"""""" صفحة رقم 267 """"""
ومنهم من قال : ( ( القرشية ) ) .
وقيل : انها فراسيةٌ بالنسب ، قرشية بالحلف ، كانت تحت معبد بن المقداد بن الأسود .
وفي الحديث : دليل على أن النبي ( كان يمكث في المسجد بعد تسليمه من الصلاة يسيراً ، وإنما كان يمكث بعد إقباله على الناس بوجهه ، لا يمكث مستقبلاً للقبلة ، وبهذا يجمع بين هذا الحديث والأحاديث المذكورة في الباب الماضي .
ويدل على أنه كان يجلس قبل انصرافه يسيراً : ما خَّرجه مسلمٌ من حديث البراء بن عازبٍ ، قال : رمقت الصلاة مع النبي ( ، فوجدت قيامه ، فركعته ، فاعتداله بعد ركوعه ، فسجدته ، فجلسته بين السجدتين ، فسجدته ، فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريباً من السواء .
فهذا الحديث : صريحٌ في أنه كان يجلس بعد تسليمه قريباً من قدر ركوعه أو سجوده أو جلوسه بين السجدتين ، ثم ينصرف بعد ذلك .
وخرّج مسلمٌ - أيضاً - من حديث عائشة ، قالت : كان النبي ( إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول : ( ( اللهم ، أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت ذا الجلال والاكرام ) ) .
وقد سأل أبو داود الإمام أحمد عن تفسير حديث عائشة ، وهل المعنى : أنه يجلس في مقعده حتى ينحرف ؟ قال : لا أدري .
فتوقف : هل المراد جلوسه مستقبل القبلة يسيراً ؟(5/267)
"""""" صفحة رقم 268 """"""
قال : وقال أبو يحيى الناقد : صليت خلف أبي عبد الله - يعني : أحمد - ، فكان إذا سلم من الصلاة لبث هنيةً ، ثم ينحرف . قال : فظننته يقول ما روي عن النبي ( .
فحكى القاضي في كراهة جلوس الإمام مستقبل القبلة بعد سلامه يسيراً روايتين عن أحمد .
والمنصوص عن أحمد في تكبير أيام التشريق : أن الإمام يكبر مستقبل القبلة قبل أن ينحرف ، وحكاه عن النخعي .
قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفرٍ : والعمل على ذلك .
وهذا يدل على أنه يستحب اليسير للإمام قبل انحرافه .
ومن المتأخرين من أصحابنا من قال : إنما يكبر الإمام بعد استقباله للناس ، واستدلوا فيه بحديثٍ مرفوعٍ ، لا يصح إسناده .
والمنقول عن السلف يدل على أن الإمام ينحرف عقب سلامه ، ثم يجلس إن شاء .
روى عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) عن معمرٍ ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعودٍ ، قال : إذا سلم الإمام فليقم ولينحرف عن مجلسه . قلت : يجزئه ينحرف عن مجلسه ويستقبل القبلة ؟ قال : الانحراف يغرب أو يشرق ، عن غير واحدٍ .
وكان المسئول معمراً . والله أعلم .
وروى - أيضاً - بإسناده ، عن مجاهدٍ ، قال : ليس من السنة أن يقعد(5/268)
"""""" صفحة رقم 269 """"""
حتى يقوم ، ثم يقعد بعد إن شاء .
وعن سعيد بن جبيرٍ ، أنه كان يفعله .
وعن عطاءٍ ، قال : قد كان يجلس الإمام بعد ما يسلم - وأقول أنا : التسليم : الانصراف - قدر ما ينتعل نعليه .
وعن عبيدة ، أنه قال لما سمع مصعباً يكبر ويهلل بعد صلاته مستقبل القبلة : ماله ، قاتله الله ، نعار بالبدع .
ويستثنى من ذلك : الجلوس بعد الفجر ، فإنه لو جلس الإمام بعد استقباله الناس إلى أن تطلع الشمس كان حسناً .
ففي ( ( صحيح مسلم ) ) عن جابر بن سمرة ، أن النبي ( كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس ، فإذا طلعت قام .
وروى وكيعٌ بإسناده ، عن النخعي ، أنه كان إذا سلم قام ، إلا الفجر والعصر . فقيل له في ذلك ؟ فقالَ : ليس بعدهما صلاة .
قالَ أحمد - في الإمام إذا صلى يقوم الفجر أو العصر - : أعجب إلي أن ينحرف ، ولا يقوم من موضعه .
وكان أحمد إذا صلى بالناس الصبح جلس حتى تطلع الشمس .
فأما جلوسه بعد الظهر ، فقال أحمد : لا يعجبني .
قال القاضي أبو يعلى : ظاهر كلامه : أنه يستحب بعد الصلاة التي لا يتطوع بعدها ، ولا يستحب بعد غيرها .(5/269)
"""""" صفحة رقم 270 """"""
قال : وروى الخلالُ بإسناده ، عن عابدٍ الطائيَّ ، قال : كانوا يكر هونَ جلوسَ الإمام في مصلاهُ بعد صلاةٍ يصلي بعدها ، فإذا كانت صلاةٌ لا يصلى بعدها فإن شاءَ قامَ ، وإن شاءَ جلسَ .
وحكي عن أصحاب الشافعيَّ : أن المستحب للإمامِ أن يقومَ ولا يجلسَ في كل الصلواتِ .
وقد نصَّ الشافعيَّ في ( ( المختصر ) ) على أنه يستحبَُ للإمامِ أن يقومَ عقبَ سلامهِ إذا لم سكن خلفهَ نساءٌ .
فأما المأموم فلا يكره له الجلوسُ بعدَ الصلا ة في مكانه ، يذكرُ اللهَ ، حصوصاً بعد الصبحِ والعصرِ ، ولا نعلمُ في ذلك خلافاً .
وقد صحَ الحديثُ في أن الملائكةَ تصليَّ على العبدِ ما دامَ في مصلاه ، ما لم يحدثُ ، وقد سبق ذكرهُ ، ووردت أحاديثُ في الجلوسِ بعد الصبحِ والعصرِ ، وكان السلفُ الصالحُ يحافظونَ عليه .
ومتى أطال الإمامُ الجلوس في مصلاهُ ، فإن للمأمومِ ان ينصرفَ ويتركه ، وسواءٌ كان جلوسهُ مكروهاً أو غير مكروهٍ .
قال ابنُ مسعودٍ : إذا فرغَ الإمامُ ولم يقم ولم ينحرفُ ، وكانت لك حاجةٌ فاذهب ودعه ، فقد تمتَّ صلاتك .
خرجه عبد الرزاقِ .
وذكر بإسناده عن عطاء ، قال : كلامهُ بمنزلةِ قيامه ، فإن تكلم فليقم المأمومُ إن شاءَ .(5/270)
"""""" صفحة رقم 271 """"""
وإن لم يطل الإمام الجلوس ، فالسنة أن لا يقوم المأموم حتى يقوم الإمام ، كذا قال الزهري والحسن وقتادة وغيرهم .
وقال الزهري : إنما جعل الإمام ليؤتم به .
يشير إلى أن مشروعية الاقتداء به لا تنقطع إلا بانصرافه .
وفي ( ( صحيح مسلمٍ ) ) عن أنس ، عن النبي ( ، قال : ( ( أيها الناس ، إني إمامكم ، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف ) ) .
وحديث أم سلمة المخرج في هذا الباب يدل عليه ، فإن النبي ( كان يجلس يسيراً حتى ينصرف النساء ، فلا يختلط بهن الرجال ، وهذا يدل على أن الرجال كانوا يجلسون معه ، فلا ينصرفون إلا مع انصرافه .
وقد روي ذلك صريحاً في هذا الحديث :
خَّرجه البخاري فيما بعد من رواية يونس ، عن ابن شهاب ، ولفظه : إن النساء كن إذا سلمن من الصلاة قمن وثبت رسول الله ( ومن معه من الرجال ما شاء الله ، فإذا قام رسول الله ( قام الرجال .
وفي هذا الحديث : دليل على أن النبي ( لم يكن يدعو بعد فراغ صلاته دعاء عاما للمأمومين ، فإنه لو كان كذلك لاشترك في حضوره الرجال والنساء ، كما أمر بشهود النساء العيدين حتى الحيض ، وقال : ( ( يشهدن الخير ودعوة المسلمين ) ) ، فلو كان عقبٌ الصلاة دعاء عام لشهده النساء مع الرجال - أيضاً .
وقال الشافعي في ( ( الأم ) ) : فإن قام الإمام قبل ذلك ، أو جلس أطول من(5/271)
"""""" صفحة رقم 272 """"""
ذلك ، فلا شيء عليه . قال : وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمام السلام قبل قيام الإمام ، وتأخيره حتى ينصرف بعد انصراف الإمام أو معه أحب إلي .
وظاهر كلام كثير من السلف : كراهة ذلك ، كما تقدم .
وفي ( ( تهذيب المدونة ) ) للمالكية ، ولا يقيم الإمام في مصلاه إذا سلم ، إلا أن يكون في سفرٍ أو فنائه ، وإن شاء تنحى وأقام .(5/272)
"""""" صفحة رقم 273 """"""
8 - باب
من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم
851 - حدثنا محمد بن عبيد : ثنا عيسى بن يونس ، عن عمر بن سعيد : أخبرني ابن أبي مليكة ، عن عقبة ، قال : صليت وراء رسول الله ( بالمدينة العصر ، فسلم ، ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلي بعض حجر نسائه ، ففزع الناس من سرعته ، فخرج عليهم ، فرأى أنهم عجبوا من سرعته ، فقال : ( ( ذكرت شيئاً من تبرٍ عندنا ، فكرهت أن يحبسني ، فأمرت بقسمته ) ) .
فيه : دليل على أن الإسراع بالقيام عقب السلام من غير تمهلٍ لم يكن من عادة النبي ( ، ولهذا تعجبوا من سرعته في هذه المرة ، وعلم منهم ذلك ، فلذلك أعلمهم بعذره .
وفيخ : دليلٌ على أن التخطي للإمام لحاجةٍ جائزٌ ، وإن كان بعد فراغه من الصلاة ، كما له أن يتخطى الصفوف في حال دخوله - أيضاً - ، وأما غيره ، فيكره له ذلك .
وظاهر كلام أحمد أنه يكره للإمام - أيضاً .
قال إسحاق بن هانئٍ : سألت أبا عبد الله عن الرجل يصلي بالقوم ، فإذا فرغ من الصلاة خرج من بين رجلين ، أفهو متخطً ؟ قال : نعم ، وأحب إلى أن يتنحى عن القبلة قليلاً حتى ينصرف النساء ، فإن خرج مع الحائط فهذا ليس بمتخط .
وظاهر هذا : كراهةٌ تخطيهم للإمام ، وقد يكون مراده : إذا لم يكن له حاجة تدعوه إلى ذلك .(5/273)
"""""" صفحة رقم 274 """"""
والتبر : هو قطع الذهب قبل أن يضرب .
والظاهر : أنه كان من مال الصدقة أو غيرها من الأموال التي يجب قسمتها على المساكين ونحوهم .
وقد خَّرجه البخاري في موضعٍ آخر ، وذكر فيه : أنه كان تبراً من الصدقة ، وقال : ( ( كرهت أن أبيته ، فقسمته ) ) .(5/274)
"""""" صفحة رقم 275 """"""
9 - باب
الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال
وكان أنسٌ ينفتل عن يمينه وعن يساره ، ويعيب على من يتوخى - أو يعمد - الانفتال عن يمينه .
الانفتال : هو الانحراف عن جهة القبلة إلى الجهة التي يجلس اليها الإمام بعد انحرافه ، كما سبق ذكره .
وحكمه : حكم الانصراف بالقيام نم محل الصلاة .
وقد نص عليه إسحاق وغيره .
وقد ذكر البخاري ، عن أنسٍ ، أنه كان ينفتل عن يمينه ويساره ، ويعيب على من يتوخى الانفتال عن يمينه - يعني : يتحراه ويقصده .
وفي ( ( مسند الإمام أحمد ) ) من رواية أبي الأوبر الحارثي ، عن أبي هريرة ، قال : كان النبي ( ينفتل عن يمينه وشماله .
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيبٍ ، عن أبيه ، عن
جده ، قال : رأيت النبي ( ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة .
وفي رواية للإمام أحمد : ( ( ينصرف ) ) بدل : ( ( ينفتل ) ) .
وخرج مسلمٌ في هذا الباب حديث البراء بن عازب ، قال : كنا إذا صلينا خلف رسول الله ( أحببنا أن نكون عن يمينه فيقبل علينا بوجهه .(5/275)
"""""" صفحة رقم 276 """"""
وخرّجه من روايةٍ أخرى ليس فيها : ( ( ثم يقبل علينا بوجهه ) ) .
ولكن روي تفسير هذه اللفظة بالبداءة بالتفاته إلى جهة اليمين بالسلام .
خرّجه الإسماعيلي في ( ( حديث مسعرٍ من جمعه ) ) ، ولفظه : كان يعجبنا أن نصلي مما يلي يمين رسول الله ( ، لأنه كان يبدأ بالسلام عن يمينه .
وفي رواية أخرى له : أنه كان يبدأ بمن علي يمينه ، فيسلم عليه .
قال أبو داود : كان أبو عبدالله - يعني : أحمد - ينحرف عن يمينه .
قال ابن منصورٍ : كان أحمد يقعد ناحية اليسرى ، ويتساند .
قال القاضي أبو يعلى : وهما متفقان ؛ لأنه إذا انحرف عن يمينه حصل جلوسه ناحية يساره .
قال : وقال ابن أبي حاتمٍ : سمعت يقول : تدبرت الاحاديث التي رويت في إستقبال النبي ( الناس بوجهه ، فوجدت انحرافه عن يمينه أثبت .
وقال ابن بطة من أصحابنا : يجلس عن يسرة القبلة .
ونقل حربٌ ، عن إسحاق ، أنه كان يخير في ذلك كالانصراف .
وللشافعية وجهان : أحدهما : التخيير كقول إسحاق . والثاني : أن الانفتال عن يمينه أفضل .
ثم لهم في كيفيته وجهان :
أحدهما - وحكوه عن أبي حنيفة - : أنه يدخل يمينه في المحراب ويساره إلى
الناس ، ويجلس على يمين المحراب .
والثاني - وهو أصح عند البغوي وغيره - : بالعكس .(5/276)
"""""" صفحة رقم 277 """"""
واستدلوا له بحديث البراء بن عازبٍ الذي خَّرجه مسلمٌ .
وأما الانصراف : فهو قيام المصلي وذهابه من موضع صلاته إلى حاجته ، فيذهب حيث كانت حاجته ، سواءٌ كانت من وجهة اليمين أو اليسار ، ولا يستحب له أن يقصد جهة اليمين مع حاجته إلى غيرها ، هذا قول جمهور العلماء ، وروي عن علي وابن مسعود وابن عمر والنخعي وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق .
وإنما كان أكثر انصراف النبي ( عن يساره ؛ لأن بيوته كانت من جهة اليسار .
وقد خَّرجه الإمام أحمد مصرحاً بذلك من رواية ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه ، أن ابن مسعودٍ حدثه ، أن النَّبيّ ( كانَ عامةً ما ينصرف من الصَّلاة على يساره إلى الحجرات .
فإن لم يكن له حاجةٌ في جهةٍ من الجهات ، فقال الشافعي وكثيرٌ من أصحابنا : انصرافه إلى اليمين أفضل ، فإن النبي ( كان يعجبه التيمن في شأنه كله .
وحمل بعضهم على ذلك حديث السدي ، قال : سألت أنساً : كيف أنصرف إذا صليت عن يميني أو عن يساري ؟ فقال : أما أنا فأكثر ما رأيت النبي ( ينصرف عن يمينه .
خرّجه مسلمٌ .
والسدي ، هو : إسماعيل بن عبد الرحمن ، وقد تكلم فيه غير واحدٍ ،(5/277)
"""""" صفحة رقم 278 """"""
ووثقه أحمد وغيره . وعن يحيى فيه روايتان .
ولم يخرج له البخاري ، وأظنه ذكر هاهنا الأثر الذي علقه عن أنسٍ ليعلل به هذا الذي رواه عنه السدي . والله أعلم .
وحكى ابن عبد البر ، عن الحسن وطائفة من العلماء : أن الانصراف عن اليمين أفضل .
وقد حكاه ابن عمر عن فلانٍ ، وأنكره عليه ، ولعله يريد به ابن عباسٍ - رضي الله عنهما .
وسئل عطاءٌ : أيهما يستحب ؟ قال : سواءٌ ، ولم يفرق بين أن يكون له حاجة ، أو لا .
وخرّج الإمام أحمد والنسائي من حديث عائشة . أن النبي ( كان ينصرف عن يمينه وشماله .
وهو من رواية بقية ، عن الزبيدي ، أن مكحولاً حدثه ، إن مسروق بن الاجدع حدثه ، عن عائشة .
وهذا إسنادٌ جيدٌ .
لكن رواه عبد الله بن سالمٍ الحمصي - وهو ثقةٌ ثبتٌ - ، عن الزبيدي ، عن سليمان بن موسى ، عن مكحولٍ بهذا الإسناد .
قالَ الدارقطني : وقوله أشبه بالصواب .
وسليمان بن موسى ، مختلفٌ في أمره .
وروى قبيصة بن الهلب ، عن أبيه ، قالَ : كانَ رسول الله ( يؤمنا ،(5/278)
"""""" صفحة رقم 279 """"""
فينصرف على جانبيه جميعاً ، عن يمينه وشماله .
خَّرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي .
وقال : حديثٌ حسنٌ ، وعليه العمل عندَ أهل العلم .
قالَ وصح الأمران عن النَّبيّ ( .(5/279)
"""""" صفحة رقم 280 """"""
0 - باب
ما جاء في الثوم النئ والبصل والكراث
وقول النبي ( : ( ( من أكل الثوم والبصل ، من الجوع أو غيره ، فلا يقربن مسجدنا ) ) .
خرّج فيه : عن ابن عمر ، وجابر ، وأنسٍ :
فاما حديث ابن عمر :
فقال :
853 - ثنا مسددٌ : ثنا يحيى ، عن عبيد الله : حدثني نافعٌ ، عن ابن عمر ، أن النبي ( قال - في غزوة خيبر - : ( ( من أكل من هذه الشجرة - يعني : الثوم - فلا يقربن مسجدنا ) ) .
وخَّرجه مسلم ، ولفظه : ( ( فلا يقربن المساجد ) ) .
وهذا صريحٌ بعموم المساجد ، والسياق يدل عليه ؛ فإنه لم يكن بخيبر مسجد بني للنبي ( ، إنما كان يصلي بالناس في موضع نزوله منها .
وقد روي ، أنه أتخذ بها مسجداً ، والظاهر : أنه نصب احجاراً في مكان ، فكان يصلي بالناس فيه ، ثم قد نهى من أكل الثوم عن قربان موضع صلاتهم .
يدل عليه : ما خَّرجه مسلمٌ من حديث أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، قال : لم نعد أن فتحت خيبر ، فوقعنا أصحاب رسول الله ( في تلك البقلة الثوم ،(5/280)
"""""" صفحة رقم 281 """"""
والناس جياعٌ ، فاكلنا منها أكلاً شديداً ، فوجد رسول الله ( الريح ، فقال : ( ( من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئاً فلا يقربنا في المسجد ) ) ، فقال الناس : حرمت ، حرمت . فبلغ ذلك
النبي ( ، فقال : ( ( يأيها الناس ، إنه ليس بي تحريم ما أحل الله ، ولكنها شجرةٌ أكره ريحها ) ) .
وخرّج الإمام أحمد من حديث معقل بن يسار ، قال : كنا مع النبي ( في مسيرٍ له ، فنزلنا في مكان كثير الثوم ، وإن أناساً من المسلمين أصابوا منه ، ثم جاءوا إلى المصلى يصلون مع النبي ( ، فنهاهم عنها ، صم جاءوا بعد ذلك إلى المصلى ، فوجد ريحها
منهم ، فقال : ( ( من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا في مسجدنا ) ) .
وأما حديث جابرٍ ، فمن طريقين :
أحدهما :
854 - حدثنا عبد الله بن محمد : ثنا أبو عاصمٍ : أنا ابن جريجٍ : أخبرني عطاءٌ ، قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : قال النبي ( : ( ( من أكل من هذه الشجرة - يريد : الثوم - فلا يغشانا في مساجدنا ) ) .
قلت : ما يعنى به ؟ قال : ما أراه يعني إلا نيئه .
وقال مخلد بن يزيد ، عن ابن جريجٍ : إلا نتنه .
وهذه الرواية - أيضاً - صريحة بعموم المساجد ، والمسئول والمجيب لعله عطاءٌ وفي أبي عاصم .
( ( نيئه ) ) ، بالهمز ، ويقال بالتشديد بدون همزة ، والمراد به : ما ليس بمطبوخٍ ، فإنه قد ورد في المطبوخ رخصةٌ ، لزوال بعض ريحه بالطبخ .(5/281)
"""""" صفحة رقم 282 """"""
وقد قال عمر - رضي الله عنه - في خطبته - : إنكم تأكلون شجرتين ، لا أراهما إلا خبيثتين ، هذا البصل والثوم ، لقد رأيت رسول الله ( إذا وجد ريحها من الرجل في المسجد أمر به وأخرج إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخا .
خَّرجه مسلمٌ .
وخرّج أبو داود والنسائي من حديث معاوية بن قرة ، عن أبيه ، أن رسول الله ( نهى عن هاتين الشجرتين ، وقال : ( ( من أكلهما فلا يقربن مسجدنا ) ) وقال : ( ( إن كنتم لابد آكلوهما ، فاميتوهما طبخاً ) ) .
قال : يعني : البصل والثوم .
وقال البخاري - فيما نقله عنه الترمذي في ( ( علله ) ) - : حديثٌ حسنٌ .
وخرّج الطبراني معناه من حديث أنس ، عن النبي ( ، وقال فيه : ( ( فإن كنتم لابد آكلوهما فاقتلوهما بالنار قتلاً ) ) .
وخرّج أبو داود من حديث علي ، قال : نهي عن أكل الثوم ، إلا مطبوخاً .
خَّرجه الترمذي .
ثم خَّرجه - موقوفاً - عن علي ، أنه كره أكله إلا مطبوخاً .(5/282)
"""""" صفحة رقم 283 """"""
وخرّج ابن ماجه من حديث عقبة بن عامر ، أن النبي ( قال لأصحابه : ( ( لا تأكلوا البصل ) ) ، ثم قال كلمة خفية : ( ( النئ ) ) .
وأما رواية مخلد بن يزيد الحراني ، عن ابن جريج ، التي ذكرها البخاري - تعليقاً - ، فمعناها : نتن ريحه ، ولأجلها كره دخول المسجد لآكله .
وخرّج مسلم حديث جابر هذا من رواية يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، ولفظه : ( ( من أكل من هذه البقلة : الثوم ) ) - وقال مرةٍ - : ( ( من أكل من البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا ، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم ) ) .
وخرّج معناه من حديث أبي الزبير ، عن جابر - أيضاً .
وخرّج مسلم - أيضاً - من حديث الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( قال : ( ( من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا ، ولا يؤذينا بريح الثوم ) ) .
فدل هذا الحديث - مع الذي قبله - على أن علة المنع من قربان المسجد تأذى من يشهده من المؤمنين والملائكة بالرائحة الكريهة .
وفي عامة هذه الأحاديث : تسمية الثوم شجرةً .
قال الخطابي : فيه أنه جعل الثوم من جملة الشجر ، والعامة انما يسمون الشجر ما كان له ساق يحمل أغصانه دون غيره .(5/283)
"""""" صفحة رقم 284 """"""
وعند العرب : أن كل ما بقيت له أرومة في الأرض تخلف ما قطع فهو شجر ، وما لا أرومة له فهو نجمٌ ، فالقطن شجرٌ ، يبقى في كثير من البلدان سنين ، وكذلك الباذنجان ، فأما اليقطين والريحان ونحوهما فليس بشجر ، فلو حلف رجل على شيء من الأشجار فالاعتبار من جهة الاسم والحقيقة على له ذكرت ، وفي العرف ما تعارفه الناس . انتهى .
وأما قوله تعالى : ( وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ( [ الصافات : 146 ] ، فلا يرد على ذكره ؛ فإنها شجرة مقيدة بكونها من يقطين ، وكلامه إنما هوَ في اطلاق اسم
الشجر .
وقد اختلف أصحابنا الفقهاء فيما يتكرر حمله من أصول الخضروات ونحوهما : هل هو ملتحق بالشجر ، أو بالزرع ؟ وفيه وجهان ، ينبني عليهما مسائل متعددة ، قد ذكرناها في ( ( كتاب القواعد في الفقه ) ) .
الطريق الثاني :
855 - ثنا سعيد بن عفير : ثنا ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب : زعم عطاء ، أن جابر بن عبد الله زعم ، أن النبي ( قال : ( ( من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا - أو قال : فلعتزل مسجدنا - ، وليقعد في بيته ) ) .
وأن النبي ( أتى بقدر فيه خضروات من بقول ، فوجد لها ريحا ، فسأل ، فأخبر بما فيها من البقول ، فقال : ( ( قربوها ) ) - الي بعض أصحابه كان معه - ، فلما رأه كره أكلها . قال : ( ( كل ، فإني أناجي من لا تناجي ) ) .
وقال أحمد بن صالح ، عن ابن وهب : ( ( أُتي بِبَدرٍ ) ) .
قال ابن وهب : يعني : طبقاً فيه خضرواتٌ .
ولم يذكر الليث وأبو صفوان ، عن يونس قصةَ القدرِ ، فلا أدري : هو من(5/284)
"""""" صفحة رقم 285 """"""
قول الزهري ، أو في الحديث ؟
قالَ الخطابي : قول ابن شهاب : ( ( زعم عطاء ، أن جابراً زعمَ ) ) ليس على معنى التهمة لهما ، ولكن لما كان أمراً مختلفاً فيه حكىعنهم بالزعم ، وقد يستعمل فيما يختلف فيه كما يستعمل فيما يرتاب به ، ويقال : في قولِ فلانٍ مزاعمٌ ، إذا لميكن موثوقاً به .
وذكر : أن رواية ( ( القدر ) ) تصحيفٌ ، إنما الصواب ( ( ببدرٍ ) ) وهو الطبق ، كما قاله ابن وهب ، وسمي بدراً لاستدارئه وحسن اتساقه ، تشبيهاً بالقمر .
قال : وإن لم يكن ( ( القدر ) ) تصحيفاً ، فلعله كان مطبوخاً ، ولذلك لم يكره أكله لأصحابه ، ثم بين أن كراهته لا تبلغُ التحريمَ لقوله : ( ( أناجي من لا تناجي ) ) ، يريد : الملك . انتهى .
وخرج ابن جرير الطبري بإسناد فيه ضعفٌ من حديث أبي أيوب الأنصاري ، أن النبي ( قال - لما امتنعَ من أكل الطعام الذي أرسله إليه - : ( ( إن فيها هذه البقلةَ : الثومَ ، وأنا رجلٌ أقربُ الناسَ وأناجيهم ، فأكره أن يجدُوا مني ريحهُ ، ولكن مُر أهلكَ أن يأكلوها ) ) .
وهذه الرواية : تدلُ على أنه كره أكلها لكثرةِ مخالطتهِ للناس وتعليمهم القرآن والعلمَ ، فيستفاد من ذلك : أن من كان على هذه الصفة ، فإنه يكره ذلك من ذلك ما لا يكره لمن لم يكن مثلَ حاله .
ولكن ؛ روى مالكٌ ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن يسار ، قالَ : كانَ
رسول الله ( لا يأكل الثوم ولا البصل ولا الكراث من أجل أن الملائكة تأتيه ، مِن أجل أنه يكلم جبريل عليه السلام .
وهذا مرسلٌ .(5/285)
"""""" صفحة رقم 286 """"""
ولا ينافي التعليلُ بمناجاتِ الملك التعليلَ بمناجاةِ بني آدم ، كما وردً تعليلٌ النهي عن قربانِ أكل الثومِ للمساجد بالعلتين جميعاً ، كما سبق ذكرُه .
وقد ذكر البخاري : أن قصة إتيانه بقدرٍ أو بدرٍ لم يذكرها في هذا إلا ابن وهبٍ عن يونسَ ، وأن الليث بن سعدٍ وأبا صفوان - وهو : عبدُ الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان - رويا عن يونس أول الحديث دون هذه القصةِ الآخرة ، وأن ذلك يوجب التوقفَ في أن هذه القصةَ : هل هي من تمام حديثِ جابرٍ ، أو مدرجةٌ من كلامِ الزهري ؛ فإن الزهريَ كان كثيراً ما يروي الحديث ، ثم يدرجُ فيه أشياءَ ، بعضها مراسيلُ ، وبعضها من رأيه وكلامه .
وقد خرّج البخاري في ( ( الأطعمةِ ) ) الحديث من رواية أبي صفوان ، عن يونس ، مقتصراً على أول الحديثِ .
وخرّج البخاري في ( ( الأطعمةِ ) ) الحديثَ عن أحمد بن صالح ، عن ابن وهب ، وفي حديثه : ( ( ببدر ) ) ، وذكر مخالفة سعيد بن عفيرٍ له ، وأنه قال : ( ( بقدرٍ ) ) .
وأما حديث أنسٍ :
فقال :
856 - حدثنا أبو معمرٍ : ثنا عبدُ الوارثِ ، عن عبد العزيز ، قال : سأل رجلٌ أنساً : ما سمعتَ نبيَ الله ( في الثوم ؟ فقال : قال النبي ( : ( ( من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ، ولا يصلين معنا ) ) .
وخَّرجه في موضع آخر ، وقال : ( ( فلا يقرَبنَّ مسجدنا ) ) .(5/286)
"""""" صفحة رقم 287 """"""
وفي النهي لمن أكلهما عن قربان الناس : دليلٌ على أنه يكره له أن يغشى الناس حتى يذهب ريحها ، ولكن حضوره مجامع الناسِ للصلاةِ والذكر ومجالسته لأهل العلمِ والدين أشد كراهةً من حضوره الأسواق ومجالسته الفساق .
ولهذا في حديث جابر المتقدم : ( ( وليقعد في بيته ) ) .
وفي ( ( صحيح مسلمٍ ) ) من حديث أبي سعيدٍ الخدريَ ، أن رسول الله ( مر على زراعة بصل هو وأصحابه ، فنزلَ ناسٌ منهم ، فأكلوا منه ، ولم يأكل اخرون ، فرحنا إليهِ ، فدعا الذين لم يأكلوا البصلَ ، وأخر الاخرينَ ، حتى ذهب ريحها .
وقد روي عن عمرَ ، أنه قال : من أكل البصل والكراث فلا يأكله عند قراءة القرآن ، ولا عند حضورِ المساجد .
خرّجه عثمان الدارمي في ( ( كتاب الأطعمةِ ) ) .
ومن أغرب ما روي في هذا الباب : ما خَّرجه أبو داود وابن حبان في
( ( صحيحه ) ) من حديث حذيفةَ - بالشكَّ في رفعه - : ( ( من أكل منهذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثاً ) ) .
وهذا مشكوك في رفعه .
وقدرواه جماعةٌ من الثقات ، فوقفوه على حذيفة بغير شك ، وهو الأظهر والله أعلم .
ويحتمل أن في الكلام حذفاً ، تقديره : قالها ثلاثاً . يعني : أنه اعاد هذه(5/287)
"""""" صفحة رقم 288 """"""
الكلمة ثلاث مراتٍ .
وقد دلت أحاديث هذا الباب على أن أكل الثوم غير محرمٍ في الجملة ، وإنما ينهى من أكله عن دخولِ المسجدِ حتى يذهبَ ريحه ، وعلى هذا جمهور العلماءِ .
وذهب إلى تحريمِ أكله طائفةٌ قليلةٌ من أهل الظاهرِ . وروي عن بعض المتقدمين - أيضاً - ، والنصوصُ الصحيحةُ صريحةٌ برد هذا الكلامِ .
وأما كراهةٌ أكل ذلك ، فمن العلماء من كره أكله نيئاً حتى يُطبخ ، منهم : عمر وابن عمر والنخعي ، وهو قول أحمد ، وقال : الثوم أشدُّ .
وروي عنه روايةٌ ، أنه قال : لا أحب أكل الثوم خاصة ، وإن طبخ ، لأنه لا يذهب ريحه إذا طبخ ، قال : وإن أكله من علةٍ فلا بأس ، وقال : الذي يأكلها يتجنب المسجد ، وكل ما له ريحٌ ، مثلُ البصلِ والثومِ والكراثِ والفجلِ فإنما أكرهه لمكانِ الصلاةِ .
وسئل عن أكل ذلك بالليلِ ؟ فقال : أليس يتأذى به الملكُ .
وظاهرُ هذا : يدل على كراهةِ أكل ما له ريحٌ كريهةٌ ، وان كان وحده .
وقد روي عن سعد بن أبي وقاصٍ ، أنه كان إذا اراد أن ياكل الثوم بدا - يعني : خرج إلى البادية .
وعن عكرمة ، قال : كنا نأكله ونخرجُ من الكعبةِ .
خَّرجه ابن جريرٍ الطبريُ .
ولو أكله ، ثم دخل المسجد كُره له ذلكَ .
وظاهر كلامِ أحمد : أنه يحرمُ ، فإنه قال في رواية إسماعيل بن سعيد : إن أكل وحضر المسجدَ أثمَ .(5/288)
"""""" صفحة رقم 289 """"""
وهو قولَ ابن جرير - أيضاً - وأهل الظاهر وغيرهم .
قال ابنُ جرير : وإذا وجد منه ريحةً في المسجد ، فإن السلطان يتقدم اليه بالنهي عن معاودة ذلك ، فإن خالف وعاد ، أمر بإخراجه من البلد إلى أن تذهب منه الرائحة . واستدل بحديث عمر - رضي الله عنه - ، وقد سبق ذكره .
وقد استدل قومٌ من العلماء بأحاديث هذا الباب على أن حضور الجماعة في المساجد ليست فرضاً ؛ لأنها لو كانت فرضاً لم يرخص في أكل الثوم وينهى من أكله عن حضور المسجد ، وجعلوا أكل هذهِ البقولِ التي لها ريحٌ خبيثةٌ عذراً يبيح ترك الجماعةِ .
ورد عليهم آخرون :
قال الخطابي : قد توهم هذا بعضُ الناس ؛ قال : وإنما هو - يعني : النهي عن دخول المسجد - توبيخٌ له وعقوبةٌ على فعله إذ حرم فضيلة الجماعةَ .
ونقل ابن منصورٍ ، عن إسحاق ، قال : إن أكل الثوم من علةٍ حادثةٍ به فإن ذلك مباح ، وان لم يكن علة لا يسعه أكله ، لكي لا يترك الجماعةَ .
وهذا مجمولٌ على ما إذا أكله بقربِ حضورٍ الصلاة ويعلم [ . . . ] فريضة .
ودخولُ المسجد مع بقاء ريح الثوم محرمٌ ، وهو قولُ طائفةٍ من أصحابنا وابن جرير وغيرهم من العلماء .
ويشهدُ لهذا : أن الخمر قبل أن تحرم بالكلية كانت محرمة عند حضور الصلاةِ ، كيلا يمنع من الصلاةِ ، حيث كان الله قد انزل فيها ( لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ( [ النساء : 43 ] ، فكان منادي النبي ( ينادي : ( ( لا يقرب الصلاة سكرانٌ ) ) . وفي ضمن ذلك ، النهي عن السكر بقرب وقت الصلاة ، ثم حرمت بعد ذلك على الإطلاق بالآية التي في سورة المائدة .(5/289)
"""""" صفحة رقم 290 """"""
وقد تقدم نص أحمد بإنه قال : أكرهه في وقت الصلاة ، لمكانِ المسجدِ .
وهذا يحتملُ كراهة التنزيه ، وكراهة التحريم .
وروى ابن وهب ، عن مالك ، أنه سئل عن أكل الثوم يوم الجمعة ؟ فقال : بئسما صنع حين أكل الثوم وهو ممن يجب عليه حضورُ الجمعة .
وقد ذكرنا : أن هذ الحكم يتعدى إلى كل مأكول له رائحةٌ كريهةٌ ، كالفجل وغيره ، وأن أحمد نص عليه .
وكذلك قال مالكٌ : الكراثُ كالثوم ، إذا وجدت ريحهما يؤذي .
وألحق أصحاب مالكٍ به : كل من له رائحةٌ كريهةٌ يتأذى بها ، كالحراث والحوات .
وفيه نظر ، فإن هذا أثر عملٍ مباحٍ ، وصاحبه مخحتاج اليه ، فينبغي أن يؤمر إذا شهد الصلاة في جماعته بالغسل وإزالة ما يتأذى برائحته منه ، كما أمر النبي ( من كان يشهد الجمعة من الأنصار الذين كانوا يعملون في نخلهم ويلبسون الصوف ويفوح ريحهم بالغسل ، وأمرهم بشهود الجمعة في ثوبين غير ثوبي المهنة .
وذكر ابن عبد البر عن بعض شيوخه ، أنه ألحق بأكل الثوم من كان أهل المسجد يتأذون بشهوده معهم من اذاه لهم بلسانه ويده ، لسفهه عليهم وإضراره بهم ، وأنه يمنع من دخول المسجد ما دام كذلك ، وهذا حسنٌ .
وكذلك يمنعُ المجذومُ من مخالطة الناس في مساجدهم وغيره ؛ لما روي من الامر بالفرار منه . والله أعلمَ .(5/290)
"""""" صفحة رقم 291 """"""
وفي ( ( تهذيب المدونةِ ) ) : ويقامُ الذي يقعدُ في المساجد يوم الخميس وغيره لقراءة القرآن .
ولعلَ مراده : إذا كان يقرأ جهراً ، ويحصلُ بقراءته أذى لأهلِ المسجدِ ، ويشوش عليهم . والله أعلم .(5/291)
"""""" صفحة رقم 292 """"""
1 - باب
وضوء الصبيان ، ومتى يجب عليهم الغسل والطهور
وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز ، وصفُوفهم
لما أن تعين ذكر صفة الصلاة ، وكان الغالبُ على أحكامها يختصً بالرجال المكلفين ، افرد لحكم الصبيان باباً مفرداً ، ذكر فيه حكم طهارتهم من الوضوء والغسل ، وذكر صلاتهم وحضورهم الجماعات مع الرجال فيالصلوات المفروضات وفي العيدين والجنائز ، وصفوفهم مع الرجال .
وذكر في الباب أحاديث ستة ، يُستنبط منها هذهِ الأحكام التي بوب عليها .
ولم يبوب على وقت وجوب الصلاة عليهم ؛ لأن الأحاديث في ذلك ليست على شرطهِ .
وهي نوعان :
أحاديث : ( ( مروهم بالصلاة لسبع ، واضربوهم على تركها لعشرٍ ) ) .
وقد رُويت من وجوهٍ متعددةٍ ، أجودها : من حديث سبرة بن معبدٍ الجهني ، عن النبي ( ، قال : ( ( مروا الصبيَّ بالصلاة إذا بلغَ سبعَ سنينَ ، واذا بلغ عشر سنينَ فاضربوه عليها ) ) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود - وهذا لفظه - والترمذي - وقال : حسنٌ صحيحٌ - وابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) والحاكمُ - وقال : على شرط مسلم .
وقد ذهبَ إلى هذا الحديث جماعةٌ من العلماء ، وقالوا : يُؤمر بها الصبيُ لسبعٍ ، ويضرب على تركها لعشرٍ ، وهو قولُ مكحولٍ والأوزاعي وأحمد وإسحاق .(5/292)
"""""" صفحة رقم 293 """"""
ونقل ابن منصورٍ ، عنهما ، أنهما قالا : إذا ترك الصلاة بعد العشر يعيد .
واختلف أصحابنا : هل هي واجبةٌ عليه في هذه الحال ، أم لا ؟ فأكثرهم على أنها لا تجب على الصبي ، لكن يجب على الولي أمره بها لسبعٍ ، وضربه إذا نركها لعشر .
ومنهم من قال : هي واجبةٌ عليه إذا بلغ عشراً ، يضربه على تركها .
وقد قيل : إن الضرب على الترك ، تارةً يكون في الدنيا والآخرة كالوضوء على المسلمِ البالغِ العاقل ، وتارةً يكون في الآخرة دون الدنيا كوجوب فروع الاسلام على الكفار ، وتارةً يكون فغي الدنيا خاصة كضرب الصبي إذا ترك الصلاة لعشر ، ولا يلزم من ذلك أن يعاقب عليها في الآخرة .
ومن العلماء من قال : يؤمر الصبي بالصلاة إذا عرف يمينه من شماله ، روي عن ابن سيرين والزهري ، وروي عن الحسن وابن عمر ، وفيه حديث مرفوع ، خَّرجه أبو داود ، وفي إسناده جهالةٌ ، وهو اختيار الجوزجاني .
وروي عن عمر ، أنه مر على امرأة توقظ ابنها لصلاة الصبح وهو يتلكا ، فقال : دعيه لا يعنيه ، فإنها ليست عليه حتى يعقلها .
وعن عروة ، وميمون بن مهران ، قالا : يؤمر بها إذا عقلها .
وعن بعض التابعين : يؤمر بها إذا أحصى عدد عشرين .
وعن النخعي ومالك : يؤمر بها إذا ثغر - يعني : تبدلت اسنانه .
النوع الثاني : أحاديث : ( ( رُفع القلم عن ثلاث ) ) ، منهم : ( ( الصبي حتى
يحتلم ) ) .(5/293)
"""""" صفحة رقم 294 """"""
وفي ذلك أحاديث متعددة :
منها : عن عمر وعلي ، عن النبي ( .
خَّرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذيُ والنسائي .
وقد اختلف في رفعه ووقفه ، ورجح الترمذي والنسائي والدارقطني وغيرهم وقفه على عمر ، وعلى عليّ من قولهما .
وله طرق عن علي .
ومنها : عن عائشة ، عن النبي ( ، وقال : ( ( وعن الصبي حتى يكبر ) ) .
خَّرجه أبو داود وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من رواية حماد بن سلمة ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة .
وقال النسائي : ليس في هذا الباب صحيحٌ إلاحديث عائشة ؛ فإنه حسن .
ونقل الترمذي في ( ( علله ) ) عن البخاري ، أنه قالَ : ارجو أن يكون محفوظاً . قيل له : رواه غير حماد ؟ قال : لا أعلمه .
وقال ابن معين : ليس يرويه أحد ، إلا حماد بن سلمة ، عن حمادٍ .
وقال ابن المنذر : هو ثابت عن النبي ( .
والى هذا الحديث ذهب أكثر العلماء ، وقالوا : لا تجب الصلاة على الصبي حتى يبلغ . والله أعلم .
وقد تقدم : أن البخاري خرج في هذا الباب ستة أحاديث :(5/294)
"""""" صفحة رقم 295 """"""
الأول :
857 - حدثنا محمد بن المثنى : ثنا غندر : ثنا شعبة : سمعت سليمان الشيباني : سمعت الشعبي ، قال : أخبرني من مر مع النبي ( على قبرٍ منبوذ ، فأمهم وصفوا عليه ، فقلت : يا أبا عمرو : من حدثك ؟ قالَ : ابن عباس .
مراد البخاري من هذا الحديث في هذا الباب : أن ابن عباس صلى خلف النَّبيّ ( مع أصحابه على القبر ، وابن عباس كانَ صغيراً لم يبلغ الحلم ، وقد سبق ذكر الاختلاف في سنه عندَ وفاة النَّبيّ ( في ( ( كتاب العلم ) ) ، فدّل على أن الصبي يشهد صلاة الجنائز مع الرجال ، ويصلي معهم عليها ، ويصف معهم .
وقد خَّرجه البخاري في موضع آخر من ( ( كتابه ) ) هذا بلفظ آخر ، وفيه :
( ( فقام فصففنا خلفه ، قال ابن عباس : وأنا فيهم ، فصلى عليه ) ) .
وقد خَّرجه الدارقطني من طريق شريك ، عن الشيباني بهذا الإسناد ، وقال في حديثه : ( ( فقام فصلى عليه ، فقمت عن يساره ، فجعلني عن يمينه ) ) .
وهذه زيادة غريبة ، لا أعلم ذكرها غير شريك ، وليس بالحافظ ، فإن كانت محفوظة استدل بها على أن صفوف الجنائز كصفوف سائر الصلوات .
وقد اختلف أصحابنا في ذلك :
فمنهم من قال : كذلك ، وهو ظاهر كلام أحمد ؛ لأنه نص على كراهة صلاة الفذ وحده في صلاة الجنازة .
ومنهم من قال : يصلي على الجنازة الرجل وحده ، منفرداً خلف الصفوف ، منهم : القاضي أبو يعلى في ( ( خلافه ) ) وابن عقيل .
وقالوا : إذا لم يكن جعل الصفوف في صلاة الجنازة ثلاثة إلا بقيام واحد(5/295)
"""""" صفحة رقم 296 """"""
صفاً وحده كان أفضل .
واستدل بما روى عبد الله بنعمر العمري ، قال : سمعت أم يحيى قالت : سمعت أنس بن مالك يقول : مات ابن أبي طلحة ، فصلى عليه رسول الله ( ، فقام أبو طلحه خلف النبي ( وأم سليمٍ خلف أبي طلحة كأنهم عرفُ ديكٍ ، وأشار بيده .
خَّرجه الإمام أحمد .
وخرج أبو حفص العكبري - من أصحابنا - بإسناده . عن خير بن نعيم الحضرمي ، أن أبا الزبير - أو عطاء بن أبي رباح - أخبره . أن رسول الله ( صلى على جنازةٍ ، ورسول الله ( سابعهم ، فجعلهم ثلاثة صفوفٍ ، الصف الأول ثلاثة ، والصف الثاني رجلين ، والصف الثالث رجلاً ، والنبي ( بين أيديهم .
وهذا مرسلٌ .
وقد نص أحمد على أنه يستحب جعلهم في صلاة الجنائز ثلاثة صفوف ، إذا أمكن أن يكون في كل صف اثنان فصاعداً ، واستدل بحديث مالك بن هبيرة ، أنه كان إذا صلى على جنازة فتقال الناس عليها جزأئهم ثلاثة اجزاء ، ثم قال : قال رسول الله ( : ( ( من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب ) ) .
خَّرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي .
وقال : حديث حسن .
الحديث الثاني :
858 - ثنا علي بن عبد الله : ثنا سفيان : حدثني صفوان بن سليم ، عن عطاء(5/296)
"""""" صفحة رقم 297 """"""
بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي ( ، قال : ( ( الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ) ) .
مراده بهذا الحديث هاهنا : الاستدلال به على أن الغسل الواجب لا يجب إلا على من بلغ الحلم ، وهو المراد بالمحتلم في هذا الحديث ، كما أن قوله : ( ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمارٍ ) ) ، إنما أراد به من بلغت المحيض .
وقد اختلف العلماء في معنى الوجوب في هذا الحديث : هل هو على ظاهره ، أم المراد به التأكيد ؟ وفيه خلاف يأتي في موضع آخر - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
فإن قيل : أنه علي ظاهره ، وإنه يأثم بتركه ، فإن هذا الوجوب يختص بالبالغ ولا يدخل فيه الصبي ، اللهم ، إلا على رأي من أوجب الصلاة على من بلغ عشراً من الصبيان ، كما هو قول طائفةٍ من أصحابنا ، فإنهم اختلفوا في وجوب الجمعة عليه ، ولهم فيه وجهان ، أصحهما : لا يجب .
فإن قيل بوجوبها عليه توجه وجوب الغسل عليه - أيضاً - ، وهو ضعيف لأنه مبطلٌ فائدة تخصيص الوجوب في هذا الحديث بالمحتلم .
وإن قيل : أن الوجوب في الحديث إنما أريد به تأكيد الاستحباب ، فهل يدخل فيه الصبي ؟
لا يخلو الصبي ، إما أن لا يريد حضور الجمعة ، فلا يؤمر بالغسل لها ، وإما أن يريد حضورها مع الرجال ، ففي استحباب الغسل له وجهان لأصحابنا .(5/297)
"""""" صفحة رقم 298 """"""
وينبغي أن لا يتأكد الاستحباب في حقه كتاكيده على الرجال ؛ لئلا تبطل فائدة تخصيص الوجوب بالمحتلم في الحديث .
ومذهب مالك ؛ أنه يغتسل إذا أراد شهود الجمعة .
وأما وجوب الغسل على الصبي إذا وجد منه ما يوجب الغسل على البالغ ، مثل أن يطأ ويولج في فرج امرأة ، أو تكون الزوجة الموطأة صغيرةً لم تبلغ ، فيطؤها الرجل ، فهل يجب عليها وعلى الصبي الواطء - بغير إنزال - الغسل ؟ فيه قولان مشهوران
للفقهاء :
أحدهما : يجب ، وهو نص أحمد ، واختيار ابن شاقلا وغيره من أصحابنا ، وهو قول إسحاق بن راهويه .
وقالت الشافعية : يصير بذلك جنباً ، ويمنع مما يمنع منه الجنب حتى يغتسل ، ويلزم وليه أن لا يمكنه مما يمنع منه الجنب حتى يغتسل .
ولم يقولوا : أن غسله واجبٌ ، لئلا يتوهم أنه مكلف به .
والثاني : لا يجب ، بل يستحب ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، وأبي ثور ، وأصحابنا ؛ لأن الغسل عبادة بدنية ، فلا تلزم الصبي ، كالصوم والصلاة .
قال المحققون من أصحابنا : وهذا لا يصح ؛ لأنه ليس المعني بوجوبه تأثيمه بتركه لينافيه الصغر ، بل فائدته اشتراطه لصحة صلاته وطوافه ، وتمكينه من مس المصحف ، وقراءة القرآن ، واللبث في المسجد ، وإلزامه به إذا بلغ ، وتغسيلنا له يشبه ما لو قتل شهيداً قبل أن يغتسل ، وغير ذلك من الأحكام ، والصغر لا ينافي ذلك ، كما لم يناف إيجاب الوضوء عليه بموجباته بهذا المعنى - أيضاً .
ولا نعلم خلافاً أن الصبي المميز تصح طهارته ويرتفع حدثه ، ولو بلغ بعد(5/298)
"""""" صفحة رقم 299 """"""
أن توضأ لجاز أن يصلي بذلك الوضوء الفرض ، ولا نعلم في ذلك خلافاً ، إلا وجهاً شاذاً للشافعية ، لا تعويل عليه .
ولكن ؛ هل يوصف وضوؤه قبل بلوغه بالوجوب ؟ فيه لأصحابنا وجهان .
وهذا الخلاف يشبه الخلاف في تسمية غسله واجباً ، على ما سبق .
ويشبه تخريج هذا الخلاف في تسميته واجباً عليه بدون إرادة الصلاة ، على الخلاف في أن الموجب للطهارة ، هل هو الحدث ، أو إرادة الصلاة ؟ وفيه اختلافٌ مشهورٌ .
ويمكن أخذه من اختلاف الروايتين عن أحمد في غسل الحائض للجنابة في حال حيضها .
وأما أن الصبي ممنوعٌ من الصلاة بدون الطهارة ، فمتفقٌ عليه .
نعم ؛ في جواز تمكين الصبي من مس لوحه الذي يكتب فيه القرآن روايتان عن أحمد ، ومن أصحابنا من حكى الخلاف في مسهم لمصاحفهم .
ووجه عدم اشتراطه : أن حاجتهم إلى ذلك داعيةٌ ، ويشق منعهم منه بدون طهارة ، لتكرره ، ووضوؤهم لا يحتفظ غالباً .
وهو - أيضاً - قول الحنفية ، وأصح الوجهين للشافعية ؛ لهذا المعنى .
وهذا كله في حق الصبي المميز ، فأما من لا تميز له فلا طهارة له ولا صلاة ، ولو توضأ لم يؤثر استعماله في الماء شيئاً .
وأما المميز إذا توضأ بالماء ، فهل يصير مستعملاً ؟ فيه لأصحابنا وجهان .
ويحسن بناؤها على أن وضوءه : هل يوصف بالوجوب ، أو بالاستحباب ؟(5/299)
"""""" صفحة رقم 300 """"""
والأظهر : أنه يصير مستعملاً ، لأنه قد رفع حدثه ، وأزال منعه من الصلاة .
وهو - أيضاً - أصح الوجهين للشافعية .
والثاني لهم : ليس بمستعمل ، لأنه لم يؤدَّ به فرضاً .
قالوا : والصحيح : أنه مستعمل ؛ لأن المراد بفرض الطهارة ما لا تجوز الصلاة ونحوها إلا به ، لا ما يأثم بتركه .
الحديث الثالث :
859 - حديث ابن عباس : بت عند خالتي ميمونة ليلة ، فقام النبي ( فلما كان في بعض الليل قام رسول الله ( فتوضأ من شنَّ معلقٍ ، وضوءا خفيفا ، ثم قام يصلي ، فقمت فتوضأت نحواً مما توضأ ، ثم جئت فقمت عن يساره ، فحولني فجعلني عن يمينه ، ثم صلى - وذكر الحديث .
وقد تقدم في أوائل ( ( كتاب الوضوء ) ) بهذا الاسناد والسياق الذي خرَّجه في هذا الباب .
والمقصود منه هاهنا : أن ابن عباسٍ توضأ كما توضأ النبي ( ، ثم قام إلى جانب النبي ( يصلي معه ، وأنه لما قام عن يساره ولم يكن موقفاً للمأموم حوله عن يمينه إلى موقف المأموم ، فهذا يدل على صحة طهارة الصبي وصلاته ، وإئتمامه بالإمام ، ومصافته للإمام ، فإن ابن عباس كان إذ ذاك صبياً ، كما سبق ذكره .
وقد تقدم الكلام على انعقاد الجماعة بالصبي ، وعلى أن من وقف مع صبي ، فهل هو فذٌ ، أم لا ؟(5/300)
"""""" صفحة رقم 301 """"""
الحديث الرابع :
861 - حديث ابن عباس : أقبلت راكباً على حمارٍ أتانٍ ، وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام ، ورسول الله ( يصلي بالناس بمنىً إلى غير جدارٍ ، فمررت بين يدي بعض الصف ، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ، ودخلت في الصف ، فلم ينكر ذلك علي أحدٌ .
قد سبق هذا الحديث في ( ( باب : سترة الإمام سترةٌ لمن خلفه ) ) من طريق مالك ، خرَّجه هناك عن عبد الله بن يوسف ، عن مالكٍ ، وخرَّجه هنا عن عبد الله بن مسلمة - هو : القعنبي - ، عن مالكٍ .
والمراد بتخريجه هاهنا : الاستدلال على صحة صلاة النبي ، وأنه يدخل في صف الرجال ويقف معهم .
وقد استدل بهذا مالكٌ على أن الأفضل أن يجعل في الصف بين كل رجلين صبياً ؛ ليتعلم أدب الصلاة وخشوعها .
وهو أحد الوجهين للشافعية .
والثاني لهم : يقف الصبيان إذا كثروا صفاً خلف الرجال .
وهومذهبنا ومذهب أبي حنيفة .
استدلوا لذلك بقول النبي ( : ( ( ليلني أولوا الأحلام منكم والنهى ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) ) .
خرَّجه مسلم .(5/301)
"""""" صفحة رقم 302 """"""
وبما روى شهر بن حوشبٍ : حدثنا عبد الرحمبن غنمٍ ، أن أبا مالكٍ الأشعري جمع قومه ، فقال : اجتمعوا واجمعوا نسائكم وأبنائكم أعلمكم صلاة النبي ( ، فاجتمعوا وجمعوا نساءهم وأبناءهم ، وأراهم كيف يتوضأ ، فأحصى الوضوء أماكنه ، حتى لما أن فاء الفيء وانكسر الظل قام فأذن ، وصف الرجال في أدنى الصف ، وصف الولدان خلفهم ، وصف النساء خلف الولدان ، ثم اقام الصلاة ، فتقدم فصلى - وذكر قصة الصلاة ، ثم قال : إنها صلاة رسول الله ( .
خرَّجه الإمام أحمد بتمامه ، وخرَّجه أبو داود مختصراً .
ولو قام الصبي في وسط الصف ، ثم جاء رجلٌ ، فله أن يؤخره ويقوم مقامه ، نص عليه ، وفعله أبي بن كعبٍ بقيسِ ابن عبادٍ ، وروي نحوه عن عمر - أيضاً - ، فهذا قول الثوري وأحمد ، وقد سبق ذكره في ( ( أبواب الصفوف ) ) .
ولو كان الصبي في آخر الصف ، فقام رجلٌ خلفه في الصف الثاني ، فقال أحمد : لا بأس به ، هو متصلٌ بالصف .
وحمله القاضي على أن الصف إذا كان فيه خللٌ ، فوقف رجلٌ لم يبطل اتصاله ؛ لأن الصبي لا يصاف في الفرض ، على المنصوص لأحمد .
ومن أصحابنا من قال : لا يصاف في الفرض ولا في النفل ، ولو قلنا : تصح إمامته في النفل .
وهذه طريقة أبي الخطاب ، أنه تصح مصافته في الفرض والنفل ، وهو قول الأوزاعي وإسحاق ؛ لأنه محكومٌ بصحة صلاته ، وان لم تصح إمامته للرجال .(5/302)
"""""" صفحة رقم 303 """"""
وكذا قال الثوري ومالكٌ وأبو حنيفة والشافعي ، لكنه يجيز إمامته للرجال ومصافته أولى .
وكل هؤلاء يقولون فيمن أم رجلاً وصبياً : إنهما يقفان خلفه ، وعند أحمد : يقفان عن يمينه ، أو يقف بينهما ، وعليه حمل وقوف ابن مسعودٍ بين علقمة والأسود ، وقال : كان الأسود غلاماً .
وحديث ابن عباسٍ الذي خرَّجه البخاري في هذا الباب يدل على أن دخول الصبي المميز في صف الرجال في الصلاة المفروضة هو السنة . والله أعلم .
الحديث الخامس :
862 - حديث عائشة : أعتم رسول الله ( في العشاء ، حتى ناداه عمر : قد نام النساء والصبيان ، فخرج رسول الله ( - وذكر الحديث .
وقد سبق في ( ( أبواب المواقيت ) ) ، وذكرنا هنالك إسناد هذه الرواية التي في هذا الباب ، وأنها من وجهين : مسندٍ ومعلقٍ ، وبقية الحديث .
والمقصود منه هاهنا : أن الصبيان كانوا يشهدون مع الرجال الصلاة المكتوبة في المسجد مع النبي ( .
الحديث السادس :
863 - حدثنا عمرو بن عليَّ : ثنا يحيى : حدثنا سفيان : حدثني عبد الرحمن بن عابس ، قال : سمعت ابن عباسٍ ، وقال له رجلٌ : شهدت الخروج مع رسول الله ( ؟ قال : نعم ، ولولا مكاني منه ما شهدته - يعني : من صغره - وذكر بقية الحديث .
ويأتي في ( ( صلاة العيدين ) ) - إن شاء الله .(5/303)
"""""" صفحة رقم 304 """"""
وقد خرَّجه هناك عن مسددٍ ، عن يحيى ، وفيه : أن النبي ( قال لابن عباسٍ : أشهدت العيد مع رسول الله ( ؟ قال : نعم .
والمراد في هذه الرواية بالخروج : الخروج للعيد .
والمقصود من الحديث هاهنا : أن الصبيان كانوا يشهدون صلاة العيد مع النبي
( .
قوله : ( ( لولا مكاني منه ما شهدته - يعني : من صغره ) ) ، يدل على أن من كان في سنه لم يكن خروجه إلى العيد معتاداً ، وإنما أخرج ابنٍ عباس لقربه من النبي ( ، فكأن الإمام له مزية على الناس في الخروج إلى العيد ، حتى يخرج حاشيته كلهم ، صغيرهم وكبيرهم .
ولعل ابن عباسٍ أشار إلى خروجه في عيد وهو صغيرٌ في أول سن التمييز ، والإ فقد أدرك من حياة النبي ( بعد ذلك مدةً ؛ فإنه كان في حجة الوداع مناهزاً للاحتلام ، كما سبق في الحديث الماضي .(5/304)
"""""" صفحة رقم 305 """"""
2 - باب
خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس
لما فرغ من ذكر أحكام صلاة الرجال وصلاة الصبيان شرع في ذكر حكم صلاة النساء ، فأفرد لذلك أبواباً وابتدأها بخروجهن إلى المساجد في الليل وغلس الفجر .
وخرج فيه ستة أحاديث :
الحديث الأول :
864 - حدثنا أبو اليمان : أنا شعيبٌ ، عن الزهري : أخبرني عروة ، عن عائشة ، قالت : أعتم رسول الله ( بالعتمة ، حتى ناداه عمر : نام النساء والصبيان - وذكر بقية الحديث .
وقد ذكرنا باقيه في ( ( أبواب المواقيت ) ) .
والمقصود منه هاهنا : الاستدلال على شهود النساء صلاة العشاء مع النبي ( .
الحديث الثاني :
865 - ثنا عبيد الله بن موسى ، عن حنظلة ، عن سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المساجد فأذنوا لهن ) ) .
تابعه : شعبة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، عن النبي ( .
( ( حنظلة ) ) ، هو : السدوسي .
وقد رواه الترمذي - أيضاً - عن سالم .(5/305)
"""""" صفحة رقم 306 """"""
وخرَّجه البخاري فيما بعد ، ويأتي قريباً - إن شاء الله .
وليس فيها : ذكر الليل .
وكذلك رواه نافعٌ ، عن ابن عمر ، وغيرهم - أيضاً .
ورواية الأعمش ، عن مجاهدٍ ، عن ابن عمر التي علقها البخاري ، خرَجها مسلمٌ في ( ( صحيحه ) ) من رواية أبي معاوية وعيسى بن يونس ، كلاهما عن الأعمش ، به ، ولفظه : ( ( لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل ) ) .
وخرَّجه - أيضاً - من رواية عمروٍ ، عن مجاهدٍ ، عن ابن عمر ، عن النبي ( ، قال : ( ( ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد ) ) .
وخرّج البخاريُّ في ( ( كتاب الجمعة ) ) من طريق عمروٍ - أيضاً - ، وسياتي - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
ومراد البخاري بالمتابعه ، ذكر الليل ، مع أن مسلماً خَرج حديث حنظلة عن سالمٍ ، ولم يذكر فيه : ( ( بالليل ) ) .
وقال الإمام أحمد في رواية حنظلة ، عن سالم عن أبيه : إسنادٌ حسنٌ .
الحديث الثالث :
866 - حدثنا عبد الله بن محمد : حدثنا عثمان بن عمر : أخبرنا يونس ، عن(5/306)
"""""" صفحة رقم 307 """"""
الزهري : حدثتني هند بنت الحارث أن أم سلمه زوج النبي ( أخبرتها ، أن النساء في عهد الرسول الله ( كن إذا سلمن من المكتوبة قمن وثبت رسول الله ( ومن صلى من الرجال ما شاء الله ، فاذا قام رسول الله ( قام الرجال .
قد سبق هذا الحديث وهذا السياق أتم مما تقدم .
وليس في هذا الحديث : ذكر الليل ، والظاهر أنه كان نهاراً ، أو أعم من ذلك .
الحديث الرابع :
867 - حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالكٍ - ح وحدثنا عبد الله بن يوسف : أخبرنا مالكٌ ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشه ، قالت : إن كان رسول الله ( ليصلي ، الصبح فينصرف النساء متلفعاتٍ بمروطهن ، ما يعرفن من الغلس .
قد سبق هذا الحديث في " أبواب المواقيت " من روايه الزهري ، عن عروة عن ، عائشة - بمعناه .
وفيه : دليلٌ على شهود النساء صلاة الصبح مع النبي ( ورجوعهن في غلس الظلام .
الحديث الخامس :
868 - حدثنا محمد بن مسكين - يعني : ابن نملية - : ثنا بشر بن بكرٍ : أنبأ الأوزاعي : حدثني يحيى بن أبي كثيرٍ ، عن عبد الله ابن أبي قتادة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله ( : ( ( إني لأقوم إلى الصلاة ، وأنا أريد أن أطول فيها ، فأسمع بكاء(5/307)
"""""" صفحة رقم 308 """"""
الصبي ، فأتجوز في صلاتي كراهة أن أشق على أمه ) ) .
( ( نملية ) ) بالنون ، ذكره ابن ماكولا ، وهو يماميٌ ثقةٌ .
وقد تقدم هذا الحديث في " أبواب الإمامه " مع أحاديث أخر متعددةٍ في هذا المعنى .
والمراد هاهنا من ذلك : أن النساء كن يشهدن الصلاة خلف رسول الله ( في المسجد ، ومعهن صبيانهن ، وأن النبي ( كان يعلم ذلك ، ويراعي في صلاته حالهن ، ويؤثر ما عليهن ، ويجتنب ما يشق عليهن ، وذلك دليل على أن حضورهن الجماعه معه غير مكروهٍ ، ولولا ذلك لنهاهن عن الحضور معه للصلاة .
الحديث السادس :
869 - حدثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالكٌ ، عن يحيى بن سعيدٍ ، عن عمرة ، عن عائشه : قالت لو أدرك رسول الله ( ما أحدث النساء [ بعده ] لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل .
قلت لعمرة : أو منعن ؟ قالت : نعم .
تشير عائشةُ - رضي الله عنها - إلى أن النبي ( كان يرخص في بعض ما يرخص فيه حيث لم يكن في زمنه فسادٌ ، ثم يطرأ الفساد ويحدث بعده ، فلو أدرك ما حدث بعده لما استمر على الرخصه ، بل نهى عنه ؛ فإنه إنما يأمرُ بالصلاح ، وينهى عن الفساد .(5/308)
"""""" صفحة رقم 309 """"""
وشبيهٌ بهذا : ما كان في عهد النبي ( وعهد أبي بكرٍ وعمر من خروج الإماء إلى الأسواق بغير خمارٍ حتى كان عمر يضرب الأمه إذا رآها منتقبةً أو مستترةً ، وذلك لغلبة السلامه في ذلك الزمان ، ثم زال ذلك وظهر الفساد وانتشر ، فلا يرخص حينئذٍ فيما كانوا يرخصون فيه .
فقد اختلف العلماء في حضور النساء مساجد الجماعات للصلاة مع الرجال : فمنهم من كرهه بكل حالٍ ، وهو ظاهر المروي عن عائشه - رضي الله عنها - ، وقد استدلت بأن الرخصة كانت لهن حيث لم يظهر منهن ما ظهر ، فكانت لمعنىً وقد زال ذلك المعنى .
قال الإمام أحمد : أكره خروجهن في الزمان ؛ لأنهن فتنتةٌ .
وعن أبي حنيفة روايةٌ : لا يخرجن الإ للعيدين خاصةً .
وروى أبو إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، قال : حقٌ على كل ذاتِ نطاقٍ أن تخرج للعيدين . ولم يكن يرخص لهن في شيء من الخروج الإ في العيدين .
ومنهم من رخص فيه للعجائز دون الشوابَّ ، وهو قول مالكٍ - في رواية - والشافعي وأبي يوسف ومحمدٍ ، وطائفةٍ من أصحابنا أو أكثرهم .
حكاه ابن عبد البر عن العلماء ، وحكاه عن مالكٍ من روايه أشهب : أن العجوز تخرج إلى المسجد ولا تكثر التردد ، وأن الشابه تخرج مرةً بعد مرة .
وقال ابن مسعودٍ : ما صلت امرأة صلاةً أفضل من صلاتها في بيتها ، الإ أن تصلي عند المسجد الحرام ، إلا عجوزاً في منقلها .
خرَّجه وكيع وأبو عبيدٍ .
وقال : يعني : خفها .(5/309)
"""""" صفحة رقم 310 """"""
وخرَّجه البيهقي ، وعنده : إلا في مسجد الحرام ، أو مسجد الرسول ( .
ومنهم من رخص فيه للجمع ، إذا أمنت الفتنه ، وهو قول مالكٍ - في رواية ابن القاسم ، ولم يذكر في ( ( المدونة ) ) سواه - ، وقول طائفه من أصحابنا المتأخرين .
ثم اختلفوا : هل يرخص لهن في الليل والنهار ، أم في الليل خاصةً ؟ على قولين .
أحدهما : يرخص لهن في كل الصلوات ، وهو المحكي عن مالكٍ والشافعي وأبي يوسف ومحمدٍ ، وقول أصحابنا .
واستدلوا بعموم الأحاديث المطلقة ، وبخروجهن في العيدين ، فأما المقيدة بالليل ، فقالوا : هو تنبيهٌ على النهار من طريق الفحوى ؛ لأن تمكن الفساق من الخلوة بالنساء والتعرض لهن بالليل أظهر ، فإذا جاز لهن الخروج بالليل ففي النهار أولى .
وقالت طائفةٌ : إنما يرخص لهن في الليل ، وتبويب البخاري يدل عليه ، وروي مثله عن أبي حنيفة ، لكنه خصه بالعجائز .
وكذا قال سفيان : يرخص لهن في العشاء والفجر . قال : وينهى عن حضورهن تراويح رمضان .
ومذهب إسحاق كأبي حنيفة والثوري في ذلك ، الإ أنه رخص لهن في حضور التراويح في رمضان .
وهؤلاء استدلوا بالأحاديث المقيدة بالليل ، وقالوا : النهار يكثر انتشار(5/310)
"""""" صفحة رقم 311 """"""
الفساق
فيه ، فأما الليل فظلمته مع الاستتار تمنع النظر غالباً ، فهو أستر وروي عن أحمد ما يدل على أنه يكره للمراة أن تصلي خلف رجلٍ صلاةً جهرية .
وهذا عكس قول من رخص في خروج المرأة إلى المسجد بالليل دون النهار .
قال مهنا : قال أحمد : لا يعجبني أن يؤم الرجل النساء ، الإ أن يكون في بيته ، يؤم أهل بيته ، أكره أن تسمع المرأة صوت الرجل .
وهذه الروايه مبينة - والله أعلم - على قول أحمد : إن المرة لا تنظر إلى الرجل الأجنبي ، فيكون سماعها صوته كنظرها إليه ، كما أن سماع الرجل صوت المرأة مكروهٌ كنظره إليها ؛ لما يخشى في ذلك من الفتنة .
وإن صلى الرجل بنساءٍ لا رجلٌ معهن ، فإن كن محارم له أو بعضهن جاز ، وإن كن أجنبياتٍ فإنه يكره .
وإنما يكره إذا كان في بيتٍ ونحوه ، فأما في المسجد فلا يكره ؛ لاسيما إن كان فيه رجالٌ لا يصلون معهم .
فقد روي أن عمر - رضي الله عنه - جعل للنساء في قيام رمضان إماماً يقوم بهن على حدة كما جعل للرجال إماماً .
وأما في بيت ونحوه فيكره ؛ لما فيه من الخلوة .
فإن كان امرأةٌ واحدةٌ ، فهو محرمٌ ، وإن كان امرأتان فهل يمنع ذلك الخلوة ؟ فيه لأصحابنا وجهان .(5/311)
"""""" صفحة رقم 312 """"""
ومتى كثر النساء فلا يحرم ، بل يكره .
ومن أصحابنا من علل الكراهة بخشيه مخالطة الوسواس له في صلاته .
ومذهب الشافعي : إن صلى بامرأتين أجنبيتين فصاعداً خالياً بهن فطريقان ، قطع جمهورهم بالجواز . والثاني : في تحريمه وجهان .
وقيل : أن الشافعي نص على تحريم أن يؤم الرجل نساء منفرداتٍ ، إلا أن يكون فيهن محرمٌ له ، أو زوجةٌ ، وإن خلا رجلان أو رجالٌ فالمشهور عندهم تحريمه .
وقيل : إن كانوا ممن يبعد مواطأتهم على الفاحشة جاز .
فإن صلي بهن في حال يكره ، كرهت الصلاة وصحت ، وإن كان في حال
تحريم ، فمن أصحابنا من جزم ببطلان صلاتهما .
وكره طائفة من السلف أن يصلي الرجل بالنساءِ الأجنبيات وليس خلفه صفٌ من الرجال منهم : الجزري .
وكذلك قال الإمام أحمد - في روايه الميموني - : إذا كان خلفه صف رجال صلى خلفه النساء ؛ لأن النَّبيّ ( صلى بأنس واليتيم وأم سليم وراءهم .
قيل لهُ : فإن لم يكن رجال ، كانوا نساء ؟
قالَ : هذه مسأله مشتبهةٌ . قيل لهُ : فصلاتهم جائزة ؟
قال : أما صلاته فهي جائزة قيل له : فصلاة النساء ؟ هذه مسألةٌ مشتيهةٌ .
فتوقف في صحة صلاتهن دونه .(5/312)
"""""" صفحة رقم 313 """"""
4 - باب
صلاة النساء خلف الرجال
فيه حديثان :
الأول :
870 - حديث أم سلمة : كان رسول الله ( إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ويمكث في مقامه هو يسيراً قبل أن يقوم .
قال : فنرى - والله أعلم - أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحدٌ من الرجال .
خرَّجه عن يحيى بن قزعة ، عن إبراهيم بن سعد . وقد خرَّجه فيما تقدم من طريقتين . عنه .
ووجه استدلاله به على تأخير النساء : أن النساء إذا كن يصلين في مؤخر المسجد أمكن أن يتبادرن إلى القيام والخروج قبل الرجال فلو كن يصلين في مقدم المسجد لم يتمكن من ذلك .
الثاني :
871 - حديث أنس : صلى النبي ( في بيت أم سليم ، فقمت ويتيم خلفه ، وأم سليم خلفنا .
خرَّجه عن أبي نعيم ، عن ابن عيينه ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن أنس .(5/313)
"""""" صفحة رقم 314 """"""
ووجه الاستدلال به ظاهرةٌ الإ أن الأول هذه الجماعة لم تكن في المسجد .
وقد خرج فيما تقدم حديث سهل بن سعدٍ : كان الناس يصلون مع النبي ( عاقدي أزرهم من الصغر على رقابهم ، فقيل للنساء : ( ( لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرحال جلوساً ) ) .
خرَّجه في ( ( أبواب : اللباس ) ) وفي ( ( أبواب : السجود ) ) .
وهو صريح في أن النساء كن يصلين خلف الرجال .
وخرج أبو داود من حديث أسماء بنت أبي بكر ، قالت : سمعت رسول الله ( يقول : ( ( من كان منكنَّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤسهم ) ) كراهية من أن يرين عورات الرجال . وقد تقدم حديث أبي مالكٍ الأشعري في وصفه صلاة النبي ( ، وصفهٍ الرجال ، ثم الصبيان ، ثم النساء .
وقد روي عن ابن مسعود ، أنه قال : أخروهن من حيث أخرهن الله .
وخرّج مسلم من حديث سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبي ( ، قال :
( ( خيرُ صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء(5/314)
"""""" صفحة رقم 315 """"""
آخرها وشرها أولها ) ) .
ولا خلاف بين العلماء في أن المراد بتأخير مقامها في الصلاة عن مقام الرجل ، إلا أن تكون صغيرة ، لم تبلغ فإنه قد روي ، عن أبي الدرداء ، أنه كان يفهم أم الدرداء - وهي صغيرة لم تبلغ - صف الرجال . والجمهور على خلافه .
وقد سبق حكم إبطال الصلاة بمصافتها الرجال ، أو تقدمها عليهم في ( ( باب : إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد ) ) .(5/315)
"""""" صفحة رقم 316 """"""
5 - باب
سرعة انصراف النساء من الصبح
وقلة مقامهن في المسجد
872 - حدثنا يحيى بن موسى : ثنا سعيد بن منصور : ثنا فليح ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن رسول الله ( كان يصلي الصبح بغلس ، فينصرفن نساء المؤمنين ، لا يعرفن من الغلس - أو لا يعرف بعضهنَّ بعضاً .
قد سبق هذا الحديث في ( ( المواقيت ) ) من رواية الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - بمعناه - ، وفيه : ( ( ثم ينقلين إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة ، لا يعرفهن أحد من
الغلس ) ) .
وهذا يدل على سرعة خروجهن من المسجد عقيب انقضاء الصلاة مبادرة لما بقي من ظلام الغلس ، حتى ينصرفن فيه ، فيكون أستر لهن .
وهذا المعنى لا يوجد في غير الصبح من سائر الصلوات ؛ فلذلك خصه البخاري بالتبويب عليه . والله أعلم .(5/316)
"""""" صفحة رقم 317 """"""
6 - باب
استئذان المراة زوجها بالخروج إلى المسجد
873 - حدثنا مسدد : ثنا يزيد بن زريع ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها ) ) .
قد تقدم هذا الحديث بأتم من هذا السياق .
وقد روي هذا المعنى عن النبي ( من وجوه أخر :
خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود من رواية محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( قال : ( ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ، ولكن ليخرجن وهن تفلات ) ) .
خرَّجه الإمام أحمد من حديث زيد بن خالد الجهني وعائشة ، وفي حديث عائشة أنها قالت : لو رأى حالهنَّ اليوم لمنعهن .
فهذه الأحاديث : تدل على أمرين :
أحدهما :
أن المرأة لا تخرج إلى المسجد بدون اذن زوجها ، فإنه لو لم يكن له اذن في ذلك لأمرها أن تخرج أن اذن أو لم يأذن .
وخرج ابن أبي شيبة من حديث ابن عمر - مرفوعاً - : ( ( حق الزوج على زوجته لا تخرج من بيتها إلا بأذنه ، فإن فعلت لعنتها ملائكة الله ، وملائكة(5/317)
"""""" صفحة رقم 318 """"""
الرحمة ، وملائكة الغضب ، حتى تتوب أو تراجع ) ) .
وفي إسناده : ليث بن أبي سليم ، وقد اختلف عليه في إسناده .
وخرج البزار نحوه من حديث ابن عباسٍ .
وفي إسناده : حسين بن علي الرحبي ، ويقال له : حنش ، وهو ضعيف الحديث .
وخرج الترمذي وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من حديث قتادة ، عن مورق ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود ، عن النبي ( ، قال : ( ( المرأة عورة ، فاذا خرجت استشرفها الشيطان ) ) .
زاد ابن حبان : ( ( وأقرب ما تكون من ربها إذا هي في قعر بيتها ) ) .
وصَححه الترمذي .
وإسناده كلهم ثقات .
قال الدارقطني : رفعه صحيح من حديث قتادة ، والصحيح عن أبي إسحاق وحميد بن هلال ، أنهما روياه عن أبي الأحوص ، عن عبد الله موقوفاً .
ولا نعلم خلافاً بين العلماء : أن المرأة لا تخرج إلى المسجد الإ بأذن زوجها ، وهو قول ابن المبارك والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم .
لكن من المتقدمين من كان يكتفي في اذن الزوج بعلمه بخروج المرأة من(5/318)
"""""" صفحة رقم 319 """"""
غير منع ؛ كما قال بعض الفقهاء : إن العبد يصير مأذونا له في التجارة بعلم السيد بتصرفه في ماله من غير منعٍ .
فروى مالكٍ ، عن يحيى بن سعيد ، أن عاتكة بنت زيد كانت تستأذن زوجها عمر بن الخطاب إلى المسجد ، فيسكت ، فتقول : والله ، لأخرجنَّ ، إلا أن تمنعني ، فلا يمنعها .
وروي عن ابن عمر ، قال : كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في جماعة ، فقيل لها : لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار ؟ فقالت : ما يمنعه أن ينهاني ؟ قالوا : يمنعه قول رسول الله ( : ( ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) ) .
خرَّجه البخاري من حديث عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر .
وخرَّجه الإمام أحمد من رواية سالم ، عن عمر - منقطعاً .
والأمر الثاني :
أن الزوج منهيٌ عن منعها إذا استأذنته ، وهذا لابد من تقييده بما إذا لم يخف فتنةً أو ضرراً .
وقد أنكر ابن عمر على ابنه لما قال له : والله ، لمنمعهن ، أشد الأنكار ، وسبه ، وقال له : تسمعني اقول : قال رسول الله ( ، وتقول : لنمنعهن ؟ .
وقد تقدم من عمر عدم المنع .
وممن قال : لا يمنعن : ابن المبارك ومالك وغير واحد .(5/319)
"""""" صفحة رقم 320 """"""
وحكي عن الشافعي ، أن له المنع من ذلك وقاله القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابنا .
وروى سعيد بن أبي هلال ، عن محمد بن عبد الله بن قيس ، أن رجالاً من أصحاب النبي ( أتو رسول الله ( ، فقالوا : إن نساءنا استاذنونا في المسجد ، فقال : ( ( احبسوهن ) ) ، ثم إنهن عدن إلى أزواجهن ، فعاد أزواجهن إلى النبي ( ، فقال :
( ( احبسوهن ) ) ، ثم إنهن عدن إلى أزواجهن ، فقالوا : يا رسول الله ، قد استأذننا حتى إنا لنخرج . قال : ( ( فإذا أرسلتموهن ، فأرسلوهن تفلات ) ) .
وهذا مرسلٌ غريب .
ومن هؤلاء من حمل قوله : ( ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) ) على النهي عن منعهن من حجة الاسلام ، وهو في غاية البعد ، ورواية من روى تقييده بالليل تبطل ذلك .
ومنهم من حمله على الخروج للعيدين ، وهو بعيد - أيضاً - ؛ فان النَّبيّ ( لم يكن من عادته صلاة العيدين في المسجد .
ومن أصحابنا من قال : يكره منعهن إذا لم يكن في خروجهن ضررٌ ولا فتنهٌ ، فحملوا النهي على الكراهة .
وقال صاحب ( ( المغني ) ) منهم : ظاهر الحديث يمنعه من منعها .
قلت : وهوظاهر ما روي عن عمر وابن عمر ، كما تقدم .
وكذلك مذهب مالكٍ : لا يمنع النساء من الخروج إلى المسجد .
وبكل حال ؛ فصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد .(5/320)
"""""" صفحة رقم 321 """"""
خرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عمر ، عن النبي ( ، قال : ( ( لا تمنعوا نساءكم المساجد ، وبيوتهنَّ خيرٌ لهنَّ ) ) .
وخرج الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحيهما ) ) من حديث أم حميد - امرأة أبي حميد - ، أن النبي ( قال لها : ( ( صلاتك في بيتك خيرٌ من صلاتك في حجرتك ، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك ، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك ، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي ) ) .
قال : فأمرت ، فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها واظلمه ، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل .
وخرج أبو داود معناه من حديث ابن مسعود .
والبيهقي معناه - أيضاً - من حديث عائشة .
وخرج الإمام أحمد والحاكم من حديث أم سلمة ، عن النبي ( ، قال : ( ( خيرُ مساجد النساء قعر بيوتهن ) ) .
وخرَّجه الطبراني من وجه أخر عن أم سلمة ، بمعنى الأحاديث التي قبله .
وقد تقدم عن ابن مسعود ، أن صلاتها في مسجد مكة والمدينة أفضل من صلاتها في بيتها .(5/321)
"""""" صفحة رقم 322 """"""
فارغة(5/322)
"""""" صفحة رقم 323 """"""
كتاب الجمعة(5/323)
"""""" صفحة رقم 324 """"""
فارغة(5/324)
"""""" صفحة رقم 325 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الجمعة
- باب فرض الجمعة
لقول الله عز وجل : ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( [ الجمعة : 9 ] الآية .
صلاة الجمعة فريضة من فرائض الأعيان على الرجال دون النساء ، بشرائط أخر ، هذا قول جمهور العلماء ، ومنهم من حكاه إجماعاً كابن المنذر .
وشذ من زعم أنها فرض كفايةٍ الشافعية ، وحكاه بعضهم قولاً للشافعي ، وأنكر ذلك عامة أصحابه ، حتى قال طائفة منهم : لا تحل حكايته عنه .
وحكاية الخطابي لذلك عن أكثر العلماء وهم منه ، ولعله أشتبه عليه الجمعة
بالعيد .
وحكي عن بعض المتقدمين : أن الجمعة سنةٌ .
وقد روى ابن وهبٍ ، عن مالكٍ ، أن الجمعة سنة .
وحملها ابن عبد البر على أهل القرى المختلف في وجوب الجمعة عليهم خاصة ، دون أهل الأمصار .
ونقل حنبلٌ ، عن أحمد ، أنه قال : الصلاة - يعني : صلاة الحمعة - فريضةٌ ، والسعي إليها تطوعٌ ، سنةٌ مؤكدةٌ .(5/325)
"""""" صفحة رقم 326 """"""
وهذا إنما هو توقف عن اطلاق الفرض على اتيان الجمعة ، وأما الصلاة نفسها ، فقد صرح بأنها فريضةٌ ، وهذا يدل على أن ما هو وسيلة إلى الفريضة ولا تتم الإ به لا يطلق عليه اسم الفريضة ؛ لأنه وإن كان مأموراً به فليس مقصوداً لنفسه ، بل لغيره .
وتأول القاضي أبو يعلى كلام أحمد بما لا يصح .
وقد دل على فرضيتها : قول الله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ ( [ الجمعة : 9 ] .
والمراد بالسعي : شدة الاهتمام بإتيانها والمبادرة إليها . فهو من سعي القلوب ، لا من سعي الأبدان ، كذا قال الحسن وغيره ، وسيأتي بسط ذلك فيما بعد - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة ، إنهما سمعا رسول الله ( يقول على أعواد منبره : ( ( لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات ، أو ليختمن الله على قلوبهم ، ثم ليكونن من الغافلين ) ) .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - ، عن النبي ( ، قال : ( ( من ترك الجمعة تهاوناً ثلاث مرات طبع على قلبه ) ) .
وقال الترمذي : حديثٌ حسنٌ .
وخرَّجه ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) .
وروي معناه من وجوهٍ كثيرةٍ :(5/326)
"""""" صفحة رقم 327 """"""
وفي ( ( صحيح مسلمٍ ) ) عن ابن مسعودٍ ، أن النبي ( هم أن يحرق على من يتخلف عن الجمعة بيوتهم ، وقد سبق ذكره .
وخرج أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ ، عن طارق بن شهابٍ ، عن النبي ( قال :
( ( الجمعة حقٌ واجبٌ في جماعةٍ ، إلا أربعة : عبدٌ مملوكٌ ، أو امرأةٌ ، أو صبيٌ ، أو
مريضٌ ) ) .
قال أبو داود : طارق بن شهابٍ راى النبي ( ، ولم يسمع منه شيئاً . قال البيهقي : وقد وصله بعضهم عن طارق ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي ( ، وليس وصله بمحفوظٍ . وخرج النسائي من حديث حفصة ، عن النبي ( ، قال : ( ( رواح الجمعة واجبٌ على كل محتلم ) ) .
وخرج ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله ، أن النبي ( خطبهم ، فقال في خطبيه : ( ( إن الله فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا ، في يومي هذا ، في شهري هذا ، من عامي هذا إلى يوم القيامة ، فمن تركها في حياتي أو بعدي ، وله إمام عادل أو جائرٌ ، استخفافاً بها أو جحودا لها فلا جمع الله شمله ، ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ولا زكاة له ، ولا حج له ، ولا صوم له ، ولا بركة حتى يتوب ، فمن تاب تاب الله
عليه ) ) .
وفي إسناده ضعفٌ واضطرابٌ واختلافٌ ، قد أشرنا إلى بعضه فيما تقدم في ( ( أبواب الإمامة ) ) وفيه : دليلٌ على أن الجمعة إنما فرضت بالمدينة ؛ لأن جابراً إنما صحب(5/327)
"""""" صفحة رقم 328 """"""
النبي ( وشهد خطبته بالمدينة ، وهذا قول جمهور العلماء .
ويدل عليه - أيضاً - : أن سورة الجمعة مدنيةٌ ، وأنه لم يثبت أن النبي ( كان يصلي الجمعة بمكة قبل هجرته .
ونص الإمام أحمد على أن أول جمعةٍ جمعت في الإسلام هي التي جمعت بالمدينة مع مصعب بن عميرٍ .
وكذا قال عطاء والأوزاعي وغيرهما . وزعم طائفةٌ من الفقهاء : أن الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة ، وأن النبي ( كان يصليها بمكة قبل أن يهاجر .
واستدل لذلك : بما خرَّجه النسائي في ( ( كتاب الجمعة ) ) من حديث المعافى بن عمران ، عن إبراهيم بن طهان ، عن محمد ابن زياد ، عن أبي هريرة قال : إن أول جمعةٍ جمعت - بعد جمعة جمعت مع رسول الله ( بمكة - بجواثاء بالبحرين - قرية لعبد القيس .
وقد خرَّجه البخاري - كما سيأتي في موضعه - من طريق أبي عامر العقدي ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن أبي جمرة ، عن ابن عباسٍ ، أن أول جمعة جمعت - بعدجمعة في مسجد رسول الله ( - في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين .
وكذا رواه وكيع ، عن إبراهيم بن طهمان ، ولفظه : إن أول جمعة جمعت في الإسلام - بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله ( بالمدينة - لجمعة جمعت بجواثاء - قرية من قرى البحرين .
خرَّجه أبو داود .
وكذا رواه ابن المبارك وغيره ، عن إبراهيم بن طهمان .(5/328)
"""""" صفحة رقم 329 """"""
فتبين بذلك : أن المعافى وهم في إسناد الحديث ومتنه ، والصواب : رواية
الجماعة ، عن إبراهيم بن طهمان .
ومعنى الحديث ، أن أول مسجدٍ جمع فيه - بعد مسجد المدينة - : مسجد جواثاء ، وليس معناه : أن الجمعة التي جمعت بجواثاء كانت في الجمعة الثانية من الجمعة التي جمعت بالمدينة ، كما قد يفهم من بعض ألفاظ الروايات ؛ فإن عبد القيس إنما وفد على
رسول الله ( عام الفتح ، كما ذكره ابن سعد ، عن عروة بن الزبير وغيره .
وليس المراد به - أيضاً - أن أول جمعة في الإسلام في مسجد المدينة ، فإن أول جمعة جمعت بالمدينة في نقيع الخضمات ، قبل أن يقدم النبي ( المدينة ، وقبل أن يبني مسجده .
يدل على ذلك : حديث كعب بن مالكٍ ، أنه كان كلما سمع أذان الجمعة استغفر لأسعد بن زرارة ، فسأله ابنه عن ذلك ، فقال : كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم رسول الله ( من مكة في نقيع الخضمات ، في هزم النبيت ، من حرة بني بياضة ، قيل له : كم كنتم يومئذ ؟ قال : أربعين رجلاً .
خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه - مطولاً .
وروى أبو إسحاق الفزاري في ( ( كتاب السير ) ) له ، عن الأوزاعي ، عمن
حدثه ، قال : بعث رسول الله ( مصعب بن عمير القرشي إلى المدينة ، قبل أن يهاجر(5/329)
"""""" صفحة رقم 330 """"""
النبي ( ، فقال : ( ( أجمع من بها من المسلمين ، ثم انظر اليوم الذي تجمر فيه اليهود لسبتها ، فإذا مال النهار عن شطره فقم فيهم ، ثم تزلفوا إلى الله بركعتين ) ) .
قال : وقال الزهري : فجمع بهم مصعب بن عمير في دار من دور الأنصار ، فجمع بهم وهم بضعة عشر .
قال الأوزاعي : وهو أول من جمع بالناس .
وقد خرّج الدارقطني - أظنه في ( ( أفراده ) ) - من رواية أحمد بن محمد بن غالب الباهلي : نا محمد بن عبد الله أبو زيد المدني : ثنا المغيرة بن عبد الرحمن : ثنا مالكٌ ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباسٍ ، قال : أذن رسول الله ( بالجمعة قبل أن يهاجر ، ولم يستطع رسول الله ( أن يجمع بمكة ولا يبين لهم ، وكتب إلى مصعب بن عمير : ( ( أما بعد ، فانظر اليوم الذي تجمر فيه اليهود لسبتهم ، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم ، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله بركعتين ) ) .
قال : فهو أول من جمع مصعب بن عمير ، حتى قدم رسول الله ( المدينة ، فجمع عند الزوال من الظهر ، وأظهر ذلك .
وهذا إسنادٌ موضوعٌ ، والباهلي هو : غلام خليلٍ ، كذاب مشهور بالكذب ، وإنما هذا أصله من مراسيل الزهري ، وفي هذا السياق ألفاظٌ منكرةٌ .
وخرج البيهقي من رواية يونس ، عن الزهري ، قال : بلغنا أن أول ما جمعت الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله ( ، فجمع بالمسلمين مصعب بن عميرٍ .(5/330)
"""""" صفحة رقم 331 """"""
وروى عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) عن معمر ، عن الزهري ، قال : بعث رسول الله ( مصعب بن عمير إلى أهل المدينة ليقرئهم القرآن ، فاستأذن رسول الله ( أن يجمع بهم ، فاذن له رسول الله ( ، وليس يومئذٍ بأميرٍ ، ولكنه انطلق يعلم أهل امدينة .
وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : من أول من جمع ؟ قال : رجلٌ من بني عبد الدار - زعموا - ، قلت : أفبأمر النبي ( قال : فمه .
وخرَّجه الأثرم من رواية ابن عيينة ، عن ابن جريج ، وعنده : قال : نعم ، فمه . قال ابن عيينة : سمعت من يقول : هو مصعب بن عميرٍ .
وكذلك نص الإمام أحمد في - رواية أبي طالب - على أن النبي ( هو امر مصعب بن عمير أن يجمع بهم بالمدينة .
ونص أحمد - أيضاً - على أن أول جمعة جمعت في الإسلام هي الجمعة التي جمعت بالمدينة مع مصعب بن عمير .
وقد تقدم مثله عن عطاء والأوزاعي .
فتبين بهذا : أن النبي ( أمر بإقامة الجمعة بالمدينة ، ولم يقمها بمكة ، وهذا يدل على أنه كان قد فرضت عليه الجمعة بمكة .
وممن قال : إن الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة : أبو حامد الاسفراييني من الشافعية ، والقاضي أبو يعلى في ( ( خلافه الكبير ) ) من أصحابنا ، وابن عقيل في ( ( عمد الادلة ) ) ، وكذلك ذكره طائفة من المالكية ، منهم : السهيلي وغيره .
وأما كونه لم يفعله بمكة ، فيحمل أنه إنما امر بها أن يقيمها في دار الهجرة ، لا في دار الحرب ، وكانت مكة إذ ذاك دار حربٍ ، ولم يكن المسلمون(5/331)
"""""" صفحة رقم 332 """"""
يتمكنون فيها من إظهار دينهم ، وكانوا خائفين على أنفسهم ، ولذلك هاجروا منها إلى المدينة ، والجمعة تسقط بأعذارٍ كثيرةٍ منها الخوف على النفس والمال .
وقد أشار بعض المتأخرين من الشافعية إلى معنى آخر في الامتناع من إقامتها بمكة ، وهو : أن الجمعة إنما يقصد بإقامتها اظهار شعار الإسلام ، وهذا إنما يتمكن منه في دار الإسلام .
ولهذا لا تقام الجمعة في السجن ، وإن كان فيه أربعون ، ولا يعلم في ذلك خلافٌ بين العلماء ، وممن قاله : الحسن ، وابن سيرين ، والنخعي ، والثوري ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق وغيرهم .
وعلى قياس هذا : لو كان الأسارى في بلد المشركين مجتمعين في مكانٍ واحدٍ ؛ فإنهم لا يصلون فيه جمعةً ، كالمسجونين في دار الإسلام وأولى ؛ لا سيما وأبو حنيفة وأصحابه يرون أن الإقامة في دار الحرب - وإن طالت - حكمها حكم السفر ، فتقصر فيها الصلاة أبداً ، ولو اقام المسلم باختياره ، فكيف إذا كان أسيراً مقهوراً ؟
وهذا على قول من يرى إشتراط إذن الإمام لإقامة الجمعة ، أظهر ، فأما على قول من لا يشترط إذن الإمام ، فقد قال الإمام أحمد في الأمراء إذا أخروا الصلاة يوم الجمعة : فيصليها لوقتها ويصليها مع الإمام ، فحمله القاضي أبو يعلى في ( ( خلافه ) ) على أنهم يصلونها جمعة لوقتها .
وهذا بعيدٌ جداً ، وإنما مراده : أنهم يصلون الظهر لوقتها ، ثم يشهدون الجمعة مع الأمراء .
وكذلك كان السلف الصالح يفعلون عند تأخير بني أمية للجمعة عن وقتها ، ومنهم من كان يومئ بالصلاة وهو جالسٌ في المسجد قبل خروج الوقت ، ولم يكن أحد منهم يصلي الجمعة لوقتها ، وفي ذلك مفاسد كثيرة تسقط الجمعة بخشية بعضها .(5/332)
"""""" صفحة رقم 333 """"""
وفي ( ( تهذيب المدونة ) ) للمالكية : وإذا أتى من تأخير الأئمة ما يستنكر جمع الناس لأنفسهم أن قدروا ، وإلا صلوا ظهراً ، وتنفلوا بصلاتهم معهم .
قال : ومن لا تجب عليه الجمعة مثل المرضى والمسافرين وأهل السجن فجآئز أن يجمعوا .
وأراد بالتجميع هنا : صلاة الظهر جماعةً ، لا صلاة الجمعة ؛ فإنه قال قبله : وإذا فاتت الجمعة من تجب عليهم فلا يجمعوا .
والفرق بين صلاة الظهر جماعةً يوم الجمعة ، ممن تجب عليه وممن لا تجب عليه : أن من تجب عليه يتهم في تركها ، بخلاف من لا تجب عليه فإن عذره ظاهرٌ .
وقد روي عن ابن سيرين ، أن تجميع الانصار بالمدينة إنما كان عن رأيهم ، من غير أمر النبي ( بالكلية ، وأن ذلك كان قبل فرض الجمعة .
قال عبد الله ابن الإمام أحمد في ( ( مسائله ) ) : ثنا أبي : ثنا اسماعيل - هو : ابن عليه - : ثنا ايوب ، عن محمد بن سيرين ، قال : نبئت أن الانصار قبل قدوم رسول الله ( عليهم المدينة قالوا : لو نظرنا يوماً فاجتمعنا فيه ، فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله علينا
به ، فقالوا : يوم السبت ، ثم قالوا : لا نجامع اليهود في يومهم ، قالوا : يوم الأحد ، قالوا : لا نجامع النصارى في يومهم .
قالوا : فيوم العروبة : قال : وكانوا يسمون يوم الجمعة : يوم العروبة ، فاجتمعوا في بيت أبي أمامة أسعد بن زرارة ، فذبحت لهم شاةٌ ، فكفتهم .
وروى عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) عم معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم رسول الله ( ، وقبل أن تنزل الجمعة ، وهم الذين سموها الجمعة ، فقالت الأنصار : لليهود يومٌ يجتمعون فيه كل(5/333)
"""""" صفحة رقم 334 """"""
ستة أيامٍ ، وللنصارى - أيضاً - مثل ذلك ، فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه ، ونذكر الله عز وجل ، ونصلي ونشكره - أو كما فقالوا - ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوا يوم
العروبة ، وكانوا يسمون يوم الجمعة : يوم العروبة ، فاجتمعوا إلى اسعد بن زرارة ، فصلى بهم وذكرهم ، فسموه : يوم الجمعة حين اجتمعوا اليه ، فذبح أسعد بن زراره لهم شاة ، فتغدوا وتعشوا من شاة واحدة ليلتهم ، فأنزل الله بعد ذلك : ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( [ الجمعة : 9 ] .
فوقع في كلام الإمام أحمد : أن هذه هي الجمعة التي جمعها مصعب بن عميرٍ ، وهي التي ذكرها كعب بن مالكٍ في حديثه ، أنهم كانوا أربعين رجلاً .
وفي هذا نظرٌ .
ويحتمل أن يكون هذا الاجتماع من الأنصار كان باجتهادهم قبل قدوم مصعبٍ إليهم ، ثم لما قدم مصعب عليهم جمع بهم بأمر النبي ( ، وكان الإسلام حينئذ قد ظهر وفشا ، وكان يمكن إقامة شعار الإسلام في المدينة ، وأما اجتماع الأنصار قبل ذلك ، فكأن في بيت اسعد بن زرارة قبل ظهور الإسلام بالمدينة وفشوه ، وكان باجتهاد منهم ، لا بأمر النبي ( . والله سبحانه وتعالى أعلم .
قال البخاري - رحمه الله - :
876 - نا أبو اليمان : أنا شعيب : نا أبو الزناد ، أن عبد الرحمن بن هرمز الاعرج مولى ربيعة بن الحارث حدثه ، أنه سمع أبا هريرة ، أنه سمع رسول الله ( يقول : ( ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم ، فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه(5/334)
"""""" صفحة رقم 335 """"""
تبع ، اليهود غدا ، والنصارى بعد غدٍ ) ) .
قوله : ( ( نحن الآخرون ) ) - يعني : في الزمان ؛ فإنه ( خاتم النبيين ، وأمته آخر الأمم .
وقوله : ( ( السابقون ) ) - يعني : في الفضل والكرامة على الله ؛ قالَ الله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ( [ آل عمران : 11 ] .
وفي حديث بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي ( : ( ( أنتم موفون سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل ) ) .
وفي رواية أبي حازم ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( - لهذا الحديث - : ( ( نحن الآخرون من أهل الدنيا ، الأولون يوم القيأمة ، المقضى لهم قبل الخلائق ) ) .
خرَّجه مسلم . امة
وخرَّجه من حديث حذيفة - بمثله .
وخرّج من حديث أبي صالحٍ ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، في هذا الحديث زيادةٌ : ( ( ونحن أول من يدخل الجنة ) ) .
وهذا كله - أيضاً - من سبقهم ؛ فإنهم أول من يحاسب يوم القيأمة ، ومن يجوز على الصراط ، ومن يدخل الجنة .
وقوله : ( ( بيد ) ) ، هو اسمٌ ملازم للإضافة إلى ( ( أن ) ) وصلتها ، ومعناه - هاهنا - : غير ، ولا يستثنى به في الاتصال ، بل في الانقطاع .
والمعنى : لكن أهل الكتاب أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتينا نحن الكتاب من
بعدهم ، فلهم السبق في الزمان بهذا الاعتبار في الدنيا ، لا في الفضل ، ولا في الآخرة .(5/335)
"""""" صفحة رقم 336 """"""
ونقل الربيع ، عن الشافعي : أنه قال : ( ( بيد أنهم ) ) : من أجل أنهم - فجعله تعليلاً .
وقوله : ( ( ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه ) ) .
( ( ثم ) ) - هاهنا - لترتيب الاخبار ، ويحتمل أنه لترتيب المخبر به ، والمراد : أنهم أوتوا الكتاب ، ثم فرض عليهم هذا اليوم - والاشارة إلى يوم الجمعة - ، فاختلفوا فيه ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق باذنه ، فالناس لنا فيه تبعٌ .
وهذا - أيضاً - مما حازت به الأمة السبق مع تأخر زمانهم ، فإن اليهود والنصارى لما فرض عليهم تعظيم الجمعة ، والعبادة فيه لله ، واتخاذه عيداً للاجتماع فيه لذكر الله فيه ، ضلوا عنه ، فاختارت اليهود السبت ؛ لأنه يوم فرغ فيهِ الخلق ، واختارت النصارى الأحد ؛ لأنه يوم بدئ فيه الخلق ، فهدانا الله للجمعة ، فصار عيدنا أسبق من عيدهم ، وصاروا لنا في عيدنا تبعاً ، فمنهم من عيده الغد من يوم الجمعة ، ومنهم من عيده بعد
غدٍ .
وإنما ضلت الطائفتان قبلنا لتقديمهم رأيهم على ما جاءت به رسلهم وانبياؤهم ، واهتدت هذه الأمة باتباعهم ما جاءهم به رسلهم عن ربهم ، من غير تغيير له ولا تبديلٍ .
وفي الحديث : دليلٌ على أن الجمعة فرض من الله واجب علينا ، كما كان على من قبلنا ، فإن الله فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة ، واتخاذه عيداً ومجمعاً لذكر الله
وعبادته ، فبدلوه بغيره من الايام ، وهدانا الله لهُ ، فدل ذَلِكَ على أنه مفروض علينا تعظيمه ، واتخاذه عيداً ؛ لذكر الله والاجتماع فيه لعبادته ، وهذا من أدل دليلٍ على أن شهود الجمعة فرض على هذه الأمة .(5/336)
"""""" صفحة رقم 337 """"""
- باب فضل الغسل يوم الجمعة وهل على الصبي شهود يوم الجمعة ، أو على النساء ؟
فيه ثلاثة أحاديث :
الحديث الأول :
877 - ثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالكٌ ، عن نافعٍ ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله ( قال : ( ( إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل ) ) .
ليس في هذا الحديث ، ولا فيما بعده من الأحاديث المخرجة في هذا الباب ذكر فضل الغسل وثوابه ، كما بوب عليه ، بل الأمر به خاصةً .
وقد خرج فيما بعد هذا الباب أحاديث في فضل الغسل مع الرواح ، أو مع الدهن والطيب ، وستأتي في مواضعها - إن شاء الله تعالى .
وقد بوب على أن الصبي والمرأة : هل عليهما شهود الجمعة ؟
فأما الصبي ، فسيأتي الحديث الذي يؤخذ منه حكمه .
وأما حكم المرأة ، فكأنه أخذه من هذا الحديث ، وهو قوله : ( ( إذا جاء أحدكم الجمعة ) ) ، فإن الخطاب كان للرجال ، والضمير يعود إليهم ، لأنه ضمير تذكيرٍ ، فلا يدخل فيه النساء .
وقد اختلف المتكلمون في أصول الفقه في صيغ الجموع المذكرة : هل يدخل فيها النساء تبعاً ، أم لا ؟ وفي ذلك اختلاف مشهورٌ بينهم .
وأكثر أصحابنا على دخولهن مع الذكور تبعاً .
ومن أصحابنا من قال : لا يدخلن معهم ، وهو قول أكثر الشافعية والحنفية وغيرهم .(5/337)
"""""" صفحة رقم 338 """"""
ولفظة : ( ( أحد ) ) وإن لم تكن جمعاً ، إلا أنها مقتضية للعموم ، إما بطريق البدلية ، أو الشمول ، كما في قوله : ( لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ( [ البقرة : 285 ] .
ولكن الأمر هنا بالغسل ، لا بمجيء الجمعة ، ولكن المأمور به بالغسل هو الذي يأتي الجمعة ، بلفظ يقتضي أنه لابد من المجيء إلى الجمعة ، فإن ( ( إذا ) ) إنما يعلق بها الفعل المحقق وقوعه غالبا قد يقتضي - أيضاً - العموم ، لكن هذا العموم يخرج منه المرأة ، بالأحاديث الدالة على أنه لا جمعة عليها ، وقد سبق بعضها .
وخرّج أبو داود من حديث أم عطية ، أن النبي ( لما قدم المدينة جمع نساء الأنصار في بيتٍ ، فأرسل إليهن عمر ، فقال : أنا رسول الله ( إليكن ، وأمرنا بالعيدين أن نخرج فيهما الحيض والعتق ، ولا جمعة علينا .
وقد حكى ابن المنذر وغيره الإجماع على أن النساء لا تجب عليهن الجمعة ، وعلى أنهن إذا صلين الجمعة مع الرجال أجزأهن من الظهر .
ومن حكى من متأخري أصحابنا في هذا خلافاً ، فقد غلط ، وقال ما لا حقيقة
له .
وروى أبو داود في ( ( مراسليه ) ) بإسناده ، عن الحسن ، قال : كن النساء يجمعن مع النبي ( .
وعن واصلٍ ، عن مجاهدٍ ، قال : كان الضعفاء من الرجال والنساء يشهدون الجمعة مع النبي ( ، ثم لا يأوون إلى رحالهم إلا من الغد ، من الضعف .
وواصلٌ ، فيه ضعفٌ .(5/338)
"""""" صفحة رقم 339 """"""
وروي ، عن ابن مسعودٍ ، أنه قال للنساء يوم الجمعة : إذا صليتن مع الإمام فبصلاته ، وإذا صليتن وحدكن فتصلين أربعاً .
وعنه ، أنه كان يخرج النساء من المسجد يوم الجمعة ، ويقول : أخرجن ؛ فإن هذا ليس لكن .
خرّجهما البيهقي .
ولعله كره أن يضيقن المسجد على الرجال لكثرة زحام الجمعة ، أو كره لهن الخروج من بيوتهن بالنهار .
ومن الشافعية من استجب للعجائز حضور الجمعة .
وعند أصحابنا : لا يكره للعجائز حضور الجمعة .
وفي كراهته للشواب وجهان .
الحديث الثاني :
878 - ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء : أنا جويرية ، عن مالكٍ ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، أن عمر بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة ، إذ دخل رجلٌ من المهاجرين الأولين من اصحاب النبي ( ، فناداه عمر : آية ساعةٍ هذه ؟ قالَ : إني
شغلت ، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت المنادي ، فلم أزد أن توضأت ، فقال : والوضوء أيضاً ؟ وقد علمت أن رسول الله ( كان يأمر بالغسل .
وهذا - أيضاً - ليس فيه ذكر فضل الغسل ، إنما فيه إلامر به ، ولعل مراده بتخريجه في هذا الباب : أن فيه ما يشعر بأن الأهل لا يخرجن إلى الجمعة ؛ فإن هذا الرجل لما قال لعمر : ( ( لم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت المنادي ، فلم أزد أن توضأت ) ) ، وسمع ذلك عمر ومن حضره من الصحابة ، دل على اتفاقهم(5/339)
"""""" صفحة رقم 340 """"""
على أن خروج الأهل إلى الجمعة غير واجب . والله أعلم .
الحديث الثالث :
879 - ثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالكٌ ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسارٍ ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله ( قال : ( ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلمٍ ) ) .
وهذا الحديث إنما يدل على تخصيص المحتلمين بوجوب الغسل ، كما سبق ذكره في ( ( باب : وضوء الصبيان وطهارتهم ) ) .
وقد تقدم ما يدل على أن المأمورين بالغسل هم الآتون للجمعة ، فيستدل بذلك على اختصاص إلاتيان للجمعة بمن بلغ الحلم ، دون من لم يبلغ .
وقد خرج النسائي من رواية عياش بن عباسٍ ، عن بكير بن الأشج ، عن نافعٍ ، عن ابن عمر ، عن حفصة ، أن النبي ( قال : ( ( رواح الجمعة واجبٌ على كل
محتلم ) ) .
وهذا صريحٌ بأن الرواح إنما يجب على المحتلم ، فيفهم منه أنه لا يجب على من لم يحتلم .
وخرَّجه أبو داود وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) ، ولفظ أبي داود : ( ( على كل محتلمٍ رواح الجمعة ، وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل ) ) .
وقد أعل ، بأن مخرمة بن بكيرٍ رواه عن أبيه ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ( - من غير ذكر حفصة .
وهو أصح عند الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما ؛ فإن ابن عمر صرح بأنه سمع حديث الغسل من النبي ( ، ولكن هل حديث مخرمة موافق لحديث(5/340)
"""""" صفحة رقم 341 """"""
عياش في لفظه ، أم لا ؟
وقد سبق القول في وجوب الجمعة على من لم يحتلم من الصبيان في ( ( باب : وضوء الصبيان ) ) .
وحديث عمر وابن عمر فيهما التصريح بأمر النبي ( بالغسل للجمعة ، وحديث أبي سعيد فيه التصريح بوجوبه .
وقد أختلف العلماء في غسل الجمعة : هل هو واجبٌ - بمعنى : أنه يأثم بتركه مع القدرة عليه بغير ضرر - ، أم هو مستحبٌ - فلا ياثم بتركه بحال - ؟
ولم يختلفوا أنه ليس بشرط لصحة صلاة الجمعة ، وأنها تصح بدونه ، ولهذا أقر عمر والصحابة من شهد الجمعة ولم يغتسل ، ولم يأمروه بالخروج للغسل .
وقد استدل - أيضاً - بذلك الشافعي وغيره على أنه غير واجب ؛ لأنه لو كان واجباً لأمروه بالخروج له .
وأجاب بعضهم عن ذلك : بأنهم قد يكونوا خافوا عليه فوات الصلاة لضيق الوقت .
وأكثر العلماء على أنه يستحب ، وليس بواجب .
وذكر الترمذي في ( ( كتابه ) ) أن العمل على ذلك عند أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم .
وهذا الكلام يقتضي حكاية الإجماع على ذلك .
وقد حكي عن عمر وعثمان ، ومستند من حكاه عنهما : قصة عمر مع الداخل إلى المسجد ؛ فإنه قد وقع في روايةٍ أنه كان عثمان ، وسنذكرها - إن شاء الله تعالى .
وممن قال : هو سنة : ابن مسعودٍ .
وروي عن عباسٍ ، أنه غير واجبٍ ، وعن عائشة وغيرهم من الصحابة ، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار : الثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ،(5/341)
"""""" صفحة رقم 342 """"""
وأحمد - في ظاهر مذهبه - ، وإسحاق .
ورواه ابن وهبٍ عن مالكٍ ، وأنه قيل له : في الحديث : ( ( هو واجبٌ ) ) ؟ قال ليس كل ما في الحديث : ( ( هو واجبٌ ) ) يكون كذلك .
وهواختيار عبد العزيز بن أبي سلمة وغيره من أصحابه .
واستدل من قال : ليس بواجبٍ : بما روي عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ، ومن أغتسل فالغسل أفضل ) ) .
خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي ، وحسنه .
وقد أختلف في سماع الحسن من سمرة .
وخرَّجه ابن ماجه من حديث يزيد الرقاشي ، عن انس - مرفوعاً - أيضاً .
ويزيد ، ضعيف الحديث .
وفي ( ( صحيح مسلمٍ ) ) عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ، وزيادة ثلاثة أيام ) ) .
وهذا يدل على أن الوضوء كافٍ ، وان المقتصر عليه غير أثمٍ ولا عاصٍ ، وأما إلامر بالغسل فمحمول على إلاستحباب .
وقد روي من حديث عائشة وابن عباسٍ ما يدل على ذلك ، وسيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى .
وأما رواية الوجوب ، فالوجوب نوعان : وجوب حتم ، ووجوب سنةٍ وفضلٍ .
وذهبت طائفة إلى وجوب الغسل ، وروي عن أبي هريرة ، والحسن ، وروي - أيضاً - عن سعدٍ ، وعمارٍ ، وابن عباسٍ - في رواية أخرى عنه - ، وعن عبد الرحمن(5/342)
"""""" صفحة رقم 343 """"""
بن يزيد بن الأسود ، وعطاء بن السائب ، وعمرو بن سليمٍ وغيرهم من المتقدمين .
وحكي رواية عن أحمد ، قال أحمد - في رواية حربٍ وغيره - : أخاف أن يكون واجباً ، إلا أن يكون بردٌ شديدٌ .
وهذا لا يدل على الوجوب جزماً .
وهو رواية عن مالكٍ ، ولم يذكر في ( ( تهذيب المدونة ) ) سواها .
ذكر ابن عبد البر : أنه لا يعلم أحداً قال : إنه يأثم بتركه ، غير أهل الظاهر ، وأن من أوجبه ، قال : لا يأثم بتركه .
وحكى - أيضاً - إلاجماع على أنه ليس بفرضٍ واجبٍ .
وذكر عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاءٍ : غسل الجمعة
واجبٍ ؟ قال : نعم ، من تركه فليس بأثمٍ .
قال عبد الرزاق : وهو أحب القولين إلى سفيان ، يقول : هو واجبٌ .
يعني : وجوب سنةٍ .
وذكر ابن عبد البر قولين للعلماء ، وذكر أنه أشهر الروايتين عن مالكٍ .
والثاني : أنه مستحب وليس بسنةٍ ، بل كالطيب والسواك ، وحكاه رواية عن مالكٍ .
وحكى عن بعضهم : أن الطيب يغني عنه ، حكاهٌ عن عطاء الخراساني ، وعن
عبد الكريم بن الحارث المصري ، وعن موسى بن صهيبٍ ، قالَ : كانوا يقولون ذَلِكَ .
وعن النخعي ، قالَ : ما كانوا يرون غسلاً واجبً إلا غسل الجنابة ، وكانوا يستحبون غسل الجمعة .(5/343)
"""""" صفحة رقم 344 """"""
فابن عبد البر لم يثبت في وجوب غسل الجمعة - بمعنى كونه فرضاً يأثم بتركه - اختلافاً بين العلماء المعتبرين ، وإنما خص الخلاف في ذَلِكَ باهل الظاهر .
والأكثرون : أطلقوا حكاية الخلاف في وجوب غسل الجمعة ، وحكوا القول بوجوبه عن طائفة من السلف ، كما حكاه ابن المنذر ، عن أبي هريرة وعمار ، وعن مالكٍ - أيضاً .
والذي ذكره ابن عبد البر هوَ التحقيق في ذَلِكَ - والله أعلم - ، وأن من أطلق وجوبه إنما تبع في ذَلِكَ ما جاء عن النَّبيّ ( من إطلاق اسم ( ( الواجبٍ ) ) عليهِ ، وقد صرح طائفة منهم بأن وجوبه لا يقتضي إلاثم بتركه ، كما حمل أكثر العلماء كلام النَّبيّ ( على مثل ذَلِكَ - أيضاً .
وممن صرح بهذا : عطاءٌ ، كما سبق ذكره عنه ، ومنهم : يحيى بن يحيى النيسابوري ، والجوزجاني .
وقد تبين بهذا أن لفظ ( ( الواجبٍ ) ) ليس نصاً في إلالزام بالشيء والعقاب على تركه ، بل قد يراد به ذَلِكَ - وهو الأكثر - ، وقد يراد به تأكد إلاستحباب والطلب .
ولهذا قالَ إسحاق : إن كل ما في الصَّلاة فهوَ واجبٌ . وإن كانت الصَّلاة تعاد من ترك بعضه ، كما سبق ذكره عنه .
وسبق - أيضاً - ، عن الشافعي وأحمد في لفظ : ( ( الفرض ما يدل على نحو ذَلِكَ ، فالواجب أولى ؛ لأنه دون الفرض .
ونص الشافعي - في رواية البويطي - على أن صلاة الكسوف ليست بنفلٍ ، ولكنها واجبةٌ وجوب السنة .
وهذا تصريح منه بأن السنة المتأكدة تسمى ( ( واجباً ) ) . والله أعلم .(5/344)
"""""" صفحة رقم 345 """"""
3 - باب
الطيب للجمعة
880 - حدثنا علي : ثنا حرمي بن عمارة : ثنا شعبة ، عن أبي بكر بن المنكدر ، قال : حدثني عمرو بن سليم إلانصاري ، قال : اشهد على أبي سعيد ، قال : أشهد على رسول الله ( ، قال : ( ( الغسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم ، وان يستن ، وأن يمس طيباً إن وجد ) ) .
قال عمروٌ : أما الغسل ، فأشهد أنه واجبٌ ، وأما الاستنان والطيب ، فالله أعلم واجبٌ هو ، أم لا ؟ ولكن هكذا في الحديث .
قال أبو عبد الله : هو أخو محمد بن المنكدر ، ولم يسم أبو بكرٍ هذا ، روى عنه بكير بن الأشج وسعيد بن أبي هلال وعدةٌ .
وكان محمد بن المنكدر يكنى بأبي بكرٍ ، وأبي عبد الله .
( ( علي ) ) شيخ البخاري ، هو : ابن المديني ، وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث - فيما ذكره الدارقطني في ( ( علله ) ) - :
فرواه عنه تمتامٌ ، كما رواه عنه البخاري .
ورواه الباغندي عنه ، فزاد في إسناده : ( ( عبد الرحمن بن أبي سعيدٍ ) ) ، جعله : عن عمرو بن سليمٍ ، عن عبد الرحمن ، عن أبيه .
وكذا رواه سعيد بن أبي هلالٍ ، عن أبي بكر بن المنكدر ، عن عمروٍ ، عن
عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه .(5/345)
"""""" صفحة رقم 346 """"""
خرَّجه مسلمٌ من طريقه كذلك .
وخرَّجه - أيضاً - من رواية بكير بن الأشج ، عن أبي بكرٍ بن المنكدر ، ولم يذكر في إسناده : ( ( عبد الرحمن ) ) .
وعن الدارقطني : أنه ذكر ( ( عبد الرحمن ) ) في إسناده أصح من إسقاطه .
وتصرف البخاري يدل على خلاف ذلك ؛ فإنه لم يخرج الحديث إلا بإسقاطه ، وفي روايته : أن عمروٍ بن سليم شهد على أبي سعيدٍ ، كما شهد أبو سعيدٍ على النَّبيّ
( ، وهذا صريح في أنه سمعه من أبي سعيد بغير واسطةٍ .
وكذا رواه إبراهيم بن عرعرة ، عن حرمي بن عمارة - أيضاً .
وخرَّجه عنه المروزي في ( ( كتاب الجمعة ) ) .
وكذا رواه القاضي إسماعيل ، عن علي بن المديني ، كما رواه عنه البخاري .
خرَّجه من طريقه ابن منده في ( ( غرائب شعبة ) ) .
وكذا خرَّجه البيهقي من طريق الباغندي ، عن ابن المديني .
وهذا يخالف ما ذكره الدارقطني عن الباغندي .
وذكر الدارقطني : أن بكير بن الأشج زاد في إسناده : ( ( عبد الرحمن بن أبي
سعيدٍ ) ) ، وهو - أيضاً - وهم منه .
فالظاهر : أن إسقاط عبد الرحمن من إسناده هو الصواب ، كما هي طريقة البخاري .
وأما أبو بكر بن المنكدر ، فهو : اخو محمد بن المنكدر ، وهو ثقة جليل ، ولم يسم ، كذا قاله البخاري هاهنا ، وأبو حاتمٍ الرازي .(5/346)
"""""" صفحة رقم 347 """"""
وإنما نبه البخاري على ذلك لئلا يتوهم أنه محمد بن المنكدر ، وأنه ذكر بكنيته ؛ فإن ابن المنكدر كان يكنى بابي بكرٍ وبأبي عبد الله .
ويعضد هذا الوهم : أن سعيد بن سلمة بن أبي الحسام روي عنه هذا الحديث ، عن محمد بن المنكدر ، عن عمرو بن سليمٍ ، عن أبي سعيدٍ ، وروي عنه ، عن محمد بن المنكدر ، عن اخيه أبي بكرٍ ، عن عمرو ، عن أبي سعيدٍ ، وهو الصواب .
وفي الطيب للجمعة أحاديث أخر ، يأتي بعضها - إن شاء الله تعالى .
وأكثر العلماء على استحباب الطيب للجمعة :
روى وكيعٌ ، عن العمري ، عن نافعٍ ، عن ابن عمر ، أن عمر كان يجمر ثيابه للمسجد يوم الجمعة .
وروى عبيد الله بن عمر ، عن نافعٍ ، قال : كان عمر إذا راح إلى الجمعة أغتسل وتطيب بأطيب طيب عنده .
وروي عنه ، أنه كان يستجمر للجمعة بالعود .
وروي عن عمر ، أنه كان يأمر بتجمير المسجد يوم الجمعة .
ولم تزل المساجد تجمر في أيام الجمع من عهد عمر .
وفي الأمر بتجميرها في الجمع حديثٌ مرفوعٌ ، خرَّجه ابن ماجه من حديث واثلة بن الأسقع ، وإسناده ضعيف جداً .
ومذهب مالكٍ : أن يتصدق بثمن ما يجمر به المسجد ، أو يحلق ، وقال : هو أحب إلي : - ذكره في ( ( تهذيب المدونة ) ) .(5/347)
"""""" صفحة رقم 348 """"""
وسيأتي عن ابن عباسٍ التوقف في الطيب للجمعة .
وقد يقال : إنما توقف في وجوبه ، كما توقف عمروٍ بن سليم الأنصاري ، فقد روى ابن عيينة ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوسٍ ، قال : سمعت أبا هريرة يوجب الطيب يوم الجمعة ، فسألت ابن عباسٍ عنه ، فقال : لا أعلمه .
قال سفيان : وأخبرني ابن جريجٍ ، عن عطاءٍ ، عن ابن عباسٍ ، قال : من أتى الجمعة فليمس طيبا ، أن كان لأهله ، غير مؤثمٍ من تركه .
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث البراء بن عازب ، عن النبي ( قال : ( ( حقاً على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة ، وليمس أحدهم من طيب أهله ، فإن لم يجد فالماء طيب ) ) .
وقال الترمذي : حسنٌ .
وذكر في ( ( علله ) ) أنه سأل البخاري عنه ، فقال : الصحيح : عن البراء موقوف .(5/348)
"""""" صفحة رقم 349 """"""
4 - باب
فضل الجمعة
881 - ثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالك ، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي صالحٍ السمان ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( قال : ( ( من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ، ثم راح فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكانما قرب كبشاً أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فاذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ) ) .
قوله : ( ( من اغتسل يوم الجمعة ، ثم راح ) ) يدل على أن الغسل المستحب للجمعة أوله طلوع الفجر ، وآخره الرواح إلى الجمعة ، فإن اغتسل قبل دخول يوم الجمعة لم يات بسنة الغسل ، كما لو اغتسل بعد صلاة الجمعة .
وممن قال : لا يصيب السنة بالغسل للجمعة قبل طلوع الفجر : مالكٌ ، والشافعي ، وأحمد ، وأكثر العلماء .
وروى معناه عن ابن عمر .
خرَّجه حربٌ الكرماني بإسناد فيه نظرٌ .
وأجازه الأوزاعي ، وهذا الحديث حجةٌ عليه ، وكذلك حديث أبي سعيدٍ المتقدم : ( ( غسل يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلم ) ) .
وحكي عن أحمد ما يدل على صحته سحراً - أيضاً .
وروي عن الشعبي ومجاهدٍ ، وهو وجه للشافعية - أيضاً - وقول يحيى بن(5/349)
"""""" صفحة رقم 350 """"""
يحيى النيسابوري .
وقوله : ( ( غسل الجنابة ) ) في تأويله قولان :
أحدهما : أن المراد به : تعميم بدنه بالغسل ، كما يعمه بغسل الجنابة .
ويشهد لذلك : الحديث الآخر الذي فيه : ( ( فيغسل رأسه وجسده ) ) .
فيكون المعنى : اغتسأله للجمعة كاغتسألة للجنابة ، في المبالغة وتعميم البدن
بالماء ، وهذا قول اكثر الفقهاء من الشافعية وغيرهم .
والثاني : أن المراد به : غسل الجنابة حقيقةً ، وأنه يستحب لمن له زوجة أو أمة أن يطأها يوم الجمعة ، ثم يغتسل ، وهذا هو المنصوص عن أحمد ، وحكاه عن غير واحد من التابعين ، منهم : هلال بن يساف ، وعبد الرحمن بن الأسود وغيرهما .
وروي عن عبد الرحمن بن الأسود ، قال : كان يعجبهم أن يواقعوا النساء يوم الجمعة ؛ لأنهم قد أمروا أن يغتسلوا ، وأن يغسلوا .
وقول طائفةٍ من الشافعية ، وحملوا عليه - أيضاً - حديث أوس بن أوسٍ ، عن النبي ( ، قال : ( ( من غسل يوم الجمعة واغتسل ) ) - الحديث .
وقالوا : المراد : من اغتسل بنفسه وغسل من يطؤه من زوجة أو أمةٍ .
فعلى هذا : يستدل بالحديث على أن من عليه غسل الجنابة ، فاغتسل للجنابة يوم الجمعة ، فإنه يجزئه عن غسل الجمعة ، وسواء نوى به الجمعة ، أو لم ينو .
أما إن نواهما بالغسل ، فإنه يحصل له رفع حدث الجنابة وسنة غسل الجمعة بغير خلافٍ بين العلماء ، روي ذلك عن ابن عمر ، وتبعه جمهور العلماء .
وللشافعية وجهٌ ضعيفٌ : لا يجزئه عنهما ، وقاله بعض الظاهرية .(5/350)
"""""" صفحة رقم 351 """"""
وحكي عن مالكٍ ، وقيل : إنه لا يصح عنه ، إنما قاله بعض المتأخرين من
أصحابه ، وقد ذكر ذلك للإمام أحمد عن مالكٍ فأنكره .
وأما أن نوى بغسله الجنابة خاصةً ، فإنه يرتفع حدثه من الجنابة .
وهل يحصل له سنة إلاغتسأل للجمعة ؟ على قولين : أشهرهما : لا يحصل له ، وروي عن أبي قتادة الأنصاري صأحب النبي ( ، لقوله ( : ( ( الأعمال بالنيات ، وإنما لامريءٍ ما نوى ) ) ، وهو المشهور عن مالكٍ ، وروي نحوه عن الأوزاعي ، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي وأحمد ، ونص عليه أحمد في رواية الشالنجي .
والثاني : يحصل له غسل الجمعة بذلك ، وهو أحد قولي الشافعي ، وقول أشهب المالكي ، وهو نص الشافعي ، وقول أبي حنيفة وإسحاق ، مع كون أبي حنيفة يعتبر النية لنقل الطهارة ، وحكاه ابن عبد البر عن عبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والشافعي والليث بن سعد والطبري ، وهو أحد الوجهين لأصحابنا .
وأما إن نوى الجنب غسل الجمعة ، ولم ينو غسل الجنابة ، فهل يرتفع حدث الجنابة بذلك ؟ فيه قولان للشافعي ، وروايتان عن أحمد .
ومن أصحابنا من رجح : أنه لا يرتفع ، لأن غسل الجنابة ليس سببه الحدث ؛ ولهذا يشرع للطاهر .
وعلى هذا : فهل يحصل له به سنة غسل الجمعة مع بقاء غسل الجنابة عليه ؟ فيه وجهان لأصحابنا والشافعية ، أصحهما : أنه يحصل له ذلك .
وأختلف أصحاب مالكٍ : هل يرتفع حدثه بنية غسل الجمعة ؟
فقال : ابن القاسم : لا يجزئه ، وحكاه ابن عبد الحكم عن مالكٍ .
وقال أشهب وابن وهب والأكثرون منهم : يجزئه : وهو قول المزني .(5/351)
"""""" صفحة رقم 352 """"""
وقوله : ( ( ثم راح ) ) يدل على أنه لا تحصل سنة إلاغتسأل للجمعة إلا قبل صلاة الجمعة ، وأنه لو اغتسل بعد الصلاة في بقية اليوم لم يكن آتياً بفضيلة الغسل المأمور به ، وقد حكى ابن عبد البر وغيره إلاجماع على ذلك .
وأظن بعض الظاهرية يخالف فيه ، ويزعم : أن الغسل لليوم لا للصلاة ، ولا يعبأ بقوله في ذلك .
ويدل على أنه يحصل المقصود بالغسل ، وإن اغتسل أول نهار الجمعة إذا كان الرواح متعقباً له .
فإن لم يتعقبه الرواح ، بل أخر الرواح إلى بعده ، فقال أكثر العلماء : تحصل له - أيضاً - سنة الغسل ، فقالوا : ( ( ثُمَّ ) ) تقتضي التراخي ، فيصدق ذلك بأن يؤخر الرواح إلى الزوال .
وتأخير الغسل إلى حين الرواح أفضل ، نص عليه أحمد وغيره .
وذهب طائفة إلى أنه لا تحصل له فضيلة الغسل إلا بأن يتعقبه الرواح ، وهو قول مالكٍ ، وحكاه الطحاوي عن الأوزاعي ، وهو يخالف قوله المشهور عنه : أن الغسل للجمعة يجزئ من الليل ، كما تقدم .
ومذهب مالكٍ في ذلك ، أنه لا يجزئ الغسل إلا متصلا بالروح ، فإن اغتسل وراح ، ثم أحدث أو خرج من المسجد إلى موضع قريب ، لم ينتقض غسله ، وإن تباعد أو تغدى أو نام انتقض غسله وأعاده - : ذكره في ( ( تهذيب المدونة ) ) .
واستدلوا بقوله : ( ( إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل ) ) .
ويجاب عنه : بأن هذا كقوله تعالى ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ( [ المائدة : 6 ] الآية ، المراد : أنه يتضيق الوجوب على القائم للصلاة ، فكذلك يتضيق وقت الغسل على الآتي إلى الجمعة .
فاما أن كان قد فعله قبل ذلك فإنه يجزئه ، ولا اعادة عليه منذ قيامه ورواحه .(5/352)
"""""" صفحة رقم 353 """"""
كمن أدى الدين الواجبٍ عليه قبل تضايق وقت أدائه ، فإنه لا يؤمر بأدائه مرة آخرى بعد ذلك .
ولو اغتسل للجمعة ثم انتفض وضؤوه ، فهل يستحب له اعادته ، أم يكفيه الوضوء ؟ فيهِ قولان :
أحدهما : يكفيه الوضوء ، وهو قول عبد الرحمن بن أبزى والحسن ومجاهدٍ ومالكٍ والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد .
والثاني : أنه يعيد غسله ، وهو قول طاوس والزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثيرٍ .
وروى ابن أبي شيبة باسناده ، عن إبراهيم التيمي ، قال : كانوا يحبون لمن اغتسل يوم الجمعة أن لا يكون بينه وبين الجمعة حدثٌ . قال : وكانوا يقولون : إذا أحدث بعد الغسل عاد إلى حاله التي كان عليها قبل أن يغتسل .
وعن أبي يوسف ، أنه بنى هذا إلاختلاف على أن الغسل هل هو لليوم أو للصلاة ، فمن قال : أنه لليوم قال : يجزئه غسله ، ومن قال : إنه للصلاة قال : يعيده ؛ لأنه إذا توضأ فإنما شهد الصلاة بوضوء لا بغسلٍ .
وخالف الأكثرون في ذلك ، وقالوا : بل شهد الصلاة بغسلٍ ، لأن الحدث الموجب للوضوء ليس منافياً للغسل ، وحصول النظافة به .
ولو أحدث حدثاً موجباً للغسل ، مثل أن اجنب ، فحكي عن الأوزاعي ، أنه يعيد غسل الجمعة - أيضاً - ؛ لأنه قد أتى بما يبطل الغسل .
وعن الجمهور خلافه ؛ لأنه إنما أتى بما يوجب غسل الجنابة ، فيكتفي به ، ولا حاجة إلى إعادته لغسل الجمعة .
وقوله : ( ( ثم راح فكانما قرب بدنةً ) ) المراد : راح في الساعة الأولى ؛ بدليل(5/353)
"""""" صفحة رقم 354 """"""
قوله : ( ( ومن راح في الساعة الثانية ) ) .
وقد خرَّجه مالكٍ في ( ( الموطإ ) ) عن سمي بهذا إلاسناد ، وفيه التصريح بذكر الساعة الأولى .
وقد اختلف العلماء في المراد بهذه الساعات : هل هي من أول النهار ، أو بعد زوال الشمس ؟ على قولين :
أحدهما : أن المراد بها أخر الساعة التي بعد زوال الشمس ؛ لأن حقيقة الرواح إنما تكون بعد الزوال ، والغدو يكون قبله ، كما قال تعالى : ( ? غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ( [ سبأ : 12 ] .
واستدلوا - أيضاً - بالحديث الآخر : ( ( المهجر إلى الجمعة كالذي يهدي بدنةٍ ) ) ، فجعل البدنة بالتهجر ، والتهجير إنما هو إلاتيان بالمهاجرة ، وإنما يكون ذلك بعد الزوال .
هذا تأويل مالكٍ وأكثر أصحابه ، ووافقهم طائفة من الشافعية على ذلك .
والقول الثاني : أن المراد بالساعات من أول النهار ، وهو قول الأكثرين .
ثم اختلفوا : هل أولها من طلوع الفجر ، أو من طلوع الشمس ؟
فقالت طائفةٌ : أولها من طلوع الفجر ، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد .
واستدلوا بقوله : ( ( إذا كان الجمعة ، كان على أبواب المسجد ملائكةٌ يكتبون الناس الأول فالأول ) ) - الحديث ، كما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى .
وظاهره : أن ذلك يكون بعد طلوع الفجر .
وقالت طائفة : أولها من طلوع الشمس ، وحكي عن الثوري وأبي حنيفة(5/354)
"""""" صفحة رقم 355 """"""
ومحمد بن إبراهيم البوشنجي ، ورجحه الخطابي وغيره ، لأن ما قبله وقت للسعي إلى صلاة الفجر .
ورجح هذا القول عبد الملك بن حبيبٍ المالكي .
وهؤلاء حملوا الساعات على ساعات النهار المعهودة ، وهو الظاهر المتبادر إلى الفهم .
وأما ذكر الرواح ، فعنه جوابان :
أحدهما : أنه لما كان آخر الساعات بعد الزوال ، وهو رواحٌ حقيقيٌ ، سميت كلها رواحاً ، كما يسمى الخارج للحج والجهاد حاجاً وغازياً قبل تلبسه بالحج والغزو ؛ لأن امره ينتهي إلى ذلك .
والثاني : أن الرواح هنا اريد به القصد والذهاب ، مع قطع النظر عن كونه قبل الزوال أو بعده .
قال الأزهري وغيره : الرواح والغدو عند العرب يستعملان في السير ، أي وقتٍ كان من ليلٍ أو نهارٍ ، يقال : راح في أول النهار وآخره ، وغدا بمعناه .
وأما التهجير ، فيجاب عنه ، بأنه استعمل في هذا المعنى بمعنى التبكير - أيضاً - لا بمعنى الخروج في الهاجرة .
وقيل : أنه ليس من الهاجرة ، بل من الهجرة ، والمراد بها : هجر الأعمال الدنيوية للسعي إلى الجمعة .
وقد دل على استحباب التبكير من أول النهار حديث أوس بن أوسٍ ، عن النبي ( : ( ( من اغتسل يوم الجمعة وغسل ، وبكرٍ وابتكر ، ودنا واستمع كان له بكل خطوة يخطوها اجر سنة صيامها وقيامها ) ) .
خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان(5/355)
"""""" صفحة رقم 356 """"""
في
( ( صحيحه ) ) .
وحسنه الترمذي .
وله طرقٌ متعددةٌ ، قد ذكرناها في ( ( شرح الترمذي ) ) .
وفي رواية للنسائي : ( ( وغدا وابتكر ) ) .
وفي بعض رواياته : ( ( ومشى ولم يركب ) ) .
وظاهر الحديث : يدل على تقسيم يوم الجمعة إلى اثني عشر ساعة ، وأن الخطبة والصلاة يقعان في السادسة منها .
ومتى خرج الخطيب طوت الملائكة صحفها ، ولم يكتب لأحدٍ فضل التبكير ، وهذا يدل على أنه بعد الزوال لا يكتب لأحد شيءٌ من فضل التبكير إلى الجمعة بالكلية .
وظاهر الحديث : يدل على تقسيم نهار الجمعة إلى اثني عشر ساعةً مع طول النهار وقصره ، فلا يكون المراد به الساعات المعروفة من تقسيم الليل والنهار إلى أربعة وعشرين ساعة ؛ فإن ذَلِكَ يختلف باختلاف طول النهار وقصره .
ويدل على هذا : حديث جابر ، عن النَّبيّ ( ، قالَ : ( ( يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة ، لا يوجد مسلم يسأل الله شيئاً إلا آتاه إياه ، فالتمسوها آخر ساعةٍ بعد
العصر ) ) .
خرَّجه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقاتٌ .
وظاهره : يدل علي أن ساعة إلاجابة جزء من هذه إلاجزاء إلاثني عشر المتساوية في جميع فصول السنة .
وزعم بعض الشافعية : أنه ليس المراد بالساعات في التبكير الأربع والعشرون ، بل ترتيب الدرجات ، وفضل السابق على الذي يليه ، لئلا(5/356)
"""""" صفحة رقم 357 """"""
يستوي في الفضيلة رجلان جاءا في طرفي ساعة .
ورد ذلك آخرون منهم ، وقالوا : من جاء في أول ساعةٍ من هذه الساعات وآخرها مشتركان في تحصيل أصل البدنة أو البقرة أو الكبش مثلا ، ولكن بدنة الأول أو بقرته أكمل مما للذي جاء في آخرها ، وبدنة المتوسط متوسطةٌ .
وهذا هو الأقرب ، وعليه يحمل الحديث الذي خرَّجه عبدالرزاق ، عن ابن
جريج ، عن سميَّ ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا كان يوم الجمعة فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة ، ثم غدا في أول ساعةٍ ، فله من إلاجر مثل الجزور ، وأول الساعة وآخرها سواء ) ) - وذكر مثل ذلك في الثانية ، والثالثة ، والرابعة ، يقول : ( ( أولها وآخرها سواءٌ ) ) ، وزاد في آخر الحديث : ( ( ثم غفر له إذا استمع وأنصت ما بين الجمعتين ، وزيادة ثلاثة أيامٍ ) ) .
وفي هذه الرواية : ذكر الغدو إلى الجمعة ، والغدو يكون من أول النهار .
وقوله : ( ( فكأنما قرب بدنةً ، فكأنما قرب بقرةً ) ) - إلى آخره - يدل على أن أفضل ما يتقرب به من الهدايا البدن ، ثم البقر ، ثم الغنم ، وهو قول الجمهور ، خلافاً لمالكٍ ، ويذكر في موضعٍ آخر مستوفىَ - إن شاء الله تعالى .
ويدل - أيضاً - على أن الجمعة فيها شبهٌ من الحج ، وقد روي في حديث ضعيف : ( ( الجمعةُ حجُ المساكين ) ) .
قال ابن المسيب : شهود الجمعة أحب الي من حجةٍ نافلةٍ .
وخرج البيهقي من حديث سهل بن سعد - مرفوعاً - : ( ( إن لكم في كل جمعة حجةً وعمرةً ، فالحجة التهجير للجمعة ، والعمرة انتظار العصر بعد الجمعة ) ) .(5/357)
"""""" صفحة رقم 358 """"""
وقال : هو ضعيف ٌ .
وقد روي : ( ( إن المؤمن يصبح يوم الجمعة كالمحرم ، فلا يأخذ من شعره ، ولا من أظفاره حتى يصلي ) ) .
وقد حكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما كرها أن يجعل يوم الجمعة ميقاتاً لأخذ الشعر والظفر ، واستدل لهما بهذا الحديث .
وقدروي من حديث علي - مرفوعاً - : أن ذلك يكون يوم الخميس ، وإسناده لا يصح .
واستحب بعض أصحابنا فعله يوم الخميس ؛ لذلك .
والحديث الذي ذكر فيه إلاحرام ، هو بإسنادٍ مجهولٍ ، عن أبي معشرٍ ، عن نافعٍ ، عن ابن عمر - مرفوعاً - : ( ( يصبح الرجل محرماً يوم الجمعة ، فلا يحل حتى يصلي ، فاذا جلس في مكانه حتى يصلي العصر رجع بحجةٍ وعمرةٍ ) ) .
وهو منكرٌ ، لا يصح .
قال البيهقي : قد روي عن ابن عباسٍ - مرفوعاً - في ( ( المؤمن يوم الجمعة كهيئة المحرم ، لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى تنقضى الصلاة ) ) ، وعن ابن عمر - مرفوعاً - : ( ( المسلم يوم الجمعة محرمٌ ، فاذا صلى فقد أحل ) ) ، فانما رويا عنهما باسنادين ضعيفين ، لا يحتج بمثلهما .
قال : وفي الرواية الصحيحة عن ابن عمر من فعله دليلٌ على ضعف ما خالفه .
وروي من طريق ابن وهبٍ ، بإسنادٍ صحيح ، عن نافعٍ ، أن ابن عمر كان يقلم أظفاره ويقص شاربه في كل جمعةٍ .(5/358)
"""""" صفحة رقم 359 """"""
قال : وروينا عن أبي جعفرٍ - مرسلاً - ، النبي ( كان يستحب أن ياخذ من شاربه وأظفاره يوم الجمعة .
وروى بإسناده ، عن معاوية بن قرة : قال : كان لي عمان قد شهدا الشجرة ، يأخذان من شواربهما وأظفارهما كل جمعة .
وخرّج البزار في ( ( مسنده ) ) والطبراني من رواية إبراهيم بن قدامه ، عن الأغر ، عن أبي هريرة ، أن النبي ( كان يقلم أظفاره ويقص شاربه يوم الجمعة ، قبل أن يخرج إلى الصلاة .
قال البزار : لم يتابع إبراهيم بن قدامة عليه ، وهو إذا انفرد بحديثٍ لم يكن حجةً ؛ لأنه ليس بمشهورٍ .
قلت : وقد روي عنه ، عن عبد الله بن عمروٍ ، عن النبي ( .
قال ابن أبي عاصمٍ : أحسب هذا - يعني : عبد الله بن عمروٍ - رجلاً من بني
جمحٍ ، أدخله يعقوب بن حميد بن كاسبٍ في ( ( مسند قريش ) ) في الجمحيين .
يشير إلى أنه ليس ابن العاص .
وكذا ذكر ابن عبد البر ، وزاد أن في صحبته نظرا .
وفي الباب - أيضاً - من حديث ابن عباسٍ وعائشة وأنسٍ ، أحاديث مرفوعة ، ولا تصح أسانيدها .
وقال راشد بن سعد : كان أصحاب رسول الله ( يقولون : من اغتسل يوم الجمعة واستاك وقلم أظفاره فقد اوجب .
خرَّجه حميد بن زنجويه .
وممن استحب ذلك : النخعي .(5/359)
"""""" صفحة رقم 360 """"""
قال مكحولٌ : من قص شاربه وأظفاره يوم جمعة لم يمت من الماء الأصفر .
وقال حميدٌ الحميري من قص أظفاره يوم الجمعة أخرج الله منه الداء ، وادخل فيه الشفاء .
وكان الإمام أحمد يفعله .
واستحبه أصحاب الشافعي وغيرهم ؛ فإنه من كمال التنظف والتطهر المشروع في يوم الجمعة ، فيكون مستحبا فيه ، كالطيب والدهن ، والمحرم بخلاف ذلك .
ويشهد لذلك : ما خرَّجه ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من حديث أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( من فطرة إلاسلام : الغسل يوم الجمعة ، والاستنان ، وأخذ الشارب ، وإعفاء اللحى ؛ فإن المجوس تحفى شواربها وتحفى لحاها ، فخالفوهم ، خذوا شواربكم وأعفوا لحاكم ) ) .
فقرن أخذ الشارب بغسل يوم الجمعة والاستنان ، وقد صح الأمر بالاستنان في يوم الجمعة - أيضاً .(5/360)
"""""" صفحة رقم 361 """"""
5 - باب
882 - حدثنا أبو نعيم : ثنا شيبان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن عمر بن الخطاب بينما هو يخطب يوم الجمعة ، إذ جاء رجلٌ ، فقال عمر بن الخطاب : لم تحتسبون عن الصلاة ؟ فقالَ الرجل : ما هوَ إلا أن سمعت النداء ، فتوضأت . فقالَ : ألم تسمعوا النَّبيّ ( يقول : ( ( إذا راح أحدكم إلى الجمعة
فليغتسل ) ) ؟ .
وخرَّجه مسلم من طريق الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، وسمى الداخل :
( ( عثمان بن عفان ) ) وقال في حديثه : فعرض به عمر ، فقال : ما بال رجال يتأخرون بعد النداء ؟
وهذا يستدل به على إنكار الإمام علي من يتأخر إلى بعد النداء ، خصوصاً إن كان من أهل الفضائل الدينية ، وكذلك ينكر عليه تقصيره في إلاخلال ببعض سنن الجمعة ومندوباتها المكتوبة ، كالغسل ونحوه .
وقد روي هذا المعنى - مرفوعاً - من وجوه :
خرّج ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من حديث ابن إسحاق : حدثني أبان بن صالحٍ ، عن مجاهدٍ ، عن جابرٍ ، قال : دخل سليكٌ الغطفاني المسجد ، ورسول الله ( يخطب الناس ، فقال له : ( ( أركع ركعتين ، ولا تعودن لمثل هذا ) ) ، فركعهما ، ثم جلس .
قال ابن حبان : أراد : لا تعودن إلى إلابطاء في المجيء الىالجمعة ، لأن في حديث أبي سعيدٍ ، أنه امره بالركعتين - أيضاً - في الجمعة الثانية .(5/361)
"""""" صفحة رقم 362 """"""
وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن يسر ، قال : جاء رجلٌ يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ، والنبي ( يخطب ، فقال له النبي ( : ( ( أجلس ، فقد آذيت
وآنيت ) ) .
وخرَّجه أبو داود والنسائي ، وليس عندهما : ( ( وآنيت ) ) .
ومعنى : ( ( آنيت ) ) : ابطأت في المجيء ، وأخرته عن آوانه .
وخرَّجه ابن ماجه من حديث جابر ، بإسنادٍ ضعيفٍ .
وخرّج الطبراني وغيره من رواية عمر بن الوليد الشني ، عن عكرمة ، عن ابن عباسٍ ، قال : جاء رجلٌ والنبي ( يخطب يوم الجمعة ، فقال رسول الله ( : ( ( يلهو أحدكم ، حتى إذا كادت الجمعة تفوته جاء يتخطى رقاب الناس يؤذيهم ) ) . فقال :
يا رسول الله ، ما فعلت ، ولكني كنت راقداً ، فاستيقظت ، ثم تؤضأت وجئت . فقال رسول الله ( : ( ( أو يوم وضوءٍ هذا ؟ ) ) .
وعمر بن الوليد : ضعيف الحديث .
وقد روى عبد الرزاق ، عن ابن جريجٍ : اخبرني عمروٍ بن دينارٍ ، عن عكرمة ، أن عثمان جاء وعمر يخطب - فذكر الحديث بمعنى رواية أبي سلمة ، عن أبي هريرة التي خرجها البخاري هاهنا .
وهذا أصح . والله أعلم .(5/362)
"""""" صفحة رقم 363 """"""
6 - باب
الدهن للجمعة
فيه عن سلمان ، وأبي هريرة :
أما حديث سلمان :
فقال :
883 - ثنا آدم : ثنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، قال : أخبرني أبي ، عن ابن وديعة ، عن سلمان الفارسي ، قال : قال النبي ( : ( ( لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة ، ويتطهر ما استطاع من طهر ، ويدهن من دهنه - أو يمس من طيب بيته - ، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ، ثم يصلي ماكتب له ، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ) ) .
هذا الحديث تفرد بتخريجه البخاري دون مسلمٍ ؛ لاختلاف وقع في إسناده .
وقد خرَّجه البخاري هاهنا عن آدم بن أبي إياسٍ ، عن ابن أبي ذئبٍ . ثم خرَّجه بعد ذلك من طريق
ابن المبارك ، عن ابن أبي ذئب بهذا إلاسناد - أيضاً وكذا رواه جماعةً عن ابن أبي ذئب .
ورواه بعضهم ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيدٍ المقبري ، عن ابن وديعة ، عن سلمان - لم يذكر في إسناده : ( ( أبا سعيدٍ المقبري ) ) .
ورواه الضحاك بن عثمان ، عن المقبري بهذا إلاسناد - أيضاً - مع إلاختلاف عليه في ذكر ( ( أبي سعيدٍ ) ) وإسقاطه .(5/363)
"""""" صفحة رقم 364 """"""
وزاد الضحاك في حديثه : قال سعيدٌ المقبري : فحدثت بذلك عمارة بن عمرو بن حزمٍ ، فقال : أوهم ابن وديعة ؛ سمعته من سلمان يقول : ( ( وزيادة ثلاثة أيامٍ ) ) .
ورواه ابن عجلان ، عن سعيدٍ بن أبي سعيدٍ المقبري ، عن أبيه ، عن عبد الله بن وديعة ، عن أبي ذر ، عن النبي ( - بمعناه .
قال ابن عجلان : فذكرته لعبادة بن عامر بن عمرو بن حزمٍ ، فقال : صدق ،
( ( وزيادة ثلاثة أيامٍ ) ) .
خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه ، ولم يذكر آخره .
وقد روى ابن أبي حاتم - مرةً - ، عن أبي زرعة ، أنه قال : حديث ابن عجلان أشبه .
يعني : قوله : ( ( عن أبي ذر ) ) .
ونقل - مرةً أخرى - ، عن أبيه وأبي زرعة ، أنهما قالا : حديث سلمان الأصح .
وكذا قال علي بن المديني والدارقطني ، وهو الذي يقتضيه تصرف البخاري .
وكذا قال ابن معينٍ : ابن أبي ذئبٍ أثبتُ في المقبري من ابن عجلان .
وعبيد الله بن وديعه - ويقال : عبد الله - ، قال أبو حاتمٍ الرازي : الصحيح
عبيد الله .
وقال أبو زرعة : الصحيح عبد الله .
وقد رواه أبو داود الطيالسي ، عن ابن أبي ذئبٍ ، فسماه : عبيد الله بن عدي(5/364)
"""""" صفحة رقم 365 """"""
بن الخيار ، وهو وهم منه - : قاله أبو حاتمٍ .
وقد رواه جماعةً ، عن سعيدٍ المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، منهم : ابن جريجٍ وعبيد الله بن عمر وأخوه عبد الله وغيرهم . وزاد ابن جريجٍ : وعن عمارة بن عامرٍ الأنصاري .
قال الدارقطني : ووهم في ذلك ؛ إنما أراد عمارة بن عمرو بن حزمٍ ، كما ذكر الضحاك .
ورواه صالحٌ بن كيسان ، عن سعيدٍ المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( .
قال أبو زرعة وأبو حاتم : هو خطأ ؛ إنما هوَ ما قاله ابن أبي ذئبٍ وابن عجلان .
ولا ريب أن الذي قالوا فيهِ : ( ( عن أبي هريرة ) ) جماعةٌ حفاظٌ ، لكن الوهم يسبق كثيراً إلى هذا إلاسناد ؛ فإن رواية ( ( سعيدٍ المقبري ، عن أبي هريرة - أو عن أبيه ، عن أبي هريرة ) ) سلسلةٌ معروفةُ ، تسبق إليها الالسن ، بخلاف رواية ( ( سعيدٍ ) ) عن
أبيه ، عن ابن وديعة ، عن سلمان ) ) ؛ فانها سلسلةٌ غريبةٌ ، لا يقولها إلا حافظ لها متقنٌ .
ورجح ابن المديني قول من رواه عن سلمان ، [ بأن حديثه . . . ] ، فإنه قدر رواه النخعي ، عن علقمة ، عن القرثع ، عن سلمان ، عن النبي ( .
فقوله : ( ( لا يغتسل رجلٌ يوم الجمعة ) ) يؤخذ منه اختصاص الغسل بالرجال ، كما هو قول أحمد ، ويأتي ذكره فيما بعد - إن شاء الله تعالى .(5/365)
"""""" صفحة رقم 366 """"""
وقوله : ( ( ويتطهر ما استطاع من طهر ) ) ، الظاهر : أنه أراد به المبالغة في
التنظف ، وإزالة الوسخ ، وربما دخل فيه تقليم الأظفار ، وإزالة الشعر من قص الشعر وحلق العانة ونتف إلابط ؛ فإن ذَلِكَ كله طهارة .
ويدل عليهِ : ما خرَّجه البزار من حديث أبي الدرداء ، عن النَّبيّ ( ، قالَ :
( ( الطهارات أربعٌ : قص الشارب ، وحلق العانة ، وتقليم الأظفار ، والسواك ) ) .
وفي إسناده : معاوية بن يحيى ، قال البزار : ليس بالقوي ، وقد حدث عنه أهل العلم ، واحتملوا حديثه .
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من حديث عبد الله بن عمروٍ بن العاص ، أن النبي ( قال : ( ( أمرت بيوم الأضحى عيداً جعله الله لهذه الأمة ) ) . فقال رجلٌ : أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى ، أفأضحي بها ؟ قالَ :
( ( لا ، ولكن تأخذ من شعرك ، وتقلم أظفارك ، وتقص شاربك ، وتحلق عانتك ، فذلك من تمام أضحيتك عند الله عز وجل ) ) .
وهذا يشعر باستحباب هذه الطهارات في الأعياد كلها ، وأنها من تمام النسك المشروع فيها ، والجمعة من جملة الأعياد ، وهي عيد الأسبوع ، كما أن عيد الفطر والأضحى عيد العام .
وقوله : ( ( ويدهن من دهنه ، أو يمس من طيب بيته ) ) ، ظاهره : التخيير بين الأمرين ، إما الأدهان ، أو التطيب ، وأن أحدهما كاف .
وقوله : ( ( من طيب بيته ) ) يشير إلى أنه ليس عليه أن يطلب ما لا يجده ، بل يجتزئ بما وجده في بيته .(5/366)
"""""" صفحة رقم 367 """"""
والأدهان : هو دهن شعر الرأس واللحية مع تسريحه ، وهو الترجل ، وقد كان النبي ( يفعله .
وفي ( ( صحيح مسلمٍ ) ) عن جابر بن سمرة ، قال : كان النبي ( قد شمط مقدم رأسه ولحيته فكأن إذا ادهن لم يتبين ، وإذا شعث رأسه تبين ، وكان كثير شعر الرأس واللحية ( .
وقد كان النبي ( يستعمل الطيب في شعره .
وقد خرّج البخاري في ( ( كتابه ) ) هذا من حديث ربيعة ، قال : رأيت شعراً من شعره - يعني : النبي ( - أحمر ، فسألت عنه ، فقيل لي : أحمر من الطيب .
وخرّج البزار في ( ( مسنده ) ) من حديث ابن عقيل ، عن أنس ، أن عمر بن
عبد العزيز سأله عن خضاب النبي ( ، وقال له : اني رأيت شعراً من شعره قد لون ؟ فقال : إنما هذا الذي لون من الطيب الذي كان يطيب شعر رسول ( .
وقوله : ( ( ثم يخرج ) ) يشير إلى أنه يفعل ذلك كله في بيته قبل خروجه ، ثم بعد ذلك يخرج إلى المسجد .
وقوله : ( ( فلا يفرق بين أثنين ، ثم يصلي ما كتب له ، ثم ينصت إذا تكلم
الإمام ) ) .
يأتي الكلام على هذه الثلاثة فيما بعد - إن شاء الله تعالى .
وقوله : ( ( إلاّ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ) ) . والمراد بذلك : الصغائر ؛ بدليل ما خرَّجه مسلم من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيّ ( ، قالَ : ( ( الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ لما بينهن ، ما اجتنبت الكبائر ) ) .(5/367)
"""""" صفحة رقم 368 """"""
وفي حديث عمارة بن عمروٍ بن حزم ، عن سلمان : ( ( وزيادة ثلاثة أيام ) ) .
وخرج مسلم من حديث أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( من اغتسل ، ثم أتى الجمعة ، فصلى ما قدر له ، ثم انصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ، فصلى معه غفر له ما بينه وبين الجمعة إلاخرى ، وفضل ثلاثة أيام ) ) .
وخرَّجه أبو داود من وجهٍ آخر عن أبي هريرة ، وجعل ذكر الثلاثة من قول أبي هريرة ، قال : وكان أبو هريرة يقول : ( ( وثلاثة أيامٍ زيادةً ؛ إن الله جعل الحسنة بعشر أمثالها ) ) .
وأما حديث ابن عباسٍ :
فقال :
884 - ثنا أبو اليمان : نا شعيب ، عن الزهري : قال طاوسٌ : قلت لابن عباسٍ : ذكروا أن النبي ( قال : ( ( اغتسلوا يوم الجمعة ، واغسلوا رءوسكم ، وان لم تكونوا جنباً وأصيبوا من الطيب ) ) ؟ قال ابن عباسٍ : أما الغسل ، فنعم ، وأما الطيب ، فلا أدري .
885 - حدثنا إبراهيم بن محمد بن موسى : أنا هشام ، أن ابن جريجٍ أخبرهم ، قال : أخبرني إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوسٍ ، عن ابن عباسٍ ، أنه ذكر قول النبي ( في الغسل يوم الجمعة ، فقلت لابن عباسٍ : أيمس طيبا ، أو دهناً ، إن كان عند أهله ؟ فقال : لا أعلمه .(5/368)
"""""" صفحة رقم 369 """"""
مضمون هذا : أن ابن عباسٍ روى عن النبي ( الغسل للجمعة ، وأنه لم يكن عنده من ذكر الطيب والدهن علمٌ ، فيحتمل أنه نفى أن يكون يعلم ذلك عن النبي ( ، ويحتمل أنه نفى أن يكون ذلك مستحباً بالكلية ؛ فإنه إذا لم يكن عنده عن النبي ( فيه شيء ، فإنه يقتضي التوقف في استحبابه .
وفي سماع الزهري لهذا الحديث من طاوسٍ نظرٌ ، ولعله بلغه عنه ؛ فإنه كانَ كثير الإرسال .(5/369)
"""""" صفحة رقم 370 """"""
7 - باب
يلبس أحسن ما يجد
886 - حدثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالكٌ عن نافعٍ عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رأى حلةً سيراء عند باب المسجد فقال يا رسول الله لو اشتريت هذه ، فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك فقال رسول الله ( ( ( إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخره ) ) - وذكر بقيه حديث .
وقد خرَّجه بتمامه في ( ( اللباس ) ) وغيره .
والمقصود منه هاهنا : أنّ النبي ( أقر عمر على ما ذكره من التجمل بحسن اللباس للجمعة والظاهر : أن ذلك كان عادته ( ؛ فلهذا قال له عمر ما قال وإنما امتنع من هذه الحلة لإنها كانت حريراً خالصاً أو أكثرها حريرٌ وقد قيل : أن السيراء نوعٌ من البرود ، يخالطة حريرٌ ، سمي سيراء لتخطيطٍ فيه ، والثوب المسير الذي فيه سيرٌ ، أي : طرائق .
وقال الخطابي : الحله السيراء هي المضلعة بالحرير ، وسميت سيراء لما فيها من الخطوط التي تشبه السيور .
وفي حديث عبد الله بن وديعه عن أبي ذر عن النبي ( ( ( من اغتسل يوم الجمعه فأحسن الغسل ، ثم لبس من صالح ثيابه ) ) - وذكر بقيه الحديث .
خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه ، وقد سبق ذكره .
وخرّج أبو داود معناه من حديث أبي هريره وأبي سعيدٍ وعبد الله بن(5/370)
"""""" صفحة رقم 371 """"""
عمروٍ بن العاص عن النبي ( .
وخرج - أيضاً - من حديث يوسف بن سلام أنه سمع النبي ( يقول على المنبر
( ( ما على أحدكم إن وجد ثوبين للجمعة سوى ثوبي مهنته ) ) .
وفي روايةٍ له : عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن النبي ( .
وخرَّجه ابن ماجه وعنده : يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن النبي ( .
وخرَّجه - أيضاً - من حديث عائشه عن النبي ( بإسنادٍ ضعيفٍ .
وخرَّجه البيهقي من روايه حجاج بن أرطاة ، عن أبي جعفرٍ ، عن جابر أن النبي ( كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة .
كذا رواه حفص بن غياثٍ عن حجاجٍ .
ورواه هشيم عن حجاج عن أبي جعفرٍ - مرسلاً - أن النبي ( كان يلبس يوم الجمعة برده الأحمر ويعتم يوم العيدين .
خرَّجه ابن سعدٍ في ( ( طبقاته ) ) .
وكذا خرَّجه عبد الرزاق ، عن ابن جريحٍ ، عن جعفرٍ ، عن أبيه - مرسلاً .(5/371)
"""""" صفحة رقم 372 """"""
وهذا المرسل أشبه .
وخرّج الطبراني من رواية سعد بن الصلت ، عن جعفر بن محمدٍ ، عن أبيه عن علي بن حسينٍ عن ابن عباسٍ قالَ : كان النبي ( يلبس يوم العيد بردة حمراء .
وهذا إلاسناد غير محفوظٍ .
وخرّج الإمام أحمد من رواية فليح بن سليمان ، عن أبي بكرٍ بن المنكدر ، عن أبي سعيدٍ الخدري ، عن النبي ( قال : ( ( حقٌ على كل محتلمٍ الغسل يوم الجمعه ، ويلبس من صالح ثيابه ، وإن كان له طيبٌ مس منه ) ) .
كذا رواه فليحٌ ، إنما رواه أبو بكرٍ بن المنكدر ، عن عمرو بن سيلمٍ ، عن أبي سعيدٍ .
وقد خرَّجه البخاري فيما تقدم بغير هذا اللفظ .
ولا خلاف بين العلماء - فيما نعلمه - في استحباب لبس الثياب أجود الثياب لشهود الجمعة والأعياد .
وروى وكيعٌ في ( ( كتابه ) ) عن أبيه ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : أدركت أشياخ الأنصار من أصحاب رسول الله ( إذا كانَ يوم الجمعه اغتسلوا ، ولبسوا أحسن ثيابهم ، وتطيبوا بأطيب طيبهم ، ثُمَّ راحوا إلى الجمعة .(5/372)
"""""" صفحة رقم 373 """"""
8 - باب
السواك يوم الجمعة
وقال أبو سعيدٍ عن النبي ( : يستن .
حديث أبي سعيدٍ قد خرَّجه فيما سبق في ( ( باب : الطيب للجمعة ) ) ولفظه
( ( الغسل يوم الجمعة واجبٍ على كل محتلم ، وأن يستن ، وأن يمس طيباً إن وجد ) ) .
قال عمروٍ : أما الغسل ، فأشهد أنه واجبٌ وأما الطيب وإلاستنان فالله أعلم .
وهذا مما استدل به جمهور العلماء على أن المراد بالوجوب هاهنا : تأكد الاستحباب ؛ لأنه قرنه بما ليس بواجبٍ اجماعاً وهو الطيب والسواك .
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن إسحاق : حدثني محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة وأبي أمامة بن سهلٍ عن أبي هريرة وأبي سعيدٍ ، قالا : سمعنا رسول الله ( يقول : ( ( من اغتسل يوم الجمعة ، واستن ، ومس من طيب - إن كانَ عنده - ولبس أحسن ثيابه ثُمَّ جاء إلى المسجد ولم يتخط رقاب الناس ثُمَّ ركع ما شاء الله أن يركع ثُمَّ انصت إذا خرج إمامه حتَّى يصلي ، كانت كفارةً لما بينها وبين الجمعة التي كانت
قبلها ) ) . يقول أبو هريرة : وثلاثة أيامٍ زيادةً ؛ لأن الله قد جعل الحسنة بعشر أمثالها .(5/373)
"""""" صفحة رقم 374 """"""
وفي إسناده اختلافٌ .
وروى مالكٍ في ( ( الموطإ ) ) عن ابن شهاب ، عن عبيد بن السباق ، أن النبي ( قال - في جمعة من الجمع - : ( ( يا معشر المسلمين ، أغتسلوا ، ومن كان عنده طيبٌ فلا يضره أن يمس منه ، وعليكم بالسواك ) ) .
وقد روي عن الزهري ، عن أنس ، عن النبي ( .
والمرسل : هو الصحيح .
ورواه صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن عبيد بن السباق ، عن ابن
عباسٍ ، عن النبي ( .
خرَّجه ابن ماجه .
ولا يصح - أيضاً - ، والصحيح : رواية مالكٍ .
ويدل عليه : إنكار ابن عباسٍ للطيب ، كما سبق عنه .
وخرّج الإمام أحمد من رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن رجلٍ من الأنصار من أصحاب النبي ( ، عن النبي ( ، قال : ( ( حقٌ على كل مسلمٍ أن يغتسل يوم الجمعة ، ويتسوك ، ويمس من طيب أن كان لاهله ) ) .
وخرَّجه بهذا إلاسناد موقوفاً - أيضاً .
وروي - أيضاً - عن ثوبان ، عن أبي سعيدٍ الخدري - مرفوعاً .(5/374)
"""""" صفحة رقم 375 """"""
وروي عن ابن ثوبان ، عن رجلٌ ، عن أبي سعيدٍ الخدري - مرفوعاً وموقوفاً .
وعن أبي زرعة وأبي حاتمٍ : أن الموقوف أصح .
خرّج البخاري في هذا الباب أحاديث ثلاثة ، في السواك للصلاة ، ولكن لا اختصاص لها بالجمعة :
الحديث الأول :
887 - ثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالكٌ ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( قال : ( ( لولا أن أشق على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بالسواك مع كل صلاةٍ ) ) .
وفيه : دليلٌ على أن الحرج والمشقة مرفوعاًن عن هذه الأمة ، كما قال تعالى : ( مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ( [ الحج : 78 ] .
وقد سبق ذكر ذلك في تأخير عشاء الآخرة ، فإن النبي ( كان يحب تأخيرها ، ولولا المشقة على أمته لجعل وقتها ثلث الليل أو نصفه .
وفيه : دليل على أن السواك ليس بفرض كالوضوء للصلاة ، وبذلك قال جمهور العلماء ، خلافاً لمن شذ منهم من الظاهرية .
وقد حكي عن إسحاق ، أنه لو تركه عمداً اعاد الصلاة . وقيل : أنه لا يصح عنه .
وهذا الحديث : نص على أنه غير واجبٍ على الأمة ؛ فإن المراد : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك أمر فرضٍ وأيجابٍ ، لا أمر ندبٍ واستحبابٍ ؛ فإنه قد ندب اليه واستحبه ، ولكن لم يفرضه ، ولم يوجبه .(5/375)
"""""" صفحة رقم 376 """"""
وقد صرح بذلك في حديث آخر :
خرَّجه الإمام أحمد من حديث تمام بن العباس ، عن النبي ( ، قال : ( ( لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك ، كما فرضت عليهم الوضوء ) ) .
وخرّج ابن أبي شيبة نحوه من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن رجلٍ من أصحاب النبي ( ، عن النبي ( .
ويروى نحوه من حديث أبي هريرة ، وأبي سعيدٍ ، عن النبي ( .
وفي الحديث : دليل على استحباب السواك مع كل صلاةٍ ، فدخل في ذلك صلاة الجمعة وغيرها .
والسواك مع الصلاة نوعان :
أحدهما : السواك مع الوضوء للصلاة ، وقد سبق ذكره في ( ( الطهارة ) ) .
والثاني : السواك للصلاة عند القيام إليها .
وقد خرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث زيد بن خالدٍ الجهني ، عن النبي ( ، قال : ( ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل
صلاةٍ ) ) فكأن زيد بن خالدٍ يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب ، لا يقوم إلى صلاةٍ إلا استن ، ثم رده إلى موضعه .
وقال الترمذي : حسنٌ صحيحٌ .
وهذا مذهب الشافعي وأصحابنا .
وروى أبو يحيى الحماني ، عن أبي سعدٍ ، عن مكحولٍ ، عن واثلة بن(5/376)
"""""" صفحة رقم 377 """"""
الأسقع ، قال : كان أناسٌ من أصحاب النبي ( يربطون مساويكهم بذوائب سيوفهم ، فاذا حضرت الصلاة استاكوا ، ثم صلوا .
خرَّجه البيهقي في ( ( صلاة الخوف ) ) من ( ( سننه ) ) .
وقال : أبو سعدٍ البقال ، غير قوي .
وقد أنكر طائفة من العلماء السواك عند إرادة الصلاة المفروضة في المسجد ، وقالوا : ليس فيه نص عن النبي ( ، وإنما كان النبي ( إذا قام من الليل للتهجد في بيته .
وحكي عن مالكٍ ، أنه يكره السواك في المساجد ، والذي رأيناه في ( ( تهذيب المدونة ) ) : أنه يكره أن يأخذ المعتكف من شعره أو أظفاره في المسجد ، وإن جمعه
وألقاه ؛ لحرمة المساجد .
وقد روي عن عثمان بن عفان ، أنه كانَ يخطب يوم الجمعة ، فذكر أنه لم
يستك ، فنزل فاستاك .
وهذا يدل على أنه إنما نزل ليستاك خارج المسجد ، وأنه رأى السواك في الجمعة عند الوضوء لا عند الصلاة .
وخرج الحاكم في ( ( أماليه ) ) من رواية أبي ايوب الأفريقي ، عن صالح بن أبي
صالح ، أظنه عن أبيه ، عن زيد بن خالد الجهني ، قال : ما كان رسول الله ( يخرج من بيته لشيءٍ من الصلوات حتى يستاك .
وهذا غريبٌ .
ويستدل به : على أنه إنما كان يستاك في بيته قبل خروجه إلى المسجد .(5/377)
"""""" صفحة رقم 378 """"""
الحديث الثاني :
888 - نا أبو معمر : نا عبد الوارث : نا شعيب : نا أنس بن مالكٍ ، قال : قال رسول الله ( : ( ( قد أكثرت عليكم في السواك ) ) .
المراد بإكثاره عليهم في السواك : كثرة حثهم عليه ؛ وترغيبهم فيهِ ، بذكر فضله .
وقد روي عنه ( ، أنه قالَ : ( ( السواك مطهر للفم ، مرضاة للرب ) ) .
وقد علقه البخاري في موضع آخر ، ويأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى .
وقدروي عنه ( ، أنه أكثر عليه في امره بالسواك :
ففي ( ( مسند الإمام أحمد ) ) من رواية إبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن
عباسٍ . أن النبي ( قال : ( ( لقد أمرت بالسواك ، حتى خشيت أن يوحى الي فيه ) ) .
التميمي ، اسمه : أربد ، ويقال : أربدة .
ومن حديث واثلة بن الأسقع ، قال : قال رسول الله ( : ( ( أمرت بالسواك ، حتى خشيت أن يكتب علي ) ) .
وفي إسناده : ليث بن أبي سليمٍ .
ويستدل به : على أن السواك لم يكن واجباً على النبي ( .
وقد قيل : إنه كان واجباً عليه .
وخرّج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن حنظلة بن الغسيل ، أن النبي ((5/378)
"""""" صفحة رقم 379 """"""
كان أمر بالوضوء لكل صلاة ، طاهراً كان أو غير طاهرٍ ، فلما شق ذلك على رسول الله ( أمر بالسواك عند كل صلاة ، ووضع عنه الوضوء ، إلا من حدثٍ .
وخرَّجه ابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحهما ) ) والحاكم .
وقال : على شرط مسلم .
وليس كما قال .
وخرَّجه البزار في ( ( مسنده ) ) ، ولفظه : أن النبي ( كان يأمر بالوضوء عند كل صلاةٍ ، فلما شق عليهم أمر بالسواك عند كل صلاة .
وقد روي من حديث عنبسة - مرفوعاً - أن السواك كان عليه فريضةً ، وهو لأمته تطوعٌ .
خرَّجه الطبراني .
ولا يصح إسناده . والله أعلم .
الحديث الثالث :
889 - نا محمد بن كثير : نا سفيان ، عن منصور وحصين ، عن أبي وائلٍ ، عن حذيفة ، قال : كان النبي ( إذا قام من الليل يشوص فاه .
قد سبق هذا الحديث في ( ( الطهارة ) ) من رواية جريرٍ ، عن منصورٍ وحده ، وسبق الكلام على معناه مستوفى .(5/379)
"""""" صفحة رقم 380 """"""
9 - بابٌ
من تسوك بسواك غيره
890 - حدثنا إسماعيل : حدثني سليمان بن بلال : قال هشام بن عروة : أخبرني أبي ، عن عائشة ، قالت : دخل عبد الرحمن بن أبي بكرٍ ، ومعه سواكٌ يستن به ، فنظر اليه رسول الله ( ، فقلت له : أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن ، فاعطانيه ، فقصمته ، ثم مضغته ، فاعطيته رسول الله ( ، فاستن به ، وهو مستند إلى صدري .
يروي : ( ( فقصمته ) ) بفتح الصاد المهملة ، أي : كسرته ، فأبنت منه الموضع الذي كان استن به عبد الرحمن ، والقصأمة : ما يكسر من رأس السواك .
هذا هو الذي ذكره الخطابي ، وقال : أصل القصم : الدق .
ويروى : ( ( فقصمته ) ) ، بكسر الضاد المعجمة ، من القضم ، وهو العض بالأسنان ، ومنه : الحديث : ( ( فيقضمهما كما يقضم الفحل ) ) .
[ . . . ] الإستياك بسواك غيره في ( ( باب : دفع السواك إلى الأكبر ) ) من ( ( كتاب الطهارة ) ) فأغنى عن إعادته هاهنا .
وفي الحديث : دليلٌ على أن إلاستياك سنةٌ في جميع الأوقات ، عند إرادة الصلاة وغيرها ، فإن استياك النبي ( بهذا السواك كان في مرض موته عند خروج(5/380)
"""""" صفحة رقم 381 """"""
نفسه ، ولم يكن قاصداً حينئذ لصلاةٍ ولا تلاوة .
وقد قيل : إنه قصد بذلك التسوك عند خروج نفسه الكريمة ؛ لأجل حضور الملائكة الكرام ، ودنوهم منه لقبض روحه الزكية الطاهرة الطيبة .
وقد أمر سلمان الفارسي - رضي الله عنه - امرأته عند احتضاره أن تطيب موضعه بالمسك ؛ لحضور الملائكة فيه ، وقال : أنه يزورني أقوام ، يجدون الريح ، ولا يأكلون الطعام - أو كما قال .(5/381)
"""""" صفحة رقم 382 """"""
- باب ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة
891 - حدثنا أبو نعيمٍ ومحمد بن يوسف : ثنا سفيان ، عن سعد بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن - هو : ابن هرمز - ، عن أبي هريرة ، قال : كان النبي ( يقرأ في الفجر يوم الجمعة ( آلم تنزيل ( السجدة ، ( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ ( [ إلانسان : 1 ] .
هذا الحديث خرَّجه البخاري هاهنا ، وفي ( ( سجود القرآن ) ) .
في أحدهما : خرَّجه عن محمد بن يوسف الفريابي ، عن سفيان - هو : الثوري .
وفي الآخر : عن أبي نعيمٍ ، عن سفيان .
وفي رواية محمد بن يوسف زيادة : ذكر السجدة .
ففي بعض النسخ في هذا الباب : رواية محمد بن يوسف ، وفي الآخر : رواية أبي نعيمٍ ، وفي بعضها - في الموضعين : - عن محمد بن يوسف .
وإلاول : أصح . والله أعلم .
وقد ذكر الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في ( ( مستخرجه ) ) : أن البخاري خرَّجه في هذا الباب ، عن أبي نعيمٍ .
وقد رواه يحيى القطان ، عن سفيان ، فقال في حديثه : وفي الثانية ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ ( [ الغاشية : 1 ] .
خرَّجه من طريقه إلاسماعيلي في ( ( صحيحه ) ) .
والظاهر : أن ذلك وهمٌ منه .(5/382)
"""""" صفحة رقم 383 """"""
وقد روي هذا الحديث عن النبي ( من رواية جماعةٍ من الصحابة ، ولم يخرجه البخاري إلاّ من هذا الوجه .
وخرَّجه مسلم منه ، ومن حديث ابن عباسٍ - أيضاً .
وقوله : ( ( كان يقرأ ) ) يدل على تكرر ذلك منه ، ومداومته عليه .
وقد روي ، أنه كان يديم ذلك :
خرَّجه الطبراني من طريق عمروٍ بن قيس الملائي ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، أن النبي ( كان يقرا في صلاة الصبح يوم الجمعة ( آلم تنزيل ( السجدة و ( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ ( [ الإنسان : 1 ] .
يديم ذلك .
ورواته كلهم ثقاتٌ ، إلا أنه روي عن أبي إلاحوص مرسلاً .
وإرساله أصح عند البخاري وأبي حاتم والدارقطني .
وقد خرَّجه ابن ماجه من وجه أخر عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، موصولاً - أيضاً - ، بدون ذكر المداومة .
وقد اختلف العلماء في قرءاة سورةٍ معينةٍ في صلاةٍ معينةٍ .
فكرهة طائفة ، وحكي عن أبي حنيفة ومالك .
ولم يكرهه الأكثرون ، بل استحبوا منه ما روي عن النبي ( .
وممن استحب قراءة سورة ( آلم ( سورة السجدة و ( هلْ أَتَى ( في صلاة الفجر يوم الجمعة : الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وسليمان بن داود الهاشمي والجوزجاني وغيرهم من فقهاء الحديث .(5/383)
"""""" صفحة رقم 384 """"""
وهذا هو المروي عن الصحابة ، منهم : عليٌ وابن عباسٍ وأبو هريرة .
ثم اختلفوا : هل يستحب المداومة على ذلك في كل جمعةٍ ؟
فقال بعضهم : لا يستحب ذلك ، بل يستحب فعله أحياناً ، وهو قول الثوري وأحمد - في المشهور عنه - وإسحاق .
وعللا بأنه يخشى من المداومة عليه اعتقاد الجهال وجوبه ، وان صلاة الفجر يوم الجمعة فيها زيادة سجدة ، أو أنها ثلاث ركعات ، ونحو ذلك مما قد يتخيله بعض من هو مفرطٌ في الجهل .
وقال الأكثرون : بل يستحب المداومة عليه ، وهو قول الشافعي ، وسائر من سمينا قوله .
وهو ظاهر ما نقله اسماعيل بن سعيدٍ الشالنجي عن أحمد ؛ فإنه قالَ : سألته عن القراءة في الفجر يوم الجمعة ؟ فقال : نراه حسناً ، أن تقرأ ( آلم تنزيل ( السجدة ،
و ( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ ( [ الإنسان : 1 ] .
ورجحه بعض أصحابنا ، وهو الأظهر .
وكان السلف يداومون :
قال الأعرج : كان مروان وأبو هريرة يقرءان في صلاة الصبح ب ( آلم تنزيل ( سورة السجدة و ( هلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ ( [ إلانسان : 1 ] .
وقال الشعبي : ما شهدت ابن عباسٍ قرأ يوم الجمعة إلا ( تنزيل ( و ( هلْ أَتَى ( [ الإنسان : 1 ] .
خرَّجه ابن أبي شيبة .
واعتقاد فرضية ذلك بعيدٌ جداً ، فلا يترك لأجله السنة الصحيحة ، واتباع عمل الصحابة .(5/384)
"""""" صفحة رقم 385 """"""
وكان كثيرٌ من السلف يرى أن السجدة مقصودةٌ قراءتها في فجر يوم الجمعة : قال سعيدٍ بن جبيرٍ : ما صليت خلف ابن عباسٍ يوم الجمعة الغداة إلا قرأ سورة فيها سجدةً .
وعن ابن عوان ، قال : كانوا يقرءون يوم الجمعة سورة فيها سجدةٌ ، قال : فسألت محمداً - يعني : ابن سيرين - ، فقال : لا أعلم به بأساً .
وعن النخعي ، أنه صلى بهم يوم جمعة الفجر ، فقرأ ب ( كهيعص ( [ مريم : 1 ] .
خرج ذلك ابن أبي شيبة في ( ( كتابه ) ) .
ونقل حربٌ ، عن إسحاق ، قال : لا بأس أن يقرأ الإمام في المكتوبة سورة فيها سجدةٌ ، وأحب السور الينا ( آلم تزيل ( السجدة ، ( هلْ أَتَى ( [ إلانسان : 1 ] ، ويقرأ بهما في الجمعة ، ولابد منهما في كل جمعة ، وان أدمنهما جاز .
وهذا يدل على أنه يستحب قراءةٌ فيها سجدةٌ ، وافضلها ( آلم تنزيل ( .
وروى أبو بكرٍ بن أبي داود باسناده ، عن ابن عباسٍ ، قال : غدوت على
رسول الله ( يوم جمعة في صلاة الفجر ، فقرأ في الركعة الأخيرة سورةً من المئين فيها سجدةٌ ، فسجد فيها .
وقد روي عن أحمد ما يشهد لهذا - أيضاً - ، وأن السجدة مقصودة في صلاة الفجر يوم الجمعة ؛ فإن أبا جعفر الوراق روى ، أن أحمد صلى بهم الفجر بوم الجمعة ، فنسي قراءة آية السجدة ، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو .
قال القاضي أبو يعلى : إنما سجد للسهو ، لأن هذه السجدة من سنن الصلاة ، بخلاف بقية السجداًت في الصلاة ؛ فإنها من سنن القراءة .(5/385)
"""""" صفحة رقم 386 """"""
وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا والشافعية : أن تعمد قراءة سورة سجدة غير ( آلم تنزيل ( في فجر الجمعة بدعةٌ ، وقد تبين أن الأمر بخلاف ذلك .
وقدصلى الإمام أحمد صلاة الفجر يوم الجمعة ب ( آلم ( السجدة ، وسورة
( عبس ( ، وهذا يدل - أيضاً - على أن ابدال ( هلْ أَتَى ( بغيرها غير مكروه .
وفي هذه الصلاة نسي قراءة السجدة ، وسجد سجدتي السهو ، وهو يدل على أن من نسي أن يسجد في صلاته للتلاوة لم يعد السجود بعد فراغه من الصلاة ، وقد صرح به أصحابنا .
قال القاضي أبو يعلى في ( ( الجامع الكبير ) ) : ظاهره : أن من نسي سجود التلاوة سجد للسهو ، كما إذا نسي دعاء القنوت .
قال : ولا يلزم على هذا بقية سجود التلاوة في غير صلاة ؛ لأنه يحتمل أن يقال فيه مثل ذلك ، ويحتمل أن يفرق بينهما ، بأن الحث والترغيب وجد في هذه السجدة اكثر ، وهو مداومة النبي ( لقراءتها . انتهى ما ذكره .
والتحقيق في الفرق : ما ذكره في موضعٍ آخر : أن السجدة في فجر يوم الجمعة من سنن الصلاة ، فهي كقنوت الوتر ، وفي غيرها من سنن القراءة التي لا تختص بالصلاة .
وممن قال : إن من نسي السجود للتلاوة في صلاته سجد للسهو إذا قضى صلاته : حمادٌ وابن جريجٍ - : ذكره عبد الرزاق عنهما في ( ( كتابه ) ) ، ولم يفرق بين سجدة يوم الجمعة وغيرها ، ويحتمل أن مذهبهما وجوب سجود التلاوة ، فيجبره إذا نسيه بسجود السهو .(5/386)
"""""" صفحة رقم 387 """"""
ومذهب مالكٍ : أن نسي سجودها في الركعة الأولى من النافلة حتَّى يرفع رأسه من ركوعه ، قالَ : فأحب الي أن يقرأها في الثانية ، ويسجدها ، ولا يفعل ذَلِكَ في الفريضة ، وإن ذكرها وهو راكعٌ في الثانية من النافلة تمادى ، ولا شيء عليهِ ، إلا أن يدخل في نافلة اخرى ، فإذا قام قرأها وسجد .
ذكره في ( ( تهذيب المدونة ) ) ، ولم يذكر لذلك سجود سهوٍ .
وعند أصحاب الشافعي : إذا نسي سجود التلاوة حتَّى سلم ، فإن لم يطل الفصل سجد للتلاوة بعد سلامه ، وان طال ففي قضاء السجود لهم قولان .
وأما من أوجب السجود للتلاوة ، فقالَ سفيان فيمن قرأ سجدةً ، فركع ناسياً ، فذكر في آخر صلاته : سجدها ، ثُمَّ ركع .(5/387)
"""""" صفحة رقم 388 """"""
- باب الجمعة في القرى والمدن
فيه حديثان :
أحدهما :
قال :
892 - نا محمد بن المثنى : نا أبو عامرالعقدي : نا إبراهيم بن طهمان ، عن أبي جمرة الضبعي ، عن ابن عباسٍ ، قال : أن أول جمعة جمعت في الأسلام - بعد جمعة في مسجد رسول الله ( - في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين .
قد ذكرنا هذا الحديث في أول ( ( كتاب الجمعة ) ) ، وذكرنا بعض الأختلاف في إسناده ومتنه ، وأن معناه : أنه لم يجمع في الأسلام بعد التجميع بالمدينة إلا في مسجد عبد القيس بالبحرين ، فكأن أول بلدٍ أقيمت الجمعة فيه المدينة ، ثم بعدها قرية جوثاء بالبحرين .
وهذا يدل على أن عبد القيس أسلموا قبل فتح مكة ، وجمعوا في مسجدهم ، ثم فتحت مكة بعد ذلك ، وجمع فيها .
والمقصود : أنهم جمعوا في عهد النبي ( في قرية جواثاء ، وإنما وقع ذلك منهم باذن النبي ( وأمره لهم ؛ فإن وفد عبد القيس أسلموا طائعين ، وقدموا راغبين في إلاسلام ، وسألوا النبي ( عن مهمات الدين ، وبين لهم النبي ( قواعد إلايمان وأصوله ، وقد سبق ذكر حديثهم في ( ( كتاب الإيمان ) ) .
فيدل ذلك على جواز إقامة الجمعة بالقرى ، وأنه لا يشترط لإقامة الجمعة المصر الجامع ، كما قاله طائفة من العلماء .(5/388)
"""""" صفحة رقم 389 """"""
وممن ذهب إلى جواز إقامة الجمعة في القرى : عمر بن عبد العزيز وعطاءٌ ومكحولٌ وعكرمة والأوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق .
وروى القناد ، عن سفيان نحوه .
وكان ابن عمر يمر بالمياه بين مكة والمدينة ، فيرى أهلها يجمعون ، قلا يعيب عليهم .
ذكره عبد الرزاق ، عن العمري ، عن نافعٍ ، عنه .
وروى ابن المبارك ، عن أسامة بن زيدٍ ، عن نافعٍ ، عن ابن عمر : لا جمعة في سفر ، ولا جمعة إلا في مصر جامع .
وهذا - مع الذي قبله - يدل على أنه أراد بالمصر القرى .
وروى الأثرم بإسناده ، عن أبي ذر ، أنه كان يجمع بالربذة مع الناس .
وقالت طائفة : لا جمعة إلا في مصرٍ جامعٍ ، روي ذلك عن علي ، وبه قال النخعي والثوري - في المشهور عنه - وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن .
وقال الحسن وابن سيرين : لا جمعة إلا في مصرٍ .
وقد روي عن علي خلاف ذلك ، روى وكيعٌ ، عن قيس بن الربيع ، عن طالب بن السميدع ، عن أبيه ، أن علياً جمع بالمدائن .
وعن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، أن حذيفة جمع بالمدائن .
وعن شعبة ، عن عطاء بن أبي ميمونة ، عن أبي رافعٍ ، عن أبي هريرة ، قال : كتبت إلى عمر بن الخطاب أسأله عن الجمعة بالبحرين ، فكتب الي : أن اجمعوا حيثما كنتم .
قال الإمام أحمد : هذا إسنادٌ جيدٌ .(5/389)
"""""" صفحة رقم 390 """"""
وروى وكيعٌ باسناده ، عن النخعي ، أنه جمع بحلوان .
وهذا كله يدل على أن من قال : لا جمعة إلا في مصرٍ جامعٍ ، فإنه أراد بذلك القرى التي فيها والٍ من جهة الإمام ، فيكون مراده : أنه لا جمعة إلا بإذن الإمام في مكان له فيه نائب يقيم الجمعة بإذنه .
وبذلك فسره أحمد في روايةٍ عنه .
وكذلك روى عن محمد بن الحسن - صاحب أبي حنيفة - تفسير المصر : أن الإمام إذا بعث إلى قرية نائبا له لإقامة الحدود ، فهو مصرٌ ، فلو عزله ألحق بالقرى .
وروي نحوه عن أبي يوسف ، وعن أبي حنيفة - أيضاً .
قال أحمد : المصر إذا كان به الحاكم ، ولا يقال للقرى : مصرٌ .
وقال إسحاق : كل قرية فيها أربعون رجلاً يقال لها : مصرٌ .
وهذا بعيدٌ جداً .
وعن سفيان روايتان في تفسير المصر :
إحدهما : أنه كل مصرٍ فيه جماعةً وإمامٌ .
والثانية - نقلها عنه ابن المبارك - : أن المصر الجامع ما عرفه الناس أنه جامعٌ .
وقال عمرو بن دينارٍ : سمعنا : أن لا جمعة إلا في قريةٍ جامعةٍ .
وعنه ، قال : إذا كان المسجد تجمع فيه الصلوات فلتصل فيه الجمعة .
وقد تقدم حديث كعب بن مالك ، أن أول جمعةٍ جمعت بالمدينة في نقيع الخضمات في هزم من حرة بني بياضة ، وأن النبي ( جمع أول ما قدم المدينة في مسجد بني سالم .
وهذه كلها في حكم القرى خارج المدينة .(5/390)
"""""" صفحة رقم 391 """"""
الحديث الثاني :
893 - نا بشر بن محمد : أنا عبد الله بن المبارك : أنا يونس ، عن الزهري ، قال : أخبرني سالمٌ ، عن ابن عمر ، قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( ( كلكم راع ) ) .
وزاد الليث : قال يونس : كتب رزيق بن حكيم الىابن شهابٍ ، وأنا معه يومئذ بوادي القرى : هل ترى أن أجمع ؟ ورزيقٌ عاملٌ على أرض يعملها ، وفيها جماعةً من السودان وغيرهم ، ورزيقٌ يومئذ عاملٌ على أيلة ، فكتب ابن شهاب - وأنا اسمع - يامره أن يجمع ، يخبره أن سألما حدثه ، أن عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول الله ( يقول : ( ( كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته ، الإمام راع ومسول عن رعيته ) ) - وذكر بقية الحديث .
والمقصود منه : أن الزهري استدل بهذا الحديث - في رواية الليث ، عن يونس ، عنه ، التي ذكرها البخاري تعليقاً - على أن الأمير في البلدان والقرى - وإن لم يكن من الأمصار الجامعة - أن يقيم الجمعة لأهلها ، لأنه راع عليهم ، ومسئول عنهم ، ومما يجب عليه رعايته : أمر دين رعيته ، واهمه الصَّلاة .
وقال الخطابي : فيه دليلٌ على جواز إقامة الجمعة بغير سلطانٍ .
وفيما قاله نظر ؛ وابن شهابٍ إنما استدل به على أن نائب السلطان يقيم الجمعة لأهل بلدته وقريته ، وان لم يكن مصراً جامعاً ، ولا يتم إلاستدلال بذلك حتَّى يقوم دليل على جواز اقأمة الجمعة في غير الأمصار الجامعة ، وإلا فاذا اعتقد الإمام أو نائبة أنه لا جمعة إلا في مصر جامع ، ولم يقم الجمعة في قريته وبلدته الصغيرة ؛ فإنه لا يلام على
ذلك ، ولا يأثم أهل قريته وبلدته بترك(5/391)
"""""" صفحة رقم 392 """"""
الجمعة في هذه الحال .
قال أحمد - في الإمام إذا لم يول عليهم من يصلي بهم الجمعة - : ليس عليهم في ذلك إثمٌ .
وروى حجاج بن أرطاة ، عن الزهري ، قال : كتب رسول الله ( إلى ناس من أهل المياه ، بين مكة والمدينة ، أن يصلوا الفطر والأضحى ، وأن يجمعوا .
خرَّجه حربٌ الكرماني وغيره .
وهو مرسلٌ ضعيفٌ ، وحجاجٌ مدلسٌ ، ولم يسمع من الزهري .(5/392)
"""""" صفحة رقم 393 """"""
- باب هل على من لم يشهد الجمعة غسلٌ من النساء والصبيان وغيرهم ؟
وقال ابن عمر : إنما الغسل على من تجب عليه الجمعة .
مراده : أن من لا يلزمه شهود الجمعة من النساء والصبيان وغيرهم كالمسافرين ، هل عليهم غسلٌ ، أم لا ؟
والمعنى : هل يلزمهم الغسلٌ على قول من يرى الغسلٌ واجباً ، أو يستحب لهم على قول من يراه مستحباً ؟
وقد ذكر عن ابن عمر - تعليقاً - ، أنه قالَ : إنما الغسلٌ على من تجب عليهِ
الجمعة .
وروى وكيعٌ : نا خالج بن عبد الرحمن بن بكيرٍ ، عن نافعٍ ، عن ابن عمر ، قال : إنما الغسلٌ على من أتى الجمعة .
يعني : ليس على النساء جمعةٌ .
وروى عبد الرزاق بإسناده ، عن سالمٍ ونافعٍ ، أن ابن عمر كان لا يغتسل في السفر يوم الجمعة .
وإنما ذهب ابن عمر إلى هذا ، تمسكاً بما رواه عن النبي ( ، أنه قال : ( ( من أتى الجمعة فليغتسل ) ) ، فحمله على أن المراد : من لزمه إتيان الجمعة فليغتسل ، وهو أعلم بما روى ، وأفهم له .
وقد فهم آخرون منه أنه : من أراد إتيان الجمعة فلغتسل ، سواء كان إتيانه للجمعة واجباً عليه ، أو غير واجبٍ ، وأما من لم يرد إتيانها كالمسافر والمريض المنقطع في بيته ، ومن لا يريد حضور الجمعة من النساء والصبيان ، فلم يدل الحديث على غسل أحدٍ
منهم .(5/393)
"""""" صفحة رقم 394 """"""
وقد ذهب إلى أنهم يغتسلون للجمعة طائفةٌ من العلماء ، فصارت إلاقوال في المسألة ثلاثةٌ :
اما اختصاص الغسلٌ بمن تلزمه الجمعة .
أو بمن يريد شهود الجمعة ، سواءٌ لزمته ، أو لا .
وأما أنه يعم الغسلٌ كل مكلف يوم الجمعة ، سواءٌ أراد شهودها ، أو لم يرده .
والقول الأول - : وجه لأصحابنا ، وهوظاهر اللفظ الذي ذكره البخاري عن ابن عمر - تعليقاً - ، وتبويب البخاري يدل على اختياره .
والثاني - : هو قول الأكثرين ، كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق ، إلا أن أحمد استثنى منه المرأة خاصة ، الحاقا لغسلٌها بتطيبها ، وهي منهيةٌ عنه إذا حضرت المسجد .
واستحبه الآخرون ، وبعض أصحاب أحمد ، حيث لم يكن خروجها للجمعة مكروهاً .
وقال عطاءٌ والشعبي : ليس على المسافر غسلٌ يوم الجمعة .
وأما القول الثالث - : فهو قول طائفة من العلماء ، أن كان من أهل وجوب الجمعة ، وإن كان له عذر يمنع الوجوب ؛ فإنه يغتسل يوم الجمعة ، مريضاً كان أو مسافراً ، أو غير ذلك .
وروي عن طلحة بن عبيد الله ومجاهدٍ وطاوسٍ وسعيدٍ بن جبير ، وهو قول إسحاق وأبي ثورٍ ، ووجهٌ للشافعية .
ولهم وجه آخر : يسن لكل أحدٍ ، مكلفاً كان بها أو غير مكلف ، كفسل العيد ، لما روي عن النبي ( ، أنه قال : ( ( حقٌ على كل مسلمٍ أن يغتسل في سبعة أيامٍ يوماً ) ) ، وسيأتي ذكره .(5/394)
"""""" صفحة رقم 395 """"""
وروى الحسن ، عن أبي هريرة ، أن النبي ( أوصاه بثلاثٍ ، لا يدعهن في حضرٍ ولا سفرٍ ، فذكر منها : ( ( والغسلٌ يوم الجمعة ) ) .
خرَّجه الإمام أحمد .
والحسن ، لم يسمع من أبي هريرة ، على الصحيح عند الجمهور .
والمعروف : حديث وصية أبي هريرة بثلاثٍ ، ليس فيها : ( ( غسلٌ الجمعة ) ) ، كما يأتي في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
واستدل الأكثرون بقوله : ( ( من أتى الجمعة فليغتسل ) ) .
وفي رواية : ( ( إذا أراد أن يأتي الجمعة فلغتسل ) ) .
وبأن الغسل مقرونٌ بالرواح إلى الجمعة في غير حديث ، وهذا مقيد ، فيقضي على المطلق .
ولأنه شرع للنظافة ؛ لئلا يؤذي الحاضرون بعضهم بعضاً بالرائحة الكريهة ، وهذا غير موجود في حق من لا يحضر الجمعة .
خرج في هذا الباب خمسة أحاديث :
الحديث الأول :
894 - نا أبو اليمان : أنا شعيبٌ ، عن الزهري : حدثني سالم بن عبد الله ، أنه سمع عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول الله ( يقول : ( ( من جاء منكم الجمعة فليغتسل ) ) .
لما كان الخطاب في هذا للرجال لمن جاء منهم الجمعة ، دل على أنه لا غسل على من لا يأتي منهم الجمعة ، كالمسافر والمريض والخائف على نفسه ، ولا على من ليس من الرجال ، كالنساء والصبيان ؛ فإن الصبيان لا يدخلون في(5/395)
"""""" صفحة رقم 396 """"""
خطاب التكليف .
الحديث الثاني .
895 - حديث : أبي سعيدٍ الخدري ، عن النبي ( ، وقال : ( ( غسلٌ يوم الجمعة واجبٌ على كل محتلمٍ ) ) .
خرَّجه : عن القعنبي ، عن مالكٍ .
وقد سبق إسناده .
ويستدل به على أن من لم يبلغ الحلم فلا غسلٌ عليه .
الحديث الثالث :
896 - نا مسلم بن إبراهيم : نا وهيبٌ ، عن ابن طاوسٍ ، عن أبيه ، عن أبي
هريرة ، قال : قال رسول الله ( : ( ( نحن الآخرون السابقة يوم القيامة ، أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأتيناه من بعدهم ، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه ، وهدانا الله اليه ، فغداً
لليهود ، وبعد غد للنصارى ) ) .
897 - فسكت ، ثم قال : ( ( حقٌ على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام
يوماً ، يغسلٌ فيه رأسه وجسده ) ) .
898 - رواه أبان بن صالح ، عن مجاهدٍ ، عن طاوسٍ ، عن أبي هريرة ، قال : قال النبي ( : ( ( الله تعالى على كل مسلم حق : أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً ) ) .
إنما ذكر رواية أبان بن صالح المعلقة ؛ ليبين أن آخر الحديث - وهو : ذكر الغسلٌ - مرفوع إلى النَّبيّ ( ، لئلا يتوهم أن القائل : ( ( حقٌ على كل مسلمٍ ) ) في آخر حديث وهيبٍ ، عن ابن طاوسٍ ، عن أبيه - : هو أبو هريرة ، وأنه(5/396)
"""""" صفحة رقم 397 """"""
مدرج في آخر الحديث .
وقد خرج مسلمٌ في ( ( صحيحه ) ) ذكر الغسلٌ من طريق وهيبٍ ، وصرح برفعه إلى النبي ( .
وتوهم آخرون : أن ذكر الغسل في آخر الحديث مدرج من قول أبي هريرة .
قال الدارقطني : رفعه أبان بن صالحٍ ، عن مجاهدٍ : عن طاوسٍ ، عن أبي هريرة ، واختلف عن عمروٍ بن دينار : فرفعه عمر بن قيس ، عنه . وقيل : عن شعبة ، عنه - مرفوعاً . وقيل : عنه - موقوفٌ . ورواه ابن جريجٍ وابن عيينة ، عن عمروٍ - موقوفاً . وكذلك رواه إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوس - موقوفاً ، وروي عن ابن جريجٍ ، عن الحسن بن مسلم ، عن طاوس - مرسلاً - ، عن النبي ( والصحيح الموقوف على أبي هريرة . انتهى .
ولم يذكر رواية وهيبٍ المخرجة في ( ( الصحيحين ) ) .
وكذا رواه أبو الزبير ، عن طاوسٍ ، عن أبي هريرة - موقوفاً .
ورواه داود بن أبي هند ، عن أبي الزبير ، عن جابر - مرفوعاً - : ( ( على كل رجلٍ مسلمٍ في كل سبعة أيامٍ غسل ) ) ، وهو يوم الجمعة .
خرَّجه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) .
وقال أبو حاتم الرازي : هو خطأ ، إنما هو - على ما رواه الثقات - : عن أبي الزبير ، عن طاوسٍ ، عن أبي هريرة - موقوفاً .
وهذا الحديث هو الذي استدل به من قال : إن غسل الجمعة يكون لليوم لا(5/397)
"""""" صفحة رقم 398 """"""
لشهود الجمعة ، فيغتسل من حضر الجمعة ، ومنلم يحضرها ، كما سبق ذكره عنهم .
واستدل بع بعضهم على أن الغسلٌ للأسبوع ، لا لخصوص يوم الجمعة ، وأن من اغتسل في الأسبوع مرةً كفاه من غسلٌ الجمعة .
نقل حربٌ ، عن إسحاق ، قال : إن كان مغتسلاً سبعة أيام مرةً ، فجاء يوم الجمعة ، وقدكان غسلٌ رأسه واغتسل في كل سبعة أيامٍ مرةً جاز له ترك غسلٌ يوم الجمعة ؛ قال ذلك ابن عباسٍ ومن بعده ، أنهم كانوا يؤمرون بغسل رءوسهم وأجسادهم في كل سبعة أيام مرةً ، فحول الناس إلى يوم الجمعة .
وقوله : ( ( يغسل رأسه وجسده ) ) يشير إلى أنه يعم بدنه بالغسل ، فإن الرأس إلى الغسلٌ [ . . . ] لشعره ، وقد كانت لهم شعورٌ في رءوسهم .
وعلي مثل هذا حمل طائفةٌ من العلماء قوله ( ( من غسل واغتسل ) ) ، فقالوا : غسل رأسه واغتسل في بدنه ، وقالوا : كانت للقوم جممٌ .
الحديث الرابع :
899 - نا عبد الله بن محمد : نا شبابة : نا ورقاء ، عن عمرو بن دينار ، عن
مجاهدٍ ، عن ابن عمر ، عن النبي ( ، قال : ( ( ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد ) ) .
وقد سبق من وجه أخر عن ابن عمر - بنحوه .
الحديث الخامس :
900 - نا يوسف بن موسى : نا أبو اسأمة : نا عبيد الله بن عمر ، عن نافعٍ ، عن ابن عمر ، قال : كانت امرأةٌ لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في(5/398)
"""""" صفحة رقم 399 """"""
المسجد ، فقيل لها : لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار ؟ قالت : فما يمنعه أن
ينهاني ؟ قالَ : يمنعه قول رسول الله ( : ( ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله عز وجل ) ) .
ومراده بهذين الحديثين في هذا الباب : أن إلاذن في خروج النساء إلى المساجد إنما كانَ بالليل خاصةً ، وحديث عمر يبين انهن إنما كن يخرجن كذلك ، وقد سبق ذكر ذَلِكَ في ( ( باب : خروج النساء إلى المساجد في الليل والغلس ) ) .
وحينئذ ؛ فلا تكون الجمعة مما اذن لهن في الخروج اليها ؛ لانها منصلاة النهار ، لا من صلوات الليل ، وإنما أمر بالغسلٌ من يجيء إلى الجمعة ، كما في حديث ابن عمر المتقدم ، فيدل ذلك على أن المرأة ليست مأمورة بالغسلٌ للجمعة ، حيث لم يكن مأذونا لها بالخروج إلى الجمعة .
وقد رود لفظٌ صريحٌ بالغسل للنساء يوم الجمعة .
خرَّجه ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من طريق عثمان بن واقد العمري ، عن نافعٍ ، عن ابن عمر ، أن النبي ( قال : ( ( من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل ) ) .
وخرَّجه بلفظٍ أخر ، وهو : ( ( الغسل يوم الجمعة على كل حالم من الرجال ، وعلى كل بالغٍ من النساء ) ) .
وخرَّجه البزار في ( ( مسنده ) ) باللفظ الأول .
وقال : أحسب عثمان بن واقدٍ وهم في هذا اللفظ .
وعثمان بن واقدٍ هذا ، وثقه ابن معين ، وقال أحمد والدارقطني : لا بأس به .
قال أبو داود : هو ضعيفٌ ، حدث أن النبي ( قال : ( ( من أتى الجمعة من(5/399)
"""""" صفحة رقم 400 """"""
الرجال والنساء فليغتسل ) ) لا نعلم أن أحداً قال هذا غيره .
يعني : أنه لم يتابع عليه ، وأنه منكرٌ لا يحتمل منه تفردا به .(5/400)
"""""" صفحة رقم 401 """"""
- باب الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر
901 - حدثنا مسددٌ : نا إسماعيل : أخبرني عبد الحميد - صاحب الزيادي - : نا عبد الله بن الحارث - ابن عم محمد بن سيرين - : قال ابن عباس لمؤذنه يوماً مطيراً : اذا قلت : ( ( أشهد أن محمداً رسول الله ) ) فلا تقل : ( ( حي على الصلاة ) ) ، قل : ( ( صلوا في بيوتكم ) ) ، فكان الناس استنكروا ، فقال : فعله من هو خيرٌ مني ، إن الجمعة عزمة ، وإني كرهت أن أخرجكم ، فتمشون في الطين والدحض .
قد سبق هذا الحديث في موضعين : في ( ( باب : الكلام في الأذان ) ) ، وفي ( ( أبواب الجماعة ) ) في ( ( باب : هل يصلي لمن حضر ، وهل يخطب يوم الجمعة في المطر ) ) .
وفي هذه الرواية : زيادةٌ ، وهي قوله : ( ( إن الجمعة عزمةٌ ) ) ، ولم يذكر فيما تقدم لفظ الجمعة .
وقد قال الإسماعيلي في ( ( صحيحه ) ) : هذه اللفظة ما إخالها صحيحةً ، فإن في هذا الحديث بيان أن العزمة قوله : ( ( حي على الصلاة ) ) فكأن الدعاء إليها يوجب على السامع الإجابة ، ولا أدري هذا في الجمعة أو غيرها ، فلو كان المعنى : الجمعة عزمةٌ ، لكانت العزمة لا تزول بترك بقية الأذان ، لأن الجمعة قائمة ، وإن لم يدع إليها الناس ، والعزمة - إن شاء الله - هي الدعاء إلى(5/401)
"""""" صفحة رقم 402 """"""
الصلاة . والله أعلم . انتهى ما ذكره .
ولكن ذكر الخطبة يشهد لأنه كان في يوم جمعة .
وقد ورد التصريح بان ذلك كان يوم جمعةٍ في رواياتٍ أخر :
فخرج مسلمٌ ذكر الجمعة في هذا الحديث ، من طريق شعبة ، عن عبد الحميد .
قال البيهقي : ورواه - أيضاً - معمر ، عن عاصم الأحول ، عن عبد الله بن الحارث . وذكره - أيضاً - وهيبً ، عن أيوب ، عن عبد الله بن الحارث .
والظاهر : أن المراد : أن الجمعة فرض عينٍ حتمٌ ، لا رخصة لأحدٍ في تركه ، إلا بإذن الإمام للناس في التخلف في الأذان ؛ فإن الأذان الذي بين يدي الإمام هوَ الموجب للسعي إليها على الناس ، فلذلك احتاج أن يرخص للناس فيهِ في التخلف .
وقد ذكرنا فيما تقدم ، عن أحمد ، أنَّهُ قالَ : إذا قالَ المؤذن في أذانه : ( ( صلوا في الرحال ) ) فلك أن تتخلف ، وإن لم يقل ، فقد وجب عليك أذاً قالَ : ( ( حي على الصَّلاة ، حي على الفلاح ) ) .
ولم يفرق بين جمعةٍ وغيرها .
وسبق ذكر حكم التخلف عن حضور الجمعة للمطر والوحل بما فيهِ كفاية . والله أعلم .(5/402)
"""""" صفحة رقم 403 """"""
- باب من أين تؤتى الجمعة ، وعلى من تجبُ ؟
لقول الله عز وجل : ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( [ الجمعة : 9 ] .
وقال عطاء : إذا كنت في قرية جامعةٍ ، فنودي بالصلاة من يوم الجمعة ، فحقٌ عليك أن تشهدها ، سمعت النداء أو لم تسمعه .
وكان أنس بن مالكٍ في قصره ، أحيانا يجمع ، وأحياناً لا يجمع ، وهو بالزاوية على فرسخين .
تضمن هذا الذي ذكره مسألتين :
إحدهما :
أن من هو في قرية تقام فيها الجمعة ، فإنه إذا نودي فيها بالصلاة للجمعة وجب عليه السعي إلى الجمعة ، وشهودها ، سواء سمع النداء أو لم يسمعه ، وقد حكاه عن
عطاء .
وهذا الذي فيالقرية ، إن كان من أهلها المستوطنين بها ، فلا خلاف في لزوم السعي إلى الجمعة له ، وسواءُ سمع النداء أو لم يسمع ، وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد ، ونقل بعضهم الاتفاق عليه .
وإن كان من غير أهلها ، فإن كان مسافراً يباح له القصر ، فأكثر العلماء على أنه لا يلزمه الجمعة مع أهل القرية ، وقد ذكرنا فيما تقدم أن المسافر لا جمعةٍ عليه .
وحكي عن الزهري والنخعي ، أنه يلزمه تبعاً لأهل القرية .
وروي عن عطاءٍ - أيضاً - ، أنه يلزمه .
وكذا قال الأوزاعي : أن أدركه الأذان قبل أن يرتحل فليجب .(5/403)
"""""" صفحة رقم 404 """"""
وإن كان المسافر قد نوى إقامة بالقرية تمنعه من قصر الصلاة ، فهل يلزمه الجمعة ؟ وفيه وجهان لأصحابنا .
وأوجب عليه الجمعة في هذه الحال : مالكٌ وأبو حنيفة ، ولم يوجبها عليه الشافعي وأصحابه .
المسألة الثانية :
أن من كان خارج القرية أو المصر الذي تقام فيه الجمعة ، هل تلزمه الجمعة مع أهل القرية أو المصر ، أم لا ؟ هذا مما اختلف فيه العلماء :
فقالت طائفةٌ : لا تلزم من كان خارج المصر أو القرية الجمعة مع أهله بحالٍ ، إذا كان بينهم وبين المصر فرجة ، ولو كانوا من ربض المصر .
وهذا قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه ، الحاقاً لهم بأهل القرى ، فإن الجمعة لا تقام عندهم في القرى .
وقال أكثر أهل العلم : تلزمهم الجمعة مع أهل المصر أو القرية ، مع القرب دون البعد .
ثم اختلفوا في حد ذلك :
فقالت طائفةٌ : المعتبر : إمكان سماع النداء ، فمن كان مو موضع الجمعة بحيث يمكنه سماع النداء لزمه ، وإلا فلا . هذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق .
واستدلوا : بظاهر قول الله تعالى : ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( [ الجمعة : 9 ] .
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وعمرو بن شعيب .
وروي عن أبي أمامة الباهلي - معناه .(5/404)
"""""" صفحة رقم 405 """"""
وخَّرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي ( :
( ( الجمعة على من سمع النداء ) ) .
وروي موقوفاً ، وهو أشبه .
وروى إسماعيل ، عن عبد العزيز بن عبد الله ، عن محمد بن عمرو بن عطاءٍ ، عن عبيد الله بن كعب بن مالكٍ ، عن أبيه - يرفعه - ، قال : ( ( لينتهين أقوامٌ يسمعون النداء يوم الجمعة ، ثم لا يشهدونها ، أو ليطبعن الله على قلوبهم ، وليكونن من الغافلين ، أو ليكونن من أهل النار ) ) .
عبد العزيز هذا ، شامي تكلموا فيه .
وقالت طائفةٌ : تجب الجمعة على من بينه وبين الجمعة فرسخٌ ، وهو ثلاثة أميالٍ ، وهوقول ابن المسيب والليث ومالكٍ ومحمد بن الحسن ، وهو رواية عن أحمد .
ومن أصحابنا من قال : لا فرق بين هذا القول والذي قبله ، لأن الفرسخ هو منتهى ما يسمع فيه النداء - غالباً - ، فإن أحمد قال : الجمعة على من سمع النداء ، والنداء يسمع من فرسخٌ ، وكذلك راواه جماعة عن مالكٍ ، فيكون هذا القول والذي قبله
واحدا .
وخرّج الخلال من رواية مندل ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر ، عن النبي ( قال : ( ( عسى أحدكم أن يتخذ الصبة على رأس ميلين أو ثلاثة ، تأتي عليه الجمعة لا يشهدها ، ثم تأتي الجمعة لا يشهدها(5/405)
"""""" صفحة رقم 406 """"""
- ثلاثاً - ، فيطبع على قلبه ) ) .
مندل ، فيه ضعف .
وخرّج الطبراني نحوه من حديث ابن عمر - مرفوعاً .
وفي إسناده : إبراهيم بن يزيد الخوزي ، وهو ضعيف .
وروى معدي بن سليمان ، عن ابن عجلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( قال : ( ( ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين ، فيتعذر عليه الكلا ، فيرتفع ، ثم تجئ الجمعة ، فلا يجيء ولا يشهدها ، وتجيء الجمعة ، فلا يشهدها ، وتجيء الجمعة ، فلا يشهدها حتى يطبع على قلبه ) ) .
خرّجه ابن ماجه .
وخرّجه أبو بكر النحاد وابن عبد البر ، وفي روايتيهما : ( ( ميلين أو ثلاثة ) ) .
ومعدي هذا ، تكلم فيه أبو زرعة غيره ، وقال أبو حاتم : شيخ .
وقالت طائفةٌ : تجب الجمعة على من بينه وبينها أربعة أميالٍ ؟ ، وروي عن ابن المنكدر والزهري وعكرمة وربيعة .
وروي عن الزهري - أيضاً - تحديده بستة أميالٍ ، وهي فرسخان .
وروي عن أبي هريرة ، قال : تؤتى الجمعة من فرسخين .
خرّجه ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف .
وروى عبد الرزاق بإسناد منقطع ، عن معاذ ، أنه كان يقوم على منبره ، فيقول لقوم بينهم وبين دمشق أربع فراسخ وخمس فراسخ : إن الجمعة لزمتكم(5/406)
"""""" صفحة رقم 407 """"""
، وأن لا جمعةٍ الا معنا .
وبإسناد منقطع ، عن معاوية ، أنه كان يامر بشهود الجمعة من بينه وبين دمشق أربعة عشر ميلاً .
وقال بقية : عن محمد بن زياد : أدركت الناس بحمص تبعث الخيل نهار الخميس إلى جوسية وحماة والرستن يجلبون الناس إلى الجمعة ، ولم يكن يجمع إلا بحمص .
وعن عطاءٍ ، أنه سئل : من كم تؤتى الجمعة ؟ قال : من سبعة أميالٍ .
وعنه ، قال : يقال : من عشرة أميالٍ إلى بريد .
وعن النخعي ، قال : تؤتى الجمعة من فرسخين .
وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، أنه أمر أهل قباء ، وأهل ذي الحليفة ، وأهل القرى الصغار حوله : لا يجمعوا ، وأن يشهدوا الجمعة بالمدينة .
وعن ربيعة - أيضاً - ، أنه قال : تجب الجمعة على من إذا نودي بصلاة الجمعة خرج من بيته ماشياً أدرك الجمعة .
وقالت طائفةٌ : تجب الجمعة على من آواه الليل إلى منزله .
قال ابن المنذر : روي ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة وأنس والحسن ونافع مولى ابن عمر ، وكذلك قال عكرمة والحكم وعطاء والأوزاعي وأبو ثور . انتهى .
وهو قول أبي خيثمة زهر بن حرب وسليمان بن داود الهاشمي .
وحكى إسماعيل بن سعيد الشالنجي ، عن أحمد نحوه ، واختاره الجوزاني .
وفيه حديث مرفوع ، من حديث أبي هريرة .(5/407)
"""""" صفحة رقم 408 """"""
وقد ذكره الترمذي ، وبين ضعف إسناده ، وأن أحمد أنكره أشد الإنكار .
وفيه - أيضاً - ، عن عائشة ، وإسناده ضعيف .
وفيه - أيضاً - من مراسيل أبي قلابة ، وفي إسناده ضعف .
وقالت طائفةٌ : تؤتى الجمعة من فرسخين ، قاله النخعي وإسحاق - : نقله عنه حرب .
لكنهما لم يصرحا بوجوب ذلك ، وقد تقدم نحوه عن غير واحد .
وخرّج حرب من طريق ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس ، أنه كان يجمع من الزاوية ، وهي فرسخان .
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ثابت ، عن أنس ، أنه كان يكون بينه وبين البصرة ثلاثة أميالٍ ، فيشهد الجمعة بالبصرة .
وقد ذكر البخاري ، عنه ، أنه كان أحياناً لا يجمع .
وكذلك روي عن أبي هريرة ، أنه كان بالشجرة - وهي ذو الحليفة - ، فكان أحياناً يجمع ، وأحياناً لا يجمع .
وقد روي عنه الأمران جميعاً .
وكذلك سعد بن أبي وقاص ، كان في قصره بالعقيق ، فكأن أحياناً يجمع ، وأحياناً لا يجمع ، وكان بينه وبين المدينة سبعة أميالٍ أو ثمانية .
وكذلك روي عن عائشة بنت سعد ، أن أباها كان يفعل .
قال البخاري :
902 - نا أحمد : نا عبد الله بن وهبٍ : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن(5/408)
"""""" صفحة رقم 409 """"""
عبيد الله بن أبي جعفر ، أن محمد بن جعفرٍ بن الزبير حدثه ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة - زوج النبي ( - ، قالت : كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي ، فياتون في الغبار ، يصيبهم الغبار والعرق ، فيخرج منهم العرق ، فأتى إنسان منهم رسول الله ( - وهو عندي - ، فقال النبي ( : ( ( لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا ) ) .
( ( أحمد ) ) هذا ، قد سبق الاختلاف فيه : هل هو ابن أخي ابن وهبٍ ، أو ابن صالح ، أو ابن عيسى التستري ؟
وذكر أبو نعيم في ( ( مستخرجه ) ) : أنه ابن عبد الله .
كذا قال ، ولم يبين من هو ؟
وفي أكثر النسخ : ( ( فيأتون في الغبار ) ) ، وفي بعضها : ( ( في العباء ) ) ، وهو الأشبه .
وفي النسخ : ( ( فيخرج منهم العرق ) ) ، وفي ( ( صحيح مسلم ) ) : ( ( فيخرج منهم الريح ) ) .
وفيه - أيضاً - : ( ( العباء ) ) .
وهذا من أوضح الأدلة على أن غسل الجمعة ليس بواجب ، حتى ولا على من له ريح تخرج منه ، وإنما يؤمر به ندباً واستحباباً ، لقوله : ( ( لو أنكم تطهرتم ليومكم
هذا ) ) .
ومقصود البخاري من هذا الحديث : أن أهل العوالي كانوا يشهدون الجمعة مع النَّبيّ ( ، وليس في هذا ما يدل على وجوب الجمعة على من كانَ خارج(5/409)
"""""" صفحة رقم 410 """"""
المصر ، فإنه ليس فيهِ أمر النَّبيّ ( لهم بشهود الجمعة .
وكذا ، ما خرّجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قالَ : إن أهل قباء كانوا يجمعون مع رسول الله ( .
لكن قد روي عنه ، أنه أمرهم بذلك .
خرّجه الترمذي من رواية إسرائيل ، عن ثوبر - هوَ : ابن أبي فاختة - ، عن رجل من أهل قباء ، عن أبيه - وكان من أصحاب النَّبيّ ( - ، قالَ : أمرنا النَّبيّ ( أن نشهد الجمعة من قباء .
وقال : لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
قالَ : ولا يصح في هذا الباب شيء . انتهى ؟
وثوير ، ضعيف الحديث : وشيخه مجهول .
وقد خرّجه وكيع في ( ( كتابه ) ) عن إسرائيل ، به ، ولفظه : كنا نجمع من قباء - ولم يذكر : أمرهم بذلك .
وقال الزهري : كانوا يشهدون الجمعة مع النبي ( من ذي الحليفة .
خرّجه ابن أبي شيبة وغيره .
ومراسيل الزهري ضعيفة .
وقد ذكر الإمام أحمد أن بين ذي الحليفة والمدينة فرسخين ، وقال : كانوا يتطوعون بذلك من غير أن يجب عليهم .
ويشهد لقوله : أن أبا هريرةكان بذي الحليفة ، وكان أحياناً ياتي الجمعة ، وأحياناً لا يأتيها .(5/410)
"""""" صفحة رقم 411 """"""
وكذلك ذكر عمرو بن شعيب ، أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكون بالرهط ، فلا يشهد الجمعة مع الناس بالطائف ، وانما بينه وبين الطائف أربعة أميالٍ أو ثلاثة .
خرّجه عبد الرزاق .
وروى عطاءٍ بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، أنه كان يشهد الجمعة بالطائف من الرهط .
وهذا يدل على أنه كان يشهدها أحياناً ، ويتركها أحياناً ، كما فعل غيره من الصحابة - رضي الله عنهم .(5/411)
"""""" صفحة رقم 412 """"""
- باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس
وكذلك يروى عن عمر ، وعلي ، والنعمان بن بشيرٍ ، وعمرو بن حريثٍ .
اما المروي عن عمر : فروى مالكٌ في ( ( الموطإ ) ) ، عن عنه أبي سهيل ، عن أبيه ، قال : كنت ارى طنفسةً لعقيل بن أبي طالبٍ يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد الغربي ، فاذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خَّرج عمر بن الخطاب فصلى الجمعة . قال : ثم نرجع بعد الجمعة فنقبل قائلة الضحى .
وأما المروي عن عليّ : فمن طريق إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزينٍ ، قال : صليت خلف علي بن أبي طالب الجمعة حين زالت الشمس .
وأما المروي عن النعمان بن بشيرٍ وعمرو بن حريثٍ : فخرجه ابن أبي شيبة من طريق سماكٍ ، قال : كان النعمان بن بشيرٍ يصلي بنا الجمعة بعدما تزول الشمس .
ومن طريق الوليد بن العيزار ، قال : ما رأيت إماماً كان أحسن صلاةً للجمعة من عمرو بن حريث ، وكان يصليها إذا زالت الشمس .
وقد روي هذا - أيضاً - عن معاذ بن جبل ، لكن من وجهٍ منقطعٍ .(5/412)
"""""" صفحة رقم 413 """"""
وهو قول أكثر الفقهاء ، منهم : الحسن ، والنخعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، ومالكٌ ، والشافعي .
وذهب كثير من العلماء إلى أنه يجوز إقامتها قبل الزوال ، وسنذكر ذلك فيما بعد - إن شاء الله تعالى .
خَّرج البخاري في ها الباب ثلاثة احاديث :
الحديث الأول :
903 - ثنا عبدان : أنا عبد الله - هو : ابن المبارك - : أنا يحيى بن سعيد ؟ أنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة ، فقالت : قالت عائشة : كان الناس مهنة أنفسهم ، وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم ، فقيل لهم : ( ( لو اغتسلتم ) ) .
هذا مما يستدل به على أن الغسل للجمعة غير واجبٍ ، كما سبق .
والمراد بالمهنة : الخدمة ، وقضاء الحوائج والأشغال ، وذلك يوجب الوسخ والشعث .
ووجه احتجاج البخاري به في هذا الباب : أن فيه ذكر رواح الناس إلى الجمعة ، والرواح إنما يكون بعد الزوال ، فدل على أن الجمعة إنما كانت تقام في عهد النبي ( بعد الزوال .
وقد يقال : ذكر الرواح في هذا الحديث كذكر الرواح في قوله : ( ( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنةً ) ) - الحديث ، ولم يحمله أكثر العلماء على ما بعد
الزوال ، كما سبق ، فالقول في هذا كالقول في ذاك .
الحديث الثاني :
904 - نا سريج بن النعمان : ثنا فليح بن سليمان ، عن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي ، عن أنس بن مالكٍ ، أن النبي ( كان يصلي(5/413)
"""""" صفحة رقم 414 """"""
الجمعة حين تميل الشمس .
ومعنى ( ( تميل ) ) : أي تزول عن كبد السماء ، بعد استوائها في قائم الظهيرة .
وهذا يدل على انهذه كانت عادة النبي ( الغالبة ، ولا يدل على أنه لم يكن يخل بذلك .
وقد قال أنسٌ : كان النبي ( يصلي العصر والشمس مرتفعةٌ .
وقالت عائشة : كان النبي ( يصلي العصر والشمس في حجرتي .
وقال أبو برزة : كان النبي ( يصلي الهجير حين تدحض الشمس - الحدث
بطوله .
وإنما أرادوا : أن ذلك كان الغالب عليه ، وإلا فقد يؤخرها عن ذلك أحياناً ، كما أخرها لما سأله السائل عن مواقيت الصلاة ، وأخرها يوم الخندق ، وغير ذلك .
الحديث الثالث :
905 - ثنا عبدان : أنا عبد الله : أنا حميد ، عن أنس : قال : كنا نبكر بالجمعة ، ونقيل بعد الجمعة .
هذا ما يستدل به من يقول بجواز إقامة الجمعة قبل الزوال ، لأن التبكير والقائلة لايكون إلا قبل الزوال . وقد تقدم إنهم كانوا في عهد عمر يصلون معه الجمعة ، ثم يرجعون فيقيلون قائلة الضحى ، وهذا يدل على أن وقت الضحى كان باقياً .
وكل ما استدل به من قال : تمنع إقامة الجمعة قبل الزوال ليس نصاً صريحاً في
قوله ، وإنما يدل على جواز إقامة الجمعة بعد الزوال أو على استحبابه ، إما منع إقامتها قبله فلا ، فالقائل بأقامتها قبل الزوال يقول بجميع الأدلة ، ويجمع بينها كلها ، ولا يرد منها شيئاً .(5/414)
"""""" صفحة رقم 415 """"""
فروى جعفر بن برقان ، عن ثابت بن الحجاج ، عن عبد الله بن سيدان ، قال : شهدت الجمعة مع أبي بكر الصديق ، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار ، ثم شهدتها مع عمر ، فكانت صلاته وخطبته إلى أن نقول : انتصف النهار ، ثم شهدتها مع عثمان ، فكانت صلاته وخطبته إلى أن نقول : مال النهار ، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره .
خرّجه وكيع في ( ( كتابه ) ) عن جعفر ، به .
وخرّجه عنه ابن أبي شيبة في ( ( كتابه ) ) .
وخرّجه عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) عن معمر ، عن جعفر ، به .
وخرّجه الأثرم والدارقطني .
ورواه الإمام أحمد - في رواية ابنه عبد الله - ، عن وكيع ، عن جعفر ، واستدل
به .
وهذا إسنادٌ جيدٌ :
وجعفر : حديثه من غير الزهري حجةٌ يحتج به - : قاله الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما .
وثابت بن الحجاج : جزري تابعيٌ معروفٌ ، لا نعلم أحداً تكلم فيه ، وقد خَّرج له أبو داود .
وعبد الله بن سيدان السلمي المطرودي ، قيل : إنه من الربذة ، وقيل : إنه
جزريٌ ، يروي عن أبي بكر وحذيفة وأبي ذر ، وثقه العجلي ، وذكره ابن سعدٍ(5/415)
"""""" صفحة رقم 416 """"""
في
( ( طبقة الصحابة ) ) ممن نزل الشام ، وقال : ذكروا أنه رأى النبي ( .
وقال القشيري في ( ( تاريخ الرقة ) ) : ذكروا أنه أدرك النبي ( .
وأما البخاري ، فقال : لا يتابع على حديثه - كأنه يشير إلى حديثه هذا .
وقول ابن المنذر : إن هذا الحديث لا يثبت . هو متابعة لقول البخاري ، وأحمد أعرف الرجال من كل من تكلم في هذا الحديث ، وقد استدل به وأعتمد عليه .
وقد عضد هذا الحديث : أنه قد صح من غير وجه أن القائلة في زمن عمر وعثمان كانت بعد صلاة الجمعة ، وصح عن عثمان أنه صلى الجمعة بالمدينة وصلى العصر بمللٍ . خرّجه مالك في ( ( الموطإ ) ) ، وبين المدينة ومللٍ اثنان وعشرون ميلاً ، وقيل : ثمانية عشر ميلاً ، ويبعد أن يلحق هذا السائر بعد زوال الشمس .
وروى شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، قال : صلى بنا عبد الله بن مسعود الجمعة ضحى : وقال : خشيت عليكم الحر .
وروى الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن سويد ، قال صلى بنا معاوية الجمعة ضحى .
وروى إسماعيل بن سميع ، عن بلالٍ العبسي ، أن عماراً صلى للناس الجمعة ، والناس فريقان ، بعضهم يقول : زالت الشمس ، وبعضهم يقول : لم تزل .
خرّج ذلك كله ابن أبي شيبة .(5/416)
"""""" صفحة رقم 417 """"""
وخرّج - أيضاً - من طريق الأعمش ، عن مجاهد ، قال : ما كان للناس عيدٌ إلا أول النهار .
ومن طريق يزيد بن أبي زياد ، عن عطاءٍ ، قال : كان من كان قبلكم يصلون الجمعة وإن ظل الكعبة كما هو .
وروى عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) عن ابن جريجٍ ، عن عطاءٍ ، قال : كل عيد حين يمتد الضحى : الجمعة ، والأضحى ، والفطر ، كذلك بلغنا .
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) عن جعفر بن برقان ، عن حبيب بن أبي مرزوق ، عن عطاءٍ ، قال : كل عيد في صدر النهار .
وعن شعبة ، عن الحكم ، عن حماد ، قال : كل عيد قبل نصف النهار .
وروى أبو سعدٍ البقال ، عن أبي عبيدة ، عن ابن مسعودٍ ، قال : ما كان عيدٌ قط إلا في صدر النهار ، ولقد رأيتنا وأنا لجمع مع رسول الله ( في ظل الخطبة .
أبو سعدٍ ، فيه ضعفٌ .
وحكى الماوردي في كتابه ( ( الحاوي ) ) عن ابن عباسٍ ، أنه يجوز صلاة الجمعة قبل الزوال .
وهو مذهب أحمد وإسحاق - : نقله عنهما ابن منصورٍ ، وهو مشهورٌ عن أحمد ، حتى نقل أنه لا يختلف قوله في جواز إقامة الجمعة قبل الزوال ، كذا قاله غير واحد من أصحابه ، ومنهم : ابن شاقلا وغيره .
وقد روى حنبل ، عن أحمد ، قال : صلاة الجمعة تعجل ، يؤذن المؤذن قبل أن تزول الشمس ، وإلى أن يخطب الإمام ، وتقام الصلاة ، قد قام قائم(5/417)
"""""" صفحة رقم 418 """"""
الظهيرة ، ووجبت الصلاة ، ويقال : إن يوم الجمعة صلاةٌ كله لا تحرى فيها الصلاة ، وكان أصحاب
رسول الله ( يتحرون بصلاة الجمعة ، إلا أنه لا ينبغي أن تصلى حتى تزول الشمس لأول الوقت ، هذه السنة التي لم يزل الناس يعملون عليها بالمدينة والحجازٍ ، ورسول الله ( وأصحابه على ذلك .
وظاهر هذه الرواية : أنه إنما يقدم على الزوال الأذان والخطبة خاصة ، وظاهرها : أنه يجوز الصلاة في وقت الزوال يوم الجمعة خاصةً .
وقال صالح بن أحمد : سألت أبي عن وقت الجمعة ؟ فقالَ : إذا زالت الشمس .
ونقل صالح - أيضاً - ، عن أبيه - في موضع أخر - ، أنه قال : إن فعل ذلك قبل الزوال فلا أعيبه ، فأما بعده فليس فيه شكٌ .
ونحوه نقل ابن منصورٍ ، عن أحمد وإسحاق .
ونقل أبو طالب ، عنه ، قال : ما ينبغي أن يصلي قبل الزوال ، وقد صلى ابن مسعودٍ .
ونقل عنه جماعة ما يقتضي التوقف .
ونقل عنه عبد الله ، أنه قال : لا بأس أن يصلي قبل الزوال ، قد صلى ابن
مسعود .
وقد نقل عنه ابن القاسم ، قال : وقت الجمعة قبل الزوال وبعد الزوال ، أي ذلك فعل جاز .
ونقل عنه أحمد بن الحسن الترمذي ، أنه قال : على ما جاء من فعل أبي بكر وعمر : لا أرى به بأسا ، لأنها عيد ، والأعياد كلها في أول النهار .
وكذا نقل عبد الله ، عن أبيه ، قال : يجوز أن تصلى الجمعة قبل الزوال ، يذهب إلى أنها كصلاة العيد .(5/418)
"""""" صفحة رقم 419 """"""
قال أبو بكر : وعلى هذا استقرت الروايات عنه ، وعليه العمل .
واختلف أصحابنا في الوقت الذي يجوز فعلها فيه :
فقال الخرقي : في الساعة السادسة - وفي بعض النسخ : الخامسة .
وقال القاضي وكثير من أصحابه : يجوز فعلها في وقت جواز صلاة العيد ، وهو إذا ارتفعت الشمس بعد طلوعها ، وزال وقت النهي .
وهو ظاهررواية عبد الله ، عن أبيه .
ومن أصحابنا من ثال : يجوز فعلها من وقت طلوع الفجر يوم الجمعة ، إذا دخل وقت الفجر ، حكاه ابن عقيل في ( ( مفرداته ) ) و ( ( عمد الأدلة ) ) .
وهذا القول غلوٌ من قائله ، وكيف يجوز إقامة الجمعة في وقت صلاة الفجر ؟ وهل فعل هذا أحدٌ سلفاً أو خلفاً ؟ وإذا كانت صلاة لا تفعل قبل طلوع الشمس ، ووقتها قبل الزوال دون ما بعده ، فكيف تصلي الجمعة قبل طلوع الشمس ، وإنما جاز تقديمها على الزوال إلحاقاً لها بالعيد ، وتشبيهاً لها بها .
وبكل حالٍ ؛ فلا يجب فعلها إلا بعد الزوال ، على الصحيح من المذهب . وعليه جمهور الأصحاب .
وإنما يجوز تقديمها قبله وتعجيلها كما تعجل الصلاة المجموعة ؛ فإن صلاة الجمعة سببها : اليوم ؛ ولهذا تضاف إليه ، فيقال : صلاة الجمعة ، وشرطها :
الزوال ، فيجوز تقديمها على شرطها بعد وجود سببها ، وهو اليوم ، كما يجوز تعجيل الزكاة بعد كمال النصاب ، وهو سبب الوجوب ، وقيل : الحول ، وهوشرطه .
وهذا هو الذي تخيله من قال من الأصحاب : يجوز فعلها في وقت صلاة الفجر ، لكن الصحيح : أنه غير جائز ، ما دام وقت الفجر باقياً ؛ لئلا يتداخل(5/419)
"""""" صفحة رقم 420 """"""
وقت الصلاتين ، فإذا خرج وقت صلاة الفجر ، وزال وقت النهي ، ودخل وقت صلاة العيد والضحى جاز تقديم صلاة الجمعة حينئذٍ .
ومع هذا ، فلا تصلى في حال استواء الشمس في السماء ، ويجوز قبله ، نص عليه أحمد ، وقال : ما يعجبني ، وأتوقاه في صلاتها في قائم الظهيرة ، مع قوله : يجوز صلاتها قبل الزوال .
وأما آخر وقت الجمعة : فهو آخر وقت الظهر ، هذا هو قول جمهور العلماء ، وهو قول أبي حنيفة ، والثوري ، والحسن بن حي ، ومالك - في رواية - ، والشافعي ، وأحمد ، وعبد العزيز بن الماجشون .
واتفقوا : على أنه متى خَّرج وقت الظهر ، ولم يصل الجمعة فقد فاتت ويصلي الظهر .
وأما أن صلى الجمعة ، ثم خَّرج الوقت وهم في الصلاة ، فقال أبو حنيفة والشافعي : تبطل الصلاة ، إلا أن يخرج قبل السلام - على رأي أبي حنيفة وحده .
والمنصوص عن أحمد : أنه أن خَّرج الوقت وهم في التشهد أتموا الجمعة .
واعتبر الخرقي من أصحابنا أن يكون قد أدرك في الوقت ركعة فصاعدا ، فإن خرج الوقت قبل إدراك ركعةٍ صلوا ظهراً .
وحكي رواية عن مالكٍ كذلك .
ومن أصحابنا من قال : تلحق الجمعة بتكبيرة الإحرام في الوقت كسائر
الصلوات .
ونقل ابن القاسم ، عن مالكٍ ، أن آخر وقتها : غروب الشمس .
قال ابن القاسم : من صلى من الجمعة ركعةً ، ثم غربت الشمس صلى الركعة الثانية بعد غروب الشمس ، وكانت جمعةً .(5/420)
"""""" صفحة رقم 421 """"""
والعجب ممن ينصر هذا القول ، ويحتج له ، مع أنه لا يعرف العمل به إلاّ عن ظلمة بني أمية واعوانهم ، وهو مما ابتدعوه في الإسلام ، ثم ينكر على من قدم الجمعة على الزوال متابعة لأصحاب النبي ( ، ولكثيرٍ من التابعين لهم بإحسان
فإن قيل : فقد كان الصحابة يصلون مع من يؤخر الجمعة إلى بعد العصر ، والى قريب من غروب الشمس ؟
قيل : كانوا يصلون الظهر والعصر في بيوتهم قبل مجيئهم ، ثم يجيئون إتقاء شر الظلمة ، كما أمرهم النبي ( بذلك ، ومنهم من كان يومئ بالصلاة ، وهو جالسٌ في المسجد إذا خاف فوت الوقت .
وسنذكر ذلك في الباب الآتي - إن شاء الله تعالى .(5/421)
"""""" صفحة رقم 422 """"""
- بابٌ
إذا اشتد الحر يوم الجمعة
906 - حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي : ثنا حرمي بن عمارةً : ثناابو خلدة - هو : خالد بن دينار - ، قال : سمعت أنس بن مالكٍ يقول : كان النبي ( ، إذا أشتد البرد بكر بالصلاة ، وإذا أشتد الحر أبرد بالصلاة - يعني : الجمعة .
وقال يونس بن بكير : أنا أبو خلدة ، وقال : ( ( بالصلاة ) ) ، ولم يذكر :
( ( الجمعة ) ) .
وقال بشر بن ثابت : ثنا أبو خلدة : صلى بنا أمير المؤمنين الجمعة ، ثم قال لأنسٍ : كيف كان النبي ( يصلي الظهر ؟
خرّج الإسماعيلي في ( ( صحيحه ) ) - وهو ( ( المستخرج على صحيح البخاري ) ) - من طريق هارون بن عبد الله ، عن حرمي بن عمارة : حدثني أبو خلدة ، قالَ : سمعت أنس بن مالكٍ - وناداه يزيد الضبي : يا أبا حمزة ، قد شهدت الصَّلاة مع رسول الله ( ، وشهدت الصَّلاة معنا ، فكيف كان رسول الله ( يصلي الجمعة ؟ - فقال : كان إذا أشتد البرد بكر بالصلاة ، وإذا أشتد الحر أبرد بالصلاة .
وخرّجه - أيضاً - من رواية محمد بن المثنى ، عن حرمي ، ولم يذكر في حديثه :
( ( الجمعة ) ) .
وخرّج - أيضاً - رواية يونس بن بكير التي علقها البخاري ، ولفظ حديثه :(5/422)
"""""" صفحة رقم 423 """"""
كان النبي ( إذا كان الحر أبرد بالصلاة ، وإذا كان البرد بكر بها - يعني : الظهر .
وخرّج - أيضاً - حديث بشر بن ثابت الذي علقه البخاري - أيضاً - ، ولفظ حديثه : كان رسول الله ( إذا كان الشتاء يبكر بالظهر ، وإذا كان الصيف أبرد بها ، ولكن يصلي العصر والشمس بيضاء .
وخرّجه البيهقي من رواية بشر بن ثابت - بهذا المعنى .
وخرّج - أيضاً - رواية يونس بن بكيرٍ : ثنا أبو خلدة : سمعت أنس بن مالكٍ - وهو جالسٌ مع الحكم أمير البصرة على السرير - يقول : كان رسول الله ( إذا كان الحر أبرد بالصلاة ، وإذا كان البرد بكر بالصلاة .
وروى هذا الحديث - أيضاً - خالد بن الحارث : ثنا أبو خلدة ، أن الحكم ابن أيوب أخر الجمعة يوماً ، فتكلم يزيد الضبي . وقال : دخلنا الدار وأنس معه على السرير ، فقال له يزيد : يا أبا حمزة ، قد صليت مع النبي ( وحضرت صلاتنا ، فأين صلاتنا من صلاة رسول الله ( ؟ فقال : إذا كان الحر برد بالصلاة ، وإذا كان البرد يبكر بالصلاة ، ولم يسمعه ، ولكنه قد شهد الأمر .
خرّجه النسائي في ( ( كتاب الجمعة ) ) .
وهذه الرواية تخالف رواية البخاري التي فيها التصريح بالسماع .
وقد رواه سهل بن حمادٍ ، عن أبي خلدة ، قال : بينا الحكم بن أيوب يخطب في البصرة إذ قام يزيد الضبي ، فناداه ، فقال : أيها الأمير : إنك لا تملك الشمس ، فقال : خذاه ، فأخذ ، فلما قضى الصلاة أدخل عليه ، ودخل الناس ، وثم أنس بن مالكٍ ، فأقبل على أنس ، فقال : كيف كنتم تصلون مع(5/423)
"""""" صفحة رقم 424 """"""
رسول الله ( ؟ فقال : كان رسول الله ( يبرد بالصلاة في الحر ، ويبكر بها في الشتاء .
خرّجه المروزي في ( ( كتاب الجمعة ) ) .
فقد تبين بهذه الروايات أن سبب سؤال أنس إنما كان تأخير الحكم بن أيوب .
وقضية يزيد الضبي مع الحكم بن أيوب في إنكاره عليه تأخير الجمعة وهو يخطب معروفة ، وكان أنس بن مالكٍ حاضراً .
وقد خرّجها بتمامها ابن أبي الدنيا في ( ( كتاب الأمر بالمعروف ) ) من رواية جعفر بن سليمان : حدثني المعلى بن زياد ، قال : حدثني يزيد الضبي ، قال : أتيت الحسن ثلاث مراتٍ ، فقلت : يا أبا سعيدٍ ، غلبنا على كل شيء ، وعلى صلاتنا نغلب ؟ فقال الحسن : إنك لن تصنع شيئاً ، إنما تعرض نفسك لهم .
قال : فقمت والحكم بن أيوب ابن عم الحجاج يخطب ، فقلت : الصلاة يرحمك الله ، قال : فجاءتني الزبانية ، فسعوا الي من كل جانب ، فأخذوا بلبتي ، وأخذوا بلحيتي ويدي وكل شيء ، وجعلوا يضربوني بنعالهم وسيوفهم ، قال : وسكت الحكم بن
أيوب ، وكدت أن أقتل دونه ، ففتح باب المقصورة ، فادخلت عليه ، فقال : أمجنونٌ أنت ؟ قلت : ما بي من جنون ، قالَ : أوما كنا في صلاة ؟ قلت : أصلحك الله ، هل من كلام أفضل من كتاب الله ؟ قال : لا ، قلت : لو أن رجلاً نشر مصحفه فقرأه غدوة حتى يمسي ، ولا يصلي فيما بين ذلك ، كان ذلك قاضياً عنه صلاته ؟ قال الحكم : إني لأحسبك مجنوناً : قال : وأنس بن مالكٍ جالس قريباً من المنبر ، على وجههٌ خرقة
خضراء ، فقلت : يا أبا حمزة ، أذكرك الله ، فانك صحبت رسول الله ( وخدمته ، أحقٌ أقول أم باطلٌ ؟ قال : فو الله ما أجابني بكلمةٍ ، فقال له الحكم : يا أنس ، قال : لبيك ، أصلحك الله - قال : وقد كان فات ميقات الصلاة - قال : يقول له(5/424)
"""""" صفحة رقم 425 """"""
أنس : قد كان بقي من الشمس بقيةٌ ؟ فقال : احبساه . قال : فحبست ، فشهدوا أني مجنونٌ .
قال جعفر : فإنما نجا من القتل بذلك - وذكر بقية القصة .
فقد تبين بهذا السياق أن الصحابة والتابعين كانوا كلهم خائفين من ولاة السوء الظالمين ، وإنهم غير قادرين على الإنكار عليهم ، وأنه غير نافع بالكلية ؛ فإنهم يقتلون من أنكر ، ولا يرجعون عن تأخير الصلاة على عوائدهم الفاسدة .
وقد تكلم بعض علماء أهل الشام في زمن الوليد بن عبد الملك في ذلك ، وقال : أبعث نبيٌ بعد محمدٍ يعلمكم هذا - أو نحو ذلك ؟ فأخذ فأدخل الخضراء ، فكان آخر العهد به .
ولهذا لم يستطع أنس أن يجيب يزيد الضبي بشئ حين تكلم يزيد ، وإنما قال للحكم لما سأله : قد بقي من الشمس بقيةٌ - يريد : قد بقي من ميقات العصر بقيةٌ - ، وهو كما قال لكن وقت الجمعة كان قد فات ، ولم يستطع أن يتكلم بذلك ، فلما دخل الحكم داره ، وأدخل معه أنساً ويزيد الضبي ، فسئل أنس في ذلك الوقت عن وقت صلاة النبي ( ، فأخبر أنه كان يعجل في البرد ، ويبرد في الحر ، ومراده - والله أعلم - : صلاة الظهر ، وهذا هو الذي امكن أنسا أن يقوله فيذلك الوقت ، ولم يمكنه الزيادة على
ذلك .
وأكثر العلماء على أن الجمعة لا يبرد بها بعد الزوال ، بل تعجل في أول الوقت ، وللشافعية في ذلك وجهان .
وقد كان الصحابة والتابعون مع أولئك الظلمة في جهدٍ جهيدٍ ، لا سيما في تأخير الصلاة عن ميقاتها ، وكانوا يصلون الجمعة في أخر وقت العصر ، فكان أكثر من يجيء إلى الجمعة يصلي الظهر والعصر في بيته ، ثم يجيء إلى المسجد تقية لهم ، ومنهم من كان إذا ضاق وقت الصلاة وهو في المسجد أومأ بالصلاة خشية القتل .(5/425)
"""""" صفحة رقم 426 """"""
وكانوا يحلفون من دخل المسجد أنه ما صلى في بيته قبل أن يجيء .
قال إبراهيم بن مهاجرٍ : كنت أنا وسعيد بن جبيرٍ وإبراهيم نصلي الظهر ، ثم نجلس فنتحدث والحجاج يخطب يوم الجمعة .
خرّجه أبو نعيمٍ الفضل بن دكين في ( ( كتاب الصلاة ) ) .
وخَّرج - أيضاً - بإسناده ، عن أبي بكر بن عتبة ، قال صليت إلى جنب أبي جحيفة ، فتمسى الحجاج بالصلاة ، فقام يصلي الجمعة ، ثم قام فصلى ركعتين ، ثم قال : يا أبا بكر ، أشهدك أنها الجمعة .
وهذا غريبٌ ، يدل على أنه يصح أن يصلي الرجل الجمعة وحده .
وبإسناده : عن الأعمش ، عن إبراهيم وخيثمة ، أنهما كانا يصليان الظهر
والعصر ، ثم يأتيان الحجاج يوم الجمعة ، فيصليان معه .
وعن أبي وائل ، أنه كان يأمرهم أن يصلوا في بيوتهم ، ثم يأتوا الحجاج فيصلون معه الجمعة .
وعن محمد بن أبي إسماعيل ، قال : كنت في مسجد منى ، وصحف تقرأ للوليد ، فأخروا الصلاة : قال : فنظرت إلى سعيدٍ بن جبير وعطاء يومئان ، وهما قاعدان .
وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري البصري في ( ( كتاب أدب السلطان ) ) باباً في تأخير الأمراء الصلاة ، خَّرج فيه الأحاديث المرفوعة ، والآثار الموقوفة في ذلك ، وقد سبق ذكر بعضها في ( ( أبواب : المواقيت ) ) .
وروى فيه بإسناده : أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعودٍ كان يروح إلى المسجد وقد صلى الظهر والعصر ، فيجلس فينتظر ، فيقول : ماله قاتله الله ؟
يصيح على منبره صياحاً ، وقد فاتته العصر ، ولم يصل الظهر بعد .(5/426)
"""""" صفحة رقم 427 """"""
وبإسناده : عن عمرو بن هرم ، قال : كان أنس بن مالكٍ يصلي الظهر والعصر في بيته ، ثم يأتي الحجاج فيصلي معه الجمعة .
وبإسناده : عن عبد الله بن أبي زكريا ، أنه كان يجمع مع الوليد بن عبد الملك ما صلى الوليد في وقت الظهر الجمعة ، ويعتد بها جمعةً ، فإن أخرها عن وقت الظهر صلى الظهر في آخر وقت الظهر أربعاً إيماءً ، ثم صلى الجمعة معه ، وجعلها تطوعا ، فإن أخر العصر حتى يخرج وقتها صلاها في آخر وقتها ايماءً .
وبإسناده : عن حصينٍ ، قال : كان أبو وائل إذا أخر الحجاج الجمعة استقبل القبلة ، يومئ ايماءً : يتناعس .
وبإسناده : عن جريرٍ ، قال : شهدت الجمعة مع ابن هبيرة ، فأخر الصلاة إلى قريب من العصر ، فرأيت الناس يخرجون ، فرأيت أبا حنيفة خَّرج ، فكأن شيخ يصيح في المسجد : لو كان الحجاج ما خرجوا ، وجعل فضيل بن غزوان ويقول : إنهم ، إنهم .
وبإسناده : عن ابن سيرين ، أنه حضر الجمعة ، فأخر الأمير الصلاة ، فأدمى
ظفره ، ثم قام فخرج ، وأخذته السياط حتى خَّرج من المسجد . وعن عطاءٍ بن السائب : قال : رأيت سعيدٍ بن جبير وأبا البختري وأصحابه يومئون يوم الجمعة ، والحجاج
يخطب ، وهم جلوسٌ .
وعن محمد بن إسماعيل ، قال : رأيت سعيد بن جبير وعطاء ، وأخر الوليد الجمعة والعصر ، فصلاهما جميعاً ، قال : فأومئا إيماءً ، ثم صليا معه بمنىً .
وبإسناده : عن حميدٍ ، أن الوليد بن عبد الملك خَّرج بمنىً بعد العصر ، فخطب حتى صارت الشمس على رؤس الجبال ، فنزل فصلى الظهر ، ثم صلى(5/427)
"""""" صفحة رقم 428 """"""
العصر ، ثم صلى المغرب .
وروى بإسنادٍ له : عن سالم ، أنه ذكر أن الوليد قدم عليهم المدينة ، فما زال يخطب ويقرأ الليث حتى مضى وقت الجمعة ، ثم مضى وقت العصر ، فقال القاسم بن محمد لسالم : أما قمت فصليت ؟ قال : لا . قال : أفما اومأت ؟ قال : لا . وقال : خشيت أن يقال : رجل من آل عمر .
وروى بإسناده : عن عمارة بن زاذان : حدثني مكحولٌ ، قال : خطب الحجاج بمكة ، وأنا إلى جنب ابن عمر ، يحبس الناس بالصلاة ، فرفع ابن عمر راسه ، ونهض ، وقال : يا معشر المسلمين ، انهضوا إلى صلاتكم ، ونهض الناس ، ونزلالحجاج ، فلما صلى قال : ويحكم ، من هذا ؟ قالوا : ابن عمر .
قال : أما والله لولا أن به لمماً لعاقبته .
وروى أبو نعيم في ( ( كتاب الصلاة ) ) : ثنا زهير ، عن جابر - وهو : الجعفي - ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج ، فلما اخرهاترك الصلاة معه .
وكان الحسن يأمر بالكف عن الإنكار عليهم ، ثم غلبه الأمر فأنكر على الحجاج ، وكان سبب اختفائه منه حتى مات الحجاج ، والحسن متوار عنه بالبصرة .
وقد روى أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب ( ( مناقب الحسن ) ) بإسناد له ، أن الحسن شهد الجمعة مع الحجاج ، فرقى الحجاج المنبر ، فأطال الخطبة حتى دخل في وقت العصر ، فقال الحسن : أما من رجل يقول : الصلاة جامعةٌ ؟ فقالَ رجل : يا أبا سعيدٍ ، تأمرنا أن نتكلم والإمام يخطب ؟ فقال : إنما أمرنا أن ننصت لهم فيما أخذوا من أمر
ديننا ، فإذا أخذوا في أمر دنياهم أخذنا في أمر(5/428)
"""""" صفحة رقم 429 """"""
ديننا ، قوموا ، فقام الحسن وقام الناس لقيام الحسن ، فقطع الحجاج خطبته ، ونزل فصلى بهم ، فطلب الحجاج الحسن فلم يقدر عليه .
وهذا كله مما يدل على اجتماع السلف الصالح على أن تأخير الجمعة إلى دخول وقت العصر حرام لا مساغ له في الإسلام .
ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة صلى الجمعة في أول وقتها على ما كانت عليه السنة .
فروى إسماعيل بن عياش ، عن عمرو بن مهاجرٍ ، أن عمر بن عبد العزيز كان يصلي الجمعة في أول وقتها حين يفيء الفيء ذراعا ونحوه ، وذلك في الساعة السابعة .
وقال ابن عونٍ : كانوا يصلون الجمعة في خلافة عمر بن عبد العزيز والظل هنية .(5/429)
"""""" صفحة رقم 430 """"""
- باب المشي إلى الجمعة
وقول الله عز وجل : ( فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( [ الجمعة : 9 ] ومن قال : السعي العمل والذهاب ، لقوله ( وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ( [ الإسراء : 19 ] .
وقال ابن عباسٍ : يحرم البيع حينئذ .
وقال عطاءٌ : تحرم الصناعات كلها .
وقال إبراهيم بن سعدٍ ، عن الزهري : إذا اذن المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر ، فعليه أن يشهد .
اشتمل كلامه - هاهنا - على مسائل :
إحداها :
المشي إلى الجمعة ، وله فضل .
وفي حديث أوس بن أوس ، عن النبي ( : ( ( من بكر وابتكر ، وغسل واغتسل ، ومشى ولم يركب ) ) . وقد سبق .
وفي حديث اختصام الملأ الأعلى ، ( ( إنهم يختصمون في الكفارات والدرجات ، والكفارات إسباغ الوضوء في الكريهات ، والمشي على الأقدام إلى الجمعات ) ) .
وقد خرّجه الإمام أحمد والترمذي من حديث معاذٍ .
وله طرق كثيرة ، ذكرتها مستوفاة في ( ( شرح الترمذي ) ) .(5/430)
"""""" صفحة رقم 431 """"""
وروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ فيه انقطاعٌ ، أن عبد الله بن رواحة كان يأتي الجمعة ماشياً ، فإذا رجع كيف شاء ماشياً ، وإن شاء راكباً .
وفي رواية : وكان بين منزلة وبين الجمعة ميلان .
وعن أبي هريرة ، أنَّهُ كان يأتي الجمعة من ذي الحليفة ماشياً .
وذكر ابن سعدٍ في ( ( طبقاته ) ) بإسناده ، عن عمر بن عبد العزيز ، أنه كتب ينهى أن يركب أحد إلى الجمعة والعيدين .
وقال النخعي : لا يركب إلى الجمعة .
المسألة الثانية :
أنه يستحب المشي بالسكينة مع مقاربة الخطا ، كما في سائر الصلوات ، على ماسبق ذكره في موضعه .
فأما قول الله عز وجل : ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ ( [ الجمعة : 9 ] ، فقد حمله قوم من المتقدمين علىظاهره ، وأنكر ذلك عليهم
الصحابة .
فروى البيهقي من حديث عبد الله بن الصامت ، قال : خرجت إلى المسجد يوم الجمعة ، فلقيت أبا ذر ، فبينا أنا امشي اذ سمعت النداء ، فرفعت في المشي ؛ لقول الله عز وجل : ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( ، فجذبني جذبة
كدت أن ألاقيه ، ثم قال : أو لسنا في سعي ؟ .
فقد أنكر أبو ذر على من فسر السعي بشدة الجري والعدو ، وبين أن المشي إليها سعي ؛ لأنه عمل ، والعمل يسمى سعياً ، كم قال تعالى : ( إِنَّ سَعْيَكُمْ(5/431)
"""""" صفحة رقم 432 """"""
لَشَتَّى ( [ الليل : 4 ] ، وقال : ( ? وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ( [ الإسراء : 19 ] ومثل هذا كثير في القرآن .
وبهذا فسر السعي في هذه الآية التابعون فمن بعدهم ، ومنهم : عطاءٍ ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، ومحمد بن كعب ، وزيد بن أسلم ، ومالك ، والثوري ، والشافعي وغيرهم .
وروي عن ابن عباسٍ - أيضاً - من وجه منقطع .
ومنهم من فسر السعي بالجري والمسابقة ، لكنه حمله على سعي القلوب والمقاصد والنيات دون الأقدام ، هذا قول الحسن .
وجمع قتادة بين القولين - في روايةٍ - ، فقال : السعي بالقلب والعمل .
وكان عثمان وابن مسعودٍ وجماعة من الصحابة يقرءونها : ( ( فامضوا إلى ذكر
الله ) ) .
وقال النخعي : لو قرأتها ( ( فسعوا ) ) لسعيت حتى يسقط ردائي .
وروي هذا الكلام عن ابن مسعودٍ من وجهٍ منقطعٍ .
المسألة الثالثة :
في تحريم البيع وغيره مما يشغل به عن السعي بعد النداء .
وقد حكى عن ابن عباسٍ تحريم البيع وغيره .
وروى القاضي إسماعيل في كتابه ( ( أحكام القرآن ) ) من روايةٍ سليمان بن معاذ ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباسٍ ، قال : لا يصلح البيع يوم الجمعة حين ينادى بالصلاة ، فاذا قضيت الصلاة فاشتر وبع .
وبإسناده : عن ميمون بن مهران ، قال : كان بالمدينة إذا نودي بالصلاة من(5/432)
"""""" صفحة رقم 433 """"""
يوم الجمعة نادوا : حرم البيع ، حرم البيع .
وعن أيوب ، قال : لأهل المدينة ساعة ، وذلك عند خروج الإمام ، يقولون : حرم البيع ، حرم البيع .
وعن عمر بن عبد العزيز ، أنه كان يمنع الناس من البيع يوم الجمعة إذا نودي بالصلاة .
وعن الحسن وعطاء والضحاك : تحريم البيع إذا زالت الشمس من يوم الجمعة .
وعن الشعبي ، أنه محرمٌ .
وكذا قال مكحولٌ .
وحكى إسحاق بن راهويه الإجماع على تحريم البيع بعد النداء .
وحكى القاضي إسماعيل ، عمن لم يسمه ، أن البيع مكروه ، وانه استدل بقوله ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ( [ الجمعة : 9 ] .
ورد عليه : بأن من فعل ما وجب عليه وترك ما نهي عنه فهو خيرٌ له ، كما قال تعالى : ( وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ( [ النساء : 171 ] .
وحكي القول بأن البيع مردود عن القاسم بن محمد وربيعة ومالكٍ .
ورواه ابن عيينة ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد أو غيره .
وهو مذهب الليث والثوري وإسحاق وأحمد وغيرهم من فقهاء أهل الحديث .
وخالف فيه أبو حنيفة والشافعي واصحابهما وعبيد الله العنبري ، وقالوا : البيع غير مردودٍ ؛ لأن النهي عن البيع هنا ليس نهياً عنه لذاته بل لوقته .(5/433)
"""""" صفحة رقم 434 """"""
والأولون يقولون : النهي يقتضي فساد المنهي عنه ، سواء كان لذات المنهي عنه أو لوقته ، كالصوم يوم العيد ، والصلاة وقت النهي ، فكذلك العقود .
وقال الثوري - فيما إذا تصارفا ذهباً بفضة وقبضا البعض ، ثم دخل وقت النداء يوم الجمعة - : فإنهما يترادان البيع .
وهذا يدل على أن القبض عند شرط لانعقاد الصرف ، فلا يتم العقد الا به ، وهو الصحيح عند المحققين من أصحابنا - أيضاً .
وأما ما ذكره عن عطاءٍ ، أنه تحرم الصناعات حينئذ ، فإنه يرجع إلى أنه إنما حرم البيع ؛ لأنه شاغلٌ عن السعي إلى ذكر الله والصلاة ، فكل ما قطع عن ذلك فهو محرم من صناعة أو غيرها ، حتى الاكل والشرب والنوم والتحدث وغير ذلك ، وهذا قول الشافعية وغيرهم - أيضاً .
لكن لأصحابنا في بطلان غير البيع من العقود وجهان ، فإن وقوعها بعد النداء نادر ، بخلاف البيع ، فإنه غالب ، فلو لم يبطل لادى إلى الاشتغال عن الجمعة به ، فتفوت الجمعة غالباً .
وأكثر أصحابنا حكوا الخلاف في جواز ذلك ، وفيه نظرٌ ؛ فإنه إذا وجب السعي إلى الجمعة حرم كل ما قطع عنه .
وقد روي عن زيد بن أسلم ، قال : لم يأمرهم الله أن يذروا شيئاً غيره ، حرم البيع ، ثم أذن لهم فيه إذا فرغوا .
وهذا ضعيف جدا ؛ فإن البيع إنما خص بالذكر لأنه أكثر ما يقع حينئذ مما يلهي عن السعي ، فيشاركه في المعنى كل شاغل .
وأستدل بعض أصحابنا على جواز غير البيع من العقود بالصدقة ، وقال : قد أمر به النبي ( وهو يخطب .
وهذا لا يصح ؛ فإن الصدقة قربة وطاعة ، وإذا وقعت في المسجد حيث(5/434)
"""""" صفحة رقم 435 """"""
لا يكره السؤال فيه فلا وجه لمنعها .
فإن الحق بذلك عقد النكاح في المسجد قبل خروج الإمام كان متوجهاً ، مع أن بعض أصحابنا قد خص الخلاف بالنكاح ، وهو ابن عقيل .
وعن أحمد روايةٍ : إنه يحرم البيع بدخول وقت الوجوب ، وهو زوال الشمس .
وقد سبق مثله عن الحسن ، وعطاء ، والضحاك ، وهو - أيضاً - قول مسروق ، ومسلم بن يسارٍ ، والثوري ، وإسحاق .
وقياس قولهم : إنه يجب السعي بالزوال ، ويحرم حينئذ كل شاغلٍ يشغل عنه .
والجمهور : على أنه لا يحرم بدون النداء .
ثم الأكثرون منهم على أنه النداء الثاني الذي بين يدي الإمام ؛ لأنه النداء الذي كان في عهد النبي ( ، فلا ينصرف النداء عند إطلاقه إلا إليه .
وفي ( ( صحيح الإسماعيلي ) ) من حديث الزهري ، عن السائب بن يزيد ، قال : كان النداء الذي ذكر الله في القرآن يوم الجمعة إذا خَّرج الإمام ، وإذا قامت الصلاة في زمن النبي ( وأبي بكر وعمر .
وعن أحمد روايةٌ : أنه حرم البيع ويجب السعي بالنداء الأول .
وهو قول مقاتل بن حيان ، قال : وقد كان النداء الأول قبل زوال الشمس .
ونقله ابن منصورٍ ، عن إسحاق بن راهويه - صريحاً .
وعن أحمد ، أنه قال : أخاف أن يحرم البيع ، وإن أذن قبل الوقت .
ومجرد الشروع في الأذان يحرم به البيع عند أصحابنا والشافعية ؛ لأنه صار نداءً مشروعاً مسنوناً سنة الخلفاء الراشدين .
قال أصحابنا : ولو اقتصر عليه اجزأ ، وسقط فرض الأذان .(5/435)
"""""" صفحة رقم 436 """"""
وعند أصحاب الشافعي : يحرم البيع بمجرد الشروع في النداء الثاني بين يدي
الإمام ، إذا كان قاطعاً عن السعي ، فأما إن فعله وهو ماش في الطريق ولم يقف ، أو هو قاعد في المسجد كره ولم يحرم .
وهذا بعيد ، والتبايع في المسجد بعد الأذان يجتمع فيه نهيان ؛ لزمانه ومكانه ، فهو أولى بالتحريم .
المسألة الرابعة :
حكى عن الزهري : أن المسافر إذا سمع النداء للجمعة ، فعليه أن يشهدها ، وقد سبق ذكر ذلك عنه ، وعن النخعي والأوزاعي وعن عطاءٍ : أن عليه شهودها ، سمع الأذان أو لم يسمعه ، وأن الجمهور على خلاف ذلك .
وهل للمسافر أن يبيع ويشتري بعد سماع النداء ؟ فيهِ اختلاف بين أصحابنا ، يرجع إلى أن من سقطت عنه الجمعة لعذر ، كالمريض : هل لهُ أن يبيع بعد النداء ، أم
لا ؟ فيه روايتان عن أحمد .
وأما من ليس من أهل الجمعة بالكلية ، كالمرأة ، فلها البيع والشراء بغير خلاف ، وكذا العبد ، إذا قلنا : لا يجب عليه الجمعة .
خَّرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث :
الأول :
907 - ثنا علي بن عبد الله : ثنا الوليد بن مسلمٍ : ثنا يزيد بن أبي مريم : ثنا عباية بن رفاعة ، قال : أدركني أبو عبسٍ وأنا اذهب إلى الجمعة ، فقال : سمعت النبي ( يقول : ( ( من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ) ) .
( ( يزيد بن أبي مريم ) ) ، هو : الأنصاري الشامي ، وهو بالياء المثناة من تحت ، وبالزاي .(5/436)
"""""" صفحة رقم 437 """"""
وأما : بريد بن أبي مريم - بالباء الموحدة ، والراء المهملة - ، فبصري ، لم يخرج له البخاري في ( ( صحيحه ) ) شيئاً .
وخرّج الإسماعيلي في ( ( صحيحه ) ) هذا الحديث بسياق تام ، ولفظه : عن يزيد بن أبي مريم : بينما أنا رائحٌ إلى الجمعة إذ لحقني عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج
الأنصاري ، وهو راكب وأنا ماشٍ ، فقال : احتسب خطاك هذه في سبيل الله ، فاني سمعت أبا عبس بن جبر الأنصاري يقول : قال رسول الله ( : ( ( من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار ) ) .
وخرّجه الترمذي والنسائي - بمعناه .
ففي هذه الرواية أن هذه القصة جرت ليزيد مع عباية ، وفي روايةٍ البخاري أنها جرت لعباية مع أبي عبس ، وقد يكون كلاهما محفوظاً . والله أعلم .
وليس عن النبي ( في هذا الحديث ذكر المشي إلى الجمعة ، إنما فيه فضل المشي في سبيل الله ، فأدخل الرواي المشي إلى الجمعة في عموم السبيل ، وجعله شاملاً له
وللجهاد .
والأظهر في اطلاق سبيل الله : الجهاد ، وقد يؤخذ بعموم اللفظ ، كما أذن النبي ( لمن جعل بعيره في سبيل الله أن يحج عليه ، وقال : ( ( الحج من سبيل الله ) ) ، وقد ذكرناه في موضع آخر .
وقد كان كثير من السلف يختارون المشي إلى الجمعة ، كما سبق من غير واحدٍ من الصحابة .
وقد روي عن عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - ، أنه كان يبكر إلى الجمعة ، ويخلع نعليه ، ويمشي حافياً ، ويقصر في مشيه .(5/437)
"""""" صفحة رقم 438 """"""
خرّجه الأثرم بإسناد منقطع .
الحديث الثاني :
908 - حديث : أبي هريرة ، عن النبي ( : ( ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ، وأتوها تمشون ، وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فاتموا ) ) .
وقد تقدم في ( ( كتاب : الصلاة ) ) باختلاف أسانيده وألفاظه .
الحديث الثالث :
909 - حديث : يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي قتادة - قال أبو عبد الله : ولا أعلمه إلاّ عن أبيه - ، عن النَّبيّ ( ، قالَ : ( ( لا تقوموا حتَّى تروني ، وعليكم السكينة ) ) .
وقد تقدم - أيضاً - باختلاف ألفاظه .
وليس في هذا - والذي قبله - ذكر الجمعة ، إنما فيهِ ذكر الصَّلاة ، وهي تعم الجمعة وغيرها .
وحديث أبي هريرة إنما يدل على النهي عن السعي عندَ سماع الإقامة ، وحديث أبي قتادة إنما فيهِ الأمر بالسكينة في القيام إلى الصَّلاة ، لا في المشي إليها .(5/438)
"""""" صفحة رقم 439 """"""
- باب لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة
910 - ثنا عبدان : أنا عبد الله : أنا ابن أبي ذئب ، عن سعيدٍ المقبري ، [ عن
أبيه ] ، عن ابن وديعة ، عن سلمان الفارسي ، قال : قال رسول الله ( : ( ( من اغتسل يوم الجمعة ، وتطهر بما استطاع من طهر ، ثم ادهن أو مس من طيبٍ ، ثم راح ولم يفرق بين اثنين ، فصلى ما كتب له ، ثم إذا خَّرج الإمام أنصت ، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ) ) .
التفريق بين اثنين يدخل فيه شيئان :
أحدهما :
أن يتخطاهما ويتجاوزهما إلى صف متقدمٍ .
وقد خرج أبو داود نحو هذا الحديث من حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيدٍ ، عن النبي ( ، وفيه : ( ( ولم يتخط رقاب الناس ) ) .
ومن حديث عبد الله بن عمرو - أيضاً - ، عن النبي ( .
وخرّجه الإمام أحمد من حديث أبي أيوب ، ومن حديث نبيشة الهذلي ، عن النبي ( ، وفي حديثهما : ( ( ولم يؤذ أحداً ) ) .
ومن حديث أبي الدرداء ، عن النبي ( ، وفي حديثه : ( ( ولم يتخط(5/439)
"""""" صفحة رقم 440 """"""
أحداً ، ولم يؤذه ) ) .
وقد تقدم حديث عبد الله بن بسر ، قال : جاء رجلٌ يتخطى رقاب الناسِ يوم الجمعة ، والنبي ( يخطب ، فقال له النبي ( : ( ( اجلس ، فقد آذيت ) ) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
وخرّجه ابن ماجه من حديث جابر .
وخرّج الإمام أحمد والترمذي من حديث زبان بن فائد ، من حديث سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه ، عن النبي ( ، قال : ( ( من تخطي رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسراً إلى جهنم ) ) .
وزبان ، مختلف في أمره .
ورواه عنه ابن لهيعة ورشدين بن سعدٍ .
وخرّج الإمام أحمد من حديث أرقم بن الأرقم المخزومي ، أن النبي ( قال :
( ( الذي يتخطى الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبة إلى النارِ ) ) .
وفي إسناده : هشام بن زياد أبو المقدام ، ضعفوه ، وقد اختلف عليه في إسناده .
وأكثر العلماء على كراهة تخطي الناس يوم الجمعة ، سواء كان الإمام قد خَّرج أو لم يخرج بعد .(5/440)
"""""" صفحة رقم 441 """"""
وقالت طائفةٌ : لا يكره التخطي إلا بعدَ خروجهِ ، كما دل عليه حديث الأرقم ، منهم : الثوريُ ، ومالكٌ ، والأوزاعي - في روايةٍ - ، ومحمد بن الحسنِ .
وذكر مالكٌ ، عن أبي هريرة ، قال : لأن يصلي أحدكم بظهرة الحرة خيرٌ له من أن يقعد حتى إذا قام الإمام يخطبُ جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعةِ .
فإن وجد فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي ، ففيه قولان :
أحدهما : يجوز له التخطي حينئذ ، وهو قول الحسن ، وقتادة ، والأوزاعي والشافعي ، وكذا قال مالكٌ في التخطي قبل خروج الإمام ، وكذا روى معمر عن الحسن وقتادة .
والثاني : أنه يكره ، وهو قولُ عطاءٍ ، والثوريّ .
وعن أحمد روايتان في ذلك ، كالقولين .
وعنه روايةٌ ثالثةٌ : إن كان يتخطى واحداً أو اثنين جاز ، وان كان أكثر كره .
وحمل بعض أصحابنا رواية الجواز عن أحمد على ما إذا كان الجالسون قد جلسوا في مؤخر الصفوف ، وتركوا مقدمها عمداً ، ورواية الكراهة على ما إذا لم يكن منهم تفريطٌ .
وفي كلام الأوزاعي وغيره ما يدل على مثل هذا - أيضاً - ، وكذلك قال الحسن ، قال : لا حرمة لهم .
ومتى احتاج إلى التخطي لحاجة لابد منها من وضوء أو غيره ، أو لكونه لا يجد موضعا للصلاة بدونه ، أو كان إماماً لا يمكنه الوصول إلى مكانه بدون التخطي ، لم
يكره .(5/441)
"""""" صفحة رقم 442 """"""
وقد سبق حديث عقبة بن الحارث في قيام النبي ( من صلاته مسرعاً ، يتخطى رقاب الناسِ .
وكذا لو ضاق الموضع وآذتهم الشمسُ ، فلهم - إذا أقيمت الصلاة - أن يشقوا الصفوف ويدخلوا لأذى الشمس ، نص عليه أحمد في روايةٍ الأثرمِ .
وحكى ابن المنذر عن أبي نضرة : جواز تخطيهم بإذنهم ، وعن قتادة : يتخطاهم إلى مجلسه .
ثم قال ابن المنذر : لا يجوز شيء من ذلك عندي ، لأن الأذى يحرم قليلة وكثيرة ، وهذا اذى ، لقول النبي ( : ( ( اجلس ، فقد آذيت ) ) .
فظاهر كلامه : تحريمه بكل حال ، والاكثرون جعلوا كراهته كراهة تنزيهٍ .
ومتى كان بين الجالسين فرجة ، بحيث لا يتخطاهما ، جاز له أن يمشي بينهما ، فإن تماست ركبهما بحيث لا يمشي بينهما إلاّ بتخطي ركبهما كره له ذلك ، فإن كانا قائمين يصليان ، فمشى بينهما ولم يدفع أحداً ، ولم يؤذه ، ولم يضيق على أحد جاز ، وإلاّ فلا .
قال ذلك كله عطاءٍ - : ذكره عبد الرزاق ، عن ابن جريجٍ ، عنه .
الثاني - مما يدخل في التفريق بين اثنين - :
الجلوس بينهما إن كانا جالسين ، أو القيام بينهما أن كانا قائمين في صلاة .
فإن كان ذلك من غير تضييق عليهما ولا دفع ولا أذى ، مثل أن يكون بينهما فرجة ، فإنه يجوز ، بل يستحب ، لأنه مامور بسد الخلل في الصف ، وإلاّ فهو منهي عنه ، إلاّ أن ياذنا في ذلك .
وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله ( قال :
( ( لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين ، إلا باذنهما ) ) .(5/442)
"""""" صفحة رقم 443 """"""
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .
وقال : حديثٌ حسنٌ .
فإن كان الجالسان بينهما قرابة ، أو كانا يتحدثان فيما يباح ، كان أشد كراهةً .
وفي ( ( مراسيل أبي داود ) ) عن المطلب بن حمطب ، قال : سمعت رسول الله ( قال : ( ( لا يفرق بين الرجل ووالده ) ) .
وخرّجه الطبراني من حديث سهل بن سعدٍ ، عن النبي ( ، قال : ( ( لا يجلس الرجل بين الرجل وابيه في المجلس ) ) .
وفي إسناده نظر .
وروي عن ابن عمر - مرفوعاً ، وموقوفاً - : ( ( إذا كان اثنان يتناجيان فلا يدخل بينهما إلا بإذنهما ) ) .
قال الإمام أحمد في الرجل ينتهي إلى الصف وقد تم فيدخل بين رجلين : أن علم أنه لا يشق عليهم .
قال القاضي أبو يعلى : أن شق عليهم لم يجز ؛ لأن فيهِ أذية لهم ، وشغلاً لقلوبهم .(5/443)
"""""" صفحة رقم 444 """"""
- باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه
911 - حدثنا محمد بن سلام : ثنا مخلد : أنا ابن جريجٍ : سمعت نافعا يقول : سمعت ابن عمر يقول : نهى النبي ( أن يقيم الرجلُ الرجل من مقعده ، ثم يجلس فيهِ ) ) .
قلت لنافع : الجمعة ؟ قال : الجمعة وغيرها .
وقد خرّجه البخاري في مواضع متعددة ، وفي بعضها زيادة : ( ( ولكن تفسحوا وتوسعوا ) ) .
وخرّج مسلم من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي ( ، قال : ( ( لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الحمعة ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه ، ولكن يقول : افسحوا ) ) .
وخَّرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ، ولكن افسحوا يفسح الله لكم ) ) .
وروى ابن أبي حاتم بإسناده ، عن مقاتل بن حيان ، قال : أنزلت هذه الآية - يعني : قوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا ( [ المجادلة : 11 ] - في يوم جمعة ، وكان رسول الله ( يومئذ في(5/444)
"""""" صفحة رقم 445 """"""
الصفة ، وفي المكان ضيقٌ ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء اناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله ( ، فسلموا عليه ، ثم سلموا على القوم ، فقاموا على ارجلهم ينتظرون أن يفسح لهم ، فلم يوسع لهم ، فشق ذلك على النبي ( ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار - من غير أهل بدر - : ( ( قم أنت يا فلان ، وأنت
يا فلان ) ) ، فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبي ( الكراهة في وجوههم ، وتكلم في ذلك المنافقون ، فبلغنا أن رسول الله ( قال : ( ( رحم الله رجلاً فسح لاخيه ) ) ، فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً ، فيفسح القوم لاخوانهم ، ونزلت الآية يوم الجمعة .
فظاهر هذا : يدل على أن إقامة الجالس نسخ بهذه الآية ، وانتهى الأمر إلى التفسح المذكور فيها .
وقال قتادة : كان هذا للنبي ( ومن حوله خاصة .
يشير إلى إقامة الجالسين ليجلس غيرهم ؛ فإنه ( كان يفعل ذلك إكراماً لأهل الفضائل والاستحقاق ، وغيره لا يؤمن عليه أن يفعله بالهوى .
ويستثنى من ذلك : الصبي ، إذا كان في الصف ، وجاء رجلٌ ، فله أن يؤخره ويقوم مقامه ، كما فعله أبي بن كعب بقيس بن عباد ، وقد ذهب اليه الثوري وأحمد ، وقد تقدم ذلك .
فإن كان الذي في الصف رجلاً ، وكان أعرابياً أو جاهلاً ، لم يجز تاخيره من موضعه .
قال أحمد : لا أرى ذلك .
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) ، عن النبي ( ، قال : ( ( من سبق إلى ما لم(5/445)
"""""" صفحة رقم 446 """"""
يسبق اليه أحد فهو أحق به ) ) .
واستثنى بعض الشافعية - أيضاً - ثلاث صور ، وهي : أن يقعد في موضع الإمام ، أو طريق الناس ويمنعهم الاجتياز ، أو بين يدي الصف مستقبل القبلة .
ويستثنى من ذلك ، أن يكون المتاخر قد ارسل من ياخذ له موضعاً في الصف ، فاذا جاء الجالس وجلس الباعث فيه . وقد ذكره الشافعي وأصحابنا وغيرهم .
وروي عن ابن سيرين ، أنه كان يفعله .
واما إن قام أحد من الصف تبرعاً واثر الداخل بمكانه ، فهل يكره ذلك ، أم لا ؟ أن انتقل إلى مكان أفضل منه لم يكره ، وإن انتقل إلى ما دونه فكرهة الشافعية .
وقال أحمد فيمن تاخر عن الصف الأول ، وقدم اباه فيه : هو يقدر أن يبرَّ أباه بغير هذا .
وظاهره : الكراهة ، وأنه يكره الإيثار بالقرب .
وأم الموثر ، فهل يكره له أن يجلس في المكان الذي اوثر به ؟ فيهِ قولان
مشهوران .
أشهرهما : لا يكره ، وهو قولُ أصحابنا والشافعية وغيرهم .
والثاني : يكره ، وكان ابن عمر لا يفعل ذلك ، وكذلك أبو بكرة .
وخَّرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر ، قال : جاء رجل إلى
رسول الله ( ، فقام له رجل من مجلسه ، فذهب ليجلس فيه ، فنهاه النبي ( .(5/446)
"""""" صفحة رقم 447 """"""
وخرّج أحمد وأبو داود من حديث أبي بكر عن النبي ( معناه - أيضاً .
ولو بادر رجلٌ وسبق المؤثر إلى المكان ، فهل هو أحق به من الموثر ، أم لا ؟ فيه وجهان لأصحابنا وغيرهم .
وأما من فسح له في مجلسٍ اوصفٍ ، فلا يكره له الجلوس فيه .
وفي مراسيل خالد بن معدان ، أن النبي ( قال : ( ( إذا جاء أحدكم إلى المجلس ، فوسع له ، فليجلس ؛ فإنها كرامة ) ) .
خرّجه حميد بن زنجوية .
فإن كان في جلوسه تضييق على الناس ، أو لم يصل إلى المكان الا بالتخطي ، فلا يفعل .
وقد روي عن أبي سعيدٍ الخدري ، أنه أوذن بجنازة في قومه ، فتخلف حتى جاء الناس واخذوا المجالس ، ثم جاء بعد ، فلما رآه القوم توسعوا له ، فقال : لا ؛ إني سمعت رسول الله ( يقول : ( ( إن خيرٌ المجالس أوسعها ) ) ، ثم تنحى فجلس في مجلس واسع .
وخَّرج أبو داود منه المرفوع فقط .
وروى الخرائطي - بإسناد فيه جهالة - ، عن أبي هريرة - مرفوعاً - : ( ( لا توسع المجالس إلا لثلاثة : لذي علم لعلمه ، وذي سن لسنه ، وذي سلطان لسلطانه ) ) .
ودخل خالد بن ثابت الفهمي المسجد يوم الجمعة ، وقد امتلأ من الشمس ،(5/447)
"""""" صفحة رقم 448 """"""
فرآه بعض من في الظل ، فأشار اليه ليوسع له ، فكره أن يتخطى الناس إلى ذلك الظل ، وتلا : ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( [ لقمان : 17 ] ، ثم جلس في الشمس .
خرّجه حميد بن زنجويه .(5/448)
"""""" صفحة رقم 449 """"""
- باب الأذان يوم الجمعة
912 - حدثنا آدم : ثنا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد ، قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر ، على عهد رسول الله ( وأبي بكر وعمر ، فلما كان عثمان ، وكثر الناس ، زاد النداء الثالث على الزوراء .
قال أبو عبد الله : الزوراء : موضع بالسوق بالمدينةِ .
الأذان يوم الجمعة قد ذكره الله تعالى في كتابه ، وفي قوله ( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( [ الجمعة : 9 ] ، وقد ذهب طائفةٌ من العلماء إلى وجوبه ، وان قيل : أن الأذان سنة ، وهو الذي ذكره ابن أبي موسى من أصحابنا ، وقاله طائفةٌ من الشافعية - أيضاً .
وقد دل الحديث على أن الأذان الذي كان على عهد رسول الله ( وأبي بكر وعمر هو النداء الذي بين يدي الإمام عند جلوسه على المنبر ، وهذا لا اختلاف فيه بين العلماء .
ولهذا قال أكثرهم : أنه هو الأذان الذي يمنع البيع ، ويوجب السعي إلى الجمعة ، حيث لم يكن على عهد النبي ( سواه .
وما ذكره ابن عبد البر عن طائفةٌ من أصحابهم ، أن هذا الأذان الذي يمنع البيع ، لم يكن على عهد النبي ( وإنما أحدثه هشام بن عبد الملك ، فقد بين ابن عبد البر أن هذا جهل من قائله ، لعدم معرفته بالسنة والاثار .
فإن قال هذا الجاهل : أنه لم يكن أذان بالكلية في الجمعة ، فقد باهت ،(5/449)
"""""" صفحة رقم 450 """"""
ويكذبه قولُ الله عز وجل : ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( .
وإن زعم أن الأذان الذي كان في عهد النبي ( وأبي بكر وعمر هو الأذان الأول الذي قبل خروج الإمام ، فقد أبطل ، ويكذبه هذا الحديث واجتماع العلماء على ذلك .
وقوله في هذه الرواية : ( ( أوله إذا جلس الإمام على المنبر ) ) ، معناه : أن هذا الأذان كان هو الأول ، ثم تليه الإقامة ، وتسمى : أذاناً ، كما في الحديث المشهور : ( ( بين كل اذانين صلاةٌ ) ) .
وخرّجه النسائي من روايةٍ المعتمر ، عن أبيه ، عن الزهري ، ولفظه : كان بلال يؤذن إذا جلس رسول الله ( على المنبر يوم الجمعة ، فاذا نزل أقام ، ثم كان كذلك في زمن أبي بكر وعمر ، فلما زاد عثمان النداء الثالث صار هذا الثالث هو الأول ، وصار الذي بين يدي الإمام هو الثاني .
وقد خَّرج أبو داود هذا الحديث من طريق ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن السائب ، قال : كان يؤذن بين يدي رسول الله ( إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد ، وأبي بكر وعمر .
ففي هذه الرواية : زيادة : أن هذا الأذان لم يكن في نفس المسجد ، بل على بابه ، بحيث يسمعه من كان في المسجد ومن كان خارج المسجد ، ليترك أهل الأسواق البيع ويسرعوا إلى السعي إلى المسجد .
وقوله : ( ( فلما كان عثمان ) ) - يريد : لما ولي عثمان - ( ( وكثر الناس في زمنه زاد النداء الثالث على الزوراء ) ) ، وسماه : ثالثاً ؛ لأن به صارت النداآت للجمعة ثلاثة ، وإن كان هو أولها وقوعاً .(5/450)
"""""" صفحة رقم 451 """"""
وخرّجه ابن ماجه ، وعنده - بعد قوله : ( ( على دار في السوق ، يقال لها :
الزوراء ) ) - : ( ( فاذا خَّرج أذن ، وإذا نزل أقام ) ) .
وهو من روايةٍ : ابن إسحاق ، عن الزهري .
وروى الزهري ، عن ابن المسيب : معنى حديثه عن السائب بن يزيد ، غير أنه قال : ( ( فلما كان عثمان كثر الناس ، فزاد الأذان الأول ، واراد أن يتهيأ الناس للجمعة ) ) .
خرّجه عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) عن معمر ، عنه .
وقد رواه إسماعيل بن يحيى التميمي - وهو ضعيف جداً - ، عن مسعر ، عن القاسم ، عن ابن المسيب ، عن أبي أيوب الأنصاري ، قال ما كان الأذان على عهد النبي ( يوم الجمعة إلا قدام النبي ( ، وهو على المنبر ، فاذا نزل أقاموا الصلاة ، فلما ولي عثمان أمر أن يؤذن على المنارة ليسمع الناس .
خرّجه الإسماعيلي في ( ( مسند مسعر ) ) ، وقال في القاسم : هو مجهولٌ .
قلت : والصحيح : المرسل .
وقد أنكر عطاءٍ الأذان الأول ، وقال : إنما زاده الحجاج ، قال : وإنما كان عثمان يدعو الناس دعاء .
خرّجه عبد الرزاق .
وقال عمرو بن دينار : إنما زاد عثمان الأذان بالمدينة ، وأما مكة فأول من زاده الحجاج ، قال : ورأيت ابن الزبير لا يؤذن له حتى يجلس على المنبر ، ولا يؤذن له إلا أذان واحد يوم الجمعة .(5/451)
"""""" صفحة رقم 452 """"""
خرّجه عبد الرزاق - أيضاً .
وروى مصعب بن سلام ، عن هشام بن الغاز ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : إنما كان رسول الله ( إذا قعد على المنبر أذن بلالٌ ، فإذا فرغ النبي ( من خطبته اقام الصلاة ، والاذان الأول بدعة .
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) عن هشام بن الغاز ، قال : سألت نافعاً عن الأذان يوم الجمعة ؟ فقالَ : قالَ ابن عمر : بدعةٌ ، وكل بدعة ظلالة ، وإن رآه الناس حسناً .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لم يكن في زمان النَّبيّ ( إلا أذانان : أذان حين يجلس على المنبر ، وأذان حين تقام الصَّلاة . قال : وهذا الأخير شيء أحدثه الناس بعد .
خرّجه ابن أبي حاتمٍ .
وقال سفيان الثوري : لا يؤذن للجمعة حتى تزول الشمس ، وإذا أذن المؤذن قام الإمام عى المنبر فخطب ، وإذا نزل أقام الصلاة ، قال : والأذان الذي كان على عهد رسول الله ( وأبي بكر وعمر أذان وأقامة ، وهذا الأذان الذي زادوه محدثٌ .
وقال الشافعي - فيما حكاه ابن عبد البر - : أحب إلي أن يكون الأذان يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر بين يديه ، فإذا قعد أخذ المؤذن في الأذان ، فإذا فرغ قام فخطب ، قال : وكان عطاءٍ ينكر أن يكون عثمان أحدث الأذان الثاني ، وقال : إنما أحدثه معاوية .(5/452)
"""""" صفحة رقم 453 """"""
قال الشافعي : وأيهما كان ، فالأذان الذي كان على عهد النبي ( ، وهو الذي ينهى الناس عنده عن البيع .
ولأصحابه في أذان الجمعة - على قولهم : الأذان سنة - وجهان :
أحدهما : أنه سنة - أيضاً .
والثاني : أنه للجمعة خاصة فرض كفاية .
فعلى هذا : هل تسقط الكفاية بالأذان الأول ، أو لا تسقط الا بالاذان بين يدي الإمام ؟ على وجهين - أيضاً .
ومن أصحابنا من قال : يسقط الفرض بالأذان الأول ، وفيه نظر . والله أعلم .
وقال القاضي أبو يعلى : المستحب أن لا يؤذن الا أذان واحد ، وهو بعد جلوس الإمام على المنبر ، فإن أذن لها بعد الزوال وقبل جلوس الإمام جاز ، ولم يكره .
ثم ذكر حديث السائب بن يزيد هذا .
ونقل حرب ، عن إسحاق بن راهويه : أن الأذان الأول للجمعة محدث ، احدثه عثمان ، رأى أنه لا يسمعه إلا أن يزيد في المؤذنين ، ليعلم الأبعدين ذلك ، فصار سنة : لأن على الخلفاء النظر في مثل ذلك للناس .
وهذا يفهم منه أن ذلك راجع إلى رأي الإمام ، فإن احتاج اليه لكثرة الناس فعله ، وإلا فلا حاجة إليه .(5/453)
"""""" صفحة رقم 454 """"""
- باب المؤذن الواحد يوم الجمعة
913 - حدثنا أبو نعيمٍ : ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد ، أن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان ، حين كثر أهل المدينة ، ولم يكن للنبي ( غير مؤذنٍ واحدٍ ، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام - يعني : على المنبر .
قوله : ( ( ولم يكن للنبي ( إلا مؤذن واحد ) ) - يعني : في الجمعة ؛ فإن في غير الجمعة كان له مؤذنان ، كما سبق في ( ( الأذان ) ) .
وقد قيل : إنه يحتمل أن يكون مراد السائب : أنه لم يكن للنبي ( يوم الجمعة إلا تأذين واحد ، فعبر بالمؤذن عن الأذان - : ذكره الإسماعيلي .
وهذا يرده قوله : ( ( فزاد عثمان النداء الثالث ) ) ، فإنه يدل على أنه كان للنبي ( أذانان - يعني : الأذان والاقامة - والمؤذن الواحد في الجمعة .
وقد تقدم في روايةٍ النسائي لحديث السائب بن يزيد ، ويفهم من حديث ابن عمر - أيضاً .
وخرّج ابن ماجه من روايةٍ عبد الرحمن بن سعدٍ بن عمار : حدثني أبي ، عن
أبيه ، عنجده - وهو : سعدٍ القرظ - ، أنه كان يؤذن يوم الجمعة على عهد(5/454)
"""""" صفحة رقم 455 """"""
رسول الله ( إذا كان الفيء مثل الشراك .
وهذا إسنادٌ ضعيف ، ضعفه ابن معين وغيره .
وإنما كان سعدٍ يؤذن بقباء في عهد النبي ( ، ولم يكن بقباء جمعةٌ .
وقد حكى ابن عبد البر اختلافاً بين العلماء في الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام : هل يكون من مؤذن واحد ، أو مؤذنين ؟
فذكر من روايةٍ ابن عبد الحكم ، عن مالكٍ ، أنه قالَ : إذا جلس الإمام على
المنبر ، ونادى المنادي منع الناس من البيع .
قال : وهذا يدل على أن النداء عنده واحدٌ بين يدي الإمام .
وفي ( ( المدونة ) ) من قول ابن قاسم ، وروايته ، عن مالكٍ : إذا جلس الإمام على المنبر ، وأخذ المؤذنون في الأذان حرم البيع .
فذكر ( ( المؤذنين ) ) بلفظ الجماعة .
قال : ويشهد لهذا حديث مالكٍ ، عن ابن شهاب ، عن ثعبلة بن أبي مالكٍ ، أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر ، فاذا خَّرج وجلس على المنبر وأخذ المؤذنون .
هكذا بلفظ الجماعة .
قال : ومعلوم عند العلماء أنه جائز أن يكون المؤذنون واحداً وجماعة في كل
صلاة ، إذا كان ذلك مترادفاً ، لا يمنع من إقامة الصلاة في وقتها .
وذكر من كلام الشافعي ، أنه قال : إذا قعد الإمام اخذ المؤذنون في الأذان .(5/455)
"""""" صفحة رقم 456 """"""
ومن كلام الطحاوي في ( ( مختصره ) ) : حكاية قولُ أبي حنيفة وأصحابه : إذا جلس الإمام على المنبر ، وأذن المؤذنون بين يديه - بلفظ الجمع .
ووقع في كلام الخرقي من أصحابنا : واخذ المؤذنون في الأذان - بلفظ الجمع .
وقال مكحول : إن النداء كان في الجمعة مؤذنٌ واحدٌ حين يخرج الإمام ، ثم تقام الصلاة ، فأمر عثمان أن ينادى قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس .
خرّجه ابن أبي حاتم .
قال حربٌ : قلت لأحمد : فالأذان يوم الجمعة إذا أذن على المنارة عدة ؟ قال : لا بأس بذلك ، قد كان يوذن للنبي ( بلال وابن أم مكتوم ، وجاء أبو محذورة وقد أذن رجل قبله ، فأذن أبو محذورة .
وظاهر هذا : أنه لو أذن على المنارة مؤذن بعد مؤذن جاز ، وهذا قبل خروج الإمام .
وقال القاضي أبو يعلى : يستحب أن يكون المؤذن للجمعة واحداً ، فإن أذن أكثر من واحد جاز ، ولم يكره .
ومراده : إذا أذنوا دفعة واحدة بين يدي الإمام ، أو اذنوا قبل خروجه تترى ، فأما أن أذنوا بعد جلوسه على المنبر ، مرةً بعد مرة ، فلا شك في كراهته ، وأنه لم يعلم وقوعها في الإسلام قط .
وكذا قال كثيرٌ من أصحاب الشافعي : أنه يستحب أن يكون للجمعة أذان واحد عند المنبر ، ويستحب أن يكون المؤذن واحداً ؛ لأنه لم يكن يؤذن للجمعة للنبي ( إلا بلالٌ .
ونقل المحاملي هذا الكلام عن الشافعي ، والذي نقله البويطي عن الشافعي يخالف ذلك ؛ فإنه نقل عنه ، أنه قال : النداء للجمعة هو الذي يكون والإمام(5/456)
"""""" صفحة رقم 457 """"""
على المنبر ، يكون المؤذنون يستفتحون الأذان فوق المنارة جملة حين يجلس الإمام على المنبر ، ليسمع الناس فيؤبون إلى المسجد .
وهذا تصريح بأنهم يكونون جماعة ، وأنهم يؤذنون على المنارة لإسماع الناس ، لا بين يدي المنبر في المسجد .
وقد خرّج البخاري في ( ( صحيحه ) ) هذا في ( ( باب : رجم الحُبلى ) ) ، من حديث ابن عباسٍ ، قال : جلس عمر على المنبر يوم الجمعة ، فلما سكت المؤذنون قام ، فأثنى على الله - وذكر الحديث .
وروي عن المغيرة بن شعبة ، أنه كان له في الجمعة مؤذنٌ واحدٌ .
وخرّج الإمام أحمد من روايةٍ ابن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي سعيدٍ الخدري ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد ، يكتبون من جاء ، فاذا أذن وجلس الإمام على المنبر طووا الصحف ، ودخلوا المسجد يستمون الذكر ) ) .
وهذا لفظ غريب .
وروى عبد الرزاق بإسناده ، عن موسى بن طلحة ، قال : رأيت عثمان بن عفان جالساً على المنبر في يوم الجمعة ، والمؤذنون يؤذنون يؤم الجمعة ، وهو يسأل الناس عن أسعارهم وأخبارهم .
ويحتمل أن يكون مراد من قال : ( ( المؤذن ) ) - بلفظ الافراد - : الجنس ، لا
الواحد ، فلا يبقى فيهِ دلالة على كونه واحداً .(5/457)
"""""" صفحة رقم 458 """"""
- باب يجيب الإمام على المنبر إذا سمع النداء
914 - ثنا ابن مقاتل : أنا عبد الله : أنا أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، قال : سمعت معاوية بن أبي سفيان ، وهو جالس على المنبر ، اذن المؤذن ، فقال : ( ( الله أكبر الله أكبر ) ) . قال معاوية : ( ( الله أكبر الله أكبر ) ) , فقال : ( ( أشهد أن لا إله الا الله ) ) . فقال معاوية : ( ( وأنا ) ) قال : ( ( أشهد أن محمداً رسول الله ) ) . قال معاوية : ( ( وأنا ) ) ، فلما قضى التاذين قال : يأيها الناس ، إني سمعت رسول الله ( على هذا المجلس حين أذن المؤذن يقول ما سمعتم مني من مقالي .
المقصود من هذا الحديث في هذا الباب : أن الإمام يجيب المؤذن على المنبر إذا أذن بين يديه ، كما يجيبه غيره من السامعين ، وليس في ذلك خلافُ ؛ فإن الإمام من جملة السامعين للمؤذن ، فيدخل في عموم قوله : ( ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ) ) .
وقد سبق في ( ( الأذان ) ) الكلام على اجابة المؤذن مستوفىً .
وفي حديث معاوية : دليل على أن من سمع مخبراً يخبر عن نفسه بشئ ، فقال هو - مجيباً له - : ( ( وأنا ) ) ، أنه يصير مقراً بمثل ما أقر به .
وعلى هذا : فلو سمع الكافر مؤذناً يؤذن ، فقال - مجيباً له - : ( ( وأنا ) ) ، فهل يصير مسلماً ؟(5/458)
"""""" صفحة رقم 459 """"""
وقد قال أحمد في ذمي مر بمؤذن ، يؤذن ، فقال له : كذبت : إنه يقتل .
وكذا لو سمع رجل رجلاً قال لامرأته : أنت طالق ، أو قال : امرأتي طالق ، فقال : وأنا ، ونوى الطلاق ، فهل تطلق امرأته ؟
وقد حكى القاضي أبو يعلى في ( ( تعليقه ) ) فيما إذا قالَ رجل لرجل : يا زان ، فقالَ لهُ : لا ، بل أنت ، فهل يحد الثاني ، لكونه قاذفا ، أم لا ؟ على وجهين .(5/459)
"""""" صفحة رقم 460 """"""
- باب الجلوس على المنبر عند التأذين
915 - حدثنا يحيى بن بكير : ثنا الليث ، عن عقيلٍ ، عن ابن شهابٍ ، أن السائب بن يزيد أخبره ، أن التأذين الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان بن عفان حين كثر أهل المسجد ، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام .
إنما سماه ( ( الثاني ) ) باعتبار الأذان عند الجلوس على المنبر ، فهما أذانان بهذا الاعتبار ، و ( ( الإقامة ) ) لا تسمى أذاناً عند الاطلاق .
وجلوس الإمام على المنبر يوم الجمعة إذا رقى المنبر حتى يفرغ من الأذان سنة مسنونة ، تلقاها الأمة بالعمل بها خلفاً عن سلف .
إلا أن ابن عبد البر حكى عن أبي حنيفة : أنه غير مسنون . ولا خلاف أنه غير واجبٍ .(5/460)
"""""" صفحة رقم 461 """"""
- باب التأذين عند الخطبة
916 - حدثنا محمد بن مقاتل : أنا عبد الله : أنا يونس : عن الزهري ، قال : سمعت السائب ين يزيد يقول : إن الأ ان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر ، في عهد رسول الله ( وأبي بكر وعمر ، فلما كان في خلافة عثمان وكثروا أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث فأذن به على الزوراء ، فثبت الأمر على ذلك .
المقصود بهذا الباب : أن الأذان يوم الجمعة يكون عند جلوس الإمام على المنبر للخطبة ، فهذا هو الأذان الذي كان في عهد النبي ( وأبي بكر وعمر ، وهو المجتمع على مشروعيته .
وهل يكون بين يدي المنبر في المسجد ، أو على المنارة ؟ فيه كلام سبق ذكره ، وان الشافعي نص في ( ( كتاب البويطي ) ) على أنه يكون على المنارة .
وكذا مذهب مالكٍ ، قال في ( ( تهذيب المدونة ) ) : يجلس الإمام في أول خطبته حتى يؤذن المؤذنون على المنار ، ثم يخطب .
ونقل مثنى الأنباري عن أحمد ، أنه سئل عن الأذان الذي يجب على من كان خارجاً من المصر ، أن يشهد الجمعة ؟ قال : هو الأذان الذي في المنارة .
وهذا يحتمل أنه يريد به ما قاله الشافعي : أن أذان الجمعة بين يدي الإمام عند جلوسه على المنبر يكون على المنارة .
ويحتمل أنه يريد به : أنه يجب السعي بالأذان الأول ، كما يحرم البيع به ، على روايةٍ عنه ؛ فإن قوله : ( ( الذي على المنارة ) ) إخبار عن الواقع في زمانه ، ولم يعهد في زمانه الأذان على المنارة سوى الذي زاده عثمان .(5/461)
"""""" صفحة رقم 462 """"""
ويحتمل أنه إنما قال ذلك فيمن كان خارج المصر ؛ لأن الأذان الأول يكون لإعلامهم ، فليزمهم السعي به ، بخلاف أهل المصر ، فإنهم يلزمهم السعي من غير سماع أذان ، فلا يجب عليهم السعي بالأذان الأول ، بل بالثاني ، والله أعلم .
وقد تقدم في روايةٍ ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد لهذا الحديث : أن هذا الأذان على عهد النبي ( ، وأبي بكرٍ وعمر كان على باب المسجد .
وقوله في هذه الرواية التي خرجها البخاري هنا : ( ( فثبت الأمر على ذلك ) ) ، يدل على أن هذا من حين حدده عثمان أستمر ، ولم يترك بعده .
وهذا يدل على أن علياً اقر عليه ، ولم يبطله ، فقد أجتمع على فعله خليفتان من الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم أجمعين .(5/462)
"""""" صفحة رقم 463 """"""
- باب الخطبة على المنبر
وقال أنس : خطب النبي ( على المنبر .
حديث أنس هذا : الظاهر أنه يريد به حديثه في دعاء النبي ( بالاستسقاء يوم الجمعة على المنبر ، وسيأتي في مواضع أخر من الكتاب - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
فيه ثلاثة أحاديث :
الأول :
917 - نا قتيبة : نا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله القاري الاسكندراني : نا أبو حازم بن دينار ، أن رجالاً أتوا سهل بن سعدٍ الساعدي ، وقد امتروا في المنبر : مم عوده ؟ فسألوه عن ذَلِكَ ، فقالَ : إني والله : لأعرف مما هوَ ، ولقد رأيته أول يوم وضع ، وأول يوم جلس عليهِ رسول الله ( ، أرسل رسول الله ( إلى فلانة - امرأة قد سماها سهل - : ( ( مري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس ) ) ، فأمرته ، فعملها من طرفاء الغابة ، ثُمَّ جاء بها ، فارسلت إلى
رسول الله ( ، فامر بها فوضعت هاهنا ، ثُمَّ رأيت رسول الله ( صلى عليها ، وكبر وهو عليها ، ثُمَّ ركع وهو عليها ، ثُمَّ نزل القهقري فسجد في أصل المنبر ثُمَّ عاد ، فلما فرغ أقبل على الناس ، فقال : ( ( ياأيها الناس ، إنما صنعت هذا لتأتموا بي ، ولتعلموا صلاتي ) ) .(5/463)
"""""" صفحة رقم 464 """"""
قد خرّجه فيما تقدم من حديث ابن عيينة عن أبي حازم ، وهذا السياق أتم .
وفي روايةٍ ابن عيينة : ( ( من أثل الغابة ) ) ، و ( ( الأثل ) ) و ( ( الطرفاء ) ) : يشبه بعضه بعضاً . و ( ( الغابة ) ) : خارج المدينة مشهورة .
وخرّجه البخاري - أيضاً - مختصراً في ( ( أبواب المساجد ) ) ، في ( ( باب : الاستعانة بالصناع والنجار في عمل المسجد والمنبر ) ) من حديث عبد العزيز بن أبي حازم ، وذكرنا الاختلاف في رسم الذي عمل المنبر .
وخرّجه مسلم من حديث عبد العزيز بتمامه ، وفي حديثه : أن المنبر كان ثلاث درجاتٍ .
وقد روي هذا الحديث عن سهل من وجه أخر ، وفيه : حنين الخشبة .
خرّجه ابن سعدٍ في ( ( طبقاته ) ) : ثنا أبو بكر بن أبي أويس : حدثني سليمان بن بلال ، عن سعدٍ بن سعيدٍ بن قيس ، عن عباسٍ بن سهل بن سعدٍ ، عن أبيه ، أن النبي ( كان يقوم يوم الجمعة إذا خطب إلى خشبة ذات فرضتين - قال : أراه كانت من دومة كانت في مصلاه - ، فكأن يتكئ عليها ، فقال له أصحابه : يا رسول الله ، إن الناس قد كثروا ، فلو أتخذت شيئاً تقوم عليه إذا خطبت نراك ؟ فقال : ( ( ما شئتم ) ) .
قال سهل : ولم يكن بالمدينة إلا نجار واحد ، فذهبت أنا وذلك النجار إلى الخانقين ، فقطعنا هذا المنبر من أثله . قال : فقام عليه النبي ( ، فحنت الخشبة ، فقال النبي ( : ( ( ألا تعجبون لحنين هذه الخشبة ؟ ) ) فأقبل الناس(5/464)
"""""" صفحة رقم 465 """"""
وفرقوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم ، فنزل النبي ( حتى أتاها ، فوضع يده عليها ، فسكنت ، فامر بها رسول الله ( فدفنت تحت منبره - أو جعلت في السقف .
ورواه أبو إسماعيل الترمذي ، عن أيوب بن سليمان بن بلال ، عن أبي بكر ابن أبي أويس ، به .
وهذا إسنادٌ جيد ، ورجاله كلهم يخرج لهم البخاري ، الا سعدٍ بن سعيدٍ بن قيس - وهو : اخو يحيى بن سعيدٍ - ؛ فإن البخاري استشهد به ، وخَّرج له مسلم ، وتكلم بعضهم في حفظه .
الحديث الثاني :
918 - نا سعيدٍ بن أبي مريم : أنا محمد بن جعفر بن أبي كثير : أخبرني يحيى بن سعيدٍ : أخبرني ابن أنس : سمع جابر بن عبد الله قال : كان جذع يقوم اليه النبي ( ، فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار ، حتى نزل النبي ( فوضع يده
عليه .
قال سليمان ، عن يحيى : أخبرني حفص بن عبيد الله بن أنس : سمع جابر بن
عبد الله .
روايةٍ سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيدٍ : قد أسندها البخاري في ( ( أعلام النبوة ) ) .
والمقصود من ذكرها هاهنا : أن فيها تسمية ابن أنس الذي ابهم في روايةٍ محمد بن جعفر ، وأنه حفص بن عبيد الله بن أنس .(5/465)
"""""" صفحة رقم 466 """"""
والظاهر : أن البخاري أبهمه في روايةٍ محمد بن جعفر ، لأن محمد بن جعفر سماه : ( ( عبيد الله بن حفص بن أنس ) ) ، ووهم في ذلك - : قاله الدارقطني .
وقد خرّجه الإسماعيلي من طريق سعيدٍ بن أبي مريم ، عن محمد بن جعفر ، عن حفص بن عبيد الله بن أنس على الصواب .
وخرّجه من طريق يعقوب بن محمد : نا عبد الله بن يعقوب بن إسحاق : ثنا
يحيى بن سعيدٍ : حدثني عبيد الله بن حفص بن أنس .
قال يعقوب : وإنما هو : حفص بن عبيد الله ، ولكن هكذا ثنا .
وفي روايةٍ البخاري : التصريح بسماع حفص لهذا الحديث من جابر ، وهذا يرد ما قاله أبو حاتم الرازي : إنه لا يدري : هل سمع من جابر ، أم لا ؟ قال : ولا يثبت له السماع إلا من جده أنس .
ورواه سليمان بن كثير ، عن يحيى بن سعيدٍ ، عن سعيدٍ بن المسيب ، عن جابر ، ووهم في قوله : ( ( سعيدٍ بن المسيب ) ) - : قاله أبو حاتم وأبو زرعة والدار قطني .
و ( ( العشار ) ) : النوق الحوامل ، واحدتها : عشراء ، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر ، فتسمى بذلك حتى تضع ، وبعد أن تضع .(5/466)
"""""" صفحة رقم 467 """"""
وقد خَّرج البخاري هذا الحديث في ( ( الأعلام ) ) من روايةٍ عبد الواحد بن أيمن ، عن أبيه ، عن جابر - نحوه .
الحديث الثالث :
919 - نا آدم : نا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : سمعت النبي ( يقول على المنبر : ( ( من جاء إلى الجمعة فلغتسل ) ) .
والمقصود من هذا : أن النبي ( كان يخطب على المنبر ، ويعلم الناس دينهم
عليه .
ولو جمعت الأحاديث التي فيها ذكر خطب النبي ( على المنبر وكلامه عليه لكانت كثيرة جدا ، وكذلك احاديث اتخاذ المنبر كثيرةٌ - أيضاً .
وقد خَّرج منها البخاري في ( ( دلائل النبوة ) ) من حديث ابن عمر ، قال : كان النبي ( يخطب إلى الجذع ، فلما أتخذ المنبر تحول إليه ، فحن الجذع ، فأتاه فمسح يده عليه .
خرّجه عن محمد بن المثنى : نا يحيى بن كثير أبو غسان : نا أبو حفص - واسمه : عمر بن العلاء ، أخو أبي عمرو بن العلاء - ، قال : سمعت نافعاً ، عن ابن عمر -
فذكره .
ثم قال :
وقال عبد الحميد : أنا عثمان بن عمر : أنا معاذ بن العلاء ، عن نافع ، عن ابن عمر - بهذا .
ورواه أبو عاصم ، عن ابن أبي رواد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي(5/467)
"""""" صفحة رقم 468 """"""
( ? . انتهى .
وعبد الحميد هذا ، قيل : أنه عبد بن حميد .
وقد خرّجه الترمذي عن أبي حفص الفلاس ، عن عثمان بن عمر ويحيى ابن كثير - كلاهما - ، عن معاذ بن العلاء ، عن نافع .
وخرّجه البيهقي من روايةٍ عباسٍ الدوري ، عن عثمان بن عمر ، عن معاذ .
وكذا رواه غير واحدٍ عن عثمان بن عمر .
وخرّجه ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من روايةٍ أبي عبيدة الحداد ، عن معاذ بن العلاء - أيضاً .
وكذا رواه وكيع ويحيى بن سعيدٍ ومعتمر بن سليمان ، عن معاذ بن العلاء .
وليس لأبي حفص عمر بن العلاء ذكر في غير روايةٍ البخاري المسندة ، وقد قيل أنها وهم من محمد بن المثنى .
ولكن خرّجه أبو أحمد الحاكم من روايةٍ عبد الله بن رجاء الغذاني ، عن أبي حفص بن العلاء - أيضاً .
وقد رواه يحيى بن سعيدٍ ومعتمر بن سليمان عن معاذ بن العلاء ، وكنياه : ( ( أبا غسان ) ) .
قال أبو أحمد الحاكم : والله أعلم ، أهما أخوان : أحدهما يسمى : عمر ، والآخر : معاذ ، وحدثا بحديث واحد ؟ أو أحدهما محفوظ ، والآخر غير محفوظ ؟(5/468)
"""""" صفحة رقم 469 """"""
وذكر : أن معاذ بن العلاء أخا أبي عمرو مشهورٌ ، وأن أبا حفص لا يعرفه إلا في هاتين الروايتين . قال : والله أعلم بصحة ذلك . انتهى .
والصحيح في هذا الحديث : معاذ بن العلاء - : قاله أحمد والدارقطني وغيرهما .
وأما روايةٍ أبي عاصم ، عن ابن أبي رواد التي علقها البخاري ، فخرجها أبو
داود ، ولفظ حديثه : أن النبي ( لما بدن ، قال له تميم الداري : ألا أتخذ لك منبراً يارسول الله ، يجمع عظامك ، أو يحمل عظامك ؟ قالَ : ( ( بلى ) ) ، فاتخذ لهُ منبراً
مرقاتين .
ولم يزد على هذا .
وخرّجه البيهقي ، وزاد : ( ( فاتخذ له مرقاتين - أو ثلاثة - ، فجلس عليها .
قال : فصعد النبي ( فحن جذع في المسجد كان النبي ( إذا خطب يستند
إليه ، فنزل النبي ( فاحتضنه ، فقال شيئاً لا أدري ما هو ؟ ثم صعد المنبر ، وكانت اساطين المسجد جذوعاً ، وسقائفه جرائد ) ) .
وعنده - في أوله - : ( ( لما أسن وثقل ) ) .
ورواه عامر بن مدرك ، عن ابن أبي رواد ، عن نافع ، عن تميم الداري - بنحوه ، وفي حديثه : ( ( فصنع له منبراً مرقاتين ، والثالثة مجلس النبي ( فكان النبي ( يخطب قائماً ، فإذا عي قعد فاستراح ، ثم قام فخطب - ووذكر الحديث .
ورواية أبي عاصم أصح .
ومن أغرب سياقات أحاديث اتخاذ المنبر : ما رواه عبد الله بن محمد بن(5/469)
"""""" صفحة رقم 470 """"""
عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه ، قال : كان النبي ( يصلي إلى جذع ، إذ كان المسجد عريشاً ، وكان يخطب إلى ذلك الجذع ، فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله ، هل لك أن نجعل لك شيئاً تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتسمعهم ؟ قالَ :
( ( نعم ) ) ، فصنع له ثلاث درجات التي على المنبر - ثم ذكر حنينه إليه وسكونه بمسحه بيده - ، ثم قال : وكان إذا صلى صلى إليه ، فلما هدم المسجد وغير اخذ ذلك الجذع أبي بن كعب ، فكأن عنده حتى بلي وأكلته الأرضة ، وعاد رفاتاً .
خرّجه الإمام أحمد .
وفي روايةٍ له : أن القائل : ( ( فلما هدم المسجد ) ) - إلى اخره ، هو الطفيل بن أبي بن كعب .
وخرّجه ابن ماجه - بمعناه .
وخرّجه عبد الله بن الإمام أحمد في ( ( زيادات المسند ) ) ، وعنده : أن النبي ( قال له : ( ( أن تشأ غرستك في الجنة فياكل منك الصالحون ، وإن تشأ أعيدك كما كنت حطباً ) ) فاختار الآخرة على الدنيا ، فلما قبض النبي ( دفع إلى أبي ، فلم يزل عنده حتى أكلته الأرضة .
وقد خرّجه الطبراني بنحو هذه الزيادة ، بإسناد ضعيف ، عن عائشة ، وفيه : أن المنبر كان أربع مراقٍ . وفي آخره : أن الجذع غار فذهبَ .(5/470)
"""""" صفحة رقم 471 """"""
وفي ( ( مسند البزار ) ) ، بإسناد لا يصح ، عن [ . . . ] معاذ ، عن النَّبيّ ( ، قالَ : ( ( إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم ، وان اتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم ) ) .
وقد أنكره أبو حاتم الرازي وغيره .
وقد قالَ بعض السلف : إن إبراهيم - عليهِ السلام - هوَ أول من خطب على المنابر .
والصحيح : أن المنبر كانَ ثلاث مراق ، ولم يزل على ذَلِكَ في عهد خلفائه الراشدين ، ثُمَّ زاد فيهِ معاوية .
وقد عد طائفةٌ من العلماء : تطويل المنابر من البدع المحدثة ، منهم : ابن بطة من أصحابنا وغيره .
وقد روي في حديث مرفوع : أن ذَلِكَ من أشراط الساعة ، ولا يثبت إسناده .
وكره بعض الشافعية المنبر الكبير جداً ، إذا كانَ يضيق به المسجد .(5/471)
"""""" صفحة رقم 472 """"""
- باب الخطبة قائما
وقال أنس : بينا النبي ( يخطب قائماً .
حديث أنس ، هو الذي فيه ذكر الاستسقاء في الجمعة ، وسيأتي - أن شاء الله سبحانه وتعالى - فيما بعد .
920 - حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري : نا خالد بن الحارث : نا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كان النبي ( يخطب قائماً ، ثم يقعد ، ثم يقوم كما يفعلون الان .
وفي الخطبة قائماً احاديث أخر .
وخَّرج مسلم من حديث سماك ، عن جابر بن سمرة ، قال : كان رسول الله ( يخطب قائماً ، ثم يجلس ، ثم يقوم فيخطب قائماً ، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب ، فقد - والله - صليت معه أكثر من ألفي صلاةٍ .
وخَّرج مسلم بإسناده من حديث كعب بن عجرة ، أنه دخل المسجد
وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً ، فقال : انظروا الخبيث ، يخطب قاعداً ، وقد قال الله تعالى : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً ( [ الجمعة : 11 ] .
وخرّج ابن ماجه من حديث إبراهيم ، عن علقمة ، عن ابن مسعودٍ ، أنه(5/472)
"""""" صفحة رقم 473 """"""
سئل : أكان رسول الله ( يخطب قائماً أو قاعداً ؟ قالَ : إما تقرأ ( تَرَكُوكَ قَائِماً ( [ الجمعة : 11 ] ؟
وهذا إسنادٌ جيد .
لكن روي ، عن إبراهيم ، عن علقمة من قوله . وعن إبراهيم ، عن عبد الله منقطعاً .
واستدل بهذه الآية على القيام في الخطبة جماعة ، منهم : ابن سيرين ، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعودٍ .
وإنما احتاجوا إلى السؤال عن ذلك ، لأنه كان في زمن بني امية من يخطب
جالساً ، وقد قيل : أن أول من جلس معاوية - : قاله الشعبي والحسن وطاوس .
وقال طاوس : الجلوس على المنبر يوم الجمعة بدعة .
وقال الحسن : كان النبي ( وأبو بكر وعمر وعثمان يخطبون قياماً ، ثم أن عثمان لما رق وكبر كان يخطب ، فيدركه ما يدرك الكبير فيستريح ولا يتكلم ، ثم يقوم فيتم خطبته .
خرّجه القاضي إسماعيل .
وخَّرج - أيضاً - من روايةٍ ابن جريجٍ ، عن عطاءٍ ، أنه قال : أول من جعل في الخطبة جلوساً عثمان ، حين كبر واخذته الرعدة جلس هنية ، قيل له : هل كان يخطب عمر إذا جلس ؟ قال : لا أدري .
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز ، أنه كان يخطب الخطبة الأولى جالساً ، ويقوم في الثانية .
خرّجه ابن سعدٍ .
والظن به أنه لم تبلغه السنة في ذلك ، ولو بلغته كان أتبع الناس لها .(5/473)
"""""" صفحة رقم 474 """"""
وقد قيل : أن ذلك لم يصح عنه ؛ فإن الأثرم حكى : أن الهيثم بن خارجة قال لأحمد : كان عمر بن عبد العزيز يجلس في خطبته ؟ قال : فظهر منه أنكار لذلك .
ورواية ابن سعدٍ له عن الواقدي ، وهو لا يعتمد .
وقد روي عن ابن الزبير - أيضاً - الجلوس في الخطبة الأولى - أيضاً .
خرّجه القاضي إسماعيل .
واختلف العلماء في الخطبة جالساً : فمنهم من قال : لا يصح ، وهو قولُ
الشافعي ، وحكى روايته عن مالكٍ وأحمد .
وقال ابن عبد البر : اجمعوا على أن الخطبة لا تكون إلا قائماً لمن قدر على القيام .
ولعله أراد إجماعهم على استحباب ذلك ؛ فإن الاكثرين على أنها تصح من
الجالس ، مع القدرة على القيام ، مع الكراهة . وهو قولُ أبي حنيفة ومالك ، والمشهور عن أحمد ، وعليه أصحابه ، وقول إسحاق - أيضاً .(5/474)
"""""" صفحة رقم 475 """"""
- باب يستقبل الإمام القوم
واستقبال الناس الإمام إذا خطب
واستقبل ابن عمر وأنس الإمام .
921 - حدثنا معاذ بن فضالة : نا هشام ، عن يحيى ، عن هلال بن أبي ميمونة : نا عطاءٍ بن يسار : سمع أبا سعيدٍ الخدري : أن النبي ( جلس ذات يوم على المنبر ، وجلسنا حوله .
هذا أول حديث طويل ، ذكر فيه قولُ النبي ( : ( ( إنما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ) ) ، وضرب مثل الدنيا بنبات الربيع .
وهو حديث عظيم ، قد خرجاه بتمامه في ( ( الصحيحين ) ) من حديث هشام الدستوائي .
وهذا لم يكن في خطبة الجمعة ؛ لأن النبي ( لم يكن يجلس في خطبة الجمعة .
وأما ما ذكره عن ابن عمر وأنس .
فمن طريق ابن عجلان ، عن نافع ، أن ابن عمر كان يفرغ من سبحته يوم الجمعة قبل خروج الإمام ، فاذا خَّرج لم يقعد الإمام حتى يستقبله .(5/475)
"""""" صفحة رقم 476 """"""
ومن طريق ابن المبارك ، قال : قال أبو الجويرية : رأيت أنس بن مالك إذا أخذ الإمام يوم الجمعة في الخطبة يستقبله بوجهه حتى يفرغ الإمام من الخطبة .
وقال يحيى بن سعيدٍ الأنصاري : هو السنة .
وقال الزهري : كان النبي ( إذا أخذ في خطبة استقبلوه بوجوههم .
خرجها البيهقي .
وخَّرج الأثرم من حديث الضحاك بن عثمان ، عن نافع ، أن ابن عمر كان يتهيأ للإمام قبل أن يخرج ، ويتوجه قبل المنبر .
وروى وكيع ، عن العمري ، عن نافع ، أن ابن عمر كان يستقبل الإمام يوم الجمعة إذا خطب .
وفي الباب أحاديث مرفوعة متصلة ، لا تصح أسانيدها - : قاله الترمذي ، وقد ذكرتها بعللها في ( ( شرح الترمذي ) ) .
وذكر الترمذي : أن العمل على ذلك عند أهل العلم من الصحابة وغيرهم : يستحبون استقبال الإمام إذا خطب ، قال : وهو قولُ سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق .
وقال ابن المنذر : هو كالإجماع .
وروي عن الشعبي ، قال : هو السنة .
وقد تقدم مثله عن يحيى بن سعيدٍ ، وكذا قال مالكٍ .
وقال ابن عبد البر : لا أعلمهم يختلفون فيه .
وقال عمر بن عبد العزيز : كل واعظ قبلة .
يعني : أنه يستقبل كما تستقبل القبلة .(5/476)
"""""" صفحة رقم 477 """"""
وقد روي عن بعض التابعين : أنه يستقبل القبلة حال الخطبة . وهو محمول على إنهم كانوا يفعلونه مع أمير ظالم يسب السلف ، ويقول ما لا يجوز استماعه ، وكانوا قد ابتلوا بذلك في زمن بني أمية .
والأكثرون على إنهم إنما يستقبلوه في حال الخطبة ، وهو قولُ أحمد .
وقال إسحاق : يستقبلونه إذا خرج ، وهو قولُ أبي بكر بن جعفر من أصحابنا .
وقال الأوزاعي : يغفى بصره ، ويلقي السمع ، فإن نظر إلى الإمام فلا حرج .
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود من حديث علي : سمع النبي ( يقول - وذكر يوم الجمعة - : ( ( إذا جلس الرجل مجلساً يستمكن فيه من الإستماع والنظر ، فأنصت ولم يلغ كان له كفلان من الأجر ) ) .
وفي إسناده من ليس بمشهورٍ .
وخرّج ابن سعدٍ بأسانيد له متعددةً حديثاً طويلاً ، فيه : أن النبي ( كان إذا خطب استقبله الناس بوجوههم ، وأصغوا بأسماعهم ، ورمقوه بأبصارهم .
وهذا لا يصح . والله أعلم .
أما استقبال الإمام أهل المسجد واستدباره القبلة فمجمع عليه - أيضاً - ، والنصوص تدل عليه - أيضاً - ؛ فإنه يخاطبهم ليفهموا عنه - أيضاً .
وذلك كله سنة ، فلو خالفها الإمام فقد خالف السنة ، وصحت جمعته .
ولأصحاب الشافعي وجه صعيف : أنها لا تصح . والله أعلم .(5/477)
"""""" صفحة رقم 478 """"""
- باب من قال في الخطبة بعد الثناء : ( ( أما بعد )
رواه عكرمة ، عن ابن عباسٍ ، عن النبي ( .
حديث عكرمة ، عن ابن عباسٍ قد أسنده في آخر الباب ، فلا أدري لأي معنى علقه في اوله ؟
وقد ذكر أبو نعيم في ( ( مستخرجه ) ) هذا في الباب الذي قبله .
قال :
922 - وقال محمود : نا أبو أسامة : نا هشام بن عروة : أخبرتني فاطمة ابنة
المنذر ، عن أسماء ابنة أبي بكر ، قالت : دخلت على عائشة والناس يصلون .
فذكرت حديث الكسوف ، وفيه :
قالت : ثم انصرف رسول الله ( وقد تجلت الشمس ، فحمد الله واثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : ( ( إما بعد ) ) - وذكر بقيةٌ الحديث .
هكذا ذكره هنا تعليقاً عن محمود - وهو : ابن غيلان - ، عن أبي اسامة .
وذكر بعضه في ( ( الكسوف ) ) تعليقاً - أيضاً - عن أبي أسامة .
وأسند الحديث في ( ( كتاب : العلم ) ) من حديث وهيب . وفي ( ( الكسوف ) ) وغيره من حديث مالكٍ - كلاهما - ، عن هشام ، وليس في حديثهما : ذكر : ( ( أما بعد ) ) .
وخرّج مسلم الحديث بهذه اللفظة من طريق ابن نمير وأبي أسامة - كلاهما -(5/478)
"""""" صفحة رقم 479 """"""
عن هشام ، به .
ثم قال البخاري :
923 - نا محمد بن معمر : نا أبو عاصم ، عن جريرٍ بن حازم ، قال : سمعت الحسن : نا عمرو بن تغلب ، أن رسول الله ( اتي بمال - أو سبي - ، فقسمه ، فاعطى رجالاً وترك رجلاً ، فبلغه أن الذين ترك عتبوا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ( ( أما بعد ، فوالله ، إني لأعطي الرجل والذي أدع أحب الي من الذين أعطي ) ) . وذكر
الحديث .
سماع الحسن من عمرو بن تغلب مختلف فيه ، فأثبته أبو حاتم والبخاري ، ونفاه علي بن المديني شيخ البخاري .
وكذلك يحيى بن معين - فيما نقله عنه جعفر بن محمد بن أبان الحراني - ، قال : لم يسمع منه ، ولم يرو حديثه إلاّ جريرٍ بن حازم ، وليس بشيء .
واختلف عن أحمد :
فنقل عنه ابنه صالح ، قال : سمع الحسن من عمر بن تغلب أحاديث .
ونقل عنه ابنه عبد الله ، قال : كانت سجية في جريرٍ بن حازم : نا الحسن ، نا عمرو بن تغلب ، وأبو الأشهب يقول : عن الحسن ، قال : بلغني أن النبي ( قال لعمرو بن تغلب .
يريد : أن قول جريرٍ بن حازم : نا الحسن : نا عمرو بن تغلب كانت عادة له ، لا يرجع فيها إلى تحقيق .
وقد ذكر أبو حاتم نحو هذا في أصحاب بقيةٌ بن الوليد ، أنهم يروون عنه ،(5/479)
"""""" صفحة رقم 480 """"""
عن شيوخه ، ويصرحون بتحديثه عنهم ، من غير سماع له منهم .
وكذلك قال يحيى بن سعيد القطان في فطر بن خليفة : أنه كان يقول : ( ( ثنا فلان بحديث ) ) ، ثم يدخل بينه وبينه رجلاً أخر ، كان ذلك سجية منه .
ذكره العقيلي في ( ( كتابه ) ) .
وكذا ذكر الإسماعيلي : أن أهل الشام ومصر يتسامحون في قولهم : ( ( ثنا ) ) من غير صحة السماع ، منهم : يحيى بن أيوب المصري .
وقال :
924 - نا يحيى بن بكير : نا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب : أخبرني عروة ، أن عائشة - رضي الله عنها - اخبرته ، أن رسول الله ( خَّرج ليلة من جوف الليل ، فصلى في المسجد ، فصلى رجال بصلاته .
فذكره ، وفيه :
فلما قضى الفجر اقبل على الناس ، فتشهد ، ثم قال : ( ( أما بعد ، أنه لم يخف علي مكانكم ، لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها ) ) .
تابعه : يونس .
يعني : عن الزهري ، في لفظه : ( ( أما بعد ) ) ، وهو من روايةٍ ابن وهبٍ ، عن يونس .
ورواه مالكٍ عن الزهري ، لم يذكر فيه هذه اللفظة .
وخرّج البخاري حديثه في موضع آخر .(5/480)
"""""" صفحة رقم 481 """"""
ثم قال :
925 - نا أبو اليمان : أنا شعيب ، عن الزهري : أخبرني عروة ، عن أبي حميد الساعدي ، أنه أخبره أن رسول الله ( قام عشية بعد الصلاة ، فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : ( ( أما بعد ) ) .
تابعه : أبو معاوية وأبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن أبي حميد الساعدي ، عن النبي ( ، قال : ( ( أما بعد ) ) .
وتابعه : العدني ، عن سفيان .
هذا قطعة من حديث بعث ابن اللتبية على الصدقة ، وقد خرّجه في مواضع تأتي - أن شاء الله سبحانه وتعالى .
وخرّجه في ( ( الأحكام ) ) بتمامه من طريق عبدة ، عن هشام ، وفيه : فقام
رسول الله ( يخطب الناس ، فحمد الله واثنى عليه ، ثم قال : ( ( أما بعد ، فإني استعمل رجالاً منكم ) ) - وذكر الحديث .
وقد ذكر أن هذه اللفظة ذكرها في الحديث : أبو معاوية وأبو أسامة .
وقد خرّجه في ( ( الزكاة ) ) من طريق أبي أسامة ، فاختصره ولم يتمه .
وخرّجه مسلم من طريق أبي أسامة بتمامه ، وفيه ( ( أما بعد ) ) .
وخرّجه مسلم - أيضاً - من روايةٍ أبي معاوية ، ولم يسق لفظ حديثه بتمامه . وكذلك خرّجه عن العدني ، عن سفيان ، ولم يسقه بلفظه .(5/481)
"""""" صفحة رقم 482 """"""
ثم قال :
926 - نا ابواليمان : أنا شعيب ، عن الزهري : حدثني علي بن الحسين ، عن المسور بن مخرمة ، قال : قام رسول الله ( ، فسمعته حين تشهد يقول : ( ( أما بعد ) ) .
تابعه : الزبيدي ، عن الزهري .
والحديث مختصر من قصة خطبة علي لابنة أبي جهل ، وقيام النبي ( خطيباً ، فذكر فضل فاطمة عليها السلام .
وقد خرّجه بتمامه في ( ( مناقب فاطمة ) ) .
وذكره متابعة الزبيدي ، لأن جماعة من أصحاب الزهري رووا الحديث ، فلم يذكروا فيه : لفظة : ( ( أما بعد ) ) .
وللمسور حديث آخر في المعنى ، في قصة قدوم هوازن وإسلامهم ، ورد سبيهم عليهم .
خرّجه البخاري في ( ( الهبة ) ) من روايةٍ الزهري ، عن عروة ، عن المسور بن
مخرمة ، أن النبي ( حين جاءه وفد هوزان قام في الناس ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : ( ( أما بعد ، فإن أخوانكم جاءونا تائبين ) ) - الحديث .
ثم قال :
927 - ثنا إسماعيل بن ابان - هو : الوراق - : نا ابن الغسيل - واسمه : عبد الرحمن بن سليمان - : نا عكرمة ، عن ابن عباسٍ ، قال : صعد النبي ( المنبر - وكان أخر مجلس جلسه - متعطفاً ملحفة على منكبه ، قد عصب رأسه(5/482)
"""""" صفحة رقم 483 """"""
بعصابة دسمة ، فحمد الله وأثنى
عليه ، ثم قال : ( ( أيها الناس ، إلي ) ) ، فثابوا اليه ، ثم قال : ( ( أما بعد ، فإن هذا الحي من الأنصار يقلون ويكثر الناس ، فمن ولي شيئاً من أمة محمد ( فاستطاع أن يضر فيه أحداً أو ينفع فيه أحداً ، فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم ) ) .
وفي الباب أحاديث أخر .
وقد خَّرج البخاري في ( ( المغازي ) ) حديث عائشة في قصة الافك بطولها ، وفيه : فتشهد رسول الله ( حين جلس ثم قال : ( ( أما بعد ، يا عائشة ، فإنه بلغني عنك كذا وكذا ) ) - الحديث .
وخرّجه في موضع أخر ، وليس فيه : ( ( أما بعد ) ) .
وخرّج مسلم في ( ( صحيحه ) ) من حديث جريرٍ البجلي ، قال : ( ( كنت جالساً عند النبي ( ، فأتاه قوم مجتابي النمار ، فصلى الظهر ، ثم صعد منبراً صغيراً ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ( ( إما بعد ؛ فإن الله أنزل في كتابه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ( [ النساء : 1 ] - ) ) وذكر الحديث في الحثّ على الصدقة .
وخرّجه من طريق أخرى ، ليس فيها لفظه : ( ( أما بعد ) ) .
وخرّج - أيضاً - من حديث سعيدٍ بن جبير ، عن ابن عباسٍ ، أن ضماداً قدم على النبي ( ، فقال : يا محمد ، إني أرقي من هذه الريح ، وان الله يشفي على يدي من
يشاء ، فهل لك ؟ فقالَ رسول الله ( : ( ( الحمد لله(5/483)
"""""" صفحة رقم 484 """"""
نستعينه ، من يهده الله فلا مضل
له ، ومن يضلل فلا هادي له ، واشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد ) ) .
فدلت هذه الأحاديث كلها على أن الخطب كلها ، سواء كانت للجمعة أو
لغيرها ، وسواء كانت على المنبر أو على الأرض ، وسواء كانت من جلوس أو قيام ، فإنها تبتدا بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله ، ثم يذكر بعد ذلك ما يحتاج إلى ذكره من موعظة أو ذكر حاجة يحتاج إلى ذكرها ، ويفصل بين الحمد والثناء ، وبين ما بعده بقوله : أما بعد .
وقد قيل : أن هذه الكلمة فضل الخطاب الذي أوتيه داود - عليه السلام - ، وقد سبق ذكر ذلك في أول الكلام في الكلام على حديث كتاب النبي ( إلى هرقل : ( ( أما بعد ؛ فاني ادعوك بدعاية الإسلام ) ) .
والمعنى في الفصل بأما بعد : الإشعار بأن الأمور كلها وان جلت وعظمت فهي تابعة لحمد الله والثناء عليهِ ، فذاك هوَ المقصود بالاضافة ، وجميع المهمات تبع له من أمور الدين والدنيا .
ولهذا قال النبي ( : ( ( كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع ) ) ، وفي روايةٍ : ( ( أجذم ) ) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة .
وقد روي مرسلاً .
فالحمد لله متقدم على جميع الكلام ، والكلام كله متأخر عنه وتبع له .(5/484)
"""""" صفحة رقم 485 """"""
ولا يستثنى مما ذكرناه من الخطب إلا خطبة العيد ، فقد قيل : إنها تستفتح
بالتكبير .
وقد روى عن أبي موسى الأشعري ، أنه استفتح خطبتي العيدين بالحمد ، ثم كبر بعد الحمد . وهو الأظهر .
وكذا قيل في خطبة الاستسقاء .
ومن الناس من قال : تستفتح بالحمد - أيضاً .
وقد ذكر بعض ائمة الشافعية : أن الخطب كلها تستفتح بالحمد بغير خلافٍ ، وإنما التكبير في العيد يكون قبل الخطبة ، وليس منها ، وإن ذلك نص الشافعي .
وكذا ذكر طائفةٌ من أصحابنا : أن ظاهر كلام أحمد أنه يكبر إذا جلس على المنبر قبل الخطبة ، وأنه ليس من الخطبة ، فإذا قام استفتح الخطبة بالحمد .
وذكروا : قولُ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : يكبر الإمام على المنبر يوم العيد قبل الخطبة تسعاً ، وبعدها سبعاً .
فأما خطبة الجمعة ، فلا خلاف أنها تستفتح بالحمد .
وخرّجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) من حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر ، قال : كان رسول الله ( إذا خطب أحمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش ، يقول : ( ( صبحكم ومساكم ) ) ، ويقول ( ( بعثت أنا والساعة
كهاتين ) ) ، ويقرن بين أصبعيه : السبابة والوسطى ، ويقول : ( ( أما بعد ؛ فإن خيرٌ الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة
ضلالة ) ) ، ثم يقول : ( ( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، من ترك مالاً فلأهله ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي ) ) .(5/485)
"""""" صفحة رقم 486 """"""
وفي روايةٍ له - أيضاً - بهذا الإسناد : كانت خطبة النبي ( يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه ، ثم يقول على إثر ذلك ، وقد علا صوته - ثم ساق الحديث بمثله .
وفي روايةٍ له - أيضاً - : كان النبي ( يخطب الناس ، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ، ثم يقول : ( ( من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وخير الحديث كتاب الله ) ) - ثم ساق الحديث بمثل الرواية الأولى .
وقد أن النبي ( يأمر بهذه الخطبة لكل من له حاجة ، أن يبدأ بها قبل ذكر
حاجته ، كما خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن مسعودٍ ، قال : علمنا رسول الله ( خطبة الحاجة : ( ( إن الحمد لله نستعينه ونستغفرة ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، واشهد أن لا إله الا الله ، واشهد أن محمداً عبده ورسوله ، ( يا ايها الذين امنوا اتقوا الله الذي تساءلون به والارحام أن الله كان عليكم رقيبا ( ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (
[ آل عمران : 102 ] ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا ( - إلى قوله - : ( فَوْزاً عَظِيماً ( [ الأحزاب : 7107 ] .
وهذا لفظ أبي داود .
وفي روايةٍ له : ( ( الحمد لله ) ) ، بغير ( ( إن ) ) ، وهي روايةٍ الأكثرين .
وفي روايةٍ له : ( ( في خطبة الحاجة في النكاح وغيره ) ) .
وعند ابن ماجه : ( ( الحمد لله نحمده ، ونستعينه ونستغفرة ، ونعوذ بالله من(5/486)
"""""" صفحة رقم 487 """"""
شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ) ) - وذكر الحديث ، وفيه : زيادة : ( ( وحده لا شريك
له ) ) .
وحسن الترمذي هذا الحديث ، وصححه جماعة ، منهم : ابن خراش وغيره .
وخرّج النسائي في ( ( اليوم والليلة ) ) من حديث أبي موسى ، عن النبي ( ( ( فإن شئت أن تصل خطبتك بآيٍ من القرآن ) ) - فذكر آلايات الثلاث ، ثم قال : ( ( أما بعد ، ثم يتكلم بحاجته ) ) .
وخرّجه أبو داود من وجه آخر ، عن ابن مسعودٍ ، عن النبي ( ، أنه كان إذا تشهد قال : ( ( الحمد لله ) ) - فذكره كما تقدم ، زاد فيه - بعد قوله : ( ( وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ) ) - : ( ( أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة ، من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ، ولا يضر الله شيئاً ) ) .
وروى أبو مالكٍ الأشجعي ، عن نبيط بن شريط ، أنه سمع النبي ( يخطب عند الجمرة فقال : ( ( الحمد لله نحمده ، ونستعينه ونستغفرة ، وأشهد أن لا إله الا الله ، وان محمداً عبده ورسوله ، واوصيكم بتقوى الله ) ) - وذكر الحديث .
وخرّج أبو داود في ( ( مراسليه ) ) من روايةٍ يونس ، عن ابن شهاب ، أنه سأله عن تشهد النبي ( يوم الجمعة ؟ فقالَ ابن شهاب : ( ( أن الحمد لله وحده واستعينه
واستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، من يهده الله فلا مضل لهُ ،(5/487)
"""""" صفحة رقم 488 """"""
ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله الا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة ، من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعص الله فقد غوى ، نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ، ويطيع رسوله ، ويتبع رضوانه ، ويجتنب سخطه ؛ فإنما نحن به وله ) ) .
وخرّجه في ( ( السنن ) ) مختصراً .
وخرّجه في ( ( المراسيل ) ) - أيضاً - من روايةٍ عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : كان صدرخطبة رسول الله ( : ( ( الحمد لله نحمده ، ونستعينه ونستغفره ) ) - فذكره بمثله .
ومن روايةٍ يونس ، عن ابن شهاب ، قال : بلغنا عن رسول الله ( ، أنه كان يقول إذا خطب : ( ( كل ما هو آت قريب ، لا بعد لما هو آت ، لا يعجل الله فيعجله أحد ، ولا يخف لامر الناس ، ما شاء الله لا ما شاء الناس ، يريد الناس أمراً ، ويريد الله أمراً ، ما شاء الله كان ، ولو كره الناس ، ولا مبعد لما قرب الله ، ولا مقرب لما بعد الله ، لا يكون شيء إلا بإذن الله عز وجل ) ) .
ومن طريق هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنه قال : كان أكثر ما كان رسول الله ( يقول على المنبر : ( ( أتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ) ) .
وفي خطب النبي ( أحاديث أخر مرسلة ، يطول ذكرها .
فظهر بهذا : أن خطبة النبي ( كانت تشتمل على حمد الله والثناء عليه بما هو
أهله ، وعلى الشهادة لله بالتوحيد ، ولمحمد بالرسالة .(5/488)
"""""" صفحة رقم 489 """"""
وقد خرّج أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة ، عن النبي ( ، أنه قال : ( ( كل خطبة ليس فيها تشهدٌ فهي كاليد الجذماء ) ) .
ورجاله ثقاتٌ .
وأنه ( كان يعظ الناس ويذكرهم بالله وبوحدانيته ، وتفرده بالربوبية والمشيئة ، ويحثهم على تقواه وطاعته .
وكان - غالباً - يفصل بين التحميد وتوابعه من الشهادتين ، وما بعد ذلك من الوعظ والأمر والنهي ، بقوله : ( ( أما بعد ) ) .
وكان - أيضاً - يتلو من القرآن في خطبته .
وفي ( ( الصحيحين ) ) عن يعلى بن أمية ، أنه سمع النبي ( يقرأ على المنبر :
( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ ( [ الزخرف : 77 ] .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) ، أن النبي ( كان يقرأ كل جمعةٍ على المنبر ، إذا خطب الناس : ( ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ ( [ ق : 1 ] .
وفيه - أيضاً - ، عن جابر بن سمرة ، أن النبي ( كانت له خطبتان ، يجلس
بينهما ، يقرأ القرآن ، ويذكر الناس .
وخرّجه النسائي ، ولفظه : ( ( كان النبي ( يخطب قائماً ، ثم يجلس ، ثم يقوم ، ويقرأ آيات ، ويذكر الله ) ) .
وترجم عليه : ( ( القراءة في الخطبة الثانية والذكر فيها ) ) .(5/489)
"""""" صفحة رقم 490 """"""
وخرّجه ابن ماجه ، ولفظه : ( ( ثم يقوم فيقرأ آياتٍ ) ) .
فإن كان ذلك محفوظاً فهو صريح فيما بوب عليه النسائي .
وظاهر كلام الخرقي من أصحابنا يدل على مثله - أيضاً .
وفي القراءة في الخطبة أحاديث كثيرةٌ :
وروى ابن لهيعة : حدثني أبو صخر - وهو : حميد بن زياد - ، عن نافعٍ ، عن ابن عمر ، أن النبي ( لم يكن يدع قراءة سورة الأعراف في كل جمعةٍ .
خرّجه ابن عدي .
فإن كان هذا محفوظاً فلعله كان يواظب على ذلك ؛ لما فيها من قوله : ( وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ( الأعراف : 204 ) فيكون مقصوده : الأمر بالاستماع والانصات للخطبة والموعظة .
وقد قال الإمام أحمد : أجمعوا أن هذه الآية نزلت في الصلاة ، وفي الخطبة .
وكان عثمان بن عفان يأمر في خطبته بالإنصات ؛ ولهذا اعتاد الناس في هذه الأزمان أن يذكروا قبل الخطبة بين يدي الخطيب بصوت عال يسمع الناس حديث أبي هريرة في الأمر بالإنصاف ، كما سيأتي ذكره - أن شاء الله سبحانه وتعالى .
وكان مع ذلك مقتصداً في خطبته ولا يطيلها ، بل كانت صلاته قصداً وخطبته قصداً .(5/490)
"""""" صفحة رقم 491 """"""
خرّجه مسلم من حديث جابر بن سمرة .
وخَّرج - أيضاً - من حديث عمار ، عن ] النبي ( : قال [ : ( ( أن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه ، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة ؛ فإن من البيان سحراً ) ) .
ولم ينقل عنه ( أنه كان يصلي على نفسه في الخطبة ، بل كان يشهد لنفسه بالعبودية والرسالة ؛ ولكن روي عنه الأمر بالإكثار من الصلاة عليه في يوم الجمعة وليلة الجمعة ، وان الصلاة عليه معروضة عليه .
وقد روي في حديث مرسل ، رواه ابن إسحاق ، عن المغيرة بن عثمان بن محمد بن الاخنس ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، قال : أول خطبة خطبها رسول الله ( بالمدينة ، أن قام فيهم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : ( ( أما بعد ، ايها الناس ، فقدموا لأنفسكم ، تعلمن والله ، ليصعقن أحدكم ، ثم ليدعن غنمه ، ليس لها راع ، ثم ليقولن له ربه - ليس له ترجمانٌ ، ولا حاجب يحجبه دونه - : ألم يأتك رسولي ، فيبلغك ، وآتيتك مالاً ، وأفضلت ، فما قدمت لنفسك ؟ فينظر يميناً وشمالا ، فلا يرى شيئاً ، ثم ينظر قدامه ، فلا يرى غير جهنم ، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ، ومن لم يفعل فبكلمة طيبة ؟ فإن بها تجزئ الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، والسلام على رسول الله ورحمته وبركاته ) ) .
فالصلاة والسلام عليه في الخطبة يوم الجمعة حسنٌ متأكد الاستحباب ، لكن لا يظهر أنه تبطل الخطبة بتركه ، بل الواجب الشهادتان مع الحمد والموعظة .
وأما القراءة ، فالأكثرون على وجوبها في الخطبة ، وهو المشهور عن(5/491)
"""""" صفحة رقم 492 """"""
أحمد . وحكي عنه روايةٍ ، أنها مستحبةٌ غير واجبةٍ .
واكثر أصحابنا على ايجاب الصلاة علىالنبي ( ، ومنهم من قال : الواجب الشهادة له بالرسالة والعبودية .
وفي وجوب ذلك كله - في كل واحدة من الخطبتين - نظر ، والأشهر عند أصحابنا : وجوبه .
وظاهر كلام الخرقي : أن الموعظة تكون في الخطبة الثانية .
ولأصحابنا وجه في القراءة ، أنها تجب في احدى الخطبتين .
والمنصوص عن أحمد : ما نقله عنه محمد بن الحكم ، وقد سأله عن الرجل يخطب يوم الجمعة ، فيكبر ، ويصلي على النبي ( ، ويحمد الله ، تكون خطبةً ؟ وقلت له : إن أصحاب ابن مسعودٍ يقولون : إذا كبر ، وصلى ] على [ النبي ( ، وحمد الله ، تكون خطبةً ؟ قال : لا تكون خطبةً ، إلا كما خطب النبي ( ، أو خطبةً تامةً .
وهذا يدل على أنه لا بد من ذلك من موعظةٍ .
وقد صرح به في روايةٍ حنبل ، فقال : كان النبي ( إذا خطب وعظ فأنذر وحذر الناس .
فهذا تفسير قوله : لا تكون خطبةً إلا كما خطب النبي ( .
ومذهب الشافعي وأصحابه : لا يصح . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(5/492)
"""""" صفحة رقم 493 """"""
35 - باب
الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة
933 - حدثنا إبراهيم بن المنذر : ثنا الوليد : ثنا أبو عمرو : حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالكٍ ، قال : اصابت الناس سنةٌ على عهد النبي ( ، فبينا ( يخطب في يوم جمعةٍ قام أعرابيٌ ، فقال : يا رسول الله ، هلك المال ، وجاع العيال ، فادع الله لنا ، فرفع يديه - وما نرى في السماء قزعة - ، فوالذي نفسي بيده ، ما وضعها حتى ثار السحاب امثال الجبال ، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته ( ، فمطرنا يومنا ذلك ، ومن الغد ، وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى . وقام ذلك الأعرابي - أو قال : غيره - ، فقال : يا رسول الله ، تهدم البناء ، وغرق المال ، فادع الله لنا ، فرفع يديه فقال : ( ( اللهم ، حوالينا ، ولا علينا ) ) . فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب الا انفرجت ، وصارت المدينة مثل الجوبة وسال الوادي - قناة - شهراً ، ولم يجئ أحد من ناحية الا حدث بالجود ) ) [ .
باهرة من آيات النبوة ومعجزاتها .
و ( ( لجوبة ) ) - بفتح الجيم - : الفجوة بين البيوت ، والفجوة متسع في الأرض - وغيرها - فارغ .
وقال الخطابي : المراد بالجوبة : الترس . قال : وفي حديث أخر :(5/493)
"""""" صفحة رقم 494 """"""
( ( فبقيت المدينة كالترس ) ) ، والمراد : أنها بقيت في استدارتها غير ممطورةٍ .
ورواه بعضهم : ( ( الجونة ) - بالنون - ، وهو تصحيفٌ .
والمراد : أن السحاب انكشط عن المدينة وبقي على ما حولها .
وهذا يدل على أن القائم إليه في الجمعة الثانية كان من أهل المدينة ، وأنه شكا ضررهم ؛ ولذلك لم يدع برفع المطر عن غيرهم .
و ( ( قناة ) ) : اسم وادٍ بالمدينة ، تجري عند السيول و ( ( الجود ) ) - بفتح الجيم - : المطر العظيم .(5/494)
"""""" صفحة رقم 495 """"""
36 - باب
الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب
وإذا قال لصاحبه : ( ( أنصت ) ) ، فقد لغا
وقال سلمان ، عن النبي ( : ( ( وينصت إذا تكلم الإمام ) ) .
حديث سلمان ، خرّجه البخاري فيما تقدم في موضعين .
934 - حدثنا يحيى بن بكير : نا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب : أخبرني سعيدٍ بن المسيب ، أن أبا هريرة أخبره ، أن رسول الله ( قال : ( ( إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة : انصت - والإمام يخطب - فقد لغوت ) ) .
حدثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالكٍ ، عن أبي الزناد ، عن الاعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( قال : ( ( إذا قلت لصاحبك : أنصت ، فقد لغوت ) ) .
هذا الحديث الثاني ، يوجد في بعض روايات هذا الكتاب ، ولا يوجد في أكثرها .
الفضل في الجمعة ، وحصول التكفير بها مشروط بشروط ، منها : أن يدنو من الإمام ، ويستمع وينصت ، ولا يلغو .
وقد ورد ذلك في أحاديث متعددة ، قد ذكرنا بعضها فيما تقدم .
و ( ( اللغو ) ) : هو الكلام الباطل المهدر ، الذي لا فائدة فيه .
ومنه : لغو اليمين ، وهو مالا يعبأ به ولا ينعقد .
ومنه : قوله تعالى : ( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاما ( ( الفرقان : 72 ) ، وقوله ( لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً ( ( النبأ : 35 ) .(5/495)
"""""" صفحة رقم 496 """"""
وقد جعل النبي ( في هذ الحديث الأمر بالإنصات في حال الخطبة لغواً ، وإن كان أمر بمعروف ونهيا عن منكرٍ ، فدل على أن كل كلام يشغل عن الاستماع والإنصات فهو في حكم اللغو ، وإنما يسكت المتكلم بالإشارة .
وكان ابن عمر يشير اليه ، وتارة يحصبه بالحصى .
وكره علقمة رميه بالحصى .
ولا خلاف في جواز الإشارة اليه بين العلماء ، الا ما حكي عن طاوس وحده ، ولا يصح ؛ لأن الإشارة في الصلاة جائزةٌ ، ففي حال الخطبة اولى .
وروى أنس ، أن رجلاً دخل المسجد والنبي ( يخطب يوم الجمعة ، فقال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ فأشار الناس اليه أن اسكت ، فساله ثلاث مراتٍ ، كل ذلك يشيرون اليه أن اسكت ، فقال له رسول الله ( : ( ( ويحك ، ما أعددت لها ) ) - وذكر الحديث .
خرّجه البيهقي وغيره .
ولا يستثنى من ذلك إلا ما لابد منه ، مما يجوز قطع الصلاة لأجله ، كتحذير الأعمى من الوقوع في بئر ونحوه .
فأما رد السلام وتشميت العاطس ، ففيه اختلاف سبقت الإشارة اليه ، وكذلك حكم كلام الإمام ومن يكلمه لمصلحةٍ .
وأجمع العلماء على أن الأفضل لمن سمع خطبةً الإمام أن ينصت ويستمع ، وانه افضل ممن يشتغل عن ذلك بذكر الله في نفسه ، أو تلاوة قرآن أو دعاءٍ .
قال عبد الرزاق ، عن ابن جريجٍ ، قلت لعطاء : أسبح في يوم الجمعة(5/496)
"""""" صفحة رقم 497 """"""
واهلل ، وأنا اعقل الخطيب . قال : لا ، إلا الشيء اليسير ، واجعله بينك وبين نفسك .
وروى بإسناده ، عن طاوسٍ ، قال : إذا كان الإمام على المنبر فلا يدع أحد بشيء ، ولا يذكر الله ، إلا أن يذكر الإمام .
وقول مالكٍ كقول عطاءٍ - : ذكره في ( ( تهذيب المدونة ) ) .
وروى حرب بإسناده ، عن سفيان ، عن منصورٍ ، عن إبراهيم ، قال : سألت علقمة : متى يكره الكلام يوم الجمعة ؟ قال : إذا خَّرج الإمام ، وإذا خطب الإمام . قلت : فكيف ترى في رجل يقرأ في نفسه ؟ قال : لعل ذلك لا يضره ، أن شاء الله .
قال سفيان : ذاك إذا لم يسمع الخطبة .
وروي عن سعيدٍ بن جبير والنخعي : الرخصة في القراءة والإمام يخطب .
ولعله إذا لم يسمع الخطبة أو إذا تكلم الإمام بما لا يجوز استماعه .
وكره الأوزاعي لمن سمع الخطبة أن يتشهد ، وقال : قد جهل ، ولم تذهب جمعته .
واختلفوا : في الإمام إذا صلى على النبي ( يوم الجمعة : هل يوافقه المأموم ؟
فقالت طائفةٌ : يصلي المأموم على النبي ( في نفسه ، وهو قولُ مالكٍ وأبي يوسف وأحمد وإسحاق .
واستدلوا : بأن الصلاة على النبي ( خصوصاً يوم الجمعة متأكدة الاستحباب ، ومختلف في وجوبها كلما ذكر ، فيشرع الاتيان بها في حال الخطبة عند ذكره ، لأن سببها موجود ، فهو كالتأمين على دعاء الإمام ، وأولى .(5/497)
"""""" صفحة رقم 498 """"""
وقال بعض الشافعية : إذا قرأ الإمام : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
النَّبِيِّ ( ( الأحزاب : 56 ) - الآية ، جاز للمأموم أن يصلي على النبي ( ، ويرفع بها صوته .
وقالت طائفةٌ : بل ينصت ، وهو قولُ سفيان وأبي حنيفة ومحمد والليث بن سعدٍ ومالك - في روايةٍ - والشافعي .
وقال الأوزاعي : ينبغي للإمام إذا صلى على النبي ( يوم الجمعة أن يسكت حتى يصلي الناس ، فإن لم يسكت فأنصت ، وأمن على دعائه .
واختلفوا فيمن لم يسمع الخطبة لبعده : هل يذكر الله ويقرأ القرآن في نفسه ، أو ينصت ؟ على قولين :
أحدهما : يذكر الله في نفسه ويقرأ ، وهو قولُ علقمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق .
وقولهم هذا شبه قول الأكثرين في قراءة المأموم إذا لم يسمع قراءته .
والثاني : أنه ينصت ولا يتكلم بشيء ، وهو قولُ الزهري والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة .
واستدلوا : بقول عثمان : إن للمنصت الذي لا يسمع مثل ما للسامع المنصت .
خرّجه مالكٌ في ( ( الموطإ ) ) .
وقالت طائفةٌ : من لا يسمع لا إنصات عليه ، بل يباح له الكلام ، وهو قولُ عروة بن الزبير ، وطائفة من أصحاب الشافعي .
وأومأ إليه أحمد ، فإنه قال : يشرب الماء إذا لم يسمع الخطبة .
واختاره القاضي أبو يعلى من أصحابنا .(5/498)
"""""" صفحة رقم 499 """"""
وقال ابن عقيل منهم : له أن يقرئ القرآن ، ويذاكر بالعلم .
وهو بعيدٌ ؛ فإن رفع الصوت ربما منع من أقرب منه إلى الإمام ممن يسمع من السماع ، بخلاف الذكر في نفسه والقراءة .
واختلفوا : هل انصات من سمع الخطبة واجبٌ ، وكلامه في تلك الحال محرم ، أو هو مكروه فقط ، فلا يأثم به ؟ على قولين :
أحدهما : أنه محرم ، وهو قول الأكثرين ، منهم : الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي - في القديم - وأحمد - في المشهور عنه .
والمنقول عن أكثر السلف يشهد له .
وقال عطاءٌ ومجاهد : الانصات يوم الجمعة واجبٌ .
وقد أمر ابن مسعودٍ بقرع رأس المتكلم بالعصى ، وكان ابن عمر يحصبه
بالحصباء .
وروي عنه ، أنه قال : المتكلم لا جمعةٍ له ، ولمن أجابه : أنت حمارٌ .
وقال ابن مسعودٍ وغيره لمن تكلم في جمعةٍ : هذا حظك من صلاتك .
ويدل على تحريمه : قولُ الله تعالى : ( وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا ( [ الأعراف : 204 ] ، وقد تقدم قولُ الإمام أحمد : اجمعوا أنها نزلت في الصلاة والخطبة .
ولأن الخطبة وجبت في الجمعة تذكيراً للناس وموعظةً لهم ، فاذا لم يجب استماعها لم تبق فائدة في وجوبها في نفسها ؛ فإن إيجاب المتكلم بما لا يجب استماعه يصير لغواً لا فائدة له .
وفي ( ( مسند الإمام أحمد ) ) من حديث مجالد ، عن الشعبي ، عن ابن(5/499)
"""""" صفحة رقم 500 """"""
عباسٍ ، عن النبي ( ، قال : ( ( من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً ، والذي يقول له : أنصت ، لا جمعةٍ له ) ) .
وإنما شبهه بالحمار يحمل أسفاراً ، لأن الحمار لا ينتفع من حمله الأسفار بشيء ، فكذلك من لم يستمع الإمام يوم الجمعة .
وهذا المثل ضربه الله لليهود الذين لم ينتفعوا بشيء من علمهم ، وليس لنا مثل بالسوء ، ولا التشبه بمن ذمه الله من أهل الكتاب قبلنا ، فيما ذموا عليه .
وخَّرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث علي ، عن النبي ( ، قال : ( ( من دنا من الإمام فلغا ، ولم يستمع ولم ينصت ، كان له كفل من الوزر ، ومن قال له : مه فقد لغا ، ومن لغا فلا جمعةٍ له ) ) .
والقول الثاني : أنه مكروه غير محرم ، وهو قولُ الشافعي - الجديد - وحكي روايةً عن أحمد .
واختلف من قال بتحريمه : هل تبطل به الجمعة ؟
واختلف من قال بتحريمه : هل تبطل به الجمعة ؟
فحكي عن طائفةٌ أنه تبطل به الجمعة .
قال عطاءٌ الخراساني وعكرمة : من لغا فلا جمعةٍ له .
وقال الأوزاعي : من تكلم عمداً صارت جمعته ظهراً ، ومن تكلم ساهياً لم يتره الله فضلها ، إن شاء الله تعالى .
وزعم بعضهم أن قولُ الأوزاعي هذا يخالف الإجماع ، وليس كذلك ، ولم يرد الأوزاعي أنه يصلي ظهراً ، إنما أراد أن ثواب جمعته يفوته ، ويبقى له فضل صلاة الظهر ، وتبرأ ذمته منها .
وكذلك قال فيمن قال كتاباً والإمام يخطب ، قال : ذاك حظه من جمعته ،(5/500)
"""""" صفحة رقم 501 """"""
ولم يامره باعادة الصلاة . وكذلك قال فيمن شرب الماء والإمام يخطب .
وقد روي في احاديث متعددةٍ مرسلةٍ ، وبعضها متصلة الأسانيد ، وفيها ضعف ، أن من لغا لا جمعةٍ له ، وأن ذلك حظه منها .
والمراد : أنه يفوته ثواب الجمعة ، وبذلك فسره عطاءٍ وابن وهبٍ - صاحب
مالكٍ .
وقال إسحاق : يخشى عليه فوات الأجر .
قال عبد الرزاق ، عن ابن جريجٍ ، عن عطاءٍ : يقال : من تكلم فكلامه حظه من الجمعة - يقول : من أجر الجمعة ، فأما أن يوفي أربعاً ، فلا .
وقال - أيضاً - : قلت لعطاء : هل تعلم شيئاً يقطع جمعةٍ الإنسان ، حتى يجب أن يصلي أربعاً ، من كلام أو تخطي رقاب الناس ، أو شيء غير ذلك ؟ قال : لا .
وكذا قال الحسن والزهري ، فيمن تكلم والإمام يخطب : يصلي ركعتين .
وقال الثوري : يستغفر الله ، ويصلي .
ولا يصح عن أحدٍ خلاف ذلك . والله أعلم .
واختلفوا : متى يجب الإنصات يوم الجمعة ؟
فقال الجمهور : بشروع الإمام في الخطبة ، وهو المروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وكانوا يفعلونه في زمانه ، وروي عن سعدٍ بن أبي وقاص وابن عباسٍ .
وقالت طائفةٌ : ينقطع بخروج الإمام ، وإن لم يتكلم ، كما تنتطع الصلاة
بخروجه ، وهو قولُ طائفةٌ من الكوفيين ، منهم : الحكم ، وحكي عن(5/501)
"""""" صفحة رقم 502 """"""
أبي حنيفة ، وروي عن ابن عمر وابن عباسٍ .
وقد خرّج البخاري حديث سلمان الفارسي في الانصات بلفظين : في أحدهما : ذكر خروج الإمام ، وفي الآخر : ذكر كلامه .
فمن الناس من قال : رواية الخروج مطلقة ، تحتمل حالة الكلام وغيرها ، ورواية الكلام مقيدة فتقضي على المطلقة .
ومنهم من قال : إن الرواية المطلقة إنما دلت على اثبات فضل ترك الكلام
بالخروج ، لا على منعه وتحريمه .
واستحب عطاءٌ : أن يتكلم من حضر الجمعة قبل أن يخطب الإمام .
وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريجٍ ، عن عطاءٍ : قال : إذا خرج الإمام يوم الجمعة فافصل بكلام قبل أن يخطب . قلت : سلم الإمام ، فرددت عليه أيكون ذلك فصلا ؟ قال : إني أحب أن تزيد - أيضاً - بكلام ، السلام في القرآن .
يعني : أن السلام لا يكفي في الفصل ؛ لأنه مما في القرآن ، والمقصود : الفصل بكلام من كلام الآدميين .
وهذا قولُ غريبٌ .
واختلفوا : إلى أي وقتٍ ينتهي النهي عن الكلام ؟
فقال الجمهور : ينتهي بفراغ الإمام من الخطبتين ، ويجوز الكلام مع نزوله ، وبين الصلاة والخطبة .
وقالت طائفةٌ : ينتهي النهي إلى الدخول في الصلاة .(5/502)
"""""" صفحة رقم 503 """"""
وقد سبق ذكر ذلك عند ذكر الكلام بين الإقامة والصلاة بما يغني عن إعادته
هاهنا .
واتفقوا على أن النهي عن الكلام يستمر ما دام يتكلم بما يشرع التكلم به في الخطبة ، من حمد الله والثناء ، والصلاة على رسول الله ( ، وقراءة القرآن ، والموعظة وغير ذلك .
وحكى ابن عبد البر عن طائفةٌ ، منهم : الشعبي وأبو بردة ، أنه لا ينهى عن الكلام إلاّ في حال قراءة القرآن خاصةً ، ويجوز في غيرها .
وهذا لا يصح عنهم ، وسنذكر وجه ما روي عنهم فيما بعد - إن شاء الله تعالى .
ولو شرع الإمام في خطبته في كلامٍ مباحٍ أو مستحب كالدعاء ، فإنه يستمع له وينصت ، وهذا قولُ جمهور العلماء ، منهم : عطاءٌ وغيره .
ولأصحابنا ثلاثة أوجهٍ : أحدها : تحريم الكلام في الحالين . والثاني : لا يحرم . والثالث : أن كان مستحباً كالدعاء حرم الكلام معه ، وإن كان مباحاً لم يحرم .
فأما أن تكلم بكلام محرم ، كبدعةٍ أو كسب السلف ، كما كان يفعله بنو أمية ، سوى عمر بن عبد العزيز - رحمة الله عليه - ، فقالت طائفةٌ : يلحق بالخطب وينصت لهُ ، روي عن عمرو بن مرة وقتادة .
والأكثرون على خلاف ذلك ، منهم : الشعبي وسعيد بن جبيرٍ وأبو بردة وعطاءٌ والنخعي والزهري وعروة والليث ابن سعدٍ .
وهو الصحيح ؛ فإن الله تعالى يقول : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ( [ الأنعام : 68 ] الآية ، وما كانَ محرماً حرم استماعه والانصات إليه ، ووجب التشاغل عنه كسماع الغناء والآت(5/503)
"""""" صفحة رقم 504 """"""
اللهو ، ونحو ذلك .
ولعل قول عمرو بن مرة وقتادة في كلامٍ مباحٍ لا في محرمٍ .
وفي بطلان الخطبة بالكلام المحرم قبل فراغ أركان الخطبة وجهان لأصحابنا ، كالوجهين لهم في بطلان الأذان بالكلام المحرم في أثنائه .
وفي جواز الكلام في جلوس الإمام بين الخطبتين وجهان لأصحابنا والشافعية ، ومنعه أصحاب مالكٍ .
وهذا كله في حق الجالس في المسجد من حين خروج الإمام ، فأما من دخل المسجد في حال الخطبة ، فقال طائفةٌ : إنما يمتنع عليه الكلام إذا جلس وأخذ مجلسه ، وما دام يمشي فله أن يتكلم ويكلم من معه ، وهذا قولُ الزهري وقتادة والثوري والشافعي .
وعموم قوله : ( ( إذا قلت لصاحبك : أنصت - والإمام يخطب - فقد لغوت ) ) ، ويشمل القائم والقاعد والماشي .(5/504)
"""""" صفحة رقم 505 """"""
37 - باب
الساعة التي في يوم الجمعة
935 - حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالكٍ عن أبي الزناد ، عن الأعرج عن أبي هريرة ، أن النبي ( ذكر يوم الجمعة ، فقال : ( ( فيه ساعةٌ لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ ، وهو قائمٌ يصلي يسال الله شيئاً ، إلا أعطاه إياه ) ) - وأشار بيده يقللها .
وخرّجه في ( ( كتاب الطلاق ) ) في ( ( باب : الإشارة في الطلاق وغيره ) ) من طريق آخر ، فقال :
نا مسددٌ : نا بشر بن المفضل : نا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، قال : قال أبو القاسم ( : ( ( في الجمعة ساعةٌ ، لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ ، قائمٌ يصلي ، يسأل الله خيراً ، إلا أعطاه ) ) - وقال بيده ، ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر ، قلنا : يزهدها .
وخرّجه في ( ( الدعوات ) ) - أيضاً - من روايةٍ أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة - بمعناه ، وقال فيه : وقال بيده . قلنا : يقللها ، يزهدها .
قوله : ( ( في الجمعة ) ) - وفي الرواية الأخرى : ( ( في يوم الجمعة - ساعةٌ ) ) .(5/505)
"""""" صفحة رقم 506 """"""
يقتضي أنها في كل يوم جمعةٍ : وهذا قولُ جمهور العلماء .
وقد تنازع في ذلك أبو هريرة وكعب ، فقال : أبو هريرة في كل يوم جمعةٍ .
وقال كعبٌ : في السنة مرةً ، ثم رجع كعب إلى قولُ أبي هريرة ، ثم ذكر أبو هريرة لعبد الله بن سلامٍ ما قاله كعبٌ أولاً ، فكذبه فقال له : إنه رجع عنه .
وقد زعم قوم أن ساعة الإجابة في الجمعة رفعت .
فروى عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) بإسناده ، أن أبا هريرة قيل له : زعموا أن ليلة القدر رفعت . قال : كذب من قال ذلك . قيل له : فهي في كل رمضان نستقبله ؟ قال : نعم . فقيل له : إنهم زعموا أن الساعة في يوم الجمعة التي لا يدعو فيها مسلم إلا استجيب له رفعت . قال : كذب من قال ذلك . قيل له : هي في كل جمعةٍ نستقبلها ؟ قال : نعم .
وقوله : ( ( ساعةٌ ) ) يحتمل أنه أراد بها الساعة الزمنية من ساعات النهار .
زقال عبد الله بن سلامٍ : النهار اثنا عشرة ساعةً ، والساعة التي تذكر من يوم الجمعة آخر ساعات النهار .
خرّجه عبد الرزاق ، عن ابن جريجٍ : حدثني موسى بن عقبة ، أنه سمع أبا سلمة بن عبد الرحمن ، أنه سمع عبد الله بن سلام يقوله .
وهذا إسنادٌ صحيحٌ .
وقد رواه الجلاح أبو كثيرٍ ، عن أبي سلمة ، عن جابر ، عن النبي ( - بمعناه .(5/506)
"""""" صفحة رقم 507 """"""
خرّجه أبو داود والنسائي .
وعندي : أن روايةٍ موسى بن عقبة الموقوفة أصح .
ويعضده : أن جماعةً رووه ، عن أبي سلمة ، عن عبد الله بن سلام ، ومنهم من قال : عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن عبد الله بن سلامٍ ، كما سياتي .
وظاهر هذا : أنها جزء من اثني عشر جزء من النهار ، فلا تختلف بطول النهار وقصره ، ولكن الإشارة إلى تقليلها يدل على أنها ليست ساعةً زمانيةً ، بل هي عبارة عن زمن يسيرٍ .
وقوله - في الرواية الأخرى - : ( ( يزهدها ) ) ، معناه : يقللها - أيضاً - ، ومنه الزهد في الدنيا ، وهو احتقارها وتقليلها وتحقيرها ، هو من اعمال القلوب ، لا من أعمال الجوارح .
وقد روي حديث يدل على أنها بعض ساعةٍ :
فروى الضحاك بن عثمان ، عن سالمٍ أبي النضر ، عن أبي سلمة ، عن عبد الله بن سلامٍ ، قال : قلت - ورسول الله ( جالسٌ - : إنا لنجد في كتاب الله : في يوم الجمعة ساعة ، لا يوافقها عبد مؤمن يصلي ، يسأل الله شيئاً ، إلا قضى له حاجته . قال عبد الله : فاشار الي رسول الله ( : ( ( أو بعض ساعة ) ) . قلت : صدقت ( ( أو بعض ساعة ) ) . قلت : أي ساعة هي ؟ قال : ( ( آخر ساعة من ساعات النهار ) ) . قلت : إنها ليست ساعة صلاةٍ ؟ قال : ( ( بلى ، أن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس ، لا يجلسه إلا الصلاة ، فهو في صلاة ) ) .
خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه ، وهذا لفظه .(5/507)
"""""" صفحة رقم 508 """"""
ورواته كلهم ثقات ؛ لكن له علةٌ مؤثرةٌ ، وهي أن الحفاظ المتقنين رووا هذا الحديث ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، في ذكر ساعة الإجابة ، وعن عبد الله بن سلامٍ في تعيينها بعد العصر .
كذلك رواه محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة .
خرّجه من طريقه مالكٍ في ( ( الموطإ ) ) ، وأحمد وأبو داود والترمذي ، وصححه .
وذكر فيه : ( ( خيرٌ يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أهبط منها ، وفيه ساعة الإجابة ) ) ورفع ذلك كله .
ثم ذكر أبو هريرة ، عن عبد الله بن سلامٍ ، أنه قال له : هي بعد ، وأنه ناظره في الصلاة فيها .
وكذا رواه محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة مختصراً .
ورواه سعيدٍ بن الحارث ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - مرفوعاً .
وفي روايةٍ عنه بالشك في رفعه في ساعة الإجابة ، وجعل ذكر تعيينها من روايةٍ أبي سلمة ، عن عبد الله بن سلامٍ .
وكذا رواه معمرٌ ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة .
ورواه الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، فجعل الحديث كله عن كعب في : ( ( خيرٌ يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ) ) .
لم يرفع منه شيئاً ، وقال : لم اسمعه من النبي ( ، حدثني به كعبٌ .
ورواه حسين المعلم ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ ، عن أبي سلمة ، عن(5/508)
"""""" صفحة رقم 509 """"""
أبي هريرة ، عن كعب ، قال : خير يوم طلعت فيه الشمس يوم جمعةٍ ، فيه خلق الله آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، وفيه تقوم الساعة .
ورواه معاوية بن سلامٍ ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - موقوفاً .
ورواه محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، فرفعه .
ورفعه خطأٌ .
ورجح هذه الرواية أبو زرعة الدمشقي .
ويعضده - أيضاً - : روايةٍ حماد بن سلمة ، عن قيس بن سعدٍ ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، فرفع منه ذكر ساعة الإجابة ، وجعل باقي الحديث في فضل يوم الجمعة ، وما فيه من الخصال ، وتعيين ساعة الإجابة كله من قولُ كعب .
ولعل هذا هو الأشبه .
وقد سبق أن موسى بن عقبة روى عن أبي سلمة ، عن عبد الله بن سلامٍ قوله في تعيين ساعة الإجابة - أيضاً .
وخَّرج الإمام أحمد من روايةٍ فليح بن سليمان ، عن سعيدٍ بن الحارث ، عن أبي سلمة ، أنه سمع أبا هريرة يحدث ، عن النبي ( في ساعة الإجابة .
قال : فلما توفي أبو هريرة قلت : لو جئت أبا سعيدٍ فسألته عن هذه الساعة .
أن يكون عنده منها علم ، فاتيته ، فسالته ، فقال : سألنا النبي ( عنها ، فقال : ( ( إني كنت أعلمتها ، ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر ) ) . قال : ثم خرجت من
عنده ، فدخلت على عبد الله بن سلامٍ .(5/509)
"""""" صفحة رقم 510 """"""
هكذا ساقه الإمام أحمد ، ولم يذكر ما قاله ابن سلامٍ .
وقد خرّجه البزار بتمامه ، وذكر فيه : أن ابن سلامٍ قال له : خلق الله آدم يوم الجمعة ، وأسكنه الجنة يوم الجمعة ، وأهبطه إلى الأرض يوم الجمعة ، وتوفاه يوم الجمعة ، وهو اليوم الذي تقوم فيه الساعة ، وهي آخر ساعةٍ من يوم الجمعة . قلت : ألست تعلم أن النبي ( يقول : ( ( في صلاةٍ ) ) ؟ قال : أولست تعلم أن النبي ( قال : ( ( من انتظر الصلاة فهو في صلاة ) ) ؟ .
فهذه الرواية - أيضاً - تدل على أن ذكر فضل يوم الجمعة وما فيه من الخصال إنما هو من رواية أبي سلمة عن عبد الله بن سلامٍ ، ورواية الأوزاعي وغيره تدل على أن هذا القدر كان أبو هريرة يرويه عن كعبٍ .
وقد روي عن أبي هريرة ، عن النبي ( : ( ( خيرٌ يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ) ) ، وذكر ما فيه من الخصال من طرق متعددة ، وهي معللة بما ذكرناه ؛ ولذلك لم يخرّج البخاري منها شيئاً .
وقد خرّجه مسلم من طريق الاعرج ، عن أبي هريرة - مرفوعاً .
وخرّجه ابن حبان من روايةٍ العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - مرفوعاً .
وروي عن العلاء ، عن إسحاق أبي عبد الله ، عن أبي هريرة - مرفوعاً .
فتحرر من هذا : أن المرفوع عن أبي هريرة من الحديث ذكر ساعة الجمعة .
وزعم ابن خزيمة : أن قوله : ( ( خيرٌ يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ) ) مرفوع - أيضاً - بغير خلافٍ ، وأن الاختلاف عن أبي هريرة فيما بعد ذلك من ذكر الخصال التي في الجمعة .
وحديث أبي سعيدٍ يدل على أن النبي ( أنسي معرفة وقتها ، كما انسي معرفة ليلة القدر .(5/510)
"""""" صفحة رقم 511 """"""
وقد روي عن النبي ( في تعيينها أحاديث متعددةٌ :
ومن أغربها : أن ساعة الإجابة هي نهار الجمعة كله .
وهو من روايةٍ هانئ بن خالدٍ ، عن أبي جعفر الرازي ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( الساعة التي في يوم الجمعة ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس ) ) .
خرّجه العقيلي .
وقال : هانئ بن خالد حديثه غير محفوظ ، وليس بمعروف بالنقل ، ولا يتابع
عليه ، ولا يعرف إلا به .
ومنها : أنها آخر نهار الجمعة :
روى عبد السلام بن حفص ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( إن الساعة التي يتحرى فيها الدعاء يوم الجمعة هي آخر ساعة من
الجمعة ) ) .
خرّجه ابن عبد البر .
وقال : عبد السلام هذا مدني ثقةٌ .
قلت : رفعه منكرٌ ، وعبد السلام هذا وان وثقه ابن معين ، فقد قال فيه أبو حاتم الرزاي : ليس بالمعروف .
ولا يقبل تفرده برفع هذا .
وليته يصح موقوفاً ، فقد روى شعبة والثوري ، عن يونس بن خباب ، عن
عطاء ، عن أبي هريرة ، قال : الساعة التي في الجمعة بعد العصر .
وخرّجه عبد الرزاق ، عن الثوري ، به ، ولفظه : الساعة التي تقوم في(5/511)
"""""" صفحة رقم 512 """"""
يوم الجمعة ما بين العصر إلى أن تغرب الشمس .
وخرّجه وكيعٌ عن يونس ، به .
ويونس بن خباب ، شيعيٌ ضعيفٌ .
قال الدارقطني في ( ( العلل ) ) : ومن رفعه عن الثوري فقد وهم .
وقال : وفيه نائلٌ : ( ( عن يونس بن عبيدٍ ) ) ، ووهم فيه - أيضاً .
وروى إسماعيل بن عياش ، عن سهيل بن أبي صالحٍ ، عن مسلم بن مسافر ، عن أبي رزين ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( إن في الجمعة ساعةً ) ) - يقللها بيده - ( ( لا يوافقها عبدٌ مؤمنٌ وهو يصلي ، فيسأل الله فيها إلا استجاب له ) ) . قيل : أي الساعات هي يا رسول الله ؟ قال : ( ( ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ) ) .
خرّجه أبو أحمد الحاكم وأبو بكر عبد العزيز بن جعفر .
وإسناده لا يصح ، وروايات إسماعيل بن عياش عن الحجازيين رديئةٌ .
وروى عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) ، عن ابن جريجٍ : حدثني العباس ، عن محمد بن مسلمة الأنصاري ، عن أبي سعيدٍ الخدري وأبي هريرة ، أن رسول الله ( قال : ( ( إن في الجمعة ساعةً ، لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ ، يسأل الله عز وجل فيها خيراً ، إلا أعطاه إياه ، وهي بعد العصر ) ) .
وخرّجه الإمام أحمد في ( ( مسنده ) ) ، عن عبد الرزاق .
وخرّجه العقيلي في ( ( كتابه ) ) .
وقال : العباس رجلٌ مجهولٌ ، لا نعرفه ، ومحمد بنمسلمة - أيضاً - مجهولٌ .(5/512)
"""""" صفحة رقم 513 """"""
وذكر عن البخاري ، أنه قال : محمد بن مسلمة الأنصاري ، عن أبي سعيدٍ وأبي هريرة - في ساعة الجمعة - : لا يتابع عليه .
قال العقيلي : الرواية في فضل الساعة التي في يوم الجمعة ثابتهٌ عن النبي ( من غير هذا الوجه ، فأما التوقيت ، فالرواية فيه لينةٌ .
يعني بالتوقيت : تعيين ساعة الإجابة .
وروى فرج بن فضالة ، عن علي بن أبي طلحة ، عنابي هريرة ، قال : قيل للنبي ( : لأي شيءٍ سمي يوم الجمعة ؟ قال : ( ( لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم ، وفيها الصعقة والبعثة ، وفيها البطشة ، وفي أخر ثلاث ساعاتٍ منها ساعةٌ ، من دعا الله فيها استجيب له ) ) .
خرّجه الإمام أحمد .
وفرج بن فضالة ، مختلفٌ فيه ، وقد ضعفه ابن معينٍ وغيره .
وعلي بن أبي طلحة ، لم يسمع من أبي هريرة .
وروى محمد بن أبي حميد ، عن موسى بن وردان ، عن أنسٍ ، عن النبي ( ، قال : ( ( إلتمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر ، إلى غيبوبة الشمس ) ) .
خرّجه الترمذي .
وقال : غريبٌ .
ومحمد بن أبي حميد ، منكر الحديث .
وخرّجه الطبراني من طريق ابن لهيعة ، عن موسى بن وردان - بنحوه ،(5/513)
"""""" صفحة رقم 514 """"""
وزاد في آخر الحديث : ( ( وهي قدر هذا ) ) - يعني : قبضةً .
ويروى من حديث فاطمة - عليها السلام - ، عن أبيها ( ، أنه قال في هذه الساعة : ( ( إذا تدلى نصف الشمس للغروب ) ) .
وفي إسناده اضطرابٌ وانقطاعٌ وجهالةٌ ، ولا يثبت إسناده .
وروى عبد الرزاق ، عن عمر بن ذر ، عن يحيى بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، أن رسول الله ( كان في صلاة العصر يوم الجمعة ، والناس خلفه إذ سنح كلبٌ ليمر بين أيديهم ، فخر الكلب فمات قبل أن يمر ، فلما أقبل رسول الله ( بوجهه على القوم قال : ( ( أيكم دعا على هذا الكلب ؟ ) ) فقال رجل من القوم : أنا دعوت عليه . فقال النبي ( : ( ( دعوت عليه في ساعة يستجاب فيها الدعاء ) ) .
وهذا مرسلٌ .
ويروى بإسنادٍ منقطعٍ ، عن أبي الدرداء - نحوه ، إلا أن فيه : أنه دعا الله باسمه الأعظم ، ولم يذكر الساعة .
ومنها : أنها الساعة التي تصلى فيها الجمعة :
فخرج مسلم في ( ( صحيحه ) ) من حديث ابن وهبٍ ، عن مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، قال : قال عبد الله بن عمر : أسمعت أباك يحدث عن رسول الله ( في شأن الجمعة ؟ قلت : نعم ، سمعته يقول : سمعت رسول الله ( يقول : ( ( هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة ) ) .
وروى البيهقي بإسناده ، عن مسلمٍ ، أنه قال : هذا أجود حديث وأصحه في ساعة الجمعة .(5/514)
"""""" صفحة رقم 515 """"""
وقال الدارقطني : تفرد به ابن وهبٍ ، وهو صحيح عنه . ورواه أبو إسحاق ، عن أبي بردة ، واختلف عليه ، فرواه إسماعيل بن عمرو ، عن الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بردة ، عن أبيه ، عن النبي ( .
ثم خرّجه بإسناده من هذه الطريق ، ولفظه : ( ( الساعة التي يرجى فيها يوم الجمعة عند نزول الإمام ) ) .
وخالفه النعمان بن عبد السلام ، فرواه عن الثوري بهذا الإسناد - موقوفاً .
يعني : على أبي موسى .
ثم أسنده من طريقه كذلك ، ولفظه : ( ( الساعة التي تذكر في الجمعة ما بين نزول الإمام عن منبره إلى دخوله في الصلاة ) ) .
قال : وخالفهما يحيى القطان ، فرواه عن الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بردة - قوله .
وكذلك رواه عمار بن رزيق ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بردة - قوله .
وكذلك رواه معاوية بن قرة ومجالد ، عن أبي بردة - من قوله .
وحديث مخرمة بن بكرٍ أخرجه مسلم في ( ( الصحيح ) ) .
والمحفوظ : من روايةٍ الآخرين ، عن أبي بردة - قوله ، غير مرفوع . انتهى .
وكذلك رواه واصل بن حيانٍ ، عن أبي بردة ، قال : ذكر عند ابن عمر الساعة التي في الجمعة ، فقلت : إني أعلم أي الساعة هي . قال : وما يدريك ؟ قلت :(5/515)
"""""" صفحة رقم 516 """"""
هي الساعة التي يخرج فيها الإمام ، وهي أفضل الساعات . قال : بارك الله عليك .
وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي ( ، قال : ( ( إن في الجمعة ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئاً ألا آتاه إياه ) ) . قالوا :
يا رسول الله ، أية ساعة هي ؟ قال : ( ( حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها ) ) .
خرّجه ابن ماجه والترمذي .
وقال : حسنٌ غريبٌ .
وكثيرٌ هذا ، يحسن البخاري والترمذي وغيرهما أمره . وقال بعضهم : أحاديثه عن أبيه عن جده أحبُ إلينا من مراسيل ابن المسيب . وضعف الأكثرون حديثه . وضرب الإمام أحمد عليه ، ولم يخرجه في ( ( مسنده ) ) .
قال أبو بكر الأثرم : إما وجه اختلاف هذه الأحاديث ، فلن يخلو من وجهين : إما أن يكون بعضها أصح من بعضٍ ، وإما أن تكون هذه الساعة تنتقل في الأوقات ، كانتقال ليلة القدر في ليالي العشر .
قال : وأحسن ما يعمل به في ذلك : أن تلتمس في جميع هذه الأوقات ، احتياطاً واستظهاراً . انتهى .
فأما القول بانتقالها فهو غريبٌ .
وقد روي عن كعبٍ ، قال : لو قسم إنسان جمعة في جمع أتى علي تلك الساعة .
يعني : أنه يدعو كل جمعةٍ في ساعة ساعة حتى يأتي على جميع ساعات اليوم .
قال الزهري : ما سمعنا فيها بشيء عن أحد احدثه الا هذا .(5/516)
"""""" صفحة رقم 517 """"""
وهذا يدل على أنها لا تنتقل ، وهو ظاهر أكثر الأحاديث والآثار .
وأما التماسها في جميع مظانها ، فقد روي نحوه عن أبي هريرة .
فحكى ابن المنذر ، عنه ، أنه قال : هي بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس .
وهذا رواه ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد وطاوس ، عن أبي هريرة ، وفي ليث مقال ، لا سيما إذا جمع في الاسناد بين الرجال .
ولم يرد أبو هريرة - والله أعلم - أنها ساعتان : في أول النهار وآخره ، إنما أراد أنها تلتمس في هذين الوقتين .
ونقل ابن منصورٍ ، عن إسحاق ، قال : بعد العصر ، لا أكاد أشك فيه ، وترجى بعد زوال الشمس .
كذا نقله ابن منصورٍ في ( ( مسائله ) ) عنه ، ونقله الترمذي في ( ( جامعه ) ) عن
أحمد .
وإنما نقله ابن منصورٍ عن أحمد ، والترمذي إنما ينقل كلام أحمد وإسحاق من ( ( مسائل ابن منصورٍ ، عنهما ) ) كما ذكر ذلك في آخر ( ( كتابه ) ) .
ولا أعلم في التماسها في أول النهار عن أحدٍ من السلف غير هذا .
والمشهور عنهم قولان :
أحدهما : أنها تلتمس بعد العصر إلى غروب الشمس ، وقد سبق عن أبي هريرة وعبد الله بن سلامٍ .
وروى سعيدٍ بن منصورٍ بإسناده ، عن أبي سلمة ، قال : اجتمع ناسٌ من أصحاب رسول الله ( ، فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة ، فتفرقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعةٍ من يوم الجمعة .(5/517)
"""""" صفحة رقم 518 """"""
وروى سعيدٍ بن جبير ، عن ابن عباسٍ ، أنه سئل عن تلك الساعة التي في الجمعة ، فقال : خلق الله آدم بعد العصر يوم الجمعة ، وخلقه من أديم الأرض كلها ، فأسجد له ملائكته ، وأسكنه جنته فلله ما أمسى ذلك اليوم حتى عصاه ، فأخرجه منها .
خرّجه عبد الرزاق وغيره .
وهذا يدل على ترجيح ابن عباسٍ لما بعد العصر في وقت هذه الساعة ؛ لخلق آدم فيها ، وإدخاله الجنة ، وإخراجه منها ، وهو يشبه استنباطه في ليلة القدر ، أنها ليلة سابعة .
وكذلك كان طاوس يتحرى الساعة التي في يوم الجمعة بعد العصر .
وعنه ، أنه قال : الساعة من يوم الجمعة التي تقوم فيها الساعة ، والتي أنزل فيها آدم ، والتي لا يدعو الله فيها المسلم بدعوة صالحة إلا استجيب له : من حين تصفر الشمس إلى أن تغرب .
وهذا يشبه قول عبد الله بن سلامٍ ، أنها آخر ساعةٍ من نهار الجمعة .
وروي مثله عن كعبٍ - أيضاً .
فأهل هذا القول ، منهم من جعل وقت التماسها ما بين العصر وغروب الشمس ، ومنهم من خصه بآخر ساعةٍ من الساعات .
وقال أحمد - في روايةٍ ابن منصورٍ - : أكثر الأحاديث بعد العصر .
وقال - في روايةٍ الميموني - كذلك ، وزاد : قيل له : قبل أن تطفل .(5/518)
"""""" صفحة رقم 519 """"""
الشمس للغروب ؟ قالَ : لا أدري ، إلا أنها بعد العصر .
وظاهر هذا : أن ما بعد العصر إلى غروب الشمس كله في التماسها سواءٌ .
والقول الثاني : أنها بعد زوال الشمس .
وقد تقدم عن ابن عمر وأبي بردة ، أنها ساعةٍ صلاة الجمعة .
وروى عبد الله بن حجيرة عن أبي ذر ، أنها من حين تزيغ الشمس بشبر إلى
ذراعٍ .
وعن عائشة ، أنها إذا أذن المؤذن بصلاة الجمعة .
وقال عوف بن مالكٍ : اطلبوا ساعةٍ الجمعة في إحدى ثلاث ساعات : عند تأذين الجمعة ، أو ما دام الإمام على المنبر ، أو عند الاقامة .
خرّجه محمد بن يحيى الهمداني في ( ( صحيحه ) ) .
وعن الحسن وأبي العالية ، قالا : عند زوال الشمس .
وعن الحسن ، قال : هي إذا قعد الإمام على المنبر حتى يفرغ .
وعن أبي السوار العدوي ، قال : كانوا يرون أن الدعاء مستجابٌ ما بين أن تزول الشمس إلى أن تدركك كل صلاة .
وعن ابن سيرين ، قال : هي الساعة التي كان يصلي فيها رسول الله ( .
وعن الشعبي ، قال : هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل .
وعنه ، قال : مابين خروج الإمام إلى انقضاء الصلاة .
وعن الشعبي ، عن عوف بن حصيرة ، قال : هي من حين تقام الصلاة إلى انصراف الإمام .(5/519)
"""""" صفحة رقم 520 """"""
وروي ، أن عمر سأل ابن عباسٍ عنها ؟ فقال : أرجو أنها الساعة التي يخرج لها الإمام .
خرّجه الإسماعيلي في ( ( مسند عمر ) ) بإسنادٍ ضعيفٍ .
وذكر عن أبي القاسم البغوي ، أنه قال : هذا واهٍ ، وقد روي عن ابن عباسٍ خلافه .
يشير إلى أن المعروف عنه أنها بعد العصر ، كما رواه عنه سعيد بن جبير ، وقد تقدم .
فهذه الاقوال متفقة على أنها بعد زوال الشمس ، ومختلفة في الظاهر في قدر امتدادها .
فمنهم من يقول : وقت الأذان .
ومنهم من يقول : ما دام الإمام على المنبر .
ومنهم من يقول : عند الاقامة .
ومنهم من يقول : من حين تقام الصلاة إلى انصراف الإمام فيها .
ومنهم من يقول : ما بين أن يحرم البيع بالنداء أو تزول الشمس - على اختلاف لهم فيما يحرم به البيع - إلى أن يحل بانقضاء الصلاة .
وهذا القول - أعني : أنها بعد زوال الشمس إلى انقضاء الصلاة ، أو أنها ما بين أن تقام الصلاة إلى أن يفرغ منها - أشبه بظاهر قولُ النبي ( : ( ( لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ قائمٌ يصلي يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه إياه ) ) ، فإنه أن أريد به صلاة الجمعة كانت من حين إقامتها إلى الفراغ منها ، وإن أريد به صلاة التطوع كانت من زوال الشمس إلى خروج الإمام ؛ فإن هذا وقت صلاة تطوعٍ ، وإن أريد بها أعم من ذلك - وهو الأظهر - دخل فيه صلاة التطوع بعد زوال الشمس ،(5/520)
"""""" صفحة رقم 521 """"""
وصلاة الجمعة إلى انقضائها .
وليس في سائر الأوقات التي قالها أهل القول الأول وقت صلاة ؛ فإن بعد العصر إلى غروب الشمس ، وبعد الفجر إلى طلوع الشمس وقت نهي عن الصلاة فيه ، اللهم إلاّ أن يراد بقولهم : بعد العصر : دخول وقت العصر والتطوع قبلها .
ومرسل يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة يشهد له .
من قال : إن منتظر الصلاة في صلاةٍ صحيحٌ ، لكن لا يقال فيه قائم .
وقول يصلي ؛ فإن ظاهر هذا اللفظ حمله على القيام الحقيقي في الصلاة الحقيقية .
وقد روى عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) نا يحيى بن زمعة : سمعت عطاءً يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله ( : ( ( في يوم الجمعة ساعةٌ ، لا يوافقها عبدٌ وهو يصلي ، أو ينتظر الصلاة ، يدعو الله فيها بشيء إلا استجاب له ) ) .
وهذا غريبٌ .
ويحيى بن زمعة هذا ، غير مشهورٌ ، ولم يعرفه ابن أبي حاتم باكثر من روايته عن عطاءٍ ، ورواية عبد الرزاق عنه .
وهذه الرواية تدل على أن المراد بالصلاة حقيقة الصلاة ؛ لأنه فرق بين المصلي ومنتظر الصلاة ، وجعلهما قسمين .
وتدل على أن ساعةٍ الجمعة يمكن فيها وقوع الصلاة وانتظارها ، وهذا بما(5/521)
"""""" صفحة رقم 522 """"""
بعد الزوال أشبه ؛ لأن أول تلك الساعة ينتظر فيها الصَّلاة ويتنفل فيها بالصلاة ، وآخرها يصلى فيهِ الجمعة .
وخَّرج ابن أبي شيبة بإسناده ، عن هلال بن يساف ، قالَ : قالَ رسول الله ( : ( ( إن في الجمعة لساعةً ، لا يوافقها رجلٌ مسلمٌ ، يسأل الله فيها خيراً ، إلا أعطاه ) ) فقالَ رجل : يا رسول الله ، فماذا اسال ؟ فقال : ( ( سل الله العافية في الدنيا والآخرة ) ) .
وهذا مرسلٌ .(5/522)
"""""" صفحة رقم 523 """"""
38 - باب
إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة
فصلاة الإمام ومن بقي تامةٌ
936 - حدثنا معاوية بن عمرو : ثنا زائدة ، عن حصين ، عن سالم بن أبي الجعد : ثنا جابر بن عبد الله ، قال : بينما نحن نصلي مع النبي ( اذ أقبلت عيرٌ تحمل طعاماً فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي ( إلاّ إثنا عشر رجلاً ، فنزلت هذه الآية : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً ( [ الجمعة : 11 ] وخرّجه في " التفسير " عن حفص بن عمر قالَ : ثنا خالد بن عبد الله : أنبا حصين ، عن سالم بن أبي الجعد - وعن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله - فذكره بمعناه .
وفي هذه الرواية : متابعة أبي سفيان لسالم بن أبي الجعد على روايته عن جابر ، وإنما خرّج لأبي سفيان متابعةً .
وقد خرّجه مسلم بالوجهين - أيضاً .
وفي أكثر رواياته : أن النبي ( كان يخطب يوم الجمعة .
وفي روايةٍ له : أن النبي ( كان يخطب قائماً يوم الجمعة - فذكره بمعناه .
وفي روايةٍ له : فلم يبق إلا اثنا عشر رجلاً ، أنا فيهم .
وفي روايةٍ له - أيضاً - : فيهم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما .(5/523)
"""""" صفحة رقم 524 """"""
وقوله في الرواية التي خرجها البخاري : ( ( بينا نحن نصلي مع النبي ( ) ) لم يرد به أنهم انفضوا عنه في نفس الصلاة ، إنما أراد - والله أعلم - إنهم كانوا مجتمعين للصلاة ، فانفضوا وتركوه .
ويدل عليه : حديث كعب بن عجرة ، لما قال : انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً ، وقد قال الله تعالى : ( انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً ( [ الجمعة : 11 ] .
وكذلك استدلال ابن مسعودٍ وخلق من التابعين بالآية على القيام في الخطبة .
وروى علي بن عاصمٍ هذا الحديث عن حصين ، فقال فيه : فلم يبق معه الا أربعون رجلاً ، أنا فيهم .
خرّجه الدارقطني والبيهقي .
وعلي بن عاصمٍ ، ليس بالحافظ ، فلا يقبل تفرده بما يخالف الثقات .
وقد استدل البخاري وخلقٌ من العلماء على أن الناس إذا نفروا عن الإمام وهو يخطب للجمعة ، وصلى الجمعة بمن بقي ، جاز ذلك ، وصحت جمعتهم .
وهذا يرجع إلى أصلٍ مختلفٍ فيه ، وهو : العدد الذي تنعقد به الجمعة ، وقد اختلف في ذلك : فقالت طائفةٌ : لا تنعقد الجمعة بدون أربعين رجلاً ، روي ذلك عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعمر بن عبد العزيز ، وهو قولُ الشافعي وأحمد - في المشهور عنه - وإسحاق ورواية عن مالكٍ .
وقالت طائفةٌ : تنعقد بخمسين ، روي عن عمر بن عبد العزيز - أيضاً - وهو روايةٍ عن أحمد .(5/524)
"""""" صفحة رقم 525 """"""
وقالت طائفةٌ تنعقد بثلاثة ، منهم : ابن المبارك والأوزاعي والثوري وأبو ثور ، وروي عن أبي يوسف ، وحكي رواية عن أحمد . وقالت طائفةٌ : تنعقد بأربعةٍ ، وهو قولُ أبي حنيفة وصاحبيه - في المشهور عنهما - والأوزاعي ومالك والثوري - في رواية عنهما - والليث بن سعدٍ .
وحكي قولاً قديماً للشافعي ، ومنهم من حكاه أنها تنعقد بثلاثةٍ .
وقالت طائفةٌ : يعتبر أربعون في الأمصار وثلاثةٌ في القرى ، وحكي روايةً عن أحمد ، صححها بعض المتأخرين من أصحابه .
وقالت طائفةٌ : تنعقد بسبعة ، وحكي عن عكرمة ، ورواية عن أحمد .
وقالت طائفةٌ : تنعقد باثني عشر رجلاً ، حكي عن ربيعة .
وقد قام الزهري : أن مصعب بن عمير أول ما جمع بهم بالمدينة كانوا إثنى عشر رجلاً .
وتعلق بعضهم لهذا الحديث بحديث جابر المخرج في هذا الباب .
وقال طائفةٌ : تنعقد الجمعة بما تنعقد به الجماعة ، وهو رجلان ، وهو قولُ الحسن بن صالح وأبي ثور - في روايةٍ - وداود ، وحكي عن مكحولٍ .
وتعلق القائلون بالأربعين كعب بن مالكٍ ، أن أول جمعةٍ جمع بهم أسعد بن
زرارة ، كانوا أربعين ، وقد سبق ذكره في أول ( ( كتاب الجمعة ) ) .
وقد ذكر القاضي أبو يعلى وغيره وجه الاستدلال به : أن الجمعة فرضت بمكة ، وكان بالمدينة من المسلمين أربعةٌ وأكثر ممن هاجر إليها وممن أسلم بها ، ثم لم يصلوا [ . . . ] كذلك حتى كمل العدد أربعين ، فدل على أنها لا(5/525)
"""""" صفحة رقم 526 """"""
تجب على أقل منهم ، ولم يثب أبو بكر الخلال خلافه عن أحمد في اشتراط الأربعين .
قال : وإنما يحكى عن غيره ، أنه قال بثلاثةٍ ، وباربعةٍ ، وبسبعةٍ ، ولم يذهب إلى شيء من ذلك ، وهذا الذي قاله الخلال هو الأظهر . والله أعلم .
وفي عدد الجمعة أحاديث مرفوعة ، لا يصح فيها شيء ، فلا معنى لذكرها .
وإذا تقرر هذا الأصل ، فمن قال : أن الجمعة تنعقد بإثني عشر رجلاً أو بدونهم ، فلا إشكال عنده في معنى حديث جابر ؛ فإنه يحمله على أن النَّبيّ ( صلى الجمعة بمن بقي معه ، وصحت جمعتهم .
ومن قال : لا تصح الجمعة بدون أربعين ، فإنه يشكل عليه حديث جابرٍ .
وقد أجاب بعضهم : بأن الصحيح أنهم انفضوا وهو في الخطبة . قال : فيحتمل أنهم رجعوا قبل الصلاة ، أو رجع من تم به الأربعون ، فجمع بهم .
قال : والظاهر أنهم انفضوا ابتداءً سوى إثني عشر رجلاً ، ثم رجع منهم تمام أربعين ، فجمع بهم ، وبذلك يجمع بين روايةٍ علي بن عاصم وسائر الروايات .
وهذا الذي قاله بعيدٌ ، ورواية علي بن عاصم غلطٌ محضٌ ، لا يلتفت إليها .
وسلك طائفةٌ مسلكاً آخر ، وظاهر كلام البخاري هاهنا وتبويبه يدل عليه ، وهو : أن انفضاضهم عن النبي ( كان في نفس الصلاة ، وكان قد افتتح بهم الجمعة بالعدد المعتبر ، ثم تفرقوا في أثناء الصلاة ، فأتم بهم صلاة الجمعة ؛ فإن الاستدامة يغتفر فيها ما لا يغتفر في الابتداء .
وهذا قولُ جماعة من العلماء ، منهم : أبو حنيفة وأصحابه والثوري ومالك والشافعي - في القديم - وإسحاق ، وهو وجه لأصحابنا .
وعلى هذا ؛ فمنهم من اعتبر أن يبقى معه واحد فأكثر ؛ لأن أصل الجماعة(5/526)
"""""" صفحة رقم 527 """"""
تنعقد بذلك ، ومنهم من شرط أن يبقى معه اثنان ، وهو قولُ الثوري وابن المبارك ، وحكي قولاً للشافعي .
وقال إسحاق : أن بقي معه اثنا عشر رجلاً جمع بهم وإلاّ فلا ؛ لظاهر حديث جابر .
وهو وجهٌ لأصحابنا .
ولأصحابنا وجه أخر : يتمها الإمام جمعة ، ولو بقي وحده .
وهذا بعيد جداً .
وفرق مالكٌ بين أن يكون انفضاضهم قبل تمام ركعة فلا تصح جمعتهم ويصلون ظهراً ، وبين أن يكون بعد تمام ركعةٍ فيتمونها جمعة .
ووافقه المزني ، وهو وجه لأصحابنا .
وقال أبو حنيفة : إن انفضوا قبل أن يسجد في الأولى فلا جمعةٍ لهم ، وان كان قد سجد فيها سجدةً أتموها جمعةً .
وقال صاحباه : بل يتمونها جمعةٍ بكل حال ، ولو انفضوا عقب تكبيرة الإحرام .
ومذهب الشافعي - في الجديد - وأحمد والحسن بن زياد : أنه لا جمعةٍ لهم ، حتى يكمل العدد في مجموع الصلاة .
قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر : لم يختلف قولُ أحمد في ذلك .
وقد وجدت جواباً آخر عن حديث جابر ، وهو : أن النبي ( كان قد صلى بأصحابه الجمعة ، ثم خطبهم فانفضوا عنه في خطبته بعد صلاة الجمعة ، ثم أن النبي ( بعد ذلك قدم خطبة الجمعة على صلاتها .
فخرج أبو داود في ( ( مراسيله ) ) بإسناده ، عن مقاتل بن حيان ، قال : كان(5/527)
"""""" صفحة رقم 528 """"""
رسول الله ( يصلى الجمعة قبل الخطبة مثل العيد ، حتى إذا كان يوم الجمعة والنبي ( يخطب ، وقد صلى الجمعة ، فدخل رجل ، فقال : إن دحية بن خليفة قد قدم بتجارته - وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف - ، فخرج الناس ، لم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء ، فانزل الله عز وجل : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ( [ الجمعة : 11 ] ، فقدم النبي ( الخطبة يوم الجمعة ، وأخر الصلاة .
وهذا الجواب أحسن مما قبله .
ومن ظن بالصحابة أنهم تركوا صلاة الجمعة خلف النبي ( بعد دخولهم معه
فيها ، ثم خرجوا من المسجد حتى لم يبق معه إلاّ إثنا عشر رجلاً ، فقد أساء بهم الظن ، ولم يقع ذلك بحمد الله تعالى .
وأصل هذه المسائل : أن الجمعة يشترط لها الجماعة ، فلا تصح مع الانفراد ، وهذا إجماع لا نعلم فيه خلافاً ، إلاّ ما تقدم حكايته عن أبي حنيفة ، أنه صلى ركعتين عند تأخير بعض الأمراء للجمعة ، وقال : أشهدكم أنها جمعةٌ .
وحكي مثله عن الفاشاني ، والفاشاني ليس ممن يعتد بقوله بين الفقهاء .
وذهب عطاءٌ إلى أن من حضر الخطبة فقد أدرك الجمعة ، فلو أحدث بعد حضوره الخطبة ، فذهب فتوضأ ثم رجع وقد فرغ الإمام من صلاة الجمعة ، أنه يصلي ركعتين ؛ لأنه قد حضر الخطبة - : نقله عبد الرزاق ، عن ابن جريجٍ ، عنه .
وخالفه جمهور العلماء ، فقالوا : يصلي أربعاً .
وفي مراسيل يحيى بن أبي كثيرٍ : من أدرك الخطبة فقد أدرك الصلاة .
خرّجه عبد الرزاق .(5/528)
"""""" صفحة رقم 529 """"""
ومراسيل يحيى ضعيفةٌ جداً .
واختلفوا فيمن جاء والإمام يخطب ، قد فرغ من الخطبة .
فقالت طائفةٌ : لم يدرك الجمعة ، ويصلي أربعاً ، روي ذلك عن عمر ، وعن طاوسٍ وعطاءٍ ومجاهدٍ ومكحولٍ ، وقالوا : الخطبة بدلٌ عن الركعتين .
قال عطاءٌ : أن جلس قبل أن ينزل الإمام من المنبر فقد أدرك الخطبة ، فيصلي جمعةٍ ، وإلا صلى أربعاً .
وظاهر كلام عطاء : أن الجمعة ظهر مقصورة ؛ فإنه يقول : إن أدرك الخطبة قصر ، وإلا لم يقصر .
وقال سعيد بن جبير : كانت الجمعة أربعا ، فجعلت الخطبة مكان الركعتين .
وذهب طائفة : إلى أن من أدركهم في التشهد قبل السلام فقد أدرك الجمعة ، وهو قول الحكم وحماد وأبي حنيفة وأصحابه ، وحكي رواية عن النخعي ، ورواية عن أحمد ، ولا تكاد تصح عنه .
وروي عن ابن مسعود ، أنه قال لأصحابه - وقد أدرك الناس جلوسا في الجمعة - : قد أدركتم ، إن شاء الله .
قال قتادة إنما أراد : أدركتم الأجر .
وذهب أكثر العلماء إلى أنه إن أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فقد أدرك الجمعة ، ويتمها جمعة ، وإن فاتته الركعة الثانية صلى أربعا .
وروي ذلك عن ابن عمر وابن مسعود وأنس ، وهو قول علقمة والأسود والحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والليث والثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق .(5/529)
"""""" صفحة رقم 530 """"""
واستدلوا بحديث : " من أدرك ركعة من الصلاة " .
ثم إن أكثرهم قالوا : يصلي من أدرك التشهد مع الإمام الظهر خلفه أربعا .
وهذا يتوجه على قول من يقول : يصح اقتداء من يصلي فرضا خلف من يصلي فرضا آخر . فأما من قال : لا يجوز ذلك ، فهو مشكل على أصولهم .
فلهذا قال طائفة : لا يجزئه أن يصلي الظهر خلف من يصلي الجمعة ، بل يستأنف الظهر ، وهو اختيار بعض أصحابنا في المسبوق ، وفيما إذا نقص العدد في أثناء الجمعة .
وهو قول بعض فقهاء أهل المدينة ، إلا على قول من يقول : الجمعة ظهر مقصورة ، فيكون كمقيم صلى خلف مسافر .
فلهذا قال بعضهم : ينوي في دخوله معه الجمعة ، ثم يصلي ظهرا إذا فارقه ، وهو بعيد .
وحكي ذلك عن ابن شاقلا من أصحابنا .
وقد صنف ابن شاقلا في المسألة جزءا مفردا ، وقد تأملته ، فوجدته يقول : إن من أدرك التشهد خلف الإمام في يوم الجمعة ، فإنه يصلي جمعة أربع ركعات . قال : وإنما كانت جمعة هذا أربعا لاتفاق الصحابة عليه ، على خلاف القياس ، وكان القياس : أن يصلي الركعتين .
وأخذ ذاك من قول أحمد - في رواية حنبل - : لولا الحديث الذي في الجمعة ، لكان ينبغي أن يصلي ركعتين إذا أدركهم جلوسا .
حتى قال ابن شاقلا : لو كان الإمام قد صلى الجمعة قبل زوال الشمس ، فأدركه في التشهد صلى أربعا ، وأجزأه ، وكانت جمعة .
وقد قال سفيان الثوري : إذا نوى الجمعة ، وصلى أربعا أجزأته جمعته ، وإن لم ينو الجمعة فلا أراه يجزئه .(5/530)
"""""" صفحة رقم 531 """"""
وللشافعية فيما إذا نوى بصلاة الجمعة صلاة الظهر المقصورة : هل تصح جمعته ؟ وجهان ، على قولهم : إن الجمعة ظهر مقصورة .
وإن نوى الجمعة ، فإن قالوا : هي صلاة مستقلة أجزأه .
وإن قالوا : ظهر مقصورة ، فهل تشترط نية القصر فيه وجهان لهم ، أصحهما : لا تشترط .
ولو نوى الظهر مطلقا ، من غير تعرض للقصر ، لم يصح عندهم بغير خلاف .
وقال مالك - فيما نقله عنه ابن عبد الحكم - في الإمام ينزل بقرية لا تقام فيها الجمعة ، فيجمع فيها : إنه لا يكون جمعة ، بل يكون ظهرا مقصورة ، فتصح له ولمن معه من المسافرين ، ويتم أهل تلك القرية صلاتهم إذا سلم .
وهو ظاهر ما ذكره في " الموطأ " ، ونقله عنه ابن نافع - أيضا .
وظاهر هذا : يدل على صحة صلاة الظهر المقصورة بنية الجمعة .
قال ابن القاسم في " المدونة " : لا جمعة للإمام ولا لمن خلفه ، ويعيد ويعيدون ؛ لأنه جهر عامدا .
وهذا تعليل عجيب ، وهو يقتضي أن من جهر في صلاة السر عمدا بطلت صلاته .
والتعليل : بأنه لا تصح صلاة الظهر بنية الجمعة أظهر .
وذكر ابن المواز ، عن ابن القاسم : أما هو فصلاته تامة ، وأما هم فعليهم الإعادة .(5/531)
"""""" صفحة رقم 532 """"""
واختلف السلف في هذه المسألة :
فقال عطاء - فيمن دخل قرية لا ينبغي أن تقام فيها الجمعة ، وهي القرية التي ليست جامعة عنده ، فأقام أهلها الجمعة ، فجمع معهم : إنه يتم صلاته ، فإذا سلم إمامهم أتم صلاته بركعتين ، ولا يقصر معهم .
وقال الزهري : يجمع معهم ويقصر .
ومذهب أصحاب الشافعي : أن المسبوق في صلاة الجمعة يتم صلاته - إذا سلم الإمام - ظهرا .
ثم منهم من قطع بذلك ، وهم جمهور العراقيين ، ومن الخراسانين من بناه على القول في أن الجمعة : هل هي صلاة مستقلة أو ظهر مقصورة .
فإن قيل : هي ظهر مقصورة أتمها ظهرا كالمسافر إذا امتنع عليه القصر لسبب ، وإن قيل : هي صلاة مستقلة ، فهل يتمها ظهرا ؟ فيها وجهان ، أصحهما : يتمها ظهرا ؛ لأنها بدل منها ، أو كالبدل .
فعلى هذا : هل يشترط أن ينوي قبلها ظهرا ، أو تنقلب بنفسها ؟ فيه وجهان - أيضا .
وهذا كله تفريع على قولهم : ينوي الجمعة موافقة للإمام .
ولهم وجه آخر : ينوي الظهر ؛ لأنه لا يصح له غيرها .
وهو قول الخرقي وأكثر أصحابنا .
ومنهم من قال : هو ظاهر كلام أحمد .
وحكاه - أيضا - عن مالك والشافعي ، وفي حكايته عن الشافعي نظر .(5/532)
"""""" صفحة رقم 533 """"""
39 - باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها
937 - حدثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين ، وبعد المغرب ركعتين في بيته ، وبعد العشاء ركعتين ، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين .
وقد خرجه في " أبواب صلاة التطوع " من طرق أخرى عن نافع ، ومن طريق سالم ، عن أبيه ، والمعنى متقارب .
وقد دل هذا الحديث على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا يصلي بعد الجمعة في المسجد شيئا ، وأنه كان ينصرف إلى بيته ، فيصلي ركعتين .
فتضمن ذلك : استحباب شيئين : أحدهما : صلاة ركعتين بعد الجمعة . والثاني : أن تكون في البيت .
وقد كان ابن عمر يفعله بالمدينة ، يرجع إلى بيته فيصلي ركعتين ، وكان ينهى عن صلاتهما في المسجد ، ويقول لمن يفعله : صلى الجمعة أربعا ، وكان إذا كان بمكة يتقدم من موضع صلاته ، فيصلي ركعتين ، ثم ينتقل عنه فيصلي أربعا .
وفي " صحيح مسلم " عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : " من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا " .(5/533)
"""""" صفحة رقم 534 """"""
وفي رواية له : قال سهيل : فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت .
وقد وقع في غير مسلم هذا الكلام عن سهيل من قوله .
وقد اختلف العلماء في الجمع بين حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة .
فقالت طائفة : هو مخير بين أن يصلي ركعتين وأربعا ، عملا بكل واحد من الحديثين ، وهو قول أحمد - في رواية عنه .
وظاهره : أنه لا فضل لأحدهما على الآخر .
وروي عنه ، أنه قال : يصلي ركعتين ولا يعيب على من صلى أربعا ؛ لحديث أبي هريرة .
وظاهره : أن الأفضل الأخذ بحديث ابن عمر ؛ لأنه أثبت إسنادا .
وقالت طائفة : يجمع بينهما ، فيصلي ستا - : نقله إبراهيم الحربي ، عن أحمد ، وقال : يجمع بينهما على وجه ، بين أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفعله .
ونقل عنه ابن هانئ ، قال : يصلي ستا ؛ لأمر علي بن أبي طالب بذلك .
وهذا مأخذ آخر .
وقالت طائفة : يجمع بينهما على وجه آخر ، فإن صلى في المسجد صلى أربعا ، وإن صلى في بيته صلى ركعتين ، وهو قول إسحاق ، واستدل - أيضا - بقول عمر وابن مسعود . ولا يصلى ركعتين بعد مكتوبة مثلها .
قال : فإذا صلى في المسجد ركعتين فقد صلى بعد المكتوبة مثلها ، فيصلي أربعا ، وأما إذا صلى في بيته ركعتين ؛ فإن المشي إلى بيته فاصل بين المكتوبة وغيرها .
وقالت طائفة : يجمع بينهما على وجه آخر ، وهو أن الإمام يصلي في بيته(5/534)
"""""" صفحة رقم 535 """"""
ركعتين ، والمأموم يصلي أربعا في المسجد ، وهذا قول أبي خيثمة زهير بن حرب وأبي إسحاق الجوزجاني . وتبويب النسائي يدل عليه - أيضا .
وكان علي بن أبي طالب يأمر بصلاة ست ركعتات بعد الجمعة .
وكان ابن مسعود يأمر بأربع .
قال عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي : علمنا عبد الله بن مسعود أن نصلي بعد الجمعة أربعا ، ثم جاء علي بن أبي طالب ، فعلمنا أن نصلي ستا .
وكان عمران بن حصين يصلي بعد الجمعة أربعا .
وروي عن علي من وجه آخر منقطع .
وعن أبي موسى الأشعري ، أنه كان يصلي ستا .
وكان الحسن يصلي ركعتين ، ومسروق يصلي ركعتين ، ثم أربعا .
ونص الشافعي في " الأم " ، أنه يصلي بعد الجمعة أربعا .
وحكي الترمذي ، عنه ، أنه يصلي ركعتين .
وقد تقدم عن ابن عمر ، أنه كان يصلي في بيته ركعتين وفي المسجد ستا : ركعتين ، ثم أربعا ، يفصل بينهما .
وقال ابن عيينة : يصلي ركعتين ، يسلم فيهما ، ثم يصلي أربعا ، لا يسلم إلا في آخرهن .
وقال أحمد - في رواية عنه - : إ ، شاء صلى أربعا ، وإن شاء صلى ستا .
ولا يكره ترك الصلاة بعد الجمعة أحيانا - : نص عليه أحمد ، واستدل بأن عمران بن حصين تركها مرة ، حيث كان يصلي أربعا بعد صلاة الجمعة خلف(5/535)
"""""" صفحة رقم 536 """"""
زياد ، فقيل عنه : إنه لا يعتد بصلاته خلف زياد ، فأنكر ذلك ، ثم صلى الجمعة الثانية ، ولم يصل شيئا حتى صلى العصر .
وأما مكان الصلاة بعد الجمعة ، فالأفضل أن يكون في البيت لمن له بيت يرجع إليه ، كما كان ابن عمر يفعله ويأمر به .
فإن صلى في المسجد ، فهل يكره ، أم لا ؟
ذهب الأكثرون إلى أنه لا يكره ، ولكن يؤمر بالفصل بينها وبين صلاة الجمعة .
وقد سبق حديث السائب بن يزيد ، عن معاوية في ذلك .
وقال عكرمة : إذا صليت الجمعة ، فلا تصلها بركعتين حتى تفصل بينهما بتحول أو كلام .
وقال قتادة : رأى ابن عمر رجلا يصلي في مقامه الذي صلى فيه الجمعة ، فنهاه عنه ، وقال : ألا أراك تصلي في مقامك ؟ قال : نعم . قال قتادة : فذكرت ذلك لابن المسيب ، فقال : إنما يكره ذلك للإمام يوم الجمعة .
ومذهب مالك : أنه يكره للإمام أن يصلي بعد الجمعة في المسجد ، ولا يكره للمأموم ، إذا انتقل من موضع مصلاه ، وقد روي عن ابن عمر .
قال عبد الرزاق : أخبرني ابن جريج : أخبرني عطاء ، أن عمرو بن سعيد صلى الجمعة ، ثم ركع على إثرها ركعتين في المسجد ، فنهاه ابن عمر عن ذلك ، وقال : أما الإمام فلا ، إذا صليت فانقلب فصل في بيتك ما بدا لك ، إلا أن تطوف ، وأما الناس ، فإنهم يصلون في المسجد .(5/536)
"""""" صفحة رقم 537 """"""
وفي صلاة الإمام في الجامع بعد الجمعة حديث ، من رواية عاصم بن سويد ، عن محمد بن موسى بن الحارث ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، قال : أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بني عمرو بن عوف يوم الأربعاء ، فقال : " لو أنكم إذا جئتم عيدكم هذا صليتم حتى تسمعوا من قولي " . قالوا : نعم ، بأبينا أنت يا رسول الله وأمهاتنا . قال : فلما حضروا الجمعة صلى لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الجمعة ، ثم صلى ركعتين بعد الجمعة في المسجد ، ولم ير يصلي بعد الجمعة في المسجد ، وكان ينصرف إلى بيته قبل ذلك اليوم .
خرجه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم .
وقال : صحيح الإسناد .
وقال بعض المتأخرين : محمد بن موسى بن الحارث لا يعرف .
وخرجه البزار في " مسنده " ، وعنده : عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبيه ، عن جابر .
فإن كان ذلك محفوظا ، فهو موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي ، وهو منكر الحديث جدا .
وخرج النسائي من رواية شعبة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين ، يطيل فيهما ، ويقول : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يفعله .
وذكر إطالة الركعتين بعد الجمعة غريب .
وقد روى غير واحد ، عن أيوب في هذا الحديث : أن الإطالة إنما كانت في الصلاة قبل الجمعة ، كما سنذكره .(5/537)
"""""" صفحة رقم 538 """"""
وقد بوب البخاري على " الصلاة بعد الجمعة وقبلها " ، كما بوب عليه عبد الرزاق والترمذي في " كتابيهما " ، إلا أنهما ذكرا في الصلاة قبلها آثارا موقوفة غير مرفوعة ، ولم يذكر البخاري فيها شيئا ، إما لأن المرفوع فيها ليس على شرطه ، وفيها أحاديث مرفوعة في أسانيدها نظر ، أو لأن الذي فيها كله موقوف ، فلم يذكره لذلك .
أو لأنه اجتزأ عنه بحديث سلمان الذي خرجه فيما تقدم في موضعين ؛ فإن فيه : " وصلى ما كتب له ، ثم أنصت إذا تكلم الإمام " ؛ فإن هذا يدل على فضل الصلاة قبل الجمعة ، لا سيما وفيه - في إحدى الروايتين للبخاري - : " ثم راح " ، والرواح حقيقة لا يكون حقيقة إلا بعد الزوال ، كما سبق ذكره .
فعلى هذا ، يكون ترغيبا في الصلاة بعد زوال الشمس يوم الجمعة من غير تقدير للصلاة ، فيكون أقل ذلك ركعتين ، والزيادة عليهما بحسب التيسير .
وإن قيل : إن الرواح هنا بمعنى الذهاب ، فإنه يدل على استحباب الصلاة يوم الجمعة قبل خروج الإمام من غير تفضيل بين ما قبل زوال الشمس وبعده .
وروى ابن علية ، عن أيوب ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ، ويصلي بعدها ركعتين في بيته ، ويحدث أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يفعل ذلك .
خرجه أبو داود .
وخرجه الإمام أحمد من طريق وهيب ، عن أيوب ، عن نافع ، أن ابن عمر كان يغدو إلى المسجد يوم الجمعة ، فيصلي ركعات يطيل فيهن القيام ،(5/538)
"""""" صفحة رقم 539 """"""
فإذا انصرف الإمام رجع إلى بيته ، فصلى ركعتين ، وقال : هكذا كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يفعل .
وظاهر هذا : يدل على رفع جميع ذلك إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : صلاته قبل الجمعة وبعدها في بيته ؛ فإن اسم الإشارة يتناول كل ما قبله مما قرب وبعد ، صرح به غير واحد من الفقهاء والأصوليين .
وهذا فيما وضع للإشارة إلى البعيد أظهر ، مثل لفظة : " ذلك " ؛ فإن تخصيص القريب بها دون البعيد يخالف وضعها لغة .
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر يصلي قبل الجمعة اثنتي عشرة ركعة .
وعن ابن جريج أنه قال لعطاء : بلغني أنك تركع قبل الجمعة ثنتي عشرة ركعة ، فما بلغك في ذلك ؟ فذكر له حديث أم حبيبة المرفوع : " من ركع ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة - سوى المكتوبة - بنى الله له بيتا في الجنة " .
وقد تقدم عن ابن مسعود ، أنه كان يأمر أن يصلي قبل الجمعة أربعا .
وروى الطحاوي بإسناده عن جبلة بن سحيم قال : كان ابن عمر يصلي قبل الجمعة أربعا لا يفصل بينهن بسلام وبعد الجمعة ركعتين ثم أربعا .
وروى ابن سعد في " طبقاته " بإسناده ، عن صفية بنت حيي أم المؤمنين ، أنها صلت الجمعة مع الإمام ، فصلت قبل خروجه أربعا .
وقال النخعي : كانوا يحبون أن يصلوا قبل الجمعة أربعا .(5/539)
"""""" صفحة رقم 540 """"""
خرجه ابن أبي الدنيا في " كتاب العيدين " بإسناد صحيح .
وقد روى ابن أبي خيثمة في " تاريخه " من طريق الأعمش ، عن النخعي ، قال : ما قلت لكم : كانوا يستحبون ، فهو الذي أجمعوا عليه .
وممن ذهب إلى استحباب أربع ركعات قبل الجمعة : حبيب بن أبي ثابت والنخعي والثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق .
وروى حرب بإسناده ، عن ابن عباس ، أنه كان يصلي يوم الجمعة في بيته أربع ركعات ، ثم يأتي المسجد فلا يصلي قبلها ولا بعدها .
وهذا يدل على أن سنة الجمعة عند ابن عباس قبلها لا بعدها .
واعلم ؛ أن التطوع بالصلاة يوم الجمعة قبل الجمعة له أربعة أوقات :
أحدها : ما قبل طلوع الشمس لمن بكر إلى الجمعة حينئذ ، فهذا الوقت وقت نهي عن التطوع فيه بما لا سبب له ، وماله سبب كتحية المسجد فيه اختلاف ، سبق ذكره في ذكر أوقات النهي .
إلا من يقول : إن يوم الجمعة كله صلاة ليس فيه وقت ينهى عن الصلاة فيه بالكلية ، كما هو ظاهر كلام طاوس ؛ فإنه قال : يوم الجمعة كله صلاة .
وقد قيل : إنه إنما أراد به وقت استواء الشمس خاصة .
والثاني : ما بين ارتفاع الشمس واستوائها ، فيستحب التطوع فيه بما أمكن ، وخصوصا لمن بكر إلى الجمعة .
والثالث : وقت استواء الشمس وقيامها في وسط السماء .
وقد اختلفوا : هل هو وقت نهي عن الصلاة في يوم الجمعة ، أم لا ؟
فمنهم من قال : هو وقت نهي ، كأبي حنيفة وأحمد .
ومنهم من قال : ليس بوقت نهي ، وهو مذهب مكحول والأوزاعي والشافعي .(5/540)
"""""" صفحة رقم 541 """"""
ومن أصحابه من خصه بمن حضر الجمعة دون من هو في بيته . ومنهم من خصه بمن بكر إلى الجمعة ، وغلبه النعاس .
ومنهم من قال : هو وقت نهي يوم الجمعة في الصيف دون الشتاء ، وهو قول عطاء وقتادة .
ومنهم من لم يره وقت نهي في جميع الأيام ، كمالك .
وقد سبق الكلام عليه في ذكر أوقات النهي .
والرابع : بعد زوال الشمس ، وقبل خروج الإمام ، فهذا الوقت يستحب الصلاة فيه بغير خلاف نعلمه بين العلماء سلفا وخلفا ، ولم يقل أحد من المسلمين : إنه يكره الصلاة يوم الجمعة ، بل القول بذلك خرق لإجماع المسلمين ، إنما اختلفوا في وقت قيام الشمس ، كما سبق .
قال مالك : لا أكره الصلاة نصف النهار في جمعة ولا غيرها .
وقد روى في " الموطأ " حديثا مرفوعا في النهي عنه ، ثم تركه ؛ لأنه رأى عمل العلماء وأهل الفضل على خلافه .
فأما الصلاة بعد زوال الشمس ، فلم يزل عمل المسلمين على فعله .
وقد ذكر مالك في " الموطأ " عن الزهري ، عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي ، أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون حتى يخرج عمر ويجلس على المنبر ، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون جلسوا يتحدثون ، فإذا اسكت المؤذن وقام عمر سكتوا ولم يتكلم أحد .
وهذا تصريح باستمرارهم في الصلاة إلى ما بعد زوال الشمس ، وهو مما يستدل به على الصلاة وقت استواء الشمس وقيامها يوم الجمعة .
وقد وردت آثار آخر ، تدل على أنهم كانوا يتركون الصلاة وقت قيام الشمس(5/541)
"""""" صفحة رقم 542 """"""
يوم الجمعة ، فإذا زالت قاموا إلى الصلاة .
وروى الأثرم بإسناده ، عن عمرو بن سعيد بن العاص ، قال : كنت أبقى - يعني : أنتظر - أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإذا زالت الشمس قاموا فصلوا أربعا .
وبإسناده ، عن أبي بكر بن عياش ، قال : كنا نكون مع حبيب بن أبي ثابت في الجمعة ، فيقول : أزالت الشمس بعد ، ويلتفت فينتظر ، فإذا زالت الشمس ، قام فصلى الأربع قبل الجمعة .
وبإسناده ، عن حماد بن زيد ، قال : كنت أمر بابن عون يوم الجمعة ، فنمضي إلى الجمعة ، فيقول لي : الشمس عندكم أبين منها عندنا ، فنرى الشمس زالت .
قال حماد : كأنه يكره الصلاة حتى تزول الشمس .
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في " مسائله للإمام أحمد " : رأيت أبا عبد الله - يعني : أحمد - إذا كان يوم الجمعة يصلي إلى أن يعلم أن الشمس قد قاربت أن تزول ، فإذا قاربت أمسك عن الصلاة حتى يؤذن المؤذن ، فإذا أخذ في الأذان قام فصلى ركعتين أو أربعا ، يفصل بينها بالسلام .
وقال - أيضا - : رأيت أبا عبد الله إذا أذن المؤذن يوم الجمعة صلى ركعتين ، وربما صلى أربعا على خفة الأذان وطوله .
ومما يدل على استحباب الصلاة في هذا الوقت يوم الجمعة : أنه وقت يرجى فيه ساعة الإجابة ، فالمصلي فيه يدخل في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا يوافقها عبد قائم يصلي ، يسأل الله شيئا ، إلا أعطاه " .
وقد اختلف في الصلاة قبل الجمعة : هل هي من السنن الرواتب كسنة الظهر قبلها ، أم هي مستحبة مرغب فيها كالصلاة قبل العصر ؟(5/542)
"""""" صفحة رقم 543 """"""
وأكثر العلماء على أنها سنة راتبة ، منهم : الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ، وهو ظاهر كلام أحمد ، وقد ذكره القاضي أبو يعلى في " شرح المذهب " وابن عقيل ، وهو الصحيح عند أصحاب الشافعي .
وقال كثير من متأخري أصحابنا : ليست سنة راتبة ، بل مستحبة .
وقد زعم بعضهم : أن حديث ابن عمر المخرج في هذا الباب يدل على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن يصلي قبل الجمعة شيئا ؛ لأنه ذكر صلاته بعد الجمعة ، وذكر صلاته قبل الظهر وبعدها ، فدل على الفرق بينهما .
وهذا ليس بشيء ؛ فإن ابن عمر قد روي عنه ما يدل على صلاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل الجمعة ، كما سبق ، ولعله إنما ذكر الركعتين بعد الجمعة ؛ لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصليهما في بيته ، بخلاف الركعتين قبل الظهر وبعدها ؛ فإنه كان أحيانا يصليها في المسجد ، فبهذا يظهر الفرق بينهما .
وقد ثبت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا عمل عملا داوم عليه ، ولم يكن ينقصه يوم الجمعة ولا غيرها ، بل كان الناس يتوهمون أنه كان يزيد في صلاته يوم الجمعة بخصوصه ، فكانت عائشة تسأل عن ذلك ، فتقول : لا ، بل كان عمله ديمة .
وقد صح عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ، أنه كان يصلي قبل الظهر ركعتين أو أربعا .
وفي " صحيح ابن حبان " ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خرج صلى ركعتين .
ورويناه من وجه آخر عن عائشة ، قالت : ما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عندي قط إلا صلى ركعتين .
وقد كان من هدي المسلمين صلاة ركعتين عند خروجهم من بيوتهم ، من الصحابة ومن بعدهم ، وخصوصا يوم الجمعة ، وممن كان يفعله يوم الجمعة ابن(5/543)
"""""" صفحة رقم 544 """"""
عباس وطاوس وأبو مجلز ، ورغب فيه الزهري .
وقال الأوزاعي : كان ذلك من هدي المسلمين .
وقد سبق في " باب : الصلاة إذا دخل المسجد والإمام يخطب " ما يدل على ذلك - أيضا .
وحينئذ ؛ فلا يستنكر أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي في بيته ركعتين قبل خروجه إلى الجمعة .
فإن قيل : فهو كان يخرج إلى الجمعة عقب الزوال من غير فصل ؛ بدليل ما سبق من الأحاديث من صلاته الجمعة إذا زالت الشمس .
قيل : هذه دعوى باطلة ، لا برهان عليها ، ولو كانت حقا لكانت خطبته دائما أو غالبا قبل الزوال ، إذا كانت صلاته عقب زوال الشمس من غير فصل ، ولم يقل ذلك أحد .
وأيضا ؛ فقد روي أنه كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس ، كما تقدم في " المواقيت " ولم يقل أحد : إنه يدل على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا يصلي قبل الظهر شيئا .
وقد كتبت في هذه المسألة جزءا مفردا ، سميته : " نفي البدعة عن الصلاة قبل الجمعة " ، ثم اعترض عليه بعض الفقهاء المشار إليه في زماننا ، فأجبت عما اعترض به في جزء آخر ، سميته : " إزالة الشنعة عن الصلاة قبل الجمعة " ، فمن أحب الزيادة على ما ذكرناه ها هنا ، فليقف عليهما - إن شاء الله تعالى .(5/544)
"""""" صفحة رقم 545 """"""
40 - باب قول الله عز وجل : ) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ( [ الجمعة : 10 ] الآية
938 - حدثنا سعيد بن أبي مريم : ثنا أبو غسان : حدثني أبو حازم ، عن سهل ابن سعد ، قال : كانت فينا امرأة تجعل على أربعاء في مزرعة لها سلقا ، فكانت إذا كان يوم الجمعة تنزع أصول السلف ، فتجعله في قدر ، ثم تجعل عليه قبضة من شعير تطحنها ، فتكون أصول السلق عرقه ، وكنا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلم عليها ، فتقرب ذلك الطعام إلينا ، فنلعقه ، فكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك .
939 - حدثنا عبد الله بن مسلمة : نا ابن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سهل بن سعد - بهذا ، وقال : ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة .
المقصود من هذا الحديث ها هنا : أن الصحابة لم يكونوا يجلسون بعد صلاة الجمعة في المسجد إلى العصر لانتظار الصلاة - كما ورد في الحديث المرفوع أنه يعدل [ عمرة ] وقد خرجه البيهقي بإسناد ضعيف ، وقد سبق ذكره - وإنما كانوا يخرجون من المسجد ينتشرون في الأرض ، فمنهم من كان ينصرف لتجارة ، ومنهم من كان يزور أصحابه وإخوانه ، وكانوا يجتمعون على ضيافة هذه المرأة .(5/545)
"""""" صفحة رقم 546 """"""
وقد ذهب بعضهم إلى [ أن ] الأمر بالانتشار بعد الصلاة للاستحباب ، كان عراك بن مالك إذا خرج من المسجد يوم الجمعة [ قال ] : اللهم ، أجبت دعوتك ، وقضيت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك ، وأنت خير الرازقين .
خرجه ابن أبي حاتم وغيره .
وهذا يدل على أنه رأى قوله تعالى : ) فانتشروا في الأرض ( [ الجمعة : 10 ] أمرا على ظاهره .
وخرج - أيضا - بإسناده ، عن عمران بن قيس ، قال : من باع واشترى يوم الجمعة بارك الله له سبعين مرة .
قال بعض رواته : وذهب بعد صلاة الجمعة ؛ لهذه الآية .
وذهب الأكثرون إلى أنه ليس بأمر حقيقة ، وإنما هو إذن وإباحة ، حيث كان بعد النهي عن البيع ، فهو إطلاق من محظور ، فيفيد الإباحة خاصة .
وكذا قال عطاء ومجاهد والضحاك ومقاتل بن حيان وابن زيد وغيرهم .
وروى أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في " كتاب الشافي " بإسناد لا يصح ، عن أنس - مرفوعا - في قوله تعالى : ) فانتشروا في الأرض ( ، قال : " ليس بطلب دنيا ، ولكن عيادة مريض ، وتشييع جنازة ، وزيارة أخ في الله " .
وفي حديث سهل : دليل على زيارة الرجال للمرأة ، وإجابتهم لدعوتها ، وعلى استحباب الضيافة يوم الجمعة خصوصا لفقراء المسلمين ، فإطعام الفقراء فيه حسن مرغب فيه .(5/546)
"""""" صفحة رقم 547 """"""
وفيه : أن فرح الفقير بوجود ما يأكل وتمنيه لذلك غير قادح في فقره ، ولا مناف لصبره ، بل ولا لرضاه .
وفي الحديث ألفاظ تستغرب :
ف " الأربعاء " : جداول الماء في الأرض ، واحدها : " ربيع " .
وقوله : " فيكون أصول السلق عرقه " - وفي رواية : " عراقه " - ، وهو بالعين المهملة والقاف ، والعرق والعراق : اللحم .
والمعنى : أن أصول السلق تصير في هذا الطعام كاللحم لما يطبخ باللحم من الأطعمة .
ورواه بعضهم : " غرفه " - بالغين المعجمة والفاء - ، وفسر ب " المرقة " ؛ فإنها تغرف باليد .
وهذا بعيد ؛ فإن أصول السلق لا تصير بغرف .
وقوله : " فنعلقه " أي : نلحسه ، وهذا يدل على أنه كان قد ثخن .
وقيل : الفرق بين اللحس واللعق : أن اللحس يختص بالأصبع ، واللعق يكون بالأصبع وبآلة يلعق بها كالملعقة .(5/547)
"""""" صفحة رقم 548 """"""
48 - باب القائلة بعد الجمعة
940 - حدثني محمد بن عقبة الشيباني الكوفي : نا أبو إسحاق الفزاري ، عن حميد ، عن أنس ، قال : كنا نبكر إلى الجمعة ثم نقيل .
941 - حدثني سعيد بن أبي مريم : نا أبو غسان : حدثني أبو حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : كنا نصلي مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الجمعة ، ثم تكون القائلة .
هذا من أوضح دليل على أنهم كانوا يبكرون إلى الجمعة من أول النهار ، فيمنعهم التبكير من القائلة في وقتها ، فلا يتمكنون منها إلا بعد الصلاة ، ولو كانوا يأتون الجمعة بعد الزوال لم يمتنعوا من القائلة بإتيان الجمعة .
وقد تعلق بذلك مني قول : إن الجمعة كانت تقام قبل زوال الشمس ؛ لأنها لا تسمى قائلة إلا قبل الزوال ، وكذا الغداء .
وقد مضى في الباب الذي قبله ، عن سهل بن سعد ، قال : ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة .
وربما أشار الإمام أحمد إلى ذلك .
وأما الجمهور ، فقالوا : سمي نومهم وأكلهم بعد الزوال في الجمعة " قائلة " و " غداء " باعتبار أنه قضاء لما يعتادونه في غير الجمعة من النوم والأكل قبل الزوال ، فلما أخروه يوم الجمعة إلى بعد ذلك سمي ذلك باعتبار محله الأصلي الذي أخر عنه .
ويشبهه : تسمية السحور غداء ؛ لأنه يقوم مقام الغداء ، وإن تقدم عليه في وقته .(5/548)
"""""" صفحة رقم 549 """"""
ويدل - أيضا - نومهم وغداؤهم بعد الجمعة على أنهم لم يكونوا كلهم ينتظرون صلاة العصر في المسجد بعد الجمعة ؛ فإنهم إن واصلوا الجلوس لانتظار العصر من غير نوم ولا أكل شق عليهم ، وحصل لهم ضرر ، ويوم الجمعة يوم عيد ، فينهي عن إفراده بالصيام ، وإن تأخروا لأجل انتظار العصر في المجيء إلى الجمعة فاتهم التبكير إليها ، وهو أفضل من انتظار العصر ، فكان المحافظة على التبكير إلى الجمعة مع الانصراف عقيب صلاتها أولى .
وكان الإمام أحمد يبكر إلى الجمعة ، وينصرف أول الناس - : ذكره الخلال في " الجامع " . والله سبحانه وتعالى أعلم .
1(5/549)
"""""" صفحة رقم 4 """"""
الجزء السادس(6/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
كتاب صلاة الخوف(6/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
فارغة(6/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
صلاة الخوف
وقول الله ( : ( وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً ( وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ( إلى قوله : ( إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَأبا مُهِيناً ( [ النساء : 101 - 102 ] قوله تعالى : ( وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ( .
قد ذكر طائفة من السلف أنها نزلت في صلاة في السفر ، لا في صلاة السفر بمجرده ؛ ولهذا ذكر عقبيها قوله تعالى : ( وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ( ، ثم ذكر صفة صلاة الخوف ، فكان ذلك تفسيرا للقصر المذكور في الآية الأولى . وهذا هو الذي يشير إليه البخاري ، وهو مروي عن مجاهد والسدي والضحاك وغيريهم ، واختاره ابن جرير وغيره .
وتقدير هذا من وجهين :(6/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
أحدهما : أن المراد بقصر الصلاة قصر أركانها بالإيماء ونحوه ، وقصر عدد الصلاة إلى ركعة . فأما صلاة السفر ، فإنها ركعتان ، وهي تمام غير قصر ، كما قاله عمر ( .
وروى سماك الحنفي ، قال : سمعت ابن عمر يقول : الركعتان في السفر تمام غير قصر ، إنما القصر صلاة المخافة .
خرجه ابن جرير وغيره .
وروى ابن المبارك عن المسعودي ، عن يزيد الفقير ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يسأل عن الركعتين في السفر : أقصرٌهما ؟ قالَ : إنما القصر ركعةٌ عندَ القتال ، وإن الركعتين في السفر ليستا بقصرٍ .
وخرج الجوزجاني من طريق زائدة بن عمير الطائي ، أنه سأل ابن عباس عن تقصير الصلاة في السفر ؟ قال : إنها ليست بتقصير ، هما ركعتان من حين تخرج من أهلك إلى أن ترجع إليهم .
وخرج الإمام أحمد بإسناد منقطع ، عن ابن عباس ، قال : صلى رسول الله ( ركعتين ركعتين ، وحين أقام أربعا أربعا .
وقال ابن عباس : فمن صلى في السفر أربعا كمن صلى في الحضر ركعتين .
وقال ابن عباس : لم تقصر الصلاة إلاّ مرة واحدة حيث صلى رسول الله ( ركعتين ، وصلى الناس ركعة واحدة . يعني : في الخوف .
وروى وكيع ، عن سفيان ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال :(6/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
صلى رسول الله ( صلاة الخوف ركعة ركعة . قال سعيد : كيف تكون مقصورة وهما ركعتان .
والوجه الثاني : أن القصر المذكور في هذه الآية مطلق ، يدخل فيه قصر العدد ، وقصر الأركان ومجموع ذلك يختص بحالة الخوف في السفر ، فأما إذا انفرد أحد الأمرين - وهو السفر أو الخوف - فإنه يختص بأحد نوعي القصر ، فانفراد السفر يختص بقصر العدد ، وانفراد الخوف يختص بقصر الأركان . لكن هذا ممالم يفهم من ظاهر القرآن ، وإنما بين دلالةٌ عليه رسول الله ( والآية لا تنافيه . وإن كان ظاهرها لا يدل عليه . والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقيل : إن قوله : ( وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ( نزلت بسبب القصر في السفر من غير خوف ، وإن بقية الآية مع الآيتين بعدها نزلت بسبب صلاة الخوف 0
روي ذلك عن عَلِيّ ( .
خرجه ابن جرير ، عنه بإسناد ضعيف جداً ، لايصح . والله ( أعلم .
وقد روي ما يدل على أن الآية الأولى المذكور فيها قصر الصلاة إنما نزلت في صلاة الخوف .
فروى منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي ، قال : كنا مع رسول الله ( بعُسفان - وعلى المشركين خالد بن الوليد - فصلينا الظهر ، فقال المشركونَ : لقد أصبنا غرةً ، لقدأصبنا غفلةً ، لو كنا حملنا عليهم وهم في(6/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
الصلاة ، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر ، فلما حضرت العصر قام رسول الله ( مستقبل القبلة والمشركون
أمامه ، فصف خلف رسول الله ( صف ، وصف بعد ذلك الصف صف آخر ، فركع رسول الله ( وركعوا جميعاً ، ثم سجدوا وسجد الصف الذين يلونه ، وقام الآخرون يحرسونهم ، فلما صلى هؤلاء سجدتين وقاموا ، سجد الآخرون الذين كانوا خلفه ، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين ، وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول ، ثم ركع رسول الله ( وركعوا جميعاً ، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه ، وقام الاخرون يحرسونهم ، فلما جلس رسول الله ( والصف الذي يليه سجد الآخرون ، ثم جلسوا جميعاً فسلم عليهم جميعاً ، فصلاها بعسفان ، وصلاها يوم بني سليم .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود - وهذا لفظه - والنسائي وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) والحاكم .
وقال : على شرطهما .
وفي رواية للنسائي وابن حبان ، عن مجاهد : نا أبو عياش الزرقي ، قال : كنا مع رسول الله ( - فذكره .
ورد ابن حبان بذلك على من زعم : أن مجاهداً لم يسمعه من أبي عياش ، وأن أبا عياش لا صحبة له .
كأنه يشير إلى ما نقله الترمذي في ( ( علله ) ) عن البخاري ، أنه قال : كل الروايات عندي صحيحٌ في صلاة الخوف ، إلاحديث مجاهد ، عن أبي عياش(6/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
الزرقي ، فأني أراه مرسلاً .
وابن حبان لم يفهم ما أراده البخاري ، فإن البخاري لم ينكر أن يكون أبو عياش له صحبةٌ ، وقد عدَة في ( ( تاريخه ) ) من الصحابة ، ولا أنكر سماع مجاهد من أبي عياش ، وإنما مراده : أن هذا الحديث الصواب : عن مجاهد إرساله عن النبي ( من غير ذكر أبي عياش ؛ كذلك رواه أصحاب مجاهد ، عنه بخلاف رواية منصور ، عنه ، فرواه عكرمة بن خالد وعمر بن ذر وأيوب بن موسى ثلاثتهم ، عن مجاهد ، عن النبي ( مرسلاً من غير ذكر أبي عياش .
وهذا أصح عند البخاري ، وكذلك صحح إرساله عبد العزيز النخشبي وغيره من الحفاظ .
وأما أبو حاتم الرازي ، فإنه قال - في حديث منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش - : إنه صحيح . قيل له : فهذه الزيادة ( ( فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر ) ) محفوظةٌ هي ؟ قال : نعم .
وقال الإمام أحمد : كل حديث روي في صلاة الخوف فهو صحيح .
وقد جاء في رواية : فنزلت ( وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ( وهذا لاينافي رواية : ( ( فنزلت آية القصر ) ) بل تبين أنه لم تنزل آية القصر بانفرادها في هذا اليوم ، بل نزل معها الآيتان بعدها في صلاة الخوف .(6/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
وهذا كله مما يشهد لان آية القصر أريد بها قصر الخوف في السفر ، وإن دلت على قصر السفر بغير خوف بوجه من الدلالة . والله سبحانه وتعالى أعلم .
قال البخاري - رحمه الله - :
942 - نا أبو اليمان : ثنا شعيب ، عن الزهري ، قال : سألته : هل صلى النبي ( صلاة الخوف ؟ فقالَ أخبرني سالم ، أن عبد الله بن عمر قالَ : غزوت مع رسول الله ( قبل نجد ، فوازينا العدو ، فصاففنا لهم ، فقام رسول الله ( يصلي لنا ، فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو ، وركع رسول الله ( بمن معه وسجد سجدتين ، ثُمَّ انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل ، فجاءوا فركع رسول الله ( بهم ركعة وسجد سجدتين ، ( ( ثُمَّ سلم ، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين ) ) .
وخرجه في موضع آخر من رواية معمر .
وخرجه مسلم من رواية معمر وفليح كلاهما ، عن الزهري ، به - بمعناه . وقد روي عن حذيفة نحو رواية ابن عمر - أيضا .
وخرجه الطبراني من رواية حكام بن سلم ، عن أبي جعفر الرازي ، عن قتادة ، عن أبي العالية ، قال : صلى بنا أبو موسى الأشعري بأصبهان صلاة(6/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
الخوف .
وما كان كبير خوفٍ ؛ ليرينا صلاة رسول الله ( ، فقام فكبر ، وكبر معه طائفة من القوم ، وطائفة بإزاءالعدو ، فصلى بهم ركعة فانصرفوا ، وقاموا مقام اخوانهم ، فجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعة أخرى ، ثُمَّ سلم ، فصلى كل واحد منهم الركعة الثانية وحدانا .
ورواه سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أبي العالية ، أن أبا موسى كان بالدار من أرض اصبهان ، وما بها كبير خوف ، ولكن أحب أن يعلمهم دينهم وسنة نبيهم ، فجعلهم صفين : طائفة معها السلاح مقبلة على عدوها ، وطائفة من ورائها ، فصلى بالذين بإزائه ركعة ، ثم نكصوا على أدبارهم حتى قاموا مقام الأخرى ، وجاءوا يتخللونهم حتى قاموا وراءه فصلى بهم ركعة أخرى ، ثم سلم ، فقام الذين يلونه والآخرون فصلوا ركعة ركعة ، ثم سلم بعضهم على بعض ، فتمت للإمام ركعتان في جماعة ، وللناس ركعة ركعة . يعني في جماعة .
خرجه ابن أبي شيبة ، وعنه بقي بن مخلد في مسنده .
وهو إسناد جيد . وهو في حكم المرفوع ؛ لما ذكر فيه من تعليمهم بسنة نبيهم .
ورواه أبو داود الطيالسي ، عن أبي حرة ، عن الحسن ، عن أبي موسى ، أن رسول الله ( صلى بأصحابه - فذكر نحوه ، وفيه زيادة على حديث ابن عمر : أن الطائفة الأولى لما صلت ركعة وذهبت لم تستدبر القبلة ، بل نكصت على أدبارها .
وروي - أيضا - عن ابن مسعود ، عن النبي ( نحو ذلك ، من رواية خصيف ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : صلى بنا رسول الله ( صلاة(6/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
الخوف ، فقاموا صفين ، فقام صف خلف رسول الله ( وصف مستقبل العدو ، فصلى رسول الله ( بالصف الذين يلونه ركعة ، ثم قاموا فذهبوا ، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو ، وجاءوا أولئك فقاموا مقامهم ، فصلى بهم رسول الله ( ركعة ، ثم سلم ، ثم قاموا فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا ثم ذهبوا ، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو ، ورجع أولئك إلى مقامهم ، فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا .
خرجه الإمام أحمد - وهذا لفظه - وأبو داود - بمعناه .
وخصيف ، مختلف في أمره . وأبو عبيدة ، لم يسمع من أبيه ، لكن رواياته عنه أخذها عن أهل بيته ، فهي صحيحة عندهم . وهذه الصفة توافق حديث ابن عمر وحذيفة ، إلاّ في تقدم الطائفة الثانية بقضاء ركعة .
وذهابهم إلى مقام أولئك مستقبلي العدو ، ثُمَّ مجيء الطائفة الأولى إلى مقامهم فقضوا ركعة .
وحديث ابن عمر وحذيفة فيهما : قيام الطائفتين يقضون لأنفسهم ، وظاهره : أنهم قاموا جملة وقضوا ركعة ركعة واحدانا .
وقد رواه جماعة ، عن خصيف ، عن أبي عبيدة ، عن ابن مسعود ، وزادوا فيه : أن النبي ( كبر وكبرالصفان معه جميعاً . وقد خرجه كذلك الإمام أحمد وأبو داود .
وزاد الإمام أحمد : ( ( وهم في صلاة كلهم ) ) واختلف العلماء في صلاة الخوف على الصفة المذكورة في حديث ابن(6/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
عمر ، وما وافقه : فذهب الأكثرون إلى أنها جائزة وحسنة ، وإن كان غيرها أفضل منها ، هذا قول الشافعي - في أصح قوليه - وأحمد وإسحاق وغيرهم .
وقالت طائفة : هي غير جائزة على هذه الصفة ؛ لكثرة ما فيها من الأعمال المباينة للصلاة من استدبار القبلة والمشي الكثير ، والتخلف عن الإمام ، وادعوا أنها منسوخة ، وهو أحد القولين للشافعي .
ودعوى النسخ هاهنا لا دليل عليها .
وقالت طائفة : هي جائزة كغيرها من أنواع صلاة الخوف الواردة عن النبي ( ، لا فضل لبعضها على بعض ، وهو قول إسحاق : نقله عن ابن منصور ونقل حرب ، عن إسحاق ، أن حديث ابن عمر وابن مسعود يعمل به إذا كان العدو في غير جهة القبلة .
وكذلك حكى بعض أصحاب سفيان كلام سفيان في العمل بحديث ابن عمر على ذلك .
وقالت طائفة : هي افضل انواع صلاة الخوف ، هذا قول النخعي ، واهل الكوفة وأبي حنيفة وأصحابه ، ورواية عن سفيان ، وحكي عن الأوزاعي واشهب المالكي .
وروى نافع ، ان ابن عمر كان يعلم الناس صلاة الخوف على هذا الوجه . وحكي عن الحسن بن صالح ، أنه ذهب إلى حديث ابن مسعود ، وفيه : أن الطائفة الثانية تصلي مع الإمام الركعة الثانية ، ثم إذا سلم قضت ركعة ، ثم ذهبت إلى مكان الطائفة الأولى ، ثم قضت الطائفة الأولى ركعة ، ثم تسلم وقد قيل : إن هذا هو قول أشهب .(6/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
وحكى ابن عبد البر ، عن أحمد ، أنه ذهب إلى هذا - أيضا .
وقال بعض أصحابنا : هو أحسن من الصلاة على حديث ابن عمر ؛ لأن صلاة الطائفة الثانية خلت عن مفسد بالكلية .
وحكي عن أبي يوسف ومحمد والحسن بن زياد والمزني : أن صلاة الخوف لا تجوز بعد النبي ( لظاهر قول الله تعالى : ( وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ( [ النساء : 102 ] الآية . قالوا : وإنما يصلي الناس صلاة الخوف بعده بإمامين ، كل إمام يصلي بطائفة صلاة تامة ، ويسلم بهم .
وهذا مردود باجتماع الصحابة على صلاتها في حروبهم بعد النبي ( ، وقد صلاها بعده : علي بن أبي طالب ، وحذيفة بن اليمان ، وأبو موسى الاشعري ، مع حضور غيرهم من الصحابة ، ولم ينكره أحد منهم .
وكان ابن عمر وغيره يعلمون الناس صلاة الخوف ، وجابر ، وابن عباس وغيرهما يروونها للناس تعليما لهم ، ولم يقل أحد منهم : أن ذلك من خصائص النبي ( .
وخطابه ( ? لا يمنع مشاركة أمته له في الأحكام ، كما في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( [ الطلاق : 1 ] وقوله : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِم ( [ التوبة : 103 ]
وحكي عن مالك ، أنها تجوز في السفر دون الحضر ، وهو قول عبد الملك بن الماجشون من أصحابه .(6/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
ويحتج له بحمل آية القصر على صلاة الخوف ، وقد شرط لها شرطان : السفر والخوف ، كما سبق ؛ ولأن النَّبيّ ( إنما كانَ يصلي صلاة الخوف في أسفاره ، ولم يصلها في الحضر مع أنه حوصر بالمدينة عام الخندق ، وطالت مدة الحصار ، واشتد الخوف ، ولم يصل فيها صلاة الخوف . وقد قيل : إن صلاة الخوف إنما شرعت بعد غزوة الأحزاب في السنة السابعة .
وقد ذكر البخاري في ( ( المغازي ) ) من كتابه هذا - تعليقا - من حديث عمران القطان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن جابر ، قال : صلى رسول الله ( بأصحابه في الخوف في غزوة السابعة : غزوة ذات الرقاع .
وخرجه الإمام أحمد من رواية ابن لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : غزا رسول الله ( ست مرار قبل صلاة الخوف ، وكانت صلاة الخوف في السابعة .
وقد تقدم في حديث أبي عياش ، أن أول صلاة الخوف كانت بعسفان وعلى المشركين خالد .
وقد روى الواقدي بإسناد له ، عن خالد بن الوليد ، أن ذلك كان في مخرج النبي ( إلى عمرة الحديبية .
وقد تقدم أن أبا موسى صلى بأصبهان هذه الصلاة ، ولم يكن هناك كبير خوف ، وإنما صلى بهم ليعلمهم سنة صلاة الخوف .
وهذا قد يحمل على أنه كان ثم خوف يبيح هذه الصلاة ، ولم يكن وجد خوف شديد يبيح بالإيماء .(6/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
وقد قال أصحابنا وأصحاب الشافعي : لو صلى صلاة الخوف على ما في حديث ابن عمر في غير خوف لم تصح صلاة المأمومين كلهم ؛ لإتيانهم بما لا تصح معه الصلاة في غير حالة الخوف من المشي والتخلف عن الإمام .
فأما الإمام ، فلأصحابنا في صلاته وجهان ، بناء على أن الإمام إذا بطلت صلاة من خلفه ، فهل تبطل صلاته لنيته الإمامة وهو منفرد ، أو يتمها منفردا وتصح ؟ وفيه وجهان للأصحاب .(6/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
- باب صلاة الخوف رجالاً وركباناً
راجلٌ : قائمٌ .
943 - حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد القرشي : أنا أبي : نا ابن جريج ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر - نحوا من قول مجاهد : إذا اختلطوا قياما .
وزاد ابن عمر ، عن النبي ( : ( ( وإن كانوا أكثر من ذلك فليصلوا قياما
وركبانا ) ) .
وخرج مسلم من حديث سفيان عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : صلى رسول الله ( صلاة الخوف في بعض أيامه ، فقامت طائفة معه ، وطائفة بإزاء العدو ، فصلى بالذين معه ركعة ، ثم ذهبوا ، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة ، ثم قضت الطائفتان ركعة ، ركعة . قالَ : وقال ابن عمر : فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصل راكبا أو قائما تومىء إيماء .
فجعل هذا الوجه من قول ابن عمر ، ولم يرفعه .
وروى أبو إسحاق الفزاري ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر الحديث مرفوعا ، ولم يذكر في آخره : ( ( فإذا كان خوف أكثر من ذلك ) ) - إلى
آخره .
وخرج ابن ماجه وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من حديث جرير ، عن(6/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ( في صلاة الخوف فذكر صفتها بمعنى حديث موسى بن عقبة ، وقال في آخر الحديث : فإن كان خوفا أشد من ذلك فرجالا أو ركبانا .
وقد خالف جريرا يحيى القطان وعبد الله بن نمير ومحمد بن بشر وغيرهم ، رووه عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر - موقوفا كله .
ورواه مالك في ( ( الموطإ ) ) ، عن نافع عن ابن عمر - في صفة صلاة الخوف بطوله - وفي آخره : فإن كان خوفا هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم ، أو ركبانا ، مستقبلي القبلة ، أو غير مستقبليها .
قال مالك : قال نافع : لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلاّ عن رسول الله ( .
وخرجه البخاري في ( ( التفسير ) ) من طريق مالك كذلك .
قال ابن عبد البر : رواه مالك ، عن نافع على الشك في رفعه ، ورواه عن نافع جماعة لم يشكوا في رفعه ، منهم : ابن أبي ذئب وموسى بن عقبة وأيوب بن موسى .
وذكرالدارقطني : أن إسحاق الطباع رواه عن مالك ورفعه من غير شك .
وهذا الحديث ينبغي أن يضاف إلى الأحاديث التي اختلف في رفعها نافع وسالم ، وهي أربعة سبق ذكرها بهذا الاختلاف في رفع أصل الحديث في صلاة الخوف عن نافع .
وبقي اختلاف آخر ، وهو : في قوله في آخر الحديث : ( ( فإن كان [ خوفا ] أكثر من ذَلِكَ ) ) إلى آخره ؛ فإن هذا قد وقفه بعض من رفع أصل الحديث ،(6/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
كما وقفه
سفيان ، عن موسى بن عقبة ، وجعله مدرجاً في الحديث .
وقد ذكر البخاري : أن ابن جريج رفعه عن موسى ، وخرجه من طريقه كذلك .
وأما قول مجاهد المشار إليه في رواية البخاري : روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد :
( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانا ( [ البقرة : 239 ] إذا وقع الخوف صلى على كل وجهةٍ ، قائما أو راكبا أو ما قدر ، ويومئ برأسه ، ويتكلم بلسانه .
وروى أبو إسحاق الفزاري ، عن ابن أبي أنيسة ، عن أبي الزبير ، قال : سمعت جابرا سُئل عن الصلاة عند المسايفة ؟ قالَ : ركعتين ركعتين ، حيث توجهت على دابتك تومئ إيماء .
ابن أبي أنيسة ، أظنه : يحيى ، وهو ضعيف .
وخرجه الإسماعيلي في ( ( صحيحه ) ) ، وخرجه من طريقه البيهقي ، من رواية حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، عن ابن كثير ، عن مجاهد ، قالَ : إذا اختلطوا ، فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس .
قال ابن جريج : حدثني موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ( - بمثل قول مجاهد : إذا اختلطوا ، فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس .
وزاد : عن النبي ( : ( ( فإن كثروا فليصلوا ركبانا أو قياما على أقدامهم ) ) يعني : صلاة الخوف .
وخرجه - أيضا - من رواية سعيد بن يحيى الأموي ، عن أبيه ، عن ابن(6/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
جريج ، ولفظه : عن ابن عمر - نحواً من قول مجاهد : إذا اختلطوا ، فإنما هو الذكر وإشارة بالرأس .
وزاد ابن عمر : عن النبي ( : ( ( وإن كانوا أكثرمن ذلك فليصلوا قياما
وركبانا ) ) .
كذا قرأته بخط البيهقي .
وخرجه أبو نعيم في ( ( مستخرجه على صحيح البخاري ) ) من هذا الوجه ، وعنده : ( ( قياما وركبانا ) ) وهو أصح .
وهذه الرواية أتم من رواية البخاري .
ومقصود البخاري بهذا : أن صلاة الخوف تجوز على ظهور الدواب للركبان ، كما قال تعالى : ( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ( ويعني : ( ( رجالا ) ) : قياما على أرجلهم ، فهو جمع راجل ، لا جمع رجل ، و ( ( الركبان ) ) على الدواب . وقد خرج فيه حديثا مرفوعاً .
وقد روي عن ابن عمر وجابر ، كما سبق .
وقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن المطلوب يصلي على دابته - كذلك قال عطاء بن أبي رباح ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور - وإذا كان طالبا نزل فصلى بالأرض .
قال الشافعي : إلا في حالة واحدة ، وذلك أن يقل الطالبون عن المطلوبين ، ويقطع الطالبون عن أصحابهم ، فيخافون عودة المطلوبين عليهم ، فإذا كانوا هكذا كان لهم أن يصلوا يومئون إيماءً . انتهى .
وممن قال : يصلي إلى دابته ويومئ : الحسن والنخعي والضحاك ، وزاد :(6/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
أنه يصلي على دابته طالبا كان أو مطلوباً .
وكذا قال الأوزاعي .
واخلفت الرواية عن أحمد : هل يصلي الطالب على دابته ، أم لا يصلي إلا على الأرض ؟ على روايتين عنه ، إلا أن يخاف الطالب المطلوب ، كما قال الشافعي ، وهوقول أكثر العلماء .
قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر : أما المطلوب ، فلا يختلف القول فيه ، أنه يصلي على ظهر الدابة ، واختلف قوله في الطالب فقالوا عنه : ينزل فيصلي على الأرض ، وإن خاف على نفسه صلى وأعاد ، وإن أخر فلا بأس ، والقول الآخر : أنه إذا خاف أن ينقطع عن أصحابه أن يعود العدو عليه ، فإنه يصلي على ظهر دابته ، فإنه مثل المطلوب لخوفه ، وبه أقول . انتهى .
وما حكاه عن أحمد من أن الطالب إذا خاف فإنه يصلي ويعيد ، فلم يذكر به نصا عنه ، بل قد نص على أنه مثل المطلوب .
قال - في رواية أبي الحارث - : إذا كان طالبا وهو لا يخالف العدو ، فما علمت أحدا رخص له في الصلاة على ظهر الدابة ، فإن خاف إن نزل أن ينقطع من الناس ، ولا يأمن العدو فليصل على ظهر دابته ويلحق بالناس ، فإنه في هذه الحال مثل المطلوب .
ونقل هذا المعنى عنه جماعة ، منهم : أبو طالب والأثرم .
وله أن يصلي مستقبل القبلة وغير مستقبلها على حسب القدرة .
وفي وجوب استفتاح الصلاة إلى القبلة روايتان عن أحمد : فمن أصحابنا من قال : الروايتان مع القدرة ، فأما مع العجز فلا يجب رواية واحدة .
وقال أبو بكر عبد العزيز عكس ذلك ، قالَ : يجب مع القدرة ، ومع عدم الإمكان ، روايتان .(6/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
وهذا بعيد جدا - أعني : وجوب الاستفتاح إلى القبلة مع العجز ، ولعل فائدة إيجاب الإعادة بدونه .
ولهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف رجالا وركبانا في جماعة ، نص عليه أحمد ، وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن .
وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي : لا يصلون جماعة بل فرادى ؛ لأن المحافظة على الموقف والمتابعة لا تمكن .
وقال أصحابنا ومن وافقهم : يعفى عن ذلك هاهنا ، كما يعفى عن استدبار القبلة والمشي في صلوات الخوف ، وإن كان مع الانفراد يمكن ترك ذَلِكَ .
قالوا : ومتى تعذرت المتابعة لم تصح الجماعة بلا خلاف .(6/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
3 - باب
يحرس بعضهم بعضا في صلاة الخوف
944 - حدثنا حيوة بن شريح : نا محمد بن حرب ، عن الزبيدي ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، قالَ : قام النبي ( وقام الناس معه ، فكبر وكبروا معه ، وركع وركع ناس منهم ، ثم سجد وسجدوامعه ، ثم قام للثانية ، فقام الذين سجدوا وحرسوا اخوانهم ، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه ، والناس كلهم في صلاة ، ولكن يحرس بعضهم بعضا .
وخرجه النسائي عن عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير ، عن محمد بن حرب بهذا الإسناد ، وزاد فيه الفاظا بعد قوله : ( ( ثم قام إلى الركعة فتاخر الذين سجدوا معه وحرسوا أخوانهم ) ) .
ورواه النعمان بن راشد ، عن الزهري بهذا الإسناد ، وزاد فيه زيادات كثيرة ، ولفظه : ( ( قام رسول الله ( وقمنا خلفه صفين ، فكبر وركع وركعنا جميعا ، الصفان كلاهما ، ثم رفع رأسه ، ثم خر ساجدا ، وسجد الصف الذي يليه وثبت الآخرون قياما يحرسون أخوانهم ، فلما فرغ من سجوده وقام خر الصف المؤخر سجودا ، فسجد سجدتين ، ثم قاموا فتأخر الصف المقدم الذي بين يديه ، وتقدم الصف المؤخر ، فركع وركعوا جميعا ، وسجد رسول الله ( والصف الذي يليه ، وثبت الآخرون قياما يحرسون أخوانهم ، فلما قعد رسول الله ( خر الصف المؤخر سجودا ، ثم سلم النبي
( .
خرجه الدارقطني ، ومن طريقه البيهقي .(6/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
وفي هذه الرواية : أن الصفين ركعوا معه ، ورواية الزبيدي تدل على أن بعضهم ركع معه ، وبعضهم لم يركع .
ورواه أبو بكر بن أبي الجهم ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، أن النبي ( صلى بذي قرد ، فصف الناس خلفه صفين ، صف خلفه ، موازي العدو ، فصلى بالذين خلفه ركعة ، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ، ولم يقضوا .
خرجه النسائي من طريق سفيان ، عنه .
وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : صلى رسول الله ( صلاة الخوف بذي قرد - أرض من أرض بني سليم - ، فصف الناس خلفه صفين ، صفا موازي العدو ، وصفا
خلفه ، فصلى بالذي يليه ركعة ، ثم نكص هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، وهؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، فصلى بهم ركعة أخرى .
وفي رواية أخرى لهُ : ثم سلم ، فكانت للنبي ( ركعتين ، ولكل طائفة ركعة وهذه الزيادة مدرجة من قول سفيان ؛ كذلك هوَ في رواية البيهقي .
وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحيهما ) ) .
وقال البخاري في ( ( المغازي ) ) : ( ( وقال ابن عباس : صلى رسول الله ( الخوف بذي قرد ) ) - ولم يزد على ذَلِكَ .(6/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
وقال الشافعي : هو حديث لا يثبت أهل العلم بالحديث مثله . قالَ : وإنما تركناه لاجتماع الأحاديث على خلافه ، ولأنه لا يثبت عندنا مثله لشيء في بعض إسناده . انتهى .
وإذا اختلف أبو بكر بن أبي الجهم والزهري ، فالقول قول الزهري ، ولعل مسلما ترك تخريج هذا الحديث للاختلاف في متنه ، وقد صحح الإمام أحمد إسناده .
قال - في رواية علي بن سعيد في صلاة الخوف - : قد روي ركعة وركعتان ، ابن عباس يقول : ركعة ركعة ، إلاّ أنه كان للنبي ( ركعتان وللقوم ركعة ، وما يروى عن النبي ( كلها صحاح .
وقال - في رواية حرب - : كل حديث روي في صلاة الخوف فهو صحيح الإسناد ، وكل ما فعلت منه فهو جائز .
وقد حمل بعضهم معنى رواية أبي بكر أبي الجهم على معنى رواية الزهري ، وقال : إنما المراد أن الصفين صلوا مع النبي ( ، ثم حرس أحد الصفين في الركعة الأولى ، والآخر في الثانية ، وإنما لم يقضوا بعد سلام النبي ( لأنهم قضوا ما تخلفوا به عنه قبل سلامه ، كما في رواية النعمان بن راشد ، عن الزهري .
وأما قوله : ( ( فكانت للنبي ( ركعتان وللقوم ركعة ) ) ، فهو من قول سفيان ، كما هو مصرح به في رواية البيهقي ، وذلك ظن ظنه ، قد خالفه غيره فيهِ .
ويشهد لهذا التأويل : أنه قد روي عن ابن عباس التصريح بهذا المعنى من وجه .
خرجه الإمام أحمد والنسائي من رواية ابن إسحاق : حدثني داود بن(6/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قالَ : ما كانت صلاة الخوف إلا كصلاة أحراسكم هؤلاء اليوم خلف أئمتكم هؤلاء إلاّ أنها كانت عقبا ، قامت طائفة منهم وهم جميعا مع
رسول الله ( ، وسجدت معه طائفة ، ثم قام رسول الله ( وسجد الذين كانوا قياما لأنفسهم ، ثم قام الرسول الله ( وقاموا معه جميعاً ، ثم ركع وركعوا معه جميعاً ، ثم سجد فسجد معه الذين كانوا قياما أول مرة ، فلما جلس رسول الله ( والذين سجدوا معه في آخر صلاتهم سجد الذين كانوا قياما لأنفسهم ، ثم جلسوا فجمعهم رسول الله ( بالتسليم .
وخرج الإمام أحمد من رواية النضر أبي عمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قالَ : خرج رسول الله ( ? في غزاة فلقي المشركين بعسفان فأنزل الله ( وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ( الآية ، فلما صلى رسول الله ( العصر وكانوا في القبلة صلى المسلمون خلفه صفين فكبر رسول الله ( فكبروا معه - فذكر صلاة الخوف - وفيه : تأخر الصف الذين يلونه في الركعة الثانية وتقدم الآخرين - وقال في آخر الحديث : فلما نظر إليهم المشركون يسجد بعضهم ويقوم بعضهم ينظر إليهم ، قالوا : لقد أخبروا بما أردناهم .(6/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
وقال : صحيح على شرط البخاري .
وليس كما قال ؛ والنضر أبو عمر ، ضعيف جدا .
وخرجه البزار - أيضا .
وقد تقدم حديث أبي عياش الزرقي في صلاة النبي ( بعسفان بهذا المعنى .
وروي - أيضا - من حديث جابر ، من رواية عبد الملك بن أبي سليمان ، عن
عطاء ، عن جابر ، قالَ : شهدت مع رسول الله ( صلاة الخوف ، وصفنا صفين ، صف خلف رسول الله ( والعدو بيننا وبين القبلة ، فكبر النبي ( ? وكبرنا جميعا ، ثم ركع وركعنا جميعا ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه ، وقام الصف المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى النبي ( السجود ، وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ، ثم ركع رسول الله ( وركعنا جميعا ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى ، وقام الصف المؤخر في نحور العدو ، فلما قضى النبي ( السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ، ثم سلم النبي ( وسلمنا جميعا .
قال جابر : كما يصنع حرسكم هؤلاء [ بأمرائهم ] .
خرجه مسلم .
وخرجه - أيضا - من رواية أبي الزبير ، عن جابر ، قالَ : غزونا مع رسول الله ( قوما من جهينة ، فقاتلونا قتالا شديدا - ثم ذكره بمعناه .(6/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
وروي - أيضا - من حديث حذيفة .
خرجه الإمام أحمد من رواية أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد السلولي ، قال : كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان ، فقال : أيكم صلى مع رسول الله ( صلاة الخوف ؟ فقالَ حذيفة : أنا ، فأخر أصحابك يقومون طائفتين ، طائفة خلفك وطائفة بازاء العدو ، فتكبر فيكبرون جميعا ، ثُمَّ تركع فيركعون جميعا ، ثُمَّ ترفع فيرفعون جميعا ، ثُمَّ تسجد ويسجد معك الطائفة التي تليك ، والطائف التي بازاء العدو قيام بازاء العدو ، فإذا رفعت رأسك من السجود [ يسجدون ] ، ثُمَّ يتأخر هؤلاء ويتقدم الآخرون ، فقاموا مقامهم ، فتركع ويركعون جميعا ، ثُمَّ ترفع ويرفعون جميعا ، ثُمَّ تسجد فتسجد الطائفة التي تليك ، والطائفة الأخرى قائمة بازاء العدو ، فإذا رفعت رأسك من السجود سجدوا ، ثُمَّ سلمت ويسلم بعضهم على بعض ، وتأمر أصحابك أن هاجهم هيج من العدو ، فقد حل لهم القتال والكلام .
وسليم بن عبد ، ذكره ابن حبان في ( ( ثقاته ) ) .
وقد روي حديث حذيفة بالفاظ محتملة ، وهذه الرواية مفسرة لما أجمل في تلك .
كما روى الأسود بن هلال ، عن ثعلبة بن زهدم ، قالَ : كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان ، فقام ، فقال : إيكم صلى مع رسول الله ( صلاة الخوف ؟ فقالَ حذيفة : أنا ، فصلى بهؤلاء ركعة ، وبهؤلاء ركعة ، وانفضوا .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود ، وهذا لفظه .(6/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
وخرجه النسائي ، ولفظه : فقام حذيفة ، فصف الناس خلفه صفين ، صفا
خلفه ، وصفا موازي العدو ، فصلى بالذين خلفه ركعة ، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا .
وفي رواية : قال له حذيفة : صلى رسول الله ( صلاة الخوف بطائفة ركعة ، صف خلفه ، وأخرى بينه وبين العدو ، فصلى بالطائفة التي تليه ركعة ، ثم نكص هؤلاء إلى مصاف أولئك ، فصلى بهم ركعة .
وروى أبو روق ، عن مخمل بن دماث ، قال : غزونا مع سعيد بن الحارث ، فقال : من شهد منكم صلاة الخوف مع رسول الله ( ؟ فقالَ حذيفة : أنا ، صلى بإحدى الطائفتين ركعة ؛ والأخرى مستقبلة العدو ، ثُمَّ ذهبت هذه الطائفة فقامت مقام
أصحابهم ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم رسول الله ( ركعة ، فصار رسول الله ( ركعتان ، ولكل طائفة ركعة ركعة . وقد خرجه الإمام أحمد وغيره - أيضا .
فهذا الإختلاف في حديث حذيفة يشبه الاختلاف في حديث ابن عباس ، وبعضه محتمل ، وبعضه مفسر ، فيرد المحتمل إلى المفسر المبين ، كما قلنا في حديث ابن عباس . والله - سبحانه وتعالى - أعلم . وقد ذهب أكثر العلماء إلى صحة الصلاة على وجه
الحرس ، على ما في حديث أبي عياش الزرقي وما وافقه من رواية جابر وابن عباس وحذيفة ، وقد أمر بها حذيفة كما سبق .(6/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
وروى حطان بن عبد الله ، أن أبا موسى صلاها في بعض حروبه ، واستحبها طائفة منهم إذا كان العدو في جهة القبلة ، منهم : سفيان وإسحاق وأبويوسف .
وروي عن أبي حنيفة : أنه لا يجوز الصلاة بها ، ولا يجوز إلا على حديث ابن مسعود وما وافقه ، كما سبق .
والصلاة بهذه الصفة والعدو في جهة القبلة إذا لم يخش لهم كمين حسن ؛ فإن أكثر ما فيها تأخر كل صف عن متابعة الإمام في السجدتين وقضاؤهما في الحال قبل سلامه ، وتكون الحراسة في السجود خاصة ، وهذا قول الشافعي وأصحابه .
وللشافعية وجه آخر : أنهم يحرسون في الركوع مع السجود ، وقد سبق في رواية البخاري لحديث ابن عباس ما يدل عليهِ .
وأعلم ؛ أن البخاري لم يخرج في ( ( أبواب صلاة الخوف ) ) مما ورد عن النَّبيّ ( في أنواع صلاة الخوف سوى حديث ابن عمر ، وابن عباس ، وخرج في ( ( المغازي ) ) حديث جابر وسهل بن أبي حثمة ، وذكر حديث أبي هريرة - تعليقاً .
فأما حديث جابر ، فقال : ( ( وقال أبان : نا يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن جابر ، قال : كنا مع النبي ( بذات الرقاع - فذكر الحديث إلى أن قال - : وأقيمت الصَّلاة ، فصلى بطائفة ركعتين ، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين ، وكان للنبي ( أربع ركعات وللقوم ركعتين ) ) .
هكذا ذكره تعليقاً .(6/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
وخرجه مسلم مسنداً من حديث أبان ، ولفظه : قالَ : فنودي بالصلاة - وذكره .
في الحديث : دليل على أن صلاة الخوف ينادي لها بالإذان والإقامة كصلاة
الأمن ، ولا أعلم في هذا خلافاً ، إلا ما حكاه أصحاب سفيان الثوري في كتبهم ، عنه ، أنه قالَ : ليس في صلاة الخوف إذان ولا إقامة في حضر ولا سفر .
وخرج الدارقطني من حديث الحسن ، عن جابر ، أن النبي ( كان يحاصر بني محارب بنخل ، ثم نودي في الناس : أن الصلاة جامعة - وذكر معنى حديث أبي سلمة ، وصرح فيه بأن النبي ( سلم بين كل ركعتين .
وقد خرجه النسائي - مختصراً - من رواية حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن
الحسن ، عن جابر - بذكر السلام - أيضا ، وليس فيه : ذكر الصلاة جامعة .
ورواه قتادة - أيضا - عن سليمان اليشكري ، عن جابر - بذكر السلام بين كل ركعتين ، وفيه : أن يومئذٍ أنزل الله في إقصار الصلاة ، وأمر المؤمنين بأخذ السلاح ، وفي الحديث أن ذلك كان بنخلٍ .
والحسن ، لم يسمع من جابر ، وقتادة ، لم يسمع من سليمان اليشكري .
وقد رواه أشعث ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، عن النبي ( ، أنه صلى(6/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
في خوف ثقيف ركعتين ، ثم سلم ، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين ، ثم سلم ، فكانت للنبي ( أربعاً ، ولأصحابه ركعتين ركعتين .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) .
وعند أبي داود : وبذلك كان يفتي الحسن .
وصلاة الخوف على هذه الصفة : أن يصلي الإمام أربع ركعات ويصلي كل طائفة خلفه ركعتين ، لها صورتان :
إحداهما : أن يسلم الإمام من كل ركعتين ، فهو جائز عن الشافعي وأصحابه .
واختلفوا : هل هي أفضل من صلاة ذات الرقاع - التي يأتي ذكرها ؟ على وجهين لهم .
وكذلك اختار الجوزجاني هذه الصلاة على غيرها من أنواع صلوات الخوف ؛ لما فيها من تكميل الجماعة لكل طائفة .
واختلف أصحابنا في ذلك :
فمنهم من أجازها في صلاة الخوف دون غيرها ، وهو منصوص أحمد ، وهو قول الحسن البصري - أيضا - واختاره طائفة من أصحابنا .
ومن أصحابنا من قال : هي مُخرجة على الاختلاف عن أحمد في صحة ائتمام المفترض بالمتنفل ، كما سبق ذكره .
ومنع منها أصحاب أبي حنيفة ؛ لذلك .
والصورة الثانية : أن لايسلم الإمام ، ويكون ذلك في سفر ، فينبني على أنه : هل يصح أن يقتدي القاصر بالمتم في السفر ؟(6/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
والأكثرون على أنه إذا اقتدى المسافر بمن يتم الصلاة فأدرك معه ركعة فصاعداً ، فإنه يلزمه الإتمام .
فإن أدرك معه دون ركعة ، فهل يلزمه الإتمام ؟
قالَ الزهري وقتادة والنخعي ومالك : لا يلزمه ، وهو رواية أحمد . والمشهور ، عنه : أنه يلزمه الإتمام بكل حال ، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي وأبي ثور .
وقالت طائفة : لا يلزمه الإتمام ، وله القصر بكل حال وهو قول الشعبي وطاوس وإسحاق .
فعلى قول هؤلاء : لاتردد في جواز أن يصلي الإمام أربع ركعات في السفر ، وتصلي معه كل طائفة ركعتين .
وعلى قول الأولين : فهل يجوز ذلك في صلاة الخوف خاصة ؟ فيه لأصحابنا وجهان .
ومن منع ذلك قال : ليس في حديث جابر تصريح بأن النبي ( لم يسلم بين كل ركعتين بل قد ورد ذلك صريحاً في روايات متعددة ، فتحمل الروايات المحتملة على الروايات المفسرة المبينة .
ثم قال البخاري : ( ( وقال أبو الزبير ، عن جابر : كنا مع رسول الله ( بنخل ، فصلى الخوف ) ) . وقال - أيضا - :(6/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
( ( وقال معاذ : ثنا هشام ، عن أبي الزبير ، عن جابر : كنا مع النبي ( بنخل - فذكر صلاة الخوف ) ) .
وقد خرجه النسائي من رواية سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قالَ : كنا مع رسول الله ( بنخل ، والعدو بيننا وبين القبلة ، فكبر النبي ( فكبروا جميعاً ، ثم ركع فركعوا جميعاً ، ثم سجد النبي ( والصف الذي يليه ، والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما قاموا سجد الآخرون مكانهم الذي كانوا فيهِ ، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، ثم ركع فركعوا جميعاً ، ثم رفع فرفعوا جميعاً ، ثم سجد النبي ( والصف الذين يلونه ، والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وجلسوا سجد الآخرون مكانهم ، ثم سلم .
قال جابر : كما يفعل أُمراؤكم .
وخرجه مسلم - بمعناه - من رواية زهير بن معاوية ، عن أبي الزبير ، وليس عنده : ( ( بنخلٍ ) ) .
وذكر البخاري - أيضاً - تعليقاً ، عن جابر من طريقين آخرين ، فقال : ( ( وقال بكر بن سوادة : حدثني زياد بن نافع ، عن أبي موسى ، أن جابراً حدثهم : صلى النبي ( بهم يوم محارب وثعلبة .
وقال ابن إسحاق : سمعت وهب بن كيسان : سمعت جابراً : خرج النبي ( إلى ذات الرقاع من نخل ، فلقي جمعاً من غطفان ، فلم يكن قتال ، وأخاف الناس بعضهم بعضاً ، فصلى النبي ( ركعتي الخوف ) ) . انتهى .
وأبو موسى ، ليس هو الأشعري ، بل تابعي ، ذكره أبو داود ، وذكر في حديثه : أنه كان للنبي ( ركعتان ، ولكل طائفة ركعة .(6/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
وقد رواه ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن بكر بن سوادة بهذا الإسناد ، أن النبي ( صلى صلاة الخوف يوم محارب وثعلبة ، بكل طائفة ركعة وسجدتين .
وذكر أبو مسعود الدمشقي وغيره : أن أبا موسى هذا هو علي بن رباح
اللخمي ، وقيل : إنه أبو موسى الغافقي ، واسمه : مالك بن عبادة ، وله صحبةٌ .
قال صاحب ( ( التهذيب ) ) : والقول الأول أولى . والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما حديث سهل بن أبي حثمة : فقال البخاري : ( ( ثنا قتيبة ، عن مالك ، عن يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات ، عمن شهد مع رسول الله ( يوم ذات الرقاع صلاة الخوف : أن طائفة صفت معه ، وطائفة وجاه العدو ، فصلى بالتي معه ركعة ، ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى ، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم .
قال مالك : وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف .
حدثنا مسدد : ثنا يحيى ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة ، قال : يقوم الإمام(6/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
مستقبل القبلة ، وطائفة منهم معه ، وطائفة من قبل العدو ، ووجوههم إلى العدو ، فيصلي بالذين معه ركعة ، ثم يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون سجدتين في مكانهم ، ثم يذهب هؤلاء إلى مقام أولئك ، فيجيء أولئك فيركع بهم ركعة ، فله ثنتان ، ثم يركعون ويسجدون سجدتين .
حدثنا مسدد : ثنا يحيى ، عن شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة ، عن النبي ( .
حدثنا محمد بن عبيد الله : ثنا ابن أبي حازم ، عن يحيى : سمع القاسم : أخبرني صالح بن خوات ، عن سهل ، حدثه - قوله ) ) .
حاصل الاختلاف في إسناد هذا الحديث الذي خرجه البخاري هاهنا : أن يزيد بن رومان رواه عن صالح بن خوات ، عمن شهد النبي ( يوم ذات الرقاع ، ولم
يسمه .
ورواه القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة ، واختلف عليه في رفعه ووقفه :
فرواه يحيى بن سعيد الانصاري ، عن القاسم ، فوقفه على سهل .
وقد خرجه البخاري هاهنا من طريق يحيى القطان وابن أبي حازم ، عن يحيى الأنصاري .
كذلك رواه شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، فرفعه إلى النبي ( .
قال الإمام أحمد : رفعه عبد الرحمن ، ويحيى لم يرفعه . ثم قالَ : حسبك
بعبد الرحمن ، هو ثقة ثقة ثقة . قيل له : فرواه عن عبد الرحمن غير شعبة ؟(6/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
قالَ : ما علمت .
ثم قال : قد رواه يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات ، عمن صلى مع النبي ( ، فهذا يشد ذاك .
يريد : أنه يقوي رفعه .
ونقل الترمذي في ( ( العلل ) ) عن البخاري ، أنه قال : حديث سهل بن أبي حثمة هوحديث حسن ، وهومرفوع ، رفعه شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم . انتهى .
ولكن رواه حرب الكرماني ، عن إسحاق بن راهويه ، عن الثقفي ، عن يحيى الأنصاري ، وقال في حديثه : ( ( من السنة ) ) .
وهذا - أيضا - رفعٌ له .
وهو غريب عن الأنصاري .
ورواه عبد الله العمري ، عن أخيه عبيد الله ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات ، عن أبيه ، عن النبي ( .
وأخطأَ في قوله : ( ( عن أبيه ) ) ، إنما هو : ( ( عن سهل ) ) : قاله أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان .
وقالا - أيضا - رواه أبو أويس ، عن يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات ، عن أبيه - أيضا - ، وأخطأ - أيضاً - في قوله : ( ( عن أبيه ) ) .
وقد ذكر أبو حاتم الرازي وغيره : أن الذي قال صالح بن خوات في رواية يزيد بن رومان ، عنه : ( ( حدثني من شهد النبي ( ) ) ، هو سهل بن أبي حثمة ، كما قاله القاسم ، عن صالح .
قال أبو حاتم : وسهل بن أبي حثمة بايع تحت الشجرة ، وكان دليل النبي(6/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
( ليلة أحد ، وشهد المشاهد كلها إلا بدراً .
قالَ عبد الرحمن بن أبي حاتم : سمعت رجلاً من ولده ، سأله أبي عن ذلك ، فأخبره به .
ولكن ذكر أكثر أهل السير كالواقدي والطبري وغيرهما : أن سهل بن أبي حثمة توفي النبي ( وهو ابن ثمان سنين .
قال الواقدي والطبري : وقد حفظ عنه ، وقيل : إن الذي كان دليل النبي ( إلى أحد وشهد معه المشاهد هو أبو حثمة والد سهل . والله سبحانه أعلم .
وقد ذكر الإمام أحمد وأبو داود أن رواية يحيى بن سعيد ، عن القاسم تخالف رواية يزيد بن رومان في السلام ؛ فإن في رواية يزيد بن رومان : أن النَّبيّ ( ? سلم بالطائفة الثانية ، وفي رواية يحيى بن سعيد : أنهم قضوا الركعة بعد سلامه .
وقد خرجه أبو داود من رواية مالك ، عن يحيى بن سعيد كذلك ، وفي حديثه : فركع بهم وسجد بهم ويسلم ، فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية ، ثم يسلمون .
وقد روى يحيى القطان الحديث ، عن يحيى الأنصاري ، ورواه عن شعبة عن
عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، وقال : لا أحفظ حديثه ، ولكنه مثل حديث يحيى .
كذا خرجه الترمذي وابن ماجه .
وكذلك في رواية البخاري : أن يحيى القطان رواه عن شعبة مثل حديث يحيى بن سعيد .(6/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
ولكن بينهما فرق في السلام :
فقد رواه معاذ بن معاذ ، عن شعبة ، عن عبد الرحمن بهذا الإسناد ، وقال فيه : وتأخر الذين كانوا قدامهم ، فصلى بهم ركعة ، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة ، ثم سلم .
كذلك خرجه مسلم من طريقه .
ورجح ابن عبد البر رواية يحيى القطان ، عن شعبة ، على رواية معاذ بن معاذ ، عنه ، وقال في القطان : هو أثبت الناس في شعبة . وخالفه البيهقي ، ورجح رواية معاذ بن معاذ ؛ لان يحيى القطان لم يحفظ حديث شعبة .
وقال : رواه - أيضا - روح بن عبادة ، عن شعبة ، كما رواه عنه معاذ . قالَ : وكذلك رواه الثوري ، عن يحيى الأنصاري بخلاف رواية مالك ، عنه . قالَ : وهذا أولى أن يكون محفوظاً ؛ لموافقته رواية عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، ورواية مالك . عن يزيد بن رومان .
قلت : فقد رواه أحمد ، عن غندر ، عن شعبة ، عن يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن القاسم ، وقال : أما عبد الرحمن فرفعه ، وساق الحديث ، وفي آخره : ثم يقعد حتى يقضوا ركعة أخرى ، ثم يسلم عليهم .
وهذا يوافق رواية معاذ ، وغندر مقدم في أصحاب شعبة .(6/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
وقد ذهب كثير من العلماء إلى استحباب صلاة الخوف على ما صلى النبي ( بذات الرقاع في هذا الحديث .
قال القاسم بن محمد : ما سمعت في صلاة الخوف أحب إلي منه .
وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود والثوري - في رواية - وحكاه إسحاق عن أهل المدينة وأهل الحجاز ، وهو قول عبد الرحمن بن مهدي ، وحكاه الترمذي ، عن إسحاق .
وصرح إسحاق في رواية ابن منصور على أنه يجوز العمل به ، ولا يختاره على غيره من الوجوه . إلاّ أنهم اختلفوا : هل تقضي الطائفة الركعة الثانية قبل سلام الإمام ، أو بعده ؟
فعند الشافعي وأحمد وداود : تقضي قبل سلام الإمام ، ثُمَّ يسلم بهم وهو رواية عن مالك ، ثُمَّ رجع عنها ، وقال : إنما يقضون بعد سلام الإمام ، وهو قول أبي ثور وأبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا ، ذكره في كتابه ( ( الشافي ) ) .
ونص أحمد على أن هذه الصلاة تصلى وأن كان العدو في جهة القبلة . وقال القاضي أبو يعلى : إنما تصلى إذا كان العدو في غير جهة القبلة ، وكذلك حمل بعض أصحاب سفيان قوله على ذلك .
قال بعض أصحابنا : نص أحمد محمول على ما إذا لم يمكن صلاة عسفان لاستتار العدو ، وقول القاضي محمول على ما إذا أمكن أن يصلوا صلاة عسفان لظهور العدو .
وكذا قال أصحاب الشافعي ، لكنهم جعلوا ذلك شرطا لاستحباب صلاة ذات الرقاع ، لا لجوازها .(6/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
قال البخاري :
( ( وقال أبو هريرة : صليت مع رسول الله ( في غزوة نجد صلاة الخوف ) ) وهذا الحديث خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من رواية حيوة وابن لهيعة - إلا أن النسائي كنى عنه برجل آخر - كلاهما ، عن أبي الاسود ، أنه سمع عروة بن الزبير
يحدث ، عن مروان بن الحكم ، أنه سأل أبا هريرة : هل صليت مع رسول الله ( صلاة الخوف ؟ قالَ أبو هريرة : نعم . قالَ مروان : متى ؟ قالَ أبو هريرة : عام غزوة
نجد ، قام رسول الله ( إلى صلاة العصر ، فقامت طائفة معه ، وطائفة أخرى مقابل العدو ، وظهورهم إلى الكعبة ، فكبر رسول الله ( فكبروا جميعا : الذين معه والذين مقابلو العدو ، ثُمَّ ركع رسول الله ( ركعة واحدة ، وركعت الطائفة الذين معه ، ثُمَّ سجد فسجدت الطائفة التي تليه ، والآخرون قيام مقابل العدو ، ثُمَّ قام رسول الله ( وقامت الطائفة التي معه ، فذهبوا إلى العدو فقابلوه ، واقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ، ورسول الله ( قائم كما هوَ ، ثُمَّ قاموا فركع رسول الله ( ركعة أخرى وركعوا معه ، وسجد وسجدوا معه ، ثُمَّ أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو ، فركعوا وسجدوا ورسول الله ( قاعد ، ومن كان معه ، ثم كان السلام ، فسلم رسول الله ( وسلموا جميعا ، فكان لرسول الله ( ركعتان ، ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة .
واللفظ لأبي داود .
ولفظ النسائي : فكان لرسول الله ( ركعتان ، ولكل رجل من الطائفتين ركعتان ركعتان . فتحمل - حينئذ - رواية أبي داود على أنه كان لكل واحد من الطائفتين ركعة(6/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
مع النبي ( والركعة الأخرى هو صلاها لنفسه ، وعلى مثل ذلك تحمل كثير من أحاديث صلاة الركعة في الخوف .
ورواية ابن إسحاق ، عن أبي الاسود ، عن عروة أنه سمع أبا هريرة ومروان بن الحكم يسأله - فذكر الحديث بمعناه .
خرجه ابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحيهما ) ) .
ورواية من روى عن عروة ، عن مروان ، عن أبي هريرة أشبه بالصواب - : قاله الدارقطني .
ونقل الترمذي في ( ( علله ) ) عن البخاري ، أنه قال : حديث عروة ، عن أبي
هريرة ، حسن .
وقد روي هذا الحديث عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة ، عن أبي هريرة .
خرجه الأثرم .
وليس في حديثه : أن الطائفتين كبَرت مع النبي ( في أول صلاته . وروي عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر ، عن عروة ، عن عائشة .
خرجه أبو داود .
ولفظ حديثه : قالت : كبَر رسول الله ( وكبرت الطائفة الذين صفوا معه ، ثم ركع فركعوا ، ثم سجد فسجدوا ، ثم رفع فرفعوا ، ثم مكث رسول الله ( جالسا ، ثم سجدوا هم لأنفسهم الثانية ، ثم قاموا فنكصوا على أعقابهم يمشون(6/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
القهقري حتى قاموا من ورائهم ، وجاءت الطائف [ الأخرى فقاموا ] فكبروا ، ثُمَّ ركعوا لأنفسهم ، ثم سجد رسول الله ( فسجدوا معه ، ثم قام رسول الله ( ثم سجدوا لأنفسهم الثانية ، ثم قامت الطائفتان جميعا فصلوا مع النبي ( فركع فركعوا ، ثم سجد فسجدوا جميعا ، ثم عاد فسجد الثانية فسجدوا معه سريعا كأسرع الإسراع جاهدا ، لا يألون إسراعا ، ثم سلم رسول الله ( فسلموا ، فقام رسول الله ( وقد شاركه الناس في الصلاة كلها .
فقد اضطرب ابن إسحاق في لفظ الحديث وإسناده .
وقد رواه هشام بن عروة ، عن أبيه - مرسلا - ، بنحو حديث أبي عياش الزرقي .
ذكره أبو داود - تعليقا .
وقد أجاز الإمام أحمد وإسحاق وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وابن جرير وجماعة من الشافعية صلاة الخوف على كل وجه صح عن النبي ( ، وأن رجحوا بعض الوجوه على بعض .
وأما صلاة الخوف ركعة ، فيأتي الكلام عليه فيما بعد - إن شاء الله ( .
وظاهر كلام البخاري : أنه يجوز .
وقد نقل الترمذي عنه في ( ( العلل ) ) ، أنه قال : كل الروايات في صلاة الخوف عندي صحيح ، وكل يستعمل ، وإنما هو على قدر الخوف ، إلا حديث(6/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
مجاهد ، عن أبي عياش ، فإني أراه مرسلا .
وهذا يدل على أنه يستعمل كل وجه من وجوه صلاة الخوف على قدر ما تقتضيه حال الخوف ، ويكون ذلك الوجه أصلح له .
وروي نحو ذلك عن سليمان بن داود الهاشمي ، وحكي عن إسحاق - أيضا - ، وقاله بعض أصحابنا .(6/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
4 - باب
الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو
وقال الأوزاعي : إن كان تهيأ الفتح ، ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء ، كل امرىء لنفسه ، فإن لم يقدروا على الايماء أخروا [ الصلاة ] حتى ينكشف القتال أو يأمنوا ، فيصلوا ركعتين ، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين ، فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير . ويؤخرونها حتى يامنوا .
وبه قال مكحول .
إنما يقول مكحول بتأخير الصلاة للمطلوب دون الطالب .
قال الفزاري ، عن يزيد بن السمط ، عن مكحول ، قال : إذا حضر القتال فلزم بعضهم بعضا ، لم يطيقوا أن يصلوا ، أخروا الصلاة حتى يصلوا علىالأرض ، وقال : صلاة الطالب : أن ينزل فيصلي ، فيؤثر صلاته على ما سواها ، وصلاة الهارب : أن يصلي حيث كان ركعة .
قال أبو إسحاق ، وقال الأوزاعي : الصلاة حيث وجهوا على كل حال ، لأن الحديث جاء أن البصر لا يرفع ما دام الطلب ، وصلاة الخوف : أن يصلي القوم كما صلى النبي ( فإن كان خوف أكثر من ذلك صلوا فرادى ، مستقبلي القبلة ، يركعون ويسجدون ، فإن كان خوف أكثر من ذلك أخروا الصلاة حتى يقدروا ، فيقضوها .
قالَ : وقال الأوزاعي : إن ثلموا في الحصن ثلمة ، وحضرت الصلاة(6/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
فإن قدروا أن يصلوا جلوسا أو يومئون إيماءً أو يتعاقبون فعلوا وإلاّ أخروا الصلاة إن خافوا إن صلّوا أن يغلبوا عليهِ ، وقد طمعوا في فتحه ، صلوا حيث كانت وجوههم ، ويتمموا أن خافوا .
وقد تضمن ما حكاه البخاري عن الأوزاعي مسائل .
منها :
أن الطالب يصلي صلاة شدة الخوف راكبا وماشيا كالمطلوب ، وهو رواية عن أحمد .
وقال إسحاق - فيما نقله عن حرب - : يصلي بالأرض ويومىء إيماءً .
وفي صلاة الطالب ماشيا بالإيماء حديث ، خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن أنيس ، وهو مما تفرد به ابن إسحاق .
وذهب الجمهور إلى أن الطالب لا يصلي إلاّ بالأرض صلاة الأمن ، إلاّ أن يخاف ، منهم : الحسن ومكحول ومالك والثوري والشافعي وأحمد - في رواية عنه - وقد سبق ذكر ذَلِكَ .
ومنها :
أن صلاة شدة الخوف لا تكون جماعة ، بل فرادى ، وقد سبق أن الجمهور على خلاف ذَلِكَ .
ومنها :
أنهم إذا لم يقدروا على الإيماء في حال شدة الخوف أخروا الصلاة حتى يأمنوا .(6/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
وممن قال بتأخير الصلاة مكحول كما سبق عنه ، وهو قال أبي حنيفة وأصحابه .
وحكى ابن عبد البر ، عن ابن أبي ليلى وأبي حنيفة وأصحابه أنه لا يصلي أحد في الخوف إلاّ إلى القبلة ، ولا يصلي في حال المسايفة ، بل يؤخر الصلاة .
وعن أحمد رواية : أنه يخير بين الصلاة بالإيماء وبين التأخير .
قال أبو داود : سألت أبا عبد الله عن الصلاة صبيحة المغار ، فيؤخرون الصلاة حتى تطلع الشمس ، أو يصلون على دوابهم ؟ قَالَ : كلٌ أرجوا .
واستدل أصحابنا لهذه الرواية بصلاة العصر فِي بني قريظة وفي الطريق ، وأنه لم يعنف واحد منهما ، وسيأتي ذكره والكلام على معناه قريبا - إن شاء الله ( .
وجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز تأخير الصلاة في حال القتال ، وتصلى على حسب حاله ، فإنه لا يأمن هجوم الموت في تلك الحال .
فكيف يجوز لأحد أن يؤخر فرضاً عن وقته ، مع أنه يخاف على نفسه مداركة الموت له في الحال ، وهذا في تأخير الصلاة عن وقتها التي لا يجوز تأخيرها للجمع . فأما صلاة يجوز تأخيرها للجمع فيجوز تأخيرها للخوف ، ولو كان في الحضر عند أصحابنا وغيرهم من العلماء .
وقول ابن عباس : جمع رسول الله ( بالمدينة من غير خوف ، يدل بمفهومه على جواز الجمع للخوف ؛ فإن الخوف عذر ظاهر ، فالجمع له أولى من الجمع للمطر والمرض ونحوهما .(6/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
فأما قصر الصلاة في حال الخوف في الحضر ، فالجمهور على منعه . وحكى القاضي أبو يعلى رواية عن أحمد بجوازه ، مخرجة عن رواية حنبل عنه ، بجواز الفطر في رمضان لقتال العدو .
وروي عن عثمان بن عفإن ، أنه قالَ : لايقصر الصلاة إلاّ من كان شاخصاً أو بحضرة العدو .
وظاهره : أنه يجوز القصر بحضرة العدو في غير السفر - أيضاً - وبذلك فسره أبو عبيدة في ( ( غريبه ) ) .
وذكر ابن المنذر عن عمران بن حصين مثل قول عثمان - أيضاً .
وقد يفسر بأنه لايجوز القصر إلاّ في حال السفر أو الإقامة في دار الحرب لقتال
العدو ، وهذا قول كثير من العلماء ، ويأتي بيانه في ( ( كتاب قصر الصَّلاة ) ) إن شاء الله
( .
وسيذكر البخاري في هذا الباب ما يستدل به على جواز التأخير في حال شدة
الخوف .
ومنها :
أنهم إذا عجزوا عن صلاة ركعتين جاز لهم أن يصلوا ركعة واحدة تامةً .
وهذا قول كثير من العلماء ، منهم : ابنُ عباس .
ففي ( ( صحيح مسلم ) ) ، عنه ، قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم ( في السفر ركعتين ، وفي الحضر أربعاً ، وفي الخوف ركعة .
وقد روي نحو ذلك عن جابر وابن عمر ، وقد سبق ذكر قولهما .
ورواه الحسن ، عن حطان الرقاشي ، عن أبي موسى - أيضاً - أنه فعله .(6/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
وهو مروي - أيضاً - عن الحسن وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي والضحاك والحكم وقتادة وحماد ، وقول إسحاق ومحمد بن نصر المروزي .
حتى قاله في صلاة الصبح ، مع أن ابن حزم وغيره حكوا الإجماع على أن الفجر والمغرب لاينقص عن ركعتين وثلاث ، في خوف ولا أمن ، في حضر ولا سفرٍ .
ولم يفرق هؤلاء بين حضر ولاسفر ، وهذا يدل على أنهم رأوا قصر الصَّلاة في الحضر للخوف أشد القصر وأبلغه ، وهو عود الصلوات كلها إلى ركعةٍ واحدةٍ .
وحكي رواية عن أحمد ، وهوظاهر كلامه في رواية جماعة ، ورجحه بعض المتأخرين من أصحابنا ، والمشهورعنه : المنع .
وقد نقل جماعة عنه ، أنه قال : لايعجبني ذلك . وهو قول [ . . . . ] أصحابنا .
والمنع منه قول النخعي والثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي .
وتقدم من حديث ابن عباس ، أن كل طائفة من الناس صلوا خلف النبي ( ركعة ركعة وأنهم لم يقضوا . ومن حديث حذيفة - أيضاً - وما في ذلك من التأويل .
وروى يزيد الفقير ، عن جابر ، أن رسول الله ( صلى بهم صلاة الخوف ، فقام صف بين يديه ، وصف خلفه ، صلى بالذي خلفه ركعة وسجدتين ، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم ، وجاء أولئك فقاموا مقام هؤلاء ، فصلى لهم رسول الله ( ركعة وسجدتين ، ثم سلم ، فكانت للنبي ( ? ركعتان ، ولهم ركعة .(6/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحهما ) ) .
وفي رواية النسائي : ثم إن النبي ( سلم فسلم الذين خلفه ، وسلم أولئك .
وذكر أبو داود في ( ( سننه ) ) : أن بعضهم قال في حديث يزيد الفقير : أنهم قضوا ركعة أخرى .
وروى عبد الله بن شقيق : نا أبوهريرة ، أن رسول الله ( نزل بين ضجنان
وعسفان ، فقال المشركون : أن لهؤلاء صلاةً هي أحب إليهم من آباهم وأبنائهم ، وهي العصر ، فأجمعوا أمركم ، فميلوا عليهم ميلةً واحدة ، وأن جبريل أتى النبي ( فأمره أن يقيم أصحابه شطرين ، فيصلي بهم ، وتقوم طائفة أخرى وراءهم ، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ، ثم يأتي الأخرون ويصلون معه ركعة ، ثم يأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم ، فيكون لهم ركعة ركعة ، ولرسول الله ( ركعتان .
خرجه الترمذي والنسائي وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) .
وقال الترمذي : حسنٌ صحيحٌ .
ونقل الترمذي في ( ( العلل ) ) عن البخاري ، أنه قال : هوحديثٌ حسنٌ .
وقد حمله بعضهم على أن كل واحدة من الطائفتين كانت لهم ركعة مع النبي ( ، فأما الأخرى فإنها صلتها مفردة .
وخرجه النسائي عنده : يكون لهم مع رسول الله ( ركعتان .(6/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
وخرج ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) هذا المعنى من حديث زيد بن ثابت ، عن النبي
( ، وأصله في ( ( سنن النسائي ) ) .
وقد أجاب بعضهم بأن الروايات إذا اختلفت ، وكان في بعضها عدم القضاء ، وفي بعضها القضاء ، فالحكم للإثبات ؛ لأن المثبت قد حفظ ما خفي على الباقي وهذا صحيح أن لو كانت الروايات كلها حكاية عن واقعة واحدة ، فأما مع التعدد فيمكن أن القضاء وجد في واقعة ولم يوجد في الأخرى .
وقد زعم مجاهد : أن النبي ( لم يصل صلاة الخوف إلاّ مرتين ، مرة بذات الرقاع ، ومرة بعسفان .
واختلاف الروايات في صفة صلاة الخوف يدل على أن ذلك وقع أكثر من مرتين .
واستدل بعض من رأى أن صلاة الخوف ركعة بأن ظاهر القرآن يدل عليهِ ؛ فإن الله تعالى ذكر أن الطائفة الأولى تصلي معه حتَّى يسجد ، فتكون من وراء الناس ، وأن الطائفة الثانية التي لم تصل تأتي وتصلي معه ، فظاهره : أن الطائفة الأولى تجتزئ بما صلت معه من تلك الركعة ، وأن الثانية تكتفي بما أدركت معه ، ولم يذكر قضاء على واحدة من
الطائفتين .
ومنها :
أنهم إذا عجزوا عن الصلاة بأركانها في حال الخوف ، فقال الأوزاعي : لا يجزئهم التكبير بمجرده .
وإلى هذا ذهب الأكثرون ، وهو : أنه لا يجزئ في حال شدة الخوف(6/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
الاقتصار على التكبير ، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق .
ونقل ابن منصور ، عن أحمد وإسحاق ، قإلاّ : لابد من القراءة ، ولا يجزئهم
التكبير .
ونقل جماعة عن أحمد ، أنه قال : لابد في صلاة الخوف من القراءة والتشهد
والسلام .
وذهب آخرون إلى أنهم يجزئهم التكبير .
روي عن جابر وابن عمر : تجزئهم تكبيرةٌ واحدة ، وعن مجاهد والسدي .
وكذا قال عبد الوهاب بن بخت ، وزاد : وإن لم يقدر على التكبير ، فلا يتركها في نفسه .
يعني : النية .
وروي عن عبد الله بن الزبير ، أنه ارتث يوم الجمل قبل غروب الشمس ، فقيل له : الصلاة . فقال : لا استطيع أن أصلي ، ولكني أكبر .
وعن الضحاك : إن لم يستطع أن يومئ كبر تكبيرة أو تكبيرتن .
وقال الثوري : إن لم يستطع أن يقرأ يجزئه التكبير في كل خفض ورفع ، وإن لم يستطع أن يتوضأ تيمم بغبار سرجه .
وكذلك مذهب الثوري في المريض المدنف : إذا لم يستطع أن يصلي على جنبه ، فإنه يكبر لكل ركعة تكبيرة ، مستقبل القبلة ، وتجزئه .
ونقل حرب ، عن إسحاق ، قال : إن لم يقدروا على ركعة فسجدة واحدة ،(6/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
فإن لم يقدروا فتكبيرةٌ واحدة ، واستدل بقولِهِ : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( [ التغابن : 16 ] .
فإذا قدر على الإتيان بشيء من الصلاة ، وعجز عن الباقي لزمه أن يأتي به في وقته ويجزئه ، ولا يجوز له تأخيره عن الوقت .
وذكر ابن جرير بإسناده ، أن هرم بن حيان كان معه أصحابه يقاتلون العدو مستقبلي المشرق ، فحضرت الصلاة ، فقالوا : الصلاة الصلاة ، فسجد الرجل حيث كان وجهه سجدة ، وهم مستقبلوا المشرق .
ويستدل للجمهور بأن ما دون الركعة ليس بصلاة ، فلا يكون مأموراً به من عجز عن الصلاة ، وأقل ما ورد في صلاة الخوف أنها ركعة ، فما دون الركعة ليس بصلاة ، ولا يؤمر به في خوف ولا غيره ، ولا يسقط به فرض الصلاة .
ثم قال البخاري - رحمه الله - :
وقال أنس بن مالك : حضرت مناهضة حصن تستر عند صلاة الفجر - واشتد اشتعال القتال - ، فلم يقدروا على الصلاة ، فلم نُصل إلاّ بعد ارتفاع النهار ، فصليناها ونحن مع أبي موسى ، ففتح لنا .
قال أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها .
هذه الواقعة كانت في زمن عمر - رضي الله عنه - سنة عشرين .
قال خليفة بن خياط في ( ( تاريخه ) ) : نا ابن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ،(6/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
عن
أنس ، قالَ : لم نصل يومئذ صلاة الغداة حتى انتصف النهار ، فما يسرني بتلك الصلاة الدنيا كلها .
قال خليفة : وذلك سنة عشرين .
ثم قال البخاري :
945 - حدثني يحيى : ثنا وكيع ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن جابر بن عبد الله ، قال جاء عمر يوم الخندق ، فجعل يسب كفار قريش ، ويقول : يارسول الله ، ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب . فقال رسول الله ( : ( ( وأنا ما صليتها بعد ) ) . قال : فنزل إلى بطحان ، فتوضأ وصلى العصر بعدما غابت الشمس ، ثم صلى المغرب بعدها .
( ( يحيى ) ) شيخ البخاري ، قيل : إنه ابن جعفر بن أعين البيكندي . وقيل : إنه ابن موسى بن عبد ربه ابن ختّ البخلي ، وكلاهما يروي عن وكيع .
وقد خرجه البخاري في آخر ( ( المواقيت ) ) من غير وجهٍ ، عن يحيى بن أبي كثير .
وسبق الكلام على وجه تأخير النبي ( الصلاة في ذلك اليوم : هل كان نسياناً ، أو اشتغإلاّ بالحرب ؟
وعلى هذا التقدير : فهل هوَ منسوخ بنزول آيات صلاة الخوف ، كما روي ذَلِكَ عن أبي سعيد الخدري ، أو هو محكم باقٍ ؟
والبخاري يشير إلى بقاء حكمه من غير نسخ .(6/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
وقال كثير من العلماء : إنه نسخ بصلاة الخوف ، وحديث أبي سعيد يدل عليه ، وقد ذكرناه هنالك ، وممن ذكر ذلك : الشافعي ، وكثير من أصحابنا وغيرهم .
وأما قول ابن إسحاق : إن صلاة عسفان وذات الرقاع كانت قبل الخندق ، ففيه
نظر . والله سبحانه وتعالى أعلم .
وكذلك ذكر ابن سعد : أن غزوة ذات الرقاع كانت على رأس سبعة وأربعين شهراً من الهجرة ، وفيها صلى رسول الله ( ، وهو أول ما صلاها .
وقد رد البخاري في ( ( المغازي ) ) من ( ( صحيحه ) ) هذا بوجهين :
أحدهما : أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع ، وأبو موسى إنما جاء بعد خيبر ، وذلك بعد الخندق .
والثاني : أن جابراً ذكر أن صلاة الخوف إنما كانت في السنة السابعة ، وقد ذكرنا حديثه هذا في الباب الأول من ( ( أبواب صلاة الخوف ) ) .
وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث - أعني : حديث جابر في تأخير الصلاة يوم الخندق - على جواز تأخير الصلاة في حال الخوف لمن لم يقدر على الوضوء إلاّ بعد الوقت - في رواية جماعة من أصحابه .
وعنه رواية أخرى : أنه يتيمم ويصلي في الوقت ، وقد سبق ذلك في ( ( التيمم ) ) .
فحمل الإمام أحمد تأخير الصلاة يوم الخندق على أنه كان للاشتغال بالحرب ، كما حمله البخاري .
قال الإمام أحمد : وقد قيل : إن ذلك كان قبل نزول هذه الآية : ( فإن(6/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
خِفْتُمْ فَرِجَإلاّ أَوْ رُكْبَاناً ( [ البقرة : 239 ] يعني : حديث أبي سعيد .
وحديث أبي سعيد إنما يدل على أن ذلك قبل نزول صلاة شدة الخوف بالإيماء رجإلاّ وركبانا ، لم يدل على أن صلاة الخوف لم تكن نزلت .
والبخاري قد قرر في ( ( كتاب المغازي ) ) أن صلاة [ الخوف ] إنما شرعت في السنة السابعة ، وذلك بعد الخندق بلا ريب ، ومع هذا فجعل التأخير يوم الخندق محكما غير منسوخ بصلاة الخوف ، ويكون الجمع بينهما بأنه مخير حال شدة الخوف بين التأخير وبين الصلاة بالإيماء ، كما يقوله الإمام أحمد - في رواية عنه .
واجتماع الصحابة كلهم على النسيان يوم الخندق بعيد جدا ، إلاّ أن يقال : إن النبي ( هو الناسي ، وأن الصحابة اتبعوه على التأخير من غير سؤال له عن سببه .
ويشهد لهُ : أنه جاء في رواية للإمام أحمد : أن النبي ( قال : ( ( هل علم أحد منكم أني صليت العصر ؟ ) ) قالوا : لا ، فصلاهما .
وفيه : دليل على رجوع الشاك في أصل صلاته : هل صلاها ، أو لا ؟ إلى قول غيره ، كما يرجع إلى قوله في الشك في عدد ما صلى .
وقد قال الحسن - في الرجل يشك : هل صلى ، أم لا ؟ - : يعيد ما كانَ في وقت تلك الصَّلاة ، فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليهِ .
ذكره عبد الرزاق ، بإسناده عنه .(6/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
5 - باب
صلاة الطالب والمطلوب راكبا وايماء أو قائما
وقال الوليد : ذكرت للأوزاعي صلاة شرحبيل بن السمط وأصحابه على ظهر
الدابة ، فقال : ذلك الأمر عندنا ، إذا تخوفت الفوت .
واحتج الوليد بقول النبي ( : ( ( لا يصلين أحد العصر إلاّ في بني قريظة ) ) .
946 - حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء : نا جويرية ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال لنا النبي ( لما رجع من الأحزاب : ( ( لا يصلين أحد العصر إلاّ في بني قريظة ) ) فأدرك بعضهم العصر في الطريق ، وقال بعضهم : لا نصلي حتى نأتيها ، وقال بعضهم : بل نصلي ، لم يرد منا ذَلِكَ . فذكر ذلك للنبي ( فلم يعنف واحدا منهم .
وقد تقدم أن الأوزاعي وأصحابه - ومنهم : الوليد بن مسلم - يرون جواز صلاة شدة الخوف للطالب ، كما يجوز للمطلوب 0 وهو رواية عن أحمد ، وأنهم يرون تأخير الصلاة عن وقتها إذا لم يقدروا على فعلها في وقتها على وجه تام ، كما تقدم - أيضا .
وقد استدل الوليد بن مسلم لذلك بحديث ابن عمر في البعث إلى قريظة .
وأما صلاة شرحبيل بن السمط التي استدل بها الأوزاعي [ . . . . ] .(6/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
ومما يتفرع على جواز صلاة الطالب صلاة شدة الخوف : أن من كان ليلة النحر قاصدا لعرفة ، وخشي أن تفوته عرفة قبل طلوع الفجر ، فإنه يصلي صلاة شدة الخوف وهو ذاهب إلى عرفة ، وهو أحد الوجهين لأصحابنا ، ولأصحاب الشافعي - أيضا .
وضعفه بعض أصحابهم ، بأنه ليس بخائف بل طالب .
والصحيح : أنا إن قلنا : تجوز صلاة الطالب جازت صلاته ، وإلاّ فلا تجوز ، أو يكون فيه وجهان .
وهل يجوز تأخير العشاء إلى بعد طلوع الفجر ؟ فيهِ - أيضا - وجهان للشافعية ولأصحابنا .
وأما استدلال الوليد بحديث ابن عمر في ذكر بني قريظة ، فإنما يتم ذلك إذا كان الذين لم يصلوا العصر حتى بلغوا بني قريظة لم يصلوها إلاّ بعد غروب الشمس ، وليس ذلك في هذا الحديث ، فإن حديث ابن عمر إنما يدل على ان بعضهم أخر العصر إلى بني قريظة ، فقد يكونوا صلوها في آخر وقتها ، وهذا لا إشكال في جوازه .
وممن ذهب إلى ذلك : الخطابي ، وردَ به على من استدل بالحديث على أن كل مجتهد مصيب .
وذهب آخرون إلى أن الذين صلوا في بني قريظة صلوا بعد غروب الشمس . واستدلوا بأن مسلما خرج الحديث ، ولفظه : عن ابن عمر ، قالَ : نادى [ فينا ] رسول الله ( يوم انصرف من الأحزاب : أن ( ( لا يصلي أحد العصر إلاّ في بني قريظة ) ) فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة ، وقال(6/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
آخرون : لا نصلي إلاّ حيث أمرنا رسول الله ( وأن فاتنا الوقت . قال : فما عنف رسول الله ( واحدا من الفريقين .
وخرج البيهقي ، بإسناد فيه نظر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، أن عمه عبد الله أخبره ، أن النبي ( عزم على الناس لما رجع من الأحزاب أن لا يصلوا صلاة العصر إلاّ في بني قريظة . قالَ : فلبس الناس السلاح ، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس ، فاختصم الناس عند غروب الشمس ، فقال بعضهم : إن رسول الله ( عزم علينا إلاّ نصلي حتى نأتي بني قريظة ، فإنما نحن في عزيمة رسول الله ( فليس علينا إثم ، وصلى طائفة من الناس احتسابا ، وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس ، فصلوها حين جازوا بني قريظة احتسابا ، فلم يعنف رسول الله ( واحدا من الفريقين .
وهذا مرسل .
وقد ذكره موسى بن عقبة في ( ( مغازيه ) ) عن الزهري - مرسلا - ، بغير إسناد للزهري بالكلية ، وهو أشبه .
وخرج البيهقي نحوه - أيضا - من طريق عبد الله بن عمر العمري ، عن أخيه
عبيد الله ، عن القاسم ، عن عائشة ، وفي حديثها : ( ( فغربت الشمس قبل أن يأتوهم ، فصلت طائفة إيمانا واحتسابا ، وتركت طائفة إيمانا واحتسابا ، ولم يعنف رسول الله ( واحدا من الفريقين ) ) .
والاستدلال بهذا الحديث على تأخير الصلاة للاشتغال بالحرب ، استدلال(6/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
ضعيف ، وكذلك الاستدلال به على تأخير الصلاة لطالب العدو ؛ فإن يوم ذهابهم إلى بني قريظة لم تكن هناك حرب تشغل عن صلاة ، ولا كانوا يخافون فوات العصر ببني قريظة بالاشتغال بالصلاة بالكلية ، وإنما وقع التنازع بين الصحابة في صلاة العصر في الطريق ، إلتفاتا إلى النبي ( ، وإلى معنى كلامه ومراده ومقصوده :
فمنهم من تمسك بظاهر اللفظ ، ورأى أنه ينبفي أن يصلي العصر إلاّ في بني قريظة ، وإن فات وقتها ، وتكون هذه الصلاة مخصوصة من عموم أحاديث المواقيت بخصوص هذا ، وهو النهي عن الصلاة إلاّ في بني قريظة .
ومنهم من نظر إلى المعنى ، وقال لم يرد النبي ( ذلك ، وإنما أراد منا تعجيل الذهاب إلى بني قريظة في بقية النهار ، ولم يرد تأخير الصلاة عن وقتها ، ولا غير وقت صلاة العصر في هذا اليوم ، بل هو باق على ما كان عليه في سائر الأيام .
وهذا هو الأظهر . والله أعلم .
ولا دلالة في ذلك على أن كل مجتهد مصيب ، بل فيه دلالة على أن المجتهد سواء أصاب أو أخطأ فإنه غير ملوم على اجتهاده ، بل إن أصاب كان له أجران ، وإن أخطأ فخطؤه موضوع عنه ، وله أجر على اجتهاده .
ومن استدل بالحديث على أن تارك الصلاة عمداً يقضي بعد الوقت فقد وهم ؛ فإن من أخر الصَّلاة في ذَلِكَ كانَ باجتهاد سائغ ، فهوَ في معنى النائم والناسي ، وأولى ؛ فإن التأخير بالتأويل السائغ أولى بأن يكون صاحبه معذوراً .(6/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
6 - باب
التبكير والتغليس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب
947 - حدثنا مسدد : ثنا حماد بن زيد ، عن عبد العزيز بن صهيب
وثابت ، عن أنس ، أن رسول الله ( صلى الصبح بغلس ، ثم ركب ، فقال : ( ( الله
أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم ٍ ، فساء صباح المنذرين ) ) .
وذكر بقية الحديث ، وفي آخره قصة صفية ، وتزوج النبي ( لها ، وجعل عتقها صداقها .
وقد تقدم أول الحديث في ( ( أبواب الأذان ) ) من حديث عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس .
والمقصود منه هاهنا : أن النبي ( لما أراد الإغارة على أهل خيبر ، ولم يكن عندهم علم من قدوم النبي ( ، بكر النبي ( بالصبح ، وصلاها بغلس ، ثم أغار عليهم .
فيستفاد من ذلك : أنه يستحب لمن أراد الإغارة على المشركين أن يعجل بصلاة الصبح في أول وقتها ، ثم يغير بعد ذلك :
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) ، عن عمران بن حدير ، عن أبي عمران ، قال :(6/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
صليت مع أبي موسى الغداة ثلاث مرات في غداة واحدة ، كأنه أراد أن يغير على قوم .
ومعنى هذا : أن أبا موسى الأشعري لما أراد الإغارة عجل بصلاة الصبح ، ثم تبين أنه صلاها قبل طلوع الفجر ، فأعادها ، فعل ذلك ثلاث مرات في يوم واحد .(6/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
كتاب العيدين(6/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
فارغة(6/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
أبواب العيدين
- باب في العيدين والتجمل فيهما
948 - حدثنا أبو اليمان : انا شعيب ، عن الزهري ، قالَ : أخبرني سالم بن
عبد الله ، أن عبد الله بن عمر قالَ : أخذ عمر جبة من استبرق تباع في السوق فأخذها فأتى رسول الله ( ? فقال : يا رسول الله ، ابتع هذه تجمل بها للعيد والوفود . فقال لهُ رسول الله ( : ( ( إنما يلبس هذه من لا خلاق لهُ ) ) .
ثم ذكر بقية الحديث في إرسال النبي ( بجبة ديباج إلى عمر .
وقد سبق في ( ( كتاب الجمعة ) ) من طريق مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وفيه : ( ( لو اشتريت هذه للجمعة والوفود ؟ ) ) وهي قضية واحدة والله أعلم .
وقد يكون أريد بالعيد جنس الأعياد ، فيدخل فيهِ العيدان والجمعة .
وقد دل هذا الحديث على التجمل للعيد ، وأنه كان معتادا بينهم .
وقد تقدم حديث لبس النبي ( في العيدين برده الأحمر . وإلى هذا ذهب الأكثرون ، وهو قول مالك والشافعي وأصحابنا وغيرهم .(6/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
وقال ابن المنذر : كان ابن عمر يصلي الفجر وعليه ثياب العيد .
وقال مالك : سمعت أهل العلم يستحبون الزينة والطيب في كل عيد .
واستحبه الشافعي .
وخرج البيهقي بإسناد صحيح ، عن نافع ، أن ابن عمر كان يلبس في العيدين أحسن ثيابه .
والمنصوص عن أحمد في المعتكف : أنه يخرج إلى العيد في ثياب اعتكافه ، وحكاه عن أبي قلابة .
وأما غير المعتكف ، فالمنصوص عن أحمد : أنه يخير بين التزين وتركه .
قال المروذي : قلت لأحمد : أيما أحب إليك : أن تخرج يوم العيد في ثياب جياد أو ثياب رثة ؟ قالَ : أما طاوس فكان يأمر بزينة الصبيان حتَّى يخضبوا ، وأما عطاء فقالَ : لا ، هوَ يوم تخشع . فقلت لأحمد : فإلى ما تذهب ؟ قالَ : قد روي هذا وهذا ، واستحسنهما جميعا .
ذكره أبو بكر ابن جعفر في كتابه ( ( الشافي ) ) ، عن الخلال ، عنه .
وحكاه القاضي في ( ( شرح المذهب ) ) مختصرا ، وفيه : وقال عطاء : لا ، هو يوم تخشع ، وهذا أحسن .
ومما يتصل بذلك : الغسل للعيدين ، وقد نص أحمد على استحبابه .
وحكى ابن عبد البر الإجماع عليهِ .
وكان ابن عمر يفعله ، كذا رواه نافع ، عنه ، ورواه عن نافع : مالك وعبيدالله بن عمر وموسى بن عقبة وابن عجلان وابن إسحاق وغيرهم .(6/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
وروى أيوب ، عن نافع ، قالَ : ما رأيت ابن عمر اغتسل للعيد ، كان يبيت في المسجد ليلة الفطر ، ثم يغدو منه إذا صلى الصبح إلى المصلى .
ذكره عبد الرزاق ، عن معمر ، عنه .
وعجب ابن عبد البر من رواية أيوب ، لمخالفتها رواية مالك وغيره ، عن نافع .
ولا عجب من ذلك ، فقد يجمع بينهما : بأن ابن عمر كان إذا اعتكف بات ليلة الفطر في المسجد ، ثم يخرج إلى العيد على هيئة اعتكافه ، كما قاله أحمد ومن قبله من السلف ، وهو قول مالك - أيضا - وإن لم يكن معتكفا ، اغتسل وخرج إلى المصلى .
وممن روي عنه الغسل للعيد - أيضا - من الصحابة : علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وسلمة بن الأكوع ، والسائب بن يزيد .
وقال ابن المسيب : هو سنة الفطر .
وروى مالك ، عن الزهري ، عن عبيد بن السباق ، أن رسول الله ( قال في جمعة من الجمع : ( ( يا معشر المسلمين ، إن هذا اليوم جعله الله عيدا ، فاغتسلوا ، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه ، وعليكم بالسواك ) ) .
وهذا تنبيه على أن ذلك مأمور به في كل عيد للمسلمين .
رواه صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن عبيد ، عن ابن عباس .
خرجه ابن ماجه .(6/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
ورواية مالك أصح .
ورواه بعضهم ، عن مالك ، عن سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( .
خرجه كذلك الطبراني وغيره .
وهو وهم على مالك : قاله أبو حاتم الرازي والبيهقي وغيرهما .
وروى صبيح أبو الوسيم : ثنا عقبة بن صهبان ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( : ( ( الغسل واجب في هذه الأيام : يوم الجمعة ، ويوم الفطر ، ويوم النحر ، ويوم عرفة ) ) .
غريب جداً . وصبيح هذا ، لايعرف .
وخرج ابن ماجه من رواية الفاكه بن سعد - وله صحبة - ، أن النبي ( كان يغتسل يوم الجمعة ، ويوم عرفة ، ويوم الفطر ، ويوم النحر ، وكان الفاكه يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام .
وفي إسناده : يوسف بن خالد السمتي ، وهو ضعيف جداً .
وخرج ابن ماجه عن جبارة بن مغلس ، عن حجاج بن تميم ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس : كان رسول الله ( يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى .
وحجاج بن تميم وجبارة بن مغلس ، ضعيفان .
وروى مندل ، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي ( كان يغتسل للعيدين .(6/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
خرجه البزار .
ومحمد هذا ، ضعيف جداً .
والغسل للعيد غير واجب . وقد حكى ابن عبد البر الإجماع عليهِ ، ولأصحابنا وجه ضعيف بوجوبه .
وروى الزهري ، عن ابن المسيب ، قال : الاغتسال للفطر والأضحى قبل أن يخرج إلى الصلاة حقٌ .
وخرج أبوبكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب ( ( الشافي ) ) بإسناد ضعيف ، عن الحارث ، عن علي ، قال : كان بعضنا يغتسل وبعضنا يتوضأ ، فلا يصلي أحد منا قبلها ولا بعدها حتى يخرج النبي ( .
ويستحب - أيضاً - التطيب والسواك في العيدين .
وكان ابن عمر يتطيب للعيد .
وروى أبو صالح ، عن الليث بن سعد ، حدثني إسحاق بن بزرجٍ ، عن الحسن بن علي ، قال : أمرنا رسول الله ( أن نلبس أجود ما نجد ، ونتطيب بأجود ما نجد ، وأن نضحي بأسمن ما نجد ، وأن نظهر التكبير ، وعلمنا السكينة والوقار .
خرجه الطبراني والحاكم .
وقال : لولا جهالة إسحاق بن بزرج لحكمنا للحديث بالصحة .
قلت : ورويناه من وجه آخر ، من طريق ابن لهيعة : حدثني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن عتبة بن حميد ، عن عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن(6/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
بن غنم ، عن معاذ ، قالَ : كان رسول الله ( إذا غدا إلي المصلى أمرنا أن نلبس أجود ما نقدر عليه من الثياب ، وأن نخرج وعلينا السكينة ، وأن نجهر بالتكبير .
وهذا منكر جداً .
ولعله مما وضعه المصلوب ، وأسقط أسمه من الإسناد ؛ فإنه يروى بهذا الإسناد أحاديث عديدة منكرة ترجع إلى المصلوب ، ويسقط اسمه من إسنادها كحديث التنشف بعد الوضوء . والله سبحانه وتعالى أعلم .
وهذا التزين في العيد يستوي فيه الخارج إلى الصلاة والجالس في بيته ، حتى النساء والأطفال .
وقد تقدم ذلك عن طاوس .
وقال الشافعي : تزين الصبيان بالمصبغ والحلي ، ذكوراً كانوا أو إناثاً ؛ لأنه يوم
زينة ، وليس على الصبيان تعبد ، فلا يمنعون لبس الذهب .
قال بعض أصحابه : اتفق الأصحاب على إباحة زينة الصبيان يوم العيد بالمصبغ وحلي الذهب والفضة ، واختلفوا في غير يوم العيد على وجهين .
وأما أصحابنا ، فلم يفرقوا بين عيد وغيره ، وحكوا في جواز إلباس الولي الصبي الحرير والذهب روايتين .(6/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
- باب الحرب والدرق يوم العيد
949 - حدثنا أحمد : نا ابن وهب : انا عمرو ، أن محمد بن عبد الرحمن الأسدي حدثه ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : دخل علي النبي ( وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث ، فاضطجع على الفراش وحول وجهه ، ودخل أبو بكر
فانتهرني ، وقال : مزمارة الشيطان عند النبي ( ؟ فأقبل عليهِ رسول الله ( فقالَ : ( ( دعهما ) ) فلما غفل غمزتهما فخرجتا .
950 - وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحرب ، فإما سألت رسول الله ( وإما قال : ( ( تشتهين تنظرين ؟ ) ) ، فقلت : نعم . فأقامني وراء خدي على خده ، وهو يقول : ( ( دونكم يابني أرفدة ) ) ، حتَّى إذا مللت قالَ : ( ( حسبك ؟ ) ) ، قلت : نعم . قال : ( ( فأذهبي ) ) .
( ( أحمد ) ) الراوي عن ابن وهب سبق الاختلاف فيه .
و ( ( عمرو ) ) ، هو : ابن الحارث .
وشيخه ، هو : أبو الأسود يتيم عروة .
وقد سبق الحديث باختلاف طرقه وألفاظه في ( ( أبواب المساجد ) ) في ( ( باب : أصحاب الحراب في المسجد ) ) .
وذكرنا فيه : أن هذا العيد كان أحد عيدي الإسلام ، وأنه قد قيل : إنه كان يوم عاشوراء . والظاهر : أن هذا كان قبل نزول الحجاب ؛ لقولها : ( ( خدي عَلَى خده ) ) .(6/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
ويحتمل أنه كَانَ بعده ؛ فإن البخاري خرجه في ( ( باب : أصحاب الحراب في المسجد ) ) بزيادة : ( ( وهو يسترني بردائه ) ) .
واللعب بالحراب والدرق في الأعياد مما لاشبهة في جوازه ، بل واستحبابه ؛ لأنه مما يتعلم به الفروسية ، ويتمرن به على الجهاد .
وقد رخص إسحاق وغيره من الأئمة باللعب بالصولجان والكرة ، للتمرن على
الجهاد .
وأما ذكر الغناء ، فنذكره في الباب الآتي - إن شاء الله ( .(6/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
3 - باب
سنة العيدين لأهل الإسلام
فيه حديثان :
الأول :
951 - حدثنا حجاج : انا شعبة : أخبرني زبيد : سمعت الشعبي ، عن البراء : سمعت النبي ( يخطب ، فقال : ( ( إن أول ما نبرأ في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر ، فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا ) ) .
ومراده : الاستدلال بهذا الحديث على أن سنة أهل الإسلام التي سنها لهم نبيهم ( في عيد النحر : الصلاة ثم النحر بعد رجوعهم من الصلاة .
وهذا مما اتفق المسلمون على أنه سنة في يوم النحر ، وإنما اختلفوا : هل هو واجب ، أم لا ؟
فأما النحر ، فيأتي الكلام عليه في موضع آخر - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
وأما صلاة العيد ، فاختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها سنة مسنونة ، فلو تركها الناس لم يأثموا .
هذا قول الثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأبي يوسف ، وحكي رواية عن أحمد .
واختلفوا : هل يقاتلون على تركها ؟ وفيه وجهان للشافعية . وقال أبويوسف : آمرهم وأضربهم ؛ لأنها فوق النوافل ، ولا أقاتلهم ؛ لأنها دون الفرائض .
وقد يتعلق لهذا القول بإخبار النبي ( عن المصلي يوم العيد أنه أصاب السنة .(6/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
ولا دليل فيه ؛ فإن السنة يراد بها الطريقة الملازمة الدائمة ، كقوله : ( سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ( [ الفتح : 23 ] .
والقول الثاني : أنها فرض كفاية فإذا أجمع أهل بلد على تركها أثموا وقوتلوا على تركها .
وهو الظاهر مذهب أحمد ، نص عليه في رواية المروذي وغيره . وهو قول طائفة من الحنفية والشافعية .
والقول الثالث : أنها واجبة على الأعيان كالجمعة .
وهو قول أبي حنيفة ، ولكنه لا يسميها فرضاً .
وحكى أبو الفرج الشيرازي - من أصحابنا - رواية عن أحمد : أنها فرض عين .
وقال الشافعي - في ( ( مختصر المزني ) ) - : من وجب عليه حضور الجمعة وجب عليه حضور العيدين .
وهذا صريح في أنها واجبة على الأعيان .
وليس ذلك خلافاً لإجماع المسلمين ، كما ظنه بعضهم .
وكثيرمن أصحابه تأولوا نصه بتأويلات بعيدة ، حتى إن منهم من حمله على أن الجمعة فرض كفاية كالعيد .
وأقرب ما يتأول به : أن يحمل على أن مراده : أن العيد فرض كفاية ؛ لأن فروض الكفاية كفروض الأعيان في أصل الوجوب ، ثُمَّ يسقط وجوب فرض الكفاية بفعل البعض دون فرض العين .
فقد يقال : إن الشافعي أراد أن يعلق الوجوب في العيد بمن يتعلق به وجوب(6/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
الجمعة وإن كانت العيد تسقط بحضور بعض الناس دون الجمعة .
وهذا أشبه مما تأوله به أصحابه ، مع مخالفته لظاهر كلامه وبعده منه ؛ فإنه صرح بوجوب الحضور في العيد كحضور الجمعة .
الحديث الثاني :
952 - نا عبيد بن اسماعيل : نا أبو اسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الانصار ، تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم
بعاث . قالت : وليستا بمغنيتين . فقال أبو بكر : مزامر الشيطان في بيت رسول الله ( وذلك في يوم عيد ، فقال رسول الله ( : ( ( يا أبا بكر ، إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا ) ) .
في هذا الحديث : الرخصة للجواري في يوم العيد في اللعب والغناء بغناء الأعراب . وإن سمع ذلك النساء والرجال ، وإن كان معه دف مثل دف العرب ، وهو يشبه الغربال .
وقد خرجه البخاري في آخر ( ( كتاب العيدين ) ) من رواية الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان ، والنبي ( متغش بثوبه ، فانتهرهما أبو بكر ، فكشف النبي ( عن وجهه ، فقال : ( ( دعهما يا أبا
بكر ؛ فإنها أيام عيد ) ) ، وتلك [ الأيام ] أيام منى .
ولا ريب أن العرب كانَ لهم غناء يتغنون به ، وكان لهم دفوف يضربون بها ، وكان غناؤهم بأشعار أهل الجاهلية من ذكر الحروب وندب من قتل فيها ، وكانت دفوفهم مثل الغرابيل ، ليس فيها جلاجل ، كما في حديث عائشة ، عن النَّبيّ(6/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
( : ( ( أعلنوا النكاح واضربوا عليهِ بالغربال ) ) .
وخرجه الترمذي وابن ماجه ، بإسناد فيه ضعفٌ .
فكان النبي ( يرخص لهم في أوقات الأفراح ، كالأعياد والنكاح وقدوم الغياب في الضرب للجواري بالدفوف ، والتغني مع ذلك بهذه الأشعار ، وما كان في معناها .
فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد أعتادوه من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة ، على طريقة الموسيقى بالأشعار التي توصف فيها المحرمات من الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس ، المجبول محبته فيها ، بآلات اللهو المطربة ، المخرج سماعها عن الاعتدال ، فحينئذ أنكر الصحابة الغناء واستماعه ، ونهوا عنه وغلظوا فيه .
حتى قال ابن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب ، كما ينبت الماء البقل . وروي عنه - مرفوعا .
وهذا يدل على أنهم فهموا أن الغناء الذي رخص فيه النبي ( لأصحابه لم يكن هذا الغناء ، ولا آلاته هي هذه الآلات ، وأنه إنما رخص فيما كان في عهده ، مما يتعارفه العرب بآلاتهم .
فأما غناء الأعاجم بآلاتهم فلم تتناوله الرخصة ، وإن سمي غناءً ، وسميت آلاته دفوفا ، لكن بينهما من التباين ما لا يخفى على عاقل ، فإن غناء الأعاجم بآلاتها يثير الهوى ، ويغير الطباع ، ويدعو إلى المعاصي ، فهو رقية الزنا . وغناء الأعراب المرخص به ، ليس فيه شيء من هذه المفاسد بالكلية البتة ، فلا يدخل غناء الأعاجم في الرخصة لفظا ولا معنى ، فإنه ليس هنالك نص عن الشارع بإباحة ما يسمى غناء ولا دفا ، وإنما هي قضايا أعيان ، وقع الإقرار عليها ،(6/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
وليس لها [ من ] عموم .
وليس الغناء والدف المرخص فيهما في معنى ما في غناء الأعاجم ودفوفها المصلصلة ، لأن غنائهم ودفوفهم تحرك الطباع وتهيجها إلى المحرمات ، بخلاف غناء الأعراب ، فمن قاس أحدهما على الآخر فقد أخطأ أقبح الخطأ ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل ، فقياسه من أفسد القياس وأبعده عن الصواب .
وقد صحت الأخبار عن النبي ( بذم من يستمع القينات في آخر الزمان ، وهو إشارة إلى تحريم سماع آلات الملاهي الماخوذة عن الأعاجم .
وقد خرج البخاري في ( ( الأشربة ) ) حديث عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي مالك - أو أبي عامر - الأشعري ، عن النبي ( في ذلك ، كما سياتي في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
فقال فيه : ( ( قال هشام بن عمار ) ) - فذكره .
والظاهر : أنه سمعه من هشام .
وقد رواه عن هشام الحسن بن سفيان النسوي .
وخرجه من طريقه البيهقي وغيره .
وخرجه الطبراني : نا محمد بن يزيد بن عبد الصمد : نا هشام بن عمار .
فصح واتصل عن هشام .(6/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
وخرجه أبو داود من وجه آخر مختصرا .
وقد بينت عائشة أن الجاريتين إنما كانا يغنيان بغناء بعاث ، ويوم بعاث يوم من أيام حروب الجاهلية مشهور .
وباؤه مثلثة وعينه مهملة ، ومنهم من حكى أنها معجمة ، قال الخطابي : هو يوم مشهور من أيام العرب ، كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج ، وبقيت الحرب قائمة مائة وعشرين سنة إلى الإسلام ، على ما ذكره ابن إسحاق وغيره .
قالَ : وكان الشعر الذي تغنيان به في وصف الشجاعة والحرب ، وهو إذا صرف إلى جهاد الكفار كان معونة في أمر الدين ، فأما الغناء بذكر الفواحش والابتهار للحرم ، فهو المحظور من الغناء ، حاشاه أن يجري بحضرته شيء من ذلك فيرضاه ، أو يترك النكير لهُ ، وكل من جهر بشيء بصوته وصرح به فقد غنى به .
قالَ : وقول عائشة : ( ( ليستا بمغنيتين ) ) ، إنما بينت ذلك ؛ لأن المغنية التي اتخذت الغناء صناعة وعادة ، وذلك لا يليق بحضرته ، فأما الترنم بالبيت والتطريب للصوت إذا لم يكن فيهِ فحش ، فهوَ غير محظور ولا قادح في الشهادة .
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لا ينكر من الغناء النصب والحداء
ونحوهما ، وقد رخص فيه غير واحد من السلف .
قالَ : وقوله : ( ( هذا عيدنا ) ) يريد أن إظهار السرور في العيد من شعار(6/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
الدين ، وحكم اليسير من الغناء خلاف الكثير . انتهى .
وفي الحديث ما يدل على تحريمه في غير أيام العيد ؛ لأن النَّبيّ ( علل بأنها أيام عيد ، فدل على أن المقتضي للمنع قائم ، لكن عارضه معارض وهو الفرح والسرور العارض بأيام العيد .
وقد أقر أبا بكر على تسمية الدف مزمور الشيطان ، وهذا يدل على وجود المقتضي للتحريم لولا وجود المانع .
وقد قال كثير من السلف ، منهم : قتادة : الشيطان قرآنه الشعر ، ومؤذنه المزمار ، ومصايده النساء .
وروي ذلك من حديث أبي أمامة - مرفوعا .
وقد وردت الشريعة بالرخصة للنساء لضعف عقولهن بما حرم على الرجال من التحلي والتزين بالحرير والذهب ، وإنما أبيح للرجال منهم اليسير دون الكثير ، فكذلك الغناء يرخص فيه للنساء في أيام السرور ، وإن سمع ذلك الرجال تبعا .
ولهذا كان جمهور العلماء على أن الضرب بالدف للغناء لا يباح فعله للرجال ؛ فإنه من التشبه بالنساء ، وهو ممنوع منه ، هذا قول الأوزاعي وأحمد ، وكذا ذكر الحليمي وغيره من الشافعية .
وإنما كان يضرب بالدفوف في عهد النبي ( النساء ، أو من يشبه بهن من المخنثين ، وقد أمر النبي ( بنفي المخنثين وإخراجهم من البيوت .
وقد نص على نفيهم أحمد وإسحاق ، عملا بهذه السنة الصحيحة .
وسئل أحمد عن مخنث مات ووصى أن يحج عنه ، فقال : كسب المخنث(6/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
خبيث ، كسبه بالغناء ، نقله عنه المروذي .
وفي تحريم ضرب المخنث بالدف حديث مرفوع ، خرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف . فأما الغناء بغير ضرب دف ، فإن كان على وجه الحداء والنصب فهو جائز . وقد رويت الرخصة فيه عن كثير من الصحابة .
والنصب : شبيه الحداء - : قاله الهروي وغيره .
وهذا من باب المباحات التي تفعل أحيانا للراحة .
فأما تغني المؤمن فإنما ينبغي أن يكون بالقرآن ، كما قال النبي ( : ( ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) ) والمراد : أنه يجعله عوضا عن الغناء فيطرب به ويلتذ ، ويجد فيه راحة قلبه وغذاء روحه ، كما يجد غيره ذلك في الغناء بالشعر .
وقد روي هذا المعنى عن ابن مسعود - أيضاً .
وأما الغناء المهيج للطباع ، المثير للهوى ، فلا يباح لرجل ولا لامرأة فعله ولا
استماعه ؛ فإنه داع إلى الفسق والفتنة في الدين والفجور فيحرم كما يحرم النظر بشهوة إلى الصور الجميلة [ . . . . ] ؛ فإن الفتنة تحصل بالنظر وبالسماع ؛ ولهذا جعل النبي ( زنا العينين النظر ، وزنا الأذن الاستماع .
ولا خلاف بين العلماء المعتبرين في كراهة الغناء وذمه وذم استماعه ، ولم يرخص فيه أحد يعتد به .
وقد حكيت الرخصة فيه على بعض المدنيين .
وقد روى الإمام أحمد ، عن إسحاق الطباع ، أنه سأل مالكا عما يرخص فيه أهل المدينه من الغناء ؟ فقالَ : إنما يفعله عندنا الفساق .(6/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
وكذا قالَ إبراهيم بن المنذر الحزامي ، وهو من علماء أهل المدينة - أيضا .
وقد نص أحمد على مخالفة ما حكي عن المدنيين في ذَلِكَ . وكذا نص هو وإسحاق على كراهة الشعر الرقيق الذي يشبب به النساء .
وقال أحمد : الغناء الذي وردت فيه الرخصة هو غناء الراكب : أتيناكم أتيناكم .
وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم ، فمحرم مجمع على تحريمه ، ولا يعلم عن أحد منه الرخصة في شيء من ذَلِكَ ، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى .
وأما دف الأعراب الخالي من الجلاجل المصوتة ونحوها فقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب :
أحدها : أنه يرخص فيه مطلقا للنساء .
وقد روي عن أحمد ما يشهد له ، واختاره طائفة من المتأخرين من أصحابنا ، كصاحب ( ( المغني ) ) وغيره .
والثاني : إنما يرخص فيه في الاعراس ونحوها ، وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز والأوزاعي ، وهو قول كثير من أصحابنا أو أكثرهم .
والثالث : أنه لا يرخص فيه بحال . وهو قول النخعي وأبي عبيد .
وجماعة من أصحاب ابن مسعود كانوا يتبعون الدفوف مع الجواري في الأزقة فيحرقونها .
وقال الحسن : ليس الدف من أمر المسلمين في شيء . ولعله أراد بذلك دفوف الأعاجم المصلصلة المطربة .
وقد سئل أحمد على ذلك فتوقف ، وكأنه حصل عنده تردد : هل كانت(6/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
كراهة من كره الدفوف لدفوف الأعراب أو لدفوف الاعاجم فيه جرس ؟ وقد قيل لأحمد : الدف فيهِ جرس ؟ قال : لا .
وقد نص على منع الدف المصلصل .
وقال مالك في الدف : هو من اللهو الخفيف ، فإذا دعي إلى وليمة ، فوجد فيها دفاً فلا أرى أن يرجع .
وقاله القاسم من أصحابه .
وقال أصبغ - منهم - : يرجع لذلك .
وفي الرخصة في الدف في العيد أحاديث أخر :
خرج ابن ماجه من رواية الشعبي ، قال : شهد عياض الأشعري عيداً بالأنبار ، فقال : ما لي لا أراكم تقلسون كما يقلس رسول الله ( .
ومن رواية الشعبي ، عن قيس بن سعد ، قال : ما كان شيء على عهد رسول الله ( إلاّ وقد رأيته ، إلاّ شيء واحد ، فإن رسول الله ( كان يقلس له يوم الفطر .
قال يزيد بن هارون : التقليس : ضرب الدف .
وقال يوسف بن عدي : التقليس : أن يقعد الجواري والصبيان على أفواه الطرق ، يلعبون بالطبل وغير ذلك .
وقد بسطنا القول في حكم الغناء وآلات اللهو في كتاب مفرد ، سميناه : ( ( نزهة الأسماع في مسألة السماع ) ) ، وإنما أشرنا إلى ذلك هاهنا إشارة لطيفة مختصرة .(6/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
ومما يدخل في هذا الباب : ما روى حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن أنس ، قال : قدم رسول الله ( المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : ( ( ما هذان اليومان ؟ ) ) قالوا : نلعبهما في الجاهلية . فقالَ رسول الله ( : ( ( إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما : يوم
الفطر ، ويوم الأضحى ) ) .
خرجه أبو داود والنسائي .(6/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
4 - باب
الأكل يوم الفطر قبل الخروج
953 - حدثنا محمد بن عبد الرحيم : نا سعيد بن سليمان ، أنا هشيم : أنا عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس بن مالك ، قال : كان رسول الله ( لا يغدو يوم الفطر حتى ياكل تمرات .
وقال مرجأ بن رجاء : حدثني عبيد الله بن أبي بكر : حدثني أنس ، عن النبي ( وياكلهن وتراً .
هذا الحديث مما تفرد به البخاري ، ولم يخرجه مسلم .
وإنما ذكر متابعة مرجى بن رجاء لثلاثة فوائد :
أحدها :
أنه حديث أنكره الإمام أحمد من حديث هشيم ، وقال : إنما كان هشيم يحدث به عن محمد بن إسحاق ، عن حفص بن عبيد الله ، عن أنس . قَالَ : وإنما ثناه علي بن عاصم ، عن عبيد الله بن أبي بكر .
كذا نقله عن أحمد ابنه عبد الله .
وقد رواه [ قتيبة ] ، عن هشيم ، عن ابن إسحاق ، عن حفص ، كما قاله الإمام أحمد(6/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
ومن هذه الطريق خرجه الترمذي ، وصححه .
وقد رواه كذلك عن هشيم بهذا الإسناد الإمام أحمد ، ويحيى ، وابن أبي شيبة
وغيرهم .
قال البيهقي : ورواه سعيد بن سليمان ، عن هشيم بالإسنادين معا .
وهذا يدل على أنهما محفوظان عن هشيم ، فبين البخاري أنه قد توبع عليه هشيم .
وقد خرجه الإمام أحمد من حديث مرجى ( ( ويأكلهن أفرادا ) ) .
وخرجه ابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) والدارقطني من حديثه ، وعندهما : ( ( ويأكلهن وترا ) ) .
ومرجى بن رجاء ، مختلف في أمره . وثقه أبو زرعة ، وضعفه غيره وتابعه - أيضا - : علي بن عاصم ، فرواه عن عبيد الله بن أبي بكر : سمعت أنسا يقول : ( ( ما خرج رسول الله ( يوم فطر قط حتى يأكل تمرات ) ) .
خرجه الإمام أحمد ، عنه .
وخرجه ابن شاهين في ( ( كتاب العيدين ) ) ، وزاد : ( ( ثلاثا ، وكان أنس [ يأكل ] ثلاث تمرات أو خمسا ، وإن شاء زاد ، إلاّ أنه يجعلهن وترا ) ) .
ورواه - أيضا - عتبة بن حميد : نا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس : سمعت(6/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
أنسا قالَ : ما خرج رسول الله ( يوم فطر حتى يأكل ثمرات ، ثلاثا أو خمسا أو سبعا ، أو أقل من ذلك أو أكثر ، وتراً .
خرجه الطبراني .
وخرجه ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) إلى قوله : ( ( سبعا ) ) .
ورواه - أيضا - أبو جزي نصر بن طريف ، عن عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس .
فقد رواه جماعة ، عن عبيد الله ، عن أنس - كما ترى - ، وإنما استنكره أحمد من حديث هشيم .
الفائدة الثانية :
إن في رواية مرجى زيادة الوتر .
والثالثة :
إن فيها التصريح بسماع عبيد الله له من أنس .
وقد ذكرنا أنه توبع على هاتين الزيادتين .
وفي الباب أحاديث أخر ، ليست على شرط البخاري .
وقد استحب أكثر العلماء الأكل يوم الفطر قبل الخروج إلى المصلى ، ومنهم علي وابن عباس .
وروي عنهما أنهما قالا : هو السنة .
وكان ابن عمر يفعله .
وعن أم الدرداء ، أنها قالت : خالفوا أهل الكتاب ، فإنهم لا يفطرون في أعيادهم حتى يرجعوا .(6/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
وعن ابن المسيب ، قال : كان الناس يؤمرون بذلك .
وعن الشعبي ، قال : هو السنة .
وعن عَكْرِمَة ، قال : كَانَ الناس يفعلونه .
وهو قول أبي حنيفة والثوري ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم .
وروي عن النخعي ، قالَ : إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل .
وروي عنه ، أنه قال : كانوا لا يبالون بذلك .
وعن ابن مسعود : إن شاء لم ياكل .
ولعله أراد به بيان أن الأكل قبل الخروج ليس بواجب ، وهذا حق ، وان أراد أنه ليس هو الأفضل فالجمهور على خلافه ، والسنة تدل عليهِ .
ونص الشافعي على أن تركه مكروه .
وقد علل الأكل يوم الفطر قبل الخروج بالمبادرة إلى الفطر في يوم العيد ، ليظهر مخالفته لرمضان حيث كان تحريم الأكل في نهاره .
وقد تقدم ، عن أبي الدرداء : تعليله بمخالفة أهل الكتاب .
وقد علل بأن السنة تأخير الصلاة يوم الفطر ، فيكون الأكل قبل الخروج اسكن للنفس ، بخلاف صلاة النحر ؛ فإن السنة تعجيلها .
وقد رَوَى الإمام أحمد : ثنا عَبْد الرزاق ، عَن ابن جُرَيْج : أخبرني عَطَاء ، أنه سَمِعَ ابن عَبَّاس يَقُول : إن استطعتم أن لا يغدوا أحدكم يوم الفطر حَتَّى(6/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
يطعم فليفعل قَالَ : فَلَمْ أدع أن أكل قَبْلَ أن أغدو منذ سَمِعْت ذَلِكَ من ابن عَبَّاس . قُلتُ : فعلى ماذا تأول هَذَا ؟ قال : أظن سمعه من النبي ( . قال : كانوا لا يخرجون حتى يمتد الضحى ، فيقولون : نطعم حتى لا نعجل عن صلاتنا .
وذكر بعضهم معنى آخر ، وهو أن يوم الفطر قبل الصلاة تشرع الصدقة على المساكين بما يأكلونه خصوصا التمر ، فشرع له أن يأكل معهم ويشاركهم ، وفي النحر لا تكون الصدقة على المساكين إلاّ بعد الرجوع من الصلاة ، فيؤخر الأكل إلى حال الصدقة عليهم ، ليشاركهم - أيضا .
ويشهد له : ما خرجه ابن ماجه ، عن ابن عمر ، قال : كان رسول الله ( لا يغدو يوم الفطر حتى يغدي أصحابه من صدقة الفطر .
وإسناده ضعيف جدا .
وقد قيل : إن صوابه : أن النبي ( أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الإمام . قاله العقيلي .(6/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
5 - باب
الأكل يوم النحر
954 - حدثنا مسدد : نا إسماعيل ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن انس بن مالك : قال النبي ( : ( ( من ذبح قبل الصلاة فليعد ) ) . فقام رجل ، فقال : هذا يوم يشتهى فيه اللحم ، وذكر من جيرانه ، فكأن النبي ( صدقه ، فقال : وعندي جذعة أحب إلي من شاتي لحمٍ ، فرخص له النبي ( فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه ، أم لا .(6/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
7 - باب
المشي والركوب إلى العيد بغير اذان ولا اقامة
957 - حدثنا إبراهيم بن المنذر : نا أنس ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، ان رسول الله ( كان يصلي في الأضحى والفطر ، ثم يخطب بعد الصَّلاة .
958 - حدثنا إبراهيم بن موسى : أنا هشام ، أن ابن جريج أخبرهم ، قال : أخبرني عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قالَ : سمعته يقول : إن النبي ( خرج يوم الفطر ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة .
959 - قال : وأخبرني عطاء ، أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير في أول ما بويع لهُ : أنه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر ، وإنما الخطبة بعد الصَّلاة .
960 - وأخبرني عطاء ، عن ابن عباس ، وعن جابر بن عبد الله ، قالا : لم يكن يؤذن يوم الفطر ، ولا يوم الأضحى .
961 - وعن جابر بن عبد الله ، قال : سمعته يقول : إن النبي ( قام فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس بعد ، فلما فرغ نبي الله ( نزل ، فأتى النساء فذكرهن ، وهو يتوكأ على يد بلال ، وبلال باسط ثوبه ، يلقي فيه النساء صدقة 0
قلت لعطاء : أترى حقا على الإمام الآن أن يأتي النساء فيذكرهن حين يفرغ ؟ قالَ : إن ذَلِكَ لحق عليهم ، ومالهم أن لا يفعلوا ؟(6/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
[ 0000000000000000000000000000000 ]
ولا إقامة
وخرج - أيضا - من طريق عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن جابر ، قال : شهدت مع رسول الله ( يوم العيد ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة .
وخرج أبو داود من طريق الحسن بن مسلم ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، أن النبي ( صلى العيد بلا أذان ولا إقامة وأبا بكر وعمر - أو عُثْمَان .
وخرجه ابن ماجة مختصرا .
وخرج أبو داود من حديث سفيان ، عن عبد الرحمن بن عباس ، قال : [ سأل رجل ابن عباس : أشهدت العيد مع رسول الله ( ؟ قَالَ : نَعَمْ ، ولولا منزلتي مِنْهُ مَا شهدته من الصغر ، ف ] أتى رَسُول الله ( العلم الَّذِي عِنْدَ [ دار ] كثير بْن الصلت ، فصلى ثُمَّ خَطَبَ ، ولم يذكر إذانا ولا إقامة - وذكر الحَدِيْث .
وفي الباب : عن ابن عُمَر .
خرجه الإمام أحمد والنسائي .(6/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
وفي إسناده مقال .
خرجه الإمام أحمد من رواية الزهري ، عن سالم ، عن أبيه - وذكر النبي ( وأبا بكر وعمر .
وهو من رواية عبد الرزاق بن عمر والنعمان بن راشد ، عن الزهري .
وقال أبو حاتم : هو حديث منكر .
وخرجه النسائي ، من رواية الفضل بن عطية ، عن سالم ، عن أبيه - ولم يذكر أبا بكر وعمر .
والفضل بن عطية ، مختلف فيهِ .
وروي عنه عن عطاء عن جابر .
وخرج مسلم من حديث سماك ، عن جابر بن سمرة ، قال : صليت مع النبي ( العيد غير مرة بغير أذان ولا إقامة .
ولا خلاف بين أهل العلم في هذا ، وأن النبي ( وأبا بكر وعمر كانوا يصلون العيد بغير أذان ولا إقامة .
قال مالك : تلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا .
واتفق العلماء على أن الأذان والإقامة للعيدين بدعة ومحدث .
وممن قالَ : إنه بدعة : عبد الرحمن بن أبزى والشعبي والحكم .
وقال ابن سيرين : وهو محدث .(6/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
وقال سعيد بن المسيب والزهري : أول من أحدث الأذان في العيدين معاوية .
وقال ابن سيرين : أول من أحدثه آل مروان .
وعن الشعبي ، قالَ : أول من أحدثه بالكوفة ابن دراج ، وكان المغيرة بن شعبة استخلفه .
وقال حصين : أول من أذن في العيدين زياد .
وروى ابن أبي شيبة : نا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن يسار ، أن ابن الزبير سأل ابن عباس - وكان الذي بينهما حسنا يومئذ - فقال : لا تؤذن ولا تقم ، فلما ساء الذي بينهما أذن وأقام .
وقال الشافعي : قال الزهري : وكان النبي ( يأمر في العيدين المؤذن فيقول : الصلاة جامعة .
واستحب ذلك الشافعي وأصحابنا .
واستدلوا بمرسل الزهري ، وهو ضعيف ، وبالقياس على صلاة الكسوف ؛ فإن النَّبيّ ( صح عنه أنه أرسل مناديا ينادي : الصَّلاة جامعة .
وقد يفرق بين الكسوف والعيد ، بأن الكسوف لم يكن الناس مجتمعين لهُ ، بل كانوا متفرقين في بيوتهم وأسواقهم ، فنودوا لذلك ، وأما العيد ، فالناس كلهم مجتمعون له قبل خروج الإمام .
وقول جابر : ( ( ولا إقامة ولا نداء ولا شيء ) ) يدخل فيه نفي النداء
ب ( ( الصَّلاة جامعة ) ) .
وقد يقال : إن ( ( الصَّلاة جامعة ) ) هي بدل إقامة الصَّلاة للمكتوبات عندَ خروج الإمام حتَّى يعلم الناس حضور الصَّلاة ؛ فيتهيئون لها بالقيام ، وليس كلهم يشاهد الإمام ودخوله وصلاته ، فاحتيج إلى ما يعلم به ذلك .(6/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
والإقامة مكروهة لهذه الصَّلاة ، فتعين إبدالها ب ( ( الصَّلاة جامعة ) ) .
وفي كراهة : ( ( حي على الصَّلاة ) ) بدل ( ( الصَّلاة جامعة ) ) وجهان للشافعية .
والمنصوص عن الشافعي : أنه خلاف الأولى .
وفي الحديث : أن الإمام إذا رأى أنه لم يسمع الموعظة النساء ، فإنه يأتيهن بعد فراغه من موعظة الرجال ، فيعظهن ويذكرهن .
وقد قال عطاء : إن ذلك حق عليهِ .
ولعله أراد أنه مندوب إليه ، متأكد الندب .
قال طائفة من أصحاب الشافعي : إذا علم الإمام أن قوما فاتهم سماع الخطبة استحب أن يعيد لهم الخطبة ، سواء كانوا رجالا أو نساءً ، واستدلوا بهذا الحديث .(6/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
8 - باب
الخطبة يوم العيد
فيه ثلاثة أحاديث :
الأول :
962 - نا أبو عاصم : أنا ابن جريج : أخبرني الحسن بن مسلم ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : شهدت العيد مع رسول الله ( وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة .
فيهِ : دليل على أنهم كانوا يخطبون للعيدين ، وأنهم كانوا يخطبون بعد الصَّلاة .
وخرجه فيما بعد من طريق عبد الرزاق ، بسياق طويل .
الحديث الثاني :
963 - نا يعقوب بن إبراهيم : نا أبو اسامة : نا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كانَ رسول الله ( وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة .
وقد خرجه مسلم بنحوه من حديث أبي أسامة وعبدة بن سليمان كلاهما ، عن عبيد الله .
وقد قال الإمام أحمد - في رواية ابنه عبد الله - : ما سمعت من أحد يقول في هذا الحديث : ( ( أبو بكر وعمر ) ) إلا عبدة .
كذا قال ، وكأنه لم يسمعه من أبي أسامة .(6/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
الحديث الثالث :
964 - نا سليمان بن حرب : نا شعبة ، عن عدي بن ثابت ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس ، قالَ : إن النبي ( صلى يوم الفطر ركعتين ، لم يصل قبلهما ولا بعدهما ، ثم أتى النساء ومعه بلال ، فأمرهن بالصدقة ، فجعلن يلقين ، تلقي المرأة خرصها وسخابها .
ظاهره : أنه بعد الصلاة خطب النساء ، وليس كذلك ، وإنما خطب الرجال ثم أتى النساء بعد الرجال ، وسيأتي ذلك من حديث طاوس .
و ( ( الخرص ) ) ، و ( ( القرط ) ) حلقة في الإذن ، وربما كانت فيها حبة .
و ( ( السخاب ) ) : قلادة تتخذ من أنواع الطيب .
وفي الحديث : دليل على جواز صدقة المرأة بدون إذن زوجها .
الحديث الرابع :
965 - نا آدم : نا شعبة : نا زبيد ، قال : سمعت الشعبي ، عن البراء بن عازب ، قالَ : قال النبي ( : ( ( إن أول ما نبدأ في يومنا هذا ، أن نصلي ، ثم نرجع فننحر ، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله ، ليس من النسك في شيء ) ) ، فقال رجل من الأنصار - يقال له : أبو بردة بن نيار - : يا رسول الله ، ذبحت ، وعندي جذعة خير من مسنة ؟ قالَ : ( ( اجعله مكانه ، ولن توفي - أو تجزي - عن أحد بعدك ) ) .
في هذا الحديث : دليل على أن الخطبة كانت بعد الصَّلاة ؛ لقوله : ( ( إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي ) ) ولو كانَ يخطب قبل ، لكان أول ما بدأ به الخطبة .(6/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
وهذا القول قاله في خطبته ، كما خرجه البخاري فيما بعد ، عن سليمان بن حرب ، عن
شعبة ، بهذا الإسناد .
وقد تقدم : أن الإمام أحمد خرجه من رواية أبي جناب الكلبي ، عن يزيد بن
البراء ، عن أبيه ، أن النبي ( قاله قبل الصَّلاة ، ثم صلى ، ثم خطب ، وذكر أنه قال في خطبته : ( ( من كان منكم عجل ذبحا فإنما هي جزرة اطعمها أهله ) ) - وذكر قصة أبي بردة - ، ثم قال : ( ( يا بلال ) ) قال : فمشى ، واتبعه رسول الله ( حتى أتى النساء ، فقال : ( ( يا معشر النسوان ، تصدقن ، الصدقة خير لكن ) ) . قال : فما رأيت يوما قط أكثر خدمة مقطوعة ، ولا قلادة ، ولا قرطا من ذلك اليوم .
وقال الإمام أحمد - أيضا - : نا يحيى بن آدم : نا أبو الأحوص ، عن منصور ، عن الشعبي ، عن البراء بن عازب ، قال : خطبنارسول الله ( يوم النحر بعد الصلاة - ولم يزد على ذَلِكَ .
وأما ذكر الخطبتين في العيد ، فخرجه ابن ماجه من رواية إسماعيل بن مسلم : نا أبو الزبير ، عن جابر ، قال : خرج رسول الله ( يوم الفطر - أو أضحى - فخطب قائما ، ثم قعد قعدة ، ثم قام .
وإسماعيل ، هو المكي . ضعيف جدا .(6/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
9 - باب
ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم
وقال الحسن : نهوا عن حمل السلاح يوم العيد ، إلا أن يخافوا عدواً .
هذا الذي ذكره عن الحسن ، قد روي مرفوعاً :
فروى أبو داود في ( ( مراسيله ) ) بإسناده ، عن الضحاك ، أن رسول الله ( نهى أن يخرج يوم العيد بالسلاح .
وبإسناده ، عن مكحول ، قال : إنما كانت الحربة تحمل مع رسول الله ( يوم العيد لأنه كانَ يصلي إليها .
وخرج ابن ماجه بإسناد ضعيف جداً ، عن ابن عباس ، أن رسول الله ( نهى أن يلبس السلاح في بلاد الاسلام في العيدين ، إلا أن يكونوا بحضرة العدو .
وفي إسناده : إسماعيل بن زياد ، متروك .
قال البخاري - رحمه الله - :
966 - حدثنا زكريا بن يحيى أبو السكين : نا المحاربي : نا محمد بن سوقة ، عن سعيد بن جبير ، قال : كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمص قدمه ، فلزقت قدمه بالركاب ، فنزلت فنزعتها ، وذلك بمنى ، فبلغ الحجاج فجاء يعوده ، فقال الحجاج : لو نعلم من أصابك ؟ قالَ : أنت أصبتني . قالَ : وكيف ؟ قال : حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه ، وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن(6/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
السلاح يدخل الحرم .
976 - حدثنا أحمد بن يعقوب : حدثني إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص ، عن أبيه ، قال : دخل الحجاج على ابن عمر وأنا عنده ، فقال : كيف هو ؟ قالَ : صالح . قالَ : من أصابك ؟ قال : أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله - يعني : الحجاج .
زكريا بن يحيى أبو السكين الطائي الكوفي ، روى عنه البخاري هذا الحديث ، ولم يرو عنه في ( ( كتابه ) ) ، ولم يخرج لهُ أحد من أهل الكتب الستة سواه .
وكذلك أحمد بن يعقوب المسعودي الكوفي ، لم يروعنه البخاري من أهل
الكتب ، لكنه روى عنه في موضوع أخر من ( ( كتابه ) ) .
وظاهر كلام ابن عمر : يقتضي أن حمل السلاح يوم النحر غير جائز ، سواء كان في الحرم أو غيره ، وكذلك حمله في الحرم .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) من حديث معقل ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن
النبي ( ، قال : ( ( لايحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح ) ) .
وقول ابن عمر قالَ : ( ( لم يكن يحمل فيه ) ) ، في معنى رفعه ؛ لأنه إشارة إلى أن ذلك كان عادة مستمرة من عهد النبي ( إلى ذلك الزمان .
ولعل النهي إنما هو عن إشتهار السلاح لا عن حمله في القراب ، كما نهى عن ذلك في المساجد .
ويدل عليه : أن النبي ( قاضى أهل مكة عام الحديبية على أن يدخلها من قابل ، وأن لا يدخلها إلا بجلبان السلاح ، وهي السيوف في القراب .
ولكن ألفاظ الأحاديث عامة ، وقد يكون دخوله مكة عام القضية بالسلاح ؛ لأنه كانَ خائفاً .(6/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
وقد حكي عن عطاء ومالك والشافعي ، أنه يكره إدخال السلاح إلى الحرم لغير حاجة إليه .
وأما حمل السلاح يوم العيد ، فقد حكى البخاري عن الحسن ، أنه قال : نهوا
عنه ، إلا أن يخافوا عدواً .
وقد روي عنه مرفوعاً .
خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ( ( كتاب الشافي ) ) ، من طريق علي بن عياش : ثنا إسماعيل ، عن ابن أبي نعم ٍ ، عن الحسن ، عن جابر ، قال : نهى رسول الله ( أن يخرج السلاح في العيدين .
إسماعيل : كأنه : ابن عياش .
والصحيح : الموقوف .
وبوب عليه أبو بكر : ( ( باب : القول في لبس السلاح في العيدين وذكر
الثغور ) ) .
يشير إلى أنه في الثغور التي يخاف فيها من هجم العدو غير منهي عنه .(6/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
- باب التبكير إلى العيد
وقال عبد الله بن بسر : إن كنا قد فرغنا في هذه الساعة ، وذلك حين التسبيح .
968 - حدثنا سليمان بن حرب : نا شعبة ، عن زبيد ، عن الشعبي ، عن البراء ، قال : خطبنا النبي ( يوم النحر ، فقال : ( ( إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر ) ) .
ثم ذكر بقية الحديث - يعني حديث آدم ، عن شعبة - ، وقد سبق قريباً ، إلا أنه قال : ( ( اجعلها مكانها ) ) - أو قال - : ( ( اذبحها ، ولن تجزي جذعة عن أحد بعدك ) ) .
وجه الاستدلال بحديث البراء على التبكير بصلاة العيد : أن النبي ( أخبر أن أول ما يبدأ به في يوم النحر الصَّلاة ، ثُمَّ النحر بعد رجوعه ، والمراد باليوم
ها هنا : ما بعد طلوع الشمس ، فإنه لا يجوز صلاة العيد قبل [ ذَلِكَ ] بالاتفاق .
وهذا مما يرد قول من قال من أصحابنا بجواز صلاة الجمعة قبل طلوع الشمس .
وقد يستدل به من يرى أن صلاة العيد تجوز قبل زوال وقت النهي 0
ويجاب عنه بان ذكره أول ما يبدأ به في وقت متسع ، لا يلزم منه أن يكون(6/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
فعله له في أول الوقت 0
وقال الشافعي : أنا الثقة ، أن الحسن كان يقول : إن النبي ( كان يغدو إلى الأضحى والفطر حين تطلع الشمس ، فيتتام طلوعها .
وأما حديث عبد الله بن بسر الذي ذكره تعليقاً :
فخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث يزيد بن خمير الرحبي ، قال : خرج عبد الله بن بسر - صاحب النبي ( - مع الناس في يوم عيد فطر - أو أضحى - ، فأنكر إبطاء الإمام ، وقال : أنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه ، وذلك حين التسبيح .
والمراد بصلاة التسبيح : صلاة الضحى .
والمراد بحينها : وقتها المختار ، وهو إذا اشتد الحر .
فهذا التأخير هو الذي أنكره عبد الله بن بسر ، ولم ينكر تأخيرها إلى أن يزول وقت النهي ؛ فان ذَلِكَ هوَ الأفضل بالاتفاق ، فكيف ينكره .
وقد اختلف في أول وقت صلاة العيد :
فقال أبو حنيفة وأحمد : أول وقتها إذا ارتفعت الشمس ، وزال وقت النهي .
وهو أحد الوجهين للشافعية .
والثاني - لهم - : أول وقتها إذا طلعت الشمس ، وان لم يزل وقت النهي .
وهو قول مالك .
ويتخرج لأصحابنا مثله ، على قولهم : إن ذوات الأسباب كلها تفعل في أوقات النهي .(6/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
وقد خرجه بعضهم في صلاة الاستسقاء ، وصلاة العيد مثلها .
وعمل السلف يدل على الأول ؛ فإنه قد روي عن ابن عمر ورافع بن خديج وجماعة من التابعين ، أنهم كانوا لا يخرجون إلى العيد حتَّى تطلع الشمس ، وكان بعضهم يصلي الضحى في المسجد قبل أن يخرج إلى العيد .
وهذا يدل على أن صلاتها إنما كانت تفعل بعد زوال وقت النهي .
واختلفوا : هل يستحب إقامة العيدين في وقت واحد بالسوية ، أو يعجل أحدهما عن آخر ؟ على قولين .
أحدهما : انهما يصليان بالسوية ، وهو قول مالك .
وقال ربيعة : إذا طلعت الشمس فالتعجيل بهما - يعني : الفطر والأضحى - أحسن من التأخير .
قال الزهري : كانوا يؤخرون العيدين حتى يرتفع النهار جداً .
وروى عن عمر بن عبد العزيز ، أنه كان يبكر بالخروج إلى الصلاة ؛ كيلا يصلي أحد قبلها .
خرجه كله جعفر الفريابي في ( ( كتاب العيدين ) ) 0
والثاني : يستحب أن يؤخر صلاة الفطر ، وتقدم الأضحى ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد .
وفي حديث مرسل ، خرجه الشافعي ، أن النبي كتب إلى عمرو بن حزم - وهو بنجران - أن عجل الأضحى ، وأخر الفطر .
وفي إسناده : إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ، وهو ضعيف جداً .
والمعنى في ذلك : أنه بتأخير صلاة عيد الفطر يتسع وقت إخراج الفطرة المستحب إخراجها فيه ، وبتعجيل صلاة الأضحى يتسع وقت التضحية ، ولا(6/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
يشق على الناس أن يمسكوا عن الأكل حتَّى يأكلوا من ضحاياهم .
وقد تقدم في حديث ابن عباس المخرج في ( ( المسند ) ) : وكانوا لا يخرجون حتى يمتد الضحى ، فيقولون : نطعم حتى لا نعجل عن صلاتنا .
و أظنه من قول عطاء .
ويكون تعجيل صلاة الأضحى بمقدار وصول الناس من المزدلفة إلى منى ورميهم وذبحهم - نص عليه أحمد في رواية حنبل - ؛ ليكون أهل الأمصار تبعاً للحاج في ذَلِكَ ؛ فإن رمي الحاج الجمرة بمنزلة صلاة العيد لأهل الأمصار .
وأما آخر وقت صلاة العيد فهو : زوال الشمس .
قال عطاء : كل عيد في صدر النهار .
وقال مجاهد : كانوا يعدون العيد في صدر النهار .
وقال مجاهد : كل عيد للمسلمين فهو قبل نصف النهار .
وقال أحمد : لا يكون الخروج للعيدين إلا قبل الزوال .
وأما إن لم يعلم بالعيد إلا في أثناء النهار ، فإن علم به قبل زوال الشمس خرجوا من وقتهم ، وصلوا صلاة العيد .
وإن شهدوا بعد الزوال في أثناء النهار ، فقال أكثر العلماء : يخرجون من الغد للصلاة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز والثوري وأبي حنيفة والأوزاعي والليث وإسحاق وأحمد وابن المنذر 0
واستدلوا بما روى أبو عمير بن أنس ، قال : حدثني عمومة لي من الأنصار من أصحاب النبي ( قالوا : غم علينا هلال شوال ، فأصبحنا صياماً ، فجاء ركب من آخر النهار ، فشهدوا عند رسول الله ( أنهم رأوا الهلال بالأمس ، فأمر الناس أن يفطروا من يومهم ، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد .(6/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه .
وصححه إسحاق بن راهويه والخطابي والبيهقي .
واحتج به أحمد .
وتوقف فيه الشافعي ، وقال : لو ثبت قلنا به .
وقالت طائفة : تسقط ولا تصلي بعد ذلك ، كما لا تقضى الجمعة إذا فاتت ، وهو قول مالك وأبي ثور والشافعي - في قول له .
والقول المشهور ، عنه : أنه إن أمكن جمع الناس في بقية يومهم لصغر البلد
خرجوا ، وصلوا في بقية اليوم ، وإلا أخروه إلى الغد .
وبنى ذلك أصحابه على أن التأخير إلى الغد قضاء ، أو أداء .
فإن قيل : إنه أداء ، لم تصل بعد الزوال ؛ لأن وقت أدائها قد فات .
وإن قيل : إنَّهُ قضاء - وهو أصح عندهم - ، قضيت في بقية النهار ، إذا أمكن جمع الناس فيهِ .
وهو أفضل - عندهم - من تأخيرها إلى الغد ، في أصح الوجهين عندهم . ولا خلاف عندهم ، أنه إذا لم يعلم بالعيد إلاّ في الليلة الثانية ، أنه يصلي من الغد .
قالوا : ويكون أداء ، بغير خلاف .
واتفقوا على أن هذه الشهادة لا تقبل بالنسبة إلى صلاة العيد ، بل تصلى من الغد أداء بغير خلاف .
قال في ( ( شرح المهذب ) ) : قال أصحابنا : ليس يوم الفطر أول شوال مطلقا وإنما هو اليوم الذي يفطر فيه الناس ؛ بدليل حديث :
( ( فطركم يوم تفطرون ) )(6/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
وكذلك يوم النحر ، وكذلك يوم عرفة هوَ اليوم الذي يظهر للناس ، أنه يوم عرفة ، سواء كانَ التاسع أو العاشر وقال الشافعي في ( ( الأم ) ) عقب هذا الحديث : فبهذا نأخذ . قالَ : وإنما كلف العباد الظاهر ، ولم يظهر الفطر إلا يوم أفطروا . انتهى .
وقال أصحاب أبي حنيفة - فيمن شهد بيوم عرفة بعرفة ، على وجه لا يتمكن الناس فيه من تلافي الوقوف ، على تقدير صحة شهادتهم في ذلك العام - : إن شهادتهم غير مقبولة ؛ لما يؤدى إليه قبولها من إيقاع الناس في الفتنه ، بتفويت حجهم .
ذكره صاحب ( ( الكافي ) ) - منهم .(6/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
- باب فضل العمل في أيام التشريق
وقال ابن عباس ( ( واذكروا الله في أيام معلومات ) ) : أيام العشر . والأيام المعدودات : أيام التشريق .
وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر ، ويكبران ويكبر الناس بتكبيرهما .
وكبر محمد بن علي خلف النافلة .
بوب على فضل أيام التشريق والعمل فيها .
وذكر في الباب أيام التشريق وأيام العشر ، وفضلهما جميعاً .
وذكر ابن عباس : أن الأيام المعلومات المذكورة في سورة الحج هي أيام العشر ، والأيام المعدودات المذكورة في سورة البقرة هي أيام التشريق .
وفي كل منهما اختلاف بين العلماء :
فأما المعلومات :
فقد روي عن ابن عباس ، أنها أيام عشر ذي الحجة ، كما حكاه عنه البخاري .
وروي - أيضاً - عن ابن عمر ، وعن عطاء والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة .
وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد - في المشهور ، عنه .
وقالت طائفة : الأيام المعلومات : يوم النحر ويومان بعده ، روي عن ابن(6/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
عمر وغيره من السلف . وقالوا : هي أيام الذبح .
وروي - أيضاً - عن علي وابن عباس ، وعن عطاء الخراساني والنخعي وهو قول مالك وأبي يوسف ومحمد وأحمد - في رواية عنه .
ومن قال : أيام الذبح أربعة ، قال : هي يوم النحر وثلاثة أيام بعده .
وقد روي عن أبي موسى الأشعري ، أنه قال - في خطبته يوم النحر - : هذا يوم الحج الأكبر ، وهذه الأيام المعلومات التسعة التي ذكر الله في القرآن ، لا يرد فيهن
الدعاء ، هذا يوم الحج الأكبر ، وما بعده من الثلاثة اللائي ذكر الله الأيام المعدودات ، لا يرد فيهن الدعاء .
وهؤلاء جعلوا ذكر الله فيها هو ذكره على الذبائح .
وروي عن محمد بن كعب ، أن المعلومات أيام التشريق خاصة .
والقول الأول أصح ؛ فان الله سبحانه وتعالى قالَ - بعد ذكره في هذه الأيام المعلومات : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( [ الحج : 29 ] .
والتفث : هو ما يصيب الحاج من الشعث والغبار .
وقضاؤه : إكماله .
وذلك يحصل يوم النحر بالتحلل فيه من الإحرام ، فقد جعل ذلك بعد ذكره في الأيام المعلومات ، فدل على أن الأيام المعلومات قبل يوم النحر الذي يقضى فيه التفث ويطوف فيه بالبيت العتيق .
فلو كانت الأيام المعلومات أيام الذبح لكان الذكر فيها بعد قضاء التفث ووفاء النذور والتطوف بالبيت العتيق ، والقران يدل على أن الذكر فيها قبل ذلك .(6/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
وأما قوله تعالى : ( عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنعام ( [ الحج : 28 ] .
فأما أن يقال : إن ذكره على الذبائح يحصل في يوم النحر ، وهو أفضل أوقات الذبح ، وهو آخر العشر .
وإما أن يقال : إن ذكره على ما رزقنا من بهيمة الأنعام ، ليس هو ذكره على الذبائح ، بل ذكره في أيام العشر كلها ، شكراً على نعمة رزقه لنا من بهيمة الأنعام ؛ فإن لله تعالى علينا فيها نعماً كثيرة دنيوية ودينية .
وقد عدد بعض الدنيوية في سورة النحل ، وتختص عشر ذي الحجة منها بحمل أثقال الحاج ، وإيصالهم إلى قضاء مناسكهم والانتفاع بركوبها ودرها ونسلها وأصوافها وأشعارها .
وأما الدينية فكثيرة ، مثل : إيجاب الهدي وإشعاره وتقليده ، وغالبا يكون ذلك في أيام العشر أو بعضها ، وذبحه في آخر العشر ، والتقرب به إلى الله ، والأكل من لحمه ، وإطعام القانع والمعتر .
فلذلك شرع ذكر الله في أيام العشر شكراً على هذه النعم كلها ، كما صرح به في قوله تعالى : ( كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ( [ الحج : 37 ] ، كما أمر بالتكبير عند قضاء صيام رمضان ، وإكمال العدة ، شكراً على ما هدانا إليه من الصيام والقيام المقتضي لمغفرة الذنوب السابقة .
وأما الأيام المعدودات :
فالجمهور على أنها أيام التشريق ، وروي عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما .
واستدل ابن عمر يقوله : ( فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ( [ البقرة : 203 ] وإنما يكون التعجيل في ثاني أيام التشريق .
قال الإمام أحمد : ما أحسن ما قال ابن عمر .(6/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
وقد روي عن ابن عباس وعطاء ، أنها أربعة أيام : يوم النحر ، وثلاثة بعده .
وفي إسناد المروي عن ابن عباس ضعف .
وأما ما ذكره البخاري عن ابن عمر وأبي هريرة ، فهو من رواية سلام أبي المنذر ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان في العشر إلى السوق يكبران ، لا يخرجان إلاّ لذلك .
خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ( ( كتاب الشافي ) ) وأبو بكر المروزي القاضي في ( ( كتاب العيدين ) ) .
ورواه عفان : نا سلام أبو المنذر - فذكره ، ولفظه : كان أبو هريرة وابن عمر يأتيان السوق أيام العشر ، فيكبران ، ويكبر الناس معهما ، ولا يأتيان لشيء إلا لذلك .
وروى جعفر الفريابي ، من رواية يزيد بن أبي زياد ، قال : رأيت سعيد بن جبير
وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدا - أو اثنين من هؤلاء الثلاثة - ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر : ( ( الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله والله أكبر . الله أكبر ولله الحمد ) ) .
وروى المروزي ، عن ميمون بن مهران ، قال : أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر ، حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها ، ويقول : إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير .
وهو مذهب أحمد ، ونص على أنه يجهر به .
وقال الشافعي : يكبر عند رؤية الأضاحي .
وكأنه أدخله في التكبير على بهيمة الأنعام المذكور في القران ، وهو وإن كان داخلا فيه ، إلا أنه لا يختص به ، بل هو أعم من ذلك كما تقدم .(6/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
وهذا على اصل الشافعي وأحمد : في أن الأيام المعلومات هي أيام العشر ، كما
سبق .
فأما من قال : هي أيام الذبح ، فمنهم من لم يستحب التكبير في أيام العشر ، وحكي عن مالك وأبي حنيفة .
ومن الناس من بالغ ، وعده من البدع ، ولم يبلغه ما في ذلك من السنة .
وروى شعبة ، قال : سالت الحكم وحماداً عن التكبير أيام العشر ؟ فقالا : لا ؛ محدث .
خرّجه المروزي .
وخرّج الإمام أحمد من حديث ابن عمر ، عن النبي ( قال : ( ( ما من أيام اعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيه من هذه الأيام العشر ؛ فاكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ) ) .
ويروي نحوه من حديث ابن عباس - مرفوعاً ، وفيه : ( ( فاكثروا فيهن التهليل والتكبير ؛ فإنها أيام تهليل وتكبير وذكر الله عز وجل ) ) .
وأما ما ذكره عن محمد بن علي في التكبير خلف النافلة ، فهوَ في أيام التشريق .
ومراده : أن التكبير يشرع في أيام العشر وأيام التشريق جميعاً ، وسيأتي ذكر التكبير في أيام التشريق فيما بعد - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
قال البخاري - رحمه الله تعالى - :
969 - نا محمد بن عرعرة : نا شعبة ، عن سليمان ، عن مسلم البطين ، عن(6/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي ( قال : ( ( ما العمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام - يعني : أيام العشر - ) ) قالوا : ولا الجهاد ؟ قالَ : ( ( ولا الجهاد ، إلاّ رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله ، فلم يرجع بشيء ) ) . هكذا في أكثر النسخ المعتمدة ، وفي أكثر النسخ : ( ( ما العمل في العشر أفضل منه في هذه الأيام ) ) - وكأنه يشير إلى أيام التشريق - ، والحديث بهذا اللفظ غير معروف .
وفيه : تفصيل العمل في أيام التشريق وأيام العشر جميعاً .
ولعل هذا من تصرف بعض الرواة ، حيث أشكل عليه إدخال الحديث باللفظ المشهور في ( ( باب : فضل العمل في أيام التشريق ) ) .
والبخاري اتبع عبد الرزاق ؛ فانه خرج هذا الحديث في ( مصنفه ) في ( ( باب : فضل أيام التشريق ) ) - أيضاً .
وقد ذكر أن البخاري وإن بوب على أيام التشريق ، لكنه ذكر في الباب فضل أيام العشر وأيام التشريق جميعا ، ولهذا ذكر عن ابن عباس تفسير الأيام المعلومات ، والأيام المعدودات . وعن ابن عمر وأبي هريرة التكبير في أيام العشر . وعن محمد بن علي التكبير في أيام التشريق خلف النوافل ، فعلم انه أراد ذكر فضائل هذه الأيام جميعها ، وليس في فضل العمل في أيام التشريق حديث مرفوع ، فخرج فيه حديث فضل العمل في أيام العشر .
وهذا الحديث حديث عظيم جليل .
وسليمان الذي رواه عنه شعبة هو الأعمش ، وقد رواه جماعة عن الأعمش(6/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
بهذا الإسناد ، وهو المحفوظ - : قاله الدارقطني وغيره .
واختلف على الأعمش فيه :
ورواه عن مسلم البطين مع الأعمش : حبيب بن أبي عمرة ومخول بن راشد .
ورواه عن سعيد بن جبير مع البطين : أبو صالح ومجاهد وسلمة بن كهيل وأبو إسحاق والحكم وعدي بن ثابت وغيرهم ، مع اختلاف على بعضهم فيه .
ورواه عن ابن عباس مع سعيد بن جبير ، عطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة
ومقسم ، مع اختلاف على بعضهم يطول ذكره .
ولعل مسلماً لم يخرجه للاختلاف في إسناده . والله سبحانه وتعالى أعلم .
وهذا الحديث نص في أن العمل المفضول يصير فاضلا إذا وقع في زمان فاضل ، حتى يصير أفضل من غيره من الأعمال الفاضلة ؛ لفضل زمانه .
وفي أن العمل في عشر ذي الحجة أفضل من جميع الأعمال الفاضلة في غيره .
ولا يستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد ، وهو أن يخرج الرجل بنفسه
وماله ، ثم لا يرجع منهما بشيء .
وقد سئل : ( ( أي الجهاد أفضل ؟ ) ) ، قالَ : ( ( من عقر جواده ، وأهريق
دمه ) ) .
وسمع رجلا يقول : اللَّهُمَّ اعطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين ، فقالَ لهُ :
( ( إذن يعقر جوادك ، وتستشهد ) ) .
فهذا الجهاد بخصوص يفضل على العمل في العشر ، وأما سائر أنواع الجهاد مع سائر الأعمال ، فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل منها .(6/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
وفي رواية : ( ( وأحب الله عز وجل ) ) .
فإن قيل : فإذا كان كذلك فينبغي أن يكون الحج أفضل من الجهاد ؛ لأن الحج يختص بهده العشر ، وهو من أفضل أعماله ، ومع هذا فالجهاد أفضل منه ؛ لما في ( ( الصحيحين ) ) ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيّ ( أنه قالَ : ( ( أفضل الأعمال الإيمان بالله ورسوله ، ثُمَّ الجهاد في سبيل الله ، ثُمَّ حج مبرور ) ) .
قيل : للجمع بينهما وجهان :
أحدهما : بان يكون الحج أفضل من سائر أنواع الجهاد ، إلاّ الجهاد الذي لا يرجع صاحبه منه بشيء من نفسه وماله ، فيكون هذا الجهاد هو الذي يفضل على الحج
خاصة .
وقد روي عن طائفة من الصحابة تفضيل الحج على الجهاد ، ومنهم : عمر وابنه وأبو موسى وغيرهم ، عن مجاهد وغيره .
فيحمل على تفضيله على ما عدا هذا الجهاد الخاص ، ويجمع بذلك بين النصوص كلها .
الوجه الثاني : أن الجهاد في نفسه أفضل من الحج ، لكن قد يقترن بالحج ما يصير به أفضل من الجهاد ، وقد يتجرد عن ذلك فيكون الجهاد أفضل منه حينئذ .
ولذلك أمثله :
منها : أن يكون الحج مفروضا ، فيكون حينئذ أفضل من التطوع بالجهاد ، هذا قول جمهور العلماء .
وقد روي صريحاً ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص .
وروي - مرفوعاً - من وجوه متعددة ، في أسانيدها لين .(6/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
ونص عليه الإمام أحمد وغيره .
وقد دل عليه : قول النَّبيّ ( حكاية عن ربه عز وجل : ( ( ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ) ) .
وقد خرجه البخاري في ( ( كتابه ) ) هذا .
ومنها : أن يكون الحاج ليس من أهل الجهاد ، فحجه أفضل من جهاده ،
كالمرأة .
وقد خرج البخاري حديث عائشة ، أنها قالت : يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل ، أفلا نجاهد ؟ قالَ : ( ( لكن أفضل الجهاد حج مبرور ) ) 0
ومنها : أن يستوعب عمل الحج جميع أيام العشر ، ويؤتي به على أكمل الوجوه ، وجوه البر من أداء الواجبات وفعل المندوبات واجتناب المحرمات والمكروهات ، مع كثرة ذكر الله عز وجل والإحسان إلى عباده ، وكثرة العج والثج ، فهذا الحج قد يفضل على الجهاد .
وقد يحمل عليه ما روي عن الصحابة من تفضل الحج على الجهاد ، كما سبق .
وإن وقع عمل الحج في جزء يسير من العشر ، ولم يؤت به على الوجه الكامل من البر ، فإن الجهاد حينئذ أفضل منه .
ويدل عليه - أيضاً - : أن النبي لما سئل عن عمل يعدل الجهاد ، فقال : ( ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد ، أن تقوم فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر ؟ ) ) .
فدل على أن العمل من [ فتور ] في أي وقت كانَ يعدل الجهاد ، فإذا وقع(6/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
هذا العمل الدائم في العشر بخصوصه في عدد أيامه من سائر السنة ، إلا من أفضل الجهاد بخصوصه كما تقدم .
ولهذا كان سعيد بن جبير - وهو راوي هذا الحديث ، عن ابن عباس - إذا دخل العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه .
وروي عنه ، أنه قال : لا تطفئوا مصابيحكم في العشر - يعجبه العبادة .
فإن قيل : هل المراد : تفضيل العمل في هذه العشر على العمل في كل عشر غيره من أيام الدنيا ، فيدخل في ذلك عشر رمضان وغيره ، أم على العمل في أكثر من عشر أخر من الأيام ، وإن طالت المدة ؟
قيل : أما تفضيل العمل فيهِ على العمل في كل عشر غيره ، فلا شك في ذَلِكَ .
ويدل عليه : ما خرجه ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) ، من حديث جابر ، عن النبي ( قال : ( ( ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة ) ) . فقال رجل : يا رسول الله ، هو أفضل أو عدتهن جهاد في سبيل الله ؟ قالَ : ( ( هوَ أفضل من عدتهن جهاد في سبيل الله عز وجل ) ) .
فيدخل في ذلك تفضيل العمل في عشر ذي الحجة على العمل في جميع أعشار الشهور كلها ، ومن ذلك عشر رمضان .
لكن فرائض عشر ذي الحجة أفضل من فرائض سائر الأعشار ، ونوافله أفضل من نوافلها ، فأما نوافل العشر فليست أفضل من فرائض غيره ، كما سبق تقريره في الحج والجهاد .(6/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
وحينئذ ؛ فصيام عشر رمضان أفضل من صيام عشر ذي الحجة ؛ لأن الفرض أفضل من النفل .
وأما نوافل عشر ذي الحجة فأفضل من نوافل عشر رمضان ، وكذلك فرائض عشر ذي الحجة تضاعف أكثر من مضاعفة فرائض غيره .
وقد كان عمر يستحب قضاء رمضان في عشر ذي الحجة ؛ لفضل أيامه ، وخالفه في ذَلِكَ علي ، وعلل قوله باستحباب تفريغ أيامه للتطوع وبذلك علله أحمد وإسحاق ، وعن أحمد في ذَلِكَ روايتان .
وأما تفضيل العمل في عشر ذي الحجة على العمل في أكثر من عشرة أيام من
غيره ، ففيه نظر .
وقد روي ما يدل عليهِ :
فخرج الترمذي وابن ماجه من رواية النهاس بن قهم ، عن قتادة ، عن ابن
المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي قالَ : ( ( ما من أيام احب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة ، يعدل صيام كل يوم منها بسنة ، وكل ليلة منها بليلة القدر ) ) .
و النهاس ، ضعفوه .
وذكر الترمذي عن البخاري ، أن الحديث يروى عن قتادة ، عن ابن المسيب - مرسلا .
وروى ثوير بن أبي فاختة - وفيه ضعف - ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قالَ : ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة ، ليس العشر ؛ فإن العمل فيهِ يعدل عمل سنة .
وممن روي عنه : أن صيام كل يوم من العشر يعدل سنة : ابن سيرين وقتادة(6/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
وعن الحسن : صيام يوم منه يعدل شهرين .
وروى هارون بن موسى النحوي : سمعت الحسن يحدث ، عن أنس ، قالَ : كان يقال في أيام العشر بكل ألف يوم ، ويوم عرفة عشرة الآف يوم .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) ، من حديث أبي قتادة - مرفوعا - ( ( إن صيامه كفارة سنتين ) ) .
وهذه النصوص : تدل على أن كل عمل في العشر فإنه أفضل من العمل في غيره ، أما سنة أو أكثر من ذلك أو اقل . والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله .
وحديث جابر الذي خرجه ابن حبان : يدل على أن أيام العشر أفضل من الأيام مطلقا .
وقد خرجه أبو موسى المديني من الوجه الذي خرجه ابن حبان ، بزيادة فيهِ ، وهي : ( ( ولا ليالي أفضل من لياليهن ) ) .
وفي ( ( مسند البزار ) ) من وجه آخر ، عن جابر ، عن النَّبيّ ( ، قالَ : ( ( أفضل أيام الدنيا العشر ) ) .
وروي مرسلاً .
وقيل : إنه أصح .
وقد سبق قول ابن عمر في تفضيل أيام العشر على يوم الجمعة ، الذي هوَ أفضل أيام الدنيا .
وقال مسروق في قوله : ( وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( هي أفضل أيام السنة .
وهذه العشر تشتمل على يوم عرفة .(6/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
وفي ( ( صحيح ابن حبان ) ) عن جابر - مرفوعا - : ( ( إنه أفضل أيام الدنيا ) ) وفيه : يوم النحر .
وفي حديث عبد الله بن قرط ، عن النبي ( قالَ : ( ( أعظم الأيام عند الله يوم النحر ، ثم يوم القر ) ) .
خرّجه أبو داود وغيره .
وقد سبق في الحديث المرفوع : أن صيام كل يوم [ منه ] بسنة ، وقيام كل ليلة منه يعدل ليلة القدر .
وهذا يدل على أن عشر ذي الحجة أفضل من عشر رمضان ، لياليه وأيامه .
وقد زعم طائفة من أصحابنا : أن ليلة الجمعة أفضل من ليلة القدر .
وقد تقدم عن ابن عمر ، أن أيام العشر أفضل من يوم الجمعة ، فلا يستنكر حينئذ تفضيل ليالي عشر ذي الحجة على ليلة القدر .
وعلى تقدير أن لا يثبت ذلك ، فقال بعض أعيان أصحابنا المتأخرين : مجموع عشر ذي الحجة أفضل من مجموع عشر رمضان ، وإن كان في عشر رمضان ليلة لا تفضل عليها غيرها . والله سبحانه وتعالى أعلم .
وروى سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن كعب : أحب الزمان إلى الله الشهر الحرام ، وأحب الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجة ، وأحب ذي الحجة إلى الله العشر الأول .
وروي عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - مرفوعا ، ولا يصح ،(6/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
وكذا قال سعيد بن جبير : ما من الشهور أعظم حرمة من ذي الحجة .
وفي ( ( مسند البزار ) ) من حديث أبي سعيد - مرفوعا - : ( ( سيد الشهور
رمضان ، و أعظمها حرمة ذو الحجة ) ) .
وفي إسناده مقال .
وفي ( ( مسند الإمام أحمد ) ) ، عن أبي سعيد ، أن النبي ( قال - في خطبته في حجة الوداع يوم النحر - : ( ( ألا إن أحرم الأيام يومكم هذا ، وأحرم الشهور شهركم هذا ، وأحرم البلاد بلدكم هذا ) ) .
وروي هذا من حديث جابر ، ووابصة ، ونبيط بن شريط وغيرهم - أيضاً .
وهذا كله يدل على أن شهر ذي الحجة أفضل الأشهر الحرم ؛ حيث كانَ أعظمها حرمة .
وروي عن الحسن : أن أفضلها المحرم .
وأما ما قاله بعض الفقهاء الشافعية : أن أفضلها رجب : فقوله ساقط مردود . والله تعالى أعلم .(6/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
- باب التكبير أيام منى ، وإذا غدا إلى عرفة
وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمع أهل المسجد فيكبرون ، ويكبر أهل الأسواق حتَّى ترتج منى تكبيرا .
وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام ، وخلف الصلوات ، وعلى فراشه ، وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه ، تلك الأيام جمعا .
وكانت ميمونة تكبر يوم النحر .
وكان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد .
قد تقدم : أن الأيام المعدودات التي أمر الله بذكره فيها هي أيام منى .
وهل هي الأربعة كلها ، أو أيام الذبح منها ؟ فيهِ خلاف سبق ذكره .
وهو مبني على أن ذكر الله فيها : هل هوَ ذكره على الذبائح . أو أعم من ذَلِكَ ؟
والصحيح : أنه أعم من ذَلِكَ .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) ، أن النَّبيّ ( قالَ في أيام منى : ( ( إنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل ) ) .
وذكر الله في هذه الأيام نوعان :
أحدهما : مقيد عقيب الصلوات .(6/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
والثاني : مطلق في سائر الأوقات .
فأما النوع الأول :
فاتفق العلماء على أنه يشرع التكبير عقيب الصلوات في هذه الأيام في الجملة ، وليس فيهِ حديث مرفوع صحيح ، بل إنما فيهِ آثار عن الصحابة ومن بعدهم ، وعمل المسلمين عليهِ .
وهذا مما يدل على أن بعض ما أجمعت الأمة عليهِ لم ينقل إلينا فيهِ نص صريح عن النَّبيّ ( ، بل يكتفى بالعمل به .
وقد قالَ مالك في هذا التكبير : إنه واجب .
قالَ ابن عبد البر : يعني وجوب سنة .
وهو كما قالَ .
وقد اختلف العلماء في أول وقت هذا التكبير وآخره .
فقالت طائفة : يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق .
فإن هذه أيام العيد ، كما في حديث عقبة بن عامر ، عن النَّبيّ ( ، قالَ :
( ( يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي ، وصححه .
وقد حكى الإمام أحمد هذا القول إجماعاً من الصحابة ، حكاه عن عمر وعليّ وابن مسعود وابن عباس .
فقيل له : فابن عباس اختلف عنه ؛ فقالَ : هذا هوَ الصحيح عنه ، وغيره(6/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
لا يصح عنه .
نقله الحسن بن ثواب ، عن أحمد .
وإلى هذا ذهب أحمد ؛ لكنه يقول : إن هذا في حق أهل الأمصار ، فأما أهل الموسم فإنهم يكبرون من صلاة الظهر يوم النحر ؛ لأنهم قبل ذَلِكَ مشتغلون بالتلبية .
وحكاه عن سفيان بن عيينة ، وقال : هوَ قول حسن .
ويمتد تكبيرهم إلى آخر أيام التشريق - أيضاً - على المشهور عنه .
ونقل حرب ، عنه ، أنهم يكبرون إلى صلاة الغداة من آخر أيام التشريق .
وممن فرق بين الخارج وأهل الأمصار : أبو ثور . وروى الخضر الكندي ، عن
عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، قال : إذا كان عليه تكبير وتلبية بدأ بالتكبير ، ثم التلبية .
قال أبو بكر بن جعفر : لم يروها غيره .
قلت : الخضر هذا ، غير مشهور ، وهو يروي عن عبد الله بن أحمد المناكير التي تخالف روايات الثقات ، عنه ، والذي نقل الثقات ، عن أحمد ، أن الحاج لا يكبر حتى يقطع التلبية ، فكيف يجتمعان عليهِ ؟
وقد حملها أبو بكر إلى ما إذا اخر الحاج رمي جمرة العقبة حتَّى صلى(6/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
الظهر ؛ فإنه يجتمع عليهِ في صلاة الظهر - حينئذ - تلبية وتكبير .
ووجهه : بأن هذا الوقت وقت التكبير ، وإنما صار وقت تلبية في حق هذا لتأخيره الرمي ، وهو نوع تفريط منه ، فلذلك بدأ بالتكبير قبل التلبية .
والاجماع الذي ذكره أحمد ، إنما هو في ابتداء التكبير يوم عرفة من صلاة الصبح .
أما اخر وقته ، فقد اختلف فيه الصحابة الذين سماهم .
فأما علي ، فكان يكبر من صبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق .
وهي الرواية التي صححها الإمام أحمد ، عن ابن عباس .
وكذلك روي عن عمر .
وروي ، عنه : إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق .
وأنكره يحيى القطان .
وإلى قول علي ذهب الثوري وابن أبي ليلى وشريك وإسحاق .
ولم يفرق بين أهل منى وغيرها .
وكذلك أكثر العلماء ، وهو قول الثوري .
وكذلك قال : إذا أجتمع التكبير والتلبية بدأ بالتكبير .
وأما ابن مسعود ، فإنه كان يكبر من صلاة الغداة يوم عرفة إلى الصلاة(6/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
العصر يوم النحر .
وهو قول أصحابه ، كالأسود وعلقمة ، وقول النخعي وأبي حنيفة .
وروى خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : التكبير من الصلاة الظهر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق .
وهذه الرواية التي ضعفها أحمد ، وذكر أنها مختلفة .
قال عبد الرزاق : وبلغني عن زيد بن ثابت - مثله .
وعن الحسن ، قال : يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من يوم النفر الأول .
وروى العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر ، من آخر أيام التشريق .
وروى الواقدي بأسانيده ، عن عثمان وابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد -
نحوه .
وعن عطاء ، أن الأئمة كانوا يكبرون صلاة الظهر يوم النحر ، يبتدؤن بالتكبير كذلك إلى آخر أيام التشريق .
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى صبح آخر أيام التشريق .
وإليه ذهب مالك والشافعي - في أشهر أقواله .
وله قول آخر كقول علي ومن وافقه .(6/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
وله قول ثالث : يبدأ من ليلة النحر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق .
والمحققون من أصحابه على أن هذه الاقوال الثلاثه في حق أهل الأ مصار ، فأما أهل الموسم بمنى ، فإنهم يبدءون بالتكبير عقيب صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق بغير خلاف ، ونقلوه عن الشافعي .
وهذا يوافق قول أحمد في ابتدائه .
وأختار جماعة من أصحابه القول بأن ابتداءه في الأمصار من صبح يوم عرفة وانتهاءه عصر آخر يوم من أيام التشريق .
منهم المزني وأبن سريج وابن المنذر والبيهقي وغيرهم من الفقهاء المحدثين منهم .
قالوا : وعليه عمل الناس في الأمصار .
وفي المسألة للسلف أقوال أخر .
وفي الباب حديث مرفوع ، لايصح إسناده .
وخرجه الحاكم من حديث علي وعمار .
وضعفه البيهقي ، وهو كما قال .
وقد أشار البخاري إلى مسألتين من مسائل هذا التكبير .
إحداهما :
أن التكبير يكون خلف الفرائض .
وهل يكبر خلف صلاة التطوع ؟
فقد تقدم في باب الماضي ، عن محمد بن علي - وهو : أبو جعفر - ، أنه كانَ يكبر خلف النوافل .(6/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
وإلى قوله ذهب الشافعي - في أشهر قوليه - وابن المنذر .
وقال أكثر العلماء : لايكبر عقب النوافل .
وأختلفوا في التكبير عقب صلاة عيد النحر :
فقال مجاهد : يكبر .
وقال أحمد : إن ذهب رجل إلى ذا فقد روي فيه عن بعض التابعين ، والمعروف في المكتوبة .
وقال أبو بكر ابن جعفر - من أصحابنا - : يكبر ؛ لأن صلاة العيد عندنا فرض كفاية ، فهي ملحقة بالفرائض ، وهو قول إسحاق بن راهويه ، وحكاه عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز والشعبي وعطاء الخراساني وغيرهم .
وللشافعي قولان .
واختلفوا : هل يكبر من صلى الفرض وحده ؟ على قولين .
أحدهما : لايكبر ، وهومروي عن ابن عمر .
وذكره سفيان الثوري ، عن أبي جعفر ، عن أنس .
وقال ابن مسعود : ليس بالتكبير في أيام التشريق على الواحد والاثنين ، التكبير على من صلى في جماعة .
وممن قال : لايكبر إذا صلى الفرض وحده : الثوري وأبو حنيفة وأحمد - في
رواية .
والقول الثاني : وهو قول الشعبي والنخعي والأوزاعي والثوري - في رواية
أخرى - والحسن بن صالح ومالك والشافعي وأحمد في رواية أخرى .
وقال هؤلاء كلهم : يكبر في السفر والحضر .(6/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
وقال أبو حنيفة : لايكبر المسافر إلا إذا اقتدى بالمقيم ، تبعاً له ، واتفقوا على أن الحاج يكبرون بمنى .
المسألة الثانية :
أن النساء كن يكبرن إذا صلين مع الرجال في المسجد خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز - يعني : مسجد المدينة - في ليالي أيام التشريق .
وهذا يدل على أن النساء إنما كن يشهدن المساجد بالليل ، كما سبق .
ولا خلاف في أن النساء يكبرن مع الرجال تبعاً ، إذا صلين معهم جماعة ، ولكن المرأة تخفض صوتها بالتكبير .
وإن صلت منفردة ، ففي تكبيرها الرجل المنفرد ، بل هي أولى بعدم التكبير .
وإن صلى النساء جماعة ، ففي تكبيرهن قولان - أيضاً - ، وهما روايتان عن الثوري وأحمد .
ومذهب أبي حنيفة : لايكبرن .
ومذهب مالك والشافعي : يكبرن .
النوع الثاني :
التكبير المطلق ، الذي لا يتقيد بوقت .
وقد ذكر البخاري عن عمر وابن عمر ، أنهما كانا يكبران بمنى - يعني : في غير إدبار الصلوات - ، وأن الناس كانوا يكبرون بتكبير عمر حتى ترتج منى .
وعن ميمونة ، أنها كانت تكبر يوم النحر .
وقد روى أبو عبيد : حدثني يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ،(6/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
عن عبيد بن عمير ، أن عمر كان يكبر في قبته بمنى ، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ، فيسمعه أهل السوق فيكبرون حتى ترتج منى تكبيراً .
وخرجه عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عمر بن دينار : سمعت عبيد بن عمير - فذكره بمعناه .
وخرجه وكيع في ( ( كتابه ) ) ، عن طلحة ، عن عطاء .
وخرجه - أيضاً - ، عن عبد الله بن نافع ، عن أبيه ، أن عمر كان يكبر تلك الأيام بمنى ، ويقول : التكبير واجب على الناس ، ويتأول هذه الآية : ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أيام مَعْدُودَاتٍ ( [ البقرة : 203 ] .
وذكر مالك في ( ( الموطأ ) ) ، انه بلغه ، أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر ، حين ارتفع النهار شيئاً ، فكبر الناس بتكبيره ، ثم خرج حين زاغت الشمس ، فكبر ، فكبر الناس بتكبيره ، حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت ، فيعلم أن عمر قد خرج يرمي .
وهذا منصوص الشافعي ، قال في المصلي : إذا سلم كبر خلف الفرائض والنوافل وعلى كل حال .
وذكر في ( ( الأم ) ) من هذا الباب ، أنه يكبر الحائض والجنب وغير المتوضىء في جميع الساعات من الليل والنهار ومذهب مالك ، انه لا يكبر في أيام التشريق في غير دبر الصلوات . قال : كذلك كان من يقتدي به يفعل .
ذكره صاحب ( ( تهذيب المدونة ) ) .
وتأول بعض أصحابه تكبير عمر بمنى على أنه كان عند رمي الجمار(6/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
وهو تأويل فاسد ولم يذكر أصحابنا التكبير في عيد النحر إلا في أدبار الصلوات ، غير أنهم ذكروا إظهار التكبير في ليلة العيد ، وفي الخروج إلى المصلى إلى أن يخرج الإمام ، والتكبير مع الإمام إذا كبر في خطبته .
وحكى بعضهم خلافاً عن أحمد في التكبير في حال الرجوع من المصلي إلى المنزل .
خرج البخاري في هذا الباب حديثين :
الأول :
970 - ثنا أبونعيم : ثنا مالك بن أنس ، حدثني محمد بن أبي بكر الثقفي ، قال : سألت أنساً - ونحن غاديان من منى إلى عرفات - عن التلبية : كيف كنتم تصنعون مع النبي ( ؟ قالَ : كانَ يلبي الملبي ، لاينكر عليهِ ، ويكبر المكبر ، لا ينكر عليهِ 0
وقد أعاده في ( ( كتاب الحج ) ) ، عن عبد الله بن يوسف ، وفي حديثه : كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله ( ؟ فقال : كان يهل منا المهل فلا ينكر
عليه ، ويكبر منا المكبر ، فلا ينكر عليه .
في هذا الحديث : دليل على أن إظهار التكبير يوم عرفة مشروع ، ولو كان صاحبه محرماً قاصداً عرفة للوقوف بها ، مع أن شعار الإحرام التلبية .
فإذا لم ينكر عليه إظهار التكبير للمحرم الذي وظيفته إظهار التلبية ، فلغير المحرم من أهل الأمصار أولى .
فهذا من أحسن ما يستدل به على استحباب إظهار التكبير يوم عرفة في(6/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
الأمصار وغيرها ؛ فإن يوم عرفة أول أيام العيد الخمسة لأهل الإسلام ؛ ولذلك يشرع إظهار التكبير في الخروج إلى العيدين في الأمصار .
وقد روي ذلك عن عمر وعليّ وابن عمر وأبي قتادة ، وعن خلق من التابعين ومن بعدهم .
وهو إجماع من العلماء لايعلم بينهم فيه خلاف في عيد النحر ، إلا ما روى
الأثرم ، عن أحمد ، أنه لا يجهر به في عيد النحر ، ويجهر به في عيد الفطر .
ولعل مراده : أنه يجهر به في عيد النحر دون الجهر في عيد الفطر ؛ فإن تكبير عيد الفطر - عنده - آكد .
وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي : كانوا في عيد الفطر أشد منهم في الأضحى .
يعني : في التكبير .
وروي عن شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، انه سمع تكبير الناس يوم
العيد ، فقال : أيكبر الإمام ؟ قالوا : لا . قالَ : ما شأن الناس أمجانين ؟ وشعبة هذا ، متكلم فيه .
ولعله أراد التكبير في حال الخطبة .
وروي التكبير في الخروج يوم الفطر عن أبي أمامة وغيره من الصحابة .
خرجه الجوزجاني بإسناد ضعيف .
وعن النخعي وأبي حنيفة ، أنه لا يكبر في عيد الفطر بالكلية .
وروي عنهما موافقة الجماعة .
وقال أحمد في التكبير في عيد الفطر : كأنه واجب ؛ لقوله : ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ( [ البقرة : 185 ] .(6/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
وهذه الآية نظيرها قوله تعالى في سياق ذكر الهدايا : ( كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ( [ الحج : 37 ] ، فأستوى العيدان في ذلك . والله سبحانه وتعالى أعلم .
الحديث الثاني :
971 - ثنا عمر بن حفص : ثنا أبي ، عن عاصم ، عن حفصة ، عن أم عطية ، قالت : كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها ، وحتى نخرج الحيض ، فيكن خلف الناس ، فيكبرون بتكبيرهم ، ويدعون بدعائهم ، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته .
في هذا الحديث : دليل على أن إظهار التكبير للرجال مشروع في يوم العيد ، ولولا إظهاره من الرجال لما كبر النساء خلفهم بتكبيرهم .
وإظهار التكبير يكون في حال انتظار الإمام قبل خروجه .
وهذا مما يستدل به على أن التكبير لا ينقطع ببلوغ المصلى ، كما هو قول طائفة .
ويكون في حال تكبير الإمام في خطبته ؛ فإن الناس يكبرون معه ، كما كانَ ابن عمر يجيب الإمام بالتكبير إذا كبر على المنبر .
وكان عطاء يأمر بذلك بقدر ما يسمعون أنفسهم .
خرجه الجوزجاني .
وفيه - أيضاً - : ما يدل على ان إظهار الدعاء مشروع في ذلك اليوم ، ولعل إظهار الدعاء حيث كان النبي ( يدعو في خطبته ، ويؤمن الناس على دعائه .
وروي عن أبي موسى الأشعري ، أنه كان يقول في خطبتة في العيدين : هذا(6/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
يوم لا يرد فيه الدعاء ، فارفعوا رغبتكم إلى الله عز وجل ، ثم يرفع يديه ويدعو .
خرجه الفريابي .(6/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
- باب الصلاة إلى الحربة يوم العيد
972 - حدثنا محمد بن بشار : ثنا عبد الوهاب : ثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي ( كان تركز له الحربة قدامه يوم الفطر والنحر ، ثم يصلي .
قد سبق هذا الحديث والكلام عليه في ( ( أبواب : سترة المصلي ) ) .
وذكرنا أن ابن ماجه خرجه من رواية الأوزاعي ، عن نافع ، وفي أول حديثه زيادة : ( ( أن العنزة كانت تحمل بين يديه ) ) ، وفي آخره : ( ( أن المصلىكان فضاءً ، ليس شيء يستتر به ) ) .
ولعل هذه الزيادة في آخره مدرجة .
وقد خرجه البخاري بدونهما في الباب الآتي .
وتقدم - أيضاً - قول مكحول : إنما كانت تحمل الحربة مع النبي ( يوم العيد ؛ لأنه كانَ يصلي إليها .
وفي هذا : إشارة إلى أنه لم يكن يفعل ذلك تعاظماً وتكبراً ، كما كان أمراء بني أمية ونحوهم يفعلونه .
وقد يريد به - أيضاً - : أن الحربة من السلاح ، والسلاح يكره حمله في العيدين ، إلا من حاجه ، كما سبق ذكره ، والحاجه إلى الحربة الصلاة إليها في الفضاء .
فأما إن كان في المصلى سترة مبنيةٌ ، فلا حاجه إلى حمل عنزة مع الإمام .(6/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
وقد أشار إلى هذا جماعة من العلماء من أصحابنا وغيرهم ، منهم : أبو بكر
عبد العزيز بن جعفر .
ولا يقال : فقد يحتاج إليها الإمام ليعتمد عليها في حال خطبته ؛ لأن هذا لم ينقل عن النَّبيّ ( ، أنه كانَ يعتمد في خطبته للعيدين على العنزة من وجه يعتمد عليهِ .
فقد رواه الشافعي ، عن إبراهيم بن محمد - هو : ابن أبي يحيى - ، عن ليث ، عن عطاء ، أن رسول الله ( كان إذاخطب يعتمد على عنزة إعتماداً .
وفي رواية : على عنزة أو عصاً . وهذا مرسل ضعيف .
وقد سبق من حديث البراء ، أن النبي ( أعطي قوساً أو عصاً ، فاتكأ عليه لما خطب .(6/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
- باب حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإمام يوم العيد
973 - حدثنا إبراهيم بن المنذر : ثنا الوليد : ثنا أبو عمرو - هو : الأوزاعي - : حدثني نافع ، عن ابن عمر ، قالَ : كان النبي ( يغدوإلى المصلى والعنزة بين يديه
تحمل ، وتنصب بالمصلى بين يديه ، فيصلي إليها .
قد ذكرنا في الباب الماضي معنى حمل العنزة بين يديه ، فلا حاجة إلى إعادته .
وسبق الفرق بين العنزة والحربة في ( ( أبواب السترة ) ) .
وفي هذه الرواية : التصريح بسماع الأوزاعي لهذا الحديث من نافع .
وقد رواه الوليد بن مزيد ، عن الأوزاعي : حدثني الزهري ، عن نافع - فذكره .
وقد ذكر غير واحد : أن الأوزاعي لم يصح له سماع من نافع ، منهم ابن معين ويحيى بن بكير .
وقيل : سمع منه حديثا واحداً .
وقد قيل : إن الشاميين كانوا يتسمحون في لفظة ( ( أ نا ) ) ، و ( ( ثنا ) ) ، ويستعملونها في غير السماع .
ذكره الإسماعيلي وغيره .(6/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
- باب خروج الحُيض إلى المُصلى
974 - حدثنا عبدالله بن عبد الوهاب : ثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن أم عطية ، قالت : أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور .
وعن أيوب ، عن حفصة - بنحوه ، وزاد في حديث حفصة : أو قالت : العواتق وذوات الخدور ويعتزلن الحُيض المصلى .
قد سبق هذا الحديث بتمامه في ( ( كتاب الحيض ) ) في ( ( باب : شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ) ) ، وفيه : أن حفصة قالت لأم عطية : الحيض ؟ فقالت : أليست تشهد عرفة وكذا وكذا .
وتقدم هنالك الكلام عليه مستوفى .
وفي الحديث : أمر النساء بالخروج إلى العيدين حتى شوابهن وذوات الخدور
منهن .
وقد تقدم تفسير ( ( العواتق ) ) وأنها جمع عاتق ، وهي البكر البالغ التي لم تُزوج .
وفي خروج النساء إلي العيدين أحاديث كثيرة ، قد سبق بعضها ، ويأتي بعضها - أيضاً .
وقد اختلف العلماء فيه على أقوال :(6/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
أحدها : أنه مستحب ، وحكي عن طائفة من السلف ، منهم علقمة .
وروي عن ابن عمر ، أنه كان يخرج نساءه . وروى عنه ، أنه كان يحبسهن .
وروى الحارث ، عن علي قال : حق على كل ذات نطاق أن تخرج في العيدين .
ولم يكن يرخص لهن قي شيء من الخروج إلا في العيدين .
وهو قول إسحاق وابن حامد من أصحابنا .
وقال أحمد - في رواية ابن منصور - : لا أحب منعهن إذا أردن الخروج .
والثاني : أنه مباح ، غير مستحب ولا مكروه ، حكى عن مالك ، وقاله طائفة من أصحابنا .
الثالث : أنه مكروه بعد النبي ( ، وهو قول النخعي ويحيى الأنصاري والثوري وابن المبارك .
وأحمد - في رواية حرب - ، قال : لايعجبني في زماننا ؛ لأنه فتنةٌ واستدل هؤلاء بأن الحال تغير بعد النَّبيّ ( .
وقد قالت عائشة : لو أدرك رسول الله ( ما أحدث النساء بعده لمنعهن
المساجد ، وقد سبق .
والرابع : أنه يرخص فيه للعجائز دون الشواب ، روي عن النخعي - أيضاً - وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، ونقله حنبل عن أحمد .
وروي عن ابن عباس بإسناد فيه ضعف ، أنه أفتى بذلك سعيد بن العاص ، فأمر مناديه أن لا تخرج يوم العيد شابة ، وكل العجائز يخرجن .
الخامس : - قول الشافعي - : يستحب الخروج للعجائز ومن ليست من(6/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
ذوات الهيئات .
وفسر أصحابه ذوات الهيئات بذوات الحسن والجمال ، ومن تميل النفوس إليها ، فيكره لهن الخروج ؛ لما فيهِ من الفتنة .(6/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
- باب خروج الصبيان إلى المُصلى
975 - حدثنا عمرو بن عباس : ثنا عبد الرحمن : ثنا سفيان ، عن عبد الرحمن ابن عابس ، قال : سمعت ابن عباس يقول : خرجت مع النبي ( يوم فطر - أو أضحى - ، فصلى ثم خطب ، ثم أتى النساء ، فوعظهن وذكرهن ، وأمرهن بالصدقة .
977 - حدثنا مسدد : ثنا يحيى : قال سفيان : حدثني عبد الرحمن بن عابس ، قال : سمعت ابن عباس - وقيل له - : أشهدت العيد مع رسول ألله ( ؟ قالَ : نعم " ولولا مكاني من الصغر ما شهدته " خرج حتَّى اتى العلم الذي عندَ دار كثير بن الصلت " فصلى " ثُمَّ خطب ثُمَّ أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة فرأيتهن يهوين بايديهن يقذفنه في ثوب بلال ، ثُمَّ انطلق هوَ وبلال إلى بيته .
قد سبق هذا الحديث في ( ( باب : وضوء الصبيان وصلاتهم ) ) وذكرنا هنالك مايتعلق به من خروج الصبيان إلى العيد ؛ وإن هذا الحديث يدل على أن الأصاغر من الصبيان لم يكونوا يشهدون العيد إلا من كانَ منهم أقارب الإمام فلهم خصوصية على غيرهم .
وقد روي أن النبي ( كان يخرج إلى العيد ومعه من أهله كبارهم وصغارهم .(6/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
خرجه ابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) عن ابن أخي ابن وهب ، عن عمه ، عن
عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله ( كان يخرج في العيدين مع الفضل بن عباس وعبد الله بن عباس وعلي وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن بن أم أيمن ، رافعاً صوته بالتهليل والتكبير ، فيأخذ طريق الحدادين حتى يأتي المصلى ، فإذا فرغ رجع على الحذائين حتى يأتي منزله .
وقال : في القلب من هذا الخبر ، وأحسب الحمل فيه على العمري ، إن لم يكن الغلط من ابن اخي ابن وهب . انتهى .
والحمل فيه على ابن أخي ابن وهب ؛ فقد رواه جماعة عن ابن وهب ، وعن العمري ليس فيهِ شيء من هذه الألفاظ المستنكرة .
وروى حجاج بن أرطاة ، عن عبد الرحمن بن عابس ، أن النبي ( كان يخرج نساءه وبناته في العيدين .
واحتج به إسحاق بن راهويه .
وخرج الإمام أحمد من رواية حجاج - أيضاً - ، عن عطاء عن جابر قال : كان رسول الله ( كان يخرج في العيدين ويخرج أهله .
والعلم الذي عند دار كثير بن الصلت ، ودار كثير بن الصلت ، الظاهر أن ذلك كله محدث ، أحدث بعد النبي ( في مكان المصلى .
وقد تقدم أن المصلى كان فضاء ، ليس فيه سترة ؛ فلذلك كانَ النَّبيّ ( تحمل لهُ الحربة ؛ ليصلي إليها .(6/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
- باب استقبال الإمام الناس [ في خطبة العيد ]
وقال أبو سعيد : قام النبي ( مقابل الناس .
حديث أبي سعيد ، قد خرجه فيما سبق .
976 - حدثنا أبو نعيم : ثنا محمد بن طلحة ، عن زبيد ، عن الشعبي ، عن
البراء ، قال : خرج النبي ( يوم الاضحى إلى البقيع ، فصلى ركعتين ، ثم أقبل علينا بوجهه ، وقال : ( ( إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة ، ثم نرجع فننحر ، فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا ، ومن ذبح قبل ذلك ، فإنه شيء عجله لأهله ، ليس من النسك في شيء ) ) . فقام رجل ، فقال : يارسول الله ، إني ذبحت ، وعندي جذعة خير من مسنة . قال : ( ( أذبحها ، فلا تفي عن أحد بعدك ) ) .
في هذا الحديث : أن خروجه وصلاته كانت بالبقيع ، وليس المراد به : أنه صلى في المقبرة ، وإنما المراد : أنه صلى في الفضاء المتصل بها ، واسم البقيع يشمل الجميع 0
وقد ذكر ابن زبالة ، بإسناد له ، أن النبي ( صلى العيد خارج المدينة في خمسة مواضع ، حتَّى استقر من صلاته في الموضع الذي عرف به ، وصلى فيه الناس بعده .(6/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
وأما استقباله الناس ، فالمراد به : بعد الصلاة عند الخطبة .
وذكر استقباله الناس : يدل على أنه لم يرق منبراً ، وأنه كان على الأرض والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
- باب موعظة الإمام النساء يوم العيد
978 - حدثنا اسحاق : ثنا عبد الرزاق : ثنا ابن جريج : أخبرني عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قالَ : سمعته يقول : قام النبي ( يوم الفطر فصلى ، فبدأ بالصلاة ، ثم خطب ، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن ، وهو يتوكأ على بلال ، وبلال باسط
ثوبه ، يلقي فيه النساء الصدقة .
قلت لعطاء : زكاة يوم الفطر ؟ قالَ : لا . ولكن صدقة يتصدقن حينئذ ، تلقي فتخها ويلقين .
قلت : أترى حقا على الإمام ذلك ، يأتيهن ويذكرهن ؟ قالَ : إنَّهُ لحق عليهم ، وما لهم لا يفعلون ؟
979 - قالَ ابن جريج : واخبرني حسن بن مسلم ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قالَ : شهدت الفطر مع رسول الله ( وأبي بكر وعمر وعثمان ، يصلونها قبل الخطبة ، ثُمَّ يخطب بعد ، خرج النَّبيّ ( ? كأني أنظر إليه حين يجلس بيده ، ثُمَّ أقبل يشقهم حتَّى جاء النساء ، معه بلال ، فقالَ : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ( [ الممتحنة : 12 ] الآية ، ثُمَّ قالَ - حين فرغ منها - : ( ( أأنتن على ذَلِكَ ؟ ) ) ، قالت امرأة واحدة منهن ، لم يجبه غيرها : نعم - لا يدري حسن من هي - قال : فتصدقن ، فبسط بلال ثوبه ، ثم قال ، هلم لكن فداء أبي وأمي ، فيلقين الفتخ(6/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
والخواتيم في ثوب بلال .
قال عبد الرزاق : الفتخ : الخواتيم العظام ، كانت في الجاهلية .
قد تقدم الكلام على قوله : ( ( فلما فرغ نزل ) ) وأنه يشعر بانه كان على موضع عالٍ .
وموعظته للنساء وهو يتوكأ على بلال : دليل على أن الإمام إذا وعظ قائما على قدميه فله أن يتوكأ على إنسان معه ، كما يتوكأ على قوس أو عصا .
وفيه : أن النبي ( لما انتقل من مكان خطبته للرجال ، اشار اليهم بيده أن لا يذهبوا .
وفيه : دليل على أن الأولى للرجال استماع خطبة النساء - أيضاً - لينتفعوا بسماعها وفعلها ، كما تنتفع النساء .
وقد تقدم : أن الإمام يفرد النساء بموعظة إذا لم يسمعوا موعظة الرجال ، وهو قول عطاء ومالك والشافعي وأصحابنا .
وقال النخعي : يخطب قدر ما ترجع النساء إلى بيوتهن .
وهذا يخالف السنة ، ولعله لم يبلغه ذلك .
وقد روي ، عن النبي ( أنه خير الناس بين استماع الخطبة والذهاب .
فروى عطاء ، عن عبد الله بن السائب ، قال : شهدت مع النبي ( العيد ، فلما قضى الصلاة قالَ : ( ( أنا نخطب ، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ، ومن أحب أن يذهب فليذهب ) ) .
خرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) ، من رواية الفضل بن موسى السيناني ، عن ابن جريج ، عن عطاء .(6/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
وقال أبو داود : ويروى - مرسلا - عن عطاء ، عن النبي ( .
وروى عباس الدوري ، عن ابن معين ، قال : وصله خطأ من الفضل ، وإنما هو عن عطاء مرسلا .
وكذا قال أبو زرعة : المرسل هو الصحيح .
وكذا ذكر الإمام أحمد أنه مرسل .
وكان عطاء يقول به ، ويقول : إن شاء فليذهب .
قال أحمد : لا نقول بقول عطاء ، أرأيت لو ذهب الناس كلهم على من كان يخطب ؟
ولم يرخص بالانصراف قبل فراغ الخطبة ، ولعله أراد انصراف الناس كلهم ، فيصير الإمام وحده فتتعطل الخطبة . والله اعلم .
واختلف قول الإمام أحمد في جواز الكلام والإمام يخطب في العيد ، على
روايتين ، عنه .
وروى وكيع بإسناده ، عن ابن عباس ، أنه كره الكلام في أربع مواطن : في الجمعة ، والفطر ، والأضحى ، والاستسقاء ، والإمام يخطب .
وكرهه الحسن وعطاء .
وقال مالك : من صلى مع الإمام فلا ينصرف حتى ينصرف الإمام .
وكذلك مذهبه فيمن حضر من النساء العيدين ، فلا ينصرف إلا بإنصراف
الإمام .(6/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
ذكره في ( ( تهذيب المدونة ) ) .
ومذهب الشافعي [ من أصحابنا ] كقول عطاء : إن استماع الخطبة مستحب غير لازم .
وظاهره : أنه يجوز للرجال كلهم الإنصراف وتعطيل الخطبة ؛ لأنها مستحبة غير واجبة .
وقد رأيت كلام أحمد مصرحاً بخلاف ذلك .
وفي حديث ابن عباس ، أنه يجوز للإمام أن يشق الناس ويتخطاهم إذا كان له في ذلك مصلحة .
وفي اكتفائه ( بأجابة امراة واحدة بعد قوله للنساء : ( ( أأنتن على ذلك ؟ ) ) دليل على أن إقرار واحد من الجماعة في الأمور الدينية كاف ، إذا سمع الباقون ، وسكتوا عن الإنكار .
وقوله : ( ( لا يدري حسن من هي ) ) حسن ، هو : ابن مسلم - صاحب طاوس .
وفي رواية مسلم في ( ( صحيحه ) ) لهذا الحديث : ( ( لا يدرى حينئذ من هي ) ) .
وقد قال بعض الحفاظ المتأخرين : إن رواية البخاري هي الصحيحة .
وقد فسر عبد الرزاق في رواية البخاري ( ( الفتخ ) ) بالخواتيم العظام .
وقيل : ( ( الفتخة ) ) حلقة من ذهب أو فضة لا فص لها ، وربما اتخذ لها فص .
وقيل : إنها تكون في أصابع اليدين والرجلين من النساء .(6/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
وهي بفتح الفاء والتاء والخاء المعجمة .
ويفرق بين مفردها وجمعها تاء التأنيث ، كأسماء الجنس الجمعي ، وهو في المخلوقات كثير كتمرة وتمر ، وفي المصنوعات قليل كعمامة وعمام . ومنه : فتخة وفتخ .
وتجمع ( ( فتخة ) ) على فتخات وفتوخ - أيضاً .
وفي الحديث : التفدية بالأب والأم ، ولبسط القول فيه موضع آخر ، يأتي - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
وفيه جواز صدقة المرأة بدون إذن زوجها تطوعاً .
ولعل ابن جريج استشكل ذلك فظن أن هذه الصدقة كانت صدقة الفطر ؛ لأن الصدقة الواجبة لا إشكال في إخراج المرأة لها بدون إذن زوجها ، فسأل عطاء عن ذَلِكَ ، فأخبره عطاء أنها لم تكن صدقة الفطر ، وإنما هي صدقة تطوع .
ولم يستدل عطاء بأن صدقة الفطر لاتؤخذ فيها القيمة ، فلعله كان يرى جواز إخراج القيمة فيها .
وإنما أخذ النبي ( معه بلال ليتوكأ عليهِ ، وليحمل الصدقة التي تلقيها النساء .
وفيه : دليل على أن الإمام يستصحب معه المؤذن في الصلوات التي يجمع لها ويخطب ، وإن لم يكن يؤذن لها ويقام ، ويستعين به .(6/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
- باب إذا لم يكن لها جلبابٌ في العيد
980 - حدثنا أبو معمر : ثنا عبد الوارث : ثنا أيوب ، عن حفصة بنت سيرين ، قالت : كنا نمنع جوارينا أن يخرجن يوم العيد ، فجاءت امرأة فنزلت قصر بني خلف ، فأتيتها فحدثت أن زوج أختها غزا مع النبي ( ثنتي عشرة غزوة ، فكانت أختها معه في ست غزوات . قالت : وكنا نقوم على المرضى ونداوي الكلمى فقالت : يارسول الله ، أعلى إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لاتخرج ؟ قالَ : ( ( لتلبسها صاحبتها من جلبابها ، فليشهدن الخير ودعوة المؤمنين ) ) .
قالت حفصة : فلما قدمت أم عطية أتيتها ، فسألتها : أسمعت في كذا ؟ فقالت : نعم بأبي - وقلما ذكرت النَّبيّ ( إلا قالت : بأبي - قالَ : ( ( ليخرج العواتق ذوات الخدور ) ) - أو قالَ : ( ( العواتق وذوات الخدور ) ) - شك أيوب - ( ( والحُيض ، فيعتزل الحُيض المصلى ، وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين ) ) .
فقلت لها : الحُيض ؟ قالت : نعم ، أليس الحائض تشهد عرفات ، وتشهد كذا
وكذا ؟
( ( قصر بني خلف ) ) بالبصرة ، منسوب إلى بني خلف الخزاعيين ، وخلف هذا جدُ طلحة الطلحات بن عبد الله بن خلف .
وفي هذه الرواية عن أيوب : بيان أن ذكر الجلباب إنما روته حفصة بنت سيرين ، عن امرأة غير مسماة ، عن أختها عن النبي ( ، وإن بقية الحديث ترويه حفصة ، عن أم عطية ، عن النبي ( .
وكذا رواه ابن علية ، عن أيوب - أيضاً .(6/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
ونحوه رواه حماد بن زيد وابن عيينة ، عن أيوب .
وهذا هو الصحيح عند أبي بكر الخطيب وغيره .
وروى حماد بن سلمة الحديث كله ، عن أيوب ويونس بن حبيب ويحيى بن عتيق وهشام في آخرين ، عن محمد بن سيرين ، عن أم عطية - بتمامه .
وكذا رواه أبو جعفر الرازي ، عن هشام بن حسان ، عن محمد وحفصة ، كلاهما عن أم عطية - بتمامه .
وقد خرجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) من حديث عيسى بن يونس ، عن هشام ، عن حفصة ، عن أم عطية - بتمامه ، حتى ذكر فيه : قصة الجلباب .
وكذا خرجه الترمذي من حديث منصور بن زاذان ، عن ابن سيرين ، عن أم عطية - أيضاً .
وخرجه البخاري الحديث بتمامه ، وفيه قصة الجلباب في ( ( كتاب الحيض ) ) - كما تقدم - من طريق يزيد بن إبراهيم ، عن ابن سيرين ، عن أم عطية - أيضاً .
وفي الحديث : تأكيد في خروج النساء في العيدين .
وقد ورد التصريح بوجوبه .
فخرج الإمام أحمد من رواية طلحة بن مصرف ، عن امرأة من بني عبد القيس ، عن أخت عبد الله بن رواحة الانصاري ، عن النبي ( ، قال : ( ( وجب الخروج على كل ذات نطاق ) ) .
وفيه : امرأة لا تُعرف .(6/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
وخرج ابن شاهين في ( ( كتاب العيدين ) ) من حديث ابن عباس ، عن النبي
( ، قال : ( ( العيدان واجبان على كل حالم ، من ذكر وأنثى ) ) .
وفي إسناده : عمرو بن شمر ، ضعيف جدا .
وروى الحارث عن علي ، قالَ : حق على كل ذات نطاق أن تخرج في العيدين .
وهذا مما لا يعلم به قائل - أعني : وجوب الخروج على النساء في العيد .(6/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
- باب اعتزال الحيض المصلى
981 - حدثنا محمد بن المثنى : ثنا ابن أبي عدي ، عن ابن عون ، عن محمد : قالت أم عطية : أمرنا أن نخرج ، فنخرج الحيَض والعواتق وذوات الخدور - وقال ابن عون : أو العواتق ذوات الخدور - فأما الحيَض ، فيشهدون جماعة المسلمين ودعوتهم ، ويعتزلن مصلاهم .
قد سبق الكلام على هذا الحديث في ( ( كتاب الحيض ) ) وذكرنا وجه اعتزال الحيض المصلى : هل هو لأن حكم المصلى حكم المساجد ، أو خشية التضييق على من يصلي من النساء ، فيكون الاعتزال في حالة الصلاة خاصة ؟
وهو الأظهر . والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
- باب النحر والذبح بالمصلى
982 - حدثنا عبد الله بن يوسف : ثنا الليث : حدثني كثير بن فرقد ، عن نافع عن ابن عمر ، أن النبي ( كان ينحر - أو يذبح - بالمصلى .
وخرجه في ( ( الأضاحي ) ) عن يحيى بن بكير ، عن الليث ، وقال فيهِ : كان يذبح وينحر بالمصلى .
وخرج - أيضاً - من رواية عبيد الله ، عن نافع ، قال : كان عبد الله ينحر في المنحر .
قال عبيد الله : يعني منحر النبي ( .
وخرج أبو داود من رواية أسامة بن زيد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي ( كان يذبح أضحيته بالمصلى ، وكان ابن عمر يفعله .
وخرجه ابن ماجه - مختصرا .
وقال الإمام أحمد - في رواية حنبل - هو منكر .
وخرج ابن ماجه بإسناد فيه ضعف ، عن سعد القرظ ، أن النبي ( ذبح أضحيته عند طرف الزقاق طريق بني زريق بيده بشفرة .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث المطلب ، عن جابر(6/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
قال : شهدت مع النبي ( ? الأضحى بالمصلى ، فلما قضى خطبته نزل من منبره ، فأتي بكبش فذبحه رسول الله ( بيده ، وقال : ( ( بسم الله ، وبالله ، والله أكبر ، هذا عني وعمن لم يضحِ من أمتي ) ) .
وهذا لفظ الترمذي .
وقال : غريب ، والمطلب يقال : إنه لم يسمع من جابر .
وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن علي بن حسين ، عن أبي رافع ، أن النبي ( كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين ، فإذا صلى وخطب أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه ، فذبحه بنفسه بالمدية ، - وذكر
الحديث .
وقد يعارض هذه الأحاديث حديث البراء بن عازب ، وقول النبي ( : ( ( إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ، ثم نرجع فننحر ) ) .
وخرج النسائي من رواية عبد الله بن سليمان : حدثني نافع ، عن عبد الله بن
عمر ، أن رسول الله ( نحر يوم الأضحى بالمدينة . قال : وكان إذا لم ينحر ذبح
بالمصلى .
فهذه الرواية يجمع بها بين سائر الروايات ، وأنه كان إذا نحر ما ينحر نحره
بالمدينة ، فإن ذبح الغنم ذبحها بالمصلى .
وعلى هذا ، فتكون رواية البخاري الصحيحة لحديث ابن عمر : ( ( كان يذبح - أو ينحر - بالمصلى ) ) - بالشك .
وذبح ابن عمر بالمصلى يدل على أنه كان يرى استحباب ذلك للإمام وغيره .(6/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
ومن العلماء [ من ] يستحب ذلك للإمام ، منهم مالك . وقال : لا نرى ذلك على غيره .
وفيه : إشارة إلى أن غيره لا يتأكد في حقه ذلك كالإمام .
وقال سفيان : للإمام أن يحضر أضحيته عند المصلى ؛ ليذبح حين يفرغ من الصَّلاة والخطبة ؛ لئلا يذبح أحد قبله . قالَ : وذلك من الأمر المعروف .
وروى الواقدي بأسانيد لهُ متعددة ، أن النَّبيّ ( كانَ يذبح يوم النحر عندَ طرف الزقاق ، عندَ دار معاوية .
ثم قال الواقدي : وكذلك يصنع الأئمة عندنا بالمدينة .
وروى - أيضاً - عن عمرو بن عثمان ، أنه رأى عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - خطب يوم النحر ، ثم أتي بكبش في مصلاه ، فذبحه بيده ، ثم أمر به فقسم على
المساكين ، ولم يحمل إلى منزله منه شيئاً .(6/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
- باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد
فيه ثلاثة أحاديث .
الأول :
983 - ثنا مسدد : ثنا أبو الأحوص : ثنا منصور ، عن الشعبي ، عن البراء بن عازب ، قالَ : خطبنا رسول الله ( يوم النحر بعد الصَّلاة ، فقالَ : ( ( من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم ) ) .
فقام أبو بردة بن نيار ، فقالَ : يا رسول الله ، والله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة ، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب ، فعجلت وأكلت وأطعمت أهلي وجيراني . فقال رسول الله ( : ( ( تلك شاة لحم ) ) . قال : فإن عندي عناقا جذعة ، هي خير من شاتي لحم ، فهل تجزي عني ؟ قالَ : ( ( نعم ، ولن تجزي عن أحد بعدك ) ) .
مقصود البخاري بهذا الحديث : الاستدلال على جواز أن يكلم الإمام أحدا من الناس أو يكلمه أحد ، وهو يخطب للعيد .
وقد تقدم : أن الكلام في حالة خطبة العيد قد كرهه الحسن وعطاء ، وأباحه الشافعي وغيره .
وروى الشافعي بإسناد ضعيف ، عن عمر بن عبد العزيز ، أنه كان يترك المساكين يطوفون يسألون الناس في المصلى في خطبته الأولى يوم الأضحى(6/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
والفطر ، فإذا خطب خطبته الأخيرة أمر بهم فأجلسوا .
قال الشافعي : وسواء الأولى والآخرة ، أكره لهم المسألة ، وإن فعلوا فلا شيء عليهم فيها ، إلا ترك الفضل في الاستماع .
وعن أحمد - في تحريمه وإباحته - روايتان .
ويستثنى من ذلك - عنده - : كلام الإمام لمصلحة ، وكلام من يكلمه لمصلحة ، كما قال في خطبة الجمعة .
وهذا الذي في هذا الحديث من هذا الجنس ، فلا يستدل به على إباحة الكلام مطلقا .
الحديث الثاني :
984 - ثنا حامد بن عمر ، عن حماد ، عن أيوب ، عن محمد ، أن أنس بن مالك قالَ : إن رسول الله ( صلى يوم النحر ، ثم خطب ، فأمر من ذبح قبل الصلاة أن يعيد ذبحه ، فقام رجل من الأنصار ، فقالَ : يا رسول الله ، جيران لي - إما قالَ : بهم
خصاصة ، وإما قالَ : فقراء - وإني ذبحت قبل الصَّلاة ، وعندي عناق لي أحب [ إلي ] من شاتي لحم ، فرخص له فيها .
وهذا الحديث ، كالذي قبله في الدلالة .
الحديث الثالث :
985 - ثنا مسلم : ثنا شعبة ، عن الأسود ، عن جندب ، قالَ : صلى النبي ( يوم النحر ، ثم خطب ، ثم ذبح ، فقال : ( ( من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها ، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله ) ) .
في الاستدلال بهذا الحديث على الكلام في خطبة العيد نظر ؛ لوجهين :(6/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
أحدهما : أنه ليس فيهِ التصريح بأن ذَلِكَ كانَ في الخطبة فيحتمل أنه قاله قبلها ، أو بعدها .
وقد وقع في رواية لمسلم في ( ( صحيحه ) ) من هذا الحديث ما يدل على أنه قاله قبل الخطبة ؛ فإنه قالَ : فلم يعد إن صلى وفرغ من صلاته سلم ، فإذا هوَ يرى لحم أضاحي قد ذبحت قبل أن يفرغ من صلاته ، فقالَ : ( ( من كانَ ذبح ) ) - إلى آخره .
ولكن رواه غير واحد ، عن شعبة ، فذكروا فيهِ : أنه قاله في خطبته .
والثاني : أن هذا لم يكن خطابا لأحد معين ، ولا في الحديث أن أحدا قام إليه فخاطبه ، كما في حديث البراء وحديث أنس المتقدمين .
وحينئذ ؛ فيكون ذكره لهذا في الخطبة من جملة تعليم أحكام الأضاحي ، ولا شك في أن الإمام لهُ أن يعلم الناس في خطبة عيد النحر أحكام الأضاحي ، وما يحتاجونه إلى معرفته منها .
وحديث البراء وأنس يدلان على ذلك - أيضاً .
وهذا كله مستحب ، وقد نص عليه الشافعي وأصحابنا .
وقالوا - أيضاً - يسن للإمام أن يعلم الناس في خطبة عيد الفطر حكم إخراج الفطرة .
وقد روي عن ابن عباس ، أنه خطب بالبصرة يوم الفطر ، فعلم الناس صدقة الفطر .
خرجه ابن شاهين في ( ( كتاب العيدين ) ) .
وفي إسناده : ضعف .
والصحيح : ما روى الحسن ، قالَ : خطب ابن عباس في آخر رمضان على(6/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
منبر البصرة ، فقالَ : أخرجوا صدقة صومكم . فكأن الناس لم يعلموا ، فقال : من هاهنا من أهل المدينة ؟ قوموا إلى إخوانكم فعلموهم - وذكر بقية الحديث .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
والحسن ، لم يسمع من ابن عباس ، ولم يكن بالبصرة يوم خطب ابن عباس .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود ، من رواية الزهري ، قال : قال عبد الله بن ثعلبة بن صعير : خطب رسول الله ( الناس قبل الفطر بيومين ، فقال : ( ( ادوا صاعاً من بر ) ) - الحديث .
وفي إسناده : اختلاف كثير على الزهري .
واختلف في عبد الله بن ثعلبة : هل له صحبة ، أم لا ؟
وقد روى عبد الله ابن الإمام أحمد في ( ( مسائله ) ) بإسناده ، عن الزهري عن ابن المسيب : كانَ النَّبيّ ( يخطب قبل الفطر بيومين ، ويأمرهم بأداء زكاة الفطر ، فيخرجونها قبل الصَّلاة .
وروى الواقدي بأسانيد له متعددة ، عن عائشة وابن عمر وأبي سعيد حديثاً طويلاً ، فيه : أن النبي ( كان يخطب قبل الفطر بيومين ، فيأمر بإخراج صدقة الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى .
دكره ، عنه محمد بن سعد .
وذكر ابن سعد ، عنه - أيضاً - : ثنا عمرو بن عثمان بن هانئ ، قال : سمعت عمر بن عبد العزيز بخناصرة ، وهوخليفة ، خطب الناس قبل يوم الفطر(6/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
بيوم ، وذلك يوم الجمعة ، فذكر الزكاة فحض عليها ، وقال :
على كل انسان صاع تمراً ومدان من حنطة . وقال : انه لا صلاة لمن لازكاة له ، ثم قسمها يوم الفطر .
ويدل على أن الإمام إنما يعلم الناس حكم صدقة الفطر قبل يوم الفطر :
حديث ابن عمر ، أن النبي ( أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة .
وقد خرجه البخاري في موضع آخر .
وفيه : دليل واضح على انه كان يامر بذلك قبل يوم الفطر ، والافكيف كان يأمر بعد الصلاة بأن تؤدى قبل الصلاة ؟
وبقية ما دل عليهِ هذه الأحاديث ، من الذبح قبل الصَّلاة ، ومن الأمر لمن ذبح قبلها بالاعادة ، ومن أحكام الجذع من الضأن والمعز موضعه غيرهذا ، ويأتي فيهِ - إن شاء الله سبحانه وتعالى .(6/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
- باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد
986 - حدثنا محمد : ثنا أبو تميلة يحيى بن واضح ، عن فليح بن سلمان ، عن سعيد بن الحارث ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كان النبي ( إذا كان يوم عيد خالف الطريق .
تابعه : يونس بن محمد ، عن فليح ، عن سعيد ، عن أبي هريرة .
وحديث جابر أصح .
كذا في بعض النسخ : ( ( تابعه : يونس ، عن فليح ، عن سعيد ، عن أبي
هريرة ) ) وهي رواية ابن السكن .
ويقال : إن ذلك من إصلاحه .
وفي أكثر النسخ : ( ( تابعه : يونس بن محمد ، عن فليح ، وحديث جابر
أصح ) ) .
وذكر أبو مسعود الدمشقي : أن البخاري قالَ : ( ( تابعه يونس بن محمد ، عن فليح . قال : وقال : محمد بن الصلت : عن فليح ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، وحديث جابر أصح ) ) .
ثم ذكر أن ذلك وهم منه - يعني : متابعة يونس لأبي تميلة - ، وإنما رواه يونس ومحمد بن الصلت ، كلاهما عن فليح ، عن سعيد ، عن أبي هريرة .
وكذا رواه الهيثم بن جميل ، عن فليح ، وأن البخاري أراد أن يونس قال فيهِ : ( ( عن جابر ) ) .
وفيه : إشارة إلى أن غيرهما خالف في ذكر جابر ، وإن ذكره أصح ، وما(6/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
ذكره أبو مسعود تصريح بذلك .
وقوله : ( ( وحديث جابر ) ) يدل عليه ، والله أعلم .
وحاصل الأمر : أنه اختلف في إسناده على فليح :
فرواه ، عنه الأ كثرون ، منهم : محمد بن الصلت والهيثم بن جميل وسريج ، فقالوا : عن سعيد بن الحارث ، عن أبي هريرة .
وخالفهم أبو تميلة يحيى بن واضح ، فرواه عن سعيد بن الحارث ، عن جابر .
وعند البخاري ، أن هذا أصح .
وأما يونس بن محمد ، فرواه عن فليح ، واختلف عنه :
فذكر البخاري والترمذي في ( ( جامعه ) ) : أنه رواه عن فليح عن سعيد ، عن
جابر ، متابعة لأبي تميلة .
وكذا رواه ابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحيهما ) ) .
وكذلك خرجه البيهقي من رواية محمد بن عبيد الله المنادي ، عن يونس .
وقد قال مهنا : قلت لأحمد : هل سمع سعيد بن الحارث من أبي هريرة ؟ فلم يقل شيئاً .
وقد ذكر البيهقي : أن أبا تميلة روي عنه ، عن فليح ، عن سعيد ، عن أبي هريرة - أيضاً .
ثم خرجه من طريق أحمد بن عمرو الحرشي ، عن أبي تميلة كذلك .
فتبين بهذا : أن أبا تميلة ويونس اختلف عليهما في ذكر : ( ( أبي هريرة(6/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
وجابر ) ) ، وأن اكثر الرواة قال فيه : ( ( عن أبي هريرة ) ) ، ومنهم من اختلف عليه في ذكر ( ( أبي هريرة وجابر ) ) .
وقد ذكر الإمام أحمد ، أنه حديث أبي هريرة ، وهذا يدل على أن المحفوظ قول من قالَ : ( ( عن أبي هريرة ) ) ، كما قاله أبو مسعود ، خلاف ما قاله البخاري .
وفي الباب : أحاديث أخر ، ليست على شرط البخاري .
ومن أجودها : حديث عبد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي ( أخذ يوم العيد في طريق ، ثم رجع من طريق آخر .
خرجه أبو داود .
وخرجه ابن ماجه ، وعنده : أن ابن عمر كان يخرج إلى العيد في طريق ، ويرجع في أخرى ، ويزعم أن رسول الله ( كان يفعله .
وقد استغربه الإمام أحمد ، وقال : لم أسمع هذا قط .
وقال - أيضاً - : العمري يرفعه ، ومالك وابن عيينة لا يرفعانه .
يعني : يقفانه على ابن عمر من فعله .
قيل له : قد رواه عبيد الله - يعني : أخا العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ؟
فأنكره ، وقال : من رواه ؟ قيل لهُ : عبد العزيز بن محمد - يعني : الدراوردي .
- قالَ : عبد العزيز يروي مناكير .
وقال البرقاني : سألت الدارقطني : هل رواه عن نافع غير العمري ؟ قَالَ :(6/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
من وجه يثبت ، لا . ثُمَّ قالَ : روي عن مالك ، عن نافع ، ولكن لايثبت . انتهى .
والصحيح عن مالك وغيره : وقفه دون رفعه .
وكذا رواه وكيع عن العمري - موقوفا .
وقد استحب كثير من أهل العلم للإمام وغيره إذا ذهبوا في طريق إلى العيد أن يرجعوا في غيره ، وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد .
وألحق الجمعة بالعيد في ذلك .
ولو رجع من الطريق الذي خرج منه لم يكره .
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) حديث ، فيه : أن أصحاب رسول الله ( كانوا يفعلون ذلك في زمانه . .
وتكلم الناس في المعنى الذي لأجله يسحب مخالفة الطريق ، وكثر قولهم في ذلك ، وأكثره ليس بقوي .
وقد روي في حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي ( كان يغدو من طريق ويرجع من اخر ؛ ليتسع الناس في الطريق .
وعبد الرحمن هذا ، ضعيف جداً .
ومعنى الاتساع في الطريق : أنه يخشى كثرة الزحام في الطريق الأول .
وهذا أحد ما قيل في معناه .
وقيل : ليشهد به الطريقان .(6/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
وقيل : ليتصدق على من كان فيهما من السؤال .
وقيل : ليكثر التقاء المسلمين بعضهم ببعض للسلام والتودد .
وقيل : للتفاؤل بتغير الحال إلى الرضى والمغفرة ؛ فإنه يرجى لمن شهد العيد أن يرجع مغفوراً لهُ .
وقيل : كان يغدو في أطول الطريقين ويرجع في أقصرهما ؛ لتكثر خطاه في المشي إلى الصَّلاة .
وهذا هو الذي رجحه كثير من الشافعية .
وقد روي في حديث عكس هذا :
فرواه سليمان بن أرقم ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة : كان النبي ( وأبو بكر وعثمان إذا خرجوا إلى العيد من طريق رجعوا في طريق آخر أبعد منه .
وسليمان بن أرقم ، متروك .
ولا أصل لحديثه هذا بهذا الإسناد .
وعلى تقدير أن يكون له أصل ، فيمكن توجيهه بأن القاصد لصلاة العيد ينبغي له قصدها من أقرب الطرق ؛ لأنه إن كانَ أماماً فلئلا يطول انتظاره ، وان كانَ مأموماً فخشية أن يسبق بالصلاة أو بعضها ، أو أن يتمكن من صلاتها في مكان يمكنه الاقتداء فيهِ بالإمام ؛ ولهذا شرع له التبكير ؛ ليقرب من الإمام .
والراجع من الصَّلاة قد أمن ذَلِكَ كله ، فيمشي حيث شاء ، ويسلك أبعد الطرق ، ويقف فيها لحاجته وللقاء الناس والسلام عليهم والدعاء لهم ، وغير ذَلِكَ من المصالح .
وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ، أنهم كانوا يتلاقون يوم العيد ، ويدعو بعضهم لبعض بالقبول .(6/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
ورخص فيه الإمام أحمد ، وقال : لا أبتدئ به أحداً ، فإن قاله لي ، رددت عليه .
وقال - مرة - : ما أحسنه ، إلا أن يخاف الشهرة .
كأنه يشير إلى أنه يخشى أن يشتهر المعروف بالدين والعلم بذلك ، فيقصد لدعائه ، فيكره لما فيه من الشهرة .
وقد خرج الإمام أحمد من حديث المنكدر بن محمد ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي ، قال : رأيت رسول الله ( قائماً في السوق يوم العيد ، ينظر والناس
يمرون .
ورواه الشافعي ، عن إبراهيم بن محمد : حدثني معاذ بن عبد الرحمن التيمي ، عن أبيه ، عن جده ، أنه رأى رسول الله ( رجع من المصلى في يوم عيد ، فسلك على التمارين أسفل السوق ، حتى إذا كان عند موضع البركة التي بالسوق قام فاستقبل فج
أسلم ، فدعا ثم انصرف .
قال الشافعي : فأحب أن يصنع الإمام مثل هذا ، وأن يقف في موضع يدعو الله ( ، مستقبل القبلة .(6/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
- باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين ، وكذلك النساء ، ومن كان في البيوت والقرى ؛ لقول النَّبيّ ( : ( ( هذا عيدنا أهل الإسلام )
.
وأمر أنس بن مالك مولاهم ابن أبي عتبة بالزاوية ، فجمع أهله وبنيه ، فصلى بهم كصلاة أهل المصر وتكبيرهم .
وقال عكرمة : أهل السواد يجتمعون في العيد ، يصلون ركعتين ، كما يصنع الإمام 0
وكان عطاء إذا فاته العيد صلى ركعتين .
ذكر البخاري في هذا الباب مسائل .
أحدها :
من فاته صلاة العيد مع الإمام من أهل المصر ، فإنه يصلي ركعتين .
وحكاه عن عطاء .
وحكي - أيضا - عن أبي حنيفة والحسن وابن سيرين ومجاهد وعكرمة والنخعي ، وهو قول مالك والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد - في رواية ، عنه .
ثم اختلفوا : هل يصلي ركعتين بتكبيركتكبيرالإمام ، أم يصلي بغير تكبير ؟
فقالَ الحسن والنخعي ومالك والشافعي وأحمد - في رواية - : يصلي بتكبير ، كما يصلي الإمام .
واستدلوا بالمروي عن أنس ، وأنس لم يفته في المصر بل كان ساكناً خارجاً من المصر بعيداً منه ، فهوفي حكم أهل القرى .(6/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد - في رواية عنه .
والقول بانه يصلي كما يصلي الإمام قول أبي حنيفة وأبي بكر بن أبي شيبة ، حتى قالَ : لايكبر إلا كما يكبر الإمام ، لا يزيد عليه ولا ينقص .
وكذا قاله الإمام أحمد - في رواية أبي طالب .
وعن ابن سيرين ، قال : كانوا يستحبون إذا فات الرجل العيدان أن يمضي إلى الجبان ، فيصنع كما يصنع الإمام .
وقال أحمد - في رواية الأثرم - : أن صليت ذهب إلى الجبان فصلى ، وإن شاء صلى مكانه .
وقال - في رواية إسماعيل بن سعيد - : إذا صلى وحده لم يجهربالقراءة ، وإن جهر جاز .
وهذا عنده حكم المصلي الصلاة الجهرية مفرداً ، فلو صلاها في جماعة جهر بها بغير إشكال ، كما فعله الليث بن سعد .
وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن الإمام لايجهر بالقرأة في صلاة العيدين إلا بمقدار ما يسمع من يليه ، روي ذلك عن علي ، وهو قول الحسن والنخعي والثوري .
وذكر الحسن ، عن أن النبي ( وأبا بكر وعمر كانوا يسمعون القراءة في العيدين والجمعة من يليهم .
خرجه المروزي في ( ( كتاب العيدين ) ) .
وهو قول الثوري في الجمعة والعيدين جميعاً .(6/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
وقال عطاء والأوزاعي وأحمد - في الرواية الأخرى - : يصلي من فاته العيد ركعتين بغير تكبير .
هذه الرواية ، حكاها أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب ( ( الشافي ) ) .
وقال أحمد : إنما التكبير مع الجماعة .
وجعله أبو بكر عبد العزيز كالتكبير خلف المكتوبة في أيام التشريق .
وروى حنبل ، عن أحمد ، أنه مخير ، إن شاء صلى بتكبير ، وإن شاء صلى بغير تكبير .
وقالت طائفة : من فاتته صلاة العيد مع الإمام صلى أربع ركعات .
روي ذلك عن ابن مسعود من غير وجه .
وسوى ابن مسعود بين من فاتته الجمعة ، ومن فاته العيد ، فقال - في كل منهما - : يصلي أربعاً .
واحتج به الإمام أحمد .
ولا عبرة بتضعيف ابن المنذر له ؛ فإنه روي بأسانيد صحيحة .
وهذا قول الشعبي والثوري وأحمد - في رواية أخرى ، عنه - ، وهي اختيار أبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا ، بناءً على اختيارهم اشتراط الجماعة للعيد والاستيطان ، ويكون الأربع عيداً .
نص عليه أحمد في رواية الميموني .
وهذا يشبه قول ابن شاقلا : إن أدرك تشهد الجمعة يصلي أربعاً ، وهي جمعة له ، كما سبق ذلك .
وعلى هذا ، فيصلي وحده من غير جماعة ، نص عليه أحمد في رواية(6/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
محمد بن
الحكم ، وكذا ذكره أبو بكر عبد العزيز .
وإنما يصلي في جماعة إذا قلنا : يصلي صلاة العيد على صفتها .
وهل يصلي الأربع بسلام واحد ، أو يخير بين ذلك وبين صلاتها بسلامين ؟
فيهِ عن أحمد روايتان .
واختار أبو بكر صلاتها بسلام واحد ، تشبيهاً لصلاتها بصلاة من تفوته الجمعة .
وعن أحمد : يخير بين أن يصلي ركعتين أو أربعاً .
وهذا مذهب الثوري الذي حكاه أصحابه ، عنه .
واستدل أحمد ، بأنه روي عن أنس ، أنه صلى ركعتين ، وعن ابن مسعود أنه صلى أربعاً .
وكذلك روي عن علي ، أنه أمر من يصلي بضعفة الناس في المسجد أربعاً ، ولا يخطب بهم .
وروي أحمد بن القاسم ، عن أحمد الجمع بين فعل أنس وقول ابن مسعود على وجه آخر ، وهو : إن صلى من فاته العيد جماعة صلى كصلاة الإمام ركعتين ، كما فعل أنس ، وإن صلى وحده صلى أربعاً ، كما قال ابن مسعود .
وقال إسحاق : إن صلاها في بيته صلاها أربعاً كالظهر ، وإن صلاها في المصلى صلاها ركعتين بالتكبير ؛ لأن علياً أمر الذي يصلي بضعفة الناس في المسجد أن يصلي
أربعا ، ركعتين مكان صلاة العيد ، وركعتين مكان خروجهم إلى الجبان ، كذا رواه حنش بن المعتمر عن علي .
واعلم ؛ أن الاختلاف في هذه المسألة ينبني على أصل ، وهو : أن صلاة(6/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
العيد : هل يشترط لها العدد والاستيطان وإذن الإمام ؟
فيهِ قولان للعلماء ، هما روايتان عن أحمد .
وأكثر العلماء ، على أنه لايشترط لها ذَلِكَ ، وهو قول مالك والشافعي .
ومذهب أبي حنيفة وإسحاق : أنه يشترط لها ذلك .
فعلى قول الأولين : يصليها المنفرد لنفسه في السفر والحضر والمرأة والعبد ومن
فاتته ، جماعة وفرادى .
لكن لا يخطب لها خطبة الإمام ؛ لأن فيهِ افتئاتاً عليهِ ، وتفريقاً للكلمة .
وعلى قول الآخرين : لايصليها إلا الإمام أو من أذن لهُ ، ولا تصلى إلا كما تصلى الجمعة ، ومن فاتته ، فإنه لايقضيها على صفتها ، كما لايقضي الجمعة على صفتها .
ثم اختلفوا :
فقال أبو حنيفة وأصحابه : لاتقضى بالكلية ، بل تسقط ، ولا يصلي من فاتته مع الإمام عيدا أصلا ، وإنما يصلي تطوعاً مطلقاً ، إن شاء صلى ركعتين ، وإن شاء صلى
أربعاً .
وقال أحمد وإسحاق : بل تقضى كما قال ابن مسعود وغيره من الصحابة .
وليست العيد كالجمعة ؛ ولهذا يصليها الإمام والناس معه إذا لم يعلموا بالعيد إلا من آخر النهار من غد يوم الفطر ، والجمعة لا تقضى بعد خروج وقتها ، ولأن الخطبة ليست شرطاً لها ، فهي كسائر الصلوات ، بخلاف الجمعة .
والذين قالوا : تقضى إذا فاتت مع الإمام ، لم يختلفوا أنها تقضى ما دام وقتها باقياً 0
فإن خرج وقتها ، فهل تقضى ؟
قالَ مالك : لا تقضى .(6/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
وعن الشافعي قولان .
والمشهور عندنا : إنما تقضى .
وخرجوا فيها رواية اخرى : أنها لاتقضى .
وأصل ذلك : أن السنن الرواتب : هل تقضى في غير وقتها ، أم لا ؟
وفيه قولان ، وروايتان عن أحمد ؛ فإن فرض العيد يسقط بفعل الإمام ، فيصير في حق من فاتته سنة .
ولو أدرك الإمام وقد صلى وهو يخطب للعيد ففيه أقوال :
أحدها : أنه يجلس فيسمع الخطبة ، ثم إذا فرغ الإمام صلى قضاءً ، وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي ثور ، ونص عليه أحمد - أيضا .
والثاني : أنه يصلي والإمام يخطب ، كما يصلي الداخل في خطبة الجمعة والإمام يخطب ، وهو قول الليث ؛ لكن الليث صلى العيد بأصحابه والإمام يخطب .
وقال الشافعية : إن كانَ الإمام يخطب في المصلى ، جلس واستمع ؛ لأنه مالم يفرغ من الخطبة فهو في شعار اقامة العيد ، فيتابع فيما بقي منه ، ولا يشغل عنه بالصلاة ، وإن كان يخطب في المسجد ؛ فإنه يصلي قبل أن يجلس .
ثم لهم وجهان :
أحدهما : يصلي تحية المسجد ، كالداخل يوم الجمعة ، وهو قول بعض أصحابنا - أيضا .
والثاني : يصلي العيد ؛ لأنها آكد ، وتدخل التحية ضمنا وتبعاً ، كمن دخل المسجد يوم الجمعة وعليه صلاة الفجر ؛ فإنه يقضيها وتدخل التحية تبعاً .
ووجه قول الأوزاعي وأحمد : أن استماع الخطبة من كمال متابعة الإمام في(6/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
هذا اليوم ، فإذا فاتت الصَّلاة معه لم يفوت استماع الخطبة ، وليس كذلك الداخل في خطبة الجمعة ؛ لأن المقصود الاعظم الصلاة ، وهي لاتفوت بالتحية .
المسألة الثانية :
صلاة النساء في بيوتهن في المصر ، وكذلك المريض ونحوه .
وهذا مبني على أن صلاة العيد : هل يشترط لها العدد والاستيطان وإذن الإمام ، أم لا ؟
فمن قالَ : لا يشترط ذَلِكَ جوز للمرأة أن تصلي صلاة العيد في بيتها على وجهها ، وكذلك المريض ، بل يجيز ذَلِكَ لكل من تخلف في بيته ، أن يصلي كما يصلي الإمام ، ولا سيما إن كانَ يقول مع ذَلِكَ أن صلاة العيدين سنة ، كما يقوله الشافعي وغيره .
وقال الحسن - في المسافر يدركه الأضحى - : فإذا طلعت الشمس صلى ركعتين ، ويضحي إن شاء .
وأما من يشترط لها العدد وإذن الإمام ، فلا يرى لمن تخلف في بيته أن يصلي صلاة العيد على وجهها ، بل يصلي ركعتين بغير تكبير - أو أربعاً - ، على ما سبق .
قال الثوري وإسحاق - في النساء - : يصلين في بيوتهن أربعاً .
وعند أبي حنيفة وأصحابه : لاتقضي بحال ، كما تقدم .
المسألة الثالثة :
أهل القرى : هل يصلون العيد في قراهم كما يصلي الإمام في المصر ونوابه في الأمصار ؟(6/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
وقد حكى عن عكرمة ، أنهم يصلونها كصلاة أهل الأمصار .
قال الإمام أحمد : ثنا محمد بن جعفر : ثنا شعبة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، في القوم يكونون في السواد في سفرتهم عيد فطر أو أضحى ، قال : فيجتمعون ، فيصلون ، يؤمهم أحدهم .
وقد تقدم أن جمهور العلماء على أن الجمعة تقام في القرى ، فالعيد أولى .
لكن من يشترط العدد لصلاة العيد ، كأحمد - في رواية - وإسحاق ، يقول : لابد أن يكون في القرية أربعون رجلا كالجمعة .
قال إسحاق : وإن لم يخطب بهم صلوا أربعا - أيضا - قال : وإذا لم تكن خطبة فليس بعيد .
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لاعيد إلا في مصر جامع ، كقولهم في الجمعة .
ولا خلاف أنه يجب على أهل القرى والمسافرين ، وإنما الخلاف في صحة فعلها منهم ، والأكثرون على صحته وجوازه .
ويستدل لذلك بفعل أنس بن مالك ؛ فإنه كانَ يسكن خارجا من البصرة على أميال منها .
فروى الإمام أحمد - فيما رواه عنه ابنه عبد الله في ( ( مسائله ) ) - : ثناهشيم : أنا
عبيد الله بن أبي بكر ، عن جده أنس بن مالك ، أنه كان إذا لم يشهد العيد مع الناس بالبصرة ، وكان منزله بالطف جمع أهله وولده ومواليه ، ثم يامر مولاه عبد الله بن أبي عتبة أن يصلي بهم . قال : يكبر بهم تسع تكبيرات ، خمس في الأولى ، وأربع في الآخرة ، ويوالي بين القراءتين .
وروى محمد بن الحكم ، عن أحمد - فيمن تفوته صلاة العيد - : يجمع(6/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
أهله
وولده ، كما فعل أنس ، ويكبر تسع تكبيرات في الركعتين ، ويوالي بين القراءتين .
وهذا يدل على أنه أخذ بجميع ما روي عن أنس فيمن تفوته صلاة العيد مع
الإمام ، سواء كان لبعده عن الإمام أو لغير ذَلِكَ ، وأنه يكبر تسع تكبيرات في الركعتين ، ويوالي بين القراءتين .
وهذا خلاف مذهبه في تكبير الإمام ونوابه في الامصار ، فإنه يرى أنهم يكبرون في الأولى سبع تكبيرات ، وفي الثانية خمس تكبيرات .
وفي موالاته بين القراءتين روايتان عنه :
أشهرهما : أنه يكبر قبل القراءة في الركعتين .
والثانية : أنه يوالي بينهما . واختارها أبو بكر بن جعفر .
فأما التكبير في الاولى سبعاً وفي الثانية خمساً ، وهو قول جمهور العلماء ، وقد روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة ، عن عمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير ومجاهد والزهري ، وقال : مضت السنة به .
وحكاه ابن أبي الزناد عن فقهاء المدينة السبعة .
وهو قول مكحول وربيعة والليث والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود .
وأكثر أهل الحديث ، منهم : ابن المديني وابن أبي شيبة وأبو خثيمة وسليمان بن داود الهاشمي وغيرهم .
ولكن اختلفوا : هل يكبر في الأولى سبعاً غير تكبيرة افتتاح الصلاة ، أم بها ؟(6/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
فقالَ مالك وأحمد : يحسب منها تكبيرة الافتتاح .
وروي ذلك عن ابن عباس صريحاً .
وقال الشافعي : لا يحسب منها .
وعن الليث والأوزاعي قولان ، كالمذهبين .
وقالت طائفة : يكبر في الأولى خمساً بتكبيرة الافتتاح ، وفي الثانية أربعاً بعد
القراءة ، بتكبيرة الركوع .
روى ذلك عن ابن مسعود وإسحاق ، وهو قول سفيان وأهل الكوفة .
وروي عن ابن عباس - في رواية عنه .
وفي عدد التكبير أقوال متعددة للسلف ، فيه احاديث مرفوعة معددة - أيضا - ، لم يخرج منها البخاري شيئاً ، وليس منها على شرطه شيء .
وقد روى هارون بن عبد الله ، عن أحمد ، أنه قالَ : ليس يروى في التكبير في العيدين حديث صحيح عن النبي ( .
ذكره الخلال .
وروى حرب ، عن أحمد قريباً من ذلك .
قال حرب : وسألت ابن المديني : هل صح فيه عن النبي ( ؟ قالَ : حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النَّبيّ ( قالَ : ويروى عن أبي هريرة - من قوله - صحيح . انتهى .
وحكى الترمذي في ( ( علله ) ) ، عن البخاري ، أنه صحح هذا الحديث .(6/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
وقال أحمد - في رواية - : أنا اذهب إليه .
وقد خرجه في ( ( المسند ) ) وأبو داود وابن ماجة بألفاظ مختلفة ، ومعناها واحد : أن التكبير في الأولى سبع ، وفي الثانية خمس .
وفي رواية أحمد وأبي داود : أن القراءة بعدهما .
وقد استوفينا الأحاديث في ذَلِكَ ، والكلام عليها في ( ( شرح الترمذي ) ) بحمد
الله ومنه .
ونقل الميموني ، عن أحمد ، قال : التكبير في العيدين سبعاً في الأولى وخمساً ، وقد اختلف أصحاب رسول الله ( في التكبير ، وكله جائز .
وهذا نص منه على أنه يجوز التكبير على كل صفة رويت عن الصحابة من غير كراهة ، وإن كانَ الافضل عنده سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية .
ورجح هذا ابن عبد البر ، وجعله من الاختلاف المباح ، كأنواع الأذان والتشهدات ونحوها .
ثم خرج البخاري في هذا الباب :
987 - حديث عائشة في الجاريتين اللتين كانتا عندها تدففان وتغنيان .
وقد ذكرنا لفظه في ( ( باب : سنة العيدين لأهل الإسلام ) ) إلى قوله : ( ( دعهما يا أبا بكر ؛ فإنها أيام عيد ) ) وتلك الأيام أيام منى .
وزاد فيه :
988 - وقالت عائشة : رأيت النبي ( يسترني ، وأنا أنظر إلى الحبشة ، وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر ، فقال النَّبِيّ ( : ( ( دعهم ، أمنا بني أرفدة ) ) - يعني : من الأمن .(6/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
خرجه عن يحيى بن بكير ، عن الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة .
ولكن ؛ ليس فيهِ اللفظ الذي احتج به في أول الباب ، وهو قوله : ( ( هذا عيدنا أهل الإسلام ) ) ، إنما خرجه بهذا اللفظ في ( ( باب : سنة العيدين ) ) كما تقدم .
وليس فيه لفظة : ( ( أهل الإسلام ) ) ، ولم أجده بهذه الزيادة في شيء من الكتب الستة ، وإنما تعرف هذه اللفظة في حديث عقبة بن عامر ، عن النبي ( : ( ( يوم عرفة ، ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام ) ) .
ووجه الاستدلال به على ما بوب عليه البخاري : أن النبي ( جعل العيد عاما لأهل الإسلام كلهم ، فدل على أنهم يشتركون فيمايشرع فيه جميعهم ، رجالهم
ونساؤهم ، أهل أمصارهم ، وأهل قراهم فتكون صلاة العيد مشروعة لجميعهم من غير تخصيص لأحد منهم .
والمنازع في ذلك قد يقول : أنا لا أمنع ذلك ، ولا أن يشهد العيد جميع المسلمين إذا صلاها الإمام أو نائبه في المصلى ، فأما الإنفراد بصلاتها لآحاد الناس في بيوتهم ، فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فعله ، ولو كان مشروعاً لما تركوه ، ولو فعلوه لنقل .
وأيضا ؛ فمما يدل عَلَى أن الاستيطان يعتبر لها : أن النَّبِيّ ( لَمْ يفعلها قط فِي اسفاره مَعَ كثرة أسفاره ، وقد ادركه عيد النحر بمنى ، وأدركه عيد الفطر فِي غزوة الفتح وَهُوَ مسافر ، ولم ينقل أنهُ صلى العيدين فِي شيء من أسفاره ، ولو فعل ذَلِكَ لما أهمل
نقله ؛ لتوفر الدواعي على نقله ، وكثرة الحاجة إليه . والله ( أعلم .(6/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
وأيضا ؛ فالحديث إنما ورد في ايام منى ، وظاهره : أنها أيام التشريق .
ولو قيل : إن يوم النحر يدخل فيها ، فلا يلزم من كونها عيداً للمسلمين جميعاً أن يشترك المسلمون جميعهم في كل ما يشرع فيها ؛ فإنه يشرع فيها للحاج ما لا يشرع لغيرهم من أهل الأمصار ، فلا يمتنع أن يشرع لأهل الأمصار الاجتماع على مالا يشرع لغيرهم بإنفرادهم ، كالنساء والمسافرين . والله ( أعلم .(6/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
- باب الصلاة قبل العيد وبعدها
وقال أبو المعلى : سمعت سعيداً ، عن ابن عباس : كره الصلاة قبل العيد .
989 - حدثنا أبو الوليد : ثنا شعبة : أخبرني عدي بن ثابت ، قالَ : سمعت سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن النبي ( خرج يوم عيد الفطر ، فصلى ركعتين ، ولم يصل قبلها ولا بعدها ، ومعه بلال .
( ( أبو المعلى ) ) ، هو : يحيى بن ميمون الكوفي ، ثقة مشهور .
وقد اختلف الناس في معنى ترك النبي ( الصلاة يوم العيد قبلها وبعدها : فمنهم من قال : لأنه كان إماماً ، والإمام لايتطوع موضع صلاة العيد قبلها ولا بعدها ؛ لأن حضوره كاقامة الصَّلاة ، فلا يتطوع بعده ، وإذا خطب انصرف وانصرف الناس معه ، فلو صلى فلربما احتبس الناس لهُ ، وفيه مشقة .
وهذا تأويل جماعة ، منهم : سليمان بن حرب وطائفة من الشافعية وغيرهم .
وأنكر ذلك الإمام أحمد ، وقال : إنما لم يصل قبلها ولا بعدها ؛ لأنه لا صلاة قبلها ولا بعدها .
واستدل بأن ابن عباس وابن عمر رويا أن النَّبيّ ( لم يصل قبلها ولا بعدها وكرها الصلاة قبلها وبعدها استدلالاً بما روياه ، فعلهم أنهما فهما مما روياه كراهة الصلاة قبلها وبعدها ، وهما أعلم بما رويا .
فأما كراهة ابن عباس ، فقد ذكره البخاري تعليقاً ، وروي عنه من وجوه أخرَ .(6/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
وأما حديث ابن عمر [ 1 ] ، فمن رواية أبان بن عبد الله البجلي ، عن أبي بكر بن
حفص ، عن ابن عمر ، أنه خرج يوم عيد فطر ، ولم يصل قبلها ولابعدها ، وذكر أن النبي ( فعله .
خرجه الإمام أحمد والترمذي .
وقال : حسن صحيح .
وحكى في ( ( علله ) ) عن البخاري ، أنه قال : هو حديث صحيح ، وأبان البجلي صدوق .
وأبان هذا ، وثقه ابن معين ، وقال أحمد : صدوق صالح الحديث .
وروى مالك وغيره ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان لا يصلي قبل العيد ولا بعدها - ولم يرفعه .
وكذا رواه عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر .
قال الإمام أحمد : روي عن ابن عمر وابن عباس وسلمة بن الأكوع وبريدة ، أنهم لم يصلوا قبلها ولا بعدها . انتهى .
وروي - أيضا - عن علي وجابر وابن أبي أوفى .
وقال الزهري : ما علمنا أحداً كانَ يصلي قبل خروج الإمام يوم العيد ولا بعده .
ذكره عبد الرزاق ، عن معمر ، عنه .
وخرجه جعفر الفريابي من رواية يونس ، عن الزهري ، قال : لم يبلغنا أن(6/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
احداً من أصحاب النبي ( كان يسبح يوم الفطر والأضحى قبل الصلاة ولا بعدها ، إلا أن يمر منهم مار بمسجد رسول الله ( ، فيسبح فيه .
وخرجه الأثرم من رواية الزبيدي ، عن الزهري ، قال : لم أسمع أحدا من علمائنا يذكر عن أحد من سلف هذه الأمة ، أنه كان يصلي قبلها ولا بعدها .
وكان عمر بن عبد العزيز لا يسبح قبلها ولا بعدها ، ويبكر بالخروج إلى الخطبة والصلاة ، كما لا يصلي أحد قبلها .
وحكى الإمام أحمد هذا القول عن أهل المدينة .
وروي عن الشعبي ، قالَ : أتيت المدينة وهم متوافرون ، فلم أر أحداً من الفقهاء يصلي قبلها ولا بعدها .
خرجه الفريابي .
وهو قول مالك وأحمد وإسحاق .
وحكاه الترمذي عن الشافعي .
وهؤلاء ، منهم من كان ينهى عن الصلاة قبلها ، ويزجر عنه ، وروي عن أبي قتادة الأنصاري وحذيفة وغيرهما .
ومنهم من كان يخبر بأنه ليس من السنة ، ولا ينهى عنه ، ومنهم علي بن أبي طالب ( .
وحكى الإمام أحمد عن أهل البصرة ، أنهم رجعوا في الصلاة قبلها وبعدها ، روي عن أنس وأبي برزة الاسلمي والحسن وأخيه سعيد وجابر بن زيد وأبي بردة بن أبي موسى ، وهو المشهور عن الشافعي .
وقد حكاه الإمام أحمد - في رواية الأثرم - عن أنس وأبي برزة .(6/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
وروى الإمام أحمد - في رواية ابنه عبد الله - : نا محمد بن جعفر : نا سعيد ، عن
قتادة ، أن أبا برزة الأسلمي وأنس بن مالك والحسن وعطاء بن يسار ، كانوا لا يرون بالصلاة قبل الإمام ولا بعده بأساً .
وقد خرج البيهقي من رواية الداناج ، أنه رأى أبا بردة يصلي يوم العيد قبل الإمام .
فظن صاحب ( ( شرح المهذب ) ) ، أن من حكاه عنة أبي برزة الأسلمي فقد وهم وصحف ، وليس كما قال .
ورخصت طائفة أخرى في الصلاة بعدها دون ما قبلها ، وحكاه الإمام أحمد عن أهل الكوفة .
وقد روي عن علي من وجه ضعيف .
وعن ابن مسعود وأصحابه .
وعن ابن أبي ليلى والنخعي والثوري وأبي حنيفة والأوزاعي .
وفرقت طائفة بين أن يصلي العيد في المصلى ، فلا يصلي قبلها ولا بعدها ، وبين أن يصلي في المسجد فيصلي قبلها وبعدها ، وهو قول الليث ، ورواية عن مالك .
ولم يذكر في ( ( تهذيب المدونة ) ) سواها .
وعنه ، الرخصة أن يصلي قبلها في المسجد خاصة .(6/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
وهذا كله في حق غير الإمام ، فأما الإمام فلا نعلم في كراهة الصلاة له خلافاً قبلها وبعدها .
وكل هذا في الصلاة في موضع صلاة العيد ، فأما الصلاة في غير موضع صلاة
العيد ، كالصلاة في البيت أو في المسجد ، إذا صليت العيد في المصلى ، فقال أكثرهم : لا تكره الصلاة فيه قبلها وبعدها .
روي ذلك عن بريدة ورافع بن خديج .
وذكره عباس بن سهل ، عن أصحاب النبي ( ، أنهم كانوا يفعلونه .
وكان عروة يفعله .
وروي عن ابن مسعود ، أنه كان يصلي بعد العيد في بيته .
وهو مذهب أحمد وإسحاق .
وروى عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد ، أن النبي ( كان لا يصلي قبل العيد شيئاً ، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين .
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) والحاكم .
وقال : سنة عزيزة ، بإسناد صحيح .
كذا قال ؛ وابن عقيل مختلف فيهِ .
وقالت طائفة : لا صلاة يوم العيد حتَّى تزول الشمس .
وصح عن ابن عمر ، أنه كان يفعله .
وعن كعب بن عجرة ، أنه أنكر على من صلى بعد العيد في المسجد ، وذكر(6/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
أنه خلاف السنة ، وقال : هاتان الركعتان سبحة هذا اليوم حتى تكون الصلاة تدعوك .
واختار هذا القول أبو بكر الآجري ، وأنه تكره الصلاة يوم العيد حتى تزول الشمس ، وحكاه عن أحمد .
وحكايته عن أحمد غريبة .
وعند أحمد وأكثر أصحابه : لاتصلي قبل العيد ، ولو صليت في المسجد ودخل إليه بعد زوال وقت النهي .
وسئل أحمد - في رواية أحمد بن القاسم - : لو كان على رجل صلاة في ذلك الوقت : هل يصلي ؟ قالَ : أخاف أن يقتدي به بعض من يراه . قيل لهُ : فإن يكن ممن يقتدى به ؟ قال : لا أكرهه ، وسهل فيه .(6/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
فارغة(6/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
كتاب الوتر(6/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
فارغة(6/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
أبواب الوتر
- باب ما جاء في الوتر
فيه أربعة أحاديث :
الحديث الأول :
990 - حدثنا عبد الله بن يوسف : انا مالك ، عن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر ، أن رجلاً سأل النبي ( عن صلاة الليل ، فقال رسول الله ( : ( ( صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا خشي أحدكم الصبح ، صلى ركعه واحدة ، توتر له ما قد صلى ) ) .
991 - وعن نافع ، أن عبد الله بن عمر كان يسلم بين الركعة والركعتين في الوتر ، حتى يأمر ببعض حاجته .
وقوله ( : ( ( صلاة الليل مثنى مثنى ) ) - يعني : ركعتين ركعتين .
والمراد : انه يسلم في كل ركعتين ، وبذلك فسره ابن عمر .
أخرجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) .
ويدل بمفهومه على أن صلاة النهار ليست كذلك ، وأنه يجوز أن تصلى أربعا .(6/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
وقد كان ابن عمر - وهو راوي الحديث - يصلي بالنهار أربعا ، فدل على أنه عمل بمفهوم ما روى .
فروى يحيى الأنصاري وعبيد الله بن عمر ، عن نافع ، أن ابن عمر كان يتطوع بالنهار ( ( بأربعٍ ) ) ، لا يفصل بينهن .
وبهذا رد يحيى بن معين وغيره الحديث المروي ، عن ابن عمر ، عن النبي ( قال : ( ( صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه ، من رواية شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن علي الازدي ، عن ابن عمر .
وقد أعله الترمذي ، بأن شعبة اختلف عليه في رفعه ووقفه .
وذكر الإمام أحمد : أن شعبة كان يتهيبه .
وأعله ابن معين وغيره ، بأن أصحاب ابن عمر الحفاظ رووا كلهم ، عنه ، عن النبي ( : ( ( صلاة الليل مثنى مثنى ) ) ، من غير ذكر النهار ، أكثر من خمسة عشر نفسا ، فلا يقبل تفرد علي الازدي بما يخالفهم .
وأعله الإمام أحمد وغيره بأنه روي عن ابن عمر ، أنه كان يصلي بالنهار أربعاً ، فلو كان عنده نص عن النبي ( لم يخالفه .
وتوقف أحمد - في رواية ، عنه - في حديث الأزدي .
وقال - مرة - : إسناده جيد ، ونحن لا نتقيه .
وقد روي ، عن ابن عمر موقوفاً عليه - أيضاً - ( ( صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ) ) .(6/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
وروي عنه - مرفوعاً - من وجه آخر .
وقيل : إنه ليس بمحفوظ .
قاله الدارقطني وغيره .
وذكر مالك ، أنه بلغه ، أن ابن عمر كان يقول : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ، يسلم من كل ركعتين .
قلت : من يقول : لا مفهوم لقوله ( : ( ( صلاة والليل مثنى مثنى ) ) يقول : إن ذكر الليل إنما كان جوابا لسؤال سائل ، سأل عن صلاة الليل ، ومثل هذا يدفع أن يكون له مفهوم معتبر . والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقد بوب البخاري في ( ( أبواب صلاة التطوع ) ) على أن ( ( صلاة النهار مثنى
مثنى ) ) ، ويأتي الكلام فيه في موضعه - إن شاء الله تعالى .
والكلام هنا في صلاة الليل .
وهذا الحديث : يدل على أن التطوع بالليل كله مثنى مثنى ، سوى ركعة الوتر ، فإنها واحدة .
وقد عارض هذا حديث عائشة الذي خرجه مسلم ، خرجه من طريق هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن النبي ( كان يصلي من الليل ثلاث(6/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
عشرة ركعة ، يوتر في ذلك بخمس ، لا يجلس في شيء منهن ، إلا في آخرهن .
وقد تكلم في حديث هشام هذا غير واحد .
قال ابن عبر البر : قد أنكر مالك . وقال : مذ صار هشام إلى العراق أتانا عنه ما لم يعرف منه .
وقد أعله الأثرم ، بأن يقال في حديثه : ( ( كان يوتر بواحدة ) ) ، كذا رواه مالك وغيره عن الزهري .
ورواه عمرو بن الحارث ويونس ، عن الزهري ، وفي حديثهما : ( ( يسلم من كل ركعتين ، ويوتر بواحدة ) ) .
وقد خرجه مسلم من طريقهما - أيضا .
وكذا رواه ابن أبي ذئب والأوزاعي ، عن الزهري .
خرج حديثهما أبو داود 0
قال الأثرم : وقد روى هذا الحديث عن عائشة غير واحد ، لم يذكروا في حديثهم ما ذكره هشام عن أبيه ، من سرد الخمس .
ورواه القاسم ، عن عائشة ، في حديثه : ( ( يوتر بواحدة ) ) .
ولم يوافق هشاماً على قوله إلا ابن إسحاق ، فرواه عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة - بنحو رواية هشام .
وخرجه أبو داود من طريقه كذلك .(6/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
ورواه - أيضا - سعد بن هشام ، عن عائشة ، واختلف عليه فيه :
فخرجه مسلم من رواية قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن سعد بن هشام ، أنه سال عائشة عن وتر النبي ( ، فقالت : كان يصلي تسع ركعات ، لا يجلس إلا في الثامنة ، فيذكر الله ويحمده ويدعوه ، ثُمَّ ينهض ولا يسلم ، ثم يقوم فيصلي ركعة ، ثم يقعد ، فيذكر الله ويحمده ويدعوه ، ثم يسلم تسليماً يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد ، فتلك إحدى عشرة ركعة ، فلما أسن نبي الله ( وأخذه اللحم أوتر بسبع ، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول ، فتلك تسع يا بني .
وفي رواية له : أن قتادة اخبره سعد بن هشام بهذا ، وكان جاراً له .
وقد خرّجه أبو داود بلفظ آخر ، وهو : أنه ( كان يصلي ثمان ركعات ، لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة ، فيجلس فيذكر الله ، ثم يدعو ، ثم يسلم تسليماً ، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، ثم يصلي ركعة ، فتلك إحدى عشرة ركعة .
وفي هذه الرواية : أنه كان يصلي الركعتين جالساً قبل الوتر ، ثم يوتر بعدها بواحدة .
وهذا يخالف ما في رواية مسلم .
ورواه سعد بن هشام ، عن عائشة ، واختلف عليه في لفظه :
فروي عنه : الوتر بتسعٍ ، وروى عنه : بواحدة .(6/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
ورواه أبان عن قتادة بهذا الإسناد ، ولفظه : كان النبي ( يوتر بثلاث ، ولا يقعد إلا في آخرهن .
قال الإمام أحمد : فهذه الرواية خطأ .
يشير إلى إنها مختصرة من رواية قتادة المبسوطة .
وقد روي في هذا المعنى من حديث ابن عباس وأم سلمة .
وقد تكلم الأثرم في إسنادهما .
وطعن البخاري في حديث أم سلمة بانقطاعه ، وذكر أن حديث ابن عمر في الوتر بركعة أصح من ذلك .
وكذلك الروايات الصحيحة عن ابن عباس في وصفه صلاة النبي ( ليلة بات عند خالته ميمونة ، يدل عليه : أنه ( من كل ركعتين وأوتر بواحدة .
فلهذا رجحت طائفة حديث ابن عمر وابن عباس ، وقالوا : لا يصلي بالليل إلا مثنى مثنى ، ويوتر بواحدة .
وهذه طريقة البخاري والأثرم .
وقال ابن عبد البر : هو قول أهل الحجاز ، وبعض أهل العراق 0
ثم حكى عن مالك والشافعي وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد ، أن صلاة(6/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
الليل مثنى مثنى .
قال : وقال أبو حنيفة في صلاة الليل : إن شئت ركعتين ، وإن شئت أربعا ، وإن شئت ستاً وثمانياً ، ولا تسلم إلا في آخرهن .
وقال الثوري والحسن بن حي : صلاة الليل ما شئت ، بعد أن تقعد في كل ركعتين وتسلم في آخرهن .
وحكى الترمذي في ( ( كتابه ) ) أن العمل عند أهل العلم على أن صلاة الليل مثنى مثنى .
قال : وهو قول سفيان وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق .
وحكاه ابن المنذر وغيره عن ابن عمر وعمار ، وعن الحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي وسعيد بن جبيرٍ وحماد ومالك والأوزاعي .
وحكي عن عطاء ، أنه قال : في صلاة الليل والنهار : يجزئك التشهد .
وهذا يشبه ما حكاه ابن عبد البر ، عن الثوري والحسن بن حي .
وهو مبني على أن السلام ليس من الصلاة ، وأنه يخرج منها بدونه ، كما سبق ذكره .
وقد روي عن النخعي نحوه .
ومذهب سفيان الذي حكاه أصحابه أنه لا بأس أن يصلي بالليل والنهار أربعا أو ستا أو أكثر من ذلك ، لا يفصل بينهنً إلا في آخرهن .
قال : وإذا صلى بالليل مثنى ، فهو أحب إليّ .
وحمل هؤلاء كلهم قول عائشة : ( ( كان النبي ( يصلي أربعا ، ثم أربعا ) ) على أنه كان لا يسلم بينها ، وسيأتي حديثها بذلك - إن شاء الله سبحانه وتعالى .(6/197)
"""""" صفحة رقم 198 """"""
وحمله الآخرون على أنه كان يفصل بينها بسلام .
وهذا كله في التطوع المطلق في الليل ، فأما الوتر فاختلفوا فيه على أقوال :
أحدها : أنه ركعة واحدة ، مفصولة مما قبلها ، على مقتضى حديث ابن عمر ، وبعض ألفاظ حديث عائشة .
قال ابن المنذر : [ روينا عن ابن عمر ، أنه ] يقول : الوتر ركعة . ويقول : كان ذلك وتر رسول الله ( وأبي بكر وعمر .
قالَ : وممن روينا عنه : الوتر ركعة : عثمان وسعد وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية وأبو موسى وابن الزبير وعائشة ، وفعله معاذ القاري ، ومعه رجال من أصحاب رسول الله ( ، لا ينكر ذلك منهم أحد .
وبه قال ابن المسيب وعطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق [ أبو ثور ، غير أن مالكاً والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق ] رأوا أن يصلي ركعتين ، ثم يسلم ، ثم يوتر بركعة . انتهى .
وذكر الزهري وغيره : أن عمل المدينة كان على ذلك إلى زمن الخير .
وممن قال الوتر : ركعة - أيضاً - : فقهاء أهل الحديث ، سليمان بن داود(6/198)
"""""" صفحة رقم 199 """"""
الهاشمي أبو خيثمة وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهم .
والأفضل عندهم : أن يصلي ركعة يوتر بها بعد ركعتين .
أما إن اقتصر على ركعة يوتر بها ، ففي كراهته قولان :
أحدهما : أنه يكره . وهو قول أحمد - في أكثر الروايات ، عنه .
ويستثني من ذلك من يستيقظ قرب الفجر ، ويخاف أن يطلع عليه الفجر ، فيوتر بواحدة .
وهو قول إسحاق ، قال : إلا من عذر مرض أو سفر .
وكذا قال أبو بكر من أصحابنا .
قال أحمد : إنما جاء الوتر بركعة بعد تطوع مثنى .
وقال سفيان : إن خشي الفجر فأوتر بواحدة أجزأه ، والثلاث أحب إلينا .
ومذهب مالك : لابد أن يكون قبل ركعة الوتر شفع يسلم بينهما في الحضر والسفر .
وقال مجاهد : ما أحب إن يكون وتري إلا على صلاة .
وروى ابن عبد البر ، بإسناد فيه نظر ، عن عثمان بن محمد بن ربيعة ، عن الدراوردي ، عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه ، عن أبي سعيد ، عن النَّبيّ ( ، أنه نهى عن البتيراء ، أن يصلي الرجل ركعة واحدة ، يوتر بها .
وعثمان هذا ، قال العقيلي : الغالب على حديثه الوهم .
وقبله في الإسناد من لا يعرف .
وقد روي هذا - مرسلاً .(6/199)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
خرجه سعيد بن منصور ، من حديث محمد بن كعب القرظي - مرسلاً .
والقول الثاني : لا يكره .
وروي عن سعد بن أبي وقاص ، وأبي موسى ، ومعاوية أنهم فعلوه .
وعن ابن عباس ، أنه صوب فعل معاوية .
وقال أحمد - في رواية الشالنجي - : لا بأس به .
وهو قول الشافعي .
واختلف أصحابه : هل الركعة المفردة أفضل من ثلاث موصولة ؟ على وجهين
لهم .
ومنهم من قالَ : المنفردة افضل من إحدى عشرة موصولة .
وقال الأوزاعي : حدثني المطلب بن عبد الله المخزومي ، قال : أتى ابن عمر رجل ، فقال : كيف أوتر ؟ قالَ : أوتر بواحدة . قالَ : إني أخشى أن يقول الناس : إنها البتيراء . قالَ : سنة الله ورسوله - يريد : هذه سنة الله ورسوله .
المطلب ، لم يسمع من ابن عمر .
وروى ابن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي منصور مولى سعد ابن أبي وقاص ، قال : سألت ابن عمر عن الوتر ، فقال : وتر الليل واحدة ، بذلك أمر رسول الله ( . قلت : يا أبا عبد الرحمن ، إن الناس يقولون : البتيراء ؟ قالَ : يا بني ، ليس تلك البتيراء ، إنما البتيراء إن يصلي الرجل الركعة(6/200)
"""""" صفحة رقم 201 """"""
التامة في ركوعها وسجودها وقيامها ، ثُمَّ يقوم في الأخرى ولا يتم لها ركوعاً ولا سجوداً ولا قياماً ، فتلك البتيراء .
خرجهما البيهقي .
وأجاز أحمد وأصحابه وإسحاق : أن يوتر بثلاث موصولة ، وأن يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن ، وبتسع لا يجلس إلا في الثامنة ، ولا يسلم ثم يقوم فيصلي ركعة ، ثم يسلم ؛ لما جاء في حديث عائشة المتقدم .
وجعلوا هذه النصوص خاصة ، تخص عموم حديث صلاة الليل مثنى مثنى ، وقالوا - في التسع والسبع والخمس - : الأفضل أن تكون بسلام واحد ؛ لذلك .
فأما الوتر بسبع ، فنص أحمد على أنه لا يجلس إلا في آخرهن .
ومن أصحابنا من قالَ : يجلس عقيب السادسة بتشهد ، ولا يسلم .
وقد اختلف ألفاظ حديث عائشة في ذلك .
فأما الوتر بإحدى عشرة ، فيكون بست تسليمات ، وإن صلاه بتسليمة واحدة ، وتشهد عقب العاشرة ، ولم يسلم جاز - : قاله بعض [ . . . . ] .
ومنهم من حكى في الجميع وجهين :
أحدهما : أن الأفضل أن يسلم من كل ركعتين ، وصححه غير واحد من أصحابنا .
والثاني : الأفضل سرد الجميع بسلام واحد ، ولا يجلس إلا في آخر الاشفاع ، فيتشهد ، ثم يصلي ركعة ويسلم .(6/201)
"""""" صفحة رقم 202 """"""
ومذهب إسحاق : أن أوتر بإحدى عشرة ركعة في كل ركعتين .
و [ يجوز ] عند أصحابنا أن يتطوع بأربع ، وبأكثر من أربع ، بسلام واحد ، وحكوه عن أكثر العلماء ، إلا عن محمد بن الحسن وزفر ، فإنهما قإلا : لا بد أن يتشهد عقيب كل ركعتين .
وفي صحة التنفل بالإشفاع ، كثلاث ركعات ، وخمس ركعات ، وسبع في غير صلاة الوتر عن أحمد روايتان .
ومذهب الشافعي وأصحابه : أنه يجوز أن يصلي بسلام واحد ، ما شاء من الركعات ، من واحدة إلى ما لانهاية له بالليل والنهار ، وإن كان الأفضل أن يسلم فيهما في كل ركعتين ، والوتر وغيره .
ونص الشافعي في ( ( الإملاء ) ) على أنه يجوز له أن يصلي عدداً لا يعلمه ، ثم يسلم ، كما روى عن أبي ذر أنه فعله .
ولأصحابه وجه : أنه لا يجوز الزيادة على ثلاثة عشر ركعة بتسليمة واحدة ؛ لأنه أكثر المنقول في الوتر ، هوَ ضعيف عندهم .
فإن صلى ركعة واحدة تشهد عقيبها وسلم ، وإن صلى أكثر من ذلك فله أن يقتصر على تشهد في آخر الركعات - وإن كثرت - ، ويسلم عقيبه بغير خلاف عندهم ، إلا في وجه ضعيف لا يعبأ به .
وإن أراد الزيادة على تشهد واحد ، ففيه أوجه لهم :
أحدها : أن له أن يتشهد في كل ركعتين ، وإن كثرت التشهدات ، ويتشهد في الأخيرة ، وله أن يتشهد في كل أربع ، أو ثلاث أو ست ، أو غير ذلك .
ولا يجوز أن يتشهد في كل ركعة ؛ لأنه اختراع صورة في الصَّلاة لا عهد بها .(6/202)
"""""" صفحة رقم 203 """"""
والثاني : لهُ أن يتشهد في كل ركعتين ، وفي كل ركعة . وضعفه المحققون منهم .
والثالث : لا يجلس إلا في الأخيرة ، وغلطوه - أيضا .
والرابع : لا يجوز الزيادة على تشهدين بحال في الصلاة الواحدة ، ولا يجوز أن يكون بين التشهدين أكثر من ركعتين ، أن كان العدد شفعاً ، وإن كان وتراً لم يجز بينهما أكثر من ركعة .
قال صاحب ( ( شرح المهذب ) ) : وهو قوي ، وظواهر السنة تقتضيه .
وهذا كله في النوافل المطلقة ، فأما في الوتر بخصوصه ، فهل يجوز أن يزاد فيه على
تشهدين ؟ فيهِ وجهان :
أصحهما - عندهم - : لا يجوز ؛ لأنه خلاف المروي عن النبي ( ، ولأن النوافل المطلقة لا حصر لركعاتها وتشهداتها ، بخلاف الوتر .
وذهبت طائفة إلى أنها لا تجوز الزيادة على ركعتين بتسليمة واحدة ، ولا زياد الوتر على
ركعة .
وهو الذي رجحه الأثرم ، وقال لم يصح في الوتر بثلاث فما زاد من غير تسليم حديث واحد ، ولا أكثر منه .
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الوتر بثلاث ركعات بتشهدين من غير تسليم كالمغرب لا يجوز زيادته ولا نقصه .
وروي الوتر بثلاث عن جماعة من الصحابة والتابعين .
وحكاه الحسن ، عن عمر وأبي بن كعب .
وهو منقطع عنهما .(6/203)
"""""" صفحة رقم 204 """"""
وروى الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : قال عبد الله بن مسعود : الوتر بثلاث كوتر النهار المغرب .
قال البيهقي : هو صحيح عن ابن مسعود ، ورفعه رجل ضعيف عن الأعمش 0 وكذا قال الدارقطني : إن رفعه لا يصح .
وروي - أيضا - عن أنس بن مالك .
وهو قول ابن المسيب ، وأبي العالية ومكحول والنخعي وعمر بن عبد العزيز .
وقال الأوزاعي : إن فصل فحسن ، وإن لم يفصل فحسن .
وأجاز أحمد الفصل وتركه ، والفصل عنده أحسن ، وقال : الأحاديث فيه أقوى وأكثر وأثبت عن النبي ( .
وكذلك مذهب الشافعي ، كما سبق .
ولأصحابنا وجه : أن الوتر بثلاث موصولة بتشهد واحد .
وروي عن عطاء ، أنه كان يوتر بثلاث لا يجلس فيهن ، ولا يتشهد إلا في آخرهن .
وروى البخاري في ( ( تاريخه ) ) بإسناده ، عن إسماعيل بن زيد بن ثابت ، أن زيدا كان يوتر بخمس ، لا يسلم إلا في الخامسة ، وكان أبي يفعله .
قال البيهقي : كذا وجدته ( ( أبي ) ) مقيداً .
يعني : بالتشديد ، يريد : ابن أبي بن كعب .(6/204)
"""""" صفحة رقم 205 """"""
وروى وكيع ، عن الأعمش ، عن بعض أصحابه ، قال : قالَ عبد الله : الوتر سبع أو خمس ، ولا أقل من ثلاث .
وروي عن عراك ، عن أبي هريرة ، قال : لا توتروا بثلاث ؛ تشبهوا بالمغرب ولكن أوتروا بخمس ، أو سبع ، أو تسع ، أو إحدى عشرة أو أكثر من ذَلِكَ .
وروي ، عنه - مرفوعاً .
خرجه الحاكم ، وصححه .
وفي رفعه نكارة .
وقال أبو أيوب الأنصاري : أوتر بخمس ، أو بثلاث ، أو بواحدة .
خرجه النسائي وغيره - موقوفا .
وخرجه أبو داود والنسائي - أيضا - وابن ماجه مرفوعاً .
والموقوف أصح عند أبي حاتم والنسائي والأثرم وغيرهم .
وقال ابن سيرين : كانوا يوترون بخمسٍ ، وبثلاثٍ ، وبركعة ، ويرون كل ذلك حسناً .
خرجه الترمذي .
قال : وقال سفيان : إن شئت أوترت بخمسٍ ، وإن شئت أوترت بثلاث ، وإن شئت أوترت بواحدة . قال : والذي استحب أن يوتر بثلاث .(6/205)
"""""" صفحة رقم 206 """"""
وحكى أصحاب سفيان ، عنه ، أنه إن شاء أوتر بخمسٍ ، أو سبع ، أو تسعٍ ، أو إحدى عشرة ، لا يسلم إلا في آخرهن ، إذا فرغ .
ومن العلماء من قال : الوتر ثلاث عشرة ، وهو قول بعض الشافعية ، ووجه لأصحابنا .
ولو زاد على ذلك لم يجز ولم يصح وتره عند جمهور الشافعية .
ولهم وجه آخر : بصحته وجوازه .
وهذا إذا كان الجميع بسلام واحد ، أو نوى بالجميع الوتر .
وروى الشافعي بإسناده ، عن كريب ، عن ابن عباس ، قال : هي واحدة ، أو خمس ، أو سبع ، أو أكثر من ذلك ، الوتر ما شاء .
وقد كره قوم الوتر بثلاث ، وقالوا : لا يكون إلا سبع أو خمس .
فروى شعبة ، عن الحكم ، قالَ : قلت لمقسم : إني أسمع الأذان فأوتر بثلاث ، ثم أخرج إلى الصلاة ؛ خشية أن تفوتني ؟ قالَ : أن ذَلِكَ لا يصلح إلا بخمس ، إلا سبع . فسألته عمن ؟ فقالَ : عن الثقة ، عن الثقة ، عن عائشة وميمونة ، عن النبي ( .
خرجه الإمام أحمد .
وروى الشافعي بإسناده ، عن ابن مسعود ، أنه كان يوتر بخمس أو سبع .
[ و ] بإسناد منقطع عنه ، أنه كان يكره أن يكون ثلاثا تترى ، ولكن خمساً أو سبعا .
وقول النبي ( في حديث ابن عمر : ( ( صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة ، توتر له ما قد صلى ) ) يدل على أن هذه الركعة(6/206)
"""""" صفحة رقم 207 """"""
الواحدة جعلت مجموع ما صلى قبلها وتراً ، فيكون الوتر هو مجموع صلاة الليل الذي يختم بوتر .
وهذا قول إسحاق بن راهويه 0 واستدل بقول النبي ( : ( ( أوتروا يا أهل القرآن ) ) ، وإنما أراد صلات الليل . .
وقالت طائفة : الوتر هو الركعة الأخيرة ، وما قبله فليس منه .
وهو قول طائفة من أصحابنا ، منهم : الخرقي وأبو بكر وابن أبي موسى .
وفي كلام أحمد ما يدلُّ عليه .
ومن أصحابنا من قال : الجميع وتر .
وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيمن فاته الوتر ، وقلنا : يقضيه : هل يقضي ركعة واحدة ؟ أو ثلاث ركعات ؟ على روايتين ، عنه .
ويحسن أن يكون مأخذهما أن الوتر : هل هو الركعة الواحدة ، وما قبله تنفل مطلق ؟ أو الوتر مجموع الثلاث ؟
وإلى هذا أشار أبو حفص البرمكي من أصحابنا .
وقد نقل الأثرم وغيره ، عن أحمد ، أنه إذا قضى الوتر بعد طلوع الفجر فإنه يقضي ثلاث ركعات .(6/207)
"""""" صفحة رقم 208 """"""
وقال : لم يرد التطوع ، وإنما أراد الوتر .
وهذا ظاهر في أن المجموع وتر ، ويحتمل أن يكون مراده أن الركعتين قبل الوتر متأكدة تابعة للوتر ، فتقضي معه في أوقات النهي - أيضا .
وقد تقدم عن المالكية ، أن ما قبل الوتر هو شفع له .
وقاله بعض أصحابنا - أيضا .
وقد ذكر أبو عمرو ابن الصلاح : أن أصحاب الشافعي اختلفوا في ذلك على أوجه :
أحدها : أن من أوتر بثلاث ينوي بالركعتين مقدمة الوتر ، وبالأخيرة الوتر - : قاله أبو محمد الجويني .
والثاني : أنه ينوي بالركعتين سنة الوتر وبالثالثة الوتر - : حكاه الروياني .
قال : وفي هذين الوجهين تخصيص للوتر بالركعة الأخيرة ، والثاني يشعر بأن للوتر سنة ، ولا عهد لنا بسنة لها سنة هي صلاة .
وفي الوجهين أن الركعتين قبل الوتر لهما تعلق بالوتر .
والثالث : أن ينوي بما قبل الركعة الأخيرة التهجد أو قيام الليل ، وفي هذا قطع لذلك عن الوتر .
قال : وما اتفقت عليه هذه الوجوه من تخصيص الوتر بالركعة المفردة على وفق قول الشافعي في رواية البويطي - : الوتر ركعة واحدة .
وقال الماوردي : لا يختلف قول الشافعي : أن الوتر ركعة واحدة .
ويشهد للوجه الثالث حديث ابن عمر : ( ( صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا خشيت الصبح ، فأوتر بواحدة ) ) .(6/208)
"""""" صفحة رقم 209 """"""
والرابع : أنه ينوي بالجميع الوتر - : قاله القاضي أبو الطيب الطبري ، واختاره الروياني .
ويشهد له : قول الشيخ أبي إسحاق وغيره : أقل الوتر ركعة ، وأكثره إحدى عشرة ركعة .
وفي بعض كلام الشافعي إيماء إليه .
قال : وهو المختار ؛ لأن فيهِ جمعا بين الأحاديث كلها ؛ إذ الواحدة الأصل في الإيتار ، وبها يصير ما قبلها وتراً .
واستدل برواية من روى : ( ( توتر له ما قد صلى ) ) ، كما خرجه البخاري ، وبأن نافعا ذكر عن ابن عمر ، أنه كان يسلم بين الركعة والركعتين في الوتر فإنه يدل على أن الجميع من الوتر .
ورواية من روى : ( ( فأوتر بواحدة ) ) فيها محذوف ، تقديره : فأوتر ما مضى من صلاتك بواحدة ، كما صرح به في الرواية الأخرى .
قالَ : ويلي هذا الوجه في القوة الوجهان الأولان ، وأبعدها الثالث . والله سبحانه وتعالى أعلم .
وفي ( ( شرح المهذب ) ) : الصحيح المنصوص - يعني : عن الشافعي في ( ( الأم ) ) و ( ( المختصر ) ) - : أن الوتر يسمى تهجداً .
وفيه وجه : أنه لا يسمى تهجدا بل الوتر غير التهجد .
وهذا هو الذي ذكره بعض أصحابنا .
وينبغي أن يكون مبنياً على القول بأن الوتر هو الركعة المنفردة وحدها ، فأما إن قلنا : الوتر الركعة بما قبلها ، فالوتر هو التهجد ، وإن لم ينو به الوتر .(6/209)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
وقد كان ابن عمر يفصل بين الركعة التي يوتر بها وما قبلها بكلام ، كما في رواية البخاري .
واستحب أحمد أن يكون عقيبها ، ولا يؤخرها عما قبلها . وقال : كان ابن عمر يستحب أن يتكلم بينهما بالشيء ، ثم يقوم فيوتر بركعة 0 وقال : هذا عندنا ثبت ، ونحن نأخذ به .
وينبغي أن يكون الاختلاف في تسمية ما قبل الركعة الأخيرة وتراً مختصاً بما إذا كانت الركعات مفصولة بالتسليم بينها ، فأما إن أوتر بتسع ، أو بسبع ، أو بخمس ، أو ثلاث بسلام
واحد ، فلا ينبغي التردد في أن الجميع وتر .
ويدل عليه : ما خرجه مسلم ، عن عائشة ، أن النبي ( كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ن يوتر في ذلك بخمس ، ولا يجلس إلا في آخرهن .
فجعلت الوتر الخمس الموصولة بسلام واحد ، دون ما قبلها .
وقوله ( - في حديث ابن عمر - : ( ( فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة ، توتر له ما صلى ) ) - وفي رواية تأتي فيما بعد : ( ( فاركع ركعة واحدة ) ) - يدل على أن الأفضل تأخير الوتر الإمام آخر الليل . ويأتي الكلام فيه فيما بعد - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
ويدل على أن الوتر مأمور به .
وهل الأمر به للوجوب ، أم لتأكد الاستحباب ؟ فيهِ قولان مشهوران .
وأكثر العلماء على أنه للاستحباب ، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم .
وروي عن علي بن أبي طالب وعبادة بن الصامت .(6/210)
"""""" صفحة رقم 211 """"""
وروي عن أبي أيوب الأنصاري ، أنه واجب .
وعن معاذ ، من وجه منقطع .
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، أبي بكر بن جعفر من أصحابنا ، ذكره في ( ( كتاب التنبيه ) ) .
وكذا قال في صلاة التراويح ، مع أنه صرح في ( ( كتاب الشافي ) ) بأن الوتر ليس بواجب ، وليس هو بفرض كالصلوات الخمس بغير خلاف .
وقد سبق الكلام في ذلك في ( ( كتاب الإيمان ) ) عند ذكر حديث طلحة ، أن أعرابيا سال النبي ( عن الإسلام ، فذكر له الصلوات الخمس فقالَ : هل علي غيرها ؟ قالَ : ( ( لا ، إلا أن تتطوع ) ) .
وذكرنا قول من قال : أن الوتر واجب على أهل القرآن دون غيرهم ، وأنه يرجع إلى القول بوجوب قيام شيء من الليل على أن أهل القرآن خاصة .
وعن الحسن وابن سيرين : لابد من قيام الليل ، ولو قدر حلب شاة .
وعن عبيدة السلماني .
وفيه حديث مرفوع ، ولا يصح .(6/211)
"""""" صفحة رقم 212 """"""
ومن المتأخرين من قال : من صلى بالليل تهجدا وجب عليه أن يوتره ، ويجعل آخره وترا ؛ لحديث ابن عمر ، ومن لم يتهجد فلا وتر عليهِ .
وقال أحمد : من ترك الوتر فهو رجل سوء ؛ هوَ سنة سنها رسول الله ( .
وقال - في رواية جعفر بن محمد : هوَ رجل سوء ، لا شهادة لهُ .
فاختلف أصحابنا في وجه ذلك :
فمنهم من حمله على أنه أراد أنه واجب ، كما قاله أبو بكر ابن جعفر ، وهو بعيد ؛ فإن أحمد صرح بأنه سنة .
ومنهم من قال : أراد إن داوم على تركه أو أكثر منه ؛ فإنه ترد شهادته بذلك ؛ لما فيه من التهاون بالسنن المؤكدة . وكذا حكم سائر السنن الرواتب ، وهذا قول المحققين من أصحابنا .
ومنهم من قال : هو يدل على أن ترك المستحبات المؤكدة يلحق بها إثم دون إثم ترك الفرائض .
وقال القاضي أبو يعلى : من داوم على ترك السنن الرواتب أثم .
وهو قول إسحاق بن راهويه ، قال في ( ( كتاب الجامع ) ) : لا يعذب أحد على ترك شيء من ترك النوافل ، وقد سن رسول الله ( سنناً غير الفرائض التي فرضها الله ، فلا يجوز لمسلم أن يتهاون بالسنن التي سنها رسول الله ( ، مثل الفطر والأضحى والوتر والأضحية ، وما أشبه ذلك ؛ فإن تركها تهاوناً بها فهوَ معذب ، إلا أن يرحمه الله ، وإني لأخشى في ركعتي الفجر والمغرب ؛ لما وصفهما الله في كتابه وحرض عليها ، قالَ : ( فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( [ قّ : 40 ] ، وقال : ( فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( [ الطور : 49 ] .
وقال سعيد بن جبير : لو تركت الركعتين بعد المغرب لخشيت أن لا يغفر لي . انتهى .(6/212)
"""""" صفحة رقم 213 """"""
الحديث الثاني :
992 - حديث : ابن عباس ، أنه بات عند ميمونة وهي خالته .
فذكر الحديث في وضوء النبي ( وصلاته بالليل ركعتين ركعتين ست مرات .
ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن ، فقام ، فصلى ركعتين ، ثم خرج فصلى الصبح .
وقد خرّجه في ( ( الوضوء ) ) في ( ( باب : القراءة بعد الحدث ) ) ، عن إسماعيل ، عن مالك .
وخرجه هاهنا ، عن عبد الله بن مسلمة ، عن مالك .
وقد خرجه أبو داود ، عن القعنبي ، وقال القعنبي : ست مرات - يعني : لفظة : ( ( الركعتين ) ) .
قال ابن عبد البر : لم يختلف على مالك في إسناده ، ولا في لفظه .
وقد خرجه البخاري في أواخر ( ( كتاب العلم ) ) ، في ( ( باب : السمر في العلم ) ) ، من حديث شعبة ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وفيه : أن النبي ( صلى قبل أن ينام أربع ركعات ، ثم نام ، ثم لما قام من الليل صلى خمس ركعات ، ثم صلى ركعتين ، ثم نام ، ثم خرج إلى الصلاة .
وهذا قد يشعر بأنه أوتر بخمس لم يسلم إلا في آخرهن .
وخرّجه في ( ( أبواب الصفوف ) ) - أيضا - بنحوه .(6/213)
"""""" صفحة رقم 214 """"""
وخرّجه فيها - أيضا - من رواية كريب ، فقال فيه ، فصلى ثلاث عشرة ركعة ، ثم نام حتى نفخ .
وخرّج أبو داود من حديث يحيى بن عباد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - في هذا الحديث - ، أن النَّبيّ ( أوتر بخمس لم يجلس بينهن .
وخرّجه أبو داود من حديث محمد بن قيس الأسدي ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وفيه : ثم صلى سبعاً أو خمسا ، أوتر بهن ، لم يجلس إلا في آخرهن .
ورده الأثرم بمخالفته الروايات الكثيرة الصحيحة عن ابن عباس ، أن النبي ( أوتر تلك الليلة بركعة بعد أن صلى قبلها ركعتين ، ثم ركعتين ستاً أو خمساً .
وفي رواية مالك : أن اضطجاع النبي ( كان قبل ركعتي الفجر .
وأكثر الروايات تدل على خلاف ذلك ، كرواية سلمة بن كهيل ، عن كريب ، ورواية عبد ربه بن سعيد ، عن مخرمة ، عن كريب .
وكلاهما مخرجة في ( ( الصحيحين ) ) .
وكذلك رواية بكير بن الأشج ، عن كريب .
وهي مخرجة في ( ( صحيح مسلم ) ) .
لكن رواه الضحاك بن عثمان ، عن مخرمة ، عن كريب ، عن ابن عباس ،(6/214)
"""""" صفحة رقم 215 """"""
وقال في حديثه : أنه صلى إحدى عشرة ركعة ، ثم احتبى حتى أني لأسمع نفسه راقداً ، فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين .
خرجه مسلم .
وهذا يوافق [ رواية ] مالك ، إلا أنه يخالفها في ذكر الاحتباء دون الاضطجاع .
ورواه سعيد بن أبي هلال ، عن مخرمة - بنحو رواية مالك - أيضاً .
خرّجه أبو داود والنسائي .
وقد روي في هذا الحديث ، عن ابن عباس ، أن النَّبي ( صلى تلك الليلة ثمان ركعات ، ثم أوتر بثلاث - من وجوه غير قوية .
خرّجه أبو داود من بعضها .
وخرّج مسلم من رواية محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده ، وذكر أن النبي ( صلى تلك الليلة ست ركعات ، ثم أوتر بثلاث ، ثم أذن المؤذن ، فخرج إلى الصلاة .
وخرجه أبو داود ، وزاد فيه : أنه صلى ركعتي الفجر حين طلع الفجر .
فعلى هذه الرواية : تكون كل صلاته إحدى عشرة ركعة .
وأكثر الروايات تدل على أنه ( صلى ثلاث عشرة ركعة .
لكن رواية مالك وسعيد بن أبي هلال ، فيهما : أن الثلاث عشرة بدون ركعتي الفجر .(6/215)
"""""" صفحة رقم 216 """"""
وكذلك رواه الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن كريب ، عن ابن عباس .
خرج حديثه النسائي .
وذكر الإمام حمد ، أن الأعمش وهم في إسناده .
وأكثر الروايات تدل على أن ركعتي الفجر من الثلاث عشرة ، ورواية الضحاك عن مخرمة مصرحة بذلك .
وقد خرّجها مسلم .
وخرّج البخاري - أيضا - ذلك من رواية شريك بن أبي نمر ، عن كريب ، عن ابن عباس وكذلك خرّج أبو داود ، من رواية ابن طاوس ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عباس - فذكر الحديث ، فيه : أن النبي ( صلى ثلاث عشرة ركعة ، منها ركعتا الفجر ، حزرت قيامه في كل ركعة بقدر ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ( [ المزمل : 1 ] .
وفي رواية سعيد بن جبير ، عن ابن عباس التي خرجها البخاري ، أنه ( صلى قبل نومه أربعا ، ثم بعد قيامه من نومه خمساً ، ثم صلى ركعتين .
فهذه إحدى عشرة ركعة .
والظاهر : أن الركعتين بعد الخمس هما ركعتا الفجر .
وخرّجه أبو داود ، وعنده : أن نومه كان قبل الركعتين ، ثم صلى(6/216)
"""""" صفحة رقم 217 """"""
الركعتين ، ثم خرج فصلى الغداة .
وهو يدل على ما قلناه 0 .
وخرّجه النسائي ، وعنده : أنه صلى خمسا ، ثم ركعتين ، ثم نام ، ثم صلى ركعتين ، ثم خرج إلى الصلاة .
فعلى هذه الرواية : صلاته ثلاث عشرة ركعة .
وكل هذه الروايات : من رواية شعبة ، عن الحكم .
الحديث الثالث :
993 - ثنا يحيى بن سليمان : ثنا ابن وهب : أخبرني عمرو ، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمر ، قال : قال النبي ( : ( ( صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت ) ) .
قال القاسم : ورأينا : أناسا منذ أدركنا يوترون بثلاث ، وإن كلاً لواسع ، أرجو أن لا يكون بشيء منه باس .
هذه الروية بمعنى رواية نافع ، عن ابن عمر المتقدمة .
وما ذكره القاسم بن محمد يدل على أنه يجوز الوتر بركعة واحدة ، وبثلاث ركعات ، وأنه أدرك أناسا يوترون بثلاث .
وقد سبق الكلام في قدر الوتر بما فيه كفاية .
الحديث الرابع :
994 - ثنا أبو اليمان : انا شعيب ، عن الزهري : حدثني عروة ، أن عائشة(6/217)
"""""" صفحة رقم 218 """"""
أخبرته ، أن رسول الله ( كان يصلي إحدى عشرة ركعة ، كانت تلك صلاته - تعني : بالليل - ، فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية ، قبل أن يرفع رأسه ، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر ، ثم يضطجع على شقه الأيمن ، حتى يأتيه المؤذن للصلاة .
كذا روى شعيب ، عن الزهري هذا الحديث .
ورواه عمرو بن الحارث ويونس ، عن الزهري - بمعناه - ، وفي حديثهما : أنه كان فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة ، يسلم من كل ركعتين ، ويوتر بواحدة ، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ، ثم اضطجع شقه الأيمن ، حتى يأتيه المؤذن للإقامة .
خرّجه مسلم من طريقهما .
وخرّجه أبو داود من طريق الأوزاعي وابن أبي ذئب ، عن الزهري - بنحوه أيضاً .
وخرّج ابن ماجه من طريق الأوزاعي وحده .
وخرّجه النسائي من طريق عقيل ، عن الزهري - بمعناه .
ورواه مالك ، عن الزهري ، ولفظه : أن النَّبيّ ( كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة ، يوتر منها بواحدة ، فإذا فرغ منها أضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين .(6/218)
"""""" صفحة رقم 219 """"""
خرجه مسلم .
وخرجه البخاري فيما بعد ، في ( ( ما يقرأ في ركعتي الفجر ) ) - - مختصرا - ، ولفظه : كانَ يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة ، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين .
كذا خرّجه عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك .
ولفظ : ( ( ثلاث عشرة ) ) غريب ، وإنما هو في ( ( الموطأ ) ) كما خرجه مسلم : ( ( إحدى عشرة ) ) .
وكذا خرّجه الترمذي وغيره من طريق مالك .
واسقط البخاري منه : ذكر : ( ( الاضطجاع ) ) ؛ لأن مالكاً خالف أصحاب ابن شهاب فيهِ ، فإنه جعل الاضطجاع بعد الوتر ، وأصحاب ابن شهاب كلهم جعلوه بعد ركعتي الفجر .
وهذا مما عده الحفاظ من أوهام مالك ، منهم : مسلم في ( ( كتاب التمييز ) ) .
وحكى أبو بكر الخطيب مثل ذلك عن العلماء .
وحكاه ابن عبد البر عن أهل الحديث ، ثم قال : يمكن أن يكون ذلك صحيحاً ، وأن يكون النبي ( كان مرة يضطجع قبل ركعتي الفجر ، ومرة بعدها .
وعضده برواية مالك ، عن مخرمة ، عن كريب ، عن ابن عباس ، كما سبق .(6/219)
"""""" صفحة رقم 220 """"""
وقد عضد ذلك أحاديث آخر :
منها : رواية أبي سلمة ، عن عائشة : ما ألفى رسول الله ، السحر الأعلى في بيتي إلا نائماً .
خرّجاه في ( ( الصحيحين ) ) ، ولفظه لمسلم .
وخرّجه مسلم ، وزاد فيه : ( ( يعني : بعد الوتر ) ) .
وفي رواية أبي سلمة ، عن عائشة ، أنه ( كان ينام قبل الوتر - أيضا - وأن عائشة سألته عن ذلك ، فقال : ( ( أن عيني تنامان ، ولا ينام قلبي ) ) وهذا يدل على أن وقت نومه كان يختلف .
كذا في رواية مالك ، عن المقبري ، عن أبي سلمة .
وقد خرّجها البخاري - فيما بعد .
ورواه عبد الرحمن بن إسحاق ، عن المقبري ، فذكر في حديثه : أنه كان ينام بعد العشاء ، ثم يقوم فيصلي أربعا ، ثم ينام ، ثم يقوم فيصلى أربعا ، ثم ينام ، ثم يقوم فيصلي ثلاثا ، يوتر بواحدة ، ثم يضطجع ما شاء الله ، حتى إذا سمع النداء قام فصلى ركعتين ، حتى يأتيه المؤذن ، فيخرج إلى الصلاة .
خرجه بقي بن مخلد في ( ( مسنده ) ) .
وفي ( ( الصحيحين ) ) - أيضا - عن الأسود ، عن عائشة ، أن النبي ( كان ينام أول الليل ، ويقوم آخره ، فيصلي ثم يرجع إلى فراشه ، فإذا أذن المؤذن وثب ، فإن كان به حاجة اغتسل ، وإلا توضأ وخرج .
وهذا لفظ البخاري .(6/220)
"""""" صفحة رقم 221 """"""
وزاد مسلم - في رواية - : ( ( ثم صلى الركعتين ) ) .
وفي رواية غيرهما : أنه كان يوتر ، ثم ينام .
وخرج النسائي من حديث سعد بن هشام ، عن عائشة ، أن النبي ( كان يصلي من الليل ، ثم يوتر ، ثم يصلي ركعتين جالسا ، ثم يضع جنبه ، وربما جاء بلال فآذنه قبل أن يغفى ، وربما أغفى ، وربما شككت أغفى أم لا .
قالت : فما زالت تلك صلاته ( .
وخرّجه أبو داود - مختصرا .
وروى الإمام أحمد : نا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد : نا أبي ، عن أنس ابن سيرين ، قال : قلت لابن عمر : ركعتا الفجر ، أطيل فيهما القراءة ؟ فقالَ : كانَ النَّبيّ ( يصلي صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا خشي الصبح أوتر بركعة ، ثم يضع رأسه ، فإن شئت قلت : نام ، وإن شئت قلت : لم ينم ، ثم يقوم إليهما والأذان في أذنيه ، فأي طول يكون ثم ؟
وخرّجه في ( ( الصحيحين ) ) من طريق حماد ، عن أنس بن سيرين - مختصرا .
وقد استحب طائفة من السلف الفصل بين صلاة الليل والنهار بالاضطجاع
بينهما .
روى وكيع في ( ( كتابه ) ) ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن القاسم ابن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ، قال : اضطجع ضجعة بعد الوتر .(6/221)
"""""" صفحة رقم 222 """"""
وعن عاصم بن رجاء ، عن أبيه ، عن قبيصة بن ذؤيب ، عن أبي الدرداء ، قال : مر بي أبو الدرداء من آخر الليل وأنا اصلي ، فقال : افصل بضجعة بين صلاة الليل وصلاة النهار .
يعني : يعني بعد الوتر ، قبل الركعتين .
فهذه رواية الزهري ، عن عروة ، عن عائشة .
وقد سبق أن هشام بن عروة رواه ، عن أبيه ، عن عائشة ، وأن النبي ( كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ، يوتر منها بخمس ، لا يجلس إلا في آخرهن .
وقد خرجه مسلم - بمعناه .
وفي رواية عن هشام ، أنه كان يصلي قبل هذه الخمس ثمان ركعات ، يجلس في كل ركعتين ويسلم .
ورواه ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : كان النَّبيّ ( يصلي ثلاث عشرة ركعة ، بركعتيه قبل الصبح ، يصلي ستا مثنى مثنى ، ويوتر بخمس ، لا يقعد بينهن إلا في آخرهن .
خرّجه أبو داود .
وذكر البيهقي في ( ( كتاب المعرفة ) ) ، عن الشافعي ، أنه اختار حديث الزهري ، من غير أن يضيق غيره ؛ لفضل حفظ الزهري على حفظ غيره ؛ ولموفقته رواية القاسم ، عن عائشة ، ورواية الجمهور عن [ ابن ] عمر وابن عباس ، عن النبي ( .(6/222)
"""""" صفحة رقم 223 """"""
قال : وبهذا النوع من الترجيح ترك البخاري رواية هشام في الوتر ، ورواية سعد بن هشام ، عن عائشة في الوتر ، فلم يخرج واحدة منهما في ( ( صحيحه ) ) ، مع كونهما من شرطه في سائر الروايات .
ثم ذكر بإسناده ، عن أبي معين ، قال : الزهري اثبت في عروة من هشام بن عروة في عروة 0
وخرّج مسلم من حديث عراك ، عن عروة عن عائشة ، أن رسول الله ( كان يصلي ثلاث عشرة ركعة ، بركعتي الفجر .
وقد روى هذا المعنى ، عن عائشة : أبو سلمة والقاسم بن محمد ومسروق .
وقد خرّج البخاري أحاديثهم ، وتأتى - فيما بعد .
ولفظه حديث مسروق ، عنده : قال : سألت عائشة عن صلاة رسول الله ( بالليل ، فقالت : سبع وتسع وإحدى عشرة .
وخرّج مسلم من حديث عبد الله بن شقيق ، عن عائشة ، أن النبي ، كان يصلي في بيتها بعد العشاء ركعتين ، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر .
ففي هذه الرواية : أن الإحدى عشرة التي كان يصليها بالليل منها ركعتان بعد العشاء ، قبل أن ينام .
وقد تقدم في رواية عمرو بن الحارث ويونس ، عن الزهري ، عن عروة عن عائشة ما يشهد لذلك - أيضا .(6/223)
"""""" صفحة رقم 224 """"""
وقد روي عنها ، أن الإحدى عشرة ركعة منها ركعتان كان يصليهما بعد الوتر .
روى ذلك عنها : أبو سلمة وسعد بن هشام .
وسنذكر حديثهما فيما بعد - أن شاء الله سبحانه وتعالى .
وفي حديث سعد ، عنها : أنه كان يصلي إحدى عشرة ، ثم لما أسن واخذ اللحم صلى تسعاً .
خرّجه مسلم .
وخرّج أبو داود من رواية أبي إسحاق ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله ( يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل ، ثم أنه صلى إحدى عشرة ركعة وترك ركعتين ، ثم قبض حين قبض وهو يصلي من الليل تسع ركعات .
وخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه من رواية الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، أن النبي ( كان يصلي من الليل تسع ركعات .
وحسنه الترمذي .
وفي إسناده : اختلاف عن الأعمش .
وقد روي عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن يحيى بن الجزار ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله ( يصلي من الليل تسع ركعات ، فلما كثر لحمه وسن صلى سبع ركعات .(6/224)
"""""" صفحة رقم 225 """"""
خرّجه النسائي .
ورواه أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن يحيى بن الجزار ، عن أم سلمة : كان النبي ( يوتر بثلاث عشرة ، فلما كبر وضعف أوتر بسبع .
خرّجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي ، وحسنه .
أبو معاوية ، مقدم على أصحاب الأعمش ، إلا أن الدارقطني قال : من قال فيه : ( ( عن عمارة بن عمير ) ) فهو أشبه بالصواب من قول من قال : ( ( عمرو بن مرة ) ) .
وقال الأثرم : اضطرب الأعمش في إسناده وفي متنه . قال : ويحيى الجزار ، لم يلق عائشة ، ولا أم سلمة .
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود من حديث معاوية بن صالح ، عن عبد الله بن أبي قيس ، قال : سألت عائشة : بكم كان رسول الله ( يوتر ؟ قالت : بأربع وثلاث ، وست وثلاث ، وثمان وثلاث ، وعشرة وثلاث ، ولم يكن يوتر بأكثر من ثلاث عشرة ، ولا بأنقص من سبع ، وكان لا يدع ركعتين قبل الفجر .
ففي هذه الرواية : أن مجموع صلاة الليل تسمى وتراً ، وأنه كان يوتر بثلاث عشرة سوى ركعتي الفجر ، ولعلها أدخلت في ذلك الركعتين بعد صلاة العشاء حتى توافق سائر الروايات عنها 0
وأما إطالة السجود المذكور في حديث عائشة الذي خرجه ، فقد بوب عليه(6/225)
"""""" صفحة رقم 226 """"""
في ( ( أبواب قيام الليل ) ) ، و اعاد فيه الحديث ، ويأتي الكلام على معناه هنالك - إن شاء الله سبحانه وتعالى .(6/226)
"""""" صفحة رقم 227 """"""
- باب ساعات الوتر
وقال أبو هريرة : أوصاني النبي ( بالوتر قبل النوم .
حديث أبي هريرة هذا ، قد أسنده في ( ( أبواب صلاة الضحى ) ) من رواية شعبة : ثنا الجريري ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي هريرة ، قال : أوصاني خليلي ( بثلاث ، لا أدعهن حتى أموت : صيام ثلاثة أيام من كل شهرٍ ، وصلاة الضحى ، ونوم على وتر 0 .
وخرّجه مسلم ، وزاد فيه : عن عباس الجريري وأبي شمر الضبعي كلاهما ، عن أبي عثمان .
وخرّجاه - أيضا - من رواية أبي التياح ، عن أبي عثمان ، عن أبي هريرة - بنحوه ، وفي حديثه : وأن أوتر قبل أن أنام .
وخرجه مسلم وحده من رواية أبي رافع الصائغ ، عن أبي هريرة ، عن النَّبي ( - مثل حديث أبي عثمان ، عنه .
وله طرق كثيرة جدا ، عن أبي هريرة ، قد ذكرت كثيرا منها في ( ( كتاب شرح الترمذي ) ) .
وذكر الحافظ أبو موسى المديني ، أنه رواه عن أبي هريرة قريب من سبعين رجلا .
وفي متنه - أيضا - اختلاف ، إلا أن المحفوظ منه : ذكر هذه الخصال(6/227)
"""""" صفحة رقم 228 """"""
الثلاث المذكورة في رواية أبي عثمان .
وقد روي عن أبي الدرداء ، أن النبي ( وصاه بهذه الخصال الثلاث - أيضا .
خرّجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) .
وروي - أيضا - عن أبي ذر ، أن النَّبي ( أوصاه بها .
خرّجه الإمام أحمد والنسائي .
وخرّج ابن ماجه من حديث عمر بن الخطاب ، أن النبي ، قال : ( ( لا تنم إلا على وتر ) ) .
وخرّجه الحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .
وهو قطعة من حديث ، خرج بعضه أبو داود - أيضا .
وقال على بن المديني : إسناده مجهول .
وخرج الإمام أحمد بإسناد فيه انقطاع ، عن سعد بن أبي وقاص ، أنه كان يوتر بعد العشاء بركعة ، يقول : سمعت النبي ( يقول : ( ( الذي لا ينام حتى يوتر حازم ) ) .
وخرّج البزار بإسناد ضعيف جداً ، عن علي بن أبي طالب : نهاني رسول الله ( أن أنام إلا على وتر .(6/228)
"""""" صفحة رقم 229 """"""
وخرّج ابن عدي بإسناد ضعيف ، عن عمار بن ياسر ، قال : قال لي رسول الله ( : ( ( أوتر قبل أن تنام ) ) .
وروى الإمام أحمد : ثنا أبو سلمة الخزاعي : ثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي : أخبرني نافع بن ثابت ، عن ابن الزبير ، قال : كان رسول الله ( إذا صلى العشاء ركع أربع ركعات ، وأوتر بسجدة ، ثم نام حتى يصلي بعد صلاته بالليل .
نافع ، هو ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير ، ورواياته عن جده ابن الزبير منقطعة - في ظاهر كلام البخاري وأبي حاتم .
خرّج البخاري في هذا الباب حديثين :
الأول :
995 - نا أبو النعمان : نا حماد بن زيد : نا أنس بن سيرين ، قال : قلت لابن عمر : أرأيت ركعتين قبل صلاة الغداة ، أطيل فيهما القراءة ؟ قالَ : كانَ النَّبيّ ( يصلي من الليل مثنى مثنى ، ويوتر بركعة ، ويصلي الركعتين قبل صلاة الغداة ، وكان الأذان بأذنيه . قالَ حماد : أي : سرعة .
وخرّجه مسلم - بمعناه .
وخرّجه من حديث شعبة ، عن أنس بن(6/229)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
سيرين ، وزاد فيه : ويوتر بركعة من آخر الليل .
وخرّجه الإمام أحمد من حديث حبيب بن الشهيد ، عن أنس بن سيرين ، وفيه : فإذا خشي الصبح أوتر بركعة .
وقد تقدم لفظه بتمامه .
وقد تقدم حديث نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ( : ( ( صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة ) ) .
خرج مسلم من حديث أبي مجلز : سمعت ابن عمر يحدث ، عن النَّبيّ ( ، قالَ : ( ( الوتر ركعة من آخر الليل ) ) .
وفي رواية - أيضا - : سألت ابن عباس عن الوتر ، فقال : سمعت رسول الله ( يقول : ( ( ركعة من آخر الليل ) ) ، وسألت ابن عمر ، قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( ( ركعة من آخر الليل ) ) .
الحديث الثاني :
996 - نا عمر بن حفص : نا أبي : نا الأعمش : نا مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : كل الليل أوتر رسول الله ( ، وانتهى وتره إلى السحر .
( ( مسلم ) ) ، هو : ابن صبيح أبو الضحى ، وصُبيح بضم الصاد .
وخرّجه مسلم - أيضا - من طريق الأعمش ، ولفظه : ( ( من كل الليل قد
أوتر ) ) - الحديث .
وخرّجه من حديث سعيد بن مسروق ، عن أبي الضحى ، كما خرجه البخاري - أعني : ( ( كل الليل أوتر ) ) - ، إلا أنه قال : ( ( فانتهى وتره إلى آخر الليل ) ) .(6/230)
"""""" صفحة رقم 231 """"""
وخرّجه أيضا من رواية أبي حصين ، عن يحيى بن وثاب ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : من كل الليل أوتر رسول الله ( : من أول الليل ، وأوسطه ، وآخره ، فانتهى وتره إلى السحر 0
وهذه الرواية تصرح بأن المراد : أنه ( كانَ يوتر أحيانا من أول الليل ، وأحيانا من وسطه ، و أحيانا من آخره ، وأنه ليس المراد : أن وتره وقع في كل ساعة ساعة من الليل ، أو في كل جزء جزء منه .
وروي هذا الحديث عن عائشة - بمعناه - من رواية ربيعة الجرشي ، وعبد الله بن أبي قيس عنها ، وغضيف بن الحارث ، ويحيى بن يعمر .
وروي عن علي من رواية أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي ، قال : من كل الليل قد أوتر رسول الله ( : من أوله ، وأوسطه ، وانتهى وتره إلى السحر .
خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه .
وخرّجه أحمد - أيضا - من رواية أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي - بنحوه .
وقال علي بن المديني : هو إسناد كوفي حسن .
وروي عن عبد خير ، عن علي - بنحوه - أيضا .
وخرّج الإمام أحمد - أيضا - بإسناد جيد ، عن أبي مسعود الأنصاري ، قال : كان رسول الله ( يوتر من أول الليل وأوسطه وآخره .(6/231)
"""""" صفحة رقم 232 """"""
وخرّج الإسماعيلي في ( ( مسند عمر ) ) من رواية أبي بكر بن أبي مريم ، عن ضمرة بن حبيب ، عن الحارث بن معاوية ، قال : سألت عمر عن الوتر في أول الليل ، أو في وسطه ، أو في آخره ؟ فقالَ عمر : كل ذَلِكَ قد عمل رسول الله ( ، ولكن ائت أمهات المؤمنين فسلهن عن ذَلِكَ ؛ فإنهن أبصر بما كان يصنع من ذلك ، فأتاهن فسألهن ، فقلن له : كل ذلك قد عمل رسول الله ( ، وقبض وهو يوتر من آخر الليل .
أبو بكر بن أبي مريم ، ضعيف .
وقد روي عن النبي ( ، أنه حسن الوتر من أول الليل ومن آخره .
كما خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر ، قال : قال رسول الله ( لأبي بكر : ( ( أي حين توتر ؟ ) ) قالَ : أول الليل بعد العتمة 0 قالَ : ( ( فأنت يا عمر ؟ ) ) قال : آخر الليل . قال النبي ( : ( ( أما أنت يا أبا بكر فقد أخذت بالوثقى ، وأما أنت يا عمر فقد أخذت بالقوة ) ) .
وخرّجه أبو داود من حديث عبد الله بن رباح ، عن أبي قتادة الأنصاري ، عن النبي ( - نحوه .
وإسناده ثقات ، إلا أن الصواب عند حذاق الحفاظ : عن ابن رباح - مرسلا .
وقد روي هذا الحديث من رواية ابن عمر وعقبة بن عامر وغيرهما ، بأسانيد لينة .
ورواه الزهري ، عن سعيد بن المسيب - مرسلا - ، وهو من أجود المراسيل .(6/232)
"""""" صفحة رقم 233 """"""
كذا رواه الزبيدي وغيره عن الزهري .
ورواه بعضهم ، عن ابن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة .
والصواب إرساله - : قاله الدارقطني .
ورواه مسعر ، عن سعد بن إبراهيم ، واختلف عنه : فقيل : عن مسعر ، عن سعد ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخدري .
وقيل : عنه ، عن سعد ، عن أبي سلمة - مرسلا .
وقيل : عنه ، عن سعد ، عن ابن المسيب ، عن أم سلمة .
والظاهر : أنه غير ثابت .
وخرّجه ابن مردويه من هذا الوجه ، وفي حديثه : أن النبي ( قال : ( ( أما أنت يا أبا بكر ، كما قال القائل : أحرزت نهبي وأبتغي النوافل 0 وأما أنت يا عمر ، فتأخذ - أو تعمل - عمل الأقوياء ) ) .
ورواه وكيع في ( ( كتابه ) ) عن معسر ، عن ابن المسيب - مرسلا - ، وزاد فيه : أن النبي ( قال لأبي بكر : ( ( أنت مثل الذي قال : أحرزت نهبي وأبتغي النوافل ) ) .
وهذه الرواية أصح 0 والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقد رواه الشافعي ، عن إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن ابن المسيب - مرسلا - بهذه الزيادة - أيضا .
والكلام في وقت الوتر في مسألتين :(6/233)
"""""" صفحة رقم 234 """"""
إحداهما :
في وقت جوازه .
فذهب أكثر أهل العلم إلى أن أول وقته من بعد صلاة العشاء ، فلو أوتر من قبل صلاة العشاء لم يقع موقعا وأمر بإعادته .
ولو كان ناسيا ، أو ظانا أنه قد صلى العشاء ، مثل أن يصلي العشاء محدثا ناسيا ، ثم يتوضأ ويصلي الوتر ، ثم يذكر بعد الصلاة أنه صلى العشاء ناسيا ، فإنه يقضي القضاء ثم الوتر .
هذا قول جمهور العلماء ، منهم : الثوري و الأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد . .
وقال أبو حنيفة : وقته وقت العشاء ؛ فإنه واجب عنده ، ويجب الترتيب بينهما ، بشرط الذكر ويسقط بالسهو ، فلا يعيد الوتر - عنده - في الصورة المذكورة .
وكذلك مذهب سفيان ، إذا صلى الوتر ناسيا للعشاء ، ثم ذكر ، أنه يصلي العشاء ولا يعيد الوتر .
وللشافعية وجهان آخران :
أحدهما : أن وقته يدخل بدخول وقت العشاء ، ويجوز فعله قبل صلاة العشاء ، تعمد ذلك أو لم يتعمد .
والثاني : أن وقته لا يدخل إلا بعد العشاء وصلاة أخرى ، فإن كان وتره بأكثر من ركعة صح فعله بعد صلاة العشاء ، وإن أوتر بركعة لم يصح حتى يتقدمه نفل بينه وبين صلاة العشاء .
واستدل لقول الجمهور بحديث خارجة بن حذافة ، قال : خرج علينا(6/234)
"""""" صفحة رقم 235 """"""
رسول الله ( ، فقال : ( ( إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم : الوتر ، جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر ) ) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي - وغربه - والحاكم - وصححه .
وقال الأثرم : ليس بقوي .
وخرّجه الإمام أحمد بإسناد جيد ، عن أبي بصرة ، أن النبي ( قال : ( ( إن الله زادكم صلاة ، وهي الوتر ، فصلوها ما بين العشاء إلى أن يطلع الفجر ) ) .
وبإسناد فيه انقطاع ، عن معاذ ، عن النبي ( ، قال : ( ( زادني ربي صلاة ، هي الوتر ، ووقتها بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر ) ) .
وأما آخر وقته ، فذهب الأكثرون إلى أنه يخرج وقته بذهاب الليل ، فإذا طلع الفجر صار فعله قضاء ، وما دام الليل باقيا ، فإن وقته باق .
ولا نعلم في ذلك خلافا ، إلا ما ذكره القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتابه ( ( شرح المذهب ) ) ، أنه إذا أخره حتى خرج وقت العشاء المختار - وهو نصف الليل ، أو ثلثه - صار قضاء .
وهذا قول ساقط جدا ؛ لأن صلاة العشاء لا تصير قضاء بتأخيرها حتَّى يخرج وقتها المختار ، وإن قيل : إن تأخيرها إليه عمدا لا يجوز ، كما سبق ذكره في ( ( المواقيت ) ) ، فكيف يصير تأخير الوتر إلى ذَلِكَ الوقت قضاء ؟ وأما إذا خرج الليل بطلوع الفجر ، فإنه يذهب وقت أدائه عند جمهور العلماء ، ويصير قضاء حينئذ .(6/235)
"""""" صفحة رقم 236 """"""
وهو قول الشافعي وأحمد - في المشهور عنهما - ، وقول أبي حنيفة والثوري .
وروي عن عمر وابن عمر وأبي موسى وأبي الدرداء وسعيد بن جبير وعطاء والنخعي .
حتى قال النخعي : لأن يدركني الفجر وأنا أتسحر أحب إلي من أن يدركني وأنا أوتر .
ويدل عليه : حديث : ( ( فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة ) ) ، وسيأتي حديث : ( ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ) ) . وخرّج مسلم من طرق ، عن عبد الله بن شقيق ، عن ابن عمر ، أن رجلا سأل النبي ( : كيف صلاة الليل ؟ قالَ : ( ( مثنى مثنى ، فإذا خشيت الصبح فصل ركعة ، واجعل آخر صلاتك وترا ) ) .
وخرّجه من طريق ابن أبي زائدة ، عن عاصم الأحوال ، عن عبد الله بن شقيق ، عن ابن عمر ، عن النبي ( ، قال : ( ( بادروا الصبح بالوتر ) ) .
وهذا لعله رواه بالمعنى من الحديث الذي قبله .
وخرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن أبي زائدة ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ( ، قال : ( ( بادروا الصبح بالوتر ) ) .
وصححه الترمذي .
وقد ذكر الدارقطني وغيره : أن ابن أبي زائدة تفرد بهذا الحديث بالإسنادين .(6/236)
"""""" صفحة رقم 237 """"""
وذكر الأثرم : أنه ذكر لأبي عبد الله - يعني : أحمد بن حنبل - حديث ابن أبي زائدة هذا من الوجهين ، فقال : في الإسناد الأول : عاصم ، لم يرو عن عبد الله بن شقيق شيئا ، ولم يروه إلا ابن أبي زائدة ، وما أدري . فذكر له الإسناد الثاني ، فقال أحمد : هذا أراه اختصره من حديث : ( ( صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة ) ) ، وهو بمعناه . قالَ : فقلت له : روى هذين أحد غيره ؟ قالَ : لا .
قلت : والظاهر أنه اختصر حديث عبد الله بن شقيق ، عن ابن عمر أيضا - ، كما اختصر حديث عبيد الله ، عن نافع ، عنه . والله أعلم .
وخرج مسلم - أيضا - من حديث ابن جريج : أخبرني نافع ، أن ابن عمر كان يقول : من صلى بالليل فليجعل صلاته وترا قبل الصبح ، كذلك كان رسول الله يأمرهم .
خرجه ، عن هارون بن عبد الله : نا حجاج بن محمد ، قال : قال ابن جريج - فذكره .
وخرجه الترمذي عن محمود بن غيلان ، عن عبد الرزاق : أنا ابن جريج ، عن سليمان بن موسى ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا طلع الفجر فقد ذهب [ كل ] صلاة الليل والوتر ، فأوتروا قبل طلوع الفجر ) ) .
وقال : تفرد به سليمان بن موسى على هذا اللفظ .
وذكر المروذي عن أحمد ، أنه قال : لم يسمعه ابن جريج من سليمان بن موسى ، إنما قال : ( ( قال سليمان ) ) . قيل له : إن عبد الرزاق قد قال : عن ابن(6/237)
"""""" صفحة رقم 238 """"""
جريج : أنا سليمان ؟ فأنكره ، وقال : نحن كتبنا من كتب عبد الرزاق ، ولم يكن بها ، وهؤلاء كتبوا عنه بأخرة .
وخرجه الحاكم من طريق محمد بن الفرج الأزرق : نا حجاج بن محمد ، قال : قال ابن جريج : حدثني سليمان بن موسى : نا نافع ، أن ابن عمر كان يقول : من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وترا ؛ فإن رسول الله ( أمر بذلك ، فإذا كانَ الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل ؛ فإن رسول الله ( قال : ( ( أوتروا قبل الفجر ) ) .
وقال : إسناد صحيح .
وهذه الرواية أشبه من رواية الترمذي ؛ فإن فيها أن ذهاب كل صلاة الليل بطلوع الفجر ، إنما هوَ من قول ابن عمر ، واستدل لهُ بأمر النَّبيّ ( بالوتر قبل الفجر .
ورواية ابن جريج التي صرح فيها بسماعه من نافع - كما خرجه مسلم - ليس فيها شيء مما تفرد به سليمان بن موسى ، وسليمان مختلف في توثيقه .
وخرج مسلم - أيضا - من رواية يحيى بن أبي كثير : أخبرني أبو نضرة ، أن أبا سعيد أخبرهم ، أنهم سألوا النبي ( عن الوتر ، فقال : ( ( أوتروا قبل الصبح ) ) .
وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : قال : ( ( الوتر بليل ) ) .
وخرجه ابن خزيمة والحاكم ، من حديث قتادة ، عن أبي نضرة ، عن(6/238)
"""""" صفحة رقم 239 """"""
أبي سعيد ، أن رسول الله ( قال : ( ( من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له ) ) .
وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم .
وذهب طائفة إلى أن الوتر لا يفوت وقته حتى يصلي الصبح : فروي عن علي وابن مسعود ، وقال : الوتر ما بين الصلاتين .
يريدان : صلاة العشاء وصلاة الفجر .
وعن عائشة - معنى ذلك .
وممن روي عنه ، أنه أوتر بعد طلوع الفجر : عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وحذيفة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وفضالة بن عبيد وغيرهم .
وقال أيوب وحميد الطويل : أكثر وترنا لبعد طلوع الفجر .
وهو قول القاسم بن محمد وغيره .
وذكر ابن عبد البر : أنه لا يعرف لهؤلاء الصحابة مخالف في قولهم 0 قال : ويحتمل أن يكونوا قالوه فيمن نسيه أو نام عنه ، دون من تعمده .
وممن ذهب إلى هذا : مالك والشافعي - في القديم - وأحمد - في رواية عنه - وإسحاق 0
وقد ذكرنا - فيما تقدم - حديث أبي بصرة ، عن النبي ( ، أنه قال : ( ( صلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر ) ) .(6/239)
"""""" صفحة رقم 240 """"""
وخرج الطبراني بإسناد ضعيف ، عن عقبة بن عامر وعمرو بن العاص كلاهما ، عن النبي ( ، أنه قال - في صلاة الوتر - : ( ( هي لكم ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الشمس ) ) .
وقد حكى يحيى بن آدم ، عن قوم ، أن الوتر لا يفوت وقته حتى تطلع الشمس .
وظاهر هذا : أنه يوتر بعد صلاة الصبح ، ما لم تطلع الشمس ، وتكون أداء .
وفي ( ( المسند ) ) ، عن علي ، أن النبي ( كان يوتر عند الآذان .
وقد سبق ذكره في الصلاة إذا أقيمت الصلاة .
وفيه - أيضا - بإسناد فيه جهالة ، عن علي ، قال : أمرنا رسول الله ( أن نوتر هذه الساعة ، ثم أمر المؤذن أن يؤذن أو يقيم .
وخرّج الطبراني من حديث أبي ذر ، قال : أمرني رسول الله ( بالوتر بعد
الفجر .
وفي إسناده اختلاف .
وروي مرسلا .
والمرسل أصح عند أبي حاتم وأبي زرعة الرزايين .
وروى ابن جريج : أخبرني زياد بن سعد ، أن أبا نهيك أخبره ، أن أبا الدرداء خطب ، فقال : من أدركه الصبح فلا وتر له 0 فقالت عائشة : كان النبي ( يدركه الصبح فيوتر .(6/240)
"""""" صفحة رقم 241 """"""
خرّجه الطبراني .
وخرّجه الإمام أحمد ، ولفظه : كان يدركه بصبح فيوتر .
وأبو نهيك ، ليس بالمشهور . ولا يدرى : هل سمع من عائشة ، أم لا ؟
وقد روي عن أبي الدرداء خلاف هذا .
وخرّج الحاكم من رواية أبي قلابة ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، قال : ربما رأيت النبي ( يوتر ، وقد قام الناس لصلاة الصبح .
وقال : صحيح الإسناد .
وخرّج - أيضا - من رواية محمد بن فليح ، عن أبيه ، عن هلال بن علي ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( : ( ( إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر ) ) .
وقال : صحيح على شرطهما .
والبخاري يخرج بهذا الإسناد كثيرا .
وروى زهير بن معاوية ، عن خالد بن أبي كريمة ، عن معاوية بن قرة ، عن الأغر المزني ، أن رجلا قال : يا رسول الله ، أصبحت ولم أوتر ؟ فقالَ : ( ( إنما الوتر بليل ) ) - ثلاث مرات أو أربعة - ، ثُمَّ قالَ : ( ( قم فأوتر ) ) .
وخرجه البزار - مختصرا ، ولفظه : ( ( من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له ) ) .(6/241)
"""""" صفحة رقم 242 """"""
ورواه وكيع في ( ( كتابه ) ) عن خالد بن أبي كريمة ، عن معاوية بن قرة - مرسلا .
وهو أشبه .
وروى وكيع ، عن الفضل بن دلهم ، عن الحسن ، عن النبي ( - مثله - ، إلا أنه قال : عن الوتر حتى أصبحت .
وفي المعنى - أيضا - عن أبي سعيد الخدري - مرفوعا - من وجهين ، لا يصح واحد منهما .
وروى أيوب بن سويد ، عن عتبة بن أبي حكيم ، عن طلحة بن نافع ، عن ابن عباس ، أنه بات عند النبي ( ليلة ، فصلى النَّبيّ ( ، فجعل يسلم من كل ركعتين ، فلما انفجر الفجر قام فأوتر بركعة ، ثم ركع ركعتي الفجر ، ثم اضطجع .
خرّجها الطبراني وابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) .
وحمله : إنما أوتر بعد طلوع الفجر الأول .
ثم خرج من رواية عباد بن منصور ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عباس ، أنه بات ليلة عند النبي ( - فذكر الحديث ، وفيه [ فذكر ] فصلى النبي ( ما كان عليه من الليل ، مثنى مثنى ، ركعتين ركعتين ، فلما طلع الفجر الأول ، قام فصلى تسع ركعات ، يسلم في كل ركعتين ، وأوتر بواحدة ، وهي التاسعة ، ثم أمسك حتى إذا أضاء الفجر جدا قام فركع ركعتي الفجر ، ثم نام .(6/242)
"""""" صفحة رقم 243 """"""
قلت : وكلا الحديثين إسناد ضعيف . والله سبحانه وتعالى أعلم .
وعلى تقدير صحة هذه الأحاديث ، أو شيء منها ، فقد تحمل على أن الوتر يقضى بعد ذهاب وقته ، وهو الليل ، لا على أن ما بعد الفجر وقت له .
والمشهور عن أحمد : أن الوتر يقضى بعد طلوع الفجر ، ما لم يصل الفجر ، وإن كان لا يتطوع عنده في هذا الوقت بما لا سبب له . وفيما له سبب عنه فيه خلاف ، فأما الوتر فإنه يقضى في هذا الوقت .
ومن الأصحاب من يقول : لا خلاف عنه في ذلك ، منهم : ابن أبي موسى
وغيره .
وحكي للشافعي قول كذلك : أنه يقضي الوتر ما لم يصل الفجر .
وقال أبو بكر - من أصحابنا - : يقضي ما لم تطلع الشمس .
وهذا القول يرجع إلى أن الوتر يقضيه من نام عنه أو نسيه .
وقد اختلف العلماء في قضاء الوتر إذا فات :
فقالت طائفة : لا يقضى ، وهو قول أبي حنيفة ومالك ، ورواية عن أحمد وإسحاق ، وأحد قولي الشافعي .
وحكاه أحمد عن أكثر العلماء .
ويروى عن النخعي ، أنه لا يقضى بعد صلاة الفجر ، وعن الشعبي .
وقالت طائفة : يقضى ، وهو قول الثوري والليث بن سعد ، والمشهور عن الشافعي ، ورواية عن أحمد .
والصحيح عند أصحاب الشافعي : أن الخلاف في قضاء الوتر والسنن الرواتب سواء .
ومنهم من قال : يقضي ما يستقل بنفسه كالوتر ، دون ما هو تبع كالسنن الرواتب .(6/243)
"""""" صفحة رقم 244 """"""
والمنصوص عن أحمد وإسحاق : أنه يقضي السنن الرواتب دون الوتر ، إذا صلى الفجر ولم يوتر .
ونص عليه في رواية غير واحد من أصحابه .
واستدل من قال : لا يقضي الوتر بأن النبي ( كان إذا نام أو شغله مرض أو غيره عن قيام الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة .
خرجه مسلم من حديث عائشة .
فدل على أنه كان يقضي التهجد دون الوتر .
ويجاب عن هذا : بأنه يحتمل أنه كان إذا كان له عذر يوتر قبل أن ينام ، فلم يكن يفوته الوتر حينئذ .
هذا في حال المرض ونحوه ظاهر ، وأما في حال غلبة النوم فيه نظر .
وخرج النسائي حديث عائشة ، ولفظه : كان إذا لم يصل من الليل منعه من ذلك نوم [ غلبه عنه ] أو وجع ، صلى من النهار ثلاث عشرة ركعة .
فإن كانت هذه الرواية محفوظة دلت على أنه كان يقضي الوتر .
واستثنى إسحاق أن يكون نام عن الوتر وصلاة الفجر حتى طلعت الشمس ، فقال : يقضي الوتر ، ثم يصلي سنة الفجر ، ثم يصلي المفروضة .
وقد ورد في هذا حديث ، ذكرناه في قضاء الصلوات .
وخرجه النسائي من حديث محمد بن المنتشر ، عن أبيه ، أنه كان في منزل عمرو بن شرحبيل ، فأقيمت الصلاة ، فجعلوا ينتظرونه ، فجاء فقال : إني(6/244)
"""""" صفحة رقم 245 """"""
كنت أوتر . وقال : سئل عبد الله : هل بعد الأذان وتر ؟ قالَ : نعم ، وبعد الإقامة ، وحدث عن النَّبيّ ( ، أنَّهُ نام عن الصَّلاة حتَّى طلعت الشمس ، ثُمَّ صلى .
فإن كان مراده : أنه نام عن الوتر فذاك ، وإن كان مراده : أنه نام عن الفريضة ثم قضاها ، فيكون مراده إلحاق القضاء الوتر بالقياس .
وكذا روي عن ابن عمر ، أنه قاس قضاء الوتر على قضاء الفرض .
و أخذه بعضهم من عموم قوله : ( ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) ) .
خرجه مسلم . وقد سبق في موضعه .
فيدخل في عمومه الوتر .
وجاء في حديث التصريح به ، من رواية عبد الرحمن بن زيد بن اسلم ، عن أبيه ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي ( ، قال : ( ( من نام عن الوتر أو نسيه فليصله إذا ذكره ) ) .
خرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه .
وخرجه الترمذي - أيضا - من رواية عبد الله بن زيد بن اسلم ، عن أبيه ، أن رسول الله ( ، قال : ( ( من نام عن وتره فيصله إذا أصبح ) ) .
وقال : هذا أصح .
وذكر : أن عبد الله بن زيد ثقة ، وأخاه عبد الرحمن ضعيف .(6/245)
"""""" صفحة رقم 246 """"""
ولكن خرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي غسان محمد بن مطرف ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء ، عن أبي سعيد - مرفوعاً .
وقال الحاكم : صحيح على شرطهما .
وخرجه الدارقطني من وجه آخر ، عن زيد - كذلك .
لكنه إسناد ضعيف .
ورده بعضهم بأن أبا سعيد روى عن النبي ( : ( ( أوتروا قبل أن تصبحوا ) ) ، وهذا يخالفه وليس كذلك ؛ فإن الأمر بالإيتار قبل الصبح أمر بالمبادرة إلى أدائه في وقته ، فإذا فات وخرج وقته ، ففي هذا أمر بقضائه ، فلا تنافي بينهما .
وفي تقييد الأمر بالقضاء لمن نام أو نسيه يدل على أن العامد بخلاف ذلك ، وهذا متوجه ؛ فإن العامد قد رغب عن هذه السنة ، وفوتها في وقتها عمداً ، فلا سبيل لهُ بعد ذَلِكَ إلى استدراكها ، بخلاف النائم والناسي .
وممن روي عنه الأمر بقضاء الوتر من النهار : علي وابن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن والشعبي وحماد .
وهو قول الشافعي - في صحيح عنه - وأحمد - في رواية .
والأوزاعي ، إلا أنه قال : يقضيه نهاراً وبالليل ما لم يدخل وقت الوتر بصلاة العشاء الآخرة ، ولا يقضيه بعد ذلك ؛ لئلا يجتمع وتران في ليلة .(6/246)
"""""" صفحة رقم 247 """"""
وعن سعيد بن جبير ، قالَ : يقضيه من الليل القابلة .
وظاهر هذا : أنه لا يقضيه إلا ليلاً ؛ لأن وقته الليل ، فلا يفعل بالنهار .
المسألة الثانية :
في وقت أفضل الوتر .
قد كان كثير من الصحابة يوتر من أول الليل ، منهم : أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان وعائذ بن عمرو وأنس ورافع بن خديج وأبو هريرة وأبو ذر وأبو الدرداء .
وهؤلاء الثلاثة أوصاهم النبي ( بذلك ، فتمسكوا بوصيته .
ومنهم من كان يفعل ذلك خشية من هجوم الموت في النوم ؛ فإنهم كانوا على نهاية من قصر الأمل .
وذهب طائفة إلى أن الوتر قبل النوم افضل ، وهو أحد الوجهين للشافعية .
وهو مقتضى قول القاضي أبي يعلى من أصحابنا في كتابه ( ( شرح المذهب ) ) ، حيث ذكر أن وقت الوتر تابع لوقت العشاء ، وأنه يخرج وقته بخروج وقت العشاء المختار .
وقال أبو حفص البرمكي من أصحابنا - في شهر رمضان خاصة لمن صلى التراويح خلف الإمام - : فإن الأفضل أن لا ينصرف المأموم حتى ينصرف إمامه .
ونقل مهنا ، عن أحمد ، أنه كان يوتر قبل أن ينام ، وقال : هو أحوط ، وما يدريه ؟ لعله لا ينتبه .
وهذا يدل على أن الأخذ بالاحتياط أفضل .
وروى شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، قال : النوم على وتر خير .(6/247)
"""""" صفحة رقم 248 """"""
وقال عمر : الأكياس يوترون أول الليل ، والأقوياء يوترون آخر الليل .
خرجهما وكيع .
وقد سبق هذا المعنى مرفوعاً من وجوه .
والكيس : هو الحذر الحازم المحتاط لنفسه ، الناظر إلى عواقب الأمور .
وممن كان يقدم الوتر : ابن المسيب والشعبي .
وكان أكثر من السلف يوتر في آخر الليل ، منهم : عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وغيرهم .
وروى وكيع ، عن الربيع بن صبيح ، عن ابن سيرين ، قال : ما يختلفون أن الوتر من آخر الليل أفضل .
واستحبه النخعي ومالك والثوري وأبو حنيفة وأحمد - في المشهور عنه - وإسحاق ، إن قوي ووثق بنفسه القيام من آخر الليل ، فأما من ليس كذلك فالأفضل في حقه أن يوتر قبل النوم .
وروي هذا المعنى عن عائشة .
واستدلوا بما خرجه مسلم من حديث أبي سفيان ، عن جابر ، عن النَّبيّ ( ، قال : ( ( من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله ، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل ، فان صلاة آخر الليل مشهودة ، وذلك افضل ) ) .
وفي رواية له : ( ( محضورة ) ) .
وخرجه - أيضا - من رواية أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي ( - بنحوه .
وحمل بعض هؤلاء أحاديث الأمر بالوتر قبل النوم على من خاف أن لا يقوم(6/248)
"""""" صفحة رقم 249 """"""
آخر الليل .
وهذا بعيد جداً في حق أولئك الصحابة ، الذين أمروا بالوتر قبل النوم ، مع ما عرف من شدة اجتهادهم ، وكثرة تهجدهم .
ومنهم من حمله على بيان الجواز ، وعدم الكراهة .
ومنهم من أشار إلى نسخة .
وروى الإسماعيلي في ( ( مسند علي ) ) بإسناد مجهول ، عن السدي ، عن الربيع بن خثيم ، قال : خرج علينا على حين يبلج الصبح ، فقال : إن جبريل أتى نبيكم النبي ( ، فأمره أن يوتر أول الليل ، فأوتر كما أمره الله ، ثم أتاه فأمره أن يوتر وسطاً من الليل ، فأوتر كما أمره الله ، ثم أتاه فأمره أن يوتر هذه الساعة ، فقبض نبيكم ( وهو يوتر من هذه الساعة ، أين السائلون عن الوتر ، نعم ساعة الوتر .
وحديث عائشة : ( ( أنه انتهى وتره إلى السحر ) ) قد يشعر بذلك ، وأنه ترك الوتر من أول الليل ووسطه ، واستقر عمله على الوتر من آخر ، وإنما كان ينتقل من الفاضل إلى الأفضل وعلى هذا : فهل الأفضل الوتر إذا خشي طلوع الفجر ، كما دل عليه حديث ابن عمر ، وكان ابن عمر يفعل ذلك ، ويوتر من السحر .
قال الثوري : كانوا يحبون أن يؤخروا الوتر آخر الليل ، وقد بقي عليهم من الليل شيء .
وقال إسحاق : [ كانوا ] يستحبون أن يوتروا آخر الليل ، وأن يوتروا وقد بقي من الليل نحو مما ذهب منه من صلاة المغرب ، واستدل بقول عائشة :(6/249)
"""""" صفحة رقم 250 """"""
( ( فانتهى وتره إلى السحر ) ) .
نقله عنه حرب .
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) عن الأعمش ، عن إبراهيم ، أنه بات عند عبد الله ابن مسعود ، فسئل : أي ساعة أوتر ؟ قالَ : إذا بقي من الليل مثل ما مضى إلى صلاة المغرب .
وعن سفيان ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه ، عن ابن عباس - بنحوه .
ومعنى ذلك : أنه يوتر وقد بقي من الليل قبل طلوع الفجر مقدار ما يصلي فيه صلاة المغرب ، بعد دخول الليل وغروب الشمس .
والمراد : أنه لا يوتر إلا في ليل محقق بقاؤه .
وهو معنى قول النخعي : الوتر بليل ، والسحور بليل .
فجعل وقته كوقت السحور بل أشد ؛ فإنه قالَ لأن يدركني الفجر وأنا اتسحر أحب إلي من أن يدركني وأنا أوتر .
وكان علي بن أبي طالب يرخص في تأخير الوتر حتى ينشق الفجر ، وربما روي عنه أنه أفضل .
وقد سبق عن طائفة من السلف نحوه .
وهؤلاء ، منهم من رخص في تأخير السحور - أيضا - ، كما يأتي في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
ولأصحابنا وجه شاذ : أن الوتر في الليل كله ، سواء في الفضل .(6/250)
"""""" صفحة رقم 251 """"""
3 - باب
في إيقاظ النبي ( أهله بالوتر
997 - حدثنا مسدد : ثنا يحيى ، ثنا هشام : ثنا أبي ، عن عائشة ، قالت : كان النبي ( يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه ، فإذا أراد ان يوتر أيقظني فأوترت .
قد سبق هذا الحديث بهذا الإسناد بعينه في ( ( باب : الصلاة خلف النائم ) ) .
وقد دل هذا الحديث على إيقاظ النائم بين يدي المصلي .
لكن هل كان إيقاظها لتوتر أو لتتنحى عن قبلته في الوتر ؟
قد وردت أحاديث تدل على الثاني ، قد سبق ذكرها في ( ( باب : من قالَ : لا يقطع الصَّلاة شيء ) ) .
وروى الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : كان النبي ( يصلي من الليل ، فإذا انصرف قال لي : ( ( قومي فأوتري ) ) .
خرّجه الإمام أحمد .
فإن كان إيقاظها للايتار استدل به على إيقاظ النائم للصلاة ، لا سيما إذا تضايق وقتها ؛ فإن ايتار النَّبيّ ( استقر في آخر عمره على أنه كانَ في السحر ، كما سبق في الباب الماضي .
وقد كان النبي ( يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان للصلاة بالليل والذكر والدعاء ، ففي سائر السنة كان إيقاظه لهم للوتر خاصة ؛ فإنه من آكد السنن الرواتب .
وإن كانَ إيقاظها لتتنحى عن قبلته في الوتر ، استدل به على الرخصة في(6/251)
"""""" صفحة رقم 252 """"""
الصَّلاة إلى النائم في النفل المطلق دون النفل المعين المؤكد ، فالفرض أولى .
وقد أشار إليه الإمام أحمد ، كما سبق ذكره في موضعه .
وعلى التقديرين ، فيستدل به على ان من له من يوقظه للوتر في آخر الليل لا يكره له ان ينام قبل ان يوتر ، ولو كان امرأة أو صبياً ، ممن يغلب عليه النوم ؛ فان قولها : ( ( فأوترت ) ) يدل على أنها كانت تؤخر الوتر إلى ذَلِكَ الوقت ، وتنام قبله .(6/252)
"""""" صفحة رقم 253 """"""
4 - باب
ليجعل آخر صلاته وتراً
998 - حدثنا مسدد : نا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله : حدثني نافع ، عن عبد الله بن عمر ، عن النبي ( ، قال : ( ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً ) ) .
وخرّجه مسلم .
وخرّج - أيضا - من حديث الأسود ، عن عائشة ، ان النبي ( كان يصلي من الليل حتى يكون آخر صلاته الوتر .
وخرّجه أبو داود - مطولاً .
جعل الوتر آخر صلاة الليل يستفاد منه فوائد عديدة .
فمنها : تأخير الوتر إلى آخر الليل ؛ فان صلاة وسط الليل وآخر الليل أفضل من صلاة أوله ، فتأخير الوتر يتسع به وقت الصَّلاة في وسط الليل وآخره .
ومنها : أنه لا ينبغي التنفل في الليل بوتر غير الوتر الذي يقطع عليه صلاة الليل ، كما لا ينبغي التنفل في النهار بوتر - أيضا - ، حتى تكون صلاة المغرب وتره .
فروى الإمام أحمد : ثنا يزيد بن هارون : أنا هشام ، عن محمد - هو : ابن
سيرين - ، عن ابن عمر ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( صلاة المغرب وتر النهار ، فاوتروا صلاة الليل ) ) .
قال الدارقطني : رواه أيوب ، عن نافع وابن سيرين ، عن ابن عمر -(6/253)
"""""" صفحة رقم 254 """"""
موقوفاً . ورواه مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر - موقوفاً .
ورفعه بعضهم عن مالك .
وهذا قد يستدل به على جواز الوتر ، بعد طلوع الفجر ، ويكون ايتاراً لصلاة الليل ، وان كان بعد خروج الليل ، كما يوتر صلاة النهار بالمغرب ، وإنما يفعل بعد خروج النهار .
فهذا يدل على ان لا وتر لصلاة النهار غير صلاة المغرب ، ولا وتر لصلاة الليل غير الوتر المأمور به ، فمن تطوع في ليل أو نهار بوتر غير ذلك ، فقد زال ايتاره لصلاته ، وصارت صلاته شفعاً .
وفي صحة التطوع بشفع في الليل والنهار عن أحمد روايتان . والصحة قول الشافعي ، وعدم الصحة قول أبي حنيفة . وقد ذكرنا ما يستدل به للمنع .
واستدل الشافعي ومن وافقه بان عمر دخل المسجد ، فصلى ركعة ، ثم قال : هو تطوع ، فمن شاء زاد ، ومن شاء نقص .
وقد يعارض ذلك بالحديث المرفوع والموقوف : ( ( صلاة الليل والنهار مثنى
مثنى ) ) .
واستدلوا - أيضا - بأن جماعة نقضوا وترهم بركعة .
وهذا استدلال مردود ؛ لوجهين :
أحدهما : أنه قد أنكره عليهم غيرهم من الصحابة .
والثاني : أنهم إنما نقضوه لتصير صلاتهم شفعاً ، ثم يوترون .
ومن تطوع بركعة في الليل ، من غير نقض ، ثم أوتر لم يبق لوتره فائدة ؛ فإنه صار وتره شفعاً .(6/254)
"""""" صفحة رقم 255 """"""
ونحن نذكر هاهنا مسألة نقص الوتر :
وهي : إذا أوتر الإنسان من الليل ، ثم أراد أن يصلي :
فقال كثير من الصحابة : يصلي ركعة واحدة فيصير بها وتره الماضي شفعاً ، ثم يصلي ما أراد ، ثم يوتر في آخر صلاته 0
وهؤلاء اخذوا بقوله : ( ( اجعلوا آخر صلاتكم وتراً ) ) ، ولهذا روى ابن عمر هذا الحديث ، وهو كان ينقض وتره ، فدل على أنه فهمه منه .
وروي عن أسامة بن زيد وغير واحد من الصحابة ، حتى قال أحمد : وروي ذلك عن اثني عشر رجلاً من الصحابة .
وممن روي ذلك عنه ، منهم : عمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وابن عباس - في رواية - ، وهو قول عمرو بن ميمون وابن سيرين وعورة ومكحول .
وأحمد - في رواية اختارها أبو بكر وغيره .
قال ابن أبي موسى : هي الأظهر عنه .
وقول إسحاق ، قال إسحاق : وإن لم يفعل ذلك لم يكن قد عمل بقول النبي ( : ( ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً ) ) .
وهو - أيضا - وجه للشافعية .
ورد بعضهم هذا القول بقول النبي ( : ( ( لا وتران في ليلة ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) ، عن قيس بن طلق ، عن أبيه ، عن النبي ( .
وحسنه الترمذي .
وقالوا : هذا يؤدي إلى ثلاثة أوتار ، فيكون منهيا عنه .(6/255)
"""""" صفحة رقم 256 """"""
وقال الأكثرون : لا ينقض وتره ، بل يصلي مثنى مثنى .
وهو قول ابن عباس - في المشهور عنه - وأبي هريرة وعائشة وعمار وعائذ بن عمرو وطلق بن علي ورافع بن خديج .
وروي عن سعد .
ورواه ابن المسيب ، عن أبي بكر الصديق .
وفي رواية ، عنه : أن الصديق ذكر ذلك للنبي ( ، فاقره عليه ، ولم ينكره .
خرجه حرب الكرماني .
ورواه خلاس ، عن عثمان ، ولم يسمع منه .
وهو قول علقمة وطاوس وسعيد بن جبير وأبي مجلز والشعبي والنخعي والأوزاعي والثوري ومالك وابن المبارك والشافعي وأحمد - في رواية عنه وصححها بعض أصحابنا .
واستدلوا بحديث : ( ( لا وتران في ليلة ) ) ، وقد تقدم ، وبقول النبي ( : ( ( إذا قام أحدكم من الليل يصلي ، فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين ) ) .
خرجه مسلم من حديث أبي هريرة .
وهو عام فيمن كان أوتر قبل ذلك ، ومن لم يوتر .
واستدلوا - أيضا - بأن النبي ( كان يصلي ركعتين بعد وتره ، وسنذكره - إن شاء الله سبحانه وتعالى .(6/256)
"""""" صفحة رقم 257 """"""
وبأن النقض يفضي إلى التطوع بالأوتار المعددة ، وهو مكروه أو محظور .
وقد روي عن عائشة ، أنها قالت : ذاك يلعب بوتره .
قال أحمد : كرهته عائشة ، وأنا أكرهه .
وعن أحمد : أنه مخير بين الأمرين ؛ لأنهما جميعاً مرويان عن الصحابة .
وقد روي عن علي ، أنه خير بين الأمرين .
خرجه الشافعي بأسناد عنه ، فيه ضعيف .
وخرج الطبراني : نا مقدام بن داود : نا عبد الله بن يوسف : نا ابن لهيعة ، عن عياش بن عباس القتباني ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله ( يصلي العتمة ، ثم يصلي في المسجد قبل أن يرجع إلى بيته سبع ركعات ، يسلم في الأربع في كل ثنتين ، ويوتر بثلاث ، يتشهد في الأوليين من الوتر تشهده في التسليم ، ويوتر بالمعوذات ، فإذا رجع إلى بيته صلى ركعتين ويرقد ، فإذا انتبه من نومه صلى ركعتين - وذكرت الحديث ، ولم تذكر أنه أوتر في آخر الليل .
وهو غريب جداً ، ومنكر ؛ مخالف جميع الروايات الصحيحة عن عائشة .
ومقدام بن داود ، من فقهاء مصر ، ولم يكن في الحديث محموداً قالَ ابن يونس : تكلموا فيهِ . وقال النسائي : ليس بثقة .
ويتصل بهذا : الكلام على حكم الصلاة بعد الوتر :
وقد كرهه طائفة من السلف . ومستندهم : قول النبي ( : ( ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً ) ) ، وما أشبهه .
وروى عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، أنه كره الصلاة بعد الوتر . وكان أبو مجلز لا يصلي بعد الوتر إلا ركعتين .(6/257)
"""""" صفحة رقم 258 """"""
وقال قيس بن عباد : إذا أوترت ثم قمت فاقرأ وأنت جالس .
وظاهر هذا : أنه يقرا من غير صلاة .
و أما الأكثرون ، فلم يكرهوا الصلاة بعد الوتر . ولكن اختلفوا في نقضه - كما سبق .
ومذهب مالك : إذا أوتر قي المسجد ، ثم أراد أن يتنفل بعده تربص قليلا ، وإن انصرف بعد وتره إلى بيته تنفل ما أحب .
نقله في ( ( تهذيب المدونة ) ) .
واستحب أحمد أن يكون بين وتره وبين صلاته بعد الوتر فصل .
قال حرب : قلت لأحمد : الرجل يوتر ، ثم يصلى بعد ذلك ؟ قالَ : لا بأس به ، يصلي مثنى مثنى . قالَ : وأحب أن يكون بينهما ضجعة أو نوم أو عمل أو شيء . قلت : ضجعة من غير نوم ؟ فما أدري ما قالَ .
وروى المروذي ، عن أحمد - في الرجل يصلي شهر رمضان ، يقوم فيوتر بهم ، وهو يريد يصلي بقوم آخرين - : يشتغل بينهما بشيء ، يأكل أو يشرب أو يجلس .
قال أبو حفص البرمكي : وذلك لأنه يكره أن يوصل بوتره صلاة ، ويشتغل بينهما بشيء ؛ ليكون فصلا بين وتره وبين الصَّلاة الثانية ، وهذا إذا كانَ يصلي بهم في موضعه ، فإما إن كانَ موضع آخر ، فذهابه فصل ، ولا يعيد الوتر ثانية ؛ لأنه لا وتران في ليله 0 انتهى .
والمنصوص عن أحمد خلاف ذلك :
قال - في رواية صالح - في رجل أوتر مع الإمام ، ثم دخل بيته - : يعجبني أن يكون بعد ضجعة أو حديث طويل واختلفت الرواية عن أحمد في التعقيب في رمضان ، وهو : أن يقوموا في(6/258)
"""""" صفحة رقم 259 """"""
جماعة في المسجد ، ثم يخرجون منه ، ثم يعودون إليه فيصلون جماعة في آخر الليل .
وبهذا فسره أبو بكر عبد العزيز بن جعفر وغيره من أصحابنا . فنقل المروذي وغيره ، عنه : لا بأس به ، وقد روي عن أنس فيه .
ونقل عنه ابن الحكم ، قالَ : أكرهه ، أنس يروى عنه أنه كرهه ، ويروى عن أبي مجلز وغيره أنهم كرهوه ، ولكن يؤخرون القيام إلى آخر الليل ، كما قال عمر .
قال أبو بكر عبد العزيز : قول محمد بن الحكم قول له قديم ، والعمل على ما روى الجماعة ، أنه لا بأس به . انتهى .
وقال الثوري : التعقيب محدث .
ومن أصحابنا من جزم بكراهيته ، إلا أن يكون بعد رقدة ، أو يؤخره إلى بعد نصف الليل ، وشرطوا : أن يكون قد اوتروا جماعة في قيامهم الأول ، وهذا قول ابن حامد والقاضي وأصحابه . ولم يشترط أحمد ذلك .
وأكثر الفقهاء على أنه لا يكره بحالٍ .
وكره الحسن أن يأمر الإمام الناس بالتعقيب ؛ لما فيهِ من المشقة عليهم ، وقال : من كانَ فيهِ قوة فليجعلها على نفسه ، ولا يجعلها على الناس .
وهذه الكراهة لمعنى آخر غير الصلاة بعد الوتر .
ونقل ابن المنصور ، عن إسحاق بن راهويه ، أنه إن أتم الإمام التراويح في أول الليل كره له أن يصلي بهم في آخره جماعة أخرى ؛ لما روي عن أنس وسعيد بن جبير من كراهته . وإن لم يتم بهم في أول الليل وآخر تمامها إلى آخر الليل لم يكره .(6/259)
"""""" صفحة رقم 260 """"""
فأما صلاة ركعتين بعد الوتر ، فقد رويت عن النبي ( من وجوه متعددة ، ولم يخرج البخاري منها شيئاً .
لكنه خرج من حديث عراك ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، أن النَّبيّ ( كانَ يصلي بعد العشاء ثمان ركعات ، وركعتين جالساً ، وركعتين بين النداءين .
ولم تذكر الوتر في هذه الرواية ، ولا بد منه .
والظاهر : أن الركعتين اللتين صلاهما جالسا كانتا بعد وتره ، ويحتمل أن يكون قبله .
فقد خرج مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، أن النَّبيّ ( : كان يصلي ثلاث عشرة ركعة ، يصلي ثمان ركعات ، ثم يوتر ، ثم يصلي ركعتين وهو جالس ، فإذا أراد أن يركع قام فركع ، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح .
وخرج - أيضا - من رواية زرارة بن أوفى ، عن سعد بن هشام ، عن عائشة ، أن النبي ( كان يوتر بتسع ركعات - وذكرت صفتها - ، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد ، فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع ، صنع في الركعتين مثل صنيعه الأول .
وفي رواية لأبي داود في هذا الحديث : كان يصلي ثمان ركعات ، لا يسلم إلا في آخرهن ، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، ثم يصلي ركعة .(6/260)
"""""" صفحة رقم 261 """"""
فعلى هذه الرواية : تكون صلاته ركعتين جالسا قبل الوتر ، لا بعده .
وخرج أبو داود - أيضا - من رواية بهز بن حكيم ، عن زرارة ، عن عائشة ، أن النبي ( كان يوتر بتسع ، يسلم في التاسعة تسليمة شديدة ، ثم يقرأ وهو قاعد بأم
الكتاب ، ويركع وهو قاعد ، ثم يقرأ في الثانية ، فيركع ويسجد وهو قاعد ، ثم يدعو ما شاء أن يدعو ، ثم يسلم .
وهذه الرواية تخالف رواية أبي سلمة ، عن عائشة ، أنه كان إذا أراد أن يركع
قام .
وخرج أبو داود من رواية علقمة بن وقاص ، عن عائشة ، أن النبي ( كان يوتر بتسع ركعات ، ثم اوتر بسبع ركعات ، وركع ركعتين وهو جالس بعد الوتر ، فقرأ فيهما ، فإذا أراد أن يركع قام فركع ثم سجد .
وخرجه مسلم ، ولفظه : عن علقمة ، قال : قلت لعائشة : كيف كان يصنع رسول الله ( في الركعتين وهو جالس ؟ قالت : يقرأ فيهما ، فإذا أراد أن يركع قام
فركع .
وقد روي عن عائشة ، من وجوه أخر .
وخرج النسائي من حديث شعبة ، عن الحاكم : سمعت سعيد بن جبير يحدث ، عن ابن عباس ، أن النبي ( صلى من الليل خمس ركعات ، ثم ركعتين ، ثم نام ، ثم صلى ركعتين ، ثم خرج إلى الصَّلاة .(6/261)
"""""" صفحة رقم 262 """"""
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ميمون المرئي ، عن الحسن ، عن أمه ، عن أم سلمة ، أن النبي ( كان يصلي بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس .
وخرجه الترمذي إلى قوله : ( ( ركعتين ) ) .
وذكر العقيلي أن ميموناً تفرد برفعه ، وغيره يرويه موقوفا على أم سلمة .
وفيه - أيضا - عن أبي أمامة وأنس وثوبان وغيرهم .
واختلف العلماء في الركعتين بعد الوتر ؟
فمنهم من استحبها وأمر بها ، ومنهم : كثير بن ضمرة وخالد بن معدان .
وفعلها الحسن جالساً .
وتقدم عن أبي مجلز ، أنه كان يفعلها .
ومن أصحابنا من قال : هي من السنن الرواتب .
وفي حديث سعد بن هشام ما يدل على مواظبة النبي ( عليهما .
ومن هؤلاء من قال : الركعتان بعد الوتر سنة له ، كسنة المغرب بعدها ، ولم يخرج بذلك المغرب عن أن يكون وتراً لها .
ومن العلماء من رخص فيهما ، ولم يكرههما ، هذا قول الأوزاعي وأحمد .
وقال : ارجوا إن فعله أن لا يضيق ، ولكن يكون ذلك وهو جالس ، كما جاء في الحديث . قيل له : تفعله أنت ؟ قالَ : لا .
وقال ابن المنذر : لا يكره ذَلِكَ .
ومن هؤلاء من قال : إنما فعل النبي ( ذلك أحيانا لبيان الجواز فقط .(6/262)
"""""" صفحة رقم 263 """"""
وحكي عن طائفة كراهة ذلك ، منهم قيس بن عبادة ومالك والشافعي .
فأما مالك ، فلم يعرف هاتين الركعتين بعد الوتر - : ذكره عنه ابن المنذر .
وأما الشافعي ، فحكي عنه أنه قال : أمر النَّبيّ ( أن نجعل آخر صلاتنا بالليل وتراً ، فنحن نتبع أمره ، وأما فعله فقد يكون مختصا به .
و أشار البيهقي إلى أن هاتين الركعتين تركهما النبي ( بعد فعلهما ، وانتهى أمره إلى أن جعل آخر صلاته بالليل وتراً .
وهذا إشارة إلى نسخهما ، وفيه نظر .
وإذا كان مذهب الشافعي أنه لا تكره الصلاة بعد الوتر بكل حال ، فكيف تكره هاتان الركعتان بخصوصهما ، مع ورود الأحاديث الكثيرة الصحيحة بها ؟
وقد ذكر بعض الناس : أن النَّبيّ ( كانَ يصلي ركعتين بعد وتره جالساً ، لما كانَ يوتر من الليل ويجعل الركعتين جالسا كركعة قائمًا ، فيكون كالشفع لوتره ، حتَّى إذا قام ليصلي من آخر الليل لم يحتج إلى نقضه بعد ذَلِكَ .
وربما استأنسوا لذلك بحديث ثوبان : كنا مع النبي ( في سفر ، فقال : ( ( إن هذا السفر جهد وثقل ، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين ، فإن استيقظ ، وإلا كانتا له ) ) .
خرجه ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) .
وهذا القول مردود ؛ لوجهين :
أحدهما : أن حديث عائشة يدل - لمن تأمله - على أن هذا كانَ النَّبيّ ( يفعله في وتره من آخر الليل ، لا من أوله ، وكذلك حديث ابن عباس .
وثانيهما : أن صلاته جالساً لم تكن كصلاة غيره من أمته على نصف صلاة
القائم .(6/263)
"""""" صفحة رقم 264 """"""
يدل عليه : ما خرجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) من حديث عبد الله بن عمرو ، قال : أتيت النبي ( ، فوجدته يصلي جالساً ، فقلت : حُدّثتُ يا رسول الله ، إنك قلت :
( ( صلاة الرجل قاعداً على نصف الصلاة ) ) ، وأنت تصلي قاعداً ؟ قالَ : ( ( أجل ؛ ولكني لست كأحد منكم ) ) .
و أما حديث ثوبان ، فتأوله بعضهم على أن المراد : إذا أراد أن يوتر فليركع ركعتين .
وكأنه يريد أنه لا يقتصر في وتره في السفر على ركعة واحدة ، بل يركع قبلها ركعتين ، فيحصل له بهما نصيب من صلاة الليل ، فإن لم يستيقظ من آخر الليل كان قد اخذ بحظ من الصلاة ، وإن استيقظ صلى ما كتب له ، وهذا متوجه . والله سبحانه وتعالى أعلم .
وروي عن النبي ( ، أنه كان يصلي في السفر صلاته من الليل قبل أن ينام .
ففي ( ( المسند ) ) من حديث شرحبيل بن سعد ، عن جابر ، أنه كان مع النبي ( في سفر ، فصلى العتمة - وجابر إلى جنبه - ، ثم صلى بعدها ثلاث عشرة سجدة .
وشرحبيل ، مختلف فيه .(6/264)
"""""" صفحة رقم 265 """"""
5 - باب
الوتر على الدابة
999 - حدثنا إسماعيل : حدثني مالك ، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن سعيد بن يسار ، أنه قالَ : كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة . قال سعيد : فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت ، ثم لحقته ، فقال
عبد الله بن عمر : أين كنت ؟ فقلت : خشيت الصبح فنزلت فأوترت . قالَ عبد الله : أليس لك في رسول الله ( أسوة حسنة ؟ فقلت : بلى ؛ والله . قال فإن رسول الله ( كان يوتر على البعير .
هذا الحديث قد روي عن ابن عمر من وجوه متعددة ، قد خرجاه في ( ( الصحيحين ) ) من هذا الوجه ، ومن حديث الزهري ، عن سالم ، عن أبيه .
وخرجه البخاري من حديث نافع ، ومسلم من حديث عبد الله بن دينار .
وهذا مما استدل به على أن الوتر غير واجب ، وأنه ملتحق بالنوافل ؛ فإنه لو كانَ واجبا لألحق بالفرائض ، ولم يفعل على الدابة جالساً ، مع القدرة على القيام .
وقد اختلف العلماء في جواز الوتر على الراحلة :
فذهب أكثرهم إلى جوازه ، ومنهم : ابن عمر ، وروي عن علي وابن عباس ، وهو قول سالم وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور .
وقال الثوري : لا بأس به ، وبالأرض أحب إلي .
وكذا مذهب مالك :(6/265)
"""""" صفحة رقم 266 """"""
في ( ( تهذيب المدونة ) ) : أن المسافر إذا كان له حزب ، فليوتر على الأرض ، ثم يتنفل في المحمل بعد الوتر .
وهذا يدل على أن تقديم الوتر على الأرض على قيام الليل أفضل من تأخيره مع على الراحلة .
ومنع من الوتر على الراحلة من يرى أن الوتر واجب ، وهو قول أبي حنيفة .
وقال النخعي : كانوا يصلون الفريضة والوتر بالأرض .
وحكى ابن أبي موسى - من أصحابنا - عن أحمد في جواز صلاة ركعتي الفجر على الراحلة روايتين ، دون الوتر .
وحكي عن بعض الحنفية ، أنه لا يفعل الوتر ولا ركعتا الفجر على الراحلة .
وروى الإمام أحمد : ثنا إسماعيل : ثنا أيوب ، عن سعيد بن جبير ، أن ابن عمر كان يصلي على راحلته تطوعاً ، فإذا أراد أن يوتر نزل فأوتر على الأرض .
ولعله فعله استحباباً ، وإنما أنكر [ على ] من لا يراه جائزاً .
وروى محمد بن مصعب : ثنا الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن
عبد الرحمن بن ثوبان ، عن جابر ، قالَ : كان النبي ( يصلي على راحلته حيث توجهت به تطوعا ، فإذا أراد أن يصلي الفريضة أو يوتر أناخ فصلى بالأرض .
قال ابن جوصا في ( ( مسند الأوزاعي من جمعه ) ) : لم يقل أحد من أصحاب الأوزاعي : ( ( أو يوتر ) ) غير محمد بن مصعب وحده .(6/266)
"""""" صفحة رقم 267 """"""
وخرجه من طرق كثيرة عن الأوزاعي ، ليس في شيء منها : ذكر الوتر .
ومحمد بن مصعب ، قال يحيى : ليس حديثه بشيء . وقال ابن حبان : ساء حفظه فكان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ، لا يجوز الاحتجاج به .(6/267)
"""""" صفحة رقم 268 """"""
6 - باب
الوتر في السفر
1000 - حدثنا موسى بن إسماعيل : ثنا جويرية بن أسماء ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كان النبي ( يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به ، يومئ إيماء ، صلاة الليل ، إلا الفرائض ، ويوتر على راحلته .
الوتر في السفر مستحب كالوتر في الحضر ، وقد كان ابن عمر يوتر في سفره .
وروى وكيع ، عن شريك ، عن جابر ، عن عامر ، عن ابن عباس وابن عمر ، أنهما قالا : الوتر في السفر سنة .
وقال مجاهد : لا يترك الوتر في السفر إلا فاسق .
وروى وكيع - أيضا - عن خالد بن دينار ، عن شيخ ، قال : صحبت ابن عباس في سفر ، فلا أحفظ أنه أوتر .
وهذا إسناد مجهول .
وقوله : ( ( لم أحفظ ) ) لا يدل على أنه لم يوتر .
والوتر تابع لصلاة الليل ، وقد كان النبي ( يصلي صلاته بالليل وتراً .
وإنما اختلف العلماء في فعل السنن الرواتب في السفر ؛ لأنها تابعة للفرائض ، والفرائض تقصر في السفر تخفيفاً ، فكيف يحذف شطر المفروضة ويحافظ على سننها ؟(6/268)
"""""" صفحة رقم 269 """"""
ولهذا قالَ ابن عمر : لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي .
وقد روي ، أنه ( كان يصلي في السفر ركعتي الفجر والمغرب ؛ لأن فريضتهما لا تقصر .
وهو من مراسيل أبي جعفر محمد بن علي .
ونص عليه أحمد - في رواية المروذي - ، أنه لا يدع في السفر ركعتي الفجر والمغرب .(6/269)
"""""" صفحة رقم 270 """"""
7 - باب
القنوت قبل الركوع وبعده
لم يبوب البخاري على القنوت إلا في عقب أبواب الوتر ، وهذا يدل على أنه يرى القنوت في الوتر ، إما دون غيره من الصلوات أو مع غيره منها .
وخرج فيه حديث أنس بن مالك من طرق أربعة .
الطريق الأول :
1001 - ثنا مسدد : نا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن محمد ، قال : سئل أنس بن مالك : أقنت النبي ( في الصبح ؟ قالَ : نعم . فقيل : أو قبل الركوع ؟ قال : بعد الركوع يسيراً .
هذا الحديث - بهذا اللفظ - : يدل على أن النبي ( قنت في الصبح ، وأنه قنت بعد الركوع ، وأنه قنت يسيراً .
وقوله : ( ( يسيراً ) ) يحتمل أن يعود إلى القنوت ، فيكون المراد : قنت قنوتاً يسيراً ، ويحمتل أنه يعود إلى زمانه ، فيكون المعنى : قنوته زماناً يسيراً ، فيدل على أنه لم يدم
عليه ، بل ولا كان غالب أمره ، وإنما كان مدة يسيرة فقط .
ويدل عليه : ما روى علي بن عاصم : أخبرني خالد وهشام ، عن محمد بن سيرين : حدثني أنس ، أن النبي ( قنت شهرا في الغداة ، بعد الركوع ، يدعو .
وقد خرجه أبو داود ، وعنده : بدل ( ( يسيراً ) ) : ( ( يسراً ) ) أو ( ( يسر ) ) .(6/270)
"""""" صفحة رقم 271 """"""
وهذه الرواية إن كانت محفوظة فإنما تدل على أنه اسر بالقنوت ، ولم يجهر به .
الطريق الثاني :
1002 - ثنا مسدد : ثنا عبد الواحد : ثنا عاصم ، قال : سألت أنس بن مالك ، عن القنوت ؟ فقالَ : قد كانَ القنوت . قلت : قبل الركوع أو بعده ؟ قال : قبله . قلت : فإن فلانا أخبرني عنك ، أنك قلت : بعد الركوع ؟ فقال : كذب ، إنما قنت رسول الله ( بعد الركوع شهرا ، أراه كان بعث قوما ، يقال لهم : القراء ، زهاء سبعين رجلا إلى قوم من المشركين دون أولئك ، وكان بينهم وبين النبي ( عهد ، فقنت رسول الله ( شهرا يدعو عليهم .
وخرّجه - أيضا - في ( ( المغازي ) ) عن موسى بن إسماعيل ، عن عبد الواحد ،
[ عن ] عاصم ، بأتم من هذا .
وخرّجه في أواخر ( ( الجهاد ) ) من طريق ثابت بن يزيد ، عن عاصم : سألت أنساً عن القنوت ، [ قال ] : قبل الركوع ، فقلت : إن فلانا يزعم أنك قلت : بعد الركوع ؟ قالَ : كذب ، ثُمَّ حدث عن النَّبيّ ( ، أنه قنت شهراً بعد الركوع - فذكره .
وخرّجه في ( ( الأحكام ) ) من طريق عباد بن عباد ، عن عاصم . وفي ( ( الدعاء ) ) من طريق أبي الأحوص ، عن عاصم - مختصراً ، في القنوت شهراً ، ولم يذكر فيه
: ( ( قبل ) ) .
وخرجه مسلم من رواية أبي معاوية ، عن عاصم ، عن أنس ، قال :(6/271)
"""""" صفحة رقم 272 """"""
سألته عن القنوت قبل الركوع ، أو بعد الركوع ؟ فقالَ : قبل الركوع . قلت : فإن ناسا يزعمون أن رسول الله ( قنت بعد الركوع ؟ فقال : إنما قنت رسول الله ( شهرا ، يدعو على أناس قتلوا أناسا من أصحابه ، يقال لهم : القراء .
وخرجه من طرق أخرى ، عن عاصم ، عن أنس - في قنوت النبي ( شهرا
فقط .
وليس في شيء من هذه الروايات : مدوامة القنوت ، كما في رواية عبد الواحد بن زياد التي خرجها البخاري ، مع أنه لا دلالة فيها على ذلك - على تقدير أن تكون محفوظة - ؛ فإنه ليس فيها تصريح بأن النَّبيّ ( هوَ الذي كانَ يقنت قبل الركوع ، فيحتمل أن يريد أن مدة قنوت النَّبيّ ( كانت شهرا بعد الركوع ، وكان غيره من الخلفاء يقنت قبل الركوع ، ولعله يريد قنوت عمر ، لما كانَ يبعث الجيوش إلى بلاد الكفار ، فكان يقنت ويستغفر لهم .
ولكن روى الطبراني ، عن الدبري ، عن عبد الرزاق ، عن أبي جعفر الرازي ، عن عاصم ، عن أنس ، قال : قنت رسول الله ( في الصبح يدعو على احياء من احياء العرب ، وكان قنوته - قبل الركوع .
ولكن هذه الرواية شاذه منكرة ، لا يعرج عليها .
وأبو جعفر الرازي ، اسمه : عيسى بن ماهان ، قد وثقه يحيى وغيره ؛ فإنه من أهل الصدق ولا يتعمد الكذب ، ولكنه سيئ الحفظ ؛ فلذلك نسبه ابن معين إلى الخطإ والغلط مع توثيقه له .
وقال ابن المديني : هو يخلط مثل موسى بن عبيدة . وقال أحمد والنسائي : ليس بالقوي في الحديث . وقال أبو زرعة : يهم كثيراً . وقال الفلاس : فيه ضعف ، وهو من أهل الصدق سيئ الحفظ . وقال ابن خراش : سيئ الحفظ صدوق . وقال ابن حبان : ينفرد بالمناكير عن المشاهير .(6/272)
"""""" صفحة رقم 273 """"""
وقد روى أبو جعفر هذا ، عن الربيع بن أنس ، عن أنس ، قال : ما زال النبي ( يقنت حتى فارق الدنيا .
خرجه الإمام أحمد وغيره .
وهذا - أيضا - منكر .
قال أبو بكر الأثرم : هو حديث ضعيف ، مخالف للأحاديث .
يشير إلى أن ما ينفرد به أبو جعفر الرازي لا يحتج به ، ولا سيما إذا خالف
الثقات .
وقد تابعه عليه : عمرو بن عبيد الكذاب المبتدع ، فرواه عن الحسن ، عن أنس - بنحوه .
وتابعه - أيضا - : إسماعيل بن مسلم المكي ، وهو مجمع على ضعفه ، فرواه عن الحسن ، عن أنس .
وقد خرج حديثه البزار ، وبين ضعفه .
وروي - أيضا - ذلك عن أنس من وجوه كثيرة ، لا يثبت منها شيء ، وبعضها موضوعة .
وروى خليد بن دعلج ، عن قتادة ، عن أنس ، أن رسول الله ( قنت في صلاة الفجر بعد الركوع ، وأبو بكر وعمر وعثمان صدرا من خلافته ، ثم طلب إليه المهاجرون والأنصار تقديم القنوت قبل الركوع .
خليد بن دعلج ، ضعيف ، ولا يعتمد .(6/273)
"""""" صفحة رقم 274 """"""
وقد روى مصعب بن المقدام ، عن عاصم الأحول ، عن أنس ، قال : قنت
رسول الله ( شهراً قبل الركوع .
وروى الحسن بن الربيع ، عن أبي الأحوص ، عن عاصم ، عن أنس ، أن النبي ( قنت شهرا في صلاة الفجر ، يدعو على خيبر .
قال عاصم : سألت أنساً عن القنوت ؟ قالَ : هوَ قبل الركوع .
وهاتان الروايتان : تدل على أن القنوت قبل الركوع كانَ شهرا ، بخلاف رواية عبد الواحد ، عن عاصم .
وروى قيس بن الربيع ، عن عاصم ، قال : قلنا لأنس : إن قوماً يزعمون أن النبي ( لم يزل يقنت بالفجر ؟ قالَ : كذبوا ؛ إنما قنت رسول الله ( شهرا واحداً ، يدعو على حي من أحياء المشركين .
فهذه تعارض رواية أبي جعفر الرازي ، عن عاصم ، وتصرح بأن مدة القنوت كلها تزد على شهر .
وليس قيس بن الربيع بدون أبي جعفر الرازي ، وإن كان قد تكلم فيه ؛ لسوء حفظه - أيضا - فقد أثنى عليهِ أكابر ، مثل : سفيان الثوري وابن عيينة وشريك وشعبة وأبي حصين .
وأنكر شعبة على القطان كلامه فيه ، وأنكر ابن المبارك على وكيع كلامه فيه .
وقال محمد الطنافسي : لم يكن قيس عندنا بدون سفيان ، إلا أنه استعمل ، فأقام على رجل حداً ، فمات ، فطفئ أمره .
وقال يعقوب بن شيبة : هو عند جميع أصحابنا صدوق وكتابه صالح ، إنما حفظه فيه شيء .
وقال ابن عدي : رواياته مستقيمة ، وقد حدث عنه شعبة وغيره من الكبار ،(6/274)
"""""" صفحة رقم 275 """"""
والقول فيه ما قال شعبة : أنه لا بأس به .
وقد توبع قيس على روايته هذه :
فروى أبو حفص ابن شاهين : ثنا أحمد بن محمد بن سعيد - هو : ابن عقده الحافظ - : ثنا الحسن بن علي بن عفان : ثنا عبد الحميد الحماني ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أنس ، أن النبي ( لم يقنت إلا شهراً واحداً حتى مات .
وابن عقده ، حافظ كبير ، إنما أنكر عليه التدليس ، وقد صرح في هذا
بالتحديث .
وعبد الحميد الحماني ، وثقه ابن معين وغيره ، وخرج له البخاري .
وخرج البيهقي من حديث قبيصة ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أنس ، قال : إنما قنت النبي ( شهراً . فقلت : كيف القنوت ؟ قالَ : بعد الركوع .
وهذه تخالف رواية من روى عنه القنوت قبل الركوع .
و أما القنوت شهرا ، فقد سبق أن البخاري خرجه من رواية عباد بن عباد .
وخرجه مسلم من رواية ابن عيينة ، وغير واحد ، كلهم عن عاصم .
وهو المحفوظ عن سائر أصحاب أنس .
فتبين بهذا : أن رواية عاصم الأحول عن أنس - في محل القنوت ، و الإشعار بدوامه - مضطربة متناقضة .
وعاصم نفسه ، قد تكلم فيه القطان ، وكان يستضعفه ، ولا يحدث عنه .
وقال : لم يكن بالحافظ .(6/275)
"""""" صفحة رقم 276 """"""
وقد حدث عاصم ، عن حميد بحديث ، فسئل حميد عنه ، فأنكره ولم يعرفه .
وحينئذ ؛ فلا يقضى برواية عاصم ، عن أنس ، مع اضطرابها على روايات بقية أصحاب أنس ، بل الأمر بالعكس .
وقد أنكر الأئمة على عاصم روايته عن أنس القنوت قبل الركوع :
قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله - يعني : أحمد بن حنبل - : يقول أحمد في حديث أنس : إن النبي ( قنت قبل الركوع غير عاصم الأحول ؟ قالَ : ما علمت أحدا يقوله غيره : قالَ أبو عبد الله : خالفهم عاصم كلهم .
يعني : خالف أصحاب أنس .
ثم قال : هشام ، عن قتادة ، عن أنس ، أن النبي ( قنت [ بعد ] الركوع . والتيمي ، عن أبي مجلز ، عن أنس . وأيوب ، عن محمد : سألت أنساً . - وحنظلة السدوسي ، عن أنس - : أربعة أوجه .
وقال أبو بكر الخطيب في ( ( كتاب القنوت ) ) : أما حديث عاصم الأحول ، عن أنس ، فإنه تفرد بروايته ، وخالف الكافة من أصحاب أنس ، فرووا عنه القنوت بعد الركوع ، والحكم للجماعة على الواحد .
كذا قاله الخطيب في القنوت قبل الركوع ، فأما في دوام القنوت ، فإنه جعله أصلا اعتمد عليه ، ويقال له فيه كما قال هو في محل القنوت ، فيقال : إن أصحاب أنس إنما رووا عنه إطلاق القنوت أو تقييده بشهر ، ولم يرو عن أنس دوام القنوت من يوثق بحفظه .
وأما القنوت قبل الركوع ، فقد رواه عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس ، كما(6/276)
"""""" صفحة رقم 277 """"""
خرج البخاري عنه من طريقه في ( ( السير ) ) ، وسنذكره - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
وقد حمل بعض العلماء المتأخرين حديث عاصم ، عن أنس في القنوت قبل الركوع على أن المراد به : إطالة القيام ، كما في الحديث : ( ( أفضل الصلاة طول
القنوت ) ) .
والمراد : أن النبي ( كان يطيل القيام قبل الركوع للقراءة ، وإنما أطال القيام بعد الركوع شهرا حيث دعا على من قتل القراء ، ثم تركه .
وقد صح عن ابن عمر مثل ذلك .
وروى ابن أبي شيبة : ثنا ابن نمير ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان لا يقنت في الفجر ، ولا في الوتر ، وكان إذا سئل عن القنوت ، قال : ما نعلم القنوت إلا طول القيام وقراءة القرآن .
ورواه يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله - أيضا .
الطريق الثالث :
1003 - ثنا أحمد بن يونس ، ثنا زائدة ، عن التيمي ، عن ابن مجلز ، عن أنس بن مالك ، قال : قنت رسول الله ( شهرا ، يدعو على رعل وذكوان .
وخرجه في ( ( المغازي ) ) من رواية ابن المبارك ، عن سليمان التيمي ، وزاد فيه : ( ( بعد الركوع ) ) .
وزاد - أيضا - فيه : ( ( ويقول : عصية عصت الله ورسوله ) ) .
وكذلك خرجه مسلم من رواية المعتمر بن سلمان التيمي ، عن أبيه ،(6/277)
"""""" صفحة رقم 278 """"""
وزاد فيه : ( ( في صلاة الصبح ) ) .
الطريق الرابع :
1004 - ثنا مسدد : ثنا إسماعيل : أنا خالد ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك ، قال : كان القنوت في المغرب والفجر .
وخرجه - فيما تقدم - في ( ( باب : فضل اللهم ربنا ولك الحمد ) ) ، عن عبد الله بن أبي الأسود ، عن إسماعيل - وهو : ابن علية - ، به - أيضا .
وليس في هذا الحديث أن ذلك كان من فعل النبي ( ، ولا في عهده ، فيحتمل أنه اخبر عما كان في زمن بعض خلفائه ، والله أعلم .
وقد روي حديث القنوت عن أنس من طرق أخرى ، وقد خرجه البخاري في ( ( السير ) ) و ( ( المغازي ) ) من بعضها .
طريق آخر :
قال البخاري : ثنا أبو معمر : ثنا عبد الوارث : ثنا عبد العزيز ، عن أنس ، قال : بعث النبي ( سبعين رجلاً لحاجة ، يقال لهم : القراء ، فعرض لهم حيان من بني سليم : رعل وذكوان ، فقتلوهم ، فدعا النبي ( شهراً عليهم في صلاة الغداة ، وذلك بدء
القنوت ، وما كنا نقنت .
قال : وسأل رجل أنساً عن القنوت : بعد الركوع أو عند فراغ من القراءة ؟ قالَ : بل عندَ فراغ من القراءة .
ولكن ؛ ليس في هذه الرواية تصريح بأن قنوت النَّبيّ ( كانَ قبل الركوع ، إنما هوَ من فتيا أنس . والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/278)
"""""" صفحة رقم 279 """"""
وقد تقدم عنه ما يخالف ذلك ، وما يوافقه ، فالروايات عن أنس في محل القنوت مختلفة .
وفي هذه الرواية التصريح بأن هذا كان بدأ القنوت ، وأنهم لم يقنتوا قبله ، والتصريح بأن القنوت كان شهرا ، ولا شك أن هذا القنوت ترك بعد ذلك ولم يقل أنس : إنه استمر القنوت بعد الشهر . والله سبحانه وتعالى أعلم .
طريق آخر :
قال البخاري : ثنا يحيى بن بكير : ثنا مالك ، عن إسحاق [ بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك ، قال : دعا النبي ( على لادين قتلوا أصحابه ببئر ثلاثين صباحاً حين يدعوا على رعل ولحيان ، وعصية عصت الله ورسوله ( .
قال أنس : فأنزل الله تعالى لنبيه في الذين قتلوا - أصحاب بئر معونة -
قراناً ، حتى نسخ بعد : بلغوا قومنا ، فقد لقينا ربنا ، فرضي عنا ورضينا عنه ] . . .(6/279)
"""""" صفحة رقم 280 """"""
فارغة(6/280)
"""""" صفحة رقم 281 """"""
كتاب الاستسقاء(6/281)
"""""" صفحة رقم 282 """"""
فارغة(6/282)
"""""" صفحة رقم 283 """"""
- [ باب
الجهر بالقراءة في الاستسقاء
1024 - ثنا أبو نعيم : ثنا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن عباد بن تميم ، عن عمه ، قال : خرج النبي ( يستسقي ، فتوجه إلى القبلة يدعو ، وحول رداءه ، ثم صلى ركعتين ، وجهر فيهما بالقراءة ] .
الصواب .
فتبين بهذا : أن النعمان أخطأ في إسناده ، فلا يبعد خطؤه في متنه - أيضا .
وعن أحمد رواية ثالثة : أنه يخير بين أن يخطب قبل الصلاة وبعدها ، اختارها جماعة من أصحابنا ؛ لورود النصوص بكلا الأمرين .
قالَ بعض أصحابنا : والأولى للإمام أن يختار الأرفق بالناس ، في كل وقت
بحسبه .
وعن أحمد رواية أخرى : أنه لا يخطب ، ولكن يدعو ؛ لقول ابن عباس : لم يخطب خطبتكم هذه ، ولكن لم يزل في التضرع والتكبير ، وصلى ركعتين .
خرجه الترمذي وغيره .
وظاهر حديث عبد الله بن يزيد : يدل على أنه لم يزد على الدعاء - أيضا - ، وعلى ذلك حمله الإمام أحمد في رواية المروذي .
وحديث عائشة الذي ذكرناه في ( ( أبواب الاستسقاء ) ) : يدل على أن النبي(6/283)
"""""" صفحة رقم 284 """"""
( استفتح خطبته بالحمد والتكبير ، ثم شرع في الدعاء ، واستفتحه بتلاوة أول سورة الفاتحة ، ثم بكلمات من الثناء على الله عز وجل ، إلى أن نزل ، وأنه كان في أول خطبة قاعداً على المنبر ، وقد ثبت أنه دعا قائما في حديث عبد الله بن يزيد ، فهذا القدر هو المروي عن النبي ( ، ولم يرو عنه أزيد منه في الدعاء الاستسقاء .
وروى حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عباس ، قال : جاء أعرأبي إلى النبي ( ، فقالَ : يا رسول الله ، لقد جئتك من عند قوم لا يتزود لهم راع ، ولا يخطر لهم فحل ، فصعد المنبر ، فحمد الله ، ثم قال : ( ( اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً طبقاً مريعاً غدقاً عاجلاً ، غير راث ) ) ثم نزل ، فما يأتيه أحد من وجه إلا قال : قد أحييتنا .
خرجه ابن ماجه .
وروي عن حبيب - مرسلا ، وهو أشبه .
وخرج الطبراني من حديث أنس ، أن النبي ( صلى ثم استقبل القوم بوجهه ، وقلب رداءه ، ثم جثا على ركبتيه ، ورفع يديه ، وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي ، ثم
دعا .
وإسناده ضعيف .
وقد تقدم عن عمر وعبد الله بن يزيد الأنصاري ، أنهما لم يزيدا على الاستغفار .
واختلف القائلون بأنه يخطب - وهم الجمهور - : هل يخطب خطبة واحدة ،(6/284)
"""""" صفحة رقم 285 """"""
أو خطبتين ؟ على قولين :
أحدهما : يخطب خطبة واحدة ، وهو قول ابن مهدي وأحمد وأبي يوسف ومحمد .
والثاني : أنه يخطب خطبتين ، بينهما جلسة كالعيد ، وهو قول الليث ومالك والشافعي ، وروي عن الفقهاء السبعة ، وهو وجه ضعيف لأصحابنا .
وقالت طائفة : يخير بين الأمرين ، وهو قول ابن جرير الطبري ، وحكي مثله عن أبي يوسف ومحمد - أيضا .
واختلفوا : بمإذا تستفتح الخطبة ؟
فقالت طائفة : بالحمد لله ، وحكى عن مالك وأبي يوسف ومحمد ، وهو قول طائفة من أصحابنا ، وهو الأظهر .
وقد سبق في ( ( الجمعة ) ) توجيه ذلك .
ومذهب مالك : ليس في خطبة الاستسقاء تكبير - : ذكره في ( ( تهذيب
المدونة ) ) .
وقالت طائفة : يفتتحها بالتكبير كخطبة العيدين ، وهو قول أكثر أصحابنا ، وطائفة من الشافعية ، ونقل أنه نص الشافعي .
وقد تقدم من حديث عائشة ما يشهد له .
وقالت طائفة : يستفتحها بالاستغفار ، وهو قول أبي بكر بن جعفر من أصحابنا ، وأكثر أصحاب الشافعي .
قال أبو بكر - من أصحابنا - : يستفتحها بالاستغفار ، ويختمها به ، ويكثر من الاستغفار بين ذلك .(6/285)
"""""" صفحة رقم 286 """"""
وهو منصوص الشافعي ، ونص على أنه يختمها بقوله : استغفر الله لي ولكم .
وأما الثاني - وهو الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء - : فحديث ابن أبي ذئب عن الزهري الذي خرجه البخاري - صريح بذلك .
قال الإمام أحمد - في رواية محمد بن الحكم - : كنت أنكره ، حتى رأيت في رواية معمر عن الزهري كما قال ابن أبي ذئب .
يعني : أنه جهر بالقراءة .
وحديث معمر ، خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من رواية عبد الرزاق ، عنه .
ولا اختلاف بين العلماء الذين [ يرون ] صلاة الاستسقاء ، أنه يجهر فيها بالقراءة ، وقد تقدم عن عبد الله بن يزيد الخطمي ، أنه فعله بمشهد من الصحابة .
وأكثر العلماء على أنه يقرأ فيهما بما يقرأ في العيدين ، وهو قول الثوري ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم .
قال الشافعي : وإن قرأ ( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً ( [ نوح : 1 ] كان حسناً .
وقد قال ابن عباس : إن النبي ( صلى في الاستسقاء ركعتين ، كما كان يصلي في العيد .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه .(6/286)
"""""" صفحة رقم 287 """"""
وصححه
الترمذي . وقد روي عن ابن عباس ، أنه كان يفعل كذلك .
وخرج الطبراني من حديث أنس - مرفوعا - ، أن النبي ( قرأ فيهما ( ( سبح ) ) و ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ( .
وإسناده لا يصح ؛ فيهِ مجاشع بن عمرو ، متروك الحديث .
وروى عبد الرزاق بأسناده ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كانَ يقرا في ركعتي الاستسقاء بالشمس وضحاها والليل إذا يغشى .
واختار هذا أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا .(6/287)
"""""" صفحة رقم 288 """"""
- باب كيف حول النبي ( ظهره إلى الناس ؟
1025 - حدثنا آدم : نا بن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن عباد بن تميم ، عن عمه قالَ : رأيت النَّبيّ ( يوم خرج يستسقي ، فحول إلى الناس ظهره ، واستقبل القبلة
يدعو ، ثُمَّ حول رداءه ، ثُمَّ صلى بنا ركعتين ، جهر فيهما بالقراءة .
ظاهر الحديث : أنه ( ? دعا مستقبل القبلة ، وأنه حول رداءه بعد ذلك ، وقد سبق الكلام في وقت تحويل الرداء .
وظاهر الحديث : يستدل به أنه ليس في الاستسقاء خطبة ، بل دعاء مجرد .
وقد خرج البخاري - فيما تقدم - من حديث شعيب ، عن الزهري ، أنه ( دعا قائما ، ثم توجه إلى القبلة .
وهذا صريح في أنه ابتدأ الدعاء مستقبل الناس ، ثم أتمه مستقبل القبلة .
وأما من يقول : إنه يخطب ، فإنه يقول : إذا أنهى خطبته ودعا استقبل القبلة ، وحول ظهره إلى الناس فدعا .
وأكثرهم قالوا : يستقبل القبلة في أثناء خطبته .
وقال الشافعية : يكون ذلك في أثناء الخطبة الثانية ؛ لأن عندهم يسن لها خطبتان ، كما تقدم .
وإنما استقبل القبلة في الاستسقاء للدعاء دون خطبة الجمعة ؛ لأن خطبة الجمعة خطاب للحاضرين وموعظة لهم فيستقبلهم بها ، والدعاء تابع لذلك ، ولو كانَ
للاستسقاء .
وأما الاستسقاء المجرد ، فإنه إنما يقصد منه الدعاء ، والدعاء المشروع(6/288)
"""""" صفحة رقم 289 """"""
إسراره دون إعلانه ، وإخفاؤه دون إظهاره ، فلذلك شرع إسراره في الاستسقاء وتولية الظهر إلى الناس ، واستقبال القبلة ؛ لأن الدعاء إلى القبلة أفضل .
وقد كانَ النَّبيّ ( يستقبل القبلة إذا استنصر على المشركين في يوم بدر وغيره .
وأيضا ؛ فإن استدبار الناس في الدعاء واستقبال القبلة أجمع لقلب الداعي ؛ حيث لا يرى أحداً من الناس ، وادعى إلى حضوره وخشوعه في الدعاء ، وذلك أقرب إلى إجابته .(6/289)
"""""" صفحة رقم 290 """"""
- باب صلاة الاستسقاء ركعتين
1026 - حدثنا قتيبة : نا سفيان ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عباد بن تميم ، عن عمه ، أن النبي ( استسقى ، فصلى ركعتين ، وقلب رداءه .
في الحديث : دليل على الصلاة للاستسقاء ، وقد تقدم - أيضا - في حديث عائشة وابن عباس .
وجمهور العلماء على أنه تشرع صلاة الاستسقاء .
وخالف فيه طائفة من علماء اهل الكوفة ، منهم : النخعي ، وهو قول أبي
حنيفة ، وقالوا : إنما يستحب في الاستسقاء الدعاء والاستغفار خاصة .
وهؤلاء لم تبلغهم سنة الصلاة ، كما بلغ جمهور العلماء .
وفيه : دليل على أن صلاة الاستسقاء ركعتان ، وهذا لا اختلاف فيه بين من يقول : إنه يشرع للاستسقاء صلاة .
ولكن اختلفوا : هل تصلى بتكبير كتكبير صلاة العيد ، أم بغير تكبير كسائر الصلوات ، فتستفتح بتكبيرة الإحرام ، ثم يقرأ بعدها ؟ على قولين .
أحدهما : أنها تصلى كما تصلى العيد بتكبير قبل القراءة وقد روي عن ابن عباس ، وعن ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز وأبي بكر بن حزم ، وهو قول الشافعي وأحمد - في ظاهر مذهبه - وأبي يوسف ومحمد .
والثاني : تصلى بغير تكبير زائد ، وهو قول مالك والثوري والأوزاعي وأحمد - في رواية - وإسحاق وأبي ثور وأبي خيثمة وسليمان بن داود الهاشمي .(6/290)
"""""" صفحة رقم 291 """"""
قال أبو إسحاق البرمكي من أصحابنا : يحتمل أن هذه الرواية عن أحمد قول قديم رجع عنه .
وحكي عن داود : إن شاء صلي بتكبير زائد ، وإن شاء صلى بتكبيرة الإحرام فقط .
واستدل من قال : يصلي بتكبير بظاهر حديث ابن عباس : ( ( وصلى ركعتين كما يصلي في العيد ) ) ، وقد سبق ذكره .
وقد روي عنه صريحاً بذكر التكبير ، لكن إسناده ضعيف .
خرجه الدارقطني والحاكم في ( ( المستدرك ) ) - وصححه - والبزار في ( ( مسنده ) ) وغيرهم ، من رواية محمد بن عبد العزيز الزهري ، عن أبيه ، عن طلحة بن عبد الله بن عوف ، أن النبي ( صلى في الاستسقاء ، كبر في الأولى سبع تكبيرات ، وقرأ ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ( [ الأعلى : 1 ] ، وقرأ في الثانية ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ( [ الغاشية : 1 ] ، وكبر فيها خمس تكبيرات .
ومحمد بن عبد العزيز الزهري هذا ، متروك الحديث ، لا يحتج بما يرويه .
وروى يزيد بن عياض ، حدثني أبو بكر بن عمرو بن حزم وابناه - عبد الله ومحمد - ويزيد بن عبد الله بن أسامة وابن شهاب ، كلهم يحدثه عن عبد الله بن يزيد ، قال : رأيت النبي ( استسقى - فذكر الحديث - قال : ثم صلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة ، فكبر في الركعة الأولى سبعاً ، وفي الآخرة خمساً ، يبدأ بالتكبير قبل القراءة في الركعتين كليهما .
ويزيد بن عياض جعدبة المدني ، متروك الحديث ، لا يحتج به .
وقد روي خلاف هذا ، من رواية عبد الله بن حسين بن عطاء ، عن شريك ابن أبي نمر ، عن أنس ، أن النبي ( صلى في الاستسقاء ، في كل ركعة(6/291)
"""""" صفحة رقم 292 """"""
تكبيرة ، وخطب قبل الصلاة ، وقلب رداءه لما دعا .
خرّجه أبو القاسم البغوي .
وخرّجه الترمذي في ( ( كتاب العلل ) ) - مختصراً - ، وقال : سألت البخاري عنه ، فقال : هذا خطأ ، وعبد الله بن حسين منكر الحديث ؛ روى مالك وغيره ، عن شريك ، عن أنس ، أن النَّبيّ ( استسقى ، ليس فيهِ هذا .
يشير البخاري إلى حديث الاستسقاء في الجمعة ، وهذا المتن غير ذلك المتن ؛ فإن هذا فيهِ ذكر صلاة الاستسقاء والخطبة لها وقلب الرداء في الدعاء ، لكنه غير محفوظ عن شريك ، عن أنس .
ووقت صلاة الاستسقاء وقت صلاة العيد ، وقد تقدم حديث عائشة في خروج النَّبيّ ( لها حين بدا حاجب الشمس ، وأنه قعد على المنبر ودعا ، ثم صلى بعد ذلك .
وذكر ابن عبد البر أن الخروج لها في أول النهار عند جماعة العلماء ، إلا أبا بكر بن حزم ؛ فإنه قالَ : الخروج إليها عندَ زوال الشمس .
وكأنه ألحقها بالجمعة .
ولا يفوت وقتها بفوات وقت العيد ، بل تصلى في جميع النهار .
قال بعض أصحابنا : إلا أنه لا تصلى في أوقات النهي بغير خلاف ، إذ لا حاجة إلى ذلك ، ووقتها متسع .
ومن أصحابنا من حكى وجهاً آخر بجواز صلاتها في وقت النهي ، إذا جوزنا فعل ذوات الأسباب فيه ، وهو ضعيف .(6/292)
"""""" صفحة رقم 293 """"""
وكذا قال الشافعي في ( ( الأم ) ) ، قال : إذا لم يصل للاستسقاء قبل الزوال يصلها بعد الظهر وقبل العصر .
ومراده : أنه لا يصلى بعد العصر في وقت النهي .
ولأصحابه في ذلك وجهان .
ومن أصحابه من قال : وقتها وقت صلاة العيد .
ومنهم من قال : أول وقتها وقت العيد ، ويمتد إلى أن يصلى العصر .
وهذا موافق لنص الشافعي كما تقدم .
ومنهم من قال : الصحيح أنها لا تختص بوقت ، بل يجوز وتصح في كل وقت من ليل ونهار ، إلا أوقات الكراهة - على أصح الوجهين - ؛ لأنها لا تختص بيوم ولا تختص بوقت كصلاة الإحرام والاستخارة .
وهذا مخالف لنص الشافعي ، لما علم من سنة النبي ( وأصحابه في صلاة الاستسقاء ؛ فإنهم كانوا يخرجون نهاراً لا ليلا ، وجمع الناس لصلاة الاستسقاء ليلا مما يشق عليهم ، وهو سبب لامتناع حضور أكثرهم ، فلا يكون ذَلِكَ مشروعاً بالكلية .
وهذا بخلاف صلاة الإحرام والاستخارة ، فإنه لا يشرع لهم الاجتماع ، فلا يفوت بفعلهما ليلا شيء من مصالحهما .(6/293)
"""""" صفحة رقم 294 """"""
- باب الاستسقاء في المُصلى
1027 - حدثنا عبد الله بن محمد : أنا سفيان ، عن عبد الله بن أبي بكر : سمع عباد بن تميم ، عن عمه ، : خرج النبي ( إلى المصلى يستسقي ، واستقبل القبلة ، فصلى ركعتين ، وقلب رداءه .
قال سفيان : وأخبرني المسعودي ، عن أبي بكر ، قال : جعل اليمين على
الشمال .
الخروج لصلاة الاستسقاء إلى المصلى مجمع عليه بين العلماء ، حتى وافق الشافعي عليه - مع قوله : إن الأفضل في العيد أن يصلى في الجامع إذا وسعهم .
وذلك لأن الاستسقاء يجتمع له الخلق الكثير ، فهو مظنة ضيق المسجد عنهم ، ويحضره النساء والرجال وأهل الذمة والبهائم والأطفال ، فلا يسعهم غير الصحراء .(6/294)
"""""" صفحة رقم 295 """"""
- باب استقبال القبلة في الاستسقاء
1028 - حدثنا محمد - وهو ابن سلام - : نا عبد الوهاب : نا يحيى بن سعيد : أخبرني أبو بكر بن محمد ، أن عباد بن تميم أخبره ، أن عبد الله بن زيد الأنصاري أخبره ، أن رسول الله ( خرج إلى المصلى يصلي ، وأنه لما دعا - أو أراد أن يدعو - استقبل
القبلة ، وحول رداءه .
وقد سبق هذا المعنى في كثير من الروايات ، وأنه حول ظهره في الدعاء إلى الناس واستقبل القبلة ، ودعا ، وسبق الكلام على معنى ذلك .
وخرج البخاري في ( ( الدعاء ) ) من ( ( كتابه ) ) هذا ، من حديث عمرو بن يحيى ، عن عباد بن تميم ، عن عبد الله بن زيد ، قال : خرج رسول الله إلى هذا المصلى
يستسقي ، فدعا واستسقى ، ثم استقبل القبلة ، وقلب رداءه .
وفي حديث عائشة : ثم اقبل على الناس ونزل .
وفيه : دليل على أنه يُقبل على الناس بعد ذلك وقبل نزوله .(6/295)
"""""" صفحة رقم 296 """"""
- باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء
1029 - وقال أيوب بن سليمان : حدثني أبو بكر بن أبي اويس ، عن سلمان بن بلال : قال يحيى بن سعيد : سمعت أنس بن مالك ، قال : أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله ( يوم الجمعة ، فقال : يا رسول الله ، هلكت الماشية ، هلك العيال ، هلك الناس ، فرفع رسول الله ( يديه [ يدعو ] ، ورفع الناس أيديهم مع رسول الله ( يدعون . قال : فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا ، فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى ، فاتى الرجل إلى رسول الله ( ، فقال : يا رسول الله ( بشق المسافر ، ومنع الطريق .
1030 - وقال الأويسي : حدثني محمد بن جعفر ، عن يحيى بن سعيد وشريك ، سمعا أنساً ، عن النبي ( ، رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه .
هكذا ذكر البخاري تعليقاً .
وخرجه البيهقي من رواية أبي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الترمذي : نا أيوب بن سليمان بن بلال - فذكره ، إلا أنه قال في آخره : ( ( لثق المسافر ، ومنع الطريق ) ) .
كذا قرأته بخط البيهقي ، وقد ضبب على لفظة ( ( لثق ) ) بخطه ، ووجدتها - أيضا - ( ( لثق ) ) من رواية أبي إسماعيل الترمذي في غير كتاب البيهقي .
وأما الرواية التي في ( ( صحيح البخاري ) ) هي ( ( بشق ) ) - بالباء .(6/296)
"""""" صفحة رقم 297 """"""
قال في ( ( المطالع ) ) : كذا قيده الاصيلي ، وذكر عن بعضهم أنه قال : ( ( بشق ) ) - بكسر الباء - تأخر وحبس . وقال غيره : ملَّ . وقيل : ضعف .
وقيل : حبسَ . وقيل : هو مشتق من ( ( الباشق ) ) ، وهو طائر لا ينصرف إذا كثر المطر .
وسئل أبو محمد بن حزم الظاهري عن هذه اللفظة ، فقال في جوابه : هي لفظة قد أعيتنا قديماً ، وما رأيت من يعرفها . ولقد أخبرني بعض إخواننا ، أنه سأل عنها جماعة ممن نظن بهم علم مثل هذا ، فما وجد فيه شيئاً ، وأكثر ما وجدنا في هذه اللفظة ما ذكره صاحب ( ( العين ) ) فقال : وأما ( ( بشق ) ) ، فلو أشتق هذا الفعل من اسم ( ( الباشق ) )
جاز ، و ( ( الباشق ) ) طائر ، وهذا كلام لا يحصل منه على كثير فائدة .
وذكر أن السائل ذكر في سؤاله أنه قد قيل : إنه ( ( نشق ) ) - بالنون - ، وأن اللحياني ذكر في ( ( نوادره ) ) أن معنى ( ( نشق ) ) - بالنون - : كلَّ .
قال ابن حزم : ولقد كان هذا حسناً ، إذا صح ، لو وافق الرواية ، وروايتنا بالباء . انتهى ما ذكره .
والمنقول عن اللحياني في ( ( نوادره ) ) ، أنه قال : قد نشق فلان في حبالي ،
ونشب ، وعلق ، واستورط ، وارتبط ، واستبرق واترنبق وانربق في معنى واحد .
وعن غيره ، أنه قال : الصواب ( ( نشق ) ) - بالنون - قال : وهو مشتق من(6/297)
"""""" صفحة رقم 298 """"""
النشقة ، وهي العقدة التي تكون على يد البعير من الصيد ، فكأنه قال : تقيد المسافر .
وقال الخطابي في ( ( الأعلام ) ) : ( ( بشق ) ) ليس بشيء إنما هو ( ( لثق ) ) ، من
اللثوق ، وهو الوحل ، لثق الطريق والثوب : إذا أصابه ندى المطر ، وبكى الرجل حتى لثقت لحيته ، أي : اخضلت ، ويحتمل أن يكون ( ( مشق ) ) ، أي : صار منزله زلقاً ، ومنه مشق الخط ، والميم والباء متقاربان . انتهى ما ذكره .
والمقصود من هذا الحديث في هذا الباب : أن المأمومين يرفعون أيديهم إذا رفع الإمام يده ، ويدعون معه .
وممن قال : إن الناس يدعون ويستسقون من الإمام : مالك وأحمد .
وقال أصحاب الشافعي : إن سمعوا دعاء الإمام أمنوا عليه ، وإن لم يسمعوا دعوا .
وكذا قالوا في قنوت المأموم خلف الإمام .
وأما مذهب أحمد ، فإن لم يسمع المأموم قنوت إمامه المشروع دعا .
وإن سمع ، فهل يؤمن ، أو يدعو ، أو يخير بينهما ، أو يتابعه في الثناء ، ويؤمن على دعائه ؟ حكي عنه فيهِ روايات .(6/298)
"""""" صفحة رقم 299 """"""
- باب رفع الإمام يده في الاستسقاء
1031 - حدثنا محمد بن بشار : نا يحيى وابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، قال : كان النبي ( لا يرفع يديه في شي من دعائه إلا في
الاستسقاء ، وإنه كان يرفع حتى يرى بياض إبطيه .
وقد سبق في الباب الماضي ، في الرواية التي علقها عن أنس ، أن النبي ( رفع في دعائه يوم الجمعة بالاستسقاء حتى رئي بياض إبطيه .
ولا يوجد ذلك في كل النسخ ، وقد ذكره - تعليقا - في ( ( كتاب الأدعية ) ) في آخر ( ( صحيحه ) ) .
وروى معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن بركة ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، أن النبي ( استسقى حتى رأيت - أو رئي - بياض إبطيه 0 قال معتمر : أراه في الاستسقاء .
خرجه ابن ماجه .
وقد رواه بعضهم ، فلم يذكر : ( ( بركة ) ) في إسناده .
والصواب ذكره - : قاله الدارقطنى .
وبركة ، هو : المجاشعي .
قال أبو زرعة : ثقة .
وقد تقدم حديث عائشة في الاستسقاء ، وأن النبي ( لم يزل يرفع حتى يرى بياض إبطيه .
وقول أنس : ( ( كان لا يرفع يديه إلا في الاستسقاء ) ) ، في معناه قولان :(6/299)
"""""" صفحة رقم 300 """"""
أحدهما : أن أنسا اخبر عما حفظه من النبي ( ، وقد حفظ غيره عن النَّبيّ ( أنه رفع يديه في الدعاء في غير الاستسقاء - أيضا .
وقد ذكر البخاري في ( ( كتاب الأدعية ) ) : ( ( باب : رفع الأيدي في الدعاء ) ) :
وقال أبو موسى ، دعا النبي ( ، ثم رفع يديه ، ورأيت بياض إبطيه .
وقال ابن عمر : رفع النبي ( يديه ، وقال : ( ( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ) ) .
ثم ذكر رواية الأويسي تعليقاً ، وقد ذكرناها في الباب الماضي .
والثاني : أن أنساً أراد أنه لم يرفع يديه هذا الرفع الشديد حتى يرى بياض إبطيه ، إلا في الاستسقاء .
وقد خرّج الحديث مسلم ، ولفظه : كان النبي ( لايرفع يديه في شىء من دعائه الا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه . ومع هذا ؛ فقد رأه غيره رفع يديه هذا الرفع في غير الاستسقاء - أيضا .
وقد خرّج البخاري في ( ( الأدعية ) ) من حديث أبي موسى ، قال : دعا النبي ( بماء فتوضأ ، ثم رفع يديه ، وقال : ( ( اللهم اغفر لعبيد أبي عامر ) ) ورأيت بياض إبطيه .
وخرّجه مسلم - أيضا .
وخرّجه مسلم من حديث شعبه ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : رايت(6/300)
"""""" صفحة رقم 301 """"""
رسول الله ( يرفع يديه في الدعاء ، حتى يرى بياض إبطيه .
ولم يذكر في هذه الروايه الاستسقاء ، لكن في روايه خرجها البيهقي : ( ( يعني : في الاستسقاء ) ) .
[ 0 0 0 0 0 0 ] في هذا الحديث : قال شعبة : فأتيت علي بن زيد ، فذكرت ذلك له ، فقال : إنما ذلك في الاستسقاء . قلت : أسمعته من أنس ؟
قالَ : سبحان الله 0 قلت : أسمعته من أنس ؟ قالَ : سبحان الله .
وخرّج الإمام أحمد من حديث سهل بن سعد ، قالَ : ما رأيت النَّبيّ ( شاهرا يديه قط يدعو على منبر ولا غيره ، ما كانَ يدعو إلا يضع يديه حذو منكبيه ، ويشير بإصبعه إشارة .
وخرّج أبو يعلى الموصلي بإسناد ضعيف ، عن أبي برزة الأسلمي ، أن النبي ( رفع يديه في الدعاء حتى رئي بياض إبطيه .
وخرّج مسلم من حديث ابن عباس ، عن عمر بن الخطاب ، أن النبي ( يوم بدر استقبل القبلة ، ثم مد يديه ، فجعل يهتف بربه : ( ( اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آتني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ) ) ، فما زال يهتف بربه ، مادا يديه ، مستقبل القبلة حتى سقط رداءه عن منكبيه - وذكر الحديث .
قال الوليد بن مسلم في ( ( كتاب الدعاء ) ) : نا عبد الله بن العلاء ، قال : سمعت الزهري ومكحولا يقولان : لم نحفظ عن رسول الله ( أنه رفع يديه(6/301)
"""""" صفحة رقم 302 """"""
كل الرفع إلا في ثلاث مواطن : عشية عرفة ، وفي الاستسقاء ، والانتصار .
ولا أعلم أحدا من العلماء خالف في استحباب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء ، وإنما اختلفوا في غيره من الدعاء ، كما سنذكره في موضعه - إن شاء الله سبحانه
وتعالى .
وانما اختلفوا في صفة الرفع ، على حسب اختلاف الروايات عن النبي ( في ذلك في الاستسقاء .
وقد روي ، عنه ( في الاستسقاء في هذا خمسة أنواع :
أحدها : الإشارة بإصبع واحدة إلى السماء .
روي عامر بن خارجة بن سعد ، عن أبيه ، عن جده سعد ، أن قوما شكوا إلى رسول الله ( قحط المطر ، فقال : ( ( اجثوا على الركب ، وقولوا : يا رب ، يا رب ) ) ورفع السبابة إلى السماء ، فسقوا حتى أحبوا أن يكشف عنهم .
خرّجه الطبراني .
وخرّجه أبو القاسم البغوي في ( ( معجمه ) ) ، وعنده : عن عامر بن خارجة ، عن جده سعد .
وترجم عليه ( ( سعد أبو خارجة ) ) يشير إلى أنه ليس سعد بن أبي وقاص .
[ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ] .
كل الرفع إلا في ثلاث مواطن : عشية عرفة ، وفي الاستسقاء ، والانتصار .
ولا أعلم أحداً من العلماء خالف في استحباب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء ، وإنما اختلفوا في غيره من الدعاء ، كما سنذكره في موضعه - إن شاء الله سبحانه
وتعالى .
وإنما اختلفوا في صفة الرفع ، على حسب اختلاف الروايات عن النَّبيّ ( في ذَلِكَ في الاستسقاء .
وقد روي ، عنه ( في الاستسقاء في هذا خمسة أنواع :
أحدها : الإشارة بإصبع واحدة إلى السماء .
روى عامر بن خارجة بن سعد ، ؟ عن أبية ، عن جده سعد ، أن قوماً شكوا إلى رسول الله ( قحط المطر ، فقالَ : ( ( اجثوا على الركب ، وقولوا : يا رب ، يا رب ) ) ورفع السبابة إلى السماء ، فسقوا حتَّى أحبوا أن يكشف عنهم .
خرجه الطبراني .
وخرجه أبو القاسم البغوي في ( ( معجمه ) ) ، وعنده : عن عامر بن خارجة ، عن جده سعد .
وترجم عليهِ ( ( سعد أبو خارجة ) ) ، يشير إلى أنه ليس سعد بن أبي وقاص
[ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ] .
والإشارة بالإصبع ، تارة تكون في الدعاء ، كما روي عن النَّبيّ ( ، أنه كانَ يفعله في دعائه على المنبر كما تقدم في ( ( كتاب الجمعة ) ) .(6/302)
"""""" صفحة رقم 303 """"""
وقد تقدم قريباً حديث سهل بن سعد في ذَلِكَ .
وتاره تكون في الثناء على الله ، كما الله ، كما في التشهد ، وكما أشار النَّبيّ ( بإصبعه بعرفة ، وقال : ( ( اللَّهُمَّ ، اشهد ) ) ، وكما أشار بإصبعه لما ركب راحلته ، وقال : ( ( اللَّهُمَّ ، أنت الصاحب في السفر ) ) .
وروي عن أبي هريرة ، أنه قالَ : إذا دعا أحدكم فهكذا - ورفع إصبعه المشيرة - وهكذا - ورفع يديه جميعاً .
خرجه الوليد بن مسلم في ( ( كتاب الدعاء ) ) .
وروى عن ابن عباس ، قالَ : والاستغفار : أن يشير بإصبع واحدة .
روي عنه مرفوعا وموقوفا ، ذكره أبو داود .
وروى عن عائشة ، قالت : إن الله يحب أن يدعا هكذا - وأشارت بالسبابة .
وروي عنها - مرفوعا .
وعن ابن الزبير ، قالَ : إنكم تدعون أفضل الدعاء ، هكذا - وأشار بإصبعه .
وعن ابن سيرين ، قالَ : إذا أثنيت على الله ، فأشر بإصبع واحدة .
وعن ابن سمعان ، قالَ : بلغنات أنه الإخلاص .
قالَ حرب : رأيت الحميدي يشير بالسبابة - يعني : في الدعاء - ، ويقول : هذا الدعاء ، ويقول : هذا السؤال .
وذهب طائفة من العلماء إلى أن المصلي إذا قنت لا يرفع يديه في دعاء القنوت ، بل يشير بإصبعه .
ذكره الوليد بن مسلم في ( ( كتابه ) ) ، عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز(6/303)
"""""" صفحة رقم 304 """"""
ويزيد بن أبي مريم وابن حبان وإبراهيم بن ميمون .
ونقل ابن منصور ، عن إسحاق بن راهويه ، قالَ : إن شاء رفع يديه ، وإن شاء أشار بإصبعه .
النوع الثاني : رفع اليدين وبسطهما ، وجعل بطونهما إلى السماء .
وهذا هوَ المتبارد فهمه من حديث أنس في رفع النَّبيّ ( يديه في دعاء الاستسقاء يوم الجمعة على المنبر .
وخرجه أبو داود من رواية محمد بن إبراهيم التيمي ، قالَ : أخبراني من رأي النَّبيّ ( يدعو عندَ أحجار الزيت باسطا كفيه .
يعني : في الاستسقاء .
وقد خرج أبو داود وابن ماجه ، عن ابن عباس - مرفوعا - : ( ( إذا سألتم الله فسلوه ببطون أكفكم ، ولا تسألوه بظهورها ) ) .
وإسناده ضعيف ، وروى مرفوعا .
وروي - أيضا - عن ابن عمر وأبي هريرة وابن سيرين وغيرهم .
وروي حرب ، عن الحميدي ، قالَ هذا هوَ السؤال .
النوع الثالث : أن يرفع يديه ، ويجعل ظهورهما إلى القبلة ، وبطونهما مما يلي وجهه .
وخرج أبو داود من حديث محمد بن إبراهيم التيمي ، عن عمير مولى آبي اللحم ، أنه رأى النَّبيّ ( يستسقي عندَ أحجار الزيت ، قائما يدعو ، يستسقى ، رافعا يديه قبل وجهه ، لا يجاوز بهما رأسه .(6/304)
"""""" صفحة رقم 305 """"""
وخرجه الإمام أحمد ، وزاد : ( ( مقبلا بباطن كيفه إلى وجهه ) ) .
وخرجه ابن حبان - بهذه الزيادة .
وخرجه جعفر الفريابي من وجه آخر ، عن عمير ، أنه رأى النَّبيّ ( قائما يدعو ، رافعا كفيه قبل وجهه ، لا يجاوز بهما رأسه ، مقبلا ببطن كفيه إلى وجهه .
وخرج الإمام أحمد ، من حديث خلاد بن السائب ، أن النَّبيّ ( كانَ إذا دعا جعل باطن كفيه إلى وجهه .
وفي رواية لهُ - أيضا - : كانَ النَّبيّ ( إذا جعل باطن كفيه إليه وإذا استعاذ جعل ظاهر هما إليه .
وفي إسناده اختلاف على ابن لهعية .
وخرجه جعفر الفرابي ، وعنده - في رواية لهُ - : عن خلاد بن السائب ، عن أبيه ، أن النَّبيّ ( كانَ إذا دعا جعل راحته إلى وجهه .
وذكر الوليد بن مسلم ، عن ابن سمعان ، قالَ : بلغنا أن رفع اليدين إلى المنكبين دعاء ، وأن قلبهما والاستقبال ببطونهما وجه الإنسان تضرع ، وأن رفعهما إلى الله جدا ابتهال .
وعن أبي عمرو ، عن خصف الجزري ، قالَ : رفع اليدين - يعني يكفيه -
تضرع ، وهكذا - يعني : قلبهما مما يلي وجهه - رهبة .
النوع الرابع : عكس الثالث ، وهو أن يجعل ظهورهما مما يلي وجه الداعي .(6/305)
"""""" صفحة رقم 306 """"""
قالَ الجوزجاني : نا عمرو بن عاصم : نا حماد بن سلمة ، عن ثابت وحميد ، عن أنس ، أن النَّبيّ ( استسقى ودعا هكذا - يقبل ببياض كفية على القبلة ، وظاهر هما إلى وجهه .
ثُمَّ قالَ : وفي هذا بيان أنه قلب كفية ، وجعل ظاهر هما إلى وجهه .
وقد تقدم في حديث خلاد بن السائب هذه الصفة - أيضا .
وروى عن ابن عباس ، أن هذا هوَ الابتهال .
خرجه أبو داود .
وعنه قالَ : هوَ استجارة .
وروي عن أبي هريرة ، أنه الاستجارة - أيضا .
خرجه الوليد بن مسلم .
وروي عن ابن عمر ، قالَ : إذا سأل أحدكم ربه ، فليجعل باطن كفيه إلى
وجهه ، وإذا استعاذ فليجعل ظاهرهما إلى وجهه .
خرجه جعفر الفريابي .
وروي عن عمر بن عبد العزيز ، أنه كانَ يدعو إذا رفع يديه حذو منكبيه ، ظهورهما مما يلي وجهه .
النوع الخامس : أن يقلب كفيه ، ويجعل ظهورهما مما يلي السماء ، وبطونهما مما يلي الأرض ، مع مد اليدين ورفعهما إلى السماء .
خرج مسلم من حديث حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، أن النَّبيّ(6/306)
"""""" صفحة رقم 307 """"""
( استسقى ، فأشار بظهر كفيه إلى السماء .
وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : رأيت رسول الله ( يستسقي ، بسط يديه ، وجعل ظاهر هما مما يلي السماء .
وخرجه أبو داود ، وعنده : استسقى - يعني : ومد يديه - ، وجعل بطونهما مما يلي الأرض ، حتَّى رأيت بياض إبطيه .
وفي رواية : وهوَ على المنبر .
خرجها البيهقي .
وخرج أبو داود من رواية عمر بن نبهان ، تكلم فيهِ .
وخرج الإمام أحمد من رواية بشر بن حرب ، عن أبي سعيد الخدري ، قالَ : كانَ رسول الله ( واقفا بعرفة يدعو ، هكذا ، ورفع يده حيال ثندوتيه ، وجعل بطون كفيه مما يلي الأرض .
وفي رواية لهُ - أيضا - : وجعل ظهر كفيه مما يل وجهه ، ورفعهما فوق
ثندوتيه ، وأسفل من منكبيه .
وبشر بن حرب ، مختلف فيهِ .(6/307)
"""""" صفحة رقم 308 """"""
وقد تأول بعض المتأخرين حديث أنس على أن النَّبيّ ( لم يقصد قلب كفيه ، إنما حصل لهُ من شدة رفع يديه انحاء بطونهما إلى الأرض .
وليس الأمر كما ظنه ، بل هوَ صفة مقصود لنفسه في رفع اليدين في الدعاء .
روى الوليد بن مسلم بإسناده ، عن ابن سيرين ، قالَ : إذا سألت الله فسل ببطن كفيك ، وإذا استخرت الله ، فقل هكذا - ووجه يديه إلى الأرض - ، وقال : لا تبسطهما .
وروى الإمام أحمد ، عن عفان ، أن حماد بن سلمة وصف النَّبيّ ( يديه بعرفة ، ووضع عفان وكفيه مما يلي الأرض .
وقال حرب : رأيت الحميدي مد يديه ، وجعل بطن كفيه إلى الأرض ، وقال : هكذا الابتها .
وحماد بن سلمة والحميدي من أشد الناس تشددا في السنة ، وردا على من خالفها من الجهمية والمعتزلة ونحوهم .
وقد ذهب مالك إلى رفع اليدين في الاستسقاء على هذا الوجه :
ففي ( ( تهذيب المدونة ) ) في ( ( كتاب الصَّلاة ) ) : ضعف مالك رفع اليدين عد الجمرتين ، واستلام الحجر ، وبعرفات ، والموافق ، وعند الصفا والمروة ، وفي المشعر ، ووالاستسقاء ، وقد رئي مالك رافعا يديه في الاستقاء ، حين عزم عليهم الإمام ، وقد جعل بطونهما مما يلي الأرض ، وقال إن كانَ الرفع فهكذا .
قالَ ابن القاسم : يريد في الاستسقاء في مواضع الدعاء .
وكذا ذكره أصحاب الشافعي :
ففي ( ( شرح المهذب ) ) في ( ( الاستسقاء ) ) : قالَ الرافعي وغيره : قالَ(6/308)
"""""" صفحة رقم 309 """"""
العلماء : السنة لكل من الدعا لرفع بلاء أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء ، وإن دعا لطلب شيء جعل بطن كفيه إلى السماء .
وقال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا في كتابه ( ( الشافي ) ) في ( ( كتاب الاستسقاء ) ) في ( ( باب : القول في رفع اليدين في الدعاء وصفته ) ) ، ثُمَّ روى فيهِ حديث قتادة ، عن أنس الذي خرجه البخاري في الدعاء وصفته ) ) ، ثُمَّ حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس : كانَ النَّبيّ ( يستسقى هكذا - ومد يديه ، وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتَّى بياض إبطيه .
ولم يذكر في الرفع وصفته غير ذَلِكَ ، وهذا يدل على أنه علي أنه يرى أن هذا هوَصفته رفع اليدين في الاستسقاء ، أو مطلقا ؛ لكن مع رفع اليدين إلى السماء والاجتهاد في رفعهما ، إلا أن يرى منه بياض الابطين .(6/309)
"""""" صفحة رقم 310 """"""
- باب ما يقول إذا أمطرت
وقال ابن عباس ( كصيب ( [ البقرة : 19 ] المطر .
وقال غيره : صاب وأصاب يصوب .
1032 - حدثنا محمد بن مقتل أبو الحسن المروزني : أنا عبد الله - هوَ : ابن المبارك - : أنا عبيد الله ، عن نافع ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، أن رسول الله ( كانَ إذا رأى المطر قالَ : ( ( صيبا نافعا ) ) .
تابعه : القاسم بن يحيى ، عن عبيد الله .
ورواه الأوزاعي وعقيل ، عن نافع .
أما ذكر المتابعات على هذا الإسناد ؛ لا ختلاف وقع فيهِ :
فإنه روي عن عبيد الله ، عن القاسم ، عن عائشة ، أن رسول الله ( - من غير ذكر : ( ( نافع ) ) .
والصحيح : ذكر : ( ( نافع ) ) فيهِ .
وقد رواه - أيضا - يحيى القطان وعبدة بن سليمان ، عن عبيد الله كذلك - : ذكره الدار قطني في ( ( علله ) ) .
فإن كانَ ذَلِكَ محفوظا عنهما ، فكيف لم يذكر البخاري متابعتهما لابن المبارك ، وعدل عنه إلى متابعة القاسم بن يحيى ؟
وأما عقيل ، فرواه عن نافع ، عن القاسم ، عن عائشة .(6/310)
"""""" صفحة رقم 311 """"""
ورواه - أيضا - أيوب ، عن القاسم ، عن عائشة .
خرجه الإمام أحمد ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عنه ، ولفظ حديثه : ( ( اللَّهُمَّ صيبا هنيئا ) ) .
وأما الأوزاعي ، فقد رواه عن نافع ، عن القاسم ، عن عائشة ، كما ذكره البخاري ، ولفظ حديثه : ( ( اللَّهُمَّ اجعله صيبا هنيئا ) ) .
وقد خرج حديثه كذلك الإمام أحمد وابن ماجه .
وفي رواية ابن ماجه : أن الأوزاعي قالَ : ( ( أخبرني نافع ) ) ، كذا خرجه من طريق عبد الحميد بن أبي العشرين ، عنه .
وقد روي التصريح بالتحديث فيهِ عن الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي - أيضا .
ورواه إسماعيل بن سماعة ، عن الأوزاعي ، عن رجل ، عن نافع ، عن القاسم ، عن عائشة .
وقال البابلتي : عن الأوزاعي ، عن محمد بن الوليد الزبيدي ، عن نافع ، عن القاسم ، عن عائشة .
وقال عقبة بن علقمة : عن الأوزاعي ، عن الزهري ، عن نافع عن القاسم ، عائشة .
قالَ الدار قطني : وهو غير محفوظ .
وقال عيسى بن يونس وعباد بن جويرية : عن الأوزاعي ، عن الزهري(6/311)
"""""" صفحة رقم 312 """"""
عن القاسم ، عن عائشة - من غير ذكر : ( ( نافع ) ) .
وكذا روي عن ابن المبارك ، عن الأوزاعي .
قالَ الدارقطني : فإن كانَ ذَلِكَ محفوظا عن الأوزاعي ، فهوَ غريب عن الزهري .
وخرجه البيهقي من رواية الوليد بن مسلم : نا الأوزاعي : حدثني نافع ثُمَّ قالَ : كانَ ابن معين يزعم أن الأوزاعي لم يسمع من نافع شيئا .
ثُمَّ خرجه من طريق الوليد مزيد : نا الأوزاعي : حدثني رجل ، عن نافع - فذكره .
قالَ : وهذا يشهد لقول ابن معين .
قلت : وقد سبق الكلام على رواية الأوزاعي عن نافع في ( ( باب : حمل العنزة بين يدي الإمام يوم العيد ) ) ؛ فإن البخاري خرج حديثا للأوزاعي عن نافع مصرحا فيهِ بالسماع .
وقد روي هذا الحديث عن عائشة من وجه آخر .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود ووالنسائي وابن ماجه من حديث المقدم بن شريح ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن النَّبيّ ، كانَ إذا أمطر قالَ : ( ( اللَّهُمَّ صيبا هنيئا ) ) - لفظ أبي دواد .
ولفظ النسائي : ( ( اللَّهُمَّ اجعله سيبا نافعا ) ) .
ولفظ ابن ماجه : ( ( اللَّهُمَّ ، سيبا نافعا ) ) - مرتين أو ثلاثا .
وفي رواية لابن أبي الدنيا في ( ( كتاب المطر ) ) : ( ( اللَّهُمَّ سقيا نافعا ) ) .
وخرج مسلم من طريق جعفر بن محمد ، عن عطاء ، عن عائشة ، أن(6/312)
"""""" صفحة رقم 313 """"""
النَّبيّ ( كانَ يقول إذا رأى المطر : ( ( رحمة ) ) .
وقد أشار البخاري إلى تفسير قوله ( : ( ( صيبا هنيئا ) ) ، فذكر عن ابن عباس ، أن الصيب هوَ المطر .
وقد خرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ( ( كتاب المطر ) ) من رواية هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس .
وقال غيره : هوَ المطر الشديد .
وقد ذكر البخاري عن بعضهم ، أن الفعل الماضي منه : ( ( صاب وأصاب ) ) ، والمضارع منه : ( ( يصوب ) ) .
وهذا عجيب ؛ فإن ( ( أصاب ) ) إنما تقال في ماضي ( ( يصيب ) ) ، من الإصابة التي هي ضد الخطإ .
وأما ( ( صاب يصوب ) ) ، فنعمناه : نزل من علو إلى سفل .
وأما رواية من روى ( ( سيبا ) ) بالسين ، فيجوز أن تكون السين مبدلة من
الصاد .
وقيل : بل هوَ بسكون الياء ، معناه : العطاء .
وروي عن محمد بن أسلم الطوسي ، أنه رجح هذه الرواية ؛ لأن العطاء يعم المطر وغيره من أنواع الخير والرحمة وفي هذه الأحاديث كلها : الدعاء ببأن يكون النازل من السماء نافعا ، وذلك سقيا الرحمة ، دون العذاب .
وروي ابن أبي الدنيا بإسناده ، عن عبد الملك بن جابر بن عتيك ، أن رجلا من الأنصار كانَ قاعداً عندَ عمر في مطر ، فأكثر الأنصار الدعاء بالاستسقاء ، فضربه عمر بالدرة ، وقال : ما يدريك يكون في السقيا ألا تقول : سقيا وادعة ، نافعة ، تسع الأموال والأنفس .(6/313)
"""""" صفحة رقم 314 """"""
- باب من تمطر [ في المطر ] حتَّى يتحار على لحيته
خرج فيهِ :
1033 - حديث : الأوزاعي : نا إسحاق بن عبد الله : نا أنس ، قالَ : أصاب الناس سنة على النَّبيّ ( .
فذكر الحديث ، وقد تقدم في ( ( كتاب الجمعة ) ) بتمامه ، وفيه :
ثُمَّ لم ينزل - يعني : النَّبيّ ( - عن منبره حتَّى رأيت المطر يتحادر على لحيته .
خرجه من طريق ابن المبارك ، عن الأوزاعي .
وفي الاستدال بهذا الحديث على التمطر نظر ؛ فإن معنى التمطر : أن يقصد المستسقي أو غيره الوقوف في المطر يصيبه ، ولم يعلم أن النَّبيّ ( قصد الوقوف في ذَلِكَ اليوم على منبره حتَّى يصيبه المطر ، فلعله إنما وقف لإتما الخطبة خاصة .
وفي الاستمطار أحاديث أخر ، ليست على شرط البخاري :
فخرج مسلم ، من رواية جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس ، قالَ - قالَ أنس - : أصابنا ونحن مع رسول الله ( مطر ، فحسر رسول الله ( ثوبه ، حتَّى أصابه من المطر ، فقلنا : يارسول الله ، لم صنعت هذا ؟ قالَ(6/314)
"""""" صفحة رقم 315 """"""
( ( لأنه حديث عهد بربه ) ) .
وخرج ابن أبي االدنيا ، من رواية الربيع بن صبيح ، عن زيد الرقاشي ، عن أنس ، قالَ : كانَ رسول الله ( يلقي ثيابه أول مطره ، ويتمطر .
والرقاشي ، ضعف جدا .
وروى بإسناده ، عن جابر الجعفي ، عن عبد الله بن نجي ، قالَ : كانَ علي - ( - إذا مطرت السماء خرج فإذا أصاب صلعته الماء مسح رأسه ووجهه وجسده ، وقال : ( ( بركة نزلت من السماء لم تمسها يد ولا سقاء ) ) .
وبإسناده ، عن عبد الله بن مؤمل ، عن ابن أبي مليكة ، قالَ : كانَ ابن عباس يتمطر ، يقول : يا عكرمة ، أخرج الرحل ، أخرج كذا ، أخرج كذا ، حتَّى يصيبه
المطر .
وبإسناده ، عن وكيع ، عن أم غراب ، عن نباتةة ، قالَ : كانَ عثمان بن عفان يتمطر .
وبإسناده ، عن أبي الأشعر ، قالَ : رأيت أبا حكيم إذا كانت أول مطر تجرد ، ويقول : إن عليا كانَ يفعله ، ويقول ، أنه حديث عهد بالعرش .
وهذا يدل على أن عليا كانَ يرى أن المطر ينزل من البحر الذي تحت العرش .
وحديث العباس بن عبد المطلب ، عن النَّبيّ ( - في ذكر السحاب والمزن
والعنان ، وبعد ما بين السماء والأرض ، وبعد ما بين السموات بعضهما من بعض ، وأن فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله ، مثل ما بين سماء إلى سماء - شهد ذَلِكَ .
وقد خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم .(6/315)
"""""" صفحة رقم 316 """"""
وقال : صحيح الإسناد .
وقال الترمذي : حسن غريب .
وكذلك قاله عكرمة وخالد بن معدان وغيرهما من السلف : أالمطر ينزل من تحت العرش .
وروي عن ابن عباس من وجوه ما يدل عليهِ .
وأما من قالَ : أن المطر كله من ماء البحر ؛ فإنه ما لا علم لهُ به .
فإن استدل بإنه يشاهد اغتراف السحاب من البحر ، فقد حكم حكما كليا بنظر جزئي ، ومن أين لهُ أن كل السحاب كذلك ؟
وقد خرج ابن أبي الدنيا بإسناده ، عن خالد بن يزيد : منه من السماء ، فلا ما يستقيه الغيم من البحر ، فيعذبه الرعد والبرق ، فإما ما يكون من البحر ، فلا يكون لهُ نبات ، وأما النبات فما كانَ من ماء السماء ، وقال إن شئت أعذبت ماء البحر ، فأمر بقلال من ماء ، ثُمَّ وصف كيف يصنع حتَّى تعذب .
ونص الشافعي وأصحابنا على استحباب التمطر في أول مطرة تنزل من السماء في السنة .
وحديث أنس الذي خرجه البخاري إنما يدل على التمطر بالمطر النازل
بالاستسقاء ، وإن لم يكن أول مطرة في تلك السنة .(6/316)
"""""" صفحة رقم 317 """"""
- باب إذا هبت الريح
1034 - حديثا سعيد بن أبي مريم : أنا محمد بن جعفر : أخبرني حميد ، أنه سمع أنس بن مالك يقول : كانت الريح الشديدة إذا هبت عرف ذَلِكَ في وجه النَّبيّ ( .
إنما كانَ يظهر في وجه النَّبيّ ( الخوف من اشتداد الريح ؛ لأنه كانَ يخشى أن تكون عذابا أرسل إلى أمته .
وكان شدة الخوف النَّبيّ ( على أمته شفقة عليهم ، كما وصفة الله سبحانه وتعالى بذلك في قوله : ( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ( [ التوبة : من الآية 128 ] .
ولما تلا عليهِ ابن مسعود : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً ( [ النساء : 41 ] بكى .
ولما تلا قوله : ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ( الآية [ المائدة : من الآية 118 ] بكى ، وقال : ( ( اللَّهُمَّ ، أمتي ، أمتي ) ) ، فأرسل الله جبريل يقول لهُ : ( ( إن الله يقول : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ) ) .
وكان يقول : ( ( شيبتني هود وأخواتها ) ) .
وجاء في رواية مرسلة : ( ( قصفن علي الأمم ) ) .(6/317)
"""""" صفحة رقم 318 """"""
يشير إلى أن شيبه منها ما ذكر من هلاك الأمم قبل أمته وعذابهم .
وكان عندَ لقاء العدو يخاف على من معه من المؤمنين ، ويستغفر لهم ، كما فعل يوم بدر ، وبات تلك الليلة يصلي ويبكي ويستغفر لهم ، ويقول : ( ( اللَّهُمَّ ، إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ) ) .
وكل هذا من خوفه وشفقته من اشتداد الريح :
وقد جاء في رويات متعددة : التصريح بسبب خوفه من اشتداد الريح :
ففي ( ( الصحيحين ) ) من حديث سليمان بن يسار ، عن عائشة ، أن النَّبيّ ( كانَ إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذَلِكَ في وجهه ، فقلت : يارسول الله : أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا ؛ رجاء أن يكون فيهِ المطر ، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك
الكراهية ؟ فقالَ : ( ( يا عائشة ، يؤمني أن يكون فيهِ عذاب ، قد عذب قوم بالريح ، وقد العذاب ، فقالوا ( هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ( [ الاحقاف : من الآية 24 ] ) ) .
وخرجا - أيضا - من رواية ابن جريح ، عن عطاء ، عن عائشة ، قالت كانَ رسول الله ( إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر ، ودخل وخرج ، وتغير وجهه ، فإذا أمطرت السماء سري عنه ، فعرفته عائشة ذَلِكَ ، فقالَ النَّبيّ ( : ( ( وما أدري لعله كما قالَ قوم : ( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ( [ الاحقاف : من الآية 24 ] الآية ) ) .
وزاد مسلم - في أوله - : كانَ النَّبيّ ( إذا عصفت الريح قالَ : ( ( اللَّهُمَّ ، أني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به ) ) .(6/318)
"""""" صفحة رقم 319 """"""
وخرجه النسائي ، ولفظه : ( ( كانَ إذا رأى ريحا ) ) بدل : ( ( مخيلة ) ) .
وخرج مسلم - أيضا - من حديث جعفر بن محمد ، عن عطاء ، عن عائشة ، قالت : كانَ رسول الله ( إذا كانَ يوم الريح والغيم عرف ذَلِكَ في وجهه ، فأقبل
وأدبر ، فإذا مطر سر به ، وذهبت عنه ذَلِكَ . قالت عائشة : فسألته ، فقالَ : ( ( إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي ) ) .
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث المقدام بن شريح ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن النَّبيّ ( كانَ إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق ترك ما هوَ فيهِ ، وإن كانَ صلاته ، حتَّى يستقبله ، فيقول : ( ( اللَّهُمَّ ، إنا نعوذ بك من شر ما أرسل ) ) ، فإن أمطر قالَ : ( ( اللَّهُمَّ سقيا نافعا ) ) - مرتين أو ثلاثا - ، فإن كشفه الله ولم يمطر حمد الله على ذَلِكَ .
ولفظه لابن ماجه .
وخرجه أبو داود ، ولفظه : كانَ إذا رأى ناشئا في أفق السماء ترك العمل ، وإن كانَ في الصَّلاة ، ثُمَّ يقول : ( ( اللَّهُمَّ ، أني أعوذ بك من شرها ) ) .
وخرجه أبو داود ، ولفظه : كانَ إذا رأى ناشئا في أفق السماء ترك العمل ، وإن كانَ في صلاة ، ثُمَّ يقول : ( ( اللَّهُمَّ ، إني أعوذ بك من شرها ) ) .
وخرجه ابن السني ، ولفظه : كانَ إذا رأى في السماء ناشئا ، غبارا أو ريحا ، استقبله من حيث كانَ ، [ وإن كانَ في الصَّلاة ] تعوذ بالله من شره .(6/319)
"""""" صفحة رقم 320 """"""
وكذا خرجه ابن أبي الدينا .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي في ( ( اليوم والليلة ) ) وابن ماجه وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من حديث أبيه هريرة ، عن النَّبيّ ( ، قالَ : ( ( لا تسبوا الريح ، فإذا رأيتم ما تكرهون فقالوا : اللَّهُمَّ ، إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيهِا ، وخير ما أمرت به ، ونعوذ بك منشر هذه الريح ، وشر ما فيها وشر ما أمرت به ) ) .
وقال : حسن صحيح .
وخرجه النسائي في ( ( اليوم والليلة ) ) مرفوعا وموقوفا علي أبي كعب ( .
وفي الباب : أحاديث أخر متعددة .
وروي عن ابن مسعود ، قالَ : لا تسبوا الريح ؛ فإنها بشر ونذر ولواقح ، ولكن استعيذوا بالله من شر ما أرسلت به .
وعن ابن عباس ، قالَ : لا تسبوا الريح ؛ فإنها تجئ بالرحمة ، وتجئ بالعذاب ، وقولوا : اللَّهُمَّ ، اجعلها رحمة ، ولا تجعلها عذابا .
خرجهما ابن أبي الدنيا .
وخرج - أيضا - بلإسناده ، عن علي ، أنه كانَ إذا هبت الريح قالَ : اللَّهُمَّ ،(6/320)
"""""" صفحة رقم 321 """"""
إن كنت أرسلتها رحمة فارحمني فيمن ترحم ، وإن كنت أرسلتها عذابا فعافني فيمن تعافي .
وبإسناده ، عن ابن عمر ، أنه كانَ يقول إذا عصفت الريح : شدوا التكبير ؛ منتقع اللون ، فقالَ : مالك يا أمير المؤمنين ؟ قالَ : ويحك ، وهل هلكت أمة إلا بالريح ؟(6/321)
"""""" صفحة رقم 322 """"""
- باب قول النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] : " نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور "
1035 - حدثنا مسلم : ثنا شعبة ،
عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ،
أن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] قال : " نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور " .
وخرجه
مسلم من طريق شعبة - أيضا .
ومن طريق الأعمش ، عن مسعود بن مالك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس
، عن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] - بمثله .
وهذا مما يدل على أن الريح تأتي تارة بالرحمة ، وتارة بالعذاب .
وخرج الحاكم من
حديث جابر ، عن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، أنه كان يدعو :
" اللهم ، أعوذ بك من شر الريح ، ومن شر ما تجيء به الريح ، ومن
ريح الشمال ؛
فإنها الريح العقيم " .
ومن حديث سلمة بن الأكوع رفعه - إن شاء الله - ، أنه كان إذا اشتدت
الريح تقول : " اللهم ، لقحا لا عقيما " .
وروينا عن شريح ، قال : ما هاجت ريح قط إلا لسقم صحيح أو برء سقيم .
وفي " صحيح مسلم " ، أن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] كان في سفر ، فهبت ريح شديدة ،
فقال النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] : " هذه الريح لموت منافق
عظيم النفاق " ، فوجدوا قد مات في
ذلك اليوم عظيم من المنافقين . وهو رفاعة بن التابوت .(6/322)
"""""" صفحة رقم 323 """"""
- باب ما قيل في الزلازل والآيات
فيه حديثان :
الأول :
1036 - نا أبو اليمان : أنا شعيب : أنا
أبو الزناد ، عن عبد الرحمن ، عن
أبي هريرة ، قال : قال النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] : " لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر
الزلازل ، ويتقارب الزمان ، وتظهر الفتن ، ويكثر الهرج - وهو القتل القتل - ،
[ حتى يكثر فيكم المال فيفيض ] " .
هذا قطعة من حديث طويل ، قد خرجه بتمامه في " كتاب الفتن " .
وقبض العلم ، قد سبق الكلام عليه بما فيه
كفاية .
وتقارب الزمان ، فسر بقصر الأعمار ، وفسر بقصر الأيام في زمن الدجال .
وقد روي في ذلك أحاديث
متعددة ، الله أعلم بصحتها .
وأما كثرة الزلازل ، فهو مقصود البخاري في هذا الباب من الحديث .
والظاهر : أنه
حمله على الزلازل المحسوسة ، وهي ارتجاف الأرض
وتحركها .
ويمكن حمله على الزلازل المعنوية ، وهي كثرة
الفتن المزعجة الموجبة
لارتجاف القلوب .
والأول أظهر ؛ لأن هذا يغني عنه ذكر ظهور الفتن .
وكأن البخاري
ذكر هذا الباب استطرادا لذكر الرياح واشتدادها ، فذكر بعده(6/323)
"""""" صفحة رقم 324 """"""
الآيات والزلازل .
وقيل : إنه أشار إلى أن الزلازل لا يصلى لها ؛ فإن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ذكر ظهورها
وكثرتها ، ولم
يأمر بالصلاة لها ، كما أمر به في كسوف الشمس والقمر ، وكما
أنه لم يكن يصلي للرياح إذا اشتدت ، فكذلك الزلازل
ونحوها من الآيات .
وقد اختلف العلماء في الصلاة للآيات :
فقالت طائفة : لا يصلى لشيء منها سوى كسوف
الشمس والقمر ، وهو قول
مالك والشافعي .
وقد زلزلت المدينة في عهد عمر بن الخطاب ، ولم ينقل أنه صلى لها
، هو
ولا أحد من الصحابة .
وروى عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن صفية بنت أبي عبيد ، قالت :
زلزلت
الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر ، وابن عمر يصلي ، فلم يدر
بها ، ولم يوافق أحدا يصلي فدرى بها ،
فخطب عمر الناس ، فقال : أحدثتم ،
لقد عجلتم . قالت : ولا أعلمه إلا قال : لئن عادت لأخرجن من بين
ظهرانيكم
.
خرجه البيهقي .
وخرجه حرب الكرماني ، من رواية أيوب ، عن نافع - مختصرا .
وروي أيضا من
رواية ليث ، عن شهر ، قال : زلزلت المدينة على عهد
النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، فقال النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] : " إن الله يستعتبكم فاعتبوه " .
وهذا مرسل ضعيف .
وقالت طائفة ، يصلى لجميع الآيات في البيوت فرادى ، وهو قول سفيان(6/324)
"""""" صفحة رقم 325 """"""
وأبي حنيفة وأصحابه .
وكذلك إسماعيل بن سعيد الشالنجي ، عن أحمد ، قال : صلاة الآيات
وصلاة الكسوف
واحد .
كذا نقله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتابه " الشافي " من طريق
الجوزجاني ، عن الشالنجي ، عن
أحمد .
ونقله - أيضا - من طريق الفضل بن زياد وحبيش بن مبشر ، عن أحمد -
أيضا .
والذي نقله
الجوزجاني في كتابه " المترجم " ، عن إسماعيل بن سعيد ،
قال : سألت أحمد عن صلاة كسوف الشمس والقمر
والزلازل ؟ قال : تصلى
جماعة ، ثمان ركعات وأربع سجدات ، وكذلك الزلزلة .
قال : وبذلك قال أبو أيوب -
يعني : سليمان بن داود الهاشمي - وأبو خيثمة .
وقال : ابن أبي شيبة يرى فيها الخطبة وجماعة .
وقد نقل أبو
بكر في " الشافي " هذا - أيضا - من طريق الجوزجاني .
وخرج الجوزجاني من حديث عبد الله بن الحارث بن
نوفل ، قال : صلى
بنا ابن عباس في زلزلة كانت ، فصلى بنا ست ركعات في ركعتين ، فلما انصرف
التفت إلينا
وقال : هذه صلاة الآيات .
فالمنصوص عن أحمد إنما يدل على الصلاة للزلزلة خاصة ، وهو الذي عليه
عامة
أصحابنا ، وخصوه بالزلزلة الدائمة التي يتمكن من الصلاة لها مع وجودها .
وروي عن ابن عباس ، أنه صلى
للزلزلة بعد سكونها وانقضائها .(6/325)
"""""" صفحة رقم 326 """"""
وحكى بعض أصحاب الشافعي قولا له : أنه يصلى للزلزلة .
ومنهم من حكاه في جميع الآيات .
وحكى ابن عبد
البر ، عن أحمد وإسحاق وأبي ثور : الصلاة للزلزلة
والطامة والريح الشديدة .
وهذا يدل على استحبابها لكل آية ،
كالظلمة في النهار ، والضياء المشبه
للنهار بالليل ، سواء كان في السماء أو انتثار الكواكب ، وغير ذلك .
وهو
اختيار ابن أبي موسى من أصحابنا ، وظاهر كلام أبي بكر عبد العزيز في
" الشافي " - أيضا .
وممن روي عنه ،
أنه يصلي في الآيات : ابن عباس .
وفي " المسند " و " سنن أبي داود " ، عنه ، أنه سجد لموت بعض أزواج
النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، وقال : سمعت النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] يقول : " إذا رأيتم آية فاسجدوا " .
وروي عن عائشة ، قالت : صلاة الآيات
ست ركعات وأربع سجدات .
وروي عنها - مرفوعا .
خرجه الجوزجاني من طريق حماد بن سلمة ، عن قتادة ،
عن عطاء ، عن
عبيد بن عمير ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] يقوم في صلاة
الآيات ، فيركع ثلاث
ركعات ، ويسجد سجدتين ، ثم يقوم فيركع ثلاث ركعات ،
ثم يسجد سجدتين .(6/326)
"""""" صفحة رقم 327 """"""
واستدل به على الصلاة للزلزلة .
ولكن رواه وكيع ، عن هشام الدستوائي ، عن قتادة ، فوقفه على عائشة ،
وهو
الصواب .
وخرج ابن أبي الدنيا في " كتاب المطر " ، من رواية مكحول ، عن أبي صخر
زياد بن صخر ، عن
أبي الدرداء ، قال : كان النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] إذا كانت ليلة ريح كان
مفزعه إلى المسجد ، حتى تسكن الريح ، وإذا حدث في
السماء حدث من كسوف
شمس أو قمر كان مفزعه إلى الصلاة ، حتى ينجلي .
وهو منقطع ، وفي إسناده : نعيم بن
حماد ، وله مناكير .
وخرج أبو داود من رواية عبيد الله بن النضر ، قال : أخبرني أبي ،
قال : كانت ظلمة على
عهد أنس بن مالك . قال : أتيت أنس بن مالك ، فقلت
يا أبا حمزة : هل كان يصيبكم هذا على عهد النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ؟ فقال
: معاذ الله ، إن
كانت الريح تشتد فنبادر المسجد مخافة القيامة .
وبوب عليه : " باب : الصلاة عند الظلمة " .
وهو دليل على الصلاة عند اشتداد الريح - أيضا .
وأبو داود ، من أجل أصحاب الإمام أحمد .
ثم بوب على
السجود عند الآيات ، وذكر فيه حديث ابن عباس المتقدم .
وظاهره : يدل على أن الآيات يسجد عندها سجودا مفردا
، كسجود الشكر
من غير صلاة .
وذكر الشافعي ، أنه بلغه عن عباد ، عن عاصم الأحول ، عن قزعة ، عن
علي ، أنه صلى في زلزلة ست ركعات في أربع سجدات : خمس ركعات
وسجدتين في ركعة ، [ وركعة ] وسجدتين
في ركعة .(6/327)
"""""" صفحة رقم 328 """"""
قال الشافعي : ولو ثبت هذا الحديث عندنا لقلنا به .
قال البيهقي : هو ثابت عن ابن عباس .
ثم ذكر بنحو ما
تقدم .
وله طرق صحيحة ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس .
وروى حرب : نا إسحاق ، نا جرير ،
عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن
علقمة ، قال : إذا فزعتم من أفق من آفاق السماء فافزعوا إلى الصلاة .
وخرجه
البيهقي من رواية حبيب بن حسان ، عن الشعبي ، عن علقمة ،
قال : قال عبد الله : إذا سمعتم هادا من السماء ،
فافزعوا إلى الصلاة .
وخرجه ابن عدي من رواية حبيب بن حسان ، عن إبراهيم والشعبي ،
عن علقمة ، عن عبد
الله ، عن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، قال : " إذا فزعتم من أفق من آفاق
السماء ، فافزعوا إلى الصلاة " .
وقال : حبيب بن حسان
، قد اتهم في دينه ، ولا بأس برواياته .
قلت : الصحيح : رواية الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة - من قوله .
والله سبحانه وتعالى أعلم .
وروى حرب بإسناده ، عن أبي الجبر ، قال : أظلمت يوما نهارا ، حتى
رأينا الكواكب
، فقام تميم بن حذلم ، فصلى ، فأتاه هني بن نويرة ، فسأله ما(6/328)
"""""" صفحة رقم 329 """"""
صنع ؟ فأمره أن يرجع إلى بيته فيصلي .
واعلم ؛ أن الشغل بالصلاة في البيوت فرادى عند الآيات أكثر الناس
على
استحبابه ، وقد نص عليه الشافعي وأصحابه .
كما يشرع الدعاء والتضرع عند ذلك ؛ لئلا يكون عند ذلك
غافلا .
وإنما محل الاختلاف : هل تصلى جماعة ، أم لا ؟ وهل تصلى ركعة
بركوعين كصلاة الكسوف ، أم لا ؟
وظاهر كلام مالك وأكثر أصحابنا : أنه لا تسن الصلاة للآيات جماعة ولا
فرادى .
وفي " تهذيب المدونة " :
أنكر مالك السجود للزلزلة .
ولا وجه لكراهة ذلك ، إلا إذا نوى به الصلاة لأجل تلك الآية الحادثة دون
ما إذا نوى
به التطوع المطلق .
وقد روي عن طائفة من علماء أهل الشام ، أنهم كانوا يأمرون عند الزلزلة
بالتوبة والاستغفار
، ويجتمعون لذلك ، وربما وعظهم بعض علمائهم وأمرهم
ونهاهم ، واستحسن ذلك الإمام .
وروي عن عمر بن عبد
العزيز ، أنه كتب إلى أهل الأمصار : إن هذه الرجفة
شيء يعاتب الله به العباد ، وقد كنت كتبت إلى أهل بلد كذا وكذا
أن يخرجوا يوم
كذا وكذا ، فمن استطاع أن يتصدق فليفعل ؛ فإن الله يقول : ) قد أفلح من
تزكى ( [ الأعلى :
14 ] ، وقولوا كما قال أبوكم آدم : ) ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم
تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ( [
الأعراف : 23 ] ، وقولوا كما قال نوح :
) وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ( [ هود ، 47 ] ،
وقولوا كما قال موسى :
) رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ( [ القصص : 16 ] ، وقولوا كما قال ذو النون :(6/329)
"""""" صفحة رقم 330 """"""
) لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ( [ الأنبياء : 87 ] .
وقال أبو بكر الخلال في " كتاب العلل "
: نا أبو بكر المروذي ، قال :
سمعت أبا عبد الله - يعني : أحمد - يقول : سألني إنسان عن الرجفة ، فكتبت
له هذا
الحديث - وقال : ما أحسنه - : أنا أبو المغيرة ، قال : أصاب الناس
رجفة بحمص ، سنة أربع وتسعين ، ففزع
الناس إلى المسجد ، فلما صلى أيفع
بن عبد الكلاعي صلاة الغداة ، قام في الناس ، فأمرهم بتقوى الله ، وحذرهم
وأنذرهم ، ونزع القوارع من القرآن ، وذكر الذين أهلكوا بالرجفة قبلنا ، ثم
قال : والله ، ما أصابت قوما قط قبلكم إلا
أصبحوا في دارهم جاثمين ،
فاحمدوا الله الذي عافاكم ودفع عنكم ، ولم يهلكم بما أهلك به الظالمين قبلكم ،
وكان أكثر
دعائه : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، والحمد لله ، وسبحانه الله ،
ولا حول ولا قوة إلا بالله ، واستغفروا الله ، ويقول :
يا أيها الناس ، عليكم
بهؤلاء الكلمات ؛ فإنهن القرآن ، وهي الباقيات الصالحات .
ثم إن أيفع قال لأبي ضمرة
القاضي : قم في الناس ، فقام فصنع كما صنع ،
أيفع ، فلما قضى موعظته انصرف ، ثم صنع ذلك دبر الصلوات
ثلاثة أيام ،
فاستحسن ذلك المسلمون .
ومما يتعلق بالزلزلة : هل يجوز الخروج منها والهرب إلى الصحراء ؟
قال الأوزاعي : لا بأس به ؛ كل يعلم أنه ليس يسبق قدر الله من فر ومن
جلس ، قال : والجلوس أحب إلي .
خرجه حرب ، من رواية الوليد بن مسلم ، عنه .
قال حرب : وسألت إسحاق بن راهويه ، عن الرجل يكون في
بيته ،
فتصيبه الزلزلة : هل يقوم فيخرج من البيت ؟ قال : إن فعل فهو أحسن .
وقد صنف في هذه المسألة أبو
القاسم ابن عساكر الحافظ الدمشقي مصنفا ،(6/330)
"""""" صفحة رقم 331 """"""
ولم يذكر في ذلك أثرا عمن تقدم من العلماء ، لكنه حكى عن بعض من في
زمانه ، أنه استحب الفرار منها .
واستدل بحديث مرور النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] بحائط مائل ، فأسرع ، وقال : " أكره موت
الفوات " .
وهذا حديث مرسل ،
خرجه أبو داود في " مراسيله " .
وقد روي مسندا ، ولا يصح .
ورد أبو القاسم على هذا القائل قوله ، وألحق
الفرار منها بالفرار من
الطاعون .
وفي ذلك نظر ؛ لأن الفرار من الطاعون لا يتيقن به النجاة ، بل الغالب فيه
عدم النجاة ، وأما الخروج من المساكن التي يخشى وقوعها بالرجفة فيغلب على
الظن منه السلامة ، فهو كالهرب من
النار والسيل ونحوهما .
والحديث المرسل الذي ذكرناه يشهد له . والله سبحانه وتعالى أعلم .
وإنما جاء النهي عن
الخروج من الرجفة إلى الدجال ، إذا حاصر المدينة ،
فترجف المدينة ثلاث رجفات ، فيخرج إليه كل منافق ومنافقة .
الحديث الثاني :
1037 - نا محمد بن المثنى : نا حسين بن الحسن : نا ابن عون ، عن نافع ،
عن ابن عمر
، قال : اللهم ، بارك لنا في شامنا وفي يمننا ، قالوا : وفي نجدنا . قال :
اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا . وقالوا :
وفي نجدنا . قال : هناك الزلازل والفتن ،
وبها يطلع قرن الشيطان .(6/331)
"""""" صفحة رقم 332 """"""
هكذا خرجه البخاري هاهنا موقوفا .
وحسين بن الحسن بصري ، من آل مالك بن يسار ، أثنى عليه الإمام أحمد ،
وقال : كان يحفظ عن ابن عون .
وخرجه البخاري في " الفتن " من رواية أزهر السمان - مرفوعا .
وكذا رواه
عبد الرحمن بن عطاء ، عن نافع ، عن ابن عمر - مرفوعا -
أيضا .
خرج حديثه الإمام أحمد .
وكذا رواه أبو
فروة الرهاوي يزيد بن سنان - على ضعفه - : نا أبو رزين ،
عن أبي عبيد - صاحب سليمان - ، عن نافع ، عن
ابن عمر - مرفوعا .
وقد روي - أيضا - عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، عن النبي
[ ( صلى الله عليه وسلم ) ] .
ذكره
الترمذي في آخر " كتابه " - تعليقا .
ورواه - أيضا - بشر بن حرب ، عن ابن عمر ، عن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] .
خرجه
الإمام أحمد - أيضا .
والاستدلال بهذا الحديث على أن لا صلاة للزلزلة بعيد ، والاستدلال
بالحديث الذي قبله -
أيضا - ؛ لأن هذا إنما سيق لذم نجد وما يحدث فيه ، كما
أن الذي قبله سيق لذم آخر الزمان ، وما يحدث فيه ، دون
أحكام ما ذكر من(6/332)
"""""" صفحة رقم 333 """"""
قبض العلم وتقارب الزمان وكثرة الهرج .
وأحكام هذه الحوادث مذكورة في مواضع أخر .
فلا يدل السكوت
عنه هاهنا على شيء من أحكامها بنفي ولا إثبات ، فكذلك
يقال في أحكام الزلازل . والله أعلم .(6/333)
"""""" صفحة رقم 334 """"""
- باب قول الله عز وجل : ) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ( [ الواقعة : 82 ]
قال ابن عباس : شكركم
قال آدم بن أبي إياس في " تفسيره " : نا هشيم ، عن جعفر بن إياس ، عن
سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ،
في قوله : ) وتجعلون رزقكم ( أي : شكركم
) أنكم تكذبون ( قال : هو قولهم : مطرنا بنوء كذا وكذا .
قال ابن عباس : وما مطر قوم إلا أصبح بعضهم به كافرا ، يقولون : مطرنا
بنوء كذا وكذا .
ثم خرج في سبب
نزولها من رواية الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن
عباس .
وقد خرجه مسلم في " صحيحه " من رواية عكرمة بن
عمار : حدثني
أبو زميل : حدثني ابن عباس ، قال : مطر الناس على عهد رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ،
فقال رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] : "
أصبح من الناس شاكر ، ومنهم كافر ، قالوا : هذه رحمة
وضعها الله ، وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا " ،
فنزلت هذه الآية ) فلا
أقسم بمواقع النجوم ( - حتى بلغ ) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ( .
وروى عبد
الأعلى الثعلبي ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي ، عن
النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] : ) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ( قال
: " شكركم ، تقولون : مطرنا
بنوء كذا وكذا ، ونجم كذا وكذا " .
خرجه الإمام أحمد والترمذي .(6/334)
"""""" صفحة رقم 335 """"""
وقال : حسن غريب ، لا نعرفه - مرفوعا - إلا من حديث إسرائيل ، عن
عبد الأعلى .
ورواه سفيان عن عبد
الأعلى - نحوه - ، ولم يرفعه .
ثم خرجه من طريق سفيان - موقوفا على علي .
وكان سفيان ينكر على من
رفعه .
وعبد الأعلى هذا ، ضعفه الأكثرون . ووثقه ابن معين .
وخرج القاضي إسماعيل في كتابه " أحكام
القرآن " كلام ابن عباس بالإسناد
المتقدم ، عن سعيد بن جبير ، أن ابن عباس كان يقرؤها : ) وتجعلون
شكركم )
^ ، تقولون : على ما أنزلت من الغيث والرحمة ، تقولون : مطرنا بنوء
كذا وكذا . قال : فكان ذلك كفرا منهم لما أنعم
الله عليهم .
قال البخاري - رحمه الله - :
1038 - نا إسماعيل : حدثني مالك ، عن صالح بن كيسان ، عن عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن زيد بن خالد الجهني ، أنه قال : صلى لنا
رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] صلاة الصبح بالحديبية
على إثر سماء كانت من الليل ، فلما
انصرف النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] أقبل على الناس ، فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ "
قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال :
مطرنا بفضل الله ورحمته ،
فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : بنوء
كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " .
قوله : " على
إثر سماء " ، أي : مطر كان من الليل .(6/335)
"""""" صفحة رقم 336 """"""
والعرب تسمي المطر سماء ؛ لنزوله من السماء ، كما قال بعضهم :
إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه ،
وإن كانوا غضابا
وقوله : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ " - وفي بعض الروايات :
" الليلة " ، وهي تدل على
أن الله تعالى يتكلم بمشيئته واختياره .
كما قال الإمام أحمد : لم يزل الله متكلما إذا شاء .
وقوله : " أصبح من
عبادي مؤمن بي وكافر ، فمن قال : مطرنا بفضل الله
ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، ومن قال : بنوء كذا
وكذا ، فذلك
كافر بي مؤمن بالكوكب " .
يعني : أن من أضاف نعمة الغيث وإنزاله إلى الأرض إلى الله عز وجل
وفضله ورحمته ، فهو مؤمن بالله حقا ، ومن أضافه إلى الأنواء ، كما كانت
الجاهلية تعتاده ، فهو كافر بالله ، مؤمن
بالكوكب .
قال ابن عبد البر : النوء في كلام العرب : واحد أنواء النجوم ، وبعضهم
يجعله الطالع ، وأكثرهم
يجعله الساقط ، وقد تسمى منازل القمر كلها أنواء ،
وهي ثمانية وعشرون .
وقال الخطابي ، النوء واحد الأنواء ،
وهي الكواكب الثمانية والعشرون
التي هي منازل القمر ، كانوا يزعمون أن القمر إذا نزل ببعض تلك الكواكب مطروا
،
فجعل النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] سقوط المطر من فعل الله دون غيره ، وأبطل قولهم . انتهى .
وقال غيره : هذه الثمانية
وعشرون منزلا تطلع كل ثلاثة عشر يوما منزل
صلاة الغداة بالمشرق ، فإذا طلع رقيبه من المغرب ؛ فسميت أنواء
لهذا المعنى .(6/336)
"""""" صفحة رقم 337 """"""
وهو من الأضداد ، يقال : ناء إذا طلع ، وناء إذا غرب ، وناء فلان إذا
قرب ، وناء إذا بعد .
وقد أجرى الله
العادة بمجيء المطر عند طلوع كل منزل منها ، كما أجرى
العادة بمجيء الحر في الصيف ، والبرد في الشتاء .
فإضافة نزول الغيث إلى الأنواء ، إن اعتقد أن الأنواء هي الفاعلة لذلك ،
المدبرة له دون الله عز وجل ، فقد كفر بالله
، وأشرك به كفرا ينقله عن ملة
الإسلام ، ويصير بذلك مرتدا ، حكمه حكم المرتدين عن الإسلام ، إن كان قبل
ذلك
مسلما .
وإن لم يعتقد ذلك ، فظاهر الحديث يدل على أنه كفر نعمة الله .
وقد سبق عن ابن عباس ، أنه جعله كفرا
بنعمة الله عز وجل .
وقد ذكرنا في " كتاب : الإيمان " أن الكفر كفران : كفر ينقل عن الملة ،
وكفر دون ذلك ، لا
ينقل عن الملة ، وقد بوب البخاري عليه هنالك .
فإضافة النعم إلى غير المنعم بها بالقول كفر للمنعم في نعمه ، وإن
كان
الإعتقاد يخالف ذلك .
والأحاديث والآثار متظاهرة بذلك .
وفي " صحيح مسلم " ، عن أبي هريرة ، عن
النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، قال : " ألم تروا
إلى ما قال ربكم ؟ قال : ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها
كافرين ، يقولون : الكوكب وبالكوكب " .
وروي من وجه آخر ، عن أبي هريرة ، عن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، قال : " إن الله
عز وجل ليبيت القوم بالنعمة ، ثم يصبحون وأكثرهم بها كافر ، يقولون : مطرنا(6/337)
"""""" صفحة رقم 338 """"""
بنوء كذا وكذا " .
وروى أبو سعيد الخدري ، عن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، قال : " لو أمسك الله القطر عن
الناس سبع سنين ،
ثم أرسله ، كفرت طائفة منهم ، فقالوا : هذا من نوء
المجدح " .
وروى [ أبو ] الدرداء ، قال : مطرنا على عهد
رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ذات ليلة ،
فأصبح رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ورجل يقول : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فقال رسول الله
[ ( صلى الله عليه وسلم ) ] : " قلما
أنعم الله على قوم نعمة ، إلا أصبح كثير منهم بها كافرين " .
وفي " صحيح مسلم " ، عن أبي مالك الأشعري ، عن
النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، قال :
" أربع في أمتي من أمر الجاهلية ، لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في
الأنساب ،
والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة " .
وخرج البخاري في " صحيحه " ، من رواية ابن عيينة ، عن عبيد الله :
سمع
ابن عباس يقول : " خلال من خلال الجاهلية : الطعن في الأنساب ،
والنياحة " ، ونسي الثالثة . قال سفيان : ويقولون
: إنها " الاستسقاء بالأنواء " .
وروي عن ابن عباس - مرفوعا - من وجه آخر ضعيف .
وخرج ابن حبان في "
صحيحه " - معناه - من حديث أبي هريرة - مرفوعا .
وروى ابن عيينة ، عن إسماعيل بن أمية ، أن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ]
سمع رجلا في
بعض أسفاره يقول : مطرنا ببعض عثانين الأسد ، فقال رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] :(6/338)
"""""" صفحة رقم 339 """"""
" كذبت ، بل هو سقي الله عز وجل ، ورزقه " .
وذكر مالك ، أنه بلغه عن أبي هريرة ، أنه كان يقول : مطرنا
بنوء الفتح ،
ثم يتلو هذه الآية : ) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ( [ فاطر : 2 ] .
وذكر الشافعي
، أنه بلغه ، أن عمر سمع شيخا يقول - وقد مطر الناس - :
أجاد ما أقرى المجدح الليلة ، فأنكر ذلك عمر عليه .
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده ، عن سلم العلوي ، قال : كنا عند أنس ،
فقال رجل : إنها لمخيلة للمطر . فقال أنس :
إنها لربها لمطيعة .
يشير أنس إلى أنه لا يضاف المطر إلى السحاب ، بل إلى أمر الله ومشيئته .
وذكر ابن عبد
البر ، عن الحسن ، أنه سمع رجلا يقول : طلع سهيل ،
وبرد الليل ، فكره ذلك ، وقال : إن سهيلا لم يأت قط بحر
ولا برد .
قال : وكره مالك أن يقول الرجل للغيم والسحابة : ما أخلقها للمطر .
قال : وهذا يدل على أن القوم
احتاطوا ، فمنعوا الناس من الكلام بما فيه
أدنى متعلق من كلام الجاهلية في قولهم : مطرنا بنوء كذا وكذا . انتهى .
واختلف الناس في قول القائل : " مطرنا بنوء كذا وكذا " من غير اعتقاد أهل
الجاهلية : هل هو مكروه ، أو محرم ؟
فقالت طائفة : [ هو ] محرم ، وهو قول أكثر أصحابنا ، والنصوص تدل
عليه ، كما تقدم .(6/339)
"""""" صفحة رقم 340 """"""
وقال طائفة : هو مكروه ، وهو قول الشافعي وأصحابه ، وبعض أصحابنا .
فأما إن قال : " مطرنا في بنوء كذا وكذا " ،
ففيه لأصحابنا وجهان :
أحدهما : أنه يجوز ، كقوله : " في وقت كذا وكذا " ، وهو قول القاضي
أبي يعلى وغيره .
وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال للعباس - رضي الله عنه - ،
وهو يستسقي : يا عباس ، كم بقي من
نوء الثريا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إن
أهل العلم بها يزعمون أنها تعترض بالأفق بعد وقوعها سبعا ، فما مضت
تلك
السبع حتى أغيث الناس .
رواه ابن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن ابن المسيب ،
قال :
حدثني من لا أتهم ، عن عمر - فذكره .
والوجه الثاني : أنه يكره ، إلا أن يقول مع ذلك : " برحمة الله عز وجل "
،
وهو قول أبي الحسن الآمدي من أصحابنا .
واستدل للأول بما ذكر مالك في " الموطإ " ، أنه بلغه ، أن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ]
كان
يقول : " إذا نشأت بحريتها فشاءمت ، فتلك عين غديقة " .
وهذا من البلاغات لمالك التي قيل ، إنه لا يعرف
إسنادها .
وقد ذكره الشافعي ، عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ، عن إسحاق بن
عبد الله ، عن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] -
مرسلا - ، قال : " إذا نشأت بحرية ، ثم استحالت
شامية ، فهو أمطر لها " .
قال ابن عبد البر : ابن أبي يحيى ؛
مطعون عليه متروك .(6/340)
"""""" صفحة رقم 341 """"""
وإسحاق ، هو : ابن أبي فروة ، ضعيف - أيضا - متروك .
وهذا لا يحتج به أحد من أهل العلم .
قلت : وقد
خرجه ابن أبي الدنيا من طريق الواقدي : نا عبد الحكيم بن
عبد الله بن أبي فروة : سمعت عوف بن الحارث : سمعت
عائشة تقول :
سمعت النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] يقول : " إذا أنشأت السحابة بحرية ، ثم تشاءمت ، فتلك عين " -
أو قال : " عام
غديقة " .
يعني : مطرا كثيرا .
والواقدي : متروك - أيضا .
والمعنى : أن السحابة إذا طلعت بالمدينة من
جهة البحر ، ثم أخذت إلى
ناحية الشام ، جاءت بمطر كثير ، وهو الغدق .
قال تعالى : ) لأسقيناهم ماء غدقا )
^ [ الجن : 16 ] .
وقيده ابن عبد البر : " غديقة " بضم الغين بالتصغير .
ومن هذا المعنى : قول الله عز وجل
) فالحاملات وقرا ( [ الذاريات : 2 ] ،
وفسره علي بن أبي طالب وابن عباس ومن بعدهما بالسحاب .
قال
مجاهد : تحمل المطر .(6/341)
"""""" صفحة رقم 342 """"""
- باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله
وقال أبو هريرة ، عن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] : " خمس لا يعلمهن إلا الله
" .
حديث أبي هريرة هذا ، قد خرجه في " كتاب : الإيمان " في حديث سؤال
جبريل النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] عن الإسلام
والإيمان والإحسان ، وأنه تلا عند ذلك هذه الآية :
) إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ( [ لقمان : 34 ]
الآية ، وقد تقدم ذكره
والكلام عليه .
1039 - حدثنا محمد بن يوسف : نا سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن
ابن
عمر ، قال : قال النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] : " مفتاح الغيب خمس ، لا يعلمها إلا الله ، لا يعلم أحد
ما يكون في غد [ إلا الله ] ،
ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام ، ولا تعلم نفس
ما تكسب غدا ، وما تدري نفس بأي أرض تموت ، وما يدري أحد
متى يجيء
المطر .
قد سبق في الباب المشار إليه : الإشارة إلى اختصاص الله بعلم هذه
الخمس ، التي هي مفاتح
الغيب ، التي قال فيها : ) وعنده مفاتح الغيب لا
يعلمها إلا هو ( [ الأنعام : 59 ] .
وهذه الخمس المذكورة في
حديث ابن عمر ، ليس فيها علم الساعة ، بل
فيها ذكر متى يجيء المطر ، بدل الساعة .
وهذا مما يدل على أن
علم الله الذي استأثر به دون خلقه لم ينحصر في(6/342)
"""""" صفحة رقم 343 """"""
خمس ، بل هو أكثر من ذلك ، مثل علمه بعدد خلقه ، كما قال : ) وما تسقط
من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في
ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس ( [ الأنعام : 59 ] .
ومثل استئثاره بعلمه بذاته وصفاته وأسمائه ، كما قال :
) ولا يحيطون به
علما ( [ طه : 110 ] .
وفي حديث ابن مسعود - في ذكر أسمائه - : " أو استأثرت به في
علم الغيب
عندك " .
وإنما ذكرت هذه الخمس لحاجة الناس إلى معرفة اختصاص الله بعلمها ،
والعلم بمجموعها
مما اختص الله بعلمه ، وكذلك العلم القاطع بكل فرد فرد من
أفرادها .
وأما الاطلاع على شيء يسير من أفرادها
بطريق غير قاطع ، بل يحتمل الخطأ
والإصابة فهو غير منفي ؛ لأنه لا يدخل في العلم الذي اختص الله به ، ونفاه
عن غيره .
وتقدم - أيضا - أن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] أوتي علم كل شيء ، إلا هذه الخمس .
فأما اطلاع الله سبحانه له على
شيء من أفرادها ، فإنه غير منفي - أيضا - ،
وهو داخل في قوله تعالى : ) عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا
( 26 ) إلا من
ارتضى من رسول ( [ الجن : 26 ، 27 ] الآية .
ولكن علم الساعة مما اختص الله به ، ولم
يطلع عليه غيره ، كما تقدم في
حديث سؤال جبريل للنبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، وكذلك جملة العلم بما في غد .
وقد قالت جارية
بحضرته [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] : وفينا نبي يعلم ما في غد ، فنهاها النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ]
عن قول ذلك .
وقد خرجه البخاري في " النكاح " .(6/343)
"""""" صفحة رقم 344 """"""
وأما العلم بما في الأرحام ، فينفرد الله تعالى بعلمه ، قبل أن يأمر ملك
الأرحام بتخليقه وكتابته ، ثم بعد ذلك قد يطلع
الله عليه من يشاء من خلقه ،
كما أطلع عليه ملك الأرحام .
فإن كان من الرسل فإنه يطلع عليه علما يقينا ، وإن
كان من غيرهم من
الصديقين والصالحين ، فقد يطلعه الله تعالى عليه ظاهرا .
كما روى الزهري ، عن عروة ،
عن عائشة ، أن أبا بكر لما حضرته الوفاة
قال لها - في كلام ذكره - : إنما هو أخواك وأختاك . قالت : فقلت هذا
أخواي ،
فمن أختاي ؟ قال : ذو بطن ابنة خارجة ، فإني أظنها جارية .
ورواه هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، أنها
قالت له عند ذلك : إنما هي
أسماء ؟ فقال : وذات بطن بنت خارجة ، أظنها جارية .
ورواه هشام ، عن أبيه : قد
ألقي في روعي ، أنها جارية ، فاستوصي بها
خيرا . فولدت أم كلثوم .
وأما علم النفس بما تكسبه غدا ، وبأي
أرض تموت ، ومتى يجيء المطر ،
فهذا على عمومه لا يعلمه إلا الله .
وأما الاطلاع على بعض أفراده ، فإن كان
بإطلاع من الله لبعض رسله ، كان
مخصوصا من هذا العموم ، كما أطلع النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] على كثير من الغيوب المستقبلة ،
وكان يخبر بها .
فبعضها يتعلق بكسبه ، مثل إخباره أنه يقتل أمية بن خلف ، وأخبر سعد بن
معاذ بذلك أمية بمكة
، وقال أمية : والله ، ما يكذب محمد .
وأكثره لا يتعلق بكسبه ، مثل إخباره عن الصور المستقبلة في أمته وغيرهم
،
وهو كثير جدا .
وقد أخبر بتبوك ، أنه " تهب الليلة ريح شديدة ، فلا يقومن أحد " ،(6/344)
"""""" صفحة رقم 345 """"""
وكان كذلك .
والاطلاع على هبوب بعض الرياح نظير الاطلاع على نزول بعض الأمطار في
وقت معين .
وكذلك إخباره [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ابنته فاطمة في مرضه ، أنه مقبوض من مرضه .
وقد روي عنه [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، أنه قال : " ما بين قبري
ومنبري روضة من رياض
الجنة " .
خرجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري ، والنسائي من
حديث أم
سلمة ، عن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] .
وهو دليل على أنه علم موضع موته ودفنه .
وقد روي عنه ، أنه قال : " لم يقبض نبي
إلا دفن حيث يقبض " .
خرجه ابن ماجه وغيره .
وأما إطلاع غير الأنبياء على بعض أفراد ذلك فهو - كما تقدم
- لا يحتاج إلى
استثنائه ؛ لأنه لا يكون علما يقينا ، بل ظنا غالبا ، وبعضه وهم ، وبعضه حدس
وتخمين ، وكل
هذا ليس بعلم ، فلا يحتاج إلى استثنائه مما انفرد الله سبحانه
وتعالى بعلمه ، كما تقدم . والله سبحانه وتعالى أعلم .
من صفحة ( 439 ) إلى صفحة ( 466 )(6/345)
"""""" صفحة رقم 346 """"""
صفحة فارغة(6/346)
"""""" صفحة رقم 347 """"""
كتاب الكسوف(6/347)
"""""" صفحة رقم 348 """"""
صفحة فارغة(6/348)
"""""" صفحة رقم 349 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الكسوف
- باب الصلاة في كسوف الشمس
فيه أربعة أحاديث :
الحديث الأول :
1040 - نا عمرو بن عون : نا خالد ، عن يونس ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، قال : كنا عند النبي ( ، وأنكسفت الشمس ، فقام النبي ( يجر رداءه ، حتى دخل المسجد ، [ فدخلنا ] ، فصلى بنا ركعتين ، حتى انجلت الشمس ، فقال : ( ( إن الشمس والقمر لاينكسفان لموت أحد ، فإذا رأيتموهما فصلوا ، وادعوا ، حتى يكشف ما
بكم ) ) .
سماع الحسن من أبي بكرة صحيح عند علي بن المديني والبخاري وغيرهما ، وخالف فيه ابن معين ، وقد سبق ذلك .
وقد ذكر البخاري - فيما بعد - أن مبارك بن فضالة رواه عن الحسن ، قال : حدثني أبو بكرة .(6/349)
"""""" صفحة رقم 350 """"""
وخرجه الإمام أحمد كذلك .
وقد رواه قتادة ، عن الحسن ، عن النعمان بن بشير ، عن النبي ( .
خرج حديثه النسائي .
وهذا مخالف لروايات أصحاب الحسن ، عنه ، عن أبي بكرة .
وجر النبي ( رداءه هاهنا ؛ لأنه قام عجلا دهشا ، كما في حديث أبي موسى : ( ( فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة ) ) ، وسيأتي - فيما بعد .
وإنما يكره جر الرداء تعمدا لذلك .
وفي رواية الإمام أحمد لهذا الحديث : ( ( فقام يجر ثوبه مستعجلاً ) ) .
وقوله : ( ( فصلى بنا ركعتين ) ) ، لم يذكر صفة الركعتين .
وقد رواه ابن علية ويزيد بن زريع ، عن يونس ، فزادا في الحديث : ( ( فصلى بهم ركعتين نحو ما يصلون ) ) .
وخرجه ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من رواية أشعث ، عن الحسن ، عن أبي
بكرة ، عن النبي ( ، أنه صلى في كسوف الشمس والقمر ركعتين ، مثل صلاتكم .
وخرجه النسائي ، ولم يذكر : ( ( القمر ) ) ، وعنده : ( ( مثل صلاتكم هذه ) ) .
وقال ابن حبان : أراد به مثل صلاتكم في الكسوف .(6/350)
"""""" صفحة رقم 351 """"""
وهذا التأويل متجه في رواية ابن علية ويزيد بن زريع ، عن يونس - أيضا .
وبذلك تأولها البيهقي 0
والمتبادر إلى الفهم : التشبيه بصلاة ركعتين ، يتطوع بهما .
وهذا مما تعلّق به من قال : إن صلاة الكسوف ليس فيها ركوع زائد ، وسيأتي ذكره - إن شاء الله سبحانه تعالى 0
وفيه دليل على أن صلاة الكسوف تستدام حتى تنجلي الشمس .
وقوله : ( ( إنهما لا يكسفان لموت أحد ) ) ، إشارة إلى قول الناس : ( ( إن الشمس كسفت لموت إبراهيم عليه السلام ) ) .
وفي رواية خرجها البخاري - فيما بعد - : ( ( وذلك أن ابنا للنبي مات ، يقال له : إبراهيم ، فقال الناس في ذلك ) ) .
و [ روى ] هذا الحديث محمد بن دينار الطاحي ، عن يونس ، فزاد في الحديث : ( ( وإن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له ) ) .
خرجه الدارقطني .
[ وقال ] - : تابعه : نوح بن قيس ، عن يونس .
وخرجه - أيضا - من رواية بكار بن يونس : [ ثنا ] حميد ، عن الحسن ، عن أبي بكرة - بهذه الزيادة - أيضا 0(6/351)
"""""" صفحة رقم 352 """"""
ورويت هذا 000000000000000000000000000000000000
0000000000000000000000000000000000000000000
0000000000000000000000000000000000000000000(6/352)
"""""" صفحة رقم 353 """"""
كتاب
العمل في الصلاة(6/353)
"""""" صفحة رقم 354 """"""
فارغة(6/354)
"""""" صفحة رقم 355 """"""
- باب استعانة اليد في الصلاة إذا كان من أمر الصلاة
وقال ابن عباس : يستعين الرجل في صلاته من جسده بما شاء .
ووضع أبو إسحاق قلنسوته في الصلاة ، ورفعها .
ووضع علي كفه على رسغه الأيسر ، إلاّ أن يحك جلداً ، أو يصلح ثوباً .
شرع البخاري من هاهنا في الكلام فيما يجوز من الأفعال في الصلاة ، وما يكره فيها ، وما لايجوز .
وابتدأ من ذلك باستعانة المصلي بيده في صلاته ، فيما يحتاج إليه من أمر صلاته .
وحكى عن ابن عباس ، قال : يستعين الرجل في صلاته من جسده بما شاء .
وعن أبي إسحاق ، أنه وضع قلنسوته في صلاته ورفعها .
والظاهر : أن هذا كان لحاجة ، وإلاّ لكان عبثاً ، وهو مكروه .
وعن علي بن أبي طالب ، أنه وضع كفه على رسغه الأيسر ، إلاّ أن يحك جسداً أو يصلح ثوباً .
روي وكيع في ( ( كتابه ) ) عن عبد السلام بن شداد الجريري ، عن غزوان بن جرير الضبي ، عن أبيه ، قال : كان علي إذا قام في الصلاة وضع يمينه(6/355)
"""""" صفحة رقم 356 """"""
على رسغه ، فلا يزال كذلك حتى يركع متى ما ركع ، إلاّ أن يصلح ثوبه ، أو يحك جسده .
وروى بإسناده ، عن إبراهيم ، أنه كره أن يحدث الرجال في الصلاة شيئاً ، حتى زر القميص . قال : وكان إبراهيم لايرى بأساً إذا استرخى إزاره في الصلاة أن يرفعه .
وروى عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) ، عن الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : كان يقال في مسح اللحية في الصلاة : واحدة أو دع 0
وعن هشيم : أخبرني حصين ، عن عبد الملك بن سعيد ، قال : قد كان النَّبيّ ( إذا صلى وضع يده اليمنى على يده اليسرى ، وكان ربما يضع يده على لحيتة في الصَّلاة .
وخرجه أبو داود في ( ( مراسيله ) ) من رواية شعبة ، عن حصين ، عن عبد الملك بن أخي عمرو بن حريث ، عن النَّبيّ ( .
وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج : سألت عطاء عن الاحتكاك في الصلاة ، والارتداء ، والاتزار ؟ قالَ : كل ذَلِكَ لا تفعله في الصَّلاة .
وهذا محمول على أنه لم يكن لهُ حاجة إليه .
والمروي عن علي محمول [ على ] أنه كان يفعله للحاجة إليه .
وقال سفيان الثوري : يكره أن يلبس النعل أو الرداء ، وأن يضع القلنسوة على رأسه ، وينزع خفيه أو نعليه ، إلاّ لشيء يؤذيه ، ولا بأس أن يحك شيئاً من جسده ، إذا آذاه ذَلِكَ .(6/356)
"""""" صفحة رقم 357 """"""
وعند أصحابنا : كل عمل يسير يعرض في الصلاة لحاجة فلا يكره .
واستدلوا بما خرجه مسلم - رحمة الله - من حديث وائل بن حجر ، أنه رأى النَّبيّ ( رفع يديه حين دخل في الصلاة ، كبر ثم التحف بثوبه ، ثم وضع يده اليمنى على يده اليسرى ، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب ، ثم رفعهما ، [ ثم ] كبر فركع - وذكر الحديث .
ومذهب الشافعي نحوه - أيضا .
وروى حرب ، عن أحمد في الرجل يسقط رداؤه عن ظهره في الصَّلاة ، فيحمله ، قال : أرجو أن لا يضيق ذلك .
وروى حرب بإسناده ، عن أبي جعفر والشعبي ، قالا : لا بأس أن يسوي الرجل رداءه في الصلاة .
وقال حرب : سألت أحمد عن الرجل يصلي فتحتك ساقه ، فيحكه ؟ فكأنه كرهه . قلت : يحكه بقدمه ؟ قالَ : هوَ بالقدم أسهل ، وكانه رخص فيهِ .
ومن متأخري أصحابنا من قالَ : الحك الذي لا يصبر عنه المصلي لا يبطل صلاته وإن كثر .
خرج في هذا الباب :
1198 - حديث : مالك ، عن مخرمة ، عن كريب ، عن ابن عباس ، قالَ : بت عند خالتي ميمونة .
فذكر الحديث في صلاة النبي ( بالليل ، وصلاة ابن عباس معه .
وفيه : قال :
فقمت إلى جنبه ، فوضع رسول الله ( يده اليمنى على رأسي ، وأخذ بأذني(6/357)
"""""" صفحة رقم 358 """"""
اليمنى يفتلها بيده ، فصلى .
وذكر الحديث ، وقد سبق بتمامه في غير موضع .
وخرجه مسلم - أيضا .
وخرجه من طريق الضحاك بن عثمان ، عن مخرمة ، وفي روايته :
فقمت إلى جنبه الأيسر ، فأخذ بيدي فجعلني في شقه الأيمن ، فجعل إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني .
فتبين بهذه الرواية : أن أخذ النبي ( بأذن ابن عباس في الصلاة إنما كان عند
نعاسه ، إيقاظا له .
وكذلك خرجه أبو داود والنسائي من رواية سعيد بن أبي هلال ، عن مخرمة ، وفي حديثة : فقمت إلى جنبه ، عن يساره ، فجعلني عن يمينه ، ووضع يده على رأسي ، وجعل يمسح أذني ، كأنه يوقظني .
فهاتان الروايتان : فيهما دلالة على أنه إنما أخذ بأذنه بعد أن أداره عن يمينه .
وفيه : رد على من زعم : أن أخذه بأذنه وفتلها إنما كان ليديره عن شماله إلى
يمينه ، كما قاله ابن عبد البر .
قال : وهذا المعنى لم يقمه مالك في حديثه ، وقد ذكره أكثر الرواة .
قالَ : وقيل : إنما فتل أذنه ليذكر ذلك ولا ينساه . وقيل : ليذهب نومه .
انتهى .(6/358)
"""""" صفحة رقم 359 """"""
ورواية الضحاك مصرحة بهذا المعنى الأخير ، ورواية سعيد بن أبي هلال تدل عليه - أيضا .(6/359)
"""""" صفحة رقم 360 """"""
- باب ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة
وفيه حديثان :
الأول :
1199 - ثنا ابن نمير : ثنا ابن فضيل : ثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قالَ : كنا نسلم على النبي ( وهو في الصلاة ، فيرد علينا ، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه ، فلم يرد علينا ، وقال : ( ( إن في الصلاة لشغلاً ) ) .
حدثنا ابن نمير : ثنا إسحاق بن منصور السلولي : ثنا هريم بن سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، عن النبي ( - نحوه .
وخرجه - أيضا - في مواضع أخر ، من رواية أبي عوانة عن الأعمش - نحوه .
ورواه أيضا - أبو بدر شجاع بن الوليد ، عن الأعمش - بهذا الإسناد .
وإنما احتيج إلى ذكر هذه المتابعات عن الأعمش ؛ لأن الثوري وشعبة وزائدة وجريراً وأبا معاوية وحفص بن غياث رووه ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، لم يذكروا فيهِ : ( ( علقمة ) ) ، فيصير منقطعاً .(6/360)
"""""" صفحة رقم 361 """"""
وقد رجح انقطاعه كثير من الحفاظ ، [ منهم ] : أبو حاتم الرازي .
وقال في رواية ابن فضيل الموصولة : أنها خطأ .
وقال الحافظ أبو الفضل بن عمار الشهيد : الذين أرسلوه أثبت ممن وصله .
قال : ورواه الحكم بن عتبة - أيضا - ، عن إبراهيم ، عن عبد الله مرسلا - أيضا - إلاّ ما رواه أبو خالد الأحمر ، عن شعبة ، عن الحكم موصولاً ؛ فإنه وهم فيهِ أبو خالد . انتهى .
وتصرف البخاري يدل على خلاف ذلك ، وأن وصله صحيح .
وكذلك مسلم في ( ( صحيحه ) ) ؛ فإنه خرجه من طريق ابن فضيل وهريم بن سفيان - موصولا - كما خرجه البخاري 0
وله عن ابن مسعود طريق اخرى متعددة ، ذكرتها مستوفاة في ( ( شرح
الترمذي ) ) .
وقال البخاري في أواخر ( ( صحيحه ) ) :
وقال ابن مسعود ، عن النبي ( : ( ( إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصَّلاة ) ) .
وهذا الحديث المشار إليه ، خرجه الإمام أحمد والنسائي من رواية ابن عيينة ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، قال : كنا نسلم على(6/361)
"""""" صفحة رقم 362 """"""
النبي ( ، فيرد علينا السلام ، حتى قدمنا من أرض الحبشة ، فسلمت عليه ، فلم يرد علي ، فأخذني ما قرب وما بعد ، فجلست حتى إذا قضى الصلاة قال : ( ( إن الله يحدث ) ) - فذكره .
ورواه الحميدي وغيره من أصحاب سفيان ، عنه ، عن عاصم ، عن زر ، عن ابن مسعود .
وزعم الطبراني : أنه المحفوظ .
قلت : عاصم ، هو : ابن أبي النجود ، كان يضطرب في حديث زر وأبي وائل ، فروى الحديث تارة عن زر ، وتارة عن أبي وائل .
قال الطبراني : ورواه عبد الغفار بن داود الحراني ، عن ابن عيينه ، عن منصور ، عن أبي وائل ، عن عبد الله .
قال : فإن كان حفظه ، فهو غريب .
قلت : ليس هو بمحفوظ ، إنما المحفوظ رواية : سفيان ، عن عاصم - كما تقدم .
وخرج النسائي - أيضا - من طريق سفيان ، عن الزبير بن عدي ، عن كلثوم ، عن ابن مسعود ، قال : كنت آتي النبي ( وهو يصلي ، فأسلم عليه ، فيرد عليَّ ، فأتيته ، فسلمت عليه وهو يصلي ، فلم يرد عليَّ ، فلما سلم أشار إلى القوم ، فقال : ( ( إن الله
عز وجل - يعني - أحدث في الصلاة أن لا تكلموا إلاّ بذكر الله ، وما ينبغي لكم ، وأن تقوموا لله قانتين ) ) .
وكلثوم ، هو : ابن المصطلق الخزاعي ، يقال : له صحبة ، وذكره ابن(6/362)
"""""" صفحة رقم 363 """"""
حبان في ( ( كتابه ) ) من التابعين .
وقوله : ( ( إن الله أحدث أن لا تكلموا في الصَّلاة ) ) إشارة إلى أنه شرع ذلك بعد أن لم يكن شرعه ، ومنعه بعد أن لم يكن قد منعه 0
الحديث الثاني :
1200 - ثنا إبراهيم بن موسى : ثنا عيسى - هو : ابن يونس - : ثنا إسماعيل - هو : ابن أبي خالد - ، عن الحارث بن شبيل ، عن أبي عمرو الشيباني ، قال : قال لي زيد بن أرقم : إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد رسول الله ( ، فيكلم أحدنا صاحبه
بحاجته ، حتى نزلت : ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ( [ البقرة : 238 ] فأمرنا بالسكوت .
وخرجه مسلم ، وزاد فيه : ( ( ونهينا عن الكلام ) ) ، وليس عنده : ذكر عهد النبي ( .
وخرجه النسائي ، وعنده : ( ( فأمرنا حينئذ بالسكوت ) ) .
وخرجه الترمذي ، ولفظه : كنا نتكلم خلف رسول الله ( في الصلاة ، فيكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه ، حتى نزلت ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ( [ البقرة : 238 ] . قال : فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام .
وهذه الرواية صريحة برفع آخره .(6/363)
"""""" صفحة رقم 364 """"""
واختلف الناس في تحريم الكلام في الصَّلاة : هلا كان بمكة ، أو بالمدينة ؟ فقالت طائفة : كانَ بمكة .
واستدلوا بحديث ابن مسعود المتقدم ، وأن النبي ( امتنع من الكلام عند قدومهم عليه من الحبشة ، وإنما قدم ابن مسعود عليه من الحبشة إلى مكة ، ثم هاجر إلى المدينة ، كذا ذكره ابن إسحاق وغيره .
ويعضد هذا : أنه روي : أن امتناعهم من الكلام كان بنزول قوله : ( وَإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( [ الأعراف : 204 ] وهذه الآية مكية .
فروى أبو بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن المسيب بن رافع ، قال : قال ابن مسعود :
كنا نسلم بعضنا على بعض في الصلاة ، فجاء القرآن ( وَإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ( .
وأخرجه ابن جرير وغيره .
وهذا الإسناد منقطع ؛ فإن المسيب لم يلق ابن مسعود .
وروى الهجري ، عن أبي عياض ، عن أبي هريرة ، قالَ : كانوا يتكلمون في الصَّلاة ، فلما نزلت هذه الآية ( وَإذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ( والآية الأخرى ، قالَ : فأمرنا بالإنصات .
وخرجه بقي بن مخلد في ( ( مسنده ) ) .
وخرجه غيره ، وعنده : ( ( أو الآية الأخرى ) ) - بالشك .
والهجري ، ليس بالقوي .
ولكن يشكل على أهل هذه المقالة حديث زيد بن أرقم ، الذي خرجه البخاري هاهنا ؛ فإن زيداً الأنصاري ، لم يصل خلف النَّبيّ ( بمكة ، إنما صلى(6/364)
"""""" صفحة رقم 365 """"""
خلفه بالمدينة ، وقد أخبر أنهم كانوا يتكلمون حتَّى نزلت : ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ( [ البقر : 238 ] .
وهي مدنية بالاتفاق .
وأجاب أبو حاتم ابن حبان - وهو ممن يقول : إن تحريم كلام كان بمكة - : واجيب عن هذا بجوابين :
أحدهما : أن زيد بن أرقم حكى حال الأنصار وصلاتهم بالمدينة قبل هجرة النبي ( إليهم ، وأنهم كانوا يتكلمون حينئذ في الصلاة ؛ فإن الكلام حينئذ كانَ مباحاً ، وكان النَّبيّ إذ ذاك بمكة ، فحكى زيد صلاتهم تلك الأيام ، لا أن نسخ الكلام كانَ بالمدينة .
قلت : هذا ضعيف ؛ لوجهين :
أحدهما : أن في رواية الترمذي : ( ( كنا نتكلم خلف النَّبيّ ( في الصَّلاة ) ) ، فدل على أنه حكى حالهم في صلاتهم خلف النَّبيّ ( بعد هجرته إلى المدينة .
والثاني : أنه ذكر أنهم لم ينهوا عن الكلام حتى نزلت الاية ، وهي إنما نزلت بعد الهجرة بالاتفاق ، فعلم أن كلامهم استمر في الصلاة بالمدينة ، حتى نزلت هذه الآية 0
ثم قال ابن حبان :
والجواب الثاني : أن زيدا حكى حال الصحابة مطلقا ، من المهاجرين وغيرهم ، ممن كان يصلي مع النبي ( قبل تحريم ( ( الكلام ) ) في الصلاة ، ولم يرد الأنصار ، ولا أهل المدينة بخصوصهم ، كما يقول القائل : فعلنا كذا ، وإنما فعله بعضهم .(6/365)
"""""" صفحة رقم 366 """"""
قلت : وهذا يرده قوله : ( ( حتى نزلت الآية ) ) ؛ فإنه يصرح بأن كلامهم استمر إلى حين نزولها ، وهي إنما نزلت بالمدينة .
وأجاب غير ابن حبان بجوابين آخرين :
أحدهما : أنه يحتمل أنه كان نهي عن الكلام متقدما ، ثم أذن فيه ، ثم نهي عنه لما نزلت الآية .
والثاني : أنه يحتمل أن يكون زيد بن أرقم ومن كان يتكلم في الصلاة لم يبلغهم نهي النبي ( ، فلما نزلت الآية انتهوا .
وكلا الجوابين فيه بعد ، وإنما انتهوا عند نزول الآية ، بأمر النبي ( بالسكوت ، ونهيه عن الكلام ، كما تقدم .
وقال طائفة أخرى : إنما حرم الكلام في الصلاة بالمدينة ؛ لظاهر حديث زيد بن أرقم ، ومنعوا أن يكون ابن مسعود رجع من الحبشة إلى مكة ، وقالوا : إنما رجع من الحبشة إلى المدينة ، قبيل بدر .
واستدلوا بما خرجه أبو داود الطيالسي في ( ( مسنده ) ) من حديث عبد الله بن
عتبة ، عن ابن مسعود ، قال : بعثنا النبي ( إلى النجاشي ، ونحن ثمانون رجلا ، ومعنا جعفر بن أبي طالب - فذكر الحديث في دخولهم على النجاشي ، وفي آخره - : فجاء ابن مسعود ، فبادر ، فشهد بدرا .
وروى آدم ابن أبي إياس في ( ( تفسيره ) ) : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب ، قال : قدم النبي ( المدينة ، والناس يتكلمون بحوائجهم في الصلاة ، كما يتكلم أهل الكتاب ، فأنزل الله ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ( [ البقرة : 238 ] ، فسكت القوم عن الكلام .
وهذا مرسل . وأبو معشر ، هو : نجيح السندي ، يتكلمون فيه .(6/366)
"""""" صفحة رقم 367 """"""
وقد اتفق العلماء على أن الصلاة تبطل بكلام الآدميين فيها عمدا لغير مصلحة الصلاة ، واختلفوا في كلام الناسي والجاهل والعامد لمصلحة الصلاة .
فأماكلام الجاهل ، فيأتي ذكره - قريبا .
وأما كلام الناسي والعامد لمصلحة ، فيأتي ذكره في ( ( أبواب سجود السهو ) ) قريبا - إن شاء الله تعالى .(6/367)
"""""" صفحة رقم 368 """"""
3 - باب
ما يجوز من التسبيح والحمد في الصلاة للرجال
1021 - حدثنا عبد الله بن مسلمة : ثنا عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سهل بن سعد ، قال : خرج النبي ( يصلح بين بني عمرو بن عوف ، وحانت الصلاة ، فجاء بلال أبا بكر ، فقال : حبس النبي ( ، فتؤم الناس ؟ فقالَ : نعم ، إن شئتم ، فأقام بلال الصَّلاة - ، فتقدم أبو بكر فصلى ، فجاء النَّبيّ ( يمشي في الصفوف يشقها شقاً ، حتَّى قام في الصف الأول ، فأخذ الناس بالتصفيح - قالَ سهل : تدرون ما التصفيح ؟ هو التصفيق - ، وكان أبو بكر لايلتفت في صلاته ، فلما أكثروا إلتفت ، فإذا النبي ( في الصف ، فأشار إليه مكانك ، فرفع أبو بكر يديه ، فحمد الله ، ثم رجع القهقرى
وراءه ، وتقدم النبي ( ، فصلى .
التصفيق والتصفيح ، من الناس من قال : هما بمعنى واحد - : قاله الأصمعي
وغيره .
وقال الخطابي : التصفيح : التصفيق بصفحتي الكف .
وقيل : التصفيق : ضرب بباطن الراحة على الأخرى . والتصفيح : الضرب بظاهر الكف على ظهر الأخرى ، ويكون المقصود به : الإعلام والإنذار ، بخلاف التصفيق ؛ فإنه يراد به الطرب واللعب 0 والله أعلم .
وقد سبق هذا الحديث في ( ( أبواب الإمامة ) ) ، خرجه البخاري فيها من رواية مالك ، عن أبي حازم .(6/368)
"""""" صفحة رقم 369 """"""
وذكرنا هنالك عامة فوائده ، وأشرنا إلى الاختلاف فيمن حمد الله في صلاته أو سبح لحادث حدث له ، وهل تبطل بذلك صلاته ، أم لا ؟
وذكرنا ذَلِكَ - أيضا - في ( ( باب : إجابة المؤذن ) ) .
وأكثر العلماء على أنه لا تبطل صلاته بذلك .
فحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور .
وهو - أيضا - قول مالك والشافعي .
وسواء قصد بذلك تنبيه غيره ، أم لم يقصد .
قال إسحاق - فيما نقله ، عنه حرب - : إن قرأ آية فيها ( ( لا إله إلا الله ) ) ، فأعادها لاتفسد صلاته ، وإن انقض كوكب ، فقال : ( ( لا إله إلا الله ) ) ، تعجباً
وتعمداً ، فهو كلام يعيد الصلاة ، وكذا إذا لدغته عقرب ، فقال : ( ( بسم الله ) ) .
وقال عبيد الله بن الحسن : فيمن رمي في صلاته ، فقال : ( ( بسم الله ) ) : لم تنقطع صلاته ، هو كمن عطس فحمد الله . وقال في الذي يذكر النعمة وهو في الصلاة ، فيحمد الله عليها ، وإن ذلك حسناً .
وقال عطاء : ما جرى على لسان الرجل في الصلاة ، فما له أصل في القرآن فليس بكلام .
وقالت طائفة : تبطل صلاته ، وهو رواية عن أحمد وإسحاق .
ومذهب أبي حنيفة : إن قاله ابتداء فليس بكلام ، وإن قاله جواباً فهو كلام .(6/369)
"""""" صفحة رقم 370 """"""
قال بعض أصحابنا : هذه الرواية عن أحمد بالبطلان ، هي قول أبي حنيفة ومحمد ، أنه يبطل الصلاة ، فكل ذكر يأتي به المصلي في غير موضعه ، إلاّ في تنبيه المأموم على سهوه ، وتنبيه المار بين يده ليرجع .
وكذلك الخلاف إذا بشر بما يسره ، فقال : ( ( الحمد لله ) ) ، أو بما يسوؤه ، فقال : ( ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ) ، أو عطس ، فحمد الله ، أو فتح على غير إمامه ، أو خاطب إنسانا بشيء من القرآن قاصداً للقراءة والتنبيه .
وأصح الروايتين عن أحمد : أن الصلاة لا تبطل بذلك ، كقول جمهور العلماء .
وفي ( ( الصحيحين ) ) ، عن عائشة ، أن أسماء أختها لما سالتها وهي تصلي صلاة الكسوف ، فأشارت برأسها إلى السماء ، وقالت : ( ( سبحان الله ) ) .
واحتج أحمد بما ذكره عن علي ، أنه كان في صلاة الفجر ، فمر بعض الخوارج ، فناداه : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( [ الزمر : 65 ] ، فأجابه علي وهو في صلاته : ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ( [ الروم : 60 ] .
وروي عن ابن مسعود ، أنه استأذن عليه رجل وهو يصلي ، فقال : ( ادْخُلُوا مِصْرَ إن شاء اللَّهُ آمِنِينَ ( [ يوسف : 99 ] .
وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يفعله .
وخرج الإمام أحمد من حديث علي ، قال : كانت لي ساعة من السحر أدخل على النبي ( ، فإن كان في صلاة سبح ، فكان إذنه لي .
ومن حديث أبي هريرة ، عن النبي ( قال : ( ( إذن الرجل إذا كان في صلاة(6/370)
"""""" صفحة رقم 371 """"""
أن يسبح ، وإذن المرأة أن تصفق ) ) .
وقد روي ، عن النبي ( ، أن رجلاً عطس وراءه في الصلاة ، فحمد الله ، فأخبر النبي ( لما قضى صلاته بابتدار الملائكة لها ، وكتابتها .
وقد خرجه أبو داود والترمذي والنسائي ، من حديث رفاعة بن رافع .
وخرجه أبو داود - أيضا - من حديث عامر بن ربيعة - بمعناه .
وحكى الترمذي عن بعض أهل العلم ، أنهم حملوا ذلك على التطوع ، وقالوا : في المكتوبة يحمد الله في نفسه .
وهذا التفريق ، هو قول مكحول ، ورواية عن أحمد .
وقولهم : ( ( يحمد الله في نفسه ) ) ، ويحتمل أنهم أرادوا أنه يحمده بقلبه ولا يتلفظ به ، ويحتمل أنهم أرادوا انه لا يجهر به .
وكذا قال النخعي : في الرجل يعطس في الصلاة : يحمد الله ، ولا يجهر .
وقال الحسن : يحمد الله في المكتوبة وغيرها .
وكذا نقله حرب ، عن إسحاق .
وروى عبد الرحمن بن يزيد بن جابر : سمعت أبا طلحة : سمعت ابن عمر يقول في العاطس في الصلاة : يجهر بالحمد .
وأما تخصيص البخاري جواز التسبيح والحمد في الصلاة للرجال ؛ فلأن المرأة تخالف الرجل في التسبيح للتنبيه ، وإنما تنبه بالتصفيح ، كما ياتي ذكره ،(6/371)
"""""" صفحة رقم 372 """"""
فلا يشرع لها التسبيح والتحميد في غير ذَلِكَ - أيضا .
لكن حكمها حكم الرجل في القول بالإبطال وعدمه ، وإنما يختلفان في الكراهة ؛ فإن المرأة لايشرع لها رفع صوتها في الصَّلاة بقرآن ولا ذكر .(6/372)
"""""" صفحة رقم 373 """"""
4 - باب
من سمى قوماً أو سلم في الصلاة على غيره وهو لا يعلم
1202 - حدثنا عمرو بن عيسى : حدثنا أبو عبد الصمد العمي عبد العزيز بن عبد الصمد : ثنا حصين بن عبد الرحمن ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، قال : كنا نقول : التحية في الصلاة ، ونسمي ، ويسلم بعضنا على بعض ، فسمعه رسول الله ( ، فقال : ( ( قولوا التحيات لله ) ) .
فذكر التشهد بتمامه ، ثم قال :
( ( فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء
والأرض ) ) .
وقد تقدم هذا الحديث في ( ( أبواب التشهد ) ) بألفاظ أخر .
وفي بعضها : أنهم كانوا يقولون : السلام على الله ، والسلام على جبريل وميكائيل ، وعلى فلان وفلان .
فأماالسلام على الله فهو كلام غير جائز ، ولهذا قال لهم النبي ( : ( ( لا تقولوا السلام على الله ) ) .
وقد خرجه البخاري فيما تقدم .
وأما السلام على أشخاص معينين ، فإن كان بلفظ الغيبة ، فأكثر العلماء على أنه لايبطل الصلاة .
وقال الثوري وأبو حنيفة : هو كلام .
وقد سبق ذكر ذلك في ( ( أبواب التشهد ) ) .(6/373)
"""""" صفحة رقم 374 """"""
وإن كان بلفظ الخطاب ، فهو كرد السلام في الصلاة على من يسلم ، ويأتي ذكره - إن شاء الله تعالى .
وفي هذا الحديث : دليل على أن من تكلم في صلاته جاهلا ، أنه لا تبطل صلاته ؛ فإن كلام الجاهل قسمان :
أحدهما : أن يتكلم في صلاته جاهلا بأن الكلام في الصلاة ممنوع ، وهذا يقع من كثير من أعراب البوادي وغيرهم ممن هو حديث عهد بالإسلام ، وقد كان هذا يقع في أول الإسلام كثيراً .
قالت الشافعية : ولا يعذر بذلك إلاّ قريب العهد بالإسلام ، فأمامن طال عهده بالإسلام فتبطل صلاته ؛ لتقصيره في التعلم ، وكذا لو علم تحريم الكلام في الصَّلاة ، ولم يعلم أنه مبطل لها ، كما لو علم تحريم الزنا ، ولم يعلم حدّه ، فإنه يحدّ بغير خلاف .
والثاني : أن يتكلم بكلام يظنه جائزاً ، وهو في نفسه غير جائز التكلم به في الصلاة وغيرها ، كقولهم : ( ( السلام على الله ) ) ، أو يتكلم بكلام يظنه جائزاً في
الصلاة ، كما أنه جائز في غيرها ، كرد السلام وتشميت العاطس .
وقد اختلف العلماء في حكم الجاهل في الصلاة :
فمنهم من قال : حكمه حكم كلام الناسي ، وهو قول مالك والشافعي ، وهو أحد الوجهين لأصحابنا .
ومنهم من قال : تبطل ، بخلاف كلام الناسي ، وهو قول المالكية .
والثالث : لا تبطل وإن قلنا : يبطل كلام الناسي ، وهو قول طائفة من أصحابنا .
ويدل له : ما خرجه البخاري في ( ( الأدب ) ) من ( ( صحيحه ) ) هذا من(6/374)
"""""" صفحة رقم 375 """"""
حديث أبي هريرة ، قال : قام رسول الله ( إلى الصلاة ، وقمنا معه ، فقال أعرابي - وهو في الصلاة - : اللهم ارحمني ومحمداً ، ولا ترحم معنا أحداً ، فلما سلم النبي ، قال للأعرابي : ( ( لقد حجرت واسعاً ) ) - يريد : رحمة الله .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن معاوية بن الحكم السلمي : أنه صلى خلف النبي ( ، فعطس رجل من القوم ، فقال له : يرحمك الله . قال : فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثكل أمياه ، ما شأنكم ، تنظرون إلي ؟ قالَ : فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم . وقال : فلما رأيتهم يصمتونني ، لكني سكت ، فلما صلى النَّبيّ ( قالَ لهُ : ( ( إن هذه الصَّلاة لايصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القران ) ) - أو كما قالَ رسول الله ( .
ولم ينقل أنه أمر أحدا بالإعادة .
وكذلك روي ، عن معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري وغيرهما .
قال أصحابنا : ولأن الكلام كان مباحاً في أول الإسلام ، ثم نسخ ، والنسخ لا يثبت في حق الجاهل قبل العلم ، بدليل قصة أهل قباء في القبلة .
ولكن هذا إنما يصح في حق من تمسك بالإباحة السابقة ، ولم يبلغه نسخها ، فأمامن لا يعلم شيئاً من ذلك ، فلا يصح هذا في حقه .
وكذلك من تكلم بكلام محرم في نفسه ، وهو يظن جوازه ، كقول القائل :
( ( السلام على الله ) ) ، وقول الآخر : ( ( اللهم ، ارحمني ومحمداً ، ولا ترحم معنا
أحداً ) ) .
وللشافعية - فيمن علم أن جنس الكلام محرم في الصلاة ، ولم يعلم أن ما(6/375)
"""""" صفحة رقم 376 """"""
تكلم به محرم : هل يعذر بذلك ولا تبطل صلاته ؟ - وجهان ، أصحهما : يعذر به .
وكذلك لو جهل أن التنحنح ونحوه مبطل للصلاة .(6/376)
"""""" صفحة رقم 377 """"""
5 - باب
التصفيق للنساء
فيه حديثان :
أحدهما :
1203 - حدثنا علي بن عبد الله : ثنا سفيان : ثنا الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، [ عن النبي ( ] ، قال : ( ( التسبيح للرجال ، والتصفيق للنساء ) ) .
وخرجه مسلم - أيضا .
وخرجه - أيضا - من طريق يونس ، عن الزهري ، عن سعيد وأبي سلمة ، عن أبي هريرة ومن طريق الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة .
ومن طريق همام بن منبه ، عن أبي هريرة ، وزاد في حديثه : ( ( في الصلاة ) ) .
وخرجه النسائي من طريق ابن سيرين ، عن أبي هريرة .
وخرج أبو داود من حديث رجل من الطفاوة ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، أنه قال لهم : ( ( إن نساني الشيطان شيئاً من صلاتي فليسبح القوم ، وليصفق النساء ) ) .
وله طرق أخرى ، عن أبي هريرة .(6/377)
"""""" صفحة رقم 378 """"""
الحديث الثاني :
1204 - حدثنا يحيى : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قالَ :
قال النبي ( : ( ( التسبيح للرجال ، والتصفيق للنساء ) ) .
وخرجه فيما تقدم من طريق مالك ، عن أبي حازم ، عن سهل ، وذكر فيه : قصة إصلاح النبي ( بين بني عمرو بن عوف ، وصلاة أبي بكر بالناس ، وقال في آخر الحديث : ( ( من نابه شيء في صلاته فليسبح ؛ فإنه إذا سبح ألتفت إليه ، وإنما التصفيح
للنساء ) ) .
وخرجه مسلم .
وفي الباب أحاديث أخر ، لم يخرج منها شيء في ( ( الصحيح ) ) .
وقد ذكر الترمذي : أن العمل على هذا عند أهل العلم .
وممن روي عنه ، أنه أفتى بذلك : أبو هريرة ، وسالم بن أبي الجعد .
وقال به الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف .
وأن المأموم ينبه أمامه بالتسبيح إذا كان رجلاً .
وقد تقدم عن أبي حنيفة ، أنه إن سبح إبتداء فليس بكلام ، وأن كان جواباً فهو كلام . والجمهور على خلافه .
ومذهب مالك وأصحابه : أنه يسبح الرجال والنساء .
وحملوا قوله : ( ( إنما التصفيق للنساء ) ) على أن المراد : أنه من أفعال النساء ، فلا يفعل في الصلاة بحال ، وإنما يسبح فيها .(6/378)
"""""" صفحة رقم 379 """"""
وهذا إنما يتأتى في لفظ رواية مالك ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، وأما رواية غيره : ( ( التسبيح للرجال ، والتصفيق للنساء في الصلاة ) ) فلا يتأتى هذا التأويل فيها .
وأما رواية من روى : ( ( إذا نساني الشيطان شيئاً من صلاتي فليسبح القوم ، وليصفق النساء ) ) فصريحة في المعنى .
فالمراد بالقوم : الرجال ، كما قال تعالى : ( لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ ( [ الحجرات : 11 ] الآية .
وخرجه الإمام أحمد من حديث جابر ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا أنساني الشيطان شيئاً في صلاتي فليسبح الرجال ، وليصفق النساء ) ) .
وهو قول من رواية ابن لهيعة .
وخرج الأثرم ، من رواية أبي نعامة ، [ عن ] جبر بن حبيب ، عن القاسم بن
محمد ، عن عائشة ، قالت : جاء أبو بكر يستأذن ، وعائشة تصلي ، فجعلت تصفق ، ولا يفقه عنها فجاء النبي ( وهما على تلك الحال ، فقال : ( ( ما منعكِ أن تأخذي بجوامع الكلم وفواتحه ؟ ) ) - وذكر دعاء جامعاً - ، ( ( ثُمَّ نادي لأبيك ) ) .
وهذا إسناد جيد 0
وقد خرج الإمام أحمد وابن ماجه ذكر الدعاء ، دون قصة الاستئذان .
ولم ينكر النبي ( عليها التصفيق ، ولا أمرها بالتسبيح ، وإنما تصفق المرأة إذا كان هناك رجال .(6/379)
"""""" صفحة رقم 380 """"""
فأما إن لم يكن معها غير النساء ، فقد سبق أن عائشة سبحت لأختها أسماء في صلاة الكسوف ، فإن المحذور سماع الرجال صوت المرأة ، وهو مأمون هاهنا ، فلا يكره للمرأة أن تسبح للمرأة في صلاتها . ويكره أن تسبح مع الرجال .
ومن أصحابنا من قال : لايكره .
والأول : الصحيح .
وقال بعض أصحابنا : الأفضل في حقها - أيضا - مع النساء التنبيه بالتصفيق - أيضا .
والكلام في هذا ، يشبه الكلام في جهر المرأة بالقراءة إذا أمت النسوة .
وتصفيق المرأة ، هو : أن تضرب بظهر كفها على بطن الأخرى ، هكذا فسره أصحابنا والشافعية وغيرهم .
قالوا : ولا تضرب بطن الكف على بطن الكف ؛ فإن فعلت ذَلِكَ كره .
وقال بعض الشافعية ، منهم : القاضي أبو الطيب الطبري : تبطل صلاتها به ، إذا كان على وجه اللعب ؛ لمنافاته صلاتها ، فإن جهلت تحريمه لم تبطل .
قالوا : ولو سبحت المرأة ، أو صفق الرجل ، فقد خالفا السنة ، ولم تبطل صلاتهما بذلك .
ويدل عليه : أن الصحابة أكثروا التصفيق خلف أبي بكر الصديق ، ولم يأمرهم النبي ( بالإعادة ، وإنما أمرهم بالأكمل والأفضل .
وقد قال طائفة من الفقهاء : متى أكثروا التصفيق بطلت الصلاة .
والحديث يدل على خلافه ، إلاّ أن يحمل على أنهم لم يكونوا يعلمون منعه ، فيكون حكمهم حكم الجاهل .(6/380)
"""""" صفحة رقم 381 """"""
6 - باب
من رجع القهقرى في الصلاة أو تقدم لأمر ينزل به
رواه سهل بن سعد ، عن النبي ( .
حديث سهل ، قد سبق قريباً ، وفيه رجوع أبي بكر القهقرى في صلاته ، وتقدم النبي ( ، فصلى مكانه .
1205 - حدثنا بشر بن محمد : ثنا عبد الله : قال يونس : قال الزهري : أخبرني أنس أن المسلمين بينا هم في الفجر يوم الاثنين ، وأبو بكر يصلي بهم ، ففجأهم النبي ( ، قد كشف ستر حجرة عائشة ، فنظر إليهم وهم صفرف ، فتبسم يضحك ، فنكص أبو بكر على عقبيه ، وظن أن النبي ( يريد أن يخرج إلى الصلاة ، وهم المسلمون أن يفتتنوا ، فرحا بالنبي حين راوه ، فأشار بيده أن أتموا ، ثم دخل الحجرة ، وأرخى الستر ، وتوفي ذلك اليوم ( .
وقد تقدم حديث سهل بن سعد في صلاة النبي ( على المنبر ، وأنه كان يقوم عليه ، ثم ينزل فيسجد في الأرض .
وقد سبق - أيضا - في ( ( أبواب صلاة الكسوف ) ) من حديث ابن عباس ، أن النبي ( مد يده في صلاة الكسوف ، كأنه يتناول شيئا ، ثم تكعكع أي : تأخره .
وخرج مسلم من حديث جابر ، في صلاة الكسوف ، أن النبي ( تأخر(6/381)
"""""" صفحة رقم 382 """"""
في
صلاته ، فتأخرت الصفوف خلفه ، حتى انتهى إلى النساء ، ثم تقدم وتقدم الناس معه ، حتى قام في مقامه .
وروى برد بن سنان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : جئت ورسول الله ( يصلي في البيت ، والباب عليه مغلق ، فمشى حتى فتح لي ، ثم رجع إلى مكانه ، ووصفت الباب في القبلة .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي - وهذا لفظه .
وقال : حسن غريب .
واستنكره أبو حاتم الرازي والجوزجاني ؛ لتفرد برد به .
وبرد ، شامي قدري ، وثقه ابن معين . وقال أحمد : صالح الحديث .
وقال أبو زرعة : لابأس به . وقال أبو حاتم : كان صدوقاً .
وقد تقدم في ( ( باب : الركوع دون الصف ) ) حديث أبي بكرة ، أنه ركع دون الصف ، وأنه مشى حتى دخل في الصف .
خرجه أبو داود بهذا اللفظ .
وتقدم فيه عن جماعة بأنهم فعلوا ذلك ، منهم : زيد بن ثابت .
وروي عن أبي بكر الصديق ، وعن خلق من التابعين ، ومن بعدهم .
وعن سعيد بن جبير و عطاء ، انهما رخصا في ان يركع قبل ان يصل إلى صفوف النساء ، ثم يمشي 0
وكل هذا يدل على أن المشي اليسير في الصلاة لاتبطل به الصلاة ، وإنه قول جمهور السلف .(6/382)
"""""" صفحة رقم 383 """"""
وكذلك أبو برزة مشى في صلاته إلى فرسه لما انفلتت ، فأخذها .
وخرج البخاري حديثه فيما بعد .
وقد قال أحمد : إذا فعل كفعل أبي برزة فصلاته جائزة .
وقال حرب : قلت لأحمد : يفتح الباب - يعني : في الصلاة - حيال القبلة ؟ قالَ : في التطوع .
ولعله أراد أنه لايكره في التطوع خاصة ، ويكره في الفريضة .
وأكثر أصحابنا على أن ذلك يرجع فيه إلى العرف ، فما عد في العرف مشياً كثيراً أبطل ، وما لم يعد كثيراً لم يبطل ، وكذلك سائر الأعمال في الصلاة .
ومنهم من جعل الثلاث في حد الكثرة ، فلم يعف إلاّ عن المرة والمرتين .
وللشافعية في الضربتين والخطوتين وجهان .
ومن الحنفية من قدر المشي المبطل بما جاوز محل السجود .
وما دلت السنة عليه ، مع اتباع السلف فيه أولى .
قال أصحابنا : وإنما يبطل العمل الكثير إذا توالى ، وما شك فيه لم يبطل ؛ لأن الأصل دوام الصحة ، فلا يزول بالشك في وجود المنافي .
وما تفرق من ذلك ، وكان إذا جمع كثيراً لم يبطل ؛ لأنه ( تكرر منه حمل أمامة في صلاته ووضعها ، وقد سبق حديث أمامة والكلام عليهِ بما فيهِ كفاية .
ومذهب الشافعية كمذهب أصحابنا في ذلك كله ، في الرجوع إلى العرف على الصحيح عندهم ، مع قولهم : إن الثلاث في حد الكثرة بغير خلاف ، وفي الثنتين
وجهان .
وأصحابنا يخالفونهم في هذا خاصة ، ويقولون : ما لم يكن المشي(6/383)
"""""" صفحة رقم 384 """"""
والضرب يسمى كثيراً عرفاً فهو غير مبطل .
وهذا كله في العامد ، فأما الناسي والجاهل ، فأكثر أصحابنا والشافعية أن عمله الكثير يبطل كعمده .
ومن الشافعية من قال : فيه وجهان ، أصحهما : لايبطل ، كالكلام .
وكذلك حكى بعض أصحابنا رواية عن أحمد ، أنه لايبطل عمل الساهي وإن
كثر .
وقال : هي أصح .
واستدل بما فعله النبي ( في خبر ذي اليدين ، حين سلم ساهياً ، ثم لما ذكر بني على صلاته ، وسيأتي الحديث في موضعه من الكتاب - إن شاء الله تعالى .(6/384)
"""""" صفحة رقم 385 """"""
7 - باب
إذا دعت الأم ولدها في الصلاة
1206 - وقال الليث : حدثني جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز ، قال : قال أبو هريرة : قال رسول الله ( : ( ( نادت امرأة ابنها وهو في صومعته ، فقالت : ياجريج . فقال : اللهم أمي وصلاتي . فقالت : ياجريج . قال : اللهم أمي وصلاتي . قالت : ياجريج . قال : اللهم أمي وصلاتي . قالت : اللهم [ لا ] يموت جريج حتى ينظر في وجوه المياميس ، وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم ، فولدت ، فقيل لها : ممن هذا الولد ؟ قالت : من جريج ، نزل من صومعته . قالَ : جريج : أين هذه التي تزعم أن ولدها لي ؟ قالَ : يابابوس من أبوك ؟ قال : راعي الغنم ) ) .
هكذا ذكره هاهنا تعليقاً ، من رواية الأعرج ، عن أبي هريرة .
وقد خرجه في آخر ( ( الغصب ) ) ، وفي ( ( أخبار بني إسرائيل ) ) مسنداً ، من رواية جرير بن حازم ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة - بتمامه .
و ( ( المياميس ) ) : جمع مومسة ، وهي البغي ، وتجمع على مياميس - : قاله أبو
زيد .
وهكذا في جميع روايات البخاري .
وقيل : إنما تجمع على ( ( مواميس ) ) - بالواو - ؛ لأن الكلمة من ذوات الواو .
ورواه بعضهم ( ( المأميس ) ) - بالهمزة .(6/385)
"""""" صفحة رقم 386 """"""
و ( ( البابوس ) ) هو الصغير الرضيع من بني آدم ، وهو الصغير من أولاد الإبل - أيضا .
وقيل : إنه اسم لذلك المولود ، وهو بعيد .
وفي الحديث : دليل على تقديم الوالدة على صلاة التطوع ، وأنها إذا دعت ولدها في الصلاة فإنه يقطع صلاته ويجيبها .
قال حميد بن زنجويه في ( ( كتاب الأدب ) ) : نا الحسن بن الوليد : نا ابن أبي
ذئب ، عن محمد بن المنكدر ، أن رسول الله ( قال : ( ( إذا دعاك أبواك وأنت تصلي فأجب أمك ولا تجب أباك ) ) .
وبإسناد ، عن شبيب بن يزيد ، قال : مكتوب في التوراة : إذا دعتك أمك وأنت تصلي ، فقل : لبيك ، فإذا دعاك أبوك ، فقل : سبحان الله .
ومرسل ابن المنكدر ، قد رواه يزيد بن هارون ، عن ابن أبي ذئب ، عن ابن المنكدر - فذكره .
فتبين أنه لم يسمعه ابن أبي ذئب من ابن المنكدر .
وقال حرب : قيل لأحمد : الحديث الذي جاء : ( ( إذا دعاك أبوك وأنت في الصلاة فأجبه ) ) ؟ فرأيته يضعف الحديث .
وقال الأوزاعي ، عن مكحول : إذا دعتك أمك وأنت في الصَّلاة فأجب أمك ، ولا تجب أباك .
قال الوليد بن مسلم : قلت للأوزاعي : في المكتوبة يجيبها ؟ قالَ : نعم ، وهل وجه إلاّ ذَلِكَ ؟ ثُمَّ قالَ : يؤذنها في المكتوبه بتسبيحة ، وفي التطوع يؤذنها بتلبية .(6/386)
"""""" صفحة رقم 387 """"""
ووجه التفريق بينهما : أن الأم برها آكد من بر الأب ؛ ولهذا وصى النبي ( ببرها ثلاث مرات ، ثم وصى ببر الأب بعده .
قال الحسن : للأم ثلثا البر .
وقد روي ، عنه في رجل حلف عليه أبوه بكلام ، وحلف عليه أمه بخلافه ؟ قالَ : يطيع أمه .
وقال عطاء ، في رجل أقسمت عليه أمه أن لا يصلي إلاّ الفريضة ، ولا يصوم إلاّرمضان ؟ قالَ : يطيعها .
وإنما قدم طاعتها على التطوع ؛ لأن طاعتها واجبة ، وهذا يشترك فيهِ الوالدان .
وقد سوى أصحابنا بينهما في إجابتهما في الصَّلاة ، وقالوا : لاتجب إجابتهما
فيها ، وتبطل الصَّلاة .
لكن إذا كان في نفل خرج وأجابهما ، بخلاف إجابة النبي ( في الصلاة لمن دعاه ؛ فإنها كانت واجبة - : نص عليهِ أحمد ، وقال : لاتبطل بها الصَّلاة .
وكذلك قاله إسحاق بن راهويه ، وذكر أن ذلك من خصائص النبي ( ، وليست لأحد بعده .
وكذلك هو الصحيح من مذهب الشافعي وأصحابه .
واستدلوا بأن المصلي يقول في صلاته : ( ( السلام عليك أيها النبي ) ) ، ولو خاطب بذلك غيره لبطلت صلاته .
ولو قيل بوجوب إجابة الأم في الصلاة ، وأنها لاتبطل بها الصلاة ، لم يبعد ، وهو ظاهر قول مكحول والأوزاعي ، كما سبق .(6/387)
"""""" صفحة رقم 388 """"""
وكذا قال الأوزاعي في تحذير الضرير والصبي في الصلاة من الوقوع في بئر ونحوها : أنه لاباس به .
وفي الحديث : دليل على استجابة دعاء الأم على ولدها .
قال بعض السلف : يستجاب دعاؤها عليه ، وإن كانت ظالمة .
وفي حديث أبي هريرة المرفوع : ( ( ثلاث دعوات تستجاب ، لاشك فيهن ) ) - فذكر منها : ( ( ودعوة الوالدين على ولدهما ) ) .
وعن ابن مسعود ، قال : ثلاث لاترد دعوتهم : الوالد ، والمظلوم ، والمسافر .(6/388)
"""""" صفحة رقم 389 """"""
8 - باب
مسح الحصى في الصلاة
1207 - حدثنا أبو نعيم : ثنا شيبان ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، قال : حدثني معيقيب ، أن النبي ( قال في الرجل يسوي التراب حين يسجد ، قال : ( ( إن كنت فاعلا فواحدة ) ) .
وخرجه مسلم ، من طريق شيبان .
وخرجه - أيضا - من طريق هشام الدستوائي ، عن يحيى - هو : ابن أبي كثير - ، ولفظ حديثه : ذكر النبي ( المسح في المسجد - يعني : الحصى - ، قال : ( ( إن كنت لابد فاعلا فواحدة ) ) .
وفي رواية له ، بهذا الإسناد ، أنهم سألوا النبي ( عن المسح في الصلاة ، فقال : ( ( واحدة ) ) .
وفي الباب : عن جماعة من الصحابة ، لم يخرج منه في ( ( الصحيح ) ) غير حديث معيقيب .
قال الترمذي : والعمل على هذا عند أهل العلم .
يعني : على كراهة مسح الحصى ، والرخصة في المرة الواحدة منه .
وقال ابن المنذر : اختلف أهل العلم في مس الحصى في الصَّلاة .
وكان ابن عمر يصلي فيمسح الحصى برجليه .
وروي عن ابن مسعود ، أنه يسويه مرة واحدة إذا سجد .(6/389)
"""""" صفحة رقم 390 """"""
وكان أبو هريرة وأبو ذر يرخصان في مسحة مرة واحدة .
وكان مالك لا يرى بالشيء الخفيف بأساً .
وكره ذلك الأوزاعي وأصحاب الرأي .
وقال أصحاب الرأي : لا بأس به مرة ، وتركه أحب إلينا .
وكان عثمان بن عفان وابن عمر يمسحان الحصى لموضع السجود ، قبل إن يدخلا في الصلاة .
قال ابن المنذر : هذا أحب إليّ ، ولا يخرج أن مسحه مرة ؛ لحديث معيقيب ، وتركه أفضل . انتهى .
ورويت كراهيته عن علي وابن مسعود وابن عباس .
وعن ابن عمر ، قال : هو من الشيطان .
ورخص فيه مرة واحدة أبو عبد الرحمن السلمي .
وهو قول سفيان الثوري .
وقال ليث بن أبي سليم : سمعت العلماء يقولون : تحريك الحصى ومسحه في الصلاة أذى للملكين .
وقد روي في سبب كراهيته : إن الرحمة تواجه المصلي ، فإذا أزال ما يواجهه من التراب والحصى ، فقد أزال ما فيه الرحمة والبركة .
فروى الزهري ، عن أبي الأحوص ، عن أبي ذر ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى ؛ فإن الرحمة تواجهه ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي .
وقال : حديث حسن .(6/390)
"""""" صفحة رقم 391 """"""
وأبو الأحوص هذا ، ضعفه ابن معين وغيره .
وروى ابن المبارك في ( ( كتابه ) ) عن الأوزاعي ، عن هارون بن رئاب ، قال : قال ابن مسعود : إن الأرض لتزين للمصلى ، فلا يمسحها أحدكم ، فإن كان ماسحها لامحالة فمرة مرة ، ولأن يدعها خير له من مائة ناقة للنقلة .
واعلم ؛ أن مسح الحصى في الصَّلاة يكون على وجهين :
أحدهما : أن يكون عبثاً محضاً لغير وجه ، فهذا مكروه ؛ لأن العبث في الصلاة مكروه ، كما يكره ذلك في حال استماع الخطبة .
وفي الحديث الصحيح : ( ( ومن مس الحصى فقد لغا ) ) .
فإن كانت الرخصة في المرة الواحدة من هذا النوع ، فيشبه أن يكون معناه : أن المرة الواحدة تقع عن سهو وغفلة ، والمعاود إنما يكون عن تعمد وقصد ، كما قالَ في نظر الفجأة : ( ( إن لك الأولى ، وليست لك الأخرى ) ) .
ويشهد لهذا : ما خرجه الإمام أحمد من رواية شرحبيل بن سعد ، عن جابر ، عن النبي ( ، قال : ( ( لإن يمسك أحدكم يده عن الحصى خير له من مائة ناقة ، كلها سود الحدقة ، فإن غلب أحدكم الشيطان فليمسح مسحة واحدة ) ) .
وشرحبيل ، مختلف في أمره .
ورأى سعيد بن المسيب رجلا يعبث بالحصى ، فقال : لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه .
الوجه الثاني : أن يكون عن حاجة إليه ، مثل أن يشتد حر الحصى ، فيقلبه ليتمكن من وضع جبهته عليه في السجود ، أو يكون فيه ما يؤذيه السجود عليه ،(6/391)
"""""" صفحة رقم 392 """"""
فيصلحه ويزيله ، فهذا يرخص فيه بقدر ما يزول به الأذى عنه ، ويكون ذلك مرة واحدة .
قال أحمد : لا بأس بتسوية الحصى إن اضطر .
وروى الأثرم بإسناده ، عن ابن مسعود ، أنه ركع ، ثم سجد فسوى الحصى ، ثم تقبطه بيده .
وروى الزبرقان بن عبد الله بن عمرو بن أمية ، عن أبي سلمة ، عن جعفر بن عمرو بن أمية ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله ( يسوى الحصى .
وهذا غريب جداً .
وقريب من هذا : ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث جابر ، قال : كنت أصلي مع النبي ( [ الظهر ] ، فأخذ قبضة من الحصى ؛ لتبرد في كفي اضعها لجبهتي اسجد عليها لشدة الحر .
وزعم أبو بكر الأثرم : أن الرخصة في المرة الواحدة ناسخة للنهي المطلق .
وفيه نظر .
ومذهب مالك : يكره أن ينقل الحصى من موضع الظل إلى موضع الشمس ، فيسجد عليه ، ولا يكره أن يسجد على ثوبه في الحر .
واستدل بعض من قال : إنه لايرخص في الصلاة في أكثر من عمل واحدة ، كخطوة أو ضربة ، بهذا الحديث .
وإنما يدل هذا الحديث على كراهة ما زاد على المرة الواحدة ، حيث كان لا يحتاج إلى الزيادة على ذلك ، فإن تسوية الحصى المقصود منه - غالباً - بمرة(6/392)
"""""" صفحة رقم 393 """"""
واحدة ، وهذا خلاف ما يحتاج منه إلى زيادة على المرة الواحدة ، كالمشي والضرب ونحوهما ، وبذلك يجمع بين النصوص كلها في هذا الباب .(6/393)
"""""" صفحة رقم 394 """"""
9 - باب
بسط الثوب في الصلاة للسجود
1208 - حدثنا مسدد : ثنا بشر : ثنا غالب ، عن بكر بن عبد الله ، عن أنس بن
مالك ، قال : كنا نصلي مع النبي ( في شدة الحر ، ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه ، فسجد عليه .
وقد خرجه - فيما تقدم - من هذا الوجه - أيضا - في ( ( أبواب اللباس في
الصَّلاة ) ) ، وسبق الكلام هناك عليه مستوفى .
وإنما المقصود منه : أنه إذا شق عليه السجود على الأرض من شدة حرها ، جاز له أن يبسط ثوبه في صلاته في الأرض ، ثم يسجد عليه ، ولا يكون هذا العمل في الصلاة مكروها ؛ لأنه عمل يسير لحاجة إليه ؛ فإن السجود على الحصى الشديد حره يؤذي ويمنع من كمال الخشوع في الصلاة ، وهو مقصود الصلاة الأعظم .(6/394)
"""""" صفحة رقم 395 """"""
- باب ما يجوز من العمل في الصلاة
فيه حديثان :
الأول :
1209 - نا عبد الله بن مسلمة : نا مالك ، عن أبي النضر ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : كنت أمد رجلي في قبلة النبي ( وهويصلي ، فإذا سجد غمزني فرفعتها ، فإذا قام مددتها .
قد تقدم هذا الحديث في غير موضع .
والمقصود منه هاهنا : أن غمز المصلي امرأته النائمة بين يديه في صلاته جائز .
وقد روي ، أن غمزها كان برجله ، وهذا عمل يسير في الصلاة ؛ لحاجة إليه ، وهو إخلاء موضع السجود ؛ ليتمكن من السجود فيهِ .
وقد كانَ النَّبيّ ( يطيل السجود في صلاة الليل .
وقد تقدم ذكر ذلك كله .
وقولها : ( ( فإذا سجد غمزني ) ) يدل على أنه كان يتكرر ذلك منه كلما سجد في كل ركعة ، فكان يفعله في كل ركعة مرة عند سجوده ، ولم تكن تمدها حتى يقوم إلى الركعة الأخرى ، فما دام ساجداً أو جالساً بين السجدتين فرجلاها مكفوفة ، فإذا قام وقرأ في الركعة الأخرى مدت رجلها في قبلته حتى يسجد .(6/395)
"""""" صفحة رقم 396 """"""
الحديث الثاني :
1210 - نا محمود - هو : ابن غيلان - : نا شبابة : نا شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، أنه صلى صلاة ، فقال : ( ( إن الشيطان عرض لي ، فشد علي ليقطع الصلاة ، فامكنني الله منه ، فذعته ، ولقد هممت أن اوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه ، فذكرت قول سليمان : ( رَبِّ . . . . هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأحد مِنْ بَعْدِي ( [ ص : 35 ] ، فرده الله خاسئاً .
معنى ( ( دعته ) ) : دفعته دفعاً عنيفاً ، ومنه قول تعالى : ( يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً ( [ الطور : 13 ] .
ويقال : ( ( دعته ) ) بالدال المهملة وبالذال المعجمة - : ذكره في ( ( الجمهرة ) ) .
وفي بعض نسخ ( ( كتاب الصحيح ) ) :
قال النضر بن شميل : ( ( فذعته ) ) - [ بالذال ] - أي : خنقته ، [ و ( ( فدعته ) ) ] من قول الله تعالى : ( يَوْمَ يُدَعُّونَ ( [ الطور : 13 ] أي : يدفعون ، والصواب : ( ( فدعته ) ) ، إلا أنه كذا قال بتشديد العين والتاء .
وقال الخطابي : ( ( الذعت ) ) : شدة الخنق ، ويقال : ذعت وسات إذا خنق ، انتهى .
ويقال : لاتصح رواية من رواه ( ( دعته ) ) بالدال المهملة وتشديد الدال ، فإنه لو كان من الدع كان أصله دعته ، وتدغم العين في التاء .(6/396)
"""""" صفحة رقم 397 """"""
وخرجه مسلم من طريق شعبة ، بمعناه - أيضا .
وخرج الإمام أحمد بإسناد جيد ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله ( قام فصلى صلاة الصبح ، فالتبست عليه القراءة ، فلنا فرغ من الصلاة قال : ( ( [ لو ] رأيتموني وإبليس ، فأهويت بيدي ، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين - الإبهام والتي تليها - ، ولولا دعوة أخي سليمان ، لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة ) ) .
وفي هذا الحديث من العلم : أن دفع المؤذي في الصلاة جائز ، وإن لم يندفع إلا بعنف وشدة دفع جاز دفعه بذلك .
وقد سبق في دفع المار بين يدي المصلي ، أنه ( ( إن أبى فليقاتله ؛ فإنه شيطان ) ) .
وهذا إذا كانَ أذاه يختص بالصلاة كالمار ، والشيطان الملهي عن الصَّلاة وكذلك إن كانَ أذاه لايختص بالصلاة كالحية والعقرب .
وروى يحيى بن أبي كثير ، عن ضمضم بن جوس ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( أمر بقتل الأسودين في الصلاة : الحية والعقرب .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي .
وقال : حسن صحيح .
وضمضم هذا ، يمامي ، قال أحمد : ليس به بأس ، ووثقه ابن معين والعجلي .(6/397)
"""""" صفحة رقم 398 """"""
وأخذ أكثر العلماء بهذا الحديث ، ورخصوا في قتل الحية والعقرب في الصلاة ، منهم : ابن عمر ، والحسن ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم .
وكرهه النخعي خاصة ، ولعل السنة لم تبلغه في ذلك .
وقال سفيان : لابأس أن يقتل الرجل - يعني : في صلاته - الحية والعقرب والزنبور والبعوضة والبق والقمل ، وكل ما يؤذيه .
وقد سبق القول في قتل القمل في الصلاة وفي المسجد في ( ( باب : دفن النخامة في المسجد ) ) وذكرنا هناك الاختلاف في كراهة قتل القمل في المسجد ودفنه فيه ، وإلقائه
فيه .
ومذهب مالك : أنه يقتلها في صلاته ، بل إن كان في غير المسجد ألقاها ، وإن كان في المسجد لم يلقها فيه ، ولم يقتلها .
وكذلك كره قتل القملة في الصلاة : الليث وأبو يوسف .
وقال الأوزاعي : تركه احب الي .
ولم يكرهه الحسن وأبو حنيفة ومحمد وإسحاق وأكثر أصحابنا .
وفي الحديث : دليل على إمكان ربط الشيطان وحبسه وإيثاقه ، وعلى جواز ربطه في المسجد ، كما يربط الأسير فيه ، وعلى جواز رؤية غير الأنبياء للجن والشياطين ، وتلاعب الصبيان بهم .
وأما قوله تعالى : ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ( [ الأعراف : 27 ] فإنه خرج على الأعم الأغلب ، وليس المراد به نفي إمكان رؤيتهم .(6/398)
"""""" صفحة رقم 399 """"""
وقد ظن بعض الناس ، أنه دال على ذلك ، فقال : من ادعى رؤيتهم [ فسق ] .
وقد رآهم أبو هريرة وغيره من الصحابة ، وستأتي الأحاديث بذلك متفرقة في أماكنها - إن شاء الله تعالى .(6/399)
"""""" صفحة رقم 400 """"""
- باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة
وقال قتادة : إن أخذ ثوبه يتبع السارق ويدع الصلاة .
وروى عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) ، عن معمر ، عن الحسن وقتادة ، في رجل كان يصلي ، فأشفق أن تذهب دابته أو أغار عليها السبع ؟ قالا : ينصرف .
وعن معمر ، عن قتادة ، قالَ : سألته ، قلت : الرجل يصلي فيرى صبياً على بئر ، يتخوف أن يسقط فيها ، أفينصرف ؟ قال : نعم . قلت : فيرى سارقاً يريد أن يأخذ
نعليه ؟ قال : ينصرف .
ومذهب سفيان : إذا عرض الشيء المتفاقم والرجل في الصلاة ينصرف إليه .
رواه ، عنه المعافى .
وكذلك إن خشي على ماشيته السيل ، أو على دابته .
ومذهب مالك ؛ من انفلتت دابته وهو يصلي مشى فيما قرب ، إن كانت بين يديه ، أو عن يمينه أو عن يساره ، وإن بعدت طلبها وقطع الصَّلاة .
ومذهب أصحابنا : لو رأى غريقاً ، أو حريقاً ، أو صبيين يقتتلان ، ونحو ذلك ، وهو يقدر على إزالته قطع الصلاة وأزاله .
ومنهم من قيده بالنافلة .
والأصح : أنه يعم الفرض وغيره .
وقال أحمد - فيمن كان يلازم غريماً له ، فدخلا في الصلاة ، ثم فر الغريم وهو في الصلاة - : يخرج في طلبه .(6/400)
"""""" صفحة رقم 401 """"""
وقال أحمد - أيضا - : إذا رأى صبياً يقع في بئر ، يقطع صلاته ويأخذه .
قال بعض أصحابنا : إنما يقطع صلاته إذا احتاج إلى عمل كثير في أخذه ، فإن كان العمل يسيراً لم تبطل به الصلاة .
وكذا قال أبو بكر في الذي خرج ورأى غريمه : إنه يعود ويبني على صلاته .
وحمله القاضي على أنه كان يسيراً .
ويحتمل أن يقال : هو خائف على ماله ، فيغتفر عمله ، وإن كثر .
خرج البخاري في هذا الباب حديثين :
الأول - وهو موقوف - :
1211 - ثنا آدم : ثنا شعبة : ثنا الأزرق بن قيس ، قال : كنا بالأهواز نقاتل الحرورية ، فبينا أنا على حرف نهر ، إذا رجل يصلي ، وإذا لجام دابته بيده ، فجعلت الدابة تنازعه ، وجعل يتبعها - وقال شعبة : هو أبو برزة الأسلمي - ، فجعل رجل من الخوارج يقول : اللهم ، افعل بهذا الشيخ ، فلما انصرف الشيخ ، قال : إني سمعت
قولكم ، وإني غزوت مع رسول الله ( ست غزوات - أو سبع غزوات أو ثمانياً - ، وشهدت تيسيره ، وإني إن كنت أرجع مع دابتي أحب الي من أن ادعها ترجع إلى
مألفها ، فيشق علي .
فهذا موقوف على أبي برزة ، وفيه : ما يشعر [ بتوبيخ ] من رفع ؛ لقوله : ( ( شهدت تسير النَّبيّ ( ) ) .
والمعنى : أنه شاهد من تيسيره ( ما استدل به على أن هذا العمل في الصلاة غير مضر بالصلاة .(6/401)
"""""" صفحة رقم 402 """"""
وقد تقدم أن الإمام أحمد قالَ : إذا فعل في صلاته كفعل أبي برزة فصلاته
جائزة .
ومتى كان يخاف من ذهاب دابته على نفسه ، فحكمه حكم الخائف ، فلا يبطل عمله في الصلاة لتحصيل دابته ، وإن كثر .
وقد خرج البخاري حديث أبي برزة في ( ( الأدب ) ) من ( ( صحيحه ) ) هذا ، من طريق حماد بن زيد ، عن الأزرق ، به ، وفي حديثه : فانطلقت الفرس ، فخلى صلاته واتبعها ، حتى أدركها ، فأخذها ، ثم جاء فقضى صلاته .
والظاهر : أن المراد بترك صلاته ترك العمل فيها ، اشتغالا بطلب الفرس ، ثم جاء فبنى على مامضى من صلاته .
الثاني :
1212 - نا محمد بن مقاتل : نا عبد الله : أنا يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، قال : قالت عائشة : خسفت الشمس ، فقام رسول الله ( فقرأ سورة طويلة ، ثم ركع فأطال ، ثم رفع رأسه ، ثم استفتح سورة أخرى ، ثم ركع حين قضاها وسجد ، ثم فعل ذلك في الثانية ، ثم قال : ( ( إنهما آيتان من آيات الله ، فإذا رأيتم ذلك ، فصلوا حتى يفرج عنكم ، لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدته ، حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة ، حين رأيتموني أتقدم ، ولقد رأيت جهنم ، يحطم بعضها بعضاً ، حين رأيتموني تأخرت ، ورأيت فيها عمرو بن لحي ، وهو الذي سيب السوائب ) ) .
في هذا السياق : ما يستدل به على أنه لم يقرإ الفاتحة في قيامه الثاني من كل
ركعة .(6/402)
"""""" صفحة رقم 403 """"""
وفيه : أن الناس في حال الكسوف في كربة وشدة تحتاج إلى التفريج .
وفيه : أنه تقدم وتأخر في صلاته ، وأنه أخبر أن سبب تقدمه أنه أراد أن يأخذ قطفاً من الجنة ، وأن سبب تأخره قرب جهنم فتباعد عنها .
وقد سبق القول في المشي في الصلاة والتقدم والتأخر .
وأما تناول القطف من الجنة ، فليس هو من عمل الدنيا ، حتى يستدل به على تناول الحاجات في الصلاة ، وإنما هو من أمور الآخرة ، وكذلك الاشتغال بالنظر إليه في الصلاة ، وقد سبق ذكر هذا المعنى .
ولكن في ( ( مصنف عبد الرزاق ) ) عن ابن جريج ، عن إسماعيل بن أمية ، أن إنساناً قدم على النبي ( بهدية ، فأخذها النبي ( وهو في الصلاة .
وهذا مرسل .(6/403)
"""""" صفحة رقم 404 """"""
- باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة
ويذكر عن عبد الله بن عمرو : نفخ النبي ( في سجوده في الكسوف .
حديث عبد الله بن عمرو هذا ، هو من رواية عطاء بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو هذا ، قال : انكسفت الشمس على عهد رسول الله ( ، فقام
رسول الله ( إلى الصلاة - فذكر الحديث إلى أن قال - : فجعل ينفخ في آخر سجوده من الركعة الثانية ، ويبكي ويقول : ( ( لم تعدني هذا وأنا فيهم ، لم تعدني هذا ونحن نستغفرك ) ) - وذكر باقي الحديث .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في
( ( صحيحهما ) ) .
وعطاء بن السائب ، ثقة ، تغير بآخرة .
وخرج الإمام أحمد من حديث مجالد ، عن الشعبي ، عن المغيرة بن شعبة ، أن النبي ( كان في الصلاة ، فجعل ينفخ بين يديه ، ثم مد يده كأنه يتناول شيئاً ، فلما انصرف قال : ( ( إن النار أدنيت مني ، حتى نفخت حرها عن وجهي ) ) .
ومجالد ، فيه ضعيف .
خرج في هذا الباب حديثين :
الأول :
1213 - ثنا سليمان بن حرب : ثنا حماد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي ( رأى نخامة في قبلة المسجد ، فتغيظ على أهل المسجد ، وقال :(6/404)
"""""" صفحة رقم 405 """"""
( ( إن الله قبل أحدكم إذا كان في صلاته ، فلا يبزقن ) ) - أو قال : ( ( لايتخمن ) ) - ، ثم نزل فحتها بيده .
وقال ابن عمر : إذا بزق أحدكم فليبزق عن يساره .
وقد خرجه في ( ( أبواب القبلة ) ) من حديث مالك ، عن نافع - مختصراً .
الثاني :
1214 - حدثنا محمد : ثنا غندر : ثنا شعبة ، قال : سمعت قتادة ، عن أنس ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا كان أحدكم في الصلاة ، فإنه يناجي ربه ، فلا يبزقن بين يديه ، ولا عن يمينه ، ولكن عن شماله ، تحت قدمه اليسرى ) ) .
وقد خرجه - فيما تقدم - ، عن آدم ، عن شعبة .
ومقصوده : الاستدلال بإباحة النبي ( البزاق والتنخم في الصلاة ، على أن النفخ ونحوه كالنحنحة لايبطل الصلاة ؛ لأن للتنخم صوتاً كالتنحنح ، وربما كانَ معه نوع من النفخ عندَ القذف بالنخامة .
وقد سبق أن ابن عبد البر ذكر مثل ذلك .
وقد اختلف العلماء في النفخ في الصلاة : هل هو كلام يبطلها إذا تعمده ، أم لا ؟
فقالَ طائفة : هوَ كلام .
قال ابن المنذر : كرهه ابن مسعود وابن عباس .
وروي عن ابن عباس وأبي هريرة ، أنه بمنزلة الكلام ، ولا يثبت عنهما .(6/405)
"""""" صفحة رقم 406 """"""
كذا قال ، وليس كما قال ، فقد روى الأعمش والحسن بن عبيد الله أبو عروة النخعي - وهو ثقة خرج له مسلم - كلاهما ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس ، قال : النفخ في الصلاة كلام .
وقد خرجه وكيع في ( ( كتابه ) ) والإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله ، عنه في
( ( مسائله ) ) .
وفي رواية له : النفخ في الصلاة يقطع الصلاة .
وخرجه الجوزجاني ، وعنده : النفخ في الصلاة أخشى أن يكون كلاماً .
وأما المروي عن أبي هريرة ، فمن طريق قيس ، عن أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : النفخ في الصلاة كلام .
خرجه عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه في ( ( مسائله ) ) .
وقيس ، هو : ابن الربيع .
وروي عن النخعي ، أنه قال : هو كلام .
وروي عنه - [ أيضا ] - ، قال : إنما كانوا يكرهونه في الصلاة مخافة أن يؤذي الرجل جليسه .
وعن سعيد بن جبير ، قال : هو بمنزلة الكلام .
وممن رأى أنه بمنزلة الكلام في إبطال الصلاة : أبو حنيفة ومحمد بن(6/406)
"""""" صفحة رقم 407 """"""
الحسن والثوري والشافعي وأصحابه وأحمد - في رواية - وابن القاسم المالكي ، وعن أبي يوسف روايتان :
أحداهما : أن أراد به التافيف فهو كلام .
والثانية : ليس بكلام بكل حال ، وهي التي رجع إليها .
وكرهه ابن سيرين ويحيى بن [ أبي كثير ] ، من غير إفساد الصلاة به .
وهو قول مالك وأحمد - في رواية - وإسحاق وسليمان بن داود الهاشمي وأبي خيثمة .
وقال أحمد - مرة - : أخشى أن يكون قد فسدت صلاته ؛ يروى عن ابن عباس : من نفخ في صلاته فقد تكلم .
فحكى أكثر أصحابنا المتقدمين عن أحمد في ذلك روايتين .
وأما القاضي أبو يعلى وأصحابه ، فنزلوهما على حالين ، قالوا : إن بأن منه حرفان فهو كلام مبطل الصلاة ، وإلا فلا .
ولايعرف هذا التفصيل عن أحمد ، ولاعن غيره ممن تقدم ، سوى الشافعي وأصحابه ، وهو قول أبي ثور .
واستدلوا بأن الكلام عند العرب ما دل على معنى ، وأقله حرفان .
ولكن الكلام المقصود يدل على معناه الموضوع له بالوضع ، ودلالة النفخ والتأوه ونحو ذلك إنما هوَ بالطبع لا بالوضع ، فليس في شيء من ذَلِكَ حروف موضوعة للدلالة على معنى خاص .(6/407)
"""""" صفحة رقم 408 """"""
وقال الحسن : إذا رأيت ما يريبك - يعني في الصَّلاة - فانفخ .
وهذا يدل على اباحته للحاجه إليه .
وروي - أيضا - مثله عن بعض الصحابة . وفي الباب : حديث مرفوع ، عن أم سلمة ، اختلف في إسناده ولفظه : فروي عنبسه بن الأزهر ، عن سلمة بن كهيل ، عن كريب ، عن أم سلمة ، قالت : مر النبي ( بغلام لهم وهو يصلي فنفخ في سجوده ، فقالَ : ( ( لاتنفخ ؛ إن من نفخ فقد تكلم ) ) خرجه النسائي . وهو مما تفرد به عنبسة هذا .
وقد قال فيه ابن معين وأبو داود وأبو حاتم : لابأس به .
لكن قال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به .
وذكره ابن حبان في ( ( ثقاته ) ) ، وقال : كان يخطىء .
وخرج الترمذي من حديث ميمون أبي حمزة ، عن أبي صالح ، عن أم سلمة ، قالت : رأى النبي ( غلاما لنا ، يقال له : أفلح ، إذا سجد نفخ ، فقال له : ( ( أفلح ، ترّب وجهك ) ) .
وقال : إسناده ليس بذاك ، وميمون أبو حمزة ، ضعفه أهل العلم .
وخرجه الإمام أحمد - أيضا .
وميمون الأعور أبو حمزة ، قال أحمد : متروك .(6/408)
"""""" صفحة رقم 409 """"""
ولكنه توبع عليهِ :
فخرجه الإمام أحمد من طريق سعيد أبي عثمان الوراق ، عن أبي صالح ، قال : دخلت على أم سلمة - فذكرالحديث مرفوعا ، وفيه : ( ( ترب وجهك لله ) ) .
وخرجه ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من طريق عدي بن عبد الرحمن ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي صالح مولى آل طلحة بن عبيد الله ، قال : كنت عند أم سلمة - فذكر الحديث .
كذا في الرواية : ( ( أبو صالح مولى آل طلحة ) ) ، وجاء في رواية ، أنه : ( ( مولى أم سلمة ) ) .
قال أبو زرعة الدمشقي في ( ( تاريخه ) ) : أبو صالح مولى أم سلمة ، يحدث عنها في كراهة نفخ التراب في السجود ، اسمه : زاذان . انتهى .
وهو مع هذا غير مشهور .
والحديث بهذا اللفظ : يدل على أن النفخ ليس بكلام ، وإنما يكره نفخ التراب عن موضع السجود ؛ لأنه يمنع تتريب الجبهة في السجود ، والأفضل للساجد أن يترب وجهه لله ، ولهذا كانَ سجوده على التراب افضل من سجوده على حائل بينه وبين التراب .
وفي كراهة النفخ في الصلاة أحاديث أخر مرفوعة ، لا تصح .
وقد سبق في ( ( باب : من لم يمسح جبهته وأنفه حتى صلى ) ) في ذلك حديث مرفوع ، من رواية بريدة ، وبيان علته .(6/409)
"""""" صفحة رقم 410 """"""
- باب من صفق جاهلاً من الرجال في صلاته
لم تفسد صلاته
لم يخرج فيه شيئاً .
وفيه : حديث سهل بن سعد وقد خرجه فيما تقدم .
ومجرد التصفيق ليس مما يبطل الصلاة ، إنما يبطل الإكثار منه .
وفي الحديث : أنهم أكثروا التصفيق حتى التفت أبو بكر ، ولم يكونوا يعلمون أن التصفيق
منهى عنه الرجال في الصلاة .(6/410)
"""""" صفحة رقم 411 """"""
- باب إذا قيل للمصلي : تقدم أو انتظر ، [ فانتظر ]
فلا بأس
1215 - حدثنا محمد بن كثير : نا سفيان ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : كانوا يصلون مع النبي ( وهم عاقدوا أزرهم من الصغر على رقابهم ، فقيل للنساء : ( ( لاترفعن رءوسكن حتى يستوي الرجال جلوساً ) ) .
الظاهر : أن البخاري حمل الحديث على أن النساء قيل لهن ذلك في نفس الصلاة .
وقد أنكر ذلك الإسماعيلي ، وقال : إنما تقدم إليهم بذلك قبل الصلاة ؛ لما علم من ضيق أزر الرجال ، فليس الحديث مما ترجم عليهِ .
قلت : ولو خرج في الباب إشارة النبي ( في صلاته إلى الذين صلوا وراءه قياماً - وكان هو قاعداً - : أن اجلسوا ، إذ أشار به لأبي بكر ، وهو يصلي بالناس ، أن اثبت مكانك ، في حديث مرضه ؛ وفي حديث اصلاحه بين بني عوف ، لكان دليلاً على ما بوب عليهِ .(6/411)
"""""" صفحة رقم 412 """"""
وحاصل الأمر : أن أمر المصلي بما فيهِ مصلحة لصلاته غير مكروه ، وأما أمره بما ليس من الصَّلاة فيكره .
ذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : قال إنسان لعطاء : يأتيني إنسان وأنا في المكتوبة ، فيخبرني الخبر ، فأستمع إليه ؟ قالَ : ما أحبه ، وأخشى أن يكون سهواً ، إنما هي المكتوبه ، فتفرغ لها حتَّى تفرغ منها .
قال : فقلت لعطاء : أفتكره كل شيء من الإيماء في المكتوبة ، حتى إن مر بي إنسان وأنا في المكتوبة ، [ إذا جاء رجل ] ، فقال : صليت الصلاة ، كرهت أن أشير إليه برأسي ؟ قالَ : نعم ، أكره كل شيء من ذَلِكَ .
فقيل له : أفعل ذلك في التطوع ؟ قالَ : إن كانَ شيء لابد منه ، وأحب أن لايفعل .
وسيأتي ذكر إشارة المصلي والسلام عليهِ - إن شاء الله تعالى .
وقد بوب البخاري - فيما بعد - : ( ( باب : إذا كُلّم وهو يصلي فأشار بيده ، أو
يستمع ) ) ، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى .
وروى عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) ، عن معمر ، عن ثابت البناني ، عن أبي رافع ، قال : رأيت أصحاب رسول الله ( ، وأن أحدهم ليشهد على الشهادة وهو قائم
يصلي .(6/412)
"""""" صفحة رقم 413 """"""
- باب لا يرد السلام في الصلاة
فيه حديثان :
الأول :
1216 - حدثنا عبد الله بن أبي شيبة : ثنا ابن فضيل ، عن الأعمش ، عن
إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : كنت أسلم علي النبي ( وهو في الصلاة ، فيرد علي ، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمت عليه ، فلم يرد علي ، وقال : ( ( إن في الصلاة لشغلا ) ) .
قد سبق هذا الحديث ، مع الكلام على إسناده .
والمقصود منه في هذا الباب : أن المصلي لا يرد السلام على من سلم عليه ؛ لاشتغاله بما هوَ فيهِ من الإقبال على مناجاة الله عز وجل ، فلا ينبغي لهُ أن يتشاغل بغيره ، ما دام بين يديه .
الثاني :
1217 - ثنا أبو معمر : ثنا عبد الوارث : ثنا كثير بن شنظير ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر ، قال : بعثني النبي ( في حاجة له ، فانطقت ، ثم رجعت وقد
قضيتها ، فأتيت النبي ( ، فسلمت عليه ، فلم يرد علي ، فوقع في قلبي ما الله أعلم به ، فقلت في نفسي : لعل رسول الله ( وجد علي أني أبطات عليه ، ثم سلمت عليه ، فلم يرد علي ، فوقع في قلبي أشد من المرة الأولى ، ثم سلمت عليه ،(6/413)
"""""" صفحة رقم 414 """"""
فرد علي ، فقال : ( ( إنما منعني أن أرد عليك ، أني كنت أصلي ) ) ، وكان على راحلته متوجها إلى غير القبلة .
وقد دل هذان الحديثان على مسائل :
منها :
أن المصلي إذا سلم عليه في الصلاة ، لم يرد السلام بقوله ، وهذا قول جمهور أهل العلم .
وذهب طائفة إلى أنه يجوز أن يرد السلام بقوله ، روي ذلك عن أبي هريرة .
وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وقتادة .
وقال عطاء : يرد عليه إذا كان جالسا في التشهد الأخير .
وهذا مبني على قوله : إن المصلي يخرج من صلاته بدون السلام ، كما سبق .
وقد نقل يونس بن عبد الأعلى ، عن الشافعي : أن المصلي يشمت العاطس ، يقول له : يرحمك الله .
وقال : هو دعاء له ؛ وقد دعا النَّبيّ ( في صلاته لقوم ، ودعا على آخرين .
وقياس هذا : أنه يرد عليهِ السلام ؛ لأنه دعاء لهُ - أيضا .
ولا يقال : الدعاء لمعين لايكون إلا على وجهة الخطاب لهُ ؛ فإنه قد ورد ذلك على وجه الخطاب للمعين ، كما يقول المصلي في تشهده : ( ( السلام عليك(6/414)
"""""" صفحة رقم 415 """"""
أيها النبي ورحمة الله وبركاته ) ) .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) ، عن أبي الدرداء ، أن النبي ( قال في صلاته للشيطان الذي تفلت عليه : ( ( أعوذ بالله منك ، ألعنك بلعنة الله ) ) - ثلاثا .
ومتى كان رد السلام بدون لفظ الخطاب ، مثل أن يقول : ( ( عليه السلام ) ) أو
( ( يرحمه الله ) ) لم تبطل الصلاة به عند الشافعية وغيرهم ، كالدعاء لمعين في الصلاة .
وقد سبق ذكره والاختلاف فيه .
والصحيح : الأول ؛ لأن النَّبيّ ( امتنع من رد السلام في الصَّلاة ، وعلل بأنه يصلي ، فدل على أن الصَّلاة تمنع من ذَلِكَ .
وقد نهى معاوية بن الحكم عن تشميت العاطس ، وقال له : ( ( إن صلاتنا هذه لايصلح فيها شيء من كلام الآدميين ) ) .
وأما السلام على النبي ( ، فمخصوص من بين الناس ؛ لأن خطابه في الصَّلاة لم يكن مبطلا ، كما سبق ذكره .
ومنها :
أن المصلي لايرد على المسلم في صلاته بالإشارة ، ولا بعد سلامه .
فإنه ليس في حديث ابن مسعود ، أنه رد عليه بالكلية ، ولا في حديث جابر ، أنه رد عليهِ بعد سلامه ، إلا لما سلم عليه حينئذ .
وقد اختلف العلماء في رد المصلي للسلام عليه .
فقالت طائفة : يرد في الصلاة بالإشارة ، روي عن ابن عمر .(6/415)
"""""" صفحة رقم 416 """"""
وروي عن ابن مسعود من وجه منقطع .
[ و ] هو قول مالك والحسن بن حي والشافعي وأحمد وإسحاق .
وروي عن ابن عباس ، أنه رد على من سلم عليهِ في صلاته ، وقبض على يده .
وعن أحمد ، أنه يرد بالإشارة في النفل ، دون الفرض .
وحكي عنه رواية أخرى : لا يرد في نفل ولا فرض ، بإشارة ولا غيرها .
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .
وعلى هذا : فالسلام لايجب رده بحال ؛ لأنه مكروه ، كما سيأتي ذكره ، فلا يستحق رداً .
وقال طائفة : يرد إذا سلم من الصلاة ، وهو قول عطاء والنخعي والثوري .
قال النخعي : إن كان قريباً يرد ، وإن كان قد ذهب فأتبعه السلام .
وقال إسحاق : هو مخير بين أن يفعل به - كما قال النخعي - ، وبين أن يرد في الصلاة بالإشارة .
وقال أصحابنا : هو مخير بين الرد بالإشارة في الصلاة ، والتأخير حتى يسلم ، والأول أفضل .
قالوا : لأن للتأخير آفات ، منها : النسيان ، ومنها : ذهاب المسلم .(6/416)
"""""" صفحة رقم 417 """"""
وظاهر هذا : أنه إن أخر الرد حتى سلم ، وكان المسلم قد مضى لم يرد عليه .
واستدل من قال : لايرد بإشارة ولا غيرها ، لافي الصلاة ولا بعدها ، بحديث ابن مسعود ؛ فإن ظاهره : أنه لم يرد عليهِ في الصَّلاة ، ولا بعدها .
واستدل من قالَ : يؤخر الرد ، بما روى عاصم ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، أن النَّبيّ ( رد عليهِ السلام بعد السلام .
خرجه أحمد وأبو داود .
وعاصم ، هو : ابن أبي النجود ، وليسي بذاك الحافظ .
وخرجه أبو يعلى الموصلي ، من وجه آخر منقطع .
وخرجه عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) من وجه آخر منقطع - أيضا .
واستدل من قال : يرد في صلاته بالإشارة ، بما روى محمد بن الصلت التوزي : ثنا عبد الله بن رجاء ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن ابن مسعود ، قال : لما قدمت من الحبشة ، أتيت النبي ( هو يصلي ، فسلمت عليه ، فأشار إلي .
خرجه الطبراني وغيره .
وقد أنكر ابن المديني وصله بذكر أبي هريرة ، وقال : إنما هو عن ابن سيرين ، أن ابن مسعود .
يعني : أنه مرسل .(6/417)
"""""" صفحة رقم 418 """"""
وكذا رواه وكيع في ( ( كتابه ) ) ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، قال : لما قدم عبد الله من الحبشة ، أتى النبي ( وهو يصلي ، فسلم عليه ، فأومأ النبي ( ، فأشار برأسه - بنحوه ، وقال فيه : فأومأ برأسه ، أو قال : فأشار برأسه .
وخرجه أبو داود في ( ( مراسيله ) ) من طريق حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن ابن سيرين .
وخرجه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين مرسلا - أيضا - ، ولكن قال في حديثه : فلم يرد عليه حتى انفتل . وقال : ( ( إن في الصلاة لشغلاً ) ) .
وخرج مسلم من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، قال : إن النبي ( بعثني لحاجة ، ثم أدركته وهو يسير - وفي رواية له : [ يصلي ] - ، فسلمت عليه ، فأشار إلي ، فلما فرغ دعاني ، فقال : ( ( إنك سلمت علي آنفاً ، وأنا أصلي ) ) ، وهو موجه حينئذ قبل المشرق .
ويحتمل أنه إنما أشار إليه ليكف عن كلامه حينئذ ، لم يكن رداً للسلام ؛ ولهذا قالَ جابر : فلم يرد علي ، وذكر أنه وجد في نفسه ما الله به عليم ، ولو علم أنه رد عليهِ بالإشارة لم يجد في نفسه .
وفي رواية للنسائي : سلمت عليه ، فأشار بيده ، ثم سلمت فأشار بيده ،(6/418)
"""""" صفحة رقم 419 """"""
فانصرفت ، فناداني : ( ( ياجابر ) ) ، فأتيته ، فقلت : يا رسول الله ، أني سلمت عليك ، فلم ترد علي ؟ فقالَ : ( ( إني كنت أصلي ) ) .
ولو كانت إشارته رداً ، لقال : قد رددت عليك .
وفي رواية لمسلم : أرسلني رسول الله ( ، وهو منطلق إلى بني المصطلق ، فأتيته وهو يصلي على بعيره ، فقال لي بيده هكذا ، ثم كلمته ، فقال لي هكذا - وأنا أسمعه
يقرأ ، يومئ برأسه - ، فلما فرغ قال : ( ( إنه لم يمنعني أن أكلمك إلا أني كنت أصلي ) ) .
فهذه الرواية : تدل علي أن إيماءه إليه إنما كان ليكف عن كلامه في تلك الحال .
واستدل من قال : يرد إشارة ، بما روى نابل - صاحب العباء - ، عن ابن عمر ، عن صهيب قال : مررت برسول الله ( وهو يصلي ، فسلمت عليه ، فرد علي إشارة .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي ، وحسنه .
وقال : يعقوب بن شيبة : هو صالح الإسناد .
ونابل ، قال ابن المديني ويعقوب بن شيبة : هو مديني ليس بالمشهور .
وسئل الدارقطني : أثقة هو ؟ فأشار برأسه ، أن لا .
وخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، عن صهيب ، عن النَّبيّ ( - معناه .(6/419)
"""""" صفحة رقم 420 """"""
وقد قيل : إن زيدا لم يسمعه من ابن عمر ، وقد سئل عن ذلك فقال : أما أنا فقد كلمته وكلمني ، ولم أقل : سمعته .
وممن قال : لم يسمعه من ابن عمر : ابن المديني ويعقوب بن شيبة .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي - نحوه من حديث هشام بن سعد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن بلال ، عن النَّبيّ ( .
وقد تكلم فيه ابن المديني ويعقوب بن شيبة ؛ لتفرد هشام بن سعد به ، وليس بالحافظ جداً .
وروى الليث : حدثني ابن عجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رجلا سلم على النبي ( في الصلاة ، فرد عليه النبي (
إشارة ، فلما سلم قال : ( ( قد كنا نرد السلام في الصلاة ، فنهينا عن ذلك ) ) .
خرجه الجوزجاني والطبراني والبزار في ( ( مسنده ) ) .
وعندي ؛ أن هذا يعلل برواية ابن عيينة وغيره ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن
عمر ، عن صهيب ، كما تقدم .
وابن عجلان ليس بذاك الحافظ .
وروى قيس بن سعد ، عن عطاء ، عن محمد بن علي ، عن عمار ، أنه سلم على رسول الله ( وهو يصلي ، فرد عليهِ .
خرجه النسائي في ( ( باب : رد السلام بالإشارة ) ) .(6/420)
"""""" صفحة رقم 421 """"""
وخرجه الإمام أحمد ، من طريق حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن محمد بن علي - هو : ابن الحنفية - ، عن عمار - فذكره .
وخرجه البزار في ( ( مسنده ) ) ، وعنده : ( ( فرد عليه إشارة ) ) .
وحمله ابن عيينة ، على أنه رد عليه بالقول قبل تحريم الكلام ، وأن رده انتسخ .
ونقل ابن أبي خيثمة ، عن يحيى بن معين ، أنه قال : هذا الحديث خطأ .
ورواه ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن علي ، أن عماراً سلم على النَّبيّ ( .
وهذه الرواية مرسلة ، وهي أصح .
وكذا رواه عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن محمد بن علي بن حسين - مرسلاً .
قال ابن جريج : ثم لقيت محمد بن علي بن حسين ، فحدثني به .
فتبين بهذا : أن محمد بن علي الذي روى هذا الحديث عن عمار هو أبو جعفر الباقر ، وليس هو ابن الحنفية ، كما ظنه بعضهم .
وقول ابن معين : إنه خطأ ، يشير إلى من قال : ( ( عن ابن الحنفية ) ) هو خطأ .
وأما رواية أبي الزبير ، عن محمد بن علي : ( ( هو : ابن الحنفية ) ) ، فهو ظن من بعض الرواة ، فلا نحكم به .
وروايات حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير غير قوية .(6/421)
"""""" صفحة رقم 422 """"""
ولعل أبا الزبير رواه عن أبي جعفر - أيضا - ، أو عن عطاء ، عنه ودلسه .
أو لعل حماد بن سلمة أراد حديث أبي الزبير ، عن جابر ، أنه سلم على النبي ( وهو صلي ، فأشار إليه .
ومنها :
أن النبي ( لم ينه من سلم عليهِ في الصلاة عن السلام عليه .
واستدل بذلك من قال : إنه لا يكره السلام على المصلي ، وهو قول ابن عمر ومالك وأحمد وإسحاق - في رواية عنهم - ومروان بن محمد الدمشقي .
وقالت طائفة : يكره ، وهو قول جابر بن عبد الله وعطاء والشعبي ، الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق - في رواية عنهم .
واستدلوا بقوله لابن مسعود : ( ( إن في الصلاة شغلا ) ) ؛ فإن في ذَلِكَ إشارة إلى كراهة السلام عيله ؛ ولأنه ينشغل [ . . . . ] المصلي ، وربما سهى بسببه فبادر الرد عليهِ .
ومن أصحابنا المتأخرين من قالَ : إن كانَ المصلي عالماً ، يفهم كيف يرد عليهِ ، لم يكره السلام عليهِ ، وإلا كره .
فمن قال : إنه لا يكره السلام على المصلي ، فمقتضى قوله : إنه لايستحق
جواباً ، ولا يجب الرد عليه .
ومن قال : لايكره ، فمنهم من قال : لايستحق جواباً ، وإنما يستحب الرد في الحال بالإشارة ، وهو قول الشافعية .
وحكى أصحابنا في وجوب الرد روايتين مطلقاً .(6/422)
"""""" صفحة رقم 423 """"""
- باب رفع الأيدي في الصلاة لأمر ينزل به
1218 - حدثنا قتيبة : حدثنا عبد العزيز ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : بلغ رسول الله ( أن بني عمرو بن عوف بقباء ، كان بينهم شيء ، فخرج يصلح بينهم في أناس من أصحابه .
فذكر الحديث بطوله ، وفيه :
أن النبي ( اشار إلى أبي بكر يأمره أن يصلي ، فرفع أبو بكر يديه ، فحمد الله ، ثم رجع القهقرى وراءه ، حتى قام في الصف ، وتقدم رسول الله ( يصلي للناس ، فلما فرغ أقبل علي الناس ، فقال : ( ( ياأيها الناس ، مالكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيح ؟ إنما التصفيح للنساء ، من نابه شيء في صلاته فليقل : سبحان الله ) ) ، ثُمَّ التفت إلى أبي بكر ، فقالَ : ( ( يا أبا بكر ، ما منعك أن تصلي بالناس حين أشرت إليك ؟ ) ) ، فقال أبو بكر الصديق : ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي النبي
( .
في الحديث : دليل على جواز رفع الأيدي في الصلاة لمن تجددت له نعمة ، فيحمد الله عليها رافعاً يديه ؛ فإن هذا فعله أبو بكر بحضرة النَّبيّ ( ، ولم ينكره ، مع أنه ( أنكر على الناس التصفيح ، وأمرهم بإبداله بالتسبيح ، وسأل أبا بكر : ( ( ما منعك أن تصلي للناس حين أشرت إليك ؟ ) ) ولم ينكر عليهِ ما فعله .(6/423)
"""""" صفحة رقم 424 """"""
وفي رواية ، خرجها الإمام أحمد في هذا الحديث ، أن النَّبيّ ( قالَ لأبي بكر : ( ( لم رفعت يديك ؟ ) ) قالَ : رفعت يدي لأني حمدت الله على ما رأيت منك - وذكر الحديث .
وقد سبق الكلام على أن من تجددت لهُ نعمة في الصَّلاة : هل يحمد الله عليها ؟ وأن عبيد الله العنبري استحسنه ، وغيره جوزه ، وخلاف من خالف في ذلك ؛ فإن البخاري بوب على ذلك فيما سبق .
ومراد بهذا الباب : زيادة استحباب رفع الأيدي عند الثناء على الله في الصلاة .
ويعضده : ما خرجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) من حديث عبد الرحمن بن سمرة ، قال : كنت بأسهم لي بالمدينة في حياة النبي ( ، إذ كسفت الشمس فنبذتها ، فقلت : والله ، لأنظرن إلى ما حدث لرسول الله ( في كسوف الشمس . قال : فأتيته وهو قائم في الصلاة ، رافعاً يديه ، فجعل يسبح ويهلل ويكبر ، ويدعو حتى حسر عنها ، فلما حسر عنها قرأ سورتين ، وصلى ركعتين .
ويستدل بهذا القول من قال : إنه يرفع يديه في القنوت في الصلاة ، وهو قول النخعي والثوري وأحمد وإسحاق ومالك والأوزاعي - في رواية عنهما .
وهو الصحيح عند أكثر أصحاب الشافعي .
ومنهم من قال : يرفعهما أولا لتكبير القنوت ، ثم يرسلهما ، وهو قول أبي حنيفة والليث بن سعد والحسن بن حي .
وقالت طائفة : لايرفعهما أصلاً .(6/424)
"""""" صفحة رقم 425 """"""
وروي رفع اليدين في القنوت عن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة .
وخرج الإمام أحمد من حديث أنس ، في حديث القراء السبعين الذين قتلهم حي من بني سليم ، قال : فما رأيت النبي ( وجد على شيء قط وجده عليهم ، فلقد رأيته كلما صلى الغداة رفع يديه فدعا عليهم .
وإنما كان يدعو عليهم في قنوت الفجر بعد الركوع ، كما سبق ذلك صريحاً عن أنس . والله أعلم .(6/425)
"""""" صفحة رقم 426 """"""
- باب الخصر في الصلاة
1219 - حدثنا أبو النعمان : ثنا حماد ، عن أيوب ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، قال : نهي عن الخصر في الصلاة .
1220 - حدثنا عمرو بن علي : حدثنا يحيى : نا هشام : ثنا محمد ، عن أبي هريرة ، قال : نهي أن يصلي الرجل مختصرا . وقال هشام وأبو هلال ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، قال : نهى رسول الله ( . حاصل ما ذكره في هذا الباب : أن هذا الحديث اختلف في لفظه على ابن سيرين :
فرواه أيوب ، عنه ، عن أبي هريرة ، قال : ( ( نهي ) ) .
ثم خرجه من طريق يحيى القطان ، عن هشام ، عنه كذلك .
ثم قال : وقال هشام وأبو هلال ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة : نهى النبي ( - فصرحا برفعه .
وقد أشكل هذا على بعضهم ، فقال : كيف يخرجه من طريق هشام [ . . . ] .
ثم يذكر أن هشاما صرح فيه بذكرالنبي ( ؟
وقال بعضهم : إن الحديث في رواية أبي ذر الهروي ، من طريق يحيى ، عن هشام - مرفوعا ، وأنه الصواب .
وهذا هو عين الخطأ ؛ فإن يحيى إنما رواه عن هشام بلفظ ( ( نهي ) ) .
وإنما مراد البخاري : أن هشاما اختلف عليهِ في ذكر النَّبيّ ( ، فخرجه من(6/426)
"""""" صفحة رقم 427 """"""
طريق القطان ، عنه بلفظة : ( ( نهي ) ) ، ثُمَّ ذكر أنه روي مصرحا برفعه .
وكذا ذكره الدارقطني في ( ( علله ) ) : أن هشاما اختلف عليه فيه ، فرواه جماعة
عنه ، وقالوا : نهى النبي ( ، منهم : زائدة وعبد الوهاب الثقفي وجرير بن عبد الحميد وغيرهم .
وقال الثوري والقطان وحفص بن غياث وأسباط بن محمد ويزيد بن هارون وحماد بن زيد ، عن هشام : ( ( نهي ) ) ، ولم يصرحوا برفعه .
إلا أن في رواية أسباط : ( ( نهينا ) ) ، وهذا كالتصريح .
ورواه أيوب وأشعث بن عبد الملك ، عن محمد ، عن أبي هريرة .
قال : وراوه عمران بن خالد ، عن ابن سيرين . عن أبي هريرة ، عن النبي ( .
وكذا روي عن أبي جعفر الرازي ، عن قتادة ، عن ابن سيرين .
قال الدارقطني : وقد تقدم قولنا في أن ابن سيرين من تورعه وتوقيه ، تارة يصرح بالرفع ، وتارة يوميء ، وتارة يتوقف ، على حسب نشاطه في الحال انتهى .
ولم يذكر رواية أبي هلال ، عن ابن سيرين ، المصرحة بالرفع ، التي علقها البخاري .
وخرج هذا الحديث مسلم في ( ( صحيحه ) ) من رواية أبي خالد وأبي أسامة وابن المبارك - جميعا - ، عن هشام ، مصرحا برفعه عن النبي ( [ أنه نهى ](6/427)
"""""" صفحة رقم 428 """"""
أن يصلي الرجل مختصراً .
وخرج ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من طريق عيسى بن يونس ، عن هشام ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، أن النبي ( قال : ( ( الاختصار في الصلاة راحة أهل النار ) ) .
وقال : يعني : أنه فعل اليهود والنصارى ، وهم أهل النار .
كذا خرجه ؛ وإنما رواه عيسى بن يونس ، عن عبيد الله بن الأزور ، عن هشام بهذا اللفظ .
وكذا خرجه الطبراني والعقيلي من رواية عيسى بن يونس ، عنه وقال العقيلي : لايتابع عبيد الله بن الأزور على لفظه .
و ( ( الاختصار ) ) ، فسره الأكثرون بوضع اليد على الخاصرة في الصلاة ، وبذلك فسره الترمذي في ( ( جامعه ) ) ، وعليه يدل تبويب النسائي .
وروى الإمام أحمد في ( ( مسنده ) ) عن يزيد بن هارون ، عن هشام ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، قال : نهي عن الاختصار في الصلاة . قلنا لهشام : ما الاختصار ؟ قالَ : يضع يده على خصره وهو يصلي . قالَ يزيد : قلنا لهشام : ذكره عن النبي ( ؟
قالَ برأسه - أي : نعم .
وبهذا التفسير فسره جمهور أهل اللغة ، وأهل غريب الحديث ، وعامة المحدثين والفقهاء ، وهو الصحيح الذي عليه الجمهور .(6/428)
"""""" صفحة رقم 429 """"""
وقد قيل : إنه إنما نهى عنه ؛ لأنه فعل المتكبرين ، فلا يليق بالصلاة .
وقيل : إنه فعل اليهود .
وقيل : فعل الشيطان .
فلذلك كرهه بعضهم في الصلاة وغيرها .
قد خرج البخاري في ( ( كتابه ) ) هذا في ( ( ذكر بني إسرائيل ) ) ، من رواية
مسروق ، عن عائشة ، أنها كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته ، وتقول : إن اليهود تفعله .
وخرجه سعيد بن منصور في ( ( سننه ) ) ، ولفظه : أن عائشة كانت تكره الاختصار في الصلاة ، وتقول : لاتشبهوا باليهود .
وخرجه عبد الرزاق ، ولفظه : إن عائشة نهت أن يجعل الرجل أصابعه في خاصرته في الصلاة ، كما تصنع اليهود .
وروي عن عائشة ، أنها قالت : هكذا أهل النار .
وعن ابن عباس ، قال : إن الشيطان يحضر ذلك .
وعن مجاهد ، قال : هو استراحة أهل النار في النار .
خرجه كله وكيع بن الجراح ، وعنه ابن أبي شيبة .
وروى ابن أبي شيبة بإسناده ، عن حميد الهلالي ، قال : إنما كره الخصر في الصلاة أن إبليس أهبط مختصراً .(6/429)
"""""" صفحة رقم 430 """"""
وروى صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة ، قال : إذا قام أحدكم إلى الصلاة ، فلا يجعل يديه في خاصرته ؛ فإن الشيطان يحضر ذَلِكَ .
خرجه عبد الرزاق .
وروى سعيد بن زياد الشيباني ، عن زياد بن صبيح ، قال : صليت جنب ابن
عمر ، فوضعت يدي على خصري ، فقال لي هكذا - ضربه بيده - ، فلما صليت قلت : يا أبا عبد الرحمن ، مارابك مني ؟ قالَ : إن هذا الصلب ، وأن النَّبيّ ( نهانا عنه .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
وزياد بن صبيح - ويقال : ابن صباح - الحنفي ، وثقه ابن معين والنسائي
وغيرهما ، وقال الدارقطني : يعتبر به .
قال : وسعيد بن زياد الشيباني ، الراوي عنه ، لايحتج به ، ولكن يعتبر به ، قال : لا أعرف له إلا هذا الحديث - : نقله عنه البرقاني .
وسعيد بن زياد ، قال ابن معين : صالح . ووثقه ابن حبان .
وحكى ابن المنذر كراهة الاختصار في الصلاة على هذا الوجه عن ابن عباس وعائشة ومجاهد والنخعي وأبي مجلز ومالك والأوزاعي وأصحاب الرأي . انتهى .
وهو قول عطاء والشافعي وأحمد - أيضا .
ومن الناس من فسر الاختصار في حديث أبي هريرة بأن يمسك بيده شيئاً(6/430)
"""""" صفحة رقم 431 """"""
يعتمد عليه في الصلاة ؛ فإن العصى ونحوها مما يعتمد عليهِ يسمى مخصرة .
وفسره بعضهم باختصار السورة ، فيقرأ بعضها .
وفسره بعضهم باختصار افعال الصلاة ، فلا يتم قيامها ولا ركوعها ولا
سجودها .
وقد بوب أبو داود في ( ( سننه ) ) على ( ( التخصر والإقعاء في الصلاة ) ) ، فخرج فيه : حديث ابن عمر المشار إليه .
ثم بوب على ( ( الاختصار في الصلاة ) ) ، وخرج فيه : حديث أبي هريرة هذا .
ثم اتبعه : ( ( باب : يعتمد في الصلاة على عصى ) ) .
فلعله فسر الاختصار بالاعتماد ، كما قال بعضهم . والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/431)
"""""" صفحة رقم 432 """"""
- باب تفكر الرجل الشيء في الصلاة
وقال عمر : إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة .
روى ابن عون ، عن الشعبي ، قال : قال أبو موسى الأشعري : صلى بنا عمر ولم يقرأ ، فقلت : لم تقرأ ، فقال : لقد رأيتني أجهز عيراً بكدى وأفعل كذا ، فأعاد
الصلاة .
ورواه يونس ، عن الشعبي ، عن زياد بن عياض الأشعري ، أن عمر صلى بهم المغرب فلم يقرأ ، ثم قال : إنما شغلني عن الصلاة عير جهزتها إلى الشام ، فجعلت أفكر في أحلاسها وأقتابها .
خرجه صالح ابن الإمام أحمد في ( ( مسائله ) ) ، عن أبيه بإسناده .
وخرجه - أيضا - من وجه آخر عن الشعبي ، عن عمر - مرسلا .
وقد سبق ذكر بعض طرقه في ( ( أبواب القراءة في الصلاة ) ) .
وروى الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث ، أن عمر صلى بالناس المغرب ، ولم يقرأ فيها شيء ، فلما فرغ قالوا له : يا أمير المؤمنين ، إنك لم تقرأ شيئاً ؟ قالَ : لم أزل أنزل البعير منزلا منزلا ، حتَّى وردت الشام ، ثُمَّ أعاد الصَّلاة .
[ خرجه ] الجوزجاني .(6/432)
"""""" صفحة رقم 433 """"""
وليس فكر عمر في تجهيز الجيوش في الصلاة من حديث النفس المذموم ، بل هو من نوع الجهاد في سبيل الله ؛ فإنه كانَ عظيم الاهتمام بذلك ، فكان يغلب عليهِ الفكر فيهِ في الصَّلاة وغيرها .
ومن شدة اهتمامه بذلك غلب عليه الفكر في جيش سارية بن زنيم بأرض
العراق ، وهو يخطب يوم الجمعة على المنبر ، فألهمه الله ، فناداه ، فاسمعه الله صوته ، ففعل سارية ما أمره به عمر ، فكان سبب الفتح والنصر .
وقال سفيان الثوري : بلغني أن عمر قال : إني لأحسب جزية البحرين وأنا في الصلاة .
ورواه وكيع ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن عمر قاله .
وهذا كله من شدة اهتمام عمر بأمر الرعية ، وما فيه صلاحهم ، فكان يغلب عليه ذلك في صلاته ، فتجتمع له صلاة وقيام بأمور الأمة وسياسته لهم في حالة واحدة .
خرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث :
الاول :
1221 - حديث : عمر بن سعيد ، عن ابن أبي مليكة ، عن عقبة بن الحارث ، قال : صليت مع النبي ( العصر ، فلما سلم قام سريعاً ، ودخل على بعض نسائه ، ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته ، فقال : ( ( ذكرت وأنا في الصلاة تبراً عندنا ، فكرهت أن يمسي - أو يبيت - عندنا ، فأمرت بقسمته ) ) .
خرجه عن إسحاق بن منصور ، عن روح .
وخرجه - فيما تقدم - من طريق عيسى بن يونس ، عن عمر .(6/433)
"""""" صفحة رقم 434 """"""
وخرجه في ( ( الزكاة ) ) - أيضا - من طريق أبي عاصم ، عن عمر ، به ، وفيه : أنه كان من تبر الصدقة .
وهذا الذي وقع للنبي ( من جنس ما كان يقع لعمر ؛ فإن مال الصدقة تشرع المبادرة بقسمته بين أهله ومستحقيه ، فكان من شدة اهتمام النَّبيّ ( بذلك يتذكره في صلاته ، فيقوم عقب ذَلِكَ مسرعا حتَّى يقسمه بين أهله .
وهذا كله من اجتماع العبادات وتداخلها ، وليس هم من باب حديث النفس المذموم .
الحديث الثاني :
1222 - نا يحيى بن بكير : نا الليث ، عن جعفر ، عن الأعرج : قال أبو هريرة : قال رسول الله ( : ( ( إذا أذن بالصلاة ادبر الشيطان وله ضراط ، حتى لايسمع
التأذين ، فإذا سكت المؤذن أقبل ، فإذا ثوب أدبر ، فإذا سكت أقبل ، فلا يزال بالمرء يقول له : اذكر ما لم يكن يذكر ، حتى لايدري كم صلى ) ) .
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : إذا فعل ذلك أحدكم ، فليسجد سجدتين وهو قاعد .
وسمعه أبو سلمة من أبي هريرة .
وقد خرجه في ( ( باب : التأذين ) ) من رواية مالك ، عن أبي الزناد ، عن
الأعرج ، عن أبي هريرة - إلى قوله : ( ( لايدري كم صلى ) ) - أيضا .
وأما باقي الحديث ، وهو الأمر بسجود السهو لذلك ، فإنما رواه أبو سلمة ،(6/434)
"""""" صفحة رقم 435 """"""
عن أبي هريرة ، وهو مرفوع ، وليس من قول أبي هريرة .
والقائل : ( ( قال أبو سلمة ) ) ، لعله جعفر بن ربيعة . والله أعلم .
وقد خرجه البخاري في ( ( أبواب السهو ) ) ، كما يأتي قريبأ - إن شاء الله تعالى - من رواية هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي
هريرة ، عن النبي ( .
ومن رواية مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي
( .
وفي حديثهما : ( ( فليسجد سجدتين وهو جالس ) ) .
وخرجه في ( ( بدء الخلق ) ) من طريق الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير - أيضا .
والمقصود من تخريجه في هذا الباب : أن الشيطان يأتي المصلي ، فيذكره ما لم يكن يذكره ، حتى يلبس عليه صلاته ، فلا يدري كم صلى ، وإن صلاته لاتبطل بذلك ، بل يؤمر بسجود السهو ؛ لشكه في صلاته .
وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على ذَلِكَ .
ومنهم من قال : هو إجماع من يعتد به .
وهذا يشعر بأنه خالف فيه من لا يعتد به .(6/435)
"""""" صفحة رقم 436 """"""
وقد قال طائفة قليلة من متأخري أصحابنا والشافعية : أنه إذا غلب الفكر على المصلي في أكثر صلاته ، فعليه الإعادة ؛ لفوات الخشوع فيها .
وكذا قالَ أبو زيد المروزي من الشافعية ، في المصلي وهو يدافع الأخبثين : أنه إذا اذهب ذَلِكَ خشوعه ، فعليه الإعادة .
وقال ابن حامد من أصحابنا : متى كثر عمل القلب وفكره في الصلاة في أمور الدنيا أبطل الصلاة ، كما يبطلها عمل الجسد إذا كثر .
والحديث حجة على هذه الأقوال كلها .
وقد استدل لوجوب الخشوع في الصلاة بحديث مختلف في إسناده ، وقد ذكرناه مع الإشارة إلى هذه المسألة في ( ( باب : الخشوع في الصلاة ) ) ، فيما مضى .
الحديث الثالث :
1223 - نا محمد بن المثنى : حدثنا عثمان بن عمر : أنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، قال : قال أبو هريرة : يقول الناس : أكثر أبو هريرة ، فلقيت رجلاً فقلت : بم قرأ رسول الله ( البارحة في العتمة ؟ قالَ : لا أدري . فقلت : لم تشهدها ؟ قال :
بلى . فقلت : لكن أنا أدري ، قرأ سورة كذا وكذا .
مراد أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن يبين للناس امتيازه عن غيره بضبط أمور النبي ( ، واعنائه بها ، وحفظه لها ، وإذا كان كذا لم يستبعد أن يكون قد حفظ ما لم يحفظه غيره .
وهذه الواقعة كانت جرت له في حياة النبي ( ، فحفظ قراءة النبي ( في صلاة العشاء ، ولم يحفظها بعض من شهد العشاء معه ، مع رسول الله ( .
وظاهر السياق : يقضي أنه من حينئذ كان يقال : أكثر أبو هريرة ، وهو بعيد .(6/436)
"""""" صفحة رقم 437 """"""
والظاهر - والله اعلم - : أنه إنما قيل ذلك بعد وفاة النبي ( ، حين أكثر أبو هريرة من الرواية عنه .
فاستدل أبو هريرة بحفظه ما لم يحفظه غيره بهذه القصة التي جرت له مع بعض الصحابة ، حيث حفظ ما قرأ به النبي ( في صلاة العشاء ، ولم يحفظ ذلك غيره ممن صلى معه .
واعلم ؛ أن عدم حفظ المصلي لما قرأ به امامه لها حالتان :
أحدهما : أن يكون ذَلِكَ عقب انصرافه من الصَّلاة ، فهذا إنما يكون غالباً من عدم حضور القلب في الصَّلاة ، وغلبه الفكر والوساوس فيها .
وقد ذكرنا في ( ( باب : القراءة في الصلاة ) ) ، عن أحمد ، أنه قال - فيمن صلى مع إمام ، فلما خرج من الصلاة قيل له : ما قرأ الإمام ؟ قالَ : لا أدري - قالَ : يعيد الصَّلاة .
وإن الأصحاب اختلفوا في وجهها على ثلاث طرق لهم فيها .
وقد ورد حديث مرفوع ، يستدل به على أن لا اعادة على من لم يحفظ ذلك :
فروى البزار ( ( مسنده ) ) ، عن عمرو بن علي : سمعت يحيى بن كثير ، قال : حدثنا الجريري ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : صلى رسول الله ( يوماً بأصحابه ، فقال : ( ( كيف رأيتموني صليت ؟ ) ) قالوا : ما أحسن ما صليت ، قالَ : ( ( قد نسيت آية كيت وكيت ، وإن من حسن صلاة المرء أن يحفظ قراءة الإمام ) ) .(6/437)
"""""" صفحة رقم 438 """"""
الحالة الثانية : أن يكون ذلك بعد مضي مدة من الصلاة ، فهذا يكون غالباً من النسيان بعد الحفظ ، لا من سهو القلب في الصلاة ، وهذا هو الذي أراده أبو هريرة بحديثه هذا .
وحينئذ ؛ ففي تخريجه في الباب نظر ؛ لأن الباب معقود لحديث النفس في الصلاة والوسوسة فيها ، وهو ينقسم إلى المذموم - وهو حديث النفس بأمور [ الدنيا ] وتعلقاتها - ، وإلى محمود - وهو حديث النفس بأمور الآخرة وتعلقاتها - ، ومنه ما يرجع إلى ما فيه مصلحة المسلمين من أمور الدنيا ، كما كان عمر يفعله .
وقد خرج البخاري في ( ( أبواب الوضوء ) ) حديث عثمان ، فيمن توضأ ثم صلى ركعتين ، لا يحدث فيهما نفسه ، أنه يغفر له ما تقدم من ذنبه ، وسبق الكلام عليه في موضعه .
0 0 0 0 0 0 0 0 0 0 0 0 0 0 0 0 0 0(6/438)
"""""" صفحة رقم 439 """"""
كتاب السهو(6/439)
"""""" صفحة رقم 440 """"""
صفحة فارغة .(6/440)
"""""" صفحة رقم 441 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
- باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفرض
1224 - حدثنا عبد الله
بن يوسف : أخبرنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن
الأعرج ، عن عبد الله بن بحينة ، أنه قال : صلى لنا رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ]
ركعتين من
بعض الصلوات ، ثم قام فلم يجلس ، فقام الناس معه ، فلما قضى صلاته ونظرنا
تسليمه ، كبر قبل
التسليم ، فسجد سجدتين وهو جالس ، ثم سلم .
1225 - حدثنا عبد الله بن يوسف : نا مالك ، عن يحيى بن سعيد
، عن
عبد الرحمن الأعرج ، عن عبد الله بن بحينة ، أنه قال : إن رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] قام من
اثنتين من الظهر ، لم
يجلس بينهما ، فلما قضى صلاته سجد سجدتين ، ثم سلم
بعد ذلك .
قد خرج البخاري هذا الحديث فيما سبق في "
أبواب التشهد " ، من حديث
شعيب ، عن الزهري ، ومن حديث جعفر بن ربيعة ، عن الأعرج .
وفي حديثهما :
أن ذلك كان في صلاة الظهر .
وقد أجمع العلماء على أن من ترك التشهد الأول من الصلاة الرباعية أو
المغرب ،
وقام إلى الثالثة سهوا ، فإن صلاته صحيحة ، ويسجد للسهو .
وقد روي ذلك عن خلق من الصحابة ، بأنهم فعلوه .(6/441)
"""""" صفحة رقم 442 """"""
وروي عن عمر ، أنه تشهد مرتين ، فقضى التشهد الأول في تشهده
الأخير .
روى سفيان الثوري : حدثني أبي ،
عن الحارث بن شبيل ، عن عبد الله
ابن شداد ، قال : قام عمر في الركعتين فمضى ، فلما سلم في آخر صلاته سجد
سجدتين ، وتشهد مرتين .
وقال عبد الرزاق : عن ابن جريج : قال عطاء : إذا قام في قعود ، فإذا
فرغ من صلاته
سجد سجدتي السهو ، وتشهد تشهدين .
وإن كان ترك التشهد الأول عمدا ، ففي بطلان صلاته اختلاف ، ذكرناه في
التشهد .
وإذا كان ساهيا فله ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يستمر سهوه حتى يقرأ في الركعة الثالثة ، فإنه يستمر ولا
يرجع
إلى السجود عند جمهور العلماء .
وروي عن الحسن ، أنه يجلس للتشهد ، وإن قرأ ، ما لم يركع .
وهذا
يدل على أن التشهد الأول عنده واجب متأكد .
الحالة الثانية : أن لا يستمر قائما ، فقال الجمهور : له أن يرجع .
وقال أحمد : يجب أن يرجع ، بناء على قوله : إن هذا التشهد واجب .
ويسجد للسهو ، وإن رجع ، عند جمهور
العلماء ، وهو [ قول ]
عبد الرحمن بن أبي ليلى والشافعي وأحمد .
وروي عن النعمان بن بشير ، وعن أنس بن
مالك ، أنهما فعلاه .(6/442)
"""""" صفحة رقم 443 """"""
وروي عن أنس ، أنه فعله ، وقال : هو السنة .
رواه سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، عن أنس .
قال
الدارقطني : لم يقله عن يحيى غيره . قال : وزيادة الثقة مقبولة .
وقال طائفة : إذا رجع لم يسجد للسهو ، وهو قول
علقمة والأوزاعي ،
وهو أحد قولي الشافعي .
وحكي عن بعض أصحابنا - أيضا - وهو ابن حامد - ، أنه إذا
رجع قبل أن
يستتم قائما لم يسجد .
وقال مالك : إذا فارقت أليته الأرض وناء للقيام لم يرجع ، ويسجد
للسهو .
وقال حسان بن عطية : إذا تجافت ركبتاه عن الأرض مضى .
وعند أبي حنيفة : إن كان إلى القعود أقرب عاد
فجلس وتشهد ، وإن كان
إلى القيام أقرب لم يقعد ، ويسجد للسهو .
الحالة الثالثة : أن يستتم قائما ولا يقرأ ، وفيه
قولان :
أحدهما : لا يجوز أن يجلس ، وحكي عن علقمة والضحاك وقتادة ، وهو
قول أبي حنيفة والأوزاعي ومالك
والشافعي وأحمد - في رواية - ، وهي
المذهب عند ابن أبي موسى .
وممن كان لا يجلس إذا استتم قائما : سعد
بن أبي وقاص وعقبة بن عامر
وابن الزبير وغير واحد من الصحابة .
والثاني : أن له أن يرجع ، ما لم يشرع في
القراءة ، وهو قول النخعي
وحماد والثوري - مع قوله بكراهة الرجوع .(6/443)
"""""" صفحة رقم 444 """"""
وروي نحوه عن الأوزاعي - أيضا - ، وهو قول أحمد - في المشهور ، عنه
عند أكثر أصحابه - ، ووجه
لأصحاب الشافعي ، وحكاه ابن عبد البر عن مالك
والشافعي .
واستدلوا بأن القراءة هي المقصود الأعظم من القيام
، من لم يأت به فلم
يأت بالمقصود من القيام ، فكأنه لم يوجد القيام تاما .
وفي هذا نظر .
وحكى ابن عبد البر
عن جمهور العلماء القائلين بأنه لا يرجع إذا تم قيامه :
أنه إذا رجع لم تفسد صلاته ؛ لأن الأصل ما فعله ، وترك
الرجوع له رخصة .
وحكى عن بعض المتأخرين أنه تفسد صلاته . قال : وهو ضعيف .
كذا قال .
ومذهب
الشافعي عند أصحابه : أنه إن رجع عالما بالحال بطلت صلاته .
والجمهور على كراهة الرجوع ، وإن لم تفسد به
الصلاة عند من يرى ذلك ،
وإنما حكي الخلاف في كراهته عن أحمد .
وقوله : " إن الرجوع هو الأصل ، وتركه
رخصة " ، ليس كما قال ، بل
الأصل أن من تلبس بفرض أنه يمضي فيه ، ولا يرجع إلا إلى ما هو فرض
مثله ،
فأما إن رجع من فرض إلى سنة ، فليس هو الأصل ، وإنما يجيء الرجوع
على قول من يقول : إن التشهد واجب ،
وابن عبد البر لا يرى ذلك .(6/444)
"""""" صفحة رقم 445 """"""
واستدل من لم يجوز الرجوع بما روى جابر الجعفي ، عن المغيرة بن
شبيل ، عن قيس بن أبي حازم ، عن المغيرة
بن شعبة ، عن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، قال :
" إذا قام أحدكم فلم يستتم قائما فليجلس ، وإذا استتم قائما فلا يجلس ، ويسجد
سجدتي السهو " .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه .
وجابر الجعفي ، ضعفه الأكثرون .
وهذا كله في
قيامه من التشهد الأول في الصلاة المفروضة ، كما بوب عليه
البخاري ، فإن كانت صلاته نفلا ، وكان نوى ركعتين ،
ثم قام إلى ثالثة نهارا ،
فهو مخير ، إن شاء أتمها أربعا - وهو أفضل ؛ لأن صلاة أربع بالنهار لا كراهة
فيها ،
وبذلك يصون عمله عن الإلغاء ، فكان أولى - ، وإن شاء رجع وتشهد
وسجد للسهو ، هذا قول أصحابنا وجمهور
العلماء .
ومن الشافعية من قال : الأفضل أن يرجع ؛ لئلا يزيد على ركعتين .
وروي عن مالك : الأفضل
السجود ، ما لم يركع في الثالثة .
وعنه : ما لم يرفع رأسه من ركوعها ، ثم يكون المضي أفضل .
ومتى أتمها
أربعا ، فعند أصحابنا : إن كان قد تشهد عقيب الركعتين لم
يسجد ، وإلا سجد .
وحكي عن مالك والأوزاعي
والشافعي : يسجد لتأخيره السلام عن هذا
التشهد .
وإن كان ذلك في صلاة الليل ، فإنه يرجع ولا يتمها أربعا ،
ويسجد(6/445)
"""""" صفحة رقم 446 """"""
للسهو - : نص عليه أحمد .
فإن أتمها أربعا ، ففي بطلان صلاته وجهان ، بناء على الوجهين في صحة
تطوعه
بالليل بأربع .
وحكي عن مالك والشافعي : أن الأفضل أن يمضي فيها .
وقال الأوزاعي ومالك - في رواية - :
إن كان قد ركع في الثالثة لم
يرجع ، وإلا رجع .
وعن مالك رواية : أنه يراعي الرفع في الركوع ، كما سبق عنه
.
وقال الثوري - في رجل صلى تطوعا ركعتين ، فسها فقام في الثالثة - : كان
الشعبي يقول : يمضي ويجعلها
أربعا .
وقال الثوري : وأحب إلي أن يجلس ويسلم .(6/446)
"""""" صفحة رقم 447 """"""
- باب إذا صلى خمسا
1226 - حدثنا أبو الوليد : نا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن علقمة ،
عن عبد الله ، أن رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] صلى الظهر خمسة ، فقيل له : أزيد في الصلاة ؟
قال : " وما ذاك ؟ " قالوا : صليت
خمسا ، فسجد سجدتين بعد ما سلم .
وقد خرجه البخاري في " أبواب استقبال القبلة " - فيما مضى - ، من
رواية
منصور ، عن إبراهيم بهذا الإسناد ، بسياق مطول ، وفي حديثه : قال
إبراهيم : " لا أدري زاد أو نقص " .
وذكر
في الحديث : أن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] سجد سجدتين ، ثم سلم .
وزاد في آخر الحديث : " وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر
الصواب ،
فليتم عليه ، ثم ليسلم ، ثم يسجد سجدتين " .
وخرجه مسلم من رواية الأعمش ، عن إبراهيم ، به ،
ولفظه : صلى
رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، فزاد أو نقص - قال إبراهيم : الوهم مني - فقيل : يا رسول
الله : أزيد في الصلاة
شيء ؟ قال : " إنما أنا بشر مثلكم ، أنسى كما تنسون ، فإذا
نسي أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس " ، ثم تحول
رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، فسجد
سجدتين .
وقد اتفقت الروايات عن إبراهيم في هذا الحديث : أن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] لما ذكر
بسهوه
لم يزد على أن سجد سجدتين .(6/447)
"""""" صفحة رقم 448 """"""
وهذا يدل على أنه كان سهوه بزيادة ولا بنقص ، فإنه لو كان سهوه بنقص
لأتى بما نقص من صلاته ثم سجد ، فلما
اقتصر على سجدتي السهو دل على أن
صلاته كانت قد تمت ، وأن السهو كان في الزيادة فيها .
ولكن رواه أبو
بكر الحنفي ، عن مسعر ، عن منصور ، وقال في حديثه :
ثم قام النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، فأتم صلاته ، وسجد سجدتين بعد ما سلم
.
وذكر إتمامه صلاته زيادة [ غير ] محفوظة ، لم يقلها غير أبي بكر
الحنفي ، وهو ثقة يتفرد بغرائب ، ولم يتابع
على هذه الزيادة .
وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سويد النخعي ، عن علقمة ، عن
ابن مسعود ، أن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ]
صلى بهم الظهر خمسا ، فلما انفتل توشوش القوم
بينهم . فقال : " ما شأنكم ؟ " قالوا : يا رسول الله ، هل زيد في
الصلاة ؟
قال : " لا " ، قالوا ، فإنك قد صليت خمسا ، فانفتل ، ثم سجد سجدتين ، ثم
سلم ، ثم قال : " إنما أنا بشر
مثلكم ، أنسى كما تنسون " .
خرجه مسلم .
وفي رواية له - أيضا - بهذا الإسناد - : " فإذا نسي أحدكم فليسجد
سجدتين " .
وخرجه مسلم - أيضا - من طريق أبي بكر النهشلي ، عن عبد الرحمن بن
الأسود ، عن أبيه ، عن
عبد الله ، قال : صلى بنا رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] خمسا ،
فقلنا : يا رسول الله ، أزيد في الصلاة ؟ قال : " وما ذاك ؟ " قالوا
: صليت
خمسا . قال : " إنما أنا بشر مثلكم ، أذكر كما تذكرون ، وأنسى كما تنسون " ،(6/448)
"""""" صفحة رقم 449 """"""
ثم سجد سجدتي السهو .
وإلى هذا الحديث ذهب جمهور أهل العلم ، وأنه إذا صلى رباعية خمسا
أو أكثر من ذلك
، أو المغرب أربعا أو أكثر ، أو الفجر ثلاثا أو أكثر ، ثم ذكر بعد
سلامه أنه يسجد سجدتي السهو ، وتجزئه صلاته .
وروي ذلك عن علقمة والحسن وعطاء والزهري والنخعي ، وهو قول مالك
والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد
وإسحاق وأبي ثور ، وفقهاء أهل الحديث
جملة .
وقالت طائفة : إن لم يكن قعد بعد الركعة الأخيرة من صلاته قدر
التشهد
فسدت صلاته ، وعليه الإعادة ، وإن كان قعد عقيب انقضاء صلاته قدر التشهد
أجزأه ، وهو قول جماعة من
الكوفيين ، منهم : حماد وأبو حنيفة والثوري .
وقالوا : إذا لم يذكر حتى سجد في الخامسة ، ولم يكن قعد عقيب
الرابعة
تحولت صلاته نفلا ، وشفعها بسادسة .
ولو لم يشفعها جاز عند أبي حنيفة وأصحابه إلا عند زفر ؛ فإنه لا
بد أن
يشفعها ؛ لأنه بتلبسه بالخامسة لزمه إتمام ما شرع فيه من النفل .
وإن كان جلس عقيب الرابعة ، ثم ذكر بعد
تمام الخامسة ضم إليها ركعة
أخرى ، وكانت الركعتان نافلة .
واختلف الحنفية : هل تجزئانه من سنة الصلاة بعدها
، أو لا ؟
واستدل الجمهور بحديث ابن مسعود ، وقد روي عنه أنه عمل بمقتضاه ،
وكذلك عمل به علقمة راوية
عنه ، وهما أعلم بمدلول ما روياه .
والظاهر : أنه لم يكن قعد عقيب الرابعة ؛ لأنه قام إلى الخامسة معتقدا أنه
قام
عن ثالثة ، ولأن هذا زيادة في الصلاة من جنسها سهوا ، فلا تبطل به(6/449)
"""""" صفحة رقم 450 """"""
الصلاة ، كما لو ذكر قبل أن يسجد في الخامسة ، فإن هذا قد وافقوا عليه ، وأن
صلاته لا تبطل بذلك ، وأنه يرجع
فيتشهد ويسلم ، وتجزئه صلاته ، ولا فرق
في هذا بين صلاة وصلاة .
وحكي عن قتادة والأوزاعي : أن من صلى
المغرب أربعا ، ثم ذكر ، أنه
يأتي بخامسة ، يقطعها على وتر .
وروى جابر ، الجعفي ، عن الشعبي وسالم والقاسم
وعطاء - في رجل
صلى المغرب أربعا - ، قالوا : يعيد .
قال أحمد : إنما يرويه جابر .
يعني : أنه تفرد به ،
وهو ضعيف مشهور .
وذهب بعض المالكية إلى أن من زاد في صلاته مثل نصفها سهوا ، أن
صلاته تبطل . ورد
ابن عبد البر ردا بليغا .
وروى زياد بن عبيد الله الزيادي ، عن حميد ، عن أنس ، أن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ]
صلى الظهر ست
ركعات .
وروى ابن وهب في " مسنده " ، عن معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ،
أن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] صلى الظهر
سبع ركعات ، وعليه حلة حرير ، أهداها له أكيدر
دومة ، فلما انصرف نزعها ، وقال : " إني نظرت إليها ، فألهتني
عن صلاتي " .
وهذا مرسل .
وفي الحديث : دليل على أنه يسجد للسهو ، إذا لم يذكره إلا بعد السلام ،
وإن
كان قد تكلم بينهما ، وبهذا قال علقمة وعطاء والثوري والشافعي وإسحاق
وأحمد .(6/450)
"""""" صفحة رقم 451 """"""
لأن السجود مرسل هنا ، منقول بعد السلام ، فلا يمنع الكلام فعله ،
كالتكبير في أيام التشريق ، هكذا علله بعض
أصحابنا .
ويقتضي ذلك : أنه لا يمنع السجود فيه إن تكلم بعد ذكره عمدا .
وفي بعض روايات حديث ابن مسعود
ما يدل على ذلك ، وأن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ]
تكلم بعد تذكيرهم له بزيادته ، ثم سجد .
وقال أبو حنيفة : متى تكلم لم يسجد ؛
لأن الكلام ينافي الصلاة .
واختلفوا : هل يعتبر أن لا يطول الفصل بين السلام من الصلاة والسجود ،
أم لا ؟ وفيه
قولان :
أحدهما : يعتبر ذلك ، فإن طال الفصل امتنع السجود ؛ لأن سجود السهو
تكملة للصلاة ، فلا يبنى عليها
مع طول الفصل ، كسائر أفعال الصلاة ، وهذا
قول الشافعي - في أصح قوليه ، وهو الجديد منهما - وأحمد - في
إحدى
الروايتين .
واعتبر - أيضا - ألا يكون خرج من المسجد ، وعليه أكثر أصحابه .
ومنهم من لم يعتبره ،
وهو قول الشافعي وأصحابه ، وهو رواية أخرى من
أحمد ، ومذهب الثوري وغيره من العلماء .
والثاني : لا
يعتبر قرب الفصل ، بل يسجد وإن طال الفصل ، وهو قول
الضحاك ويحيى بن سعيد والثوري ومكحول والأوزاعي
والحسن بن حي
والشافعي - في قوله الآخر - وأحمد - في الرواية الأخرى .
لأنه جبران ، يفعل بعد التحلل من
العبادة ، فيجوز فعله بعد طول الزمان
كجبران الحج .
وقال مالك : إن كان السجود بعد السلام جاز فعله إذا ذكره
، وإن طال(6/451)
"""""" صفحة رقم 452 """"""
الزمان ، وإن كان قبل السلام لم يفعله إلا مع قرب الفصل ، فإن تباعد أعاد
الصلاة ؛ لأنه جزء من الصلاة .
وروى ابن وهب ، عن مالك ، أنه يفعله مطلقا ، وإن طال الزمان ، ما لم
ينتقض وضوؤه .
وعن ابن شبرمة
والحكم : يسجد ما لم يخرج من المسجد ، فإن خرج أعاد
الصلاة .
وقال أبو حنيفة : يسجد ما لم يخرج من المسجد
أو يتكلم .
وقال عطاء : يسجدهما ما لم يتم ، ولو اتكأ ، ثم ذكر ، جلس فسجد ،
وإن قام فليصل ركعتين ، ولا
يسجد للسهو .
وقال الليث بن سعد : يسجد ما لم ينتقض وضوؤه .
وعن الحسن وابن سيرين : يسجد ما لم
يصرف وجهه عن قبلته ، فإن صرفه
لم يسجد .
وحديث ابن مسعود صريح في رد هذا ، وقد سبق القول فيه في "
أبواب
استقبال القبلة " .
وللشافعية وجه : أنه لا يسجد مع قرب الفصل - أيضا - ؛ لفوات محله ،
وهو قبل
السلام عندهم .
قال بعضهم : وهذا غلط ؛ لمخالفته للسنة .
قالوا : وهل يكون هذا السجود عائدا إلى حكم الصلاة
؟ فيه وجهان .
ولهما فوائد :
منها : لو تعمد الكلام في هذا السجود والحديث ، فإن قيل : إنه عائد إلى
الصلاة
بطلت صلاته ، وعلى الآخر لا تبطل .(6/452)
"""""" صفحة رقم 453 """"""
ومنها : إن قيل : عائد إلى الصلاة ، لم يكبر الافتتاح ، ولم يتشهد ، بل
يسلم بعد السجود ، وعلى الآخر يكبر للافتتاح
.
وفي تشهده وجهان ، أصحهما : لا يتشهد ؛ لأنه لم يصح فيه عن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ]
شيء .
قالوا : ويسلم على
الصحيح ، سواء تشهد أو لا ؛ للأحاديث الصحيحة
المصرحة بأنه [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] سجد ثم سلم .
ومذهب الثوري إذا أحدث في
سجدتي السهو لم تبطل صلاته ، وليست
بمنزلة الصلاة .
واستدل طائفة بهذا الحديث على من زاد في صلاته
سهوا ، فإنه يسجد لذلك
بعد السلام ؛ لأن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] سجد بعد السلام ، وهذا قول مالك وأبي ثور ورواية
عن أحمد .
وحكي عن أحمد : أن زيادة عدد الركعات خاصة يسجد لها بعد السلام
مطلقا - وهو الذي حكاه الترمذي في " جامعه "
عن أحمد ، وحكى
القاضي أبو يعلى في ذلك روايتين - لو ذكر قبل السلام ، أنه يسلم ثم يسجد
بعد السلام .
وقد
ذهب إليه بعض أهل الحديث .
والذي عليه جمهور العلماء : أن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] إنما سجد في حديث ابن مسعود
بعد
سلامه ؛ لأنه لم يشعر بسهوه إلا بعد السلام من صلاته ، فكان سجوده بعد
السلام ؛ فإنه إنما سلم ظانا أن صلاته لا
زيادة فيها ، وإنما علم بالزيادة فيها بعد
ذلك .(6/453)
"""""" صفحة رقم 454 """"""
وقد صرح الإمام أحمد بهذا المعنى في رواية حرب ، وغيره .
وسيأتي القول في محل سجود السهو فيما بعد - إن
شاء الله تعالى .(6/454)
"""""" صفحة رقم 455 """"""
3 - باب
إذا سلم في الركعتين أو في ثلاث سجد [ سجدتين ]
مثل سجود الصلاة أو أطول
1227 -
حدثنا آدم : ثنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة ، عن
أبي هريرة ، قال : صلى بنا رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] الظهر
أو العصر ، فقال له ذو اليدين :
الصلاة يا رسول الله ، نقصت ؟ فقال النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] لأصحابه : " أحق ما يقول ؟ "
قالوا
: نعم . فصلى ركعتين أخريين ثم سجد سجدتين .
قال سعد : ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين ،
فسلم وتكلم ،
ثم صلى ما بقي ، وسجد سجدتين ، وقال : هكذا فعل النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] .
بوب البخاري هذا الباب ، على أن
من سلم من نقص ركعتين أو ركعة من
صلاته ، فإنه يأتي بما بقي عليه ، ويسجد سجدتين مثل سجود الصلاة أو
أطول ، وتجزئه صلاته .
ولم يخرج الحديث من الرواية التي فيها : " وسجد سجدتين مثل سجوده
أو أطول " ،
وإنما خرجها فيما بعد من حديث ابن سيرين ، عن أبي هريرة .
وهذه الرواية المخرجة في هذا الباب من أهل
المدينة ، رواها سعد بن
إبراهيم الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، [ و ] عن
عروة ، عن
النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] .(6/455)
"""""" صفحة رقم 456 """"""
ولعل البخاري إنما صدر طرق حديث أبي هريرة برواية المدنيين ؛ لأن هذه
الرواية فيها متابعة لرواية البصريين
في ذلك السجود للسهو ، وإن كانت رواية
البصريين فيها زيادة ذكر طول السجود .
وقد ذكر النسائي : أنه لا يعلم
أحدا ذكر عن أبي سلمة في هذا
الحديث : " ثم سجد سجدتين " غير سعد بن إبراهيم .
ثم خرجه من طريق عمران
بن أبي أنس ويحيى بن أبي كثير والزهري ، عن
أبي سلمة ، عن أبي هريرة - ولم يذكر فيه سوى قضاء الركعتين .
وخرجه مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة - ولم يتم
لفظ الحديث ، بل اختصره .
وقال أبو
داود : رواه يحيى بن أبي كثير وعمران بن أبي أنس ، عن أبي
سلمة - والعلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه - عن
أبي هريرة - ولم يذكروا : أنه
سجد السجدتين .
ورواه ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، وقال فيه :
" ولم
يسجد للسهو " .
قلت : قد خرجه الإمام أحمد ، عن حجاج ، عن ابن أبي ذئب - فذكر
الحديث ، وقال في
آخره - قال ابن أبي ذئب : قال الزهري : سألت أهل
العلم بالمدينة ، فما أخبرني أحد أن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] صلاهما .
يعني : سجدتي السهو .(6/456)
"""""" صفحة رقم 457 """"""
فرجعت رواية نفي السجود إلى الزهري ، ورواية الزهري بذلك غير معروفة
[ ولا ] مشهورة .
وقد روى
الزهري هذا الحديث عن سعيد وأبي سلمة وعبيد الله بن
عبد الله ، عن أبي هريرة .
خرجه أبو داود من طريق
الأوزاعي ، عنه بهذا الإسناد ، وفي حديثه :
ولم يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك .
وخرجه أبو داود
والنسائي من رواية صالح بن كيسان ، عن الزهري ،
عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة - مرسلا .
قال
الزهري : وأخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة - وأبو سلمة
وأبو بكر بن الحارث بن هشام وعبيد الله بن
عبد الله .
وخرجه الإمام أحمد وابن حبان في " صحيحه " من طريق معمر ، عن
الزهري ، عن أبي سلمة وأبي
بكر بن سليمان ، عن أبي هريرة .
وخرج النسائي من طريق الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن
سعيد
وأبي سلمة وأبي بكر بن عبد الرحمن وابن أبي حثمة ، عن أبي هريرة ،
عن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، أنه لم يسجد يومئذ قبل
التسليم ولا بعده .
وخرجه مالك في " الموطأ " عن الزهري ، عن سعيد وأبي سلمة
وأبي بكر بن أبي حثمة -
مرسلا .(6/457)
"""""" صفحة رقم 458 """"""
واختلف على الأوزاعي في وصله عن الزهري وإرساله .
وقد أنكر هذا على الزهري غير واحد من الأئمة .
وعده مسلم بن الحجاج في " كتاب التمييز " من أوهام الزهري ؛ لصحة
الروايات بخلاف روايته ، وأن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] سجد
للسهو يومئذ .
قلت : الذي يظهر - والله أعلم - : أن الزهري روى هذا الحديث عن
سعيد وأبي سلمة وغيرهما ،
من غير ذكر سجود السهو بنفي ولا إثبات ، وأن
الزهري أتبع ذلك بقوله من عنده : " لم يسجد النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] يومئذ للسهو
" .
فهذا مما أرسله الزهري [ وأدرجه ] في الحديث ، فمن اقتصر على هذا
القدر من حديث الزهري ووصله فقد وهم ؛ لأنه أسند المدرج بانفراده .
وقد ذكر الزهري أنه لم
يخبره بالسجود أحد من أهل العلم بالمدينة ،
فكان ينفي السجود لهذا ، وهذا بمجرده لا يبطل رواية الحفاظ الأثبات
للسجود .
وقد روي عن الزهري ، أنه حمل ترك السجود للسهو في هذه القصة على
أحد وجهين :
أحدهما : أنه
قال : كان هذا قبل أن يشرع سجود السهو .
فروى عنه معمر ، أنه قال : كان هذا قبل بدر ، ثم استحكمت الأمور .(6/458)
"""""" صفحة رقم 459 """"""
والثاني : أنه كان يرى أنه لم يسجد يومئذ للسهو ؛ لأن الناس يقنوا النبي
[ ( صلى الله عليه وسلم ) ] حتى استيقن .
وكلا الوجهين
ضعيف .
أما الأول ؛ فلأن أبا هريرة شهد هذه القصة ، وكان إسلامه بعد بدر بكثير ،
وسيأتي بسط ذلك فيما بعد -
إن شاء الله تعالى .
وأما الثاني ؛ فمضمونه أنه إنما يسجد للسهو إذا استدام الشك ، فأما إذا
تيقن الأمر ، وعمل عليه
، فإنه لا يسجد ، وإن كان قد زاد في الصلاة ، وهذا
مذهب غريب .
نعم ؛ لو شك في شيء من صلاته ، ثم زال
شكه قبل السلام ، وتبين أنه
لم يزد في صلاته ولم ينقص ، فهنا يستحب السجود ولا يجب - : نقله ابن
منصور ،
عن أحمد وإسحاق .
وقال أصحابنا : الصحيح من مذهبنا ومذهب الشافعي : أنه لا يسجد إلا أن
يكون قد فعل قبل
زوال شكه ما يجوز أن يكون زائدا ، فإنه يسجد .
وفي المذهبين وجه آخر : لا يسجد بحال ؛ لأن السجود إنما يشرع
[ من ]
زيادة أو نقص أو تجويزهما ، ولم يوجد شيء من ذلك .
وهذا قول سفيان الثوري .
وقد روي عن أبي
هريرة ، أن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] سجد للسهو في هذه القصة من
وجوه أخر :(6/459)
"""""" صفحة رقم 460 """"""
فروى ذلك مالك ، عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان مولى ابن
أبي أحمد ، عن أبي هريرة - فذكر هذا الحديث
، وقال فيه : فأتم رسول الله
[ ( صلى الله عليه وسلم ) ] [ ما ] بقي من الصلاة ، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم .
وقد خرجه
مسلم من هذا الوجه .
رواه - أيضا - الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن جعفر بن ربيعة ، عن
ابن مالك ،
عن أبي هريرة ، أن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] سجد يوم ذي اليدين سجدتين
بعد السلام .
خرجه النسائي .
ورواه - أيضا -
عكرمة بن عمار ، عن ضمضم بن جوس الهفاني ، قال :
حدثني أبو هريرة - بهذا الحديث - ، وذكر فيه : أن النبي
[ ( صلى الله عليه وسلم ) ] [ سلم ] ثم
سجد سجدتي السهو وهو جالس ، ثم سلم .
خرجه أبو داود والنسائي وابن حبان في " صحيحه " .
وروى السجود - أيضا - في هذه القصة : عمران بن حصين ، عن النبي
[ ( صلى الله عليه وسلم ) ] .
فروى خالد الحذاء ، عن أبي
قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن
حصين ، قال : سلم رسول الله [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] في ثلاث ركعات من العصر ، ثم قام
فدخل
الحجرة ، فقام رجل بسيط اليدين ، فقال : أقصرت الصلاة يا رسول الله ،(6/460)
"""""" صفحة رقم 461 """"""
فخرج مغضبا ، فصلى الركعة التي كان ترك ، ثم سلم ، [ ثم ] سجد سجدتي
السهو ، ثم سلم .
خرجه مسلم .
وفي رواية له - أيضا - : فخرج غضبان ، حتى انتهى إلى الناس ،
فقال : " أصدق هذا ؟ " قالوا : نعم ، فصلى
ركعة ، ثم سلم ، ثم سجد
سجدتين ، ثم سلم .
وهذه الرواية تدل على أن الخروج من المسجد لا يمنع البناء على
الصلاة
لمن سلم من نقص في صلاته ، فلأن لا سجود السهو فبمجرده أولى .
وفي رواية لمسلم : أن الرجل الذي
قال للنبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، كان اسمه الخرباق ،
وكان في يده طول .
فمن الناس من قال : هو ذو اليدين المذكور في حديث
أبي هريرة .
وقال طائفة : هما رجلان ، وواقعتان متعددتان ، ونص على ذلك الإمام
أحمد .
وقد دل هذا
الحديث - من جميع طرقه - على أن من سلم من نقص
ركعة فأزيد من صلاته ناسيا ، ثم ذكر قريبا ، أنه يبني على
ما مضى من صلاته ،
ولا يلزمه إعادتها ، وهو قول جمهور أهل العلم .
فإن هذا إنما زاد في صلاته سلاما ناسيا ،
والسلام مشروع في الصلاة ، لكنه(6/461)
"""""" صفحة رقم 462 """"""
أتى به قبل محله ، فلا تبطل به الصلاة ، كما لو زاد سجدة سهوا .
ووافق على ذلك أكثر من يقول : إن كلام
الساهي يبطل الصلاة ، كأبي
حنيفة وأحمد - في رواية .
واختلف عن سفيان الثوري .
فروى عنه كذلك ، هو
المشهور عنه .
وروى يعلى بن عبيد ، عنه ، أنه إذا سلم ساهيا قطع صلاته ؛ لأنه تكلم في
صلاته ساهيا .
حكاه أصحابه عنه في كتبهم .
وحكاه ابن عبد البر عن بعض أصحاب أبي حنيفة - أيضا .
وكذلك روى عبد
الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، ثم قال : إلا أن
يكون النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] صنع الذي يقولون .
يعني : سلم [ ثم ]
بنى على صلاته ، فتوقف في ذلك حيث لم يكن
الحديث عنده .
واختلفوا : هل يشترط للبناء على ما مضى من
الصلاة أن يذكر مع
قرب الفصل ، أو لا يشترط ذلك ، بل يبني ولو ذكر بعد طول الفصل ؟ على
قولين :
أحدهما : لا يبني إلا مع قرب الفصل ، فإن طال الفصل بطلت الصلاة
واستأنفها ، وهذا [ قول ] أبي حنيفة ومالك
والشافعي وأحمد وأبي خيثمة
وسليمان بن داود الهاشمي .(6/462)
"""""" صفحة رقم 463 """"""
والثاني : يبني ولو طال الفصل ، وهو قول مكحول والأوزاعي ويحيى
الأنصاري والحسن بن حي .
ونقل صالح
وغيره ، عن أحمد ما يدل على ذلك - أيضا .
وقال الليث : يبني ما لم ينتقض وضوؤه الذي صلى به تلك الصلاة .
وفي حديث عمران بن حصين ما يدل على البناء مع طول الفصل .
والله أعلم .
واختلفوا - أيضا - : هل
يبني مع عمله عملا كثيرا ينافي الصلاة مثله ،
أو لا يبني معه ؟ وفيه خلاف عن الشافعي وأحمد ، سبق ذكره ؛ وأن
العمل
الكثير مع السهو : هل تبطل به الصلاة ، أم لا ؟
وفي حديث أبي هريرة وعمران بن حصين : ما يدل على
أنه يبني مع
[ ذلك ] كثرة العمل في هذه الحال سهوا .
واختلفوا : هل يبني ، وإن خرج من المسجد ، أو لا يبني
إلا مع كونه في
المسجد ؟ وفيه خلاف سبق ذكره في تأخير سجود السهو نسيانا .
واختلفوا : هل يبني مع تكلمه
في هذه الحال ، أم كلامه يقطع البناء
ويستأنف مع الصلاة ؟
فقالت طائفة : إن تكلم بطلت صلاته ، واستأنفها ،
وهو قول النخعي
والثوري وأبي حنيفة ، وروي عن الحسن وعطاء ، وهو رواية عن قتادة ، وعن
أحمد اختارها
كثير من أصحابه .(6/463)
"""""" صفحة رقم 464 """"""
لكن أحمد لم يقل : إن الكلام في الصلاة نسخ ، وإنما قاله طائفة من
أصحابه ، موافقة للكوفيين .
واستدلوا بقول
الزهري : كان هذا - يعني : قصة ذي اليدين - قبل بدر ،
ثم استحكمت الأمور بعد .
وقد ذكر الزهري في روايته
: أن [ الذي ] كلم النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] هو ذو الشمالين
ابن عمر حليف بني زهرة .
كذا في " مسند أحمد " و " صحيح ابن
حبان " .
وكذا خرج النسائي أنه ذو الشمالين بن عمرو .
وكذا سماه عمران بن أبي أنس في روايته ، عن أبي
سلمة ، عن أبي هريرة :
ذا الشمالين .
وهذه متابعة للزهري .
قالوا : ذو الشمالين قتل يوم بدر ، وتحريم الكلام
إنما شرع بعد ذلك .
وروى محمد بن أبي السري ، عن عبد العزيز بن عبد الصمد العمي ، عن
أيوب ، عن ابن
سيرين والحسن ، عن أبي هريرة ، أن النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] سجد بعد
السلام والكلام قبل النسخ ، فنسخ ، وثبت السجدتان .
والمراد : أنه نسخ السجود بعد الكلام ، وصار الكلام مبطلا تعاد معه
الصلاة .
ومحمد بن أبي السري ، ليس
بالحافظ .(6/464)
"""""" صفحة رقم 465 """"""
ولعل هذا من تصرف بعض الرواة بالمعنى عنده .
وكل من قال هذا ، قال : إن كلام الناسي يبطل الصلاة .
وقال طائفة أخرى : بل يبني ، وإن تكلم في هذه الحال ، إذا ظن تمام
صلاته ؛ فإنه إنما تكلم ناسيا الصلاة ، وهذا قول
الشافعي وأحمد - في رواية
عنه .
قالوا : إن قصة السهو كانت بعد تحريم الكلام ، فلم ينسخ ، بل دلت على
أن
كلام الناسي مستثنى من عموم الكلام المبطل للصلاة ، كما أن الأكل في
الصيام ناسيا معفو عنه لا يبطل به الصيام .
واستدلوا على تأخر قصة ذي اليدين ، بأن أبا هريرة شهدها ، وأبو هريرة إنما
أسلم عام خيبر ، وممن ذكر ذلك :
الشافعي وأحمد .
وشهدها عمران بن حصين ، وإنما أسلم بعد بدر ، فيما قيل .
وشهدها معاوية بن حديج ،
وحديثه مخرج في " كتاب النسائي " وغيره ،
ومعاوية بن حديج ممن تأخر إسلامه ، حتى قيل : إنه أسلم قبل موت
النبي ،
بشهرين .
وهذا كله بعد تحريم الكلام في الصلاة ؛ فإنه كان إما بمكة قبل الهجرة ،
أو عقيب الهجرة قبل
بدر ، كما دل عليه حديث ابن مسعود ، وقد سبق الكلام
على ذلك .
قالوا : وقول الزهري : " إن ذلك كان قبل بدر
" وهم منه ، وكذلك قوله :
" إن [ الذي ] كلم النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ذو الشمالين " ، وإنما هو ذو اليدين .
قالوا : وقد بقي ذو
اليدين بعد النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] ، وأما المقتول ببدر ، فهو ذو(6/465)
"""""" صفحة رقم 466 """"""
الشمالين ، وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد ، وأنكر أحمد أن يكون ذو اليدين
قتل ببدر .
وذهب طائفة إلى أنهما واحد
.
وهؤلاء ذهبوا إلى أن كلام الناسي لا يبطل الصلاة ، وروي عن ابن عباس
وابن الزبير .
وروي عن الزبير
بن العوام بإسناد منقطع .
وهو قول الشعبي وعروة وعطاء والحسن وقتادة - في رواية عنهم - وعمرو
ابن دينار
والشافعي وأحمد - في رواية - وإسحاق وأبي خيثمة وغيرهم من فقهاء
الحديث .
فعلى هذه المقالة : إنما تكلم
النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] بعد سلامه نسيانا ؛ لظنه أن صلاته
قد تمت .
وخرج الطبراني من رواية معلى بن مهدي : حدثنا حماد
بن زيد ، عن
أيوب وابن عون وهشام وسلمة بن علقمة ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، أن
النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] تكلم في
الصلاة ناسيا ، فبنى على ما صلى .
وهذا مروي بالمعنى ، مختصرا من قصة ذي اليدين .
واختلفت الرواية عن
أحمد : هل يختص كلام الساهي بما كان من مصلحة
الصلاة ؛ لحال كلام النبي [ ( صلى الله عليه وسلم ) ] وأصحابه في قصة ذي اليدين ، أم
يعم ما كان
لمصلحة الصلاة وغيره ؟ .(6/466)
"""""" صفحة رقم 467 """"""
ورجح طائفة من المتأخرين من أصحابنا اختصاصه بما كان لمصلحة الصلاة ؛ لأن الرخصة إنما وردت في ؛ ولأنه إذا كان لمصلحة الصلاة ، وفعله ساهياً ، فهو شبيه بالسلام من الصلاة ساهياً ، وهو غير مبطل عند جمهور العلماء كما تقدم .
واختلف أصحابنا : هل محل الخلاف إذا سلم من صلاته ، يظن أنها قد تمت ، ثم تكلم حينئذ ؛ لأن هذه هي الصورة التي وردت فيها الرخصة ، وهي التي يقع فيها كلام الساهي غالباً ، أم تعم ذلك وغيره لمن تكلم في صلب صلاته ساهياً ؟ وفيه طريقان للأصحاب 0
وأكثر [ كلام الإمام ] أحمد يدل على الأول .
وقد ذكرنا - فيما تقدم - أن أحمد لم يقل : إن حديث ذي اليدين نسخ ، كما يقوله غيره ، وإنما اختلفت الرواية عنه : هل كان ذلك خاصاً بالنبي ( وبمن كلمه ، أو هو عام ، أم يختص بعده بالإمام دون المأموم ؟
فروي عنه ، أنه كانَ خاصاً بالنبي ( ومن كلمه .
وهذه الرواية اختيار أبي بكر الخلال وصاحبه .
فأما النبي ( ، فقد يقول : إنه كان مخصوصاً بجواز الكلام في الصلاة لمصلحتها ، إما سهواً أو مطلقاً .(6/467)
"""""" صفحة رقم 468 """"""
وأما المجيبون له ، فقد صرح بأن إجابتهم للنبي ( كانت واجبة ، فلا تبطل صلاتهم بذلك ، وكلام ذي اليدين له بقوله : ( ( قصرت الصلاة ، أم نسيت ؟ ) ) كانَ في وقت يجوز فيهِ قصر الصَّلاة ، فكان - أيضا - يظن أن صلاتهم تمت ، وهذا لايوجد بعدهم .
وأما قول ذي اليدين بعد ذلك : ( ( بل نسيت يارسول الله ) ) - وفي رواية : ( ( قد كان بعض ذلك ) ) ، فقد تكلم وهو عالم أن صلاتهم لم تتم ، لكنه لم يعلم أنهم في الصلاة ، وأن البناء يجوز لهم على ما مضى ، بل قد يكون ظن أن ما مضى من الصلاة بطل ولغي ، وأنهم الآن ليسوا في صلاة ، وربما كان تكلم غير ذي اليدين من الصحابة لذلك ؛ فإن جواز البناء إنما علم من فعل النَّبيّ ( يومئذ ، لا قبله .
لكن هذا يقع للناس كثيراً ، فهل حكم هذا حكم من تكلم يظن أنه ليس في
صلاة ، فهوكالساهي ، أم لا ؟
الظاهر : أن هذا ملحق بالجاهل بأنه في صلاة ، يعذر في كلامه ، بخلاف الصائم ، إذا جهل الوقت فاكل يظنه ليلاً ، فتبين أنه نهاراً .
وحكوا الخلاف عن أحمد ، في كل من تكلم وهو يعتقد أنه ليس في صلاة ، وأنه خرج منها ، يكون جاهلاً بأن [ عمل ] كلامه يبطل الصلاة .
ولأصحابنا وجهان فيمن أكل [ في ] الصيام ما لا يعتقد أنه يفطره ، هل يفطربه ، أم لا ؟ وهو - أيضا - جاهل .
ولهم وجهان فيمن أكل ناسيا ، فظن أنه أفطر ، وأنه لا يلزمه الإمساك ،(6/468)
"""""" صفحة رقم 469 """"""
ثُمَّ
جامع ، هل عليه كفارة بجماعه ، أم لا ؟
وحكى ابن المنذر ، أنه لا كفارة عليهِ عندَ جمهور العلماء ؛ لأنه لم يتعمد افساد الصوم .
وللشافعية فيهِ وجهان - أيضا .
وكلامهم يدل على أنه يفطر بذلك ؛ فإن الجهل لايعذر به في الصوم ، ويعذر به في الصَّلاة ، فإذا سلم من صلاته ، يظن أنها تمت ، ثُمَّ علم أنها لم تتم ، وظن أن صلاته بطلت ، فتكلم ، فهوَ كالجاهل .
وكذا إذا سلم الإمام ناسيا ، والماموم يعلم ، فتكلم ظاناً أن صلاته بطلت
بالسلام ، فأحمد جعل هذا الحكم خاصاً بالنبي ( وأصحابه - في رواية عنه .
وجعله - في رواية أخرى عنه - عاما للأمة في حق كل من تكلم وهو يظن أن صلاته قد تمت ، خاصة كما يقوله الشافعي .
وفرق - في رواية أخرى عنه - بين الإمام والمأموم ؛ لأن الإمام لايسأل عن تمام صلاته الاوهو شاك ، والمأموم إنما يجيب وهو عالم بأن صلاته لم تتم ، بخلاف حال الصحابة مع النَّبيّ ( ، فإن بعضهم تكلم وهو يظن أن الصَّلاة قد تمت ؛ لاحتمال قصرها عنده ، وبعضهم تكلم مجيباً للنبي ( وكلا الأمرين لايوجد في حق من بعدهم .
ولكن يوجد في حق من بعدهم من يظن أن صلاتهم قد تمت كالإمام ، ومن يظن أن صلاته تبطل بالسلام نسياناً ، فيتكلم حينئذ ، جاهلا بأنه في صلاة .
وخرج أبو داود من حديث حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ،(6/469)
"""""" صفحة رقم 470 """"""
عن أبي هريرة قال : صلى النبي ( إحدى صلاتي العشي ، فصلى ركعتين ، ثم سلم - وذكرالحديث ، وفيه : قال : ( ( أصدق ذو اليدين ؟ ) ) .
فاومئوا - أي : نعم - وذكر الحديث .
وذكر أن حماد بن زيد تفرد بقوله : ( ( فأومئوا ) ) .
وقول إسحاق بن راهويه في هذا كقول أحمد ، بالتفريق بين الإمام والمأمومين .
قال : إنما تكلم النبي ( ؛ لأنه ظن تمأم صلاته ، وذو اليدين ظن أن الصَّلاة قصرت وتمت ، والصحابة اجابوا النَّبيّ ( ؛ لأن اجابته بالكلام عليهم واجبة ، لم يجدوا من ذَلِكَ بداً .
قالَ : وإن تكلم الإمام اليوم ، وهو شاك في تمام صلاته ، واستثبت من معه ، جاز لهُ ذَلِكَ ، ولو كانوا قدو نبهوه بالتسبيح ، ولا يجوز لهم أن يتكلموا إذا علموا أن صلاتهم لم تتم ، وتبطل به صلاتهم .
روى كل ذلك حرب وابن منصور ، عن إسحاق .
ونقل ابن قرة الزبيدي ، عن مالك ، أن من تكلم في صلاته بعد النبي ( أعاد صلاته ؛ لأن الصحابة تكلموا وهم يظنون أن الصَّلاة قد قصرت ، فلا يجوز ذَلِكَ اليوم .
وإلى هذه الرواية ذهب ابن كنانة من أصحابه .
وذكر الحارث بن مسكين وابن وضاح أن سائر أصحاب مالك خالفوا ابن القاسم فيما رواه عن مالك .(6/470)
"""""" صفحة رقم 471 """"""
وقالت طائفة : حديث ذي اليدين يتخرج على أن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها ، عمداً ولا سهواً ، وهو قول الأوزاعي وأيوب وحماد بن زيد وربيعة .
ومالك - في المشهور عنه - : نقله ابن القاسم ، عنه .
وهو رواية عن أحمد .
وروي عنه ، اختصاصه بالإمام .
ومذهب مالك : اختصاصه بالإمام والمأموم ، دون المنفرد .
وروي هذا المعنى عن ابن الزبير وغيره من المتقدمين .
ويستدل له بأن في حديث معاوية بن حديج - الذي يأتي ذكره - : أن النبي ( أمر بلالاً أن يقيم الصلاة .
وكذا رواه عبيد بن عمير - مرسلاً .
وهذا يدل على أن إقامة الصلاة والأمر بها لايبطل البناء على ما مضى من
الصلاة .
وادعى قوم : أن هذا كان من خصائص النبي ( وأصحابه ، وهذا رواية عن مالك وأحمد ، قد سبق ذكرها .
وقد رويت هذه القصة من حديث أبي هريرة ، وأن النبي ( [ سلم ] من ركعتين ، وأن الذي كلم النبي ( هو ذي اليدين .
ومن حديث عمران بن الحصين ، أن النبي ( سلم من ثلاث ركعات ، وأن الذي كلمه هو الخرباق .
خرجه مسلم .
وقد نص أحمد على أنهما حديثان ، وليسا بقصة واحدة - : نقله عنه علي بن سعيد .(6/471)
"""""" صفحة رقم 472 """"""
وروى - أيضا - معاوية بن حديج ، أن النبي ( صلى يوما ، فسلم ، وقد بقيت من الصلاة ركعة ، فادركه رجل ، فقال : نسيت من الصلاة ركعة ، فرجع فدخل المسجد ، وأمر بلالاً فأقام ، فصلى للناس ركعة . قال : فأخبرت بذلك الناس ، فقالوا : تعرف الرجل ؟ قلت : لا ، الا أن أراه ، فمر بي ، فقلت : هوَ هذا ، فقالوا : هذا طلحة بن عبيد الله .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم .
وقال : صحيح حسن الإسناد .
وفي رواية . أنه المغرب .
وقد أنكر الإمام أحمد أن يكون لمعاوية بن حديج صحبة ، وأثبته البخاري والأكثرون .
قال ابن حبان : هذا يدل على أن هذه ثلاثة أحوال متباينة في ثلاث صلوات ، لا في صلاة واحدة .
ورجح ابن عبد البر وغيره أنها صلاة واحدة ، وأن اختلفت بعض الروايات فيها .
وهذا أشبه . والله أعلم .
وعلى القول بأن الكلام نسياناً أو جاهلاً لايبطل الصلاة ، إنما هو في اليسير ، فأما إن كثر وطال ، ففيه وجهان .
والمنصوص عن [ أحمد ] ، أنه يبطل حينئذ - : نقله عنه أبو داود وغيره .(6/472)
"""""" صفحة رقم 473 """"""
وكذلك لأصحاب الشافعي وجهان - أيضا .
والمنصوص ، عنه : أنه يبطل - أيضا - : نقله عنه البويطي .
قال : الشافعي : لا يشك مسلم أن النبي ( لم ينصرف إلا وهو يرى أن قد أكمل الصلاة ، وظن ذو اليدين أن الصلاة قد قصرت بحادث من الله ، ولم يقبل
رسول الله ( من ذي اليدين ؛ إذ سأل غيره ، ولما سأل غيره احتمل أن يكون سأل من لم يسمع كلامه ، فيكونون مثله - يعني : مثل ذي اليدين - ، واحتمل أن يكون سأل من سمع كلامه ، ولو سمع النَّبيّ ( رد عليهِ ، فلما سمع النَّبيّ ( رد عليهِ كانَ في معنى ذي اليدين ، من أنه لم يدر : أقصرت الصَّلاة أم نسي النَّبيّ ( فأجابه ، ومعناه معنى ذي اليدين مع أن الفرض عليهم جوابه .
ثم قال : فلما قبض رسول الله ( تناهت الفرائض فلا يزداد فيها ، ولا ينتقص منها أبداً .
قال : فهذا فرق ما بيننا وبينه ، إذا كان أحدنا إماما اليوم .
وفي حديث أبي هريرة المخرج في هذا الباب فوائد كثير جداً ، يطول
استقصاؤها ، ولكن نشير إلى بعضها إشارة :
فمنها : أن اليقين لا يزال بالشك ؛ فإن ذا اليدين كان على يقين من أن صلاتهم تلك أربع ركعات ، فلما صلى النبي ( ركعتين احتمل أن يكون قصرت الصلاة ، واحتمل أن يكون ناسياً ، فسأل النبي ( : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟
ومنها : أن انفراد الواحد من بين الجماعة بشيء لايمكن في مثله أن ينفرد بعلمه عنهم ، يتوقف في قوله ، حتَّى يتابعه عليهِ غيره .(6/473)
"""""" صفحة رقم 474 """"""
وهذا اصل جهابذة الحفاظ : ( ( أن القول قول الجماعة دون المنفرد عنهم بزيادة ونحوها ) ) ، لاسيما أن كانوا زيادة الثقة مقبولة مطلقاً ، وليس ذلك بشيء ، فإذا توبع على قوله اعتمد عليه .
ومنها : أنه قد استدل به بعض من لايقبل خبر الواحد المنفرد به ، حتى يتابع
عليه .
ورد ذلك الإمام أحمد ، وفرق بينهما بأن النبي ( إنما سلم من صلاته ؛ لأنه كانَ يعتقد اعتقاداً جازماً أنه أتم صلاته ، فلذلك توقف في قول ذي اليدين وحده ، دون بقية الجماعة الذين شهدوا الصَّلاة .
وأما خبر الواحد الثقة الذي ليس له معارض أقوى منه ، فإنه يجب قبوله ؛ لأدلة دلت على ذَلِكَ ، وقد يتوقف فيهِ احياناً ؛ لمعارضته بما يقتضي التوقف فيهِ ، كما توقف النَّبيّ ( في قول ذي اليدين حتى توبع عليه .
ومنها : أنه يستدل به على أن الحاكم إذا نسي حكمه ، فشهد عليه شاهدان ، أنفده وأمضاه ، وأن لم يذكره ، وهو قول مالك وأحمد .
وعند أبي حنيفة والشافعي : لاينفذه حتى يذكر حكمه به .
وفيه فوائد أخر ، تتعلق بسجود السهو ، ياتي ذكرها فيما بعد - إن [ شاء الله ] تعالى .(6/474)
"""""" صفحة رقم 475 """"""
- باب من لم يتشهد في سجدتي السهو
وسلم
أنس بن مالك ، والحسن ، ولم يتشهدا .
وقال قتادة : لايتشهد ؟
أما المروي عن أنس [ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ] .
وأما المروي عن الحسن ، فروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن رجل ، عن
الحسن ، قال : ليس فيها تشهد ولا تسليم .
وأما قتادة ، قال : يتشهد في سجدتي السهو ويسلم .
وعن عبد الله بن كثير ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، أنه وهم في صلاته ، فسلم ، فسجد سجدتي السهو ، ثم سلم مرة أخرى .
قال شعبة : فسألت الحكم وحماداً ، فقالا : يتشهد في سجدتي السهو .
وعن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : ليس في سجدتي السهو تشهد .
قلت : أجعل نهضتي قيامي ؟ قالَ : بل اجلس ، فهوَ أحب إلي ، وأوفى لها .
وهذا يدل على أن مراده : السجود بعد السلام ، أنه لا يتشهد لهُ ، ولا يسلم
منه .(6/475)
"""""" صفحة رقم 476 """"""
وروى عبد الرزاق بإسناده ، عن النخعي ، أنه كان يتشهد ويسلم .
وعن الثوري ، عن خصيف ، عن [ أبي ] عبيدة ، عن عبد الله ، أنه تشهد في سجدتي السهو .
وحاصل الأمر : أنه قد اختلف في التشهد ، وفي التسليم في سجود السهو :
فأما التشهد : فروي ثبوته عن ابن مسعود والشعبي والنخعي وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد ، وقتادة - وفي رواية - والحكم وحماد ويزيد بن قسيط والثوري والليث والأوزاعي وأبي حنيفة .
وروي عن ابن سيرين ، قال : أحب إلي أن يتشهد .
وروي [ . . . . ] عن أنس والحسن وعطاء وابن سيرين .
وحكاه البخاري عن قتادة .
وهذا كله في السجود بعد السلام .(6/476)
"""""" صفحة رقم 477 """"""
وأما السجود قبله ، فلا يتشهد فيه عند أحد من العلماء ، إلا رواية عن مالك ، رواها عنه ابن وهب .
وروي عن ابن مسعود من وجه فيه انقطاع ، ومختلف في لفظه ، وفي رفعه
ووقفه .
وحديث ابن بحينة يدل على أنه تشهد بعده ؛ لأنه قالَ : ( ( سجد قبل السلام ) ) ، ولم يتشهد بعده ، وإن سجد بعد السلام تشهد بعده ، ثُمَّ سلم .
وحكي للشافعي قول آخر : أنه لايتشهد .
وحكي قول ثالث : أنه يتشهد ثم يسجد ، ثم يسلم .
واختار الجوزجاني : أنه لا يتشهد في الموضعين ، لا قبل السلام ، ولا بعده .
وقد روي عن عمر بن الخطاب وعطاء : أن من نسي التشهد الأول يسجد بعد صلاته [ و ] تشهد تشهدين ، وقد ذكرناه فيما تقدم .
وأما التسليم ، فروي فعله عن ابن مسعود وعمران بن حصين ، وعلقمة والشعبي والنخعي وعبد الرحمن بن أبي ليلى والقاسم وسالم وقتادة والحكم وحماد .(6/477)
"""""" صفحة رقم 478 """"""
وهو قول الثوري وأبي حنيفة والليث والشافعي وأحمد وإسحاق .
ثم قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق : يسلم تسليمتين .
وروي عن ابن مسعود من وجه منقطع .
وقال النخعي : يسلم تسليم الجنازة .
يعني : واحدة .
وقاله بعض الحنفية - أيضا .
وقد حكى البخاري ، عن أنس والحسن ، أنهما سلما .
وحكى غيره ، عنهما ، أنهما لم يسلما .
وقد تقدم عن الحسن ، أنه قال : ليس فيها تشهد ولا تسليم - ، وعن عطاء .
وروى الربيع بن صبيح ، عن عطاء ، قال : فيها تشهد وتسليم .
وروي عن عطاء : إن شاء تشهد وسلم ، وإن شاء لم يفعل .
وهذا كله في السجود بعد السلام ، وأما السجود قبل السلام فإنه يعقبه السلام من الصلاة ، فلا يحتاج إلى تسليم آخر .
قال البخاري - رحمه الله - :
1228 - ثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالك ، عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين : اقصرت الصلاة أم نسيت يارسول الله ؟ فقالَ رسول الله ( : ( ( أصدق(6/478)
"""""" صفحة رقم 479 """"""
ذو اليدين ؟ ) ) ، فقال الناس : نعم ، فقام رسول الله ( فصلى اثنتين أخرتين ، ثم [ سلم ، ثم ] كبر ، فسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع .
حدثنا سليمان بن حرب : ثنا حماد ، عن سلمة بن علقمة : قلت لمحمد : في سجدتي السهو تشهد ؟ قالَ : ليس في حديث أبي هريرة .
رواية ابن سيرين عن أبي هريرة ، إنما فيها ذكر السجدتين ، كل سجدة ورفع منها
بتكبير .
وقد خرجه البخاري كذلك بتمامه في الباب الآتي ، من حديث يزيد بن إبراهيم التستري ، عن ابن سيرين .
وكذلك خرجه مسلم ، من حديث ابن عيينة وحماد بن زيد ، عن أيوب ، عن ابن سيرين .
وكذلك هو في ( ( الموطأ ) ) عن أيوب بتمامه .
وكذلك خرجه الترمذي من طريق مالك .
وفي رواية مسلم ، قال - يعني : ابن سيرين - : واخبرت عن عمران بن حصين ، أنه قالَ : ( ( ثم سلم ) ) .
وهكذا خرجه البخاري في ( ( باب : تشبيك الأصابع [ في ] المسجد ) ) من طريق ابن عون ، عن ابن سيرين ، بسياق تام ، وفي آخره : ( ( فربما سألوه : ثم(6/479)
"""""" صفحة رقم 480 """"""
سلم ؟ فيقول : نبئت عن عمران بن حصين ، قالَ : ( ( ثُمَّ سلم ) ) .
وهذا يدل على أن ذكر السلام ليس - أيضا - في حديث أبي هريرة ، إنما هو في حديث عمران بن حصين .
وإنما رواه ابن سيرين ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران - : قاله الإمام أحمد .
ورواه كذلك عن يحيى القطان ، عن أشعث ، عن ابن سيرين .
وخرج الطبراني ، من رواية معاوية بن عبد الكريم الضال ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة حديث السهو بطوله ، وفيه : فقام فصلى الركعتين ، ثم سجد سجدتين ، وهو جالس ، ثم سلم .
هذه الزيادة غير محفوظة في حديث أبي هريرة ، إنما ذكرها ابن سيرين بعد حديث أبي هريرة بلاغاً عن عمران بن حصين .
وخرجه مسلم من طريق الثقفي وابن علية ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين ، عن النبي ( .
وروى محمد بن عبد الله الأنصاري : حدثنا أشعث ، عن ابن سيرين ، عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين ، أن النبي ( صلى بهم فسها ، فسجد سجدتين ، ثم تشهد ، ثم سلم .
خرجه أبو داود والترمذي .
وقال : حديث حسن غريب .
وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) والحاكم .
وقال : صحيح على شرطهما .
وضعفه آخرون ، وقالوا : ذكر التشهد فيه غير محفوظ ، منهم : محمد بن(6/480)
"""""" صفحة رقم 481 """"""
يحيى الذهلي والبيهقي ، ونسبا الوهم إلى أشعث .
وأشعث ، هو : ابن عبد الملك الحمراني ، ثقة .
وعندى ؛ أن نسبة الوهم إلى الأنصاري فيهِ أقرب ، وليس هوَ بذاك المتقن جداً في حفظه ، وقد غمزه ابن معين وغيره .
ويدل على : أن يحيى القطان رواه عن أشعث ، عن ابن سيرين ، عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران في السلام خاصة ، كما رواه عنه الإمام أحمد - : ذكره ابنه عبد الله ، عنه في ( ( مسائله ) ) .
فهذه رواية يحيى القطان - مع جلالته وحفظه واتقانه - ، عن أشعث ، إنما فيها ذكر السلام فقط .
وخرجه النسائي ، عن محمد بن يحيى بن عبد الله ، عن الأنصاري ، عن اشعث ، ولم يذكر التشهد .
فإما أن يكون الأنصاري اختلف عليه في ذكره ، وهو دليل على أنه لم يضبطه ، وإما أن يكون النسائي ترك ذكر التشهد من عمد ؛ لأنه استنكره .
وقد روى معتمر بن سليمان ، وهشيم ، عن خالد الحذاء حديث عمران ابن حصين ، وذكرا فيهِ : أن النَّبيّ ( صلى ركعة ، ثُمَّ تشهد وسلم ، ثُمَّ سجد سجدتي السهو ، ثُمَّ سلم .
فهذا هو الصحيح في حديث عمران ، ذكر التشهد في الركعة المقضية ، لا في سجدتي السهو .(6/481)
"""""" صفحة رقم 482 """"""
وأشار إلى ذلك البيهقي .
وقد روي عن النبي ( التشهد في سجود السهو ، من حديث ابن مسعود ، وله طرق :
أجودها : رواية خصيف عن أبي عبيدة ، عنه ، مع الاختلاف في رفع الحديث ، ووقفه أشبه ، أو مع الاختلاف في ذكر السجود فبل السلام وبعده .
وروي من وجوه أخر ، لا يثبت منها شيء .
وروي - أيضاً - من حديث عائشة - مرفوعاً .
خرجه الطبراني .
وإسناده ساقط .
وقال الجوزجاني : لانعلم في شيء من فعل الرسول ( في سجدتي السهو قبل السلام وبعده ، أنه يتشهد بعدهما .
وقال - أيضا - : ليس في التشهد في سجود السهو سنة قائمة تتبع .
وقال ابن المنذر : السلام في سجود السهو ثابت عن النبي ( من غير وجه ، وثبت عنه أنه كبر فيهما أربع تكبيرات .
وفي ثبوت التشهد عن النبي ( فيهما نظر .(6/482)
"""""" صفحة رقم 483 """"""
وخرج أبو داود في ( ( سننه ) ) من حديث سلمة بن علقمة ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( بحديث السهو ، وفي آخره : قلت لمحمد : يعني التشهد ؟ قالَ : لم أسمع في التشهد ، وأحب إلي أن يتشهد .
وهذه الرواية : تدل على أن رواية اشعث عنه في التشهد لا اصل لها ؛ لأن ابن سيرين أنكر أن يكون سمع في التشهد شيئاً .
والرواية التي ساقها البخاري من رواية سلمة بن علقمة ، عن ابن سيرين ، إنما فيها أنه قال : ( ( ليس في حديث أبي هريرة ) ) - يعني : التشهد .
وقد بقي من فوائد حديث أبي هريرة أحكام ، لم يتقدم ذكرها :
فمنها : أن الإمام إذا سها ، ولم يتيقن سهوه ، فذكره المامومون ، فإن ذكر سهوه عمل بذكره ، بغير خلاف بين العلماء .
وقد قال ( : ( ( إنما أنا بشر ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني ) ) .
وأما إن لم يذكر سهوه حين ذكروه ، فظاهر حديث أبي هريرة يدل على أنه يرجع إلى قول المأمومين ، إذا لم يتيقن أنه على [ الصواب ] يقينا ، وكذلك حديث عمران بن حصين ، وحديث معاوية بن حديج .
وقد بوب البخاري على ذلك في ابواب الإمامة : ( ( باب : هل ياخذ الإمام إذا شك بقول الناس ؟ ) ) .
وخرج فيهِ حديث أبي هريرة ، من طريق ابن سيرين ، ومن طريق أبي سلمة .(6/483)
"""""" صفحة رقم 484 """"""
وبهذا قال جمهور اهل العلم ، وهو قول عطاء وأبي حنيفة والثوري ومالك - في رواية - وأحمد وغيرهم .
واختلفوا : هل يجب الرجوع إلى قولهم ، أم يستحب ؟
فقالَ أبو حنيفة : يجب .
وهو ظاهر أحمد . وروي عنه ، أنه يستحب الرجوع إليهم ، وله أن يبني على يقين نفسه ، أو يتحرى ، كما لو كان منفردا .
وقال ابن عقيل من أصحابنا : إنما يرجع إلى قول المأمومين ، إذا قلنا : إن الإمام يتحرى ، ولا يعمل بيقين نفسه ؛ فإن أكثر ما يفيد قولهم غلبة الظن ، فيكون الرجوع إليهم من باب التحرى ، فأما إذا قلنا : يعمل باليقين ، لم يلتفت إليهم .
وجمهور أصحابنا على خلاف هذا ، وأنه يرجع اليهم على كلا القولين ؛ فإن قول اثنين فصاعدا من المأمومين حجة شرعية ، فيجب العمل بها ، وإن لم يوجب العلم ، كسائر الحجج الشرعية التي يجب العمل بها من البيات وغيرها ، وإنما محل الخلاف في التحري بالأمارات المجردة عن حجة شرعية .
وقال الشافعية ومالك - في رواية أخرى - : لا يرجع الإمام إلى قول المأمومين ، إذا لم يذكر ما ذكروه به ، بل يبني على يقين نفسه .
ولأصحابهما قول آخر : إنه يرجع إليهم ، إذا كثروا ؛ لبعد اتفاقهم على الخطإ ، فأما الواحد والاثنان ، فلا .
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجب الرجوع إلى قول واحد من المأمومين ؛ لأنه خبر ديني ، فهوَ كالإخبار بالقبلة ونحوها .(6/484)
"""""" صفحة رقم 485 """"""
وكذا قال إسحاق : يرجع إلى قول واحد .
ومذهب مالك وأحمد : لا يرجع إلى قول واحد من المامومين ، بل إلى ما زاد على الواحد ؛ لحديث أبي هريرة ؛ فإن النبي ( لم يكتف بقول ذي اليدين حتى سال غيره ، فلما اخبروه عمل بقولهم ، ولأن انفراد الواحد من بين المامومين بالتنبيه على السهو ، مع اشتراكهم جميعا في الصلاة يوجب ريبة ، فلذلك احتاج إلى قول آخر يعضده .
وقد تقدم القول في هذا بابسط من هذا الكلام في ( ( باب : هل ياخذ الإمام إذا شك بقول الناس ؟ ) ) .
ومنها : أن النَّبيّ ( كانَ قد وقع منه في هذه الصَّلاة سلام من نقص وقيام ومشي وكلام ، وكل واحد من هذه سبب يقتضي السجود بانفراده ، ولم يسجد إلا سجدتين .
وكذلك حديث ابن بحينة ، فإن فيه أن النبي ( ترك التشهد الأول والجلوس له ، ويقتضي ذلك ترك التكبيرة للقيام منه ، وقد سجد سجدتين .
فدل على أن السهو إذا تعدد ، لم يوجب أكثر من سجدتين .
وهذا قول جمهور العلماء ، إذا كان من جنس واحد ، وإنما خالف فيه الأوزاعي .
ويدل على الاكتفاء بسجود واحد ، وإن تعدد السهو : أنه شرع تأخر السجود إلى آخر الصلاة ، فدل على أنه يكتفى به لجميع ما يتجدد في الصلاة من السهو ، إذ لو كان لكل سهو سجود ، لشرع السجود عقب كل سهو عنده .
ومنها : أنه سجد للسهو بعد السلام ، وسنذكره هذه المسألة مستوفاة فيما بعد - إن شاء الله تعالى .(6/485)
"""""" صفحة رقم 486 """"""
5 - باب
يكبر في سجدتي السهو
وفيه حديثان :
الأول :
1229 - حدثنا حفص بن عمر : ثنا يزيد بن إبراهيم ، عن محمد ، عن أبي
هريرة ، قال : صلى النبي ( إحدى صلاتي العشي - قال محمد : وأكثر ظني العصر - ركعتين ، ثم سلم ، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد ، فوضع يده عليها ، وفيهم أبو بكر وعمر ، فهابا أن يكلماه ، وخرج سرعان الناس ، فقالوا : قصرت الصلاة ، ورجل يدعوه النبي ( ذا اليدين ، فقال : أنسيت ، أم قصرت ؟ فقالَ : ( ( لم أنس ، ولم
تقصر ) ) . قالَ : بلى ، قد نسيت ، فصلى ركعتين ، ثُمَّ سلم ، ثُمَّ كبر ، ثُمَّ سجد مثل سجوده أو اطول ، ثُمَّ رفع رأسه فكبر ، ثُمَّ وضع رأسه فكبر ، فسجد مثل سجوده أو أطول ، ثُمَّ رفع رأسه فكبر .
( ( صلاتا العشي ) ) : هما الظهر والعصر ؛ لأنهما بعد زوال الشمس ، وذلك زمن العشي .
وأكثر ظن ابن سيرين ، أنها العصر .
وفي رواية ابن عون ، عنه ، أنه قال : سماها أبو هريرة ، ونسيتها أنا .
وروي مجزوماً بذلك .(6/486)
"""""" صفحة رقم 487 """"""
خرجه الإمام أحمد .
وفي هذه الرواية : أنه قام من مكانه الذي صلى فيه إلى مقدم المسجد ، ووضع يده على الخشبة .
وفي رواية ابن عون ، عن ابن سيرين ، أنه شبك أصابعه .
وقد خرجها البخاري - فيما مضى .
وأما هيبة أبي بكر وعمر أن يكلماه ، مع قربهما منه ، واختصاصهما به ، فلشدة معرفتهما بعظمته وحقوقه ، وقوة المعرفة توجب الهيبة ، كما أن اشد الناس معرفة بالله أشدهم لهُ خشية وهيبة وإجلالا ، كما كان النبي ( كذلك .
( ( وسرعان الناس ) ) ، وهم الذين أسرعوا الخروج من المسجد ، فظنوا أن الصلاة قصرت ، فتحدثوا بذلك .
وهذا يدل على أنه لم يخف ذلك على عامة من كان في المسجد أو كلهم .
وفي رواية ابن عون ، عن ابن سيرين ، أن النبي ( قام إلى خشبة فاتكأ عليها ، وشبك بين أصابعه ، ووضع خده على ظهر كفه ، كأنه غضبان .
والظاهر : أن النبي ( كان في حال الصلاة مشغول البال بأمر أوجب له ذلك الغضب ، وهو الذي حمله على أن صلى ركعتين وسلم ، ولم يشعر بذلك .
وقوله : ( ( ورجل يدعوه النبي ( ذا اليدين ) ) ، فيه : دليل على أنه يجوز دعاء الإنسان بغير اسمه ، ولا سيما إذا كان ليس من الألقاب المكروهة ، وربما(6/487)
"""""" صفحة رقم 488 """"""
كان يدعى بذلك من باب الفكاهة والمزاح ، كما قال النبي ( لرجل : ( ( ياذا الأذنين ) ) .
وقوله : ( ( لم أنس ولم تقصر ) ) وهكذا في رواية ابن عون - أيضا - ، عن ابن سيرين .
وزعم بعضهم : أن مراده : نفي مجموع الأمرين ، يعني : لم يجتمع القصر
والنسيان ، ولم يرد نفي أحدهما بانفراده .
وهذا ليس بشيء ؛ فإنه لو كانَ كذلك لكان ذاكراً لنسيانه حينئذ ، مثبتاً لهُ ؛ فإن القصر منتف قطعاً ، فيكون مثبتا لنسيانه حينئذ ، ولو كانَ حينئذ ذاكراً لنسيانه لم يحتج إلى قول ذي اليدين لهُ ، ولا لاستشهاده بالناس على صدقه ؛ فإن في رواية ابن عون : فقال : ( ( أكما يقول ذو اليدين ؟ ) ) ، قالوا : نعم .
ولو كانَ لنسيانه حينئذ لما تكلم ، فإنه كانَ يكون متكلماً وهوعالم بأنه في صلاة أو حكمها ، وإنما قالَ ( : ( ( لم أنس ولم تقصر ) ) باعتبار ما كانَ في اعتقاده ، بأنه أتم صلاته ، ولم ينس منها شيئاً ، فإنه إنما سلم من ركعتين لاعتقاده أنه أتمها . فقوله : ( ( لم أنس ) ) إخبار عن حاله التي كانَ عليها في الصَّلاة ، وهي مستمرة إلى حين تكلم بهذا .
وقد صح عنه ، أنه قال : ( ( إنما أنا بشر ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني ) ) .(6/488)
"""""" صفحة رقم 489 """"""
ولعلهم امتنعوا من تذكيره في هذه الصلاة بالتسبيح ؛ لأنهم كانوا علي رجاء منه أن يقوم من التشهد إلى الركعتين الباقيتين ، وإنما تيقنوا تركه لهما بسلامه ، وكانوا حينئذ غير متيقنين لسهوه ، فإنه كن يحتمل عندهم أن تكون الصلاة قد قصرت ، فلذلك لم يسبحوا به عند سلامه .
وقول ذي اليدين : ( ( قد نسيت ) ) ، إنما جزم به لنفي النبي ( قصر الصلاة ، مع على الناس بأنه إنما صلى ركعتين فقط ، فتعين أن يكون ترك الركعتين نسياناً .
والمقصود من هذا الباب : أن النبي ( لما سجد سجدتي السهو كبر فيها أربع تكبيرات ، كبر في كل سجدة تكبيرة للسجود ، وتكبيرة للرفع منه .
الحديث الثاني :
1230 - حدثنا قتيبة : ثنا الليث ، عن ابن شهاب ، عن الاعرج ، عن عبد الله بن بحينة الاسدي - حليف بني عبد المطلب - ، أن رسول الله ( قام في صلاة الظهر وعليه جلوس ، فلما أتم صلاته سجد سجدتين ، يكبير في كل سجدة وهو جالس ، قبل أن يسلم ، وسجدهما الناس معه ، مكان ما نسي من الجلوس .
تابعه : ابن جريج ، عن ابن شهاب ، في التكبير .
هذا الحديث ؛ خرجه مسلم عن قتيبة ، كما خرجه البخاري .
وخرجه النسائي من طريق ابن وهب : أخبرني عمرو ويونس والليث ، عن ابن شهاب - فذكره بهذا اللفظ - أيضا .(6/489)
"""""" صفحة رقم 490 """"""
ورواه مالك ، عن ابن شهاب ، وقال في حديثه : ( ( فكبر ثم سجد سجدتين ) ) .
وهو مخرج في ( ( الصحيحين ) ) من طريق مالك .
وخرجه البخاري من طريق شعيب ، عن الزهري - أيضا - كذلك .
وأما متابعة ابن جريج لليث بن سعد في ذكر التكبير :
فخرج الإمام أحمد ، عن محمد بن بكر ، عن ابن جريج : أخبرني ابن شهاب - فذكر الحديث ، وفيه : ( ( فلما صلى الركعتين الاخريين ، وانتظر الناس أن يسلم كبر ، فسجد ، ثم كبر فسجد ، ثم سلم ) ) .
وخرجه عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) ، عن ابن جريج - أيضا - ، وعنده : يكبر في كل سجدة .
ورواه الأوزاعي ، عن الزهري ، فذكر في حديثه أربع تكبيرات ، لكل سجدة تكبيرتين ، تكبيرة للسجود ، وتكبيرة للرفع ، كما في حديث أبي هريرة المتقدم .
والعمل على هذا عند أهل العلم ، أنه يكبر في كل سجدة تكبيرة للسجود وتكبيرة للرفع منه .
وبه قال عطاء والشافعي وأحمد وغيرهم .
ولا فرق في ذلك بين السجود قبل السلام وبعده .(6/490)
"""""" صفحة رقم 491 """"""
ومن الشافعية من قال في السجود بعد السلام : يكبر تكبيرة الإحرام ، ثم يكبر للسجود ، كقولهم في سجدة التلاوة ، كما سبق .
وقد دل حديث ابن بحينة على السجود قبل السلام ، وحديث أبي هريرة على السجود بعد السلام .
وكذلك حديث عمران بن حصين ، وحديث معاوية بن حديج ، وقد سبق ذكرهما .
وقد اختلف العلماء في محل سجود السهو ، على ستة أقوال :
أحدهما : أنه كله بعد السلام .
قال ابن المنذر : روي ذلك عن علي وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعمار وأنس وابن الزبير وابن عباس ، وبه قال الحسن والنخعي وابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وأصحاب الرأي .
يعني : أبا حنيفة وأصحابه .
قال : ويجزئ عندهم أن يسجدهما قبل السلام .(6/491)
"""""" صفحة رقم 492 """"""
قلت : وممن قال : يسجد بعد السلام - : قتادة .
وروي عن عمران بن حصين - أيضا .
والقول الثاني : أن كله قبل السلام .
قال ابن المنذر : روي عن أبي هريرة ، وبه قال مكحول والزهري ويحيى الأنصاري وربيعة والأوزاعي والليث والشافعي . انتهى .
وحكي رواية عن أحمد .
وقيل : إنه لم يوجد بها نص عنه .
وقد ذكر القاضي في ( ( كتابه شرح المذهب ) ) : إن سلم من نقص ركعة تامة فأكثر ، فإنه يسجد له بعد السلام ، رواية واحدة ، ولم نجد عن أحمد فيه خلافاً .
وأسنده الترمذي في ( ( كتابه ) ) عن أبي هريرة [ و ] السائب القارئ .
وذكر الشافعي ، أن أخر فعل النبي ( السجود قبل السلام ، وأنه ناسخ لما
عداه .(6/492)
"""""" صفحة رقم 493 """"""
وروي عن مطرف بن مازن ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : سجد رسول الله ( سجدتي السهو قبل السلام وبعده ، وآخر الأمرين قبل السلام .
ومطرف هذا ، ضعيف .
وغاية هذا ، أنه من مراسيل الزهري ، وهي من أوهى المراسيل .
وسجود النبي ( قبل السلام وبعده ، إن كان في صورتين ، أمكن العمل بهما معا ، وإن كان في صورة واحدة ، دل على جواز الأمرين ، والعمل بهما جميعاً ، والنسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع ، ولو توجه .
وادعى جماعة منهم ، أن سجود النبي ( بعد السلام في حديث أبي هريرة كان سهوا ، حيث كانت تلك القصة تضمنت أنواعا من السهو .
وهذا قول ساقط جداً ، فان السهو كان قبل إعلام النبي ( بالحال ، وأما بعد إعلامه ، فلو تطرق السهو إلى فعله لم يحتج به كله ، وقد اجتمعت الأمة على الاحتجاج به ، كيف ؛ وقد رواه عمران بن حصين ومعاوية بن حديج وغير واحد ، وقد قيل : إنها وقائع متعددة ، كما سبق .
والقول الثالث : أن كان السهو من نقصان من الصلاة ، فان سجوده قبل السلام ، وان كان من زيادة فيها ، فان سجوده بعد السلام ؛ لئلا يجتمع في الصَّلاة زيادتان ، وهو قول مالك والشافعي - في القديم - وأبي ثور .
وهو رواية عن أحمد .
والشك - على هذه الرواية - عنده كالنقص ، يسجد له قبل السلام - : نص عليه أحمد .
ونقل حرب ، عن إسحاق ، مثل هذا القول ، إلا أنه قال في الشك : يسجد له بعد السلام ، ويبني على اليقين .
وهو قول مالك .(6/493)
"""""" صفحة رقم 494 """"""
وروي هذا المعنى عن ابن مسعود :
رواه إسحاق بن راهويه ، عن عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن أبي عبيدة ، عن ابن مسعود ، قال : كل شيء في الصلاة من نقصان من ركوع أو سجود أو غير
ذلك ، فسجدتا السهو قبل التسليم ، وما كان من زيادة ، سجدها بعد التسليم .
وعتاب هذا ، مختلف فيه .
وقد رواه غيره ، عن خصيف ، بغير هذا اللفظ .
روى الطبراني في هذا المعنى حديثين مرفوعين ، من حديث عائشة ، في إسناده علي بن ميمون ، وهو متروك الحديث .
وأهل هذه المقالة جمعوا بهذا بين حديثي ابن بحينة وحديث أبي هريرة ، وما في معناه ؛ فان في حديث أبي هريرة ، وما في معناه ؛ كان قد وقع في تلك الصلاة زيادة كبيرة سهواً من سلام وكلام وعمل ، فلذلك سجد بعد السلام ، وحديث ابن بحينة ، فيه : انه سجد قبل السلام ؛ لترك التشهد الأول ، فيلحق بالأول كل زيادة ، وبالثاني كل نقصنٍ .
ويشهد لذلك : أن النبي ( صلى الظهر خمساً ، فسجد له بعد السلام ، كما في حديث ابن مسعود ، وقد سبق .(6/494)
"""""" صفحة رقم 495 """"""
لكن قد ذكرنا - فيما تقدم - أنه لا دلالة فيه ؛ فإن النَّبيّ ( إنما علم بسهوه بعد أن سلم ، فكان سجوده بعد السلام ضرورة ، لا عن قصد .
القول الرابع : أن سجود السهو كله قبل السلام ، إلا في موضعين :
أحدهما : من سلم من نقص ركعة تامة فأكثر من صلاته سهواً ، فإنه يأتي بما
فاته ، ويسجد بعد السلام ، كما في حديث أبي هريرة وعمران بن حصين وغيرهما .
والثاني : إذا شك في عدد الركعات ، وعمل بالتحري ، فإنه يسجد له بعد
السلام ، كما في حديث ابن مسعود ، ويأتي ذكره - إن شاء الله .
وما عدا هذين الموضعين ، فإنه يسجد له قبل السلام ، إلا أن لا يذكر سهوه إلا بعد أن يسلم ، فإنه يسجد له بعد السلام ضرورة ، كما في حديث ابن مسعود المتقدم .
وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد ، وعليه عامة أصحابه ، ووافقه عليه طائفة من أهل الحديث ، منهم : سليمان بن داود الهاشمي ، وأبو خيثمة وابن المنذر .
وفي هذا عمل بجميع الأحاديث كلها على وجهها .
غير أن ترك التشهد الأول قد روي عن المغيرة ، عن النبي ( أنه سجد له بعد السلام ، ولكن حديث ابن بحينة أصح منه ، فأخذ أحمد بأصح الحديثين فيما اختلفت الرواية فيه بعينه .(6/495)
"""""" صفحة رقم 496 """"""
وقد قال طائفة من أصحابنا : إن القياس أن يكون السجود كله قبل السلام ؛ لأنه تتمة الصَّلاة ، كما في حديث عثمان بن عفان ، عن النَّبيّ ( ، قالَ : ( ( إياي وأن يتلعب بكم الشيطان في صلاتكم ، من صلى منكم فلم يدر أشفع أم وتر ، فليسجد سجدتين ؛ فإنهما من تمام صلاته ) ) .
خرجه الإمام أحمد .
وإذا كانت السجدتان من تمام الصلاة ، فتكون قبلها ، ولكن إنما ترك ذلك في تلك الصورتين لورود النص فيهما ، فما عداهما باق على الأصل .
وقد أشار أحمد إلى هذا المعنى بعينه - في رواية ابن بدينا .
ومن المتأخرين من قال : بل القياس يقتضي التفريق بين هاتين الصورتين وغيرهما ؛ فان من سلم من نقص فقد زاد في صلاته زيادة ، لو تعمدها لبطلت صلاته ، فيكون السجود بعد السلام ؛ لئلا يجتمع في الصلاة زيادتان ، ويكون السجود هنا بمنزلة صلاة مستقلة ، جبر بها النقص الداخل في صلاته ، وهو إرغام الشيطان .
وأما من شك وتحرى وبنى على غالب ظنه ، فإنه قد أتم صلاته ظاهراً ، فيسجد بعد السلام سجدتين زائدتين على صلاته ، كما سماها النبي ( : ( ( إرغأما للشيطان ) ) ؛ فإنه قصد تنقيص صلاته ، فأتمها وزاد عليها زيادة أخرى .
وأما إذا بنى على اليقين ، فإنه يحتمل الزيادة في صلاته احتمالاً ظاهراً ،(6/496)
"""""" صفحة رقم 497 """"""
والزيادة هنا من جنس الصلاة بخلاف الزيادة في صورة السلام من النقص ، فكانت السجدتان كركعة تشفع له صلاته ؛ لئلا تكون صلاته وتراً ، فيسجد قبل السلام .
وهذا كله قد أشار إليه النَّبيّ ( في كلامه وتعليله ، كما سيأتي لفظ الأحاديث
فيهِ .
ومن هنا : يتبين أن من صلى خمساً ساهياً ، وذكر قبل سلامه ، أنه يسجد حينئذ قبله ، حتى لا يسلم عن وتر .
لكن يقال : فلو ذكر أنه صلى ركعتين زائدتين كان الحكم كذلك ، مع أنه لم يسلم عن وتر .
القول الخامس : كالقول الرابع : إن ما فيه نص عن النبي ( ، فإنه يتبع نصه ، وما ليس فيه ، فإن كان نقصاً في الصلاة فسجوده قبل السلام ، وإن كان زيادة فسجوده بعده .
وهذه رواية ابن منصور ، عن إسحاق بن راهويه .
والقول السادس : أن ورود بعض النصوص بالسجود قبل السلام ، وبعضها بالسجود بعده يدل على جواز كلا الأمرين ، من غير كراهة ، فيعمل بهما في الجواز .
وأهل هذه المقالة لهم قولان :
أحدهما : أنهما سواء في الفضل ، وحكي ذلك قولا للشافعي ، كما سيأتي ذكره .
والقول الثاني : أنهما سواء في الجواز ، وإن كان بعضهما أفضل من بعض .
وقد حكى ابن المنذر ، عن أهل الرأي ، أنهم يرون السجود قبل السلام(6/497)
"""""" صفحة رقم 498 """"""
جائزاً ، والسجود بعده أفضل .
وكذلك حكى ابن عبد البر اختلاف العلماء في محل السجود ، ثم قال : كل هؤلاء يقولون : لو سجد بعد السلام فيما فيه السجود قبله فيما لم يضره ، وكذلك لو سجد قبله فيه السجود بعده لم يضره ، ولم يكن عليه شيء .
وقال الماوردي - من الشافعية - في كتابه ( ( الحاوي ) ) : لا خلاف بين الفقهاء - يعني : جميع العلماء - أن سجود السهو جائز قبل السلام وبعده ، وإنما اختلفوا في المسنون والأولى : هل هو قبل السلام ، أو بعده .
ثم ذكر اختلاف العلماء في ذلك .
وكذلك صرح بهذا طوائف من الحنفية والمالكية والشافعية ، ومن أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وأبي الخطاب في ( ( خلافيهما ) ) وغيرهما من بعد .
وفي ( ( تهذيب المدونة ) ) للمالكية : ومن وجب عليه سجود سهو بعد السلام ، فسجده قبل السلام ، رجوت أن يجزئه .
وأنكر ذلك طوائف أخرون من أصحابنا والشافعية ، وقالوا : إنما الاختلاف في محل السجود في وجوبه عند من يراه واجباً ، وفي الاعتداد به وحصول السنة عند من يراه سنة .
وهذا ظاهر على قواعد أحمد وأصحابه ؛ لأنهم يفرقون في بطلان الصَّلاة بترك سجود السهو عمداً ، بين ما محله قبل السلام وما محله بعده ، فيبطلون الصَّلاة بترك السجود الذي محله قبل السلام ، دون الذي محله بعده ، ولو كانَ ذَلِكَ على الأولوية لم يكن لهُ أثر في إبطال الصَّلاة .
وقال القاضي أبو يعلى الصغير من أصحابنا : لو كان عليه سجود بعد(6/498)
"""""" صفحة رقم 499 """"""
السلام ، فسجده قبله : هل يجزئه ، ويعتد به ؟ على وجهين .
ولم يذكر حكم ما لو سجد بعد السلام ، لما قبله .
وظاهر كلامه : أنه لا يجزئه بغير خلاف .
وهذه - أيضا - طريقة أبي المعالي الجويني من الشافعية ومن اتبعه ، فإنه حكى في المسألة طريقين لأصحابه .
أحدهما :
إن في المسألة ثلاثة أقوال - يعني : للشافعية - :
الصحيح فيها : أنه قبل السلام ، فإن أخره لم يعتد به .
الثاني : أن كان السهو زيادة ، فحمله بعد السلام وإن كان نقصاً فقبله ، ولا يعتد به بعده .
والثالث : إن شاء قدمه ، وإن شاء أخره .
والطريق الثاني :
يجزئ التقديم والتأخير ، وإنما الأقوال في بيان الأفضل :
ففي قول : التقديم أفضل .
وفي قول : التقديم والتأخير سواء في الفضيلة .
وفي قول : إن كان زيادة فالتأخير أفضل ، وإلا فالتقديم .
قال : ووجه هذه الطريقة : صحة الأخبار في التقديم والتأخير .
قال : والطريقة المشهورة الأولى ، ويجعل الخلاف في الأجزاء والجواز ، كما
سبق .(6/499)
"""""" صفحة رقم 500 """"""
6 - باب
إذا لم يدر كم صلى - ثلاثاً أو أربعا -
سجدة سجدتين وهو جالس
.
1231 - ثنا معاذ بن فضالة : ثنا هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( : ( ( إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع الأذان ، فإذا قضى الأذان أقبل ، فإذا ثوب بها أدبر ، فإذا قضي التثويب أقبل ، حتى يخطر بين المرء ونفسه ، يقول : أذكر كذا وكذا - مالم يكن يذكر - حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى ، فإذا لم يدر أحدكم كم صلى - ثلاثا أو أربعا - ، فليسجد سجدتين وهو جالس ) ) .
( ( يخطر ) ) بضم الطاء عند الأكثر ، والمراد : أنه يمر ، فيحول بين المرء وما يريد من نفسه ، من إقباله على صلاته .
وروي ( ( يخطر ) ) - بكسر الطاء - ، يعني : تحرك ، فيكون المعنى : حركته بالوسوسة .
وقوله : ( ( حتى يظل الرجل ) ) ، هكذا الرواية المشهورة بالظاء القائمة المفتوحة ، والمراد : يصير ، كما في قوله تعالى : ( ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً ( [ النحل : 58 ] .
وروى بعضهم ( ( يضل ) ) بالضاد المكسورة ، من الظلال ، يعني : انه ينسى ويتحير .
وقوله : ( ( إن يدري ) ) ، ( أن ) بفتح الهمزة ، حكاه ابن عبد البر عن(6/500)
"""""" صفحة رقم 501 """"""
الأكثرين ، وقال : معناه : لايدري .
وقال القرطبي : ليست هذه الرواية بشيء ، إلا مع رواية : ( ( الضاد ) ) ، فتكون : ( ( أن ) ) مع الفعل بتأويل المصدر مفعول ( ( ضل ) ) إن ، بأسقاط حرف الجر ، أي يضل عن درايته وينسى عدد ركعاته .
قال : وفيه بعد ، ورجح أن الرواية : ( ( إن ) ) بكسر الهمزة ، يعني : ما يدري .
قلت : أما وقوع ( ( إن ) ) المكسورة نافية فظاهر ، وأما ( ( أن ) ) المفتوحة ، فقد ذكر بعضهم أنها تأتى نافية - أيضا - ، وأنكره أخرون .
فعلى قول من أثبته ، لا فرق بين أن تكون الرواية هاهنا بالفتح أو بالكسر .
وقوله : ( ( فإذا لم يدر أحدكم كم صلى - ثلاثاً أو أربعا - ، فليسجد
سجدتين ) ) ، ليس في هذا الحديث سوى الأمر بسجود السهو عند الشك ، من غير أمر بعمل بيقين أو تحر .
وروي عن أبي هريرة ، أنه أفتى بذلك .
قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام بن منبه : سالت أبا هريرة ، فقلت : شككت في صلاتي . قال : يقولون : اسجد سجدتين وأنت جالس .
وهذا كله ، ليس فيه بيان انه يتحرى أو يبني على اليقين ، ولا بد من العمل بأحد الأمرين ، وكلاهما قد ورد في أحاديث أخر ، تقضي على هذا الحديث المجمل .(6/501)
"""""" صفحة رقم 502 """"""
وقد روي من حديث أبي هريرة التحري ، بالشك في رفعه ووقفه .
فروى شعبة ، عن ابن إدريس الأودي ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - قال شعبة : قلت : عن النبي ( ؟ قالَ : أحسبه ، أكبر علمي ، أنه قالَ : عن النَّبيّ ( - ، أنه قالَ : ( ( لا يصلي أحدكم وبه شيء من الخبث ) ) ، وقال في الوهم : ( ( يتحرى ) ) .
وروي في حديث أبي هريرة ذكر السجود قبل السلام في هذا ، من رواية ابن إسحاق : حدثني الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( :
( ( إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته ، فيدخل بينه وبين نفسه ، حتى لا يدري زاد أو نقص ، فإذا كان ذلك ، فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ، ثم يسلم ) ) .
خرجه أبو داود وابن ماجه .
وخرجه ابن ماجه - أيضا - من رواية ابن إسحاق - أيضا - : اخبرني سلمة بن صفوان بن سلمة ، [ عن أبي سلمة ] ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( - بنحوه - ، وقال : ( ( فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ) ) .
وخرجه أبو داود من طريق ابن أخي الزهري ، عن الزهري ، بهذا الإسناد ، ولفظه : ( ( فليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ) ) .
وخرجه الدارقطني من رواية عكرمة بن عمار ، عن يحيى بن أبي كثير ،(6/502)
"""""" صفحة رقم 503 """"""
عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي ، - فذكره ، وقال : - بعد قوله : ( ( فليسجد سجدتين وهو جالس ) ) - : ( ( ثم يسلم ) ) .
وذكر في ( ( العلل ) ) أن سليمان وعلي بن المبارك وهشاما والأوزاعي وغيرهم رووه ، عن يحيى ، ولم يذكروا فيه : التسليم قبل ولا بعد .
قال : وكذلك قال الزهري ، عن أبي سلمة .
ولم يذكر رواية ابن إسحاق وابن أخي الزهري ، عن الزهري ، وذكر رواية ابن إسحاق ، عن سلمة بن صفوان بن سلمة ، كما رواه عكرمة بن عمار ، عن يحيى .
قال : وهما ثقتان ، وزيادة الثقة مقبولة .
قال : ورواه فليح بن سليمان ، عن سلمة بن صفوان ، وقال فيه : ( ( وليسلم ، ثم ليسجد سجدتين ) ) ، بخلاف رواية ابن إسحاق .
قلت : أما ابن إسحاق ، فمضطرب في حديث الزهري خصوصاً ، وينفرد عنه بما لا يتابع عليه ، وروايته عن سلمة بن صفوان ، قد خالفه فيها فليح ، كما ترى .
ورواية عكرمة بن عمار ، عن يحيى بن أبي كثير ، كثيرة الاضطراب عند يحيى القطان وأحمد وغيرهما من الأئمة .
ففي ثبوت هذه الزيادة نظر . والله تعالى أعلم .
وقد روي من غير حديث أبي هريرة البناء على اليقين والتحري .
فأما الأول :
فخرجه مسلم ، من طريق سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم ،(6/503)
"""""" صفحة رقم 504 """"""
عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله ( : ( ( إذا شك أحدكم في
صلاته ، فلا يدري كم صلى ثلاثا أو أربعا ، فليطرح الشك ، وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ، فان كان صلى خمساً ، شفعن له صلاته ، وان كان صلى إتمأما لأربع ، كانتا ترغيما للشيطان ) ) .
وخرجه - أيضا - من رواية داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم ، به - بمعناه .
وخرجه الدارقطني من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ، وهشام بن سعد بن سليمان وغيرهم ، عن زيد بن أسلم - كذلك .
وكذلك رويناه من حديث عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن ابن عجلان ، عن زيد بن أسلم - بهذا الإسناد .
والمعروف من رواية ابن عجلان : أنه لم يذكر في حديثه : ( ( قبل السلام ) ) .
وكذا رواه أبو غسان وغيره ، عن زيد بن أسلم .
ورواه مالك في ( ( الموطأ ) ) والثوري و يعقوب ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء - مرسلاً .
ووصله الوليد بن مسلم وغيره ، عن مالك .
وليس بمعروف عنه وصله .
ووصله بعضهم عن الثوري - أيضا .(6/504)
"""""" صفحة رقم 505 """"""
ولعل البخاري ترك تخريجه ؛ لإرسال مالك والثوري لهُ .
وحكم جماعة بصحة وصله ، منهم : الإمام أحمد والدارقطني .
وقال أحمد : اذهب إليه . قيل له : إنهم يختلفون في إسناده . قال : إنما قصر به مالك ، وقد أسنده عدة ، فذكر منهم : ابن عجلان وعبد العزيز بن أبي سلمة .
ورواه الدراوردي وعبد الله بن جعفر وغيرهما ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ، عن النبي ( .
ذكره الدارقطني .
وقال : القول قول من قال : عطاء ، عن أبي سعيد .
وله شاهد عن أبي سعيد من وجه أخر ، من رواية عكرمة بن عمار ، عن يحيى بن أبي كثير : حدثني هلال بن عياض : حدثني أبو سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله ( : ( ( إذا صلى أحدكم ، فلا يدري زاد أو نقص ، فليسجد سجدتين وهو جالس ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي .
وقال : حديث حسن .
وخرجه النسائي ، وزاد في رواية له : ( ( ثم يسلم ) ) .
وشيخ يحيى بن أبي كثير ، مختلف في اسمه ، وحاله .
وروى ابن إسحاق ، عن مكحول ، عن كريب ، عن ابن عباس ، عن
عبد الرحمن بن عوف ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا سها أحدكم في صلاته ، فلم(6/505)
"""""" صفحة رقم 506 """"""
يدر واحدة صلى أم ثنتين ، فليبن على واحدة فان لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثاً ، فليبن على ثنتين ، فإن لم يدر صلى ثلاثا أو أربعا ، فليبن على ثلاث ، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم ) ) .
خرج الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي .
وقال : حسن صحيح .
والحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم .
وله علة ذكرها ابن المديني .
قال : وكان عندي حسناً ، حتى وقفت على علته ، وذلك أن ابن إسحاق سمعه من مكحول مرسلا ، وسمع إسناده من حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن مكحول . قال : يضعف الحديث من هاهنا .
يعني : من جهة حسين الذي يرجع إسناده إليه .
وخرجه الإمام أحمد ، عن ابن علية ، عن ابن إسحاق - كما ذكره ابن المديني .
وكذا رواه عبد الله بن نمير وعبد الرحمن المحاربي ، عن ابن إسحاق ، عن مكحول - مرسلاً - وعن حسين عن مكحول - متصلاً .
ورواه حماد بن سلمة وغيره ، عن ابن إسحاق ، عن مكحول - مرسلاً .
ذكره الدارقطني .(6/506)
"""""" صفحة رقم 507 """"""
وخرجه الإمام أحمد - أيضا - من رواية إسماعيل بن مسلم ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن عبد الرحمن بن عوف ، عن النبي ( .
وإسماعيل ، هو : المكي ، ضعيف جداً .
وقد قيل : إنه توبع عليه ، ولا يصح ، وإنما مرجعه إلى إسماعيل - : ذكره الدارقطني .
روى أيوب بن سليمان بن بلال ، عن أبي بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن عمر بن محمد بن زيد ، عن سالم ، عن أبيه ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا لم يدر أحدكم كم صلى - ثلاثا أو أربعا - فليركع ركعتين ، يحسن ركوعهما
وسجودهما ، ثم ليسجد سجدتين ) ) .
خرجه الحاكم .
وقال : صحيح على شرطهما .
والبخاري يخرج من هذه النسخة كثيراً ، ولكن هذا رواه مالك في ( ( الموطإ ) ) ، عن عمر بن محمد ، عن سالم ، عن أبيه ، - موقوفاً .
قال الدارقطني : رفعه غير ثابت .
وقال ابن عبد البر : لا يصح رفعه .
ورواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، أنه قال : إذا شك الرجل في صلاته ، فلم يدر ثلاثا صلى أم أربعا ، فليبن على أتم(6/507)
"""""" صفحة رقم 508 """"""
ذلك في نفسه ، وليس عليه سجود .
قال : فكان الزهري يقول : يسجد سجدتي السهو وهو جالس .
وأما الثاني : وهو التحري :
فقد خرجه البخاري في ( ( أبواب استقبال القبلة ) ) ، من رواية جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن ابن مسعود ، عن النبي ( - فذكر الحديث ، وقال في آخره - : ( ( وإذا شك أحدكم في صلاته ، فليتحرى الصواب ، فليتم عليه ، ثم ليسلم ، ثم يسجد سجدتين ) ) .
وخرجه مسلم - أيضا .
وخرجه من طرق أخرى ، عن منصور ، وفي بعضها : ( ( فلينظر أحرى ذلك للصواب ) ) .
وفي رواية : ( ( فليتحرى أقرب ذلك إلى الصواب ) ) .
وفي رواية : ( ( فليتحرى الذي يرى أنه صواب ) ) .
وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي ، وزادوا فيه : ( ( ثم يسلم ، ثم يسجد سجدتي السهو ) ) .
وقد رواه جماعة من ثقات أصحاب منصور ، عنه ، بهذا الزيادة .
وخرجه ابن ماجه ، وعنده : ( ( ويسلم ويسجد سجدتين ) ) - بالواو .
قال الإمام أحمد - في رواية الأثرم - : وحديث التحري ليس يرويه(6/508)
"""""" صفحة رقم 509 """"""
غير منصور ، إلا أن شعبة روى عن الحكم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله - موقوفاً - نحوه ، قال : وإذا شك أحدكم فليتحر .
وخرجه النسائي كذلك .
وقد روي عن الحكم - مرفوعاً .
قال الدارقطني : الموقوف عن الحكم أصح .
وقد روي عن ابن مسعود التحري من وجه آخر ، مختلف فيه :
فروى خصيف ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا كنت في صلاة ، فشككت في ثلاث أو أربع ، وأكثر ظنك على أربع ، تشهدت ، ثم سجدت سجدتين ، وأنت جالس قبل أن تسلم ، ثم تشهدت - أيضا - ، ثم تسلم ) ) .
وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
وذكر أبو داود ، أنه اختلف في رفعه ووقفه ، وفي لفظه - أيضا .
وقال أحمد : حديث اليقين أصح في الرواية من التحري .
وقال في حديث التحري : هو صحيح ، وري من غير وجه .
ويظهر من تصرف البخاري عكس هذا ؛ لأنه خرج حديث التحري دون اليقين .
وخرج مسلم الحديثين جميعاً .
وقد دلت هذه الأحاديث على أن من شك في عدد صلاته ، فإنه ليس عليه
إعادتها ، ولا تبطل صلاته بمجرد شكه ، بل يسجد سجدتي السهو بعد بنائه على(6/509)
"""""" صفحة رقم 510 """"""
يقينه أو تحريه ، وهو قول جمهور العلماء .
وروي عن طائفة ، أن من شك في صلاته فإنه يعيدها .
رواه همام بن منبه وابن سيرين ، عن ابن عمر .
وهو خلاف رواية ابنه سالم ومولاه نافع وعبد الله بن دينار ومحارب بن دثار وغيرهم ، كلهم رووا ، عن ابن عمر ، أنه يسجد ولا يعيد .
وقد سبق عن ابن عمر رواية أخرى ، أنه لا يسجد .
وذكر عطاء ، انه سمع ابن عباس يقول : إن نسيت الصلاة المكتوبة فعد لصلاتك . وأنه بلغه عن ابن عمر وابن عباس ، أنه إذا شك أعاد مرة واحدة ، ثم لا يعيد ، ويبني على أحرى ذلك في نفسه ، ويسجد سجدتين بعد ما يسلم .
وكذلك قال طاوس : يعيد مرة ، ثم لا يعيد .
وقال النخعي : أحب إلي أن أعيد ، إلا أن أكون أكثر النسيان ، فأسجد للسهو .
وهو قول أبي حنيفة والثوري .
ورويت الإعادة مع الشك مطلقاً عن الشعبي وشريح ومحمد ابن الحنفية .
وأما جمهور العلماء ، فعلى أنه لا يعيد الصلاة .(6/510)
"""""" صفحة رقم 511 """"""
لكن اختلفوا : هل يبني على الأقل - وهو اليقين - ، أو يبني على غالب ظنه ؟
فقالت طائفة : يبني على غالب ظنه .
روي عن ابن مسعود ، وهو قول الكوفيين كالنخعي وأبي حنيفة والثوري - في رواية - والحسن بن حي .
وحكاه ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث .
وحكى ابن عبد البر عن الأوزاعي : يتحرى ، فإن قام فلم يدر كم صلى ، استأنف .
والتحري قول أحمد - في رواية عنه .
وعلى هذه الرواية ، فهل ذلك عام في المنفرد والإمام ، أم خاص بالإمام ؟ على روايتين فيهِ .
وظاهر مذهبه : أنه يختص بالإمام ؛ لأنه يعتمد على غلبة ظنه بإقرار المأمومين ومتابعتهم لهُ من غير نكير ، فيقوى الظن بذلك .
واستدل هؤلاء بأحاديث تحري الصواب .
وأما حديث إطراح الشك ، والبناء على ما استيقن ، فحملوه على الشك
المساوي ، أو الأضعف .
فأما غلبة الظن ، فقالوا : لا يسمى شكا عند الإطلاق ، كما يدعيه أهل الأصول ومن تبعهم ، وإن كان الفقهاء يطلقون عليه اسم الشك في مواضع كثيرة .
وقالت طائفة : بل يبني على اليقين ، وهو الأقل .(6/511)
"""""" صفحة رقم 512 """"""
وروي عن عمر وعلي وابن عمر ، وعن الحسن والزهري ، وهو قول مالك والليث والثوري - في رواية - والشافعي وأحمد - في رواية عنه - وإسحاق .
وعن الثوري ، قال : كانوا يقولون : إن كان أول ما شك ، فإنه يبني على
اليقين ، وإن ابتلي بالشك - يعني : أنه يتحرى - ، وإن زاد به الشك ورأى انه من الشيطان ، لم يلتفت إليه .
وهؤلاء استدلوا بحديث أبي سعيد الخدري المتقدم في البناء على ما استيقن .
وأما أحاديث التحري ، فمنهم من تكلم فيها ، حتى اعل حديث ابن مسعود المرفوع المخرج في ( ( الصحيحين ) ) ، من رواية منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ،
عنه ، بأنه روي موقوفاً ، من طريق الحكم ، عن أبي وائل ، عنه ، كما فعل النسائي وغيره .
وقد رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن منصور ، عن النخعي ، عن علقمة ، عن ابن مسعود - موقوفاً .
وهذا قد يتعلق به من يدعي أن هذه الرواية في أخر الحديث مدرجة من قول ابن مسعود .
ومنهم من حمل تحري الصواب على الرجوع إلى اليقين ، ومنهم : الشافعي وأصحابه وسليمان الهاشمي والجوزجاني وابن عبد البر وغيرهم .
وفي بعض ألفاظ الحديث ما يصرح بخلاف ذلك ، كما تقدم .(6/512)
"""""" صفحة رقم 513 """"""
وحمل أحمد - في ظاهر مذهبه - التحري على الإمام ؛ لأن عمله بغالب ظنه ، مع إقرار المأمومين لهُ واتباعهم إياه يقوي ظنه ، فيصير كالعمل باليقين ، بخلاف المنفرد ، فإنه ليس عنده إمارة تقوي ظنه .
وقد نص أحمد ، أنه يجوز للإمام إذا شك أن يلحظ ما يفعله المأمومون خلفه ، من قيام أو قعود ، وغير ذلك ، فيتبعهم فيه .
ومن متأخري أصحابنا من قال : يحمل الأمر بالتحري على من قدر عليه ، بوجود إمارات توجب له غلبة الظن ، ولا يختص ذلك بالإمام ، بل المنفرد إذا كان عنده أمارة يتحرى بها عمل بها ، فإن لم يكن عند المصلي أمارة توجب ترجيح أحد الأمرين ، فقد استوى عنده الأمران ، فيطرح الشك حينئذ ، ويعمل باليقين .
وعلى هذا يحمل حديث أبي سعيد .
وهاهنا مسلك أخر : وهو حمل الأمر بالتحري على الرخصة والجواز ، وحمل الأمر بإطراح الشك والبناء على [ ما ] استيقن على الأفضل والاحتياط ، فيجوز للمصلي إذا شك العمل بكلا الأمرين ، ويكون الأفضل الأخذ بالاحتياط .
وصرح بهذا القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتاب ( ( أحكام القرآن ) ) ، وتبعه عليه جماعة من أصحابنا .
وهذه المسألة ترجع إلى قاعدة تعارض الأصل والظاهر ، وللمسالة أقسام قد ذكرناها مستوفاة في كتاب ( ( القواعد في الفقه ) ) .
وحملت طائفة أحاديث البناء على اليقين على من لم يعتبر الشك ، ولم تلزمه أحاديث العمل بغلبة الظن على من لزمه الشك ، وصار له عادة ووسواساً ، فلا يلتفت إليه حينئذ ، بل يجعل وجوده كالعدم ، ويبني على غالب ظنه .(6/513)
"""""" صفحة رقم 514 """"""
وذكر ابن عبد البر أن هذا تفسير الليث وابن وهب للحديث ، وأنه مذهب مالك - أيضا .
يعني : أن الشك إذا لزم صاحبه وصار وسواسا ، لم يلتفت إليه .
وهو قول الثوري ، وروي عن القاسم بن محمد ، وصرح به أصحابنا - أيضا .
وعلى هذا ؛ يحمل حديث الأمر لمن شك في صلاته بان يسجد سجدتين ، من غير ذكر تحر ولا يقين .
ولهذا ذكر في أول الحديث تلبيس الشيطان عليه ، حتى لا يدري : كم صلى .
وعليه يحمل - أيضا - ما روي عم بعض المتقدمين : أن سجدتي السهو تكفي من شك في صلاته . والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما محل السجود للشك ، فقد تقدم ذكره في الباب الماضي ، واختلاف العلماء فيه ، وأن أحمد يعمل بالأحاديث كلها في ذلك .
فإن شك وتحرى ، سجد بعد السلام ، وإن بنى على اليقين سجد قبله .
وهو قول أبي خيثمة زهير بن حرب - أيضا .
وذكرنا المعنى في ذلك فيما تقدم - أيضا .
ومذهب إسحاق ، أنه يبني على اليقين ، ويسجد بعد السلام - : نقله عنه
حرب .
ولعله حمل تحري الصواب في حديث ابن مسعود على الأخذ باليقين ، كما تقدم عن جماعة أنهم قالوه .(6/514)
"""""" صفحة رقم 515 """"""
وفي ذكر النبي ( وسوسة الشيطان للمصلى ، وأمره بالسجود إذا لم يدر كم صلى ، يدل على أنه لا يسجد بمجرد وسوسة الصلاة ، إذا لم يشك في عدد صلاته .
وعلى هذا جمهور العلماء ، وحكاه بعضهم إجماعا .
وحكى إسحاق ، عن الحسن بن علي ، أنه سجد في الصلاة عن غير سهو ظهر منه ، وقال : إني حدثت نفسي .
وروي عن أحمد ، أنه سجد للسهو في صلاته ، وقال : إني لحظت ذلك الكتاب .
وهذا خلاف المعروف من مذهبه .
وحكى أحمد ، عن ابن عباس ، قال : إن استطعت أن لا تصلي صلاة إلا سجدت بعدها سجدتين [ فافعل ] .
وفي أمر النبي ( بسجود السهو في حديث أبي هريرة وابن مسعود المتفق عليهما : دليل على أن سجود السهو واجب ، إذا كان لما يبطل الصلاة تعمده .
واختلف العلماء في وجوب سجود السهو :
فذهب إلى وجوبه كثير من العلماء ، منهم : الحكم وابن شبرمة وأبو حنيفة - فيما حكاه الكرخي ، عنه - والثوري وأحمد وإسحاق .
لكن أحمد إنما يوجبه إذا كان لما يبطل عمدة الصلاة خاصة ، فأما ما لا يبطل الصلاة عمده ، كترك السنن وزيادة ذكر في غير محله ، سوى السلام ، فليس بواجب عنده ؛ لأن السجود من أجله ليس بواجب فعله أو تركه ، فجبرانه أولى ، فأما ما يجب فعله أو تركه ، فيجب جبرانه بالسجود كجبرانات الحج .(6/515)
"""""" صفحة رقم 516 """"""
وحكي عن مالك وأبي ثور : إن كان من نقصان وجب ؛ لأن محله قبل السلام ، فيكون من جملة أجزاء الصَّلاة ، بخلاف ما محله بعد السلام ؛ لأن محله بعد التحلل من الصلاة .
وقال الشافعي : هو سنة بكل حال .
وحكي رواية عن أحمد ، وتأولها بعض أصحابه .
واستدل لذلك ، بأنه روي في حديث أبي سعيد الخدري المتقدم : ( ( فإن كانت صلاته تامة ، كانت الركعة نافلة والسجدتان ) ) .
وأجيب : بأن المراد بالنافلة الزيادة على آخر الصلاة ، كما في حديث عثمان ، عن النبي ( ، أنه توضأ ، وقال : ( ( من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه ، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة ) ) .
خرجه مسلم .
وأراد بالنافلة : زيادة في حسناته ؛ حيث كانَ الوضوء مكفرا للذنوب .
فمن قالَ : إن سجود السهو سنة ، لم تبطل الصَّلاة بتركه بحال ، وهو قول الشافعي وعبد الملك المالكي .
وكذلك مذهب أبي حنيفة ، لكنه عنده : إذا فعل وقع موقع الفرض ، والتحق
به ، وإن كان بعد السلام حين لو أحدث فيه أو خرج الوقت بطلت الصلاة المتقدمة .
واختلفت الرواية عن أحمد : هل تبطل الصلاة بترك السجود للسهو عنه روايتان :(6/516)
"""""" صفحة رقم 517 """"""
أحدهما : إن تركه عمدا ، وكان محله قبل السلام بطلت الصلاة ، وإن كان محله بعد السلام لم تبطل ، وإن كان تركه نسياناً لم تبطل بكل حال .
وحكي مثله عن أبي ثور .
لأن ما محله قبل السلام - وهو واجب - هو كالجزء من الصلاة ، بخلاف ما محله بعد السلام ، فإنه خارج عن الصلاة ، فهو كالأذان ، عند من يقول بوجوبه ، لا يبطل الصلاة تركه .
والرواية الثانية : إذا نسيه حتى طال الفصل أعاد الصلاة .
وهذا يدل على أن تركه يبطل الصلاة بكل حال ، وهو قول الحكم وابن شبرمة ؛ لأنه سجود واجب في الصَّلاة أو لأجلها ، فهوَ كسجود صلب الصَّلاة .
وكذلك قال مالك ، فيما قبل السلام .
وقال فيما بعده : لايبطل تركه مطلقا .
وروي عن مالك : اختصاص البطلان فينا قبل السلام بترك الأفعال دون الأقوال .
ومذهب الثوري : أن سجود السهو واجب ، وليس هو من صلب الصلاة ، فمن ضحك فيه أو أحدث ، فلا شيء عليه .
ولكنه قال ، فيمن سلم وهو يرى أنه ينبغي أن يسجد [ في ] صلاته : أعاد الصلاة ؛ لأنه أدخل في صلاته زيادة .
يعني به : السلام .
وهذا يدل على تفريقه بين سجود السهو الذي قبل السلام وبعده ، كقول أحمد .
وكذلك قال الليث ، فيمن نسي سجود السهو الذي قبل السلام ، فلم يذكره(6/517)
"""""" صفحة رقم 518 """"""
حتى صلى صلاة أخرى ، أنه يعيد الصلاة التي نسي سجودها ، فإن كان السجود بعد السلام سجد سجدتي السهو ، ولم يعد صلاته .
نقله عنه ابن وهب في ( ( كتاب سجود السهو ) ) له ، ووافقه عليه .(6/518)
"""""" صفحة رقم 519 """"""
7 - باب
[ السهو ] في الفرض والتطوع
وسجد ابن عباس سجدتين بعد وتره .
قد تقدم أن الإمام أحمد حكى عن ابن عباس ، أنه قال : إن استطعت أن لا تصلي صلاة إلا سجدت بعدها سجدتين فافعل .
وحمله أحمد على سجود السهو .
ومن الناس من حمله على [ أنه ] أراد به تصلي بعد كل مفروضة ركعتين .
وهذا على عمومه لا يصح ؛ فإن الفجر والعصر لايصلى بعدهما .
وقد بوب النسائي على ( ( السجود بعد الفراغ من الصَّلاة ) ) ، وخرج فيهِ : حديث عائشة : كانَ النَّبيّ ( يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة ، يوتر بواحدة ، ويسجد سجدة قدر ما يقرا أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه .
وقد تقدم هذا الحديث بلفظ : ( ( ويسجد السجدة ) ) .
والمراد : أنه مقدار السجدة الواحدة من سجوده بالليل ، لا أنه يسجد بعد وتره سجدة واحدة .
وأما حكم السهو في الوتر ، فحكمه حكم السهو في سائر الصلوات .
ومذهب الثوري وأبي حنيفة ، إذا صلى الوتر أربعاً ، أنه إن قعد في الثالثة(6/519)
"""""" صفحة رقم 520 """"""
قدر التشهد أجزاه ، وسجد سجدتي السهو ، وإن لم يكن جلس بعد الثالثة أعاد الوتر ، كقولهم في صلاة المغرب ، كما تقدم حكاية مذهبهم في ذلك .
ومذهب مالك في ( ( تهذيب المدونة ) ) : ومن شفع وتره ساهياً سجد بعد
السلام ، واجتزأ بوتره ، يعمل في السنن كما يعمل في الفرائض ، ومن لم يدر جلوس في الشفع أو في الوتر سلم وسجد بعد السلام ، ثم أوتر بواحدة ، وإن لم يدر أفي الأولى هو جالس أو في الثانية ، أو في الوتر ، أتى بركعة ، وسجد بعد السلام ، ثم أوتر . انتهى .
ففرق بين أن يتحقق الزيادة ، فيسجد للسهو ، ويجتزئ بوتره ، وبين أن يشك فيها ، فيبني على اليقين ، ويسجد للسهو ، ثم يوتر .
وقد روي عن ابن عباس ، أنه يسجد في التطوع :
قال حرب الكرماني : نا يحيى بن عبد الحميد : حدثنا ابن المبارك ، عن يعقوب بن القعقاع ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : إذا اوهم في التطوع ، سجد سجدتي
السهو .
وهذا قول جمهور العلماء .
وللشافعي قول قديم ، أنه لايسجد في التطوع .
وروي عن ابن سيرين .
وعن ابن المسيب - في رواية - عنه منقطعة .
وروي عنه من وجه متصل خلافه .
وقال عطاء : لابأس أن لا يسجد للسهو في التطوع .(6/520)
"""""" صفحة رقم 521 """"""
وعنه ، أنه قال : لا يعيد التطوع إذا شك فيه ، وبني على أحرى ما عنده ، وسجد .
وهذا بناء على قوله : إن الشاك في الفريضة يعيد صلاته .
وسئل عطاء ، عمن سها قبل الوتر : أيسجد بعد الوتر ؟ قالَ : نعم .
ولعله أراد أنه سها قبل الركعتين قبل الوتر ، إذا صلى الوتر ثلاثا متصلة [ . . . . . . . . . . . ] أنه أراد أن الركعة التي يوتر بها لا يسجد فيها للسهو حتَّى يتم وتره ، وإن كانت مفصولة بالسلام بينهما ؛ لأن الجميع يشملها اسم واحد ، وهو الوتر ، فيكون السجود للسهو بعد كمالها وتمامها . والله سبحانه وتعالى أعلم .
قال البخاري :
1232 - نا عبد الله بن يوسف : أنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( قال : ( ( إن أحدكم إذا قام يصلي ، جاء الشيطان فلبس عليه ، حتى لا يدري كم صلى ، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس ) ) .
مراده من هذا الحديث في هذا الباب : أمر النبي ( بسجود السهو لمن صلى ولبس الشيطان عليه صلاته ، ولم يفرق بين أن تكون صلاته فريضة أو نافلة ، والأفعال نكرات ، والنكرات في سياق الشرط تعم ، كما تعم في سياق النفي . والله سبحانه وتعالى أعلم .(6/521)
"""""" صفحة رقم 522 """"""
ولأن النفل ينقص بالسهو ، فشرع جبره بالسجود له ، كما يجبر الحج ، فرضه ونفله .
وإنما يشرع للسهو في النفل بركعة تامة فأكثر ، فأما صلاة الجنازة فليس فيها سجود سهو ؛ لأنه لا سجود فيها بالكلية ، وكذلك سجود التلاوة ليس فيهِ سجود
سهو ، لأن المشروع للتلاوة سجدة واحدة ، ولا يجبر بأكثر من أصله .
والله أعلم .(6/522)
"""""" صفحة رقم 523 """"""
8 - باب
إذا كلم وهو يصلي فأشار برأسه أو استمع
1233 - حديثا يحيى بن سلمان : نا ابن وهب : أخبرني عمرو ، عن بكير ، عن كريب .
فذكر حديثاً قد ذكرناه بتمامه في ( ( باب : ما يصلى بعد العصر من الفوائت ) ) ، وفيه :
أن أم سلمة قالت : دخل علي - يعني : رسول الله ( - وعندي نسوة من [ بني حرام من ] الأنصار ، فأرسلت إليه الجارية ، فقلت : قومي بجنبه ، وقولي له : تقول لك أم سلمة : يارسول الله ، سمعتك تنهى عن هاتين الركعتين ، وأراك تصليهما ، فإن أشار بيده ، فاستأخري عنه ، ففعلت الجارية ، فأشار بيده فاستأخرت عنه ، ، فلما انصرف قال : ( ( يابنة أبي أمية ، سألت عن الركعتين بعد العصر ، أنه أتاني ناس من عبد القيس ، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر ، فهما هاتان ) ) .
وخرجه في ( ( المغازي ) ) - أيضا - بهذا الإسناد ، ثم قال : ( ( وقال بكر بن
مضر ، عن عمرو بن الحارث ، عن بكر - فذكر نحوه ) ) .
ومقصوده بهذا الباب : أن المصلي يجوز أن يكلم في صلاته ، ويستمع لمن(6/523)
"""""" صفحة رقم 524 """"""
كلمه ، ويشير بيده أو برأسه ؛ فإن النَّبيّ ( لم ينكر على أم سلمة إرسالها الجارية إليه ؛ لتكلمه وهو يصلي ، بل أشار إليها فاستأخرت عنه ، ثم أجاب عن سؤالها بعد الصلاة .
وقد اختلف السلف في هذا : فمنهم من رخص فيه . ومنهم من كرهه .
قال عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) ، عن معمر ، عن ثابت ، عن أبي رافع ، قال : رأيت أصحاب رسول الله ( ، وأن أحدهم ليشهد على الشهادة وهو قائم يصلي .
وعن ابن جريج ، عن عطاء ، في الرجل كان يصلي ، فيمر به رجل ، فيقول له : فعلت كذا وكذا ؟ [ . . . . . . . . . . . ] قالَ : ليتم صلاته ، ثُمَّ ليسجد سجدتي السهو .
قالَ : وقلت لعطاء : أتكره كل شيء من الإيماء في المكتوبة ، حتَّى أن يمر بي إنسان وأنا في المكتوبة ، فقالَ : صليت الصَّلاة ؟ كرهت أن أشير إليه برأسي ، فأقول : نعم ؟ قالَ : أكره كل شيء من ذَلِكَ .
فقيل لهُ : فإن كانَ في التطوع ؟ فقال : إن كان شيئاً لابد منه ، وأحب إلي أن لا تفعل .
قال : وقال إنسان لعطاء : يأتيني إنسان وأنا في المكتوبة ، فيخبرني الخبر ، فأسمع إليه ؟ قالَ : ما أحبه ، وأخشى أن يكون سهواً ، إنما هي المكتوبة ، فتفرغ لها حتَّى تفرغ منها .(6/524)
"""""" صفحة رقم 525 """"""
ففرق عطاء بين المكتوبة وغيرها ، فكرهه في المكتوبة ، وقال في التطوع : إن كان شيئاً لابد منه ، وأحب إلي أن لايفعل ، لم يكرهه .(6/525)
"""""" صفحة رقم 526 """"""
9 - باب
الإشارة في الصلاة
قاله كريب ، [ عن أم سلمة ] ، عن النبي ( .
حديث كريب ، عن أم سلمة ، هو الذي خرجه في الباب الذي قبله .
ثم خرج في هذا الباب ثلاثة أحاديث :
الأول :
1234 - حدثنا قتيبة : ثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، أن النبي ( بلغه ، أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء ، فخرج يصلح
بينهم ، في أناس معه - فذكر الحديث بطوله .
وقد تقدم قريباً بنحو سياقه ، عن قتيبة ، عن عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سهل .
فالحديث ؛ رواه قتيبة ، عن عبد العزيز بن أبي حازم ، وعن يعقوب بن
عبد الرحمن ، كلاهما عن أبي حازم ، عن سهل .
والمقصود من [ هذا الحديث ] : أن النبي ( جاء يشق الصفوف ، حتى قام في الصف ، فالتفت أبو بكر فرآه ، فأشار إليه رسول الله ( ، يأمره(6/526)
"""""" صفحة رقم 527 """"""
أن يصلي ، فاستدل البخاري بإشارة النبي ( إلى أبي بكر على جواز الإشارة في الصلاة .
وليس في الحديث تصريح بأن النبي ( كان عند إشارته إلى أبي بكر في الصلاة ، بل كان قائما في الصف ، فيحتمل أنه كان كبر للصلاة ، ويحتمل أنه لم يكن كبر .
ولا يقال : لو لم يكن كبر لأمره بالقول دون الإشارة ؛ لأن حديث أنس في كشف النَّبيّ ( الستارة يوم الإثنين ، والناس خلف أبي بكر في صلاة الفجر ، فيهِ : أنه ( أشار إليهم أن أتموا ، ثُمَّ أرخى الستر ، ولم يكن حينئذ في صلاة .
وكذلك في حديث عائشة ، في مرض النبي ( ، لما صلّي أبو بكر ، وخرج النبي ( بين رجلين ، فأشار إلى أبي بكر أن صلّ ، وتأخر أبو بكر ، وقعد النبي ( إلى
جنبه .
وقد خرج البخاري ذلك كله في ( ( أبواب الإمامة ) ) .
ولعل المعنى في ذلك : أن الإشارة إلى المصلي بما يفعله في صلاته أقل لشغل باله من خطابه بالقول ، لما يحتاج إلى تفهم القول بقلبه ، والإصغاء إليه بسمعه ، والإشارة إليه يراها ببصره ، وما يراه ببصره قد يكون أقل إشغالا له مما يسمعه بأذنه . والله سبحانه وتعالى أعلم .
الحديث الثاني :
1235 - نا يحيى بن سليمان : نا ابن وهب : نا الثوري ، عن هشام ، عن(6/527)
"""""" صفحة رقم 528 """"""
فاطمة ، عن أسماء بنت أبي بكر ، قالت : دخلت على عائشة ، وهي تصلي قائمة ، والناس قيام ، فقلت : ما شأن الناس ؟ فأشارت برأسها إلى السماء . فقلت : آية ؟ فقالت برأسها : أي نعم .
هذا قطعة من حديث صلاة الكسوف ، وقد سبق في مواضع مطولا ومختصراً .
والإشارة فيه ، من فعل عائشة وهي تصلي خلف النبي ( ، وليس ذلك بمرفوع .
الحديث الثالث :
1236 - نا إسماعيل : حدثني مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، أنها قالت : صلى رسول الله ( في بيته - وهو شاك - جالساً ، وصلى وراءه قوم قيام ، فأشار إليهم أن اجلسوا ، فلما انصرف قال : ( ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ) ) .
وقد سبق هذا الحديث في ( ( أبواب الإمامة ) ) - أيضا .
وسبق هناك من حديث مالك ، عن الزهري ، عن أنس - معناه - ، غير أنه لم يذكر فيه : ( ( أشار إليهم أن أجلسوا ) ) .
وقد رواه معمر ، عن الزهري ، وذكر فيه هذه الزيادة .
خرجه الإمام أحمد .(6/528)
"""""" صفحة رقم 529 """"""
وخرجه - أيضا - هو وأبو داود ، بهذا الإسناد : أن النبي ( كان يشير في الصلاة .
وقد قيل : إنه مختصر من هذا الحديث .
وفي الإشارة في الصلاة أحاديث أخر ، سبق بعضها في ( ( باب : رد السلام في الصلاة ) ) ، وبعضها في ( ( أبواب المرور بين يدي المصلي ) ) . .
وأكثر العلماء على أن الإشارة في الصلاة لا بأس بها ، روي ذلك عن عائشة ، وفعله ابن عمر وسعيد بن جبير وغيرهما .
وقال الحسن : لابأس بالإيماء في الصلاة .
وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهما .
لكن فعله من غير حاجة من باب العبث ، وهو مكروه في الصلاة .
وسئل النخعي ، عن الإشارة في الصلاة ، فقال : إن في الصلاة لشغلاً .
وكذا قال الثوري .
وكرهه عطاء خصوصاً في المكتوبة ، وقد تقدم قوله في ذلك .
وكره الإشارة في الصلاة ، بما ليس شأن الصلاة ، منهم : أبو زرعة الرازي وأبو بكر الأثرم .
وقد روي عن عائشة ، أنها كانت تشير في الصلاة بما ليس من شأن الصلاة .
وعن أوس بن أوس وغيره .
وروى ابن لهيعة ، عن حيي بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن
عائشة ، أن رسول الله ( كان يصلي ، فأشارت إليه بثوبه ،(6/529)
"""""" صفحة رقم 530 """"""
فأشار إليها ( أن اغسليه .
خرجه الجوزجاني .
وهو إسناد ضعيف .
وإن صح ، فإنما فيه إباحة الإشارة في الصلاة بما فيه مصلحة دينية ، وليس دنيوياً محضاً .
وروى ابن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة بن الأخنس ، عن أبي غطفان ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( التسبيح للرجال والتصفيق للنساء ، من أشار في الصلاة إشارة تفهم عنه فليعد لها ) ) .
يعني : الصلاة .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود .
وخرجه البزار ، ولفظه : ( ( فليعد صلاة أفسدت ) ) .
وقال أبو داود : هذا الحديث وهم .
وقال أحمد - في رواية ابن هانئ - : لا يثبت هذا الحديث ، إسناده ليس بشيء .
وقال - في رواية غيره - : لا أعلم رواه غير ابن إسحاق .
وقال أبو زرعة الرازي : هو عندي ليس بذاك الصحيح ، ولم يروه غير ابن إسحاق .(6/530)
"""""" صفحة رقم 531 """"""
وقال الأثرم : ليس بقوي الإسناد .
وقال الدارقطني : قال لنا ابن أبي داود : أبو غطفان هذا رجل مجهول ، وآخر الحديث زيادة في الحديث ، لعله من قول ابن إسحاق .
يعني : أن آخره مدرج ، ليس هو من تمام الحديث المرفوع .
وهذا هو الظاهر .
وهذا يدل على أن أبا غطفان هذه ليس هو المري الذي خرج له مسلم ، بل هو غيره .
وابن إسحاق ، مدلس ، ولم يصرح بسماعه من يعقوب بن عتبة ، فلعله دلسه عن ضعيف .(6/531)
"""""" صفحة رقم 532 """"""
فارغة(6/532)
"""""" صفحة رقم 533 """"""
استدراك
فائدةٌ :
قال الحافظ ابن رجب في ( ( شرح البخاري ) ) ، لما تكلم على حديث النزول ، قالَ :
أهل الحديث في النزول على ثلاث فرق :
فرقة منهم ، تجعل النزول من الأفعال الاختيارية التي يفعلها الله بمشيئته وقدرته ، وهو المروي عن ابن المبارك ونعيم بن حماد وإسحاق بن راهويه وعثمان الدارمي .
وهو قول طائفة من أصحابنا ، ومنهم : من يصرح بلوازم ذلك من إثبات
الحركة .
وقد صنف بعض المحدثين المتأخرين من أصحابنا مصنفاً في إثبات ذلك ، ورواه عن الامام أحمد من وجوه كلها ضعيفة ، لا يثبت عنه منها شيء .
وهؤلاء ؛ منهم من يقول : ينزل بذاته ، كابن حامد من أصحابنا .
وقد كان الحافظ إسماعيل من التميمي الأصبهاني الشافعي يقول بذلك ، وجرى بينه وبين طائفة من أهل الحديث بسببه فتنة وخصام .(6/533)
"""""" صفحة رقم 534 """"""
قال الحافظ أبو موسى المديني : كان من اعتقاد الإمام إسماعيل أن نزول الله تعالى بالذات ، وهو مشهور من مذهبه ؛ لكنه تكلم في حديث نعيم بن حماد الذي رواه بإسناده في النزول بالذات . قالَ : وهو إسناد مدخول ، وفيه مقال ، وفي بعض رواته مطعن ، ولا تقع بمثله الحجة ، فلا يجوز نسبة قوله إلى رسول الله ( .
والفرقة الثانية : تقول : إن النزول إنما هوَ نزول الرحمة .
ومنهم من يقول : هوَ إقبال الله على عباده ، وإفاضة الرحمة والإحسان عليهم .
ولكن ؛ يرد ذَلِكَ : تخصيصه بالسماء الدنيا ، وهذا نوع من التأويل لأحاديث الصفات .
وقد مال إليه في حديث النزول خاصة طائفة من أهل الحديث ، منهم : ابن قتيبة والخطابي وابن عبد البر .
وقد تقدم عن مالك ، وفي صحته عنه نظر .
وقد ذهب إليه طائفة ممن يميل إلى الكلام من أصحابنا ، وخرجوه عن أحمد من رواية حنبل عنه في قوله تعالى : ( وَجَاءَ رَبُّكَ ( [ الفجر : 22 ] ، أن المراد : وجاء أمر ربك .
وقال ابن حماد : رأيت بعض أصحابنا حكى عن أبي عبد الله في الإتيان ، أنه قال : تأتي قدرته . قال : وهذا على حد الوهم من قائله ، وخطأ في إضافته إليه .
وقد روي فيه حديث موضوع : ( ( إن نزول الله تعالى إقبال على الشيء من غير نزول ) ) .(6/534)
"""""" صفحة رقم 535 """"""
وذكره ابن الجوزي في ( ( الموضوعات ) ) .
وهذا الحديث مقابل لحديث نعيم بن حماد الذي رواه في النزول بالذات .
وكلاهما باطل ، ولا يصح .
والفرقة الثالثة : أطلقت النزول كما ورد ، ولم تتعد ما ورد ، ونفت الكيفية عنه ، وعلموا أن نزول الله تعالى ليس كنزول المخلوق .
وهذا قول أئمة السلف : حماد بن زيد ، وأحمد ؛ فإن حماد بن زيد سئل عن النزول ، فقال : هو في مكانه ، يقرب من خلقه كيف شاء .
إلى أن قال :
وقال حنبل : قلت لأبي عبد الله : ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا ؟ قال :
نعم . قلت : نزوله بعلمه ، أو بماذا ؟ قال لي : اسكت عن هذا ، مالك ولهذا ؟ أمض الحديث على ما روي ، بلا كيف ولا حد ؛ إلا بما جاءت به الآثار وبما جاء به الكتاب ؛ قال الله عزوجل : ( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ ( [ النحل : 74 ] ، ينزل كيف شاء بعلمه وقدرته وعظمته ، أحاط بكل شيء علماً ، لا يبلغ قدره واصف ، ولا ينأى عنه هارب . انتهى .
إلى ان قال :
والزيادة على ما ورد في النزول من ذكر الحركة والانتقال وخلو العرش
وعدمه ؛ كله بدعة ، والخوض فيه غير محمود .
قال أبو داود الطيالسي : كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يجسدون ، ولا يشبهون ، ولا يمثلون الحديث ،(6/535)
"""""" صفحة رقم 536 """"""
لا يقولون : كيف ، وإذا سئلوا أجابوا بالأثر .
خرجه البيهقي .
[ 1 ]
1(6/536)