"""""" صفحة رقم 501 """"""
وقبول شهادة الاعمى على ما يتقينه من الاصوات مذهب مالك وأحمد ، وروي عن شريح وكثير من السلف .
ومنع منها أبو حنيفة والشافعي .
ومن قال بقولهما ، [ فرق ] بين الأذان والشهادة : بأن الأذان خبر ديني ، يعم حكمه المخبر وغيره ، فهو كراوية الاعمى للحديث الذي يسمعه وهو اعمى ، بخلاف الشهادة ، فانه حق لادمي معين فيحتاط لها .(3/501)
"""""" صفحة رقم 502 """"""
- باب الأذان بعد الفجر
فيه ثلاثة أحاديث :
الحديث الأول :
618 - ثنا عبد الله بن يوسف : أبنا مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، قال : أخبرتني حفصة ، أن رسول الله ( كان إذا اعتكف المؤذن للصبح ، وبدا الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة .
كذا في هذه الرواية : ( ( إذا اعتكف المؤذن للصبح ) ) ، ولعل المراد باعتكافه للصبح جلوسه للصبح ينتظر طلوع الفجر ، وحبسه نفسه لذلك .
ويدل على هذا المعنى : ماخرجه أبو داود من طريق ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، عن امرأة من بني النجار ، قالت : كان بيتي من أطول بيت حول المسجد ، فكان بلال يؤذن عليه الفجر ، فيأتي بسحر ، فيجلس على البيت ينظر إلى الفجر ، فإذا رآه تمطى ، ثم قال : اللهم ، إني أحمدك واستعينك على قريش ان يقيموا دينك ، ثم يؤذن . قالت : ما علمته كان تركها ليلة واحدة - [ تعني ] : هذه الكلمات .
والمعروف في حديث حفصة : أن النبي ( كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح وبدا الصبح ركع ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة .
كذا خرجه مسلم ، عن يحيى بن يحيى ، عن مالك . وكذا هو في ( ( الموطإ ) ) .(3/502)
"""""" صفحة رقم 503 """"""
وليس في هذا الحديث دلالة صريحة على أنه كان لا يؤذن إلا بعد طلوع الفجر ؛ فإنها قالت : ( ( كان إذا سكت المؤذن وبدا الفجر صلى ) ) ، فلم تذكر أنه [ كان ] يصلي إلا بعد فراغ الأذان بعد طلوع الفجر ، وهذا يشعر بأنه كان الأذان قبل الفجر ، وإلا لم تحتج إلى ذكر طلوع الفجر مع الأذان .
وقد خرج مسلم الحديث من رواية الليث بن سعد وأيوب وعبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، كما رواه مالك .
وخرجه النسائي من طرق أخرى ، عن نافع كذلك .
ورواه عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن حفصة ، أن النبي ( كان إذا أذن المؤذن للفجر صلى ركعتين ، وكان لا يؤذن إلا بعد الفجر .
ذكره أبو بكر الأثرم .
وقال : رواه الناس عن نافع ، لم يذكروا ما ذكره عبد الكريم .
وخرجه ابن عبد البر بإسناده ، ولفظ حديثه : كان رسول الله ( إذا سمع أذان الصبح صلى ركعتين ، ثم خرج إلى المسجد ، وحرم الطعام ، وكان لا يؤذن حتى يصبح .
قلت : لعل هذه الزيادة مدرجة فيه .
وقد رواها عبيد الله بن عمر ، عن نافع - من قوله .
خرجه ابن أبي شيبة .
ولو كان هذا محفوظاً حمل على أذان ابن أم مكتوم ، كما في حديث ابن عمر في الباب الماضي .(3/503)
"""""" صفحة رقم 504 """"""
الحديث الثاني :
619 - ثنا أبو نعيم : ثنا شيبان ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله ( يصلي ركعتين خفيفتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح .
وخرجه مسلم من طريق هشام ، عن يحيى - وهو : ابن أبي كثير - ، [ به ] .
وليس صريحاً في أن الأذان كان بعد طلوع الفجر ؛ فإنه إذا كان يؤذن قبل طلوع الفجر ، ثم يمهل حتى يطلع الفجر ، ثم يصلي ركعتين ، فقد صلى عليه أنه صلى بين النداء والإقامة .
وقد رواه جماعة عن يحيى بن أبي كثير بهذا اللفظ .
ورواه معاوية بن سلام ، عن يحيى ، ولفظه : كان رسول الله ( إذا سمع الصبح قام فركع ركعتين خفيفتين .
خرجه النسائي .
ورواه عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد المقبري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة : كان النبي ( إذا سمع النداء قام فصلى ركعتين حتى يأتيه ، فيخرج إلى الصلاة .
وأصرح من هذا : ما خرجه البخاري في آواخر ( ( كتاب الصلاة ) ) من طريق مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله ( يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة ، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين .
خرجه مسلم من طريق عبدة ، عن هشام ، ولفظه : كان رسول الله ((3/504)
"""""" صفحة رقم 505 """"""
يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان ويخففهما .
ورواه - أيضا - ابن نمير ومحمد بن جعفر بن الزبير ، عن هشام كذلك .
وليس صريحاً - أيضا - ؛ فقد وردت روايات أخر عن عائشة تدل على انه كان بعد النداء يؤخر الركعتين تارة حتى يتبين له الفجر ، وتارة حتى يتوضأ .
فخرج مسلم من طريق عمرو بن الحارث ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، أن النبي ( كان إذا سكت المؤذن من صلاة الفجر ، وتبين له الفجر ، وجاءه المؤذن أقام فركع ركعتين خفيفتين ، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة .
وخرجه - أيضا - من طريق يونس ، عن ابن شهاب ، غير أنه لم يذكر : ( ( وتبين له الفجر وجاءه المؤذن ) ) ، ولم يذكر : الإقامة .
وخرج - أيضا - من طريق أبي إسحاق ، عن الأسود ، عن عائشة ، أن النبي ( كان ينام أول الليل ويحيى آخره ، ثم إن كان له حاجة إلى أهله قضى حاجته ، ثم ينام ، فإذا كان عند النداء الأول وثب فإفاض عليه الماء ، وإن لم يكن جنبا توضأ وضوء الرجل للصلاة ، ثم صلى الركعتين .
وهذا هو الحديث الذي فيه ( ( أنه ينام ولا يمس ماء ) ) ، وقد استنكره الأئمة كما سبق ذكره في ( ( أبواب : غسل الجنابة ) ) ، غير أن مسلماً أسقط منه هذه اللفظة .
وقد خرجه البخاري مختصراً ، وعنده : ( ( وإلا توضأ ) ) .
وخرج الأثرم : روى الأوزاعي ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ،(3/505)
"""""" صفحة رقم 506 """"""
قالت : كان رسول الله ( إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين .
قلت : هذا خرجه أبو داود هكذا .
ثم قال الأثرم : رواه الناس عن الزهري ، فلم يذكروا فيه ما ذكر الأوزاعي ، وسمعت أبا عبد الله - يعني : أحمد - يضعف رواية الأوزاعي عن الزهري .
قلت : لم يتفرد الأوزاعي بهذا عن الزهري ، بل قد تابعه عليه يونس ، وتابعه عمرو بن الحارث ، وزاد في حديثه : ( ( وتبين له الفجر ) ) ، كما خرجه مسلم من حديثهما .
ورواية عمرو بن الحارث تدل على أنه كان يؤخر صلاة الركعتين عن الآذان حتى يتبين له الفجر ، ورواية يونس والأوزاعي إن كانت على ظاهرها فهي محمولة على أنه كان يصلي عقب أذان ابن أم مكتوم الثاني ، وكان لا يؤذن حتى يقال : أصبحت ، أصبحت .
ورواه عقيل وابن أبي ذئب - أيضا - ، عن الزهري ، كما رواه الأوزاعي .
ورواه ابن الهاد ، عن الزهري كذلك ، غير أنه زاد فيه : ( ( بعد ان يستنير الفجر ) ) .
ورواه عمر بن عثمان ، عن أبيه ، عن الزهري ، ولفظه : كان النبي ( إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر بعدما يتبين الفجر قام فصلى ركعتين من قبل صلاة الصبح .
ورواه شعيب ، عن الزهري ، ولفظه : كان النبي ( إذا سكت بالأولى من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر ، بعد أن يتبين الفجر .(3/506)
"""""" صفحة رقم 507 """"""
خرجه البخاري . وسيأتي قريباً - إن شاء الله .
ورواه المقدام بن شريح ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كان النبي ( إذا سمع التثويب صلى ركعتين ، ثم خرج .
الحديث الثالث :
620 - ثنا عبد الله بن يوسف : أبنا مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله ابن عمر ، أن رسول الله ( قال : ( ( إن بلالاً ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم ) ) .
كذا خرج في ( ( الموطإ ) ) هذا الحديث . وخرجه الإسماعيلي في ( ( صحيحه ) ) من طريق عن مالك .
وخرجه من طريق عبد الله بن يوسف ، وزاد فيه : وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى ، لا ينادي حتى يقال له : أصبحت ، أصبحت .
وزعم أن تخريج هذا الحديث في ( ( باب : أذان الأعمى ) ) كان أولى ؛ لأنه زعم أن هذه الزيادة فيه من قول ابن عمر ومالك مدرجة .
وهذا الذي قاله ليس بشيء ، وهذه الزيادة في حديث عبد الله بن دينار ما أراها محفوظة عن مالك بالكلية ، والظاهر ان بعض الرواة اشتبه عليه حديث عبد الله بن دينار بحديث سالم المتقدم . والله اعلم .
وقد رواه - أيضا شعبة ، عن عبد الله بن دينار ، بدون هذه الزيادة - أيضا .
وقد روي عن مالك بهذه الزيادة من وجه آخر : رواه حرملة ، عن ابن وهب والشافعي ، كلاهما عن مالك ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، أن(3/507)
"""""" صفحة رقم 508 """"""
رسول الله ( قال : ( ( إن بلالاً يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) ) ، وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى ، لا ينادي حتى يقال : أصبحت ، اصبحت .
خرجه الطبراني ، وذكر أنه تفرد به حرملة ، ولا يرويه عن مالك غير الشافعي وابن وهب ، وعنده : أن هذه الزيادة في آخره من رواية الشافعي وحده .
وذكر ابن أبي حاتم أن أباه حدثه عن حرملة ، عن ابن وهب وحده بهذه الزيادة ، وقال : قال أبي : هذا منكر بهذا الإسناد .
وبكل حال ؛ فتحمل صلاة النبي ( عقب الأذان على أذان ابن أم مكتوم الثاني ، إلا أن في حديث عائشة ما يدل على [ أنه ] الأذان الأول في عدة روايات ، فيحمل ذلك على أنه كان يصلي بين الأذانين إذا تبين له الفجر قبل أذان ابن أم مكتوم ، بدليل رواية من روى أنه كان يصلي إذا سكت المؤذن وتبين له الفجر .
وقد روى جعفر بن ربيعة ، عن عراك بن مالك ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، أن النبي ( كان يصلي ركعتين بني النداءين ، لم يكن يدعهما ابداً .
خرجه البخاري .
والمراد : بين النداء والإقامة .
وقد رواه يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، وذكر في حديثه : أنه كان يصلي ركعتين الفجر بين الأذان والإقامة ، كما سبق .(3/508)
"""""" صفحة رقم 509 """"""
فتعين حمل ذلك على الأذان الثاني ، ولا بد .
وقد روى بعضهم حديث عراك ، وزاد فيه بعد قوله : يصلي ركعتين بين النداءين : ( ( جالساً ) ) .
خرجه أبو داود .
ولفظه : ( ( جالساً ) ) غير محفوظة .
وإنما كان يصلي ركعتين جالساً بعد وتره ، كذلك رواه يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة .
ومما يدل على هذا - أيضا - : حديث ابن عمر المخرج في ( ( الصحيحين ) ) من طريق أنس بن سيرين ، عنه ، أن النبي ( كان يصلي الركعتين قبل صلاة الغداة كأن الأذان بأذنيه .
زاد البخاري : قال حماد بن زيد : أي : بسرعة .
وروي الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن أبن عباس ، قال : كان النبي ( يصلي [ ركعتي ] الفجر إذا سمع الأذان ويخففهما .
خرجه النسائي .
وقال : هذا حديث منكر .
قلت : نكارته من قبل إسناده ، وروايات الأعمش عن حبيب فيها منكرات ؛ فإن حبيب بن أبي ثابت إنما يروي هذا الحديث عن محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس ، عن أبيه ، عن جده .
[ وخرج أبو داود ] من حديث كريب ، عن الفضل بن عباس - ، أنه نام(3/509)
"""""" صفحة رقم 510 """"""
ليلة عند النبي ( لينظر كيف صلاته ، [ فذكر صلاته ] ووتره ، ثم قام فنادى المنادي عند ذلك ، فقام رسول الله ( بعد ما سكت المؤذن ، فصلى ركعتين خفيفتين ، ثم جلس حتى صلى الصبح .
فهذه الأحاديث المخرجة في هذا الباب كلها ليس فيها دلالة صريحة على ان النبي ( لم يكن يؤذن له إلا بعد طلوع الفجر ، وغاية ما يدل بعضها على أنه كان يؤذن له بعد طلوع الفجر ، وذلك لا ينفي أن يكون قد أذن قبل الفجر اذان أول .
والأحاديث التي فيها أن بلالاً كان لا يؤذن إلا بعد طلوع الفجر أسانيدها غير قوية ، ويمكن ان تحمل - على تقدير ثبوتها - على أنه كان يؤذن بعد طلوع الفجر الأول ، وقبل طلوع الفجر الثاني .
ويدل على ذلك : ما روى ابن وهب ، قال : حدثني سالم بن غيلان ، أن سليمان بن أبي عثمان التجيبي حدثه ، عن حاتم بن عدي الحمصي ، عن أبي ذر ، أنه صلى مع النبي ( ليلة - فذكر الحديث - قال : ثم أتاه بلال للصلاة ، فقال : ( ( أفعلت . ) ) فقال : نعم . قال : ( ( إنك يا بلال مؤذن إذا كان الصبح ساطعاً في السماء ، وليس ذلك الصبح ، إنما الصبح هكذا إذا كان معترضاً ) ) ، ثم دعا بسحوره فتسحر .
خرجه بقي بن مخلد في ( ( مسنده ) ) ويونس بن يعقوب القاضي في ( ( كتاب الصيام ) ) .
وخرجه الإمام أحمد - بمعناه من رواية رشدين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، عن سالم بن غيلان . ومن طريق ابن لهيعة ، عن سالم بن غيلان - أيضا .(3/510)
"""""" صفحة رقم 511 """"""
وقد اختلف في هذا الإسناد :
فقال البخاري في ( ( تاريخه ) ) : هو إسناد مجهول .
وقال الدارقطني - فيما نقله عنه البرقاني - في هؤلاء الثلاثة : سالم وسليمان وحاتم : مصريون متروكون ، وذكر أن رواية حاتم ، عن أبي ذر لا تثبت .
وخالفه في ذلك آخرون :
أماحاتم ، فقال العجلي : تابعي حمصي شامي ، ثقة .
وأماسليمان بن أبي عثمان التجيبي ، فقال أبو حاتم الرازي : هو مجهول .
وأماسالم بن غيلان ، فمشهور ، روى عنه جماعة من أهل مصر . وقال أحمد وأبو داود والنسائي : لا بأس به . وقال ابن خراش : صدوق ، وقال ابن حبان : ثقة .
فلم يبق من هؤلاء من لا يعرف حاله سوى سليمان بن أبي عثمان .
وقد عضد هذا الحديث : ما خرجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) من حديث سمرة ابن جندب ، عن النبي ( ، قال : ( ( لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا هذا البياض - لعمود الصبح - حتى يستطير ) ) .
وحديث ابن مسعود ، وقد خرجه البخاري في الباب الآتي .
وفي النهي عن الأذان قبل الفجر أحاديث أخر ، لا تصح :
فروى جعفر بن برقان ، عن شداد مولى عياض بن عامر ، عن بلال ، ان رسول الله ( قال : ( ( لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا ) ) ، ومد يديه عرضاً .(3/511)
"""""" صفحة رقم 512 """"""
خرجه أبو داود .
وقال : شداد لم يلق بلالاً .
قال أبو بكر الأثرم : هو إسناد مجهول منقطع .
يشير إلى جهالة شداد ، وأنه لم يلق بلالاً .
وقد خرجه أبو نعيم في ( ( كتاب الصلاة ) ) : ثنا جعفر بن برقان ، عن شداد مولى عياض ، قال : بلغني ان بلالاً أتى النبي ( - فذكره .
وروى [ أبو داود ، عن ] حماد بن سلمة ، عن ايوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن بلالاً أذن بليل ، فأمره النبي ( أن ينادي ، ألا إن العبد نام .
وقال : تفرد به حماد .
وذكر أن الدراوردي روى عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كان لعمر مؤذن ، يقال له : مسروح - فذكر نحوه .
وقال : هذا أصح من ذلك .
يعني : أنه موقوف على عمر ، وأن حماد بن سلمة وهم في رفعه .
وحكى الترمذي عن علي بن المديني ، أنه قال : هو غير محفوظ ، وأخطأ فيه حماد بن سلمة .
وكذا قال الترمذي : هو غير محفوظ .
وكذلك انكره الإمام أحمد على حماد .
وقال أبو حاتم الرازي : حديث حماد خطأ . والصحيح : عن نافع ، عن(3/512)
"""""" صفحة رقم 513 """"""
ابن عمر ، أن عمر أمر مسروحاً .
قال : ورواه ابن أبي محذورة ، عن عبد العزيز أبي رواد ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعاً - أيضا - ، وابن أبي محذورة شيخ .
وقال محمد [ بن ] يحيى الذهلي : هو حديث شاذ ، وهو خلاف ما رواه الناس عن ابن عمر .
يعين : أنهم رووا عنه حديث : ( ( إن بلالاً يؤذن بليل ) ) .
وقال الشافعي : رأينا أهل الحديث من أهل العراق لا يثبتون هذا الحديث ، ويزعمون أنها ضعيفة ، لا يقوم بمثلها حجة على الانفراد .
وقال الأثرم : هذا الحديث [ خطأ ] معروف من خطإ حماد بن سلمة .
وقال الدارقطني : أخطأ فيه حماد بن سلمة . وتابعه سعيد بن زربي - وكان ضعيفاً - ، روياه عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر . والمحفوظ : عن أيوب ، عن ابن سيرين أو حميد بن هلال ، أن النبي ( قال لبلال هذا . قال : ولا يقوم بالمرسل حجة .
قلت : روايات حماد بن سلمة عن أيوب غير قوية .
قال أحمد : أسند عن ايوب [ احاديث لا يسندها الناس عنه .
وقال مسلم : حماد يخطئ في حديث أيوب كثيراً .
وقد خولف في رواية هذا عن أيوب ، فرواه معمر ، عن أيوب ] - مرسلاً .
خرجه عبد الرزاق ، عنه .
وأماحديث عبد العزيز بن أبي رواد ، فقد روي عنه متصلاً كما تقدم من رواية ابن أبي محذورة عنه .(3/513)
"""""" صفحة رقم 514 """"""
وتابعه عامر بن مدرك .
قال الدارقطني : هو وهم ، والصواب : رواية شعيب بن حرب ، عن عبد العزيز ، عن نافع ، عن مؤذن لعمر ، يقال له : مسروح ، أن عمر أمره بذلك .
وذكر أبو داود ان حماد بن زيد رواه عن عبيد الله ، عن نافع أو غيره ، أن مؤذنا لعمر يقال له : مسروح - فذكره .
وذكر الترمذي ، ان ابن أبي رواد رواه ، عن نافع ، ان عمر أمر بذلك .
قال : هذا لا يصح ؛ لأنه منقطع .
وقال البيهقي في حديث ابن أبي رواد المتصل : إنه ضعيف لا يصح ، والصواب : رواية شعيب بن حرب .
وقال ابن عبد البر : الصحيح : أن عمر هو الذي أمر مؤذنه بذلك .
وقد روي من حديث قتادة ، عن أنس - نحو حديث حماد بن سلمة .
والصحيح : أنه عن قتادة مرسل - : قاله الدارقطني .
وروي من حديث الحسن ، عن أنس - أيضا - بإسناد لا يصح .
والنهي عن الأذان قبل طلوع الفجر قد روى عن عمر ، كما سبق ، وعن علي .
قال أبو نعيم : ثنا إسرائيل ، عن فضل بن عمير ، قال : كان لعلي مؤذن ، فجعل علي معه مؤذناً آخر ؛ لكيلا يؤذن حتى ينفجر الفجر .
وهذا منقطع .
وروى وكيع : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود ، عن عائشة ،(3/514)
"""""" صفحة رقم 515 """"""
قالت : ما كانوا يؤذنون حتى يصبحون .
وخرج الإمام أحمد من رواية يونس ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود ، قال : قلت لعائشة : متى توترين ؟ قالت : ما أوتر حتى يؤذن ، وما يؤذن حتى يطلع الفجر .
وعن شريك ، عن علي بن علي ، عن إبراهيم ، قال : سمع علقمة مؤذناً يؤذن بليل ، فقال : لقد خالف هذا سنة أصحاب محمد .
وإلى هذا القول ذهب الكوفيون ، منهم : أبو الأحوص صاحب ابن مسعود ، وقيس بن أبي حازم ، والشعبي ، والنخعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، والحسن بن صالح .
وروى ابن أبي شيبة من طريق حجاج ، عن طلحة ، عن سويد - هو : ابن علقمة - ، عن بلال ، انه كان لا يؤذن حتى ينشق الفجر .
وعن حجاج ، عن عطاء ، عن أبي محذورة ، انه أذن لرسول الله ( ولأبي بكر وعمر ، فكان لا يؤذن حتى يطلع الفجر .
حجاج ، هو : ابن أرطأة :
قال الاثرم : هذا ضعيف الإسناد .
وقال ابن أبي شيبة : ثنا ابن نمير ، عن عبيد الله ، قال : قلت لنافع : إنهم كانوا ينادون قبل الفجر ؟ قال : ما كان النداء الا مع الفجر .(3/515)
"""""" صفحة رقم 516 """"""
- باب الأذان قبل الفجر
فيه حديثان :
الاول :
قال :
621 - ثنا أحمد بن يونس : ثنا زهير : ثنا سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي ( ، قال : ( ( لا يمنعن [ أحدكم - أو ] أحدا منكم - أذان بلال من سحوره ، فإنه يؤذن بليل - أو ينادي بليل - ليرجع قائمكم ، ولينبه نائمكم ، وليس أن يقول الفجر أو الصبح ) ) - وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتى يقول هكذا . وقال زهير : بسبابته إحدهما فوق الاخرى ، ثم مدها عن يمينه وشماله .
قال علي بن المديني : إسناده جيد ، ولم نجده عن ابن مسعود إلا من هذا الطريق .
وقوله : ( ( ليرجع قائمكم ) ) .
قال الحافظ أبو موسى المديني : لفظ لازم ومتعد ، يقال : رجعته فرجع ، وكان المحفوظ ( ( قائمكم ) ) بالرفع ، ولو روي ( ( قائمكم ) ) بالنصب ؛ ليلائم ( ( نائمكم ) ) لم نخطئ روايه ، ويكون ( ( يرجع ) ) حينئذ متعديا كلفظ : ( ( يوقظ ) ) .
وفسر رجوع القائم : بأن المصلي يترك صلاته ، ويشرع في وتره ، ويختم به صلاته ، وهذا مما استدل به من يقول : ان وقت النهي عن الصلاة يدخل بطلوع الفجر كما سبق .(3/516)
"""""" صفحة رقم 517 """"""
فذكر لأذانه قبل الفجر فائدتين :
احدهما : اعلام القائم المصلي بقرب الفجر .
وهذا يدل على انه كان يؤذن قريبا من الفجر ، وقد ذكرنا في الباب الماضي ، انه كان يؤذن إذا طلع الفجر الاول .
والثانية : ان يستيقظ النائم ، فيتهيأ للصلاة بالطهارة ؛ ليدرك صلاة الفجر مع الجماعة في أول وقتها ؛ وليدرك الوتر ان لم يكن أوتر ، أو يدرك بعض التهجد قبل طلوع الفجر ، وربما تسحر المريد للصيام حينئذ ، كما قال : ( ( لا يمنعن احدا منكم أذان بلال عن سحوره ) ) .
وفي هذا تنبيه على استحباب إيقاظ النوام في آخر الليل بالاذان ونحوه من الذكر .
وخرج الترمذي من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي [ بن ] كعب ، عن أبيه ، ان النبي ( كان إذا ذهب ثلثا الليل قام ، فقال : ( ( يأيها الناس ، اذكروا الله ، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه ، جاء الموت بما فيه ) ) .
وقال : حديث حسن .
وفيه دلالة على ان الذكر والتسبيح جهرا في آخر الليل لا بأس به ؛ لايقاظ النوام .
وقد انكره طائفة من العلماء ، وقال : هو بدعة ، منهم : أبو الفرج ابن الجوزي . وفيما ذكرناه دليل على انه ليس ببدعة .
وقد روي عن عمر ، أنه قال : عجلوا الأذان بالفجر ؛ يدلج المدلج ، وتخرج العاهرة .(3/517)
"""""" صفحة رقم 518 """"""
ورواه الشافعي ، عن مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، عن قيس ، عن عمر .
فذكر فيه فائدتين :
احدهما : ان المسافر يدلج في ذلك الوقت ، وقد امر النبي ( المسافر بالدلجة . وقال : ( ( ان الأرض تطوى بالليل ) ) . والدلجة : سير آخر الليل .
والثاني : ان من كان معتكفا على فجور ، فإنه يقلع بسماع الأذان عما هو فيه .
وأماتفريق النبي ( بين الفجرين ، فإنه فرق بينهما بأن الأول مستطيل ، يأخذ في السماء طولاً ؛ ولهذا مد أصابعه ورفعها إلى فرق وطأطأها أسفل . والثاني مستطير ، يأخذ في السماء عرضاً ، فينتشر عن اليمين والشمال .
وهكذا في حديث سمرة ، عن النبي ( : ( ( لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل حتى يستطير هكذا ) ) - وحكاه حماد بن زيد بيده - يعني : معترضاً .
خرجه مسلم بمعناه .
وفي حديث طلق بن علي الحنفي ، عن النبي ( ، قال : ( ( كلوا واشربوا ، ولا يهيدنكم الساطع المصعد ، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم ) ) - يعني : الاحمر .
خرجه أبو داود والترمذي .
وقال : حديث حسن .(3/518)
"""""" صفحة رقم 519 """"""
وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : ( ( ليس الفجر المستطيل ، ولكنه المعترض الأحمر ) ) .
الحديث الثاني :
قال :
622 - حدثني إسحاق : ابنا أبو أسامة ، قال : عبيد الله ثنا ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة - وعن نافع ، عن ابن عمر - ، أن النبي ( .
623 - وحدثني يوسف بن عيسى : ثنا الفضل بن موسى : ثنا عبيد الله بن عمر ، عن القاسم ، عن عائشة ، عن النبي ( ، أنه قال : ( ( إن بلالاً يؤذن بليلٍ ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) ) .
وقد خرجه البخاري في ( ( الصيام ) ) عن عبيد بن إسماعيل ، عن أبي أسامة ، بالإسنادين - أيضا - ، وفي آخر الحديث : ( ( فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر ) ) . قال القاسم : ولم يكن بين أذانهما إلا ان يرقى ذا وينزل ذا .
وقد روي عن عائشة من وجهٍ آخر : من رواية الدراوردي : ثنا هشام ابن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله ( : ( ( إن ابن أم مكتوم رجل أعمى ، فإذا أذن المؤذن فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال ) ) . قالت عائشة : وكان بلال يبصر الفجر . قال هشام : وكانت عائشة تقول : غلط ابن عمر .
خرجه الحاكم والبيهقي .
قال البيهقي : حديث عبيد الله بن عمر ، عن القاسم ، عن عائشة أصح .(3/519)
"""""" صفحة رقم 520 """"""
وخرجه الإمام أحمد - أيضا - وابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحهما ) ) .
وفي رواية : وكان بلال لا يؤذن حتى يرى الفجر .
وقد روي نحو هذا اللفظ - أيضا - من رواية أبي إسحاق ، عن الأسود ، عن عائشة ، عن النبي ( .
خرجه ابن خزيمة .
وقال : فيه نظر ؛ فإني لا أقف على سماع أبي إسحاق لهذا الخبر من الأسود .
وقد حمل ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما هذا - على تقدير [ أن يكون محفوظاً - على أن الأذان كان نوباً بين بلال وابن أم مكتوم ، فكان يتقدم ] بلال تارةً ، ويتأخر ابن أم مكتوم ، وتارةً بالعكس .
والأظهر - والله أعلم - : أن هذا اللفظ ليس بمحفوظ ، وأنه مما انقلب على بعض رواته .
ونظير هذا : ما روى شعبة ، عن خبيب بن عبد الرحمن ، عن عمته أنيسة بنت خبيب ، عن النبي ( ، قال : ( ( إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) ) . ولم يكن بين أذانهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا .
كذا روى أبو داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق وغيرهما عن شعبة .
ورواه غيرهما ، عن شعبة بالعكس ، وقالوا : ( ( إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال ) ) .(3/520)
"""""" صفحة رقم 521 """"""
ورواه سليمان بن حرب وغيره عن شعبة بالشك في ذلك .
وقد روى الواقدي بإسناد له ، عن زيد بن ثابت ، أن النبي ( قال : ( ( إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال ) ) .
خرجه البيهقي .
والواقدي ، لا يعتمد [ عليه ] .
والصحيح من ذلك : ما رواه القاسم ، عن عائشة . وما رواه سالم ونافع وعبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، وما رواه أبو عثمان ، عن ابن مسعود ؛ فإن هذه الأحاديث كلها صحيحة ، وقد دلت على أن بلالاً كان يؤذن بليل .
ودل ذلك على جواز الأذان قبل طلوع الفجر ، وهو قول مالك ، والأوزاعي ، وابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي يوسف ، وأبي ثور ، وداود ، وأبي خيثمة ، وسليمان بن داود الهاشمس ، وأبي بكر بن أبي شيبة وغيرهم من فقهاء أهل الحديث .
وعليه عمل أهل الحرمين ، ينقلونه خلفاً عن سلف ، حتى قال مالك في ( ( الموطإ ) ) : لم يزل الصبح ينادى لها قبل الفجر .
وذكر الشافعي ، أنه فعل أهل الحرمين ، وأنه من الأمور الظاهرة عندهم ،(3/521)
"""""" صفحة رقم 522 """"""
ولم ينكره منكر .
وقال الإمام أحمد : أهل الحجاز يقولون : هو السنة - يعني : الأذان بليل .
وكذا قال إسحاق : هو سنة .
وكذا قال أحمد في رواية حنبل .
قال القاضي في ( ( جامعه الكبير ) ) والآمدي : وظاهر هذا ، أنه أفضل من الأذان بعد الفجر ، وهو قول الجوزجاني وغيره من فقهاء أهل الحديث ؛ لأنه أبلغ في إيقاظ النوام للتاهب لهذه الصلاة ، فيكون التقديم سنة ، كما : أن كان التثويب في هذا الأذان سنة - أيضا - ؛ لهذا المعنى .
وقالت طائفة : هو رخصة ، وهو قول ابن أبي شيبة ، وأومأ إليه أحمد في روايات أخر .
فالأفضل عند هؤلاء : الأذان بعد طلوع الفجر ، ويجوز تقديمه .
واختلف القائلون : بأن الفجر يؤذن لها بليلٍ في الوقت الذي يجوز الأذان فيه من الليل :
فالمشهور عند أصحاب الشافعي : أنه يجوز الأذان لها في نصف الليل الثاني ؛ لأنه يخرج به وقت صلاة العشاء المختار .
ومنهم من قال : ينبني على الاختلاف في آخر وقت العشاء المختار ، فإن قلنا : ثلث الليل اذن للفجر بعد الثلث .
ومنهم من قال : يؤذن للفجر في الشتاء لسبع ونصف بقي من الليل ، وفي الصيف لنصف سبع .
وروى الشافعي في القديم بإسناد ضعيف ، عن سعد القرظ ، قال : أذنا في زمن النبي ( بقباء ، وفي زمن عمر بالمدينة ، فكان أذاننا في الصبح في الشتاء(3/522)
"""""" صفحة رقم 523 """"""
لسبع ونصف بقي من الليل ، وفي الصيف [ لسبع ] يبقى منه .
ومن الشافعية من قال : يؤذن لها قبيل طلوع في السحر .
وصححه جماعة ، وهو ظاهر المنقول عن بلال وابن أم مكتوم .
وأماأصحابنا ، فقالوا : يؤذن بعد نصف الليل ، ولم يذكروا ذلك عن أحمد .
ولو قيل : إنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر الأول استدلالاً بحديث أبي ذر المتقدم لتوجه .
وقد مر بي أن أحمد أومأ إلى ذلك ، أو نص عليه ، ولم أتحققه إلى الآن .
وروى الشافعي بإسناده ، عن عروة بن الزبير ، قال : إن بعد النداء بالصبح لحزباً حسناً ، إن الرجل ليقرأ سورة البقرة .
وهذا - أيضا - يدل على قرب الأذان من طلوع الفجر .
وأماأصحاب مالك ، فحكى ابن عبد البر عن ابن وهب ، انه قال : لا يؤذن لها [ إلا في السحر . فقيل له : وما السحر ؟ قال : السدس الآخر . قال : وقال ابن حبيب : يؤذن لها ] من بعد خروج وقت العشاء ، وذلك نصف الليل .
ومع جواز الأذان لصلاة الصبح قبل طلوع الفجر ، فيستحب إعادة الأذان لها بعد الفجر مرة ثانية .
قال أحمد - في رواية حنبل - : الأذان الذي عليه أهل المدينة الأذان قبل طلوع الفجر ، هو الأذان الأول ، والأذان الثاني بعد طلوع الفجر .
وكره أحمد الأذان للفجر قبل طلوع الفجر في رمضان خاصة ؛ لما فيه منع الناس من السحور في وقت يباح فيه الأكل .(3/523)
"""""" صفحة رقم 524 """"""
وقد يستدل له بحديث شداد مولى عياض ، عن بلال المتقدم ذكره ، في نهي النبي ( بلالاً أن يؤذن حتى يطلع الفجر ؛ فإن في تمام الحديث : أنه أتى النبي ( وهو يتسحر .
ومن أصحابنا من حكى رواية أخرى : أنه لا يكره .
قال طائفة من أصحابنا : وكراهته إنما هو إذا اقتصر على هذا الأذان ؛ فإن أذن معه أذان ثان بعد طلوع الفجر لم يكره .
وعليه يدل حديث ابن عمر وعائشة في هذا الباب .
وقالت طائفة من أهل الحديث : لا يؤذن لصلاة الصبح قبل الفجر ، إلا أن يعاد الأذان بعد الفجر في جميع الأوقات ، وهو اختيار ابن خزيمة وغيره ، وإليه ميل ابن المنذر ، وحكاه القاضي أبو الحسن من أصحابنا رواية عن أحمد .
ويمكن أن تكون مأخوذة من رواية حنبل التي ذكرنا آنفاً .
واستدل هؤلاء بحديث عائشة وابن عمر وأنيسة ، وما في معناه من أنه كان في زمن النبي ( أذانان : احدهما بليلٍ ، والأخر بعد الفجر .
ويمكن الجمع بين هذه الأحاديث والأحاديث التي رواها العراقيون في امر النبي ( بلالاً بإعادة الأذان بعد الفجر ، بأن الأذان كان في أول الأمر بعد طلوع الفجر ، ثم لما أذن بلال بليل وأمره النبي ( بإعادة أذانه بعد الفجر رأى النبي ( في أذانه قبل الفجر مصلحة ، فأقره على ذلك [ واتخذ ] مؤذناً آخر يؤذن بعد الفجر ؛ ليجمع بين المصالح كلها : إيقاظ النوام ، وكف القوام ، والمبادرة بالسحور للصوام ، وبين الإعلام بالوقت بعد دخوله .
وهذا كما روي ، ان بلالاً هو الذي زاد في أذانه : ( ( الصلاة خير من النوم ) ) مرتين في آذان الفجر ، فأقرها النبي ( في الأذان لما رأى فيه من زيادة إيقاظ(3/524)
"""""" صفحة رقم 525 """"""
النائمين في هذا الوقت .
واستدل الأولون بما خرجه أبو داود من رواية عبد الرحمن بن زياد ، عن زياد بن نعيم الحضرمي ، عن زياد بن الحارث الصدائي ، قال : كنت مع النبي ( في سفر ، فلما كان أول أذان الصبح أمرني فأذنت ، فجعلت اقول أقيم [ يا ] رسول الله ؟ ، فجعل ينظر في ناحية المشرق إلى الفجر ، فيقول : ( ( لا ) ) ، حتى إذا طلع الفجر نزل فتبرز ثم انصرف إلي وقد تلاحق أصحابه - يعني : فتوضأ - ، فأراد بلال ان يقيم ، فقال له النبي ( : ( ( إن أخا صداء هو أذن ، ومن أذن فهو يقيم ) ) . قال : فأقمت - وذكر حديثاً فيه طول .
فهذا يدل على انه اذن قبل طلوع الفجر واجتزأ بذلك الأذان ، ولم يعده بعد طلوعه .
ولمن رجح قول من أوجب الإعادة بعد طلوع الفجر ، أنه يقول : هذا الحديث إسناده غير قوي .
وقد خرجه ابن ماجه والترمذي مختصراً .
قال الترمذي : إنما نعرفه من حديث الأفريقي ، والأفريقي هو ضعيف عند أهل الحديث .
وقال سعيد البرذعي : سئل أبو زرعة عن حديث الصدائي في الأذان .(3/525)
"""""" صفحة رقم 526 """"""
فقال : الأفريقي ، وحرك رأسه .
قلت : وقد اختلف عليه في لفظ الحديث :
فخرجه الإمام أحمد عن محمد بن يزيد الواسطي ، عن الإفريقي بهذا الإسناد ، ولفظه : قال رسول الله ( : ( ( أذن يا أخا صداء ) ) قال : فأذنت ، وذلك حين أضاء الفجر - وذكر الحديث مختصراً .
فهذه الرواية فيها التصريح بانه إنما أذن بعد إضاءة الفجر وطلوعه .
وقد رواه ابن لهيعة ، فخالف الأفريقي في إسناده ، فرواه عن بكر بن سوادة ، عن زياد بن نعيم ، عن حبان بن بح الصدائي صاحب النبي ( ، قال : أتبعت النبي ( - يعني : في مسير له - ليلة إلى الصباح ، فأذنت بالصلاة لما اصبحت ، وأعطاني إناء وتوضأت منه ، فجعل النبي ( أصابعه في الإناء ، فانفجر عيوناً ، فقال : ( ( من أراد منكم أن يتوضأ فليتوضأ ) ) - فذكر حديثاً ، ولم يذكر فيه : الإقامة .
وفي هذه الرواية إنما لما أصبح - أيضا .
وقصة الوضوء وتفجر الماء مذكورة - أيضا - في حديث الإفريقي .(3/526)
"""""" صفحة رقم 527 """"""
- باب كم بين الأذان والإقامة
فيه حديثان :
الأول :
قال :
624 - حدثنا إسحاق الواسطي : ثنا خالد ، عن الجريري ، عن [ ابن ] بريدة ، عن عبد الله بن مغفل المزني ، أن رسول الله ( قال : ( ( بين كل أذانين صلاة ) ) - ثلاثاً - ( ( لمن شاء ) ) .
( ( إسحاق ) ) هذا ، يروي عنه في غير موضع عن خالد ، وهو : ابن عبد الله الطحان ، ولا ينسب إسحاق . وقد قيل : إنه ابن شاهين الواسطي .
الثاني :
قال :
625 - ثنا محمد بن بشار : ثنا غندر : ثنا شعبة ، قال : سمعت عمرو بن عامر الأنصاري ، عن أنس بن مالك ، قال : كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب رسول الله ( يبتدرون السواري ، حتى يخرج النبي ( وهم كذلك ، يصلون الركعتين قبل المغرب ، ولم يكن بين الأذان [ والإقامة ] شيء .
قال عثمان بن جبلة وأبو داود ، عن شعبة : ولم يكن بينهما إلا قليل .
وحديث ابن مغفل يدل على أن بين كل أذان صلاة وإقامتها صلاة لمن شاء ، فدخل في ذلك المغرب وغيرها ، فدل على أن بين أذان المغرب وإقامتها ما يتسع(3/527)
"""""" صفحة رقم 528 """"""
لصلاة ركعتين .
وقد ذكرنا قدر الفصل بين أذان المغرب وإقامتها في ( ( باب : وقت المغرب ) ) .
وقد روى حيان بن عبيد [ الله العدوي هذا الحديث عن عبد الله ] بن بريدة ، عن أبيه ، أن النبي ( قال : ( ( [ إن ] عند كل أذانين ركعتين قبل الإقامة ، ما خلا أذان المغرب ) ) .
خرجه الطبراني والبزار والدارقطني .
وقال : حيان بن عبيد الله هذا ليس بقوي ، وخالفه حسين المعلم وسعيد الجريري وكهمس بن الحسن ، وكلهم ثقات .
يعني : انهم رووه عن ابن بريدة ، عن [ ابن ] مغفل ، بدون هذه الزيادة .
وقال الأثرم : ليس هذا بشيء ؛ قد رواه عن [ ابن ] بريدة ثلاثة ثقات على خلاف ما رواه هذا الشيخ الذي لا يعرف ، في الإسناد والكلام جميعاً .
وكذلك ذكر ابن خزيمة نحوه ، واستدل على خطئه في استثنائه صلاة المغرب بان ابن المبارك روى الحديث عن كهمس ، عن [ ابن ] بريدة ، عن ابن مغفل ، وزاد في آخره : فكان ابن بريدة يصلي قبل المغرب ركعتين .
وحديث أنس يدل على أن بين أذان المغرب وإقامتها ما يتسع لصلاة ركعتين .
فأماقوله في آخر الحديث : ( ( ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء ) ) ، فمراده - والله اعلم - لم يكن شيء كثير ؛ بدليل رواية عثمان بن جبلة وأبي داود(3/528)
"""""" صفحة رقم 529 """"""
الطيالسي التي ذكرها البخاري تعليقاً : ( ( ولم يكن بينهما إلا قليل ) ) .
وقد خرجه النسائي من رواية أبي عامر العقدي ، عن شعبة ، وفي حديثه : ( ( ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء ) ) - كرواية غندر .
وقد زعم بعضهم : أن قيام الصحابة للصلاة كان إذا ابتدأ المؤذن في الأذان ، ولم يكن بين الأذان والإقامة ، واستدل برواية من روى : ( ( ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء ) ) .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس ، قال : كنا بالمدينة ، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري ، فركعوا ركعتين ، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت ، من كثرة من يصليهما .
في ( ( مسند الإمام أحمد ) ) من حديث معلى بن جابر ، عن موسى بن أنس ، عن أبيه ، قال : كان إذا قام المؤذن فأذن لصلاة المغرب قام من يشاء ، فصلى حتى تقام الصلاة ، ومن شاء ركع ركعتين ، ثم قعد ، وذلك بعيني رسول الله ( .
ومعلى بن جابر ، مشهور ، روى عنه جماعة ، وذكره ابن حبان في ( ( ثقاته ) ) .
وهذا ظاهر في انهم كانوا يقومون إذا شرع المؤذن في الأذان ، وأن منهم من كان يزيد على ركعتين .
وفيه : رد على إسحاق بن راهوية ، قال : لا يزاد على ركعتين قبل(3/529)
"""""" صفحة رقم 530 """"""
المغرب ، وقد سبق ذكره .
وقد خرج الإسماعيلي في ( ( صحيحه ) ) من حديث عثمان بن عمر : ثنا شعبة ، عن عمرو بن عامر ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : كان المؤذن إذا أخذ في أذان المغرب قام لباب أصحاب رسول الله ( فابتدروا السواري ، فكان رسول الله ( يخرج إليهم وهم يصلون ، وكان بين الأذان والإقامة قريب .
وهذه الرواية صريحة في صلاتهم في حال الأذان ، واشتغالهم حين إجابة المؤذن بهذه الصلاة .
وقد كان الإمام أحمد يوم الجمعة إذا أخذ المؤذن في الأذان الأول للجمعة قام فصلى ركعتين - أو أربعاً - على قدر طول الأذان وقصره .
ويأتي الكلام على حكم الصلاة قبل المغرب في موضع آخر - إن شاء الله وإنما المقصود هنا : ذكر قدر الفصل بني الأذان والإقامة للمغرب وغيرها .
وقد سبق حكم الفصل بين أذان المغرب وإقامتها في ( ( باب : وقت المغرب ) ) .
وذكرنا أحاديث في أمر النبي ( بلالاً ان يفصل بين أذانه وإقامته في ( ( باب : الإبراد بالظهر ) ) .(3/530)
"""""" صفحة رقم 531 """"""
- باب من انتظر الإقامة
626 - حدثنا أبو اليمان : أبنا شعيب ، عن الزهري : أبنا عروة بن الزبير ، أن عائشة قالت : كان رسول الله ( إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر بعد أن يستبين الفجر ، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة .
قول عائشة : ( ( كان النبي ( إذا سكت المؤذن ) ) - أي : فرغ من أذانه .
قولها : ( ( بالأولى [ من ] صلاة الفجر ) ) - تعني : بالمرة الأولى .
وهذا يحتمل ان تكون ارادت به أنه كان يصلي الركعتين قبل فراغ المؤذن من أذانه قبل الإقامة ، فإن الأذان والإقامة يسميان أذانين ، كما في حديث عبد الله ابن مغفل المتقدم ، ويحتمل أن تكون أرادت أن الأذان نفسه كان يكرر مرتين ، فيؤذن بلال وبعده ابن أم مكتوم ، فكانت صلاة النبي ( بعد بلال قبل أذان ابن أم مكتوم ، إذا تبين الفجر للنبي ( صلى ركعتي الفجر ، ولم يتوقف على أذان ابن أم مكتوم ، فإن ابن أم مكتوم كان يسفر بأذان الفجر ، ولا يؤذن حتى يقال له : أصبحت .
فإن قيل : فكيف أذن النبي ( في الأكل في الصيام إلى أذان ابن أم مكتوم ، والأكل يحرم بمجرد طلوع الفجر ؟ وقد روي في حديث انيسة ، انهم كانوا يامرونه أن يؤخر الأذان حتى يكملوا السحور .
قيل : هذا مما أشكل فهمه على كثير من الناس ، وقد تأول بعضهم قولهم لابن أم مكتوم : " أصبحت ، أصبحت " على أن المراد قاربت الصباح [ بعد تبين(3/531)
"""""" صفحة رقم 532 """"""
طلوع الفجر لا تحرم في وقت طلوعه سواء ] .
والأحاديث والآثار المروية عن الصحابة في هذا المعنى كثيرة جداً .
وليس هذا قول الكوفيين الذين كانوا يستحبون الأكل والشرب إلى انتشار الضوء على وجه الأرض ؛ فإن ذلك قول شاذ منكر عند جمهور العلماء ، وستأتي المسألة في موضعها مبسوطة - إن شاء الله تعالى .
وسيأتي الكلام على الاضطجاع بعد صلاة ركعتي الفجر في موضع آخر - إن شاء الله تعالى .
وإنما المقصود هنا : قولها : ( ( حتى يأتيه المؤذن للإقامة ) ) ؛ فإن هذا يدل على أنه يجوز انتظار المصلي للإقامة ، وأن يؤخر دخول المسجد خارجاً منه حتى تقام الصلاة ، فيدخل حينئذ .
وهذا هو مقصود البخاري في هذا الباب ، وأراد بذلك مخالفة من كره انتظار الإقامة ، فإن طائفة من السلف كرهوه وغلظوا .
حتى روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أنه قال : هو هرب من دين محمد والإسلام .
وقد كرهه من المتاخرين من أصحابنا ، وقالوا : يكره للقادر على الدخول إلى المسجد قبل الإقامة ان يجلس خارج المسجد ينتظر الإقامة ، ذلك تفوت به فضيلة السبق إلى المسجد وانتظار الصلاة فيه ، ولحقوق الصف الأول .
وقد ندب النبي ( إلى التهجير إلى الصلاة ، وهو القصد إلى المساجد في الهجير ، أماقبل الأذان أو بعده ، كما ندب إلى التهجير إلى الجمعة : انتظار الصلاة بعد الصلاة ، وقال للذين انتظروه إلى قريب من شطر الليل لصلاة(3/532)
"""""" صفحة رقم 533 """"""
العشاء : ( ( إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها ) ) .
وقد كان كثير من السلف يأتي المسجد قبل الأذان ، منهم : سعيد بن المسيب ، وكان الإمام أحمد يفعله في صلاة الفجر .
وقال ابن عيينة : لا تكن مثل أجير السوء ، لا يأتي حتى يدعى .
يشير إلى انه يستحب إتيان المسجد قبل أن ينادي المؤذن .
وقال بعض السلف في قول الله تعالى : ( السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ( [ الواقعة : 10 ] : إنهم أول الناس خروجاً إلى المسجد وإلى الجهاد .
وفي قوله : ( سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ( [ الحديد : 21 ] قال مكحول : التكبيرة الأولى مع الإمام . وقال غيره : التكبيرة الأولى والصف الأول .
قال ابن عبد البر : لا أعلم خلافاً بيني العلماء أن من بكر وانتظر الصلاة ، وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر ، وإن صلى في الصف الأول .
وروى المعافى ، عن سفيان الثوري ، قال : مجيئك إلى الصلاة قبل الإقامة توقير للصلاة .
فمن كان فارغاً لا شغل له ، وجلس إلى الصلاة قبل الإقامة على باب المسجد ، أو قريباً منه ينتظر أن تقام الصلاة فيدخل المسجد ، وخصوصاً إن كان على غير طهارةٍ ، وإنما ينتظر في المسجد إذا دخل المسجد بعد الإقامة ، فهو مقصر راغب عن الفضائل المندوب إليها .
ولكن هذا كله في حق المأموم ، وقد تقدم من حديث أبي المثنى ، عن ابن عمر ، قال : كان أحدنا إذا سمع الإقامة توضأ وخرج من وقته .
وفيه دليل على أن الصحابة كانوا ينتظرون الإقامة في عهد النبي ( .
فأما الإمام ، فإنه إذا انتظر إتيان المؤذن له في بيته حتى يؤذنه بالصلاة(3/533)
"""""" صفحة رقم 534 """"""
ويخرج معه فيقيم الصلاة حينئذ بالمسجد فيصلي بالناس ، فهذا غير مكروه بالإجماع ، وهذه كانت عادة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وفي حديث ابن عباس : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى ركعتي الفجر ، واضطجع حتى يأتيه المؤذن بالإقامة ؛ فإن الإقامة إنما تكون بإذن الإمام ، أو عند خروجه إلى الناس ، بخلاف الأذان .
وفي " صحيح مسلم " عن جابر بن سمرة ، قال : كان بلال يؤذن إذا دحضت الشمس ، فلا يقيم حتى يخرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإذا خرج أقام الصلاة حين يراه .
وقال علي : المؤذن أملك بالأذان ، والإمام أملك بالإقامة .
خرجه البيهقي .
وقال : روي من حديث أبي هريرة - مرفوعا ، وليس بمحفوظ .(3/534)
"""""" صفحة رقم 535 """"""
- باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء
627 - حدثنا عبد الله بن يزيد : ثنا كهمس بن الحسن ، عن عبد الله بن بريدة ، عن عبد الله بن مغفل ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " بين كل أذانين صلاة ، بين كل أذانين صلاة ، ثم قال في الثالثة : " لمن شاء " .
لا اختلاف أن المراد بالأذانين في الحديث : " الأذان والإقامة ، وليس المراد الأذانيين المتواليين ، وإن كانا مشروعين كأذان الفجر إذا تكرر مرتين .
وقد توقف بعضهم في دخول الصلاة بين الأذان الأول والثاني يوم الجمعة في هذا الحديث ؛ لأنهما أذانان مشروعان ، وعلى ما قررناه : لا يدخل في الحديث ، وكما لا تدخل الصلاة بين الأذان الأول والثاني للفجر ، وإن كانت الصلاة يوم الجمعة بعد الزوال حسنة مندوبا إليها ؛ لأدلة أخرى ، تذكر في " الجمعة " - إن شاء الله .
وحديث ابن مغفل يدخل فيه : الصلاة بين الأذان والإقامة في جميع الصلوات الخمس ، فأما أذان الصبح فيشرع بعده ركعتا الفجر ، ولا يزاد عليهما عند جمهور العلماء .
حتى قال كثير منهم : إن من صلى ركعتي الفجر في بيته ، ثم دخل المسجد .
يعني أن الأظهر عنه أنه لا يصلي في أوقات النهي شيء من ذوات الأسباب ولا غيرها .(3/535)
"""""" صفحة رقم 536 """"""
وعنه رواية اخرى ، أنه يصلي ذوات الاسباب ، كقول الشافعي ، فيصلي الداخل حينئذ تحية المسجد ثم يجلس .
وقد تقدمت هذه المسألة في الكلام على احاديث النهي مستوفاة .
وأماالظهر ، فأنه يستحب التطوع قبلها بركعتين أو اربع ركعات ، وهي من الرواتب عند الاكثرين .
وقد روي في الصلاة عقب زوال الشمس أحاديث ، في أسانيد أكثرها مقال .
وبكل حال ؛ فما بين الاذانين للظهر هو وقت صلاة ، فمن شاء استقل ومن شاء استكثر .
وأمابين الاذانين لصلاة العصر ، فهذا الحديث يدل على انه يشرع بينهما صلاة ، وقد ورد في الاربع قبل العصر أحاديث متعددة ، وفي الركعتين - أيضا .
واختلفوا : هل يلتحق بالسنن الرواتب ؟ والجمهور على انها لا تلتحق بها .
وأمابين الاذانين قبل المغرب ، فهذا الحديث يدل على مشروعية الصلاة فيه .
وقد اختلف العلماء في ذلك :
فمنهم من كرهه ، وقال : لا يزول وقت النهي حتى يصلي المغرب ، وهو قول الكوفيين وغيرهم .
ومنهم من قال : باسحبابها ، وهو رواية عن أحمد ، وقول طائفة من السلف ؛ لهذا الحديث ؛ ولحديث أنس في الباب الماضي .
ومنهم من قال : هي مباحة ، غير مكروهة ولا مستحبة ، والامر بها إطلاق من محظور ، فلا يفيد أكثر من الاباحة ، وهو رواية عن أحمد ، وسيأتي القول فيها بأبسط من هذا في موضع آخر - إن شاء الله تعالى .(3/536)
"""""" صفحة رقم 537 """"""
وأما الصلاة بين الاذانين للعشاء ، فهي كالصلاة بين الاذانين للعصر ودونها ؛ فإنا لا نعلم قائلا يقول بأنها تلتحق بالسنن الرواتب .(3/537)
"""""" صفحة رقم 538 """"""
- باب من قال : ليؤذن في السفر مؤذن واحد
628 - ثنا معلى بن أسد : ثنا وهيب ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن مالك بن الحويرث ، قال : اتيت النبي ( في نفر من قومي ، فأقمنا عنده عشرين ليلة ، وكان رحيما رقيقا ، فلما رأى شوقنا إلى اهلنا ، قال : ( ( ارجعوا ، فكونوا فيهم ، وعلموهم ، وصلوا ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ، وليؤمكم أكبركم ) ) .
مراده : أن النبي ( أمر مالك بن الحويرث وأصحابه بالرجوع إلى اهلهم ، وأمرهم إذا حضرت الصلاة ان يؤذن احدهم ، كان دليلاً على ان المسافرين لا يشرع لهم تكرير الأذان وإعادته مرتين في الفجر ولا في غيره .
ويعضد هذا : أنه لم ينقل عن النبي ( أنه كان له في السفر مؤذنان ، يؤذن أحدهما بعد الاخر .
وحديث زياد بن الحارث الصدائي المتقدم يدل على ذلك .
ولكن اللفظ الذي ساقه البخاري في هذا الباب انما يدل على انه امرهم بذلك إذا رجعوا إلى اهليهم ، لا انه أمرهم به في سفرهم قبل وصولهم ، وقد نبه على ذلك الاسماعيلي ، وترجم عليه النسائي : ( ( اجتزاء المرء بأذان غيره في الحضر ) ) .
وقد خرجه البخاري في الباب الذي يلي هذا بلفظ صريح ، بأنه أمرهم بذلك في حال رجوعهم إلى أهلهم وسفرهم ، فكان تخريجه بذلك اللفظ في هذا الباب(3/538)
"""""" صفحة رقم 539 """"""
أولى من تخرجه بهذا اللفظ الذي يدل على انه لم يأمرهم بذلك في السفر .
فإن قيل : بل قوله : ( ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم احدكم ) ) عام في السفر والحضر ، ولا يمنع من عمومه تخصيص أول الكلام بالحضر .
قيل : إن سلم ذلك لم يكن فيه دليل على انه لا تستحب الزيادة على مؤذن واحد في السفر خاصة ، لان الكلام إذا كان شاملا للحضر والسفر فلا خلاف أنه في الحضر لا يكره اتخاذ مؤذنين ، فكيف خص كراهة ذلك بالسفر وقد شملها عموم واحد ؟
وفي حديث عمرو بن سلمة الجرمي ، عن أبيه ، أنه لما قدم على النبي ( قال لهم : ( ( إذا حضرت صلاة فليؤذن لكم احدكم ) ) - وذكر الحديث .
وقد خرجه البخاري في موضع آخر .
وامره هذا لا يختص بحال سفرهم ، بل يشمل سفرهم وإقامتهم في حيهم .(3/539)
"""""" صفحة رقم 540 """"""
- باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والاقامة وكذلك بعرفة وجمع وقول المؤذن : ( ( الصلاة في الرحال ) ) ، في الليلة الباردة أو المطيرة الاذان
بعرفة وجمع ، لم [ يخرج ] فيه هاهنا شيئا ، إنما خرج أحاديث في ( ( ابواب : الجمع بين الصلاتين ) ) ، وفي ( ( كتاب الحج ) ) ، والكلام فيه يأتي في موضوعه - إن شاء الله تعالى .
واشار اليه هاهنا اشارة ؛ لان فيه ذكر الأذان في السفر ، وإنما خرج هاهنا أربعة أحاديث مما يدخل في بقية ترجمة الباب .
الحديث الاول :
629 - ثنا مسلم بن إبراهيم : ثنا شعبة ، عن المهاجر أبي الحسن ، عن زيد ين وهب ، عن أبي ذر ، قال : كنا مع رسول الله ( في سفر ، فأراد المؤذن أن يؤذن ، فقال له : ( ( أبرد ) ) . ثم اراد أن يؤذن ، فقال له : ( ( ابرد ) ) . ثم اراد ان يؤذن ، فقال له : ( ( ابرد ) ) ، حتى ساوى الظل التلول ، فقال النبي : ( ( إن شدة الحر من فيح جهنم ) ) .
هذا الحديث قد خرجه البخاري فيما سبق في ( ( ابواب : وقت صلاة الظهر ) ) .
ومقصوده منه هاهنا : ان النبي ( كان يؤذن له في السفر .
وقد تقدم الكلام على الابراد ، وهل كان بالاذان أو بالاقامة .
وقوله في هذه الرواية : ( ( حتى ساوى الظل التلول ) ) ظاهره انه اخر صلاة الظهر يومئذ إلى ان صار ظل كل شيء مثله ، وهو آخر وقتها .
وهذا يحتمل أمرين :(3/540)
"""""" صفحة رقم 541 """"""
أحدهما : أنه صلاها في آخر وقتها قبل دخول وقت العصر .
والثاني : أنه أخرها إلى دخول وقت العصر وجمع بينهما في وقت العصر .
فإن كان قد اخرها إلى وقت العصر استدل بالحديث حينئذ على أن تاخير الصلاة الاولى من المجموعتين إلى وقت الثانية للجمع في السفر لا يحتاج إلى نية الجمع ؛ لانهم كانوا يؤذنونه بالصلاة في وقتها ، وهو يأمر بالتأخبر ، وهم لا يعلمون أنه يريد جمعها مع الثانية في وقتها ، ولا اعلمهم بذلك .
ولكن الاظهر هو الاول ، ولا يلزم من مصير ظل التلول مثلها أن يكون قد خرج وقت الظهر ؛ فإن وقت الظهر إنما يخرج إذا صار ظل الشيء مثله بعد الزوال .
وقد خرجه البخاري فيما تقدم من وجهين عن شعبة ، وفيهما : ( ( حتى رأينا فيء التلول ) ) .
ويدل على هذا : انه إنما أمره بالابراد ، لا بالجمع .
الحديث الثاني :
630 - ثنا محمد بن يوسف : ثنا سفيان ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن مالك بن الحوبرث ، قال : اتى رجلان إلى النبي ( يريدان السفر ، فقال النبي ( : ( ( إذا انتما خرجتما فأذنان ثم أقيما ، ثم ليؤمكما اكبركما ) ) .
في هذه الرواية : التصريح بأنه أمرهما بذلك من حين خروجهما من المدينة مسافرين .
وخرجه النسائي ، ولفظه : قال : ( ( إذا سافرتما ، فأذنا واقيما ) ) .
ولكنه أمرهما معا بالاذان والاقامة ، فهذا أماان يحمل على أذانهما مجتمعين أو منفردين .(3/541)
"""""" صفحة رقم 542 """"""
وبكل حال ؛ فيدل على انه يستحب في السفر الزيادة على مؤذن واحد . فهذه رواية خالد الحذاء عن أبي قلابة تخالف رواية ايوب عن أبي قلابة في ألفاظ عديدة من هذا الحديث .
قال الامام أحمد : لا اعلم أحدا جاء به إلا خالد - يعني : في الأذان والاقامة في السفر - ، وقال : هذا شديد على الناس : انتهى .
وقد روي بلفظ آخر عن خالد الحذاء ، وهو : ( ( إذا حضرت الصلاة ) ) - من غير ذكر سفر ولا حضر .
وقد حرجه البخاري في موضع آخر .
الحديث الثالث :
قال :
632 - [ ثنا ] مسدد : ثنا يحيى ، عن عبيد الله بن عمر ، قال : حدثني نافع ، قال : أذن ابن عمر في ليلة باردة بضجنان ، ثم قال : صلوا في رحالكم ، وأخبرنا أن رسول الله ( كان يأمر مؤذنا يؤذن ، ثم يقول على اثره : ( ( الا صلوا في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر ) ) .
( ( ضجنان ) ) : بالضاد المعجمة والجيم ، كذا محركتان ، كذا قيده صاحب ( ( معجم البلدان ) ) ، وقال : هو جبل بتهامة ، وقيل : هو على بريد من مكة وقيل : بينه و بين مكة خمسة وعشرون ميلاً .(3/542)
"""""" صفحة رقم 543 """"""
والمتداول بين أهل الحديث : انه بسكون الجيم .
وقد روى هذا الحديث ، عن نافع : مالك - وقد خرج البخاري حديثه في موضع - ويحيى الانصاري ، وايوب السجستاني .
وفي رواية ابن علية ، عنه : أن الذي نادى بضجنان هو منادي النبي ( .
والظاهر : انه وهم .
ورواه ابن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : نادى منادي النبي ( بذاك بالمدينة في الليلة المطيرة ، والغداة القرة .
خرجه أبو داود .
فخالف الناس في ( ( ذكر المدينة ) ) ، وفي انه انما كان يأمر المنادي ان يقوله بعد تمام اذانه .
وقد روي معنى حديث ابن عمر من حديث أبي المليح بن اسامة ، عن أبيه ، عن النبي ( .
خرجه الامام أحمد وابو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحهما ) ) والحاكم وصححه .
وفي حديث ابن عمر : دليل على ان الأذان في السفر مشروع في غير صلاة الفجر ليلا [ كان ينادي بذلك ليلاً ] .(3/543)
"""""" صفحة رقم 544 """"""
الحديث الرابع :
قال :
633 - ثنا إسحاق : ابنا جعفر بن عون : ثنا أبو العميس ، عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله ( بالابطح ، فجاءه بلال فاذنه بالصلاة ، ثم خرج بلال بالعنزة حتى ركزها بين يدي رسول الله ( بالابطح ، واقام الصلاة .
في هذه الرواية : التصريح بالاقامة دون الأذان ، وكان ذلك بالابطح في حجة الوداع .
وقد خرج البخاري فيه ذكر الأذان في الباب الاتي ، ولكن اختصره ، وسنذكره بتمامه فيه - إن شاء الله تعالى .
وفي هذا الحديث : أن بلالا آذن النبي ( بالصلاة ، وخرج بين يديه بالعنزة ، وأقام الصلاة ، وهذا موافق لحديث عائشة المتقدم الذي خرجه البخاري في ( ( باب : انتظار الاقامة ) ) .
وقد دلت هذه الاحاديث على مشروعية الأذان في السفر لجميع الصلوات ، فإن منها ما فيه الأذان في السفر ليلاً كحديث ابن عمر ، ومنها ما فيه الأذان في السفر نهاراً كحديث أبي جحيفة ، فإن فيه الأذان للظهر والعصر بالابطح ، وحديث أبي ذر ، فإن فيه الأذان للظهر ، وحديث مالك بن الحويرث يعم سائر الصلوات ، وأحاديث الأذان بعرفة تدل على الأذان للجمع بين الظهر والعصر ، واحاديث الأذان بالمزدلفة تدل على الأذان للجمع بين المغرب والعشاء ، وقد اختلفت الروايات في ذلك ، وتذكر في موضعها - إن شاء الله .
وقد تقدم حديث الأذان للصلاة في السفر بعد فوات وقتها . وفي حديث أبي محذورة ، انهم سمعوا الأذان مع النبي ( ، وقد قفل من حنين راجعاً(3/544)
"""""" صفحة رقم 545 """"""
وقد اختلف العلماء في الأذان في السفر :
فذهب كثير منهم إلى انه مشروع للصلوات كلها .
قال ابن سيرين : كانوا يؤمرون ان يؤذنوا ويقيموا ويؤمهم أقرؤهم .
خرجه الاثرم .
وهو قول أبي حنيفة والشافعي .
ونقل ابن منصور ، عن أحمد وإسحاق ، انه يؤذن ويقام في السفر لكل صلاة ، واحتجا بحديث مالك بن الحويرث .
ولكن اكثر أصحابنا على ان الأذان والاقامة سنة في السفر ، ليس بفرض كفاية ، بل سنة بخلاف الحضر .
ومن متأخريهم من سوى في الوجوب بين السفر والحضر ، والواحد والجماعة ، وهو قول داود .
وقال ابن المنذر : هو فرض في حق الجماعة في الحضر والسفر .
وظاهر تبويب البخاري يدل على انه يرى الأذان انما يشرع في السفر للجماعة ، دون المنفرد .
قال مجاهد : إن نسي الاقامة في السفر أعاد .
وهذا يدل على انه رآها شرطاً في حق المسافر وغيره .
وقالت طائفة : لا يؤذن الا للفجر خاصة ، بل يقيم لكل صلاة .
روي هذا عن ابن عمر .
وروي عنه مرفوعاً .
خرجه الحاكم .
وفي إسناده ضعف واضطراب .(3/545)
"""""" صفحة رقم 546 """"""
قال البيهقي : رفعه وهم فاحش ، ولا يصح رفعه .
وروي عن ابن سيرين مثل قول ابن عمر .
ونقله حرب ، عن إسحاق .
ونقل الميموني ، عن أحمد ، قال في المسافر في الفجر خاصة يؤذن ويقيم ، وفي غير الفجر يقيم - إن شاء الله .
ونقل ابن منصور ، عن إسحاق : لا بد للمسافر أن يقيم بخلاف الحاضر ؛ لآن الحاضر يكتفي بأذان غيره وإقامته .
وأختلفت الرواية عن مالك :
فنقل عنه ابن القاسم : الأذان إنما هو في المصر للجماعة في المساجد .
وروى أشهب ، عن مالك : ان ترك المسافر الأذان عمداً فعليه إعادة الصلاة .
ذكره ابن جرير ، عن يونس بن عبد الاعلى ، عنه .
وقال الحسن والقاسم بن محمد : تجزئه إقامة في السفر .
وقالت طائفة : هو بالخيار ، إن شاء أذن ، وإن شاء أقام في السفر .
روى عن علي وعروة بن الزبير ، وبه قال سفيان .
وكان ابن عمر يقول : إنما الأذان للامام الذي يجتمع اليه الناس .
رواه مالك عن نافع ، عن ابن عمر ، انه كان لا يزيد على الاقامة في السفر في الصلاة الا في الصبح ؛ فإنه كان يؤذن فيها ويقيم ، ويقول : إنما الأذان للامام الذي يجتمع اليه الناس .
وقال أبو الزبير ، سألت ابن عمر : اؤذن في السفر ؟ قال : لمن يؤذن للفأر ؟(3/546)
"""""" صفحة رقم 547 """"""
وأما الذين رأوا الأذان في السفر ، فقالوا : الأذان للإعلام بالوقت ، وهذا مشروع في الحضر والسفر .
وأماإن كان المصلي منفرداً وحده في قرية ، فقد ورد في فضل أذانه وإقامته غير حديث :
روى سليمان التميمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان ، قال : لا يكون رجل بأرض [ قي ] ، فتوضأ إن وجد ماء وإلا تيمم ، فينادي بالصلاة ثم يقيمها إلا أم من جنود الله ما لا يرى طرفاه - أو قال : طرفه .
ورواه القاسم بن غصن - وفيه ضعف - ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي عثمان ، عن سلمان - مرفوعاً .
ولا يصح ، والصحيح موقوف - : قاله البيهقي .
وروى مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أنه كان يقول : من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك ، وعن شماله ملك ، فإن أذن وأقام صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال .
وقد روي عن النبي ( ما يدل على استحباب الأذان للمنفرد في السفر :
فخرج مسلم من رواية حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : كان النبي ( يغير إذا طلع الفجر ، وكان يستمع الأذان ، فإن سمع أذاناً أمسك ، وإلا أغار ، فسمع رجلاً يقول : الله أكبر الله أكبر ، فقال رسول الله ((3/547)
"""""" صفحة رقم 548 """"""
" على الفطرة " ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " خرجت من النار " ، فنظروا فإذا هو راعي معزى .
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن مسعود ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - بمعناه ، وفيه : فابتدرناه ، فإذا هو صاحب ماشية ، فأدركته الصلاة ، فنادى بها .
وخرج - أيضا - بمعناه من حديث معاذ ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عقبة بن عامر ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : " يعجب ربك من راعي غنم ، في شظية بجبل يؤذن للصلاة ويصلي ، فيقول عز وجل : انظروا إلى عبدي هذا ، يؤذن ويقيم ويصلي ، يخاف مني ، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة " .
واستدل النسائي للإقامة في حق المنفرد بحديث خرجه من رواية رفاعة بن رافع ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال للمسي في صلاته : " إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد ، ثم كبر " - وذكر له صفة بقية الصلاة ، وقال في آخر ذلك : " فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك ، وإن أنقصت منه شيئا انتقص من صلاتك ، ولم تذهب كلها " .
وإن صلى وحده في مصر ، فإن شاء أذن وأقام ، وإن شاء أجزأه أذان أهل المصر ، واكتفى بالإقامة - : نص عليه أحمد .
وممن قال : يكفيه الإقامة : سعيد ، وميمون بن مهران ، والزهري ، ومالك ، والأوزاعي .
وقد تقدم عن إسحاق : أن الحاضر إن شاء صلى بغير أذان ولا إقامة ،(3/548)
"""""" صفحة رقم 549 """"""
والمسافر لا بد له أن يقيم .
وأما الشافعي ، فنص على أن المنفرد يؤذن ويقيم .
وخرج له أصحابه قولا آخر : أنه لا يؤذن ويكتفي بالإقامة .
ومن أصحابه من قال : إن بلغه أذان غيره لم يؤذن ، [ وإلا أذن ] .
وحكى ابن المنذر ، عن الكوفيين ، أن له أن يصلي في المصر وحده بغير أذان ولا إقامة ، منهم : الشعبي والأسود وأبو مجلز والنخعي .
وحكى مثله عن مجاهد وعكرمة .
وعن أبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور : يجزئه أذان أهل المصر .
وعن ابن سيرين والنخعي : تجزئة الإقامة ، إلا في الفجر ؛ فإنه يؤذن ويقيم .
وحكى ابن عبد البر ، عن أبي حنيفة وأصحابه : أن المسافر يكره له أن يصلي بغير أذان وإقامة ، وأما الحاضر إذا صلى وحده فيستحب أن يؤذن ويقيم ، وإن اكتفى بأذان أهل المصر وإقامتهم أجزأه .
قلت : وقال سفيان : إن سمع إقامة أهل المصر فاكتفى بها أجزأه ، فلم يكتف بالإقامة حتى يسمعها .
وروي عن علقمة ، قال : صلى ابن مسعود بي وبالأسود بغير أذان ولا إقامة ، وربما قال : يجزئنا أذان الحي وأقامتهم .
خرجه البيهقي .
وخرج - أيضا - بإسناد ضعيف جدا ، عن ابن عمر ، أنه كان يقول : من(3/549)
"""""" صفحة رقم 550 """"""
: صلى في مسجد قد أقيمت فيه الصلاة أجزأته إقامتهم .
ثم قال : وبه قال الحسن والشعبي والنخعي .
قال : وقال الشافعي : لم أعلم مخالفاً أنه إذا جاء المسجد وقد خرج الإمام من الصلاة كان له أن يصلي بلا أذان ولا إقامة .
قال البيهقي : وكان عطاء يقول : يقيم لنفسه .
ثم روى بإسناد صحيح ، عن أبي عثمان ، قال : جاءنا أنس بن مالك وقد صلينا الفجر ، فأذن وأقام ، ثم صلى الفجر لأصحابه .
قال ورويناه عن سلمة بن الأكوع في الأذان والإقامة ، ثم عن ابن المسيب والزهري .
وروى من طريق الشافعي : حدثنا إبراهيم بن محمد : أخبرني عمارة بن غزية ، عن خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، قال : سمع النبي ( رجلاً يؤذن للمغرب ، فقال النبي ( مثل ما قال ، فأنتهى النبي ( ، وقد قال : قد قامت الصلاة ، فقال النبي ( : ( ( انزلوا فصلوا المغرب بإقامة هذا العبد الأسود ) ) .
وهذا ضعيف ، إبراهيم ، هو : ابن أبي يحيى ، تركوا حديثه .
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) عن دلهم بن صالح ، عن عون بن عبد الله ، أن رسول الله ( كان في سفر ، فسمع إقامة مؤذن ، فصلى بأصحابه بإقامته .
وهو مرسل - أيضا .
وقال أكثر أصحابنا : من صلى في مسجد قد صلي فيه بغير أذان ولا إقامة فلا بأس .
ومن متأخريهم من قال : لا يسقط وجوب الأذان إلا عمن صلى مع(3/550)
"""""" صفحة رقم 551 """"""
المؤذن ، ولا يسقط عمن لم يصل معه وإن سمعه ، سواء كان واحداً أو جماعة في المسجد الذي صلي فيه بأذان أو غيره .
وهذا شذوذ لا يعول عليه .
وهو خلاف نص أحمد : أن المصلي وحده في مصر يجزئه اذان المصر .
ونص الإمام أحمد في رواية جعفر بن محمد على أنه لا يترك الأذان في المسجد .
وظاهره : يدل على أن الأذان واجب في مساجد الجماعات .
وقال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر : الواجب في المصر أذان واحد ، وما زاد عليه في المساجد فهو سنة .
ولم يفرق بين أن يكون أهل المصر يبلغهم ذلك الأذان ، أو لا .
وقال المتأخرون من أصحابنا : الواجب من الأذان في المصر ما حصل به الإعلام في أقطاره ونواحيه غالباً ، فلا يجرئ فيه أذان واحد إذا كان لا يبلغ اقطاره .
وأماما بوب عليه البخاري من قول المؤذن في الأذان في الليلة المطيرة أو الباردة : ( ( الصلاة في الرحال ) ) ، فحديث ابن عمر يدل على أنه يقول بعد فراغ أذانه .
وقد تقدم في ( ( باب : الكلام في الأذان ) ) : حديث ابن عباس في قولها في الحضر في أثناء الأذان قبل فراغه ، وسبق الكلام عليه .(3/551)
"""""" صفحة رقم 552 """"""
- باب هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا ؟ وهل يلتفت في الأذان ؟
ويذكر عن بلال ، أنه جعل إصبعيه في أذنيه .
وكان ابن عمر لا يجعل إصبعيه في أذنيه .
وقال إبراهيم : لا بأس أن يؤذن على غير وضوء .
وقال عطاء : الوضوء حق وسنة .
وقالت عائشة : كان رسول الله ( يذكر الله على كل أحيانه .
634 - ثنا محمد بن يوسف : ثنا سفيان ، عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه ، أنه رأى بلالاً يؤذن ، فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا بالأذان .
هكذا خرجه البخاري هاهنا عن الفريأبي ، عن سفيان الثوري - مختصراً .
ورواه وكيع عن سفيان بأتم من هذا السياق .
خرجه مسلم من طريقه ، ولفظ حديثه : قال : أتيت النبي ( بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم ، قال : فخرج بلال بوضوئه ، فمن نائل وناضح . قال : فخرج رسول الله ( في حلة حمراء ، كأني انظر إلى بياض ساقيه . قال : فتوضأ ، وأذن بلال ، فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا - يقول : يميناً وشمالاً - ، يقول : حي على الصلاة ، حي على الفلاح . قال : ثم ركزت له عنزة ، فتقدم فصلى الظهر ركعتين ، يمر بين يديه الحمار والكلب ، لا يمنع ، ثم صلى العصر ركعتين ، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة .
ورواه عبد الرزاق ، عن سفيان ، ولفظ حديثه : عن أبي جحيفة ، قال :(3/552)
"""""" صفحة رقم 553 """"""
رأيت بلالاً يؤذن ويدور ويتتبع فاه هاهنا وهاهنا ، وإصبعاه في اذنيه ، ورسول الله ( في قبة له حمراء - وذكر بقية الحديث .
خرجه الإمام أحمد عن عبد الرزاق .
وخرجه من طريقه الترمذي ، وقال : حسن صحيح .
وخرجه البيهقي ، وصححه - أيضا .
وهذا هو الذي علقه البخاري هاهنا بقوله : ( ( ويذكر عن بلال ، أنه جعل إصبعيه في أذنيه ) ) .
وقال البيهقي : لفظة الاستدارة في حديث سفيان مدرجة ، وسفيان إنما روى هذه اللفظة ، في ( ( الجامع ) ) - رواية العدني ، عنه - عن رجل لم يسمه ، عن عون .
قال : وروي عن حماد بن سلمة ، عن عون بن أبي جحيفة - مرسلاً ، لم يقل : ( ( عن أبيه ) ) . والله أعلم .
قلت : وكذا روى وكيع في ( ( كتابه ) ) ، عن سفيان ، عن عون ، عن أبيه ، قال : أتينا النبي ( ، فقام بلال فأذن ، فجعل يقول في أذانه ، يحرف رأسه يميناً وشمالاً .
وروى وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن أبي جحيفة ، أن بلالاً كان يجعل إصبعيه في أذنية .
فرواية وكيع ، عن سفيان تعلل بها رواية عبد الرزاق عنه .
ولهذا لم يخرجها البخاري مسندة ، ولم يخرجها مسلم - أيضا - ، وعلقها(3/553)
"""""" صفحة رقم 554 """"""
البخاري بصيغة التمريض ، وهذا من دقة نظره ومبالغته في البحث عن العلل والتنقيب عنها - رضي الله عنه .
وقد خرج الحاكم من حديث إبراهيم بن بشار الرمادي ، عن ابن عيينة ، عن الثوري ومالك بن مغول ، عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله ( نزل بالأبطح - فذكر الحديث بنحو رواية عبد الرزاق ، وذكر فيه الاستداره ، وإدخال الإصبعين في الأذنين .
وقال : هو صحيح على شرطهما جميعاً .
وليس كما قال ؛ وإبراهيم بن بشار لا يقبل ما تفرد به عن ابن عيينة ، وقد ذمه الإمام أحمد ذماً شديداً ، وضعفه النسائي وغيره .
وخرج أبو داود من رواية قيس بن ربيع ، عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه ، قال : رأيت بلالاً خرج إلى الأبطح فإذن ، فلما بلغ ( ( حي على الصلاة ، حي على الفلاح ) ) لوى عنقه يميناً وشمالاً ، ولم يستدر .
وخرج ابن ماجه من رواية حجاج بن ارطاة ، عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه قال : أتيت رسول الله ( بالأبطح ، وهو في قبة حمراء ، فخرج بلال فأذن ، فاستدار في أذانه ، فجعل إصبعيه في أذنيه .
وحجاج مدلس .
قال ابن خزيمة : لا ندري هل سمعه من عون ، أم لا ؟
وقال البيهقي : يحتمل ان يكون أراد الحجاج باستدارته التفاته يمينا(3/554)
"""""" صفحة رقم 555 """"""
وشمالاً ، فيكون موافقاً لسائر الرواة . قال : وحجاج ليس بحجة .
وخرجه من طريق آخر عن حجاج ، ولفظ حديثه : رأيت بلالاً يؤذن ، وقد جعل إصبعيه في أذنيه ، وهو يلتوي في أذانه يميناً وشمالاً .
وقد رويت هذه الاستدارة من وجه آخر : من رواية محمد بن خليد الحنفي - وهو ضعيف جداً - ، عن عبد الواحد بن زياد ، عنه ، عن مسعر ، عن علي بن الأقمر ، عن عون ، عن أبيه .
ولا يصح - أيضا .
وخرج ابن ماجه من حديث اولاد سعد القرظ ، عن آبائهم ، عن سعد ، أن رسول الله ( أمر بلالاً ان يجعل إصبعيه في أذنيه ، وقال : ( ( أنه أرفع لصوتك ) ) .
وهو إسناد ضعيف ؛ ضعفه ابن معين وغيره .
وروي من وجوه أخر مرسلة .
وقد ذكر البخاري في هذا الباب ثلاث مسائل :
الأولى :
الالتفات في الأذان يميناً وشمالاً .
والسنة عند جمهور العلماء أن يؤذن مستقبل القبلة ، ويدير وجهه في قول : ( ( حي على الصلاة ، حي على الفلاح ) ) يميناً وشمالاً .
وأنكر ابن سيرين الالتفات ، حكاه ابن المنذر وابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن سيرين ، أنه إذا اذن المؤذن استقبل القبلة ، وكان يكره أن يستدير في المنارة .(3/555)
"""""" صفحة رقم 556 """"""
وروى وكيع ، عن الربيع ، عن ابن سيرين ، قال : المؤذن لا يزيل قدميه .
وكأن الروايتين لا تصرحان بكراهة لوي العنق .
وكذلك مالك .
وفي ( ( تهذيب المدونة ) ) : ولا يدور في أذانه ، ولا يلتفت ، وليس هذا من الأذان ، إلا أن يريد بالتفاته أن يسمع الناس فيؤذن كيف تيسر عليه . قال : ورأيت المؤذنين بالمدينة يتوجهون القبلة في أذانهم ويقيمون عرضاً ، وذلك واسع يصنع كيف شاء . انتهى .
وفي حديث عبد الله بن زيد الذي رأى الأذان في منامه انه رأى الذي علمه النداء في نومه قام فاستقبل القبلة فأذن .
خرجه أبو داود من حديث معاذ .
والذين رأوا الالتفات . قال أكثرهم : يلتفت بوجهه ، ولا يلوي عنقه ، ولا يزيل قدميه ، وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد في المشهور عنه ، وأبي ثور ، وحكاه ابن المنذر عن أبي حنيفة وأصحابه .
وحكي - أيضا - عن الحسن والنخعي والليث بن سعد .
وروى الحسن بن عمارة ، عن طلحة بن مصرف ، عن سويد بن غفلة ، عن بلال ، قال : أمرنا رسول الله ( إذا أذنا أو أقمنا أن لا نزيل أقدامنا عن مواضعها .
خرجه الدارقطني في ( ( أفراده ) ) .
والحسن بن عمارة ، متروك .
وقالت طائفة : إن كان في منارة ونحوها دار في جوانبها ؛ لأنه أبلغ في(3/556)
"""""" صفحة رقم 557 """"""
الاعلام والاسماع ، وهو رواية عن أحمد وإسحاق ، وظاهر فيه مالك إذا أراد الاعلام .
وروي عن الحسن أنه يدور .
وظاهر كلام أصحابنا اختصاص الالتفات بالاذان .
وللشافعية في الالتفات في الاقامة وجهان .
والفرق بينهما : أن الأذان إعلام للغائبين ، فلذلك يلتفت ليحصل القصد بتبلغيهم ، بخلاف الاقامة ؛ فإنها اعلام للحاضرين ، فلا حاجة إلى التلفت فيها ، ولذلك لم يشرع في الموعظة في خطب الجمع وغيرها الالتفات ؛ لانها خطاب لمن حضر ، فلا معنى للالتفات فيها .
وقال النخعي : يستقبل المؤذن بالاذان والشهادة والاقامة القبلة .
خرجه ابن أبي شيبة .
وروى بإسناده عن حذيفة ، انه مر على ابن النباح وهو يؤذن ، يقول : الله اكبر [ الله ] أكبر ، أشهد أن لا اله الا الله ، يهوي بأذانه يمينا وشمالا ، فقال حذيفة : من يرد الله ان يجعل رزقه في صوته فعل .
وهذا يدل على انه كره التلفت في غير الحيعلة ، وجعله مناكلاً بأذانه .
المسألة الثانية :
جعل الاصبعين في الاذنين .(3/557)
"""""" صفحة رقم 558 """"""
وقد حكى عن ابن عمر ، انه كان لا يفعل ذلك .
وظاهر كلام البخاري : يدل على انه غير مستحب ؛ لأنه حكى تركه عن ابن عمر ، وأما الحديث المرفوع فيه فعلقه بغير صيغة الجزم ، فكأنه لم يثبت عنده .
وذكر في ( ( تاريخه الكبير ) ) من رواية الربيع بن صبيح ، عن ابن سيرين ، قال : أول من جعل أصبعيه في أذنيه في الأذان عبد الرحمن بن الأصم مؤذن الحجاج .
وهذا الكلام من ابن سيرين يقتضي انه عنده بدعة .
وروي عن ابن سيرين بلفظ آخر .
قال وكيع في ( ( كتابه ) ) : عن يزيد بن إبراهيم والربيع بين صبيح ، عن ابن سيرين ، قال : أول من جعل اصبعا واحدة في أذانه ابن الأصم مؤذن الحجاج .
وقال ابن أبي شيبة : ثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد ، قال : كان الأذان أن يقول : الله أكبر ، الله أكبر ، ثم يجعل اصبعيه ، واول من ترك إحدى أصبعيه في أذنيه ابن الاصم .
قال : وثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، انه كان إذا اذن استقبل القبلة ، فأرسل يديه ، فإذا بلغ : ( ( حي على الصلاة ، حي على الفلاح ) ) أدخل إصبعيه في أذانه .
وهذا يقتضي انه إنما يجعلهما في أذنيه في أثناء الأذان .
وروى وكيع ، عن سفيان ، عن نسير بن ذعلوق ، قال : رأيت ابن عمر يؤذن على بعير .(3/558)
"""""" صفحة رقم 559 """"""
قال سفيان : قلت له : رأيته جعل إصبعيه في أذنيه ؟ قال : لا .
وهذا هو المروي عن ابن عمر ، الذي ذكره البخاري تعليقا .
وأكثر العلماء على ان ذلك مستحب .
قال الترمذي في ( ( جامعه ) ) : العمل عند اهل العلم على ذلك ، يستحب ان يدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الأذان . وقال بعض اهل العلم : وفي الاقامة - أيضا ، وهو قول الاوزاعي . انتهى .
وقال إسحاق كقول الاوزاعي .
ومذهب مالك : ان شاء جعل اصبعيه في اذانه واقامته ، وان شاء ترك - ذكره في ( ( التهذيب ) ) .
وظاهر هذا : يقتضي انه ليس بسنة .
وقد سهل أحمد في تركه ، وفي جعل الاصبعين في احدى الاذنين .
وسئل الشعبي : هل يضع أصبعيه على أذنيه إذا أذن ؟ قال : يعم عليهما ، واحدهما يجزئك .
خرجه أبو نعيم في ( ( كتاب الصلاة ) ) .
واختلفت الرواية عن أحمد في صفة ذلك :
فروي عنه ، أنه يجعل أصبعيه في أذنيه ، كقول الجمهور .
وروي عنه ، أنه يضم أصابعه ، ويجعلها على اذنيه في الأذان والإقامة .
واختلف أصحابنا في تفسير ذلك :
فمنهم من قال : يضم أصابعه ، ويقبضهما على راحتيه ، ويجعلهما على أذنيه ، وهو قول الخرقي وغيره .(3/559)
"""""" صفحة رقم 560 """"""
ومنهم من قال : يضم الأصابع ، ويبسطها ، ويجعلها على اذنه .
قال القاضي : هو ظاهر كلام أحمد .
قال أبو طالب : قلت لأحمد : يدخل إصبعيه في الأذن ؟ قال : ليس هذا في الحديث .
وهذا يدل على ان رواية عبد الرزاق ، عن سفيان التي خرجها في ( ( مسنده ) ) والترمذي في ( ( جامهه ) ) غير محفوظة ، مع ان أحمد استدل بحديث أبي جحيفة في هذا في رواية محمد بن الحكم . وقال في رواية أبي طالب - أيضا - : أحب إليّ أن يجعل أصابع يديه على أذنيه ، على حديث أبي محذورة ، وضم أصابعه الأربع ، ووضعهما على أذنيه .
قال القاضي أبو يعلى : لم يقع لفظ حديث أبي محذورة .
قال : وروى أبو حفص العكبري بإسناده ، عن [ أبي ] المثنى ، قال : كان ابن عمر إذا بعث مؤذناً يقول له : اضمم أصابعك مع كفيك ، واجعلها مضمومة على أذنيك .
واستحب الشافعية إدخال الإصبعين في الأذنين في الأذان ، دون الإقامة .
المسألة الثالثة :
الأذان على غير وضوء .
حكى البخاري عن عطاء ، أنه قال : الوضوء حق وسنة - يعني في الأذان - ، وعن النخعي ، انه قال : لا بأس أن يؤذن على غير وضوء .
ورجح قوله بقول عائشة : كان النبي ( يذكر الله على كل أحيانه .
وقد خرجه مسلم من حديث البهي ، [ عن عروة ] ، عن عائشة .(3/560)
"""""" صفحة رقم 561 """"""
وممن قال بالكراهة : مجاهد والأوزاعي والشافعي وإسحاق .
وممن ذهب إلى الرخصة : الحسن والنخعي وقتادة وحماد ومالك وسفيان وابن المبارك .
ورخص أحمد في الأذان على غير وضوء ، دون الإقامة .
وكذا قال الحسن وقتادة ومالك .
وقال الأوزاعي : إن أحدث في أذانه أتمه ، وإن أحدث في إقامته - وكان وحده - قطعها .
واستحب الشافعي لمن أحدث في أذانه أن يتطهر ، ويبنى على ما مضى منه .
قال إسحاق : لم يختلفوا في الإقامة أنها أشد .
وقال الزهري : قال أبو هريرة : لا ينادي بالصلاة إلا متوضئ .
ورواه معاوية بن يحيى ، عن الزهري ، عن أبي هريرة - مرفوعاً .
خرجه الترمذي من الطريقين ، وذكر أن الموقوف أصح .
قال : والزهري لم يسمع من أبي هريرة .
وروى عمير بن عمران الحنفي : ثنا الحارث بن عيينة ، عن عبد الجبار بن وائل ، عن أبيه ، قال : حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن إلا وهو طاهر .
خرجه الدارقطني في ( ( الأفراد ) ) ، وزاد : ولا يؤذن إلا وهو قائم .
وقال : عبد الجبار ، عن أبيه مرسل .
قلت : والحارث وعمير ، غير مشهورين .
وما ذكره البخاري عن عطاء ، هو من رواية ابن جريج ، عنه ، قال : حق(3/561)
"""""" صفحة رقم 562 """"""
وسنه إلا يؤذن المؤذن إلا متوضئاً . قال : [ هو ] من الصلاة ، هي فاتحة الصلاة ، فلا يؤذن إلا متوضئاً .
وهذا مبني على قوله : إن من نسي الإقامة أعاد الصلاة ، وقد سبق ذلك عنه .
وسبق الكلام في ذكر الله تعالى للمحدث ، وان منهم من فرق بين الذكر الواجب كالأذان والخطبة ، وبين ما ليس بواجب .
وأماأذان الجنب ، فأشد كراهة من أذان المحدث .
واختلفوا : هل يعتد به ، أم لا ؟
فقال الأكثرون : يعتد به ، منهم : سفيان وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي وابن المبارك والشافعي وأحمد .
وقال : إسحاق والخرقي من أصحابنا : لا يعتد به ، ويعيده .(3/562)
"""""" صفحة رقم 563 """"""
- باب قول الرجل : ( ( فاتتنا الصلاة )
وكره ابن سيرين أن يقول : فاتتنا الصلاة ، وليقل : لم ندرك .
وقول النبي ( اصح .
635 - حدثنا أبو نعيم : حدثنا شيبان ، عن يحيى ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، قال : بينما نحن نصلي مع النبي ( ، إذ سمع جلبة الرجال ، فلما صلى قال : ( ( ما شأنكم ؟ ) ) قالوا : استعجلنا إلى الصلاة . قال : ( ( فلا تفعلوا ، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا ) ) .
مقصود البخاري بهذا الباب : أن يرد ما حكاه عن ابن سيرين ، أنه كره أن يقول : ( ( فاتتنا الصلاة ) ) ، ويقول : ( ( م ندركها ) ) ، من ذلك بقول النبي ( : ( ( وما فاتكم ) ) فسمى القدر المسبوق به مع الإمام فائتاً ، مع قوله ( : ( ( من ادرك ركعة من الصلاة فقد ادركها ) ) ، فكيف بما لم يدرك مع الإمام من صلاته شيئاً ، فإنه أولى أن يسمى فائتاً .
والظاهر : أن ابن سيرين إنما يكره أن يقول : ( ( فاتتنا الصلاة ) ) ؛ فإنها فاتته حقيقة .
وقد يفرق بين أن تفوته بعذر كنوم ونسيان ، أو بغير عذر ، فإن كان بعذر لم تفت - أيضا - ؛ لإمكان التدارك بالقضاء .
وقد تقدم قول النبي ( : " الذي تفوته صلاة [ العصر ] كانما وتر أهله(3/563)
"""""" صفحة رقم 564 """"""
وماله " والكلام عليه مستوفى ، وهل المراد به : من تفوته بعذر أو بغير عذر ، وذكرنا هناك من حديث أبي قتادة ، عن النبي ( : ( ( إنما تفوت النائم ، ولا تفوت اليقظان ) ) .
خرجه الإمام أحمد .
وكان ابن سيرين لشدة ورعه يتورع في منطقه ، ويتحفظ فيه ، ويكره أن يتكلم بما فيه نوع توسع أو تجوز ، وإن كان سائغاً في لغة العرب .
وقد وجد في بعض نسخ ( ( صحيح البخاري ) ) في حديث أبي قتادة هذا : ( ( وما فاتكم فاقضوا ) ) .
وقد خرجه الطبراني من طريق أبي نعيم الذي خرجه عنه البخاري ، وقال في حديثه : " ليصل أحدكم ما أدرك ، وليقض ما فاته " .
وخرجه بقي بن مخلد في ( ( مسنده ) ) عن ابن أبي شيبة ، عن معاوية بن هشام ، عن شيبان ، وقال في حديثه : ( ( وما سبقتم فاقضوا ) ) .
وخرجه الإسماعيلي ، ولفظه : ( ( وما فاتكم فاقضوا ) ) .(3/564)
"""""" صفحة رقم 565 """"""
- باب لا يسعى إلى الصلاة ، ولياتها بالسكينة والوقار
وقال : ( ( ما ادركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا ) ) - : وقاله أبو قتادة ، عن النبي ( .
حديث أبي قتادة ، تقدم في الباب الماضي .
قال :
636 - حدثنا آدم : حدثنا ابن أبي ذئب : حدثنا الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( - وعن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( - ، قال : ( ( إذاسمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة ، وعليكم السكينة والوقار ، ولا تسرعوا ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فاتموا ) ) .
كان الزهري يروي هذا الحديث ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ويرويه - أيضا - ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة .
وقد رواه جماعه من أصحابه عنه ، عن سعيد وحده . ورواه آخرون منهم ، عنه ، عن أبي سلمة وحده . وجمع بعضهم بينهما ، منهم : عبيد الله بن عمر .
وروي - أيضا - كذلك ، عن ابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ويونس بن يزيد .
قال الدارقطني : هو محفوظ ، كان الزهري ربما أفرده عن أحدهما ، وربما جمعه .
قلت : وقد خرجه البخاري في ( ( كتاب الجمعة ) ) من ( ( صحيحه ) ) هذا ، عن(3/565)
"""""" صفحة رقم 566 """"""
آدم ، عن ابن أبي ذئب بالجمع بينهما ، ومن طريق شعيب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة وحده .
وخرجه مسلم من رواية إبراهيم بن سعيد ، عن الزهري ، عنهما .
وخرجه أبو داود من طريق يونس كذلك .
وكلام الترمذي في ( ( جامعه ) ) يدل على أن الصحيح رواية من رواه عن الزهري عن سعيد وحده .
والصحيح : أنه صحيح عن الزهري ، عنهما ، وتصرف الشيخين في ( ( صحيحهما ) ) يشهد لذلك .
قوله ( : ( ( إذاسمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة ، ولا تسعوا ) ) أمر بالمشي ونهي عن الإسراع إلى الصلاة لمن سمع الإقامة ، وليس سماع الإقامة شرطاً للنهي ، وإنما خرج مخرج الغالب ؛ لأن الغالب أن الاستعجال إنما يقع عند سماع الإقامة خوف فوت إدراك التكبيرة أو الركعة ، فهو كقوله تعالى : ( وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ( [ البقرة : 283 ] ، والرهن جائز في السفر وغيره .
وكذلك قوله : ( وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ( [ النساء : 43 ] ، وقد ذكرنا أن التيمم يجوز عند عدم الماء في السفر و الحضر .
وكذلك قوله تعالى : ( ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ( [ الاحزاب : 5 ] ، ويجوز أن يدعوا أخوانا وموالي(3/566)
"""""" صفحة رقم 567 """"""
وإن علم أباؤهم ؛ فقد قال النبي ( لزيد : ( ( انت اخونا ومولانا ) ) مع علمه بأبيه .
وقد سبق حديث أبي قتادة ( ( إذاأتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة ) ) ، من غير اشتراط سماع الإقامة .
وقد أجمع العلماء على استحباب المشي بالسكينة إلى الصلاة ، وترك الاسراع والهرولة في المشي ، ولما في ذلك من كثرة الخطا إلى المساجد . وسيأتي أحاديث فضل المشي فيما بعد - إن شاء الله تعالى .
وهذا ما لم يخش فوات التكبيرة الاولى والركعة ، فإن خشي فواتها ، ورجا بالاسراع إدراكها ، فاختلفوا : هل يسرع حينئذ ، أم لا ؟ وفيه قولان .
أحدهما : انه يسعى لإدراكهما .
وروي عن ابن مسعود ، أنه سعى لإدراك التكبيرة .
ونحوه عن ابن عمر ، والأسود ، وعبد الرحمن بن يزيد ، وسعيد بن جبير .
وعن أبي مجلز : الإسراع إذاخاف من فوت الركعة .
وقال إسحاق : لاباس بالإسراع لإدراك التكبيرة .
ورخص فيه مالك .
وقال أحمد - في رواية مهنأ - : ولا بأس - إذاطمع أن يدرك التكبيرة الأولى - أن يسرع شيئا ، ما لم يكن عجلة تقبح ؛ جاء عن أصحاب النبي ( أنهم كانوا يعجلون شيئا إذاتخوفوا فوت التكبيرة الأولى ، وطمعوا في ادراكها .
وبوب النسائي في ( ( سننه ) ) على ( ( الإسراع إلى الصلاة من غير سعي ) ) ،(3/567)
"""""" صفحة رقم 568 """"""
وخرج فيه حديث أبي رافع ، قال : كان الرسول الله ( إذاصلى العصر ذهب إلى بني عبد الأشهل ، يتحدث عندهم حتى ينحدر المغرب . قال أبو رافع : فبينما النبي ( يسرع إلى المغرب مررنا بالبقيع - وذكر الحديث .
وهذا إنما يدل على إسراع الإمامإذاخاف الابطاء على الجماعة ، وقد قرب الوقت .
والقول الثاني : أنه لايسرع بكل حالٍ .
وروي عن أبي ذر ، ويزيد بن ثابت ، وأنس بن مالك ، وأبي هريرة ، وعطاء ، وحكاه ابن عبد البر عن جمهور العلماء ، وهو قول الثوري .
ونقله أن منصور وغيره عن أحمد ، وقال : العمل على حديث أبي هريرة .
وحديث أبي هريرة : دليل ظاهر على أنه لإيسرع لخوف فوت التكبيرة الأولى ، ولا الركعة ؛ فانه قال : ( ( فإذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة ، ولا تسرعوا ) ) ، فدل على أنه ينهى عن الإسراع مع خوف فوات التكبيرة أو الركعة .
وفي ( ( مسند الإمام أحمد ) ) من حديث أبي بكرة ، أنه جاء والنبي ( راكع ، فسمع النبي ( صوت نعلي أبي بكرة وهو يحفز ، يريد أن يدرك الركعة ، فلما انصرف قال : ( ( من الساعي ؟ ) ) قال أبو بكرة : أنا ، قال : ( ( زادك الله حرصا ، ولا تعد ) ) .
وفي إسناده من يجهل حاله .
وخرجه البخاري في ( ( كتاب القراءة خلف الامام ) ) بإسناده آخر فيه ضعف - أيضا - عن أبي بكرة - بمعناه ، وفي حديث : قال : إن أبا بكرة قال : يا رسول الله ، خشيت ان تفوتني ركعة معك ، فأسرعت المشي ، فقال له : ( ( زادك الله حرصاً ،(3/568)
"""""" صفحة رقم 569 """"""
و لاتعد ، صل ما ادركت ، واقض ما سبقت ) ) .
ولو سمع الإقامة وهو مشتغل ببعض أسباب الصلاة كالوضوء و الغسل أو غيرهما ، فقال عطاء : لا يعجل عن ذلك - يعنى : أنه يتمه من غير استعجال .
وسيأتي حديث : ( ( لا تعجل عن عشائك ) ) في موضعه من الكتاب - إن شاء الله تعالى .
وقوله ( : ( ( عليكم السكينة والوقار ) ) ، وهو بالرفع على أن الجملة مبتدأ وخبر ، ويروى بالنصب على الإغراء - : ذكره أبو موسى المديني .
وقوله ( : ( ( فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا ) ) ، هذه الرواية المشهورة عن الزهري ، التي راوها عنه عامة أصحابه الحفاظ .
ورواه ابن عيينة ، عن الزهري ، وقال في روايته : ( ( وما فاتكم فاقضوا ) ) .
خرج حديثه الإمام أحمد والنسائي .
وذكر أبو داود أن ابن عيينة تفرد بهذه اللفظة - يعني : عن الزهري .
وذكر البيهقي بإسناده ، عن مسلم ، أنه قال : أخطأ ابن عيينة في هذه اللفظة .
قلت : قد توبع عليها .
وخرجه الإمام أحمد ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، وقال في حديثه : ( ( قاضوا ) ) . قال معمر : ولم يذكر سجوداً .(3/569)
"""""" صفحة رقم 570 """"""
وكذا رواها بحر السقاء ، عن الزهري ، وقال في حديثه ( ( وليقض ما سبقه ) ) وبحر ، فيه ضعف .
ورواها - أيضا - بنحو رواية بحر : سليمان بن كثير ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة .
خرجه البخاري في ( ( كتاب القراء خلف الإمام ) ) .
ورويت لفظة ( ( القضاء ) ) من غير رواية الزهري :
وروى شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( ائتوا [ الصلاة ] وعليكم السكينة ، فصلوا ما ادركتم ، واقضوا ما سبقكم ) ) .
خرجه أبو داود .
وخرجه الإمام أحمد من رواية عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( - بمعناه .
ورويت عن أبي هريرة من وجود أُخر :
فخرج مسلم طريق ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا ثوب بالصلاة فلا يسعى إليها أحدكم ، ولكن ليمش ؛ وعليه بالسكينة والوقار ، صل ما أدركت ، واقض ما سبقك ) ) .
قال أبو داود : وكذا قال أبو رافع ، عن أبي هريرة .(3/570)
"""""" صفحة رقم 571 """"""
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث حميد ، عن أنس ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا جاء أحدكم فليمش نحواً مما كان يمشي ، فليصل ما أدركه ، وليقض ما سبقه ) ) .
وخرج البزار من حديث سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، عن الزهري ، عن سعيد وأبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة كلها ، إلا أنه يقضي ما فاته ) ) .
وهذا الحديث آخر غير الذي قبله .
وبالجملة ، فرواية من روى ( ( فأتموا ) ) أكثر .
وقد استدل الإمام أحمد برواية من روى ( ( فاقضوا ) ) ، ورحجها .
قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله - يعني : أحمد - أرأيت قول من قال : يجعل من أدرك مع الإمام أول صلاته ، وقد قال : يجعله آخر صلاته ، أي شيء الفرق بينهما ؟ قال : من أجل القراءة فيما يقضي . قلت له : فحديث النبي ( : على أي القولين يدل عندك ؟ قال : على أنه يقضي ما فاته ؛ قال النبي ( : ( ( صلوا ما ادركتم واقضوا ما سبقكم ) ) .
وقال في رواية ابنه صالح : يروى عن أنس وأبي هريرة ، أن النبي ( قال : ( ( صلَّ ما أدركت واقض ما سبقك ) ) . قال : ويروي غيره أنه قال : يقرأ فيما أدرك . وقال غيره : يقرأ فيما يقضي . قال ابن مسعود : ما أدركت من الصلاة فهو آخر صلاتك . انتهى .
وروى عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) ، عن معمر ، عن قتادة ، أن علياً قال :(3/571)
"""""" صفحة رقم 572 """"""
ما أدركت من الإمام فهو أول صلاتك ، واقض فيما سبقك به من القراءة . وأن ابن مسعود قال : اقرأ فيما فاتك .
وعن مالك ، عن نافع ، أن ابن عمر كان إذا فاته شيء من الصلاة مع الإمام التي يعلن فيها بالقراءة ، فإذا سلم الإمام قام عبد الله فقرأ لنفسه .
وروى الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد : حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، أن ابن عمر كان إذا سبق بالأولتين قرأ في الآخرتين بفاتحة الكتاب وسورة .
قلت : أماالقراءة فيما يقضي فمتفق عليها ؛ لأن حكم متابعة الإمام قد انقطعت عنه بسلام إمامه قبل فراغ صلاته ، فهو فيما بقي من الصلاة منفرد ، يقرأ كما يقرأ المنفرد بصلاته ، لا يقول أحد من العلماء : أنه لا يقرأ فيها لاستمرار حكم ائتمامه بالإمام .
ولكن من يقول من السلف : أن المصلي يقرأ في ركعتين ويسبح في ركعتين ، كما يقول الكوفيون وغيرهم ، يقول : إذا أدرك الإمام في ركعتين من الرباعية أنه لايقرأ معهم ؛ لأنهم لا يرون قراءة الماموم وراء إمامه بحال ، ويقولون : إذا قام يقضي ما فاته من الركعتين ، فإنه يقرأ ، ولا يجزئه أن يسبح ، فإنه قد صار منفرداً في بقية صلاته ، فلا بد [ له ] من القراءة ، سواء فاته ركعة أو ركعتان ، فإن فاته ثلاث ركعات قرأ في ركعتين ، وله أن يسبح في الثالثة .
وهذا كله قول سفيان الثوري .
وحكى سفيان وأصحابه وابن عمر ، أنه إذا أدرك ركعتين مع الإمام لم يقرأ فيما أدركه معه ، وقرأ في الركعتين إذا قضاهما .
وعن علي ، أن ما أدركه فهو أول صلاته ، فيقرأ فيه ما سبقه به الإمام من القراءة .(3/572)
"""""" صفحة رقم 573 """"""
ظاهر هذا : أن علياً لم ير القراءة فيما يقضيه ، وأنهم أرادوا أنه لا يقرأ فيه ما زاد على الفاتحة .
وممن قال : يقرأ فيما يقضي : عبيدة السلماني ، وابن سيرين ، وأبو قلابة ، والنخعي .
وروى عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن جابر ، عن الشعبي ، ان جندباً ومسروقاً أدركا ركعة من المغرب ، فقرأ جندب ولم يقرأ مسروق خلف الإمام ، فلما سلم الإمام قأمايقضيان ، فجلس مسروق في الثانية والثالثة ، وقام جندب إلى الثالثة ولم يجلس ، فلما انصرفا أتيا ابن مسعود ، فقال : كل قد أصاب ، ونفعل كما فعل مسروق .
وعن معمر ، عن جعفر الجزري ، عن الحكم ، ان جندباً ومسروقاً أدركا ركعة من المغرب ، فقرأ أحدهما في الركعتين الآخرتين ما فاته من القراءة ، ولم يقرأ الآخر في ركعة ، فسئل ابن مسعود ، فقالا كلاهما محسن ، وأنا أصنع كما صنع هذا الذي قرأ في الركعتين .
وأكثر العلماء على أنه يقرأ في ركعات الصلاة كلها ، يقرأ في الركعتين الأولتين بالحمد وسورة وفي الآخرتين بالحمد وحدها .
وعلى هذا ؛ إذا أدرك المسبوقٌ من الرباعية أو المغرب ركعتين ، يقرأ فيما يقضي من الركعتين وبالحمد وحدها ، أو بالحمد وسورةٍ ؟ على قولين ، اشهرهما أنه يقضي بالحمد وسورةٍ .
وهذا هو المنصوص عن مالك ، والشافعي ، وأحمد .(3/573)
"""""" صفحة رقم 574 """"""
ونص الشافعي على أن ما أدركه مع الإمام فهو أول صلاته .
وعن مالك في ذلك روايتان منصوصتان : أحدهما : هو أول صلاته . والثانية : هو آخرها .
وكذلك عن أحمد ، ولكن أكثر الروايات عنه ، أنه آخر صلاته .
وأمامذهب أبي حنيفة وأصحابه ، فهو أن ما أدركه مع الإمام آخر صلاته ، وما يقضيه أولها .
وهو قول الحسن بن حي وسفيان الثوري .
وعلى قول هؤلاء لا إشكال في أنه يقرأ فيما يقضي [ بالحمد ] وسورة .
قال ابن المنذر : واختلفوا في الذي يدركه المأموم من صلاة الإمام .
فقالت طائفة : يجعله أول صلاته ، روي هذا القول عن عمر وعلي وأبي الدرداء ، ولا يثبت ذلك عنهم ، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز ومكحول وعطاء والزهري و الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وإسحاق والمزني .
وقالت طائفة : يجعل ما أدرك مع الإمام آخر صلاته ، كذلك قال ابن عمر . وبه قال مجاهد وابن سيرين ومالك والثوري والشافعي وأحمد .
قال ابن المنذر : وبالأول نقول . انتهى .
وأنكر ابن عبد البر نقل ابن المنذر ذلك عن مالك والشافعي والثوري(3/574)
"""""" صفحة رقم 575 """"""
وأحمد ، وقال : إنما أخذه من قولهم في القراءة [ في القضاء ] .
قال : وثبت عن ابن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز ومكحول وعطاء والزهري والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز : ما أدركت فاجعله أول صلاتك .
قال : والذي يجيء على أصولهم - إن لم يثبت عنهم نص في ذلك - ما قاله المزني وإسحاق وداود وعبد العزيز بن الماجشون .
يعني : أنه يقرأ فيما يقضي بالحمد وحدها ؛ لأنه آخر صلاته .
قال : وهذا أطرد في القياس .
قال : فأمامن يقول : ما أدركه فهو أول صلاته ، وما يقضيه آخرها ، ثم يقول : يقرأ فيه بالحمد وسورة ، فكيف يصح هذا على قوله ؟
وروى حرب الكرماني بإسناده عن مكحول ، قال : ما أدركت فاجعله أول صلاتك ، تقرأ في أولها بأم القرآن وسورة بينك وبين نفسك .
قلت : وهذا ظاهر في أنه لا يقرأ فيما يقضي بسورة مع الحمد .
وروى بإسناده - أيضا - عن بقية ، عن الزبيدي ، قال : يقرأ فيما يقضي بأم القرآن وسورة بقدر الذي فاته مع الإمام . قال : وأماالأوزاعي فكان يقول : يقرأ بأم القرآن . قال بقية : وبه نأخذ .
وروى - أيضا - بإسناده عن ثابت بن عجلان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك ، واقرأ فيه بفاتحة الكتاب وسورة .
وهذا يدل - أيضا - على أنه لا يقرأ فيما يقضي زيادة على الحمد .(3/575)
"""""" صفحة رقم 576 """"""
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة - مثل قول ابن عباس .
وقد اتفقت النصوص عن أحمد على أنه يقرأ فيما يقضي بالحمد وسورة .
واختلف قوله في مأخذ ذلك :
فنقل عنه هارون الحمال ، أن مأخذ ذلك أن ما أدركه آخر صلاته وما يقضيه أولها . قال : فقيل له : قد حكي عنك أنك قلت : يقرأ بفاتحة الكتاب ويجعل ما أدرك أول صلاته . فأنكر ذلك .
وهذا يحتمل أن يكون إنكاره للقول بأنه يقتصر على الحمد فيما يقضي تفريعاً على ذلك ؛ فإن القول بأن ما أدركه أول صلاته مشهور عنه ، قد نقله عنه غير واحد ، فإن كان مراده الأول كان قوله بأن القراءة فيما يقضي بالحمد وسورة لا يختلف قوله فيه مع قوله : إن ما يقضيه أول صلاته أو آخرها ، وهذا هو المذهب عند أبي موسى وغيره من متقدمي الأصحاب .
وقد نقل عبد الله والأثرم وغيرهما انه يقرأ فيما يقضي بالحمد وسورة ، مع قوله : آخر صلاته .
وإن كان مراده الثاني كان القول : يقرأ الحمد وسورة فيما يقضيه ، مبنيا على الاختلاف فيما يقضيه : هل هو أول صلاته ، أو آخرها .
وهذا هو قول القاضي أبي يعلى ومن بعده من أصحابنا .(3/576)
"""""" صفحة رقم 577 """"""
وأنكر بعض المتاخرين منهم أن يصح القول بقراءة الحمد وسورة فيما يقضيه على كلا القولين ، إلا على قول من يرى استحباب القراءة بالحمد وسورة في كل ركعة من الصلاة كلها ، أو على أن من نسي قراءة السورة في الأوليين قرأها في الأخريين .
وهذا المأخذ الثاني لا يصح ؛ فإنه لا نسيان هاهنا .
وللمسألة مأخذان لم يذكرهما هذا القائل :
أحدهما : الاحتياط ، ونص عليه أحمد في رواية صالح وعبد الله وغيرهما ، قال : يكون جلوسه على أول صلاته وفي القراءة يحتاط فيقرأ فيما يقضي .
يعني : أنه إن أدرك ركعة من الرباعية تشهد عقيب قضاء ركعة ، فيجعل ما أدرك أول صلاته في الجلوس للتشهد ؛ ويقرأ في ركعتين فيما يقضي بالحمد وسورة احتياطاً لقراءة السورة ؛ فإنها سنة مؤكدة ، فيحتاط لها ، ويأتي بها في الركعات كلها ؛ للاختلاف في أول صلاته وآخرها .
والمأخذ الثاني : أنه إذا أدرك مع الإمام ركعتين من الرباعية ، فإنه لا يتمكن من قراءة السورة مع الحمد معه غالباً ، فإذا صلى معه ركعتين قرأ فيهما بالحمد وحدها ، ثم قضى ركعتين ؛ فإنه ينبغي أن يقرأ فيهما سورة مع الفاتحة ؛ لئلا تخلوا هذه الصلاة من قراءة سورة مع الفاتحة ، مع حصول الاختلاف في استحباب قراءة السورة فيما يقضيه ، فالاحتياط أن يقرأ فيما يقضي بالحمد وسورة .
أمالو كان قد قرأ فيما أدرك مع الإمام سورة مع الفاتحة ؛ فإنه لا يعيد السورة فيما يقضيه ، لا سيما عند من يقول : إن ما أدركه هو أول صلاته .
ولهذا قال قتادة : إذا أمكنك الإمام فاقرأ في الركعتين اللتين بقيتا سورة ،(3/577)
"""""" صفحة رقم 578 """"""
سورة ، تجعلهما أول صلاتك .
ذكره عبد الرزاق ، عن معمر ، عنه .
ولم أجد لأحمد ولا لغيره من الأئمة نصاً صريحاً أنه يقرأ بالحمد وسورة فيما أدركه خلف الإمام ، ثم يعيد ذلك فيما يقضيه ، بل نص على أن من أدرك ركعة من الوتر وقضى ما فاته أنه لا يعيد القنوت .
وعلله أبو حفص البرمكي بأنه قد قنت مع الإمام فلا يعيد كما لو سجد معه للسهو . قال : ويحتمل أنه لم يعده لأنه أدرك آخر الصلاة .
ونص الشافعي على أن المسبوق بركعتين من الرباعية يقرأ فيما يقضي بالفاتحة وسورتين .
فاختلف أصحابه على طريقين :
أحدهما : أن في استحباب السورة له القولان في استحباب قراءة السورة في الركعتين الأخريين ، وأن الشافعي إنما فرع نصه هذا على قوله باستحباب قراءة السورة في كل الركعات ، وهذا قاله أبو علي الطبري .
والطريق الثاني : قاله أبو إسحاق ، أنه يستحب للمسبوق قراءة السورة قولاً واحداً ، وإن قيل : لا يستحب لغيره قراءة في الأخريين ؛ لأن المسبوق لم يقرأ السورة في الأوليين ، ولا أدرك قراءة الإمام السورة ، فاستحب له ؛ لئلا تخلو صلاته من سورتين .
وهذا الطريق هو الصحيح عندهم ، وعليه أكثر أصحابهم .
وأماالجهر بالقراءة في العشاء وثالثة المغرب ، فأكثرهم على أنه لا يجهر .(3/578)
"""""" صفحة رقم 579 """"""
وحكوا في جهره قولين للشافعي .
ومنهم من قال : نص في ( ( الإملاء ) ) على أنه يجهر ؛ لأن الجهر فاته فيتدارك ، ونص في غيره على أنه لا يجهر ؛ لأن سنة آخر الصلاة الإسرار بالقراءة ، فلا تفوته . وبهذا يفرق بينه وبين السورة .
وصرح بعضهم بأنه لو كان الإمام بطيء القراءة فأمكن المسبوق أن يقرأ معه السورة فيما أدرك فقرأها ، لم يعدها في الأخريين ، إلا على قولهم : يقرأ بالسورة في الركعات كلها ، وهو حسن موافق لما ذكره .
وهاهنا مأخذ ثالث ؛ وقد صرح به غير واحد من السلف ، وقد روي عن علي ما يدل عليه ، وصرح به الترمذي وغيره ، وهو : أن من أدرك مع الإمام ركعتين فقد فاته معه ركعتان بسورتيهما ، فيشرع له قضاء ما فاته على وجهه .
لكن ؛ هل يقضيه فيما أدرك مع الإمام ، أو فيما يقضيه بعد قراءته .
فالمروي عن علي أنه يقضيه فيما أدركه مع الإمام ، وقال : هو أول صلاته .
وقال ابن مسعود وغيره : فيما يقضي لنفسه وحده منفرداً .
فأماأن يكون مأخذهم انه أول صلاته ، وأماأن يكون مأخذهم ان القضاء إنما يكون بعد مفارقة الإمام ما أدرك ، ويقضي ما سبق ، ولا يكون في حال متابعته ، وإن كان آخر صلاته .
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين وأبي قلابة ، قالا : يصلي مع الإمامما أدرك ، ويقضي ما سبق به مع الإماممن القراءة . مثل قول ابن مسعود .
وقال عمرو بن دينار : ما فاتك فاقضه كما فاتك .(3/579)
"""""" صفحة رقم 580 """"""
وروى ابن لهيعة ، عن عبيد الله بن المغيرة ، عن جهم بن الاسود ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : اقرأ فيما تقضي بما قرأ به الإمام .
خرجه عبد الله ابن الإمام أحمد .
وروى الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : إنما القراءة في القضاء . قال : وقال لي سعيد بن جبير : تقرأ فيما تدرك .
والمروي عن أبي سعيد يدل على أنه يستحب أن يقرأ فيما يقضيه بالسورتين اللتين قرأ بهما الإمام ؛ لتكون قراءته لهما قضاء بما فاته مع الإمام حقيقة .
وأيضا ؛ فإن [ عامة ] الكوفيين لا يرون القراءة خلف الإمام ، وقد اختلفوا في القراءة هاهنا خلفه فيما أدركه ؛ لأنه قضاء للقراءة الثانية ، فرأى القراءة علي وسعيد بن جبير ، ولم يره ابن مسعود وعلقمة والنخعي والاكثرون منهم .
وأماإذا أدرك ركعة من الرباعية أو المغرب ، فإنه يجلس للتشهد عقب قضاء ركعة ، كما قاله ابن مسعود وعلقمة ، وقاله سعيد بن المسيب . وهو المشهور عن أحمد .
وأخذ أحمد في هذه المسألة بما روي عن ابن مسعود ، وفي الأولى بما روي عن ابن عمر ، وقاله ابن مسعود - أيضا .
ومن أصحابنا من بنى هذا على قول أحمد : إن ما يقضيه آخر صلاته . قال : فإن قلنا : هو أول صلاته ، تشهد عقب قضاء ركعتين .
وقال الاكثرون : بل في المسألة روايتان غير مبنيتين على هذا الاصل .
وهذا هو الذي يدل عليه كلام الإمام أحمد صريحاً ؛ فإنه أخذ في القراءة(3/580)
"""""" صفحة رقم 581 """"""
بقول ابن عمر ، وفي الجلوس بقول ابن مسعود ، وجمع بينهما . وابن مسعود مع قوله بهذا ، فإنه قد قال : ما أدركه فهو آخر صلاته ، كما سبق عنه .
وزعم صاحب ( ( المغني ) ) من أصحابنا ان ذلك كله جائز .
ويشكل عليه : أن أحمد نص في رواية مهنا على انه إذا تشهد عقب ركعتين سجد للسهو .
وكلام ابن مسعود يدل على جواز الأمرين كما سبق عنه .
وقد تبين بهذا : أن اكثر العلماء ليس لهم في هذه المسألة قول مطرد .
ولا خلاف أن التشهد الأخر في حق المسبوق هو الذي في آخر صلاته ، الذي يسلم عقيبه ، فأماالتشهد الأول ، فإن وقع عقيب ركعتين من صلاة المسبوق ، فإنه يتشهد فيه معه .
واختلفوا : هل يتم التشهد مع الإمام بالدعاء أم ينتهي إلى قوله : ( ( واشهد ان محمداً عبده ورسوله ) ) ، ثم يردده ؟ على قولين .
والثاني : قول الحسن وأحمد ، والأول : ظاهر كلام عطاء .
فإن كان تشهد الإمام في موضع وتر من صلاة المأموم ، فإنه يتابعه في جلوسه بغير خلاف .
وهل يتشهد معه فيه ، أم لا ؟ على قولين :
أحدهما : يتشهد معه ، وهو قول الحسن وابن المسيب وعطاء ونافع والزهري والثوري .
وأحمد ، قال : أحب إلي أن يتشهد .
والثاني : لا يتشهد ، وهو قول النخعي ومكحول وعمرو بن دينار ، وحكاه(3/581)
"""""" صفحة رقم 582 """"""
ابن المنذر عن الحسن - أيضا .
وقال النخعي : يسبح - يعني : بدل التشهد .
وقال الأوزاعي : يكتفي بالتسبيح .
وأكثر العلماء على أنه لا سجود عليه للسهو لزيادة هذا الجلوس متابعة للإمام ، وحكي عن ابن عمر أنه كان يسجد كذلك للسهو . وعن أبي سعيد الخدري وعن عطاء وطاوس ومجاهد ، وهو قول الحسن .
وروي عن عطاء ، عن أبي سعيد وابن عمر وأبي هريرة وابن عباس وابن الزبير ، أنهم كانوا يسجدون سجدتي السهو إذا أدرك الإمام في وتر .
قال الإمام أحمد : لم يسمعه عطاء منهم ، بينه وبينهم رجل .
يعني : أن في الإسناد مجهول .
والصحيح : قول الجمهور .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن المغيرة ، أنه غزا مع النبي ( تبوكاً ، فتبرز رسول الله ( وتوضأ ، وصب عليه المغيرة ، ثم أقبل . قال المغيرة : وأقبلت حتى نجد الناس قدموا عبد الرحمن بن عوف ، فصلى بهم ، فأدرك رسول الله ( إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة ، فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله ( يتم صلاته ، فلما قضى رسول الله ( صلاته أقبل عليهم ، ثم قال : ( ( أحسنتم ) ) - أو ( ( اصبتم ) ) - ، يغبطهم ان صلوا الصلاة لوقتها .
ولم يذكر المغيرة ان النبي ( سجد للسهو .
وخرجه أبو داود من وجه آخر عن المغيرة ، وفيه : فلما سلم قام النبي ( فصلى الركعة التي سبق بها ، ولم يزد عليها شيئاً .(3/582)
"""""" صفحة رقم 583 """"""
وخرجه البخاري في ( ( القراءة خلف الإمام ) ) والطبراني والبيهقي من وجه آخر عن المغيرة ، وفيه : فصلينا ما أدركنا ، وقضينا ما سبقنا .
وقد روى معمر : ليصل ما أدرك ، وليقض ما سبق . قال معمر : ولم يذكر سجوداً .
يعني : انه لو كان عليه سجود في بعض الاحوال لما أخر بيانه ؛ لأنه وقت حاجة . وكذلك استدل به كثير من الأئمة بعده ، منهم الإمام أحمد والشافعي .
وفي حديث المغيرة : ان المسبوق إنما يقوم إذا سلم الإمام ، ولا يقوم حتى يسلم إمامه التسليمتين معاً ، نص عليه سفيان والشافعي وأحمد ؛ لأن التسليمة الثانية مختلف في وجوبها ، [ فإذا ] لم يأت بها الإمام لم يخرج من صلاته بيقين .
قالت طائفة : ويستحب ان لا يقوم حتى ينحرف الإمام ، لعله أن يذكر سجود سهو ، إلا ان يطول ذلك فيقوم ويدعه ، وهذا قول عطاء والشعبي وأحمد .
وكان ابن عمر إذا سلم الإمام يقضي ما سبق به ، وإن لم يقم الإمام .
وقال أصحاب الشافعي : إن مكث المسبوق بعد سلام إمامه جالساً ، وطال جلوسه ، فإن كان موضع تشهده الأول جاز ، ولم تبطل صلاته ؛ لأنه محسوب من صلاته ، لكنه يكره له تطويله ، وإن لم يكن في موضع تشهده لم يجز أن يجلس بعد تسليم إمامه ؛ لأن جلوسه كان للمتابعة وقد زالت ، فإن فعل عالما بطلت صلاته ، وان كان ساهياً لم تبطل ، ويسجد للسهو .(3/583)
"""""" صفحة رقم 584 """"""
ولو سبق جماعة ببعض الصلاة ، ثم قاموا بعد سلام الإمام ، فهل لهم ان يقلوا جماعة يؤمهم أحدهم ؟ فيه قولان :
أحدهما : نعم ، وهو قول عطاء وابن سابط .
والثاني : لا ، وهو قول الحسن .
وعن أحمد فيه روايتان ، وللشافعية وجهان .
ومأخذهما : هل يجوز الانتقال من الائتمام إلى نية الإمام ؟
وأمامأخذ الحسن ، فالظاهر أنه كراهة إعادة الجماعة في مسجد مرتين .
قال القاضي من أصحابنا والشافعية : ولو كان ذلك في الجمعة لم يجز ؛ لأن الجمعة لا تقام في مسجد واحد مرتين في يوم .
وقال أبو [ علي ] الحسن بن البناء : في هذا نظر ؛ لأن الجمعة تقام عندنا في مواضع للحاجة ، وان سبق بعضها بعضاً .(3/584)
"""""" صفحة رقم 585 """"""
- باب متى يقوم للناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة
637 - حدثنا مسلم بن إبراهيم : حدثنا هشام ، قال : كتب إلي يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله ( : ( ( إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني ) ) .
هذا رواه هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير مكاتبة ، وقد رواه عن يحيى غير واحد : شيبان ، وحجاج الصواف ، وايوب ، وأبان العطار ، ومعمر ، وغيرهم .
وخرجه البخاري من رواية شيبان ، وخرجه مسلم من رواية حجاج ومعمر .
وفي رواية له من رواية شيبان ومعمر : ( ( حتى تروني قد خرجت ) ) .
وقال أبو داود : لم يذكر : ( ( قد خرجت ) ) إلا معمر .
وذكر البيهقي : أنها قد رويت عن حجاج - أيضا .
وخرجها ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من رواية معمر ، ولفظه : ( ( حتى تروني قد خرجت إليكم ) ) .
وهذه اللفظة : يستدل بها على مراده ( برؤيته : أن يخرج من بيته ، فيراه من كان عند باب المسجد ، ليس المراد : يراه كل من كان في المسجد .
وهذا كقوله ( : ( ( لا تصوموا حتى تروا الهلال ) ) ، ومعلوم أنه لو رآه(3/585)
"""""" صفحة رقم 586 """"""
واحد أو اثنان لاكتفي برؤيتهما ، وصام الناس كلهم .
ويدل على هذا : ما خرجه مسلم من حديث الزهري ، قال : اخبرني أبو سلمة ، سمع أبا هريرة يقول : أقيمت الصلاة ، فقمنا فعدلنا الصفوف قبل ان يخرج إلينا رسول الله ( ، فأتى رسول الله ( حتى إذا قام في مصلاه قبل ان يكبر ذكر فانصرف - وذكر تمام الحديث .
ويحمل ذلك على قيامهم قبل ان يطلع على اهل المسجد من المسجد ، لما علموا خروجه من بيته وتحققوه .
وخرج - أيضا - بهذا الإسناد ، عن أبي هريرة ، قال : إن كانت الصلاة تقام لرسول الله ( ، فيأخذ الناس مصافهم قبل ان يقوم النبي ( مقامه .
فهذه الرواية تصرح بأن الصفوف كانت تعدل قبل ان يبلغ النبي ( إلى مصلاه ، ولكن كان قد خرج من بيته ، ورآه من كان بقرب بيته .
وقد ذكر الدارقطني وغير واحد من الحفاظ أن هذا الحديث اختصره الوليد ابن مسلم من الحديث الذي قبله ، فأتي به بهذا اللفظ .
فإن قيل : فقد خرج مسلم من حديث جابر بن سمرة ، قال : كان بلال يؤذن إذا دحضت ، فلا يقيم حتى يخرج النبي ( ، فإذا خرج اقام الصلاة حين يراه .
فلو اكتفي برؤية واحد للنبي ( لاكتفي برؤية بلال له ، واكتفي بإقامة بلال في قيام الناس ، فإنه كان لا يقيم حتى يرى النبي ( قد خرج .
قيل : هذا إنما ورد في صلاة الظهر بالمدينة خاصة ، وأمافي غيرها من الصلوات ، فقد كان بلال يجيء إلى النبي ( إلى بيته ، فيؤذنه بالصلاة ،(3/586)
"""""" صفحة رقم 587 """"""
فكان يفعل ذلك في صلاة الفجر ، كما في حديث عائشة وابن عباس ، وكان احياناً يفعله في السفر في غير الفجر ، كما روى أبو جحيفة ، أنه رأى بلالا أذن النبي ( بصلاة الظهر .
فالظاهر : ان بلالاً كان إذا اذن النبي ( بالصلاة رجع ، فأقام قبل خروج النبي ( من بيته ، واكتفى بتأهبه للخروج [ بإيذائه ] له ، فوقع النهي في قيام الناس إلى الصلاة قبل خروجه في مثل هذه الحالة . والله اعلم .
وقد اختلف العلماء في الوقت الذي يقوم فيه الناس للصلاة .
فقال طائفة : يقومون إذا فرغ المؤذن من الاقامة ، سواء خرج الإمام أو لم يخرج .
وحكى ذلك بعض الشافعية عن أبي حنيفة والشافعي .
ورجع بعض متأخري الشافعية أنهم لا يقومون حتى يروه ؛ لحديث أبي قتادة .
وحكى ابن المنذر ، عن أبي حنيفة ، انه إذالم يكن الإماممعهم كره ان يقوموا في الصف والإمام غائب عنهم .
وممن روي عنه ، انهم لا يقومون حتى يروا الامام : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب .
خرجه وكيع ، عنهما .
واختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة :
فروى عن جماعة من أصحابه ، أنهم لا يقومون حتى يروه ؛ لحديث أبي قتادة ، ولو علموا به ، مثل ان يكون الإمام هو المؤذن ، وقد اقام الصلاة في المنارة وهو نازل .(3/587)
"""""" صفحة رقم 588 """"""
وروى عنه الاثرم وغيره : انهم يقومون قبل ان يروه إذا اقيمت الصلاة ؛ لحديث أبي هريرة الذي خرجه مسلم .
وروى عنه المروذي وغيره : انه وسع العمل بالحديثين جميعاً ، فإن شاءوا قاموا قبل ان يروه ، وأن شاءوا لم يقوموا حتى يروه .
ورجح بعض أصحابنا الرواية الأولى ؛ لحديث أبي قتادة ، وادعى انه ناسخ لحديث أبي هريرة ؛ فإنه يدل على ان فعلهم لذلك كان سابقا ، ثم نهي عنه .
وكذا ذكر البيهقي ، لكن قال : إنما نهي عنه تخفيفاً عليهم ، ورفقاً بهم ، وهذا لا يمنع العمل به كالصائم في السفر ونحوه .
وروي عن أبي خالد الوالبي ، قال : خرج الينا علي بن أبي طالب ونحن قيام ، فقال : مالي أراكم سامدين - يعني : قياماً .
وسئل النخعي : أينتظرون الإمام قيأماأو قعوداً ؟ قال : قعوداً .
وقال ابن بريدة في انتظارهم قياماً : هو السمود .
وكذا روي عن النخعي ، انه كرهه ، وقال : هو السمود .
وحكي مثله عن أبي حنيفة وإسحاق .
قال بعض أصحابنا : وروي عن أبي حنيفة وأصحابه ، والشافعي ، وداود ، انه ان كان الإمام خارجاً من المسجد فلا تقوموا حتى تروه ، وإن كان في المسجد فهو كالمشاهد ؛ حملا للرؤية في الحديث على العمل ، وكذا قال ابن بطة من أصحابنا .
وإن كان الإمام في المسجد ، فهو مرئي للمصلين أو بعضهم ، لكن هل(3/588)
"""""" صفحة رقم 589 """"""
يكتفي برؤيته قاعداً ، أو لا بد من رؤيته قائماً متهيأ للصلاة ؟ هذا محل نظر .
والمنصوص عن أحمد ، انه إذا كان في المسجد فإن المأمومين يقومون إذا قال المؤذن : ( ( قد قامت الصلاة ) ) ، وإن لم يقم الإمام .
والقيام للصلاة عند الإقامة متفق على استحبابه للإمام ، إذا كان حاضراً في المسجد ، وللمأمومين معه .
واختلفوا في موضع القيام من الاقامة على اقوال :
أحدها : انهم يقومون في ابتداء الاقامة ، روي عن كثير من التابعين ، منهم : عمر بن عبد العزيز ، وحكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق ، وهو غريب عن أحمد .
والثاني : إذا قال : ( ( قد قامت الصلاة ) ) ، روي عن أنس بن مالك ، والحسن بن علي ، وعطاء ، والحسن ، وابن سيرين ، والنخعي ، وهو قول ابن المبارك ، وزفر ، وأحمد ، وإسحاق .
والثالث : إذا قال : ( ( حي على الفلاح ) ) ، وحكي عن أبي حنيفة ، ومحمد .
والرابع : إذافرغت الاقامة ، وحكي عن مالك ، والشافعي .
وحكى ابن المنذر عن مالك ، انه لم يوقت في ذلك شيئاً .
وقال الماوردي - من الشافعية - : إن كان شيخاً بطيء النهضة قام عند قوله : ( ( قد قامت الصلاة ) ) ، وإن كان سريع النهضة قام بعد الفراغ ؛ ليستووا قيأمافي وقت واحد .
فإن تأخر قيام الإمام عن فراغ الإقامة لعذر كما كان النبي ( احيانا يناجي بعض أصحابه طويلا ، فهل يتأخر قيام المأمومين إلى حين ؟ الاظهر : نعم .
ويدل عليه ما خرجه البخاري - وسيأتي قريباً عن شاء الله - ، عن أنس ،(3/589)
"""""" صفحة رقم 590 """"""
قال : اقيمت الصلاة والنبي ( يناجي رجلا في جانب المسجد ، فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم .
ونومهم يدل على انهم كانوا جلوسا ؛ إذ لو كانوا قيأماينتظرون الصلاة كان ابعد لنومهم .
وروى حجاج بن فروخ ، عن العوام بن حوشب ، عن ابن أبي أوفى ، قال : كان بلال إذا قال : قد قامت الصلاة ، نهض النبي ( .
حجاج ، واسطي ، قال أحمد يحيى : لا نعرفه . وقال يحيى - أيضا - : ليس بشيء . وقال أبو حاتم : مجهول وضعفَهٌ النسائي ، وقال الدار قطني : متروك .
وذكر هذا الحديث لأحمد فأنكره ، وقال : العوام لم يلق ابن أبي اوفى . هذا في القيام المبتدأ للصلاة ممن كان جالساً ، فأمامن دخل المسجد امأماكان أو مأموماً ، والمؤذن يقيم الصلاة ، فهل يجلس ليبتدئ القيام أمابعد الفراغ أو عند قوله : ( ( قد قامت الصلاة ) ) ، أم يستمر قائماً ؟ فيه قولان :
أحدهما : انه يجلس ليقوم إلى الصلاة في موضع القيام المشروع ، وكذلك كان الإمامأحمد يفعل - : نقله عنه ابن منصور ، وقاله طائفة من الشافعية ، منهم : أبو عاصم العبادي .
وفيه حديث مرسل ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، أن النبي ( جاء وبلال في الإقامة ، فقعد
خرجه الخلال .
والقول الثاني : انه يستمر قائما ولا يجلس - : قاله طائفة من الشافعية ، منهم : البغوي وغيره ؛ لئلا يدخل في النهي عن القيام للصلاة قبل رؤية الإمام ؛ لان النهي إنما يتناول القيام المبتدأ ، وهذا لم يبتدئ القيام ، بل استمر عليه .(3/590)
"""""" صفحة رقم 591 """"""
ويتخرج لأحمد مثل هذا ؛ لأنه فرق بين القيام المبتدأ والمستمر في القيام للجنازة ، فحمل النهي عن القيام المبتدأ لمن كان جالساً ، فأمامن تبعها فإنه يستمر قائماً ، ولا يجلس حتى توضع بالارض ، ولم ير هذا القيام المستمر داخلاً في القيام للجنازة المنهي عنه ، وجمع بذلك بين الحديثين .
وقد يفرق بينهما : بأن في الجنازة حديثين مختلفين ، فجمع بينهما بالتفريق بين القيام المبتدأ والمستمر ، وأمافي النهي عن القيام قبل رؤية الإمام فليس فيه حديث يعارضه ، بل مرسل ابن أبي ليلى يوافقه ، فلذلك سوى فيه بين القيام المبتدأ والمستمر . والله أعلم .
وأماإن خرج الإمام إلى المسجد ، ورآه المأمومون قبل إقامة الصلاة ، فلا خلاف انهم لا يقومون للصلاة برؤيته .
وخرج البيهقي من رواية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن ابن جريج : اخبرني موسى بن عقبة ، عن سالم أبي النضر ، أن النبي ( كان يخرج بعد النداء إلى المسجد ، فإذا رأى أهل المجلس قليلا جلس حتى يرى منهم جماعة ، ثم يصلي ، وكان إذا خرج فرأى جماعة أقام الصلاة .
وقال : وحدثني موسى بن عقبة - أيضا - ، عن نافع بن جبير ، عن مسعود بن الحكم الزرقي ، عن علي بن أبي طالب ، عن النبي ( - مثل هذا الحديث .
وخرجه أبو داود من رواية أبي عاصم ، عن ابن جريج(3/591)
"""""" صفحة رقم 592 """"""
بالإسنادين - أيضا - ، لكن لفظه : كان رسول الله ( حين تقام الصلاة في المسجد إذا رآهم قليلاً جلس ، ثم صلى ، وإذارآهم جماعة صلى .
وخرجه الإسماعيلي في ( ( مسند علي ) ) من طريق أبي عاصم ، عن ابن جريج بالإسنادين - أيضا - ، ولفظ حديثه : أن النبي ( كان إذا دخل المسجد فرأى جماعة أقام الصلاة ، وإن رآهم قليلاً جلس .
وخرجه من طريق عبد المجيد - أيضا - بنحو رواية البيهقي ، وفي آخره : يعني : أمر المؤذن ، فأقام .
وأشار إلى أنه إنما يعرف بهذا الإسناد عن علي القيام للجنازة ثم الجلوس قال : ولعل هذا أن يكون [ خبراً ] آخر . والله أعلم .(3/592)
"""""" صفحة رقم 593 """"""
- باب لا يسعى إلى الصلاة ، ولا يقوم إليها مستعجلاً
وليقم بالسكينة والوقار
638 - حدثنا أبو نعيم : ثنا شيبان ، عن يحيى ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله ( : ( ( إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني ، وعليكم السكينة ) ) .
تابعه : علي بن المبارك .
قد سبق هذا الحديث بدون هذه الزيادة ، وهي : ( ( وعليكم السكينة ) ) ، وقد ذكر أنه تابع شيبان عليها علي بن المبارك .
وقد خرجه في كتاب ( ( الجمعة ) ) عن أبي قتيبة - وهو : سلم بن قتيبة - ، عن ابن المبارك ، عن يحيى ، عن عبد الله بن أبي قتادة - قال أبو عبد الله : لا أعلم إلا عن أبيه - ، عن النبي ( ، قال : ( ( لا تقوموا حتى تروني ، وعليكم السكينة ) ) ، فشك في وصله .
وقال أبو داود : رواه معاوية بن سلام ، وعلي بن المبارك ، وقالا فيه : ( ( حتى تروني ، وعليكم السكينة ) ) .
وخرجه الإسماعيلي في ( ( صحيحه ) ) من رواية معاوية ، كما ذكر أبو داود .
وقد سبق القول في النهي عن السعي إلى الصلاة ، والأمر بالمشي إليها بالسكينة والوقار .
وإنما المراد بهذا الباب : النهي عن القيام إلى الصلاة عند رؤية الإمام باستعجال في القيام ، والأمر بالقيام برفق وتؤدة ، وعليكم السكينة والوقار .(3/593)
"""""" صفحة رقم 594 """"""
- باب هل يخرج من المسجد لعلةٍ ؟
639 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله : ثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( خرج وقد أقيمت الصلاة ، وعدلت الصفوف ، حتى إذاقام في مصلاه انتظرنا أن يكبر ، انصرف . قال : ( ( على مكانكم ) ) ، فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينطف رأسه ماء ، وقد اغتسل .
مقصود البخاري بهذا الباب : أنه يجوز لمن كان في المسجد بعد الأذان أو بعد الإقامة أن يخرج منه لعذر .
والعذر نوعان :
أحدهما : ما يحتاج إلى الخروج معه من المسجد ، ثم يعود لإدراك الصلاة فيه ، مثل أن يذكر أنه على غير طهارة ، أو ينتقض وضوؤه حينئذ ، أو يدافعه الأخبثان ، فيخرج للطهارة ، ثم يعود فيلحق الصلاة في المسجد .
وعلى هذا : دل حديث أبي هريرة المخرج في هذا الباب .
والثاني : أن يكون العذر مانعاً من الصلاة في المسجد كبدعة إمامه ونحوه ، فيجوز الخروج منه - أيضا - للصلاة في غيره ، كما فعل ابن عمر - رضي الله عنه .
روى أبو داود من حديث أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، قال : كنت مع ابن عمر ، فثوب رجل في الظهر أو العصر ، فقال : اخرج بنا ؛ فإن هذه بدعة .(3/594)
"""""" صفحة رقم 595 """"""
وأبو يحيى هذا ، مختلف فيه .
وقد استدل طائفة من أصحابنا بهذا الحديث ، وأخذوا به .
وأماالخروج بعد الأذان لغير عذر ، فمنهي عنه عند أكثر العلماء .
قال سعد بن أبي وقاص وسعيد بن المسيب : إذا أذن المؤذن وأنت في المسجد ، فلا تخرج حتى تصلي .
قال ابن المسيب : يقال : لا يفعله إلا منافق .
قال : وبلغنا ان من خرج بين الأذان والإقامة لغير الوضوء أنه سيصاب .
ذكره مالك في ( ( الموطإ ) ) عنه .
قال أصحابنا : لا يجوز ذلك .
وقال أصحاب الشافعي : هو مكروه .
قال الترمذي في ( ( جامعه ) ) : العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي ( ومن بعدهم أن لا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان ، إلا من عذرٍ : أن يكون على غير وضوء ، أو أمر لا بد منه .
ويروى عن إبراهيم النخعي ، أنه قال : يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة .
قال أبو عيسى الترمذي : وهذا عندنا لمن له عذر في الخروج منه .
والمروي عن إبراهيم في هذا : ما رواه مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : إذا سمعت الإقامة وأنت في المسجد فلا تخرج .
فمفهومه : جواز الخروج قبل الإقامة .(3/595)
"""""" صفحة رقم 596 """"""
وقد حمله الترمذي على العذر ، ويشهد لذلك : ما رواه وكيع ، عن عقبة أبي المغيرة ، قال : دخلنا مسجد إبراهيم وقد صلينا العصر ، وأذن المؤذن ، فأردنا أن نخرج ، فقال إبراهيم : صلوا .
وقد دل على النهي عن ذلك ما روى أبو الشعثاء سليم بن الأسود ، قال : كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة ، فأذن المؤذن ، فقام رجل من المسجد يمشي ، فأتبعه أبو هريرة بصره ، حتى خرج من المسجد ، فقال أبو هريرة : أماهذا فقد عصى أبا القاسم ( .
وخرجه الإمام أحمد ، وزاد : ثم قال : أمرنا رسول الله ( ( ( إذا كنتم في المسجد ، فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي ) ) .
وهذا كله إذا أذن المؤذن في وقت الصلاة ، فإذا أذن قبل الوقت ، فإن كان لغير الفجر فلا عبرة بهذا الأذان ؛ لأنه غير مشروع ، وإن كان للفجر فيجوز الخروج من المسجد بعد الأذان قبل طلوع الفجر للمؤذن - : نص عليه الإمام أحمد .
وغير المؤذن في معناه ؛ فإن حكم المؤذن في الخروج بعد الأذان من المسجد كحكم غيره في النهي عند أكثر العلماء ، ونص عليه أحمد ، وإسحاق ، وقال : لا نعلم أحداً من السلف فعل خلاف ذلك .
ورخص فقهاء اهل الكوفة ، منهم : سفيان وغيره في أن يخرج المؤذن من المسجد بعد أذانه للأكل في بيته .(3/596)
"""""" صفحة رقم 597 """"""
- باب إذا قال الإمام : ( ( مكانكم حتى أرجع ) ) انتظروه
640 - حدثنا إسحاق : ثنا محمد بن يوسف : ثنا الأوزاعي ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، قال : أقيمت الصلاة ، فسوى الناس صفوفهم ، فخرج رسول الله ( ، فتقدم وهو جنب ، فقال : ( ( على مكانكم ) ) ، فرجع فاغتسل ، ثم خرج ورأسه يقطر ماء ، فصلى بهم .
قد تقدم الكلام في القيام قبل خروج الإمام ، وانتظار المأمومين له قيأماقبل خروجه ، فأماإذا ذكر حاجة فانصرف من المسجد وقال لهم : ( ( مكانكم حتى أرجع ) ) ، فإنهم ينتظرونه قيأماحتى يرجع إليهم ، كما فعل النبي ( في هذا الحديث .
وفي الرواية المذكورة في الباب الماضي ، قال : ( ( فمكثنا على هيئتنا حتى خرج الينا ) ) ، وهذا يدل على انهم انتظروه قياماً .
ورواه بعضهم : ( ( على هينتنا ) ) من الهينة ، وهي الرفق ، وكأنها تصحيف . والله اعلم .
وفي رواية لمسلم في هذا الحديث : ( ( فلم نزل قيأماننتظره حتى خرج الينا ، وقد اغتسل ) ) .
وفي رواية لمسلم - أيضا - في هذا الحديث : ( ( فأومأ إليهم بيده أن مكانكم ) ) .
وفيه : دليل على أن إيماء القادر على النطق يكتفى به في العلم ، والأمر ، والنهي ، وقد سبق ذلك مستوفى في ( ( كتاب العلم ) ) .
وفي رواية لمسلم - أيضا - في هذا الحديث : ( ( فأتى رسول الله ( حتى إذا(3/597)
"""""" صفحة رقم 598 """"""
قام في مصلاه قبل ان يكبر ، ذكر فانصرف وقال لنا : ( ( مكانكم ) ) .
وهذه الرواية صريحة في أنه انصرف قبل التكبير ، وهو - أيضا - ظاهر رواية البخاري .
قال الحسن بن ثواب : قيل لأبي عبد الله - يعين : أحمد بن حنبل - وأنا أسمع : النبي ( حين أومأ إليهم ان امكثوا ، فدخل فتوضأ ثم خرج ، أكان كبر ؟ فقال : يروى أنه كبر ، وحديث أبي سلمة لما أخذ القوم أماكنهم من الصف ، قال لهم : ( ( امكثوا ) ) ، ثم خرج فكبر .
فبين أحمد ان حديث أبي سلمة ، عن أبي هريرة يدل على انه لم يكن كبر ، وأماقوله : ( ( يروى أنه كبر ) ) ، فيدل على أن ذلك قد روي ، وأنه مخالف لحديث أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، وأن حديث أبي سلمة أصح ، وعليه العمل .
وقد خرج أبو داود من حديث زياد الأعلم ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، أن رسول الله ( دخل في صلاة الفجر ، فأومأ بيده أن مكانكم ، ثم جاء ورأسه يقطر ، فصلى .
وفي رواية له - أيضا - : ( ( فكبر ) ) وقال فيه : فلما قضى الصلاة قال : ( ( إنما أنا بشر ، وإني كنت جنباً ) ) .
وخرجه الإمام أحمد بمعناه - أيضا .
قال أبو داود : ورواه أيوب وهشام وابن عون ، عن محمد ، عن النبي ( - مرسلاً ، قال : فكبر ، ثم اومأ إلى القوم أن اجلسوا ، فذهب واغتسل ، وكذلك رواه مالك ، عن إسماعيل بن أبي حكيم ، عن عطاء بن يسار : أن وسول الله ( كبر في صلاة .(3/598)
"""""" صفحة رقم 599 """"""
قال أبو داود : وكذلك حدثنا مسلم بن إبراهيم : ثنا أبان ، عن يحيى يعني : ابن أبي كثير - ، عن الربيع بن محمد ، عن النبي ( ، أنه كبر . انتهى .
وهذه كلها مرسلات .
وحديث الحسن ، عن أبي بكرة في معنى المرسل ؛ لأن الحسن لم يسمع من أبي بكرة عند الإمام أحمد والأكثرين من المتقدمين .
وقد روي حديث ابن سيرين مسنداً ، رواه الحسن بن عبد الرحمن الحارثي ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة - مسنداً .
قال البيهقي : والمرسل أصح .
وقد روي موصولاً من وجه آخر :
خرجه الإمام أحمد ، وابن ماجه من رواية اسامة بن زيد ، عن عبد الله ابن يزيد مولى الاسود بن سفيان ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله ( إلى الصلاة ، وكبر ، ثم أشار اليهم فمكثوا ، ثم انطلق فاغتسل ، وكان رأسه يقطر ماءً ، فصلى بهم ، فلما انصرف قال : ( ( إني خرجت إليكم جنباً ، وإني أنسيت حتى قمت في الصلاة ) ) .
واسامة بن زيد ، هو الليثي ، وليس بذلك الحافظ .
وروى معاذ بن معاذ : حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : دخل النبي ( في صلاته ، فكبر فكبرنا معه ، ثم اشار إلى الناس أن كما أنتم ، فلم نزل قيأماحتى أتانا رسول الله ( ، قد اغتسل ورأسه يقطر .
قال البيهقي : خالفه عبد الوهاب بن عطاء ، فرواه عن سعيد ، عن قتادة ،(3/599)
"""""" صفحة رقم 600 """"""
عن بكر المزني .
وقد بنى الشافعي على رواية من روى : أنه ( كان كبر ثم ذكر ، ووافقه الإمام أحمد في رواية الأثرم وغيره .
وهؤلاء استدلوا بهذا الحديث على أن من صلى خلف محدث ناسٍ لحدثه ان صلاته مجزئه عنه ، ويعيد الإمام وحده إذا ذكر بعد تمام صلاته ، كما روي عن عمر وعثمان .
وقيل : إنه لا مخالف لهما من الصحابة ، بل قد روي مثله عن علي ، وابن عمر - أيضا - ، وهو قول جمهور العلماء ، منهم : النخعي ، وسفيان ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد .
قال ابن مهدي : قلت لسفيان الثوري : تعلم ان أحداً قال : يعيد ويعيدون عن حماد ؟ قال : لا .
وهذا إذا استمر نسيان الإمام حتى فرغ من صلاته ، فأماإن ذكر في اثناء صلاته فخرج ، فتطهر ثم عاد ، فإن الإمام لا يبني على ما مضى من صلاته بغير طهارة بغير خلاف ، فإن من صلى بغير طهارة ناسياً فإن عليه الإعادة بالإجماع ؛ لقول النبي ( : ( ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) ) ، وقوله : ( ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ) ) .
وحكى ابن عبد البر عن قوم أنهم جوزوا البناء على ما مضى من صلاته محدثا ناسياً ، وأشار إلى انه قول مخالف للإجماع ، فلا يعتد به .
وليس في الحديث ان النبي ( بنى على ما مضى من تكبيرة الإحرام وهو ناس لجنابته ، فإن قدر أن ذلك وقع فهو منسوخ ؛ لإجماع الأمة على خلافه ،(3/600)
"""""" صفحة رقم 601 """"""
كما ذكره ابن عبد البر وغيره ، فلم يبق إلا أحد وجهين :
أحدهما : أن يكون ( لما رجع كبر للإحرام ، وكبر الناس معه .
وعلى هذا التقدير ، فلا يبقى في الحديث دلالة على صحة الصلاة خلف إمام صلى بالناس محدثاً ناسياً لحدثه .
والثاني : أن يكون النبي ( استأنف تكبيرة الإحرام ، وبنى الناس خلفه على تكبيرهم الماضي .
وهذا هو الذي اشار اليه الشافعي ، وجعله عمدة على صحة صلاة المتطهر خلف إمام صلى محدثاً ناسياً لحدثه .
قال ابن عبد البر : وقد وافق الشافعي على ذلك بعض أصحاب مالك . قال : ولا يصح عندي ذلك على أصول مالك ؛ لأن مالكاً لا يجيز للمأموم ان يكبر قبل إمامه ، وإنما يجيزه الشافعي .
يشير إلى أنه على هذا التقدير يصير المأموم قد كبر منفرداً ، ثم انتقل إلى ائتمامه بالإمام ، وهذا يجيزه الشافعي دون مالك .
وفيما قاله ابن عبد البر نظر ؛ فإن المأموم إنما كبر مقتدياً بإمام يصح الاقتداء به ، ثم بطلت صلاته بذكره ، فاستأنف صلاته ، فلم يخرج المأموم عن كونه مقتدياً بإمام يصح الاقتداء به ، فهو كمن صلى خلف إمام ، ثم سبقه الحدث في اثناء صلاته في المعنى .
وعن الإمام أحمد في ابتداء المأمومين وإتمامهم الصلاة إذا اقتدوا بمن نسي حدثه ، ثم علم به في اثناء صلاته - روايتان .
وروي عن الحسن ، أنهم يتمون صلاتهم .
ومذهب الشافعي : لا فرق بين ان يكون الإمام ناسياً لحدثه أو ذاكراً له ، إذالم يعلم الماموم ، أنه لا إعادة على المأموم .(3/601)
"""""" صفحة رقم 602 """"""
وهو قول ابن نافع من المالكية ، وحكاه ابن عبد البر عن جمهور فقهاء الأمصار وأهل الحديث .
وعن مالك وأحمد : على الماموم الإعادة .
وقال حماد وأبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري - في اشهر الروايتين عنه - : يعيد المأموم ، وإن كان الإمام ناسياً ولم يذكر حتى فرغ من صلاته .
وهو رواية ضعيفة عن أحمد .
وحكي عنه رواية ثالثة : أن قرأ المأموم لنفسه فلا إعادة عليه ، وإلا فعليه الإعادة .
وهذا قد يرجع إلى القول بأنه تصير صلاة المأموم في هذه الحال منفرداً .
والجمهور على ان صلاته في جماعة ، وهو اصح الوجهين للشافعية ، بل قد قيل : إنه نص الشافعي .
وروي عن علي : أن الإمام والمأمومين يعيدون ، ولا يصح عنه ؛ فإنه من رواية عمرو بن خالد الواسطي ، وهو كذاب .
وفيه حديث مرسل : رواه أبو جابر البياضي - وهو متروك - عن ابن المسيب - مرسلاً .(3/602)
"""""" صفحة رقم 603 """"""
- باب قول الرجل : ( ( ما صلينا )
641 - حدثنا أبو نعيم : حدثنا شيبان ، عن يحيى ، قال : سمعت أبا سلمة ، قال : أنا جابر بن عبد الله ، أن النبي ( جاءه عمر بن الخطاب يوم الخندق ، فقال : يا رسول الله ، ماكدت اصلي حتى كادت الشمس تغرب ، وذلك بعد ما أفطر الصائم . فقال النبي ( : ( ( [ والله ] ، ما صليتها ) ) ، فنزل النبي ( إلى بطحان وأنا معه ، فتوضأ ثم صلى العصر بعد ما غربت الشمس ، ثم صلى بعدها المغرب .
قد تقدم هذا الحديث في أواخر ( ( كتاب المواقيت ) ) .
ومقصود البخاري بتخريجه هاهنا : أن من لم يصل الصلاة حتى ذهب وقتها وهو ناسٍ لها ، أو مشتغل عنها بعذر يبيح تأخيرها ، إذا سئل : ( ( هل صلى ؟ ) ) فله أن يقول : ( ( ما صليتها ) ) ، وله أن يحلف على ذلك ، كما قال النبي ( : ( ( والله ، ما صليتها ) ) .
وكذلك إذاسئل من أخر الصلاة الحاضرة إلى أثناء وقتها : هل صلاها ؟ فله أن يقول : ( ( ما صليتها بعد ) ) ، ولا حرج في ذلك ؛ لأنه صدق ، وتأخر الصلاة في هذه الصورة كلها مباح ، فلا يضر الإخبار فيها بأنه لم يصل .
وقد نص على جواز ذلك أحمد ، وإسحاق - : نقله عنهما ابن منصور .
ويوجد من الناس من يتحرج من قوله : ( ( لم أصل ) ) ، ويقول : ( ( نصلي إن شاء الله ) ) ، والسنة وردت بخلاف ذلك .
وأماإن عرض عليه أن يصلي في وقتها ، وهو يريد تأخيرها ، فإنه لا(3/603)
"""""" صفحة رقم 604 """"""
يقول : ( ( لا أصلي ) ) ، ولكن يخبر بما قصده من التأخير المباح ، كما قال النبي ( لأسامة بن زيد ليلة المزدلفة : لما قال له : الصلاة يا رسول الله . فقال له ( : ( ( الصلاة امامك ) ) .
ولما خطب ابن عباس بالبصرة ، وأخر المغرب ، فقيل له : الصلاة ، وألح عليه القائل ، قال له : أتعلمنا بالسنة ؟ ثم أخبره بجمع النبي ( بين الصلاتين .
خرجه مسلم .
ولما أخر ابن عمر المغرب في السفر ، وكان قد استصرخ على زوجته صفية ، قال له ابنه سالم : الصلاة . فقال [ له ] : سر ، ثم قال له : الصلاة . فقال له : سر ، حتى سار ميلين أو ثلاثة ، ثم نزل فصلى ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله ( يصلي إذا أعجله السير .
خرجه البخاري ، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى .(3/604)
"""""" صفحة رقم 605 """"""
37 - باب
الإمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة
642 - حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو : حدثنا عبد الوارث : حدثنا
عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس ، قال : أقيمت الصلاة والنبي ( يناجي رجلاً في جانب المسجد ، فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم .
هذا الحديث : فيه دليل على أن الإمام له أن يؤخر الدخول في الصلاة بعد
إقامة الصلاة ، إذا كانت له حاجة ، وقد كان ابن عمر إذا أقيمت الصلاة وقام مقامه
لا يكبر حتى يأتيه الرجل الذي كان وكله بإقامة الصفوف ، فيخبره بإقامتها ، وأما
إذا لم يكن له حاجة فالأولى المسارعة إلى الدخول في الصلاة عقب الإقامة .
وفي ( ( تهذيب المدونة ) ) للبرادعي المالكي : وينتظر الإمام بعد الإقامة قليلاً قدر ما تستوي الصفوف ، وليس في سرعة القيام للصلاة بعد الإقامة وقت ، وذلك على قدر طاقة الناس .
ومتى طال الفصل بين الإقامة والصلاة ، فقال بعض أصحابنا ، وأصحاب الشافعي : يعتد بتلك الإقامة ، ويكون كمن صلى بغير إقامة .
وسيأتي من حديث ثابت ، عن أنس ما يدل على خلاف ذلك .
وظاهر حديث أنس يدل على ان الإقامة لم تعد كذلك .
وقد خرج مسلم حديث عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس هذا ، ولفظه : أقيمت الصلاة والنبي ( يناجي رجلاً ، فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه ، ثم جاء فصلى بهم .(3/605)
"""""" صفحة رقم 606 """"""
وظاهر هذه الرواية يدل على انه صلى بالإقامة السابقة ، واكتفى بها .
فإن زعم زاعم ان النبي ( فعل ذلك ليبين للناس جواز الصلاة بدون اقامة .
قيل : ليس في هذا بيان لذلك ؛ فإنه إنما يتبادر إلى الأفهام انه اكتفى بالإقامة المتقدمة ، فلو كان حكمها قد بطل لأمر بإقامة ثانية ، أو بين بقوله ان تلك الاقامة لم تبق معتبرة ، وإنما يصلي بغير إقامة بالكلية لئلا يظن انه صلى بتلك الإقامة الماضية ، فإن هذا هو المتبادر إلى الأفهام . والله اعلم .
وقد روي عن طائفة من السلف ما يدل على أن الإقامة وإن تقدمت على الصلاة بزمن طويل فإنها كافية .
فروي عن الحسن ، والشعبي ، والنخعي ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعروة ، ومحمد بن علي بن حسين ، وغيرهم : أن من دخل مسجداً قد صلي فيه فإنه لا يؤذن ، ولا يقيم .
وحكي مثله عن أبي حنيفة وأصحابه ، وإسحاق ، وحكاه ابن المنذر قولاً للشافعي .
ومنهم من علل بأنه يجزئه إقامة أهل المسجد التي صلوا بها ، روي ذلك صريحاً عن عروة .
وسئل أحمد عن ذلك ، فقال : ان شاءوا أقاموا ، والأمر عنده واسع - : نقله عنه حرب .
وهذا يشعر بأن لهم الاكتفاء بالإقامة الأولى .
ونقل حرب عن إسحاق فيمن فاتته الصلاة يوم الجمعة مع الإمام - صلاة الجمعة - ، قال : لا بد أن يقيم الصلاة للظهر ؛ لأن الأذان والإقامة يومئذ لم تكن للظهر ، إنما كانت للجمعة .
وهذا يدل على أنه يكتفي بالإقامة الأولى لمن صلى تلك الصلاة التي اقيمت لأجلها .(3/606)
"""""" صفحة رقم 607 """"""
وقد ذكرنا هذه المسائل مستوفاة في ( ( أبواب الأذان ) ) ، وإنما المقصود : ان الإقامة وإن طال الفصل بينها وبين الدخول في الصلاة يكتفي بها عند كثير من العلماء .
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) حدثنا عمران بن حدير ، عن أبي مجلز ، قال : أقيمت الصلاة ، وصفت الصفوف ، فانتدب رجل لعمر فكلمه ، فأطال القيام حتى القيا إلى الأرض ، والقوم صفوف .(3/607)
"""""" صفحة رقم 608 """"""
- باب الكلام إذا أقيمت الصلاة
643 - حدثنا عياش بن الوليد : حدثنا عبد الأعلى : حدثنا حميد ، قال : سألت ثابتاً البناني عن الرجل يتكلم بعدما تقام الصلاة ، فحدثني عن أنس بن مالك ، قال : أقيمت الصلاة ، فعرض للنبي ( رجل ، فحبسه بعدما أقيمت الصلاة .
خرجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) من حديث حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : أقيمت صلاة العشاء ، فقال رجل : لي حاجة ، فقام النبي ( يناجيه حتى نام القوم - أو بعض القوم - ، ثم صلوا .
وخرجه الترمذي من حديث معمر ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : لقد رأيت رسول الله ( بعدما تقام الصلاة يكلمه الرجل ، يقوم بينه وبين القبلة ، فما يزال يكلمه ، ولقد رايت بعضهم ينعس من طول قيام النبي ( .
فهذا الحديث : دليل على جواز ابتداء الكلام للإمام وغيره بعد إقامة الصلاة ، بخلاف حديث عبد العزيز بن صهيب المخرج في الباب الماضي ؛ فإنه إنما يدل على جواز استدامة الكلام إذا شرع فيه قبل الإقامة .
ورواية معمر ، عن ثابت ، عن أنس صريحة بأن مدة الكلام طالت ، ورواية حماد بن سلمة تشعر بذلك ؛ لقوله : ( ( حتى نام القوم أو بعض القوم ) ) ، وليس فيه ذكر إعادة إقامة الصلاة .
وظاهر الحال : يدل على أنه لم يعد الإقامة ، ولو وقع ذلك لنقل ، ولم يهمل ؛ فإنه مما يهتم به .(3/608)
"""""" صفحة رقم 609 """"""
وقد روى حديث ثابت جرير بن حازم ، فخالف أصحاب ثابت في لفظه ، رواه عن ثابت ، عن أنس ، أن النبي ( كان يتكلم بالحاجة إذا نزل عن المنبر .
خرجه من طريقه كذلك الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي .
وقال : لا نعرفه إلا من حديث جرير بن حازم ، وسمعت محمداً - يعني : البخاري - يقول : وهم جرير بن حازم في هذا الحديث ، والصحيح ما روي عن ثابت ، عن أنس ، قال : أقيمت الصلاة فأخذ رجل بيد النبي ( ، فما زال يكلمه حتى نعس بعض القوم . قال محمد : والحديث هو هذا ، وجرير بن حازم ربما يهم في بعض الشيء ، وهو صدوق .
وقال ابن أبي خيثمة في ( ( تاريخه ) ) : سئل يحيى بن معين عن حديث جرير بن حازم هذا ، فقال : خطأ .
وروى وكيع ، عن جرير بن حازم ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : كان رسول الله ( ينزل من المنبر يوم الجمعة ، فيكلمه الرجل في الحاجة فيكلمه ، ثم يتقدم إلى المصلى فيصلي .
وروى وكيع عن سفيان ، عن معمر ، عن الزهري ، عن النبي ( - نحو حديث جرير ، عن ثابت - مرسلاً .(3/609)
"""""" صفحة رقم 610 """"""
وقد اختلف في كراهية الكلام بين الخطبة والصلاة ، فكرهه طاوس - في رواية - والحكم وأبو حنيفة ، ورخص فيه الأكثرون .
قال ابن المنذر : كان طاوس وعطاء والزهري وبكر بن عبد الله والنخعي وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور ويعقوب ومحمد يرخصون فيه ، وروينا ذلك عن ابن عمر ، وحكي كراهته عن الحكم .
وأماالكلام بين إقامة الصلاة والصلاة في غير الجمعة فلا أعلم أحداً كرهه ، وإنما كره من كره ذلك يوم الجمعة تبعاً لكراهة الكلام في وقت الخطبة ، فاستصحبوا الكراهة إلى انقضاء الصلاة ، وهذا المعنى غير موجود في سائر الصلوات .
وحكى ابن عبد البر عن العراقيين كراهته بني الإقامة والصلاة مطالقاً .
فإن كان الكلام بينهما لمصلحة كتسوية الصفوف ونحوها كان مستحباً ، وقد دلت الأحاديث الكثيرة على ذلك ، ووردت احاديث وآثار في الدعاء قبل الدخول في الصلاة .
1(3/610)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
الجزء الرابع(4/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
- - بَابُ
وُجُوبِ صَلاَةِ الجَمَاعَةِ
وَقَالَ الحَسَنُ : إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنِ العِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا
.
مقصود البخاري بهذا الباب : أن الجماعة واجبةٌ للصلاة ، ومن تركها لغير عذرٍ ، وصلى منفرداً فَقَدْ ترك واجباً ، وهذا قَوْلِ كثير من السلف ، منهم : الْحَسَن ، وما حكاه البخاري عَنْهُ يدل عَلَى ذَلِكَ .
وقد روي عَن الْحَسَن التصريح بتعليل ذَلِكَ بأن الجماعة فريضةٌ ، فروى إِبْرَاهِيْم الحربي فِي ( ( كِتَاب البر ) ) : نا عُبَيْدِ الله بْن عُمَر - - هُوَ : القواريري - : نا معتمر : نا هِشَام ، قَالَ : سئل الْحَسَن عَن الرَّجُلُ تأمره أمه أن يفطر تطوعاً ؟ قَالَ : يفطر ، ولا قضاء عَلِيهِ . قُلتُ : تنهاهُ أن يصلي العشاء فِي جماعة ؟ قَالَ : لَيْسَ لها ذَلِكَ ؛ هَذِهِ فريضة .
وروى بإسناده عَن عَطَاء فِي الرَّجُلُ تحسبه أمه فِي الليلة المطيرة المظلمة عَن الصلاة فِي جماعة ، قَالَ : أطعها .
وهذا لا يخالف فِيهِ الْحَسَن ؛ فإن الْحَسَن أفتى بعدم طاعة الأم فِي ترك الجماعة فِي غير حال العذر ، وعطاء أفتى بطاعتها فِي ترك الجماعة فِي حال العذر المبيح لترك الجماعة ، وعطاء موافق للحسن فِي القول بوجوب الجماعة .
قَالَ ابن المنذر : وممن كَانَ يرى أن حضور الجماعات فرض : عَطَاء بْن أَبِي رباح ، وأحمد بْن حَنْبل ، وأبو ثور .
قَالَ : وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لا أرخص لمن قدر عَلَى صلاة الجماعة فِي ترك(4/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
إتيانها ، إلا من عذرٍ .
وَقَالَ ابن مَسْعُود : لَقَدْ رأيتنا وما يتخلف عَنْهَا إلا منافقٌ معلومٌ نفاقه .
وروينا عَن غير واحد من أصْحَاب رَسُول الله ( ، أنهم قالوا : من سَمِعَ النداء ثُمَّ لَمْ يجب فلا صلاة لَهُ ، منهم : ابن مَسْعُود ، وأبو موسى . وقد روي عَن النَّبِيّ ( . انتهى .
وَقَالَ إِسْحَاق بْن راهويه : صلاة الجماعة فريضة .
وَقَالَ الإمام أحمد فِي صلاة الجماعة : هِيَ فريضة .
وَقَالَ فِي رِوَايَة عَنْهُ : أخشى أن تكون فريضة ، ولو ذهب النَّاس يجلسون(4/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
عَنْهَا لتعطلت المساجد : يروى عَن عَلِيّ ، وابن عَبَّاس ، وابن مَسْعُود : من سَمِعَ النداء فَلَمْ يجب فلا صلاة لَهُ .
وَقَالَ - أيضاً - : أشد مَا فيها قَوْلِ ابن مَسْعُود : لَوْ تركتم سَنَة نبيكم ( لكفرتم .
وقول ابن مَسْعُود قَدْ خرجه مُسْلِم فِي ( ( صحيحه ) ) من رِوَايَة أَبِي الأحوص ، عَن عَبْد الله بْن مَسْعُود ، قَالَ : لقد رأيتنا وما يتخلف عَن الصلاة إلا منافق قَدْ علم
نفاقه ، أو مريض ، إن كَانَ المريض ليمشي بَيْن الرجلين حَتَّى يأتي الصلاة ، وَقَالَ : إن رَسُول الله ( علمنا سنن الهدى ، وإن من سنن الهدى الصلاة فِي المسجد الَّذِي يؤذن
فِيهِ .
وفي رِوَايَة لمسلم - أيضا - عَن ابن مَسْعُود ، قَالَ : من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ عَلَى هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن ، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى ، وإنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم فِي بيوتكم كما يصلي هَذَا المتخلف فِي بيته لتركتم سَنَة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم .
وخرجه أبو داود بنحوه ، وعنده : ( ( ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم ) ) .
وخرج الترمذي من حَدِيْث مُجَاهِد ، عَن ابن عَبَّاس ، أنه سئل عَن رَجُل يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يشهد جمعة ولا جماعة ؟ قَالَ : هُوَ فِي النار .
وروي عَن أَبِي سنان ، عَن سَعِيد بْن جبير ، عَن ابن عَبَّاس فِي قوله تعالى :
( وقدكَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ( [ القلم : 43 ] قَالَ : نَزَلَتْ فِي صلاة(4/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
الرَّجُلُ يسمع الأذان فلا يجيب .
وروي عَن سَعِيد بْن جبير من قوله .
وروى أبو حيان التيمي ، عَن أبيه ، عَن عَلِيّ ، قَالَ : لا صلاة لجار المسجد إلا فِي المسجد . قيل : يَا أمير المُؤْمِنيِن ، ومن جار المسجد ؟ قَالَ : من سَمِعَ الأذان .
وروى شعبة عَن عدي بْن ثابت ، عَن سَعِيد بْن جبير ، عَن ابن عَبَّاس ، قَالَ : من سَمِعَ النداء فَلَمْ يجب فلا صلاة لَهُ إلا من عذرٍ .
وقد رفعه طائفة من أصْحَاب شعبة بهذا الإسناد ، وبعضهم قَالَ : عَن شعبة ، عَن حبيب بْن أَبِي ثابت ، عَن سَعِيد ، عَن ابن عَبَّاس مرفوعاً .
وقد خرجه بالإسناد الأول مرفوعاً ابن ماجه وابن حبان فِي ( ( صحيحه ) ) والحاكم وصححه .
ولكن وقفه هُوَ الصحيح عِنْدَ الإمام أحمد وغيره .
وخرجه أبو داود مرفوعاً - أيضاً - من رِوَايَة أَبِي جناب الكلبي ، عَن مغراء ، عَن عدي بْن ثابت ، بِهِ .
وأبو جناب ، ليس بالقوي ، وقد اختلف عَلِيهِ - أيضاً - فِي رفعه ووقفه .
وروي أبو بَكْر بْن عياش ، عَن أَبِي حصين ، عَن أَبِي بردة ، عَن أَبِي موسى ،(4/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( من سَمِعَ النداء فارغاً صحيحاً فَلَمْ يجب فلا صلاة لَهُ ) ) .
خرجه الحَاكِم ، وصححه .
وقد اختلف عَلَى أبي بَكْر بْن عياش فِي رفعه ووقفه .
ورواه قيس بْن الربيع ، عَن أَبِي حصين - مرفوعاً .
ورواه مِسْعَر وغيره عَن أَبِي حصين موقوفاً .
والموقوف أصح - : قَالَه البيهقي وغيره .
وممن ذهب إلى أن الجماعة للصلاة مَعَ عدم العذر واجبة : الأوزاعي والثوري والفضيل بن عياض وإسحاق وداود ، وعامة فقهاء الحَدِيْث ، منهم : ابن خزيمة وابن المنذر .
وأكثرهم عَلَى أَنَّهُ لَوْ ترك الجماعة لغير عذرٍ وصلى منفرداً أَنَّهُ لا يجب عَلِيهِ الإعادة ، ونص عَلِيهِ الإمام أحمد .
وحكي عَن داود أَنَّهُ يجب عليهِ الإعادة ، ووافقه طائفة من أصحابنا ، منهم : أبو الْحَسَن التميمي ، وابن عقيل وغيرهما .
وَقَالَ حرب الكرماني سئل إِسْحَاق عَن قوله : لا صلاة لجار المسجد إلا فِي المسجد ؟ فَقَالَ : الصحيح أَنَّهُ لا فضل ولا أجر ولا أمن عَلِيهِ .
يعني : أَنَّهُ لا صلاة لَهُ .
وقد ذكرنا حَدِيْث ابن أم مكتوم فِي استئذانه النَّبِيّ ( ، وقول النَّبِيّ ( : ( ( لا أجدُ لَكَ رخصةً ) ) فيما سبق .(4/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
وهذا مِمَّا يستدل بِهِ عَلَى وجوب حضور الجماعة .
وقد روي عَن حذيفة وزيد بْن ثابت مَا يدل عَلَى الرخصة فِي الصلاة منفرداً مَعَ القدرة عَلَى الجماعة .
وحكي عَن أَبِي حنيفة ومالك ان حضور الجماعة سَنَة مؤكدة ، لا يأثم بتركها .
ولأصحاب الشَّافِعِيّ وجهان ، أحدهما كذلك ، ومنهم من حكى عَنْهُ رِوَايَة كقول مَالِك وأبي حنيفة ، وفي صحتها عَنْهُ نظر . والله أعلم .
ولهذا أنكر بعض محققي أصحابنا أن يكون عَن أحمد رِوَايَة بأن حضور المساجد للجماعة سَنَة ، وأنه يجوز لكل أحد أن يتخلف عَن المسجد ويصلي فِي بيته ؛ لما فِي ذَلِكَ من تعطيل المساجد عَن الجماعات ، وهي من أعظم شعائر الإسلام .
ويلزم من هَذَا ؛ أن لا يصح عَن أحمد رِوَايَة بأن الجماعة للصلاة من أصلها سَنَة غير واجبة بطريق الأولى ، فإنه يلزم من القول بوجوب حضور المسجد لإقامة الجماعة القول بوجوب أصل الجماعة ، من غير عكسٍ . والله أعلم .
وحكى ابن عَبْد البر الإجماع عَلَى أنه لا يجوز أن يجتمع عَلَى تعطيل المساجد كلها من الجماعات ، وبذلك رجح قَوْلِ من قَالَ : إن الجماعة فرض كفايةٍ .
قَالَ البخاري :
644 - - حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف : أنا مَالِك ، عَن أَبِي الزناد ، عَن الأعرج ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، أن رَسُول الله ( قَالَ : ( ( والذي نفسي بيده ، لَقَدْ هممت بحطب
[ يجمع ] ليحتطب ، ثُمَّ آمر بالصلاة فيؤذن لها ، ثُمَّ آمر رجلاً فيؤم النَّاس ، ثُمَّ(4/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم ، فوالذي نفسي بيده ، لَوْ يعلم أحدهم أَنَّهُ يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء ) ) .
قَالَ ابن عَبْد البر : قوله : ( ( لَقَدْ هممت أن آمر بخطب ليحطب ) ) أي : يجمع .
والعرق ، المراد بِهِ : بضعة اللحم السمين عَلَى عظمة .
والمرماتان ، قيل : هما السهمان . وقيل : هما حديدتان من حدائد كانوا يلعبون بهما ، وهي ملس كالأسنة ، كانوا يثبتونها فِي الأكوام والأغراض ، ويقال لها - فيها زعم بعضهم - : المداحي .
قَالَ أبو عُبَيْدِ : يقال : إن المرماتين ظلفا الشاة . قَالَ : وهذا حرف لا أدري مَا وجهه ، إلا أن هَذَا تفسيره .
ويروى المرماتين - بكسر الميم وفتحها - : ذكره الأخفش .
وذكر العرق والمرماتين عَلَى وجه ضرب المثال بالأشياء التافهة الحقيرة من الدنيا ، وَهُوَ توبيخ لمن رغب عَن فضل شهود الجماعة للصلاة ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ طمع فِي إدراك يسير من عرض الدنيا لبادر إليه ، ولو نودي إلى ذَلِكَ لأسرع الإجابة إليه ، وَهُوَ يسمع منادي الله فلا يجيبه .
قَالَ الخطابي : وقوله : ( ( حسنتين ) ) لا أدري عَلَى أي شيء يتأول معنى الْحَسَن فيهما ، إلا عَلَى تأويل من فسر المرماة بظلف الشاة .
ثُمَّ ذكر عَن المبرد ، أَنَّهُ قَالَ : الْحَسَن والحسن العظيم الَّذِي فِي المرفق مِمَّا يلي البطن . والقبح والقبيح العظم الَّذِي فِي المرفق مِمَّا يلي المرفق .
قَالَ : فلعله شبه أحد العظمين بالآخر - أعني المرماة - والعظم الَّذِي فِي المرفق مِمَّا يلي البطن .(4/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
قَالَ : وَهُوَ شيء لا أحق ولا اثق بِهِ . انتهى .
قُلتُ : وقد قَالَ بعضهم : ان الرواية ( ( خشبتين ) ) بالخاء والشين المعجمتين والباء الموحدة ، وَهُوَ غلط وتصحيف .
والذي يظهر - والله أعلم - ان النَّبِيّ ( أخرج هَذَا الكلام مخرج تعظيم شهور العشاء فِي جماعة ، والتنويه بفضله وشرفه ونفاسته ، والنفوس مجبولة عَلَى محبة الأشياء الحسنة الشريفة النفيسة ، والميل إليها ، فوبخ من لَوْ طمع فِي وجود قطعة من لحم سمينة أو مرماتين حسنتين ، وهما من ادنى الأشياء الدنيوية لبادر إلى الخروج إليها ، وشهد العشاء لذلك ، وَهُوَ يتخلف عَن شهود العشاء فِي الجماعة مَعَ فضل الجماعة عِنْدَ الله ، وعظم فضل الجماعة مَا يدخره لمن شهدها عنده من جميل الجزاء وجزيل العطاء ، فيكون مَا يعجل لَهُ وإن كَانَ يسيراً من أمور الدنيا المستحسنة عنده مِمَّا يأكله أو يلهو بِهِ أهم عنده من ثواب الله الموعود بِهِ .
ويشبه هَذَا : قَوْلِ الله تعالى : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( [ الجمعة : 11 ] ، فإنه توبيخ لمن ترك الجمعة أو اشتغل عَنْهَا بالتجارة أو باللهو .
وهذا الحَدِيْث : ظاهر فِي وجوب شهود الجماعة فِي المساجد ، وإجابة المنادي بالصلاة ؛ فإن النَّبِيّ ( أخبر أَنَّهُ هم بتحريق بيوت المتخلفين عَن الجماعة ، ومثل هذه العقوبة الشديدة لا تكون إلا عَلَى ترك واجبٍ .
وقد اعترض المخالفون فِي وجوب الجماعة عَلَى هَذَا الاستدلال ، وأجابوا عَنْهُ بوجوهٍ .
مِنْهَا : حمل هَذَا الوعيد عَلَى الجمعة خاصة .
واستدلوا عَلِيهِ بما فِي ( ( صحيح مُسْلِم ) ) عَن ابن مَسْعُود ، ان النَّبِيّ ( قَالَ(4/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
لقوم يتخلفون عَن الجمعة : ( ( لَقَدْ هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ، ثُمَّ أحرق عَلَى رجال يتخلفون عَن الجمعة ) ) .
ومنها : أَنَّهُ أراد تحريق بيوت المنافقين لنفاقهم ؛ ولهذا قَالَ ابن مَسْعُود : ولقد رأيتنا وما يتخلف عَنْهَا إلا منافق معلوم نفاقه ، وقد سبق ذكره .
والمنافق إذا تخلف عَن الصلاة مَعَ المُسْلِمِين لا يصلي فِي بيته بالكلية ، كما أخبر الله عنهم ، أنهم ( يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً ( [ النِّسَاء : 142 ] .
وهذا التأويل عَن الشَّافِعِيّ وغيره .
ومنها : أَنَّهُ لَمْ يفعل التحريق ، وإنما توعد بِهِ .
وقد ذهب قوم من العلماء إلى جواز أن يهدد الحَاكِم رعيته بما لا يفعله بهم ، واستدل بعضهم لذلك بما أخبر بِهِ النَّبِيّ ( عَن سُلَيْمَان ، أَنَّهُ قَالَ حِينَ اختصمت إليه المراتان في الولد : ( ( ايتوني بالسكين حَتَّى أشقه ) ) ، ولم يرد فعل ذَلِكَ ، إنما قصد بِهِ التوصل إلى معرفة أمه منهما بظهور شفقتها ورقتها عَلَى ولدها .
والجواب : أَنَّهُ لا يصح حمل الحَدِيْث عَلَى شيء من ذَلِكَ .
أما حمله عَلَى الجمعة وحدها فغير صحيح .
وفي ذكر النَّبِيّ ( شهود العشاء فِي تمام الحَدِيْث مَا يدل عَلَى ان صلاة العشاء الموبخ عَلَى ترك شهودها هِيَ المراد .
وقد روي ذَلِكَ عَن سَعِيد بْن المُسَيِّب ، وأنها داخلة فِي عموم الصلاة ؛ فإن الاسم المفرد المحلي بالألف واللام يعم ، كما فِي قوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ( [ البقرة : 43 ] ، وهذا قَوْلِ جماعة من العلماء .
وقد جَاءَ التصريح بالتحريق عَلَى من تخلف عَن صلاة العشاء .(4/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
فروى الحميدي عَن سُفْيَان : ثنا أبو الزناد ، عَن الأعرج ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( لَقَدْ هممت أن أقيم الصلاة صلاة العشاء ، ثُمَّ آمر فتياني فيخالفوا إلى بيوت أقوام يتخلفون عَن صلاة العشاء ، فيحرقون عليهم بحزم الحطب ) ) - وذكر بقية الحَدِيْث .
وروى ابن أَبِي ذئب ، عَن عجلان مَوْلَى المشمعل ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( لينتهين رجال ممن حول المسجد ، لا يشهدون العشاء الآخرة فِي الجمع ، أو لأحرقن حول بيوتهم بحزم الحطب ) ) .
خرجه الإمام أحمد .
وخرج - أيضاً - من حَدِيْث أَبِي معشر ، عَن سَعِيد المقبري ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( لولا مَا فِي البيوت من النِّسَاء والذرية أقمت صلاة العشاء ، وأمرت فتياني يحرقون مَا فِي البيوت بالنار ) ) .
وروى عاصم ، عَن أَبِي صالح ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : أخر رَسُول الله ( صلاة العشاء حَتَّى تهور الليل وذهب ثلثه أو قريباً مِنْهُ ، ثُمَّ خرج إلى المسجد ، فإذا النَّاس عزون ، وإذا هم قليل ، فغضب غضباً مَا أعلم اني رأيته غضب غضباً قط أشد مِنْهُ ، ثُمَّ قَالَ : ( ( لَوْ ان رجلاً نادى النَّاس إلى عرق أو مرماتين أتوه لذلك [ ولم يتخلفوا ] ، وهم يتخلفون عَن هذه الصلاة ، لَقَدْ هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ، ثُمَّ اتتبع هذه الدور الَّتِيْ تخلف أهلوها عَن هذه الصلاة ، فأحرقها عليهم بالنيران ) ) .(4/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
وورد التصريح بأن العقوبة عَلَى ترك الجماعة دون الجمعة .
خرجه الطبراني فِي ( ( أوسطه ) ) : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْم - هُوَ ابن هاشم البغوي - : ثنا حوثرة بْن أشرس : ثنا حماد بْن سَلَمَة ، عَن ثابت ، عَن أنس ، ان النَّبِيّ ( قَالَ ( ( لَوْ ان رجلاً دعا النَّاس إلى عرق أو مرماتين لأجابوه ، وهم يدعون إلى هذه الصلاة فِي جماعة فلا يأتونها ، لَقَدْ هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس فِي جماعة ، ثُمَّ أنصرف إلى قوم سمعوا النداء ، فَلَمْ يجيبوا فأضرمها عليهم ناراً ؛ فإنه لا يتخلف عَنْهَا إلا منافق ) ) .
حوثرة ، ضَعِيف - : قَالَ ابن نقطة فِي ( ( تكملة الإكمال ) ) .
وأما ذكر الجمعة فِي حَدِيْث ابن مَسْعُود ، فلا يدل عَلَى اختصاها بذاك ؛ فإنه كما هم أن يحرق عَلَى المتخلف عَن الجمعة فَقَدْ هم أن يحرق عَلَى المتخلف عَن العشاء .
وقد قيل إنه عبر بالجمعة عَن الجماعة للاجتماع لها .
قَالَ البيهقي : هَذَا هُوَ الَّذِي عَلِيهِ سائر الرواة .
واستدل بما خرجه من ( ( سنن أَبِي داود ) ) عَن يزيد بْن يزيد ، عَن يزيد بْن الأصم ، قَالَ : [ سَمِعْت أبا هُرَيْرَةَ يَقُول ] : سَمِعْت رَسُول الله ( يَقُول : ( ( لَقَدْ هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزماً من حطبٍ ، ثُمَّ آتي قوماً يصلون فِي بيوتهم ، ليس بهم علة فأحرقها عليهم ) ) .
قيل ليزيد بْن الأصم : الجمعة عنى أو غيرها ؟ فَقَالَ : صمتا أذناي إن لَمْ(4/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
أكن سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يأثره عَن النَّبِيّ ( ، مَا ذكر جمعة ولا غيرها .
وخرجه - - أيضاً - من طريق معمر ، عَن جَعْفَر بْن برقان ، عَن يزيد بْن الأصم مختصراً ، وفي حديثه : ( ( لا يشهدون الجمعة ) ) .
وهذه الرواية ، أو أَنَّهُ اراد بالجمعة الجماعة ، كما قَالَ البيهقي ؛ فإن مسلماً خرجه من طريق وكيع ، عَن جَعْفَر بْن برقان ، وَقَالَ فِي حديثه : ( ( لا يشهدو الصلاة ) ) .
ورواية أَبِي داود صريحة فِي أن التحريق عقوبة عَلَى المتخلف عَن الجماعة .
وإن صلى المتخلف فِي بيته .
وأما دعوى أن التحريق كَانَ للنفاق فهو غير صحيح ؛ فإن النَّبِيّ ( صرح بالتعليل بالتخلف عَن الجماعة ، ولكنه جعل ذَلِكَ من خصال النفاق ، وكل مَا كَانَ علماً عَلَى النفاق فهو محرم .
وفي حَدِيْث أَبِي زرارة الأنصاري ، عَن النَّبِيّ ( : ( ( من سَمِعَ النداء ثلاثاً فَلَمْ يجب كتب من المنافقين ) ) . وإسناده صحيح ؛ لكن أبو زرارة ، قَالَ أبو الْقَاسِم البغوي : لا أدري أله صحبة أم لا ؟
وخرج الإمام أحمد من رِوَايَة ابن لهيعة ، عَن زبان بْن فائد ، عَن سَهْل بْن معاذ بْن أنس ، عَن أبيه ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( الجفاء كل الجفاء ، والكفر والنفاق من سَمِعَ منادي الله ينادي بالصلاة ويدعو بالفلاح فلا يجيبه ) ) .
ورواه رشدين بْن سعد ، عَن زبان .(4/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
قَالَ الحافظ أبو موسى : رواه جماعة عَن زبان ، وتابعه عَلِيهِ يزيد بْن أَبِي حبيب .
وَقَالَ النخعي : كفى علماً عَلَى النفاق أن يكون الرَّجُلُ جار المسجد ، لا يرى فِيهِ .
وقد كَانَ النَّبِيّ ( يعلم نفاق خلق من المنافقين ولا يعاقبهم عَلَى نفاقهم ، بل يكل سرائرهم إلى الله ، ويعاملهم معاملة المُسْلِمِين فِي الظاهر ، ولا يعاقبهم إلا عَلَى ذنوب تظهر منهم ، فَلَمْ تكن العقوبة بالتحريق إلا عَلَى الذنب الظاهر ، وَهُوَ التخلف عَن شهود الصلاة فِي المسجد ، لا عَلَى النفاق الباطن .
وأما دعوى أن ذَلِكَ كَانَ تخويفاً وإرهابا مِمَّا لا يجوز فعله ، فَقَدْ اختلف فِي جواز ذَلِكَ .
فروي جوازه عَن طائفة من السلف ، منهم : عَبْد الحميد بْن عَبْد الرحمن عامل عُمَر بْن عَبْد العزيز عَلَى الكوفة ، وميمون بْن مهران ، وروي - - أيضاً - عن عُمَر بْن الخَطَّاب من وجه منقطع ضَعِيف ، وعن عَلِيّ بْن أَبِي طالب .
وأنكر ذَلِكَ عُمَر بْن عَبْد العزيز وتغيظ عَلَى عَبْد الحميد لما فعله ، وَقَالَ : إن خصلتين خيرهما الكذب لخصلتا سوءٍ .
وقد ذكر هذه الآثار عُمَر بْن شبة البصري فِي ( ( كِتَاب أدب السلطان ) ) .
وبكل حال ؛ فليس مَا ذكره النَّبِيّ ( من التحريق من هَذَا فِي شيء ؛ لأنه ( أخبر بأنه هم ، وأنما يهم بما يجوز لَهُ فعله ، والتخويف يكون عِنْدَ من أجازه بما لا يجوز فعله ولا الهم بفعله ، فتبين أَنَّهُ ليس من التخويف فِي شيء ، وإنما امتنع من التحريق لما فِي البيوت من النِّسَاء والذرية وهم الأطفال ، كما فِي الرواية الَّتِيْ خرجها الإمام أحمد ، وهم لا يلزمون شهود الجماعة ؛ فإنها لا تجب عَلَى امرأة ولا طفل ، والعقوبة إذا خشي أن تتعدى إلى من لا ذنب لَهُ امتنعت ،(4/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
كما يؤخر الحد عَن الحامل إذا وجب عَلَيْهَا حَتَّى تضع حملها .
فإن زعم زاعم أن التحريق منسوخ ؛ لأنه من العقوبات المالية ، وقد نسخت ، وربما عضل ذَلِكَ بنهي النَّبِيّ ( عَن التحريق بالنار .
قيل لَهُ : دعوى نسخ العقوبات المالية بإتلاف الأموال لا تصح ، والشريعة طافحة بجواز ذَلِكَ ، كأمره ( بتحريق الثوب المعصفر بالنار ، وأمره بتحريق متاع الغال ، وأمره بكسر القدور الَّتِيْ طبخ فيها لحوم الحمر الأهلية ، وحرق عُمَر بيت خمار .
ونص عَلَى جواز تحريق بيت الخمار أحمد وإسحاق - : نقله عنهما ابن منصور فِي ( ( مسائله ) ) ، وَهُوَ قَوْلِ يَحْيَى بْن يَحْيَى الأندلسي ، وذكر أن بعض أصحابه نقله عَن مَالِك ، واختاره ابن بطة من أصحابنا .
وروي عَن عَلِيّ - أيضاً - وروي عَنْهُ أَنَّهُ أنهب ماله .
وعن عُمَر ، قَالَ فِي الَّذِي يبيع الخمر : كسورا كل آنية لَهُ ، وسيروا كل ماشية
لَهُ .
خرجه وكيع فِي ( ( كتابه ) ) .
وأما نهيه ( عَن التحريق بالنار ، فإنما أراد بِهِ تحريق النفوس وذوات الأرواح .
فإن قيل : فتحريق بيت العاصي يؤدي إلى تحريق نفسه ، وَهُوَ ممنوع .
قيل : إنما يقصد بالتحريق دارهُ ومتاعهُ ، فإن أتى عَلَى نفسه لَمْ يكن بالقصد ، بل تبعاً ، كما يجوز تبييتُ المشركين وقتلهم ليلاً ، وقد أتى القتل عَلَى ذراريهم ونسائهم .
وقد سئل النَّبِيّ ( عَن ذَلِكَ ، فَقَالَ : ( ( هم منهم ) ) .(4/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
وهذا مِمَّا يحسن الاستدلال بِهِ عَلَى قتل تارك الصلاة ؛ فإنه إذا جازت عقوبة تارك الجماعة فِي ماله وإن تعدت إلى نفسه بالهلاك ، فقتل من ترك الصلاة بالكلية أولى بالجواز ، فلا جرم كَانَ قتله واجباً عِنْدَ جمهور العلماء .
وفي الحَدِيْث : دليل عَلَى أَنَّهُ إنما يعاقب تارك الصلاة أو بعض واجباتها فِي حال إخلاله بِهَا ، لا بعد ذَلِكَ ؛ فإن النَّبِيّ ( إنما أراد عقوبتهم فِي حال التخلف ، وقد كَانَ يمكنه أن يؤخر العقوبة حَتَّى يصلي وتنقضي صلاته .
وهذا يعضد قَوْلِ من قَالَ من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم : إن تارك الصلاة لا يقتل حَتَّى يدعى إلى الصلاة ، ويصر عَلَى تركها حَتَّى يضيق وقت الأخرى ، ليكون قتله عَلَى الترك المتلبس بِهِ فِي الحال .
وفي الحَدِيْث - أيضاً - أن الإمام لَهُ أن يؤخر الصلاة عَن أول الوقت لمصلحة دينية ، ولكنه يستخلف من يصلي بالناس فِي أول الوقت ؛ لئلا تفوتهم فضيلة أول الوقت .
وفيه - - أيضاً - : أن إنكار المنكر فرض كفاية ، وأنه إذا قام اكتفى بذلك ، ولا يلزم جميع النَّاس الاجتماع عَلِيهِ ؛ فإنه لَوْ كَانَ كذلك لأخذ النَّبِيّ ( مَعَهُ جميع النَّاس .(4/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
30 - بَابُ
فَضْلِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ
وكان الأسود إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر .
وجاء أنس إلى مسجد قَدْ صلي فِيهِ ، فأذن وأقام ، وصلى جماعة .
هاهنا مسألتان :
إحداهما :
أن من فاتته الجماعة فِي مسجد لَمْ يجد فِيهِ جماعةً ، فإنه يذهب إلى مسجد آخر لتحصيل الجماعة ، كما فعله الأسود .
وَقَالَ حماد بْن زيد : كَانَ ليث بْن أبي سليم إذا فاتته الصلاة فِي مسجد حيه اكترى حماراً ، فطاف عَلِيهِ المساجد حَتَّى يدرك جماعةً .
ونص الإمام أحمد عَلَى أن من فاتته الجماعة فِي مسجد حيه أَنَّهُ يذهب إلى مسجد آخر ليدرك الجماعة . قَالَ : وإن فاتته تكبيرة الإحرام مَعَ الإمام فِي مسجد حية صلى معهم ، ولم يذهب إلى مسجد آخر لإدراك تكبيرة الإحرام مَعَ إمامه .
وحكى عَن هشيم ، أَنَّهُ كَانَ يذهب إلى مسجد آخر لإدراك تكبيرة الإحرام مَعَ الإمام .
ومذهب مَالِك : أن من وجد مسجداً قَدْ جمع أهله ، فإن طمع بإدراك جماعة فِي مسجد غيره خرج إليها ، وإن كانوا جماعةً فلا بأس أن يخرجوا فيجمعوا كراهة إعادة الجماعة عندهم فِي المسجد ، كما سيأتي .
واستثنوا من ذَلِكَ المسجد الحرام ومسجد النَّبِيّ ( ومسجد بيت المقدس ، فقالوا : يصلوا فيها أفذاذاً ، هُوَ أعظم لأجورهم من الجماعة خارج المسجد - :(4/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
ذكره فِي ( ( تهذيب المدونة ) ) .
المسألة الثانية :
أن من دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ جماعة ، فإنه يصلى فِيهِ جماعة مرة ثانية ، صح ذَلِكَ عَن أنس بْن مَالِك ، كما علقه عَنْهُ البخاري ، واحتج بِهِ الإمام أحمد .
وَهُوَ من رِوَايَة الجعد أَبِي عُثْمَان ، أَنَّهُ رأى أَنَس بْن مَالِك دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ ، فأذن وأقام وصلى بأصحابه .
وقد رواه غير واحد من الثقات ، عَن الجعد ، وخرجه عَبْد الرزاق والأثرام وابن أَبِي شيبة والبيهقي وغيرهم فِي ( ( تصانيفهم ) ) من طرق متعددة عَن الجعد .
وقد روي عَن أَنَس من وجه آخر ؛ وأنه رَوَى فِي ذَلِكَ حديثاً مرفوعاً .
خرجه ابن عدي من طريق عباد بْن منصور ، قَالَ : رأيت أَنَس بْن مَالِك دَخَلَ مسجداً بعد العصر ، وقد صلى القوم ، ومعه نفر من أصحابه ، فأمهم ، فلما انفتل قيل لَهُ : أليس يكره هَذَا ؟ فَقَالَ : دَخَلَ رَجُل المسجد ، وقد صلى رَسُول الله ( الفجر ، فقام قائماً ينظر ، فَقَالَ : ( ( مَالِك ؟ ) ) قَالَ : أريد أن أصلي ، فَقَالَ : ( ( أما رَجُل يصلي مَعَ هَذَا ؟ ) ) فدخل رَجُل ، فأمرهم النَّبِيّ ( أن يصلو جميعاً .
وعباد بْن منصور ، تكلموا فِيهِ .
وقد اختلف النَّاس فِي هَذَا المسألة فِي موضعين :
أحدهما : أن من دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ فصلى وحده أو جماعة : هَلْ يؤذن ويقيم ، أم يكفيه أذان الجماعة الأولى وإقامتهم ؟ فِيهِ قولان مشهوران للعلماء ، قَدْ سبق ذكرهما فِي مواضع من الكتاب .
ومذهب أَبِي حنيفة وأصحابه وسفيان وإسحاق ؛ أَنَّهُ يجزئهم الأذن والإقامة(4/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
الأولى ، وَهُوَ نَصَّ أحمد ، وقد جعله صاحب ( ( المغني ) ) المذهب ، وَهُوَ كما قَالَ ؛ لكن أحمد لا يكره إعادة الأذان والإقامة .
وروي عَن طائفة من السلف كراهة إعادتهما ، منهم : عَبْد الرحمن بْن أَبِي ليلي وغيره ، وحكي - أيضاً - عن أَبِي يوسف ومحمد .
وعن الشَّعْبِيّ ، قَالَ : إذا صلى فِي المسجد جماعة فإن إقامتهم تجزىء عمن صلى صلاة إلى الصلاة الأخرى .
وَقَالَ الزُّهْرِيّ : يقيم ، ولم يذكر الأذان .
وعن قتادة ، قَالَ : إن لَمْ يسمع الإقامة أقام ، ثُمَّ صلى .
والموضع الثاني : إعادة الجماعة فِي مسجد قَدْ صلى فِيهِ إمامه الراتب .
واختلف العلماء فِي ذَلِكَ :
فمنهم : من كرهه ، وَقَالَ يصلون فِيهِ وحداناً ، روي ذَلِكَ عَن سَالِم وأبي قلابة ، وحكاه بعض العلماء عَن سَعِيد بْن المُسَيِّب والحسن والنخعي والضحاك والقاسم بْن مُحَمَّد والزهري وغيرهم ، وَهُوَ قَوْلِ الليث والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ومالك ، وحكاه الترمذي فِي ( ( كتابه ) ) عَن ابن المبارك والشافعي ، وقد رواه الربيع عَن الشَّافِعِيّ ، وأنه لَمْ يفعله السلف ، بل قَدْ عابه بعضهم .
وكان هَذَا القول هُوَ المعمول بِهِ فِي زمن بني أمية ؛ حذراً من أن يظن بمن صلى جماعة بعد جماعة المسجد الأولى أَنَّهُ مخالف للسلطان مفتئت عَلِيهِ ، لا يرى الصلاة مَعَهُ ، ولا مَعَ من أقامه فِي إمامه المساجد .
وقد استدل بعضهم لهذا بما رَوَى معاوية بْن يَحْيَى ، عَن خَالِد الحذاء ، عَن عَبْد الرحمن بْن أَبِي بكرة ، عَن أَبِيه ، أن رَسُول الله ( أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة ، فوجد النَّاس قَدْ صلوا ، فمال إلى منزله ، فجمع أهله ، فصلى بهم .(4/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
خرجه الطبراني .
ومعاوية بْن يَحْيَى ، لا يحتج بِهِ .
وذهب أكثر العلماء إلى جواز إعادة الجماعة فِي المساجد فِي الجملة كما فعله أَنَس بْن مَالِك ، منهم : عَطَاء وقتادة ومكحول ، وَهُوَ قَوْلِ إِسْحَاق وأبي يوسف ومحمد وداود .
واختلف فِيهِ عَن الْحَسَن والنخعي ، فروي عنهما كالقولين .
والمشهور : أَنَّهُ يكره ذَلِكَ فِي مسجدي مكة والمدينة خاصة ، ويجوز فيما سواهما .
ومن تأخري أصحابه من ألحق بمسجدي مكة والمدينة المسجد الأقصى فِي الكراهة .
وعن أحمد رِوَايَة أخرى : لا يكره بحال .
ومن أصحابنا من كرهه فِي المساجد العظام الَّتِيْ يتولى السلطان عادة ترتيب أئمتها كالجوامع ونحوها ؛ لئلا يتطرق بذلك إلى الافتئات عَلِيهِ ، ولم يكرهه فِي المساجد الَّتِيْ يرتب أئمتها جيرانها .
وحكي عَن الشَّافِعِيّ ، أَنَّهُ يكره إعادة الجماعة فِي مساجد الدروب ونحوها دون مساجد الأسواق الَّتِيْ يكثر فيها تكرار الجماعات ، لكثرة استطراق النَّاس إليها ؛ دفعاً للحاجة .
ومتى لَمْ يكن للمسجد إمام راتب لَمْ يكره إعادة الجماعة فِيهِ عِنْدَ أحد من العلماء ، مَا خلا الليث بْن سعد ، فإنه كره الإعادة فِيهِ - أيضاً .
واستدل من لَمْ يكره الإعادة بحديث أَبِي سَعِيد الْخُدرِيَّ ، قَالَ : جَاءَ رجلٌ(4/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
وقد صلى رَسُول الله ( ، فَقَالَ : ( ( أيكم يتجر عَلَى هَذَا ؟ ) ) فقام رَجُل ، فصلى مَعَهُ .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي - - وهذا لفظه ، وَقَالَ : هَذَا حَدِيْث حسن - - وابن خزيمة وابن حبان فِي ( ( صحيحهما ) ) والحاكم ، وَقَالَ : صحيح الإسناد .
وقد قواه الإمام أحمد وأخذ بِهِ ، وَهُوَ مشكل عَلَى أصله ؛ فإنه يكره إعادة الجماعة فِي مسجد المدينة .
وقد اعتذر الإمام أحمد عَنْهُ من وجهين :
أحدهما : أن رغبة الصَّحَابَة فِي الصلاة مَعَ النَّبِيّ ( كَانَتْ متوفرة ، وإنما كَانَ يتخلف من لَهُ عذر ، وأما بعده فليس كذلك ، فكره تفريق الجماعات فِي المسجدين الفاضلين توقيراً للجماعة فيهما .
والثاني : أن هَذَا يغتفر فِي الجماعة القليلة دون الكثيرة ، ولهذا لَمْ يأمر النَّبِيّ ( أكثر من واحد بالصلاة مَعَهُ .
وكذلك قَالَ أحمد فِي الجماعة تفوتهم الجمعة : إنهم إن كانوا ثَلاَثَة صلوا جماعةً ، فإن كثروا فتوقف فِي صلاتهم جماعةً ، وَقَالَ : لا أعرفه .
ومأخذه فِي ذَلِكَ : أن فِي إظهار صلاة الظهر يوم الجمعة فِي المساجد افتئاتاً عَلَى الأئمة ، ويتستر بِهِ أهل البدع إلى ترك الجمعة ، وصلاة الظهر فِي المساجد كسائر الأيام .
وقد كره طائفة من السلف لمن فاتته الجمعة أن يصلوا جماعة ، منهم : الْحَسَن وأبو قلابة ، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة .(4/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
ورويت الرخصة فِيهِ عَن ابن مَسْعُود وإياس بْن معاوية ، وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ وأحمد وإسحاق .
وعن أحمد رِوَايَة : أَنَّهُ يكره صلاة الظهر جماعة إذ كثروا ، ولا يكره إذا قلوا . وقد ذكرناها آنفاً .
ومن أصحابنا من كره الجماعة فِي مكان الجمعة خاصة .
واختلف فِيهِ عَن الثوري ومالك .
وروي عَن حذيفة وزيد بْن ثابت ، أن من فاتته الجمعة لا يصلي الظهر فِي المسجد بالكلية حياء من النَّاس .
قَالَ حذيفة : لا خير فيمن لا حياء فِيهِ .
وَقَالَ زيد : من لا يستحي من النَّاس لا يستحي من الله .
وقد روي فِي حَدِيْث أَنَس الموقوف الَّذِي علقه البخاري زيادة : أَنَّهُ أمر بعض أصحابه فأذن وصلى ركعتين ، ثُمَّ أمره فأقام ثُمَّ تقدم أَنَس فصلى بهم .
خرجه عَبْد الرزاق عَن جَعْفَر بْن سُلَيْمَان ، عَن الجعد ، عَن أَنَس .
وخرجه الجوزجاني من رِوَايَة ابن علية ، عَن الجعد ، قَالَ : كنا فِي مسجد بني رِفَاعَة ، فجاء أَنَس بْن مَالِك ومعه نفر ، وقد صلينا صلاة الصبح ، فَقَالَ : أصليتم ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فإذن رَجُل من القوم ، ثُمَّ صلوا ركعتين ، ثُمَّ أقام ، ثُمَّ تقدم أَنَس فصلى بهم .
وهذا يدل عَلَى أن من دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ والوقت باقٍ ، فإنه يجوز لَهُ أن يتطوع قَبْلَ صلاة المكتوبة ، ويصلي السنن الرواتب قَبْلَ الفرائض ، وَهُوَ قَوْلِ الأكثرين ، منهم : [ . . . . . . ] وأبو حنيفة ومالك والشافعي .
وقالت طائفة : يبدأ بالمكتوبة ، منهم : ابن عُمَر - : رواه مَالِك وأيوب وابن جُرَيْج ، عَن نافعٍ ، عَنْهُ .(4/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
وكذا روي عَن عَبْد الرحمن بْن أَبِي ليلى والشعبي والنخعي وعطاء ، وَهُوَ قَوْلِ الثوري والحسن بْن حي والليث بْن سعد .
وعن الْحَسَن ، قَالَ : ابدأ بالمكتوبة إلا ركعتي الفجر .
وكذا قَوْلِ الثوري .
واختلفت الرواية عَن أحمد فِي ذَلِكَ :
فنقل عَنْهُ ابن منصور وصالح وحنبل : يبدأ بالمكتوبة ، واستدل فِي رِوَايَة ابن منصور وصالح بما روي عَن ابن عُمَر .
ونقل عَنْهُ أبو الْقَاسِم البغوي ، فِي الرَّجُلُ يخرج إلى المسجد فيجدهم قَدْ صلوا ، ووجد رجلاً يتطوع : أيتطوع حَتَّى يجيء الرَّجُلُ ؟ قَالَ : إن شاء تطوع .
ومن كره ذَلِكَ جعل الدخول إلى المسجد لإرادة الصلاة المكتوبة كإقامة الصلاة ، فلا يبدأ قبلها بشيء وإنما يشرع التطوع لمن ينتظر الإمام ؛ لأنه إذا لَمْ يخرج إلى النَّاس لَمْ يمنعوا من التطوع .
ولو كَانَتْ الصلاة فِي غير مسجد فله أن يتطوع قَبْلَ المكتوبة - : قاله عَطَاء وغيره .
وقياس هَذَا : أن الإمام إذا حضر المسجد ، فإنه يكره لَهُ أن يتطوع قَبْلَ المكتوبة - أيضاً .
وقد ذكرنا فيها تقدم فِي ( ( بَاب : متى يقوم النَّاس إذا رأوا الإمام ) ) الحَدِيْث الَّذِي خرجه أبو داود ، أن النَّبِيّ ( كَانَ حِينَ تقام الصلاة فِي المسجد إذا رآهم قليلاً جلس ثُمَّ صلى ، وإذا رآهم جماعة صلى .
وخرجه البيهقي ، ولفظه : كَانَ النبي ( يخرج بعد النداء إلى المسجد ، فإذا رأى أهل المسجد قليلاً جلس حَتَّى يرى منهم جماعة ثُمَّ يصلي .(4/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
وقد تقدم فِي ( ( بَاب : القيام للصلاة ) ) الحَدِيْث المرسل ، أن النَّبِيّ ( جَاءَ وبلال فِي الإقامة فجلس .
خرج البخاري - - رحمه الله - في هَذَا الباب ثَلاَثَة أحاديث :
الحَدِيْث الأول :
645 - - حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف : أنا مَالِك ، عَن نافعٍ ، عَن عَبْد الله بْن عُمَر ، أن رَسُول الله ( قَالَ : ( ( صلاةُ الجماعة تفضل عَلَى صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين
درجةً ) ) .
الحَدِيْث الثاني :
قَالَ :
646 - - حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف : حَدَّثَنِي الليث : حَدَّثَنِي ابن الهاد ، عَن
عَبْد الله بْن خباب ، عَن أَبِي سَعِيد الْخُدرِيَّ ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ ( يَقُول : ( ( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمسٍ وعشرين درجةً ) ) .
الحَدِيْث الثالث :
647 - حَدَّثَنَا موسى بْن إسماعيل : نا عَبْد الواحد ، قَالَ : ثنا الأعمش ، قَالَ : سَمِعْت أبا صالح يَقُول : سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُول : قَالَ رَسُول الله ( : ( ( صلاة الرَّجُلُ فِي الجماعة تضعيف عَلَى صلاته فِي بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً ، وذلك أَنَّهُ إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثُمَّ خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة ، لَمْ يخط خطوة إلا رفعت لَهُ بِهَا درجة وحط عَنْهُ بِهَا خطيئة ، فإذا صلى لَمْ تزل الملائكة تصلي عَلِيهِ مَا دام فِي مصلاة : اللهم صل عَلِيهِ ، اللهم ارحمه ، ولا يزال أحدكم فِي صلاةٍ مَا انتظر الصلاة ) ) .(4/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
فِي حَدِيْث ابن عُمَر : أن صلاة الجماعة تفضل عَلَى صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين درجةً ، وفي حَدِيْث أَبِي سَعِيد : أنها عَلَيْهَا بخمس وعشرين .
وقد جمع بعض النَّاس بينهما ، فَقَالَ : أريد فِي حَدِيْث ابن عُمَر ذكر صلاة الفذ وصلاة الجماعة ، وما بَيْنَهُمَا من الفضل ، وَهُوَ خمس وعشرون ، فصار ذَلِكَ سبعاً وعشرين ، وفي حَدِيْث أَبِي سَعِيد ذكر قدر الفضل بَيْنَهُمَا فَقَطْ ، وَهُوَ خمس وعشرون .
وهذا بعيد ، فإن حَدِيْث ابن عُمَر ذكر فِيهِ قدر التفاضل بَيْن الصلاتين - أيضاً - ، كما ذكر فِي حَدِيْث أَبِي سَعِيد .
وقد خرجه مُسْلِم من رِوَايَة عُبَيْدِ الله بْن عُمَر ، عَن نَافِع ، عَن ابن عُمَر ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( صلاة الرَّجُلُ فِي الجماعة تزيد عَلَى صلاته وحده سبعاً وعشرين درجة ) ) .
وأما حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ ففيه تضعّف صلاة الجماعة عَلَى الصلاة فِي البيت والسوق خمسة وعشرين ضعفاً ، والمراد بِهِ - أيضاً - : قدر التفاضل بَيْنَهُمَا .
وسيأتي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ بلفظ آخر ، خرجه البخاري فِي الباب الَّذِي يأتي بعد هَذَا ، وَهُوَ : ( ( تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً ) ) .
والمراد بهذه الأجزاء والأضعاف والدرج معنى واحد - واللهُ أعلم - ، وَهُوَ : أن صلاة الفذ لها ثواب مقدر معلوم عِنْدَ الله ، تزيد صلاة الجماعة عَلَى ثواب صلاة الفذ خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين .
وقد جَاءَ التصريح بهذا فِي حَدِيْث خرجه مُسْلِم من رِوَايَة سلمان الأغر ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله ( : ( ( صلاة الجماعة تعدل خمساً(4/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
وعشرين من صلاة الفذ ) ) .
وخرج - أيضاً - من وجه آخر ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ :
( ( صلاة مَعَ الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده ) ) .
وفي ( ( المسند ) ) عَن ابن عُمَر - موفوعاً - : ( ( كلها مثل صلاته ) ) .
وقد اختلف النَّاس فِي الجمع بَيْن حَدِيْث ابن عُمَر فِي ذكر السبع وعشرين وبين حَدِيْث أَبِي سَعِيد وأبي هُرَيْرَةَ فِي ذكر خمس وعشرين .
فَقَالَتْ طائفةٌ : ذكر النَّبِيّ ( فِي كل وقت مَا أعلمه الله وأوحاه إليه من الفضل ، فبلغه كما أوحي إليه ، وكان قَدْ أوحى إِلَيْهِ أن صلاة الجماعة تفضل عَلَى صلاة الفذ بخمس وعشرين ، والعدد لا مفهوم لَهُ عِنْدَ كثير من العلماء ، ثُمَّ أوحى إِلَيْهِ زيادة عَلَى ذَلِكَ ، كما أخبر : ( ( أن من مات لَهُ ثَلاَثَة من الولد لَمْ تمسه النار ) ) . ثُمَّ سئل عَن الاثنين ، فَقَالَ : ( ( واثنان ) ) ثُمَّ سئل عَن الواحد ، فَقَالَ : ( ( والواحد ) ) ، وكما أخبر ( ( أن صيام ثَلاَثَة أيام من كل شهر يعدل صيام الدهر ) ) ، ثُمَّ أخبر عَبْد الله ابن عَمْرِو بْن العاص أَنَّهُ إن صام يوماً من الشهر أو يومين مِنْهُ فله أجر مَا بقي مِنْهُ ، ونطق الكتاب بأن الحسنة بعشر أمثالها ، ثُمَّ جاءت السنة بأن الحسنة تضاعف إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، ودل القرآن عَلِيهِ - أيضاً .(4/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
وقالت طائفة : صلاة الجماعة يتفاوت ثوابها في نفسها ، ثم اختلفوا : فمنهم من قالَ : يتفاوت ثوابها بإكمال الصلاة فِي نفسها ، وإقامة حقوقها وخشوعها ، ورجحه أبو موسى المديني .
ولكن صلاة الفذ يتفاوت ثوابها - أيضاً - على حسب ذَلِكَ .
ومنهم من قَالَ : يتفاوت ثوابها بذلك ، وربما يقترن بصلاة الجماعة من المشي إلى المسجد وبعده وكثرة الجماعة فِيهِ ، وكونه عتيقاً ، وكون المشي عَلَى طهارةٍ ، والتبكير إلى المساجد ، والمسابقة إلى الصف الأول عَن يمين الإمام أو وراءه ، وإدراك تكبيرة الإحرام مَعَ الإمام ، والتأمين مَعَهُ ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، وغير ذَلِكَ .
وهذا قَوْلِ أَبِي بَكْر الأثرم وغيره ، وَهُوَ الأظهر .
ويدل عَلِيهِ : أَنَّهُ ( ذكر فِي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ تعليل المضاعفة ، فَقَالَ :
( ( وذلك أَنَّهُ إذ توضأ فأحسن الوضوء ، ثُمَّ خرج إلى المسجد ، لا يخرجه إلا الصلاة ، لَمْ يخط خطوةً إلا رفعت لَهُ بِهَا درجة ، وحط عَنْهُ بِهَا خطيئة ، فإذا صلى لَمْ تزَلَ الملائكة تصلي عَلِيهِ مَا دام فِي مصلاة : اللهم صل عَلِيهِ ، اللهم ارحمه ، ولا يزال أحدكم فِي صلاة مَا انتظر الصلاة ) ) .
وعلى هَذَا ؛ فَقَدْ تضاعف الصلاة فِي جماعة أكثر من ذَلِكَ .
إما بحسب شرف الزمان ، كشهر رمضان وعشر ذي الحجة ويوم الجمعة .
وقد قَالَ ابن عُمَر : افضل الصلوات عِنْدَ الله صلاة الصبح يوم الجمعة .
وروي عَنْهُ مرفوعاً ، والموقوف هُوَ الصحيح - : قاله الدارقطني .
وخرجه البزار بإسناد ضَعِيف ، عَن أَبِي عبيدة بْن الجراح مرفوعاً ، وزاد فِيهِ :
( ( ولا أحسب من شهدها منكم إلا مغفوراً لَهُ ) ) .
أو شرف المكان ، كالمسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى ، كما(4/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
صح عَن النَّبِيّ ( أَنَّهُ قَالَ : ( ( صلاة فِي مسجدي هَذَا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد ، إلا المسجد الحرام ) ) .
وخرج ابن ماجه من رِوَايَة أَبِي الخَطَّاب الدمشقي ، عَن رزيق الألهاني ، عَن أَنَس ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( صلاة الرَّجُلُ فِي بيته بصلاة ، وصلاته فِي مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة ، وصلاته فِي المسجد الَّذِي يجمع فِيهِ بخمسمائة صلاة ، وصلاته فِي المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة ، وصلاته فِي مسجدي بخمسين ألف صلاة ، وصلاته فِي المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ) ) .
وقد سبق الكلام عَلَى إسناده فِي ( ( بَاب : الصلاة فِي مسجد السوق ) ) . والله أعلم .
وقد روي عَن ابن عَبَّاس من طريقين فيهما ضعف ، أن مضاعفة الخمس وعشرين درجة لأقل الجماعة - وهي اثنان ، وفي رِوَايَة عَنْهُ : ثَلاَثَة - ، وما زاد عَلَى ذَلِكَ إلى عشرة آلاف كَانَ لكل واحد من الدرجات بعدد من صلى معهم .
وروي بإسناد فِيهِ نظر ، عَن كعب ، أَنَّهُ قَالَ لعمر بْن الخَطَّاب : إنه إذا صلى اثنان كَانَتْ صلاتهما بخمس وعشرين ، وإذا كانوا ثلاثة فصلاتهم بخمسة وسبعين ، وكانت ثلاثمائة ، فإذا كانوا خمسة خمسة الثلاثمئة ، فكانت ألفاً وخمسمائة ، فإذا كانوا ستة سدست ألفاً وخمسمائة ، فكانت تسعة آلاف ، فإذا كانوا مائة فلو اجتمع الكتاب والحساب مَا أحصوا ماله من التضعيف . ثُمَّ قَالَ لعمر : لَوْ لَمْ يكن مِمَّا أنزل الله عَلَى مُحَمَّد ( ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ( [ القدر : 3 ] ثَلاَثَة وثمانين سَنَة لكنت مصدقاً . فَقَالَ عُمَر : صدقت .
خرجه أبو موسى المديني فِي ( ( كِتَاب الوظائف ) ) بإسناده .(4/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
وخرج فِيهِ أحاديث أخر مرفوعة وموقوفة فِي هَذَا المعنى .
وروى - أيضاً - بإسناد جيد ، عَن كعب ، قَالَ : أجد فِي التوراة أن صلاة الجماعة تضاعف بعدد الرجال درجة ، إن كانوا مائة فمائة ، وإن كانوا ألفاً فألف درجة .
وخرج الطبراني وغيره من رِوَايَة عَبْد الرحمن بْن زياد ، عَن قباث بْن أشيم ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عِنْدَ الله من صلاة أربعة تترى ، وصلاة أربعة يؤمهم أحدهم أزكى عِنْدَ الله من صلاة ثمانية تترى ، وصلاة ثمانية يؤم أحدهم أزكى عِنْدَ الله من صلاة مائة تترى ) ) .
وخرجه البزار - أيضاً - بمعناه .
وفي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي خرجه البخاري : ( ( صلاة الرَّجُلِ فِي الجماعة تضعيف ) ) ، وَهُوَ يدل عَلَى أن صلاة المرأة لا تضعف فِي الجماعة ؛ فإن صلاتها فِي بيتها خير لها وأفضل .
وروى بقية ، عَن أَبِي عَبْد السلام ، عَن نَافِع ، عَن ابن عُمَر - مرفوعاً - :
( ( صلاة المرأة وحدها تفضل عَلَى صلاتها فِي الجمع خمساً وعشرين درجة ) ) .
خرجه أبو نعيم فِي ( ( تاريخ أصبهان ) ) .
وَهُوَ غريب جداً ، وروايات بقية عَن مشايخه المجهولين لا يعبأ بِهَا .
وقد احتج كثير من الفقهاء بأن صلاة الجماعة غير واجبة بهذه الأحاديث الَّتِيْ فيها ذكر تفضيل صلاة الجماعة عَلَى صلاة الفذ ، وقالوا : هِيَ تدل عَلَى أن صلاة الفذ صحيحة مثاب عَلَيْهَا . قالوا : وليس المراد بذلك صلاة الفذ إذا كَانَ لَهُ عذر فِي ترك الجماعة ؛ لأن المعذور يكتب لَهُ ثواب عمله كله ، فعلم أن المراد بِهِ غير المعذور .(4/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
وهذا استدلال لا يصح ، وإنما استطالوا بِهِ عَلَى داود وأصحابه القائلين بأن صلاة الفذ لغير عذر باطلة ، فأما من قَالَ : إنها صحيحه ، وأنه آثم بترك حضور الجماعة ، فإنه لا يبطل قوله بهذا ، بل هُوَ قائل بالأحاديث كلها ، جامع بينها ، غير راد لشيء مِنْهَا .
ثُمَّ قولهم : الحَدِيْث محمول عَلَى غير المعذور ، قَدْ يمنع .
وقولهم : إن المعذور يكتب لَهُ مَا كَانَ يعمل .
جوابه : أن كتابة مَا كَانَ يعمل لسبب آخر ، وَهُوَ عمله المتقدم الَّذِي قطعه عَنْهُ عذره ، فأما صلاة الفذ فِي نفسها فلا يزيد تضعيفها عَلَى ضعف واحد من صلاة الجماعة ، سواء كَانَ معذوراً أو غير معذور ، ولهذا لَوْ كَانَ المصلي فذاً لَهُ عذر ، ولم يكن لَهُ عادة بالصلاة فِي حال عدم العذر جماعة ، لَمْ يكتب لَهُ سوى صلاةٍ واحدةٍ .
فإن قيل : يلزم من القول بوجوب الجماعة أن تكون شرطاً للصلاة ، وأنْ لا تصح بدونها ، كما قلتم فِي واجبات الصلاة كالتسبيح فِي الركوع والسجود ، وأنه تبطل بتركه عمداً ؛ لكونه واجباً ، ولأن القاعدة : أن ارتكاب النهي فِي العبادة إذا كَانَ لمعنى مختص بِهَا أَنَّهُ يبطلها ، مثل الإخلال بالطهارة والاستقبال ، فكذلك الجماعة .
قيل : قَدْ اعترف طائفة من أصحابنا بأن القياس يقتضي كون الجماعة شرطاً ، لما ذكر ، لكن الإمام أحمد أخذ بالنصوص كلها ، وهي دالة عَلَى وجوب الجمع ، وعلى أنها ليست شرطاً ، فعلم بذلك أَنَّهُ لا يرى أن كل ارتكاب نهي فِي العبادة يكون مبطلاً لها ، وسواء كَانَ لمعنى مختص بِهَا كالجماعة ، أو لمعنى غير مختص .
ولهذا ؛ تبطل الصلاة بكشف العورة ، وَهُوَ لمعنى غير مختص بالصلاة ، وفي بطلانها فِي المكان المغضوب والثوب المغضوب والحرير عَنْهُ روايتان ، وقد(4/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
يجب فِي العبادات مَا لا تبطل بتركه ، كواجبات الحج .
وما دلت عَلِيهِ الأحاديث من القول بوجوب الجماعة فِي الصلوات المكتوبات ، وأنها تصحّ بدونها دليل واضح عَلَى بطلان قَوْلِ عَن قَالَ : إن النهي يقتضي الفساد بكل حال ، أو أن ذَلِكَ يختص بالعبادات ، أو أَنَّهُ يختص بما إذا كَانَ النهي لمعنى يختص
بالعبادة ؛ فإن هَذَا كله غير مطرد . والله سبحانه وتعالى أعلم .(4/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
31 - - بَابُ
فَضْلِ صَلاةِ الفَجْرِ فِي جَمَاعَةِ
فِيهِ ثَلاَثَة أحاديث :
الأول :
648 - - حَدَّثَنَا أبو ايمان : أنا شعيب ، عَن الزُّهْرِيّ ، قَالَ : أخبرني سَعِيد بْن المُسَيِّب وأبو سَلَمَة بْن عَبْد الرحمن ، أن أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْت رَسُول الله ( يَقُول :
( ( تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً ، وتجمتع ملائكة النهار فِي صلاة الفجر ) ) . ثُمَّ يَقُول أبو هُرَيْرَةَ : فاقرءوا إن شئتم : ( إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ( [ الإسراء : 78 ] .
649 - - قَالَ شعيب : وحدثني نَافِع عَن عَبْد الله بْن عُمَر ، قَالَ : تفضلها بسبعٍ وعشرين درجةً .
قَدْ سبق فِي الباب الماضي أول حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا ، بلفظ آخر ، وبقية الحَدِيْث قَدْ ذكرناه فيما تقدم فِي ( ( بَاب : فضل صلاة العصر ) ) ، وذكرنا قول من قَالَ : إن هَذَا الفضل - وَهُوَ اجتماع الملائكة فِي صلاة الفجر ، وفي الحَدِيْث الآخر : وفي صلاة العصر - يختص بالجماعات ، كما أشار إِلَيْهِ البخاري هاهنا ، وَهُوَ الَّذِي رجحه ابن عَبْد البر وغيره .
ويشهد لَهُ : مَا رواه أبو نعيم فِي ( ( كِتَاب الصلاة ) ) لَهُ : حَدَّثَنَا هِشَام بْن سعد : ثنا صالح بْن جبير الأزدي ، عَن رَجُل من أهل الشام ، قَالَ : صليت وراء معاذ ابن جبل الصبح ، فلما انصرف قَالَ : إن هذه الصلاة مقبولة مشهودةٌ ، يحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار ، ويطلع الله فيها عَلَى عباده فيغفر لهم ، فارغبوا فيها ، واشهدوها ، واحضروها .
وحديث ابن عُمَر تقدم فِي الباب الماضي ، عَنْهُ مرفوعاً ، مَعَ الكلام عَلِيهِ .(4/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
الحَدِيْث الثاني :
قَالَ :
650 - - حَدَّثَنَا عُمَر بْن حفص : ثنا أَبِي ، قَالَ : ثنا الأعمش ، قَالَ : سَمِعْت سالماً ، قَالَ : سَمِعْت أم الدرداء تَقُول : دَخَلَ عَلِيّ أبو الدرداء وَهُوَ مغضب ، فَقُلْت : مَا أغضبك ؟ فَقَالَ : والله مَا أعرف من أمر مُحَمَّد ( شيئاً ، إلا أنهم يصلون جميعاً .
وليس فِي هَذَا الحَدِيْث ذكر للجماعة فِي صلاة الفجر بخصوصها ، وإنما فِيهِ أن الصلاة فِي الجماعة من أمر مُحَمَّد ( ودينه وسرعه ، فهو كقول ابن مسعودٍ : إن الله شرع لنبيه سنن الهدى ، وإنهن من سنن الهدى . وقد تقدم ذكره .
وفي رِوَايَة للأمام أحمد فِي هَذَا الحَدِيْث : ( ( إلا الصلاة ) ) .
وهذا بخلاف قَوْلِ أَنَس : مَا أعرف شيئاً مِمَّا كَانَ عَلَى عهد رَسُول الله ( .
قيل الصلاة ؟ قَالَ : أليس قَدْ صنعتم ما صنعتم فيها ؟
وقد خرجه البخاري فِي موضع آخر .
وخرجه - - أيضاً - - بلفظ آخر ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ - - وَهُوَ يبكي - : لا أعرف شيئاً مِمَّا أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قَدْ ضيعت .
وأشار أَنَس إلى مَا أحدثه بنو أمية من تضييع مواقيت الصلاة ، وكان أبو الدرداء قَدْ توفى قَبْلَ ذَلِكَ فِي زمن معاوية .
يبين هَذَا : مَا خرجه الإمام أحمد من رِوَايَة ثابت ، عَن أَنَس ، قَالَ : مَا أعرف فيكم اليوم شيئاً كُنْتُ أعهده عَلَى عهد رَسُول الله ( ، ليس قولكم :(4/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
لا إله إلا الله . قُلتُ : يَا أَبَا حَمْزَة الصلاة ؟ قَالَ : قَدْ صليتم حِينَ تغرب الشمس ، أفكانت تلك صلاة رَسُول الله ( ؟
وفي رِوَايَة للأمام أحمد من حَدِيْث عُثْمَان بْن سعد ، عَن أَنَس ، قَالَ : أو ليس قَدْ علمت مَا قَدْ صنع الحجاج فِي الصلاة ؟
وكان هَذَا الإنكار عَلَى الأمراء ، كما رَوَى أبو إِسْحَاق ، عَن معاوية بْن قرة ، قَالَ : دخلت أنا ونفر معي عَلَى أنس بْن مَالِك ، فَقَالَ : مَا أمراؤكم هؤلاء عَلَى شيء مِمَّا كَانَ عَلِيهِ مُحَمَّد وأصحابه ، إلا أنهم يزعمون أنهم يصلون ويصومون رمضان .
الحَدِيْث الثالث :
651 - - ثنا مُحَمَّد بْن العلاء : ثنا أبو أسامة ، عَن بريد بْن عَبْد الله ، عَن أَبِي بردة ، عَن أَبِي موسى ، قَالَ : قَالَ النَّبِيّ ( : ( ( أعظم النَّاس أجراً فِي الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى ، والذي ينتظر الصلاة حَتَّى يصليها مَعَ الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثُمَّ ينام ) ) .
وهذا الحَدِيْث - - أيضاً - - إنما يدل عَلَى فضل المشي إلى المسجد من المكان البعيد ، وأن الأجر يكثر ويعظم بحسب بعد المكان عَن المسجد ، وعلى فضل السبق إلى المسجد فِي أول الوقت ، وانتظار الصلاة فِيهِ مَعَ الإمام .
وقد ذكرنا فيما سبق : أن هَذَا كله مِمَّا تضاعف بِهِ الصلاة فِي الجماعة ، وتزداد بِهِ عَلَى صلاة الفذ فضلاً وأجراً عِنْدَ الله ( ، وليس يختص ذَلِكَ بصلاة الفجر دون غيرها من الصلوات .(4/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
32 - - بَابُ
فَضْلِ التَّهْجِيرِ إلى الظُّهْرِ
652 - - حَدَّثَنِي قتيبة ، عَن مالك ، عَن سمي مَوْلَى أَبِي بَكْر ، عَن أَبِي صالح السمان ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، أن رَسُول الله ( قَالَ : ( ( بينما رَجُل يمشي بطريق وجد غصن شوكٍ عَلَى الطريق فأخره ، فشكر الله لَهُ ، فغفر لَهُ ) ) .
653 - - ثُمَّ قَالَ : ( ( الشهداء خمس : المطعون ، والمبطون ، والغريق ، وصاحب الهدم والشهيد فِي سبيل الله ) ) . وقَالَ : ( ( لَوْ يعلم النَّاس مَا فِي النداء والصف الأول ، ثُمَّ لَمْ يجدوا إلأا أن يستهموا عَلِيهِ لاستهموا عَلِيهِ ) ) .
654 - ( ( ولو يعلمون مَا فِي التهجير لاستبقوا إليه ، ولو يعلمون مَا فِي العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً ) ) .
إنما ساق الحَدِيْث بتمامه ؛ لأنه أولى من اختصاره وتقطيعه ، وإن كَانَ ذَلِكَ جائزاً كما سبق ذكره ، واقتدى بمالك - رحمه الله - ؛ فإنه ساقه بتمامه فِي ( ( كِتَاب الصلاة ) ) من ( ( الموطأ ) ) هكذا .
والكلام عَلَى إزاله الشوك من الطريق ، وعلى عدد الشهداء يأتي فِي موضعهما - إن شاء الله تعالى .
وأما مَا يتعلق بالصلاة من الحَدِيْث ، فثلاثة أشياء :
أحدها : ذكر الاستهام عَلَى النداء والصف الأول ، وقد سبق الكلام عَلَى ذَلِكَ فِي ( ( الأذان ) ) .
الثاني : الاستباق إلى التهجير .(4/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
والتهجير : التكبير إلى المساجد لصلاة الظهر ، والهجير والهاجرة : نصف النهار .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حَدِيْث زيد بْن ثابت ، قَالَ : كَانَ النَّبِيّ ( يصلى الظهر بالهاجرة ، ولم يكن يصلى صلاة أشد عَلَى أصْحَاب النَّبِيّ ( مِنْهَا . قَالَ : فَنَزَلت : ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ( البقرة : 238 ] .
وخرجه الإمام أحمد - أيضاً - والنسائي من حَدِيْث أسامة بْن زيد ، قَالَ : كَانَ رَسُول الله ( يصلي الظهر بالهجير ، ولا يكون وراءه إلا الصف والصفان ، والناس فِي قائلتهم وفي تجارتهم ، فأنزل الله تعالى : ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ( .
وفيه : دليل عَلَى تعجيل الظهر .
والثالث : المبادرة إلى شهود العتمة والصبح ، وسيأتي القول فِيهِ فيما بعد - إن شاء الله تعالى .
وفيه : دليل عَلَى جواز تسمية العشاء العتمة ، وقد تقدم ذكره .(4/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
33 - - بَابُ
احْتِسَابِ الآثَارِ
655 - - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الله بْن حوشب : ثنا عَبْد الوهاب ، قَالَ : حَدَّثَنِي حميد ، عَن أَنَس ، قَالَ : قَالَ النَّبِيّ ( : ( ( يَا بني سَلَمَة ، ألا تحتسبون آثاركم ؟ ) ) .
656 - - وَقَالَ ابن أَبِي مريم : أنا يَحْيَى بْن أيوب : حَدَّثَنِي حميد : حَدَّثَنِي أَنَس ، أن نبي سَلَمَة أرادوا أن يتحولوا عَن منازلهم فينزلوا قريباً من النَّبِيّ ( . قَالَ : فكره النَّبِيّ ( أن يعروا منازلهم ، فَقَالَ : ( ( ألا تحتسبون آثاركم ؟ ) ) .
قَالَ مُجَاهِد : خطاهم : آثار المشي فِي الأرض بأرجلهم .
ساقه أولا من حَدِيْث عَبْد الوهاب الثَّقَفِيّ ، عَن حميد مختصراً ثُمَّ ذكر من رِوَايَة يَحْيَى بْن أيوب المصري - وَهُوَ ثقة ، لكنه كثير الوهم - مطولاً ، وزاد فِيهِ تصريح حميد بالسماع لَهُ من أَنَس ، فإن حميداً قَدْ قيل : إنه لَمْ يسمع من أَنَس إلا قليلاً ، وأكثر رواياته عَنْهُ مرسلة ، وقد سبق ذكر ذَلِكَ ، وما قاله الإسماعيلي فِي تسامح المصريين والشامين فِي لفظه ( ( حَدَّثَنَا ) ) وأنهم لا يضبطون ذَلِكَ .
وقد خرجه فِي ( ( كِتَاب الحج ) ) من طريق الفزاري ، عَن حميد ، عَن أَنَس ، قَالَ : أراد بنو سَلَمَة أن يتحولوا إلى قرب المسجد ، فكره رَسُول الله ( أن تعرى المدينة ، فَقَالَ : ( ( يَا بني ، ألا تحتسبون آثاركم ؟ ) ) .
وبنو سَلَمَة : قوم من الأنصار ، كَانَتْ دورهم بعيدة من المسجد ، فأرادوا أن يتحولوا إلى قرب المسجد ، فأمرهم النَّبِيّ ( بملازمة دورهم ، وأخبرهم أن خطاهم يكتب لهم أجرها فِي المشي إلى المسجد .(4/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
وخرج مُسْلِم فِي ( ( صحيحه ) ) من حَدِيْث أَبِي الزُّبَيْر ، عَن جابر ، قَالَ : كَانَتْ دارنا نائيةً من المسجد ، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد ، فنهانا رَسُول الله ( ، فَقَالَ : ( ( إن لكم بكل خطوةٍ درجة ) ) .
ومن حَدِيْث أَبِي نضرة ، عَن جابر ، قَالَ : أراد بنو سَلَمَة أن يتحولوا إلى قرب المسجد ، والبقاع خالية . قَالَ : فبلغ ذَلِكَ رَسُول الله ( ، فَقَالَ : ( ( يَا بني سَلَمَة ، دياركم تكتب آثاركم ) ) . فقالوا : مَا يسرنا أنا كنا تحولنا .
وقوله : ( ( دياركم ) ) بفتح الراء عَلَى الإغراء ، أي : الزموا دياركم .
وخرجه الترمذي من حَدِيْث أَبِي سُفْيَان السعدي ، عَن أَبِي نضرة ، عَن أَبِي سَعِيد ، قَالَ : كَانَتْ بنو سَلَمَة فِي ناحية المدينة ، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد ، فَنَزَلت هذه الآية : ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ( [ يس : 12 ] ، فقام رَسُول الله ( : ( ( إن آثاركم تكتب ) ) ، فَلَمْ ينتقلوا .
وأبو سُفْيَان ، فِيهِ ضعف .
والصحيح : رِوَايَة مسلمٍ ، عَن أَبِي نضرة ، عَن جابر ، وكذا قاله الدارقطني وغيره .
وخرج ابن ماجه من رِوَايَة سماك ، عَن عَكْرِمَة ، عَن ابن عَبَّاس ، قَالَ : كَانَتْ الأنصار بعيدةً منازلهم من المسجد ، فأرادوا أن يقربوا ، فَنَزَلت : ( نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ( . قَالَ : فثبتوا .
وقد ذكر البخاري عَن مُجَاهِد ، أَنَّهُ فسر الآثار - يعني : فِي هذه الآية - بالخُطا ، وزاد - أيضاً - - بقوله : آثار المشي فِي الأرض بأرجلهم .(4/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
وفي حَدِيْث أَنَس : فكره رَسُول الله ( أن يعروا المدينة أو منازلهم .
يعني : يخلوها فتصير عراةً من الأرض .
والعراء : الفضاء الخالي من الأرض ، ومنه : قوله تعالى : ( فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ (
[ الصافات : 145 ] .
وروى يَحْيَى بْن سَعِيد الأنصاري هَذَا الحَدِيْث ، عَن حميد ، عَن أَنَس ، وَقَالَ : فكره أن يعروا المسجد .
قَالَ الإمام أحمد وهم فِيهِ . إنما هُوَ : كره أن يعروا المدينة .
وقد دلت هذه الأحاديث عَلَى أن المشي إلى المساجد يكتب لصاحبه أجرهُ ، وهذا مِمَّا تواترت السنن بِهِ .
وقد سبق حَدِيْث أَبِي موسى : ( ( أعظم النَّاس أجراً فِي الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى ) ) .
وفي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، : ( ( وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة ) ) .
وقد خرجه البخاري فِي موضع آخر .
وسبق - - أيضاً - - حَدِيْث أَبِي صالح ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ .
وفي ( ( المسند ) ) و ( ( سنن أَبِي داود ) ) وابن ماجه ، عَن عَبْد الرحمن بْن سعد ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجراً ) ) .(4/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
وفي ( ( صحيح مُسْلِم ) ) عَن أَبِي بْن كعب ، قَالَ : كَانَ رَجُل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد مِنْهُ ، وكان لا تخطئه صلاة . قَالَ : فَقِيلَ لَهُ - أو قُلتُ لَهُ - : لَوْ اشتريت حماراً تركبه فِي الظلماء أو الرمضاء ؟ قَالَ : مَا يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد ، إني أريد أن يكتب لِي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي . فَقَالَ رَسُول الله ( : ( ( قَدْ جمع الله لَكَ ذَلِكَ كله ) ) .
وفي رِوَايَة لَهُ - أيضاً - : فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ ( : ( ( إن لَكَ مَا احتسبت ) ) .
وهذا يدل عَلَى أَنَّهُ ثياب عَلَى المشي فِي رجوعه من المسجد إلى منزله .
وفي ( ( المسند ) ) و ( ( صحيح ابن حبان ) ) عَن عَبْد الله بْن عَمْرِو ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( من راح إلى المسجد جماعة فخطوتاه : خطوة تمحو سيئة ، وخطوة تكتب حسنة ، ذاهباً وراجعاً ) ) .
وهذا المطلق قَدْ ورد مقيداً فِي حَدِيْث أَبِي صالح ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي خرجه البخري فيما مضى .
وسيأتي بقيدين :
أحدهما : أن يخرج من بيته عَلَى طهرٍ قَدْ أحسنه وأكمله .
والثاني : أن لا يخرج إلا إلى الصلاة فِي المسجد ، فلو خرج لحاجة لَهُ وكان المسجد فِي طريقه فدخل المسجد فصلى ولم يكن خروجه لذلك لَمْ يحصل لَهُ هَذَا الأجر الخاص .
وكذلك لَوْ خرج من بيته غير متطهر ، لكنه يكتب لَهُ بذلك أجر ، غير أن هَذَا الأجر الخاص - وهو رفع الدرجات وتكفير السيئات - لا يحصل بذلك .(4/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
وأعلم أن الدار القريبة من المسجد أفضل من الدار البعيدة ، لكن المشي من الدار البعيدة أفضل .
وفي ( ( المسند ) ) بإسناد منقطع ، عَن حذيفة ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( فضل الدار القريبة من المسجد عَلَى الدار الشاسعة كفضل الغازي على القاعد ) ) .(4/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
34 - - بَابُ
فَضْلِ صلاةِ العشاءِ فِي الجَماعةِ
657 - - حَدَّثَنَا عُمَر بْن حفص ، قَالَ : ثنا أَبِي ، ثنا الأعمش : حَدَّثَنِي أبو
صالح ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله ( : ( ( ليس صلاة أثقل عَلَى المنافقين من الفجر والعشاء ، ولو يعلمون مَا فيهما لأتوهما ولو حبواً ، ولقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم ، ثُمَّ آمر رجلاً يؤم النَّاس ، ثُمَّ آخذ شعلاً من نارٍ فأحرق عَلَى من لا يخرج إلى الصلاة وَهُوَ يقدر ) ) .
قَدْ صرح الأعمش بسماع هَذَا الحَدِيْث من أَبِي صالح ، وفي الغالب إنما يخرج البخاري من حَدِيْث الأعمش عَن أَبِي صالح ما صرح فِيهِ بالسماع ، كهذا الحَدِيْث ، والحديث الَّذِي خرجه قبله فِي فضل الجماعة .
والمراد بثقل هاتين الصلاتين عَلَى المنافقين : ثقل شهودهما فِي المساجد ، وباقي الحَدِيْث يدل عَلَى ذَلِكَ .
ويدل عَلِيهِ - أيضا - : حَدِيْث أَبِي بْن كعب ، قَالَ : صلى بنا رَسُول الله ( يوماً الصبح ، فَقَالَ : ( ( أشاهد فلان ؟ ) ) قالوا : لا . قَالَ : ( ( أشاهد فلان ؟ ) ) قالوا : لا . قَالَ : ( ( إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات عَلَى المنافقين ، ولو تعلمون مَا فيهما لأتيتهموهما ولو حبواً عَلَى الركب ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان فِي
( ( صحيحهما ) ) والحاكم .
وروى أبو داود الطيالسي : ثنا مُحَمَّد بْن أَبِي حميد ، عَن أَبِي عَبْد الله(4/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
القراظ ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( لا يحافظ المنافق أربعين ليلةً عَلَى صلاة العشاء الآخرة فِي جماعة ) ) .
مُحَمَّد بْن أَبِي حميد ، فِيهِ ضَعِيف .
وفي ( ( المسند ) ) عَن أَبِي بشر ، عَن أَبِي عمير بْن أنس ، عَن عمومة لَهُ من أصْحَاب النَّبِيّ ( ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( لا يشهدهما منافق ) ) - يعني : صلاة الصبح والعشاء .
قَالَ أبو بشر : يعني لا يواظب عَلَيْهِمَا .
وروى مَالِك من ( ( الموطإ ) ) عَن عَبْد الرحمن بْن حرملة ، عَن سَعِيد بْن
المُسَيِّب ، أن رَسُول الله ( قَالَ : ( ( بيننا وبين المنافقين شهود صلاة العشاء والصبح ، لا يستطيعونهما ) ) - أو نحو هَذَا .
وخرج ابن خزيمة والحاكم بإسناد صحيح ، عَن ابن عُمَر ، قَالَ : كنا إذا فقدنا الإنسان فِي صلاة العشاء الآخرة والصبح أسأنا بِهِ الظن .
وإنما ثقلت هاتان الصلاتان فِي المساجد عَلَى المنافقين أكثر من غيرهما من الصلوات لأن المنافين كما وصفهم الله فِي القرآن ( إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( [ النِّسَاء : 142 ] والمرائي إنما ينشط للعمل إذا رآه النَّاس ، فإذا لَمْ يشاهدوه ثقل عَلِيهِ العمل .
وقد كَانَ النَّبِيّ ( يصلي هاتين الصلاتين فِي الظلام ، فإنه كَانَ يغلس بالفجر غالباً ويؤخر العشاء الآخرة ، ولم يكن فِي مسجده حينئذ مصباح ، فَلَمْ يكن يحضر مَعَهُ هاتين الصلاتين إلا مؤمن يحتسب الأجر فِي شهودهما ، فكان(4/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
المنافقون يتخلفون عنهما ويظنون أن ذَلِكَ يخفى عَلَى النَّبِيّ ( .
وأيضاً ؛ فالمشي إلى المساجد فِي هذين الوقتين أشق ؛ لما فِيهِ من المشي فِي الظلم ؛ ولهذا ورد التبشير عَلَى ذَلِكَ ، بالنور التام يوم القيامة من وجوه متعددة .
من أجودها : مَا خرجه أبو داود والترمذي من حَدِيْث بريدة ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( بشر المشائين فِي الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ) ) .
وَقَالَ إبراهيم النخعي : كانوا يرون أن المشي إلى الصلاة فِي الليلة الظلماء موجبة - يعني : توجب لصاحبها الجنة .
وفي ( ( صحيح مُسْلِم ) ) عَن عُثْمَان ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( من صلى العشاء فِي جماعة فكأنما قام نصف الليل ، ومن صلى الصبح فِي جماعة فكأنما صلى الليل كله ) ) .
وخرجه أبو داود والترمذي ، وعندهما : ( ( ومن صلى العشاء والفجر فِي جماعة ، كَانَ لَهُ كقيام ليلة ) ) .
وهذا يبين أن الرواية الَّتِيْ قبلها إنما أريد بِهَا صلاة الصبح مَعَ العشاء فِي الجماعة .
قَالَ الإمام أحمد فِي رِوَايَة المروذي : الأخبار فِي الفجر والعشاء - يعني فِي الجماعة - أوكد وأشد .
وروى وكيع فِي ( ( كتابه ) ) بإسناده ، عَن عُمَر ، قَالَ : لأن أشهد الفجر والعشاء فِي جماعة أحب إلي من أن أحيي مَا بَيْنَهُمَا .(4/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
وعن أَبِي الدرداء ، قَالَ : اسمعوا وبلغوا من خلفكم ، حافظوا عَلَى العشاء والفجر ، ولو تعلون مَا فيهما لأتيتموهما ولو حبواً .
وخرجه أبو نعيم الفضل بْن دكين - أيضاً .
وخرج بإسناده ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : لَوْ يعلم القاعدون مَا للمشائين إلى هاتين الصلاتين : صلاة العشاء الفجر لأتوهما ولو حبواً .
وروى مَالِك فِي ( ( الموطإ ) ) بإسناده ، عَن عُمَر ، قَالَ : لأن أشهد صلاة الصبح - يعني : فِي جماعة - أحب إلي من أن أقوم ليلة .
وروى الحافظ أبو موسى بإسناده عَن عقبة بْن عَبْد الغافر ، قَالَ : صلاة العشاء فِي جماعة تعدل حجة ، وصلاة الفجر فِي جماعة تعدل عمرة .
ويروى بإسناده منقطع ، عَن شداد بْن أوس ، قَالَ : من أحب أن يجعله الله من الذين يدفع الله بهم العذاب عَن أهل الأرض فليحافظ عَلَى هاتين الصلاتين فِي جماعة : العشاء الآخرة والصبح .(4/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
35 - بَابُ
اثْنَانِ فَما فوقهما جماعة
658 - حدثنا مسدد : ثنا يزيد بْن زريع : ثنا خَالِد ، عَن أَبِي قلابة ، عَن مَالِك ابن الحويرث ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما ، وليؤمكما أكبركما ) ) .
وقد تقدم هَذَا الحَدِيْث فِي ( ( أبواب الأذان ) ) ، خرجه البخاري هناك من حَدِيْث الثوري ، عَن خَالِد الحذاء ، ولفظ حديثه : أتى رجلان النَّبِيّ ( يريدان السفر ، فَقَالَ النَّبِيّ ( : ( ( إذا أنتما خرجتما فأذنا وأقيما ، وليؤمكما أكبركما ) ) .
وخرجه هناك - أيضاً - من حَدِيْث أيوب ، عَن أَبِي قلابة ، عَن مَالِك بْن الحويرث ، قَالَ : أتيت النَّبِيّ ( فِي نفر من قومي ، فأقمنا عنده - فذكر الحَدِيْث - ، وفي أخره : ( ( فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم ، وليؤمكم أكبركم ) ) .
فرواية أيوب تدل عَلَى أنهم كانوا جماعة ، فلا يحتج بِهَا عَلَى أن الاثنين جماعة ، وإنما يحتج لذلك برواية خَالِد الحذاء ؛ فإنه ذكر فِي روايته أنهما كانا اثنين ، وأن النَّبِيّ ( أمرهما أن يؤمهما أكبرهما ، فدل عَلَى أن الجماعة تنعقد باثنين .
وفي هَذَا المعنى أحاديث أخر :
مِنْهَا : حَدِيْث أَبِي بْن كعب ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( صلاة الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلُ أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مَعَ الرجلين أزكى من صلاته مَعَ الرَّجُلُ ، وما كثر فهو أحب إلى الله ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان فِي(4/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
( ( صحيحهما ) ) والحاكم .
ومنها : حَدِيْث أَبِي سَعِيد ، أن النَّبِيّ ( أبصر رجلاً يصلي وحده ، فَقَالَ : ( ( ألا رَجُل يتصدق عَلَى هَذَا فيصلي مَعَهُ ؟ ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود ، وهذا لفظه ، وخرجه الترمذي بمعناه وحسنه ، وقد سبق ذكره .
وخرج أبو داود فِي كِتَاب ( ( المراسيل ) ) معناه من حَدِيْث مكحول والقاسم ابن عَبْد الرحمن - مرسلاً - ، وفي حديثهما زيادة : فَقَالَ النَّبِيّ ( : ( ( وهذه من صلاة الجماعة ) ) .
وخرجه الإمام أحمد من رِوَايَة الْقَاسِم ، عَن أَبِي أمامة ، عَن النَّبِيّ ( ، ولفظه : ( ( هذان جماعة ) ) .
وفي إسناده ضعف ، والمرسل أشبه .
وخرج ابن ماجه بإسناد ضَعِيف ، عَن أَبِي موسى ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ :
( ( الاثنان فما فوقهما جماعة ) ) .
وخرج البيهقي معناه من حَدِيْث أنس بإسناد ضَعِيف - أيضاً .
ولا نعلم خلافاً أن الجماعة تنعقد باثنين إذا كانا من أهل التكليف ، ولو كَانَ(4/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
المأموم امرأةً .
فإن كَانَ المأموم صبياً ، فهل تنعقد بِهِ الجماعة ؟
فِيهِ روايتان عَن أحمد فِي الصلاة المكتوبة ، فأما النافلة فتنعقد كما صلى النَّبِيّ ( بالليل بابن عَبَّاس وحده .
وأكثر العلماء عَلَى أنه لا فرق بَيْن الفرض والنفل فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة والشافعي .(4/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
36 - بَابُ
من جلس فِي المسجد ينتظر الصلاة ، وفضل المساجد
قَدْ تقدم فِي فضل انتظار الصلاة فِي المسجد من حَدِيْث أَبِي صالح ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، ومن حَدِيْث أَبِي بردة ، عَن أَبِي موسى .
وخرج فِي هَذَا الباب ثَلاَثَة أحاديث :
الحَدِيْث الأول :
659 - حدثنا عَبْد الله بْن مسلمة ، عَن مَالِك ، عَن أَبِي الزناد ، عَن الأعرج ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، أن رَسُول الله ( قَالَ : ( ( الملائكة تصلي عَلَى أحدكم مَا دام فِي مصلاه ، مَا لَمْ يحدث : اللهم اغفر لَهُ ، اللهم ارحمه ، ولا يزال أحدكم فِي صلاة مادامت الصلاة تحبسه ، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة ) ) .
دل هَذَا الحَدِيْث عَلَى فضل أمرين :
أحدهما : الجلوس فِي المصلى ، وَهُوَ موضع الصلاة الَّتِيْ صلاها : والمراد بِهِ فِي المجلس دون البيت ، وآخر الحَدِيْث يدل عَلِيهِ .
قَالَ ابن عَبْد البر : ولو صلت المرأة فِي مسجد بيتها وجلست فِيهِ تنتظر الصلاة فَهِيَّ داخلة فِي هَذَا المعنى إذا كَانَ يحبسها عَن قيامها لأشغالها انتظار الصلاة .
( ( وإن الملائكة تصلي عَلِيهِ مَا لَمْ يحدث ) ) وقد فسر صلاة الملائكة عَلِيهِ بالدعاء لَهُ بالمغفرة والرحمة ، والصلاة قَدْ فسرت بالدعاء ، وفسرت بالثناء والتنويه بالذكر ، ودعاء الملائكة بينهم لعبد هُوَ تنويه منهم بذكره وثناء عَلِيهِ بحسن عمله .
وقد قيل : صلاتهم عَلِيهِ مقبولة مَا لَمْ يحدث .
وقد اختلف فِي تفسير الحدث : هَلْ هُوَ الحدث الناقض للوضوء ، أو(4/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
الحدث باللسان من الكلام الفاحش ونحوه ، ومثله الحدث بالأفعال الَّتِيْ لا تجوز ؟ وقد أشرنا إلى هَذَا الاختلاف فِي ( ( كِتَاب الطهارة ) ) .
وذهب مَالِك وغيره إلى أَنَّهُ الحدث الناقض للوضوء ، ورجحه ابن عَبْد البر ؛ لأن المحدث وإن جلس فِي المسجد فهو غير منتظر للصلاة ؛ لأنه غير قادر عَلَيْهَا .
والثاني : أن منتظر الصلاة لا يزال فِي صلاة مَا دامت الصلاة تحبسه .
وقد فسر ذَلِكَ بأنه ( ( لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة ) ) ، وهذا يشمل من دَخَلَ المسجد للصلاة فِيهِ جماعة قَبْلَ إقامة الصلاة فجلس ينتظر الصلاة ، ومن صلى مَعَ الإمام ثُمَّ جلس ينتظر الصلاة الثانية .
وهذا من نوع الرباط فِي سبيل الله ، كما قَالَ النَّبِيّ ( : ( ( ألا أدلكم عَلَى مَا يمحو الله بِهِ الخطايا ويرفع بِهِ الدرجات ؟ ) ) قالوا : بلى يَا رَسُول الله . قَالَ : ( ( إسباغ الوضوء عَلَى المكاره ، وثرة الخطأ إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ؛ فذالكم الرباط ، فذالكم الرباط ) ) .
خرجه مُسْلِم من حَدِيْث العلاء بْن عَبْد الرحمن ، عَن أبيه ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ .
وقد ورد تقييد ذَلِكَ - أيضاً - بما لَمْ يحدث .
خرجه البخاري فِي ( ( أبواب نواقض الوضوء ) ) من رِوَايَة ابن أَبِي ذئب ، عَن المقبري ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( لا يزال العبد فِي صلاة مَا كَانَ فِي المسجد ينتظر الصلاة ، مَا لَمْ يحدث ) ) . فَقَالَ رَجُل أعجمي : مَا الحدث يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ : الصوت - - يعني : الضرطة .
وقد سبق الكلام عَلِيهِ فِي موضعه ، وذكرنا اخْتِلاَف النَّاس فِي تفسير الحدث والمراد بِهِ .(4/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
وقد فسره أبو سَعِيد الْخُدرِيَّ كما فسره أبو هُرَيْرَةَ - أيضاً .
خرجه الإمام أحمد .
ومعنى كونه فِي الصلاة - والله أعلم - : أن لَهُ أجر المصلي وثوابه بحبس نفسه فِي المسجد للصلاة .
وليس فِي هَذَا الحَدِيْث ، ولا فِي غيره من أحاديث الباب الاشتراط للجالس فِي مصلاه أن يكون مشتغلاً بالذكر ، ولكنه أفضل وأكمل ، ولهذا ورد فِي فضل من جلس فِي مصلاه بعد الصبح حَتَّى تطلع الشمس ، وبعد العصر حَتَّى تغرب أحاديث متعددة .
وهل المراد بمصلاه نفس الموضع الَّذِي صلى فِيهِ أو المسجد الَّذِي صلى فِيهِ كله مصلى لَهُ ؟ هَذَا فِيهِ تردد .
وفي ( ( صحيح مُسْلِم ) ) عَن جابر بر سمرة ، أن النَّبِيّ ( كَانَ إذا صلى الفجر جلس فِي مصلاه حَتَّى تطلع الشمس حسناء .
وفي رِوَايَة لَهُ : كَانَ النَّبِيّ ( لا يقوم من مصلاه الَّذِي يصلي فِيهِ الصبح أو الغداة حَتَّى تطلع الشمس ، فإذا طلعت الشمس قام .
ومعلوم ؛ أَنَّهُ ( لَمْ يكن جلوسه فِي الموضع الَّذِي صلى فِيهِ ؛ لأنه كَانَ ينفتل إلى أصحابه عقب الصلاة ويقبل عليهم بوجهه .
وخرجه الطبراني ، وعنده : كَانَ إذا صلى الصبح جلس يذكر الله حَتَّى تطلع الشمس .
ولفظة : ( ( الذكر ) ) غريبة .(4/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
وفي تمام حَدِيْث جابر بْن سمرة الَّذِي خرجه مُسْلِم وكانوا يتحدثون فيأخذون فِي أمر الجَاهِلِيَّة ، فيضحكون ويتبسم .
وهذا يدل عَلَى أَنَّهُ لَمْ ينكر عَلَى من تحدث وضحك فِي ذَلِكَ الوقت ، فهذا الحَدِيْث يدل عَلَى أن المراد بمصلاه الَّذِي يجلس فِيهِ المسجد كله .
وإلى هَذَا ذهب طائفة من العلماء ، منهم : ابن بطة من أصحابنا وغيره .
وقد روي عَن أَبِي هُرَيْرَةَ مَا يخالف هَذَا .
رَوَى مَالِك فِي ( ( الموطإ ) ) عَن نعيم المجمر ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُول : إذا صلى أحدكم ثُمَّ جلس فِي مصلاه لَمْ تزل الملائكة تصلى عَلِيهِ ، تَقُول : اللهم اغفر لَهُ ، اللهم ارحمه ، فإن قام من مصلاه فجلس فِي المسجد ينتظر الصلاة لَمْ تزل الملائكة تصلي عَلِيهِ فِي مصلاه حَتَّى يصلي .
فهذا يدل عَلَى أَنَّهُ إذا تحول من موضع صلاته من المسجد إلى غيره من المسجد انقطع حكم جلوسه فِي مصلاه ، فإن جلس ينتظر الصلاة كَانَ حكمه حكم من ينتظرها ، وصلت عَلِيهِ الملائكة - أيضاً - ، فإن لَمْ يجلس منتظراً للصلاة فلا شيء لَهُ ؛ لأنه لَمْ يجلس فِي مصلاه ولا هُوَ منتظر للصلاة .
قَالَ ابن عَبْد البر : إلا أنه لا يقال : إنه تصلي عَلِيهِ الملائكة .
يعني : عَلَى المتحول من مكانه وَهُوَ ينتظر الصلاة كما تصلي عَلَى الَّذِي فِي مصلاه ينتظر الصلاة .
يشير إلى أن الحَدِيْث المرفوع إنما فِيهِ صلاة الملائكة عَلَى من يجلس فِي مصلاه لا عَلَى المنتظر للصلاة .
ولكن قَدْ روي فِي حَدِيْث مرفوع ، فروى عَطَاء بْن السائب ، عَن أَبِي عَبْد الرحمن السلمي ، عَن عَلِيّ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُول الله ( يَقُول : ( ( من صلى الفجر ثُمَّ جلس فِي مصلاه صلت عَلِيهِ الملائكة ، وصلاتهم عَلِيهِ : اللهم(4/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
اغفر لَهُ ، اللهم ارحمه ، ومن ينتظر الصلاة صلت عَلِيهِ الملائكة ، وصلاتهم عَلِيهِ : اللهم اغفر لَهُ ، اللهم ارحمه ) ) .
خرجه الإمام أحمد .
وَقَالَ عَلِيّ بْن المديني : هُوَ حَدِيْث كوفي ، وإسناده حسن .
وذكر ابن عَبْد البر - أيضاً - أنه يحتمل أن يكون بقاؤه فِي مصلاه شرطاً فِي انتظار الصلاة - أيضاً - ، كما كَانَ شرطاً فِي الجلوس فِي مصلاه .
وهذا الَّذِي قاله بعيد ، وإنما يمكن أن يقال فيمن صلى صلاة ثُمَّ جلس ينتظر صلاة أخرى ، فأما من دَخَلَ المسجد ليصلي صلاة واحدة وجلس ينتظرها قَبْلَ أن تقام فأي مصلى لَهُ حَتَّى يشترط أن لا يفارقه ؟
قَالَ : وقيامه من مجلسه ، المراد بِهِ : قيامه لعرض الدنيا ، فأما إذا قام إلى مَا يعينه عَلَى مَا كَانَ يصنعه فِي مجلسه من الذكر .
يعني : أَنَّهُ غير مراد ، ولا قاطع للصلاة عَلِيهِ . والله سبحانه وتعالى أعلم .
الحَدِيْث الثاني :
660 - حدثنا مُحَمَّد بْن بشار : ثنا يَحْيَى ، عَن عُبَيْدِ الله ، قَالَ : حَدَّثَنِي خبيب ابن عَبْد الرحمن ، عَن حفص بْن عاصم ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( سبعة يظلهم الله فِي ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل ، وشاب نشأ فِي عُبَادَة ربه عز وجل ، ورجل قلبه متعلق فِي المساجد ، ورجلان تحابا فِي الله اجتمعا عَلَى ذَلِكَ وتفرقا عَلِيهِ ، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال ، فَقَالَ : إني أخاف الله ، ورجل تصدق ، أخفى حَتَّى لا تعلم شماله مَا تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ) ) .
هذه السبعة اختلفت أعمالهم فِي الصورة ، وجمعها معنى واحد ، وَهُوَ(4/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
مجاهدتهم لأنفسهم ، ومخالفتهم لأهوائها ، وذلك يحتاج أولاً إلى رياضة شديدة وصبر عَلَى الامتناع مِمَّا يدعو إليه داعي الشهوة أو الغضب أو الطمع ، وفي تجشم ذَلِكَ مشقة شديدة عَلَى النفس ، ويحصل لها بِهِ تألم عظيم ، فإن القلب يكاد يحترق من حر نار الشهوة أو الغضب عِنْدَ هيجانها إذا لَمْ يطفء ببلوغ الغرض من ذَلِكَ ، فلا جرم كَانَ ثواب الصبر عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إذا اشتد الحر فِي الموقف ، ولم يكن للناس ظل يظلهم ويقيهم حر الشمس يومئذ ، وكان هؤلاء السبعة فِي ظل الله ( ، فَلَمْ يجدوا لحر الموقف ألماً جزاءً لصبرهم عَلَى حر نار الشهوة أو الغضب فِي الدنيا .
وأول هذه السبعة : الإمام العادل .
وَهُوَ أقرب النَّاس من الله يوم القيامة ، وَهُوَ عَلَى منبر من نور عَلَى يمين الرحمن ( ، وذلك جزاء لمخالفته الهوى ، وصبره عَن تنفيذ مَا تدعوه إليه شهواته وطمعه وغضبه ، مَعَ قدرته عَلَى بلوغ غرضه من ذَلِكَ ؛ فإن الإمام العادل دعته الدنيا كلها إلى نفسها ، فقالَ : إني أخاف الله رب العالمين . وهذا أنفع الخلق لعباد الله ، فإنه إذا صلح صلحت الرعية كلها .
وقد روي أَنَّهُ ظل الله فِي الأرض ؛ لأن الخلق كلهم يستظلون بظله ، فإذا عدل فيهم أظله الله فِي ظله .
والثاني : الشاب الَّذِي نشأ فِي عُبَادَة الله ( .
فإن الشباب شعبة من الجنون ، وَهُوَ داع للنفس إلى استيفاء الغرض من شهوات الدنيا ولذاتها المحظورة ، فمن سلم مِنْهُ فَقَدْ سلم .(4/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
وفي الحَدِيْث : ( ( عجب ربك من شاب ليست لَهُ صبوة ) ) .
وفي بعض الآثار : يَقُول الله : ( ( أيها الشاب التارك شهوته ، المتبذل شبابه من أجلي ، أنت عندي كبعض ملائكتي ) ) .
والثالث : الرَّجُلُ المعلق قلبه بالمساجد .
وفي رِوَايَة : ( ( إذا خرج مِنْهُ حَتَّى يعود إِلَيْهِ ) ) ، فهو يحب المسجد ويألفه لعبادة الله فِيهِ ، فإذا خرج مِنْهُ تعلق قلبه بِهِ حَتَّى يرجع إِلَيْهِ ، وهذا إنما يحصل لمن ملك نفسه وقادها إلى طاعة الله فانقادت لَهُ ؛ فإن الهوى إنما يدعو إلى محبة مواضع الهوى واللعب ، إما المباح أو المحظور ، ومواضع التجارة واكتساب الأموال ، فلا يقصر نفسه عَلَى محبة بقاع العبادة إلا من خالف هواه ، وقدم عَلِيهِ محبة مولاه .
وقد مدح عمار المساجد فِي قوله : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ( لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( [ النور : 36 - 38 ] .
وفي ( ( المسند ) ) و ( ( سنن ابن ماجه ) ) من حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( لا توطن رَجُل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله بِهِ كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم ) ) .
وروى ابن لهيعة ، عَن دراج ، عَن أَبِي الهيثم ، عَن أَبِي سَعِيد ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( من ألف المسجد ألفه الله ) ) .(4/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
ويروى عَن سَعِيد بْن المُسَيِّب ، قَالَ : من جلس فِي المسجد فإنما يجالس ربه ( .
الرابع : المتحابان فِي الله ( .
فإن الهوى داع إلى التحاب فِي غير الله ؛ لما فِي ذَلِكَ من طوع النفس أغراضها من الدنيا ، فالمتحابان فِي الله جاهدا أنفسهما فِي مخالفة الهوى حَتَّى صار تحابهما وتوادهما فِي الله من غير غرض دنيوي يشوبه ، وهذا عزيز جداً .
ولن يتحابا فِي الله حَتَّى يجتمعا فِي الدنيا فِي ظل الله المعنوي ، وَهُوَ تأليف قلوبهما عَلَى طاعة الله ، وإيثار مرضاته وطلب مَا عنده ، فلهذا اجتمعا يوم القيامة فِي ظل الله الحسي .
وقوله : ( ( اجتمعا عَلَى ذَلِكَ وتفرقا عَلِيهِ ) ) يحتمل أَنَّهُ يريد : أنهما اجتمعا عَلَى التحاب فِي الله حَتَّى فرق بَيْنَهُمَا الموت فِي الدنيا أو غيبة أحدههما عَن الآخر ، ويحتمل أَنَّهُ أراد أنهما اجتمعا عَلَى التحاب فِي الله ، فإن تغير أحدهما عما كَانَ عَلِيهِ مِمَّا توجب محبته فِي الله فارقه الآخر بسبب ذَلِكَ ، فيدور تحاببهما عَلَى طاعة الله وجوداً وعدماً .
قَالَ بعض السلف : إذا كَانَ لَكَ أخ تحبه فِي الله ، فأحدث حدثاً فَلَمْ تبغضه فِي الله لَمْ تكن محبتك لله - أو هَذَا المعنى .
الخامس : رَجُل دعته أمرأة ذات منصب وجمال .
ويعني بالمنصب : النسب والشرف والرفعة فِي الدنيا ، فإذا اجتمع ذَلِكَ مَعَ الجمال فَقَدْ كمل الأمر وقويت الرغبة ، فإن كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ هِيَ الطالبة الداعية إلي نفسها ، كَانَ أعظم وأعظم ، فإن الامتناع بعد ذَلِكَ كله دليل عَلَى تقديم خوف الله عَلَى هوى النفس ، وصاحبه داخل فِي قوله تعالى : ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ( [ النازعات : 40 ] ، وهذا كما جرى ليوسف عَلِيهِ السلام .(4/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
قَالَ عُبَيْدِ بْن عمير : من صدق الإيمان وبره إسباغ الوضوء فِي المكاره ، ومن صدق الإيمان وبره أن يخلو الرَّجُلُ بالمرأة الجميلة فيدعها ، لا يدعها إلا لله عز وجل .
ومثل هَذَا ؛ إذا قَالَ : ( ( إني أخاف الله ) ) فهو صادق فِي قوله ؛ لأن علمه مصدق لقوله ، وقوله لها : ( ( إني أخاف الله ) ) موعظة لها ، فربما تنْزجر عَن طلبها ، وترجع عَن غيها .
وقد وقع ذَلِكَ لغير واحدٍ ، وفيه حكايات مذكروة فِي كِتَاب ( ( ذم الهوى ) ) وغيره .
السادس : رَجُل تصدق بصدقة فاجتهد فِي إخفائها غاية الاجتهاد حَتَّى لَمْ يعلم بِهِ إلا الله .
وضرب المثال لذلك عَلَى طريق المبالغة : ( ( حَتَّى لا تعلم شماله مَا تنفق يمينه ) ) .
وهذا دليل عَلَى قوة الإيمان والاكتفاء باطلاع الله عَلَى العبد وعلمه بِهِ ، وفيه مخالفة للهوى ومجاهدة للنفس ؛ فإنها تحب إظهار الصدقة ، والتمدح بِهَا عِنْدَ الخلق ، فيحتاج فِي إخفاء الصدقة إلى قوة شديدةٍ تخالف هوى النفس .
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حَدِيْث أَنَس ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( لما خلق الله الأرض جعلت تميد ، فخلق الجبال فألقاها عَلَيْهَا فاستقرت ، فعجبت الملائكة من خلق الجبال ، فقالوا : يَا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قَالَ : نَعَمْ ، الحديد . قالوا : يَا رب ، فهل شيء من خلقك أشد من الحديد ؟ قَالَ : نَعَمْ ، النار ، قالوا : يارب ، فهل من خلقك شيء أشد من النار ؟(4/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
قَالَ : نَعَمْ ، الماء . قالوا : يارب ، فهل من خلقك شيء أشد من الماء ؟ قَالَ : نَعَمْ ، الريح . قالوا : يارب ، فهل من خلقك شيء أشد من الريح ؟ قَالَ : نَعَمْ ، ابن آدم ؛ يتصدق بيمينه يخفيها من شماله ) ) .
السابع : رَجُل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه .
فهذا رَجُل يخشى الله فِي سره ، ويراقبه فِي خلوته ، وافضلُ الأعمال خشية الله فِي السر والعلانية ، وخشية الله فِي السر إنما تصدر عَن قوة إيمان ومجاهدةٍ للنفس والهوى ، فإن الهوى يدعو فِي الخلوة إلى المعاصي ، ولهذا قيل : إن من أعز الأشياء الورع فِي الخلوة .
وذكر الله يشمل ذكر عظمته وبطشه وانتقامه وعقابه ؛ والبكاء الناشيء عَن هَذَا هُوَ بكاء الخوف ، ويشمل ذكر جماله وكماله وبره ولطفه وكرامته لأوليائه بأنواع البر والألطاف ، لا سيما برؤيته فِي الجنة ، والبكاء الناشيء عَن هَذَا هُوَ بكاء الشوق .
ويدخل فِي - أيضاً - : رَجُل ذكر أن الله مَعَهُ حيثما كَانَ ، فتذكر معيته وقربه واطلاعه عَلِيهِ حيث كَانَ يبكي حياء مِنْهُ ، وَهُوَ من نوع الخوف - أيضاً .
وخرج الطبراني بإسناد فِيهِ ضعف ، عَن أَبِي أمامة مرفوعاً : ( ( ثَلاَثَة فِي ظل الله يوم لا ظل إلا ظله : رَجُل حيث توجه علم أن الله مَعَهُ ) ) .
وهذا الحَدِيْث يدل عَلَى أن هؤلاء السبعة يظلهم الله فِي ظله ، ولا يدل عَلَى الحصر ، ولا عَلَى أن غيرهم لا يحصل لَهُ ذَلِكَ ؛ فإنه صح عَن النَّبِيّ ( : ( ( أن من أنظر معسراً أو وضع عَنْهُ أظله الله فِي ظله يوم لا ظل إلا ظله ) ) .
خرجه مُسْلِم من من حَدِيْث أَبِي اليسر الأنصاري ، عَن النَّبِيّ ( .(4/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
وخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه - من حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( من نفس عَن غريمه ، أو محا عَنْهُ كَانَ فِي ظل العرش يوم القيامة ) ) .
وهذا يدل عَلَى أن المراد بظل الله : ظل عرشه .
الحَدِيْث الثالث :
661 - حدثنا قتيبة : ثنا إسماعيل بْن جَعْفَر ، عَن حميد ، قَالَ : سئل أَنَس : هَلْ اتخذ رَسُول الله ( خاتماً ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، أخر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل ، ثمَّ أقبل علينا بوجهه بعدما صلى ، فَقَالَ : ( ( صلى النَّاس ورقدوا ، ولم تزالوا فِي صلاة مَا انتظرتموها ) ) . قَالَ : فكأني أنظر إلى وبيص خاتمه .
قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي مواضع من ( ( الكتاب ) ) ، وَهُوَ بمعنى حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ المخرج فِي أول الباب .(4/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
37 - باب
فَضْلِ مَنْ غَدَا إلى المَسْجِدِ أَوْ رَاحَ
662 - حدثنا عَلِيّ بْن عَبْد الله : ثنا يزيد بْن هارون : أنا مُحَمَّد بْن مطرف ، عَن زيد بْن أسلم ، عَن عَطَاء بْن يسار ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله لَهُ نزلاً من الجنة كُلَّمَا غدا أو راح ) ) .
الغدو : يكون من أول النهار ، والرواح : يكون من آخره بعد الزوال ، وقد يعبر بأحدهما عَن الخروج والمشي ، سواء كَانَ قَبْلَ الزوال أو بعده ، كما فِي قوله ( فِي الجمعة : ( ( من راح فِي الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ) ) عَلَى مَا حمله عَلِيهِ جمهور العلماء .
ومعنى الحَدِيْث : أن من خرج إلى المسجد للصلاة فإنه زائر الله تعالى ، والله يعد لَهُ نزلاً من المسجد ، كُلَّمَا انطلق إلى المسجد ، سواء كَانَ فِي أول النهار أو فِي آخره .
والنزل : هُوَ مَا يعد للضيف عِنْدَ نزوله من الكرامة والتحفة .
قَالَ الحافظ أبو موسى المديني : وزيد فِيهِ فِي غيره هذه الرواية : ( ( كما لَوْ أن أحدكم زاره من يحب زيارته لاجتهد فِي إكرامه ) ) .
وخرج من طريق الطبراني بإسناده ، عَن سَعِيد بْن زربي ، عَن ثابت ، عَن أَبِي عُثْمَان ، عَن سلمان ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( من توضأ فأحسن الوضوء ثُمَّ أتى المسجد فهو زائر الله ، وحق عَلَى المزور أن يكرم الزائر ) ) .
قَالَ أبو موسى : ورواه سُلَيْمَان التيمي وداود بْن أَبِي هند وعوف ، عَن(4/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
أَبِي عُثْمَان ، عَن سلمان - موقوفاً ، لا مرفوعاً .
وسعيد بن زربي ، فِيهِ ضعف .
وخرج - أيضاً - من طريق الطبراني بإسناده ، عَن يَحْيَى بْن الحارث ، عَن الْقَاسِم ، عَن أَبِي أمامة ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله ( : ( ( الغدو والرواح إلى المساجد من الجهاد فِي سبيل الله ) ) .
وذكر مَالِك فِي ( ( الموطأ ) ) عَن سمي مَوْلَى أَبِي بَكْر ، أن أبا بَكْر بْن عَبْد الرحمن كَانَ يَقُول : من غدا أو راح إلى المسجد لا يديد غيره ؛ ليعلم خيراً أو يتعلمه ، ثُمَّ رجع إلى بيته ؛ كَانَ كالمجاهد فِي سبيل الله .
ومما يستدل بِهِ عَلَى أن قصد المساجد للصلاة فيها زيارة لله ( : مَا خرجه ابن ماجه بإسناده فِيهِ ضعف ، من حَدِيْث أَبِي الدرداء ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( إن أحسن مَا زرتم بِهِ الله فِي قبوركم ومساجدكم البياض ) ) .(4/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
38 - باب
إذا أُقيمَتِ الصَّلاةُ فَلاَ صَلاةَ إِلاَّ المَكْتُوبَةُ
بوب عَلَى هذه الترجمة ، ولم يخرج الحَدِيْث الَّذِي بلفظها ، وقد خرجه مُسْلِم من حَدِيْث عَمْرِو بْن دينار ، عَن عَطَاء بْن يسار ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) ) .
وخرجه أبو داود موقوفاً .
وقد اختلف فِي رفعه ووقفه ، واختلف الأئمة فِي الترجيح ، فرجح الترمذي رفعه ، وكذلك خرجه مُسْلِم فِي ( ( صحيحه ) ) ، وإليه ميل الإمام أحمد ، ورجح أبو زُرْعَة وقفه ، وتوقف فِيهِ يَحْيَى بْن معين ، وإنما لَمْ يخرجه البخاري لتوقفه ، أو لترجيحه وقفه . والله أعلم .
وقد خرجه الطبراني من رِوَايَة زياد بْن عَبْد الله ، عَن مُحَمَّد بْن جحادة ، عَن عَمْرِو ، عَن عَطَاء ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( إذا أخذ المؤذن فِي الإقامة فلا صلاة إلا المكتوبة ) ) .
وهذا لفظ غريبٌ .
وقد روي من وجوه أخر عَن أَبِي هُرَيْرَةَ .
وخرجه الإمام أحمد من رِوَايَة ابن لهيعة : ثنا عياش بْن عباسٍ ، عَن(4/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
أَبِي تميم الزُّهْرِيّ ، عن أبي هريرة ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا الَّتِيْ أقيمت ) ) .
وخرجه الطبراني بهذا اللفظ - أيضا - من رِوَايَة أَبِي صالح : ثنا الليث ، عن
عَبْد الله بْن عياش بْن عَبَّاس القتباني ، عَن أبيه ، عَن أَبِي تميم ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( .
قَالَ البخاري :
663 - حدثنا عَبْد العزيز بْن عَبْد الله : ثنا إِبْرَاهِيْم بْن سعد ، عَن أبيه ، عَن حفص بْن عاصم ، عَن عَبْد الله بْن مَالِك ابن بحينة ، قَالَ : مر النَّبِيّ ( برجل .
وحدثني عَبْد الرحمن - هو : ابن بشر - : ثنا بهز بْن أسد : ثنا شعبة : أخبرني سعد بْن إِبْرَاهِيْم ، قَالَ : سَمِعْت [ حفص بْن عاصم ، قَالَ : سَمِعْت ] رجلاً من الأزد ، يقال لَهُ : مَالِك ابن بحينة ، أن رَسُول الله ( رأى رجلاً وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين ، فلما انصرف رَسُول الله ( لاث بِهِ النَّاس ، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله ( : ( ( آلصبح أربعاً ، آلصبح أربعاً ؟ ) ) .
تابعه : غندر ومعاذ ، عَن شعبة ، عَن مَالِك .
وَقَالَ ابن إِسْحَاق : عَن سعد ، عَن حفصٍ ، عَن عَبْد الله ابن بحينة .
وَقَالَ حماد : أنا سعد ، عَن حفص ، عَن مَالِك .
( ( لاث بِهِ النَّاس ) ) - اي : أحدقوا بِهِ ، وأحاطوا حوله .
وقوله : ( ( آالصبح أربعاً ) ) - مرتين - : إنكار لصلاته وقد أقيمت صلاة الفجر ، فكأنه صلى الصبح بعد الإقامة أربعاً .(4/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
وخرجه مُسْلِم ، ولفظه : مر النَّبِيّ ( برجل يصلي وقد أقيمت الصلاة ، فكلمه بشيء ، لا ندري مَا هُوَ ، فلما انصرفنا أحطنا بِهِ ، نقول : ماذا قَالَ لَكَ رَسُول الله ( ؟ قَالَ : قَالَ لِي : ( ( يوشك أن يصلي احدكم الصبح أربعاً ) ) .
وفي رِوَايَة لَهُ - أيضاً - : أقيمت صلاة الصبح ، فرأى رَسُول الله ( رجلا يصلي والمؤذن يقيم ، فَقَالَ النَّبِيّ ( : ( ( أتصلي الصبح أربعاً ؟ ) ) .
فعلى هذه الرواية ورواية البخاري : الحَدِيْث من رِوَايَة ابن بحينة ، عَن النَّبِيّ ( ، سمعه مِنْهُ ، وعلى الرواية الأول لمسلم : الحَدِيْث من رِوَايَة ابن بحينة ، عَن رَجُل غير مسمى من الصَّحَابَة ، عَن النَّبِيّ ( .
لكن ؛ قَدْ روي أن الرَّجُلُ المصلي هُوَ ابن القشب ، وَهُوَ ابن بحينة راوي الحَدِيْث .
كذلك رواه جَعْفَر بْن مُحَمَّد ، عَن أبيه - مرسلاً .
وروي ، عَن جَعْفَر ، عَن أَبِيه ، عَن عَبْد الله بْن مَالِك بْن بحينة .
والصحيح : المرسل - : قاله أبو حاتم الرَّازِي .
وقد أشار البخاري إلى الاختلاف فِي اسم ( ( ابن بحينة ) ) ، فخرجه من طريق إبراهيم بْن سعد ، عَن أبيه ، وسمى الصحابي : ( ( عَبْد الله بْن مَالِك ابن بحينة ) ) ، وذكر أن ابن إسحاق قالَ : عن سعد ( ( عن عبد الله بن بحينة ) ) ، وخرجه من طريق شعبة ، وسماه : ( ( مَالِك ابن بحينة ) ) ، وذكر أن حماداً رواه عَن سعد كذلك ، وحماد هُوَ : ابن سَلَمَة .
وكذا رواه أبو عوانة ، عَن سعد - أيضاً .
وقيل عَنْهُ : ( ( عَن ابن بحينة ) ) غير مسمى .(4/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
والصحيح من ذَلِكَ : عَبْد الله بْن مَالِك ابن بحينة - : قاله أبو زُرْعَة والنسائي والترمذي والبيهقي وغيرهم .
وَهُوَ عَبْد الله بْن مَالِك ابن القشب من أزد شنوءة ، حليف لبني عَبْد المطلب ، وبحينة أمه ، وهي بحينة بِنْت الحارث بْن عَبْد المطلب - : قاله ابن المديني وابن سعد والترمذي والبيهقي وغيرهم .
وقد رَوَى هَذَا الحَدِيْث القعنبي ، عَن إِبْرَاهِيْم بْن سعد ، فَقَالَ فِيهِ : عَن عَبْد الله بْن مَالِك ابن بحينة ، عَن أَبِيه ، عَن النَّبِيّ ( .
وقوله : ( ( عَن أَبِيه ) ) وهم - : قاله الإمام أحمد وابن معين وسليمان بْن داود الهاشمي ومسلم - ذكره فِي ( ( صحيحه ) ) - وغيرهم .
وقد روي مثل هَذَا الحَدِيْث عَن النَّبِيّ ( من وجوهٍ متعددةٍ .
وخرجه مُسْلِم فِي ( ( صحيحه ) ) من حَدِيْث عاصم الأحوال ، عَن عَبْد الله بْن سرجس ، قَالَ : دَخَلَ رَجُل المسجد ورسول الله ( فِي صلاة الغداة ، فصلى ركعتين فِي جانب المسجد ، ثُمَّ دَخَلَ مَعَ رَسُول الله ( ، فلما سلم رَسُول الله ( قَالَ : ( ( يَا فلان ، بأي الصلاتين اعتددت ، أبصلاتك وحدك ، أم بصلاتك مَعَنَا ؟ ) ) .
ولا نعلم خلافاً أن إقامة الصلاة تقطع التطوع فيما عدا ركعتي الفجر ، واختلفوا فِي ركعتي الفجر : هَلْ تقطعهما الإقامة .
فَقَالَتْ طائفة : تقطعهما الإقامة ، لهذه الأحاديث الصحيحة ، روي عَن ابن عُمَر وأبي هُرَيْرَةَ .
وروي عَن عُمَر ، أنه كَانَ يضرب عَلَى الصلاة بعد الإقامة .(4/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
وممن كره ذَلِكَ ونهى عَنْهُ : سَعِيد بْن جبير وميمون بْن مهران وعروة والنخعي .
وَقَالَ ابن سيرين : كانوا يكرهون أن يصلوهما إذا أقيمت الصلاة . وَقَالَ مَا يفوته من المكتوبة أحب إلي منهما .
وروى أبو حَمْزَة ، قَالَ : قُلتُ لإبراهيم : لأي شيءٍ كرهت الصلاة عِنْدَ الإقامة ؟ قَالَ : مخافة التكبيرة الأولى .
قَالَ وكيع : وتدرك فضيلة التكبيرة الأولى بإدراك التأمين مَعَ الإمام ، واستدل بحديث بلال ، أَنَّهُ قَالَ للنبي ( : لا تسبقني بقول آمين .
وروي نحوه عَن أَبِي هُرَيْرَةَ .
ونص أحمد فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيْم بْن الحارث عَلَى أَنَّهُ إذا لَمْ يدرك التكبيرة مَعَ الإمام لَمْ يدرك التكبيرة الأولى .
وممن كره الصلاة بعد الإقامة : الشَّافِعِيّ وابن المبارك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو خيثمة وسليمان بْن داود الهاشمي .
ولو خالف وصلى بعد الإقامة صلاةً ، فهل تنعقد ، أم تقع باطلة ؟ فِيهِ لأصحابنا وجهان .
واختلفوا : هَلْ يصليهما وَهُوَ فِي البيت إذا سَمِعَ الإقامة ؟
فَقَالَتْ طائفة : يصليهما فِي البيت .
وروى عَن ابن عُمَر ، أنَّهُ دَخَلَ المسجد والناس يصلون ، فدخل بيت حَفْصَةَ(4/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
فصلى ركعتين ، ثُمَّ خرج إلى المسجد .
وروي عَنْهُ مرفوعاً ، خرجه ابن عدي .
ورفعه لا يصح .
وروى أبو إِسْحَاق ، عَن الحارث ، عَن عَلِيّ ، ان النَّبِيّ ( كَانَ يصلي الركعتين عِنْدَ الإقامة .
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه .
والحارث ، فِيهِ ضعف . وأبو إِسْحَاق ، لَمْ يسمعه مِنْهُ .
وخرجه يعقوب بْن شيبة ، ولفظه : ( ( مَعَ الإقامة ) ) .
ورواه الْحَسَن بْن عمارة - وهو متروك - ، عَن أَبِي إِسْحَاق ، وزاد فِيهِ : أَنَّهُ صلى فِي ناحية المسجد والمؤذن يقيم .
ولم يتابع عَلَى ذَلِكَ .
ورخص مَالِك فِي الصلاة بعد الإقامة خارج المسجد إذا لَمْ يخش أن تفوته الركعة الأولى .
ونقل ابن منصور ، عَن أحمد وإسحاق ، أنهما رخصا فيهما فِي البيت .
قَالَ أحمد : وقد كرهه قوم ، وتركه أحب إلي .
ونقل الشالنجي عَن أحمد : لا يصليهما فِي المسجد ، ولا فِي البيت .
وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ ، [ . . . . ] الهاشمي .(4/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
وقالت طائفة : يصليهما فِي المسجد - أيضاً - ، وروي ذَلِكَ عَن ابن مَسْعُود ، وأنه فعله بمحضرٍ من حذيفة وأبي موسى الأشعري .
وعن أَبِي الدرداء ، قَالَ : إني لأوتر وراء عمودٍ والإمام فِي الصلاة .
وعن الْحَسَن ومسروق ومجاهد ومكحول ، وَهُوَ قَوْلِ حمادٍ والحسن بْن حي والأوزاعي وسعيد بْن عَبْد العزيز والثوري وأبي حنيفة وأصحابه .
لكن الأوزاعي وسعيد وأبو حنيفة قالوا : إنما يصليهما إذا رجا إدراك الركعة الأخيرة مَعَ الإمام ، وإلا فلا يصليهما .
وروى وكيع ، عَن سُفْيَان ، أَنَّهُ يعتبر أن يرجو إدراك الركعة الأولى .
وروي ذَلِكَ عَن المقدام بْن معدي كرب الصحابي .
خرجه حرب ، عَنْهُ بإسناده .
ونقل حرب ، عَن إِسْحَاق ، قَالَ : إذا دَخَلَ المسجد وقد أخذ المؤذن فِي الإقامة ، فإن كَانَ الإمام افتتح الصلاة دخل معه وأن لم يكن افتتح الصلاة فلا بأس .
هَذَا كله حكم ابتداء التطوع بعد إقامة الصلاة ، فإن كَانَ قَدْ ابتدأ بالتطوع قَبْلَ الإقامة ، ثُمَّ أقيمت الصلاة ، ففيه قولان :
أحدهما : أَنَّهُ يتم ، وَهُوَ قَوْلِ الأكثرين ، منهم : النخعي والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق ، حملاً للنهي عَلَى الابتداء دون الاستدامة .
والثاني : يقطعها ، وَهُوَ قَوْلِ سَعِيد بْن جبير .
وحكي رِوَايَة عَن أحمد ، حكاها أبو حفص ، وهي غريبة ، وحكاها غيره مقيدةً بما إذا خشي فوات الجماعة بإتمام صلاته ، وحكي عَن أحمد فِي إتمامها(4/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
وقطعها روايتان .
وحكي عَن النخعي وأبي حنيفة وإسحاق الإتمام ، وعن الشَّافِعِيّ القطع .
وَقَالَ مَالِك : إن أقيمت وَهُوَ راكع [ . . . . ] ولم يركع لكنه ممن يخف الركعتين قَبْلَ أن يركع الإمام صلاهما ، وإلا قطع وصلى مَعَ لإمام ؛ لأنه تحصل لَهُ الجماعة فِي جميع الركعات ، ولا يبطل عَلِيهِ من التطوع كبير عملٍ .
وَقَالَ الثوري : إذا كَانَ يتطوع فِي المسجد ، ثُمَّ أقيمت الصلاة فليسرع الصلاة حَتَّى يلحق الإمام . قَالَ : وإن دَخَلَ المسجد والمؤذن يقيم ، فظن أَنَّهُ يؤذن ، فافتتح تطوعاً ، فإن تهيأ لَهُ أن يركع ركعتين خفيفتين فعل ، وإلا قطع ودخل فِي الصلاة ؛ فإن هذه صلاة ابتدأها بعد الإقامة .
هَذَا كله فِي صلاة التطوع حال إقامة الصلاة .
فأما إن كَانَ يصلي فرضاً وحده ، ثُمَّ أقيمت تلك الصلاة ، ففيه أربعة أقوال :
أحدها : أَنَّهُ يجوز لَهُ أن يتمه نفلاً ، ثُمَّ يصلي مَعَ الجماعة ، وهذا ظاهر مذهب أحمد ، وأحد قولي الشَّافِعِيّ ، ليحصل فضيلة الجماعة .
وعن أحمد رِوَايَة : أَنَّهُ يقطع صلاته ويصلي مَعَ الجماعة .
والثاني : يتمه فرضاً ، وَهُوَ قَوْلِ الْحَسَن ، والقول الثاني للشافعي ، وَهُوَ رِوَايَة عَن أحمد ، نقلها عَنْهُ أبو الحارث ، وَقَالَ : إذا أتمها فهو مخير ، إن شاء صلى مَعَ القوم ، وإن شاء لَمْ يدخل معهم .
قَالَ أبو حفص : وعنه رِوَايَة أخرى : أَنَّهُ يجب أن يصلي معهم إذا حضر فِي مسجد أهله يصلون . قَالَ : وَهُوَ الأكثر فِي مذهبه . قَالَ : وبه وردت السنة .(4/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
قُلتُ : يشير إلى الإعادة مَعَ الجماعة .
وفي وجوب الإعادة واستحبابها عَنْهُ روايتان ، وأكثر الأصحاب عَلَى أن الإعادة مستحبة غير واجبة . قالوا : وسواء كَانَ صلى منفرداً أو فِي جماعة .
قالوا : وإنما تجب الصلاة فِي جماعة لمن لَمْ يصل ، فأما من صلى منفرداً فَقَدْ سقط عَنْهُ الفرض ، فلا يجب عَلِيهِ إعادته ؛ ولهذا إذا أعاده فِي جماعة كَانَتْ المعادةُ نفلاً ، وفرضه الأولى - : نَصَّ عَلِيهِ أحمد .
والثالث : إن كَانَ صلى أكثر الفرض أتمه فرضاً ، وإلا أتمه نفلاً ، ثُمَّ صلى مَعَ الجماعة فرضه ، تنزيلاً للأكثر منزلة الكل ، وَهُوَ قَوْلِ النخعي ومالك وأبي حنيفة
والثوري .
وقالوا : إنَّه يصلي بعد ذَلِكَ مَعَ الجماعة مَا يلحق معهم تطوعاً .
والرابع : أَنَّهُ يحتسب بما صلى فريضة ، ثُمَّ يتم باقي صلاته مَعَ الجماعة ، ويفارقهم إذا تمت صلاته ، وَهُوَ قَوْلِ طائفة من السلف ، حكاه عنهم الثوري ، ونقله حرب عَن إِسْحَاق ، وحكاه إِسْحَاق عَن النخعي .
وهذا مبني عَلَى القول بجواز الانتقال من الإفراد إلى الائتمام ، فأما إن أقيمت الصلاة وعليه فائتة ، فمن قَالَ : لا يجب الترتيب بَيْن الفائته والحاضرة ، فإنه يرى أن يصلي مَعَ الإمام فريضة الوقت الَّتِيْ يصليها الإمام ، ثُمَّ يقضي الفائتة بعدها .
وأما من أوجب الترتيب ، فاختلفوا :
فمنهم من أسقط الترتيب فِي هَذَا الحال لخشية فوات الجماعة ؛ فإنها واجبة عندنا ، والنصوص بإيجاب الجماعة آكد من النصوص فِي الترتيب ، وحكي هَذَا رِوَايَة عَن أحمد ، ورجحها بعض المتأخرين من أصحابنا .
والمنصوص عَن أحمد : أَنَّهُ يصلي مَعَ الإمام الحاضرة ، ثُمَّ يقضي الفائتة ،(4/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
ثُمَّ يعيد الحاضرة ؛ فإنه يحصل لَهُ بعد ذَلِكَ الترتيب ، ولا يكون مصلياً بعد إقامة الصلاة غير الصلاة الَّتِيْ أقيمت .
ومن النَّاس من قَالَ : يفعل كذلك إذا خشي أن تفوته الجماعة بالكلية ، فإن رجا أن يدرك مَعَ الإمام شيئاً من الصلاة فالأولى أن يشتغل بقضاء الفائتة ، ثُمَّ يصلي الحاضرة مَعَ الإمام ، ويقضي مَا سبقه بِهِ .
وهذا ضَعِيف ؛ فإن الَّتِيْ صلاها فِي جماعة لَمْ يعتد بِهَا ، بل قضاها ، فَهِيَّ فِي معنى النافلة .
ومن أصحابنا من قَالَ : الأولى أن يشتغل بالقضاء وحده ، ثُمَّ إن أدرك مَعَ الإمام الحاضرة ، وإلا صلاها وحده .
وفي هَذَا مخالفة لقوله : ( ( فإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا الَّتِيْ أقيمت ) ) .
ومن أجاز أن يقتدي من يصلي فرضاً خلف من يصلي فرضاً آخر ، أجاز أن يقتدي بالإمام فِي الفائتة ، ثُمَّ يصلي الحاضرة بعدها ، وأمر بذلك عَطَاء بْن أَبِي رباح .
وخرج البيهقي من رِوَايَة يَحْيَى بْن حَمْزَة : ثنا الوضين بْن عَطَاء ، عَن محفوظ بْن علقمة ، عَن ابن عائذ ، قَالَ : دَخَلَ ثَلاَثَة من أصْحَاب رَسُول الله ( والناس فِي صلاة العصر ، قَدْ فرغوا من صلاة الظهر ، فصلوا مَعَ النَّاس ، فلما فرغوا قَالَ بعضهم لبعض : كَيْفَ صنعتم ؟ قَالَ أحدهم : جعلتها الظهر ، ثُمَّ صليت العصر . وَقَالَ الآخر : جعلتها العصر ، ثُمَّ صليت الظهر . وَقَالَ الآخر : جعلتها للمسجد ، ثُمَّ جعلتها للظهر والعصر ، فَلَمْ يعب بعضهم عَلَى بعضٍ .
وخرجه الجوزجاني : حَدَّثَنَا نعيم بْن حماد : ثنا بقية ، عَن الوضين بْن عَطَاء ، عَن يزيد بْن مرثد ، قَالَ : دَخَلَ مسجد حمص ثَلاَثَة نفر من أصْحَاب(4/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
رَسُول الله ( : شداد بْن أوس وعبادة بْن الصَّامِت وواثلة بْن الأسقع ، والإمام فِي صلاة العصر ، وهم يرون أنها الظهر ، فَقَالَ أحدهم : هِيَ العصر ، وأصلي الظهر . وَقَالَ الآخر : هذه لِي الظهر ، وأصلي العصر . وَقَالَ الثالث : أصلي الظهر ، ثُمَّ العصر ، فَلَمْ يعب واحد منهم عَلَى صاحبيه .(4/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
39 - بَاب
حَدِّ المَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الجَمَاعَةَ
قوله : ( ( حد المريض ) ) ضبطه جماعة بالجيم المكسورة ، والمعنى : اجتهاد المريض أن يشهد الجماعة ، ومنهم من ضبطه بالحاء المهملة المفتوحة ، وفسره بالعزم والحرص .
ابتدأ البخاري - رحمه الله - فِي ذكر الأعذار الَّتِيْ يباح معها التخلف عَن شهود الجماعة ، فمنها : المرض ، وَهُوَ عذر مبيح لترك الجماعة ، ولهذا أمر النَّبِيّ ( أبا بَكْر أن يصلي بالناس ، وإنما خرج إلى الصلاة لما وجد من نفسه خفة .
وخروج المريض إلى المسجد ومحاملته أفضل ، كما خرج النَّبِيّ ( يهادى بَيْن رجلين .
وقد قَالَ ابن مَسْعُود : ولقد كَانَ الرَّجُلُ يهادي بَيْن رجلين حَتَّى يقام فِي الصف .
ومتى كَانَ المريض لا يقدر عَلَى المشي إلى المسجد ، وإنما يقدر أن يخرج محمولاً لَمْ يلزمه الخروج إلى الجماعة .
ولو وجد الزمن من يتطوع بحمله لَمْ تلزمه الجماعة ، وفي لزوم الجمعة لَهُ بذلك وجهان لأصحابنا .
قَالَ ابن المنذر : ولا أعلم اختلافاً بَيْن أهل العلم أن للمريض أن يتخلف عَن الجماعات من أجل المرض .
خرج البخاري فِي هَذَا الباب حَدِيْث عَائِشَة فِي مرض النَّبِيّ ( من طريقين :(4/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
الأول :
قَالَ :
664 - حَدَّثَنَا عُمَر بْن حفص بْن غياث : ثنا أَبِي : ثنا الأعمش ، عَن إِبْرَاهِيْم ، عَن الأسود ، قَالَ : كنا عِنْدَ عَائِشَة ، فذكرنا المواظبة عَلَى الصلاة ، والتعظيم لها . قَالَتْ : لما مرض النَّبِيّ ( مرضه الَّذِي مات فِيهِ ، فحضرت الصلاة ، فأوذن ، فَقَالَ : ( ( مروا أبا بَكْر فليصل بالناس ) ) . فَقِيلَ لَهُ : إن أبا بَكْر رَجُل أسيف ، إذا قام مقامك لَمْ يستطع أن يصلي بالناس ، وأعاد ، فأعادوا لَهُ ، فأعاد الثالثة ، فَقَالَ : ( ( إنكن صواحب يوسف ، مروا أبا بَكْر فليصل بالناس ) ) . فخرج أبو بَكْر فصلى ، فوجد النَّبِيّ ( من نفسه خفة ، فخرج يهادى بَيْن رجلين ، حَتَّى كأني أنظر إلى رجليه تخطان الأرض من الوجع ، فأراد أبو بَكْر أن يتأخر ، فأوما إليه النَّبِيّ ( أن مكانك .
ثُمَّ أتي بِهِ حَتَّى جلس إلى جنبه .
فَقِيلَ للأعمش : وكان النَّبِيّ ( يصلي وأبو بَكْر يصلي بصلاته ، والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر ؟ فَقَالَ برأسه : نَعَمْ .
روى أبو داود ، عَن شعبة ، عَن الأعمش بعضه . وزاد أبو معاوية : جلس عَن يسار أَبِي بَكْر ، فكان أبو بَكْر يصلي قائماً .
قَالَ الخطابي : الأسيف : الرقيق القلب ، الَّذِي يسرع إليه الأسف والحزن .
قَالَ : ويهادى : يحمل ، يعتمد عَلَى هَذَا مرة وعلى هَذَا مرة .
قَالَ : وقوله : ( ( صواحبات يوسف ) ) يريد النسوة اللاتي فتنه وتعنتنه .
انتهى .(4/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
وكانت عَائِشَة هِيَ الَّتِيْ أشارت بصرف الإمامة عَن أَبِي بَكْر ؛ لمخافتها أن يتشاءم النَّاس بأول من خلف رَسُول الله ( فِي الإمامة ، فكان إظهارها لرقة أَبِي بَكْر خشية أن لا يسمع النَّاس توصلاً إلى مَا تريده من صرف التشاؤم عَن أبيها . ففيه نوع مشابهة لما أظهره النسوة مَعَ يوسف عَلِيهِ السلام مِمَّا لا حقيقة لَهُ توصلاً إلى مرادهن .
وكان قصد النَّبِيّ ( تقديم أَبِي بَكْر عَلَى النَّاس فِي أهم أمور الدين حَتَّى تكون الدنيا تبعاً للدين فِي ذَلِكَ .
وفي الحَدِيْث : دليل عَلَى أن تخلف النَّبِيّ ( عَن الخروج اولاً لشدة الوجع عَلِيهِ ، فأنه لَمْ يمكنه الخروج بالكلية ، فلما وجد من نفسه خفة فِي الألم خرج محمولاً بَيْن
رجلين ، يعتمد عَلَيْهِمَا ويتوكأ ، ورجلاه تخطان الأرض ، فَلَمْ يستطع أن يمشي برجليه عَلَى الأرض لقوة وجعه ، بل كَانَ يحمل حملاً .
ولما رأى أبو بَكْر النَّبِيّ ( قَدْ خرج أراد أن يتأخر تأدباً مَعَ النَّبِيّ ( ، فأومأ إليه النَّبِيّ ( أن مكانك ، أي : اثبت مكانك ، ثُمَّ أتي بالنبي ( حَتَّى أجلس إلى جانب أَبِي بَكْر .
وليس فِي هذه الرواية تعيين الجانب الَّذِي أجلس النَّبِيّ ( فِيهِ من أَبِي بكرٍ : هَلْ هُوَ جانبه الأيمن أو الأيسر ؟ وقد ذكر البخري أن أبا معاوية زاد فِي حديثه عَن الأعمش : ( ( فجلس عَن يسار أَبِي بَكْر ) ) .
وقد خرج البخاري فيما بعد عَن قتيبة ، عَن أَبِي معاوية كذلك .
وخرجه - أَيْضاً - من رِوَايَة عَبْد الله بْن داود الخريبي ، عَن الأعمش ، ولفظه : فتأخر أبو بَكْر ، وقعد النَّبِيّ ( إلى جنبه ، وأبو بَكْر يسمع النَّاس التكبير .(4/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
[ وذكر ] أن محاضر بْن المورع رواه الأعمش كذلك .
وخرجه مُسْلِم من رِوَايَة زكيع وأبي معاوية ، كلاهما عَن الأعمش ، وفي حَدِيْث أَبِي معاوية عنده : فجاء رَسُول الله حَتَّى جلس عَن يسار أَبِي بَكْر .
وخرجه - أَيْضاً - من طريق عَلِيّ بْن مسهر وعيسى بْن يونس ، كلاهما عَن الأعمش ، وفي حديثهما : فأتي برسول الله ( حَتَّى أجلس إلى جنبه .
وخرج إِسْحَاق بْن راهويه فِي ( ( مسنده ) ) ، عَن وكيع ، عَن الأعمش هَذَا الحَدِيْث ، وَقَالَ فِيهِ : فجاء النَّبِيّ ( حَتَّى جلس عَن يمين أَبِي بَكْر ، يقتدي بِهِ ، والناس يقتدون بأبي بَكْر .
وهذه زيادة غريبةُ .
وقد خرج الحَدِيْث الإمام أحمد فِي ( ( مسنده ) ) ، عَن وكيع ، ولم يذكر فِيهِ ذَلِكَ ، بل قَالَ فِي حديثه : فجاء النَّبِيّ ( حَتَّى جلس إلى جنب أَبِي بَكْر ، فكان أبو بَكْر يأتم بالنبي ( ، والناس يأتمون بأبي بَكْر .
وأما ذكر جلوسه عَن يسار أَبِي بَكْر ، فتفرد بذلك أبو معاوية عَن الأعمش ، وأبو معاوية وإن كَانَ حافظاً لحديث الأعمش خصوصاً ، إلا أن ترك أصْحَاب الأعمش لهذه اللفظة عَنْهُ توقع الريبة فيها ، حَتَّى قَالَ الحافظ أبو بَكْر بْن مفوز المعافري : إنها غير محفوظة ، وحكاه عَن غيره من العلماء .
وأما رِوَايَة أَبِي داود الطيالسي ، عَن شعبة ، عَن الأعمش لبعض هَذَا الحَدِيْث ، كما أشار إليه البخاري فإنه رَوَى بهذا الإسناد عَن عَائِشَة ، قَالَتْ : من النَّاس من يَقُول : كَانَ النَّبِيّ ( فِي الصف ، ومنهم من يَقُول : كَانَ النَّبِيّ ( المقدم .(4/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
قَالَ البيهقي : هكذا رواه الطيالسي ، عَن شعبة ، عَن الأعمش ، وراية الجماعة عَن الأعمش كما تقدم [ عَلَى الإثبات والصحة ] .
قُلتُ : قَدْ رَوَى غير واحد عَن شعبة ، عَن الأعمش ، عَن إِبْرَاهِيْم ، عَن الأسود ، عَن عَائِشَة ، أن النَّبِيّ ( صلى خلف أَبِي بَكْر قاعداً .
وأما مَا ذكره حفص بْن غياث فِي روايته عَن الأعمش ، أَنَّهُ قيل للأعمش : فكان النَّبِيّ ( يصلي وأبو بَكْر يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر ، فأشار برأسه : نَعَمْ ، فإنه يشعر بأن هذه الكلمات ليست من الحَدِيْث الَّذِي أسنده الأعمش ، عَن إِبْرَاهِيْم ، عَن الأسود ، عَن عَائِشَة ، بل هِيَ مدرجة ، وقد أدرجها أبو معاوية ووكيع فِي حديثهما عَن الأعمش .
ورواه [ عَن همام ] ، عَن الأعمش ، فَلَمْ يذكر فِيهِ هَذَا الكلمات بالكلية ، وهذا - أَيْضاً - يشعر بإدراجها .
وقد رَوَى عُرْوَةَ ، عَن عَائِشَة ، أن النَّبِيّ ( أمر أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس فِي مرضه ، فكان يصلي بهم . قَالَ عُرْوَةَ : فوجد رَسُول الله ( من نفسه خفة فخرج - فذكر معنى ذَلِكَ - أَيْضاً .
وهذا مدرج مصرح بإدراجه ، وقد خرجه البخاري فيما بعد كذلك .
وروى الإمام أحمد : حَدَّثَنَا شبابة : ثنا شعبة ، عَن سعد بْن إِبْرَاهِيْم ، عَن عُرْوَةَ ، عَن عَائِشَة ، قَالَتْ : قَالَ رَسُول الله ( فِي مرضه : ( ( مروا أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس ) ) - وذكر الحَدِيْث ، وفي آخره : فصلى أبو بَكْر ، وصلى رَسُول الله ( خلفه قاعداً .(4/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
ولو كَانَتْ هذه الكلمات الَّتِيْ ذكرها الأعمش فِي حديثه فِي هَذَا الحَدِيْث عَن عَائِشَة ، فكيف كَانَتْ تَقُول : من النَّاس من يَقُول : كَانَ أبو بَكْر المقدم بَيْن يدي رَسُول الله ( فِي الصف ، ومنهم من يَقُول : كَانَ النَّبِيّ ( المقدم .
وكذلك قَالَ ابن أخيها الْقَاسِم بْن مُحَمَّد فقيه المدينة .
قَالَ عُمَر بْن شبة فِي ( ( كِتَاب أخبار المدينة ) ) : حَدَّثَنَا زيد بْن يَحْيَى أبو الحسين : ثنا صخر بْن جويرية ، عَن عَبْد الرحمن بْن الْقَاسِم ، أن رَسُول الله ( صلى صلاة الصبح فِي اليوم الَّذِي مات فِيهِ فِي المسجد ، جَاءَ رَسُول الله ( وأبو بَكْر يصلي فجلس عِنْدَ رجليه ، فمن النَّاس من يَقُول : كَانَ النَّبِيّ ( هُوَ المتقدم ، وعظم الناس يقولون كَانَ أبو بَكْر هُوَ المتقدم .
قَالَ عُمَر بْن شبة : اختلف النَّاس فِي هَذَا ، فَقَالَ بعضهم : صلى النَّبِيّ ( خلف أَبِي بَكْر . وَقَالَ أخرون : بل كَانَ أبو بَكْر يأتم بتكبير النَّبِيّ ( ، ويأتم النَّاس بتكبير أَبِي بَكْر .
وَقَالَ أبو بَكْر بْن المنذر : اختلفت الأخبار فِي صلاة النَّبِيّ ( فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ خلف أبي بَكْر ، ففي بعض الأخبار : أن النَّبِيّ ( صلى بالناس .
وفي بعضها : أن أَبَا بَكْر كَانَ المقدم . وقالت عَائِشَة : صلى رَسُول الله ( خلف أبي بَكْر فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ . انتهى .
وهذا المروي عَن عَائِشَة ، ان النَّبِيّ ( صلى خلف أَبِي بَكْر فِي مرضه مِمَّا يدل عَلَى أن هذه الألفاظ فِي آخر حَدِيْث الأعمش مدرجة ، ليست من حَدِيْث عَائِشَة .
وقد رَوَى شبابة ، عَن شعبة ، عَن نعيم بْن أَبِي هند ، عَن أَبِي وائل ، عَن مسروق ، عَن عائشة ، قَالَتْ : صلى النَّبِيّ ( خلف أَبِي بَكْر فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ .(4/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
خرجه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان فِي ( ( صحيحه ) ) .
وَقَالَ الترمذي : حسن صحيح .
وخرجه الإمام أحمد والنسائي من رِوَايَة بَكْر بْن عيسى ، عَن شعبة بهذا الإسناد ، عَن عَائِشَة ، أن أَبَا بَكْر صلى بالناس والنبي ( فِي الصف .
وقد رجح الإمام أحمد رِوَايَة بَكْر بْن عيسى عَلَى رِوَايَة شبابة ، وذكر أنها مخالفة لها .
وقد يقال : ليست مخالفة لها ؛ فإن المراد بالصف صف المأمومين ، فهما إذن بمعنى واحد .
وروى هَذَا الحَدِيْث معتمر بْن سُلَيْمَان ، عَن أبيه ، عَن نعيم بْن أَبِي هند ، عَن أَبِي وائل ، أحسبه عَن مسروق ، عَن عَائِشَة - فذكرت حَدِيْث مرض النَّبِيّ ( ، وصلاة أَبِي بَكْر . قَالَتْ : ثُمَّ أفاق رَسُول الله ( ، فجاءت نوبة وبريرة فاحتملاه ، فلما أحس أبو بَكْر بمجيئه أراد أن يتأخر ، فأومأَ إليه أن اثبت . قَالَ : وجيء بنبي الله ( ، فوضع بحذاء أَبِي بَكْر فِي الصف .
خرجه ابن حبان فِي ( ( صحيحه ) ) .
ومنعه من التأخر يدل عَلَى أَنَّهُ أراد أن يستمر عَلَى إمامته .
وخرجه ابن حبان - أَيْضاً - من طريق عاصم ، عَن أَبِي وائل ، عَن مسروق ، عَن عَائِشَة ، وزاد فِيهِ : فكان رَسُول الله ( يصلي وَهُوَ جالس ، وأبو بَكْر قائم يصلي بصلاة رَسُول الله ( ، والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر .
ولكن عاصم ، هُوَ ابن أَبِي النجود ، ليس بذاك الحافظ .(4/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
وروى شعبة ، عَن موسى بْن أَبِي عَائِشَة ، عَن عُبَيْدِ الله بْن عَبْد الله بْن عُتْبَة ، عَن عَائِشَة ، أن أَبَا بَكْر صلى بالناس ، ورسول الله ( فِي الصف خلفه .
خرجه ابن حبان فِي ( ( صحيحه ) ) من طريق بدل بْن المحبر ، عَن شعبة .
وبدل ، وثقة غير واحد ، وخرج لَهُ البخاري فِي ( ( صحيحه ) ) ، وإن تكلم فِيهِ الدراقطني .
خالفه فِيهِ أبو داود الطيالسي :
خرجه الإمام أحمد : حَدَّثَنَا أبو داود الطيالسي : ثنا شعبة بهذا الإسناد ، عَن عَائِشَة ، أن رَسُول الله ( أمر أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ ، فكان رَسُول الله ( بَيْن يدي أَبِي بَكْر يصلي بالناس قاعداً ، وأبو بَكْر يصلي بالناس ، والناس خلفه .
وكذا رواه زائدة ، عَن موسى بْن أَبِي عَائِشَة .
وقد خرج حديثه البخاري فيما بعد بسياق مطول ، وفيه : أن النَّبِيّ ( خرج بَيْن رجلين - أحدهما العباس - لصلاة الظهر - وذكر بقية الحَدِيْث بمعنى مَا رواه أبو معاوية ووكيع وغيرهما عَن الأعمش .
وقد ذكر ابن أَبِي حاتم فِي كِتَاب ( ( الجرح والتعديل ) ) لَهُ عَن أَبِيه ، قَالَ : يريبني حَدِيْث موسى بْن أَبِي عَائِشَة فِي صلاة النَّبِيّ ( فِي مرضه . قُلتُ : كَيْفَ هُوَ ؟ قَالَ : صالح الحَدِيْث . قُلتُ : يحتج بِهِ ؟ قَالَ : يكتب حديثه .
قُلتُ : وقد اختلف عَلِيهِ فِي لفظه ، فرواه شعبة ، عَنْهُ ، كما تقدم ، أن(4/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
رَسُول الله ( صلى فِي الصف خلف أَبِي بَكْر .
ورواه زائدة ، واختلف عَنْهُ : فَقَالَ الأكثرون ، عَنْهُ : إن أَبَا بَكْر كَانَ يصلي وَهُوَ قائم بصلاة النَّبِيّ ( وَهُوَ قاعد ، والناس يأتمون بصلاة أَبِي بَكْر .
ورواه عَبْد الرحمن بْن مهدي ، عَن زائدة ، وَقَالَ فِي حديثه : فصلى النَّبِيّ ( خلف أَبِي بَكْر قاعداً ، وأبو بَكْر يصلي بالناس وَهُوَ قائم يصلي .
وقد رجح الإمام أحمد رِوَايَة الأكثرين عَن زائدة عَلَى رِوَايَة ابن مهدي .
وليس ائتمام أَبِي بَكْر بالنبي ( صريحاً فِي أنه كَانَ مأموماً ، بل يحتمل أَنَّهُ كَانَ يراعي فِي تلك الصلاة حال النَّبِيّ ( وضعفه ، وما هُوَ أهون عَلِيهِ ، كما قَالَ النَّبِيّ ( لعثمان بْن أَبِي العاص لما جعل إمام قومه : ( ( اقتد بأضعفهم ) ) .
أي : راع حال الأضعف ، وصل صلاةً لا تشق عليهم .
وقد اختلف العلماء : هَلْ كَانَ النَّبِيّ ( إماماً لأبي بَكْر فِي هذه الصلاة ، أو كَانَ مؤتماً بِهِ ؟
وقد تقدم عَن عَائِشَة والقاسم بْن مُحَمَّد ، أنهما ذكرا هَذَا الاختلاف ، وأن الْقَاسِم قَالَ : عظم النَّاس يَقُول : أبو بَكْر كَانَ هُوَ المقدم - يعني : فِي الإمامة - ، وعلماء أهل المدينة عَلَى هَذَا القول ، وهم أعلم النَّاس بهذه القصة .
وذكر ابن عَبْد البر فِي ( ( استذكاره ) ) أن ابن الْقَاسِم رَوَى عَن مَالِك ، عَن رَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرحمن ، أن رَسُول الله ( خرج وَهُوَ مريض ، وأبو بَكْر يصلي بالناس ، فجلس إلى أَبِي بَكْر ، فكان أبو بَكْر هُوَ الإمام ، وكان رَسُول الله ( يصلي بصلاة أَبِي بَكْر ، وَقَالَ ( : ( ( مَا مات نبي حتى يؤمه رَجُل من أمته ) ) .(4/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
قَالَ ابن الْقَاسِم : قَالَ مَالِك : العمل عندنا عَلَى حَدِيْث رَبِيعَة هَذَا ، وَهُوَ أحب إلي .
قَالَ سحنون : بهذا الحَدِيْث يأخذ ابن الْقَاسِم .
أما مذهب الشَّافِعِيّ وأحمد ، فهو أن هذه الصلاة الَّتِيْ حكتها عَائِشَة كَانَ
رَسُول الله ( هُوَ الإمام فيها لأبي بَكْر ، ثُمَّ اختلفا :
فَقَالَ أحمد : كَانَ أبو بَكْر إماماً للناس - أَيْضاً - ، فكانت تلك الصلاة بإمامين .
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : بل كَانَ مأموماً ، وَهُوَ الَّذِي ذهب إليه البخاري والنسائي .
وفرع عَلَى هَذَا الاختلاف مسألة الصلاة بإمامين ، ومسألة الصلاة قاعداً أو قائماً خلف الإمام القاعد ، وسيأتي ذَلِكَ مبسوطاً فِي مواضعه - إن شاء الله تعالى .
ولم ينف الشَّافِعِيّ ولا أكثر أصْحَاب الإمام أحمد أن يكون النَّبِيّ ( ائتم بأبي بَكْر فِي غير هذه الصلاة ، بل قَالَ الشَّافِعِيّ : لَوْ صلى النَّبِيّ ( خلف أَبِي بَكْر مرة لَمْ يمنع ذَلِكَ أن يكون صلى خلفه مرة أخرى .
وكذلك ذكر أبو بَكْر عَبْد العزيز بْن جَعْفَر من أصحابنا فِي كتابه ( ( الشَّافي ) ) ، وكذلك ذكره ابن حبان ومحمد بْن يَحْيَى الهمداني فِي ( ( صحيحيهما ) ) ، والبيهقي وغيرهم .
وكذلك صنف أبو عبي البرداني وعبد العزيز بْن زهير الحربي من أصحابنا فِي إثبات صلاة النَّبِيّ ( خلف أَبِي بَكْر .
ورد ذَلِكَ أبو الفرج ابن الجوزي ، وصنف فِيهِ مصنفاً ، وَهُوَ يشتمل عَلَى أوهام كثيرة .
وقد ذكر كثير من أهل المغازي والسير أن رَسُول الله ( صلى خلف(4/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
أَبِي بَكْر فِي مرضه ، منهم : موسى بْن عقبة ، وَهُوَ أجل أهل المغازي ، وذكر أن صلاته خلفه كَانَتْ صلاة الصبح يوم الإثنين ، وَهُوَ آخر صلاة صلاها ، وذكره عَن ابن شِهَاب الزُّهْرِيّ .
وروى ابن لهيعة ، عَن أَبِي الأسود ، عَن عُرْوَةَ - مثله .
وقد تقدم عَن الْقَاسِم بْن مُحَمَّد نحوه .
وروي عَن الْحَسَن - أَيْضاً .
ولذلك رجحه ابن حبان والبيهقي وغيرهما .
وجمع البيهقي فِي ( ( كِتَاب المعرفة ) ) بَيْن هَذَا وبين حَدِيْث الزُّهْرِيّ عَن أنس :
أن النَّبِيّ ( كشف الستر فِي أول الصلاة ، ثُمَّ وجد خفة فِي الركعة الثانية فخرج فصلاها خلف أَبِي بَكْر ، وقضى الركعة الَّتِيْ فاتته .
وخرج ابن سعد فِي ( ( طبقاته ) ) هَذَا المعنى من تمام حَدِيْث عَائِشَة وأم سَلَمَة وأبي سَعِيد بأسانيد فيها مقال . والله أعلم .
وبإسناد صحيح ، عَن عُبَيْدِ بْن عمير - مرسلاً .
وروى ابن إِسْحَاق : حَدَّثَنِي يعقوب بْن عُتْبَة ، عَن الزُّهْرِيّ ، عَن عُرْوَةَ ، عَن عَائِشَة ، قَالَتْ : رجع رَسُول الله ( فِي ذَلِكَ اليوم حِينَ دَخَلَ المسجد ، غاضطجع فِي حجري - ثُمَّ ذكرت قصة السواك الأخضر - ، وقبض رَسُول الله ( حينئذ .
خرجه الإمام أحمد .
وَهُوَ دليل عَلَى أَنَّهُ ( كَانَ قَدْ خرج إلى المسجد ذَلِكَ اليوم .
وفي ( ( مسند الإمام أحمد ) ) أن المغيرة بْن شعبة سئل : هَلْ أم النَّبِيّ ((4/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
رَجُل من هذه الأمة غير أَبِي بَكْر الصديق ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، كنا فِي سفر - ثُمَّ ذكر قصة صلاة النَّبِيّ ( وراء عَبْد الرحمن بْن عوف .
وذكر ابن سعد فِي ( ( طبقاته ) ) عَن الواقدي ، أَنَّهُ قَالَ : هَذَا الَّذِي ثبت عندنا : أن رَسُول الله ( صلى خلف أَبِي بَكْر .
وفي صلاة النَّبِيّ ( خلف أَبِي بَكْر أحاديث كثيرة يطول ذكرها هاهنا .
وقد خرج الترمذي من حَدِيْث حميد ، عَن ثابت ، عَن أنس ، قَالَ : صلى رَسُول الله ( فِي مرضه خلف أَبِي بَكْر قاعداً ، فِي ثوب متوشحاً بِهِ .
وَقَالَ : حسن صحيح .
وخرجه - أَيْضاً - ابن حبان فِي ( ( صحيحه ) ) ، وصححه العقيلي وغير واحد .
وقد رواه جماعة عَن حميد ، عَن أنس - من غير واسطة .
واختلف الحفاظ فِي الترجيح ؛ فرجحت طائفة قَوْلِ من أدخل بَيْنَهُمَا ( ( ثابتاً ) ) ، منهم : الترمذي وأبو حاتم الرَّازِي . ومنهم من رجح إسقاطه ، ومنهم : أبو زُرْعَة الرَّازِي . والله تعالى أعلم .
الطريق الثاني :
قَالَ :
665 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْم بم موسى : ثنا هِشَام بْن يوسف ، عَن معمر ، عَن
الزُّهْرِيّ ، قَالَ : أخبرني عُبَيْدِ الله بْن عَبْد الله ، قَالَ : قَالَتْ عَائِشَة : لما ثقل رَسُول الله ( واشتد وجعه استأذن أزواجه أن يمرض فِي بيتي ، فأذن لَهُ ، فخرج(4/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
بَيْن رجلين ، تخط رجلاه الأرض ، وكان بَيْن عَبَّاس ورجل آخر .
قَالَ عُبَيْدِ الله : فذكرت ذَلِكَ لابن عَبَّاس مَا قَالَتْ عَائِشَة ، فَقَالَ لِي : وهل تدري من الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ تسم عَائِشَة ؟ قُلتُ : لا . قَالَ : هُوَ عَلِيّ بْن أَبِي طالب .
وقد رواه عَبْد الرزاق ، عَن معمر ، وذكر فِي حديثه : الفضل بْن عَبَّاس .
خرجه مُسْلِم من طريقه كذلك .
وخرجه من طريق عقيل ، عَن الزُّهْرِيّ ، وذكر فِي حديثه : العباس ، كما قَالَ هِشَام ، عَن معمر .
وخرجه البخاري فِي ( ( وفاة النَّبِيّ ( ) ) من حَدِيْث عقيل مطولاً .
وقد فهم البخاري من خروجه بَيْن عَبَّاس وغيره خروجه إلي المسجد للصلاة .
وكذلك خرجه مُسْلِم فِي ( ( كِتَاب الصلاة ) ) - أَيْضاً .
وفي هَذَا نظر ؛ وظاهر السياق يقتضي أنها أرادت خروجه إلى بيت عَائِشَة ليمرض فِيهِ .
يدل عَلِيهِ : أن فِي رِوَايَة عَبْد الرزاق ، عن معمر الَّتِيْ خرجها مُسْلِم : أول مَا اشتكى رَسُول الله ( في بيت ميمونة ، فاستأذن أزواجه أن يمرض فِي بيتها ، فأذن لَهُ . قَالَتْ : فخرج ويد لَهُ عَلَى الفضل - الحَدِيْث .
رواه ابن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ بلفظ صريح بذلك : أن عَائِشَة قَالَتْ : كَانَ النَّبِيّ ( يدور عَلَى نسائه ، فلما ثقل استأذنهن أن يقيم فِي بيتي ، ويدرن عَلِيهِ .
قَالَتْ : فذهب ينوء فَلَمْ يستطع ، فدخل عَلِيّ رَسُول الله ( بَيْن رجلين ،(4/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
ورجلاه تخطان فِي الأرض ؛ أحدهما العباس .
ورواه عَبْد الرحمن بْن إِسْحَاق ، عَن الزُّهْرِيّ ، عَن عُرْوَةَ والقاسم وأبي بَكْر ابن عَبْد الرحمن وعبيد الله بْن عَبْد االله ، كلهم يحدثونه عَن عَائِشَة ، عَن النَّبِيّ ( : جاءه مرضه الَّذِي مات فِيهِ في بيت ميمونة ، فخرج عاصباً رأسه ، فدخل عَلِيّ بَيْن رجلين ، تخط رجلاه الأرض ، وعن يمينه العباس - وذكر الحَدِيْث .
وكذا رواه صالح بْن كيسان ، عَن ابن شِهَاب - مرسلاً : أَنَّهُ خرج بَيْن الرجلين تخط رجلاه الأرض ، حَتَّى دَخَلَ بيت عَائِشَة .
وحينئذ ؛ فلا ينبغي تخريج هَذَا الحَدِيْث فِي هَذَا الباب ، ولا هُوَ داخل فِي معناه بالكلية . والله سبحانه وتعالى أعلم .(4/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
40 - بَاب
الرُّخْصَةِ فِي المَطَرِ وَالعِلَّةِ أنْ يُصَلِّي فِي رَحْلِهِ
فِيهِ حديثان :
الأول :
666 - حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف : أنا مَالِك ، عَن نَافِع ، أن ابن عُمَر أذن بالصلاة فِي ليلة ذات برد وريح ، ثُمَّ قَالَ : ألا صلوا فِي الرحال ، ثُمَّ قَالَ : إن رَسُول الله ( كَانَ يأمر المؤذن إذا كَانَتْ ليلة برد ومطر يَقُول : ( ( ألا صلوا فِي الرحال ) ) .
قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي ( ( بَاب : الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة ) ) ، خرجه البخاري هناك من رِوَايَة عُبَيْدِ الله بْن عُمَر ، عَن نَافِع ، قَالَ : أذن ابن عُمَر فِي ليلة باردةٍ بضجنان ، ثُمَّ قَالَ صلوا فِي رحالكم ، وأخبرنا أن رَسُول الله ( كَانَ يأمر مؤذناً يؤذن ، ثُمَّ يَقُول عَلَى أثره : ( ( ألا صلوا فِي الرحال فِي الليلة الباردة أو المطيرة فِي السفر ) ) .
ففي هذه الرواية : أن ذَلِكَ كَانَ فِي السفر ، وأنه كَانَ فِي الليلة الباردة أو المطيرة .
وليس ذكر السفر فِي رِوَايَة مَالِك ، وفي روايته : إذا كَانَتْ ليلة ذات برد ومطر .
وظاهرة : الجمع بَيْن البرد والمطر فِي ليلة واحدة .
وروى ابن إسحاق هَذَا الحَدِيْث ، عَن نَافِع ، عَن ابن عُمَر ، قَالَ : نادى منادي رَسُول الله ( بذاك فِي المدينة فِي الليلة المطيرة ، أو الغداة القرة .(4/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
خرجه أبو داود .
ولا نعلم ذكر المدينة فِي حَدِيْث ابن عُمَر فِي هذه الرواية ، ورواية عُبَيْدِ الله أصح .
وأكثر أهل العلم عَلَى أن المطر والطين عذر يباح مَعَهُ التخلف عَن حضور الجمعة والجماعات ، ليلاً ونهاراً .
قَالَ الترمذي : قَدْ رخص أهل العلم فِي القعود عَن الجماعة والجمعة فِي المطر والطين . وسمى منهم : أحمد وإسحاق .
وحكاه بعض أصحابنا عَن جمهور العلماء .
وحكي عَن مَالِك : أن المطر ليس بعذر فِي ترك الجمعة خاصة .
وروي نحوه عَن نَافِع مَوْلَى ابن عُمَر .
وَقَالَ سُفْيَان الثوري : لا يرخص لأحد فِي ترك الجمعة إذا كَانَ فِي مصر يجمع فِي ، إلا لمرض مضن ، أو خوف مقطع .
وحكي عَن أحمد رِوَايَة أخرى : أن المطر والوحل ليس بعذر فِي الحضر ، إنما هُوَ عذر فِي السفر ؛ لأن الأحاديث الصحيحة إنما جاءت بذلك فِي السفر ، كحديث ابن عُمَر ، وفي ( ( صحيح مُسْلِم ) ) من حَدِيْث جابر - نحوه ، وليس فِي الحضر إلا حَدِيْث ابن إِسْحَاق المتقدم ، وحديث يروى عَن نعيم النحام ، وقد ذكرناه فِي ( ( أبواب : الأذان ) ) ، وفي إسناده مقال .
ومقتضى هَذَا القول : أن الجمعة لا يباح تركها بذلك ؛ لأنها لا تكون إلافي الحضر ، ولكن قَدْ روي عَن جماعة من الصَّحَابَة أَنَّهُ يعذر فِي ترك الجمعة بالمطر والطين . منهم : ابن عَبَّاس وعبد الرحمن بْن سمرة وأسامة بن عمير والد(4/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
أَبِي المليح ، ولا يعرف عَن صحابي خلافهم ، وقولهم أحق أن يتبع .
وروى هِشَام ، عَن قتدة ، قَالَ : قَالَ مُحَمَّد بْن سيرين : مَا كَانَ يختلف إذا كَانَ يوم الجمعة فِي يوم مطر فِي الرخصة للرجل أن يجلس عَن الجمعة فِي بيته .
خرجه الفريابي فِي ( ( كِتَاب الصلاة ) ) .
وذكر ابن المنذر : أن المطر عذر فِي الليلة المطيرة .
وهذا يفهم مِنْهُ أَنَّهُ لا يكون عذراً فِي النهار ؟ لأن حَدِيْث ابن عُمَر إنما فِيهِ ذكر الليل .
ولكن رَوَى قتادة ، عَن أَبِي المليح بْن أسامة ، عَن أَبِيه ، أن يوم حنين كَانَ يوم مطر ، فأمر رَسُول الله ( مناديه : أن الصلاة فِي الرحال .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان فِي
( ( صحيحيهما ) ) ، والحاكم .
وخرجه أبو داود - أَيْضاً - من طريق أَبِي قلابة ، عَن أَبِي المليح ، عَن أَبِيه ، أَنَّهُ شهد مَعَ رَسُول الله ( زمان الحديبية فِي يوم جمعة ، وأصابهم مطر لَمْ يبل أسفل نعالهم ، فأمرهم أن يصلوا فِي رحالهم .
وخرجه الإمام أحمد من حَدِيْث شعبة ، عَن عَمْرِو بْن أوس ، عَن رَجُل ، حدثه مؤذن النَّبِيّ ( ، قَالَ : نادى منادي رَسُول الله ( فِي يوم مطر : صلوا فِي الرحال .(4/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
وروي من حَدِيْث نعيم النحام ، أن ذَلِكَ كَانَ فِي أذان الصبح ، وقد سبق ذكره .
ولأن الصَّحَابَة جعلوا المطر والطين عذراً فِي ترك الجمعة ، والجمعة إنما تقام نهاراً ، فعلم أن ذَلِكَ عندهم عذر فِي الليل والنهار .
وقد روي فِي حَدِيْث مرسل ، خرجه وكيع عَن المغيرة بْن زياد ، عَن عَطَاء ، أن النَّبِيّ ( كَانَ فِي سفر ، فأصابهم مطر ، فصلى بالناس فِي رحالهم ، وبلال يسمع النَّاس التكبير .
وَهُوَ مرسل .
وَهُوَ يدل عَلَى أنهم صلوا جماعة ، لكن كل إنسان صلى فِي رحله ، وهذا غريب جداً .
وأما الريح الشديدة الباردة ، فَقَالَ أصحابنا : هِيَ عذر فِي ترك الجماعة فِي الليلة المظلمة خاصة .
الحَدِيْث الثاني :
667 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل ، قَالَ : حَدَّثَنِي مَالِك ، عَن أَيْنَ شِهَاب ، عَن محمود بْن الربيع الأنصاري ، أن عتبان بْن مَالِك كَانَ يؤم قومه أعمى ، وأنه قَالَ لرسول الله ( : يَا رَسُول الله ، إنها تكون الظلمة السيل ، وأنا رَجُل ضرير البصر ، فصل يَا رَسُول الله فِي بيتي مكاناً أتخذه مصلى . فجاءه رَسُول الله ( ، فَقَالَ : ( ( أين تحب أن أصلي ؟ ) ) فأشار إلى مكان من البيت ، فصلى فِيهِ رَسُول الله ( .
قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي ( ( بَاب : المساجد فِي البيوت ) ) ، من ( ( أبواب : المساجد ) ) .(4/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
وخرجه البخاري هناك بسياق مطول ، من حَدِيْث عقيل ، عَن الزُّهْرِيّ ، وتكلمنا هناك عَلَى فوائد الحَدِيْث بما فِيهِ كفاية - إن شاء الله - وذكر الكلام عَلَى التخلف عَن حضور المسجد للعمى وللسيول والظلمة .
ولا ريب أن من كَانَ بصره ضعيفاً ، وفي طريقه سيول ، فإنه معذور فِي الخروج إلى المسجد ليلاً ؛ فإنه ربما خشي عَلَى نفسه التلف ، والجماعة يسقط حضورها بدون ذَلِكَ .
وذكرنا هناك حَدِيْث ابن أم مكتوم ، وأن النَّبِيّ ( لَمْ يرخص لَهُ فِي التخلف عَن المسجد ، مَعَ كونه ضريراً ولا يجد قائداً يلائمه ، ويخشى فِي طريقه الهوام ، ووجه الجمع بَيْن الحديثين بما فِيهِ كفاية .(4/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
41 - بَاب
هَلْ يُصَلِّي الإمَامُ بمَنْ حَضَرَ
وهَلْ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِي المَطَرِ ؟
يعني بهذا الباب : أن المطر والطين ، وإن كَانَ عذراً فِي التخلف عَن الجماعة فِي المسجد ، إلا أَنَّهُ عذر لآحاد النَّاس ، وأما الإمام فلا يترك الصلاة لذلك فِي المسجد ، ويصلي جماعة فِي المسجد بمن حضر ، وكذلك يوم الجمعة لا يترك الخطبة وصلاة الجمعة فِي المسجد بمن حضر فِيهِ ، إذا كانوا عدداً تنعقد بهم الجمعة ، وإنما يباح لآحاد النَّاس التخلف عَن الجمعة والجماعات فِي المطر ونحوه ، إذا أقيم شعارهما فِي المساجد .
وعلى هَذَا ، فلا يبعد أن يكون إقامة الجماعات والجمع فِي المساجد فِي حال الأعذار كالمطر فرض كفاية لا فرض عين ، وأن الإمام لا يدعهما .
وَهُوَ قريب من قَوْلِ الإمام أحمد فِي الجمعة إذا كَانَتْ يوم عيد ، أَنَّهُ يسقط حضور الجمعة عمن حضر العيد ، إلا الإمام ومن تنعقد بِهِ الجمعة ؛ فتكون الجمعة حينئذ فرض كفاية . والله أعلم .
ولا شك أن النَّبِيّ ( كَانَ لا يترك إقامة الجمع فِي المطر ، ويدل عَلِيهِ : أَنَّهُ لما استسقى للناس عَلَى المنبر يوم الجمعة ، ومطروا من ذَلِكَ الوقت إلى الجمعة الأخرى ، أقام الجمعة الثانية فِي ذَلِكَ المطر حَتَّى شكي إليه كثرة المطر فِي خطبته يومئذ ، فدعا الله بإمساك المطر عَن المدينة ، وسيأتي الحَدِيْث فِي ( ( الجمعة ) ) و ( ( الاستسقاء ) ) - إن شاء الله ( .(4/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
خرج فِي هَذَا الباب ثَلاَثَة أحاديث :
الحَدِيْث الأول :
قَالَ :
668 - حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن عَبْد الوهاب : ثنا حماد بْن زيد : ثنا عَبْد الحميد - صاحب الزيادي - ، قَالَ : سَمِعْت عَبْد الله بْن الحارث ، قَالَ : خطبنا ابن عَبَّاس فِي يوم ذي رذع ، فأمر المؤذن لما بلغ ( ( حي عَلَى الصلاة ) ) ، قَالَ : قل : ( ( الصلاة فِي
الرحال ) ) . فنظر بعضهم إلى بعض ، كأنهم أنكروا . فَقَالَ : كأنكم أنكرتم هَذَا ، إن هَذَا فعله من هُوَ خير مني - - يعني : رَسُول الله ( - ، انها عزمة ، وإني كرهت أن أحرجكم .
وعن حماد ، عَن عاصم ، عَن عَبْد الله بْن الحارث ، عَن ابن عَبَّاس - نحوه ، غير أَنَّهُ قَالَ : كرهت أن أؤثمكم فتجيئون تدوسون الطين إلى ركبكم .
قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي ( ( بَاب : الكلام فِي الأذان ) ) ، وفسرنا هنالك معنى
( ( الروغ ) ) .
وقوله : ( ( إنها عزمة ) ) - يعني : الجمعة - والمراد : أَنَّهُ إذا دعا النَّاس إليها بقول المؤذن : ( ( حي عَلَى الصلاة ) ) ، فَقَدْ عزم عَلَى النَّاس كلهم أن يأتوه ، فليزمهم ذَلِكَ ؛ فلذلك أبدله بقوله : ( ( صلوا فِي رحالكم ) ) .
وقوله : ( ( كرهت أن أحرجكم ) ) : أي أشدد عليكم ، وأضيق بإخراجكم إلى المساجد فِي الطين . والحرج : الشدة والضيق .
وفي الرواية الأخرى : ( ( كرهت أن أؤثمكم ) ) ، كأنه يريد إذا دعاهم إلى هذه الصلاة فِي هَذَا اليوم خشي عليهم الإثم إذا تخلفوا عَن الصلاة مَعَ دعائهم إليها ، فإذا خرجوا حرجوا بخوضهم فِي الطين إلى ركبهم ، وإن قعدوا أثموا .
وظاهر هَذَا : يدل عَلَى أن ابن عَبَّاس يرى أن الإمام إذا دعا النَّاس إلى(4/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
الجمعة فِي الطين والمطر لزمتهم الإجابة ، وإنما يباح لأحدهم التخلف إذا نادى : ( ( الصلاة فِي الرحال ) ) . والله أعلم .
وقد نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإمام أحمد ، فيما رواه البيهقي فِي ( ( مناقب أحمد ) ) بإسناده ، عَن مُحَمَّد بْن رافع ، قَالَ : سَمِعْت أحمد بْن حنبل يَقُول : إن قَالَ المؤذن فِي أذانه : ( الصلاة فِي الرحال ) ) ، فلك أن تتخلف ، وإن لَمْ يقل فَقَدْ وجب عَلَيْك ، إذا قَالَ : ( ( حي عَلَى الصلاة ، حي عَلَى الفلاح ) ) .
الحَدِيْث الثاني :
قَالَ :
669 - حَدَّثَنَا مُسْلِم ، قَالَ : ثنا هِشَام ، عَن يَحْيَى ، عَن أَبِي سَلَمَة ، قَالَ : سألأت أَبَا سَعِيد الْخُدرِيَّ ، قَالَ : جاءت سحابة بمطر حَتَّى سَأَلَ السقف ، وكان من جريد النخل ، فأقيمت الصلاة ، فرأيت رَسُول الله ( سجد فِي الماء والطين ، حَتَّى رأيت أثر الطين فِي جبهته .
هَذَا الحَدِيْث قطعة مختصرة من حَدِيْث سؤال أَبِي سَلَمَة لأبي سَعِيد عَن ليلة القدر ، وقد خرجه بتمامه فِي ( ( الصيام ) ) و ( ( الاعتكاف ) ) .
والمقصود مِنْهُ هاهنا : أن النَّاس مطروا من الليل فِي رمضان ، فسال السقف ، وكان من جريد النخل ، حَتَّى صار الطين فِي أرض المسجد ، ومع هَذَا فَقَدْ أقيمت الصلاة ، وصلى النَّبِيّ ( بالناس فِيهِ ، ولما انصرف من صلاة الصبح رئي أثر الطين فِي جبهته ، ولم يتخلف عَن الصلاة فِي المسجد ولا عَن الأذان والإقامة فِيهِ ، فدل عَلَى أن المطر يعذر فِي التخلف عَن الجماعة فِيهِ آحاد النَّاس ، أو من منزلة بعيد عَن المسجد بحيث يشق عَلِيهِ قصد المسجد ، فأما(4/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
الإمام ومن قرب المسجد فلا يخلون بإقامة الجماعة فِيهِ . والله أعلم .
الحَدِيْث الثالث :
670 - حَدَّثَنَا آدم ، قَالَ : ثنا شعبة : ثنا أنس بْن سيرين ، قَالَ : سَمِعْت أنساً يَقُول : قَالَ رَجُل من الأنصار : إني لا أستطيع الصلاة معك ، وكان رجلاً ضخماً ، فصنع للنبي ( طعاماً ، فدعاه إلى منزله ، فبسط لَهُ حصيراً ونضح طرف الحصير ، فصلى عَلِيهِ ركعتين .
فَقَالَ رَجُل من آل الجارود لأنس : أكان النَّبِيّ ( يصلي الضحى ؟ قَالَ : مَا رأيته صلاها إلا يومئذ .
فِي هَذَا الحَدِيْث : أن من كَانَ ثقيل البدن يشق عَلِيهِ المشي إلى المسجد ، فإنه يعذر لترك الجماعة لذلك .
وليس فِي الحَدِيْث ذكر عذر لترك الجماعة سوى كونه ضخماً ، وأنه لا يستطيع الصلاة مَعَ النَّبِيّ ( فِي مسجده ، ولعل منزله كَانَ بعيداً من المسجد .
والظاهر : أن هَذَا الرَّجُلُ غير عتبان بْن مَالِك ؛ فإن ذاك كَانَ عذره العمى ، مَعَ بعد المنزل ، وحيلولة السيول بينه وبين المسجد .(4/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
42 - بَاب
إذا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ
وكان ابن عُمَر يبدأ بالعشاء .
وَقَالَ أبو الدرداء : من فقه الرَّجُلُ إقباله عَلَى حاجته حَتَّى يقبل عَلَى صلاته وقلبه فارغ .
أما المروي عَن ابن عُمَر ، فَقَدْ أسنده البخاري فِي هَذَا الباب ، وسيأتي - إن شاء الله .
وأما المروي عَن أَبِي الدرداء [ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ] .
وقد روي نحوه عَن ابن عَبَّاس ، قَالَ : لا نقوم إلى الصلاة وفي أنفسنا شيء .
ذكره الترمذي فِي ( ( جامعه ) ) تعليقاً ، وخرجه وكيع فِي ( ( كتابه ) ) عَن شريك ، عَن عُثْمَان الثَّقَفِيّ ، عَن زياد مَوْلَى ابن عياش ، أن ابن عَبَّاس كَانَ ينتظر الطعام .
فحضرت الصلاة ، فَقَالَ : انتظروا ، لا يعرض لنا فِي صلاتنا .
وهذا يدل عَلَى أَنَّهُ كَانَ يؤخر الصلاة إذا كَانَ في انتظار الطعام وإن لَمْ يكن حاضراً ، وعلله بخشية أن يعرض لَهُ فِي صلاته - يعني : ذكره ، وتحديث النفس بِهِ .
وروى وكيع - أَيْضاً - عَن شريك ، عَن أَبِي إِسْحَاق ، قَالَ : قَالَ الْحَسَن : أذهب للنفس اللوامة أن يبدأ بالطعام .(4/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
خرج البخاري من هَذَا الباب ثَلاَثَة أحاديث .
الحَدِيْث الأول :
671 - حَدَّثَنَا مسدد : ثنا يَحْيَى ، عَن هِشَام : حَدَّثَنِي أَبِي ، قَالَ : سَمِعْت عَائِشَة ، عَن النَّبِيّ ( ، أَنَّهُ قَالَ : ( ( إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء ) ) .
الحَدِيْث الثاني :
672 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن بكير ، ثنا الليث ، عَن عقيل ، عَن ابن شِهَاب ، عَن أنس ابن مَالِك ، أن رَسُول الله ( قَالَ : ( ( إذا قدم العشاء فابدءوا بِهِ قَبْلَ أن تصلوا المغرب ، ولا تعجلوا عَن عشائكم ) ) .
الحَدِيْث الثالث :
673 - حَدَّثَنَا عُبَيْدِ بْن إِسْمَاعِيل ، عَن أَبِي أسامة ، عَن عُبَيْدِ الله ، عَن نَافِع ، عَن ابن عُمَر ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله ( : ( ( إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء ، ولا يعجل حَتَّى يفرغ مِنْهُ ) ) .
وكان ابن عُمَر يوضع لَهُ الطعام ، وتقام الصلاة ، فلا يأتيها حَتَّى يفرغ ، وإنه يسمع قراءة الإمام .
674 - وَقَالَ زهير ووهب بْن عُثْمَان ، عَن موسى بْن عقبة ، عَن نَافِع ، عَن ابن عُمَر ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله ( : ( ( إذا كَانَ أحدكم عَلَى الطعام فلا يعجل حَتَّى يقضي حاجته مِنْهُ ، وإن أقيمت الصلاة ) ) .
قَالَ أبو عَبْد الله : رواه إِبْرَاهِيْم بْن المنذر ، عَن وهب بْن عُثْمَان .
ووهب مديني .
حَدِيْث عَائِشَة ، قَدْ خرجه - أَيْضاً - فِي ( ( الأطعمة ) ) من رِوَايَة وهيب .(4/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
وسفيان الثوري ، عَن هِشَام بْن عُرْوَةَ ، بِهِ .
وحديث أنس ، قَدْ خرجه فِي ( ( الأطعمة ) ) من طريق أيوب ، عَن أَبِي قلابة ، عَن أنس ، عَن النَّبِيّ ( .
وَقَالَ : عَن أيوب ، عَن نَافِع ، عَن ابن عُمَر ، عَن النَّبِيّ ( - نحوه .
وعن أيوب ، عَن نَافِع ، عَن ابن عُمَر ، أَنَّهُ تعشى وَهُوَ يسمع قراءة الإمام .
وحديث موسى بْن عقبة الَّذِي علقه البخاري ، قَدْ خرجه مُسْلِم من رِوَايَة أَبِي ضمرة ، عَن موسى ، ولم يذكر لفظه ، لكنه قَالَ : بنحو رِوَايَة عُبَيْدِ الله بْن عُمَر .
وخرجه البيهقي من طريق سويد بْن سَعِيد ، عَن حفص بْن ميسرة ، عَن موسى بْن عقبة ، ولفظه : إن رَسُول الله ( قَالَ : ( ( إذا كَانَ أحدكم عَلَى الطعام فلا يعجلن حَتَّى يقضي حاجته مِنْهُ ، وإن أقيمت الصلاة ) ) .
ثُمَّ قَالَ : وبهذا اللفظ رواه زهير بْن معاوية ووهب بْن عُثْمَان ، عَن موسى ابن عقبة ، وأشار البخاري إلى روايتهما .
قُلتُ : وإنما أشار البخاري إليه ؛ لأن لفظه صريح فِي أن من شرع فِي عشائه ثُمَّ أقيمت الصلاة فلا يقم إلى الصلاة حَتَّى يقضي حاجته مِنْهُ ، بخلاف سائر ألفاظ الحَدِيْث الَّتِيْ خرجها ؛ لأنه يحتمل أن يكون الخَطَّاب بِهَا لمن لَمْ يتناول من عشائه شيئاً .
ووهب بْن عُثْمَان ، ذكر البخاري أَنَّهُ مديني ، وأن هَذَا الحَدِيْث رواه عَنْهُ(4/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
إِبْرَاهِيْم بْن المنذر الحزامي ، ولم يذكره فِي غير هَذَا الموضع من ( ( كتابه ) ) ، ولا خرج لَهُ فِي بقية ( ( الكتب الستة ) ) ، وذكره ابن حبان فِي ( ( ثقاته ) ) .
وقد خرج ابن حبان فِي ( ( صحيحه ) ) من طريق ابن جُرَيْج : أخبرني نَافِع ، قَالَ : كَانَ ابن عُمَر إذا غربت الشمس وتبين لَهُ الليل ، فكان أحياناً يقدم عشاءه وَهُوَ صائم ، والمؤذن يؤذن ، ثُمَّ يقيم [ وَهُوَ يسمع ] فلا يترك عشاءه ولا يجعل حَتَّى يقضي عشاءه ، ثُمَّ يخرج فيصلي ، يَقُول : قَالَ رَسُول الله ( : ( ( لا تعجلوا عَن عشائكم إذا قدم إليكم ) ) .
وقد روي ذكر الصيام مرفوعاً .
خرجه ابن حبان - أَيْضاً - من طريق موسى بْن أعين ، عَن عَمْرِو بْن الحارث ، عَن ابن شِهَاب ، عَن أنس ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله ( : ( ( إذا أقيمت الصلاة وأحدكم صائم فليبدأ بالعشاء قَبْلَ صلاة المغرب ، ولا تعجلوا عَن عشائكم ) ) .
وخرجه الدارقطني فِي كِتَاب ( ( الإلزامات ) ) وصححه .
وخرجه الطبراني ، وَقَالَ : لَمْ يقل فِي هَذَا الحَدِيْث : ( ( وأحدكم صائم فليبدأ بالعشاء قَبْلَ صلاة المغرب ) ) إلا عَمْرِو بْن الحارث ، تفرد بِهِ موسى بْن أعين .
قُلتُ : وإنما تفرد موسى بذكر : ( ( وأحدكم صائم ) ) ، وأما قوله : ( ( فليبدأ بالعشاء قَبْلَ صلاة المغرب ) ) فَقَدْ خرجه مُسْلِم من طريق ابن وهب ، عَن عَمْرِو(4/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
ابن الحارث بهذا الإسناد ، ولفظ حديثه : ( ( إذا قرب العشاء وحضرت الصلاة فابدءوا بِهِ قَبْلَ أن تصلوا صلاة المغرب ، ولا تعجلوا عَن عشائكم ) ) .
فهذه الأحاديث كلها تدل عَلَى أَنَّهُ إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فإنه يبدأ بالعشاء ، سواء كَانَ قَدْ أكل مِنْهُ شيئاً أو لا ، وأنه لا يقوم حَتَّى يقضي حاجته من عشائه ، ويفرغ مِنْهُ .
وممن روي عَنْهُ تقديم العشاء عَلَى الصلاة : أبو بَكْر وعمر وابن عُمَر وابن عَبَّاس وأنس وغيرهم .
وروى معمر ، عَن ثابت ، عَن أنس ، قَالَ : إني لمع أَبِي بْن كعب وأبي طلحة وغيرهما من أصْحَاب النَّبِيّ ( عَلَى طعام ، إذ نودي بالصلاة ، فذهبت أقوم فأقعدوني ، وأعابوا عَلِيّ حِينَ أردت أن أقوم وأدع الطعام .
خرجه عَبْد الله ابن الإمام أحمد فِي ( ( مسائله ) ) .
وإلى هَذَا القوم ذهب الثوري وأحمد - فِي المشهور عَنْهُ - وإسحاق وابن المنذر .
وَقَالَ أحمد : لا يقوم حَتَّى يفرغ من جميع عشائه ، وإن خاف أن تفوته الصلاة مَا دام فِي وقت . قَالَ : لأنه إذا تناول مِنْهُ شيئاً ثُمَّ تركه كَانَ فِي نفسه شغل من تركه الطعام إذا لَمْ ينل مِنْهُ حاجته .
وحاصل الأمر ؛ أَنَّهُ إذا حضر الطعام كَانَ عذراً فِي ترك صلاة الجماعة ، فيقدم تناول الطعام ، وإن خشي فوات الجماعة ، ولكن لا بد أن يكون لَهُ ميل إلى الطعام ، ولو كَانَ ميلاً يسيراً ، صرح بذلك أصحابنا وغيرهم .
وعلى ذَلِكَ دل تعليل ابن عَبَّاس والحسن وغيرهما ، وكذلك مَا ذكره البخاري(4/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
عَن أَبِي الدرداء .
فأما إذا لَمْ يكن لَهُ ميل بالكلية إلى الطعام ، فلا معنى لتقديم الأكل عَلَى الصلاة .
وقالت طائفة أخرى : يبدأ بالصلاة قَبْلَ الأكل ، إلا أن يكون نفسه شديدة التوقان إلى الطعام ، وهذا مذهب الشَّافِعِيّ : وقول ابن حبيب المالكي .
واستدل لَهُ ابن حبان بالحديث الَّذِي فِيهِ التقييد بالصائم ، وألحق بِهِ كل من كَانَ شديد التوقان إلى الطعام فِي الصلاة ، يمنع من كمال الخشوع ، بخلاف الميل اليسير .
وقالت طائفة أخرى : يبدأ بالصلاة إلا أن يكون الطعام خفيفاً - : حكاه ابن المنذر ، عَن مَالِك .
وهذا يحتمل أَنَّهُ أراد أن الخفيف من الطعام يطمع مَعَهُ فِي إدراك الجماعة ، بخلاف الطعام الكثير فيختص هَذَا بالعشاء .
وهذا بناء عَلَى أن وقت المغرب وقت واحد ، كما هُوَ قَوْلِ مَالِك والشافعي فِي أحد قوليه .
ونقل حرب ، عَن إِسْحَاق ، أَنَّهُ يبدأ بالصلاة ، إلا فِي حالين : أحدهما : أن يكون الطعام خفيفاً . والثاني : أن يكون أكله مَعَ الجماعة ، فيشق عليهم قيامه إلى الصلاة .
وهؤلاء قالوا : إن النَّبِيّ ( أمر بتقديم العشاء عَلَى الصلاة حيث كَانَ عشاؤهم خفيفاً ، كما كَانَتْ عادة الصَّحَابَة فِي عهد النَّبِيّ ( ، فَلَمْ يتناول أمره غير مَا هُوَ معهود فِي زمنه .
وروى أبو داود بإسناده ، عَن عَبْد الله بْن عُبَيْدِ بْن عمير ، قَالَ : كُنْتُ مَعَ(4/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
أَبِي فِي زمان ابن الزُّبَيْر إلى جنب عَبْد الله بْن عُمَر ، فَقَالَ عباد بْن عَبْد الله بْن الزُّبَيْر : إنا سمعنا أَنَّهُ يبدأ بالعشاء قَبْلَ الصلاة ، فَقَالَ عَبْد الله بْن عُمَر : ويحك ، مَا كَانَ عشاؤهم ، أتراه كَانَ مثل عشاء أبيك ؟
وخرج البيهقي من حَدِيْث حميد ، قَالَ : كنا عِنْدَ أنس بْن مَالِك ، فأذن المؤذن بالمغرب وقد حضر العشاء ، فَقَالَ أنس : ابدءوا بالعشاء ، فتعشينا مَعَهُ ، ثُمَّ صلينا ، فكان عشاؤه خفيفاً .
وقالت طائفة : يبدأ بالصلاة ، إلا أن يكون الطعام يخاف فساده لما فِي تأخيره من إفساد الطعام ، وهذا قَوْلِ وكيع ، رواه الترمذي فِي ( ( جامعة ) ) عَنْهُ .
وفي هَذَا القول بعد ، وَهُوَ مخالف ظاهر الأحاديث الكثيرة .
وللأمام أحمد فِي المسألة ثَلاَثَة أقوال :
أحدها : أَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَة أَبِي الحارث ، وسئل عَن العشاء إذا وضع وأقيمت الصلاة ، فَقَالَ : قد جاءت أحاديث ، وكان القوم فِي مجاعة ، فأما اليوم فلو قام
رجوت .
وهذه الرواية تدل عَلَى أن تقديم الأكل عَلَى الصلاة مختص بحال مجاعة النَّاس عموماً ، وشدة توقانهم بأجمعهم إلى الطعام ، وفي هَذَا نظر .
وقد يستدل لَهُ بما رَوَى مُحَمَّد بْن ميمون الزعفراني ، عَن جَعْفَر بْن مُحَمَّد ، عَن أبيه ، عَن جابر ، قَالَ : كَانَ رَسُول الله ( لا يؤخر الصلاة لطعام ولا غيره .
وخرجه الطبراني ، ولفظه : لَمْ يكن رَسُول الله ( يؤخر صلاة المغرب(4/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
لعشاء ولا غيره .
وهذا حَدِيْث ضَعِيف لا يثبت .
ومحمد بْن ميمون هَذَا ، وثقة ابن معين وغيره . وَقَالَ البخاري والنسائي : منكر الحَدِيْث .
وروى سلام بْن سُلَيْمَان المدائنى : ثنا ورقاء بْن عُمَر ، عَن ليث بْن أَبِي سليم ، عَن نَافِع ، عَن ابن عُمَر ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله ( : ( ( إذا حضر العشاء والصلاة فابدءوا بالصلاة ) ) .
خرجه تمام الرَّازِي فِي ( ( فوائده ) ) ، وَقَالَ : هكذا وقع فِي كتابي ، وَهُوَ خط .
وليث بْن أَبِي سليم ليس بالحافظ ، فلا تقبل مخالفته لثقات أصْحَاب نَافِع ؛ فإنهم رووا : ( ( فابدءوا بالعشاء ) ) كما تقدم . وسلام المدائني ضَعِيف جداً .
والقول الثاني : نقل حَنْبل ، عَن أحمد ، قَالَ : إن كَانَ أخذ من طعامه لقمةً أو نحو ذَلِكَ فلا يقوم إلى الصلاة فليصلي ، ثُمَّ يرجع إلى العشاء ؛ لأن النَّبِيّ ( كَانَ يحتز من كتف الشاة ، فألقى السكين وقام .
وكذا نقل عَنْهُ ابنه عَبْد الله والأثرم .
وحاصل هَذَا القول : إن كَانَ أكل شيئاً من الطعام ، ثُمَّ أقيمت الصلاة قام إليها ، وترك الأكل ، وإن لَمْ يكن أكل شيئاً أكل مَا تسكن بِهِ نفسه ثُمَّ قام إلى الصلاة ، ثُمَّ عاد إلى تتمة طعامه .
وصرح بذلك الأثرم فِي ( ( كِتَاب الناسخ والمنسوخ ) ) ، واستدل بحديث عَمْرِو ابن أمية الضمري ، وقد خرجه البخاري فِي الباب الذي يلي هَذَا .
وروي نحوه من حَدِيْث المغيرة بْن شعبة وجابر بْن عَبْد الله .
وفي هذه الأحاديث : أن النَّبِيّ ( كَانَ يحتز من كتف شاة ، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة ، فألقى السكين ثُمَّ قام إلى الصلاة .(4/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
وقد ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أَنَّهُ إذا سَمِعَ الإقامة م يشبع من طعامه ، بل يأكل مَا يكسر بِهِ سورة جوعه .
وحديث ابن عُمَر صريح فِي رد ذَلِكَ ، وأنه لا يعجل حَتَّى يفرغ من عشائه .
والقول الثالث : عكس الثاني ، نقله حرب عَن أحمد ، قَالَ : إن كَانَ قَدْ أكل بعض طعامه ، فأقيمت الصلاة ، فإنه يتم أكله ، وإن كَانَ لَمْ يأكل شيئاً فأجب أن يصلي .
وقد يعلل هَذَا بأنه إذا تناول شيئاً من طعامه فإن نفسه تتوق إلى تمامه ، بخلاف من لَمْ يذق مِنْهُ شيئاً ؛ فإن توقان نفسه إليه أيسر .
وفي المسألة قَوْلِ آخر ، وَهُوَ الجمع بَيْن أحاديث هَذَا الباب ، وبين حَدِيْث عَمْرِو بْن أمية ، وما فِي معناه من طرح النَّبِيّ ( السكين من يده ، وقيامة إلى الصلاة بالفرق بَيْن الإمام والمأمومين ، فإذا دعي الإمام إلى الصلاة قام وترك بقية طعامه ؛ لأنه ينتظر ، ويشق عَلَى النَّاس عِنْدَ اجتماعهم تأخره عنهم ، بخلاف آحاد المأمومين ، وهذا مسلك البخاري ، كما سيأتي ذَلِكَ فِي الباب الَّذِي يلي هَذَا .
وبكل حال ؛ فلا يرخص مَعَ حضور الطعام فِي غير ترك الجماعة ، فأما الوقت فلا يرخص بذلك فِي تفويته عِنْدَ جمهور العلماء ، ونص عَلِيهِ أحمد وغيره .
وشذت طائفة ، فرخصت فِي تأخير الصلاة عَن الوقت بحضور الطعام - أَيْضاً - ، وَهُوَ قَوْلِ بعض الظاهرية ، ووجه ضَعِيف للشافعية ، حكاه المتولى وغيره .
وقد رَوَى المروزي أن أحمد احتجم بالعسكر ، فما فرغ إلا والنجوم قَدْ(4/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
بدت ، فبدأ بالعشاء قَبْلَ الصلاة ، فما فرغ دخل حَتَّى وقت العشاء ، فتوضأ وصلى المغرب والعشاء .
قَالَ القاضي فِي ( ( خِلافَه ) ) : يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مسافراً ؛ لأن المراد بالعسكر سامراء ، وكان قَدْ طلبه المتوكل إليها .
والثاني : أَنَّهُ خاف عَلَى نفسه من تأخير العشاء المرض ؛ لضعفه بالحجامة .
وَقَالَ ابن عقيل : يحتمل أَنَّهُ كَانَ مريضاً أو ناسباً . قَالَ : ومع هذه الاحتمالات لا يؤخذ من ذَلِكَ مذهب يخالف مذهب النَّاس .
ومتى خالف ، وصلى بحضرة طعام تتوق نفسه إليه فصلاته مجزئه عند جميع العلماء المعتبرين ، وقد حكى الإجماع عَلَى ذَلِكَ ابن عَبْد البر وغيره ، وإنما خالف فِيهِ شذوذ من متأخري الظاهرية ، لا يعبأ بخلافهم الإجماع القديم .
وفي أحاديث هَذَا الباب : دليل عَلَى أن وقت المغرب متسع ، وأنه لا يفوت بتأخير الصلاة فِيهِ عَن أول الوقت ، ولولا ذَلِكَ لَمْ يأمر بتقديم العشاء عَلَى صلاة المغرب من غير بيان لحد التأخير ؛ فإن هَذَا وقت حاجة إلى البيان ، فلا يجوز تأخيره عَنْهُ . والله أعلم .(4/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
43 - بَاب
إذا دُعيَ الإمَامُ إلى الصَّلاةِ وبَيَدِهِ مَا يَأكُلُ
675 - حَدَّثَنَا عَبْد العزيز بْن عَبْد الله : ثنا إِبْرَاهِيْم ، عَن صالح ، عن ابن
شِهَاب ، قَالَ : أخبرني جَعْفَر بْن عَمْرِو بْن أمية الضمري ، أن أباه قَالَ : رأيت رَسُول الله ( يأكل ذراعاً يحتز مِنْهَا ، فدعى إلى الصلاة ، فَقَام فطرح السكين فصلى ولم يتوضأ .
وقد سبق فِي ( ( كِتَاب الوضوء ) ) من حَدِيْث عقيل ، عَن ابن شِهَاب - بمعناه .
وقد حمل البخاري هَذَا عَلَى أن الإمام خاصة إذا دعي إلى الصلاة وَهُوَ يأكل فإنه يقوم إلى الصلاة ولا يتم أكله ؛ لما فِي تأخيره من المشقة عَلَى المأمومين بابانتظاره ، فيكون دعاء الإمام إلى الصلاة بمنزلة إقامة الصلاة فِي حق المأمومين .
وقد حمله غيره - كما تقدم - عَلَى أَنَّهُ إذا أقيمت الصلاة وقد أكل بعض طعامه أَنَّهُ يقوم ولا يتمه .
والبخاري قَدْ بَيْن فِي الباب السابق أن بعض ألفاظ حَدِيْث ابن عمر صريح فِي خلاف هذا ، فلذلك حمله عَلَى الإمام خاصة ، ولو أَنَّهُ حمل عَلَى أَنَّهُ ( كَانَ قَدْ أتم أكله لكان محتملاً مَعَ بعده ؛ فإن ظاهر اللفظ يقتضي أَنَّهُ لَمْ يكن أتم أكله .
وقد حمله بعضهم عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ أخذ من طعامه مَا يحتاج إليه بحيث لا تتوق نفسه بعده إلى شيء مِنْهُ ، فاكتفي بذلك .
وخرج أبو داود من حَدِيْث المغيرة بْن شعبة ، قَالَ : ضفت النَّبِيّ ((4/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
ذات ليلة ، فأمر بجنب فشوى ، وأخذ الشفرة فجعل يحتز لِي بِهَا مِنْهُ . قَالَ : فجاء بلال فآذنه بالصلاة قالَ : فألقى الشفرة ، وقَالَ : ( ( ماله ؟ تربت يداه ) ) ، وقام .
ويروى من حَدِيْث جابر ، أن النَّبِيّ ( دعي إلى الصلاة وَهُوَ يأكل ، فقام ثُمَّ رجع ، فأتى ببقية الطعام .
ذكره الأثرم تعليقاً .
وخرجه [ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ] .(4/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
44 - بَاب
مَن كَانَ فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ فَأُقِيمتِ الصَّلاةُ فَخَرَجَ
676 - حَدَّثَنَا آدم : ثنا شعبة : ثنا الحكم ، عَن إِبْرَاهِيْم ، عَن الأسود ، قَالَ : سألت عَائِشَة : مَا كَانَ النَّبِيّ ( يصنع فِي بيته ؟ قَالَتْ : كَانَ يكون فِي مهنة أهله - تعني : خدمة أهله - ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة .
( ( المهنة ) ) - بكسر الميم وفتحها - الخدمة .
ومنهم من أنكر الكسر ، قَالَ الأصمعي : هُوَ خطأ .
قَالَ الزمخشري : هُوَ عِنْدَ الأثبات خطأ . قَالَ : وكان القياس لَوْ قيل مثل جلسة وخدمة .
وقد فسرت عَائِشَة هذه الخدمة فِي رِوَايَة عَنْهَا ، فروى المقدام بْن شريح ، عَن أَبِيه ، عَن عَائِشَة ، أَنَّهُ سألها : كَيْفَ كَانَ النَّبِيّ ( يصنع إذا كَانَ فِي بيته ؟ قَالَتْ : مثل أحدكم فِي مهنة أهله ، يخصف نعله ، ويرقع ثوبه ، ويضع الشيء .
وروى معاوية بْن صالح ، عَن يَحْيَى بْن سَعِيد ، عَن عمرة ، قَالَتْ : سئلت عَائِشَة : مَا كَانَ النَّبِيّ ( يصنع فِي بيته ؟ قَالَتْ : بشر من البشر ، يخدم نفسه ، ويحلب شاته ، ويرقع ثوبه ، ويخصف نعله .(4/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
وروى هِشَام بْن عُرْوَةَ ، عَن أَبِيه ، قَالَ : قيل لعائشة : مَا كَانَ النَّبِيّ ( يصنع فِي بيته ؟ قَالَتْ : يخيط ثوبه ، ويخصف نعله ، ويعمل مَا يعمله الرجال فِي بيوتهم .
خرجه ابن حبان فِي ( ( صحيحه ) ) .
ومقصود البخاري بهذا الباب : أن الصلاة إذا قيمت والإنسان فِي شغل بعمل شيء من مصالح دنياه ، فإنه يدعه ويقوم إلى الصلاة ، إماماً كَانَ أو مأموماً .
وقد روي حَدِيْث الأسود ، عَن عَائِشَة ، الَّذِي خرجه البخاري بزيادة فِي آخره .
خرجه الحافظ أبو الحسين ابن المظفر فِي ( ( غرائب شعبة ) ) من طريق الْحَسَن ابن مدرك : ثنا يَحْيَى بْن حماد : ثنا شعبة ، عَن الحكم ، عَن إِبْرَاهِيْم ، عَن الأسود ، عَن عَائِشَة ، قَالَتْ : كَانَ رَسُول الله ( إذا كَانَ عندي كَانَ فِي مهنة أهله ، فإذا نودي بالصلاة كأنه لَمْ يعرفنا .
وقد روي من وجه آخر معنى هذه الزيادة .
رَوَى أبو زُرْعَة الدمشقي فِي ( ( تاريخه ) ) : حَدَّثَنَا محمد بْن أَبِي أسامة : ثنا مبشر بْن إِسْمَاعِيل : ثنا عَبْد الله بْن الزبرقان : حَدَّثَنِي أسامة بْن أَبِي عَطَاء ، أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ النُّعْمَان بْن بشير ، فَقَالَ لَهُ سويد بْن غفلة : ألم يبلغني أنك صليت مَعَ النَّبِيّ ( ؟ قَالَ : ومرة ، لا بل مراراً ، كَانَ رَسُول الله ( إذا سَمِعَ النداء كأنه لا يعرف أحداً من النَّاس .(4/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
45 - بَاب
مَنْ صَلَّى بالنَّاسِ وََهُوَ لاَ يُريدُ إلاَّ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ
صَلاَةَ النَّبيِّ ( وَسُنَّتَهُ
677 - حَدَّثَنَا موسى بْن إِسْمَاعِيل : أنا وهيب ، [ نا أيوب ] ، عَن أَبِي قلابة ، قَالَ : جاءنا مَالِك بْن الحويرث فِي مسجدنا هَذَا ، فَقَالَ : إني لأصلي بكم ، وما أريد الصلاة ، أصلي كَيْفَ رأيت رَسُول الله ( يصلي . فَقِيلَ لأبي قلابة : كَيْفَ كَانَ
يصلي ؟ قَالَ : مثل شيخنا هَذَا . وكان الشَّيْخ يجلس إذا رفع رأسه من السجود قَبْلَ أن ينهض فِي الركعة الأولى .
وقد خرجه البخاري فيما بعد عَن معلى بْن أسد ، عَن وهيب ، ولفظ حديثه : جاءنا مَالِك بْن الحويرث فصلى بنا فِي مسجدنا هَذَا ، فَقَالَ : إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة . لكني أريد أن أريكم كَيْفَ رأيت رَسُول الله ( يصلي - وذكر بقية الحَدِيْث .
قول مَالِك بْن الحويرث : ( ( إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة ) ) يحتمل أَنَّهُ أراد : أني لا أريد الصلاة إماماًُ وأنه لا غرض لِي فِي إمامتكم سوى تعليمكم صلاة النَّبِيّ ( ، والإمام إذا نوى الصلاة بالناس وتعليمهم الصلاة صحت صلاته ، كما حج النَّبِيّ ( ، وَقَالَ لهم : ( ( خذوا عني مناسككم ) ) . وَقَالَ - أَيْضاً - فِي الصلاة : ( ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ) .(4/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
وإن حمل عَلَى أن مراد ابن الحويرث : أني لا أريد أن أصلي هذه الصلاة لأني قَدْ صليتها ، وإنما أعيدها لتعليمكم الصلاة دل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يرى جواز اقتداء المفترضين بالمتنفل ، إن كَانَ أمهم فِي وقت صلاة مفروضة ، فإن كَانَ أمهم فِي تطوعٍ فلا دلالة فِيهِ عَلَى ذَلِكَ .
وقد ورد ذَلِكَ مصرحاً بِهِ رِوَايَة خرجها البخاري فِي ( ( بَاب : الطمأنينة ) ) من رِوَايَة حماد بْن زيد ، عَن أيوب ، عَن أَبِي قلابة ، قَالَ : قام مَالِك بْن الحويرث يرينا كَيْفَ كَانَ صلاة النَّبِيّ ( ، وذلك فِي غير وقت الصلاة - وذكر صفة صلاته .
فعلم بهذا أنهم كانوا متنفلين بهذه الصلاة كلهم .
ولا يصح حمل كلامه عَلَى ظاهره ، وأنه لَمْ ينو الصلاة بالكلية ، بل كَانَ يقوم ويقعد ويركع ويسجد ، وَهُوَ لا يريد الصلاة ، فإن هَذَا لا يجوز ، وإنما يجوز مثل ذَلِكَ فِي الحج ، يجوز أن يكون الَّذِي يقف بالماس ويدفع بهم غير محرم ، ولا مريداً للحج بالكلية ، لكنه يكره .
قَالَ أصحابنا وغيرهم من الفقهاء فِي الأحكام السلطانية : لأن الوقوف والدفع يجوز للمحرم وغيره ، بخلاف القيام والركوع والسجود ، فإنه لا يجوز إلا فِي الصلاة بشروطها .
وبقية فوائد الحَدِيْث يأتي الكلامم عَلِيهِ فِي مواضعه - إن شاء الله - ؛ فإن البخاري خرجه فِي مواضع متعددة .(4/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
46 - بَاب
أَهْلِ العِلْمِ والفَضْلِ أَحَقُّ بِالإِمَامَةِ
فِيهِ خمسة أحاديث :
الحَدِيْث الأول :
678 - حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن نصر : حَدَّثَنَا حسين ، عَن زائدة ، عَن عَبْد الملك ابن عمير ، قَالَ : حَدَّثَنِي أبو بردة ، عَن أَبِي موسى ، قَالَ : مرض النَّبِيّ ( فاشتد مرضه ، فَقَالَ : ( ( مروا أَبَا بَكْر فليصل بالناس ) ) . قَالَتْ عَائِشَة : إنه رَجُل رقيق ، إذا قام مقامك لَمْ يستطع أن يصلي بالناس . قَالَ : ( ( مري أَبَا بَكْر فليصل بالناس ) ) ، فعادت ، فَقَالَ : ( ( مري أَبَا بَكْر فليصل بالناس ؛ فإنكن صواحب يوسف ) ) ، فأتاه الرسول ، فصلى بالناس فِي حَيَاة النَّبِيّ ( .
استدل البخاري بهذا الحَدِيْث عَلَى أن أهل الفضل والعلم أحق بالإمامة من غيرهم ؛ فإن النَّبِيّ ( أمر أَبَا بَكْر من بين الصَّحَابَة كلهم بالصلاة بالناس ، وروجع فِي ذَلِكَ مراراً وَهُوَ يأبى إلا تقديمه فِي الصلاة عَلَى غيره من الصَّحَابَة ، وإنما قدمه لعلمه وفضله ؛ فأما فضله عَلَى سائر الصَّحَابَة فهو مِمَّا اجتمع عَلِيهِ أهل السنة والجماعة ، وأما علمه فكذلك .
وقد حكى أبو بَكْر ابن السمعاني وغيره إجماع أهل السنة عَلِيهِ - أَيْضاً .
وهذا مِمَّا يستدل بِهِ من قَالَ : إن الأفقه والأعلم مقدم عَلَى مقدم عَلَى الأقرإ ؛ فإن أَبِي بْن كعب كَانَ أقرأ الصَّحَابَة ، كما قَالَ عُمَر : ( ( أَبِي أقرؤنا ) ) .
وروي عَن النَّبِيّ ( من وجوه ، أَنَّهُ قَالَ : ( ( أقرأ أمتي لكتاب الله أَبِي بْن كعب ) ) .(4/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
خرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه - وصححه الترمذي - من حَدِيْث أَبِي قلابة ، عَن أنس .
وقد روي عَن أَبِي قلابة مرسلاً من غير ذكر ( ( أَنَس ) ) ، وَهُوَ أصح عِنْدَ كثير من الحفاظ .
فلما قدم النَّبِيّ ( أَبَا بَكْر عَلَى أَبِي بْن كعب فِي الصلاة بالناس دل عَلَى أن الأعلم والأفقه والأفضل مقدم عَلَى الأقرإ .
وقد اختلف العلماء : هَلْ يقدم الأقرأ عَلَى الأفقه ، أم الأفقه عَلَى الأقرإ ؟
فَقَالَتْ طائفة : يقدم الأفقه ، وَهُوَ قَوْلِ عَطَاء والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأبي ثور .
وَقَالَ الليث : يؤمهم أفضلهم وخيرهم ، ثُمَّ أقرؤهم ، ثُمَّ أسنهم .
وقالت طائفة : يقدم الأقرأ عَلَى الأفقه ، وحكي عَن الأشعث بْن قيس وابن سيرين والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، حكاه عنهم ابن المنذر واختاره .
وما حكيناه عَن الثوري ، حكاه أصحابه عَنْهُ فِي كتبهم المصنفة عَلَى مذهبه .
ونص أحمد عَلَى أَنَّهُ يقدم الأقرأ إذا كَانَ يعرف مَا يحتاج إليه الصلاة من الفقه ، وكذلك قَالَ كثير من المحققين من أصحابه ، وحكموا مذهبه عَلَى هَذَا الوجه .
واستدل من قدم الأقرأ بما خرجه مُسْلِم فِي ( ( صحيحه ) ) من حَدِيْث أوس بْن(4/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
ضمعج ، عَن أَبِي مَسْعُود الأنصاري ، عَن النَّبِيّ ( قَالَ : ( ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا فِي القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا فِي السنة سواء فأقدمهم هجرة ) ) .
وفي رِوَايَة لمسلم : ( ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة ) ) .
وخرجه الحَاكِم ، وعنده ( ( يؤم القوم أكثرهم قرآناً ) ) - وذكر الحَدِيْث .
وخرج مُسْلِم - أَيْضاً - من حَدِيْث أَبِي نضرة ، عَن أَبِي سَعِيد الْخُدرِيَّ ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله ( : ( ( إذا كانوا ثَلاَثَة فليؤمهم أحدهم ، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم ) ) .
وخرج البخاري فِي ( ( كتابه ) ) هَذَا من حَدِيْث عَمْرِو بْن سَلَمَة الجرمي ، عَن أَبِيه ، أن النَّبِيّ ( قَالَ : ( ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم ، وليؤمكم أكثركم قرآناً ) ) .
وخرج - أَيْضاً - فِيهِ من حَدِيْث ابن عُمَر ، قَالَ : لما قدم المهاجرون الأولون قَبْلَ مقدم النَّبِيّ ( كَانَ يؤمهم سَالِم مَوْلَى أَبِي حذيفة ، وكان أكثرهم قرآناً .
وخرج الإمام أحمد من حَدِيْث أَبِي موسى الأشعري ، عَن النَّبِيّ ( قَالَ : ( ( يؤمكم أقرؤكم ) ) .
وخرجه أبو داود وابن ماجه من حَدِيْث ابن عَبَّاس ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( ليؤمكم قراؤكم ) ) .(4/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
وفي الباب أحاديث أخر .
وقد تأول الشَّافِعِيّ وغيره هذه الأحاديث عَلَى أن النَّبِيّ ( إنما خاطب أصحابه ، وكان أكثرهم قرآناً أكثرهم فقهاً ؛ فإن قراءتهم كَانَتْ علماً وعملاً بخلاف من بعدهم .
وأجيب عَن هَذَا بوجهين :
أحدهما : أن هَذَا خطاب عام للأمة كلهم ، فلا يختص بالصحابة .
والثاني : أَنَّهُ فرق بَيْن الأقرإ والأعلم بالسنة ، وقدم الأقرإ عَلِيهِ .
وأجاب الإمام أحمد عَن تقديم النَّبِيّ ( أَبَا بَكْر عَلَى أَبِي بْن كعب وغيره ، بأنه أراد بذلك التنبيه عَلَى خلافته ، فلهذا المعنى قدمه فِي الصلاة عَلَى النَّاس كلهم .
وقد منع بعضهم أن يكون أَبِي بْن كعب أقرأ من أَبِي بَكْر ، لأن المراد بالأقرإ فِي الإمامة الأكثر قرآناً . وَقَالَ : كَانَ أبو بَكْر يقرأ القران كله ، فلا مزية لأبي بْن كعب عَلِيهِ فِي ذَلِكَ ، وامتاز أبو بَكْر بالعلم والفضل .
وهذه المسألة لأصحابنا فيها وجهان : إذا اجتمع قارئان ، أحدهما أكثر قرآناً ، والآخر أجود قراءةً ، فهل يقدم الأكثر قرآناً عَلَى الأجود قراءة ، أم بالعكس ؟
وأكثر الأحاديث تدل ى اعتبار كثرة القرآن .
وإن اجتمع فقيهان قارئان ، أحدهما أفقه ، والآخر أجود قراءة ، ففي أيهما يقدم وجهان - أَيْضاً .
وقيل : إن المنصوص عَن أحمد ، أَنَّهُ يقدم الأقرأ .(4/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
الحَدِيْث الثاني :
679 - حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف ، أنا مَالِك ، عَن هِشَام بْن عُرْوَةَ ، [ عَن أَبِيه ] ، عَن عَائِشَة ، أنها قَالَتْ : إن رَسُول الله ( قَالَ فِي مرضه : ( ( مروا أَبَا بَكْر فليصل بالناس ) ) . قَالَتْ عَائِشَة : قُلتُ : إن أَبَا بَكْر إذا قام فِي مقامك لَمْ يسمع النَّاس من البكاء ، فمر عُمَر فليصل بالناس ، قَالَتْ عَائِشَة : فَقُلْت لحفصة : قولي : إن أَبَا بَكْر إذا قام مقامك لَمْ يسمع النَّاس من البكاء ، فمر عُمَر فليصل بالناس ، ففعلت حَفْصَةَ ، فَقَالَ رَسُول الله ( ( ( مه ، إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أَبَا بَكْر فليصل بالناس ) ) . فَقَالَتْ حفصة لعائشة : مَا كُنْتُ لأصيب منك خيراً .
والمراد من هَذَا الحَدِيْث فِي هَذَا الباب : امر النَّبِيّ ( أَبَا بَكْر بالصلاة بالناس فِي مرضه ، وأنه روجع فِي ذَلِكَ فزجر من راجعه ، وكرر الأمر بذلك .
الحَدِيْث الثالث :
680 - حَدَّثَنَا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عَن الزُّهْرِيّ ، قَالَ : أخبرني أنس بْن مَالِك الأنصاري - وكان تبع النَّبِيّ ( وخدمه وصحبه - ، أن أَبَا بَكْر كَانَ يصلي بهم فِي وجع النَّبِيّ ( الَّذِي توفى فِيهِ ، حَتَّى إذا كَانَ يوم الأثنين وهم صفوف فِي الصلاة ، فكشف النَّبِيّ ( ستر الحجرة ، ينظر إلينا وَهُوَ قائم كأن وجهه ورقة مصحف ، ثُمَّ تبسم يضحك ، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النَّبِيّ ( ، فنكص أبو بَكْر عَلَى عقبيه ليصل الصف ، وظن أن النَّبِيّ ( خارج إلى الصلاة ، فأشار إلينا النَّبِيّ ( : أن ( ( أتموا صلاتكم ) ) ، وأرخى الستر ، فتوفي من يومه ( .
فِي هَذَا الحَدِيْث أن أَبَا بَكْر استمر عَلَى إقامته فِي الصلاة إلى أن توفي رَسُول الله ( ، وأن النَّبِيّ ( كشف الستر ، ونظر إليه وَهُوَ يؤم النَّاس فِي صلاة(4/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
الصبح يوم الأثنين ، وهي آخر صلاة أدركها النَّبِيّ ( فِي حياته ، فظن أبو بَكْر أَنَّهُ خارج إلى الصلاة ، فأخذ فِي التأخر إلى صف المأمومين ؛ ليتقدم النَّبِيّ ( فيؤم النَّاس ، فأشار إليهم النَّبِيّ ( ، أن أتموا صلاتكم ، وأرخى الستر .
وهذا فِيهِ أمر لأبي بَكْر بأن يستمر عَلَى إمامته فِي آخر صلاة أدركها وَهُوَ حي .
وظاهر هَذَا الحَدِيْث ، يدل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يخرج إلى المسجد ولم يصل مَعَ الجماعة تلك الصلاة ، لا إماماً ولا مأموماً .
وقد قَالَ كثير من السلف ، إنه خرج وصلى خلف أَبِي بَكْر فِي الصف تلك الصلاة .
وقد سبق حَدِيْث أَنَس ، أن آخر صلاة صلاها رَسُول الله ( في ثوب متوشحاً خلف أَبِي بَكْر .
وقد جمع البيهقي وغيره بَيْن تلك وبين حَدِيْث أَنَس هَذَا ، بأنه أرخى الستر ودخل ، ثُمَّ وجد خفة فخرج فصلى خلف أَبِي بَكْر الركعة الثانية ، وقضى الركعة الَّتِيْ فاتته .
وقد صح هَذَا المعنى عَن عُبَيْدِ بْن عمير - أَيْضاً .
وروي صريحاً - أَيْضاً - من حَدِيْث عَائِشَة وأم سَلَمَة وأبي سَعِيد .
خرجه ابن سعد فِي ( ( طبقاته ) ) عَن الواقدي .
الحَدِيْث الرابع :
681 : حَدَّثَنَا أبو معمر ، قَالَ : ثنا عَبْد الوارث : ثنا عَبْد العزيز ، عَن أَنَس ،(4/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
قَالَ : لَمْ يخرج النَّبِيّ ( ثلاثاً ، فأقيمت الصلاة ، فذهب أبو بَكْر فتقدم ، فَقَالَ نبي الله ( بالحجاب ، فرفعه ، فلما وضح وجه النَّبِيّ ( مَا رأينا منظراً كَانَ أعجب إلينا من وجه النَّبِيّ ( حِينَ وضح لنا ، فأوما النَّبِيّ ( بيده إلى أَبِي بَكْر أن يتقدم ، وأرخى النَّبِيّ ( الحجاب ، فَلَمْ يقدر عَلِيهِ حَتَّى مات .
وهذا الحَدِيْث قريب من حَدِيْث الزُّهْرِيّ عَن أَنَس الَّذِي قبله ، وفيه : التصريح بإيماء النَّبِيّ ( إلى أَبِي بَكْر أن يتقدم ويؤم النَّاس ، ولكنه يوهم أن أَبَا بَكْر لَمْ يكن قَدْ دَخَلَ فِي الصلاة ، وحديث الزُّهْرِيّ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِي الصلاة .
الحَدِيْث الخامس :
682 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سُلَيْمَان ، قَالَ : حَدَّثَنِي ابن وهب : حَدَّثَنِي يونس ، عَن ابن شِهَاب ، عَن حَمْزَة بْن عَبْد الله ، أَنَّهُ أخبره عَن أَبِيه ، قَالَ : لما اشتد برسول الله ( وجعه قيل لَهُ فِي الصلاة . قَالَ : ( ( مروا أَبَا بَكْر فليصل بالناس ) ) . قَالَتْ عَائِشَة : أن أَبَا بَكْر رَجُل رقيق ، إذا قرأ غلبه البكاء . قَالَ : ( ( مروه فليصل ) ) ، فعاودته ، فَقَالَ : ( ( مروه فليصل ، فإنكن صواحب يوسف ) ) .
تابعه : الزبيدي وابن أخي الزُّهْرِيّ وإسحاق بْن يَحْيَى الكلبي ، عَن الزُّهْرِيّ .
وقال عقيل ومعمر ، عَن الزُّهْرِيّ ، عَن حَمْزَة ، عَن النَّبِيّ ( - مرسلاً .
قَدْ ذكر البخاري الاختلاف عَلَى الزُّهْرِيّ فِي إسناده ، وأنه روي عَنْهُ متصلاً ومرسلاً .
فخرجه من طريق ابن وهب ، عَن يونس ، عَن الزُّهْرِيّ ، عَن حَمْزَة بْن(4/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
عَبْد الله بْن عُمَر ، عَنْهُ أَبِيه - متصلاً - ، وذكر أَنَّهُ تابعه عَلَى وصله الزبيدي وابن أخي الزُّهْرِيّ وإسحاق الكلبي ، وأرسله عَن الزُّهْرِيّ ، عَن حَمْزَة - من غير ذكر ابن عُمَر - : عقيل ومعمر .
وقد اختلف عَن معمر :
وخرجه مُسْلِم من حَدِيْث معمر ، عَن الزُّهْرِيّ ، عَن حَمْزَة ، عَن عَائِشَة .
واختلف فِيهِ عَلَى عقيل - أَيْضاً - :
فروي عَنْهُ ، عَن الزُّهْرِيّ ، عَن حَمْزَة - مرسلاً .
وروي عَنْهُ ، عَن الزُّهْرِيّ ، عَن حَمْزَة ، عَن عَائِشَة .
وكذا قَالَ يونس بْن أَبِي إِسْحَاق ، عَن الزُّهْرِيّ .
وكلاهما محفوظ عَنْهُ - : ذكر ذَلِكَ الدارقطني فِي موضع من ( ( علله ) ) .
وذكر فِي موضع آخر مِنْهَا : أَنَّهُ رواه عقيل ، عَن الزُّهْرِيّ ، عَن حَمْزَة ، عَن أَبِيه .
قَالَ : وَهُوَ الصواب .
قُلتُ : ورواه ابن المبارك ، عَن يونس ومعمر ، عَن الزُّهْرِيّ ، عَن حَمْزَة - مرسلاً .(4/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
47 - بَاب
مَنْ قَامَ إلى جَنْبِ الإمَامِ لِعِلَّةٍ
683 - حَدَّثَنَا زكريا بْن يَحْيَى : ثنا ابن نمير : ثنا هِشَام بْن عُرْوَةَ ، عَن أَبِيه ، عَن عَائِشَة ، قَالَتْ : أمر رَسُول الله ( أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس فِي مرضه ، فكان يصلي بهم .
قَالَ عُرْوَةَ : فوجد رَسُول الله ( من نفسه خفة ، فخرج ، فإذا أبو بَكْر يؤم النَّاس ، فلما رآه أبو بَكْر استأخر ، فأشار إليه أن كما أنت ، فجلس رَسُول الله ( حذاء أَبِي بَكْر إلى جنبه ، فكان أبو بَكْر يصلي بصلاة رَسُول الله ( ، والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر .
المُتَّصِل من هَذَا الحَدِيْث : هُوَ أمر النَّبِيّ ( أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس فِي مرضه ، فكان يصلي بهم ، وما بعده مدرج من قَوْلِ عُرْوَةَ ، كما خرجه البخاري هاهنا .
وكذا خرجه مُسْلِم عَن جماعة ، كلهم عَن ابن نمير ، بِهِ .
وكذا رَوَى هَذَا الكلام الآخر مَالِك فِي ( ( موطئه ) ) عَن هِشَام ، عَن أَبِيه - مرسلاً .
وقد وصله بعض الرواة بحديث عَائِشَة ، فمن وصله بحديث عَائِشَة فَقَدْ أدرجه .(4/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
ولكن قَدْ روي هَذَا المعنى متصلاً من وجوه أخر ، كلها لا تخلو عَن علة ، وقد سبق ذكرها والإشارة تعليلها .
ومراد البخاري بهذا الباب : أن أَبَا بَكْر صلى مؤتما بالنبي ( ، وَهُوَ قائم إلى جانبه بإشارة النَّبِيّ ( إليه فِي ذَلِكَ ، ولم يتركه يتأخر إلى الصف ، وكان ذَلِكَ لعلة ، وهي أن النَّبِيّ ( كَانَ يصلي بالناس جالساً ، والناس قيام وراءه ، فكان قيام أَبِي بَكْر إلى جانبه ، لإسماع النَّاس تكبير النَّبِيّ ( ، ورؤية النَّاس لَهُ ؛ ليتمكنوا من كمال الاقتداء بالنبي ( حيث لَمْ يمكنه القيام ، ولولا هذه العلة لكانت السنة لأبي بَكْر أن يقوم فِي الصف وراء النَّبِيّ ( .
وقد ذكر هَذَا المعنى طائفة من الشافعية .
ونقله الوليد بْن مُسْلِم عَن مَالِك ، أَنَّهُ أجاز للمريض أن يصلي بالناس جالساً وهم قيام . قَالَ : وأحب إلي أن يقوم إلى جنبه من يعلم النَّاس بصلاته .
وهي رِوَايَة غريبة عَن مَالِك ، ومذهبه عِنْدَ أصحابه : أَنَّهُ لا يجوز ائتمام القائم بالجالس .
وهذا كله عَلَى قَوْلِ من قَالَ : إن أَبَا بَكْر كَانَ مأموماً ، فأما من قَالَ هُوَ الإمام فلا إشكال عنده فِي قيام أَبِي بَكْر إلى جانب النَّبِيّ ( ، وإنما أشكل عنده جلوس النَّبِيّ ( إلى جنب أَبِي بَكْر ، وقد يجاب عَنْهُ بأنه يحتمل أن يكون ذَلِكَ لضيق الصف . والله أعلم .(4/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
48 - بَاب
مَنْ دَخَلَ ليَؤُمَّ النَّاسَ فَجَاءَ الإمَامُ الأَوَّلُ فَتَأَخَّرَ الآخَرُ
أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ جَازَتْ صَلاَتُهُ
فِيهِ : عَائِشَة ، عَن النَّبِيّ ( .
حَدِيْث عَائِشَة ، سبقت الإشارة إليه فيما مضى ، وقد خرجه البخاري بتمامه فيما بعد من حَدِيْث عُبَيْدِ الله بْن عَبْد الله ، عَن عَائِشَة .
684 - حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف : أنا مَالِك ، عَن أَبِي حَازِم بْن دينار ، عَن سَهْل بْن سعد الساعدي ، أن رَسُول الله ( ذهب إلى بني عَمْرِو بْن عوف ليصلح بينهم ، فحانت الصلاة ، فجاء المؤذن إلى أَبِي بَكْر ، فَقَالَ : أتصلي للناس فأقيم . قَالَ : نَعَمْ ، فصلى أبو بَكْر ، فجاء النَّبِيّ ( والناس فِي الصلاة ، فتخلص حَتَّى وقف فِي الصف ، فصفق النَّاس ، وكان أبو بَكْر لا يلتفت فِي صلاته ، فلما أكثر النَّاس التصفيق التفت ، فرأى رَسُول الله ( فأشار إليه رَسُول الله ( أن امكث مكانك ، فرفع أبو بَكْر يديه ، فحمد الله عَلَى مَا أمره بِهِ رَسُول الله من ذَلِكَ ، ثُمَّ استأخر أبو بَكْر حَتَّى استوى فِي الصف ، وتقدم رَسُول الله ( فصلى ، فلما انصرف قَالَ : ( ( يَا أَبَا بَكْر ، مَا منعك أن تثبت إذ أمرتك ؟ ) ) فَقَالَ أبو بَكْر : مَا كَانَ لابن أَبِي قحافة أن يصلي بَيْن يدي رَسُول الله ( . فَقَالَ رَسُول الله ( : ( ( مَا لِي أراكم أكثرتم التصفيق ؟ من نابه شيء فِي صلاته فليسبح ؛ فإنه إذا سبح التفت إليه ، وإنما التصفيق للنساء ) ) .
فِي هَذَا الحَدِيْث فوائد كثيرة :(4/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
مِنْهَا : أن الإمام يستحب لَهُ الإصلاح بَيْن طائفتين من المُسْلِمِين إذا وقع بينهم تشاجر ، وله أن يذهب إليهم إلى منازلهم لذلك .
ومنها : أن الإمام الراتب للمسجد إذا تأخر وعلم أَنَّهُ غائب عَن منزله فِي مكان فِيهِ بعد ، ولم يغلب عَلَى الظن حضوره ، أو غلب ولكنه لا ينكر ذَلِكَ ولا يكرهه ، فلأهل المسجد أن يصلوا قَبْلَ حضوره فِي أول الوقت ، وكذا إذا ضاق الوقت .
وأما إن كَانَ حاضراً أو قريباً ، وكان الوقت متسعاً ، فإنه ينتظر ، كما انتظروا النَّبِيّ ( لما أخر صلاة العشاء حَتَّى نام النِّسَاء والصبيان ، وقد سبق ذكره .
ومنها : أَنَّهُ إنما يؤم النَّاس مَعَ غيبة الإمام أفضل من يوجد من الحاضرين ، ولذلك دعي أبو بَكْر إلى الصلاة دون غيره من الصَّحَابَة .
وهذا مِمَّا يستدل بِهِ عَلَى أن الصَّحَابَة كلهم كانوا معترفين بفضل أَبِي بَكْر وتقدمه عليهم ، وعلمهم أَنَّهُ لا يقوم مقام النَّبِيّ ( مَعَ غيبته غيره .
وقد روي أن النَّبِيّ ( أنر فِي هَذَا اليوم أَبَا بَكْر أن يؤم النَّاس إذا لَمْ يحضر .
فخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي هَذَا الحَدِيْث من طريق حماد بْن زيد ، عَن أَبِي حَازِم ، عَن سَهْل بْن سعد ، وفيه : أن النَّبِيّ ( قَالَ : ( ( يَا بلال ، إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أَبَا بَكْر يصلي بالناس ) ) .
وخرجه الحَاكِم من طريق عُمَر المقدمي ، عَن أَبِي حَازِم ، وفي حديثه : أن النَّبِيّ ( قَالَ : ( ( يَا أَبَا بَكْر ، إن أقيمت الصلاة فتقدم فصل بالناس ) ) . قَالَ : نَعَمْ .
وعلى هذه الرواية ، فإنما تقدم أبو بَكْر بإذن النَّبِيّ ( لَهُ فِي ذَلِكَ .(4/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
وفيه : دليل عَلَى أن أَبَا بَكْر كَانَ أحق النَّاس بالإمامة فِي حَيَاة النَّبِيّ ( عِنْدَ تخلفه عَن الصلاة بالناس فِي صحته ومرضه .
وهذا يشكل عَلَى قَوْلِ الإمام أحمد : إنه إنما أمره فِي مرضه بالصلاة ؛ لأنه أراد استخلافه عَلَى الأمة ، فإن أمره بالصلاة فِي غيبته يدل عَلَى أَنَّهُ أحق النَّاس بالإمامة ، وأنه أقرأ الصَّحَابَة ؛ فإنه يقرأ مَا يقرءون ، ويزيد عليهم باختصاصه بمزيد الفهم والفضل ، وما اختص بِهِ من الخشوع فِي الصلاة وعدم الالتفات فيها ، وكثرة البكاء عِنْدَ قراءة القرآن .
ومنها : أن شق الداخل فِي الصلاةالداخل فِي الصلاة الصفوف طولاً حَتَّى يقوم فِي الصف الأول ليس بمكروه ، ولعله كَانَ فِي الصف الأول فرجة ، وقد سبق ذكر هذه المسألأة فِي ( ( أبواب : المرور بَيْن يدي المصلي ) ) .
وقد قيل : إنَّ ذَلِكَ يختص جوازه بمن تليق به الصلاة بالصف الأول لفضله وعلمه ، وَهُوَ الَّذِي ذكره ابن عَبْد البر .
والمنصوص عَن أحمد : كراهته .
قَالَ ألأثرم : قُلتُ لأبي عَبْد الله : يشق الصفوف إذا قاموا إلى الصلاة عَلَى نحو حَدِيْث المسور بْن مخرمة ؟ كأنه لَمْ يعجبه ، ثُمَّ قَالَ : اللهم إلا أن يضيق الموضع بالناس ، وتؤذيهم الشمس ، فإذا أقيمت شق الصفوف ودخل ، ليس بِهِ التخطي ، إنما بِهِ مَا أذاه الشمس .
ومنها : أن الالتفات فِي الصلاة لحاجة عرضت غير مكروه ، وإنما يكره لغير حاجةٍ .
ومنها : أن الالتفات وكثرة التصفيق لحاجة غير مبطل للصلاة ، وكذلك التأخر والمشي من صف إلى صف .
ومنها : أن رفع اليدين فِي الصلاة ، وحمد الله تعالى عِنْدَ نعمه تجددت غير مبطل للصلاة .(4/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
وقد اختلف فِي ذَلِكَ :
فَقَالَ عُبَيْدِ الله بْن الْحَسَن العنبري : هُوَ حسن .
وَقَالَ الأوزاعي : يمضي فِي صلاته .
وَقَالَ عَطَاء : مَا جرى عَلَى لسان الرَّجُلُ فِي الصلاة مَا لَهُ أصل فِي القرآن فليس بكلام .
وَقَالَ إِسْحَاق : إن تعمده فهو كلام ، يعيد الصلاة ، وإن سبق مِنْهُ من غير تعمد فليس عَلِيهِ إعادة .
وَقَالَ - مرة - : إن تعمد فأحب إلى أن يعيد ، فلا يتبين لِي - : نقله عَنْهُ حرب .
وعن أحمد ، أَنَّهُ يعيد الصلاة بذلك . وروي عَنْهُ مَا يدل عَلَى أَنَّهُ لا تعاد الصلاة مِنْهُ ، وقد سبق ذَلِكَ مستوفى فِي ( ( بَاب : مَا يَقُول إذا سَمِعَ المؤذن ) ) .
ومنها : أن أمر الإكرام لاتكون مخالفته معصية ، ولهذا قَالَ أبو بَكْر : ( ( مَا كَانَ لابن أَبِي قحافة أن يصلي بَيْن يدي رَسُول الله ( ) ) ، ولم يكن ذَلِكَ عَلِيهِ .
وهذا مِمَّا استدل بِهِ من قَالَ : إن أَبَا بَكْر لَمْ يؤم النَّبِيّ ( قط ، لا فِي صحته ولا فِي مرضه .
ومنها - وَهُوَ الَّذِي قصده البخاري بتبويبه هاهنا - : أن من أحرم بالصلاة إماماً فِي مسجد لَهُ إمام راتب ، ثُمَّ حضر إمامه الراتب ، فهل لَهُ أن يؤخر الَّذِي أحرم بالناس إماماً ويصير مأموماً ، ويصير الإمام الإمام الراتب ، أم لا بل ذَلِكَ من خصائص النَّبِيّ ( ؛ لأنه إمام النَّاس عَلَى كل حال ، وقد نهى الله عَن التقدم بَيْن يديه ، ولهذا قَالَ أبو بَكْر : ( ( مَا كَانَ لابن أَبِي قحافة أن يصلي بَيْن يدي(4/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
رَسُول الله ( ) ) ؟ فِي ذَلِكَ قولان :
أحدهما : أَنَّهُ لا يجوز ذَلِكَ ، بل هُوَ من خصائص النَّبِيّ ( . وحكاه ابن عَبْد البر إجماعاً من العلماء ، وحكاه بعض أصحابنا عَن أكثر العلماء .
والثاني : أَنَّهُ يجوز ذَلِكَ ، وتبويب البخاري يدل عَلِيهِ ، وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ ، وأحد الوجهين لأصحابنا ، وقول ابن الْقَاسِم من المالكية .
واستدل بهذا الحَدِيْث عَلَى أن الإمام إذا سبقه الحدث جاز لَهُ أن يستخلف بعض المأمومين ؛ لأنه إذا جازت الصلاة بإمامين مَعَ إمكان إتمامها بالإمام الأول فمع عدم إمكان ذَلِكَ لبطلان صلاة الأول أولى .
وفي الحَدِيْث - أَيْضاً - : أن الرَّجُلُ إذا نابه شيء فِي صلاته ، فإنه يسبح ، ولو صفق لَمْ تبطل صلاته ، ولكنه يكون مكروهاً .
وأما قوله : ( ( إنما التصفيح للنساء ) ) ، فاختلفوا فِي معناه :
فحمله مَالِك وأصحابه عَلَى أن المراد : أن التصفيح من أفعال النِّسَاء ، فيكون إخباراً عَن عيبه وذمة ، وأنه لا ينبغي أن يفعله أحد فِي الصلاة ، رجلاً كَانَ أو أمرأةً .
وحملوا قوله : ( ( من نابه شيء فِي صلاته فليسبح ) ) عَلَى أَنَّهُ عام ، يدخل فِي عمومه الرجال والنساء ، إخبار مِنْهُ بمشروعيته للنساء فِي الصلاة .
وقد رَوَى هَذَا الحَدِيْث حماد بْن زيد ، عَن أَبِي حَازِم ، عَن سَهْل ، وَقَالَ فِي حديثه : ( ( إذا نابكم شيء فِي الصلاة فليسبح الرجال ، وليصفح النِّسَاء ) ) .
خرجه النسائي وغيره .
وهذا صريح فِي ذَلِكَ ، سيأتي الكلام عَلَى ذَلِكَ مستوفى فِي موضعه من(4/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
الكتاب - إن شاء الله تعالى - ؛ فإن البخاري خرج التسبيح للرجال والتصفيق للنساء من حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ وسهل بْن سعد ، عَن النَّبِيّ ( .
وقد روي معنى حَدِيْث سَهْل من حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ بسياق غريب .
خرجه الترمذي فِي كِتَاب ( ( العلل ) ) : حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن الصباح : ثنا شبابة ، عَن المغيرة بْن مُسْلِم ، عَن مُحَمَّد بْن عَمْرِو ، عَن أَبِي سَلَمَة ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : ذهب رَسُول الله ( فِي حاجة ، فأقام بلال الصلاة ، فتقدم أبو بَكْر ، فجاء النَّبِيّ ( وأبو بَكْر فِي الصلاة ، فأرادوا أن يردوا وصفقوا ، فمنعهم رَسُول الله ( ، وصلى رَسُول الله ( خلفه ، فلما انفتل قَالَ : ( ( التسبيح للرجال ، والتصفيق للنساء ) ) .
وَقَالَ : سألت عَنْهُ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل - يعني : البخاري - فَلَمْ يعرفه ، وجعل يستحسنه ، وَقَالَ : المشهور : عَن أَبِي حَازِم ، عَن سَهْل . انتهى .
وهذا يخالف مَا فِي حَدِيْث سَهْل ، من أن أَبَا بَكْر تأخر وتقدم النَّبِيّ ( ، فصلى بالناس ، والصحيح : حَدِيْث سَهْل . والله ( أعلم .(4/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
49 - بَاب
إذا اسْتَوَوْا فِي الْقراَءةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ
685 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن حرب : ثنا حماد بْن زيد ، عَن أيوب ، عَن أبي قلابة ، عَن مَالِك بْن الحويرث ، قَالَ : قدمنا عَلَى النَّبِيّ ( ونحن شببة ، فلبثنا عنده نحواً من عشرين ليلة ، وكان النَّبِيّ ( رحيماً ، فَقَالَ : ( ( لَوْ رجعتم إلى بلادكم ، فعلمتموهم ، مروهم فليصلوا صلاة كذا فِي حِينَ كذا ، وصلاة كذا فِي حِينَ كذا ، فإذا حضرت الصلاة ، فليؤذن لكم أحدكم ، وليؤمكم أكبركم ) ) .
هَذَا الحديث خرجه مُسْلِم - بمعناه - من حَدِيْث خَالِد الحذاء ، عَن أَبِي قلابة ، وزاد فِيهِ : قَالَ الحذاء : وكانا متقاربين فِي القراءة .
وخرجه أبو داود ، وزاد فِيهِ : وكنا يومئذ متقاربين فِي العلم .
ورواه حماد بْن سَلَمَة ، عَن أيوب ، عَن أَبِي قلابة ، عَن مَالِك بْن الحويرث ، أن النَّبِيّ ( قَالَ : ( ( يؤم القوم أكبرهم سناً ) ) .
ذكره أبو بَكْر الأثرم ، وَقَالَ : غلط حماد فِي لفظة ، وإنما رواه بالمعنى .
وفي ( ( صحيح مُسْلِم ) ) من حَدِيْث أوس بْن ضمعج ، عَن أَبِي مَسْعُود ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله ، وأقدمهم قراءةً ، فإن كَانَتْ قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة ، فإن كانوا فِي الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سناً ) ) .(4/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
وفي ألفاظ هَذَا الحَدِيْث اخْتِلاَف ، وقد توقف فِيهِ أبو حاتم الرَّازِي ، وحكى عَن شعبة ، أَنَّهُ كَانَ يهابه ؛ لتفرد إِسْمَاعِيل بْن رجاء بِهِ عَن أوس ، فَقَالَ : إنما رواه الْحَسَن بْن يزيد الأصم ، عَن السدي ، وَهُوَ شيخ ، وأخاف أن لا يكون محفوظاً - يعني : حَدِيْث السدي .
وهذه الأحاديث كلها تدل عَلَى التقديم بالسن عِنْدَ التساوي فِي القرءاة وغيرهم من الفضائل ، وقد أخذ بذلك أكثر العلماء .
قَالَ عَطَاء والثوري وأبو حنيفة : إذا استووا فِي القراءة والفقة فأسنهم .
وَقَالَ مَالِك : للسن حق .
ولكن اختلفوا : هَلْ تقدم الهجرة والنسب عَلَى السن ، أم لا ؟
وفيه اخْتِلاَف بَيْن أصحابنا وغيرهم من الفقهاء .
وقول إِسْحَاق : إنه يقدم بالهجرة ، وبعدها بالسن . وقيل : إنه ظاهر كلام أحمد - أَيْضاً .
ومما يفرع عَلَى التقديم بالسن ، أَنَّهُ : هَلْ يكره أن يؤم الرَّجُلُ أباه إذا كَانَ أقرأ مِنْهُ وأفقه ؟
فمن العلماء من كرهه ، منهم : عَطَاء ، وحكي عَن أَبِي حنيفة ، ورواية عَن
أحمد ، والمشهور الَّذِي نقله عَنْهُ أكثر أصحابه : أَنَّهُ لا يكره إذا كَانَ أقرأ مِنْهُ ، وَهُوَ قَوْلِ الثوري .
وروي عَن أَبِي أسيد الأنصاري - وَهُوَ من الصَّحَابَة - ، أَنَّهُ كَانَ يأتم بابنه ، وكذلك عَمْرِو بْن سَلَمَة الجرمي كَانَ يؤم الحي وفيهم أبوه ، وقد قدم أبو بَكْر الصديق مكة فِي خلافته فأمهم وفيهم أبو قحافة .(4/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
50 - بَاب
إذا زَارَ [ الإمَامُ ] قَوْماً فَأَمَّهُمْ
686 - حَدَّثَنَا معاذ بن أسد : ثنا عَبْد الله : أنا معمر ، عَن الزُّهْرِيّ ، قَالَ : أخبرني محمود بْن الربيع ، قَالَ : سَمِعْت عتبان بْن مَالِك الأنصاري قَالَ : استأذن عَلِيّ النَّبِيّ ( فأذنت لَهُ ، فَقَالَ : ( ( أين تحب أن أصلي من بيتك ؟ ) ) فأشرت لَهُ إلى المكان الَّذِي أحب ، فقام وصففنا خلفه ، ثُمَّ سلم فسلمنا .
قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث مطولاً ومختصراً فِي ( ( أبواب المساجد ) ) .
وإنما مقصوده مِنْهُ هاهنا : أَنَّهُ يجوز للزائر أن يؤم فِي منزل من زاره بإذنه .
وقد اختلف فِي كراهة ذَلِكَ :
فكرهه طائفة : منهم : إِسْحَاق ، واستدل بما رَوَى بديل بْن ميسرة ، عَن أَبِي عطية مَوْلَى لهم ، عَن مَالِك بْن الحويرث ، قَالَ : سَمِعْت رَسُول الله ( يقوم : ( ( من زار قوماً فلا يؤمهم ، وليؤمهم رَجُل منهم ) ) .
خرجه أبو داود والترمذي . وخرجه النسائي بمعناه ، وحسنه الترمذي .
وقد عمل بهذا الحَدِيْث مَالِك بْن الحويرث ، ولم يتقدم فِي منزل غيره مَعَ أمرهم لَهُ بالتقدم ، واستدل بما رواه .
وأبو عطية هَذَا ، قَالَ ابن المديني : لا نعرفه .
رَوَى إِسْحَاق بْن يَحْيَى بْن طلحة ، عَن المُسَيِّب بْن رافع ومعبد بْن خَالِد ، عَن عَبْد الله بْن يزيد الخطمي - وكان أميراً عَلَى الكوفة - ، فَقَالَ : أتينا قيس بْن سعد بْن عُبَادَة فِي ببيته ، فأذن بالصلاة ، فقلنا لقيس : قم فصل لنا ، فَقَالَ : لَمْ أكن لأصلي بقوم لست عليهم بأمير ، فَقَالَ رَجُل ليس بدونه - يقال لَهُ : عَبْد الله(4/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
ابن حنظلة الغسيل - : قَالَ رَسُول الله ( : ( ( الرَّجُلُ أحق أن يؤم فِي رحله ) ) .
خرجه الجوزجاني .
وخرجه الطبراني والبزار ، وعنده : ( ( فِي بيته ) ) ، وزاد : ( ( فأمر مَوْلَى لَهُ فتقدم فصلى ) ) .
وخرجه البيهقي - أَيْضاً - بمعناه .
وإسحاق هَذَا ، ضَعِيف جداً .
وقد روي هَذَا المعنى من وجوه متعددة فيها ضعف .
وروى أبو نضرة ، عَن أَبِي سَعِيد مَوْلَى أَبِي أسيد ، قَالَ : بنيت عَلَى أهلي وأنا مملوك ، فدعوت أناساً من أصْحَاب رَسُول الله عود وأبو ذر وحذيفة ، فحضرت الصلاة ، فَقُلْت : بتقدم بعضكم . فقالوا : لا ، تقدم أنت أحق فقدموني .
خرجه وكيع وابن أَبِي شيبة وغيرهما .
واستدل بِهِ بِهِ أحمد وغيره عَلَى إمامة العبد .
وروى أبو إِسْحَاق ، عَن علقمة - قَالَ : ولم أسمعه مِنْهُ - أن ابن مَسْعُود أتى أَبَا موسى فِي منزله ، فحضرت الصلاة ، فَقَالَ أبو موسى تقدم يَا أَبَا عَبْد الرحمن ؛ فإنك أقدمنا سنا وأعلم . قَالَ : بل تقدم أنت ؛ فإنما أتيناك فِي منزلك ومسجدك ، فأنت أحق فتقدم أبو موسى .
وَقَالَ أشعث ، عَن الْحَسَن : صاحب البيت أحق بالإمامة .(4/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
ورخص آخرون فِي إمامة الزائر بإذن رب البيت ، وَهُوَ قَوْلِ مَالِك وأحمد .
وهذا القول هُوَ الَّذِي بوب عَلِيهِ البخاري هاهنا ، ولكنه لَمْ يشترط الإذن .
وقد وافقه ابن عقيل من أصحابنا ، وَقَالَ : إنما يكون رب البيت وإمام المسجد أولى ممن سواه لا ممن هُوَ أقرأ مِنْهُ أو أفقه .
وظاهر هَذَا : أَنَّهُ يقدم الأقرأ والأفقه مطلقاً ، عَلَى إمام المسجد ورب البيت ، بإذنه وغيره .
وقد روي عَن حميد بْن عَبْد الرحمن مَا يدل عَلَى ذَلِكَ - أَيْضاً - ، وسيأتي فيما بعد - إن شاء الله تعالى .
وأكثر العلماء عَلَى أَنَّهُ إنما يقدم عَلَى رب البيت وإمام المسجد بإذنه ، وإنما يعتبرر الإذن فِي حق غير النَّبِيّ ( .
وقد ذكر أبو بَكْر الأثرم فِي كتابه ( ( الناسخ والمنسوخ ) ) أن النَّبِيّ ( كَانَ يصلي بالقوم إذا زارهم من غير استئذان ؛ لأنه كَانَ إمام النَّاس كلهم حيث مَا كَانَ ، وليس هَذَا لغيره . قَالَ : والنهي عَن إمامة الزائر يحمل فِي حق أمته عَلَى إمامتهم بغير إذنهم .
وفي ( ( صحيح مُسْلِم ) ) عَن أَبِي مَسْعُود ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( لا يؤمن الرَّجُلُ الرَّجُلُ فِي سلطانه ، ولا بقعد فِي بيته عَلَى تكرمته إلا بإذنه ) ) .
قَالَ الإمام أحمد : أرجو أن يكون الاستثناء عَلَى كله ، وأما التكرمة فلا بأس بِهِ إذا أذن .
يعني : أن الاستثناء يعود إلى الجلوس عَلَى التكرمة قطعاً من غير شك ، ويرجى عوده إلى الإمامة فِي سلطانه - أَيْضاً - ، فيكون مرخصاً فيها بإذنه .(4/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
وفسر سُفْيَان وأحمد السلطان فِي هَذَا الحَدِيْث بداره .
ونقل حرب عَن أحمد ، قَالَ : إذا كَانَ الرَّجُلُ فِي قريته وداره فهو فِي سلطانه ، لا ينبغي لأحد أن يتقدمه إلا بإذنه .
وفي رِوَايَة لمسلم فِي حَدِيْث أَبِي مَسْعُود ، عَن النَّبِيّ ( : ( ( ولا يؤمن الرَّجُلُ فِي أهله ولا فِي سلطانه ) ) .
وعلى هذه الرواية ، فالمراد بأهله : بيته ، وبسلطانه : مَا يتصرف فِيهِ بأمره ونهيه ، كأمير البلد .
وخرجه أبو داود ، ولفظه : ( ( ولا يؤمن الرَّجُلُ فِي بيته ، ولا فِي سلطانه ) ) .
ولو اجتمع السلطان العام والسلطان الخاص ، مثل أن يجتمع فِي بيت رَجُل رب البيت وسلطان المصر ، أو فِي مسجد إمام المسجد والسلطان ، فهل يقدم السلطان عَلَيْهِمَا ، أم يقدمان عَلِيهِ ، أم يقدم عَلَى إمام المسجد دون صاحب البيت ؛ لأن إمام المسجد إنما يقدم بتقديم السلطان لَهُ غالباً ؟ فِيهِ ثَلاَثَة أوجه لأصحابنا .
وظاهر مَا تقدم عَن قيس بْن سعد يقتضي أن رب البيت أولى من السلطان وإمام المسجد ، كرب البيت فيما ذكرنا .
وروى الشَّافِعِيّ : أنا عَبْد المجيد ، عَن ابن جُرَيْج ، قَالَ : أخبرني نَافِع ، قَالَ : أقيمت الصلاة فِي مسجد بطائفة المدينة ، ولابن عُمَر قريب من ذَلِكَ المسجد أرض يعملها ، وإمام ذَلِكَ المسجد مولى لَهُ ، ومسكن ذَلِكَ المَوْلَى وأصحابه ثُمَّ ، فلما سمعهم عَبْد الله جَاءَ ليشهد معهم الصلاة ، فَقَالَ لَهُ المولى صاحب المسجد : تقدم فصل . فَقَالَ عَبْد الله : أنت أحق أن تصلي فِي مسجدك(4/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
مني ، فصلى المولى .
قُلتُ : لعل هَذَا المولى كَانَ عتيقاً لابن عُمَر ، وأما لَوْ كَانَ رقيقاً لَهُ ففي كونه أولى بالإمامة نظر .
وقد قَالَ أصحابنا : السيد فِي منْزل عبده أولى مِنْهُ بالإمامة ؛ لأنه يملكه ويملك منْزله .
وهذا قَدْ يبنى عَلَى أن العبد : هَلْ يملك ماله ، أم هُوَ ملك للسيد ؟ وفيه خلاف مشهور . والله أعلم .
وروى أبو قيس ، عَن هزيل بْن شرحبيل ، قَالَ : جَاءَ ابن مَسْعُود إلى مسجدنا ، فأقيمت الصلاة ، فقلنا لَهُ : تقدم . فَقَالَ : يتقدم إمامكم . فقلنا : إن إمامه ليس هاهنا . قَالَ : يتقدم رَجُل منكم .
خرجه البيهقي .
وهذا مِمَّا يشهد لَهُ مَا تقدم عَن أحمد ، أن الرَّجُلُ إذا كَانَ فِي قريته فهو فِي سلطانه ، فلا يتقدم عَلِيهِ .
وروى حرب بإسناده ، عَن الْحَسَن ، أَنَّهُ دَخَلَ مسجداً ، فَقَالَ لَهُ إمامه : تقدم يَا أَبَا سَعِيد ، قَالَ : الإمام أحق بالإمامة .
وروي عَن حميد بْن عَبْد الرحمن ، أَنَّهُ تقدم فِي بعض البوادي عَلَى إمامهم بغير إذن ، وكره إمامه الأعرابي ، وسيأتي فيما بعد - إن شاء الله تعالى .(4/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
51 - بَابُ
إنَّماَ جُعلَ الإمَامُ ليُوْتَمَّ بِهِ
وصلى النَّبِيّ ( فِي مرضه الَّذِي توفى فِيه بالناس وَهُوَ جالس .
وَقَالَ ابن مَسْعُود : إذا رفع قَبْلَ الإمام يعود فيمكث بقدر مَا رفع ، ثُمَّ يتبع الإمام .
وَقَالَ الْحَسَن - فيمن يركع مَعَ الإمام ركعتين ولا يقدر عَلَى السجود - : يسجد للركعة الأخيرة سجدتين ، ثُمَّ يقضي الركعة الأولى بسجودها . وفيمن نسي سجدة حَتَّى قام : يسجد .
المقصود بهذا الباب : أن الإمام يتبع فِي جميع أفعاله ، وإن فات من متابعته شيء ، فإنه يقضيه المأموم ثُمَّ يتبعه ، وإنما يتم هَذَا بأن يصلوا وراءه جلوساً إذا صلى جالساً .
وهذا المعنى هُوَ الَّذِي قَالَ النَّبِيّ ( لأجله : ( ( إنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ ) ) ، والبخاري يدعي نسخه ، كما ذكره فِي آخر الباب ، فعلى قوله يفوت كمال المتابعة والائتمام بِهِ .
وما علقه من صلاة النَّبِيّ ( جالساً فِي مرضه قَدْ خرجه فِي الباب بإسناده .
وأما مَا حكاه عَن ابن مَسْعُود ، فمضمونه : أن من رفع رأسه قَبْلَ الإمام فإنه يعود إلى الركوع والسجود الَّذِي رفع مِنْهُ ، فيمكث بقدر مَا رفع قبله ليتم متابعته ، ويكون ركوعه وسجوده بقدر ركوع الإمام وسجوده .
وهكذا قَالَ عُمَر بْن الخَطَّاب ، قَالَ : إذا رفع أحدكم رأسه من ركعته أو سجدته قَبْلَ الإمام ، فليعد حَتَّى يرى قَدْ أدرك مَا فاته .(4/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
خرجه حرب الكرماني والإسماعيلي فِي ( ( مسند عُمَر ) ) من طريق أَيْنَ إِسْحَاق ، عَن يعقوب بْن عَبْد الله بْن الأشج ، عَن بسر بْن سَعِيد ، عَن الحارث بْن مخلد ، عَن أَبِيه مخلد ، قَالَ : سَمِعْت عُمَر - فذكره .
وخرجه الحافظ أبو موسى المديني من طريق حماد بْن مسعدة ، عَن ابن أَبِي ذئب ، عَن يعقوب بْن الأشج ، بِهِ ، إلا أَنَّهُ رفعه إلى النَّبِيّ ( .
ورفعه فِيهِ نكارة .
وقد اعتبر النَّبِيّ ( هَذَا القدر من المتابعة للأمام ، كما خرجه مُسْلِم من حَدِيْث أَبِي موسى الأشعري ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ، وليؤمكم أحدكم ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا قَالَ : ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (
[ الفاتجة : 7 ] فقولوا : آمين ، يجبكم الله ، فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا ، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم ) ) . فَقَالَ النَّبِيّ ( : ( ( فتلك بتلك ، وإذا قَالَ : سَمِعَ الله لمن حمده ، فقالوا : اللهم ربنا لَكَ الحمد ، يسمع الله لكم ؛ فإن الله تعالى قَالَ عَلَى لسان نبيه ( : سَمِعَ الله لمن حمده ، فإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا ؛ فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع ) ) ؛ قَالَ رَسُول الله ( : ( ( فتلك بتلك ) ) - وذكر بقية الحَدِيْث .
ومعنى قوله ( : ( ( فتلك بتلك ) ) : أن مَا سبقكم من ركوعه قبلكم وسجوده قبلكم تدركونه بتأخركم بالرفع بعده من الركوع والسجود ، فتساوونه فِي قدر ركوعه وسجوده بذلك .
وروى أبو داود وابن ماجه من حَدِيْث ابن مَسْعُود ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( لا تبادروني بالركوع ولا بالسجود ، فمهما أسبقكم بِهِ إذا ركعت تدركوني إذا(4/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
رفعت ، ومهما أسبقكم بِهِ إذا سجدت تدركوني بِهِ إذا رفعت ؛ إني قَدْ بدنت ) ) .
وخرج الإمام أحمد من حَدِيْث ابن مسعدة صاحب الجيوش ، قَالَ : سَمِعْت رَسُول الله ( يَقُول : ( ( إني قَدْ بدنت ، فمن فاته ركوعي أدركه فِي بطء قيامي ) ) .
فلهذا المعنى قَالَ ابن مَسْعُود : فمن رفع قَبْلَ الإمام يعود فيمكث بقدر مَا رفع ثُمَّ يتبع الإمام .
وفيه معنى آخر ، وَهُوَ : أَنَّهُ إذا فعل ذَلِكَ فَقَدْ تخلص من محذور رفعه قَبْلَ الإمام ، وَهُوَ منهي عَنْهُ .
وقد روي مثل قَوْلِ ابن مَسْعُود عَن عُمَر وابنه ، وعن كثير من التابعين ومن بعدهم من العلماء ، وَهُوَ قَوْلِ الفقهاء المشهورين كأبي حنيفة ومالك والثوري والشافعي وأحمد .
وأوجب أصحابنا عَلَى السابق أن يرفع ليتبع الإمام ، مَا دام الإمام لَمْ يرفع بعد .
فإن رفع الإمام ، فقالوا : يسحب لَهُ أن يعوض عَن ذَلِكَ بالتطويل فِي السجدة الثانية ، وحملوا عَلِيهِ مَا روي عَن ابن عُمَر ، قَالَ : من رفع رأسه فِي السجدة الأولى قَبْلَ الإمام فليطول فِي الثانية .
وعن ابن مَسْعُود ، قَالَ : ليصنع فِي الثانية بعد الإمام بقدر مَا كَانَ رفع فِي الأولى .
خرجهما سَعِيد بْن منصور فِي ( ( سننه ) ) .
ولم يفرق أكثرهم بَيْن أن يرفع قبله عمداً أو سهواً ، وهذا عَلَى أصل الحنفية ظاهر ؛ لأنهم يرون أن لا تبطل الصلاة بزيادة ركوع أو سجود عمداً ، وأما(4/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
أصْحَاب الشَّافِعِيّ وأحمد فعندهم تبطل الصلاة بذلك عمداً .
وَقَالَ بعض متأخريهم : إنه إن رفع قَبْلَ الإمام عمداً لَمْ يعد إلى متابعته فيما رفع عَنْهُ من ركوع أو سجود ؛ لأنه يكون قَدْ تعمد زيادة ركن عمداً فتبطل صلاته بذلك .
والصحيح : مَا أطلقه الأئمة وأكثر أصحابهم ؛ فإن عوده إلى المتابعة قطع لما فعله من القيام والقعود الَّذِي سبق بِهِ الإمام ، وعود إلى متابعة الإمام ، وليس عوده إتماماً للركوع ولا للسجود الَّذِي سبق بِهِ ، بل هُوَ إبطال لَهُ ، فلا يصير بذلك متعمداً لزيادة ركن تام .
وبكل حال ؛ فإذا تعمد المأموم سبق إمامه ففي بطلان صلاته بذلك وجهان لأصحابنا .
وقيل : إن البطلان ظاهر كلام أحمد ، وروي عَن ابن عُمَر ، وأكثر العلماء عَلَى أنها لا تبطل ، ويعتد لَهُ بِهَا إذا اجتمع مَعَ إمامه فيما بعد .
ولو كَانَ سبق الإمام سهواً حَتَّى أدركه إمامه اعتد لَهُ بذلك عِنْدَ أصحابنا وغيرهم ، خلافاً لزفر .
وقد بسطت القول عَلَى ذَلِكَ فِي ( ( كِتَاب القواعد فِي الفقه ) ) . والله أعلم .
وأما مَا حكاه البخاري عَن الْحَسَن ، فإنه يتضمن مسألتين :
إحداهما :
إذا صلى مَعَ الإمام ركعتين ، وقدر عَلَى الركوع فيهما مَعَهُ دون السجود فإنه عجز عَنْهُ ، فإنه إذا قعد الإمام للتشهد سجد سجدتين ، فكملت لَهُ الركعة الثانية ، وأعاد الركعة الأولى الَّتِيْ عجز عَن سجدتيها .
وهذا يدل عَلَى أن المأموم إذا تخلف عَن متابعة الإمام فِي سجدتين من ركعة ، فَقَدْ فات المأموم تلك الركعة ؛ فلهذا لَمْ يعتد بالركعة الأولى ، وإنما(4/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
يعتد بالثانية ؛ لأنه قدر عَلَى قضاء السجدتين ، وإدراك الإمام قَبْلَ سلامه ، فهو كما لَوْ أدركهما مَعَهُ .
وفي هَذَا نظر ؛ فإنه كَانَ ينبغي أن يأتي بالسجدتين فِي قيام الإمام إلى الثانية ، ثُمَّ يلحقه كما يأتي بهما فِي حال تشهده فِي الثانية ، ولا فرق بَيْنَهُمَا .
وقد يحمل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يتمكن من السجدتين إلا فِي التشهد ، ولم يتمكن فِي حال قيام الإمام فِي الثانية .
وعن أحمد فيما إذا تخلف عَن الإمام حَتَّى فاته مَعَهُ سجدتان - روايتان :
إحداهما : أَنَّهُ تلغى ركعته ، كما قَالَ الْحَسَن ، ولكن لا فرق عنده بَيْن الركعة الأولى والثانية .
والرواية الثانية : إن خاف فوات الركعة الثانية بتشاغله بقضاء السجدتين فكذلك ، وإن لَمْ يخف قضى السجدتين إذا قام الإمام فِي الثانية ثُمَّ لحقه فيها .
واختلف الأصحاب فِي ذَلِكَ : فمنهم من قَالَ : هاتان الروايتان جاريتان فِي جميع صور التخلف عَن متابعة الإمام بركنين ، سواء كَانَ لسهو أو نوم أو زحام .
ومنهم من قَالَ : إنما نَصَّ أحمد فِي الساهي والنائم عَلَى أن ركعته تلغى ، ونص فِي المزحوم عَلَى أَنَّهُ يقضي ثُمَّ يلحق الإمام ، فيقر النصان عَلَى مَا نَصَّ عَلِيهِ من غير نقل ولا تخريج ، ويفرق بَيْن المزحوم وغيره ، بأن غير المزحوم مفرط ومقصر فتلغى ركعته ، بخلاف المزحوم فإنه معذور فيأتي بما فاته ويلحق إمامه .
وروى حرب بإسناده ، عن الأوزاعي فِي رَجُل صلى مَعَ الإمام ركعة ، فلما كَانَ فِي الثانية ركع الإمام وسجد سجدتيه ، ثُمَّ قام فِي الثالثة والرجل قائم ؟ قَالَ : إن أدركه فِي سجدتيه ركع وسجد معهم ، وإن كَانَ قَدْ نهض فِي الثالثة اتبعه فيما(4/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
بقي من صلاته ، ثُمَّ يقضي تلك الركعة الَّتِيْ نام عَنْهَا أو غفل .
وعن الزُّهْرِيّ ، فِي الرَّجُلُ يصلي مَعَ الإمام ، فينام حَتَّى يفرغ الإمام من الركعة والسجدتين ؟ قَالَ : يصلي مَا تركه بهد أن يسلم ، ويسجد سجدتي السهو .
وبإسناده ، عَن هِشَام ، عَن الْحَسَن ، فِي رَجُل كَانَ مَعَ القوم ، فنام أو سها ، فركعوا أو سجدوا ؟ قَالَ : يتبعهم بالركوع والسجود ، وليس عَلِيهِ غيره .
وهذا يدل عَلَى أن كلام الْحَسَن الَّذِي حكاه البخاري إنما أراد بِهِ أَنَّهُ عجز عَن قضاء السجدتين قَبْلَ تشهد الإمام . والله أعلم .
ويدل عَلِيهِ - أَيْضاً - : مَا خرجه عَبْد الرزاق فِي ( ( كتابه ) ) ، عَن معمر ، عَن رَجُل ، عَن الْحَسَن ، فِي رَجُل دَخَلَ مَعَ قوم فِي صلاتهم ، فنعس حَتَّى ركع الإمام وسجد ؟ قَالَ : يتبع الإمام .
وعن ابن جُرَيْج ، عَن عَطَاء ، قَالَ : قُلتُ لَهُ : لَوْ كبرت مَعَ الإمام لاستفتاح الصلاة ، ثُمَّ ركع فسهوت ، فَلَمْ أركع حَتَّى رفع ؟ قَالَ : قَدْ أدركتها فاعتد بِهَا .
قُلتُ لعطاء : فنعست ، فَلَمْ أزل قائماً حَتَّى رفع النَّاس وسجدوا ، فجبذني إنسان ، فجلست كما أنا ؟ قَالَ : فأوف تلك الركعة - يعني : تقضيها .
وَقَالَ عَبْد الرزاق : عَن الثوري ، فِي رَجُل كبر مَعَ الإمام فِي أول الصلاة ، ثُمَّ نعس حتة صلى الإمام ركعة أو ركعتين ؟ قَالَ : إذا استيقظ ركع وسجد مَا سبقه ، ثُمَّ يتبع الإمام بما بقي ، فهو يركع ويسجد بغير قراءة .
وهذا قَوْلِ غريب .
وقد تقدم عَن الأوزاعي ، أَنَّهُ يتبعه ، ويأتي بما فاته مَا لَمْ ينهض الإمام إلى(4/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
الركعة الَّتِيْ بعدها .
وَقَالَ مَالِك : إن أدركهم فِي أول سجودهم سجد معهم واعتد بِهَا ، وإن علم أَنَّهُ لا يقدر عَلَى الركوع وأن يدركهم فِي السجود حَتَّى يقوموا فِي الثانية تبعهم فيما بقي ، وقضى الركعة بعد السلام ، وسجد للسهو .
ومذهب الشَّافِعِيّ : أَنَّهُ يسجد ويتبعه مَا لَمْ يركع الإمام الركعة الثانية ؛ فإن ركع لغت ركعته ، ثُمَّ قضاها بعد سلام الإمام .
ومذهب الإمام أحمد : إذا فاته مَعَ الإمام أكثر من ركنين لغت ركعته ، ويقضيها بعد سلام الإمام كالمسبوق .
وعن الإمام أحمد رِوَايَة : أَنَّهُ إذا نام حَتَّى فاته ركعتان بطلت صلاته .
وهذا محمول عَلَى أَنَّهُ كَانَ نوماً طويلاً ، فانتقضت طهارته ، فيعيد الوضوء والصلاة .
وحكي عَنْهُ رِوَايَة أخرى : إذا نام حَتَّى رفع الإمام من الركوع تبطل صلاته .
وهي محمولة - أَيْضاً - عَلَى أَنَّهُ نام مدة قيام الأول وركوعه ورفعه ، فهو نوم طويل ناقض للطهارة . والله أعلم .
المسألة الثانية :
أن من نسي سجدة حَتَّى قام الإمام سجد ، ثُمَّ تابعه .
وهذا قَوْلِ جمهور العلماء .
ومن أصحابنا من قَالَ : لا نعلم فِيهِ خلافاً ؛ لأنه تخلف يسير لعذر ، وتعم بِهِ البلوى كثيراً فِي حق من صلى خلف من لا يطيل المكث فِي ركوعه وسجوده .
وهذا مطرد فِي كل من فاته مَعَ الإمام ركن واحد لعذر من زحام أو نوم أو نسيان .(4/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
ولا فرق بَيْن ركن وركن فِي ذَلِكَ عِنْدَ كثير من العلماء من أصحابنا وغيرهم .
ومن أصحابنا من فرق بَيْن الركوع وغيره ، فَقَالَ : إن فاته الركوع وحده حَتَّى رفع الإمام فحكمه حكم التخلف عَن الإمام بركنين ، كما سبق ، فإما أن تفوته الركعة ويقضيها ، أو أن يركع ثُمَّ يتابع إمامه ، عَلَى مَا سبق .
وحكي رِوَايَة عَن أحمد ، أَنَّهُ تبطل صلاته ، قَدْ سبق ذكرها وتأويلها .
وفرق هؤلاء بَيْن الركوع وغيره بأن الركوع عماد الركعة ، وبه تلحق تفوت بفوته ، فألحق بالركنين فِي التخلف بِهِ عَن الإمام ، وهذه طريقة ابن أَبِي موسى وغيره .
ومن سوى بَيْن الركوع وغيره فرق بَيْن هَذَا وبين المسبوق ، بأن المسبوق قَدْ فاته مَعَ الإمام معظم الركعة ، وَهُوَ القيام والقراءة والركوع ، وليس هَذَا كذلك .
وقد سبق عَن عَطَاء مَا يدل عَلَى أَنَّهُ يركع بعد إمامه ويعتد لَهُ بتلك الركعة .
والله ( أعلم .
خرج البخاري فِي هَذَا الباب ثَلاَثَة أحاديث :
الحَدِيْث الأول :
687 - حَدَّثَنَا أحمد بْن يونس : ثنا زائدة ، عَن موسى بْن أَبِي عَائِشَة ، عَن
عُبَيْدِ الله بْن عَبْد الله ، قَالَ : دخلت عَلَى عَائِشَة ، فَقُلْت : ألا تحدثني عَن مرض
رَسُول الله ( ؟ قَالَتْ : بلى ؛ ثقل النَّبِيّ ( ، فَقَالَ : ( ( أصلى النَّاس ؟ ) ) . فقلنا : لا ، يَا رَسُول الله ، وهم ينتظرونك ، فَقَالَ : ( ( ضعوا لِي ماء فِي المخضب ) ) . قَالَتْ : ففعلنا ، فاغتسل ، فذهب لينوء فأغمي عَلِيهِ ثُمَّ أفاق ، فَقَالَ : ( ( أصلى النَّاس ؟ ) ) قلنا : لا ، وهم ينتظرونك يَا رَسُول الله عكوف فِي المسجد ينتظرون رَسُول الله ( لصلاة لعشاء الآخرة ، فأرسل النَّبِيّ ( إلى أَبِي بَكْر بأن يصلي(4/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
بالناس ، فأتاه الرسول ، فَقَالَ : إن رَسُول الله ( يأمرك أن تصلي بالناس فَقَالَ أبو بَكْر - وكان رجلاً رقيقاً - يَا عُمَر ، صل بالناس . فقالَ لهُ عُمَر : أنت أحق بذلك ، فصلى أبو بَكْر تلك الأيام ، ثُمَّ إن النَّبِيّ ( وجد من نفسه خفة ، فخرج بَيْن رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر ، وأبو بكر يصلي بالناس فلما رأه أبو بكر ذهب ليتأخر ، فأوما إليه النَّبِيّ ( بأن لا يتأخر . قَالَ : ( ( أجلساني إلى جنبه ) ) ، فاجلساه إلى جنب أَبِي بَكْر . قَالَ : فجعل أبو بَكْر يصلي وَهُوَ يأتم بصلاة رَسُول الله ( والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر والنبي ( قاعد .
قَالَ عُبَيْدِ الله : فدخلت عَلَى عَبْد الله بْن عَبَّاس ، فَقُلْت : ألا أعرض عَلَيْك مَا حَدَّثَتني عَائِشَة عَن مرض رَسُول الله ( ؟ قَالَ : هات ، فعرضت عَلِيهِ حديثها ، فما أنكر مِنْهُ شيئاً ، غير أَنَّهُ قَالَ : أسمت لَكَ الرَّجُلُ الآخر الَّذِي كَانَ مَعَ العباس ؟ قُلتُ : لا ، قَالَ : هُوَ عَلِيّ .
هَذَا السياق من أتم مَا روي عَن عَائِشَة فِي هَذَا الباب ، وقد تفرد بِهِ موسى ابن أَبِي عَائِشَة عَن عُبَيْدِ الله ، وقد سبق مَا قاله أبو حاتم الرَّازِي فِي حديثه هَذَا ، وانه مِمَّا يرتاب بِهِ ، ولعل فِيهِ ألفاظاً مدرجة .
والظاهر : أن مَا ذكره فِي آخره : ( ( فجعل أبو بَكْر يصلي ) ) مدرج من قَوْلِ بعض الرواة ، فلهذا قَالَ فِيهِ : : ( ( قَالَ ) ) ، ولم يقل : ( ( قَالَتْ ) ) ، فالظاهر أن عَائِشَة لَمْ تقل ذَلِكَ ، إنما قاله عُبَيْدِ الله أو غيره كما تقدم ذَلِكَ من قَوْلِ عُرْوَةَ ، زاده فِي حديثه عَن عائشة .
وقوله : ( ( ذهب لينوء ) ) - أي : ينهض بثقل ، من قولهم : نؤت بالحمل أنوء بِهِ إذا نهضت بِهِ .(4/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
وفي هَذَا الحَدِيْث من العلم مسائل كثيرة :
مِنْهَا : أن الإمام إذا كَانَ قريباً من المسجد وعرف عذره المانع لَهُ من الخروج إلى الصلاة ، فإنه ينتظر خروجه .
ومنها : أن المغمى عَلِيهِ إذا أفاق فإنه يستحب لَهُ أن يغتسل ، وقد سبقت المسألة فِي ( ( الطهارة ) ) .
ومنها : أن المأمور بالصلاة بالناس لَهُ أن يأذن لغيره فِي الصلاة بهم ؛ فإن أبا بَكْر أذن لعمر .
ويؤخذ من هَذَا : أن الوكيل لَهُ أن يوكل فيما وكل فِيهِ من غير إذن لَهُ فِي التوكيل ، كما هُوَ أحد قولي العلماء ، وإحدى الروايتين عَن أحمد .
ومنها : جواز وقوف المأموم إلى جانب الإمام ، وإن كَانَ وراءه صفوف ، وقد سبق الكلام عَلَى ذَلِكَ .
ومنها - وَهُوَ مقصود البخاري هاهنا - : أن النَّبِيّ ( كَانَ هُوَ الإمام فِي هذه الصلاة ، وكان أبو بَكْر مؤتماً بِهِ ، وكان النَّبِيّ ( جالساً فِي هذه الصلاة ، وكان أبو بَكْر إلى جانبه قائماً ، والناس وراءه قياماً ، ولم يأمره بالجلوس ، وهذه الصلاة كَانَتْ فِي آخر حَيَاة النَّبِيّ ( ، فدل ذَلِكَ عَلَى نسخ أمره بالجلوس وراء الإمام إذا صلى جالساً ؛ لأن ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ هَذَا بغير شك .
وقد ذكره البخاري فِي آخر الباب عَن أَبِي بَكْر الحميدي ، والحميدي أخذه عَن الشَّافِعِيّ ، وسيأتي الكلام عَلَى ذَلِكَ بعد ذكر باقي أحاديث الباب - إن شاء الله تعالى .
الحَدِيْث الثاني :
688 - حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف : أنا مَالِك ، عَن هِشَام بْن عُرْوَةَ ، عَن أَبِيه ، عَن عَائِشَة أم المُؤْمِنيِن ، أنها قَالَتْ : صلى رَسُول الله ( فِي بيته وَهُوَ شاك ، فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً ، فأشار إليهم أن جلسوا ، فلما انصرف قَالَ : ( ( إنما(4/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
جعل الإمام ليؤتم بِهِ ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً ) ) .
الحَدِيْث الثالث :
689 - حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف : أنا مَالِك ، عَن ابن شِهَاب ، عَن أنس بْن مَالِك ، أن رَسُول الله ( ركب فرساً فصرع عَنْهُ ، فجحش شقة الأيمن ، فصلى صلاة من الصلوات وَهُوَ قاعد ، فصلينا وراءه قعوداً ، فلما انصرف قَالَ : ( ( إنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ ، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً ، وإذاي ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا قَالَ : سَمِعَ الله لمنحمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد ، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون ) ) .
قَالَ الحميدي : هَذَا منسوخ ، قوله : ( ( إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً ) ) ، هَذَا هُوَ فِي مرضه القديم ، ثُمَّ صلى بعد ذَلِكَ جالساً والناس خلفه قياماً .
قَالَ أبو عَبْد الله : ولم يأمرهم بالقعود ، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النَّبِيّ ( ؛ لأن النَّبِيّ ( صلى فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ جالساً والناس خلفه قيام .
وقد خرج البخاري فيما تقدم من حَدِيْث أَبِي الزناد ، عَن الأعرج ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( إنما الإمام ليؤتم بِهِ ، فإذا كبر فكبروا ) ) - فذكر مثل حَدِيْث أنس إلى قوله : ( ( أجمعون ) ) .
وخرجه فيما بعد من حَدِيْث همام بْن منبه ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( .(4/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
وقد اختلف العلماء فِي صلاة القادر عَلَى القيام خلف الجالس :
فَقَالَتْ طائفة : لا يجوز ذَلِكَ بالكلية ، هَذَا قَوْلِ مُحَمَّد بن الْحَسَن والحسن ابن حي ومالك - فِي ظاهر مذهبه - والثوري - فِي رواية عَنْهُ .
وتعلق بعضهم بحديث مرسل ، رواه جابر الجعفي ، عَن الشَّعْبِيّ ، أن النَّبِيّ ( قَالَ : ( ( لا يؤمن أحد بعدي جالساً ) ) .
وجابر ، لا يحتج بما يسنده ، فكيف بما يرسله ؟ وقد طعن فِي حدثيه هَذَا الشَّافِعِيّ وابن أَبِي شيبة والجوزجاني وابن حبان وغيرهم .
وروى سيف بن عُمَر الضبي : ثنا سَعِيد بن عَبْد الله الجمحي ، عَن أَبِيه ، عَن مُحَمَّد بن مسَلَمَة ، قَالَ : دخلت عَلَى رَسُول الله ( فِي شكوى اشتكاه ، وحضرت الصلاة ، فصلى بنا جالساً ونحن قيام ، فلما انصرف قَالَ : ( ( إذا صلى إمامكم جالساً فصلوا جلوساً ) ) ، وكنا نفعل ذَلِكَ حَتَّى حج حجته ، فنهى فيها أن يؤم أحد قوماً وَهُوَ جالس .
خرجه القاضي مُحَمَّد بن بدر فِي ( ( كِتَاب المناهي ) ) .
وَهُوَ حَدِيْث باطل ، وسيف هَذَا مشهور بالكذب .
وقالت طائفة : يجوز أن يصلي القادر عَلَى القيام خلف الإمام الجالس العاجز عَن القيام بكل حال ، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة وأبي يوسف وزفر وابن المبارك والثوري ومالك
- وفي رِوَايَة عنهما - والأوزاعي والشافعي وغيرهما .
واختلف الرواية عَن الإمام أحمد فِي ذَلِكَ ، فالمشهور عَنْهُ : أَنَّهُ لا يجوز أن يأتم القادر عَلَى القيام بالعاجز عَنْهُ ، إلا أن يكون العاجز إمام الحي ، ويكون جلوسه لمرض يرجى برؤه ، ويأتمون بِهِ جلوساً ، كما سيأتي - إن شاء الله .
ونقل عَنْهُ الميموني ، أَنَّهُ لا يجوز ذَلِكَ إلا خلف الإمام الأعظم خاصة ، إذا(4/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
كَانَ مرضه يرجى برؤه .
وروي عَنْهُ مَا يدل عَلَى جواز الائتمام بالجالس مطلقاً ، لكن إن كَانَ إمام الحي ورجي زوال علته صلّوا وراءه جلوساً ، وإن كَانَ غير ذَلِكَ صلوا وراءه قياماً .
واختلف القائلون بجواز اقتداء القادر عَلَى القيام بالجالس : هَلْ يصلي وراءه جالساً ، أو قائماً ؟
فَقَالَتْ طائفة : يصلي وراءه قائماً ، هَذَا قَوْلِ المغيرة وحماد وأبي حنيفة والثوري وابن المبارك ومالك والشافعي وأبي ثور .
واعتمدوا عَلَى أقيسة أو عمومات ، مثل قوله : ( ( صل قائماً ، فإن لَمْ تستطع فقاعداً ) ) .
وتبعهم عَلَى ذَلِكَ طائفة من المحديثن كالحميدي والبخاري ، وادعوا نسخ أحاديث الأمر بالجلوس لصلاة النَّبِيّ ( فِي مرض موته قاعداً والناس خلفه قياماً ، ولم يأمرهم بالجلوس كما قرره البخاري ، وحكاه عَن الحميدي .
وَقَالَ آخرون : بل يصلي القادر عَلَى القيام خلف الإمام الجالس جالساً ، هَذَا هُوَ المروي عَن الصَّحَابَة ، ولا يعرف عنهم اختلاف فِي ذَلِكَ .
وممن روي عَنْهُ ذَلِكَ من الصَّحَابَة : أسيد بن حضير وقيس بن فهد وجابر بن
عَبْد الله وأبو هُرَيْرَةَ ومحمود بن لبيد .
ولا يعرف عَن صحابي خلاف ذَلِكَ ، بل كانوا يفعلون ذَلِكَ فِي مساجدهم ظاهراً ، ولم ينكر عليهم عملهم صحابي ولا تابعي .
رَوَى سُلَيْمَان بن بلال ، عَن يَحْيَى بن سَعِيد ، عَن بشير بن يسار ، أن أسيد ابن الحضير كَانَ يؤم قومه بني عَبْد الأشهل فِي مسجدهم ، ثُمَّ اشتكى ، فخرج(4/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
إليهم بعد شكوه ، فأمروه أن يتقدم فيصلي بهم ، فَقَالَ : إني لا استطيع أن أقوم . قالوا : لا يصلي لنا أحد غيرك مَا كُنْتُ فينا . فَقَالَ : إني لا أستطيع أن أصلي قائماً فاقعدوا ، فصلى قاعداً وصلوا وراءه قعوداً .
خرجه الأثرم وغيره .
وهذا إسناد صحيح .
وروى هِشَام بن عُرْوَةَ ، عَن كثير بن السائب ، عَن محمود بن لبيد ، قَالَ : كَانَ أسيد بن حضير قَدْ اشتكى عرق النسا ، وكان لنا إماماً ، فكان يخرج إلينا فيشير إلينا بيده أن اجلسوا ، فنجلس فيصلي بنا جالساً ونحن جلوس .
خرجه الدارقطني .
وروى قيس بن أَبِي حَازِم ، عَن قيس بن فهد ، أن إماماً لهم اشتكى أياماً .
قَالَ : فصلينا بصلاته جلوساً .
خرجه أبو الْقَاسِم البغوي وذكره البخاري فِي ( ( تاريخه ) ) .
وروى يَحْيَى بن سَعِيد ، عَن أَبِي الزُّبَيْر ، عَن جابر ، أَنَّهُ فعل ذَلِكَ مَعَ أصحابه .
وروى وكيع ، عَن إِسْمَاعِيل بن أَبِي خَالِد ، عَن قيس بن أَبِي حَازِم ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : الإمام أمير ، فإن صلى قائماً فصلوا قياماً ، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً .(4/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
قَالَ الإمام أحمد : فعله أربعة من الصَّحَابَة : أسيد بن حضير وقيس بن قهد ، وجابر ، وأبو هُرَيْرَةَ . قَالَ : ويروى عَن خمسة ، عَن النَّبِيّ ( : ( ( إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً ) ) ، ولا أعلم شيئاً يدفعه .
وهذا من علمه وورعه - ( - ، فإنه إنما دفع ذَلِكَ بالنسخ وهي دعوى مردودة ، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى .
وكان الإمام أحمد يتورع عَن إطلاق النسخ ؛ لأن إبطال الأحكام الثابتة بمجرد الاحتمالات مَعَ إمكان الجمع بينها وبين مَا يدعى معرضها غير جائز ، وإذا أمكن الجمع بينها والعمل بِهَا كلها وجب ذَلِكَ ، ولم يجز دعوى النسخ مَعَهُ ، وهذه قاعدة مطردة .
وهي : أنا إذا وجدنا حديثاً صحيحاً صريحاً فِي حكم من الأحكام ، فإنه لا يرد باستنباط من نَصَّ آخر لَمْ يسق لذلك المعنى بالكلية ، فلا ترد أحاديث تحريم صيد المدينة بما يستنبط من حَدِيْث النغير ، ولا أحاديث توقيت صلاة العصر الصريحة بحديث :
( ( مثلكم فيما خلا قبلكم من الأمم كمثل رَجُل استأجر أجراء ) ) - الحَدِيْث ، ولا أحاديث : ( ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) ) بقوله : ( ( فيما سقت السماء العشر ) ) .
وقد ذكر الشَّافِعِيّ أن هَذَا لَمْ يسق لبيان قدر مَا يجب مِنْهُ الزَّكَاةِ ، بل لبيان قدر الزَّكَاةِ ، وما أشبه هَذَا .
وممن ذهب إلى أن المأموم يصلي جالساً خلف الإمام الجالس بكل حال من العلماء : الأوزاعي وحماد بن زيد وأحمد وأسحاق وأبو خيثمة زهير بن حرب وسليمان بن داود الهاشمي وأبو بَكْر بن أَبِي شيبة وأبو إسحاق الجوزجاني وابن المنذر وابن خزيمة وابن حبان ، ونقله إجماعاً قديماً من السلف ، حَتَّى قَالَ فِي ( ( صحيحه ) ) : أول من أبطل فِي هذه الأمة صلاة المأموم قاعداً إذا صلى إمامه(4/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
جالساً : المغيرة بن مقسم ، وعنه أخذ أبو حنيفة .
وأما دعوى النسخ فِي هَذَا فَقَدْ بينا أَنَّهُ لا يجوز دعوى بطلان الحكم مَعَ إمكان العمل بِهِ ولو بوجه ، وسنبين وجه العمل بِهِ ، والجمع بَيْن مَا أدعى عَلِيهِ التعارض - إن شاء الله تعالى .
ويدل عَلَى أن الأمر بالقعود خلف الإمام القاعد غير منسوخ : أن النَّبِيّ ( علله بعلل لَمْ تنسخ ولم تبطل منذ شرعت .
ومنها : أَنَّهُ علله بأن الإمام إنما جعل إماماً ليؤتم بِهِ ويقتدى بِهِ فِي أفعاله ، وَقَالَ : ( ( إذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قَالَ : سَمِعَ الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد ، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون ) ) ,
وما قَبْلَ الصلاة جلوساً لَمْ ينسخ مِنْهُ شيء ، فكذلك القعود ؛ لأن الجميع مرتب عَلَى أن الإمام يؤتم بِهِ ويقتدى بِهِ .
وفي ( ( صحيح مُسْلِم ) ) عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( إنما الإمام جنة ، فإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً ، وإذا قَالَ : سَمِعَ الله لمن حمده ، فقولوا : اللهم ربنا لَكَ الحمد ، فإذا وافق قول أهل الأرض [ قَوْلِ ] أهل السماء غفر لَهُ مَا تقدم من ذنبه ) ) .
ومعنى كونه جنة : أَنَّهُ يتقى بِهِ ويستتر ، ولهذا إذا سلمت سترته لَمْ يضر مَا مر بَيْن يديه ، كما سبق تقريره .
ومنها : أَنَّهُ جعل القعود خلفه من طاعة الأمراء ، وطاعة الأمراء من طاعة الرسول ( ، وطاعته من طاعة الله ، ومعلوم : أَنَّهُ لَمْ ينسخ من هذه شيء ، بل كلها باقية محكمة إلى يوم القيامة .
فخرج الإمام أحمد وابن حبان فِي ( ( صحيحه ) ) من حَدِيْث ابن عُمَر ، أن(4/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
النَّبِيّ ( كَانَ فِي نفر من أصحابه ، فَقَالَ : ( ( ألستم تعلمون أني رَسُول الله إليكم ؟ ) ) . قالوا : بلى ، نشهد أنه رَسُول الله ، قَالَ : ( ( ألستم تعلمون أَنَّهُ من أطاعني أطاع الله ، ومن طاعة الله طاعتي ؟ ) ) . قالوا : بلى ، نشهد أَنَّهُ من أطاعك فَقَدْ أطاع الله ، ومن طاعة الله طاعتك ، قَالَ : ( ( فإن من طاعة الله أن تطيعوني ، ومن طاعتي أن تطيعوا أمراءكم ، وإن صلوا قعوداً فصلوا قعوداً ) ) .
وفي رِوَايَة لهما - أَيْضاً - ( ( ومن طاعتي أن تطيعوا أئمتكم ) ) .
وهذا يصلح أن يكون متمسكاً للأمام أحمد فِي تخصيصه ذَلِكَ بإمام الحي ؛ فإن أئمة الحي إنما ينصبهم الأئمة غالباً ، وخصة - فِي رِوَايَة عَنْهُ - بالأمام الأعظم الَّذِي تجب طاعته .
ومنها : أَنَّهُ جعل القيام خلف الإمام الجالس من جنس فعل فارس والروم بعظمائها ، حيث يقومون وملوكهم جلوس ، وشريعتنا جاءت بخلاف ذَلِكَ ، كما قَالَ ( : ( ( من احب أن يتمثل لَهُ الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار ) ) .
وَقَالَ عُمَر بن عَبْد العزيز للناس : أيها النَّاس ، إن تقوموا نقم ، وإن تجلسوا نجلس ، فإنما يقوم النَّاس لرب العالمين .
وهذا حكم مستقر فِي الشريعة ، لَمْ ينسخ ولم يبدل .
وقد دل عَلَى مَا ذكرناه : مَا خرجه مُسْلِم من حَدِيْث أَبِي الزُّبَيْر ، عَن جابر ، قَالَ : اشتكى رَسُول الله ( ، فصلينا وراءه وَهُوَ قاعد ، وأبو بَكْر يسمع النَّاس تكبيره ، فالتفت إلينا ، فرآنا قياماً ، فأشار إلينا ، فقعدنا فصلينا بصلاته قعوداً ، فلما سلم قَالَ : ( ( إن كدتم - آنفاً - تفعلون فعل فارس والروم ،(4/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
يقومون عَلَى ملوكهم وهم قعود ، فلا تفعلوا ، ائتموا بأئمتكم ، إن صلوا قياماً فصلوا قياماً ، وإن صلوا قعوداً فصلوا قعوداً ) ) .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان فِي ( ( صحيحه ) ) من حَدِيْث الأعمش ، عَن أَبِي سُفْيَان ، عَن جابر - فِي هذه القصة - أن النَّبِيّ ( قَالَ لهم : ( ( إنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ ، فإن صلى قائماً فصلوا قياماً ، وإن صلى جالساً فصلوا جلوساً ، ولا تقوموا وَهُوَ جالس كما يفعل أهل فارس بعظامها ) ) .
وأما الكلام عَلَى دعوى النسخ ، عَلَى قَوْلِ من قَالَ : إن أَبَا بَكْر كَانَ مأموماً ، فأما عَلَى قَوْلِ من قَالَ : إنه كَانَ إماماً ، وكان النَّبِيّ ( يأتم بِهِ ، كما تقدم عَن مَالِك وغيره ، فلا دلالة فِي الحَدِيْث حينئذ عَلَى أن الائتمام بالقاعد بالكلية .
وأما من قَالَ : إن الإمام كَانَ هُوَ النَّبِيّ ( ، كما قاله الشَّافِعِيّ والإمام أحمد والبخاري والأكثرون ، فالجمع بَيْن هَذَا الحَدِيْث وبين الأحاديث المتقدمة الَّتِيْ فيها الأمر بالجلوس فِي الصلاة من وجهين :
أحدهما - وَهُوَ الَّذِي ذكره الإمام أحمد - : أن المؤتمين بأبي بَكْر ائتموا بإمام ابتدأ بهم الصلاة وَهُوَ قائم ، ثُمَّ لما انتقلت مِنْهُ الإمامة إلى النَّبِيّ ( انتقلوا إلى الائتمام بقاعد ، فاتموا خلفه قياماً لابتدائهم الصلاة خلف إمام قائم .
فعلى هَذَا التقرير نقول : إن ابتدأ بهم الإمام الصلاة جالساً صلوا وراءه جلوساً ، وإن ابتدأ بهم قائماً ثُمَّ اعتل فجلس أتموا خلفه قياماً .
هكذا قرره الإمام أحمد وأصحابه .
ومنهم من قَالَ : إنه تصح هنا صلاة المأمومين خلفه قياماً إذا جلس فِي أثناء صلاته لعلة ، وسواء كَانَ إمام حي أو لَمْ يكن ، بخلاف ابتداء صلاة القائم خلف(4/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
الجالس ، فإنها عِنْدَ الإمام أحمد إلا إذا كَانَ إمام الحي ، وجلس لمرض يرجى برؤه خاصة ، فإنه يغتفر فِي الاستدامة مَا لا يغتفر فِي الابتداء .
وممن قَالَ ذَلِكَ من أصحابنا : أبو الفتح الحلواني .
والثاني : أن تحمل أحاديث الأمر بالقعود عَلَى الاستحباب ، وحديث صلاته فِي مرضه من غير أمر لهم بالجلوس عَلَى جواز أن يأتموا بالقاعد قياماً ، فيكون المأمومون مخيرين بَيْن الأمرين ، وإن كَانَ الجلوس أفضل .
وهذا يتخرج عَلَى قَوْلِ من قَالَ : إنهم إذا ائتموا بالجلوس قياماً صحت صلاتهم ، وقد اختلف أصحابنا فِي ذَلِكَ عَلَى وجهين .
وظهر لِي وجه ثالث فِي الجمع بَيْن هذه الأحاديث ، وَهُوَ متجه عَلَى قَوْلِ الإمام أحمد : أن النَّبِيّ ( كَانَ إماماً لأبي بَكْر ، وكان أبو بَكْر إماماً للناس ، فكانت تلك الصلاة بإمامين .
وحينئذ فيقال : لما اجتمع فِي هذه الصلاة إمامان ، أحدهما جالس والآخر قائم صلى المأمومون خلفهما قياماً اتباعاً لإمامهم القائم ؛ فإن الأصل القيام ، وقد اجتمع موجب للقيام عليهم ، وموجب للقعود أو مبيح لَهُ ، فغلب جانب القيام ؛ لأنه الأصل ، كما إذا اجتمع فِي حل الصيد أو الأكل مبيح وحاظر ، فإنه يغلب الحظر .
وأما أبو بَكْر فإنه إنما صلى قائماً ؛ لأنه وإن ائتم بقاعد إلا أَنَّهُ أم قادرين عَلَى القيام ، وَهُوَ قادر عَلِيهِ ، فاجتمع فِي حقه - أَيْضاً - سببان : موجب للقيام ، ومسقط لَهُ ، فغلب إيجاب القيام . والله ( أعلم .(4/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
52 - بَاب
مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الإمَامِ ؟
وَقَالَ أَنَس ، عَن النَّبِيّ ( : ( ( وإذا سجد فاسجدوا ) ) .
حَدِيْث أَنَس هَذَا ، قَدْ خرجه البخاري فيما بعد من رِوَايَة الزُّهْرِيّ ، عَنْهُ ، ويأتي فِي موضعه - إن شاء الله .
وفيه : دليل عَلَى أن سجود المأموم يكون عقيب سجود الإمام ، ولا يكون مَعَهُ ولا قبله .
690 - حَدَّثَنَا مسدد ، ثنا يَحْيَى بن سَعِيد ، عَن سُفْيَان ، قَالَ : حَدَّثَنِي أبو إِسْحَاق ، قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْد الله بن يزيد ، قَالَ : حَدَّثَنِي البراء - وَهُوَ غير كذوب - ، قَالَ : كَانَ رَسُول الله ( إذا قَالَ : ( ( سَمِعَ الله لمن حمده ) ) لَمْ يحن أحد منا ظهره حَتَّى يقع النَّبِيّ ( ساجداً ، ثُمَّ نقع سجوداً بعده .
قَالَ أبو عَبْد الله : أخبرنا أبو نعيم ، عَن سُفْيَان بهذا ، وإنما أدخلت حَدِيْث مسدد لحال الإخبار .
هكذا وقع فِي بعض النسخ دون بعض .
ومعناه : أن هَذَا الحَدِيْث سمعه البخاري من أَبِي نعيم ، عَن سُفْيَان - هُوَ : الثوري - بهذا الإسناد ، ولكن معنعناً ، وإنما خرجه عَن مسدد ، عَن يَحْيَى بن سَعِيد ، عَن سُفْيَان نازلاً ؛ لأنه ذكر فِي حديثه سماع سُفْيَان لَهُ من أَبِي إِسْحَاق ، وسماع أَبِي إِسْحَاق من عَبْد الله بن يزيد ، وسماعه من البراء .
وقوله : ( ( حَدَّثَنِي البراء وَهُوَ غير كذوب ) ) ظاهر السياق يقتضي أَنَّهُ من قَوْلِ(4/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
عَبْد الله بن يزيد في حق البراء ، ورجح ذَلِكَ الخطابي وغيره .
وَقَالَ ابن معين وغيره : إنما هُوَ من قَوْلِ أَبِي إِسْحَاق فِي حق عَبْد الله بن يزيد ، وقالوا : إن الصَّحَابَة أجل من أن يوصفوا بنفي الكذب .
وهذا ليس بشيء ، ونفي الكذب صفة مدح لا ذم ، وكذلك نفي سائر النقائص ؟ وقد كَانَ عَلِيّ بن أَبِي طالب يَقُول : والله مَا كذبت ولا كذبت ، فنفى الكذب عَن نفسه ، وأشار إلى نفيه عمن أخبره ، وَهُوَ رَسُول الله ( .
وقالت عَائِشَة فِي حق عُمَر وابن عُمَر : إنكم لتحدثون عَن غير كاذبين ولا مكذبين ، ولكن السمع يخطيء .
وأبلغ من هَذَا ، أن الله تعالى نفى عَن نفسه النقائص والعيوب ، كالظلم وإرادته ، والغفلة والنسيان ، وكذلك نفيه للشريك والصاحبة والولد ، وليس فِي شيء من ذَلِكَ نقص بوجه مَا .
وأيضاً ؛ فعبد الله بن يزيد هُوَ الخطمي ، وَهُوَ معدود من الصَّحَابَة ، وله رِوَايَة عَن النَّبِيّ ( ، فكيف حسن نفي الكذب عَنْهُ دون البراء ، وكلاهما صحابي ؟ وإن كَانَ البراء أشهر مِنْهُ ، وأكثر رِوَايَة . والله أعلم .
وفي الحَدِيْث : دليل عَلَى أن المأموم يتابع الإمام ، وتكون أفعاله بعد أفعال الإمام ؛ فإن البراء أخبر أنهم كانوا إذا رفعوا من الركوع لَمْ يحن أحد منهم ظهره حَتَّى يقع النَّبِيّ ( ساجداً ، ثُمَّ يسجدون بعده .
وفي رِوَايَة لمسلم فِي هَذَا الحَدِيْث : أنهم كانوا يصلون مَعَ رَسُول الله ( ، فإذا رفع رأسه من الركوع لَمْ نر أحداً يحني ظهره حَتَّى يضع رَسُول الله ( جبهته عَلَى الأرض ، ثُمَّ نخر من ورائه سجداً .(4/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
وهذه صريحة فِي أنهم كانوا لا يشرعون فِي السجود حَتَّى ينهيه النَّبِيّ ( .
وقول النَّبِيّ ( : ( ( إذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ) ) يدل عَلَى أن تكبير المأمومين من ركوعهم وسجودهم يكون عقيب تكبير الإمام وركوعه وسجوده ، ولا مَعَهُ ولا قبله .
وفي حَدِيْث أَبِي موسى ، عَن النَّبِيّ ( : ( ( فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم ، فتلك بتلك ) ) .
خرجه مُسْلِم ، وقد سبق ذكره .
وأكثر العلماء عَلَى أن الأفضل للمأموم أن يتابع الإمام ، فيركع ويرفع ويسجد ويجلس بعد الإمام فِي ذَلِكَ ، وكذلك كَانَ يفعل أبو قلابة وغيره من السلف .
وروى وكيع بإسناده ، عَن ابن مَسْعُود ، قَالَ : لا تبادروا أئمتكم ، فإنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ ، فيكون أول من يركع وأول من يسجد وأول من يرفع .
وَهُوَ مذهب الشَّافِعِيّ وأحمد ، ورواية عَن مَالِك .
وإن وافقه فِي فعله مَعَهُ كره ، وصحت صلاته عِنْدَ أكثر أصحابنا والشافعية ، ومن أصحابنا من أبطل الصلاة بذلك .
ويستثنى من ذَلِكَ صورتان :
إحداهما : تكبيرة الإحرام فِي ابتداء الصلاة ، فإذا كبر مَعَهُ لَمْ تنعقد صلاة المأموم عِنْدَ ابن المبارك والشافعي وأحمد ، وَهُوَ قَوْلِ مَالِك وأبي يوسف .
وَقَالَ أبو حنيفة والثوري والعنبري ومحمد بن الْحَسَن وزفر : تنعقد صلاته بذلك .
وزاد الثوري عليهم ، فَقَالَ : لَوْ كبر مَعَ إمامه وفرغ من تكبيره قَبْلَ فراغ إمامه جاز .(4/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
ومن الحنفية من جعل تكبيرة الإحرام شرطاً للصلاة كالطهارة والستارة ، ولم يجعلها مِنْهَا .
والصورة الثانية : إذا سلم مَعَ إمامه ، فإنه يجوز مَعَ الكراهة عِنْدَ أكثر أصحابنا والشافعية .
ولهم وجه أخر : أَنَّهُ لا يجوز ، وحكي عَن مَالِك .
قَالَ بعض أصحابنا : وهذا قَوْلِ قوي عَلَى قَوْلِ من يعتبر النية للخروج .
وعن مَالِك فِي أصل متابعة المأموم لإمامة ثَلاَثَة روايات :
إحداهن : أنه يستحب أن يكون عمله بعد عمل إمامه ، معاقباً لَهُ ، كقول الشَّافِعِيّ وأحمد .
والثانية : أن عمل المأموم كله مَعَ عمل الإمام : ركوعه وسجوده وخفضه ورفعه ، مَا خلا الإحرام والتسليم ، فإنه لا يأتي المأموم بهما إلا بعد تكبير الإمام وسلامه .
وقيل : إنها أصح الروايات عَنْهُ .
والثالثة : أَنَّهُ يكون عمله مَعَ الإمام ؛ مَا خلا ثَلاَثَة أشياء : التحريم والتسليم والقيام من اثنتين ، فإنه يكون بعده .(4/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
53 - بَاب
إِثْم مَنْ رَفَعَ رَأَسَهَ قَبْلَ الإمَامِ
691 - حَدَّثَنَا حجاج بن منهال : ثنا شعبة ، عَن مُحَمَّد بن زياد ، قَالَ : سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( أما يخشى أحدكم ) ) - أو ( ( ألا يخشى أحدكم - إذا رفع رأسه قَبْلَ الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار ) ) - أو ( ( يجعل صورته صورة حمار ؟ ) ) .
قَالَ الحافظ أبو موسى المديني : اتفق الأئمة عَلَى ثبوت هَذَا الحَدِيْث من هَذَا الطريق ؛ رواه عَن مُحَمَّد بن زياد قريب من خمسين نفساً ، وبعضهم يَقُول : ( ( صورته ) ) ، وبعضهم يَقُول : ( ( وجهه ) ) ، ومنهم من قَالَ : ( ( رأس كلب أو خنزير ) ) ، وتابع مُحَمَّد بن زياد جماعة ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ . انتهى .
وفيه : دليل صريح عَلَى تحريم تعمد رفع المأموم رأسه قَبْلَ الإمام فِي ركوعه وسجوده ؛ فإنه توعد عَلِيهِ بالمسخ ، وَهُوَ من أشد العقوبات .
وإنما اختص الحمار بالذكر دون سائر الحيوانات عَلَى الرواية الصحيحة المشهورة - والله أعلم - ؛ لإن الحمار من أبلد الحيوانات وأجهلها ، وبه يضرب المثل فِي الجهل ؛ ولهذا مثل الله بِهِ عالم السوء الذي يحمل العلم ولا ينتفع بِهِ فِي قوله : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ( [ الجمعة : 5 ] .
فكذلك المتعبد بالجهل يشبه الحمار ، فإن الحمار يحرك رأسه ويرفعه ويخفضه لغير معنى ، فشبه من يرفع رأسه قَبْلَ إمامه بالحمار ، وكذلك شبه من يتكلم وإمامه يخطب بالحمار يحمل أسفاراً ؛ لأنه لَمْ ينتفع بسماع الذكر ، فصار(4/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
كالحمار فِي المعنى . والله أعلم .
وقد اختلف العلماء فيمن تعمد رفع رأسه قَبْلَ إمامه فِي ركوعه أو سجوده : هَلْ تبطل بذلك صلاته ، أم لا ؟
وفيه وجهان لأصحابنا ، وأكثرهم عَلَى البطلان ، وروي عَن ابن عُمَر .
وَقَالَ القاضي أبو يعلى : لا تبطل بذلك ، وَهُوَ قَوْلِ أكثر الفقهاء .
فعلى هَذَا ، فهل يؤمر أن يعود إلى ركوعه وسجوده ليرفع بعد إمامه ، أم لا ؟
قَالَ بعض المتأخرين [ من ] أصحابنا وبعض أصْحَاب الشَّافِعِيّ : لا يؤمر بذلك ، ومتى عاد بطلت صلاته لأنه يصير قَدْ زاد فِي صلاته ركناً عمداً .
وقد رَوَى مَالِك فِي ( ( الموطإ ) ) أن السنة فِي الساهي إذا رفع رأسه قَبْلَ إمامه أن يعود ، ولا يقف ينتظره ، فذلك خطأ ممن فعله .
ومفهومه : أن العامد ليس كذلك .
وأكثر العلماء من أصحابنا وغيرهم يقتضي أَنَّهُ يلزمه أن يعود لرفع بعد إمامه .
وقد بسطنا القول عَلَى هَذَا فِي الباب الماضي ، فلا حاجة إلى إعادته .(4/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
54 - بَاب
إمَامَةِ العَبْدِ والمَوْلَى
وكانت عَائِشَة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف .
وَوَلدَ البَغيِّ والأعرابي والغلام الَّذِي لَمْ يحتلم
لقول النَّبِيّ ( : ( ( يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله ) ) .
ولا يمنع العبد من الجماعة بغير علةٍ
أشار البخاري - رحمه الله - بهذا التبويب إلى مسائل :
إحداها :
إمامه العبد والمولى .
ومراده بالعبد : الرقيق القن . وبالمولى : العتيق ، الَّذِي عَلِيهِ ولاء لمعتقه .
وما ذكره من إمامه ذكوان لعائشة :
فروى وكيع ، عَن هِشَام بن عُرْوَةَ ، عَن أَبِي بَكْر بن أَبِي مليكة ، أن عَائِشَة أعتقت غلاماً لها عَن دبرٍ ، فكان يؤمها فِي المصحف فِي رمضان .
ففي هذه الرواية : أَنَّهُ كَانَ مدبراً .
وقد روي من غير وجه ، عَن عَائِشَة ، أنها صلت خلف مملوك .
وروى أيوب ، عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد ، عَن عَائِشَة ، أَنَّهُ كَانَ يؤمها عَبْد لها فِي المصحف .(4/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
خرجه الأثرم .
ورواه عَبْد الرحمن بن الْقَاسِم ، عَن أَبِيه - أَيْضاً .
وذكر الإمام أحمد ، أَنَّهُ أصح من حَدِيْث ابن أَبِي مليكة ؛ لأن هِشَام بن عُرْوَةَ لَمْ يسمعه من ابن أَبِي مليكة ، إنما بلغه عَنْهُ .
قَالَ أحمد : أبو معاوية ، عَن هِشَام ، قَالَ : نبئت عَن ابن أَبِي مليكة - فذكره .
قُلتُ : رواه شعيب بن أَبِي حَمْزَة ، عَن هِشَام ، عَن أَبِيه ، عَن عَائِشَة - لَمْ يذكر ابن أَبِي مليكة .
خرجه البيهقي .
وكذا رواه مَالِك فِي ( ( الموطإ ) ) عَن هِشَام ، عَن أَبِيه .
وروى أبو نعيم فِي ( ( كِتَاب الصلاة ) ) : حَدَّثَنَا حماد بن سَلَمَة ، عَن ابن أَبِي مليكة ، أن عَائِشَة كَانَ يدخل عَلَيْهَا أشراف قريش ، فيؤمهم غلامها ذكوان .
والظاهر : أن حماد بن سلمة إنما رواه عَن هِشَام ، عَن ابن أَبِي مليكة .
ورواه الشَّافِعِيّ عَن عَبْد المجيد بن أَبِي رواد ، عَن ابن جُرَيْج : أخبرني ابن أَبِي مليكة ، أنهم كانوا يأتون عَائِشَة ، أم المُؤْمِنيِن بأعلى الوادي - هُوَ وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير - ، فيؤمهم أبو عَمْرِو مَوْلَى عَائِشَة - وأبو عَمْرِو غلامها حينئذ لَمْ يعتق ، وكان إمام بني مُحَمَّد بن أَبِي بَكْر وعروة .
قَالَ أبو نعيم : وحدثنا زهير ، عَن داود بن أَبِي هند : حَدَّثَنِي أبو نضرة ، عَن(4/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
أَبِي سَعِيد مَوْلَى أَبِي أسيد الأنصاري ، قَالَ : أتاني نفر من أصْحَاب رَسُول الله ( ، فيهم : أبو ذر وحذيفة وابن مَسْعُود ، فحضرت الصلاة ، فقدموني وأنا مملوك ، فصليت بهم .
قَالَ : وحدثنا حسن الحسنائي : ثنا زياد النميري ، قَالَ : سألت أَنَس بن مَالِك ، فَقُلْت : العبد ليس بدينه بأس ، يؤم القوم ؟ قَالَ : وما بأس بذلك .
وفي ( ( صحيح مُسْلِم ) ) أن عُمَر بن الخَطَّاب قَالَ لنافع بن عَبْد الحارث - وكان عُمَر استخلفه عَلَى مكة - : من استخلفت عَلَى أهل الوادي ؟ قَالَ : ابن ابزى مَوْلَى لنا . فَقَالَ عُمَر : استخلفت عليهم مَوْلَى ؟ قَالَ : يَا أمير المُؤْمِنيِن ، إنه قارىء لكتاب الله ، عالم بالفرائض . فَقَالَ عُمَر : أما إن رَسُول الله ( قَالَ : ( ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع بِهِ آخرين ) ) .
وممن رخص فِي إمامه العبد : الشعبي والنخعي والحسن والحكم والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق .
وكره إمامه العبد جماعة ، منهم : أبو مجلز .
وَقَالَ الضحاك : لا يؤم العبد القوم وفيهم حر .
وَقَالَ مَالِك : لا يؤمهم ، إلا أن يكون العبد قارئاً ومن خلفه أعراب لا يقرءون .
وفي ( ( تهذيب المدونة ) ) : لا يؤم العبد فِي الحضر فِي مساجد القبائل ، وجائز(4/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
أن يؤم فِي قيام رمضان وفي الفرائض فِي السفر ، إن كَانَ أقرأهم ، من غير أن يتخذ إماماً راتباً .
وَقَالَ أصحابنا : لا تكره إمامه العبد ، والحر أولى مِنْهُ .
المسألة الثانية :
إمامه ولد البغي - وَهُوَ ولد الزنا .
وقد اختلف فِي إمامته :
فرخص فيها طائفة ، منهم : عَطَاء والحسن والشعبي والنخعي والزهري وسليمان بن موسى وعمرو بن دينار والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق .
ومنهم من شرط سلامة دينه ، وَهُوَ قَوْلِ أحمد .
وكره ذَلِكَ آخرون ، منهم : مُجَاهِد .
وروي عَن عُمَر بن عَبْد العزيز ، أَنَّهُ نهى رجلاً كَانَ يؤم بالعقيق لا يعرف لَهُ أب .
وَقَالَ مَالِك : أكره أن يتخذ إماماً راتباً .
وَقَالَ أبو حنيفة : غيره أحب إلينا مِنْهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : أكره أن ينصب إماماً من لا يعرف أبوه ، ومن صلى خلفه أجزأه .
وهؤلاء جعلوا النسب معتبراً فِي إمامه الصلاة ، فيكره أن يرتب للأمامة من لا نسب لَهُ ، كما يعتبر فِي الإمامة العظمى ، فلا يصح أن ينصب إماماً من لا نسب لَهُ .(4/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
وفي هَذَا انظر ؛ فإن أكثرهم رخصوا فِي إمامه العبد والمولى ، مَعَ أَنَّهُ لا نسب لهما فِي العرب .
المسأله الثالثة :
إمامه الأعرابي وَهُوَ من لَمْ يهاجر إلى الأمصار من أهل البوادي .
وقد اختلف فِي إمامه الأعرابي :
فَقَالَتْ طائفة : لا بأس بِهَا إذا أقام الصلاة .
وعنه ، قَالَ : العبد إذا فقه أحب إلي مِنْهُ .
ورخص فِيهِ الثوري والشافعي وأحمد - فِي المشهور عَنْهُ - وإسحاق .
وروى وكيع فِي ( ( كتابه ) ) عَن شريك ، عَن أَبِي إِسْحَاق ، عَن رَجُل من طيىء ، أن ابن مَسْعُود [ حج ، فصلى خلف ] أعرابي .
وكره الائتمام بالأعرابي طائفة ، منهم : أبو مجلز والشعبي والحسن وعطاء ومالك ، وَهُوَ رِوَايَة عَن أحمد .
وروى وكيع ، عَن الربيع بن صبيح ، عَن ابن سيرين ، قَالَ : خرجنا مَعَ عُبَيْدِ الله بن معمر ، ومعنا حميد بن عَبْد الرحمن وأناس من وجوه الفقهاء ، فمررنا بماء فحضرت الصلاة ، فأذن أعرابي وأقام . قَالَ : فتقدم حميد بن عَبْد الرحمن . قَالَ : من كَانَ من أهل البلد فليتم الصلاة ، وكره أن يؤم الأعرابي .
وهذا يدل عَلَى أنهم رأوا أن من كَانَ أولى بالإمامة فإنه يقدم عَلَى الإمام(4/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
الراتب بغير إذنه ، وقد سبق الكلام عَلِيهِ .
وَقَالَ مَالِك : الأعرابي لا يؤمهم وإن كَانَ أقرأهم .
وَقَالَ أحمد : لا يؤم الحضري ، ولا فِي المصر ، إلا أن يكون قَدْ علم وعرفه .
وَقَالَ - أَيْضاً - : إذا كَانَ قَدْ تعلم القرآن ودخل القرآن ، ولم يكن جافياً .
وروى أشعث ، عَن الْحَسَن فِي مهاجري صلى خلف أعرابي ؟ قَالَ : إذا صلى أعاد تلك الصلاة .
وقد خرج ابن ماجه من حَدِيْث جابر مرفوعاً : ( ( لا يؤم أعرابي مهاجراً ) ) - فِي حَدِيْث طويل ، وسيأتي فيما بعد - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
المسألة الرابعة :
إمامه الغلام الَّذِي لَمْ يحتلم .
وفيها أقوال :
أحدها : أنها جائزة فِي الفرض وغيره ، وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ وإسحاق وأبي ثور .
وخرجه طائفة من أصحابنا رِوَايَة عَن الإمام أحمد من صحة اقتداء المفترض بالمتنفل ، عَلَى رِوَايَة عَنْهُ ، وفيه نظر ؛ فإن المتنفل أهل للأمامة فِي الجملة بخلاف الصبي .
وحكاه ابن المنذر عَن الْحَسَن .
وروى حرب بإسناده ، عَن الزُّهْرِيّ ، قَالَ : لَمْ يزل الغلمان يصلون بالناس(4/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
إذا عقلوا الصلاة وقرءوا فِي رمضان ، وإن لَمْ يحتلموا .
وروى أبو نعيم فِي ( ( كِتَاب الصلاة ) ) : حَدَّثَنَا سُفْيَان عَن ابن جريج ، عَن عَطَاء ، قَالَ : لا بأس أن يؤم الغلام قَبْلَ أن يحتلم .
وروى وكيع بإسناده ، عَن الأشعث بن قيس ، أَنَّهُ قدم غلاماً ، فَقِيلَ لَهُ .
فَقَالَ : إني لَمْ أقدمه ، إنما قدمت القرآن .
ولعل الغلام هاهنا أريد بِهِ العبد ، لا الصبي .
والقول الثاني : أَنَّهُ لا يؤم الصبي حَتَّى يحتلم ، روي ذَلِكَ عَن ابن عَبَّاس ، خرجه عَنْهُ بإسناد فِيهِ مقال .
وخرجه الأثرم - أَيْضاً - بإسناد منقطع عَن ابن مَسْعُود ، قَالَ : لا يصلي خلف الغلام حَتَّى تجب عَلِيهِ الحدود .
وَقَالَ النخعي : كانوا يكرهون أن يؤم الغلام قَبْلَ أن يحتلم .
قَالَ ابن المنذر : كره إمامة من لَمْ يبلغ : عَطَاء والشعبي ومجاهد ومالك والثوري وأصحاب الرأي .
وقد روينا عَن ابن عَبَّاس ، قَالَ : لا يؤم الغلام حَتَّى يحتلم .
وكرهه - أَيْضاً - الضحاك .
والقول الثالث : يؤمهم فِي النفل دون الفرض ، روي ذَلِكَ عَن الْحَسَن ، ذكره وكيع ، عَن الربيع بن صبيح ، عَنْهُ ، قَالَ : لا بأس أن يؤمهم فِي رمضان إذا أحسن الصلاة قَبْلَ أن يحتلم ، وَهُوَ رِوَايَة عَن أحمد .
والقول الرابع : حكاه ابن المنذر عَن الأوزاعي ، قَالَ : لا يؤم الغلام فِي(4/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
الصلاة المكتوبة حَتَّى يحتلم ، إلا أن يكون ليس معهم من القرآن شيء ، فإنه يؤمهم المراهق .
وعن الزُّهْرِيّ ، قَالَ : إن اضطروا إليه أمهم .
وقد أوما أحمد إلى هَذَا القول ؛ فإنه قَالَ - فِي رِوَايَة أَبِي طالب - : لا يصلي بهم حَتَّى يحتلم ، لا فِي المكتوبة ولا فِي التطوع . قيل لَهُ : فحديث عَمْرِو بن سَلَمَة ، أليس أم بهم وَهُوَ غلام ؟ فَقَالَ : لعله لَمْ يكن يحسن يقرأ غيره .
ونقل عَنْهُ جَعْفَر بن مُحَمَّد فِي حَدِيْث عَمْرِو بن سَلَمَة ، قَالَ : كَانَ هَذَا فِي أول الإسلام من ضرورة ، فأما اليوم فلا .
وكذلك نقل عَنْهُ أبو داود ، قَالَ : لعله كَانَ فِي بدء الإسلام .
وهذا يشير إلى نسخ حكمه بالكلية .
ومن أصحابنا من أجاز إمامته فِي قيام رمضان ، إذا لَمْ يوجد قارىء غيره ؛ فإن أحمد أجاز إمامة المرأة فِي ذَلِكَ ، والغلام أولى ، وفيه نظر - أَيْضاً - ؛ فإن المرأة من أهل التكليف ووجوب الصلاة ، بخلاف الصبي .
ولهذا اختلف أصحابنا فِي إمامة الغلام إذا بلغ عَشَرَ سنين ، وقلنا : تجب الصلاة عَلِيهِ ، كما هُوَ رِوَايَة عَن أحمد ، اختارها طائفة من أصحابه ، منهم : أبو بَكْر عَبْد العزيز وأبو الحسن التميمي وأبو الْحَسَن الجزري وأبو حفص البرمكي ، وحكي عَن ابن حامد - أَيْضاً .
فاختلفوا : هَلْ يصح أن يؤم فِي الصلاة المفروضة حينئذٍ ، أم لا ؟ عَلَى وجهين :
أحدهما : أَنَّهُ لا يؤم فيها - أَيْضاً - ، قاله أبو حفص البرمكي والقاضي أبو يعلى والأكثرون . والثاني : يصح ، قاله أبو الخَطَّاب .(4/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
قَالَ القاضي وأصحابه : إذا قلنا : لا يصح أن يؤم فِي فرض فلا فرق بَيْن فروض الأعيان وفروض الكفايات كالجنائز .
وقد استدل البخاري لصحة إمامة العبد والمولى وولد الزنا والأعرابي والصبي بعموم قَوْلِ النَّبِيّ ( : ( ( يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله ) ) .
وقد خرجه فِي موضع آخر مسنداً من حَدِيْث عَمْرِو بن سَلَمَة ، عَن أَبِيه ، عَن النَّبِيّ ( .
وخرجه مُسْلِم من حَدِيْث أَبِي مَسْعُود الأنصاري ، وقد سبق .
وقد استدل بِهِ بنو جرم فِي عهد النَّبِيّ ( عَلَى إمامه الصبي ، حَتَّى قدموا عَمْرِو بن سَلَمَة أخذاً بعمومه .
وقد أجاب بعضهم بأنه لَمْ ينقل أن النَّبِيّ ( بلغه ذَلِكَ وأقر عَلِيهِ .
وهذا يرجع إلى أن مَا عمل فِي زمن النَّبِيّ ( ولم ينقل أَنَّهُ بلغة ، فهل يكون حجة ، أم لا ؟ وفيه اخْتِلاَف مشهور .
والمخالف فِي ذَلِكَ يَقُول : عموم هَذَا الحَدِيْث لا بد من تخصيصه ؛ فإن المرأة لَوْ كَانَتْ أقرأ القوم لَمْ تؤمهم مَعَ وجود قارىء غيرها إجماعاً ، وعند عدمه - أَيْضاً - عِنْدَ الأكثرين ، فلذلك نخص مِنْهُ الصبي ؛ لأنه ليس من أهل التكليف ، والكلام إنما توجه إلى من يدخل تَحْت التكليف ، فيتوجه إليه الخَطَّاب . والله سبحانه وتعالى أعلم .
المسألة الخامسة :
قَالَ : لا يمنع العبد من الجماعة بغير علة .(4/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
هَذَا يدل عَلَى أن البخاري يرى وجوب الصلاة فِي الجماعة عَلَى المملوك ، وأن سيده لا يجوز لَهُ منعه مِنْهَا .
وَهُوَ - أَيْضاً - ظاهر كلام أحمد .
قَالَ إِسْحَاق بن هانىء : سألت أَبَا عَبْد الله عَن العبد يرسله مولاه فِي حاجته ، فتحضر الصلاة : فيصلي ، ثُمَّ يقضي حاجة مولاه ، أو يقضي حاجة مولاه ثُمَّ يصلي ؟ ولعله إن قضى حاجة مولاه لا يجد مسجداً يصلي فِيهِ ؟ فَقَالَ أبو عَبْد الله : إذا علم أَنَّهُ انقضى حاجة مولاه أصاب مسجداً يصلي فِيهِ قضى حاجة مولاه ، وإن علم أَنَّهُ لا يجد مسجداً يصلي فِيهِ صلى ، ثُمَّ قضى حاجة مولاه .
وَقَالَ صالح بن الإمام أحمد : سألت أَبِي عَن العبد يأمره مواليه بالحاجة ، وتحضر الصلاة ؟ قَالَ : إن وجد مسجداً يصلي فِيهِ قضى حاجة مواليه ، وإن صلى فلا بأس .
ومن المتأخرين من أصحابنا من قَالَ : يتخرج وجوب الجماعة عَلَى العبد عَلَى وجوب الجمعة عَلِيهِ ، وفيه روايتان عَن أحمد ، فلذلك يخرج فِي وجوب الجماعة .
ومنهم من قَالَ : لا تجب الجماعة عَلَى العبد بحال ، لتكررها كل يوم وليلة بخلاف الجمعة .
وممن قَالَ : لا تجب الجماعة عَلَى العبد من أصحابنا : القاضي أبو يعلى فِي ( ( خلافه ) ) وأبو الفتح الحلواني .
وروي عَن الْحَسَن مَا يدل عَلَى مثله ، فروى أبو بَكْر الخلال بإسناده ، عَن مهدي بن ميمون ، قَالَ : سألت الْحَسَن عَن عَبْد مملوك تحضره الصلاة ، فيحب أن يصليها فيرسله مولاه فِي بعض الحاجة ، فبأي ذَلِكَ يبدأ ؟ قَالَ : يبدأ بحاجة مولاه .(4/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
خرج البخاري فِي هَذَا الباب حديثين :
الحَدِيْث الأول :
692 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْم بن المنذر : ثنا أَنَس بن عياض ، عَن عُبَيْدِ الله ، عَن نَافِع ، عَن ابن عُمَر ، قَالَ : لما قدم المهاجرون الأولون العصبة - موضع بقباء - قَبْلَ مقدم رَسُول الله ( كَانَ يؤمهم سَالِم مَوْلَى أَبِي حذيفة ، وكان أكثرهم قرآنا .
وخرجه أبو داود من طريق ابن نمير ، عَن عُبَيْدِ الله ، وزاد : فيهم عُمَر ابن الخَطَّاب وأبو سَلَمَة بن عَبْد الأسد .
وخرجه البخاري فِي ( ( الأحكام ) ) من ( ( صحيحه ) ) هَذَا من طريق ابن جُرَيْج ، عَن نَافِع ، أخبره أن ابن عُمَر أخبره ، قَالَ : كَانَ سَالِم مَوْلَى أَبِي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب النَّبِيّ ( فِي مسجد قباء ، فيهم : أبو بَكْر وعمر وأبو سَلَمَة وزيد وعامر بن رَبِيعَة .
والمراد بهذا : أَنَّهُ كَانَ يؤمهم بعد مقدم النَّبِيّ ( ؛ ولذلك قَالَ : ( ( فِي مسجد قباء ) ) ، ومسجد قباء إنما أسسه النَّبِيّ ( بعد قدومه المدينة ، فلذلك ذكر منهم : أَبَا بَكْر ، وأبو بَكْر إنما هاجر مَعَ النَّبِيّ ( ، وليس فِي هذه الرواية : ( ( قَبْلَ مقدم النَّبِيّ ( ) ) كما فِي الرواية الَّتِيْ خرجها البخاري هاهنا فِي هَذَا الباب ، فليس فِي هَذَا الحَدِيْث إشكال كما توهمه بعضهم .
وإمامة سَالِم للمهاجرين بعد مقدم النَّبِيّ ( فِي مسجد فِي حكم المرفوع ؛ لأن مثل هَذَا لا يخفى بل يشتهر ويبلغ النَّبِيّ ( .
والظاهر : أن سالماً لَمْ يعتق إلا بقدومه المدينة ؛ فإنه عتيق لامرأة من الأنصار ، أعتقته سائبة وأذنت لَهُ أن يوالي من شاء ، فوالى أَبَا حذيفة وتبناه .(4/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
والعصبة : قَالَ صاحب ( ( معجم البلدان ) ) : هُوَ بتحريك الصاد عَلَى وزن همزة ، وَهُوَ حصن ، قَالَ : ويروى المعصب .
الحَدِيْث الثاني :
قَالَ :
693 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن بشار : ثنا يَحْيَى : ثنا شعبة : حَدَّثَنِي أبو التياح ، عَن أَنَس بن مَالِك ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( اسمعوا وأطيعوا ، وإن استعمل حبشي ، كأن رأسه زبيبة ) ) .
الأمر بطاعة الحبشي يدخل فِيهِ الصلاة خلفه إذا استعمل عَلَى النَّاس ، وقد استدل بذلك الإمام أحمد - أَيْضاً .
وقد قيل : إن هَذَا بَاب ضرب المثل لطاعة الأمراء عَلَى كل حال ، كقوله : ( ( من بنى مسجداً ، ولو كمفحص قطاة ) ) ، مَعَ أَنَّهُ لا يكون المسجد كذلك ، فكذلك العبد الحبشي لا يكون إماماً ؛ فإن الأئمة من قريش .
وقيل : بل المراد أن الأئمة من قريش إذا ولت عبداً حبشياًً أطيع ، وقد روي ذَلِكَ من حَدِيْث عَلِيّ مرفوعاً وموقوفاً : ( ( إن أمرت عليكم قريش عبداً حبشياً فاسمعوا لَهُ وأطيعوا ) ) .
وهذا أشبه :
وقد استدل أبو ذر بهذا الحَدِيْث عَلَى الصلاة خلف العبيد إذا استعملهم الأئمة ، فروى عَبْد الله بن الصَّامِت ، عَن أَبِي ذر ، أَنَّهُ انتهى إلى الربذة وقد أقيمت الصلاة ، فإذا عَبْد يؤمهم . قَالَ : فَقِيلَ : هَذَا أبو ذر ، فذهب يتأخر(4/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
فَقَالَ أبو ذر : أوصاني خليلي ( : أسمع وأطيع ، ولو كَانَ عبداً حبشياً مجدع الأطراف .
وفي رِوَايَة : فإذا عَبْد يصلي بهم ، فقالوا لأبي ذر : تقدم ، فأبى ، فتقدم العبد فصلى بهم - ثُمَّ ذكر الحَدِيْث .
وقد خرج مُسْلِم مِنْهُ المرفوع .(4/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
55 - بَاب
إذا لَمْ يُتمَّ الإمَامُ وََأَتَمَّ مَنْ خَلْفَهُ
694 - حَدَّثَنَا الفضل بن سَهْل : ثنا الْحَسَن بن موسى الأشيب : ثنا عَبْد الرحمن بن عَبْد الله بن دينار ، عَن زيد بن أسلم ، عَن عَطَاء بن يسار ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، أن رَسُول الله ( قَالَ : ( ( يصلون لكم ، فإن أصابوا فلكم ، وإن أخطئوا فلكم وعليهم ) ) .
تفرد البخاري بتخريج هَذَا الحَدِيْث عَن مُسْلِم ، وبتخريج حَدِيْث عَبْد الرحمن ابن عَبْد الله بن دينار ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ ضعفه ابن معين وغيره . وَقَالَ عَلِيّ بن المديني : فِي بعض مَا يرويه منكرات لا يتابع عَلَيْهَا ، ويكتب حديثه فِي جملة الضعفاء .
وقد خرجه ابن حبان فِي ( ( صحيحه ) ) من وجه آخر عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، من رِوَايَة أَبِي أيوب الأفريقي ، عَن صفوان بن سليم ، عَن ابن المُسَيِّب ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( سيأتي - أو يكون - أقوام يصلون الصلاة ، فإن أتموا فلكم ولهم ، وإن نقصوا فعليهم ولكم ) ) .
وقد روي - أَيْضاً - من رِوَايَة أَبِي صالح السمان والحسن ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، ولكن إسنادهما لا يصح .
وخرج ابن ماجه والحاكم فِي ( ( المستدرك ) ) من حَدِيْث عَبْد الحميد بن(4/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
سُلَيْمَان : ثنا أبو حازم ، قَالَ : كَانَ سَهْل بن سعد الساعدي يقدم قتيان قومه يصلون بهم ، فَقِيلَ لَهُ : تفعل هَذَا ولك من القدم مَالِك ؟ فَقَالَ : إني سَمِعْت رَسُول الله ( يَقُول : ( ( الإمام ضامن ، فإن أحسن فله ولهم ، وإن أساء يعني : فعليه ولا عليهم ) ) .
وقد ذكر هَذَا الحديث الإمام أحمد ، فَقَالَ : مَا سَمِعْت بهذا قط .
وهذا يشعر باستنكاره لَهُ .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حَدِيْث عقبة بن عامر ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( من أم النَّاس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم ، ومن انتقض من ذَلِكَ شيئاً فعليه ولا عليهم ) ) .
وفي إسناده اخْتِلاَف ، وقد روي مرسلاً .
وفي المعنى أحاديث أخر متعددة فِي أسانيدها مقال .
وقد استدل البخاري بهذا الحَدِيْث عَلَى أن من صلى خلف من لا يتم صلاته فأتم صلاته ، فإن صلاته صحيحة ، ودخل فِي هَذَا : من صلى خلف محدث ، يعلم حدث نفسه أو لا يعمله . وقد سبق الكلام عَلَى ذَلِكَ . ومن صلى خلف إمام يؤخر الصلاة عَن مواقيتها ، وقد سبق الكلام عَلِيهِ - أَيْضاً - ومن صلى خلف من ترك ركناً أو شرطاً فِي صلاته متأولاً ، والمأموم يخالف تأويله .
وفي صحة صلاته وراءه قولان ، هما روايتان عَن أحمد ، كمن صلى خلف من مس ذكره أو احتجم ولم يتوضأ ، ومن صلى خلف من لا يتم ركوعه وسجوده ، وأتمه المأموم أجزأته صلاته ، كذا قَالَ علقمة ، والأوزاعي .
وسئل أحمد عمن قام إمامه قَبْلَ أن يتم تشهده الأول ، فذكر قَوْلِ علقمة -(4/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
يعني : أَنَّهُ يتمه ثُمَّ يقوم .
وسئل سُفْيَان الثوري عمن صلى خلف من يسرع الركوع والسجود ؟ قَالَ : تمم أنت والحق بِهِ .
وَقَالَ يَحْيَى بن آدم : صليت خلف رَجُل فأعدت صلاتي من سوء صلاته .
وَقَالَ أحمد فِي إمام لا يتم ركوعه ولا سجوده : لا صلاة لَهُ ، ولا لمن خلفه - : نقله عَنْهُ أبو طالب .
ونقل عَنْهُ ابن الْقَاسِم مَا يدل عَلَى أن من خلفه إذا أتم فلا إعادة عَلِيهِ .
وهذا يرجع إلى مَا ذكرنا ؛ فإن من صور هَذَا الاختلاف : من ترك الطمأنينة متأولاً ، وصلى خلفه من يرى وجوب ذَلِكَ واطمأن .
وأكثر كلام أحمد يدل عَلَى أَنَّهُ يفرق بَيْن التأويلات الضعيفة المخالفة للسنن الصحيحة فلا يمنع من الصلاة خلف متأولها ، كما نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لا يصلى خلف من يَقُول : الماء من الماء ، ولا من ترك قراءة الفاتحة فِي بعض الركعات عَلَى التأويل ، وأنه يصلى خلف من لا يتوضأ من خروج الدم ، ولا من أكل لحم الإبل ، ولا من مس الذكر ، أو يصلي فِي جلود الثعالب عَلَى التأويل .
وسوى أبو بَكْر عَبْد العزيز بن جَعْفَر وأكثر أصحابنا بَيْن الجميع ، والصحيح التفرقة .
ولهذا نَصَّ الشَّافِعِيّ وأحمد عَلَى أَنَّهُ لا يحد الناكح بلا ولي ، ويحد من شرب النبيد متأولاً ، ونص أحمد عَلَى أن الفرق هُوَ : ضعف التأويل فِي شرب النبيد خاصة .
وَقَالَ سُفْيَان الثوري : لا يصلى خلف من مسح عَلَى رجليه ، ومن صلى خلفه أعاد الصلاة .
وَقَالَ شريك : لا يصلى خلفه ، ولا تعاد الصلاة .(4/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
وقد استدل بالأحاديث المذكورة فِي هَذَا الباب من كره الإمامة ، وقد كره أن يؤم النَّاس جماعة من الصَّحَابَة ، منهم : حذيفة وعقبة بن عامر .
وَقَالَ حذيفة : لتبتغن إماماً غيري ، أو لنصلين وحداناً .
وسئل أحمد عَن الرَّجُلُ يؤم النَّاس : هَلْ لَهُ فِي ذَلِكَ ثواب ؟ قَالَ : إن كَانَ فِي قرية هُوَ أقرأ القوم ، أو فِي موضع هُوَ أقرؤهم فليتقدمهم . وسئل عَن الرَّجُلُ يكون أقرأ القوم ، فَقَالَ لَهُ : تقدم فيأبى ؟ قَالَ : ينبغي لَهُ أن يتقدم ، يؤم القوم أقرؤهم . قيل لَهُ : يجب عَلِيهِ ؟ فَقَالَ : ينبغي لَهُ أن يتقدم يؤم القوم ، ولم يقل : يجب عَلِيهِ .
وسئل عَن معنى قَوْلِ النَّبِيّ ( : ( ( الإمام ضامن ) ) ؟ فَقَالَ : هَذَا عَلَى التأكيد عَلَى الإمام .
وهذا الحَدِيْث ، خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( .
وفي إسناده اخْتِلاَف كثير أشار الترمذي إلى بعضه ، وقد بسطت القول فِيهِ فِي
( ( شرح الترمذي ) ) بحمد الله ومنه .
رَوَى وكيع فِي ( ( كتابه ) ) عَن عَلِيّ بن المبارك ، عَن يَحْيَى بن أَبِي كثير ، قَالَ : حَدَّثَنِي من لا أتهم ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله ( : تبادروا الأذان ، ولا تبادروا الإمامة ) ) .
وعن ابن عون ، قَالَ : ذكر عِنْدَ الشَّعْبِيّ أن الإمام ضامن لصلاة القوم ، فَقَالَ : والله إني لأرجو إن أحسن أن يتقبل الله مِنْهُ ، وإن أساء أن يغفر لَهُ .(4/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
56 - بَاب
إمَامَةِ المَفْتُونِ والمبُتْدَعِ
وَقَالَ الْحَسَن : تصلي وعليه بدعته .
695 - وَقَالَ لنا مُحَمَّد بن يوسف : حَدَّثَنَا الأوزاعي : ثنا الزُّهْرِيّ ، عَن حميد ابن عَبْد الرحمن ، عَن عُبَيْدِ الله بن عدي بن خيار ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَان بن عَفَّانَ ، وَهُوَ محصور ، فَقَالَ : إنك إمام عامة ، ونزل بك مَا ترى ، ويصلي لنا إمام فتنة ، ونتحرج ؟ فَقَالَ : الصلاة أحسن مَا يعمل النَّاس ، فإذا أحسن النَّاس فأحسن معهم ، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم .
وَقَالَ الزبيدي : قَالَ الزُّهْرِيّ : لا نرى أن يصلى خلف المخنث إلا من ضرورة لا بد مِنْهَا .
696 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن أبان : ثنا غندر ، قَالَ : ثنا شعبة ، عَن أَبِي التياح ، سَمِعَ أَنَس بن مَالِك يَقُول : قَالَ النَّبِيّ ( لأبي ذر : ( ( اسمع وأطع ، ولو لحبشي ، كأن رأسه زبيبة ) ) .
مَا ذكره عَن الْحَسَن : رواه سَعِيد بن منصور ، ثنا ابن المبارك ، عَن هِشَام ابن حسان ، عَن الْحَسَن ، أَنَّهُ سئل عَن صاحب البدعة : الصلاة خلفه ؟ قَالَ : صل خلفه ، وعليه بدعته .
وخرجه حرب ، عَن سَعِيد بن منصور ، بِهِ .
وخرج - أَيْضاً - بإسناده ، عَن جَعْفَر بن برقان ن قَالَ : سألت ميمون بن(4/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
مهران عَن الصلاة خلف من يذكر أَنَّهُ من الخوارج ؟ فَقَالَ : إنك لا تصلي لَهُ ، إنما تصلي لله ، قَدْ كنا نصلي خلف الحجاج وَهُوَ حروري أزرقي . فنظرت إليه ، فَقَالَ : أتدري مَا الحروري الأزرقي ، هُوَ الَّذِي إذا خالفت آيةً سماك كافراً ، واستحل دمك ، وكان الحجاج كذلك .
وروى أبو نعيم فِي ( ( كِتَاب الصلاة ) ) : ثنا سُفْيَان ، عَن هِشَام ، عَن ابن سيرين ، قَالَ : كَانَ يكون أمراء عَلَى المدينة ، فسئل ابن عُمَر عَن الصلاة معهم ، فَقَالَ : الصلاة لا أبالي من شاركني فيها .
وروى أبو شِهَاب : ثنا يونس بن عُبَيْدِ ، عَن نَافِع ، قَالَ : كَانَ ابن عُمَر يسلم عَلَى الخشبية والخوارج وهم يقتتلون . فَقَالَ : من قَالَ : ( ( حي عَلَى الصلاة ) ) أجبته ، من قَالَ : ( ( حي عَلَى الفلاح ) ) أجبته ، ومن قَالَ : ( ( حي عَلَى قتل أخيك الْمُسْلِم وأخذ ماله ) ) ، قُلتُ : لا .
خرجه البيهقي .
وروى عَن ابن عُمَر من وجوه ، أَنَّهُ كَانَ يصلي خلف الحجاج . وذكر البخاري فِي ( ( تاريخه ) ) : قَالَ لنا عَبْد الله ، عَن معاوية بن صالح ، عَن عَبْد الكريم البكاء ، قَالَ : أدركت عشرة من أصْحَاب النَّبِيّ ( [ كلهم ] يصلي خلف أئمة الجور .
وخرج أبو داود من حَدِيْث مكحول ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( الجهاد واجب عليكم مَعَ كل أمير ، براً كَانَ أو فاجراً . والصلاة واجبة عليكم خلف كل مُسْلِم ، براً كَانَ أو فاجراً ) ) .(4/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
وهذا منقطع ؛ مكحول لَمْ يسمع من أَبِي هُرَيْرَةَ .
وقد أنكر أحمد هَذَا ، ولم يره صحيحاً .
قَالَ مهِنأ : سألت أحمد عَن الصلاة خلف كل بر وفاجر ؟ قَالَ : مَا أدري مَا هَذَا ، ولا أعرف هَذَا ، مَا ينبغي لنا أن نصلي خلف فاجر ، وأنكر هَذَا الكلام .
وَقَالَ يعقوب بن بختان : سئل أحمد عَن الصلاة خلف كل بر وفاجر ؟ قَالَ : مَا سمعنا بهذا .
وأما الأثر الَّذِي ذكره البخاري عَن عُثْمَان : فرواه عَبْد الرزاق ، عَن معمر ، عَن الزُّهْرِيّ ، عَن عروة ، عَن عُبَيْدِ الله بن عدي بن الخيار ، عَن عُثْمَان ، فخالف معمر الأوزاعي فِي إسناده .
وذكر الدارقطني أن الزبيدي والنعمان بن راشد وأبا أيوب الإفريقي ، رووه ، عن الزهري كما رواه عنه الأوزاعي .
وخالفهم شعيب بن أَبِي حَمْزَة وأسحاق بن راشد وعبيد الله بن أَبِي زياد ، فرووه عَن الزُّهْرِيّ ، عَن عُرْوَةَ ، عَن عُبَيْدِ الله بن عدي .
وكذلك عبد الو أحد بن زياد وغندر ، عَن معمر .
وَقَالَ مُحَمَّد بن ثور : عَن معمر ، عَن الزُّهْرِيّ ، عَن عُبَيْدِ الله بن عدي ، لَمْ يذكر بَيْنَهُمَا أحداً .
وأرسله حماد بن زيد عَن معمر ، عَن الزُّهْرِيّ . وتابعه جَعْفَر بن برقان ، عَن الزُّهْرِيّ .
قَالَ : وحديث حميد بن عَبْد الرحمن هُوَ المحفوظ . قَالَ : ولا يدفع حَدِيْث عُرْوَةَ ، أن يكون الزُّهْرِيّ حفظ عنهما جميعاً .(4/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
ورواه سعد بن إِبْرَاهِيْم بن عَبْد الرحمن بن عوف ، عَن أَبِيه ، عَن عُبَيْدِ الله ابن عدي ، حدث بِهِ مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَنْهُ . انتهى .
وأما مَا ذكره عَن الزبيدي ، عَن الزُّهْرِيّ ، أَنَّهُ لا يصلى خلف المخنث إلا أن لا يجد مِنْهُ بداً .
فالمخنث : هُوَ الَّذِي يتشبه بالنساء فِي هيئته وكلامه .
وكلام الزُّهْرِيّ هَذَا يدل عَلَى أَنَّهُ إذا اضطر إلى الصلاة خلف من يكره صلى وراءه .
وَقَالَ مسرور بن مُحَمَّد : قَالَ الأوزاعي : لا تصل خلف قدري ؛ إلا أن تضطر .
وَقَالَ بقية بن الوليد : سألت الزبيدي : هَلْ يصلى خلف صاحب بدعة أو مكذب بالقدر ؟ فَقَالَ : إن كَانَ والياً فليس من الأمر فِي شيء ، وأنت فِي عذر ، وإن لَمْ يكن والياً فلا تصل خلفه .
وكره آخرون الصلاة خلف أهل الأهواء والفجور :
رَوَى بقية بن الوليد : ثنا حبيب بن عُمَر الأنصاري ، عَن أَبِيه ، قَالَ : سَمِعْت واثلة بن الأسقع يَقُول : لَوْ صليت خلف قدري لأعدت صلاتي .
خرجه حرب الكرماني .
وخرج - أَيْضاً - من طريق نوح بن جعونة : ثنا عَبْد الكريم ، قَالَ : قَالَ ابن عَبَّاس : لأن أصلي خلف جيفة حمار أحب إلي من أن أصلي خلف قدري .
وفي كلا الإسنادين ضعف .
وروى عَن أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَلِيّ ، أَنَّهُ أمر بإعادة الصلاة خلف القدري .
وكذلك سُفْيَان .(4/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
وفرقت طائفة بَيْن البدع المغلظة وغيرها :
فَقَالَ أبو عُبَيْدِ فيمن صلى خلف الجهمي أو الرافضي : يعيد . ومن صلى خلف قدري أو مرجىء أو خارجي : لا آمره بالإعادة .
وكذلك الإمام أحمد ، قَالَ فِي الصلاة خلف الجهمية : إنها تعاد .
والجهمي عنده من يَقُول : القرآن مخلوق ؛ فإنه كافر . أو يقف ولا يَقُول مخلوق ولا غير مخلوق ، ونص أَنَّهُ تعاد الصلاة خلفه - أَيْضاً - ، وقال : لا يصلي خلف من قَالَ : لفظي بالقرآن مخلوق ، وَهُوَ جهمي .
وقال : لا يصلي خلف القدري إذا قَالَ : لا يعلم الشيء حَتَّى يكون ، فهذا كافر ، فإن صلى يعيد .
وَقَالَ - أَيْضاً - فِي القدري : إذا كَانَ داعياً مخاصماً تعاد الصلاة خلفه .
وهذا محمول عَلَى من لا ينكر منهم العلم القديم .
وَقَالَ فِي الخوارج : إذا تغلبوا عَلَى بلد : صلي خلفهم .
وَقَالَ - مرة - : يصلى خلفهم الجمعة ؛ صلى ابن عُمَر خلف نجدة الحروري .
وَقَالَ فِي الرافضي الَّذِي يتناول الصَّحَابَة : لا يصلى خلفه .
وَقَالَ فيمن يقدم علياً عَلَى أَبِي بَكْر وعمر : إن كَانَ جاهلاً لا علم لَهُ فصلى خلفه فأرجو أن لا يكون بِهِ بأس ، وإن كَانَ يتخذه ديناً فلا تصل خلفه .
وَقَالَ فِي المرجىء - وَهُوَ : من لا يدخل الأعمال فِي الإيمان - : إن كَانَ داعياً فلا يصلى خلفه . وَقَالَ فِي الصلاة خلف أهل الأهواء : إذا كَانَ داعيةً ويخاصم فِي بدعته فلا يصلى خلفه ، وإلا فلا بأس .
وهذا محمول عَلَى البدع الَّتِيْ لا يكفر صاحبها ، فأما مَا يكفر صاحبه فتعاد(4/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
الصلاة خلفه ، كما تقدم عَنْهُ .
قَالَ حرب : قُلتُ لأحمد : فتكره الصلاة خلف أهل البدع كلهم ؟ فَقَالَ : إنهم لا يستوون .
وأما الصلاة خلف الفساق ، فَقَالَ أحمد - فيمن يسكر - : لا يصلى خلفه ، وفيمن ترك شيئاً من فرائض الإسلام أو تعامل بالربا : لا يصلي خلفه ، ولا خلف من كل بيعه عينة - يعني : نسأة ، ولا خلف من يكثر كذبه .
وسئل عَن الصلاة خلف من يغتاب النَّاس ؟ فَقَالَ : لَوْ كَانَ كل من عصى الله لا يصلى خلفه ، متى كَانَ يقوم النَّاس عَلَى هَذَا ؟
وفرق - مرة - بَيْن المستتر والمعلن .
قَالَ أحمد بن الْقَاسِم : سئل أحمد عَن الصلاة خلف من لا يرضى ؟ قَالَ : قَدْ اختلف فِيهِ ؛ فإن كَانَ لا يظهر أمره فِي منكر أو فاحشة بينة أو مَا أشبه ذَلِكَ فليصل .
وفرق - مرة - بَيْن الصلاة خلف الأمراء وغيرهم .
قَالَ الميموني : سَمِعْت أحمد قَالَ : إذا كَانَ الإمام من أئمة الأحياء يسكر فلا أحب أن أصلي خلفه البتة ؛ لأن لِي اختيار الأئمة ، وليس هُوَ والي المُسْلِمِين ؛ لأن ابن عُمَر سئل عَن الصلاة خلف الأمراء ؟ فَقَالَ : إنما هِيَ حسنة ، لا أبالي من شركني فيها .
ولهذا المعنى لَمْ يختلف فِي حضور الجمعة والعيدين خلف كل بر وفاجر .
والمشهور عَنْهُ : إعادتها خلف الفاجر ، فإن كَانَ يكفر ببدعته ففي حضورها مَعَهُ روايتان ، ومع حضورها يعيدها ظهراً .
وحكي عَنْهُ : لا يعيد .(4/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
واختلف أصحابنا فِي حكاية المذهب فِي الإعادة خلف الفاسق : فمنهم من قَالَ : فِي الإعادة روايتان مطلقاً .
ومنهم من قالَ : إن لم يعلم فسقه فلا إعادة ، وإن علم ففي الإعادة روايتان .
ومنهم من قَالَ : إن كَانَ مستتراً لَمْ يعد ، وإن كَانَ متظاهراً ففي الإعادة روايتان .
فأما من يكفر ببدعته فحكمه حكم الكفار .
ولذلك فرق إِسْحَاق بن راهوية بَيْن القدري والمرجىء ، فَقَالَ فِي القدري : لا يصلى خلفه . وَقَالَ فِي المرجىء : إن كَانَ داعية لَمْ يصل خلفه .
وَقَالَ حرب : ثنا ابن أَبِي حزم القطعي : ثنا معاذ بن معاذ : ثنا أشعث ، عَن الْحَسَن ، فِي السكران يؤم القوم ؟ قَالَ : إذا أتم الركوع والسجود فَقَدْ أجزأ عنهم .
وَقَالَ مُحَمَّد بن سيرين : يعيدون جميعاً ، والإمام .
وحكى ابن المنذر ، عَن مَالِك ، أَنَّهُ قَالَ : لا يصلى خلف أهل البدع من القدرية وغيرهم ، ويصلى خلف أئمة الجور .
وعن الشَّافِعِيّ : أَنَّهُ يجيز الصلاة خلف من أقام الصلاة ، وإن كَانَ غير محمود فِي دينه .
اختار ابن المنذر هَذَا القول ، مَا لَمْ تخرجه بدعته إلى الكفر .
وفي ( ( تهذيب المدونة ) ) : تجزىء الجمعة وغيرها خلف من ليس بمبتدع من الولاة ، وإذا كَانَ الإمام من أهل الأهواء فلا يصلى خلفه ولا الجمعة ، إلا أن يتقيه ، فليصلها مَعَهُ ، وليعد ظهراً . ووقف مَالِك فِي إعادة من صلى خلف مبتدع . وَقَالَ ابن الْقَاسِم : يعيد فِي الوقت . انتهى .
وفي مصنف عَلَى مذهب سُفْيَان الثوري : تكره إمامة أهل البدع والأهواء(4/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
الداعية إلى ذَلِكَ ؛ سئل سُفْيَان عَن الصلاة خلف الأمراء الذين يقولون : طاعتنا لله طاعة ، ومعصيتنا لله معصية ؟ قَالَ : كَانَ الحجاج يَقُول ذَلِكَ ، وهم يصلون خلف رافضي أو قدري فليعد الصلاة ، ولا يصلى خلف من يَقُول : الإيمان قَوْلِ بلا عمل .
وحديث أَنَس الَّذِي خرجه البخاري فِي هَذَا الباب يستدل بِهِ عَلَى الصلاة خلف أئمة الجور وأعوانهم ؛ وقد جعله البخاري دليلاً عَلَى إمامة المبتدع - أَيْضاً - كما يطاع فِي غير معصية ، إذا كَانَ لَهُ ولاية عَلَى النَّاس ، فإنه أمر بطاعتهم مطلقاً ، مَعَ أَنَّهُ ( أخبر بأنه يكون من بعده ولاة يغيرون ويبدلون ، ونهى عَن قتالهم مَا أقاموا الصلاة ، ولم ينه عَن الصلاة وراءهم ، وإنما أمر بالصلاة فِي الوقت إذا أخر الأمراء الصلاة عَن الوقت ، وأمر بالصلاة معهم نافلة ، وقد سبق هَذَا الحَدِيْث فِي ( ( المواقيت ) ) .
ويستدل بِهِ عَلَى صحة الصلاة النافلة خلف الفاجر .
ومن أصحابنا من قَالَ : تصح النافلة خلفهم بغير خلاف فِي المذهب .
وقد روي عَن أحمد رِوَايَة أخرى أَنَّهُ لا يصلى التروايح خلف من يسكر .
وقد روي حَدِيْث مرفوع فِي كراهة الصلاة خلف الفاجر فِي غير الجمعة .
خرجه ابن ماجه من رِوَايَة عَبْد الله بن مُحَمَّد العدوي ، عَن عَلِيّ بن زيد ، عَن سَعِيد بن المُسَيِّب ، عَن جابر ، قَالَ : خطبنا رَسُول الله ( فَقَالَ : ( ( إن الله قَدْ افترض عليكم الجمعة فِي مقامي هَذَا إلى يوم القيامة ، فمن تركها فِي حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافاً بِهَا ، وجحوداً لها ؛ فلا جمع الله لَهُ شمله ، ولا بارك لَهُ فِي أمره ، ألا ولا صلاة لَهُ ، ولا زكاة لَهُ ، ولا حج(4/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
لَهُ ، ولا بركة حَتَّى يتوب ، ألا لا تؤمن امرأة رجلاً ، ولا يؤم أعرابي مهاجراً ، ألا ولا يؤم فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه وشرطه ) ) .
والعدوي هَذَا ، قَالَ البخاري وأبو حاتم : منكر الحَدِيْث . وَقَالَ أبو حاتم : مجهول . وَقَالَ الدارقطني : متروك .
قَالَ العقيلي : وقد روي هَذَا من وجه آخر يشبه هَذَا فِي الضعف .
وذكر الدارقطني فِي ( ( العلل ) ) أَنَّهُ رواه أبو فَاطِمَة مسكين بن عَبْد الله الطفاوي وحمزة بن حسان ، عَن عَلِيّ بن زيد - أَيْضاً - ، ورواه الثوري عَن عَلِيّ بن زيد أَيْضاً .
ثُمَّ خرجه من طريق مهنأ بن يَحْيَى الشامي - صاحب الإمام أحمد - : حَدَّثَنَا زيد بن أَبِي الزرقاء ، عَن سُفْيَان ، عَن عَلِيّ بن زيد - فذكره مختصراً .
وهذا إسناد قوي ؛ إلا أن الحَدِيْث منكر - : قاله أبو حاتم الرَّازِي .
وَقَالَ الدارقطني : هُوَ غير ثابت .
وَقَالَ ابن عَبْد البر : أسانيده واهية .
قُلتُ : وقد روي أوله من طرق متعددة ، كلها واهية .(4/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
57 - بَاب
يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الإمَامِ بحذائهِ سواءً إذا كَاناَ اثْنَيْنِ
مراده بهذا التبويب : أَنَّهُ إذا اجتمع فِي الصلاة إمام ومأموم فإن المأموم يقوم عَن يمين الإمام بحذائه سواء - أي : مساوياً لَهُ فِي الموقف ، من غير تقدم ولا تأخر .
697 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بن حرب : ثنا شعبة ، عَن الحكم ، قَالَ ك سَمِعْت سَعِيد ابن جبير ، عَن ابن عَبَّاس ، قَالَ : بت فِي بيت خالتي ميمونة ، فصلى رَسُول الله ( العشاء ، ثُمَّ جَاءَ فصلى أربع ركعات ، ثُمَّ نام ، ثُمَّ قام ، فجئت فقمت عَن يساره ، فجعلني عَن يمينه ، فصلى خمس ركعات ، ثُمَّ صلى ركعتين ، ثُمَّ نام حَتَّى سَمِعْت غطيطه - أو قَالَ : خطيطه - ثُمَّ خرج إلى الصلاة .
( ( الغطيط ) ) : صوت تردد النفس ، ومنه : غطيط البكر . و ( ( الخطيط ) ) : نحوه : والغين والخاء متقاربا المخرج .
والمقصود من هَذَا الحَدِيْث فِي هَذَا الباب : أن الإمام إذا لَمْ يأتم بِهِ غير واحد ، فإنه يقيمه عَن يمينه بحذائه ، ولو كَانَ صبياً لَمْ يبلغ الحلم .
وهذا كالإجماع من أهل العلم .
وقد حكاه الترمذي فِي ( ( جامعه ) ) عَن أهل العلم من أصْحَاب النَّبِيّ ( فمن بعدهم ، قالوا : إذا كَانَ الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلُ يقوم عَن يمين الإمام .
وحكاه ابن المنذر عَن أكثر أهل العلم ، وسمى منهم : عُمَر بن الخَطَّاب وابن عُمَر وجابر بن زيد وعروة ومالك وسفيان والأوزاعي والشافعي وأصحاب(4/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
الرأي . قَالَ : وبه نقول .
قُلتُ : وَهُوَ - أَيْضاً - قَوْلِ الشَّعْبِيّ وأحمد وأسحاق .
قَالَ ابن المنذر : وفيه قولان آخران :
أحدهما عَن سَعِيد بن المُسَيِّب ، أَنَّهُ قَالَ : يقيمه عَن يساره .
قُلتُ : وروي - أَيْضاً - عَن النخعي ، أَنَّهُ يقوم من خلفه مَا بينه وبين أن يركع ، فإن جَاءَ أحد وإلا قام عَن يمينه . انتهى .
وروى أبو نعيم : ثنا سُفْيَان ، عَن الْحَسَن بن عُبَيْدِ الله ، عَن إِبْرَاهِيْم ، قَالَ : كُنْتُ أقوم خلف علقمة حَتَّى ينزل المؤذن قائماً ، كَانَ يقوم خلفه إذا علم أَنَّهُ يلحق غيره قريباً .
وروى وكيع فِي ( ( كتابه ) ) عَن الْحَسَن ، قَالَ : إذا صلى الرَّجُلُ ومعه رَجُل واحد ونساء ؛ أقام الرَّجُلُ خلفه وأقام النِّسَاء خلف الرَّجُلُ .
وقد روي فِي حَدِيْث ابن عَبَّاس ، أن النَّبِيّ ( أقامه عَن يساره ، وروي أَنَّهُ قام خلفه ، وكلاهما لا يصح .
أما الأول : فمن رِوَايَة كثير بن زيد ، عَن يزيد بن أَبِي زياد ، عَن كريب ، عَن ابن عَبَّاس - فذكر الحَدِيْث ، وفيه : قَالَ : فقمت عَن يمينه ، فأخذني فجعلني عَن يساره .
قَالَ مُسْلِم فِي كِتَاب ( ( التمييز ) ) : هَذَا غلط غير محفوظ ؛ لتتابع الأخبار الصحاح برواية الثقات عَلَى خلاف ذَلِكَ ، أن ابن عَبَّاس إنما قام عَلَى يسار النَّبِيّ ( فحوله حَتَّى أقامه عَن يمينه .
ثُمَّ خرجه من طرق متعددة ، عَن كريب ، عَن ابن عَبَّاس كذلك . ومن طريق سَعِيد بن جبير وعطاء وأبي نضرة والشعبي وطاوس وعكرمة ، كلهم عَن ابن عَبَّاس كذلك .(4/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
وأما الثاني : فخرجه أبو نعيم فِي ( ( الحلية ) ) من رِوَايَة أَبِي يزيد الخراز : ثنا النضر بن شميل : ثنا يونس ، عَن أَبِي إِسْحَاق : حَدَّثَنِي عَبْد المؤمن الأنصاري ، قَالَ : قَالَ ابن عَبَّاس ، كُنْتُ عِنْدَ رَسُول الله ( ، فقام إلى سقاء فتوضأ وشرب قائماً ، فقمت فتوضأت وشربت قائماً ، ثُمَّ صففت خلفه ، فأشار إلي لأوازي بِهِ أقوم عَن يمينه ، فأبيت ، فلما قضى صلاته قَالَ : ( ( مَا منعك [ أن لا تكون ] وازيت بي ؟ ) ) قُلتُ : يَا رَسُول الله ، أنت أجل فِي عيني وأعز من أن أوازي بك . فَقَالَ : ( ( اللهم ، آته الحكمة ) ) .
إسنادمجهول ؛ فلا تعارض بِهِ الروايات الصحيحة الثابتة .
وقد روي من وجه أصح ممن هَذَا ، أَنَّهُ وقف خلفه فقدمه إلى يمينه .
خرجه أبو نعيم فِي ( ( كِتَاب الصلاة ) ) : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن شريك : ثنا عَكْرِمَة بن خَالِد ، قَالَ : قَالَ ابن عَبَّاس : بت عِنْدَ رَسُول الله ( فِي بيت ميمونة - وهي خالته - ، فلما قام النَّبِيّ ( من الليل يصلي قمت خلفه ، فأهوى بيده فأخذ برأسي ، فأقامني عَن يمينه إلى جنبه .
مُحَمَّد بن شريك هَذَا ، مكي ، وثقه الإمام أحمد .
وقد دل حَدِيْث ابن عَبَّاس هَذَا عَلَى انعقاد الجماعة بالصبي فِي النفل ، وهذا متنف عَلِيهِ ، فأما فِي الفرض ففيه روايتان عَن أحمد ، والأكثرون عَلَى انعقاده بالصبي - أَيْضاً - ، وَهُوَ قَوْلِ أبي حنيفة والشافعي ؛ لأن الصبي يصح نفله ، والجماعة تنعقد بالمتنفل ، وإن كَانَ الإمام مفترضأ ؛ بدليل قَوْلِ النَّبِيّ ( : ( ( من يتصدق عَلَى هَذَا فيصلي مَعَهُ ؟ ) ) .(4/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
58 - بَاب
إذا قَامَ عَنْ يَسَار الإمَامِ فَحوَّلهُ الإمَامُ إلى يَمِيِنهِ
لَمْ تَفْسُدْ صَلاَتُهُ
698 - حَدَّثَنَا أحمد : ثنا ابن وهب : ثنا عَمْرِو ، عَن عَبْد ربه بن سَعِيد ، عَن مخرمه بن سُلَيْمَان ، عَن كريب ، عَن ابن عَبَّاس ، قَالَ : نمت عِنْدَ ميمونة والنبي ( عندها تلك الليلة ، فتوضأ ، ثُمَّ قام يصلي ، فقمت عَن يساره ، فأخذني فجعلني عَن يمينه ، فصلى ثلاث عشرة ركعة ، ثُمَّ نام حَتَّى نفخ - وكان إذا نام نفخ - حَتَّى أتاه المؤذن ، فخرج فصلى ولم يتوضأ .
قَالَ عَمْرِو : فحدثت بِهِ بكيراً ، فَقَالَ : حَدَّثَنِي كريب بذلك .
( ( أحمد ) ) هَذَا غير منسوب ، قَدْ رَوَى عَنْهُ البخاري فِي مواضع عَن عَبْد الله بن وهب ، وقد اختلف فِيهِ :
فَقِيلَ : هُوَ أحمد بن عَبْد الرحمن بن وهب ابن أخي عَبْد الله بن وهب - : قاله أبو أحمد الحَاكِم وغيره .
وأنكر آخرون أن يكون البخاري رَوَى عَن ابن أخي ابن وهب فِي
( ( صحيحه ) ) ؛ لما اشتهر من الطعن عَلِيهِ ، لا سيما فِي آخر عمره .
وقالوا : إنه أحمد بن صالح ، أو أحمد بن عيسى التستري ؛ فإنهما يرويان عَن ابن وهب ، وقد رَوَى البخاري عنهما فِي ( ( كتابه ) ) من غير شك .
ومن قَالَ : إن أحمد هَذَا ، هُوَ : ابن حَنْبل ، فَقَدْ أخطأ ؛ فإن الإمام أحمد لا يروي عَن ابن وهب ، بل عَن أصحابه .
والأظهر : أَنَّهُ أحمد بن صالح ؛ وبذلك جزم أبو عَبْد الله بن منده ، قَالَ :(4/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
لَمْ يخرج البخاري عَن أحمد بن عَبْد الرحمن فِي ( ( صحيحه ) ) شيئاً ، وكلما قَالَ فِي ( ( الصحيح ) ) : ( ( حَدَّثَنَا أحمد : ثنا ابن وهب ) ) فهو ابن صالح المصري ، وإذا رَوَى عَن أحمد بن عيسى نسبه . والله أعلم .
وقد استدل البخاري بهذا الحَدِيْث عَلَى أن من قام عَن يسار الإمام ، فحوله إلى يمينه لَمْ تفسد صلاته - وفي بعض النسخ : صلاتهما - ، أما صلاة الإمام فلا تفسد بمده لَهُ بيده وتحويله من جانب إلى جانب .
وقد خرج البخاري هَذَا الحَدِيْث فيما بعد ، وفيه : أَنَّهُ أخذ برأسه من ورائه ، فجعله عَلَى يمينه .
وإنما حوله النَّبِيّ ( من وراء ظهره لئلا يكون ماراً فِي قبلته .
وقد خرجه مُسْلِم من حَدِيْث عَطَاء ، عَن ابن عَبَّاس ، وفي حديثه : قَالَ : فقمت إلى شقه الأيسر ، فأخذني من وراء ظهره ، فعدلني كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن .
وفي رِوَايَة لَهُ - أَيْضاً - فتناولني من خلف ظهره ، فجعلني عَلَى يمينه .
وقيل فِيهِ معنى آخر ، وَهُوَ : أَنَّهُ لَوْ أداره من بَيْن يديه لتقدم المأموم عَلَى إمامه فِي الموقف ، وأما صلاة المأموم فلا تفسد بمشية من أحد جانبي الإمام إلى جانبه الآخر ؛ لأن هَذَا عمل يسير فِي الصلاة فلا تفسد بِهِ الصلاة .
وقد اختلف النَّاس فِي حد العمل اليسير الَّذِي يعفى عَنْهُ فِي الصلاة فلا يبطلها .
فالصحيح عِنْدَ أصحابنا أَنَّهُ يرجع فِيهِ إلى عرف النَّاس من غير تقدير لَهُ بمرة أو مرتين .(4/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
ومنهم من قدره بالمرة والمرتين ، وجعل الثلاث فِي حد الكثرة ، وكلام أحمد مخالف لهذا مَعَ مخالفته للسنن والآثار الكثيرة .
وللشافعية فِي الخطوتين والضربتين وجهان .
ومن الحنفية من قَالَ : الكثير ، مَا لَمْ يمكن إقامته إلا باليدين كالإرضاع ، واليسير : مَا يمكن بإحداهما .
ومنهم من قَالَ : الكثير : مَا لَوْ رآه الناظر لا ستيقن أَنَّهُ ليس فِي صلاة .
واليسير : بخلافه .
ومنهم من قدر المشي المبطل بما جاوز محل السجود .
والرجوع فِيهِ إلى العرف أظهر ؛ لأنه ليس لَهُ حد فِي الشرع .
وقد وردت السنة بالعفو عما لا يعد كثثيراً عرفاً ، كتأخيره وتأخير الصفوف خلفه فِي صلاة الكسوف . ومشيه حَتَّى فتح الباب لعائشة . وقد تأخر أبو بَكْر بحضوته من مقام الإمام حَتَّى قام فِي صف المأمومين ، ورفع يديه وحمد الله .
وأذن فِي قتل الحية والعقوب فِي الصلاة ، وكل هذه الأفعال تزيد عَلَى المرتين والثلاث .
وقد سبق القول فِي حمله ( أمامه فِي الصلاة ، وأنه كَانَ يحملها إذا قام ويضعها إذا ركع .
واستدل بحديث ابن عَبَّاس المخرج فِي هَذَا الباب الشَّافِعِيّ ومن وافقه عَلَى أن من أساء الموقف وصلى عَن يسار الإمام ، فإن صلاته صحيحة مَعَ الكراهة ، وألحقوا بِهِ من صلى خلف الصف وحده .
ووجه استدلالهم بِهِ : أن النَّبِيّ ( لَمْ يبطل تحريمته وأقره عَلَى البناء عَلَيْهَا .
وأما الإمام أحمد ، فعنده لا تصح صلاة من وقف عَلَى يسار الإمام إذا لَمْ(4/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
يكن عَن يمينه أحد .
وإنما يبطل عنده إذا استمر فِي موقفه حَتَّى ركع الإمام ورفع ، فأما إن كبر عَلَى يسار الإمام ، ثُمَّ تحول إلى يمينه ، أو وقف عَن يمين الإمام آخر قَبْلَ الركوع ، فإن الصلاة عنده صحيحة .
وكذا لَوْ جَاءَ آخر إلى خلف الإمام ، فتأخر القائم عَن يساره إلى القائم خلفه ، فاصطفا جميعاً قَبْلَ الركوع .
وحكى القاضي فِي ( ( شرح المذهب ) ) عَن ابن حامد ، أَنَّهُ حكى رِوَايَة عَن
أحمد ، أَنَّهُ يصح الوقوف عَن يسار الإمام فِي النافلة خاصة ، كما كبر ابن عَبَّاس عَن يسار النَّبِيّ ( فِي النافلة .
والصحيح عَن أحمد : الأول .
فإن قيلَ : فَقَدْ صلى النَّبِيّ ( بجابر عَن يمينه ، ثُمَّ جَاءَ آخر فقام عَن يساره ، فأخرهما النَّبِيّ ( .
خرجه مُسْلِم فِي ( ( صحيحه ) ) .
ولم يدل ذَلِكَ عَلَى أن صلاة الاثنين عَن جانبي الإمام لا تصح .
قيل : إنما صح قيام الاثنين عَن جانبي الإمام ؛ لأن ابن مَسْعُود فعله ، ورواه عَن النَّبِيّ ( ، وليس فِي القيام عَن يسار الإمام نَصَّ يدل عَلَى صحة صلاة من أتم صلاته عَن يساره . والله أعلم .
وأيضاً ؛ فالوقوف عَن جانبي الإمام مشروع فِي حق العراة وحق النِّسَاء ، وأما القيام عَن يساره خاصة ، فليس بمشروع بحال .(4/197)
"""""" صفحة رقم 198 """"""
59 - بَاب
إذا لَمْ ينوِ الإمامُ أنْ يؤمٌ ، ثُمَّ جَاءَ قوْمٌ فَأَمَّهُمْ
699 - حَدَّثَنَا مسدد ، قَالَ : ثنا إسماعيل بن إِبْرَاهِيْم ، عَن أيوب ، عَن عَبْد الله ابن سَعِيد بن جبير ، عَن أَبِيه ، عَن ابن عَبَّاس ، قَالَ : بت عِنْدَ خالتي ميمونة ، فقام النَّبِيّ ( يصلي من الليل ، فقمت أصلي مَعَهُ ، فقمت عَن يساره ، فأخذ برأسي وأقامني عَن يمينه .
استدل البخاري بهذا عَلَى أن من أحرم بالصلاة منفرداً ، ثُمَّ حضر فِي أثناء الصلاة من ائتم بِهِ ، فإنه ينوي الإمامة ، وتصح صلاته وصلاة من ائتم بِهِ عَلَى هذه الحال .
فتضمن ذَلِكَ مسألتين مختلفاً فيهما :
إحداهما :
أن من لَمْ ينو الإمامة فِي ابتداء صلاته : هَلْ يصح أن يأتم بِهِ غيره ، أم لا ؟ وفي المسألة أقوال :
أحدها : يجوز ذَلِكَ ، فلا يشترط أن ينوي الإمام الإمامة ، بل لَوْ نوى المأموم الاقتداء بمنفرد جاز ، هَذَا قَوْلِ مَالِك والشافعي والثوري - فِي رِوَايَة - وزفر ، وحكي رِوَايَة عَن أحمد .
والقول الثاني : لا يجوز بحال ، وَهُوَ ظاهر مذهب أحمد ، وقول الثوري - فِي رِوَايَة إِسْحَاق .
واستدل لهم بأن الجماعة قربة وعبادة ، فلا تنعقد إلا بإمام ومأموم ، وفضلها(4/198)
"""""" صفحة رقم 199 """"""
مشترك بَيْنَهُمَا ، فلا يحصل لهما ذَلِكَ بدون النية ، عملاً بظاهر قوله ( : ( ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لأمرىء مَا نوى ) ) .
وأجاب بعض أصحابنا عَن حَدِيْث ابن عَبَّاس ، بأن النَّبِيّ ( إمام الخلق عَلَى كل حال ، فلا يحتاج إلى نيةة الإمامة ، فلا يلحق بِهِ غيره .
والقول الثالث : يصح ذَلِكَ فِي الفرض دون النفل ، وَهُوَ رِوَايَة منصوصة عَن أحمد ، استدلالاً بحديث ابن عَبَّاس هَذَا .
والقول الرابع : إن أم رَجُل رجلاً لَمْ يحتج أن ينوي الإمامة ، وإن أم امرأة احتاج إلى نية الإمامة ، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة وصاحبيه .
المسألة الثانية :
إذا أحرم منفرداً ، ثُمَّ نوى الإمامة ، وفي - أَيْضاً - أقوال :
أحدها : أَنَّهُ لا يجوز ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلِ أكثر أصحابنا ، وبناء عَلَى أصلهم فِي أن الإمام يشترط أن ينوي الإمامة عَلَى مَا سبق ، فيصير ذَلِكَ من ابتداء صلاته .
والثاني : يجوز ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة ومالك والشافعي ، بناء عَلَى أصولهم فِي أن نية الإمام للأمامة ليس شرطاً ، عَلَى مَا سبق .
ووافقهم بعض أصحابنا لمعنى آخر ، وَهُوَ : أن طرفي الصلاة يجوز أن يكون فِي أولها إماماً وفي الآخر منفرداً ، وَهُوَ المسبوق إذا استخلفه الإمام ، فكذا بالعكس .
والثالث : أَنَّهُ يجوز فِي الفرض دون النفل ، وَهُوَ المنصوص عَن أحمد ؛ لحديث ابن عَبَّاس هَذَا .
والظاهر : أن النَّبِيّ ( نوى إمامته حينئذ ؛ لأنه أداره إلى يمينه ، وأوقفه موقف المأموم .(4/199)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
وفي معناه : حَدِيْث : صلاة المنبي ( بالليل فِي رمضان فِي حجرته ، واقتداء النَّاس بِهِ فِي المسجد ، وسيذكره البخاري فيما بعد .(4/200)
"""""" صفحة رقم 201 """"""
60 - بَاب
إذا طَوَّلَ الإمامُ وَكَانَ للرَّجُلِ حَاجَةٌ فَخَرجَ وَلمْ يُصَلِّ
700 - حَدَّثَنَا مُسْلِم بن إِبْرَاهِيْم ، قَالَ : ثنا شعبة ، عَن عَمْرِو ، عَن جابر بن عَبْد الله ، أن معاذ بن جبل كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيّ ( ، ثُمَّ يرجع فيؤم قومه .
701 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن بشار : ثنا غندر : ثنا شعبة ، عَن عَمْرِو : سَمِعْت جابر بن عَبْد الله قَالَ : كَانَ معاذ بن جبل يصلي مَعَ النَّبِيّ ( ، ثُمَّ يرجع فيؤم قومه ، فيصلي العشاء ، فقرأ بالبقرة فانصرف رَجُل ، فكأن معاذاً تناول مِنْهُ ، فبلغ النَّبِيّ ( ، فَقَالَ : ( ( فتان ) ) - ثلاث مرار - ، أو قَالَ : ( ( فاتن ) ) - ثلاث مرار - ، وأمره بسورتين من أوسط المفضل .
قَالَ عَمْرِو : لا أحفظهما .
خرجه عالياً مختصراً ، ثُمَّ خرجه بتمامه نازلاً ، وفي سياقه موضع الاستدلال بِهِ عَلَى مَا بوب عَلِيهِ ، وَهُوَ : انصراف الرَّجُلُ لما قرأ معاذ بسورة البقرة .
وفيه : دليل عَلَى أن الصَّحَابَة لَمْ يكن من عادتهم قراءة بعض سورة فِي الفرض ؛ فإن معاذاً لما افتتح سورة البقرة علم الرَّجُلُ أَنَّهُ يكملها فِي صلاته ، فلذلك انصرف .
وقد خرجه مُسْلِم من حَدِيْث سُفْيَان - هُوَ : ابن عُيَيْنَة - ، عَن عَمْرِو ، عَن جابر ، وَقَالَ فِي حديثه : فافتتح بسورة البقرة ، فانحرف رَجُل فسلم ، ثُمَّ صلى وحده وانصرف ، فقالوا لَهُ : أنافقت يَا فلان ؟ قَالَ : لا ، والله ، ولآتين(4/201)
"""""" صفحة رقم 202 """"""
رَسُول الله ( فلأخبرنه ، فأتى رَسُول الله ( فأخبره ، فَقَالَ : يَا رَسُول الله ، إنا أصْحَاب نواضح ، نعمل بالنهار ، وإن معاذاً صلى معك العشاء ، ثُمَّ أتى فافتتح بسورة البقرة ، فأقبل رَسُول الله ( عَلَى معاذ ، فَقَالَ : ( ( يَا معاذ ، أفتان أنت ؟ ) ) - وذكر الحَدِيْث .
ففي هذه الرواية : أَنَّهُ انصرف بمجرد افتتاح معاذ للبقرة .
وفيها : أَنَّهُ سلم ثُمَّ صلى وحده وانصرف ، ولم ينكر عَلِيهِ النببي ( ذَلِكَ .
وذكر البيهقي فِي ( ( كِتَاب المعرفة ) ) : أن هذه الزيادة - يعني : سلام الرَّجُلُ - تفرد بِهَا مُحَمَّد بن عباد ، عَن سُفْيَان . قَالَ : لا أدري هَلْ حفظها عَن سُفْيَان ، أم لا ؛ لكثرة من رواه عَن سُفْيَان بدونها ؟
وقد خرجه النسائي من طريق سُفْيَان - أَيْضاً - ، وزاد فِيهِ بعد قوله : ( ( فاستفتح بسورة البقرة ) ) : ( ( فلما سَمِعْت ذَلِكَ تأخرت فصليت ) ) .
وخرجه - أَيْضاً - من طريق الأعمش ، عَن محارب بن دثار وأبي صالح ، عَن جابر ، وفي حديثه : أن معاذاً أمر الرَّجُلُ للنبي ( ، فأرسل إليه النَّبِيّ ( ، فَقَالَ : ( ( مَا حملك عَلَى الَّذِي صنعت ؟ ) ) فَقَالَ : يَا رَسُول الله ، علمت عَلَى ناضح من النهار ، فجئت وقد أقيمت الصلاة ، فدخلت المسجد فدخلت مَعَهُ فِي الصلاة ، وقرأ سورة كذا وكذا وطول ، فانصرفت فصليت فِي ناحية المسجد . فَقَالَ رَسُول الله ( : ( ( أفتان يَا معاذ ؟ ) ) .
فيستدل بهذا : عَلَى أن الإمام إذا طول عَلَى المأموم وشق عَلِيهِ إتمام الصلاة مَعَهُ ؛ لتعبه أو غلبه النعاس عَلِيهِ أن لَهُ أن يقطع صلاته مَعَهُ ، ويكون ذَلِكَ عذراً فِي قطع الصلاة المفروضة ، وفي سقوط الجماعة فِي هذه الحال ، وأنه يجوز أن(4/202)
"""""" صفحة رقم 203 """"""
يصلي لنفسه منفرداً فِي المسجد ثُمَّ يذهب ، وإن كان الإمام يصلي فِيهِ بالناس .
قَالَ سُفْيَان : إذا خشي عَلَى غنمه الذئب ، أو عَلَى دابته أن تؤخذ ، أو عَلَى صبيه أن يأكله الذئب ، فلا بأس أن يقطع صلاته ويذهب إليه .
وَقَالَ الْحَسَن وقتادة ، فِي رَجُل كَانَ يصلي فأشفق أن تذهب دابته ، أو أغار عَلَيْهَا السبع ؟ قَالا : ينصرف . قيلَ لقتادة : يرى سارقاً يريد أن يأخذ نعليه ؟ قَالَ : ينصرف .
ولو طول الإمام تطويلاً فاحشاً ، أو حدث للمأموم عذر ، مثل حدوث مرض ، أو سماع حريق وقع فِي داره ، أو خاف فساد طعام لَهُ عَلَى النار ، أو ذهاب دابة لَهُ عَلَى بَاب المسجد ونحو ذَلِكَ ، فنوى مفارقة إمامه ، وأتم صلاته منفرداً ، وانصرف جاز ذَلِكَ عِنْدَ أصحابنا - أَيْضاً - وحكوه عَن الشَّافِعِيّ وأبي يوسف ومحمد .
وعن مَالِك وأبي حنيفة : تبطل صلاته بذلك .
واستدل أصحابنا بما رَوَى الإمام أحمد فِي ( ( مسنده ) ) : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل - هُوَ : ابن علية - : ثنا عَبْد العزيز بن صهيب ، عَن أَنَس ، قَالَ : كَانَ معاذ بن جبل يؤم قومه ، فدخل حرام وَهُوَ يريد أن يسقي نخله ، فدخل المسجد مَعَ القوم ، فلما رأى معاذاً طول تجوز فِي صلاته ولحق بنخلة يسقيه ، فلما قضى معاذ الصلاة قيلَ لَهُ : إن حراماً دَخَلَ المسجد ، فلما رآك طويت تجوز فِي صلاته ولحق نخلة يسقيه . قَالَ : إنه لمنافق ، أيعجل عَن الصلاة من أجل سقي نخلة ؟ قَالَ : فجاء حرام إلى النَّبِيّ ( ومعاذ عنده ، فَقَالَ : يَا بني الله ؛ إني أردت أن أسقي نخلاً لِي ، فدخلت المسجد لأصلي مَعَ القوم ، فلما طول(4/203)
"""""" صفحة رقم 204 """"""
تجوزت فِي صلاتي ولحقت بنخلي أسقيه ، فزعم أنى منافق ، فأقبل النَّبِيّ ( عَلَى معاذ ، فَقَالَ : ( ( أفتان أنت ؟ لا تطول بهم ؛ أقرأ ب ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ( [ الأعلى : 1 ] ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( [ الشمس : 1 ] ونحوهما ) ) .
وخرج - أَيْضاً - من طريق حسين بن واقد ، عَن عَبْد الله بن بريدة ، عَن أَبِيه ، أن معاذ بن جبل صلى بأصحابه العشاء ، فقرأ فيها ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ( [ القمر : 1 ] فقام رَجُل من قَبْلَ أن يفرغ ، فصلى وذهب ، فَقَالَ لَهُ معاذ قولاً شديداً ، فأتى النَّبِيّ ( واعتذر إليه ، وَقَالَ : إني كُنْتُ أعمل فِي نخل ، وخفت عَلَى الماء ، فَقَالَ رَسُول الله ( - يعني لمعاذ - : ( ( صل بالشمس وضحاها ونحوها من السور ) ) .
وروى مُحَمَّد بن عجلان ، عَن عُبَيْدِ الله بن مقسم ، عَن جابر هذه القصة بطولها ، وفيها : فصلى خلفه فتى من قومه ، فلما طال عَلَى الفتى صلى وخرج . وفي هَذَا الحَدِيْث : أن معاذاً أخبر النَّبِيّ ( بما صنع الفتى ، فَقَالَ : يَا رَسُول الله ، يطيل المكث عندك ، ثُمَّ يرجع فيطول علينا . فَقَالَ : ( ( أفتان أنت يَا معاذ ؟ ) ) - وذكر الحَدِيْث .
خرجه أبو داود ، مختصراً لَمْ يتمه .
وَقَالَ أصحابنا : هذه قصة أخرى غير قصة الَّذِي سلم من صلاته وصلى لنفسه وانصرف .
وقد روي أن الرَّجُلُ صلى قَبْلَ أن يجيء معاذ ، وانصرف لما أبطأ معاذ ، وأن اسمه : سليم .
وهذا يدل عَلَى أن هذه قصة أخرى غير قصة حرام .(4/204)
"""""" صفحة رقم 205 """"""
فروى أسامة بن زيد : سَمِعْت معاذ بن عَبْد الله بن خبيب ، قَالَ : سَمِعْت جابر بن عَبْد الله ، قَالَ : كَانَ معاذ يتخلف عِنْدَ رَسُول الله ( ، فكان إذا جَاءَ أم بقومه ، وكان رَجُل من بني سَلَمَة - يقال لَهُ : سليم - يصلي مَعَ معاذ ، فاحتبس معاذ عنهم ليلة ، فصلى سليم ثُمَّ انصرف - وذكر الحَدِيْث ، وفيه : أن النَّبِيّ ( سأل سليماً : كَيْفَ صلى ؟ فَقَالَ : قرأت بفاتحة الكتاب سورة ، ثُمَّ قعدت وتشهدت ، وسألت الجن وتعوذت من النار ، وصليت عَلَى النَّبِيّ ( ، ثُمَّ انصرفت ، وليس أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ . فضحك النَّبِيّ ( ، ثُمَّ قَالَ : ( ( هَلْ أدندن أنا أو معاذ إلا لندخل الجنة ونعاذ من النار ؟ ) ) ثُمَّ أرسل إلى معاذ : ( ( لا تكن فتاناً تفتن النَّاس ، ارجع إليهم فصل بهم قَبْلَ أن يناموا ) ) .
خرجه البزار .
وقد روي أن اسم الرَّجُلُ حزم بن [ أَبِي ] كعب .
وقد خرج أبو داود حديثه مختصراً .
وهذا يستدل بِهِ عَلَى أنها وقائع متعددة .
ولم نقف فِي شيء من الروايات عَلَى أن الرجل قطع صلاته وخرج من المسجد ولم يصل ، كما بوب عَلِيهِ البخاري . وفي بعض النسخ : ( ( فخرج فصلى ) ) ، وَهُوَ أصح .
ولو فارق المأموم لغير عذر ، لَمْ يجز فِي أصح الروايتين عَن أحمد ، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة ومالك . والثانية : يجوز ، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي يوسف ومحمد .
وللشافعي قولان .
واستدلوا عَلَى أَنَّهُ لا يجوز ، وأن الصلاة تبطل بِهِ بقول النَّبِيّ ( : ( ( إنما(4/205)
"""""" صفحة رقم 206 """"""
الإمام ليؤتم بِهِ ، فلا تختلفوا عَلِيهِ ) ) ، ومفارقته من غير عذر من الاختلاف عَلِيهِ .
وأيضاً ؛ فَقَدْ سبق الاستدلال عَلَى وجوب الجماعة ، والواجب إذا مَا شرع فِيهِ لَمْ يجز إبطاله وقطعه لغير عذر ، كأصل الصلاة . والله سبحانه وتعالى أعلم .(4/206)
"""""" صفحة رقم 207 """"""
61 - بَاب
تَخْفيفِ الإمامِ فِي القيَامِ وإتْمامِ الرُّكُوعََ والسُّجُوِد
702 - حَدَّثَنَا أحمد بن يونس : ثنا زهير : ثنا إِسْمَاعِيل : سَمِعْت قيساً قَالَ : أخبرني أبو مَسْعُود ، أن رجلاً قَالَ : والله يَا رَسُول الله ، إني لأتأخر عَن صلاة الغداة من أجل فلان مِمَّا يطيل بنا . فما رأيت رَسُول الله ( فِي موعظة أشد غضباً مِنْهُ يومئذ ، ثُمَّ قَالَ : ( ( إن منكم منفرين ، فأيكم مَا صلى بالناس فليتجوز ؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة ) ) .
فِي هَذَا الحَدِيْث : أن الإمام مأمور بالتخفيف خشية الإطالة عَلَى من خلفه ؛ فإنه لا يخلو بعضهم من عذر كالضعيف والكبير وذي الحاجة .
وهذا يدل عَلَى أن الأمر بالتخفيف إنما يتوجه إلى إمام يصلي فِي مسجد يغشاه النَّاس .
قَالَ حَنْبل بن إِسْحَاق : قالو أبو عَبْد الله - يعني : أحمد - : إذا كَانَ المسجد عَلَى قارعة الطريق أو طريق يسلك فالتخفيف أعجب إلي ، فإن كَانَ مسجداً يعتزل أهله ويرضون بذلك فلابأس ، وأرجو - إن شاء الله .
وقالت طائفة : عَلَى الإمام أن يخفف بكل حال .
ورجحه ابن عَبْد البر ، قَالَ : لأنه وإن علم قوة من خلفه ، فإنه لا يدري مَا يحدث بهم من آفات بني آدم . وذكر أن تطويل الإمام غير جائز ، وأنه يلزمه النخفيف .
وَقَالَ عَبْد الله بن أحمد : سألت أَبِي عَن الحَدِيْث الَّذِي جَاءَ عَن النَّبِيّ ((4/207)
"""""" صفحة رقم 208 """"""
فِي صلاته ، قَالَ : ( ( وكان قيامه وركوعه وسجوده وقعوده بَيْن السجدتين قريباً من السواء ) ) : مَا تفسير ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : أحب إلي أن يخفف ، ولا يشق عَلَى من خلفه ، وقد روي عَن النَّبِيّ ( فِي التخفيف أحاديث .
قَالَ أبو بَكْر عَبْد العزيز بن جَعْفَر من أصحابنا : قَدْ يجوز أن يكون رَسُول الله ( استعمل ذَلِكَ فِي نفسه إذا كَانَ مصلياً ، وقد أمر أئمته بالتخفيف ، فيتوجه الحديثان عَلَى معنيين .
كذا قَالَ : وفيه نظر ؛ فإن النَّبِيّ ( كَانَ يخفف ويوجز ويتم الصلاة ، فَلَمْ يكن يفعل خلاف مَا أمر بِهِ الأئمة .
وليس فِي حَدِيْث أَبِي مَسْعُود الَّذِي خرجه هاهنا مَا يدل عَلَى مَا بوب عَلِيهِ من تخفيف القيام وإتمام الركوع والسجود ، وقد خرج فيما بعد حَدِيْث أَنَس ، أن النَّبِيّ ( كَانَ يوجز ويتم .
وقد رويت أحاديث فِي التخفيف مَعَ إتمام الركوع والسجود ، وهي مطابقة لترجمة هَذَا الباب ، لكن ليست عَلَى شرط هَذَا ( ( الكتاب ) ) .
فخرج الإمام أحمد من حَدِيْث مَالِك بن عَبْد الله الخثعمي ، قَالَ : غزوت مَعَ رَسُول الله ( ، فَلَمْ أصل خلف إمام كَانَ أوجز مِنْهُ صلاة فِي تمام الركوع والسجود .
ومن حَدِيْث عدي بن حاتم ، قَالَ : من أمنا فليتم الركوع والسجود ؛ فإن
فينا الضعيف والكبير والمريض والعابر السبيل وذا الحاجة ، هكذا كنا نصلي مَعَ رَسُول الله ( .(4/208)
"""""" صفحة رقم 209 """"""
وخرجه الطبراني ، ولفظه : أن عدي بن حاتم خرج إلى مجلسهم ، فأقيمت الصلاة فتقدم إمامهم ، فأطال الصلاة والجلوس , فلما انصرف قَالَ : من أَمنا منكم فليتم الركوع والسجود ؛ فإن خلفه الصغير والكبير والمريض وابن السبيل وذا الحاجة , فلما حضرت الصلاة تقدم عدي فأتم الركوع والسجود ، وتجوز فِي الصلاة ، فلما انصرف قَالَ : هكذا كنا نصلي خلف النَّبِيّ ( .
وخرج الطبراني وغيره من حَدِيْث نَافِع بن خَالِد الخزاعي : حَدَّثَنِي أَبِي - وكان من أصْحَاب الشجرة - أن النَّبِيّ ( كَانَ إذا صلى والناس ينظرون صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود .
فَقَدْ ثبت أن النَّبِيّ ( كَانَ إذا صلى بالناس فإنه يخفف عنهم ، وإذا صلى لنفسه يطول .
وفي ( ( مسند الإمام أحمد ) ) عَن أَبِي واقد الليثي ، قَالَ : كَانَ النَّبِيّ ( أخف النَّاس صلاة بالناس ، وأطول النَّاس صلاة لنفسه .
فالصلاة الَّتِيْ كَانَ النَّبِيّ ( يصليها بالناس هِيَ النخفيف الَّذِي أمر بِهِ غيره ، وإنما أنكر عَلَى من طول تطويلاً زائداً عَلَى ذَلِكَ ، فإن معاذ بن جبل كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيّ ( بالمدينة صلاة العشاء ، وكان النَّبِيّ ( يؤخرها كثيراً ، كما سبق ذكره فِي ( المواقيت ) ) ، ثُمَّ ينطلق إلى قومه فِي بني سَلَمَة فيصلي بهم ، وقد استفتح حينئذ بسورة البقرة ، فهذا هُوَ الَّذِي أنكره عَلَى معاذ .
ويشهد لهذا : حَدِيْث ابن عُمَر ، قَالَ : كَانَ رَسُول الله ( ليأمرنا بالتخفيف ، وإن كَانَ ليؤمنا بالصافات .
خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة فِي ( ( صحيحه ) ) .(4/209)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
والمراد : أن التخفيف المأمور بِهِ هُوَ مَا كَانَ يفعله ، ومن كَانَ يفهم أَنَّهُ كَانَ يفعل خلاف مَا أمر بِهِ - كما أشعر بِهِ تبويب النسائي - فَقَدْ وهم .
وفي ( ( صحيح مُسْلِم ) ) عَن سماك ، قَالَ : سألت جابر بن سمرة عَن صلاة النَّبِيّ ( ، فَقَالَ : كَانَ يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء . قَالَ : وأنبأني أن رَسُول الله ( كَانَ يقرأ فِي الفجر ب ( ( قاف والقرآن المجيد ) ) ، ونحوها من السور .
وخرجه الحَاكِم ، ولفظه : كَانَ النَّبِيّ ( يصلي نحواً من صلاتكم ، ولكنه يخفف الصلاة ، كَانَ يقرأ فِي الفجر بالواقعة ونحوها من السور .
فصرح بأن تخفيفه هُوَ قرءاته بهذه السورة .
وروى عَبْد الجبار بن العباس ، عَن عمار الدهني ، عَن الأعمش ، عَن إبراهيم التيمي ، قَالَ : كَانَ أَبِي ترك الصلاة مَعَنَا ، قَالَ : إنكم تخففون .
قُلتُ : فأين قَوْلِ النَّبِيّ ( : ( ( إن فيكم الكبير والضعيف وذا الحاجة ؟ ) ) فَقَالَ : قَدْ سَمِعْت عَبْد الله بن مَسْعُود يَقُول ذَلِكَ ، ثُمَّ صلى ثَلاَثَة اضعاف مَا تصلون .
خرجه ابن خزيمة فِي ( ( صحيحه ) ) والطبراني .
وروى مَالِك بن مغول ، عَن الحكم ، عَن إِبْرَاهِيْم التيمي ، عَن أَبِيه ، أَنَّهُ كَانَ يتخلف عَن الصلاة ، فَقِيلَ لَهُ . فَقَالَ : إنكم تخففون . فَقِيلَ : أليس قَدْ كَانَ يؤمر بذلك ؟ قَالَ : إن الَّذِي كَانَ عليهم خفيفاً عليكم ثقيل .
واعلم ؛ أن التخفيف أمر نسبي ، فَقَدْ تكون الصلاة خفيفة بالنسبة إلى مَا هُوَ أخف مِنْهَا ، فالتخفيف المأمور بِهِ الأئمة هُوَ الَّذِي كَانَ النَّبِيّ ( يفعله إذا أم ، فالنقص مِنْهُ ليس بتخفيف مشروع ، والزيادة عَلِيهِ إن كَانَ مِمَّا فعله الخُلَفَاء الراشدون كتطويل القرءة فِي صلاة الصبح ، عَلَى مَا كَانَ يفعله - أحيانا - أبو بَكْر(4/210)
"""""" صفحة رقم 211 """"""
وعمر فليس بمكروه ، نَصَّ عَلِيهِ الإمام أحمد غيره . وسيأتي ذَلِكَ فِي موضعه - إن شاء الله تعالى .
وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي ( ( الأم ) ) : أحب أن يبدأ الراكع فيقول : سبحان ربي العظيم - ثلاثاً - ، ويقول كل مَا حكيت عَن النَّبِيّ ( كَانَ يقوله - يعني : حَدِيْث عَلِيّ - قَالَ : وكل مَا قَالَ النَّبِيّ ( فِي ركوع أو سجود أحببت أن لا يقصر عَنْهُ ، إماماً كَانَ أو منفرداً ، وَهُوَ تخفيف لا تثقيل . انتهى كلامه .
فَقَدْ كَانَ حدث بعد النَّبِيّ ( من تخفيف الصلاة من الأئمة تخفيفاً ، وقد حكي ذَلِكَ عَن أهل الكوفة ، وحدث من يطيل الصلاة عَلَى صلاة النَّبِيّ ( إطالة زائدة ، وكان ذَلِكَ فِي أهل الشام وأهل المدينة - أَيْضاً - ، وكان السلف ينكرون عَلَى الطائفتين ، وقد ذكرنا إنكار يزيد التيمي - وكان من أعيان التابعين - عَلَى من خفف الصلاة من أئمة الكوفة ، وكان ابن عُمَر وغيره ينكرون عَلَى من أطال الصلاة إطالة زائدةً عَلَى صلاة النَّبِيّ ( .
ففي ( ( مسنده الإمام أحمد ) ) عَن عطية ، عَن ابن عُمَر ، قَالَ : سجدة من سجود هؤلاء مثل ثلاث سجدات من سجود النَّبِيّ ( .
وعن حيان البارقي ، قَالَ : قيل لابن عُمَر : إن إماما يطيل الصلاة .
فَقَالَ : ركعتين من صلاة رَسُول الله ( أخف - أو مثل ركعة - من صلاة هَذَا .(4/211)
"""""" صفحة رقم 212 """"""
وروى ابن أَبِي عاصم فِي ( ( كِتَاب السنة ) ) من رِوَايَة سَالِم بن حذلم ؛ قَالَ : رآني ابن عمر أصلي ، فلما انصرفت قَالَ لِي : ممن أنت ؟ قُلتُ : من أهل الشام . قَالَ : إنكم أهل الشام تصلون الصلاة وتكثرون من الدعاء ، وإني لَمْ أصل خلف أحد أخف صلاة فِي تمام من رَسُول الله ( .
وفي ( ( المسند ) ) عَن إِسْمَاعِيل بن أَبِي خَالِد ، عَن أَبِيه ، قَالَ : رأيت أَبَا هُرَيْرَةَ صلى صلاة تجوز فيها ، فَقُلْت لَهُ : هكذا كَانَ رَسُول الله ( يصلي ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وأوجز .
وفي رِوَايَة : ( ( أو أوجز ) ) .
وفي رِوَايَة - أَيْضاً - : قَالَ : وكان قيامه قدر مَا ينزل المؤذن من المنارة ويصل إلى الصف .
وفي بعض الروايات لهذا الحَدِيْث : أن أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يؤم النَّاس بالمدينة فيخفف .
وفي ( ( المسند ) ) - أَيْضاً - : عَن أَنَس بن مَالِك ، قَالَ : لَقَدْ كنا نصلي مَعَ رَسُول الله ( صلاة ، لَوْ صلاها أحدكم اليوم لعبتموها عَلِيهِ . فَقَالَ لَهُ رَجُل : ألا تذكر ذَلِكَ لأميرنا - والأمير عُمَر بن عَبْد العزيز - ؟ فَقَالَ : قَدْ فعلت .
وفي رِوَايَة فِي غير ( ( المسند ) ) بعد قوله : ( ( لعبتموها عَلِيهِ ) ) : ( ( يعني : فِي التخفيف ) ) .(4/212)
"""""" صفحة رقم 213 """"""
وروي عَن عُمَر بن الخَطَّاب ، قَالَ : أيها النَّاس ، لا تبغضوا الله إلى عباده . فَقَالَ قائل منهم : وكيف ذَلِكَ ؟ قَالَ : يكون الرَّجُلُ إماماً للناس ، يصلي بهم ، فلا يزال يطول عليهم حَتَّى يبغض إليهم مَا هم فِيهِ .
خرجه ابن عَبْد البر .(4/213)
"""""" صفحة رقم 214 """"""
62 - بَاب
إذا صَلَّى لنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ
703 - حَدَّثَنَا عَبْد الله بن يوسف : أنا مَالِك ، عَن أَبِي الزناد ، عَن الأعرج ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، أن رَسُول الله ( قَالَ : ( ( إذا صلى أحدكم للناس فليخفف ؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير ، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول مَا شاء ) ) .
معنى قوله : ( ( إذا صلى أحدكم لنفسه ) ) - أي : منفرداً ، بحيث لا يأتم بِهِ أحد .
وقد خرجه مُسْلِم من رِوَايَة المغيرة الحزامي ، عَن أَبِي الزناد ، وَقَالَ فِيهِ : ( ( وإذا صلى وحده فليصل كَيْفَ شاء ) ) .
وخرجه - أَيْضاً - من رِوَايَة همام بن منبه ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( إذا مَا قام أحدكم للناس فليخفف فِي الصلاة ؛ فإن فيهم الكبير والضعيف ، وإذا قام وحده فليطل صلاته مَا شاء ) ) .
وخرج - أَيْضاً - من حَدِيْث عُثْمَان بن أَبِي العاص ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله ( : ( ( أم قومك ، فمن أم قوماً فليخفف ؛ فإن فيهم الكبير ، وإن فيهم المريض ، وإن فيهم الضعيف ، وإن فيهم ذا الحاجة ، وإذا صلى أحدكم وحده فليصل كَيْفَ شاء ) ) .
ويدخل فِي ذَلِكَ : صلاة الفرائض والنوافل - إذا صلاها وحده - فإنه لا يكره لَهُ إطالتها .
وقد اختلف النَّاس فِي النفل : هَلْ الأفضل إطالة القيام ، أم كثرة الركوع(4/214)
"""""" صفحة رقم 215 """"""
والسجود ، أم يفرق بَيْن صلاة الليل والنهار ؟ وربما يأتي ذَلِكَ فِي موضع آخر - إن شاء الله تعالى .
قَالَ بعض أصحابنا : هَذَا فيما لَمْ ينقل عَن النَّبِيّ ( إطالته أو تخفيفه ، فأما مَا نقل عَنْهُ إطالته أو تخفيفه فاتباعه فِيهِ أفضل ، فالأفضل فِي ركعتي الفجر والركعتين المفتتح بهما صلاة الليل تخفيفهما ، وكذلك الركعتان للداخل - والإمام يخطب - يوم الجمعة .
وقد سبق ذكر الاختلاف فيمن فاته قراءة حزبه من الليل : هَلْ يقرأ بِهِ فِي ركعتي الفجر ، أم لا ؟
وروى وكيع فِي ( ( كتابه ) ) عَن موسى بن عبيدة ، عَن نَافِع ، قَالَ : كَانَ ابن عُمَر إذا صلى لنفسه طول فِي أربعتين - يعني : فِي الركعات الأربع فِي الفريضة .
وموسى بن عبيدة ، ضَعِيف جداً من قَبْلَ حفظه ، وكان شيخاً صالحاً - رحمه الله .
وكان من الصَّحَابَة من يخفف الصلاة ، ويعلل بخشية وسوسة الشيطان .
قَالَ وكيع : ثنا ابن أَبِي عروبة ، عَن أَبِي رجاء العطاردي ، قَالَ : قُلتُ للزبير بن العَوَّامِ : مَا لكم أصْحَاب مُحَمَّد من أخف النَّاس صلاة ؟ قَالَ : إنما نبادر الوسواس .
حَدَّثَنَا سُفْيَان ، عَن نسير بن ذعلوق ، عَن خليد الثوري ، قَالَ : سَمِعْت عمار بن ياسر يَقُول : احذفوا هذه الصلاة قَبْلَ وسوسة الشيطان .(4/215)
"""""" صفحة رقم 216 """"""
63 - بَاب
مَنْ شَكَا إمَامَهُ إذا طَوَّلَ
وَقَالَ أبو أسيد : طولت بنا يَا بني
قَالَ أبو نعيم الفضل بن دكين فِي ( ( كِتَاب الصلاة ) ) : حَدَّثَنَا ابن الغسيل ، عَن حَمْزَة بن أَبِي أسيد : كَانَ يؤمنا ، فإذا طول عليهم قَالَ لَهُ أبو أسيد - وَهُوَ خلفه - : يرحمك الله ، طولت علينا .
وحدثنا ابن الغسيل ، عَن الزُّبَيْر بن المنذر بن أَبِي أسيد ، عَن أَبِي أسيد - مثله .
خرج فِي هَذَا الباب ثَلاَثَة أحاديث :
الأول :
704 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يوسف : ثنا سُفْيَان ، عَن إِسْمَاعِيل بن أَبِي خَالِد ، عَن قيس بن أبي حازم ، عن أَبِي مَسْعُود ، قَالَ : قَالَ رَجُل : يَا رَسُول الله ، إني لأتأخر عَن الصلاة فِي الفجر مِمَّا يطيل بنا فلان فيها . فغضب رَسُول الله ( ، مَا رأيته فِي موعظة كَانَ أشد غضباً مِنْهُ يومئذ . ثُمَّ قَالَ : ( ( يأيها النَّاس ، إن منكم منفرين ، فمن أم النَّاس فليخفف ؟ فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة ) ) .
قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث - قريباً - من رِوَايَة زهير ، عَن إِسْمَاعِيل بن أَبِي خَالِد .
ومقصوده بتخريجه هاهنا : جواز شكوى من يطيل الصلاة إطالة زائدةً عَلَى(4/216)
"""""" صفحة رقم 217 """"""
الحد المشروع ؛ فإن هَذَا الإمام لولا أَنَّهُ زاد عَلَى صلاة النَّبِيّ ( زيادة كثيرة لما شكي ، ولا تخلف من تخلف عَن الصلاة خلفه ، فلما شكي ذَلِكَ إلى النَّبِيّ ( غضب غضباً شديداً ، ووعظ النَّاس موعظة عامة ، وأمر الأئمة بالتخفيف ، وحذر من تنفير النَّاس عَن شهود صلاة الجماعات بالتطويل .
وروى وكيع : ثنا هِشَام الدستوائي ، عَن قتادة ، عَن عَبَّاس الجشمي ، قَالَ : قَالَ النَّبِيّ ( : ( ( إن من الأئمة طرادين ) ) .
وهذا مرسل .
الحَدِيْث الثاني :
705 - حَدَّثَنَا آدم : ثنا شعبة : ثنا محارب بن دثار ، قَالَ : سَمِعْت جابر بن عَبْد الله الأنصاري قَالَ : أقبل رَجُل بناضحين ، وقد جنح الليل ، فوافق معاذاً يصلي ، فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ ، فقرأ بسورة البقرة - أو النِّسَاء - ، فانطلق الرَّجُلُ - وبلغه أن معاذاً نال مِنْهُ - فأتى النَّبِيّ ( فشكا إليه معاذاً ، فَقَالَ النَّبِيّ ( ( ( يَا معاذ ، أفتان أنت ) ) - أو ( ( فاتن ؟ ) ) ثلاث مرات - ) ) فلولا صليت ب ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ( [ الأعلى : 1 ] ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( [ الشمس : 1 ] ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ( [ الليل : 1 ] ؛ فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة ؟ ) ) - أحسب هَذَا فِي الحَدِيْث .
وتابعه : سَعِيد بن مسروق ومسعر والشيباني .
قَالَ عَمْرِو وعبيد الله بن مقسم وأبو الزُّبَيْر ، عَن جابر بن عَبْد الله : قرأ معاذ فِي العشاء بالبقرة .
وتابعه : الأعمش ، عَن محارب .(4/217)
"""""" صفحة رقم 218 """"""
قَالَ الخطابي : جنح الليل : أقبل بظلمته ، وقد جنح جنوحاً ، ومنه جنح الليل : إقبال ظلمته .
والناضح : البعير يسقى عَلِيهِ .
والفتنة عَلَى وجوه ، ومعناها هاهنا : صرف النَّاس عَن الدين ، وحملهم عَلَى الضلال . قَالَ تعالى ( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ( [ الصافات : 162 ] أي : مضلين .
وقوله : ( ( فلولا صليت بسبح ) ) يريد : هلا قرأت ، كقوله : ( فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ( [ الواقعة : 86 ] ، ( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ ( [ هود : 116 ] معناه : فهلاً .
وفيه : أَنَّهُ جعل الحاجة عذراً فِي تخفيفها . انتهى .
وتفسيره الفتنة - هاهنا - بالإضلال بعيد ، والأظهر : أن المراد بالفتنة هاهنا : الشغل عَن الصلاة ؛ فإن من طول عَلَى من شق عَلِيهِ التطويل فِي صلاته ، فإنه يشغله عَن الخشوع فِي صلاته ، ويلهيه عَنْهَا ، كما أن النَّبِيّ ( لما نظر إلى أعلام الخميصة الَّتِيْ كَانَتْ عَلِيهِ فِي الصلاة نزعها ، وَقَالَ : ( ( كادت تفتنني ) ) وأمر عَائِشَة أن تميط قرامها الَّذِي فِيهِ تصاوير ، وَقَالَ : ( ( لا يزال تصاويره تعرض لِي فِي صلاتي ) ) .
ومنه : تخفيفه ( الصلاة لما سَمِعَ بكاء الصبي مخافة أن تفتتن أمه .
ومنه : قَوْلِ أَبِي طلحة ، لما نظر إلى الطائر فِي صلاته وَهُوَ يصلي فِي حائطه حَتَّى اشتغل بِهِ عَن صلاته : لَقَدْ أصابني فِي مالي هَذَا فتنة .
وقد سبق ذكر ذَلِكَ كله ، سوى حَدِيْث بكاء الصبي ؛ فإنه سيأتي قريباً - إن شاء الله تعالى .
وسبق حَدِيْث آخر فِي الصلاة عَلَى الخمرة فِي هَذَا المعنى .
والفتنة فِي هذه المواضع كلها ، هُوَ : الاشتغال عَن الصلاة ، والالتهاء عَنْهَا .(4/218)
"""""" صفحة رقم 219 """"""
ويجوز أن يكون مِنْهُ قَوْلِ الله تعالى : ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ( [ التغابن : 15 ] ، وأن يكون المراد : أنها تشغل عَن عُبَادَة الله وذكره .
ويدل عَلِيهِ : أن النَّبِيّ ( لما كَانَ يخطب ورأى الْحَسَن والحسين قَدْ أقبلا ، نَزَلَ فحملهما ، ثُمَّ قَالَ : ( ( صدق الله ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ( [ التغابن : 15 ] ، إني رأيت هذين الغلامين يمشيان ويعثران ، فَلَمْ أصبر ) ) .
وأما مَا ذكره البخاري من المتابعات والرواية المعلقة ، فمضمونة : أن جماعة رووا هَذَا الحَدِيْث عَن محارب بن دثار كما رواه عَنْهُ شعبة ، وقالوا فِي قراءة معاذ : ( ( البقرة أو النِّسَاء ) ) بالشك ، منهم : سَعِيد بن مسروق الثوري - والد سُفْيَان - ، ومنهم : مِسْعَر وأبو إِسْحَاق الشيباني .
والشك فِي هَذَا من محارب ، كذا فِي رِوَايَة غندر عَن شعبة .
خرجه الإسماعيلي .
وفيه - أَيْضاً - : قَالَ : أحسب محارباً الَّذِي شك فِي ( ( الضعيف ) ) - يعني : شك : هَلْ قَالَ : ( ( الضعيف ) ) أو ( ( ذا الحاجة ) ) ؟
وفي حَدِيْث معاذ بن معاذ ، عَن شعبة : أن معاذاً كَانَ يصلي بالناس المغرب .
ورواه عَلِيّ بن الجعد ، عَن شعبة ، وَقَالَ فِيهِ : قُلتُ لمحارب : أي صلاة كَانَتْ ؟ قَالَ : المغرب .
فهذه الرواية تبين أن ذكر المغرب إنما هُوَ ظن من محارب .
وخرج أبو داود الحَدِيْث بذكر المغرب من وجه آخر فِيهِ انقطاع .
وذكر البخاري : أَنَّهُ رواه الأعمش ، عَن محارب ، فَقَالَ فِيهِ : ( ( قرأ بالبقرة ) ) من غير شك .
وكذا رواه عَمْرِو بن دينار وعبيد الله بن مقسم وأبو الزُّبَيْر ، عَن جابر ،(4/219)
"""""" صفحة رقم 220 """"""
وقالوا فِي حديثهم : ( ( قرأ البقرة ) ) من غير شك .
وقد خرج البخاري حَدِيْث عَمْرِو بن دينار فيما تقدم بهذا اللفظ .
وقد تقدم أن النسائي خرجه من حَدِيْث الأعمش ، عَن محارب ، ولم يسم السورة ، بل قَالَ : ( ( سورة كذا وكذا ) ) .
الحَدِيْث الثالث :
706 - حَدَّثَنَا أبو معمر : ثنا عَبْد الوارث : ثنا عَبْد العزيز ، عَن أَنَس بن مَالِك ، قَالَ : كَانَ النَّبِيّ ( يوجز الصلاة ويكملها .
الإيجاز : هُوَ التخفيف والاختصار .
والإكمال : هُوَ إتمام أركانها من الركوع والسجود والانتصاب بَيْنَهُمَا .
وإدخال هَذَا الحَدِيْث فِي هَذَا الباب ، فائدته : أَنَّهُ بَيْن بِهِ قدر التخفيف المأمور بِهِ ، وأنه إنما يشكى الإمام إذا زاد عَلِيهِ زيادة فاحشة ، فأما إكمال الصلاة وإتمام أركانها ، فليس بتطويل منهي عَنْهُ .(4/220)
"""""" صفحة رقم 221 """"""
65 - بَاب
مَنْ أَخَفَّ الصَّلاَةَ عندَ بُكاءِ الصَّبيِّ
فِيهِ ثَلاَثَة أحاديث :
الحَدِيْث الأول :
707 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْم بن موسى - هُوَ الفراء - : ثنا الوليد : ثنا الأوزعي ، عَن يَحْيَى بن أَبِي كثير ، عَن عَبْد الله بن أَبِي قتادة ، عَن أَبِيه ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( إني لأقوم فِي الصلاة أريد أن أطول فيها ، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز فِي صلاتي ، كراهية أن أشق عَلَى أمة ) ) .
تابعه : بشر بن بَكْر وبقية وابن المبارك ، عَن الأوزاعي .
قَدْ خرجه البخاري فيما بعد من طريق بشر .
وخرجه أبو داود وابن ماجه من رِوَايَة بشر بن بَكْر وعمر بن عَبْد الواحد .
وخرجه النسائي من رِوَايَة ابن المبارك ، كلهم عَن الأوزاعي ، بِهِ .
وخرجه الإسماعيلي فِي ( ( صحيحه ) ) من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن عَبْد الله بن سماعة ، عَن الأوزاعي .
وكذا رواه عَن الأوزاعي : عقبة بن علقمة وأيوب بن سويد .
ورواه أبو المغيرة ، عَن الأوزاعي ، عَن يَحْيَى ، عَن عَبْد الله بن أَبِي قتادة مرسلاً .(4/221)
"""""" صفحة رقم 222 """"""
خرجه ابن جوصا فِي ( ( مسند الأوزاعي من جمعه ) ) من هذه الطرق .
وإنما ذكر البخاري متابعة الوليد بن مُسْلِم عَلَى وصله ، ليبين أن الصحيح وصله ؛ لكثرة من وصله عَن الأوزاعي ، ولا يضر إرسال من أرسله .
ولعل مسلماً ترك تخريجه للاختلاف فِي وصله وإرساله . والله أعلم .
وفي الحَدِيْث : دليل عَلَى أن من دَخَلَ الصلاة بنية إطالتها فله تخفيفها لمصلحة ، وأنه لا تلزم الإطالة بمجرد النية .
واستدل بِهِ بعضهم عَلَى أن من دَخَلَ فِي تطوع ينوي أن يصلي أربعاً ، فله أن يقتصر عَلَى ركعتين ، قَالَ ذَلِكَ سُفْيَان الثوري ، مَعَ قوله بلزوم النوافل بالشروع ، فلا إشكال عنده فِي جواز ذَلِكَ .
وكذلك لأصحاب مَالِك قولان فيمن افتتح الصلاة النافلة قائماً ، فهل يجلس فِي أثنائها ، أم لا ؟
فاستدل بعض من قَالَ : لَهُ أن يجلس بهذا الحَدِيْث .
وقد يستدل بِهِ عَلَى أن من نذر أن يصلي صلاة ، ونوى فِي نفسه أكثر من ركعتين ، فهل يلزمه مَا نوى ، أم لا ؟
وقد نَصَّ أحمد عَلَى أَنَّهُ يلزمه مَا نوى ، ورجحه طائفة من أصحابنا ، وبناء عَلَى أن من أصل أحمد الرجوع فِي الأيمان والنذور إلى المقاصد والنيات .
وقد نَصَّ أحمد فيمن نذر الصدقة بمال ، ونوى فِي نفسه ألفاً ، أَنَّهُ يخرج مَا شاء مِمَّا يسمى مالاً ، ولا يلزمه الألف - : نقله عَنْهُ أبو داود .
وهذا يخالف نصه فِي الصوم والصلاة ، أَنَّهُ يلزمه مَا نواه .
فتخرج المسألتان عَلَى روايتين .
ووجه شبه هذه المسائل بنية الإطالة للصلاة المكتوبة عِنْدَ الدخول فيها : أن(4/222)
"""""" صفحة رقم 223 """"""
الصلاة المكتوبة إنما يلزم فيها قدرالإجزاء ، والزائد عَلَى ذَلِكَ إذا فعل ، فهل يوصف بالوجوب ، أو بالنفل ؟ فِيهِ قولان معروفان لأصحابنا وغيرهم من الفقهاء .
وقد تبين بهذا الحَدِيْث : أن ذَلِكَ لا يلزم بمجرد النية ، سواء وصف بالوجوب ، أو لا .
وأما قوله ( ( ( أريد أن أطول فيها ) ) ، فالمعنى : أَنَّهُ يريد إتمامها وإكمالها عَلَى الوجه المعتاد ، وليس المراد : الإطالة الَّتِيْ نهى عَنْهَا الأئمة .
واستدل الخطابي وغيره بهذا الحَدِيْث عَلَى جواز انتظار الإمام للداخل فِي الركوع قدراً لا يشق عَلَى بقية المأمومين ؛ لأنه مراعاة لحال أحد المأمومين .
وفيه نظر ؛ فإن الداخل لَمْ يدخل بعد فِي الائتمام بالإمام ، وفي الانتظار تطويل عَلَى المأمومين لمراعاة من ليس بمؤتم ، فهذا لا يشبه تخفيف الصلاة لأجل أم الصبي ، بل هُوَ عكسه فِي المعنى .
الحَدِيْث الثاني :
708 - حَدَّثَنَا خَالِد بن مخلد : ثنا سُلَيْمَان بن بلال : ثنا شريك بن عَبْد الله ، قَالَ : سَمِعْت أَنَس بن مَالِك يَقُول : مَا صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النَّبِيّ ( ، وإن كَانَ ليسمع بكاء الصبي فيخفف ، مخافة أن تفتن أمه .
( ( شريك ) ) هَذَا ، هُوَ : ابن أَبِي نمر المدني .
وقد رَوَى هَذَا الحَدِيْث عَنْهُ أبو ضمره أَنَس بن عياض - أَيْضاً .
ورواه جماعة عَنْهُ ، ولم يذكروا آخره .
وكذلك خرجه مُسْلِم بدون آخره من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر ، عَن شريك .(4/223)
"""""" صفحة رقم 224 """"""
وقد ذكرنا - فيما تقدم - معنى الافتتان هاهنا .
الحَدِيْث الثالث :
709 - حَدَّثَنَا عَلِيّ بن عَبْد الله : ثنا يزيد بن زريع : ثنا سَعِيد ، قَالَ : ثنا قتادة ، أن أَنَس بن مَالِك حدث ، أن النَّبِيّ ( قَالَ : ( ( إني لأدخل فِي الصلاة ، وأنا أريد إطالتها ، فأسمع بكاء الصبي ، فأتجوز فِي صلاتي ، مِمَّا أعلم من شدة وجد أمه من بكائه ) ) .
710 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن بشار : ثنا ابن أَبِي عدي ، عَن سَعِيد ، عَن قتادة ، عَن أَنَس بن مَالِك ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( إني لأدخل فِي الصلاة ، فأريد إطالتها ، فأسمع بكاء الصبي ، فأتجوز لما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه ) ) .
وَقَالَ موسى : ثنا أبان : ثنا قتادة : ثنا أَنَس ، عَن النَّبِيّ ( .
وهذا بمعنى حَدِيْث أَبِي قتادة المتقدم .
وقد ساقه عَن سَعِيد بن أَبِي عروبة ، عَن قتادة ، عَن أَنَس من طريقين ، ليس فيهما تصريح قتادة بالسماع لَهُ من أَنَس ، وكان قتادة مدلساً ، فلذلك ذكر أن موسى - وَهُوَ : ابن إِسْمَاعِيل - رواه عَن أبان - وَهُوَ : العطار - ، عَن قتادة ، فصرح بسماعة من أَنَس .
وخرجه الإسماعيلي فِي ( ( صحيحه ) ) من طرق ، عَن سَعِيد ، عَن قتادة ، وفي سياق حدثيه : أن أَنَس بن مَالِك حدثه ، ولم يبين لفظ من هُوَ من الرواة ، ويبعد أن يكون لفظ جميعهم .
والتخفيف الَّذِي كَانَ يفعله ، تارة كَانَ يأتي بِهِ فِي الصلاة كلها ، وتارة فِي بعض ركعاتها ، بحسب مَا يسمع بكاء الصبي .
فالأول ، دل عَلِيهِ مَا خرجه أبو بَكْر بن أَبِي داود فِي ( ( كِتَاب الصلاة ) ) : حَدَّثَنَا(4/224)
"""""" صفحة رقم 225 """"""
أحمد بن يَحْيَى بن مَالِك : ثنا عَبْد الوهاب ، عَن شعبة ، عَن عدي بن ثابت ، عَن البراء بن عازب ، قَالَ : صلى بنا رَسُول الله ( صلاة الصبح ، فقرأ بأقصر سورتين فِي القرآن ، فلما فرغ أقبل علينا بوجهه ، وَقَالَ : ( ( إنما عجلت لتفرغ أم الصبي إلى صبيها ) ) .
وهذا إسناد غريب جداً .
وقد روي معناه من حَدِيْث أنس وأبي سَعِيد بأسانيد ضعيفة .
وأما الثاني ، فروى أبو نعيم فِي ( ( كِتَاب الصلاة ) ) ، عَن سُفْيَان ، عَن أَبِي السوداء النهدي ، عَن ابن سابط ، قَالَ : قرأ النَّبِيّ ( فِي الفجر فِي أول ركعة بستين
آية ، فلما قام فِي الثانية سَمِعَ صوت صبي ، فقرأ ثلاث آيات .
وهذا مرسل .(4/225)
"""""" صفحة رقم 226 """"""
66 - بَاب
إذا صَلَّى ثُمَّ أَمَّ قَوْماً
711 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بن حرب وأبو النُّعْمَان ، قالا : حَدَّثَنَا حماد بن زيد ،
عَن أيوب ، عَن عَمْرِو بن دينار ، عَن جابر بن عَبْد الله ، قَالَ : كَانَ معاذ يصلي مَعَ النَّبِيّ ( ، ثُمَّ يأتي قومه فيصلي بهم .
مراده بهذا : أن اقتداء المفترض بالمتنفل صحيح ، استدلالا بهذا الحَدِيْث .
وقد ذهب إلى هَذَا طائفة من العلماء ، منهم : طاووس وعطاء ، وَقَالَ : لَمْ نَزَلَ نسمع بذلك .
وَهُوَ قَوْلِ الأوزاعي والشافعي وأحمد - فِي رِوَايَة - وإسحاق وأبي خثيمة وأبي بَكْر بن أَبِي شيبة وسليمان بن حرب وسليمان بن داود الهاشمي وأبي ثور وداود والجوزجاني وابن المنذر .
وقد روي عَن أَبِي الدرداء والحكم بن عَمْرِو الغفاري وغيرهما ممن الصَّحَابَة مَا يشهد لَهُ .
وذكر الشَّافِعِيّ أَنَّهُ روي عَن عُمَر ورجل من الأنصار وابن عَبَّاس قريب مِنْهُ ، وعن أَبِي رجاء العطاردي والحسن ووهب بن منبه .
كذا قَالَ : والمعروف عنهما خلاف ذَلِكَ ، كما سنذكر ذَلِكَ .
وحكاه - أَيْضاً - عَن مُسْلِم بن خَالِد وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سَعِيد القطان .
وَقَالَ إِسْحَاق : هُوَ سَنَة مسنونة ، وَهُوَ عَلَى مَا سن النَّبِيّ ( من صلاة الخوف .(4/226)
"""""" صفحة رقم 227 """"""
ونقل إِسْمَاعِيل بن سَعِيد ، عَن أحمد ، قَالَ : لا بأس بِهِ .
قَالَ : ومما يقوي حَدِيْث معاذ : حَدِيْث النَّبِيّ ( أَنَّهُ صلى صلاة الخوف بطائفتين ، بكا طائفة ركعتين ، ولا أعلم شيئاً يدفع هَذَا .
وحديث صلاة الخوف قَدْ خرجه البخاري من حَدِيْث جابر ، وسيأتي فِي موضعه - إن شاء الله تعالى .
وذهب آخرون إلى المنع من ذَلِكَ ، وأن المفترض إذا اقتدى بمتنفل لَمْ تصح صلاته ، حكاه ابن المنذر عَن الزُّهْرِيّ وربيعة ويحيى الأنصاري ومالك وأبي حنيفة .
قَالَ : وروي معناه عَن الْحَسَن وأبي قلابة .
قُلتُ : وقد روي - أَيْضاً - معناه عَن سَعِيد بن المُسَيِّب ووهب بن منبه وابن سرين والنخعي - : ذكره عَبْد الرزاق فِي ( ( كتابه ) ) عنهم .
وَهُوَ قَوْلِ الثوري والحسن بن حي ولليث بن سعد .
وَهُوَ المشهور عَن أحمد ، ونقل عَنْهُ أَنَّهُ رجع عَن القول بخلافة ، وعلى هَذَا أبو بَكْر عَبْد العزيز وغيره من أصحابنا ، وأن أحمد رجع عَن القول بجواز ذَلِكَ .
قَالَ - فِي رِوَايَة المروذي - : كُنْتُ أذهب إليه - يعني : حَدِيْث معاذ - ، ثُمَّ ضعف عندي .
واعتل الإمام أحمد عَلَى حَدِيْث معاذ بأشياء :
أحدها : أن حَدِيْث معاذ رواه جماعة لَمْ يذكروا فِيهِ أن معاذاً كَانَ يصلي خلف النَّبِيّ ( ، بل ذكروا أَنَّهُ كَانَ يصلي بقومه ويطيل بهم ، منهم : عَبْد العزيز ابن صهيب ، عَن أَنَس . وأبو الزُّبَيْر ، عَن جابر . ومنهم : محارب بن دثار وأبو صالح ، عَن جابر .
الثاني : أن الذين ذكروا : أَنَّهُ كَانَ يصلي خلف النَّبِيّ ( ثُمَّ يرجع فيؤم(4/227)
"""""" صفحة رقم 228 """"""
قومه ، لَمْ يذكر أحد منهم : أن النَّبِيّ ( علم بذلك ، إلا ابن عُيَيْنَة ، عَن عَمْرِو بن دينار ، عَن جابر .
فَقَالَ أحمد : مَا أرى ذَلِكَ محفوظاً . وَقَالَ - مرة - : ليس عندي ثبتاً ؛ رواه منصور بن زاذان وشعبة وأيوب ، عَن عَمْرِو بن دينار ، ولم يقولوا مَا قَالَ ابن عُيَيْنَة .
كذا قَالَ ، وقد رواه - أَيْضاً - ابن عجلان ، عَن عُبَيْدِ الله بن مقسم ، عَن جابر ، مثل رِوَايَة ابن عُيَيْنَة عَن عَمْرِو .
وهذا أقوى الوجوه ، وَهُوَ : أن من رَوَى صلاة معاذ خلف النَّبِيّ ( ورجوعه إلى قومه لَمْ يذكر أحد منهم قصة التطويل والشكوى إلى النَّبِيّ ( غير ابن عُيَيْنَة ، وقد تابعه ابن عجلان عَن ابن مقسم ، وليس ابن عجلان بذاك القوي .
ومن ذكر شكوى معاذ إلى النَّبِيّ ( من الثقات الحفاظ لَمْ يذكروا فِيهِ أن معاذاً كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيّ ( ثُمَّ يرجع إلى قومه فيومهم .
ولم يفهم كثير من أصحابنا هَذَا الَّذِي أراده الإمام أحمد عَلَى وجهه .
الثالث : قَالَ فِي رِوَايَة حَنْبل : هَذَا عَلِيّ جهة التعليم من معاذ لقومه .
يعني : لَمْ يكن يصلي بهم إلا ليعلمهم صلاة النَّبِيّ ( ، كما علم مَالِك بن الحويرث قومه صلاة النَّبِيّ ( ولم يرد الصلاة ، وقد سبق حديثه .
ولكن الفرق بينه وبين حَدِيْث معاذ : أن مَالِك بن الحويرث علم قومه الصلاة فِي غير وقت صلاة ، فكانوا كلهم متنفلين بالصلاة ، ومعاذ كَانَ يصلي المكتوبة ، ثُمَّ يرجع إلى قومه ، وهم ينتظرونه حَتَّى يؤمهم فيها ، فكانوا مفترضين .
الرابع : قَالَ فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيْم الحربي : إن صح ، فله معنى دقيق لا يجوز مثله اليوم .(4/228)
"""""" صفحة رقم 229 """"""
وقد قيل : إن هَذَا المعنى الَّذِي أشار إليه الإمام أحمد ، هُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي أول الإسلام ، وكان من يقرأ القرآن قليلاً ، فكان يرخص لهم فِي ذَلِكَ توسعة عليهم ، فلما كثر القراء انتسخ ذَلِكَ . وقد سبق نحو ذَلِكَ فِي إمامة الصبي - أَيْضاً .
وكذا رَوَى عَبَّاس الدوري ، عَن يَحْيَى بن معين ، أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيْث معاذ ، أَنَّهُ كَانَ يصلي بأصحابه ، وقد صلى قَبْلَ ذَلِكَ مَعَ النَّبِيّ ( ، قَالَ يَحْيَى : لا أرى هَذَا .
قَالَ عَبَّاس : معنى هَذَا - عندنا - : أن يَحْيَى كَانَ يَقُول : هَذَا فِي بدو الإسلام ، ومن يقرأ القران قليل ، فلا أرى هَذَا . هَذَا قَوْلِ يَحْيَى عندنا .
وقد ذكر ابن شاهين ، عَن أَبِي بَكْر النجاد ، أَنَّهُ سَمِعَ إِبْرَاهِيْم الحربي وسئل عمن صلى فريضة خلف متطوع ؟ فَقَالَ : لا يجوز . فَقِيلَ لَهُ : فحديث معاذ ؟ قَالَ : حَدِيْث معاذ أعيا القرون الأولى .
وأجابت طائفة عَن حَدِيْث معاذ بجواب آخر ، وَهُوَ : أَنَّهُ يجوز أن يكون معاذ يصلي خلف النَّبِيّ ( تطوعاً ، ثُمَّ يصلي الفريضة بقومه .
ورد ذَلِكَ الشَّافِعِيّ وأحمد .
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَمْ يكن معاذ يفوت نفسه فضل الصلاة خلف النَّبِيّ ( فِي مسجده .
وخرج الدارقطني والبيهقي من رِوَايَة أَبِي عاصم ، عَن ابن جُرَيْج ، عَن عَمْرِو بن دينار ، عَن جابر ، أن معاذاً كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيّ ( ، ثُمَّ ينصرف إلى قومه فيصلي بهم ، هِيَ لَهُ تطوع ولهم فريضة .(4/229)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
ومن طريق عَبْد الرزاق ، عَن ابن جُرَيْج نحوه ، إلا امنه قَالَ : فيصلي بهم تلك الصلاة ، هِيَ نافلة ولهم فريضة .
ولعل هَذَا مدرج من قَوْلِ ابن جُرَيْج . والله أعلم .
وقد ظن بعض فقهاء أصحابنا هذه الزيادة هِيَ الَّتِيْ أنكرنا أحمد عَلَى سُفْيَان بن عُيَيْنَة ، وهذا وهم فاحش ، فإن هذه الزيادة تفرد بِهَا ابن جُرَيْج لا ابن عُيَيْنَة .
وأجاب الإمام أحمد عَن حَدِيْث جابر فِي صلاة الخوف بأن هَذَا جائز فِي صلاة الخوف دون غيرها ، لأنه يغتفر فِي صلاة الخوف مَا لا يغتفر فِي غيرها من الأعمال ، وكذلك النيات .
واستدلوا عَلَى منع ذَلِكَ بقول النَّبِيّ ( : ( ( إنما الإمام ليؤتم بِهِ ، فلا تختلفوا عَلِيهِ ) ) . وقالوا : مخالفته فِي النية اخْتِلاَف عَلِيهِ .
لكن جمهورهم يجيزون اقتداء المتنفل بالمفترض ، ولم يجعلوه اختلافاً عَلِيهِ .
وأعلم ؛ أن جمهور العلماء فِي هذه المسألة عَلَى المنع ، منهم : مَالِك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والليث وأهل مصر ، وَهُوَ قَوْلِ جمهور التابعين من أهل المدينة والعراق .
ولكن ؛ قَدْ قَالَ بالجواز خلق كثير من العلماء .
وحديث معاذ ، قَدْ صح أ النَّبِيّ ( عم بِهِ وأقر عَلِيهِ ، وقد توبع سُفْيَان ابن عُيَيْنَة عَلَى ذَلِكَ ، كما أشرنا إليه ، ولم يظهر عَنْهُ جواب قوي .
فالأقوى : جواز المفترض بالمتنفل ، وقد رجح ذَلِكَ صاحب ( ( المغني ) ) وغيره من أصحابنا . والله أعلم .(4/230)
"""""" صفحة رقم 231 """"""
وقد عارض بعضهم حديث معاذ بما روى معاذ بن رفاعة الأنصاري ، عن سليم الأنصاري - من بني سلمة - ، أنه أتى النبي ( ، وقال : يا رسول الله ، إن معاذ بن جبل يأتينا بعدما ننام ، ونكون في أعمالنا في النهار ، فينادى بالصلاة ، فنخرج إليه فيطول علينا . فقالَ رسول الله ( : ( ( يا معاذ ، لا تكن فتانا ، إما أن تصلي معي ، وإما أن تخفف على قومك ) ) .
خرجه الإمام أحمد .
وهو مرسل ؛ فإن سليما هذا قتل في يوم أحد ، وقد ذكر ذَلِكَ في تمام هذا الحديث .
وقال ابن عبد البر : هوَ منكر لا يصح .
قلت : لو صح فيحتمل أن يكون المراد : إما أن تقتصر على صلاتك معي فتقيم لقومك من يصلي بهم غيرك ، وإما أن تذهب إليهم فتصلي بهم ، وإن صليت معي ، لكن تخفف عليهم ولا تطيل بهم . والله ( أعلم .(4/231)
"""""" صفحة رقم 232 """"""
67 - بَابُ
مَنْ أسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الإِمامِ
712 - حدثنا مسدد : ثنا عبد الله بن داود : ثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : لما مرض النبي ( مرضه الذي مات فيهِ أتاه بلال يؤذنه بالصلاة ، قالَ : ( ( مروا أبا بكر فليصل بالناس ) ) . قلت : إن أبا بكر رجل أسيف ، إن يقم مقامك يبك ، فلا يقدر على القراءة . فقالَ : ( ( مروا أبا بكر فليصل ) ) . فقلت مثله . فقالَ في الثالثة - أو الرابعة - : ( ( إنكن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل ) ) ، فصلى . وخرج النبي ( يهادي بين رجلين ، كأني أنظر إليه يخط برجليه الأرض ، فلما رآه أبو بكر ذهب يتأخر ، فأشار إليه أن صل ، فتأخر أبو بكر وقعد النبي ( إلى جنبه ، وأبو بكر يسمع الناس التكبير .
تابعه : محاضر ، عن الأعمش .
قد سبق ذكر حديث عائشة بألفاظه وطرقه .
وما ذكر فيهِ في هذه الرواية من تأخر أبي بكر فمنكر مخالف لسائر الرويات .
وإنما المقصود منه : أن النبي ( كانَ يصلي بالناس جالسا وأبو بكر قائم يسمع الناس تكبير النبي ( .
وهذا يدل على شيئين :
أحدهما : أن النبي ( في صحته لم يكن من عادته أن يبلغ أحد وراءه التكبير ، بل كانَ هوَ يسمع أهل المسجد تكبيره ، فلا يحتاج إلى من يبلغ عنه .
وقد خرج البخاري - فيما بعد - حديث سعيد بن الحارث ، قالَ : صلى لنا(4/232)
"""""" صفحة رقم 233 """"""
أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع قامته من السجود ، وحين سجد ، وحين قام من الركعتين ، وقال : هكذا رأيت رسول الله ( .
وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : فجهر بالتكبير حين افتتح الصلاة ، وحين ركع ، وحين قالَ : سمع الله لمن حمده ، وحين رفع رأسه من السجود ، وحين سجد ، وحين قام من الركعتين حتى قضى صلاته على ذَلِكَ ، وقال : هكذا رأيت رسول الله ( يصلي .
وخرجه البيهقي ، وعنده : وبعد أن قالَ : سمع الله لمن حمده .
وهذا إشارة إلى تكبير السجود ، بدليل : أنه قالَ بعده : وحين رفع رأسه من السجود ، وحين سجد .
وزاد البيهقي في روايته : وحين رفع .
والثاني : أن النبي ( لما مرض ضعف صوته عن إسماع أهل المسجد ، وكان أبو بكر حينئذ يسمع الناس تكبيره ، ويبلغ عنه .
وقد روي عنه ، أنه فعل ذَلِكَ - أيضا - في مرض آخر عرض لهُ في حياته :
ففي ( ( صحيح مسلم ) ) من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، قالَ : اشتكى رسول الله ( ، فصلينا وراءه وهو قاعد ، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره - وذكر في الحديث : أنه أشار إليهم أن اجلسوا . وقد سبق بتمامه .
وفي رواية لمسلم - أيضا - : صلى بنا رسول الله ( الظهر وأبو بكر خلفه ، فإذا كبر كبر أبو بكر يسمعنا .
فمتى كانَ الإمام صوته ضعيفا لمرض أو غيره ، ولم يبلغ المأمومين صوته ،(4/233)
"""""" صفحة رقم 234 """"""
وكان المسجد كبيرا لا يبلغه صوت الإمام ، شرع لبعض المأمومين أن يبلغ الباقين التكبير جهرا ، ويكون الجهر على قدر الحاجة إليه ، من غير زيادة على ذَلِكَ .
وروى وكيع : ثنا المغيرة بن زياد ، قالَ : رأيت عطاء بن أبي رباح صلى في السقيفة التي في المسجد لحرام في نفر ، وهم متفرقون عن الصفوف ، فقلت لهُ : فقالَ : إني شيخ كبير ومكة دونه كان رسول الله ( في سفر ، فأصابهم مطر ، فصلى بالناس في رحالهم ، وبلال يسمع الناس التكبير .
وروى بكر بن محمد ، عن الحكم ، عن أبيه ، أنه سأل أحمد عن الرجل يكبر يوم الجمعة يسمع الناس ؟ قالَ : صلاته تامة ، هذا منفعة للناس ؛ قد كانَ عمر يسمع صوته بالبلاط . قيل لهُ : فيأخذ على هذا أجرا في تكبيره يسمع الناس ؟ قالَ : لا أدري .
قالَ أبو بكر عبد العزيز بن جعفر ، قوله : ( ( لا أدري ) ) كأنه - والله أعلم - يكرهه .
قالَ : وإن أخذ من بيت المال جاز ؛ لأن حقه فيهِ - يعني : أن حق المؤذنين في بيت المال - ، وإن أخذ من غيره فهوَ مكروه . انتهى .
والأخذ من الوقف كالأخذ من بيت المال في هذا .
ومنى بلغ المأموم زيادة على قدر الحاجة ، أو بلغ من غير حاجة إليه كانَ مكروها .
وظاهر الحديث : يدل على أن المأموم إذا اقتدى بالإمام بسماع التكبير من غيره صح اقتداؤه به ، وعلى هذا أكثر الفقهاء .
واختلف فيهِ أصحاب مالك ، فمنهم من أجازه . ومنهم من منعه ، وعلل بأنه اقتدى بغير الإمام . ومنهم من قالَ : إن كانَ الإمام إذن للمبلغ في التبليغ صح الاقتداء به .(4/234)
"""""" صفحة رقم 235 """"""
واختلفوا - أيضا - فيمن سمع التكبير ، ولم ير الإمام ، ولا من خلفه : هل يصح اقتداؤه بالإمام في هذه الحالة ، أم لا يصح ؟
يفرق بين أن يكون في المسجد فيصح ، وبين أن يكون خارج المسجد فلا يصح .
وقد حكي في ذَلِكَ روايات متعددة عن الإمام أحمد ، وربما نذكر المسألة في موضع آخر - إن شاء الله تعالى .
وقال أحمد - في رواية منهأ - فيمن صلى الجمعة ، فلم يسمع تكبير الإمام ، ولا غير الإمام : ليس عليهِ إعادة . وقال : كل الناس يسمعون التكبير ؟ إنما ينظر بعضهم إلى بعض .
وقال سفيان الثوري في القوم لا يرون الإمام عندَ الركوع والسجود : أجزأهم أن يتبعوا من قدامهم من الصفوف ؛ الناس أئمة بعضهم لبعض .(4/235)
"""""" صفحة رقم 236 """"""
68 - بَابُ
الرَّجُلِ يَأتَمُّ بِالإِمَامِ ، وَيأتَمُّ النَّاسُ بالْمَأمُومِ
ويذكر عن النبي ( ، أنه قالَ : ( ( ائتموا بي ، وليأتم بكم من بعدكم ) ) .
هذا الحديث ، خرجه مسلم من حديث أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قالَ : رأى رسول الله ( في أصحابه تأخرا ، فقالَ : ( ( تقدموا ، فائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم ، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله ) ) .
والبخاري لا يخرج لأبي نضرة ، فذلك علق حديثه هذا على هذا الوجه .
قالَ البخاري :
713 - حدثنا قتيبة بن سعيد : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : لما ثقل رسول الله ( جاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقالَ : ( ( مروا أبا بكر يصلي بالناس ) ) . فقلت : يا رسول الله ، أبو بكر رجل أسيف ، وأنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس ، فلو أمرت عمر ؟ فقالَ : ( ( مروا أبا بكر يصلي
بالناس ) ) . فقلت لحفصة : قولي لهُ : إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس ، فلو أمرت عمر . قالَ : ( ( إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر أن يصلي بالناس ) ) . فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله ( في نفسه خفة ، فقام يهادى بين رجلين ، ورجلاه تخطان في الأرض حتى دخل المسجد ، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب أبو بكر يتأخر ، فأومأ إليه رسول الله ( فجاء النبي ( حتى جلس عن يسار أبو بكر ، فكان أبو بكر يصلي قائما ، وكان(4/236)
"""""" صفحة رقم 237 """"""
رسول الله ( يصلي قاعدا ، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله ( ، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر .
قد تقدم ذكر هذا الحديث والإشارة إلى ما قيل في هذه اللفظة ، وهي : ( ( عن يسار أبي بكر ) ) ؛ فأن أبا معاوية تفرد بها ، وما قيل فيما بعدها ، وأنه مدرج ، واختلاف الناس : هل كانَ أبو بكر إماما أو مأموما .
فإن قوله : ( ( يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله ( ) ) قد قيل أن المراد به :
أنه كانَ يراعي في صلاته التخفيف على النبي ( ، ويفعل ما كانَ أسهل عليهِ وأخف وأيسر ، فكان ذَلِكَ اقتداؤه به ، من غير أن يكن مؤتما به ، كما قالَ النبي ( لعثمان بن أبي العاص لما استعمله على الطائف ، وأمره بتخفيف الصلاة بالناس ، وقال لهُ : ( ( اقتد بأضعفهم ) ) - أي : راع حال الضعفاء ممن يصلي وراءك ، فص صلاة لا تشق عليهم .
والأكثرون فسروا اقتداء أبي بكر بالنبي ( ، بأنه كانَ مؤتما بالنبي ( وكان النبي ( إماما لأبي بكر .
وأما قوله : ( ( والناس يقتدون بصلاة أبي بكر ) ) فاختلف الناس في تأوياه - أيضا .
فقالت طائفة : المعنى أن أبا بكر كانَ يسمعهم التكبير لضعف صوت النبي ( حينئذ ، فكان اقتداؤهم بصوت أبي بكر ، وكان مبلغا عن النبي ( ، لم يكن إماما
للناس ، فاقتداء أبي بكر والناس كلهم إنما كانَ بالنبي ( ، وإنما كانَ أبو بكر يبلغ عن النبي ( التكبير ؛ ليتمكنوا من الاقتداء .
ومما يتفرع على ذَلِكَ : أن الشعبي قالَ : إذا انتهيت إلى الصف الآخر ، ولم يرفعوا رؤسهم ، وقد رفع الإمام ، فاركع ؛ فإن بعضكم أئمة بعض .
وهذا قول غريب ، والجمهور على خلافه ، وأن الاعتبار بالإمام وحده في(4/237)
"""""" صفحة رقم 238 """"""
إدراك الركعة بإدراك ركوعه .
وهذا هوَ المعنى الذي بوب عليهِ البخاري هاهنا ، وكذلك عليهِ النسائي وغيره .
وهو قول أصحاب الشافعي ، على قولهم : إن أبا بكر كانَ مؤتما بالنبي ( ؛ فإنهم اختلفوا : هل كانَ النبي ( إماما لأبي بكر ، أو مأموما به ؟ على وجهين .
وقال الإمام أحمد : بل كانَ النبي ( إماما لأبي بكر ، وكان أبو بكر إماما للناس الذين وراءه ، فكانت تلك الصلاة بإمامين .
واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في الصلاة بإمامين : هل هي من خصائص النبي ( ، أو هوَ حكم عام يستوي فيهِ جميع الأمة ؟ على ثلاث روايات عنه .
وأختار أبو بكر ابن جعفر وغيره من أصحابنا رواية اختصاص النبي ( بذلك .
وروى حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن
رسول الله ( كانَ وجعا ، فأمر أبا بكر أن يصلي بالناس ، ووجد رسول الله ( خفة ، فقعد إلى جنب أبي بكر ، فأم رسول الله ( أبا بكر وهو قاعد وأم الناس أبو بكر وهو قائم .
خرجه الدار قطني وغيره .
والصحيح : أن قوله : ( ( فوجد رسول الله ( خفة ) ) إلى آخر الحديث مدرج من قول عروة ، كما رواه مالك وابن نمير وغيرهما ، عن هشام بغير هذا اللفظ ، وقد سبق ذَلِكَ .(4/238)
"""""" صفحة رقم 239 """"""
69 - بَابُ
هَلْ يَأخُذُ الإِمَامُ - إذا شَكَّ - بِقوْلِ النَّاسِ ؟
714 - حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( انصرف من اثنتين ، فقالَ لهُ ذو اليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله ؟ فقالَ رسول الله ( فصلى اثنتين آخريين ، ثم سلم ، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول .
715 - حدثنا أبو الوليد ، قالَ : ثنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، قالَ : صلى النبي ( الظهر ركعتين ، فقيل لهُ : صليت ركعتين ، فصلى ركعتين ، ثم سلم ، ثم سجد سجدتين .
إنما سلم النبي ( من اثنتين في هذه الصلاة ؛ لأنه كانَ يعتقد أن صلاته قد تمت ، وكان جازما بذلك ، لم يدخله فيهِ شك ، ومثل هذا الإعتقاد يسمى يقينا ، ووقع ذَلِكَ في كلام مالك وأحمد وغيرهما من الأئمة ، فلما قالَ لهُ ذو اليدين ما قالَ حصل لهُ شك حينئذ ، ولما لم يوافق أحد من المصلين ذا اليدين على مقالته مع كثرتهم حصل في قوله ريبة بانفراده بما أخبر به ، فلما وافقه الباقون على قوله رجع حينئذ إلى قولهم ، وعمل به ، وصلى ما تركه ، وسجد للسهو .
يؤخذ من ذَلِكَ : أن المنفرد في مجلس بخبر تتوافر الهمم على نقله يوجب التوقف فيهِ حتى يوافق عليهِ .
وليس هذا كالمنفرد بشهادة الهلال ؛ لأن الأبصار تختلف في الحدة ، بخلاف الخبر الذي يستوي أهل المجلس في علمه .(4/239)
"""""" صفحة رقم 240 """"""
ويؤخذ منه - أيضا - : أن المنفرد بزيادة على الثقات يتوقف في قبول زيادته حتى يتابع عليها ، لا سيما إن كانَ مجلس سماعهم واحدا .
وقد اختلف العلماء فيما إذا أخبر المأمومون الإمام ، فهل يرجع إلى قولهم أم لا ؟
وهذا على قسمين :
أحدهما : أن يتيقن صواب نفسه ، فلا يرجع إلى قول من خالفه ولو كثروا .
وحكي لأصحابنا وجه آخر بالرجوع . وقيل : إنه لا يصح .
والثاني : أن يشك ، ثم يخبره المأمومون بسهوه بقول أو إشارة أو تسبيح أو غير ذَلِكَ ، ففيه أقوال :
أحدهما : أنه يلزمه الرجوع إلى قول واحد فما زاد ؛ لأنه خبر ديني فيقبل فيهِ خبر واحد ثقة ، كوقت الصلاة وطهارة الماء ونجاسته ، وهو قول أبي حنيفة .
ولأصحابنا وجه مثله في الزيادة .
والثاني : إن أخبره اثنان فصاعدا لزمه الرجوع إلى قولهما ، وإن أخبره واحد لم يرجع إليه ، وهذا رواية عن مالك ، والمشهور عن أحمد .
وأحتج : بأن النبي ( لم يكتف بخبر ذي اليدين حتى وافقه غيره .
والثالث : أنه يستحب لهُ الرجوع إلى قول الأثنين ، ولا يجب ، بل لهُ أن يبني على يقين نفسه ، أو يتحرى ، وله أن يرجع إلى قولهما ، وهو أفضل ، وهو رواية عن أحمد .
والرابع : أنا إن قلنا : أن الشاك يبني على اليقين ، فلا يرجع إلى قول واحد . وإن قلنا : يتحرى ويعمل بما يغلب على ظنه رجع إلى قول المأمومين ، هذا قول ابن عقيل من أصحابنا .(4/240)
"""""" صفحة رقم 241 """"""
وجمهورهم قالوا : يرجع على كلا القولين ؛ لأن الرجوع إلى خبر الاثنين رجوع إلى شهادة شرعية ، فيعمل بها على كل حال ، بخلاف التحري والرجوع إلى الأمارات المحضة .
ويشهد لهُ : أن أحمد نص على أنه يرجع إلى تسبيح الاثنين ، وإن غلب على ظنه خطؤهما .
والخامس : أنه لا يرجع إلى قول أحد ، بل يبني على يقين نفسه ، كالمفرد ، وهو قول الثوري والشافعي ومالك - في رواية .
وقال أهل هذا القول : إنما رجع النبي ( إلى ذكره ، لا إلى قول المأمومين ، كما قالَ : ( ( إنما أنا بشر ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني .
فدل على أنه إنما يرجع إلى ذكره ، لا إلى قولهم ، فإنه لم يقل : فإذا نسيت فردوني .
والسادس : أنه لا يرجع إلى قول الواحد والاثنين ، ويرجع إليهم إذا كثروا ؛ لأنه يبعد اتفاقهم على الخطأ مع كثرتهم ، وهو قول طائفة من المالكية والشافعية .
وإن كانَ المخبر للمصلي ، ليس معه في صلاته ، فهل يرجع إليه كما يرجع إلى قول المأمومين ؟ فيهِ وجهان لأصحابنا .
أصحهما : أنه يرجع إليهم ، وهو قول أشهب المالكي ، وظاهر كلام أحمد ؛ فإنه نص على أن الطائفين بالبيت يرجع بعضهم إلى قول بعض إذا أخبره اثنان عن عدد
طوافه ، مع أن كل واحد منهم غير مشارك للآخر في طوافه ، فكذلك هاهنا .
وأما المأموم إذا شك في عدد الركعات ، ففيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه يرجع إلى فعل الإمام والمأمومين ، ويصنع ما صنعوا ، وهو(4/241)
"""""" صفحة رقم 242 """"""
مذهب أصحابنا .
والثاني : أنه يبني على اليقين كالمنفرد ، وهو قول طائفة من المالكية والشافعية .
والثالث : إن كثروا رجع إلى متابعتهم ، وإلا فلا ، هوَ وجه لأصحاب مالك والشافعي .
ولو كانَ مع الإمام مأموم واحد ، فشك المأموم ، فهل يرجع إلى قول إمامه ؟
قالَ بعض أصحابنا : قياس المذهب : لا يرجع إليه ، كما لا يرجع الإمام إلى قول مأموم واحد .
وفيه نظر ؛ فإن الإمام ضامن ، وقد ورد الأمر بأن يصنع المأموم ما صنع إمامه .
خرجه الدارقطني من حديث جابر ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( الإمام ضامن ، فما صنع فاصنعوا ) ) .
وفي إسناده مقال .
وبقية فوائد حديث أبي هريرة تذكر في مواضعه من ( ( أبواب : سجود السهو ) ) - إن شاء الله تعالى .(4/242)
"""""" صفحة رقم 243 """"""
70 - بَابُ
إذا بَكَى الإِمَامُ في الصَّلاَةِ
وقال عبد الله بن شداد : سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف ، يقرأ :
( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ( [ يوسف : من الآية 86 ] .
روى سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن محمد بن سعد : سمع عبد الله بن شداد بن الهاد يقول : سمعت عمر يقرأ في الصلاة الصبح سورة يوسف ، فسمعت نشيجه ، وإني لفي آخر الصفوف ، وهو يقرأ : ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه ( [ يوسف : من الآية 86 ] .
وروي من وجوه أخر :
روى ابن جريج : أخبرني ابن مليكة ، قالَ : أخبرني علقمة بن وقاص ، قالَ : كانَ عمر يقرأ في العشاء الآخرة بسورة يوسف ، وأنا في مؤخر الصف ، حتى إذا ذكر يوسف سمعت نشيجه .
وروى جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أبي رافع ، قالَ : إني يوما مع عمر في صلاة الصبح ، وهو يقرأ السورة التي فيها يوسف ، وأنا في آخر الصفوف الرجال مما يلي النساء ، وكان جهير القراءة ، فلما مر بهذه الآية : ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله ( [ يوسف : من الآية 86 ] فبكى حتى انقطعت قراءته ، وسمعت نشيجه .
وروى عبد الرحمن بن إسحاق ، عن محارب بن دثار ، عن ابن عمر ، قالَ : صليت خلف عمر ، فستمعت خنينه من وراء ثلاثة صفوف .
وفي رواية : قالَ : غلب : عمر البكاء وهو يصلي بالناس الصبح ، فسمعت(4/243)
"""""" صفحة رقم 244 """"""
خنينه من وراء ثلاثة صفوف .
والنشيج : هوَ رفع الصوت بالبكاء - : قاله أبو عبيد وغيره .
والخنين - بالخاء المعجمة - : نحوه .
قالَ : البخاري
716 - حدثنا إسماعيل ، قالَ حدثني مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أم المؤمنين ، أن رسول الله ( في مرضه قالَ : ( ( مروا أبا بكر فليصل بالناس ) ) . قالت عائشة : قلت : أن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل . فقالَ : ( ( مروا أبا بكر فليصل للناس ) ) . قالت عائشة :
فقلت لحفصة : قولي له : إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من
البكاء ، فمر عمر فليصل للناس . ففعلت حفصة . فقالَ رسول الله ( : ( ( إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس ) ) . فقالت حفصة : ما كنت لأصيب منك خيرا .
مقصود من إيراد هذا الحديث في هذا الباب : أن النبي ( أمر أبا بكر أن يصلي بالناس مع تكرار القول لهُ أنه إذا قام مقامه لا يسمع الناس من البكاء ، فدل على أن البكاء من خشية الله في الصلاة لا يضر الصلاة ، بل يزينها ؛ فإن الخشوع زينة الصلاة .
وقد خرج البخاري في ( ( كتابه ) ) هذا حديث عائشة في ذكر الهجرة بطوله ،
وفيه : ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره ، فكان يصلي فيهِ ويقرأ القرآن فيتقصف عليهِ نساء المشركين وأبناؤهم ، يتعجبون منه وينظرون إليه ، وكان أبو بكر رجلا بكاء ، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن .
وروى حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن مطرف بن عبد الله ، عن أبيه ،(4/244)
"""""" صفحة رقم 245 """"""
قالَ : انتهيت إلى رسول الله ( وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل .
خرجه الإمام أحمد ، والنسائي ، وزاد : يعني : يبكي .
وفي رواية للإمام أحمد : رأيت رسول الله ( يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء .
وخرجه أبو داود كذلك .
وهذا الإسناد على شرط مسلم .
وقد دل القرآن على مدح الباكين من خشية الله في سجودهم ، فقالَ تعالى :
( وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُون ( [ الإسراء : من الآية 109 ] . وقال : ( ِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ( [ مريم : من الآية 58 ] .
وقد اختلف العلماء في البكاء في الصلاة على الثلاثة أقوال :
أحدها : إنه إن كانَ لخوف الله تعالى لم يبطل الصلاة ، وإن كانَ لحزن الدنيا ونحوه فهوَ كالكلام ، وهو قول أبي حنيفة وأحمد .
ولأصحابنا وجه ضعيف : أنه إن كانَ عن غير غلبة أبطل .
والمنصوص عن أحمد : إن كانَ عن غلبة لا بأس به .
قالَ القاضي أبو يعلى : إن كانَ عن غلبة لم يكره ، وإن استدعاه كره . قالَ : وإن كانَ معه نحيب أبطل .
وهذا ليس في كلام الإمام أحمد ، ولو قيده بما إذا استدعاه لكان أجود .
وقد قالَ ابن بطة من أصحابنا : إن التأوه في الصلاة من خشية الله لا يبطل .
فالنحيب أولى .
والقول الثاني : إنه لا يبطل بكل حال ، وليس هوَ كالكلام ؛ لأنه لا يسمى(4/245)
"""""" صفحة رقم 246 """"""
به متكلما ، وهو قول أبي يوسف .
وكذا قالَ مالك في الأنين : لا يقطع صلاة المريض ، وأكرهه للصحيح .
وقال أبو الثور : لا بأس بالأنين ، إلا أن يكون كلام مفهوم .
وتوقف الإمام أحمد في رواية المروذي والتباكي من مصيبة ، ولم يجزم بالبطلان .
وقال في رواية أبي الحارث في الصلاة : إن كانَ غالبا عليهِ أكرهه .
ومعنى قوله : ( ( غالبا ) ) - أي : كانَ مختارا لهُ ، قادر على رده ، بحيث لم يغلبه الأنين ، ولم يقهره . وظاهر كلامه أنه لا يبطل صلاته .
وقال القاضي أبو يعلى : إنما أراد إذا كانَ أنينه ( ( عاليا ) ) من العلو أو رفع الصوت ؛ لما يخشى من الرياء به ، أو إظهار الضجر بالمرض ونحوه .
وهذا الذي فسره تصحيف منه . والله أعلم .
والثالث : إنه كلام بكل حال ، حكي عن الشعبي والنخعي ومغيرة والثوري .
وإنما المنقول عنهم في الأنين ، ونقل عن الشعبي في التأوه .
وهذا محمول على لم يكن من خشية الله ، فقد كانَ الثوري إذا قرأ في صلاته لم تفهم قراءته من شدة بكائه .
وهو مذهب الشافعي ، وعنده : إن أبان به حرفان أبطل الصلاة ، وإلا كره ولم تبطل .
وكذا قالَ أصحابنا في البكاء لحزنه ونحوه : إذا لم يغلب عليهِ ، فأن غلب عليهِ صاحبه ففي البطلان به وجهان .
ولا يعرف الإمام أحمد اعتبار حرفين في ذَلِكَ - : قاله القاضي أبو يعلى ومن اتبعه .(4/246)
"""""" صفحة رقم 247 """"""
وما تقدم عن أبي بكر وعمر ( يدل على أن البكاء في الصلاة من خشية الله حسن جميل ، ويقبح أن يقال : لا يبطلها ؛ فإن ما كانَ زينة الصلاة وزهرتها وجمالها كيف يقنع بأن يقال فيهِ : غير مبطل ؟ ولم يزل السلف الصالح الخاشعون لله على ذَلِكَ .
روى الإمام أحمد في ( ( كتاب الزهد ) ) بإسناده ، عن نافع ، قالَ : كانَ ابن عمر يقرأ في صلاته ، فيمر بالآية فيها ذكر الجنة ، فيقف عندها فيدعوا ويسأل الله الجنة .
قالَ : ويدعوا ويبكي . قالَ : ويمر بالآية فيها ذكر النار ، فيدعوا ويستجير بالله منها .
وبإسناده ، عن أبن أبي ملكية ، قالَ صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة . قالَ : وكان إذا نزل قام ينتظر الليل ، فسأله أيوب : كيف كانت قراءته ؟
قالَ : قرأ ( وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( [ ق : 19 ]
فجعل يرتل ، ويكثر في ذَلِكَ النشيج .
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده ، عن القاسم بن محمد ، قالَ : كنت غدوت يوما فإذا عائشة قائمة تسبح - يعني : تصلي - وتبكي ، وتقرأ ( فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ( [ الطور : 27 ] . وتدعوا وتبكي ، وترددها . فقمت حتى مللت القيام ، فذهبت إلى السوق لحاجتي ، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي ، تصلي وتبكي .
والروايات في هذا عن التابعين ومن بعدهم كثيرة جدا ، وإنما ينكر ذَلِكَ من غلبت عليهِ الشقوة ، أو سبقت لهُ الشقوة .(4/247)
"""""" صفحة رقم 248 """"""
71 - بَابُ
تَسْوِيَةِ الصفُّوفِ عِنْدَ الإِقَامَةِ وَبَعَدْهَاَ
717 - حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك : ثنا شعبة ، قالَ : أخبرني عمرو ابن مرة ، قالَ : سمعت سالم بن أبي الجعد ، قالَ : سمعت النعمان بن بشير ، قالَ : قالَ رسول الله ( : ( ( لتسون صفوفكم ، أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) ) .
718 - حدثنا أبو معمر : ثنا عبد الوارث ، عن عبد العزيز ، عن أنس بن مالك ، أن النبي ( قالَ ( ( أتموا الصفوف ؛ فأني أراكم خلف ظهري ) ) .
حديث النعمان ، خرجه مسلم من رواية سماك بن حرب ، عنه بزيادة ، وهي في أوله ، وهي : كانَ رسول الله ( يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي القداح ، حتى رأى أنا قد عقلنا عنه ، ثم خرج يوما فقام حتى كاد يكبر ، فرأى رجلا باديا صدره من الصف ، فقالَ : ( ( عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) ) .
ومعناه : أنه كانَ يقوم الصفوف ويعدلها قبل الصلاة كما يقوم السهم .
وقد توعد على ترك تسوية الصفوف بالمخالفة بين الوجوه ، وظاهره :
يقتضي مسخ الوجوه وتحويلها إلى صدور الحيوانات أو غيرها ، كما قالَ : ( ( أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه [ رأس ] حمار - أو صورته صورة حمار ) ) .
وظاهر هذا الوعيد : يدل على تحريم ما توعد عليهِ .(4/248)
"""""" صفحة رقم 249 """"""
وفي ( ( مسند الإمام أحمد ) ) بإسناد فيهِ ضعف ، عن أبي أمامة ، عن النبي ( :
( ( لتسون الصفوف ، أو لتطمسن وجوهكم ، ولتغضن أبصاركم ، أو لتخطفن
أبصاركم ) ) .
وقد خرج البيهقي حديث سماك ، عن النعمان الذي خرجه مسلم بزيادة في
آخره ، وهي : ( ( أو ليخالفن الله بين وجوهكم يوم القيامة ) ) .
وهذه الزيادة تدل على الوعيد على ذَلِكَ في الآخرة ، لا في الدنيا .
وقد روي الوعيد على ذلك بإختلاف القلوب ، والمراد : تنافرها وتبيانها .
فخرج مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري ، قالَ : كانَ رسول الله ( يمسح مناكبنا في الصلاة ، ويقول : ( ( استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ) ) .
وسيأتي من حديث النعمان بن بشير - أيضا _ نحوه .
وخرج أبو داود والنسائي نحوه من حديث البراء بن عازب .
وأما أمره في حديث أنس بإقامة الصفوف ، فالمراد به : تقويمها .
وقوله : ( ( فإني أراكم من وراء ظهري ) ) إعلام لهم بأنه ( لا يخفى عليهِ حالهم في الصلاة ؛ فإنه يرى من وراء ظهره كما يرى من بين يديه ، ففي هذا حث لهم على إقامة الصفوف إذا صلوا خلفه .
وقد سبق القول في رؤيته وراء ظهره ، وأنه ( وإن كانَ الله قد توفاه ونقله من هنه الدار ، فإن المصلي يناجي ربه وهو قائم بين يدي من لا يخفى عليهِ سره(4/249)
"""""" صفحة رقم 250 """"""
وعلانيته ، فليحسن وقوفه وصلاته ؛ فإنه بمرء من الله ومسمع .
وقد روي أن تسوية الصفوف وإقامتها توجب تآلف القلوب :
فروى الطبراني من طريق سريج بن يونس ، عن أبي خالد الأحمر ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي ، قالَ : قالَ رسول الله ( : ( ( استووا تستوي قلوبكم ولا تختلفوا ، وتماسوا تراحموا ) ) .
قالَ : سريج : ( ( تماسوا ) ) - يعني : ازدحموا في الصلاة .
وقال غيره : ( ( تماسوا ) ) : تواصلوا .
وأعلم ؛ أن الصفوف في الصلاة مما خص الله به هذه الأمة وشرفها به ؛ فإنهم أشبهوا بذلك صفوف الملائكة في السماء ، كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا :
( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ( [ الصافات : 165 ] ، وأقسم بالصافات صفا ، وهم الملائكة .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن حذيفة ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ) ) - الحديث .
وفيه - أيضا - عن جابر بن سمرة ، قالَ : خرج علينا رسول الله ( فقالَ : ( ( ألا تصفون كما تصف الملائكة عندَ ربها ؟ ) ) فقلنا : يا رسول الله ، وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قالَ : ( ( يتمون الصفوف الأولى ، ويتراصون في الصف ) ) .
وروى ابن أبي حاتم من رواية أبي نضرة ، قالَ : كانَ ابن عمر إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ، ثم قالَ : أقيموا صفوفكم ، استووا قياما ، يريد الله بكم هدي الملائكة . ثم يقول : ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ( [ الصافات : 165 ] ، تأخر فلان ، تقدم(4/250)
"""""" صفحة رقم 251 """"""
فلان ، ثم يتقدم فيكبر .
وروى ابن جريح ، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث ، قالَ : كانوا لا يصفون في الصلاة ، حتى نزلت : ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ( [ الصافات : 165 ] .
وقد روي أن من صفة هذه الأمة في الكتب السالفة : صفهم في الصلاة ، كصفهم في القتال .(4/251)
"""""" صفحة رقم 252 """"""
72 - باب
إِقْبالِ الأمَام عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تَسْوِيَةِ الصٌّفٌوفِ
719 - حدثنا أحمد بن أبي رجاء : ثنا معاوية بن عمرو : ثنا زائدة بن قدامة : ثنا حميد الطويل : ثنا أنس بن مالك ، قالَ : أقيمت الصلاة ، فأقبل علينا رسول الله ( بوجهه ، فقالَ : ( ( أقيموا صفوفكم ، وتراصوا ؛ فإني أراكم من وراء ظهري ) ) .
التراص : هوَ التضام والتداني والتلاصق . ومنه قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ( [ الصف : 4 ] .
وفي هذا : دليل على أن ا لإمام يستحب لهُ أن يقبل على المأمومين بعد إقامة الصلاة ، ويأمرهم بتسوية صفوفهم .
وقد تقدم حديث النعمان بن بشير في هذا .
وخرج النسائي من حديث ثابت ، عن أنس ، أن النبي ( كانَ يقول :
( ( استووا ، استووا ، استووا ؛ فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم بين يدي ) ) .
وبوب عليهِ : ( ( كم مرة يقول : استووا ) ) .
يشير إلى أنه يكررها ثلاثا ؛ فأن النبي ( كانَ إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا .
وخرج أبو داود وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من حديث محمد بن مسلم - صاحب المقصورة - ، قالَ : صليت إلى جنب أنس يوماً ، فقالَ : هل تدري لم صنع هذا العود ؟ قلت : لا والله . قالَ : إن رسول الله ( كانَ إذا قام إلى الصلاة أخذه بيمينه ، ثم التفت ، فقالَ : ( ( اعتدلوا ، سووا صفوفكم ) ) .(4/252)
"""""" صفحة رقم 253 """"""
وخرج الدارقطني والحاكم من حديث حميد ، عن انس ، قالَ : كانَ رسول الله ( إذا قام في الصلاة قالَ هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ، ثم يقول : ( ( استووا وتعادلوا ) ) . وروى مالك في ( ( الموطأ ) ) عن نافع ، أن عمر كانَ يأمر بتسوية الصفوف ، فإذا أخبروه أن قد استوت كبر .
وعن عمه أبي سهيل ، عن أبيه ، عن عثمان بن عفان - أيضاً .
وروى عمرو بن ميمون ، قالَ : كانَ عمر إذا أقيمت الصلاة أقام الصف ، حتى إذا لم ير فيهِ خللاً كبّر .
وروى وكيع بإسناده ، عن كعب بن مرة ، قالَ : إن كنت لأدع الصف المقدم من شدة قول عمر : استووا .
وبإسناده ، عن ابن عمر ، أن عمر كانَ يبعث رجالاً يقيمون الصفوف في الصلاة .
وروى أبو نعيمٍ بإسناده ، عن الحارث ، عن علي ، قالَ : كانَ يسوي صفوفنا ، ويقول : سووا تراحموا ، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم .(4/253)
"""""" صفحة رقم 254 """"""
73 - باب
الصَّف الأَولِ
720 - حدثنا أبو عاصم ، عن مالك ، عن سمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قالَ رسول الله ( : ( ( الشهداء : الغرق ، والمطعون ، والمبطون ، والهدم ) ) .
721 - وقال : ( ( لو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً ، ولو يعلمون ما في الصف المقدم لاستهموا ) ) .
قد سبق هذا الحديث في ( ( باب : الاستهام في الأذان ) ) وفي ( ( باب : فضل التهجير إلى الظهر ) ) ، وذكرنا معنى الاستهام على الصف .
وقد روي للصف الأول فضائل عديدة :
فمنها : أنه على مثل صف الملائكة .
خرج الأمام أحمد وأبوا داود والنسائي من حديث أبي بن كعب ، عن النبي ( ، قالَ - في حديث ذكره - : ( ( والصف الأول على مثل صف الملائكة ، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه ) ) .
ومنها : أنه خير صفوف الرجال .
ففي ( ( صحيح مسلم ) ) عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( خير صفوف الرجال أولها ، وشرها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها , وشرها أولها ) ) .(4/254)
"""""" صفحة رقم 255 """"""
ومنها : أن الله وملائكته يصلون عليهِ .
فخرج الأمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث البراء بن عازب ، عن النبي
( ، قالَ : ( ( إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول ) ) .
وخرجه ابن ماجه ، وعنده : ( ( على الصف الأول ) ) .
وخرجه - أيضاً - بهذا اللفظ من حديث عبد الرحمن بن عوف ، عن النبي ( .
والصواب : إرسال إسناده - : قاله أبو حاتم والدار قطني .
وخرجه الأمام أحمد بهذا اللفظ من حديث النعمان بن بشير ، عن النبي ( .
ومن حديث أبي أمامة ، وفي حديثه : أن النبي ( قالها ثلاثاً . فقيل لهُ :
يارسول الله ، والثاني ؟ فقالَ - في الثالثة - : ( ( وعلى الثاني ) ) .
ومنها : أن النبي ( استغفر لهُ ثلاثاً دون ما بعده .
فخرج ابن ماجه من حديث العرباض بن سارية ، أن النبي ( كانَ يستغفر للصف المقدم ثلاثاً ، وللثاني مرة .
وخرجه النسائي ، وعنده : ( ( يصلي ) ) مكان : ( ( يستغفر ) ) .(4/255)
"""""" صفحة رقم 256 """"""
ومنها : أنه أحصن الصفوف من الشيطان .
فروى قتادة ، عن أبي قلابة ، أن النبي ( قالَ لأصحابه : ( ( أي شجرة أبعد من الخارف والخاذف ؟ ) ) قالوا : فرعها . قالَ : ( ( فكذلك الصف المقدم ، هوَ أحصنها من الشيطان ) ) .
ورواه جماعة ، فقالوا : عن قتادة ، عن أنس .
والصواب : عن أبي قلابة - : قاله الدارقطني وغيره . وأنكر أبو زرعة وصله .
وروي نحوه من حديث أبي هريرة مرفوعاً بإسناد ضعيف .
ومنها : أن الصلاة فيهِ تقتضي التقدم إلى الله ، فإن التأخر عنه يقتضي التأخر .
ففي ( ( صحيح مسلم ) ) عن أبي سعيد ، عن النبي ( ، أنه رأى في أصحابه
تأخرا ، فقالَ : ( ( تقدموا ، فائتموا بي ، وليأتم من بعدكم ، لايزال قوم يتأخرون حتى يأخرهم الله ( ) ) .
وخرج أبو داود وابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) من حديث عائشة ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( لا يزال أقوام يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار ) ) .
واختلف الناس في الصف الأول : هل هوَ الذي يلي الأمام بكل حال ، أم الذي لا يقطعه شيء ؟ وفيه قولان للعلماء .(4/256)
"""""" صفحة رقم 257 """"""
والمنصوص عن أحمد : أن الصف الأول هوَ الذي يلي المقصورة ، وأن ما تقطعه المقصورة فليس هوَ الأول - : نقله عنه المروذي وأبو طالب وأحمد بن القاسم وغيرهم .
وقال أبو طالب : سئل أحمد عن الصلاة في المقصورة ؟ قالَ : لا يصلي فيها ، هوَ الذي يلي المقصورة ، فيخرج من المقصورة فيصلي في الصف الأول .
وروى وكيع عن عيسى الحناط ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كانَ إذا حضرت الصلاة وهو في المقصورة خرج إلى المسجد .
وعن شعبة ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار ، قالَ : كانَ أصحاب عبد الله
- يعني : ابن مسعود - يقولون : الصف الأول الذي يلي المقصورة .
وروي ذَلِكَ عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود .
وقال الشعبي : المقصورة ليست من المسجد .
ذكر ذلك كله وكيع في ( ( كتابه ) ) .
فأما الصف الذي يقطعه المنبر ، فهل هوَ الصف الأول ، أم لا ؟
قالَ أحمد - في رواية أبي طالب والمروذي وغيرهما - : إن المنبر لا يقطع الصف ، فيكون الصف الأول الذي يلي الإمام وإن قطعه المنبر ، بخلاف المقصورة .
وتوقف في ذَلِكَ في رواية الأثرم وغيره .
وقالت طائفة : الصف الأول هوَ الذي يلي الإمام بكل حال ، ورجحه كثير من أصحابنا ، ولم أقف على نص لأحمد به .
وقال آخرون : الصف الأول المراد به أول من يدخل المسجد للصلاة فيهِ .
قالَ ابن عبد البر : لا أعلم خلافا بين العلماء أن من بكر وانتظر الصلاة ،(4/257)
"""""" صفحة رقم 258 """"""
وإن لم يصل في الصف الأول ، أفضل ممن تأخر ثم تخطى الصفوف إلى الصف الأول .
قالَ : وفي هذا ما يوضح أن معنى فضل الصف الأول : أنه ورد من اجل البكور إليه ، والتقدم . والله ( أعلم . انتهى .
وحمل أحاديث فضل الصف الأول على البكور إلى المسجد خاصة لا يصح ، ومن تأمل الأحاديث علم أن المراد بالصف الأول الصف المقدم في المسجد ، لا تحتمل غير ذَلِكَ .
وخرج الأمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) من حديث أنس ، أن النبي ( قالَ : ( ( أتموا الصف المقدم ، ثم الذي يليه ، فما كانَ من نقص فليكن في الصف المؤخر ) ) .(4/258)
"""""" صفحة رقم 259 """"""
74 - بَابُ
إقَامَةِ الصَّف مِن تَمَامِ الصَّلاةِ
722 - حدثنا عبد الله بن محمد : ثنا عبد الرزاق : أنا معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليهِ ، فإذا ركع فأركعوا ، وإذا قالَ : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ، وأقيموا الصف في الصلاة ؛ فإن إقامة الصف من حسن الصلاة ) ) .
723 - حدثنا أبو الوليد : ثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( سووا صفوفكم ؛ فأن تسوية الصف من إقامة الصلاة ) ) .
في حديث أبي هريرة : أن إقامة الصف من حسن الصلاة ، والمراد : أن الصف إذا أقيم في الصلاة كانَ ذَلِكَ من حسنها ، فإذا لم يقم نقص من حسنها بحسب ما نقص من إقامة الصف .
وفي حديث أنس : أن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة ، والمراد بإقامتها : الإتيان بها على وجه الكمال .
ولم يذكر في القرأن سوى إقامة الصلاة ، والمراد : الإتيان بها قائمة على وجهها الكامل .
وقد صرح في هذا الحديث بأن تسوية الصفوف من جملة إقامتها ، فإذا لم تسو الصفوف في الصلاة نقص من إقامتها بحسب ذَلِكَ - أيضا - والله أعلم .(4/259)
"""""" صفحة رقم 260 """"""
75 - بَابُ
إثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصَّفَّ
724 - حدثنا معاذ بن أسد : ثنا الفضل بن موسى : أنا سعيد بن عبيد الطائي ، عن بشير بن يسار الأنصاري ، عن أنس بن مالك ، أنه قدم المدينة ، فقيل لهُ : ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله ( ؟ قالَ : ما أنكرت شيئاً ، إلا أنكم لا تقيمون الصفوف .
وقال عقبة بن عبيد ، عن بشير بن يسار : قدم علينا أنس المدينة - بهذا .
عقبة بن عبيد الطائي ، هوَ : أخو سعيد بن عبيد الذي روى هذا الحديث عن
أنس ، ويكنى أبى الرحال .
لم يخرج لهُ في الكتب الستة سوى هذا الحديث الذي علقه البخاري هاهنا .
وقد خرج حديثه الإمام أحمد ، عن أبي معاوية ، عن عقبة بن عبيد ، عن بشير بن يسار ، قالَ : قلت لأنس بن مالك : ما أنكرت من حالنا في عهد رسول الله ( ؟ قالَ : أنكرت أنكم لا تقيمون الصفوف .
وفي هذا الحديث : دليل على أن تسوية الصفوف كانَ معروفا في عهد النبي ( ، وأن الناس غيروا ذَلِكَ بعده .
والظاهر : أن أنس بن مالك إنما قالَ هذا في أوائل الأمر ، قبل أن يؤخر بنو أمية الصلوات عن مواقيتها ، فلما غير بنو أمية مواقيت الصلاة قالَ أنس : ما أعرف شيئا مما كانَ على عهد النبي ( .
قيل لهُ : ولا الصلاة ؟ قالَ : أو ليس قد صنعتم فيها ما صنعتم . وقد سبق هذا الحديث في أوائل ( ( المواقيت ) ) .(4/260)
"""""" صفحة رقم 261 """"""
وأما استدلال البخاري به على إثم من لم يتم الصف ففيه نظر ؛ فإن هذا إنما يدل على أن هذا مما ينكر ، وقد ينكر المحرم والمكروه .
وكان الاستدلال بحديث : ( ( لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) ) على الإثم أظهر ، كما سبق التنبيه عليهِ .(4/261)
"""""" صفحة رقم 262 """"""
76 - بَابُ
إلْزَاقِ الْمَنْكِبِ بالْمَنْكِبِ وَالْقَدَمِ بالْقَدَمِ في الصَّفَّ
وقال النعمان بن بشير : رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه .
725 - حدثنا عمرو بن خالد : ثنا زهير ، عن حميد ، عن أنس ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( أقيموا صفوفكم ؛ فإني أراكم من وراء ظهري ) ) . وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه ، وقدمه بقدمه .
حديث أنس هذا : يدل على أن تسوية الصفوف : محاذاة المناكب والأقدام .
وحديث النعمان للذي علقه البخاري ، خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) من رواية أبي القاسم الجدلي ، قالَ : سمعت النعمان ابن بشير يقول : أقبل رسول الله ( على الناس بوجهه ، فقالَ : ( ( أقيموا صفوفكم ) ) - ثلاثا - ( ( والله لتقيمن صفوفكم ، أو ليخالفن الله بين قلوبكم ) ) . قالَ : فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه ، وركبته بركبة صاحبه ، وكعبه بكعبه .
أبو القاسم الجدلي ، أسمه : الحسين بن الحارث الكوفي . قالَ ابن المديني . معروف . ووثقه ابن حبان .
وفي هذا الحديث : دلالة على أن الكعب هوَ العظم الناتيء في أسفل الساق ، ليس هوَ في ظهر القدم ، كما قاله قوم .
وقد تقدم من حديث النعمان بن بشير ، أن النبي ( لما رأى رجلاً ناتئاُ صدره في الصف غضب ، وأمرهم بتسوية الصفوف .(4/262)
"""""" صفحة رقم 263 """"""
وفيه : دليل على أن استواء صدور القائمين في الصف - أيضا .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في
( ( صحيحيهما ) ) من حديث أبان ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي ( ، قالَ :
( ( رصوا صفوفكم ، وقاربوا بينها ، وحاذوا بالأعناق ) ) .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي الزاهرية ، عن كثير بن مرة ، عن إبن عمر ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( أقيموا الصفوف ، وحاذوا بين المناكب ، وسدوا الخلل ، ولينوا بأيدي إخوانكم ) ) .
وخرجه أبو داود - أيضا - من وجه آخر ، عن أبي الزاهرية ، عن كثير بن مرة - مرسلاً .
وقيل : عن كثير بن مرة ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي ( . ولا يصح .
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( سووا صفوفكم ، وحاذوا بين مناكبكم ، ولينوا في أيدي إخوانكم ، وسدوا الخلل ) ) .
وخرج الأمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث البراء بن عازب ، قالَ : كانَ رسول الله ( يتخلل الصفوف من ناحية إلى ناحية ، يمسح مناكبنا وصدورنا ، يقول : ( ( لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ) ) .
وروى أبو نعيم في ( ( كتاب الصلاة ) ) بإسناده ، عن عمر ، أنه كانَ يسوي(4/263)
"""""" صفحة رقم 264 """"""
الصفوف في الصلاة ، يقول : سووا مناكبكم في الصلاة .
وعن عثمان ، أنه قام خطيبا في الناس ، فقالَ : سووا صفوفكم والأقدام ، وحاذوا بالمناكب .(4/264)
"""""" صفحة رقم 265 """"""
77 - بَابُ
إذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الإِمَامِ وَحَوَّلَهُ
الإِمَامُ خَلْفَهِ إِلَى يَمِيِنِهِ تَمَّتْ صَلاَتُهُ
726 - حدثنا قتيبة بن سعيد : ثنا داود ، عن عمرو بن دينار ، عن كريب مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قالَ : صليت مع النبي ( ذات ليلة ، فقمت عن يساره ، فأخذ رسول الله ( برأسي من ورائي ، فجعلني عن يمينه فصلى ورقد ، فجاءه المؤذن ، فقام يصلي ، ولم يتوضأ .
مقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب : أن ابن عباس كانَ قد صف مع النبي ( عن يساره ، لكنه لما كان موقفه مكروها حوله النبي ( منه ، فأداره من ورائه إلى يمينه ، فدل على أن إزالة بعض من في الصف عن مقامه وتحويله من الصف في الصلاة لمصلحة جائز ، وصلاته تامة ، وإن كانَ قد خرج من الصف وتأخر عنه .
ولا يدخل هذا في ترك تسوية الصفوف المنهي عنه ، وإن كانَ فيهِ تأخر عن الصف ، إلا أن المقصود منه : أن يعود إلى الصف على وجه أكمل من مقامه ، فهوَ شبيه بإبطال الصلاة المكتوبة إذا دخل فيها منفردا ، ثم أقيمت الصلاة ليؤديها في جماعة .
وقريب منه : تخريب بناء المسجد لأعادته على وجه أكمل منه .
وفي الحديث - أيضا - : دليل على أن مصير المأموم فذا خلف الإمام - أو خلف الصف - وقتا يسيرا لا تبطل به الصلاة ، إذا زالت فذوذيته قبل الركوع ؛ فإن النبي ( أخرج ابن عباس من جهة يساره إلى ورائه ، فصار فذا في تلك(4/265)
"""""" صفحة رقم 266 """"""
الحالة ، ثم أعاده إلى يمينه في الحال ، فزالت فذوذيته سريعا ، ووقف في موقف هوَ أكمل من مقامه الأول قبل الركوع .
وسيأتي القول في ذَلِكَ في ( ( باب : الركوع دون الصف ) ) - إن شاء الله تعالى .(4/266)
"""""" صفحة رقم 267 """"""
78 - باب
المَرأَةِ تكونُ وَحْدَهَا صَفاً
727 - - حدثنا عبد الله بنِ محمد : ثنا سفيان ، عَن إسحاق ، عَن أنس بنِ مالك ، قالَ : صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي ( ، وأمي خلفنا : أم سليمٍ .
دل هَذا الحديث على أن المرأة إذا صلت معَ الرجال ، ولم تجد امرأةً تقف معها قامت وحدها صفاً خلف الرجالِ .
وهذا لا اختلاف فيهِ بين العلماء ؛ فإنها منهيةٌ أن تصف معَ الرجال ، وقد كانت صفوفُ النساء خلف الرجال في عهد النبي ( وخلفائه الراشدين ، ولهذا قالَ ابن مسعود : أخروهنَّ مِن حيث أخرهنَّ الله .
خرجه وكيعٌ وغيرهُ .
ولا يعلم في هَذا خلاف بين العلماء ، إلا أنَّهُ روي عَن أبي الدرداء ، أن الجارية التي لَم تحضِ تقف معَ الرجال في الصف .
فأما إن وجدت امرأةً تقفُ معها ، ثُمَّ وقفت وحدها ، فهل تصح صلاتها
حينئذٍ ؟ فيهِ لأصحابنا وجهان .
أحدهما : لا تصحُّ ، وَهوَ ظاهر كلام أبي بكرٍ الأثرم ، وقول القاضي أبي يعلى في ( ( تعليقه ) ) وصاحب ( ( المحرر ) ) ، إلحاقاً للمرأة بالرجل ، معَ القدرة على المصافّةِ .
والثاني : تصحُّ ، وَهوَ قول صاحب ( ( الكافي ) ) أبي محمد المقدسي ، وَهوَ ظاهر تبويب البخاري ؛ لأن المرأةَ تكون وحدها صفاً ، ولا تحتاج إلى مِن يصافّها ، وكذا قالَ الإمام أحمد في رواية حربٍ : المرأة وحدها صفٌ .(4/267)
"""""" صفحة رقم 268 """"""
وقد استدل طائفة مِن العلماء بصلاة المرأة وحدها على صحة صلاة الرجل
النفل ، وهذا جمعُ بين ما فرقت السنة بينهُ ؛ فإن السنة دلت على صحة صلاة المرأة وحدها خلف الصفوف ، ونهت الرجل عَن ذَلِكَ ، فأمرتهُ بالإعادة ، على ما يأتي ذكرهُ في موضعه - إن شاء الله تعالى .
وأقرب مِن هَذا : قولُ مِن قالَ : إن صلاةَ الرجلِ خلف الصفوف وحده إذا تعذَرَ عليهِ مِن يصافه تصحُّ إلحاقاً لها بصلاة المرأة وحدها ، إذا لَم تجد مِن يصافها ، كَما قالَه بعض المتأخرين مِن أصحابنا ، ولكن المذهب خلافهُ .
واستدل - أيضاً - بحديث أنسٍ هَذا على أن الإمام إذا كانَ خلفهُ رجلانِ أو صبيان قاما خلفه ، وهذا قول جمهور العلماء .
وكان ابن مسعود يرى ان الاثنين يقومان معَ الإمام عَن يمينه وشماله .
خرجه مسلم بإسناده عَنهُ .
وخرجه أبو داود والنسائي ، عنه - مرفوعاً .
وقال ابن عبد البر : لا يصح رفعهُ .
فَمِن العلماء مِن قالَ : نُسخ ذَلِكَ ؛ لأن ابن مسعودٍ قرنه بالتطبيق في حديث واحد ، والتطبيق منسوخٌ ، فكذلك القيام .
ومنهم مِن تأوَّله على أنَّهُ فعله لضيقِ المكان ، رويَ ذَلِكَ عَن ابن سيرين .
وفيه نظرٌ .
ومنهم من تأوَّلهُ على ابن مسعودٍ فعل ذَلِكَ بعلقمة والأسود حيث فاتتهم الجمعةُ ، وقصد إخفاء الجماعة للظهر يومَ الجمعةِ ، وعلى ذَلِكَ حملهُ الإمام أحمد في رواية إسحاق بنِ هانئ ، وفعله - - أيضاً - معَ صاحبين لَهُ في مسجدٍ مِن المساجد .(4/268)
"""""" صفحة رقم 269 """"""
ومنهم مِن تأوله على أن علقمة كانَ غلاماً ، فلم يرَ ابن مسعودٍ للأسود أن يصافه في الفريضة ، وعلى ذَلِكَ حمله الإمام أحمد في رواية أخرى عَنهُ ، نقلها عَنهُ ابنه
عبد الله والميموني وغيرهما .
وحمل أحمد حديث أنسٍ هَذا في مصافته لليتيم على أن الصلاةَ كانت نفلاً ، والرجلُ يجوز لَهُ أن يصافف الصبيَّ في النفل خاصة .
وقد خرج هَذا الحديث أبو داود مِن حديث ثابتٍ ، عَن أنسٍ ، وفيه : فصلى بنا ركعتين تطوعاً .
وقد سبق الكلامُ عليهِ مستوفىً في ( ( باب : الصلاة على الحصير ) ) .
وقال الإمام أحمد - - مرة أخرى - : قلبي لا يجسر على حديث إسحاق ، عَن أنسٍ ؛ لأن حديث موسى خلافهُ ، ليسَ فيهِ ذكر اليتيمِ .
قالَ أبو حفصٍ البرمكيُّ مِن أصحابنا : حديث إسحاق الذِي فيهِ ذكر اليتيمِ .
وحديث موسى خرجه مسلمٌ مِن طريق شعبةَ ، عَن عبد الله بنِ المختار : سمع موسى بنِ أنس يحدث ، عَن أنس بنِ مالكٍ أن رسول الله ( صلى به وبأمه - أو خالته - قالَ : فأقامني عن يمينه ، وأقام المرأةَ خلفَنا .
وخرج مسلم - أيضاً - مِن طريق سليمانِ بنِ المغيرةِ ، عَن ثابت ، عَن أنسٍ ، قالَ : دخل النبي ( علينا ، وما هوَ إلا أنا وأمِّي وأُمُّ حَرامٍ خالتي ، فقالَ : ( ( قوموا فلأُصلِّي بكم ) ) في غير وقت صلاةٍ ، فصلى بنا ، فقالَ رجل لثابت : أين جعل أنساً
منهُ ؟ قالَ : جعله عَن يمينه .
وخرجه أبو داود مِن طريق حماد بنِ سلمة ، عَن ثابتٍ ، وقال فيهِ : فأقامني عَن يمينه وأمَّ حرامٍ خلفنا .(4/269)
"""""" صفحة رقم 270 """"""
وفي رواية لَهُ : قالَ ثابت : لا أعلمه إلا قالَ : أقامني عَن يمينه .
وقد رجَّح الدارقطنيُّ وغيرهُ وقفَ الحديثِ على أنسٍ ، وأنه هوَ الذِي أقام ثابتاً عَن يمينه .
وفي الجملة ؛ فللعلماء في هَذهِ الأحاديث ، عَن أنسٍ مسلكان :
أحدهم : تعارُضُهُما ، وترجيح رواية موسى بنِ أنسٍ عَنهُ ؛ لموافقتِهِ لحديث ابن عباسٍ وغيرهِ .
والثاني : أنهما قضيَّتان متغايرتانِ ، وَهوَ مسلكُ ابن حبان وغيره .
وأجاز أحمد مصافة الرجل للصبيِّ في النفل دونَ الفرض ، كَما قال ذَلِكَ في إمامته بالرجال في إحدى الروايتين عَنهُ .
ومن أصحابنا مِن قالَ : يصحّ مصافته في الفرض والنفلِ .
ومنهم مِن قالَ : لا يصحُّ فيهما وحمل كلام أحمد على أن النفل يصحُّ فيهِ صلاةُ الفذِّ خلف الصفوفِ . وهذا بعيدٌ .
واستدل بعضُ مِن يرى صحةَ صلاةِ الفذِّ بمصافةِ أنسٍ لليتيم ، ذكره الترمذي في ( ( جامعه ) ) ، ثُمَّ ردَّهُ . بأنهُ لو كانَ الصبيُّ لا صلاةَ لَهُ لأقام أنساً عَن يمينه .
ويحتمل - أيضاً - أن يكون أنسٌ حينئذٍ كانَ صبياً لم يبلغِ الحلمَ ، أو أن الذِي صلى معه كانَ بالغاً ، وسمى يتيماً تعريفاً لَهُ بما كانَ عليهِ ، كَما يُقال : أبو الأسودِ يتيمٌ عروةَ .
وأكثر العلماء على أن الرجل يصحُّ أن يصافَّ الصبيَّ ، وَهوَ قولُ الثوريِّ .
وقالَ الأوزاعي : إن كانَ الصبِّيان ممن نَبتَ صفَ الرجلُ والصبيان خلف الإمام ، وإن كانَ ممن لا نبت قامَ الرجلُ عَن يمين إمامهِ .
وقال حرب : سألت إسحاق عَن رجلٍ صلَّى وحضره رجلٌ وغلامٌ ابنُ ستِّ(4/270)
"""""" صفحة رقم 271 """"""
سنينَ ، كيف يقيمهما ؟ قالَ : يقيمهما خلفه : قلت يُقيمهما جميعاً عَن يمينه ؟ فلم يرخص فيهِ ، وذكر حديث أنسٍ : صليت أنا ويتيمٌ لنا خلفَ النبيِّ ( .
وقد تقدم عَن الحسن ، أن مِن صلَّى معه رجلٌ وامرأةٌ قام الرجل خلفه والمرأةُ خلفهما .
وَهوَ مخالفٌ لرواية موسى بنِ أنسٍ وثابتٍ ، عَن أنسٍ .
وجمهورُ أهلِ العلم على أنَّ الرجل يقوم عَن يمين الإمام ، والمرأة خلفه ، فعلى قول الحسن إذا كانَ معَ الرجل صبيٌّ ، فلا إشكال عنده في مصافة الرجل .
واستدل - أيضاً - بحديث أنسٍ هَذا على أنَّ الصبي يقوم في صفِّ الرجال مِن غير كراهةٍ ، قَد رُويت كراهته عن عمر بنِ الخطاب وأُبي بنِ كعبٍ ، وكانا يُخرجان الصبيان مِن صفوف الرجال ، وَهوَ قولُ الثوري وأحمد .
وأجاب أحمد عَن حديث أنسٍ هَذا في إقامةِ اليتيم معَ أنسٍ ، بأنَّهُ كانَ في التطوع .
ويُجاب عَنهُ - أيضاً - بأنَّ الكراهة إنما هي حيث كانَ هناك رجالٌ يملئون
الصفَّ ، فيمنع الصبيُّ ، ويخرج منهُ ليقوم مقامه رجلٌ ، فَهوَ أولى بالصفِّ منهُ ، فأما في حديث أنسٍ ، فإنما هوَ ويتيمٌ واحدٌ في بيت ، فلم يكن مقام اليتيم مانعاً للرجالِ مِن الصلاةِ في الصفِّ مكانه .
وعلى تقدير أن يكون أنسٌ صبياً إذ ذاكَ لَم يبلغِ الحلمَ ، فَقد كانا جميعاُ صبيين . والله ( أعلم .(4/271)
"""""" صفحة رقم 272 """"""
79 - باب
مَيْمَنَةَ المَسْجِدِ واَلإِمامِ
728 - حدثنا موسى : ثنا ثابتُ بنِ يزيدَ : ثنا عَاصِمٌ ، عَن الشعبي ، عَن ابن عبَّاسٍ ، قالَ قُمتُ ليلةً أُصلِّي عَن يَسارِ النبيِّ ( ، فأخذَِ بيدي - - أو بعضُدي - حَتَّى أقامَني عَن يمينهِ ، وقَالَ بيدهِ مِن ورائِي .
مرادُ البخاري بهذا الحديث في هَذا الباب : أن النبي ( لما حوَّل ابن عباس مِن عَن يساره إلى يمينه دلَّ على أن موقف المأمومِ عَن يمين الإمام ، وأن جهةَ اليمين أشرفُ وأفضل فلذلك يكون موقفُ المأمومِ الواحدِ منها ، فيُستدلُ بذلك على أن جهةَ يمين الإمام للمأمومين الذين يقومون خلف الإمام أشرف وأفضلُ مِن جهة يساره .
وقد ورد في هَذا أحاديثٌ مصرحةٌ بذلك :
فخرج ابن ماجه مِن رواية أسامةَ بنِ زيدٍ ، عَن عثمان بنِ عروةَ ، عَن عروةَ ، عن عائشة ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( إنَّ الله وملائكتَه يصلُّون على ميامنِ الصفُوفِ ) ) .
خرجه مِن رواية معاوية بنِ هشام ، عَن سفيان ، عَن اسامة ، بهِ .
وذكر البيهقي : أنه تفرد به معاوية ، عن سفيان . قالَ : ولا أراه محفوظاً ، وإنما المحفوظ بهذا الإسناد : ( ( إن الله وملائكته يصلُّون على الذين يصلون الصفوف ) ) .(4/272)
"""""" صفحة رقم 273 """"""
وخرج النسائيُّ وابن ماجه مِن حديث ثابت بنِ عبيدٍ ، عَن ابن البراء بنِ عازب ، عَن البراء ، قالَ : كنَّا إذا صلينا خلف النبي ( مما نحب - - أو أحبُّ - أن نقوم عَن
يمينه .
وخرج ابن ماجه مِن رواية ليث بنِ أبي سُليمٍ ، عَن نافعٍ ، عَن ابن عمرَ قالَ : قيل للنبي ( : إن ميسرةَ المسجد تعطلت . فقالت النبي ( : ( ( مِن عمَّر ميسرة المسجد كتب لَهُ كفلان مِن الأجر ) ) .
وخرج البيهقي بإسناد فيهِ جهالةٌ ، عَن أبي برزة ، قالَ لي رسول الله ( : ( ( إن استطعت أن تكون خلف الإمام ، وإلا فعن يمينه ) ) . وقال : هكذا كانَ أبو بكر وعمرُ خلف النبي ( .
وخرجه الطبراني - أيضاً - وخرج الطبراني والعقيلي وابن عدي مِن حديث ابن عباس مرفوعاً في فضل الوقوف بإزاء الإمام .
وخرجه أبو بكر بن أبي داود - أيضاً - من حديث أنس مرفوعاً .
وكلا الإسسنادين لا يصح .
وروي مرسلاً ؛ رواه هشيمٌ ، عَن داود بنِ أبي هندٍ أرسله إلى النبي ( .
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) عَن إسرائيل ، عَن الحجاج بنِ دينار ، يرفعه إلى النبي ( ، قالَ : ( ( فضل أهل ميمنة المسجد على أهل المسجد بضعٌ وعشرون درجةً ) ) .(4/273)
"""""" صفحة رقم 274 """"""
وعن سفيان ، عَن ابن جريجٍ ، عَن عطاء ، عَن عبد الله بنِ عمرو ، قالَ : أفضلُ المسجد ناحية المقام ، ثُمَّ ميامنُه .
وعن الربيع ، عَن الحسن ، قالَ : أفضل الصفوف الصف المقدمُ ، وأفضلهُ مما يلي الإمام .
وكأنه يريد : مقامَ الإمام . والله أعلم وأكثر العلماء على تفضيل ميمنة الصفوف وخلف الإمام .
وأنكره مالكٌ .
ففي ( ( تهذيب المدونَّةِ ) ) : ومن دخل المسجد وقد قامت الصفوفُ قامَ حيث شاءَ ، إن شاء خلف الإمام ، وإن شاء عَن يمينه أو عَن يساره . وتعجب مالك ممن قالَ : يمشي حتى يقف حذوَ الإمام .(4/274)
"""""" صفحة رقم 275 """"""
80 - باب
إذا كانَ بينَ الإِمَامِ وَبَيْنَ القَوْمِ حَائِطٌ اَوْ سُتْرَةٌ
وقال الحسنُ : لا بأس أن تصلِّي وبينكَ وبينهُ نهر .
وقال أبو مجلزٍ : يأتمُّ بالإمامِ - وإنْ كانَ بينهما طَريقٌ أو جدارٌ - إذا سمعَ تكبيرَ الإمامِ .
مرادُ البخاري بهذا الباب : أنَّهُ يجوز اقتداء المأمومِ بالإمام ، وإن كانَ بينهما طريق أو نهر ، أو كانَ بينهما جدار يمنع المأموم مِن رؤية إمامه إذا سمع تكبيره .
فهاهنا مسألتان :
إحداهما :
إذا كانَ بين الإمام والمأموم طريق أو نهر ، وقد حكى جوازه في صورة النهر عَن الحسن ، وفي صورة الطريق عَن أبي مجلز .
وقال الأوزاعي في السفينتين ، يأتم مِن في أحداهما بإمام الأخرى : الصلاة
جائزةٌ ، وإن كانَ بينهما فرجةٌ ، إذا كانَ أمام الأخرى - وبه قالَ الثوري : نقله ابن المنذر .
وروى الأثرم بإسناده ، عَن هشام بن عروة ، قالَ : رأيت أبي وحميد بنِ
عبد الرحمن يصليان الجمعة بصلاة الإمام في دار حميدٍ ، وبينهما وبين المسجد جدارٌ .
وكره آخرون ذَلِكَ :
روى ليثُ بنُ أبي سليمٍ ، عَن نعيم بنِ أبي هندٍ ، قالَ : قالَ عمر بنِ الخطاب : مِن صلى وبينه وبين الإمام نهرٌ أو جدار أو طريق لَم يصل معَ الإمام .(4/275)
"""""" صفحة رقم 276 """"""
خرجه أبو بكر عبد العزيز بنِ جعفر في كِتابِ ( ( الشافي ) ) .
وكره أبو حنيفة وأحمد أن يصلي المأموم وبينه وبين إمامه طريقٌ لا تتصل فيهِ الصفوف ، فإن فعل ، فقالَ أبو حنيفة : لا تجرئه صلاته . وفيه عَن أحمد روايتان .
والنهر بصلاة الذِي تجري فيهِ السفن كالطريق عند أحمد . وعن أحمد جوازه .
واحتج بصلاة أنسٍ في غرفة يوم الجمعة .
فَمِن أصحابه مِن خصه بالجمعة عند الزحام . والأكثرون لَم يخصُّوه بالجمعة .
وكذلك مذهب إسحاق :
قالَ حربٌ : قلت لإسحاق : الرجل يصلي في داره ، وبينه وبين المسجد طريقٌ يمرُّ فيهِ الناس ؟ قالَ : لا يعجبني ، ولم يرخِّص فيهِ . قلت : صلاتهُ جائزةٌ ؟ قالَ : لو كانت جائزةً كنت لا أقول : لا يعجبني . قالَ : إلا أن يكون طريق يقوم فيهِ الناس ، ويصفون فيهِ للصلاة . قلت : فإنَّا حين صلينا لَم يمرَّ فيهِ أحدٌ ، فذهب إلى أن الصلاة جائزةٌ .
قلت لإسحاق : فرجل صلى وبين يديه نهرٌ يجري فيهِ الماء ؟ قالَ : إن كانَ نهراً تجري فيهِ السفن فلا يصلِّ ، وإن لَم يكن تجري فيهِ السفن فَهوَ أسهل .
وكره آخرون الصلاة خلف الإمام خارجَ المسجد :
روي عَن أبي هريرة وقيس بنِ عبادةَ ، قالا : لا جمعة لمن لَم يصلِّ في المسجد .
ورخصت طائفةٌ في الصلاة في الرحاب المتصلة بالمسجد ، منهم : النخعيُّ والشافعيُّ .
وكذلك قالَ مالك ، وزاد : أنَّهُ يصلي فيما اتصل بالمسجد مِن غيره .
ذكر في ( ( الموطأِ ) ) عَن الثقة عنده ، أن الناس كانوا يدخلون حُجَرَ أزواجِ النبي ( بعد وفاة النبي ( ، يصلُّون فيها الجمعة . قالَ : وكان المسجد يضيقُ على أهله .(4/276)
"""""" صفحة رقم 277 """"""
وحجر أزواج النبي ( ليست مِن المسجد ، ولكن أبوابها شارعةٌ في المسجد .
قالَ مالك : فَمِن صلى في شيء مِن المسجد أو في رحابه التي تليه ، فإن ذَلِكَ مجزئٌ عَنهُ ، ولم يزلْ ذَلِكَ مِن أمر الناس ، لَم يعبه أحدٌ مِن أهل الفقه .
قالَ مالك : فأما دارٌ مغلقةٌ لا تدخل إلا بإذن ، فإنه لا ينبغي لأحد أن يصلي فيها بصلاةِ الإمام يوم الجمعة ، وإن قربُت ، فإنها ليست مِن المسجد .
وفي ( ( تهذب المدونة ) ) . أن ضابطَ ذَلِكَ : أن ما يُستطرَقُ بغير إذن مِن الدور والحوانيت تجوز الصلاة فيهِ ، وما لا يدخل إليهِ إلا بإذن لا يجوز ، وأن سائر الصلوات في ذَلِكَ كالجمعة .
وروى الأثرمُ بإسناده ، عَن محمد بن عمرو بنِ عطاءٍ ، قالَ : صليت معَ ابن عباسٍ في حجرة ميمونةَ زوجِ النبي ( بصلاة الإمام يوم الجمعة .
وبإسناده ، عَن عطاء بنِ أبي ميمونة ، قالَ كنت معَ أنسِ بنِ مالك يوم جمعة ، فلم يستطع أن يزاحم على أبواب المسجد ، فقالَ : اذهب إلى عبد ربِّه ابن مخارقٍ ، فقل لَهُ : إن أبا حمزة يقول لك : أتأذن لنا أن نصلي في دارك ؟ فقالَ : نعم . فدخل فصلَّى بصلاة الإمام ، والدار عَن يمين الإمام .
فهذا أنسٌ قَد صلى في دار لا تُدخل بغير إذن ، وحجر أزواجِ النبي ( قبل هدمها وإدخالها في المسجد لَم تكن تُدخل بغير إذنٍ - أيضاً .
وقد استدل أحمد بالمروي عَن أنس في هَذا في رواية حرب ، ورخص في الصلاة في الدار خارج المسجد ، وإن كانَ بينها وبين المسجد طريقٌ ، ولم يشترط الإمام أحمد لذلك رؤية الإمام ، ولا مِن خلفه ، والظاهر : أنه اكتفى بسماعِ التكبير .
واشترط طائفة مِن أصحابه الرؤية . واشترط كثيرٌ مِن متقدميهم اتصال(4/277)
"""""" صفحة رقم 278 """"""
الصفوف في الطريق .
وشرطه الشَافِعي - أيضاً - قالَ في رواية الربيع فيمن كانَ في دار قرب المسجد ، أو بعيداً منهُ : لَم يجز لَهُ أن يصلي فيها ، إلا أن تتصل الصفوف بهِ ، وَهوَ في أسفل
الدار ، لا حائل بينه وبين الصفوف .
واستدلَّ بقول عائشة - مِن غير إسناد - ، وتوقف في صحته عنها .
وذكره بإسناده في رواية الزعفراني ، فقالَ : حدثنا إبراهيم بنِ محمد ، عَن ليثٍ ، عَن عطاء ، عَن عائشة ، أن نسوةً صلْين في حجرتها ، فقالت : لا تصلِّين بصلاة الإمام ؛ فإنكنَّ في حجابٍ .
وهذا إسناد ضعيفٌ ، ولذلك توقف الشَافِعي في صحته .
المسألة الثانية :
إذا كانَ بين المأموم والإمام حائلٌ يمنع الرؤية ، فَقد حكى البخاري عَن أبي مجلَزٍ أنه يجوز الاقتداء بهِ إذا سمع تكبير الإمام .
وأجازه أبو حنيفة وإسحاق . قالَ إسحاق : إذا سمع قراءته واقتدى بهِ .
وقد تقدم كلام الشافعي في منعه ، واستدلاله بحديث عائشة . قالَ الشَافِعي : هَذا مخالف للمقصورة ، المقصورة شيء مِن المسجد ، فَهوَ وإن كانَ حائلاً بينه وبين ما وراءَها ، فإنما هو كحول الأصطوانِ أو أقلَّ ، وكحول صندوق المصاحف وما أشبهَهَ .
وحاصلُه : إن صلَّى في المسجد وراء الإمام لَم يشترط أن يرى فيهِ الإمام بخلاف مِن صلَّى خارج المسجد .
وحكى أصحابنا روايتين عَن أحمد فيمن صلَّى في المسجد بسماعِ التكبير ، ولم يرَ الإمام ولا مَنْ خلفهُ : هل يصح اقتداؤهُ بهِ ، أو لا ؟(4/278)
"""""" صفحة رقم 279 """"""
وحكوا روايةً ثالثةً : أنَّهُ يصحُّ اقتداؤه بهِ ، سواء صلى معه في المسجد ، أو صلى خارجاً مِن المسجد .
قالَ أحمد في رواية حنبلٍ : إذا صلَّى الرجلُ وَهوَ يسمع قراءة الإمام في دار أو في سطح بيته كانَ ذَلِكَ مجزئاً عَنهُ ، وفي الرحبة .
قالَ أبو بكر عبد العزيز بنِ جعفر في كِتابِ ( ( الشافي ) ) : ذَلِكَ جائزٌ إذا اتصلت الصفوف ، وعلم التكبير والركوع والسجود ، وأن لا يكون الدار والسطح مقدم القبلة ، ولا فوق الإمام ؛ فإنهم لا يمكنهم الاقتداء بهِ ولا اتباعه ، ولا يعرفون ركوعه ولا
سجوده ، وكذلك في الرحاب والطرق تجوز الصلاة في ذَلِكَ إذا اتصلت الصفوف ، ورأى بعضهم بعضاً ، ولو أغلقت دونهم الأبواب ، وارتفعت الشبابيك بينهم ، أو كانَ عليها أبواب تُغلقُ ، فلا يلحظون الصفوف ، ولا يرى بعضُهم بعضاً - يعني : أنَّهُ لا يصح اقتداؤهم بالإمام - قالَ : وَهوَ مذهب أبي عبد الله . انتهى ما ذكره .
وَهوَ مبني على اشتراط الرؤية خارجَ المسجد ، وفيه خلافٌ سبق ذكره .
وحُكي عن أحمد رواية : أن الحائل المانع للرؤية ، والطريق الذِي لا تتصل فيهِ الصفوف يمنع الاقتداء في الفرض دونَ النفل .
وحُكي عَنهُ : أنه لا يمنع في الجمعة في حال الحاجة إليهِ خاصةً .
وحُكي عَنهُ : إن كانَ الحائل حائِطَ المسجد لَم يمنع ، وإلا منع .
وإن كانَ الحائل يمنع الاستطراق دونَ الرؤية لَم يمنع .
وفيه وجهٌ : يمنع ، وحكاه بعضهم روايةً .
خرج البخاري في هَذا الباب ثلاثة أحاديث :
الحديث الأول :
729 - حدثنا محمد : ثنا عبدةُ ، عَن يحيى بنِ سعيد الأنصاريِّ ، عَن عَمرةَ ،(4/279)
"""""" صفحة رقم 280 """"""
عَن عائشة ، قالت : كانَ النبي ( يُصلي مِن الليل في حجرته ، وجدار الحجرة قَصير ، فرأى الناس شَخْص النبي ( ، فقام أُناسٌ يُصلونَ بصلاته ، فأصبحوا فتحدثوا بذلك ، فقام ليلته الثَّانية ، فقام معه أُناسٌ يصلون بصلاته ، صنعوا ذَلِكَ ليلتين - أو ثلاثاً - ، حتى إذا كانَ بعد ذَلِكَ جلس رسول الله ( فلم يخرج ، فلما أصبح ذكر ذَلِكَ الناس ، فقالَ :
( ( إنِّي خَشيت أن تكتبُ عليكم صلاةُ الليلِ ) ) .
ليسَ في هَذهِ الرواية : دليل على جواز الائتمام مِن وراء جدارٍ يحول بين المأموم وبين رؤية إمامه ؛ فإنَّ في هَذا التصريح بأن جدار الحجرة كانَ قصيراً ، وأنهم كانوا يرونَ منهُ شخص النبي ( ، ومثلُ هَذا الجدار لا يمنع الاقتداء .
لكن ؛ روى هَذا الحديث هُشيمٌ ، عَن يحيى بنِ سعيد ، فاختصر الحديث ، وقال فيهِ : صلَّى النبي ( في حجرته ، والناس يأتمون به مِن وراء الحجرة .
وهذا مختصر .
وقد أتم الحديث عبدة بنِ سليمان وعيسى بن يونس وغيرهما ، عَن يحيى بنِ
سعيد ، وذكروا فيهِ : أن جدار الحجرة قصير ، وأن الناس كانوا يرون شخص النبي ( .
الحديث الثاني :
730 - حدثنا إبراهيم بنِ المنذر : ثنا ابن أبي فديك : ثنا ابن أبي ذئبٍ ، عَن المقبري ، عَن أبي سلمة بنِ عبد الرحمن ، عَن عائشة ، أن النبي ( كانَ لَهُ حصيرٌ يبسطهُ بالنهار ، ويحتجرهُ بالليلِ ، فثاب إليهِ ناسٌ فصفوا وراءهُ .(4/280)
"""""" صفحة رقم 281 """"""
معنى ( ( يحتجره ) ) - أي : يتخذه كالحجرة ، فيقيمه ويصلي وراءه .
وهذا هوَ المراد بالحجرة المذكورة في الحديث الذي قبله ، ليسَ المراد حجرة عائشة التي كانَ يسكن فيها هوَ وأهلهُ ؛ فإنَّ حجر أزواج النبي ( كانت لها جدرات تحجب مِن كانَ خارجاً منها أن يرى مِن في داخلها .
وقولها : ( ( فثاب عليهِ ناسٌ ) ) - أي : رجعوا ، فكأنهم كانوا قد صلوا العشاء وانصرفوا من المسجد ، فرجعوا إليه للصلاة خلف النبي ( .
ورُوي : ( ( فآب ) ) وبذلك فسَّرهُ الخطابي ، قالَ : معناه : جاءوا من كل أَوب ، آب أوباً وإياباً . ومنه : آب المسافر ، وهو : الرجوع .
الحديث الثالث :
قالَ :
731 - حدثنا عبد الأعلى بن حماد : ثنا وهيبٌ ، قالَ : ثنا موسى بن عقبة ، عن سالم أبي النضر ، عن بسر بن سعيد ، عن زيد بن ثابت ، أنّ رسول الله ( اتخذ حجرة - قالَ : حسبت أنه قالَ : من حصير - في رمضان ، فصلى فيها ليالي ، فصلى بصلاته ناس من أصحابه ، فلما علم بهم جعل يقعد ، فخرج إليهم ، فقالَ : ( ( قد عرفت الذي رأيتُ من صنيعكم ، فصلوا أيها الناس في بيوتكم ؛ فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته ، إلا المكتوبة ) ) .
وخرَّجهُ - أيضاً - في ( ( الاعتصام ) ) من كتابه هذا من طريق عفان ، عن وهيبٍ ، به ، وقال فيهِ : اتخذ حجرةً في المسجد من حصير - ولم يذكر فيهِ شكاً .(4/281)
"""""" صفحة رقم 282 """"""
وخرجه - أيضاً - من رواية عبد الله بن سعيدٍ ، عن سالم مولى أبي النضر ، ولفظُ حديثه : احتجر رسول الله ( حجيرة مخصفة - أو حصيراً - ، فخرج رسول الله ( يصلي فيها - وذكر الحديث .
وهذه الحجرة هي المذكورة في حديث عائشة المتقدم ، وقد تبين أنها لم تكنْ تمنع رؤية النبي ( لمن صلى وراءها خلفه .
وقد روى ابن لهيعة حديث زيد بن ثابت هذا ، عن موسى بن عقبة ، بهذا الإسناد ، وذكر : أن موسى كتب به إليه ، واختصر الحديث وصحفهُ ، فقالَ : ( ( احتجم
رسول الله ( في المسجد ) ) . فقيل لابن لهيعة : مسجد بيتهِ ؟ قالَ : لا ، مسجد الرسول ( .
وقد خرج حديثه هذا الإمام أحمد .
وقوله : ( ( احتجم ) ) غلطٌ فاحش ؛ وإنما هوَ : ( ( احتجر ) ) - أي : اتخذ حجرةً .
وهذا آخرُ ( ( أبواب : الإمامةِ ) ) ، وبعدها ( ( أبواب : صفة الصلاة ) ) .(4/282)
"""""" صفحة رقم 283 """"""
82 - باب
إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة
فيهِ ثلاثةُ أحاديث :
732 - حدثنا أبو اليمان : أنا شعيب ، عن الزهري ، قالَ : أخبرني أنس بن
مالك ، أن رسول الله ( ركب فرساً فجحشَ شقهُ الأيمن . قالَ أنس : فصلى لنا يومئذ صلاةً من الصلوات وهو قاعدٌ ، فصلينا وراءه قعوداً ، ثم قالَ لما سلمَ : ( ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفعَ فارفعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا قالَ : سمع الله لمن حمدهُ ، فقولوا : ربنا ولك الحمدُ ) ) .
733 - حدثنا قُتيبةُ : ثنا الليث ، عن ابن شهابٍ ، عن أنس بن مالك ، قالَ : خرَّ رسول الله ( عن فرس فجحشَ ، فصلى لنا قاعداً ، فصلينا معه قعوداً ، ثم انصرف ، فقالَ : ( ( إنما الإمام ) ) - أو ( ( إنما جعلَ الإمام - ليؤتم به ، فإذا كبَّر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا قالَ : سمع الله لمن حمدهْ ، فقولوا : ربنا ولك الحمد ، وإذا سجد فاسجدوا ) ) .
734 - حدثنا أبو اليمان : أنا شعيب : حدثني أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قالَ : قالَ رسول الله ( : ( ( إنما الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قالَ : سمع الله لمن حمدهْ ، فقولوا : ربنا ولك الحمدُ ، وإذا سجد
فاسجدوا ، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعونَ ) ) .
حديث أنسٍ ، ساقه من طريقين :(4/283)
"""""" صفحة رقم 284 """"""
من طريق شعيب ، عن الزهري ، وفيه : التصريح بسماع الزهري لهُ من أنسٍ .
ومن طريق الليث ، عن الزهري ، وليس فيهِ ذَلِكَ .
وقد تقدم من حديث مالكٍ ، عن الزهري كذلك .
وليس في حديث مالك ولا شعيب ذكر التكبير ، وهو في حديث الليث وحده .
وقد خرجه مسلم بهذه الزيادة من طريق ابن عيينة وغيرهِ ، عن الزهري .
وخرجه البخاري بها - أيضاً - فيما تقدم من طريق حميدٍ ، عن أنس .
وخرجه هاهنا من حديث أبي هريرة - أيضاً .
وهذه اللفظة ، هي مقصودهُ من هذه الأحاديث في هذا الباب ؛ فإن النبي ( أمر من يصلي خلف الإمام أن يكبر إذا كبر الإمام ، فدل على أن التكبير واجب على المأموم ، فدخل في ذَلِكَ تكبيرة الإحرام وغيرها - أيضاً - من التكبير .
ويأتي الكلام في التكبير غير تكبيره الإحرام في غير هذا الموضع - إن شاء الله
تعالى - ، وإنما المقصود هنا : تكبيرة الإحرام .
وقوله : ( ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ) ) قد فسرهُ بمتابعة الإمام في أقواله وأفعاله .
وقد أدخل طائفةٌ من العلماء متابعته في نيته ، وقد سبق القول في ذَلِكَ .
وأدخل بعضهم - أيضاً - متابعته في ترك بعض أفعال الصلاة المسنونة ، كرفع(4/284)
"""""" صفحة رقم 285 """"""
اليدين ، فقالَ : لا يرفع المأموم يديه إلا إذا رفع الإمام ، وهو قول أبي بكر بن أبي شيبة .
والجمهور على خلاف ذَلِكَ ، وأن المأموم يتابع إمامه فيما يفعلهُ ، ويفعل ما تركه من السنن عمداً أو سهواً ، كرفع اليدين والاستفتاح والتعوذ والتسمية وغير ذلك ، فيما لا يفعله بعض الأئمة معتقداً لهُ ، فكل هذا يفعله المأموم ، ولا يقتدي بإمامه في تركه .
ومما يدخل في ائتمام المأموم بإمامه : أنه لا يتخلف عنه تخلفاً كثيراً ، بل تكون أفعال المأموم عقب أفعال إمامه ، حتى السلام .
وقد نص أحمد على أن الإمام إذا سلم وقد بقي على المأموم شيء من الدعاء ، فإنه يسلم معه ، إلا أن يكون بقي عليه شيء يسير ، فيأتي به ويسلم واستدل بقولِهِ : ( ( إنما الإمام ليؤتم به ) ) .
وقوله : ( ( فإذا كبر فكبروا ) ) يدل على أن المأموم لا يكبر إلا بعد تكبير الإمام عقيبه ، وقد سبق الكلام على هذه المسألة مستوفىً .
وكان ذكرَ حديث أبي هريرة في تعليم النبي ( المسيء في صلاته - وقوله : ( ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة وكبر ) ) . وذكر الحديث - وقد خرجه البخاري في موضع آخر - أولى من ذكر : ( ( إذا كبر فكبروا ) ) ؛ فإن هذا الحديث إنما فيهِ أمر المأموم بالتكبير ، وأما تكبير الإمام فليس فيهِ الأمر به ، بل فيهِ ما يشعر بأنه لا بد من فعله كركرعه وسجوده .
وحينئذٍ ؛ فيستدل بحديث أنس على أنه لا بدَّ للإمام من التسميع ، وأن المأموم مأمور بالتحميد عقيب تسميعه .
وأما حديث تعليم المسيء ، ففيه تصريح بالأمر لكل قائم إلى الصلاة أن(4/285)
"""""" صفحة رقم 286 """"""
يكبر ، وسواء كانَ إماماً أو مأموماً أو منفرداً .
وأما حديث : ( ( مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم ) ) فليس هوَ من شرط البخاري ، مع تعدد طرقه .
وكذلك حديث عائشة : كانَ رسول الله ( يفتتح الصلاة بالتكبير .
خرجه مسلم من طريق حسين المعلم ، عن بديل بن ميسرة ، عن أبي الجوزاء ، عن عائشة .
وخالفه حماد بن زيد ، فرواه عن بديل ، عن عبد الله بم شقيق ، عن عائشة .
ومقصود البخاري : أن الصلاة لا تفتتح إلا بالتكبير ، ولا تنعقد بدونه .
وقد روي عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ والشعبي ، قالوا : تحريم الصلاة التكبير .
وروي عن ابن المسيب وبكير بن الأشج والنخعي فيمن نسي تكبيرة الاستفتاح : يستأنف الصلاة .
وهو قول الثوري وابن المبارك ومالك والشافعي واحمد وإسحاق وغيرهم .
وقال الحكم وأبو حنيفة وعامةُ أصحابه : تنعقد الصلاة بكل لفظ من ألفاظ الذكر ، كالتهليل والتسبيح .
وعن النخعي ، قالَ : يجزئه ، ويسجد للسهو .
وعن الشعبي ، قالَ : بأي أسماء الله تعالى افتتحت الصلاة أجزأكَ .
وفي الإسناد إليه مجهولٌ .(4/286)
"""""" صفحة رقم 287 """"""
خرجه ابن أبي شيبة في ( ( كتابه ) ) .
وهو رواية عن الثوري ، رواها عنه النعمان بن عبد السلام .
وحكى ابن المنذر ، عن الزهري ، أن الصلاة تنعقد بمجرد النية ، ولا تحتاج إلى لفظ بالكلية .
قلت : وروي نحوه - أيضاً - عن عطاء :
قالَ عبد الرزاق : عن ابن جريجٍ ، قلت لعطاء : أقيمت الصلاة وأنا مع الناس ، فكبر الإمام ورفع من الركعة ، ولم أكبر في ذَلِكَ ؟ قالَ : إن كنت قد اعتدلت في الصف فاعتدَّ بها ، وإن كنت لم تزل تتحدث حتى ركعَ ورفع رأسه من الركعة فكبر ثم اركعْ واعتدَّ بها وإن كنت لم تعتدل في الصف فلا .
وعن ابن جريج ، عن عطاء ، في رجل دخل المسجد والإمام ساجد ، أو حين رفع رأسه من الركعة أو السجدة ، أو جالساً يتشهد : يكبر تكبيرة استفتاح الصلاة ؟ قالَ : إن شاء فليكبر ، وإن شاء فلا يكبر ، ولكن إذا قام وقد قام الإمام فليكبر ويستفتح .
وروى - أيضاً - عن معمر ، عن قتادة ، في رجل انتهى إلى قوم وهم جلوس في آخر صلاتهم ؟ قالَ : يجلس معهم ، ولا يكبر .
ولعله أراد : أنه يكتفي بتكبيره إذا قام إلى القضاء ، فلا يكونُ قبل ذَلِكَ قد دخل في الصلاة
وقريبٌ من هذا : أنه قد روي عن طائفة من السلف ، أن من نسى تكبيرة الافتتاح في الصلاة ، فإنه تجزئه تكبيرة الركوع ، روي هذا عن سعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة والحكم والأوزاعي ، وهو رواية عن حماد بن(4/287)
"""""" صفحة رقم 288 """"""
أبي سليمان ، حكاه ابن المنذر وغيره .
وروي عن الزهري ، أنه قالَ : يسجد للسهو إذا سها .
وهذا يحتاج إلى تحقيق ونظر في مأخذ ذَلِكَ .
وظاهر ما حكاه ابن المنذر عن هؤلاء : أنهم رأوا تكبيرة الركوع تقوم مقام تكبيرة الافتتاح في انعقاد الصلاة بها ، وهو ظاهر كلامهم - أيضاً - ، حيث قالوا تجزئة تكبيرة الركوع ، وتنعقد بها الصلاة . وقال بكر المزني : يكبر إذا ذكر .
وظاهر كلامهم : أنه عامٌ في حق الإمام والمأموم والمنفرد ، وقد روي عن الحكم صريحاً في الإمام ، فأما في حق الإمام والمنفرد ، فيحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون الصلاة انعقدت بمجرد النية ، كما روي عن الزهري .
والثاني : أن تكون الصلاة إنما انعقدت بتكبيرة الركوع ، وتكون القراءةُ ساقطةً عنهما في هذه الركعة ، بناء على أن القراءة لا تجب في جميع الركعات وهذا هوَ الذي يتبادر فهمهُ من كلامهم .
وهو قول سفيان الثوري ، ذكره أصحابه في كتبهم ، لكنه يشترط : أن ينوي بتكبيرته عندَ الركوع تكبيرة الإحرام ، كما سيأتي قوله في ذَلِكَ .
وأما قول بكر المزني : ( ( يكبر إذا ذكر ) ) ، فإن أراد ما يركع ، فهوَ يرجع إلى ما ذكرنا ، وإن كانَ مراده أعمَّ من ذَلِكَ ، فلا يرجع إلا إلى أنَّ الصلاة يدخل فيهِا بمجرد النيةِ - أيضاً - إلا أن يكون أراد أنه يكبر متى ذكر ، ويستأنف الصلاة من حينئذ .
وأما في حق المأموم ، فقد وافق من تقدم ذكرهُ على قولهم يجزئه تكبيرة الركوع ، مالك وأحمد - في رواية عنهما .
فذكر مالك في ( ( الموطأ ) ) في الإمام والمنفرد أنهما إذا نسيا تكبيرة الإحرام(4/288)
"""""" صفحة رقم 289 """"""
يبتدئان الصلاة . وفي المأموم نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع : رأيت ذَلِكَ مجزئاً عنه .
قالَ ابن عبد البر : قالَ الزهري والأوزاعي وطائفةٌ : تكبيرة الإحرام يبتدئان الصلاة . وفي المأموم إذا نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع : رأيت ذَلِكَ مجزئاً عنه .
قالَ ابن عبد البر : قالَ الزهري والأوزاعي وطائفة : تكبيرة الإحرام ليست بواجبة .
وقد روي عن مالك في المأموم ما يدل على هذا القول ، ولم يختلف قوله في الإمام والمنفرد : أن تكبيرة الإحرام واجبة على كل واحدٍ منهما . والصحيح من مذهبه : إيجاب تكبيرة الإحرام ، وأنها فرضٌ ركنٌ من أركان الصلاة .
قلت : يمكن أن يحمل ما نقل عن السلف ، أو عن بعضهم في المأموم خاصةً ، وكذلك حكاه عنهم ابن عبد البر في المأموم خاصةً ، وهذا أشبه وأظهر .
ويدل عليهِ : ما خرجه حربٌ بإسناده ، عن خليد ، عن الحسن وقتادة قالا : إن نسيت تكبيرة الاستفتاح وكبرت للركوع وأنت مع الإمام فقد مضت صلاتك .
وبإسناده ، عن الوليد بن مسلم : قالَ أبو عمرو - يعني : الأوزاعي - فيمن نسي تكبيرة الاستفتاح : إن كانَ وحده استأنف الصلاة ، وأن كانَ مع الإمام أجزأته تكبيرة الركوع ، وكان كمن أدرك ركعة الإمام فكبر تكبيرة ، وأمكن كفيه من ركبتيه ، ورفع الإمام رأسه فقد أجزأتهُ تلك الركعة .
قالَ الوليد : فقلت لأبي عمرو : فإن نسي تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع ؟ فأخبرني ، أن ابن شهاب قالَ : يضيف إلى صلاته ركعةً ، ولا يعتدُّ بتلك الركعة التي لم يكبِّر لها .
وقال أبو عمرٍو : وإذا كانَ وحده ، فنسي الأولى والآخرة أعاد الصلاة وإذا كانَ مع الإمام أضاف إلى صلاته ركعةً أخرى .(4/289)
"""""" صفحة رقم 290 """"""
فقد فرق الأوزاعي بين المنفرد والمأموم ، وأما الزهري فلم يفرق .
والتفريق بينهما لهُ مأخذان :
أحدهما : أن الإمام يتحمل عن المأموم التكبير ، كما يتحمل عنه القراءة ، وقد صرح بهذا المأخذ الإمام أحمد .
قالَ حنبل : سألت أبا عبد الله عن قول : إذا سها المأموم عن تكبيرة الافتتاح وكبر للركوع رأيت ذَلِكَ مجزئاً عنه ؟ فقالَ أبو عبد الله : يجزئه إن كانَ ساهياً ؛ لأن صلاة الإمام لهُ صلاةٌ .
فصرح بالمأخذ ، وهو تحملُ الإمام عنه تكبيرة الإحرام في حال السهو .
ذكر هذه الرواية أبو بكر عبد العزيز في ( ( كتاب الشافي ) ) ، وهذه رواية غريبة عن أحمد ، لم يذكرها الأصحاب .
والمذهب عندهم : أنه لا يجزئه ، كما لا يجزئ الإمام والمنفرد ، وقد نقله غير واحد عن أحمد .
ونقل إسماعيل بن سعيد ، عن أحمد فيمن ترك تكبيرة الافتتاح في الصلاة ؟ قالَ : إن تركها عمداً لم تجزئه صلاته .
ومفهومه : أنه إن تركها سهواً أجزأته صلاته .
وينبغي حمل ذَلِكَ على المأموم خاصةً ، كما نقله حنبل .
وهذا المأخذ هوَ مأخذ من فرق بين الإمام والمأموم والمنفرد ، كالأوزاعي ؛ ولهذا طرد قوله في المأموم ينسى تكبيرة الافتتاح مع تكبيرة الركوع ، وقال : إن صلاته جائزة ، ويقضي ركعةً .
ولو كانَ مأخذه : أن صلاته انعقدت بالتكبيرة في الركعة الثانية ، لم يكن بين الإمام والمأموم فرقٌ .(4/290)
"""""" صفحة رقم 291 """"""
وهو - أيضاً - مأخذ مالك وأصحابه :
وفي ( ( تهذيب المدونة ) ) : وإن ذكر مأموم أنه نسي تكبيرة الإحرام ، فإن كانَ كبر للركوع ونوى بها تكبيرة الإحرام أجزأه ، فإن كبرها ولم ينو بها ذَلِكَ تمادى مع الإمام ، وأعاد صلاته احتياطاً ؛ لأنه لا يجزئه عندَ ربيعة ، ويجزئه عندَ ابن المسيب ، وإن لَم يكبر للركوع ولا للافتتاح حتى ركع الإمام ركعةً ركعها معه ، وابتدأ التكبير ، وكان الآن داخلاً في الصلاة ، ويقضي ركعةً بعد سلام الإمام ، ولو كانَ وحده ابتدأ متى ذكر ، قبل ركعةً أو بعد ركعةٍ ، نوى بتكبيره الركوع الإحرام أم لا ، وكذلك الإمام لا يجزئه إن نوى بتكبيرة الإحرام الركوع ، فأن فعل أعاد هوَ ومن خلفه . انتهى .
وهذا التفريق ، إنما هوَ لتحمل الإمام القراءة .
وما ذكر مِن أن المسبوق إن لَم ينو بتكبيرته عند الركوع الإحرام يتمادى معَ
الإمام ، ويعيد صلاته احتياطاً ، مخالف لما نص عليهِ مالك في ( ( الموطأ ) ) : أنَّهُ تجزئه صلاته إذا سها عَن تكبيرة الافتتاح .
ولكن في بعض رواية ( ( الموطأ ) ) عَن مالك ، أنه اشترط في هَذا الموضع : نية الافتتاح - أيضاً .
وذكر ابن عبد البر : أن أصحاب مالك اضطربوا في هَذهِ المسألة اضطراباً عظيماً ، ونقضوا أصلهم في وجوب تكبيرة الإحرام في حق المأموم ؛ لأجل الاختلاف فيهِ .
وقد قالَ مالك في ( ( الموطأ ) ) : إن المأموم إذا نسي تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع وكبرَّ في الثانية ، أنَّهُ يبتدئ صلاته أحبُّ إليَّ .
فظاهر هَذا : أنه لَم يوجب عليهِ الإعادة للاختلاف في تحمل الإمام عَنهُ(4/291)
"""""" صفحة رقم 292 """"""
التكبير ، وهذا يدل على أنه رأى الاختلاف في حق المأموم خاصةً ؛ فإنه قالَ في المنفرد : يعيد صلاته جزماً .
والمأخذ الثاني : وقد بنى ما روى عَن السلف عليهِ طائفة مِن العلماء ، مِنهُم : عباس العنبري ، وَهوَ : أن المأموم إذا أدرك الإمام في الركوع فكبر تكبيرة واحدةً ، فإنه تجزئهُ وتنعقد صلاته عند جمهور العلماء ، وفيه خلاف عَن ابن سيرين وحماد بنِ أبي سليمان .
وحكاه بعض أصحابنا روايةً عَن أحمد أنه لا يصح حتى يكبر تكبيرتين ، ولا يصح هَذا عَن أحمد .
فعلى قول الجمهور : إذا كبر تكبيرةً واحدةً ، فله أربعةُ أحوال :
إحداها : أن ينوي بها تكبيرة الافتتاح ، فتجزئه صلاته بغير توقف .
الحالة الثانية : أن ينوي تكبيرة الركوع خاصةً ، فلا تجزئه عند الأكثرين - : قاله الثوري ومالك .
ونص عليهِ أحمد في رواية أبي الحارث ، واحتج بأن النبي ( قالَ : ( ( تحريمها
التكبير ) ) . وهذا لَم يحرم بالصلاة .
فإن كانَ ساهياً عَن تكبيرة الإحرام ، فقالَ مالك في ( ( الموطأ ) ) : تجزئه .
وَهوَ رواية حنبل عَن أحمد .
ولا تجزئه عند الثوري ، وَهوَ المشهور عَن أحمد ومذهب الأكثرين .
الحالة الثالثة : أن ينويهما معاً ، ففيه قولان :
أحدهما : تجزئه ، حكي عَن أبي حنيفة ومالك وأبي ثور ، وحكي رواية عَن أحمد ، اختارها ابن شاقلا .
والثاني : لا تجزئه ، وَهوَ المشهور عند أصحابنا ، وقول الشَافِعي وإسحاق .(4/292)
"""""" صفحة رقم 293 """"""
الحالة الرابعة : أن لا ينوي شيئاً ، بل يطلق النية ، فهل تجزئه ، أم لا ؟ في قولان .
أحدهما : لا تجزئه حتى ينوي بها الافتتاح ؛ فإنه قَد اجتمع في هَذا المحل تكبيرتان ؛ إحداهما فرض ، فاحتاج الفرض إلى تمييزه بالنية ، بخلاف تكبير الإمام أو المنفرد أو المأموم إذا أدرك الإمام قبل الركوع ، فإنه لَم يجتمع في حقه تكبيرتان في وقت واحدٍ .
وهذا القول حكي عَن أبي حنيفة ، وَهوَ قول الثوري ومالك وإسحاق ، ونقله ابن منصور وغير واحدٍ عَن أحمد .
وقاله أبو بكر عبد العزيز بنِ جعفر مِن أصحابنا في ( ( كتب الشافي ) ) والقاضي أبو يعلى في ( ( جامعه الكبير ) ) ، وجعله المذهب روايةً واحدةً ، وتأول ما خالف ذَلِكَ عَن أحمد .
والثاني : تجزئه وإن أطلق النية - : نقله ابن منصور - أيضاً - عَن أحمد ، ونقله
- أيضاً - صالح ومهنا وأبو طالب عَن أحمد .
وقال : ما علمنا أحداً قالَ : ينوي بها الافتتاح .
يشير إلى الصحابة والتابعين .
وعلل : بأنَّهُ خرج مِن بيته وَهوَ يريد الصلاة .
يشير إلى أن نية الصلاة موجودة معه ؛ بخروجه إلى الصلاة ، فلا يكبر للصلاة إلا بتلك النية ، ولا يكبر للركوع إلا مِن دخل في الصلاة ن فأما مِن لَم يكن دخل فيها فإنما يكبر لدخوله في الصلاة أولاً ، ولا يضره عدم استحضاره لهذه النية عند التكبيرة ؛ لأن تقديم النية على التكبير بالزمن اليسير جائزٌ عنده .
وللشافعي قولان في هَذهِ المسألة .
وقد يجاب عَن قول مِن قالَ : إنه قَد اجتمع في حقه تكبيرتان بأنهما لَم(4/293)
"""""" صفحة رقم 294 """"""
تجتمعا عليهِ ؛ فإن تكبيرة الافتتاح محلها القيام ، وتكبيرة الركوع محلها الانحناء للركوع ، فلم تجتمعا في محل واحد .
وهذا بناءً على أنه لا تنعقد صلاة مدرك الركوع ، إلا بالتكبير قائماً ، وَهوَ قول الشَافِعي وإسحاق وأصحابنا .
وحكى صاحب ( ( شرحِ المهذب ) ) أنه رواية عَن مالك . قالَ : والمشهور عَنهُ : أنه تنعقد صلاته إذا كبر وَهوَ مسبوق في حال الركوع . قالَ : وَهوَ نصه في ( ( المدونة ) ) و ( ( الموطأ ) ) .
قلت : هَذا مقتضى الرواية عَن مالك في المأموم إذا نسي تكبيرة الافتتاح وكبر للركوع : أنه تجزئه ، كذا رواه القعنبي وغيره عَن مالك .
ورواه يحيى بنِ يحيى ، عَن مالك بشرط أن ينوي بها الافتتاح .
فينبغي على هَذا : أن لا يأتي بها إلا قائماً .
أو مقتضى قول مِن قالَ : تجزئه تكبيرة الركوع عَن تكبيرة الإحرام : أنه تنعقد الصلا بالتكبير في حال الركوع ؛ لأن تكبيرة الركوع إنما تكون في حال الانحناء
للركوع .
وقد روى عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) عَن ابن جريج ، قالَ : أخبرت عَن ابن مسعود ، أنه كانَ يقول : إذا وجدت الإمام والناس جلوساً في آخر الصلاة فكبر قائماً ، ثم اجلس وكبر حين تجلس ، فتلك تكبيرتان : الأولى وأنت قائم لاستفتاح الصلاة ، الأخرى حين تجلس ؛ كأنها للسجدة .
وهذا منقطع .
وهذا التفسير كأنه مِن قول ابن جريج .(4/294)
"""""" صفحة رقم 295 """"""
وروى وكيع ، عَن إبراهيم بن إسماعيل بنِ مجمع ، عَن الزهري ، عن عروة وزيد بنِ ثابت ، أنهما كانا يجيئان والامام راكع ، فيكبران تكبيرة الافتتاح ، لافتتاح الصلاة وللركعة .
إبراهيم هَذا ، فيهِ مقال .
وقد رواه معمر وإبراهيم بنِ سعد وابن أبي ذئب ، عَن الزهري ، عَن ابن عمر وزيد بنِ ثابت ، قالا : تجزئه تكبيرة واحدةٌ .
وروي عَن معمر ، عَز الزهري ، سالم ، عَن ابن عمر وزيد .
فيصير إسناده متصلاً .
وليس في رواية أحدٍ مِنهُم يكبر للافتتاح ، ، وهذا أصح - إن شاء الله تعالى .(4/295)
"""""" صفحة رقم 296 """"""
83 - باب
رَفعِ اليدَينِ في التَّكبيرَةِ الأُولَى معَ الاِفْتِتَاحِ سَواءً
735 - حدثنا عبد الله بنِ مسلمة ، عَن مالك ، عَن ابن شهاب ، عَن سالم بنِ
عبد الله ، عَن أبيه ، أن رسول الله ( كانَ يرفع حَذو منكبيه إذا افتتحَ الصلاة وإذا كبر للركوع ، واذا رفعَ رأسه مِن الركوع رفعهما كذلك أيضاً ، و قالَ : ( ( سمع الله لمن حمدهُ ، ربنا ولك الحمد ) ) ، وكان لا يفعل ذَلِكَ في السجود .
مقصود بهذا الحديث في هَذا الباب مسألتان
إحداهما :
أن رفع اليدين عند افتتاح الصلاة مشروع ، وهذا كالمجمع عليهِ .
قالَ ابن المنذر : لَم يختلف أهلُ العلم أنَّ رسول الله ( كانَ يرفع يديه إذا افتتح الصلاة .
وحكى بعضهم رواية عَن مالك ، أنه لا يرفع يديه في الصلاة بحالٍ - : ذكره ابن عبد البر وغيره .
ولعل ذَلِكَ لا يصح عَن مالك ، وحديثه هَذا مجمع على صحته لا مطعن لأحد فيهِ .
والرفع في افتتاح الصلاة سنةٌ مسنونة ، وليس بركنٍ ولا فرض عند جمهور العلماء ، ولا تبطل الصلاة بتركهِ عند أحد مِنهُم .
وحكي عَن الحميدي وداود وأحمد بنِ يسار مِن الشافعية : أنه تبطل الصلاة بتركه .
وروي عن علي بنِ المديني ما يشبهه ، وأن الرفع واجب ، لا يحل تركه .(4/296)
"""""" صفحة رقم 297 """"""
ونقل حرب ، عَن إسحاق ما يدل على بطلان الصلاة بترك الرفع عند تكبيرة الإحرام ، وأنه واجب .
وَهوَ قول أبي بكر بنِ أبي شيبة والجوزجاني .
وقال ابن خزيمة : هوَ ركن مِن أركان الصلاة ، حكاه الحاكم في ( ( تاريخ
نيسابور ) ) عَن خاله أبي علي المؤذن - وأثنى عليهِ - ، أنَّهُ سمع ابن خزيمة يقوله .
وحكاه ابن بد البر روايةً عَن الأوزاعي ؛ لقوله فيمن ترك الرفع : نقصت صلاته .
وهذا لا يدل ؛ فإن مراده : لَم يتم سننها ، كَما قالَ ابن سيرين : الرفع مِن تمام الصلاة .
ونص أحمد على أن مِن ترك الرفع نقصت صلاته .
وفي تسميته : ( ( مِن تمام الصلاة ) ) ، عَنهُ روايتان .
ولا خلاف أنَّهُ لا يبطل تركه عمداً ولا سهواً .
وتوقف إسحاق بنِ راهوية في تسميته : ( ( ناقص الصلاة ) ) ، وقال : لا أقول سفيان الثوري ناقص الصلاة .
واستدل الأكثرون على أنَّهُ غير واجب ، بأن النبي ( لَم يعلمه المسيء في صلاته ، كَما علمه التكبير لافتتاح الصلاة ، ولو كانَ حكم الرفع حكم التكبير لعلمه إياه معه .
وقد روى الوليد بنِ مسلم ، عَن الأوزاعي : حدثني إسحاق بنِ عبد الله بنِ أبي طلحة ، قالَ : بصر رسول الله ( برجلٍ يسيء في صلاته ، فقالَ لَهُ رسول الله ( :
( ( أحسن صلاتك ) ) ، وأمره برفع يديه عند تكبيرة الاستفتاح(4/297)
"""""" صفحة رقم 298 """"""
للصلاة ، وبالقراءة ، وبرفع يديه إذا كبر للركوع ، وبرفع يديه عند تكبيرة السجدة التي بعد الركوع .
خرجه ابن جوصا في ( ( مسند الأوزاعي ) ) .
وَهوَ مرسل .
ورواه جماعةٌ عَن الوليد ، عَن الأوزاعي ، عَن إسحاق ، عَن أنس ، أن النبي ( كانَ يفعل ذلك في صلاته .
وَهوَ أصح .
وفي رواية : أن الوليد لَم يسمعه مِن الأوزاعي .
والوليد مدلس عَن غير الثقات ، وقد استنكر الإمام أحمد حديثه هَذا .
المسألة الثانية :
أن الرفع يكون معَ التكبير سواءً ؛ ولهذا بوبَ عليهِ : ( ( رفع اليدين في التكبيرة الأولى معَ الافتتاح سواءً ) ) .
ومراده بالافتتاح : التكبيرة نفسها ؛ فإن هَذهِ التكبيرة هي افتتاح الصلاة ، كَما في حديث عائشة : كانَ النبي ( يفتتح الصلاة بالتكبير .
فالصلاة لها مفتاح ، وَهوَ الطهور ، كَما في حديث علي وأبي سعيد مرفوعاً :
( ( مفتاح الصلاة الطهور ) ) . ولها افتتاح ، وَهوَ التكبير , ولها استفتاح ، وَهوَ ما يقوله بين التكبير والقراءة مِن الذكر والدعاء .
وممن ذهب إلى أن رفع اليدين معَ تكبيرة الإحرام سواء ، فيبدأُ بهِ معَ ابتدائها ، وينتهي معَ انتهائها : الإمام أحمد وعلي بنِ المديني ، ونص عليهِ(4/298)
"""""" صفحة رقم 299 """"""
الشَافِعي في ( ( الأم ) ) ، قالَ : يرفع يديه معَ افتتاح التكبيرة ، ويرد يديه عَن الرفع معَ انقضائه ، ويثبت يديه
مرفوعتين حتى يفرغ مِن التكبير كله . وقال : إن أثبت يديه بعد انقضاء التكبير قليلاً لَم يضره ، ولا آمره بهِ .
ومن أصحابه مِن قالَ : يرفع يديه ابتداء التكبير ، ولا استحباب في انتهائه .
ومنهم مِن قالَ : يرفعهما قبل التكبير ، ثُمَّ يرسلهما بعد فراغه مِن التكبير .
وقال إسحاق : إن رفع يديه معَ التكبير أجزأهُ ، وأحب إلينا أن يرفع يديه ، ثُمَّ يكبر .
وحكاه بعض أصحابنا روايةً عَن أحمد .
ومن أصحابنا مِن قالَ : يخير بين الرفع معَ التكبير وقبله ، وهما سواء في الفضيلة وقد استدل البخاري لقوله بحديث ابن عمر ، أن النبي ( كانَ يرفع يديه إذا افتتح الصلاة .
يعني : إذا كبر للافتتاح .
وقد خرجه فيما بعد ، ولفظهُ : رأيت النبي ( افتتح التكبير في الصلاة ، فرفع يديه حين يكبر - وذكر الحديث .
وفي رواية لمسلم مِن طريق ابن جريج ويونس وعقيل ، كلهم عَن الزهري بهذا الإسناد ، أن النبي ( كانَ إذا قام للصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه ، ثُمَّ كبر .(4/299)
"""""" صفحة رقم 300 """"""
وروى الإمام أحمد ، عن سفيان ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قالَ : رأيت رسول الله ( يرفع يديه مع التكبير معا .
قالَ الدارقطني في ( ( العلل ) ) : رواه يونس وعقيل وابن أخي الزهري والنعمان ابن راشد والزبيدي ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، أن النبي ( كانَ يرفع يديه ، ثم يكبر .
رواه شعيب بن أبي حمزة وإبراهيم ابن أبي عبلة وابن جريج وفليح وهشيم وإسماعيل بن علية وابن عيينة ، عن الزهري ، وقالوا : يرفع يديه حين يكبر .
وخرج أبو داود من حديث وائل بن حجر ، عن النبي ( ، أنه رفع يديه ثم كبر .
وخرج - أيضا - من حديث وائل بن حجر ، أنه رأى النبي ( يرفع يديه مع التكبيرة .
وروى حرب الكرماني : ثنا محمد بن الوزير : ثنا الوليد بن مسلم ، قالَ : قالَ أبو عمرو : أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك أن النبي ( يرفعهما مع التكبير .
وقد تقدم ذكر علة هذا الحديث ، وأنه روي مر سلا ، وأن الوليد لم يسمعه من الأوزاعي ، بل دلسه عنه .
وروى - أيضا - من طريق ابن إسحاق ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أبي هريرة ، قالَ : ما رأيت رسول الله ( قام إلى الصلاة قط إلا شهر بيديه إلى السماء قبل أن يكبر ، ثم يكبر .(4/300)
"""""" صفحة رقم 301 """"""
وقد حمل بعضهم هذا على أن هذا الرفع كانَ للدعاء قبل الصلاة .
وخرجه البيهقي ، ولفظه : ما رأيت رسول ( قام في صلاة فريضة ولا تطوع إلا شهر يديه إلى السماء يدعوا ، ثم يكبر .
وقد روي عن ابن عمر وغيره استحباب رفع رأسه ووجهه إلى السماء _ أيضا _ مع التكبير .
خرجه حرب بإسناده صحيح ، عن ابن جريج ، قالَ : سألت نافعا ، فقلت : أكان ابن عمر إذا كبر بالصلاة يرفع رأسه ووجهه إلى السماء ؟ فقالَ : نعم قليلا .
ومن طريق ابن جريج - أيضا - ، قالَ : أخبرني ابن سابط ، أن وجه التكبير : أن يكبر الرجل بيديه ووجهه وفيه ، ويرفع رأسه وفاه شيئا حين يبدىء وحين يرفع رأسه .
وأعلم ؛ أن حديث مالك الذي خرجه البخاري في هذا الباب ، عن القعنبي ، عنه ليس فيهِ ذكر الرفع إذا ركع ، إنما فيهِ الرفع افتتح الصلاة ، وإذا رفع رأسه من الركوع ، وكذا هوَ في ( ( موطأ القعنبي ) ) عن مالك ، وكذا رواه عامة رواة ( ( الموطأ ) ) عن مالك .
ورواه جماعة عن مالك ، فذكروا فيهِ الرفع إذا كبر للركوع - أيضاً - منهم : الشافعي وابن وهب ويحيى القطان وابن مهدي وجويرية بن أسماء وإبراهيم بن طهمان ومعن وخالد بن مخلد وبشر بن عمر وغيرهم .
وكذلك رواه عامة أصحاب الزهري ، عنه ، منهم : يونس وشعيب وعقيل وابن جريج وغيرهم .
وكذلك رواه سليمان الشيباني والعلاء بن عبد الرحمن وغيرهما ، عن سالم ابن عبد الله .(4/301)
"""""" صفحة رقم 302 """"""
ذكره البيهقي وغيره .
وممن رواه عن مالك بذكر الرفع عندَ الركوع : عبد الله بن يوسف التنيسي وابن المبارك وعبد الرحمن بن القاسم وعبد الله بن نافع وإسماعيل بن أبي أويس ويحيى بن يحيى النيسابوري .(4/302)
"""""" صفحة رقم 303 """"""
84 - بَابُ
رَفعُ الْيَدَيَنِ إذَا كَبَّر ، وَ إِذَا ركَعَ ، وإِذَا رَفَعَ
فيهِ حديثان :
أحدهما :
قالَ :
736 - حدثنا محمد بن مقاتل : ثنا عبد الله : أنا يونس ، عن الزهري : أخبرني سالم بن عبد الله ، عن عبد الله بن عمر ، قالَ : رأيت رسول الله ( إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه ، وكان يفعل ذَلِكَ حين يكبر للركوع ، ويفعل ذَلِكَ إذا رفع رأسه من الركوع ، ويقول : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) ، ولا يفعل ذَلِكَ في السجود .
الثاني :
قالَ :
737 - حدثنا إسحاق الواسطي : ثنا خالد بن عبد الله ، عن خالد ، عن أبي قلابة ، أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبر ورفع يديه ، وإذا أراد أن يركع رفع يديه ، وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه ، وحدث أن رسول الله ( صنع هكذا .
لم يخرج البخاري في ( ( صحيحه ) ) في رفع اليدين غير حديث ابن عمر وحديث مالك بن الحويرث ، وقد أفرد للرفع كتابا ، خرج فيهِ الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة ، وكذلك صنف في الرفع غير واحد من أئمة أهل(4/303)
"""""" صفحة رقم 304 """"""
الحديث ، منهم : النسائي ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما .
وسبب اعتنائهم بذلك : أن جميع أمصار المسلمين ، كالحجاز واليمين ومصر والعراق كانَ عامة أهلها يرون رفع الأيدي في الصلاة عندَ الركوع والرفع منه ، سوى أهل الكوفة ، فكانوا لا يرفعون أيديهم في الصلاة ، إلا في افتتاح الصلاة خاصة ، فاعتنى علماء الأمصار بهذه المسألة ، والاحتجاج لها ، والرد على من خالفها .
قل الأوزاعي : ما اجتمع عليهِ علماء أهل الحجاز والشام والبصرة : أن رسول الله ( كانَ يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر لافتتاح الصلاة ، وحين يكبر للركوع ، وإذا رفع رأسه من الركوع ، إلا أهل الكوفة ، فإنهم خالفوا في ذَلِكَ أئمتهم .
خرجه ابن جرير وغيره .
وقال البخاري في ( ( كتابه رفع اليدين ) ) بعد أن روى الآثار في المسألة :
فهؤلاء أهل مكة والمدينة واليمن والعراق قد اتفقوا على رفع الأيدي .
وقال محمد بن نصر المروزي : لا نعلم مصرا من الأمصار تركوا الرفع بأجمعهم في الخفض والرفع منه ، إلا أهل الكوفة .
وروى البيهقي بإسناده عن الأوزاعي ، أنه تناظر هوَ والثوري في هذه المسألة بمكة ، وغضب واشتد غضبه ، وقال للثوري : قم بنا إلى المقام نلتعن أينا على الحق ، فتبسم الثوري لما رأى الأوزاعي قد احتد رضي الله عنهما .
وحديث الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر مما اتفق العلماء كلهم على(4/304)
"""""" صفحة رقم 305 """"""
صحته وتلقيه بالقبول ، وعليه اعتمد أئمة الإسلام في هذه المسألة ، منهم : الأوزاعي وابن
المبارك ، وقال : ثبت عن النبي ( .
كذلك قالَ الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم .
وأما مالك ، فإنه خرجه في ( ( كتاب الموطإ ) ) في ( ( باب : افتتاح الصلاة ) ) ، وذكر عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كانَ يعمل به .
وقد روى عامة أصحاب مالك ، أنه كانَ يعمل به ، منهم : ابن وهب وأبو مصعب وأشهب والوليد بن مسلم وسعيد بن أبي مريم .
وإنما روى عنه الرفع عندَ افتتاح الصلاة خاصة : ابن القاسم ، قالَ : وكان مالك يرى رفع اليدين في الصلاة ضعيفا . وقال : إن كانَ ففي الإحرام .
قالَ محمد بن الحكم : لم يرو أحد عن مالك مثل رواية ابن القاسم .
وذكر ابن عبد البر ، عن أحمد بن خالد _ وهو : ابن الجباب ، وكان أعلم أهل الأندلس بالفقه والحديث في وقته - ، قالَ : كانَ جماعة من أصحابنا يرفعون أيديهم في الصلاة على حديث ابن عمر ، ورواية من روى ذَلِكَ عن مالك وجماعة لا يرفعون ، على رواية ابن القاسم ، ولايعيب هؤلاء على هؤلاء ، ولا هؤلاء على هؤلاء .
قلت : افترق الناس في هذه المسألة فرقا ثلاثة .
ففرفة منهم : تنكر على من يرفع أو تبدعه ، وهؤلاء عامة فقهاء أهل الكوفة ، حتى غالى بعصهم فجعله مبطلا للصلاة ، وادعى بعضهم أن الرفع نسخ .(4/305)
"""""" صفحة رقم 306 """"""
وقد وافقهم بعض المتقدمين من أهل الشام ، حتى ضرب من رفع يديه في صلاته في زمن عمر بن عبد العزيز وغضب عمر من ذَلِكَ وأنكره على من فعله وحجبه عنه .
وفرقة : لا ينكرون على واحد من الفريقين ، ويعدون ذَلِكَ من مسائل الخلاف السائغ ، ثم منهم من يميل إلى الرفع ، ومنهم من يميل إلى تركه ، ومنهم : سفيان الثوري .
وقد روى ابن أبي شيبة في ( ( كتابه ) ) عن طائفة كثيرة من الصحابة والتابعين ، أنهم لم يرفعوا أيديهم إلا عندَ الافتتاح ، منهم عمر وابن عمر .
وهي رواية مجاهد عنه ، وقد ضعفها الإمام أحمد والبخاري والدار قطني وغيرهم .
ومنهم : علي وابن مسعود وأصحابهما .
وقد روى ذَلِكَ عن علي وابن مسعود مرفوعا ، وضعف المرفوع عامة أئمة الحديث قديما وحديثا .
وأكثر الصحابة والتابعين على الرفع عندَ الركوع ، والرفع منه - أيضا - ، حتى قالَ قتادة ، عن الحسن : كانَ أصحاب رسول الله ( في صلاتهم كأن أيديهم أيديهم المراوح ، إذا ركعوا وإذا رفعوا رؤسهم .
وقال عبد الملك بن أبي سليمان ، عن سعيد بن جبير أنه سئل عن رفع(4/306)
"""""" صفحة رقم 307 """"""
اليدين في الصلاة ، فقالَ : هوَ شيء يزين به الرجل صلاته ؛ كانَ أصحاب رسول الله ( يرفعون أيديهم في الافتتاح ، وعند الركوع ، وإذا رفعوا رؤسوهم .
وهو قول عامة التابعين .
وقال عمر بن عبد العزيز : إن كنا لنؤدب عليها بالمدينة إذا لم نرفع أيدينا .
وقول عامة فقهاء الأمصار .
وكان الإمام أحمد لا بيالغ في الإنكار على المخالفة في هذه المسألة :
روى عنه المروذي وغيره ، أنه سئل عمن ترك الرفع يقال : إنه تارك للسنة ؟
قالَ : لا تقل هكذا ، ولكن قل : راغب عن فعل النبي ( .
ونقل عنه الميموني ، قالَ : الرفع عندنا أكثر وأثبت ، فإن تأول رجل ، فما
أصنع ؟
وسئل الإمام أحمد ، فقيل لهُ : إن عندنا قوما يأمروننا برفع اليدين في الصلاة ، وقوما ينهوننا عنه ؟ فقالَ : لا ينهاك إلا مبتدع ، فعل ذَلِكَ رسول الله ( ، وكان ابن عمر يحصب من لا يرفع .
فلم يبدع إلا من نهى عن الرفع وجعله مكروها ، فأما المتأول في تركه من غير نهي عنه فلم يبدعه .
وقد حمل القاضي أبو يعلى قول أحمد : أنه مبتدع ، على من ترك الرفع عندَ تكبيرة الإحرام . وهو بعيد .
ونقل جماعة عن أحمد في تارك الرفع ، أنه يقال : إنه تارك السنة .
قالَ القاضي أبو يعلى : إنما توقف في ذَلِكَ في رواية المروذي متابعة للفظ المروي عن النبي ( ، أنه قالَ : ( ( من رغب عن سنتي فليس مني ) ) ، وإلا ففي(4/307)
"""""" صفحة رقم 308 """"""
الحقيقة : الراغب عن الرفع هوَ التارك لهُ .
ونقل حرب ، عن أحمد ، قالَ : أنا أصلي خلف من لا يرفع يديه ، والرفع أحب إلي وأصح .
وكلام البخاري في ( ( كتاب رفع اليدين ) ) لهُ إنما يدل على الإنكار على من أنكر الرفع ، وقال : هوَ بدعة - أيضاً .
وخرج مسلم في ( ( صحيحه ) ) في الرفع عندَ الركوع والرفع منه حديث ابن عمر ومالك بن الحويرث - أيضاً .
وخرجه - أيضاً - من حديث وائل بن حجر .
وخرجه أبو داود والترمذي من حديث علي بن أبي طالب ، ومن حديث أبي حميد في عشرة من الصحابة ، منهم : أبو قتادة .
وخرجه ابن ماجه - أيضا .
وخرجه أبو داود - أيضا - من حديث أبي هريرة .
وخرجه ابن ماجه من حديث أنس وجابر وابن عباس .
وقد روي من وجوه أخر ، حتى قالَ بعضهم : رواه قريب من ثلاثين نفسا من الصحابة .(4/308)
"""""" صفحة رقم 309 """"""
وقال غيره : رواه نيف وثلاثون من الصحابة .
وقال الحاكم : رواه العشرة المشهود لهم بالجنة .
وفي هذه العبارات تسامح شديد ، وقد ذكرت هذه الأحاديث وطرقها وعللها في ( ( كتاب شرح الترمذي ) ) بحمد الله ومنه .
وأحسن من ذَلِكَ : قول الشافعي : رواه عن النبي ( اثنا عشر غير ابن عمر .
وهذه عبارة صحيحة حسنة مليحة .
وكذا قالَ ابن عبد البر وغيره من الحفاظ .
وذكر الترمذي في ( ( جامعه ) ) لهُ أربعة عشر روايا عن النبي ( .
ولم يوجب الرفع عندَ الركوع والرفع منه ، ويبطل الصلاة بتركه ، إلا شذوذ من الناس من أصحاب داود ونحوهم .
وسئل حماد بن زيد ، عن معنى رفع اليدين في الصلاة ؟ فقالَ : هوَ من إجلال الله .
خرجه أبو موسى المديني .
وقال الشافعي : فعلته إعظاما لجلال الله ، واتباعا لسنة رسول الله ( ، ورجاء لثواب الله .
خرجه البيهقي في ( ( مناقبه ) ) .(4/309)
"""""" صفحة رقم 310 """"""
85 - بَابُ
إلَى أيْنَ يرفَعُ يَدَيْه ؟
قالَ أبو حميد - في أصحابه - : رفع النبي ( حذو منكبيه .
حديث أبي حميد هذا ، قد خرجه البخاري فيما بعد من رواية محمد بن عمرو بن عطاء ، أنه كانَ جالسا في نفر من أصحاب النبي ( ، فذكرنا صلاة النبي ( ، فقالَ أبو حميد الساعدي : أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله ( ، رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه _ وذكر بقية الحديث ، ولم يذكر فيهِ رفع اليدين في غير هذا الموضع .
وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من وجه آخر ، عن محمد ابن عمرو بن عطاء ، عن أبي حميد ، قالَ : سمعته في عشرة من الصحابة ، منهم : أبو قتادة ، ويقول : أنا أعلمكم بصلاة رسول الله ( . قالوا : فاعرض قالَ : كانَ رسول الله ( إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما ، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، ثم قالَ : ( ( الله أكبر ) ) ، وركع ، ثم قالَ : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) ، ورفع يديه .
وعند أبي داود : ثم يرفع رأسه ، فيقول : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) ، ثم يرفع يديه حتى تحاذي منكبيه معتدلا .
وفي حديثه - أيضا - : رفع اليدين إذا قام من الركعتين .
وفي رواية للترمذي : قالوا : صدقت ؛ هكذا كانَ يصلي النبي ( .
ورواه _ أيضا _ : عباس بن سهل بن سعد ، قالَ : اجتمع أبو حميد(4/310)
"""""" صفحة رقم 311 """"""
وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة ، فذكروا صلاة النبي ( ، فقالَ أبو حميد : أنا أعلمكم بصلاة رسول الله ( أن رسول الله ( قام فكبر .
ورفع يديه ، ثم رفع حين كبر للركوع ، ثم قام فرفع يديه فاستوى حتى رجع كل عظم إلى موضعه .
خرجه أبن ماجه .
وخرجه أبو داود مختصرا .
وخرجه من وجه آخر ، عن عباس مختصرا - أيضا - ، وذكر أنه كانَ في المجلس : سهل بن سعد وأبو هريرة وأبو حميد وأبو أسيد .
وقد صحح الترمذي هذا الحديث .
وذكر الخلال ، عن إسماعيل بن إسحاق الثقفي ، قالَ : سئل أحمد بن حنبل عن حديث أبي حميد الساعدي ، عن النبي ( في رفع الأيدي ؟ فقالَ : صحيح .
قالَ البخاري :
738 - حدثنا أبو اليمان : أنا شعيب ، عن الزهري : أخبرني سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر قالَ : رأيت رسول الله ( افتتح التكبير في الصلاة ، فرفع يديه حين يكبر حتى يجعلهما حذو منكبيه ، وإذا كبر للركوع فعل [ مثل ذَلِكَ ] ، وإذا قالَ :
( ( سمع الله لمن حمده ) ) فعل مثله ، وقال : ( ( ربنا ولك الحمد ) ) ولا يفعل ذَلِكَ(4/311)
"""""" صفحة رقم 312 """"""
حين يسجد ، ولا حين يرفع من السجود .
ومراد البخاري : أن حديث ابن عمر فيهِ رفع اليدين إلى المنكبين ، وكذلك حديث أبي حميد ومن معه من الصحابة .
وكذلك روي من حديث علي بن أبي طالب وأبي هريرة ، عن النبي ( .
خرج حديثهما أبو داود .
وخرج مسلم من حديث مالك بن الحويرث ، أن النبي ( كانَ يرفع يديه إلى فروع أذنيه .
وقد روى عنه - أيضا - : ( ( إلى حذو منكبيه ) ) .
خرجه الدارقطني .
واختلفت ألفاظ الروايات في حديث وائل بن حجر ، عن النبي ( : فروي عنه الرفع إلى حيال أذنيه . وروي عنه : الرفع إلى المنكبين . وروي عنه : أنه جاء بعد ذَلِكَ في الشتاء ، فرآهم يرفعون أيديهم في الأكسية والبرانس إلى صدورهم .
وقد خرجه أبو داود وغيره بهذه الألفاظ .
وقد اختلف العلماء في الترجيح :
فمنهم : من رجح رواية من روى : الرفع إلى المنكبين ؛ لصحة الروايات بذلك ، واختلاف ألفاظ روايات الرفع إلى الأذنين .
وهذه طريقة البخاري ، وهي _ أيضا _ ظاهر مذهب مالك والشافعي وأحمد(4/312)
"""""" صفحة رقم 313 """"""
وإسحاق ، عملا بحديث ابن عمر ، فإنه أصح أحاديث الباب ، وهو _ أيضا _ قول :
أكثر السلف ، وروي عن عمر بن الخطاب .
قالَ ابن عبد البر : عليهِ جمهور التابعين ، وفقهاء الأمصار ، وأهل الحديث .
ومنهم : من أخذ بحديث مالك بن الحويرث في الرفع إلى فروع الأذنين ، وهو قول أهل الكوفة ، منهم : النخعي وأبو حنيفة والثوري ، وقول أحمد - في رواية عنه - ، رجحها أبو بكر الخلال .
ومنهم : من قالَ : هما سواء لصحة الأحاديث بهما ، وهو رواية أخرى عن
أحمد ، اختارها الخرقي وأبو حفص العكبري وغيرهما .
وقال ابن المنذر : هوَ قول بعض أهل الحديث ، وهو حسن .
وروى مالك في ( ( الموطأ ) ) عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كانَ إذا ابتدأ الصلاة يرفع يديه حذو منكبيه ، وإذا رفع من الركوع رفعهما دون ذَلِكَ .
وخرجه أبوداود ، وذكر أنه انفرد به مالك .
قالَ : وذكر الليث : قالَ ابن جريج : قلت لنافع : أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهن ؟ قالَ : لا سواء . قلت : أشر لي . فأشار إلى الثديين أو أسفل من ذَلِكَ .
وقال حرب الكرماني : ربما رأيت أحمد يرفع يديه إلى فروع أذنيه ، وربما رفعهما إلى منكبيه ، وربما رفعهما إلى صدره ، ورأيت الأمر عنده واسعا .
وقال طائفة من الشافعية : جمع الشافعي بين الروايات في هذا ، بأنه يرفعهما حتى تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه ، وإبهاماه شحمتي أذنيه ، وراحتاه(4/313)
"""""" صفحة رقم 314 """"""
منكبيه .
قالوا : ومن حكى للشافعي ثلاثة أقوال في ذَلِكَ فقد وهم .
واختلفوا في المرأة : كيف ترفع يديها في الصلاة ؟
فقالت طائفة : ترفع كما يرفع الرجل إلى المنكبين .
روي عن أم الدرداء ، أنها كانت تفعله ، وهو قول الأوزاعي والشافعي .
وقالت طائفة : ترفع إلى ثدييها ، ولا تزيد على ذَلِكَ ، وهو قول حماد وإسحاق .
وروي نحوه عن حفصة بنت سيرين ، أنها كانت تفعله .
وقال أحمد - في رواية عنه - ترفع يديها في الصلاة ، ولا ترفع كما يرفع الرجل ، دون ذَلِكَ .
ونقل عنه جماعة ، أنه قالَ : ما سمعنا في المرأة ، فإن فعلت فلا بأس .
قالَ القاضي أبو يعلى : ظاهر هذا : أنه رآه فعلا جائزا ، ولم يره مسنونا .
وقال عطاء : ترفع دون رفع الرجل ، وإن تركته فلا بأس .(4/314)
"""""" صفحة رقم 315 """"""
86 - بابُ
رَفْعِ الَيدَيْنِ إذا قَامَ منَ الرَّكْعَتَيْنِ
739 - حدثنا عياش : ثنا عبد الأعلى ، قالَ : ثنا عبيد الله ، عن نافع ، أن ابن عمر كانَ إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه ، وإذا ركع رفع يديه ، وإذا قالَ : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) رفع يديه ، وإذا قام من الركعتين رفع يديه ، ورفع ذَلِكَ ابن عمر إلى النبي ( .
ورواه حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ( .
ورواه إبراهيم بن طهمان ، عن أيوب وموسى بن عقبة - مختصرا .
عياش ، هوَ : ابن الوليد الرقام البصري .
وعبد الأعلى ، هوَ : ابن عبد الأعلى الشامي البصري .
وقد روى هذا الحديث ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر - مرفوعا .
وأنما رواه الناس عن عبيد الله - موقوفا - منهم : عبد الوهاب الثقفي ومحمد بن بشر ، إلا أن محمدا لم يذكر فيهِ : الرفع إذا قام من الركعتين .
وكذلك رواه أصحاب نافع عنه موقوفا .
فلهذا المعنى احتاج البخاري إلى ذكر من تابعه عبد الأعلى على رفعه ؛ ليدفع ما قيل من تفرده به .
فقد قالَ الإمام أحمد في رواية المروذي وغيره : رواه عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وبلغني أن عبد الأعلى رفعه .
وقد روي عن أحمد ، أنه صحح رفعه ، وسنذكره _ إن شاء الله سبحانه وتعالى .(4/315)
"""""" صفحة رقم 316 """"""
وقال الدار قطني في ( ( العلل ) ) : أشبهها بالصواب عن عبيد الله : ما قاله عبد الأعلى . ثم قالَ : والموقوف عن نافع أصح .
وخرجه أبو داود في ( ( السنن ) ) ، عن نصر بن علي ، عن عبد الأعلى ، كما خرجه البخاري مرفوعا .
ثم قالَ : الصحيح : قول ابن عمر ، وليس بمرفوع . قالَ : روى بقية أوله عن عبيد الله وأسنده . قالَ : ورواه الثقفي ، عن عبيد الله ، أوقفه على ابن عمر ، وقال فيهِ : إذا قام من الركعتين يرفعهما إلى ثدييه وهذا هوَ الصحيح .
ورواه الليث بن سعد ومالك وأيوب وابن جريج _ موقوفا . وأسنده حماد بن سلمة وحده ، عن أيوب ، ولم يذكر أيوب ومالك : الرفع إذا قام من السجدتين ، وذكره الليث في حديثه - انتهى .
وقد رفعه بعضهم عن مالك ، ولا يصح ، قد رواه رزق الله بن موسى ، عن يحيى القطان ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ( ، أنه كانَ إذا دخل في الصلاة رفع يديه نحو صدره ، وإذا ركع ، وإذا رفع رأسه من الركوع ، ولا يرفع بعد ذَلِكَ .
قالَ العقيلي والدارقطني : لا يتابع رزق الله على رفعه .
وذكر الدارقطني : أن عبد الله بن نافع الصائغ وخالد بن مخلد وإسحاق الجندي رووه ، عن مالك - مرفوعا .
قالَ : ولا يصح ذَلِكَ في حديث مالك ، عن ابن عمر ، أن النبي ( كانَ يرفع في كل رفع ووضع . وقال : وهذا وهم على مالك في رفعه ولفظه .
قالَ : ورواه إسماعيل بن عياش ، عن صالح بن كيسان ، عن نافع ، عن(4/316)
"""""" صفحة رقم 317 """"""
ابن عمر - مرفوعا - أيضا .
وإسماعيل ، سيء الحفظ لحديث الحجازيين .
ورواه إساعيل - أيضا - عن موسى بن عقبة وعبيد الله كلاهما ، عن نافع ، عن ابن عمر - مرفوعا - في التكبير في هذه المواضع الأربعة ، دون الرفع .
وأما رواية إبراهيم بن طهمان التي استشهد بها البخاري ، فخرجها البيهقي من رواية إبراهيم بن طهمان ، عن أيوب بن أبي تميمة وموسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كانَ يرفع يديه حين يفتتح الصلاة ، وإذا ركع ، وإذا استوى قائما من ركوعه حذو منكبيه ، ويقول : كانَ رسول الله ( يفعل ذَلِكَ .
ولم يذكر في حديثه : الرفع إذا قام من الركعتين .
وهذا هوَ الرفع الذي أشار إليه البخاري .
قالَ الدارقطني : وتابع إبراهيم بن طهمان : حماد بن سلمة ، عن أيوب _ وقيل : عن هدبة ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، وإنما أراد : حماد بن سلمة : والله أعلم .
والصحيح : عن حماد بن زيد ، عن أيوب _ موقوفا .
وكذا قالَ أبو ضمرة ، عن موسى بن عقبة .
قالَ : وروي عن عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر - مرفوعا - : قاله محمد بن شعيب بن شابور .
وروي عن العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا .
ورواه إسماعيل بن أمية والليث ، عن نافع ، عن ابن عمر موقوفا .
قالَ : والموقوف عن نافع أصح . انتهى .(4/317)
"""""" صفحة رقم 318 """"""
قالَ : وروي عن يحيى بن أبي كثير ، عن نافع وسالم ، عن ابن عمر _ مرفوعا .
قلت : هوَ غير محفوظ عن يحيى . وهذا هوَ المعروف عن الإمام أحمد وقول أبي داود والدارقطني .
فرواية نافع ، عن ابن عمر ، الأكثرون على أن وقفها أصح من رفعها ، وكل هؤلاء لم يذكروا في رواياتهم القيام من الثنتين ، وصحح رفعها البخاري والبيهقي .
قالَ ابن عبد البر : هذا أحد الأحاديث الأربعة التي اختلف فيها سالم ونافع ، فرفعها سالم ووقفها نافع ، والقول فيها قول سالم ، ولم يلتفت الناس إلى نافع ، هذا أحدهما . والثاني : حديث : ( ( فيما سقت السماء العشر ) ) .
والثالث : حديث ( ( من باع عبدا وله مال ) ) . والرابع : حديث : ( ( تخرج نار من قبل اليمن ) ) . انتهى .
وقال النسائي والدارقطني : أحاديث نافع الثلاثة الموقوفة أولى بالصواب .
ورجح أحمد وقف : ( ( فيما سقت السماء ) ) وتوقف في حديث : ( ( من باع عبدا لهُ مال ) ) . وقال إذا اختلف سالم ونافع فلا يقضى لأحدهما .
يشير إلى أنه لا بد من الترجيح بدليل .
وقد روي الرفع إذا قام من الركعتين من رواية سالم ، عن ابن عمر .
خرجه النسائي من طريق معتمر ، عن عبيد الله بن عمر ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، أن النبي ( كانَ يرفع يديه إذا دخل في الصلاة , وإذا أراد أن يركع ، وإذا رفع رأسه من الركوع ، وإذا قام من الركعتين .(4/318)
"""""" صفحة رقم 319 """"""
يرفع يديه كذلك حذاء المنكبين .
وروي - أيضا - عن الثقفي ، عن عبيد الله ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، أنه كانَ إذا نهض رفع يديه .
فتبسم ، وقال : كم روي هذا عن الزهري ، ليس فيهِ هذا ، وضعفه .
ورواه - أيضا - أبو سعيد ابن الأعربي ، عن الدبري ، عن عبد الرزاق ، عن عاصم ، عن عبيد الله بن عمر كذلك .
وذكر الدارقطني في ( ( العلل ) ) : أن معتمر بن سليمان والثقفي روياه عن
عبيد الله بن عمر - مرفوعا ، وذكرا فيهِ : الرفع إذا قام من الثنتين .
ورواه ابن المبارك ، عن عبيد الله ، فلم يذكر : الرفع إذا قام من الثنتين من
الثنتين .
ورواه - أيضا - إبراهيم بن عبد الحميد بن ذي حماية ، عن أيوب ، عن سالم ، عن ابن عمر .
خرجه الطبراني .
وهذا غير محفوظ عن أيوب .
وقد روي عن ابن عمر _ مرفوعا _ من وجه آخر .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود من طريق محمد بن فضيل ، عن عاصم بن كليب ، عن محارب بن دثار ، عن ابن عمر ، قالَ : كانَ رسول الله ( إذا قام في الركعتين كبر ورفع يديه .(4/319)
"""""" صفحة رقم 320 """"""
وخالفه عبد الواحد بن زياد ، فرواه عن محارب بن دثار ، عن ابن عمر
- موقوفا - في الرفع عندَ الإحرام والركوع والرفع منه خاصة .
قالَ الدارقطني : وكذلك رواه أبو إسحاق الشيباني والنضر بن محارب بن دثار ، عن محارب ، عن ابن عمر - موقوفا .
وقد روي الرفع إذا قام من الركعتين في حديث أبي حميد وأصحابه ، عن النبي ( ، وقد سبق ذكره .
وفي حديث علي بن أبي طالب وأبي هريرة ، عن النبي ( ? .
خرجهما أبو داود وغيره .
وقد تكلم في حديث أبي هريرة أبو حاتم الرازي والدارقطني .
وأما حديث علي ، فصححه الإمام أحمد والترمذي .
وقد اختلف العلماء في الرفع إذا قام من التشهد الأول :
فأكثرهم على أنه غير مستحب ، حتى ادعى أبو حامد الإسفراييني من أعبان الشافعية الإجماع على ذَلِكَ ، وجعله دليلا على نسخ الأحاديث الواردة فيهِ .
وليس الأمر كما قالَ .
واستحبه طائفة من العلماء ، كما ذكره البخاري والنسائي في ( ( كتابيهما ) ) .
وقال حرب الكرماني : حدثنا أحمد بن حنبل : ثنا هاشم بن القاسم :
حدثنا الربيع بن صبيح ، قالَ : رأيت الحسن وابن سيرين وعطاء وطاوسا ومجاهدا ونافعا وقتادة وابن أبي نجيح والحسن بن مسلم إذا دخلوا في الصلاة كبروا ورفعوا أيديهم وإذا كبروا للركوع رفعوا أيديهم .
غير أن أهل الحجاز كانوا يرفعون أيديهم إذا قاموا من الركعتين من الفريضة(4/320)
"""""" صفحة رقم 321 """"""
وكانوا يقعون على أعقابهم .
والمشهور عن الشافعي وأحمد ، أنه لا يرفع إذا قام من الركعتين .
قالَ أحمد : أنا لا أستعمله ولا أذهب إليه ، واستدل بحديث ابن عمر ، وقال فيهِ : وكان لا يرفع بعد ذَلِكَ - أي : بعد المواضع الثلاثة .
وهذا الحديث بهذا اللفظ قد سبق من رواية رزق الله بن موسى ، عن يحيى القطان ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر - - مرفوعا - ، وأنه لا يصح رفعه .
ورواه - أيضا - بشير الكوسج ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قالَ : رأيت النبي ( يرفع يديه في أول التكبير ، وإذا ركع ، وإذا رفع رأسه من الركوع ، ثم يكبر بعد ذَلِكَ ولا يرفع يديه .
قالَ بشير : وحدثني الحسن بن عثمان المديني ، عن سالم ، عن أبيه ، عن النبي ( - بمثل ذَلِكَ .
وبشير هذا ، غير مشهور ، وقد ذكره الحاكم في ( ( تاريخ نيسابور ) ) ، وذكر أنه روى عنه جماعة .
وقال إسحاق بن إبراهيم : سئل أحمد : إذا نهض الرجل من الركعتين يرفع
يديه ؟ قالَ : إن فعله فما أقربه ؛ فيهِ عن ابن عمر ، عن النبي ( ، وأبي حميد أحاديث صحاح ، ولكن قالَ الزهري في حديثه : ولم يفعل في شيء من صلاته ، وأنا لا أفعله .
وهذا اللفظ لا يعرف في حديث الزهري .
وذكر القاضي أبو يعلى : أن هذه الرواية عن أحمد تدل على جوازه ، من غير استحباب .(4/321)
"""""" صفحة رقم 322 """"""
وحكي عن أحمد رواية باستحبابه .
قالَ البيهقي في كتاب ( ( مناقب الإمام أحمد ) ) : أنبأني أبو عبد الله الحافظ - يعني : الحاكم - : ثنا أبو بكر ابن إسحاق الفقيه : أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قالَ : سألت أبي عن حديث عبد الأعلى ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر - في رفع اليدين ، وكان إذا قام من الثنتين رفع يديه - ؟ فقالَ : سنة صحيحة مستعملة ، وقد روى مثلها علي بن أبي طالب وأبو حميد في عشرة من الصحابة ، وأنا أستعملها .
قالَ الحاكم أبو عبد الله : سئل الشيخ أبو بكر - يعني : ابن إسحاق - عن ذَلِكَ ؟ فقالَ : أنا أستعملها ، ولم أر من أئمة الحديث أحدا يرجع إلى معرفة الحديث إلا وهو يستعملها .
وهذه الرواية غريبة عن أحمد جدا ، لا يعرفها أصحابنا ، ورجال إسنادها كلهم حفاظ مشهورون ، إلا أن البيهقي ذكر أن الحاكم ذكرها في كتاب ( ( رفع اليدين ) ) وفي كتاب ( ( مزكي الأخبار ) ) ، وأنه ذكرها في ( ( كتاب التاريخ ) ) بخلاف ذَلِكَ ، عندَ القيام من الركعتين ، فوجب التوقف . والله أعلم .
وحكي ذَلِكَ - أيضا - - قولا للشافعي ؛ لأنه ذكر حديث أبي حميد الساعدي بطوله ، قالَ : وبهذا نقول .
قالَ البيهقي في ( ( كتاب المعرفة ) ) : ومذهب الشافعي متابعة السنة إذا ثبتت ، وقد قالَ في حديث أبي حميد : وبهذا أقول .
وقال البغوي : لم يذكر الشافعي رفع اليدين إذا قام من الثنتين ، ومذهبه اتباع السنة ، وقد ثبت ذَلِكَ .
وذهب إلى هذا طائفة من أهل الحديث ، منهم : ابن لمنذر ، ومن أصحاب(4/322)
"""""" صفحة رقم 323 """"""
الشافعي ، منهم : أبو علي الطبري والبيهقي والبغوي وغيرهم من المتأخرين ، ورجحه - - أيضا - طائفة من المتأخرين من أصحابنا ، قالوا : وهو دون الرفع في الإحرام والركوع والرفع منه في الاستحباب .
فأما الرفع للسجود وللرفع منه ، فلم يخرج في ( ( الصحيحين ) ) منه شيء ، وقد خرج البخاري في حديث ابن عمر : وكان لا يفعل ذَلِكَ في السجود .
وفي رواية لهُ - أيضا - : وكان لا يفعل ذَلِكَ حين يسجد ، ولا حين يرفع من السجود . وقد سبقت الروايتان .
وهذا قول جمهور العلماء ، وقد نص عليهِ الشافعي وأحمد .
وسئل أحمد : أليس يروى عن النبي ( ، أنه فعله ؟ فقالَ : هذه الأحاديث أقوى وأكثر .
وروى هذا الحديث بقية ، عن الزبيدي ، عن الزهري - وابن أخي الزهري ، عن عمه - ، وزاد في روايته بعد قوله : ولا يرفعهما في السجود : ويرفعهما في كل تكبيره يكبرها قبل الركوع حتى تنقضي صلاته .
خرجه أبو داود من طريق بقية .
والإمام أحمد من الطريق الأخرى ، وعنده : ( ( في كل ركعة وتكبيرة ) ) إلى آخره .
وذهب طائفة إلى استحباب رفع اليدين إذا قام من السجود ، منهم : ابن المنذر وأبو علي الطبري من الشافعية .(4/323)
"""""" صفحة رقم 324 """"""
واستدلوا : بما روى محمد بن جحادة ، عن عبد الجبار بن وائل ، عن علقمة بن وائل ، عن أبيه ، أنه صلى مع النبي ( ، فكان إذا كبر رفع يديه .
قالَ : ثم التحف ، ثم أخذ شماله بيمينه ، فأدخل يديه في ثوبه ، فإذا أراد أن يركع أخرج يديه ثم رفعهما ، وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع رفع يديه ثم سجد ووضع وجهه بين كفيه ، فإذا رفع رأسه - أيضا - من السجود رفع يديه حتى فرغ من صلاته .
خرجه أبو داود .
وخرجه مسلم إلى قوله : ( ( فلما سجد سجد بين كفيه ) ) ، ولم يذكر ما بعده .
وقالت طائفة : يرفع يديه مع كل تكبيرة ، وكلما خفض ورفع ، وهو قول بعض أهل الظاهر .
وقال أحمد بن أصرم المزني : رأيت أحمد يرفع يديه في كل خفض ورفع ، وسئل عن رفع اليدين إذا قام من الركعتين ؟ فقالَ : قد فعل .
وحمل القاضي أبو يعلى هذه الرواية على الجواز دون الاستحباب .
ونقل المروذي ، عن أحمد ، قالَ : لا يرفع يديه بين السجدتين ، فإن فعل فهوَ جائز . ونقل جعفر بن محمد ، عن أحمد ، قالَ : يرفع يديه في كل موضع ، إلا بين السجدتين .
وروى محارب بن دثار ، أنه رأى ابن عمر يرفع يديه إذا ركع وسجد .
وروى أبو أسامة ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه(4/324)
"""""" صفحة رقم 325 """"""
كانَ يرفع يديه إذا رفع رأسه من السجدة الأولى .
وروى حماد بن سلمة ، عن يحيى بن أبي إسحاق ، عن أنس ، أنه كانَ يرفع يديه من السجدتين .
وروي ذَلِكَ - أيضا - عن الحسن وابن سيرين وطاوس ونافع وأيوب .
ذكره ابن أبي شيبة في ( ( كتابه ) ) .
وروى شعبة ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم ، عن مالك بن الحويرث ، أنه رأى نبي الله ( يرفع يديه في الصلاة إذا ركع ، وإذا رفع رأسه من ركوعه ، وإذا
سجد ، وإذا رفع رأسه من سجوده حتى يحاذي بهما فروع أذنيه .
خرجه النسائي .
وخرجه - أيضا - من طريق هشام ، عن قتادة - بنحوه ، إلا أنه [ لم ] يذكر فيهِ : الرفع إذا سجد .
وخرجه مسلم من رواية سعيد بن أبي عروبة وأبي عوانة ، عن قتادة .
ولم يذكر فيهِ سوى الرفع في المواضع الثلاثة الأول خاصة .
وروى شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن عبد الرحمن
اليحصبي ، عن وائل بن حجر ، أنه صلى مع النبي ( ، فكان يكبر إذا خفض وإذا رفع ، ويرفع يديه عندَ التكبير ، ويسلم عن يمينه وعن يساره .(4/325)
"""""" صفحة رقم 326 """"""
قالَ الإمام أحمد : أنا لا أذهب إلى حديث وائل بن حجر ، وهو مختلف في ألفاظه .
ويجاب عن هذه الرويات كلها على تقدير أن يكون ذكر الرفع فيها محفوظا ، ولم يكن قد اشتبه [ بذكر ] التكبير بالرفع - بأن مالك بن الحويرث ووائل بن حجر لم يكونا من أهل المدينة ، وإنما كانا قد قدما إليها مرة أو مرتين ، فلعلهما رأيا النبي ( فعل ذَلِكَ مرة ، وقد عارض ذَلِكَ نفي ابن عمر ، مع شدة وملازمته للنبي ( وشدة حرصه على حفظ أفعاله واقتدائه به فيها ، فهذا يدل على أن أكثر أمر النبي ( كانَ ترك الرفع فيما عدا المواضع الثلاثة والقيام من الركعتين .
وقد روي في الرفع عندَ السجود وغيره أحاديث معلولة :
فروى الثقفي : حدثنا حميد ، عن أنس ، أن النبي ( كانَ يرفع يديه إذا دخل في الصلاة ، وإذا ركع ، وإذا رفع رأسه من الركوع ، وإذا سجد .
خرجه الدارقطني .
وخرجه ابن ماجه إلى قوله : ( ( وإذا ركع ) ) .
وخرجه ابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) إلى قوله : ( ( وإذا رفع رأسه ) ) .
وقد أعل هذا بأنه قد رواه غير واحد من أصحاب حميد ، عن حميد ، عن أنس - من فعله غير مرفوع .
كذا قاله البخاري - : نقله عنه الترمذي في ( ( علله ) ) .
وقال الدارقطني : الصواب من فعل أنس .(4/326)
"""""" صفحة رقم 327 """"""
وروى إسماعيل بن عياش ، عن صالح بن كيسان ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قالَ : رأيت النبي ( يرفع يديه في الصلاة حذو منكبيه ، حين يفتتح
الصلاة ، وحين يركع ، وحين يسجد .
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه .
زاد الإمام أحمد : وعن صالح : عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ( - مثل ذَلِكَ .
وإسماعيل بن عياش ، سيء الحفظ لحديث الحجازيين .
وقد خالفه ابن إسحاق ، فرواه عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة - موقوفا - : قاله الإمام أحمد وغيره .
وقال الدارقطني في ( ( علله ) ) : اختلف على إسماعيل بن عياش في لفظه ، فذكرت عنه طائفة الرفع عندَ الافتتاح والركوع والسجود . وذكرت طائفة عنه الرفع عندَ الافتتاح والركوع والرفع منه .
قالَ : وهو أشبه بالصواب .
وروى عمرو بن علي ، عن ابن أبي عدي ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي
سلمة ، عن أبي هريرة ، أنه كانَ يرفع يديه في كل خفض ورفع ، ويقول : أنا أشبهكم صلاة برسول الله ( .
خرجه الدارقطني في كتاب ( ( العلل ) ) ، وقال : لا يتابع عليهِ عمرو بن علي وغيره يرويه : أن النبي ( كانَ يكبر في كل خفض ورفع ، وهو الصحيح .
وروى الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن أنس ، أن النبي ( كانَ يرفع يديه في الصلاة في كل خفض ورفع .(4/327)
"""""" صفحة رقم 328 """"""
وفي رواية : كانَ يرفع يديه حين يهوي للسجود .
قالَ الوليد : وبهذا كانَ يأخذ الأوزاعي .
خرجه ابن جوصا في ( ( مسند الأوزاعي ) ) .
وقد اختلف على الوليد في إرساله ووصله ، ولم يسمعه من الأوزاعي ، بل دليه عنه ، وهو يدلس عن [ غيره ] الثقات .
وروى الإمام أحمد : ثنا نصر بن باب ، عن حجاج ، عن الذيال بن حرملة ، عن جابر ، قالَ : كانَ رسول الله ( يرفع يديه في كل تكبيرة في الصلاة .
نصر بن باب ، وحجاج بن أرطأة ، لا يحتج بهما .
وروى رفدة بن قضاعة ، عن الأوزاعي ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن أبيه ، عن جده عمير بن حبيب ، قالَ : كانَ رسول الله ( يرفع يديه مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة .
خرجه ابن ماجه .
وقال منها : سألت أحمد ويحيى عن هذا الحديث ، فقالا جميعا : ليس بصحيح : قالَ أحمد : لا يعرف رفدة بن قضاعة ، وقال يحيى : هوَ شيخ ضعيف .
وخرج ابن ماجه - أيضا - من رواية عمر بن رياح ، عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، أن رسول الله ( كانَ يرفع يديه عندَ كل تكبيرة .(4/328)
"""""" صفحة رقم 329 """"""
وعمر بن رياح ، ساقط الرواية .
لكن ؛ تابعه النضر بن كثير أبو سهل الأزدي ، قالَ : صلى جنبي عبد الله بن طاوس بمنى في مسجد الخيف ، فكان إذا سجد سجدة الأولى فرفع رأسه منها رفع يديه تلقاء وجهه ، فأنكرت أنا ذَلِكَ ، فقالَ عبد الله بن طاوس :
رأيت أبي يصنعه ، وقال أبي : رأيت ابن عباس يصنعه ، وقال : رأيت النبي (
يصنعه .
خرجه النسائي .
وخرجه أبو داود ، وعنده : ولا أعلم إلا أنه قالَ : كانَ رسول الله ( يصنعه .
والنضر بن كثير ، قالَ البخاري : فيهِ نظر . وقال - مرة - : عنده مناكير .
قالَ أبو أحمد الحاكم : هذا حديث منكر من حديث طاوس .
وقال العقيلي : لا يتابع النضر عليهِ .
وقال ابن عدي : هوَ ممن يكتب حديثه .
وخرج لهُ هذا الحديث ، وعنده : أنه كانَ يرفع يديه كلما ركع وسجد [ ويرفع ] بين السجدتين .
وضعف الإمام أحمد النضر هذا .
وقال أبو حاتم والدارقطني : فيهِ نظر .
وقال النسائي : صالح .(4/329)
"""""" صفحة رقم 330 """"""
وخرج أبو داود من حديث ابن لهيعة ، عن ابن هبيرة ، عن ميمون المكي ، أنه رأى عبد الله بن الزبير يصلي بهم يشير بكفيه حين يقوم ، وحين يركع ، وحين يسجد ، وحين ينهض للقيام ، فيقوم فيشير بيديه . قالَ :
فانطلقت إلى ابن عباس ، فقلت : إني رأيت ابن الزبير صلى صلاة لم أر أحدا صلاها ، ووصفت لهُ هذه الإشارة ، فقالَ : إن أحببت أن تنظر إلى صلاة رسول الله ( فاقتد بصلاة عبد الله بن الزبير . إسناده ضعيف .(4/330)
"""""" صفحة رقم 331 """"""
87 - بَابُ
وَضْعِ الْيُمْنى عَلَى الْيُسْرَى في الصَّلاةِ
740 - حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قالَ : كانَ الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة .
قالَ أبو حازم : لا أعلمه إلا ينمي ذَلِكَ إلى النبي ( .
قالَ : إسماعيل : ينمي ذَلِكَ ، ولم يقل : ينمي .
هذا الحديث في ( ( الموطأ ) ) ليس فيهِ ذكر النبي ( ، وإنما فيهِ : قالَ أبو حازم : لا أعلمه إلا ينمي ذَلِكَ ، ولم يذكر النبي ( .
وكذا رأيناه في ( ( موطإ القعنبي ) ) ، وهو الذي خرج عنه البخاري هذا الحديث ، ومراد البخاري : أن إسماعيل - وهو : ابن أبي أويس - رواه بالبناء للمفعول : ينمى .
ومعنى ( ( ينمى ) ) يرفع ويسند ، والمراد : إلى النبي ( .
ورواه عمار بن مطر ، عن مالك ، فقالَ فيهِ : أمرنا أن نضع .
وعمار ، ليس بحجة .
وليس في ( ( صحيح البخاري ) ) في هذا الباب غير هذا الحديث ، ولا في
( ( صحيح مسلم ) ) فيه غير حديث محمد بن جحادة : حدثني عبد الجبار بن وائل ، عن علقمة بن وائل ومولى لهم ، حدثاه عن أبيه وائل بن حجر ، أنه رأى النبي ((4/331)
"""""" صفحة رقم 332 """"""
رفع يديه حين داخل في الصلاة ، كبر ثم التحف بثوبه ، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى ، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من ثوبه ، ثم رفعهما وكبر فركع ، فلما قالَ : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) رفع يديه ، فلما سجد سجد بين كفيه .
وله طرق أخرى عن وائل .
وفي رواية للأمام أحمد : وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد .
وفي الحديث : دليل على أن المصلي إذا التحف في صلاته بثوبه ، ثم أخرج يديه منه لمصلحة الصلاة لم يضره ذَلِكَ .
وفي الباب أحاديث كثيرة ، لا تخلو أسانيدها من مقال .
وقد خرج ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من طريق حرملة بن يحيى ، عن أبن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث ، أنه سمع عطاء بن رباح يحدث ، عن ابن عباس ، أن
رسول الله ( قالَ : ( ( إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نؤخر سحورنا ، ونعجل إفطارنا ، وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في الصلاة ) ) .
وهذا إسناد في الظاهر على شرط مسلم ، وزعم ابن حبان أن ابن وهب سمع هذا الحديث من عمرو بن الحارث وطلحة بن عمرو ، كلاهما عن عطاء ، وفي هذا إشارة إلى أن غير حرملة رواه عن ابن وهب ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، وهذا هوَ الأشبه ، ولا يعرف هذا الحديث من رواية عمرو بن الحارث .
قالَ البيهقي : إنما يعرف هذا بطلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس
- ومرة : عن أبي هريرة - وطلحة ليس بالقوي .
قلت : وقد روي ، عن طلحة ، عن عطاء - مرسلا .(4/332)
"""""" صفحة رقم 333 """"""
خرجه وكيع عنه كذلك .
قالَ الترمذي في ( ( جامعه ) ) : العمل عندَ أهل العلم من أصحاب النبي ( والتابعين ومن بعدهم على هذا ، يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة . انتهى .
وقد روي ذَلِكَ عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب .
وروي عن ابن الزبير ، أنه قالَ : هوَ من السنة .
خرجه أبو داود .
وعن عائشة ، قالت : هوَ من النبوة .
خرجه الدارقطني .
وروي عن أبي الدرداء ، أنه قالَ : هوَ من أخلاق النبيين .
وروي عن علي وابن عباس ، أنهما فسرا ( ( النحر ) ) المذكور في قوله تعالى :
( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ( [ الكوثر : 2 ] بهذا .
وهو قول عامة فقهاء الأمصار ، منهم : الثوري وأبو حنيفة والحسن بن صالح والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وغيرهم .
وحكى ابن المنذر إرسال اليدين في الصلاة عن ابن الزبير والحسن والنخعي ، وحكى عن مالك كقول الأولين .
وذكر ابن عبد البر : أنه روي عن مالك ، أنه قالَ : لا بأس بذلك في الفريضة والنافلة . قالَ : وهو قول المدنيين من أصحابه .(4/333)
"""""" صفحة رقم 334 """"""
ونقل ابن القاسم ، عنه ، قالَ : إنما يفعل في النوافل من طول القيام وتركه أحب إلي .
قالَ : وقال الليث : سدل اليدين في الصلاة أحب إلي ، أن يطول القيام فلا بأس أن يضع اليمنى على اليسرى .
وقال الأوزاعي : من شاء فعل ، ومن شاء ترك .
وهو قول عطاء .
قلت : وحكي رواية عن أحمد ، وحكي عنه : أنه يرسل يديه في النوافل خاصة .
وهذا عكس ما نقله ابن القاسم عن مالك .
وروى ابن المبارك في ( ( كتاب الزهد ) ) عن صفوان بن عمرو ، عن مهاجر النبال ، أنه ذكر عنده قبض الرجل يمينه على شماله ، فقالَ : ما أحسنه ، ذل بين يدي عز
وحكي مثل ذَلِكَ عن الإمام أحمد .
قالَ بعضهم : ما سمعت في العلم أحسن من هذا .
وروينا عن بشر بن الحارث ، أنه قالَ : منذ اربعين سنة أشتهى أن أضع يدا على يد في الصلاة ، مايمنعني من ذَلِكَ إلا أن أكون قد أظهرت من الخشوع ما ليس في قلبي مثله .
وروى محمد بن نصر المروزي في ( ( كتاب الصلاة ) ) بإسناده ، عن أبي هريرة ، قالَ : يحشر الناس يوم القيامة على قدر صنيعهم في الصلاة - - وقبض بعض رواة الحديث شماله بيمينه ، وانحنى هكذا .(4/334)
"""""" صفحة رقم 335 """"""
وبإسناده عن الأعمش ، عن أبي صالح ، قالَ : يبعث الناس يوم القيامة هكذا - ووضع إحدى يديه على الأخرى .
واختلف القائلون بالوضع : هل يضعهما على صدره ، أو تحت سرته ، أو يخير بين الأمرين ؟ على ثلاثة أقوال ، هي ثلاث روايات عن أحمد .
وممن روي عنه ، أنه يضعهما تحت سرته : علي وأبو هريرة والنخعي وأبو مجلز ، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ومالك وإسحاق .
وروي عن علي - أيضا - وعن سعيد بن جبير ، أنه يضعهما على صدره ، وهو قول الشافعي .
وقال أبو إسحاق المروزي من أصحابه : يضعهما تحت سرته .
وحكى ابن المنذر التخيير بينهما .
قالَ الترمذي في ( ( جامعه ) ) : رأى بعضهم أن يضعهما فوق سرته ، ورأى بعضهم أن يضعهما تحت سرته ، كل ذَلِكَ واسع عندهم .(4/335)
"""""" صفحة رقم 336 """"""
88 - بَابُ
الْخُشُوعِ في الصَّلاةِ
741 - حدثنا إسماعيل ، قالَ : حدثني مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( قالَ : ( ( هل ترون قبلتي هاهنا ، والله ما يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم ، وإني لأراكم من وراء ظهري ) ) .
742 - حدثنا محمد بن بشار : حدثنا غندر : ثنا شعبة : سمعت قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( أقيموا الركوع والسجود ، فوالله إني لأراكم من بعدي ) ) - وربما قالَ : ( ( من بعد ظهري - إذا ركعتم وإذا سجدتم ) ) .
قد خرج البخاري حديث أبي هريرة وحديث أنس في ( ( باب : عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة وذكر القبلة ) ) ، وقد سبق الكلام عليهما هناك بما فيهِ كفاية .
وإنما خرجهما هاهنا ؛ لدلاتهما على الخشوع في الصلاة .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن عثمان بن عفان ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( ما من امريء مسلم تحضره صلاة مكتوبة ، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها ، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ، مالم تؤت كبيرة ، وذلك الدهر كله ) ) .
وقد مدح الله الخاشعين في صلاتهم ، فقالَ : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ( [ المؤمنون : 1 و 2 ] وقال : ( وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ( [ البقرة : من الآية 45 ] .
روي عن علي بن أبي طالب ، قالَ : هوَ الخشوع في القلب ، وأن تلين(4/336)
"""""" صفحة رقم 337 """"""
كنفك للمسلم ، وأن لا تلتفت في صلاتك .
وعنه ، قالَ : الخشوع : خشوع القلب ، وأن لا تلتفت يمينا ولا شمالا .
وعن ابن عباس ، قالَ : خاشعون : خائفون ساكنون .
وعن الحسن ، قالَ : كانَ الخشوع في قلوبهم ، فغضوا لهُ البصر ، وخفضوا لهُ الجناح .
وعن مجاهد ، قالَ : هوَ الخشوع في القلب ، والسكون في الصلاة .
وعنه ، قالَ : هوَ خفض الجناح وغض البصر ، وكان المسلمون إذا قام أحدهم في الصلاة خاف ربه أن يلتفت عن يمينه وشماله .
وعنه ، قالَ : العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن ( أن يشذ
نظره ، أو يلتفت ، أو يقلب الحصى ، أو يبعث بشيء ، أو يحدث نفسه بشيء من
الدنيا ، إلا ناسيا ، مادم في صلاته .
وعن الزهري ، قالَ : هوَ سكون العبد في صلاته .
وعن سعيد بن جبير ، قالَ : يعني : متواضعين ، لا يعرف من عن يمينه ، ولا من عن شماله ، ولا يلتفت من الخشوع لله ( .
وروي عن حذيفة ، أنه رأى رجلا يعبث في صلاته ، فقالَ : لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه .
وروي عن ابن المسيب .(4/337)
"""""" صفحة رقم 338 """"""
وروي مرسلا .
فأصل الخشوع : هوَ خشوع القلب ، وهو انكساره لله ، وخضوعه وسكونه عن التفاته إلى غير من هوَ بين يديه ، فإذا خشع القلب خشعت الجوارح كلها تبعا لخشوعه ؛ ولهذا كانَ النبي ( يقول في ركوعه : ( ( خشع لك سمعي ، وبصري ، ومخي ، وعظامي ، وما استقل به قدمي ) ) .
ومن جملة خشوع الجوارح خشوع البصر أن يلتفت عن يمينه أو يساره ، وسيأتي حديث الإلتفات في الصلاة ، وأنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ، فيما بعد - إن شاء الله تعالى .
وقال ابن سيرين : كانَ رسول ( يلتفت في الصلاة عن يمينه وعن يساره ، فأنزل الله تعالى : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ( [ المؤمنون : 2 ] .
فخشع رسول الله ( ، ولم يكن يلتفت يمنة ولا يسرة .
وخرجه الطبراني من رواية ابن سيرين ، عن أبي هريرة .
والمرسل أصح .
والظاهر : أن البخاري إنما ذكر الخشوع في هذا الموضع ؛ لأن كثيرا من الفقهاء والعلماء يذكرون في أوائل الصلاة : أن المصلي لا يجاوز بصره موضع سجوده ، وذلك من جملة الخشوع في الصلاة .
وخرج ابن ماجه من حديث أم سلمة أم المؤمنين ، قالت : كانَ الناس في(4/338)
"""""" صفحة رقم 339 """"""
عهد النبي ( إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصره موضع قدمه ، فتوفي رسول الله ( ، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصره موضع جبينه ، فتوفي أبو بكر فكان عمر فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة ، وكان عثمان بن عفان فكانت الفتنة ، فالتفت الناس يمينا وشمالا .
وقال ابن سيرين : كانوا يستحبون للرجل أن لا يجاوز بصره مصلاه .
خرجه سعيد بن منصور .
وقال النخعي : كانَ يستحب أن يقع الرجل بصره في موضع سجوده .
وفسر قتادة الخشوع في الصلاة بذلك . وقال مسلم بن يسار : هوَ حسن .
وفيه حديثان مرفوعان ، من حديث أنس وابن عباس ، ولا يصح إسنادهما .
وأكثر العلماء على أنه يستحب للمصلي أن ينظر إلى موضع سجوده ، منهم :
سليمان بن يسار وأبو حنيفة والثوري والحسن بن حي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور .
وقال مالك : يستحب أن يكون بصره أمام قبلته . قالَ : واكره ما يصنع الناس من النظر إلى موضع سجودهم وهم قيام .
وحكي عن شريك بن عبد الله ، قالَ : ينظر في قيامه إلى موضع قيامه ، وإذا ركع إلى قدميه ، وإذا سجد إلى أنفه ، وإذا قعد إلى حجره .
واستحب ذَلِكَ بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي .
قالَ أصحابنا : ويستحب إذا جلس للتشهد أن لا يجاوز بصره أصبعه ؛ لما روى ابن الزبير ، أن النَّبيّ ( كانَ إذا جلس في التشهد أشار بالسبابة ، ولم يجاوز بصره
إشارته .(4/339)
"""""" صفحة رقم 340 """"""
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
وحكى أصحاب الثوري في كتبهم ، عن سفيان ، أنه قالَ : إذا قام في الصلاة فليكن بصره حيث يسجد إن استطاع ، قالَ : وينظر في ركوعه إلى حيث يسجد - ومنهم من قالَ : إلى ركبتيه - ، ويكون نظره في سجوده إلى طرف أنفه .
وبكل حال ؛ فهذا مستحب ، ولا تبطل الصلاة بالإخلال به ، ولا باستغراق القلب في الفكر في أمور الدنيا ، وقد حكى ابن حزم وغيره الإجماع على ذَلِكَ ، وقد خالف فيهِ بعض المتأخرين من أصحابنا والشافعية .
وحكى ابن المنذر عن الحكم ، قالَ : من تأمل من عن يمينه أو عن شماله حتى يعرفه فليس لهُ صلاة .
وهذا يرجع إلى الالتفات ، ويأتى ذكره في موضعه - - إن شاء الله ( .
وحكي عن ابن حامد من أصحابنا : أن عمل القلب في الصلاة إذا طال أبطل الصلاة كعمل البدن .
وهذا يرده حديث تذكير الشيطان المرء في صلاته حتى يظل لا يدري كم صلى وأمره أن يسجد سجدتين ، ولم يأمره بالإعادة .
وخرج الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث الفضل بن عباس ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( الصلاة مثنى مثنى ، تشهد في كل ركعتين ، وتخشع وتضرع ،(4/340)
"""""" صفحة رقم 341 """"""
وتمسكن ، وتقنع يديك - يَقُول : ترفعهما إلى ربك - مستقبلاً ببطونهما وجهك ، وتقول : يَا رب يَا رب ، وإن لَمْ تفعل ذَلِكَ فهو كذا وكذا ) ) .
وهذا لفظ الترمذي .
وللإمام أحمد : ( ( وتقول : يارب ثلاثاً ، فمن لَمْ يفعل ذَلِكَ فَهِيَّ خداج ) ) .
وفي إسناده اخْتِلاَف .
وخرجه أبو داود وابن ماجه ، وعندهما : عَن المطلب ، عَن النَّبِيّ ( .
وقد قَالَ أبو حاتم الرَّازِي : هُوَ إسناد حسن .
وضعفه البخاري ، وَقَالَ : لا يصح .
وَقَالَ العقيلي : فِيهِ نظر .
وأما قَوْلِ النَّبِيّ ( : ( ( إني أراكم من وراء ظهري ) ) ، فليس المراد مِنْهُ : أَنَّهُ كَانَ يلتفت ببصره فِي صلاته إلى من خلفه حَتَّى يرى صلاتهم ، كما ظنه بعضهم ، وقد رد الإمام أحمد عَلَى من زعم ذَلِكَ ، وأثبت ذَلِكَ من خصائص النَّبِيّ ( وآياته
ومعجزاته ، وقد سبق ذكر كلامه فِي ذَلِكَ .(4/341)
"""""" صفحة رقم 342 """"""
89 - بَاب
مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ
743 - حَدَّثَنَا حفص بْن عُمَر : نا شعبة ، عَن قتادة ، عَن أَنَس بْن مَالِك ، أن النَّبِيّ ( وأبا بَكْر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة ب ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( .
744 - حَدَّثَنَا موسى بن إِسْمَاعِيل : ثنا عَبْد الواحد بن زياد : ثنا عمارة بن القعقاع : ثنا أبو زُرْعَة : ثنا أبو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : كَانَ رَسُول الله ( يسكت بَيْن التكبير وبين القراءة إسكاتة - قَالَ : أحسبه قَالَ : هنية - ، فَقُلْت : بأبي وأمي يَا رَسُول الله ، إسكاتك بَيْن التكبير وبين القراءة ، مَا تَقُول : ( ( أقول : اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بَيْن المشرق والمغرب ، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد ) ) .
قَالَ الخطابي : قوله : ( ( إسكاتة ) ) وزن إفعالة ، من السكوت ، ومعناه : سكوت يقتضي بعده كلاماً ، أو قراءة مَعَ قصر المدة فِيهِ ، وإنما أراد ترك رفع الصوت ، ألا تراه يَقُول : مَا تَقُول فِي إسكاتك .
قَالَ : وقوله : ( ( اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد ) ) ، فإنها أمثال ، ولم يرد أعيان هذه المسميات ، وإنما أراد التوكيد فِي التطهير ، والثلج والبرد ماءان ، لَمْ تمسهما الأيدي ، ولم يمرس ولم يمتهن .
قَالَ : وفيه مستدل لمن منع من الماء المستعمل ؛ لأنه يَقُول : إن منزلة الخطايا المغسولة بالماء بمنزلة الأوضار الحالة فِي الماء والغسولات المانعة من التطهير .(4/342)
"""""" صفحة رقم 343 """"""
قَالَ : وعندي فِي قوله : ( ( اغسل خطاياي ) ) عجائب . انتهى مَا ذكره .
وكأنه يشير إلى مسألة العصمة ، ولا حاجة إلى ذكرها .
ولما كَانَتْ الذنوب تؤثر فِي القلب دنساً ، وَهُوَ المذكور فِي قوله تعالى : ( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( [ المطففين : 14 ] وتوجب للقلب احترافاً ؛ طلب فِي هَذَا الدعاء المباعدة بينه وبينها عَلَى أقصى وجوه المباعدة ، والمراد : المباعدة من تأثيراتها وعقوباتها الدنيوية والأخروية .
وربما دَخَلَ فِيهِ المباعدة بَيْن مَا قدر مِنْهَا ولم يعلمه بعد ، فطلب مباعدته مِنْهُ ، عَلَى نحو قوله : ( ( أعوذ بك من شر مَا عملت وما لَمْ أعمل ) ) .
وطلب - أَيْضاً - أن ينقي قلبه من دنسها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس .
وطلب - أَيْضاً - إطفاء حرارتها وحريقها للقلب بأعظم مَا يوجد فِي الدنيا إنقاء وتبريداً ، وَهُوَ الماء والثلج والبرد .
وفي حَدِيْث عَائِشَة ، أن النَّبِيّ ( كَانَ يَقُول فِي دعائه : ( ( اللهم اغسل خطاياي بالثلج والبرد ، وأنق قلبي من الخطايا كما أنقيت الثوب الأبيض من الدنس ، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بَيْن المشرق والمغرب ) ) .
وقد خرجه البخاري فِي موضع آخر ، وخرجه مُسْلِم - أَيْضاً .
وإنما كَانَ يدعو فِي افتتاح الصلاة المكتوبة بهذا - والله أعلم - ؛ لأن الصلوات الخمس تكفر الذنوب والخطايا ، كما قَالَ تعالى : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ( [ هود : 114 ] ، فإقامة الصلوات المفروضات عَلَى وجهها يوجب مباعدة الذنوب ، ويوجب - أَيْضاً - إنقاءها وتطهيرها ؛ فإن
( ( مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار ، يغتسل فِيهِ كل يوم(4/343)
"""""" صفحة رقم 344 """"""
خمس مرات ) ) وقد تقدم الحَدِيْث فِي ذَلِكَ ، ويوجب - أَيْضاً - تبريد الحريق الَّذِي تكسبه الذنوب وإطفاءه .
وخرج الطبراني من حَدِيْث ابن مَسْعُود - مرفوعاً - : ( ( تحترقون [ تحترقون ] حَتَّى إذا صليتم الفجر غسلتها ، ثُمَّ تحترقون تحترقون حَتَّى إذا صليتم الظهر غسلتها ، ثُمَّ تحترقون تحترقون حَتَّى إذا صليتم العصر غسلتها ، ثُمَّ تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها ، ثُمَّ تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها ) ) .
وقد روي موقوفاً ، وَهُوَ أشبه .
وخرج - أَيْضاً - من حَدِيْث أَنَس - مرفوعاً - : ( ( إن الله ملكاً ينادي عِنْدَ كل صلاة ك يَا بني آدم ، قوموا إلى نيرانكم الَّتِيْ أوقدتموها عَلَى أنفسكم فأطفئوها ) ) .
وخرج الإسماعيلي من حَدِيْث عُمَر بْن الخَطَّاب - مرفوعاً - : ( ( يجرقون ، فإذا صلوا الصبح غسلت الصلاة مَا كَانَ قبلها ) ) حَتَّى ذكر الصلوات الخمس .
ولما كَانَتْ الصلاة صلة بَيْن العبد وربه ، وكان المصلي يناجي ربه ، وربه يقربه مِنْهُ ، لَمْ يصلح للدخول فِي الصلاة إلا من كَانَ طاهراً فِي ظاهره وباطنه ؛ ولذلك شرع للمصلي أن يتطهر بالماء ، فيكفر ذنوبه بالوضوء ، ثُمَّ يمشي إلى المساجد فيكفر ذنوبه بالمشي ، فإن بقي من ذنوبه شيء كفرته الصلاة .
قَالَ سُلَيْمَان الفارسي : الوضوء يكفر الجراحات الصغار ، والمشي إلى المسجد يكفر أكثر من ذَلِكَ ، والصلاة تكفر أكثر من ذَلِكَ .
خرجه مُحَمَّد بْن نصر المروزي وغيره .
فإذا قام المصلي بَيْن يدي ربه فِي الصلاة وشرع فِي مناجاته ، شرع لَهُ أول مَا(4/344)
"""""" صفحة رقم 345 """"""
يناجي ربه أن يسأل ربه أن يباعد بينه وبين مَا يوجب لَهُ البعد من ربه ، وَهُوَ الذنوب ، وأن يطهره مِنْهَا ؛ ليصلح حينئذ للتقريب والمناجاة ، فيستكمل فوائد الصلاة وثمراتها من المعرفة والأنس والمحبة والخشية ، فتصير صلاته ناهية لَهُ عَن الفحشاء والمنكر ، وهي الصلاة النافعة .
وقد روي ، أَنَّهُ ( كَانَ يستعيذ من صلاة لا تنفع .
خرجه أبو داود .
وخرجه البزار فِي ( ( مسنده ) ) بإسناد فِيهِ ضعف ، عَن سمرة بْن جندب ، أن رَسُول الله ( كَانَ يَقُول لنا : ( ( إذا صلى أحدكم فليقل : اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بيني وبين المشرق والمغرب ، اللهم إني أعوذ بك أن تصد عني وجهك يوم القيامة ، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس ، اللهم أحيني مسلماً وتوفني مسلماً ) ) .
وهذا حَدِيْث غريب .
والاستعاذة من الإعراض مناسبة لهذا المقام ؛ فإن المصلي قائم بَيْن يدي الله
لمناجاته ، فيحسن أن يستعيذ بِهِ من أن يعرض بوجهه عَنْهُ .
وفي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ جواز التفدية بالأبوين ، وفيه كلام يذكر فِي موضع آخر - إن شاء الله تعالى .
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ استدل بِهِ من يَقُول : إنه يستحب استفتاح [ الصلاة ] بذكر قَبْلَ الشروع فِي القراءة ، وَهُوَ قَوْلِ أكثر العلماء ، ثُمَّ اختلفوا :
فَقَالَ كثير منهم : يستحب استفتاح الصلاة بقول : ( ( سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك ) ) .(4/345)
"""""" صفحة رقم 346 """"""
صح هَذَا عَن عُمَر بْن الخَطَّاب ، روي عَنْهُ من وجوه كثيرة ، وعن ابن مَسْعُود ، وروي عَن أَبِي بَكْر الصديق وعثمان بْن عَفَّانَ ، وعن الْحَسَن وقتادة والنخعي ، وَهُوَ قَوْلِ الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وابن المبارك وأحمد وإسحاق - فِي رِوَايَة .
وقد روي فِي ذَلِكَ أحاديث مرفوعة من وجوه متعددة ، أجودها : من حَدِيْث أَبِي سَعِيد وعائشة .
وَقَالَ الإمام أحمد : نذهب فِيهِ إلى حَدِيْث [ عُمَر ] ، وقد روي فِيهِ من وجوه ليست بذاك - فذكر حَدِيْث عَائِشَة وأبي هُرَيْرَةَ .
فصرح بأن الأحاديث المرفوعة ليست قوية ، وأن الاعتماد عَلَى الموقوف عَن الصَّحَابَة ؛ لصحة مَا روي عَن عُمَر .
وروي عَن أَبِي إِسْحَاق ، عَن عَبْد الله بْن أَبِي الخليل ، قالَ : سَمِعْت علياً حِينَ افتتح الصلاة قَالَ : لا إله إلا أنت سبحانك إني قَدْ ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، فاغفر ذنوبي ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت .
وروي عَن ابن عُمَر ، أَنَّهُ افتتح الصلاة ، فَقَالَ : الله أكبر كبيراً ، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلاً ، اللهم اجعلك أحب شيء إلي ، واخشى شيء عندي . وذهب طائفة إلى الاستفتاح بقول : ( ( وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً ) ) - الآيات ، وما بعده من الدعاء .
وقد خرجه مُسْلِم من حَدِيْث عَلِيّ بْن أَبِي طالب ، أن النَّبِيّ ( كَانَ(4/346)
"""""" صفحة رقم 347 """"""
يستفتح بذلك ، خرجه فِي ( ( أبواب : صلاة الليل ) ) .
وخرجه الترمذي ، وعنده : أن النَّبِيّ ( كَانَ يستفتح بِهِ فِي الصلاة المكتوبة .
وفي إسناده مقال .
وخرجه الطبراني من وجه آخر كذلك .
وخرجه النسائي من رِوَايَة مُحَمَّد بْن مسلمة ، أن النَّبِيّ ( كَانَ إذا قام يصلي تطوعاً يَقُول ذَلِكَ .
وممن ذهب إلى الاستفتاح بهذا : الشَّافِعِيّ وأصحابه وإسحاق - فِي رِوَايَة .
وروي عَن عَلِيّ ، أَنَّهُ كَانَ يستفتح بِهِ من وجه منقطع .
وظاهر كلام الشَّافِعِيّ وبعض أصحابه : أَنَّهُ يستفتح بِهِ كله الإمام وغيره .
وَقَالَ كثير من أصحابه : يقتصر الإمام عَلَى قوله : ( ( وأنا من المُسْلِمِين ) ) .
وقالت طائفة : يجمع بَيْن قوله : ( ( سبحانك اللهم وبحمدك ) ) وقوله : ( ( وجهت وجهي ) ) .
وَهُوَ قَوْلِ أَبِي يوسف وإسحاق - فِي رِوَايَة - وطائفة من الشافعية ، ومنهم : أبو إِسْحَاق المروزي ، وطائفة قليلة من أصحابنا .
وقد ورد فِي الجمع بَيْنَهُمَا أحاديث غير قوية الأسانيد .
وكل هَذَا عَلَى وجه الاستحباب ، فلو لَمْ يستفتح الصلاة بذكر ، بل بدأ بالقراءة صحت صلاته ، ولو استفتح بشيء مِمَّا ورد حصلت بِهِ سَنَة الاستفتاح عِنْدَ الإمام أحمد وغيره من العلماء ، ولو كَانَ الأفضل عِنْدَ بعضهم غيره .(4/347)
"""""" صفحة رقم 348 """"""
وَقَالَ أحمد فِي رِوَايَة الميموني : مَا أحسن حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الاستفتاح - يعني : الحَدِيْث الَّذِي خرجه البخاري هاهنا - فَقِيلَ لَهُ : فإن بعض النَّاس يَقُول : هَذَا كلام ؟ فَقَالَ - متعجباً - : وهل الدعاء إلا كلام فِي الصلاة ويجوز .
والمنكر لهذا هُوَ من يَقُول من الكوفيين : إنه لا يجوز الدعاء فِي الصلاة إلا بلفظ القرآن ، فأما الثناء عَلَى الله فمتفق عَلَى جوازه فِي الصلاة .
وهذا مِمَّا يرجح بِهِ الاستفتاح ب ( ( سبحانك اللهم وبحمدك ) ) ؛ لاشتماله عَلَى أفضل الكلام ، فإنه إذا جمع مَعَ التكبير صار متضمناً لقول : ( ( سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ) ) ، وقد قَالَ النَّبِيّ ( فيهن : ( ( إنهن أفضل الكلام بعد القرآن ) ) .
وذهبت طائفة قليلة : إلى أن من ترك الاستفتاح عمداً أعاد صلاته ، منهم : ابن بطة وغيره من أصحابنا ، وربما حكي رِوَايَة عَن أحمد .
وَقَالَ الحكم : إذا قَالَ : سبحان الله حِينَ يفتتح الصلاة والحمد لله أجزأه .
وهذا يشعر بوجوبه .
وَقَالَ إِسْحَاق : إن تركه عمداً فهو مسيء ، ولا يتبين لِي إيجاب الإعادة ؛ لما ذكر فِي غير حَدِيْث ، أن النَّبِيّ ( كَانَ إذا كبر قرأ فاتحة الكتاب .
وحكي الترمذي عَن بعض أهل الكوفة : أن حَدِيْث عَلِيّ بْن أَبِي طالب يعمل بِهِ فِي التطوع دون الفريضة .
وكذلك خرجه مُسْلِم فِي ( ( أبواب قيام الليل ) ) .
وَقَالَ أحمد - فِي رِوَايَة ابن منصور - : أنا أذهب إلى قَوْلِ ابن عُمَر ، وإن قَالَ كما روي عَن النَّبِيّ ( فلا بأس ، وعامة مَا قَالَ فِي صلاة الليل .(4/348)
"""""" صفحة رقم 349 """"""
وَقَالَ الوليد بْن مُسْلِم : ذكرت ذَلِكَ لسعيد بْن عَبْد العزيز ، فأخبرني عَن المشيخة ، أنهم كانوا يقولون : هؤلاء الكلمات حِينَ يقبلون بوجوههم إلى القبلة ، قَبْلَ تكبيرة الاستفتاح - يعني : ( ( وجهت وجهي ) ) - قَالَ : ثُمَّ يتبعون تكبيرة الاستفتاح ب ( ( سبحانك وبحمدك ) ) إلى آخره .
وذهب مَالِك إلى أَنَّهُ لا يشرع الاستفتاح فِي الصلاة ، بل يتبع التكبير بقراءة الفاتحة .
وحكاه الإمام أحمد - فِي رِوَايَة حَنْبل - عَن ابن مَسْعُود وأصحابه .
وهذا غريب .
واستدل لمن ذهب إلى هَذَا القول بظاهر حَدِيْث أَنَس الَّذِي خرجه البخاري هاهنا فِي أول الباب .
وقد تقدم عَن إِسْحَاق ، أَنَّهُ استدل بِهِ عَلَى أن الاستفتاح غير واجب .
وحمله آخرون عَلَى أن النَّبِيّ ( كَانَ يتركه أحياناً ؛ ليبين أَنَّهُ غير واجب .
وحمله آخرون عَلَى أن المراد بِهِ : أن النَّبِيّ ( كَانَ يبدأ بقراءة الفاتحة قَبْلَ السورة ، ولم يرد بِهِ نفي الاستفتاح والتعوذ ، فالمراد بِهِ - حينئذ - استفتاح قراءة الصلاة بالفاتحة .
وعلى هَذَا حمله الشَّافِعِيّ وأصحابه .
ويدل عَلِيهِ : أن الترمذي خرج هَذَا الحَدِيْث من رِوَايَة أَبِي عوانة ، عَن قتادة ، عَن أَنَس ، قَالَ : كَانَ رَسُول الله ( وأبو بَكْر وعمر وعثمان يفتتحون القراءة ب
( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ، ولو كَانَتْ رِوَايَة شعبة الَّتِيْ خرجها البخاري عَلَى ظاهرها فِي افتتاح الصلاة لذلت عَلَى أن الصلاة تفتتح بكلمة : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( دون التكبير ، ولم يقل أحد : إن هَذَا هُوَ المراد من(4/349)
"""""" صفحة رقم 350 """"""
هَذَا الحَدِيْث .
وَقَالَ آخرون : المراد من حَدِيْث أَنَس : أن القراءة فِي الصلاة الجهرية تفتتح بكلمة ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ( دون البسملة .
واستدلوا لذلك بما خرجه مُسْلِم فِي ( ( صحيحه ) ) من طريق غندر ، عَن شعبة ، قَالَ : سَمِعْت قتادة يحدث ، عَن أَنَس ، قَالَ : صليت مَعَ رَسُول الله ( وأبي بَكْر وعمر وعثمان فَلَمْ أسمع أحداً منهم يقرأ ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
وخرجه - أَيْضاً - من طريق أَبِي داود ، عَن شعبة ، وزاد : قَالَ شعبة : فَقُلْت لقتادة : أسمعته من أنس ؟ قَالَ : نَعَمْ ، نحن سألناه عَنْهُ .
ففي هذه الرواية : تصريح قتادة بسماعه لَهُ من أَنَس ، فبطل بذلك [ تخيل ] من أعل الحَدِيْث بتدليس قتادة .
وخرجه مُسْلِم - أَيْضاً - من طريق الأوزاعي ، عَن عبدة ، أن عُمَر بْن الخَطَّاب كَانَ يجهر بهؤلاء الكلمات ، يَقُول : سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك .
وعن قتادة ، أَنَّهُ كتب إليه يخبره عَن أَنَس بْن مَالِك ، أَنَّهُ حدثه ، قَالَ : صليت خلف النَّبِيّ ( وأبي بَكْر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون ب ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( لا يذكرون ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) ، لا فِي أول قراءة ولا آخرها .
وعن الأوزاعي ، قَالَ : أخبرني إِسْحَاق بْن عَبْد الله بْن أَبِي طلحة ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَس بْن مَالِك يذكر ذَلِكَ .(4/350)
"""""" صفحة رقم 351 """"""
فهذه الرواية صحيحة ، متصلة الإسناد بالسماع المُتَّصِل عَن قتادة ، وإسحاق عَن أَنَس .
وقد روي حَدِيْث شعبة ، عَن قتادة بالفاظ آخر .
فرواه وكيع ، عَن شعبة ، عَن قتادة ، عَن أَنَس ، قَالَ : صليت خلف النَّبِيّ ( ، وخلف أَبِي بَكْر وعمر وعثمان ، فكانوا لا يجهرون ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
خرجه الإمام أحمد ، عَن وكيع .
وخرجه الدارقطني من طرق ، عَن شعبة - بنحوه .
ومن طريق شيبان وهمام عَن قتادة - أَيْضاً - بنحوه .
ومن طريق زيد بْن الحباب ، عَن شعبة ، وَقَالَ فِي حديثه : فَلَمْ أسمع حد منهم يجهر ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
وكذا رواه سَعِيد بْن أَبِي عروبة وحجاج ، عَن قتادة ، عَن أَنَس .
وخرجه النسائي من رِوَايَة سَعِيد بْن أَبِي عروبة وشعبة ، كلاهما عَن قتادة ، ولفظه : فَلَمْ أسمع أحداً منهم يجهر بِهَا .
وخرجه أبو يعلى الموصلي من طريق غندر ، عَن شعبة ، ولفظه : لَمْ يكونوا يستفتحون الصلاة ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) . قُلتُ لقتادة : أسمعته من أَنَس ؟ قَالَ : نَعَمْ ، ونحن سألناه عَنْهُ .(4/351)
"""""" صفحة رقم 352 """"""
ورواه الأعمش ، عَن شعبة ، فَقَالَ : عَن ثابت ، عَن أَنَس - بنحو هَذَا اللفظ .
وأخطأ فر قوله : ( ( ثابت ) ) ، إنما هُوَ : ( ( عَن قتادة ) ) - : قاله أبو حاتم الرَّازِي والترمذي فِي ( ( كِتَاب العلل ) ) .
وقيل : إن الخطأ من عمار بْن رزيق ، رِوَايَة عَن الأعمش .
وقد روي عَن شعبة ، عَن قتادة وحميد وثابت ، عَن أنس من وجه آخر فِيهِ نظر .
ورواه يزيد بْن هارون ، عَن حماد ، عَن قتادة وثابت ، عَن أَنَس .
وخرجه الإمام أحمد عَن أَبِي كامل ، عَن حماد بْن سَلَمَة ، عَن ثابت وقتادة وحميد ، عَن أَنَس ، أن النَّبِيّ ( وأبا بَكْر وعمر كانوا يفتتحون القراءة ب ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( .
ورواه حماد بْن سَلَمَة فِي ( ( كتابه ) ) كذلك ، [ إلا ] أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يذكر حميد فِي روايته : النَّبِيّ ( .
يعني : أن حميداً وحده وقفه ، ولم يرفعه .
وقد رواه مَالِك فِي ( ( الموطإ ) ) عَن حميد ، عَن أَنَس ، قَالَ : قمت وراء أَبِي بَكْر وعمر وعثمان ، فكلهم لا يقرأ : ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) إذا افتتح الصلاة .
وقد رفعه عَن مَالِك الوليد بْن مُسْلِم وأبو قرة الزبيدي وإسماعيل بْن موسى(4/352)
"""""" صفحة رقم 353 """"""
السدي وابن وهب - من رِوَايَة ابن أخيه عَنْهُ .
والصحيح عَن مَالِك : ليس فِيهِ ذكر النَّبِيّ ( ، وكذا الصحيح عَن حميد .
قَالَ أحمد : حميد لَمْ يرفعه .
وذكر الدارقطني جماعة رووه عَن حميد ورفعوه ، منهم : معمر وابن عُيَيْنَة والثقفي وأبو بَكْر بْن عياش ومروان بْن معاوية وغيرهم .
ثُمَّ قَالَ : والمحفوظ : أن حميداً رواه عَن أَنَس ، وشك فِي رفعه ، وأخذه عَن قتادة ، عَن أنس مرفوعاً .
وخرج النسائي من رِوَايَة أَبِي حَمْزَة ، عَن منصور بْن زاذان ، عَن أَنَس ، قَالَ : صلى بنا رَسُول الله ( فَلَمْ يسمعنا قراءة ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) ، وصلى بنا أبو بَكْر وعمر فَلَمْ نسمعها منهما .
وروى مُحَمَّد بْن أَبِي السري ، عَن معتمر بْن سُلَيْمَان ، عَن أَبِيه ، عَن الْحَسَن ، عَن أَنَس ، أن النَّبِيّ ( كَانَ يسر ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) وأبو بَكْر وعمر .
خرجه الطبراني .
وروي من وجه آخر ، عَن الْحَسَن ، عَن أَنَس .
وروي عَن أَنَس من وجوه أخر ، مِنْهَا : عَن أَبِي قلابة وثمامة وعائذ بْن شريح وغيرهم .
وقد اعترض طائفة من العلماء عَلَى هَذَا ، بأن حَدِيْث أَنَس اختلفت ألفاظه ، والمحفوظ من ذَلِكَ رِوَايَة من قَالَ : كَانَ يفتتح الصلاة - أو القراءة -(4/353)
"""""" صفحة رقم 354 """"""
ب ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ، كما هِيَ الرواية الَّتِيْ خرجها البخاري ، وهذه الرواية تحتمل أن المراد : افتتاح القراءة بقراءة سورة الفاتحة دون غيرها من السور .
وزعم الدارقطني : أن عامة أصْحَاب قتادة رووه عَنْهُ كذلك ، منهم : أيوب وحميد ، وأنه المحفوظ عَن قتادة وغيره ، عَن أَنَس .
وكذلك رواه جماعة عَن شعبة كما خرجه البخاري ، عَن أَبِي عُمَر الحوضي ، عَنْهُ ، كذا رواه يَحْيَى القطان ويزيد بْن هارون ، عَن شعبة .
وكذلك ذكر الشَّافِعِيّ : أن أصْحَاب حميد خالفوا مالكاً فِي لفظ حديثه الَّذِي خرجه فِي ( ( الموطإ ) ) ، وقالوا : كانوا يفتتحون قراءتهم ب ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ( وذكر منهم سبعة أو ثمانية ، منهم : ابن عُيَيْنَة والفزاري والثقفي .
والجواب عَن ذَلِكَ : أن مَا ذكروه من اخْتِلاَف ألفاظ الرواية يدل عَلَى أنهم كانوا يروون الحَدِيْث بالمعنى ، ولا يراعون اللفظ ، فإذا كَانَ أحد الألفاظ محتملاً ، والآخر صريحاً لا احتمال فِيهِ ، علم أنهم أرادوا باللفظ المحتمل هُوَ مَا دل عَلَيْهَا اللفظ الصريح الَّذِي لا احتمال فِيهِ ، وأن معناهما عندهم واحد ، وإلا لكان الرواة قَدْ رووا الحَدِيْث الواحد بألفاظ مختلفة متناقضة ، ولا يظن ذَلِكَ بهم مَعَ علمهم وفقههم وعدالتهم وورعهم .
لا سيما وبعضهم قَدْ زاد فِي الحَدِيْث زيادة تنفي كل احتمال وشك ، وهي عدم ذكر قراءة البسملة فِي القراءة ، وهذه زيادة من ثقات عدول حفاظ ، تقضي عَلَى كل لفظ محتمل ، فكيف لا تقبل ؟ لا سيما وممن زاد هذه الزيادة الأوزاعي فقيه أهل الشام وإمامهم وعالمهم ، مَعَ مَا اشتهر من بلاغته وفصاحته وبلوغه الذروة العليا من ذَلِكَ .(4/354)
"""""" صفحة رقم 355 """"""
والذي رَوَى نفي قراءة البسملة من أصْحَاب حميد هُوَ مَالِك ، ومالك مَالِك فِي فقهه وعلمه وورعه وتحريه فِي الرواية ، فكيف ترد روايته المصرحة بهذا المعنى برواية شيوخ ليسوا فقهاء لحديث حميد بلفظ محتمل ؟
فالواجب فِي هَذَا ونحوه : أن تجعل الرواية الصريحة مفسرة للرواية المحتملة ؛ فإن هَذَا من بَاب عرض المتشابه عَلَى المحكم ، فأما رد الروايات الصريحة للرواية المحتملة فغير جائز ، كما لا يجوز رد المحكم للمتشابه .
ومن زعم : أن ألفاظ الحَدِيْث متناقضة فلا يجوز الاحتجاج بِهِ فَقَدْ أبطل ، وخالف مَا عَلِيهِ أئمة الإسلام قديماً وحديثاً فِي الاحتجاج بهذا الحَدِيْث والعمل بِهِ .
وأيضاً ؛ فأي فائدة فِي رِوَايَة أَنَس أو غيره : أن القراءة تفتتح بفاتحة الكتاب ، فتقرأ الفاتحة قَبْلَ السورة ، وهذا أمر معلوم من عمل الأمة ، لَمْ يخالف فِيهِ منهم أحد ، ولا اختلف فِيهِ اثنان ، لا يحتاج إلى الإخبار بِهِ ، كما أن أحداً من الصَّحَابَة لَمْ يرو فِي أمور الصلاة مَا كَانَ مقرراً عِنْدَ الأمة ، لا يحتاج إلى الإخبار بِهِ ، مثل عدد الركعات بعد استقرارها أربعاً ، ومثل الجهر فيما يجهر بِهِ والإسرار فيما يسر ، ونحو ذَلِكَ مِمَّا لا فائدة فِي الإخبار بِهِ .
فكذلك ابتداء القراءة بالفاتحة ، لا يحتاج إلى الإخبار بِهِ ، ولا إلى السؤال عَنْهُ ، وقد كَانَ أَنَس يسأل عَن هَذَا - كما قَالَ قتادة : نحن سألناه عَنْهُ ، وقد تقدم - وكان يَقُول - أحياناً - : مَا سألني عَن هَذَا أحد .
وروي عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : مَا أحفظه .
وهذا يدل عَلَى أَنَّهُ مِمَّا يخفى عَلَى السائل والمسئول ، ولو كَانَ السؤال عَن الابتداء بقراءة الفاتحة لَمْ يخف عَلَى سائل ولا مسئول عَنْهُ .
فخرج الإمام أحمد من طريق شعبة : قَالَ قتادة : سألت أَنَس بْن مَالِك :(4/355)
"""""" صفحة رقم 356 """"""
بأي شيء كَانَ رَسُول الله ( يستفتح القراءة ؟ قَالَ : إنك لتسألني عَن شيء مَا سألني عَنْهُ أحد .
ومن طريق سَعِيد ، عَن قتادة ، قَالَ : قُلتُ لأنس - فذكره .
قَالَ : وحدثنا إِسْمَاعِيل - يعني : ابن علية - : ثنا سَعِيد بْن يزيد : أنا قتادة - أبو مسلمة - ، قَالَ : قُلتُ لأنس .
قَالَ أحمد : وحدثنا غسان بْن مضر ، عَن أَبِي مسلمة سَعِيد بْن يزيد ، قَالَ : سألت أَنَس بْن مَالِك : أكان رَسُول الله ( يقرأ ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) أو
( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ؟ فَقَالَ : إنك تسألني عَن شيء مَا أحفظه ، أو مَا سألني عَنْهُ أحد قبلك .
وخرجه من هَذَا الوجه ابن خزيمة والدارقطني ، وصحح إسناده .
وقد ذكرنا أَنَّهُ مختلف فِيهِ ، وعلى تقدير أن يكون محفوظاً ، فالمراد : هَلْ كَانَ يقرأ البسملة فِي نفسه ، أم لا ؟ فَلَمْ يكن عنده مِنْهُ علم ؛ لأنه لَمْ يسمع قراءتها ، فلا يدري : هَلْ كَانَ يسرها ، أم لا ؟
وأيضاً ؛ فَقَدْ شك الرَّاوي : هَلْ قَالَ : ( ( لا أحفظه ) ) ، أو ( ( مَا سألني عَنْهُ أحد قبلك ) ) ، فالظاهر : أَنَّهُ إنما قَالَ : ( ( مَا سألني عَنْهُ أحد قبلك ) ) ، كما رواه شعبة وغيره عَن قتادة ، كما تقدم .
وعلى تقدير : أن يكون قَالَ : ( ( مَا أحفظه ) ) ، فيجوز أن يكون نسي مَا أخبر بِهِ(4/356)
"""""" صفحة رقم 357 """"""
قتادة وغيره من قَبْلَ ذَلِكَ ، ويكون قَالَ ذَلِكَ عِنْدَ كبره وبعد عهده بما سئل عَنْهُ .
قَالَ ابن عَبْد البر : من حفظ عَنْهُ حجة عَلَى من سأله فِي حال نسيانه . والله
أعلم .
فإن قيل : فَقَدْ رَوَى الأوزاعي ، عَن إِسْحَاق بْن عَبْد الله بْن أَبِي طلحة ، عَن أَنَس ، أن النَّبِيّ ( وأبا بَكْر وعمر وعثمان كانوا يستفتحون بأم القرآن ، فيما يجهر فِيهِ .
خرجه ابن جوصة والدارقطني .
وهذا صريح فِي أن المراد ابتداء القراءة بفاتحة الكتاب .
قيل : ليس المراد الإخبار بأنهم كانوا يقرءون أم القرآن قَبْلَ سور سواها ؛ فإن هذه لا فائدة فِيهِ إنما المراد : أنهم كانوا لا يقرءون قَبْلَ أم القرآن شيئاً يجهرون بِهِ فِي الصلاة ، فتدخل فِي ذَلِكَ البسملة ؛ فإنها ليست من أم القرآن .
ويدل على هَذَا شيئان :
أحدهما : أن رِوَايَة الأوزاعي الَّتِيْ فِي ( ( صحيح مُسْلِم ) ) : لا يذكرون ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) فِي أول قراءة ولا آخرها .
والأوزاعي إمام فقيه عندما يروي ، فرواياته كلها متفقة .
والثاني : أن الأوزاعي كَانَ يأخذ بهذا الحَدِيْث الَّذِي رواه ، ولا يرى قراءة البسملة قَبْلَ الفاتحة من أولا جهراً ، وسنذكر قوله فِي ذَلِكَ فيما بعد - إن شاء الله ( .
وقد عارض بعضهم حَدِيْث أَنَس هَذَا بما خرجه البخاري فِي ( ( فضل(4/357)
"""""" صفحة رقم 358 """"""
القرآن ) ) من ( ( صحيحه ) ) هَذَا : حَدَّثَنَا عَمْرِو بْن عاصم : ثنا همام ، عَن قتادة ، قَالَ : سئل أَنَس : كَيْفَ كَانَتْ قراءة رَسُول الله ( ؟ قَالَ : كَانَتْ مداً ، ثُمَّ قرأ : ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) ، يمد ب ( ( بسم الله ) ) ، ويمد ب ( ( الرحمن ) ) ويمد ب ( ( الرحيم ) ) .
وخرجه - أَيْضاً - من طريق جرير بْن حَازِم ، عَن قتادة - إلى قوله : ( ( مداً ) ) ، ولم يذكر : ( ( ثُمَّ قرأ ) ) وما بعده .
وقد ذكر ابن أَبِي خيثمة فِي ( ( كتابه ) ) : أن يَحْيَى بْن معين سئل عَن حَدِيْث جرير هَذَا ، فَقَالَ : ليس بشيء .
قُلتُ : وروايات جرير بْن حَازِم عَنْ قتادة فيها مناكير - : قاله الإمام أحمد ويحيى وغير واحد .
وقد تابعه عَلَى هَذَا : همام .
قَالَ : وروي عَن قتادة مرسلاً ، وَهُوَ أشبه - : ذكره فِي ( ( العلل ) ) .
قُلتُ : وقد روي بإسناد فِيهِ لين ، عَن حرب بْن شداد ، عَن قتادة ، قَالَ : سألت أَنَس بْن مَالِك : كَيْفَ كَانَتْ قراءة النَّبِيّ ( ؟ قَالَ : كَانَ إذا قرأ مد صوته مداً .
خرجه الطبراني .
وفي الجملة ؛ فتفرد عَمْرِو بْن عاصم عَن همام بذكر البسملة فِي هَذَا الحَدِيْث .
وقد روي عَن شعبة ، عَن همام بدون هذه الزيادة .
خرجه أبو الحسين بن المظفر فِي ( ( غرائب شعبة ) ) .(4/358)
"""""" صفحة رقم 359 """"""
وعلى تقدير أن تكون محفوظة ، فليس فِي الحَدِيْث التصريح بقراءته فِي الصلاة ، فَقَدْ يكون وصف قراءته فِي غير الصلاة ، ويحتمل - وَهُوَ أشبه - : أن يكون أَنَس أو قتادة قرأ : ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) عَلَى هَذَا الوجه ، وأراد تمثيل قراءته بالمد ، ولم يرد بِهِ حكاية عين قراءته للبسملة .
ويشهد بهذا : مَا خرجه أبو داود من حَدِيْث ابن جُرَيْج ، عَن ابن أَبِي مليكة ، عَن أم سَلَمَة ، ذكرت قراءة رَسُول الله ( : ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) . ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ( ، يقطع قراءته آية آية .
وخرجه الترمذي ولم يذكر فِي أوله البسملة ، وزاد : وكان يقرأها ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ( .
وقراءة هذه الآيات عَلَى هَذَا الوجه إنما هُوَ من حكاية ابن جُرَيْج لحديث أم سَلَمَة ، وقولها : كَانَ النَّبِيّ ( يقطع قراءته آية آية ، كذلك قاله النسائي وأبو داود السجستاني ، حكاه عنهما أبو بَكْر بْن أَبِي داود فِي كتابه ( ( المصاحف ) ) .
وكذا قَالَ الإمام أحمد فِي رِوَايَة ابن الْقَاسِم ، وقالوا : ابن جُرَيْج هُوَ الَّذِي قرأ
( ملِكِ ( ، وليس ذَلِكَ فِي حَدِيْث أم سَلَمَة .
يدل على صحة هَذَا : مَا خرجه الإمام أحمد من طريق نَافِع ، عَن ابن أَبِي مليكة ، عَن بعض أزواج النَّبِيّ ( - قَالَ نَافِع : أراها حَفْصَةَ - ، أنها سئلت عَن قراءة النَّبِيّ ( ؟ فَقَالَتْ : إنكم لا تستطيعونها ، فَقِيلَ : أخبرينا بِهَا ، فقرأت(4/359)
"""""" صفحة رقم 360 """"""
قراءة ترسلت فيها . قَالَ نَافِع : فحكى لنا ابن أَبِي مليكة : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ، ثُمَّ قطع ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( ، ثُمَّ قطع ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ( .
ففي هذه الرواية : تصريح ابن جُرَيْج بأن هذه القراءة إنما هِيَ حكاية مَا قرأ لهم ابن أَبِي مليكة .
وفي لفظ الحَدِيْث اختلاف فِي ذكر البسملة وإسقاطها .
وفي إسناده - أَيْضاً - اخْتِلاَف ؛ فَقَدْ أدخل الليث بْن سعد فِي روايته عَن ابن أَبِي مليكة بينه وبين أم سليمة : يعلى بْن مملك ، وصحح روايته الترمذي وغيره .
وَقَالَ النسائي فِي يعلى هَذَا : ليس بمشهور .
وَقَالَ بعضهم : عَن يعلى ، عَن عَائِشَة .
وقد ذكر الاختلاف فِيهِ الدارقطني فِي ( ( علله ) ) ، وذكر أن عُمَر بْن هارون زاد فِيهِ : عَن ابن جُرَيْج ، وعد : ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) آية .
وعمر بْن هارون ، لا يلتفت إلى تفرد بِهِ .
وقد يكون ابن جُرَيْج عدها آية - أو ابن أَبِي مليكة .
ومن زعم : أَنَّهُ صحيح ؛ لتخريج ابن خزيمة لَهُ ، فَقَدْ وهم .
ومن زعم من متقدمي الفقهاء أن حفص بْن غياث رواه عَن ابن جُرَيْج كذلك وأنه أخبره بِهِ عَنْهُ غير واحد ، فَقَدْ وهم ، ورواه بالمعنى الَّذِي فهمه هُوَ ، وَهُوَ وأمثاله من الفقهاء يروون بالمعنى الَّذِي يفهمونه ، فيغيرون معنى الحَدِيْث .
وحديث حفص مشهور ، مخرج فِي المسانيد والسنن باللفظ المشهور .
وقد ادعى طائفة : أن حَدِيْث قتادة وإسحاق بْن أَبِي طلحة ومن تابعهما عَن أَنَس كما تقدم معارض بروايات أخر عَن أَنَس ، تدل عَلَى الجهر بالبسملة ، فإما أن(4/360)
"""""" صفحة رقم 361 """"""
تتعارض الروايات وتسقط ، أو ترجح رِوَايَة الجهر ؛ لأن الإثبات مقدم عَلَى النفي .
فروى الشَّافِعِيّ : نا عَبْد المجيد بْن عَبْد العزيز ، عَن ابن جُرَيْج ، قَالَ : أخبرني عَبْد الله بْن عُثْمَان بْن خثيم ، أن أَبَا بَكْر بْن حفص بْن عُمَر أخبره ، أن أنس بْن مَالِك قَالَ : صلى معاوية بالمدينة صلاة ، فجهر فيها بالقراءة ، فقرأ : ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) لأم القرآن ، ولم يقرأ بِهَا للسورة الَّتِيْ بعدها حَتَّى قضى تلك القراءة ، ولم يكبر حَتَّى قضى تلك ، فلما سلم ناداه من شهد ذَلِكَ من المهاجرين من كل مكان : يَا معاوية : أسرقت الصلاة ، أم نسيت ؟ فلما صلى بعد ذَلِكَ قرأ ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) للسورة الَّتِيْ بعد أم القرآن ، وكبر حِينَ يهوي ساجداً .
ورواه عَبْد الرزاق عَن ابن جُرَيْج بهذا الإسناد ، وَقَالَ فِيهِ : فَلَمْ يقرأ ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) لأم القرآن ، ولم يقرأ بِهَا للسورة التي بعدها .
وخرجه الشافعي - أيضا - عن إبراهيم بن محمد - هو : ابن أبي يحيى - : حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة ، عن أبيه ، أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ، ولم يقرأ : ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) ، ولم يكبر إذا رفع .
ورواه - أَيْضاً - عَن يَحْيَى بْن سليم ، عَن عَبْد الله بْن عُثْمَان بْن خثيم ، عَن إِسْمَاعِيل بْن عُبَيْدِ بن رِفَاعَة ، عَن أَبِيه - فذكر بنحوه .
قَالَ الشَّافِعِيّ : وأحسب هَذَا الإسناد أحفظ من الإسناد الأول .
قَالَ البيهقي : ورواه إِسْمَاعِيل بْن عياش ، عَن ابن خثيم ، عَن إِسْمَاعِيل(4/361)
"""""" صفحة رقم 362 """"""
ابن عُبَيْدِ بْن رِفَاعَة ، عن أبيه ، عَن جده ، أن معاوية قدم المدينة .
قَالَ : ويحتمل أن يكون ابن خثيم سمعه منهما ، والله أعلم . انتهى .
فعلى طريقة الشَّافِعِيّ فِي ترجيح الإسناد الثاني عَلَى الحَدِيْث ، ليس هَذَا الحَدِيْث من رِوَايَة أَنَس بْن مَالِك بالكلية ، فلا يكون معارضاً لروايات أَنَس الصحيحة الثابته .
وعلى التقدير الآخر ، فليس هَذَا الحَدِيْث مرفوعاً ، وإنما فِيهِ إنكار من كَانَ حاضراً تلك الصلاة من المهاجرين ، وإنما حضر ذَلِكَ قليل منهم ؛ فإن أكابرهم توفوا قَبْلَ ذَلِكَ ، فغاية هَذَا : أن يكون موقوفاً عَلَى جماعة من الصَّحَابَة ، فكيف ترد بِهِ الرواية المرفوعة ، وليس فِيهِ تصريح بإنكار ترك الجهر بالبسملة ، بل يحتمل أنهم إنما أنكروا قراءتها فِي الجملة ، وذلك محتمل بأن يكون معاوية وصل تكبيرة الإحرام بقراءة ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( من غير سكوت بَيْنَهُمَا يتسع للبسملة ، ثُمَّ وصل الفاتحة بقراءة سورة من غير سكوت يتسع للبسملة .
ورواية ابن جُرَيْج صريحة فِي أن معاوية لَمْ يقرأ البسملة مَعَ الفاتحة - أَيْضاً - ، فيدل هَذَا عَلَى اتفاقهم عَلَى أن البسملة ليست من الفاتحة ، وإلا لأمروه بإعادة الصلاة ، أو لأعادوا هم صلاتهم خلفه .
وبكل حال ؛ المضطرب إسناده وألفاظه لا يجوز أن يكون معارضاً لأحاديث أَنَس الصحيحة الصريحة .
وقد تفرد بهذا الحَدِيْث عَبْد الله بْن عُثْمَان بْن خثيم ، وليس بالقوي ؛ ترك حديثه يَحْيَى القطان وابن مهدي .
ومن العجب ، قَوْلِ بعضهم : يكفي أن مسلماً خرج لَهُ ، مَعَ طعنه فِي حَدِيْث الأوزاعي الَّذِي خرجه مُسْلِم فِي ( ( صحيحه ) ) من حَدِيْث أنس المصرح بنفي قراءة البسملة .(4/362)
"""""" صفحة رقم 363 """"""
وقوله : إنه معلول غير ثابت ، بغير حجة ولا برهان ، نعوذ بالله من اتباع الهوى .
فإن قيل : فَقَدْ روي عَن أَنَس أحاديث صريحة فِي الجهر بالبسملة :
فروى حاتم بْن إِسْمَاعِيل ، عَن شريك بن عَبْد الله بن أَبِي نمر ، عَن أَنَس ، قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ ( يجهر ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
خرجه الحَاكِم فِي ( ( المستدرك ) ) من طريق أصبع بْن الفرج ، عَن حاتم ، بِهِ .
وَقَالَ : رواته ثقات .
قُلتُ : هَذَا لا يثبت ؛ فَقَدْ خرجه الدارقطني من طريق آخر عَن حاتم بْن
إِسْمَاعِيل ، عَن شريك بْن عَبْد الله ، عَن إِسْمَاعِيل المكي ، عَن قتادة ، عَن أَنَس - فذكره .
فتبين بهذه الرواية أَنَّهُ سقط من رِوَايَة الحَاكِم من إسناده رجلان : أحدهما إِسْمَاعِيل المكي ، وَهُوَ : ابن مُسْلِم ، متروك الحَدِيْث ، لا يجوز الاحتجاج بِهِ .
وخرج الدارقطني - أَيْضاً - من طريق معتمر بْن سُلَيْمَان ، عَن أَبِيه ، عَن أَنَس ، قَالَ : كَانَ النَّبِيّ ( يجهر ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
وفي إسناده مجاهيل لا يعرفون .
وخرج - أَيْضاً - بإسناد منقطع وجادة وجدها فِي كِتَاب عَن مُحَمَّد بْن المتوكل بْن أَبِي السري العسقلاني ، أَنَّهُ صلى خلف المعتمر بْن سُلَيْمَان ، فكان يجهر ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) ، وَقَالَ : إني مَا آلو أن اقتدي بصلاة المعتمر ، وَقَالَ أَنَس : مَا آلو أن اقتدي بصلاة رَسُول الله ( .(4/363)
"""""" صفحة رقم 364 """"""
وهذا لا يثبت ؛ لوجوه :
مِنْهَا : انقطاع أول إسناده .
ومنها : أَنَّهُ ليس فِيهِ تصريح برواية معتمر للجهر بالبسملة بهذا الإسناد ، وإنما فِيهِ اقتداء كلي فِي الصلاة ، ومثل هَذَا لا يثبت به نقل تفاصيل أحكام الصلاة الخاصة .
ومنها : أن المعتمر بْن سُلَيْمَان إنما كَانَ يروي حَدِيْث البسملة بإسناد آخر عَن إِسْمَاعِيل بْن حماد ، عَن أَبِي خَالِد ، عَن ابن عَبَّاس ، أن النَّبِيّ ( كَانَ يفتتح صلاته ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
خرجه من طريقه كذلك أبو داود ، وَقَالَ : هَذَا حَدِيْث ضَعِيف .
والترمذي ، وَقَالَ : إسناده ليس بذاك . وقال : إِسْمَاعِيل بْن حماد ، هُوَ : ابن أَبِي سُلَيْمَان ، وأبو خالد ، هُوَ : الوالبي ، كذا قَالَ .
وَقَالَ الإمام أحمد - فِي رِوَايَة حَنْبل - : إِسْمَاعِيل بْن حماد : ليس بِهِ بأس ، ولا أعرف أبا خَالِد - يعني : أَنَّهُ غير الوالبي .
كذا قَالَ العقيلي ، قَالَ : إِسْمَاعِيل بْن حماد بْن أَبِي سليمان حديثه غير محفوظ
- يعني : هَذَا الحَدِيْث - ، ويحكيه عَن مجهول كوفي .
وخرجه ابن عدي فِي ( ( كتابه ) ) من طريق معتمر ، كما خرجه أبو داود وغيره .
وخرج - أَيْضاً - من طريق آخر عَن معتمر ، قَالَ : سَمِعْت ابن حماد ، عَن عمران بْن خَالِد ، عَن ابن عَبَّاس .
ثُمَّ قَالَ : هَذَا الحَدِيْث لا يرويه غير معتمر ، وَهُوَ غير محفوظ ، سواء(4/364)
"""""" صفحة رقم 365 """"""
قَالَ : عَن أَبِي خَالِد ، أو عمران بْن خَالِد ؛ جميعاً مجهولان .
وَقَالَ ابن عَبْد البر : هَذَا الحَدِيْث - والله أعلم - إنه روي عَن ابن عَبَّاس من فعله لا مرفوعاً إلى النَّبِيّ ( .
ومنها : أن مُحَمَّد بْن المتوكل لَمْ يخرج لَهُ فِي ( ( الصحيح ) ) ، وقد تكلم فِيهِ أبو حاتم الرَّازِي وغيره ولينوه ، وَهُوَ كثير الوهم .
وقد روي عَنْهُ هَذَا الحَدِيْث عَلَى وجه آخر :
خرجه الطبراني عَن عَبْد الله بْن وهيب الغزي ، عَن مُحَمَّد بْن أَبِي السري ، عَن معتمر بْن سُلَيْمَان ، عَن أَبِيه ، عَن الْحَسَن ، عَن أَنَس ، أن النَّبِيّ ( كَانَ يسر ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) وأبو بَكْر وعمر .
فهذه الرواية المتصلة الإسناد أولى من تلك المنقطعة .
وأعجب من هَذَا : مَا خرجه الحَاكِم من طريق سيف بْن عَمْرِو أَبِي جابر ، عَن مُحَمَّد بْن أَبِي السري ، عَن إِسْمَاعِيل بْن أَبِي أويس ، عَن مَالِك ، عَن حميد ، عَن أَنَس ، قَالَ : صليت خلف النَّبِيّ ( وخلف أَبِي بَكْر وخلف عُمَر وخلف عُثْمَان وخلف عَلِيّ ، فكلهم كانوا يجهرون بقراءة ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
وتخريج هَذَا فِي ( ( المستدرك ) ) من المصائب ، ومن يخفى عَلِيهِ أن هَذَا كذب عَلَى مَالِك ، وأنه لَمْ يحدث بِهِ عَلَى هَذَا الوجه قط ؛ إنما رَوَى عَن حميد ، عَن أَنَس ، أن أَبَا بَكْر وعمر وعثمان كانوا لا يقرأون : ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .(4/365)
"""""" صفحة رقم 366 """"""
هكذا خرجه فِي ( ( الموطإ ) ) ، ورواه عَنْهُ جماعة ، وذكروا فِيهِ النَّبِيّ ( - أَيْضاً - وقد سبق ذكر ذَلِكَ .
فمن اتقى وأنصف علم أن حَدِيْث أنس الصحيح الثابت لا يدفع بمثل هذه المناكير والغرائب والشواذ الَّتِيْ لَمْ يرض بتخريجها أصْحَاب الصحاح ، ولا أهل السنن مَعَ تساهل بعضهم فيما يخرجه ، ولا أهل المسانيد المشهورة مَعَ تساهلهم فيما يخرجونه .
وإنما جمعت هذه الطرق الكثيرة الغريبة والمنكرة لما اعتنى بهذه المسألة من اعتنى بِهَا ، ودخل فِي ذَلِكَ نوع من الهوى والتعصب ، فإن أئمة الإسلام المجتمع عليهم إنما قصدوا اتباع مَا ظهر لهم من الحق وسنة رَسُول الله ( ، لَمْ يكن لهم قصد فِي غير ذَلِكَ ( ، ثُمَّ حدث بعدهم من كَانَ قصده أن تكون كلمة فلان وفلان هِيَ العليا ، ولم يكن ذَلِكَ قصد أولئك المتقدمين ، فجمعوا وكثروا الطرق والروايات الضعيفة والشاذة والمنكرة والغريبة ، وعامتها موقوفات رفعها من ليس بحافظ ، أو من هُوَ ضَعِيف لا يحتج بِهِ ، أو مرسلات وصلها من لا يحتج بِهِ ، مثلما وصل بعضهم مرسل الزُّهْرِيّ فِي هَذَا ، فجعله عَنْهُ ، عَن ابن المُسَيِّب ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، ووصله باطل قطعاً .
والعجب ممن يعلل الأحاديث الصحيحة المخرجة فِي ( ( الصحيح ) ) بعلل لا تساوي شيئاً ، إنما هِيَ تعنت محض ، ثُمَّ يحتج بمثل هذه الغرائب الشاذة المنكرة ، ويزعم أنها صحيحة لا علة لها .
وقد اعتنى بهذه المسألة وأفرادها بالتصنيف كثير من المُحَدِّثِين ، منهم : مُحَمَّد بْن نصر وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني وأبو بَكْر الخَطِيْب والبيهقي وابن عَبْد البر وغيرهم من المتأخرين .
ولولا خشية الإطالة لذكرنا كل حَدِيْث احتجوا بِهِ ، وبيان أَنَّهُ لا حجة فِيهِ(4/366)
"""""" صفحة رقم 367 """"""
عَلَى الجهر ؛ فإنها دائرة بَيْن أمرين : إما حَدِيْث صحيح غير صريح ، أو حَدِيْث صريح غير صحيح .
ومن أقوى مَا احتجوا بِهِ : حَدِيْث خَالِد بْن يزيد ، عَن سَعِيد بْن أَبِي هلال ، عَن نعيم المجمر ، أَنَّهُ صلى وراء أَبِي هُرَيْرَةَ ، فقرأ : ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) ، ثُمَّ قرأ بأم القرآن ، ثُمَّ قَالَ لما سلم : إني لأشبهكم صلاة برسول الله ( .
خرجه النسائي وابن خزيمة والحاكم وغيرهم .
وسعيد وخالد ، وإن كانا ثقتين ، لكن قَالَ أبو عُثْمَان البرذعي فِي ( ( علله عَن أَبِي زُرْعَة الرَّازِي ) ) ، أَنَّهُ قَالَ فيهما : ربما وقع فِي قلبي من حسن حديثهما .
قَالَ : وَقَالَ أبو حاتم : أخاف أن يكون بعضها مراسيل ، عَن ابن أبي فروة وابن سمعان .
يعني : مدلسة عنهما .
ثُمَّ هَذَا الحَدِيْث ليس بصريح فِي الجهر ، إنما فِيهِ أَنَّهُ قرأ البسملة ، وهذا يصدق بقراءتها سراً .
وقد خرجه النسائي فِي ( ( باب : ترك الجهر بالبسملة ) ) .
وعلى تقدير أن يكون جهر بِهَا ، فيحتمل أن يكون جهر بِهَا ليعلم النَّاس استحباب قراءتها فِي الصلاة ، كما جهر عُمَر بالتعوذ لذلك .
وأيضاً ؛ فإنه قَالَ : قرأ ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) ثُمَّ قرأ بأم القرآن ، وهذا دليل عَلَى أنها ليست من أم القرآن ، وإنما تقرأ قَبْلَ أم القرآن تبركاً بقراءتها .
وأيضاً ؛ فليس فِي الحَدِيْث تصريح بأن جميع مَا فعله أبو هُرَيْرَةَ فِي هذه(4/367)
"""""" صفحة رقم 368 """"""
الصلاة نقله صريحاً عَن النَّبِيّ ( ، وإنما فِيهِ أن صلاته أشبه بصلاة النَّبِيّ ( من غيره .
وخرج الدارقطني من حَدِيْث أَبِي أويس ، عَن العلاء ، عَن أَبِيه ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، كَانَ إذا أم النَّاس قرأ ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
وهذا مِمَّا تفرد بِهِ أبو أويس ، وقد تكلم فِيهِ ، وإن خرج لَهُ مُسْلِم ، ووثقه غير واحد .
وليس - أَيْضاً - بصريح فِي الجهر ، بل يحتمل أَنَّهُ كَانَ يقرأها سراً .
وقد روي بهذا الإسناد بعينة ، أن النَّبِيّ ( كَانَ لا يجهر بِهَا ، وسنذكره .
وخرج ابن عَبْد البر بهذا الإسناد : التصريح بالجهر بِهَا ، بإسناد فِيهِ النضر ابن سَلَمَة شاذان ، وَهُوَ متهم بالكذب .
وخرج الدارقطني - أَيْضاً - من رِوَايَة أَبِي بَكْر الحنفي ، عَن عَبْد الحميد بْن جَعْفَر ، عَن نوح بْن أَبِي بلال ، عَن سَعِيد المقبري ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( إذا قرأتم ( الْحَمْدُ ( فاقرءوا : بسم الله الرحمن الرحيم ؛ إنها أحد آياتها ) ) ، وذكر فِيهِ فضل الفاتحة . قَالَ الحنفي : لقيت نوحاً ، فحدثني عَن سَعِيد ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - بمثله ، ولم يرفعه .
وذكر الدارقطني فِي ( ( علله ) ) : أن وقفه أشبه بالصواب .
قُلتُ : ويدل عَلَى صحة قوله : أن ابن أَبِي ذئب رَوَى الحَدِيْث فِي فضل الفاتحة ، عَن المقبري ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعاً ، ولم يذكر فِيهِ : البسملة .
وروى إِبْرَاهِيْم بْن إِسْحَاق السراج ، عَن عقبة بْن مكرم ، عَن يونس بْن بكير : ثنا مِسْعَر ، عَن مُحَمَّد بْن قيس ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : كَانَ رَسُول الله(4/368)
"""""" صفحة رقم 369 """"""
( يجهر
ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
خرجه الدارقطني والحاكم .
وظن بعضهم أَنَّهُ إسناد صحيح ، وليس كذلك ؛ فإن السراج وهم فِي قوله فِي إسناده : ( ( حَدَّثَنَا مِسْعَر ) ) ، إنما هُوَ ( ( أبو معشر ) ) ، كذا قَالَ الدارقطني والخطيب ، وقبلهما أبو بَكْر الإسماعيلي فِي ( ( مسند مِسْعَر ) ) ، وحكاه عَن أَبِي بَكْر ابن عمير الحافظ .
وَقَالَ البيهقي : الصواب أبو معشر .
وأبو معشر ، وَهُوَ نجيح السندي ، ضَعِيف جداً .
وخرج الدارقطني وغيره من حَدِيْث حميد ، عَن الْحَسَن ، عَن سمرة ، قَالَ : كَانَتْ لرَسُول الله ( سكتتان : سكتة إذا قرأ ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) ، وسكتة إذا فرغ من القراءة ، فأنكر ذَلِكَ عمران بْن حصين ، فكتبوا إلى أَبِي بْن كعب ، فكتب : أن صدق سمرة .
ورواة هَذَا الحَدِيْث كلهم ثقات ، كما ذكره غير واحد ، لكن سماع الْحَسَن من سمرة مختلف فِيهِ .
وإن ثبت فهو دليل عَلَى الإسرار بالبسملة ، لا عَلَى الجهر ؛ لأنه صرح بأن سكتته الأولى كَانَتْ إذا قرأ البسملة ، ومراده : إذا أراد قراءتها ، فدل عَلَى أَنَّهُ كَانَ يقرأها فِي السكتة الأولى ، وإلا فلا يَقُول أحد : إن السنة أن يقرأ ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) جهزاً ، ثُمَّ يسكت بعد ذَلِكَ سكتة ، ثُمَّ يقرأ الفاتحة ، ولا نقل هَذَا أحد عَن النَّبِيّ ( ، ولا عَن أحد من أصحابه ، ولا قَالَ بِهِ قائل .
وقد رَوَى هَذَا الحَدِيْث قتادة ، عَن الْحَسَن ، عَن سمرة ، وفسر قتادة(4/369)
"""""" صفحة رقم 370 """"""
السكتتين : إذا دَخَلَ فِي الصلاة ، وإذا فرغ من القراءة .
وفي رِوَايَة قَالَ : سكتة إذا كبر ، وسكتة إذا فرغ .
خرجه أبو داود وغيره .
وخرج - أَيْضاً - من حَدِيْث يونس ، عَن الْحَسَن ، عَن سمرة ، قَالَ : حفظت سكتتين فِي الصلاة : سكتة إذا كبر الإمام حَتَّى يقرأ ، وسكتة إذا فرغ .
ففي هذه الروايات كلها : تصريح بأن السكتة كَانَتْ بَيْن التكبير والقرءاة ، كما فِي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ .
وخرج الحَاكِم من طريق عَبْد الله بْن عَمْرِو بْن حسان ، عَن شريك ، عَن سَالِم الأفطس ، عَن سَعِيد بْن جبير ، عَن ابن عَبَّاس ، قَالَ : كَانَ رَسُول الله ( يجهر
ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
وَقَالَ : صحيح ، ليس لَهُ علة .
وهذه زلة عظيمة ؛ فإن عَبْد الله بْن عَمْرِو بْن حسان هَذَا هُوَ الواقعي ، نسبه ابن المديني إلى الوضع . وَقَالَ الدارقطني : كَانَ يكذب . وَقَالَ أبو حاتم الرَّازِي : كَانَ لا يصدق .
وخرج الدارقطني هَذَا الحَدِيْث من طريق أَبِي الصلت الهروي ، عَن عباد ابن العَوَّامِ ، عَن شريك ، وَقَالَ فِيهِ : يجهر فِي الصلاة .
وأبو الصلت هَذَا ، متروك .
وخرجه الطبراني فِي ( ( أوسطه ) ) من طريق يَحْيَى بْن طلحة اليربوعي ، عَن(4/370)
"""""" صفحة رقم 371 """"""
عباد بْن العَوَّامِ بهذا الإسناد ، ولفظ حديثه : كَانَ رَسُول الله ( إذا قرأ ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) هزأ مِنْهُ المشركون ، وقالوا : مُحَمَّد يذكر إله اليمامة ، وكان مسيلمة يتسمى الرحمن ، فلما نزلت هذه الآية أمر النَّبِيّ ( أن لا يجهر بِهَا .
وهذا لَوْ صح لدل عَلَى نسخ الجهر بِهَا ، ولكن الصحيح أَنَّهُ مرسل ، وكذلك رواه يَحْيَى بْن معين ، عَن عباد بْن العَوَّامِ : ثنا شريك بْن عَبْد الله بْن سنان ، عَن سَالِم الأفطس ، عَن سَعِيد بْن جبير ، فِي قوله تعالى : ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ
بِهَا ( [ الاسراء : 110 ] قَالَ : نَزَلَتْ فِي ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) - وذكر الحَدِيْث بمعناه مرسلاً .
كذا خرجه عَنْهُ المفضل الغلابي فِي ( ( تاريخه ) ) .
وكذا خرجه أبو داود فِي ( ( المراسيل ) ) عَن عباد بْن موسى ، عَن عباد بْن العَوَّامِ ، وعنده : فأمر رَسُول الله ( بإخفائها ، فما جهر بِهَا حَتَّى مات .
وكذا رواه يَحْيَى بْن آدم ، عَن شريك ، عَن سَالِم ، عَن سَعِيد - مرسلاً .
وَهُوَ أصح .
وقد روي عَن إِسْحَاق بْن راهويه ، [ عَن إِسْحَاق ] - موصولاً ، ولا يصح .
ذكره البيهقي فِي ( ( المعرفة ) ) .
وروى عُبَيْدِ الله بْن عَمْرِو الرقي ، عَن عَبْد الكريم الجزري ، عَن أَبِي الزُّبَيْر ، عَن ابن عُمَر ، عَن النَّبِيّ ( ، أَنَّهُ كَانَ إذا قام إلى الصلاة ، فأراد أن يقرأ قَالَ : ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
قَالَ ابن عَبْد البر : قَدْ رفعه غيره - أَيْضاً - ، عَن ابن عُمَر ، ولا يصح ؛ لأنه(4/371)
"""""" صفحة رقم 372 """"""
موقوف عَلَى ابن عُمَر من فعله ، كذلك رواه سَالِم ونافع ويزيد الفقير ، عَن ابن عُمَر .
وَقَالَ البيهقي : الصواب موقوف .
وقد قَالَ العقيلي فِي ( ( كتابه ) ) : لا يصح فِي الجهر بالبسملة حَدِيْث مسند .
يعني : مرفوعاً إلى النَّبِيّ ( .
وحكي مثله عَن الدارقطني .
وما ينقل عَنْهُ فِي ( ( سننه ) ) من تصحيح احاديث فِي هَذَا الباب ، فلا توجد فِي جميع النسخ ، بل فِي بعضها ، ولعله من زيادة بعض الرواة .
وفي ترك الجهر بِهَا : حَدِيْث عَبْد الله بْن مغفل ، وَهُوَ شاهد لحديث أَنَس الَّذِي خرجه مُسْلِم ، وَهُوَ من رِوَايَة أَبِي نعامة الحنفي ، عَن ابن عَبْد الله بْن مغفل ، قَالَ : سمعني أَبِي وأنا فِي الصلاة أقول : ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
فَقَالَ : أي بني ، محدث ، إياك والحدث . قَالَ : ولم أرأحداً من أصْحَاب النَّبِيّ ( كَانَ أبغض إليهى الحدث فِي الإسلام - يعني : مِنْهُ - قَالَ : وقد صليت مَعَ النَّبِيّ ( ، ومع أَبِي بَكْر ومع عُمَر ومع عُثْمَان ، فَلَمْ أسمع أحداً منهم يقولها ، إذا أنت صليت فقل : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( .
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي ، وَقَالَ : حَدِيْث حسن .
وخرجه النسائي مختصراً .
وأبو نعامة هَذَا ، بصري ، قَالَ ابن معين : ثقة .
قَالَ ابن عَبْد البر : هُوَ ثقة عِنْدَ جميعهم .(4/372)
"""""" صفحة رقم 373 """"""
وله رِوَايَة عَن عَبْد الله بْن مغفل فِي الاعتداء فِي الدعاء والطهور .
وأما هَذَا الحديث ، فَقَدْ رواه عَن ابن عَبْد الله بْن مغفل ، عَن أَبِيه .
وابن عَبْد الله بْن مغفل ، يقال : اسمه : يزيد .
وقد رَوَى هَذَا الحَدِيْث أبو حنيفة ، عَن أَبِي سُفْيَان ، عَن يزيد بْن عبد الله ابن مغفل ، عَن أَبِيه .
وكذلك خرجه أبو بَكْر عَبْد العزيز بن جَعْفَر فِي ( ( كِتَاب الشافي ) ) لَهُ من طريق حَمْزَة الزيات ، عَن أَبِي سُفْيَان ، عَن يزيد بْن عَبْد الله بْن مغفل ، قَالَ : صلى بنا إمام فجهر ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) ، فَقَالَ لَهُ أَبِي : تأخر عَن مصلانا ، تجنب عنا هَذَا الحرف الَّذِي أراك تجهر بِهِ ؛ فإني صليت خلف النَّبِيّ ( وأبي بَكْر وعمر فَلَمْ يجهروا بِهَا . قَالَ لَهُ رَجُل : وعثمان ؟ فسكت .
ويزيد هَذَا ، لَمْ نعلم فِيهِ جرحاً ، وقد حسن حديثه الترمذي .
وما قاله طائفة من المتأخرين : إنه مجهول ، كابن خزيمة وابن عَبْد البر ، فَقَدْ علله ابن عَبْد البر ، بأنه لَمْ يرو عَنْهُ إلاّ واحد فيكون مجهولاً ؛ يجاب عَنْهُ : بأنه قَدْ رَوَى عَنْهُ اثنان ، فخرج بذلك عَن الجهالة عِنْدَ كثير من أهل الحَدِيْث .
وقد رَوَى سُفْيَان الثوري ، عَن خَالِد الحذاء ، عَن أَبِي نعامة ، عَن أَنَس ، أن النَّبِيّ ( لَمْ يكن ولا أبو بَكْر ولا عُمَر يجهرون ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
كذا رواه غير واحد عَن سُفْيَان .
وخالفهم يَحْيَى بْن آدم ، فرواه عَن سُفْيَان ، عَن خَالِد ، عَن أَبِي قلابة ، عَن أنس .
ووهم فِيهِ ، إنما هُوَ أبو نعامة - : قاله الإمام أحمد .
ثُمَّ اختلف الحفاظ :(4/373)
"""""" صفحة رقم 374 """"""
فمنهم من قَالَ : الأشبه بالصواب رِوَايَة من رواه عَن أَبِي نعامة ، عَن ابنَ مغفل ، عَن أَبِيه ، ومنهم : الدارقطني ، وكلام أحمد يدل عَلِيهِ - أَيْضاً - ، قالوا : لأنه رواه ثَلاَثَة عَن أَبِي نعامة بهذا الإسناد ، وهم : الجريري وعثمان بْن غياث وراشد الحراني ، فقولهم أولى من قَوْلِ خَالِد الحذاء وحده .
ومنهم من قَالَ : يجوز أن يكون القولان عَن أَبِي نعامة صحيحين .
ومن العجائب تأويل بعضهم لحديث ابن مغفل عَلَى مثل تأويله لحديث أَنَس ، وأن المراد افتتاحهم بالفاتحة .
وهذا إسقاط لفائدة أول الحَدِيْث وآخره ، والسبب الَّذِي لأجله رواه ابن مغفل ، وإنما الصواب عكس هَذَا ، وَهُوَ حمل حَدِيْث أَنَس عَلَى مثل مَا رواه ابن مغفل .
وروى عُبَيْدِ الله بْن عَمْرِو الرقي ، عَن زيد بْن أَبِي أنيسة ، عَن عَمْرِو بْن مرة ، عَن نَافِع بْن جبير بْن مطعم ، عَن أَبِيه ، أن النَّبِيّ ( لَمْ يجهر فِي صلاته ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
ذكره الدارقطني ، فِي ( ( علله ) ) .
وهذا الإسناد ، رجاله كلهم ثقات مشهورون ، ولكن لَهُ علة ، وهي : أن هَذَا الحَدِيْث قطعة من حَدِيْث جبير بْن مطعم فِي صفة تكبير النَّبِيّ ( وتعوذه فِي الصلاة ، وقد رواه الثقات عَن عَمْرِو بْن مرة ، عَن عاصم العنزي ، عَنْ نَافِع بْن جبير ، عَن أَبِيه بدون هذه الزيادة ؛ فإنه تفرد بِهَا الرقي عَن زيد .
وروى الحافظ أبو أحمد العسال : ثنا عَبْد الله بن العباس الطيالسي : ثنا
عَبْد الرحيم بْن زياد السكري : ثنا عَبْد الله بْن إدريس ، عَن عُبَيْدِ الله بْن عُمَر ، عَن نَافِع ، عَن ابن عُمَر ، قَالَ : صليت خلف رَسُول الله ( وأبي بَكْر وعمر وعثمان ، فَلَمْ يقنتوا ولم يجهروا .(4/374)
"""""" صفحة رقم 375 """"""
وهذا الإسناد - أَيْضاً - كلهم ثقات مشهورون .
وهذا والذي قلبه خير من كثير من أحاديث الجهر الَّتِيْ يصححها الحَاكِم وأمثاله ، ويحتجون بِهَا ، ولكن لا نستحل كتمان مَا ذكر فِي تعليله .
فذكر الدارقطني فِي ( ( العلل ) ) أَنَّهُ تفرد بِهِ السكري ، عَن ابن إدريس مرفوعاً .
قَالَ : ورواه زائدة والقطان ومحمد بْن بشر وابن نمير ، عَن عُبَيْدِ الله ، عَن نَافِع ، عَن ابن عُمَر - موقوفاً .
قَالَ : وكذلك رواه مَالِك فِي ( ( الموطإ ) ) عَن نَافِع ، عَن ابن عُمَر - موقوفاً .
قَالَ : وَهُوَ الصواب .
وفي ( ( صحيح مُسْلِم ) ) عَن عَائِشَة ، أن النَّبِيّ ( كَانَ يستفتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة ب ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( .
وفيه : عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، أن النَّبِيّ ( كَانَ إذا نهض فِي الثانية استفتح ب
( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ، ولم يسكت .
وروى منصور بْن مزاحم - وَهُوَ صدوق - : ثنا أبو أويس ، عَن العلاء بن
عَبْد الرحمن ، عَن أَبِيه ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، أن النَّبِيّ ( كَانَ لا يجهر ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
ذكره ابن عَبْد البر وغيره .
وهذا إسناد جيد .
وقد عضده : أن مسلماً خرج بهذا الإسناد بعينة حَدِيْث : ( ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) ) ، وذكر سورة الفاتحة بكمالها ، فَلَمْ يذكر فيها البسملة .(4/375)
"""""" صفحة رقم 376 """"""
وروى عمار بْن زربي ، عَن المعتمر بْن سُلَيْمَان ، عَن أَبِيه ، عَن أَبِي عُثْمَان النهدي ، عَن عُمَر بْن الخَطَّاب ، قَالَ : كَانَ قراءة رَسُول الله ( مداً ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( حَتَّى يختم السورة .
عمار هَذَا ، تكلم فِيهِ .
وليست هذه الأحاديث بدون الأحاديث الَّتِيْ يستدل بِهَا الحَاكِم وأمثاله عَلَى الجهر ، بل إما أن تكون مساوية لها ، أو أقوى مَعَ اعتضادها بالأحاديث الصحيحة والحسنة المخرجة فِي الصحاح والسنن ، وتلك لا تعتضد بشيء من ذَلِكَ .
وفي الباب : أحاديث أخر ، تركناها اختصاراً ، وبعضها مخرج فِي بعض السنن - أَيْضاً .
وأما الآثار الموقوفة فِي المسألة فكثيرة جداً .
وإلى ذَلِكَ ذهب أكثر أهل العلم من أصْحَاب النَّبِيّ ( ، منهم : أبو بَكْر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم ، ومن بعدهم من التابعين ، وبه يَقُول سُفْيَان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق ، لا يرون أن يجهر ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) . قالوا : ويقولها فِي نفسه . انتهى .
وحكى ابن المنذر هَذَا القول عَن سُفْيَان وأهل الرأي وأحمد وأبي عُبَيْدِ ، قَالَ : ورويناه عَن عُمَر وعلي وابن مَسْعُود وعمار بْن ياسر وابن الزُّبَيْر والحكم وحماد .
قَالَ : وَقَالَ الأوزاعي : الإمام يخفيها .
وحكاه ابن شاهين عَن عامة أهل السنة ، قَالَ : وهم السواد الأعظم .(4/376)
"""""" صفحة رقم 377 """"""
وروى شعبة ، عَن حصين ، عَن أَبِي وائل ، قَالَ : كانوا لا يجهرون ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
وروى الأثرم بإسناده ، عَن عُرْوَةَ بْن الزُّبَيْر ، قَالَ : أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلاّ ب ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( .
وعن الأعرج - مثله .
وعن النخعي ، قَالَ : مَا أدركت أحداً يجهر ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
وعنه ، قَالَ : الجهر بِهَا بدعة .
وعن عَكْرِمَة ، قَالَ : أنا أعرابي إن جهرت ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
وروى وكيع فِي ( ( كتابه ) ) عَن همام ، عَن قتادة ، قَالَ : الجهر ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) أعرابية .
وعن سُفْيَان ، عَن عَبْد الملك بْن أَبِي بشير ، عَن عَكْرِمَة ، عَن ابن عَبَّاس ، قَالَ : الجهر ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) قراءة الأعراب .
وعن إسرائيل ، عَن جابر ، عَن أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بْن عَلِيّ ، قَالَ : لا يجهر ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
وهذه الرواية تدل عَلَى أَنَّهُ لا يصح مَا حكي عَن أَبِي جَعْفَر وأهل البيت من الجهر بِهَا ، ولعل الشيعة تفتري ذَلِكَ عليهم .
وممن روي عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لا يجهر بِهَا : بَكْر المزني والحسن وابن سيرين والشعبي وأبو إِسْحَاق السبيعي وعمر بْن عَبْد العزيز - فِي رِوَايَة عَنْهُ ، رواها الوليد ابن مُسْلِم ، عَن عَبْد الله بْن العلاء ، عَنْهُ - ، وقتادة وابن أَبِي ليلى وابن شبرمة والحسن بْن حي .
وَقَالَ الْحَسَن : الجهر بِهَا أعرابية .(4/377)
"""""" صفحة رقم 378 """"""
خرجه حرب الكرماني .
وروي عَنْهُ من وجه آخر ، قَالَ : الجهر بِهَا قراءة الأعراب .
وأكثر هؤلاء يكرهون الجهر ، كما أنكره عَبْد الله بْن مغفل ، وكما أنكره من قَالَ : ذَلِكَ قراءة الأعراب ، ومن قَالَ : هُوَ بدعة ، ونص أحمد عَلَى كراهته .
وروي عَن طائفة ، أَنَّهُ يخير بَيْن الجهر والإسرار ، ولا يكره الجهر وإن كَانَ الإسرار أفضل ، وحكي هَذَا عَن ابن أَبِي ليلى وإسحاق ، ورجحه طائفة من أهل الحَدِيْث .
ومنهم من قَالَ : الجهر أفضل .
وقالت طائفة : يجهر بِهَا وَهُوَ السنة ، وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ وأصحابه وأبي ثور ، وروي عَن الليث بْن سعد .
قَالَ ابن المنذر : وروينا عَن عُمَر وابن عَبَّاس أنهما كانا يستفتحان ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) . انتهى .
وليس عَن ابن عُمَر تصريح بالجهر ، بل بقراءة البسملة .
وأما المروي عَن عُمَر ، فَقَدْ ثبت عَنْهُ فِي ( ( صحيح مُسْلِم ) ) من حَدِيْث أَنَس ، أَنَّهُ لَمْ يكن يجهر بِهَا ، فلعله جهر بِهَا مرة ليبين جواز ذَلِكَ .
وخرج ابن أَبِي شيبة بإسناد جيد ، عَن الأسود ، قَالَ : صليت خلف عُمَر سبعين صلاة ، فَلَمْ يجهر فيها ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) .
قَالَ ابن عَبْد البر : روي عَن عُمَر وعلي وعمار بْن ياسر ، أنهم كانوا يجهرون ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) ، والطرق ليست بالقوية ، وقد قدمنا الاختلاف عنهم فِي ذَلِكَ .(4/378)
"""""" صفحة رقم 379 """"""
قَالَ : وروي عَن عُمَر فيها ثلاث روايات : أحدها : أَنَّهُ كَانَ لا يَقْرَؤُهَا .
والثانية : أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا سراً . والثالثة : أَنَّهُ جهر بِهَا .
وكذلك اختلف عَن أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الجهر والإسرار ، وعن ابن عَبَّاس - أَيْضاً - ، والأكثر عَنْهُ الجهر بِهَا ، وعليه جماعة أصحابه .
وذكر ابن عَبْد البر جماعة ممن كَانَ يرى الجهر بِهَا ، منهم : مكحول وعمر ابن عَبْد العزيز ومحمد بْن كعب القرظي ، قَالَ : وَهُوَ أحد قولي ابن وهب ، إلا أَنَّهُ رجع عَنْهُ إلى الإسرار بِهَا .
وعن عَطَاء الخراساني ، قَالَ : الجهر بِهَا حسن .
وَقَالَ الزُّهْرِيّ : من سَنَة الصلاة أن يقرأ : ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) ثُمَّ فاتحة الكتاب ، ثُمَّ يقرأ ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) ثُمَّ يقرأ بسورة . وكان يَقُول : أول من قرأ ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) سراً بالمدينة عَمْرِو بْن سَعِيد بْن العاص .
خرجه البيهقي .
ومراسيل الزُّهْرِيّ من أردإ المراسيل .
وإنما عنى أول من أسر بِهَا ممن أدركه ، فَقَدْ ثبت عَن أَبِي بَكْر وعمر وعثمان الإسرار بِهَا ، فلا عبرة بمن حدث بعدهم وبعد انتقال عَلِيّ بْن أَبِي طالب من المدينة ؛ فإن هؤلاء هم الخُلَفَاء الراشدون الذين أمرنا رَسُول الله ( باتباع سنتهم ، وهم كانوا لا يجهرون بِهَا .
قَالَ البيهقي : وروينا الجهر بِهَا عَن فقهاء مكة : عَطَاء وطاوس ومجاهد وسعيد بْن جبير .
وَقَالَ الإمام أحمد - فِي رِوَايَة مهنا - : عامة أهل المدينة يجهر بِهَا : الزُّهْرِيّ(4/379)
"""""" صفحة رقم 380 """"""
وربيعة ، وذكر ابن عَبَّاس وابن الزُّبَيْر .
وأما مَا ذكره الخَطِيْب فِي كتابه فِي الجهر بالبسملة من الآثار الكثيرة فِي المسألة حَتَّى اعتقد بعض من وقف عَلِيهِ أَنَّهُ قَوْلِ الجمهور ، فغالب آثاره أو كثير مِنْهَا معلول لا يصح عِنْدَ التحقيق .
وكثير منهم يروي الجهر والإسرار ، وقد حكي عَن الدارقطني ، أَنَّهُ قَالَ فِي المنقول عَن الصَّحَابَة [ . . . ] منهم : عَمْرِو بْن دينار وابن جُرَيْج ومسلم بْن خَالِد ، وعن بعض أهل المدينة دون سائر الأمصار ، ولقلة من كَانَ يجهر بِهَا اعتقد بعضهم أن الجهر بِهَا بدعة ، وأنه من شعار أهل الأهواء كالشيعة ، حَتَّى تركه بعض أئمة الشافعية ، منهم : ابن أَبِي هُرَيْرَةَ لهذا المعنى .
وكان سُفْيَان الثوري وغيره من أئمة الأمصار يعدون الإسرار بالبسملة من جملة مسائل أصول الدين الَّتِيْ يتميز بِهَا أهل السنة عَن غيرهم ، كالمسح عَلَى الخفين ونحوه ، حَتَّى قَالَ سُفْيَان لشعيب بْن حرب : لا ينفعك مَا كتبت حَتَّى ترى أن إخفاء : ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) أفضل من الجهر بِهَا .
وَقَالَ وكيع : لا يصلى خلف من يجهر بِهَا .
وَقَالَ أحمد فِي الصلاة خلف من يجهر بِهَا : إن كَانَ يتأول فلا بأس بِهِ ، وإن كَانَ غير ذَلِكَ فلا يصلى خلفه .
يشير إلى أَنَّهُ يصلي خلف من جهر بِهَا من أهل العلم والحديث ، دون من(4/380)
"""""" صفحة رقم 381 """"""
يجهر بِهَا من أهل الأهواء ، فإنهم المعروفون بالجهر بِهَا .
ونقل أبو طالب ، عَن أحمد ، وسأله : يجهر ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) ؟ قَالَ : بالمدينة نَعَمْ ، وهاهنا من كَانَ يرى أنها آية من كِتَاب الله مثلما قَالَ ابن عَبَّاس وأبو هُرَيْرَةَ وابن الزُّبَيْر كانوا يجهرون بِهَا ، ويتأولونها من كِتَاب الله .
قَالَ القاضي أبو يعلى : ظاهر هَذَا أَنَّهُ أجاز الجهر لمن كَانَ بالمدينة دون غيرها من البلاد . قَالَ : ولعله ذهب فِي هَذَا إلى أن أهل المدينة يرون الجهر بِهِا ، فإذا خافت استنكروا فعله ، وامتنعوا من الصلاة خلفه .
قُلتُ : إنما مراد أحمد الإخبار عَن الجهر بِهَا أَنَّهُ سائغ لمثل أهل المدينة ومن يتأول من غيرهم من أهل الحَدِيْث والعلم ، وليس مراده أَنَّهُ يرى الجهر بِهَا بالمدينة .
وقد حكى أبو حفص العكبري رِوَايَة أَبِي طالب عَن أحمد ، بلفظ صريح فِي هَذَا المعنى ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : سئل أحمد : هَلْ يصلي الرَّجُلُ خلف من يجهر ب ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) ؟ قَالَ : بالمدينة نَعَمْ ، وهاهنا من كَانَ يتأول - وذكر بقية الرواية .
وهذا تصريح بالمعنى الَّذِي ذكرناه ، وَهُوَ أَنَّهُ إنما يسوغ الخلاف فِي هذه المسألة من مثل هؤلاء العلماءالمجتهدين ، دون أهل الأهواء الذين كَانَتْ هذه المسألأة مشهورة عنهم .
ولذلك نقل مهنا عَن أحمد ، أن عامة أهل المدينة يرون الجهر بالبسملة .
ونقل صالح بْن أحمد ، عَن أَبِيه ، قَالَ : نحن لا نرى الجهر ولا نقنت ؛ فإن جهر رَجُل - وليس بصاحب بدعة ، يتبع مَا روي عَن ابن عَبَّاس وابن عُمَر - فلا بأس بالصلاة خلفه والقنوت هكذا .(4/381)
"""""" صفحة رقم 382 """"""
ونقل عَنْهُ يعقوب بْن بختان ، قَالَ : يصلى خلف من يجهر من الكوفيين ، إلا أن يكون رافضياً .
واختلفت الرواية عَن أحمد فِي قراءة البسملة بَيْن السورتين فِي قيام رمضان : فروي عَنْهُ ، أَنَّهُ يسر بِهَا ولا يجهر .
وروي عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : أرجو .
وظاهر هذه الرواية : يدل عَلَى أَنَّهُ لا يكره الجهر بِهَا فِي هَذَا الموطن خاصة ؛ فإن النفل يسامح فِيهِ وخصوصاً قيام الليل ؛ فإنه لا يكره الجهر بالقراءة فِيهِ للمنفرد .
وإلى هَذَا القول ذهب أبو عُبَيْدِ وعلي بْن المديني - : حكاه عنهما الأثرم .
وذهبت طائفة إلى أَنَّهُ لا يقرأ ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) فِي الصلاة سراً ولا جهراً ، هَذَا قَوْلِ مَالِك وأصحابه ، ورخص فِيهِ فِي السور بعد الفاتحة فِي قيام رمضان خاصة .
وحكي عَنْهُ إجازته فِي أول الفاتحة وغيرها للمتهجدين ، وفي النوافل .
وروي عَنْهُ ، أَنَّهُ لا بأس بقراءتها فِي الفرائض والنوافل - : ذكره القاضي إِسْمَاعِيل فِي ( ( مبسوطه ) ) من طريق ابن نَافِع ، عَن مَالِك .
قَالَ ابن عَبْد البر : لا يصح هَذَا عندنا عَن مَالِك ، إنما هُوَ عَن صاحبه عَبْد الله بْن نَافِع .
وكذلك روي عَن عُمَر بْن عَبْد العزيز ، أَنَّهُ لا يَقْرَؤُهَا سراً ولا جهراً من وجه فِيهِ نظر - : ذكره ابن سعد فِي ( ( طبقاته ) ) .
وكذلك قَالَ الأوزاعي : لا يقرأ بِهَا سراً ولا جهراً - : نقله عَنْهُ الوليد بْن مُسْلِم .(4/382)
"""""" صفحة رقم 383 """"""
قَالَ الوليد : فذكرت ذَلِكَ لخليد ، فأخبرني أن الْحَسَن كَانَ لا يَقْرَؤُهَا . فَقَالَ الَّذِي سأله : أكان رَسُول الله ( يسرها ؟ فَقَالَ الْحَسَن : لَوْ أسر قراءتها فيما يسر بِهَا لجهر بِهَا فيما يجهر ، ولكنها أعرابية .
قَالَ الوليد : وأقول أنا : إن قرأتها فحسن ، وذلك لما أخبرنا بِهِ عَبْد الله بْن عُمَر بْن حفص ، عَن نَافِع ، عَن ابن عُمَر ، أَنَّهُ كَانَ لا يدع قراءة ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) حِينَ يستفتح الحمد والسورة الَّتِيْ بعدها .
خرجه حرب الكرماني .
واختاره ابن جرير الطبري ، وَهُوَ مذهب مَالِك والأوزاعي .
وبهذا المروي عَن ابن عُمَر استدل أحمد عَلَى قراءتها وبالمروي عَن ابن عَبَّاس وابن الزُّبَيْر وأبي هُرَيْرَةَ .
ومالك ومن وافقه تأولوا ظاهر حَدِيْث أَنَس ، وعند التحقيق فِي التأمل إنما يدل عَلَى نفي الجهر لا عَلَى قراءتها سراً ، وبذلك تجتمع ألفاظ الحَدِيْث وعامة الأدلة فِي هذه المسألة . والله أعلم .
وأكثر من يرى قراءتها فِي الصلاة يرى قراءتها فِي الفاتحة والسورة الَّتِيْ بعدها .
وقالت طائفة قليلة منهم : إنما يقرأ بِهَا فِي ابتداء الفاتحة دون السورة الَّتِيْ بعدها ، روي عَن طاوس ، وَهُوَ قَوْلِ سُفْيَان الثوري وسليمان بْن داود الهاشمي ، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَبِي حنيفة .
وروى يوسف بْن أسباط ، عَن الثوري ، قَالَ : من قرأ ( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) فِي أول القرآن أجزأه لكل القرآن .
وأعلم : أن الجهر بقراءة البسملة مَعَ الفاتحة ليس مبنياً عَلَى القول بأن البسملة آية من سورة الفاتحة وغيرها ، كما ظنه طائفة من النَّاس من أصحابنا(4/383)
"""""" صفحة رقم 384 """"""
وغيرهم ، وإنما الصحيح عِنْدَ المحققين من أصحابنا وأصحاب الشَّافِعِيّ وغيرهم أَنَّهُ غير مبني عَلَى ذَلِكَ .
ولهذا اختلفت الرواية عَن أحمد : هَلْ البسملة آية من الفاتحة ، أو لا ؟ وأكثر الروايات عَنْهُ عَلَى أنها ليست من الفاتحة ، وَهُوَ قَوْلِ أكثر أصحابه .
ولم تختلف عَنْهُ فِي أَنَّهُ لا يجهر بِهَا ، وكذا قَالَ الجوزجاني وغيره من فقهاء الحَدِيْث .
واختلف قَوْلِ الشَّافِعِيّ : هَلْ البسملة آية من كل سورة سوى الفاتحة ، وَهُوَ يرى الجهر بِهَا فِي السور - أَيْضاً .
وحينئذ ؛ فلا يصح أن يؤخذ الجهر بِهَا من القول بأنها آية من الفاتحة ، كما يفعله كثير من النَّاس ؛ فإنهم يحكون عمن قَالَ : هِيَ آية من الفاتحة : الجهر بِهَا ، وليس ذَلِكَ بلازم .
ومما يستحب الإتيان بِهِ قَبْلَ القراءة فِي الصلاة : التعوذ ، عِنْدَ جمهور العلماء .
واستدلوا بقوله تعالى : ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( [ النحل : 98 ] والمعنى : إذا أردت القراءة ، هكذا فسر الآية الجمهور ، وحكي عَن بعض المتقدمين ، منهم : أبو هُرَيْرَةَ وابن سيرين وعطاء : التعوذ بعد القراءة .
والمروي عَن ابن سيرين : قَبْلَ قراءة أم القرآن وبعدها ، فلعله كَانَ يستعيذ لقراءة السورة ، كما يقرأ البسملة لها - أَيْضاً .
وقد جاءت الأحاديث بأن النَّبِيّ ( كَانَ يتعوذ قَبْلَ القراءة فِي الصلاة :
فروى عَمْرِو بْن مرة ، عَن عاصم العنزي ، عَن [ ابن ] جبير بْن مطعم ، عَن أَبِيه ، أَنَّهُ رأى النَّبِيّ ( يصلي صلاة ، قَالَ : ( ( الله أكبر كبيراً ، والله أكبر كبيراً ، والله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، سبحان الله بكرة وأصيلاً ) ) - ثلاثاً -(4/384)
"""""" صفحة رقم 385 """"""
( ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، من نفخه ونفثه وهمزه ) ) . قَالَ : نفثه الشعر ، ونفخه الكبر ، وهمزه الموتة .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان فِي ( ( صحيحه ) ) والحاكم ، وصححه .
وابن جبير ، هُوَ : نَافِع ، وقع مسمى فِي رِوَايَة كذلك . وعاصم العنزي ، قَالَ أحمد : لا يعرف . وَقَالَ غيره : رَوَى عَنْهُ غير واحد . ذكره ابن حبان فِي ( ( ثقاته ) ) .
وروى عَطَاء بْن السائب ، عَن أَبِي عَبْد الرحمن السلمي ، عَن ابن مَسْعُود ، عَن النَّبِيّ ( ، أَنَّهُ كَانَ إذا دَخَلَ فِي الصلاة يَقُول : ( ( اللهم إني أعوذ بك من الشيطان وهمزه ونفخه ونفثه ) ) .
خرجه ابن ماجه والحاكم ، وهذا لفظه .
وَقَالَ : صحيح الإسناد ؛ فَقَدْ استشهد البخاري بعطاء بْن السائب .
وروى عَلِيّ بْن عَلِيّ الرفاعي ، عَن أَبِي المتوكل ، عَن أَبِي سَعِيد الْخُدرِيَّ ، قَالَ : كَانَ رَسُول الله ( إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر ، ثُمَّ يَقُول : ( ( أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ونفثه ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .
وَقَالَ : كَانَ يَحْيَى بْن سَعِيد يتكلم فِي عَلِيّ بْن عَلِيّ . وَقَالَ أحمد : لا يصح هَذَا الحَدِيْث .
كذا قَالَ ، وإنما تكلم فِيهِ يَحْيَى بْن سَعِيد من جهة أَنَّهُ رماه بالقدر ، وقد وثقه وكيع ويحيى بْن معين وأبو زُرْعَة .(4/385)
"""""" صفحة رقم 386 """"""
وَقَالَ أحمد : لا بأس بِهِ ، إلا أَنَّهُ رفع أحاديث .
وَقَالَ أبو حاتم : ليس بِهِ بأس ، ولا يحتج بحديثه .
وإنما تكلم أحمد فِي هَذَا الحَدِيْث ؛ لأنه روي عَن عَلِيّ بْن عَلِيّ ، عَن الْحَسَن - مرسلاً - ، وبذلك أعله أبو داود ، وخرج فِي ( ( مراسيله ) ) من طريق عمران بْن مُسْلِم ، عَن الْحَسَن ، أن رَسُول الله ( كَانَ إذا قام من الليل يريد أن يتهجد ، يَقُول - قَبْلَ أن يكبر : ( ( لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله ، والله أكبر كبيراً الله أكبر كبيراً ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ونفثه ) ) ، ثُمَّ يَقُول : ( ( الله أكبر ) ) .
وفي الباب أحاديث أخر مرفوعة ، فيها ضعف .
واعتماد الإمام أحمد عَلَى المروي عَن الصَّحَابَة فِي ذَلِكَ ؛ فإنه روي التعوذ قَبْلَ القراءة فِي الصلاة عَن عُمَر بْن الخَطَّاب وابن مَسْعُود وابن عُمَر وأبي هُرَيْرَةَ ، وَهُوَ قَوْلِ جمهور العلماء كما تقدم .
والجمهور عَلَى أَنَّهُ غير واجب ، وحكي وجوبه عَن عَطَاء والثوري وبعض الظاهرية ، وَهُوَ قَوْلِ ابن بطة من أصحابنا .
والجمهور عَلَى أَنَّهُ يسره فِي الصلاة الجهرية ، وَهُوَ قَوْلِ ابن عُمَر وابن مَسْعُود والأكثرين .
وروي عَن أَبِي هُرَيْرَةَ الجهر بِهِ .
وللشافعي قولان .
وعن ابن أَبِي ليلى : الإسرار والجهر سواء .
واختلفوا : هَلْ يختص التعوذ بالركعة الأولى ، أم يستحب فِي كل ركعة ؟ عَلَى قولين :(4/386)
"""""" صفحة رقم 387 """"""
أحدهما : يستحب فِي كل ركعة ، وَهُوَ قَوْلِ ابن سيرين والحسن والشافعي وأحمد - فِي رِوَايَة .
والثاني : أَنَّهُ يختص بالركعة الأولى ، وَهُوَ قَوْلِ عَطَاء والحسن والنخعي والثوري وأبي حنيفة وأحمد - فِي رِوَايَة عَنْهُ .
وَقَالَ هِشَام بْن حسان : كَانَ الْحَسَن يتعوذ فِي كل ركعة ، وكان ابن سيرين يتعوذ فِي كل ركعتين .
وذهب مَالِك وأصحابه إلى أَنَّهُ لا يتعوذ فِي الصلاة المكتوبة ، بل يفتتح بعد التكبير بقراءة الفاتحة من غير استعاذة ولا بسملة ، واستدلوا بظاهر حَدِيْث أَنَس : كَانَ النَّبِيّ ( يفتتح الصلاة ب ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ، وَهُوَ الحَدِيْث الَّذِي خرجه البخاري فِي أول هَذَا الباب .
ويجاب عَنْهُ ؛ بأنه إنما أراد أَنَّهُ يفتتح قراءة الصَّلاة بالتكبير والقراءة ب ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ، وافتتاح القراءة ب ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ( إما أن يراد بِهِ افتتاحها بقراءة الفاتحة كما يَقُول الشَّافِعِيّ ، أو افتتاح قراءة الصلاة الجهرية بكلمة ( الْحَمْدُ ( من غير بسملة كما يقوله الآخرون .
ودل عَلِيهِ : حَدِيْث أَنَس الَّذِي خرجه مُسْلِم صريحاً .
وعلى التقديرين ، فلا ينفي ذَلِكَ أن يكون يَقُول قَبْلَ القراءة ذكراً ، أو دعاء ، أو استفتاحاً ، أو تعوذاً ، أو بسملةً ؛ فإنه لا يخرج بذلك عَن أن يكون افتتح القراءة بالفاتحة ، أو افتتح الجهر بالقراءة بكلمة ( الْحَمْدُ ( .
ولا يمكن حمل الحَدِيْث عَلَى أَنَّهُ كَانَ أول مَا يفتتح بِهِ الصلاة قراءة كلمة
( الْحَمْدُ ( ؛ فإنه لَوْ كَانَ كذلك لكان لا يفتتح الصلاة بالتكبير ، وهذا باطل غير مراد قطعاً . والله أعلم .(4/387)
"""""" صفحة رقم 388 """"""
90 - بَاب
745 - حَدَّثَنَا ابن أَبِي مريم : أنا نَافِع بْن عُمَر : حَدَّثَنِي ابن أَبِي مليكة ، عَن أسماء بنة أَبِي بَكْر ، أن النَّبِيّ ( صلى صلاة الكسوف ، فقام فأطال القيام ، ثُمَّ ركع فأطال الركوع ، ثُمَّ قام فأطال القيام ، ثُمَّ ركع فأطال الركوع ، ثُمَّ رفع ، ثُمَّ سجد فأطال السجود ، ثُمَّ رفع ، ثُمَّ سجد فأطال السجود ، ثُمَّ قام فأطال القيام ، ثُمَّ ركع فأطال الركوع ، ثُمَّ رفع فأطال القيام ، ثُمَّ ركع فأطال الركوع ، ثُمَّ رفع فسجد فأطال السجود ، ثُمَّ رفع ، ثُمَّ سجد فأطال السجود ، ثُمَّ انصرف ، فَقَالَ : ( ( قَدْ دنت مني الجنة حَتَّى لَوْ اجترأت عَلَيْهَا لجئتكم بقطاف من قطافها ، ودنت مني النار حَتَّى قُلتُ : أي رب ، وأنا معهم ؟ فإذا امرأة ) ) - حسبت أَنَّهُ قَالَ : تخدشها هرة - ( ( قُلتُ : مَا شأن هذه ؟ قالوا : حبستها حَتَّى ماتت جوعاً لا هِيَ أطعمتها ولا هِيَ أرسلتها تأكل ) ) .
قَالَ نَافِع : حسبته من خشيش الأرض - أو خشاش .
قَالَ الخطابي : خشيش ليس بشيء ، إنما هُوَ خشاش - مفتوحة الخاء - ، وَهُوَ حشرات الأرض وهوامها ، فأما الخشاش - بكسر الخاء - ، فهو العود الَّذِي يجعل فِي أنف البعير .
وفي ( ( الفائق ) ) : خشاش الأرض : هوامها . الواحدة : خشاشة ، سميت بذلك لاندساسها فِي التراب من خش فِي الشيء إذا دَخَلَ فِيهِ ، يخش وخشه غيره فخشه ، ومنه الخشاش ؛ لأنه يخش فِي أنف البعير ، انتهى .(4/388)
"""""" صفحة رقم 389 """"""
وفي هَذَا الحَدِيْث فوائد كثيرة :
مِنْهَا : مَا يتعلق بصفة صلاة الكسوف ، ويأتي الكلام عَلِيهِ فِي موضعه - إن شاء الله ( .
ومنها : أَنَّهُ يدل عَلَى وجود الجنة والنار ، كما هُوَ مذهب أهل السنة والجماعة .
ومنها : مَا يدل عَلَى تحريم قتل الحيوان غير المؤذي ، لغير مأكله .
ومنها : مَا هُوَ مقصوده بإيراد الحَدِيْث فِي هذا الباب : أن المصلي لَهُ النظر فِي صلاته إلى مَا بَيْن يديه ، وما كَانَ قريباً ، ولا يقدح ذَلِكَ فِي صلاته .
ولكن المنظور إليه نوعان :
أحدهما : مَا هُوَ من الدنيا الملهية ، فهذا يكره النظر إليه فِي الصلاة ؛ فإنه يلهي .
وقد دل عَلِيهِ حَدِيْث الإنبجانية ، وقد سبق .
والثاني : مَا ينظر إليه مِمَّا يكشف من أمور الغيب ، فالنظر إليه غير قادح فِي الصلاة ؛ لأنه كالفكر فِيهِ بالقلب ، ولو فكر فِي الجنة والنار بقلبه فِي صلاته كَانَ حسناً .
وقد كَانَ ذَلِكَ حال كثير من السلف ، ومنهم من كَانَ يكشف لقلبه عَن بعض ذَلِكَ حَتَّى ينظر إليه بقلبه بنور إيمانه ، وَهُوَ من كمال مقام الإحسان .
وأما النَّبِيّ ( فإنه كشف ذَلِكَ لَهُ فرآه عياناً بعين رأسه ، هَذَا هُوَ الظاهر ، ويحتمل أن يكون جلي ذَلِكَ لقلبه .
وقوله : ( ( أي رب ، وأنا معهم ) ) يشير إلى قوله : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ( [ الأنفال : 33 ] ، فخشي أن يكون إدناؤها مِنْهُ عذاباً أرسل عَلَى الأمة ، فاستفهم عَن ذَلِكَ ، وَقَالَ : ( ( أتعذبهم وأنا معهم ؟ ) ) بحذف همزة الاستفهام .
وهذا القول ، الظاهر : أَنَّهُ كَانَ بقلبه دون لسانه ، وكذلك سؤاله عَن المرأة ؛ فإن عالم الغيب فِي هذه الدار إنما تدركه الأرواح دون الأجساد - غالباً - ، وقد تدرك بالحواس الظاهرة لمن كشف الله لَهُ ذَلِكَ من أنبيائه(4/389)
"""""" صفحة رقم 390 """"""
ورسله ، ويحتمل أن يكون قوله :
( ( وأنا فيهم ) ) بلسانه ؛ لأن هَذَا من بَاب الدعاء ؛ فإنه إشارة مِنْهُ إلى أَنَّهُ موعود بأنه لا تعذب أمته وَهُوَ فيهم .
يدل عَلَى ذَلِكَ : مَا رَوَى عَطَاء بْن السائب ، عَن أَبِيه ، عَن عَبْد الله بْن عَمْرِو بْن العاص ، قَالَ : كسفت الشمس عَلَى عهد رَسُول الله ( - فذكر الحَدِيْث بطوله ، وفيه : فجعل ينفخ فِي آخر سجوده فِي الركعة الثانية ، ويبكي ، ويقول : ( ( لَمْ تعدني هَذَا وأنا فيهم ، لَمْ تعدني هَذَا ونحن نستغفرك ) ) - وذكر بقية الحَدِيْث .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
وأما سؤاله عَن المرأة فلا يحتمل أن يكون بلسانه . والله أعلم .
وفي الجملة ؛ فإن كَانَ البخاري ذكر هَذَا الباب للاستدلال بهذا الحَدِيْث عَلَى أن نظر المصلي إلى مَا بَيْن يديه غير قادح فِي صلاته ، فَقَدْ ذكرنا أن الحَدِيْث لا دليل فِيهِ عَلَى النظر إلى الدنيا ومتعلقاتها ، وإن كَانَ مقصوده الاستدلال بِهِ عَلَى استحباب الفكر للمصلي فِي الآخرة ومتعلقاتها ، وجعل نظر النَّبِيّ ( فِيهِ إلى الجنة بقلبه كَانَ حسناً ؛ لأن المصلي مأمور بأن يعبد الله كأنه يراه ، فينبغي لَهُ أن يسغرق فكره فِي قربه من الله ، وفيما وعد الله أولياءه ، وتوعد بِهِ أعداءه ، وفي الفكر فِي معاني مَا يتلوه من القرآن .
وقد كَانَ السلف الصالح ينجلي الغيب لقلوبهم فِي الصلاة ، حَتَّى كأنهم ينظرون إليها رأى عين ، فمن كَانَ يغلب عَلِيهِ الخوف والخشية ظهر لقلبه فِي الصلاة صفات الجلال من القهر والبطش والعقاب والانتقام ونحو ذَلِكَ ، فيشهد النار ومتعلقاتها وموقف القيامة ، كما كَانَ سَعِيد بْن عَبْد العزيز - صاحب الأوزاعي - يَقُول : مَا دخلت فِي الصلاة قط إلا مثلت لِي جهنم .(4/390)
"""""" صفحة رقم 391 """"""
ومن كَانَ يغلب عَلِيهِ المحبة والرجاء ، فإنه مستغرق فِي مطالعة صفات الجلال والكمال والرأفة والرحمة والود واللطف ونحو ذَلِكَ ، فيشهد الجنة ومتعلقاتها ، وربما شهد يوم المزيد وتقريب المحبين فِيهِ .
وقد روي عَن أَبِي ريحانة - وَهُوَ من الصَّحَابَة - ، أَنَّهُ صلى ليلة ، فما انصرف حَتَّى أصبح ، وَقَالَ : مَا زال قلبي يهوى فِي الجنة وما أعد الله فيها لأهلها حَتَّى أصبحت .
وعن ابن ثوبان - وكان من عباد أهل الشام - ، أَنَّهُ صلى ليلة ركعة الوتر ، فما انصرف إلى الصبح ، وَقَالَ : عرضت لِي روضة من رياض الجنة ، فجعلت أنظر إليها حَتَّى أصبحت .
يعني : ينظرها بعين قلبه .(4/391)
"""""" صفحة رقم 392 """"""
91 - بَاب
رفعِ البصرِ إلى الإمَامِ فِي الصَّلاَةِ
وقالت عَائِشَة : قَالَ النَّبِيّ ( : ( ( رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حِينَ رأيتموني تأخرت ) ) .
حَدِيْث عَائِشَة ، يأتي فِي ( ( أبواب : الكسوف ) ) - إن شاء الله تعالى - ، وليس فِيهِ رفع البصر إلى الإمام فِي الصلاة ، إنما فِيهِ مد البصر إلى مَا بَيْن يدي المصلي ، وقد سبق القول فِي هَذَا في الباب الماضي ، وأن النظر إلى الآخرة ومتعلقاتها فِي الصلاة حسن ، سواء كَانَ نظر عين أو قلب .
وقد خرج فِي هَذَا الباب أربعة أحاديث :
الأول :
746 - حَدَّثَنَا موسى : ثنا عَبْد الواحد : ثنا الأعمش ، عَن عمارة بْن عمير ، عَن أَبِي معمر ، قَالَ : قلنا لخباب : أكان رَسُول الله ( يقرأ فِي الظهر والعصر ؟ قَالَ نَعَمْ . قلنا : بم كنتم تعرفون ذَلِكَ ؟ قَالَ : باضطراب لحيته .
فهذا فِيهِ دليل عَلَى أن المأموم ينظر إلى إمامه ، ويراعي أقواله فِي قيامه ؛ لأنهم إنما شاهدوا اضطراب لحية النَّبِيّ ( فِي صلاته بمدهم بصرهم إليه فِي قيامه .
وهذا قَدْ يقال : إنه يختص بالصلاة خلف النَّبِيّ ( ، لما يترتب عَلَى ذَلِكَ من معرفة أفعاله فِي صلاته فيقتدي بِهِ ، فأما غيره من الأئمة فلا يحتاج إلى النظر إلى لحيته ، فالأولى بالمصلى وراءه أن ينظر إلى محل سجوده ، كما سبق .(4/392)
"""""" صفحة رقم 393 """"""
الحَدِيْث الثاني :
747 - حَدَّثَنَا حجاج : ثنا شعبة ، أنبأنا أبو إِسْحَاق ، قَالَ : سَمِعْت عَبْد الله بْن يزيد يخطب : حَدَّثَنَا البراء - وكان غير كذوب - ، أنهم كانوا إذا صلوا مَعَ النَّبِيّ ( ، فرفع رأسه من الركوع ، قاموا قياماً حَتَّى يروه قَدْ سجد .
قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي ( ( بَاب : متى يسجد من وراء الإمام ) ) من حَدِيْث سُفْيَان ، عَن أَبِي إِسْحَاق ، وهاهنا خرجه من رِوَايَة شعبة : أنبأنا أبو إِسْحَاق .
ومراد شعبة بقوله : ( ( أنبأنا ) ) كقوله : ( ( أخبرنا ) ) أو ( ( حَدَّثَنَا ) ) ، وليس مراده - كما يقوله المتأخرون - : الإجازة .
وفي الحَدِيْث : دليل عَلَى أن المأموم يراقب حال إمامه فِي ركوعه وسجوده ؛ ليسجد بعد سجوده ، وتقع أفعاله بعد أفعال إمامه ، وهذا حكم عام فِي جميع النَّاس ، فإن اقتداء المأموم بأفعال إمامه الَّتِيْ يشاهدها أولى من الاكتفاء بمجرد سماع تكبيره ؛ فإنه قَدْ ينهي تكبيره قَبْلَ أن ينهي فعله ، فلذلك كانوا يراعون تمام سجود النَّبِيّ ( واستقراره عَلَى الأرض ، حَتَّى يسجدوا بعده .
قَالَ أصحابنا وغيرهم : ولهذا المعنى كره أن يكون موقف الإمام أعلى من المأموم ؛ لأن المأموم يحتاج إلى رفع بصره إلى إمامه ، فإذا كَانَ عالياً عَلِيهِ احتاج إلى كثرة رفع بصره ، وَهُوَ مكروه فِي الصلاة .
الحَدِيْث الثالث :
748 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل : حَدَّثَنِي مَالِك ، عَن زيد بْن أسلم ، عَن عَطَاء بْن يسار ، عَن عَبْد الله بْن عَبَّاس ، قَالَ : خسفت الشمس عَلَى عهد رَسُول الله ( ، فصلى ، قالوا : يَا رَسُول الله ( ، رأيناك تناولت شيئاً فِي مقامك ، ثُمَّ رأيناك تكعكعت ؟ قَالَ : ( ( إني رأيت الجنة فتناولت مِنْهَا عنقوداً ، ولو أخذته لأكلتم مِنْهُ(4/393)
"""""" صفحة رقم 394 """"""
مَا بقيت الدنيا ) ) .
قَالَ الخطابي : التكعكع التأخر ، واصله فِي الجبن . كع الرَّجُلُ عَن الأمر إذا جبن وتأخر . وأصله : تكعع ، فأدخل الكاف لئلا : يجمع بَيْن حرفين .
ويقال : كاع يكيع : مثله . انتهى .
وفي الحَدِيْث : دليل عَلَى أن رفع بصر المصلي إلى مَا بَيْن يديه ، ومد يده لتناول شيء قريب مِنْهُ لا يقدح فِي صلاته .
وليس فِيهِ نظر المأموم إلى إمامه ، إنما فِيهِ نظر الإمام إلى مَا بَيْن يديه ، وقد تقدمت الإشارة إلى أن هَذَا النظر والتناول ليس هُوَ مَا يكره فِي الصلاة ؛ لأنه نظر إلى الآخرة لا إلى الدنيا ، ومد يده إلى العنقود كَانَ فِيهِ مصلحة دينية ، ليري أصحابه بعض مَا وعدوا به عياناً فِي الجنة ، لكنه أوحي إليه أن لا يفعل ؛ فإنه كَانَ يصير الغيب شهادة ، فتزول فائدة التكليف بالإيمان بالغيب .
وقوله : ( ( فتناولت مِنْهُ عنقوداً ) ) . يعني : أَنَّهُ مد يده يريد تناول العنقود ، ولكنه لَمْ يتناوله ، ولهذا قَالَ : ( ( لَوْ أخذته لأكلتم مِنْهُ ) ) .
وقوله : ( ( لأكلتم مِنْهُ مَا بقيت الدنيا ) ) إشارة إلى أن مَا فِي الجنة لا ينفد ؛ فإنه كُلَّمَا أكل مِنْهُ استخلف فِي الحال مثلاه .
وفي رِوَايَة أخرى : ( ( لأكل مِنْهُ من بَيْن السماء والأرض ، لا ينقصونه شيئاً ) ) .
ولهذا يروى أن الطير يمر بأهل الجنة ، فيشتهونه ، فيخر بَيْن أيديهم ،(4/394)
"""""" صفحة رقم 395 """"""
فيأكلون مِنْهُ مَا يشاءون ثُمَّ يطير ، والكأس يشربون مَا فِيهِ ثُمَّ يعود ممتلئاً فِي الحال ، لا حرمنا الله خير مَا عنده بشر مَا عندنا بمنه ورحمته .
الحَدِيْث الرابع :
749 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سنان : ثنا فليح : ثنا هلال ، عَن أَنَس بْن مَالِك ، قَالَ : صلى رَسُول الله ( ثُمَّ رقى المنبر ، فأشار بيده قَبْلَ قبلة المسجد ، ثُمَّ قَالَ : ( ( لَقَدْ رأيت الآن منذ صليت لكم الصلاة الجنة والنار ممثلتين فِي قبلة هَذَا الجدار ، فَلَمْ أر كاليوم فِي الخير والشر ) ) - ثلاثا .
الظاهر : أن هذه الصلاة كَانَتْ غير صلاة الكسوف وأن الجنة والنار مثلتا لهُ في هذه الصلاة في جدار القبلة تمثيلاً ، وأما إدناء الجنة والنار في صلاة الكسوف ، فكان حقيقة . والله أعلم .
وفيه : أن رفع بصر المصلي إلى مَا مثل لَهُ من أمور الآخرة إذا ظهرت لَهُ غير قادح فِي الصلاة .
وليس فِيهِ - أَيْضاً - : نظر المأموم إلى إمامه ، كما بوب عَلِيهِ . والله سبحانه وتعالى أعلم .(4/395)
"""""" صفحة رقم 396 """"""
92 - بَاب
رَفْعِ الْبَصَرِ إلى السَّمَاءِ فِي الصَّلاَةِ
750 - حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن عَبْد الله : أنا يَحْيَى بْن سَعِيد : أنا ابن أَبِي عروبة : نا قتادة ، أن أنس بْن مَالِك حدثهم ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله ( : ( ( مَا بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء فِي صلاتهم ) ) ، فاشتد قوله قي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ : ( ( لينتهين عَن ذَلِكَ أو ليخطفن الله أبصارهم ) ) .
هَذَا الإسناد كله مصرح بسماع رواته بعضهم من بعض ، وقد أمن بذلك تدليس قتادة فِيهِ .
وفي الحَدِيْث : دليل عَلَى كراهة رفع بصره إلى السماء فِي صلاته .
وقد روي هَذَا الحَدِيْث عَن النَّبِيّ ( من رِوَايَة عدة من الصَّحَابَة .
وروي النهي عَن حذيفة وابن مَسْعُود .
وَقَالَ سُفْيَان : بلغنا أن رَسُول الله ( كَانَ يرفع بصره إلى السماء فِي الصلاة ، حَتَّى نَزَلَتْ ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ( [ المؤمنون : 2 ] فرمى ببصره نحو مسجده .
والمعنى فِي كراهة ذَلِكَ : خشوع المصلي وخفض بصره ، ونظره إلى محل سجوده ؛ فإنه واقف بَيْن يدي الله ( يناجيه ، فينبغي أن يكون خاشعاً منكساً رأسه ، مطرقاً إلى الأرض .(4/396)
"""""" صفحة رقم 397 """"""
وقد تقدم فِي تفسير الخشوع أن خشوع البصر : غضه .
وإنما يكره رفع البصر إلى السماء عبثاً ، فأما لحاجة فيجوز .
وقد أشارت عَائِشَة لأختها أسماء إلى السماء فِي صلاة الكسوف .
وقد نَصَّ أحمد عَلَى أن من تجشأ فِي صلاته فإنه يرفع رأسه إلى السماء ؛ لئلا يتأذى من إلى جانبه برائحة جشائه .
ولكن ؛ قَدْ يقال - مَعَ رفع رأسه - : إنه يغض بصره .
وقد سبق عَن عُمَر وابن سابط : رفع الوجه إلى السماء عِنْدَ تكبيره الإحرام .
وزاد ابن سابط : وإذا رفع رأسه .
وأما تغميض البصر فِي الصلاة ، فاختلفوا فِيهِ :
فكرهه الأكثرون ، منهم : أبو حنيفة والثوري والليث وأحمد .
قَالَ مُجَاهِد : هُوَ من فعل اليهود .
وفي النهي عَنْهُ حَدِيْث مرفوع ، خرجه ابن عدي ، وإسناده ضَعِيف .
ورخص فِيهِ مَالِك .
وَقَالَ ابن سيرين : كَانَ يؤمر إذا كَانَ يكثر الالتفات فِي الصلاة أن يغمض عينيه .
خرجه عَبْد الرزاق .(4/397)
"""""" صفحة رقم 398 """"""
93 - بَاب
الالْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ
فِيهِ حديثان :
الأول :
751 - حَدَّثَنَا مسدد : ثنا أبو الأحوص : ثنا أشعث بْن سليم - هُوَ : أبو الشعثاء - ، عَن أَبِيه ، عَن مسروق ، عَن عَائِشَة ، قَالَتْ : سألت رَسُول الله ( عَن الالتفات فِي الصلاة : فَقَالَ : ( ( هُوَ اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ) ) .
الثاني :
752 - حَدَّثَنَا قتيبة : ثنا سُفْيَان ، عَن الزُّهْرِيّ ، عَن عُرْوَةَ ، عَن عَائِشَة ، أن النَّبِيّ ( صلى فِي خميصة لها أعلام ، فَقَالَ : ( ( شغلتني أعلام هذه ، اذهبوا بِهَا إلى أَبِي جهم ، وأتوني بأنبجانية ) ) .
حَدِيْث عَائِشَة فِي خميصة ، قَدْ سبق فِي ( ( أبواب : الصلاة فِي الثيات ) ) فِي
( ( بَاب : إذا صلى فِي ثوب وله أعلام ونظر إلى علمها ) ) ، وسبق الكلام عَلِيهِ مستوفى .
وبعده حَدِيْث أنس ، أن النَّبِيّ ( قَالَ لعائشة : ( ( أميطي عنا قرامك ؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض فِي صلاتي ) ) .
وذكرنا أن الحديثين دليلاً عَلَى كراهة أن يصلي إلى مَا يلهي النظر إليه أو لبسه فِي الصلاة .(4/398)
"""""" صفحة رقم 399 """"""
وأما حَدِيْث عَائِشَة الَّذِي خرجه هاهنا فِي الالتفات ، فتفرد بِهِ دون مُسْلِم ، وفي إسناده اخْتِلاَف عَلَى أشعث بْن أَبِي الشعثاء .
فالأكثرون رووه عَنْهُ ، كما رواه عَنْهُ أبو الأحوص ، كما أسنده البخاري من طريقه .
قَالَ الدارقطني : وَهُوَ الصحيح عَنْهُ ، عَن أَبِيه ، عَن عَائِشَة ، لَمْ يذكر :
( ( مسروقاً ) ) فِي إسناده .
ورواه إسرائيل ، عَن أشعث ، عَن أَبِي عطية الهمداني ، عَن مسروق ، عَن عَائِشَة .
ورواه مِسْعَر ، عَن أشعث ، عَن أَبِي وائل ، عَن مسروق ، عَن عَائِشَة وكلهم رفعوه .
ورواه الأعمش موقوفاً ، واختلف عَلِيهِ :
فرواه الأكثرون ، عَنْهُ ، عَن عمارة ، عَن أَبِي عطية ، عَن عَائِشَة موقوفاً .
وَقَالَ شعبة ، عَن الأعمش ، عَن خيثمة ، عَن أَبِي عطية ، عَن عَائِشَة موقوفاً .
ولهذا الاختلاف - والله أعلم - تركه مُسْلِم فَلَمْ يخرجه .
وفي الالتفات أحاديث أخر متعددة ، لا تخلو أسانيدها من مقال .
ومن أجودها : مَا رَوَى الزُّهْرِيّ ، عَن أَبِي الأحوص ، عَن أي ذر ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله ( : ( ( لا يزال الله مقبلاً عَلَى العبد وَهُوَ فِي صلاته مَا لَمْ يلتفت ، فإذا التفت انصرف عَنْهُ ) ) .
رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة فِي ( ( صحيحه ) ) .(4/399)
"""""" صفحة رقم 400 """"""
وأبو الأحوص ، قَدْ قيل : إنه غير معروف .
وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حَدِيْث الحارث ، عَن النَّبِيّ ( - فِي حَدِيْث طويل ذكره - : ( ( إن الله ينصب وجهه لوجه عبده مَا لَمْ يلتفت ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا ) ) .
وصححه الترمذي .
وروى عَبْد الرزاق ، عَن ابن جُرَيْج ، عَن عَطَاء : سَمِعْت أبا هُرَيْرَةَ يَقُول : إذا صلى أحدكم فلا يلتفت ؛ فإنه يناجي [ ربه ] إن ربه أمامه ، وإنه يناجيه ، فلا يلتفت .
قَالَ عَطَاء : وبلغنا أن الرب ( يَقُول : ( ( يابن آدم ، إلى أين تلتفت ، أنا خير ممن تلتفت إليه ) ) .
ورواه إِبْرَاهِيْم بْن يزيد الخوزي وعمر بْن قيس المكي سندل - وهما ضعيفان - ، عَن عَطَاء ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - مرفوعاً كله .
والموقوف أصح - : قاله العقيلي وغيره .
وكذا رواه طلحة بْن عَمْرِو ، عَن عَطَاء ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : مَا التفت عَبْد فِي صلاته قط إلا قَالَ الله : ( ( أنا خير لَكَ مِمَّا تلتفت إليه ) ) .
والأشبه : أن هَذَا قَوْلِ عَطَاء ، كما سبق .
وقوله : ( ( هُوَ اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ) ) يعني : أن الشيطان يسترق من العبد فِي صلاته التفاته فيها ويختطفه مِنْهُ اختطافاً حَتَّى يدخل عَلِيهِ(4/400)
"""""" صفحة رقم 401 """"""
بذلك نقص في صلاته وخلل ولم يأمره بالإعادة لذلك ، فدل على أنه نقص لا يوجب الإعادة والالتفات نوعان :
أحدهما : التفات القلب إلى غير الصلاة ومتعلقاتها ، وهذا يخل بالخشوع فيها ، وقد سبق ذكر الخشوع في الصلاة وحكمه .
والثاني : التفات الوجه بالنظر إلى غير ما فيه مصلحة الصلاة ، والكلام هاهنا في ذلك .
وروي عن ابن مسعود ، قال : لا يقطع الصلاة إلا الالتفات .
خرجه وكيع بإسناد فيه ضعف .
وروى بإسناد جيد ، عن ابن عمر ، قال : يدعى الناس يوم القيامة المنقوصين . قيل : وما المنقوصون ؟ قالَ : الذي أحدهم صلاته في وضوئه والتفاته .
قالَ ابن المنذر - : فيما يجب على الملتفت في الصلاة - :
فقالت طائفة : تنقص صلاته ، ولا إعادة .
روي عن عائشة ، أنها قالت : الالتفات في الصلاة نقص .
وبه قال سعيد بن جبير .
وقال عطاء : لا يقطع الالتفات الصلاة .
وبه قال مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي .
وقال الحكم : من تأمل من عن يمينه في الصلاة أو عن شماله حتى يعرفه فليس له صلاة .(4/401)
"""""" صفحة رقم 402 """"""
وقال أبو ثور : إذا التفت ببدنه كله تفسد صلاته .
وروينا عن الحسن ، أنه قال : إذا استدبر القبلة استقبل ، وإن التفت عن يمينه وعن شماله مضى في صلاته .
والذي قاله الحسن حسن . انتهى .
قال ابن المنصور : قلت لأحمد : إذا التفت في الصلاة يعيد الصلاة ؟ قالَ : ولا أعلم أني سمعت فيهِ حديثاً أنه يعيد .
قال إسحاق : كما قال .
وقال أصحابنا : الالتفات الذي لا يبطل أن يلوي عنقه ، فأما إن استدار بصدره بطلت صلاته ، لأنه ترك استقبال القبلة بمعظم بدنه ، بخلاف ما إذا استدار بوجهه ، فإن معظم بدنه مستقبل للقبلة .
وحكوا عن المالكلية ، أنه لا يبطل بالتفاته بصدره حتى يستدبر ، إلحاقاً للصدر على الوجه .
فأما الالتفات لمصلحة الصلاة ، كالتفات أبي بكر لما صفق الناس خلفه وأكثروا التصفيق - وقد سبق حديثه - فلا ينقص الصلاة .
ويدل عليه : قول النبي ( : ( ( من نابه شيء في صلاته فليسبح ؛ فإنه إذا سبح التفت إليه ) ) .
وكذلك التفت النبي ( إلى من صلى خلفه ، لما صلى بهم جالساً وصلوا وراءه قياماً ، وقد سبق - أيضاً .
وقد روي عن النبي ( ، أنه كان يلتفت في صلاته لمصلحة غير مصلحة الصلاة :
فروى سهل بن الحنظلية ، قال : ثوب بالصلاة - يعني : صلاة الصبح - ، فجعل رسول الله يصلي ، وهو يلتفت إلى الشعب .(4/402)
"""""" صفحة رقم 403 """"""
خرجه أبو داود .
وقال : كان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس .
وخرجه ابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) والحاكم وصححه .
وهذا فيه جمع بين الصلاة والجهاد .
ومن هذا المعنى : قول عمر : إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة .
وقد روي عن النبي ( ، أنه كان يلحظ في صلاته .
فروى الفضل بن موسى ، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن ثور بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن النبي ( كان يلحظ يميناً وشمالاً ، ولا يلوي عنقه خلف ظهرة .
خرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي .
وقال : غريب ثم خرجه من طريق وكيع ، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن بعض أصحاب عكرمة ، أن النبي ( كان يلحظ في الصلاة - فذكر نحوه .
وخرجه أبو داود في بعض نسخ ( ( سننه ) ) .
ثم خرجه من طريق رجلٍ ، عن عكرمة .
وقال : هو أصح .
وأنكر الدارقطني وصل الحديث إنكاراً شديداً ، وقال : هو مرسل .
وقد رواه - أيضاً - مندل ، عن الشيباني عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله ( إذا صلى يلاحظ يميناً وشمالاً .(4/403)
"""""" صفحة رقم 404 """"""
خرجه ابن عدي .
ومندل ، ضعيف .
وروى الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، أن النبي ( كان يلمح في الصلاة ، ولا يلتفت .
خرجه ابن أبي شيبة بإسناد فيه جهالة ، وهو مرسل .
وقد وصله بعضهم ، وأنكر ذلك الإمام أحمد ، وضعف إسناده ، وقال : إنما هو : عن رجل ، عن سعيد .
وقد يحمل هذا - إن صح - على الالتفات لمصلحة .
وقد روى عن علي بن شيبان الحنفي ، قال : قدمنا على النبي ( وصلينا معه ، فلمح بمؤخر عينه رجلا لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود فقال : ( ( لا صلاة لمن لا يقيم صلبه ) ) .
خرجه الإمام أحمد وابن حبان وابن ماجه .
وقد روي الالتفات في الصلاة يميناً وشمالاً عن طائفة من السلف ، منهم أنس والنخعي وعبد الله بن معقل بن مقرن .
وروى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان لا يلتفت في صلاته حتى يقضيهما .(4/404)
"""""" صفحة رقم 405 """"""
وعن أبي جعفر القارئ ، قال كنت أصلي وابن عمر ورائي ، ولا أعلم فالتفت ، فغمزني .
وروى حميد ، عن معاوية بن قرة ، قال : قيل لابن عمر : إن الزبير إذا صلى لم يقل هكذا ولا هكذا ؟ قال : لكنا نقول كذا وكذا .
وفي رواية : ونكون مثل الناس .
وقد رويت الرخصة في الالتفات في النافلة .
فخرج الترمذي في حديث علي بن زيد ، عن ابن المسيب ، عن أنس ، قال : قال لي رسول الله ( : ( ( يابني ، إياك والالتفات في الصلاة ؛ فإن الالتفات في الصَّلاة
هلكة ، فإن كان لا بد ففي التطوع ، لا في الفريضة ) ) .
وقال : حديث حسن .
وذكر في ( ( كتاب العلل ) ) : أنه ذاكر به البخاري ، فلم يعرفه ، ولم يعرف لابن المسيب عن أنس شيئا .
وقد روي عن أنس من وجوه أخر ، وقد ضعفت كلها .
وخرج الطبراني نحوه بإسناد ضعيف ، عن أبي الدرداء مرفوعاً .
ولايصح إسناده - أيضاً .
قال الدار قطني : إسناده مضطرب ، لا يثبت .
والله ( أعلم .(4/405)
"""""" صفحة رقم 406 """"""
94 - باب
هل يلتفت لأمر ينْزل به
أو يَرَى شيئاً أو بصاَقاً في القِبلْةِ ؟
وقال سهل : التفت أبو بكر ، فرأى النبي ( .
حديث سهل ، قد سبق بتمامه في التفات أبي بكر لما جاء النبي ( ، وأكثر الناس التصفيق خلف أبي بكر .
خرج فيه حديثين :
أحدهما :
قال :
753 - حدثنا قتيبة : ثناليث ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه قال : رأى النبي ( نخامة قبلة المسجد ، وهو يصلى بين يدي الناس فحتها ، ثم قال حين أنصرف : ( ( إن أحدكم إذا كان في الصلاة ، فإن الله قبل وجهه ، فلا يتنخمن أحد قبل وجهه في
الصلاة ) ) .
رواه موسى بن عقبة وابن أبي رواد ، عن نافع .
هذا الحديث ، قد خرجه البخاري في مواضع أخر من طريق مالك وجويرية ابن أسماء ، عن نافع .
ومراده بتخريجه هاهنا : أن النبي ( رآها في حال صلاته ، كما في رواية الليث التي خرجها هاهنا ، وذكر أنه تابعه على ذلك موسى بن عقبة وابن أبي رواد .(4/406)
"""""" صفحة رقم 407 """"""
وقد خرج مسلم حديث موسى ، إلا أنه لم يتم لفظه .
وقد رواه أيوب ، عن نافع ، وذكر فيه أن النبي ( رأى النخامة وهو يخطبُ .
خرجه أبو داود .
وظاهر رواية الليث يدل على أنه حتها وهو في الصلاة .
وقد روى : أنه حتها حين فرغ من الصلاة .
خرجه الإمام أحمد من رواية عبد العزيز بن أبي رواد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : صلى رسول الله ( ، فرأى نخامة ، فلما قضى صلاته قال : ( ( إن أحدكم إذا صلى في المسجد فإنه يناجي ربه ، وإن الله تبارك وتعالى يستقبله بوجهه ، فلا يتنخمن أحدكم في القبلة ، ولا عن يمينه ) ) ثم دعا بعود فحكه ، ثم دعا بخلوق فخضبه .
فهذه رواية ابن أبي رواد التي أشار إليها البخاري .
وأما رواية موسى بن عقبة [ . . . . . ]
وبكل حال ؛ فليس في الحديث دليل على الالتفات في الصلاة ، إنما فيه دليل على جواز نظر المصلي إلى قبلته ، ورؤيته ما فيها ، وأن ذلك لا ينافي الخشوع كما يحكى عن بعضهم ، وأنه لا يكره للمصلي أن ينظر في قيامه إلى ما بين يديه ، ويزيد رفع بصره عن محل سجوده .(4/407)
"""""" صفحة رقم 408 """"""
وأما حديث سهل المتقدم ، ففيه جواز التفات المصلي في صلاته لأمر يعرض له في صلاته ، ولا سيما إذا نبهه المأمومون بالتسبيح ونحوه ؛ ولهذا قال النبي ( : ( ( فإنه إذا سبح به التفت ) ) .
وقد سبق في ( ( أبواب : المساجد ) ) قول النبي ( في المصلي : ( ( إنه يبزق عن يساره ، أو تحت قدمه ) ) .
وبصاقه يساره إنما يكون بنوع من الالتفات يسير ، ولكنه لمصلحة الصلاة ؛ فلذلك أمر به .
الحديث الثاني :
754 - حدثنا يحيى بن بكير ثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب : أخبرني أنس بن مالك ، قال : بينما المسلمون في صلاة الفجر ، لم يفجأهم إلا رسول الله ( كشف ستر حجرة عائشة ، فنظر إليهم وهم صفوف ، فتبسم يضحك ، ونكص أبو بكر على عقبيه ، ليصل الصف ، فظن أنه يريد الخروج ، وهم المسلمون أن يفتتنوا في
صلاتهم ، فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم ، وأرخى الستر ، وتوفي في آخر ذلك اليوم ( .
قد تقدم هذا الحديث - أيضاً .
والمقصود منه في هذا الباب : أن أبا بكر ومن كان خلفه في صلاة الفجر رأوا النبي ( حين كشف ستر حجرة عائشة ، وظنوا أنه خارج للصلاة ، حتى نكص أبو بكر على عقبيه ، ليصل إلى الصف ؛ لأجل النبي ( ، حتى يجيء فيقوم مقامه في الإمامة .(4/408)
"""""" صفحة رقم 409 """"""
وإنما يكون نظرهم إليه في الصلاة بنوع من الالتفات ، فإن حجرة عن يسار المسجد ، ليست في قبلته ، على ما لا يخفى ، وقد أشار إليهم النبي ( أن أتموا صلاتكم ، ولم ينههم عن نظرهم إليه فدل على جواز التفات المصلى التفاتاً يسيراً يتعلق بالصلاة ، فإنه غير منهي عنه .(4/409)
"""""" صفحة رقم 410 """"""
95 - باب
وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها
في الحضر والسفر ، وما يجهر فيها وما يخافت
قد ذكرنا هذا الباب بكماله عند تفسير قوله تعالى : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ( [ الأعراف : 204 ] في آخر سورة الأعراف ، فأغنى عن إعادته هنا .
ولله الحمد .(4/410)
"""""" صفحة رقم 411 """"""
96 - باب
القراءة في الظهر
فيه ثلاثة أحاديث :
الأول :
758 - حدثنا أبو النعمان : ثنا أبو عوانة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن جابر ابن سمرة ، قال : قال سعد : قد كنت أصلي بهم صلاة رسول الله ( ، صلاة العشي ، لا أخرم عنها ، أركد في الأوليين ، وأحذف في الأخريين . قال عمر : ذلك الظن بك .
صلاة العشي : هي صلاة الظهر والعصر ، لأن العشي هو ما بعد الزوال .
وركودهُ في الأوليين وتطويله ، إنما هو لطول القراءة ، وقد خالف ابن عباس في ذلك .
وقد خرج البخاري فيما بعد من حديث أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قرأ النبي ( فيما أمر ، وسكت فيما أمر ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ( [ مريم : 64 ] و ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة ( [ الأحزاب : 21 ] .
فهذا يدل على أن ابن عباس كان يرى أن النبي ( لم يكن يقرأ في صلاة الظهر والعصر شيئاً .
وقد تأوله الإسماعيلي وغيره على أنه لم يكن يجهر بالقراءة ، بل يقرأ سراً وهذا لايصح ؛ فإن قراءة السر لاتسمى سكوتا .(4/411)
"""""" صفحة رقم 412 """"""
وقد روي عن ابن عباس التصريح بخلاف بذلك .
وخرج الإمام أحمد حديث أيوب ، عن عكرمة بزيادة في أوله ، وهي لم يكن ابن عباس يقرأ في الظهر والعصر - وذكر الحديث .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث موسى بن سالم : ثنا عبد الله بن
عبيد الله ، قال : دخلت على ابن عباس في شباب من بني هاشم ، فقلنا لشاب منا : سل ابن عباس : أكان رسول الله ( يقرأ في الظهر والعصر ؟ قال : لا . قيل له : فلعله كان يقرأ في نفسه فقال : خمشاً ، هذه شر من الأولى ، وكان عبداً مأموراً بلغ ما أرسل به - وذكر الحديث .
وخرج الإمام أحمد من رواية أبي يزيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس نحو حديث أيوب ، وزاد : قيل له : فلعله كان يقرأ في نفسه ، فغضب منهم وقال : أيتهم رسول الله ( ؟ وروى ابن أبي ذئب ، عن شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، أنه سئل أفي الظهر والعصر قراءة ؟ قال : لا قيل له عن رسول الله ( هذا ؟ قال : لا ، ثم قال : إن رسول الله ( لو قرأ علم ذلك الناس .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود - أيضاً - من طريق حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لا أدري أكان رسول الله ( يقرأ في الظهر(4/412)
"""""" صفحة رقم 413 """"""
والعصر ، أم لا ؟
وهذه الرواية تقتضي أنه شك في ذلك ، ولم يجزم فيه بشيء .
وخرج الإمام أحمد من رواية الحسن العرني ، عن ابن عباس ، قال : ما أدري أكان رسول الله ( يقرأ في الظهر والعصر ، أم لا ، ولكنا نقرأ .
الحسن العرني ، لم يسمع من ابن عباس .
وروى موسى بن عبد العزيز القنباري ، عن الحكم - هو ابن أبان - عن
عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لم أسمع رسول الله ( قرأ في الظهر والعصر ، ولم يأمرنا به ، وقد بلغ ( .
قد روي عن ابن عباس من وجه آخر ، أن النبي ( كان يقرأ ، ولكن في إسناده ضعف .
خرجه أبو داود في ( ( كتاب الصلاة ) ) من طريق سفيان ، عن زيد العمي ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس ، قال رمق أصحاب رسول الله ( رسول الله ( فحزروا قراءته في الظهر والعصر ، بقدر ( تَنْزِيلُ ( [ السجدة : 2 ] ،
وقال : لم يسنده عن سفيان إلا يزيد بن هارون ، ولم نسمعه من أحد إلا من الحسن بن منصور ، وذكرته لأبي : فأعجب به ، وقال : حديث غريب .
وزيد العمي ، متكلم فيه .(4/413)
"""""" صفحة رقم 414 """"""
الحديث الثاني :
759 - ثنا أبو نعيم : ثنا شيبان ، عن يحيى ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، قالَ : كانَ النبي ( يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين ، يطول في الأولى ويقصر في الثانية ، ويسمع الآية أحياناً ، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين ، وكان يطول [ في الأولى ، وكان يطول ] في الركعة الأولى من صلاة الصبح ، ويقصر في الثانية .
في هذا الحديث : دليل على استحباب القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر والعصر بسورة سورة مع الفاتحة ، وهذا متفق على استحبابه بين العلماء ، وفي وجوبه خلاف سبق ذكره .
وفيه : أن النبي ( كانت القراءة بسورة تامة ، وهذا هوَ الأفضل بالاتفاق ؛ فأن قرأ السورة في ركعتين لم يكره - أيضاً - وقد فعله أبو بكر الصديق . قالَ : الزهري : أخبرني أنس ، أن أبا بكر صلى بهم صلاة الفجر ، فافتتح بهم سورة البقرة ، فقرأها في ركعتين ، فلما سلم قام إليه عمر ، فقالَ : ما كنت تفرغ حتَّى تطلع الشمس . قالَ : لو طلعت لألفتنا غير غافلين .
ورخص فيهِ سعيد بن جبير وقتادة وأحمد ، ولا نعلم فيهِ خلافاً إلاّ رواية عن
مالك . وسيأتي حديث قراءة النبي ( بالأعراف في ركعتين من المغرب . وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن عبد الله بن السائب ، أن النبي ( صلى بهم صلاة الفجر فافتتح بسورة المؤمنين ، حتى أتى عليهِ ذكر موسى وهارون(4/414)
"""""" صفحة رقم 415 """"""
فأخذته سعلة فركع .
وكذلك لو قرأ في ركعة بسورة وفي أخرى ببعض سورة ، وقد روي عن عمر وابن مسعود .
وإن قرأ في الركعتين ببعض سورة : إما في أوائلها ، أو أواسطها ، أو أواخرها ففي كراهته خلاف عن أحمد ، وسنذكره فيما بعد - إن شاء الله ( - ؛ فإن البخاري أشار إلى هذه المسائل .
وليس في حديث أبي قتادة تعيين السورتين المقروء بهما في الظهر والعصر ، وقد ورد تعيين السور ، وتقدير قراءته في أحاديث أخر .
فخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري ، قالَ : كنا نحزر قيام رسول الله ، في الظهر والعصر ، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة ( ألم
تَنْزِيلُ ( السجدة ، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذَلِكَ ، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر قدر قيامه من الأخريين في الظهر ، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذَلِكَ .
وفي رواية لهُ أيضاً : كانَ يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية ، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية - أو قالَ : نصف ذَلِكَ - وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة ، وفي الأخريين قدر نصف ذَلِكَ .
وخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي سعيد ، قالَ : اجتمع ثلاثون من أصحاب رسول الله ( ، فقالوا : تعالوا حتى نقيس قراءة النبي ( فيما لم(4/415)
"""""" صفحة رقم 416 """"""
يجهر به من الصلاة ، فما اختلف منهم رجلان ، فقاسوا قراءته في الركعة الأولى من الظهر بقدر ثلاثين آية ، وفي الركعة الأخرى بقدر النصف من ذَلِكَ ، وقاسوا ذَلِكَ في صلاة العصر على قدر النصف من الركعتين الأخريين من الظهر .
وفي إسناده : زيد العمي ، وفيه مقال .
وخرج مسلم - أيضاً - من حديث جابر بن سمرة ، قالَ : كانَ رسول الله ( ، يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى ، وفي العصر نحو ذَلِكَ ، وفي الصبح أطول من ذَلِكَ .
وفي رواية : كانَ يقرأ في الظهر ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ( .
وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ، وعندهم : كانَ يقرأ في الظهر والعصر بالسماء ذات البروج ، والسماء والطارق ، وشبهها .
وقد سبق حديث عمران بن حصين ، أن النبي ، صلى بهم الظهر والعصر ، ثم قالَ : ( ( أيكم قرأ خلفي ب ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ( ؟ ) ) قالَ رجل : أنا .
قالَ : ( ( قد علمت أن بعضكم خالجنيها ) ) .
خرجه مسلم - أيضاً .
وخرج النسائي وابن ماجه من حديث البراء بن عازب ، قالَ : كانَ رسول الله ( يصلي بنا الظهر ، فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات .
وخرج النسائي من حديث أنس ، أنه صلى بهم الظهر ، قالَ : إني(4/416)
"""""" صفحة رقم 417 """"""
صليت مع رسول الله ( صلاة الظهر فقرأ لنا بهاتيين السوررتين في الظهر : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ( و ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ( .
وذكر الترمذي - تعليقاً - أن عمر كتب إلى أبي موسى ، يأمره أن يقرأ بأوساط المفصل .
وهو قول طائفة من أصحابنا .
وقال إسحاق : الظهر تعدل في القراءة بالعشاء . لكنه يقول : إن الظهر يقرأ فيها بنحو الثلاثين آية .
وحديث جابر بن سمرة الذي خرجه مسلم كما تقدم : يدل على أن قراءة الظهر أقصر من قراءة الصبح .
وقال طائفة : يقرأ في الظهر بطوال المفصل كالصبح ، وهو قول الثوري والشافعي وطائفة من أصحابنا كالقاضي أبي يعلي في ( ( جامعه الكبير ) ) ، لكنه خصه بالركعة الأولى من الظهر .
وروى وكيع بإسناده ، عن عمر ، أنه قرأ في الظهر ب ( ق ( ( والذاريات ( .
وعن عبد الله بن عمرو ، أنه قرأ في الظهر ب ( كهيعص ( .
وروى حرب بإسناده ، عن ابن عمر ، أنه كانَ يقرأ في الظهر ب ( ق (
( والذاريات ( .
وخرجه ابن جرير ، وعنده : ب ( ق ( ( والنازعات ( .
قالَ : وكان عمر يقرأ ب ( ق ( .
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه(4/417)
"""""" صفحة رقم 418 """"""
كانَ يقرأ في الظهر ب ( الَّذِينَ كَفَرُوا ( [ محمد : 1 ] و ( إِنَّا فَتَحْنَا لَك ( [ الفتح : 1 ] .
وممن رأي استحباب القراءة في الظهر بقدر ثلاثين آية : إبراهيم النخعي والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق .
وقال الثوري وإسحاق : كانوا يستحبون أن يقرأوا في الظهر قدر ثلاثين في الركعة الأولى ، وفي الثانية بنصفها - زاد إسحاق : أو أكثر .
وظاهر كلام أحمد وفعله يدل على أن المستحب أن يقرأ في الصبح والظهر في الركعة الأولى من طوال المفصل ، وفي الثانية من وسطه .
وروي عن خباب بن الأرت ، أنه قرأ في الظهر ب ( إِذَا زُلْزِلَتِ ( [ الزلزلة : 1 ] .
قالَ أبو بكر الأثرم : الوجه في اختلاف الأحاديث في القراءة في الظهر أنه كله جائز ، وأحسنه استعمال طول القراءة في الصيف ، وطول الأيام ، واستعمال التقصير في القراءة في الشتاء وقصر الأيام ، وفي الأسفار ، وذلك كله معمول به . انتهى .
ومن الناس من حمل اختلاف الأحاديث في قدر القراءة على أن النبي ( كانَ يراعي أحوال المأمومين ، فإذا علم أنهم يؤثرون التطويل طول ، أو التخفيف خفف ، وكذلك إذا عرض لهُ في صلاته ما يقتضي التخفيف ، مثل أن يسمع بكاء صبي مع أمه ، ونحو ذَلِكَ .
وفي حديث أبي قتادة : يطول الركعة الأولى على الثانية .
وقد ذهب إلى القول بظاهره في استحباب تطويل الركعة الأولى على ما بعدها من جميع الصوات طائفة من العلماء ، منهم : الثوري وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن ، وطائفة من أصحاب الشافعي ، وروى عن عمر - ( - .
وقد خرج الإمام أحمد وأبو داود حديث أبي قتادة ، وزاد فيهِ : فظننا أنه(4/418)
"""""" صفحة رقم 419 """"""
يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى .
وخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري ، قالَ : لقد كانت صلاة الظهر
تقام ، فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ، ثم يتوضأ ، ثم يأتي ورسول الله ( في الركعة الأولى ؛ مما يطولها .
وقد سبق حديث أبي سعيد الذي خرجه مسلم ، أن قراءته في الثانية كانت على النصف من قراءته في الأولى .
وخرج الإمام أحمد من حديث شهر بن حوشب ، عن أبي مالك الأشعري ، أن النبي ( كانَ يسوي بين الأربع ركعات في القراءة والقيام ويجعل الركعة الأولى هي أطولهن ، لكي يثوب الناس .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : لا يطيل سوى الركعة من الفجر ؛ لأنه وقت غفلة ونوم ، ويسوي بين الركعات في سائر الصلوات .
وقال مالك والشافعي : يسوى بين الركعتين الأولتين في جميع الصلوات واستدل لذلك بقول ( سعد ) : ( ( أركد في الأوليين ) ) ، وليس بصريح ولا ظاهر في التسوية بينهما .
واستدل أيضاً - بحديث أبي سعيد ، أنهم حزروا قيام النبي ( في الظهر في الركعتين الأوليين قدر قراءة ثلاثين آية ، وقد سبق .
ولكن في رواية أحمد وابن ماجه : أن قيامه في الثانية كانَ على النصف من ذَلِكَ ، وهذه الرواية توافق أكثر الأحاديث الصحيحة ، فهي أولى .
واستدل لهم بقراءة النبي ( : ( ( سبح ) ) و ( ( الغاشية ) ) و ( ( الجمعة ) )(4/419)
"""""" صفحة رقم 420 """"""
و ( ( المنافقين ) ) و ( ( تَنزِيُلُ السجدة ) ) و ( ( هلُ أَتَى ) ) و ( ( ق ) ) و ( ( اقتْرَبَتْ ) ) ، هي سور متقاربة .
وأما تطويل الركعة الثالثة على الرابعة ، فالأكثرون على أنه لا يستحب ، ومن الشافعية من نقل الاتفاق عليهِ ، ومنهم من حكى لأصحابهم فيهِ وجهين .
وهذا إنما يتفرع على أحد قولي الشافعي باستحباب القراءة في الأخريين بسور مع الفاتحة .
وقد خرج البزار والبيهقي من حديث عبد الله بن أبي أوفي ، قالَ : كانَ
رسول الله ( يطيل الركعة الأولى من الظهر ، فلا يزال يقرأ قائماً ما دام يسمع خفق نعال القوم ، ويجعل الركعة الثانية أقصر من الأولى ، والثالثة أقصر من الثانية ، والرابعة أقصر من الثالثة وذكر مثل ذَلِكَ في صلاة العصر والمغرب وفي إسناده : أبو إسحاق الحميسي ، ضعفوه .
وقد خرجه بقي بن مخلد في ( ( مسنده ) ) بإسناد أجود من هذا ، لكن ذكر أبو حاتم الرازي أن فيهِ انقطاعاً ، ولفظه في الظهر : ويجعل الثانية أقصر من الأولى ، والثالثة أقصر من الثانية ، والرابعة كذلك ، وقال في العصر : يطيل في الأولى ، ويقصر الثانية والثالثة والرابعة كذلك . وقال في المغرب : يطيل في الأولى ، ويقصر في الثانية والثالثة .
وهذا اللفظ لا يدل على تقصير الرابعة عن الثالثة .
وقوله : ( ( ويسمعنا الآية أحياناً ) ) مما يحقق أنه ( كانَ يقرأ في الظهر والعصر ، ويأتي بقية الكلام على ذَلِكَ فيما بعد - إن شاء الله تعالى .(4/420)
"""""" صفحة رقم 421 """"""
الحديث الثالث :
760 - حدثنا عمر - هوَ : ابن حفص بن غياث - : ثنا أبي : ثنا الأعمش : حدثني عمارة ، عن أبي معمر ، قالَ : سألنا خبابا : أكان النبي ( يقرأ في الظهرِ
والعصر ؟ ، قالَ : نعم قلنا : بأي شيء كنتم تعرفون ذَلِكَ ؟ قالَ : باضطراب لحيته .
يعني : بحركة شعر لحيته .
هكذا رواه جماعة عن الأعمش .
ورواه بعضهم عنه ، قالَ : بتحريك لحيته .
ورواه أبو معاوية ، عن الأعمش ، فقالَ : باضطراب لحييه - بيائين تثنية لحي ، وهو عظم الفك .
وقد كانَ غير واحد من الصحابة يستدل بمثل هذا على قراءة النبي ( في صلاة النهار .
وروى سفيان ، عن أبي الزعراء ، عن أبي الأحوص ، عن بعض أصحاب النبي
( ، قالَ : كانت تعرف قراءة النبي ( في الظهر بتحريك لحيته .
خرجه الإمام أحمد .
وخرج - أيضاً - من رواية كثير بن زيد ، عن المطلب بن عبد الله ، قالَ : تماروا في القراءة في الظهر والعصر ، فأرسلوا إلى خارجه بن زيد ،
فقالَ : قالَ أبي : قام - أو كانَ النبي ( يطيل القيام ، ويحرك شفتيه ، فقد أعلم ذَلِكَ لم يكن إلا بقراءة ، فأنا أفعله .(4/421)
"""""" صفحة رقم 422 """"""
وفي هذه الأحاديث : دليل على أن قراءة السر تكون بتحريك اللسان والشفتين وبذلك يتحرك شعر اللحية ، وهذا القدر لابد منه في القراءة والذكر وغيرهما من الكلام .
فأما إسماع نفسه فاشترطه الشافعي وبعض الحنفية وكثير من أصحابنا .
وقال الثوري : لا يشترط ، بل يكفي تصوير الحروف ، وهو قول الحرقي من الحنفية ، وظاهر كلام أحمد .
قالَ أبو داود : قيل لأحمد : كم يرفع صوته بالقراءة ؟ فقالَ : قالَ ابن مسعود : من أسمع أذنية فلم يخافت .
فهذا يدل على أن إسماع الأذنين جهر ، فيكون السر دونه .
وكذا قالَ ابن أبي موسى من أصحابنا : القراءة التي يسرها في الصلاة يتحرك اللسان والشفتان بالتكلم بالقرآن ، فأما الجهر فيسمع نفسه ومن يليه .(4/422)
"""""" صفحة رقم 423 """"""
97 - باب
القراءة في العصر
761 - حدثنا محمد بن يوسف : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عمارة ابن عمير ، عن أبي معمر ، قالَ : قلنا لخباب بن الأرت : أكان رسول الله ( يقرأ في الظهر والعصر ؟ قالَ : نعم . قلت : بأي شيء كنتم تعلمون قراءته ؟ قالَ : باضطراب لحيته .
762 - حدثنا مكي بن إبراهيم ، عن هشام ، عن يحيى بن كثير ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، قالَ : كانَ النبي ( يقرأ في الركعتين ( الأوليين ) من الظهر والعصر بفاتحه الكتاب وسورة ( سورةٍ ) ، ويسمعنا الآية أحيانا .
هذان الحديثان سبقا في الباب الماضي .
والمقصود منهما هاهنا : القراءة في صلاة العصر .
وقد ذكرنا حديث أبي سعيد الخدري الذي خرجه مسلم ، وفيه : أن قيامه في الركعتين الأوليين من صلاة العصر كانَ على قدر قيامه في الأخريين من الظهر .
وفي رواية : أنه قدر خمس عشرة آية .
وفي رواية ابن ماجه : أن قيامه في صلاة العصر على قدر النصف من الركعتين الأخريين من الظهر .(4/423)
"""""" صفحة رقم 424 """"""
واختلف العلماء في القراءة في العصر :
فقالَ النخعي : العصر مثل المغرب في القراءة :
يعني : أن قراءتها تخفف .
وعنه قالَ : تضاعف الظهر على العصر أربعة أضعاف .
وكذا قالَ الثوري في قراءة العصر : إنها كقراءة المغرب بقصار المفصل .
وقال إسحاق : الظهر يعدل في القراءة بالعشاء ، والعصر تعدل المغرب .
يعني : أنه يقرأ فيها بقصار المفصل .
وسياتي في الباب الذي بعده في تقصير العصر حديث مرفوع .
وقالت طائفة : قراءة العصر على نصف قراءة الظهر ، وقراءة الظهر نحو ثلاثين آية ، ونص على ذَلِكَ الإمام أحمد ، واحتج بحديث أبي سعيد الخدري .
وقال أصحاب الشافعي : يقرأ في الصبح بطوال المفصل كالحجرات والواقعة ، وفي الظهر بقريب من ذَلِكَ ، وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل ، وفي المغرب بقصاره ولإن خالف وقرأ بالطول أو القصر جاز .
وقالت طائفة : يسوى بين قراءة الظهر والعصر ، روي ذَلِكَ عن أنس بن مالك ، وروي عن ابن عمر من وجه ضيعف .
وحديث جابر بن سمرة الذي خرجه مسلم يشهد لذلك : أن النبي ( كانَ يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى ، وفي العصر نحو ذَلِكَ .(4/424)
"""""" صفحة رقم 425 """"""
98 - باب
القراءة في المغرب
فيهِ حديثان :
الأول :
763 - حدثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، أنه قالَ : إن أم الفضل سمعته وهو يقرأ :
( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ( ، فقالَت : يابني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة ، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله ( يقرأ بها في المغرب .
وخرجه مسلم من طريق مالك وسفيان ومعمر وصالح بن كيسان ، كلهم عن الزهري بنحوه .
وزاد صالح في حديثه : ثم ما صلى بعد حتى قبضه الله .
والمراد - والله أعلم - ما صلى بعدها إماماً بالناس .
وخرجه الترمذي من حديث ابن إسحاق ، عن الزهري ، ولفظه : قالَ : خرج إلينا رسول الله ( وهو عاصب رأسه في مرضه ، فصلى المغرب ، ثم قراً بالمرسلات ، فما صلى بها بعد حتى لقي الله .
وخرجه الطبراني من رواية أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن أبي رشدين - وهو : كريب - ، عن أم الفضل ، أنها كانت إذا سمعت أحداً يقرأ بالمرسلات قالت : صلى لنا رسول الله ( ، قرأ في المغرب بالمرسلات ،(4/425)
"""""" صفحة رقم 426 """"""
ثم يصل لنا عشاء حتى قبضه الله .
وهذا يبين أن المعنى أنه لم يصل لهم بعدها صلاة المغرب إماماً ولكن قوله : ( ( عن كريب ) ) في هذا الإسناد وهم ، إنما هوَ : عبد الله ابن عباس .
وخرج النسائي من حديث موسى بن داود ، عن عبد العزيز الماجشون ، عن حميد ، عن أنس ، عن أم الفضل ، قالت : صلى بنا رسول الله ( في بيته المغرب ، فقرأ بالمرسلات ، ما صلى بعدها صلاة حتى قبض الله روحه ( .
وهذا الإسناد كلهم ثقات ، إلا أنه معلول ، فإن الماجشون روى ، عن حميد ، عن أنس أن النبي ( صلى في ثوب واحد ، ثم قالَ الماجشون عقب ذَلِكَ : وذكر لي عن أم الفضل - فذكر هذا الحديث ، فوهم فيهِ موسى بن دواد ، فساقه كله عن حميد ، عن أنس - : ذكر ذَلِكَ أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان .
الحديث الثاني .
764 - حدثنا أبو عصام ، عن ابن جريح ، عن ابن أبي مليكة ، عن عروة بن الزبير ، عن مروان بن الحكم ، قالَ : قالَ لي زيد بن ثابت : مَا لكَ تقرأ في المغرب بقصار المفصل ، وقد سمعت رسول الله ( يقرأ بطولي الطوليين ؟
طولى : وزنه فعلى ، والطوليين : تثنية الطولى .
ويقال : إنه هاهنا أراد الأعراف : فإنها أطول من صاحبتها الأنعام _ : ذكره الخطابي .(4/426)
"""""" صفحة رقم 427 """"""
وخرج أبو داود هدا الحديث من طريق ابن جريح - أيضاً - ، وعنده ( ( بقصار المفصل ) ) ، وزاد فيهِ : قالَ : قلت : وما طولى الطوليين ؟ قالَ : الأعراف قالَ : فسألت ابن أبي ملكية ، فقالَ لي من قبل نفسه المائدة والأعراف .
وخرجه النسائي - أيضاً - ، وعنده : بقصار السور ، وعنده : بأطول الطوليين ، قلت : يا أبا عبد الله ، ما أطول الطوليين ؟ قالَ : الأعراف .
وهذا يدل على أن المسئول والمخبر هوَ عروة .
ثم خرجه من طريق شعيب بن أبي حمزة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة ، أن رسول الله ( قرأ في صلاة المغرب الأعراف ، فرقها في ركعتين .
وخرجه - أيضاً - من طريق أبي الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث ، عن زيد بن ثابت ، قالَ لمروان : أتقرأ في المغرب ب ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( و ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْكَوْثَرَ ( ؟ قالَ : نعم . قالَ : فمحلوفة ، لقد رأيت رسول الله ( يقرأ فيها بأطول الطوليين ( الَمَصَ ( .
فهذا ثلاثة أنواع من الاختلاف في إسناده :
أحدها : عروة ، عن مروان ، وهي رواية ابن أبي مليكة عنه .
وهذا أصح الروايات عندَ البخاري ، وكذلك خرجه في ( ( صحيحه ) ) ونقل عنه ذَلِكَ الترمذي في ( ( علله ) ) صريحاً ، ووافقه الدارقطني في ( ( العلل ) ) .(4/427)
"""""" صفحة رقم 428 """"""
والثاني : عروة ، عن عائشة ، وهي رواية شعيب بن أبي حمزة ، عن هشام ، عن أبيه .
وقد قال أبو حاتم الرازي : إنه خطأ .
والثالث : عروة ، عن زيد - من غير واسطة ، وهي رواية أبي الأسود ، عن عروة .
وكذلك رواه جماعة عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زيد ، منهم : يحيى القطان والليث بن سعد وحماد بن سلمة وغيرهم .
وصحح ذلك ابن حبان ، ورجحه الدارقطني في جزء له مفرد علقه على أحاديث عللها من " صحيح البخاري " .
وقد اختلف في إسناده عن هشام بن عروة .
فقيل : عنه ، عن أبيه ، عن عائشة .
وقيل : عنه ، عن أبيه ، عن زيد بن ثابت .
وقيل : عنه ، عن أبيه ، عن أبي أيوب وزيد معا .
وقيل : عنه ، عن أبيه ، عن أبي أيوب - أو زيد - بالشك في ذلك(4/428)
"""""" صفحة رقم 429 """"""
وهو الصحيح عن هشام - : قاله البخاري ، حكاه الترمذي عنه في ( ( علله ) ) ، وقاله - أيضاً - الدارقطني في ( ( علله ) ) وقالا : كانَ هشام يشك في إسناده .
وقال ابن أبي الزناد : عن هشام ، عن أبيه ، عن مروان ، عن زيد .
خرجه الإمام أحمد من طريقه .
وهذا موافق لقول ابن أبي مليكة ، عن عروة .
وروي عن هشام ، عن أبيه - مرسلاً .
وفي رواية : عن هشام : سورة الأنفال ، بدل : الأعراف .
ولعل مسلماً أعرض عن تخريج هذا الحديث لاضطراب إسناده ؛ ولأن الصحيح عنده إدخال ( ( مروان ) ) في إسناده ، وهو لا يخرج لهُ استقلالاً ، ولا يحتج بروايته . والله ( أعلم .
وسيأتي حديث جبير بن مطعم في قراءة النبي ( في المغرب بالطور ، في الباب الذي يلي هذا - إن شاء الله ( .
وقد اختلف في القراءة في المغرب :
فذهبت طائفة من السلف إلى تطويلها ، وقد سبق عن زيد بن ثابت أنه أنكر على مروان القراءة فيها بقصار المفصل .
وروي عن ابن عمر ، أنه كانَ يقرأ فيها ب ( يسَ ( .
وروى عنه مرفوعاً .
والموقوف أصح - : ذكره الدارقطني في ( ( علله ) ) .(4/429)
"""""" صفحة رقم 430 """"""
وخرج العقيلي المرفوع ، وقال : هوَ غير محفوظ .
وخرج الدارقطني في ( ( علله ) ) - أيضاً - من رواية عامر بن مدرك : ثنا
سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن عائشة ، قالت : كانت صلاة
رسول الله ( ركعتين ركعتين ، إلا المغرب ؛ فإنها كانت وتراً ، فلما رجع إلى المدينة صلى مع كل ركعتين ركعتين ، إلا المغرب والفجر ؛ لأنه كانَ يطيل فيهما القراءة .
وهذا لفظ غريب .
وقد سبق في أول ( ( المواقيت ) ) بلفظ آخر : إلا المغرب ؛ لأنها وتر ، والفجر ؛ لأنه كانَ يطيل فيها القراءة .
وهذا اللفظ أصح .
وذهب أكثر العلماء إلى استحباب تقصير الصلاة في المغرب . روى مالك في
( ( الموطإ ) ) بإسناده عن الصنابحي ، أنه قدم المدينة في خلافة أبي بكر الصديق ، فصلى وراء أبي بكر الصديق المغرب ، فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة من قصار المفصل ، ثم قام في الركعة الثالثة ، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد أن تمس ثيابه ، فسمعته قرأ بأم القرآن ، وبهذه الآية ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ( [ آل عمران :
8 ] الآية .
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري ، أن يقرأ في صلاة المغرب بقصار المفصل .
ذكره الترمذي - تعليقاً - وخرجه وكيع .(4/430)
"""""" صفحة رقم 431 """"""
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن
ميمون ، قالَ : سمعت عمر يقرأ في المغرب في الركعة الأولى بالتين والزيتون ، وفي الثانية ( أَلَمْ تَرَ ( و ( لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ( .
وعن الربيع ، [ عن الحسن ] ، أنه كانَ يقرأ في المغرب ( إِذَا زُلْزِلَتِ (
( وَالْعَادِيَاتِ ( لا يدعهما ، قالَ الربيع : وحدثني الثقة عن ابن عمر ، أنه كانَ لا يدعهما في المغرب .
وخرج أبو داود في ( ( سننه ) ) عن ابن مسعود ، أنه قرأ في المغرب : ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( .
وعن هشام بن عروة ، أن أباه كانَ يقرأ في المغرب بنحو ما تقرءون
( وَالْعَادِيَاتِ ( ونحوها من السور .
وهذا مما يعلل به حديثه عن مروان ، عن زيد بن ثابت ، كما تقدم وكان النخعي يقرأ في المغرب ( أَلَمْ تَر ( أو ( لإيلافِ قُرَيْشٍ ( .
وذكر الترمذي : أن العمل عندَ أهل العلم على القراءة في المغرب بقصار المفصل . وهذا يشعر بحكاية الإجماع عليهِ .
وممن استحب ذَلِكَ ابن مبارك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق ، وقال : كانوا يستحبون ذَلِكَ .
وقد دل على استحباب ذَلِكَ : ماروى الضحاك بن عثمان ، عن بكير بن(4/431)
"""""" صفحة رقم 432 """"""
الأشج ، عن سليمان بن يسار ، عن أبي هريرة ، قالَ : ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله ( من فلان .
قالَ سليمان : يطيل الركعتين الأوليين من الظهر ، ويخفف العصر ، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل ، ويقرأ في العشاء بوسط المفصل ، ويقرأ في الصبح بطوال المفصل .
خرجه الإمام أحمد والنسائي .
وخرج ابن ماجه بعضه .
وفي رواية للنسائي : ويقرأ في العشاء بالشمس وضحاها ، وأشباهها ، ويقرأ في الصبح سورتين طويلتين .
وفي رواية للإمام أحمد : قالَ الضحاك : وحدثني من سمع أنس بن مالك يقول : ما رأيت أحداً أشبه صلاة بصلاة رسول الله ( من هذا الفتى . قالَ الضحاك : فصليت خلف عمر بن عبد العزيز ، فكان يصنع مثلما قالَ سليمان بن يسار .
وخرج ابن سعد وغيره حديث أنس ، عن ابن أبي فديك ، عن الضحاك ، قالَ : حدثني يحيى بن سعيد - أو شريك بن أبي نمر ، لا ندري أيهما حدثه - عن أنس - فذكر الحديث .
والفتى : هوَ عمر بن عبد العزيز ، كذا قالَ ابن أبي فديك ، عن الضحاك بالشك .(4/432)
"""""" صفحة رقم 433 """"""
ورواه الواقدي ، عن الضحاك ، عن شريك - من غير شك .
فهذا حديث صحيح عن أبي هريرة وأنس ، ويدل على أن النبي ( كانَ يقرأ في المغرب بقصار المفصل .
ويشهد لهُ - أيضاً - : ما خرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب ، عن
أبيه ، عن جده ، قالَ : ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول الله ( يؤم بها الناس في الصلاة المكتوبة .
فهذا يدل على إكثار النبي ( من قراءة سور المفصل في الصلوات الجهريات الثلاث . قصارها ، وطوالها ، ومتوسطها ، فإن كانَ يقرأ في الصبح بطول المفصل وفي المغرب بقصاره وفي العشاء بأوساطه ؛ فهوَ موافق لحديث أبي هريرة وأنس ، وهذا هوَ الظاهر ، وإن يقرأ بقصار سور المفصل في العشاء أو في الصبح ، فقراءتها في المغرب أولى .
وخرج النسائي من رواية سيفان ، عن محارب بن دثار ، عن جابر ، قالَ : مر رجل من الأنصار بناضحين على معاذ ، وهو يصلى المغرب ، فافتتح سورة البقرة ، فصلى الرجل ، ثم ذهب ، فبلغ ذَلِكَ النبي ( ، فقالَ : ( ( أفتان يا معاذ ؟ أفتان يا معاذ ؟ ألا قرأت ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ( ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( ونحوهما ) ) .
ورواه مسعر ، عن محارب بن دثار ، قالَ في حديثه : ( ( إنما يكفيك أن تقرأ في المغرب بالشمس وضحاها وذواتها ) ) .
وروه أبو الأحوص ، عن سعيد بن مسروق ، عن محارب ، وقال في(4/433)
"""""" صفحة رقم 434 """"""
حديثه :
( ( ألا يقرأ أحدكم في المغرب ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ( ، ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( ) ) .
وخرج ابن ماجه : حدثنا أحمد بن بديل : ثنا حفص بن غياث ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قالَ : كانَ النبي ( يقرأ في المغرب ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( و ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( .
ابن بديل ، قالَ النسائي ليس به بأس ، وقال ابن أبي حاتم : محله الصدق ، وقال ابن عدي : حدث بأحاديث أنكرت عليهِ ، ويكتب حديثه مع ضعفه .
وقد أنكر عليهِ هذا الحديث بخصوصه أبو زرعة الرازي وغيره . قالَ الدارقطني : لم يتابع عليهِ .
قلت : وقد تابعه عبد الله بن كرز على إسناده ، فرواه عن نافع ، عن ابن عمر ، وخالفه في متنه ، فقالَ : إن النبي ( كانَ يقرأ في المغرب بالمعوذتين .
ولم يتابع عليهِ ، قالَ الدار القطني : ليس بمحفوظ ، وابن كرز ضعيف .
وروى سعيد بن سماك بن حرب : ثنا أبي ، ولا أعلمه إلا عن جابر ابن سمرة ، قالَ : كانَ رسول الله ( يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (
و ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( ، وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة : سورة الجمعة والمنافقين .
خرجه الحاكم والبيهقي .
وروي عن أبي عثمان الصابوني أنه صححه ، وكان يعمل به حضراً وسفراً ،(4/434)
"""""" صفحة رقم 435 """"""
وعن ابن حبان أنه ذكر في ( ( ثقاته ) ) : أن المحفوظ عن سماك مرسلا .
وسعيد بن سماك بن حرب ، قالَ أبو حاتم الرازي : متروك الحديث .
قالَ علي بن سعيد : قلت لأحمد : ما يروى عن النبي ( في صلاة المغرب بالطور والأعراف والمرسلات ؟ قالَ : قد روي عنه ذَلِكَ ، حديث معاذ .
وأشار أبو داود إلى نسخ القراءة بالأعراف ، واستدل لهُ بعمل عروة بن الزبير بخلافه ، وهو روايه .
وقد قالَ طائفة من السلف : إذا اختلفت الأحاديث فانظروا ما كانَ عليهِ أبو بكر وعمر .
يعني : أن ما عملا به فهوَ الذي استقر عليهِ أمر النبي ( ، وقد تقدم عنهما القراءة في المغرب بقصار المفصل ، وعضد ذَلِكَ - أيضاً - حديث عثمان بن أبي العاص ، أن النبي ( عهد إليه أن يخفف ، ووقت لهُ أن يقرأ ب ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ( وأشباهها من السور .
وعثمان بن أبي العاص قدم مع وفد ثقيف بعد فتح مكة ، وذلك في آخر حياة النبي ( .
فإن قرأ في المغرب بهذه السور الطوال ففي كراهته قولان :
أحدهما : يكره ، وهو قول مالك .
والثاني : لا يكره ، بل يستحب ، وهو قول الشافعي ؛ لصحة الحديث بذلك ، حكى ذَلِكَ الترمذي في ( ( جامعه ) ) ، وكذلك نص أحمد على أنه لا بأس به(4/435)
"""""" صفحة رقم 436 """"""
ولكن أن كانَ ذَلِكَ يشق على المأمومين ، فإنه يكره أن يشق عليهم ، كما سبق ذكره .
وهذا على قول من يقول بامتداد وقت المغرب إلى مغيب الشفق ظاهر ، فأما على قول من يقول : إن وقتها وقت واحد مضيق فمشكل .
وكذلك كرهه مالك .
وأما أصحاب الشافعي ، فاختلوا فيمن دخل فيها في أول وقتها : هل لهُ أن يطيلها ويمدها إلى مغيب الشفق ، أم لا ؟ على وجهين .
ورجح كثير منهم جوازه ؛ لحديث زيد بن ثابت ، فأجازوا ذَلِكَ في الاستدامة دون الابتداء ، والله أعلم .(4/436)
"""""" صفحة رقم 437 """"""
99 - باب
الجهر في المغرب
756 - حدثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن محمد ابن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قالَ : سمعت رسول الله ( يقرأ في المغرب بالطور .
وخرجه في ( ( المغازي ) ) من طريق معمر ، عن الزهري ، وزاد فيهِ : وذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي .
وهذا كانَ قبل أن يسلم جبير بن مطعم ، وكان قدم المدينة لفداء أسارى بدر .
وخرج الإمام أحمد من طريق سعد بن إبراهيم : سمعت بعض إخوتي يحدث ، عن أبي ، عن جبير بن مطعم ، أنه أتى النبي ( في فداء المشركين _ وفي رواية : في فداء أهل بدراً _ وما أسلم يومئذ ، قالَ : فانتهيت إليه وهو يصلي المغرب ، وهو يقرأ فيها بالطور ، قالَ : فكانما صدع قلبي حين سمعت القرآن .
وفي هذا : دليل على قبول رواية المسلم لما تحمله من العلم قبل إسلامه .
وقد روي أنه سمع صوت النبي ( وهو خارج من المسجد .
وفيه : دليل على أن النبي ( كانَ يرفع صوته بالقراءة في صلاة الليل .
والأحاديث المذكورة في الباب الماضي تدل على الجهر بالقراءة في المغرب ؛ فإن عامة من روى عن النَّبيّ ( القراءة في [ المغرب ] بسورة ذكر أنه سمعه(4/437)
"""""" صفحة رقم 438 """"""
يقرأ بها ، وفي ذَلِكَ دليل الجهر .
والجهر بالقراءة في المغرب إجماع [ المسلمين ] رأياً وعملا به لم يزل المسلمون يتداولونه بينهم ، من عهد نيبهم ( حتى الآن .
[ وأدنى ] الجهر : أن يسمع من يليه ، هذا قول أصحابنا والشافعية وغيرهم .
وقد سبق عن ابن مسعود ، قالَ : من أسمع أذنيه فلم يخافت ، وهو يدل على أدنى الجهر : أن يسمع نفسه .
روى وكيع ، عن سفيان ، عن أشعت بن أبي الشعثاء ، عن الأسود بن هلال ، عن ابن مسعود ، قالَ : لم يخافت من أسمع أذنيه .
ومنتهى الجهر : أن يسمع من خلفه إن أمكن ذَلِكَ من غير مشقة ، وقد كانَ عمر بن الخطاب يسمع قراءته في المسجد من خارجه .
وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا ( [ الإسراء : 110 ] قالَ : نزلت ورسول الله ( متوار بمكة ، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، سمع ذَلِكَ المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ، ومن جاء به ، فقالَ الله لنبيه : ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ( فيسمع المشركون قراءتك ( وَلا تُخَافِتْ بِهَا ( عن أصحابك ، أسمعهم القرآن لا تجهر ذَلِكَ الجهر ( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ( ، يقول : بين الجهر والمخافتة .
خرجاه في ( ( الصحيحين ) ) ولفظه لمسلم .
والجهر فيما يجهر فيهِ سنة ، لا تبطل الصلاة بتركه عندَ جمهور العلماء .(4/438)
"""""" صفحة رقم 439 """"""
وحكى عن ابن أبي ليلى أنه تبطل الصلاة بتركه . وهو وجه ضعيف لأصحابنا إذا تعمد ذَلِكَ .
وإنما يجهر الإمام إذا صلى من يأتم به ، فأما المنفرد ، فاختلفوا : هل يسن لهُ
الجهر ، أم لا ؟
فقالَ الشافعي وأصحابه : يسن لهُ الجهر . وحكاه بعضهم عن الجمهور .
ومذهب أبي حنيفة وأحمد : إنما يسن الجهر لإسماع من خلفه ؛ ولهذا أمر من خلفه بالإنصات لهُ ، كما قالَ تعالى : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( [ الأعراف : 204 ] ، وقد سبق أنها نزلت في الصلاة وأما المنفرد فيجوز لهُ الجهر ولا يسن .
قالَ أحمد : إن شاء جهر ، وإن شاء لم يجهر ؛ إنما الجهر للجماعة .
وكذا قالَ طاوس : إن شاء جهر ، وإن شاء لم يجهر .
ومن أصحابنا من كرهه للمنفرد .
ونص أحمد على أن المنفرد إذا صلى الكسوف جهر فيها بالقراءة ، فخرج القاضي أبو يعلى من ذَلِكَ رواية باستحباب الجهر للمنفرد في الفرائض .
وبينهما فرق ؛ فإن صلاة الكسوف تطول فيها القراءة ، فيحتاج المنفرد إلى الجهر فيها ؛ كقيام الليل ، بخلاف الفرائض .(4/439)
"""""" صفحة رقم 440 """"""
0 - باب
الجهر في العشاء
766 - حدثنا أبو النعمان : ثنا معتمر ، عن أبيه ، عن بكر ، عن أبي رافع ، قالَ : صليت مع أبي هريرة العتمه ، فقرأ ( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ( فسجد ، فقلت لهُ . فقالَ : سجدت خلف أبي القاسم ، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه .
767 - حدثنا أبو الوليد : ثنا شعبة ، عن عدي ، قالَ : سمعت البراء ، أن النبي ( كانَ في سفر ، فقرأ في العشاء بالتين والزيتون .
لم يذكر في هذا الباب حدثنا مرفوعاً إلا على الجهر في العشاء .
أما حديث أبي هريرة : فغايته أن يدل على أن أبا هريرة جهر في قراءة صلاة العشاء ، وسجد ، وأخبر أنه سجد بهذه السجدة خلف النبي ( ، ولم يقل : في صلاة العشاء ، فيحتمل أنه سجد بها خلفه في صلاة جهر فيها بالقراءة غير صلاة العشاء ، ويحتمل أنه سجد بها في غير صلاة ؛ فإن القارئ إذا قرأ وسجد سجد من سمعه ، ويكون مؤتماً به عندَ كثير من العلماء ، وهو مذهب أحمد وغيره ، ويأتي ذكر ذَلِكَ في مواضع أخر - إن شاء الله ( .
وأما حديث البراء : فليس في هذه الرواية التي خرجها هاهنا تصريح بالجهر ، ولكنه خرجه فيما بعد ، وزاد فيهِ : ( ( قالَ : فما سمعت أحسن صوتاً منه ) ) وهذا يدل على الجهر .
وبكل حال ؛ فالجهر بالقراءة في الركعتين الأوليين من العشاء متفق عليهِ بين(4/440)
"""""" صفحة رقم 441 """"""
المسلمين ، وقد تداولته الأمة عملاً به قرنا بعد قرن ، من عهد نبيهم ( وإلى الآن .
وحكم الجهر في العشاء حكم الجهر في المغرب ، وقد سبق ذكره .(4/441)
"""""" صفحة رقم 442 """"""
1 - باب
القراءة في العشاء بالسجدة
768 - حدثنا مسدد : ثنا يزيد بن زريع : ثنا التيمي ، عن بكر ، عن أبي رافع ، قالَ : صليت مع أبي هريرة العتمة ، فقرأ ( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ( فسجد . فقلت :
ما هذه ؟ قالَ : سجدت بها خلف أبي القاسم ، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه .
قد ذكرنا أن هذا الحديث إنما فيهِ التصريح بالسجود في صلاة العشاء عن أبي هريرة ، وليس فيهِ تصريح برفع ذَلِكَ إلى النبي ( ، وسيأتي في موضع آخر - إن شاء الله تعالى - قراءة النبي ( في فجر يوم الجمعة ب ( الم تَنْزِيل ( ( السجدة ) .
والظاهر : أنه كانَ يسجد فيها ، ولو لم يكن يسجد فيها لنقل إخلاله بالسجود فيها ، فإنه يكون مخالفا لسنته المعروفة في السجود فيها ، ولم يكن يهمل نقل ذَلِكَ ، فإن هذه السورة تسمى سورة السجدة ، وهذا يدل على أن السجود فيها مما استقر عليهِ العمل به عندَ الأمة .
وجمهور العلماء على أن الإمام لا يكره لهُ قراءة سجدة في صلاة الجهر ، ولا السجود لها فيها ، وروى ذَلِكَ عن ابن عمر وأبي هريرة ، وهو قول الشافعي وأحمد وغيرهما .
واختلف فيهِ عن مالك ، فروي عنه كراهته ، وروي عنه أنه قالَ : لا بأس به إذا لم يخف أن يغلط على من خلفه صلاته .
وكأنه يشير إلى أنه إذا كثر الجمع وأدى السجود إلى تغليط من بعد عن(4/442)
"""""" صفحة رقم 443 """"""
الإمام ؛ لضنّه أنه يكبر للركوع فركع .
وأما قراءة الإمام في صلاة السر سورة فيها سجدة ، فاختلفوا في ذَلِكَ :
فكرهه كثير من العلماء ، منهم : مالك والثوري وأبو حنيفة وأحمد .
وعللوا الكراهة بتغليط المأمومين ، وأنه ربما اعتقدوا أنه سها في صلاته فيتخلف بعضهم عن متابعته وتختبط صلاتهم .
ثم اختلفوا فيما إذا قرأها : هل يسجد ، أم لا ؟
فقالَ : أكثرهم : يسجد ، وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة .
والسجود عندَ مالك مستحب ، وعندهما واجب ؛ بناء على أصلهما في وجوب سجود التلاوة .
وقالوا : متى سجد لزم المأمومين متابعته في السجود .
وقال أحمد وأصحابه : يكره أن يسجد ، فإن فعل لم يلزم المأموم متابعته ، بل يخير في ذَلِكَ ؛ لأن إمامه فعل مكروها لا يبطل صلاته ، فخير في متابعته وترك متابعته .
وكذا قالَ الثوري في إمامٍ سجد ، يظن أنه قرأ سجدة فسجد فيها : لا يتبعه من خلفه .
وقالت طائفة : لا يكره قراءة السجدة في صلاة السر ولا السجود لها ، وعلى المأموم متابعته ، وهو قول الشافعي وإسحاق .
ومن الشافعية من قالَ : يستحب تأخير السجود لها حتى يفرغ من الصلاة ، فيسجد حينئذ للتلاوة .
واستدلوا بما روى سليمان التيمي ، عن أبي مجلز ، عن ابن عمر ، أن النبي ( سجد في الركعة الأولى من صلاة الظهر ، فرأى أصحابه أنه قرأ(4/443)
"""""" صفحة رقم 444 """"""
( تَنْزِيلُ ( [ السجدة ] .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود .
ولم يسمعه التيمي عن أبي مجلز .
قالَ الدارقطني : وقيل : عنه ، عن أبي أمية ، عن أبي مجلز . قالَ : ويشبه أن يكون : عبد الكريم أبو أمية . وكذا قاله إبراهيم بن عرعرة .
وقال في موضع آخر : أمية مجهول .
وذكر البيهقي أنه قيل فيهِ : ( ( مية ) ) - أيضاً - بغير ألف .
وروى بهذا الإسناد عن أبي مجلز مرسلا .
قالَ الإمام أحمد في هذا الحديث : ليس لهُ إسناد . وقال - أيضاً - : لم يسمعه سليمان من أبي مجلز ، وبعضهم لا يقول فيهِ : عن ابن عمر - يعني : جعله مرسلا .
وخرج أبو يعلى الموصلي في ( ( مسنده ) ) من طريق يحيى بن عقبة بن أبي العيزار ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قالَ : سجدنا مع رسول الله ( في الظهر ، فظننا أنه قرأ
( تَنْزِيلُ ( [ السجدة ] .
ويحيى هذا ضعيف جداً .(4/444)
"""""" صفحة رقم 445 """"""
2 - باب
القراءة في العشاء
769 - حدثنا خلاد بن يحيى : ثنا مسعر : ثنا عدي بن ثابت : سمع البراء ، قالَ : سمعت النبي ( يقرأ في العشاء بالتين والزيتون ، وما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه - أو قراءة .
هذا الحديث ، رواه عن عدي بن ثابت : مسعر ، ومن طريقه خرجه البخاري هاهنا .
وشعبة ، وقد خرجه من حديثه فيما سبق .
ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وقد خرجه من طريقه الترمذي وابن ماجه .
وفي أحاديثهم : أن ذَلِكَ كانَ في العشاء .
وخرجه الإمام أحمد ، عن أبي خالد الأحمر ، عن يحيى بن سعيد ، وقال في حديثه : ( ( المغرب ) ) ، بدل : ( ( العشاء ) ) .
رواه كذلك عبد الوهاب ، عن شعبة .
خرجه من طريقه ابن أبي داود في ( ( كتاب الصلاة ) ) .
وروى ذَلِكَ عن مسعر - أيضاً .
خرجه الإسماعيلي في ( ( جمعه حديث مسعر ) ) .
وفي رواية خرجها الإسماعيلي - أيضاً - ، عن البراء ، قالَ : مشيت إلى(4/445)
"""""" صفحة رقم 446 """"""
مسجد النبي ( صلاة العشاء - فذكر الحديث . وزاد في آخره : وكان في قراءته ترسيل ، أو ترتيل .
وذكر المشي إلى المسجد غريب لا يثبت ، وهو يوهم أنه كانَ بالمدينة ، وترده رواية شعبة المتفق عليها في ( ( الصحيحين ) ) : أن ذَلِكَ كانَ في سفر .
وهذا الحديث : يدل على القراءة في صلاة العشاء بقصار المفصل .
وقد بوب عليهِ أكثر من صنف في العلم ، كالبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه : ( ( القراءة في العشاء ) ) . وظاهر كلامهم : يدل على أنه يستحب القراءة في العشاء بقصار المفصل ، ولا يعلم قائل من الفقهاء يقول باستحباب ذَلِكَ مطلقاً .
وبوب عليهِ أبو داود : ( ( قصر القراءة في السفر ) ) ، فحمله على الصلاة في السفر خاصة .
وروى عمرو بن ميمون ، أنه سمع عمر يقرأ بمكة في العشاء بالتين والزيتون ،
( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ( وهذا - أيضاً - كانَ في سفر .
وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على تقصير القراءة في السفر .
وقال أصحابنا : لا يكره تخفيف القراءة في الصبح وغيرها في السفر دون الحضر .
وقال إبراهيم النخعي : كانَ أصحاب رسول الله ( يقرءون في السفر بالسور القصار .
خرجه ابن أبي شيبة .(4/446)
"""""" صفحة رقم 447 """"""
وخرج - أيضاً - بإسناده ، عن عمرو بن ميمون ، قالَ : صلى بنا عمر الفجر بذي الحليفة فقرأ : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون ( ، ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( .
وبإسناده ، عن ابن مسعود ، أنه صلى بأصحابه الفجر في سفر ، فقرأ بآخر بني إسرائيل : ( الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ( ، ثم ركع .
وروى حرب بإسناده ، عن المعرور بن سويد ، قالَ : حججت مع عمر ، فقرأ بنا في صلاة الصبح بمكة ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ( و ( لإِيلافِ قُرَيْشٍ ( .
ويروى عن أنس أنه كانَ يقرأ في السفر في الفجر بالعاديات وأشباهها .
وروي عن عقبة بن عامر ، أن النبي ( صلى به الفجر في سفر ، فقرأ بالمعوذتين .
خرجه وكيع في ( ( كتابه ) ) بإسناد منقطع .
وخرجه الإمام أحمد بإسناد متصل ، ولم يذكر السفر ، لكن ذكر أنه كانَ يقود بالنبي ( راحلته ، ثم ذكر صلاته عقب ذَلِكَ ، وهو دليل على السفر .
وخرجه أبو داود والنسائي مختصراً .
وكان الأولى أن يخرج في هذا الباب حديث جابر في أمر النبي ( لمعاذ أن يقرأ في صلاة العشاء ب : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ( ، ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( ، ( وَاللَّيْلِ
إِذَا ( وقد خرجه البخاري فيما تقدم في ( ( أبواب : الإمامة ) ) .
وفي رواية لهُ - - أيضاً - أن النبي ( أمره يقرأ سورتين من وسط المفصل .(4/447)
"""""" صفحة رقم 448 """"""
وعلى هذا جمهور العلماء : أن المستحب أن يقرأ في صلاة العشاء سورتين من أواسط المفصل ، وهو قول الشافعي وأحمد .
وقد سبق من حديث أبي هريرة وأنس ما يدل على ذَلِكَ - - أيضاً .
وروى ابن لهعية ، عن ابن أبي جعفر ، عن خلاد بن السائب ، عن أبي قتادة ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( لا يقرأ في الصبح دون عشرين آية ، ولا في العشاء دون عشر آيات ) ) .
خرجه أبو الشيخ الأصبهاني .
وهو غريب .
وقد روي عن عمر ، أنه كتب إلى أبي موسى أن يقرأ في الفجر بوسط المفصل .
ذكره الترمذي - تعليقاً .
وذكر عن عثمان أنه كانَ يقرأ في العشاء بأوساط المفصل ؛ مثل سورة المنافقين ونحوها .
وقد تقدم عن أبي هريرة ، أنه قرأ فيها ب ( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ( وروى مثله عن عمر ، وعن ابن مسعود ، أنه قرأ في الركعة الأولى من العشاء من أول الأنفال إلى رأس الأربعين ( وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( ثم ركع ، ثم قام فقرأ بسورة من المفصل .(4/448)
"""""" صفحة رقم 449 """"""
وقال النخعي وإسحاق : كانوا يعدلون الظهر في القراءة بالعشاء .
ومن قولهما : إن الظهر يقرأ فيها بنحو ثلاثين آية .
وقد سبق حديث في قراءة سورة الجمعة والمنافقين في صلاة العشاء ، وأن من أهل الحديث من كانَ يعمل به حضراً وسفراً .
وروى حرب بإسناده ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قالَ : كانوا يستحبون أن يقرءوا ليلة الجمعة سورة الجمعة ، كي يعلم الناس أن الليلة ليلة الجمعة .
قالَ حرب : قلت لأحمد : فنقرأ ليلة الجمعة في العتمة بسورة الجمعة ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ( . . . ؟ قالَ : لا ؛ لم يبلغني في هذا شيء . وكأنه كره ذَلِكَ .
وروى الخلال من طريق الحسن بن حسان ، قالَ : قلت لأحمد : فنقرأ في ليلة الجمعة بسورة الجمعة ؟ قالَ : لا بأس ، ما سمعنا بهذا شيئاً أعلمه ، ولكن لا يدمن ، ولا يجعله حتماً .(4/449)
"""""" صفحة رقم 450 """"""
3 - باب
يطول في الأوليين ويحذف في الأخريين
770 - حديثاً سليمان : ثنا شعبة ، عن أبي عون ، قالَ : سمعت جابر بن سمرة ، قالَ : قالَ عمر لسعد : قد شكوك في كل شيء حتى الصلاة ؟ قالَ : أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين ، ولا آلو ما اقتديت به من [ صلاة ] رسول الله ( فقالَ : صدقت ، ذَلِكَ الظن بك - أو ظني بك .
معنى : ( ( لا آلو ) ) : لا أقصر ولا أدع جهداً في الاقتداء بصلاة رسول الله ( .
وقد روي حديث سعد هذا بثلاثة ألفاظ :
أحدها : هذا ، وهو ذكر الصلاة مطلقاً .
والثاني : ذكر صلاة العشي ، والمراد : صلاة الظهر والعصر .
والثالث : ذكر صلاة العشاء ، فإن كانَ محفوظاً كانَ الأنسب ذكره في هذا الباب .
وإنما خرجه البخاري في صلاة الظهر والعصر ، وخرج هاهنا الرواية المطلقة التي تدخل فيها كل صلاة رباعية ، لقوله : أمد في الأوليين وأحذف في الأخريين .
ومراد البخاري : الاستدال بحديث سعد هاهنا على تطويل الأوليين من صلاة العشاء ، فيكون ذَلِكَ مخالفاً لحديث البراء بن عازب الذي خرجه في الباب الماضي .(4/450)
"""""" صفحة رقم 451 """"""
وقد ذكرنا عن النخعي وإسحاق ما يدل على أنه يشرع تطويل القراءة في العشاء ، وأن الجمهور على أنه يقرأ فيها من أوساط المفصل ، كما دل عليهِ حديث جابر في قصة معاذ بن جبل . والله ( أعلم .(4/451)
"""""" صفحة رقم 452 """"""
4 - باب
القراءة في الفجر
وقالت أم سلمة : قرأ النبي ( بالطور .
حديث أم سلمة هذا ، قد خرجه البخاري فيما سبق في ( ( أبواب : المسجد ) ) في ( ( باب : إدخال البعير المسجد لعلة ) ) وخرجه - - أيضاً - - في ( ( كتاب : الحج ) ) ولفظه : عن أم سلمة ، قالت : شكوت إلى رسول الله ( أني أشتكي ، فقالَ : ( ( طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ) ) فطفت ورسول الله ( يصلي إلى جنب البيت ، وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور .
وخرجه مسلم - أيضاً - ، وفي رواية لهُ : أن النبي ( قالَ لها : ( ( إذا أقيمت الصلاة للصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون ) ) قالت : ففعلت .
وهذا يرد ما قاله ابن عبد البر : أن صلاة النبي ( هذه كانت تطوعاً ، ثم تردد : هل كانت ليلاً ، أو نهار ؟ وقال : فيهِ دليل على الجهر في تطوع النهار .
وهذا كله ليس بشيء .
فيهِ حديثان :
أحدهما :
قالَ :
771 - حدثنا آدم : ثنا شعبة : ثنا سيار بن سلامة - هوَ : أبو المنهال - ، قالَ : دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي ، فسألناه عن وقت الصلاة . فقالَ : كانَ النبي ( يصلي الظهر حين تزول الشمس ، والعصر ويرجع الرجل إلى أقصى(4/452)
"""""" صفحة رقم 453 """"""
المدينة ، والشمس حية ، ونسيت ما قالَ في المغرب ، ولا يبالى بتأخير العشاء إلى ثلث الليل ، ولا يحب النوم قبلها ، ولا الحديث بعدها ، ويصلي الصبح ، ( فينصرف ) فيعرف الرجل جليسه ، وكان يقرأ في الركعتين - أو إحداهما - ما بين الستين إلى المائة .
قد سبق هذا الحديث في ( ( أبواب : المواقيت ) ) في مواضع متعددة ، وفيها : أنه كانَ يقرأ فيها - يعني : صلاة الصبح - ما بين الستين إلى المائة .
وكذا خرجه مسلم .
وأما هذه الرواية التي فيها التردد بين القراءة في الركعتين ، أو أحداهما ما بين الستين إلى المئة ، فتفرد بها البخاري ، وهذا الشك من سيار .
وخرجه الإمام أحمد ، عن حجاج ، عن شعبة ، وفي حديثه : وكان يقرأ فيها ما بين الستين إلى المئة . قالَ سيار : لا أدري أفي إحدى الركعتين أو كلتيهما .
والظاهر - والله أعلم - : أنه كانَ يقرأ بالستين إلى المائة في الركعتين كلتيهما ؛ فإنه كانَ ينصرف حين يعرف الرجل جليسه ، ولو كانَ يقرأ في كل ركعة بمائة آية لم ينصرف حتى يقارب طلوع الشمس .
يدل على ذَلِكَ : ما رواه الزهري وقتادة ، عن أنس ، أن أبا بكر صلى بالناس الصبح ، فقرأ سورة البقرة ، فقالَ لهُ عمر : كادت الشمس أن تطلع . فقالَ : لو طلعت لم تجدنا غافلين .
وروي ، عن قتادة في هذا الحديث : أنه قرأ بال عمران .
ورواه مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، أن أبا بكر صلى الصبح ، فقرأ فيها(4/453)
"""""" صفحة رقم 454 """"""
سورة البقرة في الركعتين كلتيهما .
وروى مالك - أيضاً - ، عن هشام ، عن أبيه ، أنه سمع عبد الله بن عامر قالَ : صلينا وراء عمر بن الخطاب الصبح ، فقرأ فيها سورة يوسف وسورة الحج قراءة بطيئة . قالَ هشام : فقلت لهُ : إذا ، لقد كانَ يقوم حين يطلع الفجر . قالَ : أجل .
وقد رواه وكيع وأبو أسامة ، عن هشام ، أنه سمع عبد الله بن عامر .
وزعم مسلم : أن قولهم أصح ، وأن مالكاً وهم في زيادته في إسناده : ( ( عن
أبيه ) ) .
قالَ ابن عبد البر : والقول عندي قول مالك ؛ لأنه أقعد بهشام .
وقد كانَ عمر هوَ الذي مد في صلاة الفجر ، كما روى ثابت ، عن أنس قالَ : ما صليت خلف أحد أوجز من صلاة رسول الله ( في تمام ، كانت صلاته متقاربة ، وكانت صلاة أبي بكر متقاربة ، فلما كانَ عمر بن الخطاب مد في صلاة الفجر .
خرجه مسلم .
ورواه حميد عن أنس ، قالَ : كانت صلاة رسول الله ( متقاربة ، وصلاة أبي بكر وعمر ، حتى مد عمر في صلاة الفجر .
خرجه الإمام أحمد .
فهذا يدل على أن زيادة النبي ( في قراءة صلاة الفجر على سائر الصلوات لم يكن كثيراً جداً ، وأن صلواته كلها لم يكن بينها تفاوت كثير في القراءة ، وأن(4/454)
"""""" صفحة رقم 455 """"""
هذا هوَ الغالب على صلاته ، وقد يطيل أحياناً ويقصر أحياناً ؛ لعارض يعرض لهُ ، فيحمل حديث أبي برزة على أنه كانَ يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة ، أحيانا ، لا غالباً .
وقد سبق حديث عائشة : أن النبي ( كانَ يطيل القراءة في الفجر .
والمراد : أنه يقرأ في الفجر أطول مما يقرأ في غيرها من الصلوات ، وإنما كانت قراءة أبي بكر بالبقرة مرة واحدة ، وكان عمر يقرأ في الفجر ببني إسرائيل والكهف ويونس وهود ونحو ذَلِكَ من السور .
وكان عثمان يكرر قراءة سورة يوسف في صلاة الفجر كثيراً . وكذلك كانَ ابن مسعود يقرأ فيها ببني إسرائيل في ركعة و ( طسم ( في ركعة .
وكان ابن الزبير يقرأ في الصبح بيوسف وذواتها .
وكان عليّ يخفف ، فكان يقرأ ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ( و ( إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ( ونحو ذَلِكَ من السور .
والظاهر : أنه كانَ يسفر بالفجر ، وكان من قبله يغلس بها .
وقد روي ، أن عمر لما قتل أسفر بها عثمان .
خرجه ابن ماجه .
وقد روى عن النبي ( التخفيف في الفجر - أيضاً - ، وقد تقدم أنه قرأ بالطور .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن قطبة بن مالك ، أنه سمع النبي ( يقرأ في الفجر
( وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ( [ ق : 10 ] .(4/455)
"""""" صفحة رقم 456 """"""
وفي رواية لهُ : أنه قرأ في أول ركعة ( ق ( .
وفيه - أيضاً - : عن عمرو بن حريث ، أنه سمع النبي ( يقرأ في الفجر ( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ( [ التكوير : 17 ] .
وفيه - أيضاً - : عن جابر بن سمرة ، أن النبي ( كانَ يقرأ في الفجر ب ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ( ونحوها .
وفي رواية : وكانت صلاته بعد تخفيفاً .
والظاهر : أنه أراد أن صلاته بعد الفجر كانت أخف من صلاة الفجر .
وروى أنه ( قرأ في الفجر بسورة الروم ، وبسورة ( يّس ( و ( حم (
و ( الم ( السجدة ، و ( هَلْ أَتَى ( .
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) أنه ( قرأ في الصبح ( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ( في الركعتين كلتيهما .
يعني : أنه أعادها في الركعة الثانية ، ولعل ذَلِكَ كانَ سفراً .
وروى عقبة بن عامر ، أن النبي ( قرأ في الفجر في السفر بالمعوذتين وقد سبق ذكره .
وأكثر العلماء على أن المستحب أن يقرأ في الفجر بطول المفصل ، كما كتب(4/456)
"""""" صفحة رقم 457 """"""
به عمر إلى موسى الأشعري ، ودل عليهِ حديث أبي هريرة وأنس ، وقد سبق .
وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق .
وروي عن أحمد ما يدل على أن الركعة الأولى يقرأ فيها بطول المفصل ، والثانية يقرأ فيها متوسطة .
وروي عن الزهري ، أنه كانَ يقرأ في الأولى من طوال المفصل ، وفي الثانية من قصاره .
وهذا مبني على القول باستحباب تطويل الأولى على الثانية كما سبق .
وروى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كانَ يقرأ في الصبح في السفر بالعشر السور الأول من المفصل ، في كل ركعة بسورة .
وظاهر هذا : يدل على أنه كانَ يرى القراءة في الصبح بطوال المفصل مختصاً بالسفر .
وقد نص أحمد على أنه يكره قراءة السورة القصيرة في صلاة الفجر ؛ مثل ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( و ( أَرأَيْتَ ( إلا في السفر ، وأنه لا تكره القراءة فيها بمريم و ( طه ( وأشباهما من السور .
وقال : قد قرأ أبو بكر بالبقرة ، وكأنه استحب موافقة من خلفه .
يعني : مراعاة أحوالهم من ضعفهم وقوتهم وما يؤثرونه من التخفيف والإطالة .
الحديث الثاني :
قالَ :
772 - حدثنا مسدد : ثنا إسماعيل بن إبراهيم : ثنا ابن جريح : أخبرني عطاء ،(4/457)
"""""" صفحة رقم 458 """"""
أنه سمع أبا هريرة يقول : في كل صلاة يقرأ ، فما أسمعنا رسول الله ( أسمعناكم ، وما أخفى علينا أخفينا عنكم ، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت ، وأن زدت فهوَ خير .
هذا الحديث : يدل على أن النبي ( كانَ يقرأ في جميع الصلوات ما جهر فيهِ وما خافت ، فيجهر في الجهريات فيسمعه من خلفه ، ويخفي في غيرها .
وهذا شبيه بحديث خباب المتقدم ، وكان الأولى تخريجه في ( ( أبواب : القراءة في الظهر والعصر ) ) ؛ فإن قراءة النبي ( في صلاة السر خفيت على ابن عباس وغيره ، وأما قراءته في صلوات الجهر فلم تخف على أحد .
فأكثر ما يستفاد من هذا الحديث في هذا الباب : أنه ( كانَ يقرأ في صلاة الصبح ويجهر بالقراءة ، وليس فيهِ ذكر ما كانَ يقرأ به ، ولا تقديره ، فأول الحديث وآخره موقوف على أبي هريرة .
وقد وقع أوله مرفوعاً :
خرجه مسلم من رواية حبيب بن الشهيد : سمعت عطاء يحدث ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( قالَ : ( ( لا صلاة إلا بقراءة ) ) . قالَ أبو هريرة : فما أعلن لنا
رسول الله ( أعلنا لكم ، وما أخفاه أخفيناه لكم .
وذكر الدارقطني وأبو مسعود الدمشقي وغيرهما : أن رفعه وهم ، وإنما هوَ موقوف .
وقد رفعه - أيضاً - ابن أبي ليلى ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، قالَ : سمعت رسول الله ( يقول : ( ( لا صلاة إلا بقراءة ) ) قالَ أبو هريرة :(4/458)
"""""" صفحة رقم 459 """"""
كانَ رسول الله ( يصلي بنا فيجهر ويخافت ، فجهرنا فيما جهر ، وخافتنا فيما خافت .
خرجه الحارث بن أبي أسامة .
وابن أبي ليلى ، سيء الحفظ جداً ، ورفعه وهم . والله أعلم .(4/459)
"""""" صفحة رقم 460 """"""
5 - باب
الجهر بقراءة صلاة الفجر
وقالت أم سلمة : طفت وراء الناس والنبي ( يصلي يقرأ بالطور .
حديث أم سلمة ، قد ذكرنا في الباب الماضي .
فيهِ حديثان :
الأول :
773 - حدثنا مسدد : ثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر - هوَ : جعفر بن أبي
وحشية - ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قالَ : انطلق النبي ( في طائفة من أصحابه ، عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب . قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب . قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فانصرف الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي ( - وهو بنخلة - عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القران [ استمعوا لهُ ، ف ] قالوا : هذا - - والله - الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا إنا سمعنا قرانا عجبا ، يهدي إلى الرشد فامنا به ، ولن نشرك بربنا أحداً ، فأنزل الله على نبيه : ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ ( ، وإنما أوحي إليه قول الجن .(4/460)
"""""" صفحة رقم 461 """"""
هذه القصة كانت في أول البعثة .
وهذا الحديث مما أرسله ابن عباس ، ولم يسم من حدثه به من الصحابة ، ويحتمل أنه سمعه من النبي ( يحكي عن نفسه . والله أعلم .
وسوق عكاظ نحو نخلة ، كانَ يجتمع فيهِ العرب ، ولهم فيهِ سوق ، فكان النبي ( يخرج إليهم ، فيدعوهم إلى الله عز وجل ، وقد كانت الشهب يرمى بها في الجاهلية ، وإنما كثرت عندما بعث النبي ( .
وقد قالَ السدي وغيره : إن السماء لم تحرس إلا حيث كانَ في الأرض نبي أو دين لله ظاهر .
والمقصود من هذا الحديث هاهنا : أن الشياطين لما مروا بالنبي ( وهو يصلي بأصحابه صلاة الصبح ، وقفوا واستمعوا القرآن . وهذا يدل على أنه ( كانَ يجهر بالقراءة في صلاة الصبح ، فلما سمعوا عرفوا أنه هوَ الذي حال بينهم وبين خبر السماء .
وظاهر هذا السياق : يقتضي أن الشياطين آمنوا بالقرآن ، وكذا قالَ السدي وغيره .
وقد اختلف في الجن والشياطين : هل هم جنس واحد ، أو لا ؟
فقالت طائفة : الجن كلهم ولد إبليس ، كما أن الإنس كلهم ولد آدم .
روي هذا عن ابن عباس من وجه فيهِ نظر . وأنهم لا يدخلون الجنة .
وروي - - أيضاً - عن الحسن ، وأنه قالَ : مؤمنهم ولي لله لهُ الثواب ، ومشركهم شيطان لهُ العقاب .
وقالت طائفة : بل الشياطين ولد إبليس ، وهم كفار ولا يموتون إلا مع(4/461)
"""""" صفحة رقم 462 """"""
إبليس ، والجن [ ولد ] الجان وليسوا الشياطين ، وهم يموتون ، وفيهم المؤمن والكافر .
روي هذا عن ابن عباس بإسناد فيهِ نظر - أيضاً .
وقوله : ( ( وإنما أوحي إليه قول الجن ) ) . يشير ابن عباس إلى أن النبي ( لم ير الجن ، ولا قرأ عليهم ، وإنما أوحي إليه استماعهم القرآن منه وإيمانهم به .
وقد روي ذَلِكَ صريحاً عنه ، أنه قالَ في أول هذا الحديث : ما قرأ رسول الله ( على الجن ولا رآهم - ثم ذكر هذا الحديث .
الحديث الثاني :
774 - حدثنا مسدد : ثنا إسماعيل : ثنا [ أيوب ، عن ] عكرمة ، عن ابن عباس ، قالَ : قرأ رسول الله ( فيما أمر ، وسكت فيما أمر ، وما كانَ ربك نسيا ، ولقد كانَ لكم في رسول الله أسوة حسنة .
وخرجه الإمام أحمد ، عن عبد الصمد بن الوراث ، عن أبيه ، عن أيوب ، عن عكرمة ، قالَ : لم يكن ابن عباس يقرأ في الظهر والعصر ، قالَ : قرأ رسول الله ( فيما أمر أن يقرأ فيهِ ، وسكت فيما أمر أن يسكت فيهِ ، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، وما كان ربك نسيا .
وهذا يرد قول من تأول كلام ابن عباس أن النبي ( كان يسر القراءة في بعض صلاته ، ويجهر في بعضها ، كما نقله الإسماعيلي والخطابي وغيرهما .
وقد روي ذلك صريحاً عن ابن عباس من وجوه أخر ، قد ذكرنا بعضها فيما(4/462)
"""""" صفحة رقم 463 """"""
سبق في ( ( باب : القراءة في الظهر ) ) ، وذكرنا اختلاف الروايات عن ابن عباس في ذلك .
والمراد من تخريج هذا الحديث في هذا الباب : أن النبي ( كان يقرأ في صلاة الفجر ، ويجهر بالقراءة فيها ؛ فإن ابن عباس أخبر أن النبي ( كان يقرأ فيما يجهر فيه .
ولا خلاف بين أحد من المسلمين كان يجهر بالقراءة في صلاة الفجر كلها .
فيستفاد من حديث ابن عباس هذا قراءة النبي ( في صلاة الفجر جهراً وهو المقصود في هذا الباب . والله أعلم .(4/463)
"""""" صفحة رقم 464 """"""
6 - باب
الجمع بين السورتين في الركعة ، والقراءة بالخواتيم
وسورة قبل سورة ، وبأول سورة
ويذكر ، عن عبد الله بن السائب : قرأ النبي ( المؤمنين في الصبح ، حتى إذا جاء ذكر موسى [ وهارون ] - أو ذكر عيسى - أخذته سعلة فركع .
هذا الحديث خرجه مسلم من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريح سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول : أخبرني أبو سلمة بن سفيان ، وعبد الله ابن عمرو ، وعبد الله بن المسيب العابدي ، عن عبد الله بن السائب ، قال : صلى لنا رسول الله ( الصبح بمكة ، فاستفتح بسورة المؤمنين ، حتى جاء ذكر موسى وهارون - أو ذكر عيسى - محمد بن عباد يشك ، أو اختلفوا عليه - أخذت النبي ( سعلة فركع . وعبد الله بن السائب حاضر ذلك .
وخرجه - أيضاً - من طريق حجاج ، عن ابن جريح ، وقال فيه : وعبد الله بن عمرو بن العاص - في أحد الرواة الثلاثة عن ابن السائب .
وقيل : إنه وهم ؛ فإن عبد الله بن عمرو هذا ليس بابن العاص .
وكذا رواه أبو عاصم ، عن ابن جريح ، كما رواه عنه عبد الرزاق وحجاج .(4/464)
"""""" صفحة رقم 465 """"""
ورواه يحيى بن سعيد عن ابن جريح ، فقال : - مرة - : عن أبي سفيان ، عن عبد الله بن السائب .
ورواه ابن عيينة ، عن جريح ، عن ابن أبي ملكية ، عن ابن السائب .
وقال أبو حاتم الرازي : هو خطأ من ابن عيينة .
و ( ( السعلة ) ) : من السعال ، قيد كثير من الناس بفتح السين . وقيل : إنه ، وهم ، وإن الصواب بضمها . والله أعلم .
وهذا الحديث : قد يستدل به على قراءة السورة في الركعتين ، وقد سبق ذكر ذلك ، إلا أنه ليس فيه تصريح بأنه أتمها في الركعة الثانية ، فإنما يستدل به على جواز قراءة أول السور في ركعة .
وأكثر العلماء على أنه لا يكره قراءة أوائل السور وأوساطها وخواتمها في الصلاة .
وقد روي عن ابن مسعود ، أنه كان يقرأ في المفروضة بخواتيم السور وعن أحمد ، يكره القراءة من أوساط السور دون خواتيمها .
وعنه ، أنه يكره قراءة أواخر السور .
كذا حكاها طائفة من أصحابنا عن أحمد ، ومنهم من حملها على كراهة المدوامة على ذلك دون فعله أحياناً ؛ لأن أصحاب النبي ( كان الغالب عليهم قراءة السورة التامة ، فيكره مخالفتهم في أفعالهم .
ثم قال البخاري :(4/465)
"""""" صفحة رقم 466 """"""
وقرأ عمر في الركعة الأولى بمئة وعشرين [ آية ] من البقرة ، وفي الثانية بسورة من المثاني .
هذا يدل على قراءة سورة وبعض أخرى في ركعتين . وقد سبق ذكر حكم
ذلك ، وأنه غير مكروه .
والقرآن : ينقسم إلى ( ( السبع الطوال ) ) ، وهي : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس ، كذا قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما . وإلى ( ( المئين ) ) ، وهي ما كان من السور وعدد آياته مائة آية ، أو يزيد ، أو ينقص شيئا . وإلى ( ( المفصل ) ) ، وأوله الحجرات - على الأشهر و ( ( المثاني ) ) ، وهو ما عدا ذلك .
وقد سأل ابن عباس عثمان ، فقال : ما حملكم على أن عمدتم إلى ( ( براءة ) ) - وهي من المئين - وإلى الأنفال - وهي من المثاني - فجعلتموها في السبع الطوال - وذكر الحديث .
خرجه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه .
وفي ( ( المسند ) ) عن واثلة بن الأسقع مرفوعا : ( ( أعطيت مكان التوراة السبع الطول ، وأعطيت مكان الزبور المئين ، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني وفصلت
بالمفصل ) ) .
وروى الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن أدريس : أبنا يزيد بن أبي زياد ، عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن ابن أبزى ، قال : صليت خلف عمر ، فقرأ بسورة(4/466)
"""""" صفحة رقم 467 """"""
يوسف حتى إذا بلغ ( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ( [ يوسف : 84 ] وقع عليه البكاء فركع ، ثم قرأ سورة النجم ، فسجد فيها ، ثم قام ، فقرأ ( إذا زلزلت الأرض ( .
وهذا فيه - أيضاً - جمع قراءة سورتين في ركعة و بعض سورة في آخرى .
قال البخاري :
وقرأ الأحنف الكهف في الأولى ، وفي الثانية بيوسف أو يونس ، وذكر أنه صلى مع عمر الصبح بهما .
هذا يدل على أنه لا يكره قراءة القرآن على غير ترتيب المصحف ، فيقرأ في الركعة الأولى سورة ، وفي الثانية بسورة قبلها في ترتيب المصحف .
وقد روي هذا عن عمر من وجه آخر ، وعن أنس :
وروى وكيع بإسناده ، عن عمرو بن ميمون ، قال : أمنا عمر في المغرب فقرأ بالتين في الركعة الأولى ، ثم قرأ ( وَطُورِ سِينِينَ ( ، ثم قرأ في الثانية ( ألم تر (
و ( لإيلاف ( .
وفي هذا جمع بين سورتين في الركعة - أيضاً .
وروى عن أنس ، أنه قرأ في صلاة المغرب في أول الركعة ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( .
وقد روي مثل هذا من حديث ابن عمر مرفوعاً .(4/467)
"""""" صفحة رقم 468 """"""
خرجه حرب الكرماني .
ولا يصح إسناده .
والأكثرون على أن ذلك غير مكروه . وعن أحمد رواية أنه يكره تعمد ذلك ؛ لمخالفته ترتيب المصحف .
وقد روي عن النبي ( أنه قرأ في قيامه من الليل سورة البقرة ، ثم النساء ، ثم آل عمران .
وترتيب سور المصحف على هذا الترتيب ليس توقيفاً على الصحيح ، بل هو أمر اجتهد فيه عثمان مع الصحابة ، وحديث سؤال ابن عباس لعثمان المشار إليه فيما سبق يدل عليه .
قال البخاري :
وقرأ مسعود بأربعين آية من الأنفال وفي الثانية بسورة من المفصل .
هذا الأثر رواه وكيع في ( ( كتابه ) ) ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن
عبد الرحمن بن يزيد ، قال : أمنا عبد الله في العشاء ، فقرأ الأنفال ، فلما بلغ رأس(4/468)
"""""" صفحة رقم 469 """"""
الأربعين ( ونعم النصير ( ركع ، ثم قام ، فقرأ في الثانية بسورة من المفصل .
وهذا فيه قراءة سورة وبعض أخرى في ركعتين كما تقدم عن عمر .
قال البخاري :
[ و ] قال قتادة فيمن يقرأ سورة واحدة في الركعتين ، أو يردد سورة واحدة في ركعتين : كل كتاب الله ( .
أما قراءة سورة يقسمها في ركعتين فغير مكروه ، وقد فعله أبو بكر وعمر وغيرهما ، وقد سبق ذكره . وكذلك ترداد السورة في الركعتين كلتيهما ، قد سبق حديث الرجل الجهيني أنه سمع النبي ( قرأ في الصبح ( إذا زلزلت الأرض ( في الركعتين كلتيهما ، قال : فلا أدري أنسي رسول الله ( ، أم قرأ ذلك عمداً ؟
خرجه أبو داود .
ونص أحمد على أنه جائز في الفرض من غير كراهة .
قال البخاري :
774 م - وقال عبيد الله بن عمر ، عن ثابت عن أنس بن مالك : كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء ، وكان كلما استفتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( [ الاخلاص : 1 ] حتى يفرغ منها ، ثم يقرأ سورة أخرى
معها ، وكان يصنع ذلك في كل ركعة ، فكلمة أصحابه ، فقالوا : إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى ، فإما أن تقرأ بها أما أن ،(4/469)
"""""" صفحة رقم 470 """"""
تدعها وتقرأ بأخرى ، فقال : ما أنا بتاركها ، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت ، وإن كرهتم تركتكم . وكان يرون أنه من أفضلهم ، وكرهوا أن يؤمهم غيره ، فلما أتاهم النبي ( أخبروه الخبر . فقال ( ( يا فلان ، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك ؟ وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة ؟ ) ) قال : إني أحبها قال : ( ( حبك إياها أدخلك الجنة ) ) .
هذا الحديث خرجه الترمذي في ( ( جامعه ) ) عن البخاري : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس : حدثني عبد العزيز بن محمد ، عن عبيد الله بن عمر - فذكره وقال : حسن غريب من هذا الوجه .
وإنما لم يخرجه البخاري - هاهنا - مسنداً ؛ لأن حماد بن سلمة رواه عن ثابت ، عن حبيب بن سبيعة ، عن الحارث ، عن النبي ( .
قال الدارقطني : هو أشبه بالصواب .
وحماد بن سلمة ذكر كثير من الحفاظ أنه أثبت الناس في حديث ثابت ، وأعرفهم به .
والحارث هذا اختلف : هل هو صحابي ، أو لا ؟ فقال أبو حاتم الرازي : له صحبة . وقال الدارقطني : حديثه مرسل .
وخرجا في ( ( الصحيحين ) ) معنى هذا الحديث من رواية أبي الرجال ، عن(4/470)
"""""" صفحة رقم 471 """"""
عمرة ، عن عائشة ، أن رسول الله ( بعث رجلاً على سرية ، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم ، فيختم ب ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( [ الإخلاص : 1 ] فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله ( فقال : ( ( سلوه لأى شيء يصنع ذلك ) ) ؟ فسألوه ، فقال : لأنها صفة الرحمن ، فأنا أحب أن أقرأها . فقال رسول الله ( : ( ( أخبروه أن الله يحبه ) ) .
وقد دل حديث أنس وعائشة على جواز جمع سورتين مع الفاتحة في ركعة واحدة من صلاة الفرض ؛ فإن النبي ( لم ينهه عن ذلك .
ويدل على أنه ليس هو الأفضل ؛ لأن أصحابه استنكروا فعله وإنما استنكروه لأنه مخالف لما عهدوه من عمل النبي ( وأصحابه في صلاتهم ؛ ولهذا قال له النبي ( : ( ( ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك ؟ ) ) .
فدل على أن موافقتهم فيما أمروه به كان حسناً ، وإنما اغتفر ذلك لمحبته لهذه السورة .
وأكثر العلماء على أنه لا يكره الجمع بين السور في الصلاة المفروضة ، وروي فعله عن عمر وابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعلقمة ، وهو قول قتادة والنخعي ومالك ، وعن أحمد في كراهته روايتان . وكرهه أصحاب أبي حنيفة .
قال البخاري :
775 - حدثنا آدم : ثنا شعبة : ثنا عمرو بن مرة ، قال : سمعت أبا وائل قال : جاء رجل إلى ابن مسعود ، فقال : قرأت المفصل الليلة في ركعة . قال : هذا كهذ
الشعر ، لقد عرفت النظائر التي كان النبي ( يقرن بينهن ، فذكر عشرين سورة من المفصل ، سورتين في كل ركعة .(4/471)
"""""" صفحة رقم 472 """"""
( ( الهذ ) ) : متابعة القراءة في سرعة ، وكرهه ابن مسعود لما فيه من قلة التدبر لما يقرءوه .
و ( ( النظائر ) ) : قيل : إنها سميت بذلك ؛ لأنها متشابهة في الطول ، فتكون جمع نظيرة . وقيل لفظ لما [ . . . ] فيكون جمع نظورة ، وهي الخيار ، يقال : نظائر الجيش بمعنى أفاضلهم وأماثلهم .
وسمى المفصل مفصلاً لكثرة الفصول بين ، وأول المفصل سورة ( ق ( وروي ذلك في حديث مرفوع . وقيل : أوله [ سورة ] القتال . وكان ابن مسعود أول مفصله
( ( الرحمن ) ) ، لكن ترتيب سوره على غير هذا الترتيب .
وقد روي تفسير هذه السور التي ذكرها ابن مسعود في روايات أخر عنه .
وفي رواية لمسلم في هذا الحديث : ثمان عشرة من المفصل ، وسورتين من آل
حم .
وفي رواية لأبي داود من طريق أبي إسحاق ، عن الأسود وعلقمة ، عن عبد الله : تفسير ذلك فقال : ( الرحمن ( ( والنجم ( في ركعة ، و ( اقتريب ( و ( الحاقة ( في ركعة ، ( والطور ( و ( والذاريات ( في ركعة ، و ( إذا(4/472)
"""""" صفحة رقم 473 """"""
وقعت الواقعة (
و ( نَ ( في ركعة ، و ( سأل سائل ( ( والنازعات ( في ركعة ، و ( ويل للمطففين ( و ( عبس ( في ركعة ، و ( المدثر ( و ( المزمل ( في ركعة ، و ( هل أتى ( و ( لا أقسم بيوم القيامة ( في ركعة و ( عم يتساءلون ( ( والمرسلات ( في ركعة ،
و ( الدخان ( و ( إذا الشمس كورت ( في ركعة .
قال أبو داود : هذا تأليف من ابن مسعود .
وليس في هذه الرواية من آل حم سوى سورة الدخان ، وهذا يخالف رواية مسلم المتقدمة : وسورتين من آل حم .
وخرج الإمام أحمد من رواية إبراهيم ، عن نهيك بن سنان السلمي ، أنه أتى ابن مسعود فقال : إني قرأت المفصل الليلة في ركعة . فقال : هذا مثل هذ الشعر ، أو نثرا كنثر الدقل ، إنما فصل لتفصلوا ، لقد علمت النظائر التي كان رسول الله ( يقرن : عشرين سورة : ( الرحمن ( ( والنجم ( ، على تأليف ابن مسعود ، كل سورتين في ركعة ، وذكر ( الدخان ( و ( عم يتساءلون ( في ركعة .
وخرجه يعقوب بن شيبة في ( ( مسنده ) ) ، وقال : هو حسن الإسناد .
وفي هذه الرواية اقتران الدخان ب ( عم يتساءلون ( ، وهي تخالف رواية أبي داود السابقة في اقتران الدخان ب ( إذا الشمس كورت ( .
وخرج الطبراني من رواية محمد بن سلمة بن كهيل ، عن أبيه ، عن أبي وائل ، قالَ : قالَ عبد الله : لقد علمت النظائر التي كانَ رسول الله ( يصلي بهن :
( الذاريات ( ، ( والطور ( ، ( والنجم ( ، و ( اقتربت ( ، و ( الرحمن (
و ( الواقعة ( ، و ( نَ ( و ( الحاقة ( ، و ( سأل سائل ((4/473)
"""""" صفحة رقم 474 """"""
و ( المزمل ( و ( لا أقسم بيوم القيامة ( و ( هل أتي على الانسان ( ، ( والمرسلات ( ، و ( عم يتساءلون ( ، ( والنازعات ( ، و ( عبس ( و ( ويل للمطففين ( ، و ( إذا الشمس كورت ( .
وهذه الرواية تخالف ما تقدم ، وتلك الرواية أصح ، ومحمد بن سلمة بن كهيل تكلم فيه ، وتابعة عليه أخوه يحيى ، وهو أضعف منه .
وخرج أبو داود من رواية عبد الله بن شقيق ، قال : سألت عائشة : هل كان رسول الله ( يقرن بين السور ؟ قالت : من المفصل .
والظاهر : أن حديث ابن مسعود وعائشة إنما هو في صلاة الليل .
وخرج مسلم من حديث حذيفة ، قال : صليت مع النبي ( ذات ليلة فافتتح البقرة ، فقلت : يركع عند المائة ، ثم مضى ، فقلت : يصلي بها في ركعة [ فمضى ] ، فقلت : يركع بها ، ثم افتتح سورة النساء فقرأها ، ثم افتتح آل عمران فقرأها - وذكر الحديث .
وهذا كله يدل على جواز الجمع بين السور في صلاة التطوع .
وروى أبو العالية ، قال : أخبرني من سمع النبي ( يقول : ( ( لكل سورة حظها من الركوع والسجود ) ) .
وخرجه الإمام أحمد .(4/474)
"""""" صفحة رقم 475 """"""
وقد حمل هذا - تقدير صحته - على الصلاة المفروضة .
وروى وكيع ، عن عيسى الخياط ، عن الشعبي ، عن زيد بن خالد الجهني ، قال : ما أحب أني قرنت سورتين في ركعة ، وأن لي حمر النعم .
عيسى هذا ، فيه ضعف .(4/475)
"""""" صفحة رقم 476 """"""
7 - باب
يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب
776 - حدثنا موسى بن إسماعيل : ثنا همام ، عن يحيى ، عن عبد الله بن أبي
قتادة ، عن أبيه ، أن النبي ( كان يقرأ في الظهر [ في الأوليين ] بأم الكتاب وسورتين ، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب ، ويسمعنا الآية ، ويطول في الركعة الأولى ما لا يطول في [ الركعة ] الثانية ، وهكذا في العصر ، وهكذا في الصبح .
قد خرج البخاري هذا الحديث فيما سبق من رواية شيبان وهشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، وليس في حديثهما : ويقرأ في الركعتين الأخريين بأم الكتاب .
وخرجه هاهنا من طريق همام ، عن يحيى بهذه الزيادة .
وخرجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) من راوية همام وأبان العطار ، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير .
وقد سأل الأثرم الإمام أحمد عن هذه الزيادة : أثبت هي ؟ قال : روها عدة ، ورواها بعضهم عن الأوزاعي ، فقال له الأثرم : هشام لا يقولها ؟ قال نعم ، هشام لا يقولها .
وقد ذهب أكثر العلماء إلى القول بذلك ، وأنه لا يزيد في الركعتين الأخريين والثالثة من المغرب على فاتحة الكتاب .(4/476)
"""""" صفحة رقم 477 """"""
وروي نحو ذلك عن علي وابن مسعود وعائشة وأبي هريرة وجابر وأبي الدرادء .
وعن ابن سيرين ، قال : لا أعلمهم يختلفون أنه يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة ، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب .
وقد دل على ذلك - أيضاً - : حديث سعد في الحذف في الأخريين . وقد تقدم في مواضع من الكتاب .
وروى مالك عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان إذا صلى وحده يقرأ في الأربع جميعا ، في كل ركعة بأم القرآن وسورة .
وذهب الشافعي - في أحد قوليه - أنه يستحب أن يقرأ سورة مع أم القرآن في الركعات كلها .
ومن أصحابنا من حكاه رواية عن أحمد ، وأكثر أصحابنا قالوا : لا يستحب - : رواية واحدة .
وفي كراهيته عنه روايتان .
وقد تقدم عن أبي بكر الصديق ، أنه قرأ في الثالثة من المغرب بعد الفاتحة :
( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ( [ آل عمران : 8 ] .
وقد استحب أحمد ذلك في رواية .
قال القاضي أبو يعلى : يحتمل أنه استحبه ؛ لأنه دعاء ، فإنه قال في رواية الأثرم : إن شاء قاله . قال : ولا تدري أكان ذلك من أبي بكر قراءة أو دعاء .(4/477)
"""""" صفحة رقم 478 """"""
وقد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري ما يدل على أن النبي ( كان يقرأ في الركعتين الأخريين على قدر نصف قراءته في الأوليين .
وحمله طائفة من أصحابنا وغيرهم على أن هذا كان يفعله أحياناً لبيان الجواز ، فيدل على أنه غير مكروه ، خلافا لمن كرهه . والله أعلم(4/478)
"""""" صفحة رقم 479 """"""
8 - باب
من خافت القراءة في الظهر والعصر
777 - حدثنا قتيبة : ثنا جرير ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن أبي معمر ، قال : قلنا لخباب : أكان رسول الله ( يقرأ في الظهر والعصر ؟ قال نعم . قلنا : من أين علمت ؟ قال : باضطراب لحيته .
قد تقدم هذا الحديث من طريق عن الأعمش .
ومقصود بهذا الباب : أن قراءة الظهر والعصر تكون سراً ، وهذا مما لا اختلاف فيه بين المسلمين علماً وعملاً ، متداولا من أصحاب النبي ( وإلى الآن .
والمخافته سنة كالجهر . وأوجب ذلك ابن أبي ليلى وقليل من الناس ، وهو وجه للمالكية .
ولأصحابنا : أنه تبطل الصلاة بتركه عمداً .
وخرج الطبراني وابن عدي من طريق أبي الرحال البصري ، عن النضر ابن أنس ، عن أبيه ، أن رسول الله ( صلى بهم الظهر بالهاجرة ، فرفع صوته ، فقرأ ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( ، ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ( فقال أبي بن كعب : يارسول الله ، أمرت في هذه الصلاة بشيء ؟ قال : ( ( لا ، ولكني أردت أن أوقت لكم صلاتكم ) ) .
أبو الرحال ، اسمه : خالد بن محمد ، قال البخاري : منكر الحديث وأخرجه العقيلي من طريقه .(4/479)
"""""" صفحة رقم 480 """"""
وقال : لا يتابع عليه . قال : والصحيح من الرواية عن النبي ( : أنه لم يكن يجهر في صلاة النهار بالقراءة إلا في الجمعة .
وخرجه النسائي من رواية عبد الله بن عبيد ، قال : سمعت أبا بكر بن النضر يقول : كنا عند أنس ، فصلى بهم الظهر ، فلما فرغ قال : إني صليت مع النبي ( الظهر ، فقرأ لنا بهاتين السورتين في الركعتين ب ( ) سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ( و ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ( . وخرجه أبو بكر بن أبي داود في ( ( كتاب الصلاة ) ) ، وعنده : أن أنسا أسمعهم قراءته في الركعتين الأوليين ، فلما قضى صلاته أقبل عليهم ، وقال : عمداً أسمعتكم قراءة هاتين السورتين ، أني صليت مع رسول الله ( الظهر فقرأ بهاتين السورتين .
وخرج الطبراني من حديث قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي مالك الأشعري ، أنه صلى بهم صلاة رسول الله ( ؛ فصلى الظهر فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة ، يسمع من يليه - وذكر الحديث .
وشهر بن حوشب ، مختلف فيه .
وقد رواه عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، وذكر في حديثه : أنه أسر القراءة .(4/480)
"""""" صفحة رقم 481 """"""
خرجه الإمام أحمد من طريقه .
وهو أصح ، وعبد الحميد أحفظ لحديث شهر بن حوشب بخصوصه من غيره .
ولو صح شيء من ذلك لحمل على أنه جهر لإرادة تعليم القراءة وقدرها وروي هذا المعنى عن أنس وخباب بن الأرت .
ولهذا المعنى روي عن عمر الجهر بالاستفتاح ، عن ابن عباس الجهر بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة .
وأما الجهر بالتطوع في النهار ؛ فإن كانَ في صلاة جماعة ويطول فيهِ القراءة كصلاة الكسوف ، فإنه يجهر فيهِ بالقراءة ، وستأتي المسألة في مواضع آخر - إن شاء الله تعالى - .
وكذا لو صلى الكسوف وحده جهر فيها - : نص عليه أحمد .
وأما غير ذلك من التطوع فالأكثرون على أنه لا يجهر فيها بالقراءة .
قالَ أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود : قراءة النهار عجماء .
وقال الحسن : صلاة النهار عجماء .
أي : لا تسمع فيها قراءة .
وكثير من العلماء جعله حديثاً مرفوعاً ، منهم : ابن عبد البر وابن الجوزي ، ولا أصل لذلك .
وحكى عن أبي حامد الإسفراييني ، سأل الدارقطني عنه فقال : لا(4/481)
"""""" صفحة رقم 482 """"""
أعرف صحيحاً ولا فاسداً .
وروى أبو عبيد في كتابه ( ( غريب الحديث ) ) حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن
أبيه ، عن أبي سلمة ، قال : سمع النبي ( عبد الله بن حذافة يقرأ في المسجد ، يجهر يالقراءة في صلاة النهار ، فقال : ( ( يابن حذافة سمع الله ولا تسمعنا ) ) .
وقد رواه بعضهم ، فجعله : عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - موصولا وإرساله أصح - : قاله الدارقطني وغيره .
وروى وكيع ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : قالوا : يارسول الله ، إن هاهنا قوم يجهرون بالقرآن بالنهار ؟ فقال : ( ( ارموهم بالبعر ) ) .
مراسل يحيى بن أبي كثير ضعيفة .
وقد رواه يوسف بن يزيد الدمشقي ، عن الأوزاعي ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، عن بريدة ، عن النبي ( ، فوصله .
وهو خطأ لا أصل له - : قاله صالح بن محمد الحافظ وغيره .
ويوسف هذا ، ضعيف .
وروي موصولا من وجوه أخر ، لا تصح .
وروي ابن أبي شيبة بإسناده ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر ، أنه سمع رجلا يجهر بالقراءة نهاراً ، فدعاه فقال : إن صلاة النهار لا يجهر فيها فأسر قراءتك .
ورخصت طائفة في الجهر في التطوع بالنهار إذا لم يؤذ أحداً ، وهو قول(4/482)
"""""" صفحة رقم 483 """"""
النخعي والثوري وإسحاق ، وروي - أيضاً - عن خالد بن معدان وسعيد بن جبير .
وقال بشر بن حرب : رأيت ابن عمر يصلي بالنهار ، فكان يسمعنا قراءته وبشر بن حرب ، تكلموا فيه .
ولأصحابنا وجه : أنه لابأس به .(4/483)
"""""" صفحة رقم 484 """"""
9 - باب
إذا أسمع الإمام الآية
778 - حدثنا محمد بن يوسف : ثنا الأوزاعي : حدثني يحيى بن أبي كثير : حدثني عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، أن النبي ( كان يقرأ بأم الكتاب وسورة معها ، في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر و [ صلاة ] العصر ويسمعنا الآية أحياناً ، وكان يطيل في الركعة الأولى .
قوله : ( ( كان يسمعنا الآية أحياناً ) ) ظاهرة : أنه كان يقصد ذلك ، وقد يكون فعله ليعلمهم أنه يقرأ في الظهر والعصر ، فإنه حصل لبعضهم شك في ذلك كما تقدم .
وقد يكون فعله ليعلمهم هذه السورة المعينة ، كما روي ذلك عن أنس وغيره ؛ أو ليبين جواز الجهر في قراءة النهار ، وأن الصلاة لا تبطل به .
وقالت طائفة من العلماء : لم يكن إسماعهم الآية أحياناً عن قصد ، إنما كا يقع اتفاقاً عن غير قصد ؛ فإنه ( كان يقرأ لنفسه سراً ، فربما استغرق في تدبر ما يقرأه ، أو لعله كان يقصد تحقيق القراءة ، فيقع سماع قراءته للآية أحياناً لذلك من غير أن يتعمد إسماعهم ، أو أن يكون وقع الإسماع منه على وجه السهو وفي هذا نظر .
قال الشافعي : لا نرى بأسا أن يتعمد الرجل الجهر بالشيء من القرآن ليعلم من خلفه أنه يقرأ . قال : وهم يكرهون هذا ، ويوجبون السهو على من فعله .
يشير إلى أهل الكوفة .(4/484)
"""""" صفحة رقم 485 """"""
واختلف كلام الإمام أحمد في ذلك :
فنقل عنه حنبل في قراءة النهار : ترى للرجل أن يسمع من يليه ؟ قال : الحرف ونحو ذلك ، ولا يغلط صاحبه ؛ كان النبي ( يسمعهم الآية أحياناً وقال : صلاة النهار عجماء لا يجهر فيما .
ونقل عنه إسماعيل بن سعيد الشالنجي في الإمام يسمع من يليه ، فكره ذلك في صلاة النهار ، وقال : لا أرى عليه سهوا في ذلك - أي : سجود سهو .
وروى الشافعي بإسناده ، عن ابن مسعود ، أنه سمع قراءة في الظهر والعصر .
قال الشافعي : وهذا عندنا لا يوجب سهواً - يعني : سجوداً .
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) عن سيف المكي ، عن مجاهد ، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقرأ في الظهر ب ( كهيعص ( .
وروى الجوزجاني بإسناده ، عن أبي عثمان النهدي ، قالَ : سمعت من ابن عمر نغمة من ( ق ( في صلاة الظهر .
وروى حماد بن سلمة ، عن حميد وثابت وقتادة والتيمي ، أن أنساً صلى بهم الظهر والعصر ، وكان يسمعهم النغمة أحياناً .
وروى عنه مرفوعاً .
ووقفه أصح - : قاله أبو حاتم والدار قطني وغيرهما .
وروي عن خباب بن الأرت ، أنه قرأ بهم في الظهر ب ( إذا زلزلت ( ،(4/485)
"""""" صفحة رقم 486 """"""
فسمع قراءته حتى تعلمها من خلفه .
وعنه : قرأ بهم في العصر ( إذا زلزلت ( فجهر بها .
وقال علقمة : صليت إلى جنب عبد الله بن مسعود بالنهار ، فلم أدر أي شيء قرأ ، حتى سمعته يقول : ( رب زدني علماً ( ( طه : 114 ) ، فظننته يقرأ ( طه ( .
وقال النخعي : كان بعضهم يسمعهم الآية في الظهر والعصر .
وخرج النسائي وابن ماجه من حديث البراء بن عازب ، قال : كان رسول الله ( يصلي بنا الظهر ، فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات .
واختلفوا فيمن جهر فيما يخافت فيه : هل يسجد للسهو ، أم لا ؟
فقالت طائفة : لا يسجد ، وروي عن أنس وعلقمة والأسود ، أنهم فعلوه ولم يسجدوا .
وهو قول الأوزاعي والشافعي .
وقال النخعي والثوري وأبوحنيفة : يسجد لذلك .
وعن أحمد فيه روايتان .
وقال مالك : إن تطاول ذلك سجد للسهو ، ولا أرى عليه في السر سهوا .
واستدل أحمد بأنه لا يجب السجود لذلك بأن النبي ( كان يسمع منه نغمة في صلاة الظهر ، وبأن أنساً جهر فلم يسجد .(4/486)
"""""" صفحة رقم 487 """"""
قلت : المروي عن الصحابة قد تقدم أنه كان عمداً منهم فعلوه ؛ لتعليم من وراءهم سنة القراءة ، والعمد لا يسجد له .
وفيه رد على من قال : تبطل صلاته بتعمد الجهر فيما يسر فيه ، كما تقدم .
فقد حكي عن ابن أبي ليلى ، أنه تبطل الصلاة بتركه عمداً ونسياناً وهو بعيد جداً .(4/487)
"""""" صفحة رقم 488 """"""
0 - باب
يطول في الركعة الأولى
779 - حدثنا أبو نعيم : ثنا هشام ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، أن النبي ( كان يطول في الركعة الأولى من صلاة الظهر ، ويقصر في الثانية ، ويفعل ذلك في صلاة الصبح .
في هذه الرواية : التطويل في الركعة الأولى من صلاة الظهر والصبح .
وقد سبق من حديث همام ، عن يحيى بن أبي كثير ذكر التطويل في الأولى من العصر - أيضاً .
وكذا في بعض النسخ من رواية شيبان ، عن يحيى .
وقد خرجها في ( ( باب : القراءة في الظهر ) ) .
وقد سبق الكلام على التطويل في الأولى من الصلوات في ( ( باب : القراءة في الظهر ) ) فلا حاجة إلى إعادته هاهنا .(4/488)
"""""" صفحة رقم 489 """"""
1 - باب
جهر الإمام بالتأمين
وقال عطاء : أمين دعاء ، أمن ابن الزبير ومن وراءه حتى إن للمسجد للجة ، وكان أبو هريرة ينادي الإمام : لا تسبقني بآمين .
وقال نافع : كان ابن عمر لا يدعه ، ويحضهم ، وسمعت منه في ذلك خبراً .
قال عبد الرزاق : أنا ابن جريج : قلت لعطاء : كان ابن الزبير يؤمن على إثر أم القرآن ؟ قال : نعم ، حتى إن للمسجد للجة . قال : إنما آمين دعاء قال : وكان أبو هريرة يدخل المسجد ، وقد قام الإمام فيه ، فيقول : لا تسبقني بآمين .
وروى يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أنه كان مؤذنا للعلاء بن الحضرمي بالبحرين ، فاشترط عليه أن لا يسبقه بآمين .
وروى عاصم الأحول ، عن أبي عثمان النهدي ، قالَ : قالَ بلال : يارسول الله ، لا تسبقني بآمين .
وهذا مرسل .
وخرجه أبو داود ، وعنده عن أبي عثمان ، عن بلال .(4/489)
"""""" صفحة رقم 490 """"""
وهو خطأ - : قاله أبو حاتم الرازي . قال : وهو مرسل .
وقيل : إن أبا عثمان لم يسمع من بلال بالكلية ؛ لأنه قدم المدينة في خلافة
عمر ، وقد كان بلال انتقل إلى الشام قبل ذلك .
وقد رواه هشام بن لاحق ، عن عاصم ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، عن
بلال ، فوصله .
وهشام ، تركه الإمام أحمد وغيره .
وقول عطاء في آمين : إنها دعاء ، يريد به - والله أعلم - أن معنى آمين اللهم استجب ، ونحو هذا من الدعاء .
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) عن أبي زهير النميري - وكان من الصحابة - أنه كان يقول : إذا دعا أحدكم بدعاء فليختمه بآمين ؛ فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة . وذكر أنه خرج مع النبي ( ذات ليلة ، قال : فأتينا على رجل قد ألح في المسألة ، فوقف النبي ( يسمع منه ، ثم قال النبي ( : ( ( أوجب إن ختم بآمين ) ) .
وخرج ابن عدي بإسناد ضعيف ، عن أبي هريرة - مرفوعاً - : ( ( آمين قوة الدعاء ) ) .
وفي ( ( آمين ) ) لغتان : المد ، والقصر ، والميم مخففة ، وحكي عن بعضهم تشديدها ، وقالوا : معناها قاصدين نحوك . وزعم بعضهم أن آمين اسم من أسماء الله . وفيه أقوال أخر لا تكاد تصلح .(4/490)
"""""" صفحة رقم 491 """"""
و ( ( اللجة ) ) - بفتح اللام وتشديد الجيم - : اختلاط الأصوات والضجات
و ( ( الرجة ) ) - بالراء - مثلها .
وقول أبي هريرة : ( ( لا تسبقني بآمين ) ) يدل على فضل شهود المأموم مع إمامه آمين .
وروي عن أبي الدرداء ، أنه سمع إقامة الصلاة ، فقالَ : أسرعوا بنا ندرك آمين .
وقد قال وكيع : من أدرك آمين مع إمامه فقد أدرك معه فضلية تكبيرة الإحرام .
وأنكر الإمام أحمد ذلك ، وقال : لا تدرك فضلية تكبيرة الإحرام إلا بإدراكها مع الإمام .
قال البخاري :
780 - حدثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، أنهما أخبراه ، عن أبي هريرة ، أن النبي ( قال :
( ( إذا أمن الإمام فأمنوا ؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر لهُ ما تقدم من ذنبه ) ) .
وقال ابن شهاب : وكان رسول الله ( يقول : ( ( آمين ) ) . قول النَّبيّ ( :
( ( آمين ) ) هوَ مما أرسله الزهري في آخر الحديث . وقد روي عن الزبيدي ، عن الزهري بهذا الإسناد ، أن النَّبيّ ( كانَ إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته ، فقالَ :
( ( آمين ) ) .
خرجه الدارقطني .(4/491)
"""""" صفحة رقم 492 """"""
وقال : إسناده حسن .
كذا قال ، ووصله وهم ، إنما هو مدرج من قول الزهري ، كما رواه مالك .
وروي ابن وهب هذا الحديث ، عن مالك ويونس ، عن الزهري ، وزاد فيه بعد قوله : ( ( إذا أمن الإمام فأمنوا ) ) : ( ( فإن الملائكة تؤمن ) ) - وذكر باقي الحديث .
خرجه البيهقي .
وخرجه ابن ماجه بهذه الزيادة - أيضاً - من رواية سفيان ، عن الزهري .
دل هذا الحديث على أن الإمام والمأمومين يؤمنون جميعاً ، وهذا قول جمهور أهل العلم .
روي عن أبي بكر وعمر وابن عمر وأبي هريرة .
وقال عطاء : لقد كنت أسمع الآئمة يقولون على إثر أم القرآن : أمين ، هم أنفسهم ومن وراءهم ، حتى إن للمسجد للجة .
وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة والأوزاعي وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد .(4/492)
"""""" صفحة رقم 493 """"""
وهو رواية المدنيين عن مالك واختيارهم .
وروى ابن القاسم ، عن مالك ، أن الإمام لا يؤمن ، إنما يؤمن من خلفه ، وهو اختيار المصريين من أصحابه .
وحملوا قوله : ( ( إذا أمن الإمام فأمنوا ) ) على أن المراد بتأمين الإمام دعاؤه بقراءة آخر الفاتحة ، بدليل رواية أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا قال الإمام ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ( فقولوا : آمين ) ) وسيأتي فيما بعد - إن شاء الله .
وليس فيه ما يدل على أن الإمام لا يؤمن ، بل فيه دليل على اقتران تأمين المأمومين بتأمين الإمام .
وقد خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث معمر ، عن الزهري ، عن ابن
المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا قال الإمام ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ( فقولوا : آمين ، فإن الملائكة تقول : آمين ، وإن الإمام يقول : آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) ) .
واختلفوا في الجهر بها على ثلاثة أقوال :
أحدها : يجهر بها الإمام ومن خلفه ، وهو قول عطاء والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وابن أبي شيبة ، وعامة أهل الحديث .
واستدل بعضهم بقوله : ( ( إذا أمن الإمام فأمنوا ) ) فدل على سماعهم لتأمينه وروي عن عطاء ، قال : أدركت مائتين من أصحاب محمد ، إذا قال الإمام : ( وَلا الضَّالِّينَ ( سمعت لهم ضجة ب ( ( آمين ) ) .
خرجه حرب .(4/493)
"""""" صفحة رقم 494 """"""
والثاني : يخفيها الإمام ومن خلفه ، وهو قول الحسن والنخعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وأصحابة .
والثالث : يخفيها المأموم كما يخفي سائر الأذكار ، ويجهر بها الإمام ، وهو قول للشافعي .
ومن أصحابه من حمله على حال على قلة المأمومين أو صغر المسجد بحيث يبلغهم تأمين الإمام ، فإن لم يكن كذلك جهر المأمومون قولا واحداً .
وفي الجهر بالتأمين للإمام أحاديث مرفوعة يطول ذكرها .
وقال الإمام أحمد - في رواية أبي داود - : يجهر الإمام حتى يسمع كل من في المسجد . قال أبو داود : وكان مسجده صغيراً .
وقال حرب : سمعت أحمد يجهر بآمين جهراً خفيفاً رقيقاً ، وربما لم أسمعه يجهر بها . قال : وسمعت إسحاق قال : يجهر بها حتى يسمع الصف الذي يليه . قال : ويجهر بها كل صف حتى يسمع الصف الذي يليهم ، حتى يؤمن أهل المسجد كلهم .
ويكون تأمين المأمومين مع تأمين الإمام ، لا قبله ولا بعده عند أصحابنا وأصحاب الشافعي ، وقالوا : لا يستحب للمأموم مقارنة إمامه في شيء غير هذا ، فإن الكل يؤمنون على دعاء الفاتحة ، والملائكة يؤمنون - أيضاً - على هذا الدعاء ، فيشرع المقارنة بالتأمين للإمام والمأموم ، ليقارن ذلك تأمين الملائكة في السماء ؛ بدليل قوله في رواية معمر :
( ( فإن الملائكة تقول : آمين ، والإمام يقول : آمين ) ) ، فعلل باقتران تأمين الإمام والملائكة ، ويكون معنى قوله ( ( إذا أمن الإمام فأمنوا ) ) - أي : إذا شرع في التأمين ، أو أراده .
وورد أثر يدل على تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإمام ، من رواية ابن(4/494)
"""""" صفحة رقم 495 """"""
لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الله بن عتاب العدوي ، قال : صليت مع أبي بكر وعمر والأئمة بعدهما ، فكان إذا فرغ الإمام من قراءة فاتحة الكتاب فقال : ( وَلا الضَّالِّينَ ( قال : آمين ، ورفع بها صوته ، ثم أنصت ، وقال من خلفه : آمين ، حتى يرجع الناس
بها ، ثم يستفتح القراءة .
إسناده ضعيف .
وتأمين الملائكة هو على دعاء القارئ ، هذا هو الصحيح الذي يفهم من
الحديث .
وقد ذكر ابن عبد البر وغيره فيهِ أقوالاً أخر ، مرغوباً عن ذكرها ؛ لبعدها وتعسفها من غير دليل .
وقد قال عكرمة : إذا أقيمت الصلاة فصف أهل الأرض صف أهل السماء ، فإذا قال أهل الأرض : ( وَلا الضَّالِّينَ ( قالت الملائكة : آمين ، فوافق آمين أهل الأرض آمين لأهل السماء ؛ غفر لأهل الأرض ما تقدم من ذنوبهم .
وروى العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : إذا قرأ الإمام بأم القرآن فاقرأ بها واسبقه ؛ فإنه إذا قال : ( وَلا الضَّالِّينَ ( قالت الملائكة : آمين . فمن وافق ذلك قمن أن يستجاب لهم .
ولا يستجب أن يصل آمين بذكر آخر ، مثل أن يقول : آمين رب العالمين ؛ لأنه لم تأت به السنة ، هذا قول أصحابنا .
وقال الشافعي : هو حسن :
ولا يسحتب أن يقدم على التأمين دعاء ؛ لأن التأمين على دعاء الفاتحة ، وهو هداية الصراط المستقيم ، وهو أهم الأدعية وأجلها .(4/495)
"""""" صفحة رقم 496 """"""
ومن السلف من استحب ذلك للمأموم ، منهم : الربيع بن خثيم والثوري .
وروى أبو نعيم في ( ( كتاب الصلاة ) ) حدثنا أبو مالك النخعي ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : إذا قال الإمام : ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ( فسل موجبة ، ثم قل : آمين .
أبو مالك هذا ، ضعيف .
وروى أبو بكر النهشلي ، عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله اليحصبي ، عن وائل بن حجر ، أنه سمع النبي ( حين قال : ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ( قال :
( ( رب اغفر لي ، آمين ) ) .
خرجه البيهقي وغيره .
وهذا الإسناد لا يحتج به .
وروى أبو حمزة ، عن إبراهيم النخعي ، قال : كانوا يستحبون ذلك .
وأبو حمزة ، هو ميمون الأعور ، ضعيف .
وظاهر الأحاديث : يدل على أن يوصل التأمين بالفاتحة من غير سكوت .
وروى ابن المبارك : ثنا عاصم الأحوال ، عن حفصة بنت سيرين ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : إذا قرأ ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ( ووصل بآمين ، فوافق تأمينه تأمين الملائكة استجيبت الدعوة .
حفصة ، لم تسمع من ابن مسعود .
واستحب الشافعية أن يسكت بين الفاتحة والتأمين سكتة لطيفة ؛ ليفصل القرآن عما ليس منه .(4/496)
"""""" صفحة رقم 497 """"""
والتأمين سنة في الصلاة ، وليس بواجب عند جمهور العلماء .
وروى إسحاق بن إبراهيم بن هانئ ، عن أحمد ، قال : آمين أمر من النبي ( قال : ( ( إذا أمن القارئ فأمنوا ) ) فهذا أمر منه ، والأمر أوكد من الفعل .(4/497)
"""""" صفحة رقم 498 """"""
2 - باب
فضل التأمين
781 - حدثنا عبد الله بن يوسف : ثنا مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( قال : ( ( إذا قال أحدكم آمين [ و ] قالت الملائكة في السماء : آمين ، فوافقت إحدهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه ) ) .
وخرج مسلم من رواية يونس ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( قال : ( ( إذا قال أحدكم في الصلاة : آمين ، والملائكة في السماء : آمين ، فوافق إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه ) ) .
ومن رواية سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( قال : ( ( إذا قال القارئ : ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ( فقال من خلفه : آمين ، فوافق قوله قول أهل السماء ، غفر له ما تقدم من ذنبه ) ) .
وروى إسحاق بن راهوية : حدثنا جرير : ثنا ليث ، عن كعب ، عن أبي
هريرة ، قال : قال رسول الله ( : ( ( إذا قال الإمام ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ( فقال : آمين ، فوافق آمين أهل الأرض آمين أهل السماء ، غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه . ومثل من لا يقول : آمين كمثل رجل غزا مع قوم فاقترعوا ، فخرجت سهامهم ولم يخرج سهمه ، فقال : لم لم يخرج سهمي ؟ فقيل : إنك لم تقل آمين ) ) .
قال أبو هريرة : وكان الإمام إذا قال : ( وَلا الضَّالِّينَ ( جهر بآمين .(4/498)
"""""" صفحة رقم 499 """"""
كعب هذا ، قال أحمد : لا أدري من هو . وقال أبو حاتم : مجهول لا يعرف .
وقد ذكرنا - فيما تقدم - أن الحديث على ظاهره ، وأن الملائكة في السماء تؤمن على قراءة المصلين في الأرض للفاتحة .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) من رواية العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( قال الله ( : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما
سأل ، فإذا قال العبد : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( قال الله : حمدني عبدي ، فإذا قال : ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( قال الله : أثنى على عبدي ، فإذا قال ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ( قال : مجدني عبدي - وقال مرة : فوض إلي عبدي - وقال مرة : فوّض إلي عبدي - ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( قالَ : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل فإذا قال : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ( قال : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل ) ) .
فهذا الحديث يدل على أن الله يستمع لقراءة المصلي حيث كان مناجيا له ، ويرد عليه جواب ما يناجيه به كلمة كلمة ، فأول الفاتحة حمد ، ثم ثناء ، وهو تثنية الحمد وتكريره ، ثم تمجيد ، والثناء على الله بأوصاف المجد والكبرياء والعظمة ، ثم ينتقل العبد من الحمد والثناء والتمجيد إلى خطاب الحضور ، كأنه صلح حينئذ للتقريب من الحضرة فخاطب خطاب الحاضرين ، فقال ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( .
وهذه الكلمة قد قيل : أنها تجمع سر الكتب المنزلة من السماء كلها ؛ لأن(4/499)
"""""" صفحة رقم 500 """"""
الخلق إنما خلقوا ليؤمروا بالعبادة ، كما قالَ : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (
[ الذاريات : 56 ] ، وأنما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب لذلك ، فالعبادة حق الله على عباده ، ولا قدرة للعباد عليها بدون إعانة الله لهم ، فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده ؛ لأن العبادة حق الله على عبده ، والإعانة من الله فضل من الله على عبده .
وبعد ذلك الدعاء بهداية الصراط المستقيم ؛ صراط المنعم عليهم ، وهم الأنبياء وأتباعهم من الصديقين والشهداء والصالحين ، كما ذكر ذلك في سورة النساء .
فمن استقام على هذا الصراط حصل له سعادة الدنيا والآخرة ، واستقام سيره على الصراط يوم القيامة ، ومن خرج عنه فهو إما مغضوب عليه ، وهو من يعرف طريق الهدى ولا يتبعه كاليهود ، أو ضال عن طريق الهدى كالنصارى ونحوهم من المشركين .
فإذا ختم القارئ في الصلاة قراءة الفاتحة ، أجاب الله دعاءه فقال : ( ( هذا لعبدي ولعبدي ماسأل ) ) . وحينئذ تؤمن الملائكة على دعاء المصلى ، فيشرع للمصلين موافقتهم في التأمين معهم ، فالتأمين مما يستجاب به الدعاء .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا قال الإمام : ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ( فقولوا : آمين ، يجبكم الله ) ) .
ولما كان المأموم مأموراً بالإنصات لقراءة الإمام ، مأموراً بالتأمين على دعائه عند فراغ الفاتحة ؛ لم يكن عليهِ قراءة ؛ لأنه قد أنصت للقراءة ، وأمن على الدعاء ، فكأنه دعا ؛ كما قال كثير من السلف في قول الله تعالى لموسى(4/500)
"""""" صفحة رقم 501 """"""
وهارون : ( قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا ( [ يونس : 89 ] . قالوا : كان موسى يدعو وهارون يؤمن ، فسماهما داعيين .(4/501)
"""""" صفحة رقم 502 """"""
3 - باب
جهر المأموم بالتأمين
782 - حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن سمي مولى أبي بكر ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( قال : ( ( إذا قال الإمام : ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ( فقولوا آمين ؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) ) .
تابعة : محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ونعيم المجمر ، عن أبي هريرة .
حديث محمد بن عمرو الذي أشار إليه :
خرجه البيهقي ، ولفظه : ( ( إذا قال القارئ ( وَلا الضَّالِّينَ ( فقال من خلفه : آمين ، فوافق ذلك قول أهل السماء آمين ؛ غفر له ما تقدم من ذنبة ) ) .
وحديث نعيم المجمر ، عن أبي هريرة .
خرجه النسائي ولفظه : عن نعيم ، قال : صليت وراء أبي هريرة ، فقرأ
( ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ) ، ثم قرأ بأم القرآن ، حتى بلغ ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ( ، فقال : آمين . فقال الناس : آمين ، ويقول كلما سجد : الله أكبر ، وإذا قام من الجلوس من الاثنتين : الله أكبر ، وإذا سلم قال : والذي نفسي بيده ، إني لأشبهكم صلاة برسول الله ( .
وحديث أبي صالح الذي خرجه البخاري وحديث محمد بن عمرو الذي أشار(4/502)
"""""" صفحة رقم 503 """"""
إليه : استدل بهما من يقول : إن الإمام لا يؤمن ولا يجهر بالتأمين ؛ فإنه أمر المأموم أن يؤمن عقيب فراغ الإمام من قراءة : ( وَلا الضَّالِّينَ ( .
وأجاب عنه من قال : يؤمن جهراً ، بأنه إشارة إلى أن تأمينه يكون مع تأمين الإمام لا بعده ؛ فإنه قد سبق في رواية بأن الإمام يقول : آمين . والملائكة تقول : آمين .
وأجاب بعضهم - كالخطابي - ، بأنه يحتمل أن يكون هذا محمولا على من بعد عن الإمام ولم يسمع تأمينه ، وسمع قراءته ؛ فإن جهر الإمام بالتأمين دون جهره بالقراءة فقد يسمع قراءته من لا يسمع تأمينه .
وأما حديث نعيم ، عن أبي هريرة ، فلا حجة فيه ؛ فإن أبا هريرة أمن على قراءة نفسه حيث كان إماماً ، وقال : إني أشبهكم صلاة برسول الله ( .
وفي استدلال البخاري بقوله : ( ( فقولوا : آمين ) ) على جهر المأموم بالتأمين نظر ، إلا أن يقال : قد سوى النبي ( بين قول الإمام : ( ( ولا الضالين ) ) وقول المأوم : آمين ، وسماهما قولا ، وجعل قول المأموم كالمجاوبة للإمام ، وقول المأموم إنما يكون
جهراً ؛ لأن هذا الخطاب مختص بالصلاة الجهرية بالاتفاق فيكون مجاوبته بالتأمين جهراً -
أيضا .
1(4/503)
"""""" صفحة رقم 4 """"""
الجزء الخامس(5/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
كتاب الأذان
( تابع(5/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
فارغة(5/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
4 - باب
إذا ركع دون الصف
783 - حدثنا موسى بن إسماعيل : ثنا همام ، عن الأعلم - وهو : زياد - ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، أنه انتهى إلى النبي ( وهو راكع ، فركع قبل أن يصل إلى الصف ، فذكر ذلك للنبي ( ، فقال : ( ( زادك الله حرصاً ولا تعد ) ) .
في إسناد هذا الحديث شيئأن :
أحدهما : أنه اختلف فيه على الحسن :
فرواه زياد الأعلم وهشام ، عن الحسن ، عن أبي بكرة .
وفي رواية : عن زياد ، عن الحسن ، أن أبا بكرة حدثه - فذكره .
خرَّجه أبو داود .
ورواه يونس وقتادة ، واختلف عنهما :
فقيل : عنهما كذلك .
وقيل : عنهما ، عن الحسن - مرسلاً - ، أن النبي ( قال لأبي بكرة .
وكذا روي ، عن حماد بن سلمة ، عن زياد الأعلم - أيضاً .
خرَّجه من طريقه أبو داود .
الثاني : أنه اختلف في سماع الحسن من أبي بكرة ، فأثبته ابن المديني والبخاري وغيرهما ، وكذلك خرج حديثه هذا ، ونفاه يحيى بن معين - : نقله عنه ابن أبي خيثمة .(5/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
ويؤيده : أنه روي عن الحسن مرسلاً ، وأن الحسن روى عن الأحنف ، عن أبي بكرة حديث : ( ( إذا التقى المسلمأن بسيفيهما ) ) .
وهذا مما يستدل به على عدم سماعه منه ، حيث أَدخل بينه وبينه في حديث آخر واسطةً .
وقد روى هشام بن حسأن ، عن الحسن ، أنه دخل مع أنس بن مالك ٍعلى أبي بكرة وهو مريض .
وروى مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، قال : أخبرني أبو بكرة - فذكر حديث صلاة الكسوف .
إلا أن مبارك بن فضاله ليس بالحافظ المتقن .
وقال الشافعي في حديث أبي بكرة هذا : إسناده حسن .
وقد استدل بهذا الحديث على مسألتين .
المسألة الأولى :
من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة ، وإن فاته معه القيام وقراءة
الفاتحة .
وهذا قول جمهور العلماء ، وقد حكاه إسحاق بن راهويه وغيره إجماعا من
العلماء . وذكر الإمام أحمد في رواية أبي طالب أنه لم يخالف في ذلك أحد من أهل الإسلام ، هذا مع كثرة اطلاعه وشدة ورعه في العلم وتحريه .
وقد روي هذا عن عليٍ وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابتٍ وأبي هريرة - في رواية عنه رواها عبد الرحمن بن إسحاق المديني ، عن المقبري ، عنه .(5/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
وذكر مالك في ( ( الموطأ ) ) أنه بلغه عن أبي هريرة ، أنه قال : من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة .
وهو قول عامة علماء الأمصار .
ثم من رأى أن القراءة لا تجب على المأموم استدل به على أن القراءة غير لازمة للمأموم بالكلية ، ومن رأى لزوم القراءة له كالشافعي قال : إنها تسقط ها هنا للضرورة وعدم التمكين منها .
وجعله إسحاق دليلاً على أن القراءة لا تجب إلا في ثلاث ركعاتٍ من الصلاة .
ولازم هذا : أنه لو أدرك الركوع في ركعةٍ من الصبح أنه لا يعتد بها ؛ لأنه فاتته القراءة في نصف الصلاة .
وهذا التفصيل محدث مخالف الإجماع .
وقد روي أن الصلاة التي ركع فيها أبو بكرة هي صلاة الصبح ، وسيأتي - إن شاء الله .
وذهبت طائفة إلى أنه لا يدرك الركعة بإدراك الركوع مع الإمام ، لأنه فاته مع الإمام القيام وقراءة الفاتحة ، وإلى هذا المذهب ذهب البخاري في ( ( كتاب القراءة خلف الإمام ) ) ، وذكر فيه عن شيخه علي بن المديني أن الذين قالوا بإدراك الركعة بإدراك الركوع من الصحابة كانوا ممن لا يوجب القراءة خلف الإمام ، فأما من رأى وجوب القراءة خلف الإمام ، فأنه قال : لا يدرك الركعة بذلك ، كأبي هريرة ، فأنه قال : للمأموم : أقرأ بها في نفسك . وقال : لا تدرك الركعة بإدراك الركوع .
وخرَّج البخاري في ( ( كتاب القراءة ) ) من طريق ابن إسحاق : أخبرني الأعرج ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : لا يجزئك إلا أن تدرك الإمام : قائماً قبل أن تركع .
ثم ذكر أنه رأى ابن المديني يحتج بحديث ابن إسحاق ، ثم أخذ يضَّعف(5/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
عبد الرحمن بن إسحاق المديني الذي روى عن المقبري ، عن أبي هريرة خلاف رواية ابن إسحاق ، ووهَّن أمره جداً .
وقد وافقه على قوله هذا ، وأن من أدرك الركوع لا يدرك به الركعة ، قليل من المتأخرين من أهل الحديث ، منهم : ابن خزيمة وغيره من الظاهرية وغيرهم وصَّنف فيه أبو بكر الصبغي من أصحاب ابن خزيمة مُصنفاً .
وهذا شذوذٌ عن أهل العلم ومخالفةٌ لجماعتهم .
وقد روي عن زيد بن وهب ، أنه أدرك الركوع وقضى تلك الركعة ، وهذا يحتمل أنه شك في إدراكها إدراكاً يعتد به ، فلا ينسب به إليه مذهب .
وقد روي عن ابن عمر ، أنه إذا امترى : هل ركع قبل رفع إمامه أم لا ، لم يعتد بتلك الركعة ، وهو قول جمهور العلماء .
وأيضا ؛ فقد قال زيد بن وهب : إنه كان وابن مسعودٍ ، وإنهما ركعا دون الصف ، قال : فلما فرغ الإمام قمت أقضي ، وأنا أرى أني لم أدرك .
فقال ابن مسعودٍ : قد أدركته .
فتمام الرواية يدل على أن ما فعله قد أنكره عليه ابن مسعود ، ولم يكن أحد من التابعين يصر على فعله مع إنكار الصحابة عليه .
والمروي عن أبي هريرة قد اختلف عنه فيه ، وليس عبد الرحمن بن إسحاق المديني عند العلماء بدون ابن إسحاق ، بل الأمر بالعكس ؛ ولهذا ضَّعف ابن عبد البر وغيره رواية ابن إسحاق ، ولم يثبتوها ، وجعلوا رواية عبد الرحمن مقدمة على روايته .
قال ابن عبد البر في المروي عن أبي هريرة : في إسناده نظر . قال :
ولا نعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال به . وقد روي معناه عن أشهب .
وعبد الرحمن بن إسحاق هذا يقال له : عباد . وثَّقه ابن معين . وقال(5/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
أحمد : صالح الحديث .
وقال ابن المديني : هو عندنا صالح وسط - : نقله عنه أبو جعفر بن أبي شيبة ، وأنه قال في محمد بن إسحاق كذلك : إنه صالح وسط .
وهذا تصريح منه بالتسوية بينهما .
ونقل الميموني ، عن يحيى بن معين ، أنه قال في محمد بن إسحاق :
ضعيف . وفي عبد الرحمن بن إسحاق الذي يري عن الزهري : ليس به بأس . فصرح بتقديمه على ابن إسحاق .
وقال النسائي : ليس به بأس . وقال أبو داود : محمد بن إسحاق قدري معتزلي ، وعبد الرحمن بن إسحاق قدري ، إلا أنه ثقة .
وهذا تصريح من أبي داود بتقديمه على ابن إسحاق ، فأنة وثقه دون ابن إسحاق ، ونسبه إلى القدر فقط ، ونسب ابن إسحاق إلى القدر مع الاعتزال .
وعامة ما أنكر عليه هو القدر ، وابن إسحاق يشاركه في ذلك ويزيد عليه ببدع أخر كالتشيع والاعتزال ؛ ولهذا خرَّج مسلم في ( ( صحيحه ) ) لعبد الرحمن بن إسحاق ولم يخّرج لمحمد بن إسحاق إلا متابعة .
وأيضاً ؛ فأبو هريرة لم يقل : إن من أدرك الركوع فاتته الركعة ؛ لأنه لم يقرأ بفاتحة الكتاب كما يقوله هؤلاء ، إنما قال : لا يجزئك إلا أن تدرك الإمام قائماً قبل أن يركع ، فعلل بفوات لحوق القيام مع الإمام .
وهذا يقتضي أنه لوكبر قبل أن يركع الإمام ، ولم يتمكن من القراءة فركع معه كان مدركاً للركعة ، وهذا لا يقوله هؤلاء ، فتبين أن قول هؤلاء محدث لا سلف لهم
به .(5/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
وقد روي عن أبي سعيد وعائشة : لا يركع أحدكم حتى يقرأ بام القرآن .
هذا - إن صح - محمول على من قدر على ذلك وتمكن منه .
وقد أجاب البخاري في ( ( كتاب القراءة ) ) عن حديث أبي بكرة بجوأبين :
أحدهما : أنه ليس فيه تصريح بأنه اعتد بتلك الركعة .
والثاني : أن النبي ( نهاه عن العود إلى ما فعله .
فأما الأول ، فظاهر البطلان ، ولم يكن حرص أبي بكرة على الركوع دون الصف إلا لإدراك الركعة ، وكذلك كل من أمر بالركوع دون الصف من الصحابة ومن بعدهم أنما أمر به لإدراك الركعة ، ولو لم تكن الركعة تدرك به لم يكن فيه فائدة بالكلية ، ولذلك لم يقل منهم أحد : أن من ادركه ساجداً فأنه يسجد حيث أدركته السجدة ، ثم يمشي بعد قيام الإمام حتى يدخل الصف ، ولو كان الركوع دون الصف للمسارعة إلى متابعة الإمام فيما لا يعتد به من الصلاة ، لم يكن فرق بين الركوع والسجود في ذلك .
وهذا أمر يفهمه كل أحد من هذه الأحاديث والآثار الواردة في الركوع خلف الصف ، فقول القائل : لم يصرحوا بالاعتداد بتلك الركعة هو من التعنت والتشكيك في الواضحات ، ومثل هذا إنما يحمل عليه الشذوذ عن جماعة العلماء ، والأنفراد عنهم بالمقالات المنكرة عندهم .
فقد أنكر ابن مسعود على من خالف في ذلك ، واتفق الصحابة على موافقته ، ولم يخالف منهم أحدٌ ، إلا ما روي عن أبي هريرة ، وقد روي عنه من وجه أصح منه أنه يعتد بتلك الركعة .
واما الثاني ، فإنما نهى النبي ( أبا بكرة عن الإسراع إلى الصلاة ، كما قال : ( ( لا تأتوها وأنتم تسعون ) ) ، كذلك قاله الشافعي وغيره من الأئمة ،(5/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
وسيأتي الكلام على ذلك فيما بعد - إن شاء الله تعإلى .
وكان الحامل للبخاري على ما فعله شدة إنكاره على فقهاء الكوفيين أن سورة الفاتحة تصح الصلاة بدونها في حق كل أحدٍ ، فبالغ في الرد عليهم ومخالفتهم ، حتى التزم ما التزمه مما شذ فيه عن العلماء ، واتبع فيه شيخه ابن المديني ، ولم يكن ابن المديني من فقهاء أهل الحديث ، وأنما كان بارعا في العلل والأسانيد .
وقد روي عن النبي ، أن ( ( من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة ) ) ، من حديث أبي هريرة ، وله طرق متعددة عنه . ومن حديث معاذ وعبد الرحمن بن الأزهر وغيرهم . وقد ذكرناها مستوفاة في ( ( كتاب شرح الترمذي ) ) .
وأكثر العلماء على أنه لا يكون مدركا للركعة إلا إذا كبر وركع قبل أن يرفع إمامه ، ولم يشترط أكثرهم أن يدرك الطمأنينة مع الإمام قبل رفعه .
ولأصحابنا وجه باشتراط ذلك .
ومن العلماء من قال : إذا كَّبر قبل أن يرفع إمامه فقد أدرك الركعة ، وإن لم يركع قبل رفعه ، منهم : ابن أبي ليلى والليث بن سعد وزفر ، وجعلوه بمنزلة من تخَّلف عن إمامه بنومٍ ونحوه .
ولكن الجمهور إنما قالوا بالمتخلف بالنوم ونحوه أنه يركع ثم يلحقه ؛ لأنه كان متابعاً له قبل الركوع فيغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء .
وروي عن هؤلاء الثلاثة - أيضاً .
وعن الحسن بن زياد - أيضاً - : أنه إذا كبر بعد رفع رأسه من الركوع(5/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
قبل أن يسجد اعتد له بالركعة .
وقد تقدم عن الشعبي ، أنه قال : إذا أنتهيت إلى الصف المؤخر ، ولم يرفعوا رءوسهم ، وقد رفع الإمام رأسه ، فركعت معهم ، فقد أدركت ، لأن بعضهم أئمة لبعض .
المسألة الثانية :
أن من صلى خلف الصف وحده ، فإنه يعتد بصلاته ، ولا إعادة عليه ، فإن أبا بكرة ركع خلف الصف وحده ، ولم يأمره النبي ( بإعادة صلاته .
وقد استدل بذلك الشافعي وغيره من الأئمة .
وممن روي عنه الركوع دون الصف والمشي راكعاً : ابن مسعودٍ وزيد بن ثابتٍ وابن الزبير ، وكان يعلّم الناس ذلك على المنبر .
وروي عنه أنه قال : هو السنة .
وورد - أيضاً - أنه فعله ، ولم يصححه الإمام أحمد عنه ، وذكر أن الصحيح عنه النهي عنه .
وروي - أيضاً - فعله عن أبي بكر الصديق .
خرَّجه البيهقي بإسنادٍ منقطعٍ .
وهو قول سعيد بن جبير وعطاء ، وقالا : يركع وإن لم يصل إلى صف النساء ، ثم يمشي .
قال عطاء : ويرفع مع إمامه ، ويسجد حين تدركه السجدة ، فإن تشهد(5/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
إمامه عقب ذلك تشهد معه ، ثم قام إذا قام إلى الثالثة ، فدخل في الصف حينئذٍ .
وممن رأي الركوع دون الصف والمشي راكعاً : زيد بن ثابت وعروة ومجاهد وأبو سلمة وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود وابن جريج ومعمر .
وقاله القاسم والحسن : بشرط أن يظن أنه يدرك الصف .
ووجه هذا : أن المشي في الصلاة عملٌ فيها ، فيغتفر فيه اليسير دون الكثير ؛ فأنه منافٍ الصَّلاة فيبطلها ، وهذا مخالف لقول سعيد بن جبير وعطاء : أنه يركع من حين دخوله المسجد خلف صفوف النساء .
وحكى ابن عبد البر عن مالكٍ والليث : لا بأس أن يركع الرجل وحده دون الصف ، ويمشي إلى الصف إذا كان قريباً قدر ما يلحق .
وذكر عن القاضي إسماعيل ، أن ابن القاسم روى عن مالكٍ : أنه لا يركع دون الصف ، إلا أن يطمع أن يصل إلى الصف قبل رفع الإمام رأسه .
قال : وقال غيره : له أن يركع خلف الصف ، ويتم ركعته ، كما له أن يصلي خلف الصف وحده . قال : وهو قول مالكٍ وأصل مذهبه قبل أن يرفعوا رءوسهم . وقال الزهري والأوزاعي : إن كان قريباً من الصفوف فعل ، وإلا لم يفعل .
وكذلك قاله الإمام أحمد - : نقله عنه ابن منصور .
وقالت طائفة : لا يركع حتى يقوم في الصف .
رواه محمد بن عجلان ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : إذا دخلت والإمام راكع فلا تركع حتى تأخذ مصافك من الصف .
وروي مرفوعاً ، ووقفه أصح .(5/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
وروي - أيضاً - النهي عن ذلك عن الحسن والنخعي .
وهو رواية عن أحمد - : نقلها عنه أبو طالبٍ والحسن بن ثوابٍ والاثرم وغيرهم .
وقالت طائفة : أن كان منفرداً لم يركع حتى يدخل الصف ، وإن كان مع غيره ركعوا دون الصف ، وهو قول إسحاق وأبي بكر بن أبي شيبة ، ونقله إسحاق بن هأنئ ، عن أحمد ، وحكاه ابن عبد البر عن أبي حنيفة .
ومن العجائب : أن البخاري ذكر في ( ( كتاب القراءة خلف الإمام ) ) أن المروي عن زيد بن ثابت لا يقول به من خالفه في هذه المسألة ، فإنه قال : روى الأعرج ، عن أبي أمامة بن سهلٍ ، قال : رأيت زيد بن ثابت ركع وهو بالبلاط لغير القبلة ، حتى دخل في الصف .
ثم قال : وقال هؤلاء : إذا ركع لغير القبلة لم يجزئه . أنتهى .
وهذه رواية منكرة لا تصح ، وإنما ركع زيد للقبلة ؛ كذلك رواه الزهري ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، قال : رأيت زيد بن ثابت دخل المسجد والإمام راكع ، فاستقبل فكبر ، ثم ركع ، ثم دب راكعاً حتى وصل الصف .
خرَّجه عبد الرزاق ، عن معمرٍ ، عنه .
ورواه ابن وهب ، عن يونس وابن أبي ذئب ، عن ابن شهابٍ : أخبرني أبو أمامة بن سهل ، أنه رأى زيد بن ثابت دخل المسجد والإمام راكعٌ . فمشى حتى إذا أمكنه أن يصل الصف وهو راكعٌ كبر ، فركع ، ثم دب وهو راكع حتى وصل الصف .
وهذه الرواية تدل - أيضاً - على أنه كبر مستقبل القبلة ، ولا يمكن غير(5/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
ذلك
البتة . فأما من قال : تصح صلاة المنفرد خلف الصف وحده و [ . . . ] حديث أبي بكرة على ذلك .
والقول بصحة الصلاة فذاً خلف الصف : قول مالك وأبي حنيفة والثوري - في أشهر الروايتين عنه - والشافعي وابن المبارك والليث بن سعد . وروي عن أبي جعفر محمد بن عليٍ .
وأما القائلون بأنه لا تصح صلاة الفذ خلف الصف : الحسن بن صالح والأوزعي - فيما حكاه ابن عبد البر ، وخَّرجه حرب بإسناده ، عنه - وقول أحمد وإسحاق ووكيع ويحيى بن معينٍ وابن المنذر ، وأكثر أهل الظاهر ، ورواية عن الثوري ، رواها عصام ،
عنه .
وروي - أيضاً - عن النخعي وحمادٍ والحكم وابن أبي ليلى .
وقيل : أنه لم يصح عن النخعي ، وأنه إنما قال : يعتد بها ، فصحفها من قرأها فقال : يعيدها .
وروي ذلك عن شريك ، أنه قاله .
فهؤلاء لهم في الجواب عن حديث أبي بكرة طريقأن :
أحدهما : أن النبي ( نهاه عن ذلك ، فلا تصح الصلاة بعد النهي عنه ، وتصح إذا لم يعلم النهي .
قال أحمد ، في رواية أبي طالب في الرجل يركع دون الصف ، وهو جاهلٌ :
أجزأه . وقيل له : لا يعيد ، كما قال النبي ( لأبي بكرة : ( ( لا تعد ) ) فأجاز له صلاته لما لم يعلم ، ونهاه أن يصلي بعد ذلك ، فقال : ( ( زادك الله حرصا ولا تعد ) ) . قيل له : فإن كان لا يعلم ، يقول : صلى فلأن وصلى فلان ؟(5/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
قال : لا تجزئه صلاته ، يعيد الصلاة ، قال أبو هريرة : لا يركع أحدكم حتى يأخذ مقامه من الصف .
ففرق بين الجاهل والمتأول ، فأمر بالاعادة دون الجاهل .
وهذه الرواية إختيار الخرقي وابن أبي موسى وجماعة من متقدمي الأصحاب .
وقال بعض الأصحاب : أن هذا مطرد فيمن لم يتم الركعة وهو فذ ، منهم : القاضي في ( ( شرح المذهب ) ) .
ومنهم من قال : بل يطرد ، ولو أتم الركعة فذاً .
ولم يذكر أكثرهم أنه مطرد فيما لو صلى - فذاً - الصلاة كلها جاهلاً بالنهي .
فظاهر كلام أحمد وتعليله يدل على أنه مطرد فيه - أيضاً - ، وقد حكاه بعضهم رواية عن أحمد .
وقد حكى أبو حفص وغيره من أصحابنا فيمن فعل كفعل أبي بكرة - مع العلم بالنهي - هل تبطل صلاته ؟ روايتين عن أحمد .
فادخلوا في ذلك من كبرَّ ثم دخل في الصف قبل رفع الإمام .
وفي هذا الطريق نظر ؛ فأن الذي أمره النبي ( بالاعادة في حديث وابصة ابن معبد الظاهر أنه لم يكن عالماً بالنهي ، ولم يسأله : هل علم النهي أم لا .
والطريق الثاني : أن أبا بكرة دخل في الصف قبل رفع النبي ( رأسه .
وقد خرَّج حديثه أبو داود ، وقال فيه : ثم مشى حتى دخل في الصف .
وخَّرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من وجه أخر ، عن الحسن ، عن أبي بكرة .(5/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
وحينئذٍ ، فقد زالت فذوذيته قبل أن تفوته الركعة ، فيعتد له بذلك .
وعلى هذا يحمل ما روي عن الصحابة في ذلك - أيضاً .
وقد اشار أحمد إلى هذا - أيضاً - في رواية أبي الحارث ، وسأله عن رجل كَّبر قبل أن يدخل في الصف وركع دون الصف ؟ فقال : قد كبر أبو بكرة ، فقال له النبي ( : ( ( زادك الله حرصاً ، ولا تعد ) ) ولم يأمره أن يعيد - أيضاً .
وقد روي ، عن ابن مسعودٍ وزيدٍ ، أنهما ركعا دون الصف .
وهذه الرواية تخالف ما رواه الأثرم وغيره ، أنه قال : لا يعجبني فعل زيد وابن مسعود ، ورده بحديث أبي بكرة .
ولكن هذه الرواية توافق رواية ابن منصور المتقدمة بجواز الركوع خلف الصف ، إذا ظن أنه يصل إليه قبل رفع الإمام .
وقد استدل طائفة من أصحابنا ، منهم : أبو حفص البرمكي لهذه الرواية بحديث أبي بكرة ، وحملوا قوله : ( ( ولا تعد ) ) على شدة السعي إلى الصلاة ، كما قاله
الشافعي .
وذكر ابن عبد البر أن معنى قوله : ( ( ولا تعد ) ) عند العلماء : لا تعد إلى الإبطاء عن الصلاة حتى يفوتك منها شيء .
وهذا بعيد جداً ، ولا يعرف هذا عن أحد من العلماء من المتقدمين .
وقد روى الإمام أحمد من طريق عبد العزيز بن أبي بكرة ، عن أبي بكرة ، أنه جاء والنبي ( راكع ، فسمع النبي ( صوت نعلي أبي بكرة وهو يحضر ؛ يريد أن يدرك الركعة ، فلما أنصرف قال : ( ( من الساعي ؟ ) ) قال أبو بكرة : أنا . قال : ( ( زادك الله حرصا ، ولا تعد ) ) .(5/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
وفي رواية عبد العزيز : بشار الخياط ، وهو غير معروف .
وخَّرجه ابن عبد البر من بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة ، عن أبيه ، عن جده ، أنه دخل المسجد - ورسول الله ( يصلي بالناس ، وهم ركوع - ، فسعى إلى الصف ، فلما أنصرف رسول الله ( قال : ( ( من الساعي ؟ ) ) قال أبو بكرة : أنا يا رسول الله . قال : ( ( زادك الله حرصاً ، ولا تعد ) ) .
وبكار ، فيه ضَّعف .
وخَّرجه البخاري في " كتاب القراءة خلف الإمام " بإسناد ضعيف ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، أن النبي ( صلى صلاة الصبح ، فسمع نفساً شديداً - أو بهراً - من خلفه ، فلما قضى الصلاة قال لأبي بكرة : ( ( أنت صاحب هذا النفس ؟ ) ) قال : نعم يا رسول الله ، خشيت أن تفوتني ركعة معك ، فاسرعت المشي . فقال له : ( ( زادك الله حرصاً ، ولا تعد ، صل ما أدركت ، وأقض ما سُبقت ) ) .
وفي إسناده : عبد الله بن عيسى الخزاز ، ضعفوه .
وفي هاتين الروايتين : ما يدل على اعتداده بتلك الركعة ، وهذا أمر غير مشكوكٍ فيه ، وأنما يحتاج إليه لتعنت من يتعنت .
ومن أغرب ما روي في حديث أبي بكرة : ما خرَّجه عبد الرزاق عن ابن جريج ، عن رجل ، عن الحسن ، قال : التفت إليه النبي ( ، فقال :(5/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
( ( زادك الله حرصاً ، ولا تعد ) ) قال : فثبت مكانه .
وهذا يوهم أن النبي ( قال له ذلك في الصلاة ، وأنه لم يدخل الصف ، فيستدل به على أن كلام الإمام لمصلحة الصلاة عمداً غير مبطل ، ويستدل به - أيضاً - على صحة صلاة الفذ وحده ، ولكنها مرسلة ، في إسنادها مجهول ، وابن جريج كان يدلس عن الضعفاء ومن لا يعتمد عليه كثيراً .
وعلى هذه الطريقة : فهل يختص جواز الركوع دون الصف بمن أدرك الركوع في الصف ، أو لا يختص بذلك ؟
ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور أنه يختص بمن أدرك الركوع في الصف ؛ لأنه إنما أجاز الركوع خلفه لمن ظن أنه يدركه ، فأنه إذا زالت فذوذيته في حال
الركوع ، فلم يصل ركعة فذاً ، والمنهي عنه أن يصلي فذاً ركعةً فأكثر ، وأما إذا زالت فذوذيته قبل أن يرفع من الركوع فقد أدرك الركعة في الصف ، فلا يكون بذلك فذاً ؛ ولهذا لو قام خلف الإمام اثنأن فأحرم أحدهما قبل إحرام الآخر ، لم يكن في تلك الحالة فذاً بالاتفاق .
وقد حكي عن جماعة من أصحابنا الاتفاق على تكبيرة الإحرام فذاً ، لكن منهم من قال : كان القياس بطلأنها ، وإنما ترك لحديث أبي بكرة .
وحكى ابن حامد - من أصحابنا - أنه تبطل تكبيرة الفذ خلف الإمام كالركوع .
وهذا إذا لم يكن لغرض إدراك الركعة ، فأما أن كان لغرض إدراك الركعة ، فهي المسألة التي سبق ذكرها .
وقد نص أحمد على التفريق بين أن يصل إلى الصف قبل رفع الإمام رأسه وبعده .(5/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
وفي رواية حرب ، قال : لا بأس أن يركع دون الصف إذا أدرك الإمام راكعاً .
قلت : فأن رفع الإمام رأسه قبل أن يصل هو إلى الصف ، فكانه أحب أن لا يعتد بهذه الركعة .
ومن الأصحاب من حكى فيما إذا زالت فذوذيته بعد الركوع وقبل السجود ، فهل تصح صلاته ؟ على روايتين .
كذلك حكى ابن أبي موسى في ( ( كتابه ) ) ، وحكاه - أيضاً - جماعة بعده .
وحكاها - أيضاً - من المتقدمين أبو حفص ، وقال : روى أبو داود ، عن أحمد - فيمن ركع دون الصف ، ثم مشى حتى دخل الصف ، وقد رفع الإمام قبل أن ينتهي إلى الصف - : تجزئه ركعة ، فإن صلى خلف الصف وحده ، أعاد الصلاة .
وظاهر هذه الرواية أنه يجزئه ، ولو دخل في الصف بعد رفع إمامه ، ما لم يصل ركعة كاملة وحده ، وليس في حديث أبي بكرة أنه دخل في الصف قبل رفع النبي ( . ووجه ذلك : أنه أدرك معظم الركعة في الصف ، وهو السجدتان ، فاكتفى بذلك في المصافة .
وقد قال بعض التابعين : أنه يكتفي بذلك في ادراك الركعة - أيضاً .
وإنما أبطل أحمد ومن وافقه صلاة الفذ خلف الصف ؛ لحديث وابصة ، وله طرق ، من أجودها : رواية شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن هلال بن يسافٍ ، عن عمرو بن راشدٍ ، عن وابصة بن معبدٍ ، أن رجلاً صلى خلف الصف وحده ، فأمره النبي ( أن يعيد الصلاة .
خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه .(5/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
وخَّرجه ابن حبان - أيضاً - من طريق زيد بن أبي أنيسة ، عن عمرو بن مرة بهذا الإسناد .
وخَّرجه الترمذي وابن ماجه من حديث حصين ، عن هلال بن يسافٍ ، عن
زياد بن أبي الجعد ، عن وابصة ، عن النبي ( .
وحسَّنه الترمذي .
ورواه - أيضاً - منصور ، عن هلال بن يساف .
كذلك خرَّجه أبو القاسم البغوي في " معجمه " .
وأشار إلى ترجيح رواية حصين بمتابعة منصور له .
ورجح أحمد وأبو حاتم الرازي رواية عمرو بن مرة .
ورجح عبد الله الدارمي والترمذي رواية حصين ؛ لأن الحديث معروف عن
زياد بن أبي الجعد ، عن وابصة من غير طريق هلال بن يساف ، فإنه رواه يزيد بن زياد بن أبي الجعد ، عن عبيد بن أبي الجعد ، عن وابصة .
وقد خرَّجه من هذه الطريق ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) - أيضاً - ، وذكر أن هلال بن يساف سمعه من زياد بن أبي الجعد ، ومن عمرو بن راشد ، كلاهما عن وابصة من غير واسطة بينهما .
ورجح الترمذي صحة ذلك ، وأن هلالاً سمعه من وابصة مع زياد بن أبي الجعد .(5/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
وقد روي من وجوه متعدده ما يدل لذلك .
وقد جعل بعضهم هذا الاختلاف اضطراباً في الحديث يوجب التوقف ، وإلى ذلك يميل الشافعي في الجديد ، وحكاه عن بعض أهل الحديث ، بعد أن قال في القديم : لو صح قلت به . فتوقف في صحته .
وممن رجح ذلك : البزار وابن عبد البر .
وأنكر الإمام أحمد على من قال ذلك ، وقال : إنما اختلف عمرو بن مرة
وحصين . وقال : عمرو بن راشد معروف .
وكذلك يحيى بن معين أخذ بهذا الحديث ، وعمل به ، حكاه عنه عباس الدوري ، وهو دليل على ثبوته عنده .
وقد روي هذا الحديث عن وابصة من وجوه أخر .
وروي عن النبي ( من وجوه أخر ، من أجودها : رواية ملازم بن عمرو ، عن عبد الله بن بدر ، عن عبد الرحمن بن علي بن شيبأن ، عن أبيه علي بن شيبأن ، قال : خرجنا حتى قدمنا على رسول الله ( ، فبايعناه وصلينا خلفه . قال : ثم صلينا وراءه صلاة أخرى ، فقضى الصلاة ، فرأى رجلاً فرداً يصلي خلف الصف وحده ، فوقف عليه نبي الله ( حتى أنصرف ، قال : ( ( استقبل صلاتك ، لا صلاة للذي خلف الصف ) ) .
خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه ، وهذا لفظه .
وفي رواية للامام أحمد : ( ( فلا صلاة لفرد خلف الصف ) ) .(5/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
وكذلك خرَّجه ابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحهما ) ) .
وقال الإمام أحمد : حديث ملازم في هذا - أيضاً - حسن .
ورواته كلهم ثقات من أهل اليمامة ، فأن عبد الله بن بدر ثقة مشهور ، وثقه يحيى بن معينٍ وأبو زرعة والعجلي وغيرهم .
وملازم ، قال الإمام أحمد : كان يحيى القطان يختاره على عكرمة بن عمار ، ويقول : هو أثبت حديثاً . وقال ابن معين : هو ثبت ، وهو من أثبت أهل اليمامة .
وعبد الرحمن بن علي بن شيبأن ، مشهور ، وروى عنه جماعة من أهل اليمامة ، وذكره ابن حبان في ( ( الثقات ) ) .
وقد قال الإمام أحمد : لا اعرف لحديث وابصة مخالفاً .
يعني : لا يعرف له حديثاً يخالفه ، فإن حديث أبي بكرة يمكن الجمع بينه وبينه بما تقدم ، والجمع بين الأحاديث والعمل بها أولى من معارضة بعضها ببعض ، واطرادها واطراحها بعضها ، إذا كان العمل بها كلها لا يؤدي إلى مخالفة ما عليه السلف الأول .
وقد تأول بعضهم قوله : ( ( لا صلاة لفذ خلف الصف ) ) على نفي الكمال دون الصحة : ويرد هذا أمر النبي ( له بالإعادة .
واختلف أصحابنا : هل تقع صلاة الفذ باطلة غير منعقدة ، أو تنقلب نفلا ؟ لهم فيه وجهان .
وأختار ابن حمادٍ وغيره أنها تنقلب نفلاً ، وظاهر كلام الخرقي أنها(5/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
تبطل بالكلية .
وتظهر فائدتها لو صلى ركعة فذاً خلف الصف ، ثم جاء آخر فصف معه في الركعة الثانية ، فإن قلنا : صلاته باطلة ، فالثاني فذ - أيضاً - وإن قلنا : هو متنفل صحت مصافته .
ولأصحابنا وجه آخر : أن جماعته تبطل وتصح صلاته منفرداً .
وهو مروري عن النخعي ، قال : صلاته تامةٌ وليس له تضعيفٌ .
خرَّجه البيهقي .
وعلى هذا ، فيكون أمره بالإعادة في الجماعة ليحصل ثوابها ومضاعفتها ، وليس ذلك في الحديث .
وقد يستدل به أن على من صلى منفرداً فعلية الإعادة ، كما يقوله من يجعل الجماعة شرطاً لصحة الصلاة .
وهذا الوجه - أعني : بطلأن جماعته وصحة صلاته منفرداً - جزم به ابن عقيل من أصحابنا في موضع من كتابه ( ( الأصول ) ) .
وحكى في موضع آخر منه وجهين : أحدهما : كذلك ، وعلله بأن البطلأن يختص بالجماعة ، فيصح فرضه ويكون منفرداً . والثاني : يبطل فرضه وتصير صلاته نفلاً .
الوجهأن مطردأن في كل صلاة وجد فيها خلل يعود إلى الجماعة خاصة ؛ كمن صلى فذاً قدام الإمام ، أو أنتقل من الجماعة إلى الإنفراد لغير عذر ، أو عكسه ، أو أئتم بمن لا يجوز الإئتمام به .
ومن أصحابنا من قال : أن لم يعلم امتناع ذلك أنقلبت الصلاة نفلاً ، وإن(5/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
علم ففي البطلأن وأنقلابها نفلاً وجهان ، والأظهر الأول .
وإن صلى الفذ خلف الصف لا يسقط فرضه ، وعليه إعادتها كما نص عليه أحمد وأكثر أصحابه .
وقد كان النبي ( يؤكد أمر الصفوف وتعديلها وتسويتها ، وهي من خصائص هذه الأمة كما سبق ذكره ، فالمصلي في جماعة من غير مخل بما يلزم من القيام في الصف ، فعليه الإعادة إذا تركه عمداً ، وهو عالم بالنهي ، قادر على الصلاة في الصف . فأما إن كان جاهلاً ففيه خلاف سبق ذكره . وإن كان عاجزاً ففيه خلاف يأتي ذكره - إن شاء الله تعإلى .
وقد عارض بعضهم حديث وابصة بحديث ابن عباس ، لما صلى عن يسار النبي
( ، فأداره من ورائه إلى يمينه ، قال : فهو في حال إدارته فذ .
وهذا ليس بشيء ، فإن المصلي في صف إذا زال اصطفافه ثم عاد سريعا على وجه أكمل من الأول لم يضره ذلك ، كما أن الإمام في صلاة الخوف تفارقه طائفة ، ويبقى منتظراً لطائفة أخرى ، ولا يضره ذلك . والله أعلم .
ونقل حرب ، عن إسحاق بن راهويه : أن صلى الصلاة كلها خلف الصف أعاد صلاته ، فأن صلى ركعة فذاً ، ثم جاء أخر فقام إلى جنبه ، فإنه يعيد تلك الركعة ، فلم تبطل سوى ركعته التي كان فيها فذاً ، وأمره أن يبني على تكبيرة الإحرام ومذهب أحمد : أنه إذا صلى ركعةً تامةً في أول صلاته فذاً أنه يعيد صلاته كلها واختلفت الرواية عنه : إذا صلى ركعة في الصف ثم صار فذاً .(5/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
ونقل مهنا عن أحمد في رجل صلى يوم الجمعة ركعة وسجدتين في الصف ، ثم زحموه ، فصلى الركعة الأخرى خلف الصف وحده : يعيد تلك الركعة التي صلاها وحده .
ونقل عنه بعض أصحابه : أنه يعيد الصلاة كلها في هذه المسألة ، منهم : ابناه صالح وعبد الله والأثرم وغيرهم .
وحمل القاضي أبو يعلى في ( ( خلافه الكبير ) ) رواية حنبلٍ على أحد وجهين :
أحدهما : ما أومأ إليه أبو بكر : أن الصلاة في هذه الحال أنعقدت في الصف ، وإنما صار فذاً في أثنائها ، ولا يمتنع أن ينافي الابتداء في الاستدامة ، كالعدة والردة والإحرام في عقد النكاح .
والثاني : أنه في هذه الحال صار فذاً بغير اختياره ، فهي حال ضرورة .
هكذا حكى القاضي أبو يعلى وأصحابه مذهب أحمد .
وحكى أبو حفص الخلاف عن أحمد فيمن صلى ركعة فذاً : هل تبطل ركعته
فقط ، أم صلاته كلها ؟ وحكى في ذلك روايتين ، وسوَّى بين الركعة الأولى وغيرها ، ولم يفرق بين حال ضرورة وغيرها .
وذكر أن الحسن بن محمد روى عن أحمد ، قال : إذا ركع ركعة سجد ، ثم دخل في الصف ، يعيد التي صلاها ولا يعيد الصلاة كلها .
قال أبو حفصٍ : والأصح عندي أنه يعيد ما صلى دون الصف حسب ، فيعيد الركعة أو الركعتين ، ولا يعيد ما صلى مع غيره ، قال : لأن تكبيرة الإحرام لم تفسد لأنه لا يختلف قوله أنه إذا كبر وحده أنها صحيحة .
فصرح أبو حفص بأنه لو صلى ركعتين فذاً ، ثم دخل في الصف ، أو وقف(5/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
مع غيره أنه يعيد ما صلى فذاً وحده .
ورد القاضي أبو يعلى قوله - فيما قرأته بخطه - بأن القياس يقتضي بطلان الصلاة فذاً في تكبيره والركوع ، لأن ما أبطل جميع الصلاة يفسد بعضها ، كالحدث . قال : إنما أجاز ذلك القدر لحديث أبي بكرة .
يعني : أن أحمد اجاز صلاة الفذ إذا لم يتم الركعة فذاً ، لحديث أبي بكرة .
فإن دخل في الصف ، أو قام معه آخر قبل رفع الإمام ، فمن الأصحاب من قال : يصح له ركعة بغير خلافٍ ، لإدراكه الركعة في الصف ، ومنهم من حكى فيه روايتين أيضاً .
وأن كان ذلك بعد أن رفع وقبل السجود ففيه روايتأن :
أصحهما : أنه لا يعتد بتلك الركعة ، لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به
الركعة .
والثانية : لأنه أدرك في الصف السجدتين ، وهما معظم الركعة .
وفي بطلأن صلاته من أصلها وبنائه على تكبيرته روايتأن - أيضاً - ، على ما حكاه أبو حفص .
وأما القاضي أبو يعلى وأصحابه ، فقالوا : تبطل صلاته روايةً واحدةً .
وأكثر النصوص عن أحمد تدل على البطلأن . والله أعلم .(5/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
5 - باب
إتمام التكبير في الركوع
قاله ابن عباس ، عن النبي ( .
وفيه : مالك بن الحويرث .
784 - حدثنا إسحاق الواسطي : ثنا خالد ، عن الجريري ، عن أبي العلاء ، عن مطرف ، عن عمرأن بن حصين ، قال : صلى مع عليٍ - رضي الله عنه - بالبصرة ، فقال : ذكرنا هذا الرجل صلاة كنا نصليها مع رسول الله ( ، فذكر أنه كان يكَّبر كلما رفع وكلما وضع .
[ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ] .
مضطرب إسناده ، والحسن بن عمرأن مجهول ، وابن عبد الرحمن بن أبزى ، قيل : أنه عبد الله ، وقيل : أنه سعيد .
قال أحمد : هو أشبه .
وروي أنه محمد ، ومحمد هذا غيرُ معروفٍ .(5/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
وفسر الإمام أحمد نقص التكبير بأنهم لا يكبرون في الأنحطاط للسجود ، ولا في الانحطاط للسجدة الثانية : نقله عنه ابن منصور .
ونقل عن إسحاق ، أنه قال : إنما نقصوا التكبير للسجدة الثانية خاصةً .
وقد روي عن أبي موسى الأشعري ، قال : لما صلى خلف علي بالبصرة مثل قول عمران بن حصينٍ ، لقد ذكرنا علي بن أبي طالب صلاة كنا نصليها مع رسول الله ( : إما نسيناها ، وإما تركناها عمداً ، يكَّبر كلما خفض ، وكلما رفع ، وكلما سجد .
خرَّجه الإمام أحمد .
وفي إسناده اختلاف ؛ رواه أبو إسحاق السبيعي ، واختلف عنه :
فقيل : عنه ، عن الاسود بن يزيد ، عن أبي موسى .
وقيل : عنه ، عن بريد بن أبي مريم ، عن أبي موسى .
وقيل : عنه ، عن بريد بن أبي مريم ، عن رجل من بني تمميم ، عن أبي موسى .
ورجَّحه الدارقطني .
ولذلك لم يخّرج حديثه هذا في ( ( الصحيح ) ) .
وأكثر العلماء على التكبير في الصلاة في كل خفضٍ ورفعٍ ، وقد كان ابن عمر وجابر وغيرهما من الصحابة يفعلونه ويامرون به .(5/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
وممن روي عنه إتمام التكبير : عمر بن الخطاب وابن مسعودٍ وعلي وأبو موسى وأبو هريرة وابن عباس .
وروى عبد الرحمن بن الأصم ، قال : سمعت أنس بن مالك قال : كان رسول الله ( وأبو بكر وعمر يتمون التكبير .
خرَّجه الإمام أحمد .
وخَّرجه النسائي ، وزاد فيه : وعثمان .
وقال سفيان عن منصور ، عن إبراهيم : أول من نقص التكبير زياد .
وقال : ثوير بن أبي فاختة ، عن أبيه ، عن ابن مسعود : أن أول من نقص التكبير : الوليد بن عقبة ، فقال ابن مسعود : نقّصوها نقَّصهم الله .
خرَّجه البزار وغيره .
وخرَّج الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث ابن مسعود ، قال :(5/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
كان النبي ( يكَّبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود ، وأبو بكر وعمر .
زاد النسائي : وعثمان .
وكان بنو أمية ينقصون التكبير ، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز ، والظن به أنه لم تبلغه السنة الصحيحة في ذلك ، ولو بلغته لكان أتبع الناس لها .
وروي عن القاسم وسالم وسعيد بن جبيرٍ ، أنهم كانوا لا يتمون التكبير .
ذكره ابن المنذر وغيره .
وقد سبق تفسير ترك إتمام التكبير ، ومن فهم عنهم أنهم كانوا لا يكبرون في الصلاة غير تكبيرة الإحرام فقد وهم فيما فهم .
وأما ما حكاه ابن عبد البر ، عن ابن عمر ، أنه كان لا يكَّبر إذا صلى وحده ، وذكر أن أحمد بن حنبل حكاه عنه في رواية ابن منصور . فهذا وهم منه - رحمه الله - على أحمد ، فأن مراد أحمد التكبير في أدبار الصلوات أيام التشريق .
ويدل عليه : أن أحمد في تمام هذه الرواية حكى - أيضاً - ، عن قتادة ، أنه كان يكَّبر إذا صلى وحده ، ثم قال : واحب الي أن يكَّبر من صلى وحده في الفرض ، وأما النافلة فلا .
ولم يرد أحمد أن صلاة النافلة لا يكَّبر فيها للركوع والسجود والجلوس ، فإن هذا لم يقله أحمد قط ، ولا فَّرق أحد بين الفرض والنفل في التكبير .(5/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
وأما حديث ابن أبزى ، فقد تقدم الكلام على ضعفه ، ولو صح حمل على أنه لم يسمع من النبي ( اتمام التكبير ، لا أنه لم يكن يكَّبر في سجوده ورفعه .
وهكذا المروي عن عثمان ، فإنه لما كبر وضعف خفض صوته به أو أسره .
وأكثر الفقهاء على أن التكبير في الصلاة - غير تكبيرة الإحرام - سنة ، لا تبطل الصلاة بتركه عمداً ولا سهواً .
وذهب أحمد واسحاتق إلى أن من ترك تكبيرة من تكبيرات الصلاة عمداً فعليه الإعادة ، وأن كان سهواً فلا إعادة عليه في غير تكبيرة الإحرام .
وأنكر أحمد أن يسمي شيء من أفعال الصلاة واقوالها سنة ، وجعل تقسيم الصلاة إلى سنة وفرض بدعة ، وقال : كل ما في الصلاة واجب ، وإن كانت الصلاة لا تعاد بترك بعضها .
وكذلك أنكر مالك تقسيم الصلاة إلى فرض وسنة ، وقال : هو كلام الزنادقة . وقد ذكرنا كلامه في موضع آخر .
وكذلك ذكر الأبري في ( ( مناقب الشافعي ) ) بإسناده عن الواسطي ، قال : سمعت الشافعي يقول : كل أمور الصلاة عندنا فرض .
وقال - أيضاً - : قرأت عن الحسين بن علي ، قال : سُئل الشافعي عن فريضة الحج ؟ قال : الحج من أوله إلى آخره فرض ، فمنه ما إن تركه بطل حجة ، فمنه
الإحرام ، ومنه الوقوف بعرفات ، ومنه الافاضة .
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله : كل شيء في الصلاة مما ذكره الله فهو فرض .
وهذا قيد حسن .(5/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
وسمى أصحاب أحمد هذه التكبيرات التي في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام واجبات ، لأن الصلاة تبطل بتركها عمداً عندهم .
وحكي عن أحمد رواية أن هذه التكبيرات من فروض الصلاة ، لا تسقط الصلاة بتركها عمداً ولا سهواً .
وحكي عنه رواية أخرى : إنها فرض في حق غير المأموم ، وأما المأموم فتسقط عنه بالسهو .
وروي عن ابن سيرين وحماد ، أنه من أدرك الإمام راكعاً وكبر تكبيرة واحدة للإحرام لم يجزئه حتى يكَّبر معها تكبيرة الركوع .
وقال ابن القاسم - صاحب مالك - : من أسقط من التكبير في الصلاة ثلاث تكبيرات فما فوقها سجد للسهو قبل السلام ، فإن لم يسجد بطلت صلاته ، وإن نسي تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد للسو - أيضاً - ، فإن لم يفعل فلا شيء عليه .
وروي عنه ، أن التكبيرة الواحدة لا سجود على من سها عنها .
قال ابن عبد البر : هذا يدل على أن عظم التكبير وجملته عنده فرض ، وأن اليسير منه متجاوز عنه .
وأكثر أصحاب مالك على أن هذه التكبيرات تسمى سنناً ، كما يقوله أصحاب الشافعي وغيرهم ، وأن الصلاة لا تبطل بتركها عمدا ولا سهواً ، وحكي رواية عن
أحمد .
وقال سعيد بن جبيرٍ في التكبير : كلما خفض ورفع ، إنما هو شيء يزين به الرجل الصلاة .(5/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : من نسي شيئاً من تكبيرات الصلاة ، أو ( ( سمع الله لمن حمده ) ) فإنه يقضيه حين يذكره .
وهذا مذهب غريب ، وجمهور العلماء على أنه يفوت بفوات محله ، فلا يعاد في غير محله .
واستدل من أوجب ذلك بأمر النبي ( ، فإنه قال : ( ( صلوا كما رأيتموني
أصلي ) ) . وكان يصلي بهذا التكبير ، وقال في الإمام : ( ( إذا كبر فكبروا ) ) .
وهذا يعم كل تكبير في الصلاة . وقال - في حديث أبي موسى - : ( ( فإذا كبر الإمام وركع فاركعوا ) ) . وكذا قال في السجود .
خرَّجه مسلم .
وبأن النبي ( قال في الصلاة : ( ( إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ) ) ، فدل على أن الصلاة لا تخلو من التكبير ، كما لا تخلو من قراءة القرآن ، وكذلك
التسبيح .
وقد روي أن النبي ( علم المسيء في صلاته التكبير للركوع والسجود ، من حديث رفاعة بن رافع ، وأخبره أنه لا تتم صلاته بدون ذلك .
خرَّجه أبو داود وغيره .
واستدل الإمام أحمد لسقوطه بالسهو بأن النبي ( نسي التشهد الأول ، فأتم صلاته ، وسجد للسهو . وقد ترك بتركه التشهد التكبيرة للجلوس له ، فدل(5/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
على أنها تسقط بالسهو ، ويجبر بالسجود له .
واستدل - أيضاً - على سقوطه بالسهو بحديث : ( ( كان لا يتم التكبير ) ) ، فكأنه حمله على حالة السهو .
الحديث الثاني :
785 - حدثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أنه كان يصلي بهم ، فيكبر كلما خفض ورفع ، فاذا أنصرف قال : إني لأشبهكم صلاة برسول الله ( .
وقد رواه عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، أن أبا هريرة كان يكَّبر في الصلاة كلما رفع ووضع ، فقلنا : يا أبا هريرة ، فما هذا التكبير ؟ قال : إنها لصلاة رسول الله ( .
خرَّجه مسلم .
وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة من وجوه متعددة ، وسيأتي بعضها فيما بعد - إن شاء الله .
وقد استدل به بعضهم على أن التكبير لغير الإحرام غير واجب في الصلاة ، لأن هذا كان يستنكره الناس على أبي هريرة ، كما استنكره عكرمة على من صلى خلفه
بمكة ، وكما دل حديث عمرأن بن حصين وأبي موسى على ترك الناس له .
وخَّرجه النسائي وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) ، من حديث سعيد بن(5/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
سمعان ، قال : دخل علينا أبو هريرة المسجد ، فقال : ثلاث كان رسول الله ( يعمل بهن ، تركهن الناس : كان إذا قام إلى الصلاة رفع يده مداً ، وكان يقف قبل القراءة هنيهة يسأل الله من فضله ، وكان يكَّبر في الصلاة كلما ركع وسجد .
ولو كان ذلك من واجبات الصلاة لما أقرت الصحابة على تركه .
وقد أجاب بعضهم بأنهم إنما تركوا الجهر به فقط ، وقد سبق عن الإمام أحمد أن نقص التكبير الذي احدثوه إنما هو ترك التكبير للسجدة الأولى والثانية ، وأن إسحاق قال : إنما تركوا التكبير للسجدة الثانية فقط .
فلعل بني أمية كانوا يرون أن المأمومين يشاهدون الإمام في سجوده فلا يحتاج إلى إسماعهم التكبير في هذه الحال ، بخلاف رفعه فإنهم لا يشاهدونه ، فيحتاج إلى إسماعهم التكبير فيه .
وفي هذا نظر . والله أعلم .
وقد سبق ما يدل على أنهم تركوا تكبيرتي الركوع والسجود خاصة ، وأن علياً
- رضي الله عنه - أحيا ما تركوه من ذلك وأماتوه .
وروى مسعر ، عن يزيد الفقير ، قال : كان ابن عمر ينقص التكبير في الصلاة . قال مسعر : إذا انحط بعد الركوع للسجود لم يكَّبر ، فإذا أراد أن يسجد الثانية لم يكَّبر .
خرَّجه ابن أبي شيبة .
فتفسير مسعر لنقص التكبير يدل على أن نقصه هو ترك التكبير للسجدتين معاً ، كما فسره الإمام أحمد .(5/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
وهذه الرواية عن ابن عمر تخالف رواية مالك ، عن الزهري ، عن سالمٍ ، عن
أبيه ، أنه كان يكَّبر كلما خفض ورفع .
كذا رواه مالك في ( ( الموطأ ) ) .
ورواه أشهب ، عن مالك ، فزاد فيه : يخفض بذلك صوته .
وهذه الرواية يجمع بها بين الروايتين بأن يكون سالم سمع أباه يكَّبر ويخفض صوته ، ويزيد الفقير لم يسمعه لخفض صوته ، أو لبعده عنه .
وروى - أيضاً - عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان يتم التكبير .
ونافع وسالم أعرف بابن عمر من غيرهما .(5/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
6 - باب
اتمام التكبير في السجود
فيه حديثان :
الأول :
786 - حدثنا أبو النعمان : حدثنا حماد ، عن غيلان بن جرير ، عن مطرف بن عبد الله ، قال : صليت خلف علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - أنا وعمران بن حصين ، فكان إذا سجد كبر ، وإذا رفع رأسه كبر ، وإذا نهض من الركعتين كَّبر ، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين ، فقال : لقد ذكرني هذا صلاة محمد ( - أو قال : لقد صلى بنا صلاةَ محمدَ ( .
فيه ما يستدل به على أن نقص التكبير الذي كان معهوداً بينهم : هو تركه عند السجود ، وعند القيام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة .
قد روي عن طائفة من التابعين التكبير للسجود وللنهوض من الركعتين .
وهذا يدل على أن هذا هو الذي كان تركه من نقص التكبير ، فإما التكبير للرفع من السجود فإنما ذكر - والله أعلم - تبعاً للتكبير للسجود ، ويكون المراد : أنه كان يكَّبر للهوي إلى السجود ، كما كان يكَّبر للرفع منه . والله أعلم .
الحديث الثاني :
787 - ثنا عمرو بن عون : ثنا هشيم ، عن أبي بشرٍ ، عن عكرمة ، قال : رأيت رجلاً عند المقام كبر في كل خفضٍ ورفع ، وإذا قام وإذا وضع ، فاخبرت ابن(5/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
عباس ، فقال : أو ليس تلك صلاة رسول الله ( ، لا أم لك ؟
مراده بالخفض : خفض الرأس للركوع والسجود .
وبالرفع : رفعه من السجود خاصة .
وبالقيام : قيامه من السجود ومن التشهد الأول إلى الركعة الأخرى .
وبالوضع : وضع الرأس للسجود .
ومقصود البخاري بهذا الباب : إثبات تكبير النبي ( للسجود ، وهو الذي كان قد اشتهر تركه في زمن بني امية ، كما سبق .(5/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
7 - باب
التكبير إذا قام من السجود
فيه حديثان :
الأول :
788 - ثنا موسى بن إسماعيل : نا همام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، قال : صليت خلف شيخ بمكة ، فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة ، فقلت لابن عباس : إنه أحمق ، فقال : ثكلتك أمك ، سنة أبي القاسم ( .
وقال موسى : نا أبان : نا قتادة : نا عكرمة .
إنما ذكر رواية أبان العطار تعليقاً ؛ لأن فيها تصريح قتادة بسماع هذا الحديث من عكرمة ، فأمن بذلك تدليسه فيه .
وهذه الصلاة التي صلاها عكرمة خلف هذا الشيخ كانت رباعية ، فإن الصلاة الرباعية تشتمل على أربع ركعات ، في كل ركعة خمس تكبيرات تكبيرة للركوع ؛ تكبيرتان للسجدتين ، وتكبيرة للجلوس بينهما ، وتكبيرة للرفع من السجدة الثانية ، فهذه عشرون تكبيرة في الأربع . وتكبيرة الإحرام وتكبيرة القيام من التشهد الأول .
فأما صلاة المغرب ، ففيها سبع عشرة تكبيرة ؛ لأنه يسقط منها تكبيرات ركعة كاملة ، وهي خمس تكبيرات .
وأما صلاة الفجر ، ففيها إحدى عشرة تكبيرة ، لأن في الركعتين عشر تكبيرات وتكبيرة الإحرام .(5/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
وهذا كله في حق غير المأموم المسبوق ببعض الصلاة ، فإن المسبوق قد يزيد تكبيرة على ذلك لأجل متابعة إمامه ، كما أنه يزيد في صلاته أركانا لا يعتد بها متابعة لإمامه ، ولا سجود عليه لذلك عند الأكثرين ، وفيه خلاف سبق ذكره .
ومقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب : أن القائم من السجود إلى الركعة الثانية أو الرابعة يكَّبر في قيامة .
الحديث الثاني :
789 نا يحيى بن بكير : ناالليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، أنه سمع أبا هريرة يقول : كان رسول الله ( إذا قام إلى الصلاة يكَّبر حين يقوم ، ثم يكَّبر حين يركع ، ثم يقول : ( ( سمع الله لمن
حمده ) ) حين يرفع صلبه من الركعة ، ثم يقول وهو قائم : ( ( ربنا لك الحمد ) ) ، ثم يكَّبر حين يرفع رأسه ، ثم يكَّبر حين يسجد ، ثم يكَّبر حين يرفع رأسه ، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ، ويكَّبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس .
قال عبد الله ، عن الليث ( ( ولك الحمد ) ) عبد الله ، هو : أبو صالح كاتب الليث . ومراده : أنه رواه عن الليث . وقال في روايته ( ( ربنا ولك الحمد ) ) بالواو ، بخلاف رواية يحيى بن بكير عن الليث ، فإنها بإسقاط الواو . وخَّرجه مسلم من طريق حجين ، عن الليث به ، وقال فيه : بمثل حديث ابن جريج .(5/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
وخَّرجه قبل ذلك من طريق ابن جريح ، عن الزهري ، وفي حديثه ( ( ولك الحمد ) ) بالواو . والمقصود من هذا الحديث : أن النبي ( كان يكَّبر حين يرفع رأسه ويقوم من السجدة الثانية ، كما كان يكبر حين يرفع رأسه من السجدة الأولى للجلوس بين السجدتين .(5/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
8 - باب
وضع الأكف على الركب في الركوع
وقال أبو حميد في أصحابه : أمكن النبي ( يديه من ركبتيه .
حديث أبي حميد هذا ، قد خرَّجه بإسناده ، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله
تعالى .
790 - حدثنا أبو الوليد : نا شعبة ، عن أبي يعفور ، قال : سمعت مصعب بن سعد يقول : صليت إلى جنب أبي ، فطبقت بين كفي ، ثم وضعتهما بين فخذي ، فنهاني أبي ، وقال : كنا نفعله فنهينا عنه ، وامرنا أن نضع أيدينا على الركب .
أبو يعفور ، هو : العبدي الكوفي ، اسمه : وقدان . وقيل : واقد ، وهوأبو يعفور الأكبر .
وهذا الحديث قد ذكر ابن المديني وغيره أنه غير مرفوع ، ومرادهم : أنه ليس فيه تصريح بذكر النبي ( ، لكنه في حكم المرفوع ، فإن الصحابي إذا قال ( ( أمرنا - أو نهينا - بشيء ) ) ، وذكره في معرض الاحتجاج به قوي الظن برفعه ؛ لأنه غالباً إنما يحتج بأمر النبي ( ونهيه .
وقد ورد التصريح برفعه من وجه فيه ضَّعف ، من رواية عكرمة بن إبراهيم
الأزدي ، عن عبد الملك بن عمير ، عن مصعب بن سعد ، قالَ : قلت لأبي : رأيت أصحاب ابن مسعود يطبقون أيديهم ، ويضعونها بين ركبهم إذا ركعوا ، فقال : إن النبي ( كان يفعل الشيء زماناً ، ثم يدعه ، وقد رأيت رسول الله ( يركع - أو قال - : أشهد أني رأيت رسول الله ( ? إذا ركع يضع راحتيه على ركبتيه ، ويفرج بين أصابعه .(5/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
خرَّجه يعقوب بن شيبة في ( ( مسنده ) ) .
وقال : عكرمة بن إبراهيم ، منكر الحديث .
وذكر يحيى بن معين ، أنه قالَ : ليس فيه شيء .
وروى عاصم بن كليب ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن علقمة ، قال : قال عبد الله : علمنا رسول الله ( الصلاة ، فكبر ورفع يديه ، فلما ركع طبق يديه بين
ركبتيه . قال : فبلغ ذلك سعداً ، فقال : صدق أخي ، كنا نفعل هذا ، ثم أمرنا بهذا .
يعني : الامساك على الركبتين .
خرَّجه أبو داود والنسائي والدارقطني .
وقال : إسناد صحيح ثابت .
وهذه الرواية - أيضاً - تدل على رفع الأمر بالإمساك بالركبتين ، لأن أمر النبي ( لا يترك بأمرغيره بما يخالفه .
وروى أبو عبد الرحمن السلمي قال : قال لنا عمر : إن الركب سنت لكم فخذوا بالركب .
خرَّجه الترمذي .
وقال حديث حسن صحيح .(5/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
وخَّرجه النسائي ، ولفظه : قال : قال عمر : إنما السنة الأخذ بالركب . وفي رواية عن أبي عبد الرحمن ، عن عمر ، قالَ : سنت لكم الركب ، فأمسكوا بالركب .
وسماع أبي عبد الرحمن من عمر ، قد أنكره شعبة ويحيى بن معين .
وقد روي عن النبي ( من وجوه متعددة وضع اليدين على الركبتين في الركوع من فعله وأمره ، وليس شيءُ منها على شرط البخاري .
وهذا هو السنة عند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وأجمع عليه أئمة الأمصار .
وكان ابن مسعود يطبق في ركوعه ، فيجعل أحد كفيه على الأخر ، ويجعلها بين ركبتيه ، وقد رواه عن النبي ( ، كان يأمر أصحابه بذلك .
وقد خرَّج حديثه مسلم في ( ( صحيحه ) ) .
وبه أخذ أصحابه ، منهم : علقمة والأسود وأبو عبيدة بن عبد الله .
وكان النخعي يذهب إليه ثم رجع إلى ما روي عن عمر - : ذكره الإمام أحمد وغيره .
وذكر أكثر العلماء : أن التطبيق كان شرع أولاً ، ثم نسخ حكمه ، واستدلوا بحديث سعد وما في معناه .
وروى حصين ، عن عمرو بن مرة ، عن خيثمة ، عن أبي سبرة الجعفي ، قال : قدمت المدينة فجعلت أطبق كما يطبق أصحاب عبد الله وأركع ، فقال رجل : ما حملك على هذا ؟ قلت : كانَ عبد الله يفعله ، وذكر أن رسول الله ( كانَ يفعله . قالَ : صدق عبد الله ، ولكن رسول الله ( ربما صنع الأمر(5/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
ثم أحدث الله له الأمر الأخر ، فأنظر ما أجمع عليه المسلمون فاصنعه . فلما قام كان لا يطبق .
وذكره الأثرم - تعليقا - بمعناه ، فقال لي رجل من المهاجرين - فذكره .
وأكثر العلماء على أن وضع اليدين على الركبتين في الركوع من سنن الصلاة ، ولا تبطل الصلاة بتركه ولا بالتطبيق .
وروى عاصم بن ضمرة ، عن علي ، أن الراكع مخير بين أن يضع يدية على ركبتيه أو يطبق .
وذهب طائفة من أهل الحديث إلى المنع من التطبيق ، وابطال الصلاة به ؛ للنهي
عنه كما دل حديث سعد ، منهم : أبو خيثمة زهير بن حرب وأبو إسحاق
الجوزجاني .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة - فيمن طبق ولم يضع يدية على ركبتيه - : أحب إلي أن يعيد .
ونقل إسحاق بن منصور ، عن أحمد ، أنه سئل عن قول سفيان : من صلى بالتطبيق يجزئه ؟ فقالَ أحمد : أرجو أن يجزئه . فقالَ إسحاق بن راهويه كما قالَ : إذا كانَ به علة .
وحمل أبو حفص البرمكي - من أصحابنا - قول أحمد على ما إذا كان به علة ، فإن لم يكن به علة فلا تجزئه صلاته ، إلا أن لا يعلم بالنهي عنه .
وتوقف أحمد في إعادة الصلاة مع التطبيق في رواية أخرى .
فعلى قول هؤلاء : يكون وضع اليدين على الركبتين في الركوع من واجبات الصلاة .(5/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
وقد روي عن طائفة من السلف ما يدل على ذلك ، فإنه روي عن جماعة ، أنهم قالوا : إذا وضع يديه على ركبتيه أجزأه في الركوع .
وممن روي ذلك عنه : سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وابن سيرين ومجاهد وعطاء ، وقال : هو أدنى ما يجريء في الركوع .(5/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
9 - باب
إذا لم يتم الركوع
791 - حدثنا حفص بن عمر : نا شعبة ، عن سليمان ، قالَ : سمعت زيد بن وهب ، قالَ : رأى حذيفة رجلاً لا يتم الركوع والسجود . قالَ : ما صليت ، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمداً ( عليها .
سليمان ، هو : الاعمش .
وقد روي هذا الحديث من رواية عثمان بن الأسود ، عن زيد بن وهب ، عن حذيفة ، عن النبي ( .
وإسناده لا يصح .
والصحيح : أنه من قول حذيفة ، لكنه في حكم المرفوع ؛ بذكره فطرة محمد ( .
والمراد بفطرة محمدٍ شرعه ودينه ، ولذلك عاد الضمير في قوله : ( ( عليه ) ) بلفظ التذكير ، وفي بعض النسخ : ( ( عليها ) ) ولا إشكال على ذلك .
وخرَّج الطبراني من روايه بيأن ، عن قيس ، عن بلال ، أنه ابصر رجلاً يصلي لا يتم الركوع والسجود ، فقال : لو مات هذا لمات على غير ملة عيسى ( .
وقد روي مرفوعاً من وجه آخر بمعناه :
خرَّجه الإمام أحمد من رواية ابن لهيعة : ثنا الحارث بن يزيد الحضرمي ،(5/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
عن البراء بن عثمان الأنصاري ، أن هانيء بن معاوية الصدفي حدثه ، قال : حججت في زمأن عثمان بن عفأن ، فجلست في مسجد النبي ( ، فإذا رجل يحدثهم ، قال : كنا مع
رسول الله ( يوماً ، فاقبل رجل إلى هذا العمود ، فعجل قبل أن يتم صلاته ، ثم خرج ، فقال رسول الله ( : ( ( إن هذا لو مات لمات وليس هو من الدين على شيء ، أن الرجل ليخفف ويتمها ) ) . فسألت عن الرجل : من هو ؟ فقيل : لعله عثمان بن حنيف الأنصاري .
وهذا الإسناد فيه ضَّعف .
وروى الوليد بن مسلم : أنا شيبة بن الأحنف ، أنة سمع أبا سلام الأسود يحدث عن أبي صالح الأشعري أنه حدثة عن أبي عبد الله الأشعري ، أن رسول الله ( نظر إلى رجل يصلي ، لايتم ركوعه ولاسجوده ، ينقر صلاته كما ينقر الغراب ، فقال ( ( إن مثل الذي يصلي ولايتم ركوعه ولاسجوده كمثل الذي يأكل التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئاً ، فأتموا الركوع والسجود ، وويل للأعقاب من النار ) ) .
قال أبو صالح : فقلت لأبي عبد الله الأشعري : من حدثك بهذا عن رسول الله
( ؟ قالَ : خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن
حسنة ، كل هولاء سمعوه من النَّبيّ ( خرجة أبو القاسم البغوي في معجمه ،(5/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
وخرجه الطبرأني وزاد فيهِ : فقالَ رسول الله ( ( ( لو مات على حالته هذه مات على غير ملة محمد ( ) ) وخرَّج ابن ماجه من هذا الحديث : ( ( ويلٌ للأعقاب من النار ) ) فقط وقد دلت هذه الأحاديث على أن إتمام الركوع والسجود في الصَّلاة واجب ، وأن تركة محرم ، ولولا ذَلِكَ لم يكن تاركه خارجاً من الدين ، بل هوَ يدل على أن تاركه تارك للصلاة ، فأنه لا يخرج من الدين بدون ترك الصَّلاة ، كما في الحديث عن النَّبيّ ( قالَ ( ( بين العبد وبين الكفر ترك الصَّلاة ) ) وفي رواية ( ( فمن تركها فقد كفر ) ) وأما المثل المضروب في هذا الحديث لمن لا يتم ركوعه ولا سجوده ففي غاية الحسن ، فإن الصلاة هي قوت قلوب المؤمنين وغذاؤها ، بما اشتملت عليه من ذكر الله ومناجاته وقربه فمن أتم صلاته فقد استوفى غذاء قلبه وروحه ، فما دام على ذلك كملت قوته ، ودامت صحته وعافيته ، ومن لم يتم صلاته فلم يستوف قلبه وروحه قوتها وغذاءها ، فجاع قلبه وضعف ، وربما مرض أو مات ؛ لفقد غذائه ، كما يمرض الجسد ويسقم إذا لم يكمل تناول غذائه وقوته الملائم له .(5/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
0 - 121 باب
استواء الظهر في الركوع
وقال أبو حميد - في أصحابه - ركع النبي ( ثم هصر ظهره .
وحد إتمام الركوع والاعتدال فيه ، والاطمأنينة
. حديث أبي حميد واصحابه قد خرجه . البخاري بتمامه ، ويأتي فيما بعد - إن شاء الله - ولفظ حديثه : ( ( وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ، ثم هصر ظهره ) ) .
ومعنى : ( ( هصر ظهره ) ) : ثناه وأماله . ويقال : الهصر عطف الشيء الرطب كالغصن إذا ثناه ولم يكسره ، فشبه إمالة الظهر وإنحناءه في الركوع بذلك ويظهر من تبويب البخاري تفسير الهصر بالاستواء والاعتدال ، وكذا قال الخطابي قال : هصر ظهره : أي ثناه ثنياً شديداً في استواءٍ من رقبته ومتن ظهره لايقوسه ، ولا يتحادب فيه والطمأنينة : مصدر . والاطمأنينة : المرة الواحدة منه .
وقيل : أن الاطمأنينة غلطٌ قال - رحمه الله - :
792 - نا بدل بن المحبر : نا شعبة : أخبرني الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، عن(5/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
البراء ، قال : كان ركوع النبي ( وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع رأسه من الركوع - ماخلا القيام والقعود - قريباً من السواء .
معنى هذا : أن صلاة النبي ( كانت متقاربةً في مقدارها ، فكان ركوعه ورفعه من ركوعه وسجوده ورفعه من سجوده قريباً من الاستواء في مقداره ، وأنما كان يطيل القيام للقراءة والقعود للتشهد .
ومقصوده بهذا الحديث في هذا الباب : أن النبي ( كان يمكث في ركوعه زمناً ، فيحصل بذلك طمأنينته فيه واعتداله .
وقد تقدم في تفسير ( ( هصر ظهره ) ) أنه استواؤه .
وقد روي هذا المعنى صريحاً من حديث البراء ، من رواية سنان بن هارون ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن البراء ، قال : كان النبي ( إذا ركع فلو أن إنسانا وضع على ظهره قدحا من الماء ما اهراق .
وسنان ، ضعيف .
وذكر عبد الله بن الإمام أحمد ، أنه وجده في كتاب أبيه ، قال : اخبرت عن سنان بن هارون : ثنا بيان ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن علي بن أبي طالب - فذكره .
وخَّرجه أبو داود في ( ( مراسيله ) ) من طريق شعبة ، عن أبي فروة ، عن ابن أبي ليلى - مرسلاً - .
وهو أصح .
وقد خّرج ابن ماجه معناه من حديث وابصة بن معبد .(5/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
وإسناده ضعيف جداً .
وخرَّج الطبراني معناه - أيضاً - من حديث أنسٍ .
وخَّرجه البزار من رواية وائل بن حجرٍ .
وإسناده ضعيفٌ - أيضاً .(5/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
2 - باب
أمر النبي ( الذي لا يتم ركوعه بالإعادة
793 - حدثنا مسدد : نا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله : حدثني سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن النبي ( دخل المسجد ، فدخل رجل فصلى ، ثم جاء فسلم على النبي ( ، فرد عليه النبي ( ، فقال : ( ( ارجع فصل فإنك لم تصل ) ) ، فصلى ثم جاء ، فسلم على النبي ( ، فقال : ( ( ارجع فصل فأنك لم تصل ) ) - ثلاثاً - ، فقال : والذي يعثك بالحق ما أحسن غيره ، فعلمني . قال : ( ( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ، ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تطئمن جالساً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ) ) .
استدل بعضهم بهذا الحديث على أن من دخل المسجد وفيه قوم جلوس ، فإنه يبدأ فيصلي تحية المسجد ، ثم يسلم على من فيه ، فيبدأ بتحية المسجد قبل تحية الناس .
وفي هذا نظر ، وهذه واقعة عين ، فيحتمل أنه لما دخل المسجد صلى في مؤخره قريباً من الباب ، وكان النبي ( في صدر المسجد ، فلم يكن قد مر عليهم قبل صلاته ، أو أنه لما دخل المسجد مشى إلى قريبٍ من قبلة المسجد ، بالبعد من الجالسين في المسجد ، فصلى فيه ، ثم أنصرف إلى الناس .
يدل على ذلك : أنه روي في هذا الحديث : أن رجلاً دخل المسجد ،(5/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
فصلى ، ورسول الله ( في ناحية المسجد ، فجاء فسلم - وذكر الحديث - .
خرَّجه ابن ماجه .
فأما من دخل المسجد فمر على قوم فيه ، فإنه يسلم عليهم ثم يصلى .
وفيه : دليل على أن من قام عن قوم لحاجته ، ثم عاد إليهم ، فأنه يسلم عليهم وإن لم يكن قد غاب عنهم .
وفيه : دليل على أن من أساء في الصلاة فإنه يؤمر بإحسان صلاته مجملاً ، حتى يتبين أنه جاهلٌ ، فيعلم ما جهله .
وفيه : دليل على أن من أساء في صلاة تطوعٍ فأنه يؤمرُ باعادتها .
وهذا مما يتعلق به من يقول بلزوم النوافل بالشروع ، ووجوب إعادتها إذا
أفسدها .
ومن خالف في ذلك حمل الامر بالاعادة على الاستحباب ، وأن الأمر بالإعادة كان تغليظاً على هذا المسيء في صلاته ؛ لأن ذلك أزجرُ له عن الإساءة ، وأقرب إلى عدم عوده إليها .
وقد ذكرنا - فيما تقدم - الاستدلال بهذا الحديث على وجوب التكبير والقراءة .
والمقصود منه في هذا الباب : وجوب إتمام الركوع والطمأنينة فيه ؛ فإن النبي ( أمره أن يركع حتى يطمئن راكعاً .
وقد أشار البخاري إلى أنه أنما أمر بالإعادة ؛ لأنه لم يتم الركوع ، وليس في سياق هذا الحديث مايدل على ذلك .
ولكن ؛ روي في حديث رفاعة بن رافع : أن الداخل إلى المسجد صلى(5/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
وأخفُ صلاته .
خرَّجه الترمذي وغيره .
وخَّرجه النسائي ، وعنده : فجعل رسول الله ( يرمق صلاته ، ولا يدري ما يعيب منها .
وقد قيل : أن المذكور في حديث رفاعة غير المذكور في أبي هريرة ؛ لأن في حديث رفاعة تعليم النبي ( بعض مستحبات الصلاة ؛ كالاستفتاح وغيره ، بخلاف حديث أبي هريرة ؛ فإنه ليس فيه غير تعليم فرائض الصلاة .
وأكثر أهل العلم على أن إتمام الركوع بالطمأنينة فرض ، لا تصح الصلاة بدون ذلك .
قال الترمذي : العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي ( ومن
بعدهم ؛ يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود .
وقال الشافعي وأحمد وإسحاق : من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة ؛ لحديث النبي ( : ( ( لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود ) ) .
وهذا الحديث الذي أشار إليه ، خرَّجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من حديث أبي مسعود الأنصاري ، عن النبي ( .
وقال الترمذي : حسن صحيح .(5/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
ولفظ أبي داود : ( ( لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع
والسجود ) ) .
وإقامة الظهر في الركوع والسجود : هو سكونه من حركته .
وقدر الطمأنينة المفروضه : أدنى سكونٍ بين حركتي الخفض والرفع عند أصحاب الشافعي ، وأحد الوجهين لأصحابنا .
والثاني لأصحابنا : أنها مقدرة بقدر تسبيحة واحدة .
وذهب أبو حنيفة إلى أن الطمانينة ليست فرضاً في ركوع ولا غيره ، لظاهر قوله : ( ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ( [ الحج : 77 ] .
وللجمهور : أن الأمر بالركوع والسجود مطلقٌ ، وقد فسره النبي ( وبيَنه بفعله وأمره ، فرجع إلى بيانه في ذلك كما رجع إلى بيانه في عدد السجود وعدد الركعات ، ونحو ذلك .(5/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
3 - باب
الدعاء في الركوع
794 - حدثنا حفص بن عمر : ثنا شعبة ، عن المنصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : كان النبي ( يقول في ركوعه وسجوده : ( ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم أغفر لي ) ) .
في هذا حديث : دليل على الجمع بين التسبيح والتحميد والإستغفار في الركوع والسجود .
وخرَّج الإمام أحمد من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه ، قال : لمَّا نزلت على رسول الله ( ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ( [ النصر : 1 ] كان يكثر إذا قرأها وركع أن يقول : ( ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم أغفر لي ، إنك أنت التواب الرحيم ) ) - ثلاثا - .
وأبو عبيدة ، لم يسمع من أبيه ، لكن رواياته عنه صحيحة .
وخرَّج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث عون بن عبد الله ، عن ابن مسعود ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات : سبحان ربي العظيم ، وذلك ادناه ، وإذا سجد فليقل : سبحان ربي الأعلى ثلاثاً ، وذلك
أدناه ) ) .
وهو مرسل ، يعني : أن عون بن عبد الله لم يسمع من ابن مسعود - : قاله الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم .
وقد روي بهذا الإسناد موقوفاً .(5/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
وقد روي من وجوه أخر عن ابن مسعودٍ مرفوعاً - أيضاً - ، ولا تخلو من مقالٍ .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) من حديث حذيفة ، قال : صليت مع النبي ( ذات
ليلة ، فافتتح البقرة - وذكر الحديث ، إلى أن قال : ثم ركع فجعل يقول : ( ( سبحان ربي العظيم ) ) ، وكان ركوعه نحواً من قيامه ، ثم قال : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) ، ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع ، ثم سجد فقال : ( ( سبحان ربي الأعلى ) ) ، فكان سجوده قريبا من قيامه .
وخرَّج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) والحاكم من حديث موسى بن أيوب الغافقي : حدثني عمي إياس بن عامر ، قال : سمعت عقبة بن عامر الجهني ، قال : لما نزلت ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( . قال رسول الله ( :
( ( اجعلوها في ركوعكم ) ) ، فلما نزلت ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ( [ الأعلى : 1 ] قال رسول الله ( : ( ( اجعلوها في سجودكم ) ) .
موسى ، وثقة ابن معين وأبو داود وغيرهما ، لكن ضَّعف ابن معين رواياته عن عمه المرفوعة خاصة .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن عائشة ، أن النبي ( كان يقول في ركوعه وسجوده : ( ( سبوح قدوس ، رب الملائكة والروح ) ) .
وفيه - أيضاً - : عن علي ، أنه وصف صلاة النبي ( ، وقال : وإذا ركع قال : ( ( اللهم لك ركعت ، وبك أمنت ، ولك أسلمت ، خشع لك سمعي(5/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
وبصري ومخي وعظمي وعصبي ) ) - وذكر بقية الحديث - .
وخَّرجه الترمذي بمعناه ، وعنده : أن ذلك كان يقوله في المكتوبة .
وفي إسناد الترمذي لين .
ولكن خَّرج البيهقي هذه اللفظة بإسنادٍ جيدٍ .
وخرَّج النسائي نحو حديث علي من حديث جابرٍ ومحمد بن مسلمة ، عن النبي ( .
وفي حديث محمد بن مسلمة : أن النبي ( كان يقول ذلك في صلاة التطوع .
وخرَّج - أيضاً - هو وأبو داود من حديث عوف بن مالك ، قال : قمت مع النبي ( ليلة ، فلما ركع مكث قدر سورة البقرة ، يقول في ركوعه : ( ( سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ) ) .
وفي الباب أحاديث أخر متعددة يطول ذكرها .
والكلام هاهنا في حكم التسبيح في الركوع ، وفي الدعاء فيه .
فاما التسبيح في الركوع :
فمشروع عند جمهور العلماء .
قال جابر : كنا نسبح ركوعاً وسجوداً ، وندعو قياماً وقعوداً .
خرَّجه البيهقي .(5/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
وقال أصحاب مالك : لا باس به - : هكذا في ( ( تهذيب المدونة ) ) ، قال : ولا حد له .
وأما الجمهور ، فأدنى الكمال عندهم ثلاث تسبيحات ، وتجزئ واحدة .
وروي عن الحسن وإبراهيم أن المجزئ ثلاث .
وقد يتأول على أنهما أرادا المجزئ من الكمال ، كما تأول الشافعي وغيره حديث ابن مسعود المرفوع الذي فيه : ( ( وذلك أدناه ) ) على أدنى الكمال .
وروي عن عمر ، أنه كان يقول في ركوعه وسجوده قدر خمس تسبيحات .
وعن الحسن ، قال : التام من ذلك قدر سبع تسبيحات .
وعنه ، قال : سبع أفضل من ثلاث ، وخمس وسط بين ذلك .
وكذا قال إسحاق : يسبح من ثلاث إلى سبع .
وقالت طائفة ، يستحب للإمام أن يسبح خمساً ليدرك من خلفه ثلاثاً ، هكذا قال ابن المبارك وسفيان الثوري وإسحاق وبعض أصحابنا .
ومنهم من قال : يسبح من خمس إلى عشر .
وقال بعض أصحابنا : يكره للإمام أن ينقص عن أدنى الكمال في الركوع والسجود ، ولا يكره للمنفرد ؛ ليتمكن المأموم من سنة المتابعة .
ولأصحابنا وجه : أنه لا يزيد على ثلاث .
وذكر القاضي أبو يعلى في ( ( الأحكام السلطانية ) ) : أن الإمام المولى إقامة الحج بالناس ليس له أن ينفر في النفر الأول ، بل عليه أن يلبث بمنى ، وينفر في اليوم الثالث ؛ ليستكمل الناس مناسكهم .(5/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
وقال أصحاب الشافعي : لا يزيد الإمام على ثلاث تسبيحات - ومنهم من قال : خمس - ، إلا أن يرضى المأمون بالتطويل ، ويكونون محصورين لا يزيدون .
وهذا خلاف نص الشافعي في الإمام ، فإنه نص على أنه يسبح ثلاثاً ، ويقول مع ذلك ما قاله النبي ( في حديث علي الذي سبق ذكره . قال : وكل ما قال رسول الله ( في ركوعٍ أو سجودٍ أحببت أن لا يقصر عنه ، إماماً كان أو منفرداً ، وهو تخفيف لا تثقيل .
واختلف أصحابنا في [ . . . ] الكمال في التسبيح : هل هو عشر تسبيحات ، أو سبع ؟
ولهم وجهان آخران في حق المنفرد : أحدهما : يسبح بقدر قيامه .
والثاني : ما لم يخف سهواً .
وخرَّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أنس ، قال : ما صليت وراء أحد بعد رسول الله ( أشبه صلاة برسول الله ( من هذا الفتى - يعني : عمر بن عبد العزيز - قال : فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات ، وفي سجوده عشر تسبيحات .
ولو لم يسبح في ركوعه ولا سجوده ، فقال أكثر الفقهاء : تجزئ صلاته ، وهو قول مالك وأبي حنيفة والثوري والشافعي وغيرهم .
وقال أحمد - في ظاهر مذهبه - وإسحاق : إن تركه عمداً بطلت صلاته ،(5/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
وإن تركه سهواً وجب عليه أن يجبره بسجدتي السهو .
وقالت طائفة : هو فرض لا يسقط في عمدٍ ولا سهوٍ ، وحكى رواية عن أحمد ، وهو قول داود ، ورجحه الخطابي ، وقد روى الحسن والنخعي ما يدل عليه ، وهو قول يحيى بن يحيى ، علي بن دينارٍ من أئمة المالكية .
قال القرطبي : وقد تأوله المتأخرون بتأويلات بعيدة .
ويستدل له بقول النبي ( في الصلاة : ( ( إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة
القرآن ) ) .
وكذلك سمى الله الصلاة تسبيحاً ، كما سماها قرآناً ، فدل على أن الصلاة لا تخلو عن القرآن والتسبيح .
وعلى القول بالوجوب ، فقال أصحابنا : الواجب في لركوع : ( ( سبحان ربي العظيم ) ) ، وفي السجود : ( ( سبحان ربي الأعلى ) ) ، لا يجزئ غير ذلك ، لحديث ابن مسعود وعقبة ، وقد سبقا .
وقال إسحاق : يجزئ كل ما روي عن النبي ( من تسبيح وذكر ودعاء وثناء .
وهو قياس مذهبنا في جواز جميع أنواع الاستفتاحات والتشهدات الواردة في الصلاة .
وفي ( ( المسند ) ) وغيره ، عن أبي ذر ، أن النبي ( قام ذات ليلة بآية يرددها ، بها يقوم ، وبها يركع ، وبها يسجد . والاية ( إن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( ( المائدة : 118 ) .
قال أصحاب الشافعي : يستحب أن يأتي بالتسبيح ، ثم يقول بعده : ( ( اللهم ،(5/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
لك ركعت ) ) - إلى آخره . كما رواه علي ، عن النبي ( .
قالوا : فإن أراد الإقتصار على أحدهما ، فالتسبيح أفضل .
قال بعضهم : والجمع بين التسبيح ثلاثاً ، وهذا الذكر أفضل من الاقتصار على التسبيح ، وزيادته على الثلاث .
وأما الدعاء في لركوع ، فقد دل حديث عائشة الذي خرَّجه البخاري هاهنا على استحبابه ، وعلى ذلك بوب البخاري هاهنا ، وهو قول أكثر العلماء .
وروي عن ابن مسعود .
وقال مالك : يكره الدعاء في الركوع دون السجود ، واستدل بحديث علي ، عن النبي ( ، قال : ( ( أما الركوع ، فعظموا فيه الرب ، وأما السجود ، فاجتهدوا فيه في الدعاء ، فقمن أن يستجاب لكم ) ) .
خرَّجه مسلم .
وروي ، عن أحمد رواية ، أنه قال : لا يعجبني الدعاء في الركوع والسجود في الفريضة .
قال بعض أصحابنا : وهي محمولة على الإمام إذا طول بدعائه على المأمومين أو نقص بدعائه ألتسبيح عن أدنى الكمال ، فأما في غير هاتين الحالتين فلا كراهة فيه .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء ) ) .
وفيه - أيضاً - ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( كان يقول في(5/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
سجوده :
( ( اللهم أغفر ذنبي كله ، دقه وجله ، أوله وآخره ، وعلانيته وسره ) ) .
وخرَّج النسائي من حديث ابن عباس ، أنه صلى مع النبي ( ذات ليلة ، فجعل النبي ( يقول في سجوده : ( ( اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ) ) - وذكر الحديث بطوله .
وخَّرجه مسلم ، وعنده : أنه قال : في صلاته ، أو في سجوده - بالشك .
وفي ( ( المسند ) ) عن عائشة ، أن النبي ( قال ذات ليلة في سجوده : ( ( رب أغفر لي ما أسررت وما أعلنت ) ) .
وفيه : عنها - أيضاً - ، أن النبي ( قال ذات ليلة في سجوده : ( ( رب أعط نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ) ) .(5/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
باب
القراءة في الركوع والسجود
بوب البخاري على هذا ، ولم يخرج فيه شيئاً ، وفيه أحاديث ليست على شرطه :
أشهرها : حديث علي ، قال : نهى رسول الله ( عن قراءة القرآن في الركوع والسجود .
خرَّجه مسلم .
وفي بعض الروايات : الاقتصار على ذكر الركوع .
وكذا رواه مالك ، عن نافع ، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين ، عن أبيه ، عن علي .
وقد خرَّجه مسلم من طريقه كذلك .
وفي إسناده اختلاف كثير ، قد ذكر مسلم منه في ( ( صحيحه ) ) ستة أنواع ، وذكر الدارقطني فيه أكثر من ذلك ، ولم يرجح منه شيئاً .
والظاهر : أن البخاري تركه ، لأنه رأى الاختلاف مؤثراً فيه .
وله طرق أخرى ، عن علي :(5/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
خرَّجه النسائي من رواية أشعث ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي ، عن النبي ( .
وخرَّج مسلم - أيضاً - من رواية إبراهيم بن عبد الله بن معبد ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : كشف رسول الله ( الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر ، فقال :
( ( أيها الناس ، أنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة ، يراها المسلم أو ترى له ، ألا وأني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً ، فأما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء ، فقمن أن يستجاب لكم ) ) .
وقد قال الإمام أحمد فيه : ليس إسناده بذاك .
وإبراهيم هذا وأبوه ، لم يخّرج لهما البخاري شيئاً .
وأكثر العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود ، ومنهم من حكاه
إجماعاً .
وهل الكراهة للتحريم ، أو للتنزيه ؟ فيه اختلاف .
وحكى ابن عبد البر الإجماع على أنه لا يجوز .
ومذهب الشافعي وأكثر أصحابنا : أنه مكروه .
وهل تبطل به الصلاة ، أو لا ؟ فيه وجهان لأصحابنا . والأكثرون على أنها لا تبطل بذلك .
وللشافعية وجه : إن قرأ بالفاتحة خاصة بطلت ، لأنه نقل ركنا إلى غير موضعه .(5/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
ورخصت طائفة في القراءة في الركوع والسجود .
روي عن أبي الدرداء ، أنه كان يقرأ البقرة في سجوده .
وعن سليمان بن ربيعة ، وعبيد بن عمير ، والمغيرة .
وعن النخعي فيمن نسي الآية أو تركها ، فذكرها وهو راكع ، قال : يقرؤها وهو راكع .
وعن المغيرة ، قال : كانوا يفعلون ذلك .
وسئل عطاء ، عن القراءة في الركوع والسجود ؟ فقال : رأيت عبيد بن عمير يقرأ وهو راكع في المكتوبة .
ورخص بعضهم في ذلك في النفل دون الفرض :
روى سليمان بن موسى ، عن نافع ، عن علي ، أن رسول الله ( نهى عن القراءة في الركوع والسجود في الصلاة المكتوبة ، فأما الصلاة في التطوع ، فلا جناح .
خرَّجه الإسماعيلي .
وإسناده منقطع ، فإن نافعاً إنما يرويه عن ابن حنين ، عن أبيه ، عن علي ، كما سبق .
وآخر الحديث ، لعله مدرج من قول بعض الرواة .
وسليمان بن موسى ، مختلف فيه .(5/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
4 - باب
ما يقول الإمام ومن خلفه
إذا رفع رأسه من الركوع
795 - حدثنا آدم : نا ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : كان النبي ( إذا قال : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) قال : ( ( اللهم ، ربنا ولك الحمد ) ) ، وكان النبي ( إذا ركع وإذا رفع رأسه يكَّبر ، وإذا قام من السجدتين قال : ( ( الله
أكبر ) ) .
قد خَّرج البخاري فيما تقدم ، في ( ( باب : التكبير إذا قام من السجود ) ) ، من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث . عن أبي هريرة ، أن النبي ( كان يقول :
( ( سمع الله لمن حمده ) ) حين يرفع صلبه من الركعة ، ثم يقول وهو قائم : ( ( ربنا لك الحمد ) ) .
فتبين بذلك : أن النبي ( كان يقول : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) في حال رفعه ، ثم إذا أنتصب واستوى قائماً يقول : ( ( ربنا لك الحمد ) ) .
وفي رواية سعيد المقبري ، عن أبي هريرة المخرجة في هذا الباب : أن النبي ( كان إذا قال : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) قال : ( ( اللهم ، ربنا ولك الحمد ) ) .
والمراد : أنه يصلها بها من غير فصل ، وإن كانت الأولى في حال الرفع ،(5/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
والثانية في حال القيام .
وقد أمر النبي ( المأمومين أن يقولوا : ( ( ربنا ولك الحمد ) ) إذا قال الإمام :
( ( سمع الله لمن حمده ) ) ، وسيأتي الحديث بذلك - ، فدل هذا كله على أن الإمام والمأمومين يشتركون في قول : ( ( ربنا ولك الحمد ) ) .
لكن من قال : أن المأموم يقول : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) كالامام ، يقول : أنه يقوله في حال رفعه ، فإذا أنتصب قال : ( ( ربنا ولك الحمد ) ) كالإمام .
ومن قال : يقتصر المأموم على التحميد ، قال : يأتي به في حال رفعه .
وسيأتي ذكر الاختلاف في ذلك فيما بعد - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
وقوله : ( ( وكان النبي ( إذا ركع وإذا رفع رأسه يكَّبر ) ) يوهم أنه كان يكَّبر إذا رفع رأسه من الركوع ، وليس المراد ذلك .
وقد حمله البيهقي على أن المراد : أنه كان إذا رفع رأسه من ركوعه ، ثم اراد أن يسجد ، كبر حينئذ للسجود .
ويحتمل أن المراد : أنه كان إذا رفع رأسه من السجود كبر ؛ فإنه قد ذكر قبل ذلك ما كان يقوله إذا رفع رأسه من الركوع ، وهو : ( ( اللهم ، ربنا ولك الحمد ) ) ثم ذكر بعد ذلك ما كان يقوله إذا رفع من السجود ، وهو التكبير .(5/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
5 - باب
فضل : ( ( اللهم ربنا ولك الحمد )
796 - حدثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالك ، عن سميًّ ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( قال : ( ( إذا قال الإمام : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : اللهم ربنا ولك الحمد ، فإنه من وافق قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) ) .
قد تقدم في الباب الماضي : أن النبي ( كان يقول في حال رفعه من الركوع : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) ، ثم يقول بعد إنتصابه منه : ( ( ربنا ولك الحمد ) ) ، فدل على أن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد ، وهو قول الثوري والأوزعي والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ، وروي عن علي وأبي هريرة .
وأما مالك وأبو حنيفة ، فعندهما : يقتصر الإمام على التسميع والمأموم على التحميد ؛ ظاهر حديث أبي هريرة هذا .
وحمل بعض أصحابهما حديث أبي هريرة السابق في الجمع بينهما على النافلة ، وهو بعيد جداً .
وقد خرَّج مسلم في ( ( صحيحه ) ) : أن النبي ( كان يجمع بينهما إذا رفع رأسه من الركوع من حديث علي وابن أبي أوفى . ومن حديث حذيفة - أيضاً - ، لكن في صلاة النافلة .(5/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
وفي هذا الحديث : الأمر للمأمومين أن يقولوا : ( ( اللهم ربنا ولك الحمد ) ) إذا قال : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) ، فيجتمع الإمام والمأمومون في قول : ( ( ربنا ولك
الحمد ) ) .
واستدل بهذا من قال : أن المأموم لا يقول : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) كالإمام ، وهو قول مالك والثوري والأوزعي وأبي حنيفة وأحمد .
وروي عن أبي مسعود وأبي هريرة والشعبي .
وقالت طائفة : يجمع المأموم بين الأمرين - أيضاً - ، فيسمع ويحمد .
وهو قول عطاء وأبي بردة وابن سيرين والشافعي وإسحاق ؛ لعموم قوله ( : ( ( صلوا كما رأيتموني اصلي ) ) .
وفيه حديثان صريحان في المأموم أنه يجمع بينهما ، ولكنهما ضعيفان - : قاله البيهقي وغيره .
وروي - أيضاً - عن أبي موسى ، وضعفه البيهقي - أيضاً - .
ومعنى قوله : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) : استجاب الله لحامده كما استعاذ من دعاء لا يسمع ، أي لا يستجاب ؛ فكذلك يشرع عقب ذلك الاجتماع على حمد الإمام من الإمام ومن خلفه .
وظاهر هذا الحديث : يدل على أن الملائكة تحمد مع المصلين ، فلهذا علل أمرهم بالتحميد بقوله : ( ( من وافق قوله قول الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه ) ) .(5/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
وفي حديث أبي موسى الأشعري ، عن النبي ( : ( ( وإذا قال الإمام : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد ، يسمع الله لكم ، فإن الله تعإلى قال على لسان نبيه : سمع الله لمن حمده ) ) .
خرَّجه مسلم .
وفي حديث أبي هريرة المخَّرج في هذا الباب : ( ( اللهم ، ربنا لك الحمد ) ) بغير واو .
وفي حديث أبي هريرة المخرج في الباب قبله : ( ( اللهم ، ربنا ولك الحمد ) ) - بالواو .
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة - سبق تخريجها - : ( ( ربنا لك الحمد ) ) بغير
واو .
وفي روايات آخر : ( ( ربنا ولك الحمد ) ) - بالواو .
وكله جائز ، وأفضله عند مالك وأحمد : ( ( ربنا ولك الحمد ) ) بالواو .
وقال أحمد : روى الزهري فيه ثلاثة أحاديث عن أنس بن مالك ، وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ، وعن سالم عن أبيه .
يعني : كلها بالواو .
وقال في حديث علي الطويل : ( ( ولك الحمد ) ) .
وحديث علي ، خرَّجه مسلم .
وقد ذكر الأصمعي أنه سال أبا عمرو عن الواو في قوله : ( ( ربنا ولك(5/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
الحمد ) ) . فقال : هي زائدة .
وذكر غيره أنها عاطفة على محذوف ، تقديره : ربنا أطعناك وحمدناك ولك
الحمد .
قال أصحابنا : فإن قال : ( ( ربنا ولك الحمد ) ) فالأفضل أثبات الواو ، وإن زاد في أولها : ( ( اللهم ) ) فالأفضل إسقاطها ، ونص عليه أحمد في رواية حرب ؛ لأن أكثر أحاديثها كذلك ، ويجوز إثباتها ، لأنه ورد في حديث أبي هريرة ، كما خرَّجه البخاري في الباب الماضي .
وذهب الثوري والكوفيون إلى أن الافضل : ( ( ربنا لك الحمد ) ) بغير واو .
والله سبحانه وتعالى أعلم .(5/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
6 - باب
القنوت
797 - حدثنا معاذ بن فضالة : نا هشام ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : لأقربن لكم صلاة النبي ( . فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر وصلاة العشاء ، وصلاة الصبح ، بعدما يقول : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) فيدعو للمؤمنين ، ويلعن الكفار .
798 - حدثنا عبد الله بن أبي الأسود : نا إسماعيل ، عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن أنس ، قال : كان القنوت في المغرب والفجر .
ليس مقصود البخاري بهذا الباب ذكر القنوت ؛ فإن القنوت قد أفرد له باباً في اواخر ( ( أبواب الوتر ) ) ، ويأتي الكلام عليه في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
إنما مراده بتخريج هذين الحديثين في هذا الباب : أن المصلي يشرع له بعد أن يقول : ( ( سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ) ) أن يدعو ، ولا يقتصر على التسميع والتحميد خاصة .
وقد وردت أحاديث صريحة عن النبي ( في أنه كان يزيد في الثناء على التسميع والتحميد ، ولم يخرجها البخاري ، فإنها ليست على شرطه ، وخرَّج مسلم كثيراً منها .
فخَّرج من حديث عليٍ ، أنه وصف صلاة النبي ( ، فذكر فيها : قال :(5/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
وإذا رفع من الركوع قال : ( ( اللهم ، ربنا لك الحمد ، ملء السموات وملء الأرض ، وملء ما بينهما ، وملء ما شئت من شيء بعد ) ) .
وفي رواية أخرى له : ( ( سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ) ) - إلى آخره .
وخرَّج - أيضاً - من رواية قيس بن سعد ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أن النبي ( كان إذا رفع رأسه من الركوع قال : ( ( اللهم ، ربنا ولك الحمد ، ملء السموات وملء الأرض ، وملء ما بينهما ، وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل الثناء والمجد ، لامأنع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت ، ولاينفع ذا الجد منك الجد ) ) .
وخرَّج - أيضاً - من حديث الاعمش ، عن عبيد بن الحسن ، عن ابن أبي أوفى ، قال : كان رسول الله ( إذا رفع ظهره من الركوع قال : ( ( سمع الله لمن حمده ، اللهم ربنا لك الحمد ، ملء السموات وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد ) ) .
وخَّرجه من حديث شعبة ، عن عبيد ، عن ابن أبي اوفى ، قال : كان النبي ( يدعو بهذا الدعاء ، ولم يذكر فيه : رفع رأسه من الركوع .
ورجح الإمام أحمد رواية شعبة ، وقال : اظن الأعمش غلط فيه .
يعني : في ذكره : أنه كان يقوله بعد رفع رأسه من الركوع .
وقد بين ذلك أبو داود في ( ( سننه ) ) ، وبسط القول فيه .
وفي رواية لمسلم زيادة : ( ( اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد ، اللهم(5/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الوسخ ) ) .
وليس في هذه الرواية : ذكر رفع رأسه من الركوع - أيضاً .
وخرَّج مسلم - أيضاً - من حديث قزعة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كان رسول الله ( إذا رفع رأسه من الركوع قال : ( ( ربنا لك الحمد ، ملء السموات ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد ، وكلنا لك عبد ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجدُ ) ) .
وفي إسناده بعض اختلاف ، وروي مرسلاً .
وفي الباب أحاديث أخر ، ليست أسانيدها بالقوية .
وقد أستحب الشافعي وإسحاق قول هذه الاذكار المروية بعد التسميع والتحميد في الصلاة المكتوبة وغيرها .
ولم يستحب الكوفيون الزيادة على التسميع والتحميد في الصلاة المكتوبة ، وحملوا ما ورد في الزيادة عليها على صلاة النافلة .
وظاهر مذهب الإمام أحمد : أن الإمام والمنفرد يقول كل منهما بعد التحميد : ( ( ملء السموات والأرض ) ) ، إلى قوله : ( ( من شيء بعد ) ) في الصلاة المفروضة وغيرها .
وأما المأموم فيقتصر على قول : ( ( ربنا ولك الحمد ) ) .
قيل لأحمد : فيزيد - يعني الإمام والمنفرد - على هذا ، فيقول : ( ( أهل الثناء
والمجد ) ) ؟ قال : قد روي ذلك ، وأما أنا فاني أقول إلى ( ( ملء ما شئت من شيء بعد ) ) - يعني : لا يزيد عليه .
وحكي عن أحمد رواية أخرى : أنه يستحب قولها في المكتوبة - أيضاً - ،(5/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
وهي إختيار أبي حفص العكبري .
ومن أصحابنا من قال : من أكتفى في ركوعه وسجوده بأدنى الكمال من التسبيح لم يستحب له الزيادة على ذلك ، ومن زاد على ذلك في التسبيح أستحب له قولها ؛ لتقع أركان الصلاة متناسبةً في طولها وقصرها ، وحمل فعل النبي ( لها وتركه على مثل ذلك .
وعن أحمد رواية : أن المأموم يستحب له أن يأتي بالتحميد وما بعده من الدعاء ، كالإمام والمنفرد ، غير أنه لا ياتي بالتسميع ، ورجحها بعض أصحابنا المتأخرين .
قال البخاري - رحمه الله - :
799 - حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالكٍ ، عن نعيم بن عبد الله المجمر ، عن علي بن يحيى بن خلادٍ الزرقي ، عن أبيه ، عن رفاعة بن رافع الزرقي ، قال : كنا يوماً نصلي وراء النبي ( ، فلما رفع رأسه من الركعة قال : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) فقال رجل وراءه : ربنا ولك الحمد ، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه . فلما أنصرف قال : ( ( من المتكلم ؟ ) ) قال : أنا . قال : ( ( رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها ، أيهم يكتبها أول ) ) .
قوله : ( ( أول ) ) روي على وجهين : بضم اللام وفتحها . فالضم على أنه صفة لأي .
وقد سبق نحوه في قول النبي ( لأبي هريرة : ( ( لقد ظننت أن لا يسألني أحد أول منك ) ) .
و ( ( البضع ) ) : ما بين الثلاث إلى التسع ، في الأشهر .(5/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
وقال أبو عبيدة : ما بين الثلاث إلى الخمس . وقيل غير ذلك .
وقد قيل في مناسبة هذا العدد : أن هذه الكلمات المقولة تبلغ حروفها بضعاً وثلاثين حرفاً ، فكان الملائكة ازدحموا على كتابتها ورضوا أن يكتب كل واحد منهم حرفاً منها .
وفي هذا نظر ؛ فأنه ليس في الحديث ما يدل على أنهم توزعوا كتابتها .
وقد دل الحديث على فضل هذا الذكر في الصلاة ، وأن المأوم يشرع له الزيادة على التحميد بالثناء على الله عز وجل ، كما هو قول الشافعي وأحمد - في رواية - ، وأن مثل هذا الذكر حسنٌ في الاعتدال من الركوع في الصلوات المفروضات ؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - أنما كانوا يصلون وراء النبي ( الصلوات المفروضة غالباً ، وأنما كانوا يصلون وراءه التطوع قليلاً .
وفيه - أيضاً - : دليل على أن جهر المأموم أحيانا وراء الإمام بشيء من الذكر غير مكروه ، كما أن جهر الإمام أحياناً ببعض القراءة في صلاة النهار غير مكروه .
وقد سبق ذكر الجهر مستوفى .(5/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
7 - باب
الاطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع
وقال أبو حميد : رفع النبي ( واستوى حتى يعود كل فقار مكانه .
هكذا في كثير من النسخ : ( ( الاطمأنينة ) ) . وفي بعضها ( ( الاطمأنينة ) ) وقيل : أنه الصواب ، والمراد بها السكون .
وحديث أبي حميد قد خرَّجه فيما بعد ، وذكر أن بعضهم رواه ( ( كل قفار ) ) بتقديم القاف على الفاء .
والصواب الرواية الأولى بتقديم الفاء .
ومنه : سمي سيف العاص بن منبه السهمي الذي نفله النبي ( يوم بدر لعلي حين قتل صاحبه يومئذٍ .
و ( ( الفقار ) ) جمع فقارة ، وهو خرزات الصلب ، ويقال لها : الفقرة والفَقرة - بالكسر والفتح .
خَّرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث :
الحديث الأول :
800 - ثنا أبو الوليد : ثنا شعبة ، عن ثابت ، قال : كان أنس ينعت لنا صلاة النبي ( ؛ فكان يصلي ، وإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول : قد نسي .
وخَّرجه في موضع آخر من حديث حماد بن زيد ، عن ثابت ، قال : قال لنا أنس : أني لا ألو أن اصلي بكم كما رأيت رسول الله ( يصلي بنا . قال(5/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
حماد : قال ثابت : وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه ، كان إذا رفع رأسه من الركوع أنتصب قائماً ، حتى يقول القائل : قد نسي .
ففي هذا الحديث : دليل على أن الرفع من الركوع ينتصب فيه حتى يعتدل قائماً ، كما قال النبي ( للذي علمه الصلاة : ( ( ثم أرفع حتى تعتدل قائماً ) ) .
وأكثر العلماء على أن الرفع من الركوع ركن من اركان الصلاة ، وهو قول الشافعي وأحمد .
وقال أبو حنيفة ومالك - في رواية عنه - : ليس بركن ، فلو ركع ثم سجد
أجزأه .
وهذا يرده فعل النبي ( وأمره بالاعتدال .
والطمأنينة في هذا الاعتدال ركن - أيضاً - عند الشافعي وأحمد وأكثر أصحابهما .
ومن الشافعية من توقف في ذلك ؛ لأن النَّبيّ ( إنما أمرنا بالاعتدال دون
الطمأنينة .
والصحيح : أن الطمأنينة فيه ركن ، وهو قول الأكثرين ، منهم : الثوري والأوزعي وأبو يوسف وإسحاق .
وقد أمر النبي ( بالطمأنينة في الجلوس بين السجدتين ، فالطمأنينة في الرفع من الركوع مثلها .
وقد روي من حديث رفاعة بن رافع ، أن النبي ( علم المسئ في صلاته ، وأمره أن يرفع حتى يطمئن قائماً .
خرَّجه الإمام أحمد وغيره .(5/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
وقد سبق قول النبي ( : ( ( لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود ) ) .
وخرَّج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده ) ) .
ومن حديث طلق بن علي الحنفي ، عن النبي ( - معناه .
وحديث طلق أصح من حديث أبي هريرة .
وفيه : دليل على استحباب اطالة ركن الرفع من الركوع ، ولا سيما مع إطالة الركوع والسجود ، حتى تتناسب أركان الصلاة في القدر .
وذهب بعض الشافعية إلى أن من اطال ذلك فسدت صلاته ؛ لأنه غير مقصود لنفسه ، بل للفصل بين الركوع والسجود .
وهذا قول مردود ؛ لمخالفته السنة .
الحديث الثاني :
801 - ثنا أبو الوليد : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، عن البراء ، قال : كان ركوع النبي ( ، وسجوده ، وإذا رفع رأسه من الركوع ، وبين السجدتين قريباً من السواء .
هذا الحديث صريح في إطالة النبي ( للرفع من الركوع والسجود ، وأن رفعه منهما كان قريباً من ركوعه وسجوده ، فدل على أنه ( كان يناسب بين أركان الصلاة وهي الركوع والسجود والرفع منهما ، ويقارب بين ذلك كله ، فإن أطال منها شيئا اطال الباقي ، وإن أخف منها شيئاً أخف الباقي .
ويستدل بذلك على تطويل الرفع من الركوع والسجود في صلاة الكسوف ،(5/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
كما سيأتي ذكره في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
الحديث الثالث :
802 - ثنا سليمان بن حرب : ثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : قام مالك بن الحويرث يرينا كيف كان صلاة رسول الله ( ، وذلك في غير وقت الصلاة ، فقام فأمكن القيام ، ثم ركع فأمكن الركوع ، ثم رفع رأسه فأنصت هنية . قال : فصلى بنا صلاة شيخنا هذا : أبي بريد ، وكان أبو بريد إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة أستوى قاعداً ، ثم نهض .
قوله : ( ( فأنصت ) ) - يعني من الإنصات ، والمعنى : أنه سكت هنية بعد رفع رأسه من الركوع ، والمراد بإنصاته : أنه لم يجهر بذكر يسمع منه ، لا أنه لم يقل شيئاً في نفسه .
ويروى : ( ( فأنتصب ) ) من الإنتصاب ، وهو القيام .
وقوله : ( ( هنَّية ) ) ، هو بالياء المشددة بغير همز ، ويروى بالهمز ، ويروى
( ( هنيهة ) ) بهاءين ، والكل بمعنى ، وهو تصغير ( ( هنَّة ) ) ، وهي كلمة يكنى بها عن
الشيء ، أي : شيئاً قليلاً من الزمان .
وفي هذا الحديث : أن قيامه بعد الركوع كان قليلاً ، بخلاف ما دل عليه حيديث أنس ، لعل سائر أركان الصلاة كانت خفيفة ، فناسب ذلك تقصير القيام من الركوع ، ويكون حديث أنس في حالة يطيل فيه الركوع والسجود .
وحديث البراء بن عازب يدل على هذا الجمع ؛ فأنه يدل على أن ركوعه واعتداله وسجوده وقعوده من سجوده كان متقاربا .
وقوله : ( ( صلاة شيخنا هذا أبي بريد ) ) ، يريد به : عمرو بن سلمة الجرمي ،(5/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
وسلمة بكسر الام .
ووقع في عامة الروايات : ( ( يزيد ) ) - بالياء المثناة والزاي المعجمة .
وقال مسلم : إنما هو : أبو بريد - بالباء الموحدة والراء المهملة .
قال عبد الغني بن سعيد : لم أسمع من أحد إلا بالزاي ، لكن مسلم أعلم باسماء المحدثين .
وكذا ذكره الدارقطني وأبو ذر الهروي كما ذكره مسلم .
وكذا ضبطه أبو نصر الكلاباذي بخطه .
وذكر ابن ماكولا أنه أبو بريد - بالباء والراء - ، ثم قال ، وقيل : أبو يزيد .(5/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
8 - باب
يهوي بالتكبير حين يسجد
وقال نافع : كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه .
بوب على أن التكبير للسجود يكون في حال الهوي إلى الأرض بالسجود .
وذكر فيه أحكاماً أخرى من أحكام السجود .
فأما التكبير في حال الهوي ، فروي عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة .
وكان عبد الله بن يزيد الخطمي يهوي بالتكبير ، فكانه في أرجوحة حتى يسجد .
وقال النخعي : كبر وأنت تهوي ، وأنت تركع .
يشير إلى أن التكبير للركوع يكون - أيضاً - في حال الهوي إليه كالسجود .
والهوي : هو السقوط والأنخفاض ، وهو بتشديد الياء ، وأما الهاء فمضمومة . وقيل : بفتحها : ثم قيل : هما لغتان . وقيل : بل هو بالضم الصعود ، وبالفتح النزول .
وقال بعض أصحابنا : يكون تكبير الخفض والرفع والنهوض ابتداؤه مع ابتداء الأنتقال ، وأنتهاؤه مع أنتهائه ، فإن كمله في جزء من الانتقال ، ولم يستوعبه به أجزأه ، لأنه لم يخرج به عن محله ، وأن شرع فيه قبله أو كمله بعده ، فوقع بعضه خارجاً منه ، فهو كتركه ، لأنه لم يكمله في محله ، فهو كمن تمم قراءته في الركوع .(5/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
قال : هذا هو قياس المذهب .
قال : ويحتمل أن يعفى عن ذلك ؛ لأن التحرز منه يعسر ، والسهو به يكثر ، ففي ابطال الصلاة بعمده ، وإيجاب السجود لسهوه مشقة .
وقال أصحاب الشافعي : يبتدئ تكبير الركوع قائماً ، ويمده إلى أن يصل إلى حد الراكع .
قالوا : هذا هو الذي نص عليه الشافعي في ( ( الأم ) ) . وقطع به العراقيون .
وحكى الخراسانيون قولين : أحدهما : هذا . قالوا : وهو الجديد .
والثاني - وهو القديم - : لا يديم التكبير بل يسرع به .
قالوا : والقولان جاريان في جميع تكبيرات الأنتقالات : هل تحذف ، أم تمد حتى يصل إلى الذكر الذي بعدها ؟ والصحيح : المد .
وقالوا في تكبير السجود : أنه يشرع به من حين يشرع في الهوي ، ولم يقولوا : أنه يبتدئه قائماً ، كما قالوا في تكبير الركوع ، وهو خلاف نص الشافعي ؛ فإنه حكوا عنه أنه قال في ( ( الأم ) ) : أحب أن يبتدئ التكبير قائماً وينحط مكانه ساجداً . قال : وأن أخر التكبير عن ذلك - يعني : عن الإنحطاط - ، أو كبر معتدلاً ، أو ترك التبكير كرهت ذلك . أنتهى .
وهذا يدل على أن تأخير التكبير عن الأنحطاط وتقديمه عليه كتركه .
وممن رأى التكبير في الهوي للسجود وغيره . مالك والثوري وأحمد وغيرهم .
وأما ما ذكره البخاري ، عن نافع - تعليقاً - ، قال : كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه .(5/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
فخَّرج ابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) والدارقطني من رواية أصبغ بن الفرج ، عن الدراوردي ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، إنه كان يضع يديه قبل ركبتيه ، وقال : كان النبي ( يفعل ذلك .
وخَّرجه الحاكم والبيهقي من رواية محرز بن سلمة ، عن الدراوردي ، به .
وقال البيهقي : ما أراه إلا وهماً - يعني : رفعه .
وقد رواه ابن أخي ابن وهب ، عن عمه ، عن الدراوردي كذلك .
وقيل : أن أشهب رواه عن الدراوردي كذلك .
ورواه أبو نعيم الحلبي ، عن الدراوردي ، فوقفه على ابن عمر .
قال الدارقطني : وهو الصواب .
وروى عن ابن عمر خلاف ذلك ؛ روى ابن أبي ليلى ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان يضع ركبتيه إذا سجد قبل يديه ، ويرفع يديه إذا رفع قبل ركبتيه .
خرَّجه ابن أبي شيبة .
وروى شريك ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه ، عن وائل بن حجر ، قال : رأيت رسول الله ( إذا سجد يضع ركبتيه قبل يديه ، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه .
خرَّجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي ، وقال : حديث حسن .(5/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
وخَّرجه الحاكم ، وصححه .
وهو مما تفرد به شريك ، وليس بالقوي .
وخَّرجه أبو داود من طريق همام ، عن محمد بن جحادة ، عن عبد الجبار بن
وائل ، عن أبيه ، عن النبي ( .
قال همام : ونا عاصم بن كليب ، عن أبيه ، عن النبي ( - بمثله .
فهذا الثاني مرسل ، والأول منقطع ، لأن عبد الجبار بن وائل لم يدرك أباه .
وفي الباب أحاديث أخر مرفوعة ، لا تخلو من ضَّعف .
وروي في عكس هذا من حديث أبي هريرة ، ولا يثبت - أيضاً - ، وأجود طرقه : من رواية محمد بن عبد الله بن حسن ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ، وليضع يديه قبل
ركبتيه ) ) .
خرَّجه أبو داود والنسائي والترمذي مختصراً ، وقال : غريب .
وقال حمزة الكناني : هو منكر .
ومحمد راويه ، ذكره البخاري في ( ( الضعفاء ) ) ، وقال : يقال : ابن حسن ، ولا يتابع عليه ، ولا أدري سمع من أبي الزناد ، أم لا ؟
فكأنه توقف في كونه محمد بن عبد الله بن حسين بن حسن الذي خرج بالمدينة على المنصور ، ثم قتله المنصور بها .
وزعم حمزة الكناني ، أنه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان الذي يقال له : الديباج ، وهو بعيد .(5/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
واختلفت العلماء في الساجد : هل يضع ركبتيه قبل يديه ، أم يديه قبل ركبتيه ؟ فقال الأكثرون : يضع ركبتيه قبل يديه .
قال الترمذي : وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله .
وهو قول مسلم بن يسار ، وأبي قلابة ، وابن سيرين ، والنخعي والثوري ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق .
وقال حجاج ، عن أبي إسحاق : كان أصحاب عبد الله إذا أنحطوا للسجود وقعت ركبهم قبل أيديهم .
وكره النخعي أن يضع يديه قبل ركبتيه ، وقال : هل يفعله إلا مجنون ؟
وقالت طائفة : يبدأ بيديه قبل ركبتيه ، وهو مروي عن الحسن ، وقد روي عن ابن عمر كما تقدم ، وحكي رواية عن أحمد .
ومن أصحابنا من خصها بالشيخ الكبير والضعيف خاصة ، وهو أصح .
وقال الأوزاعي : أدركت الناس يصنعونه .
وهو قول مالك . وروي عنه ، أنهما سواء .
وقال قتادة : فيضع أهون ذلك عليه .
خَّرج البخاري في هذا الباب حديثين :
الحديث الأول :
803 - نا أبو اليمان : أنا شعيب ، عن الزهري : أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن أبا هريرة كان(5/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
يكَّبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها في رمضأن وغيره ، فيكبر حين يقوم ، ثم يكَّبر حين يركع ، ثم يقول : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) ، ثم يقول : ( ( ربنا ولك الحمد ) ) قبل أن يسجد ، ثم يقول :
( ( الله اكبر ) ) حين يهوي ساجداً ، ثم يكَّبر حين يرفع رأسه من السجود ، ثم يكَّبر حين يسجد ، ثم يكَّبر حين يرفع رأسه من السجود ، ثم يكَّبر حين يقوم من الجلوس في الاثنين ، ويفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة ، ثم يقول حين ينصرف : والذي نفسي بيده ، أني لأقربكم شبهاً بصلاة رسول الله ( ، إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا .
804 - قالا : وقال أبو هريرة ، وكان رسول الله ( حين يرفع رأسه يقول :
( ( سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ) ) يدعو لرجال ، فيسمهم باسمائهم ، فيقول :
( ( اللهم ، أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، والمستضعفون من المؤمنين ، اللهم ، اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) ) . وأهل المشرق يومئذ من مضر ، مخالفون له .
مقصوده من هذا الحديث في هذا الباب : التكبير للسجود حين يهوي ساجداً ، وقد فعله أبو هريرة ، وذكر أن هذه الصلاة كانت صلاة رسول الله ( حتى فارق
الدنيا .
وقد خرَّجه مختصراً فيما تقدم من رواية مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة وحده .
ومن رواية عقيل ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن وحده .(5/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
وفي هذه الرواية زيادة القنوت بعد الركوع ؛ للدعاء على المشركين ، والدعاء للمستضعفين من المؤمنين .
فأما القنوت ، فيأتي الكلام عليه في موضعه - إن شاء الله تعالى .
وأما تسمية الرجال المدعو لهم وعليهم في الصلاة ، فجائز عند أكثر العلماء ، منهم : عروة والأوزاعي والشافعي وأحمد وغيرهم ، وروي عن أبي الدرداء .
وكرهه عطاء والنخعي وأحمد - في رواية .
وعند الثوري وأبي حنيفة : أن ذلك كلام يبطل الصلاة .
واستدل لهم بأن النبي ( صرف أصحابه عن سلامهم في التشهد على جبريل وميكائيل ، وأمرهم أن يسلموا على عباد الله الصالحين عموماً .
ولا حجة في ذلك ؛ لأنه إنما قصد جوامع الكلم واختصاره .
وسيأتي ذلك في موضع أخر - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
وقوله : ( ( وأهل المشرق من مضر مخالفون له ) ) ، يريد : قبائل من مضر ، كانوا مشركين ، وكانت اقامتهم بأرض نجد وما والاها ؛ لأن ذلك مشرق المدينة ، ولهذا قال له عبد القيس - عند قدوم وفدهم عليه - : بيننا وبينك هذا الحي من مضر ، ولن نصل إليك إلا في شهر حوام ، وكان عبد القيس يسكنون بالبحرين .
وروي عن النبي ( ، أنه قال فيهم : ( ( هم خير أهل المشرق ) ) .
الحديث الثاني :
805 - نا علي بن عبد الله : نا سفيان - غير مرة - ، عن الزهري ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : سقط رسول الله ( عن فرس - وربما قال سفيان : من فرس - ، فجحش شقه الأيمن ، فدخلنا عليه نعوده ، فحضرت الصلاة ،(5/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
فصلى بنا قاعداً فقعدنا - وقال سفيان مرة : صلينا قعوداً - ، فلما قضى الصلاة قال : ( ( أنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كَّبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فأرفعوا ، وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد ، وإذا سجد فأسجدوا ) ) .
كذا جاء به معمر ؟ قلت : نعم . قال : لقد حفظ كذا قال الزهري : ( ( ولك الحمد ) ) ، حفظت منه ( ( شقه الأيمن ) ) ، فلما خرجنا من عند الزهري ، قال ابن جريج - وأنا عنده - : ( ( فجحش ساقة الأيمن ) ) .
هذا الحديث خرَّجه البخاري عن شيخه علي بن المديني ، عن سفيان بن عيينة ، وذكر أن سفيان لما حدثه به سأله : أهكذا جاء معمر ؟ فقال ابن المديني : نعم ، فقال سفيان : لقد حفظ ، فاثتنى ابن عيينة على معمر بالحفظ حيث وافقه على رواية هذا الحديث عن الزهري .
وذكر ابن عيينة : أن الزهري قال في هذا الحديث : ( ( ولك الحمد ) ) - يعني : بالواو - ، وأنه حفظ منه : ( ( فجحش شقه الأيمن ) ) ، فلما خرجوا من عند الزهري قال لهم ابن جريج : إنما هو ( ( فجحش ساقه الأيمن ) ) .
والمقصود من إيراد هذا الحديث في هذا الباب : أن سجود المأموم يكون عقيب سجود الإمام ، وكذلك سائر افعاله تكون عقيب أفعال الإمام .
وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى ، وعلي بقية فوائد هذا الحديث ، من الصلاة خلف الجالس ، وهل يصلي من خلفه من قعود أو قيام ؟ بما فيه كفاية - إن شاء الله سبحانه وتعالى .(5/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
9 - باب
فضل السجود
806 - حدثنا أبو اليمان : نا شعيب ، عن الزهري : أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي ، أن أبا هريرة أخبرهما ، أن الناس قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : ( ( هل تمارون في القمر ليلة البدر ، ليس دونه سحاب ؟ ) ) قالوا : لا يا رسول الله . قال : ( ( هل تمارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب ؟ ) ) قالوا : لا ، قال : ( ( فإنكم ترونه كذلك ، يحشر الناس يوم القيامة ، فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه ، فمنهم من يتبع الشمس ، ومنهم من يتبع القمر ، ومنهم من يتبع الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ، فياتيهم الله ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فاذا جاء ربنا عرفناه ، فياتيهم الله عز وجل فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا ، فيدعوهم ، ويضرب الصراط بين ظهرأني جهنم ، فأكون أول من يجوز من الرسل بامته ، ولا يتكلم يومئذٍ أحد إلا الرسل ، وكلام الرسل يومئذ : اللهم سلم سلم ، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان ، هل رايتم شوك السعدان ؟ ) ) قالوا ، نعم . قالَ : ( ( فإنها مثل شوك السعدان ، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله ، تخطف الناس بأعمالهم ، فمنهم من يوبق بعمله ، ومنهم من يخردل ، ثُمَّ ينجو ، حتَّى إذا أراد الله رحمة من اراد من أهل النار ، أمر الله عز وجل الملائكة أن يخرجوا من النار من كانَ يعبد الله ، فيخرجونهم ، ويعرفونهم بآثار السجود ، وحرم الله عز وجل(5/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
على النار أن تأكل أثر السجود ، فيخرجون من النار ، فكل ابن آدم تأكله النار إلا اثر السجود ، فيخرجون من النار قد امنحشوا ، فيصب عليهم ماء الحياة ، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل
السيل ) ) .
وذكر بقية الحديث في آخر من يدخل الجنة ، وقد خرَّجه بتمامه - أيضاً - في
( ( كتاب التوحيد ) ) ، ويأتي في موضعه - أن شاء الله سبحانه وتعالى - ، فإن هذا القدر من الحديث فيه ها هنا كفاية .
فأما ما يتعلق برؤية الله عز وجل يوم القيامة من أول الحديث ، فقد سبق الكلام على ألفاظه ومعانيه في ( ( مواقيت الصلاة ) ) في ( ( باب : فضل صلاة العصر ) ) ، وفي
( ( باب : فضل صلاة الفجر ) ) ، فلا حاجة إلى أعادتها هاهنا .
وفي الحديث : دليل على أن المشركين الذين كانوا يعبدون في الدنيا من دون الله ألهة يتبعون ألهتهم التي كانوا يعبدون يوم القيامة ، فيردنهم النار ، كما قال تعإلى في حق فرعون : ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ( [ هود : 98 ] .
ويبقى من كان يعبد الله وحده ظاهراً ، مؤمناً كان أو منافقاً ، فهؤلاء ينظرون من كانوا يعبدونه في الدنيا ، وهو الله وحده لا شريك له .
ففي هذا الحديث : أن الله يأتيهم أول مرة فلا يعرفونه ، ثم يأتيهم في المرة الثانية فيعرفونه .
وفي الحديث السابق اختصار ، وقد ساقه في مواضع أخر بتمامه .
وقد دل القرآن على ما دل عليه هذا الحديث في مواضع ، كقوله : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ ( [ البقرة : 210 ] . وقال : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ( [ الأنعام :
158 ] ، وقال : ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ ( [ الفجر : 22 ] .(5/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
ولم يتأول الصحابة ولا التابعون شيئاً من ذلك ، ولا أخرجوه عن مدلوله ، بل روي عنهم ؛ يدل على تقريره والإيمان به وامراره كما جاء . ؟
وقد روي عن الإمام أحمد ، أنه قال في مجيئه : هو مجيء أمره .
وهذا مما تفرد به حنبل عنه .
فمن أصحابنا من قال : وهم حنبل فيما روى ، وهو خلاف مذهبه المعروف المتواتر عنه .
وكان أبو بكر الخلال وصاحبه لا يثبتان بما تفرد به حنبل ، عن أحمد رواية .
ومن متأخريهم من قال : هو رواية عنه ، بتأويل كل ما كان من جنس المجيء والإتيان ونحوهما .
ومنهم من قال : إنما قال ذلك إلزاماً لمن ناظره في القرآن ، فأنهم استدلوا على خلقه بمجيء القرآن ، فقال : إنما يجيء ثوابه ، كقوله : ( وجاء ربك ( ، أي : كما تقولون أنتم في مجيء الله ، أنه مجيء أمره .
وهذا أصح المسالك في هذا المروي .
وأصحابنا في هذا على ثلاث فرق :
فمنهم من يثبت المجيء والإتيان ، ويصرح بلوازم ذلك في المخلوقات ، وربما ذكروه عن أحمد من وجوه لا تصح أسانيدها عنه .
ومنهم من يتأول ذلك على مجيء أمره .
ومنهم من يقر ذلك ، ويمره كما جاء ، ولا يفسره ، ويقول : هومجيء وإتيان يليق بجلال الله وعظمته سبحانه .
وهذا هو الصحيح عن أحمد ، ومن قبله من السلف ، وهو قول إسحاق وغيره من الأئمة .
وكان السلف ينسبون تأويل هذه الآيات والأحاديث الصحيحة إلى الجهمية ؛(5/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
لأن جهماً وأصحابه أول من أشتهر عنهم أن الله تعالى منزه عما دلت عليه هذه النصوص بأدلة العقول التي سموها أدلة قطعية هي المحكمات ، وجعلوا ألفاظ الكتاب والسنة هي المتشابهات فعرضوا ما فيها على تلك الخيالات ، فقبلوا ما دلت على ثبوته بزعمهم ، وردوا مادلت على نفيه بزعمهم ، ووافقهم على ذلك سائر طوائف أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم .
وزعموا أن ظاهر ما يدل عليه الكتاب والسنة تشبيه وتجسيم وضلال ، واشتقوا من ذلك لمن آمن بما أنزل الله على رسوله اسماء ما أنزل الله بها من سلطان ، بل هي افتراء على الله ، ينفرون بها عن الإيمان بالله ورسوله .
وزعموا أن ما ورد في الكتاب والسنة من ذلك - مع كثرته وأنتشاره - من باب التوسع والتجوز ، وأنه يحمل على مجازات اللغة المستبعدة ، وهذا من أعظم أبواب القدح في الشريعة المحكمة المطهرة ، وهو من جنس حمل الباطنية نصوص الإخبار عن الغيوب كالمعاد والجنةوالنار على التوسع والمجاز دون الحقيقة ، وحملهم نصوص الامروالنهي على مثل ذلك ، وهذا كله مروق عن دين الإسلام .
ولم ينه علماء السلف الصالح وأئمة الإسلام كالشافعي وأحمد وغيرهما عن الكلام وحذروا عنه ، إلا خوفاً من الوقوع في مثل ذلك ، ولو علم هؤلاء الأئمة أن حمل النصوص على ظاهرها كفر لوجب عليهم تبيين ذلك وتحذير الأمة منه ؛ فإن ذلك من تمام نصيحة المسلمين ، فكيف كان ينصحون الأمة فيما يتعلق بالاحكام العملية ويدعون نصيحتمهم فيما يتعلق بأصول الاعتقادات ، هذا من أبطل الباطل .
قال أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي : سمعت عبد الرحمن بن محمد(5/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
بن جابر السلمي يقول : سمعت محمد بن عقيل بن الأزهر الفقيه يقول : جاء رجل إلى المزني يسأله عن شيء من الكلام ، فقال : أني أكره هذا ، بل أنهي عنه ، كما نهى عنه الشافعي ؛ فإني سمعت الشافعي يقول : سئل مالك عن الكلام والتوحيد ، فقالَ مالك : محال أن يظن بالنبي ( أنه علم أمته الإستنجاء ولم يعلمهم التوحيد ، فالتوحيد ما قاله النَّبيّ ( :
( ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ) ) ، فما عصم الدم والمال فهو حقيقة التوحيد . أنتهى .
وقد استوفينا الكلام على ذلك في أوائل ( ( كتاب العلم ) ) في الكلام على أول الواجبات .
وقد صح عن ابن عباس أنه أنكر على من أستنكر شيئاً من هذه النصوص ، وزعم أن الله منزه عما تدل عليه :
فروى عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : سمعت رجلاً يحدث ابن عباس بحديث أبي هريرة : ( ( تحاجت الجنة والنار ) ) ، وفيه :
( ( فلا تمتلي حتى يضع رجله ) ) - أو قال : ( ( قدمه - فيها ) ) .
قال : فقام رجل فانتفض ، فقال ابن عباس : ما فرق هؤلاء ، يجدون رقة عند محكمة ، ويهلكون عند متشابهه .
وخَّرجه إسحاق بن راهويه في ( ( مسنده ) ) عن عبد الرزاق .
ولو كان لذلك عنده تأويل لذكره للناس ولم يسعه كتمانه .
وقد قابل هؤلاء المتكلمين طوائف آخرون ، فتكلموا في تقرير هذه النصوص بأدلة عقلية ، وردوا على النفاة ، ووسعوا القول في ذلك ، وبينوا أن(5/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
لازم النفي التعطيل
المحض .
وأما طريقة أئمة أهل الحديث وسلف الامة : فهي الكف عن الكلام في ذلك من الطرفين ، وإقرار النصوص وإمرارها كما جاءت ، ونفي الكيفية عنها والتمثيل .
وقد قال الخطابي في ( ( الأعلام ) ) : مذهب السلف في أحاديث الصفات :
الإيمان ، وإجراؤها على ظاهرها ، ونفي الكيفية عنها .
ومن قال : الظاهر منها غير مراد ، قيل له : الظاهر ظاهران : ظاهر يليق ببالمخلوقين ويختص بهم ، فهو غير مراد ، وظاهر يليق بذي الجلال والإكرام ، فهو مراد ، ونفيه تعطيل .
ولقد قال بعض أئمة الكلام والفلسفة من شيوخ الصوفية ، الذي يحسن به الظن المتكلمون : إن المتكلمين بالغوا في تنزيه الله عن مشابهة الأجسام ، فوقعوا في تشبيهه بالمعاني ، والمعاني محدثة كالأجسام ، فلم يخرجوا عن تشبيهه بالمخلوقات .
وهذا كله إنما أتى من ظن أن تفاصيل معرفة الجائز على الله والمستحيل عليه يؤخذ من أدلة العقول ، ولا يؤخذ مما جاء به الرسول .
وأما أهل العلم والايمأن ، فيعلمون أن ذلك كله متلقى مماجاء به الرسول ( وأن ما جاء به من ذلك عن ربه فهو الحق الذي لا مزيد عليه ، ولا عدول عنه ، وأنه لا سبيل لتلقي الهدى إلا منه ، وأنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله الصحيحة ما ظاهرة كفر أو تشبيه ، أو مستحيل ، بل كل ما أثبته الله لنفسه ، أو أثبته له رسوله ، فإنه حق وصدقٍ ، يجب اعتقاد ثبوته مع نفي التمثيل عنه ، فكما أن الله ليس كمثله شيء في ذاته ، فكذلك في صفاته .
وما أشكل فهمه من ذلك ، فإنه يقال فيه ما مدح الله الراسخين من أهل العلم ، أنهم يقولون عند المتشابهات : ( آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ( [ آل عمران : 7 ] .(5/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
وما أمر به رسول الله ( في متشابه الكتاب ، أنه يرد إلى عالمه ، والله يقول الحق ويهدي السبيل .
وكلمة السلف وأئمة أهل الحديث متفقة على أن آيات الصفات وأحاديثها الصحيحة كلها تمر كما جاءت ، من غير تشبيه ولا تمثيل ، ولا تحريف ولا تعطيل .
قال أبو هلال : سأل رجل الحسن عن شيء من صفة الرب عز وجل ، فقال : أمروها بلا مثال .
وقال وكيع : أدركت إسماعيل بن أبي خالد وسفيان ومسعراً يحدثون بهذه الأحاديث ، ولا يفسرون شيئاً .
وقال الأوزاعي : سُئل مكحول والزهري عن تفسير هذه الأحاديث ، فقالا : أمرها على ما جاءت .
وقال الوليد بن مسلم : سألت الأوزاعي ومالكاً وسفيان وليثاً عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة والقرآن ، فقالوا : أمروها بلا كيف .
وقال ابن عيينة : ما وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره ، ليس لأحد أن يفسره إلا الله عز وجل .
وكلام السلف في مثل هذا كثير جداً .
وقال أشهب : سمعت مالكاً يقول : إياكم وأهل البدع ، فقيل : يا أبا عبد الله : وما البدع ؟ قال : أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وعلمه وقدرته ، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان .
خرّجه أبو عبد الرحمن السُلمي الصوفي في كتاب ( ( ذم الكلام ) ) .
وروى - أيضاً - بأسانيده ذم الكلام وأهله عن مالك ، وأبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وابن مهدي ، وأبي عبيد ، والشافعي ، والمزني ، وابن خزيمة .
وذكر ابن خزيمة النهي عنه عن مالك والثوري و الأوزاعي والشافعي(5/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
وأبي حنيفة وصاحبيه وأحمد وإسحاق وابن المبارك ويحيى بن يحيى ومحمد بن يحيى الذهلي .
وروى - أيضاً - السلمي النهي عن الكلام وذمه عن الجنيد وإبراهيم الخواص .
فتبين بذلك أن النهي عن الكلام إجماع من جميع أئمة الدين من المتقدمين من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية ، وأنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم من أئمة المسلمين .
ومن جملة صفات الله التي نؤمن بها ، وتمر كما جاءت عندهم : قوله تعالى :
( وَجَاءَ رَبُّكَ والْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ ( [ الفجر : 22 ] ونحو ذلك مما دل على إتيانه ومجيئه يوم القيامة .
وقد نص على ذلك أحمد وإسحاق وغيرهما .
وعندهما : أن ذلك من أفعال الله الاختيارية التي يفعلها بمشيئته واختياره .
وكذلك قاله الفضيل بن عياض وغيره من مشايخ الصوفية أهل المعرفة .
وقد ذكر حرب الكرماني أنه أدرك على هذا القول كل من أخذ عنه العلم في البلدان ، سمى منهم : أحمد وإسحاق والحميدي وسعيد بن منصور .
وكذلك ذكره أبو الحسن الأشعري في كتابه المسمى ب - الإبانة - ، وهو من أجل كتبه ، وعليه يعتمد العلماء وينقلون منه ، كالبيهقي وأبي عثمان الصابوني وأبي القاسم ابن عساكر وغيرهم .
وقد شرحه القاضي أبو بكر ابن الباقلاني .
وقد ذكر الأشعري في بعض كتبه أن طريقة المتكلمين في الاستدلال على قدم الصانع وحدوث العالم بالجواهر والأجسام والأعراض محرمة عند علماء المسلمين .
وقد روي ذم ذلك وإنكاره ونسبته إلى الفلاسفة عن أبي حنيفة .(5/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
وقال ابن سريج : توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين : الشهادتان ، وتوحيد أهل الباطن من المسلمين : الخوض في الأعراض والأجسام ، وإنما بعث النبي ( بإنكار ذلك .
خرّجه أبو عبد الرحمن السلمي .
وكذلك ذكره الخطابي في رسالته في - الغنية عن الكلام وأهله - .
وهذا يدل على أن ما يؤخذ من كلامه في كثير من كتبه مما يخالف ذلك ويوافق طريقة المتكلمين فقد رجع عنه ، فإن نفي كثير من الصفات إنما هو مبني على ثبوت هذه الطريقة .
قال الخطابي في هذه الرسالة في هذه الطريقة في إثبات الصانع : إنما هو شيء أخذه المتكلمون عن الفلاسفة ، وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة ، فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء ، فأما مثبتوا النبوات ، فقد أغناهم الله عن ذلك ، وكفاهم كلفة المؤنة في ركوب هذه الطريقة المتعرجة التي لا يؤمن العنت على من ركبها ، والإبداع والانقطاع على سالكها .
ثم ذكر أن الطريق الصحيحة في ذلك : الاستدلال بالصنعة على صانعها ، كما تضمنه القرآن ، وندب إلى الاستدلال به في مواضع ، وبه تشهد الفطر السليمة
المستقيمة .
ثم ذكر طريقتهم التي استدلوا بها ، وما فيها من الاضطراب والفساد والتناقض والاختلاف .
ثم قال : فلا تشغل - رحمك الله - بكلامهم ، ولا تغتر بكثرة مقالاتهم ؛ فأنها سريعة التهافت ، كثيرة التناقض ، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازيه ويفارقه ، فكل بكل معارض ، وبعضهم ببعض مقابل .(5/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
قال : وإنما يكون تقدم الواحد منهم وفلجه على خصمه بقدر حظه من الثبات والحذق في صنعة الجدل والكلام ، وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول مؤصلة لهم ، ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم [ . . . ] تقودها وطردها ، فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق [ . . . ] وه مبطلاً ، وحكموا بالفلج لخصمه عليه ، والجدل لا يقوم به حق [ . . . ] به حجة .
وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين ، كلاهما باطل ، ويكون الحق في ثالث غيرهما ، فمناقضة أحدهما صاحبة غير مصحح مذهبه ، وإن كان مفسداً به قول خصمه ؛ لأنهما مجتمعان معاً في الخطأ ، مشتركان فيهِ ، كقول الشاعر :
حجج تهافتت كالزجاج تخالها
حقاً ، وكلٌ واهن مكسور
ومتى كان الأمر كذلك ، فإن أحد من الفريقين لا يعتمد في مقالته التي نصرها أصلاً صحيحاً ، وإنما هو أوضاع وأراء تتكافأ وتتقابل ، فيكثر المقال ، ويدوم
الاختلاف ، ويقل الصواب ، كما قال تعالى : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ( [ النساء : 82 ] ، فأخبر تعالى أن ما كثر فيه الاختلاف فليس من عنده ، وهو من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة ؛ لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل .
وذكر بقية الرسالة ، وهي حسنة متضمنة لفوائد جليلة ، وإنما ذكرنا هذا القدر منها ليتبين به أن القواعد العقلية التي يدعي أهلها أنها قطعيات لا تقبل الاحتمال ، فترد لأجلها - بزعمهم - نصوص الكتاب والسنة ، وتصرف عن(5/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
مدلولاتها ، إنما هي عند الراسخين شبهات جهليات ، لا تساوي سماعها ، ولا قراءتها ، فضلا عن أن يرد لأجلها ما جاء عن الله ورسوله ، أو يحرف شيء من ذلك عن مواضعه .
وإنما القطعيات ما جاء عن الله ورسوله من الآيات المحكمات البينات ، والنصوص الواضحات ، فترد إليها المتشبهات ، وجميع كتب الله المنزلة متفقة على معنى واحد ، وإن ما فيها محكمات ومتشابهات ، فالراسخون في العلم يؤمنون بذلك كله ، ويردون المتشابهة إلى المحكم ، ويكلون ما أشكل عليهم فهمه إلى عالمه ، والذين في قلوبهم ريع يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فيضربون كتاب الله بعضه ببعض ، ويردون
المحكم ، ويتمسكون بالمتشابه ابتغاء الفتنة ، ويحرفون المحكم عن مواضعه ، ويعتمدون على شبهات وخيالات لا حقيقة لها ، بل هي من وسواس الشيطان وخيالاته ، يقذفها في القلوب .
فأهل العلم وإلايمان يمتثلون في هذه الشبهات ما أمروا به من الاستعاذة بالله ، والانتهاء عما ألقاه الشيطان ، وقد جعل النبي ( ذلك من علامات الأيمان ، وغيرهم فيصغون إلى تلك الشبهات ، ويعبرون عنها بألفاظ مشتبهات ، لا حرمة لها في نفسها ، وليس لها معنىً يصح ، فيجعلون تلك الألفاظ محكمة لا تقبل التأويل ، فيردون كلام الله ورسوله إليها ، ويعرضونه عليها ، ويحرفونه عن مواضعه لأجلها .
هذه طريقة طوائف أهل البدع المحضة من الجهمية والخوارج والروافض والمعتزلة ومن أشبههم ، وقد وقع في شيء من ذلك كثير من المتأخرين(5/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
المنتسبين إلى السنة من أهل الحديث والفقه والتصوف من أصحابنا وغيرهم في بعض الأشياء دون بعض .
وأما السلف وأئمة أهل الحديث ، فعلى الطريقة الأولى ، وهي الأيمان بجميع ما أثبته الله لنفسه في كتابه ، أو صح عن رسول الله ( أنه أثبته له ، مع نفي التمثيل والكيفية عنه ، كما قاله ربيعة ومالك وغيرهما من أئمة الهدى في الاستواء ، وروي عن أم سلمة أم المؤمنين ، وقال مثل ذلك غيرهم من العلماء في النزول ، وكذلك القول في سائر الصفات ، والله سبحانه وتعالى الموفق .
وقوله ( : ( ( فأكون أول من يجوز بأمته ) ) حتى يقطع الجسر بأمته ، وروي : ( ( يجيز ) ) ، وهما لغتان ، يقال : جزت الوادي وأجزته ، وهما بمعنى .
وعن الأصمعي ، قال : أجزته : قطعته ، وجزته : مشيت عليه .
وقوله : ( ( منهم الموبق بعمله ) ) - أي : الهالك .
وقوله : ( ( ومنهم المخردل ) ) ، هو بالدال المهملة والمعجمة - : لغتان مشهورتان ، والمعنى : المقطع ، والمراد - والله أعلم - : أن منهم من يهلك فيقع في النار ، ومنهم من تقطعه الكلاليب التي على جسر جهنم ، ثم لا ينجو ولا يقع في النار .
وقيل : معناه أنه ينقطع عن النجاة واللحاق بالناجين .
والمقصود من تخريج الحديث بطوله في هذا الباب : أن أهل التوحيد لا تأكل النار منهم مواضع سجودهم ، وذلك دليل على فضل السجود عند الله وعظمته ، حيث حرّم على النار أن تأكل مواضع سجود أهل التوحيد .
واستدل بذلك بعض من يقول : إن تارك الصلاة كافر ؛ فإنه تأكله النار(5/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
كله ، فلا يبقى حاله حال عصاة الموحدين .
وهذا فيمن لم يصلِ لله صلاة قط ظاهر .
وقوله : ( ( امتحشوا ) ) أي : احترقوا ، وضبطت هذه الكلمة بفتح التاء والحاء . وفي بعض النسخ بضم التاء وكسر الحاء .
و ( ( الحبة ) ) - بكسر الحاء - قال الأصمعي : كل نبت له حب فاسم جميع ذلك الحب : الحبة .
وقال الفراء : الحبة : بذور البقل .
وقال أبو عمرو : الحبة نبت ينبت في الحشيش صغار .
وقال الكسائي : الحبة بذر الرياحين ، وأحدها حبة ، وأما الحنطة فهو الحب لا غير - يعني : بالفتح .
و ( ( الحميل ) ) : ما حمله السيل من كل شيء ، فهو حميل بمعنى محمول ، كقتيل بمعنى مقتول .
ويأتي الكلام على باقي الحديث في موضع آخر - إن شاء الله تعالى .(5/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
30 - باب
يبدي ضبعيه ويجافي في السجود
807 - ثنا يحيى بن بكير : حدثني بكر بن مضر ، عن جعفر ، عن ابن هرمز ، عن عبد الله بن مالك بن بحينة ، أن النبي ( كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه .
وقال الليث : حدثني جعفر بن ربيعة - نحوه .
( ( الضبع ) ) - بسكون الباء - : العضد . ويقال : الإبط .
وعن الأصمعي ، قال : الضبعان ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاه .
وابن هرمز ، هو : عبد الرحمن الأعرج .
ورواية الليث بن سعد التي ذكرها تعليقاً ، أسندها مسلم في - صحيحه - من رواية ابن وهب : أنا عمرو بن الحارث والليث بن سعد ، كلاهما عن جعفر بهذا
الإسناد .
وفي رواية عمرو : ( ( كان رسول الله ( إذا سجد يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه ) ) .
وفي رواية الليث : ( ( أن رسول الله ( كان إذا سجد فرج يديه عن إبطيه حتى إني لأرى بياض إبطيه ) ) .
وفي استحباب التجافي في السجود أحاديث كثيرة ، لم يخرج البخاري منها غير هذا .
والقول باستحبابه قول جمهور العلماء ، وذكر الترمذي أن العمل عندهم(5/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
عليه ، وهذا يشعر بأنه إجماع منهم .
ولكن روى نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان إذا سجد ضم يديه إلى جنبيه ولم يفرجهما .
وروى عنه ابنه واقد بن عبد الله ، أن أباه كان يفرج بين يديه .
وروى عنه آدم بن علي ، أنه أمر بذلك .
وقد حمل بعضهم ما رواه نافع على حالة التضايق والازدحام ، وقد يحمل على حالة إطالة السجود ، وعلى ذلك حمله إلاوزاعي وغيره .
وروي عن ابن عمر ، قال : أسجد كيف تيسر عليك .
ورخص ابن سيرين في الاعتماد بمرفقيه على ركبتيه .
وقال قيس بن سكن : كل ذلك قد كانوا يفعلون ، كان بعضهم يضم ، وبعضهم يجافي .
فان أطال السجود ولحقته مشقة بالتفريج ، فله أن يعتمد بمرفقيه على ركبتيه .
وقد روى ابن عجلان ، عن سمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : أشتكى أصحاب رسول الله ( مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا ، فقال : ( ( استعينوا
بالركب ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي - وهذا لفظه - وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) والحاكم .
وزاد هو والإمام أحمد : قال ابن عجلان : وذلك أن يضع مرفقيه على(5/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
ركبتيه إذا طال السجود وأعيا .
ورواه الثوري وابن عيينة وغيرهما ، عن سمي ، عن النعمان بن أبي عياش ، عن النبي ( - مرسلاً .
والمرسل أصح عند البخاري وأبي حاتم الرازي والترمذي والدارقطني وغيرهم .
وقد روي - أيضاً - عن زيد بن أسلم - مرسلاً .
ورخص فيه عمر بن عبد العزيز وإلاوزاعي ومالك في النافلة .
وكذلك قال بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي .
والمنصوص عن أحمد في رواية حرب أنه لا يفعل ، بل يجافي .
ومتى كان التجافي يضر بمن يليه في الصف للزحام فإنه يضم إليه من جناحه - : قاله إلاوزاعي .
وهذا في حق الرجل ، فأما المرأة فلا تتجافى بل تتضام ، وعلى هذا أهل العلم - أيضاً - ، وفيه أحاديث ضعيفة .
وخرّج أبو داود في ذلك حديثاً مرسلاً في ( ( مراسيله ) ) .(5/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
1 - باب
يستقبل بأطراف رجليه القبلة
قاله أبو حميد ، عن النبي ( .
حديث أبي حميد ، قد خرّجه البخاري فيما بعد ، ولفظه : فإذا سجد وضع يديه ، غير مفترش ولا قابضهما ، واستقبل بأطراف رجليه القبلة ، وسيأتي بتمامه في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
وعلقه البخاري - أيضاً - فيما سبق في ( ( باب : فضل استقبال القبلة ) ) وذكرنا هناك الأحاديث وإلاثار في استقبال القبلة بأصابع اليدين والرجلين في السجود ، وأن ابن عمر كان يفعله ، وكذلك الإمام أحمد ، ونص عليه الشافعي .
وخالف فيه بعض أصحابه ، وقالوا : يضع أصابع رجليه من غير تحامل عليها .
ورده عليه صاحب ( ( شرح المهذب ) ) ، وقال : هذا شاذ مردود مخالف للأحاديث الصحيحة ، ولنص الشافعي .
وخرّج البيهقي من حديث البراء بن عازب ، قال : كان رسول الله ( إذا سجد فوضع يديه بإلارض استقبل بكفيه وأصابعه القبلة .
وفي رواية له - أيضاً - : وإذا سجد وجه أصابعه قبل القبلة فتفلج .
وفي إلاسنادين مقال .(5/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
2 - باب
إذا لم يتم سجوده
808 - ثنا الصلت بن محمد : ثنا مهدي ، عن واصل ، عن أبي وائل ، عن
حذيفة ، أنه رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده ، فلما قضى صلاته ، قال له حذيفة : ما صليت - وأحسبه قال - : لو مت على غير سنة محمد ( .
قد تقدم هذا الحديث في ( ( باب : إذا لم يتم الركوع ) ) من وجه آخر عن
حذيفة ، وفيه : لو مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمد ( - من غير شك .
ويستدل بهذه الرواية على أن المراد بالفطرة السنة .
ومعنى إتمام الركوع والسجود : التمكن فيهما والطمأنينة . وسبق الكلام على ذلك .(5/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
3 - باب
السجود على سبعة أعظم
809 - حدثنا قبيصة : ثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : أمر رسول الله ( أن يسجد على سبعة أعضاء ، ولا يكف شعراً ، ولا ثوباً : الجبهة ، واليدين ، والركبتين ، والرجلين .
810 - حدثنا مسلم بن إبراهيم : ثنا شعبة ، عن عمرو ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي ( ، قال : ( ( أُمرنا أن نسجد على سبعة أعظم ، ولا نكف ثوباً ، ولا شعراً ) ) .
811 - حدثنا آدم : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن يزيد : قال البراء بن عازب - وهو غير كذوب - : كنا نصلي خلف رسول الله ( ، فإذا قال : ( ( سمع الله لمن حمده ) ) . لم يحن أحد منا ظهره حتى يضع النبي ( جبهته على الأرض .
حديث البراء هذا ، قد سبق في مواضع ، وإنما خرجه هاهنا ؛ لما فيه من ذكر سجود النبي ( على جبهته .
فأما حديث ابن عباس ، فقد خرجه هاهنا من طريق سفيان وشعبة ، كلاهما عن عمرو بن دينار ، وفي حديث سفيان : ذكر الأعضاء وعددها .
وللحديث طرق عن طاوس ، يأتي بعضها - إن شاء الله .
وله طرق عن ابن عباس .(5/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
وقد روي عن النبي ( من وجوه متعدده ، أصحها : حديث ابن عباس هذا .
وروى عامر بن سعد ، عن العباس بن عبد المطلب ، أنه سمع النبي ( يقول :
( ( إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب : وجهه ، وكفاه ، وركبتاه ، وقدماه ) ) .
وقد عزاه غير واحد من الحفاظ إلى ( ( صحيح مسلم ) ) ، ولم نجده فيه .
وصححه الترمذي وأبو حاتم الرازي .
وقد روي هذا المعنى عن عمر وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة من قولهم .
قال أبو هريرة : يسجد من الإنسان سبعة : وجهه ، ويداه ، وركبتاه ، وأطراف أصابعة ، كل ذلك بمنزلة الوجه ، لا يرفع شيئا من ذلك .
خرّجه الجوز جاني .
وقال ابن سيرين : كانوا يستحبون السجود على هذه السبعة .
خرّجه ابن أبي شيبة .
وقال الترمذي : عليه العمل عند أهل العلم .
ولا خلاف في أن السجود على هذه الأعضاء هو السجود الكامل ، واختلفوا في الواجب من ذلك :
فقالت طائفة : يجب السجود على جميعها ، وهو أحد القولين للشافعي ، ورجحه كثير من أصحابه ، والصحيح المشهور عن أحمد ، وعليه أصحابه ،(5/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
وأكثرهم لم يحك عنه فيه خلافا ، وهو قول مالك وإسحاق وزفر ، وحكى عن طاوس .
ويدل على هذا القول : هذه الأحاديث الصحيحة بالامر بالسجود على هذه الأعضاء كلها ، والامر للوجوب .
وقالت طائفة : إنما يجب بالجبهة فقط ، ولا يجب بغيرها ، وهو القول الثاني للشافعي ، وحكي رواية عن أحمد ، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه .
والمنقول عن أحمد فيمن سجد ورفع أطراف أصابع قدميه من الأرض : أنه ناقص الصلاة ، وتوقف في الإعادة على من صلى وسجد وقد رفع إحدى رجليه ، وقال : قد روي عن النبي ( : ( ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ) ) .
ورأى مسروق رجلاً ساجداً قد رفع رجليه أو إحداهما ، فقال : أن هذا لم يتم صلاته .
وروي عن أحمد ، أنه صلى وسجد ووضع ثلاث أصابع رجليه على الأرض .
قال القاضي أبو يعلي : ظاهر هذا : أنه يجزئه ، يضع بعض أصابع رجليه .
ونقل إسماعيل بن سعيد ، عن أحمد : إذا وضع من يديه على الأرض قدر الجبهة أجزأه .
قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر : وكذا من الرجلين .
وقال القاضي أبو يعلى : يجزئه أن يضع من يديه وجبهته على الأرض شيئاً ، وإن قل .
ومن أصحابنا من حكى الإجماع على ذلك .
وهذا مخالف لرواية الشالنجي ؛ فانها تدل على أنه لا يجزئ دون وضع الجبهة ، وقدرها من الكفين .
وحكي عن ابن حامد من أصحابنا : أنه يجب استيعاب الكفين بالسجود(5/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
عليهما ، وهو قول أبي خيثمة بن حرب .
وقال داود بن سلمان الهاشمي : إذا وضع أكثر كفيه أجزأه .
ومذهب الشافعي الذي عليه أكثر أصحابه ، ونص عليه في ( ( إلام ) ) : أنه لو سجد على بعض جبهته كره ، وأجزأه .
ولأصحابه وجه : لا يجزئه حتى يسجد على جميع الجبهة .(5/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
4 - باب
السجود على الأنف
812 - حدثنا معلى بن أسد : ثنا وهيب ، عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قال النبي ( : ( ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : على الجبهة ) ) - وأشار بيده على أنفه - ( ( واليدين ، والركبتين ، وأطراف القدمين ، ولا نكفت الثياب والشعر ) ) .
معنى ( ( نكفت ) ) - أي : نضم ونجمع ، ومنه قوله تعالى : ( أَلَمْ نَجْعَلِ إلاَرْضَ كِفَاتاً ( أَحْيَاءً وأَمْوَاتاً ( [ المرسلات : 25 ، 26 ] أي : نكفتهم ونضمهم ونجمعهم وهم أحياء على ظهرها ، وإذا ماتوا ففي بطنها .
وفي هذه الرواية : أنه لما ذكر الجبهة أشار بيده إلى أنفه ، وقد خرّجه مسلم من حديث وهيب ، وخرّجه - أيضاً - من طريق ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، أن رسول الله ( قال : ( ( أمرت أن أسجد على سبع ، ولا أكفت الشعر ولا الثياب : الجبهة وإلانف واليدين ، والركبتين ، والقدمين ) ) .
واستدل بهذا من يقول : أنه يجب السجود على الأنف مع الجبهة ، وهو قول مالك وأحمد - في رواية عنهما - وإسحاق ، وأختار هذه الرواية عن أحمد أبو بكر عبد العزيز وغيره من أصحابنا - وأبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة .
وحكي قولاً للشافعي ، رجحه بعض المتأخرين من أصحابه ، إلا أنه خصه بحال الذكر .(5/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
وروي معناه عن طاوس والنخعي وسعيد بن جبير .
وروي عن ابن عمر ، قال : السجود على الأنف تحقيق السجود .
وسئل طاوس : الأنف من الجبين ؟ قال : هو خيره .
وروى عاصم ، عن عكرمة ، قال : رأى النبي ( رجلاً يصلي لا يمس أنفه الأرض ، قال : ( ( لا تقبل صلاة لا يمس فيها الأنف ما يمس الجبين ) ) .
وخرّجه الدارقطني والحاكم - موصولاً - ، عن ابن عباس ، عن النبي ( .
وصحح الحاكم وصله ، وصحح إلاكثرون إرساله ، منهم : أبو داود في ( ( مراسيله ) ) والترمذي في ( ( علله ) ) والدارقطني وغيرهم .
وإلى ذلك يميل الإمام أحمد ، وهو مرسل حسن .
ولو اقتصر على السجود على أنفه دون جبهته ، لم يجزئه عند أحد من العلماء ممن أوجب السجود على الأنف ، غير أبي حنيفة ، وهي رواية عن الثوري ، رواها عنه
حسان بن إبراهيم .
وقال كثير من العلماء : السجود على الأنف مستحب غير واجب ، وروي عن الحسن والشعبي والقاسم وسالم ، وهو قول الشافعي وسفيان وأحمد - في(5/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
الرواية الثانية عنهما .
وحمل من قال بذلك حديث ابن عباس على الاستحباب دون الوجوب ، قالوا : لأنه عد الأعضاء المأمور بالسجود عليها سبعاً ، ولو كان الأنف معها لكانت ثمانياً .
وهذا مردود ، فان الأنف من الجبهة ، كما قال طاوس : هو خيرها .
وروي عنه ، أنه كان يعد الأنف والجبهة واحداً .
فان قيل : فالجبهة لا يجب السجود على جميعها بإلاجماع ، ولو وجب السجود على الأنف لوجب استيعابها بالسجود عليها .
قيل : هذا الإجماع غير صحيح ، وقد سبق قول من قال بوجوب استيعابها بالسجود عليها .
ولكن ؛ قد قيل : إن ذكر الأنف منها إنما هوَ من كلام طاوس - : قاله البيهقي وغيره .
وفي ( ( سنن ابن ماجه ) ) من رواية ابن عيينة ، عن ابن طاوس هذا الحديث ، وفيه : قال ابن طاوس : وكان أبي يقول : الركبتين واليدين والقدمين ، وكان يعد الجبهة وإلانف واحداً .
كذا خرّجه عن هشام بن عمار ، عن سفيان .
وخرّجه النسائي من طريق سفيان - أيضاً - ، وعنده : قال سفيان : قال لنا ابن طاوس : وضع يديه على جبهته ، وأمرها على أنفه ، وقال : هذا واحد .
ورواه - أيضاً - الشافعي وابن المديني ، عن ابن عيينة ، عن ابن طاوس ، عن أبيه - بمعناه .(5/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
خرّجه البيهقي .
وقال : في حديث سفيان ما دل على أن ذكر الأنف في الحديث من تفسير
طاوس .
وخرّجه - أيضاً - من طريق إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : أمر النبي ( أن يسجد منه على سبع ، قال ابن ميسرة : فقلت لطاوس : أرابت الأنف ؟ قالَ : هوَ خيره .
وأيضاً ؛ فقد قال : ( ( سبعة أعظم ) ) ، وطرف الأنف المسجود عليه ليس عظماً ، فعلم أنه تابع لعظم الجبهة ، وليس عضواً مستقلاً .
فلو تعذر السجود على الجبهة لعذر ، وقدر على السجود على أنفه ، فهل يلزمه عند من لا يوجب السجود عليه ؟ فيه قولان :
أحدهما : نعم ، وينتقل الفرض إليه ، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه والشافعي .
والثاني : لا ينتقل الفرض إليه ، بل يومي بجبهته ، ولا يلزمه السجود على أنفه ، وهو قول مالك وأصحابنا ، كما لا ينتقل فرض غسل اليدين والرجلين في الوضوء إلى موضع الحلية ، إذا قدر على غسله ، وعجز عن غسل اليدين والرجلين .(5/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
5 - باب
السجود على الأنف في الطين
813 - حدثنا موسى : ثنا همام ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، قال : انطلقت إلى أبي سعيد الخدري ، فقلت : إلا تخرج بنا إلى النخل نتحدث ؟ فخرج ، فقلت : حدثني ما سمعت من رسول الله ( في ليلة القدر ؟ فقال : اعتكف رسول الله ( عشر الأول من رمضان ، واعتكفنا معه ، فأتاه جبريل ، فقال : ( ( أن الذي تطلب أمامك ) ) ، فأعتكف العشر الأوسط ، فاعتكفنا معه ، فأتاه جبريل ، فقال : ( ( أن الذي تطلب أمامك ) ) ، فقام النبي ( خطيباً صبيحة عشرين من رمضان ، فقال : ( ( من كان أعتكف مع النبي ( فليرجع ؛ فأني أريت ليلة القدر وإني نسيتها ، وإنها في العشر الأواخر في وتر ، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء ) ) ، وكان سقف المسجد عريش النخل ، وما نرى السماء شيئاً ، فجاءت قزعة ، فامطرنا ، فصلى بنا رسول الله ( ، حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله ( ، وأرنبته ، تصديق رؤياه ) ) .
قال أبو عبد الله : كان الحميدي يحتج بهذا الحديث ، إلا يمسح الجبهة في الصلاة ، بل يمسحها بعد الصلاة ، لأن النبي ( رُئي الماء في أرنبته وجبهته بعد ما صلى .
قد خرّج البخاري هذا الحديث في أواخر ( ( الصيام ) ) من ( ( كتابه ) ) هذا من(5/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
طرق ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد ، ليس في شيء منها ذكر اعتكاف النبي ( في العشر الأول ، إنما فيها اعتكافه في العشر الأوسط ، ثم العشر الأواخر ، ولم يخرج اعتكافه في العشر الأول في غير هذه الرواية هاهنا .
وقد خرّج ذلك مسلم في ( ( صحيحه ) ) من رواية عمارة بن غزية ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد - أيضاً .
ومقصود البخاري بهذا الحديث هاهنا : ذكر سجود النبي ( على جبهته وأرنبة أنفه ، وأنه سجد عليهما في الطين .
وأرنبة الأنف : طرفه .
وقد سبق ذكر السجود في الماء والطين ، وما للعلماء في ذلك من الاختلاف والتفصيل ، عند ذكر البخاري ، عن ابن عمر ، أنه صلى على الثلج في ( ( باب : الصلاة في المنبر والسطوح والخشب ) ) ، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا .
وأما ما ذكره عن الحميدي ، فقد بوّب عليه البخاري باباً منفرداً ، وعاد فيه الحديث مختصرا ، ويأتي في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى .(5/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
6 - باب
عقد الثياب وشدها
ومن ضم إليه ثوبه إذا خاف أن تنكشف عورته
814 - حدثنا محمد بن كثير : أنا سفيان ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : كان الناس يصلون مع النبي ( عاقدي أزرهم من الصغر على رقابهم ، فقيل للنساء : لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوساً .
قد خرّج البخاري هذا الحديث فيما سبق في ( ( باب : إذا كان الثوب ضيقاً ) ) .
ومقصودة بتخريجه في هذا الباب : أن عقد الثياب وشدها وضمها في الصلاة إذا كان لضيق الثوب أو تخرقه خشية انكشاف العورة منه ، فإنه جائز غير مكروه ، فإذا كان عليه إزار صغير ، فعقده على منكبه ليستر به منكبه وعورته فهو حسن .
واختلفت الرواية عن أحمد في كراهة شد الوسط في الصلاة ، فكرهه في رواية ، وقال : هو تشبه بأهل الكتاب ، ورخص فيه في رواية .
فمن الأصحاب من قال : عنه في كراهته روايتان .
ومنهم من قال : هما منزلان على حالين : فإن كان يشبه شد الزنار كره ، وإلا لم يكره ، بل يستحب ، خصوصاً لمن ليس عليه إزار ولا سراويل ؛ لأنه أستر لعورته .
وقد نص أحمد على التفريق بينهما ، وقال إسحاق بن هاني في(5/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
( ( مسائله ) ) : سألت أحمد عن الرجل يصلي مشدود الوسط ؟ فقال : هو عندي أسهل ، إذا كان يريد بشد وسطه أن لا يتترب ثوبه ، فلا يصلي مشدود الوسط إلا أن يكون لعمل .
ومعنى هذه الرواية : إن شد وسطه خشية أن يصيبه التراب في سجوده كره له ذلك ؛ لمّا فيهِ من التكبر ، فان ترتيب المصلى بدنه وثيابه من الخشوع والتواضع لله
عز وجل ، وان كان شده لغير ذلك من عمل يعمله لم يكره .
وفهم طائفة من أصحابنا من كلام أحمد عكس هذا ، ولا وجه لذلك .
وقال الشعبي : كان يقال : شد حقوك في الصلاة ولو بعقال .
وقال يزيد بن الأصم وإبراهيم النخعي شد حقوك ولو بعقال .
وروى شعبة ، عن يزيد بن خمير ، عن مولى لقريش ، قال : سمعت أبا هريرة يحدث معاوية ، قال : نهى رسول الله ( أن يصلي الرجل حتى يحتزم .
خرّجه الإمام أحمد .
وخرّجه أبو داود ، ولفظه : نهى أن يصلي الرجل بغير حزام واستدل به أحمد على أنه لا يكره شد الوسط في الصلاة .(5/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
7 - باب
لا يكف شعراً
815 - حدثنا أبو اليمان : نا حماد - هو ابن زيد - ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : أمر النبي ( أن يسجد على سبعة أعظم ، ولا يكف
ثوبه ، ولا شعره .
كف الشعر المنهي عنه ، يكون تارة بعقصه ، وتاره بإمساكه عن أن يقع على الأرض في سجوده ، وكله منهي عنه .
أما الأول :
ففي ( ( صحيح مسلم ) ) عن كريب ، أن ابن عباس رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص من ورائه ، فجعل يحله ، وأقر له الأخر ، فلما انصرف أقبل إلى ابن عباس ، فقال : مالك ورأسي ؟ فقال : إني سمعت رسول الله ( يقول : ( ( إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف ) ) .
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من حديث أبي رافع ، أنه مر بالحسن بن علي وهو يصلي ، وقد عقص ضفيرته في قفاه ، فحلها ، فالتفت أليه الحسن مغضبا ، فقال : أقبل على صلاتك ولا تغضب ، فإني سمعت
رسول الله ( يقول : ( ( ذلك كفل الشيطان ) ) .
وقال الترمذي : حديث حسن .
وخرّجه الإمام أحمد وابن ماجه من وجه آخر ، عن أبي رافع ، أنه رأى(5/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
الحسن بن علي يصلي وقد عقص شعره ، فاطلقه - أو نهى عنه - ، وقال : نهى رسول الله ( أن يصلي الرجل وهو عاقص شعره .
وفي باب أحاديث أخر .
وممن نهى عن الصلاة مع عقص الشعر : علي وابن مسعود وأبو هريرة ، وقالا : إن الشعر يستجد مع صاحبه .
زاد ابن مسعود : وله بكل شعرة حسنة .
وفي رواية : أن رجلاً قال لابن مسعود : إني أخاف أن يتترب ، قال : تربه خير لك .
وعن عثمان بن عفان ، قال : مثل الذي يصلي وقد عقص شعره مثل الذي يصلي وهو مكتوف .
وقطع حذيفة ضفيرة ابنه لما رآه يصلي وهو معقوص .
وأما الثاني :
فقال ابن سيرين : نبئت أن عمر بن الخطاب مر على رجل قد طوّل شعره ، كلما سجد قال هكذا ، فرفع شعره بظهور كفيه ، فضربه ، وقال : إذا طول أحدكم فليتركه يسجد معه .
وروى عبد الله بن محرر ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : رأى النبي ( رجلاً يسجد وهو يقول بشعره هكذا بكفه بكفه عن التراب ، فقال : ( ( اللهم ، قبح شعره ) ) قال : فسقط .
خرّجه ابن عدي .(5/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
وابن محرر ، ضعيف جداً من قبل حفظه ، وكان شيخاً صالحاً .
قال الإمام أحمد : إذا صلى فلا يرفعن ثوبه ولا شعره ولا شيئاً من ذلك ؛ لأنه يسجد .
وكف الشعر مكروه كراهة تنزيه عند أكثر الفقهاء ، وحرمه طائفة من أهل الظاهر وغيرهم ، وأختاره ابن جرير الطبري ، وقال : لا إعادة على من فعله ، لإجماع الحجة وراثة عن نبيها - عليه السلام - أن لا إعادة عليه .
وحكى ابن المنذر الإعادة منه عن الحسن .
ورخص فيه مالك إذا كان ذلك قبل الصلاة ، لمعنى غير الصلاة ، وسنذكره - إن شاء الله سبحانه وتعالى .(5/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
8 - باب
لا يكف ثوبه في الصلاة
816 - حدثنا موسى بن إسماعيل : ثنا أبو عوانة ، عن عمرو ، عن طاوس عن أبن عباس ، عن النبي ( ، قال : ( ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ، ولا أكف شعراً ولا ثوباً ) ) .
ظاهر تبويب البخاري : يدل على أن النهي عنده عن كف الثياب مختص بفعل ذلك في الصلاة نفسها ، فلو كفها قبل الصلاة ، ثم صلى على تلك الحال لم يكن منهياً عنه .
وهذا قول مالك ، قال : إن كان يعمل عملاً قبل الصلاة فشّمر كمه أو ذيله ، أو جمع شعره لذلك فلا بأس أن يصلي كذلك ، كما لو كان ذلك هيئته ولباسه ، وإن فعل ذلك للصلاة ، وإن يصون ثوبه وشعره عن أن تصيبها الأرض كره ؛ لأن فيه ضرباً من التكبر وترك الخشوع .
قال بعض أصحابنا : وقد أومأ إلى ذلك أحمد في رواية محمد بن الحكم ، فقال : قلت لأحمد : الرجل يقبض ثوبه من التراب إذا ركع وسجد ؛ لئلا يصيب ثوبه ؟ قال : لا ؛ هذا يشغله عن الصَّلاة .
قلت : ليس في هذه الرواية دليل على اختصاص الكراهة بهذه الصورة ، إنما بها تعليل الكراهة في الصَّلاة بالشغل عنها ، وقد تعلل كراهة استدامة ذلك في الصلاة بعلة أخرى ، وهي سجود الشعر والثياب ، كما صّرح به في رواية أخرى ، وقد يعلل الحكم الواحد بعلتين ، فكراهة الكف في الصلاة له علتان ، وكراهة الكف قبل الصلاة واستدامته لها معلل بإحداهما .(5/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
وأكثر العلماء على الكراهة في الحالين ، ومنهم : إلاوزاعي والليث وأبو حنيفة والشافعي ، وقد سبق عن جماعة من الصحابة ما يدل عليه ، منهم : عمر وعثمان وابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبو رافع وغيرهم .
وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يحل شعره وينشره إذا أراد الصلاة ، ويعقصه بعد ذلك .
وقال عطاء : لا يكف الشعر عن الأرض .
وظاهر تبويب البخاري : يدل على أن كف الشعر في الصلاة مكروه ، سواء فعله في الصلاة أو قبلها ثم صلى كذلك ، بخلاف كف الثوب ، فإنه إنما يكره فعله في الصَّلاة خاصة ؛ لما فيه من العبث .
والجمهور على التسوية بينهما .
وقد كره أحمد كف الخف في الصلاة ، وجعلها من كف الثياب .(5/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
9 - باب
التسبيح والدعاء في السجود
817 - حدثنا مسدد : ثنا يحيى ، عن سفيان ، قال : حدثني منصور ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : كان النبي ( يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : ( ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم أغفر لي ) ) يتأول القرآن .
- قد تقدم هذا الحديث في ( ( باب : الدعاء في الركوع ) ) من حديث شعبة ، عن منصور - بنحوه .
وفي هذه الرواية : زيادة ذكر الإكثار .
وفيها - أيضاً - أنه يتأول القرآن ، والمراد : أنه يمتثل ما أمره الله به بقوله :
( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ( [ النصر : 3 ] .
فتأويل القرآن ، تارة يراد به تفسير معناه بالقول ، وتارة يراد به امتثال أوامره بالفعل .
وبهذا يقال : من ارتكب شيئاً من الرخص لتأويل سائغ أو غيره : أنه فعله
متأولاً .
وقد سبق ذكر حكم التسبيح في السجود والدعاء فيه ( ( في باب : الدعاء في الركوع ) ) .(5/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
40 - باب
المكث بين السجدتين
فيه ثلاثة أحاديث :
الأول :
818 - حدثنا أبو النعمان : ثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، أن مالك بن الحويرث قال لأصحابه : إلا أنبئكم صلاة النبي ( ؟ - قالَ : وذلك في غير حين صلاة - ، فقام ، ثُمَّ ركع فكبرّ ، ثُمَّ رفع رأسه ، فقام هنية ، ثُمَّ سجد ، ثُمَّ رفع رأسه
هنية ، فصلى صلاة عمرو بن سلمة ، شيخنا هذا .
قال أيوب : كان يفعل شيئاً لم أرهم يفعلونه ، كان يقعد في الثالثة أو الرابعة .
819 - قال : فأتينا النبي ( ، فاقمنا عنده ، فقال : ( ( لو رجعتم إلى أهاليكم ، صلوا صلاة كذا في حين كذا ، وصلوا صلاة كذا في حين كذا ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ، وليؤمكم أكبركم ) ) .
قد سبق هذا الحديث في مواضع ، تاماً ومختصراً .
والمراد منه في هذا الباب : أن النبي ( كان إذا سجد رفع رأسه هنية ، والمراد : أنه يجلس بين السجدتين هنية ، ثم يسجد السجدة الثانية .
الحديث الثاني :
820 - ثنا محمد بن عبد الرحيم : ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله الزبيري : ثنا مسعر ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن البراء ، قال : كان سجود النبي ( وركوعه وقعوده بين السجدتين قريباً من السواء .(5/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
الحديث الثالث :
821 - ثنا سليمان بن حرب ، ثنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك ، قال : اني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله ( يصلي بنا .
قال ثابت : كان أنس بن مالك يصنع شيئاً لم أركم تصنعونه ، كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل : قد نسي ، وبين السجدتين حتى يقول القائل : قد نسي .
وقد تقدمت هذه الأحاديث الثلاثة في ( ( باب : الرفع من الركوع ) ) .
وحكم الرفع من السجود والجلوس بين السجدتين حكم الرفع من الركوع ، على ما سبق ذكره .
وذكرنا هنالك : أن تطويل النبي ( لذلك في حديث أنس إنما كان حين يطيل القيام والركوع والسجود ، وأن تخفيفه كما في حديث مالك بن الحويرث كان إذا لم يطل القيام والركوع والسجود ، وأن حديث البراء بن عازب يفسر ذلك ، حيث قال : كان سجوده وركوعه وقعوده بين السجدتين قريباً من السواء .
ولم يخرج البخاري في الدعاء والذكر بين السجدتين شيئاً ؛ فإنه ليس في ذلك شيء على شرطه .
وفيه : عن ابن عباس ، أن النبي ( كان يقول بين السجدتين : ( ( اللهم ، أغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني ) ) .
خرّجه أبو داود .
والترمذي ؛ وعنده : ( ( وأجبرني ) ) بدل : ( ( عافني ) ) .
وابن ماجه ، وعنده : ( ( وارفعني ) ) بدل : ( ( اهدني ) ) ، وعنده : أنه كان(5/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
يقوله في صلاة الليل .
وفي إسناده كامل بن العلاء ؛ وثقه ابن معين وغيره ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وتكلم فيه غير واحد .
وقد اختلف عليه في وصله وإرساله .
وقد روي هذا من حديث بريدة - مرفوعاً - ، وإسناده ضعيف جداً .
وروي عن علي بن أبي طالب - موقوفاً عليه - ، وعن المقدام بن معدي كرب .
وخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث حذيفة ، أن النبي ( كان يقول بين السجدتين : ( ( رب اغفر لي ) ) .
واستحب الإمام أحمد ما في حديث حذيفة ، فإنه أصح عنده من حديث ابن عباس ، وقال : يقول : ( ( رب اغفر لي ) ) ثلاث مرات ، أو ما شاء .
ومن أصحابه من قال : يقولها مرتين فقط .
ومنهم من قال : يقولها ثلاثاً كتسبيح الركوع والسجود ، وحمل حديث حذيفة أنه كان يكرر ذلك ؛ فإن في حديثه : أن جلوسه بين السجدتين كان نحوا من سجوده .
وروي عن أكثر العلماء استحباب ما في حديث ابن عباس ، منهم : مكحول والثوري وأصحاب الشافعي .
وقال إسحاق : كله جائز ، وعنده : إن قال ما في حديث ابن عباس لم يكرره ، وإن قال : ( ( رب اغفر لي ) ) كرره ثلاثاً .
وحكم هذا الذكر بين السجدتين عند أكثر أصحاب أحمد حكم التسبيح في(5/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
الركوع والسجود ، وأنه واجب تبطل الصلاة بتركه عمداً ، ويسجد لسهوه .
وروي عن أحمد ، أنه ليس بواجب :
قال حرب : مذهب أحمد : أنه إن قال جاز ، وإن لم يقل جاز ، والأمر عنده واسع .
وكذا ذكر أبو بكر الخلال ، أن هذا مذهب أحمد .
وهذا قول جمهور العلماء .
وحكي عن أبي حنيفة ، أنه ليس بين السجدتين ذكر مشروع بالكلية .
وعن بعض أصحابه ، أنه يسبح فيه .(5/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
1 - باب
لا يفترش ذراعيه في السجود
وقال أبو حمُيد : سجد النبي ( ، ووضع يديه ، غير مفترش ، ولا قابضهما .
حديث أبي حميد ، قد خرّجه البخاري ، وسيأتي بتمامه قريباً - إن شاء الله تعالى .
822 - حدثنا محمد بن بشار : ثنا محمد بن جعفر : ثنا شعبة ، قال : سمعت قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي ( ، قال : ( ( اعتدلوا في السجود ، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب ) ) .
في هذا الإسناد : التصريح بالسماع من أوله إلى قتادة ، وليس فيه تصريح بسماع قتادة له من أنس ، وقتادة مدلس كما قد عرف .
وخرّجه الترمذي من طريق أبي داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن قتادة : سمعت أنساً .
وكذلك خرّجه النسائي من طريق خالد الواسطي ، عن شعبة .
فصح اتصاله كله . ولله الحمد .
وفي النهي عن افتراش الذراعين في السجود أحاديث أخر :
وقد خرج مسلم من حديث عائشة ، أن النبي ( نهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع .(5/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
ومن حديث البراء ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا سجدت فضع يديك ، وارفع مرفقيك ) ) .
وقد ذكر الترمذي أن العمل على هذا عند أهل العلم ، يختارون الاعتدال في السجود .
وهذا يشعر بحكاية الإجماع عليه ، وهو قول جمهور العلماء ، وروي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر .
وفي ( ( المسند ) ) عن شعبة مولى ابن عباس ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال : أن مولاك إذا سجد وضع رأسه وذراعيه وصدره بالارض ، فقال له ابن عباس : ما يحملك على ما تصنع ؟ قال : التواضع . قال : هكذا ربضة الكلب ، رأيت النبي ( إذا سجد رئي بياض إبطيه .
ولكن ؛ روي عن ابن مسعود ، أنه كان يفرش ذراعيه .
قال الإمام أحمد - في رواية ابنه عبد الله - : كان ابن مسعود يذهب إلى ثلاثة أشياء : إلى التطبيق ، وإلى افتراش الذراعين ، وإذا كانوا يقوم في وسطهم ، وقد روي عن النبي ( أنه كان يجافي في السجود ، ولم تبلغه هذه الآثار .
وروى ابن أبي شيبة منة غير وجه ، عن ابن مسعود ، أنه قال : اسجدوا حتى بالمرفق .
وبإسناده ، عن الحكم بن الأعرج ، قال : أخبرني من رأى أبا ذر مسوداً(5/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
ما بين رصغه إلى مرفقه .
وقوله : ( ( اعتدلوا في السجود ) ) يريد به : اعتدال الظهر فيه ، وذلك لا يكون مع افتراش الذراعين ، إنما يكون مع التجافي .
وقول أبي حميد : ( ( ولا قابضهما ) ) ، يعني : أنه بسط كفيه ، ولم يقبضهما .(5/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
2 - باب
من استوى قاعداً في وتر من صلاته ثم نهض
832 - ثنا محمد بن الصباح : ثنا هشيم : أنا خالد ، عن أبي قلابة : انا مالك بن الحويرث الليثي ، أنه رأى النبي ( يصلي ، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً .
وقد خرّجه في الباب الأتي من طريق أيوب ، عن أبي قلابة ، عن مالك ، وفي حديثه : أنه جلس واعتمد على الأرض ، ثم قام .
وقد سبق من وجه آخر بهذا الإسناد ، وفيه : كان يقعد في الثالثة أو الرابعة .
وهذا لا معنى له ؛ لأن قعوده في الرابعة لابد منه للتشهد .
وروى هذا الحديث أنيس بن سوار الحنفي ، قال : حدثني أبي ، قال : كنت مع أبي قلابة ، فجاءه رجل من بني ليث ، يقال له : مالك بن الحويرث ، من أصحاب النبي ( ، فقال : إلا أريكم كيف كان رسول الله ( يصلي ؟ قلنا : بلى ، فصلى لنا ركعتين ، فأوجز فيهما .
قال أبي : فاختلفت أنا وأبو قلابة ، قال أحدنا : لزق بالارض ، وقال الأخر : تجافى .
خرّجه الخلال في ( ( كتاب العلل ) ) .
وقال الإمام أحمد في حديث مالك بن الحويرث في الاستواء إذا رفع رأسه(5/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
من السجدة الثانية في الركعة الأولى ، قال : هو صحيح ، إسناده صحيح .
وقال - أيضاً - : ليس لهذا الحديث ثان .
يعني : أنه لم ترو هذه الجلسة في غير الحديث .
وهذا يدل على أن ما روي فيه هذه الجلسة من الحديث غير حديث مالك بن الحويرث ، فانه غير محفوظ ، فإنها قد رويت في حديث أبي حميد وأصحابه في صفة صلاة النبي ( .
خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه .
وذكر بعضهم أنه خرّجه أبو داود والترمذي ، وإنما خرّجا أصل الحديث ، ولم نجد في ( ( كتابيهما ) ) هذه اللفظة .
والظاهر - والله أعلم - : إنها وهم من بعض الرواة ، كرر فيه ذكر الجلوس بين السجدتين غلطاً .
وبعضهم ذكر سجوده ، ثم جلوسه ، ثم ذكر أنه نهض .
كذا في رواية الترمذي وغيره .
فظن بعضهم ، أنه نهض عن جلوسٍ ، وليس كذلك ، إنما المراد بذلك الجلوس : جلوسه بين السجدتين ، ولم يذكر صفة الجلسة الثانية لاستغنائه عنها بصفة الجلسة
الأولى .
وقد خرج أبو داود حديث أبي حميد وأصحابه من وجه آخر ، وفيه : أنه
سجد ، ثم جلس فتورك ، ثم سجد ، ثم كبر فقام ولم يتورك .(5/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
وهذه الرواية صريحة في أنه لم يجلس بعد السجدة الثانية .
ويدل عليه : أن طائفة من الحفاظ ذكروا أن حديث أبي حميد ليس فيه ذكر هذه الجلسة .
واستدل بعضهم - أيضاً - بالحديث الذي خرّجه البخاري في ( ( صحيحه ) ) هذا في ( ( كتاب الاستئذان ) ) و ( ( أبواب السلام ) ) في ( ( باب من رد فقال : عليك السلام ) ) ، خرج فيه حديث المسيء في صلاته ، من رواية ابن نمير ، عن عبيد الله بن عمر ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، أن رجلاً دخل المسجد فصلى ، ثم جاء فسلم - فذكر الحديث بطوله ، وفيه : أن النبي ( قال له : ( ( إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة فكبر ، ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ، ثم ارفع حتى تستوي قائماً ، ثم أسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ) ) .
قال : وقال أبو أسامة في الأخير : ( ( حتى تستوي قائماً ) ) .
يعني : أنه ذكر بدل الجلوس : القيام .
ثم خرّج من حديث يحيى القطان ، عن عبيد الله ، عن سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن النبي ( قال : ( ( ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ) ) .
يعني : أنه وافق ابن نمير في ذكر الجلوس .
فهذه اللفظة قد اختلف فيها في حديث أبي هريرة هذا ، فمن الرواة من ذكر(5/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
أنه أمره بالجلوس بعد السجدتين ، ومنهم من ذكر أنه أمره بالقيام بعدهما ، وهذا هو ألاشه ؛ فإن هذا الحديث لم يذكر أحد فيه أن النبي ( علمه شيئاً من سنن الصلاة المتفق عليها ، فكيف يكون قد أمره بهذه الجلسة ؟ هذا بعيد جداً .
ثم وجدت البيهقي قد ذكر هذا ، وذكر أن أبا أسامة اختلف عليه في ذكر هذه الجلسة الثانية بعد السجدتين . قال : والصحيح عنه : أنه قال بعد ذكر السجدتين : ( ( ثم ارفع حتى تستوي قائماً ) ) .
قال : وقد رواه البخاري في ( ( صحيحه ) ) عن إسحاق بن منصور ، عن أبي أسامة - وذكر رواية ابن نمير ، ولم يذكر تخريج البخاري لها ، ولم يذكر يحيى بن سعيد في روايته السجود الثاني ، ولا ما بعده من القعود أو القيام .
قال : والقيام أشبه بما سيق الخبر لأجله من عد الأركان دون السنن . والله أعلم .
قلت : وهذا يدل على أن ذكر الجلسة الثانية غير محفوظة عن يحيى .
وفي حديث يحيى بن خلاد الزرقي ، عن أبيه ، عن عمه رفاعة بن رافع ، عن النبي ( ، أنه علم المسيء في صلاته ، وقال له بعد أن أمره بالسجود ، ثم بالقعود ، ثم بالسجود ، فقال له : ( ( ثم قم ) ) .
وخرّجه الإمام أحمد بهذا اللفظ .
واستدل به على أنه لا يجلس قبل قيامه .
وخرّجه الترمذي - أيضاً - ، وحسنه .
مع أن حديث رفاعة هذا فيه تعليم النبي ( لهذا المسيء أشياء من مسنونات الصلاة .(5/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
وقد روي في حديث رفاعة هذا : أن النبي ( قال له : ( ( ثم انهض قبل أن تستوي قاعداً ) ) .
خرّجه الحافظ أبو محمد الحسن بن علي الخلال .
ولكن إسناده ضعيف .
وخرج الإمام أحمد من حديث شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، أن أبا مالك الأشعري جمع قومه ، فقال : اجتمعوا أعلمكم صلاة النبي ( - فذكر
الحديث ، وفيه : أنه صلى بهم ، وذكر صفة صلاته ، وقال فيها : ثم كبرّ وخر ساجداً ، ثم كبر فرفع رأسه ، ثم كبر فسجد ، ثم كبر فانتهض قائماً ، فلما قضى صلاته قال : احفظوا ؛ فإنها صلاة رسول الله ( .
وخرج أبو داود بعض الحديث ، ولم يتمه .
وفي جلسة الاستراحة : حديث عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، قال : إذا رفع أحدكم رأسه من السجد الثانية فليلزق اليتيه بالارض ، ولا يفعل كما تفعل الإبل ؛ فإني سمعت رسول الله ( يقول : ( ( ذَلِكَ توقير الصَّلاة ) ) .
خرّجه العقيلي من رواية أبي خالد القرشي ، عن علي بن الحزور ، عن ألاصبغ بن نباته ، عن علي .
وهذا إسناد ساقط ، والظاهر : أن الحديث موضوع ، وأبو خالد ، الظاهر : أنه عمرو بن خالد الواسطي ، كذاب مشهور بالكذب ، وعلي بن الحزور ، قال ابن معين : لا يحل لأحد أن يروي عنه ، وإلاصبغ بن نباته ، ضعيف جداً .
وهذه الجلسة تسمى جلسة الاستراحة ، وأكثر الأحاديث ليس فيها ذكر شيء(5/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
من ذلك ، كذا قاله الإمام أحمد وغيره .
وقد اختلف العلماء في استحبابها في الصلاة :
فقالت طائفة : هي مستحبة . وهو قول حماد بن زيد والشافعي - في أشهر قوليه - وأحمد - في رواية عنه ، ذكر الخلال : أن قوله استقر عليها ، واختارها الخلال وصاحبة أبو بكر بن جعفر .
وقال إلاكثرون : هي غير مستحبة ، بل المستحب إذا رفع رأسه من السجدة الثانية أن ينهض قائماً ، حكاه أحمد عن عمر وعلي وابن مسعود ، وذكره ابن المنذر عن ابن عباس .
وذكر بإسناده ، عن النعمان بن أبي عياش ، قال : أدركت غير واحد من أصحاب رسول الله ( ، فكان إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة - أول ركعة والثالثة - قام كما هو ولم يجلس .
وروي - أيضاً - عن أبي ريحانة صاحب النبي ( .
وروي معناه عن ابن عمر - أيضاً .
خرجهما حرب الكرماني .
وقال الترمذي : العمل على هذا عند أهل العلم .
وممن قال ذلك : عبادة بن نسي وأبو الزناد والنخعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي - في أحد قوليه - وأحمد - في المشهور من مذهبه عند عامة أصحابه .
ومن أصحابنا وأصحاب الشافعي من قال : هي مستحبة لمن كبر وثقل بدنه ؛ لأنه يشق عليه النهوض معتمدا على ركبته من غير جلسة .(5/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
وحمل أبو إسحاق المروزي القولين للشافعي على اختلاف حالين ، لا على اختلاف قولين ، وحملوا حديث مالك بن الحويرث على مثل ذلك ، وان النبي ( كان يقعد أحيانا لمّا كبر وثقل بدنه ؛ فإن وفود العرب إنما وفدت على النَّبيّ ( في آخر
عمره .
ويشهد لذلك ، أن أكابر الصحابة المختصين بالنبي ( لم يكونوا يفعلون ذلك في صلاتهم ، فدل على أنهم علموا أن ذلك ليس من سنن الصلاة مطلقاً .
وروى حرب الكرماني ، عن إسحاق بن راهويه روايتين :
أحداهما : تستحب جلسة الاستراحة لكل أحد .
والثانية : لا تستحب إلا لمن عجز عن النهوض عن صدر قدميه .
وهي رواية ابن منصور ، عن إسحاق - أيضاً .
ومن لم يستحب هذا الجلوس بالكلية ، قال : إنه من الأفعال المباحة التي تفعل في الصلاة للحاجة إليها ، كالتروح لكرب شديد ، ودفع المؤذي ، ونحو ذلك مما ليس بمسنون ، وإنما هو مباح .(5/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
3 - باب
كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة
824 - حدثنا معلى بن أسد : حدثنا وهيب ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : جاءنا مالك بن الحويرث ، فصلى بنا في مسجدنا هذا ، فقال : إني لأصلي بكم ولا أريد
الصلاة ، لكني أريد أن أريكم كيف رأيت رسول الله ( يصلي .
قال أيوب : فقلت لأبي قلابة : وكيف كانت صلاته ؟ قال : مثل صلاة شيخنا هذا - يعني : عمرو بن سلمة .
قال أيوب : وكان ذلك الشيخ يتم التكبير ، وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ، ثم قام .
هذه الرواية ليست صريحة في رفع الاعتماد على الأرض بخصوصه ؛ لان فيها أن صلاة عمرو بن سلمة مثل صلاة مالك بن الحويرث ، وصلاة مالك مثل صلاة النَّبيّ ( ، وليس ذلك تصريحاً برفع جميع حركات الصلاة ، فان الممائلة تطلق كثيراً ولا يراد بها التماثل من كل وجه ، بل يكتفي فيها بالممائلة من بعض الوجوه ، أو أكثرها .
لكن رواية الثقفي ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة - بنحوه ، وقال فيه : كان مالك إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة في الركعة الأولى ، فاستوى قاعداً قام واعتمد على الأرض .
خرّجه النسائي وغيره .
وقد اختلف العلماء في القائم إلى الركعة الثانية من صلاة : كيف يقوم ؟(5/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
فقالت طائفة : يعتمد بيديه على الأرض ، كما في حديث مالك بن الحويرث هذا .
وروي عن عطاء ، وقال : يتواضع لله عز وجل .
وهو من رواية ابن لهيعة ، عنه .
وهو قول مالك والشافعي وإسحاق .
وروي عن أحمد ، أنه كان يفعله ، وتأوله القاضي أبو يعلى وغيره على أنه فعله لعجز وكبر .
وقد روي عن كثير من السلف ، أنه يعتمد على يديه في القيام إلى الركعة
الثانية ، منهم : عمر وعبادة بن نسي وعمر بن عبد العزيز ومكحول والزهري - وقال : هو سنة الصلاة - ، وهو قول إلاوزاعي وغيره ، ورخص فيه قتادة .
وقالت طائفة : ينهض على صدور قدميه ، ولا يعتمد على يديه ، بل يضعهما على ركبتيه ، صح ذلك عن ابن مسعود ، وروي عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ، أنه قال : هو من سنة الصلاة ، وعن ابن عمر - أيضاً - وابن عباس وأبي سعيد الخدري وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وهو قول النخعي والثوري وأبي حنيفة وأحمد .
وحكى ابن المنذر عن أحمد الاعتماد على يديه ، وهو خلاف مذهبه المعروف
عنه .
وإلاكثرون على أنه لا تلازم بين الجلسة والاعتماد ، فقد كان من السلف من(5/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
يعتمد ولا يجلس للاستراحة ، منهم : عبادة بن نسي ، وحكاه عن أبي ريحانة الصحابي .
وهذا مذهب أصحاب الشافعي وأحمد ؛ فان أصحاب الشافعي قالوا : يعتمد ، سواء قلنا : يجلس للاستراحة أو قلنا لا يجلس . وقال أصحاب أحمد : لا يعتمد ، سواء قلنا : يجلس ، أو قلنا : لا يجلس ، وحملوا حديث مالك بن الحويرث على أنه فعل الاعتماد لحاجته أليه : لضعف أو كبر ونحو ذلك .
ولا يبعد إذا قلنا : إن جلسة الاستراحة فعلها تشريعاً للأمة ، أن يكون الاعتماد فعله كذلك .
وكلام أحمد في رواية ابنه عبد الله وغيره من أصحابه يدل على تلازم الجلسة والاعتماد ، فيحتمل أن يقال : أن قلنا : يجلس للاستراحة اعتمد على الأرض ، لا سيما إن فعل ذلك لعجز أو كبر ، وإن نهض من غير جلوس نهض على صدور قدميه ، معتمداً على ركبتيه .
ويدل على ذلك : أن أحمد استدل على النهوض على صدور القدمين بحديث رفاعة بن رافع وحديث أبي حميد المتقدمين ، وفيهما : ذكر القيام بعد السجدتين ، من غير ذكر النهوض على صدور القدمين ، فدل على أنه يرى تلازم الأمرين ، وأنه يلزم من ترك جلسة الاستراحة النهوض على صدور القدمين .
وقد روى الهيثم ، عن عطية بن قيس بن ثعلبة ، عن الازرق بن قيس ،(5/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
قال : رأيت ابن عمر وهو يعجن في الصلاة يعتمد على يديه إذا قام ، فقلت : ما هذا ؟ قال : رأيت رسول الله ( يعجن في الصلاة - يعني : يعتمد .
خرّجه الطبراني في ( ( أوسطه ) ) .
والهيثم هذا ، غير معروف .
وقال بعضهم : العاجن ، هو الشيخ الكير الذي يعتمد إذا قام ببطن يديه ، ليس هو عاجن العجين .
وفي النهوض على صدور القدمين أحاديث مرفوعة ، أسانيدها ليست قوية ، أجودها : حديث مرسل ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه .
وقد خرّجه أبو داود بالشك في وصله وإرساله .
والصحيح : إرساله جزماً . والله سبحانه وتعالى أعلم .(5/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
4 - باب
يكبر وهو ينهض من السجدتين
وكان ابن الزبير يكبر في نهضته .
وقد سبق في ( ( باب : يهوي بالتكبير حين يسجد ) ) حديث أبي هريرة ، أنه كان يكبر حين يرفع رأسه من السجدة الأولى والثانية ، ويقول حين ينصرف : إني لأقربكم شبهاً بصلاة رسول الله ( إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا .
وهو يدل على أنه كان يكبر في حال نهوضه وقيامه من السجود إلى الركعة التي بعده .
وخرّج هاهنا حديثين :
الحديث الأول :
825 - حدثنا يحيى بن صالح : ثنا فليح بن سليمان ، عن سعيد بن الحارث ، قال : صلى لنا أبو سعيد ، فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود ، وحين سجد ، وحين رفع ، وحين قام من الركعتين ، وقال : هكذا رأيت رسول الله ( .
الثاني :
826 - حدثنا سليمان بن حرب : ثنا حماد بن زيد : ثنا غيلان بن جرير ، عن مطرف ، قالَ : صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب - رضي الله
عنه - ، فكان إذا سجد كّبر ، وإذا رفع كبر ، وإذا نهض من الركعتين كّبر ، فلما سلم أخذ عمران بيدي ، فقال : لقد صلى بنا هذا صلاة محمد ( - أو قال : لقد ذكرني هذا صلاة محمد ( .
ووجه استدلال البخاري بهذين الحديثين على ما بوب عليه : أن حديث(5/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
أبي سعيد فيه التكبير حين يرفع من السجود ، وهذا ظاهر في شروعه في التكبير مع شروعه في الرفع ، وأما حديث عمران ، ففيه : ( ( إذا رفع كّبر ) ) ، ويحُمل - أيضاً - على أنه كّبر حين شرع في الرفع .
وحديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه أصرح من ذلك كله ؛ فإن فيه : أنه كان يكّبر حين يرفع رأسه من السجدة الأولى والثانية ، وهذا لا اختلاف فيه .
وفي حديث أبي سعيد : التكبير حين قام من الركعتين ، وفي حديث عمران : إذا نهض من الركعتين كّبر .
وقد اختلف في تأويل ذلك ، فحمله إلاكثرون على أنه كان يكّبر حين يشرع في القيام والنهوض .
وفي حديث أبي هريرة المشار إليه في أول الباب : ( ( ويكبر حين يقوم من الجلوس في الاثنتين ) ) .
وهذا قول أبي حنيفة والثوري والشافعي وأحمد .
وقال مالك - في أشهر الروايتين عنه - : لا يكبر إذا قام من الركعتين حتَّى يستوي قائماً ؛ لأنه روي في بعض ألفاظ حديث أبي حميد وأصحابه : ( ( حتى إذا قام من الركعتين كّبر ) ) .
خرّجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان .
وروي نحوه من حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما .
وهذه الأحاديث محمولة على أنه كان يكبر إذا أراد القيام من التشهد الأول ؛(5/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
بدليل ما روي في رواية أخرى في حديث أبي حميد وأصحابه : ( ( ثم جلس بعد ركعتين حتى إذا هو أراد أن ينهض للقيام قام بتكبيرة ) ) .
خرّجه أبو داود .
فهذه الرواية تدل على أن معنى تلك الرواية : أنه كان إذا شرع في القيام من الركعتين كبر .(5/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
5 - باب
سنة الجلوس في التشهد
وكانت أم الدرداء تجلس في صلاتها جلسة الرجل ، وكانت فقيهة قال حرب الكرماني : نا عمرو بن عثمان : نا الوليد بن مسلم ، عن ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، أن أم الدرداء كانت تجلس في الصلاة جلسة الرجل إلا إنها تميل على شقها الأيسر ، وكانت فقيهةً .
وهذا قول مالك والاوزاعي والشافعي ، وهو رواية عن النخعي وروى عن نافع ، أن أبن عمر كان يأمر نساءه أن يتربعن في الصلاة وروي من وجه آخر عن صفية بنت أبي عبيد امرأة عمر ، أنها كانت تتربع في الصلاة .
وقال زرعة بن إبراهيم ، عن خالد بن اللجلاج ، كن النساء يؤمرن بأن يتربعن إذا جلسن في الصلاة ، ولا يجلسن جلوس الرجال على أوراكهن ، يتقى ذلك عن المرأة ، مخافة أن يكون الشيء منها .
خرّجه ابن أبي شيبة .
وقال الإمام أحمد : تتربع في جلوسها أو تسدل رجليها عن يمينها ، والسدل عنده أفضل .
وهو قول النخعي والثوري وإسحاق ؛ لأنه أشبه بجلسة الرجل ، وأبلغ في الاجتماع والضم . وحمل بعض أصحابنا فعل أم الدرداء على مثل ذلك ، وأما الإمام أحمد(5/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
فصرّح بأنه لا يذهب إلى فعل أم الدرداء .
وروى سعيد بن منصور بإسناده ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، قال كانت عائشة تجلس في الصلاة عن عرقيها وتضم فخذيها ، وربما جلست متربعة .
وقال الشعبي : تجلس كما تيسر عليها وقال قتادة : تجلس كما ترى أنه أستر .
وقال عطاء : لا يضرها أي ذلك جلست ، إذا اجتمعت . قال : وجلوسها على شقها الأيسر أحب إلى من الأيمن وقال حماد : تفعل كيف شاءت خرج فيه حديثين :
الحديث الأول :
827 - ثنا عبد الله بم مسلمة ، عن مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم عن
عبد الله بن عبد الله ، أنه اخبره أنه كان يرى ابن عمر يتربع في الصلاة إذا جلس ففعلته وأنا يومئذ حديث السن ، فنهاني عبد الله بن عمر ، وقال : إنما سنة الصلاةُ أن تنصب رجلك اليمنى وتثني رجلك اليسرى فقلت : إنك تفعل ذلك ؟ فقالَ أن رجلي لا
تحملاني .
وخرّجه النسائي من رواية يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن
عبد الله بن عمر عن أبيه قال : من سنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة ، والجلوس على اليسرى(5/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
وفي رواية - أيضاً - بهذا إسناد : من سنة الصلاة أن تضجع رجلك اليسرى وتنصب اليمنى .
وهذا حكمه حكم المرفوع ؛ لقوله : ( ( من سنة الصَّلاة ) ) وقد رواه مالك عن يحيى بن سعيد فجعله عن ابن عمر من فعله ولم يذكر : السنة خرّجه أبو داود وذكر فيه الجلوس على وركه الأيسر وسيأتي لفظه فيما بعد إن شاء الله سبحانه وتعالى .
وظاهر الروايات التي قبل هذه : إنما تدل على الافتراش لا على التورك ورواية النسائي صريحة بذلك .
الحديث الثاني :
828 - ثنا يحيى بن بكير : ثنا الليث عن خالد عن سعيد عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء - .
وثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب ويزيد بن محمد عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء أنه كان جالساً في نفر من أصحاب النبي ( ، فذكرنا صلاة النبي ( ، فقال أبو حميد الساعدي : أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله ( رأيته إذا كّبر جعل يديه حذاء منكبيه وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف رجليه القبلة فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته .(5/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
وسمع الليث بن يزيد بن أبي حبيب ويزيد من محمد بن حلحلة وابن حلحلة من ابن عطاء وقال أبو صالح ، عن الليث : كل فقار وقال ابن المبارك عن يحيى بن أيوب حدثني يزيد بن أبي حبيب أن محمد بن عمرو بن حلحلة حدثه : كل فقار مقصود البخاري بما ذكره :
اتصال إسناد هذا الحديث وأن الليث سمع من يزيد بن أبي حبيب وأن يزيد سمع من محمد بن عمرو بن حلحلة وأن ابن حلحلة سمع من محمد بن عمرو بن عطاء .
وفي رواية يحيى بن أيوب التي علقها : التصريح بسماع يزيد من محمد بن عمرو بن حلحلة وأما سماع محمد بن عطاء من أبي حميد والنفر من الصحابة الذين معه ففي هذا رواية أنه كان جالساً معهم وهذا تصريح بالسماع من أبي حميد وقد صّرح البخاري في تأريخه بسماع محمد بن عمرو بن عطاء من أبي حميد كذلك . وقد روى هذا الحديث
عبد الحميد أبن جعفر : حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال : سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي ( منهم : أبو قتادة بن ربعي - فذكر الحديث وفي آخره : قالوا : صدقت هكذا صلى النبي ( خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه .(5/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
وقال الترمذي : حسن صحيح .
وسماع محمد بن عمرو بن عطاء من أبي قتادة قد أثبته البخاري والبيهقي ورد على الطحاوي في إنكاره له وبين ذلك بياناً شافياً . وأنكر آخرون محمد بن عمرو بن عطاء لهذا الحديث من أبي حميد - أيضاً - وقالوا : بينهما رجل وممن قال ذلك : أبو حاتم الرازي والطحاوي وغيرهما . ولعل مسلماً لم يخّرج في صحيحه الحديث لذلك واستدلوا لذلك بأن عطاف بن خالد روى هذا الحديث عن محمد بن عمرو بن عطاء : حدثنا رجل أنه وجد عشرة من أصحاب النبي ( جلوساً - فذكر الحديث .
وروى الحسن بن الحر الحديث بطوله ، عن عبد الله بن عيسى بن مالك عن محمد بن عمرو بن عطاء عن عباس - أو عياش - بن سهل الساعدي أنه كان في مجلس فيهم أبو ه وكان من أصحاب النبي ( وفي المجلس أبو هريرة وأبو أسيد وأبو حميد الساعدي - فذكر الحديث
خرّجه أبو داود مختصراً وخرّجه - أيضاً - مختصراً من رواية بقية بن الوليد : حدثني عتبة بن أبي حكيم : حدثني عبد الله بن عيسى ، عن العباس بن سهل عن أبي حميد الساعدي - فذكره . .(5/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
وكذلك رواه إسماعيل بن عياش عن عتبة أيضاً خرّجه من طريقه بقي بن مخلد في مسنده . وقال إسماعيل : عن عتبة عن عيسى بن عبد الله وهو أصح ورواه ابن المبارك عن عتبة عن عباس بغير واسطة وخرّجه أبو داود - أيضاً - من رواية فليح بن سليمان : حدثني عباس بن سهل ، قال أجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة فذكروا صلاة النبي ( فقال أبو وحميد : أنا أعلمكم بصلاة رسول الله ( فذكر الحديث .
وخّرج بعضه ابن ماجه والترمذي وصّححه . قال أبو داود : ورواه ابن المبارك : أخبرنا فليح ، قال : سمعت عباس بن سهل يحدث فلم أحفظه فحدثنيه أراه عيسى بن
عبد الله أنه سمعه من عباس بن سهل قال : حضرت أبا حميد الساعدي - فذكره .
وخرّجه الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق : حدثني عباس بن سهل بن سعد قال : جلست بسوق المدينة الضحى مع أبي أسيد وأبي حميد وأبي قتادة فذكر الحديث . قال أبو حاتم الرازي : هذا الحديث إنما يعرف من رواية عباس بن سهل وهو صحيح من حديثه ؛ كذا رواه فليح وغيره . فيتوجه أن يكون محمد بن عمرو إنما أخذه عن عباس فتصير رواية(5/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
عبد الحميد بن جعفر مرسله ، وكذا رواية ابن حلحلة التي خرّجها البخاري ها هنا . ويجاب عن ذلك :
بأن محمد بن عمرو بن حلحلة الديلي قد روى هذا الحديث عن محمد بن عمر بن عطاء أنه سمع أبا حميد يحدثه فكيف يعارض ذلك برواية عطاف بن خالد عن محمد بن عمرو بن عطاء وعطاف لا يقاوم ابن حلحلة ولا يقاربه .
وقد تابع ابن حلحلة على ذكر سماع ابن عمرو له من أبي حميد : عبد الحميد بن جعفر وهو ثقة جليل مقدم على عطاف وأمثاله . وأما رواية عيسى بن عبد الله عن محمد بن عمرو فعيسى ليس بذلك المشهور فلا يقضي بروايته على رواية الثقات الإثبات ؛ فان رواية عيسى كثيرة الاضطراب وإلاكثرون رووه عن عيسى عن عباس بغير واسطة منهم : عتبة بن أبي حكيم وفليح بن سليمان .
واختلف فيه عن الحسن بن الحر : فروي عنه عن عيسى بن عبد الله عن محمد بن عمرو بن عطاء : أخبرني مالك عن عباس - أو عياش - بن سهل أنه كان في مجلس فيه أبوه ففي هذه الرواية بين محمد بن عمرو وبين أبي حميد رجلان .
وقد خرّجه البيهقي كذلك ثم قال روي - أيضاً - عن الحسن بن الحر عن عيسى عن محمد بن عمرو بن عطاء : حدثني مالك عن عباس وقوله : عباس أو عياش يدل على عدم ضبطه لهذا الاسم وإنما هو عباس بغير شك .(5/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
وفي حديث الحسن بن الحر وهم في هذا الحديث وهو أنه ذكر أنه تورك في جلوسه بين السجدتين دون التشهد وهذا مما لا شك أنه خطأ فتبين أنه لم يحفظ متن هذا الحديث ولا إسناده .
والصحيح في اسم هذا الرجل أنه عيسى بن عبد الله بن مالك الدار وجده مولى عمر بن الخطاب ومن قال فيه : عبد الله بن عيسى - كما وقع في روايتين لأبي داود - فقد وهم .
وزعم الطبراني أنه : عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو وهم - أيضاً - وأما هو : عيسى بن عبد الله ابن مالك الدار - : قال البخاري في تأريخه وأبو حاتم الرازي وغيرهما من الحفاظ المتقدمين والمتأخرين . وقال ابن المديني فيه : هو مجهول
وحينئذ ؛ فلا يعتمد على روايته مع كثرة اضطرابها وتعلل بها رويات الحفاظ الإثبات .
فظهر بهذا : أن أصح روايات هذا الحديث رواية لبن حلحلة عن محمد بن عمرو التي أعتمد عليها البخاري ورواية عبد الحميد المتابعة لها ورواية فليح وغيره عن عباس بن سهل مع أن فليحاً ذكر أنه سمعه من عباس ولم يحفظه عنه إنما حفظه عن عيسى عنه .
وأما ما تضمنه حديث أبي حميد من الفقه في أحكام الصلاة فقد سبق ذكر عامة مافيه من الفوائد مفرقاً في مواضع متعددة وبقي ذكر صفة جلوسه للتشهد وهو مقصود البخاري في هذا الباب .
وقد دل الحديث على أن النبي ( كان يجلس في التشهد الأول مفترشاً ، وفي التشهد الثاني متوركاً .(5/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
خرّجه أبو داود من رواية ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب بإسناده ولفظه : فإذا قعد في الركعتين قعد على بطن قدمه اليسرى ونصب اليمنى فإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة .
ولم يذكر أحد من رواة حديث أبي حميد التشهدين في حديثه سوى ابن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء وقد ذكر غيره من الرواة التشهد الأول خاصة وبعضهم ذكر الأخير خاصة .
ففي رواية فليح عن عباس بن سهل عن أبي حميد - فذكر الحديث وفيه : ثم جلس فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته ووضع كفه اليمن على ركبته اليمنى وكفه اليسرى على ركبته اليسرى وأشار بإصبعه . خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصحّحه . .
ورواه - أيضاً - عتبة بن أبي حكيم عن عيسى - أو ابن عيسى عن العباس - بمعناه - أيضاً .
ففي هذه الرواية : ذكر التشهد الأول خاصة .
وأما ذكر التشهد الأخيرة ففي رواية عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو عن أبي حميد - فذكر الحديث وفيه : حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخرج رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقه الأيسر .(5/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وصحّحه الترمذي .
وقد خرّجه الجوزجاني في كتابه المترجم عن أبي عاصم عن [ . . . . . أنه كانَ ] في الثنتين يثني رجله اليسرى فيقعد عليها معتدلاً حتى يقر كل عظم منه موضعه ثم ذكر : توركه في تشهده الأخير وهذه زيادة غريبة .
وقد خرّج أبو داود وابن ماجه الحديث من رواية أبي عاصم وخرّجه الإمام أحمد عن أبي عاصم ولم يذكروا صفة جلوسه في الركعتين إنما ذكروا ذلك في جلوسه بين السجدتين .
وفي حديث عبد الحميد : زيادة ذكر رفع اليدين إذا قام من التشهد الأول وكذلك في حديث عتبة بن أبي حكيم - أيضاً .
وقد أخذ بهذا الحديث في التفريق بين الجلوس في التشهد الأول وإلاخر في الصلاة فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق . ثم اختلفوا :
فقال الشافعي : يتورك في التشهد الذي يعقبه السلام بكل حال سواء(5/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
كانت الصلاة فيها تشهد واحد أو تشهدان ؛ لأن التشهد الذي يسلم فيه يطول بالدعاء فيه فيتورك فيه ؛ لأن التورك أهون من الافتراش . وقال أحمد وإسحاق : إن كان فيها تشهدان تورك في الأخير منهما وإن كان فيها تشهد واحد لم يتورك فيه ، بل يفترش .
فيكون التورك للفرق بين التشهدين ويكون فيه فائدتان : نفي السهو عن المصلي ومعرفة الداخل معه في التشهد : هل هو في الأول أو الثاني . واتفقوا - أعني : هؤلاء الثلاثة - على أنه يفرش في التشهد الأول الذي لا يسلم فيه .
وقد خرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث وائل بن حجر أنه رأى النبي ( يصلي فلما جلس أفترش . لكن اختلفت ألفاظ الروايات فيه :
ففي رواية الترمذي : ( ( يعني للتشهد ) ) وهذا التفسير من بعض الرواة وفي رواية للإمام أحمد : أن ذلك كان في جلوسه بين السجدتين . وفي رواية للنسائي : أنه كان يفعل ذلك إذا جلس في الركعتين وهذه الرواية ، إنما تدل على افتراشه في جلوسه ، بعد الركعتين وأحمد وإسحاق يقولان بذلك .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن عائشة قالت : كان النبي ( يقول في كل ركعتين التحية وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى .(5/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
وهو محمول على صلاة الركعتين ، بدلالة سياق أول الكلام .
وخّرج أبو داود من حديث رفاعة بن رافع ، أن النبي ( قال للمسيء في صلاته : ( ( إذا قعدت فاقعد على فخذك اليسرى ) ) .
وفي رواية أخرى له - : ( ( فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن وأفترش فخذك اليسرى ، ثم تشهد ) ) .
وهذه الرواية تدل على أنه إنما أمره بالافتراش في التشهد الأول خاصة . وفي
( ( المسند ) ) من طريق ابن إسحاق : حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه ، عن ابن مسعود ، قال : علمني رسول الله ( التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها . فكنا نحفظ عن ابن مسعود ، حين أخبرنا رسول الله ( علمه إياه ، فكان يقول : إذا جلس في وسط الصلاة وفي أخرها على وركه اليسرى : ( ( التحيات لله ) ) - إلى آخر التشهد .
والظاهرُ : أن قوله ( ( على وركه ) ) يعود إلى قوله : ( ( وفي آخرها خاصة ) ) .
وذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه يفترش في جميع التشهدات ، وهو قول أبي حنيفة والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك ، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم . وقال طائفة : يتورك في جميعها ، وهو قول مالك ، وكذا قال في الجلوس بين السجدتين .(5/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
وجميع ما سبق ذكره العلماء : أنه يفترش فيه . وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن ابن الزبير ، قال : كان رسول الله ( إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه ، وفرش قدمه اليمنى وقد فسره بالتورك حرب الكرماني وغيره .
وقد روى التورك في الجلوس في الصلاة عن ابن عمر ، ذكره مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد أنه أراهم الجلوس في التشهد منضب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى ، وجلس على وركه الأيسر ، ولم يجلس على قدمه ، ثم قال : أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر ، وأخبرني أن أباه كان يفعل ذلك . وخرّجه أبو داود من طريقه .
وقال ابن جرير الطبري : كل ذلك جائز ؛ لأنه يروى على النبي ( ، فيخير المصلي بينه ، فيفعل منه ما شاء . ومال إلى قوله ابن عبد البر .
وقد نص أحمد في رواية إلاثرم عل الجواز التورك في التشهد الذي يسلم فيه من ركعتين ، مع قوله : إن الافتراش فيه أفضل . وقد روي النهي عن التورك في الصلاة ، ولا يثبت ، وفيه حديثان : أحدهما : من رواية يحيى بن إسحاق ، عن حماد بن سلمة ، عن قتادة ،(5/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
عن أنس ، أن النبي ( نهى عن التورك وإلاقعاء في الصلاة خرّجه أبو داود في كتاب التفرد ) ) . وقال : هذا الحديث ليس بالمعروف .
وخرّجه البزار في ( ( مسنده ) ) .
وقال : لا يروى عن أنس إلا من هذا الوجه ، وأظن يحيى أخطأ فيه . وقال أبو بكر البرديجي في كتاب ( ( أصول الحديث ) ) له : هذا حديث لا يثبت ؛ لأن أصحاب حماد لم يجاوزوا به قتادة . كأنه يشير إلى أن يحيى أخطأ في وصله بذكر انس ، وأنما هو مرسل .
وثانيهما : من رواية سعيد بن بشير ، عن الحسن ، عن سمرة ، أن رسول الله ( نهى عن التورك وإلاقعاء ، وأن لا نستوفز في صلاتنا . خرّجه البزار .
وقال : سعيد بن بشير ، لا يحتج به . وخرّجه الإمام أحمد ، ولفظه : أمرنا
رسول الله ( أن نعتدل في الجلوس ، وأن لا نستوفز .(5/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
146 - باب
من لم يرى التشهد الأول واجباً
لان النبي ( قام من الركعتين ولم يرجع
829 - حدثنا أبو اليمان : أخبرنا شعيب ، عن الزهري : حدثني عبد الرحمن بن هرمز مولى بني عبد المطلب - وقال مرة : مولى ربيعة بن الحارث - أن عبد الله بن بحينه - وهو من أزد شنوءة ، وهو حليف لبني عبد مناف ، وكان من أصحاب النبي ( - ، أن النبي ( صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ، لم يجلس ، فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس ، فسجد سجدتين قبل أن
يسلم ، ثم سلم .
عبد الرحمن بن هرمز : هو الأعرج ؛ وهو مولى ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب ، فلذلك نسبه الزهري مرة إلى ولاء بني عبد المطلب ، ومرة إلى مولاه .
وقد استدل بهذا الحديث كثير من العلماء - كما أشار إليه البخاري - على أن التشهد الأول ليس بواجب ؛ لأن النَّبيّ ( نسيه ، ولم يرجع بعد قيامه إلى الركعة الثالثة . وممن ذهب إلى أن التشهد الأول والجلوس لهُ سنة لا تبطل الصَّلاة بتركهما عمداً : النخعي وأبو حنيفة وإلاوزاعي ومالك والشافعي وحكي رواية عن أحمد . والمنصوص عن أحمد : إنكار تسميته سنة ، وتوقف في تسميته فرضاً ؛ وقال : هو أمر أمر به
رسول الله ( .
وقال الثوري وأحمد - في ظاهر مذهبه - وإسحاق وأبو ثور وداود : أن ترك(5/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
واحداً منها عمداً بطلت صلاته ، وإن تركه سهواً سجد لسهو . وحكى الطحاوي مثله عن مالك .
لأن النبي ( كان يداوم عليه ، وقال : ( ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ) ، وإنما تركه نسياناً ، وجبره بسجود السهو ، وقد روى عنه الأمر به . كما خرّجه أبو دواد من حديث رفاعة بن رافع ، أن النبي ( قال للمسيء في صلاته : ( ( فإذا جلست في وسط الصلاة فأطمئن وأفترش فخذك اليسرى ثم تشهد ) ) .
والعجب أن من المخالفين في ذلك من يقول في خطبتي الجمعة : إذا لم تجلس بينهما لم تصح الخطبة ، وهو يقول : لو صلى الظهر أربعاً من غير جلوس في وسطها صحت صلاته .
وأما التشهد الأخر والجلوس به ، فقال كثير من العلماء : إنهما من فرائض
الصلاة ، ومن تركهما لم تصح صلاته ، وهو قول الحسن ومكحول ونافع مولى ابن عمر والشافعي وأحمد - في ظاهر مذهبه - وإسحاق وأبي ثور وداود .
وحكى ابن المنذر مثله عن مالك ، إلا أنه قال : إذا نسيه خلف الإمام حمله
عنه ، وروي عن إلاوزاعي نحوه . ونقل مهنا عن أحمد ما يدل على مثل ذلك . وقال أبو مصعب : من ترك التشهد بطلت صلاته ، ونقله عن مالك وأهل المدينة . وقالت طائفة : هو سنة كالتشهد الأول ، لا تبطل الصلاة بتركه ، منهم :(5/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
النخعي وقتادة وحماد وإلاوزاعي ، وهو المشهور عن مالك .
ونقل محمد بن يحيى الكحال ، عن أحمد ، فيمن سلم ولم يتشهد : لا إعادة ، واستدل بحديث ابن بحينه . ونقل ابن وهب ، عن مالك ، قال : كل أحد يحسن
التشهد ؟ وإذا ذكر الله أجزاء عنه .
وقال أحمد - في رواية عنه ، نقلها حرب - : إذا لم يقدر أن يتعلم التشهد يدعو بما أحب . وأوجب أبو حنيفة الجلوس له بقدر التشهد ، دون التشهد ، وهو رواية عن الثوري .
وروي عنه : أن أحدث قبل التشهد تمت صلاته . وحكي القول بأنه رواية عن أحمد - أيضاً - حكاه عنه الترمذي في ( ( جامعه ) ) ، فأنه قال في رواية ابن منصور ، وقد قيل : فأن لم يتشهد وسلم ؟ قال : التشهد أهون ؛ قام رسول الله ( في ثنتين ولم يتشهد فحمله هؤلاء على أن التشهد غير واجب .
ومنهم من حملة على التشهد الأول ؛ لاستدلاله عليهِ الحديث ، والحديث إنما ورد في الأول ، وقالوا : قد فرق بين الأول والثاني في روايات آخر عنه . وقال طائفة : هوَ واجب ، تبطل الصَّلاة بتركه عمداً ، ويسجد لسهوه ، وهو قول الزهيري والثوري ، وحكي عن إلاوزاعي - أيضاً - ونقله إسماعيل بن سعيد وأبو طالب وغيرهما عن
أحمد .
وذكر أبو حفص البرمكي من أصحابنا : أن هذا هو مذهب أحمد ، وأنه لا فرق عنده بين التشهد الأول والثاني ، وإنهما واجبان تبطل الصلاة بتركهما عمداً ، ويسجد لسهوهما .(5/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
وهو - أيضاً - قول أبي خيثمة وسليمان بن داود الهاشمي وابن أبي شيبة واستدل من قال :
أنه فرض ، بما روي عن ابن مسعود ، أنه قال : كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد : ( ( السلام على الله ) ) - الحديث ، وذكر فيه أمر النبي ( لهم بالتشهد وتعليمه لهم .
خرّجه الدارقطني ، وقال : إسناده صحيح .
وخرّج البزار والطبراني من حديث ابن مسعود ، أن النبي ( علمهم التشهد ، وقال لهم : ( ( تعلموا ؛ فإنه لا صلاة إلا بتشهد ) ) . وفي إسناده أبو حمزة ، ضعيف جداً .
وخرّج الطبراني نحوه من حديث علي مرفوعاً ، بإسناد لا يصح . وقد روى موقوفاً على ابن مسعود ، وهو أشبه .
وروى شعبة ، عن مسلم أبي النضر ، قال : سمعت حملة بن عبد الرحمن ، عن
عمر ، أنه قالَ : لا تجزي صلاة إلا بتشهد . خرّجه الجوزجاني وغيره .
وفي رواية : قالَ : من لم يشهد فلا صلاة لهُ . وخرّجه البهقي ، وعنده التصريح بسماع حملة لهُ من عمر .(5/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
7 - باب
التشهد في الأولى
383 - حدثنا قتيبة : ثنا بكر - هو ابن مضر - ، عن جعفر بن ربيعة ، عن الأعرج ، عن عبد الله بن مالك بن بحينة ، قال : صلى بنا رسول الله ( الظهر ، فقام وعليه جلوس ، فلما كان في آخر صلاته سجد سجدتين وهو جالسٌ .
يعني البخاري : التشهد في الجلسة الأولى في الصلاة وحديث ابن بحينة قد سبق في الباب الماضي وفيه : دليل على أن من تركه نسياناً لم تبطل صلاته ، وأنه يسجد للسهو لتركه ، وقد سبق حكم تركه نسياناً وعمداً في الباب الماضي . ومذهب أحمد : إن تركه نسياناً لزمه ( ( بسجود به أن يجبره بسهوويه ) ) وإن تركه عمداً بطلت صلاته ؛ كما سبق ذكره .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن عائشة ، أن النبي ( كان يقول في كل ركعتين التحية .
وخرّجه البهيقي ، ولفظه : إن النبي ( كان يقول بين كل ركعتين تحية .
وخرّج أبو داود من حديث سمرة بن جندب ، قال : أمرنا رسول الله(5/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
( إذا كان في وسط الصلاة أو حين انقضائها فابدؤوا قبل التسليم : ( ( التحيات والطيبات والصلوات والملك لله ) ) ، ثم سلموا .
والتشهد بعد الركعتين - وإن لم يسلم منه - إشارة إلى أن كل صلاة ركعتين صلاة تامة ، فيتشهد عقبها ، وإن كان يقوم منها إلى صلاة ؛ فان الصلاة التي يقوم إليها كالصلاة المستقبلة .
ولم يكن النبي ( يصلي أكثر من ركعتين بغير تشهد غير صلاة الليل ؛ فإنه قد روي عنه أنه كان يصلي ثمانياً واربعاً ثم يتشهد .(5/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
8 - باب
التشهد في الآخرة
يعني : في الجلسة الأخيرة في الصلاة
831 - حدثنا أبو نعيم : ثنا الأعمش ، عن شقيق بن سلمة ، قال : قال عبد الله : كنا إذا صلينا خلف النبي ( قلنا : السلام على جبريل ومكائيل ، السلام على فلان السلام على فلان ، فالتفت إلينا رسول الله ( ، قال : ( ( إن الله هو السلام ) ) فإذا صلى أحدكم فليقل : التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله عز وجل صالح في السماء وإلا رض ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ) ) .
وإنما خص البخاري هذا الحديث بالتشهد الأخير . لأنه روي في آخره الأمر بالتخيير من الدعاء ، كما سيأتي ، والدعاء يختص بالأخير ، ولكن المراد بالتشهد الأخير : كل تشهد يسلم منه ، سواء كان تشهد آخر أم لا .
وخرج الإمام أحمد والنسائي حديث ابن مسعود بلفظ آخر وهو : أن النبي ( قال : ( ( إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا : التحيات لله ) ) - فذكره وقال في آخره :
( ( ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه ، فليدع به ربه عز وجل ) ) .
وهذا اللفظ صريح في أنه يتشهد بهذا التشهد في كل ركعتين يسلم منهما .(5/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
وخرّجه الترمذي والنسائي - أيضاً بلفظ آخر وهو : علمنا رسول الله ( إذا قعدنا في الركعتين أن نقول : ( ( التحيات لله ) ) - فذكره ، ولم يذكر بعده الدعاء . وخرّجه الإمام أحمد بلفظ ، وهو : علمني رسول الله ( التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها - وذكر الحديث ، وقد سبق ذكر إسناده ، وقال في آخره : ثم إن كان في وسط الصلاة نهض حين يفرغ من تشهده ، وإن كان في آخرها ، دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو ، ثم يسلم .
وهذه الرواية صريحة في أنه يتشهد به في التشهد الأول وإلاخر . وخرّجه النسائي بلفظ آخر ، وهو : أن رسول الله ( قال لهم : ( ( قولوا في كل جلسة : التحيات لله ) ) - فذكره .
وهذا يشمل الجلوس الأول والثاني . وقوله ( : ( ( أن الله هو السلام ) ) إنما قاله نهياً لهم على أن يقولوا : ( ( السلام على الله من عباده ) ) ، وكانوا يقولون ذلك ، ثم يسلمون على جبريل وميكائيل وغيرهما .
وقد خرّج البخاري في رواية أخرى ، يأتي ذكرهما - إن شاء الله تعالى ولم يأمرهم النبي ( بإعادة الصلوات التي قالوا فيها ذلك ، واستدل بذلك على أن كلام الجاهل لا يبطل الصلاة ؛ فإن هذا الكلام منهيٌ عنه في الصلاة وغيرها ؛ فإن الله تعالى هو السلام ؛ لأنه القدوس بالمبدأ من الآفات والنقائص(5/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
كلها ، وذلك واجب له لذاته ، ومنه يطلب السلامة لعباده ؛ فإنهم محتاجون إلى السلامة من عقابه وسخطه وعذابه .
وفي قولهم هذا الكلام قبل أن يعلموا التحيات : دليل على أنهم رأوا أن المنصرف من صلاته لا ينصرف حتى يحيي الله تعالى وخواص عباده بعده ، ثم ينصرف ، ثم يسلم ؛ لأن المصلي يناجي ربه ما دام يصلي ، فلا ينصرف حتى يختم مناجاته بتحية تليق به ، ثم يحيي خواص خلقه ، ثم يدعو لنفسه ، ثم يسلم على الحاضرين معه ، ثم ينصرف .
وقد أقرهم النبي ( على ما قصدوه من ذلك ، لكنه أمرهم أن يبدلوا قولهم :
( ( السلام على الله ) ) ، بقولهم : ( ( التحيات لله ) ) . والتحيات : جمع تحية ، وفسرت التحية بالملك ، وفسرت بالبقاء والدوام وفسرت بالسلامة ؛ والمعنى : أن السلامة من الآفات ثابت لله ، واجب له لذاته .
وفسرت بالعظمة ، وقيل : إنها تجمع ذلك كله ، وما كان بمعناه ، وهو أحسن .
قال ابن قتيبة : إنما قيل ( ( التحيات ) ) بالجمع ؛ لأنه كان لكل واحد من ملوكهم تحية يحيا بها ، فقيل لهم : ( ( قولوا : التحيات لله ) ) أي : أن ذلك يستحقه الله وحده .
وقوله : ( ( والصلوات ) ) فسرت بالعبادات جميعها ، وقد روي عن طائفة من المتقدمين : أن جميع الطاعات صلاة ، وفسرت الصلوات هاهنا بالدعاء ،(5/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
وفسرت بالرحمة ، وفسرت بالصلوات الشرعية ، فيكون ختام الصلاة بهده الكلمة كاستفتاحها بقول : ] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( [ الأنعام : 162 ] وقوله : ( ( والطيبات ) ) ، فسرت بالكلمات الطيبات ، كما في قوله تعالى : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ ( [ فاطر 10 ] فالمعنى : إن ما كان من كلام فإنه لله ، يثنى به عليه ويمجد به .
وفسرت ( ( الطيبات ) ) بالاعمال الصالحة كلها ؛ فإنها توصف بالطيب ، فتكون كلها لله بمعنى : أنه يعبد بها ويتقرب بها إليه .
فهذا جعله النبي ( بدل قوله : ( ( السلام على الله ) ) وأما سلامهم على جبريل وميكائيل وفلان وفلان من خواص الخلق ، فأقرهم النبي ( على ذكر السلام ؛ لأن الخلق كلهم يطلب السلام من الله . وفي تفسير ( ( السلام على فلان ) ) قولان :
أحدهما : أن المراد بالسلام اسم الله - يعني : فكأنه يقول : اسم الله عليك .
والثاني : أن المراد : سلّم الله عليك تسليماً وسلاماً ، ومن سلّم عليه الله فقد سلم من الآفات كلها ثم أقرهم أن يسلموا على النبي بخصوصه ابتداءً ؛ فإنه أشرف المخلوقين وأفضلهم ، وحقه على الأمة أوجب من سائر الخلق ؛ لأن هدايتهم وسعادتهم(5/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
في الدنيا والآخرة كان بتعليمه وإرشاده ( تسليماً ، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته .
والسلام على النبي بلفظ : ( ( السلام عليك أيها النبي ) ) ، وهكذا في سائر الروايات ؛ ولذلك كان عمر يعلم الناس في التشهد على المنبر بمحضر من الصحابة .
وقد اختار بعضهم أن يقال بعد زمان النبي ( : ( ( السلام على النبي ) ) ، وقد ذكر البخاري في موضع آخر من ( ( كتابه ) ) أنهم كانوا يسلمون على النبي ( بعد موته في التشهد كذلك ، وهو رواية عن ابن عمر وعائشة .
ثم عطف على ذكر السلام على النبي : ( ( ورحمة الله وبركاته ) ) ، وهذا مطابق لقول الملائكة لإبراهيم عليه سلام : ( رَحْمةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ ( [ هود : 73 ] ويستدل بذلك على جواز الدعاء بالرحمة للنبي ( وفيه اختلاف بين العلماء .
ثم أمرهم بعد ذلك بأن يقولوا : ( ( السلام علينا ) ) والضمير عائد على المصلي نفسه ، وعلى من حضره من الملائكة والمصلين وغيرهم .
وفي هذا مستند لمن أستجب لمن يدعوه لغيره أن يبدأ بالدعاء لنفسه قبله ، وهو قول علماء الكوفة ، وخالفهم آخرون ، وقد أطال الاستدلال لذلك(5/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
في ( ( كتاب
الدعاء ) ) من ( ( صحيحه ) ) هذا ، ويأتي - إن شاء الله تعالى - في موضعه بتوفيق الله وعونه .
وقوله : ( ( وعلى عباد الله الصالحين ) ) هو كما قال ( : ( ( فإنكم إذا قلتم ذلك أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض ) ) . فيعني ذلك عن تعيين أسمائهم ؛ فإن حصرهم لا يمكن ، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها ( وقد خرّج النسائي حديث ابن مسعود في التشهد ، ولفظه : قال عبد الله : كنا لا ندري ما نقول إذا صلينا ، فعلمنا نبي الله ( جوامع الكلم : ( ( التحيات لله ) ) - فذكره . وفي رواية أخرى له : كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين ، غير أن نسبح ونكبر ونحمد ربنا ، وأن محمد ( علم فواتح الكلم وخواتمه ، فقال : ( ( إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا : التحيات الله ) ) - فذكره .
ثم أمرهم أن يختموه بالشهادتين ، فيشهدون لله بتفرده بإلالهية ، ويشهدون لمحمد بالعبودية والرسالة ؛ فإن مقام العبودية أشرف مقامات الخلق ؛ ولهذا سمى الله محمد ( في أشرف مقاماته وأعلاها بالعبودية ، كما قال تعالى في صفة ليلة الإسراء : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ( [ الإسراء : 1 ] ، وقال : ( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( [ النجم :
10 ] .
وقال في حقه في مقام الدعوة : ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ( [ الجن : 19 ] ،
وقال : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ( [ البقرة : 23 ] .
ولهذا المعنى لما سلّم على الصالحين في هذا التشهد سماهم :(5/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
( ( عبادا الله ) ) ، والصالحون هم القائمون بما لله عليهم من الحقوق له ولخلقه ، وإنما سمي التشهد تشهداً لختمه بالشهادتين .
ولم يخرج البخاري في التشهد غير تشهد ابن مسعود ، وقد أجمع العلماء على أنه أصح أحاديث التشهد ، وقد روي عن النبي ( التشهد من روايات أخر فيها بعض المخالفة لحديث ابن مسعود بزيادة ونقص ، وقد خرج مسلم منها حديث ابن عباس وأبي موسى الأشعري ، وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد وإسحاق .
وحديث أبي موسى فيه : ( ( التحيات الطيبات الصلوات لله ) ) ، وباقيه كتشهد ابن مسعود . وحديث ابن عباس فيه : ( ( التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ) ) وباقيه كتشهد ابن مسعود ، غير أن في آخره : ( ( وأشهد أن محمداً رسول الله ) ) . وكل ما صح عن النبي ( من التشهدات ، فإنه يصح الصلاة به ، حكى طائفة الإجماع على ذلك ، لكن اختلفوا في أفضل التشهدات :
فذهب إلاكثرون إلى ترجيح تشهد ابن مسعود ، وتفضيله ، والأخذ به وقد روى ابن عمر ، أن أبا بكر الصديق كان يعلمهم على المنبر كما يُعلم الصبيان في الكتاب ، ثم ذكره بمثل تشهد ابن مسعود . خرّجه ابن أبي شيبة .(5/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
وروى - أيضاً - نحوه عن أبي سعيد الخدري وغيره ، وهو قول علماء العراق من أهل الكوفة والبصرة ، من التابعين ومن بعدهم .
قال أبو إسحاق ، عن الأسود : رأيت علقمة يتعلم التشهد من عبد الله ، كما يتعلم السورة من القرآن . وقال إبراهيم ، عن الأسود : كان عبد الله يعلمنا التشهد في الصلاة كما يعلمنا السورة من القران ، يأخذ علينا الألف والواو .
وقال إبراهيم : كانوا يتحفظون هذا التشهد - تشهد عبد الله - ويتبعونه حرفاً حرفاً .
خرّجه ابن أبي شيبة وغيره وذكر الترمذي أن العمل على تشهد ابن مسعود عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ، وأنه قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق . وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور وأهل الرأي وكثير من أهل المشرق وحكاه ابن البر عن أكثر أهل الحديث .
وروي عن خصيف قال : رأيت النبي ( في المنام فقلت : يا رسول الله ، اختلف علينا في التشهد : فقال : ( ( عليك بتشهد ابن مسعود ) ) . وقد نص أحمد على أنه لو تشهد بغيره بما روي عن النبي ( أنه يجزئه .
وذكر القاضي أبو يعلى : أن كلام أحمد في التشهد بما روي عن الصحابة ، كعمر أو غيره : هل يجزئ ، أو لا ؟ - محتمل ، والأظهر : أنه يجزئ .(5/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
وقد روي عن علي وابن عمر وعائشة تشهدت أخر .
وقد نص إسحاق على جواز التشهد بذلك كله - : نقله حرب ومن أصحابنا من قال : يجب التشهد بتشهد ابن مسعود ، ولا يجزئ أن يسقط منه واواً ولا الفاً . وهذا خلاف أحمد .
والمحققون من أصحابنا على أنه يجوز التشهد بجميع أنواع التشهدات المروية عن النبي ( كما نص عليه أحمد .
وقال طائفة ، منهم : القاضي أبو يعلى في كتابه ( ( الجامع الكبير ) ) : إذا أسقط من التشهد ما هو ساقط في بعض الروايات دون بعض صحت صلاته ، وإن أسقط ما هو ساقط في جميعها لم تصح .
وقيل لأحمد : لو قال في تشهده : ( ( أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ) ) :
هل يجزئه ؟ قالَ : أرجو .
وقد ورد مثل ذَلِكَ في بعض روايات حديث أبي موسى ، وهو في بعض نسخ
( ( صحيح مسلم ) ) ، وهي رواية لأبي دواد والنسائي .
والأفضل عند الشافعي : التشهد بتشهد ابن عباس ، الذي نقله عن النبي ( وخرّجه مسلم ، وهو قول الليث بن سعد .(5/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
والأفضل عن مالك تشهد عمر بن الخطاب ، وقد ذكره في ( ( الموطأ ) ) موقوفاً على عمر ، أنه كان يعلمه الناس على المنبر يقول : قولوا : ( ( التحيات لله ، الزاكيات
لله ، الصلوات لله ) ) وباقيه كتشهد ابن مسعود وإليه ذهب الزهري ومعمر .
وقد روى عن عمر مرفوعاً من وجوه لا تثبت ، والله أعلم .
وطائفة مم علماء الأندلس اختاروا تشهد ابن مسعود ، وكان يقال عنه : أنه لم يكن بالاندلس من اجتمع له علم الحديث والفقه أحد قبله مثله . وقد روي من حديث سلمان الفارسي ، أن النبي ( علمه التشهد حرفاً حرفاً - فذكر مثل حديث تشهد ابن مسعود سواء ، قال : ثم قال : ( ( قلها يا سلمان في صلاتك ، ولا تزد فيها حرفاً ، ولا تنتقص منها حرفاً ) ) .
خرّجه البزار في ( ( مسنده ) ) وفي إسناده ضعف . والله أعلم .(5/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
9 - باب
الدعاء قبل السلام
فيه حديثان
الأول :
832 - حدثنا أبو اليمان : أنا شعيب ، عن الزهري : أنا عروة ، عن عائشة أخبرته ، أن رسول الله ( كان يدعو في الصلاة : ( ( اللهم أني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات ، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم ) ) ، فقال له قائل : ما أكثر ما تستعيذ من المغرم ؟ فقالَ :
( ( إن الرجل إذا غرم حدّث فكذب ووعد فاخلف ) ) .
833 - وعن الزهري ، قال : أخبرني عروة ، أن عائشة قالت : سمعت النبي ( يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال .
إنما في هذا الحديث أنه كان يدعو بذلك في صلاته ، وليس فيه أنه كان يدعو به في تشهده قبل السلام ، كما بوب عليه . وقد روى مسروق ، عن عائشة في ذكر عذاب القبر ، أن النبي ( لم يصل صلاة بعد ذلك إلا تعوذ من عذاب القبر . وقد خرّجه البخاري في موضع آخر .
وخرّجه النسائي من رواية جسرة بنت دجاجة ، عن عائشة ، وفي حديثها : أنه كان يقول في ذلك دبر كل صلاة . وهذا يدل على أنه كان يقوله في تشهده .(5/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
ويستدل على ذلك - أيضاً - بحديث أخر ، خرّجه مسلم من رواية إلاوزاعي ، عن حسان ابن عطية ، عن محمد بن أبي عائشة ، عن أبي هريرة وعن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - ، عن النبي ( قال :
( ( إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع ، يقول : اللهم أني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال ) ) .
وفي رواية له بالطريق الأول خاصة : ( ( إذا فرع أحدكم من التشهد فليقل ) ) .
وفي رواية أخرى له أيضاً - : ( ( التشهد الأخير ) ) .
وخرّج - أيضاً - من رواية هشام ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن النبي ( كان يتعوذ من ذلك - ولم يذكر : الصلاة .
وكذلك خرّجه البخاري في ( ( الجنائز ) ) من رواية هشام .
وهذا يدل على أن رواية إلاوزاعي حمل فيها حديث يحيى ، عن أبي سلمة على لفظ حديث حسان ، عن ابن أبي عائشة ، ولعل البخاري لم يخرّجه لذلك ؛ فإن المعروف ذكر الصلاة في رواية ابن أبي عائشة خاصة ، ولم يخرج له البخاري .
وخرّج أبو داود من رواية عُمر بن يونس اليمامي : حدثني ابن عبد الله(5/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
بن
طاوس ، عن أبيه ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي ( ، أنه كان يقول بعد التشهد : ( ( اللهم ، إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ، وأعوذ بك من فتنة الدجال ) ) .
وروى مالك ، عن أبي الزبير ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، أن النبي ( كان يعلمهم الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن - فذكره ، ولم يذكر : الصلاة .
وخرّجه من طريقه مسلمٌ .
وكذلك خرج - أيضاً - من طريق ابن عيية ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - ومن طريق عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( أنه يأمر بهذا التعوذ ، ولم يذكر : الصلاة - أيضاً .
وذكر مسلم ، أنّ طاوساً كان يروي هذا الحديث عن ثلاثة ، أو عن أربعة ، وأنه أمر ابنه أن يعيد الصلاة حيث لم يتعوذ فيها من ذلك .
وخرّجه الحاكم من طريق ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن النَّبيّ ( .
وذكر الدارقطني أن ابن طاوس كانَ يرويه ، عن أبيه مرسلاً .
وسماع عائشة دعاء النَّبيّ ( في صلاته يدل على أنه كانَ أحياناً يسمع من يليه دعاءه ، كما كانَ أحياناً يسمع من يليه الآية من القرآن .
الحديث الثاني :
834 - حدثنا قتيبة : ثنا الليثُ ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن(5/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
عبد الله بن عمرو ، عن أبي بكر الصديق ، أنه قال لرسول الله ( علمني دعاء أدعو به في صلاتي . قال :
( ( قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فأغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم ) ) .
وهذا الحديث - أيضاً - إنما فيه : ذكرُ الدعاء في الصلاة من غير تخصيص بالتشهد ، وقد سبق ذكرُ الدعاء في الركوع والسجود والاختلاف فيه . والكلام على الاختلاف في إسناد هذا الحديث ، وفي بعض ألفاظه وفي معانيه يأتي في موضع آخر - أن شاء الله سبحانه وتعالى .(5/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
0 - باب
ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب
835 - حدثنا مسدد : ثنا يحيى ، عن الأعمش : حدثني شقيق ، عن عبد الله ، قال : كُنا إذا كُنا مع النبي ( في الصلاة قلنا : السلام على الله من عباده ، السلام على فلان وفلان ، فقال النبي ( : ( ( لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ، ولكن قولوا : التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ؛ فإنكم إذا قلتم ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء - أو بين السماء والأرض - أشهد إلا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسولهُ ، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فبدعوا ) ) .
وقد سبق في رواية للإمام أحمد التصريح بأن هذا الدعاء إنما هو في التشهد الأخير خاصةً ، فأما التشهد الأول فلا يدعو بعده عند جمهور العلماء ، ولا يزاد عليه عند أكثرهم ، حتى قال الثوري - في رواية عنه - إن فعل ذلك عمداً بطلت صلاته .
إلا أن الشافعي - في الجديد - قال : يصلي فيه على النبي ( وحده دون آله .
وقال مالك : يدعى فيه كالتشهد الأخير .
وروي عن ابن عمر .
وخرّج النسائي من حديث سعد بن هشام ، عن عائشة ، أن النبي ((5/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
كان يصلي من الليل تسع ركعات ، لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة ، فيحمد الله ويثني على نبيه ( ، ويدعو بينهن ، ولا يسلم ، ثم يصلي التاسعة ويقعد ، ويحمد الله ويصلي على نبيه ( ، ويدعو ، ثم يسلم تسليماً يسمعناً .
وحمل بعض أصحابنا هذا على أنه ( كان يفعله أحيانا في صلاة النفل ، لبيان الجواز دون الاستحباب .
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي عبيدة ، عن أبيه عبد الله بن مسعود ، أن النبي ( كان في الركعتين كأنه على الرضف حتى يقوم .
وحسّنه .
وأبو عبيدة ، وإن لم يسمع من أبيه ، إلا أن أحاديثه عنه صحيحة ، تلقاها عن أهل بيته الثقات العارفين بحديث أبيه - : قاله ابن المدني وغيره .
وروي عن أبي بكر الصديق نحو ذلك .
فأما الدعاء قبل السلام في التشهد الأخير ، فإنه مشروع بغير خلاف .
وحكى ابن المنذر ، عن الحسن ، أنه كَرِه الدعاء في المكتوبة ، وأباحه في
التطوع .
ولعله أراد في غير التشهد . وقد دل عليه حديثُ ابن مسعود هذا ، وليس هو بواجب كما ذكره البخاريّ ، ومن العلماء من حكى الإجماع على ذلك .(5/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
قد يستدل بما روى الحسن الحر ، عن القاسم بن مخيمرة ، قال أخذ علقمة
بيدي ، فحدثني أن ابن مسعود أخذ بيده ، وأن رسول الله ( أخذ بيده ، فعلّمه التشهد في الصلاة - فذكر إلى آخره ، ثم قال : إذا قلت هذا - أو قضيتُ هذا - فقد قضيت صلاتك ، فإن شئت أن تقوم فقم ، وان شئت أن تقعد فاقعد .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود .
وقال إسحاق بن راهويه : صح هذا عن النبي ( .
وهذا ظاهر في أن ما بعد التشهد ليس بواجب ، ولكن قد قيل : إن القائلَ :
( ( إذا قلت هذا ) ) إلى آخره ، هو ابن مسعود ، وليس مرفوعاً - ؛ كذلك قاله الدارقطني وأبو علي النيسابوري والبيهقي وأبو بكر الخطيب وغيرهم من الحفاظ .
على هذا التقدير ، فإذا قال ابن مسعود هذا ، وهو راوي الحديث الذي فيه :
( ( ثم ليتخير من الدعاء ) ) دل على أنه فهم من ذلك الاستحباب دون الوجوب ؛ ولهذا ردّه إلى اختياره ومشيئته وإعجابه ، وراوي الحديث أعلم بمعنى ما روى ، فيرجع إليه فهم ذلك .
وقد سبق عن طاوسٍ : ما حكاه عنه مسلم ، أنه بلغه عنه ، أنه أمر ابنه بالاعادة إذا لم يتعوذ في صلاته من تلك الأربع .
وحكي بعض أصحابنا وجهاً لهم بمثل ذلك .
وحكُي عن أبي طالب ، عن أحمد ، أنه قال : من ترك شيئاً من الدعاء في الصلاة عمداً يعيد .
وقوله : ( ( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو ) ) يستدل به على أنه يجوز(5/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
الدعاء في الصلاة بما لا يوافق لفظه لفظ القرآن ، وعامة الأدعية المروية عن النبي ( في صلاته كذلك ، وقد سبق في الباب الماضي بعض ذلك .
وهذا قول جمهور العلماء ، خلافاً لأبي حنيفة والثوري في قولهما : لا يدعو في صلاته إلا بما يوافق لفظَ القرآن ، فإن خالف بطلت صلاته .
وحكى أصحاب سفيان الثوري مذهبه كذلك .
والصحيح - المنصوص عن أحمد - : أنه يجوز الدعاء بما يعود بمصلحة الدين بكل حالٍ ، وهو قول جمهور العلماء .
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) أن النبي ( قال لرجل : ( ( كيف تقول في الصلاة ؟ ) ) قالَ : أتشهد ، ثُمَّ أقول : اللهمّ إني أسألك الجنة ، وأعوذُ بك من النار ، أما إني لا أحسنُ دندنتك ولا دندنة معاذ ، قالَ النَّبيّ ( : ( ( حولها ندندن ) ) . وهذا يشعر بأنه يجوز الدعاء بمصالح الآخرة بأي لفظٍ كان .
واختلفوا : هل يجوز الدعاء في الصلاة بالمصالح الدنيوية خاصة ؟
فقالت طائفة : يجوز ، منهم : عروة ومالك والشافعي ، وحُكي روايةً عن أحمد ، واستدلوا بعموم حديث ابن مسعود .
وقالت طائفة : لا يجوز ذلك ، وهو المشهور عن أحمد ، واختاره أبو محمد الجويني من الشافعية . وإنما هذا فيما لم يرد النص بمثله كالرزق والعافية والصحة ونحو ذلك مما ورد الدعاء به في الأخبار في الصلاة وغيرها ، فإنه يجوز الدعاء به في الصلاة ، وإنما الممنوع طلبُ تفاصيل حوائج الدنيا ؛ كالطعام الطيب والجارية الوضيئة .(5/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
والثوب الحسن ونحو ذَلِكَ ، فان هذا عندهم من جنس كلام الآدميين الذي قالَ فيهِ النَّبيّ ( : ( ( أن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ) ) .
ولا فرق في استحباب الدعاء بين الإمام والمأموم والمنفرد عند جمهور العلماء . واستحب إسحاق للإمام أن يدعو في هذا الموضع بصيغة الجمع ؛ ليشمل المأمومين معه ، وكره أن يخص نفسه ؛ للحديث المروي في النهي عن ذلك .
وللشافعية وجه ضعيف : أن الإمام لا يدعو ، وهو خلاف نص الشافعي ؛ فإنه قال في كتاب ( ( الأم ) ) : أحبُّ لكلَُ مصلًّ أن يزيد على التشهد والصلاة على النبي ( ذكر الله عز وجل وتحميده ودعاءً في الركعتين الأخيرتين ، وأرى أن تكون زيادته ذلك إن كان إماماً أقل من قدر التشهد ، والصلاة على النبي ( فيها قليلا ؛ للتخفيف عمن خلفه ، وأرى أن يكون جلوسه إذا كان وحده أكثر من ذلك ، ولا أكره ما طال ما لم يخرجه ذلك إلى سهو أو خاف فيه سهواً ، وإن لم(5/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
يزد على التشهد والصلاة على النبي ( كرهت ذلك ، ولا إعادة عليه ، ولا سجود سهو . انتهى كلامه .
وقد تضمن : أنه بعد التشهد والصلاة على النبي ( يشرع له ذكر الله وتحميده ، وهو خلاف نص أحمد ؛ فإنه نص على أنه يدعو بعد التشهد من غير ثناء وحمد .
وسئل أحمد - أيضاً - : هل يحمد الله الصلاة على النبي ( ؟ فقال : لا أعرفه .
وقال القاضي أبو يعلى : وظاهر هذا أنه لم يستحب ذلك .
ولا يستحب للأمام أن يدعو أكثر من قدر التشهد خشية الإطالة على المأمومين ، فأما المنفرد فإنه يطيل ما لم يخف السهو فيكره له الزيادة .
وقد بوّب النسائيّ في ( ( سننه ) ) : ( ( باب : الذكر بعد التشهد ) ) ، وخرج فيه حديث عكرمة بن عمار : ثنا إسحاق بن أبي طلحة ، عن أنسٍ ، قال : جاءت أم سليٍم إلى النبي ( ، فقالت : يا رسول الله ، علمني كلمات أدعو بهن في صلاتي ، قال : ( ( سبحي الله عشراً ، واحمديه عشراً ، وكبريه عشرا ، ثم سليه حاجتك ، يقول : نعم ، نعم ) ) .
وخرّج - أيضاً - بعد ذلك من حديث جعفر بن محمدٍ ، عن أبيه ، عن جابر ، أن رسول الله ( كان يقول في صلاته بعد التشهد : ( ( أحسن الكلام كلام الله ، وأحسن الهدي هدي محمدٍ ) ) .
وهذا الحديث إنما يعرف فيه أن النبي ( كان يقوله في تشهده في الخطبة ،(5/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
كما في ( ( صحيح مسلمٍ ) ) وغيره ، فلعل ذكر الصلاة فيه مما توهمه بعض الرواة ، حيث سمع أنه كان يقوله في تشهده ، فظنّ أنه تشهد الصلاة .
وحديث أنسٍ المتقدم ، خرّجه الترمذيّ والحاكمُ في ( ( باب : صلاة التسبيح ) ) .
وحسّنه الترمذي ، وصححه الحاكم ، وجعلاه من جملة أحاديث صلاة التسبيح .
وخرّجه الإمام أحمد ، ولم يذكر فيه : ( ( في صلاتي ) ) .
وقد روي الحديث بلفظٍ آخر بإسنادٍ آخر ، وهو : ( ( إذا صليت الصلاة المكتوبة فسبحي ) ) .
وهذا اللفظ يحمل على أنها تقول ذلك إذا فرغت من صلاتها ، فيستدل به حينئذٍ على فضل الذكر والدعاء عقب الصلاة المكتوبة ، وعلى ذلك حمله ابن حبان وغيره .
وقد روي عن عائشة ، أن النبي ( كان يفتتح قيام الليل ، يكبر عشراً ، ويسبح عشراً ، ويحمد عشراً ، ويهلل عشراً ، ويستغفر عشراً ، ويقول : ( ( اللهم ، اغفر لي واهدني وارزقني ) ) - عشراً ، ويقول : ( ( اللهم ، أني أعوذ بك من ضيق المقام يوم الحساب ) ) - عشراً .(5/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
خرّجه النسائي .
وخرّجه من وجوهٍ متعددةٍ بألفاظٍ متقاربةٍ ، وفي بعضها : ثم يستفتح الصلاة .
وهذه الرواية تشهد لأنه كان يقول ذلك قبل دخوله في الصلاة . والله أعلم .
وروى جعفر الفريابي في ( ( كتاب الذكر ) ) بإسنادٍ صحيحٍ ، عن ابن عمر ، أنه رأى رجلاً دخل في الصلاة ، فكبر ، ثم قال : اللهم اغفر لي وأرحمني ، فضرب ابن عمر منكبيه وقال : أبدأ بحمد الله عز وجل والثناء عليه .
وهذا يدل على استحباب ذلك عند افتتاح الصلاة .
ومما يستدل به على استحباب الثناء على الله عز وجل في التشهد قبل الدعاء : ما روى أنس قال : كنت مع رسول الله ( ، ورجل قائم يصلي ، فلما ركع وسجد وتشهد دعا ، فقال في دعائه : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد ، لا إله إلا أنت المنان ، بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم ، إني أسألك ، فقال النبي ( لأصحابه : ( ( هل تدرون بما دعا ؟ ) ) قالوا : الله ورسوله أعلم . قالَ :
( ( والذي نفسي بيده ، لقد دعا باسمه العظيم ، الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سُئل به أعطى ) ) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) والحاكم وقال : صحيح على شرطهما .
وعن محجن بن الأدرع ، أن النبي ( دخل المسجد ، فإذا رجل قد قضى صلاته وهو يتشهد ، فقال : اللهم ، إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد ،(5/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
الذي لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد أن تغفر لي ذنوبي ، إنك أنت الغفور الرحيم ، فقال
رسول الله ( : ( ( قد غفر له ) ) - ثلاثاً .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم ، وقال : على شرطهما .
وخرّج الترمذي من حديث ابن مسعود ، قال كنت أصلي والنبي ( وأبو بكر وعمر معه ، فلما جلست بدأت بالثناء على الله تعالى ، ثم الصلاة على النبي ( ، ثم دعوت لنفسي ، فقال النبي ( : ( ( سل تعطه . سل تعطه ) ) .
وقال : حسن صحيح .
وعن فضالة بن عبيدٍ ، قال : سمع النبي ( رجلاً يدعو في صلاته ، فلم يصل على النبي ( ، فقال : ( ( عجل هذا ) ) ، ثم دعاه ، فقال له - أو لغيره - : ( ( إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي ( ، ثم ليدع بما شاء ) ) .
خرّجه الترمذي ، وقال : حسن .
وخرّجه الإمام أحمد وأبو داود وعنده : ( ( فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه ) ) .
وخرّجه النسائي ، وزاد : فسمع رسول الله ( رجلاً يصلي فمجد الله وحمده ، وصلى على النبي ( ، فقال رسول الله ( : ( ( أدع تجب ، وسل تعطه ) ) .
وخرّجه الترمذي بهذا المعنى - أيضاً - ، وعنده : فقال : ( ( عجلت أيها(5/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
المصلي ، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله وصلَّ عليَّ ، ثم ادعه ) ) - وذكر باقيه بمعناه .
وفي هذا الحديث وحديث ابن مسعودٍ : استحباب تقديم الثناء على الله على الصلاة على نبيه ( ، وهذا قد يصدق بالدعاء بعد التشهد والصلاة على النبي ( ، لأن التشهد فيه ثناء على الله عز وجل ، فلا يحتاج إلى إعادة الثناء .
وقال إسحاق : يحمد الله بعد التشهد وقبل الصلاة على النبي ( - : نقله عنه حرب .
واستحب إسحاق وبعض الشافعية أن يبتدئ التشهد ب ( ( بسم الله ) ) ، وفيه حديث مرفوع ضعفه غير واحدٍ .
وقد روي عن ابن عمر ، أنه كان إذا تشهد التشهد الأخير دعا فيه ، ثم أخر السلام على النبي ( وعلى نفسه وعباد الله الصالحين إلى بعد الدعاء ، ثم يختم دعاءه بالسلام ، ثم يسلم عن يمينه .
ولم يذكر البخاري الصلاة على النبي ( في التشهد ، وقد دّل هذان الحديثان - أعنى : حديث ابن مسعود وفضالة - عليها ، ولكن ليسا على شرطه .
وقد روى ابن إسحاق : حدثنا محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن محمد بن(5/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
عبد الله بن زيدٍ ، عن عقبة بن عمرو ، قال : قالوا : يا رسول الله ، أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا ؟ قالَ : ( ( قولوا : اللهم ، صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميدٌ مجيد ) ) .
خرّجه ابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحهما ) ) والدارقطني - وقال : إسناد حسن متصل - والحاكم - وقال : صحيح الإسناد .
ويشهد لذلك : قول الصحابة للنبي ( : ( ( هذا السلام عليك قد عرفناه ) ) ، وإنما عرفوا السلام عليه في التشهد في الصلاة ، وهو : ( ( السلام على النبي ورحمة الله
وبركاته ) ) ، فيكون سؤالهم عن الصلاة عليه في الصلاة - أيضاً .
وقد خرّج ابن عدي من حديث طلحة ، قال قلت : يا رسول الله ، هذا التشهد قد عرفنا ، فكيف الصلاة عليك - فذكره .
وفي إسناده : سليمان بن أيوب الطلحي ، وقد وثقه يعقوب بن شيبة وغيره وقال ابن عديً : عامة أحاديثه أفراد لا يتابعه عليها أحد .
وخرج الحاكم والبيهقي من حديث ابن مسعودٍ ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا تشهد أحدكم في الصلاة ، فليقل : اللهم صل على محمد وآل محمدٍ ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ ، وارحم محمداً وآل محمد ، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنك حميدٌ مجيدٌ ) ) .
وفي إسناده : رجل غير مسمىً .(5/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
وخرّج الدارقطني من حديث عبد الوهاب بن مجاهدٍ ، عن مجاهدٍ ، قال : أخذ بيدي ابن أبي ليلى - أو أبو معمرٍ - ، قال : علمني ابن مسعودٍ التشهد ، وقال : علمنا رسول الله ( : ( ( التحيات لله ) ) - فذكره إلى آخره ، وزاد بعده : الصلاة على النبي ( .
وقال : ابن مجاهد هذا ، ضعيف الحديث .
وخرّج البيهقي من رواية إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن
عبد الله ، عن النبي ( ، أنه قال : ( ( إذا جلستم بين الركعتين فقولوا : التحيات لله ) ) - إلى آخر التشهد . قال عبد الله : وإذا قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أصابت كل عبدٍ صالحٍ أو نبيً مرسلٍ ، ثم يبدأ بالثناء على الله والمدحة له بما هو أهله ، وبالصلاة على النبي ( ، ثم يسأل بعد ذلك .
والظاهر : أن آخره من قول ابن مسعود .
وفيه : استحباب الثناء على الله بعد التشهد قبل الصلاة على النبي ( .
ولا نعلم خلافاٌ بين العلماء في أن الصلاة على النبي ( في التشهد الأخير مشروعة ، واختلفوا : هل تصح الصلاة بدونها ؟ على ثلاثة أقوالٍ :
أحدها : لا تصح الصلاة بدونها بكل حال ، وهو مذهب الشافعي وأحمد - في رواية عنه .
وروي عن أبي مسعودٍ الأنصاري ، قال : ما أرى أن لي صلاة تمت لا أصلي فيها على محمد وآله .
وخرّج ابن ماجه من رواية عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعدٍ ، عن(5/197)
"""""" صفحة رقم 198 """"""
أبيه ، عن جده ، عن النبي ( : ( ( لا صلاة لمن لم يصل على نبيه ( ) ) .
وعبد المهيمن ، تكلموا فيه .
والثاني : تصح الصلاة بدونها مع السهو دون العمد ، وهو رواية أخرى عن أحمد وإسحاق .
وروي معناه عن ابن عمر من قوله .
خرّجه المعمري في كتاب ( ( عمل يومٍ وليلةٍ ) ) .
واستدل بعض من قال ذلك بحديث فضالة بن عبيد المتقدم ذكره ، فإن النبي ( لم يأمر من صلى ولم يصل عليه بالإعادة حيث لم يكن يعلم ذلك ، وإنما علمه أن يقولها فيما بعد .
والثالث : تصح الصلاة بدونها بكل حال ، وهو قول أكثر العلماء ، منهم : أبو حنيفة ومالك والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق - في رواية عنهما - وداود وابن جريرٍ وغيرهم .
وقال النخعي : كانوا يكتفون بالتشهد من الصلاة على النبي ( .
خرّجه سعيد بن منصورٍ .
ولعله أراد : أن التسليم عليه والشهادة له بالرسالة تكفي من الصلاة عليه .
وقد روي عنه ما يدل على أن ذلك مراده ، وعن منصور والثوري نحوه -
أيضاً .
واستدل لذلك بأن النبي ( لم يعلم المسيء في صلاته الصلاة عليه ، ولا صح عنه أنه علمها أصحابه مع التشهد ، مع أنه علمهم الدعاء بعده ، وليس بواجبٍ كما
سبق .
والأمر بها في حديث ابن إسحاق لا يدل على الوجوب ؛ فإنه إنما أمرهم عندَ سؤالهم عنه ، وهذه قرينة تخرج الأمر عن الوجوب ، على ما ذكره طائفة من(5/198)
"""""" صفحة رقم 199 """"""
الأصوليين ؛ فإنه لو كان أمره للوجوب لا بتدأهم به ، ولم يؤخره إلى سؤالهم ، مع حاجتهم إلى بيان ما يجب في صلاتهم ؛ فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، فدل على أنه اكتفى بالسلام عليه عن الصلاة .
يدل على ذلك : أن عمر كان يعلم الناس التشهد على المنبر ، ولم يذكر فيه الصلاة على النبي ( ، وكذلك روي صفة التشهد عن طائفةٍ من الصحابة ، منهم : ابن عمر وعائشة وغيرهما ، ولم يذكروا فيه الصلاة على النبي ( .(5/199)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
1 - باب
من لم يمسح جبهته وأنفه حتى صلى
قال أبو عبد الله : رأيت الحميدي يحتج بهذا الحديث أن لا يمسح الجبهة في الصلاة .
836 - حدثنا مسلم بن إبراهيم : ثنا هشام ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، قال : سألت أبا سعيدٍ الخدري ، فقال : رأيت النبي ( يسجد في الماء والطين ، حتى رأيت أثر الطين في جبهته .
هذا مختصر من الحديث الذي فيه ذكر طلب ليلة القدر ، وقد سبق بتمامه في ( ( أبواب السجود ) ) ، وسيأتي في آخر ( ( الصيام ) ) - إن شاء الله سبحانه وتعالى - بألفاظٍ أخر ، وفي بعضها : أانه قال : فبصرت عيني رسول الله ( ، فنظرت إليه انصرف من الصبح ووجهه ممتلىء .
ولا شك أنه لم ينظر إلى وجهه إلا بعد انصرافه من الصلاة ، فدل على أنه ( لم يمسح أثر الطين من جبهته وأنفه في الصلاة ، وهذا هو الذي أشار إليه الحميدي .
وقد اتفقوا على أن تركه في الصلاة أفضل ، فإنه يشبه العبث ، واختلفوا : هل هو مكروهُ ، أم لا ؟
قال ابن المنذر : روينا عن ابن مسعودٍ ، أنه قال : من الجفاء مسح الرجل أثر سجوده في الصلاة .
وكره ذلك الأوزاعي وأحمد ومالك .(5/200)
"""""" صفحة رقم 201 """"""
وقال الشافعي : تركه أحب إلي ، وإن فعل فلا شيء عليه .
ورخص مالك وأصحاب الرأي فيه . انتهى .
وروي عن ابن عباس ، أنه قال : لا يمسح وجهه من التراب في الصلاة حتى يتشهد ويسلم .
وعن سعيد بن جبير : أنه عدّه من الجفاء .
وعن الحسن : أنه رخص فيه .
وقال سفيان - في نفض التراب عن اليدين في الصلاة - : يُكره .
وأما عن الوجه فهو أيسر ، وفي كراهته حديثان مرفوعان :
أحدهما : خرّجه ابن ماجه من روايةٍ هارون بن هارون بن عبد الله بن الهدير ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل الفراغ من صلاته ) ) .
وهارون هذا ، قال البخاري : لا يتابع على حديثه . وضَّعفه النسائي والدارقطني .
والثاني : من رواية سعيد بن عبيد الله بن زياد بن جبير بن حية ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، أن النبي ( ، قال : ( ( ثلاث من الجفاء : أن يبول الرجل قائماً ، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته ، أو ينفخ في سجوده ) ) .
خَّرجه البزار في ( ( مسنده ) ) والطبراني والدارقطني وغيرهم .(5/201)
"""""" صفحة رقم 202 """"""
وسعيد هذا ، احتج به البخاري ووثقه أحمد وابن معينٍ وأبو زرعة وغيرهم .
لكنه خولف في إسناد هذا الحديث :
فرواه قتادة والجريري ، عن ابن بريدة ، عن ابن مسعودٍ من قوله .
ورواه كهمس ، عن ابن بريدة ، قال : كان يقال ذلك .
وهذا الموقوف أصح .
وحكى البيهقي ، عن البخاري ، أنه قال في المرفوع : هو حديث منكر يضطربون فيه .
وأشار الترمذي إليه في ( ( باب : البول قائما ) ) ، ولم يخرجه ، ثم قال : حديث بريدة في هذا غير محفوظٍ .
قال البيهقي : وقد روي فيه من أوجه أخرى ، كلها ضعيفة .
فأما مسح الوجه من أثر السجود بعد الصلاة ، فمفهوم ما روي عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ يدل على أنه غير مكروهٍ .
وروى الميموني ، عن أحمد ، أنه كان اذا فرغ من صلاته مسح جبينه .
وقد روي من حديث أنسٍ ، أن النبي ( كان اذا قضى صلاته مسح جبهته بكفه اليمنى .
وله طرق عن أنس ، كلها واهية .(5/202)
"""""" صفحة رقم 203 """"""
وكرهه طائفة ؛ لما فيه من إزالة أثر العبادة ، كما كرهوا التنشيف من الوضوء والسواك للصائم .
وقال عبيد بن عميرٍ : لا تزال الملائكة تصلي على إلانسان ما دام أثر السجود في وجهه .
خَّرجه البيهقي بإسنادٍ صحيحٍ .
وحكى القاضي أبو يعلي روايةً عن أحمد ، أنه كان في وجهه شيء من أثر السجود فمسحه رجل ، فغضب ، وقال : قطعت استغفار الملائكة عني .
وذكر إسنادها عنه ، وفيه رجل غير مسمىً .
وبوب النسائي ( ( باب : ترك مسح الجبهة بعد التسليم ) ) ، ثم خرج حديث أبي سعيد الخدري الذي خَّرجه البخاري هاهنا ، وفي آخره : قال أبو سعيدٍ : مطرنا ليلة أحدى وعشرين ، فوكف المسجد في مصلى النبي ( ، فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح ، ووجهه مبتل طيناً وماءً .(5/203)
"""""" صفحة رقم 204 """"""
2 - باب
التسليم
837 - حدثنا موسى بن إسماعيل : ثنا إبراهيم بن سعد : ثنا الزهري ، عن هند بنت الحارث ، أن أم سلمة قالت : كان رسول الله ( إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ، ومكث يسيراً قبل أن يقوم .
قال ابن ئهاب : فأرى - والله أعلم - أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم .
المقصود من هذا الحديث : ذكر تسليم النبي ( من الصلاة ، وتسليمه من الصلاة مذكور في أحاديث كثيرة جداً ، قد سبق بعضها ، ويأتي بعضها ، كمثل حديث ابن بحينة في قيام النبي ( من الثنتين ولم يجلس ، ومثل حديث عمران بن حصين حين صلى خلف علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - ، ومثل حديث أبي هريرة في سلام
النبي ( من اثنتين ، وكلام ذي اليدين له ، وحديث ابن مسعودٍ في سجود السهو - أيضاً .
والاحاديث في ذلك كثيرة جداً .
ولعله ذكر هاهنا هذا الحديث لما ذكر فيه من قيام النساء حين يقضي تسلميه ؛ فإن هذا الكلام يشعر بإنه كانَ يسلم تسليمتين ، فإذا قضاهما قام النساء ، فإنه لا يقال : ( ( قضى الله ) ) بمعنى الفراغ منه إلا فيما لهُ أجزاء متعددة(5/204)
"""""" صفحة رقم 205 """"""
تنقضي شيئاً فشيئاً ، كما قالَ تعالى : ( فإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ ( [ النساء : 103 ] ، ( ? فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ (
[ الجمعة : 10 ] ، ( فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ ( [ البقرة : 200 ] .
وقول النبي ( في الشيطان وهربه من الأذان والتثويب به : ( ( فإذا قضي الأذان - وإذا قضي التثويب - أقبل ) ) .
ولا يكاد يقال لمن سلم على قومٍ مرة : قضى سلامه ، بمعنى فرغ ، ولا لمن كبر للإحرام : قضى تكبيره ، ولا لمن عطس فحمد الله : قضى حمده .
ولم يخرج البخاري الأحاديث المصرحة بتسليم النبي ( تسليمتين عن يمينه وشماله في الصلاة شيئاً ، ولعله كان يميل إلى قول من يقول بالتسليمة الواحدة ، وقد كان شيخه ابن المديني يميل إلى ذلك ، متابعة لشيوخه البصريين .
وخَّرج مسلم في ( ( صحيحه ) ) من أحاديث التسليمتين عدة أحاديث :
منها : حديث مجاهد ، عن أبي معمر ، أن أميراً كان يسلم تسليمتين بمكة ، فقال - يعني : ابن مسعودٍ - : أنى علقها ، أن رسول الله ( كان يفعله .
وقد اختلف في رفعه ووقفه ، وخَّرجه مسلم بالوجهتين .
وخرّج - أيضاً - من حديث سعد بن أبي وقاصٍ ، قال : كنت أرى رسول الله ( يسلم عن يمينه وعن يساره ، حتى أرى بياض خده .
وهو من رواية عبد الله بن جعفرٍ المخرمي ، ولم يخرج له البخاري .
وخرّج - أيضاً - من حديث عبيد الله بن القبطية ، عن جابر بن سمرة ،(5/205)
"""""" صفحة رقم 206 """"""
عن النبي ( ، قال : ( ( إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله ) ) .
وروى أبو إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، أن النبي ( كان يسلم عن يمينه وعن يساره : ( ( السلام عليكم ورحمة الله ، السلام عليكم ورحمة الله ) ) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه .
وفي روايةٍ لهم : حتى يرى بياض خده .
وخرّجه الترمذي بدون ذلك ، وصححه .
وخرّجه ابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحهما ) ) والحاكم وصححه .
وصححه العقيلي ، وقال : الأحاديث صحاح ثابتةٌ من حديث ابن مسعودٍ في تسليمتين .
وفي رواية للنسائي : ورأيت أبا بكرٍ وعمر يفعلان ذلك .
قد اختلف في إسناده على أبي إسحاق على أقوالٍ كثيرةٍ ، وفي رفعه ووقفه ، وكان شعبةُ ينكر أن يكون مرفوعاً .
وروى عمرو بن يحيى المازني ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمه واسع بن حبان ، أنه سأل ابن عمر عن صلاة النبي ( : كيف كانت ؟ قال : ( ( الله أكبر ) ) ، كلما وضع ورفع ، ثم يقول : ( ( السلام عليكم ورحمه الله ) ) عن يمينه ، ( ( السلام عليكم ورحمه الله ) ) عن يساره .(5/206)
"""""" صفحة رقم 207 """"""
خَّرجه الإمام أحمد والنسائي .
وهذا إسناد جيد .
قال ابن عبد البر : هو إسناد مدني صحيح ، إلا أنه يعلل بأن ابن عمر كان يسلم تسليمةً واحدةً ، فكيف يروي هذا عن النبي ( ثم يخالفه ؟
وقد ذكر البيهقي أنه اختلف في إسناده ، لكنه رجح صحته .
ورواه - أيضاً - بقية ، عن الزبيدي ، عن الزهري ، عن سالمٍ ، عن ابن عمر - مرفوعاً - أيضاً .
قال أبو حاتم : هو منكر .
وقال الدارقطني : اختلف على بقية في لفظه : روي أنه كان يسلم تسليمتين ، وروي تسليمةً واحدةً ، وكلها غير محفوظةٍ .
وقال الأثرم : هو حديث واهٍ ، وابن عمر كان يسلم واحدةً ، قد عرف ذلك عنه من وجوهٍ ، والزهري كان ينكر حديث التسليمتين ، ويقول : ما سمعنا بهذا .
وروي - أيضاً - من حديث حميدٍ الساعدي ، أنه لما وصف صلاة النبي ( : سلم عن يمينه وشماله .(5/207)
"""""" صفحة رقم 208 """"""
خرّجه أبو داود من رواية الحسن بن الحر : حدثني عيسى بن عبد الله بن مالكٍ ، عن محمد بن عمرة وابن عطاءٍ ، عن عباس بن سهلٍ ، عنه .
وقد سبق الكلام على هذا الإسناد .
وفي الباب أحاديث كثيرة ، لا تخلو أسانيد غالبها من كلام .
وقد قال الإمام أحمد - في رواية ابنه عبد الله - : ثبت عندنا ، عن النبي ( من غير وجهٍ ، أنه كان يسلم عن يمينه وعن شماله ، حتى يرى بياض خده .
وقال العقيلي : الأحاديث الصحاح عن ابن مسعودٍ وسعد بن أبي وقاص وغيرهما في تسليمتين .
وقد روي عن النبي ( ، أنه كان يسلم تسليمةً واحدةً من وجوهٍ لا يصح منها شيء - : قاله ابن المديني والأثرم والعقيلي وغيرهم .
وقال الإمام أحمد : لا نعرف عن النبي ( في التسليمة الواحدة إلا حديثاً مرسلاً لابن شهابٍ الزهري ، عن النبي ( . انتهى .
ومرسيل ابن شهابٍ من أوهى المراسيل وأضعفها .
ومن أشهرها : حديث زهير بن محمدٍ ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن
عائشة ، أن النبي ( كان يسلم في الصلاة تسليمةً واحدةً تلقاء وجهه ، ثم يميل إلى الشق الأيمن شيئاً .
خرّجه الترمذي من رواية عمرو بن أبي سلمة التنيسي ، عن زهير ، به .(5/208)
"""""" صفحة رقم 209 """"""
وقال : لا نعرفه مرفوعاً إلا من من هذا الوجه . قال محمد بن إسماعيل : زهير بن محمد أهل الشام يروون عنه مناكير ، ورواية أهل العراق عنه أشبه .
وخرّجه ابن ماجه من طريق عبد الملك بن محمد الصنعاني ، عن زهير ، به ، مختصراً .
وخرّجه الحاكم ، وقال : صحيح على شرطهما .
وأخطأ فيما قال ؛ فإن روايات الشاميين عن زهيرٍ مناكير عند أحمد ويحيى بن معينٍ والبخاري وغيرهم .
قال أحمد - في رواية الأثرم - : أحاديث التنيسي عن زهيرٍ بواطيل . قال : وأظنٌّه قال : موضوعةٌ . قال : فذكرت له هذا الحديث في التسليمة الواحدة . فقال : مثلُ هذا .
وذكر ابن عبد البر : أن يحيى بن معين سئل عن هذا الحديث ، فضعفه .
وقال أبو حاتم الرازي : هو منكر ، إنما هو عن عائشة - موقوفٌ .
وكذا رواه وهيب بن خالد ، عن هشام .
وكذا رواه الوليد بن مسلمٍ عن زهير بن محمدٍ ، عن هشامٍ ، عن أبيه - موقوفاً .
قال الوليد : فقلت لزهيرٍ : فهل بلغك عن رسول الله ( فيه شيء ؟ قال : نعم ، أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري ، أن رسول الله ( سلم تسليمةً واحدةً .
قال العقيلي : حديث الوليد أولى .
يعني : من حديث عمرو بن أبي سلمة .(5/209)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
قال : وعمرو في حديثه وهم .
قال الدارقطني : الصحيح وقفه ، ومن رفعه فقد وهم .
وخرج النسائي من حديث سعد بن هشامٍ ، عن عائشة في صفة صلاة النبي ( بالليل ، أنه كان يسلم تسليمةً يسمعنا .
وخَّرجه الإمام أحمد ، ولفظه : يسلم تسليمةً واحدةً : ( ( السلام عليكم ) ) يرفع بها صوته ، حتى يوقظنا .
وقدحمله الإمام أحمد على أنه كان يجهر بالواحدة ، ويسر الثانية .
وروي عبد الوهاب الثقفي ، عن حميدٍ ، عن أنسٍ ، أن النبي ( كان يسلم تسليمة واحدة .
خَّرجه الطبراني والبيهقي .
ورفعه خطأ ، إنما هو موقوف ، كذا رواه أصحاب حميدٍ ، عنه ، عن أنسٍ ، من فعله .
وروى جرير بن حازمٍ ، عن أيوب ، عن أنسٍ ، أن النبي ( وأبا بكرٍ وعمر كانوا يسلمون تسليمةً واحدةً .
خَّرجه البزار في ( ( مسنده ) ) .
وأيوب ، رأى أنساً ، ولم يسمع منه - : قاله أبو حاتمٍ .
وقال الأثرم : هذا حديث مرسل ، وهو منكر ، وسمعت أبا عبد الله يقول : جرير بن حازم يروي عن أيوب عجائب .
وروى روح بن عطاء بن أبي ميمونة : ثنا أبي ، عن الحسن ، عن سمرة : كان رسول الله ( يسلم في الصلاة تسليمةً واحدةً قبالة وجهه ، فإذا سلم عن(5/210)
"""""" صفحة رقم 211 """"""
يمينه سلم عن يساره .
خَّرجه الدارقطني والعقيلي والبيهقي وغيرهم ، وخَّرجه بقي بن مخلدٍ مختصراً .
وروح هذا ، ضعفه ابن معين وغيره ، وقال الأثرم : لا يحتج به .
وفي الباب أحاديث أخر لا تقوم بها حجة ، لضعف أسانيدها .
وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في ذلك : فمنهم من كان يسلم ثنتين ، ومنهم من كان يسلم واحدةً .
قال عمار بن أبي عمارٍ : كان مسجد الأنصار يسلمون تسليمتين ، ومسجد المهاجرين يسلمون تسليمةً واحدةً .
وأكثر أهل العلم على التسليمتين .
وممن روي عنه ذلك من الصحابة : أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعودٍ وعمار وسهل بن سعدٍ ونافع بن عبد الحارث .
وروي عن عطاءٍ والشعبي وعلقمة ومسروقٍ وعبد الرحمن بن(5/211)
"""""" صفحة رقم 212 """"""
أبي ليلى وعمرو بن ميمونٍ وأبي وائلٍ وأبي عبد الرحمن السلمي .
وهو قول النخعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثورٍ ، وحكي عن الأوزاعي .
وروي التسليمة الواحدة عن ابن عمر وأنسٍ وعائشة وسلمة بن الأكوع ، وروى عن عثمان وعليً - أيضاً - ، وعن الحسن وابن سيرين وعطاءٍ - أيضاً - وعمر بن عبد العزيز والزهري ، وهو قول مالكٍ والاوزاعي والليث .
وهو قول قديم للشافعي .
وحكاه أحمد عن أهل المدينة ، وقال : ما كانوا يسلمون إلا واحدةً . قال : وإنما حدثت التسليمتان في زمن بني هاشمٍ .
يعني : في ولاية بني العباس .(5/212)
"""""" صفحة رقم 213 """"""
وقال الليث : أدركت الناس يسلمون تسليمةً واحدةً .
وقد اختلف على كثيرٍ من السلف في ذلك ، فروى عنهم التسليمتان ، وروي عنهم التسليمة الواحدة ، وهو دليلٌ على أن ذلك كان عندهم سائغاً ، وإن كان بعضه أفضل من بعضٍ ، وكان الأغلب على أهل المدينة التسليمة الواحدة ، وعلى أهل العراق التسليمتان .
وحكي للشافعي قولٌ ثالثٌ قديمٌ - أيضاً - ، وقيل : إن الربيع نقله عنه ، فيكون حينئذٍ جديداً - : أنه إن كان المصلي منفرداً أو في جماعةٍ قليلةٍ ولا لغط عندهم فتسليمةٌ واحدةٌ ، وإلا فتسليمتان .
والقائلون بالتسليمتين أكثرهم على أنه لو اقتصر على تسليمة واحدة أجزأه ، وصحت صلاته ، وذكره ابن المنذر إجماعاً ممن يحفظ عنه من أهل العلم .
وذهب طائفة منهم إلى أنه لا يخرج من الصلاة إلا بالتسليمتين معاً ، وهو قول الحسن بن حي وأحمد - في روايةٍ عنه - وبعض المالكية وبعض أهل الظاهر .
واستدلوا بقوله عليه السلام : ( ( تحليلها التسليم ) ) ، وقالوا : التسليم إلى(5/213)
"""""" صفحة رقم 214 """"""
ما عهد منه فعله ، وهو التسليمتان ، وبقوله : ( ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ) ، وقدكان يسلم تسليمتين .
ومن ذهب إلى قول الجمهور ، قال : التسليم مصدرٌ ، والمصدر يصدق على القليل والكثير ، ولا يقتضي عدداً ، فيدخل فيه التسليمة الواحدة .
واستدلوا بأن الصحابة قد كان منهم من يسلم تسليمتين ، ومنهم من يسلم تسليمةً واحدةً ، ولم ينكر هؤلاء على هؤلاء ، بل قد روي عن جماعةٍ منهم التسليمتان والتسليمة الواحدة ، فدل على أنهم كانوا يفعلون أحياناً هذا وأحياناً هذا ، وهذا اجماع منهم على أن الواحدة تكفي .
قال أكثر أصحابنا : ومحل الخلاف عن أحمد في الصلاة المكتوبة ، فأما التطوع فيجزئ فيه تسليمة ، واستدلوا بحديث عائشة في صلاة النبي ( بالليل ، وقد سبق ذكره .
وخرّج الإمام أحمد من حديث إبراهيم الصائغ ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كان رسول الله ( يفصل بين الشفع والوتر بتسليمةٍ يسمعناها .
وقد تأول حديث عائشة في هذا المعنى على أنه كان يسمعهم واحدةً ويخفي
الثانية ، وقد نص أحمد على ذلك ، وأن الأولى تكون أرفع من الثانية في الجهر .
وقد روى أبو رزينٍ ، قال : سمعت علياً يسلم في الصلاة عن يمينه وعن شماله ، والتي عن شماله أخفض .
ومن أصحابنا من قال : يجهر بالثانية ويخفض بالأولى ، وهو قول النخعي .(5/214)
"""""" صفحة رقم 215 """"""
واختلفوا في صفة التسليم :
فقالت طائفةٌ : صفة التسليم : ( ( السلام عليكم ورحمه الله ) ) ، وهذا مروي عن النبي ( من وجوه ، إليه ذهب أكثر العلماء .
ولو اقتصر على قوله ( ( السلام عليكم ) ) أجزأه عند جمهورهم ، ولأصحاب أحمد فيه وجهان .
وقالت طائفة : يزيد مع ذلك : ( ( وبركاته ) ) ، ومنهم : الأسود بن يزيد ، كان يقولها في التسليمة الأولى .
وقال النخعي : أقولها وأخفيها .
واستحبه طائفة من الشافعية .
وقد خرّج أبو داود من حديث وائل بن حجر ، أنه صلى مع النبي ( ، فكان يسلم عن يمينه : ( ( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) ) ، وعن شماله : ( ( السلام عليكم ورحمة الله ) ) .
ومن أصحابنا من قال : إنما فعل ذلك مرةً لبيان الجواز .
وكان من السلف من يقول في التسليمة الأولى : ( ( السلام عليكم ورحمه الله ) ) ، ويقتصر في الثانية على ( ( السلام عليكم ) ) ، وروي عن عمار وغيره .
وقد تقدم حديث ابن عمر المرفوع بموافقة ذلك .
وقالت طائفة : بل يقتصر على قوله : ( ( السلام عليكم ) ) بكل حالٍ ، وهو قول مالك والليث بن سعدٍ ، وروي عن علي وغيره .
وكذلك هو في بعض روايات حديث جابر بن سمرة المرفوع .(5/215)
"""""" صفحة رقم 216 """"""
وفي بعضها زيادة : ( ( ورحمه الله ) ) .
وقد خَّرجه مسلم بالوجهين .
واكثر العلماء على أنه لا يخرج من الصلاة بدون التسليم ، واستدلوا بحديث : ( ( تحليلها التسليم ) ) .
وممن قال من الصحابة : تحليل الصلاة التسليم : ابن مسعودٍ وابن عباسٍ ، وحكاه الإمام أحمد إجماعاً .
وذهب طائفة إلى أنه يخرج من الصلاة بفعل كل منافٍ لها ، من أكلٍ أو شربٍ أو كلامٍ أو حدثٍ ، وهو قول الحكم وحماد والثوري وأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي وإسحاق .
ولم يفرقوا بين أن يوجد المنافي باختيار المصلي أو بغير اختياره إلا أبا حنيفة ، فإنه قال : إن وجد باختياره خرج من الصلاة بذلك ، وإن وجد بغير اختياره بطلت صلاته ، وجعل الفرض الخروج منها بفعل المنافي باختيار المصلى لذلك .
وخالفه صاحباه في اشتراط ذلك .
وقد حكي عن طائفة من السلف : أن من أحدث بعد تشهده تمت صلاته ، منهم : الحسن وابن سيرين وعطاء - على خلاف عنه - والنخعي .
وروي ذلك عنن علي بن أبي طالب ، وقد أنكر صحته أحمد وأبو حاتمٍ(5/216)
"""""" صفحة رقم 217 """"""
الرازي وغيرهما .
وروي - أيضاً - عن ابن مسعود من طريقٍ منقطعٍ .
واستدل لهؤلاء بحديث ابن مسعود : ( ( إذا قلت هذا وقضيت هذا فقد قضيت صلاتك ، فإن شئت أن تقوم فقم ، وإن شئت أن تقعد فاقعد ) ) .
وقد سبق ذكره ، والاختلاف في رفعه ووقفه على ابن مسعودٍ .
واختلف في لفظه - أيضاً - : فرواه بعضهم ، وقال : قال ابن مسعودٍ : فإذا فرغت من صلاتك ، فإن شئت فاثبت ، وإن شئت فانصرف .
خَّرجه البيهقي .
وهذه الرواية تدل على أنه إنما خيره إذا فرغ من صلاته ، وإنما يفرغ بالتسليم ؛ بدليل ما روى شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : مفتاح الصلاة التكبير ، وانقضاؤها التسليم ، إذا سلم الإمام فقم إن شئت .
قال البيهقي : وهذا أثر صحيح .
وقال : ويكون مراد ابن مسعودٍ : الإنكار على من زعم أن المأموم لا يقوم حتى يقوم إمامه .
وحمل أبو حنيفة وإسحاق حديث : ( ( تحليلها والتسليم ) ) على التشهد ، وقالوا : يسمى التشهد تسليماً ؛ لما فيه من التسليم على النبي والصالحين .
وهذا بعيد جداً .
واستدلوا - أيضاً - بما روى عبد الرحمن بن زيادٍ الأفريقي ، أن عبد الرحمن بن رافعٍ وبكر بن سوادة أخبراه ، عن عبد الله ابن عمرو ، عن(5/217)
"""""" صفحة رقم 218 """"""
النبي ( ، قال : ( ( إذا أحدث وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم جازت صلاته ) ) .
خَّرجه الترمذي .
وقال : إسناده ليس بالقوي ، وقد اضطربوا في إسناده ، والأفريقي ضعفه القطان وأحمد بن حنبلٍ .
وخَّرجه أبو داود بمعناه .
وخَّرجه الدارقطني ، ولفظه : ( ( إذا أحدث بعدما يرفع رأسه من آخر سجدة واستوى جالساً تمت صلاته ) ) .
وقد روي بهذا المعنى عن الأفريقي ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الله بن عمرو - مرفوعاً .
وهذا اضطراب منه في إسناده ، كما أشار اليه الترمذي ، ورفعه منكر جداً ، ولعله موقوف ، والأفريقي لا يعتمد على ما ينفرد به .
قال حربٌ : ذكرت هذا الحديث لأحمد ، فرده ، ولم يصححه .
وقال الجوزجاني : هذا الحديث لا يبلغ القوة أن يدفع أحاديث : ( ( تحليلها
التسليم ) ) .
وأجاب بعضهم عن هذا ، وعن حديث ابن مسعودٍ - على تقدير صحتهما - بالنسخ ، واستدل بما روى عمر بن ذرَّ ، عن عطاء بن أبي رباحٍ ، قالَ : كانَ النَّبيّ ( إذا قعد في آخر صلاته قدر التشهد أقبل على الناس بوجهه ، وذلك قبل أن ينزل التسليم .(5/218)
"""""" صفحة رقم 219 """"""
خَّرجه البيهقي .
وخَّرجه وكيعٌ في ( ( كتابه ) ) عن عمر بن ذرَّ ، عن عطاءٍ - بمعناه - ، وقال : حتَّى نزل التسليم .
وقد ذكرنا - فيما تقدم في أول ( ( كتاب الصَّلاة ) ) - حديثاً ، عن عمر ، أن النَّبيّ ( كانَ يصلي في أول الاسلام ركعتين ، ثُمَّ أمر أن يصلي أربعا ، فكان يسلم بين كل ركعتين ، فخشينا أن ينصرف الصبي والجاهل ، يرى أنه قد أتم الصَّلاة ، فرأيت أن يخفي الإمام التسليمة الأولى ، ويعلن بالثانية ، فافعلوا ذَلِكَ .
خَّرجه الإسماعيلي .
وإسناده ضعيف .
ولم يقل بذلك أحد من علماء المسلمين : إن الصَّلاة الرباعية المكتوبة يسلم فيها مرتين : مرة في التشهد الأول ، ومرة في الثاني ، ولكن الإمام يسر السلام الأول ، ويعلن بالثاني ، والأحاديث كلها تدل على أنه لم يكن يسلم فيها إلا مرةً واحدةً ، في التشهد الثاني خاصةً .(5/219)
"""""" صفحة رقم 220 """"""
3 - باب
يسلم حين يسلم الإمام
وكان ابن عمر يستحب إذا سلم الإمام أن يسلم من خلفه .
روى وكيع بإسناده ، عن مجاهد ، قال : سألت ابن عمر ، يسلم الإمام وقد بقي شيءٌ من الدعاء ، أدعو أو أسلم ؟ قال : لا ، بل سلم .
وقد نص الإمام أحمد على هذه المسالة ، وأن يسلم مع الإمام ويدع الدعاء ، إلا أن يكون قد بقي عليه منه شيءٌ يسيرٌ ، فيتمه ثم يسلم .
ومذهب سفيان - فيما نقله عنه أصحابه - : إذا سلم الإمام سلم من خلفه ، وإن كان بقي عليه شيءٌ من التشهد قطعه .
ولعل مراده : الدعاء بعد التشهد .
ولكن نقل حسان بن إبراهيم ، عن سفيان : أنه قال : إن كان بقي عليه شيءٌ من التشهد فليسلم ، فإنه أحب إلي .
واستحب أحمد وإسحاق سلام المأموم عقب سلام الإمام ، وجعله أحمد من جملة الائتمام به ، وعدم الاختلاف عليه .
والأولى للمأموم أن يسلم عقب فراغ الإمام من التسليمتين ، فان سلم بعد تسليمته الأولى جاز عند من يقول : إن الثانية غير واجبةٍ ؛ لأنه يرى أن الإمام قد خرج من الصلاة بتسليمته الأولى ، ولم يجز عند من يرى أن الثانية واجبةٌ ، لا يخرج من الصلاة بدونها .
واختلف أصحاب الشافعي : هل الأفضل أن يسلم المأموم بعد تسليمة الإمام
الأولى ، أو بعد تسليمته الثانية ؟ على وجهين .
وقال الشافعي - في ( ( البويطي ) ) - : من كان خلف إمامٍ ، فإذا فرغ الإمام(5/220)
"""""" صفحة رقم 221 """"""
من سلامه سلم عن يمينه وعن شماله .
وهذا يدل على أنه لا يسلم إلا بعد فراغ الإمام من التسليمتين ، ويدل - أيضاً - ، على أنه لا يستحب للمأموم التخلف عن سلام الإمام ، بل يسلم عقب سلامه .
وهذا على قول من قال من أصحابه - كالمتولي - : إنه يستحب للمأموم أن يسلم بعد فراغ الإمام من التسليمة الأولى - أظهر .
وقال القاضي أبو الطيب الطبري منهم : المأموم بالخيار ، إن شاء سلم بعده ، وإن شاء استدام الجلوس للتعوذ والدعاء وأطال لك ، وعلل : أنه قد انقطعت قدوته بالإمام بسلامه .
وهذا مخالفة لنص الشافعي ، وعامة أصحابه ، وللمأثور عن الصحابة .
ولو سلم المأموم مع تسلم إمامه ، ففي بطلان صلاته لأصحابنا وأصحاب الشافعي وجهان ، سبق ذكرهما عند ذكر متابعة المأموم للإمام .
والأصح عندنا وعندهم : أنه لا تبطل صلاته ، كما لو قارنه في سائر الأركان ، سوى تكبيرة الإحرام .
ومذهب مالك : البطلان .
وقد استحب طائفة من السلف التسليم مع الإمام .
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) عن العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان يسلم مع تسليم الإمام .
وبإسناده ، عن إبراهيم ، قال : إن شئت سلمت معه ، وإن شئت سلمت بعده .(5/221)
"""""" صفحة رقم 222 """"""
وعن عطاءٍ ، أنه كان ربما سلم تسليمه ، وربما سلم بعده .
وقد يحتمل أن يكون مراد هؤلاء السلف بالسلام معه : السلام عقبيه ، من غير مهلةٍ ، وبالسلام بعده : التأخر عنه . والله أعلم .
وقد وقع في كلام المتقدمين في إسلام الزوجين معاً ما يدل على أن مرادهم به : اجتماعهما في الإسلام في مجلسٍ واحدٍ ، أو يومٍ واحدٍ ، وفيه حديثٌ مرفوعٌ يشهد
بذلك .
وإن سلم المأموم قبل سلام إمامه لم يجز ، وبطلت صلاته إن تعمد ذلك ولم ينو مفارقته على وجه يجوز معه المفارقة ، إلا عند من يرى أن السلام ليس من الصلاة ، ويخرج منها بإنهاء التشهد ، أو بدون التشهد عند من يرى أن التشهد الأخير سنة .
لكن من قال منهم : لا يخرج من الصلاة إلا بالإتيان بالمنافي ، فإنه لا يجيز للمأموم أن يخرج من الصلاة قبل خروج إمامه بذلك .
وظاهر ما روي عن ابن مسعودٍ يدل على جوازه ، وأنه يخرج من الصلاة بإنهاء التشهد ، وقد تقدم قوله : فإذا قلت ذلك ، فإن شئت أن تقوم فقم ، وإن شئت أن تقعد فاقعد .
وروي ذلك عن علي صريحاً ، فروى عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي ، قال : إذا تشهد الرجل وخاف أن يحدث قبل أن يسلم الإمام فليسلم ، فقد تمت صلاته .
وقد رواه الحكم ، عن عاصمٍ ، عن علي ، ولفظه : إذا جلس مقدار التشهد ، ثم أحدث فقد تمت صلاته .
فيكون أمره بالمبادرة بالسلام على وجه الاستحباب ، فإنه لو أحدث لم تبطل صلاته عنده .(5/222)
"""""" صفحة رقم 223 """"""
وقد حكي مذهب أبي حنيفة مثل ذلك . والله أعلم .
قال البخاري :
838 - ثنا حبان بن موسى : ثنا عبد الله - هو : ابن المبارك - : أنا معمر ، عن الزهري ، عن محمود بن الربيع ، عن عتبان ، قال صلينا مع رسول الله ( ، فسلمنا حين سلم .
هذا مختصر من حديث عتبان الطويل في إنكاره بصره ، وطلبه من النبي ( أن يأتي إلى بيته فيصلي فيه في مكان يتخذه مسجدا ، وقد خَّرجه بتمامه في الباب الذي يلي هذا عن عبدان ، عن ابن المبارك .
وقد خَّرجه فيما مضى من طريق عقيل ومالك وإبراهيم بن سعدٍ ، عن الزهري - مختصراً ومطولاً - ، وليس في رواياتهم : ( ( فسلمنا حين سلم ) ) ، إنما هذه في رواية معمرٍ المخَّرجة في هذا الباب .
وقوله : ( ( سلَّمنا حين سلم ) ) ظاهرة يقتضي أنهم سَّلموا مع سلامه ؛ لأن
( ( الحين ) ) معناه الوقت ، فظاهر اللفظ يقتضي أن سلامهم كانَ في وقت سلامه مقارناً لهُ ، وليس هذا هوَ المراد - والله أعلم - وإنما المراد : أنهم سلمو ا عقيب سلامه من غير تأخر عنه ، وعبر عن ذَلِكَ باتحاد الوقت ، والحيز ؛ فإن التعاقب شبيه بالتقارب وهو - أيضاً - المراد - والله اعلم . من المروري عن ابن عمر وغيره من السلف في السلام مع
الإمام ، وأنهم أرادوا بالمعية : التعاقب ، دون التقارن .(5/223)
"""""" صفحة رقم 224 """"""
4 - باب
من لم يرد السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة
خَّرج فيه حديث عتبان - أيضاً :
839 - 840 - عن عبدان ، عن ابن المبارك ، بالإسناد المتقدم ، وذكر الحديث بتمامه ، وفي آخر قالَ :
فغدا علي رسول الله ( وأبو بكرٍ معه بعدما أشتد النهار ، فأستأذن النبي ( ، فأذنت له ، فلم يجلس حتى قال : ( ( اين تحب أن اصلي من بيتك ؟ ) ) فأشار إليه من المكان الذي أحب أن يصلي فيه ، فقام وصففنا خلفه ، ثم سلم ، وسلمنا حين سلم .
مراده بهذا الحديث في هذا الباب : أن الذين صلوا مع النبي ( في بيت عتبان سلموا مع النبي ( حين سلم من الصلاة ، ولم يوجد منهم سوى السلام من الصلاة كسلام النبي ( منها ، وفي ذلك ردٌ على من قال : إن المأموم يرد على الإمام سلامه مع تسليمه من السلام إما قبله أو بعده .
وقد قال بذلك طوائف من السلف ، منهم : ابن عمر وأبو هريرة :
فروي عن ابن عمر ، أنه كان إذا سلم الإمام رد عليه ، ثم سلم عن يمينه ، فإن سلم عليه أحد عن يساره رد عليه وإلاّ سكت .
وروي عنه ، أنه كان يسلم عن يمينه ، ثم يرد على الإمام .
وعن أبي هريرة ، أنه كان إذا سلم الإمام قال : السلام عليك أيها القارئ .
وقال عطاء : ابدأ بالامام ، ثم سلم على من عن يمينك ، ثم على(5/224)
"""""" صفحة رقم 225 """"""
من عن شمالك .
وعن الحسن وقتادة نحوه .
وقال الشعبي : إذا سلم الإمام فَّرد عليه .
وكان سالمٌ يفعله .
وقاله النخعي .
وقال الزهري : هو سنةٌ .
قال مكحولٌ : كان أصحاب النبي ( يردون على الإمام إذا سلم عليهم .
وقال عطاء - أيضاً - : حق عليك أن ترد على الإمام إذا سلم .
وقال - مرةً - : هو مخيرٌ ، إن شاء رد عليه ، وإن شاء صبر حتى يسلم لنفسه ، وينوي به الإمام ، ومن صلى على جانبيه .
وقال في الرد على الإمام : يرد في نفسه ، ولا يسمعه .
وكذا قال حمادٌ .
فإن كان مرادُ من قال : يرد على الإمام : أنه يرد عليه السلام في نفسه ، ولا يتكلم به ، فهذا الرد إذا فعله في الصلاة لا تبطل به الصلاة ، وإن كان مراده : أنه يرد بلسانه ، كما هو ظاهر أكثرهم ، فإنه ينبني على أن ردَّ السلام في الصلاة لا يبطل الصلاة ، وقد ذهب إلى ذلك طائفة من السلف ، ويأتي ذكره في موضعٍ آخر - إن شاء الله تعالى .
وقد ينبني - أيضاً - ، على أن السلام ليس من فروض الصلاة ، وأنه يخرج من الصلاة بكل منافٍ لها من الكلام ونحوه ، كما قال ذلك من ذكرنا قوله من قبل .(5/225)
"""""" صفحة رقم 226 """"""
وأما من قال : إن الرد على الإمام يكون بعد السلام من الصلاة ، فهذا لا إشكال فيه ؛ فإنه قد خرج من الصلاة بالسلام ، وقد ذهب إلى ذلك غير واحد من الأئمة المشهورين .
قال مالكٌ ، في المأموم : يسلم تسليمةً عن يمينه ، وأخرى عن يساره ، ثم يرد على الإمام .
قال ابن عبد البر : تحصيل قول مالكٍ في ذلك : أن الإمام يسلم واحدةً تلقاء وجهه ، ويتيامن بها قليلاً - وأن المصلي لنفسه - يعني : منفرداً - يسلم اثنين - في رواية ابن القاسم ، وأن المأموم يسلم ثلاثا إن كان عن يساره أحد .
واختلف قوله في موضع رد المأموم على الإمام : فمرةً قال : يسلم عن يمينه وعن يساره ، ثم يرد على الإمام . ومرة قال : يرد على الإمام بعد أن يسلم عن يمينه ، ثم يسلم عن يساره .
وقد روى أهل المدينة عن مالك وبعض المصريين ، أن الإمام والمنفرد سواءٌ ، يسلم كل واحد منهما تسليمةً واحدةً تلقاء وجهه ، ويتيامن بها قليلاً .
قال : وكان الليث بن سعد يبدأ بالرد على الإمام ، ثم يسلم عن يمينه وعن يساره .
ونقل أبو داود عن أحمد في الرد على الإمام قبل السلام ، قال : لا .
قيل له : فبعده ؟ قال : نعم ، وإن شاء نوى بالسلام الرد . قال : وما أعرف فيه حديثاً عالياً يعتمد عليه .
قال القاضي أبو يعلى : زظاهر هذا : أنه مخير في الرد على الإمام بالنية في حال سلامه ، أو بالقول بعده ، فيقول : السلام عليك أيها القارئ . قال : ويسر(5/226)
"""""" صفحة رقم 227 """"""
به ، ولا يجهر .
نقل المروذي عن أحمد في الرجل يرد السلام على الإمام ، فقال : إذا نوى بتسليمه الردَّ فقد ردَّ عليه ، فإن فعل رجلٌ فليخفه .
قال : ومعناه : إن ردَّ عليه بالقول فليخفه .
وقال إسحاق : لا اختلاف بين أهل العلم في الرد على الإمام إذا سلم كما سلم ، ولكن اختلفوا : هل يبدأ بالرد عليه قبل السلام ، أم يرد عليه بعد السلام ؟ قال : وأحب إلي أن يرد بعد السلام . قال واذا رفع صوته بالردَّ قدر ما يسمع الإمام والصف الذي يليه جاز ، وإن أسره وأسمع أذنيه بالرد على الإمام أجزأه .
وكل من قال : يرد على الإمام قال : يرد عليه بلفظ السلام من غير زيادة ، إلا ما روي عن أبي هريرة ، أنه يقال : السلام عليك أيها القارئ ، كما سبق .
واختلفوا في المأموم : هل ينوي بسلامه من الصلاة الرد على إمامه ، أم لا ؟ وفيه قولان :
أحدهما : لا ينوي ذلك ، ونص عليه أحمد في رواية مُهنا وغيره ، وهو اختيار ابن حامدٍ من أصحابنا ؛ لأن السلام ركن من أركان الصلاة ، لا يخرج منها بدونه ، على ما تقدم ، والصلاة لا يردّ فيها السلام على أحدٍ ، بل هو مبطلٌ للصلاة ؛ لأنه خطاب آدمي ، هذا مذهبنا ، وقول جمهور العلماء .
وعلى هذا : فهل تبطل صلاته بذلك ؟
قالَ ابن حامد من أصحابنا : إن لم ينو سوى الرد بطلت صلاته ، وإن نوى الردَّ والخروج من الصَّلاة ففي البطلان وجهان ؛ لأنه لم يخلص النية لخطاب(5/227)
"""""" صفحة رقم 228 """"""
المخلوق ، فأشبه ما لو قال لمن دق عليه الباب : ( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ ( [ الحجر : 46 ] ينوي به القراءة والإذن له ؛ فإن في بطلان الصَّلاة بذلك روايتين ، أصحهما : لا تبطل .
قالَ أحمد - في رواية جعفر بن محمدٍ - : السلام على الإمام لا نعرف لهُ موضعاً ، وتسليم الإمام هوَ انقضاء الصَّلاة ، ليس هوَ سلام على القوم ، فيجب عليهم أن يردوا ، ولكن ابن عمر شدد في هذا ، يسلم الرجل وينوي به السلام من الصَّلاة والرد على
الإمام ، كأنه يقوله على وجه الإنكار لذلك . قيل له : أنهم يقولون : إن ردَّ السلام على الإمام واجبٌ . قال : أرجو أن لا يكون واجباً ، وإن رد فلا بأس .
والقول الثاني : أنه ينوي المأموم بسلامه الرد على إمامه ، وهو قول عطاءٍ والنخعي وحماد والثوري ، ونص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه .
وهل هو مسنونٌ مستحبٌ ، أو جائز ؟ فيه روايتان - أيضاً - عن أحمد : قال - في رواية يعقوب بن بختان - : ينوي بسلامه الرد .
وهو اختيار أبي حفصٍ العكبري .
وقال - في رواية غيره - : لا بأس به .
فظاهره : جوازه فقط ، وهو اختيار القاضي أبي يعلى وغيره .
وقال - في رواية ابن هانئ - : إذا نوى بتسليمه الردَّ على الإمام أجزأه .
وظاهر هذا : أنه واجبٌ ؛ لأنه رد سلامٍ ، فيكون فرض كفاية ، إلا أن يقال : إن المسلم في الصلاة لا يجب الرد عليه ، أو يقال : أنه يجوز تأخير الرد إلى بعد السلام . ولكن إذا جوزنا تأخيره وجب أحد أمرين : إما أن ينوي الرد بالسلام ، أو أن يرد بعد ذلك ، وهو قول عطاءٍ كما تقدم .
وتبويب البخاري قد يشعر بذلك ؛ لقوله : ( ( واكتفى بتسليم الإمام ) ) ،(5/228)
"""""" صفحة رقم 229 """"""
ويحتمل أنه أراد أن تسليم الصلاة كافٍ عن الردَّ ، وإن لم ينو به الردَّ ، كما قاله أحمد في روايةٍ .
وقال يحيى بن سعيدٍ الأنصاري : إذا سلمت عن يمينك أجزأك من الرد عليه .
وكذا قال النخعي .
ولم يشترطا أن ينوي بسلامه الردَّ .
قال أبو حفصٍ العكبري : وينوي بالأولى الخروج من الصلاة ، وبالثانية الرد على الإمام والحفظة .
وممن رأى أن ينوي بسلامة الرد على الإمام : أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما .
ثم قال أصحاب الشافعي : إن كان المأموم عن يمين الإمام نوى بتسليمه الأولى السلام على من عن يمينه من الملائكة والمسلمين من الإنس والجن ، وينوي بالثانية ذلك مع الرد على إمامه ، وإن كان المأموم عن يسار إمامه نواه في الأولى ، وإن كان محاذياً له نواه في أيتهما شاء ، والأولى افضل - : نص عليه الشافعي في ( ( الأم ) ) ، وينوي الإمام بسلامه من عن يمينه ويساره يمينه ويساره من الملائكة والمسلمين من المأمومين وغيرهم ، وينوي بعض المأمومين الردَّ على من بعضٍ . قالوا : وكل هذه النيات مستحبةٌ ، لا يجب منها شيءٌ .
وقال أصحاب أبي حنيفة ينوي المصلي بكل تسليمةٍ من في تلك الجهة من الناس والحفظة .
وهل يقدم الآدميين على الملائكة في النية ؟ على روايتين عندهم :
أحدهما : يقدم الملائكة ؛ لأنهم عندهم أفضل .
والثانية : يقدم الناس ؛ لمشاهدتهم .(5/229)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
ويدخل المأموم الإمام في الجهة التي هو فيها . فإن كان بحذائه أدخله في اليمين ؛ لأنهما أفضل .
وروى عبد الرزاق ، عن معمرٍ ، عن حمادٍ ، قال : إذا كان الإمام عن يمينك ثم سلمت عن يمينك ، ونويت الإمام كفى ذلك ، وإذا كان عن يسارك ثم سلمت عن يسارك ونويت الإمام كفى ذلك - أيضاً - ، وإن كان بين يديك فسلم عليه في نفسك ، ثم سلم عن يمينك وشمالك .
وأما نية الخروج من الصلاة ، فهل هي واجبةٌ ، تبطل الصلاة بتركها ، أم لا ؟ فيه وجهان لأصحابنا ، اختار ابن حامد وجوبها ، واختار الأكثرون عدم الوجوب ، وهو ظاهر كلام أحمد .
وينوي الخروج بالأولى ، سواءٌ قلنا : يخرج بها من الصلاة ، أو قلنا : لا يخرج إلا بالثانية ؛ لأن النية تستصحب إلى الثانية .
ومن الأصحاب من قال : أن قلنا : الثانية سنةٌ نوى بالأولى الخروج ، وإن قلنا : الثانية فرضٌ نوى الخروج بالثانية خاص . والصحيح : الأول .
ولأصحاب الشافعي في وجوب نية الخروج بالسلام وبطلان الصلاة بتركها وجهان - أيضاً .
ونص الشافعي على أن ينوي بالسلام الخروج .
ولكن اختلفوا : هل هو محمولٌ على الاستحباب ، أو الوجوب ؟
وإنما ينوي الخروج عندهم بالأولى ؛ لان الثانية ليست عندهم واجبةً بغير خلافٍ .(5/230)
"""""" صفحة رقم 231 """"""
واستدل من استحب أن ينوي بسلامه الحفظة والامام والمأمين بما خَّرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة ، قال : كنا إذا صلينا مع رسول الله ( ، فقلنا : السلام عليكم ورحمة الله ، السلام عليكم ورحمة الله ، وأشار بيده إلى الجانبين ، فقال رسول الله ( : ( ( علام تومئون بأيديكم كأنها أذناب خيلٍ شمسٍ ، وإنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ، ثميسلم على إخيه من على يمينه وشماله ) ) .
وفي رواية له : فقال : ( ( ما شأنكم تشيرون بأيديكم ، كأنها أذناب خيلٍ شمسٍ ، إذا سلم احدكم فليلتفت إلى صاحبه ، ولا يومئ بيده ) ) .
وخرّج أبو داود من حديث سمرة بن جندب ، قال : أمرنا رسول الله ( أن نرد على الإمام ، وأن نتحاب ، وأن يسلم بعضنا على بعض .
وخرّج أبو داود - أيضاً - ، من طريقٍ اخرٌ ، عن سمرة ، قال : أمرنا رسول الله ( ، فقال : ( ( ابدأوا قبل التسليم ، فقولوا : التحيات الطيبات الصلوات ، والملك لله ، ثم سلموا على اليمين ، ثم سلموا على قارئكم وعلى أنفسكم ) ) .
وخرّجه ابن ماجه بمعناه .
وفي رواية له باسناد فيه ضعفٌ : ( ( إذا سلم الإمام فردوا عليه ) ) .
وخرّج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث عاصم بن ضمرة ،(5/231)
"""""" صفحة رقم 232 """"""
عن علي ، أن النبي ( كان يصلي قبل العصر أربعاً ، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ، والنبيين والمرسلين ، ومن تبعهم من المؤمنين .
وقال الترمذي : حديث حسنٌ .
وظاهره : يدل على أنه ( كان ينوي بسلامه في صلاة التطوع السلام على الملائكة ومن ذكر معهم .
وتأوله إسحاق على أنه اراد بذلك التشهد ؛ فإنه يسلم فيه على عباد الله الصالحين .
وهو خلاف الظاهر . والله أعلم .(5/232)
"""""" صفحة رقم 233 """"""
5 - باب
الذكر بعد الصلاة
فيه ثلاثة أحاديث :
الأول : حديث ابن عباس :
841 - حدثنا إسحاق بن نصرٍ : حدثنا عبد الرزاق : أنا ابن جريجٍ : أخبرني عمرو ، أن أبا معبد مولى ابن عباسٍ أخبره ، أن ابن عباس أخبره ، أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله ( .
قال ابن عباسٍ : كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته .
842 - حدثنا عليٌ : ثنا سفيان : ثنا عمرو : أخبرني أبو معبدٍ ، عن ابن عباسٍ ، قال : كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله ( بالتكبير .
حدثنا عليٌ : ثنا سفيان ، عن عمروٍ ، قال : كان أبو معبدٍ أصدق موالي ابن عباسٍ .
قال عليٌ : واسمه : نافذٌ .
أبو معبدٍ مولى ابن عباسٍ ، اسمه ، نافذٌ ، وهو ثقةٌ ؛ وثقه أحمد ويحيى وأبو زرعة ، واتفق الشيخان على تخريج حديثه .
ولكن في رواية لمسلمٍ في هذا الحديث من طريق ابن عيينة ، عن عمروٍ ، أن أبا معبدٍ حدثه بذلك ، ثم أنكره بعد ، وقال : لم أحدثك بهذا .
ورواه الإمام أحمد ، عن سفيان ، عم عمروٍ ، به ، وزاد : قال عمروٌ :(5/233)
"""""" صفحة رقم 234 """"""
قلت له : إن الناس كانوا إذا سلم الإمام من صلاة المكتوبة كبروا ثلاث تكبيرات وهكذا هنا ثلاث تهليلات [ . . . ] .
وقال حنيلٌ : سمعت أبا عبد الله يقول : ثنا عليٌ بن ثابتٍ : ثنا واصلٌ ، قال : رأيتُ علي عبد الله بن عباسٍ إذا صلى كبر ثلاث تكبيراتٍ . قلت لأحمد : بعد الصلاة ؟ قال : هكذا . قلت له : حديث عمرو ، عن أبي معبد ، عن ابن عباسٍ : ( ( كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله ( بالتكبير ) ) ، هؤلاء أخذوه عن هذا ؟ . قال نعم - : ذكره
أبو بكرٍ عبد العزيز ابن جعفر في كتابه ( ( الشافي ) ) .
فقد تبين بهذا أن معنى التكبير الذي كان في عهد رسول الله ( عقب الصلاة المكتوبة : هو ثلاث تكبيراتٍ متواليةٍ .
ويشهد لذلك : ما روي عن مسعرٍ ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن طيسلة ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله ( : ( ( من قال في دبر الصلوات ، وإذا أخذ مضجعه : الله أكبر كبيراً ، عدد الشفع والوتر ، وكلمات الله الطيبات المباركات - ثلاثاً - ، ولا إله إلا الله - مثل ذلك - كن له في القبر نوراً ، وعلى الحشر نوراً ، وعلى الصراط نوراً ، حتى يدخل الجنة ) ) .
وخَّرجه - أيضاً - بلفظ آخر ، وهو : ( ( سبحان الله عدد الشفع والوتر ، وكلمات ربي الطيبات التامات المباركات - ثلاثاً - والحمد لله ، والله أكبر ، ولا(5/234)
"""""" صفحة رقم 235 """"""
إله إلا الله ) ) .
وذكر الإسماعيلي : أن محمد بن عبد الرحمن ، هو : مولى آل طلحة ، وهو ثقةٌ مشهورٌ ، وخرّج له مسلمٌ .
وطيسلة ، وثقه ابن معينٍ ، هو : ابن علي اليمامي ، ويقال : ابن مياسٍ ، وجعلهما ابن حبان اثنين ، وذكرهما في ( ( ثقاته ) ) ، وذكر أنهما يرويان عن ابن عمر .
وخرّجه ابن أبي شيبة في ( ( كتابه ) ) عن يزيد بن هارون ، عن مسعر بهذا الإسناد - موقوفاً على ابن عمر .
وأنكر عبيدة السلماني على مصعب بن الزبير تكبيره عقب السلام ، وقال : قاتله الله ، نعار بالبدع ، واتباع السنة أولى .
وروى ابن سعدٍ في ( ( طبقاته ) ) بإسناده عن عمر بن عبد العزيز ، أنه كان يكبر : الله اكبر ولله الحمد - ثلاثاً - دبر كل صلاةٍ .
وقد دل حديث ابن عباسٍ على رفع الصوت بالتكبير عقب الصلاة المفروضة ، وقد ذهب الىظاهره أهل الظاهر ، وحكي عن أكثر العلماء خلاف ذلك ، وأن ألافضل الإسرار بالذكر ؛ لعموم قوله تعالى : ( وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ( [ الأعراف : 205 ] وقوله تعالى : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ( [ الأعراف : 55 ] ، ولقول النَّبيّ ( لمن جهر بالذكر من أصحابه : ( ( إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ) ) .(5/235)
"""""" صفحة رقم 236 """"""
وحمل الشافعي حديث ابن عباسٍ هذا على أنه جهر به وقتاً يسيراً حتى يعلمهم صفة الذكر ؛ لا أنهم جهروا دائماً . قال : فأختار للإمام والمأموم أن يذكروا الله بعد الفراغ من الصلاة ، ويخفيان ذلك ، إلا أن يكون إماما يريد أن يتعلم منه ، فيجهر حتى يعلم ، أنه قد تعلم منه ، ثم يسر .
وكذلك ذكر أصحابه .
وذكر بعض أصحابنا مثل ذلك - أيضاً .
ولهم وجهٌ آخر : أنه يكره الجهر به مطلقاً .
وقال القاضي أبو يعلى في ( ( الجامع الكبير ) ) : ظاهر كلام أحمد : أنه يسن للإمام الجهر بالذكر والدعاء عقب الصلوات بحيث يسمع المأموم ، ولا يزيد على ذلك .
وذكر عن أحمد نصوصاً تدل على أنه كان يجهر ببعص الذكر ، ويسر الدعاء ، وهذا هو الأظهر ، وأنه لا يختص ذلك بالإمام ؛ فإن حديث ابن عباس هذا ظاهره يدل على جهر المأمومين - أيضاً .
ويدل عليه - أيضاً - : ما خَّرجه مسلمٌ في ( ( صحيحه ) ) من حديث ابن الزبير ، أنه كان يقول في دبر كل صلاةٍ حين يسلم : ( ( لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيءٍ قدير ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة ، وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ) ) ، وقال : كان رسول الله ( يهل بهن في دبر كل صلاةٍ .
ومعنى : ( ( يهل ) ) . يرفع صوته ، ومنه : إلاهلال في الحج ، وهو رفع الصوت بالتلبية ، واستهلال الصبي إذا ولد .(5/236)
"""""" صفحة رقم 237 """"""
وقد كان أصحاب رسول الله ( يجهرون بالذكر عقب الصلوات ، حتى يسمع من يليهم :
فخَّرج النسائي في ( ( عمل اليوم والليلة ) ) من رواية عون بن عبد الله بن عتبة ، قال صلى رجلٌ إلى جنب عبد الله بن عمرو بن العاص ، فسمعه حين سلم يقول : ( ( أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلاب والاكرام ) ) ، ثم صلى إلى جنب عبد الله بن عمر ، فسمعه حين سلم يقول مثل ذلك ، فضحك الرجل ، فقال له ابن عمر : ما أضحكك ؟ قال : إني صليت إلى جنب عبد الله بن عمروٍ ، فسمعته يقول مثلما قلت : قال ابن عمر : كان رسول الله ( يقول ذلك .
وأما النهي عن رفع الصوت بالذكر ، فإنما المراد به : المبالغة في رفع الصوت ؛ فإن أحدهم كان ينادي بأعلى صوته : ( ( لا إله إلا الله ، والله اكبر ) ) فقال لهم النبي ( : ( ( أربعوا على أنفسكم ، إنكم لا تنادون أصم ولا غائباً ) ) ، وأشار إليهم بيده يسكنهم ويخفضهم .
وقد خرّجه الإمام أحمد بنحو من هذه الألفاظ .
وقال عطية بن قيسٍ : كان الناس يذرون الله عند غروب الشمس ، يرفعون أصواتهم بالذكر ، فإذا خفضت أصواتهم أرسل إليهم عمر بن الخطاب أن يرددوا الذكر .
خرّجه جعفر الفريابي في ( ( كتاب الذكر ) ) .(5/237)
"""""" صفحة رقم 238 """"""
وخرّج - أيضاً - من رواية ابن لهيعة ، عن زهرة بن معبدٍ ، قال : قال : رأيت ابن عمر إذا انقلب من العشاء كبر كبر ، حتى يبلغ منزله ، ويرفع صوته .
وروى محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن جابرٍ ، أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر ، فقال رجل : لو أن هذا خفض من صوته ، فقال رسول الله ( : ( ( دعه ؛ فإنه أواه ) ) .
وهذا يدل على أنه يحتمل ذلك ممن عرف صدقه وإخلاصه دون غيره .
وخرّج الإمام أحمد من رواية عقبة بن عامر ، أن رسول الله ( قال لرجلٍ ، يقال له : ذو البجادين : ( ( إنه أواهٌ ) ) ، وذلك أنه رجلٌ كثير الذكر لله في القرآن ، ويرفع صوته في الدعاء .
وفي إسناده : ابن لهيعة .
وقال الأوزاعي في التكبير في الحرس في سبيل الله : أحب إلي أن يذكر الله في
نفسه ، وإن رفع صوته فلا بأس .
فأما قول ابن سيرين : يكره رفع الصوت إلا في موضعين : الأذان والتلبية ، فالمراد به - والله أعلم - : المبالغة في الرفع ، كرفع المؤذن والملبي .
وقد روي رفع الصوت بالذكر في مواضع ، كالخروج إلى العيدين ، وايام العشر ، وأيام التشريق بمنىً .
وأما الدعاء ، فالسنة إخفاؤه .
وفي ( ( الصحيحين ) ) عن عائشة ، في قوله تعالى : ( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ(5/238)
"""""" صفحة رقم 239 """"""
وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ( [ الإسراء : 110 ] ، أنها نزلت في الدعاء .
وكذا روي عن ابن عباس وأبي هريرة ، وعن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة وعروة ومجاهدٍ ولإبراهيم وغيرهم .
وقال الإمام أحمد : ينبغي أن يسر دعاءه ؛ لهذه الآية . قال : وكان يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء .
وقال الحسن : رفع الصوت بالدعاء بدعةٌ .
وقال سعيد بن المسيب : أحدث الناس الصوت عند الدعاء .
وكرهه مجاهدٌ وغيره .
وروى وكيعٌ ، عن الربيع ، عن الحسن - والربيع ، عن يزيد بن أبانٍ ، عن
أنسٍ - ، أنهما كرها أن يسمع الرجل جليسه شيئاً من دعائه .
وورد فيه رخصةٌ من وجهٍ لا يصح :
خرّجه الطبراني من رواية أبي موسى : كان النبي ( إذا صلى الصبح يرفع صوته حتى يسمع أصحابه ، يقول : ( ( اللهم ، أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري ) ) - ثلاث مرات - ( ( اللهم ، أصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي ) ) - ثلاث مرات ، ( ( اللهم ، أصلح لي آخرتي التي جعلت إليها مرجعي ) ) - ثلاث مراتٍ - وذكر دعاء آخر .
وفي إسناده : يزيد بن عياضٍ ، متروك الحديث . وإسحاق بن طلحة ، ضعيفٌ .(5/239)
"""""" صفحة رقم 240 """"""
فأما الحديث الذي خَّرجه مسلمٌ وغيره ، عن البراء بن عازبٍ ، قال : كنا إذا صلينا خلف رسول الله ( أحببنا أن نكون عن يمينه ؛ ليقبل علينا بوجهه .
قال : فسمعته يقول : ( ( رب قني عذابك يوم تبعث عبادك ) ) .
فهذا ليس فيه أنه كان يجهر بذلك حتى يسمعه الناس ، إنما فيه كان يقوله بينه وبين نفسه ، وكان يسمعه منه - احيانا - جليسه ، كما كان يسمع منه من خلفه الآية أحياناً في صلاة النهار .
وروى هلال بن يسافٍ ، عن زاذان : نا رجل من الأنصار ، قال : سمعت
رسول الله ( يقول في دبر الصلاة : ( ( اللهم ، اغفر لي ، وتب عليَّ ، إنك أنت التواب الغفور ) ) - مائة مرةٍ .
خرّجه ابن أبي شيبة ، وعنه بقي بن مخلدٍ في ( ( مسنده ) ) .
الحديث الثاني :
843 - حدثنا محمد بن أبي بكر : ثنا المعتمر ، عن عبيد الله ، عن سمىً ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : جاء الفقراء إلى النبي ( ، فقالوا : ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ولهم فضلٌ من أموال يحجون بها ويعتمرون ، ويجاهدون ويتصدقون ، قال : ( ( ألا أحدثكم بما إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ، ولم يدركم أحدٌ بعدكم ، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم ، إلا من عمل مثله ، تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ) ) .
فاختلفنا بيننا ، فقال بعضنا : نسبح ثلاثاً وثلاثين ، ونحمد ثلاثاً وثلاثين ، ونكبر(5/240)
"""""" صفحة رقم 241 """"""
أربعاً وثلاثين . فرجعت إليه ، فقال : تقول : سبحان الله ، والحمد لله ، والله اكبر ، حتى يكون منهنكلهن ثلاثٌ وثلاثون .
ذكر الخطابي : أن لفظ هذه الرواية : ( ( ذهب أهل الدور ) ) ، وقال : والصواب ( ( الدثور ) ) .
وذكر غيره : أن هذه رواية المرزوي ، وأنها تصحيفٌ ، والرواية المشهورة : ( ( أهل الدثور ) ) على الصواب .
و ( ( الدثور ) ) : جمع دثرٍ ، بفتح الدال ، وهو : المال الكثير .
وفي الحديث : دليل على قوة رغبة الصحابة - رضي الله عنهم - في الأعمال الصالحة الموجبة للدرجات العلى والنعيم المقيم ، فكانوا يحزنون على العجز عن شيءٍ مما يقدر عليه غيرهم من ذلك .
وقد وصفهم الله في كتابه بذلك ، بقوله : ( وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا
يُنفِقُونَ ( [ التوبة : 92 ] .
ولهذا قال النبي ( : ( ( لا حسد إلا في اثنين ) ) ، فذكر منهما : ( ( رجل(5/241)
"""""" صفحة رقم 242 """"""
آتاه الله مالاً ، فهو ينفقه في وجهه ، فيقول رجل : لو أن لي مالاً ، لفعلت فيه كما فعل ذلك ) ) .
فلذلك كان الفقراء إذا رأوا أصحاب الأموال يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون وينفقون حزنوا على عجزهم عن ذلك ، وتأسفوا على امتناعهم من مشاركتهم فيه ، وشكوا ذلك إلى النبي ( ، فدلهم النبي ( على عمل ، إن أخذوا به أدركوا من سبقهم ، ولميدركهم أحدٌ بعدهم ، وكانوا خير من هم بين ظهرانيهم ، إلا من عمل مثله ، وهو التسبيح والتحميد والتكبير خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين .
وهذا يدل على أن الذكر أفضل ألاعمال ، وأنه أفضل من الجهاد والصدقة والعتق وغير ذلك .
وقد روي هذا المعنى صريحاً عن جماعةٍ كثيرةٍ من الصحابة ، منهم : أبو الدرداء ومعاذ وغيرهما .
وروي مرفوعاً من وجوهٍ متعددةٍ - أيضاً .
ولا يعارض هذا حديث الذي سأل النبي ( عما يعدل الجهاد ، فقال : ( ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر ، وتقوم فلا تفتر ) ) - الحديث(5/242)
"""""" صفحة رقم 243 """"""
المشهور ، لأن هذا السائل سأل عن عمل يعمله في مدة جهاد المجاهد من حين خروجه من بيته إلى
قدومه . فليس يعدل ذلك شيء غير ما ذكره ، والفقراءُ دلهم النبي ( على عمل يستصحبونه في مدة عمرهم ، وهو ذكر الله الكثير في أدبار الصلوات ، وهذا أفضل من جهاد يقع في بعض الأحيان ، ينفق صاحبه فيه ماله .
فالناس منقسمون ثلاثة أقسامٍ ، أهل ذكر يدومون عليه إلى أنقضاء أجلهم ، وأهل جهادٍ يجاهدون وليس لهم مثل ذلك الذكر . فالأولون أفضل من هؤلاء .
وقومٌ يجمعون بين الذكر والجهاد ، فهؤلاء أفضل الناس .
ولهذا لما سمع الأغنياء الذين كانوا يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون بما علم النبي ( الفقراء من ذلك عملوا به ، فصاروا أفضل من الفقراء حينئذ ؛ ولهذا لما يألوا النبي ( عن ذلك ، قال : ( ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) ) .
ومن زعم من الصوفية أنه أراد أن الفقر فضل الله ، فقد اخطأ ، وقال ما لا يعلم .
وقد دَّل الحديث على فضل التسبيح والتحميد والتكبير خلف كل صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين .
وخرّجه مسلمٌ من طريق بن عجلان ، عن سميٍ ، وذكر فيه : أن المختلفين هم سميٌ وبعض أهله ، وان القائل له هو أبوه أبو صالحٍ السمان ، وأن ابن عجلان قال : حدثت بهذا الحديث رجاء بن حيوة ، فحدثني بمثله عن أبي صالحٍ .
وخرّجه البخاري في أواخر كتابه ( ( الصحيح ) ) - أيضاً - من طريق ورقاء ، عن سمي بهذا الإسناد ، بنحوه ، ولكن قال فيه : ( ( تسحبون في دبر كل صلاةٍ(5/243)
"""""" صفحة رقم 244 """"""
عشراً ، وتحمدون عشراً ، وتكبرون عشراً ) ) .
وقال : تابعه عبيد الله بن عمر ، عن سمي . قال : ورواه ابن عجلان عن سميَ ورجاء بنحيوة . ورواه جريرٌ ، عن عبد العزيز بن رفيعٍ ، عن أبي صالحٍ ، عن أبي الدرداء . ورواه سهيلٌ ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( . انتهى .
ومراده : المتابعة على إسناده .
ورواية عبيد الله بن عمر ، هي التي خرجها في هذا الباب .
ورواية ابن عجلان ، هي التي خرجها مسلمٌ ، كما ذكرناه .
ورواية سهيلٍ ، خرجها مسلمٌ - أيضاً - بمثل حديث ابن عجلانٍ ، عن سمي ، وزاد في الحديث : يقول سهيلٌ : إحدى عشرة إحدى عشرة ، فجميع ذلك كله ثلاثةٌ وثلاثون .
وأما رواية جريرٍ التي أشار إليها البخاري ، قوله : عن أبي صالحٍ ، عن أبي
الدرداء ، فقد تابعه عليها - أيضاً - أبو الأحوص سلام بن سليمٍ ، عن عبد العزيز .
والظاهر : أنه وهمٌ ، فإن أبا صالحٍ إنما يرويه عن أبي هريرة ، لا عن أبي الدرداء ، كما رواه عنه سمي وسهيلٌ ورجاء ابن حيوة .
وإنما رواه عبد العزيز بن رفيعٍ ، عن أبي عمر الصيني ، عن أبي الدرداء ، كذلك رواه الثوري ، عن عبد العزيز ، وهو أصح - : قاله أبو زرعة ، والدارقطني .(5/244)
"""""" صفحة رقم 245 """"""
وأما ألفاظ الحديث ، فهي مختلفةٌ :
ففي رواية عبيد الله بن عمر التي خرجها البخاري هاهنا : ( ( تسبحون وتحمدون وتكبرون ثلاثاً وثلاثين ) ) ، وفسره بأنه يقول : ( ( سبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ) ) حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين .
وقد تبين أن المفسر لذلك هو أبو صالح ، وهذا يحتمل أمرين :
أحدهما : أنه يجمع بين هذه الكلمات الثلاث ، فيقولها ثلاثاً وثلاثين مرةً ، فيكون مجموع ذلك تسعاً وتسعين .
والثاني : أنه يقولها إحدى عشرة مرةً ، فيكون مجموع ذلك ثلاثاً وثلاثين .
وهذا هو الذي فهمه سهيلٌ ، وفسر الحديث به ، وهو ظاهر رواية سمي ، عن أبي صالحٍ - أيضاً .
ولكن ؛ قد روي حديث أبي هريرة من غير هذا الوجه صريحاً بالمعنى الأول :
فخرج مسلمٌ من حديث سهيل ، عن أبي عبيد المذحجي - وهو : مولى سليمان بن عبد الملك وحاجبه - ، وعن عطاء بن يزيد ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( من سبح في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين ، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين ، فتلك تسعة وتسعون ، وقال تمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، غفرت خطاياه ، وإن كانت مثل زبد البحر ) ) .
وقد روي عن سهيل بهذا الإسناد - موقوفاً على أبي هريرة .(5/245)
"""""" صفحة رقم 246 """"""
وكذا رواه مالك في ( ( الموطإ ) ) عن أبي عبيدٍ - موقوفاً .
وخرّجه ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من طريق مالكٍ - مرفوعاً .
والموقوف عن مالكٍ أصح .
وخرّجه النسائي في ( ( اليوم والليلية ) ) بنحو هذا اللفظ ، من رواية ابن عجلان ، عن سهيلٍ ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - مرفوعاً .
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من طريق الأوزاعي : حدثني حسان بن عطية : حدثني محمد بن أبي عائشة : حدثني أبو هريرة ، قال : قال أبو ذر : يا رسول الله ، ذهب أصحاب الدثور بالأجور - فذكر الحديث ، بمعناه ، وقال فيه : ( ( تكبر الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ، وتحمده ثلاثاً وثلاثين ، وتسبحه ثلاثاً وثلاثين ، تختمها بلا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، غفرت له ذنوبه ، ولوكانت مثل زبد البحر ) ) .
فهذا ما في حديث أبي هريرة من الاختلاف .
وقدروي عنه نوعٌ آخر ، وهو : التسبيح مائة مرةٍ ، والتكبير مائة مرةٍ والتهليل مائة مرةٍ ، والتحميد مائة مرةٍ .
وخرّجه النسائي في ( ( كتاب اليوم والليلة ) ) بإسنادٍ فيه ضعفٌ .
وروي موقوفاً على أبي هريرة .(5/246)
"""""" صفحة رقم 247 """"""
وخرّجه النسائي في ( ( السنن ) ) بإسنادٍ آخر عن أبي هريرة - مرفوعاً - : ( ( من سبح في دبر صلاة الغداة مائة تسبيحةٍ ، وهلل مائة تهليلةٍ ، غفر له ذنوبه ، ولو كانت مثل زبد البحر ) ) .
وروي عن أبي هريرة - موقوفاً عليه - : التسبيح عشرٌ ، والتحميد عشرٌ ، والتكبير عشرٌ .
وقد تقدم أن البخاري خَّرجه في آر ( ( كتابه ) ) عنه - مرفوعاً .
وقد روي عن النبي ( من غير حديث أبي هريرة في هذا الباب أنواعٌ أخر من الذكر :
فمنها : التسبيح والتحميد والتكبير مائة ، فالتسبيح والتحميد كلٌ منهما ثلاثٌ وثلاثون ، والتكبير وحده أربعٌ وثلاثون .
خرّجه مسلمٌ من حديث كعب بن عجرة .
وخرّجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث زيد بن ثابتٍ .
وخرّجه الإمام أحمد من حديث أبي ذر ، لكن عنده : أن التحميد هو الأربع .
وخرّجه ابن ماجه ، وعنده : أن ابن عيينة قال : لا أدري أيتهن أربع .
ومنها : التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل مائة مرةٍ ، من كل واحدٍ(5/247)
"""""" صفحة رقم 248 """"""
خمسٌ وعشرون .
وخرّجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث زيد بن ثابتٍ .
وخرّجه النسائي من حديث ابن عمر .
ومنها : التسبيح ثلاثاً وثلاثين ، والتحميد مثله ، والتكبير أربعاً وثلاثين ، فذلك مائةٌ ، ويزيد عليهن التهليل عشراً .
خرّجه النسائي والترمذي من حديث ابن عباسٍ .
ومنها : التسبيح عشرٌ مراتٍ ، والتحميد مثله ، والتكبير مثله ، فذلك ثلاثون .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص .
وخرّجه النسائي في ( ( اليوم والليلة ) ) من حديث سعدٍ .
ومنها : التكبير إحدى عشرٌ مرةً ، والتحميد مثله ، والتهليل مثله والتسبيح مثله ، فذلك أربعٌ وأربعون .
خرّجه البزار من حديث ابن عمر .
وإسناده ضعيفٌ ، فيه موسى بن عبيدة .
ويجوز الأخذ بجميع ما ورد من أنواع الذكر عقب الصلوات ، والأفضل أن(5/248)
"""""" صفحة رقم 249 """"""
لا ينقص عن مائةٍ ، لأن أحاديثها أصح أحاديث الباب .
واختلف في تفضيل بعضها على بعض :
فقال أحمد - في رواية الفضل بن زيادٍ - ، وسئل عن التسبيح بعد الصلاة ثلاثةً وثلاثين أحب إليك ، أم خمسةً وعشرين ؟ قال : كيف شئت .
قال القاضي أبو يعلى : وظاهر هذا : التخيير بينهما من غير ترجيح .
وقال - في رواية علي بن سعيدٍ - : أذهب إلى حديث ثلاثٍ وثلاثين .
وظاهر هذا : تفضيل هذا النوع على غيره .
وكذلك قال إسحاق : الافضل أن تسبح ثلاثاً وثلاثين ، وتحمد ثلاثاً وثلاثين ، وتكبر ثلاثاً وثلاثين ، وتختم المائة يالتهليل . قال : وهو في دبر صلاة الفجر آكد من سائر الصلوات ؛ لما ورد من فضيلة الذكر بعد الفجر إلى طلوع الشمس .
نقل ذلك عنه حربٌ الكرماني .
وهل الأفضل أن يجمع بين التسبيح والتحميد والتكبير في كل مرةٍ ، فيقولهن ثلاثاً وثلاثين مرةٍ ، ثم يختم بالتهليل ، أم الأفضل أن يفرد التسبيح والتحميد والتكبير على
حدةٍ ؟
قال أحمد - في رواية محمد بن ماهان ، وسأله : هل يجمع بينهما ، أو يفرد ؟ قال : لا يضيق .
قال أبو يعلى : وظاهر هذا : أنه مخيرٌ بين الافراد والجمع .
وقال أحمد - في رواية أبي داود - : يقول هكذا : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله اكبر ، ولا يقطعه .(5/249)
"""""" صفحة رقم 250 """"""
وهذا ترجيحٌ منه للجمع ، كما قاله أبو صالحٍ ، لكن ذكر التهليل فيه غرابةٌ .
وقد روى عبد الرزاق ، عن معمرٍ ، عن قتادة - مرسلاً - ، أن النبي ( أمرهم أن يقولوا دبر كل صلاةٍ : ( ( لا إله إلا الله ، والله اكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله عشرٌ مراتٍ ) ) .
وقال إسحاق : الأفضل أن يفرد كل واحدٍ منها .
وهو اختيار القاضي أبي يعلى من أصحابنا ، قال : وهو ظاهر الأحاديث ؛ لوجهين :
أحدهما : أنه قال : ( ( تسبحون وتحمدون وتكبرون ) ) ، والواو قد قيل : إنها للترتيب ، فإن لم تقتض وجوبه أفادت استحبابه .
والثاني : أن هذا مثل نقل الصحابة - رضي الله عنهم - لوضوء النبي ( ، وأنه تمضمض ثلاثاً ، واستنشق ثلاثاً ، وغسل وجهه ثلاثاً ، وذراعيه ثلاثاً ، ولا خلاف في المراد : أنه غسل كل عضوٍ من ذلك بانفراده ثلاثاً ثلاثاً ، قبل شروعه في الذي بعده ، ولم يغسل المجموع مرةً ، ثم اعاده مرةًثانيةً ، وثالثةً .
قلت : هذا على رواية من روي التسبيح ثلاثاً وثلاثين ، والتحميد ثلاثاً وثلاثين ، والتكبير ثلاثاً وثلاثين ظاهرٌ ، وأما رواية من روى ( ( تسبحون وتحمدون وتكبرون ثلاثاً وثلاثين ) ) فمحتملةٌ ، ولذلك وقع الاختلاف في فهم المواد منها .
الحديث الثالث :
844 - حدثنا محمد بن يوسف : ثنا سفيان ، عن عبد الملك بن عميرٍ ، عن(5/250)
"""""" صفحة رقم 251 """"""
ورادٍ - كاتب المغيرة بن شعبة - ، قالَ : أملى علي المغيرة في كتاب إلى معاوية ، أن النبي ( كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبةٍ : ( ( لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قديرٌ ، اللهم ، لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما
منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) ) .
وقال شعبة ، عن عبدالملك بن عمير بهذا ، وعن الحكم ، عن القاسم بن مخيمرة ، عن ورادٍ بهذا .
هذا الحديث ، أسنده البخاري من طريق سفيان الثوري ، عن عبد الملك بن
عميرٍ ، عن ورادٍ .
وعَّلقه عن شعبة بإالافضل سنادين :
أحدهما : عن عبد الملك - أيضاً - بهذا الإسناد .
والثاني : عن الحكم ، عن القاسم بن مخيمرة ، عن ورادٍ .
رواية شعبة لهذا الحديث غريبةٌ لم تخرج في شيءٍ من الكتب الستة ، ولا في ( ( مسند الإمام أحمد ) ) .
وخرّجه مسلمٌ من طريق عبدة بن أبي لبابة والمسيب بن رافعٍ وغيرهما ، عن ورادٍ .
وخرّجه البخاري في موضعٍ آخر من رواية المسيب ، وفي روايته : ( ( بعد
السلام ) ) .
وخرّجه الإمام أحمد والنسائي من طريق مغيرة ، عن الشعبي ، عن(5/251)
"""""" صفحة رقم 252 """"""
ورادٍ ، أن المغيرة كتب إلى معاوية : سمعت رسول الله ( يقول عند انصرافه من الصلاة : ( ( لا إله إلا الله ، وحده لا سريك له ، له المللك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ) ) - ثلاث مراتٍ .
وهذه زيادةٌ غريبةٌ .
وقد روي في الحديث زيادة : ( ( بيده الخير ) ) .
خرجها الإسماعيلي من طريق مسعرٍ ، عن زياد بن علاقة ، عن ورادٍ .
وروي فيه - أيضاً - زيادة : ( ( يحيى ويميت ) ) .
ذكرها الترمذي في ( ( كتابه ) ) - تعليقاً ، ولم يذكر رواتها .
وقد خَّرجه البزار بهذه الزيادة من رواية ابن علاقة ، عن عبد الله بن محمد بن
عقيلٍ ، عن جابرٍ ، عن النبي ( - بمثل حديث المغيرة ، بهذه الزيادة .
وفي اسنادها ضعفٌ .
وخرّجه - أيضاً - من حديث ابن عباسٍ ، عن النبي ( ، وفيه زيادة : ( ( بيده الخير ) ) .
وفي إسنادها ضعفٌ .
وخرّجه ابن عدي ، وزاد فيه : ( ( يحيى ويميت ) ) .
وقال : هو غير محفوظٍ .
وخَّرجه أبو مسلم الكجي في ( ( سننه ) ) من حديث أبان بن أبي عياشٍ ،(5/252)
"""""" صفحة رقم 253 """"""
عن أبي الجوزاء ، عن عائشة ، عن النبي ( ، وفيه : ( ( يحيي ويميت ، بيده الخير ) ) .
وأبانٌ ، متروكٌ .
وخرج النسائي وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) والحاكم من حديث كعب الأحبار ، عن صهيب ، أن النبي ( كان يقول عند انصرافه من الصلاة : ( ( اللهم ، أصلح لي ديني الذي جعلته لي عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي ، اللهم ، اني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ [ . . . ] بعفوك من نقمتك ، وأعوذ بك منك ، لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) ) .
وفي إسناده اختلافٌ .
وخرج مسلمٌ من حديث عائشة ، قالت : كان النبي ( لا يقعد إلا مقدار ما يقول : ( ( اللهم ، أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت ذا الجلال والإكرام ) ) .(5/253)
"""""" صفحة رقم 254 """"""
وفي رواية له - أيضاً - : ( ( يا ذا الجلال والإكرام ) ) .
وخرج - أيضاً - من حديث ثوبان ، قال : كان النبي ( إذا أراد أن ينصرف من صلاته استغفر ثلاث مراتٍ ، ثم قال : ( ( اللهم ، أنت السلام ، ومنك السلام ، تبارك ذا الجلال والإكرام ) ) . [ . . . ] ، ( ( يا ذا الجلال والإكرام ) ) .
وفي الذكر عقب الصلوات المكتوبات أحاديث أخر .
وجمهور أهل العلم على استحبابه ، وقد روي عن علي وابن عباسٍ وابن الزبير وغيرهم ، وهو قول عطاءٍ والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم .
وخالف فيه طائفةٌ قليلةٌ من الكوفيين ، وقد تقدم عن عبيدة السلماني ، أنه عد التكبير عقب الصلاة من البدع ، ولعله أراد بإنكاره على مصعبٍ ، أنه كان يقوله مستقبل القبلة قبل أن ينحرف ويجهر ، كذلك هو في ( ( كتاب عبد الرزاق ) ) ، وإذا صحت السنة بشيءٍ وعمل بها الصحابة ، فلا تعدل عنها .
واستحب - أيضاً - أصحابنا وأصحاب الشافعي الدعاء عقب الصلوات ، وذكره بعض الشافعية اتفاقاً .
واستدلوا بحديث أبي أمامة ، قال : قيل لرسول الله ( : أي الدعاء أسمع ؟ قال : ( ( جوف الليل الآخر ، ودبر الصلوات المكتوبات ) ) .
خرّجه الإمام أحمد والترمذي ، وحَّسنه .
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث معاذٍ ، أن النبي ( قال له : ( ( لا تدَعن دبر كل صلاةٍ تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) ) .
وقال طائفةٌ من أصحابنا ومن الشافعية : يدعو الإمام للمأمومين عقب صلاة الفجر والعصر ؛ لأنه لا تنفل بعدهما .
فظاهر كلامهم : أنه يجهر به ، ويؤمنون عليه ، وفي ذلك نظرٌ .(5/254)
"""""" صفحة رقم 255 """"""
وقد ذكرنا فيما تقدم حديث دعاء النبي ( عقب الصلاة جهراً ، وأنه لا يصح ، ولم يصح في ذلك شيءٌ عن السلف .
والمنقول عن الإمام أحمد أنه كان يجهر ببعض الذكر عقب الصلاة ، ثم يسر بالباقي ، ويعقد التسبيح والتكبير والتحميد سراً ، ويدعو سراً .
ومن الفقهاء من يستحب للإمام الدعاء للمأمومين عقب كل صلاة ، وليس في ذلك سنةٌ ولا أثرٌ يتبع . والله أعلم .
وفي بعض نسخ البخاري :
وقال الحسن : الجد غنىً .
وهذا تفسير لقوله : ( ( ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) ) ، والجد - بفتح الجيم - المراد به في هذا الحديث : الغنى ، والمعنى : لا ينفع ذا الغنى منك غناه .
وهذا كقوله تعالى : ( وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ( [ سبأ : 37 ] ، وقوله : ( يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ( [ الشعراء : 88 ] .
وقدروي تفسير الجد بذلك مرفوعاً :
ففي ( ( سنن ابن ماجه ) ) ، عن أبي جحيفة ، قالَ : ذكرت الجدود عندَ رسول الله ( وهو في الصَّلاة ، فقالَ رجلٌ : جد فلانٌ في الخيل . وقال آخر : جد فلان في الابل ، فقالَ آخر : جد فلانٌ في الغنم ، وقال آخر : جد فلان في الرقيق ، فلما قضى رسول الله ( صلاته ، ورفع رأسه من آخر الركعة ، قالَ : ( ( اللَّهُمَّ ، ربنا لك الحمد ، ملء السماوات وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد ، اللَّهُمَّ ، لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا(5/255)
"""""" صفحة رقم 256 """"""
ينفع ذا الجدَّ منك الجدّ ) ) ، وطول رسول الله ( صوته بالجد ؛ ليعلم أنه ليس كما يقولون .(5/256)
"""""" صفحة رقم 257 """"""
6 - باب
يستقبل الإمام الناس إذا سلم
فيه ثلاثة أحاديث :
الأول :
845 - حدثنا موسى بن إسماعيل : ثنا جرير بن حازم : ثنا أبو رجاءٍ ، عن سمرة بن جندبٍ ، قال : كان رسول الله ( إذا صلى صلاةً أقبل علينا بوجهه .
هذا أول حديثٍ طويلٍ ، ساقه بتمامه في ( ( الجنائز ) ) ومواضع أخر وفيه : دليلٌ على أن عادة النبي ( الاقبال على الناس بوجهه بعد الصلاة .
الحديث الثاني :
846 - حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالكِ ، عن صالح بن كيسان ، عن
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن زيد ابن خالد الجهني ، أنه قال : صلى لنا رسول الله ( صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة ، فلما انصرف أقبل على الناس ، فقال : ( ( هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ ) ) قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ( ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافرٌ ) ) - الحديث .
وسيأتي بتمامه في ( ( الاستسقاء ) ) - إن شاء الله تعالى .
والمقصود منه هاهنا : إقباله ( بعد انصرافه من صلاة الصبح ، والمعنى : بعد فراغه منها .(5/257)
"""""" صفحة رقم 258 """"""
الحديث الثالث :
847 - ثنا عبد الله بن منيرٍ : سمع يزيد : أنا حميدٌ ، عن أنسٍ ، قال : أخر
رسول الله ( الصلاة ذات ليلةٍ إلى شطر الليل ، ثم خرج علينا ، فلمَّا صلى أقبل علينا بوجهه ، فقال : ( ( إن الناس قد صلوا ورقدوا ، وإنكم لن تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة ) ) .
قد تقدم في ( ( باب : وقت العشاء ) ) بسياق أتم من هذا .
والمقصود منه هاهنا : إقباله ( بوجهه بعد الصلاة .
وخرّج مسلمٌ في ( ( صحيحه ) ) من حديث البراء بن عازبٍ ، قال : كنا إذا صلينا خلف رسول الله ( أحببنا أن نكون عن يمينه ؛ ليقبل علينا بوجهه .
قال : فسمعته يقول : ( ( رب قني عذابك يوم تبعث عبادك ) ) - وفيه : ذكر الدعاء بعد الصلاة - أيضاً .
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث يزيد بن الأسود ، قال : صليت خلف رسول الله ( ، فكان إذا انصرف انحرف .
وصححه الترمذي .
وفي رواية بعضهم : فصلى ، ثم انحرف .
وروى عبد الله بن فروخٍ : أنا ابن جريج ، عن عطاءٍ ، عن أنس بن مالكٍ ، قال : صليت مع رسول الله ( ، فكان ساعة يسلم يقوم ، ثم صليت مع أبي بكر ، فكأن إذا سلم وثب مكانه ، كانه يقوم على رضفٍ .(5/258)
"""""" صفحة رقم 259 """"""
خرّجه البيهقي .
وقال : تفرد به عبد الله بن فروخ المصري ، وله أفرادٌ ، والله أعلم .
قلت : وثقه قومٌ ، وخرج له مسلمٌ في ( ( صحيحه ) ) ، وتكلم فيه آخرون .
وقد رواه عبد الرزاق في ( ( كتابه ) ) عن ابن جريجٍ ، قال : نبئت عن أنس بن مالكٍ - فذكر الحديث بتمامه .
وهذا أصح .
قال البيهقي : والمشهور : عن أبي الضحى ، عن مسروقٍ ، قال : كان أبو بكرٍ الصديق إذا سلم قام كأنه جالسٌ على الرضف .
قال : وروينا عن عليّ ، أنه سلم ثم قام .
ثم خرج بإسناده ، عن خارجة بن زيدٍ ، أنه كان يعيب على الأئمة جلوسهم بعد أن يسلموا ، ويقول : السنة في ذلك أن يقوم الإمام ساعة يسلم .
قال : وروينا عن الشعبي والنخعي ، أنهما كرهاه .
ويذكر عن عمر بن الخطاب . والله أعلم .
وروى عبد الرزاق بإسنادٍ صحيحٍ ، عن ابن عمر ، قال : كان الإمام إذا سلم انكفت وانكفتنا معه .
وعن ابن مسعودٍ ، قال : إذا سلم الإمام فليقم ، ولينحرف عن مجلسه .
وعنه ، أنه كان إذا سلم قام عن مجلسه أو انحرف .(5/259)
"""""" صفحة رقم 260 """"""
وممن روي عنه ، أن الإمام ينحرف ويستقبل القوم بوجهه : علي بن أبي طالبٍ وطلحة والزبير .
وقال النخعي : إذا سلم الإمام ثم استقبل القبلة فأحصبوه .
وكره ذلك الثوري وأحمد وغيرهما من العلماء .
ولم يرخص في إطالة استقبال الإمام القبلة بعد سلامه للذكر والدعاء إلا بعض المتأخرين ممن لا يعرف السنن والآثار ، ومنهم من استحب في عقب صلاة الفجر أن يأتي بالتهليل عشرٌ مراتٍ .
ذكره طائفةٌ من أصحابنا وغيرهم ، لما روى شهر بن حوشبٍ ، عن عبد الرحمن بن غنمٍ ، عن أبي ذر ، أن رسول الله ( قال : ( ( من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثانٍ رجله قبل أن يتكلم : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيءٍ قديرٌ - عشرٌ مرات - كتب له عشرٌ حسناتٍ ومحي عنه عشرٌ سيئاتٍ ، ورفع له عشرٌ درجاتٍ ، وكان يومه ذلك في حرزٍ من كل مكروهٍ ، وحرس من الشيطان ، ولم ينبغ لذنبٍ أن يدركه في ذلك اليوم ، إلا الشرك بالله ) ) .
خَّرجه الترمذي بهذا اللفظ ، وقال : حسنٌ غريبٌ صحيحٌ .
وخَّرجه النسائي في ( ( اليوم والليلة ) ) بنحوه .
وخَّرجه - أيضاً - من وجهٍ آخر من حديث شهرٍ ، عن عبد الرحمن ، عن معاذٍ بن جبلٍ ، عن النبي ( - بنحوه ، ولم يذكر : ( ( وهو ثانٍ رجله ) ) ، إنما(5/260)
"""""" صفحة رقم 261 """"""
قال : ( ( قبل أن يتكلم ) ) ، وذكر في صلاة العصر مثل ذلك .
وخرّجه الإمام أحمد من حديث شهرٍ ، وعن ابن غنمٍ - مرسلاً ، وعنده ( ( من قال من قبل أن ينصرف ويثني رجله من صلاة المغرب والصبح ) ) - وذكر الحديث .
وشهر بن حوشبٍ ، مختلفٌ فيه ، وهو كثير الاضطراب ، وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث كما ترى .
وقيل : عنه ، عن ابن غنم عن أبي هريرة .
وقيل : عن شهر ، عن أبي أمامة .
قال الدارقطني : الاضطراب فيه من قبل شهرٍ .
وقد روي نحوه عن النبي ( من وجوهٍ أخر ، كلها ضعيفةٌ .
وحكى بعض أصحاب سفيان الثوري ، عنه ، أنه قال : يستحب للإمام إذا صلى أن لا يجلس مستقبل القبلة ، بل يتحول من مكانه أو ينحرف ، إلا في العصر والفجر .
ولم يأخذ الإمام أحمد بحديث أبي ذر ، فإنه ذكر له هذا الحديث ، فقال : أعجب إليّ أن لا يجلس ، لأن النبي ( كان إذا صلى الغداة أقبل عليهم بوجهه .
يعني : أن هذا أصح من حديث شهر بن حوشبٍ هذا ، مع أنه ليس في جميع رواياته : ( ( قبل أن يثنى رجله ) ) ، بل في بعضها .(5/261)
"""""" صفحة رقم 262 """"""
7 - باب
مكث الإمام في مصلاه بعد السلام
848 - وقال لنا آدم : ثنا شعبة ، عن أيوب ، عن نافعٍ ، قال : كان ابن عمر يصلي في مكانه الذي صلى فيه الفريضة .
وفعله القاسم .
ويذكر عن أبي هريرة - رفعه - : ( ( لا يتطوع الإمام في مكانه ) ) . ولم يصح .
هذا الذي ذكر أنه لا يصح ، خَّرجه الإمام وأبو داود وابن ماجه من رواية ليث ، عن حجاج بن عبيدٍ ، عن إبراهيم ابن إسماعيل ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر ، أو عن يمينه أو شماله في الصلاة ) ) - يعني : في السبحة .
وليس في هذا ذكر الإمام ، كما أورده البخاري .
وضعف إسناده من جهة ليث بن أبي سليمٍ ، وفيه ضعفٌ مشهورٌ . ومن جهة إبراهيم بن إسماعيل ، ويقال فيه : إسماعيل بن إبراهيم ، وهو حجازي ، روى عنه عمرو بن دينارٍ وغيره . قال أبو حاتمٍ الرازي : مجهولٌ .
وكذا قال في حجاج بن عبيد ، وقد اختلف في اسم أبيه .
واختلف في إسناد الحديث على ليثٍ - أيضاً .
وخرج أبو داود وابن ماجه - أيضاً - من حديث عطاءٍ الخراساني ، عن المغيرة بن شعبة ، أن رسول الله ( قال : ( ( لا يصلي الإمام في مقامه الذي(5/262)
"""""" صفحة رقم 263 """"""
صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه ) ) .
وقال أبو داود : وعطاء الخراساني لم يدرك المغيرة .
وقد اختلف العلماء في تطوع الإمام في مكان صلاته بعد الصلاة ، فأما قبلها فيجوز بالاتفاق - : قاله بعض أصحابنا :
فكرهت طائفةٌ تطوعه في مكانه بعد صلاته ، وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالكٌ وأحمد وإسحاق .
وروي عن علي - رضي الله عنه - ، أنه كرهه .
وقال النخعي : كانوا يكرهونه .
ورخص فيه ابن عقيلٍ من أصحابنا ، كما رجحه البخاري ، ونقله عن ابن عمر والقاسم بن محمدٍ .
فأما المروي عن ابن عمر ، فإنه لم يفعله وهو إمامٌ ، بل كان مأموماً ، كذلك قال الإمام أحمد ، .
وأكثر العلماء لا يكرهون للمأموم ذلك ، وهو قول مالكٍ وأحمد .
وقد خرج أبو داود حديثاً يقتضي كراهته من حديث أبي رمثة ، قال : صلى بنا رسول الله ( ، وكان أبو بكرٍ وعمر يقومان فيالصف المقدم عن يمينه ، وكان رجلٌ قد شهد التكبيرة الأولى من الصلاة ، فصلى نبي الله ( ، ثم سلم عن يمينه وعن يساره ، حتى رأيت بياض خديه ، ثم انفتل ، فقام الرجل الذي أدرك التكبيرة الأولى من الصلاة ليشفع ، فوثب إليه عمر ، فاخذ بمنكبيه فهزَّه ، ثم قال : أجلس ؛ فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن بين صلاتهم فصل ، فرفع النبي ( بصره ، فقال : ( ( أصاب الله بك يا بن الخطاب ) ) .
وهذا الحديث يدل على كراهة أن يصل المكتوبة بالتطوع بعدها من غير(5/263)
"""""" صفحة رقم 264 """"""
فصل ، وإن فصل بالتسليم .
ويدل عليه - أيضاً - : ما روى السائب بن يزيد ، قال : صليت مع معاوية الجمعة في المقصورة ، فلما سلم قمت في مقامي فصليت ، فلما دخل أرسل إلي ، فقال : لا تعد لما فعلت ، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاةٍ حتى تتكلم أو تخرج ؛ فإن رسول الله ( أمرنا بذلك ، أن لا توصل صلاةٌ بصلاةٍ حتى نتكلم أو نخرج .
خَّرجه مسلمٌ - بمعناه .
وروى حربٌ بإسناده ، عن عطاءٍ ، أنه قال فيمن صلى المكتوبة : لا يصلي مكانه نافلةً إلا أن يقطع بحديثٍ ، أو يتقدم أو يتأخر .
وعن الأوزاعي ، قال : إنما يجب ذلك على الإمام ، أن يتحول من مصلاه .
قيل له : فما يجزئ من ذلك ؟ قال : أدناه أن يزيل قدميه من مكانه . قيل له : فإن ضاق مكانه ؟ قال : فليتربع بعد سلامه ؛ فإنه يجزئه .
وروى - أيضاً - : بإسناده ، عن ابن مسعودٍ ، أنه كان إذا سلم قام وتحول من مكانه غير بعيدٍ .
قال حربٌ : ثنا محمد بن آدم : ثنا أبو المليح الرقي ، عن حبيبٍ ، قال : كان ابن عمر يكره أن يصلي النافلة في المكان الذي يصلي فيه المكتوبة ، حتى يتقدم أو يتأخر أو يتكلم .
وهذه الرواية تخالف رواية نافع التي خرجها البخاري .
وقد ذكر قتادة ، عن ابن عمر ، أنه رأى رجلاً صلى في مقامه الذي صلى فيه الجمعة ، فنهاه عنه ، وقال : لا أراك تصلي في مقامك .(5/264)
"""""" صفحة رقم 265 """"""
قال سعيدٌ : فذكرته لابن المسيب ، فقال : إنما يكره ذلك للإمام يوم الجمعة .
وعن عكرمة ، قال : إذا صليت الجمعة فلا تصلها بركعتين حتى تفصل بينهما بتحولٍ أو كلامٍ .
خرَّجهما عبد الرزاق .
ومذهب مالك : أنه يكره في الجمعة أن يتنفل في مكانه من المسجد ، ولا ينتقل منه وإن كان مأموماً ، وأما الإمام فيكره أن يصلي بعد الجمعة في المسجد بكل حالٍ .
وقد قال الشافعي في ( ( سنن حرملة ) ) : حديث السائب بن يزيد ، عن معاوية في هذا ثابتٌ عندنا ، وبه نأخذ . قال : وهذا مثل قوله لمن صلى وقد أقيمت الصلاة :
( ( أصلاتان معاً ؟ ) ) كأنه أحب أن يفصلهما منها حتى تكون المكتوبات منفرداتٍ مع السلام بفصلٍ بعد السلام .
وقدروي أن النبي ( اضطجع بعد ركعتي الفجر .
وروى الشافعي ، عن ابن عيينة ، عن عمروٍ ، عن عطاءٍ ، عن ابن عباسٍ ، أنه كان يأمر إذا صلى المكتوبة ، فأراد أن يتنفل بعدها أن لا يتنفل حتى يتكلم أو يتقدم .(5/265)
"""""" صفحة رقم 266 """"""
قال ابن عبد البر : هذا حديثٌ صحيحٌ .
قال : وقال الشعبي : إذا صليت المكتوبة ، ثم اردت أن تتطوع ، فاخط خطوةً .
وخالف ابن عمر ابن عباسٍ في هذا ، وقال : وأي فصلٍ أفصل من السلام ؟
وقد ذكر الفقهاء من أصحابنا والشافعية : أن هذا كله خلاف الأولى من غير كراهةٍ فيه ، وحديث معاوية يدل على الكراهة .
قال البخاري - رحمه الله -
849 - حدثنا أبو الوليد : ثنا إبراهيم بن سعد : ثنا الزهري ، عن هند بنت الحارث ، عن أم سلمة ، أن رسول الله ( كان إذا سلم مكث في مكانه يسيراً .
قال ابن شهاب : فنرى - والله أعلم - لكي ينفذ من ينصرف من النساء .
850 - وقال ابن أبي مريم : أنا نافع بن يزيد : حدثني جعفر بن ربيعة ، أن ابن شهاب كتب إليه ، قال : حدثتني هند ابنت الحارث الفراسية ، عن أن سلمة زوج النبي ( - وكانت من صواحباتها - ، قالت : كان يسلم ، فينصرف النساء فيدخلن في بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله ( .
ثم ذكر رواياتٍ أخر عن الزهري ، حاصلها يرجع إلى قولين في نسبة هند بنت الحارث :
منهم من قال : ( ( الفراسية ) ) .(5/266)