواجر أو سواتر على اختلاف الرأيين، وعليه جرى السَّرخسِي رحمه الله تعالى في تحديد العمل الكثير والقليل، والماء القليل والكثير، ففوَّضه إلى رأي المبتَلَى به، وهكذا فعل في أَجَلِ السَّلَم وتعريف اللُّقَطَة، فأحاله على رأي المبتَلَى به، وإن حدده أصحابُ المتون.
(2/42)
ثم الأصل وإن كان هو التفويض إلا أنَّ نظامَ العالَم لا يستوي إلا بالتقدير، فإن كثيراً من العوام ليس لهم رأي، ولا ينفع فيهم التفويض أصلاً، فيحتاج إلى التحديد لا محالة، فالتحديد من المجتهد فيما لم يَرِدْ به الشرع إنما هو لقضاء حوائج الناس، كما قالوا في مسألة الطُّهْر: إنه لا حدَّ لأكثره، ومع ذلك حدَّوده عند نَصْبِ العادة في زمن الاستمرار، وفي هذه المسألة ستة أقوال لمشايخنا. والمختار عندي أنها تخرج من عدتها في ثلاثة أشهر، ويُحْسَبُ شهرُها عن طُهر وطَمْثٍ، وهكذا في ممتدة الطهر حيث ليس لها حيلة على مذهبنا إلا بالتربُّص ثلاثة قروء، ولا شك أنه مُعْتَضِد بالنص، فإنها مطلَّقة، وهذه عدتها بالنص إلا أن طُهرها إذا امتدَّ وضاق عليها أمرها لجأنا إلى الإفتاء بمذهب مالك رحمه الله تعالى.
فكما أنهم اضطروا إلى التحديد في هذه المواضع لئلا تتعطل عن حوائجها، كذلك اضطروا إلى تحديد أقل الحيض وأكثره، وإن لم يتوقَّت في الخارج.
والحاصل: أن المجتهد في هذا التحديد مجبور ومأجور، بل أُهَنِّؤُهُم عليه حيث أخرجوا مخرجاً وسبيلاً للخلائق، وخلصوهم عن المضائق، ولعلك ما نسيتَ ما كنتُ ألقيتُ عليك في كتاب العلم أنَّ الحديثَ أيضاً قد يحتاج إلى الفقه في بعض المَلاحِظ، وهي أمثال هذه، فإنه لا يكفي لك فيها الاقتصار على الحديث، ولا يسع لك قطع النظر عن الفقه. فالفقه لا يتم بدون الحديث، لأن المرء إذا مرَّ بالحديث، وجال نظره فيه، وفَهِمَ مداركه ومعانيه، استقر على الفقه وسكن قلبه، حيث لم يجده رأياً محضاً غيرَ مستنِدٍ إلى دليل سماوي، وكذلك الحديث لا يستقرّ مراده ولا ينقطع محتملاتُه بدون المراجعة إلى أقوال الفقهاء ومذاهب الأئمة. فإذا ادَّراها وأمعن النظر فيها تبيَّن له الوجوه، ولم يبق له فيما سواها مساغ.(2/43)
فالفقه محتاج إلى الحديث في نفسه، والحديث محتاج إليه للعمل، وهكذا القرآن يبقى معلَّقاً بدون الرجوع إلى ألفاظ الحديث، وأعني بالتعليق أنَّ النظر لا يزال يتردد فيه، ولا يَقْنَع بشيء، حتى إذا رجع إلى الحديث استقر وسكن. وهذا لأن اللغة لم تتكفل إلا ببيان المعاني الموضوعة له دون مراد المتكلِّم، وهو ربما يتعسَّر تحصيلُه في كلام الناس، فكيف بالكلام المُعْجِز؟ والكلام كلما ارتفع تحمَّل الوجوه واحتمل المعاني، ولذا قال تعالى: {ولقد يَسَّرْنَا القرآنَ للذِّكْرِ فهل من مُذَّكِر} (القمر: 32) وهذا أمر وراء التيسير، فالقرآن يسير ومع ذلك عسير، انقضَّ به ظهر الفحول، ومعنى يُسْرِه قد بَّينَاه.
ثم إنَّ الأمرَ إن كان كما سمعت آنفاً من أنه لا تحديد فيه لا في الخارج ولا في الحديث، وإنما التحديد فيه ضرورة بالاجتهاد، فأبو حنيفة رحمه الله تعالى أَسْبَقُ فيه من الكل، وعنده في ذلك إشارات وعبارات من النصوص، كما في حديث أخرجه الترمذي في خُطبة النبي صلى الله عليه وسلّمفي أبواب الإيمان وفيها: «فتمكث إحدَاكُنَّ الثلاث والأربع لا تصلي». اه. وتمسَّك به الطحاوي في «مشكله». وما عند ابن ماجه وفيه زيادة: وفي الخارج أن النبي صلى الله عليه وسلّملم يكن يُضَاجِعُهُنَّ إلى ثلاثة أيام، ثم يُضَاجِعُهُنَّ بعد أن تَتَّزِرْنَ. وهذه كلها تنزل على مذهبنا لأنه لم ينزل فيه عن الثلاث.(2/44)
ولنا أثر أنس رضي الله عنه صححه في «الجوهر النقي» وإن تأخر عنه البيهقي، وأثر عثمان بن العاص عند الدارقطني. وأورد علينا الشافعية أن الشهر إذا لم يَخْلُ عن طُهْرِ وطَمْثٍ، وتَكَرُّر الطَّمْثِ في الشهر نادرٌ، فيلزم على مذهبكم أن لا يستقيم الحساب، فإن أقلَّ الطُّهر خمسةَ عشرَ اتفاقاً بيننا وبينكم، فلو كان الطَّمْثُ أكثرُه عشرةَ أيام، يلزم أن يبقى خمسة أيام من الشهر مهملاً غير معدود في الطمث ولا في الطهر، بخلافه على مذهبنا حيث قسمنا الشهر عليهما، فجعلنا النِّصف للطَّمْثِ والنصف الآخر للطُّهر.
أقول: أما أولاً: فعن الإمام كما في «النهاية»: أن أكثره عشرة، وأقل الطهر عشرون يوماً، فيستقيم الحساب على مذهبنا أيضاً. وأما ثانياً: فلأن أقلَّ الطهر ليس عندنا خمسة عشر يوماً مطلقاً، بل هو عشرون يوماً في بعض الصور، كما في المُسْتَحاضة المبتدَأة، فيستقيم الحساب ولو في الجملة. وأما ثالثاً: فلأن تكرُّرَ الطهر وإن كان نادراً إلا أنه ليس معدوماً محضاً، فينبغي النظر إليه أيضاً. وفي «المواهب اللَّدنية» إسناداً: «أن الله سبحانه لما أهبط حواء أخبرها أنها تَحْمِل كُرْهاً وتضع كُرْهاً» وفي آخره: «ولأُدْمِيَتَّها في شهرٍ مرتين»، ومع هذا ذهبوا إلى أن التكرار نادر، وفي إسناده سُنَيْد، وهو من القدماء ومفسِّر للقرآن. وهذه الرواية عند ابن كثير أيضاً إلا أنه ليست في آخره تلك الزيادة، وحينئذ يمكن أن يكون بناؤه على تكرر الحيض وإن كان نادراً.(2/45)
ثم إنهم تمسكوا من قوله تعالى: {واللائي يَئِسْنَ من المَحِيضِ فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثةُ أشهر} (الطلاق: 4) حيث حسب فيه الشهر عن طهر وطَمْث، وإذا كان أقلُّ الطهر خمسةَ عشرَ بالاتفاق، فالباقي للطمث لا محالة، وهو خمسة عشر، وبناؤه على تكرر الطمث بعيد لأنه نادر. قلت: نعم بناؤه ليس على التكرر، إلا أنَّا علمنا من عاداتهن أن طهرهن في الشهر يكون أغلب من الطمث غالباً، كما في حديث حَمْنَة، حيث عَدّ طمثها ستة أو سبعة، وهكذا هو المعروف في عادات النساء أن طهرهن يكون غالباً على أيام حيضهن. ولمّا كانت عاداتهن مختلفة جمع القرآن الحيضَ والطهر في الشهر تخميناً.
قوله: (فلا تَقْرَبُوهُنَّ) واعلم أنه قد مرَّ مراراً أن أنظار الأئمة ربما تختلف في أخذ مراتب الآية، فيأخذ واحد مرتبتها العليا وآخر مرتبتها السفلى، ويتحير فيه الناظر، فيزعم أن هذا وافقها وهذا خالفها، والأمر أنهم يَتَحَرَّون العمل بها أجمعون، ويجتهدون فيها بما يستطيعون، إلا أنه تختلف أنظارهم في المراتب، والأصوليون وإن بحثوا عن العموم والخصوص والإطلاق والتقييد، ولكنهم لم يبحثوا في مراتب الشيء وكان لا بد منه فقالوا: إن العموم والخصوص يجري في الأفراد والآحاد، والإطلاق يكون في التقادير وأوصاف الشيء، والمراتب بمعزل عنهما.(2/46)
وظاهر الآية الأمر بالاعتزال مطلقاً، وهو عين ما كان يفعله اليهود، ووجه التفصِّي عنه أن في الاعتزال مراتبَ وهي مجملة فصَّلها الحديث، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلّمبعد نزولها افعلوا كل شيء إلا النكاح، فمن حاملٍ حَمَلَها على الجماع والاتقاء عن موضع الطَّمْثِ خاصةً، ومن حَاملٍ حَمَلَها على الاستمتاع بما دون السُّرَّة إلى الركبة، لأن حريم الشيء في حكمه، فجعل موضع النجاسة وما يتبعها في حكمٍ واحدٍ، وكلاهما نوعٌ من الاعتزال ومرتبةٌ منه. أما أن المراد في النص أيُّ قدرٍ منه وأيُّ مرتبة، فالله ورسوله أعلم. وسيجيء تحقيق المسألة في بابه.
قوله: (يَطْهُرْنَ) قُرِىء بالتخفيف والتشديد، والحنفية يَعُدُّون القراآت كالآيات المستقلة، فيأخدون منها أحكاماً، فحملوا قراءة التشديد على تصرُّم الدم لأقل من العشرة، لأن التَّطَهُّر تَفَعُّل، بمعنى تحصيل الطهارة من فعله وهو الغسل، وحملوا قراءة التخفيف على تصرُّم الدم على العشرة، فإنَّ طَهُرَ لازمٌ، فيحصل الطهور بأمر سماوي بدون صنعه. قالوا: إنه يجامعها في الصورة الأولى بعد الاغتسال، لأن الدم ينقطع مرة ويَدُرُّ أخرى، فيحتمل العَوْد، فلا بد أن يعتضد الانقطاع بالاغتسال، بخلاف الصورة الثانية، فإنه إذا انقطع على أكثر مدته فلا خشية لعوده، وتطهر حساً فيجوز الجماع بدون الاغتسال.(2/47)
قيل: إن أبا حنيفة رحمه الله تعالى تفرَّد في إباحة الجماع بلا غُسل، لأن القرآن يدلّ على أن الإتيان إنما يُبَاح له بعد الاغتسال فقال: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} (البقرة: 222) أي اغتسلن {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قلت: والجماع وإن كان جائزاً بدون الاغتسال لكنه يُستحبُّ لها أن تغتسل ثم يجامعها زوجها، ويجب الغُسل للصلاة إجماعاً، فإنها غير طاهرة حكماً، وإن طَهُرَتْ حساً. وحينئذٍ جاز لي أن أقول: إن المراد من التطهر في النص هو التطهُّر بنَحْوَيْهِ. ومعنى قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي وجوباً تارةً واستحباباً أخرى {فَأْتُوهُنَّ}... إلخ، وذلك عندي واسع في اللغة ولا بدع عندي في إدخال مسمًّى واحد وحقيقة واحدة تحت لفظ، وإن اختلفت صفاته من الخارج، كالاستحباب والوجوب، فإن هاتين صفتان تَعْرِضان للحقيقة من الخارج مع بقائها في الصورتين. فإن الصلاة حقيقةٌ واحدة ولا اختلاف في حقيقتها بين الفريضة والنافلة، فإنهما صفتان لها بالنظر إلى لُحُوق الأمر وعدمه، وحينئذ لا ضَيْرَ في إدخال النوعين تحت لفظ واحد، وقد فصَّلناه في رسالتنا «فصل الخطاب» بما لا مزيد عليه.
وبالجملةِ الأقربُ عندي أن القرآن إذا لم يتعرض إلى أقلّ الحيض وأكثره - كما كان غير متعين في الخارج - فلا يُبنى الأحكام على أقله وأكثره. فالذي ينبغي أن يُشترط الغُسل للجماع ولا بُدَّ. نعم إن قام دليل للمجتهد من الخارج على أنَّ الدم لا يتجاوز عن العشرة، فله أن يُجيز به قبل الاغتسال لطهارتها حساً، ولكن المستحسن للقرآن هو الإطلاق، لأنه ينزل بما هو مطلوب، وللمجتهد هو التفصيل، لأنه يبحث عن الفروع.a
وتفصيله أنَّ القرآنَ عَلَّق الإتيان بالأمرين:
الأول: هو الطهارة الحسية، وهو المشار إليه بقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}.(2/48)
والثاني: الاغتسال، وهو المذكور بقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}. وكأنَّ أصل الكلام هكذا: فإذا طَهُرْنَ وتَطَهَّرْنَ فأتوهن من حيث... إلخ. وإنما حُذِف أحدُ الفعلين اختصاراً لدلالة ما قبله عليه، وإنما راعى الأمرين لأن من عادة النساء أنهن لا يَطْمَأننَّ في أنفسهن في طُهورهن ما دُمنَ لم يغتسلن، ولا يزال يبقى لهن التردد في عَوْدِ الدم، وإن كان انقطع على عادتهن، فإذا اغتسلن فيطمئن قلبهن، فكما أن الطمأنينة في الخارج لم تحصل لهن إلا بعد الطُّهْر السماوي والاختياري كليهما، كذلك القرآن أخذ مجموع الأمرين على وَفْقِ ما في الخارج.
فهذا الذي مشى عليه القرآن، يعني على الإبهام والإجمال بدون عناية إلى تفصيل بين الأقل والأكثر، وبدون تفصيل في البناء عليهما. ثم جاء المجتهد وقسم هذين الأمرين وقال: إن الدم إن تَصَرَّم لأكثر مدته فالدخيل في أمر جماعها هو الطهارة السماوية فقط، فيباح له الجماع بمجرَّد انقطاعه وإن تَصَرَّم لأقل منه فالدخيل هو الطهارة الاختيارية، أي الاغتسال، فلا يجوز الجماع إلا بعده، فينبغي للقرآن الإطلاق في صورة الإطلاق وتفويض إلى الاجتهاد. فإن القرآن أطلق في الاغتسال لأنه لم يتعرض إلى الأقل والأكثر لعدم تعيينه في الخارج، فإن عَلِم المجتهد من تحرِبته أنَّ الدمَّ لا يتجاوز عن العشرة، فله أن يُخْصِّص هذا الجزئي من اجتهاده لا بحكم النص. وهذا معنى صحيح لا يخالفه النص أصلاً. نعم لو قلنا: إن القرآن شرط الاغتسال فيما تصرم الدم على الأكثر أيضاً لخالفه وناقضه البتة، ولكنك سمعتَ آنفاً أن القرآن لم يُومِ إليه أصلاً، وإنما جاء على عادتهن في الخارج من اعتبار الأمرين.(2/49)
وهناك أمر آخر يُعْلَم من كتاب «الناسخ والمنسوخ» عن الطحاوي أنَّ الفرقَ بين العَشَرة وبين ما دونها إنما نُقِلَ عن الإمام الأعظم رحمه الله تعالى في حق الرَّجْعَةِ خاصةً، فالمطلَّقة إذا انقطع دمها لأقلَّ من العشرة، وأدركت وقتَ الاغتسال والتحريمة انقطع حق الرجعة عنها، وليس للزوج أن يراجعها بعدمضيِّ القُرْءِ الثالث إذا انقطع لأقلها في الصورة المذكورة. فهذا الفرق إنما كان في حق الرجعة خاصة، ثم انتقل إلى الصلاة وغيرها أيضاً، ولا ريب أن الطحاوي أعلم بمذهب أبي حنيفة رحمة الله تعالى لأنه تحصَّل فقهه بثلاث وسائط، فكان ينبغي أن يُعْتَمَد عليها، ولكني لا أعتمد على تلك النسخة لاشتهار المذهب بخلافه، نعم إن ثبت من طريق معتبرة فيكون له وجه.
ثم إنهم قالوا: إنه إذا انقطع دمها لأقل من عشرة أيام لم يَحِلَّ وطؤها حتى تغتسل، ولو لم تغتسل ومضى عليها أدنى وقت الصلاة بقَدْرِ أن تقدر على الاغتسال والتحريمة حَلَّ وطؤها. وهذا يُشْعِر بأن مدة الغُسْل عندهم معدودة في زمان الحيض، ومثله ما قالوا في باب الرَّجْعَة: أن دمها إذا انقطع لعشرة أيام انقطعت الرجعة وإن لم تغتسل، وإن انقطع لأقلَّ منها لم تنقطع الرجعة حتى تغتسل، أو يمضيَ عليها وقت صلاة كاملة. قلت: وإنما أخذوه من هذه الآية: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} فإنه اعتُبِرَتْ فيها مدة التطهر من زمان الحيض وأُبيح الجماع بعده، إلا أنهم لا يُفْصِحون بأن مسائلهم تلك مأخوذة من القرآن، فعليك أن تتفكر فيه لينجلي لك الحال.(2/50)
ومن ههنا اندفع ما عرض لابن رُشْد من عدم الارتباط بين الغاية والاستئناف، فقال: إن مَثَلَهُ كمثل قولنا: لا أُعطيك درهماً حتى تدخل بيتي، فإذا دخلت المسجد فلك كذا. فالغاية غايرت الاستئناف وكذا الاستئناف يغايرها، والصحيح من الكلام أن يقال: فإذا دخلت بيتي... إلخ، لاتحادهما فيه. وحاصل الجواب: أن معنى قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}... إلخ أي حتى يَطَّهَّرْنَ ويَطْهُرْنَ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} وطَهُرْنَ {فإتوهن من حيث أمركم ا} فأخذ أحد الفعلين من المعطوف عليه، وحذف مقابله من المعطوف ليكون ذكر الآخر قرينة على حذفه من المعطوف عليه، فحصل الارتباط في غايته. والجواب الثاني أن قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} لا يتعلق عندي بالغاية بل يتعلق بصدر الكلام أي {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} إلخ. ويقال له الطَّرْدُ والعكس في مصطلحهم فاعلمه.
باب كَيفَ كَانَ بَدْءُ الحَيضِ، وَقَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلّم«هذا شَيءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ»
باب الأمر بالنساء إذا نُفِسْن
باب غَسْلِ الحَائِضِ رَأْسَ زَوْجِهَا وَتَرْجِيلِه(2/51)
يعني به بَدْءَ هذا الجنس، وأنه كيف ظَهَرَ في الدنيا من كَتْمِ العدم، ولا يختص بأول أمره فقط كما مرَّ مفصّلاً في شرح قوله: بَدْءِ الوحي. وفي رواية قوية: «أنَّ نساء بني إسرائيل كُنَّ يذهبن إلى المساجد فأخذن في التشوُّف إلى الرجال، فمُنِعْنَ عن المساجد، فأُلقي عليهن الحيض عقوبةً لهن». وعُلِم منه أن منع النساء عن المساجد سُنَّةٌ ماضية، والبخاري لم يُبَالِ بهذا الحديث، وأخذ من قوله: «هذا شيء كتبه الله على بنات آدم» أنه من الابتداء وليس بدؤه من بني إسرائيل، ولم يوفِّق بينهما أن بدأه وإن كان من بدء الزمان إلا أنه أُلقي على بني إسرائيل قهراً، فزِيد فيهن شيئاً نِقمةً. والله تعالى أعلم.
294 - قوله: (سرف) هذه قصة حَجَّة الوداع، وأنا أبكي لمخافة فوات الحج.
294 - قوله: (أنُفِسْتِ) قيل: المجهول في الولادة والمعروف في الحيض، وقيل: لا فرق بينهما.
294 - قوله: (غير أن لا تطوفي) إلخ. والسعي يترتب على الطواف فلا تسعى أيضاً.
294 - قوله: (وضحى) وحمله محمد رحمه الله تعالى في «الموطأ» على دم التمتع، لأنهن كن متمتعاتٍ، والراوي لا يَبحث عن المعاني الفقهية ولا يراعيها، وإنما يرى صلوح اللغة فقط.
قوله: (بالبقر) قيل: الأزواج تِسعاً فكيف جاز عنهن بقراً؟ ولقائل أن يقول: إنه اسم جنس يجوز إطلاقه على البقرتين أيضاً، وعند النسائي: «بقرة» بتاء الوَحْدَة. قلت: وحينئذ غرض الراوي بيان الشركة في البقرة بدون التعرض إلى جميعهن أو بعضهن، فلا يَردِ أنه ثبت شركة جميعهن برواية النسائي. وهذا كالأَلِف واللام للجنس والاستغراق، فإن معنى قوله: الحمد لله على الأول أنَّ جنسَ الحمد لله لا لغير الله، فمحطُّ الفائدة في جانب الخبر بخلافه في الثاني، فإنه يكون في المبتدأ، ويكون الإيجاب والسلب فيه، يعني: جميع أفراد الحمد لله تعالى دون بعضه، فلم تظهر فائدته في جانب الخبر، وقد بينَّا الفرق بينهما تفصيلاً في المقدمة.(2/52)
واتفق أهل اللغة أن التاء في أسماء البهائم للوَحْدَة دون التأنيث، لكن الأولى في إرجاع الضمير أن يراعى اللفظ أيضاً. وفي «الكشاف»: أن قَتَادة لما ورد الكوفة دعا الناس أن يسألوه عما هم سائلوه، وكان أبو حنيفة رضي الله عنه إذا ذاك صغيراً، فقام وقال: إن نملَة سليمان كانت ذكراً أم أُنثى؟ فسكت، فقال أبو حنيفة رحمه الله: إنها كانت أنثى لقوله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ} (النمل: 18).
قلت: تأنيث الفعل فيه لأَجْلِ اللفظ فقط، فلم يلزم كونها أنثى، ولم أجد أحداً من النُّحَاة يوافق الإمام في تلك المسألة غير ابن السِّكِّيت.
296 - قوله: (الحائض) قال الزَّمَخْشَري: إنه بدون التاء للسِّنّ، وبها لمن كانت تحيض في الحالة الراهنة، وهكذا الحامل والمُرضِع.
296 - قوله: (مجاور) أي معتكف، وهذه لغة مختصة بأهل المدينة.
باب قِرَاءَةِ الرَّجُلِ فِي حَجْرِ امْرَأَتِهِ وَهيَ حَائِض
هكذا المسألة عندنا، وفي «قاضيخان»: أنه يُكْرَه قراءة القرآن عند الجنازة قبل الغُسل وحوالَي النجاسة، وليس هكذا في الحائض، فإن نجاستها مستورة تحت الثياب.
قوله: (فتُمْسِكُهُ بعِلاقَته) والمسألة عندنا أن ثوب اللابس في حكم اللابس، والذي على القرآن فهو في حكمه، فيجوز مَسُّه من ثوب منفصل أو غلاف منفصل إذ لم يكن مُشَرَّزاً. فهذه المسائل أقرب إلى مذهب الحنفية. وفي إسناده الفَضْل بن دُكَين، وهو اسم أبو نُعَيم، وقد وقع في إسناد مسلم أبو نُعَيم فقط، فلم يَعْرِفْهُ بعضُ الطلبة، وهو الفَضْل بنُ دُكَيْن كما في إسناد البخاري فاعلمه.
5 - باب مَنْ سَمَّى النِّفَاسَ حَيضاً(2/53)
قال الشارحون: إنَّ المرادَ منه مجرَّد بيان جواز إطلاق الحيض على النِّفاس وبالعكس، ولمَّا وَرَدَ في الحديث إطلاق النِّفاس على الحيض استفاد منه المصنِّف رحمه الله تعالى أنه يصح إطلاق الحيض على النفاس أيضاً، وإلا فالظاهر في الترجمة أن تكون: «مَن سمَّى الحيضَ نفاساً» لِمَا في الحديث من إطلاق النفاس على الحيض دون العكس. وقيل: إن في الترجمة تقديماً وتأخيراً، فالنِّفَاس مفعول ثان وحيضاً مفعول أول، وكان أصل العبارة هكذا: «من سمى حيضاً النفاس» كما في الحديث. قلت: وهل يجوز أن يكون المفعول الأول نكرة والثاني معرفة؟ فقيل: نعم كما في «حاشية المغني»:
*كأنَّ سبيئةً من بيت رأس ** يكون مَزَاحَها عسلٌ وماءُ وأقول: إن المصنِّف رحمه الله تعالى لا يريد بيانَ اللغة فقط، بل يريد أن النِّفاس هو دم الحيض، خرج بعد انفتاح فَمِ الرَّحِم، لأن الحامل إنما لا تَحيض لانسداد فم الرحم، فإذا خرج الولد انفتح فمه وتنفس بالدم، فالنِّفاس هو دم الحيض كان مِحْتَبَساً في الرحم لأجل المانع فإذا زال المانع دَرّ دُفعةً، وتلافى الطبعُ ما فاته، كما ترى في النوم، فإنك إذا سَهِرْتَ أو أَرْقْتَ يوماً، ثم غلب عليك النوم، فربما تنام أزيدَ مما كنتَ تعتاده تلافياً لما فات.
وذكر بعضهم نُكتة وهي: أن الدم إنما يصير غذاء للولد بعد أربعة أشهر، وبحساب عشرة في كل شهر يحصل أربعون يوماً، وهو أكثر مدة النفاس. ويتفرَّع على هذا التحقيق أنَّ الحامل لا تحيض، وإليه تُشير قواعد الشرع، لأنها لو كانت تحيض كما ذهب إليه الشافعي ينبغي أن ينعدم من الشرع باب الاستبراء، فإن الشرع جعل الطَّمْثَ أمارة لبراءة الرحم، وإذا أمكن الحيض من الحامل أيضاً لم يَبْقَ أمارة للبراءة، فيلزم أن ينعدم هذا الباب رأساً.
(2/54)
قلت: وقد تحقق عندي أن الحامل أيضاً تحيض إلا أنه لا ينبغي أن يعتبره الشرع لِنَدْرَتِه وقِلّة وقوعه جداً. ثم من العجائب أن العُلُوق عند الفقهاء لا يكون إلا واحداً، كما قالوا في التوأمين، ويمكن العلوق على العلوق عند جالينوس، فكان ينبغي للفقهاء أن يستشيروا في هذه الأمور الأطباء، لأنهم أعلم بموضوعهم، ولكل فن رجال. وإنما تنبهت لهذا الشرح مما علقه ابن بَطَّال على الترجمة الآتية: «قول الله عز وجل: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}» (الحج: 5) فإنه فَهِم منها أن دم الحيض إذا صار غذاءً للولد فكيف تحيض الحامل، ولذا قال: إن غرض البخاري بإدخال هذا الحديث في باب الحيض تقوية مذهب من يقول إن الحامل لا تحيض، فمن ههنا انتقل ذهني إلى أنَّ المرادَ من هذه الترجمة أيضاً هو التقوية لمذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما عَلِمْتَ تقريره.
قوله: (ثِيَابَ حَيضتي) ويُستفاد منه أنَّ النساءَ كُنَّ يُعْدِدْنَ الثياب لحيضهن أيضاً، وكانت ثيابهن لعامة الأحوال على حِدَةٍ.
باب مُبَاشَرَةِ الحَائِض(2/55)
ذهب محمد وأحمد رضي الله عنهما إلى أنه يُتَّقى موضعُ الدم فقط، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي رضي الله عنهم بالاجتناب عما دون السرَّة إلى الركبة، وهو ظاهر النص {فَاعْتَزِلُواْ النّسَآء فِي الْمَحِيضِ} يعني هو أصدق وأكثر تناولاً لمراتبه على مذهبنا، وهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي عامة الأحاديث كما عند أبي داود: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّمكان يأمرهن بالاتِّزَار ثم يُبَاشِرُهُنّ». أما ما رواه أبو داود في حديث أنَّه قال: «ادِني مني، فقلت: إني حائض، فقال: وإن، اكشفي عن فخذيكِ، فكشفتُ فخذيّ، فوضع خَدَّه وصدره على فخذي وحَنَيْتُ عليه حتى دفىء ونام». فإسناده ضعيف على أنَّ المراد من الكشف هو الكشف عن الثوب الزائد، ولا يتعين في الكشف عن البدن، وبه أجاب النبي صلى الله عليه وسلّمسائلاً حين سأله عما يَحِلّ له من زوجته فقال: «لك ما فوق الإزار». رواه ابن ماجه بإسناد حسن. وهو الأحوط، وهو غير خفي.
أما قوله: «اصنعوا كلَّ شيء إلا النكاح» عند مسلم فيخصَّص عمومه لهذه الأدلة، ويبقى شيوعُه فيما سوى تحت الإزار، لأن عموم الكل في هذا الموضع عموم غير مقصود، والعموم إذا كان غير مقصود فهو ضعيف جداً كالعموم في قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء} (النمل: 23) مع أنها لم تكن أُوتِيَتْ من شيء واحد كله، فكيف بكل شيء، أو يقال: إنه كناية عن الاستمتاع بما تحت الإزار، وإن كان صريحاً في النكاح.
باب تَرْكِ الحَائِض الصَّوْم(2/56)
وفيه خلاف الخوارج، وليس عِدَادهم في أهل السنة لِيُعْتَدَّ بخلافهم، ونُقِل في الحكايات أن حواء عليها السلام أُمِرَتْ أن لا تصلَى في أيام حيضها، فقاستِ الصومَ عليها، فعُوتبت وأُوجب عليها قضاؤه. ولم أره روايةً، نعم رأيت أنها إذ دَمِيَتْ بعد نزولها في الدنيا سألتْ آدم عليه السلام عنه، فأُوحي إليه أنه عتاب. وعندي هذا العتاب مخصوص بهذه الدار مَن ينزل فيها يُعَاتَب هذا العتاب، ويُبتلى به، ومن يتركها مهاجراً إلى الله ويصعد إلى مأواه يخلص منه، كما أن آدم عليه السلام حين أكل الحَبَّة وأحس بحاجة الغائط نُودي أن اهبط منها، فإنها ليست بموضع الألواث، واذهب إلى مكان فيه ذلك. ولم يكن يعلم قبلَه عورتَه، فاطلع عليها بعده، وأشا القرآن إليهما. ثم الفرق بين قضاء الصلوات والصيام كما هو مذكور في «الهداية».
واعلم أنَّ الطهارةَ شرط للصلاة عند عامتهم، وكذا صرحوا في الحج أن الطهارة في المناسك واجبة في بعضها وسنة في بعضها، كسَتْرِ العورة، فإنه وإن كان فرضاً في الخارج وفي عامة الأحوال إلا أنه من شرائط الصلاة وواجبات الحج، فاتفقوا في اعتبار الطهارة في العبادتين.
قلت: وقد تبين لي أنها معتبرَة في الصيام أيضاً، ولم يُنَبِّه عليه أحد، فالعبادات كلها لا تتكامل إلا بالطهارة، ومن أدخل فيها نقيصةً انتقصت عبادته، وعليه قوله صلى الله عليه وسلّمفي الجُنُب «لا صوم له»، وفي المُحْتَجِم: «أفطر الحاجم والمحجوم». ثم لا يخفى عليك أن هذه النقيصة في النظر المعنوي دون نظر الفقيه، فإنه يقتصر على أحكام الدنيا كالغِيبة في الصوم، فإنه إفطار معنًى، لأنها أكل اللحم معنى، وإن لم يكن حسباً. والحاصل: أنَّ الحدثَ كما ينافي الصلاة كذلك ينافي الصيام أيضاً، وإن كان فرقٌ بين جهتي المنافاة.
باب تَقْضِي الحَائِضُ المَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلا الطَّوَافَ بِالبَيت(2/57)
أباح المصنِّف رحمه الله تعالى للحائض والجُنُب أن يقرآ القرآن.
قوله: (وقال إبراهيم) وهو النَّخَعِي، وفي قراءة الآية خلاف بين الكرخي والطحاوي، وهما معاصران، وأظن أن الطحاوي كان شيخاً وهذا شَارِخاً إذ ذاك، فذهب الطحاوي إلى إباحة القراءة بما دون الآية لهما، ومنع عنها الكرخي مطلقاً.
قلت: ولعلَّ نظر الطحاوي أن التحدي لمَّا لم يقع إلا بالآية، فالإعجاز يكون فيها، بخلاف المفردات، فإنها مستعمَلَة فيما بينهم أيضاً، فلا إعجاز فيها، ولذا لم يقع التحدي بها. على أنّا لو منعنا عنها يلزم الحَجْر عن التكلم، لأن مفرداتِ القرآن ومفردات كلامهم سواسية. وهذه حقيقة عظيمة راعاها الطحاوي ونَبَّه عليها، حيث دل على أن ما دون الآية ومفرداتها لا يسمى قرآنا، ولا يكون له حكمه، فيجوز قراءته ومَسّه، ولو لم يدلَّ عليه لبقينا في حيرة ولم نَدْرِ أن ما دون الآية قرآن أم لا. والذي يَسبِق إلى الذهن في الظاهر أن مجموعَه قرآنٌ بما فيه، فيكون كل لفظ قرآناً، ويُشْكِل الأمر، فَنَبَّه على أن القرآن لا يُطْلَق على ما دون الآية بل يقال له: إنه من القرآن وجُزء منه، وهو معنى ما في «المشكاة».
فَضَّل فيه القرآن على الأذكار مع أنَّ جُلَّ الأذكار جزء من القرآن، فجعلها من كلام الله ولم يجعلها كلامَ الله بعينه، فدلَّ على أنَّ الإعجاز في قيام هيئة الآية. وتلك الكلمات لمّا لم تكن آيةً كاملة لم تكن معجزة، فلم تكن كلام الله، بل من كلام الله فانحطت درجتها عنه.(2/58)
وعندنا تفصيلٌ آخرُ أيضاً، وهو: أن قراءة الآية إن كانت بطريق التلاوة لا يجوز، وإن كانت بطريق الذِّكْر فيجوز. ثم اختُلِف في اشتراط اشتمالها على مضمون الذِّكر وعدمه، ثم إن المصنِّف رحمه الله تعالى أخرج قِطعة من قصة عبد الله بن رَوَاحة في صلاة الليل، وهي مفصَّلة عند الدارقطني، وفيها دليل على أنَّ الجُنُب ليس له أن يقرأ القرآن، «فإن زوجتَه رأتهُ يطأ جاريةً له، فغارت عليها، فوجدته نائماً، فجلست على صدره وهددته بالقتل، فقال ابن رَوَاحة: ما جامعتُها، فجعل يقرأ أشعاراً يُرِيها كأنه يقرأ قرآناً، ولم تكن قارئةً، فحسِبته قرآناً وأرسلته»، فدلّ على أنَّ القرآن كان ممنوعاً على الجنب عندهم بحيث كان يعلمه مَن قرأ ومن لم يقرأ.
قوله: (ولم يَرَ ابن عباس رضي الله عنه) ... إلخ. ولنا أحاديثُ مرفوعةٌ أخرجها أصحاب السنن.
قوله: (وكان النبي صلى الله عليه وسلّميذكر الله على كل أحيانه) وشَرَحَهُ بعضهم أن المراد من الذِّكر هو الذكر القلبي، وليس بسديد عندي، فإنه لا يُقال له ذِكر لغةً، إنما هو فِكرٌ، والذي يعرفه أهل اللغة هو الذكر باللسان، جهراً كان أو سراً، والمراد عندي أنه كان يذكر الله في كل أحيانه المتواردة، لأن حال الإنسان على نحوين: حاله المتشابه، والثاني: المتوارد، أعني به كالقيام من القعود وبالعكس، ودخوله في المسجد والخروج منه، وكذا دخوله في السوق والبيت والخلاء، والخروج منها، وإيواؤه إلى فراشه ونومه ويقظته وغير ذلك.(2/59)
فإذا كان حاله من نوع واحد فهو حال متشابه، وإذا نواردت عليه الأحوال واحداً بعد واحد فهي الأحوال المتوارِدة، فالمراد من أحيانه وأحواله هي تلك الأحيان والأحوال، وأذكارها مبسوطة في كتب الحديث، وقد أُفرِد لها بالتصنيف أيضاً؛ وإلا فيُشْكِل على الإنسان تصوره وإمكانه، فإن من الأحيان دخولَه في الخلاء ومنها أوانُ تكلمه من غير الذكر، فكيف يَصْدُق أنه كان يذكر في كل أحيانه، فإنه يستلزم أن يكون معطلاً عن سائر الأفعال سواه. وتبيَّن مما قلنا أن أذكارها كانت مبسوطةً ومنسحبة على الأحوال المتواردة كما يُعْلَم بالمراجعة إلى حال الأدعية مع كونه ذاكراً في عامة الأحوال المتشابهة أيضاً، أو يقال معنى قوله: «كان يذكر الله» أي لم يكون ممنوعاً عنه.
قوله: (ويدعون) واعلم أنَّه لا دعاء بعد صلاة العيدين، لأنَّ المطلوب ههنا اتصال الصلاة ولخُطبة، ولا ينفع فيه التمسك بالإطلاقات، وإنما يَسُوغ التمسك من الإطلاقات فيما لم تكن له مادة في خصوص المقام، وصلاته تلك لم تزل إلى تسع سنين، ولم يَنْقُل أحدٌ فيها الدعاء بعدها، فلا يصح فيها التسمك بالإطلاقات: كرفع اليدين في تكبيرات العيدين ثبت في الأحاديث في خصوص هذه الصلاة، فالتمسك على كراهته بقوله: «مالي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيلِ شمس» باطل، وكالجمع في عَرَفَة والمُزْدَلِفة، فإنه ثابت بأدلته، والتمسك بما يخالفه على نفيه باطل، وأمثلته غير قليلة.k
قوله: (فإذا فيه)... إلخ. وكتابة آية إلى كافر واسعة عندنا أيضاً.
قوله: (وقال الحكم) وفي «الهداية» في باب الأذان: أن الطهارة تُستحبُّ لكل ذِكرٍ، وذهب صاحب «البحر» إلى أن التيمم لمّا لم تُشْتَرَط له الطهارة مفيد مع وجدان الماء أيضاً، كتيممه صلى الله عليه وسلّملردِّ السلام في رواية أبي الجُهَيم.(2/60)
قوله: (ولا تأكلوا)... إلخ. وفيه حكاية وهي أن الشافعية رحمهم الله تعالى أقاموا حفلة في زمن ابن سُرَيج الشافعي رحمه الله تعالى وتناجَوا من قبلُ أن يَسأل فيه سائل عن مسألة المُصَرَّاة لتظهر سخافة مذهب الحنفية، ففعل، فأجابه ابن سُرَيج أن فيها خلافاً بين أبي حنيفة رحمه الله تعالى وبين النبي صلى الله عليه وسلّم فأقام الحنفية بعدها حفلة أخرى لجوابهم وتناجَوا مثلهم لمثله، فسأل فيها سائل عن متروك التسمية عامداً، فقام رجل وقال: فيه خلافٌ بين الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وبين رَبِّ العزة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
باب الاسْتِحَاضَة
واشتقاقه من الحيض، فكيف يمكن أن يكون بينهما فرقٌ لغةً، وإنما يقولون: استُحِيضتْ المرأة إذا غلب عليها الدم، ثم الفقهاء يجعلون منه حيضاً واستحاضة على حسب أحكامهم، والحديثُ يُحْمَل على اللغة دون العُرْف الحادِث. ثم إن الفرق بين دم الحيض والاستحاضة عسيرٌ جداً لا يمكن من حُذَّاقِ الأطباء أيضاً، فلا بد أن يُتَوَسَّع في الأحكام.
ثم إن الدِّعامة في هذا الباب عنوانان: الأول: عِدَّة الأيام والليالي، والثاني: الإقبال والإدبار، والأول أقربُ إلى نظر الحنفية، لأنه إحالة على عادته بدون تعرض ألى الألوان، والثاني أقربُ إلى الشافعية لإيمائه إلى التمييز بالألوان. واستفدتُ من «سنن البيهقي» أنَّ المحدثين أيضاً فَهِمُوا بينهما فرقاً ولذا يُغَلِّطون الرواةَ إذا تفرَّد أحدُهم بذكر أحد العنوانَين مكان الآخر، وعليه مشى أبو داود في كتابه فبوَّب مرةً بمَن قال: تدعُ الصلاةَ في عدة الأيام التي كانت تحيضهن، وأخرى: إذا أقبلت الحيضةُ تدعُ الصلاة. ومن ذكر منهم أحدَهما مكان الآخر نُسِب إلى الوَهَم، ولم أدرِ من كتاب البخاري أنه راعى هذا الفرق أم لا.(2/61)
أقول: أما الرواة فإنهم لا يفرقون بينهما حتى إنهم يذكرون أحدهما مكان الآخر كما مرّ في «صحيح البخاري». نعم ذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في «الأم» إلى الفرق بينهما، ثم إنه وإن مرَّ مني أن العنوان الأول أقرب لمذهب الحنفية لكنه ما تبيَّن آخراً - وأن الإنصاف خيرُ الأوصاف - أنَّ محطَّ هذا العنوان ليس إلغاءَ مسألة التمييز أو اعتبار مسألة العادة، بل هو بيان المقدار يعني أنه فوَّض التردُّدَ في عدد أيام الحيض إلى أيام عادتها، فلتعتبرها على عادتها ستة أو سبعة، فالتفويض إلى العادة لهذا لا لإلغاء مسألة التمييز. وقد مرَّ الكلام فيه مفصلاً في كتاب الغُسل، وإنما ذكرناه ثانياً لبعض المغايرة وبعض الفوائد. راجع «الجوهر النقي».
باب غَسْلِ دَمِ المَحِيض
وأجمعت الأُمَّة على نجاسته، ومع ذلك استعمل فيه لفظ النَّضْحِ، فليَتَبَّه.
307 - قوله: (سألتِ امرأةٌ) واختُلِف في اسمها.
باب الاعْتِكَافِ لِلمُسْتَحَاضَة
وفي فقهنا أنَّ المرأةَ تعتكف في مسجد بيتها لا في مسجد الجماعة.
قلت: والمراد به بيان الأَولى كما في «البدائع» لأنه قد ثبت اعتكاف بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلّمفي مسجده، ولكنه صلى الله عليه وسلّملم يرضَ به، بل أمر مرةً بتقويضِ خِيَمِهِنَّ وقال: «آلبِرَّ يُّردن».(2/62)
فالحاصل: أنه لم يُرَغِّبْهُنَّ في ذلك، فإن فعلنَ من عند أنفسهن لم يَنْهَ صراحةً على شأن خاطرهن، فكأنه رضًى مع الكراهة، كما في النهي عن حضورهن في الجماعة، فما في «الدرّ المختار» من لفظ الكراهة محمول على التنزيه عندي، ولا أجترىء أن أحكم على أمر ثبت في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلّمأنه مكروهٌ تحريماً، والعَجَب من السيوطي حيث قال في «حاشية النسائي»: إن ارتكاب الكراهة تحريماً جائز للنبي صلى الله عليه وسلّملأنه شارع، فيكون ثواباً في حقه قلت: والذي علمناه أن ارتكابه معصيةٌ باتفاق بيننا وبين الشافعية، فلا أدري ماذا أراد به وراجع كلام ابن رُشْد لتنقيح المذاهب في مسألة الباب.
فائدة: كتب المَقْبِلي أنَّ النَّاسَ سلكوا في الحنفية مسلك التعصُّب، والمَقْبِلي عالم جيد من علماء اليمن.
309 - قوله: (العصفر) ترجمته كسمبه، ويَنْبت في الكشمير فيصير زعفران، وينبت الزعفران في الهند فيصير عُصْفُراً.
باب هَل تُصَلِّي المَرْأَةُ فِي ثَوْبٍ حَاضَتْ فِيه
باب الطِّيبِ لِلمَرْأَةِ عَنْدَ غُسْلِهَا مِنَ المَحِيض
313 - قوله: (أن تحد على ميت...) وهكذا أجاز محمد رحمه الله تعالى الحِدَاد لغير الزوج أيضاً إلى ثلاثة أيام، والإحداد عندنا للمطلَّقة أيضاً، ولم يوافقنا فيه غير إبراهيم النَّخَعِي.(2/63)
313 - قوله: (ثوب عَصْبٍ) وقد اختُلف في تفسيره بفقدانه في زماننا، وراجع «معجم البلدان» للحَمَوي الحنفي في ذكر مخاليف اليمن، والمشهور أنه ثوب تُتَّخَذ من (كلاوه)، وأجازه مالك إن لم يكن رفيعاً وثميناً، ومنعه الحنفية والشافعية كما نقله النووي، ونَسَب إلى أحمد الجواز. وفي «فتح القدير» عن «كافي الحاكم» أن القصب مكروه، ولا يُدْرَى أنه تصحيفُ عَصْبٍ أو المسألة فيه؟ ثم لم أزل أتفكَّر في مناط الاستثناء أنه كونه رخيصاً ومحقَّراً، أو كونه مروّجاً فيهن.
وسياق الحديث يدل على أنه كان محقراً عندهم، ولذا أُبيح في الإحداد، وما فَسَّر به عامةُ الناس يُشْعِر بكونه ثميناً، ووجهه أنه لم يتنقَّح عندهم المناط حتى إن ابنَ القيِّم مرَّ عليه ولم يكتب شيئاً شافياً، والذي يظهر لي أن ثوب العَصْب ثميناً كان أو رخيصاً، خشناً كان أو رقيقاً، إنما أُبيح لهنّ في الإحداد لأنه كان هو لباسهن إذ ذاك، فلو مُنِعْنَ عنه أيضاً لضاق الأمر عليهن لقلة الثياب إذ ذلك، فكأنه من باب اختلاف عصر وزمان لا دليل وبرهان. ثم إن عند النسائي: «ولا ثوب عَصْب» بدل الاستثناء في هذا الحديث بعينه، فانعكس المراد، ولا أعلم أيهما أصح. والله تعالى أعلم. ويمكن أن يكون تصحيف «إلا» حرف الاستثناء.
313 - قوله: (كست) قيل: هو كد ويقال: له القُسْط، يوجد في بلاد الكشمير والصين.
313 - قوله: (أظفار) وفي نسخة: «ظَفَار» قرية في أطراف البحرين، وإن كانت النسخة «الأظفار» فهو نوع طيب كان النساء يجعلنه على هيأة الظفر، وترجمته نك.
باب دَلْكِ المَرْأَةِ نَفسَهَا إِذَا تَطَهَّرَتْ مِنَ المَحِيضِ،
وَكَيفَ تَغْتَسِلُ، وَتأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَتَتَّبِعُ بها أَثَرَ الدَّمِ
والدَّلك شرط عند مالك كما علمتَ، ولا شك في كونه مطلوباً عندنا أيضا
قوله: (فِرْصَة) أون كى جتيا.(2/64)
314 - قوله: (مُمَسَّكَة) قيل: من المِسْك، وقيل: من المَسْك بمعنى الجِلْد، قرىء مُمْسِكَة من الإمساك، وعلى الأوَّلَين يَرِد اعتراض الاشتقاق. راجعه في مواضعه.
قوله: (فتطهري بها) فإن كان مُمَسَّكَة من المِسْك فوجه الإشكال أن المِسْكَ لا يُتَطَهَّرُ به، بل يُتَطَيَّب به، فلم تفهم معنى التطهر بالمِسك، وإن كان من المَسْك بالفتح، فوجه الإشكال عدم درايتها طريق التطهر، حتى جذبتها عائشة رضي الله عنها وعلَّمتها.
باب غُسْلِ المَحِيض
315 - قوله: (توضئي) من الوَضَاءة فهو ههنا على اللغة، فالوُضوء أمرٌ شرعي، والطهاة أمرٌ حسي اعتبرها الشارع وضوءاً لأجل الوضاءة.
باب امْتِشَاطِ المَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنَ المَحِيض
316 - قوله: (فكُنت ممن تمتع ولم يَسُقِ الهدي) واعلم أنَّ النبيَ صلى الله عليه وسلّملمَّا خرج للحج نادى به في الناس، وكانت العمرة في أشهر الحج في زمن الجاهلية من أفجر الفجور، فأهلَّ أكثرهم بالحج، ثم لمَّا أراد النبي صلى الله عليه وسلّمأن يُعَلِّمهم أن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة أمرهم برفض إحرام الحج وجعله عمرةً، فمن لم يكن عنده هديٌ رفض الحجَّ وصار متمتعاً بغير سَوْق الهدي، أما من كان عندهم هدي فلم يرفضوا إحرامهم لمكان الهدي، ومن ههنا علمتَ أن لا خلاف بين من قال: لا نرى إلا الحج، وبين من ذكر التمتع.(2/65)
ثم المسألة عندنا أن المتمتع يجمع بين العمرة والحج، بأن يأتي أفعال العمرة أولاً ثم يأتي بأفعال الحج، فإن كان غيرَ سائقٍ الهديَ يَحِلّ بعد عمرته ويُحْرِم بالحج يوم التروية، وإلا يبقى محرماً ثم يُحْرِم بالحج يوم التروية. واختُلف في عائشة رضي الله عنها أنها كانت قارنة أو مُفْرِدة؟ فقال الحنفية: إنها كانت أحرمت بالعمرة أولاً كما في الرواية الآتية: «وكنتُ ممن أَهلَّ بعمرة» ثم إذا حاضت ولم تَطْهُر حتى قَرُبَ الوقوف رفضتها وأحرمت بالحج، وصارت مفرِدةً ثم اعتمرت بعد الفراغ عن الحج مكان عمرتها التي كانت رفضتها.
316 - قوله: (امتشطي) من المَشْط يقال: سَرَّح الشعر أي خَلَّص بعضَه عن بعض، ورَجَّلَه أي جعله مستقيماً حتى لا يبقى فيه الجُعُودة، ويقال امتشطت المرأة شعرها أي مشطتها بالمُشْط وهذا صريح في أنها كانت رفضت عمرتها، وأوَّله الشافعيةُ بأن المراد منه الامتشاط بالرِّفق لئلا تنقض الأشعار، ولا ينافى الإحرام، وهو كما ترى، فكأن النبي صلى الله عليه وسلّمأمرها بذلك لئلا يناقض مذهب الشافعية رحمهم الله تعالى، بل الامتشاط على ما هو المعروف ولا يخلو عن نقض شعر عادة. على أن النبي صلى الله عليه وسلّمأمر أبا موسى بنقض إحرامه بمثل هذه الألفاظ كما في الصحيحين.
316 - قوله: (وأمسكي عن عمرتك) هذا أيضاً أقرب إلينا، ومعناه عندنا رفضُ العمرة، وقال الشافعية معناه دعي أفعال العمرة مع إبقاء الإحرام على حاله. قلت: إذا كانت أفعال العمرة عندكم داخلة في الحج للقارن، فلا تكون أفعال العمرة إلا أفعال الحج، فما معنى تركها فإنها لا تطوف إلا طوافاً واحداً ولا تسعى إلا سعياً واحداً، وتُحسب أفعالُها عنهما جميعاً، وإذن لم يبقَ لقوله: (وامسكي عن عمرتك) مصداق.
(2/66)
316 - قوله: (مكان عمرتي التي نَسَكْتُ) هذا أيضاً يؤيدنا لأنه يُشْعر برفض عمرتها الأولى، ولذا احتاجت أن تعتمر مكانها أخرى، وأوَّله الشافعية أنها لم ترضَ أن تكتفي بالعمرة المتضمنة وألحَّتْ أن تعتمر منفردة أيضاً مكان عمرتها المتضمنة، فتكون لها في هذه السنة عمرتان: عمرتها المتداخلة في حجها، وعمرتها هذه بعد الفراغ عن الحج.
قلت: وما لها أَلَحَّتْ عليه مع أن عمرة النبي صلى الله عليه وسلّمأيضاً كانت مندمجة في الحج على نظرهم، فإذا كان حالها كحال النبي صلى الله عليه وسلّمفما الإلحاح وما الاضطراب؟
باب نَقْضِ المَرْأَةِ شَعَرَها عِنْدَ غُسْلِ المَحِيض
317 - قوله: (قال هشام ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صوم ولا صدقة) وهذا مشكل لأنه لا مناص عن الدم، أما دم القِران أو دم الرفض، على اختلاف النَّظَرَين، على أنَّ في الخارج تصريح بذبح النبي صلى الله عليه وسلّمبقرةً عن نسائه، فلعله لم يبلغ هشاماً فذهب الناس في توجيهه كلَّ مذهب. وأقول: إن الهدي إنما يقال لما يُهدى إلى البيت، فدلَّ من حاقِّ لفظه أنه اسم لما يكون معه من بيته، فالنفي حينئذ محمول على أنها لم تكن ساقت الهدي معها كما كان النبي صلى الله عليه وسلّمساقها، فالمنفي هو كون الهدي معها لا الذبح عنها. ثم إن المتبادَر أنه من دماء الحج، فلا يُحْمَل على الأضحية، وإنما عَبَّر عنه بالتضحية لكونه في زمان الأضحية. وراجع الهامش والله تعالى أعلم.
باب {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} (الحج: 5)
باب كَيفَ تُهِلُّ الحَائِضُ بالحَجِّ وَالعُمْرَة(2/67)
وتناسبه الترجمة الماضية(ع2 ) باب من سمى النِّفَاس حيضاً، وقد مرَّ أنَّه لا يريد منها بيان اللغة بل بيان الحُكم، أي الحيض والنفاس اسمان لدم واحدٍ، فما خرج من الحَائِل في أيامه يقال له: الحيض، وما خرج من الحامل بعد الولادة يقال له: النِّفَاس. وراجع الحاشية لابن بَطَّال - وهو مالكي المذهب وشارح متقدم للبخاري - ومن أهم فوائده أنه إذا ذكر مذهباً ذكر معه أسماء جملةِ من ذهب إليه من الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
قوله: (مُخَلَّقة) يعني أن الله تعالى إذا أراد أن تَلِدَها سليمةً يجعل دمَ الحيض غذاءه فتلدها مخلَّقة وإن أراد أن يكون غير مخلقة لا يجعله غذاءً لها، وتصير سِقْطاً، فتلدها خَديجاً غير تامة. قيل: إن تلك الأطوار على خلاف ما في الطِّب. قلت: كلا بل هي في الطب كذلك كما ذكره الأنطاكي في «تذكرته». واعلم أن للتقدير أنواعاً، فمنها تقدير أزلي، ومنها مُحْدَث، ومنها ما كُتِب قبل خلق العالَم بخمسين ألف سنة، ومنه ما يكون في ليلة البراءة، ومنه هذا الذي في رَحِم أُمّه. فاعلمه.
يعني أنه يجوز لها الإحرام لأنها غير ممنوعة عنه، والحيض ليس من محظوراته.
319 - قوله: (منّا من أَهَلَّ بعمرة) يعني في الحالة الراهنة، وإن أَهَلَّ بالحج يوم التروية، لا أنه أَهَلَّ بها فقط ولم يحجَّ في تلك السنة مع بلوغه بمكة.
باب إِقْبَالِ المَحِيضِ وَإِدْبَارِه
باب لا تَقْضِي الحَائِضُ الصَّلاة
ولم يُفْصِح بعبرة التمييز بالألوان، بل أخرج أثراً عن عائشة رضي الله عنها يدل على هدره.
قوله: (بالدُّرْجَة) (دبيه)
قوله: (القصة البيضاء) (قلعى جونه)(2/68)
قوله: (وعابت عليهن) قيل: إنَّ النظرَ في جوف الليل مطلوب في نفسه، لأنه إن انقطع دمها تصلي العشاء وإلا لا، فَلِمَ عابت عليهن؟ وأجاب عنه السَّرَخْسِي رحمه الله تعالى بأنه لم يكن يحتاج له إلى السُّرُج والمصابيح، وكان يكفي لها الإحساس بالبلل.
قلت: وهذا ليس بوجيه، لأنه لا يتبين منه أنها رطوبة الفرج أو دم الحيض، فلا بد من السِّراج، وقد كان جوابه تبين لي ثم رأيته في كلام الشَّاطِبي الشافعي مصرحاً. فالوجه أن العيب على تعمقهن أزيد من الحاجة بما لم يُؤْمَرْنَ به، فإنَّ الشرع لم يُضَيِّق عليهن بهذه المثابة، وإنما الأمر أن يكتفين ببِلَّة الكُرْسُف إذا كانت عادتهن معلومة، كما في الفقه أنها إذا وضعت كُرْسُفاً ثم لم تَرَ عليه أثراً في الصبح تصلي العشاء، ولا إثم عليها، وإن رأته ملوثاً تَعُدُّ نفسها حائضةً.
ومما ينبغي أن ينبَّه عليه في هذا المقام أنه يلزم من كتب الفقه والحديث أنها تُعِيد العشاء إذا علمت أنها طَهُرَتْ في الليل، ولا تكون آثمةً بتركها في الوقت، وذلك لعدم التبين في الوقت وعدم تكليف الشارع إياها بالتعمق. وراجع «القنية» لمسائل الحيض والمعذور. والحاصل: أنَّ الشرعَ إذا لم يأمرها بالمراقبة في كلُّ أوان، وأمرها بأدائها عند ظهور الطهور مع عدم التأثيم على قضائها في الوقت، فعابت عليهن على تعمقهن بما لم يكلفهن الله.
باب النَّوْمِ مَعَ الحَائِضِ وَهيَ فِي ثِيَابِهَا(2/69)
وظاهر القرآن أنَّه لا يقربها أصلاً، وقد مرَّ معنا أنه كيف المشي على اللفظ عند وضوح الغرض، ولا سيما عند ظهور المناسبة، وأنه ينبغي أن يُبحث عنه بشكل المقدمة، فإنه يدور النظر فيه كثيراً كما ترى ههنا، لأنَّ ظاهرَ لفظِ القرآن الاعتزال وعدم القُربان. والغرض الاعتزال عما تحت الإزار مع بقاء الاستمتاع بما فوقه، كما يدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلّم «لك ما فوقَ الإزار» على نظر الحنفية، مع أنه قد ظهر أثر لفظ الاعتزال، وتأيَّد بقول: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ}(البقرة: 222) فهل يُعتمد في مثل هذه المواضع على نظم القرآن، أو يعمل بالغرض المستفاد من الحديث؟
باب مَنْ أَخَذَ ثِيَابَ الحَيضِ سِوَى ثِيَابِ الطُّهْر
صَدَعَ بأن تعدد الثياب لهذا المعنى ليس من الإسراف في شيء، كما مر عليه التنبيه من قبل.
باب شُهُودِ الحَائِضِ العِيدَينِ وَدَعْوَةَ المُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلنَ المُصَلَّى
وكذلك يَحْضُرْنَ عندنا أيضاً، كما في «الهداية». وفي «العيني» هكذا عن سِراج الدين البُلْقيني الشافعي، وهو تلميذ مُغَلْطَاي الحنفي. وأما الآن فالفتوى أن لا تخرج الشوابُّ لا في الجمعة، ولا في الجماعات، وهكذا ينبغي، لظهور الفساد في البَرَّ والبحر وقِلّة الحياء، والتواني في أمور الدين. أما على أصل المذهب فيصح للحُيَّضِ أن يَحْضُرْنَ دعوة المسلمين كما يَحْضُرْنَ في عَرَفَة، ويعتزلن المُصلَّى. والمراد بالدعوة: الكلمات الدُّعَائية التي في خلال الخُطبة، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّمدُبُرَ صلاة العيدين دعاءٌ ولو مرةً، كما مر آنفاً.(2/70)
ثم إنَّ كثيراً من الألفاظ قد شاعت في غير معانيها اللغوية حتى لا تكاد تُدرك معانيها الأصلية، ولا تنتقل إليها الأذهان أصلاً، كالدعاء فإنه شاع الآن في الدعاء بالصورة المعهودة، وليس له في اللغة أصل، وإنما وُضع له لفظ السؤال. والدعاء في اللغة: بكارنا {ادْعُواْ رَبَّكُمْ}(الأعراف: 55) {وَمَا دُعَآء الْكَفِرِينَ} (الرعد: 14) إلخ، فاعلمه.
ثم إنَّ المُصَلَّى في الزمان القديم لم يكن له أحكام المساجد، أما الآن فينبغي أن يكون في حُكم المسجد، لإحاطته بالجدران، وبنائه على هيئة المساجد، فينبغي أن لا يَدْخُلْنَه.
324 - قوله: (محمد بن سلام): وهو البِيكَنْدي رفيق أبي حفص الكبير، ويقال لابنه: أبو حفص الصغير، كانت بينه وبين البخاري مودَّة، وأقام البخاري عنده حين أُجلي عن وطنه، وكان يُرسل إليه الهدايا أيضاً، ومع ذلك لم يزل خلافُ البخاري مع الحنفية كما كان.
324 - قوله: (نَدَاوي الكَلْمى)، وهكذا مصرَّح في سيرة محمد بن إسحاق أيضاً.
324 - قوله: (لتلبسها)... إلخ عُلِم منه أن الجِلْبَاب مطلوب عند الخروج، وأنها لا تخرج إن لم يكن لها جِلْبَاب. والجِلْباب: رداء ساتر من القَرْن إلى القدم. وقد مَرَّ معنا أن الخُمُرَ في البيوت والجلابيب عند الخروج، وبه شرحتُ الآيتين في الحجاب: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}(النور: 31) والثانية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَبِيبِهِنَّ}(الأحزاب: 59).
324 - قوله: (العَواتِق) أي مَن قاربْنَ البلوغ. والأصل أنهن بناتٌ مُعْتَقَةٌ عن خدمة والديهِنَّ، ولعلّه كان في عُرفهم أنهم لم يكونوا يستخدمونهن.
324 - قوله: (الحُيَّض) يعني أنهن إذا كُن حُيَّضاً فما يفعلن بحُضورهن المُصَلى؟ فقال العلماء: لإِراءة شوكة المسلمين.
(2/71)
باب إِذَا حَاضَتْ فِي شَهْرٍ ثَلاثَ حِيَضٍ، وَمَا يُصَدَّقُ النِّسَاءُفِي الحَيضِ وَالحَمْلِ وفِيما يُمْكِنُ مِنَ الحَيض
وهذه الترجمة لا تستقيم على مذهب أحد، إلا على مذهب مَن اختار عدم التوقيت في الحيض، كمالك رحمه الله تعالى. أما الشافعية رحمهم الله فأقلُّ الحيض عندهم يوم وليلة، والطُّهر أقلُّه خمسةَ عشرَ يوماً إجماعاً. والعِدَّة عندهم بالأَطهار، فيحتاج إلى خمسةٍ وأربعين يوماً للأَطهار، ويومين للحيضتين، فلا تمضي عدتُها إلا في سبع وأربعين يوماً عندهم. نعم لو فرضنا أنه طلقها في آخر الطُّهْر، فيجب عليها أن تتربص طُهرين آخرَين، وثلاث حِيَض، فلا تمضي عِدَّتُها إلا بثلاثٍ وثلاثين يوماً.
وأما الحنفية فأقلُّه عندهم ثلاثةُ أيام، فلا تمضي عِدّتُها إلا بتسعةٍ وثلاثين يوماً: تسعة أيام لحيَضها، وشهر لطُهرها.
فالحاصل: أن فَتوى عليَ وشُرَيح رضي الله عنهما لا تستقيم على المذهبين، وَلْيُمْعِنِ النظرَ فيه كلُّ مَن كانت له عينان، لأنه مؤثر في مسألة أقلّ الحيض وأكثره جداً. وجمع الحافظ رحمه الله تعالى طُرُقه، وأخرج لمذهبه مخرَجاً، فأتى بروايةٍ من الدارِمي وفيها: «خمساً وثلاثين» يوماً بدل الشهر، وادَّعى أنَّ الراوي حذف الكسر فاستراح منه. قلت: وإذا تُسومح في حَذْف الخمس فليكن هَيّناً لَيِّناً في حقّ الأربعة أيضاً، وليقل: إن الراوي حذف تسعة أيام ولا عجب.(2/72)
ثم السَّرَخْسي أجاب عنه بوجه آخر، وقال: إنَّه مِن باب التعليق بالمُحال، لأن حرف «إن» يستعمل في المحالات أيضاً، وحينئذ حاصله أنها تُصَدَّقُ إن جاءت ببينة مِن بِطانة أهلها، ولكنه مُحال، لأن القضاة كانوا يعلمون أن مُضي العدة في تلك المدة غير ممكن. وإذا كان الزمانُ زمانَ التدين فلا يشهد لها أحدٌ من بطانة أهلها، فلا يمكن أن تُصَدَّق في هذه المدة وهو كما ترى، على أن في الفقه أنها لا تُصَدَّق عند الخصومة إلا بالشهرين، كذا في «الدر المختار» من باب الرجعة. واختلفوا في تخريجه، فقيل: شهر للحِيَض الثلاث على أن أكثره عشرة، وشهر للطُّهرين. وقيل: بل يُؤخذ للحِيَض الوسط، لا أقلَّ ولا أكثر، وهو خمسة أيام، فيكون نصف الشهر للحيض، والباقي للطهر.
ووجهه: أنَّ المرأةَ إذا ادعت بانقضاء عدتها وأنكره الزوج، وجب رعاية الطرفين، فلم نأخذ بالأقل وأخذنا بالمتيقَّن. ولأن العدة يدخل فيها القضاء، ولا سيما عند الخصومة، وتتعلق بها الأحكام، فإنها تَنْكِح بعدَها زوجاً آخر، وربما يُحتمل أن تكون كَذَبَتْ في أخذ طَمْثها بالأقل، وتكرار الطَّمْث في شهر أيضاً نادر، فلا يحمل القاضي عليه، فلا بد أن لا تُصَدَّق بأقل من شهرين لتنقضيَ عدتها بيقين. وهكذا فعله المالكية رحمهم الله تعالى بعينه، فإن الحيض وإن أمكن عندهم ساعةً لكنهم قدَّرُوه في باب العدة احتياطاً، فما دامت المعاملة كانت في بيتها وما كان أمكن أحكام الصلاة والصيام فَوَّضوه إلى رأيها، وإذا تعلق بها حقُّ العبادة عينوه، لعين ما قلنا. وأتصرف فيه من قِبل نفسي - وإن لم يكتبه أحدٌ - وأقول: إنه إن لم تقع الخصومة بينها وبين الزوج، وادعت المرأة بانقضاء عدتها في تسعة وثلاثين يوماً تُصدَّقُ ديانةً.
(2/73)
وما في المتون فهو مسألة القضاء عندي قطعاً، فإنهم إذا عينوا الأقل والأكثر من الحيض والطهر في بابيهما، وجعلوه كلية، فمن هدمه في هذا الباب، فإن لم نعتبره في باب العدة تناقضت المسألتان، لأن تحديد الأقل والأكثر يستلزم تصديقها بانقضاء عدتها إذا احتملت المدة، وعدم تصديقها إلا بالشهرين يستلزم هدر هدر هذا التحديد، ولهذا جزمتُ بأن ما في الكتب مسألةُ القضاء دون الدِّيانة.
والحاصل: أنَّ عدمَ تصديقها إلا بالشهرين ليس بناء على عدم الحيض بالثلاث، أو على هدر التحديد المذكور، بل بناؤه على عدم التصديق عند النزاع رعايةً للجانبين. وإن أمكن مضيُّ عدتها بأخذ تسعة أيام للحيض بناءً على أنَّ أقلَّه ثلاثةٌ وشهر للطُّهْرَين، وحينئذ محطُّ الشهر في فتوى شُريح ليس نفيَ الكسر بل نفي الشهرين، فجاز أن يكون الكسر خمسةً كما قال الحافظ رحمه الله تعالى روايةً، أو تسعةً كما قلنا ولا يذهب عليك أن هذا تصرف في التعبير والتقرير فقط، لا تغيير في المسألة. وكم من مواضع سلكتُ فيها هذا المسلك.
قوله: (وما يُصَدَّقُ النِّساءُ)... إلخ يعني أنه يصدّق بقولهن في باب الحمل والحيض فيما يمكن انقضاء الحيض في تلك المدة، ولذا قال الله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ}(البقرة: 228) فنهى عن الكتمان، ولو لم يكن قولُهن معتبراً لما كان في نهيهن معنى، فإذا نُهين عن الكتمان وجب للقوم أن يعتبروا بقولهن، إلا أن يَقُلن بما يخالف البداهة من انقضاء العدة فيما لم يحتمل انقضاءها فيه، فاستدل به المصنِّف رحمه الله تعالى على عبرة قول المطلَّقة إن ادَّعت بانقضاء عدتها في شهر.(2/74)
قوله: (ويُذْكَر عن عليِّ وشُرَيح رضي الله عنهما)... إلخ وشُرَيح هذا كان قاضياً منذ نصَّبه عمر رضي الله عنه. فمرّ على عليّ رضي الله عنه يوماً، فأمرَهُ أن يحكم في تلك القضية. قال شُرَيح: أَبين يدي الأمير أَحْكُم؟ قال: نعم. ثم حَكَم شُرَيح بما في الكتاب. وفي «الفتح»: أن علياً صوّبه، وقال: قالون: وهو في لسان الروم بمعنى أحسنت.
قوله: (بِطَانَة أَهْلِها) يعني خواصَّ أهلها (ابنى خاص كنبه مين سى)، وقد سمعت أنَّ هذا الأثر مخالفٌ للشافعية والحنفية، وأقرب بِمَنْ لم يَرَ التوقيت في أمر الحيض. وأجاب عنه الحافظ رحمه الله تعالى بما في الدارمي بزيادة الكسر، وأجبتُ عنه بِحَمْله على الدِّيانة، فلم يخالف ما في المتون من أنها لا تُصَدَّق إلا بالشهرين، فإنه في حقّ القضاء. أما حذف الخمسة أو التسعة فالأمر فيه سهل، وإنما ينازع فيه مَنْ يتعصب لمذهب الحنفية، ولا يتحمل أن يصيبهم خير من ربهم، على أن محط الشهر نفي الشهرين كما مرّ.
وحاصله: أنَّ شُرَيحاً حكم بالدِّيانة دون القضاء، وحينئذ المقصود أنه لم يحكم بالشهرين الذين كانا بحُكْم القضاء، ولذا حَذَفَ الكسر ولم يتعرض له. بقي أن شُرَيحاً كان قاضياً، والظاهر من أمره أن يكون حُكمه بحُكْم القضاء.
قلت: ولا يجب على القاضي أن يحكم بحكم القضاء دائماً، بل له أن يحكم بحكم الديانة إذا تراضى الخصمان. نعم لا يكون حُكْمه بالديانة حجةً ملزِمة وفاصلاً، فلو رضي به الخصمان جاز له أن يحكم بالديانة، كما في «الدر المختار»: ويُفتي القاضي ولو في مجلس القضاء، وهو الصحيح... إلخ.(2/75)
وفي «الطحاوي» في باب الصدقات الموقوفات: عن أبي يوسف، عن عطاء بن السائب قال: سألت شُرَيحاً عن رجل جعل داره حَبْساً على الآخر، فالآخر من ولده؟ فقال: إنما أقضي ولست أُفتي. قال: فناشدته، فقال: لا حبس على فرائض الله... إلخ. فهذا شُريح القاضي أنكر أولاً أن يُفتيَ بحكم الديانة، ثم إذا ناشده أفتى بها، فهذا دليل على أن للقاضي أن يحكم بالديانة أيضاً.
قوله: (وقال عَطَاءُ) أقْرَاؤها ما كانت. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى القديم، كما في «النهاية». وأما الجديد فهو مشهور ويُعْلَم منه: أن الأقراء بمعنى الحيض، كما قال به الإمام.
قوله: (وقال مُعْتَمِرٌ)... إلخ. ولا يَنْحلُّ مرادُ ابن سيرين إلا بعد مراجعة أبي داود مُفَصَّلاً. قال أبو داود: وروى يونس عن الحسن: الحائضُ إذا مدَّ بها الدم - يعني استمر بها وزاد على عادتها - تُمْسِك بعد حيضتها يوماً أو يومين - يعني عن الصلاة والصيام فهي عنده إلى يومين حائضة - فهي - أي بعد يومين - مُستَحاضةٌ. وقال التيميُّ: عن قَتَادة: إذا زاد على أيام حيضها خمسةُ أيام فلتُصَلِّي. قال التيمي: فجعلت أَنْقُصُ حتى بلغتُ يومين، فقال: إذا كان يومين فهو من حيضها. وسُئل ابن سيرين عنه، فقال: النساءُ أعلم بذلك. انتهى. يعني أن ابن سيرين لم يُجِبْ فيما زاد على أيامها خمسة أيام، بخلاف ما نقله التيمي عن قَتادة، فإنه جعلها استحاضةً، واليومين حيضاً.(2/76)
وهذه المسألة تُسمَّى بالاستظهار عند المالكية: وهي أنها تنتظر بعد أيامها إلى ثلاثة أيام، فإن ظهر الدم فيها فإنه يُعَدُّ من حيضها ويُلحق بما قَبْله، وإلا فيكون استحاضةً. وعندنا إنْ ظهر الدم في العشرة يُعَدُّ المجموع حيضاً، وإن تجاوز عنها رُدّت إلى عادتها. فالعبرة عندنا بظهوره في أيامه أو بعدها، والعبرة عند مالك رحمه الله تعالى بظهوره في ثلاثة أيام، أو بعدها. وقد مرّ معنا أن التمييز بين دم الحيض والاستحاضة مُشْكِل جداً، فإنهما دمان مشتبهان، ولذا اختُلِف في إفراز الحيض من الاستحاضة، وإنما عَيَّن مَنْ عَيَّن تقريباً وتسهيلاً لإجراء الأحكام. ثم إنَّ هذا كلّه فيما تجاوز الدم على أيامها، فإن تصرَّم عليها فجوابه كما في الفقه.
تنبيه
وبعض الناس لمّا لم يَدْرِ مسألة الاستظهار عند المالكية كتبوه بالطاء، وهو غلط.
ولعلك علمت من هذه المسائل أنها لو ترقَّبت ولم تُصلِّ، ثم بدا لها أنها كانت طاهرةً ولم تكن حائضة، أنها غيرُ آثمة بِتَرْك صلاتها في تلك المدة، وأن القرآن إنما بَنَى على رأيهن فقال: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ}...إلخ (البقرة: 222) لأن رأيهن معتَبعر في هذا الباب.
تنبيه
واعلم أنه قد سها العيني رحمه الله تعالى في شرح قول صاحب «الكنز»: «ولا حَدَّ لأكثره إلا عند نصب العادة في زمن الاستمرار». والصحيح كما في «البدائع» و «خُلاصة الفتاوى»، ولعل السهو فيه من المتأخرين، ولا أدري وجه ما اختاروه.
325 - قوله: (ولكن دَعِي الصلاةَ قَدْرَ الأيام). وقد مرّ في هذه الرواية لفظ الإقبال والإدبار من قَبْل، فدل على أن الرواة لا يعتنون بهذه التعبيرات وإنما هو تفنن منهم، فتارةً كذا، وتارة كذا، وإنما اعتنى بها بعض المحدثين حتى بَنَوا عليها تغليط الرواة، كما مرّ مُفَصَّلاً.
(2/77)
باب الصُّفرَةِ وَالكُدْرَةِ فِي غَيرِ أَيَّامِ الحَيض
هدر البخاري مسألة التمييز بالألوان إلا أنه قيدها بغير أيام الحيض، ومفهومه اعتبارُها في أيام الحيض، ثم أخرج عن أم عَطية أنها قالت: «كنا لا نَعُدُّ الكُدرةَ والصُّفرةً شيئاً». قال الحنفية: معناه أنه لم تكن عندنا مسألة التمييز بالألوان، فكنّا نعدها كلها حيضاً. وقال الشافعية: معناه إن كنا نعد التمييز بالألوان، فنعد الحُمرة والسواد حيضاً، ولا نعد الكُدرة والصُّفرة شيئاً لكونها استحاضةً. والشرح الثالث للبخاري.
وحاصله: أنا كنا نُلغي الألوان في غير أيام الحيض، ومفهومه أنه كنا نعتبرها في أيام الحيض، ففصل بين رؤية الألوان في أيام الحيض وبين رؤيتها في الخارج، وهذا التفصيل من جانبه. وكأن البخاري ذهب إلى التمييز بالألوان من وجهٍ، وهَدَرَه من وجهٍ. وبالجملة لكلامه ثلاثة شروح: الأول: أنا لم نكن نعتبر الألوان في مدة الحيض وتُعْتَدّ كلها من الحيض. نعم كنا نعتدّ بها إذا رأيناها من غير أيام الحيض، وحينئذ وَافَقَنَا المصنِّف رحمه الله تعالى في مسألة التمييز بالألوان وهدرها. والثاني: إنا لم نكن نَعُدّ الألوان شيئاً من غير أيام الحيض، أما إذا كانت في أيام الحيض فكنا نعتبر بها، وهذا موافق للشافعية. والثالث: عدم عبرتها مطلقاً.
باب عِرْقِ الاسْتِحَاضَة
يعني أنه ليس من دم الرَّحِم بل من العِرْق، واسمه العاذِل. قلت: وإن كانت الاستحاضة دم عِرْق والحيض دم رَحِم، إلا أنه مع ذلك بينهما ارتباط يوجِب الارتباط في الأحكام أيضاً.(2/78)
327 - قوله: (فكانَتْ تَغْتَسِل)... إلخ. وعند أبي داود: الغُسْل لكل صلاةٍ مرفوعاً أيضاً. وصححه الحافظ رحمه الله تعالى. وعدَّه الشوكاني من التكليف بما لا يُطاق. وحَمَله الطحاوي على العلاج، أي لإزالة التلطخ بالدم في الحالة الراهنة، فهو لتقليل العُذْر لا للعلاج الطبي، والجمع فيه عندنا فعليّ فإن قلتَ: إن طهارة المعذور تُنْتَقَضُ عندكم بخروج الوقت، أو بدخوله فلا يصح الجمع فعلاً أيضاً. قلت: وفيه عند أبي داود: «وتتوضأ فيما بين ذلك». قالوا: فهو لهذا المعنى. والتحقيق عندي يجيء في باب المواقيت، لأن هذا الوضوء عندي للحوائج الأخرى تعرِض له في تلك المدة، لا لأن الطهارة بطلت بخروج الوقت، أو بدخولها على اختلاف القولين، وإن كان اللفظ صالحاً له.
باب المَرْأَةِ تَحِيضُ بَعْدَ الإِفَاضَة
ويسقط عنها طواف الصَّدَر إجماعاً وإليه رجع ابن عمر رضي الله عنه بعدما عُلِم المسألة كما في الحديث الآتي:
328 - قوله: (لعلها تَحبِسُنا)... إلخ. وإنما قال هذا لأنه لم يكن يعلم أنها طافت للزيارة، ثم عَلِم أنها لم يبق عليها غير طواف الصَّدَر.
باب إِذَا رَأتِ المُسْتَحَاضَةُ الطُّهْر
يعني من استمرَّ بها الدم ثم انقطع حِسّاً فهل تنتظر بعده شيئاً، أو تغتسل وتصلي ولا تراعي عَوْدَة وإن كان ممكناً؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه: أنها تغتسل: من ساعته وتصلي ولا تنتظر عَوْدَهُ، ثم إذا وجبت عليها الصلاة - وهي أعظم - كيف لا يأتيها زوجها، وهو أهون. وهذا يُشْعِر بأن المراد من التطهر في النص عند ابن عباس رضي الله عنه هو الغُسْل. وعند الحنفية مُضِيّ الوقت قَدْرَ الاغتسال في حكم الاغتسال، فتحِلّ لزوجها بعد مُضِيِّ الوقت أيضاً.
باب الصَّلاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ وَسُنَّتِهَا(2/79)
يعني به أنه يُصلَّى عليها، وزاد: «وسنتها» إشارة لما في الحديث: «فقام وسطها». والسُّنَّةُ فيها عندنا أن يقوم الإمام حِذَاء الصَّدْرِ من الرجل والمرأة كليهما، وما ذهب إليه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى هو روايةٌ عن إمامنا أيضاً على أن لفظ الوسط لا يتعين في القيام بحِذَاء العَجِيزة، لأن الساكن منه متحرك والمتحرك ساكن، ولا يتعيَّن فيه واحد منهما، وإنما يكون دليلاً لهم لو كان متحركاً «وسطها» فهو للوسط الحقيقي، ولا يكون إلا واحداً، بخلاف ما إذا كان ساكناً، أي «وسطاً» فإنه يَصْدُقُ على الوسط الإضافي فهو متعدِّد، وهو معنى كونه متحرِّكاً. ولعله راعى ما في أبي داود أن أنساً رضي الله عنه صلى على جنازة، فقيل له: يا أبا حمزة، هكذا كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلّميصلِّي على الجنازة كصلاتك عليها؟ قال: «نعم». فعبَّر بلفظ السُّنة. ثم عند أَبي داود قام عند عَجِيزتها، فاندفع التأويل المذكور ولا حاجة إلى الجواب، فإنه أيضاً رواية عن إمامنا الأعظم رحمه الله تعالى.
باب
وإنما لم يترجم، لأن هذا الحديث ليس من تلك السلسلة التي وضعها وإن كان مناسباً في الجملة. وفيه عبد الله بن شدَّاد صحابيّ صغير وتابعي كبير، يروي حديث: «قراءة الإمام له قراءة».
قوله: (مَسجد رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلّم تعني به مسجد البيت.
333 - قوله: (خُمْرَته): وهي التي تحفظ الجبهة عن التراب. وفَهِم الروافض أنها بهذا القدر فقط، وليس كذلك، وإنما أراد أهل اللغة بيان الغَرَض منها، لا أنها مقصورة عليه فقط. وإنما سُمِّي خُمْرَة لاختمار لُحْمتَه من سُدَاه.
وفي الهند قومٌ يُدْعون «خُمْرَة» وأنهم يصنعون الحصير والخُمرة، فدلّ العمل أيضاً على أن الخُمرة هي الحصير الذي يصلح للصلاة عليه، ولا يقتصر على الجبهة فقط.(2/80)
333 - قوله: (أصابني بعضُ ثوبه). وفي الفقه: أن النجاسة المفسِدَة ما يُعَدُّ المصلي حاملاً لها وما لا يحملها فليست بمفسدة، كما في «العَالْمَكِيرِيَّة»: أن جُنِباً لو ركب على رجل يصلي وثيابُه نجسةٌ؛ فإن أمسكه فسدت صلاته، وإلا لا. وفي «المنية»: أن الثوب إذا كان واسعاً بحيث لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر، وأحد طرفيه نجس، فصلى رجلٌ ملتفّاً بالطرف الآخر، جازت صلاته، وإن تحرَّك الطَّرَف الآخر بتحريك ذلك الطرف بطلت صلاتُه.
كتاب التَّيَمُّم
باب
والتيمم: القَصْدُ لأمر وقيع، والصعيد: من الصعود: ارتفع من الأرض، سواء كان مُنبتاً، أَو لا. ووافق فيه صاحب القاموس أبا حنيفة رحمه الله تعالى مع أنه يراعي مذهبه في بيان اللغة أيضاً، إلا أنه لم يجد ههنا بداً من موافقته. وفي «الزُّرْقَاني»: وإنما سمَّى وجه الأرض صعيداً، لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض.
نظرة وفكرة في أن أيّ الآيتين نزلت في التيمم
قال ابن العربي: هذه مُعضِلة ما وجدتُ لدائها دواء، لأنا لا نعلم أيَّ الآيتين عَنَتْ عائشةُ رضي الله تعالى عنها. قال ابن بَطَّال: هي آية النساء، أو المائدة. وقال القُرطبي: هي آية النساء، لأن آية المائدة تسمَّى آية الوضوء؛ وآية النساء لا ذِكْرَ فيها للوضوء. قال الحافظ رحمه الله تعالى: وظهر للبخاري ما خفي على جميعهم من أنَّ المراد بها آية المائدة بغير تردد لرواية عمرو بن الحارث إذ صرَّح فيها: فنزلت {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ} الآية (المائدة: 6)، وأشار إليها البخاري فتلاها في الترجمة، لهذا قلت: وهو الأظهر عندي وإن ذهب ابن كثير إلى أنها آية النساء، وجزم به، لأن ما تمسك به في إسناده ربيع بن بدر، وهو ساقط وأخرجه الطحاوي أيضاً.
أبدع تفسير لآية التيمم(2/81)
قوله: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَوةَ} واعلم أنَّ الآية سيقت لأحكام الإتيان إلى الصَّلاة لا لأحكام المسجد كما فهمه الشافعية، ولا لأحكام الصلاة نفسها كما فهمه الحنفية. فاحتاج الشافعية إلى تقدير المضاف وقالوا: معناها لا تقربوا مواضع الصلاة، أي المساجد، إلا أن تكونوا عابري سبيل، أي مجتازين بها، فيجوز لكم المرور في حالة الجَنَابة اجتيازاً. ونشأ على مختار الحنفية سوء ترتيب، لأنهم أرادوا بالصلاة فعلَها، أي: لا تصلوا، فلم يرتبط به الاستثناء.
والوجه عندي أنَّه جعل الصلاة في تلك النظرة مأتية كأنها ليست من فعله بل هي منفصلة عنه يرد عليها ويصدر عنها وهي شاكلة الجماعة في المسجد، وعليه قوله تعالى: {إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ}(الجمعة: 9)، وقوله تعالى: {وَإِذَا نَدَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ}(المائدة: 58)، وقوله تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى}(التوبة: 54)، ففُرِضت الصلاة في هذه الآيات كأنها منفصلة عنه، وكذا في قوله صلى الله عليه وسلّم «إذا أقيمتِ الصلاةُ فلا تأتوها تَسْعَونَ» وحينئذ معناها أن لا تأتوا الصَّلاةَ في حال السُّكْر، ولا في حال الجنابة إلا أن تكونوا عابري سبيل إلى المسجد، فالعبور ليس في المسجد بل في الطريق إلى المسجد عند الإتيان إلى الصلاة.
(إلا عَابِري سَبِيل). وترجم عليه البخاري. وعدَّ العيني رحمه الله تعالى هناك نحواً من عشرة أنفس كانوا يقعدون في بيوتهم معطلين، فدعت الحاجة إلى الاستثناء، وأن المرور والاجتياز جائز.(2/82)
قوله: (وإنْ كُنتُم مُرْضَى) وإنما أعادها مع ذكرها في المائدة، لدفع تَوَهُّم نَسْخ ما في المائدة، فإنه لو اقتصر على قوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُواْ} لتوهم نَسْخ تيمم الجُنْب المذكور في المائدة، وتعين إيجاب الغُسْل فقط، فأعادها ثانياً وتقريراً للتيمم، وهذا كالتكرار في آية الصيام حيث كرر قوله: {فَمَنْ منكم مَرِيضاً أو على سَفَرٍ فعِدَّةٌ من أيام أُخَر} (البقرة: 184) ، واضطرب فيه المفسِّرون، وكتب كلٌ ما بدا له، وأنا أيضاً كنت فيه ما أراني ربي.
قوله: وحاصله: أنَّ صدر الآية ليس في رمضان بل في الأيام البيض، وكانت فريضة قبل رمضان ثم نسخها الله بعد، فاحتاج إلى التنبيه بأن صيام البيض وإن نسخت إلا أنَّ مسألة القضاء باقٍ على ما كانت، وإلا لأمكن أن يتوهَّم أحدٌ بنسخِها نسخ مسألة القضاء أيضاً، وسيجىء تقريره في موضعه تفصيلاً إن شاء الله تعالى.
قوله: (أو على سفر) والمراد به السفر الشرعي. ففرق القرآن بين عُبور السبيل والسفر، ودل على أنَّ السفَّر في نظره أمر وراء عبور السبيل.
فمن أطلق في السفر وحمله على اللغة فقط وجعل له أحكاماً من القصر والفطر وغيرهما، فكأنَّه لم يراع ما أومأ إليه القرآن، وحينئذ اندفع إيراد التكرار أيضاً. والفرق الثاني: أن آية المائدة وإن سيقت في الحدث الأصغر لكنها انجرت إلى حكم الحدث الأكبر أيضاً، ثم ذَكَر التيمم بعدهما، فلم تكن صريحة في التيمم للجنب، واحتملت أن يكون التيمم فيها مقصوراً على الحدث الأصغر. ولذا نُسِب إلى عمر رضي الله عنه أنه كان يتردد في التيمم للجُنب. ومِثْلُه نُسب إلى ابن مسعود رضي الله عنه، بخلاف آية النِّساء، فإنها لما سِيقت للحدث الأكبر من أول الأمر كانت صريحة في التيمم منهما.(2/83)
والحاصل: أنها في حكم الإتيان عندي، وهكذا أقول في تفسير آية المائدة أنَّ المرادَ من قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ}(المائدة: 6) ليس هو القيامُ إلى الصلاة - أي التحريمة - بل الذهاب إلى المسجد لأجل الصلاة. يعني إذا قمتم من مجالسكم لأجل الصلاة فتوضئوا، فآية النساء والمائدة كلتاهما على سياق الإتيان إلى المساجد عندي، والله تعالى أعلم. وقد مرَّ الكلام على بقية أجزائه في كتاب الوضوء.
334 - قوله: (في بعض أسفاره)، أي غزوة بني المُصْطَلِق، وفيها قِصَّةُ الإفْك.
334 - قوله: (بالبَيْدَاءِ) وقد سها النووي في تَعْيينه، وهو موضعٌ بين مكةً والمدينة.
334 - قوله: (ما هي بأَوَّلِ بَرَكَتِكُم يا آلَ أبي بكر) بل هي مسبوقة بغيرها. وفي رواية: «فواللّهِ ما نزل بكِ أمرٌ تَكْرَهِينه إلا جعل اللّهُ للمسلمين فيه خيراً» وفي النكاح: «إلا جعل اللّهُ لك منه مَخْرجاً وجعل للمسلمين فيه بركة». وهذا يُشْعِر بأنَّ هذه القصة كانت بعد قصة الإفْك. فإن فُقدان القِلادة، والتماسَ الناس، والبركةَ لهم، والمَخْرجَ لها كلُّها في قصة الإفْك، وإليها يتبادر الذهن لشهرتها. فإن جعلناها قصةً في غزوة بني المُصُطَلِق لم يلتئم معه هذا القول، لأن قصة الإفك فيها.(2/84)
ولقائل أن يقول: لِمَ لا يجوز أن يكون هذا إشارة إلى قصةٍ غيرِ الإفْك؟ ولكنه ليست هناك قصة أخرى اشتهرت بالبركة للمسلمين، والمخرج لها غيرَ قِصَّة الإفْك. فقيل: إن العقد انقطع في تلك الغزوة مرتين. ففي قصة الإفْك: أنها ذَهَبَتْ لِطَلَبِها وتأخرت عنهم حتى أَنهم رحَّلُوا الهَوْدج، وكُنَّ النساء إذ ذاك خفافاً، فظنوا أنها فيه، فارتحلوا وارتحل النبيُّ صلى الله عليه وسلّم ثم جاء صفوانُ ورأى سوادَ إنسان، وجاء بها إلى القافلة حين ارتفع النهار وشاع ما شاع. وفي هذه القصة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمبعث الناس لِطَلَبِها، وكان رأسهم أُسَيد بن حُضَير، فلم يجدوا، ثم رجعوا ووجدوا العِقْد تحت البعير، ثم ارتحلوا وارتحل النبيُّ صلى الله عليه وسلّموعائشةُ رضي الله عنها معه. فإذا كان بين القصتين مغايرة، لا بد لنا أن نقول بتعدد الواقعتين.
قلت: وهو كذلك، إلا أنه لا دليل فيه أنهما كانتا في سفر واحد، والذي يظهر أَنَّهما كانتا في سفرين لأمرين:
الأول: لِمَا أخرجه الحافظ رحمه الله تعالى عن الطبراني من طريق عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان من أمر عِقْدي ما كان، وقال أهل الإفْك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي غزوة أخرى، فسقط أيضاً عِقْدي حتى حُبِس الناسُ على التماسه، فقال لي أبو بكر: يا بنيةُ في كلِّ سفرٍ تكونين عناءً وبلاءً على الناس، فأنزل الله عزو وجل الرخصة في التيمم. فقال: إنك لَمباركةٌ ثلاثاً. وفي إسناده محمد بن حميد الرازي، وفيه مقال. قلت: ولكنه يُعَدّ في طبقة الحفاظ فالرواية صحيحة عندي.
(2/85)
والثاني: لما أخرجه الطحاوي عن ابن لهِيعة، عن أبي الأسود حدثه: أنَّه سَمِعَ عُروة يخبره عن عائشة رضي الله عنها قالت: أَقْبَلْنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّممن غزوة له، حتى إذا كنا بالمُعَرَّسِ - قريباً من المدينة - نَعَسْتُ من الليل، وكانت عليَّ قِلادةٌ، تُدْعَى السِّمْطَ تبلغ السّرَّةَ، فجعلت أَنْعس فخرجَتْ من عُنُقي، فلما نزلتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّملصلاة الصبح، قلت: يا رسول الله، خرّت قِلادتي من عُنُقي. فقال: أيها الناسُ، إنَّ أُمَّكم قد ضَلَّت قِلادتَها فابتغوها، فابتغاها الناس ولم يكن معهم ماء، فاشتغلوا بابتغائها إلى أن حضرَتْهُمُ الصلاةُ ووجدوا القِلادةَ ولم يقدروا على ماء، فمنهم مَن تيمم إلى الكفِّ، ومنهم مَنْ تيمم إلى المَنْكِب، وبعضهم على جسده. فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم فنزلت آيةُ التيمم.
فهذا أيضاً يدلُّ على أنَّ قصة فُقْدان القِلادة وقعت مرتين. وفي إسناده ابن لَهِيعة، ولكنَّ اختلاطه يؤثر فيما يروى من حفظه، وظَنِّي أنَّ روايتهَ هذه عن الصحيفة، لأنَّه يروي ههنا عن أبي الأَسود وكان عنده صحيفة منه، فإذا كانت روايته تلك عن الصحيفة فلا يضرُّ اختلاطه أصلاً. ولما صحَّت الروايتان في تَعَدُّدِ القصة، هان علينا أن نلتزم تَعَدُّدَ القِصَّتين.
قوله: (يطْعَن) بفتح العين، بمعنى الطعن باليد أو غيرها فهو للطعن حِسّاً، وبضم العين للطعن مَعْنًى.
قوله: (فأَنزلَ اللّهُ آيةَ التيممِ) وقد مرَّ الكلامُ فيه أنَّ المرادَ منها آية المائدة.
335 - قوله: (أُعطيتُ خمساً) ومفهوم العدد غير مُعتبر عند الكل، فلا تكون الخصائص منحصرة في هذا العدد فقط، حتى إن السيوطي رحمه الله تعالى صنف فيها تصنيفاً مستقلاً، سماه ب- «الخصائص الكبرى»، وعَدَّ فيه خصائصه تزيد على المئات.(2/86)
335 - قوله: (جُعِلَت لي الأَرضُ) وقد مرَّ أنَّ الأممَ السابقة كان فيهم التوسيع في الأوقات، والتضييق في الأمكنة بعكس هذه الأمة، فعلينا التضييق في الأوقات، والتوسيع في الأمكنة، وصِفتُنا في الكتب السابقة: أمةٌ يراقِبون الشَّمس، فأوقاتُ صلاتنا وُزِّعت على أحوال الشمس من الطلوع، والغروب، والدُّلوك. وعند الدَّارِمي: ويصلون ولو في الكُناسة.
قلت: وهذا لا ينافي الطهارة، لأنَّه أُخْرِج مُخْرجَ المبالغة، والمعنى: أنهم يراقبون الأوقات فيصلون أينما أدركتهم الصلاة ولو في الكُناسة، وهو قوله صلى الله عليه وسلّم «صَلُّوا في مَرَابِضِ الغنم». فالصلاة في مرابض الغنم كان لهذا، لا لطهارة أزبال مأكول اللحم كما فَهِمَه الذاهبون إليها، وقد مَرَّ تفصيله فتذكره.
335 - قوله: (طَهوراً) واستدل به المالكية أَنَّ الماءَ لا يكونُ مستعملاً أبداً، لأنَّ الله تعالى وصَفَهُ بالطَّهور، فقال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآء مَآء طَهُوراً}(الفرقان: 48) والطَّهور ما يطهر مرةً بعد أخرى. فلو قلنا: إنه لا يَطْهُر بعد الاستعمال - وإن بقي طاهراً - لم يصحَّ وَصْفُه بالطُّهورية. وأجاب عنه الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى في «الفتح» فراجعه.
قلت: وأوزان صِيغ المبالغة أربعةٌ في الصرف، والذي وُضع لمعنى التَّكرار هو وزن فَعَّال كضَرَّاب للذي يضرب مرةً بعد أخرى. والفَعُول وُضِع للقوة، فالطَّهُور ما يكون قوياً في الطهارة، لا كما فَهِمَه المالكية، والله تعالى أعلم.
335 - قوله: (فأيُّما رَجُلٍ من أُمَّتي أَدْرَكَتْهُ الصلاةُ)... إلخ. قال الحنفية: إنَّه من قبيل إفراد الخاص بحكم العام، فلا يكون مفيداً للتخصيص. ويكون الحاصل: أنَّ المسجدَ إن كان قريباً فالمطلوب الصلاة فيه، والاهتمام لها، وإن لم يكن قريباً كما في السفر فالاهتمام بالوقت، فاعلمه.(2/87)
335 - قوله: (بُعِثْتُ إلى النَّاسِ عامَّةً). قيل إنَّ دعوة نوح عليه السَّلام أيضاً كانت عامَّةً لجميع مَن في الأرض، وإلا لما أُهْلِكوا، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(الإسراء: 15). فالجواب كما قاله ابن دقيق العيد: يجوز أَنْ يكونَ التوحيدُ عامّاً في بعض الأنبياء وإن كان التزامُ فروع شريعته ليس عامّاً. ويحتمل أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح عليه السلام إلا قومُ نوح عليه السلام فبعثته خاصة إلى قومٍ فقط - وإن كانت عامةً صورةً - لعدم وجود غيرهم.
قلت: وقد مرَّ معنا في كتاب العلم أنَّ دعوتَهَم وإن كانت عامة في التوحيد، لكنَّها كانت باختيارهم، بخلاف النبيّ صلى الله عليه وسلّمفإنَّه كان مأموراً بالتبليغ لجميع مَنْ في الأرض {فإنْ لم تَفْعَل فما بَلَّغتَ رسالتَهُ}(المائدة: 67).
باب إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلا تُرَابا
دخل المصنِّف في مسألة فاقد الطَّهورين، واختار أنَّه يُصلِّي كذلك، وهو أحدُ وجوه الشافعية، ذكرها النَّووي رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يتشبه بالمصلين ويقضي إذا قَدِرَ بما قَدِر. ثم التشبه إنما هو في الركوع والسجود فقط دون القراءة، ولِما علمنا أنَّ الحُكمَ في الحج والصوم أنَّ الحاج إذا فَسَد حَجُّه يتشبه بالحاج ويمضي في أفعاله، وأنَّ الطَّامِثَ إذا طَهُرت، والكافر إذا أسلم، والصبي إذا بلغ في رمضان، أنهم يتشبَّهون الصائمين، ويُمْسِكُون بقيَّة يومهم، ألحقنا الصلاة بأخويها، وقلنا: إنه إذا فَقَد الطَّهُورين يتشبَّهُ بالمصلِّين حُرمةً للوقت.(2/88)
336 - قوله: (وليس معهم ماءٌ فَصَلُّوا) يعني أنَّ الماءَ إذا لم يكُن عندهم، وحُكْمُ التيمم لم يَنْزِل بعد، فكانوا كفَاقِد الطَّهورين فَصَلّوا، أي أُسَيد بن حُضَير ورفقاؤه الذين كانوا ذهبوا معه لطلب القِلادة، فَعُلِم أنَّ الأداء واجبٌ، والقضاء غير لازم.قلت: وهذا استدلالٌ مِن فِعْلهم ومن التبادر ببلوغ خبرهم إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وفي كليهما نظر - ولنا في تَرْكِ الصلاةِ ما رُوي عن عمر رضي الله عنه أَنَّه أَجْنَبَ ولم يُصلِّ، على أنَّه قياسٌ لنادرِ الوقوع على كثيرِ الوقوع، فإنَّ فُقْدان الماء مما يَكْثُرُ وقوعُهُ، بخلاف فُقْدان الطَّهورين.
باب التَّيَمُّمِ فِي الحَضَرِ إِذَا لَمْ يَجِدِ المَاءَ وَخَافَ فَوْتَ الصَّلاة
ونُسب إلى أبي يوسف رضي الله عنه أنَّه كان يُنكِرُ التيممَ في الحَضَر لوُجْدَان الماء على الأكثر، وندرة فُقْدانه فيه. واعلم أنَّ في الباب ثلاثَ وقائع على اختلافٍ في ألفاظها، ينبغي للباحث أن يراعيها لأنها يتناقض بعضها ببعض، وتُبْتنى عليها مسائل مختلفة، فليحرِّرها قبل أَخْذ المسائل منها، ليعلم أنها متعددةٌ، أو واحدةٌ والاختلافُ من الرواة، وأنَّ اللفظ الراجح ما هو، ليصحَّ بناءُ المسألة عليها.
فمنها حديث أبي الجُهَيم، ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنه، ومنها حديث مُهاجر بن قُنْفُذ. أما حديث أبي الجُهَيم ففيه: أنَّ رجلاً سَلَّم عليه وهو مُقْبِلٌ من نحو بئر جَمَل، فكان السلامُ فيه بعدَ البول لا حال البول، وفيه رَدُّهُ صلى الله عليه وسلّمعليه بعد التيمم، وليس فيه ذِكْرُ العِلّة.(2/89)
وأمَّا حديث ابن عمر رضي الله عنه ففيه: أنه سَلَّم عليه حالَ البول، وفيه أنه لم يَرُدَّ عليه السلامَ. وفيه عند الطحاوي، وأبي داود جواب السلام بعد التيمم، مع ذكر التعليل، والاختلاف في أنَّ السلامَ كان بعد خروجه من غائطٍ أو بولٍ، فاختلف حديثه: ففي الترمذي ومسلم والطحاوي في طريق: أن السلامَ كان حالَ البول، وعند الطحاوي من طريق آخر وأبي داود: أنه كان بعد الخروج من الغائط، أو البول.
أما حديث مهاجر ففيه اختلاف أيضاً، فعند ابن ماجه: أنه سلَّم عليه وهو يتوضأ، فلم يردَّ عليه السلامَ حتى فَرَغ من وضوئه، مع ذكر التعليل. وهكذا عند الطحاوي في طريق. وعنده من طريق آخَرَ وأبي داود: أنه سلَّم عليه وهو يَبُولُ، وعلى الأول فيه استدلالُ الطحاوي على اشتراط الطهارة للأذكار، كما ذَكَره في باب التسمية على الوضوء، على خلاف مذهب الشافعية. وأورد عليه ابن نُجيم أنه ينتفي منه الاستحباب أيضاً، مع أنها مستحبةٌ في المذهب.
قلت: وهذا غيرُ واردٍ عليه، لأنَّه ذهب إلى نَسْخِهِ وقال: إنَّ الطهارةَ كانت واجبةً للأذكارِ في زمنٍ، ثم نُسِخَت. وذكره في «باب ذِكْر الجُنب، والحائض، والذي ليس على وضوء، وقراءتهم القرآن» عن عبد الله بن علقمة بن الغَفْواء عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّمإذا أهْرَاق الماءَ إنما نكلِّمُه فلا يكلِّمُنا، ونسلِّمه فلا يردُّ علينا، حتى نزلت: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ}(المائدة: 6). انتهى وإذا نُسخ الوجوبُ فلا بأس بقول الاستحباب.
(2/90)
قلت: وفيه جابر الجُعْفي وهو ضعيف، وعلى الثاني يعني إذا كان لفظه: وهو يبول، تَحَوَّلَ إلى مسألة أخرى، وهي ما في حديث ابن عمر رضي الله عنه. والذي تبين لي أنَّ قصةَ أبي الجُهَيم، وقصة ابن عمر رضي الله عنه واحدةٌ، لما عند الدارقطني «وكنز العمال» في قصة ابن عمر رضي الله عنه كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه، يعني أنَّ السلامَ كان حالَ البول. وما في حديث أبي الجُهَيم ففيه تقديم وتأخير في سرد القصة، فمجيئه من نحو بئر جَمَل كان بعد الفراغِ عن البول، وبعد سلامه عليه، يعني كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّميَبُول فَلَقِيه ذلك الرجُلُ وسَلَّم عليه فلم يردَّ عليه، حتى إذا أقبل من نحو بئر جَمَل بعد البول تَيَمَّمَ وردَّ عليه السَّلام.
وأمَّا في حديث مهاجر فإنَّه قِصَّةٌ أخرى، وحينئذ تَحَصَّل أنهما قِصَّتان، غير أنَّ حديثَ مهاجر يتردد بين أَنْ يكونَ فيه مسألةُ اشتراط الطهارة للأذكار، أو عدم رَدّ السلام حالَ البول، على اختلاف لَفْظَيه عند ابن ماجه رحمه الله تعالى، وأبي داود كما عَلِمْتَ، والسلام فيهما حال البول، والجواب: بعد التيمم أو الوضوء مع التعرض إلى التعليل. ويُشْكِل فيه التيمم حال وُجْدَان الماء، وكراهة الذِّكْر بدون طهارة.
والحَل: أنَّ التيممَ للأشياء التي لا تحتاج إلى الطهارة صحيحٌ حال وُجْدَان الماء أيضاً عند صاحب «البحر»، وإن ردَّ عليه الشامي. والصواب عندي: ما اختاره ابن نُجيم صاحب «البحر».
وأما حَلُّ المسألة الثانية: فإن كان الأمر فيه أنَّ الوقائعَ كلها تُرَدُّ على مورد واحد وأن السلام فيها كان حال اشتغاله بالبول كما قررت، كان معنى قوله: «إلا أَني كَرِهت أن أذكرَ اللّهَ إلا على طُهْر، أي الطُّهر من البول وعدم اشتغاله له، ويكون حاصل التعليل بقرينة وقت السلام: أَني كَرِهت أن أذكرَ اللّهَ حالَ اشتغالي بالبول، فلم أرد عليك، وإن كان اللفظ عاماً. وفيه نظر من وجهين:(2/91)
الأول: لِما في «العمدة» عن الطبراني بزيادة وهي: أنَّه دعا بوَضوءٍ فتوضأ، ورَدَّ عليَّ وقال: «إني كرِهت أَنْ أذكرَ اللّهَ على غير وضوء». فإن كانت محفوظةً ففيها تصريح بأنَّ الكراهةَ كانت لعدم كونه على الطهارة، لا لاشتغاله بالبول.
والثاني: أنَّه لم يجب بعد الفراغ عن البول أيضاً إلا بالتيمم، أو الوضوء، فعاد الإشكال، لأنه إذا صرفنا قوله: «إلا على طُهر» على معنى الطهر عن البول، وعدم الاشتغال له، فنحن وإن خرجنا منه عن عهدة القول، إلا أنَّه لم يزل فِعلُه وارداً علينا، فإنَّه لم يجب بعد الفراغ أيضاً، فدل فِعْله على أنَّ جواب السلام ينبغي أن يكون على حال الطُّهر. ولكن في «العمدة» عن ابن دقيق العيد أنَّه أَعلَّ الحديث لِما في البزَّار بسند صحيحٍ عن ابن عمر رضي الله عنه: أن رجلاً مَرَّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلّموهو يبولُ فسلم عليه الرجل فرد عليه السلام، فلما جاوزه ناداه وقال: «إني رددتُ عليك خشيةَ أن تقولَ سلمتُ ولم يُجِبْني، فلا تسلِّم علي، فإنك أنَّ تَفْعَل لا أردُّ عليك». فاضطرب الحديث جداً، وراجع «نصب الراية».
(2/92)
وما تحرر عندي في هذا الباب: أَنَّ السلامَ كان حالَ البول، والجواب: بعد التيمم مرةً، وبعد أَنْ أَقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلّممن نحو بئر جَمَل، كما ذكره أبو الجُهَيم. فإذا رأيت في القصتين إتيانَه صلى الله عليه وسلّممن نحو بئر جَمَل حَكَمْتَ أنها قصةٌ واحدةٌ، بقي الاختلاف بكون السلام بعد البول عند أبي الجُهَيم، وحال البول عند ابن عمر رضي الله عنه، فالأمر فيه سهل ويُحمل على توسع الرواة. ويقال: إن الواقعة على صرافتها الوضوء أخرى، ثم أظن أنَّ ردَّ السلام واجبٌ على الفورِ، فإن تأخر سقط عنه إلا أن التأخير ههنا لما كان لمانع شرعي، وهو أنه أراد أن يذكرَ اللّهَ حالَ الطهارةِ فيحمل فيه التأخير بقدر الوضوء، أو التيمم، ولم يسقط عنه الجواب وساغ له أن يردَّ عليه بعد الوضوء أو التيمم.
وفي «المسند» لأحمد عن عبد الله بن جابر قال: إني سلمت على النبيِّ صلى الله عليه وسلّمثلاثَ مرارٍ لا يُجِيبُني كلَّ مرةٍ، حتى دخل حجرته وتوضأ مستعجِلاً، وردَّ عليَّ ثلاث مرار. وليس فيه ذِكر البول، ولا ذِكْر البول، ويَخْرُج منه أنَّ العزيمةَ فيما لم يَخَفِ الفَوْتَ وكان بصدد الطهارة، أن يردَّ بعدها، وهو عند ابن كثير أيضاً. وعبد الله بن جابر اختُلف فيه، قيل: إنه بياضي من بني بياضة، وقيل: عبدي.
وحاصل: المسألة عندي أنَّ الذِّكر المختص بالوقت كقوله: غفرانك، يُؤتى به في وقته مطلقاً، وأما غير المختص منه، فالمستحب فيه أن يكون على طهارة إلا إذا خاف الفوات، وقد مرَّ عن صاحب «الهداية» في باب الأذان أنَّ الطهارةَ تستحب للأَذكار.(2/93)
قلت: ومع هذا لا تُكره قراءةُ الأذكار بدونها ولو تنزيهاً، لأنَّه لا يلزم أن يكون كلُّ خلافِ المستحَبِّ مكروهاً تنزيهاً، بل لا بد له من دليل خارج، وهو قد يكون، وقد لا يكون، فلعلَّ الكراهة المذكورة في الحديث طبعي لا فقهي، فإِنَّ الطبائعَ الذكية تَحُسُّ من مثل هذه الأمور كُربة وغُمة، ويفوت عنها الانشراح، فكيف بطبع النبيِّ صلى الله عليه وسلّمالذي كان في أقصى مراتب النزاهة والنظافة. ثم ههنا فَرْقٌ بين فراغ البول عقيبه، وبينه بعد برهة، فإِنَّ الإنسانَ إذا بَعُدَ عهدُه بهذه الأشياء وطرأ عليه ذهولٌ ما تزول عنه تلك الكراهة، ويصدِّقه وجدانك إن شاء الله تعالى.
ولي ههنا إشكال آخر لما رواه الترمذي، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّمكان يذكر اللَّهَ في كل أحيانه، ومعناه أنَّه لم يكن ممتنعاً عنه في حالٍ. وقد رُوي عنه عن غيرِ وجهٍ أنه لم يكن يَحْجُرُه عن قراءة القرآن شيءٌ غير الجنابة، فإِما أَنْ يقال كما قاله الطحاوي من النسخ، أو يُفَرَّق بين الكراهة قبل الاستنجاء، وبين الكراهة بعده، ولعلَّك لو نظرت على هذه الأجزاء بالغور والإِمعان سَهُل عليك الأمرُ، وعلمت أَنَّ المسألةَ المشهورة لا تُخَالِفُ الأحاديث.
وقد علمت أن مولانا الجنجوهي رحمه الله تعالى كان يُفتي بجواز الردِّ حال الاستبراء، أي بعد الفراغ عن البول حال استعمال الحجارة، وكان مولانا محمد مظهر رحمه الله تعالى يمنع منه.
قلت: أما في الفقه فكما اختاره مولانا الجنجوهي رحمه الله تعالى.
قوله: (ولا يَجِدُ مَنْ يُنَاولِهُ)... إلخ وعندنا يتيمم وإن كان يجده، لأنَّ القدرة بالغير غير مُعتَبرة عندنا.
قوله: (فلم يُعِد) وهو المسألة عندنا.
337 - قوله: (بئر جَمَل) وإنما سُمِّيَت به لسقوط جَمَلٍ فيها.(2/94)
337 - قوله: (رَجُلٌ) وهو أبو الجُهَيم نفسه، وإنما أبهم وأخفىَ اسمه لأنَّ ما سيذكره شيءٌ مكروهٌ ومن عدم جوابه صلى الله عليه وسلّمله. وفي مثله يفعل البيلغُ مِثلَه، ولا بَحْثَ لنا في البليد.
باب المُتيَمِّم هل يَنْفخُ فِيهِمَا؟
وواقعة عمَّار مع عمر رضي الله عنهما هذه ما علمتُ متى هي، مع أني تتبعت ذلك كثيراً، وبوَّب عليه النسائي: «باب التيمم في الحضر»، وعنده واقعة أخرى في السفر في قصة فُقْدان القِلادة. وعبارة الترمذي تُشْعِر باتحاد القصتين. وذهب الطحاوي إلى تَعَدُّدِ القصتين، لأنَّ روايتهُ بالمسح قبل روايته بالكفين، ولهذه الواقعة نسب إلى عمر رضي الله عنه أنَّه كان لا يرى التيمم من الجنابة، ومثله نُسِب إلى ابن مسعود رضي الله عنه، وسيجيء بيانه.
باب التَّيَمُّمُ لِلوَجْهِ وَالكَفَّين
واعلم أنَّه جاءت الروايات في صفات التيمم على خمسة أنحاء: المسح إِلى الرُّسْغَين، والمسح إلى نصف الساعد، والمسح إلى المِرْفَق، والمسح إلى نصف العَضُد، وخامسها: المسح إلى الإباط، والمناكب، وضعَّف الحافظ أحاديث المسح إلى نصف العَضُد، ونصف الساعد.
قلت: ولعلَّ الوجه أنَّ مَنْ زاد على الرُّسْغَين بشيءٍ عَبَّروه بنصف الساعد، وكذلك مَنْ زاد على المِرْفَقين عَبَّروه بنصف العَضُد، ولم تكن هاتان صفتين مستقلتين عندهم، وإنما أريد بهما استيعابُ المَحَلّ رُسْغاً كان أو مِرْفَقاً. ولا بد في الاستيعاب من زيادة فَخُيِّل أنهما صِفَتان. أما أحاديث الرُّسغَين فأصحُّها ما في الباب، وحديث الآباط أيضاً قَوِيٌّ، وحَسَّن الحافظ أحاديثَ المَسْح إلى المِرْفقين أيضاً. ثم الاختلاف فيه في موضعين:(2/95)
الأول: في الضربات، فقال مالك في روايةٍ وأحمد: تكفي ضربةٌ. وذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وصاحباه ومالك - في رواية «الموطأ» إلى أنَّه ضربتان. والتيمم بالضربتين جائزٌ عند أحمد رحمه الله تعالى أيضاً وإن كان المختار عنده ضربةً واحدةً.
والموضع الثاني الذي اختلفوا فيه: أنَّه إلى أين؟ فعند أحمد إلى الرسغين، وهو رواية عن الإِمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى ذكره صاحب «مراقي الفلاح»، والمختار عندنا وعند الشافعيّ رحمه الله تعالى أنَّه إلى المِرْفقين. وظاهرُ ما في «الموطأ» لمالك رحمه الله تعالى أنَّه يكونُ التيمم إلى المرفقين واجباً عنده أيضاً، لكنَّ الشارحين حين حملوه على الاستحباب.
ولنا ما أخرجه البَغَوي في قصة أبي الجُهَيم أنه ردَّ عليَّ السلامَ بعدما مسح بوجهه وذراعيه، وحَسَّنه، ثم اطلعت على إسناده بعد زمان فوجدت فيه راوياً ساقطاً، وهو إبراهيم بن محمد. ولنا أيضاً ما رواه الدَّارقطني عن جابر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّمقال «التيممُ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ للذِّرَاعَين إلى المِرْفَقَين». واختُلِف في رَفْعِه وَوَقْفِهِ، قال الدَّارقطني: والصواب أنَّه موقوفٌ. ونقله الزَّيْلعي في تخريج «الهداية»، ولم يَنْقل فيه مَقولة الدارقطني، فكنت فيه متردداً لأني ما جربت عليه أنه يُخفي شيئاً ويَبْتُر النقل، حتى وجدتُ في «التلخيص»: قال الدَّارقطني: «رجاله ثقات» في الصلب، وفي الهامش. والصواب أنَّه موقوف، فعلِمْتُ أنه نقل ما كان في الصلب وترك ما كان في الهامش، ولم يدخله في الصلب.
(2/96)
وأخرجه الطحاوي أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال: أتاه رجلٌ فقال: أصابتني جنابةٌ، وإني تَمَعَّكْتُ في التراب، فقال: أصِرت حماراً؟ وضرب بيديه إلى الأرض فمسح وجهه، ثم ضرب بيديه إلى الأرض فمسح بيديه إلى المِرْفَقين، وقال: هكذا التيمم. والذي يقع في الخاطر أَنَّه مرفوعٌ ومَن صوَّب وَقْفَه إنَّما حمله على ذلك إرجاعُ الضمير إلى جابر رضي الله عنه. وعندي مَرْجِعُه إِلى النبي صلى الله عليه وسلّم وإنما ينقل جابر رضي الله عنه ما كان جرى بين النبيِّ صلى الله عليه وسلّموبين هذا الرجل من القصة، ولنا ما رواه البَزَّار عن عَمَّار في قصة، وفيها: أَمَرَنا فَضَرَبْنا واحدة للوَجْهِ، ثم ضربةً أخرى لليدين إلى المِرْفَقَين. وحَسَّنه الحافظ في «الدراية»، وهي تلخيص نصب الراية، للعلامة الزَّيلعي، وغلط الكاتب في اسمها فكتب «نصب الراية» مكان «الدراية».
341 - قوله: (يكفيك الوَجْهُ والكَفَّيْن) والظاهر أَنْ يكون «الكفان» وقد مرَّ معنا مفصّلاً أنَّ هذا التعبير مستفاد من قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} على قراءةِ النصب، ولعله روايةٌ بالمعنى، وحكايةٌ للفعل بالقول وإنَّما كان أشار إليه كما في الرواية المارة: «إنما يكفيك هكذا» وكانت تلك إشارة إلى المعهود، ولِما عَلِمتَ من رواية الطحاوي تعدد الواقعتين، أَمْكَن أن تجعل ما في قصة عمر وعمَّار رضي الله عنهما إشارةً إلى ما تعلم من صفته من قبل. وإنما سلك النبيُّ صلى الله عليه وسلّممَسْلَك الاختصار والإِشارة، لأنَّه كان بالغ فيه، فردَّ عليه فِعْلَه بأبلغ وجه، وقال: إنك تَمَعَّكْتَ مع أنه تَكْفِيك هكذا فقط، فليس هذا موضعَ تعليم فقط بل تعليمٌ مع الرد على مبالغته بأبلغ وَجْهٍ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّمفي حديث جُبَير بن مُطْعِم حين تَماروا في الغُسْل: أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثاً لا يريد بذلك الاقتصار عليه فقط، بل الردّ على المبالغات.(2/97)
باب الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ المُسْلِمِ يَكْفِيهِ مِنَ المَاء
ولعله اختار مذهب الحنفية وترك مذهب الشافعية ولذا لم يتعرض إلى تفصيل فيه: من كونه مُنْبِتاً أو لا. ولا عجب أن يكون إشارة إلى مسألة أخرى أيضاً، وهي طهارة مطلقةٌ عندنا، وضروريةٌ عند الشافعية، فجعله وضوءَ المسلم فكان طهارةً مُطْلقة كالوضوء.
قوله: (وقال الحسن)... إلخ واعلم أَنَّ رؤية الماءِ والقدرة على استعماله من نواقض التيمم عندنا، وعند أحمد نواقِضُه تواقضُ الوضوء فقط، وليست الرؤية من نواقضه، فكأَنَّ المصنِّف رَحِمه الله تعالى أشار إلى مذهبه وتمسك بقوله صلى الله عليه وسلّم «ما لم يُحْدِث».
قوله: (وأَمَّ ابنُ عباس رضي الله عنه) وأنكر محمد رحمه الله تعالى إِمَامةَ الميتممِ للمتوضىء، كإنكاره إمامة القاعِدِ للقائم.
قوله: (وقال يحيى بن سعيد) أي القاضي، وليس بالقطان.
قوله: (عَلى السَّبَخَةِ) فاكتفى بنجس الأرض، وترك تفصيل الشافعية كما مرَّ.
344 - قوله: وكنَّا في سَفَرٍ)... إلخ وهذه واقعة التعريس، واختُلف فيها على أربعة أوجه: فقيل: إنَّه عند رجوعه من خيبر، وقيل: في غزوة أولات الجيش، وقيل: في قُفُوله من غزوة تَبوك، وقيل: من الحديبية. أقول: وأقطع على أنَّها واقعة واحدة لا أنها واقعت عديدة، وإنما الاختلاف من الرواة في تعيينها والأرجح عندي أنه واقعة خيبر. وما عند أبي داود أنها في غزوة «مؤتة» فغلط، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّملم يكن في تلك الغزوة.
344 - قوله: (لا ضَيْرَ) واعلم أَنَّ النقصان في الأمور الدينية على نحوين: الأول: من جهة النية، والثاني من جهة وجود الشيء. والمُنتَفى ههنا هو الأول فلا ضَيْر من تلقاء النية، أما النقصان باعتبار وجود الشيء فقد وجد، فمعناه لا إثم وإن فاتتهم الصلاة.(2/98)
344 - قوله: (ارْتَحلوا) قال الشافعية: وإنَّما أمرهم بالارتحال لأنه كان مكاناً حَضَره الشيطان. قلنا: وما لكم تفَرُّون من مكان الشيطان ولا تفرُّون من زمانه، فكلا الأمرين مَرْعيَّان: مكان الشيطان، وزمانه. وقد رُوي: أنَّ الشمسَ تَطْلُع بين قَرْنَي الشيطان، ثم لا أدري أنَّهم قالوه جواباً فقط أو المسألة عندهم تَرْك الصلاة في مكان الشيطان؟ ولم أر في هذا الباب منهم إلا ما كتبه ابن حجر المكي الشافعيّ في «الزواجر» وهو غير الحافظ رحمه الله تعالى: أن تَرْكَ مكان المعصية من مُكَمِّلات التوبة.
344 - قوله: (فَصَلَّى بالنَّاس) وفي كتاب «الآثار»: أنه جهر فيها أيضاً، فَعُلم منه أنه ينبغي الجَهْر في قضاء الجهرية، وليست تلك المسألة إلا في هذا الكتاب. وفيه اختلاف المشايخ الحنفية. والأرجح عندي ما قررت، ثم إذا فاتته الجماعة هل يجب عليه ابتغاء الجماعة في مسجد آخر غير مسجده؟ فالظاهر أنه لا يجب عليه، ولا يبقى عليه وجوبُ الجماعة بعد فواتها، نعم لا شك في الاستحباب. وفي هذه الواقعة تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلّمقضى سُنَّة الفجر قبل ركعتيه.
قوله: (قال أبو العالية)... إلخ. قال البيضاوي: إن الصابئين كانوا عُبَّاداً للنجوم. وقيل: إنهم كانوا يُنْكِرون النبوة، وكانوا على مُضَادَّة الحنفية، ثم صار من ألقاب الذمّ.(2/99)
قلت: وقد تحقق عندي من التاريخ أنَّ العربَ كنوا يُلَقِّبون أنفسهم بالحَنِفِيَّة، وبني إسرائيل بالصابئية، وكان بنو إسرائيل يعكسونه. ونقل الشهرستاني مناظرتهم في نحو خمسين ورقةً، ويفهم منه أنهم كانوا يُنْكِرون النبوة. ومرَّ عليه الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى وقال: إنهم كانوا من الفلاسفة، وزعم أنهم كانوا فرقة من أهل الكتاب لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَرَى وَالصَّبِئِينَ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَعَمِلَ صَلِحاً} (البقرة: 62) الآية، حيثُ سَوَّى فيه أمرَهم وأمرَ أهلِ الكتاب، ووعد بالأجر لِمَنْ آمن منهم كما وعد لليهود والنصارى فهو صريحٌ في كونهم أهلَ الكتاب، لأنه ذَكر إيمانَ بعضهم.
وقال آخرون: إِنَّ المرادَ بِمَن آمن: مَنْ يؤمن في المستقبل، وحينئذٍ لا يكون فيه دليل على كونهم كَتَابِيَّين. ويكون المعنى: أنَّ الفوزَ بالآخرة لا يختص بجماعة دون جماعة، ولكن مَنْ يؤمن بالله ورسوله فله النجاة سواء كان يهودياً، أو نصرانياً، أو غيرهما، وليس كما يزعمه اليهود والنصارى أنَّ الآخرةَ تَخْتَص بهم، ففيه تفصيلٌ بعد الإِجمال. وقد مرَّ معنا في كتاب الإِيمان في باب «الدِّين يُسْر» إن «مَنْ آمن» الثاني استئناف عندي، وقد مرَّ في موضع أنَّ الصابئين عندي مِمَّن كانوا يريدون تسخيرَ عالم الأمر بنوعٍ من الرياضات، كتسخيرنا الأجنة بالأعمال الحنيفية، فإِنه تخشُّع وتَذَلُّل وتَمَسْكُن وتَضَرُّع من تلك الجهة، وأداء لوظيفة العبودية فقط بدون نية تسخير.
قوله: (أَصْبُ) أَمِل. وستعلم أن الإِمام الهُمام له شَغَفٌ باللغة فنبه ههنا على الفرق بين المهموز والناقص.
باب إِذَا خَافَ الجُنُبُ عَلَى نَفسِهِ المَرَضَ أَوِ المَوْتَ، أَوْ خَافَ العَطَشَ، تَيَمَّم(2/100)
قوله: (ويُذْكَرُ أَنَّ عَمْرَو بنَ العاص)... إلخ. وحديثه في السنن، وهكذا المسألة عندنا. ثم إن التيمم من الجنابة لا ينتقض إلا عن موجِبات الجنابة، ولا ينتقض عن نواقض الوضوء.
345 - قوله: (وحدثنا بِشْر بن خالد)... إلخ. وفيه قصة أبي موسى رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، والترتيب فيه ليس على وجهه، كالترتيب فيما ذكره عن محمد بن سلام، والترتيب الصحيح فيما حدثه عمر بن حَفْص رضي الله غنه.
وحاصله: أَنَّ ابن مسعود رضي الله عنه لما أنكر التيمم من الجنابة أورد عليه أبو موسى قِصة عمر وعمار رضي الله عنهما، ثم لما أجاب عنه ابن مسعود رضي الله عنه وقال: إن عمر رضي الله عنه لم يَقْنَع بقوله، أورد عليه الآية الدالة على التيمم من الجنابة، وحينئذ لم يَدْرِ ابنُ مسعود رضي الله عنه ما يقول، والتجأ إلى إظهار مُضْمَرِه، وصرَّح بأنَّ إنكارَه لأجل المصلحة، لا لإِنكاره التيممَ رأساً. وانكشف به أنَّ إنكار عمر رضي الله عنه أيضاً كان من هذا القبيل عنده، فما نسب الترمدي إليهما ليس بصحيح، وكذا عُلم منه أنَّ الملامسة عنده محمولةٌ على الجِماع وإلا لم ترد عليه الآية أصلاً، ولقال: إنَّ التيمم في الآية ليس من الجنابة، بل من مسّ المرأة فتقديره على أنَّ الآية وردت في حكم التيمم من الجنابة دليلٌ على أنَّ الملامسة عنده هي الجِماع، لا كما نسب إليه أبو عمر فهو أيضاً مَحَلُّ تَرَدُّد.(2/101)
واعلم أنَّه قد وقعت أغلاطٌ كثيرة في نقل مذاهب الصحابة رضي الله عنهم، لأنها غيرُ مخدومة، وليس جميعها متوارثة بالعمل، فأخذوها من مقولتهم فقط. ومعلوم أنه لا يحصل شيءٌ من النقل فقط، وإنما يُفهم الشيء بعد الممارسة، ولا تكون إلا بعد العمل بها كما رأيت ههنا، فنسبوا إنكار التيمم إلى ابن مسعود رضي الله عنه مشياً على اللفظ فقط، وهو قوله: «لا يصلي حتى يجد الماءِ»، مع أنك إذا حققت الأمر استبنت أنه لا يُنكِره أصلاً. ثم إذا نُسب إليه الإِنكار من الجنابة فُرِّع عليه أنَّ الملامسة عنده في معنى مسِّ المرأة. هذه كما ترى كلُّها تفريعاتٌ على لفظه فقط، وقد كشفنا لك وجهه، وهذا هو وجه اختلافهم في حجية الوِجادة عندي، لأنها أخذٌ من الكتاب، ومعلوم أن الكتاب ليس كالخطاب، ولذا أقول، إِنه لو أقام بحقه ومارسه حتى أدركه بما فيه، كان حجة قطعاً.
باب التَّيَمُّمُ ضَرْبَة
باب
وهذا الترتيب أيضاً مقلوب، حيث ذكر فيه قصة عمر وعمَّار رضي الله عنهما بعدما كشف عن مراده، مع أنه لا إيراد عليه حينئذ، لأنه إذا أقر بالتيمم من الجنابة فما الإِيراد عليه بقصتهما؟
قوله: ضربةٌ وقد مرَّ معنا أنه وإن اكتفى بالضربة ههنا لكنه مختصر، والجمهور ذهبوا إلى الضربتين كما في الروايات المفصَّلات، فلا يُقْضى بالإِجمال على التفصيل ألا ترى أنه ذُكِر في هذه الرواية أَخصَر مِمَّا ذكره في عامة الروايات، فقال: «ثم مَسَح بها ظَهْرَ كَفِّه بشماله»، فلم يذكر مسح الكفين بتمامها أيضاً، وليس هذا مذهباً لأحد فاعلمه، فإنه يفيدك في دَعْوى الاختصار في تلك الروايات، والله تعالى أعلم.
كتاب الصَّلاة(2/102)
سمّيت الصلاة صلاة لكونها متَّبعًا بها فِعْلَ الإِمام، فإن التّالي للسابقِ من الخيل يسمّى مصلِّيًا لكون رأسه عند صَلا السابق. كذا ذكره الباقلاّنِي، وهو الوجه عندي في تسمِيَتِهَا صلاة، لا أنها من تحريك الصلوين، فإِن المُقتدي يصلّي خلفَ الإِمام ويتَّبع فعلَه ويجري معه، ونظرًا إلى هذا الاستصحاب قال صاحب «الهداية»: إن ربط القدة هو للتَّضمُّن، فراعى في صلاة الجماعة التَّضمُّن، أعني أن صلاة الإِمام متضمِّنةٌ لصلاة المقتدي، فلم يكن الإِمام مجليًا والمقتدي مصليًا في الحس فقط، بل بِحَسَب المعنى أيضًا حتى صار الإِمام يَسْتَصْحِبُ صلاةَ المقتدي معه بحيث تَوَقَّفت صلاةُ المقتدي على صلاةِ إِمامِهِ صحةً وفسادًا؛ ولذا قال أصحابنا: إن اتحاد الصّلاتين من شرائط الاقتداء بخلاف الشافعي رضي الله عنه، فإنه خَالَفَنا في تلك الفروع كلِّها فلا سِرَايةَ عنده لصلاةَ الإِمام إلى صلاة المقتدي، وجاز الاقتداء عنده عند اختلافِ الصّلاتين فرضًا ونفلا حتى الاختلاف وقتًا أيضًا، وقد بسطناه من قبل. وقد علمت أن البخاري رحمه الله تعالى وسَّع فيه أزيدَ من الشّحافعية رحمهم الله تعالى، ومن هنا أجاز بتقدم تحريمة المقتدي على تحريمة الإِمام.(2/103)
ثم لا يخفى عليك أن كلَّ عبادة تكون من المخلوق تعظيمًا لخالقه وخشيةً له أسمِّيها صلاة، والصلاة بهذا المعنى تشترك في جميع الخلق وإن اختلفت صورها، فصلاة كلَ ما نَاسَبَهُ، وإليه يُشير قوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} (النور: 41) فأشار إلى اشتراك جميع الخَلْقِ في وظيفةِ الصلاةِ مع تغاير صُوَرِهَا كالسّجدة فإِنَّ الخلائِقَ كلُّها تَسْجُدُ لربِّها ولكن كلٌّ بِحَسَبِهَا، قال تعالى: {و يسجد من في السموات والأرض} (الرعد: 15) فَوُقوعُ الظِّلال على الأرض هو سجودُها، وبالجملة حقيقةُ الصلاةِ مشتركةٌ في الخلائق كلِّها حتى رأيتُ في حديثٍ في قصة المعراج: «قف يا محمد فإن ربَّكَ يصلي». فَتَحَقَّقَتِ الصلاةُ في جنابه تعالى أيضًا، غير أَنَّ صلاةَ الخالقِ ما ناسَبَهُ، وصلاةَ المخلوقِ ما نَاسَبَهُ، وللبسط موضوع آخر.
واعلم أنَّهم اختلفوا في أن الرُّكوع كان في الأمم السالفة أم لا؟ فقال بعضهم: لا، وتَمَسَّكوا بما في المُسْنَدِ لأبي يَعْلَى عن علي رضي الله عنه، وقال بعضهم نعم وتمسكوا من قوله تعالى: {وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ} (آل عمران: 43).
قلت: ورأيت في كتابِ نصرانيّ أن صلاةَ المُنْفَرِدِ عِنْدَهُمْ كانت ساجدًا، والجماعةِ راكعًا، وصلاة اليهود قائمًا وفي بعض الأحوال ساجدًا. ومع هذا أظنُّ أنّه لا بُدَّ من ثبوتِ الرُّكوع في حقِّ أنبيائِهِم، ورأيت عن وَهْبِ بن مُنَبِّه أن الأنبياء السابِقِيْنَ كانوا مأمورِينَ بالوضوءُ عند كلِّ صلاة، وكانوا يصلون كصلاةِ هذه الأُمَّةِ على خلاف شاكلةِ أُمَمِهِمْ، ثم إن الاصطفاف من خصائِصِ هذه الأمة، فصلاتُهُم وإن كانت بالجماعةِ أيضًا إلا أنّه لم يكن فيهم الصَّفُّ.
باب كَيفَ فُرِضَتِ الصَّلَوَاتُ فِي الإِسْرَاء(2/104)
يُعْلَمُ من طريقِ المصنِّف رحمه الله تعالى أنّه سمّى مجموعَ القَطْعين إسراءً، بخلاف عامَّتِهِم فإِنَّهم يُسَمُّون القِطْعة التي من بيته إلى بيتِ المقدس إسراءً، والتي منه إلى السماواتِ العُلى معراجًا، فَفَرْضِيّة الصلاة إنما هي في المعراجِ على طريقهم، ولما كانت القِطْعَتان عنده إسراءً جَعَل فرضِيَّتَها في الإِسْراءِ. ثم إنّ القرآن ذكر إحدى القِطْعَتَيْنِ في سورة النَّجم وهي ما تتعلَّقُ بسيرِ السماواتِ، والرؤيةُ فيها عندي رؤيةُ ربِّه جلَّ سبحانهِ كما اختاره أحمد رضي الله عنه، وذَكَرَ أُخْرَاها في سورة بني إسرائيل. والمِعْرَاجُ كان منامًا مرةً ويقظةً أُخْرَى، وقد مرَّ أن النبي صلى الله عليه وسلّمربّما كان يَرَى منامًا ما كان يَقَعُ له في اليَقَظَةِ فَلَعَلَّهُ وَقَعَ مِثْلُهُ في قصة المِعْرَاجِ أيضًا. فرآه منامًا أولا ثم عَرَجَ بِهِ يَقَظَةً، وقد مرَّ أن صلاة الفجر والعصر عندي كانت فريضةً قبل المعراج أيضًا كما ذهبَ إليه جماعةٌ، وأما في المعراج فتكاملت خمسًا.
قوله: (وقال ابن عباس رضي الله عنه...) يريد أَنْ يُنَبِّهَ على أَنَّ الصلاة كانت قبلَ الإِسْرَاءِ أيضًا كما قال أبو سفيان في حديث هِرَقْلَ.
349 - قوله: (أَسودة) جمع سواد. وترجمته «كالبد».(2/105)
349 - قوله: (عن يمينه... إلخ) قال الحافظ: قال القاضي عياض: قد جاء أنَّ أرواحَ الكُفَّار معذبةٌ في سِجِّين، وأنَّ أرواحَ المؤمنين مُنَعَّمَةٌ في الجنة، فكيف تكونُ مُجْتَمِعَةً في سماء الدنيا؟ ويُحتمل أن يُقال: إنَّ النَّسَمَ المرئِيّة هي التي لم تدخل الأجسادَ بعدُ، وهي مخلوقةٌ قبلَ الأجسادِ، مُسْتَقَرُّهَا عن يمينِ آدم وشمالِهِ، وقد أَخْبَرَ بِمَا سيصيرونَ إليه فلذلك يَسْتَبْشِرُ إذا نَظَرَ إلى مَنْ عن يمينه، ويَحْزَنُ إذا نظر إلى مَنْ عن يسارِهِ. ثم قال الحافظ: أما ما أخرجه ابن إسحق والبيهقي من طريقه في حديث الإِسراء: «فإذا أنا بآدم تُعْرَضُ عليه أرواحُ ذرِّيَّتِهِ المؤمنينَ، فيقولُ: روحٌ طَيِّبَةٌ ونَفْسٌ طَيِّبَةٌ اجعلُوها في عِلِّيِّيْنَ، ثم تُعْرَضُ عليه أرواحُ ذريته الفُجَّار، فيقول: روحٌ خبيثةٌ ونَفْسٌ خبيثةٌ اجعلوها في سِجِّينَ». فهذا لو صَحَّ لكانَ المصيرُ إليه أولى من جميع ما تَقَدَّمَ، ولكن سنده ضعيف.
قلت: ولا بأس به في مثل هذه الأمور، والجوابُ عندي على ما هو التحقيق عند أربابِ الحقائِقِ: أن الجِهَات تنقلبُ في الآخرة، فتصيرُ العاليةُ يمينًا والسافلةُ شمالا، ولا يَبْقَى هناك فوق ولا تحت، ولما كانت تلك الواقعة في عالم يُشْبِهُ الآخِرَة لم يَبْعُدْ كونُ الأرواح الخبيثةِ التي مُسْتَقَرُّهَا في سِجِّين تحت الأرض على شمالِ آدم عليه الصَّلاة والسَّلام، وكذلك لا بُعْدَ في كون الأرواح الطيبةِ التي مستقرّها عِلِّيِّيْنَ على يمين آدم عليه الصَّلاة والسَّلام، لأن اليمينَ هناك والشمالَ هو الفوقُ والتحتُ عندنا الآن، فالأرواح التي مستقرُّهَا فوقَ السماواتِ أو تحتَ الأَرضينَ ظهرتْ على يمينه أو شِمَالِهِ.
(2/106)
ثم تِلْكَ الأَرواحُ هل هي التي لم تدخل في الأجساد أو التي تجرَّدَتْ عن أجسادِهَا بعد الموتِ؟ فالجواب: كما مر عن «الفتح» روايته: ثم ليعلم أن الرُّوحَ المُجَرَّدَ ليس بمكانيَ وليس له تَعَلُّقٌ بالمكانِ المخصوصِ، بخلافِ حالِ الجَسَدِ فإِنَّه لا يوجد إلا بالمكانِ، والبدنِ المثالي بَيْنَ بَيْنَ. قال الصَّدْرُ الشِّيرَازي: إنَّ النَّفْسَ الناطقةَ مُنْغَمِسَةٌ في شوائبِ المادةِ، ثم تصيرُ بعد الرياضاتِ مجرّدةً تدريجًا، ثم إن الروحَ والنَّسَمَةَ، والنَّفْسَ والذَّرَّ كلَّها أشياءٌ متغايرةٌ وليست حكايةً عن معنىً واحد، ولذا ترجم ابن سيناء الحيوانَ «جان» والروح «روان» ففيها فروق.
ولم يتكلم التُّورِبِشْتِي لما مرّ على شرحِ أحاديث الذَّرِّ إلا بالذَّرِّ، ولم يُغَيِّر هذا اللّفظ ولم يَضَعْ مكانَه لفظًا آخرَ، ففهمتُ أنّه لا يُتْرَك هذا اللّفظ لهذه الدّقيقة، والذّرّ وإن كان قريبًا من الروح لكنّه أُطلق على الجسد أيضًا. قال ابن دقيق العيد رحمه الله: لو وُجِدَتْ تضانيفُ هذا الفاضِلِ لَنَفَعَتِ الأمة جدًا، ولكنّها تلفت في فتنة التتار. وزعم الناس أنّه شافعي رحمه الله تعالى. قلتُ: بل هو خلاف الواقع وهو حنفي تلميذ البغوي متقدِّم على الإِمام الرازي، وإنما تَوَهَّم من تَوَهَّم لذكره في طبقات الشافعية، وكونِهِ محدثًا.
349 - قوله: (سماء) أَنْكَرَ وجوده المُتَنَوِّرون، وقالوا: ليس فوقنا إلا جوهرًا لطيفًا غيرَ متناهٍ، والنجومُ تجري فيها سابحةً بنفسها. قلت: ولا دليل عليه عندهم، لِمَ لا يجوز أن يكونَ هذا الجَوّ على طبقاتٍ، كلُّ طبقةٍ منها تسمّىِّ سماءً، حتى تكونَ سبعَ سماواتٍ كما أخبر به النص؟
349 - قوله: (سماء الدنيا) واختار الشاه عبد القادر: أنَّ النجومَ كلَّها في سماءِ الدُّنْيَا.(2/107)
349 - قوله: (إدريس) واعلم أن نوحًا عليه الصَّلاة والسَّلام عُدَّ من أجدادِهِ صلى الله عليه وسلّماتفاقًا، وعَدَّ الجمهور إدريسَ عليه الصَّلاة والسَّلام أيضًا منهم لكونه متقدِّمًا على نوح عليه الصَّلاة والسَّلام أيضًا، فإذا كان نوح عليه الصَّلاة والسَّلام من أجدادِهِ فَإِدْرِيسُ عليه الصَّلاة والسَّلامُ بالأَوْلَى. وتردَّدَ فيه البخاري وقال: بل هو نبي من الأنبياءِ بعدَ نوح عليه الصَّلاة والسلام، ولذا ذَكَرَ أَوّلا نوحًا عليه السلام، ثم ذكر إلياسَ عليه السلام، واحْتَجَّ من كلام ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه وابنِ عباسٍ رضي الله عنه، أنَّ إلياسَ عليه السلام هو إدريسُ عليه السلام، ولا ريب أن إلياسَ عليه السلام نبي من أنبياء بني إسرائيل، فثبت تأخُّرُ إدريسَ عليه السلام عن نوحٍ عليه السلام. وتمسك بلفظه الأخ الصالح للنبي صلى الله عليه وسلّم
قلتُ: ولا دليل في ذلك لجوازِ أن يكونَ ذلك توسعًا، لأنه لم يواجِهْهُ أحدٌ من الأنبياء عليهم السلام بلفظِ الابنِ إلا آدمَ عليه السلام وهو أبو البشر، وإبراهيم عليه السلام وقد أعلن بأُبُوَّتِهِ هو في الدنيا ونَسَبَهُ إليه بنفسِهِ، فينبغي لهما أن يخاطِباه بالابنِ. ثم إنهم اختلفوا في أن إدريسَ عليه السلام وإلياسَ عليه السلام نبي واحد أو اثنان؟ والذي سَنَحَ لي أنهما اثنان، وإدريسُ عليه السلام نبيُّ متقدِّمٌ على نوح عليه الصَّلاة والسَّلام، بخلاف إلياسَ عليه الصَّلاة والسَّلام، فإنَّه نبي من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصَّلاة والسَّلام، لكنَّه أُطْلِقَ هذا الاسم على إدريس عليه الصَّلاة والسَّلام أيضًا، فالتُبِسَ الأمر لهذا، وراجِعِ التفصيلَ من «شرح المواهب» وابن كثير في تفسير قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (الإسراء: 1).(2/108)
349 - قوله: (صريف الأقلام) وهي صوتُ أقلامِ الكرامِ الكاتِبِينَ، كانوا يأخذون النَّقْلَ عن اللّوحِ المحفوظِ.
349 - قوله: (وهي خمسون) وقد ذكر في المقدّمة أنَّه ليس بنسخٍ، بل إلقاءٌ للمراد بعد دفعاتٍ.
ونظيرُهُ قصّةُ ليلةِ البعير مع النبي صلى الله عليه وسلّموجابر رضي الله عنه حيثُ قال له النبي صلى الله عليه وسلّم «بِعْنِي بعيرَكَ» فأجابه جابر: إني قد بِعْتُهُ منك، فراجعه النبي صلى الله عليه وسلّمبمثل ذلك وأجابَهُ كذلك، وقد وَقَع ذلك مرارًا، ثم انكَشَفَ الأمرُ حينَ بَلَغَ النبي صلى الله عليه وسلّمالمدينة أَنَّ غَرَضَهُ لم يكن شراءَهُ منه، ولكنّه كان يريدُ أن يَمُنَّ به عليه ويَزِيدَهُ، فرَدَّ بعيرَهُ ورَدّ ثَمَنَهُ. وكقولِهِ صلى الله عليه وسلّم «أترضون أنْ تَكونُوا رُبْعَ أَهلِ الجنَّة؟...» إلى أن قال: «أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟...» وكقوله صلى الله عليه وسلّمعند البخاري في باب فضلِ السّجود في ذكر رجلٍ يكونُ من آخرِ أهلِ الجنَّةِ دخولا، وفيه: «لك مثلُ الدنيا وما فيها، ومثلُهُ ومثلُهُ...» حتى عدَّ عَشْرَ مراتٍ، كل ذلك من هذا الوادي.(2/109)
وأما ما ذَكَره الراوي ههُنا، أنّه وَضَعَ عنه شَطْرَهَا في المرةِ الأولى ففيه إجْمالٌ، وكذلك ما في بعضِ الألفاظ أنّه وَضَعَ عَشْرًا في كلِّ مرةٍ. والأصلُ أنّ التخفيفَ كانَ خمسًا خمسًا حتى إذا بَقِيَتْ منها خَمْسُ فقد استحى من ربِّهِ أنْ يُراجِعَهُ بَعْدَهُ؛ لأن حاصلَ المراجَعَةِ في تلك المرَّةِ لم يكن إلا أنْ يَعْفُوَ عنه رأسًا، فإنّه إذا عفى عنه خمسًا في كل مرةٍ ولم يَبْقَ عليه إلا خمسُ، فلو راجَعَهُ بعدَهُ أيضًا لكانَ المعنى التخفيفَ عن هذه الخمس أيضًا. ومآله رَدٌّ لما أَمَرَهُ الله به والعِيَاذُ باللَّهِ؛ لأنَّه لمّا سَمِعَ في المرّة الأخيرة أنّه لا يُبَدَّلُ القول لديّ، عَلِمَ أنّ بقاءَ الخمس هو المرضي لربِّهِ عزّ وجلّ، فاستحى منه أن يُراجِعَهُ في أمرٍ عَلِمَ رضاءَهُ فيه. وكنت حَقَّقْتُهُ من قبلُ، ثم رأيتُ السُّهَيْلِيَّ رحمه الله تعالى قد سَبَقني به في «الرَّوْضِ الأُنُفْ»، والسُّهَيلي من العلماءِ المالكيةِ دقيقُ النَّظَرِ جدًا.
(2/110)
وأمَّا سِدْرَهُ المُنْتَهَى فقرَّرَ الحافظُ رحمه الله تعالى أنَّ أَصْلَهُ في السماءِ السادسةِ، وفروعَهُ في السابعةِ، فَصَحَّ كونُهَا في السادسةِ والسابعةِ معًا. قالوا في وجهِ تَسْمِيَتِهِ بسدرةِ المنتهى، أنّهَا تَنْتَهِي إليها أعمالُ الناسِ، وما تَبَيَّنَ لي يَقْتَضِي تمهيدَ مقدمةٍ وهي: أن السّماواتِ السبع مع الأرضينَ كذلك كلَّها عِلاقَةُ جهنمَ عندي، والجَنّةَ عِلاقَتُهَا فوقَ السّماواتِ السبعِ، وسَقْفُها عرشُ الرحمن، إذا عَلِمْتَ هذا فاعلم أن أَصْلَهَا في عِلاقةِ جهنَّمَ، وجِذْعُهَا في عِلاقةِ الجنةِ لكونِهِ فوقَ السّماواتِ السبع، ونَصَّ القرآن على أنَّ {عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} (النجم: 15)، فعُلم أن علاقة الجنة تبتدأ مِنْ هناك، وتنتهي عِلاقة جهنمَ، ومنه سُمِّيَتْ سِدْرَةُ المُنْتَهَى عندي يعني لكونِهَا على مُنْتَهَى عِلاقةِ جهنمَ ومبدأ عِلاقةِ الجنةِ، والله تعالى أعلم. وأما ما غَشِيَهَا مِنَ الألوانِ فَلَعَلَّهَا كانَتْ ملائكةُ الله يَفِدُون على تَجَلِّيَاتٍ رَبَّانِيّةٍ هناك، وفي رواية عند مسلمٍ فراشٌ من ذهب.
349 - قوله: (حبائل من لؤلؤ) أي أسلاكُ اللُّؤلُؤِ المنظَّمة يُرْخُونَهَا على الغُرَفِ في زَمَانِنَا لأجل التَّزَيُّنِ.(2/111)
350 - قوله: (فأقرت صلاة السفر) وهذا صريحٌ للحنفيّة في أنّ القَصْرَ في السفرِ رُخْصَةُ إسقاطٍ لا رخصةَ ترفِيه، وأجاب عنه الشافعيّة بوجُوه ردّها الحافِظُ رحمه الله تعالى كلِّها، ثم أجَابَ مِنْ عِنْدَ نفسه وقال: والذي يظهر لي أنَّ الصّلواتَ فُرِضَتْ ليلةَ الإسراء ركعتين ركعتين، ولا المَغْرِب - ولعلّه إلا المَغْرِبَ - ثم زِيْدَت عَقِبَ الهِجْرَةِ إلا الصبحَ كما روى ابن خُزَيمَة عَنْ مَسْروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فُرِضَتْ صلاةُ الحضرِ والسفرِ ركعتينِ ركعتينِ، فلما قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلّمواطمأنَّ زِيدَا في صلاةِ الحضرِ والسفر ركعتانِ ركعتانِ، وتُرِكَتْ صلاةُ الفَجْرِ لطولِ القراءةِ، وصلاة المَغْرِبِ لأَنّهَا وِتْرُ النهار» اه.
ثم بعد أنْ استقرَّ فرضُ الرُّبَاعِيّة خُفِّفَ منها في السفر عند نُزُولِ الآيةِ السَّابِقَةِ. وقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلوةِ} (النساء: 101) وحينئذٍ المرادُ بقولِ عائشة فَأُقِرَّتْ صلاةُ السفرِ، أي باعتبار ما آل الأمرُ إليه من التَّخْفِيف لا أنَّها استمرتْ كذلك منذ فُرِضَتْ، فلا يَلْزَمُ من ذلك أنَّ القصر عزيمةٌ. انتهى مختصرًا.
وحاصل جوابِهِ: أنَّ بناءَ استدلالِ الحنفيّة على أنَّ الصلاةَ في الأصلِ لم تكنْ أرباعًا قَطْ، فما يصلِّيها المسافرُ ليست قصرًا لِيُتَوَسَّع فيها بالإِتمام، وإنما هي على أصلِهَا كما كانتْ، وحينئذٍ الإتمامُ لا يكون إلا زيادةً، وذا لا تَجُوز. ولما عَلِمْتَ أنَّها صارَتْ أربعًا وإنْ كانت في الأصل ركعتينِ، ثم نَزِلَتْ فيها الرُّخْصَة فَسَدَ المَبْنَى، وَظَهَرَ أنَّ صلاتَهُ قَصْرٌ، وحينئذٍ لا يكونُ الإتمامُ زيادةً، بل يكونُ القصرُ للتَّرفيه لقوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فمن شاء قَصَرَ ومن شاءَ أَتَمّ.(2/112)
قلتُ: وفيه نظرٌ: لأنَّه يَلْزَمُ على ما اختارَهُ النّسْخُ مرَّتينِ، الأول: من الركعتينِ إلى الأَرْبَع. والثاني: من الأربعِ إلى الركعتينِ، وليس عندَهُ دليلٌ على قولِهِ هذا غيرُ قولِ العلماءِ، أنَّ آيةِ القَصْرِ نَزَلَتْ في السنةِ الرابعةِ، فاسْتُنْبِطَ منه أنَّ المسافرينَ كانوا يُصَلُّون أربعًا في تلك المدةِ، وليس عندَهُ نَقْلٌ خصوصيٌّ على أنَّ المسافِرِينَ كانوا يُتمُّون صلاتَهُمْ في هذه الأيَّام سِوَى هذا الاجتهادِ، ولهذا لم يُشَدِّدْ فيه، وأَلانَ الكلامَ.(2/113)
قلتُ: ولي فيما اسَتَدلَّ به الحنفيةُ أيضًا نَظَرٌ، لكنْ لا لِمَا قَالَهُ الحافِظُ كما عَلِمْتَ، ولا لِمَا قَالَهُ بعضُهُمْ أنَّه لو كان الأمرُ كما قالتْ به عائشة رضي الله عنها، لِتَواتَرَ به النَّفْلُ مع أَنَّهُ لا يَنْقُلُه أَحَدٌ غيرُهَا؛ لأنَّه إذا نُسِخَ واستَقَرَّ الأَمْرُ بِخِلافِهِ كيفَ يَبْقَى التواتُرُ بأمرٍ قد نُسِخَ؟ فانْقِطَاعُ التواتُر لِمَا قُلْنا، لا لِمَا فُهِمَ، وكأَنَّ هذا القَائِلَ غَفَلَ عن هذِهِ النُّكْتَة، فَجَعَلَ حالَ المَنْسُوخِ كغيرِهِ بل لِمَا أَقُولُ: وهو أَنَّ اسْتِدْلالَهُمْ يَنْبَنِي على صورةِ تعبِيرِهَا وأَلْفَاظِهَا فَقَطْ حيثُ قالتْ: «فَأُقِرَّتْ... وزِيْدَتْ». والأمرُ في التَّعْبِيْرِ واسعٌ، ويُمْكِنُ أَنْ تكونَ الصلاةُ أربعًا، ثُمَّ نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ للمسافرينَ. إلا أَنَّ صلاةَ الحاضرينَ لَمّا كَانَتْ ضِعْفَ صَلاةِ المسافرينَ في الحِسِّ، وصلاةَ المسافرينَ على نِصْفِ صلاةِ الحاضرينَ فِيهِ، وُسِّعَ لك أنْ تقولَ: إنَّ هذه كانتْ أربعًا وتلك قصرًا، أو إنَّها كانت في الأَصلِ ركعتانِ ثم زِيْدَتْ في الحَضَرِ، فإنَّ المآلَ واحدٌ، وهو كونُ الصلاةِ في الحَضَرِ أربعًا وفي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، سَوَاء خَرَّجْتَه على ما خَرَّجَتْ عليه عائشة رضي الله عنها، أو على ما خَرَّجَهُ ابن عبّاس رضي الله عنه، فتلك أَنْظَارٌ عَبَّرَ عنها في الأَلْفَاظِ فلا تُدَارُ عليها المَسْأَلَةُ، سِيّما إذا وَرَدَتْ بالنَّحْوَيْنِ في الجَانِبَيْنِ، وهذه سبيلي أَدْعُوْكَ إليه ومن اتَّبَعَنِي، وذلك لأنَّ ابنَ عبّاس رضي الله عنه يُخْبِرُ بِخِلافِهَا، فقال: «فُرِضَتِ الصلاةُ في الحَضَرِ أربعًا وفي السَّفَرِ ركعتينِ» أخرجه مسلم. وإليه مالَ السُّهَيْلِي رحمه الله تعالى في «الرَّوْض».
(2/114)
قلتُ: وقد يَخْطُرُ بالبالِ أنَّ ما رَوَتْهُ عائشة رضي الله عنها، محمولٌ على الزّمانِ الذي كان يصلى فيه الصلاتينِ فقط، الفجر والعصر، وذلك قبلَ الإِسراءِ، ولَعَلَّهُمَا كانتا إذ ذاك ركعتينِ ركعتينِ كما وَصَفَتْهَا، فَلَمَّا فُرِضَت في الإِسْرَاءِ، فُرِضَتْ ابتداءً على الشَّاكِلَةِ التي رواها ابن عباس رضي الله عنهما.
وحاصِلُهُ: أنَّ ما رَوَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها هو حالُهَا قَبْلَ فَرْضِيَّةِ الخَمْسِ، وقد عَلِمْتَ أَنَّها كانتْ ركعتينِ ركعتينِ، وما يَذْكُرُهُ ابنُ عَبّاسٍ رضي الله عنهما هو حالُهَا بعدَ فَرْضِيَّتِهَا في الإِسْرَاءِ، ولم يكنْ بعدَهُ إلا أربعًا، فمعنى قَوْلِهَا: «فَرَضَ اللَّهُ الصلاةَ حينَ فَرَضَهَا...» يعني قبلَ الإِسْرَاءِ، لا يقالُ: إنّه لم تَكُنْ فَرِيْضَةٌ قَبْلَهُ صلاة، لأنّا نقولُ: إنّا لَمْ نَسْلُكْ هذا المَسْلَكَ وقد اخْتَرْنَا: أنّ الصلاتينِ كانتا فريضَتَيْنِ قبلَهُ أيضًا، فلا إِشْكَالَ علينا، وَمَعْنَى ما رواه ابنُ عَبّاسٍ رضي الله عنهما: فُرِضَتِ الصّلاةُ في الحضر أربعًا، يعني بعد ما فُرِضَتْ في الإِسْرَاءِ، وبه يَجْتَمِعُ الحديثانِ، إلاّ أنَّهُ يُخَالِفُهُ ما أَخْرَجَهُ البخاري في الهجرةِ عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فُرِضَتِ الصلاة ركعتينِ، ثُمَّ هاجرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فَفُرِضَتْ أربعًا» فَعَيَّنَتْ في هذه الرِّوَايةِ أنَّ الزِّيَادَةَ في قولِهِ: «وزِيْدَ في صلاةِ الحضر...» وَقَعَتْ بالمدينةِ، مع أَنّ الإِسْرَاءَ قد مضى في مَكّةَ، فلا يَصِحُّ التَّوْجِيْهُ المذكُوْرُ.(2/115)
قلتُ: ويُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عنه أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ في عامّةِ الرِّواياتِ، وأَكْثَرُ أَلْفَاظِهَا ساكِنَةً عَنْ مَوْضِعِ الزِّيَادةِ أَنّها أَيْنَ وَقَعَتْ، ومَتَى وَقَعَتْ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُوْنَ وَهْمًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ السُّهَيْلِي رحمه الله تعالى في «الرَّوْضِ الأُنُفِ»، والله تعالى أعلم.
باب وُجُوبِ الصَّلاةِ فِي الثِّيَابِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31)، وَمَنْ صَلَّى مُلتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِد
دَخَلَ المصنِّفُ رَحِمَهُ الله تعالى في شَرَائِطِ الصلاةِ، وصرَّحَ أنَّ التَسَتُّرَ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلاةِ وَفَرَائِضِهَا، خلافًا لبعضِهِمْ حيث قال: إنّه فَرْضٌ في نفسِهِ، سنةٌ في الصلاةِ، والمُعْتَبَرُ في سترِ العَوْرَةِ عند فُقَهائِنَا أَنْ يكونَ بحيث لا يُمْكِنُ النّظرُ فيها، وما ظَهَرَ منها بالتَكَلُّفِ فغيرُ مُعْتَبَرٌ.
قوله: ({خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ}) وهذه مِنَّةٌ عظيمةٌ من المصنِّف رحمه الله تعالى على رقابِ النّاسِ.
وعلينا أنّه يَسْتَعْمِلُ القرآنَ في كلِّ مَوْضِعٍ ممكنٍ، وإنْ لم يكنْ رَاضِيَا عن إمامِنَا الأعظم رحمه الله تعالى، وأرى جماعةً من أصحابِ محمدٍ وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يروي عنها المصنِّفُ - رحمه الله تعالى في كتابه، ثم لم تَخْرُجْ مَنْقَبَةٌ من قلمهِ للأئمةِ الثلاثةِ فيا للعجب؟(2/116)
واعلم أنَّ الله سبحانه لَمَا فَرَغَ من ذكرِ آدم عليه الصَّلاة والسَّلام، وقِصَّةِ نَزْعِ اللِّبَاسِ عنه، انتقل إلى مسألةِ اللِّبَاسِ والسَّتْر، وهذا الذي كنتُ أَفْهَمُهُ. ثم رأيت السُّهَيْلي رحمه الله تعالى ذَكَرَ مِثْلَ ما ذَكَرْتُ في ربطِ الآيةِ، وإنّمَا قال {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} لا: عندَ كلِّ صلاةٍ؛ لأنَّ الصلاةَ في نظرِ القرآنِ ليستْ إلا في المسجدِ، وعليه قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} (التوبة: 54). فالسِّتْرُ وإنْ كان لأجلِ الصلاةِ لكنَّهُ خَصَّصَهُ بالمسجدِ لما قُلنا، وليس قولُهُ {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} كنايةً عن الصلاةِ، بل المُرَادُ هو السِّتْرُ عندَ المسجدِ وإن كان لِحالِ الصَّلاةِ، سيَّمَا إِذَا كان الكفّارُ يَطُوفُونَ بالبيتِ عرايا، ففِيهِ رَدٌّ لزعمِ الجاهليةِ، فإنَّهم كانوا يَتَحَرَّجُوْنَ عن دُخُولِهِمُ المسجدَ الحرامَ في ثِيَابِهِمُ التي أَتَوْا فيها كُلَّ مُنْكَرٍ، فَهَدَاهُمُ القرآنُ إلى الأصلحِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَاخُذُوا ثيابَهُمْ عِنْدَ كلِّ مسجدٍ، ثم لا يَخْفَى عليك أنَّ سَتْرَ العورةِ واجبٌ من بَدْءِ الخَلْقِ، وإنّمَا نَزَعَ الثيابَ عن آدمَ عليه السلام تعزيرًا، ولذا اضّطَرَّ إلى سَتْرِ عورتِهِ من الأوراق.(2/117)
ثم إنَّ لفظَ الزِّينةِ يَقْتَضِي أنْ يكونَ الرجلُ عندَ المسجدِ أَحْسَنَ حالا مما سِوَاه، وبيّنه الحديث والفقه، ففي الحديثِ أنّ عِمَامتَهُ صلى الله عليه وسلّمكانت في صلاتِهِ سبعةَ أَذْرُعٍ، وفي الفقه أنّه يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصلّى في ثلاثِ ثيابٍ، منها العِمامة، أما تركُ العِمَامَة فليس بمكروهٍ عندي، ولم يُصَرِّحْ بالكراهَةِ أحدٌ إلا صاحبَ الفتاوى الدينية، وهو من تصانيفِ علماءِ السندِ، ولا أدري رتبةَ هذا المصنَّفِ. والمحقَّقُ عندي أنّها تُكره في البلادِ التي تُعَدُّ فيها شيئًا محترمًا، بخلافِ البلادِ التي لا اعتيادَ لهم بها ولا اعتدادَ، فلا تكونُ مكروهةً، ثم إذا علمت أنَّ السياقَ ما قلنا لم تَبْقَ حاجةٌ إلى مفهومِ قولِهِ: {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ}.
(قوله تعالى: {مِن سَوْءتِهِمَا}) فسَتْرُ العورةِ من خصائصِ الجنَّة، ولما انكَشَفَ عورتُهُمَا هبطا إلى الدنيا، وفُرِضَ السِّتْر.
(قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ}) ويَنْعَكِسُ الحالُ في المحشر، فنراهم ولا يَرَوْنَنَا والله تعالى أعلم.
قوله: (ومن صلى ملتحفًا... إلخ) وبَوَّبَ الطحاوي على الصلاة في الثوبِ الواحدِ، وحاصِلُهُ: أنَّ المخالفةَ بين الطرفينِ، وهو التَوَشُّح والالتِحَافُ فيما يكون سَعَةً في الثوبِ، وإلا فيُعْقَدُ على القَفَا وإلا فَفَوْقَ السُّرَةِ، والغرضُ منه استعمالُ الثَّوْبِ كلِّه في السِّتر، أما أحمد رحمه الله تعالى فحملَ الأوامرَ الواردة فيها على ظاهِرِها، حتى ذَهَبَ إلى فساد الصلاةِ لو كانت في الثوبِ سَعِةٌ فصلى فيه كاشفًا عن أحدِ مَنْكِبيه، مع أنَّ العورةَ ليست عندَهُ إلا ما في المشهورِ، وهذا لأنه لم يصرف الثوبَ في سَتْرِ جسدِهِ مع الوُسْعَةِ فيه، ولعلَّهُ ذَهَبَ إلى تأكُّدِ السَّتْرِ في غير العورةِ أيضًا والله أعلم بمراده.(2/118)
ثم إن كان الثوبُ واحدًا وأدخلَ فيه يديه أيضًا يُسَمَّى اشتمال الصَّمَاءِ، واشتمالَ اليهودِ، وهو ممنوع، وفي «البحر»: أنَّ المَنْعَ فيما إذا لم يكن عليه إلاّ ثوبٌ، فإنْ كان عليه ثوبان لا بأسَ أَنْ يُدْخِلَ يديه تَحْتَهُ، لأنّهُ يُمْكِنهُ إخراجُهُما عند الضرورة بدون كشفِ العورةِ، ثم إذا كان المقصودُ التَحَرُّزَ عن هدا الاشتمالِ فالأَنفع هو التَّوَشُّحُ، لحصولِ السَّتْرِ فيه مع صرفِ الثوبِ، وإمكانِ استعمالِ اليدينِ عند الضرورة بدون كشفِ العورة.
ثم الالتحاف عندي كَشَدِّ الوَسَطِ عند الأمراءِ، وهو المعنِيّ في عقدِ اليدين تحت السُّرْةِ عندي، فإذا كان المقصودُ والمعنَى هو عقد اليدين في القيام بين يدي المَلِكِ الجبّارِ، فهو إذْنٌ عَامٌّ سواءٌ كان فوق السُّرَةِ أو تَحْتَهُ، أَما فَوْقَ الصدرِ فليس بشيء عندي، وليس العقدُ فوقَ الصدرِ في واحدٍ مِنْ كُتبِ الشافعية إلا «الحاوي»، وفي عامَّتِهَا أنّه تَحْتَ الصدر، فهو مَحْمُولٌ عندي على المسامَحَةِ.
قوله: (ولو بشوكة) وهو مُسْتَحَبٌّ، وإلا فالنَّظَرُ إلى عورتِهِ ليس بمُفْسِدٍ عندنا.
قوله: (ولم ير فيه أذى) وهذا أيضًا دليلٌ على أَنَّهُ ذَهَبَ إلى نجاسَةِ المَنِيّ، وأَمْرُ النبي صلى الله عليه وسلّميعني أَنّ بعضَ الفرائض مشتَرَكةٌ في الصلاةِ والحج كسَتْر العَوْرَةِ.
351 - قوله: (فيشهدن (المصلى)) والمرادُ منه حضورُهُنَّ بدونِ الاقتداء، ويُسْتَعْمَلُ الشهودُ في شَرِكَةِ الجماعةِ أيضًا، كما في الحديث: هل شَهِدْتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: نَعَمْ، فمرادُهُ في شرِكَتِهِ الجماعةِ.
ثم إنّ الأحاديثَ الواردةَ في باب السَّتْرِ ليستْ على شرطِهِ، فأُخْرِجَ هذا الحديثُ استئناسًا فقط.
باب عَقْدِ الإِزَارِ عَلَى القَفَا فِي الصَّلاة(2/119)
وقد مَرَّ أنَّ أحمدَ رحمه الله تعالى نَظَرَ إلى ظواهرِ الأحاديثِ، وإلاّ فلا معنى لبطلانِ الصلاة إذا لم يَسْتُرْ إحدى منكبيه مع كونِهِ خارجًا عن العورة عِنْدَهُ.
باب الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ مُلتَحِفًا بِه
357 - قوله: (ثمان ركعات) وعند أبي داود صراحةً أنّه كان يُسَلِّم على ركعتين، قيل إنها كانت صلاة الضّحى، وقيل شكرًا للفتح. والأحاديثُ القوليةُ فيها كثيرةٌ، أما الفعليةُ فقليلةٌ جدًا، أما الوجهُ في قِلَّةِ العملِ مع كثرةِ الترغيب، فراجِعْهُ من «نيل الفرقدين».
وقولُهُ صلى الله عليه وسلّم «آمنَّا مَنْ آمنتِ» جرى على العرفِ، أي عَدَمِ نَقْضِ أمانِهَا، وإلاّ فقد حَصَلَ الأمان حين آمَنَتْ.
باب ُ إِذَا صَلَّى فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ فَليَجْعَل عَلَى عَاتِقَيه
وهو مذهبُ أحمدَ رحمه الله تعالى، وقد مرَّ الوَجْهُ فيه أنه تأثُّرٌ من ورودِ صِيَغِ الأمر في الالتحافِ والتَّوَشُحِ. واعلم أَنَّ مراتبَ الأمرِ والنهي كلَّها من بابِ الاجتهادِ، ولذا تراهُم يختلفونَ عند ورودِ الأمرِ والنهي، فيَحْمِلُ واحدٌ على الوجوبِ والتحريمِ، والآخرُ على الاستحبابِ والكراهةِ، وبعد كلٍ منهم كأنه عَمِلَ بالحديثِ، فلا يَعْتَرِضُ هناك أحد على أحد، نَعَمْ إذَا تَرَكَ الحديثَ بجميعِ مراتِبِهِ فحينئذٍ يُعْتَرَضُ عليه ويُرْمَى بتركِ الحديثِ، فهذا صريحٌ في أنَّ المراتِبَ عندهُم اجتهادِيَّةٌ، نعم إذا وَرَدَ الحديثُ بالوعيد على التَّارِكِ أو الفاعلِ يَتَعَيَّنُ الوجوبُ أو الحُرْمةُ، ولا يتأتى فيهِ الاستحبابُ.
باب إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا(2/120)
تنبيهٌ على أن الثوبَ إذا كان ضيقًا لا يتيسرُ فيه الالتحافُ والتوشُّحُ ماذا يفعل؟ ولا توجدُ كثيرٌ من المسائل في الفقه، وتعرَّض إليه الحديث، فمن زَعَمَ أن الدِّين كلَّه في الفقه بحيث لا يبقى وراءه شيءٌ، فقد حاد عن الصواب.
361 - قوله: (يحيى بن صالح) وهو حنفي المذهب، ساكن الشام، عديل الإِمام محمد رحمه الله تعالى في سفر الحج، وشيخ البخاري.
361 - قوله: (في بعض أسفاره) عيَّنه مسلمٌ أنه غزوةُ بَواط، وهي من أوائل مغازيه صلى الله عليه وسلّم
361 - قوله: (لبعض أمري) وفي رواية مسلم: أنه صلى الله عليه وسلّمكان أرسله هو وجبار بن صخر ليُهيئا الماء في المنزل. كذا في «الفتح».
361 - قوله: (فاشتملت) وهذا التعبيرُ ناقصٌ، لأنه كان أمسكَ طرفي ثوبه تحت ذقنه، وليس هذا باشتمال. وإنما فعلَهُ لعدم علمه بالمسألة، فإِنَّ الواجب فيه العقد.
361 - قوله: (كان ثوبًا) أي كان ثوبًا واحدًا. وفيه أيضًا نقصٌ، لأنه لم يكن فيه دخل لوحدة الثوب، بل لضِيقِهِ، فالأولى أن يقول: كان الثوبُ ضيِّقًا.
362 - قوله: (لا ترفعن)... إلخ وليس هذا النهيُ لحصول التعقيب المطلوب عند الشافعية بين الإِمام والمقتدي، بل لأجل مصلحة كما عند أبي داود، وهي أنْ لا يَلْمَحْنَ شيئًا من عورات الرجال. ودل الحديث على مسألة الحنفية: أنه لو أمكن النظرُ إلى عورتِهِ بتعنُّتٍ وتكلفٍ لا تفسد صلاتُهُ.
باب ُ الصَّلاةِ فِي الجُبَّة الشَّامِيَّة
والظاهرُ أن نظرَه إلى قِطَعِه يعني أن الثوبَ إذا قُطع على طريق غير طريق العرب، جازت الصلاة فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلّمصَلَّى في الجبة الشامية، وليس نظرُهُ إلى مسألة الطهارة والنجاسة كما فَهِمُوه.(2/121)
ثم اعلم أن مسألة الشعار إنما تجري فيما لم يرد فيه النهيُّ من صاحب الشرع خاصة، وما ورد فيه النهيُّ، فإنه يمنع عنه مطلقًا، سواءٌ كان شعارًا لأحدٍ أو لا. أما إذا لم يرد به النهيُّ وكان شعارًا لقوم يُنهى عنه أيضًا، فإِن لم يكُفُّوا عنه حتى حصل فيه الاشتراك أيضًا، واختارَه الصُّلَحَاءُ بكفِّ اللسان عنه.
ثم إنه يتبادر من كتب الفتاوى هدرُ الاحتمالات بالكلية، والذي أظن أن الأمرَ ليس بهذا التوسيع. ففي المتون أنهُ يكره سؤرُ الدجاجة المُخَلاة. وفي «فتح القدير» أن الكراهة تنزيهية، فدل على عبرتها شيئًا، فعلى هذا ينبغي أن لا يوسع فيه كل التوسيع. ولا تلغى الاحتمالات بأسرها. وفي «البحر» أن الماء إذا كان في فَلاة من الأرض وكانت حولَهُ آثارُ أقدامِ الوحوش كُرِه، مع أنهم قالوا: إن الماء إذا كان كما وُصف لا يتنجَّسُ، ما لم توجد مشاهدة جُزئية، أو إخبار بوقوع النجاسة، كذلك ثيابُ الكفار التي تُجلب من بلادهم لا يحكم عليها بالنجاسة، ما دام لم يوجد فيها أحد الأمرين. وكذلك قال الفقهاء: إن في الأطعمة والأشربة والألبسة والأدوية يعتبرُ بالاحتمالِ الغالب، ولا معتبرَ بالمرجوح، وقد مر فيه بعض الكلام.
قوله: (قال الحسن)... إلخ وهكذا عندنا. وقد مر مني أنه وإن كان فيه توسيعًا في كتب الفتاوى لكن فيه تفصيلٌ في المتون، فينبغي أن يفصَّلَ بالقِلة والكثرة، ويعتبرُ بما يكثُرُ وقوعهُ، ويهدَرُ بما قل وقوعه.(2/122)
قوله: (رأيت الزهري)... إلخ ولعل المراد منه اللُّبس بعد الغَسْل، لأن مذهَبَه نجاسة الأبوالِ كما مر عن «مصنف عبد الرزاق»، ويومىء إليه ما عند البخاري: «هل تشرب أبوال الإِبل»... إلخ. فالاستدلال منه على طهارته عنده في حيِّزِ الخفاء، ورأيت أثرًا في الخارج أن عمر رضي الله عنه أراد أن ينهى عن ثياب اليمن وكانت تصبغ بالبول، فقام أبيُّ وقال: إنك لا تستطيعهُ، لأن النبي صلى الله عليه وسلّملم ينه عنه، فسكت عمر رضي الله تعالى عنه.
باب ُ كَرَاهِيَةِ التَّعَرِّي فِي الصَّلاةِ وَغَيرِهَا
قال الفقهاء: أول الفرائض الإِيمانُ، ثم ستْرُ العورة، فهو فرضُ عينٍ في الخارج، وشرطٌ لصحة الصلاة.
364 - قوله: (فحلَّه)، وفي عُمْره عليه الصَّلاة والسَّلام إذ ذاك اختلاف في السِّير، وينبغي أن يؤخذ بالأقلِ فالأقل منها. وقد علمت سابقًا أن الأشَاعِرَة جَوَّزوا الصغائر قبل البِعثة، ونفاها المَاتُرِيدِيَّة وقالوا بالعصمة قبلها وبعدها. ثم هذا التَّعري كتعري موسى عليه الصَّلاة والسَّلام حين آذاه قومَه.
364 - قوله: (فسقط مغشيًا عليه) وهذا يدل على أنه لم يزل بعين الرضا منه، وهو لفظ الأشعري في حق أبي بكر الصديق رحمه الله تعالى. وحاصله: حِفَاظتُهُ عما لا ينبغي من بدءِ الأمر، وإن لم يتوجه إليه الخِطاب بعد.
باب ُ الصَّلاةِ فِي القَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالتُّبَّانِ وَالقَبَاء
السراويل كان من قطع الإِيران دون العرب.
قوله: (والتبان) (جانيكيا).
365 - قوله: (إذا وَسَّع الله فأَوسعوا) رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «أن الْبَسُوا من الثياب عند صلواتكم، ما تحبون أن تكونوا فيها في مجالسكم، فإِن كان يعتادُ في مجالسها بالثيابِ الرفيعة يُستحب له أن يُصليَ فيها. وحاصلهُ: أن يتجَمَّل لقيامه بين يدي ربه كما يتجملُ لحضورهِ في مجالسه.(2/123)
وكان مالك رحمه الله تعالى يهتمُّ بمجالسِ الحديث، ما لا يهتمُّ لغيرها.
نُقل أن الشافعي رحمه الله تعالى أراد أن يستفيد منه، فحفظ «الموطأ» في ثلاثة أيام، واستشفع إليه بحاكم مكة شرفها الله، فكتب حاكمُ مكةَ إلى نائبه في المدينة أن يذهبَ معه إلى مالكٍ ويشفعَ له، وقال للشافعي رحمه الله تعالى في الطريق: إني شافعٌ، ولكني لا أدري هل أشفع أم لا؟ فإن مالكًا من أغنى الناس نفسًا، فلما بلغَ إليه وباحَ بحاجته أجازَ له أن يجلسَ في حلقته، وقال: ليس لي فُرصة غير ذلك. ولم يُرخص له الاستفادة في الخارج، فقبِلَه الشافعي رحمه الله تعالى وقعد إليه. فلما كان من الغد قرأ الشافعي رحمه الله تعالى عبارةَ «الموطأ»، فلما قرأهُ عَرَفَ مالكٌ رحمه الله تعالى أنه رجلٌ، فقرأ الثاني والثالث فقال له مالك: ادخل عليَّ متى شئت وسل عما شئت، فأقام الشافعي رحمه الله تعالى عنده مدةً، فلما استرخَصَ منه أعطاه مالكٌ رحمه الله تعالى فرسًا وشَيَّعَه على أرجله - فإنه لم يكن ينتعلُ بالمدينة ولا يركبُ فيها، مخافةَ أن تقعَ قدمُهُ على موضعٍ وقعت قدم النبي صلى الله عليه وسلّمعليها - وودَّعه أحسن توديع.
ونقل أيضًا أن مالكًا كان إذا جلس للتحديث جلس في أحسن ثيابه متطيبًا، وقِصصه في ذلك معروفة. وبالجملة ما أحسن بالرجل أن يعبدَ ربَّه في أحسن ثيابه إذا قدر.
365 - قوله: (جمع رجل)... إلخ ولم يذكر فيه العِمَامة، وفي فقهنا العمامة أيضًا.
366 - قوله: (أسفل من الكعبين) وسأل هشامٌ محمدًا رحمه الله تعالى عن الكعبين، فأجابه: أنه العظم النابت ومَعقِدُ الشِّرَاك، وكان فسَّره في باب الحج ثم نقلَ تفسيره في الوضوء، وهو باطل، وهشامٌ هذا هو الذي نَزَلَ عنده محمد رحمه الله تعالى حين دخل الرَّي.
باب ُ مَا يَسْتُرُ مِنَ العَوْرَة
باب ُ الصَّلاةِ بِغَيرِ رِدَاء(2/124)
واعلم أن المصنفَ رحمه الله تعالى كثيرًا ما يستعملُ في تَرَاجِمِهِ «ما» و «مِنْ» كما ترى ههنا. والشارحونَ قد يجعلون «مِنْ» وأخرى تبعيضية، وراجع الفرقَ من الرّضي، فإنها لو كانت بيانيةً لاطَّردَ الحكمُ على جميع مدخُولِهَا وإلا لا. وجعلتها تبعيضيةً في جميع الأبواب لتكونَ شاكلتُهَا في كلها سَوَاء.
فإن قلت: كيف يستقيم التبعيضُ في ستر العورة؟ قلت: العورة لغةً: هي ما يُستحى منه، فيستقيم فيها التبعيض أيضًا. ثم اعلم أن العورةَ عندنا من السرة إلى الرُّكبة. وعند مالك رحمه الله تعالى هي أصل الفخذ دون سائرها. وقد مر مني أنه من باب إقامةِ المراتب، وهذا الباب كثيرٌ في الفقه.
ففي «الفتح» في باب الجمعة: أن الجمعةَ فريضةٌ وآكدُ من الفرائض الخمس، فأقام المراتبَ بين الفرائض أيضًا، وجعلَ بعضَها آكدُ من بعض. وإنما صرح به الشيخ ابن الهُمَام لمسألة ذكرها في القُدُورِي وهي: من صلى الظهرَ في منزلِهِ يوم الجُمعة قبل صلاةِ الإمام ولا عُذْرَ له كُرِه له ذلك وجازت صلاتُهُ، ويُتوهَّمُ منها عدمُ فرضية الجمعةِ عندنا، فصرَّح بأن الجمعة فرضٌ قطعيٌّ عندنا، بل آكد من سائر الفرائض.
وكذلك في «البحر»: أن الفاتحةَ واجبةٌ والسورةَ أيضًا واجبةٌ، إلا أن الفاتحةَ أوجبُ، فهذه نقولٌ تدُل على عِبرة المراتب عندهم، وهذه هي الحقيقةُ التي سرت عليها مسألة ستر العورةِ، والاستقبال، والاستدبارِ، والنواقضِ الخارج من السبيلين وغير السبيلين، ومسِ المرأة، ومس الذكر.
(الكلام حول الفخذ، وهل هو عورة؟)
وقد مرَّ ذكرُهَا في الأبواب السابقة مُفصلا، فرأسُ الفَخِذِ عورةٌ أيضًا، كما أن أصلها عورةٌ، إلا أنها أخفُّ بالنسبة إلى الأصل، ولذا تجدُ فيها الدلائل في الطرفين، فبعضها يدُل على أنها عورة، وبعضها يدلُ على أنها ليست بعورة، بخلاف أصل الفخذ فإنك لا تجدُ دليلا يُشعر بعدم كونها عورة.(2/125)
وكأني أريدُ أن الاختلافَ في الأدلة قد يكونُ من جهةِ الشارع قصدًا، ولا يكون من الرواة، وهذا حيث يريدُ صاحبُ الشرع بيان المراتب، فإذا لم تكن عنده مراتبُ في جانب الأمرِ أو النهي لم تعط مادةٌ تدلُ بخلافه، وإذا كانت فيه مراتب بعضها أخفُّ من بعض وأرادَ فيها توسيعًا يؤديه بعرْضِ الكلام ولا يأخذه في الخطاب، لأنه لو أخذه في الخطاب فات الغَرَضُ وهو العمل، فإنه إنما يبقى ما دام الإجمال، وإذا جاء التفصيلُ ذهبَ العملُ، ولذا نرى العوام قد يسبقونَ على العلماءِ في العمل، فإنهم لا يفرِّقون بين الفرائض والسنن والنوافل، فيؤدُّونَها على شاكلةٍ واحدةٍ.
وأما الذين يعلمون أن النوافلَ في طوعه كلما شاء فعل، وإذا لم يشأ لم يفعل، فإنهم تفترُ هِمَمُهم، وتتقاعدُ عَزَائِمُهُم، فَيُفْقَدُ العمل. فإذا كان حالُ التخفيف في الخطاب ما قد علمتَ، ولم يكن بدٌّ من بيان حقيقة الأمر أيضًا، احتاج إلى التنبيه عليه بنحوٍ من أنحاء الكلام وجوانبه وأطرافه، بدون أخذِهِ في العبارة وطريقهُ أن تَرِدَ الدلائل في الطرفين، فيوجدُ الاختلاف ولا يحصلُ الجزمُ بجانب فيخِفَّ الأمر، وهذا أيضًا نحو بيانٍ إذا لم يَرِد التصريح به.
وهذا الذي أراده صاحب «الهداية» حين قَسَّمَ النجاسة إلى الغليظة والخفيفة، حيث قال: إن التخفيفَ إنما يثبت عند أبي حنيفة رضي الله عنه بتعارُضِ النصين، وعند أبي يوسف رضي الله عنه باختلاف الصحابة والتابعين، فنظر أبو حنيفة رضي الله عنه إلى تعارض الأدلة، فجاءت المراتب عنده من حيث قَطْعيَّةِ الدليل وعدمها، ونظر صاحباه إلى التعامل، لأنه شيءٌ فاصل في الباب، بخلاف الأدلة فإنها موارد للاحتمالات.d(2/126)
إلا أن صاحب «الهداية» قرر الخِفَّة لتعارض الأدلة. وأقول: إن تعارضَ الأدلة لأجل الخِفة في نظر الشارع. فأدَّاها بهذا الطريق، لا أنه اتفقَ تعارضُ الأدلة باختلاف الرواة، فأورث خِفةً فيها، بل تلك النجاسات بحقائقها كانت خفيفةً بالنسبة إلى الدم مثلا، فأراد التنبيهَ على الفرق بينهما، فلو صرَّح به لتهاون بها الناس، مع أن المطلوب التوقي منها، فأدَّاها بإِعطاء المادة للطرفين، ليتردد فيه النظر ويَخِف الأمر مع بقاء العمل. وعلى هذا وَسِعَ لي أن لا أتأول في أحدٍ من الأحاديث التي وردت في هذه الأبواب على خلاف مذهبنا واكتفي بالمراتب.
وأقول: إن أصل الفخذ عورة ولكن أمرها أشد من رأسها، وكذلك الاستدبار، وإن ورد به حديث ابن عمر رضي الله عنه، لكنه لا يثبتُ به، إلا أنه أخفُّ بالنسبة إلى الاستقبال أو الصحراء، وهكذا النواقض كلها كما دلت عليها الأحاديث، إلا أنَّ أمرَها أخفُّ مما ذهب إليه الحنفية رضي الله عنهم، فافهمه بعين الإنصاف وإمعان النظر، ينفعك في مواضع لا تُحصى.
368 - قوله: (نهى عن بيعتين) ولعل الراوي جمع بين الحديثين: الأول: في الاحتباء في ثوب، والثاني: في البيع. واللِّمَاس: أن يَغمضَ المشتري عينه ثم يضعُ يده على شيء ويُلزمُ به البيع. والنِّبَاذ: أن ينبذ البائع شيئًا إلى المشتري مُغْمِضَا عينيه ويكون منه بيعُهُ بهذا فقط. ثم قيل: إنه كان قطعًا للخيار، وقيل: بل كان هو طريق الإِيجاب والقَبُول، وراجع كتاب «الآثار» لمحمد رحمه الله تعالى.
(2/127)
369 - قوله: (ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلّم... إلخ واعلم أنَّ مكةَ فُتحت السنةَ الثامنة في رمضان. وعُمْرَةُ الجِعِرَّانة أيضًا كانت في تلك السنة، ولم يحُج النبي صلى الله عليه وسلّمالسنة التاسعة لعدم كون الحج في أشهره في هذه السنة، فإِنهم كانوا يزيدون شهرًا بعد سنين على عادتهم في الجاهلية، وهو المراد من النَّسِيء في القرآن، فإذا جاء الحجُّ في أشهره في السنة العاشرة حجَّ النبي صلى الله عليه وسلّم ومن ههنا اندفع ما كان يَخْتَلِجُ أن الحجَّ إنِ افترضَ قبله فلِمَ أخَّرَه النبي صلى الله عليه وسلّم وهو وإن لم يكن واجبًا على الفور لكن المسارعةَ مطلوبةٌ، وفيه دليلٌ على عبرة الأغلاط التي تعذَّرَ إصلاحها، فإن الذين حَجُّوا قبلها قد اعتُبِرَ حجهم قطعًا، ولم يأمر واحدًا منهم بالقضاء، وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلّمعليًا رضي الله عنه لأنه أراد أن ينبذَهُم على سواء، فبعث أقربَ رجلٍ إليه على عادةِ العرب.
باب ُ ما يُذْكَرُ فِي الفَخِذ
قوله: (ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما)... إلخ هكذا قال الحنفية رضي الله عنهم: أن الفخذَ عورةٌ. والمصنِّف رضي الله عنه وإن مر منه إلا أنَّ الترمذيَّ أخرجه من وُجُوهٍ وحسَّنَه، وتحسينُ الترمذيِّ معتبرٌ عندي، وقيل: إنه متساهل في التحسين، ثم قيل: إن أكثرَ أفراد ابن ماجه ضِعَاف، والمراد من الأفراد عندي الرواةُ دون الروايات، لأني وجدتُ فيما أُفرد به ابن ماجه أحاديثَ صحيحة أيضًا، نعم، رواته المختصة قلَّما وجدتهم يبلغون الصِّحة.
والذي يَظْهَر من صنيع المصنِّف رضي الله عنه أنه مال إلى مذهب مالك رضي الله عنه، وحمل ما ذهب إليه الحنفية على الاحتياط.
قوله: (وحديث جَرْهَدٍ أحوط) يعني خروجًا عن الخلاف. وقد مر في آخر كتاب الغسل أن الأحوطَ قد يُطلقُ على الواجب أيضًا عند تعارض الأدلة.(2/128)
قوله: (غطى النبي صلى الله عليه وسلّمركبتيه)... إلخ يمكن أن يكونَ ثوبُهُ إلى انتهاءِ الركبة، ثم إذا دخلَ عثمان جرَّه إلى ما تحته، وهذا في التعبير واسعٌ.
قوله: (وفخذه على فخذي) وليس فيه أن فخذَه كانت مكشوفةً، فَذِكْرُه إذن من مُلحقاتِ الباب، ويمكن أن يكون غرضُ المصنفِ رضي الله عنه أنَّ الفخذَ لو كانت عورةً لما وضعها على الفخذ. وللمجيبِ أن يقول: إن في وضعِ الأعضاءِ بعضها على بعض مراتب، فأهل العُرف لا يبالونَ بوضع الفخذ على الفخذ إذا كانت مستورةً بثوب، بخلاف الأعضاء الغليظة، فهم يراعون هذه الأشياء من عند أنفسهم، كرفع القميص عن السراويل، وككبس الأرجلِ إلى أين ينبغي. ولعل المصنفَ رضي الله عنه أراد بيان هذه المسألة فقط، يعني أنَّ الفخذِ على الفخذَ متحملٌ، ولم يرد الاستدلال به.
قوله: (أن ترضَّ فخذي) من أعباءِ الوحي، ولم يكن يتحمَّلُها أحد غير ناقته القَصْوَاء، ولعله لاعتيادها بها. وحصول المناسبة شيئًا كأبي بكر رضي الله عنه، فإنه لم يكن يسمع صوتَ الوحي غيره.
371 - قوله: (غزا خيبر) في السنة السابعة.
371 - قوله: (بغلس) وتعرُّضُ الراوي إلى التَّغليس كالاستغراب، يدلُّ على أنه لم يكن من عادتِهِ الشريفة، ثم إنه كان لأجلِ الغزوة، لا لأنه كان من سُنة الصلاة.
371 - قوله: (فأجرى) أي مركوبه، أما ليسطو عليهم، أو لإلقاء الرُّعبِ عليهم.
371 - قوله: (ثم حسر الإزار عن فخذه) وعند مسلم: «انحسر»، فلم يدل على أنَّه كَشَفَها قصدًا، على أن في «القاموس» أن حسر لازم أيضًا، فعلى هذا جاز أن يكون الإزارُ فاعلا له، لا سيما إذا كان عند مسلم: «انحسر» على أنه يمكنُ أن يكون حَسَرَ الإزارَ بمعنى وَسَّعَه لئلا يلزقَ بفخذه، وحينئذٍ يجوزُ أنه كان حسر الإِزارَ عما يجوزُ الحسرُ عنه، فانحسرَ عن فخذه، كما يتفقُ في الإزار.
(2/129)
ثم عند البخاري في موضع آخر: «وإن قدمي لتمسُّ قدمَ النبي صلى الله عليه وسلّم مكان «فخذ النبي صلى الله عليه وسلّم. وفي «الفتح» عن «صحيح الإسماعيلي»: «أنه مشى نبي الله صلى الله عليه وسلّمفي زُقَاق خيبر إذ سقط الإِزار» وهو أيضًا يدلُ على عدم القصد. وقال القرطبي: إن حديث أنس رضي الله تعالى عنه ورد في قضية معينة في أوقات مخصوصة، يتطرقُ إليها الاحتمالات، بخلاف حديث جَرْهَد، لأنه يتضمن تشريعًا عامًا. وقال النووي: ذهب أكثر العلماء إلى أن الفخذَ عورةٌ، وقد يتعسر على البعض جَرَيان مثل هذه الأمور على النبي صلى الله عليه وسلّم فيتمنَّون أن لا يكون جَرَى على النبي صلى الله عليه وسلّمشيء مما لا يحبه الشارع.
قلتُ: وهذا غير كائنٍ، فإنّه أُلقِيَ عليه النومُ في ليلة التَّعْرِيس، وأُلقي عليه النسيان حتى قام للصلاة وهو جنبٌ، ثم تذكَّر قبل التحريمة. وقد مر بحثه. وأُقيم موسى عليه السلام بين قومه عُريانًا. قال المتكلمون: إن ما يعدُّونَه خلافَ المروءةِ لا يجوز وقوعهُ على الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام.
قلتُ: كشف الفخذِ لو كان وقعَ لم يكن خلافًا للمروةِ عند العرب أصلا، كما عُرِفَ من حالهم في التعري، حتى في الطواف أيضًا، والسر فيه أن وقوع هذه الأشياء مرةً أو مرتين في مُدة عُمْره لأجلِ مصلحةٍ لا يعدُّ شَيْئَا، وإنما يعدُّ خلافُ المروءة إذا تكرر وقوعُها وتساهَلَ فيها صاحبُها.
371 - قوله: (بساحة) آنكن يعني مكانون كي سامنى.
371 - قوله: (والخميس) سُمِّيَ به لأنه يشتملُ على مقدمة، وسَاقَةٍ، وقلبٍ، وجناحان.(2/130)
371 - قوله: (عَنوة) أي قهرًا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إن مكة فُتحت صُلحًا. وكنتُ متحيِّرًا في أنه إذا عدَّ هذا الفتح صُلحًا مع هذه الحروب والضروب، فما الفتحُ عَنوة عنده؟ وتشوشَ فيه الحافظ رحمه الله تعالى أيضًا، ثم تبين لي أنه اعتبره صُلحًا، لأنهم التجأوا إليه آخرًا، فأولُ أمرِهم وإن كان القِتالُ، لكنهم إذا صالحوا آخرًا، وكَفَّ عنهم القتالُ عُدَّ الفتحُ صلحًا. وبوب عليه الطحاوي.
371 - قوله: (فجمع السبي) من النِّسْوان والصبيان، لأن العربَ لا يُسترقُّ رِجَالُهم، وليس فيهم إلا الإسلام أو السيفُ عندنا، ثم إن أهلَ خيبر كانوا يهودًا.
371 - قوله: (خذ جارية) وعند مسلم: «أن النبي صلى الله عليه وسلّماشترى صفيةَ منه بسبعة أرؤس»، وفي النقول أنه أعطاه ستة. ثم إني علقت تذكرةً مستقلةً على أن جملةَ أنكحةِ النبي صلى الله عليه وسلّمكانت من أسبابٍ سماوية، وصفيةُ هذه قد كانت رأت رؤيا: أن البدر نَزَلَ في حِجْرِهَا، فقصَّتْها على زَوْجِهَا فلطمها، وقال: أتريد أن تنكحي بهذا الرجل؟ يريدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فكان كما رأته.
371 - قوله: (أعتقها وتزوجها) وقد ذهب بعضُ أهلِ العلم: إلى أن الإِعْتَاقَ بشرطِ التزوُّجِ لا يحتاجُ إلى إيجابٍ وقَبُول مستأنف. وهذا اللفظُ يدل على أن التزوجَ أيضًا لا بد منه، ولا ينوبُ نفسُ الإِعتاقِ مَنَا.(2/131)
قوله: ((مال نفسها)) وهذا بيان للمآل، يعني لما أعتقها النبي صلى الله عليه وسلّموأسقطت هي مهرَها عنه، لم يبقَ المهرُ إلا نفسُها، فإِنه لم يكن هناك إيفاءٌ واستيفاء لسقوط المهر، وكانت نفسُها هي التي استوفاها. فهذا نحو تعبير عُرفي، لا مسألة فقهية، وأظن أن النبي صلى الله عليه وسلّمأعتقها وتزوجها تحصيلا للأجر مرتين، على الحديث الذي مر في كتاب العلم، وسيجيء الكلام عليه. ثم إنهم اختلفوا: في أنه إذا كان أعطاها، فهذا الأخذُ كان شراءً منه، أو استردادًا في الهبة. ومالَ الحافظُ رحمه الله تعالى إلى الثاني، وأوَّلَ في لفظ مسلم: «اشترى صفية» وحمله على المجاز.
371 - قوله: (عروسًا) مفعول يُطلقُ على المذكر والمؤنث.
371 - قوله: (نِطعًا) سُفرة من أدمٍ.
371 - قوله: (حيسًا) حلواء.
باب فِي كَمْ تُصَلِّي المَرْأَةُ مِنَ الثِّيَابِ؟
واستثنى الحنفية: الوجه، والكفين، والقدمين.
372 - قوله: (ما يعرفهن أحد) قال النووي: أي أرجالٌ أم نساء، ليكون أدلَّ على التغليس، قلت: بل المراد به معرفةُ الأشخاص، ولا ريب في أن عدم معرفة الأشخاص معنىً مطلوب، حيث عَرَضَ عمر رضي الله تعالى عنه، فقال: «ألا قد عرفناك يا سودة»، وإلى هذا المعنى أرشد القرآنُ فقال: {ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب: 59) والمعرفة هنا هي معرفةُ الشريفة من الوَضِيعة، فإن المنافقين إذا وجدوا امرأةً وضيعةً، غمزوها وآذوهَا، فهديُ القرآنِ لإِدناء الجلابيب، لئلا يعرفنَ أنهنَّ شريفاتٍ أو وَضِيعات فلا يؤذين، فكانت تلك معرفة الأشخاص.(2/132)
أما عدم معرفة الرجال من النساء فليس فيه معنى، ثم ما يُعلم من عمل الشيخين هو البداية في التغليس، والنهاية في الإسفار، وهو الذي اختاره الطحاوي، وهكذا في كتاب الحج، قيل: هو من قلمِ أحمد بن عِمران، وقيل من قلم عيسى بن أَبَان، وعمل عثمان رضي الله عنه بالإسفار، وهو الذي اختاره المتأخرون منا. وعند ابن ماجه: تعني من الغلس، نظير الجواب.
باب إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلامٌ وَنَظَرَ إِلَى عَلَمِهَا
373 - قوله: (فإنها ألهتني) وفي الطريق الآتية المنقطعة: «فأخاف أن تفتنني»، فدل على أنه لم يقع شيءٌ من ذلك، وإنما خشي أن يقعَ، وإنا تحسُ هذه الأمور القلوب اللطيفة دون المغشوشة، وليس من طريقِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الاستغراقَ فيها، بحيث لا يبقى لهم حِسٌّ وشعور، ألا ترى أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا قام عن يساره، أداره إلى يمينه في الصلاة، فهذا شأنهم.
373 - قوله: (وائتوني) قال ابن بَطَّال: إنما طلب منه ثوبًا غيرها ليُعلِمَه أنه لم يرده استخفافًا به، قال الطِّيْبيُّ: فيه إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيرًا في القلوب الطاهرة، والنفوس الزكية، فضلا عمن دونها.
مسألة
وفي الفِقه: أنَّ من نقشَ المسجدَ بمالِ الوقف يضمنه، وإن كان بماله جاز.
باب إِنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ أَوْ تَصَاوِيرَ هَل تَفسُدُ صَلاتُهُهَمَا يُنْهى عَنْ ذلِك
وهي مسألةُ الصلاة لا مسألة التصوير، فادْرِ الفرقَ بينهما.
قوله: (مصلب) والشكل المشهور هذا (). وفي «دائرة المعارف» أشكالٌ أُخرى أيضًا.
قوله: (أو تصاوير) عطف على المعنى. كما في «المغني»، أن العطف قد يكون على اللفظ، وقد يكون على المعنى، وقد يكون على التوهم.
واعلم أن هناك ثلاث مسائل: الأولى: فعل التصوير، وهو حرامٌ، صغيرًا كان أو كبيرًا.(2/133)
والثانية: حكم التصاوير في الصلاة. وحاصل ما في المتون: أن لا بأس بالمُمتَهن والصغيرة جدًا، بحيث لا تبدو للناظر وإلا كرهت.
والثالثة: لُبْس الثوب المصور.
وراجع التفصيل من «الفتح» لابن الهُمَام من مكروهات الصلاة، و «الموطأ» لمحمد بن الحسن.
374 - قوله: (قِرَام) هتلا كيرا. تمثال عامٌّ من التصوير، فإن الثاني يختصُّ بذي الروح.
باب ُ مَنْ صَلَّى فِي فَرُّوجِ حَرِيرٍ ثُمَّ نَزَعَه
قوله: «فروج» كوك: وعند مسلم: «صلى في قَبَاء دِيبَاج ثم نزعه، وقال: نهاني عنه جبريل عليه السلام» فدل على أن صلاته تلك كانت قبل تحريم الحرير، ولعله نزعه لكونه بعين الرضا منه تعالى.
باب ُ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الأَحْمَر
واعلم أن في الثوب الأحمر اختلافًا وانتشارًا في كتب المتأخرين، ولو صادفنا «تجريد القدوري» لاقتصرنا عليه. والحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى يأخذ بقول الحنفيةِ من هذا الكتاب، فدل على اعتباره عنده. وحاصل ما لخصتُ في تلك المسألة: أن اللونَ إن كان من الزَّعْفَرَان أو العُصْفُر كُره تحريمًا للرجال، وغيرهما إن كان أحمرَ قانيًا كُره تنزيهًا وإلا لا، وإن كان مخططًا بخطوط حمراء بلا كراهة. وقال بعضهم باستحبابه. وجاز الكلُّ للنساء، ثم إن تلك المسألة في الثياب دون الأَدَم.
376 - قوله: (حلة حمراء) قالوا: إنها كانت مخططة. قلت: ووجدتُ له روايةً بعد تتبُّعٍ بالغٍ في «أحكام القرآن» لابن العربي.
376 - قوله: (مشمِّرًا) أرسى هوئي.
باب ُ الصَّلاةِ فِي السُّطُوحِ وَالمِنْبَرِ وَالخَشَب
جمع سطح، أي سقف.
قوله: (والمنبر) موضعٌ مرتفعٌ، يُجْلَسُ عليه لإِلقاء الوعظ، فهذه هيئة.(2/134)
قوله: (والخشب) وهذا مادة. وحاصلُ الكلِّ أن السجدةَ وقعت على غير الأرض، سواء كان على هذه الهيئة أو تلك المادة، فأجاز الصلاةَ على غير جنسِ الأرض، وتجوز عندنا على السرير بدون عذر، لأنه يُتصوَّر عليه إلقاء الجبهة وهو الشرط. وإنما لا تصح على القطن لأنه لا تستقرُ عليه الجبهة، فلا يتحققُ معنى السجدة، وكذلك على الثلج، لأنه لا يتأتَّى فيه الطرحُ والإِلقاء إلا بالاستمساك، واستمساكُ الجبهة ليس بسَجْدةٍ، بل هو مَسَاس، لا طرحٌ وإلقاءٌ، والشرط هو هذا دون ذلك، فافترقا، فمن قاس السريرَ على الثلج فكأنه لم يراع ما قُلنا.
قوله: (الجمد) يخ.
قوله: (والقناطر) وإن جَرَى تحتَها بولٌ، وهذا على عادتهم في البلادِ الباردة، أنهم كانوا يذهبون بمواشيهم تحت القناطر، فتبول، ويجري البولُ من تحتها. وظهر منه أن حملَه على بولِ ما لا يؤكلُ لحمه بعيدٌ كلَّ البُعد، بل هو بول ما يؤكل لحمه، فدل على نجاسته عنده، كما هو مصرح عند الطحاوي عن الحسن: أنه كره أبوال الإِبل والبقر والغنم. ثم في «الدر المختار» عن «حاوي القدسي»: أن الصلاةَ على سطح الاصْطَبل مكروهةٌ، والظاهر أن الوجه فيها الروائح الكريهة. وليس فيه مسألةُ الصلاة على سطحٍ تحته نَجِسٌ، وذلك لأنه خصَّ الاصطبل بالذكر، وفيه تكون ذلك.
قوله: (إذا كان بينهما سترة)... إلخ يعني به طهارة موضع المُصلى، ومختارُ الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى في طهارة المكان: طهارةُ مواضِعِ السجودِ فقط، فلو صلى وبحذاءِ صدرِهِ نجاسةٌ، صحت صلاتُهُ وإن كره، وفيه أن النجاسة المفسدة هي التي ينسب حملها إليه، وإلا لا.
قوله: (وصلى أبو هريرة رضي الله عنه) انتقل إلى مسألة أخرى، وهي أن الإِمام إذا كان تحت السقف، والمأموم فوقه، هل تصح صلاته؟ فتصح عندنا إذا علم انتقالاتِ الإِمام، سواء كان بينهما منفذ، أو لا.(2/135)
377 - قوله: (اثل) (جهاؤ) وهذه الشجرة على نحوين: العظيمةُ منهما تُسمَّى أثلا، والصغيرة طَرْفَا.
377 - قوله: (الغابة) موضعٌ معروف من عَوَالي المدينة. واختار الحافظ رحمه الله تعالى أن المنبرَ عُمِلَ في السنة التاسعة. وعندي رواياتٌ تدُل على أنه متقدِّمٌ بكثير، وإنما عارضتُ فيه الحافظَ رحمه الله تعالى، لأنه يُعْلَمُ من بعض الروايات أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّمقام متكئًا بجذعٍ في المسجد في واقعة ذي اليدين - وكانت تلك الجذعُ هي الأَسطُوانة الحنَّانة، كما أشار إليه القاضي عياض، وقد دفنت حين عُمِلَ له المنبر - فيدل على أن واقعةَ ذي اليدين متقدمةٌ جدًا. وهذا ينفعُ الحنفية في مسألة نسخِ الكلام كما لا يخفى، بخلاف ما اختاره الحافظ رحمه الله تعالى، فإِنه يمكن أن يكونَ واقعة ذي اليدين في السنة الثامنة مثلا، وكان قيامُهُ بتلك الجذع لأنه لم يُعمَل له المنبرُ إذ ذاك، فيدلُ على تأخُّرِ هذه القِصة جدًا. وسَهْلُ بن سَعْد هذا آخرُ الصحابة المدنيين وفاةً.
377 - قوله: (ثم رجع القَهْقَرَى)، قلت: إنما كان ذلك بخطوتين وهو عمل قليل، لأن منبر النبيِّ صلى الله عليه وسلّمعُمِلَ بثلاث درجات، فلو كان قيامُهُ على الدرجة الثالثة أمكنَ نزوله عنها بخطوتين، وهذا عمل قليل. وحقق ابن أمير حاج: أن المشي الكثير أيضًا غير مفسدٍ إذا كان متفاصلا. ثم في الحديث دليل على جواز كون الإِمام أعلى من القوم، ونهى عنه عند أبي داود. قال النووي: كراهة الارتفاع إنما هي عند عدم الحاجة، فإِن كان لحاجةٍ بأن أراد تعليمَ الصلاة لم يُكره، بل يستحبُّ لهذا الحديث، وكذا إن أرادَ المأمومُ إعلامَ المأمومين بصلاة الإِمام، واحتاج إلى ارتفاع. انتهى مختصرًا.(2/136)
قلتُ: وكذا في «الدر المختار» عن «الاختيار»: أنه يجوز للإِمام إذا احتاج إليه، إلا أن لي فيه ترددًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلّمكان عليه طردُ الدين وعكسُهُ، وأما مَنْ بعدَه فلا أرى أن يُسوَّغَ له ذلك؛ لأنه ليس اليوم أحدٌ منهم يتقصرُ عليه التعليم، فليقصر عليه صلى الله عليه وسلّم ولا يوسَّعُ به في حق سائر الأئمة، لأن الضرورة تحققت في حقه صلى الله عليه وسلّمخاصة.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلّمإنما فعل كذلك لأنه لم يتفق لهم رؤية صلاة النبي صلى الله عليه وسلّمقبله، إلا لمن كان في الصف الأول، فأراد أن يشاهدوا جميعَهم مرةً ليتعلَّموا صلاتَه، ويحفظوا عنه، كما هو عند مسلم: «يا أيها الناس إني صنعت هذا لتأتَمُّوا بي، ولتَعَلَّمُوا صلاتي»، كأنهم قبل ذلك لم يشاهدوا صلاةَ النبي صلى الله عليه وسلّم وإنما أْتَمُّوا به بواسطة الصف الأول، فأراد أن يكون الجميع سواءً في رؤية صلاته والائتمام به، وهذا سائغ للشارع. أما من كان إمامًا كسائر الأئمة، فلا أرى له هذا التوسيع. والله تعالى أعلم.
ثم التَّحيُّرُ من ابن حَزْم حيث مرَّ على هذا الحديث، وادَّعى أن تلك الصلاةَ كانت نافلةً، وتمسك بالجماعة في النافلة، وشدَّدَ على من أنكرها، مع التصريح في الصحيح أنها كانت صلاةُ الجمعة. ثم لا يذهبُ عليك أنَّ الراويَ لا يذكرُ للمقتدين ههنا قراءةً، ولا يقول: فقرأ وقرأ الناس معه، وذلك لأنه لا قراءةَ في الجهرية مع الإِمام، وليست في «الأم» عند الشافعي رحمه الله تعالى، غير أن المُزَني يحكي عن الربيع روايةَ القراءة في الجهرية عن الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى، فاحفظه ولا تغفُلْ.
وابنُ حَزْم هذا كان أُجلي من بلده. من سعي المالكية، وتوفي في البرية ولم يكن معه أحد. وصنف عشرة آلاف من الأوراق، وجاء منها «المحلى» مطبوعة، وعليه حاشيةٌ لبعض غير المقلدين، وتتبَّع على أغلاطِهِ الحافظ قطب الدين الحلبي الحنفي من المئة الثامنة.(2/137)
377 - قوله: (إنما أردت)... إلخ وفاعله أحمد بن حنبل، لا علي بن المديني كما حرره شيخ الإِسلام بين السطور، وهو حفيدٌ لمولانا عبد الحق الدِّهلوي رحمه الله تعالى. وله حاشيةٌ على الجلالين يُسمَّى ب: «الكمالين»، وهو أحسن من حاشية علي القاري «الجمالين» وكنت أرجُو أن تكون حاشيتُهُ لطيفةً لكونه قارئًا، فلما رأيتُها وجدتُها سطحيةً، أما في باب الأحاديث فقد رأيتُهُ يرتكب الأغلاط كثيرًا. أما حاشيةُ ذلك الحفيد فلا ريبَ أنه جيدٌ حتى أظنه أعلمُ من جدِّه.
377 - قوله: (قال: فقلت)... إلخ أي قال علي بن المديني.
377 - قوله: (قال لا) قال الحافظ رحمه الله تعالى: وهذا صريح في أن أحمد بن حنبل لم يسمع هذا الحديث من ابن عُيَيْنَة، وقد راجعت «مسندَه» فوجدتُهُ قد أخرج فيه عن ابن عُيَيْنَة بهذا الإسناد من هذا الحديث، قولَ سَهْل: «كان المنبر من أَثْلِ الغابة» فقط، فتبيَّن أن المنفي في قوله: «فلم نسمعه منه قال: لا» جميعُ الحديث لا بعضه، والغرض منه ههنا، وهو صلاته صلى الله عليه وسلّمعلى المنبر داخلٌ في ذلك البعض، فلذلك سأل عنه علي بن المديني اه.
قوله: (سقط عن الفرس) قال ابن حبان: وهي وَاقعةُ السنة الخامسة. وقال الحافظ في المجلد الثامن: وحاصله: إنها في التاسعة. قلتُ: وهو قطعي البطلان، وأتعجَّبُ من مِثْلِ هذا الحافظ أنه كيف غَفَلَ عنه. ولعله دَعَاه إليه ذكر إيلاءِ النبي صلى الله عليه وسلّمفي تلك الواقعة، وكان في السنة التاسعة، فجعل سقوطَ الفرسِ أيضًا فيها. والذي تحقق عندي أن قِصةَ السقوط عن الفرس وإيلاءِه صلى الله عليه وسلّمواقِعَتان في عامين مختلفين، وإنما جمعهما الراوي في حديثٍ واحدٍ لجلوسِهِ صلى الله عليه وسلّمفي المَشْرُبة فيهما. أما في السقوط فلأن أصحابَه يجيئون لعيادته، وأما في قصة الإِيلاء فللتخلي والتجنب عنهنَّ قصدًا.(2/138)
378 - قوله: (آلى من نسائه) وهذا إيلاءٌ لغويٌ لا شرعيٌ. قال الشيخ ابن الهمام رحمه الله تعالى: إن الإيلأَ اللغويَّ جَائِزٌ. واضطرب فيه الشافعية، فلعله لا يجوز عندهم. قيل: المُهَاجَرَةُ فوق الثلاث ممنوعٌ، فكيف هاجرهنَّ شهرًا؟ قلتُ: إن المُهَاجَرَةَ إلى الثلاث مباحٌ، وأزواجُه كنَّ تسعةً أو إحدى عشرة، فحصل بضربِ التسعةِ في الثلاث شهرًا، فكأنه لم يهاجر كلهن إلا ثلاثًا، أما التناوب في المهاجرة فكان ركيكًا، فهاجرهنَّ معًا.
378 - قوله: (يعودونه) وهذا في واقعة السقوط، لأنه صلى الله عليه وسلّملم يكن عليلا في قِصة الإِيلاء. وفي البخاري عن عمر رضي الله عنه في قصة الإِيلاء، أنه قال: «صليت الفجر خلفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّمفي المسجدِ»، بخلافِ قصة السقوط، فإنَّ قدمه كانت انفكت، على ما في بعض الروايات، فلم يكنْ يحضُر المسجد في تلك الأيام، وهذا كله يدُل على المغايرةِ بين القِصتين، فكيف غَفَلَ عنه الحافظ رحمه الله تعالى وجعلها في السنة التاسعة؟
378 - قوله: (إنما جعل الإِمام)... إلخ وهذا يدُل على شدَّةِ الربط بين صلاةِ الإمام والمقتدي، واعتبره الحنفية رحمهم الله تعالى، بخلاف الشافعية فإنه عندهم عبارةٌ عن الاتِّباع في الأَفعال فقط، حتى إنهم جعلوا التسميعَ على المقتدي، وليس معهم في تلك المسألة عن السلف إلا رجلٌ أو رجلين. وسنعود إلى تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى.
378 - قوله: (فإذا كبر فكبروا) وقد مر مني أن الفاءَ عندهم تُستعملُ في التعقيب الذاتي أيضًا، ولا تنحصرُ في التعقيب الزماني، وحينئذٍ لا يدلُ على التعقيب في الأفعال، كما رامه الشافعية رحمهم الله تعالى، ويصدق على مذهبنا أيضًا، فإن المختارَ عندنا المقارَنةُ في جميع الأفعال. وعند الشافعية: التعقيب في جُملتها. وعند الصاحبين: المقارَنةُ إلا في التكبير والتسليم.(2/139)
وروي في بعض طرقهُ: «إذا قرأ فأنصتوا» أيضًا، وعلله المحدثون، وقد كشفتُ حقيقتَه في رسالتي «فصلُ الخِطَاب» أن هناك حديثان: الأول ما في واقعة السقوط، ويرويه مَنْ كان منهم في السنة الخامسة، وليس فيه تلك القِطْعَةُ، لعدم الحاجة إليه فيه، لأنه سِيْقَ لبيانِ المشاكلةِ بين الإِمام والمقتدي، وسائرُ الأجزاءِ ذُكرت فيه تبعًا، والحديث الثاني يرويه مَنْ جاء منهم في السنة السابعة، وفيه تلك القِطعة، ويجيء بسطه أزيد من هذا.
واعلم أن صلاةَ القائمِ خلفَ القاعدِ جائزةٌ عندنا وعند الشافعية. وعند أحمد رضي الله عنه لا تجوز، بل يجب على القوم أن يقعدوا أيضًا وإن لم يكونوا مَرْضى، لأجل هذا الحديث. ثم قالوا: إن قعودَ الإِمام إن كان طارئًا يسعُ للقومِ أن يقوموا. وعند مالك: لا يجوز اقتداؤه مطلقًا. فذهب الحنفيةُ والشافعيةُ إلى نسخه، وإليه ذهب البخاري، وصرح به في موضعين من كتابه. قلتُ في جوابه: إن حاصل الحديث استحبابُ المشاكلةِ بين الإِمام والمأموم، لأن الإمامَ جُعِلَ لِيُؤتمَّ به، ولم يرد في بيان تفاصيل جواز القيام والقعود أنه متى يجوز ومتى لا يجوز، فليكله إلى الخارج كما قرره الشارعُ في موضعه.(2/140)
ومحصَّلُه عدمُ ابتغاءِ الاقتداءِ بالإِمام القاعد، فإن اقتدَوا به فالمطلوبُ المشاكلةُ مهما أمكن. هذا في الحديث القولي. وأما وجه ما رواه أبو داود من واقعةٍ جُزئيةٍ، فالجواب عنه أن القومَ كانوا متنفلين؛ لأن الظاهرَ من حالهم أنهم صلوا الظهرَ في المسجد، لأنه بعيدٌ كلُّ البعدِ أن تبقى المساجدُ في تلك الأيام معطلةً عن الجماعة، ثم جاؤوا لعيادتِهِ صلى الله عليه وسلّمفوجدوه يُصلي فدخلوا في صلاته تحصيلا للبركة على عادتهم، حيثما رأوه يُصلي اقتدَوا به كما فعلوا في رمضان، فلم يخرج إليهم خشيةَ أَنْ تفترضَ عليهم، فلم تكن صلاتُهم تلك لإِدْراكِ الفريضة، بل لتحصيلِ البركةِ، فكانت هذه صلاة لا تدعى لها، بل التي تكونُ في البيوت. وإنما جاء من جاء للعيادة فاتفق أنْ وَجَدَهُ يُصلي فدخلَ معه لطوعه، وحملَه الناسُ على الفريضة ثم عمّموها. وسنقرره إن شاء الله تعالى بوجه أبسط منه فراجعه من بابه.
فإن قلت: إن الناسخَ لحديث السقوط عند من زَعَمَ النسخَ، صلاتُهُ صلى الله عليه وسلّمفي مرض موتهِ، وللرواةِ فيها اضطرابٌ في كونه إمامًا ومأمومًا. قلت: وهذا إنما يَرِدُ على مَنْ ذهب إلى وحدة الخروج كالشافعي رحمه الله تعالى، أما أنا فقد التزمتُ الخروجَ في أربع صلوات، فكان إمامًا في بعض دون بعض، على أن حديثَ الحنابلة أيضًا لا يخلو عن اضطراب، لما عند مسلم: «فصلى بنا قاعدًا، فصلينا وراءه قعودًا»، وهذا يخالفُ ظاهرَ حديث أنسٍ رضي الله عنه ههنا، وللتأويلِ مجالٌ وسيعٌ، فاضطرب حديثُ السقوطِ أيضًا.
مسألة(2/141)
وليعلم أن المسألةَ فيمن دخلَ المسجد وقد صلى، أنه يُعيد الظهرَ والعشاءَ. وفي «فتح القدير»: أنه ينوي النفل. قلت: وفيه تسامحٌ، بل المذهب أنه يُعيدُ ويصلي تلك الصلاة بعينها، نعم، تقع عنه نفلا لسقوط الفريضة عنه من أولها. كما أن الصبيانَ يصلون الظهرَ والعصرَ مثلا، ثم لا يقع منهم إلا نفلا. والعجب أن الحافظ رحمه الله تعالى نقلَ مذهبَنَا صحيحًا مع أنه شافعيٌ، والحنفية يغلَطُون فيه. وهكذا في «المبسوط» للجُوْزَجاني، و «الجامع الصغير»، وكتاب «الآثار»، وكتاب «الحجج»، و «الموطأ» لمحمد، وبه صرح الطحاوي. وسيجيء بسطُهُ في صلاة معاذ رضي الله عنه مع قومه، فانتظره.
فالمذهبُ هو الإِعادَةُ دون التنفُّلِ فاعلمه، فإِنه ينفعكَ في كثير من الأحاديث.
378 - قوله: (فقال: إن الشهر)... إلخ يعني قد يكون الشهرُ تسعًا وعشرين. ثم إنهم اختلفوا في سبب الإِيلاء، فقيل: قِصة مارية القِبْطية، وقيل: طلبهنَّ النفقة، وقيل: قِصة العسلِ.
باب إِذَا أَصَابَ ثَوْبُ المُصَلِّي امْرَأَتَهُ إِذَا سَجَد
وقد مر عن «الفتح»: أن النجاسةَ المفسدةَ هي التي يحملها المصلي، ولا بأس بأن وقعَ ثوبُ المصلي على نجاسةٍ يابسةٍ.
باب ُ الصَّلاةِ عَلَى الحَصِير
باب ُ الصلاة على الخُمْرَة(2/142)
قال ابن بَطَّال: إن كان (ما يصلي عليه كبيرًا) قَدْر طولِ الرَّجُلِ فأكثر، يقال له: حصير، وإلا يقال له: خُمْرة. وقد مر الكلام فيه. ثم إن الصلاة عند مالك رحمه الله تعالى ينبغي أن تكونَ على جنس الأرض، فإن صلى على غيره كُره. واختارَ البخاريُّ السجدةَ على جنس الأرض وغيره كما هو مذهب الجمهور، فأثبت الصلاةَ على الحصير - وهو يصنعُ من سَعَف النخل - ثم من عادات البخاري وضعُ التراجِمِ لمجرد إحصاء الجزئيات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلّم فبوَّبَ بالصلاة على الخُمْرة، وفي الفِراش.
قوله: (وصلى جابر رضي الله عنه)... إلخ وجاز فيه القعود عند الإِمامِ الهُمَام بلا عذر. ويُؤيدُهُ أثرُ أنسٍ رضي الله عنه: «إنه كان يذهبُ من البصرةِ إلى أرض له ويُصلي جالسًا، والظاهرُ عدم العذر. وعند صاحبيه يجوزُ بالعذر، وإلا لا. قلت: والعمل على مذهب الصاحبين أولى، ثم إن مشايخنا كانوا يعدُّون القِطَار كالسريرِ المستقرِ على الأرض، فلا تجوز الصلاة فيه إلا قائمًا، وقيل: إنه كالسفينة، فتجوز قائمًا وقاعدًا وهو المختار عندي. وأما السفينة إذا كانت بشطِّ البحر، ففيه تفصيل مذكورٌ في الكتب.
380 - قوله: (إن جَدَّتَهُ) قيل: الضمير إلى إسحاق، وقيل: إلى أنس رضي الله عنه وكلاهما صحيح، فإن أمَّ سليم والدة أنس رضي الله عنه كانت تزوجت بعده أبا طلحة رضي الله عنه، فصار عبد الله أخًا لأنس رضي الله عنه، وصارَت مُلَيْكَةُ جَدَّةً لإِسحاق بن عبد الله.(2/143)
380 - قوله: (اليتيم) علمٌ بالغَلَبَة، واسمُهُ ضميرُة. ثم إن مولانا عبد الحي رحمه الله تعالى ضعَّف مسألةَ المُحَاذات. قلت: بل هي مسألةٌ قويةٌ، لكنها مسألةٌ اجتهادية، ويُسوَّغُ للمجتهد أن يحملَ تأخير الصبيانِ في مرتبةِ السُّنِّية، وتأخيرَ النِّساء في مرتبة الشرطية، لفروقٍ سَنَحتْ له. مثلا ثَبَتَ في الأحاديث كراهةُ الصلاةِ خلف الصفِّ وحدَهُ، حتى ذهب أحمد رحمه الله تعالى إلى بطلان الصلاة، ومع ذلك أخَّرَهَا النبيُّ صلى الله عليه وسلّمولم يتركها أن تقومَ مع صف الرجال، ولم يثبت عنه إقامةُ النساءِ مع صفِّ الرجالِ ولو مرةً، بخلاف الصبيان، فإِنهم وإن سُنَّ تأخيرهم عن صف الرجال، لكنه ثبتَ إقامتُهم في صف الرجال عند انعدام رجل آخر لتحصيلِ الصف. فَعُلِمَ أنه يحتمل قيام الصبيان مع الرجال في صورة، بخلاف النِّسْوان، فإنه لا يحتمل مطلقًا، فلو كانت واحدة لصفت وحدَها، ولا تحاذى بالرجال، وحينئذٍ ساغ للمجتهد أن يحملَهُ على الشرطية، ويقول بفساد الصلاة عند محاذَاتِها بالرجال. وما قال صاحب «الهداية»: «أَخِّرُوهُنَّ من حيث أَخَّرَهُنّ اللَّهُ» خبر مشهور، اعترضَ عليه مولانا عبد الحيِّ رحمه الله تعالى.
قلتُ: أراد به المشهور عند الأصوليين أي متلقى بالقَبول. ثم لا يخفى عليك أن النساء قد فُضِّلنَ بأمورٍ، فليست فيهن الجماعة، فلو فعلْنَ يقوم إمامُهنَّ وَسَطَهنَّ كالعُرَاة، فإذا حُرِمْنَ عن الإِمامة حُرِمْنَ عن النبوة أيضًا. فهذه المسائل تدُل على دُنُوِّهن من الرجال في كثير من الأبواب.
باب ُ الصَّلاةِ عَلَى الفِرَاش(2/144)
قوله: (قال أنس رضي الله عنه)... إلخ والسجدة على الثوب الملبُوس جائزةٌ عندنا، كما يظهر من أنس رضي الله عنه، ولا تصح عند الشافعية، ولعل تَفَقُّهُهُمْ فيه أنَّ الثيابَ أيضًا تسجد، فينبغي أنْ تكون السجدةُ على ما عداها. قلتُ: وهذا من النِّكَات فلا تدارُ عليها المسائل.
382 - قوله: (غمزني) وعند أبي داود: «أَنَّ يدَهُ كانت تَقَعُ على رجلي»، وهذا دليلٌ على أنَّ مسَّ المرأة ليس بناقض، وأوَّلَه الشافعية رضي الله عنهم. وفي «الدر المختار»: أنَّ الوضوءَ بمسِ المرأةِ مستحبٌ خروجًا عن الخلاف. قلتُ: أما الاستحبابُ فلا كلامَ فيه، وأما دليلهُ ففيه نظرٌ، والأشبه أنْ يُقال: إنَّ الأحاديثَ إذا صَحَّتْ في الطرفين عَدَلنا من الوجوبِ إلى الاستحباب، وقد مر الكلام في الطهارة مبسوطًا. ويُعْلَم من بعض ألفاظِهِ أن صلاتَهُ تلك، كانت على السرير.
383 - قوله: (اعتِرَاضَ الجَنَازة) وتُسْتَنْبَط منه إشارةٌ إلى ما اختارَهُ الحنفية: أن الإِمامَ يَقومُ وسطهُنَّ.
فائدة
واعلم أن الإِشارةَ قد تَفُوق على العبارة، فإنَّ العبارة تَدلُ على الواقعةِ الجُزْئيةِ أنها كذلك، بخلافِ الإِشارة، فلكونها مشبهًا به تدل على تَقَرُّرِها في الأذهان، كأنَّها أمر مفروغٌ عنه، حتى يذكر كالمشبَّه به، وليس كذلك العبارة، فإِنَّها لا تَدلُّ على التصريح بما صرح فقط.
باب ُ السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ فِي شِدَّةِ الحَر
ولعلها مسألة أخرى، فإنه أضاف فيها قَيدَ شدة الحر، وتقرر في علم المعاني: أنَّ الحكمَ إذا ورد على مقيد، كان محطَّ الفائدة القيود، ففرَّقَ بين قولك: جاءني زيد، وجاءني زيدٌ راكبًا، وجاءني زيدٌ راكبًا أمس، فإنَّ المقصود في الأول الإخبار بالمجيء فقط، وفي الثاني إخباره بمجئيه راكبًا، وفي الثالث بالركوب والمضي كليهما.(2/145)
وكره السجود على كَوْرِ عِمَامته، والقَلَنْسُوة، قيل: إنَّها نوع من العِمامة. وقيل: إنَّها قَلَنْسُوة ذات الأذنيين (كنلوب).
باب ُ الصَّلاةِ فِي النِّعَال
وقد علمت أنَّ النِّعال غير المِدَاس المعروف الآن في بلادنا، والصلاة في المِداس ربما لا تصح؛ لأنَّ القَدَمَ تبقى فيها معلَّقة، ولا تقع على الأرض، فلا تتم السجدة. ثم في الشامي: أنَّ الصلاة في النعلين مستحبة، وفي موضع آخر: أنَّها مكروهة تنزيهًا.
قلتُ: بل هي مباح، وحقيقة الأمر عندي: أنَّ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمَّا ذهبَ إلى الطورِ {ونودي أن يا موسى إني أنا ربك فاخْلَع نَعْلَيْك} (طه: 11 - 12) حَمَلَهُ اليهودُ على النهي مطلقًا، فلم يُجوِّزوا الصلاة في النعلين بحال، وغلطوا فيه فأصلَحهُ الشرع، وكشَفَ عن حقيقته مِنْ أَنَّها جائزة فيهما، وما زعموه باطل، ولذا وَرَدَ في بعض الروايات: «خالفوا اليهود» فَعُلِم أنَّ الأمرَ بالصلاةِ فيهما على ما في بعض الروايات، إنما هي لأجل تقرير مُخالفتهم، لا لأنها مطلوبة في نفسها.
وعن كعب الأحبار - عند مالك في «موطأه» - أنه عليه الصَّلاة والسَّلام أُمر بالخلع لأن نَعْلَيْه كانتا من جلد حمار ميت. قلتُ: وظاهر القرآن يقتضي أنَّ أَمْرَ الخَلعِ كان تأدُبًا ولذا قَدَّم قوله: {إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ}، ورتب عليه: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ}، إشعارًا بسبب الخلع، ولكنه لا يُوجب عدم الجواز، فالجواز باقٍ مع أنَّ التأدُّبَ في الخلع.
وحاصلُ ما قررَهُ الشارع: أنَّ الصلاةَ في النعلين جائزة، سَوَاءٌ كان أمرُ الخلع لِمَا ذَكَرَهُ كعب، أو لِما يرشد إليه ألفاظُ القرآن، وليس كما زَعَمَهُ اليهود من عَدَمِ جَوَازِ الصلاةِ فيهما. وهكذا دأبُ الشريعة في مواضع، فمتى ما غير اليهودُ أمرًا وكانت فيه مَغْلَطَة، تَرِدُ الشريعةُ بإصلاحه، كاشفةً عن حقيقته.(2/146)
386 - قوله: (قال: نعم) ولا دليلَ فيه أنَّ صلاته تلك كانت في المسجد أو خارجها، فلْيُنْظر فيه أيضًا.
وليُعْلَم أنَّ القرآن قد يُعبرُ القصةَ الواحدةَ بألفاظٍ متغايرة كما فعل ههنا، ففي موضع {إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ} وفي تلك القصة بعينها في موضعٍ آخر {إِنّى أَنَا اللَّهُ} مع أنَّ التحقيقَ عندي أنَّ الآية إذا وردت باسم من أسماء الله تعالى، فالأنسب هو ذلك الاسم بذلك الموضع، ويكون له دَخْلٌ فيه، لا أنه وقع اتفاقًا، لكونه عبارة عن مسمَّى واحد، كقوله تعالى: {السارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديَهما جزءًا بما كَسَبا نكالا من ا وا عزيز حكيمٍ} (المائدة: 38) فالأنسب ههنا هو {عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، ولو قال: والله غفور رحيم، لفات عنه الحُسْن، وتقريره في مَقَامِهِ مشهورٌ، فلا أدري أنَّ النداء كان بقوله: {أَنَاْ رَبُّكَ} كما في موضع أو بقوله: {أَنَا اللَّهُ} كما في موضع آخر.
باب ُ الصَّلاةِ فِي الخِفَاف
قوله: «خف» موزه وراجع «الكبيري» لمسائله.
387 - قوله: (لأن جريرًا)... إلخ. والعجب أنَّ قوله تعالى: {فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (المائدة: 6) كان دليلا على إيجاب غَسْلِ الأَرْجُل عندهم، حتى كان يُتَوهم منه نسخ مسح الخف، ولذا كانوا يحبون حديثَ جَريرٍ، لأنه أَسْلَمَ بعد نزول المائدة، فلو كان المسحُ منسوخًا كيف أَدْرَكَهُ جرير؟ فإذا رواه جرير مع إسلامه بعد المائدة، عُلِمَ بقاؤُهُ بَعْدَهُ أيضًا، وأَنَّهُ لم يُنْسَخ منها، فلم تَبْقَ حِيْلَة لمن أَنكر المَسْحَ بأَنَّهُ كان، ثُمَّ نُسِخَ بِنُزولِ المائدة - والروافضُ الملاعِنة يفهمون أنَّ آية المائدة، قامت دليلا على مَسْحِ الأَرْجُل بدون الخِفَافِ أيضًا، على نقيض ما فهمه الصّحابة رضي الله عنهم، فانظر كيف انقلبَ الحال ظهرًا لبطن.(2/147)
أقول إنَّ المَسْحَ في اللغةِ بمعنى مَسَاسِ الماءِ وإسالتِهِ أيضًا، كما ذكره ابن تيمية رحمه الله تعالى. وحينئذٍ مسحُ الرأس هو بإمرارِ اليدِ المُبْتَلَّة؛ ومسحُ الأَرْجُلِ بِإِسَالَةِ الماءِ عليها، وليس هذا مِنْ بَابِ عمومِ المشْتَرك.
والوجه فيه عندي: أنَّه مِنْ بَابِ اختلافِ المعاني باختلاف المحال، فمسحُ الرأسِ هو الإِصرار، ومسحُ الأَرْجُل هو الإِسالة كما قلت في لفظٍ النَّضْح، فإِنَّ النَّضْحَ لفظٌ واحد، وله معنىً واحد، إلا أنه اخْتَلف باختلافِ المحال.
فالواحد: نَضَحُ البحر، وأَنْتَ تَعْلَم أَنَّ نَضْحَ البحرِ يكون بقدر عِظَمهِ، فلو مَاج البحرُ موجَةً يقال: إنه نَضْحٌ.
والآخر: نَضْحُ النَّواضح، وهذا النضح أيضًا يكون بقَدْرهِ، فيكون أقل مِنْ نَضْحِ البحر بكثير.
والثالث: نضحُ الإِنسان، وهو أخف من الكلِّ، ويكون بمعنى الرأس، وقد ذكرناه مرةً في الطهارة بَسْطًا منه، وكذلك المسح في الرَّأسِ بمعنى الإِمرار وفي الأَرْجُلِ بمعنى الإِسالة، لا مِنْ جهةِ تغايرِ معناه، بل من جهةِ المحال المختلفة وموارد الاستعمال. وحاصله: أنَّ النَّضْحَ والمَسْحَ واحدٌ، وأشكالها مختلفة، ففي موضعٍ كذا، وفي موضع كذا.
باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ السُّجُود
وستجيء هذه الترجمة والتي بعدها في صفة الصلاة بعينها، ولولا أنه ليس مِنْ عادة المصنف رحمه الله تعالى إعادة الترجمة وحديثها معًا، لكان يمكن أن يقال، مناسبةُ الترجمة الأولى لأبوابِ سَتْرِ العَوْرَة، الإِشارةُ إلى مَنْ تَرَكَ شرطًا لا تصح صلاتُهُ، كمن تَرَكَ ركنًا، ومناسبة الترجمة الثانية، الإِشارةُ إلى أَنَّ المجافاةَ في السجودِ لا تستلزمُ عَدَمَ سَتْرِ العَوْرَة فلا تكونُ مُبْطِلَة للصلاة، كذا قاله الحافظ. ثم اختار أنَّ الحَمْلَ فيه عندي على النُّسَّاخ، بدليل سلامة رواية المستملي من ذلك، وهو أحفظهم.4(2/148)
قلتُ: ويُمْكِنُ أنْ يُتكلف، ويقال: إنَّ الفقهاء ذكروا للسجدةِ شرائط، كوجْدَانِ حَجْمِ الأَرْضِ في سجوده، فهي من شرائط الصلاة من هذه الجهة. ومن جهة التعديل، والطمأنينة، معدودة في صِفَةِ الصلاة.
باب يُبْدِي ضَبْعَيهِ وَيُجَافِي فِي السُّجُود
وإنَّما أَتَى به من جِهَةِ أَنَّ المجافاةَ في السجودِ، لا تستلزمُ عَدَمَ السَتْرِ، كما مَرَّ الحافظ رحمه الله تعالى، لا من جهةِ كَيْفِيَّةِ السجود، وهو مِنْ تِلْكَ الجِهَةِ معدودٌ مِنْ صفاتِ الصلاة.
390 - قوله: (فَرَّجَ بين يَدَيْهِ)... إلخ ليستوفي كُلُّ عضوٍ حَظَّهُ مِنَ السجود، لأنَّه نَصَّ الحديثُ على سَجْدَةِ أَعْضَاءِ السجودِ كُلِّها، وبالانضمامِ تَصِيرُ الكلُّ كالعضوِ الواحد، فلا يَتَوَفَّرُ حَظُّ كلَ منها على حِدَةٍ مع أنَّه مطلوب.
390 - قوله: (ليثُ بن سَعْد). قال الشافعي رحمه الله تعالى في حَقِّهِ إنَّه ليس عندنا دون مالكٍ رحمه الله تعالى، إلا أَنَّ أَصْحَابَهُ أضاعوه. وفي لفظٍ عندي: أَنَّهُ أفقه مِنْ مالكٍ رحمه الله تعالى، وفي لَفْظٍ آخر: ما آسَيْتُ على عدَمِ لقاءِ أحَدٍ كما آسى على ليثِ بنِ سَعْدٍ، وكان يَذْهبُ إلى قَبْرِهِ ما دَامَ في مصر، وكَتَبَ ابنُ خَلِّكَان: إنِّي رَأَيْتُ في بعضِ المُبيَّضَات: أنَّهُ كان حنفيًا وَرَحَل مِنْ مِصْرَ إلى مكة، ثمَّ إلى المدينة، ثمَّ إلى العراق، لمجردِ تَحْصِيلِ العِلْم، وَلَعَلَّهُ لقيَ أبا يُوسف رحمه الله تعالى هناك فَرَوَى عنه، وأَخْرَجَ الطَّحَاوي رِوَايتَه عن أبي يوسف، في بابِ رَفْعِ اليدينِ، وليست تلك الرِّوَاية إلا عند أَهْلِ الكوفة، وصَنَّفَ الحافظُ رحمه الله تعالى، في مناقبه رسالة سمَّاها «الرحمةُ الغيثيةُ في ترجمةِ الليثيةِ»، وكَتَبَ الذهبي رسالةً مستقلةً في مناقب الإِمام أبي حنيفة، وصاحبيه رحمهم الله تعالى.(2/149)
باب ُ فَضْلِ اسْتِقْبَالِ القِبْلَة
قوله: (يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ القِبْلَة). إنْ كان الغرضُ مِنْ ذِكْرِهِ التَفْصِيْلُ في الأَعضاءِ التي تَجِبُ الاستقبالُ بها، فهو مِنْ شَرَائِطِ الصلاةِ، وإلا فهو مِنْ صِفَةِ الصلاةِ. وفي «الكبير» من لَمْ يَسْتَقْبِلْ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ القِبْلَةَ فَصَلاتُهُ بَاطِلَة.
قلتُ: بل تكون مكروهة لا باطلة.
391 - قوله: (مَنْ صَلَّى صلاتَنَا). وأُخِذَ مِنْ نحوِ هذه الأحاديث، لَقَبُ أَهْلِ القِبْلة، لأهلِ الإِسلام.
وَوَجْهُهُ: أَنَّ هذه الأمور، أَمَارَاتٌ جَلِيَّةٌ يَحْصُلُ بِهَا التَّمايُزُ بين الإسلامِ وبَيْنَ سائرِ الأديان، فإنهم يَتَنزهون عن أَكْلِ ذَبِيحتِنَا، ولا يُصَلُّون صلاتنا، ولا يَسْتَقْبلون قبلتَنا، فصارت تلك كالشِّعارِ لأهل الإِسْلامِ، لا أَنه مَنْ تُوجد فيه تلك الأمور يُحكم عليه بالإِسلام، وإن أنكر سائر الدين ومرق منه مُرُوقَ السهم من الرَّمِّية.(2/150)
ولا أرَى أَنَّك شاكٌّ في تكفيرِ من فعل جميع ذلك، ثم أنكر بكون أصغرِ سورةٍ من القرآن قرآنًا، فكيف بِمَنِ ادّعى النبوة، وَأَهَانَ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، وسبهم سبَّا يقشعر منه الجلود، وحَرَّفَ الدِّينَ كُلَّهُ، واشترى به ثمنًا قليلا، واستهزأ بالأحاديث، وأخبار الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام ومعجزاتهم، إلى غير ذلك من موجباتِ الكُفْرِ التي لو تحققت واحدة منها في رجلٍ لكفت لتكفيره، فكيف بمن جمع هذه الأنواع أجمع؟ وأعني به: المرزا غلام أحمد الكادياني، الذي بغى وطغى، ثمَّ ذهب يَدَّعي النبوة، فَتَرَدَّدَ في تكفيره بعض من لم يمارس كتب الفقه، وَجَعَلَ يحتاط فيه، ولم يدرِ أنَّ التشجع في إكفار المسلم والتأخر في عدم إكفار الكافر سواء في الوزر، ولا تنس قول أبي بكر رضي الله عنه أوَّل خليفةٍ بعد رَسُوْلِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّملعمر رضي الله عنه: «أجبَّارٌ في الجاهلية، وخَوَّارٌ في الإِسْلام؟» فلم يتأخر عن قتال مانعي الزكاة، حتى شرح الله صدر عمر رضي الله عنه بأن الاحتياط أيضًا كان فيما عَمِلَ به أبو بكر رضي الله تعالى عنه.
391 - قوله: (فلا تُخْفِرُوا الله)... إلخ. لأنَّ أفعالَ الله عز وجل مَسْتُورةٌ تحت الأَسْبَابِ في الدنيا، فلا يَظْهر خَفَرُهُ وذمته إلا على أيْدِيكُم، فلا تُخْفِرُوا أنتم ذِمَّة الله، فيلزم خَفَرَ الله ذَمَّتَهُ على أيديكم.
393 - قوله: (وقال ابن أبي مريم أنا يحيى بن أيوب)... إلخ قلتُ: وبهذا الإِسناد عندنا روايته في السُّوَرِ الثلاث في رَكعات الوتر، فلمَّا عَجَزَ الواقعُ عَنْ جوابها غمزوا يحيى.
قلتُ: وليُحْذَر عَنْ مِثْلِهِ، فإِنَّهُ يُوْجِبُ هَدْم كثيرٍ من ذخيرةِ الأحاديث، ومَنْ ذا الذي لم يَجْرحْ فيه أحد، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا.
(2/151)
باب ُ قِبْلَةِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَأَهْلِ الشَّأْمِ، وَالمَشْرِق
واعلم أنَّ ابن بَطَّال غَلِطَ في تفسيرِ هذه الترجمة، ونَسَبَ إلى المصنف رحمه الله ما لم يُرِدْهُ، وهو أنَّه لا قِبْلَةَ عنده في هاتين الجهتين في الدنيا بأسرها، ثم فَرَّع عليه أنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلّمشرِّقوا أو غرِّبوا، عامٌّ عنده لكافةِ النَّاس، أهلِ المدينةِ وغيرِهم فيه سواء.
وقال: تقدير هذه الترجمة هكذا: بابُ قِبْلة أهلِ المدينةِ وأهلِ الشَّامِ والمشْرِقِ والمغربِ ليس في التشريق ولا في التغريب. يعني أنَّهم عند الانحرافِ للتشريقِ والتَّغْرِيبِ ليسوا مواجهين للقِبلة ولا مُسْتَدْبِرِين لها، ولم يستثنِ منه إلا جزئيًا واحدًا، وهو ما قابلَ شرق مكةَ من البلاد التي تكونُ تحت الخطِّ المارِّ عليها من مشرِقها إلى مغربها، فتكون قِبلتهم فقط في هاتين الجمعتين، ولا يجوز لهم استعمال حديث أبي أيوب، ولا يصح لهم أن يُشَرِّقوا أو يُغَرِّبوا، وإنَّما يَنْحَرِفون إلى الجنوب والشمال، وأما سائرُهم فلهم التشريق والتغريب على حديثِ أبي أيوب مثلَ أهل المدينة.(2/152)
قلتُ: وهذا كله كلامٌ باطلٌ، ولم يحمله على ذلك إلا قوله: (ليس في المشرق)... إلخ، فَحَملَهُ على شرق العالم وغربه، وتعجبت من قوله، كيف ساغ له أخذه بهذا العموم، مع أنَّ المصنف رحمه الله تعالى لم يسمِّ مِنْ جانبه إلا ثلاثة: أهل المدينة، والشام، والشرق، ثم بَيَّنَ قبلتهم بقوله: (ليس في المشرق)... إلخ، ثم إنَّ قِبلة المصنف رحمه الله تعالى أيضًا في المغرب، فيلزم أنْ يكون هو أيضًا جاهلا عن قِبلته مدة عمره، على أنَّه يوجب أنْ لا تصحَّ عنده صلوات أهلِ الهند كلِّهم، لأنهم يُصلّون إلى المغرب، وليست فيه قِبلة عندَه لأَحَدٍ مِنَ العالمين، وكذا صلاة كل من كانت قبلتهم على سَمْتِهم، وتلك الآفة إنَّما حَدَثَتْ مِنْ حيث أنَّ الهيأةَ ليست مِنْ فَنِّهم، ولِكُلِّ فنٍ رجال، فإذا لم تتحقق عنده سَمْتُ القِبلة ولم يَدْرِ جِهَاتِ البلاد، تيسر له نفي القِبلة عن هاتين الجهتين مطلقًا، مع أنَّه بديهي البطلان، فكيف يليق أَنْ يعزوا ذلك إلى ذي شأن مثل المصنف رحمه الله تعالى.
(2/153)
والحق عندي: أنَّ المصنفَ رحمه الله تعالى لم يَتَعَرَّضْ فيها إلى قِبْلَة كافةِ النَّاسِ، بل أَرَاد أَنْ يَذْكُرَ قِبْلَةَ هؤلاء الثلاثةِ فقط، وإنَّما خَصَّصَها بالذِكْرِ لأنَّ أَهْلَ المدينةِ وَرَد فيهم الحديث، ولذا جعلها عمودًا في الترجمة، وكذلك ذَكَر فيه الشام أيضًا، حيث يقولُ أبو أيوب: «فقدِمنا الشام»، ولاتصاله بأرض العرب، لأنَّ العرب مُحَاط بالبحرِ من جوانبه الثلاثة، ولا يتصل بالبر إلا مِنْ هذا الجانب، وهذا هو السِرُّ في عدم تعيين حدوده بعد، لأنَّ تقسيم البلادِ لا يكونُ إلا بالجبالِ أو البحار، ولا يكون باعتبار السَّلْطَنَة، فإِنَّ الملوكَ يَعْلُو بَعْضُهُم على بعض، وتكون الحرب سجالا، فلا تتعين حدودها، وليس هناك جبال أو بحارٌ ليقع التمييز بها، فيبقى فيه الاشتباه بعد، ولأن الشام مورد الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام والأَبدال، وفيه خصائص أخرى أيضًا، ثم أراد المصنِّف رحمه الله أَنْ يَسْحَبَ حُكْمَه على الجوانبِ والأطراف، فسمى الشَرْقَ وتَرَكَ الغرب، لأنَّ معظم المعمورة في تلك الجهةِ فقط، وأرادَ مِنَ الشرقِ شَرْقَ داخل العرب، لأن الإِسلام لم يخرج من بعد، بل شَرْقَ الحرمين الشريفين كالعراق ونجد، وهو عُرف الحديث، فلا تراد منه إلا هذه البلاد دون شَرْقِ العالم كُلِّه، وعلى هذا قوله صلى الله عليه وسلّم «شرِّقوا أو غرِّبوا» أيضًا يكون في أهلِ المدينة عنده، لا كما وَهِمَ ابنُ بَطَّال، بل أقول إنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى أَخَذَ ترجمته مِنْ حديثِ أبي أيوب وَبَنَى عليه، ولمَّا كان حديثُه خاصًا بأَهْلِ المدينةِ عِنْدَهُمْ جميعًا مع عُمُومِ أَلفاظِه، عَبَّر أيضًا على نهج تعبيره، فَهَلا حملوه على العموم أيضًا، فكما أَنَّ الحديثَ مع عُمُومِ ألفاظِهِ محمولٌ على قِبْلَةِ أهلِ المدينة، فبجنبه قولُ المصنِّف رحمه الله تعالى ليس في المشرق والمَغْرِب قِبْلَة، بل هي مأخوذةٌ منه فليحمله عليه(2/154)
أيضًا، وما النَّكِرُ فيه وما البُعْدُ؟ ثم إنَّ الحديث وإنْ وَرَدَ في الغائطِ والبولِ، لكنَّه لم يَكُنْ عنده فيه حديث غيره، فَأَخَذَ ترجمته منه، وهذا غيرُ نادرٍ في كتاب المصنِّف رحمه الله تعالى.
وأما ما رواه الترمذي عن أبي هريرة «ما بين المشرق والمغرب قبلة». وحسَّنه وصححه، فمعناه كما ذكره ابن عمر رضي الله تعالى عنه: «إذا جَعَلْت المغرب عن يمينك، والمشرق عن يسارك، فما بينهما قِبلة، اسْتَقْبَلْتَ القِبلة»، وما ذكره ابن المُبَارَك أنه قِبلة لأهل المشرق، فمؤوَّل بأنَّه ليس المرادُ من أهلِ الشرق كلَّهم، بل أهل بُخارى وسَمَرْقَنْدَ وبَلْخ، لأنَّ بلادَهم في مَشْرِقِ الصيف، وقِبْلَتَهُمْ بين مَغْرِبِ الصيف ومشرق الشتاء، فحينئذٍ صح قوله: (ما بين المشرق) أي: مشرق الشتاء (والمغرب) أي: مغرب الصيف قبلة، وإلا فظاهره غيرُ مستقيم.
باب ُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125)
395 - قوله: (وقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلّمأسوة حسنة) ومرادُهُ أنَّه ليس عندي صريح النهي، فدعوا الاحتمالات، واقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلّم وفيه تعريضٌ إلى ابن عباس رضي الله عنهما، ومذهبه: أنَّ المُفْرِدَ بالحجِّ إذا لم يَكُنْ عنده هديٌ يَنْفَسِخ حَجُّهُ بمجرَّدِ رؤيتهِ البيتَ، ويصيرُ عمرة فلو وقف بعرفةَ ولم يَدْخُل مكةَ، ولم يَنْظُر إلى البيت، صح حجه، فإذا طاف لِعُمْرَتِهِ جاز أَنْ يَقْرَبَ امرأتَهُ قَبْلَ سعيه لها خلافًا للجمهور في المسألتين، فأجاب ابنُ عمر رضي الله عنه إشارةً، وجابرٌ رضي الله عنه صراحةً، وقال: لا يَقْرَبنَّها حتى يَطُوف بين الصفا والمَرُوَة، يعني لا يجوز له التَّحَلُّل قَبْلَهُ، ولا يجوز الجماع إلا بعده.(2/155)
397 - قوله: (دخل الكعبة) وهذا في فتح مكة، ولم يَعْتَمر النبي صلى الله عليه وسلّمفي هذه المرة، ودَخَلَها بدون إحرام، وهذا أيضًا من ماصدقات قوله: «وأحلَّ لي ساعة من النهار» عندنا.
397 - قوله: (فسألتُ بلالا رضي الله عنه) والمشهور عن ابنِ عمرَ رضي الله عنه أنَّه قال: «نسيت بلالا أَنْ أسألَهُ كم صلى». قال الحافظ رحمه الله تعالى: والاعتماد على ما رُوِيَ عنه في المشهور، ويُحْتَمَل أنه ذَكَرَ رَكَعتين ههنا أخذًا بالمتيقن، لا أنَّه ذكر بلالا رضي الله عنه. ثم إنَّ بلالا رضي الله عنه يُثبت الصلاةَ ويَنْفي التَّكْبِير، على عكس ابنِ عباس رضي الله عنهما. وجمعهما المصنف رحمه الله تعالى فَأَثْبَت الصلاةَ على رواية بلال رضي الله عنه، والتكبيرَ على حديث ابن عباس رضي الله عنهما، لأنَّ قولَ المُثْبِت أولى.
وتتبعت الفقه للتكبير في البيتِ، فلم أرَ أحدًا منهم صَرَّحَ به، مع ورودِهِ في الأحاديث. قلتُ: وقَدْ كَانَ يَخْطُر بالبالِ وجه آخر في دفع التعارض بين حديثِ بلالٍ رضي الله عنه، وابن عباس رضي الله عنهما بأن يقال:
إن النبي صلى الله عليه وسلّمدخلها في حَجَّةِ الوداع أيضًا، فيُحْمَل النفي والإِثبات على تَعَدُّد الواقعتين، إلا أنَّ المُحَدِّثين ذهبوا إلى الترجيحِ دون التَّطْبيق. وفي «تاريخ الأَزْرَقي»: أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن الصلاةِ في البيت فقال: «فيه صلاة، إلا أنَّها ليست ذات ركوعٍ وسجودٍ، بل هي تكبيرٌ، وتسبيحٌ، واستغفارٌ من غيرِ قراءةٍ، كصلاةِ الجَنَازة». ففيه دليل على نفي الفاتحة في صلاةِ الجنازَةِ عند ابنِ عباس رضي الله عنهما على خلافِ ما فَهِمَه الشافعية رحمهم الله تعالى، وقد كان يَتَبَادرُ إلى ذهني أنَّ التَّكْبِيرَ في البيت لعله يكونُ برفع الأيدي كالتحريمةِ كما يقوله الشافعي رحمه الله تعالى عند رؤية البيت. ونفاه الطحاوي، وكما قاله الحنفية رحمهم الله تعالى عند استلامِ الحَجَر.(2/156)
ثم تتبعتُ ما كان ابنُ عباس رضي الله عنه يَفْعَلُ في صلاةِ الجنازَةِ فَظَهر أنَّه لم يَكُن يَرْفَعُ فيها إلا عِنْدَ التحريمةِ، وحينئذٍ أَمْكَنَ أَنْ لا يكونَ الرَّفْعُ عند التكبيرِ داخلَ البيت أيضًا، ولم أجد عليه روايةً صريحة، وأما مشايخُ بَلْخ منَّا، فذهبوا إلى الرفعِ عند التكبيراتِ في صلاةِ الجَنَازَةِ. وسَنَحَ لي بالرفع عند الاسْتِلام أَنَّ الرَّفْعَ في الصلوات لاسْتِقْبَالِ البيت.
398 - قوله: (هذه القبلة) إشارة إلى المجموع. وتَمَسَّكَ به المالكيةُ على عَدَمِ جوازِ الفَرِيضةِ داخلَ البيتِ لإِمكان استقبال المجموع.
ولنا فيه مجال وسيع.
باب ُ التَّوَجُّهِ نَحْوَ القِبْلَةِ حَيثُ كَان
هذا البابُ مأخوذٌ مِنَ القرآن.
قوله: (حيث كان) ما المراد منه حيث كانت قِبْلَة، أو حيث كان مسقتبِلا، وعند أبي داود في روايةٍ ما يدل على أنَّه ينبغي له أَنْ يَتَوَجَّهُ إليها عند التحريم ثم يُرْسِل دابتَه على الطريق تسير حيث شاءت، ووسع فيه الحنفية فلم يَشْتَرِطوا الاستقبال عند التحريمة أيضًا.
ثم إني ترددت في رسالتي أنَّ قَلْبَ الصلاةِ التحريمة أو موضع التأمين. والاهتمام في الشرع وإنْ كان بالتحريمة لكن القلب هو الثاني لأنَّ الأجر في إدراك التحريمة أجر المبادرة إلى الصلاة، أما مغفرة الذنوبِ بما تقدم وما تأخر ففي إدراك التأمين هو القلب والله تعالى أعلم.(2/157)
بقي إدراك الركعة بإدراك الركوع فليس لكونه قلبًا باعتبار أنَّ إدراكَ الرَّكعة إلى أي جزء منها فهو لقاصرِ الهمَّةِ إذ لم يُوَفَّقْ لإِدراكِ التأمين وفات عنه، ثم دَخَلَ في الرُّكوعِ، عَدَّهُ الشرع مُدْرِكًا للركوع، ولذا كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: لا تسبِقْني بآمين. (عند مالك رحمه الله تعالى) فكان يهتم بآمين ما لم يكن يهتم بالفاتحة. ومن الناس مَنْ زَعَمَهُ قائلا بالقراءة خَلْفَ الإِمام، مع أنه يراعي آمين ولا يبالي بالفاتحة لأنه صحابي يَعْلَم أَنَّ آمين هو الطابع، أما الفاتحة فقد كَفَى عنه إمامهُ بخلاف آمين، فإِنه وظيفتُهُ، ولا ينوب عنه إمامه.
قوله: (قال أبو هريرة رضي الله عنه)... إلخ قطعةٌ مِنْ حديثٍ طَوِيلٍ في مُسيء الصلاة.(2/158)
قوله: (فَتَحرَّف القَوْمُ) لا يُقالُ إنَّه نَسْخٌ فكيف عملوا بخبر الواحد. لأنا نقول: أصلُ الخبرِ قطعي، نعم بلوغه بطريق ظنِّي، فالظنُّ في الطريق لا في الناسخ، وإنَّما لم يُؤثر فيه ظنِّية الطريق لأنه كان عندهم ذريعة التحقيقِ، وأمكن لهم تبين الحال بذهابهم إلى المدينة، فالأصلُ أنَّه لا بَأْسَ بالعَمَلِ على الظنِّي إذا كان قطعيًا مِنْ أصله، ولذا لم يُشْتَرط في تبليغ الدين عدد التواتر عند أحد، ولا يُسَوَّغُ لكافرٍ أَنْ يقول إنَّ دينَكُم وَإِنْ كان قطعيًا في نفسه لكنه لمّا لم يَبْلُغ إليّ إلا مِنْ أخبارِ الآحادِ فلا يكون حجةً ملزمةً. ولم يَكْتُبه الأصوليون، وإنما تنبهتُ له. وقد ذكرته في «نيل الفرقدين» و «إكْفَارُ الملحدين»، وقد مرَّ هذا البحث في المقدمة فَرَاجعهُ مع بيان أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلّملمَّا تَكَفَّل بإِخبارِهم لزِم أَنْ تصحَّ صلواتُهم التي صلَّوْها إلى بيت المقْدِس قَبْلَ بلوغِ الناسخ إليهم. وقد فَرَغْنَا من تحقيق أَنَّ النَّاسِخَ نَزَلَ في صلاةِ الظهر أو العصر، وصرح الحافظ بُرْهَان الدين الحلبي الحنفي في شرح البخاري: أَنَّ التَحْوِيلَ كان في ركوعِ الرَّكعة الثالثة. وقد كان «تيمر» حَرَق كتبه وتصانيفه.
واعلم أن الواو في «تيمور» إنِّما هو على مذهبِ مَنْ يرسمون الإِعراب بالحركاتِ في صورة الحروف.
قوله: (هشام) بن عبد الله وهذا هو الذي تُوفي محمدٌ رحمه الله تعالى في بيته، وفي هذا اليوم تُوفي الكِسَائي رحمه الله تعالى أيضًا، وكان محمدٌ رحمه الله تعالى قاضيًا في الرَّقَّة، ولما بَلَغَ الرشيد قال: دفنا اليوم الفقه والنحو معًا.
*أَسِفْتُ على قاضي القُضَاةِ محمدٍ ** وأذريتُ دمعي والفؤادُ عميدُ(2/159)
*فَقُلْتُ إذا ما أَشْكَلَ الخَطْبُ مَنْ لنا ** بإيضاحه يومًا وأَنْتَ فَقِيْدُ 401 - قوله: (لا أدري أزاد أو نَقَصَ) وسيأتي في البابِ الذي بعده أنَّه جَزَمَ بالزِّيَادةِ، فلعله شَكَّ فيه مرةً وجَزَمَ به أُخْرَى.
401 - قوله: (فليتحرَّى الصَّوَابَ) والمسألةُ عندنا فيمن عَرَضُه الشَّك أَوَّلَ مرةٍ أَنْ يَسْتَقْبِلَ، وإلا تَحَرَّىَ وعَمِلَ بِغَلَبَة الظنِّ، وإلا أَخَذَ بالمُتَيَقَّنِ وهو الأقل وتفصيله في الفقه، وعند الشافعية يَأْخُذ بالأقل في جميعِ الصُّورِ.
ثمَّ اختلفَ مشايخُنَا في إيجابِ سجدةِ السَّهْوِ في الصَّورَة الثانية، ففي «الجوهرة النَّيِّرَة» و «رَدِّ المحتار» نقلا عن «السراج الوهاج» أنَّه لا يسجدها وهو الأقرب، والأكثر إلى أنَّه يسجدها كما في «الفتح». وأما في الصورة الثالثة فيسجد للسهو قطعًا.
أما الأحاديث فهي أقعد على مذهبنا لأنها وردت بالاستقبال كما في «المصنَّف» لابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، والتَّحرِّي والأخذ بالأقلِ جميعًا كما عند مسلم، فَعَمِلْنَا بِمَجْمُوعِهَا بخلافِ الشافعية فَإِنَّهم لم يَعْمَلُوا إلا بالثالث، وأوَّلوا في سائرها فقالوا: إنَّ تَحَرِّي الصَّوَابِ هو الأَخْذُ بالأقلِ فأرجعوه إلى الصورةِ الثالثة.
قلنا: لا تساعده اللغة أصلا فإنَّ التَّحَرِّي هو أَنْ يَرَى غَلَبَةَ ظَنِّه، ولا يجوز إلغاء هذا التعبير الجديد وإرجاعه إلى الثالث، فإن التَّحَرِّي بهذا المعنى شيء مفيد في نفسه، سيما إذا علمنا أَنَّ الشَّرْعَ قد اعتبر بالغَلَبَةِ في غَيْرِ واحدٍ مِنَ الأبواب، فما الوجه في أَنْ لا نَعْتَبر هذا النوعَ من ههنا أيضًا؟ ويلزم على مذهبِهم إخلاء النوعِ عن حُكْمِه بالكُلِّية، وذا غيرُ جائز.
401 - قوله: (ثم ليُسَلِّمْ) وفيه سَجْدَتَا السَّهْو بعد السلامِ، وفي «الهداية» أَنَّ الخِلاف فيه خلاف الأَفضلية نعم عبارةٌ «التجريد» موهمةٌ شيئًا.(2/160)
قلتُ: وينبغي الأَخذ بما في «الهداية» وإنْ كانت مرتبة القُدُوري أزيد لأنَّ العمل برواية «التجريد» يُوْجِبُ مخالفةَ أكثر الأحاديث الصِّحاح - أما حجةُ الحنفية فأقول: إنَّ الأحاديث القولية تُؤَيِّدُنا خاصةً، كما عند أبي داود: «مَنْ شَكَّ في صَلاتِهِ فَلْيَسْجُد سجدتين بعد ما يُسَلِّم»، وعند البخاري عن عبدِ اللَّه بنِ مسعود: «ثم ليُسَلِّم ثم ليسجد سجدتين».c
بقي الفِعْلُ فقد ورد بالنَّحْوَين ولا بأس، فإِن الخلاف في الأفضلية لا غير.
ثم اعلم أنَّ وقائعَ سَهْو النَّبي صلى الله عليه وسلّمأربعة، حَرَّرَها الشيخ تقي الدين ابنُ دقيق العيد.
ثنتين منها عن البخاري. الأولى: جعل الظهر خمسًا.
والثانية: جعل الرباعية ثنائية.
والثالثة: ما عند أبي داود ترك القَعْدةَ الأولى.
والرابعة: أنَّه سهى عن قَراءَةِ آيةٍ. في صلاته، فلما انصرف قال لابنِ مسعود رضي الله عنه: «هل كنت في الصلاة؟ قال: نعم. قال: فهلا ذكرتني».
أقول وهناك واقعةٌ خامسة أيضًا وهي: أنَّه سَلَّم مَرَّةً على القَعْدَةِ الأولى من المَغْرب، ثم إنَّ البُخَاري أخرج حديث السَّهْو مرارًا واستنبط منه مسائلَ عديدة، وتَرْجَم تراجِمَ مختلفة، ثم لم يترجم عليه بجوازِ كلامِ النَّاسي فَدَلَّ على موافقَتِه للحنفية.
باب مَا جَاءَ فِي القِبْلَةِ، وَمَنْ لا يَرَى الإِعَادَةَ عَلَى مَنْ سَهَا فَصَلَّى إِلَى غَيرِ القِبْلَة
وقد عَلِمْتَ فيما مَرَّ أَنَّ البخاري وَسَّعَ في عِبْرَةِ الجهل والنِّسْيَان كثيرًا، فلو صلى ناسيًا إلى غير القِبلة أو ساهيًا جازت صلاتُهُ عندَه، وهكذا المسألةُ عندَهُ فِيْمَنْ صلى في ثوبٍ نَجِسٍ.(2/161)
لم يُوَسِّع فيه الحنفية بمثله، نعم تحملوا الانحراف عنها فيما إذا سبقه الحَدَث فانصرفَ للوضوءِ بِشَرْطِ أن لا يخرج مِنَ المسجد، فقد اعتبروا الانحراف في الجملة إلا أنَّهم لم يُجَوِّزوا فيه الإِطلاق.
402 - قوله: (في ثلاث) وليس في تَخْصِيصِ العددِ بالثَّلاث ما يَنْفِي الزيادة، وقَدْ عدَّ المحدِّثون موافقاتِهِ إلى اثنين وعشرين كما في القَسْطَلاني.
402 - قوله: (أن يبدله أزواجًا)... إلخ وبحث اللغويون في الفَرْقِ بين الإبدال والتَّبْدِيْلِ والتَّبدل وأنَّ المتروك فيها ما هو، والمأخوذ ما هو، وتَعَرَّضَ إليه شارح الإِحياء في مسألة تبديل الضاد بالظَّاء في الصلاة.
404 - قوله: (الظُّهْرَ خَمْسَا) ويلزمُ فيه القُعود على الرابعةِ عندنا، وإلا تتحول فَرِيضَتُهُ نفلا ولا حاجةَ إليه على مذهب الشافعية. والمسألة اجتهادية ليست فيها نصوص لأحد.
ولنا: تفقه قوي، وهو أَنَّ الصلاةَ في الدين المحمَّدي ثنائية، ورباعية، وثلاثية، ومعلوم أَنَّ مثنوية الصلاة ورباعيتها، لا تتقوم إلا بالقَعْدة، فكونها ثنائية أو غيرها مِنْ متواترات الدِّين. وقد عَلِمْتَ أَنَّها تَتَوقف على القَعْدَةِ فلا بد أَنْ تكونَ فريضة كما قيل: إنَّ مقدمة الواجب واجب. ولذا قال الحنفية: إِنَّ ما دون الرَّكعة مَحَلٌ للرفض بخلاف الرَّكعة التامة، فإنَّها من متواترات الدِّين بمعنى كونِها أمرًا معتدًا بها فلا تكون محلا للرفض؛ لأنَّه يُوجب نقض المتواتر. ثم إنَّ النَّوويَّ قد أَقَرَّ أَنَّ هذه الواقعة قُبَيل بدر، فثبت أَنَّ النَّسْخَ في الكلام ثابتٌ عند الكلِّ وإنِّما الاختلاف في تاريخه، وعلى هذا فالاعتذار به في حديث ذي اليدين ليس لِنَفْع المذهب فقط بل هو أمرٌ ثابتٌ عند الكل، أما أَنَّه متى هو فهو أمرٌ مختلفٌ فيه.
404 - قوله: (فَثَنَى رِجْلَه وَسَجَد سجدتين) فإنْ قلتَ: إذا كانت تلك عند جَواز الكلام في الصَّلاة فَلِمَ سَجَدَ فيها للسهو؟(2/162)
قلت: لتخلل ما ليس مِنْ أجزاءِ الصَّلاةِ في الصَّلاة. وهذا بابٌ جديد لم يَذْكُره العلماء، ولعلَّ المسألةَ إذ ذاكَ عدمُ فسادِ الصَّلاة بهذه الأشياء وكفاية سجود السَّهْو عنها.
واعلم أَنَّ الرواة اختلفوا في ذِكْرِ سَجْدَتي السهو في واقعة ذي اليدين، فبعضُهم أثبتهما، والبَعْضُ الآخر نفاهما، وهذا الخِلافُ عندي راجعٌ إلى الاجْتِهَادِ لا في نَقْلِ الواقع، فَمَنْ نَظَرَ إلى سُوءِ الترتيبِ، وَفَكَّ الرَّبْط بين أَجْزَاءِ الصَّلاةِ، زَعَم أنَّه سجد للسهو جبرًا لهذا النقصان. ومن نفاهما رأى أنَّ الواقعةَ قَبْلَ النَّسْخ، والكلام جائز فلا حاجة إلى سجود السهو.
والحاصل: أَنَّه لم يَكُن عند الفَرِيقين نَقْلٌ خصوصي اعتمدوا عليه، ولكنَّهم إذا سَرَدوا القِصَّة ذَكَرُوا السُّجُود أو نفوها حسب ما أدى إليه اجتهادهم، وهذا هو وجه اختلافهم في ذِكْرِهَا وحَذْفها عندي، والله الملهم للصواب.
باب حَكِّ البُزَاقِ بِاليَدِ مِنَ المَسْجِد
وحَمَلَه الشارحون على أنَّه حَكَّهُ باليد دون الآلة. قلتُ: ومعناه عندي أنَّه حَكَّه بيده الكريمة أي لم يأمر غيرَهُ به سواءٌ كان باليد أو بغيرِهَا.
وفَرَّقَ اللغويون بين النُّخَامة والنُّخَاعة. فقيل: إنها بالميم من الرأس، وبالعين من الصدر، وفي «شرح الأسباب» أنَّ النُّخَامة ما خرج من مَخْرَجِ الخاء، وما خرج مِنْ مَخْرَج العين فهو النُّخَاعة ثم المُخَاط ما خَرَج مِنَ الأَنْف وما خَرَجَ من الفَمِ فهو البصاق.
405 - قوله: (أو إنَّ ربه بينَه وبين القِبْلَة) وهو نحو مِنَ التجلِّي واختلف في أنَّه مستمر أو مقتصر على حالة المُناجاةِ فقط، وفي عبارة أبي عمرو وأنَّه مستمر كالاستواء، والمعية، والأقربية، ونَقَلَهُ الحافظ رحمه الله تعالى في «الفتح» وَجَنَح إليه أيضًا.(2/163)
قلتُ: وَخَطأ الحافظ رحمه الله تعالى أو غَفَل ولم يدرِ أنَّه يكون نافعًا للحنفية في مسألة الاستقبال والاستدبار، لأنَّه إذا نَهَى عن البُزَاق تِجَاه القِبلة لهذا، فما ظَنُّك بالاسْتِقْبَال والاسِتدبار عند الغَائِطِ وقد مر أنَّ عُمَرَ بنَ عبد العزيز لم يكن يَبْزُق إلى القِبْلَةِ مطلقًا.
قلتُ: وعندي في الاستدلال منه نظر بَعْدُ لأَنَّه وإنْ وَرَدَ فيه الإطلاق في عِلَّةِ أحاديث لكنَّه مقيدٌ في بعض الروايات بحالة الصَّلاة، وحينئذٍ يَقْتَصِر النَّهْي على حالة الصَّلاةِ فقط، نعم لو ثَبَتَ دوامُ هذا التَّجَلِّي لكان حُجَة لنا قطعًا. وراجع لحقيقة التجلي أواخر «نيل الفرقدين» وهي مِنْ أَصْعَب مسائل الصوفية رحمهم الله تعالى.
قوله: (ولكن عن يساره) وحَمَلَهُ النُّوويُّ على خارجِ المَسْجد، أما إذا كان في المَسْجِد فإِنَّه لا يَبْصُق إلا على طَرَفِ ثَوْبِهِ، وقال في شرح الحديث: إِنَّ الحديث وَإِنْ وَرَدَ في المسجد ابتداءً لكنَّه انتقلَ عند ذِكْرِ البُصَاق إلى خارج المسجد انتهاءً، واستدل عليه بقوله: «أنَّ البُصَاق في المسجدِ خطيئة وكفارتها دفنها». فإذا كان البُصَاق في المسجدِ خطيئةً في نظر الشارع كيف يأذن هو به. ومعنى الحديث عندي: أنَّ البُصَاقَ في المسجد خطيئةٌ وعليه أَنْ يُكَفِّر عنها، كما أَنَّ الزِّنا، والخمرَ، وقَتْلَ الصيدِ في الحرم محرَّمات وخَطَايَا، وإذا ارْتَكَبَ فعليه عُقُوبَتها.(2/164)
وذهب القاضي إلى أَنَّ أَوَّلَ الحديث لِمَّا ورد في حق المسجد، فالبُصَاق أيضًا فيه. وحَمَلَ حديثَ الخطيئة على ما لم يُرِدْ دَفْنَها، فإِنْ أَراد دَفْنَها فليس بخطيئة. والذي يَظْهر عندي أَنَّ التضييقَ فيه أَوْلَى، وما يتوهم فيه التوسيع مِنْ بَعْضِ الألفاظ يُخَالِفُه ما عند مسلم وأبي داود مِنْ قَيد المُبَادَرَة، فليحذر عن الأَوَامِر المُطْلَقَةِ الوارِدَةِ في هذا الباب ولا يَحْمِلها على إطلاقها. وَنَقَلَ أبو داود عن أحمد أَنَّه كان يَبْصُق بإخراج الوجه عن الغُرْفَة إن احتاج إليه في الصلاة.
وحاصل أحاديث البصاق: أَنَّ البُصَاقَ في الصَّلاةِ قَبِلَ القِبْلَةِ مما يَغِيظُ النَّبي عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ويُفْضِي إلى إِعْرَاضِ ربِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَكِنْ ينبغي أنْ يُكَفَّ عن إطلاقِ لَفْظِ المعصية.
(مَنَاطُ النَّهي عن البُصَاقِ في الصَّلاةِ قِبَلَ القِبْلَة)
وقد اخْتُلِفَ في الشروحِ في مناطِ النَّهي.(2/165)
فقيل: شُغْل المُنَاجَاة، وقيل: احترامُ جِدَارِ القِبْلَةِ، وقيل: احترامُ المَسْجد، وقيل: احترامُ كاتب الحسنات، وقيل: احترام الصلاة، وغيرها، وكلها مأخوذةٌ من النُّصوص إشارة ودِلالة. فَالأَوْلى عندي أَنْ يُقَال: إنَّ المجموع مَنَاطٌ، وإِنَّ الوصفَ المُؤَثِّر فيه كونُ المُصَلي على أَحَسَنِ هيأةٍ عند مناجاتِهِ رَبَّهُ، فإِنْ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الجمال، والبُزَاقَ فيها يخالُفها. ثمَّ الترتيب في البُصَاقِ كما عند أبي داود: «فلا يَبْزُقَنَّ أَمَامَهُ ولا عن يمينه ولَكِنْ عن يسارِهِ إِنْ كان فَارِغَا أو تَحْتَ قَدَمِه اليسرَى ثم لِيَقُلْ به». وقد عَلِمْتَ أَنَّه فيما أمكن الدفن، وإلا فيبصُق على ثوبه وَيَرُدُّ بعضَهُ ببعضٍ لإعدام الجِرْمِ، وعند الترمذي جانب الخلف أيضًا. فإنْ قلت: إنَّ في جانب اليسار أيضًا ملكًا، قلت: والله قادر على أَنْ يجعلَها على الشيطانِ في هذا الجانب.
باب حَكِّ المُخاطِ بِالحَصى مِنَ المَسْجِد
باب لا يَبْصُقْ عَنْ يَمِينِهِ فِي الصَّلاة
باب لِيَبْزُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى
باب كَفَّارَةِ البُزَاقِ فِي المَسْجِد
باب دَفنِ النُّخَامَةِ فِي المَسْجِد(2/166)
وهذا الذي دعا الشارِحِين إلى حَمْلِ الترجمةِ السَّابقةِ على الحَكِّ بِنَفْسِ اليد، لأنَّه لا يصح التقابل بين هاتين الترجمتينِ إلا بهذا المعنى، فالترجمةُ الأولى للحَكِّ باليد، وهذه للحكِّ بالحصى، يَغْنُون به أنَّ الحَكَّ ثَبَت بالواسِطَة وبدون الواسطة، وقد مَرَّ معنى أنَّه أَرَادَ بالترجمة السَّابقةِ الحَكَّ بنفسِهِ أي لا بِأَمْرِهِ رَجُلا آخر سواء كان باليدِ أو بِآلةٍ، والحَكُّ بالحصى وإِنْ كانَ دَاخِلا تحت الترجمةِ السَّابقةِ إلا أَنَّه لمَّا كان عنده فيه حديثًا مستقلا أَرَادَ أنْ يُتَرْجِمَ عليه أيضًا كذلك، وهذا مِنْ دَأْبِ المصنِّف رحمه الله تعالى أَنَّه إذا كانت عندَهُ جزئيات مِنْ بابٍ واحدٍ يُتَرْجِم على كلِّ واحدٍ منها إحصاء لها، ثم يُتَرْجِم على كلٍ بما نَاسَبَ لفظَهُ.
(وقال ابن عباس رضي الله عنه)... إلخ قال الحافظُ رحمه الله تعالى: أَشَارَ به البخاري إلى أَنَّ العلَّةَ العظمى في النَّهي احترامُ القِبْلَةِ لا مجرد التأذي بالبُزَاق، فإِنَّه وإنْ كان عِلَّةً أيضًا لكِنْ احترامُ القِبْلَة فيه آكد، فلهذها لم يُفَرَّق فيه بين رَطْبٍ ويابس بخلاف ما عِلَّةُ النِّهي فيه مُجَرد الاستقذار فلا يَضُرُّ وطء اليابس منه. انتهى.
قوله: (القَذَر) وهو ما يَسْتَقْذره الإنسان طبعًا فهو أعمُّ من النَّجَاسَةِ وغيرها، ثمَّ إِنَّه لا تُغْسَلُ اليدُ بمسِّ النَّجَاسَةِ اليابسةِ عندنا.
وبيان المناسبة بين الأَثَرِ والترجمةِ عندي: أنَّ البُصَاقَ إذا كان رَطْبًا فاغسله وإلا فلا بَأْسَ به لأَنَّه طاهر، وإِنْ كان نجسًا فكذلك أيضًا، فإنَّ بعضَ السَّلَفِ ذهبوا إلى نجاستِهِ كما مر.
باب إِذَا بَدَرَهُ البُزَاقُ فَليَأْخُذْ بِطَرَفِ ثَوْبِه(2/167)
وليس فيه عِنْدَهُ حديثٌ على شرطه بل حديثه عند أبي داود ومُسْلِم، ولَكِنْ مِنْ دَأْبِ المصنِّف رحمه الله تعالى أَنَّه إذا أَرَادَ أَنْ يُفيدَ بمسألةٍ لا يكونُ لها حديثٌ عنده وَلَكنَّه يكونُ في الخارج يُتَرْجِمُ بها، وَيَسْتَدِلُ عليها بحديثٍ واردٍ في الباب بِأَدْنَى مناسبةٍ، ويكونُ نَظَرُهُ إلى هذا الحديثِ الذي وَرَدَ فيه صراحةٍ في الخارج.
باب عِظَةِ الإِمَامِ النَّاسَ فِي إِتْمَامِ الصَّلاةِ وَذِكْرِ القِبْلَة
واعلم أَنَّ مِنْ دَأْبِ المصنِّف رحمه الله تعالى أَنَّه إذا أَخْرَجَ حديثًا مِنْ نوعِ سِلْسِلَةٍ ثمَّ يجِد فيه مسألةً أخرى من غَيْرِ هذه السِلْسِلَةِ يُتَرْجِمُ بها أيضًا في هذه الترجمة بعينها، فتختلَّ الترجمة بحسب الظَّاهر لاشتمالها على حُكْمٍ لا يتعلق بتلك السِلْسِلَةِ - وأُسَمِّيهِ إنجارًا - لأنَّه يُريد أَنْ يفرغ عنها في تَرْجَمةٍ واحدةٍ، فيترجم بها اختصارًا، وإنْ لم يكن مِنْ هذا الباب.
قوله: (خُشُوعُكُمْ) قيل: الخُشُوعَ في الجوارِح، والخُضُوعُ في القلب. قلت: بل الخُشُوع أيضًا في القَلْبِ أيضًا، قال تعالى: {أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ}(الحديد: 16). وكذلك في الأَصْوَاتِ قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ}(طه: 108). وَنَسَبَه إلى الجمادات أيضًا {وَمِنْ ءايَتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاْرْضَ خَشِعَةً} (فصلت: 39) فالمناسب فيه استقراءُ القرآن.
ثم الخُشوعُ مُسْتَحَب مَعَ كونِهِ رُوحًا للصَّلاةِ، ولا يُمْكن أَنْ يكونَ فرضًا وإلا لَبَطلَتْ صلوات أَكْثَرِ الأمة فما نُقِلَ عن بعضِ الصُوفية أَنْسَب بحالهم.
418 - قوله: (إني لأراكم) وراجع ما في الهامش عن أحمد رحمه الله تعالى.
419 - قوله: (حدثنا يحيى بنُ صالح) وهو الذي كان عديلا للإمام مُحمَّد رحمه الله تعالى في الحج وقد مرَّ تذكرته.
(2/168)
باب هَل يُقَالُ مَسْجِدُ بَنِي فُلانٍ؟
والجمهورُ على الجوازِ، ونُقِلَ عن الحَجَّاح عاملِ بني أُمَيَّة أَنَّه كان يُخَالِفُ فيه، وكان يَكْرَهُ أَنْ يُقال مسجدُ بني فلان. لقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَجِدَ لِلَّهِ}(الجن: 18) وهو أَظْلَم هذه الأمة. وعنْ أحمد رحمه الله تعالى في روايةٍ أَنَّه كَفَّرَهُ كما كَفَّرَ يزيد أيضًا، وفي الترمذي أنه قَتَل مِنْ الصحابَةِ والتابعين مائة ألف وأربعًا وعشرين ألفًا.
باب القِسْمَةِ، وَتَعْلِيقِ القِنْوِ فِي المَسْجِد
يريد أَنْ يُفَصِّل في الأفعالِ التي وَرَدَتْ في المسجدِ مِنْ غيرِ جِنْسِ الصَّلاةِ والأَذْكَارِ وَوَسَّعَ كُلَّ التَّوسِيع، فَأَثْبَتَ القِسْمَةَ، وَكَرِهَ فقهاؤُنا الكلامَ والطعامَ في المسجد فلعلهم لا يحبون القِسْمة فيه أيضًا.
قوله: (وتعليقِ القِنْو) ولم يُخَرِّج له حديثًا، وهو ثابت في الخارج عند الطحاوي وغيره، وكان هذا على عادةِ العربِ أنهم كانوا يُعَلِّقون الأَقْنَاءَ، فَإِذَا نَضِجَتْ قَسَّمُوها على أصحابِ الصُّفَّة، ثمَّ إنْ كان عُشرًا أو صدقة غيره، فسيجيء البحث فيه في كتاب الزكاةِ بِقَدْرِ الضرورة.
قوله: (والاثنان قِنْوَان) يعني أنَّه تثنيةٌ وجمعٌ، والفَرْقُ أَنَّه بالتَّنْوِينِ جمعٌ، وبكسر النون تثنية.
421 - قوله: (وقال إبراهيم).. إلخ وإنَّما لأنَّ في إبراهيم لينًا ولِعَدم الاتصالِ أيضًا.(2/169)
قلتُ: وما أخرجَ المصنِّف رحمه الله تعالى مِنَ الأحاديث في إثباتِ أفعال غير الصَّلاةِ في المسجد كلُّها واردة على الوقائع على سبيلِ القِلَّة، ولعلَّ الفقهاء أيضًا لا يُنْكِرُونها، وإنَّما الكراهةُ فيما إِذَا اعتادَ بها، أَمَّا إذا كانتْ مرةً أو مرتين فهي جائزةٌ عِنْدَهم أيضًا، فإِنْ أَرَاد المصنِّف رحمه الله تعالى مِنْ هذه الترَاجِم ثبوتَ هذه الأفعالِ فقط فهو مُسَلَّم ولا يخالف الفقهاء. وإِنْ أراد به التوسيع في أحكامِ المَسَاجِد فلا يَثْبت مُدَّعَاهُ مِنْ هذه الأحاديث، لأَنَّك قد عَلِمتَ أَنَّها لا تَدُلِ على أنَّ المَسَاجِدَ كانت تُفْعل فيها هذه الأفعال كأنَّها مهيأة لها، وإذا كان المستحبُّ في النَّوافِلِ أَنْ تُصلَّى في البيوتِ فما بالُ هذه، وسيجيءُ في هذه الأبوابِ ما هو أفيد منه.
حكاية مَرَّ سفيانُ الثَّوْرِيّ على أبي حنيفة رضي الله عنه وهو يُدَرِّس رافعًا صوتَهُ فَأَنْكَرَ عليه فاعتذرَ منه أَنَّهم لا يَفْهَمُون بِدُونِهِ.
والقضاءُ جائزٌ عندنا في المسجد لأنَّه عبادة، ومنعه الشافعية.
واختلفوا في التدريس، فقال الحنفية: إن كان بدون الأجرة جازَ وإلا فلا.
421 - قوله: (مِنَ البَحْرَيْن) وكان مئة ألف.
421 - قوله: (إذا جاءَه العبَّاس) وادَّعى الطَّحاوي أَنَّه أَسْلَم قَبْلَ الهجرةِ إلا أنَّه كان يَخْفَى به، ثُمَّ أَعْلَنَ بِهِ في فتحِ مَكَّة.
(2/170)
421 - قوله: (وثَمَّ منها دِرْهَم)والتاء في ثَمَةَ لِتَأْنِيث اللفظِ لا لِتأْنِيْث المُسَمَّى. أقول وَأَتَرَدد في أَنَّ تَقْسِيم هذا المالِ ونحوِهِ كان في المَسْجِدِ لِمَا ذَكَرَهُ السَّمْهُودي: أَنَّ قِبْلَة المسجدِ كانت أَوَّلا نحو بيتِ المقْدِسِ، ثُمَّ إذا نَزَل التَّحْويل صارَتْ في الجانب المُقَابِلِ وَجَعَلت تلك مُسْقَفَةً والأولى صفة. وفي كُتُبِ الفقهِ أَنَّ إِخْرَاج جزء من المسجد منه جائز عند الضَّرُورَة، وحينئذٍ جاز أَنْ تَكُون التوسيعات التي نَقَلَهَا المصنِّف رحمه الله تعالى كلها في الحصةِ الأولى وهي الصِّفة وكانت تُدْعَى مسجدًا وإنْ لَمْ تَبْقَ مسجدًا النظر الفقهي، لكن ما له وللرواة فَإِنَّهم يتكلمون بحسب العُرْفِ ولا حَجْرَ في إطلاقِ المَسْجِد عليها عرفًا. وصرح الذهبي أَنَّ الصُّفَّة كانت مِنْ أَجْزَاء المَسْجد ثُمَّ أُخْرِجت عنها فلا بأس إذن في ذلك الإِطلاق، وبعد هذا التحقيق لا يَتُم ما رَامَهُ المصنِّف مِنْ وجهٍ آخر كذا ذَكَرَهُ السَّمْهُودي. وهذا الذي كنا نريد إفادتك به فَإِنَّه جَوابٌ جُمْلي عن جملةِ ما تمسك بهِ المصنف رحمه الله تعالى على أَنْ نقول: إنَّ هذا المال إنَّما جِيءَ به في المَسْجِد، لأَنَّ بيتَ المالِ لم يكن بُنِيَ بَعدُ، ولم يَكُن النبي صلى الله عليه وسلّميُحب أَنْ يذهب بِحُطَام إلى بيتهِ، وكان في وَضْعِه في بيتِ بعضِ الصحابةِ رضي الله عنهم مظِنَّة للوَسْارُس، فلهذه الاحتفافات أمر بِوضْعِهِ في المسجد ثم قَسَّمه هناك، فهل يُنَاسِب بعده أَنْ يَطَّرِد عليه أو يَقْتَصر على موضعه، ذلك أَمرٌ كفل إلى عدلِك وفصْلِك.
باب مَنْ دَعَا لِطَعَامٍ فِي المَسْجِدِ وَمَنْ أَجَابَ فِيه
وكان عندَه فيه حديثٌ فَتَرْجَم عليه لئلا يَخْلو عن فائدة.
باب القَضَاءِ وَاللِّعَانِ فِي المَسْجِد(2/171)
وقد مر الكلام فيه.
قوله: (واللعان) وإنَّما سَمَّاهُ لبيان أَنَّه هل يجوز مِثْلُه في المسجد.
قوله: (بين الرجال والنساء) وإنَّما ذَكَر النِّساء لإِثبات حُضورِهِنَّ في المسجد ويُخْرَجُ بهنَّ عند إقامة الحدود.
423 - قوله: (حدثنا عبد الرَّزاق) وهو معاصر المصنِّف إمامُ صنعاء اليمن لم يُلاقه البخاري وقد كان سافرَ إليه فسمع بوفاته في الطريق.
باب إِذَا دَخَلَ بَيتًا يُصَلِّي حَيثُ شَاءَ، أَوْ حَيثُ أُمِرَ، وَلا يَتَجَسَّس
حيث شاء أي الداخل أَوْ حيث أَمَر أي صاحبُ البيت، قال الشارحون: إنَّ «أو» للتنويع وليس للشك. قلت: والمترْجَم به هو في الحقيقة قوله: حيث أمر، ثُمَّ أَضَافَ حيث شاء مِنْ عنده لئلا يُتوهم الاقتصار عليه فلا تنتظر لدليله.
قوله: (ولا يتجسس) فهذا من الآداب أنَّ الرَّجُلَ إذا دَخَلَ بيتًا ينبغي له أَنْ لا يَنْظُر يمينًا وشمالا تجسيسًا. وحاصله: إنْ لم يكن هناك هتك للستر يُصلي حيث شاء وإلا حيث أُمِر.
واعلم أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلّمإذا صلى في بيوت أصحابه فتارة سألهم أين يُصلِّي، وتارة لم يسألهم وصلَّى حيث شاء، والوجه أنَّ صَلاتَه صلى الله عليه وسلّمكانت لإِيصاله البركة، فإذا أَرَادها مِنْ قِبَل نفْسِه لم يَسْأَل عنها، وههنا دعى الصحابي وأراد هو أَنْ يُصلي النَّبي صلى الله عليه وسلّمفي بيته مكانًا يتخذه مصلى فسأله النَّبي صلى الله عليه وسلّمأَين تُحب أَنْ أُصلي لك.c
فَوَضَح الفَرْق.
وفي الحديث دَليلٌ على ثبوتِ الجماعة في النافلةِ وهي مع التداعي مكروهة تحريمًا وإلا جازت، ثُمَّ التداعي على عُرف اللغة، ولا تحديد فيه في أصل المذهب وإِنْ عينه المشايخ.
424 - قوله: (فَصَفَفْنَ) والمضاعف إذا كان مِنْ نَصَرَ فهو متعدٍ، وإذا كان من ضَرَبَ فهو لازم وههنا مِنْ ضَرَبَ.
باب المَسَاجِدِ فِي البُيُوت(2/172)
وليس لها حُكْمُ المساجد عندنا فيجري فيها التَّوريث وغيره من الأحكام، وفي «المُنْية» أنَّ مَنْ جَمَعَ في بيته يكون تاركًا لفضل المسجد، ولا يعد تاركًا للجماعة، وليست هذه المسألة إلا فيها، وقد ثبتت الجماعات في البيوت في زمن أمراء الجور وعند أعذارٍ أخرى.
425 - قوله: (محمود بن الربيع) وهذا هو الصحابي الذي ضَجَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلّموقد مَرَّ في العلم.
425 - قوله: (أَنْكَرْتُ بصري) وعند مُسلم: أصابني في بَصَري بعض الشيءِ، فَدَلَّ على أَنَّه لم يكن بَلَغَ العَمَى إذْ ذاك. ثُمَّ إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّمرَخَّصَ عِتْبَان بن مالك بعدمِ حضورِ الجماعة ولم يُرَخِّص به ابنَ أَمِّ مَكْتُوم، فقيل في وجهه إنَّ ابن أم مَكْتُوم كان أعمى مِنْ بَطْنِ أمه، ومثله لا يلحقه تعب ومشقة في الإياب والذهاب، بخلاف عِتْبان فإنَّ بَصَرَهُ قد ساء في آخره، وقد علمت من حالِ تَيقُّظ ابن أم مكتوم فإنَّ بلالا رضي الله عنه قد كان يُؤذن قَبْل وقته بخلافه، وقد نُقِل عن الشَّاطِبي أَنَّه كان يذهبُ مَرةً للحجِّ فمرَّ من تحت شجرةٍ فقيل له: اخفض رَأْسَك لا يصيبكَ الغصنُ ففعل، فلما جاء هناك مرَّةً أخرى بعد خمس وأربعين سنة خَفَضَ رَأْسَهُ فَسُئِلَ عنه، فقال هناك شجرة، فقيل له ليست هناك شجرة ولا شيء، فَنَزَل الشَّاطبي مِنْ مَرْكَبه وَزَعَم أنَّه ساء حِفْظه فلا ينبغي له رواية الحديث، فَدَعى الناس عن هذا المَوْضِع وَسَأَلهم عن الشَّجرة فقال له شيوخهم: إنَّه كان به شَجَرة ولكنَّها قُطِعَت، فاطمأنَّ به ثُمَّ مضى لحاجته. ولذا قُلْتُ إِنَّ معنى ما رُوي عن سُفْيَان حين سأل عن تَرْك ابن عمر رَفع اليدين، فأنْكَرَهُ أي لم يعرفه، فأي بأس فيه إنْ لم يَعْرِفه سُفْيَان فقد عَرَفه الناس وليس معناه أنَّه نَفَاه.
425 - قوله: (والوادي) وهو الذي سال السيلُ منه الرآبِ وبقي الحَصْبَاءُ تَلُوح. وهو البَطْحَاء.(2/173)
قوله: (قال ابن شِهَاب) وهذا تحويل مِنْ آخَرِ السَّنْد على خلاف طريق الآخَرِين، ووجهه أنَّ سائرَ المصنِّفين يُخَرِّجُون جميعَ أسانيدِ الحديث في بابٍ واحد، فيحولون في ابتداءِ الإسنادِ بخلافِ المصنِّف رحمه الله تعالى فإنَّه يَقْطَعُ الحديثَ الواحد في أبوابٍ متفرقةٍ بِحَسَب المناسبات فيكون التحويلُ عندهُ في آخره.
باب التَّيَمُّنِ فِي دُخُولِ المَسْجِدِ وَغَيرِه
أي التيامنُ وراجع له النَّووي.
426 - قوله: (في شأنه) أي شُغْلِه وترجمته في الهندية دهتدا.
(426 - )قوله: (في طُهُورِه وتَرَجُّله) وفي «شرح الوقاية» أنَّه كان عادةً لا عبادةً، وإلا فالمواظبة تُفيد السُنِّية، فَفَرْقٌ بين التعبُد والتعود.
باب هَل تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الجَاهِلِيَّةِ، وَيُتَّخَذُ مَكَانُهَا مَسَاجِدَ؟
*«اللَّهُمَّ لا خَيرَ إِلا خَيرُ الآخِرَهْ ** فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ»
وعلَّلَه المصنِّف رحمه الله تعالى بقولِ النَّبي صلى الله عليه وسلّم «لَعَنَ اللَّهُ اليهودَ والنَّصارى اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجد».
واخْتَلفوا في وجه تعليله بالحديث:
فقال الكَرْماني: إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّملَمَّا خَصَّصَ اللَّعْنَ باتخاذِ قُبور الأنبياء مساجد وَمَنْ في حُكْمِهم كالصالحين من أمتهم، دلَّ على جواز اتخاذ قبور المشركين مساجد بعد نبشها.
قلتُ: وكأنَّه فَهِم أَنَّ اليهودَ والنَّصارى إنما لُعِنوا لأنَّهم كانوا يَنْبُشونُ قبور أنبيائِهم، ثُمَّ كانوا يبْنُون عليها المساجد فَلُعِنُوا لكونِهِ توهينًا لهم، وهذا المعنى لا يُوجد في نَبْش قُبور المشركين، فيجوز نَبْشُها واتخاذ القبور عليها لانتفاءِ المَنَاط.(2/174)
قلتُ: هذا باطل قطعًا فإنَّ اليهودَ والنَّصارى لم يفعلوه قَطْ، ولكنَّهم كانوا يَبْنُون عليها المساجد مع إبقائِها على حالِهَا تبركًا بهم، وحينئذٍ مناط اللعنةِ هو التشبه بالعبادة.
وقال الحافظ رحمه الله تعالى في وجه التعليل به: إِنَّ الوعيدَ يتناولُ من اتخذ قُبورَهم مساجد تعظيمًا، وَمَنِ اتخذ أمكنة قبورهم مساجد بِأَنْ تُنْبَش وتُرْمَى عظامُهم، فهذا يَخْتَصُ بالأنبياء ويلحق بهم أتباعهم. وأما الكفرة فإنَّهم لا حَرَج في نبشِ قبورهم إذ لا حرج في إهانَتِهم.
قال الطيبي: وأما من اتخذ مسجدًا بجوارِ صالحٍ بحيث يَبْقَى قبرُهُ خارجَ المسجد، وقصد التبرك بالقرب منه لا التعظيم له ولا التوجه نحوه فلا بأس به ويُرْجَى فيه النفع أيضًا.
427 - قوله: (وما يكره)... إلخ وعندي مِنْ تبعيضية في جميع المواضع، وفي «الجامع الصغير» أنَّه لو صلى إلى قبرٍ كُرِه، وإنْ وَضَعَ سُتْرَة بينه وبين القَبْرِ ارتفعت الكراهة.
427 - قوله: (رَأَيْنَها بالحبشة) والهجرةُ إلى الحبشةِ وَقَعت مرتين بل ثلاث مِرَار، ولعلهما ذهبتا إليها في هجرةٍ ولم تكونا دَخَلَتَا في نِكاح النَّبي صلى الله عليه وسلّم فلمَّا نَكَحهما النبي صلى الله عليه وسلّمذكرتا له القِصَّة.
428 - قوله: (فَنَزَل أعلى المدينة) يعني لم يَدْخل في المدينة وَذَهَبَ مِنْ أعلاه إلى قُبَاء، والأصوب أَنَّه دَخَلَ المدينةَ الثامنة مِنْ ربيع الأول.
(2/175)
428 - قوله: (بنو عمرو بن عوف) فعمرو بنٌ لعوف وليس ابن عوف بدلا عن عمرو، وهكذا يكون في أنساب الجاهلية بخلافه في الإِسلام، فَإِنَّه يكون بدلا ومبدلا منه في الأكثر. كعبد الله بن مُبَارك، فإنَّ ابنَ المُبَارك بَدل عن عبدِ الله، وذلك لأنَّه لم يَكُنْ للرُّواة عباءة بِذكْرِ أسمائهم وكِنَاهم بخلاف مَنْ كان أهلَ إِسلام فَإِنَّهم يُذُكَرون بأسمائهم وكُنَاهم ليُعْرَفوا ويُوَقَّروا ويُجَلُّوا بين النَّاس وليس كذلكَ الكُفَّار.
428 - قوله: (أربعًا وعشرين) وفي الهامش أَرْبَعَ عَشْرَة ليلة، قال الحافظُ رحمه الله تعالى: وهو الصحيح. قلتُ: وهذه النُّسخة مِنْ أَجُوَدِ النُّسَخ إلا أنَّ الآفَةَ فيها أنَّ النُّسَخ المرجوحة فيها في الصلب والراجحة في الهامش، ثم إنَّ الجمعةَ فُرِضَت بِمَكَّةَ ولم يَتَمَكَّن النبي صلى الله عليه وسلّمعلى إقامتِها حتى ورد المدينةَ فأقامَ بها، وفيه استدلالٌ للحنفيةِ رحمهم الله تعالى اشتراط المصر حيث لم يَجْمع النَّبي صلى الله عليه وسلّمفي قُبَاء مع قِيامه أَرْبَعَ عَشْرَةَ يومًا، وأولُ جُمُعَةٍ أقامَها حين ورد المدينةَ في محلَّتِهَا كما في الرِّوايات، وأولُ من استدلَّ به المولوي فيضُ عالم الهزاروي.
428 - قوله: (فجاءوا مُتَقَلِّدِين السيوف)... إلخ وهذا على عادتهم عند ذهابهم إلى أَحَدٍ من عُظَمَائِهِم.
428 - قوله: (حتى أَلْقَى بِفَنَاءِ أبي أيوبَ) واعلم أنَّ التبع حين كان وَرَدَ المدينةَ قال له حَبْرٌ من اليهود إنَّ هذه مهاجر خاتم الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام فلا تُقَاتَل ههنا، فَبَنَى بيتًا للنَّبي صلى الله عليه وسلّموَأَوْصَى به أَنْ يكونَ له حين يُبْعَثُ ويهاجِرُ إليها فكان في يد أبي أيوب ولذا بَرَكت به راحلته بفنائه.(2/176)
428 - قوله: (ثامنُوني) وكان هذا الحائطُ ليتيمينِ في حِجْر زُرَارَة رضي الله عنها فلينظر فيه أنَّه هل يجوز للولي التصرف في عَقار الأيتام أم لا؟ أما التصرفُ في المنقولاتِ فَأَجَازَهُ الفقهاء، وليراجع الفقه للعقَار، ولعلَّه أيضًا جائز في بعض الصُّور.
428 - قوله: (فصفوا النَّخْلَ) وفَهِمَ الحافظُ رحمه الله تعالى: أنَّ النَّخْلَ كانت في الجدار القِبْلي بين اللَّبِنِ والطين، وفَهِمَ السمهوري أنها كانت عمودًا في الحصة المُسْقَفة قِبَل القِبلة. قلت: وهو الأصوب.
428 - قوله: (وهو يقول اللهم لا خير)... إلخ قال الأَخْفَش إنَّ الرَجَزَ ليس مِنْ بحور الأشعار، وَعَدَّهُ الباقون منها. أقول: وما قاله الأَخْفَش قوي، لأنَّ الرَجَزَ من أسماء الجاهلية، وترجمتُهُ في الهندية: فقرة بندى - تك بندى وهذا نوع مغاير للأشعار قطعًا، والبُحور في الألسنة كلها خرجت منهم اتفاقًا ثُمَّ دونت بعد، وكان عند التبع شاعرًا يرتجز بعد جميع الشُّعَرَاء، فالرَّجَز غير الشِّعر، ومن قال إنِّه شعر اعتبرَ القصدَ فيه، وارتجازه صلى الله عليه وسلّملم يَكُنْ عن قَصْدٍ ولم يَثْبُتْ عنه الإِنشاء، نعم ثبت الإنشاد قليلا وربما نقضه أيضًا، فَأَنْشَدَ شِعْرَ شاعرٍ مَرَةً وَنَقَضَهُ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنَّ الشِّعْرَ هكذا، فقال: «إني لست بشاعرٍ».
وثبت عنه هذا الشِّعر، وفي إسناده أئمة النَّحْو:
*تفاءَل بما تَهْوَى فلقلما ** يُقال لشيءٍ كان إلا تحققا
ثم إنَّهم اختلفوا أنَّه هل يجوز الاقتباسُ من القرآن كما في قوله:
*أيها النَّاسُ اتقوا ربَّكُم ** زَلزلةَ الساعةِ شيءٌ عظيمُ
*وَمَنْ يَتَقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ ** ويَرْزُقْهُ من حيث لا يحتسبُ فجوَّزَهُ الشافعية رحمهم الله تعالى، وفي ترجمة الحَمَوي أنَّه أنشأ بيتًا ثم تَرْدَّدَ فيه:(2/177)
*وما حُسْنُ بيتٍ لَهُ زُخْرُفْ ** تَرَاهُ إذا زُلْزِلَتْ لم يَكُنْ فجاء عند ابن دقيق العيد وكان جارًا له وأنشدَ عليه بيتَهُ، فَذَكَر أنَّ ابنَ دقيق العيد قال له قَبْلَ أَنْ يسأله، إنَّ الكهْفَ أولى من البيت هكذا:
*يا عينُ جُودِي لفقدِ البحْرِ بالدُّرَرْ ** واذر الدموعَ ولا تُبْقي ولا تَذَرْ فهذه الصُّور كلُّها جائز عند الشافعية رحمهم الله تعالى.
قلتُ: وإني أخْشَى أَنْ أنْشُدَ بالقرآنِ بهذا النَّحْوِ مِنَ الحذف.
باب الصَّلاةِ فِي مَوَاضِعِ الإِبِل
وقدَ مرَّ هذا البابِ في الأنْجَاسِ وذِكْرُهُ ههنا من حيث كونهُ مُصلَّى ومسجدًا، وفيه تصريح بأنَّ الصَّلاةَ فِي المَرَابِضِ كانت قَبْلَ أنْ يُبنى المسجدِ.
430 - قوله: (حدثنا صدقة) وهذا راوي فيه حِدةٌّ وشَرَهٌ، حيث جَعَلَ رفع اليدين عَلَمًا لأهل السُّنة والجماعة.
واعلم أنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى أَشَار إلى الأحاديث الواردة في التفرِقَة بين الإِبلِ والغَنَم وليست على شرطِهِ، لكن لها طُرُقٌ قوية، وفي معظمها التعبير بِمَعَاطِن الإبل، وفي بعضها بمبَارِك الإبل وعند الطبراني مناخ الإبل، وعند أحمدَ مَرَابِض الإبل، فَعَبَّر المصنِّف رحمه الله تعالى بالمواضع لكونِهَا أَشْمَل والمعاطِن أخص، لأنَّ المعَاطِن مواضعُ إقامتها عند الماء خاصة، كذا قال الحافظُ رحمه الله تعالى وفيه وجوه أُخَر أيضًا.(2/178)
قلتُ: وعندي أنَّه تَرَكَ لفظَ المَعَاطِن لأنَّه ورد النهي عن الصَّلاةِ فيها في غيرِ واحدٍ مِنَ الأحاديث، ويُعْلم مِنْ حديثِ الباب الجواز فيها، فَأَرَادَ أَنْ لا يَرِدَ الإيجابَ على عَيْنِ ما ورد عنه النهي، فَغَيَّرَ اللفظَ وعَبَّرَ بالمواضع، والوجه فيه أَنَّ المَعَاطن مَوَاضِع الألْوَاثِ والأَنْجَاس، ولأنَّها لا يُؤْمَنُ فيها عن إِيذائِهَا بخلافِهَا ههنا، فإنَّه موضِع طمأنينة ولا يخاف منها أيضًا فلم تشمله أحاديث النَّهي.
باب مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ أَوْ نَارٌ أَوْ شَيءٌ مِمَّا يُعْبَدُ فَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ تعالى
وكَرِهَ فقهاؤُنا أَنْ يُصلِّي وبين يديه جمرة لأَنَّها يعبدها المجوس، أما إذا كان سراجًا أو غيره فلا كَرَاهَةَ لانتفاءِ المَنَاط، ويُمْكِنُ أَنْ يكون المصنِّف رحمه الله أَرَاد منه التعريض إلى الحنفية.
قلتُ: وما تَمَسَّك به المصنِّف رحمه الله من قوله: عُرِضت عليَّ النار» ففي غير مَحَلِّه قطعًا لأنَّه مِنْ أشياء عالَمِ الغيب وهي خارجةٌ عن البحث، والاعتذارُ من جانب المصنِّف رحمه الله أنَّه إذا أَرَادَ أَنْ يُفَصِّل في الاجتهاديات ويُشدد في الأحاديث احتاج لا مَحَالَة إلى اعتبارِ مثل هذه المناسَبَاتِ البعيدة، وإلا فَمِنْ أين توجَد الأحاديث الصريحة للمسائلِ الفقهية؟ ثم إنَّه قد وَقَعَ له العَرْضُ مرتين في صلاةِ الكُسُوف، وَمَرَّةً كان على المنبر وَأَغْضَبَه النَّاس، فقال: «من كان منكم سائلا عن شيءٍ فليسأله»، فقام رَجُلٌ وقال: مَنْ أبي؟ قال: «أبوك فلان»، وإنَّما غَضِبَ لأنَّه بُعِثَ لبيانِ الشرائعِ، وسأله النَّاس عمَّا لا تَعلُّقَ له بها.
باب كَرَاهِيَةِ الصَّلاةِ فِي المَقَابِر(2/179)
وقد مَرَّت المسألة عن «الجامع الصغير» أنَّه إذَا وَضَعَ بينَهُ وبين القبرِ سُتْرَة لا يُكْرَه وإلا كَرِه، وإنْ كان القبرُ في جوانبه لا يُكْرَه.
432 - قوله: (اجعلوا في بيوتِكم)... إلخ وَجَزم الطحاوي بأنَّ المُرَادَ منها التطوع فقط لأنَّه لمَّا جَعَل الفرائضَ في المساجد فحينئذٍ لا يتناول هذا القول إلا النوافل. وحَكَى القاضي عِيَاض عن بعضهم أنَّ مَعْنَاه: اجعلوا بعضَ فرائِضِكُم في بيوتِكم. قلت: وله وجه أيضًا، أما الضابطة فكما ذَكَرَها الطَّحاوي يعني أنَّ الفرائِضَ في المساجد والنَّوافل في البيوت، وما ذَكَرَه هذا البعض محمولٌ على جزئيات غير منضبطة كأن فاتَتْهُ الصَّلاة مع الجماعة أَوْ لم يُصلِّ الإِمام في وقتها إلى غير ذلك مِنَ العوارِض.(2/180)
432 - قوله: (ولا تتخذوها قبورًا) واخْتُلِف في شرحه على أقوال: قيل: لا تدفنوا موتَاكُم في البيوت وحينئذٍ لا مناسبة له من الجملة الأولى، فإنَّها في أحكامِ الصلاةِ وهذا في حكم الدَّفن. وحاصله: مَنْع الدفن في الأبنية، وقيل معناه: أَعطوا البيوت حظَّها من الصلوات ولا تجعلوها كالمقابر حيث لا يُصلَّى فيها إلا بالسُتْرَة، فأحالَ على المقابر لكونِهَا معهودةً معروفة بهذه الصِّفة، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا: «أَنَّ الأَرض كلَّها مسجد إلا المَقْبَرة والحمام»، وهذا الشرح أَلصق بترجمة المصنِّف رحمه الله وكأنَّه أخذَه من التشبيه يعني كما أنَّ الصلاةَ عند القبرِ مكروهةٌ في الفقه فلا تجعلوا بيوتَكم كذلك، بأنْ لا تصلّوا قريبًا منه أيضًا، ولكن صلُّوا فيها، فتكونُ أبعد شبهًا بالقبور. وقيل معناه: لا تُعَطِّلُوا البيوتَ عن العبادةِ كالقُبور، إذ الموتى، لا يُصَلُّون في قبورِهم، كأنَّه قال: لا تكونوا كالموتَى الذين لا يُصلُّون في بيوتِهم وهي القُبور، وحينئذٍ لا تَبْقَى له مناسبة من ترجمة المصنِّف رحمه الله لأنَّه ليس فيه ذِكْرُ جواز الصلاةِ في المقابر أو المنعِ عنها.
قلتُ: وهو الأصوب في شَرْح الحديث سواءٌ كان مناسبًا لترجمة المصنِّف رحمه الله أوْ لا، لكنَّهُ يُشْكِل عليَّ لأنَّ المحقَّق عندي أنْ لا تُعطَّل في القُبور بل فيها قراءة القرآن والصَّلاة والأذان وغيرها من العبادات، وليراجع لها شرح الصدور للسيوطي رحمه الله. والأفعال الأخر أيضًا ثابتة عند أهل الكشف وهم أَدْرَى به فلا ننكره ما لم يرد الشرع بإنكاره صراحة.
(2/181)
والوجه عندي: أَنَّ الأَحْوالَ في القبور مختلفةٌ حسب اختلافِهم في الدنيا، فكما أَنَّ عمل واحد لا يوازي عمل آخر في الحياةِ، فليس عليه اختلاف الأحوالِ بعد الوفاة، نعم مَنْ تَرَكَ الأعمال في الدنيا يتركها في القبور أيضًا، فإنَّه قد تركها إذا كان أحق بها فلا حق له بعد ما لَحِقَ بالأموات وصار ترابًا، وأمَّا مَنْ أحيا ليله وصام نهارَه فله أَنْ يُقِرَّ عينهُ بعبادةِ ربه في القبور أيضًا، وذلك فَضْلُ الله يُؤْتيه مَنْ يشاء، فواحدٌ ينامُ كنومةِ العَرُوس حتى إذا نُفِخ في الصُّور يَمْسح عن عينيه ويقول: مَنْ بعثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا، والآخَر تُعرض عليه النَّار غُدُوًّا وعشيًا والعياذ بالله. ومِنْ ههنا انحلَّت عُقْدة التَّعارض بين الآيتين. وقيل في رفعه: إنَّ الحالَ في الآية الأولى حالهم من نفْخَة الصَّعْقة إلى نفخة البَعْث وفي رِوَايةٍ ضعيفة «أَنَّ النَّاس بعد نفخة الصَّعقة يُصعقون إلى أربعين عامًا»، فهذه الغَشْيَة تَشْمَل الكل، وليس حالُهم من الموت إلى نفخة الصَّعْقَة، أما في الثانية فحالُهم مِنَ الموت إلى نفْخَة الصَّعقة، ولا بُعد أَنْ يكون المراد هو هذا.
ثم اعلم أنَّ هناك عالَمَان:
الأول: ما هو مشهود بأَعيُننا، ومحسوسٌ ببصرنا، ويسمى بعالَم الشهادة.
والثاني: غائبٌ عن حَوَاسِنا وقد علمناه بأخبارِ الشرع، ويسمى بعالم الغيب.(2/182)
والشريعة قد تَعْتَبِر الحسَّ أيضًا واقعًا ونوعًا مِنْ نَفْس الأمر، فما عندنا وما نحسُّ به ونشاهدُهُ لا يخلو عن كونه نحوًا مِنَ الواقع ونفس الأمر أيضًا، وحينئذٍ يُمكن أن يَعْتَبر الشارعُ أحكامًا في الحس كأنَّها في الواقع وإنْ كان في عالَم الغيب بخلافِها، ولا بدع فيه فإِنَّه إذا بَنَى أحكامًا على الحسِّ باعتبارِه فهذا صحيح، كما أنَّه إذا بَنَى أحكامًا على الغَيْبِ باعتباره فهذا أيضًا صحيح، نعم إجراء أحكام الغَيْب على الحسِّ، والحسِّ على الغيب قد يُوهم التَرَدُّد، إذا عَلِمْتَ هذا فاعلم أَنَّ القبور في الحسِّ معطَّلَةٌ قطعًا، وحينئذٍ إجْراء الكلامِ عليها كأنَّها خالية عن الأفعال إجراءٌ على ما في الواقع ونَفْس الأمر، وإن كانت في نظر عالَم الغيب غير معطَّلَة، ومشغولة أصحابها فيما فُوِّضَ إليهم من ربهم، وهذا كالعذاب لا يسمعُهُ غيرُ الثقلين فهي معطَّلَة عنها في الحسِّ ومملوءة بها في عالم الغَيْب، وحينئذٍ تَعَطُّلها في الحسِّ لا ينافي عدمها في عالَم الغيب.
(2/183)
والحاصل: أنَّ الشَّرْعَ قَدْ يَمْشِي على محاوراتِهِم وإطلاقَاتِهِم في عُرْفِهم إذا كان في الحسِّ أيضًا كذلك كقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا} فجريانُها مشهودٌ لا يُنْكِره إلا مكابر، لكنَّه يمكن أَنْ يكونَ كذلك في الواقع أيضًا، ويمكِنُ أَنْ يكون الجَرَيان للفَلك مع ثَبَاتِ الشمس في مكانِهَا لكنَّها لمَّا كانت تجري في الحسِّ نَسَبَهُ إليها، وهذا معنىً صحيح فهل لك فيه رَغْبة رَهْ فيه رأيك. ثم في الحديث: «النَّوم أخو الموت»، ومعلومٌ أنَّ النَّائِمَ يرى أمورًا، وتَمْضِي عليه حالات تنفى عنها ببعض الاعتبارات وإنْ كانت ثابتة ببعضها فكذلك ههنا، ومزيد الباب قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} وله جواب آخر وهو أَنَّ المنفي في الآية هو الإِسماع دون السَّماع، وتقريره أنَّ الآيةَ تَنْفِي السَّماع الذي يترتب على الأسباب، فإن له أسبابًا في الدنيا، فإذا وُجِدَت تلك الأسباب لَزِمَ ترتب السَّماع عليها وليس هكذا في عالم البرزخ، لأنَّ ذلك عالَم آخر، ولا تستوي فيه تلك الأسباب، فالسَّماع فيه إنَّما يَحْصُل متى شاء الربُّ جلَّ وعلا ولمن شاء، ولا يكفي لإِسْمَاعِهم الأسباب التي عندنا فليس في الآية نفيًا له مطلقًا، إنَّما فيها نفيه بالطريق الذي عندنا وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآء وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ} (فاطر: 22) وسنتكلم عليه في مواضع البَسْطِ من هذا إنْ شَاء الله تعالى.
وههنا حديث آخر في السنن وهو: «لا تتخذوا قبري عيدًا». وقد حرَّف مرادَه بعض الجهلاء وفهموا أَنَّ معناه لا تجعلوه كالعيد فتأتوه في السَّنة مرة، ومعناه لا تجعلوه كالعيد حفلة سنوية يعني: ميلا ميري قبربرنه لكاياكرو.
فائدة(2/184)
ولَقَبُ الصوفي ليس من الصُّفة بل هو نِسْبَة إلى الصُّوف، وكان موسى عليه الصَّلاة والسَّلام لبسَه يومَ ذهب إلى الطُّور لأَخْذِ التَّوراة فاستحسَنه ربه في هذا اللباس.
باب الصَّلاةِ فِي مَوَاضِعِ الخَسْفِ وَالعَذَاب
وفي فقهنا أَنَّ الصَّلاةَ في مواضِع العذاب مكروهةٌ تنزيهًا.
قوله: (ويُذْكَر أنَّ عليًا)... إلخ وهذا عند ذهابه إلى حرب صُفين.
فائدة
واعلم أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّملما مرَّ بديار هود وصالح عليهما الصَّلاة والسَّلام نَهَى أصحابَهُ أنْ يعجِنوا ببئر صالح عليه الصَّلاة والسَّلام، ففعل بعضُهم فأمَره أَنْ يُطعمَه دابتَه، وفيه دليل على الفَرْق بين الحيوان والإِنسان في مثل هذه الأحكام، وما في الفِقه يخالفه شيئًا فليحرره.
433 - قوله: (لا تدخلوا على هؤلاء).. إلخ وهذا النَّهي لمَّا مروا على ديارِ ثمود حالَ توجههم إلى تبوك.
باب الصَّلاةِ فِي البِيعَة
قوله: (قال عمر رضي الله عنه) وهذا حين فَتَح الشام وَصَنَع له رجل مِنْ عُظَمَائِهم مأدبةً وقال: أُحب أن تجيئني فقال له عمر رضي الله عنه... إلخ.
قوله: (تمثال) مخصوص بصورة الحيوان.
باب
باب قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلّم «جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»
435 - 436 - قوله: (لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلّم أي الموت، وحاصله: ابتلي بمرضِ الموت. واختلفوا في تخريج مثل هذا التركيب، فقال ناظر الجيش النحوي: إن مر به معناه أوقع المرور به وقال آخرون: بل الجار والمجرور نائب الفاعل، والأول أقرب إلى الفَهم.
435 - 436 - قوله: (اغتمَّ) كههنا.
437 - قوله: (قاتل الله) محاورة في معنى لعن الله.
(2/185)
باب نَوْمِ المَرْأَةِ فِي المَسْجِد
* وَيَوْمُ الوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا ** أَلا إِنَّهُ مِنْ بَلدَةِ الكُفرِ أَنْجَانِي
وكَرِهَه الحنفية للرجال إلا لغريبٍ فكيف بالنساء؟ والوقائع المخصوصة مع الاحتفافات التي كانت بها لا تقوم حجة للإِكْثَار والتوسِعة التي أرادَها المصنِّف رحمه الله تعالى فليقتصر على موردها، إلا أنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى يَتَمَسك من الرُخصِ فيجعلها عزائم مع أنَّ تلك الوقائع كانت لمكان الضَّرُورة، ويُناسب إخمالَها إلا إعمالها، ففي المِشْكَاة: أَنَّ رجلين رفعا أصواتَهما في المسجد، فقال لهما عمر رضي الله عنه: «لو كُنْتما مِنْ أَهلِ المدينة لَعَزَّرْتُكما أترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكتب في عبد الوهاب النَّجْدِي أنَّه كان يَدق الهاون في المسجد.
439 - قوله: (ولِيدَة) وإنَّما يُطلق على الإِماء خاصةً، لأنَّهم كان يُحصِّلُون منها الأولاد بِمِلْكِ اليمين.
439 - قوله: (سوداء) سانولا.
439 - قوله: (وشَاحٌ أحمر) سرخ جراؤ.
439 - قوله: (سُيُور) تسمه.
439 - قوله: (خِبَاء) الخَيْمَة الكبير، والحِفْش الصغيرة منها.
باب نَوْمِ الرِّجالِ فِي المَسْجِد
قوله: (رَهْطٌ من عُكْلٍ) وهم الذين اجتووا المدينةَ ثُمَّ كان من أمرهم ما كان.
قوله: (فكانوا في الصُّفَّة) وصَرَّح المصنِّف رحمه الله تعالى في هذه الترجمة أَنَّ الصُّفةَ كانت دَاخِلَ المسجد وقد مرَّ ما فيه.
قوله: (وقال عبد الرحمن بنُ أبي بكر رضي الله عنه)... إلخ وهذه قُطعة من حديثٍ طويلٍ يأتي في علاماتِ النُّبوة في ضِيافة أَضْيَاف، ثُمَّ تأخره عند النَّبي صلى الله عليه وسلّموالحَلِف على عَدَمِ الأَكْلِ، وفيه قصَّة بَركةِ الطعام وهو شابٌ أعزب.(2/186)
قلتُ: ولا تَمسكَ فيه لأنَّ ابنَ عُمَر رضي الله عنه كان أَحْوَجَ النَّاسِ، وأفقرَ من الغرباء، لم يكن له بيتٌ ولا شيء، فإذا جاز للغريب أن يَنَامَ في المسجد فكيف به.
441 - قوله: (أين ابنُ عمِّك) وهذه مسامحة في النَّسب وليس عند العرب التنقير في الأنساب، وإنَّما تَعلمه أهل الهند مِنَ الهُندُوس.
441 - قوله: (قد سَقَطَ ردَاؤه) والرداء في النهار، والكساء في الليل للحِفْظِ عن البَرْدِ والقَرِّ.
441 - قوله: (قُمْ أبا تراب) وفي الشُّرُوح: أنَّه كان في غَزْوَة بُوَاط، وكان عليٌّ رضي الله عنه مُسْتَلْقِيَا تَحْتَ شجرةٍ متلطخًا في التُرَابِ، فقال له أبا تُرَاب، ويمكن أَنْ يَكُون كِلاهما وجهين لِكُنيته، قلتُ: ولا تَمَسُّك من هذه الواقعة أيضًا فإنَّه قد مَرّ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّموعلِيَّا كانا مُخْتَصَّين ببعض أحكامِ المَسْجِدِ حتى جاز لهما الاجتياز جُنُبًا أيضًا.
باب الصَّلاةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَر
أي في المسجد. وقال شمس الأئمة السَّرَخْسِي: إنَّها مستحبة عند القُفول من سفرٍ، ولم يكن صلى الله عليه وسلّميَدْخُل على أُمهاتِ المؤمنينَ حتى يَصْدر عنه الزائرون.
443 - قوله: (عن جابرٍ رضي الله عنه) وهذه واقعة ذات الرُّقاع التي اشترىَ فيها النَّبي صلى الله عليه وسلّمبَعِيرَهُ وهذا الثمن هو ثمن بَعِير جابر رضي الله عنه.
باب إِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ فَليَرْكَعْ رَكْعَتَين
ونقل ابنُ بَطَّال عن أَهْلِ الظاهرِ وجوبَها، ونَسَبَ إلى البَعْضِ وُجوبَ التهجدِ والضُحى وسُنَّة الفَجْر، فهذه فروضٌ مختلِفة زَادَت على الصلوات الخمسِ، ولكِنْ إذا قال الإِمامُ الأعظم بوجوبِ الوترِ جَلَبوا عليه من كُلِّ جانب وصاحوا.
444 - قوله: (قبل أَنْ يَجْلِس) والعوامّ يُصَلُّونَها بعد الجلوس مع هذا القيد صَراحة.(2/187)
باب الحَدَثِ في المَسْجِد
وقد مَرَّ أَنَّ للحنفيةِ فيه قولان، ففي «الكبير» من «الغاية» أنَّه مكروه تحريمًا، وقيل: إنَّه مكروه تنزيهًا، ويجب عندي استثناء المعتكِف وإنْ لم يَكُنْ له نقل.
445 - قوله: (تُصَلِّي على أحدِكم)... إلخ وهذا صريحٌ في إطلاق الصَّلاةِ على غيرِ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام وفي التنزيل: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (التوبة: 103) وذَهَبَ المُفْتُون مِنَ المذاهب الأربعة إلى هجرِها وهكذا ينبغي، فإنَّ لفْظَ الصَّلاةِ صار شِعارًا للأنبياء عليهم الصّلاة والسلام في زماننا، فلا يُصَلَّى على غيرهم إلا أنْ يكونَ تَبَعًا، وما قِيلَ في جوابِهِ إِنَّ الصَّلاةُ في القرآن بمعنى الدعاء فلغو، لأنَّه لا بَحْثَ لنا عن المعنى، وإنَّما الكلام في إطلاق هذا اللفْظِ وهو موجود، ثُمَّ أَقُولُ إنَّ الصَّلاةَ لفظ مُشْتَرك في معانٍ فإذا كان كذلك فللمُفتي أَنْ يُخَصِّص إطلاقات القُرآن ببعضِ المعاني.
445 - قوله: (ما لم يُحْدِث)... إلخ ولعلهم يَدْعون عليه إذا أحدث تأذيًا عن الرائحة الكريهة، وعلى هذا ينبغي للفقيه أن يُمْعِن النظر في الكراهة فيها أنَّها تحريمية أو تنزيهية، والنَّظر يتردد في الأمور التي تشتمل على الضررِ كنومِ الجنب والوضوءِ بدون التسمية، والطعامِ، والجماعِ بدون أنَّها في أيِّ مرتبة تعتبر. والذي يَظْهر أَنَّ الوجوبَ، والحرمة، يتبعان الأمر والنهي، دون النظر المعنوي، فلا يَجِبُ الشيءُ ولا يَحْرمُ إلا بالأمر والنهي، وبعبارةٍ أُخْرَى أنَّ المأمورَ به لا بُدَّ أَنْ يكونَ نافعًا في النَّظَر المَعْنوي، وكذلك المنهي عنه لا بُدَّ أنْ يكون مُضرًا فيه، ولا يَلْزَم أَنْ يكون كلَّ مضرٍ منهيًا عنه، وكلُّ نافعٍ مأمورًا به.
باب بُنْيَانِ المَسْجِد(2/188)
قوله: (والجَريد) وهي الغُصْن التي جُرِّدَتْ عن أورَاقِها.
قوله: (أكِنَّ) يعني بجانا جاهتاهون.
قوله: (وإياك أَنْ تُحمِّرَ أو تُصَفِّر) واعلم أنَّه قد يَخْتَفي مرادُ الأحاديث الجلِيَّة لعدمِ الاطلاعِ على غَرَضِ الشارع والفَحْص فيه كالأحاديث في نهي تجصيص البيوت فإنَّ ظاهرها تدل على أن التجصيص لا يجوز، وبعد التحقِيق والإِمعان يُعْرَف أَنَّ النَّهْيَ عنه لإِظهارِ كَرَاهَتِه على حَسَبِ مَوْضُوعه فقط وما كان للنَّبي أَنْ يرغب في الدنيا ويُحرض في تزيينها، فإنَّ موضوع الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أَنْ يكون الإنسان في الدُّنيا كأنَّه غريب أو عابر سبيل، وتلك الكراهةُ قد تَرْتَفِع لأجل المصالح.
وكذلك ما في المِشكاة «لا تدعوا على ملوككم الظلمة، ولكن أصلحوا أنفسكم فإنكم كما تكونون يؤمَّرُ عليكم»، أو كما قال. تمسك به بعضُهم أنَّ الدُّعاء على الملوك لا يجوز، مع أَنَّ غَرَض الحديث التوجيه إلى ما يَغْفَل عنه الإِنسان، فإن الدُعاء على الظالِم لا ينساه أحد، ولكنَّه لا يكاد يَتَوجَّه إلى حال نفسه فَوجِّه إلى ما هو الأهم. وكقوله صلى الله عليه وسلّملمن كان يَتهَجدِ في الليل ثم تركه «أنه لو لم يكن صلاها لكان أحسن» أو كما قال: وبَحَثَ فيه الشارحون: أنَّ المتهجد أحيانًا أفضلُ أو التاركُ لها مطلقًا؟ قلتُ: بل المتهجدُ تارة أفضل يقينًا إلا أنَّهَم مشوا على الألفاظ فقط ولم يتوجهوا إلى المراد، وإنَّما مرادُهُ التحريض على المواظبةِ وكَرَاهة تركِها.(2/189)
والحاصل: أنَّ المقصودَ قد يكون في غيرِ المَنْطُوق والنَّاس يقتصرون أنظارَهم على المنطوقِ فقط، ويَغْفُلون عن المقصودِ فَيُفْقَد الغَرض، فالأحاديثُ الواردة في النَّهي عن تَجْصِيص البيوت لم يَرِد في الحِل والحُرمة بل لبيان ما ينبغي أَنْ يكون من حال الإِنسان في الدنيا، هل يناسبه التَّطَاول في البُنيان، والتَّخَبُّط كالعُمْيان؟ أو الاكتفاءُ بِقَدْرِ ما يحتاج والإِعداد لدار الجِنَان.
وكذلك قوله في النَّهي عن الدعاءِ على الظَّلمَة لم يَرِد في جواز الدُّعاء أو عَدَمِه، بل لِتوجِيه الأَذْهان إلى الأهم لتغافُلِهم عنه، وكذلكَ الحديث الثالث لم يَرد في بيان فَضْلِ شيءٍ على شيءٍ، بل لتحريضِ قيامِ الليل والمُدَوَامَةِ عليه، وإنَّما يَفْهَمُه من رُزِقَ فَهْمَا سليمًا.
(2/190)
إذَا عَلِمْتَ هذا فاعلم أنَّ الأحاديثَ قد كَثُرَت في كونِ تَجْصِيص المساجد من أمارات السَّاعة، ومع هذا جَصَّصَه عثمان رضي الله تعالى عنه من ماله، فالصحابة رضي الله عنهم نظروا إلى ظواهر الأحاديث، وكان عثمان رضي الله عنه أَفْقَهَهُمْ، فنظر إلى المصالح، وإنَّما لم يعلنه النبي صلى الله عليه وسلّمبِنَفْسِهِ المباركةِ الطيبة خشيةَ غُلُوِّ العوامِّ فيه فَوْقَ ما أراده الشارع، وفي الروايات أنَّ الصّحابةَ رضي الله عنهم لمَّا اعترضوا عليه قَامَ على المِنْبَر وَحدَّثهم أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّمقال: «من بنَى لله مسجدًا بنَى الله له بيتًا في الجنة مثله»، فَحَمَلَ المِثْلِية في الكيفية أيضًا؛ وكَتَبَ السُّيُوطِيّ رحمه الله تعالى في «حاشية أبي داود»: أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه لمَّا وَرَدَ المدينةَ وعَلِمَ القِصَّة روى الحديث مرفوعًا وقال: إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّمأَخْبَرَ بتجصيص هذا المسجد فَسُرَّ به عثمان رضي الله عنه وأَعْطَاهُ خمس مئة دينارًا، قال الحافظُ رحمه الله تعالى أنَّ نَقْشَ المساجد إذا كان على سبيل التَعْظِيم ولم يُنفق له من بيت المال فهو رُخْصَة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وقال ابن المُنَيَّر: لمَّا شَيَّدَ النَّاسُ بيوتهُم وزخرفها: أَنَّه لا بَأَس بأَنْ يُصْنَع كذلك بالمساجد صونًا لها عن الاستهانة، فالأَصل هو عدم التَجْصِيص، لَكِنِ الآن يُناسب التجصيص لاختلافِ العصر والزَّمَان ولا يُعدُّ ذلك خلافًا للأحاديث، إلا ترى أَنَّه لو لم يَكُنْ السَّلاطين جصصوا المساجد لما وَجَدْتَ اليوم مَسْجِدًا على وجه الأرض، وانْدَرَست رسومُها وعَفَتْ آثارُها، فدعت المصالح إلى تَجْصِيصها ولا سيما في البلاد التي غلبت عليها الكفر.(2/191)
ثم اعلم أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّمبَنَى المسجدَ مرتين، مرة ستين في ستين، ومرة أخرى بعد خيبر مئة في مئة، ثم زاد فيه عمر رضي الله عنه في زمانِهِ، وزادَ فيه عثمان كَمَّا وكَيفًا، وميَّزَ بعضُ السلاطين تلك الزيادات بأماراتٍ يتمايزُ بها بناؤُه قَبْلَ خيبر وبعدَهُ، وبناء عمر رضي الله عنه من بناء عثمان. وأما زِيادات سائر السلاطين فغيرُ متميِّزَة كذا في كتب السِيَر - وفيها حُجَرُ أمهاتِ النِّساء بُنيت بعد تعمير المسجد النبوي.
باب التَّعَاوُنِ في بِنَاءِ المَسْجِد
قوله: ({ما كان للمشركين..} الآية) وفي «المَدَارِك» تحت تفسيره أن إِعانة الكافرِ في المسجد لا تجوز، وكذا في «المستصفى» لصاحب «الكنز» في «الفتاوى السعدية» للمفتي سعد الله الرَّامفوري إلا أنْ يَهَبَ ماله مسلمًا ثم يبنيهِ المسلمُ بذلك المال، فهذه حِيلة لصرف أَموال المشركين في المساجد.
447 ) قوله: (وعمارٌ لبنتين) لَبِنَة عنه ولَبِنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كذا ذَكَرَه السَّمْهُوري.
(447 - قوله: (وَيْحَ عمار) قال سيبويه: والفَرْق بين ويل وويح: أَنَّ الأوَّل فيمن يَسْتَحِق الهلاك بخلاف الثاني فهي كلمة رحمة والأُولَى كلمة سَخْط.
447 - قوله: (يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار) وفي طريق آخر: «تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة...» إلخ.
قال الحافظ رحمه الله تعالى ما حاصله: أنَّ عمارًا قُتِل بصفين، ومَنْ قتلوه مِنْ أصحابِ معاوية رضي الله عنه كانوا من الصحابة رضي الله عنهم، فكيف يَصدُقُ في حقهم أنَّهم دعَوْهُ إلى النَّار وإنْ صَدَق عليهم أنَّهم كانوا الفئة الباغية.(2/192)
فالجواب: أنَّهم كانوا ظانِّين أنَّهم يَدْعون إلى الجنَّة وإنْ لم يكونوا كذلك بحسب الواقع، لكنَّهم مَعْذُورون للتَّأول الذي ظَهَرَ لهم لكونِهم مُجْتَهِدين لا لَوْمَ عليهم، فدعاؤُهم إلى مخالفة علي رضي الله عنه وإنْ كان سببًا للنارِ، لكنَّه لم يترتب عليه النَّار لِكَوْنِهِمْ مجتهدين، والمُسَبِّب قد يتخلف عن السبب إذا لم تُوْجَد شرائطه، ولا يجبُ تحققه عند وجودِ السبب مطلقًا.
قلتُ: ولا أَرْضَى بهذا الجواب، لأنَّ هذا العنوان مأخوذ من القرآن، وهو هناك في حق الكفار، ولا أحب أنْ يكون العنوان الذي ورد فيهم صادقًا على الصحابة رضي الله عنهم بعينه، فقال تعالى: {مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَوةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ}(غافر: 41 وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 221) فالوجه عندي أنَّ الكلامَ في حق الأمير معاوية رضي الله عنه، ثم إلى قوله: «تقتله الفئة الباغية»، وصرَّح صاحب «الهداية» في كتاب القضاء: أنَّ الأميرَ معاويةَ رضي الله عنه كان بَغَى على عليَ رضي الله عنه. أما قوله: «يدعوهم إلى الجنة» فاستئْنَاف لحالِهِ مَعَ المشرِكين وقريش العرب، وإشارةٌ إلى المصائبِ التي أتت عليه مِنْ جهةِ قريش، وتعذيبهم، وإلجائهم إياه على أَنْ يَكْفُر بربه فأبَى إلا أنْ يَقُول: الله أحد.
وفيه قلت: باده نوشان غمت داود ومعروف وجنيد جان فروشان درت عمار وسلمان وبلال. فهذه حكاية للقِصةِ الماضيةِ ومنقطعة عما قبلها لا إخبار عن حال قائليه.
وأَجَابَ عنه الحافظُ رحمه الله تعالى بنحو آخر وقال: إنَّ هذه الزِّيادة لم يَذْكرها الحُمَيْدِي في الجمع، وقال: إنَّ البخاري لم يَذْكُرها أصلا ثم ذَكَر ما ظَهَرَ له في وجه حَذْفِ هذه القِطعة.(2/193)
قلتُ: فإن لم تَكُنْ تلك الزِّيادة ثابتة في هذا الطريق فإنَّها ثابتةٌ في الخارجِ بِطُرُق قوية، فالنقضُ النقض، والجوابُ الجواب. وإنْ شئت تقرير كلامِهم على النَّحْوِ الذي يقتضي مَرِامِهِم فَقُل: إنَّ الحُكْم قَدْ يَرِد باعتبارِ الجِنْس مع عَدَمِ تحققِهِ في بعض الأنواع، وهذا حيث يَتَأَتَّى التشكيكُ في مراتبِ الشيءِ كَضَرْبِ الدُّفِّ يُسوَّغ فيه التشكيك، ويُمْكِن أَنْ يتنوع إلى مندوب ومكروه ومباح، ولذا أَغْمَضَ عنه النبي صلى الله عليه وسلّمفيما كانت الجاريتان تُغَنِّيان عنده وتدفِّفَان، ولم يزل متغش وجهه بثوب حتى قالتا؟ «وفينا نبي يَعْلَمُ ما في غد» فكشف عن وجهه وقال: «قولي بالذي كنت تقولين»، وإنَّما نهاهنَّ أَنْ يقلن هذا لأنَّهنَّ قُلن قولا باطلا، فلم يَمضْ عنه ساعة، وَمَنَع عنه على فورِهِ بخلاف الدُّف. وهكذا في واقعة أخرى مثلها حتى جاءه عمر رضي الله عنه، وَرَأَيْنَه ألقينَهُ على الأرضِ وقعدن فحينئذٍ قال النَّبي صلى الله عليه وسلّم «إن الشيطان يفر من عمر».
وأشكل على الناس قوله، فإنَّ التدفف لو كان مِنَ الشيطان كما يدل عليه قوله هذا كيف أغمض عنه، ولو كان مباحًا كما يدل عليه إغماضه كيف جعله مِنْ فعل الشيطان آخرًا.
وحله: أنَّ الشيءَ قد يكون قدْرٌ منه حلالا ويَنْجَرُّ إلى الحرام بالإفراط والتفريط فما كان حَرَامًا باعتبار أغلب الأَحْوَال يَحْكم عليه الشرع بكونه من الشيطان باعتبار الجنس وحالِهِ الأغلب، وإن لم يتحقق بحسب خصوص المقام فالتَّدَفُّفُ وإنْ كان حلالا في بعض الأحوالِ كهذا التدفف الذي ضُرِبَ به بين يَديِ النَّبي صلى الله عليه وسلّملأَجْلِ معنىً صحيح مع فُقْدِان معنىً مُحَرَّم، لكنه لما كان حرامًا في أغلب الأحوال لانعِدَام هذه الاحتفافات نَسَبَهُ إلى الشيطان.(2/194)
وحاصل صنيعه تقرير الإجازة مع إظهار الكراهة، وهو الذي يناسب منصب النبوة، فإنَّه لو نَهَى عنه مطلقًا لانعدمت الإباحة وصارَ حرامًا ولم تَبْقَ مرتبة منه جائزة ولو لم يُكْرَه ولم يُظْهِرِ الكراهة أيضًا لجاز بدون كراهة أيضًا، فكل ما كانت مباحة في نفسها باعتبار بعض الشرائط ومكروهة باعتبار انجرارِهَا ءى الحرام في الأَغْلَبِ يَرِد فيها النَّهي باعتبار الجِنْسِ مع الإِغْمَاضِ عنها عند خُلُوِّها عن الإفراط والتفريط، وهذا معنى قولهم: إنَّ الشيء قد يكون مُوجِبَا للنار وسببًا له ثُمَّ يَتُخَلَّف عنه مسبِبَهُ، وهذا حيث يكونُ الحُكْمُ باعتبارِ الجنس يكفي لصدق تحققه في فرد ما وإنْ لم يَتَحقَّق في خصوص هذا المورد كما في «مستدرك الحاكم»: «أن رجلا جاءه فسأله مالا فأعطاه حتى فعل ثلاث مِرَار يُعْطِيه كلَّ مَرَّة فلَمَّا ولَّى قال: إنَّ السؤالَ جمرةٌ فمن شاء استقلَّ ومَنْ شاء استَكْثَر قال رجلٌ: يا رسول الله فَلِمَ أعطيتَهُ؟ قال: إنَّ الناس لَيْسئَلِونَنِي وَيَأْبَى الله أَنْ أكونَ بخيلا» أو كما قال.
قلتُ: شرحه عندي أنَّ الشؤالَ شأنُهُ أن جمرة من النَّار سواء ترتب عليه النار أوْ لا، فهذا حكم جنسي يكفي لصدْقِ تحقُقِه في الجنس، وإنْ لم يَتْقق في خصوص هذا السائل مثلا. ومَرَّ التُّوْربِشْتِي الحنفي في «عقائده» على الأحاديث التي يكون فيها الوعيد بالنار على المعصية وَقَرَّرٍ مرادَها بما يَقْرُب من هذا التحقيق.
وحاصله: أنَّ تلك المعاصي أسبابُ النَّارِ ولا يَلْزَم من ارتكابِ الأسبابِ ترتب مسبِبَاتِهَا، فإِنَّ ترتب المسبِبَات يَتَوقَّف على أمورٍ أخرى من ارتفاعِ الموانِع، ووجود الشرائطِ، وربما يكون مَنْوِيًا.h(2/195)
ثم إنَّ الشرع قَدْ يَحْكم بالنَّار على أمر حسي فما البُعد فيما حَكَم بها على سببٍ من أسبابِها، بل هو طريق مَعْروف مسلوكٌ مؤثر، وَتَحَصَّل من هذا شَرحٌ جيد لأحاديث الوعيد فاحفظه.
وحينئذٍ معنى قوله: «إنَّهم يدعونه إلى النار» باعتبار الجنس، يعني أنَّ مثلَ هذه الدعوةِ كانت سببًا للنَّار إلا أنَّه تخلَّف عنه مسبِبَه في حق الصحابة رضي الله عنهم خاصة لمانِع، وهو كونهُم مجتهدين قاصدين الصوابَ والحق، والله تعالى أعلم.
باب الاِسْتِعَانَةِ بالنَّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ في أَعْوَادِ المِنْبَرِ وَالمَسْجِد
وإنَّما ترجم بالمِنْبَرِ لحديثٍ عِنْدَهُ في خُصوصِ المِنْبَرِ، وفي رواية «أنَّ مِنْبَرهُ جُعِلَ على مِنْبَرِ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام وهو أوَّل من بنى مِنْبرًا، وكذا في رواية أخرى «أنَّ مسجدَهُ كان على هيئة مسجد موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو أوَّل من بنى مِنْبرًا، وكذا في رواية أخرى «أنَّ مسجدَهُ كان على هيئة مسجد موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ثم لا يَدْرِي ماذا أراد بقوله: «عريش كعريش موسى عليه السَّلامُ»، التشبيه في الارتفاع أو مجموعِ الهيأة.
باب مَنْ بَنَى مَسْجِدًا
المرور في الوقائع الجزئية، والممر أنْ يتخذه طريقًا ويعتادَ به، فوضح الفَرْقُ بين المرور والممر.
باب يَأْخُذُ بِنُصُولِ النَّبْلِ إِذَا مَرَّ فِي المَسْجِد
باب المُرُورِ فِي المَسْجِد
وبوَّب عليه الطَّحاوي.
وحاصلهُ: أنَّه جائز إذا لم تَقَع منه ضجة في المسجد وتضمن معنى صحيحًا.
453 - قوله: (يستشهِدُ أبا هريرة) رضي الله تعالى عنه، ووجهه أنَّه أنشد شِعْرَا فأراد عُمر رضي الله عنه أنْ يُعزِّرَه فاضطر إلى الاستشهاد.
فائدة(2/196)
واعلم أنَّ الفعل إن كان لازمًا كاستوى وَنَزَلَ فما بعده من متعلقاتِ الصِّفَة كقوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (الأعراف: 54) معناه تعلق صِفة الاستواء بالعرش، وإن كان متعديًا فما بعده مفعول به كقوله تعالى: {خلق السموات والأرض}.
453 - قوله: (أيِّدْهُ بِرُوح القُدُس) وأظنُّ أَنَّ هذه الواقعة في غزوة الأحزاب، وفيها تصريح أَنَّ حسانًا رضي الله عنه قرأها على المِنْبَرِ كما عند الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّمينصب لحسان مِنْبَرًا في المسجدِ فيقوم عليه يهجو الكُفَّار».
قلتُ: وهذا مِمَّا استدللتُ به على خلاف الحافظِ رحمه الله تعالى من أنَّ المِنْبَرَ قد كان متقدمًا بكثير لا كما زَعَمَهُ الحافظ رحمه الله تعالى أنَّه متأخر جدًا، وفي ثبوتِ تَقَدُّم المنبر نفع للحنفية في مسألة نسخ الكلامِ وقد مرَّ مني التنبيه عليه، وكذلك قد عَلِمْتَ أنَّه لا استدلال فيه للبخاري على توسيع في أحكام المسجد، فإنَّ الآمر ههنا هو النبي صلى الله عليه وسلّموالغرضُ المدافعة عنه فلا يَدُل على التوسيع أصلا بل الإِنشاد عبادة في مثل هذه الحال.
باب الشِّعْرِ فِي المَسْجِد
باب أَصْحَابِ الحِرَابِ فِي المَسْجِد
وفي الحديث اللعب بالحراب قلتُ: وثبت عندي عن مالك رحمه الله تعالى أنَّه كان خارجَ المسجد لا دَاخِلَه، وظاهرُ كلامِ المصنِّف رحمه الله تعالى أنَّه حَمَلَهُ على داخل متن المسجد.
454 - قوله: (يستُرُني) إنْ كان قبلَ الحِجَابِ فالأمرُ ظاهر، ولا بَأْسَ إِنْ كان بعده أيضًا فإنَّه جائزٌ أيضًا بشرطِ عدم الفتنة.
باب ذِكْرِ البَيعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى المِنْبَرِ فِي المَسْجِد(2/197)
وفي فِقْهِنا أنَّ المُسَاوَمَة والإيجاب والقَبول جائزٌ للمعتِكف لا إحضار السِّلْعة. والحديثُ لا يَرِد علينا، لأنَّهُ لا بيعٌ فيه ولا شراءٌ، وإنَّما ذَكَرَهُ النَّبي صلى الله عليه وسلّمبطريقِ المَسْأَلة وهو بمعزلٍ عن البحث.
456 - قوله: (وقال أَهْلُهَا: إنْ شِئْتِ أعطيْتِهَا مَا بَقِي) يعني ويكون الولاءُ لَهُم، ومعنى قولِهِم: «إنْ شِئْتِ أَعْتَقْتِها» يعني إنْ شئتِ صرتِ سببًا لإعْتَاقِهَا بشرائِك إيَّاها، والمسألةُ أنَّ الولاء يكون لِمَنْ عُتِقَت على مِلْكِهِ.
456 - قوله: (ابتاعِيها) ويجوزُ بيعُ المُكَاتَب والمُدَبَّر عندَهم، ولا يجوز عندنا إلا بيع المُكَاتَب عند العَجْزِ، فقالوا: ابتاعيها دليلٌ على جَوَازِ شراء المُكَاتب. ونحن نقول: إنَّه يكون تَعْجِيزًا عن الكِتَابة في ضمن الابتياع. وراجع «شرح الوقاية» من قوله: أعتق عني فلانًا بألف درهم، وفي لفظة: «اشترطي لهم الولاء».
وأَشْكَل معناه بوجهين: الأول: أَنَّ الولاءَ لها قطعًا، فما معنى كونُ الولاءَ لهم؟ ثُمَّ إذا اشْترَطت الولأَ لهم وصار الولاءُ لها ففيه خُلْف الوَعْد أيضًا، ونِعْمَ الحلُّ ما ذَكَرَهُ شيخُنا أنَّ معنَاه دعيهم لِيَشْتَرِطوا يعني به أَنَّ هذا الاشتراط لغوٌ لا أَثَرَ لهُ، وهكذا وقع عند البخاري في طريق آخر.
456 - قوله: (شُرُوطًا ليس في كتاب الله) وظاهره أَنَّ المرادَ منه ما لم يُنص به في الكتابِ وسنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّموكان مسكوتًا عنه، ويمكِنُ أَنْ يفسر بما لا يُلائِم كتابَ الله.
فائدة(2/198)
واعلم أنَّ الشُّروط إما ملائِمة أو غير ملائِمة، ولا تأثير للثانية أصلا، وهذه الحقيقة سَرَتْ إلى مسألةِ التَّعْلِيق في الأجنبية فإنَّهم قالوا: إنَّه لو قال للأجنبية إنْ دَخَلْت الدارَ فَأَنْتِ طالق فَنَكَحها ثم دخلت الدار أنَّها لا تطلق، ويَبْطل هذا التعليق لأنَّهم فهموا أنَّه شَرْط غيرُ ملائم لأنَّه لا حَقَّ له على الأجنبيةِ أن يُخَاطِبَها بقوله: إنْ دخلتِ فلغا، بخلافِ ما إذا أَضَافَهُ إلى المِلك أو إلى سببه، فإنه يصير به مُلائِمًا ويَخرج عَنْ كونِهِ غير مُلائِم، فإنْ كانت الحقيقة كما قُلنا وإنْ لم يكتبوها، فليُنظر في مثل هذه المواضِع، فينبغي أَنْ يُعتبر لكلِّ شرط مُلائم وإن لم يَكُنْ مضافًا إلى الملك أو سببه فإنَّ اشْتِرَاط الإِضافة لأحداث المُلأَمة، فإنْ ظَهَرَت الملاءَمة بدُونِهَا يَنْبَغِي أَنْ يكونَ كالمُضَافِ إلى المِلْك أو سبَبِهِ وهذا وإنْ لم يَقْرَع سَمْعَك لكنَّهُ يكون صوابًا إنْ شاء الله تعالى.
باب التَّقَاضِي وَالمُلازَمَةِ في المَسْجِد
والملازمة أي ملازمةُ الغريم يدور معه حيثما دار، وأخرجه المصنِّف رحمه الله تعالى في باب الصُّلْح وفيه: (فلقيه فلزمه)... إلخ وهو موضعُ الترجمةِ.
457 - قوله: (في المسجد) متعلقٌ بالتقاضي.
457 - قوله: (وهو فِي بَيْتِهِ) يعني وهو في معتكَفِه المُتَخَذِ مِنْ حَصِير في المسجد، كذا حَرَّرَهُ الشارحون لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّمكان إِذْ ذاكَ مُعْتَكِفًا، ولعلَّ عِلْمُ ليلةِ القدر ارتفعَ من هذا التلاحي والمراد به عِلمُ خصوص ليلة هذه السنة لا مطلق الليلة، وقد مرَّ الكلامُ في العِلم، وليس عندي نقل صريحٌ في أنَّ الرجلين كانا هذيْنِ وإنَّما هو تَخْمِين مني.(2/199)
457 - قوله: (فاقْضِهِ) واعلم أَنَّ بعض الأشياءِ يَرِدُ في الأحاديث ويكون من باب المُروءة، فلو يم يُجْرِه العلماءُ إلى مسائل الفقه لكان أحسن، فإني قدُ أَجِدَ أشياءَ ما لا يَدْخُل تحت قواعِدِهم ويكونُ مِنْ باب المُروءة وحُسْنِ المعاملة، فعلى المتيقِظِ أَنْ يراعيَهُ».
فائدة
قال الشيخ ابنُ الهُمام رحمه الله تعالى في «الفتح»: إنَّ الكلامَ في المسجد يأكل الحسنات وقيده في «البحر»: إذا قصد ذلك، أما إذا جَاءَ للصَّلاةِ فتشاغل بالتَّكلُّمِ فلا.
باب كَنْسِ المَسْجِدِ، وَالتِقَاطِ الخِرَقِ وَالقَذَى وَالعِيدَان
ومن عادة المصنِّف رحمه الله تعالى كما قد عَلِمْتَ مِرَارًا أنَّه يَبْسط الأبوابَ على الجزئيات التي سُمِّيَت في الأحاديث وإنْ لم يكن مدارًا للمسألة.
458 - قوله: (يَقُمُّ) أي يَكْنُس، وعند أبي داود في باب في حَصَى المسجد عن أبي صالح قال: «كان يُقَال إنَّ الرَّجُلَ إذا أَخْرَج الحصى من المسجدِ، يُنَاشِده». وفي رواية أخرى رَفَعَهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم «أَنَّ الحصاة لتناشِد الذي يُخْرِجها من المسجد». قلت: إنَّها تُنَاشِد لأنَّ فَضْلها فيه، ونحن نُخْرِجُها فإنَّ الفضل لنا فيه فَدَعْهَا تناشدك.
458 - قوله: (مات) أي في الليل فلم يُوقِظُوا النَّبيِّ صلى الله عليه وسلّملكراهَةِ إيقاظِ النَّبيَ صلى الله عليه وسلّموخِفة أمره عندهم كما هو عند مسلم.(2/200)
قوله: (فصلى عليها) قال أبو عمرو في «التمهيد»: إنَّه قد ثَبَت سبعة أحاديث في الصَّلاةِ على القبرِ وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى إلا أنَّ النووي نسب إليه خلافه فقال: أصحابُ مالك منعوا الصَّلاةَ على القبرِ والمسألة فيها عندنا أنَّه لو دُفِن بدونِ الصَّلاةِ يُصلَّى على قَبْرِهِ ما لم يَتَفَسَّخ، وعيَّنَهُ المشايخ بِثلاثةِ أيام وإنْ لم يكن الوليُّ حاضرًا فله أَنْ يُصلّي عليه وإنْ كان قد صلى عليه مرة، ثم صرحوا أنَّ الفريضةَ قَدْ سَقَطت مِنَ الأُوْلَى وصلاتُهُ الثانية قضاء لحقه فقط، ثم إنَّه هل يُصلِّي منفرِدَا أو يُصلِّي معه من لم يُصلِّ أوَّل مرة أيضًا، ويُعْلَم من كُتِب الشافعية أنَّه يدخل معه ما لم يصلِّ أول مرة، وأظنُّ فيه خلافًا عن مشايخنا، وتستفاد الإِجازة مِنْ كلامِ البعض والممانعة من بعض، وليس فيه عندي نَقْلٌ صريح إلا ما قال السَّرَخْسِي في تعدد الصَّلوات على النبي صلى الله عليه وسلّم إنَّ الوَلِيَّ كان هو الصديق الأكبر فصلى عليه بعد كونه أميرًا، وإنْ كانت قد صُلِّيَت عليه قبله أيضًا. ورأيت في الخارج أنَّه صلى معه آخرون منا، وهو مشعر بجواز دخول آخرين مع الولي.
وأمَّا في حديث البابِ فادَّعى الحنفية أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّمكان وليًا فلا بأس بإعادته. وفي «الخصائص الصُّغْرى» للسيوطي رحمه الله تعالى عن بَعْضِ الحنفية: أنَّ صلاة الجَنَازَة لا تصح بدون حضور النَّبي صلى الله عليه وسلّمإِذَا أَمْكَن شِرْكَتَه. قلت: ومَنْ ذَهَبَ هذا المذهب فقد أصاب وأجاد، وهو الذي يُعْلَم من التتبع أنَّ الصَّلاة وقتيةً كانت أو جنازة لا تَصِح بدونه صلى الله عليه وسلّم وهو الذي نبه عليه أبو بكر رضي الله عنه ولم يَفْهَمْهُ النَّاس ولا أدركوا كلامه حيث قال: ما كان لابن أبي قُحافة أَنْ يَتَقَدَّم بين يَدَيِ رسول الله صلى الله عليه وسلّم
(2/201)
وحاصله: أنَّ غيرَ النَّبي لا يَصْلِح لإمامة النَّبي صلى الله عليه وسلّمفكيف يصلح لي أمامتك؟ ثم في «المسند» لأحمد رحمه الله تعالى أَنَّهُ لا يُتوَفَّى نبي ما لم يَؤمه أحَدٌ مِنْ أمّته، وكان هذا نداء على رحيل النبيِّ وأنّ أمته قد صهرت وبهرت، ودينه قد كمل وتمَّ حيث يصلح منهم من يؤم نبيًا، وأمَّا إمامة المهدي لعيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فإنما يكون في أول صلاة يصلي بهم وذلك أيضًا بعد تقريرِ عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإنَّما لم يُؤخره لأنَّه كان بَلَغَ موضِعَ الإمامة وقد أُقِيمَت الصَّلاة ولم يَبْقَ إلا التحريمة، فلو أَخَّرَه لربما تُوهم عدم أهليتِهِ لها، ولذا وَرَدَ في بعضِ أَلفاظهِ: أنَّها لك أقيمت، وبعدَه يكونُ الإمامُ هو عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
والحاصل: أنَّ الصلاة بمحضر النبي لا تصحُ بدونه ما لم تُوجَد قرينة الإِجازة من جانبه، وههنا قد أمكن شِرْكَتُه ولنا أيضًا أن نعدَّها من خصائِصهِ صلى الله عليه وسلّملِما عند مسِلم «إِنَّ هذه القُبور مملوءة ظُلمة على أهْلِها، وإنَّ الله لَيُدْخِل عليهم نورًا من صلاتي»، أو كما قال. فَعُلِم منه وجه الخصوصية، ومن يكون بَعْدَهُ من يُدخل بصلاته نورٌ على أهل القبور. ومرَّ عليه الحافظ وقال: إنَّه مدرج دخلت فيه قطعة من الحديث الآخر، وهو وهم من الراوي.
قلتُ: وإذا كان حديثًا فكيفما كان يكون حجة، وإليه أشار محمد رحمه الله تعالى في الصَّلاة على الغائب، وقال: وليس النَّبي صلى الله عليه وسلّمفي هذا كغيرِهِ، يعني به الإِشارة إلى الخصوصية وقد ذكرناه.
باب تَحْرِيمِ تِجَارَةِ الخَمْرِ فِي المَسْجِد
أي لا بأس بِذِكْرِ المسألة، وإنْ كانت الخمر خبيثة نجسة لا سيما إذا كان ذُكِرَ تحريمها.(2/202)
459 - قوله: (ثُمَّ حَرَّم تجارةَ الخمر) وأما التناسب بين الرِّبا والخمر، فقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَنُ مِنَ الْمَسّ} وهذا التخبط في الخمر أيضًا، وقيل: لا حاجةَ إلى بيان التناسب، وإنَّما ذَكَرَ الأمرين بيانًا للنَّاس، ثم إنه متى حُرِّم الربا؟ فحرَّرَه الطحاوي في «مشكِله».
باب الخَدَمِ لِلمَسْجِد
قوله: ({ومحرَّرًا}) وهو في الفِقه مَنْ رُفِعَ عنه قَيد الرَّقبة أي مُعْتَقًا، ومعناه ههنا من اختص بأمر وترك لأجله، وكان من عاداتهم النذر بذكور أولادِهم وولدت أنثى فقالت اعتذارًا {رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى}.
باب الأَسِيرِ أَوِ الغَرِيمِ يُرْبَطُ فِي المَسْجِد
لم يكن دار الحبس في زمنه صلى الله عليه وسلّموإنَّما كانوا يشدون بسارية من سواري المسجد ثم بناه عمر رضي الله عنه.
461 - قوله: (عِفْريت) سركش طاغ.
461 - قوله: (تَفلَّتَ عليَّ) وفي مصنَّف عبد الرزاق: أنَّه كانَ في صورة الهرة، وفي كتاب «الأسماء والصفات» للبيهقي: أنَّه تقدَّم إليه بِشُعْلَةٍ من نارٍ في وجهه صلى الله عليه وسلّم(2/203)
461 - قوله: (ليَقْطع عليَّ الصَّلاة) إما بالمرورِ بين يديهِ أو إلجائِهِ إلى العملِ الكثير، واختارَهُ في «أحكام المُرجان» للقاضي بدر الدين الشِّبْلي وهو تلميذ الذهبي عالمٌ جليل القدر، إلا أنَّه توفي في شبابه فلم يُشْتَهر بين الناس وَكَتَبَ ترجمتَه أستاذُهُ؛ والقَطْع على الأول على معناه الحقيقي، فإنَّك قد عَلِمت أنَّ بين المُصلِّي وبين ربه جل وعلا وصلة المناجات، فإنَّ المصلي يناجي ربَّهُ، وإنَّ رَبَّهُ بينه وبين القِبْلَة، وإنَّ الرحمةَ تواجِهُه كلُّها عبارة عن تلك الوِصلة، فإِذا مرَّ بين يديهِ فقد قَطَع تلك الوَصْلَة حقيقة، وليس القَطْع بمعنى قَطْع الخُشوع ولا بمعنى الفساد كما حَمَله أحمد رحمه الله في مرور الكلبِ، قال الترمذي في باب ما جاء أنَّه لا يقطعُ الصَّلاةَ إلا الكلبَ والحمارَ والمرأةَ، قال أحمد رحمه الله: الذي لا شك فيه أنَّ الكلبَ الأسودَ يَقْطَعُ الصَّلاةَ، وفي نفسه من الحمارِ والمرأةِ شيء.
قلتُ: وذلك لأنَّ فيهما عِنْدَهُ حديثًا، أما في المرأةِ فما روتْهُ عائشةُ رضي الله عنها «أنَّها كانت تعترض بين يدي النَّبي صلى الله عليه وسلّماعتراض الجنازة وهو يصلي»، وأما في الحمار فحديث ابن عباس «أنَّه جاء على أتان وأرسلها تَرْتَع بين أيدي المُصلين» وأما الكلب فليس عنده شيء يخالفُ حديثَ القَطْعِ فأبقاه على عمومه، والقطع على الشرح الثاني بمعنى الفساد فإنَّه إذا اضطرَّهُ إلى العمل تَفْسد صلاتُهُ لا محالة.(2/204)
461 - قوله: (لا ينبغي لأحدٍ من بعدي) واعلم أنَّ المشي في الدعاء والنَّذر يكونُ على الألفاظِ لا على الغرض. والمعنى كما يدل عليه ما في «مسند أحمد»: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّمخَرَجَ مرةً من عند عائشةَ رضي الله عنها وقال: «قطع اللَّهُ يديك»، أو كلمة مثلها، فلمَّا رجع رأى يديها شُلتا، فسأل ما بالُ يديها قالت: هي كذلك منذ قلت ما قلت إلخ، أو كما قال. مع أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّملم يُرِد به قَطْعَ يديها حقيقة، ولكن مشى التكوينُ على عموم ألفاظه فاعلمه، ومن ثمرة دعائه تسخير الجن، ولا بحث للبخاري بكونه جنًا أو غيره فاسْتَدلَّ به على الأسير مطلقًا.
واعلم أنَّه قد بَيّنّا لك في المقدمة أنَّ العامَّ ظني عند ما وراء النهرين مِنْ أصحابِنَا وهو مذهبُ الجمهور، ولا يقومُ حجة ما لم تَتَّصِل به قرائن مِنْ خَارج، فإِذَا وَرَدَ خاصٌ في موضع وشَمِلَه العام أيضًا وتعارض في الحُكْمَين لا يُعتدُّ بهذا العام أصلا ويكون الحكم حكم الخاص، ألا ترى أَنَّ رَفْعَ اليدين إذا ثبت في العيدين خاصًا، أخذه الحنفية ولم يتركوه بالعمومات، وهكذا إذا ثبت البيع بما ليس عندك في السَّلَم اختاروه ولم يأخذوا بالعمومات، وهذا غير قليل في الأحاديث.(2/205)
ثم إنَّ جماعة من الأشاعرة ذهبوا إلى أنَّ الدليل اللفظي لا يفيد القطع أصلا، وذهب الماتُرِيديَّة إلى خلافِهِ وقالوا: يمكن أَنْ يُفيدَ القطعَ؛ وكَتَب الرازي في «تفسيره» أنَّ الدَّليلَ اللفظي وإنْ تواتر في النَّقَلِ لكنَّه لا يمكن أَنْ يكونَ قطعيًا في الدَّلالة، لعدم انقطاع الاحتمالات عنه، وصَرَّحَ في «المحصول» بخلافِهِ، وقال: إنَّه يمكن أَنْ يُفيد القَطع. فلعلَّ ما في «الكبير» باعتبارِ الأغلب والأكثر، وبَحَثَ فيه صدر الشريعة أيضًا، ولعلَّه بَلَغَهُ إنكارُ الأشاعرةِ القَطْعَ، فإِذَا عَلِمْتَ أَنَّهم ترددوا في إفادة نفس الدَّلِيل اللفظي القَطْعَ فكيف بِقَطْعِيةِ العام. ولا غَرْوَ أنْ يكونَ خلافُهم في تلك المسألةِ مؤثِّرَا في قَطْعِيَّة العام وظنيته أيضًا، ومع هذا أقول: إنَّه قد يَبْقَى العام على عمومه، كما في الدعاء والنذر، فإن المشي فيهما يكون على الألفاظ، ولا بَحْث عن كون المدعو عليه أهلا له أو لا، فكل موضع يكون المشي فيه على الألفاظِ يُترك فيه العامُ على عمومه.
ولذَا نَهَى في «المشكاة» عن الدعاء على الأولادِ لئلا يُوافِقَ ساعةً من ساعاتِ الإجابة، فيسْتَجِيب له ويَمْضِي دعاءَهُ على ظَاهِرِهِ مع أنَّه لا يريدُه، ومِنْ هذا الباب دعاءُ سليمان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولذا لم يَرْبِطْه النَّبي صلى الله عليه وسلّمإبقاءٍ لدعاءه على عمومه، ولو رَبَطَهُ لما خالف دعاءَه حقيقة إلا أنَّهُ أحبَّ أن يُجْزِيهِ على عُمومِهِ على دَأْبِ سائرِ الأدعية، والله تعالى أعلم. وراجع تحقيقه من المواقف.
باب الاغْتِسَالِ إِذَا أَسْلَمَ، وَرَبْطِ الأَسِيرِ أَيضًا فِي المَسْجِد
وذكر الاغْتِسَال إنجاز. وقوله: (رَبْطِ الأسير في المسجد) من مسائل سلسلته، والغسل للإسلام مستحب وراجع «شرح الوقاية» لتفصيلِ غسل الجنابةِ بعد الإِسلام.(2/206)
قوله: (خَيْلا) قال ابنُ سِيده في «المُخَصَّص» إنَّ الرُّكُب والرُّكْبَان أيضًا في معنى الخيل. قلت: وهو مخالفٌ لِعُرف العرب وإنَّما أخذه من اشتقاق الركب فقط.
باب الخَيمَةِ فِي المَسْجِدِ لِلمَرْضى وَغَيرِهِم
والمتبادر منه المسجد النبوي، وهو الذي يَقْتَضِيه «سنن البخاري» وكلامُ الحافظ، ويُسْتفاد مِنْ سِيرةِ محمد بن إسحق أنَّه مسجدٌ آخر دون المسجد النبوي، وقد عُرِف من عادةِ النَّبي صلى الله عليه وسلّمفي السِيَر أنَّه كان إذا نَزَلَ منزِلا اتَّخَذَ مكانًا لِصَلاتِهِ يَحْجزه من أطرافه، وأصحابُ السِير يَذْكُرونه بلفظ المسجد سواءٌ يُسَمِّيه الفقهاء مسجدًا أوْ لا، وهذه واقعةُ الأحزابِ حين اغتسل النَّبي صلى الله عليه وسلّمبعد فَرَاغِهِ عنها وجاءه جبريل عليه السلام وأشارَ إلى بني قُرَيْظَة فحاصروهم فنزلوا على حُكْم سعد، وكان حليفهم في الجاهلية فَحَكَمَ فيهم بقضاء الله، فجاءه فقال: «قوموا إلى سيدكم»، لأنَّه كان جريحًا؛ القصة بطولها. ولعلَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّملما حاصَرَهُم إلى عِدَّةِ أيام، اتخذ هناك موضعًا لِصَلاتِهِ فما يَحْكُم به الوجدان أنَّ المراد من المسجد هو هذا وبه يُناسب قوله: (ليَعُودَه مِنْ قريب) فإنَّ المسجد النبوي كان على ستة أميالٍ منه فأين كان يَعُوده مِنْ قريب، وحينئذٍ لا يثبت ما رَامَهُ البخاري رحمه الله تعالى من التوسيع في أحكامِ المساجد، فإنَّه وإنْ كان في مسجدٍ، لكنَّه لم يكن مسجدًا مما نحن بصدده وهو المسجد الفقهي، على أنَّك قد عَلِمْتَ أنَّ تلك الواقعة كانت مَحْفُوفة بالقرائن إلا أنَّ البُخَاري يَسْتَنْبِط منها مسألة ولا يبالي.c
قوله: (فمات) وكان دعا ربه أَنْ يُعطِيه حياة إنْ قَدَرَ بعد غَزْوَةٍ من قريش، وإلا فيُعَجِّل وفاتَه وكان جُرْحُه قد اندمل ثم تفسخ فلم يرقأ منه الدَّم حتى مات.(2/207)
باب إِدْخالِ البَعِيرِ فِي المَسْجِدِ لِلعِلَّة
464 - قوله: (طاف) أي في فتح مكة.
464 - قوله: (قال طُوفي) وهذه قِصة حَجة الوَداع.
464 - قوله: (يُصَلِّي) أي كصلاة الصُبْح.
ويجوز المرور للطائفين أَمَام المُصَلِّي فإنَّ الطَّوَاف بالبيتِ صلاة. كذا في كتاب الطَّحَاوي.
وغرض المصنِّف رحمه الله تعالى أَنَّ الطَّوَاف وإنْ كان حول البيتِ لكنَّ البيتَ كان في المسجدِ الحرام فثبت دخول البعير في المسجد. قلت: وفي استدلاله نظر لأنَّه لم تكُن هناك عِمَارة في عهده صلى الله عليه وسلّمغير البيت كما في البخاري وكان حولَهُ مَطَافَا فقط حتى بنَى عمر رضي الله عنه حوله حائطًا ثم بنى الملوكُ تلك الأبنية، نعم بقي فيه نظر بَعْدُ وهو أَنَّ حولَ البيت وإنْ كان مطافًا فقط لكِن القرآن أَطْلَقَ عليه لفظ المسجد، فينبغي البحث للفقيه في أَنَّ الأرضَ هل تأخذ أحكام المسجد بمجرَّدِ نية المسجد ولو لم يُحِط حائطًا ولم يبن بناءً، والذي يَظْهر أنَّه يَأْخُذُ حُكْمَهُ. ثم على المفسرين أَنْ يمعنوا أنظارَهم في أنَّ الذي سَمَّاه القرآن مسجدًا هل هو البيت فقط أو المطاف أيضًا؟ وعندي تَبْقَى حِصة منها خارجة عن هذا الإطلاق بعد كَوْنِ المَطاف مشمولا في المسجد أيضًا، وهذه حيث حَاط عمر رضي الله عنه حائطًا.
باب(2/208)
465 - قوله: (من عند النَّبي صلى الله عليه وسلّم أي مِنْ مَسْجِده فظهرت المناسبة، وثبتت الكرامة من حديث الباب، وأنكرها ابن حزم لاِلْتِبَاسها بالمعجزة، وفُرِّقَ بينهما بالتحدي وعدمه. ثم قال ابن حزم: إني قائل باستجابة الدعاء مع إنكاره الكرامة. قلتُ: إذا اشتمل الدُّعاء على أمرٍ خارقٍ للعادة فهو الكرامة فلم يبق النزاع إلا في التسمية، فما الفائدة في إنكار الكرامة. ثم في «الدر المختار» و «شرح العقائد» أنَّه لا اخْتِصَاصَ للمعجزة والكرامة بأمرٍ دون أَمْر، وكل كرامه معجزة للنَّبي، وكل أمرٍ يكون معجزة مِنَ النَّبي إذا ظهر على يَدِ ولي يُسمَّى كرامة. وقال الأستاذ أبو القاسم صاحب «الرسالة القشيرية»: أنَّه لا بد أَنْ تكون أشياء تَخْتَص بالمعجزة، وهو المختار عندي.(2/209)
وهل يُمْكِنُ إحياء الميت مِنَ الولي أوْ لا؟ فكنت مترَدِّدًا في ذلك حتى رأيت حكايةً نَقَلَهَا الشيخ عبد الغني النابلسي عن العارف الجامي رحمه الله تعالى: أَنَّ رجلا من الأغنياء اتَّخَذَ له طعامًا، وطبخ دَجَاجَة ميتة اختِيارًا له ثم دعاه فجاء العارِفُ الجَامي وقال: قم بإِذن الله، فكان كما قال. إلا أني لا أعرف سنده، وهكذا نقل الشنطوفي ووثقه المحدثون عن الشيخ عبد القادر حبلي رحمه الله أنه كان يُذَكِّر النَّاسَ إذ جاءت حِدَأَة تصيح حتى شَوِّشَتْ على الشيخ كلامه فدعا عليها وقال: ما لكِ قَطَعَ اللَّهُ عُنُقَكِ فَسَقَطَتْ على الأرض ميتة من ساعتِها. ثم إذا فَرَغَ الشيخُ عن الوعظِ قام ورآها ميتة في فناء المسجد، فسأل عنها فأُخْبِرَ بها فقال بها: قم بإذن الله فطارت. وهكذا جاء رجل في «بجنور» فقطع عُنُقَ طائرٍ حتى فَصَلَها بين أعينِ النَّاس ثم ضمها فكانت كما كانت قبله، وأحيى الطائر. وزارني هذا الرجل فسألتُهُ عنه فقال: إنَّا نَقْدِر عليه إلى ساعةٍ قليلة فإذا مضت تلك الساعة فلا نَقْدِر عليه. وفي كتاب «العلو والعرش» للذهبي: أَنَّ كرامات السيد عبد القادر الجيلي تواترت كقطر الأَمْطَارِ والنابلسي هذا هو الذي من معاصري صاحب «الدر المختار» وَرَدَّ عليه في مسألة الخف - وبعد اللتيا والتي أسلم أنَّ بعضَ الأشياء تختص بالمعجزة، لأنَّ الشيخَ أبا القاسم صاحبَ الكرامات بِنَفْسِهِ، فاتِّباعه في تلك الأبواب أولى، وراجع «المقدمة» لابن خلدون للفَرْقِ بين المعجزة والكرامة، وأزيدَ منه في كلام الشيخ الأكبر.
باب الخَوْخَةِ وَالمَمَرِّ فِي المَسْجِد
قوله: (المَمَرِّ في المسجد) يعني به اتخاذه طريقًا، أما إذا مَرَّ بها للصَّلاة فهو أمرٌ مقصودٌ ومعنى صحيح.
466 - قوله: (فاختار) وفي الحديث أنَّ النبي يخير أوَّلا.(2/210)
466 - قوله: (لاتخذت)... إلخ وبحث الناس في أنَّه هل تمتنع الشركة في الخُلَّة فقيل: إنَّ الخُلَّةَ لا تَحْتمل التعدُّد لأنَّه من الخِلال بمعنى الوسط ولا يَحُل في الوسط إلا واحدٌ بخلافِ المحبة، فإنَّه يَصْلُحُ من المتعدِّد، أقول: وليس كذلك لما في القرآن: {الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 67) فَدَلَّ على أنَّها أيضًا تكونُ من المتعدد، فالأحب إليَّ أنْ لا يستمد فيه من اللُّغة، ويقال: إنَّه أراد من الخُلَّةِ، خُلَّة تَخْتَصُ بين العَبْدِ والمعبود، ولا تكون بين العبدِ والعبد، على أَنَّه لا حرج في اختصاصه عند إرادةِ الاختصاص باللَّهِ سبحانه، وإنْ كان مُشْتَرَكَا في النَّاس فالخُلَّة وإنْ أمكن مع الآخرين، لكنَّه أراد أن يتخذ اللَّهُ خليلا فقط وحينئذٍ ينحصر فيه لا محالةَ بحسب إرَادتِهِ لا باعتبارِ اللغة، والناسُ بصدد بيان معنى يَخْتَص بحضرةِ الحقِّ ولا يكون له اشتراكٌ في الناس، فَفَرَّقوا بين الخَلِيْل والحبيب، والكل في غير موضعه؛ والوجه ما بَيَّنا.
وحاصله: أنَّه لا حاجةَ إلى إيجادِ الاختِصَاصِ في الخُلَّةِ من حَاقِّ لفظه بل الاختصاص من تلقاءِ إرادةِ المتكَلِّم كاف، وجاز إرادةُ الاختِصَاصِ فيما كانت الحقيقة مشتركة وإذن هو تابع لإِرادتِهِ.
466 - قوله: (لكن أُخوة الإسلام) قامت مقام الخُلَّةِ الآن.
قوله: (لا يَبْقَيَنَّ)... إلخ. وفي حديث قوي الإِسناد «أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلّمأَمَرَ بسدِّ الأبوابِ غير باب علي رضي الله عنه» وحكم عليه ابن الجوزي بالوضع ولم يُسَلِّمه الحافظ، ونَقَل عن الطَّحاوي من «مشكلِهِ» أنَّ هذين الحديثين محولان على الوقتين، فكان الأمر أوَّلا كما في الحديث المار ثم أمر بسد باب عليّ رضي الله عنه أيضًا وصار الأمر كما في حديث الباب.(2/211)
وحاصلهُ: أن استثناء باب عليّ رضي الله عنه متقدم، واستثناء خَوْخَة أبي بكر رضي الله عنه في مرض وفاتِهِ صلى الله عليه وسلّموقد مرَّ أنَّ استثناءَ باب عليّ رضي الله عنه كان لاِخْتِصَاصِهِ ببعضِ أحكام المسجد، كالمرور في المسجد جنبًا، وقد مَرَّ أَنَّ موسى وهرون عليهما الصَّلاة والسَّلام أيضًا كانا مُخْتَصَّيْن ببعضِ الأحكامِ، وقال النَّبي صلى الله عليه وسلّم «أنت مني بمنزلة هرون من موسى»، وقد مرَّ تقريره مبسوطًا، قال العلماء: إنَّ القِبْلَةَ إذا تحولت نحو الجنوب صارَ بابُ المسجد نحو الشِّمَال وكانت في جهتي الشرق والغرب خوخات، فَأَمَرَ النَّبي صلى الله عليه وسلّمبِغَلْقِهَا أيضًا غير خَوْخَة أبي بكر رضي الله عنه إشارة إلى خلافتِهِ لحاجته إليها في دخوله المسجد وصلاتِهِ بالنَّاسِ، والأبواب تكون للإيابِ والذهاب، فبقي البابُ الذي كان في جهة الشمال للإِياب والذهاب، وسُدَّت الخَوْخَات وسائر الأبواب كلُّها، فإنْ قلت: ما معنى قوله إلا بابَ أبي بكر، مع أنَّه كان قد سد أوّلا فلم يكن هناك باب ليسد؟ قلت: المراد بالباب الخَوْخَة كما قرَّره الحافظ.
باب الأَبْوَابِ وَالغَلَقِ لِلكَعْبَةِ وَالمَسَاجِد
وأثر ابن عباس.
قوله: (الغلق) ترجمته روك يعني قفل يا بلائي ياجتخنى.
قوله: (لو رأيت مساجد ابن عباس)... إلخ مناسب للجُزْءِ الأول ولا ذِكْرَ فيه للغَلْق فلا حاجةَ إلى إيجادِ التكلفات، ثم إنَّ ابنَ عباس سكن في مواضع عديدة فلا تَعْجب من تعدُّد مساجده.
باب دُخُولِ المُشْرِكِ المَسْجِد
وأشار المصنِّف إلى موافقةِ الحنفية، وقد مَرَّ الكلامُ فيه في باب عَرَق الجنب مبسوطًا ونَذْكُر ههنا بعض أشياء.(2/212)
فاعلم أنَّه يجوز دخول المشرك عندنا في جميع المساجد المسجد الحرام وغيره سواء، وجوزه الشافعية رحمهم الله تعالى إلا في المسجد الحرام، وَمَنَعَهُ مالك رحمه الله تعالى مطلقًا وأَخَذَ بالحُكم والتعليل، ونعني بالحكم قوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (التوبة: 28) وبالتعليل قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} والمُرادُ من أَخْذِ التعليل اعتباره وإجراءه في سائر المساجد، والشافعية رحمهم الله تعالى أخذوا بالحُكْمِ دون عُموم التعليل، والحنفية لم يَأْخذوا شيئًا منهما. قلت: وفي «السِيَرِ الكبير» لمحمد رحمه الله تعالى أَنَّ دُخولَ المشرك لا يجوز في المسجد الحرام كمذهب الشافعية رحمهم الله تعالى وهو الذي ينبغي أنْ يُخْتَار، فإنه أَوْفَق بالقرآن وأَقْرَب إلى الأئمة؛ ثمَّ المرادُ بِعَدَمِ القُرْبِ عدم الطواف لأنَّ الآيةَ نَزَلت لِمَنْع الطَّواف كما يُعْلَم مِنْ نِدِاءِ عليّ رضي الله عنه أنَّه لا يحج بعد العام مُشْرِك، ولا يَطُوف بالبيت عُرْيَان، ولا عِبْرة بعموم اللفظ كما في قوله تعالى: {فلا تقربوهن} حيث لم يذهب أحد إلى عمومه فهو مِنْ بابِ إقامةِ المراتب في المسمى، وقد مرَّ تقريرُهُ في المقدمة وإجراؤه في مواضِعَ كثيرة من تقريرِنا، هذا وههنا بحث آخر وهو أَنَّ الحُكْم إذا كان خاصًا والتعليل عامًا فهل يعم الحُكْم بعموم التعليل؟ فذهب جماعة إلى أَنَّ الحُكم يدورُ على النُّطْقِ ويَثْبُت الحُكْم فيما وراءه بالقياس، وقال جَمَاعة: إنَّ التعليلَ إذا كان عامًا فما وراء المنطوق أيضًا يكونُ داخلا في المَنْصُوصِ والنَّظر الأَوَّل يفيدُنا شيئًا، وقد يَخْطُر بالبال أنَّ قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}... الآية جزء العِلَّة، والجُزْء الآخر منها أنهم يَدْخلون في المسجد الحرام زاعمين أنَّه من حقهم وحقّ آبائِهم بخلافِ المساجد الأخرى، فإنَّها بناها أهل الإِسلام فلا يرون فيها حقًا،(2/213)
فنهاهم الله أن يَدْخلوا فيه، وصدع أَنْ لا حقَّ لهم فيه كما في سائر المساجد، وإنَّما المساجد لله، وحينئذٍ حكم عدم القُرب يَتَفَرَّع على هذا المجموع، وذا لا يوجد إلا في المسجِد الحرام، فلا يكون الحُكم إلا عليه، ويَبْقَى سائر المساجد خارجة عنه.
بقي البحث في أنَّ التَّعْلِيل بجُزْء العِلَّة يجوز أم لا؟ فصرح الغَزَالي أنَّه يجوز، فلو كان التَّعليل بالجُزْء جائزًا لخرجنا عن عُهدة النَّص رأسًا برأس. قلت: والفْصَلُ فيه أَنَّ الإِضافةَ على العِلَّة إن لم يَسْتَوْجِب رِكَّة في النَّص فهو جائزٌ وإلا فمحل تردد.
فإن قلت: إذا كانت العِلَّة مجموعُ الأمرين فَلِمَ اقتصر على أحدِهما؟ قلت: لا بأس بالاقْتِصَارِ على الأدخل منهما، وأهل العُرف لا يراعون الطَّرْد والعكس، بل يَذْكرون ما يكون أدخل في الحكم، والأدخل ههنا كونهم مشركين، أما كونهم داخلين بالدَّعْوَى والزعم المذكور، فهو وإنْ كان مؤثِّرًا أيضًا لكنَّه دونَه فَحَذَفَه اعتمادًا، ثُمَّ أقول إنَّ تسميتَه بِتَخْصِيص العِلَّة أولى من التعليل بالجُزْء، وتَخْصِيص العِلَّة جائزٌ، وهذا كله بَحْثٌ مني فليحرر على الأصول. ولك أَنْ تقول إنَّ الآيةَ مجمَلة فلحق نداء عليّ رضي الله عنه بيانًا لها، وذلك لأنَّهم قالوا: إنَّ الإجمال إنَّما يأتي إما من جهة غَرَابَة اللفظ أو ازدحام المعاني، وليس ههنا واحدٌ منهما، نعم إنْ كان الإِجمال بحسب مرادِ المتكلم أيضًا فذلك هو المراد ههنا، كمال قال الحنفية في آيةِ المسيح إنها مجملة، وأنت تعلم أَنْ لا إجمال فيها إلا بحسب مرادِ المتكلم. أما أن مراد المتكلم هل يجب أن يُساوي مدلول اللفظ، فقد بسطناه في المقدمة.
باب رَفعِ الصَّوْتِ فِي المَسَاجِد(2/214)
وفي «المرقاة» أَنَّ الجهرَ في المسجد ولو بالذكر حرام، ونَقَل عن مالك رحمه الله أنَّ احترام النَّبي صلى الله عليه وسلّمبعد وفاته أيضًا كما كان في حياته.
وفي البيهقي عن أنس وصححه ووافقه الحافظ في المجلد السادس «أنَّ الأنبياء أحياءٌ في قبورهم يصلون». أَشْكَل عليهم مراده، فإنَّ الروح نفسها حياة لا فناء لها سواء كانت رُوح الكافر أو المؤمن، فالأرواحُ كلها أحياء، فما معنى كون الأنبياء أحياء؟ فاعلم أنَّ تلك الأحاديث لم تَرِد في بيان حياة نفس الرُّوح ومدتها، لأنَّ حياتَها مفروغة عنها بل في تعطلها عن الأفعال وعدمه، وحينئذٍ معناه أن أَرْوَاح الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام ليست بمعطلة عن العبادات الطيبة والأفعال المباركة، بل هم مشغولون في قبورهم أيضًا كما كانوا مشغولين حين حياتهم في صلاةٍ وحج، وكذلك حال تابعيهم على قدر المَرَاتِب بخلاف من كان مُعطَّلا عنها في حياته، فإنَّه يكون معطَّلا في قبره أيضًا {وَمَن كَانَ فِى هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْخِرَةِ أَعْمَى} وإلى هذا أشار بقوله: يُصلون، فَذَكَر لهم عبادة ليُنبه على معنى حياتِهم فهم يُصلُّون ويحجون في قبورهم، ويفعلون أفعال الأحياء، فهم أحياء بهذا المعنى، وهذا عُرف عام يقال للمعطَّل عن الأفعال إنه ميت وإنْ كان حيًا، فَعُلِم أَنَّ أَصْلَ الحياة عبارة عن أفعالها، وحقيقة الموت (عبارة) عن التعطُّل عنها. على وزان قولهم: إنَّ العِلْمَ حياة، والجهلَ موت، ومن ههنا انحل حديثٌ آخر رواه أبو داود في رد رُوْحِه صلى الله عليه وسلّمحين يُسَلَّم عليه صلى الله عليه وسلّم ليس معناه أَنَّه يَردُ روحه أي أنه يَحيى في قبره، بل تَوجُّهُه من ذلك الجانب إلى هذا الجانب، فهو صلى الله عليه وسلّمحي في كلتا الحالتين بمعنى أنَّه لم يطرأ عليه التعطُّل قَط، لكنَّه كان مستهلِكًا في التوجه إلى حضرة الربوبية، فإِذا سُلِّم عليه رُدَّ عليه روحه بمعنى شَغَلَهُ بذلك(2/215)
الجانب الذي كان معطَّلا عنه قَبْلَه.
ثم الحياة فيها مراتب لا يعدها عاد ولا يحصيها محصىٍ، فحياةُ الأنبياء أعلى وأتم، وحياةُ الصحابة دونَها ثُمَّ، وثم بخلاف الكافِر، فإنَّهُ مَيْت في قبره بمعنى أنَّه معطَّل عن جميع الخيرات، ليس له غير الويل والثُبور لا بمعنى فناءِ روحِهِ ولذا قال تعالى: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى} (الأعلى: 13) أمَّا أَنَّهم لا يموتون، فلأن الأرواحَ لا فَنَاءَ لها ولا موت، وأمَّا عدمُ حياتِهِم فلانْتِفَاءِ أفعالِ الأحياء عنهم، وأَفْعَالُ الأحياء هي الخيرات والحسنات، دون الفسق والفجور، كما في الأحاديث: «إن الذكر حياة، والذاكر حي، والغافل عنه ميت»، وروى الدَّيْلَمِي أن النبي صلى الله عليه وسلّمأَنْشَد مرة قول القائل:
*ليس مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ ** إنَّمَا المَيّتُ مَيتُ الأحياءِ وما تتصرف الأرواح الخبيثة مِنَ الأفعالِ الخبيثة فلا يُسمى أفعال الحياة، وليست تلك إلا أشياء البركة، ولذا قررتُ فيما مرَّ أَنَّ قوله: «لا تتخذوها قبورًا» محمولٌ على الحس، وهو أيضًا نحو من الواقع أو يقال: إنَّه باعتبار حال العوام وإلا فَحَال الخواص قد عَلِمْتَه أنَّهم يُصَلُّون ويحجون، فقبورُهم معمورة عن العبادة فلا معنى للنهي.
والحاصل: أنَّ الحياة في حديث البيهقي إنَّما هي باعتبار الأفعال، ولذا كلما ذُكِرَ في الأحاديث حياة أحد ذُكِرَ معه فعل من أفعاله أيضًا، ليكون دليلا على وجه الحياة، أما حياة نَفْسِ الرُّوح فهي بمعزل عن النَّظر.
باب الحِلَقِ وَالجُلُوسِ فِي المَسْجِد
إنَّما نهى عن الحِلق يومَ الجمعة لئلا يَضيق الطريق على المارين، فلو كان المسجد وسيعًا جاز.(2/216)
472 - قوله: (وهو على المنبر) والعَجَب أَنَّ الحديثَ رُوِيَ على المِنْبَر ولا يَرويه غير ابنِ عمر رضي الله عنه وكان يتبادر إلى الذِّهن أَنْ يرويه غيرُ واحد منهم، ويدخل فيه المسألتان:
الأولى: أفضلية المثنى أو الرُّباع، والثانية: مسألة الوتر.
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله في الأُوْلى: إن الرباع أفضل في المَلَوَيْن. وقال الشافعي رحمه الله: المَثْنَى أفضل فيهما، وقال صاحباه: الرُّباع في النَّهار، والمَثْنَى في الليل، وهو الأقوى حديثًا. واستدل الشافعية رحمهم الله بحديث الباب، وأجاب عنه الشيخ ابن الهُمام رحمه الله وقال: إنَّ مثنى معدول مِنَ اثنين فصارَ بالتكرار أربعًا وهو مذهب الحنفية.
قلتُ: قد صرَّح الزَّمْخَشَري في «الفائِق» أن مَثْنَى ههنا مجرد عن معنى التَّكْرَار ومعناه اثنين فقط، ولذا احتيج إلى تَكْرِيره، على أنَّ ما ذكره الشيخ وإنْ كان نافعًا في مسألةِ التَّطوعِ لكنَّه يضرنا في مسألة الوتْرِ جدًا، وغفل عنه الشيخ رحمه الله وهو أَنَّ صلاةَ الليل إذا كانت أربعًا فبإيتارها بواحدة يحصل الوتر خمس ركعات، بخلاف ما إذا كانت مَثنى فإنها بعد الإِيتار تَحْصُل ثلاثَ رَكعات، وهي ركعات الوِتْر عندنا، ولعلَّ الشيخ زعم أنَّ الحديثَ هذا القَدْر فقط «صلاةُ الليل مَثْنَى مثنى»، وهكذا رَواه بعض الرواة أيضًا كما روى الآخرون القِطْعَة الأخيرة فقط: «الوتر ركعة من آخر الليل»، فَأَوْهَم أنَّهما حديثان مستقلان، فَحَمَل الشيخُ القِطعة الأُوْلى على مذهبه في التَّطوع، وحَمَل الشافعيةُ رحمهم الله تعالى الثانيةَ على مَذْهبهم في الوِتْرِ مع أنَّ الحديثَ واحدٌ فَصَلَهُ بعض منهم، وهاتان قِطْعتان مختصرتان من المُطَوَّل لا أَنَّهما حديثان، فبناء المسألتين يَنْبَغِي أَنْ يكونَ على المُطوَّل على أنَّه سئل عنه ابن عمر رضي الله عنه عند مُسْلِم ما مَثْنَى؟ فَفَسَّرَه أَنْ تُسَلِّم في كلِّ رَكعتين.(2/217)
فالجواب: ما ذكره ابنُ دقيق العيد أَنَّ الجمهور وإنْ حَمَلَهُ على بيان الأفضل، لكنَّه يَحْتَمِل أَنْ يكون للإِرشاد إلى الأخف، إذِ السَّلام بين كلِّ رَكتين أَخفُّ على المُصلِّي من الأربع فما فوقها، لما فيه من الرَّاحة غالبًا، وقضاءِ ما يَعْرِض من أمرهم.
قلتُ: وما أَدَّاه ابنُ دقيق العيد احتمالا هو المراد عندي، وحاصله: أَنَّ للمصلِّي حالان.
الأول: أَنْ تكونَ لَهُ وظيفةٌ راتبةٌ من ابتداء الأمر بأنَّه يُصلِّي كذا من الرَّكعات مثلا.
والثاني: أنْ لا يكون كذلَك، بل كان الأمر إليه كيفما شاء، تَدَّرَج من الأقل إلى ما شاء الله.
فالحديث إنْ كان واردًا على الاعتبار الأوَّلِ دل على مطلوبية المَثْنَى البتة، لأنَّه يكونُ حينئذٍ تعليمًا مِنْ جانبِ الشارع لأداءِ وظيفتِهِ كيف يُصَلِّيها، فعلَّمه أَنَّه يصليها مَثْنَى مَثْنَى ويتبادر منه استحبابه، وإنْ حملناه على الاعتبار الثاني فلا يدل على الاستحباب أصلا بل يكون بناءً على أَنَّ مَثْنَى أَقلُّ صلاةِ الليل، ولذا كرره ليدُل على أنَّ ذلك إليه مهما جاء بِشَفْع ثم جاء بشفع آخر تدرجًا على انتظارِ الصبح فعل، ولذا شَرَع مِنَ الأقلِّ لأنَّه قد لا يجد إلا مَثْنى مرةً، وإذا لم تَتَعيَّن وظيفة، ولا أَعطاه الشارع عددًا معينًا من عنده، بل تَرَكَهُ على قَدْر طاقته وفُسْحَةِ وقته جاءَ التَّعبيرُ هكذا، فظهر أَنَّ التصدير بالمَثْنَى ليس لكونِهِ مطلوبًا بل بناءً على الأقلِّ لأنَّه لا يَعْلَم أَنَّه كم يُدْرِك فَإِنَّما الأمرُ فيه إلى المُصَلِّي كيف شاء صَلَى، وجاء يزيد شيئًا فشيئًا حتى إذا هَجَمَ عليه الصبح أو أَرَادَ النوم يُوتِر بواحدة، وبعبارة أُخْرى أنَّ الشيءَ قد يُذْكَر لاعتبارهِ في نفسه، وقد يُذْكر لا لاعتباره في نفسه بل لِدَفْعِ إيهام المضرَّة عند ذكر جانب مخالفِهِ.(2/218)
وذِكْر المَثْنَى من قبيل الثاني لا مِنْ قبِيل الأوَّل ليدُل على اعتبارِهِ واستحبابه، وذلك لأنَّه لو ذَكَرَ الأربع لأوهم أنَّه الراجح، وربما أمكن أَنْ لا يكونَ مقصودًا لأنَّه واقعٌ في الوسط، وترك الأول والتنزل إلى الوسط يَحْتَاج إلى نُكتة قطعًا، بخلاف ما إذا بُدِىءَ بالمبدأ والأقل، فإنَّه على الأصل غير محتاج إلى نُكْتة، لأنَّ البدايةَ بالمبدأ طريقٌ معروف، كتعريف المبتدأ وتنكيرِ الخبر ولا سيما إذا كان ذِكْرُه جَرَى تبعًا فقط، لأنَّ الحديث على ما يَظْهر سِيق لبيان صفة إيتار صلاة الليل بالواحدة كما هو مصرح في لفظِ مسلم: «أنَّ سائلا سأله فقال: يا رسول الله كيف أُوتِر صلاةَ الليل؟ فَجَعَل السؤالَ في الإِيتار لا في صلاةِ الليل، فقال: «من صلَّى صلاةَ اللَّيلِ فليصلِّ مَثْنَى مَثْنَى... إلخ. وكأنَّه كان يَعْلَم صلاةَ الليلِ والوترِ من قَبْل، وإنَّما أُبْهِم عليه كيفية إيتارها، هل يُوتر في الأوَّل أو الآخِر أم كيف يفعل؟ فأَرْشَدَه إلى أَنَّه يُوْتِر في الآخِر، ويكونُ بذلك موترًا لجميع صلاةِ الليل. وفَهِمَ الحافظُ رحمه الله تعالى أَنَّ سؤاله عن صلاةِ الليل وعددها خاصة، فَأَرْشَده النَّبي صلى الله عليه وسلّمإلى أَنَّهَا مَثْنَى مَثْنَى ولا يكونُ إذن ذكره إلا قصديًا ويتبادر منه استحبابه لا محَالَة؛ وإذ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ السؤال لم يَقَع عن صلاةِ اللَّيل نفسِهَا بل عن إيتارِهَا، تَبَيَّن لك أَنَّ ذِكْرَ المَثْنَى تمهيدٌ لقوله: «فإذا خَشِي أَحدكم الصُّبْحَ فليوتر بواحدة»، لا أنه مقصودٌ، فلا يَتِمُّ ما رامه الحافظُ، ولذا لمَّا سُئِلَ أبو داود عن صلاةِ الليل، قال: إن شِئْتَ مَثْنَى وإنْ شِئْتَ أربعًا. كذا في سننه من باب صلاة النَّهار.
(2/219)
وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما في تفسير المثنى يخالفهُ ما رواه الترمذي في تفسيره مرفوعًا «من التخشّع في الصلاة مَثْنى مثنى تشهد في كل رَكعتين» إلا أنَّ في المسند أنَّه قال في جواب سائل صلاة الليل: «مثنى مثنى تسلم في كل ركعتين» فَجَعَل التفسير بالسَّلام مرفوعًا، وفيه تردد لأنَّه عند الأَكْثَرِ موقوف فلعله مُدْرَج، وكذلك في حديث التخشع زيادة: «وتَشْهَد وتُسلم في كلِّ ركعتين». والحديث إنْ كان مِنْ مُسْنَد الفضل بن عباس كما صوَّبه البخاري فليس فيه التقييد بصلاةِ الليل ولا زيادة السَّلام، وإنْ كان من مُسند المطلب ففيه ذلك، وقد أَخْرَجَه في المُسْنَد عن مسنديهما كليهما، وهذا كلام في صلاة الليل ما الأفضل فيها مثنى أو رباع.
بقيت مسألة الوتر، فاعلم أنَّ الشافعية حَمَلوا قوله: «صلِّي رَكعة واحدة توتر له» على الفَصْل. فالوتر ركعة واحدة. قلت أوّلا: قال ابنُ الصَّلاح: إنَّه لم يثبت منه صلى الله عليه وسلّمالاقتصارَ على واحدة، ولا يُعْلَم في روايات الوتر مع كَثْرَتِهَا أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أوْتَر بواحدةٍ فحسب، كذا في «التلخيص» وتعقبه الحافظ رحمه الله تعالى بما ليس بشيء، وإذن حَمْلُه على الإيتار بالواحدة حمل على مسائلهم، والذي يتحصل بعد المُرَاجَعَة إلى جميع الألفاظِ أنَّه نحو تعبير وأداء ملحظ فقط لا بيان مسألة الفَصْل والوَصْل فليراعه النَّاظر، فإنَّ الرَّاوي قد يُؤدي طرفًا من الكلام ويحمله آخر على طرف آخر، فيفقد مراده، ويكونُ من باب توجيه القائِل بما لا يَرْضَى بِهِ قائله.(2/220)
ألا تَرى أنَّ عائشةَ رضي الله عنها تروي الإِيتار بالوَاحدة وهي التي تصرح بأنَّه لم يكن يُسَلِّم بين رَكعتي الوتر، فهل تَرَاهَا تُناقض قولها، أو تلك تفنن في العبارات، وطرقٌ في العد والحسبان، فأرَادَت تارةً أنْ تَدل على أنَّ الإيتار في الحقيقةِ إنَّمَا تتقوم بالواحدة وإنْ كانت رَكعات الوتر ثلاثًا بدون السَّلام بينهن، إلا أنَّ صِفَة الإيتار إنَّما حَصَلت فيها من جهة الواحدة الأخيرة، وهذا أمرٌ بديهي يَعْلمه البُله والصبيان، أنَّ الإيتار لا يَحْصُل إلا بِهَا فلم تَتَعرض فيه إلى مَسْأَلةِ الفصل والوصل، والسَّلام وعدمه، وإنَّما أَرَادَت أنَّ صلاة الليلِ إذا كانت مَثْنَى مَثْنَى فكيف صارت وِتْرًا، فَدلَّت على أنَّ الواحدة الأخيرة هي التي تَتَقوم بها صفة الإيتار فهي موترة، وأَوْهَمت عبارتُها الفَصْلَ بالسَّلام ولم يكن مرادها.
ولذا انحلت ثلاث الوتر إلى شفع ووتر، لأنَّ الوترَ في الحقيقة هي الواحدة بمعنى أنَّ صفةَ الإيتار في مثناه إنَّما جاءت من قِبَلِ تلك الواحدة، وأرادت تارة أنْ تُقَسم صلاةَ الليل إلى حِصَص لإظهار الوَقْفَة في البين كأربع أربع، أو بين صلاةِ الليل والوتر، وإذن كان محط كلامها إفراز حِصة حصةٍ لا بيان الشَّفْعية والوتْرِيَّة كما كان في الصورة الأولى، فلم تحل الوتر إلى جزءين. وقالت: يُصلِّي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن» إلى أن قالت: «ثم يصلِّي بِثلاث»، ونزلت تارة على التصريح بِمَسْأَلة السَّلام فصدعت أنَّه لم يكن يُسلم في رَكعتي الوتر كما عند النَّسَائي، فوقعَ الأمر أنَّه كما رَجَحَت كفة طاشت الأخرى فليعتبره.(2/221)
ثم اعلم أنَّ الأصل الذي لا محيد عنه أَنَّ أمرَ الفصل والوصل يدور على وَحْدة الصَّلاة وتعددها، وهو يدور على تسميتها باسم مُخْتَص، والوتر عندنا اسم لثلاث رَكَعَات بسلام واحد، وجَعْل الشَّفْع السابق من الوتر مع الفصل بِسَلام لا يَرْجِع إلى حقيقة، فإنَّ مَنْ فَصَلَ وسلَّم فقد أَوْتَر في الحقيقة بركعة واحدة، وإطلاقُ الوترِ على ثلاث ركعات على هذا التقدير مجرد اعتبار ذهني، لأنَّ حال هذا الشَّفع حينئذٍ كحال الشفعات قبله لا فَرْقَ بينه وبيٌّها، فإنْ ثبت أنَّ الوتر عبارة عن ثلاثِ رَكَعَات لَزِمَ أَنْ تكون تلك الواحدة موصولة بشفعها، لأنَّها لو كانت مفصولة كانت هي الوتر ولا يبقى لها علاقة مع الشَّفع الذي قبلها.
اللهم إلا باعتبار الذهن، وإنْ ثَبَتَ اأنَّه عبارة عن رَكعة وَجَبَ أنْ تكون مفصولة قطعًا فإنَّها هي الصَّلاة المعتبرة الموسومة باسم مُسْتَقِلَ على هذا التقدير، فلا معنى لاعتبار الشُّفْعَة السابقة معها، وعليه يدور حديث «مِفْتَاح الصَّلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير وتحليلها التسلم». يعني أنَّ الصَّلاةَ الواحدةِ تكون لها تحريمة تَدْخُل بها فيها، وتحليلا تخرج عنها، فإذا كَبَّرْتَ فقد دخلت في الصَّلاة، وإذا سلَّمْتَ فقد خرجتِ منها، فإذا كانت الصَّلاة واحدة تكون تحريمتها وتحليلها أيضًا كذلك، لا أنَّها تَبْقَى واحدة، ولو سَلَّمْتَ في خلالها فالصَّلاة الواحدة لا تَتَحمل إلا تسليمة واحدة كما لا تَتَحمَّل إلا تحريمة كذلك، وحينئذٍ لو سَلصمتَ فِي ركعتي الوتر لا تكون المجموع صلاة واحدة، فَأَمْر الفصل والوصل يبْني على وحدة الصَّلاة، لا على هذه التعبيرات التي جاءت على ملاحظ مختلفة.
(2/222)
وإذن حديث: «إذا خَشَى أحدكُم الصُّبْح صلى رَكعة واحدة توتر له ما قد صلى»، على شاكلةَ ما عندَ الطَّحاوي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «مَنْ أَدْرَكَ من صلاةِ الغداة رَكْعة قبل أنْ تَطْلَعَ الشمس فليصلّ إليها أخرى». فهل ترى تلك الرَّكعة مفصولة أو موصولة فكما أنَّ تلك الرَّكعة موصولة لأنَّها اعتُبرت جزءًا من صلاة الغَداة وهي صلاة واحدة مُسَمَّاة باسم منفرد، كذلك الركعة في قوله: «صلى رَكعة واحدة» موصولة مع الشَّفْع الذي قبله لكونها جزءًا لصَلاةٍ واحدة مسمَّاة باسم الوتر، وهو ثلاث رَكعات عندنا.
وإنَّما أوردناه نظيرًا على معناهُ المشهور، وإلا فالأمْرُ عندي ليس كما زعموه، وفيه كلامٌ طويل ذكرته في موضعه، وما يدلك على كَوْنِ الثَّلاث صلاة واحدة تَمَيزُهَا بالقراءة مِنْ صَلاةِ الليل، والصَّلاة الواحدة المفردةِ بالاسم المتميزة بالقراء لا يُعرف فيها الفصل، فعند الترمذي وغيره عن ابنِ عباس رضي الله عنهما «كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّميقرأ في التر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، في رَكعة رَكعة» اه.(2/223)
ثُمَّ الشَّارع إذا لم يُعْطِ لهذه الواحدة ما يَخْتَص بها مِنْ طريقة، ولم يَذْكُر لها تحريمة على حِدَةٍ نجعلها مما قبلها ونَصِلها بها مشيًا على لفظه متى أردنا الانصراف، ولا نزيد سلامًا من عندنا لأنَّه أَمَرَنَا عند إرادة الانصراف أنْ نوتر بواحدة فلا نَزَيد عليِ شيئًا مِنَ الصَّلام، بل نقوم كما نحن بدون سلام، ولا نعدها صلاة على حِدَة، بل ندعها على حال التَتِمّة من الشَّفَع الذي قبله إلا الأشفاع السابقة قد فُصِلت قبل هذه الإرادة بخلاف هذا الشَّفع الأخير وعليه سَنَحت لنا إرادة الانصراف، وعند ذلك أُمِرْنا بالرَّكعة فنكْتَفِي بما أمرنا ونعدها كالتتِمَّة لما سبق، فتكون موصولة لا مَحَالة كما زيد في صلاة الحضر وكانت تتمة موصولَة لا مَفْصُولة، كذلك تلك الرَّكعة كانت كالتتمة فلا نَفْصُلها.(2/224)
والحاصل: أنَّه أبرز الواحدة على حِدة فِي العبارة فقط لا على الفَصلِ فِي العمل، وإنما لم يقل: فليوتر بثلاث من أول الأمر، لأنَّ له مكنة أَنْ يوتر بواحدة، أي مثانية شاء فله أنْ يوتر مثناه الأول أو الثاني إلى غير ذلك، فالمقصود هو الإِيتار فِي الآخرِ، ولا بد أنْ يكونَ هناك موتَرًا - بالفتح - ليوتره وهو الشَّفْع، وإذا كان أقل ما يوتره هو الشَّفْع خَرَجَ أنَّ الوتر ثلاث، وإذا كان صلاة برأسها خَرَجَ أنْ لا تَسْلِيم بينها، بَقِي الأحاديث على تصريح الثَّلاث فكثيرة مسرودة في مواضِعها، وإنما أردنا ههنا أنْ نَتَكَلم على ألفاظِ هذا الحديث فقط، ثم قد يتخايل أنَّ الحديثَ يُخالف وجوبَ الوتِر لأنَّه إذا جَاءَ يُصَلِّي مَثْنَى مَثْنَى فإذا بلغ إلى المَثْنَى الأخيرة وهَجَم الصُّبْحِ، يزيد رَكعة واحدة أخرى على نص الحديثِ، ويكون ذلك وترًا لهُ مَعَ أنَّهُ لم يَنْوِ إلا تطوعًا، فإمَّا وهَجَم الصُّبْح، يزيدَ رَكعة واحدة أخرى على نص الحديثِ، ويكون ذلك وترًا لَهُ مَع أَنَّهُ لَمْ يَنوِ إلا تطوَعَا، فإمَّا يلزم أنْ تكونَ هذه مثل صلاة الليل فِي النِّية فينحَط الوتر عن رُتبته، أو تَتَرَقَى صلاةُ الليل عَنْ رُتبتها.
(2/225)
قلتُ: إنَّما عَلَّمَهُ الشارع بهذا الحديث مسألةُ إيتار صلاةِ الليل واختتامها ب، أمَّا مسألة النِّية فكما سلكته الشريعة في سائر الصَّلوات لم يُعْطِ فيها تفصيلا في هذا الحديث، والنِّية عبارة عندهم عن إرادةِ إدخال المسمُّى في الوجود مثلا: أُصلي الوتر أو الظُّهر أو العصرِ، أمَّا كونه فرضًا أو واجِبَاٍ فأمرٌ يَلْحَقُه مِنْ خارج، وليس داخلا في نفسة النِّية، فإذا سَمَّت الشريعةُ صلاةً باسم على حِدَة وبيَّنت صفتها وهيأتا وميَّزَتْهَا عن سائرِ الصَّلوات كفى له في أمرِ النِّية إدخالها في الوجود فقط ناويًا مسمَّى ذلك الاسم، وهو الذي أراده الفقهاء من قولهم: والشَّرط أنْ يَعْلَم بقلبه أي صلاة يُصلِّي، فهذا القَدْر هو المعتبر عندَهُم في النِّية، وإنَّما عَلَّم الشارعُ هذا السائلَ أنَّ وِتْرَه يَتَضَمَّن شَفْعَا ووترًا. والمجموعُ وتره ليكون على علم منه في مستقبل الزمانِ، وليكون على أهبة مِنْ أمْرِهِ قَبْلَ هجوم الصُّبْ عليه، فهو يُصلِّي صلاةَ اللَّيل وينوي في آخرها ما قد تَعلَّمه وحَفِظَه وترًا في الهيأة مَنْ أوَّل الأمر، وهذا يَكْفِي في أمر النِّيةِ أي كفاية.
وأمَّا فَرْض أَنَّهُ فَرْض أَنَّهُ يُصلَّي ذَاهِلا عَنْ أَمْرِ والتر فإِذَا هَجَمَ الصُبح ولم يَبْقَ إلا مِقْدَارَ رَكعة بادَر إلى والتر، فَهَذَا فَرْض لا يقع في العمر مرة فخشية الصبح وإدراكه المُصلي طريقة بيان فقط، ونحو التعبير يأتي في تعليم من لا يَعْلم هكذا إلا أنَّهُ يُجزيه كذلك كل يوم فِي عُمْرِهِ ويستعمله طُول دَهْرِهِ.(2/226)
472 - قوله: (واجعلوا آخر صلاتِكم)... إلخ على اللَّغة الصَّرْفَة، ولم يرد بالوتر الصَّلاة المعهودة المُتَمَيرة باسمِ على حِدَة، وإلا لَقَالَ اجعلوا الوتر آخِر صلاتِكُمْ، والأمرُ فيهِ على الاستحبابِ لا على الوجوبِ، فهوَ لَتَحْصِيلِ فضيلة الإِيتار في الآخر، وإنَّ الله وتر يحبُ الوتر، وَحَمَلَهُ بعضُهم على ظاهره حتى ثال بنقضِ الوتر، فَمَنْ كانَ لأتر في أول الليل. ثم استقيظَ فِي آخره وبدا له أَنْ يُصلِّي صلاةَ الليلِ، عليه أَنْ يَنْقُضَ وِتْره برَكْعة ثم يُتر في آخرِ صلاتَهُ لأجل هذا الحديثِ. وقد عَلِمت أنَّ الآخِريَّة مطلوبة لكن لا بحيثُ يُوجب نَقْض المُؤَدَّى، وكذلك لا يذهب وَهَلَك إلى أنَّ الوتر لمحض محبة الإِيتار وليست صلاة بَرَأْسِهَا، فإذا لم تجب صلاةُ الليلِ كيف تجب الوتر لأَنَّهَا صارت صلاة برأسها أيضًا، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلّم «إنَّ الله أَمَدَّكم بصلاةٍ هي خير لكم منن حُمْر النِّعم» وأَمَرَ غير واحد منالصحابةِ أنْ يُصلُّوها بعد العشاءِ إذا لم يثقوا بالانتباه في آخرِ الليل، فدلَّ على أنَّهَا صلاة مستقلة كوتر النَّهَارِ وهي صلاةُ المغرب، وإنَّما اشتبه الأمرُ ولم يَتَمَيَّز إذا كانت فِي آخرِ صلاة الليل وعُدَّت من سلسلتها، وأما إذا نُقلت إلى أول الليل تميزت عن غيرِهَا كما تميزت بإِفراد قرابتها ورَكَعاتها وقضائها.
باب الاِسْتِلقَاءِ فِي المَسْجِدِ، وَمَدِّ الرِّجْل
وإنَّما نهى عنه لِمَخَافَةِ الانكشاف إذا لم يَتَحفَّظ أمره، فإن كان متيقظًا متحفظًا لحاله جاز، ومِنْ عَلِمَتَ أنَّ الحكم في الشريعة قد يَرِدُ على علة ولا سجب تحققها في كلِّ فَرْدٍ، نعم يجب في الجنسِ أو النَّوعِ المنضبط، وقد يَنْقَسِم الحُكم على العِلَّةِ كَمَا تَرَى ههنا في الاستلقاء.
(2/227)
باب المَسْجِدِ يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ غَيرِ ضَرَرٍ بالنَّاس
يعني إذا بَنَى أحد مسجدًا في طريق ومَمَرِّ النَّاس ولم يكُن منهُ ضررًا لأحد جاز، وضَيَّقَ فيه فقهاؤنا إلا عند إذن الوالي أو القاضي كما في إحياء الموات. قلتُ: والأقربُ عندي أنْ يقسم على الحالات، فإنْ ظَهَرَت فيهِ مماكسةِ مِنَ النَّاسِ يَنْبَغِي أنْ يتوقف على الإذن وإلا لا، وهذا أيضًا مِنَ الأشياء التي لا يَنْبَغِي إدْخَالُهَا في الفِقْهِ، وقد نَبَّهتكَ على أنَّ مَنَ لا يَدْخُل تحت مسائِلِهم ويصح، ويجري على طريق المروة.
فالحاصل: أَنَّ المسائلَ قد تَخْتَلِف باعتبارِ عادات البلدان أيضًا أيضًا فلينظره أيضًا.
حكاية: كَتَبَ الشاه ولي الله رحمه الله تعالى في ترجمة ميرزا الهروي وكان والده تلميذًا للهروي، فَذَكَر أنَّ الهروي كان قاضيًا في بلدة آكره فصنع للشاه عبد الرحيم رحمه الله تعالى طعامًا، وكان شهر رمضان فَحَضر وقت الإفطَار، فَسَمِعَ صوت رجلٍ يبيع الكَبَاب فدعاه واشْتَرَى منهكَبَابَا، فقال له الشاه عبد الرحيم رحمه الله تعالى: إنَّهُ بَاعَ منك بأنقص من ثمنه المعروفِ، فلمَّا نظر فيه الهروي عَلِمَ أنَّه كذلك، فلمَّا سأله قال له: إنَّما فعلته رجاء أنْ تُرَاعِي في حُكْمِك، فإنَّ قطعة من دُكَّاني كانت نحو الطريقِ، فأَمَرْتَ بهدمها، فراعيت معك في الثمن لعلك تراعي في حُكْمِكَ أيضًا، فقال لَهُ الهروي: ويلك لقد أفْسَدت علينا صومنا من رشوتك هذه.
قلت: فهذه ديانة أهل المَعْقُول في الزمان الماضي ولن تَرَ مثلها اليوم ممن كان مُحدِّثًا أو فقيهًا فيا أسفًا كيف انقلب الزمان ظهرًا لبطنَ والله تعالى هو المستعان.
باب الصَّلاةِ فِي مَسْجِدِ السُّوق
وهذا ناظر إلى كونِ الأسواقِ شَرُّ البقاع، وهل يَحْصُل فيه تضعيف الأجر وثواب الجماعة أوّ لا.(2/228)
قوله: (وصلَّى ابن عون) وقد مَرَّ مني في «شرح المُنية» أَنَّ الم2لِّي في البيت مَعَ الجماعةِ لا يُعد تاركًا، لها نعم يُفوت عنه فضل الجماعة.
477 - قوله: (صلاته في سوقه) وظَنِّي أنَّ الحديث سِيقَ بناءً على عادَتِهم في عَهْدِ النُّبوة مِنْ أَنَّ المساجدَ لم تكْنِ في أسواقِهم، فإِذَا كانت أسواقُهم خالية عن المساجد لا تكونُ صلاتُهم فيها إلا منفَرِدين وعلى هذا يُقَابِل صلاةُ الجميع بصلاتِهِ في صوقِهِ بناءً على أنَّه منفرد في سُوقِهِ كما في البيت وليس مِنْ بابِ تَقَابل الجماعة بالجماعة في السُّوقِ، نَعَم لو فُرِضَ أنَّ أحدًا بَنَى مسجدًا في السوق ماذا يكون حكمه؟ فجوابه على قواعد الشريعة أنَّه يَصيرُ مسجدًا ويَحْصُل فيه ثواب الجماعة، وحينئذٍ ترجمته ليست مستفادة من الحديث.(2/229)
ثم علم أنَّ صلاةَ الجماعة واحدةٌ بالعددِ عندنا، لا صلوات بعدد من فيها كما هي في العرف والعادة وعليه قوله صلى الله عليه وسلّم «أعجبني أنْ تكونَ صلاة المسلمين أو المؤمنين واحدة» وعليه قوله تعالى: {إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (الجمعة: 9) فصلاة الجماعة مفردة لا تثنية ولا جمع، وإنما يحللون إليها حيث دعت إليه حاجة، ولذا قال: صلاة الجميع ولم يقل صلوات الجميع وهي عند الشافعية رحمهم الله تعالى عبارة عن الصلوات المجتمعة في المكان الواحد مع وظيفة كلٍ على حِدَة، فالمقتدرون كلُّهم أمراء أنفسهم وكل على حيالهم، وإنَّما يتبعون الإمام في الأفعال فقط حتى إنَّ فَسَادَ صلاة الإِمام لا يَسْرِي إلى صلاتهم، فهذا هو حقيقة الجماعة عندهم. إذا علمت هذا فاعلم أنَّ حديث: «لا صلاة..» إلخ لا يَصلُح أن يُحْنَج به على قراءة المقتدي، لأنَّه لا يدل إلا على فاتحة واحدة في صلاة واحدة، وقد قلنا به، فإِنَّ قلنا به، فَإِنَّ صلاة الجماعة صلاة واحدة بالعدد في نظر الشريعة، وحيئنذٍ لا تجب صلاة واحدة، وقد قلنا به، فإِنَّ صلاة الجماعة صلاة واحدة بالعدد في نظر الشريعة، وحينئذٍ لا تجب فيها إلا فاتحة واحدة وقد كَفَاها الإِمام. وسيجىء الكلام في موضعه.
477 - قوله: (خمسًا وعشرين) وجَمَعَ الحافظُ رحمه الله تعالى بين خمس وعشرين وسبع وعشرين بحمل الأوَّل على السِّريَّة، والثاني على الجهرِيَّة، ثم دار البحث في أَنَّ الفضل المذكور بين المنفرد وبين المصلي بالجماعة، وبين المسجد والبيت، فأقام الشيخ تقي الدين ههنا بحثًا أصوليًا وقال: إنَّ قوله «فإِنَّ أحدَكُم...» إلخ علة منصوصة فلا يجوز إلغاؤها، وحينئذٍ يَختَص تضعيف الأجر بمن أتاها من البعد فلا يحصل التضعيف لمن صلى في بيته بالجماعة.
(2/230)
قلتُ: وهذه الأشياء وإنْ كانت دَخِيلة في التضعيف لكنَّها ليست مناطًا له، فإِنَّ الحديث إنَّما وَرَدَ على عُرْفِهم فإِنَّهم إذا طَعِموا في إدْرَاكِ الجَمَاعة لم يكونوا يُصلُّونَها في البيوت، وكانوا يَذْهبون إلى المساجد فإِنْ فاتتهم الجماعة صلُّوها في البيوت فجماعتهم لم تَكُن إلا في المسجد، ولم تَكُن في البيت إلا الصَّلاة منفردًا، وقد تغير العُرف فِي زماننا فجَعَل بعضُ المترفهين يَجْمَعُون في بيوتهم وليس الحديث على هذا العُرف، وبالجملة ينبغي للمجتهدِ أنْ يُدير التضعيف وعدمه على الاجتماع والانفراد دونَ المسجد، والبيت، وكذلك ورد في الحديث وضوءهم على عادتهم في الإِتيان إلى المساجد، لكونِهِ مناطًا حتى إذا لم يأتِ مِنْ مكانهِ متوضئًا أَوْ أَتَى من مكانٍ قريب أو صَلَّى في بيتهِ بالجماعة أَدْرَك هذا الأجر فليخرج المناط وليحترز عن المشي على القواعد فقط.
ثم الحديث إنما سيق لبيان الفَرْقِ بين حال الانفراد والاجتماع، أمَّا إذا كانت الجماعة قليلة والأخرى كثيرة، فإنَّ الثانية للفضل على الأولى بعدد مَنْ فيها، كذا في أبي داود، والعَجَب من بَعْضِ الشَّافعية حيث تمسكوا من حديث الباب على نية الجماعة بأنه إذا كان لِصَلاةِ المنفردِ أجرًا واحدًا دلَّ على اعتبارِهَا وعدم القصور فيها عند صاحبِ الشَّرع، وإنَّما الجماعةُ لمعنى الفضل لا غير، أقول: ذكر أجر المنفرد جرى في ذيل الحساب لا لما فَهِمُوا وليحذر عن الاستدلال بما يُذْكَر في الحسابِ والتشبيهات، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلّمعند الترمذي «في كلِّ أربعين درهمًا درهم»، هل ذَهَبَ أحدٌ إلى إيجابِ درهم واحد في أربعين؟ وذلك لأنَّه ذُكِر لبيان الحساب فقط لا لبيان النِّصاب، فالخمسة في المائتين بحساب دِرْهَم في كل أربعين، فالأحكام والمسائل عند ذوي الألبابِ تُؤْخَذُ من الخطاب لا مما ورد في صَدَر الحساب.h(2/231)
477 - قوله: (ما دَامَ في مجلسه) أي لانتظار صلاةِ أخرى أو لتلك الصَّلاة، وقد وَرَدَ عن السَّلف بالنحوين.
88 - باب تشْبِيكِ الأَصَابِعِ فِي المَسْجِدِ وَغَيرِهِ
وما نهَى عنه إلا لأَنَّهخ هيئة قبيحة، ونَهَى عنه في أبي داود عند إتيانِهِ إلى المسجدِ لكونِهِ في الصَّلاةِ حُكْمَا، فإِذَا كان لمعنىً صحيح كما فعله النَّبي صلى الله عليه وسلّملتمثيل الفتن والهَرْجِ والمَرْجِ فهو جائز، وبالجملة أن التشبيك بدون حاجةٍ ممنوع خارج المسجد أيضًا، وأمَّا من حاجة فجائز في المسجد أيضًا.
فائدة
ورأيت عن سُفيان الثَّوري أَنَّ المحدِّثين قد كَثروا اليوم، فلو كان فيهم خيرًا لذهبوا كما ذهب سائر الخيرات.
حديث ذي اليدين.
482 - قوله: (إلى خشبة معروضة) أي واقع في جانب العَرْض، قيل هي الأُسطوانة الحنَّانة، وفي «مسند الدَّاري»: أنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلّملمَّا التزمها وسَكَت صغى إليها وقال: «إني كنت خيرتها بين أَنْ أردها إلى مكانها أو أنْ يأكل منها عباد الله في الآخِرة فاختارَت الآخرة». والمرادُ بأكلِ عباد الله منها في الآخرة عندي أن تُدفن في رياض الجنة لأنَّها عندي قِطعةِ مِنَ الجنَّةِ بدون تأويل، فكانت دُفنت جانب القِبلة عَرْضَا ولعلها كانت تُرَى إذ ذاك شاخصة، قال القاضي: وكانت هذه الأسطوانة هي الحنانة يعني بعد ما دفنت كانت مرئية إذ ذاك شيئًا منها، ووضِع المنبر يوم دفنت الحنانة.
وعندي روايات عديدة تدل على تقدم المِنبرَ على البدر بكثير، فتعين أنْ تكون هذه الواقعة قَبْلَ نَسْخِ الكلام.
482 - قوله: (يقال له ذو اليدين) والنَّاس كانوا يَدْعُونَه بذي الشمالين، وإنَّما غَيَّره النَّبي صلى الله عليه وسلّموسلَّم وقال له ذو اليدين.(2/232)
482 - قوله: (ول أَنْسَ ولم تُقْصَرِ) أي على ما في ظَنِّي، وهذا غير رَاجع إلى مَذْهَبِ الجاحظ وأوضحه التَّفْتَازَاني فراجعه، واعلم أنَّ أبا هريرة أَنَّه لم يَكُنْ شريكًا في هذه الاقعة لأنَّه جاء في السَّنَة السَّابِعَة وهذه الواقعة قَبْلَ بَدْرٍ، وما يدلك على أنَّهخ لم يَحْضُر تلك الواقعة ما أَخْرَجَه الطَّحاوي عن ابنِ عمر رضي الله عنه بإِسناد قوي أنَّهُ ذَكَر لَهُ حديث ذي اليدين فقال: «كان إسلام أبي هريرة بعدما قُتِلَ ذو اليدين». ورواتهُ كلهم ثقات إلا العمري فإنَّهم تَكَلَّموا فيه، لكَنْ صرَّح ابنُ مَعِين أنَّهخ ثقة في نافع، وأمَّا ما رواه أبو هريرة «صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّموسلَّم» فمعناه معاشِرَ المسلمين ولا يُريد به نفسه، ومثل هذه الإضافات وَقَعَتْ في القُرآنِ والحديثِ فلا بُعْدَ فيه قال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا}... الآية (البقرة: 72) يعني آباؤكم أيها اليهود فَنَسَب فعلهم إلى المخاطبين، وَكَمَا قال طَاوس: قَدِمَ علينا مُعَاذ بنُ جبل أي قَدِمَ بلدَنا، لأنَّ طاوسًا لم يكُن ولا حين قَدِمَ مُعاذ في اليمين، فإنَّ قُلْتَ: وهذا في صيغةِ الجمع سائغ، أمَّا في صيغة المُتَكَلمفلا يُنْسَب ما فعله آباؤك إليك بصيغة المفرد المُخَاطب، فلا يقال في الآية المذكورة إذْ قَتْلَ أَنْتَ أيها الفلان لأنَّهِ يَقْتَضِي إنتساب الفعل إليه حقيقة، والغَرَضُ أَنَّه لا يكون له فاعلا مع أَنَّه ورد عند مُسْلِم «بينا أَنَا أُصليِّ» بصيغة الإفراد فلا تَجْرِي فيه التأويل المذكور.
(2/233)