بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : فتح الباري في شرح صحيح البخاري
المؤلف : زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن شهاب الدين البغدادي ثم الدمشقي الشهير بابن رجب
دار النشر : دار ابن الجوزي - السعودية / الدمام - 1422هـ
الطبعة : الثانية ، تحقيق : أبو معاذ طارق بن عوض الله بن محمد
عدد الأجزاء / 6
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ](1/2)
"""""" صفحة رقم 3 """"""
كتاب الإيمان(1/3)
"""""" صفحة رقم 4 """"""
فارغة(1/4)
"""""" صفحة رقم 5 """"""
- باب قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " بني الإسلام على خمس "
فصل
( 1 ) .
قال البخاري : الإيمان قول وفعل .
قال زين الدين ابن رجب رحمه الله .
وأكثر العلماء قالوا : هو قول وعمل . وهذا كله إجماع من السلف وعلماء أهل الحديث . وقد حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين عليه وحكى أبو ثور الإجماع عليه أيضا .
وقال الأوزراعي : كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل وحكاه غير واحد من سلف العلماء عن أهل السنة والجماعة . وممن حكى ذلك عن أهل السنة والجماعة : الفضيل بن عياض ، ووكيع بن الجراح .
وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل : الحسن ، وسعيد بن جبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والشعبي ، والنخعي ، وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، وابن المبارك ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ( 2 ) ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وأبي ثور وغيرهم حتى قال كثير منهم : إن الرقبة المؤمنة لا تجزىء في الكفارة حتى يؤخذ منها الإقرار وهو الصلاة والصيام ، منهم الشعبي ، والنخعي ، وأحمد في رواية . وخالف في ذلك طوائف من علماء أهل الكوفة والبصرة وغيرهم ، وأخرجوا الأعمال من الإيمان وقالوا : الإيمان : المعرفة مع القول .
وحدث بعدهم من يقول : الإيمان : المعرفة خاصة ، ومن يقول : الإيمان :(1/5)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
القول خاصة .
والبخاري عبر عنه بأنه : قول وفعل . والفعل : من الناس من يقول : هو مرادف للعمل . ومنهم من يقول : هو أعم من العمل . فمن هؤلاء من قال : الفعل يدخل فيه القول وعمل الخوارج ، والعمل لا يدخل فيه القول على الإطلاق . ويشهد لهذا : قول عبيد بن عمير : ليس الإيمان بالتمني ، ولكن الإيمان قول يفعل ، وعمل يعمل . خرجه الخلال ( 3 ) .
ومنهم من قال : العمل : ما يحتاج إلى علاج ومشقة ، والفعل : أعم من ذلك . ومنهم من قال : العمل : ما يحصل منه تأثير في المعمول كعمل الطين آجرا ، والفعل أعم من ذلك . ومنهم من قال : العمل أشرف من الفعل ، فلا يطلق العمل إلا على ما فيه شرف ورفعة بخلاف الفعل ، فإن مقلوب عمل : لمع ، ومعناه ظهر وأشرف .
وهذا فيه نظر ، فإن عمل السيئات يسمى أعمالا كما قال تعالي ( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ( [ النساء : 123 ] وقال ( مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ( [ غافر : 40 ] ولو قيل عكس هذا لكان متوجها ، فإن الله تعالى إنما ( 177 - أ / ف ) يضيف إلى نفسه الفعل كقوله تعالى ( وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا ( [ إبراهيم : 45 ] ، ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد ( [ الفجر : 6 ] ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ( ،(1/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
( إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( [ الحج : 18 ] .
وإنما أضاف العمل إلى يديه كما قال ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا ( [ يس : 71 ] وليس المراد هنا الصفة الذاتية - بغير إشكال - وإلا استوى خلق الأنعام وخلق آدم عليه السلام . واشتق سبحانه لنفسه أسماء من الفعل دون العمل ، قال تعالى ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ( [ هود : 107 ] .
ثم قال البخاري - رحمه الله : ويزيد وينقص . قال الله عز وجل ( لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ( [ الفتح : 4 ] ( وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ( [ الكهف : 13 ] ، ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ( [ مريم : 76 ] ، ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ( [ محمد : 17 ] ، ( وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ( [ المدثر : 31 ] ، وقوله عز وجل ( أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا ( [ التوبة : 124 ] وقوله ( فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً ( [ آل عمران : 173 ] ، وقوله ( وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ( [ الأحزاب : 22 ] .
زيادة الإيمان ونقصانه قول جمهور العلماء . وقد روى هذا الكلام عن طائفة من الصحابة كأبي الدرداء وأبي هريرة ، وابن عباس ( 1 ) وغيرهم من الصحابة . وروي معناه عن علي ، وابن مسعود - أيضا - ، وعن مجاهد ، وغيره من التابعين . وتوقف بعضهم في نقصه ، فقال : يزيد ولا يقال : ينقص ( 2 ) وروي ذلك(1/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
عن مالك ، والمشهور عنه كقول الجماعة ( 3 ) . وعن ابن المبارك قال : الإيمان يتفاضل ( 4 ) . ، وهو معنى الزيادة والنقص . وقد تلا البخاري الآيات التي ذكر فيها زيادة الإيمان وقد استدل بها على زيادة الإيمان أئمة السلف قديما ، منهم : عطاء بن أبي رباح فمن بعده . وتلا البخاري - أيضا - الآيات التي ذكر فيها زيادة الهدى ، فإن المراد بالهدى هنا : فعل الطاعات كما قال تعالى بعد وصف المتقين بالإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم وبالإيمان بما أنزل إلى محمد و إلى من قبله باليقين بالآخرة ثم قال ( أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ( [ البقرة : 5 ] ، فسمى ذلك كله هدى ، فمن زادت طاعته فقد زاد هداه .
ولما كان الإيمان يدخل فيه المعرفة بالقلب والقول والعمل كله كانت زيادته بزيادة الأعمال ونقصانه بنقصانها . وقد صرح بذلك كثير من السلف فقالوا : يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية . فأما زيادة الإيمان بزيادة القول ونقصانه بنقصانه : فهو كالعمل بالجوارح - أيضا - ، فإن من زاد ذكره لله وتلاوته لكتابه زاد إيمانه ، ومن ترك الذكر الواجب بلسانه نقص إيمانه .
و أما المعرفة بالقلب : فهل تزيد وتنقص ؟ على قولين : أحدهما : أنها لا تزيد ولا تنقص . قال يعقوب بن بختان ( 5 ) : سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن المعرفة والقول : يزيد وينقص ؟ قال : لا ، قد جئنا بالقول والمعرفة وبقي العمل .(1/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
ذكره أبو الخلال في كتاب " السنة ( 6 ) " ومراده بالقول : التلفظ بالشهادتين خاصة . وهذا قول طوائف من الفقهاء والمتكلمين . و القول الثاني : أن المعرفة تزيد وتنقص .
قال المروذي : قلت لأحمد في معرفة الله بالقلب تتفاضل فيه ؟ قال : نعم ، قلت : ويزيد ؟ قال : نعم .
ذكره الخلال عنه ( 7 ) ، وأبو بكر عبد العزيز في كتاب " السنة " - أيضا - ، عنه وهو الذي ذكره القاضي أبو يعلي من أصحابنا في كتاب " الإيمان ، وكذلك ذكره أبو عبد الله بن حامد . وحكى القاضي - في " المعتمد " - وابن عقيل في المسألة روايتان ( 8 ) عن أحمد ، وتأولا رواية أنه لا يزيد ولا ينقص . وتفسر زيادة المعرفة بمعنيين :
أحدهما : زيادة المعرفة بتفاصيل أسماء الله وصفاته وأفعاله وأسماء الملائكة والنبيين والكتب المنزلة عليهم وتفاصيل اليوم الآخر . وهذا ظاهر لا يقبل نزاعا .
والثاني : زيادة المعرفة بالوحدانية بزيادة معرفة أدلتها ( 177 - ب / ف ) ، فإن أدلتها لا تحصر ، إذ كل ذرة من الكون فيها دلالة على وجود الخالق ووحدانيته ، فمن كثرت معرفته بهذه الأدلة زادت معرفته على من ليس كذلك . وكذلك المعرفة بالنبوات واليوم الآخر والقدر وغير ذلك من الغيب الذي(1/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
يجب الإيمان به ، ومن هنا فرق النبي صلي الله عليه وسلم بين مقام الإيمان ومقام الإحسان ، وجعل مقام الإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه ، والمراد : أن ينور قلبه بنور الإيمان حتى يصير الغيب عنده مشهودا بقلبه كالعيان ( 9 ) .
وقد ذكر محمد بن نصر المروزي في " كتابه " أن التصديق يتفاوت وحكاه عن الحسن ، والعلماء ( 10 ) وهذا يشعر إجماع عنده .
ومما يدل على ذلك أيضا _ : ما روى ابن وهب : أنا عبد الرحمن بن ميسرة ، عن أبي هانيء الخولاني ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق ، فسلوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم " .
خرجه الحاكم ( 11 ) ، وقال : صحيح الإسناد ( 12 ) .
ثم قال البخاري رحمه الله : والحب في الله والبغض في الله من الإيمان .
و هذا يدل عليه : قول النبي صلي الله عليه وسلم " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ( 13 ) وذكر منهن : " أن يحب المرء لا يحبه إلا لله " .(1/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
وإذا كان الحب في الله والبغض في الله زاد الإيمان بزيادة ذلك ونقص بنقصانه .
قال البخاري : وكتب عمر بن عبد العزيز إلي عدي بن عدي : إن للإيمان فرائض وشرائع ( 14 ) وحدودا وسننا ، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان ، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها ، وإن مت فما أنا على صحبتكم بحريص . هذا الأثر : خرجه أبو بكر الخلال في كتاب " السنة " ( 15 ) من رواية جرير بن حازم : حدثني عيسى بن عاصم ، عن عدي بن عدي - وهو يومئذ أمير ( 16 ) على أرمينية - قال : كتب إلي عمر بن عبد العزيز : سلام عليك أما بعد ، فإن للإيمان شرائع وحدودا وسننا ، من استكملها استكمل الإيمان ، فإن أعش فيكم أبينها لكم حتى تعملوا بها - إن شاء الله ، وإن مت فوالله ما أنا على صحبتكم بحريص .
قال البخاري : وقال إبراهيم عليه السلام ( 17 ) ( وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ((1/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
وقد فسرها سعيد بن جبير بالازدياد من الإيمان ، فإنه قال له : ( أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ( [ البقرة : 260 ] فطلب زيادة في إيمانه ، فإنه طلب أن ينتقل من درجة علم اليقين إلى درجة عين اليقين وهي أعلى وأكمل .
و في " المسند " " ( 18 ) عن ابن عباس ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " ليس الخبر كالمعاينة " .
قال البخاري : وقال معاذ : اجلس بنا نؤمن ساعة .
هذا الأثر : رواه سفيان الثوري والأعمش ومسعر - كلهم - ، عن جامع بن شداد ، عن الأسود بن هلال قال : قال معاذ بن جبل لرجل : اجلس نؤمن ساعة - يعني نذكر الله ( 19 ) .
وقد روي مثله عن طائفة من الصحابة ، فروى زبيد ، عن زر بن حبيش قال : كان عمر بن الخطاب يقول لأصحابه : هلموا نزداد إيمانا ، فيذكرون الله . وروى أبو جعفر الخطمي ، عن أبيه ، عن جده عمير بن حبيب بن(1/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
حماسة " ( 20 ) - وهو من الصحابة - أنه قال : إن الإيمان يزيد وينقص ، قالوا : وما زيادته ونقصانه ؟ قال : إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته ، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه ( 21 ) .
فزيادة الإيمان بالذكر من وجهين :
أحدهما : أنه يجدد من الإيمان والتصديق ( 178 - أ / ف ) في القلب ما درس منه بالغفلة كما قال بن مسعود : الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع . و في " المسند " ( 22 ) عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " جددوا إيمانكم " قالوا : كيف نجدد إيماننا ؟ قال : " قولوا : لا إله إلا الله " .
والثاني : أن الذكر نفسه من خصال الإيمان ، فيزداد الإيمان بكثرة الذكر ، فإن جمهور أهل السنة على أن الطاعات كلها من الإيمان فرضها ونفلها ، وإنما أخرج النوافل من الإيمان قليل منهم .
قال البخاري : وقال ابن مسعود : اليقين : الإيمان كله .
هذا الأثر : رواه الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن علقمة ، عن ابن مسعود ( 23 ) . واليقين : هو العلم الحاصل للقلب بعد النظر والاستدلال ، فيوجب قوة(1/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
التصديق حتى ينفي الريب ويوجب طمأنينة القلب بالإيمان وسكونه وارتياحه به ، وقد جعله ابن مسعود الإيمان كله . وكذا قال الشعبي - أيضا .
وهذا مما يتعلق به من يقول : إن الإيمان مجرد التصديق ( 24 ) ، حيث جعل اليقين : الإيمان كله ، فحصره في اليقين ، ولكن لم يرد ابن مسعود أن ينفي الأعمال من الإيمان ، إنما مراده : أن اليقين هو أصل الإيمان كله ، فإذا أيقن القلب بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر انبعثت الجوارح كلها للاستعداد للقاء الله تعالى بالأعمال الصالحة فنشأ ذلك كله عن اليقين .
قال الحسن البصري : ما طلبت الجنة إلا باليقين ولا هرب من النار إلا باليقين ، ولا أديت الفرائض إلا باليقين ، ولا صبر على الحق إلا باليقين ( 25 ) . وقال سفيان الثوري : لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطارت القلوب اشتياقا إلى الجنة وخوفا من النار ( 26 ) .
ويذكر عن لقمان قال : العمل لا يستطاع إلا باليقين ، ومن يضعف يقينه يضعف عمله ( 27 ) . قال عبد الله بن عكيم : سمعت ابن مسعود يقول في دعائه : اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفهما .
قال البخاري : وقال ابن عمر : لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر .
قال زين الدين ابن رجب : هذا الأثر لم أقف عليه إلى الآن في غير كتاب البخاري ( 28 ) ،(1/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
وقد روي معناه مرفوعا . وموقوفا على أبي الدرداء . فخرج الترمذي ، وابن ماجه من حديث عطية السعدي ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس " ( 29 ) وفي إسناده بعض مقال . وروى ابن أبي الدنيا بإسناد منقطع ، عن أبي الدرداء قال : تمام التقوى : أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة ، وحتى يترك ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما ، حجابا بينه وبين الحرام ( 30 ) .
و إنما ذكر البخاري هذا الأثر في الباب ، لأن خصال التقوى هي خصال الإيمان ، وقد صح عن مجاهد أن أبا ذر سأل النبي صلي الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ : ( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ ( [ البقرة : 177 ] إلى آخر الآية .
وهذا مرسل . وقد روي من وجه آخر ، وفيه انقطاع - أيضا . قال البخاري : وقال مجاهد : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ( : أوصيناك وإياه يا محمد ( 31 ) دينا واحدا ( 32 ) .
روى ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ(1/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ( [ الشورى : 13 ] قال : وصاك به وأنبياءه كلهم دينا واحدا ( 33 ) .
ومعنى ذلك : أن دين الأنبياء كلهم دين واحد وهو الإسلام العام المشتمل على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وعلى توحيد الله وإخلاص الدين له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كما قال تعالى : ( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ( [ البينة : 4 ، 5 ] .
والدين : هو الإسلام - كما صرح به في مواضع أخر - ، وإذا أطلق الإسلام دخل فيه الإيمان وبالعكس . وقد استدل على أن الأعمال تدخل في الإيمان بهذه الآية ، وهي قوله : ( وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ( طوائف من الأئمة ، منهم الشافعي ، وأحمد ( 34 ) ، والحميدي ( 35 ) ، وقال الشافعي : ليس عليهم أحج من هذه الآية ( 36 ) .
واستدل الأوزاعي ( 37 ) بقوله تعالى ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ( إلى قوله ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا ( ( الشورى : 13 ) ، وقال : الدين : الإيمان والعمل ، واستدل بقوله تعالى ( فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ( ( التوبة : 11 ) . وقد ذكر الخلال في كتاب " السنة " أقوال هؤلاء الأئمة بألفاظهم بالأسانيد إليهم .(1/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
قال البخاري : وقال ابن عباس : ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ( [ المائدة : 48 ] سبيلا وسنة .
وهذا من رواية أبي إسحاق ، عن التيمي ، وعن ابن عباس شرعة ومنهاجا : سبيلا وسنة ( 38 ) .
ومعنى قول ابن عباس : أن المنهاج هو السنة ، وهو الطريق الواسعة المسلوكة المداوم عليها ، والشرعة : هي السبيل والطريق الموصل إليها ، فهي كالمدخل إليها كمشرعة الماء وهي المكان الذي يورد الماء منه ، ويقال : شرع فلان في كذا إذا ابتدأ فيه ، وأنهج البلاء في الثوب إذا اتسع فيه . وبذلك فرق طائفة من المفسرين وأهل اللغة بين الشريعة والمنهاج ، منهم الزجاج وغيره .(1/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
فصل
( 39 )
قال الله تعالى ( 40 ) ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ( [ الفرقان : 77 ] قال البخاري : ومعنى الدعاء في اللغة الإيمان .
اعلم أن أصل الدعاء في اللغة : الطلب ، فهو استدعاء لما يطلبه الداعي ويؤثر حصوله ، فتارة يكون الدعاء بالسؤال من الله عز وجل والابتهال إليه كقول الداعي : اللهم اغفر لي ، اللهم ارحمني ، وتارة يكون بالإتيان بالأسباب التي تقتضي حصول المطالب وهو الاشتغال بطاعة الله وذكره وما يجب من عبده أن يفعله وهذا هو حقيقة الإيمان .
وفي " السنن الأربعة " عن النعمان بن بشير ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " إن الدعاء هو العبادة " ( 41 ) ثم قرأ : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ( [ غافر : 60 ] .
فما استجلب العبد من الله ما يحب واستدفع منه ما يكره بأعظم من اشتغاله بطاعة الله وعبادته وذكره وهو حقيقة الإيمان ، فإن الله يدفع عن الذين آمنوا .
وفي الترمذي " عن أبي سعيد عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " يقول الرب عز وجل : من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " ( 42 ) .(1/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
وقال بعض التابعين : لو أطعتم الله ما عصاكم ، يعني : ما منعكم شيئا تطلبونه منه . وكان سفيان يقول : الدعاء ترك الذنوب - يعني : الاشتغال بالطاعة عن المعصية . وأما قوله تعالى ( مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ( [ الفرقان : 77 ] فيه للمفسرين قولان : أحدهما : أن المراد : لولا دعاؤكم إياه ، فيكون الدعاء بمعنى الطاعة - كما ذكرنا .
والثاني : لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته كما في قوله تعالى ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( [ الذاريات : 56 ] . أي : لأدعوهم إلى عبادتي . ( 179 - أ / ف ) .
وإنما اختلف المفسرون في ذلك ، لأن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى .(1/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
فصل
خرج البخاري من حديث :
8 - عكرمة بن خالد عن ابن عمر ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " بني الإسلام على خمس : شهادة ألا إله إلا الله ، و أن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان " . وهذا الحديث دل على أن الإسلام مبني على خمس أركان ، وهذا يدل على أن البخاري يرى أن الإيمان والإسلام مترادفان .
ومعنى قوله صلي الله عليه وسلم " بني الإسلام على خمس " : أن الإسلام مثله كبنيان ، وهذه الخمس : دعائم البنيان وأركانه التي يثبت عليها البنيان . وقد روي في لفظ : " بني الإسلام على خمس دعائم " . خرجه محمد بن نصر المروزي ( 43 ) .
وإذا كانت هذه دعائم البنيان وأركانه ، فبقية خصال الإسلام كبقية البنيان ، فإذا فقد شيء من بقية الخصال الداخلة في مسمى الإسلام الواجب نقص البنيان ولم يسقط بفقده . وأما هذه الخمس ، فإذا زالت كلها سقط البنيان ولم يثبت بعد زوالها وكذلك ( إن ) ( 44 ) زال منها الركن الأعظم وهو الشهادتان ، وزوالهما يكون بالإتيان بما يضادهما ولا يجتمع معهما . وأما زوال الأربع البواقي : فاختلف العلماء هل يزول الاسم بزوالها أو بزوال واحد منها ؟ أم لا يزول بذلك ؟ أم يفرق بين الصلاة وغيرها فيزول بترك(1/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
الصلاة دون غيرها ؟ أم يختص زوال الإسلام بترك الصلاة والزكاة خاصة .
وفي ذلمك اختلاف مشهور ، وهذه الأقوال كلها محكية عن الإمام أحمد ( 45 ) وكثير من علماء أهل الحديث يرى تكفير تارك الصلاة .
وحكاه إسحاق بن راهويه ( 46 ) إجماعا منهم حتى إنه جعل قول من قال : لا يكفر بترك هذه الأركان مع الإقرار بها من أقوال المرجئة . وكذلك قال سفيان بن عيينه : المرجئة سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم ، وليسا سواء ، لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال : معصية ، وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر : هو كفر . وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعث النبي صلي الله عليه وسلم ولم يعملوا بشرائعه . وروي عن عطاء ونافع مولى ابن عمر أنهما سئلا عمن قال : الصلاة فريضة ولا أصلي ، فقالا : هو كافر . وكذا قال الإمام أحمد .
ونقل حرب عن إسحاق قال : غلت المرجئة حتى صار من قولهم : إن قوما يقولون : من ترك الصلوات المكتوبات وصوم رمضان والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره ، يرجى أمره إلى الله بعد ، إذ هو مقر ، فهؤلاء الذين لا شك فيهم - يعني في أنهم مرجئة . وظاهر هذا : أنه يكفر بترك هذه الفرائض .
وروى يعقوب الأشعري ، عن ليث ، عن سعيد بن جبير قال : من ترك(1/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
الصلاة متعمدا فقد كفر ، ومن أفطر يوما في رمضان ( 179 - ب / ف ) فقد كفر ، ومن ترك الحج متعمدا فقد كفر ، ومن ترك الزكاة متعمدا فقد كفر ( 47 ) .
ويروى عن الحكم بن عتيبة نحوه ، وحكى رواية عن أحمد - اختارها أبو بكر من أصحابه - ، وعن عبد الملك بن حبيب المالكي مثله ، وهو قول أبي بكر الحميدي ( 48 ) .
وروي عن ابن عباس التكفير ببعض هذه الأركان دون بعض ، فروى مؤمل ، عن حماد بن زيد ، عن عمرو بن مالك النكري ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس - ولا أحسبه إلا رفعه - قال : " عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، و إقام الصلاة ، وصوم رمضان ، من ترك منها واحدة فهو بها كافر حلال الدم ، وتجده كثير المال لم يحج فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه ، وتجده كثير المال لا يزكي فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه ( 49 ) . ورواه قتيبة عن حماد بن زيد فوقفه واختصره ولم يتمه . ورواه سعيد بن زيد - أخو حماد - عن عمرو بن مالك ورفعه ، وقال : " من ترك منهن واحدة فهو بالله كافر ، ولا يقبل منه صرف ولا عدل وقد حل دمه وماله " ولم يزد على ذلك .
والأظهر : وقفه على ابن عباس ، فقد جعل ابن عباس ترك هذه الأركان كفرا ، لكن بعضها كفرا يبيح الدم وبعضها لا يبيحه ، وهذا يدل على أن الكفر بعضه ينقل عن الملة وبعضه لا ينقل .(1/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
وأكثر أهل الحديث على أن ترك الصلاة كفر دون غيرها من الأركان كذلك حكاه محمد بن نصر المروزي ( 50 ) وغيره عنهم . وممن قال بذلك : ابن المبارك ، وأحمد - في المشهور عنه - ، وإسحاق ، وحكى عليه إجماع أهل العلم - كما سبق - وقال أيوب : ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه . وقال عبد الله بن شقيق : كان أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة .
خرجه الترمذي ( 51 ) .
وقد روي عن علي وسعد وابن مسعود وغيرهم قالوا : من ترك الصلاة فقد كفر . وقال عمر : لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ( 52 ) .
وفي صحيح مسلم " عن جابر عن النبي صلي الله عليه وسلم قال " " بين الرجل وبين الشرك والكفر : ترك الصلاة " ( 53 ) .
وخرج النسائي والترمذي وابن ماجه من حديث بريدة ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال " العهد الذي بيننا وبينهم : الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " ( 54 ) . وصححه الترمذي وغيره .(1/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
ومن خالف في ذلك جعل الكفر هنا غير ناقل عن الملة كما في قوله تعالى ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( [ المائدة : 44 ] .
فأما بقية خصال الإسلام والإيمان فلا يخرج العبد بتركها من الإسلام عند أهل السنة والجماعة . وإنما خالف في ذلك الخوارج ونحوهم من أهل البدع .
قال حذيفة : الإسلام ثمانية أسهم : الإسلام سهم ، والصلاة سهم ، والزكاة سهم ، والحج سهم ، ورمضان سهم ، والجهاد سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم ، وقد خاب من لا سهم له . وروي مرفوعا ، والموقوف أصح ( 55 ) .
فسائر خصال الإسلام الزائدة على أركانه الخمسة ودعائمه إذا زال منها شيء نقص البنيان ولم ينهدم أصل البنيان بذلك النقص .
وقد ضرب الله ورسوله مثل الإيمان ( 180 - أ / ف ) والإسلام بالنخلة . قال الله تعالى : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهاَ ( [ إبراهيم : 23 - 24 ] .
فالكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد وهي أساس الإسلام ، وهي جارة على لسان المؤمن وثبوت أصلها هو ثبوت التصديق بها في قلب المؤمن ، وارتفاع فرعها في السماء هو علو هذه الكلمة وبسوقها وأنها تحرق ( 56 ) الحجب ولا تتناهى دون العرش ، وإتيانها أكلها كل حين : هو ما يرفع بسببها للمؤمن كل حين من القول(1/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
الطيب والعمل الصالح ، فهو ثمرتها . وجعل النبي صلي الله عليه وسلم مثل المؤمن أو المسلم كمثل النخلة ( 57 ) .
وقال طاوس : مثل ( الإسلام ) ( 58 ) كشجرة أصلها الشهادة ، وساقها كذا وكذا ، وورقها كذا وكذا ، وثمرها : الورع ، ولا خير في شجرة لا ثمر لها ، ولا خير في إنسان لا ورع فيه ( 59 ) . ومعلوم أن ما دخل في مسمى الشجرة والنخلة من فروعها وأغصانها وورقها وثمرها إذا ذهب شيء منه لم يذهب عن الشجرة اسمها ، ولكن يقال : هي شجرة ناقصة ، وغيرها أكمل منها ، فإن قطع أصلها وسقطت لم تبق شجرة ، وإنما تصير حطبا ، فكذلك الإيمان والإسلام إذا زال منه بعض ما يدخل في مسماه مع بقاء أركان بنيانه لا يزول به اسم الإسلام والإيمان بالكلية ، وإن كان قد سلب الاسم عنه لنقصه بخلاف ما انهدمت أركانه وبنيانه فإنه يزول مسماه بالكلية ، والله أعلم(1/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
- فصل
في ( 60 ) أمور الإيمان
قال البخاري :
وقول الله عز وجل ( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( إلى قوله ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( [ البقرة : 177 ] وأمور الإيمان : خصاله وشعبه المتعددة .
واستدل البخاري بقوله تعالى ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى ( 61 ) الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( [ البقرة : 177 ] .
وقد سأل أبو ذر النبي صلي الله عليه وسلم عن الإيمان ، فتلا عليه هذه الآية ( 62 ) .
وهذا يدل على أن الخصال المذكورة فيها هي خصال الإيمان المطلق ، فإذا أطلق الإيمان دخل فيه كل ما ذكر في هذه الآية ، كما سأل السائل عن الإيمان ، فتلا عليه النبي صلي الله عليه وسلم هذه الآية .
وإذا قرن الإيمان بالعمل فقد يكون من باب عطف الخاص على العام ، وقد يكون المراد بالإيمان - حينئذ - : التصديق بالقلب ، وبالعمل : عمل الجوارح كما ذكر في هذه الآية الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، ثم عطف عليه أعمال الجوارح .(1/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
وخرج البخاري من حديث :
9 - سليمان بن بلال ، عن عبد الله بن دينار ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ( 63 ) ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " الإيمان بضع وستون شعبة ، والحياء شعبة من الإيمان " .
وخرجه مسلم من هذا الوجه ، ولفظه : " بضع وسبعون " ( 64 ) وخرجه مسلم - أيضا - من رواية جرير ، عن سهيل ، عن عبد الله بن دينار ( 180 - ب / ف ) ، وبه قال في حديثه : " بضع وسبعون - أو بضع وستون " ( 65 ) - بالشك - ، وهذا الشك من سهيل ، كذا جاء مصرحا به في " صحيح ابن حبان " ( 66 ) وغيره . وخرجه مسلم - أيضا _ من حديث ابن الهاد ، عن عبد الله بن دينار ، به وقال في حديثه : " الإيمان سبعون - أو اثنان وسبعون - بابا " ( 67 ) . ورواه ابن عجلان ، عن عبد الله بن دينار وقال : " ستون 0 أو سبعون " . وروي عنه أنه قال في حديثه : " ستون أو سبعون " أو بضع واحد من العددين ( 68 ) .(1/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
وروي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه بهذا اللفظ - أيضا ( 69 ) .
وروي عنه بلفظ آخر وهو : " الإيمان تسعة - أو سبعة _ وسبعون شعبة " . وخرجه الترمذي من رواية عمارة بن غزية وقال فيه : " الإيمان أربعة وسبعون بابا " ( 70 ) . وقد روي عن عمارة بن غزية ، عن سهيل عن أبيه ( 71 ) . وسهيل لم يسمع من أبيه ، وإنما رواه عن عبد الله بن دينار ، عن أبي صالح ( 72 ) . فمدار الحديث على عبد الله بن دينار ، لا يصح عن غيره .
وقد ذكر العقيلي أن أصحاب عبد الله بن دينار على ثلاث طبقات : أثبات : كمالك وشعبة وسفيان بن عيينه ومشايخ : كسهيل ويزيد بن الهاد وابن عجلان ، قال : وفي رواياتهم عن عبد الله بن دينار اضطراب ، وقال : إن هذا الحديث لم يتابع هؤلاء المشايخ عليه أحد من الأثبات عن عبد الله بن دينار ، ولا تابع عبد الله بن دينار ، عن أبي صالح عليه أحد ، والطبقة الثالثة : الضعفاء ، فيرون عن عبد الله بن دينار المناكير ، إلا أن الحمل فيها عليهم ( 73 ) .
قلت : فد رواه عن عبد الله بن دينار : سليمان بن بلال ، وهو ثقة ثبت ، وقد خرج حديثه في " الصحيحين " .(1/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
وأما الاختلاف في لفظ الحديث : فالأظهر أنه من الرواة كما جاء التصريح في بعضه بأنه شك من سهيل بن أبي صالح . وزعم بعض الناس أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يذكر هذا العدد بحسب ما ينزل من خصال الإيمان ، فكلما نزلت خصلة منها ضمها إلى ما تقدم وزادها عليها . وفي ذلك نظر .
وقد ورد في بعض روايات " صحيح مسلم " عد بعض هذه الخصال ، ولفظه : " أعلاها : قول لا إله إلا الله ، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " ( 74 ) . فأشار إلى أن خصال الإيمان منها قول باللسان ، ومنها ما هو عمل بالجوارح ومنها ما هو قائم بالقلب ، ولم يزد في شيء من هذه الروايات على هذه الخصال .
وقد انتدب لعدها طائفة من العلماء كالحليمي ( 75 ) والبيهقي وابن شاهين وغيرهم ، فذكروا أن كل ما ورد تسميته إيمانا في الكتاب والسنة من الأقوال والأعمال وبلغ بها بعضهم سبع وسبعين ، وبعضهم تسعا وسبعين . و في القطع على أن ذلك هو مراد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من هذه الخصال عسر ( 76 ) كذا قاله ابن الصلاح وهو كما قال . وتبويب البخاري على خصال الإيمان والإسلام والدين من أوله إلى آخره وما خرج فيه من الأحاديث وما ( 181 - أ / ف ) استشهد به من الآيات والآثار الموقوفة إذا(1/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
عدت خصاله وأضيف إليه أضداد ما ذكره في أبواب خصال النفاق والكفر بلغ ذلك فوق السبعين - أيضا - والله أعلم . وقد تكلم الراغب في كتاب " الذريعة " ( 77 ) له على حصرها في هذا العدد ذكره ابن عبد البر ( 78 ) وغيره . فإن قيل : فأهل الحديث والسنة عندهم أن كل طاعة فهي داخلة في الإيمان ، سواء كانت من أعمال الجوارح أو القلوب أو من الأقوال ، وسواء في ذلك الفرائض والنوافل ، هذا قول الجمهور الأعظم منهم وحينئذ فهذا لا ينحصر في بضع وسبعين ، بل يزيد على ذلك زيادة كثيرة ، بل هي غير منحصرة . قيل : يمكن أن يجاب عن هذا بأجوبة :
أحدها : أن يقال : إن عد خصال الإيمان عند قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان منحصرا في هذا العدد ثم حدثت زيادة فيه بعد ذلك حتى كملت خصال الإيمان في آخر حياة النبي صلي الله عليه وسلم .
والثاني : أن تكون خصال الإيمان كلها تنحصر في بضع وسبعين نوعا ، وإن كان أفراد كل نوع تتعد كثيرا ، وربما كان بعضها لا ينحصر . وهذا أشبه . وإن كان الموقوف على ذلك يعسر أو يتعذر .
والثالث : أن ذكر السبعين على وجه التكثير للعدد ، لا على وجه الحصر كما في قوله تعالى ( إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ( [ التوبة : 80 ](1/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
والمراد تكثير التعداد من غير حصوله هذا في العدد ( 79 ) ، ويكون ذكره للبضع يشعر بذلك كأنه يقول : هو يزيد على السبعين المقتضية لتكثير العدد وتضعيفه . و هذا ذكره أهل الحديث من المتقدمين ، وفيه نظر .
والرابع : أن هذه البضع وسبعين هي أشرف خصال الإيمان وأعلاها وهو الذي تدعو إليه الحاجة منها . قال ابن حامد من أصحابنا . والبضع في اللغة : من الثلاث إلى التسع ، هذا هو المشهور ، ومن قال : ما بين اثنين إلى عشر فالظاهر إنما أراد ذلك ولم يدخل الاثنين والعشر في العدد . وقيل من أربع إلى تسع . وقيل : مابين الثلاث والعشر . والظاهر أنه هو الذي قبله باعتبار إخراج الثلاث والعشر منه . وكذا قال بعضهم : ما بين الثلاث إلى ما دون العشرة ، وعلى هذا فلا يستعمل في الثلاث ولا في العشر ، والله أعلم . ( 80 ) .(1/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
باب من سلم المسلمون من لسانه ويده
3 - فصل
( 81 )
خرج البخاري من حديث :
10 - الشعبي ، عن عبد الله بن عمرو ( 82 ) عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر : من هجر ما نهى الله عنه "
خرجه من رواية شعبة ، عن عبد الله بن أبي السفر وإسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي عن عبد الله . ثم قال : وقال معاوية : حدثنا داود ، عن عامر قال : سمعت عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلي الله عليه وسلم وقال عبد الأعلى ، عن ( 181 - ب / ف ) داود ، عن عامر ، عن عبد الله ( 83 ) .
مقصود البخاري بهذا : أن شعبة روى الحديث معنعنا إسناده كله . وداود بن أبي هند عن الشعبي واختلف عليه فيه ، فقال عبد الأعلى : عن داود كذلك ، وقال أبو معاوية : عن داود ، عن عامر قال : سمعت عبد الله ، فذكر في حديثه تصريح الشعبي بالسماع له من عبد الله بن عمرو . وإنما احتاج إلى هذا ، لأن البخاري لا يرى أن الإسناد يتصل بدون ثبوت لقي الرواة بعضهم لبعض وخصوصا إذا روى بعض أهل بلد عن بعض أهل بلد ناء عنه ، فإن أئمة أهل الحديث مازالوا يستدلون على عدم السماع بتباعد بلدان(1/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
الرواة ، كما قالوا في رواية سعيد بن المسيب عن أبي الدرداء وما أشبه ذلك ( 84 ) . وهذا الحديث قد رواه الشعبي - وهو من أهل الكوفة - ، عن عبد الله بن عمرو - وهو حجازي - نزل مصر ولم يسكن العراق ، فاحتاج أن يذكر ما يدل على سماعه منه ، وقد كان عبد الله بن عمرو قدم مع معاوية الكوفة عام الجماعة فسمع أهل الكوفة كأبي وائل ، وزر بن حبيش ، والشعبي . وإنما خرج مسلم هذا الحديث من رواية المصريين ، عن عبد الله بن عمرو : من رواية يزيد بن حبيب ، عن أبي الخير سمع عبد الله بن عمرو يقول : أن رجلا سأل النبي صلي الله عليه وسلم : أي المسلمين خير ؟ قال : " من سلم المسلمون من لسانه ويده " ( 85 ) . وهذا اللفظ يخالف لفظ رواية البخاري .
وأما رواية " المسلم " فيقتضي حصر المسلم فيمن سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمراد بذلك المسلم الكامل الإسلام ، فمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده فإنه ينتفي عنه كمال الإسلام الواجب ، فإن سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبة ، فإن أذى المسلم حرام باللسان وباليد ، فأذى اليد : الفعل ، وأذى اللسان القول .
والظاهر : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما وصف بهذا في هذا الحديث لأن السائل كان مسلما قد أتى بأركان الإسلام الواجبة لله عز وجل ، وإنما يجهل دخول هذا القدر الواجب من حقوق العباد في الإسلام ، فبين له النبي صلي الله عليه وسلم ما جهله .(1/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
ويشبه هذا : أن النبي صلي الله عليه وسلم لما خطب في حجة الوداع وبين للناس حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم وأتبع ذلك بقوله : " سأخبركم من المسلم : من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمؤمن : من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم " . خرجه ابن حبان في " صحيحه " من حديث فضالة بن عبيد ( 86 ) .
وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أحيانا يجمع لنم قدم عليه يريد الإسلام بين ذكر حق الله وحق العباد ، كما في " مسند الإمام أحمد " عن عمرو بن عبسة قال : قال رجل : يا رسول الله ما الإسلام ؟ قال : " أن تسلم قلبك لله ، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك " ( 87 ) .
وفيه - أيضا - ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده أنه أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليسلم فقال له : أسألك بوجه الله بم بعثك الله ربنا إلينا ؟ قال : " بالإسلام قال قلت : وما آية الإسلام ؟ ( 128 - أ / ف ) قال : " أن تقول : أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وكل مسلم على مسلم محرم " ، وذكر الحديث وقال فيه : قلت : يا رسول الله هذا ديننا ؟ قال : " هذا دينكم " ( 88 ) . وخرجه النسائي بمعناه ( 89 ) . وقوله " والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه " .(1/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
فأصل الهجرة : هجران الشر ومباعدته لطلب ( 90 ) الخير ومحبته والرغبة ( 91 ) فيه .
والهجرة عند الإطلاق في كتاب السنة إنما تنصرف إلى هجران بلد الشرك إلى دار الإسلام رغبة في تعلم الإسلام والعمل به ، وإذا كان كذلك فأصل الهجرة : أن يهجر ما نهاه الله عنه من المعاصي ، فيدخل في ذلك هجران بلد الشرك رغبة في دار الإسلام ، وإلا فمجرد هجرة بلد الشرك مع الإصرار على المعاصي ليس بهجرة تامة كاملة ، بل الهجرة التامة الكاملة : هجران ما نهى الله عنه ، ومن جملة ذلك : هجران بلد الشرك مع القدرة عليه .(1/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
باب : أي الإسلام أفضل
4 - فصل
( 92 )
خرج البخاري من حديث :
11 - بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده ( 93 ) أبي بردة عن أبيه أبي موسى ( 94 ) قالوا : يا رسول الله أي الإسلام أفضل ؟ قال : " من سلم المسلمون من لسانه ويده " .
وخرجه مسلم ( 95 ) - أيضا - ، وخرج - أيضا - من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل : أي المسلمين خير ؟ قال : " من سلم المسلمون من لسانه ويده " - كما تقدم ذكره ( 96 ) . فعلى هذه الرواية : أي المسلمين خير ؟ وفي رواية أبي موسى : أي الإسلام أفضل ؟ . قال ابن رجب : والذي ظهر لي في الفرق بين " خير " أن لفظ " أفضل " إنما تستعمل في شيئين اشتركا في غير فضل ، وامتاز أحدهما عن الآخر بفضل اختص به ، فهذا الممتاز قد شارك ذاك في الفضل واختص عنه بفضل زائد فهو ذاك . وأما لفظه " خير " فتستعمل في شيئين : في كل منهما نوع من الخير أرجح مما في الآخر سواء كان لزيادة عليه في ذاته أو في نفعه أو غير ذلك ، وإن اختلف جنساهما فترجيح أحدهما على الآخر يكون بلفظة خير ،(1/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
فيقال مثلا : النفع المتعدي خير من النفع القاصر ، وإن كان جنسهما مختلفا ويقال : زيد أفضل من عمرو ، إذا اشتركوا في علم أو دين ونحو ذلك ، وامتاز أحدهما على الآخر بزيادة . وإن استعمل في النوع الأول لفظة " أفضل " مع اختلاف الجنسين ، فقد يكون المراد : أن ثواب أحدهما أفضل من ثواب الآخر وأزيد منه ، فقد وقع الاشتراك في الثواب وامتاز أحدهما بزيادة منه - وحينئذ - فمن سلم المسلمون من لسانه ويده إسلامه أفضل من إسلام غيره ممن ليس كذلك ، لاشتراكهما في الإتيان بحقوق الله في الإسلام من الشهادتين و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ونحو ذلك ، وامتاز أحدهما بالقيام بحقوق المسلمين ، فصار هذا الإسلام أفضل من ذاك . و أما المسلم : فيقال : هذا أفضل من ذاك لأن إسلامه أفضل من إسلامه ويقال : هو خير من ذاك لترجيح خيره على خير غيره وزيادته عليه .(1/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
باب : إطعام الطعام من الإسلام
6 - فصل
( 97 )
خرج البخاري ومسلم من حديث :
12 - يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أي الإسلام خير ؟ قال : ( 182 - ب / ف ) " تطعم ( 98 ) الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " .
وخرجه مسلم أيضا ( 99 ) . جعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الحديث خير الإسلام : إطعام الطعام وإفشاء السلام . وفي " المسند " ( 100 ) عن عمرو بن عبسة أنه سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ما الإسلام ؟ قال : " لين الكلام وإطعام الطعام " .
ومراده : الإسلام التام الكامل . وهذه الدرجة في الإسلام فضل ، وليست واجبة ، إنما هي إحسان . وأما سلامة المسلمين من اللسان واليد فواجبة إذا كانت من غير حق ، فإن كانت السلامة من حق كان - أيضا - فضلا .
وقد جمع الله تعالى بين الأفضال بالنداء وترك الأذى في وصف المتقين في قوله : ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( [ آل عمران : 134 ] فهذا إحسان وفضل وهو بذل النداء واحتمال الأذى .(1/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
وجمع في الحديث بين إطعام الطعام وإفشاء السلام ، لأنه به يجتمع الإحسان بالقول والفعل وهو أكمل الإحسان ، وإنما كان هذا خير الإسلام بعد الإتيان بفرائض الإسلام وواجباته ، فمن أتى بفرائض الإسلام ثم ارتقى إلى درجة الإحسان إلى الناس كان خيرا ممن لم يرتق إلى هذه الدرجة وأفضل - أيضا - ، وليس المراد أن من اقتصر على هذه الدرجة فهو خير من غيره مطلقا ولا أن إطعام الطعام ولين الكلام خير من أركان الإسلام ومبانيه الخمس ، فإن إطعام الطعام والسلام لا يكونان من الإسلام إلا بالنسبة إلى من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .
وقد زعم الحكيمي ( 101 ) وغيره أنه قال : خير الأشياء كذا ، والمراد تفضيله من وجه دون وجه وفي وقت دون وقت أو لشخص دون شخص ، ولا يراد تفضيله على الأشياء كلها ، أو أن يكون المراد : إنه من خير الأشياء ، لا خير مطلقا . وهذا فيه نظر ، وهو مخالف للظاهر ، ولو كان هذا حقا لما احتيج إلى تأويل قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لمن قال له : يا خير البرية ، فقال : " ذاك إبراهيم " ( 102 ) . وقد تأوله الأئمة ، فقال الإمام أحمد : هو على وجه التواضع . ولكن هذا يقرب من قول من تأول " أفضل " بمعنى " فاضل " وقال : إن " أفعل " لا تقتضي المشاركة . وهذا غير مطرد عند البصريين ، ويتأول ما ورد منه(1/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
وحكى عن الكوفيين أنه مطرد لا يحتاج إلى تأويل . وقوله " وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " هذا أفضل أنواع إفشاء السلام . وفي " المسند " عن ابن مسعود مرفوعا : " إن من أشراط الساعة " السلام بالمعرفة " ( 103 ) .
ويخرج من عموم ذلك : من لا يجوز بداءته بالسلام كأهل الكتاب عند جمهور العلماء .(1/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه
7 - فصل
( 104 )
خرج البخاري ومسلم ( 105 ) من حديث :
13 - قتادة ، عن أنس ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ( 106 )
لما نفى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه دل على أن ذلك من خصال الإيمان ، بل من واجباته ، فإن الإيمان لا ينفي إلا بانتفاء بعض واجباته ، كما قال : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ( 107 ) . الحديث
وإنما يحب الرجل لأخيه ما يحب لنفسه إذا سلم من الحسد والغل والغش والحقد ، وذلك واجب كما قال النبي ( 183 - أ / ف ) ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا " ( 108 ) ، فالمؤمن أخو المؤمن يحب له ما يحب لنفسه ويحزنه ما يحزنه كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) :
" مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر " ( 109 ) فإذا أحب المؤمن لنفسه فضيلة من دين أو غيره أحب أن يكون لأخيه نظيرها من غير أن تزول عنه كما قال ابن عباس : إني لأمر بالآية من القرآن فأفهمها فأود أن الناس كلهم فهموا منها ما أفهم . وقال الشافعي : وددت أن الناس كلهم تعلموا هذا العلم ولم ينسب إلي(1/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
منه شيء . فأما حب التفرد عن الناس بفعل ديني أو دنيوي : فهو مذموم ، قال الله تعالى : ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا ( ( القصص : 83 ) ، وقد قال علي وغيره : هو أن لا يحب أن يكون نعله خيرا من نعل غيره ولا ثوبه خيرا من ثوبه ( 110 ) وفي الحديث المشهور في " السنن " : " من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار ( 111 ) . وأما الحديث الذي فيه أن رجلا سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إني أحب الجمال ، وما أحب أن يفوقني أحد بشراك أو بشسع نعلي ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " ليس ذلك من الكبر " ( 112 ) ، فإنما فيه أنه أحب أن لا يعلو عليه أحد ، وليس فيه محبة أن يعلو هو على الناس ، بل يصدق هذا أن يكون مساويا لأعلاهم فما حصل بذلك محبة العلو عليه والانفراد عنهم ، فإن حصل لأحد فضيلة خصصه الله بها عن غيره فأخبر بها على وجه الشكر ، لا على وجه الفخر كان حسنا كما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، وأنا أول شافع ولا فخر " ( 113 ) . وقال ابن مسعود : لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته .(1/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
باب : حب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من الإيمان
8 - فصل
( 114 )
خرج البخاري ومسلم ( 115 ) من حديث :
14 - أبي هريرة ( 116 ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده " .
وخرج البخاري ومسلم ( 117 ) - أيضا - من حديث :
15 - أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " .
محبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أصول الإيمان وهي مقارنة لمحبة الله عز وجل ، وقد قرنها الله بها ، وتوعد من قدم عليها شيء من الأمور المحبوبة طبعا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك ، فقال تعالى : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ( [ التوبة : 24 ] .
و لما قال عمر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال : " لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال عمر : والله أنت الآن أحب إلي من نفسي ، قال : " الآن يا عمر " . ( 118 ) فيجب تقديم محبة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ( 183 - ب / ف ) على النفوس والأولاد والأقارب والأهلين والأموال والمساكين ، وغير ذلك مما يحبه الناس غاية المحبة ،(1/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
وإنما تتم المحبة بالطاعة كما قال تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ( [ آل عمران : 31 ] وسئل بعضهم عن المحبة ، فقال : الموافقة في جميع الأحوال . فعلامة تقديم محبة الرسول على محبة كل مخلوق : أنه إذا تعارض طاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في أوامره وداع آخر يدعو إلى غيرها من هذه الأشياء المحبوبة ، فإن قدم المرء طاعة الرسول وامتثال أوامره على ذلك الداعي : كان دليلا على صحة محبته للرسول وتقديمها على كل شيء ، وإن قدم على طاعته وامتثال أوامره شيئا من هذه الأشياء المحبوبة طبعا : دل ذلك على عدم إتيانه بالإيمان التام الواجب عليه . وكذلك القول في تعارض محبة الله ومحبة داعي الهوى والنفس ، فإن محبة الرسول تبع لمحبة مرسله عز وجل . هذا كله في امتثال الواجبات وترك المحرمات . فإن تعارض داعي النفس ومندوبات الشريعة ، فإن بلغت المحبة على تقديم المندوبات على دواعي النفس كان ذلك علامة كمال الإيمان وبلوغه إلى درجة المقربين والمحبوبين المتقربين بالنوافل بعد الفرائض ، وإن لم تبلغ هذه المحبة إلى الدرجة فهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين الذين كملت محبتهم ولم يزيدوا عليها(1/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
باب : حلاوة الإيمان
9 - فصل
( 119 )
خرج البخاري ومسلم ( 120 ) من حديث :
16 - أبي قلابة ، عن أنس ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار " . وقد خرجه مسلم وعنده في رواية : " فقد وجد طعم الإيمان ( 121 ) ، وجاء في رواية : " وجد طعم الإيمان وحلاوته " .
فهذه الثلاث خصال من أعلى خصال الإيمان ، فمن كملها فقد وجد حلاوة الإيمان وطعم طعمه ، فالإيمان له حلاوة وطعم يذاق بالقلوب كما يذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم ، فإن الإيمان هو غذاء القلوب وقوتها كما أن الطعام و الشراب غذاء الأبدان وقوتها ، وكما أن الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته فإذا سقم لم يجد حلاوة ما ينفعه من ذلك ، بل قد يستحلي ما يضره وما ليس فيه حلاوة لغلبة السقم عليه ، فكذلك القلب إنما يجد حلاوة الإيمان من أسقامه وآفاته ، فإذا سلم من مرض الأهواء المضلة والشهوات المحرمة وجد حلاوة الإيمان حينئذ ، ومتى مرض وسقم لم يجد حلاوة الإيمان ، بل يستحلي ما فيه هلاكه من الأهواء والمعاصي .(1/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
ومن هنا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ( 122 ) ، لأنه لو كمل إيمانه لوجد حلاوة الإيمان فاستغنى بها عن استحلاء المعاصي .
سئل وهيب بن الورد : هل يجد طعم الإيمان من يعصي الله ؟ قال : لا ، ولا من هم بالمعصية . وقال ذو النون : كما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب . فمن جمع هذه الخصال الثلاثة المذكورة في هذا الحديث ( 184 - أ / ف ) فقد وجد حلاوة الإيمان وطعم طعمه :
أحدها : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . ومحبة الله تنشأ تارة من معرفته ، وكمال معرفته : تحصل من معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله الباهرة والتفكير في مصنوعاته وما فيها من الإتقان والحكم والعجائب ، فإن ذلك كله يدل على كماله وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته .
وتارة ينشأ ( 123 ) من مطالعة النعم ، وفي حديث ابن عباس المرفوع : " أحبوا الله لما يغدوكم ( 124 ) من نعمه وأحبوني لحب الله " . خرجه الترمذي في بعض نسخ كتابه ( 125 ) . وقال بعض السلف : من عرف الله أحبه ، ومن أحبه أطاعه(1/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
فإن المحبة تقتضي الطاعة كما قال بعض العارفين : الموافقة في جميع الأحوال ، ثم أنشد : ولو قلت لي مت مت سمعا وطاعة وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا
ومحبة الله على درجتين :
إحداهما : فرض ، وهي المحبة المقتضية لفعل أوامره الواجبة والانتهاء عن زواجره المحرمة والصبر على مقدوراته المؤلمة ، فهذا القدر لابد منه في محبة الله ، ومن لم تكن محبته على هذا الوجه فهو كاذب في دعوى محبة الله ، كما قال بعض العارفين : من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده فهو كاذب ، فمن وقع في ارتكاب شيء من المحرمات أو أخل بشيء من فعل الواجبات فلتقصره في محبة الله حيث قدم محبة نفسه وهواه على محبة الله ، فإن محبة الله لو كملت لمنعت من الوقوع فيما يكرهه . وإنما يحصل الوقوع فيما يكرهه لنقص محبته الواجبة في القلوب وتقديم هوى النفس على محبته وبذلك ينقص الإيمان كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ( 126 ) الحديث .
والدرجة الثانية من المحبة - وهي فضل مستحب - : أن ترتقي المحبة من ذلك إلى التقرب بنوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق الشبهات والمكروهات ، والرضى بالأقضية المؤلمات ،(1/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
كما قال عامر بن عبد قيس : أحببت الله حبا هون علي كل مصيبة ورضاني بكل بلية ، فما أبالي مع حبي إياه على ما أصبحت ، ولا على ما أمسيت ( 127 ) . و قال عمر بن عبد العزيز أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر ، ولما مات ولده الصالح قال : إن الله أحب قبضه ، وأعوذ بالله أن تكون لي محبة تخالف محبة الله . وقال بعض التابعين في مرضه : أحبه إلي أحبه إليه . وأما محبة الرسول : فتنشأ عن معرفته ومعرفة كماله وأوصافه وعظم ما جاء به ، وينشأ ذلك في معرفة مرسله وعظمته - كما سبق - ، فإن محبة الله لا تتم إلا بطاعته ، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمتابعة رسوله ، كما قال تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ( [ آل عمران : 31 ] ومحبة الرسول على درجتين - أيضا : إحداهما : فرض ، وهي ما اقتضى طاعته في امتثال ما أمر به من الواجبات والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات والرضى بذلك ، وأن لا يجد في نفسه حرجا مما جاء به ويسلم له تسليما ، وأن لا يتلقى الهدى من غير مشكاته ولا يطلب شيئا من الخير إلا مما جاء به .
الدرجة الثانية : فضل مندوب إليه ، وهي : ما ارتقى بعد ذلك إلى اتباع سنته وآدابه وأخلاقه والاقتداء به في هديه وسمته وحسن معاشرته لأهله وإخوانه وفي التخلق بأخلاقه الظاهرة في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة وفي جوده وإيثاره وصفحه وحلمه واحتماله وتواضعه ، وفي أخلاقه الباطنة من كمال خشيته لله ومحبته له وشوقه إلى لقائه(1/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
ورضاه بقضائه وتعلق قلبه به دائما وصدق الالتجاء إليه والتوكل والاعتماد عليه ، وقطع تعلق القلب بالأسباب كلها ودوام لهج القلب واللسان بذكره والأنس به والتنعم بالخلوة بمناجاته ودعائه وتلاوة كتابه بالتدبر والتفكر .
وفي الجملة : فكان خلقه ( صلى الله عليه وسلم ) القرآن ، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه ، فأكمل الخلق من حقق متابعته وتصديقه قولا وعملا وحالا وهم الصديقون من أمته الذين رأسهم : أبو بكر - خليفته بعده - وهم أعلى أهل الجنة درجة بعد النبيين كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون ( 128 ) الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم " قالوا " : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء ما يبلغها غيرهم ، قال : " إي والذي نفسي بيده ، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " . خرجاه في " الصحيحين " من حديث أبي سعيد ( 129 ) .
الخصلة الثانية : أن يحب المرء لا يحبه إلا لله . والحب في الله من أصول الإيمان وأعلى درجاته . وفي " المسند " ( 130 ) عن معاذ بن أنس الجهني أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن أفضل الإيمان ، فقال : أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في ذكر الله " . وفيه - أيضا - عن عمرو بن الجموح ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لا يحق(1/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله ، فإذا أحب لله ، وأبغض لله فقد استحق الولاية من الله " ( 131 ) وفيه : عن البراء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أوثق عرى الإيمان : أن تحب في الله وتبغض في الله ( 132 ) وخرج الإمام أحمد ، وأبو داود عن أبي ذر ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أفضل الأعمال : الحب في الله والبغض في الله " ( 133 ) . ومن حديث أبي أمامة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان " ( 134 ) . وخرجه أحمد ، والترمذي من حديث معاذ بن أنس ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وزاد أحمد في رواية " وأنكح لله " ( 135 ) .
وإنما كانت هذه الخصلة تالية لما قبلها ، لأن من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فقد صار حبه كله له ، ويلزم من ذلك أن يكون بغضه لله وموالاته له ومعاداته له ، وأن لا تبقى له بقية من نفسه وهواه ،(1/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
وذلك يستلزم محبة ما يحبه الله من الأقوال والأعمال ، وكراهة ما يكرهه من ذلك ، وكذلك من الأشخاص ، ويلزم من ذلك معاملتهم بمقتضى الحب والبغض ، فمن أحبه الله أكرمه وعامله بالعدل والفضل ، ومن أبغضه لله أهانه بالعدل ، ولهذا وصف الله المحبين له بأنهم ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( 185 - أ / ف ) أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ( [ المائدة : 54 ] . وكان من دعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يبلغني إلى حبك " ( 136 ) فلا تتم محبة الله ورسوله إلا بمحبة أوليائه وموالاتهم وبغض أعدائه ومعاداتهم . وسئل بعض العارفين : بما تنال المحبة ؟ قال : بموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ، وأصله الموافقة .
الخصلة الثالثة : أن يكره الرجوع إلى الكفر كما يكره الرجوع إلى النار . فإن علامة محبة الله ورسوله : محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه الله ورسوله - كما سبق - فإذا رسخ الإيمان في القلب وتحقق به ووجد حلاوته وطعمه أحبه وأحب ثباته ودوامه والزيادة منه وكره مفارقته وكان كراهته لمفارقته أعظم عنده من كراهة الإلقاء في النار ، قال الله تعالى ( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ( [ الحجرات : 7 ] .(1/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
والمؤمن يحب الإيمان أشد من حب الماء البارد في شدة الحر للظمآن ، ويكره الخروج منه أشد من كراهة التحريق بالنيران ، كما في " المسند " عن أبي رزين العقيلي أنه سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الإيمان فقال : " أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما ، وأن تحرق في النار أحب إليك من أن تشرك بالله ، وأن تحب غير ذي نسب لا تحبه إلا لله فإذا كنت كذلك فقد دخل حب الإيمان في قلبك كما دخل حب الماء للظمآن في اليوم القائظ ( 137 )
وفي " المسند " - أيضا - أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصى معاذ بن جبل فقال له فيما وصاه به : " لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت وحرقت " ( 138 ) .
وفي " سنن ابن ماجة " ( 139 ) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصي أبا الدرداء وغيره - أيضا . وقد أخبر الله عن أصحاب الأخدود بما أخبر به وقد كانوا فتنوا المؤمنين والمؤمنات وحرقوهم بالنار ليرتدوا عن الإيمان ، فاختاروا الإيمان على النار . وفي " الصحيح " عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " أن امرأة منهم أتى به ومعها صبي لها يرضع فكأنها تقاعست أن تلقي نفسها في النار من أجل الصبي فقال لها الصبي : يا أمه اصبري فإنك على الحق " ( 140 ) . وألقي أبو مسلم الخولاني في النار على امتناعه أن يشهد للأسود بالنبوة(1/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
فصارت عليه بردا وسلاما . وعرض على عبد الله بن حذافة أن يتنصر فأمر ملك الروم بإلقائه في قدر عظيمة مملوءة ماء تغلي عليه فبكى وقال : لم أبك جزعا من الموت ، لكن أبكي أنه ليس لي إلا نفس واحدة يفعل بها هذا في الله ، لوددت أنه كان لي مكان كل شعرة مني نفسا يفعل بها ذلك في الله عز وجل . هذا مع أن التقية في ذلك باللسان جائزة مع طمأنينة القلب بالإيمان كما قال تعالى ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ( [ النحل : 106 ] . ولكن الأفضل الصبر وعدم التقية في ذلك . فإذا وجد القلب حلاوة الإيمان أحس بمرارة الكفر والفسوق والعصيان ولهذا قال يوسف عليه السلام : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ( [ يوسف " 33 ] . سئل ذو النون : متى أحب ربي ؟ قال : إذا كان ما يكرهه أمر عندك من الصبر . وقال ( 185 - ب / ف ) بشر بن السري : ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يبغضه حبيبك . واعلم أن القدر الواجب من كراهة الكفر والفسوق والعصيان هو أن ينفر من ذلك ويتباعد منه جهده ويعزم على أن لا يلابس شيئا من جهده لعلمه بسخط الله له وغضبه على أهله . فأما ميل الطبع إلى ما يميل من ذلك - خصوصا لمن اعتاده ثم تاب منه - فلا يؤاخذ به إذا لم يقدر على إزالته ، ولهذا مدح الله من نهى النفس عن الهوى ، وذلك يدل على أن الهوى يميل(1/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
إلى ما هو ممنوع منه وأن من عصى هواه كان محمودا عند الله عز وجل .
وسئل عمر عن قوم يشتهون المعاصي ولا يعملون بها ، قال : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( ( 141 ) [ الحجرات : 3 ] . وقد ترتاض النفس بعد ذلك وتألف التقوى حتى تتبدل طبيعتها وتكره ما كانت مائلة إليه وتصير ( 142 ) التقوى لها طبيعة ثابتة . وهل هذا أفضل من الأول أم الأول أفضل ؟
هذا وقد يخرج على اختلاف العلماء فيمن عمل طاعة ونفسه تأباها وهو يجاهدها ، وآخر عملها ونفسه طائعة مختارة لها أيهما أفضل ؟ وفيه قولان مشهوران للعلماء والصوفية . والأظهر : أن الثاني أفضل . وفي كلام الإمام أحمد ما يدل على خلافه . وفي " مسند الإمام أحمد " : حدثنا يحي بن سعيد ، عن حميد عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لرجل : " أسلم " قال : أجدني كارها قال : " ، إن كنت كارها " ( 143 ) وهذا يدل على صحة الإسلام مع نفور القلب عنه وكراهته له ، لكن إذا دخل في الإسلام واعتاده وألفه : دخل حبه قلبه ووجد حلاوته . وخرج مسلم حديث أنس المتقدم ، ولفظه : " ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه " ( 144 ) .
ويستشكل من هذا اللفظ أنه يقتضي ( 145 ) وجود محبة الأمرين - أعني : الإلقاء(1/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
في النار والرجوع إلى الكفر - ، وترجع محبة الأول على الثاني ، ووقع مثله في القرآن في قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام - ( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ( [ يوسف : 33 ] ومثله قول علي رضي الله عنه : إذا حدثتكم عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أكذب عليه ( 146 ) . ويجاب عن ذلك : بأن من خير بين أمرين مكروهين فاختار أحدهما على الآخر لشدة كراهته لما رغب عنه فإنه يقال : إنه محب لما اختاره مريد له وإن كان لا يحبه ولا يختاره لنفسه ، بل لدفع ما عنده أشد كراهة وأعظم ضررا . ومن هنا ورد ما ورد من حب الموت في الفتنة والتخلص منها . وقيل لعطاء السليمي : لو أججت نار وقيل : من دخلها نجا من جهنم هل كنت تدخله ؟ فقال : بل كنت أخشى أن تخرج نفسي فرحا بها قبل وصولي إليها ( 147 ) ويشبه هذا حال المكره على فعل بضرب أو سجن أو تهديد أو بقتل ونحو ذلك إذا فعله افتداء لنفسه مما أكره عليه هل هو مختار له أم لا ؟ وفيه اختلاف مشهور بين الأصوليين .
والتحقيق : أنه مختار له ، لا لنفسه ، بل للافتداء به من المكروه الأعظم ، فهو مختار له من وجه دون وجه ، وهذا بخلاف فعل المؤمن الطاعات خوفا من الله ، فإنه ليس فعله كفعل ( 186 - أ / ف ) المكره ، لأن المؤمن يجب عليه أن يأتي بالطاعة خوفا من عقاب الله ورجاء لثوابه وحبا له ، فبذلك يفارق حال المكره .(1/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
ومن هنا تظهر المسألة التي تفر منها الفقهاء وهي : إذا قال رجل لامرأته : إن كنت تحبيني ( 148 ) أن يعذبك الله بالنار فأنت طالق ، فقالت : أنا أحبه ، فقال كثير منهم من أصحابنا وغيرهم : إنها تطلق لأنها قد تختار ذلك وتحبه افتداء به من معاشرة زوجها لشدة بغضها له وجهلا منها بتصور عذاب جهنم فتكون صادقة فيما أخبرت به . و من هذا : الحديث الذي فيه أن الكافر يقول من شدة ما يجد في الموقف يوم القيامة : رب أرحني حتى ولو إلى النار . فظهر بهذا : أن من خير بين مكروهين فاختار أخفهما دفعا لأعظمهما أنه يكون محبا لما اختاره مختارا له من وجه دون وجه . وأما ما يقتضيه لفظ الحديث من كونه محبا للآخر : فهذا - أولا - غير لازم على قول الكوفيين الذين لا يرون أن " أفعل " التفضيل يلزم منه المشاركة مطلقا ، فيجوز عندهم أن يقال : الثلج أبرد من النار ، وأما على قول البصريين فإنه قد ورد في كثير من نصوص الكتاب والسنة ما تمتنع فيه المشاركة وتأولوا فيه " أفعل " ب " فاعل " فكذلك تتأول هنا . ومما بقي مما يتعلق بلفظ هذا الحديث : أن قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " يدل على أنه يجوز الجمع بين اسم الله واسم غيره من المخلوقين في كلمة واحدة . وفي " سنن أبي داود " عن ابن مسعود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول في خطبته : " من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا ( 149 ) .(1/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
و قال ابن مسعود - لما قضي في بروع ( 150 ) - : إن يكون صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان من الخطأ . وقد اختلف الناس في جواز مثل هذا التركيب في الكلام على أقوال :
أحدهما : أنه لا يجوز . و الثاني : أنه لا يجوز في كلام الله عز وجل دون غيره . والثالث : أنه ممتنع مطلقا . واحتجوا بحديث عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ومن يعصهما فقد غوى ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " بئس الخطيب أنت ، قل : ومن يعص الله ورسوله " . خرجه مسلم . و قد قيل : إن قوله : " قل : ومن يعص الله ورسوله " مدرجة في الحديث ( 151 ) وإنما أنكر عليه وقفه في قوله : " و من يعصهما " . وقد ذكر هذا الاختلاف ابن عطية في " تفسيره " وغيره .
و فيه قول آخر : أنه يمتنع في واو الجمع أو ألف التثنية المتصلين بالأفعال نحو : يفعلون ، وتفعلان ، كقوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ( ( الأحزاب : 56 ) ، وهذا هو الذي ذكره القاضي أبو يعلي في كتابه " أحكام القرآن " ( 152 ) . و من منع ذلك : أجاب بأن في الكلام حذفا تقديره : إن الله يصلي وملائكته يصلون ، والله أعلم .(1/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
باب : علامة الإيمان حب الأنصار
- فصل
( 153 )
خرج البخاري ومسلم ( 154 ) من حديث :
17 - أنس ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " آية الإيمان : حب الأنصار ، وآية النفاق : بغض الأنصار " .
هذا المعنى يرجع إلى ما تقدم من حب المرء لا يحبه إلا لله ( 155 ) من علامات وجود حلاوة الإيمان وأن الحب في الله من أوثق عرى الإيمان ، وأنه أفضل ( 186 - ب / ف ) الإيمان ، فالأنصار نصروا الله ورسوله فمحبتهم من تمام حب الله ورسوله . وخرج الإمام أحمد من حديث سعيد بن زيد ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا يؤمن بالله من لا يؤمن بي ، ولا يؤمن بي من لا يحب الأنصار " ( 156 ) وخرج الطبراني وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من أحب الأنصار فبحبي أحبهم ، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم " ( 157 ) وفي صحيح مسلم " عن أبي سعيد وأبي هريرة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر " ( 158 ) وفي " المسند " عن أبي سعيد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق " . ( 159 ) وكذلك حب المهاجرين - الذين هم أفضل من الأنصار - من الإيمان . وفي " صحيح مسلم " ، عن علي قال : إنه لعهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلي : لا يحبني(1/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ( 160 ) وفي " المسند " والترمذي ، عن عبد الله بن مغفل ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم " ( 161 ) وفي بعض نسخ كتاب الترمذي ، عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أحبوا الله لما يغدوكم به من نعمه ، وأحبوني لحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي " ( 162 ) .
وفي " المسند " وكتاب النسائي ، وابن ماجه ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال في الحسن والحسين : " من أحبهما فقد أحبني ، ومن أبغضهما فقد أبغضني " ( 163 ) . فمحبة أولياء الله وأحبابه عموما من الإيمان ، وهي من أعلى مراتبه ، وبغضهم محرم فهو من خصال النفاق ، لأنه مما لا يتظاهر به غالبا ، ومن تظاهر به فقد تظاهر بنفاقه فهو شر ممن كتمه وأخفاه .
و من كان له مزية في الدين لصحبته النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو لقرابته أو نصرته فله مزيد خصوصية في محبته وبغضه . و من كان من أهل السوابق في الإسلام كالمهاجرين الأولين فهو أعظم حقا مثل علي رضي الله عنه . وقد روي أن المنافقين إنما كانوا يعرفون ببغض علي رضي الله عنه ، ومن هو أفضل من علي كأبي بكر وعمر ، فهو ( 164 ) أولى بذلك ،(1/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
ولذلك قيل : إن حبهما من فرائض الدين ، وقيل : إنه يرجى على حبهما ما يرجى على التوحيد من الأجر .(1/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
- فصل
( 165 )
قال البخاري :
18 - حدثنا أبو اليمان : أنا شعيب عن الزهري : أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت ( 166 ) - وكان شهد بدرا ، وهو أحد النقباء ليلة العقبة - أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال - وحوله عصابة من أصحابه - : " بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف ، فمن وفي منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب [ به ] ( 167 ) في الدنيا فهو كفارة ، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه " فبايعناه على ذلك .
هذا الحديث سمعه أبو إدريس ، عن عقبة بن عامر ، عن عبادة ، وزيادة عقبة في إسناده : وهم . وقد خرج البخاري الحديث في " ذكر بيعة العقبة " ( 168 ) وفي " تفسير سورة الممتحنة " ( 169 ) من كتابه هذا ، وفيه التصريح بأن أبا إدريس أخبره به عبادة وسمعه منه ( 187 - أ / ف ) .
وكان عبادة قد شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة حيث بايعت الأنصار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل الهجرة ،(1/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
لكن هذه البيعة المذكورة في هذا الحديث كانت ليلة العقبة أم لا ؟ هذا وقع فيه تردد ، فرواه ابن إسحاق ، عن الزهري وذكر في روايته أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة . وروى ابن إسحاق - أيضا - ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله ، عن الصنابحي ، عن عبادة بن الصامت قال : كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلا ، فبايعنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على بيعة النساء وذلك قبل أن تفرض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ولا نزني ، الحديث ( 170 ) . خرجه الإمام أحمد من رواية ابن إسحاق هكذا ( 171 ) . وكذا رواه الواقدي عن يزيد بن حبيب . وخرجاه في " الصحيحين " من حديث الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن الصنابحي ، عن عبادة قال : إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، بايعنا على أن لا نشرك بالله شيئا فذكر الحديث ( 172 ) . وليس هذا بالصريح في أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة . ولفظ مسلم بهذه الرواية ( 173 ) : عن عبادة بن الصامت قال : إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : بايعناه على أن لا نشرك ، الحديث . وهذا اللفظ قد يشعر بأن هذه البيعة غير ( 174 ) بيعة النقباء .(1/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
وخرجه مسلم ، من وجه آخر من رواية أبي قلابة ، عن أبي الأشعث ، عن عبادة قال : أخذ علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما أخذ على النساء أن لا نشرك بالله شيئا ( 175 ) .
هذا قد يشعر بتقدم أخذه على النساء على أخذه عليهم . وخرج مسلم حديث عبادة من رواية أبي إدريس ، عنه وقال في حديثه : فتلا علينا آية النساء أن لا نشرك بالله شيئا ، الآية ( 176 ) . وخرجه البخاري في " تفسير الممتحنة " من رواية ابن عيينه ، عن الزهري وقال فيه : وقرأ آية النساء ، وأكثر لفظ سفيان : وقرأ الآية ، ثم قال : تابعه عبد الرزاق ، عن معمر في الآية ( 177 ) . وكذا خرجه الإمام أحمد والترمذي وعندهما : فقرأ عليهم الآية ، زاد الإمام أحمد : التي أخذت على النساء ( إذا جاءك المؤمنات ( ( 178 ) [ الممتحنة : 12 ] . وهذا تصريح بأن هذه البيعة كانت بالمدينة ، لأن بيعة النساء مدنية . وروى هذا الحديث سفيان بن حسين ، عن الزهري ، وقال في حديثه : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لهم : " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم تلا هذه الآية } قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا } [ الأنعام : 151 ] حتى فرغ من الثلاث آيات . خرجه الهيثم بن كليب في " مسنده " (1/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
وسفيان بن حسين ليس بقوي ، خصوصا في حديث الزهري ، وقد خالف سائر الثقات من أصحابه في هذا ( 179 ) .
وقد روى عبادة بن الصامت أنهم بايعوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ينازعوا الأمر أهله ، أن يقولوا بالحق ( 180 ) . فهذه صفة أخرى غير صفة البيعة المذكورة في الأحاديث المتقدمة .
وهذه البيعة الثانية مخرجة في " الصحيحين " من غير وجه عن عبادة . وقد خرجها الإمام أحمد ( 181 ) من رواية ابن إسحاق : حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، عن أبيه عن جده عبادة - وكان أحد النقباء - قال : بايعنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيعة الحرب . وكان عبادة من الاثنى عشر ( 187 - ب / ف ) نقيبا الذين بايعوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في العقبة الأولى على بيعة النساء على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ، وذكر الحديث . و هذه الرواية تدل على أن هذه البيعة هي بيعة الحرب وأن بيعة النساء كانت في العقبة الأولى قبل أن يفرض ( 182 ) الحرب ، فهذا قد يشعر بأن هذه البيعة كانت بالمدينة بعد فرض الحرب . وفي هذا نظر . وقد خرجه الهيثم بن كليب في " مسنده " من رواية ابن إدريس ، عن ابن إسحاق ويحي بن سعيد وعبيد الله بن عمر ، عن عبادة بن الوليد أن أباه حدثه ، عن جده قال : بايعنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في العقبة الآخرة على السمع والطاعة ، فذكره .
وخرجه ابن سعد من وجه آخر ، عن عبادة بن الوليد مرسلا ( 183 ) .(1/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
وخرج الإمام أحمد من وجه آخر ، عن عبادة أنهم بايعوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذه البيعة على السمع والطاعة ، الحديث وقال فيه : وعلى أن ننصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قدم علينا يثرب ، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا ( 184 ) . وهذا يدل على أن هذه البيعة كانت قبل الهجرة وذلك ليلة العقبة .
وخرج - أيضا ( 185 ) - هذا المعنى من حديث جابر بن عبد الله أن هذه البيعة كانت للسبعين بشعب العقبة وهي البيعة الثانية ، وتكون سميت هذه البيعة الثانية ، بيعة الحرب ، لأن فيها البيعة على منع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك يقتضي القتال دونه ، فهذا هو المراد بالحرب وقد شهد عبادة البيعتين معا . ويحتمل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يبايع أصحابه على بيعة النساء قبل نزول أية مبايعتهن ، ثم نزلت الآية بموافقة ذلك .
و في المسند ( 186 ) عن أم عطية أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قدم المدينة جمع النساء فبايعهن على هذه الآية إلى قوله ( ولا يعصينك في معروف ( [ الممتحنة : 12 ] .
وهذا قبل نزول سورة الممتحنة ، فإنها إنما أنزلت قبل الفتح بيسير والله أعلم بحقيقة ذلك كله . وأما ما بايعهم عليه : فقد اتفقت روايات حديث عبادة من طرقه الثلاث عن أنهم بايعوه على أن لا يشركوا بالله ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا .(1/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
و في بعض الروايات : لا يقتلوا أولادهم - كما في لفظ الآية - ، وفي بعضها : لا يقتلوا النفس التي حرم الله . وهذه رواية الصنابحي ، عن عبادة . ثم إن من الرواة من اقتصر علي هذه الأربع ولم يزد عليها . ومنهم من ذكر خصلة خامسة بعد الأربع ، ولكن لم يذكرها باللفظ الذي في الآية ، ثم اختلفوا في لفظها : فمنهم من قال : " ولا تنتهب " - وهي رواية الصنابحي ، عن عبادة المخرجة في " الصحيحين " ومنهم من قال " ولا يعضه - بعضنا بعضا " وهي رواية أبي الأشعث عن عبادة - ، خرجها مسلم . ومنهم من قال : " ولا يغتب بعضنا بعضا " - وهي رواية الإمام أحمد ( 187 ) . و أما الخصلة السادسة : فمنهم من لم يذكرها بالكلية - وهي رواية أبي الأشعث التي خرجها مسلم .(1/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
ومنهم من ذكرها وسماها المعصية فقال : " ولا نعصي " - كما في رواية الصنابحي - وفي رواية أبي إدريس : " ولا تعصوا في معروف " . فأما الشرك والسرقة ( 188 ) والزنا والقتل : فواضح ، وتخصيص قتل الأولاد بالذكر في بعض الروايات موافق لما ورد في القرآن في مواضع ( 188 - أ / ف ) وليس له مفهوم ، وإنما خصص بالذكر للحاجة إليه ، فإن ذلك كان معتادا بين أهل الجاهلية .
وأما الإتيان ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم - على ما جاء في رواية البخاري - : فهذا يدل على أن هذا البهتان ليس مما يختص به النساء . وقد اختلف المفسرون في البهتان المذكور في آية بيعة النساء : فأكثرهم فسروه بإلحاق المرأة بزوجها ولدا من غيره ، رواه علي بن أبي طلحة ( 189 ) ، عن ابن عباس ، وقاله مقاتل بن حيان ( 190 ) وغيره . واختلفوا في معنى قوله : " بين أيديهم وأرجلهن " : فقيل لأن الولد إذا ولدته أمه سقط بين يديها ورجليها . وقيل : بل أراد بما تفتريه بين يديها : أن تأخذ لقيطا فتلحقه بزوجها ، وبما تفتريه بين رجليها : أن تلده من زنا ثم تلحقه بزوجها .
ومن المفسرين من فسر البهتان المفترى بالسحر ، ومنهم من فسره بالمشي بالنميمة والسعي في الفساد ، ومنهم من فسره بالقذف والرمي بالباطل . وقيل : البهتان المفترى يشمل ذلك كله وما كان في معناه ،(1/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
ورجحه ابن عطية ( 191 ) وغيره . وهو الأظهر ، فيدخل فيه كذب المرأة فيما اؤتمنت عليه من حمل وحي وغير ذلك . ومن هؤلاء من قال : أراد بما بين يديها : حفظ لسانها وفمها ووجهها عما لا يحل لها ، وبما بين رجليها : حفظ فرجها ، فيحرم عليها الافتراء ببهتان في ذلك كله . ولو قيل : إن من الافتراء ببهتان بين يديها خيانة الزوج في ماله الذي في بيتها لم يبعد ذلك .
وقد دل مبايعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الرجال على أن لا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم : أن ذلك لا يختص بالنساء ، وجميع ما فسر به البهتان في حق النساء يدخل فيه الرجال - أيضا - ، فيدخل فيه استلحاق الرجل ولد غيره سواء كان لاحقا غيره أو غير لاحق كولد الزنا ، ويدخل فيه الكذب والغيبة ، وقد قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " خرجه مسلم ( 192 ) وكذلك القذف ، وقد سمى الله قذف عائشة بهتانا عظيما . وكذلك النميمة من البهتان . وفي رواية أبي الأشعث ، عن عبادة : " ولا يعضه بعضكم بعضا " ( 193 ) ،(1/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
والعضيهة : النميمة . وفي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود مرفوعا : " ألا أنبئكم ما العضيهة ( 194 ) ؟ هي النميمة القالة بين الناس " ( 195 ) .
وروى إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود قال : كنا نسمي العضيهة : السحر ، وهو اليوم : قيل وقال . وفسر إسحاق بن راهويه العضيهة في حديث عبادة بن الصامت قال : " لا يبهت بعضكم بعضا " ، نقله عنه محمد بن نصر ( 196 ) . وذكر أهل اللغة أن العضيهة : الشتيمة ، والعضيهة : البهتان ، والعاضهة ، والمستعضهة : الساحرة المستسحرة ( 197 ) . وفي رواية الصنابحي : " ولا ننتهب " والنهبة من البهتان ، فإن المنتهب يبهت الناس بانتهابه منه ما يرفعون عليه أبصارهم فيه . فكل ما بهت صاحبه وحيره وأدهشه من قول أو فعل لم يكن في حسابه فهو بهتان ، فأخذ المال بالنهيى أو بالدعاوى الكاذبة : بهتان ، وقد قال تعالى : ( وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِينا ( [ النساء 20 ] .
وفي المسند ، والترمذي ( 188 - ب / ف ) ، والنسائي ، عن صفوان ابن عسال أن اليهود(1/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن التسع آيات البينات التي أوتيها موسى فقال : لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف ، وعليكم اليهود خاصة أن لا تعدوا في السبت ( 198 ) .
فلم يذكر في هذا الحديث البهتان المفترى بلفظه ، ولكن ذكر مما فسر به البهتان المذكور في القرآن عدة خصال : السحر ، والمشي ببريء على السلطان ، وقذف المحصنات . وهذا يشعر بدخول ذلك كله في اسم البهتان . وكذلك الأحاديث التي ذكر فيها عدد الكبائر ذكر في بعضها القذف ، وفي بعضها قول الزور أو شهادة الزور ، وفي بعضها اليمين الغموس والسحر ، وهذا كله من البهتان المفترى . وأما الخصلة السادسة : فهي المعصية ، وتشمل جميع أنواع المعاصي ، فهو من باب ذكر العام بعد الخاص ، وهو قريب من معنى قوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( [ النور : 56 ] ، وقوله تعالى ( ولا يعصينك في معروف ( [ الممتحنة : 12 ] . وفي بعض ألفاظ حديث عبادة : " ولا تعصوا في معروف " ، وفي بعضها " ولا تعصوني في معروف " ، وقد خرجها البخاري في موضع آخر ( 199 ) . وكل هذا إشارة إلى أن الطاعة لا تكون إلا في معروف ، فلا يطاع مخلوق(1/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
إلا في معروف ولا يطاع في معصية الخالق .
وقد استنبط هذا المعنى من هذه الآية طائفة من السلف ، فلو كان لأحد من البشر أن يطاع بكل حال لكان ذلك للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلما خصت طاعته بالمعروف - مع أنه لا يأمر إلا بما هو معروف - دل على أن الطاعة في الأصل لله وحده ، والرسول مبلغ عنه وواسطة بينه وبين عباده ، ولهذا قال تعالى : ( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه ( [ النساء : 80 ] . فدخل في هذه الخصلة السادسة الانتهاء عن جميع المعاصي . ويدخل فيها - أيضا - القيام بجميع الطاعات على رأي من يرى أن النهي عن شيء أمر بضده .
فلما تمت هذه البيعة على هذه الخصال ذكر لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكم من وفى بها وحكم من لم يف بها عند الله عز وجل . فأما من وفى بها فأخبر أن أجره على الله - كذا رواية أبي إدريس وأبي الأشعث ، عن عبادة ، وفي رواية الصنابحي ، عنه : فالجنة إن فعلنا ذلك . وقد قال الله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( [ الفتح : 10 ] . وفسر الأجر العظيم بالجنة ، كذا قاله قتادة ( 200 ) . وغيره من السلف . ولا ريب أن من اجتنب الشرك والكبائر والمعاصي كلها فله الجنة ، وعلى ذلك وقعت هذه البيعة ، وإن اختصر ذلك بعض الرواة فأسقط بعض هذه الخصال .(1/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
وأما من لم يوف بها ، بل نكث بعض ما التزم بالبيعة تركه لله عز وجل . والمراد : ما عدا الشرك من الكبائر ، فقسمه إلى قسمين :
أحدهما : أن يعاقب في الدنيا ، فأخبر ( 189 - أ / ف ) أن ذلك كفارة له ، وفي رواية : " فهو طهور له " ، وفي رواية " طهور له أو كفارة " - بالشك - ، ورواه بعضهم : " طهور وكفارة " - بالجمع . وقد خرجها البخاري في موضع آخر في " صحيحه " ( 201 ) .
وروى ابن اسحاق ، عن الزهري حديث أبي إدريس ، عن عبادة وقال فيه : " فأقيم عليه الحد فهو كفارة له " ( 202 ) . وفي رواية أبي الأشعث ، عن عبادة : " ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة " خرجه مسلم ( 203 ) . وهذا صريح في أن إقامة الحدود كفارات لأهلها . وقد صرح بذلك سفيان الثوري ، ونص على ذلك أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار ، عنه ( 204 ) . و قال الشافعي : لم أسمع في هذا الباب أن الحد كفارة أحسن من حديث عبادة ( 205 ) . وإنما قال هذا ، لأنه قد روى هذا المعنى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من وجوه متعددة ، عن علي ، وجرير ، وخزيمة بن ثابت ، وعبد الله بن عمرو ، وغيرهم ، وفي أسانيد كلها مقال ، وحديث عبادة صحيح وثابت . وقد روى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن(1/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
أبي هريرة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ما أدري ما الحدود طهارة لأهلها أم لا ؟ " وذكر كلاما آخر . خرجه الحاكم . وخرج أبو داود بعض الحديث ( 206 ) . وقد رواه هشام بن يوسف ، عن معمر ، عن الزهري مرسلا . قال البخاري في " تاريخه " : المرسل أصح ، قال : ولا يثبت هذا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد ثبت عنه أن الحدود كفارة ( 207 ) . انتهى . وقد خرجه البيهقي من رواية آدم بن أبي أياس ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة مرفوعا - أيضا ( 208 ) . وخرجه البزار من وجه آخر فيه ضعف ، عن المقبري ، عن أبي هريرة مرفوعا - أيضا ( 209 ) . وعلى تقدير صحته ، فيحتمل أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ذلك قبل أن يعلمه ثم علمه فأخبر به جزما . فإن كان الأمر كذلك ، فحديث عبادة إذن - لم يكن ليلة العقبة بلا تردد ، لأن حديث أبي هريرة متأخر عن الهجرة ، ولم يكن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) علم - حينئذ - أن الحدود كفارة ، فلا يجوز أن يكون قد أخبر قبل الهجرة بخلاف ذلك . وقد اختلف العلماء : هل إقامة الحد بمجرده كفارة للذنب من غير توبة(1/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
أم لا ؟ على قولين :
أحدهما : أن إقامة الحد كفارة للذنب بمجرده كفارة ( 210 ) . وهو مروي عن علي بن أبي طالب ، وابنه الحسن ، وعن مجاهد ، وزيد بن أسلم ، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد ، واختيار ابن جرير وغيره من المفسرين ( 211 ) .
والثاني : أنه ليس بكفارة بمجرده ، فلابد من توبة . وهو مروي عن صفوان بن سليم وغيره ، ورجحه ابن حزم ( 212 ) . وطائفة من متأخري المفسرين كالبغوي وأبي عبد الله بن تيمية وغيرهما . واستدلوا بقوله تعالى في المحاربين : ( ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ( [ المائدة : 33 ] .
وقد يجاب عن هذا : بأن عقوبة الدنيا والآخرة لا يلزم اجتماعها ، فقد دل الدليل على أن عقوبة الدنيا تسقط عقوبة الآخرة . وأما استثناء الذين تابوا فإنما استثناهم من عقوبة الدنيا خاصة ، ولهذا خصهم بما قبل القدرة ، وعقوبة الآخرة تندفع بالتوبة قبل القدرة وبعدها . ويدل على أن الحد يطهر الذنب : قول ماعز للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إني أصبت حدا فطهرني . وكذلك قالت له الغامدية ( 213 ) ولم ينكر عليها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك ، فدل على أن الحد طهارة لصاحبه . ويدخل ( 189 - ب / ف ) في قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " من أصاب شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارته " : العقوبتان القدرية من الأمراض والأسقام . والأحاديث في تكفير الذنوب بالمصائب كثيرة جدا .(1/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
وهذه المصائب يحصل بها للنفوس من الألم نظير الألم الحاصل بإقامة الحد وربما زاد على ذلك كثيرا . وقد يقال في دخول هذه العقوبات القدرية في لفظ حديث عبادة نظر ، لأنه قابل من عوقب في الدنيا ستر الله عليه ، وهذه المصائب لا تنافي الستر ، والله أعلم .
والقسم الثاني : أن لا يعاقب في الدنيا بذنبه ، بل ستر عليه ذنبه ويعافى من عقوبته . فهذا أمره إلى الله في الآخرة إن شاء عفا عنه ، وهذا موافق لقول الله عز وجل ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( [ النساء : 48 ] . وفي ذلك رد على الخوارج والمعتزلة في قوله : إن الله يخلده في النار إذا لم يتب . وهذا المستور في الدنيا له حالتان :
إحداهما : أن يموت غير تائب ، فهذا في مشيئة الله - كما ذكرنا .
والثانية : أن يتوب من ذنبه .
فقال طائفة : إنه تحت المشيئة - أيضا - ، واستدلوا بالآية المذكورة وحديث عبادة . والأكثرون على أن التائب من الذنب مغفور له وأنه كمن لا ذنب له كما قال تعالى ( إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( [ الفرقان : 70 ] وقال : ( أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ( [ آل عمران : 136 ] .(1/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
فيكون التائب - حينئذ - ممن شاء الله أن يغفر له . واستدل بعضهم - وهو ابن حزم ( 214 ) - بحديث عبادة هذا : على أن من أذنب ذنبا فإن الأفضل له أن يأتي الإمام فيعترف عنده ليقيم عليه الحد حتى يكفر عنه ولا يبقى تحت المشيئة في الخطر ، وهذا مبني على قوله : إن التائب في المشيئة . والصحيح : أن التائب توبة نصوحا مغفور له جزما ، لكن المؤمن يتهم توبتة ولا يجزم بصحتها ولا بقبولها ، فلا يزال خائفا من ذنبه وجلا . ثم إن هذا القائل لا يرى أن الحد بمجرده كفارة ، وإنما الكفارة التوبة ، فكيف لا يقتصر على الكفارة ؟ بل يكشف ستر الله عليه ليقام عليه ما لا يكفر عنه .
وجمهور العلماء على أن من تاب من ذنب فالأصل أن يستر على نفسه ولا يقر به عند أحد ، بل يتوب منه فيما بينه وبين الله عز وجل . روي ذلك عن أبي بكر ، وعمر ، وابن مسعود ، وغيرهم ، ونص عليه الشافعي ( 215 ) . ومن أصحابه وأصحابنا من قال : إن كان غير معروف بين الناس بالفجور فكذلك ، وإن كان معلنا بالفجور مشتهرا به فالأولى أن يقر بذنبه عند الإمام ليطهره منه .
وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال لمعاذ : " إذا أحدثت ذنبا فأحدث عنده توبة إن سرا فسرا وإن علانية فعلانية " ( 216 ) . وفي إسناده مقال . وهو إنما هو يدل ( 217 ) على إظهار التوبة ، وذلك لا يلزم منه طلب إقامة الحد .(1/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
وقد وردت أحاديث تدل على أن من ستر الله عليه في الدنيا فإن الله يستر عليه في الآخرة ، كحديث ابن عمر في النجوى ، وقد خرجه البخاري في " التفسير " ( 218 ) . وخرج الترمذي ، وابن ماجه عن علي مرفوعا : " من أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه فالله أكرم ( 190 - أ / ف ) أن يعود في شيء قد عفا عنه " ( 219 ) .
وفي " المسند " ( 220 ) عن عائشة مرفوعا : " لا يستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستره عليه في الآخرة " وروي مثله ذلك عن علي ، وابن مسعود من قولهما . وقد يحمل ذلك كله على التائب من ذنبه جمعا بين هذه النصوص وبين حديث عبادة هذا . وأصح هذه الأحاديث المذكورة ها هنا : حديث بن عمرو النجوي ، وليس فيه تصريح بأن ذلك عام لكل من ستر عليه ذنبه ، والله تعالى أعلم . وقد قيل : إن البيعة سميت بيعة لأن صاحبها باع نفسه لله .
والتحقيق : أن البيع والمبايعة مأخوذان من مد الباع لأن المتبايعين ( 221 ) للسلعة كل منهما يمد باعه للآخر ويعاقده عليها ، وكذلك من بايع الإمام ونحوه فإنه يمد باعه إليه ويعاهده ويعاقده على ما يبايعه عليه . وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يبايع أصحابه عند دخولهم في الإسلام على التزام أحكامه ، وكان أحيانا يبايعهم على ذلك بعد إسلامهم تجديدا للعهد وتذكيرا بالمقام عليه .(1/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
وفي " الصحيحين " عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتى النساء في يوم عيد وتلا عليهن هذه الآية : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ( الآية [ الممتحنة : 12 ] وقال : " أنتن على ذلك ؟ " فقالت امرأة منهن : نعم ( 222 ) . وفي صحيح مسلم " عن عوف بن مالك قال : كنا عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال : " ألا تبايعون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ " - ومنا حديث عهد ببيعة - فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، فقال : " ألا تبايعون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ " قلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، ثم قال : " ألا تبايعون رسول الله ؟ " فبسطنا أيدينا وقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، فعلى ما نبايعك ؟ فقال : " أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وتطيعوا " - وأسر كلمة خفية - : " ولا تسألوا الناس شيئا " ( 223 ) . وحديث عبادة المذكور هاهنا في البيعة : قد سبق أنه كان ليلة العقبة الأولى فيكون بيعة لهم على الإسلام والتزام أحكامه وشرائعه .
وقد ذكر طائفة من العلماء - منهم القاضي أبو يعلي في كتاب " أحكام القرآن " من أصحابنا - أن البيعة على الإسلام كانت من خصائص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واستدلوا بأن الأمر بالبيعة في القرآن يخص الرسول بالخطاب بها وحده كما قال تعالى " ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ( [ الممتحنة : 12 ] . ولما كان الامتحان وجه الخطاب إلى المؤمنين عموما فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ( [ الممتحنة : 10 ](1/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
فدل على أنه يعم المؤمنين ، وكذلك قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( [ الفتح : 10 ] ، وهذا أمر يخص به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا يشركه فيه غيره . ولكن قد روى عثمان أنه كان بايع على الإسلام . قال الإمام أحمد : حدثنا مسكين بن بكير قال : ثنا ثابت بن عجلان ، عن سليم أبي ( 224 ) عامر أن وفد الحمراء أتوا عثمان بن عفان يبايعونه على الإسلام وعلى من ورائهم فبايعهم على أن لا يشركوا بالله شيئا وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا رمضان ويدعوا عيد المجوس فلما قالوا بايعهم . وقد بايع عبد الله بن حنظلة الناس يوم الحرة ( 190 - ب / ف ) على الموت ، فذكر ذلك لعبد الله بن زيد الأنصاري فقال : لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . خرجه البخاري في الجهاد ( 225 ) وإنما أنكر البيعة على الموت لا أصل المبايعة . وقال أبو إسحاق الفزاري : قلت للأوزاعي : لو أن إمامنا أتاه عدو كثير فخاف على من معه فقال لأصحابه : تعالوا نتبايع على أن لا نفر ، فبايعوا على ذلك ؟ . قال : ما أحسن هذا . قلت : فلو أن قوما فعلوا ذلك بينهم دون الإمام ؟ قال : لو فعلوا ذلك بينهم شبه العقد في غير بيعة ( 226 ) .(1/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
فصل
قال البخاري :
- باب ( 227 ) قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أنا أعلمكم بالله ، وأن المعرفة فعل القلب لقوله تعالى ( وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( . [ البقرة : 225 ]
.
مراده بهذا التبويب : أن المعرفة بالقلب التي هي أصل الإيمان فعل للعبد وكسب له ، واستدل بقوله تعالى ( بِمَاكَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( [ البقرة : 225 ] فجعل للقلوب كسبا كما جعل للجوارح الظاهرة ( 228 ) كسبا .
والمعرفة مركبة من تصور وتصديق ، فهي تتضمن علما وعملا وهو تصديق القلب ، فإن التصور قد يشترك فيه المؤمن والكافر ، والتصديق يختص به المؤمن ، فهو عمل قلبه وكسبه .
وأصل هذا : أن المعرفة مكتسبة تدرك بالأدلة ، وهذا قول أكثر أهل السنة من أصحابنا وغيرهم ورجحه ابن جرير الطبري ، وروى بإسناده عن الفضيل ابن عياض أنه قال : أهل السنة يقولون : الإيمان والقول والعمل . وقالت طائفة : إنها اضطرارية لا كسب فيها . وهو قول بعض أصحابنا وطوائف من المتكلمين والصوفية وغيرهم . وخرج البخاري في هذا الباب : حديث :
20 - هشام عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا(1/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون قالوا : إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله ، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول : " إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا " .
كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يأمر أصحابه بما يطيقون من الأعمال ، وكانوا لشدة حرصهم على الطاعات يريدون الاجتهاد في العمل ، فربما اعتذروا عن أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالرفق واستعماله له في نفسه أنه غير محتاج إلى العمل بضمان المغفرة له وهم غير مضمون لهم المغفرة ، فهم يحتاجون إلى الاجتهاد ما لا يحتاج هو إلى ذلك ، فكان ( صلى الله عليه وسلم ) يغضب من ذلك ويخبرهم أنه أتقاهم وأعلمهم به . فكونه أتقاهم لله يتضمن شدة اجتهاده في خصال التقوى وهو العمل ، وكونه أعلمهم به يتضمن أن علمه بالله أفضل من علمهم بالله وإنما زاد علمه بالله لمعنيين :
أحدهما : زيادة معرفته بتفاصيل أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وعظمته وكبريائه وما يستحقه من الجلال والإكرام والإعظام .
والثاني : أن علمه بالله مستند إلى عين اليقين ، فإنه رآه إما بعين بصره أو بعين بصيرته ، كما قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما : رآه بفؤاده مرتين ، وعلمهم به مستند إلى علم يقين ، وبين المرتين [ تباين ] ( 229 ) ، ولهذا سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يرقيه من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين بالنسبة إلى رؤية إحياء الموتى - وقد سبق التنبيه على ذلك والكلام في تفاصيل المعرفة التامة بالقلب ( 230 ) - فلما زادت معرفة الرسول ( 191 - أ / ف ) بربه زادت خشيته له وتقواه ، فإن العلم التام(1/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
يستلزم الخشية كما قال تعالى ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( [ فاطر : 28 ] فمن كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم كان له أخشى وأتقى ، ، إنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله . وقد خرج البخاري في آخر " صحيحه " عن مسروق قال : قالت عائشة : صنع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شيئا ترخص فيه وتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فحمد الله ثم قال : " ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ؟ فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم خشية " ( 231 ) .
وفي " صحيح مسلم " عن عائشة أن رجلا قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : يا رسول الله إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم " فقال الرجل : يا رسول الله إنك لست مثلنا ، قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : " إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي " ( 232 ) . وفي حديث أنس أن ثلاث رهط جاءوا إلى بيوت أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يسألون عن عبادة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر : أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الآخر : أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا ، فجاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم فقال : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكن أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " .(1/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
وقد خرجاه في " الصحيحين " بمعناه ( 233 ) .
ففي هذه الأحاديث كلها الإنكار على من نسب إليه التقصير في العمل للاتكال على المغفرة ؛ فإنه كان يجتهد في الشكر أعظم الاجتهاد فإذا عوتب على ذلك وذكرت له المغفرة أخبر أنه يفعل ذلك شكرا ؛ كما في " الصحيحين " عن المغيرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقوم حتى تتفطر قدماه فيقال له : تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول : " أفلا أكون عبدا شكورا " ( 234 ) . وقد يواصل في الصيام وينهاهم ويقول : " إني لست كهيئتكم ؛ إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني " ( 235 ) ، فنسبة التقصير إليه في العمل لاتكاله على المغفرة خطأ فاحش ؛ لأنه يقتضي أن هديه ليس هو أكمل الهدى وأفضله ، وهذا خطأ عظيم ؛ ولهذا كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول في خطبته : " خير الهدى هدى محمد " ( 236 ) . ويقتضي - أيضا - هذا الخطأ : أن الاقتداء به في العمل ليس هو أفضل ؛ بل الأفضل الزيادة على هديه في ذلك ، وهذا خطأ عظيم جدا ؛ فإن الله تعالى قد أمر بمتابعته وحث عليها ، قال تعالى ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ( [ آل عمران : 31 ] . فلهذا كان ( صلى الله عليه وسلم ) يغضب من ذلك غضبا شديدا لما في هذا الظن من القدح في هديه ومتابعته والاقتداء به . وفي رواية للإمام أحمد : " والله إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له قلبا " ( 237 ) .(1/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
وقوله في الرواية التي خرجها البخاري في هذا الباب " إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا " فيه الإتيان بالضمير المنفصل مع تأتي الإتيان بالضمير المتصل ، وهو ممنوع عند أكثر النحاة ( 191 - ب / ف ) إلا للضرورة كقول الشاعر : " ضمنت إياهم الأرض في دهر الدهارير " . وإنما يجوز اختيارا إذا لم يتأت ( 238 ) الإتيان بالمتصل مثل أن يبتدأ بالضمير قبل عامله نحو : إياك نعبد ؛ فإنه لا يبتدأ بضمير متصل أو يقع بعد نحو إلا إياه . فأما قول الشاعر : " أن لا يجاوزنا إلاك " ، فشاذ . وأما قوله : " وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي " ، فهو عندهم متأول على أن فيه معنى الاستثناء ، كأنه قال : ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا .(1/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
ولكن هذا الذي وقع في هذا الحديث يشهد لجوازه من غير ضرورة ، ويكون حينئذ قوله : " إنما يدافع عن أحسابهم أنا " : شاهدا له غير محتاج إلى تأويل ، والله أعلم .(1/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
باب : من كره أن يعود في الكفر
- فصل
( 239 )
تقدم عن أنس ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان "
وقد تقدم من رواية أبي قلابة ، عن أنس ، وزاد في رواية قتادة : " ومن كره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه " . وقوله " بعد إذ أنقذه الله منه " لا يستلزم أنه كان واقعا فيه فإن كل من أدخل الله الإسلام في قلبه فقد أنقذه الله من الكفر وإن لم يكن قد وقع في الكفر قبل ذلك ؛ وهذا كما قال شعيب عليه السلام ( قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّه ( [ الأعراف : 89 ] وقال تعالى ( وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ( [ آل عمران : 103 ] وقال تعالى ( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ( [ البقرة : 257 ] .
والمراد : أنه ينجيهم من الشرك ويدخلهم في الإيمان ؛ وكثير منهم لم يكن داخلا في الشرك قط .(1/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
باب : تفاضل أهل الإيمان في الأعمال
- فصل
( 240 )
خرج البخاري ومسلم ( 241 ) من حديث :
22 - عمرو بن يحي المازني ، عن أبيه عن أبي سعيد ( 242 ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، ثم يقول الله عز وجل : أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ، فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحيا أو الحياة - شك : مالك - فينبتون كما تنبت الحبة في حميل ( 243 ) السيل ، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية " . قال البخاري : و ( 244 ) قال وهيب : حدثنا عمرو " الحياة " وقال : " خردل من خير " . قد قيل : إن الرواية الصحيحة : " الحيا " هو : المطر ، قاله الخطابي ( 245 ) وغيره ( 246 ) . هذا الحديث نص في أن الإيمان في القلوب يتفاضل ، فإن أريد به مجرد التصديق ففي تفاضله خلاف سبق ذكره ( 247 ) ، إن أريد به ما في القلوب من أعمال الإيمان كالخشية والرجاء والحب والتوكل ، ونحو ذلك فهو متفاضل بغير نزاع . وقد بوب البخاري على هذا الحديث : " باب تفاوت ( 248 ) أهل الإيمان في الأعمال " فقد يكون مراده الأعمال القائمة بالقلب كما بوب على أن المعرفة(1/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
فعل القلب . وقد يكون مراده أن أعمال الجوارح تتفاوت بحسب تفاوت إيمان القلوب فإنهما متلازمان .
وقد ذكر البخاري أن وهيبا خالف مالكا في هذا الحديث وقال : " مثقال حبة ( 249 ) من خير " . وفي الباب - أيضا - من حديث أنس بمعنى حديث أبي سعيد ، وفي لفظه اختلاف كالاختلاف في حديث أبي سعيد . وقد خرجه البخاري في موضع آخر وفيه زيادة : " من قال لا إله إلا الله " ( 250 ) . وهذا يستدل به على أن الإيمان يفوق معنى ( 251 ) كلمة التوحيد والإيمان القلبي وهو التصديق لا تقتسمه ( 252 ) الغرماء بمظالمهم ؛ بل يبقى ( 192 - أ / ف ) على صاحبه ؛ لأن الغرماء لو اقتسموا ذلك لخلد بعض أهل التوحيد وصار مسلوبا ما في قلبه من التصديق وما قاله بلسانه من الشهادة ، وإنما يخرج عصاة الموحدين من النار بهذين الشيئين ، فدل على بقائهما على جميع من دخل النار منهم وأن الغرماء إنما يقتسمون الإيمان العملي بالجوارح ، وقد قال ابن عيينه وغيره : إن الصوم خاصة من أعمال الجوارح لا تقتسمه الغرماء - أيضا . وأما الحبة بكسر الحاء فهي أصول النبات والعشب وقد قيل : أنها تنزل مع المطر من السماء ، كذا قاله كعب غيره . وقد ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب " المطر " وذكر فيه آثارا عن الأعراب .
وحميل السيل : محمولة ؛ فإن السيل يحمل من الغثاء ونحوه ما ينبت منه العشب ،(1/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
وشبه نبات الخارجين من النار إذا ألقوا في نهر الحيا - أو الحياة - بنبات هذه الحبة لمعنيين : أحدهما : سرعة نباتها . والثاني : أنها صفراء ملتوية ثم تستوي وتحسن ، فكذلك ينبت من يخرج من النار بهذا الماء نباتا ضعيفا ثم يقوى ويكمل نباته ويحسن خلقه . وقد جعل الله نبات أجساد بني آدم كنبات الأرض ، قال الله تعالى ( وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا ( [ نوح : 17 ] وحياتهم من الماء ، فنشأتهم الأولى في بطون أمهاتهم من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب ، ونشأتهم الثانية من قبورهم ( 253 ) من الماء الذي ينزل من تحت العرش ، فينبتون فيه كنبات البقل حتى تتكامل أجسادهم ، ونبات من يدخل النار ثم يخرج منها من ماء نهر الحياة - أو الحيا .
وفي " صحيح مسلم " عن أبي سعيد ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ؛ ولكن أناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال : بخطاياهم - ، فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم ، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل ( 254 ) . وظاهر هذا : أنهم يموتون بمفارقة أرواحهم لأجسادهم [ و ] ( 255 ) يحيون بإعادتها ، ويكون ذلك قبل ذبح الموت .(1/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
ويشهد له : ما خرجه البزار في " مسنده " من حديث أبي هريرة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن أدنى أهل الجنة منزلة أو نصيبا : قوم يخرجهم الله من النار فيرتاح لهم الرب عز وجل أنهم كانوا لا يشركون بالله شيئا فينبذون بالعراء فينبتون كما ينبت البقل ، حتى إذا دخلت الأرواح في أجسادهم قالوا : ربنا فالذي ( 256 ) أخرجتنا من النار ورجعت الأرواح إلى أجسادنا فاصرف وجوهنا عن النار ، فتصرف وجوههم عن النار ( 257 ) . ثم خرج البخاري حديث :
23 - أبي سعيد ، عن النبي ( 258 ) ( صلى الله عليه وسلم ) قال : بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص ، فمنها ( 259 ) ما يبلغ الثدي ، ومنها مايبلغ ( 260 ) دون ذلك ، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره " قالوا : فما أولت ذلك يا رسول الله ؟ قال : " الدين "
وهذا الحديث نص في أن الدين يتفاضل ؛ وقد استدل عليه بقوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ( [ المائدة : 3 ] وأشار البخاري إلى ذلك في موضع آخر . ويدل عليه - أيضا - قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للنساء " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم ( 192 - ب / ف ) من إحداكن " ( 261 ) . وفسر نقصان دينها بتركها الصوم والصلاة أيام حيضها ؛ فدل على دخول الصوم والصلاة في اسم الدين .(1/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
وقد صرح بدخول الأعمال في الدين طوائف من العلماء والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم .
فمن قال : الإسلام والإيمان واحد فالدين عنده مرادف لهما ، وهو اختيار البخاري ومحمد بن نصر المروزي ( 262 ) وغيرهما من أهل الحديث .
و من فرق بينهما ، فاختلفوا في ذلك ؛ فمنهم من قال : إن الدين أعم منهما ، فإنه يشمل الإيمان والإسلام والإحسان ، كما دل عليه حديث جبريل ، وقد أشار البخاري إلى هذا - فيما بعد - ؛ لكنه من لا يفرق بين الإسلام والإيمان .
و من قال : الإيمان : التصديق ، والإسلام : الأعمال ، فأكثرهم جعل الدين هو الإسلام وأدخل فيه الأعمال . وإنما أخرج الأعمال من مسمى الدين : بعض المرجئة .
ومن قال : الإسلام : الشهادتان ، والإيمان : العمل - كالزهري ، وأحمد في رواية وهي التي نصرها القاضي أبو يعلي - جعل الدين هو الإيمان بعينه ، وأجاب عن قوله تعالي ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ( [ آل عمران : 19 ] أن بعض الدين الإسلام . وهذا بعيد .
وأما من قال : إن كلا من الإسلام والإيمان إذا أطلق مجردا دخل الآخر فيه ، وإنما يفرق بينهما عند الجمع بينهما ، وهو الأظهر ؛ فالدين هو مسمى(1/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
كل واحد منهما عند إطلاقه ، وأما عند اقترانه بالآخر : فالدين أخص باسم الإسلام ؛ لأن الإسلام هو الاستسلام والخضوع والانقياد وكذلك الدين يقال : : دانه يدينه إذا قهره ، ودان له إذا استسلم له وخضع وانقاد ؛ ولهذا سمى الله الإسلام دينا فقال : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ( ( آل : عمران 19 ] ، وقال : ) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ( [ آل عمران : 85 ] ، وقال : ( وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ( [ المائدة : 3 ] .
وإنما فسر القمص في المنام : الدين ؛ لأن الدين والإسلام والتقوى كل هذه توصف بأنها لباس ، قال تعالى ( وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ( [ الأعراف : 26 ] ، وقال أبو الدرداء : الإيمان كالقميص يلبسه الإنسان تارة وينزعه أخرى ، وفي الحديث : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ينزع منه سربال الإيمان " ( 263 ) .
وقال النابغة :
الحمد لله الذي لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وقال أبو العتاهية :
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عريانا وإن كان كاسيا
فهذه كلها كسوة الباطن وهو الروح وهو زينة لها ، كما في حديث عمار : " اللهم زينا بزينة الإيمان " ( 264 ) . كما أن الرياش زينة للجسد وكسوة له ، قال تعالى ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ( [ الأعراف : 26 ] .(1/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
ومن هنا قال مجاهد والشعبي وقتادة والضحاك والنخعي والزهري وغيرهم في قوله تعالى ( وثيابك فطهر ( [ المدثر : 4 ] إن المعنى : طهر نفسك من الذنوب .
وقال سعيد بن جبير : وقلبك ونيتك ( 265 ) فطهر . وقريب منه : قول من قال : وعملك فأصلح ( 266 ) . روى عن مجاهد وأبي روق والضحاك . وعن الحسن والقرظي ( 267 ) قالا : خلقك حسنه . فكنى بالثياب عن الأعمال ( 193 - أ / ف ) وهي ( 268 ) الدين والتقوى والإيمان والإسلام ، وتطهيره : إصلاحه وتخليصه من المفسدات له ، وبذلك تحصل طهارة النفس والقلب والنية ، وبه يحصل حسن الخلق ؛ لأن الدين هو الطاعات التي تصير عادة وديدنا وخلقا ، قال تعالى ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم ( [ القلم : 4 ] . وفسره ابن عباس بالدين ( 269 ) .(1/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
باب : الحياء من الإيمان
- فصل
( 270 )
خرج البخاري ومسلم ( 271 ) من حديث :
23 - ابن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مر على رجل ( 272 ) وهو يعظ أخاه في الحياء فقال ( 273 ) : " دعه ؛ فإن الحياء من الإيمان " .
هذا المعنى مروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من وجوه كثيرة ، وقد سبق حديث أبي هريرة : " الحياء شعبة من الإيمان " ( 274 ) . والحياء نوعان :
أحدهما : غريزي ، وهو خلق يمنحه الله العبد ويجبله عليه فيكفه عن ارتكاب القبائح والرزائل ، ويحثه على فعل الجميل وهو من أعلى مواهب الله للعبد ، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثر ما يؤثره الإيمان من فعل الجميل والكف عن القبيح ، وربما ارتقى صاحبه بعده إلى درجة الإيمان " فهو وسيلة إليه كما قال عمر : من استحيى اختفى ، ومن اختفى اتقى ومن اتقى وقي .
وقال بعض التابعين تركت الذنوب حياء أربعين سنة ، ثم أدركني الورع . وقال ابن سمعون ( 275 ) : رأيت المعاصي نذالة ؛ فتركتها مروءة فاستحالت ديانة ( 276 ) .
والنوع الثاني : أن يكون مكتسبا ، إما من مقام الإيمان كحياء العبد من مقامه بين يدي الله يوم القيامة فيوجب له ذلك الاستعداد للقائه ، أو من مقام الإحسان ، كحياء العبد من اطلاع الله عليه وقربه منه ، فهذا من أعلى خصال الإيمان .
وفي حديث مرسل : " استحيي من الله كما تستحيي من رجلين من صالحي(1/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
عشيرتك لا يفارقانك " ، وروى موصولا ( 277 ) . وسئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن كشف العورة خاليا ، فقال : " الله أحق أن يستحيي منه ( 278 ) . وفي حديث ابن مسعود المرفوع : " الاستحياء من الله : أن تحفظ ( 279 ) الرأس وما وعي والبطن وما حوى وأن تذكر ( 280 ) الموت والبلى ، ومن أراد ترك الآخرة ترك زينة الدنيا ، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء " . خرجه الترمذي وغيره ( 281 ) . وخرج البخاري في " تفسيره " ( 282 ) عن ابن عباس في قوله تعالى ( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْه ( [ هود : 5 ] أنها نزلت في قوم كانوا يجامعون نساءهم ويتخلون فيستحيون من الله فنزلت الآية .
وكان الصديق يقول : استحيوا من الله ؛ فإني أذهب إلى الغائط فأظل متقنعا بثوبي حياء من ربي عز وجل ( 283 ) .(1/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
وكان أبو موسى إذا اغتسل في بيت مظلم لا يقيم صلبه حياء من الله عز وجل ( 284 ) .
قال بعض السلف : خف الله على قدر قدرته عليك ، واستحيي منه على قدر قربه منك . وقد يتولد الحياء من الله من مطالعة النعم فيستحيي العبد من الله أن يستعين بنعمته على معاصيه ، فهذا كله من أعلى خصال الإيمان .(1/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
فصل
قال البخاري :
- باب ( 285 ) من الدين الفرار من الفتن
19 - حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ( 286 ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن " ( 287 ) .
بوب البخاري على أن الفرار ( 193 - ب / ف ) من الفتن من الدين ؛ وليس في الحديث إلا الإشعار بفضل من يفر بدينه من الفتن ؛ لكن لما جعل الغنم خير مال المسلم في هذه الحال دل على أن هذا الفعل من خصال الإسلام والإسلام هو الدين . وأصرح من دلالة هذا الحديث الذي خرجه في أول " الجهاد " من رواية الزهري ، عن عطاء بن يزيد ، عن أبي سعيد قال : قيل : يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله " قالوا : ثم من ؟ قال : " مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره " ( 288 ) . وليس في هذا الحديث ذكر الفتن .(1/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
وخرجه أبو داود ( 289 ) ، وعنده : سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أي المؤمنين أكمل إيمانا ؟ . فذكره . وهذا فيه دلالة على أن الاعتزال عن الشر من الإيمان . وفي " المسند " و " جامع الترمذي " ، عن طاوس ، عن أم مالك البهزية قالت : قال رسول الله : " خير الناس في الفتنة : رجل معتزل في ماله ، يعبد ربه ويؤدي حقه ، ورجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله " ( 290 ) .
وروي عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) . خرجه الحاكم ( 291 ) . وروي عن طاوس مرسلا . وخرج الحاكم - أيضا - من حديث أبي هريرة مرفوعا : " أظلتكم فتن كقطع الليل المظلم أنجى الناس منها : صاحب شاهقة يأكل من رسل غنمها ، ورجل من وراء الدروب بعنان فرسه يأكل من فيء سيفه " ( 292 ) . وقد وقفه بعضهم .
فهذه الروايات المقيدة بالفتن تقضي على الروايات المطلقة . وحديث أبي سعيد الذي خرجه البخاري هنا لم يخرجه مسلم . وقد روي عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد ؛(1/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
وهو وهم . وروي عن يحيي بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن نهار العبدي ، عن أبي سعيد ؛ وذكر " نهار " في إسناده : وهم . قاله الدار قطني ( 293 ) . فقوله ( صلى الله عليه وسلم ) " يوشك " تقريب منه للفتنة ، وقد وقع ذلك في زمن عثمان كما أخبر به ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا من جملة أعلام نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) .
وإنما كان الغنم خير مال المسلم - حينئذ - ؛ لأن المعتزل عن الناس بالغنم يأكل من لحومها ونتاجها ويشرب من ألبانها ويستمتع بأصوافها باللبس وغيره ، وهي ترعى الكلأ في الجبال وترد المياه ؛ وهذه المنافع والمرافق لا توجد في غير الغنم ؛ ولهذا قال : " يتبع بها شعف الجبال " وهي رءوسها وأعاليها ؛ فإنها تعصم من لجأ إليها من عدو . و " مواقع القطر " لأنه يجد فيها الكلأ والماء فيشرب منها ويسقي غنمه وترعى غنمه من الكلأ . وفي " مسند البزار " ، عن مخول البهزي سمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " سيأتي على الناس زمان فيه غنم بين السجدتين ( 294 ) تأكل من الشجر وترد الماء ، يأكل صاحبها من رسلها ويشرب من ألبانها ويلبس من أشعارها -(1/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
أو قال من أصوافها _ ، والفتن ترتكس بين جراثيم العرب " ( 295 ) . وروي هذا المعنى عن عبادة بن الصامت من قوله . وواحد الجراثيم : جرثومة ؛ وهي أصل الشيء . وفي هذا دلالة " على أن من خرج من الأمصار فإنه يخرج معه بزاد وما يقتات منه .
وقوله : ( 194 - أ / ف ) " يفر بدينه من الفتن " يعني : يهرب خشية على دينه من الوقوع في الفتن ؛ فإن من خالط الفتن ، وأهل القتال على الملك لم يسلم دينه من الإثم إما بقتل معصوم أو أخذ مال معصوم أو المساعدة على ذلك بقول و نحوه وكذلك لو غلب على الناس من يدعوهم إلى الدخول في كفر أو معصية حسن الفرار منه . وقد مدح الله من فر بدينه خشية الفتنة عليه فقال - حكاية عن أصحاب الكهف _ ( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ( [ الكهف : 16 ] . وروى عروة ، عن كرز الخزاعي قال : سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعرابي : هل لهذا الإسلام من منتهى ؟ قال : " من يرد الله به خيرا من عرب أو عجم أدخله عليه " قال : ثم ماذا ؟ قال : " تقع فتن كالظلل " قال : كلا يا نبي الله ، قال : " بلى ، والذي نفسي بيده لتعودون فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض وخير الناس يومئذ : رجل يتقي ربه ويدع الناس من شره " ( 296 ) .
الأساود : جمع أسود ، وهو أخبث الحيات وأعظمها .(1/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
والصب : جمع صبوب ، على أن أصله : صبب كرسول ورسل ، ثم خفف كرسل ؛ وذلك أن الأسود إذا أراد أن ينهش ارتفع ثم انصب على الملدوغ ، ويروى " صي " على وزن حبلى "
وفي " الصحيحين " عن حذيفة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر له الفتن فقال له : فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك ؟ قال : " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " قال : فإن لم يكن جماعة ولا إمام ؟ قال : " فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " ( 297 ) . وقد اعتزل جماعة من أصحابه في الفتن في البوادي . وقال الإمام أحمد : إذا كانت الفتنة فلا بأس أن يعتزل الرجل حيث شاء ، فأما إذا لم يكن فتنة فالأمصار خير . فأما سكنى البوادي على وجه العبادة وطلب السياحة والعزلة فمنهي عنه ، كما في الترمذي و " صحيح الحاكم " ، عن أبي هريرة قال : مر رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بشعب فيه عيينه من ماء عذب فأعجبه طيبه وحسنه فقال : لو اعتزلت الناس وأقمت في هذا الشعب ولا أفعل حتى أستأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فاستأمره فقال : " لا تفعل ؛ فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في أهله ستين عاما " ( 298 ) .
وخرج الإمام أحمد نحوه من حديث أبي أمامة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لم أبعث باليهودية ولا النصرانية ؛ ولكني بعثت بالحنيفية(1/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
السمحة " ( 299 ) . وذكر باقيه بمعناه . وخرج داود من حديث أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله ايذن لي بالسياحة ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن سياحة أمتي : الجهاد في سبيل الله " ( 300 ) . وفي " المسند " عن أبي سعيد ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " عليك بالجهاد ؛ فإنه رهبانية الإسلام " ( 301 ) . وفي مراسيل طاوس ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا رهبانية في الإسلام ولا سياحة " . وفي المعنى مراسيل أخر متعددة .
قال الإمام أحمد : ليست السياحة من الإسلام في شيئ ولا من فعل النبيين ولا الصالحين . والسياحة على هذا الوجه قد ( 194 - ب / ف ) فعلها طوائف ممن ينسب على عبادة واجتهاد بغير علم ، ومنهم من رجع لما عرف ذلك . وقد كان في زمن ابن مسعود من المتعبدين خرجوا إلى ظاهر الكوفة وبنوا مسجدا يتعبدون فيه ، منهم : عمرو بن هتبة ، ومفضل العجلي ، فخرج إليهم ابن مسعود وردهم على الكوفة وهدم مسجدهم وقال : إما أن تكونوا أهدى من أصحاب محمد أو تكونوا متمسكين بذنب الضلالة . وإسناده هذا صحيح عن الشعبي أنه حكى ذلك . وقد رأى عبد الله بن غالب الحداني رجلا في فلاة رزقه لا يدري(1/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
من أين يأتيه فقال له : إن هذه الأمة لم تؤمر بهذا ؛ إنما أمرت بالجمعة والجماعة وعيادة المرضى وتشييع الجنائز ، فقبل منه وانتقل من ساعته إلى قرية فيها هذا كله . خرج حكايته ابن أبي الدنيا . وروي نحو هذه الحكاية - أيضا - ، عن أبي غالب صاحب أبي أمامة الباهلي . خرجها حميد بن زنجوية . وكذلك سكنى البوادي لتنمية المواشي والأموال - كما جرى لثعلبة في ماله - فمذموم - أيضا .
وفي " سنن ابن ماجه " ، عن أبي هريرة مرفوعا : " ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلأ فيرتفع ثم تجيء الجمعة فلا يشهدها وتجيء الجمعة فلا يشهدها ( 302 ) حتى يطبع على قلبه " ( 303 ) . وخرجه الخلال من حديث جابر بمعناه ( 304 ) - أيضا . وخرج حميد بن زنجويه من رواية ابن لهيعه : ثنا عمر ( 305 ) مولى غفرة أنه سمع ثعلبة بن أبي مالك الأنصاري يقول : قال حارثة بن النعمان : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " يخرج الرجل في حاشية القرية في غنيمة يشهد الصلوات ويؤب إلى أهله إذا أكل ما حوله وتعذرت عليه الأرض قال : لو ارتفعت إلى ردعة هي أعفى ملأ من هذه ، فيرتفع حتى لا يشهد من الصلوات إلا الجمعة حتى إذا(1/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
أكل ما حوله وتعذرت عليه الأرض قال : لو ارتفعت إلى ردعة هي أعفى كل أمن هذه فيرتفع حتى لا يشهد جمعة ولا يدري متى الجمعة حتى يطبع الله على قلبه " . وخرجه الإمام أحمد بمعناه ( 306 ) .
وفي " سنن أبي داود " والترمذي وغيرهما ، عن أبي هريرة ( 307 ) ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " من سكن البادية جفا " . وقال ابن مسعود في الذي يعود أعرابيا بعد هجرته : إنه ملعون على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وفي " الصحيحين " ( 308 ) أن سلمة بن الأكوع قال : أذن لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في البدو . وفي رواية للبخاري أن سلمة لما قتل عثمان خرج إلى الربزة فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة ( 309 ) . وفي " المسند " أن سلمة قدم المدينة فقيل له : ارتددت عن هجرتك يا سلمة ؟ فقال : معاذ الله إني في إذن من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، إني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " ابدوا يا أسلم ، فتنسموا الرياح واسكنوا الشعاب " فقالوا : يا رسول الله إنا نخاف أن يضرنا ذلك في هجرتنا ، قال : " أنتم مهاجرون حيث ما كنتم " ( 310 ) .(1/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
وفي الطبراني ، عن ابن عمر أنه قيل له : يا أبا عبد الرحمن قد أعشبت القفار فلو ابتعت أعنزا فتنزهت تصح ، فقال : لم يؤذن لأحد منا في البداء غير أسلم " ( 311 ) . وأسلم : هي : قبيلة سلمة بن الأكوع .
وقد ترخص كثير من الصحابة من المهاجرين وغيرهم في سكنى البادية ، كسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد ، فإنهما لزما منزلهما بالعقيق فلم يكونا يأتيان المدينة ( 195 - أ / ف ) في جمع ولا غيرها حتى لحقا بالله عز وجل . خرجه بن أبي الدنيا في كتاب " العزلة " . وكان أبو هريرة ينزل بالشجرة وهي ذو الحليفة . وفي " صحيح البخاري " ، عن عطاء قال : ذهبت مع عبيد بن عمير إلى عائشة وهي مجاورة بثبير فقالت لنا : انقطعت الهجرة منذ ( 312 ) فتح الله على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) مكة ( 313 ) . وفي رواية له : قال : فسألنا عن الهجرة ، فقالت : لا هجرة اليوم ، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه على الله ورسوله مخافة أن يفتن عليه ، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام ، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء ؛ ولكن جهاد ونية " ( 314 ) . وهذا يشعر بأنها إنما كانت تبدو ، لاعتقادها انقطاع الهجرة بالفتح . وكان أنس بن مالك يسكن بقصره خارج البصرة ، وكان ربما شهد الجمعة وربما لم يشهدها .(1/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
وقد نص أحمد على كراهة المقام بقرية لا يقام فيها الجمعة وإن أقيمت فيها الجماعة . وقد يحمل ذلك على من كان بمصر جامع يجمع فيه ، ثم تركه وأقام بمكان لا جمعة فيه . وفي كلامه إيماء إليه - أيضا . وقد يحمل كلامه على كراهة التنزيه دون التحريم . فأما المقام بقرية لا جمعة فيها ولا جماعة فمكروه .
وقد قال أبو الدرداء لمعدان بن أبي طلحة : أين ينزل ؟ فقال : بقرية دون حمص ، فقال له : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا يؤذن ولا يقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان ، فعليك بالجماعة ؛ فإن الذئب يأكل القاصية " . خرجه النسائي ( 315 ) . وغيره وخرجه أحمد وأبو داود مختصرا ( 316 ) . وفي رواية لأحمد : " فعليك بالمدائن ويحك يا معدان " ( 317 ) . وفي " المسند " - أيضا - ، عن معاذ ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم ، يأخذ الشاة القاصية والناحية ؛ فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمساجد " ( 318 ) .(1/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
فنهى عن سكنى الشعاب - وهي البوادي - وأمر بسكنى الأماكن التي فيها عامة الناس ومساجدهم وجماعتهم . وقد روي عن قتادة أنه فسر الشعاب في هذا الحديث بشعاب الأهواء المضلة المخالفة لطريق الهدي المستقيم . خرجه أبو موسى المديني عنه بإسناده . وفي هذا بعد ؛ وإنما فسر بهذا المعنى قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ( 319 ) . ؛ فإن الأوزاعي فسره بالبدعة يخرج إليها الرجل من الجماعة . فأما الخروج إلى البادية أحيانا للتنزه ونحوه في أوقات الربيع وما أشبهه : فقد ورد فيه رخصة : ففي " سنن أبي داود " عن المقدام بن شريح ، عن أبيه أنه قال أنه سأل عائشة : هل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يبدو ؟ فقالت : نعم إلى هذه التلاع ، ولقد بدا مرة فأتى بناقة مخرمة فقال : " اركبيها يا عائشة وارفقي ؛ فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع منه إلا شانه " ( 320 ) .(1/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
وخرج مسلم آخر الحديث دون أوله ( 321 ) . وورد النهي عنه ؛ ففي " المسند " عن عقبة بن عامر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال " هلاك أمتي في اللبن " قيل : يا رسول الله ما اللبن ؟ قال : تحبون اللبن وتدعون الجماعات والجمع وتبدون " ( 322 ) . وفي إسناده : ابن لهيعة . وإن صح فيحمل على إطالة المقام بالبادية مدة أيام كثرة اللبن كلها وهي مدة طويلة يدعون فيها الجمع والجماعات .
وعن أبي عبد الله الجدلي قال : فضل أهل الأمصار على ( 195 - ب / ف ) أهل ( 323 ) القرى كفضل الرجال على النساء ، وفضل أهل القرى على أهل الكفور ( 324 ) كفضل الأحياء على الأموات ، وسكان الكفور كسكان القبور ، وإن اللبن والعشب ليأكلان إيمان العبد كما تأكل النار الحطب . خرجه حميد بن زنجويه ، وروى في إسناده عن مكحول معنى أوله .
ونص أحمد - في رواية مهنا - على كراهية الخروج إلى البادية لشرب اللبن ونحوه تنزها لما به من ترك الجماعة ؛ إلا أن يخرج لعلة ، يعني : إنه إذا خرج تداويا لعله به جاز ، كما أذن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للعرنيين(1/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
لما اجتووا المدينة أن يخرجوا إلى البادية ليشربوا من ألبان الإبل وأبوالها ( 325 ) .
قال أبو بكر الأثرم : النهي عن التبدي محمول على سكنى البادية والإقامة بها ، فأما التبدي ساعة أو يوما ونحوه فجائز . انتهى .
وقد كان السلف كثير منهم يخرج إلى البادية أيام الثمار واللبن . قال الجريري : كان الناس يبدون ها هنا في الثمار - ثمار قصيرة - ، و ذكر منهم عبد الله بن شقيق وغيره . وكان علقمة يتبدا إلى ظهر النجف ( 326 ) . وقال النخعي : كانت البداوة إلى أرض السواد أحب إليهم من البداوة إلى أرض البادية . يعني أن الخروج إلى القرى أهون من الخروج إلى البوادي . وكان بعضهم يمتنع من ذلك لشهود الجماعة .
فروى أبو نعيم بإسناده ، عن أبي حرملة قال : اشتكى سعيد بن المسيب عينه فقيل له : يا أبا محمد لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة ووجدت ريح البرية لنفع ذلك بصرك ، فقال سعيد : وكيف أصنع بشهود العشاء والعتمة ( 327 ) ؟ وما ذكره الأثرم من التفريق بين قصر المدة وطولها حسن ؛ لكنه حد القليل باليوم ونحوه ؛ وفيه نظر .
وفي " مراسيل أبي داود " من رواية معمر ، عن موسى بن شيبة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " من بدا أكثر من شهرين فهي أعرابية " ( 328 ) .(1/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
وروى حميد بن زنجوية بإسناده ، عن خلف بن خليفة ، عن أبي هاشم قال : بلغني أن من نزل السواد أربعين ليلة كتب عليها الجفا . و عن معاوية بن قرة قال : البداوة شهران فما زاد فهو تعرب ( 329 ) .(1/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
فصل
قال البخاري :
- باب ( 330 ) من قال : إن الإيمان هو العمل
؛ لقول الله تعالى ( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( [ الزخرف : 72 ] . وقال عدة من أهل العلم في قوله عز وجل ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْن عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( [ الحجر : 92 ] : عن قول لا إله إلا الله . وقال ( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ( [ الصافات : 61 ] .
ثم خرج حديث :
26 - أبي هريرة أن النبي ( 331 ) ( صلى الله عليه وسلم ) سئل : أي العمل أفضل ؟ قال : " إيمان بالله ورسوله " قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد في سبيل الله " قيل : ثم ماذا ؟ قال : " حج مبرور " .
مقصود البخاري بهذا الباب : أن الإيمان كله عمل ؛ مناقضة لقول من قال : إن الإيمان ليس فيه عمل بالكلية ؛ فإن الإيمان أصله تصديق بالقلب ، وقد سبق ما قرره البخاري أن تصديق القلب كسب له وعمل ، ويتبع هذا التصديق قول اللسان .
و مقصود البخاري هاهنا : أن يسمى عملا - أيضا - ، ، أما أعمال الجوارح فلا ريب في دخولها في اسم العمل ، ولا حاجة إلى تقرير ذلك ؛ فإنه لا يخالف فيه أحد ، فصار الإيمان كله - على ما قرره - عملا .(1/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
و المقصود بهذا الباب : تقرير أن قول اللسان : عمله ؛ واستدل لذلك بقوله تعالى ( وَتِلْك َ ( 332 ) الْجَنَّةُ الَّتِي ( 196 - أ / ف ) أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( [ الزخرف : 72 ] وقوله ( ) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ( [ الصافات : 61 ] . و معلوم أن الجنة إنما يستحق دخولها بالتصديق بالقلب مع شهادة اللسان ، وبها يخرج من يخرج من أهل النار فيدخل الجنة - كما سبق ذكره . وفي " المسند " ، عن معاذ بن جبل مرفوعا : " مفتاح الجنة : لا إله إلا الله " ( 333 ) . وحكى البخاري عن عدة من أهل العلم أنهم قالوا في قوله تعالى ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْن عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( [ الحجر : 92 ] : عن قول لا إله إلا الله ؛ ففسروا العمل بقول كلمة التوحيد .
وممن روي عنه هذا التفسير : ابن عمر ، ومجاهد ( 334 ) . ورواه ليث بن أبي سليم ، عن بشير بن نهيك ، عن أنس موقوفا ( 335 ) . روي عنه مرفوعا - أيضا - خرجه الترمذي وغربه ( 336 ) . وقال الدار قطني : ليث غير قوي ، ورفعه غير صحيح ( 337 ) . وقد خالف في ذلك طوائف من العلماء من أصحابنا وغيرهم كأبي عبد الله بن بطة ، وحملوا العمل في هذه الآيات على أعمال الجوارح ؛(1/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
واستدلوا بذلك على دخول الأعمال في الإيمان .
وأما حديث أبي هريرة : فهو يدل على أن الإيمان بالله ورسوله عمل لأنه جعله أفضل الأعمال ، والإيمان بالله ورسوله الظاهر أنه إنما يراد به الشهادتان مع التصديق بهما ؛ ولهذا ورد في حديث : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " ( 338 ) وفي رواية ذكر الإيمان بالله ورسوله " بدل الشهادتين " ؛ فدل على أن المراد بهما واحد ؛ ولهذا عطف في حديث أبي هريرة على هذا الإيمان " الجهاد " ثم " الحج " ، وهما مما يدخل في اسم الإيمان المطلق ؛ لكن الإيمان بالله أخص من الإيمان المطلق ، فالظاهر أنه إنما يراد بهما الشهادتان مع التصديق بهما ، فإذا سمى الشهادتين عملا دل على أن قول اللسان عمل .
وقد كان طائفة من المرجئة يقولون : الإيمان قول وعمل - موافقة لأهل الحديث - ، ثم يفسرون العمل بالقول ويقولون : هو عمل اللسان . وقد ذكر الإمام أحمد هذا القول عن شبابه بن سوار وأنكره عليه وقال : هو أخبث قول ما سمعت أن أحدا قال به ولا بلغني . يعني أنه بدعة لم يقله أحد ممن سلف ( 339 ) .(1/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
لعل مراده إنكار تفسير قول أهل السنة : الإيمان قول وعمل بهذا التفسير ؛ فإنه بدعة وفيه عي وتكرير ؛ إذ العمل على هذا القول بعينه ، ولا يكون مراده إنكار أن القول يسمى عملا .
ولكن روي عنه ما يدل على إنكار دخول الأقوال في اسم الأعمال ، فإنه قال في رواية أبي طالب - في رجل طلق امرأته واحدة ونوى ثلاثا ، قال بعضهم : له نيته ، ويحتج بقوله : " الأعمال بالنيات " قال أحمد : ما يشبه هذا بالعمل ؛ إنما هذا لفظ كلام المرجئة يقولون : القول هو عمل . لا يحكم عليه بالنية ولا هو من العمل . وهذا ظاهر في إنكار تسمية القول عملا بكل حال وأنه لا يدخل تحت قوله " الأعمال بالنيات " . وكذلك ذكر أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب " السنة " . وهذا على إطلاقه لا يصح ؛ فإن كنايات الطلاق كلها أقوال ويعتبر لها النية ، وكذلك ألفاظ الإيمان والنذور أقوال ويعتبر لها النية وألفاظ عقود البيع ( 196 - ب / ف ) والنكاح وغيرهما أقوال ويؤثر فيها النية عند أحمد ، كما تؤثر النية [ في ] ( 340 ) بطلان نكاح التحليل وعقود التحليل على الربا . و قد نص أحمد على أن من أعتق أمته وجعل عتقها صداقها أنه يعتبر له النية ، فإن أراد نكاحها بذلك وعتقها انعقدا بهذا القول . وكذلك ألفاظ الكفر المحتملة تصير بالنية كفرا . و هذا كله يدل على أن الأقوال تدخل في الأعمال ويعتبر لها النية . ومسألة الطلاق المذكورة فيها عن أحمد روايتان - أيضا .
وقد خرج أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الطلاق " له بدخول القول(1/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
في العمل ، وأن الأقوال تدخل في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) " الأعمال بالنيات "
وأبو عبيد محله من معرفة لغة العرب المحل الذي لا يجهله عالم . وقد اختلف الناس لو حلف لا يعمل عملا أو لا يفعل فعلا فقال قولا هل يحنث أم لا ؟ وكذا لو حلف ليفعلن أو ليعملن هل يبر بالقول أم لا ؟
و قد حكى القاضي أبو يعلي في ذلك اختلافا بين الفقهاء ، وذكر هو في كتاب " الأيمان " له أنه لا يبر ولا يحنث بذلك . و أخذه من رواية أبي طالب ، عن أحمد - التي سبق ذكرها - واستدل له بأن الأيمان يرجع فيها إلى العرف ، والقول لا يسمى عملا في العرف ؛ ولهذا يعطف القول على العمل كثيرا فيدل على تغايرهما عرفا واستعمالا .
و من الناس من قال : القول يدخل في مسمى الفعل ولا يدخل في مسمى العمل . وهو الذب ذكره ابن الخشاب النحوي ( 341 ) وغيره .
وقد ورد تسمية القول فعلا في القرآن في قوله تعالى ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ( [ الأنعام : 112 ] .(1/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
فصل
قال البخاري :
- باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل
لقوله عز وجل ( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ( [ الحجرات : 14 ] . فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله ( 342 ) ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ( [ آل عمران : 19 ] وقوله ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ( ( 343 ) [ آل عمران : 85 ] .
معنى هذا الكلام : أن الإسلام يطلق باعتبارين :
أحدهما : باعتبار الإسلام الحقيقي وهو دين الإسلام الذي قال الله فيه ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ( وقال ( ) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ( .
والثاني : باعتبار الاستسلام ظاهرا مع عدم إسلام الباطن إذا وقع خوفا كإسلام المنافقين ، واستدل بقوله تعالى ( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ( وحمله عل الاستسلام خوفا وتقية . وهذا مروي عن طائفة من السلف ، منهم مجاهد ، وابن زيد ، ومقاتل بن حيان وغيرهم ( 344 ) .(1/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
وكذلك رجحه محمد بن نصر المروزي ( 345 ) - كما رجحه البخاري - ؛ لأنهما لا يفارقان بين الإسلام والإيمان ، فإذا انتفى أحدهما انتفى الآخر . وهو اختيار ابن عبد البر ، وحكاه عن أكثر أهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وداود .
وأما من يفرق بين الإسلام والإيمان فإنه يستدل بهذه الآية ( 197 - أ / ف ) على الفرق بينهما ويقول : نفي الإيمان عنهم لا يلزم منه نفي الإسلام كما نفي الإيمان عن الزاني والسارق والشارب وإن كان الإسلام عنهم غير منفي . وقد ورد هذا المعنى في الآية عن ابن عباس ، وقتادة ، والنخعي ، وروي عن ابن زيد معناه - أيضا - ، وهو قول الزهري ، وحماد بن زيد ، وأحمد ، ورجحه ابن جرير وغيره ( 346 ) .
واستدلوا به على التفريق بين الإسلام والإيمان . وكذا قال قتادة في هذه الآية قال : " قولوا أسلمنا " : شهادة أن لا إله إلا الله ، وهو دين الله ، والإسلام درجة الإيمان تحقيق في القلب و والهجرة في الإيمان درجة ، والجهاد درجة ، والقتل في سبيل الله درجة . خرجه ابن أبي حاتم .
فجعل قتادة الإسلام الكلمة ، وهي أصل الدين ، والإيمان ما قام بالقلوب من تحقيق التصديق بالغيب ، فهؤلاء القوم لم يحققوا الإيمان في قلوبهم ، وإنما دخل في قلوبهم تصديق ضعيف بحيث صح به إسلامهم ،(1/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
ويدل عليه : ( وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ( [ الحجرات : 14 ] .
واختلف من فرق بين الإسلام والإيمان في حقيقة الفرق بينهما . فقالت طائفة : الإسلام : كلمة الشهادتين ، والإيمان العمل . وهذا مروي عن الزهري ( 347 ) وابن أبي ذئب ( 348 ) ، وهو رواية عن أحمد ( 349 ) ، وهي المذهب عند القاضي أبي يعلى وغيره من أصحابه . ويشبه هذا : قول ابن زيد في تفسير هذه الآية قال : لم يصدقوا إيمانهم بأعمالهم فرد الله عليهم وقال : ( لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ( فقال : الإسلام إقرار ، والإيمان تصديق ( 350 ) . وهو قول أبي خيثمة وغيره من أهل الحديث . وقد ضعف ابن حامد من أصحابنا هذا القول عن أحمد وقال : الصحيح : أن مذهبه : أن الإسلام قول وعمل ورواية واحدة ؛ ولكن لا يدخل كل الأعمال في الإسلام كما يدخل في الإيمان ، وذكر أن المنصوص عن أحمد أنه لا يكفر تارك الصلاة ، فالصلاة من خصال الإيمان دون الإسلام وكذلك اجتناب الكبائر من شرائط الإيمان دون الإسلام . كذا قال ، وأكثر أصحابنا أن ظاهر مذهب أحمد تكفير تارك الصلاة فلو لم تكن الصلاة من الإسلام لم يكن تاركها عنده كافرا . والنصوص الدالة على أن الأعمال داخلة في الإسلام كثيرة جدا . وقد ذهب طائفة إلى أن الإسلام عام والإيمان خاص ، فمن ارتكب الكبائر خرج من دائرة الإيمان الخاصة إلى دائرة الإسلام العامة .(1/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
هذا مروي عن أبي جعفر محمد بن علي ، وضعفه ابن نصر المروزي من جهة راويه عنه وهو فضيل بن يسار ، وطعن فيه ( 351 ) ، وروي عن حماد ابن زيد نحو هذا - أيضا . وحكى رواية عن أحمد - أيضا - ؛ فإنه قال في رواية الشالنجي ( 352 ) في مرتكب الكبائر : يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام . ونقل حنبل عن أحمد معناه ( 353 ) . وقد تأول هذه الرواية القاضي أبو يعلى وأقرها غيره ، و هي اختيار أبي عبد الله بن بطة وابن حامد وغيرهما من الأصحاب . و قالت طائفة : الفرق بين الإسلام والإيمان : أن الإيمان هو التصديق تصديق القلب فهو علم القلب وعمله ، والإسلام : الخضوع والاستسلام والانقياد ؛ فهو عمل القلب والجوارح . وهذا قول كثير من العلماء ، وقد حكاه أبو الفضيل التميمي عن أصحاب أحمد ، وهو قول طوائف من المتكلمين ( 197 - ب / ف ) ؛ لكن المتكلمون عندهم أن الأعمال لا تدخل في الإيمان وتدخل في الإسلام .
وأما أصحابنا وغيرهم من أهل الحديث فعندهم أن الأعمال تدخل في الإيمان مع اختلافهم في دخولها الإسلام - كما سبق - فلهذا قال كثير من العلماء : إن الإسلام والإيمان تختلف دلالتهما بالإفراد والاقتران ، فإن أفرد أحدهما دخل الآخر فيه ، وإن قرن بينهما كانا شيئين حينئذ .
وبهذا يجمع بين حديث سؤال جبريل عن السلام والإيمان ففرق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بينهما وبين حديث وفد عبد القيس حيث فسر فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الإيمان المنفرد(1/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
بما فسر به الإيمان المقرون في حديث جبريل . وقد حكى هذا القول أبو بكر الإسماعيلي عن كثير من أهل السنة والجماعة ، وروي عن أبي بكر بن أبي شيبة ما يدل عليه ( 354 ) ، وهو أقرب الأقوال في هذه المسألة وأشبهها بالنصوص والله أعلم .
والقول بالفرق بين الإسلام والإيمان مروي عن : الحسن ، وابن سيرين ، وشريك ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ويحيي بن معين ، ومؤمل ابن إهاب ، وحكى عن مالك - أيضا - ، وقد سبق حكايته عن قتادة ، وداود بن أبي هند ، والزهري ، وابن أبي ذئب ، وحماد بن زيد ، وأحمد ( 355 ) ، وأبي خيثمة وكذلك ( 356 ) حكاه أبو بكر بن السمعاني عن أهل السنة والجماعة جملة .
فحكاية ابن نصر ( 357 ) وابن عبد البر عن الأكثرين التسوية بينهما غير جيد ؛ بل قد قيل : إن السلف لم يرو عنهم غير التفريق ، والله أعلم .
وخرج البخاري في هذا الباب حديث :
27 - الزهري ، عن ( 358 ) عامر بن سعد ، عن أبيه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أعطى رهطا وسعد جالس فترك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجلا هو أعجبهم إلي فقلت : ما لك يا رسول الله ( 359 ) عن فلان ؟ فوالله إني لأراه مؤمنا ، فقال : " أو مسلما " فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم منه ( 360 ) فقلت يا رسول الله ( 361 ) مالك عن فلان ؟ فوالله إني لأراه مؤمنا ، قال ( 362 ) : " أو مسلما " فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي وعاد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال : " يا سعد إني لأعطي الرجل(1/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
وغيره أعجب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار "
خرجه من طريق شعيب ، عن الزهري ثم قال : رواه يونس وصالح وابن معمر وابن أخي الزهري ، عن الزهري ( 363 ) .
وقد رواه ابن أبي ذئب - أيضا - ، عن الزهري كذلك . ورواه العباس الخلال ( 364 ) ، عن الوليد بن مسلم ، عن ابن وهب . ورشدين بن سعد ، عن يونس ، عن الزهري ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف ، عن أبيه ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأخطئا في ذلك . نقله ابن أبي حاتم الرازي عن أبيه ( 365 ) . فهذا الحديث محمول عند البخاري على أن هذا الرجل كان منافقا ، وأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) نفى عنه الإيمان وأثبت له الاستسلام دون الإسلام الحقيقي ، وهو - أيضا - قول محمد بن نصر المروزي ( 366 ) . وهذا غاية البعد ، وآخر الحديث يرد على ذلك ، وهو : قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه " فإن هذا يدل على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكله إلى إيمانه كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم ويمنع المهاجرين والأنصار .
وزعم علي بن المديني في كتاب " العلل " له أن هذا باب المزاح من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ فإنه كان يمزح ولا يقول إلا حقا ، فأوهم سعدا أنه ليس بمؤمن ؛ بل مسلم وهما بمعنى واحد كما يقول ( 198 - أ / ف ) لرجل يمازحه وهو يدعى أنه أخ لرجل فيقول : إنما أنت ابن أبيه أو ابن أمه ، وما أشبه ذلك مما يوهم الفرق والمعنى واحد .(1/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
وهذا تعسف شديد .
والظاهر - والله أعلم - أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) زجر سعدا عن الشهادة بالإيمان ؛ لأن الإيمان باطن في القلب لا اطلاع للعبد عليه ، فالشهادة به شهادة على ظن فلا ينبغي الجزم بذلك كما قال : " إن كنت مادحا لا محالة فقل : أحسب فلانا كذا ولا أزكي على الله أحدا " ( 367 ) ، وأمره أن يشهد بالإسلام لأنه أمر مطلع عليه كما في " المسند " عن أنس مرفوعا : " الإسلام علانية ، والإيمان في القلب " ( 368 ) .
ولهذا كره أكثر السلف أن يطلق الإنسان على نفسه أنه مؤمن ، وقالوا : هو صفة مدح ، وتزكية للنفس بما غاب من أعمالها ؛ وإنما يشهد لنفسه بالإسلام لظهوره ، فأما حديث : " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان " : فقد خرجه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه من حديث دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد مرفوعا ( 369 ) . وقال أحمد : هو حديث منكر ، و دراج له مناكير ( 370 ) ، والله أعلم .
وهذا الذي ذكره البخاري في هذا الباب من الآية والحديث إنما يطابق(1/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
التبويب على اعتقاده أنه فرق بين الإسلام والإيمان .
وأما على قول الأكثرين بالتفريق بينهما : فإنما ينبغي أن يذكر في هذا الباب قوله عز وجل ( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ( [ آل عمران : 83 ] فإن الجمهور على أنه أراد استسلام الخلق كلهم له وخضوعهم فأما المؤمن فيستسلم ويخضع طوعا ، وأما الكافر فإنه يضطر إلى الاستسلام عند الشدائد ونزول البلاء به كرها ثم يعود إلى شركه عند زوال ذلك كله كما أخبر الله عنهم بذلك في مواضع كثيرة من القرآن .
والحديث الذي يطابق الباب على اختيار المفرقين بين الإسلام والإيمان : قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ذكر قرينه من الجن : " ولكن الله أعانني عليه فأسلم " ( 371 ) . وقد روي بضم الميم وفتحها ؛ فمن رواه بضمها قال : المراد : أي أنا أسلم من شره ، ومن رواه بفتحها ، فمنهم من فسره بأنه أسلم من كفره فصار مسلما . وقد ورد التصريح بذلك في رواية خرجها البزار في " مسنده " ( 372 ) بإسناد فيه ضعف .
ومنهم من فسره بأنه استسلم وخضع وانقاد كرها ، وهو تفسير ابن عيينه وغيره ، فيطابق على هذا ترجمة الباب ، والله أعلم(1/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
باب : إفشاء السلام من الإسلام
- فصل
( 373 )
قال البخاري :
قال عمار : ثلاث من جمعهن جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، وبذل السلام للعالم ، والإنفاق من الإقتار .
هذا الأثر معروف من رواية أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن عمار ، رواه عنه الثوري وشعبة وإسرائيل وغيرهم .
وروي عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي إسحاق مرفوعا . خرجه البزار وغيره ( 374 ) ، ورفعه وهم ، قال أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان ، وتردد أبو حاتم هل الخطأ منسوب فيه إلى عبد الرزاق أو معمر ( 375 ) ، ومعمر ليس بالحافظ لحديث العراقيين كما ذكر ابن معين وغيره ( 376 ) . وقد روي مرفوعا من وجهين آخرين ولا يثبت واحد منهما ( 377 ) . وإنما ذكر البخاري قول عمار في باب " إفشاء السلام من الإسلام " لأنه لا يفرق بين الإسلام والإيمان - كما تقدم .
ثم خرج البخاري حديث :
28 - عبد الله بن عمرو قال : سئل النبي ( 378 ) ( صلى الله عليه وسلم ) أي الإسلام خير ؟ قال : " أن ( 379 ) تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " .(1/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
وقد خرجه - فيما مضى - وبوب عليه باب " إطعام الطعام من الإسلام " ( 380 ) وقول عمار فيه زيادة على هذا الحديث بذكر الإنصاف من النفس ، وهو من أعز الخصال ، ومعناه : ( 198 - ب / ف ) أن يعرف الإنسان الحق على نفسه ويوفيه من غير طلب .
وفيه - أيضا - : زيادة الإنفاق من الإقتار ؛ ويشهد لفضله : قوله تعالى ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ( [ الحشر : 9 ] وقوله ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ( [ آل عمران : 134 ] .
وفي " المسند " من حديث علي ابن أبي طالب أن ثلاثة تصدقوا : رجل كان له ألف درهم فتصدق بمائة ، وآخر كان له مائة فتصدق بعشرة ، وآخر كان له عشرة فتصدق بدرهم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " أنتم في الأجر سواء " ( 381 ) .
يعني أن كلا منهم تصدق بعشر ماله ، فاعتبر الباقي بعد الصدقة ؛ فمن تصدق بدرهم وبقي له بعده كثير ليس كمن تصدق بدرهم وبقي له بعده درهم آخر أو درهمان . وروى مسدد : حدثنا أبو قدامة ثنا صفوان ابن عيسى : ثنا محمد بن عجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " سبق درهم مائة ألف درهم " قالوا : يا رسول الله وكيف يسبق درهم مائة ألف درهم ؟ قال : " رجل له درهمان فأخذ أجودهما فتصدق به ، ورجل له مال كثير فأخرج منه عرضه مائة ألف درهم فتصدق بها " ( 382 ) .(1/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
باب : كفران العشير ، وكفر دون كفر
- فصل
( 383 )
خرج البخاري ومسلم ( 384 ) من حديث :
29 - مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( 385 ) : " أريت النار فرأيت ( 386 ) أكثر أهلها النساء بكفرهن " قيل أيكفرون ( 387 ) ؟ قال : " يكفرن العشير ويكفرن الإحسان ؛ لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت : ما رأيت منك خيرا قط "
وقال البخاري : كفر دون كفر ( 388 ) . والكفر قد يطلق ويراد به الكفر الذي لا ينقل عن الملة مثل كفران العشير ونحوه عند إطلاق الكفر ( 389 ) .
فأما إن ورد الكفر مقيدا بشيء فلا إشكال في ذلك كقوله تعالى ( فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ ( [ النحل : 112 ] . وإنما المراد هاهنا : أنه قد يرد إطلاق الكفر ثم يفسر بكفر غير ناقل عن الملة ، وهذا كما قال ابن عباس في قوله تعالى ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ( [ المائدة : 44 ] قال : ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ؛ إنه ليس بكفر ينقل عن الملة ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ( كفر دون كفر .(1/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
خرجه الحاكم ( 390 ) وقال : صحيح الإسناد .
وعنه في هذه الآية قال : هو به كفر ، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . وكذا قال عطاء وغيره : كفر دون كفر . وقال النخعي : الكفران كفران : كفر بالله وكفر بالمنعم ( 391 ) . واستدل البخاري لذلك بحديث ابن عباس الذي خرجه هاهنا ، وهو قطعة من حديث طويل خرجه في " أبواب الكسوف " ( 392 ) ، فإنه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أطلق على النساء الكفر فسئل عنه فسره بكفر العشير .
وحديث أبي سعيد ( 393 ) في هذا المعنى يشبه حديث ابن عباس . وقد خرج هذا المعنى من حديث ابن عمر ، وأبي هريرة - أيضا - وفي المعنى - أيضا - حديث ابن مسعود ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " وقد خرجه البخاري ( 394 ) في موضع آخر . و كذلك قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ( 395 ) . وقوله من قال لأخيه : ياكافر ، فقد باء بها أحدهما " ( 396 ) .(1/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
و للعلماء في هذه الأحاديث وما أشبهها مسالك متعددة : منهم : من حملها على من فعل ذلك مستحلا لذلك .
وقد حمل مالك حديث : " من قال لأخيه : يا كافر " على الحرورية المعتقدين لكفر المسلمين بالذنوب . نقله عنه أشهب ( 397 ) وكذلك حمل ( 199 - أ / ف ) إسحاق بن راهوية حديث " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها فقد كفر " ( 398 ) على المستحل لذلك . نقله عنه حرب وإسحاق الكوسج . ومنهم من يحملها على التغليظ والكفر الذي لا ينقل عن الملة - كما تقدم عن ابن عباس وعطاء . ونقل إسماعيل الشالنجي عن أحمد - وذكر له قول ابن عباس المتقدم وسأله : ما هذا الكفر ؟ - قال أحمد : هو كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض ، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف ( 399 ) فيه .
قال محمد بن نصر المروزي ( 400 ) : . واختلف من قال من أهل الحديث أن مرتكب الكبائر مسلم وليس بمؤمن هل يسمى كافرا كفرا لا ينقل عن الملة كما قال عطاء : كفر دون كفر ، وقال ابن عباس وطاوس : كفر لا ينقل عن الملة ( 401 ) ؟ على قولين لهم . قال : وهما مذهبان في الجملة محكيان عن أحمد بن حنبل في موافقيه من أهل الحديث . قلت : قد أنكر أحمد في رواية المروذي ما روي عن عبد الله بن عمرو أن شارب الخمر يسمى كافرا ولم يثبته عنه ؛ مع أنه قد روي عنه من وجوه كثيرة وبعضها إسناده حسن ،(1/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
وروي عنه مرفوعا ( 402 ) .
وكذلك أنكر القاضي أبو يعلى جواز إطلاق كفر النعمة على أهل الكبائر ، ونصب الخلاف في ذلك مع الزيدية من الشيعة ، والإباضية من الخوارج . ورواية إسماعيل الشالنجي عن أحمد قد توافق ذلك . فمن هنا حكى محمد بن نصر عن أحمد في ذلك مذهبين ( 403 ) .
والذي ذكره القاضي أبو عبد الله بن حامد شيخ القاضي أبو يعلى عن أحمد جواز إطلاق الكفر والشرك على بعض الذنوب التي لا تخرج عن الملة ، وقد حكاه عن أحمد ( 404 ) .
وقد روي عن جابر بن عبد الله أنه سئل : هل كنتم تسمون شيئا من الذنوب : الكفر أو الشرك ؟ قال : معاذ الله ؛ ولكنا نقول مذنبين . خرجه محمد بن نصر ( 405 ) وغيره . وكان عمار ينهى أن يقال لأهل الشام الذين قاتلوهم بصفين : كفروا وقال : قولوا فسقوا . قولوا ظلموا . وهذا قول ابن مبارك وغيره من الأئمة . وقد ذكر بعض الناس أن الإيمان قسمان :
أحدهما : إيمان بالله ، وهو الإقرار والتصديق به .
والثاني : إيمان لله ، وهو الطاعة والانقياد لأوامره .
فنقيض الإيمان الأول : الكفر ، ونقيض الإيمان الثاني : الفسق ؛ وقد يسمى كفرا ؛ ولكن لا ينقل عن الملة .
وقد وردت نصوص اختلف العلماء في حملها عل الكفر الناقل عن(1/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
الملة أو على غيره مثل الأحاديث الواردة في كفر تارك الصلاة ، وتردد إسحاق بن راهوية فيما ورد في إتيان المرأة في دبرها أنه كفر هل هو مخرج عن الدين بالكلية أم لا ؟
ومن العلماء من يتوقى الكلام في هذه النصوص تورعا ويمرها كما جاءت من غير تفسير مع اعتقادهم أن المعاصي لا تخرج عن الملة .
وحكاه ابن حامد في رواية عن أحمد ، ذكر صالح بن أحمد وأبو الحارث أن أحمد سئل عن حديث أبي بكر الصديق " كفر بالله تبري من نسب وإن دق ، وكفر بالله ادعاء إلى نسب لا يعلم " ( 406 ) قال أحدهما : قال أحمد : قد روي هذا عن أبي بكر ، والله أعلم ، وقال الآخر : قال ما أعلم ، قد كتبناها هكذا . قال أبو الحارث : قيل لأحمد : حديث أبي هريرة " من أتى النساء في أعجازهن فقد كفر " ( 407 ) فقال : قد روي هذا . ولم يزد على هذا الكلام . وكذا قال الزهري لما سئل عن قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ليس منا من لطم الخدود " وما أشبهه من الحديث فقال : من الله العلم وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم ( 408 ) .
ونقل عبدوس بن ( 199 - ب / ف ) مالك العطار أنه ذكر هذه الأحاديث التي ورد فيها لفظ الكفر فقال : نسلمها وإن لم نعرف تفسيرها ولا نتكلم فيه ولا نفسرها إلا بما جاءت ( 409 ) .
ومنهم من فرق بين إطلاق لفظ الكفر فجوزه في جميع أنواع الكفر(1/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
سواء كان ناقلا عن الملة أو لم يكن وبين إطلاق اسم الكافر ، فمنعه إلا في الكفر الناقل عن الملة ؛ لأن اسم الفاعل لا يشتق من الفعل الكامل ، ولذلك قال في اسم المؤمن : لا يقال إلا للكامل الإيمان ، فلا يستحقه من كان مرتكبا للكبائر حال ارتكابه وإن كان يقال : قد آمن ، ومعه إيمانه . وهذا اختيار ابن قتيبة . وقريب منه : قول من قال : إن أهل الكتاب يقال : إنهم أشركوا وفيهم شرك كما قال تعالى ( سبحانه عما يشركون ( [ التوبة : 31 ] ولا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق ؛ بل يفرق بينهم وبين المشركين كما في قوله تعالى ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين ( [ البينة : 1 ] فلا يدخل الكتابية في قوله تعالى ( َ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( [ البقرة : 221 ] وقد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره . وكذلك كره أكثر السلف أن يقول الإنسان : أنا مؤمن ، حتى يقول : إن شاء الله ، وأباحوا أن يقول : آمنت بالله .
وهذا القول حسن ، لولا ما تأوله ابن عباس وغيره في قوله تعالى ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ( [ المائدة : 44 ] ، والله أعلم .(1/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
باب : ظلم دون ظلم
فصل
( 410 )
خرج البخاري ومسلم ( 411 ) من حديث :
32 - ابن مسعود قال : لما نزلت ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم ( [ الأنعام : 82 ] قال أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أينا لم يظلم نفسه ( 412 ) ، فأنزل الله ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( [ لقمان : 13 ]
معنى هذا : أن الظلم يختلف : فيه ظلم ، ينقل عن الملة كقوله تعالى ( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( [ البقرة : 254 ] فإن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وأعظم ذلك : أن يوضع المخلوق في مقام الخالق ويجعل شريكا له في الربوبية وفي الإلهية سبحانه وتعالى عما يشركون . وأكثر ما يرد في القرآن وعيد الظالمين يراد به الكفار كقوله تعالى ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُون ( الآيات [ إبراهيم : 42 ] ، وقوله ( وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيل ( الآيات [ الشورى : 44 ] ومثل هذا كثير .
ويراد بالظلم : ما لا ينقل عن الملة ، كقوله تعالى ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَات ( [ فاطر : 32 ] وقوله ( وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ( [ البقرة : 229 ] .
وحديث ابن مسعود هذا صريح في أن المراد بقوله تعالى ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم ( أن الظلم هو الشرك ، وجاء في بعض رواياته زيادة : قال " إنما هو الشرك " ( 413 ) .(1/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
وروى حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ ، فدخل ذات يوم فقرأ فأتى على هذه الآية ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم ( إلى آخر الآية فانتعل وأخذ رداءه ثم أتى أبي ابن كعب فقال : يا أبا المنذر أتيت قبل على هذه الآية ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم ( وقد ترى أنا نظلم ونفعل ، فقال : يا أمير المؤمنين إن هذا ليس بذلك ، يقول الله تعالى ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( . - ، إنما ذلك الشرك . خرجه محمد بن نصر المروزي ( 414 ) . وخرجه - أيضا - من طريق حماد بن زيد ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب أن عمر أتى على هذه الآية ، فذكره ( 415 ) . وحماد بن سلمه مقدم على حماد بن زيد في علي بن زيد خاصة ( 416 ) . وروي - أيضا - بإسناده ، عن سفيان ، عن ( 200 - أ / ف ) ابن جريج ، عن عطاء قال : كفر دون كفر وظلم دون ظلم ، وفسوق دون فسق ( 417 ) .
يعني : أن الفسق قد يكون ناقلا عن الملة كما قال في حق إبليس ( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه ( [ الكهف : 50 ] وقال ( وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ( [ السجدة : 20 ] .
وقد لا يكون الفسق ناقلا عن الملة كقوله تعالى ( وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ( [ البقرة : 282 ] ، وقوله في الذين يرمون(1/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
المحصنات ( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( [ النور : 4 ] وقوله : ( فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَج ( [ البقرة : 197 ] ، وفسرت الصحابة الفسوق في الحج بالمعاصي كلها ، ومنهم من خصها بما ينهى عنه في الإحرام خاصة . وكذلك الشرك : منه ما ينقل عن الملة ، واستعماله في ذلك كثير في الكتاب والسنة . ومنه : ما لا ينقل ، كما جاء في الحديث : " من حلف بغير الله فقد أشرك " ِ ( 418 ) ، وفي الحديث : " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل " ( 419 ) ، وسمي الرياء : شركا . وتأول ابن عباس على ذلك قوله تعالى ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون ( [ يوسف : 106 ] قال : إن أحدهم يشرك حتى يشرك بكلبه : لولا الكلب لسرقنا الليلة ، قال تعالى : ( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ( [ الكهف : 110 ] .
وقد روي أنها نزلت في الرياء في العمل . وقيل للحسن : يشرك بالله ؟ قال : لا ؛ ولكن أشرك بذلك العمل عملا يريد به الله والناس ، فذلك يرد عليه .(1/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
باب : الدين يسر
- فصل
( 420 )
خرج الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة و عن ابن عباس قال : قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أي الأديان أحب على الله ؟ قال : : الحنيفية السمحة " ( 421 ) . وخرجه الطبراني ولفظه : أي الإسلام أفضل ؟ ( 422 ) . وخرجه البزار في " مسنده ولفظه : أي الإسلام - أو أي الإيمان - أفضل ؟ ( 423 ) . وهذا الإسناد ليس على شرط البخاري ؛ لأنه لا يحتج بابن إسحاق ولا بروايات داود بن الحصين ، عن عكرمة فإنها مناكير عند ابن المديني ، والبخاري لا يخالف في ذلك وإن كان قد خرج لهما منفردين .
وخرج البزار هذا الحديث من وجه آخر ؛ لكن إسناده لا يصح ( 424 ) . وخرجه الطبراني من وجه ثالث ، ولا يصح إسناده - أيضا ( 425 ) .
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لهم يوم زفن ( 426 ) الحبشة في المسجد : " لتعلم يهود أن في ديننا فسحة ؛ إني أرسلت بحنيفية سمحة " ( 427 ) .(1/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
وخرج - أيضا - من رواية معان بن رفاعة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ؛ ولكني بعثت بالحنيفية السمحة " ( 428 ) . إسناده ضعيف .
وخرج البخاري من حديث :
39 - معن بن محمد الغفاري ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " .
وهذا الحديث تفرد به البخاري ، وتفرد بالتخريج لمعن الغفاري . ومعنى الحديث : النهي عن التشديد في الدين بأن يحمل الإنسان نفسه من العبادة مالا يحتمله إلا بكلفة شديدة ، وهذا هو المراد بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) " لن يشاد الدين أحد إلا غلبه " يعني : أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة فمن شاد الدين غلبه وقطعه ( 429 ) .
وفي " مسند الإمام أحمد " ( 200 - ب / ف ) عن محجن بن الأدرع قال : أقبلت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى إذا كنا بباب المسجد إذا رجل يصلي قال : " أتقوله صادقا " ؟ قلت : يا نبي الله هذا فلان وهذا من أحسن أهل المدينة أو من أكثر أهل المدينة صلاة ، قال : " لا تسمعه فتهلكه - مرتين أو ثلاث - إنكم أمة أريد بكم اليسر " ( 430 ) . وفي رواية له : " إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره " ( 431 ) .(1/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
وفي رواية له - أيضا - قال : " إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة " . وخرجه حميد بن زنجويه وزاد : " اكلفوا من العمل ما تطيقون ؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا ، الغدوة والروحة وشيء من الدلجة " وخرجه ابن مردويه وعنده : قال : " إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بها العسر " ( 432 ) .
وفي " المسند " - أيضا - ، عن بريدة قال : خرجت فإذا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يمشي فلحقته فإذا بين أيدينا برجل يصلي يكثر الركوع والسجود فقال لي : " أتراه يرائي ؟ " قلت : الله ورسوله أعلم قال : فترك يده من يدي ثم جمع بين يديه يصوبهما ويرفعهما ويقول " عليكم هديا قاصدا ، عليكم هديا قاصدا ، عليكم هديا قاصدا ؛ فإنه من يشاد ( 433 ) هذا الدين يغلبه " ( 434 ) .
وفي " المسند " - أيضا - ، عن عاصم بن هلال ، عن غاضرة بن عروة الفقيمي ، عن أبيه : كنا ننتظر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فخرج فصلى ، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه : علينا حرج في كذا ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) " إن دين الله في يسر " - قالها ثلاثا ( 435 ) . وفي المعنى أحاديث أخر . وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : سددوا وقاربوا وأبشروا " . التسديد : هو إصابة الغرض المقصود ، وأصله من تسديد السهم إذا أصاب الغرض المرمى إليه ولم يخطئه .(1/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
والمقاربة : أن يقارب الغرض وإن لم يصبه ؛ لكن يكون مجتهدا على الإصابة فيصيب تارة ويقارب تارة أخرى ، أو تكون المقاربة لمن عجز عن الإصابة كما قال تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ( [ التغابن : 16 ] وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " ( 436 ) .
وفي " المسند " و " سنن أبي داود " ، عن الحكم بن حزن الكلفي أنه سمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول على المنبر يوم الجمعة : " أيها الناس إنكم لن تطيقوا - أو لن تفعلوا - كل ما أمرتكم ؛ ولكن سددوا وأبشروا " ( 437 ) . وقيل : أراد التسديد : العمل بالسداد - وهو القصد والتوسط في العبادة - فلا يقصر فيما أمر به و ولا يتحمل منها مالا يطيقه .
قال النضر بن شميل : السداد : القصد في الدين والسبيل ، وكذلك المقاربة المراد بهما : التوسط بين التفريط والإفراط ، فهما كلمتان بمعنى واحد .
وقيل : بل المراد بالتسديد : التوسط في الطاعات بالنسبة إلى الواجبات والمندوبات ، وبالمقاربة : الاقتصار على الواجبات . وقيل فيهما غير ذلك . وقوله " أبشروا " يعني : أن من قصد المراد فليبشر . وخرج البخاري في موضع آخر من " صحيحه " من حديث عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " سددوا وقاربوا وأبشروا " ( 438 ) .(1/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
وقوله " واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " يعني أن هذه الأوقات الثلاثة أوقات العمل والسير إلى الله ، وهي / أول النهار وآخره ، وآخر الليل . فالغدوة : أول النهار ، والروحة آخره ، والدلجة : سير آخر الليل .
وفي " سنن أبي داود " عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " إذا سافرتم فعليكم بالدلجة ، فإن الأرض تطوى بالليل " ( 439 ) . فسير آخر الليل محمود في سير الدنيا بالأبدان وفي سير القلوب إلى الله بالأعمال .
وخرج البخاري ( 201 - أ / ف هذا الحديث في أواخر كتابه ، وزاد فيه : " والقصد القصد تبلغوا " ( 440 ) ، يعني أن من دام على سيره إلى الله في هذه الأوقات الثلاثة مع الاقتصاد بلغ ، ومن لم يقتصد ؛ بل بالغ واجتهد فربما انقطع في الطريق ولم يبلغ .
وقد جاء في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا : " إن هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله ؛ فإن المنبت لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى " ( 441 ) .
والمنبت : هو المنقطع في سفره قبل وصوله ، فلا سفر قطع ولا ظهره الذي يسير عليه أبقى حتى يمكنه السير عليه بعد ذلك ؛ بل هو كالمنقطع في المفاوز ، فهو إلى الهلاك أقرب ، ولو أنه رفق براحلته واقتصد في سيره عليها لقطعت به سفره وبلغ إلى المنزل .(1/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
كما قال الحسن : نفوسكم مطاياكم ؛ فأصلحوا مطاياكم تبلغكم إلى ربكم عز وجل ، والله أعلم(1/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
باب : حسن إسلام المرء
31 - فصل
( 442 )
خرج البخاري من حديث :
41 - زيد بن أسلم ، عن ( 443 ) عطاء بن يسار ، عن أبي ( 444 ) سعيد الخدري ( 445 ) أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان أزلفها ( 446 ) ، وكان بعد ذلك القصاص : الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، والسيئة بمثلها ؛ إلا أن يتجاوز الله عنها "
وخرج البخاري - أيضا - من حديث :
42 - همام بن منبه ، عن أبي هريرة عن النبي ( 447 ) ( صلى الله عليه وسلم ) قال " إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها " .
إحسان الإسلام تفسر بمعنيين : أحدهما : بإكمال واجتناب محرماته . ومنه الحديث المشهور المروي في " السنن " : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ( 448 ) فكمال حسن إسلامه - حينئذ - بترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه . ومنه حديث ابن مسعود الذي خرجاه في " الصحيحين " أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل : أنؤاخذ بأعمالنا في الجاهلية ؟ فقال : " من أحسن في الإسلام لم(1/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر " ( 449 ) . فإن المراد بإحسانه في الإسلام : فعل واجباته والانتهاء عن محرماته ، وبالإساءة في الإسلام : ارتكاب بعض محظوراته التي كانت ترتكب في الجاهلية .
وفي حديث ابن مسعود هذا حديث أبي سعيد - الذي علقه البخاري هنا في أول الباب ( 450 ) - دليل على أن الإسلام إنما يكفر ما كان قبله من الكفر ولواحقه التي اجتنبها المسلم بإسلامه ، فأما الذنوب التي فعلها في الجاهلية إذا أصر عليها في الإسلام فإنه يؤاخذ بها ، فإنه إذا أصر عليها في الإسلام لم يكن تائبا منها فلا يكفر عنه بدون التوبة منها .
و قد ذكر ذلك طوائف من العلماء من أصحابنا كأبي بكر بن عبد العزيز ابن جعفر وغيره ، وهو قول طوائف من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم وهو اختيار الحليمي . ثم وجدته منصوصا عن الإمام أحمد ؛ فنقل الميموني في " مسائله " عن أحمد قال : بلغني عن أبي حنيفة أنه كان يقول : لا يؤاخذ بما كان في الجاهلية ، والنبي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول في غير حديث : " إنه يؤاخذ " ، يعني : حديث شقيق ، عن ابن مسعود : أزاد ( 451 ) " إذا أحسنت في الإسلام " . انتهى
وكذلك حكى الجوزجاني عن أهل الرأي أنهم قالوا : إن من أسلم وهو مصر على الكبائر ، كفر ( 201 - ب / ف ) الإسلام كبائره كلها ، ثم أنكر عليهم وجعله من جملة أقوال المرجئة . وخالف في ذلك آخرون ، وقالوا : بل يغفر له في الإسلام كل ما سبق منه في الجاهلية من كفر وذنب وإن أصر عليها في الإسلام . وهذا قول كثير من المتكلمين والفقهاء من أصحابنا وغيرهم كابن حامد والقاضي وغيرهما(1/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
واستدلوا بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " الإسلام يهدم ما كان قبله " . خرجه مسلم من حديث عمرو بن العاص ( 452 ) .
وأجاب الأولون عنه : بأن المراد أنه يهدم ما كان قبله مما ينافيه الإسلام من كفر وشرك ولواحق ذلك مما يكون الإسلام توبة منه وإقلاعا عنه جميعا بينه وبين الحديثين المتقدمين . واستدلوا بقوله تعالى ( قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ( [ الأنفال : 38 ] .
وأجاب الأولون بأن المراد : يغفر لهم ما سلف مما انتهوا عنه . وتأول بعض أهل القول الثاني حديث ابن مسعود على أن إساءته في الإسلام ارتداده عنه إلى الكفر ، فيؤاخذ بكفره الأول والثاني . ومنهم من حمله على إسلام المنافق . وهذا بعيد جدا . ومتى ارتد عن الإسلام أو كان منافقا فلم يبق معه الإسلام حتى يسيء فيه . والاختلاف في هذه المسألة مبني على أصول :
أحدها : قول جمهور أهل السنة والجماعة ، والخلاف فيه عن الإمام أحمد لا يثبت . وقد تأول ما روي عنه في ذلك المحققون من أصحابه كابن شاقلا والقاضي في كتاب " المعتمد " وابن عقيل في " فصوله " . وأما المعتزلة : فخالفوا في ذلك ، وقال من قال منهم كالجبائي ( 453 ) بناء على هذا : إن الكافر لا يصح إسلامه مع إصراره على كبيرة كان عليها في حال كفره .(1/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
وهذا قول باطل لم يوافقهم عليه أحد من العلماء .
الأصل الثاني : أن التوبة هل من شرط صحتها إصلاح العمل بعدها أم لا ؟ وفي ذلك اختلاف بين العلماء ، وقد ذكره ابن حامد من أصحابنا وأشار إلى بناء الخلاف في هذه المسألة على ذلك ، والصحيح عنده وعند كثير من العلماء : أن ذلك ليس بشرط .
والأصل الثالث : أن بعض الذنوب قد يعفى عنها بشرط اجتناب غيرها ، فإن لم يحصل الشرط لم يحصل ما علق به . وهذا مأخذ أبي بكر عبد العزيز من أصحابنا ، وجعل من هذا الباب أن الصغائر إنما تكفر باجتناب الكبائر ، فإن لم يجتنب الكبائر وقعت المؤاخذة بالصغائر والكبائر . وهذا فيه خلاف يذكر في موضع آخر إن شاء الله . وجعل منه أن النظرة الأولى يعفى عنها بشرط عدم المعاودة ، فإن أعاد النظرة أخذ بالأولى والثانية .
والأصل الرابع : أن التوبة من الذنب هي الندم عليه بشرط الإقلاع عنه والعزم على عدم العود إليه ، فالكافر إذا أسلم وهو مصر على ذنب آخر صحت توبته مما تاب منه وهو الكفر دون الذنب الذي لم يتب منه ؛ بل هو مصر عليه .
وخرج النسائي حديث مالك الذي علقه البخاري هنا ، وزاد في أوله : " كتب الله كل حسنة كان أزلفها " ( 454 ) .(1/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
وهذا يشبه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لحكيم بن حزام لما قال له : أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية ، هل لي منها من شيء ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) " أسلمت على ما أسلفت من خير " خرجه مسلم ( 455 ) .
وكلاهما يدل على أن الكافر إذا عمل حسنة في حال كفره ثم أسلم فإنه يثاب عليها ويكون إسلامه المتأخر كافيا له في حصول الثواب على حسناته السابقة منه قبل إسلامه ( 202 - أ / ف ) .
ورجح هذا القول ابن بطال والقرظي وغيرهما . وهو مقتضى قول من قال : إنه يعاقب بما أصر عليه من سيئاته إذا أسلم - كما سبق وحكى مثله عن إبراهيم الحربي . ويدل عليه - أيضا - : أن عائشة لما سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ابن جدعان وما كان يصنعه من المعروف هل ينفعه ذلك ؟ فقال : " إنه لم يقل يوما قط : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " ( 456 ) . و هذا يدل على أنه لو قال ذلك يوما من الدهر - ولو قبل موته بلحظة لنفعه ذلك . ومما يستدل به - أيضا - : قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في مؤمن أهل الكتاب إذا أسلم : " إنه يؤتى أجره مرتين ( 457 ) ؛ مع أنه لو وافى على عمله بكتابه الأول(1/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
لكان حابطا ، وهذا هو اللائق بكرم الله وجوده وفضله . وخالف في ذلك طوائف من المتكلمين وغيرهم وقالوا : الأعمال في حال الكفر حابطة لا ثواب لها بكل حال ، وتأولوا هذه النصوص الصحيحة بتأويلات مستكرهة مستبعدة ، ولذلك ( 458 ) من كان له عمل صالح فعمل سيئة أحبطته ثم تاب ؛ فإنه يعود إليه ثواب ما حبط من عمله بالسيئات .
وقد ورد في هذا آثار عن السلف ، قال ابن مسعود : عبد الله رجل سبعين سنة ثم أصاب فاحشة فأحبط الله عمله ، ثم أصابته زمانه وأقعد فرأى رجلا يتصدق على مساكين فجاء إليه فأخذ منه رغيفا فتصدق به على مسكين فغفر الله له ورد عليه عمل سبعين سنة . خرجه ابن المبارك في كتاب : البر والصلة "
بل عود العمل هاهنا بالتوبة أولى ؛ لأن العمل الأول كان مقبولا ، وإنما طرأ عليه ما يحبطه بخلاف عمل الكافر قبل إسلامه . ومن كان مسلما وعمل صالحا في إسلامه ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام ، ففي حبوط عمله الأول بالردة خلاف مشهور ، ولا يبعد أن يقال : إنه إليه بإسلامه الثاني على تقدير حبوطه ، والله أعلم .
وقد وردت نصوص أخر تدل على أن الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه فإنه تبدل سيئاته في حال كفره حسنات ، وهذا أبلغ مما قبله ، ويدل على أن التائب من ذنب تبدل سيئاته قبل التوبة(1/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
بالتوبة حسنات كما دلت عليه الآية في سورة الفرقان ، وفي ذلك كلام يطول ذكره هاهنا .
ولا يستبعد إثابة المسلم في الآخرة بما عمل قبل إسلامه من الحسنات ؛ فإنه لابد أن يثاب عليها في الدنيا . وفي إثابته عليها في الآخرة بتحقيق العذاب نزاع مشهور . فإذا لم يكن بد من إثابته فلا يستنكر أن يثاب عليها بعد إسلامه في الآخرة ؛ لأن المانع من إثابته عليها في الآخرة هو الكفر ، وقد زال . وقد يستدل ( 459 ) لهذا - أيضا - بقول الله عز وجل في قصة أسارى بدر ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى ( 460 ) إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ( [ الأنفال : 70 ] وقد كان العباس بن عبد المطلب - وهو من جملة هؤلاء الأسارى - يقول : أما أنا فقد آتاني الله خيرا مما أخذ مني ووعدني المغفرة ( 461 ) . فهذه الآية تدل على أن الكافر إذا أصيب بمصيبة في حال كفره ثم أسلم فإنه يثاب على مصيبته ، فلأن يثاب على ما سلف منه من أعماله الصالحة أولى ؛ فإن المصائب يثاب على الصبر عليها والرضى بها ، وأما نفس المصيبة ( 202 - ب / ف ) فقد قيل : إنه يثاب عليها ، وقيل : إنه لا يثاب عليها ؛ وإنما يكفر عنه ذنوبه . وهذا هو المنقول عن كثير من الصحابة .
والمعنى الثاني - مما يفسر به إحسان الإسلام - : أن تقع طاعات المسلم على أكمل وجوهها وأتمها بحيث يستحضر العامل في حال عمله قرب الله منه واطلاعه عليه فيعمل له على المراقبة والمشاهدة لربه بقلبه .(1/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
وهذا هو الذي فسر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) به الإحسان في حديث سؤال جبريل عليه السلام .
وقد دل حديث أبي سعيد وحديث أبي هريرة المذكوران على أن مضاعفة الحسنات للمسلم بحسب حسن إسلامه .
وخرج ابن أبي حاتم ( 462 ) من رواية عطية العوفي ، عن ابن عمر قال : نزلت ( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ( [ الأنعام : 160 ] في الأعراب فقال رجل : يا أبا عبد الرحمن فما للمهاجرين ؟ قال : ما هو أكثر ثم تلا قوله ( وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ( [ النساء : 40 ] . ويشهد لهذا المعنى : ما ذكره الله عز وجل في حق أزواج نبيه فقال ( يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَة ( إلى قوله ( وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ( [ الأحزاب : 30 - 32 ] فدل على أن من عظمت منزلته ودرجته عند الله فإن عمله يضاعف له أجره .
وقد تأول بعض السلف من بني هاشم دخول آل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا المعنى لدخول أزواجه ؛ فلذلك ( 463 ) من حسن إسلامه بتحقيق إيمانه وعمله الصالح فإنه يضاعف له أجر عمله بحسب حسن إسلامه وتحقيق إيمانه وتقواه والله أعلم .
ويشهد لذلك : أن الله ضاعف لهذه الأمة لكونها خير أمة أخرجت للناس أجرها مرتين ، قال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ( [ الحديد : 28 ] .(1/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
وفي الحديث الصحيح : " إن أهل التوراة عملوا إلى نصف النهار على قيراط قيراط ، وعمل أهل الإنجيل إلى العصر على قيراط قيراط ، وعملتم أنتم من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين فغضبت اليهود والنصارى وقالوا : ما لنا أكثر عملا وأقل أجرا ؟ فقال الله : هل ظلمتكم من أجوركم شيئا ؟ قالوا : لا ، قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء ( 464 ) .
وأما من أحسن عمله وأتقنه وعمله على الحضور والمراقبة ، فلا ريب أنه يتضاعف بذلك أجره وثوابه في هذا العمل بخصوصه على من عمل ذلك العمل بعينه على وجه السهو والغفلة . ولهذا روي في حديث عمار المرفوع : " إن الرجل ينصرف من صلاته وما كتب له إلا نصفها ، إلا ثلثها ، إلا ربعها ، حتى بلغ العشر ( 465 ) ؛ فليس ثواب من كتب له عشر عمله كثواب من كتب له نصف ولا ثواب من كتب له نصف عمله كثواب من كتب له عمله كله ، والله أعلم(1/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
باب : أحب الدين إلى الله أدومه
32 - فصل
( 466 )
خرج البخاري ومسلم ( 467 ) من حديث :
43 - عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل عليها وعندها امرأة فقال : " من هذه " فقالت ( 468 ) : فلانة - تذكر من صلاتها - فقال ( 469 ) : " مه ، عليكم بما تطيقون ، فوالله لا يمل الله حتى تملوا " . وكان أحب الدين إليه : مادام عليه صاحبه .
وقد ورد في رواية أخرى مخرجة في غير هذا الموضع أن هذه المرأة اسمها : الحولاء بنت تويت ( 470 ) ( 203 - أ / ف ) وأن عائشة قالت عنها : زعموا أنها لا تنام الليل " ( 471 ) . وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " مه " زجر لعائشة عن قولها عن هذه المرأة في كثرة صلاتها وأنها لا تنام الليل وأمر لها بالكف عما قالته في حقها ؛ فيحتمل أن ذلك كراهية للمدح في وجهها ؛ حيث كانت المرأة حاضرة ، ويحتمل - وهو الأظهر وعليه يدل سياق الحديث - أن النهي إنما هو لمدحها بعمل ليس بممدوح في الشرع وعلى هذا فكثيرا ما يذكر في مناقب العباد من الاجتهاد المخالف للشرع ينهى عن ذكره على وجه التمدح به والثناء به على فاعله ، وقد سبق شرح هذا المعنى في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : " الدين يسر " ( 472 ) .
فإن المراد بهذا الحديث : الاقتصاد في العمل والأخذ منه بما يتمكن صاحبه من المداومة عليه ، وأن أحب العمل إلى الله مادام صاحبه عليه وإن قل . وقد روي ذلك في حديث آخر .(1/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
وكذلك كان حال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان عمله ديمة ، وكان إذا عمل عملا أثبته . وقد كان ينهى عن قطع العمل وتركه ، كما قال لعبد الله بن عمرو " لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل " ( 473 ) . وقوله " إن الله لا يمل حتى تملوا " ( 474 ) . وفي رواية : " لا يسأم حتى تسأموا " ( 475 ) . الملل والسآمة للعمل يوجب قطعه وتركه ، فإذا سأم العبد من العمل ومله قطعه وتركه فقطع الله عنه ثواب ذلك العمل ؛ فإن العبد إنما يجازى بعمله ، فمن ترك عمله انقطع عنه ثوابه وأجره إذا كان قطعه لغير عذر من مرض أو سفر أو هرم .
كما قال الحسن : إن دور الجنة تبنيها الملائكة بالذكر فإذا فتر العبد انقطع الملك عن البناء فتقول له الملائكة : ما شأنك يا فلان ؟ فيقول : إن صاحبي فتر ، قال الحسن : أمدوهم - رحمكم الله - بالنفقة . وأيضا - فإن دوام العمل وإيصاله ربما حصل للعبد به في عمله الماضي ما لا يحصل له فيه عند قطعه ؛ فإن الله يحب مواصلة العمل ومداومته ، ويجزي على دوامه ما لا يجزي على المنقطع منه .
وقد صح هذا المعنى في الدعاء وأن العبد يستجاب له ما لم يعجل فيقول : قد دعوت فلم يستجب لي ، فيدع الدعاء ،(1/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
فدل هذا على أن العبد إذا أدام الدعاء وألح فيه أجيب وإن قطعه واستحسر منع إجابته وسمي هذا المنع من الله مللا وسآمة مقابلة للعبد على ملله وسآمته ، كما قال تعالى ( نسوا الله فنسيهم ( [ التوبة : 67 ] فسمى إهمالهم وتركهم نسيانا مقابلة لنسيانهم له . هذا أظهر ماقيل في هذا . ويشهد له : أنه قد روي من حديث عائشة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " اكلفوا من العمل ما تطيقون ؛ فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل " . خرجه بقي بن مخلد ؛ وفي إسناده : موسى بن عبيدة . وقد قيل : إن " حتى " هاهنا بمعنى واو العطف ؛ ولكن لا يصح دعوى كون " حتى " عاطفة ؛ لأنها إنما تعطف المفردات لا الجمل ، هذا هو المعروف عند النحويين ، وخالف فيه بعضهم . وقيل : إن " حتى " فيه بمعنى " حين " ، وهذا غير معروف . وزعم ابن قتيبة أن المعنى : " لا يمل إذا مللتم " ، وزعم أن هذا الاستعمال معروف في كلام العرب ، وقد يقال : إن " حتى " بمعنى لام التعليل ، وأن المراد أن الله لا يمل لكي تملوا أنتم من العمل .(1/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
وفيه بعد - أيضا . ولو كان كذلك لقال : حتى لا تملوا ، ويكون التعليل - حينئذ - بإعلامهم بأن الله لا يمل من العطاء ، فيكون إخبارهم بذلك مقتضيا ( 203 - ب / ف ) لمدوامتهم على العمل وعدم مللهم وسآمتهم .
و قد يقال : إنما يدل هذا الكلام عل نسبة الملل والسآمة إلى الله بطريق مفهوم الغاية . و من يقول : إنه لا مفهوم لها فإنه يمنع من دلالة الكلام على ذلك بالكلية . ومن يقول ذلك بالمفهوم فإنه يقول : متى دل الدليل على انتقائه لم يكن مرادا من الكلام . وقد دلت الأدلة عل انتفاء النقائص والعيوب عن الله تعالى ، ومن جملة ذلك : لحوق السآمة والملل له .
ولكن بعض ( 476 ) أصحابنا ذكر أن دلالة مفهوم الغاية كالمنطوق ؛ بمعنى أنه لا يجوز أن يكون ما يعد الغاية موافقا لما قبلها بمفهوم الموافقة أو غيره . فعلى قوله يتعين في هذا الحديث أحد الأجوبة المتقدمة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
فصل
( 477 )
قال البخاري :
33 - باب
زيادة الإيمان ونقصانه
. وقول الله تعالى ( وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ( [ الكهف : 13 ] ، ( وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ( [ المدثر : 31 ] وقال ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ( [ المائدة : 3 ] فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص .
استدل البخاري على زيادة الإيمان ونقصانه بقول الله عز وجل ( وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ( وفي زيادة الهدى إيمان آخر كقوله تعالى ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ( [ مريم : 76 ] ، ويفسر هذا الهدى بما في القلوب من الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك .
ويفسر بزيادة ما يترتب على ذلك من الأعمال الصالحة ، إما القائمة بالقلوب كالخشية لله ومحبته ورجائه والرضا بقضائه والتوكل عليه ونحو ذلك ، أو المفعولة بالجوارح كالصلاة والصيام والصدقة والحج والجهاد والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك ، وكل ذلك داخل في مسمى الإيمان عند السلف وأهل الحديث ومن وافقهم - كما سبق ذكره .
واستدل - أيضا - بقوله تعالى ( وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ( [ المدثر : 31 ] وفي معنى هذه الآية قوله تعالى ( وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ((1/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
[ الأنفال : 2 ] وقوله ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا ( [ التوبة : 124 ] . ويفسر الإيمان في هذه الآيات بمثل ما فسر به الهدى في الآيات المتقدمة . واستدل - أيضا - بقول الله عز وجل ( ) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ( [ المائدة : 3 ] فدل على أن الدين ذو أجزاء يكمل بكمالها وينقص بفوات بعضها ، وهذه الآية نزلت في آخر حياة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في حجة الوداع ، وقد قيل : إنه لم ينزل بعدها حلال ولا حرام - كما قال السدي ( 478 ) وغيره
وكذا قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : بعث الله نبيه بشهادة أن لا إله إلا الله ، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة ، فلما صدقوا بها زادهم الصيام ، فلما صدقوا به زادهم الزكاة ، فلما صدقوا بها زادهم الحج ، فلما صدقوا به زادهم الجهاد ، ثم أكمل الله لهم دينهم فقال ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ( ( 479 ) [ المائدة : 3 ] .
ومعلوم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه لم يحجوا حجة الفرض إلا ذلك العام ، فلما حجوا حجة الإسلام كمل لهم الدين بتكميلهم أركان الإسلام - حينئذ - ولم يكن الدين قبل ذلك ناقصا كنقص من ترك شيئا من واجبات دينه ؛ بل كان الدين في كل زمان كاملا بالنسبة إلى ذلك الزمان بما فيه من الشرائع والأحكام ما لم يكن قبل ذلك ، كما يقال : إن شريعة الإسلام أكمل من شريعة موسى وعيسى ، وإن القرآن أكمل من التوراة ( 204 - أ / ف ) والإنجيل ، وهذا كما سمى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) النساء ناقصات دين وفسر نقصان دينهن بترك(1/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
الصلاة والصيام في زمن حيضهن مع أنها قائمة في تلك الحال بما وجب عليها من غير الصلاة ؛ ولكن نقصان دينها بالنسبة إلى من هي طاهرة تصلي وتصوم . وهذا مبني على أن الدين هو الإسلام بكماله - كما تقدم ذكره - والبخاري عنده أن الإسلام والإيمان واحد - كما تقدم ذكره .
وقد احتج سفيان بن عيينة وأبو عبيد وغيرهما بهذه الآية على تفاضل الإيمان ( 480 ) ، قال أبو عبيد : قد أخبر الله أنه أكمل الدين في حجة الوداع في آخر الإسلام ، وزعم هؤلاء أنه كان كاملا قبل ذلك بعشرين سنة في أول نزول الوحي ، قال : وقد اضطر بعضهم حين أدخلت عليه هذه الحجة إلى أن قال : الإيمان ليس هو مجموع الدين ؛ ولكن الدين ثلاثة أجزاء ، فالإيمان جزء ، والفرائض جزء ، والنوافل جزء . قال أبو عبيد : وهذا غير ما نطق به الكتاب ؛ فإن الله أخبر أن الإسلام هو الدين برمته ، وزعم هؤلاء أنه ثلث الدين . انتهى .
فالمرجئة عندنهم : الإيمان : التصديق ، ولا يدخل فيه الأعمال ، وأما الدين : فأكثرهم أدخل الأعمال في مسماه ، وبعضهم خالف في ذلك - أيضا - ، والآية نص في رد ذلك ، والله أعلم .
ثم خرج البخاري في هذا الباب حديثين : أحدهما : حديث :
44 - هشام الدستوائي : ثنا قتادة ، عن أنس ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه ( 481 ) وزن شعيرة من خير ، ويخرج(1/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
من النار من قال : لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال : لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير " .
خرجه عن مسلم بن إبراهيم ، عن هشام به ، ثم قال : قال أبان : ثنا قتادة : ثنا أنس ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) " من إيمان " مكان " خير " ( 482 ) ففي هذه الرواية التي ذكرها تعليقا صريحا بتفاوت الإيمان الذي في القلوب - وأيضا - فيها التصريح بسماع قتادة له من أنس ، فزال ما كان يتوهم من تدليس قتادة . وقد خرج البخاري هذه اللفظة في حديث أنس في أواخر كتابه مسنده من رواية معبد بن هلال العنزي ، عن أنس ( 483 ) . وخرج حديث أبي سعيد الخدري ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا المعنى - فبما تقدم من كتابه ( 484 ) - باختلاف لفظ الخير والإيمان كاختلاف حديث أنس .
والحديث نص في تفاوت الإيمان الذي في القلوب ، وقد سبق القول في تفاوت المعرفة وتفاضلها - فيما تقدم ( 485 ) .
الحديث الثاني الذي خرجه في هذا الباب : حديث :
45 - طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب أن رجلا من(1/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
اليهود قال له : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : أي آية ؟ قال : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ( [ المائدة : 3 ] ، فقال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، نزلت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو واقف بعرفة يوم الجمعة .
وقد خرجه ابن جرير الطبري في تفسيره ( 486 ) من وجه آخر عن عمر ، وزاد فيه أنه قال : وكلاهما بحمد الله لنا عيد .
وخرج الترمذي ، عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وعنده يهودي فقال : لو أنزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا ، فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين : يوم جمعة ويوم عرفة ( 487 ) . ( 204 - ب / ف )
فهذا قد يؤخذ من أن الأعياد لا تكون بالرأي والاختراع كما يفعله أهل الكتابين من قبلنا ؛ إنما تكون بالشرع والاتباع ، فهذه الآية لما تضمنت إكمال الدين وإتمام النعمة أنزلها الله في يوم شرعه عيدا لهذه الأمة من وجهين :
أحدهما : أنه يوم عيد الأسبوع وهو يوم الجمعة .
والثاني : أنه يوم عيد أهل الموسم وهو يوم مجمعهم الأكبر وموقفهم الأعظم ، وقد قيل : أنه يوم الحج الأكبر .
وقد جاء تسمية عيدا من حديث مرفوع خرجه أهل السنن من حديث(1/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
عقبة بن عامر ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام ، وهي أيام أكل وشرب " ( 488 ) .
وقد أشكل وجهه على كثير من العلماء ؛ لأنه يدل على أن يوم عرفة يوم عيد لا يصام ، كما روي ذلك عن بعض المتقدمين ، وحمله بعضهم على أهل الموقف وهو الأصح لأنه اليوم الذي فيه أعظم مجامعهم ومواقفهم بخلاف أهل الأمصار فإن اجتماعهم يوم النحر ، وأما أيام التشريق فيشارك أهل الأمصار أهل الموسم فيها ؛ لأنها أيام ضحاياهم وأكلهم من نسكهم . هذا قول جمهور العلماء .
وقال عطاء : إنما هي أعياد لأهل الموسم ، فلا ينهى أهل الأمصار عن صيامها . وقول الجمهور أصح . ولكن الأيام التي يحدث فيها حوادث من نعم الله على عباده لو صامها بعض الناس شكرا من غير اتخاذها عيدا كان حسنا استدلالا بصيام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عاشوراء لما أخبره اليهود بصيام موسى له شكرا ، وبقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما سئل عن صيام يوم الاثنين ، قال : " ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه " ( 489 ) .(1/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
فأما الأعياد التي يجتمع عليه الناس فلا يتجاوز بها شرعه الله لرسوله وشرعه الرسول لأمته . والأعياد : هي مواسم الفرح والسرور ؛ وإنما شرع الله لهذه الأمة الفرح والسرور بتمام نعمته وكمال رحمته ، كما قال تعالى ( قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ( [ يونس : 58 ] فشرع لهم عيدين في سنة وعيدا في كل أسبوع ، فأما عيدا السنة :
فأحدهما : تمام صيامهم الذي افترضه عليهم كل عام ، فإذا أتموا صيامهم أعتقهم من النار ، فشرع لهم عيدا بعد إكمال صيامهم وجعله يوم الجوائز يرجعون فيه من خروجهم إلى صلاتهم وصدقتهم بالمغفرة وتكون صدقة الفطر وصلاة العيد ( 490 ) شكرا لذلك .
والعيد الثاني : أكبر العيدين عند تمام حجهم بإدراك حجهم بالوقوف بعرفة وهو يوم العتق من النار ، ولا يحصل العتق من النار والمغفرة للذنوب والأوزار في يوم من أيام السنة أكثر منه ، فجعل الله عقب ذلك عيدا ؛ بل هو العيد الأكبر ، فيكمل أهل الموسم فيه مناسكهم ويقضوا فيه تفثهم ويوفون نذورهم ويطوفون بالبيت العتيق ويشاركهم أهل الأمصار في هذا العيد ؛ فإنهم يشاركونهم في يوم عرفة في العتق والمغفرة وإن لم يشاركوهم في الوقوف بعرفة ، لأن الحج فريضة العمر لا فريضة كل عام ، بخلاف الصيام ويكون شكر ( 491 ) عند أهل الأمصار : الصلاة والنحر ، والنحر أفضل من الصدقة التي في يوم الفطر ؛ ولهذا أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يشكر نعمته عليه بإعطائه الكوثر(1/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
بالصلاة له والنحر كما شرع ذلك لإبراهيم خليله عليه السلام عند أمره بذبح ولده وافتدائه بذبح عظيم .
وأما ( 205 0 أ / ف ) عيد الأسبوع : فهو يوم الجمعة ، وهو متعلق بإكمال فريضة الصلاة ؛ فإن الله فرض على عباده المسلمين الصلاة كل يوم وليلة خمس مرات ، فإذا كملت أيام الأسبوع التي تدور الدنيا عليها وأكملوا صلاتهم فيها شرع لهم يوم إكمالها - وهو اليوم الذي انتهى فيه الخلق وفيه خلق آدم وأدخل الجنة - عيدا يجتمعون فيه على صلاة الجمعة ، وشرع لهم الخطبة تذكيرا بنعم الله عليهم وحثا لهم على شكرها ، وجعل شهود الجمعة بأدائها كفارة لذنوب الجمعة كلها وزيادة ثلاثة أيام . وقد روي أن يوم الجمعة أفضل من يوم الفطر ويوم النحر . خرجه الإمام أحمد في " مسنده " ( 492 ) ، وقال مجاهد وغيره . وروي أنه حج المساكين ( 493 ) ، وروي عن علي أنه يوم نسك المسلمين .(1/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
وقال ابن المسيب : الجمعة أحب إلي من حج التطوع . وجعل الله التبكير إلى الجمعة كالهدي ؛ فالمبكر في أول ساعة كالمهدي بدنة ، ثم كالمهدي بقرة ، ثم كالمهدي كبشا ، ثم كالمهدي دجاجة . ثم كالمهدي بيضة . ويوم الجمعة يوم المزيد في الجنة الذي يزور أهل الجنة فيه ربهم ويتجلى لهم في قدر صلاة الجمعة . وكذلك روي في يوم العيدين أن أهل الجنة يزورون ربهم فيهما وأنه يتجلى فيهم لأهل الجنة عموما يشارك الرجال فيها النساء . فهذه الأيام أعياد للمؤمنين في الدنيا والآخرة عموما .
وأما خواص المؤمنين : فكل يوم لهم عيد كما قال بعض العارفين . وروي عن الحرم ( 494 ) : كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد . ولهذا روي أن خواص أهل الجنة يزورون ربهم وينظرون إليه كل يوم مرتين بكرة وعشيا . وقد خرجه الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا وموقوفا ( 495 ) .
ولهذا المعنى - والله أعلم - لما ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الرؤية في حديث جرير ابن عبد الله البجلي ( 496 ) أمر عقب ذلك بالمحافظة على الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ؛ فإن هذين الوقتين وقت رؤية خواص أهل الجنة ربهم ، فمن(1/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
حافظ على هاتين الصلاتين على مواقيتها وأدائهما وخشوعهما وحضور القلب فيهما رجي له أن يكون ممن ينظر إلى الله في الجنة في وقتهما .
فتبين بهذا : أن الأعياد تتعلق بإكمال أركان الإسلام ؛ فالأعياد الثلاثة المجتمع عليها تتعلق بإكمال الصلاة والصيام والحج ؛ فأما الزكاة : فليس لها زمان معين تكمل فيه ، وأما الشهادتان : فإكمالهما هو الاجتهاد في الصدق فيهما ، وتحقيقهما والقيام بحقوقهما . وخواص المؤمنين يجتهدون على ذلك كل يوم ووقت ؛ فلهذا كانت أيامهم كلها أعياد ، ولذلك كانت أعيادهم في الجنة مستمرة ، والله أعلم .(1/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
باب : الصلاة من الإيمان
30 - فصل
( 497 )
خرج البخاري ومسلم ( 498 ) من حديث :
40 - أبي إسحاق ، عن البراء أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده - أو قال : أخواله - من الأنصار وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا - أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأنه ( 499 ) أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود ( 500 ) أعجبهم إذ كان يصلي ( 205 - ب / ف ) قبل بيت المقدس وأهل الكتاب ، فلما ولى وجهته قبل البيت أنكروا ذلك . قال زهير : ثنا أبو إسحاق ، عن البراء في حديثه هذا أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله تعالى ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم ( [ البقرة : 143 ] ْ قال البخاري : يعني صلاتكم ( 501 ) .
وبوب على هذا الحديث : باب " الصلاة من الإيمان " ( 502 ) . والأنصار للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم نسب ؛ فإنهم أجداده وأخواله من جهة جد أبيه هاشم بن عبد مناف ؛ فإنه تزوج بالمدينة امرأة من بني عدي بن النجار يقال لها سلمى ، فولدت له ابنه عبد المطلب وفي رأسه شيبة فسمي شيبة ، وذكر ابن قتيبة أن اسمه عامر .
والصحيح أن اسمه شيبة ؛(1/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
وإنما قيل له عبد المطلب لأن عمه المطلب بن عبد مناف قدم به من المدينة على مكة فقالت قريش : هذا عبد المطلب . فقال : ويحكم ؛ إنما هو ابن أخي شيبة بن عمرو ، وهاشم اسمه عمرو . ففي حديث البراء هذا : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قدم المدينة نزل على أجداده - أو قال : أخواله - من الأنصار ، وظاهره يدل على أنه نزل على بني النجار ؛ لأنهم هم أخواله وأجداده ؛ وإنما أراد البراء جنس الأنصار دون خصوص بني النجار . وقد خرج البخاري في كتاب " الصلاة " ( 503 ) و " أبواب الهجرة " ( 504 ) من حديث أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قدم المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم : بنو عمرو بن عوف ، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ، ثم أرسل إلى ملإ بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم ، قال : وكأني أنظر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب ، وذكر الحديث .
وخرج - أيضا - معنى ذلك من حديث الزهري ، عن عروة بن الزبير . وأما ما ذكر البراء في حديثه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى بالمدينة قبل بيت المقدس ست عشر أو سبعة عشر شهرا ( 505 ) : فهذا شك منه في مقدار المدة . وروي عن ابن عباس أن مدة صلاته بالمدينة غلي بيت المقدس كانت ستة عشر شهرا . خرجه أبو داود ( 506 ) .(1/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
وخرج - أيضا - من حديث معاذ أن مدة ذلك كان ثلاثة عشر شهرا ( 507 ) .
وروي كثير بن عبد الله المزني - وهو ضعيف - ، عن أبيه ، عن جده عمرو بن عوف قال : كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس سبعة شهرا ( 508 ) . وقال سعيد بن المسيب : صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نحو بيت المقدس تسعة عشر شهرا ، ثم حولت القبلة بعد ذلك قبل المسجد الحرام قبل بدر بشهرين . ورواه بعضهم عن سعيد ، عن سعد بن أبي وقاص . والحفاظ يرون أنه لا يصح ذكر سعد بن أبي وقاص فيه ( 509 ) . وقيل عن سعيد بن المسيب في هذا الحديث : ستة عشر شهرا ( 510 ) . وكذا قال محمد بن كعب القرظي وقتادة ابن زيد وغيرهم أن مدة صلاته إلى بيت المقدس كانت ستة عشر شهرا . وقال الواقدي : الثبت عندنا أن القبلة حولت إلى الكعبة يوم الاثنين للنصف من رجب على رأس سبعة عشرة شهرا ( 511 ) .(1/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
وعن السدي : أن ذلك كان على رأس ثمانية عشر شهرا ( 512 ) . و قيل : كان بعد خمسة عشر شهرا ونصف . ولا خلاف أن ذلك كان في السنة الثانية من الهجرة ؛ لكن اختلفوا ( 206 - أ / ف ) في أي شهر كان ؟ فقيل : في رجب - كما تقدم . وحكي ذلك عن الجمهور ( 513 ) ، منهم ابن إسحاق ( 514 ) . وقيل في يوم الثلاثاء نصف شعبان . وحكي عن قتادة ، واختاره محمد بن حبيب الهاشمي وغيره وقيل : بل كان في جمادي الأول ( 515 ) . وحكي عن إبراهيم الحربي ، ورواه الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك . وقوله " وكان يعجبه " يعني : النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - " أن تكون قبلته قبل البيت " - يعني الكعبة - هذا يشهد له قول الله تعالى ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( [ البقرة : 144 ] .
و روى معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : لما هاجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة - وكان أكثر أهلها اليهود - أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بضعة عشر شهرا ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو وينظر إلى السماء فأنزل الله ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ( الآية ( 516 ) [ البقرة : 144 ]
قال مجاهد : إنما كان يجب أن يحول إلى الكعبة ؛ لأن يهود قالوا :(1/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا ( 517 ) ؟ . وقال ابن زيد : لما نزلت ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ( [ البقرة : 115 ] قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " هؤلاء قوم يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله - لبيت المقدس - لو أنا استقبلناه " فاستقبله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ستة عشر شهرا ، فبلغه أن اليهود تقول : والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم فكره ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورفع وجهه إلى السماء ، فنزلت هذه الآية ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ( ( 518 ) . ويشهد لهذا : ما في حديث البراء : " وكانت اليهود قد أعجبتهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب - يعني من غير اليهود ، وهم النصارى - فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك " .
وقد اختلف الناس هل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة قبل هجرته يصلي إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة ؟ . فروى عن ابن عباس : إنه كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه . خرجه الإمام أحمد ( 519 ) . وقال ابن جريج : صلى أول ما صلى إلى الكعبة ، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة ، فصلت الأنصار قبل قدومه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بيت المقدس ثلاث حجج وصلى بعد قدومه ستة عشر شهرا ، ثم وجهه الله إلى البيت الحرام .(1/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
وقال قتادة : صلت الأنصار قبل قدومه ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة نحو بيت المقدس حولين . واستدل من قال : إنما صلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا فدل على أنه لم يصل إليه غير هذه المدة ( 520 ) . لكن يقال : إنه إنما أراد بعد الهجرة . ويدل عليه - أيضا - : أن جبريل صلى بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أول ما فرضت الصلاة عند باب البيت ، والمصلي عند باب البيت لا يستقبل بيت المقدس إلا أن ينحرف عن الكعبة بالكلية ويجعلها عن شماله . ولم ينقل هذا أحد [ . . . . . ] ( 521 ) . وهؤلاء منهم من قال : ذلك كان باجتهاد منه لا بوحي - كما تقدم عن ابن زيد . وكذا قال أبو العالية : إنه صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب . وفي " صحيح الحاكم " ( 522 ) عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ( [ البقرة : 115 ] فاستقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( 206 - ب / ف ) فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق فقال الله تعالى ( سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا ((1/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
[ البقرة : 142 ] يعنون : بيت المقدس ، فنسخها الله وصرفه إلى البيت العتيق .
وقال : صحيح على شرطهما . وليس كما قال ؛ فإن عطاء هذا هو الخراساني ، ولم يلق ابن عباس ؛ كذا وقع مصرحا بنسبته في كتاب " الناسخ والمنسوخ " لأبي عبيد ، ولابن أبي داود وغيرهما . وقول البراء " وكان أول صلاة صلاها العصر " يعني إلي الكعبة بعد الهجرة . وقد روي عن عمارة بن أوس - وكان قد صلى القبلتين - قال : كنا في إحدى صلاتي العشي ونحن نصلي على بيت المقدس وقد قضينا بعض الصلاة إذ نادى مناد بالباب : إن القبلة قد حولت ، فأشهد على إمامنا أنه تحرف . خرجه الأثرم وغيره ( 523 ) .
وخرج الأثرم وابن أبي حاتم من حديث تويلة بنت أسلم قالت : صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثه فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء ، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلو البيت الحرام ( 524 ) .
وقد روي أن هذه الصلاة كانت صلاة الفجر ؛(1/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
ففي " الصحيحين " عن ابن عمر قال : بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم على الشام فاستداروا إلى الكعبة ( 525 ) .
وخرج مسلم معناه من حديث أنس - أيضا ( 526 ) . وقد قيل في الجمع بين هذه الأحاديث : إن التحويل كان في صلاة العصر ولم يبلغ أهل قباء إلا في صلاة الصبح . وفيه نظر . وقيل : إن تلك الصلاة كانت الظهر . وقد خرجه النسائي في " تفسيره " من حديث أبي سعيد بن المعلى ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( 527 ) . وروي عن مجاهد . وحديث البراء يدل على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى صلاة العصر كلها إلى الكعبة وأن الذين صلوا إلى بيت المقدس ثم استداروا إلى الكعبة هم قوم كانوا في مسجد لهم وراء إمام لهم .
وفي حديث ابن عمر : أنهم أهل مسجد قباء ، وفي حديث تويلة : مسجد بني حارثة . وقد روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن صلى معه هم الذين استداروا في صلاتهم وأن الكعبة حولت في أثناء صلاتهم .(1/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
وقد روي نحوه عن مجاهد وغيره . وقد ذكر ابن سعد في كتابه قال : يقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين ، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام واستدار إليه ودار معه المسلمون ( 528 ) . ويقال : بل زار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فصنعت لهم طعاما وكانت الظهر فصلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأصحابه ركعتين ، ثم أمر أن يوجه إلى الكعبة فاستدار إلى الكعبة واستقبل الميزاب ، فسمي المسجد القبلتين ( 529 ) .
وحكي عن الواقدي أنه قال : هذا الثبت عندنا . وروى أبو مالك النخعي عبد الملك بن حسين ، عن زياد بن علاقة ، عن عمارة بن رويبة قال : كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في إحدى صلاتي العشي حين صرفت القبلة فدار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ودرنا معه في ركعتين . خرجه ابن أبي داود . وأبو مالك : ضعيف جدا . والصواب : رواية قيس بن الربيع ، عن زياد بن ( 207 - أ / ف ) علاقة عن عمارة بن أوس ، وقد سبق لفظه ( 530 ) .
وروى عثمان بن سعد قال : ثنا أنس بن مالك قال : انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نحو بيت المقدس وهو يصلي الظهر وانصرف بوجهه إلى القبلة . خرجه البزار ( 531 ) . وغيره .(1/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
وعثمان هذا متكلم فيه ( 532 ) . وخرج الطبراني من رواية عمارة بن زاذان ، عن ثابت ، عن أنس . قال : صرف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن القبلة وهم في الصلاة فانحرفوا في ركوعهم ( 533 ) .
وعمارة ليس بالقوي ( 534 ) . وخالف حماد بن سلمة ؛ فروى عن ثابت ، عن أنس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ( الآية [ البقرة : 144 ] فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر فنادى : ألا إن القبلة قد حولت ، فمالوا - كما هم - نحو القبلة . خرجه مسلم ( 535 ) وهذا هو الصحيح .
فإن كان التحويل قد وقع في أثناء الصلاة وقد بنى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ما مضى من صلاته إلى بيت المقدس استدل بذلك على أن الحكم إذا تحول المصلي ( 536 ) في أثناء صلاته انتقل ما تحول إليه وبنى على ما مضى من صلاته . فيدخل في ذلك الأمة إذا عتقت في صلاتها وهي مكشوفة الرأس والسترة قريبة ، والمتيمم إذا وجد الماء في صلاته قريبا وقدر على الطهارة به ، والمرض إذا صلى بعض صلاته قاعدا ثم قدر على القيام .
وإن كان التحويل وقع قبل صلاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأصحابه ؛ ولكن لم يبلغ غيرهم إلا في أثناء صلاتهم فبنوا ، استدل به على أن من دخل في صلاته باجتهاد سائغ إلى جهة ثم تبين له الخطأ في أثناء الصلاة أنه ينتقل ويبني . ويستدل به على أن حكم الخطاب لا يتعلق بالمكلف قبل بلوغه إياه ،(1/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
ويستدل به - على التقديرين - على قبول خبر الواحد الثقة في أمور الديانات مع إمكان السماع من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بغير واسطة ، فمع تعذر ذلك أولى وأحرى . وما يقال من أن هذا يلزم منه نسخ المتواتر - وهو الصلاة إلى بيت المقدس - بخبر الواحد ، فالتحقيق في جوابه : أن خبر الواحد يفيد العلم إذا احتفت به القرائن ؛ فنداء صحابي في الطرق والأسواق بحيث يسمعه المسلمون كلهم بالمدينة ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بها موجود لا يتداخل من سمعه شك فيه أنه صادق فيما يقوله وينادي به ، والله أعلم .
وقول البراء : أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم يدر ما يقول فيهم فأنزل لله ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ( [ البقرة : 143 ] : فهذا خرجه مسلم من طريق إسرائيل ( 537 ) ، عن أبي إسحاق ، عن البراء - أيضا .
ورواه شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء موقوفا في قوله تعالى ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ( قال : صلاتكم إلى بيت المقدس ( 538 ) .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه من حديث سماك عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما وجه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الكعبة قالوا : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون على بيت(1/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
المقدس ؟ فأنزل الله عز وجل ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ( الآية ( 539 ) . قال عبيد الله بن موسى : هذا الحديث يخبرك أن الصلاة من الإيمان . وهذا هو الذي بوب عليه البخاري في هذا الموضع ؛ ولأجله ساق حديث البراء فيه . وكذلك استدل ابن عيينه وغيره من العلماء على أن الصلاة من الإيمان ( 540 ) . وممن روي عنه أنه فسر هذه الآية بالصلاة إلى بيت المقدس : ابن عباس - من رواية العوفي - ، عنه ، وسعيد بن المسيب ، وابن زيد ، والسدي ، وغيرهم ( 541 ) .
وقال قتادة ، والربيع بن أنس : نزلت هذه الآية لما ( 207 - ب / ف ) قال قوم من المسلمين : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ؟ ( 542 ) . وهذا يدل على أن المراد بها الصلاة - أيضا _ ؛ لأنها هي التي تختص بالقبلة من بين الأعمال . ولم يذكر أكثر المفسرين في هذا خلافا وأن المراد بالإيمان هاهنا الصلاة ؛ فإنها علم الإيمان وأعظم خصاله البدنية . وروى ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة - أو سعيد بن جبير - ؛ عن ابن عباس ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ( قال : أي القبلة الأولى ، وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى الآخرة أي : ليعطينكم أجرهما(1/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
جميعا ، إن الله بالناس لرءوف رحيم ( 543 ) .
وعن الحسن في هذه الآية قال : ما كان الله ليضيع محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) وانصرافكم معه حيث انصرف ؛ إن الله بالناس لرءوف رحيم . وهذا القول يدل على أن المراد بالإيمان التصديق مع الانقياد والاتباع المتعلق بالقبلتين معا فيدخل في ذلك الصلاة - أيضا .(1/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
فصل
( 544 )
قال البخاري :
36 - باب ( 545 )
خوف المؤمن ( 546 ) أن يحبط عمله وهو لا يشعر
. وقال إبراهيم التميمي : ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا . وقال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلهم يخاف النفاق على نفسه ، ما منهم أحد يقول : إنه على إيمان جبريل وميكائيل . ويذكر عن الحسن : ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق . وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى ( وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون ( [ آل عمران : 135 ] .
مراد البخاري بهذا الباب : الرد عل المرجئة بأن المؤمن يقطع لنفسه بكمال الإيمان وأن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل وأنه لا يخاف على نفسه النفاق العملي مادام مؤمنا . فذكر عن إبراهيم التيمي أنه قال : ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا . وهذا معروف عنه ، وخرجه جعفر الفريابي بإسناد صحيح عنه ولفظه : " ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون كذابا " ( 547 ) .(1/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
ومعناه : أن المؤمن يصف الإيمان بقوله ، وعمله نقص عن وصفه ، فيخشى على نفسه أن يكون عمله مكذبا لقوله ، كما روي عن حذيفة أنه قال : المنافق : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به . وعن عمر قال : إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم ، قالوا : وكيف يكون المنافق عليما ؟ قال : يتكلم بالحكمة ويعمل بالجور أو قال بالمنكر ( 548 ) . وقال الجعد أبو عثمان : قلت لأبي رجاء العطاردي : هل أدركت من أدركت من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخشون النفاق قال : نعم ، إني أدركت بحمد الله منهم صدرا حسنا ، نعم شديدا نعم شديدا ( 549 ) . وكان قد أدرك عمر .
وممن كان يتعوذ من النفاق من الصحابة : حذيفة ، وأبو الدرداء ، وأبو أيوب الأنصاري ( 550 ) . وأما التابعون : فكثير ، قال ابن سيرين : ما علي شيء أخوف من هذه الآية ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ( [ البقرة 8 ] . وقال أيوب : كل آية في القرآن فيها ذكر النفاق أخافها على نفسي . وقال معاوية بن قرة : كان عمر يخشاه وآمنه أنا ( 551 ) ؟ . وكلام الحسن في هذا المعنى كثير جدا . وكذلك كلام أئمة الإسلام بعدهم . قال زيد بن الزرقاء ، عن سفيان الثوري : خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث :
نقول الإيمان قول وعمل ، وهو يقولون : الإيمان قول ولا عمل
ونقول : الإيمان يزيد وينقص ، وهم يقولون : لا يزيد ولا ينقص .
ونحن نقول : النفاق ، وهم يقولون : لا نفاق ( 552 ) .
وقال أبو إسحاق الفزاري ، عن الأوزاعي : قد خاف عمر على نفسه(1/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
النفاق ( 208 - أ / ف ) قال ( 553 ) : فقلت للأوزاعي : إنهم يقولون : إن عمر لم يخف أن يكون يومئذ منافقا حين سأل حذيفة ؛ لكن خاف أن يبتلى بذلك قبل أن يموت ، قال : هذا قول أهل البدع .
وقال الإمام أحمد - في رواية هانيء وسئل : ما يقول فيمن لا يخاف النفاق على نفسه ؟ ، - فقال : ومن يأمن على نفسه النفاق ؟ ( 554 ) .
وأصل هذا يرجع إلى ما سبق ذكره أن النفاق أصغر وأكبر ؛ فالنفاق الأصغر : هو نفاق العمل وهو الذي خافه هؤلاء على أنفسهم ؛ وهو باب النفاق الأكبر ، فيخشى على من غلب عليه خصال النفاق الأصغر : في حياته أن يخرجه ذلك إلى النفاق الأكبر حتى ينسلخ من الإيمان بالكلية ، كما قال تعالى ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ( [ الصف : 5 ] وقال ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّة [ الأنعام : 110 ] .
والأثر الذي ذكره البخاري عن ابن أبي مليكة : هو معروف عنه من رواية الصلت بن دينار عنه ( 555 ) . وفي الصلت ضعف . وفي بعض الروايات : عنه ، عن ابن أبي مليكة قال : أدركت زيادة على خمسمائة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما مات أحد منهم إلا وهو يخاف النفاق(1/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
على نفسه . وأما الأثر الذي ذكره عن الحسن : فقال : ويذكر عن الحسن قال : ما خاف إلا مؤمن ، ولا أمنه إلا منافق ، فهذا مشهور عن الحسن ، صحيح عنه . والعجب من قوله في هذا : ويذكر ، وفي قوله في الذي قبله : وقال ابن أبي مليكة - جزما ( 556 ) .
قال الإمام أحمد في كتاب " الإيمان " له : حدثنا مؤمل قال : سمعت حماد بن زيد قال : ثنا أيوب قال : سمعت الحسن يقول : والله ما أصبح على وجه الأرض مؤمن ولا أمسى على وجهها مؤمن إلا وهو يخاف النفاق على نفسه ، وما أمن النفاق إلا منافق .
حدثنا روح بن عبادة قال : ثنا هشام قال : سمعت الحسن يقول : والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا يخاف النفاق ولا أمنه إلا منافق . وروى جعفر الفريابي في كتاب " صفة المنافق " من حديث جعفر بن سليمان ، عن معلى بن زياد قال : سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق ، ولا مضى منافق ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن .(1/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
قال : وكان يقول : من لم يخف النفاق فهو منافق ( 557 ) .
وعن حبيب بن الشهيد ، عن الحسن قال : إن القوم لما رأوا هذا النفاق يغول الإيمان لم يكن لهم هم غير النفاق ( 558 ) .
والروايات في هذا المعنى عن الحسن كثيرة . وقول البخاري بعد ذلك : " وما يحذر من الإصرار عل النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى ) وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون ( [ آل عمران : 135 ] : فمراده أن الإصرار على المعاصي وشعب النفاق من غير توبة يخشى منها أن يعاقب صاحبها بسلب الإيمان بالكلية وبالوصول إلى النفاق الخالص وإلى سوء الخاتمة ، نعوذ بالله من ذلك ، كما يقال : إن المعاصي بريد الكفر .
وفي " مسند الإمام أحمد " ( 559 ) من حديث عبد الله بن عمرو ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ك " ويل لأقماع القول ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون " .
وأقماع القول : الذين آذانهم كالقمع يدخل فيه سماع الحق من جانب ويخرج من جانب آخر لا يستقر فيه .
وقد وصف الله أهل النار بالإصرار على الكبائر فقال وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ ( [ الواقعة : 46 ] والمراد بالحنث : الذنب الموقع في الحنث وهو الإثم . وتبويب البخاري لهذا الباب يناسب ( 208 - ب / ف ) أن يذكر فيه حبوط الأعمال الصالحة ببعض الذنوب كما قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ(1/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
لا تَشْعُرُونَ ( [ الحجرات : 2 ] قال الإمام أحمد حدثنا الحسن بن موسى قال : ثنا حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد ، عن الحسن قال : ما يرى هؤلاء أن أعمالا تحبط أعمالا ، والله عز وجل يقول ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ ( إلى قوله ( أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ( . ومما يدل على هذا - أيضا - قول الله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى ( الآية [ البقرة : 264 ] ، وقال ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَاب ( الآية [ البقرة : 266 ] . وفي صحيح البخاري " أن عمر سأل الناس عنها فقالوا : الله أعلم فقال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل ، قال عمر : لأي عمل ؟ قال ابن عباس : لعمل ، قال عمر : لرجل غني ( 560 ) يعمل بطاعة الله ثم يبعث الله إليه الشيطان فيعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله .
وقال عطاء الخراساني : هو الرجل يختم له بشرك أو عمل كبيرة فيحبط عمله كله . وصح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " من ترك صلاة العصر حبط عمله " ( 561 ) . وفي " الصحيح " - أيضا - أن رجلا قال : والله لا يغفر الله لفلان فقال الله : " من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان ، قد غفرت لفلان وأحبطت عملك " ( 562 ) .(1/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
وقالت عائشة : أبلغي زيدا أنه أحبط جهاده مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أن يتوب .
وهذا يدل على أن بعض السيئات تحبط بعض الحسنات ، ثم تعود بالتوبة منها .
وخرج ابن أبي حاتم في " تفسيره " من رواية أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية قال : كان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل صالح ، فأنزل الله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم ( [ محمد : 33 ] فخافوا الكبائر بعد أن تحبط الأعمال ْ ( 563 ) .
وبإسناده ، عن الحسن في قوله ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم ( قال : بالمعاصي . وعن معمر ، عن الزهري في قوله تعالى ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم ( قال الكبائر . وبإسناده ، عن قتادة في هذه الآية قال : من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا بعمل سيء فليفعل ولا قوة إلا بالله ؛ فإن الخير ينسخ الشر ، وإن الشر ينسخ الخير ، وإن ملاك الأعمال : خواتيمها ( 564 ) .
وعن السدي قال في هذه الآية يقول : لا تعصوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يأمركم به من القتال فتبطل حسناتكم . وعن مقاتل بن حيان قال : بلغنا أنها نزلت فشقت على أصحاب النبي(1/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
( صلى الله عليه وسلم ) وهم يؤمئذ يرون أنه ليس شيء من حسناتهم إلا هي مقبولة ، فلمت نزلت هذه الآية قال أبو بكر : ما هذا الذي يبطل أعمالنا . فبلغني - والله أعلم - أنهم ذكروا الكبائر التي وجبت لأهلها النار حتى جاءت الآية الأخرى ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه شيءِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( [ النساء : 48 ] ، فقال ابن عمر : لما كانت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك ورددنا إلى الله عز وجل ، وكنا نخاف على من ركب الكبائر والفواحش أنها تهلكه ( 565 ) .
والآثار عن السلف في حبوط الأعمال بالكبيرة كثيرة جدا يطول استقصاؤها . حتى قال حذيفة قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة . وخرجه البزار عنه مرفوعا ( 566 ) . ( 209 - أ / ف ) . وعن عطاء قال : إن الرجل ليتكلم في غضبه بكلمة يهدم بها عمل ستين سنة أو سبعين سنة . وقال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد ، عنه : ما يؤمن أحدكم أن ينظر النظرة فيحبط عمله . وأما من زعم أن القول بإحباط الحسنات بالسيئات قول الخوارج والمعتزلة خاصة ، فقد أبطل فيما قال ولم يقف عل أقوال السلف الصالح في ذلك . نعم المعتزلة والخوارج أبطلوا بالكبيرة الإيمان وخلدوا بها في النار . وهذا هو القول الباطل الذي تفردوا به في ذلك .(1/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
ثم خرج البخاري في هذا الباب حديثين :
أحدهما : حديث :
48 - شعبة ، عن زبيد قال : سألت أبا وائل عن المرجئة فقال : حدثني عبد الله أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " .
فهذا الحديث رد به أبو وائل على المرجئة الذين لا يدخون الأعمال في الإيمان ؛ فإن الحديث يدل على أن بعض الأعمال يسمى كفرا وهو قتال المسلمين ، فدل على أن بعض الأعمال يسمى كفرا وبعضها يسمى إيمانا . وقد اتهم بعض فقهاء المرجئة أبا وائل في رواية هذا الحديث . وأما أبو وائل فليس بمتهم ؛ بل هو الثقة العدل المأمون ، وقد رواه معه عن ابن مسعود - أيضا - : أبو عمر الشيباني ، وأبو الأحوص ( 567 ) وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ( 568 ) ؛ لكن فيهم من وقفه . ورواه - أيضا - عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سعد بن أبي وقاص ( 569 ) ، وغيره . ومثل هذا الحديث : قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " ( 570 ) . وقد سبق القول في تسمية بعض الأعمال كفرا وإيمانا مستوفى في مواضع .
قال أبو الفرج زين الدين بن رجب . وقد ظهر لي في القرآن شاهد لتسمية القتال كفرا ، وهو قوله تعالى مخاطبا لأهل الكتاب ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم(1/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفدُوهُم ْ ( 571 ) وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض ( [ البقرة : 83 - 85 ] .
والمعنى : أن الله حرم على أهل الكتاب أن يقتل بعضهم بعضا أو يخرج بعضهم بعضا من داره ، كان اليهود حلفاء الأوس والخزرج بالمدينة ، فكان إذا وقع بين الأوس أوالخزرج وبين اليهود قتال ساعد كل فريق من اليهود بحلافه من الأوس والخزرج على أعدائهم فقتلوهم معهم وأخرجوهم معهم من ديارهم بعد أن حرم عليهم ذلك في كتابهم وأقروا به وشهدوا به ، ثم بعد أن يوسر أولئك اليهود يفدوهم هؤلاء الذين قاتلوهم امتثالا لما أمروا به في كتابهم من افتداء الأسرى منهم ، فسمى الله عز وجل فعلهم للافتداء لإخوانهم إيمانا بالكتاب وسمى قتلهم وإخراجهم من ديارهم كفرا بالكتاب ؛ فدلت هذه الآية عل أن القتال و الإخراج من الديار إذا كان محرما يسمى كفرا ، وعل أن فعل بعض الطاعات يسمى إيمانا ؛ لأنه سمى افتداءهم للأسارى إيمانا ؛ وهذا حسن جدا ، ولم أر أحدا من المفسرين تعرض له ، ولله الحمد والمنة .
الحديث الثاني :
49 - عبادة بن الصامت أن النبي ( 572 ) ( صلى الله عليه وسلم ) خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين ، فقال : " إني خرجت لأخبركم بليلة القدر ، وإنه تلاحى فلان وفلان ( 209 - ب / ف ) فرفعت فعسى ( 573 ) أن يكون خيرا لكم ، التمسوها في السبع والتسع والخمس " .(1/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
50 - إنما خرج البخاري هذا الحديث في هذا الباب لذكر التلاحي .
والتلاحي : قد فسر بالسباب ، وفسر بالاختصام والمماراة من دون سباب . ويؤيد هذا : أنه جاء في رواية في " صحيح مسلم " : " فجاء رجلان يحتقان " ( 574 ) - أي : يطلب كل واحد منهما حقه من الآخر ويخاصمه في ذلك . فمن فسره بالسباب احتمل عنده إدخال البخاري للحديث في هذا الباب أن السباب تعجل عقوبته حتى يحرم المسلمون بسببه معرفة بعض ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم . وإنما رجا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكون ذلك خيرا ؛ لأن إبهام ليلة القدر أدعى إلى قيام العشر كله ، أو أوتاره في طلبها ، فيكون سببا لشدة الاجتهاد وكثرته . ولكن بيان الليلة ومعرفتهم إياها بعينها له مزية على إبهامها ، فرفع ذلك بسبب التلاحي ؛ فدل هذا الحديث على أن الذنوب قد تكون سببا لخفاء بعض معرفة ما يحتاج إليه في الدين .
وقال ابن سيرين : ما اختلف في الأهل ( 575 ) حتى قتل عثمان . فكلما أحدث الناس ذنوبا أوجب ذلك خفاء بعض أمور دينهم عليهم ، وقد يكون في خفائه رخصة لمن ارتكبه وهو غير عالم بالنهي عنه ، إذ لو علمه ثم ارتكبه لاستحق العقوبة .
ومن فسر التلاحي بالاختصام قال : مراد البخاري بإدخاله هذا الحديث في هذا الباب : أن التلاحي من غير سباب ليس بفسوق ولا يترتب عليه حكم الفسوق ؛ لأنه كان سببا لما هو خير للمسلمين .(1/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
وهذا هو الذي أشار إليه الإسماعيلي ؛ وفيه نظر ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون مراد البخاري : أن السباب ليس بمخرج عن الإسلام من كونه فسوقا ؛ ولهذا قال في الحديث : " فتلاحى رجلان من المسلمين " ، فسماههما مسلمين مع تلاحيهما .
وفي " مسند البزار " من حديث معاذ عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " إن أول شيء نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان : شرب الخمر ، وملاحاة الرجال " ( 576 ) . وفي إسناده عمروبن واقد الشامي وهو ضعيف جدا . وإنما حرمت الخمر بعد الهجرة بمدة . ولكن رواه الأوزاعي ، عن عروة بن رويم مرسلا . خرجه أبو داود في " مراسيله " ( 577 ) .(1/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
فصل
( 578 )
قال البخاري :
37 - باب
سؤال جبريل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة وبيان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) له ثم قال : " جاء جبريل ( 579 ) يعلمكم دينكم " ، فجعل ذلك كله دينا ، وما بين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لوفد عبد القيس من الإيمان . وقول الله تعالى ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْه
( ُ .
تبويب البخاري هاهنا واستدلاله وتقريره يدل عل أنه يرى أن مسمى الإيمان والإسلام واحد ؛ فإنه قرر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أجاب جبريل عن سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان وعلم الساعة ، ثم قال : " هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم " فجعله كله دينا ، والدين هو الإسلام لقوله تعالى ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْه ( [ آل عمران : 85 ] وكذلك قوله ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ( [ آل عمران : 19 ] وأكد ذلك بأن في حديث وفد عبد القيس أنهم سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الإيمان فأجابهم بما أجاب به جبريل عن سؤاله عن الإسلام ( 580 ) ؛ فدل على أن الإسلام والإيمان واحد . وهذا قول محمد بن نصر المروزي ( 581 ) ( 210 - أ / ف ) وابن عبد البر وغيرهما .
وأما من فرق بين الإسلام والإيمان - وهم أكثر العلماء من السلف ومن بعدهم - حتى قيل : إنه لا يعلم عن السلف في ذلك خلاف فأظهر الأجوبة عما ذكره البخاري : أن الإسلام والإيمان تختلف دلالته بالإفراد والاقتران ؛ فإن أفرد أحدهما دخل فيه الآخر و فلذلك فسر النبي ( صلى الله عليه وسلم )(1/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
الإيمان المسئول عنه مفردا في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام في حديث جبريل الذي قرن فيه الإسلام بالإيمان . وإن اقترنا كان هذا له معنى وهذا له معنى . وبكل حال : فالأعمال داخلة في مسمى الإيمان ، لا يختلفون في ذلك . وممن ذكر هذا التفصيل : الخطابي ( 582 ) ، وأبو بكر الإسماعيلي ، وحكاه الإسماعيلي عن كثير من أهل السنة والجماعة ، وحكى أبو بكر ابن السمعاني عن أهل السنة والجماعة التفريق بين الإسلام والإيمان وممن روي عنه التفريق بينهما من السلف : الحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، وداود بن أبي هند ، وأبو جعفر محمد بن علي ، والزهري ، وحماد بن زيد ، وشريك ، وابن أبي ذئب ، وابن مهدي ، وأحمد ، وأبو خيثمة ، ويحيى بن معين ، وغيرهم - على اختلاف بينهم في صفة التفريق . وروي التسوية بينهما عن الثوري من وجه فيه نظر . وقد تقدم الكلام على هذه المسألة مستوفى بما فيه كفاية ، والله أعلم .
ثم خرج البخاري حديث ( 583 ) :
50 - أبي زرعة " عن أبي هريرة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : كان يوما بارزا ( 584 ) للناس فأتاه رجل فقال : ما الإيمان ؟ قال : الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث " قال : ما الإسلام ؟ قال : الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به ، وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان " قال : ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك " قال : متى الساعة ؟ قال : " ما المسئول عنها ( 585 ) بأعلم من السائل ، وسأخبرك عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربها ، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان في خمس لا(1/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
يعلمهن إلا الله " ثم تلا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَام ( ِ ( 586 ) الآية [ لقمان : 34 ] ثم أدبر فقال " ردوه " فلم يروا شيئا فقال " : " هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم .
" قال البخاري ( 587 ) : جعل ذلك كله من الإيمان . فمراده بهذا الكلام : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمى جميع ما ذكره في هذا السؤال دينا ، والدين هو الإسلام ، كما أخبر الله بذلك . وقد أجاب وفد عبد القيس عن سؤالهم عن الإيمان بما أجاب به جبريل عن سؤال عن الإسلام ؛ فدل علي أن الإيمان هو الإسلام وأنه يدخل في مسماه ما يدخل في مسمى الإسلام . هذا تقرير ما ذكره البخاري هاهنا .
وأما المفرقون بين الإسلام والإيمان : فقد تقدم أن المختار عندهم في ذلك : أن الإسلام والإيمان إذا قرن بينهما كان لكل منهما معنى فإذا أفرد أحدهما دخل فيه ما يدخل في الآخر . والتحقيق في التفريق بينهما عند اقترانهما : ما دل عليه هذا الحديث المذكور هاهنا ؛ وهو أن الإيمان هو الاعتقادات القائمة بالقلوب ، وأصله : الإيمان بالأصول الخمسة التي ذكرها الله في قوله تعالى ( آمَنَ الرَّسُول ُ ( 210 - ب / ف ) بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير ( [ البقرة : 285 ] ، فذكر الله في هذه الآية الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والمصير إليه - وهو اليوم الآخر - وهو الذي ذكره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لجبريل عليه السلام في سؤاله عن الإيمان المقرون بالإسلام وفي بعض ألفاظه زيادة ونقص .(1/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
وفي رواية البخاري هذه ذكر الإيمان بلقاء الله والإيمان بالبعث .
فأما الإيمان بالبعث : فهو الإيمان بأن الله يبعث من في القبور . والإيمان بلقاء الله معناه : الإيمان بوقوف العباد بين يدي الله عز وجل للمحاسبة بأعمالهم والجزاء بها . وخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب ولفظه : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " ( 588 ) . وخرجه ابن حبان ، وزاد فيه : " وتؤمن بالجنة والنار والميزان " ( 589 ) . وأما الإسلام المقرون بالإيمان : ففسره بالأعمال الظاهرة من الأقوال والأعمال وهي : الشهادتان ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان . وزاد مسلم في رواية من حديث عمر : " وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " . وزاد ابن حبان : " وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء " . وفي رواية البخاري هذه : " أن تعبد الله ولا تشرك به " . والمراد : الإقرار بتوحيده باللسان . وقد يراد به مع ذلك : فعل جميع أنواع العبادات بالجوارح . وأما الإحسان : ففسره بنفوذ ( 590 ) . البصائر في الملكوت حتى يصير الخبر للبصيرة كالعيان ، فهذه أعلى درجات الإيمان ومراتبه . ويتفاوت المؤمنون والمحسنون في تحقيق هذا المقام تفاوتا كثيرا بحسب تفاوتهم في قوة الإيمان والإحسان ، وقد أشار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى ذلك هاهنا بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه ؛ فإن لم(1/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
تكن تراه فإنه يراك " . قيل : المراد : أن نهاية مقام الإحسان : أن يعبد المؤمن ربه كأنه يراه بقلبه فيكون مستحضرا ببصيرته وفكرته لهذا المقام فإن عجز عنه وشق عليه انتقل إلى مقام آخر وهو أن يعبد الله على أن الله يراه ويطلع على سره وعلانيته ولا يخفى عليه شيء من أمره .
وقد وصى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) طائفة من أصحابه أن يعبدوا الله كأنهم يرونه ، منهم : ابن عمر ، وأبو ذر ، ووصى معاذا أن يستحيي من الله كما يستحيي من رجل ذي هيبة من أهله ( 591 ) . قال بعض السلف : من عمل لله على المشاهدة فهو عارف ، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص . فهذان مقامان : أحدهما : مقام المراقبة ، وهو أن يستحضر العبد قرب الله منه واطلاعه عليه فيتخايل أنه لا يزال بين يدي الله فيراقبه في حركاته وسكناته وسره وعلانيته ، فهذا مقام المراقبين المخلصين ، وهو أدنى مقام الإحسان .
والثاني : أن يشهد العبد بقلبه ذلك شهادة فيصير كأنه يرى الله ويشاهده ، وهذا نهاية مقام الإحسان ، وهو مقام العارفين . وحديث حارثه هو من هذا المعنى ؛ فإنه قال : كأني أنظر إلى عرش(1/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار يتعاوون فيها ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : " عرفت فالزم : عبد نور الله الإيمان في قلبه " . وهو حديث مرسل ، وقد روي مسندا ( 211 - أ / ف ) بإسناد ضعيف ( 592 ) . وكذلك قول ابن عمر لعروة لما خطب إليه ابنته في الطواف فلم يرد عليه ثم لقيه فاعتذر إليه وقال : كنا في الطواف تتخايل الله بين أعيننا . ومنه الأثر الذي ذكره الفضيل بن عياض : يقول الله : ما أنا مطلع على أحبائي إذا جهنم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم ، ومثلت نفسي بين أعينهم فخاطبوني على المشاهدة وكلموني على حضوري .
وبهذا فسر المثل الأعلى المذكور في قوله تعالى ( وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض ( [ الروم : 27 ] ومثله قوله تعالى ( الله نور السموات والأرض مثل نوره كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ توقَدُ ( 593 ) مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ( [ النور : 35 ] ، قال ابن كعب وغيره من السلف : مثل نوره في قلب المؤمن . ٌفمن وصل إلى هذا المقام فقد وصل إلى نهاية الإحسان وصار الإيمان لقلبه بمنزلة العيان فعرف ربه وأنس به في خلوته وتنعم بذكره ومناجاته ودعائه حتى ربما استوحش من خلقه ، كما قال بعضهم : عجبت للخليقة كيف أنست بسواك ؟ بل عجبت(1/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك . وقيل لآخر : أما تستوحش ؟ قال : كيف استوحش وهو يقول : أنا جليس من ذكرني ( 594 ) ؟ وقيل لآخر : أما تستوحش وحدك ؟ قال : ويستوحش مع الله أحد ؟ وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول : من لم تقر عينه بك فلا قرت عينه ، ومن لم يأنس بك فلا أنس . وقال الفضيل : طوبى لمن استوحش من الناس وكان الله جليسه ( 595 ) .
وقال معروف لرجل : توكل على الله حتى يكون جليسك وأنيسك وموضع شكواك ( 596 ) . وقال ذو النون : علامة المحبين لله : أن لا يأنسوا بسواه ولا يستوحشوا معه ، ثم قال : إذا سكن القلب حب الله أنس بالله ؛ لأن الله أجل في صدور العارفين أن يحبوا غيره . وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) " اعبد الله كأنك تراه " إشارة إلى أن العابد يتخيل ذلك في عبادته ، لا أنه يراه حقيقة لا ببصره ولا بقلبه . وأما من زعم أن القلوب تصل في الدنيا إلى رؤية الله عيانا كما تراه الأبصار في الآخرة - كما يزعم ذلك من يزعمه من الصوفية - فهو زعم باطل ؛ فإن هذا المقام هو الذي قال من قال من الصحابة كأبي ذر وابن عباس وغيرهما ،(1/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
وروي عن عائشة - أيضا - أنه حصل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) مرتين . وروي في ذلك أحاديث مرفوعة - أيضا .
وكذا قال جماعة من التابعين : إنه يراه بقلبه ، منهم الحسن ، وأبو العالية ، ومجاهد و وعبد الله بن الحارث بن نوفل ، وإبراهيم التيمي وغيرهم . فلو كان هؤلاء لا يعتقدون أن رؤية القلب مشتركة بين الأنبياء وغيرهم لم يكن في تخصيص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك مزية له لا سيما وإنما قالوا : إنها حصلت له مرتين ؛ فإن هؤلاء الصوفية يزعمون أن رؤية القلب تصير حالا ومقاما دائما أو غالبا لهم ، ومن هنا ينشأ تفضيل الأولياء على الأنبياء ، ويتفرع على ذلك أنواع من الضلالات والمحالات والجهالات ، والله يهدي من يشاء إلى سراط مستقيم .
فهذه المقامات الثلاث " الإسلام والإيمان والإحسان يشملها اسم الدين ، فمن استقام على الإسلام إلى موته عصمه الإسلام من الخلود في النار وإن دخلها بذنوبه ، ومن استقام ( 211 - ب / ف ) على الإحسان إلى الموت وصل على الله عز وجل ، وقال تعالى ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وزيادة ( [ يونس : 26 ] وقد فسر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الزيادة بالنظر إلى وجه الله . خرجه مسلم من حديث صهيب ( 597 ) .
وأما قول جبريل : " أخبرني عن الساعة " فقال : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " فمعناه : إن الناس كلهم في وقت الساعة سواء ، وكلهم غير عالمين به على الحقيقة ؛(1/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
ولهذا قال : " في خمس لا يعلمهن إلا الله " ثم تلا ( إن الله عنده علم الساعة ( [ لقمان : 34 ] وهذه مفاتيح الغيب الذي لا يعلمها إلا الله . وقد جاء عن ابن مسعود أن نبينا أوتي علم كل شيء سوى هذه الخمس ( 598 ) .
وروي ذلك مرفوعا من حديث ابن عمر ( 599 ) . وكلاهما في " مسند الإمام أحمد " . وذكر عند عمرو بن العاص العلم بوقت الكسوف قبل ظهوره فأنكره بعض من حضره فقال عمرو : : إنما الغيب خمس ، ثم تلا هذه الآية قال : وما سوى ذلك يعلمه قوم ويجهله قوم . خرجه حميد بن زنجوية .
وقد زعم بعضهم - كالقرطبي ( 600 ) - أن هذه الخمس لا سبيل لمخلوق على علم بها قاطع ، وأما الظن بشيء منها بأمارة قد يخطيء ويصيب فليس ذلك بممتنع ولا نفيه مراد من هذه النصوص . وقوله : " وسأخبرك عن أشراطها " لما كان العلم بوقت الساعة المسئول عنه غير ممكن انتقل منه إلى ذكر أشراطها وهي علامتها الدالة على اقترانها ، وهذا كما سأله الأعرابي : متى الساعة ؟ فقال : " ما أعددت لها ؟ " فأعرض عن الجواب عن الساعة إلى ذكر الاستعداد لها ؛ لأنه هو المأمور به وهو الذي يعني السائل وغيره وينبغي الاهتمام به .(1/197)
"""""" صفحة رقم 198 """"""
وأما جبريل : فالظاهر - والله أعلم - أنه أراد بسؤاله عن الساعة إظهار انفراد الله بعلمها دون خلقه حتى ينقطع السؤال عنها ، فقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كثيرا يسأل عنها حتى نزلت ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا ( [ النازعات : 42 - 44 ] ونزلت ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ( [ الأعراف : 187 ] .
وفي رواية عمر بن الخطاب لهذا الحديث : إن جبريل قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) " أخبرني عن أمارتها " ، وقد ذكر لها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الحديث علامتين :
إحداهما : أن تلد الأمة ربها ، والمقصود بالرب : السيد . واختلف في معنى ذلك ، فقيل : المراد أن يكثر فتوح البلاد الكفر والسبي فيكثر السراري فتلد الإماء الأولاد من سادتهن ، وولد السيد بمنزلة السيد فتصير الأمة ولدت ربها بهذا الاعتبار . ومن هؤلاء من قال : أريد أن الملوك يتخذون السراري فتلد الإماء الملوك وهم كالأرباب للناس . ومنهم من قال : إن العجم تلد العرب ، والعرب كالأرباب للعجم قاله وكيع بن الجراح . وعلى هذا القول قد استدل بالحديث من يرى بيع أمهات الأولاد ومن يمنعه .
أما من يرى بيعهن : فاستدل بقوله : " تلد الأمة ربها " على أن ولد أم الولد رب لها فيدل على أن أمه رقيقة تنتقل إلى ملكه بوفاة أبيه فيرثها فتعتق(1/198)
"""""" صفحة رقم 199 """"""
عليه فيكون حينئذ ربها حقيقة وتكون قبل انتقالها إلى ولدها رقيقة حكمها كأحكام الفيء ( 601 ) من البيع وغيره ، ولولا ذلك لم تورث . ومن منع بيعهن : قال : قد جعل ولد الأمة ربها ، وهذا يدل على أنه ربها ( 212 - أ / ف ) بكل حال سواء مات الأب أو كان حيا ، فيدل على أن عتقها مضاف إلى الولد فكان الولد هو الذي أعتق أمه حيث كان هو سبب عتقها ، كما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في مارية لما ولدت إبراهيم " أعتقها ولدها " ( 602 ) وممن استدل بهذا على منع بيعهن : الإمام أحمد . وقيل : المراد بقوله " تلد الأمة ربها " كثرة الفتوح في بلاد الكفار ، وجلب الرقيق حتى تجلب المرأة من بلد الكفر صغيرة فتعتق في بلد الإسلام ، ثم تجلب أمها بعدها فتشتريها البنت وتستخدمها جاهلة بكونها أمها ، وقد وقع ذلك في الإسلام . وهذا القول مثل الذي قبله في أن أشراط الساعة كثرة الفتوح وجلب الرقيق من بلاد الكفر .
وقيل : المراد بقوله " أن تلد الأمة ربها " أن يكثر العقوق من الأولاد حتى يعامل الولد أمه معاملة أمته بالسب والإهانة ، ويشهد لهذا : أنه جاء في رواية " أن تلد المرأة ربها " فلم يخص بالأمة .
وقيل : المراد بقوله " أن تلد الأمة ربها " أن يكثر الجهل ويقل العلم حتى تباع أمهات الأولاد ولهن أولاد فربما تداولها أيدي الملاك وتطاولت المدد حتى يشتريها بعض أولادها ويستخدمها جاهلا بأنها أمه ،(1/199)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
وفي هذا القول نظر وبعد . وعلى هذا القول والذي قبله : فالذي من أشراط الساعة هو كثرة الجهل وقلة العلم وفساد الأعمال بظهور العقوق والاستهانة بببيع ما لا يجوز بيعه .
وقيل : بل أراد بولادة الأمة ربها أنه يكثر عدول الناس عند النكاح إلى التسري فقط ، والله أعلم .
والعلامة الثانية : أن يتطاول رعاة الإبل البهم في البنيان . والبهم هما بضم الباء ، وهو جمع بهيم ، ثم قيل : إن المراد به المجهول الذي لا يعرف . قاله الخطابي ( 603 ) . فعلى هذا تكون الرواية " البهم " - بضم الميم - صفة الرعاة .
وقيل : بل المراد به : الذي لاشيء لهم ، كما قال : " يحشر الناس يوم القيامة حفاة بهما " . وقيل : إن " البهم " - بكسر الميم - صفة للإبل ، وأن الإبل هي السود وتطاولهم في البنيان : هو بمصيرهم مملوكا ذا ثروة وأموال . وفي رواية أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عنهم فقال : " هم العريب " ( 604 ) . وهذا وقع في زمن بني أمية حيث كانوا يستعملون الأعراب الحفاة على الناس ويستعينون بهم على أعمالهم ، ثم لما انتقل الملك عن العرب إلى غيرهم انتقل إلى من كان ببلاده كذلك . وفي هذا إشاره إلى أن من أشراط الساعة فساد ولاة الأمور بجهلهم وجفائهم ،(1/200)
"""""" صفحة رقم 201 """"""
ويشهد لهذا : الحديث الآخر : " إذا وكل الأمر على غير أهله فانتظر الساعة " ( 605 ) . والتطاول في البنيان من أشراط الساعة - أيضا .
وقد خرج البخاري ( 606 ) . و مسلم من رواية أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان " ، وقد كان بناء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للمساجد والبيوت قصيرا .
وقد روي عن الحسن قال : لما بنى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المسجد قال : " ابنوه عريشا كعريش موسى " قيل للحسين : وما عريش موسى ؟ قال : إذا رفع يده بلغ العريش - يعني السقف ( 607 ) . و عن الحسن قال : كنت أدخل بيوت أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في خلافة عثمان فأتناول سقفها بيدي . وروي عن ( 212 - ب / ف ) عن عمر أنه كتب إلى أهل البصرة ينهاهم أن لا يرفع أحد بناءه فوق سبع أذرع ( 608 ) .
قال عمار بن أبي عمار : إذا رفع الرجل بناءه فوق سبع أذرع ناداه مناد : يا أفسق الفاسقين إلى أين ؟ وخرج الطبراني من حديث أنس مرفوعا : " كل بناء - وأشار بيده هكذا على رأسه - أكثر من هذا فهو وبال ( 609 ) .(1/201)
"""""" صفحة رقم 202 """"""
وفي " سنن أبي داود " عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى قبة مشرفة فقال : " ما هذه ؟ " فقالوا " لفلان ، فجاء صاحبها فسلم على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأعرض عنه فعل ذلك مرارا حتى هدمها الرجل ( 610 ) .
وفي " سنن ابن ماجه " عن ابن عباس مرفوعا : " أراكم ستشرفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها والنصارى بيعها ( 611 ) . فهذا الحديث قد اشتمل على أصول الدين ومهماته وقواعده ويدخل فيه الإعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة ، فجميع علوم الشريعة ترجع إليه من أصول الإيمان والإعتقادات ومن شرائع الإسلام العملية بالقلوب والجوارح ومن علوم الإحسان ونفوذ البصائر في الملكوت . وقد قيل : إنه يصلح أن يسمى " أم السنة " لرجوعها كلها إليه كما تسمى الفاتحة " أم الكتاب " و " أم القرآن " لمرجعه إليها ( 612 ) .
ثم خرج البخاري بعد هذا : حديث ( 613 ) :
51 - ابن عباس : أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له : سألتك هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتك : هل يرتد أحد منهم لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فزعمت أن لا وكذلك الإيمان حيت تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد .
ومقصود بإيراد هذه الجملة من حديث هرقل : أن الإيمان يزيد حتى يتم ، وأن الدين هو الإيمان ؛ فإنه سأله : هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه ؟ ثم أجاب بأن الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد .
والبشاشة : الفرح والاستبشار ،(1/202)
"""""" صفحة رقم 203 """"""
ومنه حديث : " لا يوطن أحد المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله به كما يتبشش أهل الغائب بغائبهم " ( 614 ) . فدل على أن الإسلام والدين واحد ؛ ولك لم يرد بزيادة الإيمان هنا إلا زيادة أهله ، وبتمامه قوة أهله وتمكنهم من إظهاره والدعوة إليه .
وكلام هرقل - وإن كان لا يحتج به في مثل هذه المسائل العظيمة من أصول الديانات التي وقع الاضطراب فيها - فإن ابن عباس روى هذا الكلام مقررا له مستحسنا وتلقاه عنه التابعون ، وعن التابعين أتباعهم كالزهري . فالاستدلال إنما بتداول الصحابة ومن بعدهم لهذا الكلام وروايته واستحسانه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/203)
"""""" صفحة رقم 204 """"""
باب : فضل من استبرأ لدينه
39 - فصل
( 615 )
خرج البخاري ومسلم ( 616 ) من حديث :
51 - النعمان بن بشير قال ( 617 ) : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : " الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ( 618 ) كالراعي ( 619 ) يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ( 620 ) ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله ( 621 ) محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "
هذا الحديث حديث عظيم ؛ وهو أحد الأحاديث التي مدار الدين عليها وقد قيل : إنه ثلث العلم أو ربعه . وهو حديث ( 213 - أ / ف ) صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير ، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص والمعنى واحد أو متقارب .
وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من حديث ابن عمر ، وعمار بن ياسر ، وجابر ، وابن مسعود ، وابن عباس ( 622 ) ؛(1/204)
"""""" صفحة رقم 205 """"""
وحديث النعمان أصح أحاديث الباب .
ومعنى الحديث : أن الله أنزل كتابه وبين فيه حلاله وحرامه وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأمته ما خفي من دلالة الكتاب على التحليل و التحريم ، فصرح بتحريم أشياء غير مصرح بها في الكتاب وإن كانت عامتها مستنبطة من الكتاب وراجعة إليه فصار الحلال والحرام على قسمين :
أحدهما : ما هو واضح لا خفاء به على عموم الأمة ؛ لاستفاضته بينهم وانتشاره فيهم ولا يكاد إلا على من نشأ ببادية بعيدة عن دار الإسلام ؛ فهذا هو الحلال البين والحرام البين . ومنه : ما تحليله وتحريمه لعينه كالطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والخبائث من ذلك كله ومنه : ما تحليله وتحريمه من جهة كسبه كالبيع والنكاح والهبة والهدية وكالربا والقمار والزنا والسرقة والغصب والخيانة وغير ذلك .
القسم الثاني : ما لم ينتشر تحريمه وتحليله في عموم الأمة ؛ لخفاء دلالة النص عليه ووقوع تنازع العلماء فيه ونحو ذلك ، فيشتبه على كثير من الناس هل هو من الحلال أو من الحرام ؟ وأما خواص أهل العلم الراسخون فيه فلا يشتبه عليهم ؛ بل عندهم من العلم الذي اختصوا به عن أكثر الناس ما يستدلون به على حل ذلك أو حرمته ، فهؤلاء لا يكون ذلك مشتبها عليهم لوضوح حكمه عندهم
أما من لم يصل إلى ما وصلوا إليه فهو مشتبه عليه ؛ فهذا الذي اشتبه عليه إن اتقى ما اشتبه عليه حله وحرمه واجتنبه فقد استبرأ لدينه وعرضه ، بمعنى أنه طلب لهما البراءة مما يشينهما ،(1/205)
"""""" صفحة رقم 206 """"""
وهذا معنى الحديث الآخر : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ( 623 ) . وهذا هو الورع ، وبه يحصل كمال التقوى ، كما في الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه : " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس ( 624 ) . وأنواع الشبه تختلف بقوة قربها م الحرام وبعدها عنه . وقد يقع الاشتباه في الشيء من جهة اشتباه وجود أسباب حله وحرمته ، كما يشك الإنسان فيه هل هو ملكه أم لا ؟ وما يشك في زوال ملكه عنه . وهذا قد يرجع فيه إلى الأصل فيبني عليه ، وقد يرجع في كثير منه إلى الظاهر إذا قوي على الأصل ويقع التردد عند تساوي الأمرين . وقد يقع الاشتباه لاختلاط الحلال بالحرام في الأطعمة والأشربة من المائعات ( 625 ) . وغيرها من المكيلات ، والموزونات والنقود .
فكل هذه الأنواع من كان عنده فيها علم يدله على حكم الله ورسوله فيها فتبعه فهو المصيب ، ومن اشتبهت عليه فإن اتقاها واجتنبها فقد فعل الأولى واستبرأ لدينه وعرضه فسلم من تبعتها في الدنيا والآخرة ، ومن اشتبهت عليه فلم يتقها ؛ بل وقع فيها فمثله كمثل راع يرعى حول الحمى فإنه يوشك أن يواقعه . وفي رواية : " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه " .(1/206)
"""""" صفحة رقم 207 """"""
ومعنى هذا : أن من وقع في الشبهات كان جديرا بأن يقع في الحرام بالتدريج ؛ فإنه يسامح نفسه في الوقوع في الأمور المشتبهة ( 213 - ب / ف ) فتدعوه نفسه إلى مواقعة الحرام بعده ؛ ولهذا جاء في رواية : " ومن خالط الريبة يوشك أن يجسر " ( 626 ) يعني : يجسر على الوقوع في الحرام الذي لا ريب فيه .
ومن هنا كان السلف يحبون أن يجعلوا بينهم وبين الحرام حاجزا من الحلال يكون وقاية بينهم وبين الحرام ، فإن اضطروا واقعوا ذلك الحلال ولم يتعدوه ، وأما من وقع في المشتبه فإنه لا يبقى له إلا الوقوع في الحرام المحض فيوشك أن يتجرأ عليه ويجسر . وقوله : " ألا وإن لكل ملك حمى ، وإن حمى الله في الأرض محارمه " ، وفي رواية : " ألا وإن حمى الله محارمه " ( 627 ) : ضرب مثل لمحارم الله بالحمى الذي يحميه الملك من الأرض ويمنع الناس من الدخول إليه ، فمن تباعد عنه فقد توقى سخط الملك وعقوبته ، ومن رعى بقرب الحمى فقد تعرض لمساخط الملك وعقوبته ؛ لأنه ربما دعته نفسه إلى الولوج في أطراف الحمى ؛ وفي هذا دليل على سد الذرائع والوسائل إلى المحرمات كما يحرم الخلوة بالأجنبية وكما يحرم شرب قليل ما يسكر كثيره وكما ينهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر خشية الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ، وكما يمنع من تحرك القبلة شهوته في صيامه من القبلة ، وكما يؤمر من يباشر امرأته في حال حيضها أن يباشرها من فوق إزار ما بين سرتها وركبتها ،(1/207)
"""""" صفحة رقم 208 """"""
وكما يضمن من سيب دابته نهارا بقرب زرع غيره فتفسده ، أو أرسل كلبه للصيد في الحل بقرب الحرم فصاد فيه فإنه يضمن في الصورتين على الأصح .
وفي الحديث دليل على صحة القياس وتمثيل الأحكام وتشبيهها . وفيه دليل على أن المصيب من المجتهدين في مسائل الاشتباه واحد ؛ لأنه جعل المشتبهات لا يعلمها كثير من الناس مع كون بعضهم في طلب حكمها مجتهدين فدل على أن من يعلمها هو المصيب العالم بها دون غيره ممن هي مشتبهة عليه وإن كان قد يجتهد في طلب حكمها ويصير إلى ما أداه إليه اجتهادة وطلبه .
ثم ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلمة جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها وأن ذلك كله بحسب صلاح القلب وفساده ، فإذا صلح القلب صلحت إرادته وصلحت جميع الجوارح فلم تنبعث إلى طاعة الله واجتناب سخطه فقنعت بالحلال عن الحرام . وإذا فسد القلب فسدت إرادته ، ففسدت الجوارح كلها وانبعث في معاصي الله عز وجل وما فيه سخطه ولم تقنع بالحلال ؛ بل أسرعت في الحرام بحسب هوى القلب وميله عن الحق ، فالقلب الصالح هو القلب السليم الذي لا ينفع يوم القيامة عند الله غيره ، وهو أن يكون سليما عن جميع ما يكرهه الله من إرادة ما يكرهه الله ويسخطه ولا يكون فيه سوى محبة الله وإرادته ومحبته ما يحبه الله وإرادة ذلك وكراهة ما يكرهه الله والنفور عنه .
والقلب الفاسد : هو القلب الذي فيه الميل على الأهواء المضلة والشهوات المحرمة ، وليس فيه من خشية الله ما يكف الجوارح عن اتباع هوى النفس ؛(1/208)
"""""" صفحة رقم 209 """"""
فالقلب ملك الجوارح وسلطانها ، والجوارح جنوده ورعيته المطيعة له المنقادة لأمره ، فإذا صلح الملك صلحت رعاياه وجنوده المطيعة له المنقادة لأوامره ، وإذا فسد الملك فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له المنقادة لأوامره و نواهيه .
وقد بوب البخاري على هذا ( 214 - أ / ف ) الحديث : باب " فضل من استبرأ لدينه " . والمقصود من إدخاله هذا الحديث في هذا الباب : أن من اتقى الأمور المشتبهة عليه التي لا تتبين له أحلال هي أو حرام ؟ فإنه مستبرىء لدينه بمعنى : أنه طالب له البراء والنزاهة مما يدنسه ويشينه ؛ ويلزم من ذلك أن من لم يتق الشبهات فهو معرض دينه للدنس والشين والقدح ، فصار بهذا الاعتبار الدين تارة يكون نقيا نزها بريا ، وتارة يكون دنسا متلوثا . والدين يوصف تارة بالقوة والصلابة ، وتارة بالرقة والضعف ، كما يوصف بالنقص تارة وبالكمال تارة أخرى ، ويوصف الإسلام تارة بأنه حسن وتارة بأنه غير حسن ، والإيمان يوصف بالقوة تارة وبالضعف أخرى .
هذا كله إذا أخذ الدين والإسلام والإيمان بالنسبة إلى شخص شخص ، فأما إذا نظر إليه بالنسبة إلى نفسه من حيث هو هو ( 628 ) فإنه يوصف بالنزاهة . قال أبو هريرة : الإيمان نزه ، فإن زنا فارقه الإيمان ، فإن لام نفسه وراجع راجعه الإيمان . خرجه الإمام أحمد في كتاب " الإيمان "
ومن كلام يحيى بن معاذ : الإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك ( 629 ) .(1/209)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
فارغة(1/210)
"""""" صفحة رقم 211 """"""
فارغة(1/211)
"""""" صفحة رقم 212 """"""
فارغة(1/212)
"""""" صفحة رقم 213 """"""
فارغة(1/213)
"""""" صفحة رقم 214 """"""
فارغة(1/214)
"""""" صفحة رقم 215 """"""
فارغة(1/215)
"""""" صفحة رقم 216 """"""
فارغة(1/216)
"""""" صفحة رقم 217 """"""
فارغة(1/217)
"""""" صفحة رقم 218 """"""
فارغة(1/218)
"""""" صفحة رقم 219 """"""
فارغة(1/219)
"""""" صفحة رقم 220 """"""
فارغة(1/220)
"""""" صفحة رقم 221 """"""
فارغة(1/221)
"""""" صفحة رقم 222 """"""
فارغة(1/222)
"""""" صفحة رقم 223 """"""
فارغة(1/223)
"""""" صفحة رقم 224 """"""
فارغة(1/224)
"""""" صفحة رقم 225 """"""
فارغة(1/225)
"""""" صفحة رقم 226 """"""
فارغة(1/226)
"""""" صفحة رقم 227 """"""
فارغة(1/227)
"""""" صفحة رقم 228 """"""
فارغة(1/228)
"""""" صفحة رقم 229 """"""
فارغة(1/229)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
فارغة(1/230)
"""""" صفحة رقم 231 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
قالَ البخاري - رحمه الله تعالى - :
5
كِتَابُ الغُسْلِ
وقول الله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ( [ المائدة : 6 ] إلى قوله : ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( [ المائدة : 6 ] .
وقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ( [ النساء : 43 ] ، إلى قوله : ( عَفُوّاً غَفُوراً ( [ النساء : 43 ] .
صدر البخاري - رحمه الله - ( ( كتاب الغسل ) ) بهاتين الآيتين ؛ لأن غسل الجنابة مذكور فيهما .
أما قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ( ، فأمر للجنب إذا قام إلى الصلاة أن يتطهر .
وتطهر الجنب هوَ غسله ، كما في تطهر الحائض إذا انقطع دمها ؛ ولهذا قالَ تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنّ ( [ البقرة : 222 ] .
والمراد بتطهرهن : اغتسالهن عندَ جمهور العلماء ، فلا يباح وطؤها حتى تغتسل ، وسيأتي تفسير الآية في ( ( كتاب الحيض ) ) - إن شاء الله تعالى .
وأما قوله تعالى : ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ( [ النساء : 43 ] ، فنهي عن قربان الجنب الصلاة حتى يغتسل ، فصرح هنا بالغسل ، وهو تفسير التطهير المذكور في آية المائدة .
وهل المراد : نهي الجنب عن قربان الصلاة حتى يغتسل ، إلا أن يكون(1/231)
"""""" صفحة رقم 232 """"""
مسافراً
- وهو عابر السبيل - فيعدم الماء ، فيصلى بالتيمم ؟ أو المراد : نهي الجنب عن قربان موضع الصلاة - وهو المسجد - إلا عابر سبيل فيهِ ، غير جالس فيهِ ، ولا لابث ؟ هذا مما اختلف فيهِ المفسرون من السلف .
وبكل حال ؛ فالآية تدل على أن الجنب ما لم يغتسل منهي عن الصلاة ، أو دخول المسجد ، وأن استباحة ذَلِكَ يتوقف على الغسل ، فيستدل به على وجوب الغسل على الجنب إذا أراد الصلاة ، أو دخول المسجد .(1/232)
"""""" صفحة رقم 233 """"""
- بَابُ
الْوُضُوء قَبْلَ الغُسْلِ
خرج في حديثين :
الحديث الأول :
248 - حديث : مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن النبي ( كانَ إذا أغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه ، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يدخل أصابعه في الماء ، فيخلل بها أصول شعره ، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه ، ثم يفيض الماء على جلده كله .
غسل اليدين [ 00 0 ] قبل الوضوء شبه غسلهما للمتوضيء قبل إدخالهما في الإناء .
وروى هذا الحديث وكيع ، عن هشام ، وقال في حديثه : ( ( يغسل يديه ثلاثاً ) ) .
خرجه مسلم من طريقه كذلك .
واستحسن أحمد هذه الزيادة من وكيع .
وقال أبو الفضل ابن عمار : ليست عندنا بمحفوظة .(1/233)
"""""" صفحة رقم 234 """"""
قلت : تابعه - أيضا - على ذكر الثلاث في غسل الكفين : مبارك بن فضالة ، عن هشام .
خرج حديثه ابن جرير الطبري .
ومبارك ، ليس بالحافظ .
وكذلك رواها ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة .
وقد رويت - أيضا - من حديث أبي سلمة ، عن عائشة ، وسيأتي حديثه .
وقد روي ، أنه غسلهما قبل الاستنجاء ، ثم استنجى ، ثم دلكهما بالأرض ، ثم غسلهما قبل الوضوء مرتين أو ثلاثاً ، وسيأتي ذَلِكَ فيما بعد - إن شاء الله تعالى .
وقول عائشة : ( ( ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ) ) يدل على أنه توضأ وضوءاً كاملاً ، قبل غسل رأسه وجسده .
وروى أبو معاوية الضرير هذا الحديث ، عن هشام ، وزاد في آخر الحديث :
( ( ثم غسل رجليه ) ) .
خرجه مسلم .
وتابعه عليها محمد بن [ كناسة ] ، عن هشام .
خرج حديثه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ( ( كتاب الشافعي ) ) [ 00 ] .
وذكر أبو الفظل ابن عمار : أن هذه الزيادة ليست بمحفوظة .(1/234)
"""""" صفحة رقم 235 """"""
قلت : ويدل على أنها غير محفوظة عن هشام : أن أيوب روى هذا الحديث عن هشام ، وقال فيهِ : ( ( فقلت لهشام : يغسل رجليه بعد ذَلِكَ ؟ فقالَ : وضوءه للصلاة ، وضوءه للصلاة .
أي : أن وضوءه في الأول كاف .
ذكره ابن عبد البر .
وهذا يدل على أن هشاما فهم من الحديث أن وضوءه قبل الغسل كانَ كاملا بغسل الرجلين ، فلذلك لم يحتج إلى إعادة غسلهما .
وقد روى حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : كانَ رسول الله ( إذا أراد أن يغتسل من الجنابة يغسل يديه ثلاثاً ، ثم يأخذ بيمينه فيصب على شماله ، فيغسل فرجه حتى ينقيه ، ثم يغسل يده غسلا حسنا ، ثم يمضمض ثلاثاً ويستنشق ثلاثاً ، ويغسل وجهه ثلاثاً ، وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ، ثم يصب على رأسه الماء ثلاثاً ، ثم يغتسل ، فإذا خرج غسل قدميه .
خرجه الإمام أحمد ، عن عفان ، عن حماد .
وخرجه ابن جرير الطبري ، من طريق حجاج بن منهال ، عن حماد ، به .
وفي روايته : ثم يغسل جسده غسلاً ، فإذا خرج من مغتسله غسل رجليه .
وخرجه الطبراني في ( ( الأوسط ) ) من طريق مؤمل ، عن حماد ، عن عطاء ابن السائب وعلي بن زيد ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، أن النبي ( كانَ إذا(1/235)
"""""" صفحة رقم 236 """"""
اغتسل من جنابة غسل كفيه ثلاثاً قبل أن يغمسهما في الإناء ، ثم يأخذ الماء بيمينه فيصبه على شماله ، ثم يغسل فرجه ، ثم يمتضمض ثلاثاً ويستنشق ثلاثاً ، ثم يغسل وجهه ثلاثاً ، ويغسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ، ثم يصب على رأسه الماء واحداً واحداً ، فإذا خرج من مغتسله غسل قدميه .
وخرجه النسائي بمعناه ، ولم يذكر غسل رجليه في الآخر ، وعنده : أنه صب على رأسه ثلاثاً .
وفي رواية لهُ : ( ( ملء كفيه ) ) .
وروى الإمام أحمد : ثنا هشيم : أنا خالد ، عن رجل من أهل الكوفة ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : كانَ رسول الله ( إذا خرج من مغتسله حيث يغتسل من الجنابة يغسل قدميه .
وروى الأوزاعي ، قالَ : حدثني يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن عائشة - وحدثني عمرو بن سعد ، عن نافع مولى ابن عمر - ، أن عمر سأل رسول الله ( عن الغسل من الجنابة .
قالَ الأوزاعي : واتفقت الأحاديث على هذا ، يبدأ فيفرغ على يده اليمنى مرتين أو ثلاثاً ، ثم يدخل يده اليمنى في الإناء ، فيصب بها على فرجه ، ويده اليسرى على
فرجه ، فيغسل ما هنالك حتى ينقيه ، ثم يضع اليسرى على التراب إن شاء ، ثم يصب على يده اليسرى حتى ينقيها ، ثم يغسل يديه ثلاثا ويستنشق(1/236)
"""""" صفحة رقم 237 """"""
ويمضمض ويغسل وجهه وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ، حتى إذا بلغ رأسه لم يمسحه ، وأفرغ عليهِ الماء ، وهكذا كانَ
[ غسل ] رسول الله ( ، فيما ذكر لنا .
خرجه النسائي .
وهذا مما رواه الأوزاعي بالمعنى الذي فهمه من حديث عائشة وحديث عمر ، وليس هوَ لفظ حديثهما ، ولكنه إلى لفظ حديث عمر أقرب ؛ فإن حديث عمر روي بمعنى مقارب لما قاله الأوزاعي من غير طريقه .
خرجه الإمام أحمد من طريق شعبة ، عن عاصم بن عمرو البجلي ، عن رجل حدثه ، أنهم سألوا عمر عن غسل الجنابة ، وعن صلاة التطوع في البيت ، وعما يصلح للرجل من امرأته وهي حائض ؟ فقالَ : لقد سألتموني عن شيء ما سألني عنه أحد منذ سألت عنه رسول الله ( ، قالَ : ( ( صلاة الرجل في بيته تطوعا نور ، فمن شاء نور
بيته ) ) ، وقال - في الغسل من الجنابة - : ( ( يغسل فرجه ، ثم يتوضأ ، ثم يفيض على رأسه ثلاثاً ) ) ، وقال - في الحائض - : ( ( ما فوق الإزار ) ) .
وخرجه الإسماعيلي في ( ( مسند عمر ) ) ، من طريق أخرى ، عن عاصم .
وفي بعض رواياته : ( ( توضأ وضوءك للصلاة ، ثم أفض الماء على رأسك ، ثم على جسدك ، ثم تنح من مغتسلك فاغسل رجليك ) )
وفي رواية لهُ : عن عاصم ، عن عمير مولى عمر ، أن نفراً سألوا عمر - فذكر الحديث ، وقال في حديثه - : ( ( وأما الغسل فتفرغ بشمالك على يمينك ،(1/237)
"""""" صفحة رقم 238 """"""
ثم تدخل يدك في الإناء ، ثم تغسل فرجك وما أصابك ، ثم تفرغ على رأسك ثلاث مرات ، تدلك رأسك كل مرة ، ثم تغسل سائر جسدك ) ) .
ورواه ابن أبي ليلى ، عن عاصم بن عمر البجلي ، عن عمر بن شرحبيل وهو : أبو ميسرة - ، عن عمر - وقد ذكر الحديث ، وقال فيهِ - : ( ( وأما الغسل من الجنابة ، فصب بيمينك على شمالك واغسلها واغسل فرجك ، وتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم أفض على رأسك وجسدك ، ثم تحول فاغسل قدميك ) ) .
خرجه الإسماعيلي .
وقد فهم الأوزاعي من حديث عمر وعائشة ، أن الوضوء يكون ثلاثاً ثلاثاً إلى مسح الرأس ، ولا يمسح الرأس ، بل يصب عليهِ الماء ثلاث مرات ، فيكتفي بغسله للجنابة عن مسحه ، ثم يصب الماء على سائر جسده ، ويغسل رجليه .
فأما القول باستحباب تثليث الوضوء قبل غسل الجنابة ، فقد نص عليهِ سفيان الثوري وإسحاق بن رهوايه وأصحابنا ، ولم ينص أحمد إلا على تثليث غسل كفيه ثلاثاً ، وعلى تثليث صب الماء على الرأس .
وأما القول بأنه لا يمسح رأسه ، بل يصب عليهِ الماء صباً ، ويكتفي بذلك عن مسحه وغسله للجنابة ، فهذا قد روي صريحاً عن ابن عمر .
ونص عليهِ إسحاق بن راهويه - : نقله عنه حرب .
ونقله أبو داود ، عن أحمد .
ونقل عنه ، قالَ : لا يغسل رجليه قبل الغسل .
وروي عن ابن عمر ، أنه قالَ : توضأ وضوءك للصلاة ، إلا رجليك . وظاهر هذا : أنه يمسح رأسه ، ولا يغسل رجليه ، وهو قول الثوري وغيره من العلماء .(1/238)
"""""" صفحة رقم 239 """"""
والاكتفاء بغسل الرأس عن مسحه يدل على أن غسل الرأس في الوضوء يجزىء عن مسحه ، لكنه في الوضوء المفرد مكروه ، وفي الوضوء المقرون بالغسل غير مكروه .
وذهبت طائفة من العلماء إلى أنه يكمل وضوءه كله ، بمسح رأسه ، وغسل قدميه قبل الغسل ، وهو المشهور عندَ أصحابنا ، وهو قول الخلال وصحابه أبي بكر ، وهو قول مالك والشافعي في أشهر قوليه ؛ لظاهر حديث عائشة الذي خرجه البخاري هاهنا .
وقالوا : حديث عائشة ، حكاية عن فعل النبي ( الدائم في غسله للجنابة ، وأما ميمونة التي روت تأخير غسل رجليه ، فإنها حكت غسلة في واقعة عين ، ولكن قد تبين أنه روي عن عائشة ما يوافق حديث ميمونة في تأخير غسل القدمين ، ولم يأت عنها ولا عن غيرها التصريح بمسح الرأس في الوضوء .
ونص أحمد - في رواية جماعة - على أنه مخير بين تكميل الوضوء أولاً ، وبين تأخير غسل الرجلين إلى أن يكمل الغسل .
وحكي للشافعي في تكميل الوضوء أولاً قبل الغسل قولان :
نقل عنه البويطي : تأخير غسل الرجلين .
والأصح عندَ أصحابه : التكميل .
وقال سفيان الثوري : يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً إلى أن ينتهي إلى رأسه ، فيمسحه مرة ، ثم يفيض عيه ثلاثاً ، ويبالغ بالماء اصول الشعر ، وغسل لحيته وأذنيه ظاهرهما وباطنهما ، ثم يفرغ على سائر جسده من الماء ، ثم يتنحى عن مكانه ، فيغسل قدميه .
هكذا حكى أصحابه عنه في كتبهم .
والذين قالوا : يكمل وضوءه قبل الغسل ، قالوا : لا يعيد غسل قدميه بعده .(1/239)
"""""" صفحة رقم 240 """"""
قاله إبراهيم النخعي ومسلم بن يسار وهشام بن عروة وأبو الأسود يتيم عروة ، ونص عليهِ أحمد .
ومن أصحابنا من قالَ : يستحب إعادة غسل قدميه إذا انتقل من مكانه ، تطهيراً لهما وتنظيفاً .
وحكى الترمذي في ( ( كتابه ) ) ذَلِكَ عن أهل العلم .
وفيه نظر .
وقد كانَ الشعبي إذا خرج من الحمام يخوض ماء الحمام ، ولا يغسل قدميه .
وروى ابن أبي شيبة ، عن الأسود بن عامر ، عن حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : كانَ رسول الله ( بعدما يغتسل يخرج من الكنيف ، يغسل قدميه .
وخرجه عنه بقي بن مخلد في ( ( مسنده ) ) .
وهو مختصر من حديث صفة الغسل الذي سبق ذكره .
وذكر الكنيف فيهِ غريب .
الحديث الثاني :
249 - من رواية : الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن كريب ، عن ابن عباس ، عن ميمونة زوج النبي ( قالت : توضأ النبي ( وضوءه للصلاة ، غير رجليه ، وغسل فرجه وما أصابه من الأذى ، ثم أفاض عليهِ الماء ، ثم نحى رجليه فغسلهما ، هذه غسله من الجنابة .(1/240)
"""""" صفحة رقم 241 """"""
خرجه عن الفريابي ، عن الثوري ، عن الأعمش ، هكذا .
وفيه : التصريح بأنه لم يغسل رجليه في أول وضوئه ، بل أخر غسل رجليه حتى فرغ من غسله .
وخرجه فيما سيأتي - إن شاء الله تعالى - من حديث ابن عيينة ، عن الأعمش ، وقال في حديثه : ( ( فتوضأ وضوءه للصلاة ن فلما فرغ من غسله غسل رجليه ) ) .
وهذه الرواية تحتمل أن يكون أعاد غسل رجليه لما أصابهما من التراب ، حيث كانَ يغتسل على الأرض في مكان غير مبلط ولا مقير ، لكن رواية سفيان صريحة باستثناء غسل رجليه في أول الوضوء .
وخرجه - أيضاً - من طريق حفص بن غياث ، عن الأعمش ، وفي حديثه : ( ( ثم تمضمض واستنشق ، ثم غسل وجهه وأفاض الماء على رأسه ، ثم تنحى فغسل قدميه ) ) .
وهذه الرواية تدل على أنه لم يمسح رأسه ، ولا غسل قدميه أولاً في الوضوء ، بل أفاض الماء على رأسه عندَ مسحه .
وخرجه - أيضاً - من طريق عبد الواحد ، عن الأعمش ، وفي حديثه : ( ( ثم غسل رأسه ثلاثاً ، ثم أفرغ على جسده ، ثُمَّ تنحى من مقامه فغسل رجليه ) ) .
وخرجه من طريق أبي عوانة والفضل بن موسى وأبي حمزة ، عن(1/241)
"""""" صفحة رقم 242 """"""
الأعمش ،
كذلك ، إلا أنه لم يذكر التثليث في غسل رأسه .
وقد رواه وكيع ، عن الأعمش ، فذكر في حديثه : أنه غسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً .
خرجه من طريقه الإمام أحمد وابن ماجه .
وقوله في هذه الرواية : ( ( هذا غسله من الجنابة ) ) ، مما يشعر بأنه ليس من تمام حديث ميمونة .
وقد رواه زائدة ، عن الأعمش ، وذكر فيهِ : أن غسل الجنابة إنما هوَ من قول سالم بن أبي الجعد .
خرجه من طريقه ابن جرير الطبري والإسماعيلي في ( ( صحيحه ) ) .
وقد خرج البخاري الحديث في موضع آخر ، من رواية سفيان الثوري ، عن الأعمش ، بأبسط من هذا السياق ، وفيه : عن ميمونة ، قالت : ( ( سترت النبي ( وهو يغتسل من الجنابة ) ) - فذكر الحديث .
وخرجه - أيضاً - من رواية ابن عيينة ، عن الأعمش ، ولفظه : ( ( أن النبي ( اغتسل من الجنابة ، فغسل فرجه ) ) - ، وذكر الحديث .
ومن رواية الفضل بن موسى ، عن الأعمش ، وفي حديثه : ( ( وضع النبي ( وضوءاً للجنابة ، فأكفأ بيمينه على شماله ) ) - وذكر الحديث .
وفي هذين الحديثين : دليل على استحباب الوضوء قبل الاغتسال من الجنابة ، وأنه لا يؤخر كله إلى بعد كمال الغسل .(1/242)
"""""" صفحة رقم 243 """"""
وقد روي عن الأسود ، عن عائشة ، أن النبي ( كانَ لا يتوضأ بعد الغسل .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي .
وقال : حسن صحيح .
وسئل ابن عمر عن الوضوء بعد الغسل ؟ فقالَ : وأي وضوء أعم من الغسل .
وخرجه الطبراني والحاكم ، عنه مرفوعاً . ووقفه أصح .
وعن جابر بن عبد الله ، قالَ : يكفيك الغسل .
وروي إنكاره عن ابن مسعود - أيضاً .
وروي عن أصحاب ابن مسعود : علقمة وغيره .
وعن سعيد بن جبير والنخعي :
وروي عن حذيفة من وجه منقطع إنكار الوضوء مع الغسل .
وكذا روي عن الشعبي ، أنه كانَ لا يرى الوضوء في الغسل من الجنابة .
ولكن قد صحت السنة - بالوضوء قبل الغسل .
وأما الوضوء بعد الغسل ، فلم يصح فيهِ شيء .
وروي الرخصة فيهِ عن علي ( .
وأنكر صحة ذَلِكَ عنه : النخعي .(1/243)
"""""" صفحة رقم 244 """"""
ونقل يعقوب بن بختان ، عن أحمد في الحائض : أنها إن شاءت أخرت الوضوء عن الغسل ، وإن شاءت بدأت به .
ولعل هذا يختص بغسل الحيض .
وكذا قالَ أصحاب الشافعي : إن الجنب مخير ، إن شاء توضأ قبل الغسل ، وإن شاء بعده .
وأما إن نسي الوضوء قبل الغسل ، فإنه يتوضأ بعد الغسل - : نص عليهِ أحمد ومالك وغير واحد .
واصل هذا : أن الجمع بين الوضوء والغسل هوَ السنة عندَ الجمهور ، لكن الأفضل : أن يتوضأ قبل الغسل ، ثم يغتسل على ما سبق من صفة الوضوء مع الغسل .
فإن اغتسل ولم يتوضأ ، فهل يرتفع حدثاه بذلك ، أم لا يرتفع إلا حدثه الأكبر خاصة ، ويبقى حدثه الأصغر ، فلا يستبيح الصلاة بدون تجديد الوضوء ؟
هذا فيهِ قولان للعلماء ، هما روايتان عن أحمد .
أشهرهما : أنه يرتفع حدثاه بذلك ، إذا نوى بغسله رفع الحدثين جميعاً .
والثانية : لا يرتفع حدثه الأصغر بدون الوضوء .
وحكي عن مالك وأبي ثور وداود .
فإذا اغتسل ولم يتوضأ ارتفع حدثه الأكبر ، ولم يرتفع الأصغر حتى يتوضأ .
ومن حكى عن أبي ثور وداود : أن الحدث الأكبر لا يرتفع بدون الوضوء مع الغسل ، فالظاهر : أنه غالط عليهما .
وقد حكى ابن جرير وابن عبد البر وغيرهما الإجماع على خلاف ذلك .(1/244)
"""""" صفحة رقم 245 """"""
ومذهب الشافعي : أنه يرتفع حدثاه بنية رفع الحدث الأكبر خاصة ، ولا يحتاج إلى نية رفع الحدث الأصغر .
وذهب إسحاق وطائفة من أصحابنا ، كأبي بكر عبد العزيز بن جعفر : إلى أنه لا يرتفع الحدث الأصغر بالغسل وحده ، حتى يأتي فيهِ بخصائص الوضوء ، من الترتيب والمولاة .
وأما المضمضمة والاستنشاق ، فقد ذكرنا حكهما في الوضوء فيما سبق .
وأما في الغسل ، فهما واجبان فيهِ عندَ أبي حنيفة ، والثوري ، وأحمد - في المشهور عنه .
وعنه : يجب الاستنشاق وحده .
واختلف أصحابنا : هل يجب المبالغة فيهما في الغسل ، إذا قلنا : لا يجب ذَلِكَ في الوضوء ، أم لا ؟ على وجهين .
ومذهب مالك والشافعي : أن المضمضمة والاستنشاق سنة في الغسل كالوضوء .(1/245)
"""""" صفحة رقم 246 """"""
- بَابُ
غُسْلِ الرَّجلِ مَعَ امرَأَتِهِ
خرج فيهِ :
250 - حديث : الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : كنت اغتسل أنا والنبي ( من إناء واحد ، من قدح ، يقال لهُ : الفرق .
هذا الحديث ، قد ذكرناه فيما سبق في ( ( باب : الوضوء بالمد ) ) ، وتكلمنا عليهِ بما فيهِ كفاية ، فأغنى ذَلِكَ عن إعادته هاهنا .
وذكرنا حكم اغتسال الرجل مع امرأته في ( ( باب : وضوء الرجل مع المرأة ) ) .(1/246)
"""""" صفحة رقم 247 """"""
3 - بَابُ
الغُسْلِ بِالصَّاعِ ونَحْوه
خرج فيهِ ثلاثة أحاديث :
الحديث الأول :
251 - من رواية : عبد الصمد ، عن شعبة ، حدثني أبو بكر بن حفص ، قالَ : سمعت أبا سلمة يقول : دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة - رضي الله عنها - فسألها أخوها عن غسل رسول الله ( ، فدعت بإناء نحو من صاع ، فاغتسلت وأفاضت على رأسها وبيننا وبينها حجاب .
قالَ أبو عبد الله : وقال يزيد بن هارون وبهز والجدي ، عن شعبة : قدر الصاع .
هذا الحديث ، خرجه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون ، عن شعبة - مختصراً - وفي حديثه : ( ( قدر صاع ) ) - كما أشار إليه البخاري .
وخرجه مسلم من طريق معاذ العنبري ، عن شعبة ، وفي حديثه : ( ( قدر
صاع ) ) - أيضاً .
ولفظه : عن أبي سلمة ، قالَ : دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاعة ، فسألها عن غسل رسول الله ( من الجنابة ، فدعت بإناء قدر الصاع ، فاغتسلت ، وبيننا وبينها ستر ، وأفرغت على رأسها ثلاثاً . قالَ : وكان أزواج النبي ( يأخذن من رءوسهن حتى يكون كالوفرة .
والمقصود من إيراد هذا الحديث في هذا الباب : أن عائشة لما سئلت عن غسل النَّبيّ ( دعت بإناء قدر الصاع ، فاغتسلت به - وفي رواية : ( ( نحو(1/247)
"""""" صفحة رقم 248 """"""
الصاع ) ) - ، وهذا مما يدل على أن تقدير ماء الغسل ليس هوَ على وجه التحديد ، بل على التقريب ، وقد سبق التنبيه عليهِ .
قالَ القرطبي : ظاهر هذا الحديث أنهما - يعني : أبا سلمة وأخا عائشة - أدركا عملها في رأسها وأعلى جسدها ، مما يحل لذي المحرم أن يطلع عليهِ من ذوات محارمه ، وأبو سلمة ابن أخيها نسباً ، والآخر أخوها من الرضاعة ، وتحققا بالسماع كيفية غسل ما لم يشاهداه من سائر الجسد ، ولولا ذَلِكَ لاكتفت بتعليمهما بالقول ، ولم تحتج إلى ذَلِكَ الفعل .
قالَ : وإخباره عن كيفية شعور أزواج النبي ( يدل على رؤيته شعرها ، وهذا لم يختلف في جوازه لذي المحرم ، إلا ما يحكى عن ابن عباس ، من كراهة ذَلِكَ . انتهى .
وقوله : ( ( إن أبا سلمة كانَ ابن أخيها نسباً ) ) ، غلط ظاهر ؛ لأن أبا سلمة هوَ ابن عبد الرحمن بن أبي بكر هوَ القاسم .
والظاهر : أن أبا سلمة كانَ إذ ذاك صغيراً دون البلوغ ، والآخر كانَ أخاها من الرضاعة .
وقد اختلف العلماء : فيما يباح للمحرم أن ينظره من محارمه من النساء :
هل هوَ ما يظهر غالباً في البيوت ، كالرأس واليدين والذراعيين والساقين والوجه والرقبة والشعر ؟ أو ما ليس بعورة ، وهو الوجه والكفان ؟ أو الوجه فقط ؟
أو لهُ النظر إلى ما عدا ما بين السرة والركبة ؟
وفي ذَلِكَ خلاف مشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره .
وكذلك اختلفوا : في الصبي المميز ، إذا كانَ ذا شهوة : هل هوَ من كالمحرم ؟
أو كالأجنبي البالغ ؟(1/248)
"""""" صفحة رقم 249 """"""
وفيه روايتان عن أحمد .
وقد روى هذا الحديث ابن وهب ، عن أسامة بن زيد ، أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، قالَ : دخلت على عائشة ، فقلت لها : كيف غسل رسول الله ( من الجنابة ؟ فقالت : أدخل معك يا ابن أخي رجلاً من بني أبي القعيس - من بني أخيها من الرضاعة - ، فأخبر أبا سلمة بما تصنع ، فأخذت إناء فأكفأته ثلاث مرات على يدها ، قبل أن تدخل يدها فيهِ ، فقالَ : صبت على يدها من الإناء يا أبا سلمة ثلاث مرات قبل أن تدخل يدها . فقالت : صدق ، ثم مضمضت واستنثرت ، فقالَ : هي تمضمض وتستنثر . فقالت : صدق ، ثم غسلت وجهها ثلاث مرات ، ثُمَّ حفنت على رأسها ثلاث حفنات ، ثم قالت بيدها في الإناء جميعاً ، ثم نضحت على كتفيها ومنكبيها ، كل ذَلِكَ تقول إذا أخبر ابن أبي القعيس ما تصنع : صدق .
خرجه بقي بن مخلد وابن جرير الطبري .
وهذا سياق غريب جداً .
وأسامة بن زيد الليثي ، ليس بالقوي .
وهذه الرواية تدل على أن ابن أخيها من الرضاعة اطلع على غسلها ، وهذا يتوجه على قول من أباح للمحرم أن ينظر إلى ما عدا ما بين السرة والركبة ، وهو قول ضعيف شاذ .
ورواية ( ( الصحيحين ) ) تخالف ذَلِكَ ، وتدل على أن أبا سلمة وأخا عائشة كانا جميعاً من وراء حجاب .
وروى الإمام أحمد : ثنا إسماعيل - هوَ : ابن علية - : نا يونس ، عن(1/249)
"""""" صفحة رقم 250 """"""
الحسن ، قالَ : قالَ : رجل : قلت لعائشة : ما كانَ يقضي عن رسول الله ( غسله من الجنابة ؟ قالَ : فدعت بإناء ؛ حزره صاعاً بصاعكم هذا .
وهذا الإسناد فيهِ انقطاع .
وقوله : ( ( بصاعكم هذا ) ) ، ربما أشعر بأنه الصاع الذي زيد فيهِ في زمن بني أمية ، كما سبق ذكر ذَلِكَ في ( ( باب : الوضوء بالمد ) ) .
هذا يشهد لحديث مجاهد ، عن عائشة ، أن النبي ( كانَ يغتسل بنحو ثمانية أرطال - وفي رواية : أو تسعة ، أو عشرة - ، وقد سبق ذكره - أيضاً .
الحديث الثاني :
252 - خرجه من رواية : أبي إسحاق : نا أبو جعفر ، أنه كانَ عندَ جابر بن
عبد الله ، هوَ وأبوه ، وعنده قوم ، فسألوه عن الغسل ، فقالَ : يكفيك صاع .
فقالَ رجل : ما يكفيني . فقالَ جابر : كانَ يكفي من هوَ أوفى منك شعراً وخيراً منك . ثم أمنا في ثوب واحد .
( ( أبو جعفر ) ) ، هوَ : محمد بن علي بن حسين .
وأبوه : علي بن حسين زين العابدين .
وفي هذا : دلالة على أن سادات أهل البيت كانوا يطلبون العلم من أصحاب النبي ( كما كانَ يطلبه غيرهم ، فدل ذَلِكَ كذب ما تزعمه الشيعة ، أنهم غير محتاجين إلى أخذ العلم عن غيرهم ، وأنهم مختصون بعلم ، يحتاج الناس كلهم إليه ، ولا يحتاجون هم إلى أحد ، وقد كذبهم في ذَلِكَ جعفر بن محمد وغيره من علماء أهل البيت - ( .(1/250)
"""""" صفحة رقم 251 """"""
وخرج النسائي هذا الحديث ، بهذا الإسناد ، ولفظه : عن أبي جعفر ، قالَ : تمارينا في الغسل عندَ جابر بن عبد الله ، فقالَ جابر : يكفي من الغسل من الجنابة صاع من الماء . قلنا : ما يكفي صاع ، ولا بد صاعان ، فقالَ جابر : قد كانَ يكفي من كانَ خيراً منكم ، وأكثر شعراً .
ومراده بذلك : رسول الله ( .
وقد روي يزيد بن أبي زياد ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر ، قالَ : كانَ النبي ( يغتسل بالصاع ، ويتوضأ بالمد .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود .
وفي رواية لأحمد : قالَ النبي ( : ( ( يجزىء من الوضوء المد ، ومن الجنابة
الصاع ) ) . فقالَ رجل : ما يكفيني . قالَ : قد كفى من هوَ خير منك وأكثر شعراً
[ رسول الله ( ] .
وخرجه ابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) والحاكم من رواية حصين ، عن سالم ، عن جابر - نحوه .
ففي رواية سالم رفع أول الحديث ، مع أنه روي أوله موقوفاً - أيضاً - من حديثه ، كما في رواية أبي جعفر .
ولعل وقف أوله أشبه ، وأما آخره فمرفوع .
وقد قيل : إن هذا الرجل الذي قالَ لجابر : ( ( ما يكفيني ) ) هوَ الحسن بن(1/251)
"""""" صفحة رقم 252 """"""
محمد ابن الحنفية ، وهو أول من تكلم بالإرجاء .
وقيل : إنه كانَ يميل إلى بعض مذاهب الإباضية في كثرة ىاستعمال الماء في الطهارة .
والذي في ( ( صحيح مسلم ) ) من حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر ، قالَ : كانَ النبي ( إذا اغتسل من الجنابة صب على رأسه ثلاث حفنات من ماء . فقالَ لهُ الحسن بن محمد : إن شعري كثير ؟ قالَ جابر . فقلت لهُ : يا بن أخي ، كانَ شعر رسول الله ( أكثر من شعرك ، وأطيب .
فليس في هذه الرواية ذكر الصاع ، بل ذكر الثلاث حفنات .
وقد خرجه البخاري من طريق معمر بن سام ، عن أبي جعفر محمد بن علي ، عن جابر - بمعناه .
فقد تبين بهذا : أن الذي استقبل الثلاث حثيات في الغسل هوَ محمد بن الحسن ابن الحنيفة ، وأما الذي استقبل الصاع ، فيحتمل أنه هوَ ، وأنه غيره والله أعلم .
الحديث الثالث :
قالَ البخاري :
253 - نا أبو نعيم : ثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن جابر بن زيد ، عن ابن
عباس ، أن النبي ( وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد .
قالَ أبو عبد الله : كانَ ابن عيينة يقول - أخيراً - : ( ( عن ابن عباس ، عن
ميمونة ) ) .
والصحيح : ما روى أبو نعيم .(1/252)
"""""" صفحة رقم 253 """"""
هذا الذي ذكره البخاري - رحمه الله - : أن الصحيح ما رواه أبو نعيم عن ابن عيينة ، بإسقاط ميمونة من هذا الإسناد فيهِ نظر ، وقد خالفه أكثر الحفاظ في ذَلِكَ .
وخرجه مسلم عن قتيبة وأبي بكر بن أبي شيبة - جميعاً - ، عن ابن عيينة ، عن عمرو ، عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس ، قالَ : أخبرتني ميمونة ، أنها كانت تغتسل هي ورسول الله ( في إناء واحد .(1/253)
"""""" صفحة رقم 254 """"""
وخرجه الترمذي عن ابن أبي عمر ، عن سفيان كذلك ، وعنده : ( ( من إناء واحد ) ) .
وكذلك رواه الإمامان : الشافعي وأحمد ، عن ابن عيينة .
وذكر الإسماعيلي في ( ( صحيحه ) ) ممن رواه عن ابن عيينة كذلك : المقدمي ، وابنا أبي شيبة ، وعباس النرسي ، وإسحاق الطالقاني ، وأبو خيثمة ، وسريج بن يونس ، وابن منيع ، والمخزومي ، عبد الجبار ، وابن البزاز ، وأبوهمام ، وأبو موسى الأنصاري ، وابن وكيع ، والأحمسي .
قالَ : وهكذا يقول ابن مهدي - أيضاً - ، عن ابن عيينة .
قالَ : وهذا أولى ؛ لأن ابن عباس لا يطلع على النبي ( وأهله يغتسلان ، فالحديث راجع إلى ميمونة .
وذكر الدارقطني في ( ( العلل ) ) : أن ابن عيينة رواه عن عمرو ، وقال فيهِ :
( ( عن ميمونة ) ) ، ولم يذكر أن ابن عيينة اختلف عليهِ في ذَلِكَ .
وهذا كله مما يبين أن رواية أبي نعيم التي صححها البخاري وهم .
وإنما ذكر الدارقطني : أن ابن جريج خالف ابن عيينة ، فرواه عن عمرو ،(1/254)
"""""" صفحة رقم 255 """"""
عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، أن النبي ( كانَ يغتسل بفضل ميمونة .
قالَ : وقول ابن جريج أشبه .
كذا قالَ ؛ وحديث ابن جريج هذا خرجه مسلم من طريقه ، قالَ : أخبرني عمرو بن دينار ، قالَ : أكثر علمي ، والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني ، أن ابن عباس أخبره : أن النبي ( كانَ يغتسل بفضل ميمونة .
وهذا لا يرجح على رواية ابن عيينة ؛ لأن ذكر أبي الشعثاء في إسناده مشكوك
فيهِ ، ولو قدر أنه محفوظ فلفظ الحديث مخالف للفظ حديث ابن عيينة ؛ فإن حديث ابن عيينة فيهِ اغتسالهما من إناء واحد ، وحديث ابن جريج فيهِ اغتساله ( بفضل ميمونة ، وهما حديثان مختلفان .
وهذا الحديث لا يدخل في هذا الباب ، إنما يدخل في ( ( باب : غسل الرجل مع امرأته ) ) ، وقد بوب البخاري على ذَلِكَ فيما سبق ، وخرج فيهِ حديث عائشة ، وخرج - أيضا - فيهِ حديث عائشة من وجه آخر عنها ، يأتي ، وحديث أنس .
وخرج حديث أم سلمة في ذَلِكَ في ( ( كتاب : الحيض ) ) .
ولكن حديث عائشة المتقدم ، فيهِ أنهما كانا يغتسلان من إناء واحد ، من قدح ، يقال لهُ : الفرق ، وتقدم تفسير ( ( الفرق ) ) ، وأنه ستة عشر رطلاً .(1/255)
"""""" صفحة رقم 256 """"""
وهذا يدل على جواز الزيادة على الصاع في الغسل .
وقد سبق وحه الجمع بين هذا الحديث ، وحديث الغسل بالصاع .(1/256)
"""""" صفحة رقم 257 """"""
4 - بَابُ
مَنْ أفَاضَ عَلَى رَأسِهِ ثَلاثَاً
خرج فيهِ ثلاثة أحاديث :
الحديث الأول :
254 - من رواية : أبي إسحاق : حدثني سليمان بن صرد ، قالَ : حدثني جبير بن مطعم ، قالَ : قالَ رسول الله ( : ( ( أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثاً ) ) - وأشار بيديه كلتيهما .
وخرجه مسلم ، ولفظه : تماروا في الغسل عندَ رسول الله ( ، فقالَ بعض القوم : أما أنا ، فإني أغسل كذا وكذا ، فقالَ رسول الله ( : ( ( أما أنا ، فإني أفيض على رأسي ثلاث أكف ) ) .
وفي لفظ آخر - خرجه الإمام أحمد - : فقالَ رسول الله ( : ( ( أما أنا ، فآخذ ملء كفي من الماء ثلاثاً ، فأصب على رأسي ، ثم أفيض بعد على سائر جسدي ) ) .
وقد أسقط بعضهم من إسناد هذا الحديث : ( ( جبير بن مطعم ) ) ، وجعله من مسند سليمان بن صرد .
وزاد بعضهم في إسناده : ( ( نافع بن جبير بن مطعم ) ) ، بين سليمان وجبير .
وكلاهما وهم - : ذكره الدارقطني وغيره .(1/257)
"""""" صفحة رقم 258 """"""
الحديث الثاني :
255 - من طريق : شعبة ، عن مخول بن راشد ، عن محمد بن علي ، عن جابر ، قالَ : كانَ النبي ( يفرغ على رأسه ثلاثاً .
الحديث الثالث :
قالَ البخاري :
256 - نا أبو نعيم : نا معمر بن يحيى بن سام : حدثني أبو جعفر : قالَ لي جابر : أتاني ابن عمك - يعرض بالحسن بن محمد ابن الحنفية - ، قالَ : كيف الغسل من
الجنابة ؟ فقلت : كانَ النبي ( يأخذ ثلاث أكف ، فيفيضها على رأسه ، ثم يفيض على سائر جسده ، فقالَ لي الحسن : إني رجل كثير الشعر ، فقلت : كانَ النبي ( أكثر منك شعراً .
وقد خرجه مسلم من حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر ، بمعناه ، وقد تقدم لفظه .
وخرج مسلم - أيضاً - من حديث أبي سفيان ، عن جابر ، أن وفد ثقيف سألوا النبي ( فقالوا : إن أرضنا أرض باردة ، فكيف بالغسل ؟ فقالَ : ( ( أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثاً ) ) .
وقد سبق عن النبي ( ، أنه كانَ يصب على رأسه ثلاثاً ، من حديث عائشة وميمونة - أيضاً .
وقد روي ، أنه ( كانَ يبدأ بشق رأسه الأيمن ، ثم ألأيسر .
خرجه البخاري من حديث القاسم ، عن عائشة ، قالَت : كانَ النبي ((1/258)
"""""" صفحة رقم 259 """"""
إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب ، فأخذ بكفيه ، فبدأ بشق رأسه الأيمن ، ثم الأيسر ، فقالَ بهما على وسط رأسه .
وخرجه مسلم ، وعنده : فأخذ بكفيه ، فبدأ بشق رأسه الأيمن ، ثم الأيسر ، ثم أخذ بكفيه ، فقالَ بهما على رأسه .
والظاهر : - والله أعلم - : أنه كانَ يعم رأسه بكل مرة ، ولكن يبدأ في الأولى بجهة اليمين ، وفي الثانية بجهة اليسار ، ثم يصب الثالثة على الوسطى .
وقد زعم بعضهم ، أنه لم يكنَ يعم رأسه بكل مرة ، بل كانَ يفرغ واحدة على شقه الأيمن ، وواحدة على شقه الأيسر ، ويجعل الثالثة للوسط من غير تعميم للرأس بكل واحدة .
هكذا ذكره القرطبي وغيره ممن لا يستحب التثليث في الغسل ، وهو خلاف الظاهر .
وقد روي من حديث عمر - مرفوعاً - ، أنه يدلك رأسه في كل مرة ، وقد ذكرناه فيما تقدم .
وقد ذكره البخاري فيما بعد : ( ( باب : من بدأ بشق رأسه الأيمن في الغسل ) ) .
وخرج فيهِ حديث صفية بنت شيبة ، عن عائشة ، قالت : كنا إذا أصاب أحدنا جنابة أخذت بيدها ثلاثاً فوق رأسها ، ثم تأخذ بيدها على شقها الأيمن ، وبيدها الأخرى على شقها الأيسر .
وخرجه أبو داود ، ولفظه : كانت إحدانا إذا أصابتها جنابة أخذت ثلاث حفنات هكذا - تعني : بكفيها جميعاً - ، فصب على رأسها ، وأخذت بيد(1/259)
"""""" صفحة رقم 260 """"""
واحدة فتصبها على هذا الشق ، والأخرى على الشق الآخر .
وظاهر هذا : أن المرأة يستحب لها بعد أن تصب على رأسها ثلاثاً أن تأخذ حفنة بيدها ، فتصبها على شق رأسها الأيمن ، ثم تأخذ حفنة أخرى فتصبها على شقه الأيسر ، فيصير على رأسها خمس حفنات .
وقد روي هذا صريحاً عن عائشة من وجه آخر ، من رواية صدقة بن سعيد الحنفي : نا جميع بن عمير - أحد بني تيم الله بن ثعلبة - ، قالَ : دخلت مع أمي وخالتي على عائشة ، فسألتها إحداهما : كيف كنتم تصنعون عندَ الغسل ؟ فقالت عائشة : كانَ رسول الله ( يتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يفيض على رأسه ثلاث مرات ، ونحن نفيض على رؤسنا خمساً من أجل الضفر .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
وجميع ، قالَ البخاري : فيهِ نظر . [ و ] قالَ أبو حاتم الرازي : هوَ من عتق الشيعة ، محله الصدق ، صالح الحديث . وقال ابن عدي : عامة ما يرويه لا يتابعه عليهِ أحد .
وذكره ابن حبان في ( ( كتاب الثقات ) ) ، ثم ذكره في ( ( كتاب الضعفاء ) ) ، ونسبه إلى الكذب .
وصدقة بن سعيد ، قالَ البخاري : عنده عجائب . وقال أبو حاتم : شيخ ، وقال الساجي :
ليس بشيء . وذكره ابن حبان في ( ( الثقات ) ) .
وقد تابعه العلاء بن صالح ، فرواه عن جميع ، ولكن قالَ : جميع بن كثير ، عن عائشة ، فوقفه ولم يرفعه .
خرجه عنه أبو نعيم الفضل بن دكين في ( ( كتاب الصلاة ) ) .(1/260)
"""""" صفحة رقم 261 """"""
وقال الدارقطني : المرفوع أشبه .
وقد روي ما يخالف هذا ، وأن المرأة تفرغ على رأسها ثلاثاً من غير زيادة :
ففي ( ( صحيح مسلم ) ) ، عن أم سلمة ، قالت : قلت : يا رسول الله ، إني امرأة أشد ضفر رأسي ، أفأنقضه لغسل الجنابة ؟ فقالَ : ( ( لا ، إنما يكفيك ن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ، ثم تفيضن عليك الماء فتطهرين ) ) .
وفيه - أيضاً - ، عن أبي الزبير ، عن عبيد بن عمير ، قالَ : بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو بن العاص يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن ، فقالت : يا عجباً لابن عمرو هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن ؟
لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله ( من إناء واحد ، وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات .
وخرجه النسائي ، وعنده : فأفيض على رأسي ثلاث إفراغات ، ولا أنقض لي شعراً .
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) ، عن ثوبان ، أنهم استفتوا النبي ( عن الغسل من الجنابة ، فقالَ : ( ( أما الرجل فلينشر رأسه ، فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر ، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه ، لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيها ) ) .
وأكثر العلماء على أن المرأة لا تنقض رأسها لغسلها من الجنابة ، وروي عن طائفة يسيرة ، أنها تنقضه ، منهم : عبد الله بن عمرو بن العاص ، والنخعي ، وأبو بكر بن أبي شيبة .(1/261)
"""""" صفحة رقم 262 """"""
وهذا إذا وصل الماء إلى بواطن الشعر ، فإن لم يصل إلى دواخله بدون النقض ففي وجوب نقضه ؛ لغسل باطن الشعر قولان :
أحدهما : أنه واجب ، وهو قول حماد ومالك والشافعي وأكثر أصحابنا ، وهو رواية عن أبي حنيفة .
وروي عن ابن عباس ، قالَ : لو اغتسل إنسان من الجنابة ، فبقيت شعرة لم يصبها الماء ، لم يزل جنباً حتى يصيبها الماء .
خرجه أبو نعيم الفضل : ثنا مندل ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد ابن جبير ، عنه .
ومندل ، فيهِ ضعف .
والثاني : لا يجب ، وحكي عن مالك ، وأبي حنيفة ، والخرقي من أصحابنا ، ورجحه صاحب ( ( المغني ) ) منهم .
وهؤلاء حعلوا الشعر كالمنفصل عن البدن ، ولم يوجبوا سوى إيصال الماء إلى بشرة الرأس خاصة .
وفرقت طائفة بين الرجال والنساء ، فأوجبوا النقض على الرجل دون المرأة ؛ لحديث ثوبان - : حكاه القرطبي وغيره .
وهذا هوَ الصحيح من مذهب أبي حنيفة ، وأن الرجل يجب عليهِ نقض شعره بخلاف المرأة .
لكن قالوا : إن كانَ شعر المرأة غير مضفور وجب غسله ، كما يجب غسل شعر لحية الرجل .
ونقل مهنا ، أحمد ، أن المرأة في غسل الجنابة كالرجل .(1/262)
"""""" صفحة رقم 263 """"""
وظاهر هذا : يدل على أن حكمهما في نقض الشعر سواء ، وفي عدد حثيات المرأة على رأسها كالرجال سواء ، لا تزيد على ثلاث .(1/263)
"""""" صفحة رقم 264 """"""
5 - بَابُ
الغُسْلِ مَرَّةً وَاحدَةً
257 - نا موسى بن إسماعيل : نا عبد الواحد ، عن الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن كريب ، عن ابن عباس ، قالَ : قالت ميمونة : وضعت للنبي ( ماء للغسل ، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً ، ثُمَّ أفرغ على شماله ، فغسل مذاكيره ، ثم مسح [ يده ] بالأرض واستنشق ، وغسل وجهه ويديه ، ثم أفاض على جسده ، ثم تحول من مكانه ، فغسل قدميه .
مراده بهذا الحديث في هذا الباب : أن ميمونة حكت غسل النبي ( ، ولم تذكر في غسل شيء من أعضائه عدداً ؛ إلا في غسل يديه في ابتداء الغسل - مع شك الراوي : هل كانَ غسلهما مرتين أو ثلاثاً ، وهذا الشك هو من الأعمش كما سيأتي بيانه في رواية أخرى ، إن شاء الله تعالى - ، واطلقت الغسل في الباقي ، فظاهره : أنه لم يكرر غسل شيء من جسده بعد ذَلِكَ ، لا في الوضوء ولا في الغسل بعده .
ولكن قد خرج البخاري هذا الحديث - فيما بعد - ، عن محمد بن محبوب ، عن عبد الواحد ، عن الأعمش ، به ، وقال فيهِ - بعد غسل وجهه ويديه - : ( ( ثم غسل رأسه ثلاثاً ، ثم أفرغ على جسده ) ) .
وخرجه في مواضع أخر ، من طرق أخرى ، عن الأعمش ، وذكر فيها : غسل رأسه - ولم يذكر عدداً .(1/264)
"""""" صفحة رقم 265 """"""
وقد تقدم : أن وكيعاً رواه عن الأعمش ، وذكر فيهِ : غسل وجهه ويديه ثلاثاً ، وأفاض على رأسه ثلاثاً .
وخرجه عنه الإمام أحمد .
وقد روى مسلم في ( ( صحيحه ) ) من حديث عيسى بن يونس ، عن الأعمش في هذا الحديث ، أنه أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه .
وعلى هذه الروايات : إنما ينبغي أن يدخل هذا الحديث في الباب الماضي .
وقد أختلف العلماء في استحباب غسل البدن كله في الغسل من الجنابة ثلاثاً :
فمنهم : من استحبه ، وهو قول إسحاق بن راهويه وكثير من أصحابنا وأصحاب الشافعي وأبي حنيفة .
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) ، عن أبي مكين ، عن أبي صالح مولى أم هانيء ، عن أم هانىء ، قالت : إذا اغتسلت من الجنابة فاغسل كل عضو ثلاثاً .
أبو صالح ، هوَ باذان ، وهو ضعيف جداً .
ورواه سمويه الحافظ : نا أحمد بن يحيى بن زيد بن كيسان : نا يزيد بن ذريع ، عن أبي مكين ، عن أبي صالح : حدثتني أم هانيء ، قالت : قالَ رسول الله ( : ( ( إذا أغتسل أحدكم فليغسل كل عضو منه ثلاث مرات ) ) - يعني : الجنابة .
ورواية وكيع للموقوف أصح .
وروى الفضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، أن رجلاً سأله عن الغسل من الجنابة ، فقالَ : ثلاثاً . فقالَ الرجل : إن شعري كثير ، فقالَ : رسول الله كانَ أكثر شعراً منك وأطيب .(1/265)
"""""" صفحة رقم 266 """"""
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه .
وعطية ، هوَ العوفي ، فيهِ ضعف مشهور .
[ ولعله أراد الثلاث في ] غسل الرأس ؛ ولهذا قالَ لهُ السائل : إن شعري كثير .
وقد خرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في ( ( كتاب الصلاة ) ) لهُ ، عن فضيل ابن مرزوق ، عن عطية ، قالَ : سأل رجل أبا سعيد الخدري : كم يكفي لغسل رأسه ؟ قالَ : ثلاث حفنات - وجمع يديه - وذكر بقية الحديث .
ومما يستدل به تكرار غسل الجسد في غسل الجنابة : ما خرجه أبو داود ، من رواية حماد ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، في صفة غسل النبي ( ، قالت : وأفرغ على رأسه ثلاثاً ، ، فإذا فضلت فضلة صبها عليهِ .
والمراد : بعد الفراغ من غسل بقية جسده ، وإلا لم يكن لقولها : ( ( فإذا فضلت فضلة ) ) معنى .
وروى وهيب هذا الحديث ، عن هشام ، وقال فيهِ : ( ( ثم أفاض الماء على
جسده ، فإن بقي في الإناء شيء أفرغه عليهِ ) ) .
ورواه - أيضاً - مبارك بن فضالة ، عن هشام - بنحوه .(1/266)
"""""" صفحة رقم 267 """"""
خرجهما ابن جرير الطبري .
وقالت طائفة : لا يستحب تكرار غسل الجسد في غسل الجنابة ، وهو ظاهر كلام أحمد والخرقي ، وصرح به المارودي من الشافعية ، وأصحاب مالك .
وحكى الإمام أحمد ، أن ابن عباس كانَ يغتسل من الجنابة سبع مرار .
وقال : هوَ من حديث شعبة - يعني : مولى ابن عباس - ، مشهور عنه .
قالَ : وأما حديث النبي ( ، فإنه كانَ يحفن على رأسه ثلاثاً .
وهذا الحديث خرجه أبو داود من رواية ابن أبي ذئب ، عن شعبة - وهو : مولى ابن عباس - ، أن ابن عباس كانَ إذا اغتسل من الجنابة يفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى سبع مرات ، ثم يغسل فرجه ، فنسي مرة كم أفرغ ، فسألني : [ كم أفرغت ] ؟ قلت : لا أدري ، فقالَ : لا أم لك ، وما يمنعك أن تدري ؟ ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يفيض على جلده الماء ، ويقول : هكذا كانَ رسول الله ( يتطهر .
وليس في هذه الرواية التسبيع في سوى غسل يده اليسرى قبل الاستنجاء .
ويتحمل أن المراد به : التسبيع في غسل الفرج خاصة ، وهو الأظهر .
وشعبة مولى ابن عباس ، قالَ مالك : ليس بثقة ، وقال - مرة - : لا يشبه القراء ، وقال أحمد ويحيى : لابأس به ، وقال يحيى - مرة - : لايكتب حديثه ، وقال النسائي والجوزجاني : ليس بالقوي في الحديث ، وقال ابن عدي : لم أر له حديثاً منكراً جداً فأحكم لهُ بالضعف ، وأرجو أنه لا بأس به .(1/267)
"""""" صفحة رقم 268 """"""
ونقل حرب عن إسحاق ، أنه قالَ في غسل الجنابة : يغسل فرجه ثلاثاً ، وإن احتاج إلى الاستنجاء غسل مقعدته ثلاثاً إلى السبع ، ولا يزيد على ذَلِكَ ، إلا أن لا ينقي .
وظاهر هذه الأحاديث : يدل على أن النَّبيّ ( اكتفى بإفاضة الماء على جسده من غير ذَلِكَ .
وجمهور العلماء على أن التدلك في الطهارة غير واجب ، خلافاً لمالك في المشهور عنه .(1/268)
"""""" صفحة رقم 269 """"""
6 - بَابُ
مَنْ بَدَأ بِالحِلابِ أو الطَّيب عنْدَ الغُسْلِ
258 - حدثني محمد بن المثنى : نا أبو عاصم ، عن حنظلة ، عن القاسم ، عن عائشة ، قالت : كانَ النبي ( إذا أغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب ، فأخذ بكفيه ، فبدأ بشق رأسه الأيمن ، ثم الأيسر ، فقالَ بهما على وسط رأسه .
( ( حنظلة ) ) ، هوَ : ابن أبي سفيان .
وظاهر تبويب البخاري على هذا الحديث : يدل على أنه فهم منه أن الحلاب نوع من الطيب ، وأن النبي ( كانَ يستعمل شيئاً من الطيب في رأسه في غسل الجنابة .
وقد أنكر العلماء ذَلِكَ على البخاري - رحمه الله - ، ونسبوه فيهِ إلى الوهم ، منهم : الخطابي والإسماعيلي وغير واحد .
وقالوا : إنما الحلاب إناء يحلب فيهِ ، ويقال لهُ : المحلب - أيضاً .
والمراد : أنه كانَ يغتسل من مد نحو الإناء الذي يحلب فيهِ اللبن من المواشي ، وهو معنى الحديث الآخر : أنه نحو الصاع .
ويشهد لذلك : أنه روي في بعض طرق هذا الحديث ، أن القاسم سئل : كم يكفي من غسل الجنابة ، فحدث بهذه الحديث . وإنما كانَ السؤال عن قدر ماء الغسل ، لا عن الطيب عندَ الغسل .
ذكره الإسماعيلي في ( ( صحيحه ) ) .
وذكر - أيضاً - حديث ابن عباس ، أن النبي ( قرب إليه حلاب فيهِ لبن ،(1/269)
"""""" صفحة رقم 270 """"""
فشرب منه - يعني : يوم عرفة .
وزعم بعضهم : أنه ( ( الجلاب ) ) - بالجيم - ، وأن المراد به : ماء الورد .
وهو أيضاً - تصحيف ، وخطأ ممن لا يعرف الحديث .
وزعم آخرون : أن ( ( الحلاب ) ) - بالحاء - وعاء للطيب . ولا أصل لذلك .
وخرج أبو بكر عبد العزيز بن جعفر الفقيه في ( ( كتاب الشافي ) ) ، في هذا الحديث ، من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد ، عن حنظلة ، عن القاسم ، عن عائشة ، أن رسول الله ( كانَ يغتسل في حلاب قدر هذا - وأرانا أبو عاصم قدر الحلاب بيده ، فإذا هوَ كقدر كوز يسع ثمانية أرطال - ، ثم يصب على شق رأسه الأيسر ، ثم يأخذ بكفيه فيصب وسط رأسه .(1/270)
"""""" صفحة رقم 271 """"""
7 - بَابُ
الْمَضْمَضَةِ وَالاِستْنْشاقِ في الْجَنَابةِ
259 - حدثنا عمر بن حفص : ثنا أبي : حدثني الأعمش : حدثني سالم ، عن كريب ، عن ابن عباس ، قالَ : ثنا ميمونة ، قالت : صببت للنبي ( غسلاً ، فأفرغ يمينه على يساره فغسلهما ، ثم غسل فرجه ، ثم قالَ بيده على الأرض فمسحها بالتراب ، ثم غسلها ، ثم تمضمض واستنشق ، ثم غسل وجهه ، وأفاض على رأسه ، ثم تنحى فغسل قدميه ، ثم أتي بمنديل ، فلم ينفض بها .
المضمضمة والاستنشاق في غسل الجنابة ، مذكور في حديث ميمونة ، وفي حديث عائشة - أيضاً - ، كما سبق - ، أنه مضمض ثلاثاً ، واستنشق ثلاثاً .
وقد أشرنا - فيما تقدم - إلى الاختلاف في وجوب المضمضة [ . . . ] والاستنشاق في غسل الجنابة .
فمن أوجبهما في الوضوء ، أو أوجب الاستنشاق وحده في الوضوء ، فإيجابه لهُ في غسل الجنابة أولى ، إلا رواية رويت عن الإمام أحمد ، أنها في الوضوء أوكد ؛ [ . . . . . ] الأمر بالاستنشاق في الوضوء ، دون الغسل .
وهذا ؛ بعيد ؛ فإن الغسل [ . . . ] غسل مواضع الوضوء ، وزيادة ، فما وجب في الوضوء ، فهوَ واجب في الغسل بطريق الأولى .
وأما من لم يوجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء ، فاختلفوا في(1/271)
"""""" صفحة رقم 272 """"""
إيجابهما في غسل الجنابة :
فأوجبهما الكوفيون ، منهم : الشعبي والنخعي وأبو حنيفة وأصحابه وسفيان .
وقال مالك والشافعي : هما مسنونان في الوضوء والغسل سواء .
واستدل من أوجبهما في الغسل بأن غسل الجنابة يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف ، مع استتاره بالشعر ، فإيجاب إيصال الماء فيهِ إلى باطن الفم والأنف ، مع ظهوره ، أولى بالوجوب .
وروى وكيع ، عن أبي حنيفة ، عن عثمان بن راشد ، عن عائشة بنت عجرد ، قالت : سألت ابن عباس عن الجنب يغتسل ، فينسى المضمضة والاستنشاق حتى يصلي ؟ قالَ : يتمضمض ويستنشق ويعيد الصلاة .
وخرجه الدارقطني من طريق سفيان ، عن عثمان ، عن عائشة ، عن ابن عباس ، قالَ : يعيد في الجنابة ، ولا يعيد في الوضوء .
وعائشة بنت عجرد ، قيل : إنها غير معروفة .
وأنكر الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة التفرقة بين الغسل والوضوء في المضمضة والاستنشاق .
وقالوا : ما وجب غسله من الوجه في الوضوء ، وجب في الغسل ، وما لا فلا .
وفرقوا بين باطن الفم ، والأنف ، وما تحت الشعور ، بأن ما تحت الشعور(1/272)
"""""" صفحة رقم 273 """"""
ستره
[ طارىء ] ، بخلاف باطن الفم والأنف ، فإن سترهما بأصل الخلقة .
وأما غسل باطن العين في الجنابة ، فكان ابن عمر يفعله .
وفي وجوبه عن أحمد روايتان ، وأصحهما : لا يجب ؛ لمشقته ، وخوف الضرر
منه .(1/273)
"""""" صفحة رقم 274 """"""
8 - بَابُ
مَسْحِ الْيَدِ بِالتُّرَابِ ليكُونَ أنقَى
260 - ثنا عبد الله بن الزبير الحميدي : ثنا سفيان : ثنا الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن كريب ، عن ابن عباس ، عن ميمونة ، أن النبي ( اغتسل من الجنابة ، فغسل فرجه بيده ، ثم دلك بها على الحائط ، ثم غسلها ، ثم توضأ وضوءه للصلاة ، فلما فرغ من غسله غسل رجليه .
هذا الحديث قد سبق بألفاظ أخر .
وقد خرجه في الباب الماضي ، ولفظه : ( ( ثم غسل فرجه ، ثم قالَ بيده على الأرض ، فمسحها بالتراب ) ) .
وقد خرجه - فيما بعد - من حديث أبي عوانة ، عن الأعمش وقال في حديثه : ( ( ثم دلك يده بالأرض ، أو بالحائط ) ) .
وخرجه - أيضاً - من رواية الفضل بن موسى ، عن الأعمش ، وفي حديثه : ( ( ثم ضرب يده بالأرض - أو الحائط - مرتين أو ثلاثاً ) ) .
وخرجه مسلم من حديث عيسى بن يونس ، عن الأعمش ، وعنده : ( ( ثم ضرب بشماله الأرض ، فدلكها دلكاً شديداً ) ) .
فقد تضمن هذا الحديث : أن المستنجي يدلك يده بالتراب ، ثم يغسلها .
وقد روي مثل هذا في حديث عائشة - أيضاً .(1/274)
"""""" صفحة رقم 275 """"""
خرجه أبو داود من حديث الأسود ، عنها .
وخرج - أيضاً - من رواية الشعبي ، قالَ : قالت عائشة : لئن شئتم لأرينكم أثر يد رسول الله في الحائط ، حيث كانَ يغتسل من الجنابة .
وفي رواية للنسائي ، من حديث عطاء بن السائب ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، أن النبي ( غسل يده اليسرى بعد غسل فرجه .
لكن شك راويها فيها .
وقد روي نحو ذَلِكَ في الاستنجاء قبل الوضوء في غير غسل الجنابة - - أيضاً - وأن النبي ( استنجى بالماء ثم دلك يده بالأرض .
وقد خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث إبراهيم بن جرير البجلي ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة .
وخرجه ابن ماجه - أيضاً - والنسائي من حديث إبراهيم بن جرير ، عن أبيه ، عن النبي ( .
وقال النسائي : هوَ أشبه بالصواب .
وإبراهيم بن جرير ، لم يسمع من أبيه شيئاً - : قاله ابن معين وغيره .
وهذا السياق الذي خرجه البخاري في هذا الباب مختصراً ، والسياق الذي خرجه في هذا الباب الذي قبله أتم منه ،(1/275)
"""""" صفحة رقم 276 """"""
وفيه : أنه ( غسل يديه ، ثم غسل فرجه ، ثم مسح يده بالتراب ، ثم غسلها .
فاقتضى ذَلِكَ : استحباب غسل اليدين قبل الاستنجاء ، ثم غسل اليد اليسرى
بعد .
وقال الثوري وإسحاق : إذا اغتسل من الجنابة غسل كفيه ثلاثاً ، ثم غسل
فرجه ، ثم دلك يده بالأرض ، ثم يديه ثلاثاً ، ثم يتوضأ .
وليس هذا في حديث ميمونة ، ولا في حديث عائشة ، إلا في رواية الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، وعن عمرو بن سعد ، عن نافع ، عن عمر ، وقد سبق لفظها ، وهي مروية بالمعنى كما تقدم .
وروي عن ابن عمر من قوله ، في صفة غسل الجنابة ، أنه يغسل يديه ثلاثاً ، ثم يغسل فرجه ، ثم يضرب بيده على الحائط ، ثم يغسلها ، ثم يتوضأ .
خرجه إبراهيم بن مسلم في ( ( كتاب الطهور ) ) .
ونص الإمام أحمد : على أن المستنجي يغسل يديه قبل الاستنجاء ، ثم إذا
استنجى ، فإنه يغسل يديه ويتوضأ .
ولعل هذا لا يحتاج إليه قبل الاستنجاء إذا كانَ يريد أن يدخل يديه في الإناء ، ليصب على فرجه منه ، فإذا كانَ الماء في مثل الإداوة ونحوها يصب منه على فرجه ، فلا حاجة لهُ إلى غسله يديه قبل الاستنجاء .
ونص أحمد في إعادة غسل اليدين ثلاثاً بعد الاستنجاء إنما هوَ في الوضوء(1/276)
"""""" صفحة رقم 277 """"""
من غير الجنابة ، فإن الوضوء من الحدث الأصغر ينتقض بمس الفرج ، فلذلك لا [ . . . ] فيهِ على غسل اليدين قبله ، وأما غسل الجنابة ، فإذا غسل كفيه ثلاثاً ، ثم غسل فرجه لم يحتج إلى إعادة غسل يديه بعده ؛ لأن مس الفرج لا يؤثر في غسل الجنابة ، فإنه من حين نوى وسمى وغسل كفيه ثلاثاً [ قد بدأ ] غسل الجنابة ، ولذلك لا يحتاج إلى إعادة غسل فرجه عندَ غسل جسده ، بل يكتفى بغسله أولاً .
وقد نقل جعفر بن محمد ، عن أحمد ، في الجنب يتوضأ قبل أن ينام ، ثم يقوم ، يغتسل ولا يتوضأ ، فرأى أن ذَلِكَ يجزئه .
ولعل مراده : يجزئه غسل أعضاء الوضوء أولاً ، عن غسلها في الجنابة ثانياً .
ويحتمل أن مراده : أن الغسل وحده يجزىء بلا وضوء ، ويرتفع به الحدثان .
وقد روي عن ابن سيرين ، في الجنب يحدث بين ظهراني غسله من االجنابة .
قالَ : الغسل من الجنابة ، والوضوء من الحدث .
وعن الحسن ، في الجنب يغسل بعض جسده ، ثم يبول ؟ قالَ : يغسل ما بقي من جسده .
خرجه الخلال في ( ( الجامع ) ) من طريق حنبل .
قالَ حنبل : سمعت أبا عبد الله يقول : يبدأ فيتوضأ وضوءه للصلاة ثم يغتسل ؛ لأن الغسل ياتي على طهارة الوضوء ، وهذا حدث يوجب الوضوء .
وظاهر كلام أحمد وابن سيرين : أنه يعيد الوضوء والغسل ؛ لياتي بسنة(1/277)
"""""" صفحة رقم 278 """"""
الغسل بكاملها ، وتقديم الوضوء على الغسل ، وليس ذَلِكَ على الوجوب .
وروي - أيضاً - عن ابن عمر ، بإسناد فيهِ ضعف ، أنه يعيد الغسل .
خرجه ابن أبي شيبة .
وأما الحسن ، فمراده : أن ما مضى من الغسل لم يبطل بالبول ، وأنه إذا أكمله فقد ارتفع حدث الجنابة ، ولكن لا يصلي حتى يتوضأ .
وكذا قالَ سفيان الثوري : يتم غسله ، ثم يعيد الوضوء .
وحكى ابن المنذر مثل هذا عن عطاء وعمرو بن دينار .
قالَ : وهو يشبه مذهب الشافعي .
وحكى عن الحسن ، أنه يستأنف الغسل .
وهذا خلاف ما رواه الخلال ، بإسناده عنه .
وما ذكره أنه يشبه مذهب الشافعي ، قد قيل : إن الشافعي نص عليهِ في
( ( الأم ) ) .
ولا ينبغي أن يكون في هذا خلاف ، وإنما أمر من أمر بإعادة الغسل استحباباً ؛ ليقع الوضوء قبل الغسل ، كما استحب أحمد للحائض إذا اغتسلت بالماء وحده ، ثم وجدت السدر ، أن تعيد الغسل بماء وسدر ؛ لتاتي بالغسل على الوجه الكامل .
فإن قيل : هذا يلزم منه استحباب تجديد الغسل .
قلنا : إنما أعيد لنقص وقع في الأول ، فاستحب إعادته على وجه الكمال .
قالَ أصحابنا : وإذا غسل بعض جسده ، ناوياً به رفع الحدثين ، ارتفع حدثهما ، فإذا انتقض وضوؤه ، وأعاده لزمه الترتيب والموالاة فيما ارتفع عنه(1/278)
"""""" صفحة رقم 279 """"""
حدث الجنابة خاصة ، وما لم يرتفع عنه حدث الجنابة من أعضاء الوضوء ، لا يلزم فيهِ ترتيب ولا موالاة ، بل يرتفع حدثه تبعاً لحدث الجنابة .(1/279)
"""""" صفحة رقم 280 """"""
9 - بَابُ
هَلْ يُدْخِلُ الْجُنُبُ يَدَهُ في الإنَاء قَبْل أنْ يَغْسِلَهَا
إذا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَدهِ قَذَرٌ غَيْر الجَنَابةِ ؟
وأدخل ابن عمر والبراء بن عازب يده في الطهور ، ولم يغسلها ، ثم توضأ .
ولم ير ابن عمر وابن عباس بأساً بما ينتضح من غسل الجنابة .
اشار البخاري - هاهنا - إلى مسألتين :
إحداهما :
أن الجنب إذا أدخل يده في الماء قبل غسلها ، وليس على يده نجاسة ، فإنه لا ينجس الماء ، فإن المؤمن لا ينجس .
وقد ذكر ، عن ابن عمر والبراء بن عازب ، أنهما أدخلا أيديهما في الطهور ، من غير غسل ، ثم توضأ .
وهذا في الوضوء .
وقد سبق ذكره في الكلام على حديث عثمان بن عفان في صفة الوضوء ، وعلى الكلام على حديث : ( ( إذا استيقظ أحدكم من النوم فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ) ) .
وروى وكيع ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن أبيه ، قالَ : رأيت البراء بن عازب بال ، فأدخل يده في مطهرة المسجد - يعني : قبل أن يغسلها .(1/280)
"""""" صفحة رقم 281 """"""
وعن سفيان ، عن جابر الجعفي ، عن الشعبي ، قالَ : كانَ الرجال على عهد رسول الله ( يدخلون أيديهم في الإناء وهم جنب ، والنساء وهن حيض ، لا يرون بذلك بأساً .
ورخص فيهِ ابن المسيب وغيره .
واختلف كلام أحمد في ذَلِكَ :
فقالَ مرة ، في الجنب والحائض يغمس يده في الإناء إذا كانَ نظيفتين لا بأس به ونقل عنه ابنه عبد الله في الجنب يدخل يده في الإناء ، ولم يمسها أذى ، ولم ينم ؟ قالَ : إن لم ينم فأرجوا ان لا يكون به باس ، وإن نام غسلها .
يشير إلى أنه إن كانَ قائما من النوم ، فإنه لا يرخص لهُ في ترك غسلها ، فجعل القائم من النوم أشد من الجنب .
ونقل عنه كراهة ذَلِكَ :
نقل عنه صالح وابن منصور ، في الجنب والحائض ، يغمس يده في الإناء ؟ قالَ :
كنت لا أرى به بأساً ، ثم حدثت عن شعبة ، عن محارب بن دثار ، عن ابن عمر ، فكأني تهيبته .
ونقل عنه صالح - - أيضاً - في جنب أدخل يده في الماء ، ينظر حره من(1/281)
"""""" صفحة رقم 282 """"""
برده : إن كانَ أصبعاً رجوت أن لا يكون به بأس ، وإن كانَ اليد أجمع فكأنه كرهه .
ونقل عنه صالح - أيضاً - في جنب يدخل الحمام ، ليس معه أحد ، ولا ماء يصب به على يده ؟ ترى لهُ أن يأخذ بفمه ؟ قالَ : لا ، يده وفمه واحد .
وروى رقية ، عن الزبيدي ، عن علي بن أبي طلحة ، في الجنب يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ؟ قالَ : يهريق أعلاه .
وخرج أبو عبيد بإسناده ، عن النخعي ، قالَ : إذا غمس الجنب يده في إناء صغير [ فأهرقه ] ، وإن كانَ كبيراً فلا بأس به .
وهذا قد يرجع إلى القول بنجاسة بدن الجنب ، وهو قول شاذ ، ترده السنة الصحيحة .
وقد روي عن أحمد ، في جنب اغتسل في ماء يسير [ . . . ] .
ولم ينقل عنه في المحدث يتوضأ في ماء يسير ، وإن كانَ أصحابنا قد سووا بينهما .
وروى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كانَ يكره فضل الحائض والجنب .(1/282)
"""""" صفحة رقم 283 """"""
وروى أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كانَ لا يرى بسؤر المرأة بأساً ، إلا أن تكون حائضاً أو جنباً .
وروي عن معاذة ، عن عائشة ، أنها كانت تكره سؤر الحائض ، وأن يتوضأ به .
وروي عن أحمد ، كراهة سؤر الحائض إذا [ . . ] بالماء .
وفي ( ( مسند بقي بن مخلد ) ) من رواية سويد بن عبد العزيز الدمشقي ، عن
نوح بن ذكوان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : وضعت
لرسول الله ( ماء ، وأدخلت يدي فيهِ ، فلم يتوضا منه .
وهذا منكر ، لا يصح .
وسويد ونوح ، ضعيفان .
فأما إن أدخل الجنب يده في الماء ، بعد أن نوى الغسل ، فاعترف منه ، وكان الماء قليلاً ، فإن نوى الاغتراف من الماء لم يضره ، وإن نوى غسل يده من الجنابة في الماء صار الماء مستعملاً .
وإن أطلق النية ، ففيه قولان لأصحابنا وغيرهم من الفقهاء ، أشهرهما - عندهم - : أنه يصير مستعملاً ، وهو قول الشافعية .
والصحيح : أنه لا يصير بذلك مستعملاً .
وعليه يدل حديث عائشة وميمونة ، واغتسال النبي ( وأزواجه من إناء واحد ، فإنه لو كانَ يصير الماء مستعملاً بغمس اليد في الماء ، بدون نية الاغتراف ، لوجب بيانه للأمة بياناً عاماً ، فإن هذا مما تدعو الضرورة إليه ، فإن(1/283)
"""""" صفحة رقم 284 """"""
عامة الناس لا يستحضرون نية الاغتراف ، وأكثرهم لا يعلمون حكم ذَلِكَ ، بل قد روي عن النبي واصحابه ما يدل على خلاف ذَلِكَ ، وأن الماء لا يجنب باغتراف الجنب منه .
وروى سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قالَ : اغتسل بعض أزواج النبي ( من جفنة ، فأراد النبي ( أن يتوضأ ، فقالت : يا رسول الله ، إني كنت جنباً ، قالَ : ( ( إن الماء لا يجنب ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي - وقال : حسن صحيح - ، وابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) والحاكم وصححه .
وأعله الإمام أحمد ، بأنه روي عنى عكرمة - مرسلاً .
وقد صح عن ابن عباس ، أنه سئل عن الجنب يغتسل من ماء الحمام فقالَ : الماء لا يجنب .
وصح عنه ، أنه قالَ : الماء لا يجنب .
وكذلك صح عن عائشة من رواية شعبة ، عن يزيد الرشك ، عن معاذة ، قالت : سألت عائشة عن الغسل من الجنابة ؟ فقالت : إن الماء لا ينجسه شيء ؛ كنت أغتسل أنا ورسول الله ( من إناء واحد .
وخرجه ابن خزيمة في ( ( صحيحة ) ) ، ولفظه : إن عائشة قالت : الماء طهور ، لا يجنب الماء شيء ؛ لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله ( في الإناء الواحد . قالت : أبدؤه فأفرغ على يديه ، من قبل أن يغمسهما في الإناء .
وروى المقدام بن شريج ، عن أبيه ، أنه سأل عائشة عن غسل الجنابة ؟(1/284)
"""""" صفحة رقم 285 """"""
فقالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله ( من إناء واحد . قالَ شريح : كيف يكون ؟ قالت عائشة : إنه ليس على الماء جنابة - مرتين أو ثلاثة .
خرجه [ . . . ] وبقي بن مخلد في ( ( مسنده ) ) .
وخرجه إسحاق بن رهواية في ( ( مسنده ) ) ، وعنده : فقالت : إن الماء لا
ينجس .
وقد رفع بعضهم آخر الحديث ، وهو قوله : ( ( الماء لا ينجس ) ) ، فجعله من قول النبي ( .
خرجه الطبراني والقاضي إسماعيل وابن عدي وغيرهم - مرفوعاً .
والصحيح : أنه موقوف على عائشة .
المسألة الثانية :
ما ينتضح من بدن الجنب في الماء الذي يغتسل منه .
وقد ذكر البخاري ، عن ابن عمر وابن عباس ، أنهما لم يريا به بأساً .
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) ، عن سفيان ، عن العلاء بن المسيب ، عن رجل ، عن ابن عباس ، أنه لم يكن يرى به بأساً .
وكذلك رخص فيهِ أكثر السلف ، منهم : ابن سيرين والحسن والنخعي وأبو جعفر .(1/285)
"""""" صفحة رقم 286 """"""
قالَ النخعي : أو تجد من ذَلِكَ بداً ؟
وعن الحسن - نحوه .
ورخص فيهِ - أيضاً - مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم .
وقد سبق بسط ذَلِكَ في ذكر الماء المستعمل ، وأنه ليس بنجس .
ويدل على ذَلِكَ : أن إغتسال النبي ( مع بعض أزواجه من الإناء الواحد لا يسلم من إصابة رشاش الماء المتقاطر منهما [ للماء ] ، ولو كانَ ذَلِكَ نجساً لوجب بيانه والأمر بالتحرز منه ، فإن هذا مما تعم به البلوى ، ولا يكاد يسلم الناس منه .
وكلام أحمد يدل على أن ما ينضح من الماء عندَ الغسل والوضوء على البدن أو الثوب في الماء لا بأس به .
فإن توضأ في طشت ، ثم صبه فأصاب ثوبه منه ، فإنه يستحب لهُ غسله والتنزه عنه ؛ فإن هذا لا يشق التحرز عنه ، وهو ماء [ قذر ] ، قد أخرج الذنوب والخطايا ، واختلف في نجاسته .
ثم خرج البخاري في هذا الباب أربعة أحاديث :
الحديث الأول :
261 - من حديث : أفلح ، عن القاسم ، عن عائشة ، قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله ( من إناء واحد ، تختلف أيدينا فيهِ .
وخرجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) وزاد فيهِ : ( ( من الجنابة ) ) .
وهذا الحديث : يستدل به على جواز إدخال الجنب يده فبل كمال غسله في الماء الذي يغتسل منه ، وعلى أن ما نضح من الماء الغسل في الإناء ، الغسل(1/286)
"""""" صفحة رقم 287 """"""
منه لا يضره .
الحديث الثاني :
262 - من حديث : حماد ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كانَ النبي ( إذا اغتسل من الجنابة غسل يده .
وهذا مختصر من حديث عائشة الذي خرجه في أول ( ( كتاب : الغسل ) ) .
وإنما قصد الإشارة إلي ذكر طرق الحديث ؛ لأنه يستدل به على أن الجنب إذا اغتسل بالاغتراف من الإناء بعد نية الاغتسال ، فلا يمكن حمله على أنه غسل يده في الإناء من غير إفراغ .
فإنه قد خرجه مسلم من حديث زائدة ، عن هشام ، ولفظه : كانَ النَّبيّ ( إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه قبل أن يدخل يده في الإناء ، ثم توضأ مثل وضوئه للصلاة .
وقد خرج أبو داود حديث حماد بن زيد ، عن هشام ، الذي اختصره البخاري هاهنا ، ولفظه : يبدأ فيفرغ على يديه .
وفي رواية أخرى لهُ : غسل يديه ، فصب الإناء على يده اليمنى .
الحديث الثالث :
263 - نا أبو الوليد : ثنا شعبة ، عن أبي بكر بن حفص ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : كنت اغتسل أنا ورسول الله ( من إناء واحد ، من الجنابة .(1/287)
"""""" صفحة رقم 288 """"""
وهذا يستدل به كما يستدل بالحديث الأول .
الحديث الرابع :
264 - نا أبو الوليد : نا شعبة ، عن عبد الله بن عبد الله بن جبر : سمعت أنس بن مالك يقول : كانَ النبي ( والمرأة من نسائه يغتسلان من إناء واحد .
زاد مسلم ووهيب ، عن شعبة : من الجنابة .
وهذا دلالته كدلالة الذي قبله - أيضاً .
و ( ( عبد الله بن عبد الله بن جبر ) ) ، هوَ الذي روى عن أنس حديث الوضوء بالمد ، وقد سبق شرح [ حاله ] هناك مبسوطاً .(1/288)
"""""" صفحة رقم 289 """"""
- بَابُ
تَفرِيق الْوُضُوِءِ وَالْغُسلِ
ويذكر عن ابن عمر ، أنه غسل قدميه بعدما جف وضوؤه .
هذا الأثر ، حكاه الإمام أحمد عن ابن عمر ، أنه توضأ ، ثم غسل رجليه في مكان آخر .
وقال ابن المنذر : ثبت أن ابن عمر توضأ بالسوق ، فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ، ثم دعي لجنازة ، فمسح على خفيه ، ثم صلى عليها .
وهذا الأثر ، رواه مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه توضأ في السوق ، فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ، ثم دعي إلى جنازة ، فدخل المسجد ، ثم مسح على خفيه بعد ما جف وضوؤه .
قالَ البيهقي : هذا صحيح عن ابن عمر ، مشهور بهذا اللفظ .
وقد اختلف العلماء في تفريق الوضوء والغسل : هل يصح معه الوضوء والغسل ، أم لا ؟ على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه جائز ، وهو ظاهر تبويب البخاري هاهنا ، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والشافعي وإسحاق - في رواية - ، ورواية عن أحمد - أيضاً .
والثاني : أنه لا يجوز ، وتجنب الإعادة بذلك في الوضوء والغسل ، وهو قول
مالك ، وحكي رواية عن أحمد ، وهي غريبة عنه .(1/289)
"""""" صفحة رقم 290 """"""
والثالث : أنه يجب في الوضوء دون الغسل ، وهو ظاهر مذهب أحمد .
وممن قالَ : إنه إذا جف وضوؤه يعيد : قتادة وربيعة والأوزاعي والليث والشافعي - في القديم - وإسحاق - في رواية .
وقال النخعي : لا بأس أن يفرق غسله من الجنابة .
وكذا روي عن أبن المسيب ، وعلي بن حسين .
وروي عن الحسن - فيمن أخر غسل رجليه في الوضوء حتى جف - : إن كانَ في عمل الوضوء غسل رجليه ، وإلاّ استأنف .
وفرق أحمد بين الوضوء والغسل ، بأن الله أمر في الوضوء بغسل أعضاء معدودة ، معطوف بعضها على بعض ، فوجب غسلها مرتبا متواليا ، كما يجب الترتيب والموالاة في ركعات الصلاة ، وأشواط الطواف ، بخلاف غسل الجنابة ، فإنه أمر فيهِ بالتطهر ، وهو حاصل بغسل البدن على أي وجه كانَ .
واستدل لإعادة الوضوء ، بأن عمر رأى رجلاً على ظهر قدمه لمعة لم يغسلها ، فأمره بإعادة الوضوء .
وقد اختلف ألفاظ الرواية عن عمر في ذَلِكَ : ففي بعضها ، أنه أمر بغسل ما تركه ، وفي بعضها ، أمره بإعادة الوضوء .
وفي الباب أحاديث مرفوعة - أيضاً - بهذا المعنى :
من أجودها : حديث رواه بقية ، عن بحير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن بعض أصحاب النبي ( ، أن النبي ( رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء ، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة .
خرجه أبو داود .(1/290)
"""""" صفحة رقم 291 """"""
وقال أحمد : إسناده جيد .
وأما الغسل ، فروي في حديث مرسل ، عن العلاء بن زياد ، أن النبي (
اغتسل ، ثم رأى لمعة لم يصبها الماء ، فعصر عليها شعره .
وأخذ به أحمد - في إحدى الروايتين عنه .
وروي عن ابن مسعود ، قالَ : الجنب ما أصاب الماء من جسده فقد طهر وحمله أبو عبيد على أنه إذا فرق غسله وقطع أجزأه .
وروي عن علي وابن مسعود وجماعة من السلف ، في الجنب إذا غسل رأسه بالخطمي ، أنه يجزئه من غسل الجنابة ، وليس عليهِ إعادة غسله .
وهذا يدل على جواز تأخير غسل الجسد عن غسل الرأس في الغسل .
وخرج أبو داود من حديث شريك ، عن قيس بن وهب ، عن رجل من بني سواءة ، عن عائشة ، عن النبي ( ، أنه كانَ يغسل رأسه بالخطمي وهو جنب ، يجتزيء بذلك ، ولا يصب عليهِ الماء .
يعني : أنه لا يعيد منه غسل بقية جسده .
خرج البخاري في هذا الباب :
265 - حديث ميمونة : قالت : وضعت للنبي ( ماء يغتسل به ، فأفرغ على يديه ، فغسلهما مرتين أو ثلاثاً ، ثم أفرغ بيمينيه على شماله فغسل مذاكيره ، ثم دلك يده بالأرض ، ثم تمضمض واستنشق ، ثم غسل وجهه ويديه ، ثم غسل رأسه ثلاثاً ، ثم أفرغ على جسده ثم تنحى من مقامه فغسل قدميه .(1/291)
"""""" صفحة رقم 292 """"""
خرجه من حديث عبد الواحد بن زياد ، عن الأعمش ، بإسناده المتقدم .
ووجه الاستدلال به على جواز تفريق الوضوء : أنه ( فصل بين تطهير رأسه وقدميه بالإفراغ على جسده ، ثم بالتنحي من مقامه .
وللإمام أحمد - ومن وافقه - جوابان :
أحدهما : أن هذا تفريق يسير لا يضر ، فإن المعتبر عندهم في التفريق المبطل أن يؤخر غسل بعض الأعضاء حتى يجف غسل ما قبله .
ومنهم من اعتبر لهُ طول الفصل عرفاً .
وهما روايتان عن أحمد ، أشهرهما : اعتبار الجفاف .
وهذا التأخير لم يكن طويلاً ، ولا حصل معه جفاف ما قبله ، فلا يضر .
وقد روي عن مالك ، أنه إذا أخر غسل رجليه حتى يكمل غسله ، أنه يعيد الوضوء .
ولعله أراد مع طول الفصل . والله سبحانه وتعالى اعلم .
والثاني : أن هذا التفريق كانَ في غسل الجنابة ، وعند أحمد لا يعتبر الموالاة للغسل ، بخلاف الوضوء .
فإن قيل : إنما وقع التفريق في الوضوء الذي ضمن الغسل .
قيل : أعضاء الجنب ما دام عليها الجنابة ، فإنه لا يعتبر لتطهرها موالاة في وضوء ولا غسل .
هذا ظاهر مذهب أحمد الذي عليهِ عامة أصحابه .
وإنما اعتبر الموالاة للوضوء في غسل الجنابة أبو بكر ابن جعفر وطائفة يسيرة من أصحابه ، وهو المذهب عندَ الخلال ، وسيأتي القول في ذَلِكَ مبسوطاً - إن شاء الله تعالى .(1/292)
"""""" صفحة رقم 293 """"""
وفي تفريق الغسل صريحاً حديث لا يصح إسناده .
خرجه الدارقطني في ( ( الأفراد ) ) والإسماعيلي في ( ( جمع حديث مسعر ) ) ، من طريق إسماعيل بن يحيى التميمي ، عن مسعر عن حميد بن سعد ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، قالَ : قالَ رجل : يا رسول الله ( ، إن أهلي تغار إذا وطئت جواري ، قالَ : ( ( ولم تعلمهم ذَلِكَ ؟ ) ) ، قالَ : من قبل الغسل : قالَ : ( ( إذا كانَ ذَلِكَ منك فاغسل رأسك عندَ أهلك ، فإذا حضرت الصلاة فاغسل سائر جسدك ) ) .
إسماعيل بن يحيى ، ضعيف جدا ً .
قالَ : الإسماعيلي : حميد بن سعد مجهول ، وأحاديث إسماعيل بن يحيى موضوعة .
وفيه حديث آخر :
رواه جعفر بن محمد الفريابي : نا إسحاق بن موسى : نا عاصم بن عبد العزيز : نا محمد بن زيد بن قنفذ التيمي ، عن جابر بن سيلان ، عن ابن مسعود ، أن رجلاً سأل رسول الله ( عن الرجل يغتسل من الجنابة ، فيخطىء الماء بعض جسده ؟ فقالَ : النبي ( : ( ( يغسل ذَلِكَ المكان ، ثم يصلي ) ) .
رجاله كلهم مشهورون ، خلا جابر بن سيلان ، وقد خرج لهُ أبو داود ، ولم نعلم فيهِ جرحاً ، ولا أنه روى عنه سوى محمد بن زيد .(1/293)
"""""" صفحة رقم 294 """"""
- بَابُ
مَنْ أفَرَغَ بِيمِيِنه علَىَ شِمالِهِ في الْغُسلْ
خرج فيهِ :
266 - حديث ميمونة : قالت : وضعت لرسول الله ( غسلاُ وسترته ، فصب على يده ، فغسلها مرة أو مرتين - ثم قالَ سليمان : لا أدري : أذكر الثالثة أم لا ؟ - ثُمَّ أفرغ بيمينه على شماله ، فغسل فرجه ، ثُمَّ دلك يده بالأرض - أو بالحائط - ، ثُمَّ تمضمض واستنشق ، وغسل وجهه ويديه ، وغسل رأسه ، ثم صب على جسده ، ثم تنحى فغسل قدميه ، فناولته خرقة ، فقالَ بيده هكذا ، ولم يردها .
خرجه من حديث أبي عوانة ، عن الأعمش ، بالإسناد المتقدم .
ومقصوده منه : قولها : ( ( ثم أفرغ بيمينه على شماله ، فغسل فرجه ) ) .
وقد خرجه البخاري - فيما بعد - من طريق أبي حمزة السكري ، عن الأعمش ، ولفظه : ( ( وصب على يديه فغسلهما ، ثم صب بيمينه على شماله فغسل فرجه ) ) .
وهذه الرواية : تصرح بانه غسل يديه جميعاً قبل إدخال يده اليمنى في الإناء .
وقد سبق من رواية عبد الواحد وغيره ، عن الأعمش بنحو هذا اللفظ - - أيضاً .
وسبق - أيضاً - الحديث من رواية حفص بن غياث ، عن الأعمش ،(1/294)
"""""" صفحة رقم 295 """"""
ولفظه : قالت ميمونة : صببت للنبي ( غسلاً ، فأفرغ بيمينه على يساره فغسلهما ، ثم غسل فرجه .
والمراد : أنه تناول الإناء بيمينه ، فصبه على يساره ، ثم غسلهما معاً .
وفي رواية لأبي داود ، من رواية عبد الله بن داود ، عن الأعمش : فأكفأ الإناء على يده اليمنى ، فغسلها مرتين أو ثلاثاً ، ثم صب على فرجه ، فغسل فرجه بشماله .
وهذه الرواية : توهم أنه صب من الإناء على يده اليمنى فقط .
وهذه الرواية التي خرجها البخاري في هذا الباب فيها : ( ( فصب على يده فغسلها مرتين أو ثلاثاً ) ) ، وهي توهم أنه صب على اليمنى فقط ، ولم يغسل اليسرى حتى غسل فرجه بها ، ثم دلكها بالتراب ، ثم غسلها .
وقد سبق من حديث عمر نحو ذَلِكَ - - أيضاً .
وحديث عائشة صريح في أنه ( غسل يديه جميعاً قبل إدخال يده اليمنى في الإناء ، ثم أدخلها فأفرغ بها على شماله ، ثم غسل فرجه .
وقد قالَ الإمام أحمد : الغسل من الجنابة على حديث عائشة .
ونقل حنبل عنه ، أنه يبدأ فيفيض الإناء على يده اليمنى ، فيصب [ منه ] ثلاث مرات ، ثم يغمس يده في الإناء ، فيصب على يده اليسرى ، فيغسلهما جميعاً ، ثم يغسل فرجه فينقيه ، ثم يتوضأ .
ونقل عنه - مرة أخرى - ، أنه قالَ : يبدأ فيغسل كفيه ثلاثاً .(1/295)
"""""" صفحة رقم 296 """"""
وهذا يوافق رواية الأكثرين عنه .
فهذا كله في غسل اليدين وفي غسل الفرج .
فأما بقية الغسل ، فإن غسل أعضاء الوضوء فيهِ كغسلها في الوضوء من الحدث الأصغر ، على ما سبق في موضعه .
وأما غسل الرأس ، فإنه يحثي عليهِ ثلاث حثيات باليدين جميعاً .
وقد جاء التصريح بذلك في روايات متعددة ، سبق ذكرها .
وأما صب الماء على بقية الجسد ، ففي بعض ألفاظ حديث عائشة ما يدل على أنه بالكفين معاً ، وقد سبق ذكره - أيضاً .
واما محل الإناء من المتوضيء والمغتسل ، فقالَ طائفة من الفقهاء من أصحابنا والشافعية وغيرهم : إن كانَ واسعاً يمكن الاغتراف منه ، كانَ من جهة اليمين ، ويغرف منه باليمين ، وإن كانَ ضيقاً لا يمكن الاغتراف منه ، وإنما يصب به صباً وضع من جهة الشمال .
وخرج الطبراني ، بإسناد فيهِ جهالة ، عن أنس ، أنه أراهم الوضوء ، فأخذ ركوة فوضعها عن يساره ، وصب على يده اليمنى منها ثلاثاً - وذكر بقية الوضوء - ، ثم قالَ : هكذا رأيت رسول الله ( يتوضأ .(1/296)
"""""" صفحة رقم 297 """"""
- بَابُ
إِذَا جَامَعَ ثُمَّ عَاوَدَ ، وَمَنْ دار عَلَى نِسائِهِ
في غُسلٍ واحِدٍ
خرج فيهِ حديثين :
أحدهما :
267 - من رواية : شعبة ، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر ، عن أبيه قالَ : ذكرته لعائشة ، فقالت : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، كنت أطيب رسول الله ( ، فيطوف على نسائه ، ثم يصبح محرماً ، ينضخ طيباً .
الذي ذكر لعائشة ، هوَ : أن ابن عمر كره الطيب عندَ الإحرام ، فردت مقالته بهذه الرواية .
قالَ الإسماعيلي في ( ( صحيحه ) ) : قول عائشة : ( ( يطوف على
نسائه ) ) ، ينظر : هل أردت به الجماع ، أو تجديد العهد بهن للخروج ، وذلك أنه لو كانَ معنى الطواف عليهن للوقاع لاحتاج إلى الغسل ، ولا يكاد الطيب يبقى بعد إنقاء الغسل ، لا سيما وهي تقول : ( ( ينضخ طيباً ) ) ، بالحاء أو الخاء ، وهو بالخاء معجمة أشبه ؛ لأنه أخف من النضح ، كأنه يتساقط منه الشيء بعد الشيء من الطيب . انتهى ما ذكره .
وما ذكره من احتمال طوافه عليهن للتوديع فبعيد جداً ، أو غير صحيح ؛ فإن عائشة إنما أخبرت عن حجة الوداع ، وقد جاء مصرحاً عنها في رواية خرجها مسلم ، أنها طيبته في حجة الوداع ، وحجة الوداع كانَ أزواجه كلهن معه(1/297)
"""""" صفحة رقم 298 """"""
فيها ، فلم يكن يحتاج إلى وداعهن .
ووجه استدلال البخاري بالحديث على أن تكرار الجماع بغسل واحد :
أن النبي ( لو اغتسل من كل واحدة من نسائه لكان قد اغتسل تسع مرات ، فيبعد حينئذ أن يبقى للطيب أثر ، فلما أخبرت أنه أصبح ينضخ طيباً ، استدل بذلك على أنه اكتفى بغسل واحد .
واستبعاد الإسماعيلي بقاء أثر الطيب بعد الغسل الواحد ليس بشيء ، فقد اخبرت عائشة أنها نظرت إلى الطيب في مفرق رسول الله ( وهو محرم بعد ثلاث .
وفي رواية ، عنها : في رأسه ولحيته .
وقد كانَ ( يوضأ في هذه المدة ، بل كانت عادته الوضوء لكل صلاة ، ومع هذا فلم يذهب اثره من شعره ، وهذا يدل على أنه كانَ طيباً كثيراً لهُ جرم يبقى مدة .
الحديث الثاني :
268 - من رواية : هشام ، عن قتادة : ثنا أنس بن مالك ، قالَ : كانَ النبي ( يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار ، وهن إحدى عشرة .
قلت لأنس : أو كانَ يطيقه ؟ قالَ : كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين .(1/298)
"""""" صفحة رقم 299 """"""
وقال سعيد ، عن قتادة : إن أنساً حدثهم : تسع نسوة .
ووجه الاستدلال من هذا الحديث : أن أنساً ذكر أن النبي ( كانَ يدور على إحدى عشرة امرأة في ساعة واحدة من الليل والنهار ، وهذا يدل على أنه لم يغتسل عندَ كل واحدة ؛ فإن الساعة الواحدة لا تتسع للوطء إحدى عشرة مرة ، مع غسل إحدى عشرة مرة .
وقد ذكر البخاري اختلاف هشام وسعيد بن أبي عروبة على قتادة في عدد النسوة : فذكر هشام : أنهن إحدي عشرة ، وذكر سعيد : أنهن تسع .
وحديث سعيد ، قد خرجه البخاري - فيما بعد - ، وسيأتي قريباً - إن شاء الله تعالى .
وقد روى هذا الحديث معمر ، عن قتادة ، وذكر فيهِ : أن ذلك كانَ بغسل واحد .
خرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه ، من رواية سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، عن أنس ، أن النبي ( كانَ يطوف على نسائه في غسل واحد .
وقال الترمذي : حسن صحيح .
وإنما لم يخرج البخاري هذا ؛ لأن رواية معمر ، عن قتادة ليست بالقوية .
قالَ ابن أبي خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول : قالَ معمر : جلست إلى قتادة وأنا صغير ، فلم أحفظ عنه الأسانيد .
قالَ الدارقطني في ( ( العلل ) ) : معمر سيء الحفظ لحديث قتادة .(1/299)
"""""" صفحة رقم 300 """"""
وقد روى هذا الحديث ابن عيينة ، عن معمر ، عن ثابت ، عن أنس ، وهو وهم .
ورواه مصعب بن المقدام ، عن الثوري ، عن معمر ، عن حميد ، عن أنس .
خرجه الطبراني .
وهو وهم .
ورواه ضمرة ، عن الثوري ، عن معمر ، عن حميد ، عن أنس .
وأخطأ في قوله : ( ( عن حميد ) ) - : قاله أبو زرعة .
وقد توبع عليهِ معمر من وجوه غير قوية :
فرويناه من طريق سفيان ، عن محمد بن حجادة ، عن قتادة ، عن أنس .
ورواه مسلمة بن علي الخشني - وهو ضعيف - ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن أنس ، قالَ : ربما طاف النبي ( في الليلة الواحدة على ثنتي عشرة امرأة ، لا يمس في ذَلِكَ شيئاً من الماء .
ورواه صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن أنس ، قالَ : وضعت للنبي ( غسلاً ، فاغتسل من جميع نسائه في الليلة .
خرجه ابن ماجه .(1/300)
"""""" صفحة رقم 301 """"""
ونقل الترمذي في ( ( كتاب العلل ) ) ، عن البخاري ، أنه ضعفه من أجل صالح .
وخرجه أبو داود والنسائي ، من رواية إسماعيل بن علية : نا حميد عن أنس ، أن النبي ( طاف على نسائه في ليلة بغسل واحد .
وخرجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) ، من رواية مسكين بن بكير ، عن شعبة ، عن هشام بن زيد ، عن أنس ، أن النبي ( كانَ يطوف على نسائه بغسل واحد .
وتابعه بقية بن الوليد ، فرواه ، عن شعبة - أيضاً .
خرجه من طريقه الإمام أحمد .
ولم يرض البخاري هذا الحديث ، من أجل مسكن بن بكير ؛ فإنه ليس بذاك .
قالَ الأثرم : قلت لأحمد : نظرت في حديث مسكين ، عن شعبة ، فإذا فيها خطأ . قالَ : أحمد من أين كانَ يضبط هوَ عن شعبة ؟
قالَ البرديجي : لا يلتفت إلى رواية الفرد عن شعبة ، ممن ليس لهُ حفظ ولا تقدم في الحديث من أهل الإتقان .
وقد روي الأمر بالوضوء للمعاودة من رواية عاصم الأحول ، عن أبي المتوكل ، عن أبي سعيد الخدري ، أن النبي ( قالَ : ( ( إذا أتى أحدكم أهله ، ثم أراد أن يعود ، فليتوضأ ) ) .(1/301)
"""""" صفحة رقم 302 """"""
خرجه مسلم .
وفي رواية : ( ( فليتوضأ بينهما وضوءاً ) ) .
وخرجه ابن خريمة والحاكم في ( ( صحيحيهما ) ) ، بزيادة في آخره ، وهي : ( ( فإنه أنشط للعود ) ) .
وخرجه ابن خزيمة - أيضاً - بلفظ آخر ، وهو : ( ( إذا أراد أحدكم أن يعود فليتوضأ وضوءه للصلاة ) ) - يعني : الذي يجامع ، ثم يعود قبل أن يغتسل .
وفي إسناده بعض اختلاف .
وقال الشافعي : روي فيهِ حديث ، وإن كانَ مما لا يثبت مثله .
واستحب أكثر العلماء الوضوء للمعاودة ، وهو مروي عن عمر وغيره ، وليس بواجب عندَ الأكثرين ، وأوجبه قليل من أهل الظاهر ونحوهم .
ومن العلماء من أنكر الوضوء ، وحمل الوضوء في هذا الحديث على التنظيف وغسل الفرج .
وقد قالَ إسحاق : غسل الفرج لابد منه .
والأكثرون على أن المعاودة من غير وضوء لا تكره ، وهو قول الحسن ومالك وأحمد وإسحاق .
وقد روي الاغتسال للمعاودة من حديث أبي رافع ، أن النبي ( طاف على نسائه جميعاً في يوم واحد ، واغتسل عندَ كل واحدة منهن غسلاً .
فقلت :(1/302)
"""""" صفحة رقم 303 """"""
يا رسول الله ( ، ألا تجعله غسلاً واحداً ؟ قالَ : ( ( إن هذا أزكى واطهر وأطيب ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه .
وفي إسناده بعض من لا يعرف حاله .
قالَ أبو داود : حديث أنس أصح من هذا .
يعني : حديثه في الغسل الواحد .
وفي هذا الباب أحاديث أخر ، أسانيدها ضعيفة .(1/303)
"""""" صفحة رقم 304 """"""
- بَابُ
غَسْلِ الْمَذْيِ ، والْوُضُوءِ مِنْهُ
269 - حدثنا أبو الوليد : ثنا زائدة ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي ، قالَ : كنت رجلاً مذاء ، فأمرت رجلاً أن يسأل النبي ( - لمكان ابنته - ، فسأله فقالَ : ( ( توضأ ، واغسل ذكرك ) ) .
وقد خرجه البخاري - فيما سبق - في آخر ( ( العلم ) ) - مختصراً - ، من حديث محمد ابن الحنفية ، عن أبيه علي بن أبي طالب ( في باب : من استحي ، فأمر غيره أن يسأل ) ) .
وقد استنبط البخاري منه - ها هنا - حكمين :
أحدهما :
غسل المذي ؛ لقوله ( : ( ( اغسل ذكرك ) ) .
وقد اختلف العلماء في معنى الأمر بغسل الذكر من المذي : هل المراد غسل ما أصاب الذكر منه كالبول ، أو غسل جميع الذكر ؟
وفيه : قولان ، وهما روايتان عن مالك والإمام أحمد .
وحكي عنه رواية ثالثة ، بوجوب غسل الذكر كله مع الأنثيين .
وقد روي في حديث علي ، أن النبي ( قالَ : ( ( يغسل ذكره وأنثييه
ويتوضأ ) ) ، من وجوه قد تكلم فيها .
واختار هذه الرواية أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا ، وذكر أن الحديث صح بذلك .(1/304)
"""""" صفحة رقم 305 """"""
ولو استجمر منه بحجر أجزأه كالبول - : ذكره اصحابنا .
وهذا - على قولنا : يجب غسل ما أصحاب الذكر منه - ظاهر .
فأما إن قلنا يجب غسل الذكر جميعه ، أو الذكر مع الأنثيين ، فلا ينبغي أن يجزىء منه الاستجمار .
وعنده الشافعية : أن المذي : هل يجزيء فيهِ الاستجمار ؟ فيهِ قولان :
بناء على أن الخارج النادر : هل يجزيء الاستجمار كالمعتاد ؟ ، على قولين للشافعي ، أصحهما : الجواز .
لكنهم لا يوجبون زيادة على غسل ما أصاب الذكر منه ، وهو قول أبي حنيفة وغيره .
وقال سعيد بن جبير - في المذي - : يغسل الحشفة منه ثلاثاً .
فأما إن أصاب المذي غير الفرج من البدن أو الثوب ، فالجمهور على أنه نجس يجب غسله كالبول .
وعن أحمد رواية : أنه يعفى عن يسيره كالدم .
وعنه رواية ثالثة : أن نجاسته مخففة ، يجزىء نضحه بالماء ، كبول الغلام الذي لم يأكل الطعام ؛ لعموم البلوى به ، ومشقة الاحتراز منه .
وفيه حديث ، من رواية سهل بن حنيف ، عن النبي ( ، أنه سئل عما أصاب الثوب من المذي ؟ قالَ : ( ( تأخذ كفا من ماء فتنضح به حيث ترى أنه أصابك ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي .(1/305)
"""""" صفحة رقم 306 """"""
وقال : حسن صحيح ، ولا نعرفه إلا من حديث ابن إسحاق .
وقال الإمام أحمد - في رواية الأثرم - : لا اعلم شيئاً يخالفه .
ونقل عنه غيره ، أنه قالَ : لم يروه إلا ابن إسحاق ، وأنا أتيهيبه .
وقال - مرة - : إن كانَ ثابتاً أجزأه النضح .
وعن أحمد رواية : أن المذي طاهر كالمني .
وهي اختيار أبي حفص البرمكي من أصحابنا ، أوجب مع ذَلِكَ نضحه تعبداً .
ومن الأصحاب من قالَ : إذا قلنا بطهارته ، لم يجب غسل ما أصاب الثوب منه .
وهل يجب الاستنجاء منه ؟ على وجهين ، كالمني .
وهذا بعيد ، وهو مخالف للأمر بغسله .
والحكم الثاني :
وجوب الوضوء منه .
وقد أجمع العلماء على أن المذي يوجب الوضوء ، ما لم يكن سلساً دائماً ؛ فإنه يصير حينئذ كسلس البول ، ودم الاستحاضة .
ومالك لا يوجب الوضوء منه حينئذ .
وخالفه جمهور العلماء .
وأما إذا خرج على الوجه المعتاد ، فإنه يوجب الوضوء باتفاقهم ، لا يوجب الغسل - أيضاً - بالاتفاق .
وقد حكي عن ابن عمر فيهِ اختلاف .(1/306)
"""""" صفحة رقم 307 """"""
والصحيح عنه ، كقول جمهور العلماء ، أنه يكفي منه الوضوء .
وقد روي عن النبي ( ، أنه قالَ - في المذي - : ( ( توضأ ، وانضح فرجك ) ) .
خرجه مسلم وغيره .
فمن العلماء من حمل نضح الفرج على غسله ، بما في اللفظ الآخر :
( ( توضأ واغسل ذكرك ) ) .
ومنهم من حمله على نضح الفرج بعد الضوء منه ؛ لتفتير الشهوة ، ودفع الوسواس .
وقد ورد في رواية التصريح بهذا المعنى ، لكن في إسناده ضعف .
وعلى هذا ؛ فالأمر بالنضح محمول على الاستحباب .(1/307)
"""""" صفحة رقم 308 """"""
- بَابُ
مَنْ تَطَيَّبَ ثُمَ اغْتَسَلَ وبَقَي أثَرُ الطَّيبِ
خرج فيهِ حديثين :
أحدهما :
270 - حديث : إبراهيم بن محمد بن المنتشر ، عن أبيه ، قالَ : سألت عائشة - وذكرت لها قول ابن عمر : ما أحب أن اصبح محرماً انضخ طيباً - ، فقالت عائشة : أنا طيبت رسول الله ( ، ثم طاف في نسائه ، ثم اصبح محرماً .
الثاني :
271 - حديث : إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : كأني أنظر إلى وبيص الطيب ، في مفرق النبي ( ، وهو محرم .
قالَ الإسماعيلي : في الحديث الأول : عامة من حدثنا قاله بالحاء غير معجمة - يعني : ( ( ينضح طيباً ) ) - ، قالَ : والقول في ( ( يطوف ) ) ما قدمناه .
قلت : الصواب : أن معنى طوافه للنساء جماعهن ، كما سبق .
فالحديث حينئذ : يدل على أن من اغتسل من الجنابة ، وبقي على جسده أثر طيب ونحوه ، مما لا يمنع وصول الماء إلى ما تحته ، أنه لا يضره ، وأن غسله صحيح .
و ( ( بيص الطيب ) ) : بريق لونه ولمعانه .
قالَ الخطابي : يقال وبص وبيصاً وبص بمعنى واحد .
وهذا يدل على بقاء أجزاء من الطيب ، فيستدل بذلك على أنه لا يمنع صحة(1/308)
"""""" صفحة رقم 309 """"""
الغسل ، إذا وصل الماء معه إلى البشرة ، وهو مقصود البخاري بهذا الباب .
وعلى أنه لا يمنع المحرم من استدامته في الإحرام ، ويأتي ذكر ذَلِكَ في موضعه من ( ( الحج ) ) - إن شاء الله تعالى .
ويحتمل أن يكون هذا الطيب الذي يبص على شعر النبي ( كما جاء في رواية : ( ( أنه كانَ في مفارقه ) ) ، وفي رواية : ( ( في رأسه ولحيته ) ) .
فيستدل على أن الشعر لا يجب غسله في جنابة ولا غيرها ، كما ذهب إليه طوائف من العلماء ، كما سبق ذكره .(1/309)
"""""" صفحة رقم 310 """"""
- بَابُ
تَخْليلِ الشَّعر حَتىَ إذا ظَنَّ أنَّهُ قَدْ أرْوى بشَرتَهُ أفَاضَ عليهِ
272 - ثنا عبدان : ثنا عبد الله - هوَ ابن المبارك - : ثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كانَ رسول الله ( إذا اغتسل من الجنابة ، غسل يديه ، وتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم اغتسل ، ثم يخلل بيده شعره ، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليهِ الماء ثلاث مرات ، ثم يغسل سائر جسده .
273 - وقالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله ( من إناء واحد ، نغترف ، منه جميعاً .
ما ذكر في هذه الرواية ، أنه توضأ ، ثم اغتسل ، ثم يخلل بيده شعره ، إلى
آخره ، وهو من باب عطف التفصيل على الإجمال ؛ فإن ما ذكره من التخليل وما بعده هوَ تفصيل للاغتسال الذي ذكر مجملاً .
والحديث يدل على أن النبي ( كانَ قبل أن بفيض الماء على رأسه ثلاثاً يخلل شعره بيده بالماء ، حتى يظن أنه قد أروى بشرته ، وهذا مما ذكر في حديث عائشة دون حديث ميمونة .
وقد خرجه البخاري في أول ( ( كتاب : الغسل ) ) ، من حديث مالك ، عن هشام ، وفي حديثه : ( ( توضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يدخل أصابعه في الماء ، فيخلل بها أصول الشعر ، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه ) ) .(1/310)
"""""" صفحة رقم 311 """"""
وهذا يصرح بالمعنى الذي ذكرناه .
وخرجه مسلم ، من طريق أبي معاوية ، عن هشام ، وفي حديثه :
( ( توضأ وضوءه للصلاة ، ثم يأخذ الماء ، فيدخل أصابعه في أصول الشعر ، حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات ) ) .
وكذلك روى حماد بن زيد ، عن هشام ، هذا الحديث ، وقال فيهِ - بعد ذكر الوضوء - : ( ( ثم يدخل يده في الإناء ، فيخلل شعره ، حتى إذا رأى أنه قد أصاب البشرة ، أو أنقى البشرة ، افرغ على رأسه ثلاثاً ) ) .
خرجه أبو داود .
وخرجه الإمام أحمد ، عن يحيى بن سعيد القطان ، عن هشام ، به بنحوه ، وفي حديثه : ( ( ثم يخلل اصول شعر رأسه ، حتى إذا ظن أنه قد استبرا البشرة ، اغترف ثلاث غرفات ، فصبهن على رأسه ) ) .
وخرجه النسائي ، من حديث سفيان ، عن هشام ، ولفظ حديثه : ( ( إن النبي ( كانَ يشرب رأسه ، ثم يحثي عليهِ ثلاثاً ثلاثاً ) ) .
وروى أيوب وعبيد الله بن عمر هذا الحديث ، عن هشام ، وذكر أن تخليل شعره كانَ مرتين .
وروي عن أيوب ، قالَ : مرتين أو ثلاثاً .
ورواه حماد بن سلمة ، عن هشام ، ولفظ حديثه : ( ( أن النبي ( كانَ يتوضأ من الجنابة ، ثم يدخل يده اليمنى في الماء ، ثم يخلل به شق رأسه(1/311)
"""""" صفحة رقم 312 """"""
الأيمن ، فيتبع بها أصول الشعر ، ثم يفعل بشة رأسه الأيسر كذلك ، حتى تستبرىء البشرة ، ثم يصب على رأسه
ثلاثاً ) ) .
ورواه شريك ، عن هشام ، وذكر أن تخليل شعره كانَ بعد الإفراغ عليهِ ثلاثاً .
وشريك ، سيء الحفظ ، لا يقبل تفرده بما يخالف الحفاظ .
وتابعه سفيان بن وكيع ، عن أبيه ، عن هشام .
وسفيان هذا ، ليس ممن يلتفت إلى قوله .
وكذلك رواه ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة .
وابن لهيعة ، لا يقبل تفرده فيما يخالف الحفاظ .
وفي الجملة ؛ فهذا ثابت عن النبي ( ، أنه خلل شعره بالماء ، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض الماء على شعر راسه .
فكان التخليل أولاً لغسل بشرة الرأس ، وصب الماء ثلاثاً بعده لغسل الشعر ، هذا هوَ الذي يدل عليهِ مجموع ألفاظ هذا الحديث .
وقال القرطبي : إنما فعل ذَلِكَ ليسهل دخول الماء إلى أصول الشعر .
وقيل [ ليتأسى ] بذلك [ حتى ] لا يجد بعده من صب الماء الكثير [ . . . ] .
قلت : قول عائشة : ( ( حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليهِ الماء ثلاث مرات ) ) ، يرد هذا [ كله ] ، ويبين أن التخليل كانَ لغسل بشرة الرأس ،(1/312)
"""""" صفحة رقم 313 """"""
وتبويب البخاري يشهد لذَلِكَ - أيضاً .
وهذه سنة عظيمة من سنن غسل الجنابة ، ثابتة عن النبي ( ، لم ينتبه لها أكثر الفقهاء ، مع توسعهم للقول في سنن الغسل وأدائه .
ولم أر من صرح به منهم ، إلا صاحب ( ( المغني ) ) من أصحابنا ، وأخذه من عموم قول أحمد :
الغسل على حديث عائشة .
وكذلك ذكره صاحب ( ( المهذب ) ) من الشافعية ، قالَ - بعد ذكر الوضوء - :
ثم يدخل أصابعه العشر في الماء ، فيغترف غرفة يخلل بها أصول شعره من رأسه ولحيته ، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات .
وفي هذا زيادة على ما في حديث عائشة ، وهو تخليل اللحية .
ومذهب الشافعي : وجوب إيصال الماء إلى باطن اللحية ، وإن كانت كثيفة ، في الجنابة دون الوضوء .
وعن مالك في وجوب ذَلِكَ في الغسل روايتان .
وأما أصحابنا فيجب ذَلِكَ عندهم - في المشهور .
ولهم وجه ضعيف ، أنه لا يجب .
وحكي مثله عن المزني .
وكلام أكثرهم ، يدل على أن المغتسل يتوضأ ، ثم يصب على رأسه الماء ثلاثاً ، ويخلل أصول الشعر مع ذَلِكَ .
وقد وجد في كلام الأئمة ، كسفيان وأحمد وإسحاق ، ما يدل على ذَلِكَ .
واتباع السنة الصحيحة التي ليس لها معارض أولى .
وقد روى قتادة ، عن عروة ، عن عائشة ، أن رسول الله ( كانَ إذا أراد أن يغتسل من جنابة توضأ وضوءه للصلاة ، ثم صب على رأسه ثلاث مرار ،(1/313)
"""""" صفحة رقم 314 """"""
يخلل باصابعه أصول الشعر .
خرجه الإمام أحمد .
وهذه الرواية تشهد لما قاله أكثر الفقهاء : إنه يصب الماء على رأسه ، ثم يخلله
بأصابعه .
ولكن رواية هشام ، عن أبيه ، المتفق على صحتها ، مقدمة على رواية قتادة .
وليس في ترك ذكر هذا في حديث ميمونة ما يوجب تركه ؛ لأن ميمونة حكت غسل النبي ( في قضية معينة ، وعائشة حكت ما كانَ النبي ( يفعله إذا اغتسل من الجنابة ، فالأخذ بروايتها متعين ، والله أعلم .(1/314)
"""""" صفحة رقم 315 """"""
- بَابُ
مَنْ توضَأ في الْجَنَابِةِ ، ثُمَّ غَسَلَ سائرَ جَسَدهِ
وَلَمْ يعدْ غَسلْ مَواضِع الْوضُوءِ منْهُ مَرَّة أخرى
خرج فيهِ :
274 - حديث ميمونة : قالت : وضع رسول الله ( وضوءاً للجنابة ، فكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثاً ، ثم غسل فرجه ، ثم ضرب يده بالأرض - أو الحائط - مرتين أو ثلاثاً ، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه ، ثم افاض على راسه الماء ، ثم غسل جسده ، ثم تنحى فغسل رجليه ، قالت : فأتيته بخرقة فلم يردها ، فجعل ينفض الماء بيده .
خرجه من طريق الفضل بن موسى ، عن الأعمش ، بإسناده المتقدم .
ووجه دلالة الحديث على ما بوب عليهِ : أنه ( غسل وجهه وذراعيه ، ثم أفاض على راسه الماء ، ثم غسل جسده ، ولم يعد غسل وجهه وذراعيه ، وإنما غسل رجليه اخيراً ؛ لأنه لم يكن غسلهما أولاً .
وقد خرج مسلم هذا الحديث ، من رواية عيسى بن يونس ، عن الأعمش ، وفي حديثه : ( ( ثُمَّ توضأ وضوءه للصلاة ، ثُمَّ أفرغ على راسه ثلاث حفنات ملء كفه ، ثُمَّ غسل سائر جسده ) ) .
وقوله : ( ( غسل سائر جسده ) ) يدل على أنه لم يعد غسل ما كانَ غسله منه قبل ذَلِكَ ؛ لأن : ( ( سائر ) ) إنما تستعمل بمعنى : ( ( الباقي ) ) ، لا بمعنى :
( ( الكل ) ) ، على الأصح الأشهر عندَ أهل اللغة .(1/315)
"""""" صفحة رقم 316 """"""
وكذلك خرج مسلم حديث عائشة ، من حديث أبي معاوية ، عنة هشام ابن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة - فذكرت الحديث ، وفي آخره - : ( ( ثم أفاض على سائر جسده ) ) .
وهو - أيضاَ - : دليل على أنه لم يعد غسل ما مضى غسله منه .
والعجب من البخاري - رحمه الله - ، كيف ذكر في تبويبه ( ( من توضأ للجنابة ثم غسل سائر جسده ) ) ، ولم يسق الحديث بهذا اللفظ ، وإنما تتم الدلالة به .
ومقصوده بهذا الباب : أن الجنب إذا توضأ ، فإنه يجب عليهِ غسل بقية بدنه ، ولا يلزمه إعادة غسل ما غسله من أعضاء الوضوء .
والجنب حالتان :
إحداهما : أنه لا يلزمه سوى الغسل ، وهو من أجنب من غير أن يوجد منه حدث أصغر - على قول من يقول : إن الجنابة المجردة لا توجب سوى الغسل ، كما هوَ قول الشافعي وابن حامد من أصحابنا - ، فهذا لا يلزمه أكثر من الغسل .
فإن بدأ بأعضاء الوضوء ، فغسلهما ، لم يلزمه سوى غسل بقية بدنه ، بغير
تردد .
وينوي بوضوئه الغسل ، لا رفع الحدث الأصغر - : صرح به الشافعية ، وهو ظاهر .(1/316)
"""""" صفحة رقم 317 """"""
الحالة الثانية : أن يجتمع عليهِ حدث أصغر وجنابة ، إما بأن يحدث ، ثم يجنب ، أو على قول من يقول : إن الجنابة بمجردها تنقض الوضوء وتوجب الغسل ، كما هوَ ظاهر مذهب أحمد وغيره .
فهذه المسألة قد سبقت الإشارة إليها والاختلاف فيها .
وأكثر العلماء على تداخل الوضوء والغسل قي الجملة .
قالَ الحسن : إذا اغتمس في النهر ، وهو جنب ، أجزأه عن الجنابة والحدث .
فعلى هذا ؛ إذا غسل اعضاء الوضوء مرة ، لم يحتج إلى إعادة غسلها .
قالَ : أحمد العمل عندي في غسل الجنابة ، أن يبدأ الرجل بمواضع الوضوء ، ثم يغسل بعد ذَلِكَ سائر جسده .
ولكن على هذا التقدير ، ينوي بوضوئه رفع الحدثين عن أعضاء الوضوء .
فإن نوى رفع الحدث الأصغر وحده ، احتاج إلى إعادة غسل أعضاء الوضوء في الغسل .
ثم إن المشهور عن أحمد - عندَ اصحابه كالخرقي ومن تابعه - : أن الغسل والوضوء لا يتداخلان ، إلا بأن ينويهما ، كالحج والعمرة في القرآن ، وهو وجه
الشافعية .
وعلى هذا ؛ فينوي بالوضوء رفع الحدث الأصغر ، صرح به ابن أبي موسى من أصحابنا .
ويلزم من ذَلِكَ وجوب إعادة غسل أعضاء الوضوء في الغسل مرة أخرى .
فإن نوى بالوضوء رفع الحدثين معاً ، لم يلزمه إعادة غسلهما مرة أخرى .(1/317)
"""""" صفحة رقم 318 """"""
والمنصوص عن الشافعي ، أنهما يتداخلان بدون نية ، نص على ذَلِكَ في
( ( الأم ) ) ، وحكاه أبو حفص البرمكي رواية عن أحمد ، كما لو كانا من جنس واحد عندَ أكثر العلماء .
فعلى هذا ، يجزىء الوضوء بنية رفع الحدث الأكبر خاصة .
وإن نوى بالوضوء رفع الحدث الأصغر ، كانَ أفضل - : قاله بعض الشافعية .
ولكن ينبغي أن يقولوا بوجوب إعادة غسل أعضاء الوضوء مرة أخرى في
الغسل .
وعلى هذا التقدير ، فإن رفع الحدث الأصغر لا يندرج فيهِ الأكبر ، بخلاف عكسه .
وعن أحمد رواية ، أنه لا يرتفع الحدث الأصغر بدون الإتيان بالوضوء ، وحكي مثله عن مالك وأبي ثور وداود ، وهو وجه الشافعية ؛ لأن سببهما مختلف ، فلم يتداخلا كحد الزنا وحد السرقة .
وعلى هذا فيجب غسل اعضاء الوضوء مرتين [ . . . ] : مرة للوضوء ، ومرة في الغسل ، وينوي بالوضوء رفع الحدث الأصغر ، وبالغسل رفع الحدث الأكبر .
وقالت طائف : إن غسل أعضاء الوضوء مرتبة متوالية ارتفع عنهما الحدثان ، وإذا نوى رفعهما ، فلا يجب عليهِ إلا غسل باقي بدنه للجنابة ، وإن لم يغسل أعضاء الوضوء مرتبة متوالية لم يرتفع عنها سوى حدث الجنابة ، وعليه ان ياتي بالوضوء على وجهه ؛ ليرفع الحدث الأصغر .(1/318)
"""""" صفحة رقم 319 """"""
وحكي هذا عن إسحاق بن راهويه ، وهو قول أبي بكر بن جعفر ، ومن اتبعه من أصحابنا .
واعتبروا - أيضاً - : أن يمسح رأسه .
وقد سبق نص أحمد ، على أنه لا يحتاج إلى مسح رأسه ، بل يكفيه صب الماء
عليهِ .
وهو يدل على أن خصائص الوضوء عنده كلها غير معتبرة في وضوء غسل
الجنابة .
وهو - أيضاً - وجه لأصحاب الشافعي ، لكنهم لا يعتبرون الموالاة ولا نية الحدث الأصغر ، على الصحيح عندهم .
وعندنا ؛ هما معتبران ، على الصحيح .
وزعم أبو بكر الخلال : أن هذا القول هوَ مذهب أحمد ، ووهم من حكى عنه خلافه فإن حنبلاً نقل عن أحمد ، في جنب اغتسل وعليه خاتم ضيق ، لم يحركه ، فصلى ، ثم ذكر ؟ قالَ : يغسل موضعه ، ويعيد الصلاة .
قالَ الخلال : هذا وهم من حنبل لا شك فيهِ ، لأن أحمد عنده أن من لم يحرك خاتمه الضيق في الوضوء وصلى ، أنه يعيد الوضوء والصلاة .
قالَ أبو بكر ابن جعفر في كتاب ( ( الشافي ) ) : هذا يدل على أنه لا بد في غسل الجنابة من الوضوء .
قلت : إنما قالَ أحمد : ( ( يعيد الوضوء والصلاة ) ) في المحدث حدثا أصغر ، فأما الجنب فإن المنصوص عن أحمد ، أنه إذا انغمس في ماء وتمضمض ، واستنشق ، أنه يجزئه ، بخلاف من يريد الوضوء ، فإنه يلزمه الترتيب والمسح .
ولكن الخلال تأول كلامه ، على أن الجنب يجزئه انغماسه في الماء من(1/319)
"""""" صفحة رقم 320 """"""
غسل الجنابة واما عن الوضوء فلا يجزئه حتى يرتب ، كالمحدث الحدث الأصغر بانفراده .
ونقول : إن قول أحمد : ( ( إذا انغمس وأراد الوضوء لا يجزئه ) ) عام فيمن أراد الوضوء وهو جنب أو محدث .
والذي عليهِ عامة الأصحاب ، كالخرقي وابن أبي موسى والقاضي أبي يعلى وأصحابه خلاف [ ذَلِكَ ] ، وأن أحمد إنما أراد المحدث حدثاً أصغر .
ورواية حنبل هذه صريحة في هذا المعنى ، وقول الخلال : ( ( إنها وهم بغير شك ) ) ، غير مقبول . والله ( أعلم .(1/320)
"""""" صفحة رقم 321 """"""
- بَابُ
إذا ذَكَر في المْسْجِدِ أنهُ جنُبُ يخرجُ كَمَا هُو ولا يَتَيَمَّمُ
275 - حدثنا عبد الله بن محمد : ثنا عثمان بن عمر : ثنا يونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قالَ : أقيمت الصلاة ، وعدلت الصفوف قياماً ، فخرج إلينا رسول الله ( ، فلما قام مصلاه ، ذكر أنه جنب ، فقالَ لنا : ( ( مكانكم ) ) ، ثم رجع فاغتسل ، ثم خرج إلينا ، ورأسه يقطر ، فكبر ، فصلينا معه .
تابعه : عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري .
ورواه الأوزاعي ، عن الزهري .
قد خرجه البخاري في ( ( كتاب الصلاة ) ) من حديث الأوزاعي ، وفيه - أيضاً - : أنه كانَ جنباً .
وخرجه - أيضاً - من رواية صالح بن كيسان ، عن الزهري ، ولم يذكر :
أنه كانَ جنباً ؛ لكن رجوعه إليهم ، ورأسه يقطر ماء يدل على ذَلِكَ .
وقد استدل البخاري بهذا الحديث على أن من ذكر في المسجد أنه جنب فإنه يخرج منه ليغسل ، ولا يلزمه التيمم لمشية للخروج .
ومثله من كانَ نائماً فاحتلم في المسجد ، فإنه يخرج منه ليغتسل ، ولا يلزمه أن يتيمم للخروج .
وقد نص على هذه الصور أحمد في رواية حرب .
واستدل طائفة بأن الصحابة كانوا ينامون في المسجد - يعني : أنه لم يكن(1/321)
"""""" صفحة رقم 322 """"""
يخلو من احتلام بعضهم فيهِ - ، ولم ينقل عن أحمد منهم أنه تيمم ، ولا أمر النبي ( أحداً منهم بذلك ، مع علمه بنومهم ، وأنه لا يكاد يخلو من محتلم منهم فيهِ .
وقد كانَ ابن عمر شاباً عزباً ، ينام في المسجد على عهد رسول الله ( .
وأصل هذه المسألة : أن الجنب : هل يباح لهُ المرور في المسجد من غير تيمم ، أم لا ؟ وفي المسألة قولان :
أحدهما - وهو قول الأكثرين - : إنه يباح لهُ ذَلِكَ ، وهو قول أكثر السلف ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم .
وقد تأول طائفة من الصحابة قول الله ( : ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ( [ النساء : 43 ] ، بأن المراد : النهي عن قربان موضع الصَّلاة - وهو المسجد - في حال الجنابة ، إلا
أن يكون عابر سبيل ، وهو المجتاز به من غير لبث فيهِ .
وقد روي ذَلِكَ عن ابن مسعود وابن عباس وأنس ( .
وفي ( ( المسند ) ) ، عن ابن عباس ، أن النبي ( سد أبواب المسجد غير باب
علي . قالَ : فيدخل المسجد جنباً ، وهو طريقه ليس لهُ طريق غيره .(1/322)
"""""" صفحة رقم 323 """"""
وروى ابن أبي شيبة بإسناده ، عن العوام ، أن علياً كانَ يمر في المسجد ، وهو جنب .
وبإسناده ، عن جابر ، قالَ : كانَ احدنا يمشي في المسجد وهو جنب مجتازاً .
وخرجه - أيضاً - سعيد بن منصور وابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) .
وعن زيد بن أسلم ، قالَ : كانَ أصحاب رسول الله ( يمشون في المسجد ، وهم جنب .
خرجه ابن المنذر وغيره .
ولا يجوز العبور إلا لحاجة ، في اصح الوجهين لأصحابنا ، وهو قول أكثر
السلف ، منهم : عكرمة ومسروق والنخعي .
وقرب الطريق حاجة ، في أحد الوجهين لأصحابنا ، وهو قول الحسن .
وفي الآخر : ليس بحاجة ، وهو وجه للشافعية ، والصحيح - عندهم - :
أنه يجوز المرور لحاجة وغيرها .
والقول الثاني : لا يجوز للجنب المرور في المسجد ، فأن اضطر إليه تيمم ، وهو قول الثوري وابي حنيفة وإسحاق ورواية عن مالك .
وقد روي ، عن النبي ( أنه قالَ : ( ( لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ) ) .(1/323)
"""""" صفحة رقم 324 """"""
خرجه أبو داود من حديث عائشة ، وابن ماجه من حديث أم سلمة وفي إسنادهما
ضعف .
وعلى تقدير صحة ذَلِكَ ، فهوَ محمول على اللبث في المسجد ؛ جمعاً بين
الدليلين .
وأهل هذه المقالة منهم من قالَ : إذا ذكر في المسجد أنه جنب أو احتلم في المسجد ، فإنه يتيمم لخروجه ، كما قاله بعض الحنفية .
وحديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري هنا حجة عليهِ .(1/324)
"""""" صفحة رقم 325 """"""
- بَابُ
نَفْضِ الْيَدَينِ من الْغُسلِ من الْجَنابَةِ
خرج فيهِ :
276 - حديث ميمونة : قالت : وضعت للنبي ( غسلاً ، فسترته بثوب ، وصب على يديه فغسلهما ، ثم صب بيمينه على شماله ، فغسل فرجه ، وضرب بيده الأرض فمسحها ، ثم غسلها ، فتمضمض واستنشق ، وغسل وجهه وذراعيه ، ثم صب على راسه ، وأفاض على جسده ، ثم تنحى فغسل قدميه ، فناولته ثوباً ، فلم يأخذه ، فانطلق وهو ينفض يديه .
خرجه من طريق أبي حمزة السكري ، عن الأعمش ، بإسناده المتقدم .
هذه الرواية مصرحة بأنه نفض يديه .
وفي رواية سبقت قبل ذَلِكَ : ( ( جعل ينقض الماء بيده ) ) .
فأما نفض الماء عن بدنه بيده ، فقد دل هذا الحديث الصحيح عليهِ ، فلا ينبغي أن يكون في عدم كراهته خلاف .
وأما نفض اليد بالماء ، فقد كرهه طائفة من أصحابنا والشافعية ، ولم يكرهه آخرون من الطائفتين ، وهو الصحيح .
ورواية البخاري المخرجة في هذا الباب تدل عليهِ .
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) ، من حديث هشام بن سعد : حدثني زيد بن(1/325)
"""""" صفحة رقم 326 """"""
أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ، أن النبي ( توضأ ، فأخذ قبضة من ماء ، فنفض يده ، ثم مسح رأسه وأذنيه .
واستدل من كره ذَلِكَ ، بما روى البختري بن عبيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( قالَ : ( ( إذا توضأتم فأشربوا أعينكم الماء ، ولا تنفضوا أيديكم ؛ فإنها مراوح الشيطان ) ) .
خرجه إسحاق بن راهويه وبقي بن مخلد وأبو يعلى الموصلي في ( ( مسانيدهم ) ) .
قالَ ابن أبي حاتم : سألت أبي عن هذا الحديث ؟ فقالَ : حديث منكر ، والبختري ضعيف الحديث ، وأبوه مجهول .
واستدل بعضهم ، برد النبي ( الثوب على ميمونة ، على كراهة التنشيف ، ولا دلالة فيهِ على الكراهة ، بل على أن التنشيف ليس مستحباً ، ولا أن فعله هوَ أولى ، لا دلالة للحديث على أكثر من ذَلِكَ ، كذا قاله الإمام أحمد وغيره من العلماء .
وأكثر العلماء على أن التنشيف من الغسل والوضوء غير مكروه .
وقد روي فعله عن جماعة من الصحابة ، منهم : عمر وعثمان وعلي ( ، وعن خلق من التابعين ، وهو قول الشعبي والثوري والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد - في المشهور عنه - وإسحاق وغيرهم .
وهو المشهور عندَ الشافعية ، وليس للشافعي في المسألة نص .(1/326)
"""""" صفحة رقم 327 """"""
وكرهه طائفة من التابعين ، وهو قول الحسن بن صالح وابن مهدي ، ورواية عن أحمد ، وأنكرها الخلال ولم يثبتها .
وكرهه ابن عباس ، في الوضوء دون الغسل .
وعمدة من كرهه : أنه أثر عبادة على البدن ، فكره إزالته ، كخلوف فم
الصائم .
والخلوف ، مختلف فيهِ - أيضاً .
وكان مكحول يتنشف بطرف ثوبه ، ويرد المنديل ، ويقول : إن فضل الوضوء بركة ، فأريد أن يكون ذَلِكَ في ثيابي .
خرجه حرب الكرماني .(1/327)
"""""" صفحة رقم 328 """"""
- بَابُ
من بَدأ بِشِق رأسِهِ الأيمَنِ في الْغُسْلِ
خرج فيهِ :
277 - من حديث : صفية بنت شيبة ، عن عائشة ، قالت : كنا إذا أصاب إحدانا جنابة أخذت بيديها ثلاثاً فوق رأسها ، ثم تأخذ بيدها على سقها الأيمن ، وبيدها الأخرى على شقها الأيسر .
قد ذكرنا هذا الحديث فيما تقدم ، وذكرنا أن ظاهره يدل على أن المرأة تفرغ على رأسها خمساً .
وقد ذكرنا فيما سبق في ( ( باب : من افرغ على رأسه ثلاثاً ) ) ، وفي ( ( باب :
تخليل الشعر ) ) أحاديث مرفوعة ، تدل على البداءة بجانب الرأس الأيمن في الصب عليهِ ، وفي تخليله بالماء قبل الإفراغ عليهِ ثلاثاً .
وقد روي من حديث عائشة ، أن النبي ( أمر في غسل الجنابة والحيض بالبداءة بشق الرأس الأيمن ، وسيأتي في غسل الحيض - إن شاء الله تعالى .
والبداءة بشق الرأس الأيمن مستحبة ، وليست واجبة .
روى الحارث ، عن علي ، قالَ : لا يضرك بأي جانبي رأسك بدأت .
خرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في ( ( كتاب الصلاة ) ) .
وكذلك البداءة بجانب البدن الأيمن ، فليس فيهِ حديث صريح ، وإنما يؤخذ من عموم قول عائشة : كانَ النبي ( يستحب التيمن في طهوره .(1/328)
"""""" صفحة رقم 329 """"""
ومن قول النبي ( - في غسل ابنته لما ماتت - : ( ( ابدأن بميامنها ، ومواضع الوضوء منها ) ) . والله ( أعلم .(1/329)
"""""" صفحة رقم 330 """"""
- بَابُ
من أغتسل عرياناً وحده في خلوة
ومن تستر ، والتستر أفضل
وقال بهز ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي ( : ( ( الله أحق أن يستتر منه من الناس ) ) .
حديث بهز ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قلت يا رسول الله ( ، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قالَ : ( ( احفظ عورتك إلا من زوجتك ، أو ما ملكت يمينك ) ) . قالَ : الرجل يكون مع الرجل ؟ قالَ ( ( قالَ ( ( إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل ) ) . قالَ : فالرجل يكون خالياً ؟ قالَ : ( ( فالله أحق أن تستحي منه ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي - وهذا لفظه .
قالَ : حديث حسن .
وصححه الحاكم وغيره .
خرج البخاري فيهِ :
278 - من حديث : معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( كانَ بنو إسرائيل يغتسلون عراة ، ينظر بعضهم إلى بعض ، وكان(1/330)
"""""" صفحة رقم 331 """"""
موسى
( يغتسل وحده ، فقالوا : والله ، ما يمنع موسى أن يغتسل معنا ، إلا أنه آدر ، فذهب مرة يغتسل ، فوضع ثوبه على حجر ، ففر الحجر بثوبه ، فخرج موسى في إثره ، يقول : ثوبي يا حجر ، ثوبي يا حجر ، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى ، فقالوا :
والله ، ما بموسى بأس ، وأخذ ثوبه ، فطفق بالحجر ضرباً ) ) .
قالَ أبو هريرة : والله ، إنه لندب بالحجر - ستة أو سبعة - ضرباً بالحجر .
279 - وعن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( بينا أيوب - ( - يغتسل عرياناً فخر عليهِ جراد من ذهب ، فجعل أيوب يحثي في ثوبه ، فناداه ربه : يا أيوب ، الم أكن أغنيتك عما ترى ؟ قالَ : بلى وعزتك ، ولكن لا غني بي عن بركتك ) ) .
ورواه إبراهيم ، عن موسى بن عقبة ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن
يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( : ( ( بيننا أيوب ( يغتسل عرياناً ) ) .
وخرج البخاري في ( ( أخبار الأنبياء ) ) من ( ( صحيحه ) ) هذا قصة موسى ( ، من وجه آخر ، من رواية عوف ، عن ابن سيرين والحسن وخلاس ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( : ( ( إن موسى ( كانَ رجلاً حيياً ستيراً ، لا يرى من جلده شيء ، استحياء منه ، فآذاه من آذاه من(1/331)
"""""" صفحة رقم 332 """"""
بني إسرائيل ، فقالوا : ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده ، إما برص وإما أدرة وإما آفة ، وإن الله أراد أن يبرئه ، فخلا يوماً وحده ، فوضع ثيابه على الحجر ، ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ، ليأخذها ، وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه ، وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملإبني إسرائيل ، فرأوه عرياناً ، أحسن ما خلق الله ، وأبرأه الله مما
يقولون ، وقام الحجر ، فأخذ ثوبه فلبسه ، وطفق بالحجر ضرباً - ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً - ، فلذلك قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ( [ الأحزاب : 69 ] .
( ( الأدرة ) ) : انتفاخ الخصية .
و ( ( الندب ) ) : الأثر الباقي في الحجر ، من ضرب موسى ( لهُ .
قالَ الخطابي : وفيه من الفقه : جواز الاطلاع على عورات البالغين ؛ لإقامة حق واجب كالختان ونحوه .
قلت : هذا فيهِ نظر ؛ فإن موسى ( لم يقصد التعري عندَ بني إسرائيل ؛ لينظروا إليه ، وإنما قدر الله لهُ ذَلِكَ حتَّى يبرئه عندهم مما آذوه به . وقد يقال : إن الله لا يقدر لنبيه ما ليس بجائز في شرعه .
وأما الاستدلال به على جواز الاغتسال في الخلوة عرياناً ، فهوَ مبني على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا ، ما لم يأت شرعنا بخلافه .
وقد استدل بهذا على الجواز الغسل في الخلوة عرياناً إسحاق بن راهويه
- أيضاً - ، وذكر أنه كانَ شرع من قبلنا ، إلا أنه لم يرد شرعنا بخلافه .
وقد يمنع هذا من يقول : قد ورد شرعنا بالتستر في الخلوة - أيضاً - ،(1/332)
"""""" صفحة رقم 333 """"""
وسيأتي بيان ذَلِكَ في الباب الآتي - إن شاء الله تعالى .
وقد روى حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أنس ، عن النبي ( ، قالَ : ( ( إن موسى بن عمران ( كانَ إذا اراد أن يدخل الماء لم يلق ثوبه ، حتى يواري عورته في الماء ) ) .
خرجه الإمام أحمد .
وعلي بن زيد ، هوَ : ابن جدعان ، متكلم فيهِ .
وكذا القول في الاحتجاج بحديث أيوب ( عرياناً .
وأما الطريق الذي ذكره البخاري تعليقاً لحديث اغتسال أيوب ( فخرجه الإمام .(1/333)
"""""" صفحة رقم 334 """"""
- بَابُ
التستر في الغسل عند الناس
خرج فيهِ حديثين :
أحدهما :
280 - من رواية : مالك ، عَن أبي النضر مولى عمر بنِ عبيد الله ، أن أبا مرة مولى أم هانىء أخبره ، أنَّهُ سمع أم هانىء تقول : ذهبت إلى رسول الله ( عام الفتح ، فوجدته يغتسل ، وفاطمة تستره ، فقال : ( ( من هَذهِ ؟ ) ) فقلت : أنا أم هانىء .
هَذا الحديث يستدل بهِ لَما بوب عليهِ ، وَهوَ : التستر عند الناس ؛ لأن ابنة الرجل وغيرها من محارمه لا تنظر إلى العورة ، فهي كالرجل معَ الرجل ، وقد كانَ النبي ( أحياناً يستره رجل فيغتسل ، وقد روي أن أبا ذر ستره لما اغتسل ، وأنه ( قام فستر أبا ذر لما اغتسل .
خرجه الإمام أحمد .
وروي - أيضاً - عَن حذيفة مثله .
خرجه ابن أبي عاصم في ( ( كِتابِ الصيام ) ) .
وخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي السمح ، قالَ : كنت أخدم النبي ( ، فكان إذا أراد أن يغتسل قالَ : ( ( ولني ) ) . فأوليه قفاي ، وأنشر الثوب فأستره بهِ .(1/334)
"""""" صفحة رقم 335 """"""
وإسناده حسن .
الحديث الثاني :
281 - حديث : ميمونة ، قالت : سترت النبي ( وَهوَ يغتسل من الجنابة ، فغسل يديه ، ثُمَّ صب بيمينه على شماله فغسل فرجه وما أصابه ، ثُمَّ مسح بيده على الحائط أو الأرض ، ثُمَّ توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه ، ثُمَّ افاض على جسده الماء ، ثُمَّ تنحى فغسل قدميه .
خرجه من طريق ابن المبارك ، عَن سفيان ، عَن الأعمش ، بإسناده المتقدم .
ثُمَّ قالَ :
تابعه : أبو عوانة وابن فضيل في الستر .
يعني : عَن الأعمش ، فَقد خرجه فيما مضى من طريق أبي حمزة السكري ، عَن الأعمش ، وخرج - أيضاً - حديث أبي عوانة فيما مضى .
وخرج مسلم من حديث زائدة ، عَن الأعمش ، بهذا الإسناد ، عَن ميمونة ، قالت : وضعت للنبي ( ماء وسترته ، فاغتسل .
فهذا الحديث مما يستدل بهِ على التستر في الاغتسال في الخلوة ؛ لأن اغتسال الرجل معَ زوجته كاغتساله خالياً .
ويدل على أن النبي ( كانَ يستتر عند اغتساله معَ أهله : ما خرجه الإمام(1/335)
"""""" صفحة رقم 336 """"""
أحمد وابن ماجه من حديث عائشة ، قالت : ما رأيت فرج رسول الله ( قط .
لكن ؛ في إسناده من لا يعرف .
وخرج البزاز من حديث مسلم الملائي ، عَن مجاهد ، عَن ابن عباس قالَ : كانَ رسول الله ( يغتسل من وراء الحجرات ، وما رئي عورته قط ومسلم الملائي ، فيهِ ضعف .
وخرج الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي من حديث يعلى بنِ أمية عَن النبي
( ، أنَّهُ رأى رجلاً يغتسل بالبراز ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليهِ ، فقالَ : ( ( إن الله حيي ستير ، فإذا أراد أحدكم أن يغتسل فليتوار بشيء ) ) .
وقد قيل : إن في إسناده انقطاعاً ، ووصله بعض الثقات ، وأنكر وصله أحمد وأبو زرعة .
وخرج أبو داود في ( ( مراسيله ) ) من حديث الزهري ، أن النبي ( قالَ : ( ( لا تغتسلوا في الصحراء ، إلا أن تجدوا متوارى ؟ ، فإن لَم تجدوا متوارى فليخط أحدكم خطاً كالدار ، ثُمَّ يسمي الله ، ويغتسل فيها ) ) .
وخرجه الطبراني متصلاً عَن الزهري ، عَن أبي سلمة ، عَن أبي هريرة .
ولا يصح وصله .(1/336)
"""""" صفحة رقم 337 """"""
وفي الباب أحاديث أخر .
فالمغتسل في الخلوة إن كانَ معه من يباح لَهُ النظر إلى عورته كزوجته أو أمته ، فقالَ أصحابنا وغيرهم : لا يجب عليهِ التستر ؛ لحديث بهز بنِ حكيم المذكور في الباب الماضي ، والأفضل التستر ؛ لحديث ميمونة .
وهذا مبني على القول بجواز نظر أحد الزوجين إلى فرج الآخر ، وفيه اختلاف مشهور .
ومن أصحاب من جزم بكراهته كصاحب ( ( المغني ) ) ، وحكى أبو الحسن الآمدي رواية عَن أحمد بتحريمه .
وبكل حال ؛ فالاستتار أولى ، وعليه يدل حديث ميمونة ، وحديث عائشة : ما نظرت إلى فرجه قط .
وأكثر العلماء على أنَّهُ غير محرم ، منهُم : مجاهد ، ومكحول ، والأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق وغيرهم .
وروى بقية بنِ الوليد : حدثني عتبة بنِ أبي حكيم : حدثني سليمان بنِ موسى ، وسألته عَن الرجل ينظر إلى فرج امرأته ، فقالَ سليمان : سألت عطاء عَن ذَلِكَ ، فقالَ : حدثتني عائشة زوج النبي ( في هَذا البيت ، وبيننا وبينها حجاب ، قالت : كنت أنا وحبي نغتسل من إناء واحد ، تختلف فيهِ أكفنا . قالَ : وأشارت إلى إناء في البيت ، قدر الفرق ، ستة أقساط .(1/337)
"""""" صفحة رقم 338 """"""
خرجه حرب الكرماني وابن عدي .
وخرجه بقي بن مخلد من طريق صدقة بنِ خالد : نا عتبة بنِ أبي حكيم - فذكره بنحوه .
وسليمان بنِ موسى ، مختلف في أمره .
وإن لَم يكن معه أحد ، فحكى أكثر أصحابنا في كراهته روايتين عَن أحمد ؛ لأنه كشف لغرض صحيح ، فَهوَ كالكشف للتخلي ونحوه .
ومنهم : من حكى في جواز كشف العورة خالياً روايتين عَن أحمد .
وقالوا : ظاهر كلام أحمد تحريمه ؛ فإن الكشف وإن جاز للحاجة ، فإنه يتقدر بقدرها ، ولا حاجة إلى التكشف للغسل معَ إمكان الاستتار ، ولا إلى القيام عرياناً معَ إمكان القعود والتضام .
وروي عَن أبي موسى الأشعري ، قالَ : إني لأغتسل في البيت المظلم ، فأحني ظهري إذا أخذت ثوبي حياء من ربي عز وجل .
وعنه ، قالَ : ما أقمت صلبي في غسل منذ أسلمت .
خرجهما ابن أبي شيبة وغيره .
وظاهر كلام ابن بطة من أصحابنا يدل على وجوب التستر في الغسل في الخلوة ، فإن لَم يجد ما يتستر بهِ ، وجب أن يتضام ما استطاع .
ونقل حرب عَن أحمد ، في الرجل يدخل الماء بغير إزار ، فكرهه كراهية شديدة .
قيل لَهُ : كل المياه ؟ قالَ : نعم قيل لَهُ : فإذا دخل الماء يحل إزاره ؟ قالَ : لا .
وممن كانَ لا يدخل الماء إلا بمئزر : ابن عمر ، والحسن ، والحسين ، وقالا : إن للماء سكاناً . وكذلك قالَ ابن أبي ليلى .(1/338)
"""""" صفحة رقم 339 """"""
وقال عمرو بنِ ميمون : لا يدخل أحد الفرات إلا بإزار ، ولا الحمام إلا بإزار ، إلا تستحيون مما استحى منهُ أبوكم آدم ؟
وقد روي مرفوعاً من رواية حماد بنِ شعيب ، عَن أبي الزبير ، عَن جابر : نهى رسول الله ( أن يدخل الماء إلا بمئزر .
خرجه العقيلي وغيره .
وأنكره الإمام أحمد ؛ لأجل حماد بنِ شعيب .
وقد تابعه عليهِ الحسن بن بشر ، فرواه عَن زهير ، عَن أبي الزبير - أيضاً .
خرجه ابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) .
والحسن ، مختلف فيهِ ، وقد خرج لَهُ البخاري في ( ( صحيحه ) ) .
وقال أحمد : روى عَن زهير مناكير .(1/339)
"""""" صفحة رقم 340 """"""
- باب إذا احتلمت المرأة
282 - حدثنا عبد الله بنِ يوسف : أنا مالك ، عَن هشام بنِ عروة ، عَن أبيه ، عَن زبيب بنت أبي سلمة ، عَن أم سلمة ، أنها قالت : جاءت أم سليم إمرأة أبي طلحة إلى رسول الله ( ، فقالت : يا رسول ؟ إن الله لا يستحي من الحق ، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ فقالَ رسول الله ( : ( ( نعم ، إذا رأت الماء ) ) .
وقد خرجه البخاري في آخر ( ( كِتابِ العلم ) ) في ( ( باب الحياء في العلم ) ) بزيادة في آخره ، واقتصر في هَذا الباب على ما يحتاج إليه فيهِ .
وقد خرجه مسلم من حديث عائشة ، وأنس ، ومن حديثه عَن أمه .
أم سليم ، وله طرق متعددة .
وهذا الحديث : نص على أن المرأة إذا إذا رأت حلماً في منامها ، ورأت الماء في اليقضة أن عليها الغسل .
وإلى هَذا ذهب جمهور العلماء ، ولا يعرف فيهِ خلاف ، إلا عَن النخعي وَهوَ شذوذ .(1/340)
"""""" صفحة رقم 341 """"""
ولعل النخعي أنكر وقوع ذَلِكَ من المرأة كَما أنكرته أم سلمة على أم سليم ، حتى قالَ لها النبي ( : ( ( تربت يمينك ، وبم يشبهها ولدها ؟ ) ) .
فبين ( أن للمرأة ماء كما للرجل ، وأنها إذا رأت الماء في نومها باحتلام ، فإنه يجب عليها الغسل منهُ . وفي ذَلِكَ تنبيه على أن الرجل كذلك ، وأنه إذا رأى حلماً ورأى الماء ، أنَّهُ يلزمه الغسل . وهذا مما لا اختلاف فيهِ بين العلماء .
وقد روى الإمام أحمد وابن ماجه من حديث علي بنِ زيد بنِ جدعان ، عَن سعيد بنِ المسيب ، عَن خولة بنت حكيم ، أنها سألت النبي ( عَن المرأة ترى في منامها مايرى الرجل ؟ فقالَ : ( ( ليسَ عليها غسل حتَّى تنزل ، كَما أن الرجل ليسَ عليهِ غسل حتَّى ينزل ) ) .
وقد روي عَن ابن المسيب مرسلاً .
ولو رأى الرجل والمرأة بللاً ولم يذكر احتلاماً ، فإن كانت أوصاف المني موجودة فيهِ لزم الغسل ، وإن احتمل أن يكون منياً وأن يكون مذياً وغير ذَلِكَ ففيه قولان :
أحدهما : عليهِ الغسل ، حكاه الترمذي في ( ( كتابه ) ) عَن غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي ( ، والتابعين ، وعن سفيان ، وأحمد .
وممن روي عَنهُ أنه قالَ : يغتسل : ابن عباس ، وعطاء ، والشعبي ، والنخعي .
وَهوَ قول أبي حنيفة ، وظاهر مذهب أحمد ، إلا أنَّهُ استثنى من ذَلِكَ أن(1/341)
"""""" صفحة رقم 342 """"""
يكون ثُمَّ سبب يقتضي خروج غير المني ، مثل أن يكون قَد سبق منهُ ملاعبته لأهله ، أو فكر قبل نومه ، أو يكون بهِ إبردة فخرج منهُ بلل بسببها ، فلم يوجب الغسل في هَذهِ الصور ؛ لأن إحالة البلل الخارج على السبب الموجود المعلوم أولى من إحالته على سبب موهوم .
فإن لَم يوجد شيء من هَذهِ الأسباب لزمه الغسل ؛ لأن خروج المني من النائم بالاحتلام هوَ الأغلب ، فيحال البلل عند لشك عليهِ دونَ المذي وغيره ؛ لأن خروج ذَلِكَ في النوم أندر ، ولأن ذمته قَد اشتغلت بطهارة قطعاً ، ولا يتيقن ، بل ولا يغلب على الظن صحة صلاته بدون الإتيان بطهارة الوضوء والغسل ، فلزمه ذَلِكَ .
والقول الثاني : لا غسل عليهِ بذلك حتى يتيقن أنَّهُ مني ، وَهوَ قول مجاهد ،
وقتادة ، والحكم ، وحماد ، ومالك ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبي يوسف ، لأن الأصل الطهارة ، فلا يجب الغسل بالشك .
والقول الأول أصح .
ولا يشبه هَذا من تيقن الطهارة وشك في الحدث ؛ فإن ذاك لَم يتيقن شيئاً موجباً لطهارة في ذمته ، بل هوَ مستصحب للطهارة المتيقنة ، ولم يتيقن اشتغال ذمته بشيء ، وهذا قَد تيقن أن ذمته اشتغلت بطهارة ، فلا تبرأ ذمته بدون الإتيان بالوضوء والغسل .
ورجح هَذا القول طائفة من محققي الشافعية - أيضاً .
وأما إن رأى الرجل والمرأة احتلاماً ، ولم ير بللاً ، فلا غسل عليهِ ، كَما دل عليهِ هَذا الحديث الصحيح ، وحكاه الترمذي عَن عامة أهل العلم ، وحكاه ابن المنذر إجماعاً عَن كل من يحفظ عَنهُ من أهل العلم .(1/342)
"""""" صفحة رقم 343 """"""
وحكى ابن أبي موسى من أصحابنا رواية عَن أحمد : أنَّهُ إذا رأى في منامه احتلاماً ووجد لذة الإنزال في منامه ، ولم يجد بللاً عند استيقاظه ، أنَّهُ يلزمه الغسل ، وبناه على قول الإمام أحمد المشهور عَنهُ : إن المني إذا انتقل من محله ، ولم يخرج ، فإنه يجب الغسل بانتقاله .
وفي هَذا نظر ؛ فإنه قَد لا يتحقق انتقاله بمجرد وجود اللذة في النوم .
وقد ورد في هَذا الحديث صريح ، خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والترمذي من حديث عبد الله بن عمر ، عَن أخيه عبيد الله ، عَن القاسم ، عَن عائشة ، قالت : سئل رسول الله ( عَن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً ؟ قالَ : ( ( يغتسل ) ) ، وعن الرجل يرى أنَّهُ قَد احتلم ولم يجد بللاً ؟
قالَ : ( ( لا غسل عليهِ ) ) . قالت أم سليم : يا رسول الله ، هل على المرأةترى ذَلِكَ غسل ؟ قالَ : ( ( نعم ، إنما النساء شقائق الرجال ) ) .
وليس عندَ ابن ماجه : ( ( قالت أم سليم ) ) - إلى أخره .
وقد استنكر أحمد هَذا الحديث في رواية مهنا ، وقال في رواية الفضل ابن زياد : أذهب إليه .
قالَ الترمذي : إنما روى هَذا عبد الله بنِ عمر ، وقد تكلم فيهِ يحيى القطان من قبل حفظه .
قلت : وقد روي معناه - أيضاً - من حديث كعب بنِ مالك . خرجه أبو نعيم في ( ( تاريخ أصبهان ) ) ، وإسناده لا يصح . والله أعلم .(1/343)
"""""" صفحة رقم 344 """"""
- باب عرق الجنب ، وأن المسلم لا ينجس
283 - حدثنا علي بنِ عبد الله : نا يحيى : نا حميد : نا بكر ، عَن أبي رافع ، عَن أبي هريرة ، أن النبي ( لقيه في بعض طريق المدينة وَهوَ جنب ، فانخنست منهُ ، فذهب فاغتسل ثُمَّ جَاءَ ، فقال : ( ( أين كنت يا أبا هريرة ؟ ) ) قالَ : كنت جنباً ، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة . فقالَ : ( ( سبحان الله إن المؤمن لا ينجس ) ) .
قولُهُ : ( ( انخنست ) ) ، أي : تواريت ، واختفيت منهُ ، وتأخرت عَنهُ ، ومنه :
الوسواس الخناس وَهوَ الشيطان ، إذا غفل العبد عَن ذكر الله وسوس لَهُ ، فإذا ذكر الله خنس وتأخر .
ومنه سميت النجوم خنساً ، قالَ تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ( [ التكوير : 15 ] ، وانخناسها : رجوعها وتواريها تحت ضوء الشمس ، وقيل : اختفاؤها بالنهار .
وفيه : دليل على أن الجنب لَهُ أن يذهب في حوائجه ويجالس أهل العلم والفضل ، وأنه ليسَ بنجس ، وإذا لَم يكن نجساً ففضلاته الطاهرة باقية على طهارتها ، كالدمع والعرق والريق ، وهذا كله مجمع عليهِ بين العلماء ، ولا نعلم بينهم فيهِ اختلافاً .
قالَ الإمام أحمد : عائشة وابن عباس يقولان : لا بأس بعرق الحائض والجنب .(1/344)
"""""" صفحة رقم 345 """"""
وقال ابن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر .
وثبت : عَن عمر وابن عباس وعائشة ، أنهم قالوا ذَلِكَ ، ثُمَّ سمى جماعة ممن قالَ به بعدهم ، وقال : ولا أحفظ عَن غيرهم خلافهم .
قلت : وقد سبق خلاف في كراهة سؤر الحائض والجنب ، وفي كراهة الماء الذِي أدخلا فيهِ أيديهما ، ولعل من كره ذَلِكَ لَم يكرهه لنجاسة أبدانهما عنده . والله أعلم .
وقد روى وكيع ، عَن مسعر ، عَن حماد ، في الجنب يغتسل ثُمَّ يستدفىء بامرأته قبل أن تغتسل ؟ قالَ : لا يستدفىء بها حتَّى يجف .(1/345)
"""""" صفحة رقم 346 """"""
- باب الجنب يخرج ويمشي في السوق [ وغيره ]
وقال عطاء : يحتجم الجنب ، ويقلم أظفاره ، ويحلق رأسه ، وإن لَم يتوضأ .
حاصل هَذا : ان الجنب لَهُ تاخير غسل الجنابة ما لَم يضق عليهِ وقت الصلاة ، وله أن ينصرف في حوائجه ، ويخرج من بيته ، ويمشي في الأسواق ، ويدخل إلى بيوت أهله وغيرهم لقضاء حوائجه .
وما حكاه عَن عطاء ، معناه : أن الجنب لا يكره لَهُ الأخذ من شعره وظفره في حال جنابته ، ولا أن يخرج دمه بحجامة وغيرها .
وقال الإمام أحمد في الجنب يحتجم ، ويأخذ من شعره وأظفاره ، أو يختضب :
لا بأس بهِ .
قالَ : ولا بأس أن يطلي بالنورة ، كانَ عطاء يقول : لا بأس بهِ .
وقال : لا بأس أن تختضب الحائض .
وقال إسحاق بنِ راهوايه : خضاب المرأة في أيام حيضها لا باس بهِ ، سنة ماضية من أزواج النبي ( ومن بعدهن من أهل العلم .
وروى أيوب ، عَن معاذة ، أن أمراة سألت عائشة : أتختضب الحائض ؟
فقالت : كنا عند النبي ( ونحن نختضب ، فلم يكن ينهانا عَنهُ .
خرجه ابن ماجه .
ولا نعلم في هَذا خلافاً إلا ما ذكره بعض أصحابنا وَهوَ أبو الفرج الشيرازي ، أن الجنب يكره لَهُ الأخذ من شعره واظفاره ، وذكر فيهِ حديثاً مرفوعاً .(1/346)
"""""" صفحة رقم 347 """"""
وهذا المرفوع خرجه الإسماعيلي في ( ( مسند علي ) ) بإسناد ضعيف جداً عَن علي - مرفوعاً - : ( ( لا يقلمن أحد ظفراً ، ولا يقص شعراً ، إلا وَهوَ طاهر ، ومن اطلى وَهوَ جنب كانَ [ علته ] عليهِ ) ) ، وذكر كلاماً ، قيل لَهُ : لَم يا رسول الله ؟
قالَ : ( ( لأنه لا ينبغي أن يلقي الشعر إلا وَهوَ طاهر ) ) .
وهذا منكر جداً ، بل الظاهر أنَّهُ موضوع . والله أعلم .
وخرج البخاري في هَذا الباب حديثين :
أحدهما :
قالَ :
284 - نا عبد الأعلى بنِ حماد : نا يزيد بنِ زريع : نا سعيد ، عَن قتادة ، أن أنس بنِ مالك حدثهم ، أن رسول الله ( كانَ يطوف على نسائه في الليلة الواحدة ، وله يومئذٍ تسع نسوة .
قَد ذكر بعض هَذا الحديث تعليقاً فيما سبق .
وإنما تتم دلالة الحديث على مراده إذا كانَ يطوف عليهن بغسل واحد ، وقد تقدم أن ذَلِكَ روي عَن أنس من وجوه متعددة ، وإن لَم يخرجها البخاري .
الحديث الثاني :
285 - حدثنا عياش : نا عبد الأعلى : نا حميد ، عَن بكر ، عَن أبي رافع ، عَن أبي هريرة ، قالَ : لقيني رسول الله ( وأنا جنب ، فأخذ بيدي ، فمشيت معه حتى
قعد ، فانسللت فأتيت الرحل فاغتسلت ، ثُمَّ جئت وَهوَ قاعد ، فقالَ : ( ( أين كنت يا أبا هريرة ؟ ) ) فقلت لَهُ ، فقالَ : ( ( سبحان الله إن المؤمن لا ينجس ) ) .
وفي هَذهِ الرواية زيادة على الرواية السابقة ، وهي : أن النبي ( أخذ بيد(1/347)
"""""" صفحة رقم 348 """"""
أبي هريرة [ . . . ] .
وَهوَ يمشي معه حتى قعدا . وهذا استدل بهِ على استحباب المصفاحة ، وعلى جواز مصافحة الجنب ، وقد يكون في يده عرق .
وفي المعنى - أيضاً - عَن حذيفة :
خرجه مسلم من طريق أبي وائل ، عَن حذيفة : أن النبي ( لقيه وَهوَ جنب فحاد عَنهُ فاغتسل ، ثُمَّ جَاءَ فقالَ : كنت جنباً ، فقالَ : ( ( إن المسلم لا ينجس ) ) .
وخرجه أبو داود ، ولفظه : أن النبي ( لقيه ، فأهوى إليه ، فقالَ : إني جنب ، قالَ : ( ( إن المؤمن لا ينجس ) ) .
وخرجه النسائي وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من طريق أبي بردة ، عَن حذيفة ، قالَ : كانَ رسول الله ( إذا لقي الرجل من أصحابه مسحه ودعا [ لَهُ ] .
قالَ : فرأيته يوماً بكرة فحدت عَنهُ ، ثُمَّ أتيته حين ارتفع النهار ، فقالَ : ( ( إني رأيتك فحدت عني ؟ ) ) فقلت : إني كنت جنباً ، فخشيت أن تمسني ، فقالَ رسول الله ( : ( ( إن المسلم لا ينجس ) ) .(1/348)
"""""" صفحة رقم 349 """"""
- باب كينونة الجنب في البيت إذا توضأ
خرج فيهِ حديثين :
أحدهما :
قالَ :
286 - نا أبو نعيم : نا هشام وشيبان ، عَن يحيى ، عَن أبي سلمة ، قالَ : سألت عائشة : أكان النبي ( يرقد وهو جنب ؟ قالت : نعم ، ويتوضأ .
والثاني :
قالَ :
278 - ثنا قتيبة : نا الليث ، عَن نافع ، عَن ابن عمر ، أن عمر بنِ الخطاب سأل
النبي ( : أيرقد أحدنا وَهوَ جنب ؟ قالَ ( ( نعم ، إذا توضأ أحدكم فليرقد وَهوَ
جنب ) ) .
ومراد البخاري بهذين الحديثين في هَذا الباب : الاستدلال على جوا تأخير الغسل من الجنابة لغير الضرورة ، وإن الجنب كانَ في بيته ، وإن نام في بيته وَهوَ جنب ، ولكنه إذا أراد النوم فإنه يستحب أن يتوضأ ، وقد أفرد باباً بعد هَذا .(1/349)
"""""" صفحة رقم 350 """"""
ويتعلق بهذا : حكم أكل الجنب ، وقد وردت فيهِ أحاديث لَم يخرجها البخاري :
فخرج مسلم من حديث شعبة ، عَن الحكم ، عَن إبراهيم ، عَن الأسود ، عَن عائشة ، قالت : كانَ رسول الله ( إذا كانَ جنباً فأراد أن يأكل أو ينام توضأ .
وخرجه وكيع في ( ( كتابه ) ) - وعنه الإمام أحمد - ، وزاد : ( ( أو يشرب ) ) .
وقد تكلم في لفظة : ( ( الأكل ) ) :
قالَ الإمام أحمد : قالَ يحيى بنِ سعيد : رجع شعبة عَن قولُهُ : ( ( يأكل ) ) ، قالَ أحمد : وذلك لأنه ليسَ أحد يقوله غيره ، إنما هوَ في النوم . انتهى .
وقد رواه - أيضاً - ميمون أبو حمزة ، عَن إبراهيم ، بهذا الإسناد ، وزاد :
( ( وضوءه للصلاة ) ) .
خرجه الطبراني .(1/350)
"""""" صفحة رقم 351 """"""
أبو حمزة هَذا ، ضعيف جداً .
وروى ابن المبارك ، عَن يونس ، عَن الزهري ، عَن أبي سلمة ، عَن عائشة ، أن النبي (
كانَ إذا أراد أن ينام وَهوَ جنب توضأ وضوءه للصلاة ، وإذا أراد أن يأكل وَهوَ جنب غسل يديه .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
وفي رواية لَهُ : إذا أراد أن يأكل أو يشرب .
وخرج ابن ماجه آخره .
ورواه الأوزاعي ، عَن يونس ، عَن الزهري كذلك .
ورواه عيسى بنِ يونس ، عَن يونس ، عَن الزهري ، عَن عروة ، عَن عائشة .
خرجه ابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) .
ورواه صالح بنِ أبي الأخضر ، عَن الزهري ، عَن أبي سلمة أو غيره - بالشك - عَن عائشة .
خرجه الإمام أحمد .
ورواه ابن وهب ، عَن يونس ، فجعل ذكر الأكل من قول عائشة ، ولم يرفعه .(1/351)
"""""" صفحة رقم 352 """"""
وأعله أبو داود وغيره بذلك .
وضعف أحمد حديث صالح بنِ أبي الأخضر .
وخرج الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي من حديث عطاء الخرساني عَن يحيى بنِ يعمر ، عَن عمار بنِ ياسر ، أن النبي ( رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة .
وحسنه الترمذي .
وإسناده منقطع ؛ فإن يحيى بن يعمر لَم يسمع من عمار بن ياسر - : قاله ابن معين ، [ و ] أبو داود ، والدارقطني وغيرهم .
وروى شرحبيل بنِ سعد ، عن جابر ، قالَ سئل النبي ( عَن الجنب :
هل ينام أو يأكل أو يشرب ؟ قالَ ( ( نعم ، إذا توضأ وضوءه للصلاة ) ) .
خرجه ابن ماجه وابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) .
وشرحبيل ، ضعفه يحيى وغيره .
وروي عَن شريك ، عَن عبد الله بنِ محمد بنِ عقيل ، عَن جابر ، عَن النبي ( ، في الجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب ، فليتوضأ وضوءه للصلاة .
خرجه ابن عدي وغيره .
وفي الباب أحاديث أخر ضعيفة .(1/352)
"""""" صفحة رقم 353 """"""
وقد اختلف العلماء في الجنب إذا أراد الأكل :
فقالت طائفة منهم : يتوضأ ، منهُم : علي ، وابن عمر ، وابن سيرين ، وأبو جعفر محمد بنِ علي ، والنخعي ، ورخص في الشرب بغير وضوء دونَ الأكل .
واستحباب الوضوء للأكل قول الشَافِعي ، وأحمد في رواية ، وقال معَ هَذا : لا يكره تركه .
وقال القاضي أبو يعلى من أصحابنا : يكره تركه .
وقالت طائفة : المستحب للجنب إذا أراد الأكل أن يغسل كفيه - ومنهم من قالَ : ويمضمض - ، وروي هَذا عَن ابن المسيب ، ومجاهد ، والزهري ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة ، وَهوَ رواية عَن أحمد ، وزعم الخلال أن أحمد رجع إليها أخيراً .
وأنكرت طائفة الوضوء وغسل اليد للأكل ، روي عَن مالك ، وقال : لا يغسل يده إلاّ أن يكون فيها قذر .
ومما يتعلق بذلك : جلوس الجنب في المسجد إذا توضأ ، وهو قول أحمد ، وإسحاق .
قالَ عطاء بنِ يسار : رأيت رجالاً من أصحاب النبي ( يجلسون في المسجد وهم مجنبون ، إذا توضئوا وضوء الصلاة .
خرجه سعيد بنِ منصور والأثرم .
وعن زيد بنِ أسلم ، قالَ : كانَ الرجل من أصحاب النبي ( يجنب ، ثُمَّ يتوضأ ، ثُمَّ يدخل المسجد فيجلس فيهِ .(1/353)
"""""" صفحة رقم 354 """"""
وقال أكثر الفقهاء : لا يجوز للجنب الجلوس في المسجد بوضوء ولا غيره ، حتى يغتسل ، إلا أن يضطر إلى ذَلِكَ ، وَهوَ قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وحكي رواية عَن أحمد ، ورجحها بعض أصحابنا .
ومتى اضطر إلى ذَلِكَ للخوف على نفسه أو ماله فله اللبث فيهِ .
وهل يلزمه التيمم لذلك ؟ فيهِ قولان :
أحدهما : لا يلزمه ذَلِكَ ، وَهوَ منصوص أحمد ، وقول أكثر أصحابه ؛ لأنه ملجأ إلى ذَلِكَ .
والثاني : يلزمه التيمم ، وَهوَ قول الشافعية ، واختاره صاحب ( ( المغني ) )
مِن أصحابنا .
ورخصت طائفة للجنب في الجلوس في المسجد والمقام فيهِ بكل حال بدون
وضوء ، وَهوَ قول داود [ والمزني ] وابن المنذر .(1/354)
"""""" صفحة رقم 355 """"""
- باب الجنب يتوضأ ، ثُمَّ ينام
خرج فيهِ مِن حديث عائشة ، وابن عمر .
فأما حديث عائشة :
288 - فخرجه مِن طريق : عبيد الله بنِ أبي جعفر ، عَن محمد بنِ عبد الرحمن
- وَهوَ : أبو الأسود يتيم عروة - ، عَن عروة ، عَن عائشة ، قالت :
كانَ النبي ( إذا أراد أن ينام وَهوَ جنب غسل فرجه ، وتوضأ للصلاة .
وقد خرجه في الباب الماضي مِن حديث يحيى بنِ أبي كثير ، عَن أبي سلمة ، عَن عائشة .
ولم يخرج حديث الزهري في هَذا ، وقد خرجه مسلم ، مِن حديث الليث . عَن الزهري ، عَن أبي سلمة ، عَن عائشة ، أن رسول الله ( كانَ إذا أراد أن ينام وَهوَ جنب توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام .
وإنما لَم يخرجه لاختلاف وقع في إسناده على الزهري ، فإنه روي : عَنهُ ،
عَن أبي سلمة . وروي : عَنهُ ، عَن عروة . وروي : عَنهُ ، عنهما . وروي :
عَنهُ ، عَن أحدهما - بالشك . وروي : عَنهُ ، عمن حدثه عَن عائشة - غير مسمى . وأما حديث ابن عمر ، فخرجه مِن طريقين :
أحدهما :
289 - مِن رواية : جويرية ، عَن نافع ، عَن عبد الله ، قالَ : استفتى عمر النبي ( : أينام أحدنا وَهوَ جنب ؟ قالَ : ( ( نعم ، إذا توضأ ) ) .(1/355)
"""""" صفحة رقم 356 """"""
وقد خرجه في الباب الماضي مِن حديث الليث ، عَن نافع .
وخرجه - أيضاً - في [ . . . ] مِن حديث ابن جريج ، فزاد في آخره :
( ( حتى يغتسل إذا شاء ) ) .
الثاني :
290 - حديث : مالك ، عَن عبد الله بنِ دينار ، عَن ابن عمر قالَ : ذكر عمر لرسول الله ( بأنَّهُ تصيبه الجنابة مِن الليل ، فقالَ لهُ رسول الله ( : ( ( توضأ ، واغسل ذكرك ، ثُمَّ نم ) ) .
ورواه ابن عيينة ، عَن عبد الله بنِ دينار ، عَن ابن عمر ، عَن عمر ، أنَّهُ سأل رسول الله (
: أينام أحدنا وَهوَ جنب ؟ قالَ : ( ( نعم ، ويتوضأ إن شاء ) ) .
خرجه ابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) مِن طريق أحمد بن عبدة ، عَن سفيان .
ورواه بشر بنِ مطر ، عَن ابن عيينة ، عَن عبد الله بنِ دينار ، عَن ابن عمر ، أن عمر سأل رسول الله ( : أينام أحدنا وَهوَ جنب ؟ فقالَ : ( ( ليتوضأ ، ولينم ، وليطعم إن شاء ) ) .
وكذا رواه الحميدي ، عَن سفيان .
وهذه الزيادات لا تعرف إلا عَن ابن عيينة .(1/356)
"""""" صفحة رقم 357 """"""
ورواه سفيان الثوري ، عَن عبد الله بنِ دينار ، وقال في حديثه : ( ( ويتوضأ وضوءه للصلاة ) ) .
وقد ذهب أكثر العلماء إلى هَذهِ الأحاديث ، وقالوا : أن الجنب إذا أراد النوم غسل ذكره وتوضأ .
وممن أمر بذلك : علي ، وابن عمر ، وعائشة ، وشداد بنِ أوس ، وأبو سعيد الخدري ، وابن عباس ، وَهوَ قول الحسن ، وعطاء ، وابن المبارك ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق وغيرهم مِن العلماء ، وكرهوا تركه معَ القدرة عليهِ .
ومنهم مِن قالَ : هوَ واجب ويأثم بتركه . وَهوَ رواية عَن مالك ، واختارها ابن حبيب مِن أصحابه ، وَهوَ قول طائفة مِن أهل الظاهر .
ونقل مثنى الأنباري عَن أحمد ، في الجنب ينام مِن غير أن يتوضأ : هل ترى عليهِ شيئاً ؟ قالَ : فلم يعجبه ، وقال : يستغفر الله .
وهذا يشعر بأنَّهُ ذنب يستغفر منهُ .
ونص على أنَّهُ يتوضأ وضوء الصلاة كاملاً ، واحتج بحديث عائشة : ( ( توضأ وضوءه للصلاة ) ) .
وروي عَن ابن عمر ، أنَّهُ كانَ يتوضأ وضوء الصلاة سوى غسل رجليه .
وروي عَنهُ ، أنَّهُ كانَ يغسل يديه ووجهه .
وعن سفيان الثوري رواية ، أنَّهُ يغسل كفيه ثُمَّ ينام .
وحكى ابن عبد البر عَن طائفة مِن العلماء ، أنهم حملوا الوضوء عند النوم للجنب على غسل الأذى والفرج وغسل اليدين .
وهذا ترده رواية : ( ( توضأ وضوءه للصلاة ) ) .
وروي عَن عائشة : أنَّهُ يتوضأ أو يتيمم :(1/357)
"""""" صفحة رقم 358 """"""
قالَ ابن أبي شيبة : نا عثام بنِ علي ، عَن هشام ، عن أبيه ، عَن عائشة ، في الرجل تصيبه جنابة مِن الليل ، فيريد أن ينام ؟ قالت : يتوضأ ، أو يتيمم .
وروي مرفوعاً ؛ خرجه الطبراني مِن طريق عمار بنِ نصر أبي ياسر : نا بقية بنِ الوليد ، عَن إسماعيل بنِ عياش ، عَن هشام بنِ عروة ، عَن أبيه ، عَن عائشة ، قالت : كانَ النبي ( إذا واقع بعض أهله ، فكسل أن يقوم ، ضرب يده على الحائط ، فتيمم .
وهذا المرفوع لا يثبت ، وإسماعيل بنِ عياش رواياته عَن الحجازيين ضعيفة ، وعمار بنِ نصر ضعيف ، ورواية عثام الموقوفة أصح .
ولا فرق في نوم الجنب بين نوم الليل والنهار ، حكاه إسحاق بنِ راهويه عَن بعض العلماء ، ولم يمسه .
واختلفوا : هل المرأة في ذَلِكَ كالرجل ، أم لا ؟
فقالت طائفة : هما سواء ، وَهوَ قول الليث ، وحكي رواية عَن أحمد ، وقد نص على التسوية بينهما في الوضوء للأكل .
والثاني : أن الكراهة تخص بالرجل دونَ المرأة ، وَهوَ المنصوص عَن أحمد .
ولعله يستدل بأن عائشة لَم تذكر أن النبي ( كانَ يأمرها بالوضوء ، وإنما أخبرت عَن وضوئه لنفسه .
وقد دلت هَذهِ الأحاديث المذكورة في هَذا الباب : على أن وضوء الجنب يخفف جنابته .(1/358)
"""""" صفحة رقم 359 """"""
ولو نوى بوضوئه رفع الحدثين ارتفع عَن أعضاء وضوئه حدثاه جميعاً ، بناء على أن الغسل لا يشترط لَهُ موالاة ، وَهوَ قول الجمهور ، خلافاً لمالك ، كَما سبق ذكره .
وإن نوى بوضوئه رفع الحدث الأصغر ارتفع وحده ، ولم يرتفع معه شيء مِن الجنابة .
وإن نوى النوم ، فهل يرتفع حدثه الأصغر ؟ يتخرج على الخلاف فيمن نوى طهارة مستحبة ، فهل يرتفع حدثه أم لا ؟
على قول مِن قالَ : إن الضوء للنوم واجب ، لا يجوز النوم بدونه ؛ فإنه يرتفع الحدث حينئذٍ بغير تردد .
وَهوَ كَما لو نوى الجنب بوضوئه اللبث في المسجد ؛ فإنه يرتفع بذلك حدثه الأصغر عند أصحابنا .
وقد ورد في الجنب : ( ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيهِ جنب ) ) ، كذلك روي عَن علي ، عَن النبي ( .
خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه .
وورد : ( ( إن الملائكة لا تشهد جنازة الجنب إذا مات ) ) ، [ خرجه ] مِن حديث يحيى بنِ يعمر ، عَن عمار ، عَن النبي ( ، قالَ : ( ( إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر ، ولا المتضمخ بزعفران ، ولا الجنب ) ) .
خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود .(1/359)
"""""" صفحة رقم 360 """"""
وفي آخر الحديث : الرخصة لَهُ إذا أراد النوم ، أو الأكل ، أن يتوضأ ، وهذا يدل على أن الوضوء يخفف أمره .
وخرج أبو داود مِن حديث الحسن ، عَن عمار بنِ ياسر ، عَن النبي ( ، قالَ :
( ( ثلاثة لا تقربهم الملائكة : جيفة الكافر ، والمتضمخ بالخلوق ، والجنب ، إلا أن
يتوضأ ) ) .
وخرجه بقي بنِ مخلد في ( ( مسنده ) ) ، ولفظه : ( ( ثلاثة لا تقربهم الملائكة بخير : جيفة الكافر ، والمتضمخ بالخلوق ، والجنب ، إلا أن يبدو لَهُ أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة ) ) .
ويحيى بنِ يعمر ، والحسن لَم يسمع مِن عمار .
وخرجه الطبراني ، ولفظه : ( ( إن الملائكة لا تحضر جنازة كافر بخير ، ولا جنباً حتى يغتسل أو يتوضأ وضوءه للصلاة ، ولا [ متضمخاً ] بصفرة ) ) .
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) عَن هشام بنِ عروة ، عَن أبيه ، عَن عائشة ، قالت :
إذا أراد أحدكم أن يرقد وَهوَ جنب فليتوضأ ؛ فإن أحدكم لا يدري لعله أن يصاب في منامه .
ورخص آخرون في نوم الجنب مِن غير وضوء ، مِنهُم : سعيد بنِ المسيب ،
وربيعة ، وأبو حنيفة ، وسفيان الثوري ، والحسن بنِ حي ، ووكيع .(1/360)
"""""" صفحة رقم 361 """"""
وروى أبو حنيفة ، عَن حماد ، عَن إبراهيم ، قالَ : كانوا ينامون وهم جنب - يعني : قبل الوضوء .
وقد ورد حديث يدل على الرخصة ، مِن رواية أبي إسحاق ، عَن الأسود ، عَن عائشة ، قالت : كانَ النبي ( ينام وَهوَ جنب ، ولا يمس ماء .
خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والترمذي .
وقال : قَد روى غير واحد عَن الأسود ، عَن عائشة ، أن النبي ( : كانَ يتوضأ قبل أن ينام - يعني : جنباً .
قالَ : وهذا أصح مِن حديث أبي إسحاق ، عَن الأسود .
قالَ : ويرون أن هَذا غلط مِن أبي إسحاق .
وقد تقدم حديث الحكم ، عَن إبراهيم ، عَن الأسود ، عَن عائشة بخلاف هَذا .
خرجه مسلم .
وكذلك رواه حجاج بنِ أرطاة ، عَن عبد الرحمن بنِ الأسود ، عَن أبيه عَن عائشة .
خرج حديثه الإمام أحمد ، ولفظه : كانَ النبي ( يجنب مِن الليل ، ثُمَّ(1/361)
"""""" صفحة رقم 362 """"""
يتوضأ وضوءه للصلاة حتى يصبح ، ولا يمس ماء .
وخرجه بقي بنِ مخلد مِن طريق أبي إسحاق ، عَن عبد الرحمن بنِ الأسود ، عَن أبيه ، قالَ : سألت عائشة : كيف كانَ رسول الله ( يصنع إذا أراد أن ينام وهو
جنب ؟ قالت : يتوضأ وضوءه للصلاة ، ثُمَّ ينام .
وهذا الحديث مما اتفق أئمة الحديث مِن السلف على إنكاره على أبي إسحاق ، مِنهُم : إسماعيل بنِ أبي خالد ، وشعبة ، ويزيد بن هارون ، وأحمد بنِ حنبل ، وأبو بكر بنِ أبي شيبة ، ومسلم بنِ حجاج ، وأبو بكر الأثرم ، والجوزاني ، والترمذي ،
والدارقطني .
وحكى ابن عبد البر عَن سفيان الثوري ، أنَّهُ قالَ : هوَ خطأ .
وعزاه إلى ( ( كِتابِ أبي داود ) ) ، والموجود في ( ( كتابه ) ) هَذا الكلام عَن يزيد بن هارون ، لا عَن سفيان .
وقال أحمد بنِ صالح المصري الحافظ : لا يحل أن يروي هَذا الحديث .
يعني : أنَّهُ خطأ مقطوع بهِ ، فلا تحل روايته مِن دونَ بيان علته .
وأما الفقهاء المتأخرون ، فكثير مِنهُم نظر إلى ثقة رجاله ، فظن صحته ، وهؤلاء يظنون أن كل حديث رواة ثقة فَهوَ صحيح ، ولا يتفطنون لدقائق علم علل الحديث .
ووافقهم طائفة مِن المحدثين المتأخرين كالطحاوي والحاكم والبيهقي .
ثُمَّ اختلفوا في الجمع بينه وبين حديث النخعي ، عَن الأسود ، عَن عائشة في الوضوء ، ولهم في ذَلِكَ مسالك :
أحدها : أن النبي ( كانَ إذا أراد النوم وَهوَ جنب توضأ في غالب أوقاته(1/362)
"""""" صفحة رقم 363 """"""
لفضيلة الوضوء ، وكان تارة يترك الوضوء لبيان الجواز ، وأن الوضوء غير واجب ، وأن النوم بدونه غير محرم ، وهذا سلكه طوائف مِن الفقهاء مِن اصحابنا وأصحاب الشَافِعي وغيرهم .
والثاني : أن حديث أبي إسحاق أريد بهِ : أن النبي ( كانَ ينام ولا يمس ماء للغسل ، فهو موافق لحديث إبراهيم عن الأسود في المعنى ، وهذا مسلك أبي العباس بنِ سريج والطحاوي وغيرهما .
وحديث حجاج ، عَن عبد الرحمن بنِ الأسود ، عَن أبيه يشهد لهذا التأويل ، كَما تقدم لفظه .
والثالث : أن النبي ( كانَ إذا أصابته الجنابة مِن أول الليل توضأ ثُمَّ نام نومه الطويل المعتاد مِن الليل ، وإن أصابته الجنابة مِن آخر الليل بعد قضاء ورده مِن الصلاة هجع هجعة خفيفة للاستراحة ، ثُمَّ قام فاغتسل لصلاة الفجر ، وهذا مسلك طائفة مِن العلماء ، وسلكه الطحاوي - أيضاً - ، وأشار إليه ابن عبد البر وغيره .
وقد روى زهير وإسرائيل ، عَن أبي إسحاق هَذا الحديث بسياق مطول ، وفيه : أن نومه مِن غير أن يمس ماء ، إنما كانَ في آخر الليل إذا قضى صلاته ، ثُم كانَ لَهُ حاجة إلى
أهله .
خرجه الطحاوي مِن طريق زهير ، عَن أبي إسحاق ، ولفظه حديثه : كانَ
رسول الله ( ينام أول الليل ويحيى آخره ، ثُمَّ إن كانَ لَهُ حاجة قضى حاجته ، ثُمَّ ينام قبل أن يمس ماء ، وإن نام جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة .
وهذه زيادة غريبة .
وقد خرجه الإمام أحمد بسياق مطول ، مِن طريق زهير ، بدون هَذهِ(1/363)
"""""" صفحة رقم 364 """"""
الزيادة في آخره .
وخرجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) - أيضاً - مِن طريق زهير ، إلا أنَّهُ أسقط منهُ لفظة : ( ( قبل أن يمس الماء ) ) ، فلم يذكرها ؛ لأنه ذكر في ( ( كِتابِ التمييز ) ) لَهُ ، أنها وهم مِن أبي إسحاق .
وقد روي عَن أبي إسحاق ما يخالف هَذهِ الرواية : فروى سفيان ، عَن أبي
إسحاق ، عَن الأسود ، عَن عائشة ، قالت : كانَ النبي ( يصيب أهله مِن أول الليل ، ثُمَّ ينام ولا يمس ماء ، فإذا استيقظ مِن آخر الليل عاد إلى أهله واغتسل .
خرجه الإمام أحمد .
وخرج الطبراني مِن طريق حمزة الزيات ، عَن أبي إسحاق ، عَن الأسود ، عَن عائشة ، قالت : كانَ النبي ( يجامع نسائه ، ثُمَّ لا يمس ماء ، فإن أصبح فأراد أن يعاود عاود ، وإن لَم يرد اغتسل . .
ورواه شريك ، عَن أبي إسحاق ، فذكر في حديثه : أنَّهُ ( كانَ يصيب أهله ، ثُمَّ يعود ولا يمس ماء - ولم يذكر النوم .
وهذا كله يدل على أن أبا إسحاق اضطرب في هَذا الحديث ، ولم يقم لفظه كَما ينبغي ، بل ساقه بسياقات مختلفة متهافتة .(1/364)
"""""" صفحة رقم 365 """"""
وروى محمد بنِ عمرو ، عَن أبي سلمة ، عَن عائشة ، أنَّهُ سألها : هل كانَ
رسول الله ( ينام وَهوَ جنب ؟ قالت : نعم ، ولكنه كانَ لا ينام حتى يتوضأ وضوءه للصلاة ، ويغسل فرجه .
خرجه بقي بنِ مخلد في ( ( مسنده ) ) .
وهذا يدل على أنها لَم ترو نومه مِن غير وضوء في حال الجنابة بحال .(1/365)
"""""" صفحة رقم 366 """"""
- باب إذا التقى الختانان
291 - حدثنا معاذ بنِ فضالة : ثنا هشام .
وحدثنا أبو نعيم ، عَن هشام ، عَن قتادة ، عَن الحسن ، عَن أبي رافع ، عَن أبي هريرة ، عَن النبي ( ، قالَ : ( ( إذا جلس بين شعبها الأربع ، ثُمَّ جهدها ، فَقد وجب الغسل ) ) .
تابعه : عمرو ، عَن شعبة - مثله .
وقال موسى : نا أبان : نا قتادة : أنا الحسن - مثله .
( ( هشام ) ) : الراوي عَن قتادة ، هوَ الدستوائي .
وقد خرجه مسلم مِن حديثه - أيضاً .
وخرجه - أيضاً - مِن طريق شعبة ، عَن قتادة بهِ ، وفي حديثه : ( ( ثُمَّ اجتهد ) ) .
وخرج النسائي مِن حديث خالد ، عَن شعبة ، عَن قتادة ، قالَ : سمعت الحسن يحدث - فذكره .
وهذه الرواية فيها تصريح قتادة بسماع الحديث مِن الحسن ، كالرواية التي ذكرها البخاري - تعليقاً - عَن موسى - وَهوَ : ابن إسماعيل - ، عَن أبان .
ومراده بذلك : أنَّهُ أمن بذلك تدليس وقتادة ، وثبت سماعه لهذا الحديث مِن الحسن .(1/366)
"""""" صفحة رقم 367 """"""
وخرجه مسلم مِن طريق مطر الوراق ، عَن الحسن ، وزاد فيهِ : ( ( وإن لَم
ينْزل ) ) .
وخرجه الإمام أحمد ، عَن عفان ، عَن همام وأبان ، عَن قتادة ، ولفظ حديثه :
( ( إذا جلس بين شعبها الأربع ، فأجهد نفسه ، فَقد وجب الغسل ، أنزل أو لم ينزل ) ) .
وخرجه البيهقي مِن طريق سعيد بنِ أبي عروبة ، عَن قتادة ، ولفظ حديثه : ( ( إذا التقى الختانان وجب الغسل ، أنزل أو لَم ينزل ) ) .
وذكر الدارقطني في ( ( العلل ) ) الاختلاف على الحسن في إسناده هَذا الحديث ، في ذكر ( ( أبي رافع ) ) وإسقاطه منهُ ، ورواية الحسن لَهُ عَن أبي هريرة بغير واسطة ، وفي وقفه على أبي هريرة ورفعه ، ثُمَّ قالَ : الصحيح : حديث الحسن ، عَن أبي رافع ، عَن أبي هريرة عَن النبي ( .
ذكر عَن موسى بنِ هارون ، أنَّهُ قالَ : سمع الحسن مِن أبي هريرة ، إلا أنَّهُ لَم يسمع منهُ عَن النبي ( : ( ( إذا قعد بين شعبها الأربع ) ) ، بينهما أبو رافع . انتهى .
وما ذكره مِن سماع الحسن مِن أبي هريرة ، مختلف فيهِ . وقد صح روايته لهذا الحديث عَن أبي رافع ، عَن أبي هريرة .
ولم يخرج البخاري حديث عائشة في هَذا الباب ، وقد خرجه مسلم مِن رواية هشام بنِ حسان ، عَن حميد بنِ هلال ، عَن أبي بردة ، عَن أبي موسى ، أنَّهُ سأل عائشة : عما يوجب الغسل ؟ فقالت : على الخبير سقطت ، قالَ(1/367)
"""""" صفحة رقم 368 """"""
رسول الله ( : ( ( إذا جلس بين شعبها الأربع ، ومس الختان الختان ، فَقد وجب الغسل ) ) .
كذا خرجه مِن طريق الأنصاري ، عَن هشام . وخرجه مِن طريق عبد الأعلى ، عَن هشام ، عَن حميد ، قالَ : ولا أعلمه إلا عَن أبي بردة ، عَن أبي موسى ، فتردد في وصل إسناده .
وقد عجب أحمد مِن هَذا الحديث ، وأن يكون حميد بنِ هلال حدث بهِ بهذا الإسناد .
وقال الدارقطني : صحيح غريب ، تفرد بهِ : هشام بنِ حسان ، عَن حميد .
وخرج الإمام أحمد والترمذي مِن حديث علي بنِ زيد بنِ جدعان ، عَن سعيد بنِ المسيب ، عَن عائشة ، قالت : قالَ رسول الله ( : ( ( إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل ) ) .
وعلي بنِ زيد ، فيهِ مقالَ مشهور ، وقد اختلف عليهِ في رفعه ووقفه .
ورواه يحيى بنِ سعيد الأنصاري ، عَن سعيد بنِ المسيب ، أن أبا موسى دخل على عائشة ، فحدثته بذلك ، ولم ترفعه .
وخرج مسلم مِن طريق ابن وهب عَن عياض بنِ عبد الله ، عَن أبي الزبير ، عَن جابر بنِ عبد الله ، عَن أم كلثوم ، عَن عائشة ، أن رجلاً سأل النبي ( عَن الرجل يجامع ثُمَّ يكسل ، هل عليهما الغسل ؟ - وعائشة جالسة - فقالَ رسول الله ( : ( ( إني لأفعل ذَلِكَ أنا وهذه ، ثُمَّ نغتسل ) ) .
وأم كلثوم ، هي بنت الصديق أخت عائشة - رضي الله عَنهُم .(1/368)
"""""" صفحة رقم 369 """"""
قالَ الدارقطني : لَم يختلف عَن أبي الزبير في رفع هَذا الحديث .
قلت : رواه عَنهُ عياض بنِ عبد الله وابن لهيعة وأشعث ، وكلهم رفعوه .
وخرجه الإمام أحمد مِن حديث أشعث وابن لهيعة كذلك .
قالَ الدارقطني : وكذلك رواه قتادة ، عَن أم كلثوم ، عَن عائشة .
وحديث قتادة ، خرجه بقي بنِ مخلد ، ولفظ حديثه : عَن عائشة ، أنها ونبي الله ( فعلا ذَلِكَ ، فلم ينزل الماء ، فاغتسل ، وأمرها أن تغتسل .
ولكن في سماع قتادة مِن أم كلثوم نظر ؛ ولأجله ترك مسلم تخريج الحديث مِن طريقه . والله أعلم .
وعند قتادة فيهِ إسناد آخر : رواه عَن عبد الله بنِ رباح ، عَن عائشة ، مع الاختلاف عليهِ في رفعه ووقفه . وقيل : عَن قتادة ، قالَ : ذكر لنا أن عبد الله ابن رباح سأل عائشة ، فدل على أنَّهُ لَم يسمعه منهُ .
ورواه ثابت البناني ، عَن عبد الله بن رباح . وقيل : عَنهُ ، عَن عبد الرحمن ابن رباح ، عَن عبد العزيز بنِ النعمان ، عَن عائشة ، معَ الاختلاف عليهِ في رفعه ووقفه .
وأنكر أحمد رفعه ، وقال : عبد العزيز بنِ النعمان لا يعرف . وقال البخاري : لا أعلم لَهُ سماعاً مِن عائشة . وذكر ابن معين : أن رواية ثابت بإدخال ( ( عبد العزيز بنِ النعمان ) ) في إسناده أصح مِن رواية قتادة بإسقاطه .(1/369)
"""""" صفحة رقم 370 """"""
وخرج الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) مِن حديث الأوزاعي ، عَن عبد الرحمن بنِ القاسم ، عَن أبيه ، عَن عائشة ، قالت : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل ، فعلته أنا ورسول اله ( ، فاغتسلنا .
وقال الترمذي : حسن صحيح .
وصححه غير واحد مِن الحفاظ .
وقال البخاري : هوَ خطأ ، وإنما يرويه الأوزاعي ، عَن عبد الرحمن بنِ القاسم - مرسلاً .
ورد قولُهُ بكثرة مِن رواه عَن الأوزاعي مِن أصحابه موصولاً .
وأعله الإمام أحمد : بأنَّهُ روي عَن الأوزاعي موقوفاً ، قالَ أحمد :
والمرفوع في آخر الحديث إنما كانَ الأوزاعي يرويه عَن يحيى بنِ أبي كثير ، أنَّهُ بلغه عَن عائشة ، وكذا رواه أيوب ، عَن عبد الرحمن بنِ القاسم ، عَن أبيه ، عَن عائشة موقوفاً ، لَم يرفعه .
وذكر أبو زرعة الدمشقي هَذا عَن أحمد ، ثُمَّ قالَ أبو زرعة : رأيت أبا مسهر
[ على ] هَذا الحديث على يحيى بنِ معين ، فقبله يحيى ، ولم ينكره .(1/370)
"""""" صفحة رقم 371 """"""
وقد روي عَن عائشة مِن طرق أخرى متعددة مرفوعاً .
وخرجه البزار مِن طريق ابن أبي فديك : نا الضحاك بنِ عثمان ، عَن عبد الله ابن عبيد بنِ عمير ، عَن أبيه ، عَن عائشة ، أن رسول الله ( قالَ : ( ( إذا التقى
الختانان وجب الغسل ) ) .
وإسناده كلهم ثقات مشهورون .
وقد صح ذَلِكَ عَن عائشة مِن قولها غير مرفوع مِن طرق كثيرة جداً ، وفي بعضها اختلاف في رفعه ووقفه .
ولعل عائشة كانت تارة تفتي بذلك ، وتارة تذكر دليله ، وَهوَ ما عندها عَن النبي ( فيهِ ، كم أن المفتي أحياناً يذكر الحكم مِن غير دليل وأحيانا يذكره مع دليله ، والله أعلم .
والجلوس بين شعبها الأربع قيل : المراد يدي المرأة ورجليها ، وقيل غير ذَلِكَ مما يرغب عَن ذكره .
و ( ( جهدها ) ) : هوَ عبارة عَن الاجتهاد في إيلاج الحشفة في الفرج ، وَهوَ المراد
- أيضاً - مِن التقاء الختانين .
قالَ الشَافِعي : معنى التقاء الختانين : أن تغيب الحشفة في الفرج يصير الختان الذِي خلف الحشفة حذو ختان المرأة .
وقال أحمد : التقاء الختانين : المدورة - يعني : الحشفة - ، فإذا غابت فالختان بعدها .
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه مِن رواية حجاج بنِ أرطأة ، عَن عمرو بنِ(1/371)
"""""" صفحة رقم 372 """"""
شعيب ، عَن أبيه ، عَن جده ، عَن النبي ( ، قالَ : ( ( إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فَقد وجب الغسل ) ) .
وحجاج ، مدلس . وقيل : أن أكثر رواياته عَن عمرو بنِ شعيب سمعها مِن العرزمي ودلسها .
والعرزمي ، ضعيف .
وقد روي - أيضاً - هَذا الحديث عَن العرزمي ، عَن عمرو .
وروي مِن وجه ضعيف ، عَن أبي حنيفة ، عَن عمرو ، بهِ ، وزاد في روايته : ( ( أنزل أو لَم ينزل ) ) .
خرجه الطبراني .
وقوله : ( ( إذا التقى الختانان ) ) استند بهِ الإمام أحمد على أن المرأة تختتن
كالرجل .
وختان المرأة مشروع بغير خلاف ، وفي وجوبه عَن أحمد روايتان ، على قولُهُ بوجبه على الرجال .(1/372)
"""""" صفحة رقم 373 """"""
- باب غسل ما يصيب مِن فرج المرأة
292 - حدثنا أبو معمر : نا عبد الوارث ، عَن الحسين المعلم : قالَ يحيى : وأخبرني أبو سلمة ، أن عطاء بنِ يسار أخبره ، أن زيد بنِ خالد الجهني أخبره ، أنَّهُ سأل عثمان بنِ عفان ، فقالَ : أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن ؟ فقالَ : عثمان : يتوضأ كَما يتوضأ للصلاة ، ويغسل ذكره . وقال عثمان : سمعته مِن رسول الله ( ، فسألت عَن ذَلِكَ علي بنِ أبي طالب ، والزبير بنِ العوام ، وطلحة بنِ عبيد الله ، وأبي بنِ كعب ، فأمروه بذلك .
وأخبرني أبو سلمة ، أن عروة بنِ الزبير أخبره : أن أبا أيوب أخبره ، أنَّهُ سمع ذَلِكَ مِن رسول الله ( .
293 - حدثنا مسدد : نا يحيى ، عَن هشام بنِ عروة ، قالَ : أخبرني أبي ، قالَ : أخبرني أبو أيوب ، قالَ : أخبرني أبي بنِ كعب ، أنَّهُ قالَ : يا رسول الله ( إذا جامع الرجل [ المرأة ] فلم ينزل ؟ قالَ : ( ( يغسل ما مس المرأة منهُ ، ثُمَّ يتوضأ
ويصلي ) ) .
قالَ أبو عبد الله : الغسل أحوط ، وذلك الأخير ، إنما بينا لاختلافهم .
الذِي وقع في الرواية الأولى عَن أبي سلمة ، عَن عروة ، أن أبا أيوب أخبره ، أنَّهُ سمع ذَلِكَ مِن النبي ( ، وهم ، نبه عليهِ الدارقطني وغيره ،(1/373)
"""""" صفحة رقم 374 """"""
تدل عليهِ الرواية الثانية ، عَن هشام بن عروة ، عَن أبيه : أخبرني أبو أيوب ، قالَ : أخبرني أبي بنِ كعب ، عَن النبي
( .
وقد روى عبد الرحمن بنِ سعاد ، عَن أبي أيوب ، عَن النبي ( ، قالَ :
( ( الماء مِن الماء ) ) .
خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه ، وليس فيهِ تصريح أبي أيوب بسماعه مِن
النبي ( .
وقد خرج البخاري فيما تقدم في ذكر نواقض الوضوء : حديث ذكوان أبي
صالح ، عَن أبي سعيد ، عَن النبي ( ، قالَ : ( ( إذا أعجلت - أو أقحطت - فلا غسل عليك ) ) .
وخرج - أيضاً - : حديث يحيى بنِ أبي كثير الذِي خرجه هنا مِن طريق شيبان ، عَن يحيى ، إلى قولُهُ في آخر الحديث : ( ( وأبي بنِ كعب ، فأمروه بذلك ) ) ، ولم يذكر ما بعده ، ولعله تركه لما وقع فيهِ مِن الوهم الذِي ذكرناه .
وعند البخاري في كلتا الروايتين : أن علياً والزبير وطلحة وأبي بنِ كعب أفتوا بذلك ، ولم يرفعوه إلى النبي ( .
وقد وقع في رواية غيره : أنهم رفعوه - أيضاً - إلى النبي ( .
وقد قالَ علي بنِ المديني في هَذا الحديث : إنه شاذ .
وقال ابن عبد البر : هوَ منكر ؛ لَم يتابع عليهِ يحيى بن أبي كثير .
وقد صح عَن أكثر مِن ذكر عَنهُ مِن الصحابة : أنَّهُ لا غسل بدون الإنزال -(1/374)
"""""" صفحة رقم 375 """"""
خلاف ذَلِكَ .
قالَ علي بنِ المديني : قَد روي عَن علي وعثمان وأبي بنِ كعب بأسانيد جياد أنهم أفتوا بخلاف ما في هَذا الحديث .
قالَ الدارقطني : رواه زيد بنِ أسلم ، عَن عطاء بنِ يسار ، عَن زيد بنِ خالد : أنَّهُ سأل خمسة أو أربعة مِن أصحاب النبي ( ، فأمروه بذلك ، ولم يرفعه .
يشير إلى أن زيد بنِ أسلم يخالف أبا سلمة في رفعه ، ولم يرفع منهُ شيئاً .
وقد كانَ قوم مِن الأنصار قديماً يقولون : ( ( إن الماء مِن الماء ) ) ، ثُمَّ استقر الأمر على أنَّهُ إذا التقى الختانان وجب الغسل ، ورجع أكثر مِن كان يخالف في ذَلِكَ عَنهُ .
وأما المهاجرون ، فَقد صح عَنهُم أنهم قالوا : ( ( إذا التقى الختانان وجب
الغسل ) ) ، مِنهُم : عمر ، وعثمان ، وعلي ، فدل على أن عثمان وعلياً علموا أن ( ( الماء مِن الماء ) ) نسخ ، وإلا فكيف يروي عثمان أو غيره عَن النبي ( شيئاً ، ثُمَّ يرجع عَن القول بهِ ؟
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عَن أبي موسى ، قالَ : اختلف في ذَلِكَ رهط مِن المهاجرين والأنصار ، فقالَ الأنصاريون : لا يجب الغسل إلا مِن الدفق أو مِن الماء ،
فقالَ المهاجرون : بل إذا خالط فَقد وجب الغسل . قالَ : قالَ أبو موسى : فأنا أشفيكم مِن ذَلِكَ ، وذكر قيامه إلى عائشة وما روته لهُ عَن النبي ( ، كَما سبق ذكره .
وروى وكيع ، عَن القاسم بنِ الفضل ، عَن أبي جعفر محمد بنِ علي ، قالَ :
قالَ المهاجرون : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل ، وقال الأنصار : الماء مِن الماء .(1/375)
"""""" صفحة رقم 376 """"""
وروى ابن أبي شيبة ، عَن حفص بنِ غياث ، عَن حجاج ، عَن أبي جعفر ، قالَ :
أجمع المهاجرون : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أن ما أوجب الحدين :
الجلد والرجم ، أوجب الغسل .
وروى إبراهيم بنِ مسلم الخوارزمي في ( ( كِتابِ الطهور ) ) عَن ابن نمير ، عَن يحيى بنِ سعيد ، عَن سعيد بنِ الميسب ، قالَ : كانَ أبو بكر وعمر يأمران بالغسل - يعني : مِن الإكسال .
وروى مالك عَن ابن شهاب ، عَن سعيد بنِ المسيب ، قالَ : إن عمر وعثمان وعائشة كانوا يقولون : إذا مس الختان الختان فَقد وجب الغسل .
وروى عبد الرزاق عَن معمر ، عَن الزهري ، عَن سعيد بنِ المسيب ، قالَ : كانَ عمر وعثمان وعائشة والمهاجرون الأولون يقولون : إذا مس الختان الختان فَقد وجب الغسل .
وروى وكيع ، عَن محمد بنِ قيس الأسدي ، عَن علي بنِ ربيعة ، عَن علي ، قالَ : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل .
وروى ابن أبي شيبة والأثرم بإسنادهما ، عَن عاصم ، عَن زر ، عَن علي ، قالَ : إذا التقى الختانان وجب الغسل .
وقد روي ، عَن علي مِن وجوه متعددة .
فهؤلاء الخلفاء الراشدون - رضي الله عَنهُم - قَد أجمعوا على ذَلِكَ ، معَ أن بعضهم
روى عَن النبي ( خلافه ، فلولا أنهم علموا أن ما خالف ذَلِكَ منسوخ لما خالفوا ما سمعوا مِن النبي ( ، ووافقهم على ذَلِكَ أكابر الصحابة ، مِنهُم :(1/376)
"""""" صفحة رقم 377 """"""
ابنِ مسعود ، وابن عمر ، وأبو ذر ، وأبو هريرة ، ومعاذ بنِ جبل فقيه الأنصار ، وأبو هريرة ، وعائشة أم المؤمنين ، وهي أعلم الناس بهذا ، وإليها مرجع الناس كلهم .
وقد صح عنها ، أنها افتت بذلك ، وأمرت بهِ ، وأن الصحابة الذين سمعوا منها رجعوا إلى قولها في ذَلِكَ ؛ فإنها لا تقول مثل هَذا إلا عَن علم عندها فيهِ عَن رسول الله ( ، لا سيما وقد علمت اختلاف الصحابة في ذَلِكَ .
وجمع عمر الناس كلهم على قولها ، فلو كانَ قولها رأياً مجرداً عَن رواية لما استجازت رد روايات غيرها مِن الصحابة برأيها .
وقد روي عنها مِن وجوه كثيرة ، وبعضها صحيح ، كَما تقدم ، أنها روته عَن رسول الله ( قولاً أو فعلاً .
فما بقي بعد ذَلِكَ سوى العناد والتعنت ، ونعوذ بالله مِن مخالفة ما أجمع عليهِ الخلفاء الراشدون ، وجمع عليهِ عمر كلمة المسلمين ، وأفتت بهِ عائشة أم المؤمنين ، أفقه نساء هَذهِ الأمة ، وهي أعلم بمستند هَذهِ المسألة مِن الخلق أجمعين .
فروى مالك عَن يحيى بنِ سعيد ، عَن سعيد بنِ المسيب ، أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة أم المؤمنين ، فقالَ لها : فقالَ لها : لقد شق علي اختلاف أصحاب رسول الله ( في أمر إني لأعظم أن استقبلك بهِ ، قالت : ما هو ؟ ما كنت سائلاً عَنهُ أمك
فسلني عَنهُ .
قالَ لها : الرجل يصيب أهله ثُمَّ يكسل ولا ينزل ؟ فقالت : إذا جاوز الختان الختان فَقد وجب الغسل . فقالَ أبو موسى : لا أسأل عَن هَذا أحداً بعدك .(1/377)
"""""" صفحة رقم 378 """"""
ورواه حماد بنِ زيد وعبد الوهاب الثقفي وغيرهما ، عَن يحيى بنِ سعيد ، بنحوه .
وسمى عبد الوهاب في روايته مِن قالَ : لا يجب الغسل بذلك : أبي ابن كعب ، وأبا أيوب ، وزيد بنِ ثابت ، وسمى مِمن يأمر بالغسل : عمر وعثمان .
وروى ابن إسحاق ، عَن يزيد بنِ أبي حبيب ، عَن معمر عبد الله بنِ أبي حيية ، عَن عبيد بنِ رفاعة بنِ رافع ، عَن أبيه رفاعة ، قالَ : كنت عند عمر ، فقيل لَهُ : إن زيد
بنِ ثابت يفتي برأيه في الذِي يجامع ولا ينزل ، فدعاه ، فقالَ : أي عدو نفسه ، قَد بلغت أن تفتي الناس في مسجد رسول الله ( برأيك قالَ : ما فعلت ، ولكن حدثني
عمومتي ، عَن رسول الله ( . قالَ : أي عمومتك ؟ قالَ : أبي بنِ كعب ، وأبو أيوب ، ورفاعة بنِ رافع . قالَ : فالتفت عمر إلي ، فقلت : كنا نفعله على عهد رسول الله ( ، قالَ : فسألتم عَنهُ رسول الله ( ؟ قالَ : كنا نفعله على عهده ، قالَ : فجمع الناس ، وأصفق الناس على أن الماء لا يكون إلا مِن الماء ، إلا رجلين : علي بن أبي طالب ، ومعاذ بن جبل ، قالا : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل .
فقالَ علي : يا أمير المؤمنين ، إن أعلم الناس بهذا أزواج النبي ( ، فأرسل إلى حفصة ، فقالت : لا علم لي ، فأرسل إلى عائشة ، فقالت : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل . قالَ : فتحطم عمر - يعني : تغيظ - ، ثُمَّ قالَ : لا يبلغني أن أحداً فعله ولم يغتسل إلا انهكته عقوبة .(1/378)
"""""" صفحة رقم 379 """"""
خرجه الإمام أحمد وبقي بن مخلد في ( ( مسنديهما ) ) ، ومسلم في ( ( كِتابِ التفصيل ) ) وَهوَ ( ( كِتابِ الناسخ والمنسوخ ) ) لَهُ .
ثُمَّ خرجه مِن طريق عبد الله بنِ صالح ، عَن الليث : حدثني يزيد بنِ أبي حبيب ، عَن معمر بنِ أبي حيية ، عَن عبيد بنِ رفاعة ، أن زيد بنِ ثابت كانَ يقول - فذكره بنحوه ، ولم يقل : ( ( عَن أبيه ) ) .
ومعمر بنِ أبي حيية ، ويقال : ابن أبي حبيبة ، وثقه ابن معين وغيره .
وعبيد بنِ رفاعة ، ذكره ابن حبان في ( ( ثقاته ) ) .
وهذه الرواية يستفاد منها أمور :
منها : أن كثيراً مِن الأنصار كانَ يقلد بعضهم بعضاً في هَذهِ المسألة ، ولم يسمع ذَلِكَ مِن النبي ( إلا قليل مِنهُم .
ومنها : أنَّهُ لَم يظهر في ذَلِكَ المجلس شيء مِن روايات الأنصار الصريحة عَن النبي ( ، وإنما ظهر التمسك بفعل كانوا يفعلونه على عهد رسول الله ( ، فسأله عمر : هل علم بهِ النبي ( ؟ فلم يكن لَهُم جواب ، وهذا مما يدل على أن تلك الروايات التصريحية
حصل الوهم في نقلها مِن بعض الرواة .
ومنها : أن المهاجرين الذين روي أنهم كانوا يخالفون في ذَلِكَ ويروون عَن النبي ( خلافه كعثمان رجعوا عما سمعوه منهُ ، وكذلك الأنصار - أيضاً - ، ورأسهم : أبي بنِ كعب رجع ، وأخبر أن ما سمعه من النبي ( في ذَلِكَ كانَ رخصة في أول الأمر ثُمَّ نسخ وزال ، وهذا يدل على أنَّهُ تبين لَهُم نسخ ما كانوا سمعوه بياناً شافياً ، بحيث لَم يبق فيهِ لبس ولا شك .
وقد ذكر الشَافِعي : أنَّهُ اتفق هوَ ومن ناظره في هَذهِ المسألة على أن هَذا(1/379)
"""""" صفحة رقم 380 """"""
أقوى مما يستدل بهِ عليها .
ويدل على رجوع أبي وغيره مِن الأنصار : ما روى الزهري ، عَن سهل بنِ
سعد ، عَن أبي بنِ كعب ، قالَ : إنما كانَ الماء مِن الماء رخصة في أول الإسلام ، ثُمَّ نهي عنها .
خرجه الترمذي ، وقال : حسن صحيح ، وخرجه ابن ماجه مختصراً .
وخرجه الإمام أحمد ولفظه : إن الفتيا التي كانوا يقولون : الماء مِن الماء ، رخصة كانَ النبي ( رخص بها في أول الإسلام ، ثُمَّ أمرنا بالغسل بعد .
وخرجه ابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) مِن طريق معمر ، عَن الزهري ، قالَ :
أخبرني سهل بنِ سعد ، قالَ : إنما كانَ قول الأنصار : الماء مِن الماء رخصة في أول الإسلام ، ثُمَّ أمرنا بالغسل .
ولم يذكر في إسناده : ( ( أبياً ) ) ، وصرح فيهِ بسماع الزهري .
وقيل : إنه وهم في ذَلِكَ ؛ فإن الزهري لَم يسمعه مِن سهل ، فَقد خرجه أبو داود وابن خزيمة - أيضاً - مِن طريق عمرو بن الحارث ، عَن الزهري ، قالَ : حدثني بعض مِن أرضى ، عَن سهل ، عَن أبي - فذكره .
ورجح هَذهِ الرواية : الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما .(1/380)
"""""" صفحة رقم 381 """"""
ورجح آخرون : سماع الزهري لهُ من سهل ، مِنهُم : ابن حبان .
ووقع في بعض نسخ ( ( سنن أبي داود ) ) ما يدل عليهِ ؛ فإنه لم يذكر أحد مِن أصحاب الزهري بين الزهري وسهل رجلاً [ غير ] عمرو بنِ الحارث ، فلا يقضي لَهُ على سائر أصحاب الزهري .
وقد خرجه ابن شاهين مِن طريق ابن المبارك ، عَن يونس ، عَن الزهري ، قالَ : حدثني سهل بنِ سعد ، عَن أبي بنِ كعب - فذكره ، بهِ .
وبتقدير أن يكون ذَلِكَ محفوظاً ؛ فَقد اخبر الزهري أن هَذا الذِي حدثه يرضاه ، وتوثيق الزهري كاف في قبول خبره .(1/381)
"""""" صفحة رقم 382 """"""
وقد قيل : أنَّهُ أبو حازم الزاهد ، وَهوَ ثقة جليل ، فقد خرج أبو داود وابن خزيمة مِن رواية أبي غسان محمد بنِ مطرف ، عَن أبي حازم ، عَن سهل بنِ سعد ، قالَ : حدثني أبي بن كعب - فذكره .
قالَ البيهقي : هَذا إسناد صحيح موصول .
وقد ذكر ابن أبي حاتم ، عَن أبيه ، أن بعضهم ذكر أنه لا يعرف لَهُ أصلاً .
وفي ذَلِكَ نظر .
وقد روي عَن أبي بنِ كعب مِن وجوه أخر :
روى شعبة ، عَن سيف بنِ وهب ، عَن أبي حرب بنِ أبي الأسود ، عَن عميرة بنِ يثربي ، عَن أبي كعب ، قالَ إذا التقى ملتقاهما فَقد وجب الغسل .
خرجه ابن أبي شيبة والبخاري في ( ( تاريخه ) ) .
وروى مالك ، عَن يحيى بنِ سعيد ، عَن عبد الله بنِ كعب مولى عثمان ، أن محمود بنِ لبيد سأل زيد بنِ ثابت عَن الرجل يصيب أهله ثُمَّ يكسل ولا ينزل ؟ فقالَ : زيد يغتسل ، فقالَ لَهُ محمود بن لبيد : إن أبي بن كعب - كانَ لا يرى الغسل ؟ فقالَ لَهُ زيد : إن أبياً نزع عَن ذَلِكَ قبل أن يموت .
وقال الشَافِعي : أنا إبراهيم بن محمد ، عَن خارجة بن زيد ، عَن أبيه ، عَن أبي بن كعب ، أنَّهُ كانَ يقول : ليسَ على مِن لَم ينزل غسل ، ثُمَّ نزع عَن ذَلِكَ أبي قبل أن يموت .
وقد روي ، عَن عائشة ما يدل على النسخ : مِن رواية الحسين بنِ عمران : حدثني الزهري ، قالَ : سألت عروة عَن الذِي يجامع ولا ينزل ؟ قالَ : نول(1/382)
"""""" صفحة رقم 383 """"""
الناس أن يأخذوا بالآخر مِن أمر رسول الله ( ، حدثتني عائشة ، أن رسول الله ( كانَ يفعل ذَلِكَ ولا يغتسل ، وذلك قبل فتح مكة ، ثُمَّ اغتسل بعد ذَلِكَ ، وأمر الناس بالغسل .
خرجه ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) و الدارقطني .
والحسين بنِ عمران ، ذكره ابن حبان في ( ( ثقاته ) ) ، وقال الدارقطني : لا بأس بهِ ، وقال البخاري : لا يتابع على حديثه .
وقال العقيلي بعد تخريجه لهذا الحديث : الحديث ثابت عَن النبي ( في الغسل لالتقاء الختانين ، ولا يحفظ هذا اللفظ إلا في هَذا الحديث .
والقول بأن ( ( الماء مِن الماء ) ) نسخ بالأمر بالغسل مِن التقاء الختانين هوَ المشهور عند العلماء مِن الفقهاء والمحدثين ، وقد قرره الشافعي ، وأحمد ، ومسلم بنِ الحجاج ، والترمذي ، وأبو حاتم الرازي وغيرهم مِن الأئمة .
وقد روي معنى ذَلِكَ عَن سعيد بنِ المسيب وغيره مِن السلف .
وقد قيل : إن ( ( الماء مِن الماء ) ) إنما كانَ في الاحتلام .
وقد روي عَن ابن عباس هَذا التأويل .
خرجه الترمذي مِن وجه فيهِ مقال .(1/383)
"""""" صفحة رقم 384 """"""
وروي - أيضاً - عَن عكرمة ، وذهب إليه طائفة .
وهذا التأويل إن احتمل في قولُهُ : ( ( الماء مِن الماء ) ) فلا يحتمل في قولُهُ : ( ( إذا أعجلت - أو أقحطت - فلا غسل عليك ) ) ، وفي قولُهُ : ( ( يغسل ما مس المرأة منهُ ، ويتوضأ ، ويصلي ) ) .
وقال طائفة مِن العلماء : لما اختلفت الأحاديث في هَذا وجب الأخذ بأحاديث الغسل مِن التقاء الختانين ، لما فيها مِن الزيادة التي لَم يثبت لها معارض ، ولم تبرأ الذمة بدون الاغتسال ؛ لأنه قَد تحقق أن التقاء الختانين موجب لطهارة ، ووقع التردد : هل يكفي الوضوء أو لا يكفي دونَ غسل البدن كله ؟ فوجب الأخذ بالغسل ؛ لأنه لا يتيقن براءة الذمة بدونه .
وهذا معنى قول البخاري : الغسل أحوط .
ولذلك قالَ أحمد - في رواية ابن القاسم - : الأمر عندي في الجماع أن آخذ بالاحتياط فيهِ ، ولا أقول : الماء مِن الماء .
وسلك بعضهم مسلكاً أخر ، وَهوَ : أن المجماع وإن لَم ينزل يسمى جنباً ومجامعاً وواطئاً ، ويترتب جميع أحكام الوطء عليهِ ، والغسل مِن جملة الأحكام .
وهذا معنى قول مِن قالَ مِن السلف : أنوجب المهر والحد ولا نوجب الغسل ؟
وهذا القول هوَ الذِي استقر عليهِ عمل المسلمين .
وقد خالف فيهِ شرذمة مِن المتقدمين ، مِنهُم : أبو سلمة ، وعروة ، وهشام ابن عروة ، والأعمش ، وابن عيينة ، وحكي عَن الزهري وداود .
وقال ابن عبد البر : اختلف أصحاب داود في هَذهِ المسألة .
وقال ابن المنذر : لا أعلم اليوم بين أهل العلم في ذَلِكَ اختلافاً .(1/384)
"""""" صفحة رقم 385 """"""
وذهب إليه طائفة مِن أهل الحديث ، مِنهُم : بقي بنِ مخلد الأندلسي ، وقد نسبه بعضهم إلى البخاري وليس في كلامه ما يصرح بهِ ، وحكاه الشَافِعي عَن بعض أهل الحديث مِن أهل ناحيتهم وغيرهم ، وذكر مناظرته لَهُم .
وقد كانَ بعض الناس قي زمن الإمام أحمد ينسب ذَلِكَ إليه ، فكان أحمد ينكر ذَلِكَ ، ويقول : ما أحفظ أني قلت بهِ قط ، وقيل لَهُ : بلغنا أنك تقوله ؟ فقالَ : الله المستعان ، وقال - أيضاً - : مِن يكذب علي في هَذا أكثر مِن ذاك .
وأحمد مِن أبعد الناس عَن هَذهِ المقالة ، فظاهر كلامه يدل على أن الخلاف فيها غير سائغ ، فإنه نص على أنَّهُ لو فعل ذَلِكَ مرة أنَّهُ يعيد الصلاة التي صلاها بغير غسل مِن التقاء الختانين ، ونص على أنَّهُ لا يصلى خلف مِن يقول : ( ( الماء مِن الماء ) ) ، معَ قولُهُ : إنه يصلي خلف مِن يحتجم ولا يتوضأ ، ومن يمس ذكره ولا يتوضأ متأولاً ، فدل على أن القول بأن ( ( الماء مِن الماء ) ) لا مساغ للخلاف فيهِ .
وكذلك ذكر ابن أبي موسى وغيره مِن الأصحاب .
وحمل أبو بكر عبد العزيز كلام أحمد على أنه لَم يكن متأولاً ، وهذا لا يصح ؛ لأن القول بأن ( ( الماء مِن الماء ) ) لا يكون بغير تأويل . والله أعلم .
وقد سبق عَن عمر ، أنَّهُ قالَ : لا أوتى بأحد فعله إلا أنهكته عقوبة .
وقد روي عَنهُ مِن وجه آخر ، رواه ابن أبي شيبة ، عَن ابن إدريس ، عَن
الشيباني ، عَن بكير بنِ الأخنس ، عَن سعيد بنِ المسيب ، قالَ : قالَ عمر : لا أوتي برجل فعله - يعني : جامع ولم يغتسل ؛ يعني : وَهوَ لَم ينزل - إلا أنهكته عقوبة .
وخرجه إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في ( ( كِتابِ الطهور ) ) عَن أسباط بن
محمد ، عَن الشيباني ، بهِ .(1/385)
"""""" صفحة رقم 386 """"""
وفي رواية أن سعيد بنِ المسيب قالَ : سمعت عمر بنِ الخطاب على المنبر يقول : لا أجد أحداً جامع امرأته ولم يغتسل ، أنزل أو لَم ينْزل ، إلا عاقبته .
وقد قالَ عمر هَذا بمحضر مِن المهاجرين والأنصار ، ولم يخالف فيهِ أحد .
والظاهر : أن جميع مِن كانَ يخالف فيهِ مِن الأنصار رجع عَنهُ ، ورأسهم : أبي بنِ كعب ، وزيد بنِ ثابت ، ومِن المهاجرين عثمان بنِ عفان .
وفي رجوع أبي بنِ كعب وعثمان بنِ عفان معَ سماعها مِن النبي ( خلاف ذَلِكَ : دليل على أنَّهُ ظهر لهما أن ما سمعاه زال حكمه ، واستقر العمل على غيره .
وعامة مِن روي عَنهُ : ( ( إن الماء مِن الماء ) ) روي عَنهُ خلاف ذَلِكَ ، والغسل مِن التقاء الختانين ، مِنهُم : عثمان ، وعلي ، سعد بنِ أبي وقاص ، وابن مسعود ، وابن
عباس ، وزيد بنِ ثابت ، وأبي بنِ كعب ، ورافع بنِ خديج .
وهذا يدل على رجوعهم عما قالوه في ذَلِكَ ؛ فإن القول بنسخ ( ( الماء مِن الماء ) ) مشهور بين العلماء ، ولم يقل أحد مِنهُم بالعكس .
وقد روت عائشة وأبو هريرة عَن النبي ( الغسل بالتقاء الختانين .
وقد روى ذَلِكَ - أيضاً - مِن رواية عبد الله بنِ عمرو ، ورافع بنِ خديج ، ومعاذ بنِ جبل ، وابن عمر ، وأبي أمامة وغيرهم ، إلا أن في أسانيدها ضعفاً .
وفي حديث رافع التصريح بنسخ الرخصة - أيضاً .
أعلم ؛ أن هَذا الضعف إنما هوَ في الطرق التي وصلت إلينا منها هَذهِ الأخبار ، فأما المجمع الذِي جمع عمر فيهِ المهاجرين والأنصار ، ورجع فيهِ أعيان مِن كانَ سمع مِن النَّبيّ ( الرخصة ، فأنهم لَم يرجعوا إلا لأمرٍ ظهر لَهُم(1/386)
"""""" صفحة رقم 387 """"""
في ذَلِكَ الجمع وبعده ، وعلموه
وتيقنوه ، وإن كانت تفاصيله لَم تنقل إلينا ، واستقر مِن حينئذ العمل على الغسل مِن التقاء الختانين ، ولم يصح عَن أحد مِن الصحابة بعد ذَلِكَ إظهار الفتيا بخلافه ، فوجب اتباع سبيل المؤمنين ، والأخذ بما جمع عليهِ الأمة أمير المؤمنين ، والرجوع إلى مِن رجعت إليه الصحابة في العلم بهذه المسألة ، وهي أم المؤمنين .
والمخالف يشغب بذكر الأحاديث التي رجع عنها رواتها ، ويقول : هي صحيحة
الأسانيد ، وربما يقول : هي أصح إسناداً مِن الأحاديث المخالفة لها .
ومن هنا : كره طوائف مِن العلماء ذكر مثل هَذهِ الأحاديث والتحديث بها ؛ لأنها
تورث الشبهة في نفوس كثير مِن الناس .
وخرج الإسماعيلي في ( ( صحيحه ) ) مِن حديث زيد بنِ أخزم ، قالَ : سمعت يحيى - - يعني : القطان - وسئل عَن حديث هشام بنِ عروة : حديث أبي أيوب : ( ( الماء مِن
الماء ) ) ؟ - فقالَ : نهاني عَنهُ عبد الرحمن - يعني : ابن مهدي .
ولهذا المعنى - والله أعلم - لَم يخرج مالك في ( ( الموطإ ) ) شيئأً مِن هَذهِ
الأحاديث ، وهي أسانيد حجازية على شرطه .
والمقصود بهذا : أن المسائل التي اجتمعت كلمة المسلمين عليها مِن زمن الصحابة ، وقل المخالف فيها وندر ، ولم يجسر على إظهارها لإنكار المسلمين عليهِ ، [ كلها ] يجب على المؤمن الأخذ بما اتفق المسلمون على العمل بهِ ظاهراً ؛ فإن هَذهِ الأمة لا يظهر أهل باطلها على أهل حقها ، كَما أنها لا تجتمع على ضلالة ، كَما روي ذَلِكَ عن النبي ( .
خرجه أبو داود وغيره .(1/387)
"""""" صفحة رقم 388 """"""
فهذه المسائل قَد كفى المسلم أمرها ، ولم يبق فيها إلا اتباع ما جمع عليهِ الخلفاء الراشدون أولي العلم والعدل والكمال ، دونَ الاشتغال فيها بالبحث والجدال وكثرة القيل والقال ؛ فإن هَذا كله لَم يكن يخفى عمن سلف ، ولا يظن ذَلِكَ بهم سوى أهل الجهل والضلال .
والله المسئول العصمة والتوفيق .(1/388)
"""""" صفحة رقم 389 """"""
6
كتاب الحيض(1/389)
"""""" صفحة رقم 390 """"""
فارغة(1/390)
"""""" صفحة رقم 391 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
6
كِتابِ الحيض
وقول الله عز وجل : ( وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ( [ البقرة : 222 ] إلى قولُهُ : ( وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ( [ البقرة : 222 ] .
خرج مسلم في ( ( صحيحه ) ) مِن حديث حماد بنِ سلمة : نا ثابت ، عَن أنس ، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لَم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت ، فسأل أصحاب النبي ( النبي ( ، فأنزل الله عز وجل : ( وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ( [ البقرة : 222 ] إلى آخر الآية ، فقالَ رسول الله ( : ( ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) ) - وذكر بقية الحديث .
فقوله عز وجل : ( وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ( ، أي : عَن حكمه والمباشرة
فيهِ .
و ( ( المحيض ) ) ، قيل : إنَّهُ مصدر كالحيض ، وقيل : بل هوَ اسم للحيض ، فيكون اسم مصدر .
وقوله تعالى : ( قُلْ هُوَ أَذىً ( [ البقرة : 222 ] ، فسر الأذى بالدم النجس وبما فيهِ مِن القذر والنتن وخروجه مِن مخرج البول ، وكل ذَلِكَ يؤذي .
قالَ الخطابي : الأذى هوَ المكروه الذِي ليسَ بشديد جداً ؛ كقوله : ( لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذى ( [ آل عمران : 111 ] ، وقوله : ( إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ ( [ النساء : 102 ] ،(1/391)
"""""" صفحة رقم 392 """"""
قالَ : والمراد : أذى يعتزل منها موضعه لا غيره ، ولا يتعدى ذَلِكَ إلى سائر بدنها ، فلا يجتنبن ولا يخرجن مِن البيوت كفعل المجوس وبعض أهل الكِتابِ ، فالمراد : أن الأذى بهن لا يبلغ الحد الذِي يجاوزونه إليه ، وإنما يجتنب منهن موضع الأذى ، فإذا تطهرن حل غشيانهن .
وقوله تعالى : ( فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض ( [ البقرة : 222 ] ، قَد فسره النبي ( باعتزال النكاح ، وسيأتي فيما بعد - إن شاء الله تعالى - ذكر ما يحرم مِن مباشرة الحائض وما يحل منهُ في الباب الذِي يختص المباشرة مِن الكِتابِ .
وقد قيل : بأن المراد بالمحيض هاهنا : مكان الحيض ، وهو الفرج ، ونص على ذَلِكَ الإمام أحمد ، وحكاه الماوردي عَن أزواج النبي ( وجمهور المفسرين ، وحكى الإجماع على أن المراد بالمحيض المذكور في أول الآية : الدم .
وقد خالف في ذَلِكَ ابن أبي موسى مِن أصحابنا في ( ( شرح الخرقي ) ) ، فزعم أن مذهب أحمد أنَّهُ الفرج - أيضاً - ، وفيه بعد .
وجمهور أصحاب الشَافِعي على أن المراد بالمحيض في الآية الدم ، في الموضعين .
وقوله : ( وَلا تَقْرَبُوهُنّ ( [ البقرة : 222 ] ، نهي بعد الأمر باعتزالهن في المحيض عَن قربانهن فيهِ ، والمراد بهِ : الجماع - أيضاً - ، وفيه تأكيد لتحريم الوطء في الحيض .
وقوله : ( حَتَّى يَطْهُرْنَ ( [ البقرة : 222 ] فيهِ قراءتان ( يَطْهُرْنَ ( [ البقرة :
222 ] - بسكون الطاء وضم الهاء - ، و ( يَطْهُرْنَ ( [ البقرة : 222 ] بفتح الطاء وتشديد الهاء .
وقد قيل : إن القراءة الأولى أريد بها انقطاع الدم ، والقراءة الثانية أريد بها التطهر بالماء .
وممن فسر الأولى بانقطاع الدم ابن عباس ومجاهد وغيرهما .(1/392)
"""""" صفحة رقم 393 """"""
وابن جرير وغيره : يشيرون إلى حكاية الإجماع على ذَلِكَ .
ومنع غيره الإجماع ، وقال : كل مِن القراءتين تحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء ، وأن يراد بها انقطاع الدم ، وزوال أذاه .
وفي ذَلِكَ نظر ، فإن قراءة التشديد تدل على نسبة فعل التطهير إليها ، فكيف يراد بذلك مجرد انقطاع الدم ولا صنع لها فيهِ .
وقوله : ( حَتَّى يَطْهُرْنَ ( [ البقرة : 222 ] غاية النهي عَن قربانهن ، فيدل بمفهومه على أن ما بعد التطهير يزول النهي .
فعلى قراءة التشديد المفسرة بالاغتسال إنما يزول النهي بالتطهر بالماء ، وعلى قراءة التخفيف يدل على زوال النهي بمجرد انقطاع الدم .
واستدل بذلك فرقة قليلة على إباحة الوطء بمجرد انقطاع الدم ، وَهوَ قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، إذا انقطع الدم لأكثر الحيض ، أو لدونه ، ومضى عليها وقت صلاة ، أو كانت غير ومخاطبة بالصلاة كالذمية .
وحكي عَن طائفة إطلاق الإباحة ، مِنهُم : ابن كثير وابن عبد الحكم ، وفي نقله عنهما نظر .
والجمهور على أنه لا يباح بدون الاغتسال ، وقالوا : الآية ، وإن دلت بمفهومها على الإباحة بالانقطاع إلا أن الإتيان مشروط لَهُ شرط آخر وَهوَ التطهر ، والمراد بهِ : التطهر بالماء ؛ بقولِهِ : ( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنّ ( [ البقرة : 222 ] ، فدل على أنَّهُ لا يكفي مجرد التطهر ، وأن الإتيان متوقف على التطهر ، أو على الطهر والتطهر بعده ، وفسر الجمهور التطهر بالاغتسال ، كَما في قولُهُ : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ( [ المائدة : 6 ] .(1/393)
"""""" صفحة رقم 394 """"""
وحكي عَن طائفة مِن السلف : أن الوضوء كاف بعد انقطاع الدم ، منهُم : مجاهد ، وعكرمة ، وطاوس ، على اختلاف عَنهُم في ذَلِكَ .
قالَ ابن المنذر : روينا بإسناد فيهِ مقال عن عطاء وطاوس ومجاهد ، أنهم قالوا : إذا أدرك الزوج الشبق أمرها أن تتوضأ ، ثُمَّ أصاب منها إن شاء .
وأصح مِن ذَلِكَ عَن عطاء ومجاهد موافقة القول الأول - يعني : المنع منهُ وكراهته بدون الغسل - ، قالَ : ولا يثبت عَن طاوس خلاف ذَلِكَ . قالَ : وإذا بطل أن يثبت عَن هؤلاء قول ثان كانَ القول الأول كالإجماع . انتهى .
ولذلك ضعف القاضي إسماعيل المالكي الرواية بذلك عَن طاوس وعطاء ؛ لأنها مِن رواية ليث بن أبي سليم عنهما ، وَهوَ ضعيف .
وحكي عَن بعض السلف أن التطهر غسل الفرج خاصة ، رواه ابن جريج وليث عَن عطاء ، ورواه معمر عَن قتادة ، وحكاه بعض أصحابنا عَن الأوزاعي ، ولا أظنه يصح عَنهُ ، وقاله قوم مِن أهل الظاهر .
والصحيح الذِي عليهِ جمهور العلماء : أن تطهر الحائض كتطهر الجنب ، وَهوَ الاغتسال .
ولو عدمت الماء ، فهل يباح وطؤها بالتيمم ؟ فيهِ قولان :
أحدهما : يباح بالتيمم ، وَهوَ مذهبنا ، ومذهب الشَافِعي وإسحاق والجمهور ، وقول يحيى بن بكير مِن المالكية ، والقاضي إسماعيل مِنهُم - أيضاً .
وقال مكحول ومالك : لا يباح وطؤها بدون الاغتسال بالماء .
وقوله : ( فَأْتُوهُنّ ( [ البقرة : 222 ] إباحة ، وقوله : ( مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه ( [ البقرة : 222 ] أي :(1/394)
"""""" صفحة رقم 395 """"""
باعتزالهن ، وَهوَ الفرج ، أو ما بين السرة والركبة ، على ما فيهِ مِن الاختلاف كَما سيأتي ، روي هَذا عَن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة .
وقيل : المراد : مِن الفرج دونَ الدبر ، رواه علي بنِ أبي طلحة عَن ابن عباس .
وروى أبان بنِ صالح ، عن مجاهد ، عنة ابن عباس ، قالَ : ( مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
الله ( [ البقرة : 222 ] أن تعتزلوهن . ورواه عكرمة ، عَن ابن عباس - أيضاً .
وقيل : المراد مِن قبل التطهر لا مِن قبل الحيض ، وروي عَن ابن عباس - أيضاً - ، وغيره .
و ( ( التوابون ) ) : الرجاعون إلى طاعة الله مِن مخالفته .
و ( ( المتطهرون ) ) : فسره عطاء وغيره : بالتطهر بالماء ، ومجاهد وغيره : بالتطهر مِن الذنوب .
وعن مجاهد ، أنَّهُ فسره : بالتطهر مِن أدبار النساء .
ويشهد لَهُ قول قوم لوط : ( إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( [ الأعراف : 82 ] .(1/395)
"""""" صفحة رقم 396 """"""
- باب كيف كانَ بدء الحيض
؟
وقول النبي ( : ( ( هَذا شيء كتبه الله على بنات آدم ) ) .
وقال بعضهم : كانَ أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل .
قالَ أبو عبد الله : وحديث النبي ( أكثر .
أما مِن قالَ : أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل : فَقد روي ذَلِكَ عَن حماد بنِ سلمة ، عَن هشام بنِ عروة ، عَن فاطمة بنت المنذر ، عَن أسماء بنت أبي بكر ، قالت : إنما سلطت الحيضة على نساء بني إسرائيل ؛ لأنهن كن اتخذن أرجلاً مِن خشب يتطاولن بها في المساجد .
وأما ما رجحه البخاري مِن أن الحيض لَم يزل في النساء منذ خلقهن الله ، فَهوَ المروي عَن جمهور السلف :
قالَ عمرو بنِ محمد العنقزي : نا عباد بنِ العوام ، عَن سفيان بنِ حسين ، عَن يعلى بنِ مسلم ، عَن سعيد بنِ جبير ، عَن ابن عباس ، قالَ : لما أكل آدم مِن الشجرة التي نهي عنها ، قالَ الله لَهُ : ( ( ما حملك على أن عصيتني ؟ ) ) قالَ : ربِّ ، زينته لي حواء ، قالَ : ( ( فإني أعقبها أن لا تحمل إلا كرها ، ولا تضع إلا كرهاً ، ودميتها في الشهر مرتين ) ) ، فلما سمعت حواء ذَلِكَ رنت ، فقالَ لها : عليك الرنة وعلى بناتك .
وروى ابن جرير في ( ( تفسيره ) ) : نا يونس : نا ابن وهب ، عَن عبد الرحمن(1/396)
"""""" صفحة رقم 397 """"""
بن زيد بنِ أسلم ، في قولُهُ : ( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ( [ البقرة : 25 ] ، قالَ : المطهرة : التي لا تحيض ، قالَ : وكذلك خلقت حواء عليها السلام حتى عصت ، فلما عصت قالَ الله تعالى : ( ( إني خلقتك مطهرة ، وسأدميك كَما أدميت هَذهِ الشجرة ) ) .
وقد استدل البخاري لذلك بعموم قول النبي ( : ( ( إن هَذا شيء كتبه الله على بنات آدم ) ) ، وَهوَ استلال ظاهر حسن ، ونظيره : استدلال الحسن على إبطال قول مِن قالَ : أول مِن رأى الشيب إبراهيم ( ، بعموم قول الله عز وجل : ( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ( [ الروم : 54 ] .
294 - حدثنا علي بنِ عبد الله المديني : نا سفيان ، قالَ : سمعت عبد الرحمن بنِ القاسم ، قالَ : سمعت القاسم يقول : سمعت عائشة تقول : خرجنا لا نرى إلا الحج ، فلما كنت بسرف حضت ، فدخل علي رسول الله ( وأنا أبكي ، فقالَ : ( ( مالك أنفست ؟ ) ) قلت : نعم . قالَ : ( ( إن هَذا أمر كتبه الله على بنات آدم ، فاقضي ما يقضي الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت ) ) . قالت : وضحى رسول الله ( عَن نسائه بالبقر .
هَذا إسناد شريف جداً ؛ لجلالة رواته ، وتصريحهم كلهم بسماع بعضهم مِن بعض ، فلهذا صدر بهِ البخاري ( ( كِتابِ : الحيض ) ) .
وفيه اللفظة التي استدل بها البخاري على أن الحيض لازم للنساء منذ خلقهن الله ، وأنه لَم يحدث في بني إسرائيل ، كَما تقدم .
وقد رويت هَذهِ اللفظة - أيضاً - عَن جابر ، أن النبي ( قالَ ذَلِكَ لعائشة في(1/397)
"""""" صفحة رقم 398 """"""
الحج - بمعنى حديث عائشة .
خرجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) .
ورويت - أيضاً - عَن أم سلمة ، مِن رواية محمد بنِ عمرو : نا أبو سلمة ، عَن أم سلمة ، قالت : كنت معَ رسول الله ( في لحافه ، فوجدت ما تجد النساء مِن الحيضة ، فانسللت مِن اللحاف ، فقالَ : رسول الله ( : ( ( أنفست ؟ ) ) قلت : وجدت ما تجد النساء مِن الحيضة ، قالَ : ( ( ذاك ما كتب الله على بنات آدم ) ) . قالت : فانسللت فأصلحت مِن شأني ، ثُمَّ رجعت ، فقالَ لي رسول الله ( : ( ( تعالي فادخلي معي في اللحاف ) ) . قالت : فدخلت معه .
خرجه [ . . . . . . ] ابن ماجه .
ومعنى : ( ( كتب الله على بنات آدم ) ) : أنَّهُ قضى بهِ عليهن وألزمهن إياه ، فهن متعبدات بالصبر عليهِ .
وجاء في رواية للإمام أحمد مِن رواية الأوزاعي ، عَن أبي عبيد ، عَن(1/398)
"""""" صفحة رقم 399 """"""
عائشة ، عَن النبي ( ، في هَذا الحديث : أن عائشة قالت للنبي ( : لا أحسب النساء خلقن إلا للشر ، قالَ : ( ( لا ، ولكنه شيء ابتلي بهِ نساء بني آدم ) ) .
ولفظ : ( ( الكتابة ) ) يدل على اللزوم والثبوت ، إمَّا شرعاً كقوله تعالى :
( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ( [ البقرة : 183 ] ، أو قدراً كقوله : ( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ( [ المجادلة : 21 ] .
وهذا الحديث مِن هَذا القبيل .(1/399)
"""""" صفحة رقم 400 """"""
- - باب
غسل الحائض رأس زوجها وترجيله
295 - نا عبد الله بنِ يوسف : نا مالك ، عَن هشام بنِ عروة ، عَن أبيه ، عَن عائشة ، قالت : كنت أرجل رأس رسول الله ( وأنا حائض .
296 - حدثنا إبراهيم بنِ موسى : نا هشام بنِ يوسف ، أن ابن جريج أخبرهم : أنا هشام ، عَن عروة ، أنَّهُ سئل : أتخدمني الحائض أو تدنو مني المرأة وهي جنب ؟
فقالَ عروة : كل ذَلِكَ علي هين ، وكل ذَلِكَ تخدمني ، وليس على أحد في ذَلِكَ بأس ؛ أخبرتني عائشة أنها كانت ترجل رأس رسول الله ( وهي حائض ، ورسول الله ( حينئذ مجاور في المسجد ، يدني لها رأسه وهي في حجرتها ، فترجله وهي حائض .
هَذا الحديث يدل على طهارة بدن الحائض ، وعلى مباشرتها بيدها لرأس الرجل بالدهن والتسريح ، وَهوَ معنى ترجيل الرأس المذكور في هَذا الحديث .
وقد روى تميم بنِ سلمة ، عَن عروة هَذا الحديث ، ولفظه : ( ( فأغسله وأنا حائض ) ) .
وكذلك روى لفظة : ( ( الغسل ) ) إبراهيم ، عَن الأسود ، عَن عائشة .
ولو كانت يدها نجسة لمنعت مِن دهن رأس الرجل وغسله .
وقد ألحق عروة الجنب بالحائض ، وَهوَ كَما قالَ ، بل الجنب أولى(1/400)
"""""" صفحة رقم 401 """"""
بالطهارة ؛ فإنه أخف حدثاً .
وقد كانَ ان عباس يكره ترجيل الحائض رأسه ، ختى نهته خالته ميمونة عَن ذَلِكَ : قالَ الإمام أحمد : ثنا سفيان ، عَن منبوذ ، عَن أمه ، قالت : كنت عند ميمونة ، فأتاها ابن عباس ، فقالت : يابني مالك شعثاً رأسك ؟ قالَ : أم عمار مرجلتي حائض ، قالت : أي بني وأين الحيضة مِن اليد ؟ كانَ رسول الله ( يدخل على أحدانا وهي حائض ، فيضع رأسه في حجرها ، فيقرأ القرآن وهي حائض ، ثُمَّ تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض ، أي بني وأين الحيضة مِن اليد ؟
واستدل جماعة مِن الفقهاء بترجيل الحائض رأس الحي وغسله على جواز غسلها للميت ، مِنهُم : أبو ثور ، وله في ذَلِكَ حكاية معروفة ، إذ سئل عَن هَذهِ المسألة جماعة مِن أهل الحديث فلم يهتدوا للجواب ، فأجاب أبو ثور بالجواز ، واستدل بهذا الحديث ، وبحديث : ( ( إن حيضتك ليست بيدك ) ) .
وحكي عَن أحمد - أيضاً - نظير هَذهِ الحكاية بإسناد فيهِ بعض مِن لايعرف .
وممن رخص في تغسيل الحائض والجنب للميت : عطاء والثوري .
ورخص الحسن للجنب أن يغسل الميت ، وحكى الإمام أحمد عَنهُ ، أنَّهُ قالَ في الحائض : لا تغسل الميت ، وعن علقمة أنَّهُ قالَ : تغسله .
وفي ( ( كِتابِ عبد الرزاق ) ) ، عَن علقمة ، أن الحائض لا تغسل الميت .
واختلفت الرواية عَن أحمد فيهِ ، فروي عَنهُ أنَّهُ قالَ : لا بأس بذلك .(1/401)
"""""" صفحة رقم 402 """"""
وروي عَنهُ أنَّهُ رخص دونَ الحائض إلا للضرورة .
وقد تقدم عَنهُ رواية أخرى بالرخصة للحائض مطلقاً ، وأن في إسنادها نظراً .
وكره علقمة والنخعي والثوري وأحمد أن يحضر الجنب والحائض عند الميت عند خروج روحه ؛ لما روي مِن امتناع الملائكة مِن دخول البيت الذِي فيهِ الجنب .
وفي الجملة ؛ فبدن الحائض طاهر ، وعرقها وسؤرها كالجنب ، وحكى الإجماع على ذَلِكَ غير واحد مِن العلماء .
وسئل حماد : هل تغسل الحائض ثوبها مِن عرقها ؟ فقالَ : إنما يفعل ذَلِكَ المجوس .
وحكى بعض الفقهاء عَن عبيدة السلماني : أن الحائض لا تقرب الرجل ولا تمس منهُ شيئاً ، قالَ بعضهم : ولا أظنه يصح عَنهُ .
وحكى بعضهم عَن أبي يوسف : أن بدن الحائض نجس ، وأنها إذا أصابت ماء قليلاً نجسته ، وقال بعضهم - - أيضاً - : لا يصح هَذا عَن أبي يوسف .
ولكن أبو حنيفة وأصحابه يقولون : على بدن الجنب ، وأعضاء المحدث نجاسة حكمية ، تنتقل إلى الماء الذِي يرتفع بهِ حدثه فيصير نجساً .
وهذا إنما يقولونه في الحائض إذا انقطع دمها وأصابها الماء ، فإنه ينجس ويرتفع حدثها بذلك وإن لَم تنو رفع الحدث بهِ ، على أصلهم المعروف : أن النية لا تشرط للطهارة بالماء .(1/402)
"""""" صفحة رقم 403 """"""
3 - باب
قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض
وكان أبو وائل يرسل خادمه وهي حائض إلى أبي رزين ؛ لتأتيه بالمصحف فتمسكه بعلاقته .
297 - حدثنا أبو نعيم الفضل بنِ دكين : سمع زهيراً ، عَن منصور بنِ صفية ، أن أمه حدثته ، أن عائشة حدثتها ، أن النبي ( كانَ يتكيء في حجري وأنا حائض ، ثُمَّ يقرأ القرآن .
هَذا إسناد كله مصرح فيهِ بالتحديث والسماع ، إلا في رواية زهير ، - وَهوَ ابن معاوية - ، عَن منصور بنِ صفية بنت شيبة .
ومراد البخاري بهذا الباب : أن قرب القاريء مِن الحائض ومن موضع حيضها لا يمنعه مِن القراءة ؛ فإنه لَم يكن للحيض تأثير في منع القراءة لَم يكن في إخبار عائشةبقراءة النبي ( القرآن وَهوَ متكيء في حجرها في حال الحيض معنى ، فإنها أرادت أن قرب فم القاريء للقرآن مِن محل الحيض لا يمنعه القراءة .
وقد زعم بعضهم : أن في الحديث دلالة على أن الحيض نفسه غير مانع مِن
القراءة ، ولا يصح ذَلِكَ ، إنما مراد عائشة : أن قرب الطاهر مِن الحائض لا يمنع مِن القراءة .
وقد صرحت ميمونة أم المؤمنين بهذا المعنى ، كَما خرجه الإمام أحمد مِن حديث ابن جريج : أخبرني منبوذ ، أن أمه أخبرته ، أنها بينا هي جالسة عند ميمونة زوج النبي ( إذ دخل عليها ابن عباس ، فقالت : مالك شعثاً ؟ قالَ :(1/403)
"""""" صفحة رقم 404 """"""
أم عمار مرجلتي حائض . فقالت : أي بني وأين الحيضة مِن اليد ؟ لقد كانَ النَّبيّ ( يدخل على إحدانا وهي متكئة حائض ، قَد علم أنها حائض ، فيتكىء عليها فيتلو القرآن وَهوَ متكىء عليها ، أو يدخل عليها قاعدة وهي حائض ، فيتكىء في حجرها فيتلوا القرآن وَهوَ متكىء في حجرها ، وتقوم وهي حائض فتبسط لَهُ خمرة في مصلاه - وفي رواية : فتبسط خمرته - فيصلي عليها في بيتي ، أي بني وأين الحيضة مِن اليد ؟
وخرجه النسائي مختصراً ، ولم يذكر قصة ابن عباس .
قالَ القرطبي : ويؤخذ مِن هَذا الحديث جواز استناد المريض للحائض في صلاته إذا كانت أثوابها طاهرة . قالَ : وَهوَ أحد القولين عندنا .
وفي ( ( تهذيب المدونة ) ) في صلاة المريض : ولا يستند بحائض ولا جنب .
وقد ألحق البخاري بذلك إمساك الحائض بعلاقة المصحف وحمله كذلك ، وقد حكاه عن أبي وائل .
وقد اختلف الفقهاء في حمل المُحدِث المصحف بعلاقة : هل هوَ جائز ، أم لا ؟ وفيه قولان مشهوران :
وممن رخص في ذَلِكَ : عطاء والحسن والأوزاعي والثوري ، وكرهه مالك ، وحرمه اصحاب الشَافِعي ، وعن أحمد روايتان ، ومن أصحابنا مِن جزم بجوازه مِن غير خلاف حكاه .
وأصل هَذهِ المسألة : منع المحدث مِن مس المصحف ، وسواء كانَ حدثه حدثاً أكبر ، وَهوَ مِن يجب عليهِ الغسل ، أو أصغر ، وَهوَ مِن يجب عليهِ الوضوء .
هَذا قول جماهير العلماء ، وروي ذَلِكَ عَن علي وسعد وابن عمر(1/404)
"""""" صفحة رقم 405 """"""
وسلمان ، ولا يعرف لَهُم مخالف مِن الصحابة ، وفيه أحاديث عَن النبي ( متصلة ومرسلة .
وخالف في ذَلِكَ أهل الظاهر .
وأجاز الحكم وحماد للمحدث مسه بظهر الكف دونَ بطنه .
وعن الحسن ، قالَ : لابأس أن يأخذ المصحف غير المتوضىء فيضعه مِن مكان إلى
مكان .
وعن سعيد بنِ جبير ، أنَّهُ بال ، ثُمَّ غسل وجهه ويديه ، ثُمَّ أخذ المصحف فقرأ فيهِ .
رواهما عبد الرزاق .
وعن الشعبي ، قالَ : مس المصحف مالم تكن جنباً .
ذكره وكيع .
وأما الاستدلال بقولِهِ عز وجل : ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ( [ الواقعة : 79 ] ففيه كلام ليسَ هَذا موضعه . والله أعلم .
وإن عدم الماء وتيمم ، فله مس المصحف عندنا الشافعية والأكثرين ، خلافاً للأوزاعي .
وفي الحديث : دلالة على جواز قراءة القرآن متكئاً ، ومضطجعاً ، وعلى جنبه ، ويدخل ذَلِكَ في قول الله عز وجل : ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ( [ آل عمران : 191 ] .(1/405)
"""""" صفحة رقم 406 """"""
4 - - باب
مِن سمى النفاس حيضاً
298 - حدثنا المكي بنِ إبراهيم : نا هشام ، عَن يحيى بنِ أبي كثير ، عَن أبي
سلمة ، أن زينب بنت أم سلمة حدثته ، أن أم سلمة حدثتها ، قالت : بينا أنا معَ النبي ( مضطجعة في خميصة إذ حضت ، فانسللت ، فأخذت ثياب حيضتي ، فقالَ :
( ( أنفست ؟ ) ) فقلت : نعم ، فدعاني فانضطجعت معه في الخميلة .
مكي بنِ إبراهيم : أكبر شيخ للبخاري ، وَهوَ في طبقة مالك ، ويروي عَن هشام بنِ عروة وغيره مِن الأكابر .
وقد أسقط بعض الرواة مِن إسناد هَذا الحديث ( ( زينب بنت أبي سلمة ) ) ، وجعله عَن أبي سلمة ، عَن أم سلمة ، والصواب : ذكر ( ( زينب ) ) فيهِ .
وقد تقدم حديث عائشة ، أن النبي ( دخل عليها وهي في الحج وهي تبكي ، فقالَ : ( ( مالك ؟ أنفست ؟ ) ) قالت : نعم .
ظاهر حديث أم سلمة وعائشة يدل على الحيض يسمى نفاساً . وقد بوب البخاري على عكس ذَلِكَ ، وأن النفاس يسمى حيضاً ، وكأن مراده : إذا سمي الحيض نفاساً فَقد ثبت لأحدهما اسم الآخر ، فيسمى كل واحد مِنهُما باسم الآخر ، ويثبت لأحدهما أحكام الآخر .
ولا شك أن النفاس يمنع ما يمنع مِنه الحيض ويوجب ما يوجب الحيض إلا في الاعتداد بهِ ؛ فإنها لا تعتد بهِ المطلقة قرءاً ، ولا تستبرأ بهِ الأمة .(1/406)
"""""" صفحة رقم 407 """"""
وقد حكى ابن جرير وغيره الإجماع على أن حكم النفساء حكم الحائض في الجملة .
وقد اعتمد ابن حزم على هَذا الحديث في ان الحائض والنفاس مدتهما واحدة ، وأن أكثر النفاس كأكثر الحيض ، وَهوَ قول لَم يسبق إليه ، ولو كانَ هَذا الاستنباط حقاً لما خفي علي أئمة الإسلام كلهم إلى زمنه .
وقريب مِن هَذا : ما نقل حرب في ( ( مسائله ) ) ، قالَ : قلت لإسحاق : رجل قالَ لأمراته : إذا حضت فأنت طالق ، فولدت ، هل يكون دم النفاس حيضاً ؟ قالَ : تطلق ؛ لأن دم النفاس حيض ، إلا أن يقصد حين يحلف قصد الحيض ، وذكر حديث عائشة ، أن النبي ( قالَ لها في الحج : ( ( مالك أنفست ؟ ) ) انتهى .
وهذا يرده : أنَّهُ لو كانَ دم النفاس حيضاً لاعتدت بهِ المطلقة قرءاً ، ولا قائل بذلك ، بل قَد حكى أبو عبيد وابن المنذر وغيرهما الإجماع على خلافه .
وقوله ( ( ( أنفست ) ) ، قالَ القرطبي : قيدناه بضم النون وبفتحها ، قالَ الهروي وغيره : نفست المرأة ونفست إذا ولدت - - يعني : بالوجهين : فتح النون وضمها - ، قالَ : وإذا حاضت [ قيل ] : نفست بفتح النون لا غير .
فعلى هَذا يكون ضم النون هنا خطأ ؛ فإن المراد بهِ الحيض قطعاً ، لكن حكى أبو حاتم عَن الأصمعي الوجهين في الحيض والولادة ، وذكر ذَلِكَ غير واحد .
فعلى هَذا تصح الروايتان ، وأصل ذَلِكَ كله من خروج الدم وَهوَ المسمى :
نفساً . انتهى .(1/407)
"""""" صفحة رقم 408 """"""
وقال الخطابي : ترجم أبو عبد الله هَذا الباب بقولِهِ : ( ( مِن سمى النفاس
حيضاً ) ) ، والذي ظنه مِن ذَلِكَ وهم . قالَ : وأصل هَذهِ الكلمة مِن النفس ، وَهوَ الدم ، إلا أنهم فرقوا بين بناء الفعل مِن الحيض والنفاس ، فقالوا : نفست المرأة - - بفتح النون وكسر الفاء - إذا حاضت ، ونفست - بضم النون وكسر الفاء ، على وزن الفعل المجهول ، فهي نفساء - - إذا ولدت . انتهى .
ومراده : أن الرواية في هَذا الحديث هي بفتح النون ليسَ إلا ، وأن ذَلِكَ لا يراد بهِ الحيض .
وعلى ما ذكره القرطبي ، أن الرواية في الحديث جاءت بوجهين ، وأن الأصمعي حكى في الحيض والولادة وجهين ، لا يحكم على البخاري بالوهم .
ثُمَّ قالَ الخطابي : الحيضة - بكسر الحاء - : التحيض ، كالقعدة والجلسة ، أي : الحالة التي تلزمها الحائض مِن اجتناب الأمور وتوقيها .
يشير إلى قول أم سلمة : ( ( فأخذت ثياب حيضتي ) ) ، أنها بكسر الحاء .
وأنكر غيره ذَلِكَ ، وقال : إنما الرواية بفتح الحاء ، والمراد : ثياب الحيض .
قالَ الخطابي : والخميصة : كساء أسود ، وربما كانَ لَهُ علم ، أو فيهِ خطوط . والخميلة : ثوب مِن صوف لَهُ خمل .
وروى ابن لهيعة : نا يزيد بنِ أبي حبيب ، عَن موسى بنِ سعد بنِ زيد بنِ ثابت ، عَن خبيب بنِ عبد الله بنِ الزبير ، عَن عائشة ، قالت : طرقتني الحيضة مِن الليل وأنا إلى جنب رسول الله ( ، فتأخرت ، فقالَ : ( ( مالك أنفست ؟ ) )(1/408)
"""""" صفحة رقم 409 """"""
قلت : لا ، ولكن حضت ، قالَ : ( ( فشدي عليك إزارك ، ثُمَّ عودي ) ) .
خرجه الإمام أحمد .
وَهوَ غريب جداً .(1/409)
"""""" صفحة رقم 410 """"""
5 - - باب
مباشرة الحائض
خرج فيهِ : عَن عائشة ، وميمونة .
فأما حديث عائشة ، فَمِن طريقين :
أحدهما :
قالَ :
299 ، 300 ، 301 - - نا قبيصة : نا سفيان ، عَن منصور ، عَن إبراهيم ، عَن الأسود ، عَن عائشة ، قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله ( مِن إناء واحد ، كلانا جنب ، وكان يأمرني فأتزر ، فيباشرني وأنا حائض ، وكان يخرج رأسه إلي وَهوَ
معتكف ، فأغسله وانا حائض .
والثاني :
قالَ :
302 - نا إسماعيل بنِ خليل : أنا علي بنِ مسهر : أنا أبو إسحاق - - هوَ : الشيباني - ، عَن عبد الرحمن بنِ الأسود ، عَن أبيه ، عَن عائشة ، قالت : كانت إحدانا إذا كانت حائضاَ فأراد رسول الله ( أن يباشرها أمرها أن تتزر في فور حيضتها ، ثُمَّ يباشرها . قالت : وأيكم يملك إربه كَما كانَ رسول الله ( يملك إربه ؟
تابعه : خالد وجرير ، عَن الشيباني .
وحديث جرير عَن الشيباني ، خرجه أبو داود ، ولفظه : كانَ يأمرنا في فوح حيضتنا أن نتزر ، ثُمَّ يباشرنا - - والباقي مثله .(1/410)
"""""" صفحة رقم 411 """"""
وخرجه ابن ماجه مِن طريق ابن إسحاق عَن الشيباني - - أيضاً .
وإنما ذكر البخاري المتابعة على هَذا الإسناد ؛ لأن مِن أصحاب الشيباني مِن رواه عَنهُ ، عَن عبد الله بن شداد ، عَن عائشة .
وليس بصحيح ؛ فإن الشيباني عنده لهذا الحديث إسنادان عَن عائشة وميمونة :
فحديث عائشة : رواه عَن عبد الرحمن بن الأسود ، عَن أبيه ، عَن عائشة .
وحديث ميمونة : رواه عَن عبد الله بنِ شداد ، عَن ميمونة .
فَمِن رواه : عَن الشيباني ، عَن عبد الله بنِ شداد ، عَن عائشة ، فَقد وهم فهذا حديث عائشة .
وأما حديث ميمونة :
فقالَ :
303 - نا أبو النعمان : نا عبد الواحد : نا الشيباني : نا عبد الله بنِ شداد ، قالَ : سمعت ميمونة قالت : كانَ رسول الله ( إذا أراد أن يباشر امرأة مِن نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض .
رواه سفيان ، عَن الشيباني .
وإنما ذكر متابعة سفيان ؛ ليبين أن الصحيح : عَن الشيباني ، عَن عبد الله بن
شداد ، عَن ميمونة ؛ لا عَن عائشة ، وأن سفيان - - وَهوَ : الثوري - - رواه عَن الشيباني كذلك .
وقد خرجه الإمام أحمد ، عَن ابن مهدي ، عَن سفيان كذلك ، ولفظ(1/411)
"""""" صفحة رقم 412 """"""
حديثه : أن النبي ( كان يباشرها وهي حائض ، فوق الإزار .
وكذلك خرجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) من طريق عبد الواحد بنِ زياد ، عَن الشيباني بهذا الإسناد ، ولفظه : كانَ رسول الله ( يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيض .
وخرجه مسلم - - أيضاً - - مِن طريق ابن وهب : أخبرني مخرمة ، عَن أبيه - وَهوَ : بكير بنِ الأشج - ، عَن كريب مولى ابن عباس ، عَن ميمونة ، قالت :
كانَ رسول الله ( ينضجع معي وأنا حائض ، وبيني وبينه ثوب .
ورواه الزهري عَن حبيب مولى عروة ، عن ندبة مولاة ميمونة ، عَن ميمونة ، قالت : كانَ رسول الله ( يباشر المرأة مِن نسائه وهي حائض ، إذا كانَ عليها إزار يبلغ أنصاف الفخذين - - أو الركبتين - - محتجزة .
خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن حبان في ( ( صحيحه ) ) .
وفي الباب أحاديث أخر متعددة ، وقد تقدم في الباب الماضي حديث أم سلمة في المعنى .
وقد دلت هَذهِ الأحاديث على جواز نوم الرجل معَ المرأة في حال حيضها ، وجواز مباشرته لها ، واستمتاعه بها مِن فوق الإزار .(1/412)
"""""" صفحة رقم 413 """"""
والإزار : هوَ ما بين السرة والركبة ، وفي الرواية الأخيرة عَن ميمونة الشك :
هل كانَ الإزار يبلغ إلى الركبتين ، أو إلى أنصاف الفخذين .
وقد روي أن الإزار كانَ يبلغ إلى أنصاف الفخذين ، جزماً مِن غير شك :
خرجه ابن ماجه مِن حد يث أم حبيبة زوج النبي ( ، أنها سئلت : كيف كنت تصنعين معَ رسول الله ( في الحيض ؟ قالت : كانت إحدانا في فورها ، أول ما تحيض تشد عليها إزاراً إلى أنصاف فخذيها ، ثُمَّ تضطجع معَ رسول الله ( .
وإسناده حسن ، وفي إسناده : ابن إسحاق .
وفي هَذا الحديث - - معَ حديث عائشة الثاني الذِي خرجه البخاري هاهنا - :
دلالة على أن النبي ( إنما كانَ يامر الحائض بالاتزار في أول حيضتها ، وَهوَ فور الحيضة وفوحها ، فإن الدم حينئذ يفور لكثرته ، فكلما طالت مدته قل ، وهذا مما يستدل بهِ على أن الأمر بشد الإزار لَم يكن لتحريم الاستمتاع بما تحت الإزار ، بل خشية مِن إصابة الدم والتلوث بهِ ، ومبالغة في التحرز مِن إصابته .
وقد روى محمد بنِ بكار بنِ بلال : نا سعيد بنِ بشير ، عَن قتادة ، عَن الحسن ، عَن أمه ، عَن أم سلمة ، قالت : كانَ رسول الله ( يتقي سورة الدم(1/413)
"""""" صفحة رقم 414 """"""
ثلاثاً ، ثُمَّ يباشر بعد ذَلِكَ .
وهذا الإسناد وإن كانَ فيهِ لين ، إلا أن الأحاديث الصحيحة تعضده وتشهد لَهُ .
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) مِن حديث عكرمة ، عَن بعض أزواج النبي ( ، قالَ : كانَ النبي ( إذا أراد مِن الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً .
وإسناده جيد .
وَهوَ محمول على ما بعد الثلاث إذا ذهبت سورة الدم وحدته وفوره ، فكان حينئذ يكتفي بستر الفرج وحده بثوب ، ثُمَّ يباشر .
وقد روي عَن الأوزاعي ، عَن عبدة بنِ أبي لبابة ، عَن أم سلمة ، قالت : كنت معَ النبي ( في لحافه فنفست ، فقالَ : ( ( مالك أنفست ؟ ) ) قلت : نعم ، فأمرني أن أضع على قبلي ثوباً .
خرجه أبو بكر ابن جعفر في ( ( كِتابِ الشافي ) ) .
وعبدة ، لَم يسمع مِن أم سلمة - : قاله أبو حاتم الرازي .
وسنذكر في ( ( الصيام ) ) - - إن شاء الله تعالى - - الأحاديث الواردة بأن النبي ( كانَ يلقي على فرج المرأة في صيامه ثوباً ، ثُمَّ يباشرها .
فظهر بهذا : أن الاستمتاع ببدن الحائض كله جائز ، لا منع فيهِ سوى الوطء في الفرج ، وأنه يستحب أن يكون ذَلِكَ مِن فوق الإزار ، خصوصاً في أول الحيض وفورته ، وإن اكتفى بستر الفرج وحده جاز ، وإن استمتع بها بغير ستر بالكلية جاز - - أيضاً .
وقد تقدم قول النبي ( : ( ( اصنعوا كل شيء غير النكاح ) ) .(1/414)
"""""" صفحة رقم 415 """"""
خرجه مسلم .
وأما الأحاديث التي رويت عَن النبي ( ، أنَّهُ سئل عما يحل مِن الحائض ؟
فقالَ : ( ( فوق الإزار ) ) .
فَقد رويت مِن وجوه متعددة لا تخلو أسانيدها مِن لين ، وليس رواتها مِن المبرزين في الحفظ ، ولعل بعضهم روى ذَلِكَ بالمعنى الذِي فهمه مِن مباشرة النبي ( للحائض مِن فوق الإزار .
وقد قيل : إن الإزار كناية عَن الفرج ، ونقل ذَلِكَ عن اللغة ، وأنشدوا فيهِ شعراً .
قالَ : وكيع : الإزار عندنا : الخرقة التي على الفرج .
وقد اختلف العلماء فيما يجوز الاستمتاع بهِ مِن الحائض في حال حيضها :
فقالت طائفة : لا يحرم منها سوى الإيلاج في فرجها ، ويجوز ما عدا ذَلِكَ ، وحكي ذَلِكَ عَن جمهور العلماء ، وروي عَن ابن عباس ، وعائشة ، وأم سلمة ، وَهوَ قول الثوري ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وَهوَ أحد قولي الشَافِعي ، ومحمد بنِ الحسن وأبي ثور ، وابن المنذر ، وداود ، وطائفة مِن أصحاب مالك والشافعي .
واحتج أحمد بأن عائشة أفتت بإباحة ما دونَ الفرج مِن الحائض ، وهي أعلم الناس بهذه المسألة ، فيتعين الرجوع فيها إلى قولها ، كَما رجع إليها في الغسل مِن إلتقاء الختانين على ما سبق ، وكذا في المباشرة للصائم ، وقد حكى البخاري عنها في
( ( الصوم ) ) أنها قالت : يحرم عليهِ - - تعني : الصائم - - فرجها .
وقالت طائفة : يحرم الاستمتاع مِن الحائض بما بين السرة والركبة ، إلا مِن(1/415)
"""""" صفحة رقم 416 """"""
فوق الإزار ، وَهوَ المشهور عَن مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي .
وحكي رواية عَن أحمد ، ولم [ يثبتها ] الخلال وأكثر الأصحاب ، وقالوا : إنما أراد أحمد أن الأفضل مباشرتها مِن فوق الإزار .
وقالت طائفة : إن وثق المباشر تحت الإزار بضبط نفسه عَن الفرج ؛ لضعف شهوة أو شدة ورع جاز ، وإلا فلا ، وَهوَ قول طائفة مِن الشَافِعية .
وَهوَ حسن ، وفي كلام عائشة - - رضي الله عنها - ما يشهد لَهُ ؛ فإنها قالت : وأيكم يملك إربه كَما كانَ رسول الله ( يملك إربه ؟ .
ويشهد لهذا : مباشرة المرأة في حال الصيام ؛ فإنه يفرق فيها بين مِن يخاف على نفسه ومن يأمن ، وقد قالت عائشة - - أيضاً - : كانَ النبي ( يقبل ويباشر وَهوَ صائم ، وكان أملككم لإربه .
وقد رويت هَذهِ اللفظة بكسر الهمزة وسكون الراء ، ورويت بفتح الهمزة والراء .
وأنكر الخطابي الرواية الأولى ، وجوزها غيره .
والإرب - بالسكون - : العضو ، وَهوَ كناية هنا عَن الفرج ، والإرب - - بالفتح - الحاجة ، والمراد بالحاجة : شهوة النكاح ، وقيل : بل الإرب - - بالسكون - - يراد بهِ
العضو ، ويراد بهِ الحاجة - - أيضاً - ، وكذلك هوَ في ( ( الصحاح ) ) .
قالَ أبو عبيد : يروى هَذا الحديث : لإربه - - يعني : بالسكون - - قالَ : وَهوَ في كلام العرب لأربه - - يعني : بالتحريك - ، قالَ : والإرب : الحاجة ، قالَ : وفيه ثلاث لغات : أرب ، وإربة ، وإرب ، في غير هَذا : العضو . انتهى .(1/416)
"""""" صفحة رقم 417 """"""
وعلى قول مِن جوز الاستمتاع بما دونَ الفرج ، ويجوز عندهم الوطء دونَ الفرج ، والاستمتاع بالفرج نفسه مِن غير إيلاج فيهِ ، ولو كانَ على بعض الجسد شيء مِن دم الحيض لَم يحرم الاستمتاع بهِ ، وليس فيهِ خلاف إلا وجه شاذ للشافعية .
لكن صرح ابن أبي موسى مِن أصحابنا في ( ( شرح الخرقي ) ) بكراهة الوطء فيما هوَ متلوث بدم الحيض مِن غير تحريم .
وأما ما فوق السرة وتحت الركبة فيجوز الاستمتاع بهِ ، وكثير مِن العلماء حكى الإجماع على ذَلِكَ .
ومنهم مِن حكى عَن عبيدة السلماني خلافه ، ولا يصح عَنهُ .
إنما الصحيح عَن عبيدة : ما رواه وكيع في ( ( كتابه ) ) ، عن ابن عون ، عَن ابن سيرين ، قالَ : سألت عبيدة : ما للرجل مِن امرأته إذا كانت حائضاً ؟ قالَ : الفراش واحد ، واللحاف شتى ، فإن لَم يجد بداً رد عليها مِن طرف ثوبه .
وهذا إنما يدل على أن الأولى أن لا ينام معها متجردة في لحاف واحد حتَّى يسترها بشيء مِن ثيابه ، وهذا لا خلاف فيهِ .
وقد روي عَن ابن عباس ، أنَّهُ كانَ يعتزل فراشه امرأته في حال الحيض ، وأنكرت عليهِ ذَلِكَ خالته ميمونة - - رضي الله عنهما - ، فرجع عَن ذَلِكَ :
ففي ( ( مسند الإمام أحمد ) ) مِن حديث ابن إسحاق ، [ عَن ] الزهري ، عَن عروة ، عَن ندبة ، قالت : أرسلتني ميمونة بنت الحارث إلى امرأة عبد الله ابن عباس - - وكانت بينهما قرابة - ، فرأيت فراشها معتزلاً عَن فراشه ، فظننت أن ذَلِكَ لهجران ، فسألتها ، فقالت : لا ، ولكني حائض ، فإذا حضت لم يقرب فراشي ، فأتيت ميمونة ، فذكرت ذَلِكَ لها ، فردتني إلى ابن عباس ، فقالت : أرغبة عَن(1/417)
"""""" صفحة رقم 418 """"""
سنة رسول الله ( ؟ لقد كانَ رسول الله ( ينام معَ المرأة مِن نسائه الحائض ، ما بينهما إلاّ ثوب ، ما يجاوز الركبتين .
ثُمَّ خرجه مِن طريق ليث : حدثني ابن شهاب ، عَن حبيب مولى عروة ، عَن ندبة - فذكر الحديث .
وهذا هوَ الصحيح ، وقول ابن إسحاق : ( ( عَن عروة ) ) خطأ ، إنما هوَ :
حبيب مولى عروة ، وَهوَ ثقة ، خرج لَهُ مسلم .
وقد روي أن النبي ( إنما كانَ ينام معَ الحائض حيث لَم يكن لَهُم سوى فراش واحد ، فلما وسع عليهم اعتزل نساءه في حال الحيض .
خرجه الإمام أحمد مِن رواية ابن لهيعة ، عَن يزيد بنِ أبي حبيب ، عَن سويد بنِ قيس ، عَن ابن قريط الصدفي ، قالَ : قل لعائشة : أكان النبي ( يضاجعك وأنت
حائض ؟ قالت : نعم ، إذا شددت عليّ إزاري ، ولم يكن لنا إذ ذاك إلا فراش واحد ، فلما رزقني الله فراشاً آخر اعتزلت رسول الله ( .
وابن لهيعة ، لا يقبل تفرده بما يخالف الثقات .
ولكن تابعه غيره :
فرواه ابن وهب ، عَن عمرو بنِ الحارث ، عَن ابنِ أبي حبيب ، عَن سويد ابن قيس ، عَن ابن قرظ - - أو قرط - - الصدفي ، أنَّهُ سأل عائشة - فذكره بمعناه .
خرجه بقي بنِ مخلد في ( ( مسنده ) ) .
وابن قرظ - - أو قرط - - الصدفي ، ليسَ بالمشهور ، فلا تعارض روايته عَن(1/418)
"""""" صفحة رقم 419 """"""
عاشة رواية الأسود بنِ يزيد النخعي .
وقد تابع الأسود على روايته كذلك عَن عائشة : عمرو بنِ شرحبيل - - أو عمرو بنِ ميمون - - على اختلاف فيهِ - ، وأبو سلمة وعبد الله بنِ أبي قيس ، وشريح بنِ المقدام ، وجميع بنِ عمير ، وخلاس وغيرهم .
وروايات هؤلاء عَن عائشة أولى مِن روايات ابن قريط .
وتعارض رواية ابن قريط برواية أخرى تشبهها ، خرجها أبو داود مِن حديث
عبد الرحمن بنِ زياد ، عَن عمارة بنِ غراب ، أن عمة لَهُ حدثته : أنها سألت عائشة ، قالت : إحدانا تحيض وليس لها ولزوجها إلا فراش واحد ؟ قالت : أخبرك بما صنع
رسول الله ( ، دخل فمضى إلى مسجده - - تعني : مسجد بيته - ، فلم ينصرف حتى غلبتني عيني ، وأوجعه البرد ، فقالَ : ( ( ادني ) ) ، فقلت : إني حائض ، قالَ : ( ( وإن ، اكشفي عَن فخذيك ) ) ، فكشفت فخذي فوضع خده وصدره على فخذي ، وحنيت عليهِ حتى دفىء ونام .
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) عَن أبي اليمان كثير بنِ يمان ، عَن أم ذرة ، عَن عائشة ، قالت : كنت إذا حضت نزلت عَن المثال إلى الحصير ، فلن نقرب رسول الله ( ولم ندن منهُ حتى نطهر .
أبو اليمان وأم ذرة ، ليسا بمشهورين ، فلا يقبل تفردهما بما يخالف رواية الثقات الحفاظ الأثبات .
وخرجه بقي بنِ مخلد ، عَن الحماني : ثنا عبد العزيز ، عَن أبي [ اليمان ] الرحال ، عَن أم ذرة ، عَن عائشة ، قالت : كنت إذا حضت لَم أدن مِن فراش رسول الله ( حتى أطهر .
الحماني ، متكلم فيهِ .(1/419)
"""""" صفحة رقم 420 """"""
وقد روى جعفر بنِ الزبير ، عَن القاسم ، عَن أبي أمامة ، قالَ : قالَ عمر : كنا نضاجع النساء في المحيض ، وفي الفرش واللحف قلة ، فأما إذ وسع الله الفرش واللحف فاعتزلوهن كَما أمر الله عز وجل .
خرجه القاضي إسماعيل .
وهذا لا يثبت ، وجعفر بنِ الزبير متروك الحديث .
وروى أبو نعيم الفضل بنِ دكين : نا أبو هلال : حدثني شيبة الراسبي ، قالَ : سألت سالماً عَن الرجل يضاجع امرأته وهي حائض ؟ قالَ : أمَّا نحن آل عمر ، فنهجرهن إذا كن حيضاً .
إسناد ضعيف .
والاعتزال الذِي أمر الله بهِ : هوَ اجتناب جماعهن ، كَما فسره بذلك رسول الله ( .
وقال عكرمة : كانَ أهل الجاهلية يصنعون في الحيض نحواً مِن صنيع المجوس ، فذكروا ذَلِكَ لرسول الله ( ، فنزلت : ( وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً (
[ البقرة : 222 ] الآية ، فلم يزد الأمر فيهن إلا شدة ، فنزلت : ( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ( [ البقرة : 222 ] : أن تعتزلوا .
أخرجه القاضي إسماعيل ، بإسناد صحيح .
وَهوَ يدل على أن أول الأمر باعتزالهن فهم كثير مِن الناس منهُ الاعتزال في البيوت والفرش كَما كانوا يصنعون أولاً ، حتى نزل آخر الآية : ( فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
اللهُ ( ، ففهم مِن ذَلِكَ أن الله أمر باعتزالهن في الوطء خاصة .
وفسر النبي ( ذَلِكَ بقولِهِ : ( ( اصنعوا كل شيء غير النكاح ) ) ، وبفعله معَ أزواجه ؛ حيث كانَ يباشرهن في المحيض .(1/420)
"""""" صفحة رقم 421 """"""
6 - - باب
ترك الحائض الصوم
304 - حدثنا سعيد بنِ أبي مريم : نا محمد بنِ جعفر : أخبرني زيد - - هوَ : ابن أسلم - ، عَن عياض بنِ عبد الله ، عَن أبي سعيد الخدري ، قالَ : خرج رسول الله ( في أضحى أو فطر إلى المصلى ، فمر على النساء ، فقالَ : ( ( يا معشر النساء تصدقن ، فإني أريتكن أكثر أهل النار ) ) فقلن : وبم يارسول الله ؟ قالَ : ( ( تكثرن اللعن ، وتكفرن العشير ، ما رأيت مِن ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم مِن إحداكن ) ) . قلن : وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله ؟ قالَ : ( ( أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟ ) ) قلن : بلى ، قالَ : ( ( فذلك مِن نقصان عقلها ، أليس إذا حاضت لَم تصل ولم تصم ؟ ) ) قلن : بلى ، قالَ : ( ( فذلكن [ مِن ] نقصان دينها ) ) .
قَد سبق هَذا الحديث في ( ( كِتابِ : الإيمان ) ) ، استدل بهِ البخاري هناك على أن الصلاة والصيام مِن الدين ، واستدل بهِ هنا على أن الحائض لا تصوم .
ولم يبوب على ترك الصلاة ؛ لأنه بوب على أنها لا تقتضي الصلاة باباً مفرداً ، يأتي في موضعه - - إن شاء الله تعالى .
وقد أجمعت الأمة على أن الحائض لا تصوم في أيام حيضها ، وأن صومها غير صحيح ولا معتد بهِ ، وأن عليها قضاء الصوم إذا طهرت .(1/421)
"""""" صفحة رقم 422 """"""
واختلف المتكلمون في أصول الفقه : هل هي مكلفة بالصوم في حال حيضها ، أم لا تؤمر بهِ إلا بعد طهرها ؟
وقال كثير مِن الفقهاء : أنَّهُ لا تظهر لهذا الاختلاف فائدة .
وقد تظهر لَهُ فائدة ، وهي : أن الحائض إذا ماتت قبل انقطاع دمها ، فهل يجب أن يطعم عنها لكل يوم أفطرت فيهِ ؟ وكذا المريض والمسافر إذا ماتا قبل زوال عذرهما ، على قول مِن أوجب الإطعام عَن الميت مطلقاً وإن مات قبل التمكن مِن الصوم .
وإذا انقطع دم الحائض ؛ فالجمهور على أن حكمها حكم الجنب ؛ يصح
صومها ، والمخالف في صوم الجنب يخالف في الحائض بطريق الأولى .
ومن الناس مِن قالَ في الحائض : لا يصح صيامها حتى تغتسل ؛ وإن صح صوم الجنب . وحكي عَن الأوزاعي ، والحسن بنِ صالح ، والعنبري ، وعبد الملك بنِ الماجشون
وغيرهم .
وقد حكاه بعض أصحابنا المتأخرين وجهاً في الحائض إذا انقطع دمها : أنَّهُ لا يصح صومها ، ولم يحك مثله في الجنب .
ووجه الفرق : أن حدث الحيض مانع مِن صحة الصيام ؛ بخلاف الجنابة ، فإنه لو احتلم الصائم لَم يبطل صيامه ، ولو طرأ الحيض في أثناء النهار بطل الصوم .(1/422)
"""""" صفحة رقم 423 """"""
7 - باب
تقضي الحائض المناسك كلها إلاّ الطواف بالبيت
وقال إبراهيم : لا بأس أن تقرأ الآية .
ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً .
وكان النبي ( يذكر الله على كل أحيانه .
وقالت أم عطية : كنا نؤمر أن يخرج الحيض ؛ فيكبرن بتكبيرهم ويدعون .
قالَ ابن عباس : أخبرني أبو سفيان ، أن هرقل دعا بكتاب النبي ( فقرأه ، فإذا فيهِ : ( ( بسم الله الرحمن الرحيم : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ ( [ آل عمران : 64 ] .
وقال عطاء ، عنِ جابر : حاضت عائشة ، فنسكت المناسك غير الطواف
بالبيت ، ولا تصلي .
وقال الحكم : إني لأذبح وأنا جنب .
وقال الله تعالى : ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ( [ الأنعام : 121 ] .
305 - - حدثنا أبو نعيم : نا عبد العزيز بنِ أبي سلمة ، عَن عبد الرحمن بنِ
القاسم ، [ عَن القاسم ] ، عَن عائشة ، قالت : خرجنا معَ رسول الله ( ولا نذكر إلا الحج ، فلما جئنا سرف طمثت ، فد خل النبي ( وأنا أبكي ، فقالَ : ( ( ما(1/423)
"""""" صفحة رقم 424 """"""
يبكيك ؟ ) )
فقلت : لوددت والله أني لَم أحج العام ، قالَ : ( ( لعلك نفست ؟ ) ) قلت :
نعم ، قالَ : ( ( فإن ذَلِكَ شيء كتبه الله على بنات آدم ، فافعلي ما يفعل الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) ) .
مقصود البخاري بهذا الباب : أن الحيض لا يمنع شيئاً مِن مناسك الحج غير الطواف بالبيت والصلاة عقيبه وأن ما عدا ذَلِكَ مِن المواقف والذكر والدعاء لا يمنع الحيض شيئاً منهُ ، فتفعله الحائض كله ، فدخل في ذَلِكَ الوقوف بعرفة ، والمزدلفة ، ورمي الجمار ، وذكر الله عز وجل ودعاؤه في هَذهِ المواطن ، وكل هَذا متفق على جوازه .
ولم يدخل في ذَلِكَ السعي بين الصفا والمروة ؛ لأنه تابع للطواف لا يفعل إلا بعده ، ولم تكن عائشة طافت قبل حيضها ، فلوا كانت قَد طافت فبل حيضها لدخل فيهِ السعي - أيضاً .
وهذا كله متفق عليهِ بيِن العلماء إلا خلافاً شاذاً في الذكر ، وقد ذكرناه فيما سبق في ( ( أبواب الوضوء ) ) ، وإلا السعي بين الصفا والمروة ؛ فإن للعلماء فيهِ اختلافاً : هل يفعل معَ الحيض ، أم لا ؟
والجمهور : على جوازه معَ الحيض ، ومنع منهُ طائفة من السلف ؛ لكن مِنهُم مِن علل ذَلِكَ بمنع تقدم السعي للطواف ، فلو كانت طافت ثُمَّ حاضت لزال المنع حينئذ على هَذا التعليل ، وحكي المنع رواية عَن أحمد ، وحكي عَن ابن عمر .
ومنع إسحاق الجنب مِن السعي دونَ الحائض ؛ لأن الجنب لا عذر لَهُ في تأخير الغسل ؛ بخلاف الحائض .
وقد روى يحيى بنِ يحيى الأندلسي حديث عائشة الذِي خرجه البخاري(1/424)
"""""" صفحة رقم 425 """"""
هاهنا : عَن مالك ، عَن عبد الرحمن بنِ القاسم ، وقال فيهِ : ( ( غير أن لا تطوفي بالبيت ، ولا بالصفا والمروة ، حتى تطهري ) ) .
وزيادة ( ( الصفا والمروة ) ) وهم على مالك ، لَم يذكره عَنهُ أحد غير يحيى - : قاله ابن عبد البر .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) ، عَن أبي الزبير ، عَن جابر ، وذكر قصة عائشة في حيضها في الحج ، وقال في آخره : فقالَ لها النبي ( : ( ( اغتسلي ، ثُمَّ أهلي بالحج ) ) ، ففعلت ، ووقفت المواقف ، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة ، والصفا والمروة .
وخرج البخاري في ( ( الحج ) ) من حديث عطاء ، عن جابر ، قالَ : حاضت عائشة ، فنسكت المناسك كلها ، غير أنها لم تطف بالبيت ، فلما طهرت طافت بالبيت .
وهذا هوَ الذِي علقه البخاري هاهنا ، وزاد فيهِ : ( ( ولا تصلي ) ) .
وهذه اللفظة خرجها الإمام أحمد مِن رواية أبي الزبير ، فذكر الحديث ، وفيه : أن النبي ( قالَ لها : ( ( اغتسلي ، واهلي بالحج ، ثُمَّ حجي واصنعي ما يصنع الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي ) ) . قالت : ففعلت ذَلِكَ ، فلما طهرت قالَ : ( ( طوفي بالبيت وبين الصفا والمروة ) ) .
وأما طواف الحائض بالبيت ، فالجمهور على تحريمه ، ورخص فيهِ طائفة مِن المالكية إذا لَم تحتبس لها الرفقة أن تطوف للأفاضة حينئذ ، وسنذكر ذَلِكَ في موضعه مِن ( ( الحج ) ) إن شاء الله تعالى .(1/425)
"""""" صفحة رقم 426 """"""
وأما حديث أم عطية في إخراج الحيض في العيدين ، فَقد خرجه البخاري في مواضع متعددة مِن ( ( كتابه ) ) مبسوطاً ، وفيه دليل على جواز الذكر والدعاء للحائض .
وأما ما ذكره - - تعليقاً - ، أن النبي ( كانَ يذكر الله على كل أحيانه :
فخرجه مسلم ( ( صحيحه ) ) مِن حديث البهي ، عَن عروة ، عَن عائشة .
وذكر الترمذي في ( ( علله ) ) أنَّهُ سأل البخاري عَنهُ ، فقالَ : هوَ حديث صحيح .
وذكر ابن أبي حاتم ، عَن أبي زرعة ، أنَّهُ قالَ : لَم يرو إلا مِن هَذا الوجه ، وليس هوَ بذاك .
وفيه : دليل على أن الذكر لا يمنع منهُ حدث ولا جنابة ، وليس فيهِ دليل على جواز قراءة القرآن للجنب ؛ لأن ذكر الله إذا أطلق لا يراد بهِ القرآن .
واستدلاله بقوله تعالى : ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ( فَهوَ دليل على جواز التسمية للحائض والجنب ؛ فإنهما غير ممنوعين مِن التذكية .
قالَ ابن المنذر : لا أعلم أحداً منع مِن ذَلِكَ . قالَ : وأجمع أهل العلم على أن لهما أن يذكرا الله ويسبحانه .
فلم يبق مما ذكره البخاري في هَذا الباب سوى قراءة القرآن ، وظاهر كلامه أن الحائض لا تمنع مِن القراءة .
واستدل [ بكتابة ] النبي ( البسملة معَ آية مِن القرآن إلى هرقل .(1/426)
"""""" صفحة رقم 427 """"""
وذكر عن النخعي ، أن الحائض تقرأ الآية ، وعن ابن عباس أنه لم ير بالقرآن للجنب بأساً .
أما ابن عباس ، فقد حكى عنه جواز القرآن للجنب غير واحد .
قالَ ابن المنذر : روينا عن ابن عباس أنه كانَ يقرأ وردهُ وهو جنب ، ورخّص عكرمة وابن المسيب في قراءته . وقال ابن المسيب : أليس في جوفه ؟ انتهى .
وكذا قالَ نافع بن جبير بن مطعم في قراءة القرآن على غير طهارة : لا بأس به ، أليس القرآن في جوفه ؟
وممن رأى الرخصة في قراءة القرآن للجنب قسامة بن زهير ، والحكم ، وربيعة ، وداود .
وروى - أيضاً - عن معاذ بن جبل ، وانه قالَ : ما نهى رسول الله ( عن شيء من ذَلِكَ .
خرجه ابن جرير بإسناد ساقط لا يصح ، والظاهر أنه مما وضعه محمد بن سعيد المصلوب ، وأسقط اسمه من الإسناد ؛ فقد وجدنا أحاديث متعددة بهذا الإسناد ، وهي من موضوعات المصلوب .
وحكي جواز القراءة للجنب والحائض عن طائفة من أهل الحديث ، منهم : ابن المنذر ، والطحاوي .
وأما من رخص للجنب في قراءة الآية ، فقد حكاه البخاري عن النخعي في الحائض .
وفي ( ( كتاب ابن أبي شيبة ) ) عن النخعي : أن الحائض والجنب لا يتم الآية .(1/427)
"""""" صفحة رقم 428 """"""
وروى أبو حنيفة ، عن حماد ، عن إبراهيم في الجنب : لا بأس أن يقرأ الآية . قال أبو حنيفة : والحائض مثله .
وحكى رواية عن أحمد بجواز قراءة الآية ، وهي مخرجة من كلامه ، ليست منصوصة عنه ، وفي صحة تخريجها نظر .
وروي عن طائفة الرخصة في قراءة الآية والآيتين ، روي عن سعيد بن جبير
وعبد الله بن مغفل ، وعكرمة .
وروي عن عكرمة : لا بأس للجنب أن يقرأ ؛ ما لم يقرأ السورة .
ومنهم من رخص في قراءة ما دون الآية ، وهو مروي عن جابر بن زيد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والنخعي ، والثوري ، ورواية عن أحمد ، وإسحاق ، وحكي عن الطحاوي .
ومنع الأكثرون الحائض والجنب من القراءة بكل حال ، قليلاً كانَ أو كثيراً ، وهذا مروي عن اكثر الصحابة ، روي عن عمر ، وروي عنه أنه قالَ : لو أن جنباً قرأ القرآن لضربته .
وعن علي ، قالَ : لا يقرأ ولا حرفاً .
وعن ابن مسعود ، وسليمان ، وابن عمر .
وروي عن جابرٍ ، قالَ البيهقي : وليس بقوي .
وروي عن ابن عباس بإسناد لا يصح .
وهو قول أكثر التابعين ، ومذهب الثوري ، والأوزاعي ، وابن المبارك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق - في احدى الروايتين عنهما - ، وأبي ثور وغيرهم .
وهو قول مالكٍ في الجنب ، إلا أنه رخص لهُ في قراءة آيتين وثلاث عندَ المنام للتعوذ .(1/428)
"""""" صفحة رقم 429 """"""
ورخص الأوزاعي لهُ في تلاوة آيات الدعاء والتعوذ ، تعوذاً لا قراءة .
وهذا أصح الوجهين للشافعية - أيضاً .
وقال سعيد بن عبد العزيز : رخص للحائض والجنب في قراءة آيتين عندَ الركوب والنزول : ( سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا ( الآية [ الزخرف : 13 ] ، و ( رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً ( [ المؤمنون : 29 ] الآية .
وعن مالك في الحائض روايتان إحداهما : هي كالجنب ، والثانية : أنها تقرأ .
وهو قول محمد بن مسلمة ؛ لأن مدة الحيض تطول ، فيخشى عليها النسيان ، وهي غير قادرة على الغسل ، بخلاف الجنب .
وحكى أبو ثور ذَلِكَ عن الشافعي ، وأنكره أصحاب الشافعي عنه .
وعكس ذَلِكَ آخرون ، منهم : عطاء ، قالَ : الحائض أشد شأناً من الجنب ، الحائض لا تقرأ شيئاً من القرآن ، والجنب يقرأ الآية .
خرجه ابن جرير بإسناده عنه .
ووجه هذا : أن حدثَ الحيض أشد من حدث الجنابة ؛ فإنه يمنع ما يمنع منه حدث الجنابة وزيادة ، وهي الوطء والصوم ، وما قيل من خشية النسيان فإنه يندفع بتذكر القرآن بالقلب ، وهو غير ممنوع به .
وفي نهي الحائض والجنب عن القراءة أحاديث مرفوعة ، إلا أن أسانيدها غير
قوية ، كذا قالَ الإمام أحمد في قراءة الحائض ، وكأنه يشير إلى أن الرواية في الجنب
أقوى ، وهو كذلك .
وأقوى ما في الجنب : حديث عبد الله بن سلمة ، عن علي ، قالَ : كانَ
رسول الله ( يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن ، ويأكل معنا اللحم ، ولم يكن يحجبه - أو يحجزه - عن القرآن شيء ، ليس الجنابة .(1/429)
"""""" صفحة رقم 430 """"""
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، وخرجه الترمذي بمعناه ، وقال : حسن صحيح ، وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحيهما ) ) والحاكم ، وقال صحيح الإسناد .
وتكلم فيهِ الشافعي وغيره ؛ فإن عبد الله بن سلمة هذا رواه بعدما كبر ، قالَ شعبة عنه : كانَ يحدثنا ، فكنا نعرف وننكر , ، وقال البخاري : لا يتابع في حديثه ، ووثقه العجلي ويعقوب بن شيبة ، وقال ابن عدي : أرجو أنه لا بأس به .
والاعتماد في المنع على ما روي عن الصحابة ، ويعضده : قول عائشة وميمونة في قراءة النبي ( القرآن في حجرهما في حال الحيض ؛ فإن يدل على أن للحيض تأثيراً في منع القراءة .
وأما الاستدلال المجيزين بحديث عائشة : ( ( اصنعي ما يصنع الحاج ، غير أن لا تطوفي ) ) فلا دلالة لهم فيهِ ؛ فإنه ليس في مناسك الحج قراءة مخصوصة حتَّى تدخل في عموم هذا الكلام ، وإنما تدخل الأذكار والأدعية .
وأما الاستدلال بحديث الكتاب إلى هرقل ، فلا دلالة فيهِ ؛ لأنه إنما كتب ما تدعو الضرورة إليه للتبليغ ، وقد سبق ذكر ذَلِكَ في شرح حديث هرقل في أول الكتاب .
وقد اختلف العلماء في تمكين الكافر من تلاوة القرآن ، فرخص فيهِ الحسن وأبو حنيفة وغيرهما ، ومنهم من منع منه ، وهو قول أبي عبيد وغيره .
واختلف أصحابنا في ذَلِكَ ، فمنهم من منعه مطلقاً ، ومنهم من رخص فيهِ(1/430)
"""""" صفحة رقم 431 """"""
مطلقاً ، ومنهم من جوزه إذا رجي من حال الكافر الاستهداء والاستبصار ، ومنعه إذا لم يرج ذَلِكَ .
والمنقول عن أحمد أنه كرهه .
وقال أصحاب الشافعي : إن لم يرج له الاستهداء بالقراءة منع منها ، وإن رجي لهُ ذَلِكَ لم يمنع ، على أصح الوجهين .(1/431)
"""""" صفحة رقم 432 """"""
8 - باب
الاستِحَاضَةِ
306 - حدثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها قالت : قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله ( : يا رسول الله إني لا أطهرُ ؛ أفأدع الصلاة ؟ ، فقالَ رسول الله ( : ( ( إنما ذَلِكَ عرق ، وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصَّلاة ، فإذا ذهب عنك قدرها فاغسلي عنك الدم وصلّي ) ) .
هذا الحديث خرجه البخاري في مواضع متعددة من ( ( كتاب الحيض ) ) ، وفي بعضها : أنها قالت : ( ( إني أستحاض فلا أطهر ) ) ، وفي بعضها : ( ( إذا أدبرَتْ فاغتسلي وصلي ) ) ، وفي بعضها : ( ( دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضينَ فيها ، ثُمَّ اغتسلي وصلي ) ) .
وكل هذه الألفاظ من رواية هشام ، عن أبيه ، عن عائشة .
وخرج - أيضاً - من رواية ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن عروة - وعن
عمرة - ، عن عائشة : أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين ، فسألت رسول الله ( عن ذَلِكَ ، فأمرها أن تغتسل ، فقالَ : ( ( هذا عرق ) ) ، فكانت تغتسل لكل صلاة .
المستحاضة : هي من اختلط دم حيضها بدم غير الحيض ، هوَ دم فاسد غير طبيعي ، بل عارض لمرض ، فدم الحيض هوَ دم جبلةٍ وطبيعةٍ ، يرخيه الرحم بعد البلوغ في أوقات معتادة ، وسمي حيضاً لأنه يسيل ، ويقال : حاض الوادي إذا سال .(1/432)
"""""" صفحة رقم 433 """"""
وقد فرق النبي ( بين دم الحيض والاستحاضة بأن دم الاستحاضة عرق ، وهذا يدل على أن دم الحيض ليس دم عرق ؛ فإنه دم طبيعي ، يرخيه الرحم فيخرج من قعره ، ودم الاستحاضة يخرج من عرق ينفجر ، [ ومنه ] الذي يسيل في أدنى الرحم دون قعره .
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) من حديث أسماء بنت عميس ، عن النبي ( ، أنه قالَ : ( ( هذا من الشيطان ) ) يعني : دم الاستحاضة .
وخرج النسائي من حديث عمرة ، عن عائشة ، أن النبي ( قالَ في المستحاضة : ( ( ليست بالحيضة ، ولكنها ركضة من الرحم ) ) .
ومن حديث القاسم ، عن عائشة : أن امرأة مستحاضة على عهد النَّبيّ ( قيل لها : إنه عرق عاندٌ .
وفي حديثه حمنة ، عن النبي ( ، أنه قالَ : ( ( إنما هوَ ركضةٌ من الشيطان ) ) .
خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي .
وفي حديث عثمان بن سعد ، عن ابن أبي مليكةَ ، عن فاطمة بنت(1/433)
"""""" صفحة رقم 434 """"""
أبي حبيشٍ ، عن عائشة ، أن النبي ( قالَ : ( ( إنما هوَ عرق انقطع ، أو داءٌ عرض ، أو ركضةٌ من الشيطان ) ) .
وروى أبو عبيد في ( ( غريبه ) ) : نا حجاج ، عن حماد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس ، أنه سئل عن المستحاضة ؟ فقالَ : ذَلِكَ العاذل يغذو .
قالَ أبو عبيد : ( ( العاذل ) ) : اسم العرق الذي يخرج منه دم الاستحاضة .
وقوله : ( ( يغذو ) ) - يعني : يسيل .
قالَ : ونا أبو النضر ، عن شعبة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : إنه عرق عاند ، أو ركضة من الشيطان .
قالَ : وقوله : ( ( عاند ) ) - يعني : أنه عندَ وبغي كالإنسان يعاند عن القصد فهذا العرق في كثرة ما يخرج من الدم بمنزلته . والركضة : الدفعة .
وقد اختلف العلماء في تفسير الاستحاضة ، على حسب اختلافهم في حد أكثر الحيض .
فمن قالَ : لهُ حد محدود ، قالَ : المستحاضة من جاوز دمها أكثر الحيض ، وهذا قول الأكثرين منهم .
وقد أشار البخاري إلى الاختلاف في ذَلِكَ - فيما بعد - ، ويأتي الكلام فيهِ في موضعه - إن شاء الله تعالى .
ومن قالَ : ليس لأكثره حد محدود ، وإنما يرجع إلى عادة المرأة ، فإنه يرى(1/434)
"""""" صفحة رقم 435 """"""
أن عادتها إذا زاد الدم عليها مدة طويلة كانَ ذَلِكَ استحاضة .
وقد ذكر أبو داود في ( ( سننه ) ) ، قالَ : روى يونس ، عن الحسن في الحائض إذا مد بها الدم : تمسك بعد حيضها يوماً أو يومين ، فهي مستحاضة .
وقال التيمي ، عن قتادة : إذا زاد على أيام حيضتها خمسة أيام فلتصل .
قالَ التيمي : فجعلت أُنقص حتى بلغت يومين ، فقالَ : إذا كانَ يومين فهوَ من حيضها .
وسئل عنه ابن سيرين ، فقالَ : النساء أعلم بذلك .
وقد ذكر البخاري قول ابن سيرين هذا فيما بعد تعليقاً ، ويأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى .
روى حرب الكرماني : ثنا إسحاق - هوَ : ابن راهويه - : ثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن ، في امرأة كانَ أقراؤها سبعة أيام قبل أن تتزوج ، فلما تزوجت ارتفعت إلى خمسة عشر أو ثلاثة عشر ؟ قالَ : تنظر تلك الأيام التي كانت تحيضها قبل أن تتزوج ، فإذا مضت اغتسلت كل يوم عندَ صلاة الظهر إلى مثلها ، وتوضأت عندَ كل صلاة ، وتتنظف ، وتصلي .
قالَ : ونا إسحاق : نا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قالَ : قلت لمحمد ابن سيرين : المرأة تحيض فتزيد على ذَلِكَ خمسة أيام ؟ قالَ : تصلي ، قلت : يومين ؟ قالَ : ذَلِكَ من حيضتها .
وروى حرب بإسناده ، عن الأوزاعي ، في المرأة تمكث في حيضها سبعة أيام ثم ترى بعد السبعة دماً ؟ قالَ : إن شاءت استظهرت بيوم ، ثم تغتسل وتصلي .(1/435)
"""""" صفحة رقم 436 """"""
ومذهب أحمد وأصحابه : أن الحائض إذا كانَ لها عادةٌ مستمرة فإنها تجلس أيام عادتها .
وهل تثبت عنده العادة بمرتين ، أو ثلاث مرار ؟ على روايتين عنه .
فإن لم يكن لها عادة ، مثل أن تكون مبتدأةً ، فإنها لا تزيد على أن تقعد أقل الحيض عنده ، وهو يوم وليلة ، ثم تغتسل وتصلي حتى تثبت لها عادة بمرتين أو ثلاث فتنتقل إليها . هذا هوَ الصحيح عنده .
وكذلك إذا كانت معتادة ، فزادت عادتها ، فإنها تغتسل عندَ انقضاء عادتها وتصلي ، فإن انقطع لأكثر الحيض فما دونه على قدر واحد مرتين أو ثلاثاً - ، على اختلاف الروايتين عنه - صار عادة بائنة منتقلة ، وانتقلت إليه .
وتمسك لذلك بأن النبي ( أمر المستحاضة بأن تدع الصلاة في الأيام التي كانت تحيض فيها ، وهذا رد إلى العادة المعتادة المستمرة .
وأما مذهب مالك فيمن لها عادة فزادت عليها ، فعنه فيها روايتان :
إحداهما : تجلس ما تراه من أول مرة ؛ ما لم يزد على أكثر الحيض ، وهو خمسة عشر يوماً .
والثانية : أنها تستطهر على عادتها بثلاثة أيام ، ما لم تجاوز خمسة عشر يوماً ، تغتسل وتصلي ، وهي التي رجع إليها مالك ، وعليها المصريون من أصحابه ، وهي قول الليث بن سعد .
وإذا استحيضت هذه فإنها تستطهر على أكثر أيام عادتها ما لم تجاوز خمسة عشر - أيضاً - ، وفيه عنه خلاف يأتي ذكره فيما بعد .
ومذهب الشافعي وأبي حنيفة : أنها تجلس ما تراه من الدم ما لم يجاوز أكثر الحيض ، سواء اتفقت عادتها ، أو اختلفت ، ولا عبرة بالعادة فيما يمكن أن يكون
حيضاً .(1/436)
"""""" صفحة رقم 437 """"""
وأما قول النبي ( : ( ( فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة ، فإذا ذهب عنك قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي ) ) - وفي رواية : ( ( فإذا أدبرت ) ) . فقد اختلف العلماء في تأويله :
فتأوله الأكثرون ، منهم مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد على أن المراد به اعتبار تميز الدم ، وأن هذه المستحاضة كانَ دمها متميزاً ، بعضه أسود وبعضه غير ذَلِكَ ، فردها إلى زمن دم الحيض وهو الأسود الثخين ، فإذا أقبل ذَلِكَ الدم تركت الصلاة ، فإذا أدبر وجاء دم غيره فإنها تغتسل وتصلي .
وقد جاء التصريح بذلك في رواية أخرى من طريق محمد بن أبي عدي ، عن محمد بن عمرو عن علقمة ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن فاطمة بنت أبي حبيش ، أنها كانت تستحاض ، فقالَ لها النبي ( : ( ( إذا كانَ دم الحيضة ، فإنه دم أسود يعرف ، فإذا كانَ ذَلِكَ فأمسكي عن الصلاة ، فإذا كانَ الآخر فتوضئي وصلي ، فإنما هوَ عرق ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في
( ( صحيحيهما ) ) والحاكم .
وقال : صحيح على شرط مسلم .
وقال الدارقطني : رواته كلهم ثقات .
وقد تكلم فيهِ آخرون :
قالَ النسائي : روى هذا الحديث غير واحد ، فلم يذكر أحد منهم ما ذكره ابن عدي .
وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن هذا الحديث ؟ فقالَ : لم يتابع محمد(1/437)
"""""" صفحة رقم 438 """"""
ابن عمرو على هذه الرواية ، وهو منكر .
وأيضاً ؛ فقد اختلف على ابن أبي عدي في إسناده ، فقيل : عنه كما ذكرنا . وقيل عنه في إسناده : عن عروة ، عن عائشة .
وقيل : إن روايته عن عروة ، عن فاطمة أصح ؛ لأنها في كتابه كذلك .
وقد اختلف في سماع عروة من فاطمة .
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) من رواية سهيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن أسماء بنت عميس ، أن النبي ( قالَ في أمر فاطمة بنت أبي حبيش : ( ( لتجلس في مركن ، فإذا رأت صفرةً فوق الماء فلتغتسل ) ) .
وفي إسناده اختلاف : وقد قيل : إن الصحيح فيهِ : عن عروة ، عن فاطمة .
وفي بعض ألفاظه : ( ( فأمرها أن تقعد أيامها التي كانت تقعد ، ثم تغتسل ) ) .
والأظهر - والله اعلم - : أن النبي ( إنما ردها إلى العادة لا إلى التمييز ؛ لقوله : ( ( فإذا ذهب عنك قدرها ) ) ، كذا في رواية مالك ، عن هشام ، وهي التي خرجها البخاري في هذا الباب .
وقد تأويلها بعض المالكية على أنها كانت مميزة ، لكن يزيد دم تمييزها على أكثر الحيض ، فتجلس منه قدر العادة .
وقال بعضهم : المراد بقدرها : ذهاب دمها وانقضاؤها .
وتأوله بعضهم : على أن المراد بذهاب قدرها : الاستطهار بعد مدتها بثلاثة أيام على ما يراه مالك .
وكل هذه تأويلات بعيدةٌ ، تخالف ظاهر اللفظ .
وفي رواية أبي أسامة ، عن هشام : ( ( دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت(1/438)
"""""" صفحة رقم 439 """"""
تحيضين فيها ، ثم اغتسلي وصلي ) ) .
وقد خرجها البخاري فيما بعد .
وهذه الرواية صريحة في ردها إلى العادة دون التمييز .
وخرج مسلم من حديث عراك بن مالك ، عن عروة ، عن عائشة ، أن أم حبيبة سألت رسول الله ( عن الدم ؟ فقالَ لها النبي ( : ( ( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ، ثم اغتسلي وصلي ) ) .
وفي رواية : أنها شكت إليه الدم .
وروى مالك ، عن نافع ، عن سليمان بن يسار ، عن أم سلمة زوج النبي ( ، أن امرأةً كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله ( ، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله ( ، فقالَ : ( ( لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر [ قبل أن يصيبها الذي أصابها ، فلتترك الصلاة قدر ذَلِكَ من الشهر ] ، فإذا خلفت ذَلِكَ فلتغتسل ، ثم لتستثفر بثوب ، ثم لتصل ) ) .
وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
وخرجه الإمام أحمد والنسائي - أيضاً - وابن ماجه من حديث عبيد الله بن
عمر ، عن نافع - بنحوه .
وخرجه أبو داود - أيضاً - من رواية الليث ، عن نافع ، عن سليمان بن يسار ، أن رجلاً أخبره عن أم سلمة .(1/439)
"""""" صفحة رقم 440 """"""
ومن طريق أبي ضمرة ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن سليمان ، عن رجل من الأنصار ، أن امرأة كانت تُهراق الدماء - فذكره بمعناه .
فتبين بهذا أن سليمان بن يسار لم يسمعه من أم سلمة .
وروى أيوب ، عن سليمان بن يسار ، عن أم سلمة ، أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت ، فسألت رسول الله ( ، فقالَ : ( ( إنه ليس بالحيضة ، ولكنه عرق ) ) ، وأمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها ، أو حيضها ، ثم تغتسل ، فإن غلبها الدم استثفرت بثوب وصلت .
فهذه الرواية تشهد لما ذكرناه من أن النبي ( إنما رد فاطمة إلى العادة .
وكذلك روى المنذر بن المغيرة ، عن عروة ، أن فاطمة بنت أبي حبيش حدثته : أنها سألت رسول الله ( وشكت إليه الدم ؟ فقالَ لها رسول الله ( : ( ( إنما ذَلِكَ
عرقٌ ، فانظري إذا أتاك قرؤك فلا تصلي ، فإذا مر قرؤك فتطهري ، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
وقد روي عن النبي ( من وجوهٍ متعددة أنه أمر المستحاضة أن تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل .
وهذه النصوص كلها تدل على الرجوع إلى العادة المعتادة لها قبل الاستحاضة .
والمستحاضة لها أربعة أحوال :
الحالة الأولى : أن تكون مميزة ، وهي التي دمها مميز ، بعضه أسود وبعضه أحمر أو أصفر .(1/440)
"""""" صفحة رقم 441 """"""
والحالة الثانية : أن تكون معتادة ، وهي التي لها عادة معلومة من الشهر تعرفها .
والحالة الثالثة : أن تجتمع لها عادة وتمييز ، وتختلفان .
والحالة الرابعة : أن لا تكون لها عادة ولا تمييز ، مثل أن يكون دمها كله لونه
واحد ، وليس لها عادة : إما بأن تكون قد استحيضت وهي مبتدأة ، أو كانت لها عادة ونسيتها .
وقد اختلف العلماء في حكم ذَلِكَ : فذهب الشافعي وأحمد إلى اعتبار التمييز والعادة معاً ، فإن انفرد أحدهما عملت به ، بغير خلاف عنهما .
وإن اجتمعا واختلفا ، ففيه قولان :
أحدهما : تقدم التمييز على العادة ، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد اختارها الخرقي .
والثاني : تقدم العادة على التمييز ، وهو المشهور عن أحمد ، وعليه أكثر
أصحابه ، وهو قول إسحاق والإصطخري وابن خيران من الشافعية .
وهو قول الأوزاعي ، حتى إنه قدم رجوعها إلى عادة نسائها على تمييز الدم .
وذهب مالك إلى أن لا اعتبار بالعادة ، وأن العمل على التمييز وحده ، فإن لم يكن لها تمييز فإنها لا تترك الصلاة أصلاً ، بل تصلي أبداً ، ويلزمها الغسل لكل صلاة في الوقت لاحتمال انقطاع الحيضة فيهِ .
ومذهب أبي حنيفة وسفيان : أن الاعتبار بالعادة وحدها دون التمييز ، فإن لم يكن لها عادة فإنها تجلس أقل الحيض ، ثم تغتسل وتصلي .
وأما من لا عادة لها و لا تمييز ، فإذا كانت ناسيةً ، فذهب أبو حنيفة إلى أنها تقعد العادة ، تجلس أقل الحيض ثم تغتسل وتصلي .
ومذهب مالك : أنها تقعد التمييز أبداً ، وتغتسل ، كما تقدم .(1/441)
"""""" صفحة رقم 442 """"""
وللشافعي فيها ثلاث أقوال : أحدهما : أنها تجلس أقل الحيض . والثاني : تجلس غالبه : ستاً أو سبعاً . والثالث - وهو الصحيح عندَ أصحابه - كقول مالك : أنها لا تجلس شيئاً ، بل تغتسل لكل صلاة وتصلي .
ومذهب أحمد : أن الناسية لعادتها تجلس غالب عادات النساء : ستاً أو سبعاً من كل شهر ، ثم تغتسل وتصلي وتصوم ، هذا هوَ المشهور عنه .
وحكي عنه رواية : أنها تجلس أقل الحيض ، ثم تغتسل وتصلي . ورواية ثالثة : أنها تجلس عادة نسائها وأقاربها ، ثم تغتسل وتصلي .
وأما المبتدأة إذا استحيضت ، فإذا كانت مميزة ، فإنها تُرد إلى تمييزها عندَ الشافعي وأحمد وإسحاق .
وإن لم يكن لها تمييز ، فعن أحمد فيها أربع روايات : إحداهن : تجلس أقل
الحيض . والثانية : أكثره . والثالثة : غالبه ، وهو ست أو سبع . والرابعة : عادة
نسائها .
وللشافعي قولان : أحدهما : تجلس أقله ، والثاني : غالبه .
وقال أبو حنيفة : تجلس أكثر الحيض ، بخلاف قوله في الناسية .
وعن مالك روايات : إحداهن : تجلس أكثر الحيض . والثانية : تجلس عادة لداتها وأقرانها . والثالثة : تجلس عادتهن وتستطهر بعدها بثلاث .
وحكي عنه رواية أخرى : أنها لا تجلس شيئاً أصلاً .
هذا في أول شهر ، فأما ما بعده فلا تجلس فيهِ أصلاً ، بل تغتسل وتصلي أبداً ، إذا لم يكن لها التمييز .
وقال عطاء والأوزاعي والثوري - في المشهور عنه - : تجلس عادة نسائها
وأقاربها ، فإن لم يكن لها أقارب جلست غالب حيض النساء : ستاً أو سبعاً .(1/442)
"""""" صفحة رقم 443 """"""
وقد ورد حديث عن النبي ( في رد المستحاضة إلى غالب حيض الحُيض : من رواية حمنة بنت جحش ، قالت : كنت أستحاض حيضة كبيرة شديدة ، فأتيت النبي ( استفتيه - فذكرت الحديث ، إلى أن قالت - قالَ النبي ( : ( ( إنما ذَلِكَ من الشيطان ، فتحيضي ستة أيام ، أو سبعة أيام في علم الله ( ، ثم اغتسلي ) ) - وذكر الحديث .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه .
وفي رواية لأبي داود : ( ( وكذلك فافعلي في كل شهر ، كما تحيض النساء ، وكما يطهرن ) ) .
وقال الترمذي : حسن صحيح . قالَ : وسألت محمداً - يعني : البخاري -
عنه ، فقالَ : هوَ حديث حسن ، وكذا قالَ أحمد بن حنبل : هوَ حسن صحيح - : هذا ما ذكره الترمذي .
ونقل حرب ، عن أحمد ، [ أنه ] قالَ : نذهب إليه ، ما أحسنه من حديث .
واحتج به إسحاق وأبو عبيد ، وأخذا به .
وضعفه أبو حاتم الرازي والدارقطني وابن منْده ، ونقل الاتفاق على تضعيفه من جهة عبد الله بن محمد بن عقيل ؛ فإنه تفرد بروايته .
والمعروف عن الإمام أحمد أنه ضعفه ولم يأخذ به ، وقال : ليس بشيء . وقال - - مرة - : ليس عندي بذلك ، وحديث فاطمة أصح منه وأقوى إسناداً . وقال - مرة - : في نفسي منه شيء .(1/443)
"""""" صفحة رقم 444 """"""
ولكن ذكر أبو بكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بحديث حمنة والأخذ به . والله أعلم .
وقد اختلف الناس في حمنة : هل كانت مبتدأة ، أو كانت معتادة ناسية لعادتها ، أو معتادةً ذاكرةً لعادتها ؟
فمنهم من قالَ : كانت مبتدأةً ، ورجحه الخطابي وطائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم ، وضعفه الإمام أحمد بأن حمنة كانت امرأةً كبيرة ، لم تكن صغيرة .
ومنهم من قالَ : كانت ناسيةً لعادتها ولا تمييز لها ، وعلى هذا حمله الإمام أحمد على رواية أخذه بالحديث ، وأصحابه الذين أخذوا به كأبي بكر الخلال وصاحبه أبي بكر ابن جعفر .
ومنهم : من حمله على أنها كانت معتادةً عالمة بالعادة ، وهو اختيار الشافعي في ( ( الأم ) ) .
واختلف أصحابه نعلى هذا : كيف ردها إلى ست أو سبع ؟
فمنهم من قالَ : إنما ردها إلى ما تذكره من عادتها من الست أو السبع .
ومنهم من قالَ : كانت عادتها في الشهور مختلفة ، ففي بعضها كانت تحيض
ستاً ، وفي بعضها سبعاً ، فردها إلى عادتها في ذَلِكَ .
وقد حمل طائفة من أصحابنا حديث حمنة على مثل ذَلِكَ ، بناءً على أن المبتدأةً والناسية لا تجلسان أكثر من أقل الحيض ، ولكن المنصوص عن أحمد - وهو قول أبي بكر وغيره - : إنا لا نقول : إن الناسية تجلس أقل الحيض إلا لتضعيفنا إسناد حديث حمنة ، لا لتأويله .
وممن رجح تأويله ابن أبي موسى في ( ( شرح الخرقي ) ) ، وقال : نحمله على أن الست كانت عادتها ، وشكت في اليوم السابع ، فردها إلى عادتها المتيقنة ،(1/444)
"""""" صفحة رقم 445 """"""
وردها في اليوم المشكوك فيهِ إلى التحري فيهِ والاجتهاد .
وأما قوله ( : ( ( فإذا أدبرت ) ) ، أو ( ( فإذا ذهب قدرها - فاغسلي عنك الدم وصلي ) ) . وفي رواية أخرى : ( ( فاغتسلي وصلي ) ) , ، فإنه يجمع بين الروايتين ويؤخذ بهما في وجوب غسل الدم والاغتسال عندَ ذهاب الحيض .
وقد جاء ذَلِكَ مصرحاً به في رواية خرجها النسائي من طريق الأوزاعي ، عن يحيى بن سعيد ، عن هشام ، عن أبيه ، عن فاطمة بنت قيس من [ بني ] أسد قريش ، عن النبي ( ، أنه قالَ لها : ( ( اغتسلي ، واغسلي عنك الدم ، وصلي ) ) .
قالَ الطبراني : فاطمة بنت قيس هذه هي بنت أبي حبيش ، واسمه : قيس . قالَ : وليست فاطمة بنت قيس الفهرية التي روت قصة طلاقها .
وقال الدارقطني في ( ( علله ) ) . وهم الأوزاعي في قوله : ( ( بنت قيس ) ) ، إنما هي بنت أبي حبيش .
وكذلك رواه أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن النبي ( قالَ لفاطمة : ( ( فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ، ثم اغتسلي ) ) .
ورواه حماد بن سلمة ، عن هشام ، وقال فيهِ : ( ( فاغسلي عنك الدم ، وتطهري ، وصلي ) ) .
والغسل عندَ انقضاء حيض المستحاضة المحكوم به لا بد منه ، كما لو طهرت من الحيض .
وقد تعلق بعض الناس بظاهر الرواية المشهورة في حديث فاطمة : ( ( اغسلي(1/445)
"""""" صفحة رقم 446 """"""
عنك الدم وصلي ) ) ، وقال : لا غُسل عليها ، إنما عليها أن تغسل الدم وتصلي .
وقد حكى الأثرم هذا القول للإمام أحمد ، ولم يسم من قاله . فإنكره الإمام أحمد ، وقال : الغسل لا بد منه .
وفسر سفيان الثوري قوله : ( ( اغسلي عنك الدم ) ) : أنها إذا اغتسلت عندَ فراغ حيضها المحكوم بأنه حيضها ، ثم رأت دماً ، فإنها تغسل الدم [ وتصلي ] ؛ فإنه دم استحاضة لا يمنع الصلاة , ، وإنما تغسله وتتحفظ منه فقط .
ففي حديث عائشة الأمر بغسل الدم ، وفي حديث أم سلمة الأمر بالاستثفار بثوب . والمراد به : التلجم بالثوب والتحفظ به .
وقد اختلف العلماء : هل يجب الغسل عليها لكل صلاة ؟ على قولين ، وأكثر العلماء : على أن ذَلِكَ ليس بواجب . وربما تذكر المسألة مستوفاةً فيما بعد - إن شاء الله تعالى .
وكذلك اختلفوا : هل يجب عليها غسل الدم والتحفظ والتلجم عندَ كل صلاة ؟ وفيه قولان ، هما روايتان عن أحمد .
وربما يرجع هذا الاختلاف إلى الاختلاف المشهور : في أن الأمر المطلق : هل يقتضي التكرار ، أم لا ؟ وفيه اختلاف مشهور .
لكن الأصح هنا : أنه لا يقتضي التكرار لكل صلاة ؛ فإن الأمر الاغتسال ، وغسل الدم إنما هوَ معلق بانقضاء الحيضة وإدبارها ، فإذا قيل : إنه يقتضي التكرار لم يقتضه إلا عندَ إدبار كل حيضة فقط .
وقوله : ( ( وصلي ) ) أمر بالصلاة بعد إدبار الحيضة حيث نهاها عن الصلاة في وقت إقبالها ، والأمر بعد الحظر يعيد الأمر إلى ما كانَ عليهِ ، عندَ كثير من(1/446)
"""""" صفحة رقم 447 """"""
الفقهاء : وقد كانت الصلاة عليها واجبة قبل الحيض ، فكذلك بعدها .
وأما على قول من يقول : لا يقتضي غير الإباحة ، فقد يقال : إن هذا الأمر اقتضى إطلاق الصلاة والإذن فيها بعد حظرها ، فصارت الصلاة مباحة بعد حظرها ، فإن كانت نافلة فهي غير محظورة ، وإن كانت مفروضة اكتفي في الاستدلال على فرضيتها بالأدلة العامة الدالة على افتراض الصلاة على كل مسلم .
وإنما خرج من ذَلِكَ حال الحيض بمثل هذا الحديث وشبهه ، وإطلاقه ( دليل على أنها في حكم الطاهرات في جميع العبادات التي يمنع منها الحيض .
هذا قول جمهور العلماء ، وشذ منهم من قالَ باختصاص الإذن بالصلاة خاصةً . وسنذكره فيما بعد - إن شاء الله تعالى .
وقد زاد قوم من الرواة في حديث عائشة : الأمر بالوضوء ، منهم : حماد ابن
زيد ، عن هشام . خرجه النسائي من طريقه ، وقال فيهِ : ( ( فاغسلي عنك الدم ، وتوضئي ؛ إنما ذَلِكَ عرق ) ) .
قالَ النسائي : لا نعلم أحداً ذكر في هذا الحديث : ( ( وتوضئي ) ) غير حماد بن زيد .
وقد خرج مسلم حديثه هذا ، وقال : في حديث حماد بن زيد زيادة حرفٍ ، تركنا ذكره - يعني : قوله : ( ( توضئي ) ) .
قالَ البيهقي : هذه الرواية غير محفوظة .
وفي رواية أخرى عن حماد بن زيد في هذا الحديث : ( ( فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم ، وتوضئي ) ) .
فقيل لحماد : فالغسل ؟ قالَ : ومن يشك أن في ذَلِكَ غسلاً واحداً بعد الحيضة .(1/447)
"""""" صفحة رقم 448 """"""
وقال حماد : قالَ أيوب : أرأيت لو خرج من جيبها دمٌ ، أتغتسل ؟
يشير أيوب إلى إنها : لا تغتسل لكل صلاة .
قالَ ابن عبد البر : جود حماد بن زيد لفظه .
يعني : بذكر الوضوء ، وهذا يدل على أنه رآه محفوظاً ، وليس كَما قالَ وقد رويت لفظة ( ( الوضوء ) ) مِن طريق حماد بنِ سلمة ، عَن هشام .
خرجه الطحاوي مِن طريق حجاج بنِ منهال ، عَن حماد .
ورواه عفان ، عَن حماد ، ولفظة : ( ( فاغسلي عنك الدم ، ثُمَّ تطهري وصلي ) ) .
قالَ هشام : كانَ عروة يقول : ( ( الغسل ) ) الأول ، ثُمَّ قالَ بعد : ( ( والطهر ) ) وكذلك رويت مِن طريق أبي معاوية ، عَن هشام .
خرجه الترمذي عَن هناد ، عَنهُ .
وقال : قالَ أبو معاوية في حديثه : وقال : ( ( توضئي لكل صلاة ، حتى يجيء ذَلِكَ الوقت ) ) .
والصواب : أن هَذا مِن قول عروة ، كذلك خرجه البخاري في ( ( كِتابِ : الوضوء ) ) عَن محمد بنِ سلام ، عَن أبي معاوية ، عَن هشام فذكر الحديث ،(1/448)
"""""" صفحة رقم 449 """"""
وقال في آخره : قالَ : وقال أبي : ( ( ثُمَّ توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذَلِكَ الوقت ) ) .
وكذلك رواه يعقوب الدورقي ، عَن أبي معاوية ، وفي حديثه : ( ( فإذا أدبرت فاغسلي الدم ، ثُمَّ اغتسلي ) ) . قالَ هشام : قالَ أبي : ( ( ثُمَّ توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذَلِكَ الوقت ) ) .
وخرجه إسحاق بن راهويه ، عن أبي معاوية ، وقال في حديثه : قالَ هشام : قالَ أبي : ( ( وتوضئي لكل صلاة حتَّى يجيء ذَلِكَ الوقت ) ) .
وكذلك روى الحديث عيسى بنِ يونس ، عَن هشام ، - وقال في آخر الحديث : وقال هشام : ( ( تتوضأ لكل صلاة ) ) .
وذكر الدارقطني في ( ( العلل ) ) : أن لفظة : ( ( توضئي لكل صلاة ) ) رواها
- أيضاً - عَن هشام : أبو حنيفة وأبو حمزة السكري ومحمد بنِ عجلان ويحيى بن سليم .
قلت : وكذلك رواه أبو عوانة ، عَن هشام ، ولفظ حديثه : ( ( المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها ، وتغتسل غسلاً واحداً ، وتتوضأ لكل صلاة ) ) .
قلت : والصواب : أن لفظة ( ( الوضوء ) ) مدرجة في الحديث مِن قول عروة .
وكذلك روى مالك ، عَن هشام ، عَن أبيه ، أنه قالَ : ( ( ليسَ على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلاً واحداً ، ثُمَّ تتوضأ بعد ذَلِكَ لكل صلاة ) ) .(1/449)
"""""" صفحة رقم 450 """"""
قالَ مالك : والأمر عندنا على حديث هشام ، عَن أبيه ، وَهوَ أحب ما سمعت إلي .
قالَ ابن عبد البر : والوضوء عليها عند مالك على الاستحباب دونَ الوجوب . قالَ وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله ( : ( ( فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي ) ) ، ولم يذكر وضوءاً .
قالَ : وممن قالَ بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب : ربيعة ، وعكرمة ، ومالك ، وأيوب ، وطائفة .
قالَ : وأما الأحاديث المرفوعة في الغسل لكل صلاة ، فكلها مضطربة ، لا تجب بمثلها حجة . انتهى .
وأحاديث الأمر بالغسل لكل صلاة كلها معلولة ، وربما تأتي الإشارة إليها في موضع آخر - إن شاء الله تعالى .
وإنما المراد هنا : أحاديث الوضوء لكل صلاة ، وقد رويت مِن وجوه متعددة ، وهي مضطربة - أيضا - ومعللة ، تقدم بعضها .
ومن أشهرها : رواية الأعمش ، عَن حبيب بنِ أبي ثابت ، عَن عروة ، عَن عائشة ، قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش ، فقالت : يا رسول الله ، إني امرأة استحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة ؟ قالَ : ( ( لا ، اجتنبي الصلاة أيام محيضك ، ثُمَّ اغتسلي وتوضئي لكل صلاة ، ثُمَّ صلي ، وإن قطر الدم على الحصير ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه .(1/450)
"""""" صفحة رقم 451 """"""
وقال أبو داود : هوَ حديث ضعيف لا يصح ، قالَ : ليسَ بصحيح ، وَهوَ خطأ مِن الأعمش .
وقال الدارقطني : لا يصح .
وقد روي موقوفاً على عائشة ، وَهوَ أصح عند الأكثرين .
ورى هشيم : نا أبو بشر ، عَن عكرمة ؛ أن أم حبيبة بنت حجش استحيضت ، فأرها النبي ( أن تنظر أيام أقرائها ، ثُمَّ تغتسل وتصلي ، فإن رأت شيئاً مِن ذَلِكَ توضأت وصلت .
خرجه أبو داود .
والظاهر : أنَّهُ مرسل ، وقد يكون آخره موقوفاً على عكرمة ، مِن قولُهُ والله أعلم .
وقد روي الأمر للمستحاضة بالوضوء لكل صلاة عَن جماعة مِن الصحابة ، مِنهُم : علي ، ومعاذ ، وابن عباس ، وعائشة ، وَهوَ قول سعيد بنِ المسيب ، وعروة ، وأبي
جعفر ، ومذهب اكثر العلماء ، كالثوري ، والأوزاعي ، وابن المبارك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي عبيد وغيرهم .
لكن ؛ مِنهُم مِن يوجب عليها الوضوء لكل فريضة كالشافعي .
ومنهم مِن يرى أنها تتوضأ لوقت كل صلاة ، وتصلي بها ما شاءت مِن فرائض ونوافل حتَّى يخرج الوقت ، وَهوَ قول أبي حنيفة ، والمشهور عَن أحمد ، وَهوَ - أيضاً - قول الأوزاعي والليث وإسحاق .
وقد سبق ذكر قول مِن لَم يوجب الوضوء بالكلية لأجل دم الاستحاضة ، كمالك وغيره .(1/451)
"""""" صفحة رقم 452 """"""
وهكذا الاختلاف في كل مِن بهِ حدث دائم لا ينقطع ، كمن بهِ رعاف دائم أو سلس البول ، أو [ الريح ] ، ونحو ذَلِكَ .
وعن مالك رواية بوجوب الوضوء ، كقول الجمهور .(1/452)
"""""" صفحة رقم 453 """"""
9 - باب
غسل دم المحيض
خرج فيهِ حديثين :
أحدهما :
307 - حديث : مالك ، عَن هشام ، عَن فاطمة بنت المنذر ، عَن أسماء ، قالت : سألت امرأة رسول الله ( ، فقالت : يا رسول الله ، أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم مِن الحيضة ، كيف تصنع ؟ فقالَ رسول الله ( : ( ( إذا أصاب ثوب إحداكن الدم مِن الحيضة فلتقرصه ، [ ثُمَّ ] لتنضحه بماء ، ثُمَّ لتصلي فيهِ ) ) .
وقد تقدم تخريجه لهذا الحديث في أواخر ( ( كِتابِ : الوضوء ) ) مِن حديث يحيى القطان ، عَن هشام بمعناه ، في ( ( باب : غسل الدم ) ) ، وتقدم الكلام عليهِ هناك بما فيهِ كفاية .
والثاني :
308 - حديث : ابن القاسم ، عَن أبيه ، عَن عائشة ، قالت : كانت إحدانا تحيض ثُمَّ تقرص الدم مِن ثوبها عند طهرها وتنضح على سائره ، ثُمَّ تصلي فيهِ .
وقد ذكرناه - أيضاً - في الباب المشار إليهِ ، وذكرنا ما فيهِ مِن الفوائد .(1/453)
"""""" صفحة رقم 454 """"""
- باب اعتكاف المستحاضة
خرج فيهِ حديث عكرمة ، عَن عائشة مِن ثلاثة طرق :
أحدها :
قال :
309 - نا إسحاق بنِ شاهين : نا خالد بنِ عبد الله ، عَن خالد ، عَن عكرمة ، عَن عائشة ، أن النبي ( اعتكف معه بعض نسائه ، وهي مستحاضة ترى الدم وربما وضعت الطست تحتها مِن الدم . وزعم أن عائشة رأت ماء العصفر ، فقالت ؟ : كأن هَذا شيء كانت فلانة تجده .
خالد بنِ عبد الله ، هوَ : الطحان الواسطي . وشيخه : خالد ، هوَ : الحذاء .
والثاني :
قالَ :
310 - ثنا قتيبة : نا يزيد بنِ زريع ، عَن خالد - يعني : الحذّاء - ، عَن عكرمة ، عَن عائشة ، قالت : اعتكف معَ رسول الله ( امرأة مِن أزواجه ، فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها ، وهي تصلي .
والثالث :
قالَ :
311 - نا مسدد : نا معتمر ، عَن خالد ، عَن عكرمة ، عَن عائشة ، أن بعض أمهات المؤمنين اعتكفت وهي مستحاضة .(1/454)
"""""" صفحة رقم 455 """"""
وهذه الروية ليسَ فيها تصريح برفعه ، فإنه ليسَ فيها أن ذَلِكَ كانَ في زمن النبي
( ، ولا أنَّهُ كانَ معها .
وفي إسناده اختلاف أيضاً ؛ فإن عبد الوهاب الثقفي [ رواه ] ، عَن خالد ، عَن عكرمة ، أن عائشة قالت .
[ وهذه ] الرواية تشعر بأنَّهُ لَم يسمعه منها .
وروي عَن معتمر ، عَن خالد ، عَن عكرمة عَن ابن عباس ، وهو وهم - : قاله الدارقطني .
وهذا الحديث : يدل على أن المستحاضة مِن أهل العبادات كالطاهرة ، فكما أنها تصلي فإنها تصوم ، وتعتكف ، وتجلس في المسجد ، وتقرأ القرآن ، وتمس المصحف ، وتطوف بالبيت ؛ فإن اعتكاف النبي ( غالبه كانَ في شهر رمضان ، فلو كانت المستحاضة كالحائض لا تصوم لَم تعتكف ، لا سيما على رأي مِن يقول : إن الاعتكاف لا يصح بغير صوم ، وقد حكى إسحاق بن راهويه إجماع المسلمين على ذَلِكَ .
وروى عبد الرزاق ، عَن ابن جريج ، عَن الثوري ، عَن جابر ، عَن أبي جعفر ، قالَ : جاءت امرأة إلى النبي ( ، فقالت : إني استحضت في غير قرئي ؟ قالَ : ( ( فاحتشي كرسفاً ، وصومي ، وصلي ، واقضي ما عليك ) ) .
وهذا مرسل .
وفيه خلاف شاذ :(1/455)
"""""" صفحة رقم 456 """"""
روى عبد الرزاق ، عَن الثوري ، عَن منصور ، عَن إبراهيم ، قالَ : المستحاضة لا تصوم ، ولا يأتيها زوجها ، ولا تمس المصحف .
وعن معمر ، عَن أيوب ، قالَ : سئل سليمان بنِ يسار : أيصيب المستحاضة
زوجها ؟ قالَ : إنما سمعنا بالرخصة لها في الصلاة .
ونقل صالح بنِ أحمد ، عَن أبيه في المستحاضة : لا تطوف بالبيت ، إلا أن تطول بها الاستحاضة .
قالَ أبو حفص العكبري : لعلها غلط مِن الراوي ، فإن الصحيح عَن أحمد أن المستحاضة بمنزلة الطاهرة تطوف بالبيت .
قالَ في رواية الميموني : المستحاضة أحكامها أحكام الطاهرة في عدتها وصلاتها وحجها وجميع أمرها .
ونقل عَنهُ ابن منصور : تطوف بالبيت .
وأما ما وقع في رواية صالح : أنها لا تطوف إلا أن يطول بها . فلعله اشتبه على الراوي الطواف بالوطء ؛ فإن ابن منصور نقل عَن أحمد ذَلِكَ في الوطء ، وصالح وابن منصور متفقان في نقل المسائل عَن أحمد في الغالب .
ولكن قَد روي عَن ابن عمر ما يشعر بمنع المستحاضة مِن الطواف ، فروى عبد الرزاق ، عَن معمر ، عَن واصل مولى ابن عيينة . عَن رجل سأل ابن عمر عَن امرأة تطاول بها الدم ، فأرادت تنفر ، وأرادت تشرب دواء ليقطع عنها(1/456)
"""""" صفحة رقم 457 """"""
الدم ؟ قالَ : لا بأس
بهِ . ونعت ابن عمر لها ماء الأراك .
وقال ابن جريج ، عَن عطاء : أنَّهُ لَم ير بهِ بأساً .
قالَ معمر : وسمعت [ ابن ] أبي نجيح يسأل عَن ذَلِكَ ، فلم ير بهِ بأساً .
فظاهر هَذا : أن المستحاضة معَ تطاول الدم بها لا تطوف حتى ينقطع عنها الدم ، معَ أنَّهُ يُمكن حمله على تطاول دم الحيض ومجاوزته للعادة ، أو على أن الأولى للمستحاضة أن لا تطوف حتى ينقطع دمها . وجمهور العلماء على جواز ذَلِكَ .
وقد خرجه عبد الرزاق في موضع آخر مِن ( ( كتابه ) ) ، وقال فيهِ : إن ابن عمر سئل عَن امرأة تطاول بها دم الحيضة .
وممن رخص للمستحاضة في الطواف بالبيت : ابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وسعيد بنِ المسيب ، وعطاء ، وسعيد بنِ جبير وغيرهم .
قالَ سعيد بنِ المسيب : تقضي المناسك كلها .
وَهوَ قول الثوري ، وأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وجمهور العلماء .
وفي حديث عائشة في اعتكاف المستحاضة : ما يدل على أن دم الاستحاضة يتميز عَن دم الحيض بلونه وصفرته ، وقد يتعلق بذلك مِن يقول باعتبار التمييز ، كَما تقدم .(1/457)
"""""" صفحة رقم 458 """"""
- باب هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيهِ ؟
312 - حدثنا أبو نعيم : نا إبراهيم بن نافع ، عَن ابن أبي نجيح ، عَن مجاهد ، قالَ : قالت عائشة : ما كانَ لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيهِ ، فإذا أصابه شيء مِن الدم قالت بريقها ، فمصعته بظفرها .
وقد خرجه أبو داود ، عَن محمد بنِ كثير : نا إبراهيم - يعني : ابن نافع - ، قالَ : سمعت الحسن يذكر عَن مجاهد ، قالَ : قالت عائشة : ما كانَ لإحدانا إلا ثوب واحد فيهِ
تحيض ، فإن أصابه شيء مِن دم بلته بريقها ، ثُمَّ قصعته بريقها .
فخالف في إسناده : حيث جعل : ( ( الحسن ) ) - وَهوَ : ابن مسلم - بدل : ( ( ابن أبي نجيح ) ) ، وفي متنه : حيث قالَ : ( ( قصعته ) ) بالقاف .
وكذا خرجه الإسماعيلي مِن حديث أبي حذيفة ، عن إبراهيم ، إلا أنَّهُ قالَ :
( ( قصعته بظفرها ) ) .
وكأنه يشير إلى أن هَذهِ الرواية أصح مِن رواية البخاري .
قالَ الخطابي : مصعته بظرفها ، أي : بالغت في حكه . وأصل المصع : الضرب الشديد .
قالَ : وروي ( ( قصعته ) ) أي : دلكته بالظفر ، وعالجته بهِ ، ومنه قصع القملة .(1/458)
"""""" صفحة رقم 459 """"""
وقد سبق الحديث الذِي خرجه البخاري مِن رواية عمرو بنِ الحارث ، عَن
عبد الرحمن بنِ القاسم . ، عَن أبيه ، عَن عائشة ، قالت : كانت إحدانا تحيض ، ثُمَّ تقرص الدم مِن ثوبها عند طهرها ، فتغسله ، وتنضح على سائره ، ثُمَّ تصلي فيهِ .
ولكن ؛ هَذا فيهِ غسل الدم .
ورواه الأوزاعي ، عَن عبد الرحمن بن القاسم ، عَن أبيه ، عَن عائشة ، أنها أفتت بذلك ، ولم يذكر حكاية فعلها مِن قبل .
وخرج أبو داود مِن رواية ابن عيينة ، عَن ابن أبي نجيح ، [ عَن عطاء ] ، عَن
عائشة ، قالت : قَد كانَ يكون لإحدانا الدرع ، فيهِ تحيض ، وفيه تصيبها الجنابة ، ثُمَّ ترى فيهِ قطرة مِن دم فتقصعه بريقها .
فهذا - أيضاً - فيهِ ذكر القصع بالريق كحديث مجاهد ، عَن عائشة ، ولكن فيهِ أن ذَلِكَ كانت تفعله بالقطرة مِن الدم ، فيحمل ذَلِكَ على أنها كانت ترى ذَلِكَ يسيراً فيعفى عَن أثره ، ويحتمل أنها كانت ترى الريق مطهراً ، فيكون فيهِ دلالة على طهارة النجاسة بغير الماء .
وروى محمد بنِ سعد في ( ( طبقاته ) ) : أنا الواقدي : ثنا ابن أبي ذئب ، عَن صفية بنت زياد ، قالت : رأتني ميمونة وأنا أغسل ثوبي مِن الحيضة ، فقالت : ما كنا نفعل
هَذا ، إنما كنا نحته حتاً .
الواقدي ، ضعيف .(1/459)
"""""" صفحة رقم 460 """"""
ويحمل [ على ] أنَّهُ كانَ دماً يسيراً .
وروى أبو نعيم الفضل بنِ دكين في ( ( كِتابِ الصلاة ) ) : نا حبيب بنِ أبي
[ . . . ] ، قالَ : حدثتني أختي ، عَن أم جرير ، أنها كانت في نسوة عند عائشة ، فقالت إحداهن : [ يا ] أم المؤمنين ، المرأة تحيض في الثوب ثُمَّ تطهر ، أتصلي فيهِ ؟ قالت : إن رأت دماً فلتغسلهُ ، وإن [ لَم ] تر دماً فلتنضحه سبع مرات بالماء ، ثُمَّ لتصلي فيهِ .
إسناد مجهول .
وخرج أبو داود بإسناد فيهِ جهالة - أيضاً - ، عَن عائشة ، أنها قالت - في الحائض يصيب ثوبها الدم : تغسله ، فإن لَم يذهب أثره فلتغيره بشيء مِن صفرة . قالت : ولقد كنت أحيض عند رسول الله ( ثلاث حيض جميعاً ، لا أغسل لي ثوباً .
وبإسنادٍ فيهِ جهالة - أيضاً - عَن أم سلمة ، قالت : قَد كانَ يصيبنا الحيض عند رسول الله ( ، فتلبث إحدانا أيام حيضها ، ثُمَّ تطهر ، فتطهر الثوب الذِي كانت تلبث فيهِ ، فإن أصابه دم غسلناه وصلينا فيهِ ، وإن لَم يكن أصابه شيء تركناه ، ولم يمنعنا ذَلِكَ أن نصلي فيهِ .
وخرج الطبراني مِن حديث أم سلمة ، قالت : كانت إحدانا تحيض في الثوب ، فإذا كانَ يوم طهرها غسلت ما أصابه ، ثُمَّ صلت فيهِ ، وإن إحداكن اليوم تفرغ خادمها ليغسل ثيابها يوم طهرها .
وفي إسناده : المنهال بنِ خليفة ، ضعفوه .(1/460)
"""""" صفحة رقم 461 """"""
وخرجه وكيع عَنهُ في ( ( كتابه ) ) .
وروى وكيع - أيضاً - عَن سفيان ، عَن أبي هاشم ، عَن سعيد بنِ جبير ، قالَ : إن كانَ بعض أمهات المؤمنين لتقرص الدم مِن ثوبها بريقها .
وعن أبي العوام الباهلي ، عَن عطاء ، قالَ : لقد كانت المرأة وما لها إلا الثوب الواحد ، فيهِ تحيض ، وفيه تصلي .
وعن الفضل بنِ دلهم ، قالَ : سألت الحسن عَن المرأة تحيض في الثوب فتعرق فيهِ ؟ قالَ : لا بأس ، إلا أن ترى دماً تغسله .
فأما ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود مِن حديث ابن لهيعة ، عَن يزيد بنِ أبي حبيب ، عَن عيسى بنِ طلحة ، عَن أبي هريرة ، أن خولة بنت يسار أتت النبي ( ، فقالت : يا رسول الله ، ليسَ لي إلا ثوب واحد ، وأنا أحيض فيهِ ، فكيف أصنع ؟ قالَ : ( ( إذا طهرت فاغسليه ، ثُمَّ صلي فيهِ ) ) . فقالت : فإن لَم يخرج الدم ؟ قالَ : ( ( يكفيك الماء ، ولا يضرك أثره ) ) .
فابن لهيعة ، ولا يحتج برواياته في مخالفة روايات الثقات .
وقد اضطرب في إسناده : فرواه : تارة كذلك . وتارة رواه : عَن عبيد الله ابن أبي جعفر ، عَن موسى بنِ طلحة ، عَن أبي هريرة .
وخرجه الإمام أحمد مِن هَذا الوجه - أيضاً .
وهذا يدل على أنَّهُ لَم يحفظه .(1/461)
"""""" صفحة رقم 462 """"""
وقد يحمل على أنَّهُ أمرها بغسل دم الحيض منهُ .
وقد حكى بعض أصحابنا في كراهة الصلاة في ثوب الحائض والمرضع روايتين عَن أحمد .
وقد روي عَن عائشة ، قالت : كانَ النبي ( لا يصلي في [ لحف ] نسائه .
وخرجه النسائي والترمذي وصححه .
وخرجه أبو داود ، وعنده : لا يصلي في شعرنا أو لحفنا - بالشك .
وفي رواية للإمام أحمد : لا يصلي في شعرنا - مِن غير شك .
و ( ( الشعار ) ) : هوَ الثوب الذِي يلبس على الجسد .
وقد أنكره الإمام أحمد إنكاراً شديداً .
وفي إسناده اختلاف على ابن سيرين .
وقد روي عَنهُ ، أنَّهُ قالَ : سمعته منذ زمان ، ولا أدري ممن سمعته ، ولا أدري أسمعه مِن ثبت أو لا ؟ فاسألوا عَنهُ .
ذكره أبو داود في ( ( سننه ) ) ، والبخاري في ( ( تاريخه ) ) .
وقال أبو بكر الأثرم : أحاديث الرخصة أكثر وأشهر . قالَ : ولو فسد على الرجال الصلاة في شعر النساء لفسدت الصَّلاة فيها على النساء .
وهذا الكلام يدل على أن النساء لا يكره لهن الصلاة في ثياب الحيض بغير خلاف ، إنما الخلاف في الرجال .(1/462)
"""""" صفحة رقم 463 """"""
والأحاديث التي أشار إليها في الرخصة متعددة :
ففي ( ( صحيح مسلم ) ) ، عَن عائشة ، قالت : كانَ النبي ( يصلي مِن الليل وأنا إلى جنبه ، وأنا حائض ، على مرط ، وعليه بعضه .
وخرج النسائي ، عَن عائشة ، قالت : كنت أنا ورسول الله ( [ نبيت ] في الشعار الواحد ، وأنا حائض طامث ، فإن أصابه مني شيء غسلت ما أصابه ، لَم يعده إلى غيره ، ثُمَّ صلى فيهِ .
وخرج أبو داود وابن ماجه ، عَن ميمونة ، قالت : إن النبي ( صلي وعليه مرط ، وعلى بعض أزواجه منهُ ، وهي حائض ، وَهوَ يصلي ، وَهوَ عليهِ .
وخرج الإمام أحمد مِن حديث حذيفة ، قالَ : قام النبي ( يصلي ، وعليه طرف لحاف ، وعلى عائشة طرفه ، وهي حائض لا تصلي .
قالَ أبو عبيد في ( ( غريبة ) ) : الناس على هَذا - يعني : على عدم كراهته .
واعلم ؛ أن الصَّلاة في ثوب الحائض ليست كراهته مِن أجل عرقها ؛ [ فإن ] عرق الحائض طاهر ، نص عليهِ أحمد وغيره مِن الأئمة ، ولا يعرف فيهِ [ خلاف ] - : قاله أبو عبيد وابن المنذر وغيرهما ، حتى قالَ حماد : إنما يغسل الثوب مِن عرق الحائض المجوس .
وروى محمد بنِ عبد الله الأنصاري ، عَن هشام بنِ حسان ، عَن حفصة بنت
سيرين ، قالت : سألت امرأة عائشة ، قالت : يكون علي الثوب أعرق فيهِ أيام تحيضي ، أصلي فيهِ ؟ قالت : نعم . قالت : وربما أصابه مِن دم(1/463)
"""""" صفحة رقم 464 """"""
المحيض ؟ قالت : فاغسليه . قالت : فإن لَم يذهب أثره ؟ قالت : فلطخيه بشيء مِن زعفران .
وإنما كره مِن كره ذَلِكَ لاحتمال أن يكون أصابه شيء مِن دم الحيض لَم يطهر - : كذا قاله أبو عبيد وغيره .
والصواب : أنَّهُ لا تكره الصلاة فيهِ ، وأنه يغسل ما رئي فيهِ مِن الدم وينضح ، ما لَم ير فيهِ شيء ، ثُمَّ تصلي فيهِ ، كَما دلت عليهِ هَذهِ السنن والآثار .
قالَ سفيان الثوري : الحائض لا تغسل ثوبها الذي حاضت فيهِ ، إلا أن ترى دماً فتغسله .
وأما نضح ما لَم تر فيهِ دماً , ، فَهوَ مبني على أن النضح تطهير لما شك في نجاسته ، وهذا قول مالك وجماعة مِن أهل العلم ، وفيه خلاف سبق ذكره مستوفى في ( ( أبواب الوضوء ) ) .(1/464)
"""""" صفحة رقم 465 """"""
- باب الطيب للمرأة عند غسلها مِن المحيض
313 - حدثنا عبد الله بنِ عبد الوهاب : نا حماد بنِ زيد ، عَن أيوب ، عَن حفصة بنت سيرين ، عَن أم عطية ، قالت : كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ، ولا نكتحل ، ولا نتطيب ، ولا نلبس ثوباً مصبوغاً ، إلا ثوب عصب . وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا مِن محيضها في نبذة مِن كست أظفار . وكنا ننهى عَن اتباع الجنائز .
وروى هشام بنِ حسان ، عَن حفصة ، عَن أم عطية ، عَن النبي ( .
حديث أم عطية ، قَد أسنده البخاري في هَذا الباب وغيره مِن حديث أيوب ، عَن حفصة ، عَن أم عطية .
ولفظ أيوب : ( ( كنا ننهى ، ورخص لنا ) ) .
والصحابي إذا قالَ : ( ( أُمرنا ) ) أو ( ( نُهينا ) ) ، فإنه يكون في حكم المرفوع عند الأكثرين .
وأما رواية هشام بنِ حسان ، عَن حفصة ، عَن أم عطية ، التي صرح فيها بذكر النبي ( في الحديث وذكر الحديث بتمامه ، وفيه ذكر الطيب عند طهرها ، فذكرها البخاري هاهنا تعليقاً ، وعلقها - أيضاً - في موضع آخر مِن ( ( كتابه ) ) ، فقالَ : ( ( وقال الأنصاري : ثنا هشام ) ) - فذكره .
وأسندها مسلم في ( ( صحيحه ) ) ، ولفظه : ( ( ولا تمس طيباً ، إلا إذا طهرت(1/465)
"""""" صفحة رقم 466 """"""
نبذة مِن قسط أو أظفار ) ) .
ولكن أسند البخاري حديث هشام في ( ( كتابه ) ) هَذا - أيضاً - ، بدون هَذهِ الزيادة .
قالَ الخطابي : النبذة ، القطعة اليسيرة ، والكست : القسط - والقاف تبدل بالكاف - يريد : أنها تتطهر بذلك وتتطيب بهِ . انتهى .
والقسط والأظفار : نوعان مِن الطيب معروفان .
وفي رواية مسلم : ( ( ظفار ) ) .
وفي رواية البخاري : ( ( كست أظفاره ) ) .
وقيل : إن صوابه : ( ( كسط ظفار ) ) .
و ( ( ظفار ) ) مبني على الكسر على وزن : حذام - : ساحل مِن سواحل عدن
باليمن .(1/466)
"""""" صفحة رقم 467 """"""
- باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت مِن المحيض
وكيف تغتسل وتأخذ فرصة ممسكة فتتبع بها أثر الدم ؟
314 - حدثنا يحيى : ثنا ابن عيينة : عَن منصور بن صفية ، عَن أمه ، عَن عائشة ، أن امرأة سألت النَّبيّ ( عَن غسلها مِن المحيض ، فأمرها كيف تغتسل ، قالَ : ( ( خذي فرصة مِن مسك فتطهري بها ) ) . قالت : كيف أتطهر بها ؟ قالَ : ( ( تطهري بها ) ) . قالت : كيف ؟ قالَ : ( ( سبحان الله ، تطهري ) ) ، فاجتذبها إلي ، فقلت : تتبعي بها أثر الدم .
- باب غسل المحيض
315 - حدثنا مسلم : ثنا وهيب : ثنا منصور ، عَن أمه ، عَن عائشة ، أن امرأة مِن الأنصار قالت للنبي ( : كيف أغتسل مِن المحيض ؟ قالَ : ( ( خذي فرصة ممسكة وتوضئي ) ) - ثلاثاً - ، ثُمَّ إن النَّبيّ ( استحيا وأعرض بوجهه - أو قالَ : ( ( توضئي
بها ) ) ، فأخذتها فجذبتها ، فأخبرتها بما يريد النبي ( .
بوب البخاري في هذين البابين على ثلاثة أشياء :
أحدها : دلك المرأة نفسها ، عند غسل المحيض .
والثاني : أخذها الفرصة الممسكة .
والثالث : صفة غسل المحيض .(1/467)
"""""" صفحة رقم 468 """"""
وخرج في الباب حديث منصور بنِ صفية بنت شيبة ، عَن أمه ، [ وليس ] في حديثه سوى ذكر الفرصة الممسكة . ولكنه أشار إلى أن [ الحكمين ] الآخرين قَد رويا في حديث صفية ، عَن عائشة مِن وجه [ آخر ] ، لكن ليسَ هوَ على شرطه ، فخرج الحديث الأول بالإسناد الذي على شرطه ، ونبه بذلك على الباقي .
وهذا الذِي لَم يخرجه ، قَد خرجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) مِن حديث شعبة ، عَن إبراهيم بنِ المهاجر ، قالَ : سمعت صفية تحدث عَن عائشة ، أن أسماء سألت النبي ( عَن غسل المحيض . قالَ : ( ( تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور ، ثُمَّ تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً ، حتَّى تبلغ شئون رأسها ، ثُمَّ تصب عليهِ الماء ، ثُمَّ تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها ) ) قالت أسماء : وكيف أتطهر بها ؟ فقالَ :
( ( سبحان الله ، تطهري بها ) ) . فقالت عائشة - كأنها تخفي ذَلِكَ - : تتبعين بها أثر
الدم . وسألته عَن غسل الجنابة . فقالَ : ( ( تأخذ ماءً فتطهر بهِ ، فتحسن الطهور - أو تبلغ الطهور - ، ثُمَّ تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شئون رأسها ، ثُمَّ تفيض عليهِ الماء ) ) . فقالت عائشة : نعم النساء نساء الأنصار ، لَم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدِّين .
وفي رواية لَهُ - أيضاً - : قالَ : ( ( سبحان الله ، تطهري بها ) ) ، واستتر .
وخرجه مسلم - أيضاً - من طريق أبي الأحوص ، عَن إبراهيم بنِ مهاجر ، وفي حديثه : قالَ : دخلت أسماء بنت شكل على رسول الله ( - فذكره ،(1/468)
"""""" صفحة رقم 469 """"""
ولم يذكر فيهِ غسل الجنابة .
وخرجه أبو داود . مِن طريق أبي الأحوص ، ولفظه : ( ( تأخذ ماءها وسدرتها فتوضأ ، وتغسل رأسها وتدلكه ) ) - وذكر الحديث ، و زاد فيهِ : ( ( الوضوء ) ) .
ورواه أبو داود الطيالسي ، عَن قيس بنِ الربيع ، عَن إبراهيم بنِ المهاجر ، عَن
صفية ، عَن عائشة ، قالت : أتت فلانة بنت فلان الأنصارية ، فقالت : يا رسول الله ، كيف الغسل مِن الجنابة ، فقالَ : ( ( تبدأ إحداكن فتوضأ ، فتبدأ بشق رأسها الأيمن ، ثُمَّ الأيسر حتى تنقي شئون رأسها ) ) . ثُمَّ قالَ : ( ( أتدرون ما شئون الرأس ؟ ) ) قالت : البشرة . قالَ : ( ( صدقت ، ثُمَّ تفيض على بقية جسدها ) ) .
قالت : يا رسول الله ، فكيف الغسل مِن المحيض ؟ قالَ : ( ( تأخذ إحداكن سدرتها وماءها ، فتطهر فتحسن الطهور ، ثُمَّ تبدأ بشق رأسها الأيمن ، ثُمَّ الأيسر حتى تنقي شئون رأسها ، ثُمَّ تفيض على سائر جسدها ، ثُمَّ تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها ) ) . قالت : يا رسول الله ، كيف أتطهر بها ؟ فقلت : سبحان الله ، تتبعي بها آثار الدم .
وإبراهيم بن المهاجر ، لَم يخرج لَهُ البخاري .
و ( ( الفرصة ) ) - بكسر الفاء ، وسكون الراء ، وبالصاد المهملة - ، وهي القطعة .
قالَ أبو عبيد : هي القطعة من الصوف أو القطن أو غيره ، مأخوذ مِن فرصت الشيء : أي قطعته .
و ( ( المسك ) ) : هوَ الطيب المعروف .
هَذا هوَ الصحيح الذِي عليهِ الجمهور ، والمراد : أن هَذهِ القطعة يكون فيها(1/469)
"""""" صفحة رقم 470 """"""
شيء مِن مسك ، كَما في الرواية الثانية : ( ( فرصة ممسكة ) ) .
وزعم ابن قتيبة والخطابي أن الرواية : ( ( مسك ) ) بفتح الميم ، والمراد بهِ : الجلد الذِي عليهِ صوف ، وأنه أمرها أن تدلك بهِ مواضع الدم .
ولعل البخاري ذهب إلى مثل ذَلِكَ ، ولذلك بوب عليهِ : ( ( دلك المرأة نفسها إذا تطهرت مِن المحيض ) ) ، ويعضد ذَلِكَ : أنَّهُ في ( ( كِتابِ الزينة والترجل ) ) قالَ : ( ( باب : ما يذكر في المسك ) ) ، ولم يذكر فيه إلا حديث : ( ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله مِن ريح المسك ) ) . ولذلك - والله أعلم - لَم يخرج البخاري هَذا الحديث في
( ( باب : الطيب للمرأة عند غسل الحيض ) ) .
والصحيح الذِي عليهِ جمهور الأئمة العلماء بالحديث والفقه : أن غسل المحيض يستحب فيهِ استعمال المسك ، بخلاف غسل الجنابة ، والنفاس كالحيض في ذلك ، وقد نص على ذَلِكَ الشَافِعي وأحمد ، وهما أعلم بالسنة واللغة وبألفاظ الحديث ورواياته مِن مثل ابن قتيبة والخطابي ومن حذا حذوهما ممن يفسر اللفظ بمحتملات اللغة البعيدة .
ومعلوم أن ذكر المسك في غسل الجنابة لَم يرو في غير هَذا الحديث ، فعلم أنهم فسروا فيهِ بالطيب .
وزعم الخطابي : أن قولُهُ : ( ( خذي فرصة مِن مسك ) ) : يدل على أن الفرصة نفسها هي المسك . قالَ : وهذا إنما يصح إذا كانت مِن جلد ، أمَّا لو كانت قطعة مِن صوف أو قطن لَم تكن مِن مسك .
وهذا ليسَ بشيء ؛ فإن المراد خذي نبذة يسيرة مِن مسك ، سواء كانت(1/470)
"""""" صفحة رقم 471 """"""
منفردة أو في شيء ، كَما في الرواية الثانية : ( ( خذي فرصة ممسكة ) ) .
قالَ الإمام أحمد في رواية حنبل : يستحب للمرأة إذا هي خرجت مِن حيضها أن تمسك معَ القطنة شيئاً مِن المسك ، ليقطع عنها رائحة الدم وزفرته ، تتبع بهِ مجاري
الدم .
ونقل عَنهُ - أيضاً - قالَ : يستحب للمرأة إذا طهرت مِن الحيض أن تمس طيباً ، وتمسكه معَ القطنة ، ليقطع عنها رائحة الدم وزفورته ؛ لأن دم الحيض دم لَهُ رائحة .
وقال جعفر بن محمد : سألت أحمد عَن غسل الحائض ، فذهب إلى حديث إبراهيم بن المهاجر ، عَن صفية بنت شيبة ، وقال : تدلك شئون رأسها .
وقال يعقوب بنِ بختان : سألت أحمد عَن النفساء والحائض ، كم مرة يغتسلان ؟ قالَ : كَما تغسل الميتة . قالَ : و سألته عَن الحائض متى توضأ ؟ قالَ : إن شاءت توضأت إذا بدأت واغتسلت ، وإن شاءت اغتسلت ثُمَّ توضأت .
وظاهر هَذا : أنها مخيرة بين تقديم الوضوء وتأخيره ؛ فإنه لَم يرد في السنة تقديمه كَما في غسل الجنابة ، وإنما ورد في حديث أبي الأحوص ، عَن إبراهيم ابن المهاجر : ( ( توضأ وتغسل رأسها وتدلكه ) ) - بالواو ، وهي لا تقتضي ترتيباً .
فتحصل مِن هَذا : أن غسل الحيض والنفاس يفارق غسل الجنابة مِن وجوه :
أحدها : أن الوضوء في غسل الحيض لا فرق بين تقديمه وتأخيره ، وغسل الجنابة السنة تقديم الوضوء فيهِ على الغسل .
والثاني : أن غسل الحيض يستحب أن يكون بماء وسدر ، ويتأكد استعمال السدر فيهِ ، بخلاف غسل الجنابة ؛ لحديث إبراهيم بن المهاجر .
قالَ الميموني : قرأت على ابن حنبل : أيجزئ الحائض الغسل بالماء ؟(1/471)
"""""" صفحة رقم 472 """"""
فأملى عليّ : إذا لم تجد إلاّ وحده اغتسلت به ، قالَ النَّبيّ ( : ( ( ماءك وسدرتك ) ) ، وهو أكثر من غسل الجنابة . قلت : فإن كانت قد اغتسلت بالماء ، ثُمَّ وجدته ؟ قالَ : أحب إلي أن تعود ؛ لما قالَ .
الثالث : أن غسل الحيض يستحب تكراره كغسل الميتة ، بخلاف غسل الجنابة ، وهذا ظاهر كلام أحمد ، ولا فرق في غسل الجنابة بين المرأة والرجل ، نص عليهِ أحمد في رواية مهنا .
والرابع : أن غسل الحيض يستحب أن يستعمل فيهِ شيء من الطيب ، وفي خرقة أو قطنة أو نحوهما ، يتبع به مجاري الدم .
وقد علل أحمد ذَلِكَ بأنه يقطع زفورة الدم ، وهذا هوَ المأخذ الصحيح عندَ أصحاب الشافعي - أيضاً - .
وشذ الماوردي ، فحكى في ذَلِكَ وجهين :
أحدهما : أن المقصود بالطيب تطييب المحل ، ليكمل استمتاع الزوج بإثارة الشهوة ، وكمال اللذة .
والثاني : لكونه أسرع إلى علوق الولد .
قال : فإن فقدت المسك - وقلنا بالأول - أتت بما يقوم مقامه في دفع الرائحة ، وإن قلنا بالثاني فما يسرع إلى العلوق كالقسط والأظفار ونحوهما .
قالَ : واختلف الأصحاب في وقت استعماله ، فمن قالَ بالأول ، قالَ : بعد
الغسل ، ومن قالَ بالثاني ، فَقَبْله .
قالَ صاحب ( ( شرح المهذب ) ) : وهذا الوجه الثاني ليس بشيء ، وما يفرع عليهِ - أيضاً - ليس بشيء ، وهو خلاف ما عليهِ الجمهور ، والصواب : أن المقصود به تطييب المحل ، وأنها تستعمله بعد الغسل .(1/472)
"""""" صفحة رقم 473 """"""
ثُمَّ ذكر حديث عائشة ، أن أسماء بنت شكل سألت النبي ( عَن غسل المحيض ، فقالَ : ( ( تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها ، فتظهر فتحسن الطهور ، ثُمَّ تصب على رأسها فتدلكه ، ثُمَّ تصب عليها الماء ، ثُمَّ تأخذ فرصة ممسكة فتظهر بها ) ) .
خرجه مسلم .
قالَ : وقد نصوا على استحبابه للزوجة وغيرها ، والبكر والثيب . والله أعلم .
قالَ : واستعمال الطيب سنة متأكدة ، يكره تركه بلا عذر . انتهى .
وقول النبي ( : ( ( خذي فرصة ممسكة فتطهري بها ) ) ، وفي رواية : ( ( توضئي
بها ) ) يدل على أن المراد بهِ التنظيف والتطييب والتطهير ، وكذلك سماه : تطهيراً ، وتوضؤا ، والمراد : الوضوء اللغوي ، الذي هوَ النظافة .
وقول عائشة : ( ( تتبعي بها مجاري الدم ) ) إشارة إلى إدخاله الفرج .
واستحب بعض الشافعية استعمال الطيب في كل ما أصابه دم الحيض مِن [ الجسد ] - أيضاً - ؛ لأن المقصود قطع رائحة الدم حيث كانَ .
ونص أحمد على أنَّهُ [ لا يجب ] غسل باطن الفرج مِن حيض ، و لا جنابة ، ولا استنجاء .
قالَ جعفر بنِ محمد : قلت لأحمد : إذا اغتسلت مِن المحيض تدخل يدها ؟ قالَ : لا ، إلا ما ظهر ، [ ولم ] ير عليها أن تدخل أُصبعها ولا يدها في فرجها ، في غسل ولا وضوء .
ولأصحابنا وجه : بوجوب ذَلِكَ في الغسل والاستنجاء ، ومنهم مِن قالَ : إن(1/473)
"""""" صفحة رقم 474 """"""
كانت [ ثيباً ] وخرج البول بحدة ولم يسترسل لَم يجب سوى الاستنجاء في موضع خروج
البول ، وإن استرسل فدخل منهُ شيء الفرج وجب غسله .
ومذهب الشَافِعي : أن الثيب يجب [ عليها ] إيصال الماء إلى ما يظهر في حال قعودها لقضاء الحاجة ؛ لأنه صار حكم الظاهر ، نص على ذَلِكَ الشَافِعي ، وشبهه بما بين الأصابع ، وعليه جمهور أصحابه ، وما وراء ذَلِكَ على ذَلِكَ فَهوَ عندهم في حكم الباطن على الصحيح .
ولهم وجه آخر : أنَّهُ يجب عليها إيصال الماء إلى داخل فرجها ، بناء على القول بنجاسته .
ووجه آخر : أنَّهُ يجب في غسل الحيض والنفاس ؛ لإزالة النجاسة ، ولا يجب في الجنابة .
ومنهم مِن قالَ : لا يجب إيصاله إلى شيء مِن داخل الفرج بالكلية ، كَما لا يجب إيصاله إلى داخل الفم عندهم .
والخامس : أن غسل الحيض تنقض فيهِ شعرها إذا كانَ مضفوراً ، بخلاف غسل الجنابة عند أحمد ، وهوَ قول طاوس والحسن .
وسيأتي ذكر ذَلِكَ مستوفي - إن شاء الله تعالى .(1/474)
"""""" صفحة رقم 475 """"""
- باب امتشاط المرأة عند غسلها مِن المحيض
خرج فيهِ :
316 - حديث : الزهري ، عَن عروة ، عَن عائشة ، قالت : أهللت معَ
رسول الله ( ? [ بعمرة ] في حجة الوداع ، فكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي . فزعمت أنها حاضت ولم تطهر حتى دخلت ليلة عرفة ، فقالت : يا رسول الله ، هَذهِ ليلة يوم عرفة ، وإنما كنت تمتعت بعمرة ؟ فقالَ لها رسول الله ( : ( ( انقضي رأسك وامتشطي وأمسكي عن عمرتك ) ) . ففعلت ، فلما قضيت الحج أمر عبد الرحمن ليلة الحصبة ، فأعمرني مِن التنعيم مكان عمرتي التي نسكت .
- باب نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض
خرج فيهِ :
317 - حديث : هشام ، عَن أبيه ، عَن عائشة ، قالت : خرجنا موافين لهلال ذي الحجة - فذكرت الحديث .
وفيه :
وكنت أنا ممن أهل بعمرة ، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض ، فشكوت إلى النبي
( ، فقالَ : ( ( دعي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهل بحج ) ) ففعلت - وذكرت بقية الحديث .(1/475)
"""""" صفحة رقم 476 """"""
[ هَذا الحديث ] قَد استنبط البخاري - رحمه الله - منهُ حكمين ، عقد لهما بابين :
أحدهما : امتشاط المرأة عند غسلها مِن المحيض .
والثاني : نقضها شعرها عند غسلها مِن المحيض .
وهذا الحديث لا دلالة فيهِ على واحد مِن الأمرين ؛ فإن غسل عائشة الذِي أمرها النبي ( بهِ لَم يكن مِن الحيض ، بل كانت مِن حائضاً ، وحيضها حينئذ موجود ، فإنه لو كانَ قَد انقطع حيضها لطافت للعمرة ، ولم تحتج إلى هَذا السؤال ، ولكن أمرها أن تغتسل في حال حيضها وتهل بالحج ، فَهوَ غسل للإحرام في حال الحيض ، كَما أمر أسماء بت عميس لما نفست بذي الحليفة أن تغتسل وتهل .
وقد ذكر ابن ماجه في ( ( كتابه ) ) : ( ( باب : الحائض كيف تغتسل ) ) ، ثُمَّ قالَ : حدثنا أبو بكر بنِ أبي شيبة وعلي بنِ محمد ، قالا : ثنا وكيع ، عَن هشام ابن عروة ، عَن أبيه ، عَن عائشة ، أن النبي ( قالَ لها - وكانت حائضاً - : ( ( انقضي شعرك
واغتسلي ) ) .
قالَ علي في حديثه : ( ( انقضي رأسك ) ) .
وهذا - أيضاً - يوهم أنَّهُ قالَ لها ذَلِكَ في غسلها مِن الحيض ، وهذا مختصر مِن حديث عائشة الذِي خرجه البخاري .
وقد ذكر هَذا الحديث المختصر للإمام أحمد ، عن وكيع ، فأنكره . قيل لَهُ : كأنه اختصره مِن حديث الحج ؟ قالَ : ويحل لَهُ أن يختصر ؟ - : نقله عَنهُ المروذي .
ونقل عَنهُ إسحاق بن هانئ ، أنَّهُ قالَ : هَذا باطل .(1/476)
"""""" صفحة رقم 477 """"""
قَالَ أبو بكر الخلال : إ نما أ نكر أحمد مثل هذا الاختصار الذي يخل بالمعنى ، لا أصل اختصار الحديث 0 قَالَ : وابن أبي شيبة في مصنفاته يختصر مثل هذا الاختصار المخل بالمعنى - : هذا معنى ما قاله الخلال .
وقد تبين برواية ابن ماجه أن الطنافسي رواه عن وكيع ، كما رواه ابن أبي شيبة عنه ، ورواه - أيضا - إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في ( ( كتاب الطهور ) ) له عن وكيع - أيضا - ، فلعل وكيعا اختصره . والله أعلم .
وقد يحمل مراد البخاري - رحمه الله - على وجه صحيح ، وهو أن النبي ( إنما أ مر عائشة بنقض شعرها وامتشاطها عند الغسل للاحرام : لأن غَسَلَ الإحرام لايتكرر ، فلا يشق نقض الشعر فيه ، وغسل الحيض والنفا س يوجد فيه هذا المعنى ، بخلاف غسل الجنابة ، فإنه يتكرر فيشق النقض فيه ، فلذلك لم يؤمر فيه بنقض الشعر .
وقد تكلم بعض العلماء في لفظة : ( ( أمر النبي ( عائشة بنقص رأسها وامتشاطها ) ) ، وقالوا : هي وهم من هشام ، وكذلك قالوا في روايته : أن النَّبيّ ( قَالَ لها : ( ( دعي العمرة ) ) .
ولكن ؛ قد : رواهما - أيضا - ، الزهري ، عن عروة .
ولهشام في هذا الحديث وهم آخر ، وهو أنه قَالَ : ( ( ولم يكن هدي ولا صيام ولا صدقة ) ) ، وقد ثبت عن عائشة أن النَّبيّ ( ذبح عن نسائه البقر ، فإنها إن كانت قد صارت قارنة فالقارن عليهِ هدي ، وإن كانت قد رفضت عمرتها لزمها دم لذلك ، عندَ من يقول به .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن جابر ، أن النَّبيّ ( أمر عائشة أن تغتسل وتهل
بالحج .(1/477)
"""""" صفحة رقم 478 """"""
ولم يذكر نقض الشعر ولا تسريحه ، فإن عائشة كانت محرمة بعمرة كما رواه عروة عنها ، وإن كانَ القاسم قد روى عنها أنها كانت محرمة بحجة ، إلا أن رواية عروة أصح ، كذا قاله الإمام أحمد وغيره .
وقد قيل : إنها أحرمت من الميقات بحجة ، ثُمَّ فسخت ذَلكَ إلى عمرة لما أمروا بالفسخ ، ثُمَّ حاضت بعد ذَلكَ قبل دخول مكة .
وفي هذا نظر ؛ فإنه روي مايدل على أنها كانت أحرمت بعمرة من الميقات ، والحائض إذا كانت محرمة بعمرة ، ولم تقدر على طواف العمرة قبل يوم عرفة ، وخشيت فوات إداك الحج فإنها تحرم بالحج مع العمرة ، وتبقى قارنة عندَ أكثر العلماء ، كمالك والشافعي ، وأحمد ، ويكفيها عندهم طوا ف واحد وسعي واحد لما بعد التعريف للحج والعمرة .
وقد روى ذَلكَ جابر عن النبي ( ، في قصة عائشة صريحا .
خرجه مسلم 0 وتأولوا قول النبي ( لعائشة : ( ( دعي عمرتك ) ) على أنه أراد : اتركيها بحالها ، وأدخلي عليها إحرام الحج .
وقال أحمد : من رواه ( ( انقضي عمرتك ) ) فقد أخطأ ، ورواه بالمعنى الذي
فهمه .
وقال أبو حنيفة والكوفيون : ترفض العمرة ، ثُمَّ تحرم بالحج ، ثُمَّ تقضي العمرة بعد الحج ، وتأولوا حديث عائشة على ذَلكَ .
وقالت طائفة : إنما أمرها أن تنقض رأسها وتمتشط ؛ لأن المعتمر إذا دخل الحرم حل لهُ كل شيء إلا النساء ، كالحاج إذا رمى الجمرة .
وقد روي هذا عن عائشة ، ولعلها أخذته من روايتها هذه ، وهو قول عائشة(1/478)
"""""" صفحة رقم 479 """"""
بنت طلحة ، وعطاء .
وقد أخذ الإمام أحمد بذلك في رواية الميموني عنه ، وهي رواية غريبة عنه .
ووهم الخطابي في هذا الحديث حيث قَالَ : أشبه الأمور : ماذهب إليه أحمد بن حنبل : وهو أنه فسخ عليها عمرتها ؛ لأن مذهبه أن فسخ الحج عام غير خاص .
وهذا وهم على أحمد ؛ فإن أحمد يرى جواز فسخ الحج إلى العمرة قبل أن يقف بعرفة ، وأما فسخ العمرة إلى الحج فلا يقول به أحمد ، وإنما يقوله الكوفيون في الحائض إذا كانت معتمرة وخافت فوات الحج ، وتأولوا حديث عائشة عليهِ .
والعجب ممن جوز فسخ العمرة إلى الحج بتأويل محتمل ، ومنع من فسخ الحج إلى العمرة ، مع تواتر النصوص الصريحة الصحيحة بذلك التي لا تقبل التأويل ؛ بمجرد دعوى النسخ أو الاختصاص ، ولم يثبت حديث واحد يدل على شيء من ذَلكَ ، وسيأتي القول في هذا مستوفى في موضعه من ( ( الحج ) ) - إن شاء الله تعالى .
فإن المقصود هنا : هو نقض الشعر وتسريحه عند الغسل من الحيض ، وممن أمر به في الحيض دون الجنابة : طاوس والحسن ، وهو قول وكيع وأحمد .
واختلف أصحابنا : هل ذَلكَ واجب ، أو مستحب ؟ على وجهين ، وظاهر كلام الخرقي وجوبه .
وقد ورد حديث صريح بالنقض في غَسَلَ الحيض دون الجنابة من رواية سلمة بن صبيح ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، قَالَ : قَالَ رسول الله ( : ( ( إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها ، وغسلته(1/479)
"""""" صفحة رقم 480 """"""
بخطمي وأشنان ، وإذا اغتسلت من جنابة صبت رأسها الماء وعصرته ) ) .
خرجه الطبراني ، وأبو عبد الله مجمد بن عبد الواحد المقدسي في ( ( صحيحه ) ) المسمى ( ( بالمختارة ) ) .
وخرجه الدارقطني في ( ( الأفراد ) ) وعنده : ( ( مسلم بن صبيح ) ) ، وقال : تفرد به عن حماد .
وكذا ذكره أبو بكر الخطيب ، وقال : هو مسلم بن صبيح ، بصري يكنى أبا عثمان ، وكذا ذكره ابن ماكولا وغيره ، ومع هذا فليس بالمشهور .
وأما مانقله مهنا عن أحمد ، أن المرأة لاتنقض شعرها من الجنابة ، بل تفيض عليه الماء ؛ لحديث أم سلمة ، عن النَّبيّ ( ، والحائض تنقضه .
قَالَ مهنا : قلت لهُ : كيف تنقضه من الحيضة ولا تنقضه من الجنابة ؟ فقال : حديث أسماء ، عن النبي ( ، قَالَ : ( ( تنقضه ) ) .
قلت : من أسماء ؟ قَالَ : أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - .
فهذا لعله وهم من مهنا ، أو ممن روى عنه ، ولا يعرف لأسماء بنت أبي بكر في هذا الباب حديث بالكلية ، إنما حديثها في غَسَلَ دم الحيض من الثوب ، وقد تقدم .
ولكن في حديث عائشة أن أسماء سألت النبي ( عن غَسَلَ الحيض ، وليس فيه أنه أمرها بالنقص ، بل أمرها بدلكه دلكا شديدا حتى يبلغ شئون رأسها ، ولم يأمرها بنقضه .
وفي الحديث : أنها سألته عن غَسَلَ الجنابة ، فأمرها بمثل ذَلكَ ، غير أنه(1/480)
"""""" صفحة رقم 481 """"""
لم يقل : ( ( دلكا شديدا ) ) .
وقد خرجه مسلم ، كما تقدم .
وأسماء هذه ، وقع في ( ( صحيح مسلم ) ) أنها : ( ( بنت شكل ) ) ، وذكر أبو بكر الخطيب أنها أسماء بنت يزيد بن السكن ، وخرج الحديث من رواية يوسف القاضي ، من طريق شعبة ، عن إبراهيم بن المهاجر بالإسناد الذي خرجه مسلم ، وفيه : أن أسماء بنت يزيد سألت النبي ( عن غَسَلَ الحيض - فذكره .
وأكثر العلماء على التسوية بين غَسَلَ الجنابة والحيض ، وأنه لا ينقض الشعر في واحد منهما .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) من حديث أم سلمة ، قالت : قلت : يارسول الله ، إني امرأة أشد ضفر رأسي ، أفأنقضه للحيضة والجنابة ؟ قَالَ : ( ( لا ) ) .
وهذه اللفظة - أعني : لفظة ( ( الحيضة ) ) - تفرد بها عبد الرزاق ، عن الثوري ، وكأنها غير محفوظة ، فقد رواه غير واحد ، عن الثوري ، فلم يذكروها .
وقد رويت - أيضا - هذه اللفظة من حديث سالم الخياط ، عن الحسن ، عن أم سلمة .
وسالم ضعيف ، والحسن لم يسمع من أم سلمة .
وروى أبو بكر الحنفي ، عن سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر - مرفوعا :
( ( لايضر المرأة الحائض والجنب أن لا تنقض شعرها إذا أصاب الماء شئون رأسها ) ) .
تفرد به : الحنفي ، ورفعه منكر .
وقد روي عن أبي الزبير ، عن جابر موقوفا ، وهو أصح .(1/481)
"""""" صفحة رقم 482 """"""
وروى عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، قَالَ : كن نساء ابن عمر يغتسلن من الحيض والجنابة ، فما ينقضن شعورهن ، ولكن يبلغن بالماء أصول الشعر .
هذا كله إذا وصل الماء إلى غضون الشعر المضفور ، فإن لم يصل بدونه وجب نقضه عند الأكثرين ، وهو قول مالك والشافعي ، والمشهور عندَ أصحابنا ورواية عن أبي حنيفة ، وهو قول أبي خيثمة ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، وسليمان بن داود الهاشمي ، ويحيى بن يحيى ، والجوزجاني وغيرهم من فقهاء الحديث ، واستدلوا بالأحاديث الواردة في الأمر بحل الشعر ، وقد تكلم في أسانيدها .
وقالت طائفة : لا يجب ذَلكَ ، وحكي عن مالك ، وهو قول طائفة من
أصحابنا ، منهم : صاحب ( ( المغني ) ) ، وذكر أنه ظاهر كلام الخرقي ، وأن الشعر حكمه حكم المنفصل عن الجسد ، لا حكم المتصل به .
ولأصحابنا وجه : أنه يفرق بين غَسَلَ الحيض والجنابة ، فيجب غَسَلَ الشعر في غَسَلَ الحيض خاصة .
والصحيح من مذهب الحنفية : أن الشعر إذا كان مضفورا لا يلزم المرأة نقضه في جنابة ولاحيض ؛ لمشقة نقضه ، بخلاف الرجل ؛ فإنه يلزمه نقضه ، وإن كان محلولا وجب غسله وإيصال الماء إلى بواطنه ، كشعر اللحية .
وخرج الطبراني من رواية عمر بن هارون ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن سالم خادم النبي ( قَالَ : ( ( إن أزواج رسول الله ( كن يجعلن رءوسهن أربع قرون ، فإن اغتسلن جمعنهن على أوساط رءوسهن ) ) .(1/482)
"""""" صفحة رقم 483 """"""
عمر بن هارون ، ضعيف .
وفي أمر النبي ( لعائشة بالغسل للإحرام وهي حائض دليل على أن الاغسال المستحبة تفعل مع الحيض ؛ كأغسال الحج المستحبة ، ويدخل ذَلكَ في قوله لها :
( ( اصنعي ما يصنع الحاج ) ) .
ولو كان على الحائض غَسَلَ جنابة ، إما قبل الحيض أو في حال الحيض ، فهل يستحب لها الاغتسال في حال حيضها للجنابة ؟ فيهِ روايتان عن أحمد .
واختلف السلف في ذَلكَ :
فقال النخعي وغيره : تغتسل .
وقال عطاء : لاتغتسل ؛ الحيض أكبر .
قَالَ أحمد : ثُمَّ رجع عن ذَلكَ ، وقال : تغتسل .
وأما الوضوء فلا يشرع للحائض في حال حيضها ما لم ينقطع دمها ، فتصير كالجنب ، ونص أحمد على أنها لو توضأت وهي حائض يجز لها الجلوس في المسجد ؛ بخلاف الجنب ، وفيه وجه : يجوز إذا أمنت تلويثه .
ونص الشافعي على أنه لايشرع لها الوضوء عند النوم والأكل ، وهو قول أصحابنا ، واختلف أصحاب مالك في ذَلكَ .
وأما وضوؤها عند كل صلاة ، وجلوسها قدر الصَّلاة للذكر ، ففيه خلاف ، نذكره في موضع آخر - إن شاء الله تعالى .(1/483)
"""""" صفحة رقم 484 """"""
- باب مخلقة وغير مخلقة
318 - حدثنا مسدد : ثنا حماد ، عن عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس بن مالك ، عن النبي ( قَالَ : ( ( إن الله ( وكل بالرحم ملكا ، يقول : يارب نطفة ، يارب
علقة ، يارب مضغة ، فإذا أراد أن يقضي الله خلقه قَالَ : أذكر أم أنثى ؟ أشقي أم
سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ فيكتب في بطن أمه ) ) .
اختلف السلف في تأويل قول الله ( : ( ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ( [ الحج : 5 ] : فقال مجاهد : هي المضغة التي تسقطها المرأة ؛ منها ما هوَ مخلق فيهِ تصوير وتخطيط ، ومنها ماليس بمخلق ولا تصوير فيهِ ، أرى الله تعالى ذَلكَ عباده ليبين لهم أصل ما خلقوا منه ، والذي يقره في الأرحام هوَ الذي يتم خلقه ويولد .
وقالت طائفة : المخلقة هي التي يتم خلقها ، وغير مخلقة هي التي تسقط قبل أن تكون مضغة .
روى الشعبي ، عن علقمة ، عن ابن مسعود ، قَالَ : النطفة إذا استقرت في الرحم حملها ملك بكفه ، وقال : أي رب ، مخلقة أم غير مخلقة ؟ فإن قيل : غير مخلقة لم تكن نسمة ، وقذفتها الأرحام ، وإن قيل : مخلقة ، قَالَ : أي رب ، أذكر أم أنثى ؟ أشقي أم سعيد ؟ ما الأجل ؟ ما الأثر ؟ وبأي أرض تموت ؟ قَالَ : فيقال للنطفة : من ربك ؟ فتقول : الله ، فيقال : من رازقك ؟(1/484)
"""""" صفحة رقم 485 """"""
فتقول : الله فيقول الله عز وجل : اذهب إلى الكتاب ، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة .
قَالَ : فتخلق ، فتعيش في أجلها ، وتأكل رزقها ، وتطأ في أثرها ، حتى إذا جاء أجلها ماتت ، فدفنت في ذَلكَ ، ثُمَّ تلا الشعبي : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ ( إلى قوله : ( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ( [ الحج : 5 ] ، فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع ، فكانت نسمة فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما ، وإن كانت مخلقة نكست نسمة .
خرجه ابن أبي حاتم وغيره ، وآخره هو من قول الشعبي .
وقد يستأنس بهذا من يقول : إن الحامل لا تحيض ولا ترى دم الحيض في حال حملها ، وأنها لا ترى إلا دم النفاس خاصة ، وفي ذَلكَ نظر .
وقد قيل : إن هذا هو مراد البخاري بتبويبه هذا .
وقد روي عن الحسن في قول الله ( : ( إِنَّا خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ
أَمْشَاجٍ ( [ الإنسان : 2 ] ، أن النطفة مشجت - أي : خلطت بدم الحيض - ، فإذا(1/485)
"""""" صفحة رقم 486 """"""
حملت المرأة ارتفع حيضها .
وحديث أنس الذي خرجه البخاري يدل على أنه لا يخلق إلا بعد أن يكون
مضغة ، وليس فيه ذكر مدة ذَلكَ ، وذكر المدة في حديث ابن مسعود - وقد خرجه البخاري في مواضع أخر - ، قَالَ : حدثنا رسول الله ( - وهو الصادق المصدوق - : ( ( إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ، ثُمَّ يكون علقة مثل ذَلكَ ، ثُمَّ يكون مضغة مثل ذَلكَ ، ثُمَّ يبعث إليه الملك ، فيؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد ، ثُمَّ ينفخ فيه الروح ) ) - وذكر الحديث .
وقد روي هذا المعنى عن ابن مسعود موقوفا عليه ، وعن ابن عباس ، وغيرهما من الصحابة .
وقد أخذ كثير من العلماء بظاهر حديث ابن مسعود ، وقالوا : أقل ما يتبين فيه خلق الولد أحد وثمانون يوما ؛ لأنه لا يكون مضغة إلا في الأربعين الثالثة ، ولا يتخلق قبل أن يكون مضغة .
قَالَ الإمام أحمد : ثنا هشيم : أبنا داود ، عن الشعبي ، قَالَ : إذا نكس السقط في الخلق الرابع وكان مخلقا عتقت به الأمة ، وانقضت به العدة .
قَالَ أحمد : إذا تبين الخلق فهو نفاس ، وتعتق به إذا تبين .
قَالَ : ولا يصلى على السقط إلا بعد أربعة أشهر 0 قيل له : فإن كان أقل من أربعة ؟ قَالَ : لا ، هوَ في الأربعة يتبين خلقه 0 وقال : العلقة : هي دم لا يتبين فيها الخلق .(1/486)
"""""" صفحة رقم 487 """"""
وقال أصحابنا أصحاب الشافعي - بناء على أن الخلق لا يكون إلا في المضغة - : أقل ما يتبين فيهِ خلق الولد أحد وثمانون يوما ، في أول الأربعين الثالثة التي يكون فيها مضغة ، فإن أسقطت مضغة مخلقة انقضت بها العدة وعتقت بها أم الولد ، ولو كانَ التخليق خفيا لا يشهد به إلا من يعرفه من النساء فكذلك .
فإن كانت مضغة لا تخليق فيها ففي انقضاء العدة وعتق الأمة به روايتان عن
أحمد .
وهل يعتبر للمضغة المخلقة أن يكون وضعها بعد تمام أربعة أشهر ؟ فيهِ قولان ، أشهرهما : لا يعتبر ذَلِكَ ، وهو قول جمهور العلماء ، وهو المشهور عن أحمد ، حتَّى قالَ : إذا تبين خلقه ليس فيهِ اختلاف ، أنها تعتق بذلك .
وروي عنه ما يدل على اعتبار مضي الأربعة أشهر ، وعنه رواية أخرى في العلقة إذا تبين أنها ولد أن الأمة تعتق بها ، ومن أصحابنا من طرد ذَلكَ في انقضاء العدة بها
- أيضا - ، وهذه االرواية قول النخعي ، وحكي قولاً للشافعي .
وهذا يدل على أنه يمكن التخليق في العلقة ، وقد روي ما يدل عليه ، والأطباء تعترف بذلك .
فأما الصَّلاة على السقط : فالمشهور عن أحمد أنه لا يصلى عليه حتّى ينفخ فيه الروح ، ليكون ميتا بمفارقة الروح له ، وذلك بعد مضي أربعة أشهر ، وهو قول ابن المسيب ، وأحد أقوال الشافعي ، وإسحاق .
وإذا ألقت ما يتبين فيه خلق الإنسان فهي نفساء ، ويلزمها الغسل ، فإن لم يتبين فيه الإنسان وكان مضغة فلا نفاس لها ، ولا غَسَلَ عليها في المشهور عن أحمد ، وعنه رواية : أنها نفساء - : نقلها عنه الحسن بن ثواب ، ولم(1/487)
"""""" صفحة رقم 488 """"""
يشترط شيئا ؛ لا المضغة مظنة تبين التخلق والتصوير غالبا . وإن ألقت علقة فلا نفاس لها فيهِ ، ولأصحابنا وجه ضعيف : أنها نفساء ، بناء على القول بانقضاء العدة به .
ومذهب الشافعية والحنفية : أن الاعتبار في النفاس بما تنقضي به العدة ، وتصير به الأمة أم ولد ، فحيث وجد ذَلكَ فالنفاس موجود ، وإلا فلا ، والاعتبار عندهم في ذَلكَ كله بما يتبين فيه خلق الإنسان .
وقال إسحاق : إذا استتم الخلق فهو نفاس - : نقله عنه حرب .(1/488)
"""""" صفحة رقم 489 """"""
- باب كيف تهل الحائض بالحج والعمرة ؟
خرج فيه :
319 - حديث : ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : خرجنا مع النَّبيّ ( في حجة الوداع .
فذكرت الحديث ، إلى أن قالت :
فحضت ، فلم أزل حائضا حتّى كان يوم عرفة ، ولم أهلل إلاّ بعمرة ، فأمرني رسول الله ( أن أنقض رأسي ، وأمتشط ، وأهل بحج ، وأترك العمرة ، ففعلت ذَلكَ حتّى قضيت حجي ، فبعث معي عبد الرحمن بن أبي بكر ، فأمرني أن أعتمر مكان عمرتي من التنعيم .
فيه : دليل على أن الحائض إذا أرادت الإحرام فإنها تغتسل له ، ثُمَّ تهل بما تريد أن تحرم به من حج أو عمرة . والإهلال : التلبية .
وخرج مسلم من حديث جابر ، النَّبيّ ( : قَالَ لعائشة لما حاضت : ( ( اغتسلي ، ثُمَّ أهلي بالحج ) ) .
ومن حديث جابر - أيضا - ، قَالَ : خرجنا مع النَّبيّ ( حتّى أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول الله ( : كيف أصنع ؟ قَالَ : ( ( اغتسلي واستثفري بثوب ، وأحرمي ) ) .
ومن حديث عائشة ، قالت : نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر(1/489)
"""""" صفحة رقم 490 """"""
بالشجرة ، فأمر رسول الله ( أبا بكر [ يأمرها ] أن تغتسل وتهل .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من رواية خصيف ، عن عكرمة ومجاهد وعطاء ، عن ابن عباس - يرفع الحديث إلى النَّبيّ ( - : ( ( إن النفساء والحائض تغتسل وتحرم ، فتقضي المناسك كلها ، غير أن لا تطوف بالبيت حتّى تطهر ) ) .
وقال الترمذي : حديث حسن .
وهذا قول جماعة أهل العلم ، لا يعلم بينهم اختلاف فيه : أن الحائض يجوز أن تحرم بالحج والعمرة ، وتفعل مايفعله الطاهر ، سوى الطواف بالبيت ، كما سبق .
ولكن ؛ منهم من كره لها أن تبتدئ الإحرام من غير حاجة إليه ، فكره الضحاك وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري : أن تحرم في حال دمها قبل الميقات ؛ لأنه لا حاجة لها إلى ذَلكَ ، فإذا وصلت إلى الميقات ، ولم تطهر فإحرامها حينئذ ضرورة .
وكره عطاء لمن كانت بمكة وهي حائض : أن تخرج إلى الميقات ، فتهل بعمرة ، وقال : لا تخرج حتّى تطهر .
وهو محمول على المقيمة بمكة ، التي يمكنها تأخير الإحرام إلى حال طهرها .(1/490)
"""""" صفحة رقم 491 """"""
- باب إقبال المحيض وإدباره
وكن نساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف ، فيه الصفرة ، فتقول : لا تعجلن حتّى ترين القصة البيضاء - تريد بذلك : الطهر من الحيضة .
وبلغ ابنة زيد بن ثابت أن نساء يدعون بالمصابيح من جوف الليل ، ينظرن إلى الطهر ، فقالت : ما كان النساء يصنعن هذا ، وعابت عليهن .
هذان الأثران ، خرجهما مالك في ( ( المؤطا ) ) ، فروى عن علقمة بن أبي
علقمة ، عن أمه مولاة عائشة ، أنها قالت : كان النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف ، فيه الصفرة من دم الحيضة ، يسألنها عن الصَّلاة ، فتقول : لا تعجلن حتّى ترين القصة البيضاء - تريد بذلك : الطهر من الحيضة .
وروى - أيضاً - عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمته ، عن ابنة زيد بن ثابت ، أنه بلغها أن نساءكن يدعون بالمصابيح من جوف الليل ، ينظرن إلى الطهر ، فكانت تعيب ذَلكَ عليهن ، وتقول : ما كان النساء يصنعن هذا .
وإنما كان نساء الصدر الأول يصنعن هذا لشدة اهتمامهن بالصلاة ، وأمور الدين - رضي الله عنهن - .
قَالَ ابن عبد البر : إنما أنكرت بنت زيد بن ثابت على النساء افتقاد أحوالهن في غير وقت الصَّلاة وما قاربها ؛ لأن جوف الليل ليس بوقت صلاة ، وإنما على النساء افتقاد أحوالهن للصلاة ، فإن كن قد طهرن تأهبن للغسل ، لما عليهن من الصَّلاة . انتهى .(1/491)
"""""" صفحة رقم 492 """"""
وفيما قاله نظر ، فإن جوف الليل وقت لصلاة العشاء ، فإذا طهرت فيه الحائض لزمها صلاة العشاء وصلاة المغرب - أيضاً - عند كثير من العلماء .
وإنما أنكرت بنت زيد - والله أعلم - النظر في لون الدم ، وأن مدة العادة تحكم بأن جميع ما يرى فيها دم حيض ؛ وإن اختلفت ألوانه .
وهذا المعنى أقرب إلى إدخال البخاري له في هذا الباب ، وإلى إدخال مالك له في ( ( الموطإ ) ) في ( ( باب : طهر الحيض ) ) ؛ وسياقهما له بعد قول عائشة الذي صدر به البخاري هذا الباب .
و ( ( الدرجة ) ) : قد رويت بضم الدال المشددة وسكون الراء ، فتكون تأنيث
( ( درج ) ) ، ورويت بكسر الدال وفتح الراء ، فتكون جمع ( ( درج ) ) كما تجمع
( ( خرج وترس ) ) على ( ( خرجة وترسة ) ) .
( ( الدرج ) ) : المراد به هنا : خرق تلف وفيها قطن ، وهو الكرسف ، فتدخله المرأة الحائض في فرجها ؛ لتنظر ما يخرج على القطن ، فإذا خرج عليه دم أحمر أو أسود علمت المرأة أن دم حيضها باق ، وإن خرج عليه صفرة فقد أفتت عائشة - رضى الله عنها - بأنه حيض - أيضاً - ، وأن الحائض لا ينقطع حيضها حتّى ترى القصة البيضاء .
و ( ( القصة ) ) - بفتح القاف - : أصلها القطعة من الجص الأبيض ، وأرادت عائشة بذلك أن القطنة تخرج بيضاء ، ليس فيها شيء من الصفرة ، ولا الكدرة ، فيكون ذَلكَ علامة نقائها وطهرها .
وقالت طائفة : بل القصة البيضاء عبارة عن ماء أبيض يخرج عقب الدم من النساء في آخر الحيض ، فلا تطهرن بدونه .
وقيل : إنه يشبه الخيط الأبيض ، وهذا قول مالك وغيره .(1/492)
"""""" صفحة رقم 493 """"""
وروى الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن ميسرة ، عن عبد الرحمن بن
ذؤيب ، عن عائشة ، قالت : الطهر أن ترى المرأة بعد الدم ماء أبيض قطعا .
خرجه حرب الكرماني .
وحكى الخطابي ، عن ابن وهب ، أنه قَالَ في تفسير القصة البيضاء : رأيت القطن الأبيض ، كأنه هو .
وعن ابن أبي سلمة ، قَالَ : إذا كان ذَلكَ نظرت المرأة إلى مثل ريقها في اللون ، فتطهر بذلك ، فيما بلغنا .
وعن مالك ، قَالَ : سألت النساء عن القصة البيضاء ، فإذا ذاك أمر معروف عند النساء ، يرينه عند الطهر .
وهذا المحكي عن مالك يوافق القول الثاني الذي ذكرناه ، وأن القصة البيضاء عبارة عن شيء أبيض يخرج في آخر دم الحيض 0 وقال ابن عبد البر : اختلف أصحاب مالك عنه في علامة الطهر ، ففي ( ( المدونة ) ) : قَالَ مالك : إذا كانت المرأة ممن ترى القصة البيضاء فلا تطهر حتّى تراها ، وإن كانت ممن لاتراها فطهرها الجفوف ، وذلك أن تدخل الخرقة فتخرجها جافة ، وبه قَالَ عيسى بن دينار ، قَالَ : القصة البيضاء أبلغ في براءة الرحم من الجفوف .
وفي ( ( المجموعة ) ) : قَالَ مالك : إذا رأت الجفوف وهي ممن ترى القصة البيضاء فلا تصلي حتّى تراها ، إلا أن يطول ذَلكَ بها .
وقال ابن حبيب : تطهر بالجفوف ، وإن كانت ممن ترى القصة البيضاء .
قَالَ ابن حبيب : والجفوف أبرأ للرحم من القصة البيضاء .(1/493)
"""""" صفحة رقم 494 """"""
قَالَ : فمن كان طهرها القصة البيضاء ورأت الجفوف فقد طهرت .
قَالَ : ولا تطهر التي طهرها الجفوف برؤيتها القصة البيضاء حتّى ترى الجفوف .
قَالَ : وذلك أن أول الحيض دم ، ثُمَّ صفرة ، ثُمَّ ترية ، ثُمَّ كدرة ، ثُمَّ يكون ريقاً كالفضة ، ثُمَّ ينقطع ، فإذا انقطع قبل هذه المنازل فقد برئت الرحم من الحيض . قَالَ : والجفوف أبرأ وأوعب ، وليس بعد الجفوف انتظار . انتهى ما ذكره ابن عبد البر -
رحمه الله .
وفي ( ( تهذيب المدونة ) ) : تغتسل إن رأت القصة البيضاء ، فإن كانت ممن لا تراها فحين ترى الجفوف .
قَالَ ابن القاسم : والجفوف أن تدخل الخرقة ، فتخرجها جافة 0 قَالَ أبو عبيد : الترية : الشيء الخفي اليسير ، وهو أقل من الصفرة والكدرة ، ولا تكون الترية إلا بعد اغتسال ، فأما ما كان في أيام الحيض فهو حيض وليس بترية . انتهى .
واختلف قول الإمام أحمد في تفسير القصة البيضاء :
فنقل الأكثرون عنه : أنه شيء أبيض يتبع الحيضة ، ليس بصفرة ولا كدرة ، فهو علامة الطهر ، وحكاه أحمد عن الشافعي .
ونقل حنبل ، عن أحمد : أن القصة البيضاء هو الطهر وانقطاع الدم ، وكذلك فسر سفيان الثوري القصة البيضاء بالطهر من الحيض .(1/494)
"""""" صفحة رقم 495 """"""
وأرسلت امرأة إلي عمرة بنت عبد الرحمن بدرجٍ فيهِ كرسفة قطن ، فيها كالصفرة ، تسألها : هل ترى إذا لَم تر المرأة مِن الحيضة إلا هَذا أن قَد طهرت ؟ فقالت : لا ، حتى ترى البياض خالصاً .
وروى الأثرم بإسناده ، عَن ابن الزبير ، أنَّهُ قالَ على المنبر : يا معشر النساء ، إذا رأت إحداكن القصة البيضاء فَهوَ الطهر .
وقال مكحول : لا تغتسل المرأة مِن الحيض إذا طهرت حتى ترى طهراً أبيض .
وقد حكى أبو عبيد القولين في تفسير القصة البيضاء .
ودل قول عائشة - رضي الله عنها - هَذا على أن الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض ، وأن مِن لها أيام معتادة تحيض فيها فرأت فيها صفرة أو كدرة ، فإن ذَلِكَ يكون حيضاً معتبراً .
وهذا قول جمهور العلماء ، حتى إن مِنهُم مِن نقله إجماعاً ، مِنهُم : عبد الرحمن بنِ مهدي وإسحاق بنِ راهويه ، ومرةً خص إسحاق حكاية الإجماع بالصفرة دونَ الكدرة .
ولكن ذهب طائفة قليلة ، مِنهُم : الأوزاعي وأبو ثور وداود وابن المنذر وبعض الشافعية إلى أنه لا يكون ذَلِكَ حيضاً حتى يتقدمه في مدة العادة دم .
واشترط بعض الشافعية أن يكون الدم المتقدم يبلغ أقل الحيض .
ومنهم مِن اشترط أن يلحقه دم - أيضاً .
ومنهم مِن اشترط أن يلحقه دم يبلغ أقل الحيض .
وقال أبو يوسف : الصفرة حيض ، والكدرة ليسَ حيضاً ، إلا أن يتقدمها دم .
وحكي عَن داود أن الصفرة والكدرة لا تكون حيضاً بكل حال .(1/495)
"""""" صفحة رقم 496 """"""
فأما ما زاد على أيام العادة ، واتصل بها ، وكان صفرة أو كدرة ، فهل يكون حيضاً ، أم لا ؟ فيهِ قولان :
أحدهما : أنَّهُ حيض ، وَهوَ أشهر الروايتين عَن مالك ، والمشهور عَن الشَافِعي
- أيضاً - ، وعليه أكثر أصحابه ، وقول الحكم وأبي حنيفة وإسحاق .
والثاني : أنه ليسَ بحيض ، وَهوَ رواية عَن مالك ، وقول الثوري والإصطخري وغيره مِن الشافعية .
وأما الإمام أحمد ، فإنه يرى أن الزائد على العادة لا يلتفت إليه أول مرة حتى يتكرر مرتين أو ثلاثاً على اختلاف عَنهُ ، وقد سبق ذكر ذَلِكَ .
فإن زاد على العادة بصفرة أو كدرة وتكرر ثلاثاً ، فهل يكون حيضاً ، أم لا ؟ فيهِ عَنهُ روايتان .
وقد روي عَن عائشة ، أنها لا تلتفت إلى الزائد على العادة مِن الصفرة والكدرة .
خرجه حرب والبيهقي مِن رواية سليمان بنِ موسى ، عَن عطاء ، عَن عائشة ، قالت : إذا رأت المرأة الدم فلتمسك عَن الصلاة حتى تراه أبيض كالفضة ؛ فإذا رأت ذَلِكَ فلتغتسل ولتصل ؛ فإذا رأت بعد ذَلِكَ صفرة أو كدرة فلتتوضأ ولتصل ، فإذا رأت دماً أحمر فلتغتسل ولتصل .
وروي عَن أسماء بنت أبي بكر ما يشعر بخلاف ذَلِكَ ، فروى البيهقي وغيره مِن رواية ابن إسحاق ، عَن فاطمة بنت المنذر ، عَن أسماء ، قالت : كنا في حجرها معَ بنات أخيها ، فكانت إحدانا تطهر ، ثُمَّ تصلي ، ثُمَّ تنتكس بالصفرة اليسيرة ، فنسألها ، فتقول : اعتزلن الصلاة ما رأيتن ذَلِكَ ، حتى ترين البياض خالصاً .(1/496)
"""""" صفحة رقم 497 """"""
وقد حمله بعض أصحابنا على أن الصفرة أو الكدرة إذا رؤيت بعد الطهر وانقطاع الدم فإنها لا تكون حيضاً ولو تكررت ، على الصحيح عندهم ، بخلاف ما إذا رأت ذَلِكَ متصلاً بالدم وتكرر .
فهذا كله في حق المعتادة .
فأما المبتدأة ، فإذا رأت في زمن يصلح للحيض صفرة أو كدرة ، فقالت طائفة مِن أصحابنا كالقاضي أبي يعلى ومن تابعه ، وأكثر أصحاب الشَافِعي : إنه يكون حيضاً ؛ لأن زمن الدم للمبتدأة كزمن العادة للمعتادة .
وقالت طائفة مِن أصحابنا : لا يكون حيضاً ، وقالوا : إنه ظاهر كلام أحمد ، وَهوَ قول طائفة مِن الشافعية - أيضاً - ، وحكاه الخطابي عَن عائشة وعطاء وأكثر
الفقهاء ؛ لأنه اجتمع فيهِ فَقد العادة ولون الدم المعتاد ، فقويت جهة فساده ، وعلى هَذا فينبغي أنَّهُ إن تكرر ذَلِكَ ثلاثاً أن يكون حيضاً ، إن قلنا : إن المتكرر بعد العادة حيض ، وقد يفرق بينهما بأن المتكرر بعد العادة قَد سبقه دم بخلاف هَذا .
وقد ذهب طائفة مِن أصحابنا ، مِنهُم : ابن حامد وابن عقيل إلى أن المبتدأة إذا رأت أول مرةٍ دماً أحمر فليس بدم حيض حتى يكون أسود ، وَهوَ قول بعض الشافعية - أيضاً - ؛ للحديث المروي عَن النَّبيّ ( أنَّهُ قالَ - في دم الحيض - : ( ( إنه أسود
يعرف ) ) .
وهذا ينتقض عليهم بالمعتادة ؛ فإنها إذا كانت عادتها أسود ثُمَّ رأت في مدة العادة دماً أحمر فإنه حيض بغير خلاف .
ثُمَّ خرج البخاري في هَذا الباب :
320 - مِن حديث : سفيان - هوَ : ابن عيينة - ، عَن هشام ، عَن أبيه ، عَن(1/497)
"""""" صفحة رقم 498 """"""
عائشة ، أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض ، فسألت النبي ( ، فقالَ :
( ( ذَلِكَ عرق ، وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ) ) .
وقد سبق هَذا الحديث ، وذكرنا اختلاف العلماء في معناه ، وأنه هل المراد بإقبال الحيضة وإدبارها : إقبال الدم الأسود وإدباره ، أم المراد : إقبال وقت عادتها وإدبارها ؟ وأن أكثر الأئمة حملوا الحديث على الأول ، وَهوَ اعتبار التمييز في الدم .
والمميزة ترجع إلى ما تراه مِن أغلظ الدماء وأفحشها لوناً ، فتجلس مدة الدم الأسود دونَ الأحمر ، والأحمر دونَ الأصفر .
ولا يعتبر للتمييز تكرر على أصح الوجهين لأصحابنا ، لكن يشترط عندهم أن لا ينقص عَن أقل الحيض ولا يتجاوز أكثره ، وأن يكون بين الدمين أقل مدة الطهر ، وَهوَ قول الشافعية - أيضاً .
وحكي عَن أحمد رواية أخرى : أنه لا يعتبر أن لا يجاوز أكثر الحيض ، فعلى هَذهِ الرواية تجلس منهُ قدر الأكثر خاصةً .
وأما على تفسير إقبال الحيضة وإدبارها بإقبال العادة وإدبارها ، فتجلس ما تراه مِن الدم في أيام عادتها خاصة ، على أي صفة كانَ ، ولا تزيد على ذَلِكَ ، فإذا انقضت مدة عادتها فهي طاهر ، تغتسل وتصلي .(1/498)
"""""" صفحة رقم 499 """"""
- باب لا تقضي الحائضُ الصلاةَ
وقال جابر بنِ عبد الله وأبو سعيد ، عَن النبي ( : ( ( تدع الصلاة ) ) .
حديث أبي سعيد المشار إليه ، قَد خرجه بتمامه في ( ( باب : ترك الحائض
الصوم ) ) ، وفيه : أن النبي ( : ( ( أليس إذا حاضت لَم تصل ولم تصم ؟ ) ) قلن :
بلى . قالَ : ( ( فذلك مِن نقصان دينها ) ) [ . . . . . . . . . . . . . . ] .
وحديث جابر المشار إليه [ . . . . . . . . . . . . ] .
وقد سبق حديث عائشة ، أن النبي ( قالَ للمستحاضة : ( ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ) ) .
وقد أجمع العلماء على أن الحائض لا يجوز لها الصلاة في حال حيضها ، فرضاً ولا نفلاً .
وقد استحب لها طائفة مِن السلف أن تتوضأ في وقت كل صلاة مفروضة ، وتستقبل القبلة ، وتذكر الله ( بمقدار تلك الصلاة ، مِنهُم : الحسن وعطاء وأبو جعفر محمد بنِ علي ، وَهوَ قول إسحاق .
وروي عَن عقبة بنِ عامر ، أنه كانَ يأمر الحائض بذلك ، وأن تجلس بفناء مسجدها .
خرجه الجوزجاني .(1/499)
"""""" صفحة رقم 500 """"""
وقال مكحول : كانَ ذَلِكَ مِن هدي نساء المسلمين في أيام حيضهن .
وأنكر ذَلِكَ أكثر العلماء :
وقال أبو قلابة : قَد سألنا عَن هَذا فما وجدنا لَهُ أصلاٍ .
خرجه حرب الكرماني .
وقال سعيد بن عبد العزيز : ما نعرف هَذا ، ولكننا نكرهه .
قالَ ابن عبد البر : على هَذا القول جماعة الفقهاء وعامة العلماء في الأمصار .
وممن قالَ : ليسَ ذَلِكَ على الحائض : الأوزاعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، وكذلك قالَ أحمد ، قالَ : ليسَ عليها ذَلِكَ ، ولا بأس أن تسبح وتهلل وتكبر .
وبه قالَ أبو خيثمة ، وسليمان بنِ داود الهاشمي ، وأبو ثور ، وأصحاب الشَافِعي ، وزادوا : أنه يحرم عليها الوضوء إذا قصدت بهِ العبادة ورفع الحدث ، وإنما يجوز لها أن تغتسل أغسال الحج ؛ لأنه لا يراد بها رفع الحدث ، بل النظافة .
وقد روى يحيى بنِ صاعد : ثنا عبد الجبار بنِ العلاء : ثنا أيوب بنِ سويد الرملي : ثنا عتبة بنِ أبي حكيم ، عَن أبي سفيان طلحة بنِ نافع ، حدثني عبد الله بنِ عباس ، أنه بات عندَ النَّبيّ ( في ليلة ميمونة بنت الحارث ، فقام النَّبيّ ( فأسبغ الوضوء ، [ وأقل ] هراقة الماء ، وقام فافتتح الصَّلاة ، فقمت فتوضأت ، وقمت عَن يساره ، فأخذ بأذني فأقامني عَن يمينه ، وكانت ميمونة حائضاً ، فقامت فتوضأت ، ثُمَّ قعدت خلفه تذكر
الله ( .
خرجه الطبراني في ( ( مسند الشاميين ) ) وغيره .(1/500)
"""""" صفحة رقم 501 """"""
وهذا غريب جداً .
وأيوب بنِ سويد الرملي ، ضعيف .
خرج البخاري في هَذا الباب :
321 - حديث : قتادة : حدثتني معاذة ، أن امرأة قالت لعائشة : أتجزي إحدانا صلاتها إذا هي طهرت ؟ فقالت : أحرورية أنت ؟ كنا نحيض معَ النبي ( فلا يأمرنا بهِ - أو قالت : فلا نفعلهُ .
قولها : ( ( أتجزي ) ) ، هوَ بفتح التاء ، و ( ( صلاتها ) ) بفتح التاء ، والمعنى : أتقضي صلاتها إذا طهرت مِن حيضها .
وقول عائشة : ( ( أحرورية أنت ؟ ) ) - تعني : أنت مِن أهل حروراء ، وهم الخوارج ؛ فإنه قَد قيل : إن بعضهم كانَ يأمر بذلك ، وقيل : إنها أرادت أن هَذا مِن جنس تنطع الحرورية ، وتعمقهم في الدين حتى خرجوا منهُ .
ثُمَّ ذكرت أن النبي ( كانَ لا يأمرهن بذلك إذا حضن - أو لا يفعلنه - شك الراوي أي اللفظتين قالت .
ومعناهما متقارب ؛ فإن نساء النبي ( إذا كن يحضن في زمانه فلا يقضين الصلاة إذا طهرن ، فإنما يكون ذَلِكَ بإقرار النبي ( على ذَلِكَ ، وأمره بهِ ، فإن مثل هَذا لا يخفى عليهِ ، ولو كانَ القضاء واجباً عليهن لَم يهمل ذَلِكَ ، وَهوَ لا يغفل عَن مثله لشدة اهتمامه بأمر الصلاة .
وقد خرج هَذا الحديث مسلم في ( ( صحيحه ) ) بلفظ : ( ( ثُمَّ لا نؤمر بالقضاء ) ) - مِن غير تردد ، وخرجه بلفظ آخر ، وَهوَ : ( ( كانَ يصيبنا ذَلِكَ على عهد رسول الله ( فنؤمر بقضاء الصوم ، ولا نؤمر بقضاء الصلاة ) ) .(1/501)
"""""" صفحة رقم 502 """"""
وقد حكى غير واحد مِن الأئمة إجماع العلماء على أن الحائض لا تقضي الصلاة ، وأنهم لَم يختلفوا في ذَلِكَ ، مِنهُم : الزهري ، والإمام أحمد ، وإسحاق بنِ راهويه ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر وغيرهم .
وقال عطاء وعكرمة : قضاء الحائض الصلاة بدعة .
وقال الزهري : أجمع الناس على أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ، وقال : وليس في كل شيء نجد الإسناد .
وقد حكي عَن بعض الخوارج : أن الحائض تقضي الصلاة ، وعن بعضهم : أنها تصلي في حال حيضها .
ولكن في ( ( سنن أبي داود ) ) بإسناد فيهِ لين ، أن سمرة بنِ جندب كانَ يأمر النساء بقضاء صلاة الحيض .
وقد ذكر البخاري في ( ( الصيام ) ) مِن ( ( كتابه ) ) هَذا عَن أبي الزناد ، أنه قالَ : إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيراً على خلاف الرَأي ، فلا يجد المسلمون بداً مِن اتباعها ؛ مِن ذَلِكَ أن الحائض تقضي الصوم دونَ الصلاة .
وهذا يدل على أن هَذا مما لا يدرك بالرأي ، ولا يهتدي الرَأي إلى وجه الفرق
فيهِ .
وقد فرق كثير مِن الفقهاء مِن أصحابنا وأصحاب الشافعي بين قضاء الصوم والصلاة ، بأن الصلاة تتكرر كل يوم وليلة خمس مرات ، والحيض لا يخلو منهُ كل شهر - غالباً - ، فلو أمرت الحائض بقضاء الصلاة معَ أمرها بأداء الصلاة في أيام طهرها لشق ذَلِكَ عليها ، بخلاف الصيام ؛ فإنه إنما يجيء مرةً واحدةً في السنة ، فلا يشق قضاؤه .(1/502)
"""""" صفحة رقم 503 """"""
ومنهم مِن قالَ : جنس الصلاة يتكرر في كل يوم مِن أيام الطهر ، فيغني ذَلِكَ عَن قضاء ما تركته منها في الحيض ، بخلاف صيام رمضان ؛ فإنه شهر واحد في السنة لا يتكرر فيها ، فإذا طهرت الحائض أمرت بقضاء ما تركته أيام حيضها ؛ لتأتي بتمام عدته المفروضة في السنة ، كَما يؤمر بذلك مِن أفطر لسفر أو مرض .
وإنما يسقط عَن الحائض قضاء الصلاة التي استغرق حيضها وقتها ، ولم تكن مجموعة إلى ما قبلها أو بعدها ، فإن لَم يستغرق حيضها وقت الصلاة ، بل طهرت في آخر الوقت ، أو حاضت بعد مضي أوله ، ففي لزوم قضائها لها خلاف ، يأتي ذكره في ( ( كِتابِ الصلاة ) ) - إن شاء الله تعالى .
وكذلك لو طهرت في آخر وقت صلاة تجمع إلى ما قبلها ؛ مثل أن تطهر في آخر وقت العصر أو العشاء ، فهل يلزمها قضاء الظهر والمغرب ؟ فيهِ - أيضاً - اختلاف ، يذكر في ( ( الصلاة ) ) - إن شاء الله تعالى .
وإن حاضت في أول وقت صلاة تجمع إلى ما بعدها ، ففي لزوم القضاء لما بعد الصلاة التي حاضت في وقتها اختلاف - أيضاً - ، والقول بوجوب القضاء هنا أبعد مِن التي قبلها .(1/503)
"""""" صفحة رقم 504 """"""
- باب النومِ معَ الحائضِ وهي في ثيابها
خرج فيهِ :
322 - حديث : يحيى بنِ أبي كثير ، عَن أبي سلمة ، عَن زينب بنت أبي سلمة ، حدثته أن أم سلمة قالت : حضت وأنا معَ رسول الله ( في الخميلة ، فانسللت ، فخرجت منها ، فأخذت ثياب حيضتي ، فلبستها ، فقالَ لي رسول الله ( :
( ( أنفست ؟ ) ) قلت : نعم ، فدعاني فأدخلني معه في الخميلة .
قالت : وحدثتني أن النبي ( كانَ يقبلها وَهوَ صائم ، وكنت أغتسل أنا والنبي ( مِن إناء واحد مِن الجنابة .
أول هَذا الحديث قَد خرجه البخاري فيما تقدم في ( ( باب : مِن سمى النفاس حيضاً ) ) ، وسبق الكلام هناك على شرحه وضبط مشكل ألفاظه .
وإنما أعاده هنا ؛ لأنه استنبط منهُ جواز نوم الرجل معَ امرأته وهي حائض في ثياب حيضها في لحاف واحد ، وقد سبق القول في ذَلِكَ مستوفى في ( ( باب : مباشرة الحائض ) ) .
ويختص هَذا الباب : بأن ثياب الحائض وإن كانت مختصةً بحال حيضها فلا يجب اتقاؤها والتنزه عَن ملابستها ، وأنه لا تنجس ما أصابها مِن جسد الرجل أو ثيابه ، ولا يغسل مِن ذَلِكَ شيئاً ما لَم ير فيه دماً ، وقد سبق هَذا المعنى مبسوطاً في ( ( باب : هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيهِ ؟ ) ) .
وذكرنا فيهِ حديث عائشة ، قالت : كنت أنا ورسول الله ( في الشعار الواحد ، وأنا حائض طامث ، فإن أصابه مني شيء غسل ما أصابه ، لم يعده إلى(1/504)
"""""" صفحة رقم 505 """"""
غيره ، ثُمَّ صلى فيهِ .
خرجه النسائي .
وأما باقي هَذا الحديث ، فَقد تقدم الكلام على اغتسال النبي ( وبعض أزواجه مِن إناء واحد مِن الجنابة في موضعه مِن الكِتابِ ، ويأتي الكلام على القبلة للصائم مِن موضعها مِن ( ( الصيام ) ) - إن شاء الله تعالى .(1/505)
"""""" صفحة رقم 506 """"""
- باب منِ اتخذَ ثيابَ الحيضِ سوى ثيابِ الطهرِ
خرج فيهِ :
323 - حديث : أم سلمة - بالإسناد المتقدم - ؛ قالت : بينا أنا معَ النبي ( مضطجعة في خميلة حضت ، فانسللت ، فأخذت ثياب حيضتي ، فقالَ : ( ( أنفست ؟ ) ) فقلت : نعم . فدعاني ، فاضطجعت معه في الخميلة .
قَد سبق حديث عائشة ، قالت : ( ( ما كانَ لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض
فيهِ ) ) . وقد خرجه البخاري في ( ( باب : هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيهِ ؟ ) ) . وسبق هناك أحاديث متعددة بهذا المعنى .
وظاهر حديث أم سلمة هَذا : يدل على أنَّهُ كانَ لها ثياب لحيضها غير ثياب طهرها ، فيكون هَذا كله جائزاً غير ممنوع منهُ ولا مكروه ، فلا يكره أن تحيض المرأة وتطهر في ثوب واحد وتصلي فيهِ ، ولا أن تتخذ لحيضها ثياباً غير ثياب طهرها ، ولا يعد ذَلِكَ سرفاً ولا وسواساً .
ويحتمل أن يجمع بين الحديثين بأن يكون المراد بثياب الحيضة في حديث أم سلمة : الإزار التي كانَ النبي ( يأمر الحائض في فور حيضها أن تأتزر بهِ ، ثُمَّ يباشرها وهي حائض ، كَما روت ذَلِكَ عائشة وميمونة ، وقد سبق حديثهما في ( ( باب : مباشرة الحائض ) ) ، فيجمع بذلك بين حديث عائشة : ( ( ما كانَ لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيهِ ) ) ، وبين حديثها الآخر في أمرها بالاتزار في فور الحيض .(1/506)
"""""" صفحة رقم 507 """"""
- باب شهودِ الحائضِ العيدينِ ودعوةَ المسلمينَ ويعتزلنَ المصلى
324 - حدثنا محمد بنِ سلام : ثنا عبد الوهاب ، عَن أيوب ، عَن حفصة ، قالت : كنا نمنع عواتقنا أن يخرجن في العيدين ، فقدمت امرأة فنزلت قصر بني خلف ، فحدثت عَن أختها - وكان زوج أختها غزا معَ النبي ( ثنتي عشرة ، وكانت أختي معه في ست - ، قالت : كنا نداوي الكلمى ، ونقوم على المرضى ، فسألت أختي النبي ( : أعلى إحدانا بأس إذا لَم يكن لها جلباب أن لا تخرج ؟ قالَ : ( ( لتلبسها صاحبتها مِن جلبابها ولتشهد الخير ودعوة المسلمين ) ) . فلما قدمت أم عطية سألتها : أسمعت رسول الله ( ؟ قالت : بأبا ، نعم - وكانت لا تذكره إلا قالت : بأبي - سمعته يقول : ( ( يخرج العواتق وذوات الخدور - أو العواتق ذوات الخدور - والحيض ، وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين ، ويعتزل الحيض المصلى ) ) .
قالت حفصة : فقلت : الحيض ؟ فقالت : أليس تشهد عرفة وكذا وكذا ؟
( ( حفصة ) ) ، هي : بنت سيرين أخت محمد وإخوته .
و ( ( العواتق ) ) : جمع عاتق ، وهي البكر البالغ التي لَم تزوج .
و ( ( الجلباب ) ) : هي الملاءة المغطية للبدن كله ، تلبس فوق الثياب ، وتسميها العامة : الإزار ، ومنه قول الله ( : ( يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ( .
وفي الحديث : أمر للنساء بشهود العيدين ، معللاً بما فيهِ مِن شهود الخير ودعوة المسلمين ، ويأتي استيفاء الكلام على ذَلِكَ في موضعه مِن ( ( الصلاة ) ) - إن شاء الله
تعالى .
وإنما المقصود هنا : شهود الحيض ، وقد استنكرت ذَلِكَ حفصة بنت(1/507)
"""""" صفحة رقم 508 """"""
سيرين ، فأجابتها أم عطية بأن الحائض تشهد عرفة وكذا وكذا ، كأنها تعني : مجامع الحج مِن الوقوف بالمزدلفة ، ورمي الجمار وغير ذَلِكَ ، فإنها تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف بالبيت ، كَما سبق ، فكذلك تشهد مجمع العيدين وهي حائض ؛ لأنها مِن أهل الدعاء والذكر ، فلها أن تفعل ذَلِكَ بنفسها ، وتشهد مجامع المسلمين المشتملة عليهِ .
وأما أمر الحائض باعتزال المصلى ، فَقد قيل : بأن مصلى العيدين مسجد ، فلا يجوز للحائض المكث فيهِ ، وَهوَ ظاهر كلام بعض أصحابنا ، مِنهُم : ابن أبي موسى في
( ( شرح الخرقي ) ) ، وَهوَ - أيضاً - أحد الوجهين للشافعية ، والصحيح عندهم : أنَّهُ ليسَ بمسجد ، فللجنب والحائض المكث فيهِ .
وأجابوا عَن حديث الأمر باعتزال الحيض للمصلى : بأن المراد أن يتسع على غيرهن ، ويتميزن .
وفي هَذا نظر ؛ فإن تميز الحائض عَن غيرها مِن النساء في مجلس وغيره ليسَ بمشروع ، وإنما المشروع تميز النساء عَن الرجال جملة ؛ فإن اختلاطهن بالرجال يخشى منهُ وقوع المفاسد .
وقد قيل : إن المصلى يكون لَهُ حكم المساجد في يوم العيدين خاصةً ، في حال اجتماع الناس فيهِ دونَ غيره مِن الأوقات .
وفي ذَلِكَ - أيضاً - نظر ، والله أعلم .
والأظهر : أن أمر الحيض باعتزال المصلى إنما هوَ حال الصلاة ؛ ليتسع على النساء الطاهرات مكان صلاتهن ، ثُمَّ يختلطن بهن في سماع الخطبة .
وقد صرح أصحابنا : بأن مصلى العيد ليسَ حكمه حكم المسجد ، ولا في يوم العيد ، حتى قالوا : لو وصل إلى المصلى يوم العيد والإمام يخطب فيهِ بعد الصلاة ؛ فإنه يجلس مِن غير صلاة ؛ لأنه لا تحية لَهُ .(1/508)
"""""" صفحة رقم 509 """"""
واختلفوا : لو كانَ يخطب في المسجد : هل يصلي التحية ؟ على وجهين .
وقول أم عطية : ( ( بأبا ) ) هوَ بفتح الباء الثانية ، وقد زعم بعضهم أن حديث أم عطية لَم يرد إلا كذلك .
وهما لغتان : ( ( بأبي ) ) بكسر الباء ، و ( ( بأبا ) ) بفتح الباء .
والمراد : تفدية النبي ( بأبيها .(1/509)
"""""" صفحة رقم 510 """"""
- باب إذا حاضتْ في شهرٍ ثلاثَ حيضٍ ، وما يصدقُ النساءُ
في الحيضِ والحملِ فيما يمكنُ منَ الحيض
ِ
لقول الله تعالى : ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنّ (
[ البقرة : 228 ] .
ويذكر عَن علي وشريح : إن جاءت ببينة مِن بطانة أهلها - ممن يرضى دينه - أنها حاضت ثلاثاً في شهر ؛ صدقت .
وقال عطاء : أقراؤها كانت .
وبه قالَ إبراهيم .
وقال عطاء : الحيض يوم إلى خمسة عشر .
وقال المعتمر ، عَن أبيه : سألت ابن سيرين عَن المرأة ترى الدم بعد قرئها بخمسة أيام ؟ قالَ : النساء أعلم بذلك .
أمَّا قول الله ( : ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنّ (
[ البقرة : 228 ] ، فإنه يدل على أن المرأة مؤتمنة على الإخبار بما في رحمها ، ومصدقة فيهِ إذا ادعت مِن ذَلِكَ ممكناً .
روى الأعمش ، عَن مسلم ، عَن مسروق ، عَن أبي بنِ كعب ، قالَ : إن مِن الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها .
وقد اختلف المفسرون مِن السلف فَمِن بعدهم في المراد بقولِهِ تعالى :(1/510)
"""""" صفحة رقم 511 """"""
( مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنّ ( ، ففسره قوم بالحمل ، وفسره قوم بالحيض .
وقال آخرون : كل منهما مراد ، واللفظ صالح لهما جميعاً . وهذا هوَ المروي عَن أكثر السلف ، مِنهُم : ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، والضحاك .
وأما ما ذكره عَن علي وشريح :
فقالَ حرب الكرماني : ثنا إسحاق - هوَ : ابن راهويه - : ثنا عيسى بنِ يونس ، عَن إسماعيل بنِ أبي خالد ، عَن الشعبي ، أن امرأة جاءت إلى علي بنِ أبي طالب ، فقالت : إني طلقت ، فحضت في شهر ثلاث حيض ؟ فقالَ علي لشريح : قل فيها ، فقالَ : أقول فيها وأنت شاهد قالَ : قل فيها ، قالَ : إن جاءت ببطانة مِن أهلها ممن يرضى دينهن وأمانتهن فقلن : إنها حاضت ثلاث حيض طهرت عند كل حيضة ؛ صدقت . فقالَ علي : قالون . قالَ عيسى : بالرومية : أصبت .
قالَ حرب : وثنا إسحاق : أبنا محمد بن بكر : ثنا سعيد بن أبي عروبة ، عَن قتادة ، عَن عزرة ، عَن الحسن العرني ، أن امرأة طلقها زوجها ، فحاضت في خمس وثلاثين ليلة ثلاث حيض ، فرفعت إلى شريح فلم يدر ما يقول فيها ، ولم يقل شيئاً ، فرفعت إلى علي بن أبي طالب ، فقالَ : سلوا عنها جاراتها ، فإن كانَ هكذا حيضها فَقد انقضت عدتها ، وإلا فأشهر ثلاث .
وهذا الإسناد فيهِ انقطاع ؛ فإن الحسن العرني لَم يدرك علياً - : قاله أبو حاتم الرازي .
وأما الإسناد الذِي قبله ، فإن الشعبي رأى علياً يرجم شراحة ووصفه . قالَ يعقوب بنِ شيبة : لكنه لَم يصحح سماعه منهُ .(1/511)
"""""" صفحة رقم 512 """"""
وأما ما ذكره البخاري عَن عطاء والنخعي :
فروى ابن المبارك ، عَن ابن لهيعة ، عَن خالد بنِ يزيد ، عَن عطاء ، في امرأة طلقت ، فتتابعت لها ثلاث حيض في شهر : هل [ حلت ] ؟ قالَ : أقراؤها ما كانت .
وروي نحوه عَن النخعي ، كَما حكاه البخاري ، وحكاه عَنهُ إسحاق بن
راهويه .
فهؤلاء كلهم يقولون : إن المرأة قَد تنقضي عدتها بثلاثة أقراء في شهر واحد ، وَهوَ قول كثير مِن العلماء ، مِنهُم : مالك ، وأحمد ، وإسحاق وغيرهم .
وهذا ينبني على أصلين :
أحدهما : الاختلاف في الأقراء : هل هي الأطهار ، أو الحيض ؟ وفيه قولان مشهوران .
ومذهب مالك والشافعي : أنها الأطهار ، ومذهب أحمد - الصحيح عَنهُ - ، وإسحاق : أنها الحيض ، وستأتي المسألة مستوفاةً في موضع آخر مِن الكِتابِ - إن شاء الله تعالى .
والثاني : الاختلاف في مدة أقل الحيض وأقل الطهر بين الحيضتين .
فأما أقل الحيض : فمذهب الشَافِعي وأحمد - المشهور عَنهُ - وإسحاق : أنَّهُ يوم وليلة .
وأما أقل الطهر بين الحيضتين : فمذهب الشافعي وأحمد - في رواية عَنهُ - : أنَّهُ خمسة عشر يوماً ، وَهوَ قول كثير مِن أصحاب مالك .
والمشهور عَن أحمد : أن أقله ثلاثة عشر يوماً .
وعند إسحاق : أقله عشرة أيام - : نقله عَنهُ حرب .
وَهوَ رواية ابن القاسم ، عَن مالك .(1/512)
"""""" صفحة رقم 513 """"""
واختلفت الرواية عَن مالك في ذَلِكَ .
فعلى قول مِن قالَ : الأقراء الحيض ، وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً ، فيمكن انقضاء العدة بثلاثة قروء في تسعة وعشرين يوماً .
وعلى قول مِن قالَ : الأقراء الحيض ، وأقل الطهر خمسة عشر فلا تنقضي العدة في أقل مِن ثلاثة وثلاثين يوماً .
وأما على قول مِن يقول : الأقراء الأطهار : فإن قيل : بأن أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر ؛ فأقل ما تنقضي فيهِ العدة بالأقراء ثمانية وعشرون يوماً .
وإن قيل : أقل الطهر خمسة عشر ؛ فاثنان وثلاثون يوماً .
فأما مالك وأصحابه ، فقالَ ابن القاسم : سألت مالكاً ، إذا قالت : قَد حضت ثلاث حيض في شهر ؟ قالَ : تسأل النساء عَن ذَلِكَ ، فإن كن يحضن كذلك ويطهرن
لَهُ ؛ كانت مصدقة .
وهذا هوَ مذهب مالك المذكور في ( ( المدونة ) ) ، واختاره الأبهري مِن أصحابه ، وبناه على أن الحيض لا حد لأقله ، بل أقله دفقة وأقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر .
ومن المالكية مِن قالَ : يقبل في أربعين يوماً ، فاعتبر أقل الطهر وخمسة أيام مِن كل حيضة . ومنهم مِن قالَ : تنقضي في ستة وثلاثين يوماً ، فاعتبر أقل الطهر وثلاثة أيام للحيضة .
فلم يعتبر هَذا ولا الذِي قبله الحيض ولا أكثره .
وقد ينبني الذِي نقله ابن القاسم ، عَن مالك ، على قولُهُ : إنه لا حد لأقل الطهر بين الحيضتين ، بل هوَ على ما تعرف المرأة مِن عادتها .
وَهوَ رواية منصوصة عَن أحمد ، اختارها أبو حفص البرمكي مِن أصحابنا ، وأورد على نفسه : أنَّهُ يلزم على هَذا أنها إذا ادعت انقضاء العدة في أربعة أيام(1/513)
"""""" صفحة رقم 514 """"""
قبل منها : فأجاب : أنَّهُ لا بد مِن الأقراء الكاملة ، وأقل ما يُمكن في شهر .
كذا قالَ .
ونقل الأثرم عَن أحمد ، أنَّهُ لا توقيت في الطهر بين الحيضتين ، إلا في موضع واحد : إذا ادعت انقضاء عدتها في شهر ؛ فإنها تكلف البينة .
ونقل ابن عبد البر : أن الشَافِعي قالَ : أقل الطهر خمسة عشر ، إلا أن يعلم طهر امرأة أقل مِن خمسة عشر ، فيكون القول قولها .
ومذهب أبي حنيفة : لا تصدق في دعوى انقضاء العدة في أقل مِن ستين يوماً ، واختلف عَنهُ في تعليل ذَلِكَ :
فنقل عَنهُ أبو يوسف : أنها تبدأ بطهر كامل خمسة عشر يوماً ، وتجعل كل حيضة خمسة أيام ، والأقراء عندهم : الحيض .
ونقل عَنهُ الحسن بنِ زياد : أنَّهُ اعتبر أكثر الحيض - وَهوَ عشرة أيام عندهم - وأقل الطهر - وَهوَ خمسة عشر - وبدأ بالحيض .
وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد : لا تصدق إلا في كمال تسعة وثلاثين يوماً ، بناء على أقل الحيض ، وَهوَ عندهم ثلاثة ، وأقل الطهر ، وَهوَ خمسة عشر .
وقال سفيان الثوري : لا تصدق في أقل مِن أربعين يوماً ، وَهوَ أقل ما تحيض فيهِ النساء وتطهر . وهذا كقول أبي يوسف ومحمد .
وعن الحسن بنِ صالح : لا تصدق في أقل مِن خمسة وأربعين يوماً - : نقله عَنهُ الطحاوي .
وقال حرب الكرماني : ثنا إسحاق : ثنا أبي ، قالَ : سألت ابن المبارك فقالَ : أرأيت قول سفيان : تصدق المرأة في انقضاء عدتها في شهر ، كيف هَذا ؟ وما معناه ؟ فقالَ : جعل ثلاثاً حيضاً ، وعشراً طهراً ، وثلاثاً حيضاً ، كذا قالَ .
وقد ذكر بعض أصحاب سفيان في مصنف لَهُ على مذهبه رواية ابن المبارك(1/514)
"""""" صفحة رقم 515 """"""
هَذهِ عَن سفيان : أنها لا تصدق في أقل مِن تسعة وثلاثين يوماً ، وعزاها إلى الطحاوي ، ووجهها بأن أقل الحيض ثلاثة أيام وأقل الطهر خمسة عشر . قالَ : ورواية المعافى والفريابي عَن سفيان ، أنها لا تصدق في أقل مِن أربعين يوماً . قالَ : وهما بمعنى واحد .
وأما إسحاق بنِ راهويه ، فإنه حمل المروي عَن علي في ذَلِكَ على أنَّهُ جعل الطهر عشرة أيام ، والحيض ثلاثة ، لكن إسحاق لا يرى أن أقل الحيض ثلاث .
ولم يذكر أكثر هؤلاء أن قبول دعواها يحتاج إلى بينة ، وَهوَ قول الخرقي مِن أصحابنا .
والمنصوص عَن أحمد : أن دعوى انقضاء العدة في شهر لا تقبل بدون بينة ، تشهد بهِ مِن النساء ، ودعوى انقضائها في زيادة على شهر تقبل بدون بينة ؛ لأن المرأة مؤتمنة على حيضها كَما قالَ أبي بن كعب وغيره ، وإنما اعتبرنا البينة في دعواها في الشهر خاصة للمروي عَن علي بن أبي طالب ، كَما تقدم .
ومن أصحابنا مِن قالَ : إن ادعته في ثلاثة وثلاثين يوماً قبل بغير بينة ؛ لأن أقل الطهر المتفق عليهِ خمسة عشر يوماً ، وإنما يحتاج إلى بينة إذا ادعته في تسعة وعشرين ؛ لأنه يُمكن ؛ فإن أقل الطهر ثلاثة عشر في رواية .
ومنهم مِن قالَ : إنما يقبل ذَلِكَ بغير بينة في حق مِن ليسَ لها عادة مستقرة ، فأما مِن لها عادة منتظمة فلا تصدق إلا ببينة على الأصح ، كذا قاله صاحب ( ( الترغيب ) ) .
وقال ابن عقيل في ( ( فنونه ) ) : ولا تقبل معَ فساد النساء وكثرة كذبهن دعوى انقضاء العدة في أربعين ولا خمسين [ يوماً ] ، إلا ببينة تشهد أن هَذهِ عادتها ، أو أنها رأت الحيض على هَذا المقدار ، وتكرر ثلاثاً .(1/515)
"""""" صفحة رقم 516 """"""
وقال إسحاق وأبو عبيد : لا تصدق في أقل مِن ثلاثة أشهر ، إلا أن تكون لها عادة معلومة قَد عرفها بطانة أهلها المرتضى دينهن وأمانتهن فيعمل بها حينئذ ، ومتى لَم يكن كذلك فَقد وقعت الريبة ، فيحتاط وتعدل الأقراء بالشهور ، كَما في حق الآيسة والصغيرة .
وأما ما حكاه البخاري عَن عطاء ، أن الحيض يوم إلى خمسة عشر ، فهذا معروف عَن عطاء .
وقد اختلف العلماء في أقل الحيض وأكثره :
فأما أقله :
فمنهم مِن قالَ : يوم ، كَما روي عَن عطاء . ومنهم مِن قالَ : يوم وليلة ، وروي - أيضاً - عَن عطاء .
وروي - أيضاً - مثل هذين القولين عَن الأوزاعي والشافعي وأحمد ، فقالَ كثير مِن أصحابهم : إنهما قولان لَهُم ، ومن أصحابنا وأصحاب الشَافِعي مِن قالَ : إنما مراد الشَافِعي [ وأحمد ] يوم معَ ليلته ؛ فإن العرب تذكر اليوم كثيراً ويريدون : معَ ليلته . وممن قالَ : أقله يوم وليلة : إسحاق وأبو ثور .
وقالت طائفة : لا حد لأقله ، بل هوَ على ما تعرفه المرأة مِن نفسها ، وَهوَ المشهور عَن مالك ، وقول أبي داود وعلي بنِ المديني ، وروي عَن الأوزاعي - أيضاً .
ونقل ابن جرير الطبري عَن الربيع ، عَن الشَافِعي ، أن الحيض يكون يوماً
[ وأقل ] وأكثر . قالَ الربيع : وآخر قولي الشَافِعي : أن أقله يوم وليلة .(1/516)
"""""" صفحة رقم 517 """"""
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري : أقله ثلاثة أيام .
وروي ذَلِكَ عَن ابن مسعود وأنس مِن قولهما ، وروي - مرفوعاً - مِن طرق ، والمرفوع كله باطل لا يصح ، وكذلك الموقوف طرقه واهية ، وقد طعن فيها غير واحد مِن أئمة الحفاظ .
وقالت طائفة : أقله خمسة أيام ، وروي عَن مالك .
ولم يصح عند أكثر الأئمة في هَذا الباب توقيت مرفوع ولا موقوف ، وإنما رجعوا فيهِ إلى ما حكي مِن عادات النساء خاصة ، وعلى مثل ذَلِكَ اعتمد الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم .
وأما أكثر الحيض .
فقالَ عطاء : هوَ خمسة عشر يوماً . وحكي مثله عَن شريك والحسن بنِ صالح ، وَهوَ قول مالك والشافعي وأحمد - في المشهور عَنهُ - وإسحاق وداود وأبي ثور وغيرهم .
ومن أصحابنا والشافعية مِن قالَ : خمسة عشر يوماً بلياليها ، قالَ بعض الشافعية : وهذا القيد لا بد مِنه ، لتدخل الليلة الأولى ، والاعتماد في ذَلِكَ على ما حكي مِن حيض بعض النساء خاصة .
وأما الرواية عَن النبي ( ، أنَّهُ قالَ في نقصان دين النساء : ( ( تمكث شطر عمرها لا تصلي ) ) فإنه لا يصح ، وقد طعن فيهِ ابن منده والبيهقي وغيرهما مِن الأئمة .
وقالت طائفة : أكثره سبعة عشر ، حكي عَن عبد الرحمن بنِ مهدي وعبد الله بن نافع صاحب مالك .
وَهوَ رواية عَن أحمد واختارها أبو بكر عبد العزيز ، ومن أصحابنا - كأبي حفص البرمكي - مِن قالَ : لا يصح عَن أحمد ، إنما حكى ذَلِكَ أحمد عَن غيره(1/517)
"""""" صفحة رقم 518 """"""
ولم يوافقه .
وحكي عَن بعضهم : أكثره ثلاثة عشر ، وحكي عَن سعيد بنِ جبير .
وقال سفيان وأبو حنيفة وأصحابه : أكثره عشرة أيام ، واعتمدوا في ذَلِكَ على أحاديث مرفوعه وآثار موقوفة عَن أنس وابن مسعود وغيرهما كَما سبق .
والأحاديث المرفوعة باطلة ، وكذلك الموقوفة على الصحابة - : قاله الإمام أحمد في رواية الميموني وغيره .
وقد روي - أيضاً - عَن الحسن وخالد بنِ معدان ، وأنكره الإمام أحمد عَن خالد .
وروي عَن الحسن : أكثره خمسة عشر .
وحكي عَن طائفة : [ أن ] أكثره سبعة أيام :
[ قالَ مكحول : وقت الحائض سبعة أيام ] .
وعن الضحاك ، قالَ : تقعد سبعة أيام ، ثُمَّ تغتسل وتصلي .
وعن الأوزاعي في المبتدأة : تمكث [ أعلى ] أقراء النساء سبعة أيام ، ثُمَّ تغتسل وتصلي كَما تفعل المستحاضة .
وحكى الحسن بنِ ثواب ، عَن أحمد ، قالَ : عامة الحيض ستة أيام إلى سبعة .
[ قيل لَهُ : فإن امرأة مِن آل أنس كانت تحيض خمسة عشر ؟ قالَ : قَد كانَ ذَلِكَ ، وأدنى الحيض : يوم ، وأقصاه - عندنا - : ستة أيام إلى سبعة ] ، ثُمَّ ذكر حديث : ( ( تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً ) ) .
وكلام أحمد ومن ذكرنا معه في هَذا إنما مرادهم بهِ - والله أعلم - أن السبعة غالب الحيض وأكثر عادات النساء ؛ لا أنَّهُ أقصى حيض النساء كلهن .(1/518)
"""""" صفحة رقم 519 """"""
وقالت طائفة : لا حد لأكثر الحيض ، وإنما هوَ على حسب ما تعرفه كل امرأة مِن عادة نفسها ، فلو كانت المرأة لا تحيض في السنة إلا مرة واحدة وتحيض شهرين متتابعين فَهوَ حيض صحيح ، وري نَحوَ ذَلِكَ عَن ميمون بن مهران والأوزاعي ، ونقله حرب عَن إسحاق وعلي بن المديني .
ويشبه هَذا : ما قاله ابن سيرين : النساء أعلم بذلك ، كَما حكاه البخاري عَنهُ - تعليقاً - مِن رواية معتمر بنِ سليمان ، عَن أبيه ، أنه سأل ابن سيرين عَن امرأة ترى الدم بعد قرئها بخمسة أيام ؟ قالَ : النساء أعلم بذلك .
ومراد ابن سرين - والله أعلم - : أن المرأة أعلم بحيضها واستحاضتها ، فما اعتادته حيضاً وتبين لها أنَّهُ حيض جعلته حيضاً ، وما لَم تعتده ولم يتبين لها أنَّهُ حيض فَهوَ استحاضة .
وقد ذكر طائفة مِن أعيان أصحاب الشَافِعي : أن مِن لها عادة مستمرة على حيض وطهر أقل مِن يوم وليلة وأكثر مِن خمسة عشر أنها تعمل بعادتها في ذَلِكَ ، مِنهُم : أبو إسحاق الإسفراييني والقاضي حسين والدارمي وأبو عمرو بنِ الصلاح ، وذكر أنه نص الشَافِعي - : نقله عَنهُ صاحب ( ( التقريب ) ) .
وما نقله ابن جرير عَن الربيع ، عَن الشَافِعي ، كَما تقدم ، يشهد لَهُ - أيضاً .
خرج البخاري في هَذا الباب حديثاً ، فقالَ :
325 - ثنا أحمد بنِ أبي رجاء : ثنا أبو أسامة ، قالَ : سمعت هشام بنِ عروة ، قالَ : أخبرني أبي ، عَن عائشة ، أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي ( ، فقالت : إني أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة ؟ قالَ : ( ( لا ، إن ذَلِكَ عرق ، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ، ثُمَّ اغتسلي وصلي ) ) .
هَذا الحديث استدل بهِ مِن ذهب إلى أن أقل الحيض ثلاثة أيام ؛ لأن النبي ( ردها إلى قدر الأيام التي كانت تحيضها ، والأيام جمع ، وأقل الجمع ثلاثة .(1/519)
"""""" صفحة رقم 520 """"""
وأجاب مِن خالفهم عَنهُ بجوابين :
أحدهما : أن المراد بالأيام : الأوقات ، لأن اليوم قَد يعبر بهِ عَن الوقت قل أو
كثر ، كَما قالَ تعالى : ( أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ( [ هود : 8 ] ، والمراد : وقت مجيء العذاب ، وقد يكون ليلاً ويكون نهاراً ، وقد يستمر وقد لا يستمر ، ويقال : يوم الجمل ، ويوم صفين ، وكل منهما كانَ عدة أيام .
والثاني : أن النبي ( رد امرأة واحدةً إلى عادتها ، والظاهر : أن عادتها كانت أياماً متعددة في الشهر ، إمَّا ستة أيام أو سبعة ، فليس فيهِ دليل على أن كل حيض امرأة يكون كذلك .
واستدل الإمام أحمد بقولِهِ ( : ( ( دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ) ) على أن الحيض قَد يكون أكثر مِن عشرة أيام ؛ لأنه لو كانَ الزائد على العشرة استحاضة لبين لها ذَلِكَ .
ولكن قَد يُقال : في الزيادة على الخمس عشرة كذلك - أيضاً .
والظاهر : أن النبي ( كانَ يعلم أن حيض هَذهِ المرأة أقل مِن ذَلِكَ ، فلذلك ردها إلى أيامها .(1/520)
"""""" صفحة رقم 521 """"""
- باب الصفرةِ والكدرةِ في غيرِ أيام الحيض
ِ
326 - حدثنا قتيبة : ثنا إسماعيل ، عَن أيوب ، عَن محمد ، عَن أم عطية : كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئاً .
كذا رواه ابن علية ومعمر ، عَن أيوب .
ورواه وهيب ، [ عَن أيوب ] ، عَن حفصة بنت سيرين ، عَن أم عطية .
وزعم محمد بنِ يحيى الذهلي أن قول وهيب أصح . وفيه نظر .
وقد خرج أبو داود مِن طريق حماد بنِ سلمة ، عَن قتادة ، عَن أم الهذيل - وهي : حفصة بنت سيرين - ، عَن أم عطية - وكانت بايعت رسول الله ( - ، قالت : كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً .
ثُمَّ قالَ : ثنا مسدد : ثنا إسماعيل : أبنا أيوب ، عَن محمد بنِ سيرين ، عَن أم عطية - مثله .
وظاهر هَذا السياق : يدل على أن رواية أيوب ، عَن محمد مثل رواية قتادة ، عَن أم الهذيل ، وأن فيها هَذهِ اللفظة : ( ( بعد الطهر ) ) .
معَ أن شعبة كانَ يقول : ( ( مثله ) ) ليسَ بحديث ، يشير إلى أنَّهُ قَد يقع(1/521)
"""""" صفحة رقم 522 """"""
التساهل في لفظه .
وخالفه سفيان ، فقالَ : هوَ حديث .
وخرج الدارقطني مِن رواية هشام بنِ حسان ، عَن حفصة ، عَن أم عطية ، قالت : كنا لا نرى الترية بعد الطهر شيئاً - وهي الصفرة والكدرة .
وروى وكيع ، عَن أبي بكر الهذلي ، عَن معاذة ، عَن عائشة ، قالت : ما كنا نعد الكدرة والصفرة شيئاً .
وأبو بكر الهذلي ، ضعيف .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه مِن رواية أبي سلمة ، أن أم بكر
أخبرته ، عَن عائشة ، أن النبي ( قالَ في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر : ( ( إنما هوَ عرق - أو عروق ) ) .
وأم بكر - ويقال : أم أبي بكر - ، لَم يرو عنها غير هَذا الحديث ، وليست بمشهورة .
وقد بوب البخاري على حديث أم عطية : ( ( الصفرة والكدرة في غير أيام
الحيض ) ) ، ولم يخرج الحديث بزيادة : ( ( بعد الطهر ) ) كَما خرجه أبو داود .
ولم يتفرد بهِ حماد بنِ سلمة ، عَن قتادة ، بل قَد رواه حرب في ( ( مسائله ) ) ، عَن الإمام أحمد ، عَن غندر ، عَن شعبة ، عَن قتادة - بمثله .
وقد روي حديث أم عطية بلفظ آخر ، وَهوَ : ( ( كنا لا نعتد بالكدرة والصفرة بعد الغسل شيئاً ) ) .(1/522)
"""""" صفحة رقم 523 """"""
خرجه الدارمي في ( ( مسنده ) ) .
وقد سبق ذكر الصفرة والكدرة في ( ( باب : إقبال المحيض وإدباره ) ) ، وأن الصفرة والكدرة لهما ثلاثة أحوال :
حال : تكون في مدة عادة المعتادة ، فتكون حيضاً عند جمهور العلماء ، سواء سبقها دم أم لا .
وحال : تكون بعد انقضاء العادة ، فإن اتصلت بالعادة ولم يفصل بينهما طهر ، وكانت في مدة أيام الحيض - أعني : الأيام التي يحكم بأنها حيض ، وهي : الخمسة عشر ، أو السبعة عشر ، أو العشرة عند قوم - ، فهل تكون حيضاً بمجرد اتصالها بالعادة ، أم لا تكون حيضاً حتى تتكرر ثلاثاً أو مرتين ، أم لا تكون حيضاً وإن تكررت ؟ فيهِ ثلاثة أقوال للعلماء :
الأول : ظاهر مذهب مالك والشافعي . والثاني : رواية عَن أحمد . والثالث : قول أبي حنيفة والثوري ، وأحمد في رواية .
وإن انقطع الدم عند تمام العادة ، ثُمَّ رأت بعده صفرة أو كدرة في مدة الحيض ، فالصحيح عند أصحابنا : أنَّهُ لا يكون حيضاً ، وإن تكرر .
وقد قالَ أكثر السلف : إنها إذا رأت صفرة أو كدرة بعد الغسل أو بعد الطهر فإنها تصلي ، وممن روي ذَلِكَ عَنهُ : عائشة ، وسعيد بنِ المسيب ، وعطاء ، والحسن ، وإبراهيم النخعي ، ومحمد ابن الحنيفة وغيرهم .
وحديث أم عطية يدل على ذَلِكَ .
وحال : ترى الصفرة والكدرة بعد أكثر الحيض ، فهذا لا إشكال في أنَّهُ ليسَ بحيض .(1/523)
"""""" صفحة رقم 524 """"""
- باب عرقِ الاستحاضةِ
خرج فيهِ :
327 - حديث : ابن أبي ذئب ، عَن ابن شهاب ، عَن عروة - وعن عمرة - ، عَن عائشة زوج النبي ( ، أن أم حبيبة استحيضت سبع سنينَ ، فسألت رسول الله ( عَن ذَلِكَ ، فأمرها أن تغتسل ، فقالَ : ( ( هَذا عرق ) ) ، فكانت تغتسل لكل صلاة .
هَذا الحديث اختلف في إسناده على الزهري : فروي عَنهُ عن عروة ، عن عائشة . وروي عنه ، عن عمرة ، عن عائشة . وروي عنه ، عن عروة وعمرة ، عَن عائشة كَما في هَذهِ الرواية ، ورواية الزهري لَهُ عنهما صحيح - : قاله الدارقطني .
واختلف - أيضاً - في اسم المستحاضة :
فقالَ الأكثرون في روايتهم : أم حبيبة ، ومنهم مِن قالَ : أم حبيبة بنت جحش .
وقد خرجه مسلم مِن طرق ، عَن الزهري كذلك .
وفي رواية لَهُ : عَن عمرو بنِ الحارث ، عَن الزهري ، عَن عروة وعمرة ، عَن عائشة ، أن أم حبيبة بنت جحش ختنة رسول الله ( ، وتحت عبد الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنينَ - وذكر الحديث .
ولمسلم - أيضاً - مِن حديث عراك بنِ مالك ، عَن عروة ، عَن عائشة ، أن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بنِ عوف شكت إلى النبي ( الدم ، فقالَ لها : ( ( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ، ثُمَّ اغتسلي ) ) ، فكانت(1/524)
"""""" صفحة رقم 525 """"""
تغتسل عند كل صلاة .
ورواه أبو داود الطيالسي عَن ابن أبي ذئب ، عَن الزهري ، وقال في حديثه : إن زينب بنت جحش استحيضت .
ووهم في قولُهُ : ( ( زينب ) ) - : ذكر ذَلِكَ الدراقطني في ( ( علله ) ) .
وذكر أبو داود في ( ( سننه ) ) أن أبا الوليد الطيالسي رواه ، عَن سليمان بنِ
كثير ، عَن الزهري ، عَن عروة ، عَن عائشة : استحيضت زينب بنت جحش - فذكره .
وكذلك خرجه مسلم مِن رواية ابن عيينة ، عَن الزهري ، عَن عمرة ، عَن
عائشة ، أن زينب بنت جحش كانت تستحاض سبع سنينَ - فذكره .
وقد رواه مالك في ( ( الموطإ ) ) عَن هشام بنِ عروة ، عَن أبيه ، عَن زينب بنت أبي سلمة ، أنها رأت زينب بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بنِ عوف ، وكانت تستحاض ، وكانت تغتسل وتصلي .
ولم يرفع هشام شيئاً مِن الحديث .
وذكر ابن عبد البر : أن مالكاً وهم في قولُهُ : ( ( زينب ) ) ، وإنما هي : أم حبيبة .
وقد رواه الليث بنِ سعد ، عَن هشام ، فقالَ فيهِ : إن أم حبيبة بنت جحش .
وكذلك رواه يحيى بنِ سعيد ، عَن عروة وعمرة ، عَن زينب بنت أبي سلمة ، أن أم حبيبة - وذكر الحديث .
وروى ابن عيينة ، عَن الزهري ، عَن عمرة ، عَن عائشة ، أن حبيبة بنت جحش استحيضت - فذكره .(1/525)
"""""" صفحة رقم 526 """"""
وقال : كذا حفظت أنا في الحديث : والناس يقولون : أم حبيبة .
خرجه حرب الكرماني في ( ( مسائله ) ) عَن الحميدي ، عَنهُ .
وقد روي عبد الله بنِ محمد بنِ عقيل ، عَن إبراهيم بنِ محمد بنِ طلحة ، عَن عمه عمران بنِ طلحة ، عَن أمة حمنة بنت جحش ، قالت : كنت استحاض حيضة [ كبيرة ] شديدة ، فأتيت النبي ( أستفتيه ، فوجدته في بيت أخي زينب - وذكرت حديثاً طويلاً .
خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والترمذي .
وقال : حسن صحيح .
وحكى عَن البخاري أنه حسنه ، وعن الإمام أحمد أنه قالَ : هوَ حسن صحيح .
وقد اختلف قول الإمام أحمد فيهِ ، فقيل عَنهُ أكثر أصحابه أنَّهُ ضعفه ، وقيل : إنه رجع إلى تقويته والأخذ بهِ - : قاله أبو بكر الخلال .
وقد رواه جماعة عَن ابن عقيل كَما ذكرناه ، وخالفهم ابن جريجٍ ، فرواه عَنهُ ، وقال فيهِ : عَن حبيبة بنت جحش .
ذكره الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله وقال : خالف الناس - يشير إلى أنها
حمنة ، ليست حبيبة .
وقد خرجه ابن ماجه مِن طريق ابن جريج ، عَن ابن عقيل ، إلا أن في روايته :
( ( عَن أم حبيبة بنت جحش ) ) .
وحاصل الأمر : أن بنات جحش ثلاث :
زينب بنت جحش أم المؤمنين ، كانت زوج زيد بنِ حارثة ، فطلقها فتزوجها(1/526)
"""""" صفحة رقم 527 """"""
النبي ( ، وهي التي ذكرها الله سبحانه في سورة الأحزاب .
وحمنة بنت جحش ، هي التي خاضت في الإفك ، وكانت تحت طلحة بنِ
عبيد الله .
وأم حبيبة ، وكانت تحت عبد الرحمن بنِ عوف ، ويقال فيها - أيضاً - : أم حبيب - : قاله الإمام أحمد في رواية ابنه صالح ، وأكثر الناس يسميها : أم حبيبة .
وقال طائفة مِن المحققين : إنما هي أم حبيب ، واسمها حبيبة ، ففي ( ( تاريخ ) ) المفضل الغلابي - والظاهر أنه عَن يحيى بنِ معين ؛ لأنه في سياق كلام حكاه عَنهُ - ، قالَ : المستحاضة حبيبة بنت جحش ، وكانت تحت عبد الرحمن ابن عوف ، وهي أخت حمنة .
[ وكذا ذكر الزبير بنِ بكار في كِتابِ [ . . . . ] ( ( الأنساب ) ) ، إلا أنه لَم يكنها ، وكذا قالَ أبو بكر بنِ أبي داود ] .
وحكى الدارقطني في ( ( علله ) ) عَن إبراهيم الحربي ، أنه قالَ : الصحيح أن المستحاضة أم حبيب ، واسمها حبيبة بنت جحش ، وهي أخت حمنة ، ومن قالَ فيهِ : أم حبيبة أو زينب فَقد وهم .
قالَ الدارقطني : وقول إبراهيم صحيح ، وكان مِن أعلم الناس بهذا الشأن .
وقال ابن سعد في ( ( طبقاته ) ) : هي أم حبيب بنت جحش ، واسمها : حبيبة . قالَ : وبعض أهل الحديث يقلب اسمها ، فيقول : أم حبيبة .
وحكى عَن الواقدي ، أنه قالَ : بعضهم يغلط ، فيروي أن المستحاضة(1/527)
"""""" صفحة رقم 528 """"""
حمنة بنت جحش ، ويظن أن كنيتها أم حبيبة ، والأمر على ما ذكرنا ، هي أم حبيب حبيبة بنت جحش ، وكانت تحت عبد الرحمن بنِ عوف ، ولم تلد لَهُ شيئاً .
وحكى البيهقي في ( ( كِتابِ المعرفة ) ) ، عَن ابن المديني ، أنه قالَ : أم حبيبة هي حمنة . وعن يحيى بنِ معين ، أنها غيرها .
ثُمَّ قالَ البيهقي : حديث ابن عقيل يدل على أنها غيرها ، كَما قالَ يحيى .
قلت : رواية ابن عقيل ، عَن ابن إبراهيم بنِ محمد بنِ طلحة ، عَن عمه عمران بن طلحة ، عَن أمه حمنة صريح في أنها حمنة لا تحتمل غير ذَلِكَ ؛ لأن حمنة هي زوج طلحة بنِ عبيد الله ، وولدت لَهُ عمران ، وَهوَ رواي هَذا الحديث عَن أمه ، [ وأما أختها حبيب فلم يكن لها ولد بالكلية - : قاله الزبير بنِ بكار وغيره ] ، وحينئذ فيحتمل أن تكون حمنة استحيضت ، وأختها حبيبة استحيضت - أيضاً .
وقد حكى ابن عبد البر هَذا قولاً ، قالَ : وقيل : إنهن كلهن استحضن - يعني : زينب ، وأم حبيب ، وحمنة .
وعلى ما ذكره الأولون ، فالمستحاضة هي أم حبيب حبيبة خاصة دونَ أختيها .
وذكر أبو الوليد بنِ الصفار الأندلسي - وكان مِن أعيان علماء الأندلس - في شرح ( ( الموطإ ) ) لَهُ : أن كلا مِن الأخوات الثلاث تسمى زينب ، وأن حمنة لقب .
قالَ القرطبي : وإذا صح هَذا فَقد صح قول مِن سمى المستحاضة زينب .(1/528)
"""""" صفحة رقم 529 """"""
قلت : وفي هَذا بعد ، وَهوَ مخالف لقول الأئمة المعتبرين ، كَما سبق . والله أعلم .
ووقع في متن حديث عائشة اختلاف ثالث ، وَهوَ أهم مما قلبه ، وذلك أنَّهُ اختلف في غسلها لكل صلاة ، فَمِن الرواة : مِن ذكر أنها كانت تغتسل لكل صلاة ، وأن النبي ( لَم يأمرهم بذلك . ومنهم : مِن ذكر أن النبي ( أمرها بذلك .
فأما الذين لَم يرفعوه : فهم الثقات الحفاظ :
وقد خرجه البخاري هاهنا مِن حديث ابن أبي ذئب ، مِن الزهري ، وفي حديثه : ( ( فكانت تغتسل لكل صلاة ) ) .
وخرجه مسلم مِن طريق الليث ، عَن ابن شهاب ، عَن عروة ، عَن عائشة ، وفي حديثه : قالَ الليث : لَم يذكر ابن شهاب أن رسول الله ( أمر أم حبيبة بنت جحش أن تغتسل عند كل صلاة ، ولكنه شيء فعلته هي .
وخرجه - أيضاً - مِن رواية عراك بنِ مالك ، عَن عروة ، عَن عائشة ، وفي حديثه : ( ( فكانت تغتسل عند كل صلاة ) ) .
وأما الذين رفعوه : فرواه ابن إسحاق ، عَن الزهري ، عَن عروة ، عَن عائشة ، أن أم حبيبة استحيضت في عهد رسول الله ( ، فأمرها بالغسل لكل صلاة .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود .
قالَ : ورواه أبو الوليد الطيالسي ، ولم أسمعه منهُ ، عَن سليمان بنِ كثير ، عَن الزهري ، عَن عروة ، عَن عائشة : استحيضت زينب بنت جحش ، فقالَ لها(1/529)
"""""" صفحة رقم 530 """"""
النبي ( : ( ( اغتسلي لكل صلاة ) ) .
وابن إسحاق وسليمان بنِ كثير ، في روايتهما عَن الزهري اضطراب كثير ، فلا يحكم بروايتهما عَنهُ معَ مخالفة حفاظ أصحابه .
وروى يزيد بنِ عبد الله بنِ الهاد ، عَن أبي بكر - هوَ : ابن حزم - ، عَن عمرة ، عَن عائشة ، أن أم حبيبة بنت جحش كانت تحت عبد الرحمن بنِ عوف ، وأنها استحيضت فلا تطهر ، فذكر شأنها لرسول الله ( فقالَ : ( ( ليست بالحيضة ، ولكنها ركضة مِن الرحم ، فلتنظر قدر قرئها التي كانت تحيض لَهُ ، فلتترك الصلاة ، ثُمَّ لتنظر ما بعد ذَلِكَ فلتغتسل [ عند ] كل صلاة ، ولتصل ) ) .
خرجه الإمام أحمد والنسائي .
وَهوَ مخالف لرواية الزهري ، عَن عمرة ، كَما سبق ، ورواية الزهري أصح .
وقال الإمام أحمد : كل مِن روى عَن عائشة : الأقراء الحيض ، فَقد أخطأ . قالَ : وعائشة تقول : الأقراء الأطهار .
وكذا قالَ الشَافِعي في رواية الربيع ، وأشار إلى أن رواية الزهري أصح مِن هَذهِ الرواية .
وحكى الحاكم عَن بعض مشايخه : أن حديث ابن الهاد غير محفوظ .
وقد روى أن النبي ( أمر أم حبيبة بالغسل لكل صلاة - : يحيى بنِ أبي كثير ، عَن أبي سلمة ، عَن زينب بنت أبي سلمة .
خرجه أبو داود .
وقد اختلف في إسناده على يحيى ، والصحيح : عَنهُ ، عَن أبي سلمة(1/530)
"""""" صفحة رقم 531 """"""
- مرسلاً - : قاله أبو حاتم ، معَ أن رواية زينب بنت أبي سلمة مرسلة - أيضاً - ، وقيل : عَنهُ ، عَن أبي سلمة ، عَن أم حبيبة ، ولا يصح .
ورواه الأوزاعي ، عَن يحيى ، عَن أبي سلمة مرسلاً ، وجعل المستحاضة زينب بنت أبي سلمة ، وَهوَ وهم فاحش ؛ فإن زينب حينئذ كانت صغيرة .
وقد روي عَن طائفة مِن الصحابة والتابعين أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة ، ومنهم مِن حمل ذَلِكَ على الوجوب .
وقد روي عَن ابن عباس أنه قالَ : لا أجد لها إلا ذَلِكَ .
ومنهم مِن حمله على الاستحباب ، وقد حكي الوجوب رواية عَن أحمد ، والمشهور عَنهُ الاستحباب كقول الأكثرين .
وقد تعلق بعضهم للوجوب بأن النبي ( أمرها أن تغتسل وتصلي ، وهذا يعم كل صلاة ؛ فإنه كالنهي أن تصلي حتى تغتسل ، وقد فهمت المأمورة ذَلِكَ ، فكانت تغتسل لكل صلاة ، وهي أفهم لما أمرت بهِ .
ويجاب عَن ذَلِكَ ، بأنَّهُ ( إنما أمرها أن تغتسل إذا ذهبت أيام حيضتها ، فلا يدخل في ذَلِكَ غير الغسل عند فراغ حيضتها ، وأما ما فعلته فَقد تكون فعلته احتياطاً وتبرعاً بذلك - : كذلك قاله الليث بنِ سعد وابن عيينة والشافعي وغيرهم مِن الأئمة .
ويدل على أن أمرها بالغسل لَم يعم كل صلاة : أن عائشة روت أن النبي ( أمرها أن تغتسل ، وقالت عائشة : ( ( فكانت تغتسل لكل صلاة ) ) ، فدل على أن عائشة فهمت مِن أمر النبي ( غير ما فعلته المستحاضة ، وعائشة راوية الحديث ، وهي أفقه وأفهم مِن غيرها مِن النساء .(1/531)
"""""" صفحة رقم 532 """"""
وقد ذهب مالك والشافعي - في أشهر قوليه - في المتحيرة - وهي : المستحاضة التي نسيت وقتها وعددها ولا تمييز لها - أنها تغتسل لكل صلاة وتصلي أبداً .
واختلف أصحاب الشَافِعي : هل تقضي أم لا ؟ على وجهين لَهُم ، واختار ابن سريج مِنهُم : أنها تصلي كل يوم وليلة عشر صلوات بست اغتسالات وأربعة وضوآت ، ليسقط الفرض عنها بيقين .
وفي هَذا حرج عظيم ، وعسر شديد ، والكتاب ناطق بانتفائه عَن هَذهِ الأمة ، فكيف تكلف بهِ امرأة ضعيفة مبتلاة ، معَ أن دين الله يسر - وليس بعسر .
وذهبت طائفة : إلى أن المستحاضة تغتسل كل يوم غسلاً واحد ، وروي عَن أحمد ما يدل على وجوبه . وعند أحمد وإسحاق : لها أن تجمع بين الصلاتين بغسل
واحد ، وفي ذَلِكَ أحاديث مرفوعة عَن النبي ( [ مخرجة ] في ( ( السنن ) ) .
وأما قول النبي ( : ( ( هَذا عرق ) ) ، وتبويب البخاري هاهنا على هَذهِ اللفظة ، فَقد سبق الكلام على معناه مستوفى في ( ( باب : الاستحاضة ) ) .
وليس في حديث الزهري الذِي خرجه البخاري في هَذا الباب أن النبي ( أمر المستحاضة أن تدع الصلاة أيام حيضها ، كَما في حديث هشام بنِ عروة وعراك بنِ
مالك ، عَن عروة ، لكن في حديث هشام : أن النبي ( أمر فاطمة بنت أبي حبيش ، وفي حديث عراك : أمر أم حبيبة بنت جحش .
وقد ذكر الأوزاعي ، عَن الزهري في حديثه هَذا ، أنه ( قالَ لأم حبيبة : ( ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ) ) ، وتفرد بذلك .
وكذلك روى ابن عيينة ، عَن الزهري ، أن النبي ( أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها ، وَهوَ وهم منهُ - أيضاً - : قاله الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما(1/532)
"""""" صفحة رقم 533 """"""
ورواه محمد بنِ عمرو ، عَن الزهري ، وزاد فيهِ : ( ( إذا كانَ دم الحيض ، فإنه أسود يعرف ) ) ، وقيل : إنه وهم منهُ - أيضاً - ، لكنه جعله عَن عروة ، عَن فاطمة بنت أبي حبيش .
ورواه سهيل ، عَن الزهري ، عَن عروة ، عَن أسماء بنت عميس ، وزاد فيهِ هَذا المعنى - أيضاً .
وقد سبق ذكر ذَلِكَ في ( ( باب : الاستحاضة ) ) .
والمحفوظ عَن الزهري في هَذا الحديث : ما رواه عَنهُ أصحابه الحفاظ ، وليس فيهِ شيء مِن ذَلِكَ . والله [ سبحانه وتعالى ] أعلم .(1/533)
"""""" صفحة رقم 534 """"""
- باب المرأةِ تحيضُ بعدَ الإفاضةِ
خرج فيهِ حديثين :
أحدهما :
328 - مِن حديث : عمرة ، عَن عائشة ، أنها قالت لرسول الله ( : إن صفية قَد حاضت ، فقالَ رسول الله ( : ( ( لعلها تحبسنا ، ألم تكن طافت معكن ؟ ) ) قالوا : بلى . قالَ : ( ( فاخرجي ) ) .
والثاني :
329 - مِن حديث : طاوس ، عَن ابن عباس ، قالَ : رخص للحائض أن تنفر إذا حاضت .
330 - وكان ابن عمر يقول في أول أمره : إنها لا تنفر ، ثُمَّ سمعته يقول : تنفر ؛ إن رسول الله ( رخص لهن .
قَد سبق أن الحائض ممنوعة مِن الطواف في حال حيضها ، فإن حاضت قبل طواف الإفاضة فإنها لا تنفر حتى تطوف للإفاضة ، وإن طافت طواف الإفاضة ، ثُمَّ حاضت ، فذهب جمهور أهل العلم إلى أنها تنفر ، كَما دلت عليهِ هَذهِ الأحاديث الثلاثة - أعني : حديث عائشة ، وابن عمر ، وابن عباس .
وقد روي عَن عمر ، وابنه عبد الله ، وزيد بنِ ثابت ، أنهم قالوا : لا تنفر حتى تطهر ، وتطوف للوداع . ووافق جماعة مِن الأنصار زيد بنِ ثابت في قولُهُ هَذا ، وتركوا قول ابن عباس .
فأما ابن عمر : فَقد صح عَنهُ برواية طاوس هَذهِ أنه رجع عَن ذَلِكَ .(1/534)
"""""" صفحة رقم 535 """"""
وأما زيد : ففي ( ( صحيح مسلم ) ) عَن طاوس - أيضاً - ، أنه قالَ : كنت معَ ابن عباس إذ قالَ زيد بنِ ثابت : أتفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون عهدها بالبيت ؟ فقالَ لَهُ ابن عباس : إمَّا لا ، فسل فلانة الأنصارية ، هل أمرها بذلك رسول الله ( ؟ قالَ : فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك ، وَهوَ يقول : ما أراك إلا قَد صدقت .
وأما عمر : فَقد روي - أيضاً - أنه رجع عما قاله في ذَلِكَ ، فروى عبد الرزاق ، أبنا محمد بنِ راشد ، عَن سليمان بنِ موسى ، عَن نافع ، قالَ : رد عمر نساء مِن ثنية هرشي ، وذلك أنهن أفضن يوم النحر ، ثُمَّ حضن فنفرن ، فردهن حتى يطهرن ويطفن بالبيت ، قالَ : ثُمَّ بلغ عمر بعد ذَلِكَ حديث [ غير ] ما صنع ، فترك عمر صنيعه الأول .
قالَ : وأبنا محمد بنِ راشد : أخبرني عبدة بنِ أبي لبابة ، عَن هشام بنِ يحيى المخزومي ، أن رجلاً مِن ثقيف أتى عمر بنِ الخطاب ، فسأله عَن امرأة زارت يوم
النحر ، ثُمَّ حاضت ؟ قالَ : فلا تنفر حتى تطهر ، فيكون آخر عهدها بالبيت ، فقالَ الرجل : فإن رسول الله ( أمر في مثل هَذهِ المرأة بغير ما أفتيت ، فضربه عمر بالدرة ، وقال : ولم تستفتني في شيء قَد أفتى فيهِ رسول الله ( ؟
وخرج الإسماعيلي في ( ( مسند عمر ) ) مِن طريق هشام بنِ عمار : ثنا صدقة : ثنا الشعيثي ، عَن زفر بنِ وثيمة ، أن رجلاً مِن ثقيف أتى عمر ، فقالَ : امرأة منا حاضت ، وقد أفاضت يوم النحر ؟ فقالَ : ليكن آخر عهدها بالبيت . فقالَ : إن النبي ( أفتى امرأة منا أن تصدر ، فحمل عمر عليهِ ، فضربه ، وقال : تستفتيني في شيء قَد أفتى فيهِ
رسول الله ( ؟(1/535)
"""""" صفحة رقم 536 """"""
وقد روي على وجه آخر ، خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من رواية الوليد بن عبد الرحمن ، عن الحارث بن عبد الله بن أوس ، قالَ : أتيت عمر بن الخطاب ، فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ، ثم تحيض ؟ فقالَ : ليكن آخر عهدها
بالبيت . قالَ الحارث : كذلك أفتاني رسول الله ( ، فقالَ عمر : أربت عن يديك ، سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله ( لكيما أخالف .
والوليد هذا ، ليس بالمشهور .
وخرجه الإمام أحمد والترمذي من طريق آخر ، عن الحارث بن عبد الله بن
أوس ، قالَ : سمعت النبي ( يقول : ( ( من حج هذا البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت ) ) . فقالَ لهُ عمر : خررت من يديك ، سمعت هذا من رسول الله ( ولم تخبرنا به .
وفي إسناده : حجاج بن أرطاة ، وقد اختلف عليهِ في إسناده .
وهذه الرواية تدل على أن الحارث بن أوس لم يسمع من النبي ( في الحائض بخصوصها إذا كانت قد أفاضت : أنها تحتبس لطواف الوداع ، إنما سمع لفظاً عاماً ، وقد صح الإذن للحائض إذا كانت قد طافت للإفاضة أن تنفر ، فيخص من ذَلِكَ العموم ، وعلى هذا عمل العلماء كافة من الصحابة فمن بعدهم .
وقد روى عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن أبي فروة ، أنه سمع القاسم بن محمد يقول : رحم الله عمر ، كل أصحاب محمد ( قد أمروها بالخروج(1/536)
"""""" صفحة رقم 537 """"""
. يقول : إذا كانت أفاضت .
وروى بإسناده عن سعد بن أبي وقاص ، أنه ذكر لهُ قول عمر : لا تنفر حتى تطهر ليكون آخر عهدها بالبيت ، فقالَ : ما يجعلها حراماً بعد إذ حلت ، إذا كانت قد طافت يوم النحر فقد حلت ، فلتنفر .
يشير سعد إلى أن من طاف طواف الإفاضة فقد حل الحل كله ، فلا يكون محتبساً بعد حله ، وإنما يبقى عليهِ بقايا من توابع المناسك ، كالرمي والمبيت بمنى وطواف الوداع ، فما أمكن الحائض فعله من ذَلِكَ كالرمي والمبيت فعلته ، وما تعذر فعله عليها كالطواف سقط عنها ، ولم يجز إلزامها بالاحتباس لهُ .
وكل من خالف في ذَلِكَ فإنما تمسك بعموم قد صح تخصيصه بنصوص صحيحة خاصة بالحائض ، ولم يصح عن النبي ( في الحائض بخصوصها نهي أن تنفر .
وحديث الرجل الثقفي الذي حدث عمر بما سمع من النبي ( قد روي على ثلاثة أوجه كما سبق ، وأسانيده ليس بالقوية ، فلا يكون معارضاً لأحاديث الرخصة للحائض في النفر ؛ فإنها خاصة ، وأسانيدها في غاية الصحة والثبوت .(1/537)
"""""" صفحة رقم 538 """"""
- باب إذا رأتِ المستحاضةُ الطهرَ
قالَ ابن عباس : تغتسل وتصلي ، ولو ساعة ، ويأتيها زوجها إذا صلت ؛ الصلاة أعظم .
هذا الأثر ، ذكره أبو داود تعليقاً ، فقالَ : روى أنس بن سيرين ، عن ابن عباس في المستحاضة ، قالَ : إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي ، وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي .
وقد ذكره الإمام أحمد واستحسنه ، واستدل به وذهب إليه .
وقال في رواية الأثرم وغيره : ثنا إسماعيل - هوَ : ابن علية - : ثنا خالد الحذاء ، عن أنس بن سيرين ، قالَ : استحيضت امرأة من آل أنس ، فأمروني ، فسألت ابن عباس ، فقالَ : أما ما رأت الدم البحراني فإنها لا تصلي ، وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل ولتصل .
قالَ أحمد : ما أحسنه .
والدم البحراني : قيل : هوَ الأحمر الذي يضرب إلى سواد .
وروي عن عائشة ، أنها قالت : دم الحيض بحراني أسود .
خرجه البخاري في ( ( تاريخه ) ) .
وقيل : البحراني هوَ الغليط الواسع الذي يخرج من قعر الرحم ، ونسب إلى البحر لكثرته وسعته .(1/538)
"""""" صفحة رقم 539 """"""
وقول ابن عباس : ( ( إذا رأت الطهر ساعة من نهار فلتغتسل ولتصل ) ) ، محمول على غير المستحاضة ؛ فإن المستحاضة تصلي إذا جاوزت أيام حيضها ، سواء انقطع دمها أو لم ينقطع ، وإذا اغتسلت عندَ انقضاء حيضها وصلت ، ثم انقطع دمها بعد ذَلِكَ ؛ فلا غسل عليها عندَ انقطاعه ، وإنما يصح حمل هذا على الدم الجاري في أيام الحيض ، وأنه إذا انقطع ساعة فهي طاهر تغتسل وتصلي ، وسواء كانَ بعد تمام عادة الحيض أو قبل تمام العادة .
وقد ذهب الإمام أحمد إلى قول ابن عباس في هذا ، واستدل به ، وعليه أكثر أصحابنا . ومنهم من اشترط مع ذَلِكَ : أن ترى علامة الطهر مع ذَلِكَ ، وهو القصة البيضاء ، كما سبق ذكرها .
وعن أحمد : لا يكون الطهر في خلال دم الحيض أقل من يوم ، وصحح ذَلِكَ بعض الأصحاب ؛ فإن دم الحيض لا يستمر جريانه ، بل ينقطع تارة ويجري تارة ، فإذا كانَ مدة انقطاعه يوماً فأكثر فهوَ طهر صحيح ، وإلا فلا .
وحكى الطحاوي الإجماع على أن انقطاع الدم ساعة ونحوها لا عبرة به ، وأنه كالدم المتصل ، وليس كما ادعاه .
ومن العلماء : من ذهب إلى أن مدة النقاء في أثناء خلال الدم وإن طالت ، إذا عاد الدم بعد ذَلِكَ في مدة الحيض يكون حيضاً ، لا تصلي فيهِ ولا تصوم ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، والثوري ، وأحد قولي الشافعي ، وروي ابن منصور عن أحمد نحوه .
وتعرف المسألة بمسألة التلفيق ، ولها فروع وتفاصيل كثيرة جداً .
وحينئذ ؛ ففي تبويب البخاري : ( ( المستحاضة إذا رأت الطهر ) ) نظر ، بل الأولى أن يقال : ( ( الحائض إذا رأت الطهر ساعة ) ) .
وإنما اعتمد على لفظ الرواية عن ابن عباس ، ولعل ابن عباس أراد أن(1/539)
"""""" صفحة رقم 540 """"""
المستحاضة إذا كانت مميزة جلست زمن دمها الأسود ، فإذا انقطع الأسود ولو ساعة فإنه زمن طهرها ، فتغتسل وتصلي حينئذ .
وقد حمله إسحاق بن راهويه على مثل هذا ، فقالَ في رواية حرب - في استدلاله على اعتبار التمييز للمستحاضة بحديث : ( ( إذا كانَ دم الحيض ، فإنه أسود يعرف ) ) ، الحديث - ، قالَ : وكذلك روي عن ابن عباس ، أنه قالَ لامرأة مستحاضة : أما ما دامت ترى الدم البحراني فلتدع الصلاة ، فإذا جاوزت ذَلِكَ اغتسلت وصلت .
وكذلك وقع في كلام الإمام أحمد في رواية الشالنجي حمل كلام ابن عباس على مثل هذا ، وهو يرجع إلى أن المستحاضة تعمل بالتمييز ، فتجلس زمن الدم الأسود ، فإذا انقطع عنها ورأت حمرةً أو صفرةً أو كدرةً فإن ذَلِكَ طهرها ، فتغتسل حينئذ وتصلي . والله أعلم .
وأما ما ذكر البخاري ، أنه يأتيها زوجها إذا صلت ؛ الصلاة أعظم ، فظاهر سياق حكايته يقتضي أن ذَلِكَ من تمام كلام ابن عباس ، ولم نقف على إسناد ذَلِكَ عن ابن عباس ، وليس هوَ من تمام رواية أنس بن سيرين في سؤاله لابن عباس عن المستحاضة من آل أنس .
وقد روي عن ابن عباس من وجه آخر الرخصة في وطء المستحاضة من رواية ابن المبارك ، عن أجلح ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قالَ في المستحاضة : لا بأس أن يجامعها زوجها .
ويحتمل أن يكون البخاري ذكر هذا الكلام من عندَ نفسه بعد حكايته لما قبله عن ابن عباس .
وهذا الكلام إنما يعرف عن سعيد بن جبير :
روى وكيع ، عن سفيان ، عن سالم الأفطس ، قالَ : سألت سعيد بن جبير(1/540)
"""""" صفحة رقم 541 """"""
عن المستحاضة يجامعها زوجها ؟ قالَ : لا بأس به ؛ الصلاة أعظم من الجماع .
وممن رخص في ذَلِكَ : ابن المسيب والحسن وعطاء وبكر المزني وعكرمة وقتادة ومكحول ، وهو قول الأوزاعي والثوري والليث وأبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور ، ورواية عن أحمد .
وقد تقدم أن أم حبيبة لما استحيضت كانت تحت عبد الرحمن بن عوف ، وحمنة كانت تحت طلحة ، وقد سألتا النبي ( عن حكم الاستحاضة فلم يذكر لهما تحريم الجماع ، ولو كانَ حراماً لبينه .
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) عن عكرمة ، عن حمنة بنت جحش ، أنها كانت تستحاض وكان زوجها يجامعها . قالَ : وكانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها ؛ ولأن لها حكم الطاهرات في الصلاة والصوم وسائر العبادات ، فكذلك في الوطء .
وقالت طائفة : لا توطأ المستحاضة ، وروي ذَلِكَ عن عائشة ، من رواية سفيان ، عن غيلان - هوَ : ابن جامع - ، عن عبد الملك بن مسيرة ، عن الشعبي ، عن قمير - امرأة مسروق - ، عن عائشة ، أنها كرهت أن يجامعها زوجها .
خرجه وكيع في ( ( كتابه ) ) ، عن سفيان ، به .
ورواه [ شعبة ] ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن الشعبي ، واختلف عليهِ فيهِ ، فوقفه بعض أصحاب شعبة ، عنه على الشعبي ، وأسنده بعضهم عنه إلى عائشة كما رواه غيلان - : ذكر ذَلِكَ الإمام أحمد ، ولم يجعل ذَلِكَ علة في(1/541)
"""""" صفحة رقم 542 """"""
وصله إلى عائشة ، كما فعل البيهقي وغيره .
وممن نهى عن وطء المستحاضة : ابن سيرين ، والشعبي ، والنخعي ، والحكم ، وسليمان بن يسار ، ومنصور ، والزهري ، وروي - أيضاً - عن الحسن ، وهو المشهور عن الإمام أحمد ، إلا أنه رخص فيهِ إذا خشي الزوج على نفسه العنت .
وبدون خوف العنت ، فهل النهي عنه للتحريم أو للكراهة ؟ حكى أصحابنا فيهِ روايتين عن أحمد ، ونقل ابن منصور وصالح عنه : لا يأتيها زوجها ، إلا أن يطول .
ولعله أراد أنه إذا طالت مدة الاستحاضة شق على الزوج حينئذ ترك الوطء ، فيصير وطؤه من خوف العنت ؛ فإن العنت يفسر بالمشقة والشدة .
وقد قالَ أحمد في رواية حرب : المستحاضة لا يغشاها زوجها إلا أن لا يصبر . وقال في رواية علي بن سعيد : لا يأتيها زوجها إلا أن يغلب ويجيء أمر شديد ،
لا يصبر .
وقال أبو حفص البرمكي : معنى قول أحمد : ( ( لا يأتيها زوجها إلا أن يطول ) ) ، ليس مراده أنه يباح إذا طال ويمنع منه إذا قصر ، ولكن أراد : إذا طال علمت أيام حيضها من استحاضتها يقيناً ، وهذا لا تعلمه إذا قصر ذَلِكَ .
وكذلك روى حرب عن إسحاق بن راهويه ، قالَ : الذي نختار في غشيان المستحاضة : إذا عرفت أيام أقرائها ثم استحيضت ولم يختلط عليها حيضها ، أن يجامعها زوجها ، وتصلي وتصوم ، وإذا اختلط عليها دم حيضها من استحاضتها ، فأخذت بالاحتياط في الصلاة بقول العلماء ، وتحرت أوقات [ حيضها ] من استحاضتها ولم تستيقن بذلك أن لا يغشاها زوجها حتى تكون على يقين من استحاضتها .(1/542)
"""""" صفحة رقم 543 """"""
فهذا قول ثالث في وطء المستحاضة ، وهو : إن تيقنت استحاضتها بتميزها من حيضها جاز وطؤها فيها ، وإن لم تكن على يقين من ذَلِكَ لم توطأ ؛ لاحتمال وطئها في حال حيضها .
ومذهب الشافعي وأصحابه : أن المتحيرة الناسية لعادتها ولا تميز لها تغتسل لكل صلاة ، وتصلي أبداً ، ولا يأتيها زوجها ؛ لاحتمال مصادفته الحيض .
ونقض أصحابنا ذَلِكَ عليهم في المعتادة ، والمبتدأة بعد الشهر الأول ؛ فإن زيادة الحيض ونقصه ، وتقدمه وتأخره ممكن - أيضاً .
واستدل من نهى عن وطء المستحاضة مطلقاً بقول الله عز وجل : ( وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ( [ البقرة : 222 ] ودم الاستحاضة أذى ؛ ولهذا حرم الوطء في الدبر ؛ لأنه محل الأذى .
وروى حرب بإسناد جيد ، عن مرثد بن عبد الله اليزني ، قالَ : سمعت عقبة بن عامر يقول : والله ، لا أجامع امرأتي في اليوم الذي تطهر فيهِ حتى يصير لها يوم .
وهذا محمول على التنزه والاحتياط خشية عود دم الحيض . والله أعلم .
واختلفوا في الحائض المعتادة : إذا طهرت لدون عادتها : هل يكره وطؤها أم لا ؟ على قولين :
أحدهما : يكره ، وهو قول أبي حنيفة ، والأوزاعي ، وأحمد في رواية ،
وإسحاق ؛ لأن عود الدم لا يؤمن .
والثاني : لا يكره ، وهو قول الشافعي ، ورواية عن أحمد .
ثم خرج البخاري في هذا الباب :(1/543)
"""""" صفحة رقم 544 """"""
331 - حديث : هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : قالَ النبي ( : ( ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي ) ) .
وقد سبق هذا الحديث والكلام عليهِ .
وإنما خرجه هاهنا ؛ لأنه يرى أن إقبال الحيض وإدباره المراد به التميز ، فإقبال الحيضة : إقبال الدم الأسود . وإدباره : انفصال الأسود وانتقاله إلى غيره ، فيكون ذَلِكَ موافقاً لما أفتى به ابن عباس ، على ما حمل كلامه عليهِ أحمد وإسحاق ، كما سبق . والله أعلم .(1/544)
"""""" صفحة رقم 545 """"""
- باب الصلاةِ على النفساءِ وسنتها
خرج فيهِ :
332 - من حديث : شعبة ، عن حسين المعلم ، عن ابن بريدة ، عن سمرة ابن جندب ، أن امرأة ماتت في بطن ، فصلى عليها النبي ( فقام وسطها .
لم يخرج البخاري في أحكام النفساء سوى هذا الحديث ، كأنه لم يصح عنده في أحكام النفاس حديث على شرطه .
وليس في هذا الحديث سوى الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها .
وقد اعترض الإسماعيلي على البخاري في ذَلِكَ ، وقال : ليس في الحديث إلا أنها ماتت في بطن ، والمراد : أنها ماتت مبطونة ، فلا مدخل للحديث في النفاس بالكلية .
وهذا الذي قاله غير صحيح ؛ فإنه قد خرجه البخاري في ( ( الجنائز ) ) ، ولفظه : ( ( صلى على امرأة ماتت في نفاسها ، فقام وسطها ) ) .
وخرجه مسلم كذلك - أيضاً .
ويؤخذ من هذا الحديث : أن [ دم ] النفاس وإن كانَ يمنع النفساء ، من الصلاة فلا يمنع من الصلاة عليها إذا ماتت فيهِ ، وكذلك دم الحيض ، فإنه يصلى على الحائض والنفساء إذا ماتتا في دمهما ، كما يصلى على الجنب إذا مات ، وكل منهم يغسل ويصلى عليهِ ، إلا أن يكون شهيداً في معركة .(1/545)
"""""" صفحة رقم 546 """"""
فإن استشهد في معركة وكان عليهِ غسل جنابة أو حيض أو نفاس ، فهل يغسل أم لا ؟ فيهِ روايتان عن أحمد ، أشهرهما : أنه يغسل .
وعلى هذا : فلو استشهدت من هي حائض أو نفساء في دمها قبل انقطاعه ، ففي غسلها وجهان ، بناهما الأصحاب على أن الموجب لغسل الحيض والنفاس : هل هوَ خروج الدم ، أو انقطاعه ؟
ولو خرج البخاري هاهنا حديث : أمر النَّبيّ ( لأسماء بنت عميس لما نفست بمحمد بن أبي بكر بالشجرة أن تغتسل وتهل ، لكان حسناً ؛ فإنه يدل على أن حكم النفاس حكم الحيض في الإهلال بالحج .
وقد خرجه مسلم من حديث جابر وعائشة ، إلا أن حديث جابر ليس هوَ على شرط البخاري .
ودم النفاس حكمه حكم دم الحيض فيما يحرمه ويسقطه ، وقد حكى الإجماع على ذَلِكَ غير واحد من العلماء ، منهم : ابن جرير وغيره .
واختلف العلماء في أقل النفاس وأكثره :
أما أقله :
فأكثرهم على أنه لا حد لهُ ، وأنها لو ولدت ورأت قطرة من دم كانت نفاساً ، وهو قول عطاء ، والشعبي ، والثوري ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد في ظاهر مذهبه ، وإسحاق ، وأبي ثور ، ومحمد بن الحسن وغيرهم ، وهو الصحيح عن أبي حنيفة وأبي يوسف .
وعن أبي حنيفة رواية : أقله خمسة وعشرون يوماً . وعن أبي يوسف ، أقله أحد عشر يوماً . وعن الثوري رواية : أقله ثلاثة أيام ، كالحيض عنده ، وحكي عن أحمد رواية كذلك : أن أقله ثلاثة أيام ، وحكي عنه رواية : أن أقله يوم . وعن المزني : أقله اربعة أيام . وعن الحسن : أقله عشرون يوماً .(1/546)
"""""" صفحة رقم 547 """"""
وأما أكثره :
فأكثر العلماء على أن أكثره أربعون يوماً ، وحكاه بعضهم إجماعاً من الصحابة .
قالَ إسحاق : هوَ السنة المجمع عليها . قالَ : ولا يصح في مذهب من جعله إلى شهرين سنة ، إلا عن بعض التابعين .
قالَ الطحاوي : لم يقل بالستين أحد من الصحابة ، إنما قاله بعض من بعدهم .
وكذا ذكر ابن عبد البر وغير واحد .
وممن روي عنه توقيته بالأربعين من الصحابة : عمر ، وعلي ، وابن عباس ، وأنس ، وعثمان بن أبي العاص ، وعائذ بن عمرو ، وأم سلمة .
وممن ذهب إلى هذا : الثوري ، وابن المبارك ، والليث ، والأوزاعي في رواية ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، والمزني ، وحكاه الإمام أحمد عن أهل الحديث ، وحكاه الترمذي عن الشافعي ، وهو غريب عنه .
وحكى الترمذي عن الحسن : أن أكثره خمسون يوماً . وعن عطاء والشعبي : أكثره ستون يوماً .
وقد اختلف فيهِ عن عطاء والحسن ، وروي عنهما : أكثره أربعون يوماً .
وممن قالَ بالستين : الشعبي ، والعنبري ، ومالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وحكي رواية عن أحمد .
وحكى الليث عن بعض العلماء : أن أكثره سبعون يوماً .
وقيل : لا حد لأكثره ، وإنما يرجع إلى عادات النساء ، وحكي عن الأوزاعي ، وهو رواية عن مالك ، ونقل ابن القاسم أن مالكاً رجع إلى ذَلِكَ .
وحكي عن ربيعة : أكثره ثلاثة أشهر .
وقيل : أكثره من الغلام ثلاثون يوماً ، ومن الجارية أربعون يوماً - : قاله(1/547)
"""""" صفحة رقم 548 """"""
مكحول ، وسعيد بن عبد العزيز ، وحكاه الأوزاعي عن أهل دمشق .
وقيل : أكثره من الغلام خمسة وثلاثون يوماً ، ومن الجارية أربعون - : رواه الخشني عن الأوزاعي .
وحكي عن الضحاك : أكثره أربع عشرة ليلة .
وفي الباب أحاديث مرفوعة فيها ضعف .
ومن أجودها : ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث مسة الأزدية ، عن أم سلمة ، قالت : كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله ( أربعين يوماً .
وخرجه أبو داود بلفظ آخر ، وهو : ( ( كانت المرأة من نساء النبي ( تقعد في النفاس أربعين ليلة ، لا يأمرها النبي ( بقضاء صلاة النفاس ) ) .
وصححه الحاكم ، وفي متنه نكارة ؛ فإن نساء النَّبيّ ( لم يلد منهن أحد بعد فرض الصَّلاة ؛ فإن خديجة - عليها السلام - ماتت قبل أن تفرض الصلاة .
ومتى انقطع الدم قبل بلوغ أكثره فهي طاهرة ، تصوم وتصلي .
وهل يكره وطؤها ، أم لا ؟ فيهِ قولان :
أحدهما : أنه يكره ، وهو مروي عن طائفة من الصحابة ، وأن النفساء لا توطأ إلا بعد الأربعين ، وإن انقطع دمها قبل ذَلِكَ ، منهم : علي ، وابن عباس ، وعثمان بن أبي العاص ، وعائذ بن عمرو ، وأم سلمة ، وهو ظاهر مذهب أحمد ، وروي - أيضاً - عن مالك ، وسعيد بن عبد العزيز .
وحكي عن أحمد تحريمه .(1/548)
"""""" صفحة رقم 549 """"""
وقال آخرون : لا يكره ذَلِكَ ، وهو قول الأوزاعي ، والشافعي ، وحكي رواية عن أحمد .
وعن أبي حنيفة : لا يكره ، إلا أن ينقطع دمها لدون عادتها ، فلا توطأ حتى تذهب أيام عادتها .
وقال إسحاق : يكره احتياطا ، إلا أن ينقطع لعادة كانت لها فلا يكره ؛ لأن احتمال عوده حينئذ بعيد جداً ، فهي كحائض انقطع دمها لعادتها لدون أكثر الحيض .(1/549)
"""""" صفحة رقم 550 """"""
30 - باب
خرج فيهِ :
333 - من حديث : سليمان الشيباني ، عن عبد الله بن شداد ، قالَ : سمعت خالتي ميمونة زوج النبي ( ، أنها كانت تكون حائضاً لا تصلي ، وهي مفترشة بحذاء مسجد رسول الله ( ، وهو يصلي على خمرتة ، إذا سجد أصابني بعض ثوبه .
في هذا الحديث دلالة على طهارة ثياب الحائض التي تلبسها في حال حيضها ، وأن المصلي إذا أصابه شيء من ثيابها في تلك الحال لم تفسد صلاته . وقد سبق هذا المعنى مستوفى في ( ( باب : هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيهِ ؟ ) ) .
والظاهر : أن مراد ميمونة في هذا الحديث مسجد بيت النَّبيّ ( الذي كانَ يصلي فيهِ من بيته ؛ لأن ميمونة لا تفترش إلا بحذاء هذا المسجد ، ولم ترد - والله أعلم - مسجد المدينة .
وتأتي باقي فوائد الحديث في ( ( كتاب الصلاة ) ) - إن شاء الله سبحانه وتعالى .
وقد خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث منبوذ ، عن أمه ، عن ميمونة ، قالت : كانَ رسول الله ( يضع رأسه في حجر إحدانا يتلو القرآن ، وهي حائض ، وتقوم إحدانا بخمرته ، إلى المسجد فتبسطها وهي حائض .
والظاهر : حمله - أيضاً - على مسجد البيت .
ويشهد لهُ : أن الإمام أحمد خرجه بلفظ آخر ، عن ميمونة ، قالت : كانت إحدانا تقوم وهي حائض فتبسط لهُ خمرةً في مصلاه ، فيصلي عليها في بيتي .(1/550)
"""""" صفحة رقم 551 """"""
وكذلك : ما خرجه مسلم من حديث عائشة ، قالت : قالَ لي رسول الله ( : ( ( ناوليني الخمرة من المسجد ) ) . قلت : إني حائض ؟ قالَ : ( ( إن حيضتك ليست في يدك ) ) .
ومساجد البيوت لا يثبت لها أحكام المساجد عندَ جمهور العلماء ، فلا يمنع الجنب والحائض منها ، خلافاً لإسحاق في ذَلِكَ .
ومن حمل حديث ميمونة وعائشة على مسجد المدينة ، استدل بحديثهما : على أن الحائض لها أن تمر في المسجد لحاجة إذا أمنت تلويثه . وحكي ذَلِكَ عن طائفة من السلف ، منهم : ابن المسيب ، وعطاء ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وزيد بن أسلم ، وعمرو بن دينار ، وقتادة ، وهو قول الشافعي وأحمد .
واختلف أصحابنا : هل يباح لها الدخول لأخذ شيء ووضعه ، أم لا يباح إلا للأخذ خاصة ؟ على وجهين .
ونص أحمد : على أنه لا يباح إلا للأخذ خاصة في رواية حنبل .
وقال إسحاق : هما سواء .
وحديث ميمونة فيهِ الدخول لبسط الخمرة ، وهو دخول لوضع .
وكل من منع الجنب من المرور في المسجد لغير ضرورة منع منه الحائض ،
وأولى ، وهو قول الثوري ، وأبي حنيفة ، ومالك ، وإسحاق .
ومنهم : من أباحه للجنب دون الحائض ، كالأوزاعي ، ومالك في رواية ؛ لأن حدث الحيض أفحش من الجنابة وأغلظ ، وحكى ابن عقيل وجهاً لأصحابنا بمثل ذَلِكَ . والله سبحانه وتعالى أعلم .
1(1/551)
"""""" صفحة رقم 6 """"""
الجزء الثانى(2/6)
"""""" صفحة رقم 7 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
7 كتاب التيمم
- باب قول الله ( : ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ( [ المائدة : 6 ]
خرج فيه حديثين :
الحديث الأول :
قال :
334 - ثنا عبدا لله بن يوسف : أبنا مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي ( ، قالت : خرجنا مع رسول الله ( في بعض إسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش - أنقطع عقد لي ، فأقام رسول الله ( على التماسه ، وأقام الناس معه وليسوا على ماء ، فأتى الناس إلى أبي بكر ، فقالوا : إلا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله ( والناس ، وليسوا عَلَى ماء ، وليس معهم ماء . فجاء أبو بَكْر ورسول الله ( واضع رأسه عَلَى فخذي قَدْ نام ، فَقَالَ : حبست رَسُول الله ( والناس ، وليسوا عَلَى ماء ، وليس مَعَهُ ماء قَالَتْ عَائِشَة :(2/7)
"""""" صفحة رقم 8 """"""
فعاتبني أبو بَكْر ، وَقَالَ مَا شاء الله أن يَقُول ، وجعل يطعنني بيده فِي خاصرتي ، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان
رَسُول الله ( عَلَى فخذي ، فنام حَتَّى أصبح عَلَى غير ماء ، فانزل الله آية التيمم ، فتيمموا ، فقال أسيد بن الحضير : ماهي بأول بركتكم ياال أبي بكر ، قالت فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته .
قيل : إن الرواية هنا : ( ( فقام حتّى أصبح ) ) . ورواه في التفسير بلفظ : ( ( فنام حتّى أصبح ) ) وهو لفظ مسلم ، وكذا في ( ( الموطأ ) ) .
هذا السياق سياق عبد الرحمن بن القاسم لهذا الحديث عن أبيه ، عن عائشة . وقد رواه هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة فخالف في بعض ألفاظه ومعانيه مما لا
يضر . وقد خرجه البخاري في موضع أخر وفي بعض ألفاظه اختلاف على عروة -
أيضا .
ومما خالف فيه : أنه ذكر أن عائشة استعارت قلادة من أسماء فسقطت ، وان النبي ( أرسل رجلين في طلبها وليس معهما ماء فنزلت أية التيمم .
وفي رواية : أنهما صليا بغير وضوء .
وهذا يمكن الجميع بينه وبين حديث القاسم ، عن عائشة بأن القلادة لما(2/8)
"""""" صفحة رقم 9 """"""
سقطت ظنوا أنها سقطت في المنزل الماضي ، فأرسلوا في طلبها وأقاموا في منزلهم وباتوا فيه ، وفقد الجميع الماء حتى تعذر عليهم الوضوء .
وفي حديث هشام : أن ذلك كان ليلة الابواء . وفي رواية عنه : أن ذلك المكان كان يقال له : الصلصل .
وروى ابن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : أقبلنا مع رسول الله ( في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا بتربان - بلد بينه وبين المدينة بريد وأميال ، وهو بلد لا ماء به - وذلك من السحر ، انسلت قلادة لي من عنقي فوقعت - وذكر بقية الحديث . خرجه الأمام أحمد .
وقد روي هذا الحديث من حديث عمار بن ياسر - أيضا - أن النبي ( عرس بأولات الجيش ومعه عائشة ، فانقطع عقد لها من جزع ظفار ، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر ، وليس مع الناس ماء ، فتغيظ عليها أبو بكر ، وقال : حبست الناس وليس معهم ماء ، فأنزل الله على رسوله ( رخصة التطهر بالصعيد الطيب ، فتيمم المسلمون مع رسول الله ( - وذكر الحديث .
خرجه الإمام أحمد أبو داود - وهذه لفظه - والنسائي وابن ماجه ، وفي إسناده اختلاف .
والآية التي نزلت بسبب هذه القصة كانت أية المائدة ؛ فإن البخاري خرج هَذَا الحَدِيْث فِي التفسير من ( ( كتابه ) ) هَذَا من حَدِيْث ابن وهب ، عَن عَمْرِو ،(2/9)
"""""" صفحة رقم 10 """"""
عَن عَبْد الرحمن بْن الْقَاسِم ، وَقَالَ فِي حديثه : فَنَزَلت : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ( هذه الآية [ المائدة : 6 ] .
وهذا السفر الذي سقط فيه قلادة عائشة أو عقدها كان لغزوة المريسيع إلى بني المصطلق من خزاعة سنة ست ، وقيل : سنة خمس ، وهو الذي ذكره أبن سعد عن جماعة من العلماء ، قالوا : وفي هذه الغزوة كان حديث الإفك .
وقد ذكر الشافعي : أن قصة التيمم كانت في غزوة بني المصطلق ، وقال : أخبرني بذلك عدد من قريش من أهل العلم بالمغازي وغيرهم .
فإن قيل : فقد ذكر غير واحد ، منهم : ابن عبد البر : أنه يحتمل أن يكون الذي نزل بسبب قصة عائشة الآية التي في سورة النساء ؛ فإنها نزلت قبل سورة المائدة بيقين ، وسورة المائدة من أواخر ما نزل من القران ، حتى قيل : إنها نزلت كلها أو غالبها في حجة الوداع ، وأية النساء نزولها متقدم .
وفي صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص أنها نزلت فيه لما ضربه رجل قد سكر بلحي بعير ، ففزر أنفه .
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) والنسائي وأبن ماجه ، عن علي ، أن رجلا صلى وقد شرب الخمر ، فخلط في قراءته ، فنزلت أية النساء .
فقد تبين بهذا : أن الآية التي في سورة النساء نزلت قبل تحريم الخمر ، والخمر حرمت بعد غزوة أحد ، ويقال : إنها حرمت في محاصرة بني النضير بعد أحد بيسير وآية النساء فيها ذكر التيمم ، فلو كانت قد نزلت قبل قصة عائشة لما توقفوا حينئذ في التيمم ، ولا انتظروا نزول آية أخرى فيه .(2/10)
"""""" صفحة رقم 11 """"""
قيل : هذا لا يصح ؛ لوجوه :
أحدها : سبب نزول آية النساء قد صح أنه كان ما ينشأ من شرب الخمر من المفاسد في الصلاة وغيرها ، وهذا غير السبب الذي أتففت الروايات عليه في قصة عائشة ، فدلّ على أن قصة عائشة نزل بسببها آية غير آية النساء ، وليس سوى آية المائدة .
والثاني : أن آية النساء لم تحرم الخمر مطلقاً بل عند حضور الصلاة ، وهذا كان قبل أحد ، وقصة عائشة كانت بعد غزوة أحد بغير بخلاف ، وليس في قصتها ما يناسب النهي عن قربان الصلاة مع السكر حتى تصدر به الآية .
وأما تصدير الآية بذكر الوضوء فلم يكن لأصل مشروعيته ؛ فإن الوضوء كان شرع قبل ذَلكَ بكثير ، كما سبق تقريره في أول ( كتاب الضوء ) ، وإنما كان تمهيداً للانتقال عنه إلى التيمم عند العجز عنه ، ولهذا قالت عائشة : فنزلت آية التيمم ، ولم تقل : آية الوضوء .
والثالث : أنه قد ورد التصريح بذلك في ( ( صحيح البخاري ) ) كما ذكرناه .
وأما توقفهم في التيمم حتى نزلت أية المائدة مع سبق نزول التيمم في سورة النساء ، فالظاهر - والله أعلم - أنهم توقفوا في جواز التيمم في مثل هذه الواقعة ، لان فقدهم للماء أنما كان بسبب إقامتهم لطلب عقد أو قلادة ، وإرسالهم في طلبها من لا ماء معه مع أمكان سيرهم جميعا إلى مكان فيه ماء ، فاعتقدوا أن في ذلك تقصيرا في طلب الماء ، فلا يباح معه التيمم ، فنزلت أية المائدة مبينة جواز التيمم في مثل هذه الحال ، وأن هذه الصورة داخلة في عموم أية النساء .
ولا يستبعد هذا ، فقد كان طائفة من الصحابة يعتقدون أنه لا يجوز استباحة رخص السفر من الفطر والقصر إلا في سفر طاعة دون الإسفار المباحة ، ومنهم(2/11)
"""""" صفحة رقم 12 """"""
من خص ذلك بالسفر الواجب كالحج والجهاد ، فلذلك توقفوا في جواز التيمم للاحتباس عن الماء لطلب شيء من الدنيا حتى بين لهم جوازه ودخوله في عموم قوله ، ويدل ذلك على جواز التيمم في سفر التجارة وما أشبهه من الإسفار المباحة ، وهذا مما يستأنس به من يقول : أن الرخص لا تستباح في سفر المعصية .
وأما دعوى نزول سورة المائدة كلها في حجة الوداع فلا تصح ؛ فإن فيها آيات نزلت قبل ذلك بكثير ، وقد صح أن المقداد قال للنبي ( يوم بدر : لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، فدل هذا على أن هذه الآية نزلت قبل غزوة بدر . والله أعلم .
وقد ذكر الله تعالى التيمم في الآيتين بلفظ واحد ، فقال فيهما : ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ( [ المائدة : 6 ] .
فقوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ( ذكر شيئين مبيحين للتيمم : أحدهما : المرض ، والمراد به عند جمهور العلماء : ما كان استعمال الماء معه يخشى منه الضرر .
والثاني : السفر ، واختلفوا : هل هو شرط للتيمم مع ( عدم ) الماء ، أم وقع ذكره لكونه مظنة عدم الماء غالباً ، فإن عدم الماء في الحضر قليل أو نادر ، كما قال الجمهور في ذكر السفر في آية الرهن ، أنة إنما ذكر السفر لأنه مظنة عدم الكاتب ، وليس بشرط للرهن .
والجمهور : على أن السفر ليس بشرط للرهن ولا للتيمم مع عدم الماء ،(2/12)
"""""" صفحة رقم 13 """"""
وأنه يجوز الرهن في الحضر ، والتيمم مع عدم الماء في الحضر .
وقالت الظاهرية : السفر شرط في الرهن والتيمم .
وعن أحمد رواية باشتراط السفر للتيمم خاصة ، وحكي رواية عن أبي حنيفة ، وعن طائفة من أصحاب مالك .
وعلى هذا : فلا فرق بين السفر الطويل والقصير على الأصح عندهم وقوله :
( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ( [ المائدة : 6 ] .
قد قيل أن ( ( أو ) ) هنا بمعنى الواو ، كما يقول الكوفيون ومن وافقهم ؛ فإنه لما ذكر السببين المبيحين للتيمم ، وهما التضرر باستعماله بالمرض ومظنة فقده بالسفر ذكر مَا يستباح مِنْهُ الصَّلاة بالتيمم وَهُوَ الحدث ، فإن التيمم يبيح الصَّلاة من الحدث الموجود ولا يرفعه عند كثير من العلماء ، وهو مذهب الشافعي ، وظاهر مذهب أحمد وأصحابه ، ولهذا قالوا يجب عليه أن ينوي ما يستبيحه من العبادات وما يستبيح فعل العبادات منه من الأحداث .
وقالت طائفة : بل التيمم يرفع الحدث رفعاً مؤقتاً بعدم القدرة على استعمال الماء ، وربما أستدل بعضهم بهذه الآية ، وقالوا : إنما أمر الله بالتيمم مع وجود الحدث ، ولو كان التيمم واجباً لكل صلاة أو لوقت كل صلاة - كما يقوله من يقول : أن التيمم لا يرفع الحدث ، على اختلاف بينهم في ذلك - لما كان لذكر الحدث معنى .
والأظهر - والله أعلم - : أن ( ( أو ) ) هاهنا ليست بمعنى الواو ، بل هي على بابها ، وأريد بها : التقسيم والتنويع ، وأن التيمم يباح في هذه الحالات الثلاث ، واثنتان منهما مظنتان ، وهما : المرض والسفر ، فالمرض مظنة التضرر باستعمال الماء ، والسفر مظنة عدم الماء ، فإن وجدت الحقيقة في هاتين المظنتين جاز التيمم ، وألا فلا .(2/13)
"""""" صفحة رقم 14 """"""
ثم ذكر قسماً ثالثاً ، وهو وجود الحقيقة نفسها ، فذكر أن من كان محدثاً ولم يجد ماءً فليتيمم ، وهذا يشمل المسافر وغيره ، ففي هذا دليلٌ على أن التيمم يجوز لمن لم يجد الماء ، مسافراً كان أو غير مسافر . واللهُ أعلم .
وقد ذكر سبحانه حدثين :
أحدهما : الحدث الأصغر ، وهو المجيء من الغائط ، وهو كنايةٌ عن قضاء الحاجة والتخلي ، ويلتحق به كل ما كان في معناه ، كخروج الريح أو النجاسات من البدن عند من يرى ذَلكَ .
والثاني : ملامسة النساء ، واختلفوا : هل المراد بها الجماع خاصة ، فيكون حينئذ قد أمر بالتيمم من الحدث الأصغر والأكبر ، وفي ذلك رد على من خالف في التيمم للجنابة كما سيأتي ذكره - أشاء الله تعالى - ، أو المراد بالملامسة مقدمات الجماع من القبلة والمباشرة لشهوة ، أو مطلق التقاء البشرتين ، وعلى هذين القولين فلم يذكر في الآية غير التيمم من الحدث الأصغر .
وقوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ( متعلق بمن أحدث ، سواءٌ كان على سفر أو لم يكن ، كما سبق تقريره ، دون المرض ، لان المريض لا يشترط لتيممه فقد الماء ، هذا هو الذي عمل به الأمة سلفا وخلفا .
وحكي عن عطاء والحسن : أن فقد الماء شرطٌ للتيمم مع المرض - أيضا - فلا يباح للمريض أن يتيمم مع وجود الماء وأن خشي التلف .
وهذا بعيد الصحة عنهما ، فإنه لو لم يجز التيمم إلا لفقد الماء لكان ذكر المرض لا فائدة له .
وقوله : ( فَتَيَمَّمُوا ( أصل التيمم في اللغة القصد ، ثم صار علما على هذه الطهارة المخصوصة .
وقوله : ( صَعِيداً ( اختلفوا في المراد بالصعيد ، فمنهم من فسره(2/14)
"""""" صفحة رقم 15 """"""
بما تصاعد على وجه الأرض من أجزائها ، ومنهم : من فسره بالتراب خاصة .
وقوله : ( طَيِّباً ( فسره من قال : الصعيد : ما تصاعد على وجه الأرض ، بالطاهر . ومن فسره بالتراب ، قال : المراد بالصعيد التراب المنبت ، كقوله تعالى : ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ( [ الأعراف : 58 ] وهذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه .
وقول ابن عباس : الصعيد الطيب تراب الحرث .
وقوله : ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْه ( . كقوله في الوضوء ( وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ ( .
وقد ذكرنا فيما سبق في ( ( أبواب الوضوء ) ) أن كثيراً من العلماء أوجبوا استيعاب مسح الرأس بالماء ، وخالف فيه آخرون ، وأكثرهم وافقوا هاهنا ، وقالوا : يجب استيعاب الوجه والكفين بالتيمم ، ومنهم من قال : يجزئ أكثرهما ، ومنهم من قال : يجزئ مسح بعضهما كالرأس - أيضا .
وقول النَّبيّ ( لعمار : ( ( إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك ) ) يرد ذلك ويبين أن المأمور به مسح جميعهما .
وسيأتي الكلام على حد اليدين المأمور بمسحهما - إن شاء الله تعالى .
وقوله تعالى : ( مِنْهُ ( يستدل به من قَالَ : لا تيمم إلا بتراب له غبار يعلق باليد ، فإن قوله : ( مِنْهُ ( يقتضي أن يكون الممسوح به الوجه واليدان بعض الصعيد ، ولا يمكن ذلك إلا فيما له غبار يعلق باليد حتى يقع المسح به ، ومن خالف في ذلك جعل ( ( من ) ) هاهنا لأبعد الغاية ، لا للتبعيض وهو يأباه سياق الكلام . والله تعالى أعلم .(2/15)
"""""" صفحة رقم 16 """"""
الحديث الثاني :
335 - من طريق : هشيم : أبنا سيارٌ : ثنا يزيد الفقير : أبنا جابر بن عبد الله ، أن النبي ( قَالَ : ( ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصَّلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ) ) .
هشيم : مدلس ، وقد صرح هنا بالسماع من سيار ، وهو : أبو الحكم ، وصرح سيار بالسماع من يزيد الفقير ، و صرح يزيد بالسماع من جابر ، فهذا إسناد جليل متصل .
وهذه الخمس اختص بها النبي ( عن الأنبياء ، وليس في الحديث أنه لم يختص بغيرها ، فإن هذه اللفظة لا تقتضي الحصر ، وقد دلت النصوص الصحيحة الكثيرة على أنه ( خص عن الأنبياء بخصال كثيرة غير هذه الخمس ، وسنشير إلى بعض ذلك - إنشاء الله تعالى .
فأما ( ( الرعب ) ) : فهو ما يقذفه الله في قلوب أعداءه المشركين من الرعب ، كما قال تعالى : ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ( [ آل عمران : 151 ] وقال في قصة يوم بدر : ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ( [ الأنفال : 12 ] .
وفي ( ( مسند الإمام أحمد ) ) من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي ، أنه قال عام غزوة تبوك : ( ( لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد كان قبلي : إما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما(2/16)
"""""" صفحة رقم 17 """"""
يرسل إلى قومه ، ونصرت على العدو بالرعب ، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعبا ) ) - وذكر بقية الحديث .
وقوله : ( ( أعطيت الليلة خمسا ) ) ، لم يرد أنه لم يعطها قبل تلك الليلة ، فإن عامتها كان موجودا قبل ذاك ، كنصره بالرعب ، وتيممه بالتراب ، فإن التيمم شرع قبل غزوة تبوك بغير إشكال ، ولعله أراد أنه أعلم بأن هذه الخمس الخصال اختص بها عن سائر الأنبياء في تلك الليلة . والله أعلم .
وروينا بإسناد فيه ضعف عن السائب بن يزيد ، عن النَّبيّ ( ، قال : ( ( فضلت على الناس بخمس ) ) - ذكر منها - ( ( ونصرت بالرعب شهرا من إمامي وشهرا من خلفي ) ) .
وأما جعل الأرض له مسجدا وطهورا : فقد ورد مفسرا في حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي ( ، قال : ( ( وجعلت لي الأرض مساجد وطهورا ، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت ، وكان من قبلي يعظمون ذلك ؛ إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم ) ) - وذكر بقية الحديث . خرجه الإمام أحمد .
وفي ( ( مسند البزار ) ) من حديث ابن عباس ، عن النبي ، قال : ( ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي من الأنبياء : جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه ) ) - وذكر الحديث .
وقد تبين بهذا أن معنى اختصاصه عن الأنبياء بان الأرض كلها جعلت مسجدا له ولأمته أن صلاتهم لا تختص بمساجدهم المعدة لصلاتهم كما كان من قبلهم ، بل يصلون حيث أدركتهم الصلاة من الأرض وهذا لا ينافي أن ينهي عن الصلاة(2/17)
"""""" صفحة رقم 18 """"""
في مواضع مخصوصة من الأرض لمعنى يختص بها ، كما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل ، وفي المقبرة والحمام ، وسيأتي ذلك مستوفى في مواضع أخر - إن شاء الله تعالى .
وفي ذكره التيمم في الأرض من خصائصه ما يشعر أن الطهارة بالماء ليست مما اختص به عن الأنبياء ، وقد سبق في ( ( كتاب : الوضوء ) ) ذكر ذَلكَ .
واستدل بقوله ( : ( ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) ) من يقول : أن التيمم يجوز بجميع أجزاء الأرض من التراب والرمل والنورة والزرنيخ والجص وغير ذلك ، كما هو قول مالك وأبي حنيفة وغيرهما .
واستدل من قَالَ : لا يجوز التيمم بغير التراب من أجزاء الأرض - كما يقوله الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه - بما في ( ( صحيح مسلم ) ) عن حذيفة ، عن النَّبيّ ، قَالَ : ( ( فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء ) ) ، وذكر خصلة أخرى .
فخص الطهور بتربة الأرض بعد أن ذكر أن الأرض كلها مسجد ، وهذا يدل على اختصاص الطهورية بتربة الأرض خاصة ؛ فإنه لو كانت الطهورية عامة كعموم المساجد لم يحتج إلى ذلك .
وقد خرج مسلم حديث جابر الذي خرجه البخاري هاهنا ، وعنده : ( ( وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا ) ) .
وهذا يدل على اختصاص الطهورية بالأرض الطيبة ، والطيبة : هي الأرض القابلة للإنبات ، كما في قوله تعالى : ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ( [ الأعراف : 58 ] .(2/18)
"""""" صفحة رقم 19 """"""
وروينا من حديث حماد بن سلمة ، عن ثابت وحٌميد ، عن أنس ، قَالَ :
رسول الله : ( ( جُعلت لي كل ُ أرضٍ طيبةً مسجداً وطهوراً ) ) .
ولكن قد دلت نصوص أٌخرُ على عموم كون الأرض مسجداً ، فتبقى طهوريتها مختصة بالأرض المنبتة .
وفي ( ( مسند الإمام أحمد ) ) من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن محمد بن علي ، عن أبيه علي بن أبي طالب ، عن النبي ( ، قال : ( ( أُعطيتُ أربعاً لم يُعطهن ِّأحد من أنبياء الله : أُعطيت مفاتيح الأرض ، وسُمَّيتُ أحمد ، وجُعل التراب لي طهورا ، وجعلت أمتي خير الأمم ) ) .
وقد ظن بعضهم : أن هذا من باب المطلق والمقيد ، وهو غلط ، وإنما هو من باب تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر ، وهو لا يقتضي التخصيص عند الجمهور ، خلافاً لما حكي عن أبي ثور ، إلا أن يكون له مفهوم فيبنى على تخصيص العموم بالمفهوم ، والتراب والتربة لقب ، مختلف في ثبوت المفهوم له ، والأكثر ون يأبون ذَلكَ .
لكن أقوى ما أستدل به : حديث حذيفة الذي خرجه مسلم ، فإنه جعل الأرض كلها مسجداً وخص الطهورية بالتربة ، وأخرج ذلك في مقام الامتنان وبيان
الاختصاص ، فلولا أن الطهورية لا تعم جميع أجزاء الأرض لكان ذكر التربة لا معنى له ، بل كان زيادة في اللفظ ونقصاً في المعنى ، وهذا لا يليق بمن أوتي جوامع الكلم ( .
وقد خرجه ابن خزيمة في ( ( صحيحة ) ) ، ولفظه : ( ( وجعلت لنا الأرض كلها(2/19)
"""""" صفحة رقم 20 """"""
مسجدا ، وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء ) ) .
ومعنى قوله : ( ( طهوراً ) ) : أي مطهراً ، كما قَالَ : ( ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) ) .
وفيه دليل لمن قَالَ : إن التيمم يرفع الحدث كالماء رفعا مؤقتا ، ودليل على أن الطهور ليس بمعنى الطاهر كما يقوله بعض الفقهاء ؛ فإن طهارة الأرض مما لم تختص به هذه الأمة ، بل اشتركت فيه الأمم كلها ، وإنما اختصت هذه الأمة بالتطهر بالتراب ، فالطهور هو المطهر .
والتحقيق : أن ( ( طهورا ) ) ليس معدولا عن طاهر ، ولأن ( ( طاهرا ) ) لازم و ( ( طهورا ) ) متعد ، وإنما الطهور اسم لما يتطهر به ، كالفطور والسحور والوجور والسعوط ونحو ذلك .
وأما إحلال الغنائم له ولأمته خاصة ، فقد روي أن من كان قبلنا من الأنبياء كانوا يحرقون الغنائم ، وفي حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النَّبيّ :
( ( وأحلت لي الغنائم أكلها ، وكان من قبلي يعظمون أكلها ، كانوا يحرقونها ) ) .
وفي ( ( الصحيحين ) ) عن أبي هُريرةَ ، قَالَ : ( ( غزا نبي من الأنبياء ؛ فجمع الغنائم ، فجاءت نار لتأكلها فلم تطعمها ، فقال : أن فيكم غلولا ، فليبايعني من كل قبيلة رجل ، فلزقت يد رجل بيده ، فقال : فيكم الغلول ، فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب ، فوضعوها ، فجاءت النار فأكلتها ، ثُمَّ أحل الله لنا الغنائم ، رأى(2/20)
"""""" صفحة رقم 21 """"""
ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا ) ) .
وفي الترمذي عن أبي هُريرةَ ، عن النَّبيّ ، قَالَ : ( ( لم تحل الغنائم لأحد سود الرؤوس قبلكم ، كانت تنزل نار فتأكلها ) ) .
وفي كتاب ( ( السيرة ) ) لسليمان التيمي : أن من قبلنا من الأمم كانوا إذا أصابوا شيئا من عدوهم جمعوه فأحرقوه وقتلوا كل نفس من إنسان أو دابة .
وفي صحة هذا نظر ، والظاهر أن ذوات الأرواح لم تكن محرمة عليهم ، إنما كان يحرم عليهم ما تأكله النار .
وقد ذهب طائفة من العلماء ، منهم : الإمام أحمد إلى أن الغال من الغنيمة يحرق رحله كله إلا ما له حرمة من حيوان أو مصحف .
وورد في ذلك أحاديث تذكر في موضع أخر - إن شاء الله تعالى .
وقد قال طائفة من العلماء : أن المحرم على من كان قبلنا هو المنقولات دون ذوات الأرواح ، واستدلوا بأن إبراهيم ( كانت له هاجر أمة ، والإماء إنما يكتسبن من المغانم ، ذكر هذا ابن عقيل وغيره .
وفي هذا نظر ؛ فإن هاجر وهبها الجبار لسارة ، فوهبتها لإبراهيم ، ويجوز أن يكون في شرع من قبلنا جواز تملك ما تملكه الكفار باختيارهم دون ما يغنم منهم .
وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الكافر إذا أهدى إلى آحاد المسلمين هدية فله أن يتملكها منه ، ويختص بها دون غيره من المسلمين .
وقال القاضي إسماعيل المالكي : إنما اختصت هذه الأمة بإباحة المنقولات من الغنائم ، فأما الأرض فإنها فيء ، وكانت مباحة لمن قبلنا ، فإن الله تعالى أورث بني إسرائيل فرعون .(2/21)
"""""" صفحة رقم 22 """"""
وهذا بناء على أن الأرض المأخوذة من الكفار تكون فيئا ، سواء أخذت بقتال أو غيره ، وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد في المشهور عنه .
ومن الناس من يقول : إنما حرم على من كان قبلنا الغنائم المأخوذة بقتال دون الفيء المأخوذ بغير قتال . قالوا : وهاجر كانت فيئا لا غنيمة ؛ لان الجبار الكافر وهبها لسارة باختياره .
وقد قَالَ طائفة من العلماء : أن ما وهبه الحربي لمسلم يكون فيئا .
وزعم بعضهم : أن المحرم على من كان قبلنا كان من خمس الغنيمة خاصة ، كانت النار تأكله ، ويقسم أربعة أخماس بين الغانمين ، وهذا بعيد جدا .
واستدلوا : بما خرجه البزار من رواية سالم أبي حماد ، عن السدي ، عن عكرمة ، عن أبي عباس ، عن النَّبيّ ( ، قَالَ : ( ( أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي ) ) - فذكر الحديث ، وقال فيه : ( ( وكانت الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله ، وأمرت أنا أن أقسمه في فقراء أمتي ) ) .
وسالم هذا : قال فيه أبو حاتم الرازي : مجهول .
وأما الشفاعة التي اختص بها النبي ( من بين الأنبياء ، فليست هي الشفاعة في خروج العصاة من النار ؛ فإن هذه الشفاعة يشارك فيها الأنبياء والمؤمنون - أيضا - ، كما تواترت بذلك النصوص ، وإنما الشفاعة التي يختص بها من دون الأنبياء أربعة أنواع :
أحدها : شفاعته للخلق في فصل القضاء بينهم .
والثاني : شفاعته لأهل الجنة في دخول الجنة .
والثالث : شفاعته في أهل الكبائر من أهل النار ، فقد قيل : أن هذه يختص هو
بها .(2/22)
"""""" صفحة رقم 23 """"""
والرابع : كثرة من يشفع له من أمته ؛ فإنه وفر شفاعته وأدخرها إلى يوم القيامة .
وقد ورد التصريح بأن هذه الشفاعة هي المرادة في هذا الحديث ، ففي الحديث الذي خرجه الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النَّبيّ ، قَالَ : ( ( أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن نبي كان قبلي ) ) - فذكر الحديث ، إلى أن قَالَ : ( ( والخامسة هي ما هي : قيل لي سل ؛ فإن كل نبي قد سأل ، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة ، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله ) ) .
وخرج - أيضا - من حديث أبي موسى ، عن النَّبيّ ( قَالَ : ( ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد كان قبلي ) ) - فذكره ، وقال في آخره : ( ( وأعطيت الشفاعة ، وإنه ليس من نبي إلا قد سأل شفاعته ، وإني أخرت شفاعتي ، جعلتها لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا ) ) .
وفيه - أيضا - من حديث ابن عباس ، عن النبي ، قال : ( ( لم يكن نبي إلا له دعوة ينجزها في الدنيا ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، وأنا سيد ولد ادم ولا فخر ، وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد وآدم ومن دونه تحت لوائي ) ) .
وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعد ، عن النبي ، قال : ( ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر ، ولواء الحمد بيدي ولا فخر ) ) .(2/23)
"""""" صفحة رقم 24 """"""
وفي ( ( الصحيحين ) ) عن أبي هُريرةَ ، عن النبي ( قَالَ : ( ( لكل نبي دعوة يدعو بها ، فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ) ) .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن جابر ، عن النَّبيّ ( ، قَالَ : ( ( لكل نبي دعوة قد دعا بها أمته ، وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ) ) .
وفيه - أيضا - نحوه من حديث أنس ، عن النَّبيّ ( .
وفي حديث عبد الرحمن بن أبي عقيل : سمع النبي ( يقول : ( ( إن الله لم يبعث نبيا إلا أعطاه دعوة ، فمنهم من اتخذها دنيا فأعطاها ، ومنهم من دعا بها على قومه إذ عصوه فهلكوا ، وإن الله أعطاني دعوة ، فاختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي يوم القيامة ) ) .
خرجه البزار وغيره .
وفي ( ( المسند ) ) عن عبادة بن الصامت ، عن النبي ( قَالَ : ( ( إن الله أيقظني فقال : إني لم أبعث نبيا ولا رسولا إلا وقد سألني مسالة أعطيتها إياه ، فسل يا محمد تعط ؟ فقلت : مسألتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ) ) ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، وما الشفاعة التي اختبأت عندك ؟ قال : ( ( أقول : يارب ، شفاعتي التي اختبأت عندك ، فيقول الرب تبارك وتعالى : نعم ، فيخرج ربي تبارك وتعالى بقية أمتي من النار ، فينبذهم في الجنة ) ) .
والمراد من هذه الأحاديث - والله أعلم - : أن كل نبي أعطي دعوة عامة شاملة لأمته ، فمنهم من دعا على أمته المكذبين له فهلكوا ، ومنهم من سأل كثرتهم في الدنيا كما سأله سليمان ( ، واختص النَّبيّ ( بأن ادخر(2/24)
"""""" صفحة رقم 25 """"""
تلك الدعوة العامة الشاملة لأمته شفاعة لهم يوم القيامة .
وقد ذكر بعضهم : شفاعة خامسة خاصة بالنبي ( ، وهي : شفاعته في تخفيف عذاب بعض المشركين ، كما شفع لعمه أبي طالب ، وجعل هذا من الشفاعة المختص بها ( .
وزاد بعضهم شفاعة سادسة خاصة بالنبي ( ، وهي : شفاعته في سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب . وسيأتي ما يدل عليه - إن شاء الله تعالى .
وأما بعثته إلى الناس عامة ، فهذا مما اختص به ( عن الأنبياء .
وفي ( ( المسند ) ) من حديث أبي ذر ، عن النَّبيّ ( ، قَالَ : ( ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ) ) - فذكر منها - : ( ( وبعثت إلى كل أحمر وأسود ) ) .
وفيه - أيضا - من حديث ابن عباس ، عن النبي ، قال : ( ( أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي ، ولا أقولهن فخرا ، بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود ) ) .
وفي ( ( مسند البزار ) ) من حديث ابن عباس ، عن النَّبيّ ( ، قَالَ : ( ( أعطيت خمسا لم يعطها نبي ) ) - فذكر منها - : ( ( وكان النبي يبعث إلى خاصة قومه ، وبعثت إلى الجن والأنس ) ) - وذكر الحديث .
وقال : لفظ : ( ( الجن والأنس ) ) لا نعلمه إلا في هذا الحديث ، بهذا الإسناد .
قلت : وقد سبق أن في إسناده سالما أبا حماد ، وأن أبا حاتم قَالَ : هو مجهول .(2/25)
"""""" صفحة رقم 26 """"""
ولكن روي ذكر الجن في حديث آخر ، ذكره ابن أبي حاتم في ( ( تفسيره ) ) تعليقا ، وفي إسناده رجل لم يسم ، عن عبادة بن الصامت ، أن النَّبيّ ( خرج عليهم فقال : ( ( أن جبريل قال لي : أخرج فأخبر بنعمة الله التي أنعم بها عليك ، وفضيلته التي فضلت بها ، فبشرني أنه بعثني إلى الأحمر والأسود ، وأمرني أن أنذر الجن ، وآتاني كتابه وأنا أمي ، وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر ، وذكر اسمي في الأذان ، وأمدني بالملائكة ، وآتاني النصر ، وجعل الرعب أمامي ، وآتاني الكوثر ، وجعل حوضي من أعظم الحياض يوم القيامة ، ووعدني المقام المحمود والناس مهطعين مقنعي رؤسهم ، وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس ، وأدخل في شفاعتي سبعين ألفا من أمتي الجنة بغير حساب ، وآتاني السلطان والملك ، وجعلني في أعلى غرفة في الجنة ، فليس فوقي إلا الملائكة الذين يحملون العرش ، وأحل لي ولأمتي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا ) ) .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) ، عن أبي هُريرةَ ، عن النَّبيّ ( ، قَالَ : ( ( فضلت على الناس بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون ) ) .
وقوله : ( ( إلى الخلق كافة ) ) يدخل فيه الجن بلا ريب .
وفي ( ( صحيح ابن خزيمة ) ) عن حذيفة ، عن النَّبيّ ( ، قَالَ : ( ( فضلت على الناس بثلاث ) ) - فذكر الثالثة ، قَالَ : ( ( وأعطيت هذه الآيات من أخر سورة البقرة من كنْز تحت العرش ، لم يعط منه أحد قبلي ولا أحد بعدي ) ) .(2/26)
"""""" صفحة رقم 27 """"""
وهذه الخصلة الثالثة لم تسم في ( ( صحيح مسلم ) ) ، بل فيهِ : ( ( وذكر خصلة أخرى ) ) كما تقدم .
ومن تأمل هذه النصوص علم أن الخصال التي اختص بها عن الأنبياء لا تنحصر في خمس ، وأنه إنما ذكر مرة ستا ومرة خمسا ومرة أربعا ومرة ثلاثا بحسب ما تدعو الحاجة إلى ذكره في كل وقت بحسبه . والله أعلم .(2/27)
"""""" صفحة رقم 28 """"""
- باب إذا لم يجد ماء ولا ترابا
خرج فيه :
336 - حديث : هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أنها استعارت من أسماء قلادة ، فهلكت ، فبعث رسول الله ( رجلا فوجدها ، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء ، فصلوا فشكوا ذلك إلى رسول الله ( ، فأنزل الله تعالى آية التيمم . فقال أسيد بن حضير لعائشة : جزاك الله خيرا ، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيرا .
قد سبق : أن رواية هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة لهذا الحديث تخالف رواية عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة ؛ فإن عبد الرحمن ذكر في روايته : أن عقدا لعائشة انقطع ، وأن رسول الله ( أقام على التماسه ، وأنه نام حتّى أصبح على غير ماء ، فنزلت آية التيمم .
وأما عروة ، فذكر في روايته : أن قلادة لأسماء استعارتها عائشة فهلكت - يعني : أنهم فقدوها - ، فأرسل رسول الله ( في طلبها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء ، فصلوا فشكوا ذلك إلى النَّبيّ ( ، فنزلت آية التيمم .
وفي حديث ابن القاسم ، عن أبيه : أنهم بعثوا البعير ، فوجدوا العقد تحته .
وفي حديث ابن عروة ، عن أبيه : أن الذين أرسلهم في طلبها وجدوها .
فزعم بعض الناس أن عائشة كان لها عقد انقطع وقلادة فقدت ، فأرسل في طلب القلادة وأقاموا على التماس العقد ، وفي هذا نظر . والله أعلم .(2/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
ورجحت طائفة رواية مالك ، عن ابن القاسم ، عن أبيه على رواية هشام ، عن أبيه ، ومنهم : القاضي إسماعيل المالكي ، وقال : بلغني عن يحيى القطان أنه كان ينكر أشياء حدث بها هشام في آخر عمره لما ساء حفظة .
وقد استدل البخاري بهذا الحديث الذي رواه هشام ، عن أبيه على أن من لم يجد ماء ولا ترابا أنه يصلي على حسب حاله ، فإنهم صلوا بغير وضوء ، ولم يكن شرع التيمم قبل ذلك ، وشكوا ذلك إلى النبي ( ولم يأمرهم بإعادة الصَّلاة .
وزعم بعضهم : أن رواية القاسم ، عن عائشة ، أن النبي ( نام حتى أصبح على غير ماء يدل على أنه لم يصل هو ولا من معه ، وهذا في غاية الضعف .
وقد قررنا في ما تقدم : أن آية سورة النساء التي فيها ذكر التيمم كان نزولها سابقا لهذه القصة ، وأن توقفهم في التيمم إنما كان لضنهم أن من فوت الماء لطلب مال له لا رخصة له في التيمم ، فنزلت الآية التي في سورة المائدة مبينة لجواز التيمم في مثل ذلك .
والظاهر : أن الجميع صلوا بالتيمم ولكن حصل لهم شك في ذلك ، فزال ذلك عنهم بنزول آية المائدة . والله أعلم .
واختلف العلماء في حكم من لم يجد ماءا ولا ترابا على أربعة أقوال :
أحدها : أنه يصلي بحسب حاله ، ولا قضاء عليه ، وهو قول مالك وأحمد في رواية عنهما ، وأبي ثور والمزني وغيرهم ، وحكي قولا قديما للشافعي .
وعليه بوب البخاري ، واستدل بحديث عائشة الذي خرجه هاهنا ؛ فإنهم شكو ذَلكَ إلى النَّبيّ ( ، ولم يذكر أنه أمرهم بقضاء صلاتهم ؛ ولأن الطهارة(2/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
شرط ، فإذا عجز عنها سقطت عنه ، كاستقبال القبلة وستر العورة .
والثاني : يصلي ويعيد ، وهو قول مالك في رواية ، والشافعي ، وأحمد في رواية عنه نقلها عنه أكثر أصحابه .
والثالث : لا يصلي ويعيد صلاته ، وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة ، وهو قول قديم للشافعي .
واستدلوا : بقوله ( : ( ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ) ) .
ويجاب عنه : بان ذلك مع القدرة ، كما في قوله ( : ( ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) ) ، ولا خلاف أنه لو عدم الماء وصلى بالتيمم قبلت صلاته .
والرابع : أنه لا يصلى ولا إعادة عليه ، وهو رواية عن مالك ، وقول بعض الظاهرية ، وحكاه بعضهم رواية عن أبي ثور .
وهو أردأ الأقوال وأضعفها ، ويرده قول الله تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( [ التغابن : 16 ] ، وقول النَّبيّ ( : ( ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ) .
وليس هذا كالحائض ؛ فإن الحائض ليست من أهل الطهارة ، ولا يصح منها لو فعلتها ، وهذا من أهلها وهو عاجز عنها .
وأما قول أسيد بن حضير لعائشة - رضي الله عنها - : ( ( جزاك الله خيرا فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين خيرا ) ) .(2/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
فيه إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك ، وقد تقدم أن بعض أهل السير ذكر أن هذه القصة كانت هي وقصة الإفك في سفرة واحدة ، وهذا يشكل عليه قول أسيد بن حضير هذا ؛ فإن الفرج الذي حصل من قضية الإفك إنما وقع بعد قدومهم المدينة بمدة ، وظاهر سياق حديث عائشة يدل على أن أسيد بن حضير قَالَ ذَلكَ عقيب نزول آية التيمم .
وقد زعم بعضهم : أن هذا قاله أسيد بن حضير بعد نزول الآيات في قصة
الإفك ، وبعد نزول آية التيمم ، وهو مخالف لظاهر هذه الرواية . والله أعلم .
وقد استحب الثوري وأحمد : حمل التراب للمسافر كما يستحب له حمل الماء للطهارة ، ومن المتأخرين من أنكره ، وقال : هو بدعة .(2/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
3 باب
التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة
وبه قال عطاء .
وقال الحسن في المريض عنده الماء ولا يجد من يناوله : تيمم .
وأقبل ابن عمر من أرضه بالجرف ، فحضرت العصر بمربد النعم ، فصلى ، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة ، فلم يعد .
هذه الآثار الثلاثة التي علقها البخاري تشتمل على ثلاثة مسائل :
المسألة الأولى :
أن من عدم الماء في الحضر فله أن يتيمم ويصلي ، وقد حكاه عن عطاء ، وهو قول جمهور العلماء .
وقد سبقت الإشارة إلى الاختلاف في هذه المسألة ، وان السفر هل هو شرط لجواز التيمم أم كان ذكره في القران لان السفر مظنة عدم الماء غالبا ؟ والأكثرون على الثاني ، فلو لم يجد الماء في الحضر تيمم وصلى .
واختلفوا : هل يعيد إذا وجد الماء أم لا ؟ فقال الليث وأبو حنيفة والشافعي :
يعيد ، وهو وجه لأصحابنا .
ومنهم من فرق بين أن تقصر مدة عدم الماء في الحضر فيعيد ، وبين أن تطول فلا يعيد ، والصحيح من المذهب : أنه لا يعيد ، وهو قول مالك والثوري وإسحاق والمزني وغيرهم .
وذهبت طائفة إلى أنه لا يصلي حتى يجد الماء أو يسافر ، وهو رواية عن(2/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
أبي
حنيفة ، ورواية عن أحمد اختاره الخلال والخرقي وحكي عن زفر وداود .
ومن أصحابنا من قال : إن كان يرجو حصول الماء قريبا لم يصلي حتى يجده ، وإن فات الوقت .
المسألة الثانية :
أن المريض إذا كان يجد الماء ، ولكن ليس عنده من يناوله إياه ، فإنه يتيمم
ويصلي ، حكاه عن الحسن ، وهو - أيضا - قول الأوزاعي والشافعي وأحمد وأكثر
العلماء .
وعن الشافعي : يعيد ، وحكي رواية عن أحمد ، وظاهر كلامه أنه لا يعيد ، وهو المشهور عند أصحابنا .
ولأصحابنا وجه : أنه إن رجا أن يجد من يناوله الماء بعد الوقت قريبا لم يصل بالتيمم ، وأخر حتى يجيء من يناوله .
والصحيح : الأول ، وأنه يصلي بالتيمم في الوقت ، ولا يؤخر الصلاة إلى أن يقدر على الوضوء بعده ، كما لا يؤخر المسافر الصلاة إذا رجا الوصول إلى الماء بعد الوقت عقيبه .
وخرج ابن أبي حاتم من رواية قيس ، عن خصيف ، عن مجاهد ، في قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى ( [ النساء : 43 ] ، قَالَ : نزلت في رجل من الأنصار ، كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، ولم يكن له خادم فيناوله ، فأتى رسول الله ( فذكر ذلك له ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .(2/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
المسألة الثالثة :
أنه يجوز التيمم بقرب المصر إذا لم يجد الماء ، وان كان يصل إلى المصر في الوقت ، هذا هو المروي عن ابن عمر ( ، وقد احتج به الإمام أحمد ، وقال : كان ابن عمر يتيمم قبل أن يدخل المدينة ، وهو يرى بيوت المدينة .
وهذا الأثر مشهور عن ابن عمر من رواية نافع عنه ، وقد رفعه بعضهم ، خرجه الدارقطني والبيهقي مرفوعا . قال البيهقي : وهو غير محفوظ .
ولفظ المرفوع : أن ابن عمر قَالَ : رأيت النبي ( تيمم بموضع يقال له : مربد النعم ، وهو يرى بيوت المدينة .
وخرج الأثرم من طريق أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه اقبل من أرضه التي بالجرف ، حتى إذا كان بمربد النعم حضرت الصلاة صلاة العصر ، فتيمم وهو ينظر إلى بيوت المدينة .
وقد روى الشافعي ، عن ابن عيينة ، عن ابن عجلان ، عن نافع ، أن ابن عمر أقبل من الجرف حتى كان بالمربد تيمم وصلى العصر ، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصَّلاة .
( ( الجرف ) ) : بضم الجيم والراء - : موضع بينه وبين المدينة ثلاثة أميال .
و ( ( المربد ) ) : مكان بقرب المدينة .
ورواه سفيان الثوري ، عن ابن عجلان ، عن نافع ، أنه تيمم على راس ميل أو ميلين من المدينة ، فصلى العصر ، ثم قدم والشمس مرتفعة ، فلم يعد .(2/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
خرجه حرب الكرماني .
ورواه - أيضا - مالك ، عن نافع ، قَالَ : أقبلت مع ابن عمر من الجرف حتى إذا بلغ المربد تيمم ، ثم صلى .
ورواه العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه تيمم وصلى ثم دخل المدينة في وقت ، فلم يعد ، ورواه أبو معشر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قَالَ : اقبلنا من الغابة ، حتى إذا كنا بمربد النعم جاءت الصلاة ، فتيمم ، وصلى العصر ، ثم دخل المدينة .
وهذا المروي عن ابن عمر يؤخذ منه عدة مسائل :
منها : أنه تجوز الصلاة بالتيمم في أول وقت للمسافر ، وان علم أنه يصل إلى الماء قبل خروج الوقت ، وهذا قول أكثر العلماء ، ومنهم من حكاه إجماعا ، واستدل أحمد لذلك بحديث ابن عمر هذا . وحكي عن الشافعي قول : أنه لا يجوز .
ومنها : أن المسافر سفرا قصيرا له أن يتيمم فيه كالسفر الطويل ، وهو قول جمهور العلماء - أيضا - ، وحكي فيه خلاف شاذ في مذهب الشافعي ، ومن أصحابه من لم يثبته عنه ، وقال : إنما حكاه الشافعي عن غيره ، وهو وجه ضعيف لأصحابنا - أيضا .
وقد تقدم : أن عدم الماء في الحضر يبيح التيمم عند الأكثرين ، لكن منهم من أوجب الإعادة فيه ، فمن قال : يعيد إذا تيمم في الحضر ، وقال : لا يتيمم إلا في سفر طويل جعل حكم السفر القصير حكم الحضر في الإعادة إذا صلى فيه بالتيمم .(2/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
وحكى ابن عبد البر ، عن محمد بن مسلمة المالكي ، أنه حمل ما فعله ابن عمر على أنه خاف فوت الوقت ، وهذا يدل على أنه يرى أن الحاضر إذا كان عادما للماء لم يتيمم ، إلا أن يخاف فوت الوقت .
وسئل ابن المبارك : عن الراعي تكون الماشية منه على الميلين والثلاثة ؟ فذكر عن سعيد بن المسيب ، قَالَ : يتيمم ويصلي .
وقال أبو داود : قلت لأحمد : الرجل يخرج على الميلين والثلاثة والأكثر ، فتحضره الصلاة ، أيتيمم ؟ قَالَ : إذا خاف يتيمم . قيل له فيعيد ؟ قال : لا .
قال : حرب : قلت لإسحاق - يعني : ابن راهويه - : فرجل من المدينة على فرسخ ، وليس في سفر ، فحضرت الصلاة ، وليس له ماء ، أيتيمم ويصلي ؟ فقل : نعم . قلت : يعيد ؟ قال : لا ، وانأ أرى في الحضر التيمم .
قَالَ : وسألته عن رجل في الصيد ، وليس هو في سفر ، فحضرت الصلاة ، ولم يكن معه ماء ، فتيمم وصلى ؟ قال : إن كان في معصية يعيد ، وان كان للكسب على عياله لا يعيد .
وروى حرب بإسناده عن الزهري ، في رجل ينتجع الكلأ فلا يجد الماء ؟ قال : لا نرى أن يقيم بالأرض ليس فيها ماء . قال الوليد بن مسلم ذكرته لبعض المشيخة ، فقال : سمعت أن معاذ بن جبل ذكر ذلك له ، فقال : لو لم يكن لهم ذلك لم يكن لنا أن نتركهم وذلك .
والمنصوص عن أحمد في الحطاب ونحوه : لا يرخص لهم في ترك حمل ماء
الوضوء ، وإنه إذا لم يكن معهم ماء فلا يتيممون ، وحمله القاضي على أن السفر القصير لا تيمم فيه .(2/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
وأجاز طائفة من أصحابنا لمن عدم الماء في الحضر في التيمم في أخر الوقت ، وإنهم لا يكلفون طلب الماء مع فوت الوقت مع بعد الماء في الحضر ، وأوجب القاضي في ( ( خلافه ) ) طلب الماء على الحاضر ، وان أدركه بعد الوقت .
وقال صاحب ( ( المغني ) ) : من فارق موضع الماء إلى مكان قريب لحرث ونحوه ، فحضرت الصلاة ، ولا ماء معه ، وان رجع إليه فاته غرضه ؛ فإنه يتيمم ويصلي ، ولا إعادة عليه ، إلا أن يكون مكان الماء ومكان الحاجة من عمل واحد ، ففي الإعادة وجهان .
وقد سبق ذكر هذه المسألة في ( ( باب : التماس الماء إذا حانت الصَّلاة ) ) في
( ( كتاب : الوضوء ) ) .
ومنها : أن من صلى بالتيمم ثم وجد الماء في الوقت فإنه لا إعادة عليه ، هذا قول جمهور العلماء ، وحكي عن طائفة من السلف وجوب الإعادة .
ولو وجده بعد الوقت ، فأجمعوا على أن لا إعادة علية - : حكاه ابن المنذر
وغيره .
وفي ( ( المسند ) ) و ( ( سنن أبي داود ) ) والنسائي من رواية عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد ، قَالَ : خرج رجلان في سفر ، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء ، فتيمما صعيداً طيباً وصليا ، ثم وجدا الماء في الوقت ، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر ، ثم أتيا رسول الله ( ، فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد : ( ( أصبت السنة ، وأجزأتك صلاتك ) ) ، وقال للذي توضأ وأعاد : ( ( لك الأجر مرتين ) ) .(2/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
وقال أبو داود : ذكر أبي سعيد في إسناده وهم ليس بمحفوظ ، بل هو مرسل .
واستحب الأوزاعي الإعادة بالوضوء في الوقت من غير إيجاب . ونقله حرب ، عن أحمد .
وقال القاضي أبو يعلي : يجوز ولا يستحب ، وذكر أنه ظاهر كلام أحمد ؛ فإنه قَالَ في رواية صالح : أن أعاد لم يضره .
وقال الخلال : العمل من قول أبي عبد الله على أنه لا يعيد .
وقال الحسن : أن شاء أعاد ، وإن شاء لم يعد .
وصرح أصحاب الشافعي بأن الإعادة غير مستحبة .
وهذا الحديث قد يستدل به على استحباب الإعادة ؛ لقوله : ( ( لك الأجر
مرتين ) ) . وقد يقال : إصابة السنة أفضل من ذَلكَ .
وقد ذكرنا في ( ( كتاب : العلم ) ) في شرح حديث : ( ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ) ) أنه ليس كل من له أجره مرتين يكون أفضل من غيره .
ومنها : أنه لا يجب طلب الماء لمن عدمه في غير موضعه الذي هو فيه ، وقد أخذ بذلك إسحاق ، واستنبطه من فعل ابن عمر هذا .
قال البخاري - رحمه الله - :
337 - ثنا يحيى بن بُكير : ثنا الليث ، عن جعفر بن ربيعة ، عن الأعرج ، قال : سمعت عُميراً مولى ابن عباس قال : أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النَّبيّ ( ، حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري ، فقال أبو الجهيم : أقبل النبي ( من نحو بئر جمل ، فلقيه رجلٌ فسلم عليه ، فلم يرد(2/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
عليه النبي ( السلام ، حتى أقبل على الجدار ، فمسح بوجهه ويديه ، ثم رد عليه السلام .
هذا الحديث ذكره مسلم في ( ( صحيحه ) ) تعليقاً عن الليث بهذا الإسناد ، وكذا رواه ابن إسحاق ، عن الأعرج .
ورواه إبراهيم بن أبي يحيى ، عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية ، عن الأعرج ، عن ابن الصمة ، وزاد ، أنه مسح وجهه وذراعيه ، وأسقط من إسناده
( ( عُميراً ) ) .
ورواه أبو صالح كاتب الليث بن سعد ، عنه ، وقال في حديثه - أيضا ً - :
( ( فمسح بوجهه وذراعيه ) ) .
وأبو صالح تغير بآخرة ، وقد اختلف عليه في لفضه ، ورواية يحيى بن بُكير أصح .
قال الخطابي : حديث أبي الجهيم في مسح الذراعين لا يصح .
يعني : لا يصح رواية من روى فيه مسح الذراعين .
وقد استدل البخاري بهذا الحديث على جواز التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء ، ولكن التيمم هنا لم يكن لما تجب له الطهارة ، بل لما يستحب له ، وقد تقدم ذكر هذا في ( ( كتاب : الوضوء ) ) في غير موضع منه ، وذكرنا أن عمر كان يتيمم في الحضر لذكر الله عز وجل ، وهو من رواية علي بن زيد ، عن(2/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قَالَ : رأيت عمر بال ثم أتى الحائط فتمسح به ، ثم قال : هذا للذكر والتسبيح حتى تلقى الماء .
خرّجه ابن جرير الطبري .
وهذا يدل على أنه إنما تيمم بمكان ليس فيه ماء ، وذكرنا فيما تقدم أن من السلف من كان يتيمم لرواية الحديث ونحو ذلك ، وعن أبي العالية أنه تيمم لرد السلام .
وفي المسند عن ابن عباس ، أن رسول الله ( كان يخرج فيهريق الماء ، فيتيمم بالتراب ، فأقول : يا رسول الله ، الماء منك قريب ، فيقول : ( ( ما يدريني ، لعلي لا
أبلغه ) ) .
وذكرنا - أيضاً - أن طائفة من أعيان الشافعية كأبي المعالي الجويني - وصاحبه أبي حامد صرحوا بأن من تيمم في الحضر ، ثم قرأ القرآن وذكر الله كان جائزاً ، استدلالاً بهذا الحديث .
ورد ذلك بعض متأخر يهم ، وقال : لم يكن تيمم النبي ( بالمدينة ، إنما كان ظاهراً حيث لا يوجد الماء ، ولكن كان بقرب المدينة ، فإن في هذا الحديث أن النبي ( كان قد أقبل من نحو بئر جمل ، وهي خارج المدينة .
وقد روى هذا الحديث عن ابن عمر ، عن النبي ( بنحو حديث أبي الجهيم .
خرجه أبو داود من حديث ابن عمر ، أن النبي ( قضى حاجته ثم أقبل في(2/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
سكة من سكك المدينة ، فسلم عليه رجل ، فمسح وجهه وذراعيه ، ثم رد عليه السلام .
خرجه أبو داود وغيره .
ورفعه منكر عند أئمة الحفاظ ، وإنما هو موقوف عندهم - : كذا قاله الإمام أحمد ويحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود والبخاري والعقيلي والأثرم .
وتفرد برفعه محمد بن ثابت العبدي ، عن نافع . والعبدي ضعيف .
وذكر الأثرم أبي الوليد ، أنه سأل محمد بن ثاب هذا : من الذي يقول النبي وابن عمر ؟ فقال لا أدري .
ففي هذا الحديث : أن تيمم النبي ( كان في بعض سكك المدينة .
وسيأتي في ( ( باب : الشعر في المسجد ) ) أن النبي ( تيمم على جدار المسجد ، ثم دخل المسجد .
وقال بعض أصحابنا : يجوز التيمم لرد السلام في الحضر ، إذا خشي فوته ؛ لان الطهارة لرده مشروعة ندبا لا وجوبا ؛ فإنه يجوز الرد مع الحدث لكن يفوت فعله بالطهارة ؛ لأنه على الفور .
واستدل بعضهم بهذا الحديث : على جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوت صلاة الجنازة ، كما هو قول كثير من العلماء ، ومذهب أبي حنيفة ، وأحمد في رواية عنه ، وذكر أحمد أنه قول أكثر العلماء : ابن عباس ومن بعده - وذكر الحسن والنخعي وجماعة .
ومن منع من ذلك كمالك والشافعي وأحمد - في الرواية الأخرى - ؛ فإنهم(2/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
قد يفرقون بأن الطهارة بالماء لصلاة الجنازة شرط ، فلا يسقط مع القدرة عليه خشية
الفوات ، بخلاف الطهارة لرد السلام ونحوه من الذكر ، فأنها ليست بشرط فخف أمرها .
وقد أجاب بهذا طائفة من الفقهاء من الشافعية ، منهم : الماوردي وأبو الطيب الطبري ونصر المقدسي وغيرهم . وهذا موافق لما تقدم حكايته عن أبي المعالي والغزالي .
والعجب أن صاحب ( ( شرح المهذب ) ) حكى ذلك كله في موضعين من
( ( كتابه ) ) ، وقال فيما حكاه عن أبي المعالي والغزالي : لا نعرف أحدا وافقهما ، وهذا الذي حكاه عن الماوردي وغيره يدل على الموافقة .(2/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
4 - باب
هل ينفخ فيهما ؟
338 - حدثنا آدم : ثنا شعبة : ثنا الحكم ، عن ذر ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، قَالَ : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب ، فقال : إني أجنبت ، فلم أجد الماء ؟ فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب : أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت فصليت ، فذكرت ذلك للنبي ( ، فقال النبي ( :
( ( إنما كان يكفيك هكذا ) ) ، فضرب بكفيه الأرض ، ونفخ فيهما ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه .
وقد خرجه فيما بعد من وجه أخر ، وفيه : ( ( ثم نفضها ) ) بدل ( ( نفخ فيهما ) ) .
وفي رواية لمسلم في ( ( صحيحه ) ) أنه ( قال لعمار : ( ( إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثم تنفخ ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك ) ) .
واستدل بهذا بعض من ذهب إلى أنه لا يشرط في المتيمم به أن يكون له غبار يعلق باليد ، كما هو قول مالك وأبي حنيفة والثوري وغيرهم ؛ لان نفخ التراب من اليدين ونفضهما منه قد يزيل ما علق باليد منه أو يخففه حتّى لا يبقى منه ما يعم الوجه والكفين غباره ، فلو كان المسح بالغبار شرطا لكان ترك النفخ أولى .(2/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
وأجاب عن ذلك بعض من يرى اشتراط الغبار الممسوح به ، كأصحاب الشافعي وأحمد : بأن النفخ يدل على أنه علق باليد من التراب ما يخفف منه بالنفخ ، وقد قال لعمار : ( ( إنما يكفيك هكذا ) ) ، فدل على أنه لا بد في التيمم من تراب يعلق باليد .
وأجاب بعضهم : بأنه ( إنما ذكر النفخ لعمار لا لكون النفخ سنة ، بل ليبين له أن المبالغة في التيمم بالتمعك الذي فعله بالتراب ليس بسنة ، وأنه يكفي من ذلك أدنى ما يمكن أن يمسح به الوجه والكفان من غباره .
وقد اختلف العلماء في نفخ اليدين من الغبار في التيمم : فمنهم من استحبه ، ومنهم من كرهه .
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، أنه كان إذا تيمم ضرب بيديه ضربة ، فمسح بهما وجهه ، ثم ضرب بيديه ضربة أخرى ، ثم مسح بهما يديه إلى المرفقين ، ولا ينفض يديه من التراب .
وكره النفض حماد وغيره ، واستحبه الحسن ويحيى ابن أبي كثير .
واختلفت الرواية عن أحمد في ذَلكَ : فروي عنه أنه لم يذهب إلى النفخ . وروي عنه أنه قَالَ : أن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل .
ونقل عنه الميموني قَالَ : لا ينفخهما . ثم قَالَ : ومن الناس من ينفضهما ، ولست أنفضهما ، وكأني للنفخ أكره .
ونقل عنه حنبل أنه ذكر حديث عمار هذا ، وقال : اذهب إليه . قيل له : ينفخ فيهما ؟ قَالَ : ينفخ فيهما ويمسحهما .
قال الخلال : العمل من مذهبه : على أنه يجوز فعل ذلك كله : النفخ والنفض ، ويجوز تركه .(2/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
وقال غيره من أصحابنا : أن كان التراب خفيفا كره النفخ ؛ لأنه ينقص به كمال التعميم بالطهور ، وإن كان كثيرا ففي كراهته روايتان ، والصحيح : لا يكره ؛ لأنه تخفيف لا يكره ابتداء ، فكذلك دواما .
وللشافعي في تخفيف التراب بالنفخ ونحوه قولان : أحدهما : يستحب . والثاني : لا . وقيل : أن القديم استحبابه والجديد عدم استحبابه .
واختلف أصحابه في ذلك على طريقين : فمنهم من قال : له قولان مطلقا . ومنهم من قال : هما منزلان على حالين ، فإن كان التراب كثيرا نفخ ، وألا لم ينفخ .
ونقل حرب ، عن إسحاق ، قال : أن لزق بالكفين تراب كثير نفخهما ، وان لم يلزق بهما تراب كثير أجزاه أن لا ينفخ .
قال حرب : ووصف لنا إسحاق التيمم ، فضرب بيديه ، ثم نفخهما فمسح بهما وجهه ، ثم ضرب بيديه الثانية ولم ينفخهما ، ثم مسح ظهور الكفين : اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى .
وروى بإسناده ، عن عمار ، أنه غمس باطن كفيه بالتراب ثم نفخ يده ، ثم مسح وجهه ويديه إلى المفصل . وقال عمار : هذا التيمم .
وبإسناده : عن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه وصف التيمم فمسح ظهر يديه وذراعيه من لدن أصابعه إلى مرفقيه ، ثم من بطن اليدين من لدن مرفقه إلى أصابعه مرتين ينفضهما .
ورواية الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر المتقدمة أصح من هذه .
وذكر بعض المالكية : أن جواز نفض اليدين من التراب في التيمم قول مالك والشافعي دون استقصاء لما فيهما ، لكن لخشية ما يضر به من ذلك من تلويث وجهه ، أو شيء يؤذيه .(2/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
وقال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله ( لما ضرب بيديه الأرض للتيمم نفخ فيهما . واختلفوا في ذلك ، فكان الشعبي يقول : ينفضهما . وقال مالك : نفضا خفيفا . وقال الشافعي : لا باس أن ينفض إذا بقي في يده غبار . وقال إسحاق نحوا من قول الشافعي . وقال أحمد : لا يضره فعل أو لم يفعل . وقال أصحاب الرأي : ينفضهما . وكان ابن عمر لا ينفض يديه .
قال ابن المنذر : قول أحمد حسن .(2/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
5 - باب
التيمم للوجه والكفين
339 - حدثنا حجاج : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ذر ، عن سعيد بن
عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه : قال عمار - بهذا .
وضرب شعبة بيديه الأرض ، ثم أدناهما من فيه ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه .
قال النضر : أبنا شعبة ، عن الحكم : سمعت ذرا ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى - قال الحكم : وقد سمعته من ابن عبد الرحمن - ، عن أبيه : قال عمار .
340 - حدثنا سليمان بن حرب : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ذر ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، أنه شهد عمر ، وقال له عمار : كنا في سرية فأجنبنا . وقال : تفل فيهما .
341 - حدثنا محمد بن كثير : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ذر ، عن ابن
عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، قال : قال عمار لعمر : تمعكت فأتيت النبي ، فقال : ( ( يكفيك الوجه والكفين ) ) .
342 - حدثنا مسلم : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ذر ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى ، عن عبد الرحمن : شهدت عمر ، فقال له عمار - وساق الحديث .(2/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
343 - حدثنا محمد بن بشار : ثنا غندر : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ذر ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه : قال عمار : فضرب النبي ( بيده الأرض ، فمسح وجهه وكفيه .
حديث عمار في التيمم ، خرجه البخاري في ( ( كتابه ) ) من طريقين :
أحدهما : من طريق أبي وائل ، عن أبي موسى ، عن عمار ، وسيأتي .
والأخر : من رواية عبد الرحمن بن أبزى ، عن عمار .
ولم يخرجه من هذا الطريق إلا من رواية شعبة ، عن الحكم ، عن ذر الهمداني ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، عن عمار .
وقد ساق لفظه بتمامه في الباب الماضي ، وأحال في هذا الباب على ما قبله ، بقوله : ( ( قال عمار بهذا ) ) - يعني : بما سبق من سياق الحديث في الباب الماضي .
ووصف شعبة التيمم المذكور في الحديث بفعله .
وكرر البخاري في هذا الباب طرقه إلى شعبة ، وبعضها تعليق ؛ لما في ذلك من زيادة فائدة :
ففي رواية سليمان بن حرب ومسلم بن إبراهيم ، عن شعبة : تصريح عبد الرحمن بن أبزى بسماع هذا الحديث من عمار ، ومخاطبته لعمر ، وهذه فائدة جليلة .
وفي رواية سليمان بن حرب ، عن شعبة : أن النبي ( تفل في يديه لما ضرب بهما الأرض ، والمراد بالتفل هنا : النفخ ، كما في سائر الروايات .
وفي رواية النضر بن شميل : أن الحكم سمع الحديث من ذر ، عن سعيد ابن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، وسمعه - أيضا - من ابن عبد الرحمان(2/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
ابن أبزى ، عن أبيه ، كما سمعه من ذر ، عنه .
وذكر البيهقي وغيره : أن ابن أبزى هو سعيد - أيضا .
وقد ذكر البخاري رواية النضير تعليقا ، وأسندها مسلم عن إسحاق بن منصور ، عنه .
واتفقت رواياتهم على أن النبي ( مسح وجهه وكفيه . وفي رواية محمد بن كثير ، عن شعبة أن النبي ( قال لعمار : ( ( يكفيك الوجه والكفين ) ) .
وخرجه مسلم من طريق يحيى القطان ، عن شعبة ، ولفظه : أن النبي ( قال لعمار : ( ( إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثم تنفخ ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك ) ) .
قال الحكم : وحدثنيه ابن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه بمثل حديث ذر . قال : وحدثني سلمة ، عن ذر في هذا الإسناد الذي ذكر الحكم . انتهى .
وقد كان عند شعبة لهذا الحديث إسناد آخر ، رواه عن سلمه بن كهيل ، عن
ذر . كما خرجه مسلم من رواية القطان ، عن شعبة ، ولكن البخاري لم يخرجه عن شعبة من هذا الوجه لأمرين :
أحدهما : أن سفيان الثوري والأعمش روياه عن سلمة بن كهيل ؛ فخالفا شعبة في إسناده ، على اختلاف عليهما فيه .
والثاني : أن سلمة شك : هل ذكر في الحديث مسح الكفين ، أو الذراعين ؟ وكان - أحيانا - يحدث سلمة به ، ويقول : ( ( إلى المرفقين ) ) ، فأنكر ذلك عليه منصور بن المعتمر ، فقال سلمة : لا ادري ، أذكر الذراعين ، أم لا ؟
خرج ذَلِكَ أبو داود والنسائي وغيرهما .(2/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
ولهذا المعنى أشار مسلم إلى اتحاد الإسناد من رواية الحكم وسلمة ، وسكت عن اللفظ ؛ فإنه مختلف .
وقد خرجه القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي في ( ( أحكام القرآن ) ) له عن حفص بن عمر ، عن شعبة ، عن الحكم - بإسناد - ، وقال فيه : ( ( إنما كان يكفيك هكذا ) ) ، وضرب بيديه الأرض واحدة ، فمسح بهما كفيه ووجهه .
وكذا خرجه أبو بكر الأثرم عن أبي الوليد الطيالسي ، عن شعبة ، بهذا الإسناد ، وعنده : أن النبي ( ضرب بكفيه الأرض ضربة واحدة ، ثم نفخها ، ومسح بهما وجهه وكفيه .
وقد خرجه النسائي من رواية خالد ، عن شعبة ، وعنده : أن النبي ( قال له :
( ( إنما كان يكفيك ) ) ، وضرب شعبة بكفيه ضربة نفخ فيهما ، ثم دلك أحداهما بالأخرى ، ثم مسح بهما وجهه .
وفي هذه الرواية تأخير مسح الوجه ، لكنه من تفسير شعبة ، والظاهر أن شعبة كان أحيانا يحدث بالحديث بلفظه ، وأحيانا يفسره بفعله .
وقد اجمع العلماء على أن مسح الوجه واليدين بالتراب في التيمم فرض لا بد منه في الجملة ؛ فإن الله تعالى يقول : ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ( [ المائدة : 6 ]
ولكن اختلفوا في قدر الفرض من ذلك :
فأما الوجه :
فمذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء : أنه يجب استيعاب بشرته بالمسح بالتراب ، ومسح ظاهر الشعر الذي عليه ، وسواء كان ذلك الشعر يجب(2/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
إيصال الماء إلى ما تحته كالشعر الخفيف الذي يصف البشرة ، أم لا ، هذا هو الصحيح .
وفي مذهبنا ومذهب الشافعي وجه أخر : أنه يجب إيصال التراب إلى ما تحت الشعور التي يجب إيصال الماء إلى ما تحتها ، ولا يجب عند أصحابنا إيصال الماء إلى باطن الفم والأنف ، وان وجب عندهم المضمضة والاستنشاق في الوضوء .
وعن أبي حنيفة روايات ، إحداها : كقول الشافعي وأحمد . والثانية : أن ترك قدر درهم يجزئه ، وان ترك دونه أجزأه . والثالثة : أن ترك دون ربع الوجه أجزأه ، وإلا فلا . والرابعة : أن مسح أكثره وترك الأقل منه أو من الذراع أجزأه ، وإلا فلا . وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر .
وحكى ابن المنذر ، عن سليمان بن داود الهاشمي : أن مسح التيمم حكمه حكم مسح الرأس في الوضوء يجزئ فيه البعض .
وكلام الإمام أحمد يدل على حكاية الإجماع على خلاف ذلك .
قال : الجوزجاني : ثنا إسماعيل بن سعيد الشالنجي ، قال : سألت أحمد بن حنبل عمن ترك مسح بعض وجهه في التيمم ؟ قال : يعيد الصلاة . فقلت له : فما بال الرأس يجزئ في المسح ولم يجز أن يترك ذلك من الوجه في التيمم ؟ فقال : لم يبلغنا أن أحدا ترك ذَلكَ من تيممه .
قَالَ الشالنجي : وقال أبو أيوب - يعني : سليمان بن داود الهاشمي - : يجزئه في التيمم أن لم يصب بعض وجهه أو بعض كفيه ؛ لأنه بمنزلة المسح على الرأس ؛ إذا ترك منه بعضا أجزأه .
قال الجوزجاني : فذكرت ذلك ليحيى بن يحيى يعني : النيسابوري ،(2/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
فقال : المسح في التيمم كما يمسح الرأس ، لا يتعمد لترك شئ من ذلك ، فإن بقي شئ منه لم يعد ، وليس هو عندي بمنزلة الوضوء .
قال الجوزجاني : لم نسمع أحدا يتبع ذلك من رأسه في المسح ولا بين أصابعه في التيمم كما يتبع في الوضوء بالتخليل ، فأحسن الأقاويل منها ما ذكره يحيى بن يحيى : أن لا يتعمد ترك شئ من ذلك ، فإن بقي شئ لم يعد . انتهى .
وظاهر هذا : يدل على أن مذهب سليمان بن داود ويحيى بن يحيى والجوزجاني : أنه إذا ترك شئ من وجهه ويديه في التيمم لم يعد الصلاة . ونقل حرب ، عن إسحاق ، أنه قال تضرب بكفيك على الأرض ثم تمسح بهما وجهك ، وتمر بيديك على جميع الوجه واللحية ، أصاب ما أصاب وأخطأ ما أخطأ ثم تضرب مرة أخرى بكفيك .
ومراد إسحاق : أنه لا يشترط وصول التراب إلى جميع أجزاء الوجه ، كما يقوله من يقوله من الشافعية وغيرهم ، حتى نص الشافعي : أنه لو بقي من محل الفرض شئ لا يدركه الطرف لم يصح التيمم .
واستشكل أبو المعالي الجويني تحقق وصول التراب إلى اليدين إلى المرفقين بضربة واحدة ، وقال : الذي يجب اعتقاده أن الواجب استيعاب المحل بالمسح باليد المغبرة من غير ربط الفكر بانبساط الغبار على جميع المحل . قال : وهذا شئ اظهر به ، ولم أرَ منه بدا .
وحكى ابن عطية في ( ( تفسيره ) ) عن محمد بن مسلمة من المالكية : أنه لا يجب أن يتبع الوجه بالتراب كما يتبع بالماء وجعله كالخف ومابين الأصابع في اليدين يعني : في التيمم .(2/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
وحكى في وجوب تخليل الأصابع وتحريك الخاتم قولين لأصحابهم : بالوجوب ، والاستحباب .
وحكى ابن حزم في وجوب تخليل اللحية بالتراب اختلافا .
وأما اليدان :
فأكثر العلماء على وجوب مسح الكفين : ظاهرهما وباطنهما بالتراب إلى الكوعين ، وقد ذكرنا أن بعض العلماء لم يوجب استيعاب ذلك بالمسح .
وحكى ابن عطية عن الشعبي : أنه يمسح الكفين فقط ؛ لحديث عمار ، وانه لم يوجب إيصال التراب إلى الكوعين ، وهذا لا يصح . والله أعلم .
وإنما المراد بحديث عمار ، وبما قاله الشعبي وغيره من مسح الكفين :
مسحهما إلى الكوعين ، وقد جاء ذلك مقيدا ، رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن الحكم : سمع ذر بن عبد الله ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، عن عمار ، أن النبي ( قال له : ( ( إنما كان يجزئك ) ) وضرب رسول الله ( بيده الأرض إلى التراب ، ثم قال : ( ( هكذا ) ) ، فنفخ فيهما ، ومسح وجهه ويديه إلى المفصل وليس فيه الذراعان .
وروى إبراهيم بن طهمان ، عن حصين ، عن أبي مالك ، عن عمار بن ياسر ، أن النبي ( قال له : ( ( إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ، ثم تنفخ فيهما ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرصغين ) ) .
خرجه الدارقطني ، وقال : لم يروه عن حصين مرفوعا غير إبراهيم بن طهمان ووقفه شعبته وزائدة وغيرهما .(2/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
يعني أنهم رووه عن حصين عن أبي مالك ، عن عمار موقوفا ، والموقوف اصح : قاله أبو حاتم الرازي .
وأبو مالك ، قال الدارقطني : في سماعه من عمار نظر ؛ فإن سلمة بن كهيل رواه عن أبي مالك ، عن ابن أبزى ، عن عمار .
وقال أبو حاتم : يحتمل أنه سمع منه .
وأبو مالك ، هو : الغفاري ، سأل أبو زرعة : ما أسمه ؟ فقال : لا يسمى .
وقال البيهقي أسمه حبيب بن صهبان .
وفيما قاله نظر ؛ فإن حبيب بن صهبان هو : أبو مالك الكاهلي الأسدي ، وأم الغفاري فأسمه : غزوان - : قاله ابن معين . وقد فرق بينهما ابن أبي حاتم ، ووقع في بعض نسخ البخاري ، غير أن البخاري متوقف غير جازم لان حبيب بن صهبان يكنى : أبا حاتم ، ولا أن أبا مالك الغفاري اسمه : غزوان .
وروي حديث عمار على وجه أخر : فروى الأعمش ، عن سلمة بن كهيل عن عبد الرحمن بن أبزى ، عن عمار ، أن النبي ( قال له : ( ( أنما كان يكفيك هكذا ) ) ، ثم ضرب بيديه الأرض ، ثم ضرب أحداهما على الأخرى ، ثم مسح وجهه والذراعين إلى نصف الساعدين ولم يبلغ المرفقين ، ضربة واحدة .
خرجه أبو داود .(2/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
وخرجه - أيضا - من طريق سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل ، عن أبي مالك ، عن عبد الرحمن بن أبزى ، قال : كنت عند عمر ، فقال عمار : قال النَّبيّ ( : ( ( إنما كان يكفيك أن تقول هكذا ) ) ، وضرب بيديه إلى الأرض ، ثم نفخهما ، ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع .
وخرجه النسائي من طريق سفيان ، عن سلمة ، عن أبي مالك - وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن عبد الرحمن بن أبزى ، قال : كنا عند عمر فذكر الحديث ، وفيه : ثم مسح وجهه وبعض ذراعيه .
وقد رواه عن سلمة بن كهيل : شعبة ، وسفيان ، والأعمش ، واختلف عنهم في إسناده .
وقد تقدم : أن في رواية شعبة أن سلمة شك : هل ذكر فيه الذراعين ، أو الكفين خاصة ، وهذا يدل على أن ذكر الذراعين أو بعضهما لم يحفظه سلمه ، إنما شك فيه ، لكنه حفظ الكفين وتيقنهما ، كما حفظه غيره .
وعلى تقدير أن يكون ذكر بعض الذراعين محفوظا فقد يحمل على الاحتياط لدخول الكوعين ، أو يكون من باب المبالغة وإطالة التحجيل ، كما فعله أبو هريرة في الوضوء ، وقد صرح الشافعية باستحبابه في التيمم - أيضا .
وقد روي عن قتادة ، قال : حدثني محدث عن الشعبي ، عن عبد الرحمن بن أبزى ، عن عمار بن ياسر ، أن رسول الله ( قال : ( ( إلى المرفقين ) ) .
خرجه أبو داود .
وهذا الإسناد مجهول لا يثبت .(2/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
والصحيح : عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عمار ، أن النبي ( أمره بالتيمم للوجه والكفين .
خرجه الترمذي وصححه .
وخرجه أبو داود ، ولفظه أن النبي ( أمره بالتيمم : ضربة واحدة للوجه
والكفين .
وقد روي عن عمار ، أنهم تيمموا مع النبي ( إلى المناكب والآباط : من رواية الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، عن ابن عمار ، قال : نزلت رخصة التطهر بالصعيد الطيب ، فقام المسلمون مع النبي ، فضربوا بأيديهم الأرض ، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا ، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ، ومن بطون أيديهم إلى الآباط .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
وقد اختلف في إسناده على الزهري :
فقيل : عنه ، كما ذكرنا .
وقيل : عنه ، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة ، عن أبيه ، عن عمار ، كذا رواه عنه : مالك وابن عيينة ، وصحح قولهما أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان .
وقيل : عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبدالله ، عن عمار مرسلا .
وهذا حديث منكر جدا ، لم يزل العلماء ينكرونه ، وقد أنكره الزهري(2/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
راويه ، وقال : هو لا يعتبر به الناس : ذكره الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما .
وروي عن الزهري ، أنه امتنع أن يحدث به ، وقال : لم اسمعه إلا من عبيد الله . وروي عنه ، أنه قال : لا ادري ماهو ؟ .
وروي عن مكحول ، أنه كان يغضب إذا حدث الزهري بهذا الحديث . وعن ابن عيينة ، أنه امتنع أن يحدث به ، وقال : ليس العمل عليه .
وسأل الإمام أحمد عنه ، فقال : ليس بشئ . وقال أيضا : اختلفوا في إسناده ، وكان الزهري يهابه . وقال : ما أرى العمل عليه .
وعلى تقدير صحته ، ففي الجواب عنه وجهان :
أحدهما : أن النبي ( لم يعلم أصحابه التيمم على هذه الصفة ، وإنما فعلوه عند نزول الآية ؛ لظنهم أن اليد المطلقة تشمل اليدين والذراعين والمنكبين والعضدين ، ففعلوا ذلك احتياطا كما تمعك عمار بالأرض للجنابة ، وضن أن تيمم الجنب يعم البدن كله كالغسل ، ثم بين النبي ( التيمم بفعله وقوله : ( ( التيمم للوجه والكفين ) ) ، فرجع الصحابة كلهم إلى بيانه ( ، ومنهم عمار راوي الحديث ؛ فإنه أفتى أن التيمم ضربة للوجه والكفين كما رواه حصين ، عن أبي مالك ، عنه ، كما سبق .
وهذا الجواب ذكره إسحاق بن راهويه وغيره من الأئمة .
والثاني : ما قاله الشافعي ، وانه أن كان ذلك بأمر رسول الله ( ، فهو منسوخ ؛ لان عمارا اخبر أن هذا أول تيمم كان حين نزلت أية التيمم ، فكل تيمم كان للنبي ( بعده مخالف له ، فهو له ناسخ .(2/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
وكذا ذكر أبو بكر الأثرم وغيره من العلماء .
وقد حكى غير واحد من العلماء عن الزهري ، أنه كان يذهب إلى هذا الحديث الذي رواه .
وروي عن عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة ، أن الزهري قال : التيمم إلى الآباط . قال سعيد : ولا يعجبنا هذا .
قلت : قد سبق عن الزهري أنه أنكر هذا القول ، واخبر أن الناس لا يعتبرون به ، فالظاهر أن رجع عنه لما علم إجماع العلماء على مخالفته . والله أعلم .
وذهب كثير من العلماء إلى أنه ينتهي المسح لليدين بالتراب إلى المرفقين :
هذا مروي عن ابن عمر وجابر ( وروي - أيضا - سالم بن عبد الله والشعبي ، والحسن ، والنخعي ، وقتادة ، وسفيان ، وابن المبارك ، والليث ، ومالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة وأصحابه .
واستدل بعضهم : بالأحاديث المرفوعة المروية في ذلك ، ولا يثبت منها شيء ، كما سبق الإشارة إلى ذلك .
واستدلوا - أيضا - : بان الله تعالى أمر بغسل اليدين في الوضوء إلى المرفقين ، ثم ذكر في التيمم مسح الوجه واليدين ، فينصرف إطلاقهما في التيمم إلى تقييدهما في
الوضوء ، لا سيما وذلك في آية واحدة ، فهو أولى من حمل المطلق على المقيد في آيتين .
وأجاب من خالفهم : بان المطلق إنما يحمل على المقيد في قضية واحدة ، والوضوء والتيمم طهارتان مختلفتان ، فلا يصح حمل مطلق أحدهما على مقيد الأخر .(2/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
ويدل على ذلك : أن أصحاب النبي ( عند نزول أية التيمم لم يفهموا حمل المطلق على المقيد فيها ، بل تيمموا إلى المناكب والآباط ، وهم أعلم الناس بلغة العرب ، ثم بين النبي ( أن التيمم للوجه والكفين ، وهو - أيضا - ينافي حمل المطلق على المقيد فيها .
وذهب آخرون : إلى أن التيمم يمسح فيه الكفان خاصة .
والثاني : بن المنذر لأهل هذه المقالة قولين : أحدهما يمسح الكفين إلى الرسغين ، وحكاه عن علي . والثاني : يمسح الكفين مطلقا . قال : هو قول عطاء ، ومكحول ، والشعبي ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق .
قال : وبهذا نقول للثابت عن نبي الله ( ، أنه قال ( ( التيمم ضربة للوجه
والكفين ) ) .
قلت : هذا يوهم أن من قال بسمح الوجه والكفين ، أنه لا ينتهي مسحهما إلى الكوعين ، وهذا كما حكاه ابن عطية عن الشعبي ، كما سبق عنه ، وليس هذا قول الأئمة المشهورين .
وقد روى داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه سئل عن التيمم ، فقال : أن الله قال في كتابه حين ذكر الوضوء : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ( [ المائدة : 6 ] ، وقال في التيمم : ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ( [ المائدة 6 ] ، وقال : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ( [ المائدة 38 ] ، فكانت السنة في القطع الكفين ، إنما هو ، الوجه والكفين - يعني : التيمم .
خرجه الترمذي ، وقال حسن صحيح غريب .
وروى الحكم بن أبان ، عن عكرمة هذا المعنى - أيضاً .(2/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
وكذلك استدل بهذا الدليل مكحول وأحمد وغيرهما من الأئمة ، وقالوا : أن القطع يكون من الرسغ ، فكذلك التيمم .
والرسغ : هو مفصل الكف ، وله طرفان ، هما عظمان ، فالذي يلي الإبهام
كوع ، والذي يلي الخنصر كرسوع .
ومضمون هذا الاستدلال : أن اليد إذا أطلقت انصرفت إلى الرسغ ، وان قيدت بموضع تقيدت به ، فلما قيدت بالمرفقين في الوضوء وجب غسل الذراعين إلى المرفقين ، ولما أطلقت في التيمم وجب إيصال التراب الرسغ ، كما تقطع يد السارق ويد المحارب منه .
وكذلك قال الأوزاعي : التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوعين .
وكذلك نص إسحاق على أن التيمم يبلغ إلى الرسغ ، وخطأ من قال : لا يجزئ ذلك . وقال الصحيح عن النبي ( المعروف المشهور الذي يرويه الثقة عن الثقة بالأخبار الصحيحة : أن النبي ( علم عمار بن ياسر التيمم للوجه والكفين . قال : وعلى ذلك كان علي بن أبي طالب ، وعبدالله بن عباس ، والشعبي ، معطاء ، ومجاهد ، ومكحول وغيرهم ، فلا يجوز لأحد أن يدعي على هؤلاء أنهم لم يعرفوا التيمم . قال : ولو قالوا الذراعين : أحب إلينا اختيارا لكان أشبه .
وروى حرب بإسناده ، عن زائدة ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن أبي مالك ، عن عمار ، أنه غمس باطن كفيه بالتراب ، ثم نفخ يده ، ثم مسح وجهه ويديه إلى المفصل .
وبإسناده : عن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال :(2/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
التيمم ضربتين : ضربة للوجه ، وضربة للكفين .
قَالَ : وثنا أحمد بن حنبل : ثنا سليمان بن حيان : أبنا حجاج ، عن عطاء
والحكم ، عن إبراهيم ، قَالَ : التيمم ضربتان للكفين والوجه .
قال : وثنا محمود بن خالد : ثنا الوليد بن مسلم ، عن حامد وسعيد بن
بشير ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين .
قال الوليد : وأبنا الأوزاعي ، عن عطاء أنه كان يقول في التيمم : مسحة واحدة للوجه ، ثم ضربة أخرى لكفيه . وبه يأخذ الأوزاعي .
وروى حرب بإسناده عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال : سالت الشعبي عن
التيمم ؟ فضرب بيديه الأرض ، ثم قرن أحداهما بالأخرى ، ثم مسح وجهه وكفيه .
قال حرب : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : والتيمم ضربة واحدة للوجه والكفين ، يبدأ بوجه ثم يمسح كفيه أحداهما بالأخرى . قيل له : صح حديث عمار ، عن النبي ( في ذلك ؟ قال : نعم ، قد صح .
والقول بان الواجب في التيمم مسح الكفين فقط : رواية عن مالك ، وقول قديم للشافعي ، قال في القديم - فيما حكاه البيهقي في ( ( كتاب المعرفة ) ) - : قد روي عن النبي ( في الوجه والكفين ، ولو اعلمه ثابتاً لم أعده . قَالَ : فإنه ثبت عن عمار ، عن النبي ( الوجه والكفين ، ولم يثبت إلى المرفقين ، فما يثبت عن النبي ( أولى ، وبهذا الحديث كان يفتي سعد بن سالم . انتهى .
ومن العلماء من قال : الواجب مسح اليدين إلى الكوعين ، ويستحب(2/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
مسحهما إلى المرفقين ، ولعله مراد كثير من السلف - أيضا - ؛ فإن منهم من روي عنه : إلى الكوعين . وروي عنه : إلى المرفقين ، كالشعبي وغيره ، فدل على أن الكل عندهم
جائز .
وهو - أيضا - رواية عن مالك ، وقول وكيع ، وإسحاق ، وطائفة من
أصحابنا ، وحكوه رواية عن أحمد ، المنصوص عنه يدل على أن ذلك جائز ، لا أنه
أفضل .
وسيأتي ذكر الضربة الواحدة و والضربتين فيما بعد - إن شاء الله تعالى - ؛ فإن البخاري افرد لذلك باباً .(2/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
6 - باب
الصعيد الطيب وضوء المسلم ، يكفيه من الماء
وقال الحسن : يجزئه التيمم ما لم يحدث .
وأم ابن عباس وهو متيمم .
وقال يحيى بن سعيد : لا باس بالصلاة على السبخة والتيمم بها أو عليها .
ما بوب عليه البخاري من أن الصعيد الطيب وضوء المسلم : قد روي عن النبي ( ، ولكن إسناده ليس على شرط البخاري ، وقد خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي من حديث أبي قلابة ، عن عمر ابن بجدان ، عن أبي ذر ، عن النبي ( ، قال : ( ( الصعيد الطيب وضوء المسلم ) ) - وفي رواية : ( ( طهور المسلم - وان لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته ، فإن ذلك خير ) ) .
وقال الترمذي : حسن صحيح .
وخرجه ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) ، والدارقطني ، وصححه ، والحاكم .
وتكلم فيه بعضهم ؛ لاختلاف وقع في تسمية شيخ أبي قلابة ؛ ولأن عمرو ابن بجدان غير معروف - : قاله الإمام أحمد وغيره .
وقد روى هذا - أيضا - من حديث ابن سيرين ، عن أبي هريرة عن النبي ( .
خرجه الطبراني والبزار .(2/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
ولكن الصحيح عن ابن سيرين مرسلا - : قاله الدارقطني وغيره .
وأما ما حكاه عن الحسن ، أنه يجزئه التيمم ما لم يحدث ، فهذا قول كثير من العلماء ، وحكاه ابن المنذر عن ابن المسيب ، والحسن ، والزهري ، والثوري ، وأصحاب الرأي ، ويزيد بن هارون . قال : وروي ذلك عن ابن عباس ، وأبي جعفر .
وحكاه غير ابن المنذر - أيضا - عن عطاء ، والنخعي والحسن بن صالح ، والليث بن سعيد ، وهو رواية عن أحمد ، وقول أهل الظاهر .
واستدل لهذه المقالة بحديث : ( ( الصعيد الطيب طهور المسلم ) ) ، كما أشار إليه البخاري ، وأشار إليه الإمام أحمد - أيضا .
والمخالفون يقولون : المراد أنه في حكم الوضوء والطهور في استباحة ما يستباح بالطهور بالماء لا في رفع الحدث ، بدليل قوله : ( ( فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك ) ) ، ولو كان الحدث قد ارتفع لم يقيد بوجود الماء .
وقد طرد أبو سلمة بن عبد الرحمن قوله في أنه يرفع الحدث ، فقال : يصلي به ، وإن وجد الماء قبل الصلاة ، ولا ينتقض تيممه إلا بحدث جديد . وكذا قال في الجنب إذا لم تيمم ثم وجد الماء : لا غسل عليه .
وهذا شذوذ عن العلماء ، ويرده قوله : ( ( فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك ) ) ، ومن العجب أن أبا سلمة ممن يقول : أن من يصلي بالتيمم ثم وجد الماء في الوقت أنه يعيد الصلاة ، وهذا تناقض فاحش .
وذهب أكثر العلماء إلى أنه يتيمم لكل صلاة ، روي ذلك عن علي وابن عمر واستدل أحمد بقولهما ، وعن عمرو بن العاص ، وابن عباس في(2/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
رواية عنه .
وروي الحسن بن عماره ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة والحدة ، ثم يتيمم للصلاة الأخرى .
وهذا في حكم المرفوع ، إلا أن الحسن بن عمارة ضعيف جداً .
وهو قول الشعبي ، وقتادة ، والنخعي ، ومكحول ، وشريك ، ويحيى بن سعيد ، وربيعة ، وحكي عن الليث - أيضا - ، وهو مالك ، والشافعي ، وأحمد في ظاهر
مذهبه ، وإسحاق ، وأبي ثور وغيرهم .
وقال إسحاق : هذا هو السنة .
وبناه ربيعة ويحيى بن سعيد ومالك وأحمد على وجوب طلب الماء لكل صلاة ، وقد سبقت الإشارة إلى هذا المسالة في ( ( كتاب : الوضوء ) ) .
ثم اختلف القائلون بالتيمم لكل صلاة على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه يجب التيمم لكل صلاة مفروضة ، وسواء فعلت كل مفروضة في وقتها أو جمع بين فريضتين في وقت واحد ، وهو قول مالك والشافعي وإسحاق ، ورواية عن أحمد .
والثاني : أنه يجب التيمم في وقت كل صلاة مفروضة ، ثم يصلي بذلك التيمم ما شاء ، ويقضي به فوائت ، ويجمع به فرائض ، ويصلي به حتى يخرج ذلك الوقت ،
وهذا ، وهذا هو المشهور عن أحمد ، وقول أبي ثور والمزني .
والثالث : أنه يتيمم لكل صلاة فرضاً كانت أو نفلا ، حكي عن شريك ، وهو وجه ضعيف لأصحابنا .
ومذهب مالك : لا يصلي نافلة مكتوبة بتيمم ومكتوبة بتيمم واحد إلا أن تكون نافلة(2/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
بعد ومكتوبة ، قال : وان صلى ركعتي الفجر بتيمم واحد أعاد التيمم لصلاة
الفجر .
وقد ذهب طائفة ممن يرى أن التيمم يصلي به ما لم يحدث إلى أنه يرفع الحدث رفعا مؤقتا بوجود الماء ، وهو قول طائفة من أصحابنا والحنفية والظاهرية ، ووافقهم طائفة ممن يرى أن لا يصلى فريضتان من الشافعية كابن سريج ، ومن المالكية ، وقالا : أنه ظاهر قول مالك في ( ( الموطإ ) ) .
ولهذا قيل : أن النزاع في المسالة عند هؤلاء لفظي لا معنوي ، وإنما يكون النزاع فيها معنويا مع أبي سلمة بن عبد الرحمن كما سبق حكاية قوله والله أعلم .
وأما ما حكاه عن ابن عباس أنه أم وهو متيمم ، فالمراد : أنه أم المتوضئين وهو متيمم ، وقد حكاه الإمام أحمد عن ابن عباس أيضا ، واحتج به .
وقد خرجه سعيد بن منصور : ثنا جرير بن عبد الحميد ، عن أشعث بن
إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، قال ، كان ابن عباس في نفر من أصحاب محمد ( ، منهم ، : عمار بن ياسر ، وكانوا يقدمونه يصلي بهم لقرابته من رسول الله ( ، وصلى بهم ذات يوم ، فاخبرهم أنه صلى بهم وهو جنب متيمم .
ورخص في ذلك سعيد بن المسيب ، والحسن ، وعطاء ، والزهري ، وحماد ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وأبو ثور ، وهو رواية عن الأوزاعي .
وكره ذلك آخرون :(2/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
روى أبو إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، قال : لا يؤم المتيمم المتوضئ .
وكرهه النخعي ، والحسن بن حي ، والأوزاعي في رواية ، ويحيى بن سعيد ، وربيعة ، ومحمد بن الحسن .
وعن الأوزاعي رواية ، أنه لا يؤمهم إلا أن يكون أميرا ، وان كانوا متيممين فله أن يؤمهم ، كذلك قال الأوزاعي وربيعة ويحيى بن سعيد .
وهذا لا احسب فيه خلافا ، وكلام ابن المنذر يدل على أنه محل خلاف - أيضا - وفية نظر .
وفي المنع من إمامة المتيمم للمتوضئين حديثان مرفوعان من رواية عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله ، وإسنادهما لا يصح .
وفي الجواز حديث : صلاة عمرو بن العاص بأصحابه وهو جنب ، فتيمم من البرد وصلى بهم وذكر ذلك للنبي ( ، وقد ذكره البخاري فيما بعد - تعليقا - وسنذكره في موضعه - أن شاء الله .
وذكر البخاري لهذه المسألة في هذا الباب قد يشعر بأن مأخذ جواز ذلك عنده أن التيمم يرفع الحدث .
وقد قال الزهري : يؤم المتيمم المتوضئين ؛ لأن الله طهره .
وقال الأوزاعي - في رواية أبي إسحاق الفزاري ، عنه - : يؤمهم ، ما زادته . فريضة الله ورخصته إلا طهورا .
وأكثر العلماء لم يبنوا جواز إمامته على رفع حدثه ، ولهذا أجاز ذلك كثير(2/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
ممن يقول : أن التيمم لا يرفع الحدث كمالك والشافعي وأحمد ، لكن الإمام أحمد ذكر أن ما فعله ابن عباس يستدل به على أن طهارة التيمم كطهارة الماء يصلي بها ما لم يحدث . ولكن يختلف مذهبه في صحة ائتمام المتوضئ والمغتسل بالتيمم ؛ فإن المتيمم يصلي بطهارة شرعية قائمة مقام الطهارة بالماء في الحكم ، فهو كائتمام الغاسل لرجليه بالماسح لخفيه ، بخلاف من لم يجد ماء ولا ترابا فإنه لا يأتم به متوضئ ولا متيمم ، ولا يأتم به إلا من هو مثله ؛ لأنه لم يأت بطهارة شرعية بالكلية .
والمانعون من ائتمام المتوضئ بالمتيمم ألحقوه بائتمام القارئ بالأمي الذي لا يقرا الفاتحة إذا صلى بتسبيح وذكر ، وبصلاة القائم خلف القاعد ؛ فإن كلا منهما أتى ببدل ، ولا يصح أن يأتي به إلا من هو مثله .
ويجاب عن ذلك : بأن الأمي مخل بركن القيام الأعظم وهو القراءة ، والقرآن مقصود لذاته في الصلاة بخلاف الطهارة ؛ فإنها لا تراد لذاتها بل لغيرها ، وهو استباحة الصلاة بها ، والتيمم يبيح الصلاة كطهارة الماء .
وأما ائتمام القائم بالقاعد فقد أجاز جماعة من العلماء ، وأجاز أحمد في صورة خاصة ، فإن القاعد قد أتى ببدل القيام وهو الجلوس ، واتى بركن القيام الأعظم وهو القراءة .
وأما ما حكاه عن يحيى بن سعيد ، أنه لا بأس بالتيمم بالسبخة والصلاة عليها :
فالأرض السبخة هي المالحة التي لا تنبت ، وأكثر العلماء على جواز التيمم بها ، وقد تيمم النبي ( بالجدار خارج المدينة ، وأرض المدينة سبخة ، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم .(2/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
وقال إسحاق : لا تيمم بالسباخ لأنها لا تنبت ، وقد فسر ابن عباس الصعيد الطيب بأرض الحرث ، والسباخ ليست كذلك .
واختلف قول الإمام أحمد فيه ، فقال - في رواية - : لا يعجبني التيمم بها . وقال - مرة - : أن لم يجد فلا بأس . وقال - مرة - : أن تيمم منها يجزئه ، وأرض الحرث أحب إلي . وقال - مرة - : أن اضطر إليها أجزأه ، وإن لم يضطر فلينظر الموضع الطيب - يعني : تراب الحرث - قال - مرة - : من الناس من يتوقى ذلك ، وذلك أن السبخة تشبه الملح .
واستدل بقول ابن عباس : ( ( أطيب الصعيد أرض الحرث ) ) . ولكن هذا يدل على أن غير أرض الحرث تسمى صعيدا - أيضا - ، لكن أرض الحرث أطيب منها .
قال أبو بكر الخلال : السباخ ليس هي عند أبي عبد الله كأرض الحرث ، إلا أنه سهل بها إذا اضطر إليها ، وإنما سهل بها إذا كان لها غبار ، فأما أن كانت قحلة كالملح فلا يتيمم بها أصلا .
وأما الصلاة في السباخ ، فقال أحمد - مرة - : تجزئه ، وقال - مرة - : ما سمعت فيها شيئاً .
وقال حرب : قلت لأحمد : هل بلغك أن أحدا كره الصلاة في الأرض السبخة ؟ قال : لا .
قال حرب : ثنا عبد الوهاب بن الضحاك : حدثني إسماعيل بن عياش ، قال : سمعت أناسا من أهل العلم يكرهون الصلاة في السباخ ، ورخص جماعة من أهل العلم في الصلاة في السباخ .
عبد الوهاب هذا ، لا يعتمد عليه .
وخرج البخاري في هذا الباب حديث عمران بن حصين بطوله ، فقال :(2/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
344 - حدثنا مسدد بن مسرهد : ثنا يحيى بن سعيد : ثنا عوف : ثنا أبو رجاء ، عن عمران بن حصين ، قال : كنا في سفر مع النبي ( ، وإنا أسرينا ، حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها ، فما أيقظنا إلا حر الشمس ، فكان أول من استيقظ فلان ثم فلان ثم فلان - يسميهم أبو رجاء ، فنسي عوف - ، ثم عمر بن الخطاب الرابع ، وكان النبي ( إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو يستيقظ ؛ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه ، فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس - وكان رجلا جليدا - فكبر ورفع صوته بالتكبير ، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ لصوته النبي ( ، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم ، فقال : ( ( لا ضير - أو : لا يضير - ، ارتحلوا ) ) ، فارتحلوا فسار غير بعيد . ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ ، ونودي بالصلاة ، فصلى بالناس ، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم ، فقال : ( ( ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم ؟ ) ) قال : أصابتني جنابة ، ولا ماء ، قال : ( ( عليك بالصعيد ؛ فإنه يكفيك ) ) ، ثم سار النبي ( ، فاشتكى الناس إليه من العطش ، فنزل فدعا فلانا - كان يسميه أبو رجاء ، نسيه عوف - ، ودعا عليا ، فقال : ( ( أذهبا فابتغيا الماء ) ) فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين - أو سطيحتين - من ماء على بعير لها ، فقالا لها : أين الماء ؟ قالت : عهدي بالماء أمس هذه الساعة ، ونفرنا خلوفا ، فقالا لها : انطلقي إذا ، قالت : إلى أين ؟ قالا : إلى رسول الله ( قالت : الذي يقال له الصابئ ؟ قالا : هو الذي تعنين ، فانطلقي ، فجاءا بها إلى النبي ( ، وحدثاه الحديث ، قال : فاستنزلوها عن بعيرها ، ودعا النبي ( بإناء ، ففرغ فيه من أفواه(2/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
المزادتين - أو السطيحتين - ، وأوكأ أفواهمها ، وأطلق العزالي ، ونودي في الناس : اسقوا واستقوا ، فسقى من سقى ، واستقى من شاء ، وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء ، قال : ( ( اذهب فأفرغه عليك ) ) . وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها ، وايم الله ، لقد اقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها ، فقال النبي ( : ( ( اجمعوا لها ) ) ، فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة ، حتى جمعوا لها طعاما فجعلوه في ثوب ، وحملوها على بعيرها ، ووضعوا الثوب بين يديها . قال لها : ( ( تعلمين ما رزئنا من مائك شيئا ، ولكن الله هو الذي أسقانا ) ) ، فأتت أهلها وقد احتبست عنهم ، قالوا : ما حبسك يا فلانة ؟ قالت : العجب لقيني رجلان ، فذهبا بي إلى هذا الرجل الذي يقال له : الصابئ ، ففعل كذا وكذا ، فو الله ، أنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه - وقالت بإصبعيها الوسطى والسبابة فرفعتهما إلى السماء - والأرض - ، أو أنه لرسول الله حقا ، فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون الصرم الذي هي منه ، فقالت يوما لقومها : ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدا ، فهل لكم في الإسلام ؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام .
قَالَ أبو عبد الله : صبأ : خرج من دين إلى غيره .
وقال أبو العالية : الصابئون : فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور .
فوائد هذا الحديث كثيرة جدا ، ونحن نشير إلى مهماتها إشارة لطيفة - إن شاء الله تعالى :
فأما قوله : ( ( كان النبي ( إذا نام لم يوقظه أحد حتى يكون هو يستيقظ ، لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه ) ) ، فالمراد : أنه ( كان يوحى إليه في نومه(2/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
كما يوحى إليه في يقظته ، ورؤيا الأنبياء وحي ، ولهذا كانت تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، فكانوا يخشون أن يقطعوا عليه الوحي إليه بإيقاظه .
ولا تنافي بين نومه حتى طلعت الشمس وبين يقظة قلبه ؛ فإن عينيه تنامان ، والشمس إنما تدرك بحاسة البصر لا بالقلب .
وقد يكون الله ( أنامه حتى يسن لأمته قضاء الصلاة بعد فوات وقتها بفعله ، فإن ذلك آكد من تعليمه له بالقول ، وقد ورد التصريح بهذا من حديث ابن مسعود ، أن النبي ( لما صلى بهم الصبح ذلك اليوم بعد طلوع الشمس وانصرف قال : ( ( أن الله ( لو شاء أن لا تناموا عنها لم تناموا ، ولكن أراد أن يكون لمن بعدكم ) ) . خرجه الإمام أحمد وغيره .
وهذا يشبه ما ذكره مالك في ( ( الموطإ ) ) أنه بلغه عن النبي ( ، أنه قال : ( ( إنما أنسى لأسن ) ) .
وقوله : ( ( ما أيقظنا إلاّ حر الشمس ) ) ، يدل على أن الشمس كانت قد ارتفعت وزال وقت النهي عن الصلاة ، لأن حرها لا يكاد يوجد ألا بعد ذلك ، ففي هذا دليل على أن ارتحالهم عن ذلك المكان لم يكن للامتناع من القضاء في وقت النهي عن الصلاة ، بل كان تباعدا عن المكان الذي حضرهم فيه الشيطان ، كما جاء التصريح به في حديث آخر .
ولكن في صحيح مسلم في هذا الحديث - أعني : حديث عمران بن حصين ، أنهم ناموا حتى بزغت الشمس وان النبي ( لما رفع رأسه ورأى الشمس قد بزغت قال : ( ( ارتحلوا ) ) فسار بنا حتى إذا ابيضت الشمس نزل فصلى بنا الغداة .(2/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
كذا خرجه من رواية سلم بن زرير ، عن أبي رجاء ، وفي سياقه بعض مخالفة لرواية عوف ، عن أبي رجاء التي خرجها البخاري ، وفيه : أنه كان أول من استيقظ أبو بكر - رضي الله عنه .
وقوله : ( ( فدعا رسول الله ( بالوضوء فتوضأ ) ) يدل على أن من معه ماء وكان في مفازة فإنه يتوضأ منه ، ولا يتيمم ويحبسه خشية أن يبتلى هو أو أحد من رفقته
بعطش .
ويدل على هذا : أن عمران ذكر أن النبي ( لما صلى بهم وسار شكى الناس إليه العطش .
وفي رواية سلم المشار إليها : قال عمران : ثم عجلني في ركب بين يديه ، نطلب الماء وقد عطشنا عطشا شديدا - وذكر الحديث ، وهذا محمول على أنه ( لم يخش على نفسه عطشا ، فإن من خاف على نفسه العطش ومعه ماء يسير فإنه يتيمم ويدعه لشربه .
وقد روى عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : إذا كنت مسافرا وأنت جنب أو أنت على غير وضوء فخفت أن توضأت أن تموت من العطش فلا توضأ ، واحبسه لنفسك .
خرجه الأثرم .
وخرجه الدارقطني من طريق عطاء بن السائب ، عن زاذان ، عن علي ، في الرجل يكون في السفر فتصيبه الجنابة ومعه الماء القليل يخاف أن يعطش ، قال : يتيمم ولا
يغتسل .(2/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
قال الإمام أحمد : عدة من أصحاب النبي ( يحبسون الماء لشفاههم ويتيممون . ونص على أنه لو رأى قوما عطاشا ومعه إداوة من ماء ، أنه يسقيهم الماء ويتيمم .
واختلف أصحابنا : هل ذلك على الوجوب أو الاستحباب ؟ على وجهين ، أصحهما : أنه للوجوب ، وهو قول الشافعية .
فهذا الحديث محمول على أنه ( لم يخف على نفسه عطشا ، ولم يجد قوما عطاشا في الحال ، فلذلك توضأ بالماء ولم يتيمم . ويدل على أنه لا يحبس الماء لخوف عطش يحدث لرفقته .
ولم ينص أحمد على حبس الماء خشية عطش يحدث لرفقته ، وإنما قال أصحابه متابعة لأصحاب الشافعي ، وقالوا : هل حبس الماء لعطش غيره المتوقع واجب أو مستحب ؟ فيه وجهان ، قالوا : وظاهر كلام أحمد أنه مستحب غير واجب ؟ لان حاجة الغير هنا متوقعة وحاجته للطهارة حاضرة ، وقد ترجحت بكونه مالكا ، ولهذا قدمنا نفقة الخادم على نفقة الوالدين ، وان كانت حاجتهما إلى النفقة اشد من حاجة نفسه إلى الخدمة ، تقديما لنفسه على غيره .
قلت : وحديث عمران يدل على أنه لا يستحب - أيضا - بل يقدم الوضوء على عطش الرفيق المتوقع ، فإنه لو كان ذلك أفضل من الوضوء لحبس النبي ( الماء وتيمم ، فإنه كان معه خلق من أصحابه ، وكان الماء معهم قليلا جدا ولهذا شكوا إليه العطش عقيب ذلك عند اشتداد حر الشمس وارتفاع النهار ، وكان الماء منهم بعيدا .
وقد أشار إلى هذا المعنى الذي ذكرناه أبو المعالي الجويني من الشافعية ، وخالف أصحابه فيما ذكروه من حبس الماء لعطش رفقته المتوقع ، وهذا هو الذي دلت عليه هذه السنة الصحيحة ، والله أعلم .(2/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
وفي الحديث : دليل على أن الفوائت يؤذن لها وتصلى جماعة .
وقوله ( للذي لم يصل مع القوم : ( ( ما منعك أن تصلي مع القوم ؟ ) ) قَالَ : أصابتني جنابة ولا ماء . قَالَ : ( ( عليك بالصعيد ، فإنه يكفيك ) ) فيه دليل على التيمم للجنابة كالتيمم للحدث الأصغر ، ودليل على أن عادم الماء يكفيه الصعيد من الماء .
ولهذه الكلمة خرج البخاري هذا الحديث في هذا الباب ، وجعله دليلا له على إقامة التيمم مقام الطهارة بالماء عند عدم الماء ، فيؤخذ من هذا أنه يصلي به كما يصلي بالماء ، كما هو اختيار البخاري ومن قال بقوله من العلماء .
وفية دليل على أنه لا يجب طلب الماء إذا غلب على الظن عدمه أو قطع بذلك ، فإنه ( أمره بالتيمم ، ولم يأمره بطلب ، ولا بسؤال رفقته .
وقد ذهب ابن حامد من أصحابنا إلى أنه لا يلزمه سؤال رفقته ، وان قلنا : يلزمه الطلب ، وأنه إنما يلزمه طلبه في رحله ما قرب منه إذا احتمل وجود الماء ، والمنصوص عن أحمد : أن عليه أن يطلبه في رفقته .
وفي رواية مسلم المشار إليها فيما تقدم : أن النبي ( قال للرجل : ( ( يا فلان ما منعك أن تصلي معنا ؟ ) ) قال : يا نبي الله ، أصابتني جنابة . فأمره رسول الله ( ، فتيمم بالصعيد ، فصلى .
وفي الحديث - أيضا - أن النبي ( لما جاءه الماء أعطاه ماء وأمره أن يغتسل به ، وهذا مثل قوله في حديث أبي ذر : ( ( فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك ) ) ، وفيه رد على أبي سلمة في قوله : أنه لا غسل عليه ، كما سبق .
وقول تلك المرآة : ( ( ونفرنا خلوف ) ) .
قال الخطابي : النفر الرجال ، والخلوف الذين خرجوا للاستقاء ، وخلفوا(2/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
النساء والأثقال ، يقال : أخلف الرجل واستخلف إذا استقى الماء .
قال : ويقال لكل من خرج من دين إلى دين آخر : صابئ - بالهمز ، وأما : صبا يصبو بلا همز فمعناه : مال .
قال : والعزالي جمع عزلاء ، وهي عروة المزادة ، يخرج منها الماء بسعة .
وقال غيره : العزلاء : فم المزادة الأسفل ، وتجمع على عزالى وعزالي - بكسر اللام وفتحها - كالصحاري والعذاري .
قال : والصرم : النفر النازلون على ماء ، وتجمع على أصرام ، فأما الصرمة - بالهاء - فالقطعة من الإبل نحو الثلاثين عددا .
قال : وقوله : ( ( ما رزئناك ) ) ، أي : ما نقصناك ، ولا أخذنا منك شيئا .
قلت : وفي الحديث معجزة عظيمة ، وعلم من أعلام نبوة النبي ( بتكثير الماء القليل ببركته ، وإرواء العطاش منه ، واستعمالهم وأخذهم منه في قربهم ، من غير أن ينقص الماء المأخوذ منه شيئا ، ولذلك قال المرآة : ( ( ما رزئناك من مائك شيئا ، وإنما سقانا الله ( ) ) .
وفي رواية مسلم المشار إليها في هذا الحديث : ( ( فأمر براويتها فأنيخت ، فمج في العزلاوين العلياوين ، ثم بعث براويتها فشربنا ، ونحن أربعون رجلا عطاش حتى روينا ، وملأنا كل قربة معنا وإداوة ، وغسلنا صاحبنا ، غير أنا لم نسق بعيرا وهي تكاد تنضرج من الماء ) ) - يعني : المزادتين - وذكر بقية الحديث .
وإنما لم يستأذن المرآة أولا في الشرب من مائها والأخذ منه ، لأن انتفاعهم إنما كان بالماء الذي أمده الله بالبركة ، لم يكن من نفس مائها ، ولذلك قال : ( ( ما رزئناك من مائك شيئا ، وإنما سقانا الله ) ) .
ونظير هذا : أن جابرا صنع للنبي ( طعاما يسيرا في عام الخندق ، وجاء(2/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
إلى النبي ( فساره بذلك ، وقال له : تعال أنت في نفر معك ، فصاح النبي ( : ( ( يا أهل
الخندق ، أن جابرا قد صنع لكم سورا ، فحيهلا بكم ) ) ، ثم جاء بهم جميعا ، فأكلوا حتى شبعوا ، والطعام بحاله .
فإن أكل أهل الخندق إنما كان مما حصلت فيه البركة بسبب النبي ( ، فكان ( هو الداعي لأهل الخندق كلهم إلى الطعام في الحقيقة ، فلذلك لم يحتج في استئذان جابر في ذلك .
وهذا بخلاف ما جرى لأبي شعيب اللحام لما دعاه النبي ( وجلساءه ، فلما قاموا تبعهم رجل لم يكن معهم حين دعوا ، فقال النبي ( لصاحب المنزل : ( ( أنه اتبعنا رجل لم يكن معنا حين دعوتنا ، فإن أذنت له دخل ) ) فأذن له فدخل .
وقد خرجاه في ( ( الصحيحين ) ) بمعناه من حديث أبي مسعود ، فإن ذلك اليوم لم يحصل فيه ما حصل في طعام جابر وماء المرآة المشركة - والله ( أعلم - ، فإن غالب ما كان يقع منه ( تكثير الطعام والشراب في أوقات الحاجة العامة إليه .
وفي حديث عمران - أيضا - دليل على جواز استعمال ماء المشركين الذين في قربهم ونحوها من أوعية الماء المعدة له ، وقد سبق الكلام على ذلك في ( ( كتاب
الوضوء ) ) .(2/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
7 - باب
إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت
أو خاف العطش تيمم
ويذكر : أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة فتيمم ، وتلا : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ( [ النساء : 29 ] ، فذكر ذلك للنبي ( فلم يعنف ،
حديث عمرو بن العاص خرجه أبو داود من رواية يحيى بن أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي انس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عمرو بن العاص ، قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل ، فأشفقت أن اغتسلت أن اهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح ، فذكروا ذلك للنبي ( ، فقال : ( ( يا عمرو ، صليت بأصحابك وأنت جنب ) ) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال ، وقلت : إني سمعت الله يقول : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ( [ النساء : 29 ] ، فضحك رسول الله ( ، ولم يقل شيئا .
وخرجه - أيضا - من طريق عمرو بن الحارث وغيره ، عن يزيد بن أبي الحبيب ، عن عمران ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، أن عمرو بن العاص كان على سرية - فذكر الحديث بنحوه ، وقال فيه : فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم صلى بهم - وذكر باقيه بنحوه ، ولم يذكر التيمم .
وفي هذه الرواية زيادة : ( ( أبي قيس ) ) في إسناده ، وظاهرها الإرسال .(2/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
وخرجه الإمام أحمد والحاكم ، وقال : على شرط الشيخين ، وليس كما قال ، وقال أحمد : ليس إسناده بمتصل .
وروى أبو إسحاق الفزاري في ( ( كتاب السير ) ) عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، قال : بعث النبي ( بعثا وامر عليهم عمرو بن العاص ، فلما اقبلوا سألهم عنه ، فأثنوا خيرا ، إلا أنه صلى بنا جنبا ، فسأله ، فقال : أصابتني جنابة فخشيت على نفسي من البرد ، وقد قال الله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ( [ النساء : 29 ] ، فتبسم النبي ( .
وهذا مرسل .
وقد ذكره أبو داود في ( ( سننه ) ) تعليقا مختصرا ، وذكر فيه : أنه تيمم .
وأكثر العلماء : على أن من خاف من استعمال الماء لشدة البرد فإنه يتيمم
ويصلي ، جنبا كان أو محدثا .
واختلفوا هل يعيد ، أم لا ؟
فمنهم من قال : لا إعادة عليه ، وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة ، ومالك ، والحسن بن صالح ، وأحمد في رواية .
ومنهم من قال : عليه الإعادة بكل حال سواء كان مسافرا أو حاضرا ، وهو قول الشافعي ، ورواية عن أحمد .
ومنهم من قال : أن كان مسافرا لم يعد ، وإن كان حاضرا أعاد ، وهو قول آخر للشافعي ، ورواية عن أحمد ، وقول أبي يوسف ومحمد .
وحكى ابن عبد البر عن أبي يوسف وزفر : أنه لا يجوز للمريض في الحضر التيمم بحال .(2/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
وذكر أبو بكر الخلال من أصحابنا : أنه لا يجوز التيمم في الحضر لشدة البرد ، وهو مخالف لنص أحمد وسائر أصحابه .
وحكى ابن المنذر وغيره عن الحسن وعطاء : أنه إذا وجد الماء اغتسل به وأن
مات ؛ لأنه واجد للماء ، إنما أمر بالتيمم من لم يجد الماء .
ونقل أبو إسحاق الفزاري في ( ( كتاب السير ) ) عن سفيان نحو ذلك ، وانه لا يتيمم لمجرد خوف البرد ، وإنما يتيمم لمرض مخوف ، أو لعدم الماء .
وينبغي أن يحمل كلام هؤلاء على ما إذا لم يخش الموت ، بل أمكنه استعمال الماء المسخن وإن حصل له به بعض الضرر . وقد روي هذا المعنى صريحا عن الحسن
- أيضا - ، وكذلك نقل أصحاب سفيان مذهبه في تصانيفهم ، وحكوا أن سفيان ذكر أن الناس اجمعوا على ذلك .
وقد سبق الكلام في تفسير الآية ، وان الله تعالى أذن في التيمم للمريض وللمسافر ولمن لم يجد الماء من أهل الأحداث مطلقا ، فمن لم يجد الماء فالرخصة له محققة .
وأما المرض والسفر فهما مظنتان للرخصة في التيمم ، فإن وجدت الحقيقة فيهما جاز التيمم ، فالمرض مظنة لخشية التضرر باستعمال الماء ، والسفر مظنة لعدم الماء ، فإن وجد في المرض خشية التضرر وفي السفر عدم الماء جاز التيمم ، وإلا فلا .
وأما من قال من الظاهرية ونحوهم : أن مطلق المرض يبيح التيمم سواء تضرر باستعمال الماء أو لم يتضرر ، فقوله ساقط يخالف الإجماع قبله ، وكان يلزمه أن يبيح التيمم في السفر مطلقا سواء وجد الماء أو لم يجده .
وقول البخاري : ( ( إذا خاف على نفسه المرض أو الموت ) ) يشير إلى الرخصة في التيمم إذا خاف من شدة البرد على نفسه المرض ، ولا يشترط خوف الموت(2/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
خاصة ، وهذا ظاهر مذهب أحمد ، واحد قولي الشافعي .
والقول الثاني : لا يجوز التيمم إلا إذا خاف التلف ، إما تلف النفس أو تلف عضو منه ، وحكي رواية عن أحمد ، وفي صحتها عنه نظر .
والحنيفية السمحة أوسع من ذلك ، وخوف الموت أو المرض هو داخل في معنى المرض الذي أباح الله التيمم معه ؛ لأنه إنما يباح التيمم لمرض يخشى منه زيادته أو التلف ، فحيث خشي ذلك فقد وجد السبب المبيح للتيمم .
ولو كان في الغزو وهو يجد الماء لكنه يخشى على نفسه من العدو أن اشتغل بالطهارة ، ففيه عن أحمد روايتان :
إحداهما : يتيمم ويصلي ، اختارها أبو بكر عبد العزيز .
والثانية : يؤخر الصلاة إلى أن يقدر على الوضوء ، كما أخر النبي ( الصلوات يوم الخندق .
ولو احتاجت المرآة إلى الوضوء وكان الماء عنده فساق تخاف منهم على نفسها ، فقال أحمد : لا يلزمها الوضوء . وتوقف مرة في ذلك .
وأما إذا خاف العطش على نفسه ، فإنه يحبس الماء ويتيمم ، وقد سبق قول علي وابن عباس في ذلك ، وحكاية أحمد له عن عدة من الصحابة . وقد ذكر ابن المنذر أنه إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم ، وسمى منهم جماعة كثيرة .
وقد سال قوم النبي ( ، فقالوا : إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال لهم النبي ( : ( ( هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته ) ) .(2/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
وسؤالهم يشعر بأن من معه ماء يسير لا يتوضأ به وهو يخشى العطش على نفسه ، وأقرهم ( على ذلك ، ولم يردهم عن اعتقادهم .
خرج البخاري في هذا الباب حديث عمار من رواية أبي موسى الأشعري ، عنه ، فقال :
345 - ثنا بشر بن خالد : ثنا محمد - هو : غندر - ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي وائل : قال أبو موسى لعبد الله بن مسعود : إذا لم تجد الماء لا تصلي ؟ قال عبدالله : لو رخصت لهم في هذا ، كان إذا وجد أحدهم البرد قال هكذا - يعني : تيمم - وصلى . قال : قلت فأين قول عمار لعمر ؟ قال : إني لم أرى عمر قنع بقول عمار .
346 - حدثنا عمر بن حفص : ثنا أبي ، عن الأعمش ، قال : سمعت شقيق ابن سلمة قال : كنت عند عبد الله وأبي موسى ، فقال له أبو موسى : أرأيت يا أبا
عبد الرحمن ، إذا أجنب الرجل فلم يجد ماء كيف يصنع ؟ فقال عبد الله : لا يصلي حتّى يجد الماء . فقال أبو موسى : فكيف تصنع بقول عمار حين قَالَ له النَّبيّ ( : ( ( كان يكفيك ) ) ؟ قال : ألم تر عمر لم يقنع منه بذلك ؟ فقال أبو موسى : دعنا من قول عمار ، كيف تصنع بهذه الآية ؟ فما درى عبدالله ما يقول . فقال : لو أنا رخصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم . فقلت لشقيق : فإنما كره
عبد الله لهذا ؟ قال : نعم .
كان عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود يقولان : أن التيمم إنما يجوز عن(2/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
الحدث الأصغر ، وأما عن الجنابة فلا يجوز ، وقالا : لا يصلي الجنب حتى يجد الماء ولو عدمه شهرا .
وروي ذلك عن طائفة من أصحاب ابن مسعود وأتباعهم كالأسود وأبي عطية والنخعي .
وقد روي عن عمر وابن مسعود أنهما رجعا عن ذلك ، ووافقا بقية الصحابة ، فإن عمر وكل الأمر في ذلك إلى عمار ، وقال له : نوليك ما توليت ، وابن مسعود رجع عن قوله في التيمم - : قاله الضحاك ، واتبعت الأمة في ذلك قول الصحابة دون عمر وابن مسعود . وقد خالفهما علي وعمار وأبو موسى الأشعري وجابر بن عبدالله وابن عباس .
وقد صح عن النبي ( أمر الجنب إذا لم يجد الماء بأن يتيمم ويصلي ، في
حديث عمران بن حصين المتقدم ، وحديث عمار ، وروي - أيضا - من حديث أبي ذر وغيره .
وشبهة المانعين : أن الله تعالى قال : ( وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ( [ النساء : 43 ] ، وقال : ( ) وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ( [ المائدة : 6 ] - يعني به :
الغسل - ، ثم ذكر التيمم عند فقد الماء بعد ذكره الأحداث الناقضة للوضوء ، فدل على أنه إنما رخص في التيمم عند عدم الماء لمن وجدت منه هذه الأحداث ، وبقي الجنب مأمورا بالغسل بكل حال .
وهذا مردود ؛ لوجهين :
أحدهما : أن آية الوضوء افتتحت بذكر الوضوء ، ثم بغسل الجنابة ، ثم أمر بعد ذلك بالتيمم عند عدم الماء ، فعاد إلى الحدثين معا ، وان قيل : أنه يعود إلى أحدهما ، فعوده إلى غسل الجنابة أولى ؛ لأنه أقربهما ، فأما عوده إلى أبعدهما وهو - وضوء الصلاة - فممتنع .(2/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
وأما آية سورة النساء ، فليس فيها سوى ذكر الجنابة ، وليس للوضوء فيها ذكر ، فكيف يعود التيمم إلى غير مذكور فيها ، ولا يعود إلى المذكور ؟
والثاني : أن كلتا الآيتين : أمر الله بالتيمم من جاء من الغائط ، ولمس النساء أو لم يجد الماء ، ولمس النساء إما أن يراد به الجماع خاصة ، كما قاله ابن عباس وغيره ، أو أنه يدخل فيه الجماع وما دونه من الملامسة لشهوة ، كما يقوله غيره ، فأما أن يخص به ما دون الجماع ففيه بعد .
ولما أورد أبو موسى على ابن مسعود الآية تحير ولم يدر ما يقول ، وهذا يدل على أنه رأى أن الآية يدخل فيها الجنب كما قاله أبو موسى .
وفي أمر النبي ( الجنب العادم للماء أن يتيمم ويصلي دليل على أنه ( فهم دخول الجنب في الآية ، وليس بعد هذا شيء .
ورد ابن مسعود تيمم الجنب ؛ لأنه ذريعة إلى التيمم عند البرد لم يوافق عليه ؛ لان النصوص لا ترد بسد الذرائع ، وأيضا ، فيقال : أن كان البرد يخشى معه التلف أو الضرر فإنه يجوز التيمم معه كما سبق .
وقد روى شعبة ، أن مخارقا حدثهم ، عن طارق ، أن رجلا أجنب فلم يصل ، فأتى النبي ( فذكر ذلك له ، فقال له : ( ( أصبت ) ) . وأجنب رجل آخر فتيمم وصلى ، فأتاه ( ، فقال له نحوا مما قال للآخر - يعني : ( ( أصبت ) ) .
خرجه النسائي ، وهو مرسل .
وقد يحمل هذا على أن الأول سأله قبل نزول آية التيمم ، والآخر سأله بعد
نزولها .
وروى أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن ذر ، عن ابن(2/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
أبزى ، عن أبيه ، أن عمارا قال لعمر : أما تذكر يا أمير المؤمنين أني كنت أنا وأنت في سرية فأجنبنا ولم نجد الماء ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت بالتراب وصليت ، فلما قدمنا على رسول الله ( ذكرنا ذلك له ، فقال ( ( أما أنت فلم يكن ينبغي لك أن تدع الصلاة ، وأما أنت يا عمار فلم يكن لك أن تتمعك كما تتمعك الدابة ، إنما كان يجزيك ) ) وضر ب رسول الله ( بيده إلى الأرض إلى التراب ، ثُمَّ قَالَ - : ( ( هكذا ) ) ، ونفخ فيها ومسح وجهه ويديه إلى المفصل ، وليس فيه الذراعان .(2/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
8 - باب
التيمم ضربة
347 - حدثنا محمد بن سلام : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن شقيق ، قال : كنت جالسا مع عبد الله أبي موسى الأشعري ، فقال له أبو موسى : لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا ، أما كان يتيمم ويصلي ؟ فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ( [ المائدة : 6 ] ؟ فقال عبد الله : لو رخص لهم هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد . قلت : وإنما كرهتم هذا لذا ؟ قال : نعم . فقال أبو موسى : ألم تسمع قول عمار لعمر بن الخطاب : بعثني رسول الله ( في حاجة ، فأجنبت ، فلم أجد الماء ، فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة ، فذكرت ذلك للنبي ( ، فقال : ( ( إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا ) ) وضرب بكفه ضربة على الأرض ، ثم نفضها ، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله ، أو ظهر شماله بكفه ، ثم مسح بهما وجهه . قال عبد الله : ألم تر عمر لم يقنع بقول عمار ؟
زاد يعلي ، عن الأعمش ، عن شقيق ، قال : كنت مع عبدالله وأبي موسى ، فقال أبو موسى : ألم تسمع قول عمار لعمر : أن رسول الله ( بعثني أنا وأنت ، فأجنبت فتمعكت بالصعيد ، فأتينا رسول الله ( فأخبرناه فقال : ( ( إنما كان يكفيك هكذا ) ) ، ومسح وجهه وكفيه واحدة ؟
محمد بن سلام ، هو : البيكندي ، وقد اختلفوا في ضبط ( ( سلام ) ) : هل هو بالتخفيف أو بالتشديد ؟ والتخفيف أكثر فيه واشهر ، ولأبي محمد عبد العظيم(2/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
المنذري في ذلك جزء منفرد .
ثم ظهر لي أن التشديد فيه أصح ، فإن الذين رجحوا فيه التخفيف اعتمدوا على حكاية رويت عن محمد بن سلام ، أنه قال : أنا محمد بن سلام بتخفيف اللام ، وقد أفردت لذلك جزءا ، وذكرت فيه أن هذه الحكاية لا تصح ، وفي إسنادها متهم
بالكذب .
وقد خرج مسلم هذا الحديث عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة وابن نمير كلهم ، عن أبي معاوية بهذا الإسناد والمتن ، إلا أن لفظه : فقال : ( ( إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ) ) ، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ، ثم مسح الشمال على اليمين ، وظاهر كفيه ووجهه .
وخرجه - أيضا - من طريق عبد الواحد بن زياد ، عن الأعمش ، ولفظ حديثه : فقال رسول الله ( : ( ( إنما كان يكفيك أن تقول هكذا ) ) ، وضرب بيديه إلى الأرض ، فنفض يديه فمسح وجهه وكفيه .
وخرج القاضي إسماعيل المالكي حديث أبي معاوية ، عن ابن نمير ، عنه ، ولفظه : فقال رسول الله ( : ( ( إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض ، ثم تنفضهما ، ثم تمسح يمينك على شمالك وشمالك على يمينك ، ثم تمسح وجهك ) ) .
وخرج حديث عبد الواحد بن زياد ، عن محمد بن أبي بكر المقدمي ، عنه ، ولفظ حديثه : ( ( إنما كان يكفيك أن تقول هكذا ) ) ، وضرب بكفيه إلى الأرض مرة واحدة ، ثم مسح إحداهما بالأخرى ، ومسح وجهه .
وأما رواية يعلى ، عن الأعمش التي علقها البخاري ، فخرجها الإمام أحمد(2/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
في ( ( المسند ) ) عن يعلى - وهو : ابن عبيد الطنافسي - كذلك .
وروى الإمام أحمد - أيضا - عن عفان : ثنا عبد الواحد ، عن الأعمش بهذا الحديث ، وفيه : وضرب بكفيه إلى الأرض ، ثم مسح كفيه جميعا ، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة .
قال عفان : وأنكره يحيى بن سعيد ، فسألت حفص بن غياث ، فقال : كان الأعمش يحدثنا به عن سلمة بن كهيل ، وذكر : أبا وائل .
وقال الإمام أحمد في رواية الأثرم : أن كان ما روى أبو معاوية حقا : روى عن الأعمش ، عن شقيق القصة . فقال - أيضا - : ضربة للوجه والكفين ، وتابعه عبد الواحد .
قال أبو عبد الله - يعني : أحمد - : فهذان جميعا قد اتفقا عليه ، يقولان : ضربة للوجه والكفين .
وإنما أنكر يحيى بن سعيد هذه اللفظة ، وتوقف فيها الإمام أحمد لان شعبة وحفص بن غياث وابن عيينة وغيرهم رووه : عن الأعمش ، ولم يذكروا الضربة الواحدة ، ولا صفة التيمم في حديثه عن شقيق ، عن أبي موسى ، كما ساق ذلك البخاري في الباب الماضي .
ثم ذكر أحمد أن أبا معاوية وعبد الواحد قد اتفقا على هذه اللفظة ، فزالت نكارة التفرد ، وقد تبين أن يعلى تابعهما - أيضا .
وقد كان الأعمش يروي هذا الحديث عن سلمة بن كهيل ، عن ابن أبزى ، عن عمار على اختلاف عليه في إسناده ، وذكر فيه : صفة التيمم بضربة واحدة ،(2/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
ولكنه ذكر أنه زاد على مسح الكفين بعض الذراعين ، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم في ( ( باب : التيمم للوجه والكفين ) ) ، وذكرنا أن سلمة بن كهيل شك في الزيادة على الكفين ، وانه رواه عنه سفيان وشعبة والأعمش مع اختلاف عليهم في بعض الإسناد والمتن ، فربما علل ذكر الضربة الواحدة بأنه كان عند الأعمش ، عن سلمة بن كهيل ، وحمل عليه حديث أبي وائل ، كما قد يفهم ذلك من قول حفص بن غياث الذي ذكره عنه عفان ، إلا أن الأئمة اعتمدوا على رواية أبي معاوية وعبد الواحد ويعلى ، عن الأعمش ، عن شقيق وحده للضربة الواحدة ، وأبو معاوية مقدم في حديث الأعمش ، يرجع إليه فيه عند اختلاف أصحابه .
وقد رويت الضربة الواحدة عن عمار من طريق قتادة ، عن عزرة ، عن ابن
أبزى ، عن أبيه ، عن عمار - أيضا - ، وقد تقدم ذكره - أيضا . وحديث شعبة ، عن الحكم ، عن ذر ، عن ابن أبزى المتفق على تخريجه في ( ( الصحيحين ) ) كما تقدم يدل عليه - أيضا .
وقد اتفق الأئمة على صحة حديث عمار ، وتلقيه بالقبول .
قال إسحاق بن هانئ : سئل أحمد عن التيمم ؟ قال : ضربة واحدة للوجه والكفين ، قيل له : ليس في قلبك شيء من حديث عمار ؟ قَالَ : لا .
وفي حديث أبي معاوية الذي خرجه البخاري هاهنا شيئان أنكرا على أبي معاوية :
أحدهما : ذكره مسح الوجه بعد مسح الكفين ، فإنه قال : ( ( ثم مسح وجهه ) ) ، وقد اختلف في هذه اللفظة على أبي معاوية ، وليست هي في رواية مسلم كما ذكرناه .(2/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
وكذلك خرجه النسائي عن أبي كريب ، عن أبي معاوية ، ولفظ حديثه : ( ( إنما كان يكفيك أن تقول هكذا ) ) وضرب بيديه على الأرض ضربة فمسح كفيه ، ثم نفضهما ، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله ، على كفيه ووجهه .
وخرجه أبو داود عن محمد بن سليمان الأنباري ، عن أبي معاوية ، ولفظه : ( ( إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا ) ) فضرب بيده على الأرض فنفضهما ، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين ، ثم مسح وجهه .
فاختلف على أبي معاوية في ذكر مسح الوجه ، وعطفه : هل هو بالواو ، أو بلفظ : ( ( ثم ) ) ؟
وقد قال الإمام أحمد في رواية بن عَبدةَ : رواية أبي معاوية ، عن الأعمش في تقديم مسح الكفين على الوجه غلط .
والثاني : أنه ذكر أن أبا موسى هو القائل لابن مسعود : إنما كرهتم هذا لهذا ، فقال ابن مسعود : نعم . وقد صرح بهذا في رواية أبي داود ، عن الأنباري المشار إليها ، وإنما روى أصحاب الأعمش ، منهم : حفص بن غياث ، ويعلى بن عبيد ، وعبد الواحد بن زياد أن السائل هو الأعمش ، والمسئول هو شقيق أبو وائل .
وقد ذكرنا فيما تقدم مسح الوجه واليدين في التيمم ، وهل الممسوح الكفان خاصة ، أم الكفان والذراعان إلى المرفقين ، أم إلى المناكب والآباط ؟
والكلام هنا في عدد الضرب الممسوح به :
فمن قَالَ : إنه يمسح الوجه والكفين ، قال أكثرهم : يمسح ذلك بضربة واحدة اتباعا لحديث عمار ، وهذا هو المروري عن علي وعمار وابن عباس ،(2/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
وعن الشعبي وعطاء ويحيى بن كثير وقتادة وعكرمة ومكحول والأوزاعي ، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وداود - وهو قول عامة أهل الحديث - : قاله الخطابي وغيره .
وقال ابن المنذر : بهذا نقول ؛ للثابت عن النبي ( أنه قال : ( ( التيمم ضربة للوجه والكفين ) ) .
وحكى عن طائفة منهم أنه يمسح وجهه بضربة ، وكفيه إلى الرسغين بضربة
أخرى . قال ابن المنذر : يروي هذا عن علي ، وحكاه غيره عن عطاء والنخعي والأوزاعي في رواية عنهما ، والشافعي في القديم .
ونقل حرب ، عن إسحاق : أن هذا هو المستحب ، ويجزئ ضربة واحدة . وروي حرب بإسناده ، عن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة للكفين .
وبإسناده : عن عطاء والاوزاعي مثله .
وأما من قال : أن التيمم يبلغ إلى المرفقين ، فأكثرهم قالوا : يتيمم بضربتين : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين ، هذا هو الصحيح عن ابن عمر وعن جابر بن عبد الله ، وهو قول أكثر العلماء القائلين بذلك ، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم .
واختلفوا : هل ذلك على الوجوب ، أم على الاستحباب ؟
فقالت طائفة : هو على الوجوب ، لا يجزئ دونه ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي في ظاهر مذهبه ، ورواية عن مالك .
وقالت طائفة : بل هو على الاستحباب ، ويجزئ ضربتان : إحداهما للوجه(2/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
والأخرى للكفين ، وهو رواية عن مالك ، واختاره القاضي أبو يعلي من أصحابنا ، غير أن المجزئ عنده ضربة واحد للوجه والكفين ، وحكاه بعضهم رواية عن أحمد . وأنكر الخلال والأكثرون ثبوتها عنه .
وقال الخلال : إنما أجاز ذلك أحمد لمن تأول الأحاديث بفعلة ، إلا أن الأحاديث في ذلك عنه ضعاف جداً في الضربتين .
وأجاز إسحاق أن يتيمم بضربتين : ضربة للوجه وضربة إلى المرفقين ، إذا كان يرى الاقتصار على الكفين جائزاً ، فإن اعتقد أنه لا يجزئ فقد أخطأ .
وهذا يدل على أن الخلاف في الإجزاء عنده غير سائغ .
وقال طائفة من الخراسانيين من أصحاب الشافعي : الواجب عنده إيصال التراب إلى الوجه واليدين إلى المرفقين ، سواء حصل ذلك بضربة أو ضربتين ، ولا يجب عنده تعدد الضرب ، وخالفهم غيرهم من أصحاب الشافعي في ذلك .
وروى داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قَالَ : التيمم ضربة للوجه واليدين إلى المرفقين .
خرجه حرب الكرماني .
وروى ابن إسحاق ، عن نافع ، قال : رايت ابن عمر يضرب بيده في الأرض ، فيمسح بها وجهه ، ثم يضرب يده فيمسح بها ذراعيه .
وعن ابن عون ، قال : قلت للحسن : ارني كيف التيمم ؟ فضرب بيديه على الأرض ، ثم نفضهما ، ثم مسح بهما وجهه ، ثم ضرب بكفيه الأرض ، ثم مسح بهما على ذراعيه .
وعن داود ، عن الشعبي ، قال : التيمم ضربة للوجه والذراعين .(2/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
خرج ذلك كله القاضي إسماعيل المالكي .
وكذلك وصف سفيان الثوري التيمم .
وظاهر هذا يدل على الكفين لا يمسحان بانفرادهما ، بل يكفي ما أصابهما عند ضربهما بالأرض ، فإنه لا بد أن يتطاير الغبار على ظاهرهما وباطنهما .
وقد قال عكرمة في المتيمم : يضرب بكفيه على الأرض فيحركها ثم يمسح بوجهه وكفيه .
وهذا يرجع إلى أنه لا يجب الترتيب كما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى .
وحكي عن ابن سيرين ، أنه تيمم بثلاث ضربات : ضربة للوجه ، وضربة
للكفين ، وضربة للذراعين إلى المرفقين .
وحكي عن ابن أبي ليلى والحسن بن حي ، أنه يتيمم بضربتين ، يمسح بكل ضربة وجهه ويديه إلى المرفقين .
قال ابن عبد البر : ما علمت أحداً من أهل العلم قال ذلك غيرهما .
وللشافعية وجه ضعيف . أنه يستحب ضربة للوجه وضربتان لليدين ، لكل يد ضربة ، ولهم وجه ضعيف - أيضا - ، أنه يشرع تكرار المسح في التيمم كالوضوء .
وقال حرب : ثنا محمود بن خالد : ثنا الوليد بن مسلم ، قال : قلت لأبي عمرو الأوزاعي : صف التيمم ؟ فوضع كفيه على الأرض وضعا رفيقا ، ثم رفعهما ، ثم أمر إحداهما على الأخرى مسحا رفيقا ، ثم أمر بهما على وجهه ، ثم على كفيه .
قال : وثنا المسيب بن واضح : ثنا أبو إسحاق ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال : سألت الشعبي عن التيمم ؟ فضرب بيديه الأرض ، ثم ضرب(2/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
إحداهما بالأخرى ، ثم مسح وجهه وكفيه .
وظاهر هذا يقتضي أنه يمسح أولا إحدى كفيه بالأخرى ، ثم يمسح وجهه ، ثم يمسح كفيه .
وفي بعض ألفاظ حديث عمار المذكورة في هذا الباب ما قد يشعر بهذا القول ، ولا يبقى حينئذ إشكال في رواية أبي معاوية ، عن الأعمش ؛ لأنه يكون قد مسح كفيه مرة قبل وجهه ومرة بعده ، وهذا غريب جدا ، وعند التأمل لا يدل حديث عمار على ذلك ؛ فإن لفظ رواية البخاري أنه مسح بالضربة ظهر كفيه بشماله أو ظهر شماله بكفه ، وهذا إنما يدل على أنه مسح ظهر كفه ببطن الأخرى .
وفي رواية مسلم : ( ( مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ) ) ، فهذه تدل على أنه مسح كفيه إحداهما بالأخرى ظاهرهما وباطنهما .
وفي رواية أبي داود والنسائي : ( ( أنه مسح بشماله على يمينه وبيمينه على
شماله ) ) ، وهذا يدل على أنه مسح كل واحدة بالأخرى .
والمنصوص عن أحمد ، وهو مذهب الشافعي وغيره ، أنه يجب الترتيب في التيمم كما يجب في الوضوء ، فيمسح وجهه أولا ، ثم يمسح كفيه .
ومن أصحابنا المتأخرين من قال : لا يجب الترتيب في التيمم خاصة ؛ لأنهم قالوا في صفة التيمم : أنه يمسح وجهه بباطن أصابعه وظاهر كفيه براحتيه ، ويدلك كل راحة بالأخرى ويخلل الأصابع . قالوا : فيقع مسح باطن أصابعه مع مسح وجهه ، وهذا يخل بالترتيب .
وهذا الذي قالوه في صفة التيمم لم ينقل عن الإمام أحمد ، ولا قاله أحد من متقدمي أصحابه كالخرقي وأبي بكر وغيرهما .(2/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
قال المروذي : قلت لأبي عبد الله : أرني كيف التيمم ؟ فضرب بيده باطن كفيه ، ثم مسح وجهه وكفيه بعضهما على بعض ضربة واحدة . وقال : هكذا .
وهذا يدل على أنه مسح وجهه بيديه ، ثم مسح يديه إحداهما بالأخرى من غير تخصيص للوجه بمسح باطن الأصابع ، وهذا هو المتبادر إلى الفهم من الحديث المرفوع ومن كلام من قال من السلف : أن التيمم ضربة للوجه والكفين .
وما قاله المتأخرون من الأصحاب فإنما بنوه على أن التراب المستعمل لا يصح التيمم به كالماء المستعمل .
وهذا ضعيف ؛ لان التراب المستعمل فيه لأصحابنا وجهان :
أحدهما : أنه يجوز التيمم به بخلاف الماء ؛ لأن الماء المستعمل قد رفع حدثا ، وهذا لم يرفع الحدث على ظاهر المذهب .
وعلى الوجه الثاني : أنه لا يتيمم بالتراب المستعمل ، فالمستعمل هو ما علق بالوجه أو تناثر منه ، فأما ما بقي على اليد الممسوح بها فهو بمنزلة ما يبقى في الإناء بعد الاستعمال منه ، وليس بمستعمل ، ويجوز التيمم به ، صرح به طائفة من أصحابنا والشافعية .
ونقل حرب ، عن إسحاق ، أنه وصف لهم التيمم ، فضرب بيديه ، ثم نفخهما ، فمسح بهما وجهه ، ثم ضرب بيده الثانية ولم ينفخهما ، ثم مسح ظهور الكفين اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى ، ولم يذكر أنه مسح بطون كفيه اكتفاء بمرور التراب عليهما بالضرب بهما على الأرض ، وهذا في التيمم بالضربتين ظاهر ، ولا يتأتى مثله في الضربة الواحدة ؛ لأنه يخل بالترتيب .
وقد صرح العراقيون من أصحاب الشافعي : بأنه يسقط فرض الراحتين وما بين الأصابع حين يضرب اليدين على التراب ، ثم أوردوا على ذلك أنه لو سقط(2/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
فرضهما بذلك لصار التراب الذي عليهما مستعملا ، فكيف يجوز مسح الذراعين به ولا يجوز نقل الماء الذي غسل به أحدى اليدين إلى الأخرى ، إلا على وجه ضعيف لهم ؟
وأجابوا عن ذلك بوجهين :
أحدهما : أن اليدين كعضو واحد ، ولا يصير التراب والماء مستعملا إلا
بانفصاله ، ولم ينفصل التراب ، بخلاف الماء فإنه ينفصل فيصير مستعملا .
والثاني : أن هذا يحتاج إليه في التيمم لضرورة ، حيث لم يمكن أن ييمم الذراع بكفها ، فافتقر إلى الكف الأخرى فصار كنقل الماء من بعض العضو إلى بعضه ، وعلى قول هؤلاء لا يجب بعد ذلك مسح إحدى الراحتين بالأخرى ، بل هو مستحب .
ومن أصحابهم من حكى في وجوبه وجهين . وقال البغوي منهم : أن قصد بإمرار الراحتين على الذراعين مسح الراحتين حصل له ؛ وإلا فلا . وهذا يدل على أنه لا يحصل بضربهما بالأرض .
ومن أعيان أصحابنا المتأخرين من حكى قولا لم يسم قائله ، ورجحه في التيمم بضربة واحدة : أنه يمسح بباطن يديه وجهه ، ثم يمسح بهما ظاهر كفيه خاصة . قال : لان باطنهما يصيبه التراب حين يضرب بهما الأرض وحين يمسح بهما الوجه وظهر
الكفين ، فلو مسح إحداهما بالأخرى لتكرر مسحهما ثلاث مرات ، وتكرار مسح التيمم غير مشروع بخلاف الوضوء ، وهو - أيضا - ينافي أن يكون التيمم بضربة واحدة .
وهذا الذي قاله فيه نظر ؛ فإن تكرار المسح بتراب ضربة واحدة لا تتعدد به الضربات كتكرار مسح الرأس بماء واحد ؛ فإنه لا يكون تكرارا ، وقد سبق ذلك في الوضوء ، وإنما لم يشرع تكرار التيمم إذا وقع الأول موقعه ، وما أصاب(2/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
باطن الكفين من التراب قبل مسح الوجه غير معتد به عند من يوجب الترتيب ، فلا يكون ذلك تكرارا - أيضا .
وقد تقدم أن حديث عمار يدل على أن النبي ( مسح بعد الضرب ظاهر كفيه وباطنهما .
وإنما يجب الترتيب في التيمم عن الحدث الأصغر . فأما الترتيب في التيمم عن الجنابة ففيه وجهان لأصحابنا وأصحاب الشافعي :
أحدهما : أنه واجب - أيضا - ؛ لأن صفة التيمم عن الجنابة والحدث لا تختلف بخلاف الغسل والوضوء ، وأيضا ؛ فإن البدن كله في غسل الجنابة كالعضو الواحد ، وفي التيمم عضوان متغايران ، فيلزم الترتيب بينهما كأعضاء الوضوء .
والثاني : لا يجب ؛ لأن التيمم عن الجنابة يلتحق بالغسل ولا ترتيب فيه ، وعلى هذا الوجه فلا إشكال في توجيه رواية أبي معاوية ، عن الأعمش التي خرجها البخاري بتقديم الكفين على الوجه ؛ لأن النبي ( إنما علم عمارا ما كان يكفيه من التيمم عن الجنابة .
وقد حكى بعضهم عن الأعمش : أنه كان يذهب إلى تقديم مسح الكفين على الوجه في التيمم مطلقا ، فإن صح هذا عنه دل على أن ما روى عنه أبو معاوية محفوظ عن الأعمش ، وان أبا معاوية حَفِظَ عنه ولم يهم فيه ، كما قاله الإمام أحمد . والله أعلم .
ويحتمل أن الأعمش فسر هذا التفسير من عنده كما فسره شعبة - أيضا - من عنده كذلك بتقديم دلك اليدين على الوجه ، وقد ذكرناه فيما تقدم من طريق النسائي ، أو أن يكون ذلك من تفسير بعض الرواة عن شعبة والأعمش ؛ فإن كثيرا منهم لم يكن يفرق بين مدلول العطف ب ( ( ثُمَّ ) ) وبالواو . والله تعالى أعلم .(2/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
9 - باب
348 - حدثنا عبدان : أبنا عبد الله : ثنا عوف ، عن أبي رجاء : ثنا عمران بن حصين الخزاعي ، أن رسول الله ( رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم ، فقال :
( ( يا فلان ، ما منعك أن تصلي في القوم ؟ ) ) ، قَالَ : أصابتني جنابة ، ولا ماء . قَالَ : ( ( عليك بالصعيد ؛ فإنه يكفيك ) ) .
قد سبق هذا الحديث بطوله من رواية يحيى القطان ، عن عوف ، واختصره هنا من رواية ابن المبارك ، عن عوف ، وختم به ( ( كتاب التيمم ) ) ؛ فإن فيه دلالة على تيمم الجنب إذا لم يجد الماء ، وعلى أن من كان في مكان يقطع أو يغلب على الظن أنه لا ماء فيه ، أو مع رفقة يعلم أنه لا ماء معهم ؛ فإنه لا يجب عليه طلب الماء ، بل له أن يتيمم ويصلي من غير طلب ، وقد استوفينا شرح ذلك كله مع شرح جميع الحديث فيما سبق . والله أعلم .
وقد روى هذا الحديث البخاري عن إسماعيل بن مسلم ، عن أبي رجاء ، عن عمران - فذكر الحديث ، وفيه : أن النبي ( أمر هذا الرجل أن يتيمم ، فتيمم ، وقال : ثم وجد الماء فلم يأمره بالإعادة .
وإسماعيل بن مسلم ، ضعيف الحديث .(2/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
8 كتاب الصلاة(2/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
فارغة(2/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
8
كتاب الصلاة
- باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء
وقال ابن عباس ؛ حدثني أبو سفيان في حديث هرقل ، فقال : يأمرنا - يعني : النبي ( - بالصلاة والصدق والعفاف .
حديث أبي سفيان هذا قد خرجه البخاري بتمامه في أول كتابه ، وهو يدل على أن النبي ( كان أهم ما يأمر به أمته الصلاة ، كما يأمرهم بالصدق والعفاف ، واشتهر ذلك حتى شاع بين الملل المخالفين له في دينه ، فإن أبا سفيان كان حين قال ذلك مشركا ، وكان هرقل نصرانيا ، ولم يزل ( منذ بعث يأمر بالصدق والعفاف ، ولم يزل يصلي - أيضا - قبل أن تفرض الصلاة .
وأول ما أنزل عليه سورة : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ( [ العلق : 1 ] وفي أخرها : ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ( إلى قوله : ( كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ( [ العلق : 9 - 19 ] .
وقد نزلت هذه الآيات بسبب قول أبي جهل : لئن رأيت محمدا ساجدا عند البيت لأطأن على عنقه .(2/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
وقد خرج هذا الحديث مسلم في " صحيحه " . وقد ذكرنا في أول " كتاب : الوضوء " حديث أسامة ، أن جبريل نزل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أول الأمر ، فعلمه الوضوء والصلاة .
وذكر ابن إسحاق : أن الصلاة افترضت عليه حينئذ ، وكان هو ( صلى الله عليه وسلم ) وخديجة يصليان .
والمراد : جنس الصلاة ، لا الصلوات الخمس .
والأحاديث الدالة على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي بمكة قبل الإسراء كثيرة .
لكن قد قيل : إنه كان قد فرض عليه ركعتان في أول النهار وركعتان في آخره فقط ، ثم افترضت عليه الصلوات الخمس ليلة الإسراء - : قاله مقاتل وغيره .
وقال قتادة : كان بدء الصلاة ركعتين بالغداة ، وركعتين بالعشي .
وإنما أراد هؤلاء : أن ذلك كان فرضا قبل افتراص الصلوات الخمس ليلة الإسراء .
وقد زعم بعضهم : أن هذا هو مراد عائشة بقولها : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، وقالوا : إن الصلوات الخمس فرضت أول ما فرضت أربعا وثلاثا وركعتين على وجهها ، وسيأتي ذكر ذلك في الكلام على حديث عائشة - إن شاء الله .
وضعف الأكثرون ذلك ، وقالوا : إنما أرادت عائشة فرض الصلوات الخمس ركعتين ركعتين سوى المغرب ، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى .(2/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
وقد ورد من حديث عفيف الكندي ، أنه رأى النبي ( يصلي بمكة حين زالت الشمس ومعه علي وخديجة ، وان العباس قال له : ليس على هذا الدين أحد غيرهم .
وقد خرجه الإمام أحمد والنسائي في خصائص علي .
وقد طعن في إسناده البخاري في ( ( تاريخه ) ) والعقيلي وغير واحد .
وقد خرج الترمذي من حديث أنس ، قال : بعث النبي ( يوم الاثنين ، وصلى علي يوم الثلاثاء .
وإسناده ضعيف .
وقد خرجه الحاكم من حديث بريدة ، وصححه .
وفيه دليل على أن الصلاة شرعت من ابتداء النبوة ، لكن الصلوات الخمس لم تفرض قبل الإسراء بغير خلاف .
وروى الربيع ، عن الشافعي ، قال : سمعت ممن أثق بخبره وعلمه يذكر أن الله تعالى انزل فرضا في الصلاة ، ثم نسخه بفرض غيره ، ثم نسخ الثاني بالفرض في الصلوات الخمس .
قال الشافعي : كأنه يعني قول الله ( : ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ( نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ( أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ( [ المزمل : 1 - 4 ] ثم نسخه في السورة معه بقوله : ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ( الآية إلى(2/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
قوله ( فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ( [ المزمل : 20 ] فنسخ قيام الليل ، أو نصفه ، أو اقل ، أو أكثر بما تيسر .
قال الشافعي : ويقال نسخ ما وصف في المزمل بقول الله ( : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( ودلوك الشمس : زوالها ( إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ( العتمة ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ( الصبح ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ ( [ الإسراء : 78 - 79 ] فأعلمه أن صلاة الليل نافلة لا فريضة ، وان الفرائض فيما ذكر من ليل أو نهار .
قال : ويقال في قول الله ( : ( فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ ( المغرب والعشاء
( وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الصبح ( وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً ( العصر
( وَحِينَ تُظْهِرُونَ ( [ الروم : 17 - 18 ] الظهر . انتهى .
وقد روي عن طائفة من السلف تفسير هاتين الآيتين بنحو ما قاله الشافعي ، فكل أية منهما متضمنة لذكر الصلوات الخمس ، ولكنهما نزلتا بمكة بعد الإسراء .
والله أعلم .
وقد اجمع العلماء على أن الصلوات الخمس إنما فرضت ليلة الإسراء ، واختلفوا في وقت الإسراء :
فقيل : كان بعد البعثة بخمسة عشر شهرا ، وهذا القول بعيد جدا .
وقيل : أنه كان قبل الهجرة بثلاث سنين ، وهو اشهر .
وقيل : قبل الهجرة بسنة واحدة .
وقيل : قبلها بستة اشهر .
وقيل : كان بعد البعثة بخمس سنين ، ورجحه بعضهم ، قال : لأنه لا(2/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة ، ولا خلاف إنها توفيت قبل الهجرة بمدة ، قيل بثلاث سنين ، وقيل : بخمس ، وقد اجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء .
قلت : حكايته الإجماع على صلاة خديجة معه بعد فرض الصلاة غلط محض ، ولم يقل هذا أحد ممن يعتد بقوله .
وقد خرج أبو يعلى الموصلي والطبراني من حديث إسماعيل بن مجالد ، عن أبيه ، عن الشعبي ، عن جابر ، أن رسول الله ( سئل عن خديجة ؛ فإنها ماتت قبل أن تنزل الفرائض والأحكام ؟ فقال : ( ( أبصرتها على نهر من انهار الجنة ، في بيت من قصب ، لا لغو فيه ولا نصب ) ) .
وروى الزبير بن بكار ، بإسناد ضعيف ، عن يونس عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة .
وقد فرق بعضهم بين الإسراء والمعراج ، فجعل المعراج إلى السماوات كما ذكره الله في سورة النجم ، وجعل الإسراء إلى بيت المقدس خاصة ، كما ذكره الله في سورة
( سُبْحانَ ( وزعم أنهما كانا في ليلتين مختلفتين ، وان الصلوات فرضت ليلة المعراج لا ليلة الإسراء .
وهذا هو الذي ذكره محمد بن سعد في طبقاته عن الواقدي بأسانيد له متعددة ، وذكر أن المعراج إلى السماء كان ليلة السبت لسبع عشرة خلت من شهر رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا من المسجد الحرام ، وتلك الليلة فرضت الصلوات الخمس ، ونزل جبريل فصلى برسول الله ( الصلوات في مواقيتها ،(2/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
وان الإسراء إلى بيت المقدس كان ليلة سبع عشرة ربيع الأول قبل الهجرة بسنة ، من شعب أبي طالب .
وما بوب عليه البخاري أن الصلوات فرضت في الإسراء يدل على أن الإسراء عنده والمعراج واحد . والله أعلم .
وخرج في هذا الباب حديثين :
الحديث الأول : حديث المعراج بطوله : فقال :
349 - ثنا يحيى بن بكير : ثنا الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك ، قال : كان أبو ذر يحدث ، أن رسول الله ( قال : ( ( فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل ( ففرج صدري ، ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا ، فأفرغه في صدري ، ثم أطبقه ، ثم اخذ بيدي فعرج إلى السماء ، فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء : افتح ، قال : من هذا ؟ قَالَ : جبريل ، قَالَ : هَلْ معك أحد ؟ قال : نعم ، معي محمد . فقال : أرسل إليه ؟ قال : نعم ، فلما فتح علونا السماء الدنيا ، فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة ، وعلى يساره اسودة ، إذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح . قلت لجبريل : من هذا ؟ قال : هذا ادم ، وهذه الاسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه ، فأهل اليمين منهم أهل الجنة ، والاسودة التي عن شماله أهل النار ، فإذا نظر عن يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى . حتى عرج بي إلى السماء الثانية ، فقال لخازنها :
افتح ، فقال له خازنها مثل ما قال الأول ، ففتح ) ) .
قال أنس : فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم ، ولم يثبت كيف منازلهم ، غير أنه ذكر أنه وجد ادم في السماء الدنيا ،(2/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
وإبراهيم في السماء السادسة .
قال أنس : ( ( فلما مر جبريل بالنبي ( بإدريس قال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح ، فقلت : من هذا ؟ قَالَ : هَذَا إدريس ، ثُمَّ مررت بموسى عَلِيهِ السلام ، فَقَالَ : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح ، قُلتُ : من هَذَا ؟ قال : هذا موسى ، ثم مررت بعيسى عليه السلام ، فقال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، قلت : من هذا ؟ قال : عيسى ، ثم مررت بإبراهيم عليه السلام ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح ، قلت : من هذا ؟ قال : هذا إبراهيم ) ) .
قال ابن شهاب : فأخبرني ابن حزم ، أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان : قال النبي ( : ( ( ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى اسمع فيه صريف الأقلام ) ) .
قال ابن حزم وانس بن مالك : قال النبي ( : ( ( ففرض الله على أمتي خمسين صلاة ، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى ، فقال : ما فرض الله لك على أمتك ؟ قلت : فرض خمسين صلاة ، قال : فارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق ، فراجعني فوضع شطرها ، فرجعت إلى موسى ، قلت : وضع شطرها ، قال : راجع ربك ، فإن أمتك لا تطيق ، فراجعت فوضع شطرها ، فرجعت إليه ، فقال : ارجع إلى ربك ؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فراجعته ، فقال : هي خمس ، وهي خمسون ، لا يبدل القول لدي ، فرجعت إلى موسى ، فقال : أرجع إلى ربك ، فقلت : استحييت من ربي ، ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى ، وغشيها ألوان لا ادري ما هي ، ثم أدخلت الجنة ،(2/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك ) ) .
هذا الحديث رواه جماعة عن يونس ، عن الزهري ، عن أبي ذر وانس . وخالفهم أبو ضمرة أنس بن عياض ، فرواه عن يونس ، عن الزهري ، عن أنس ، عن أبي بن كعب ، وهو وهم منه - : قاله الدارقطني ، وأشار إليه أبو زرعة وأبو حاتم .
وقد اختلف في إسناد هذا الحديث على أنس ، فالزهري رواه عنه ، عن أبي ذر ، وجعل ذكر الصلوات منه عن أنس ، عن النبي ( .
ورواه قتادة ، عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، وقد خرج حديثه البخاري في موضع أخر .
ورواه شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن أنس ، عن النبي ( بسياق مطول جدا .
وقد خرج حديثه البخاري في أخر كتابه ، وفيه ألفاظ استنكرت على شريك ، وتفرد بها .
وقد رواه ثابت ، عن أنس ، عن النبي ( - أيضا - بدون سياق شريك .
وقد خرج حديثه مسلم في صحيحه .
وقال الدار قطني : يشبه أن تكون الأقاويل كلها صحاحا ؛ لأن رواتها ثقات .(2/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
قال : ويشبه أن يكون أنس سمعه من النبي ( ، واستثبته من أبي ذر ومالك أبن صعصعة .
وقال أبو حاتم الرازي : أرجو أن يكون قول الزهري وقتادة عن أنس صحيحين . وقال - مرة - : قول الزهري أصح ، قال : ولا أعدل به أحدا .
وشق صدره ( ليلة المعراج وغسله من طست من ذهب من ماء زمزم وملؤه إيمانا وحكمة مما تطابقت عليه أحاديث المعراج .
وروى ، ثابت عن أنس ، أن النبي ( أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه ، فشق عن قلبه ، فاستخرج القلب ، فاستخرج منه علقة ، فقال هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه ، ثم أعاده في مكانه ، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني : ظئره - ، فقالوا : أن محمد قد قتل ، فاستقبلوه وهو منتقع اللون . قال أنس : وقد كنت أرى اثر ذلك المخيط في صدره ( .
خرجه مسلم .
وليس في هذا الحديث أنه حشي إيمانا وحكمة ، وقد روي هذا الحديث من رواية أبي ذر وعتبة بن عبد السلمي ، وفي روايتهما : أنه ملئ سكينة ، وروي أيضا من حديث أبي ذر ، وفيه أنه أدخل قلبه الرأفة والرحمة .
فهذا الشرح فهذا الشرح كان في حال صغره ، وهو غير الشرح المذكور في ليلة المعراج ، ومن تأمل ألفاظ الأحاديث الواردة في شرح صدره وملئه إيمانا وحكمة أو سكينة أو رأفة ورحمة ظهر له من ذلك أنه وضع في قلبه جسم(2/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
محسوس مشاهد ، نشأ عنه ما كان في قلبه من هذه المعاني ، والله سبحانه قادر على أن يخلق من المعاني أجساما محسوسة مشاهدة ، كما يجعل الموت في صورة كبش أملح يذبح .
وفي حديث الزهري ، عن أنس ، عن أبي ذر ، أن النبي ( قال : ( ( ثم أخذ
بيدي ، فعرج بي إلى السماء ) ) .
وفي حديث قتادة وغيره ، عن أنس ، أنه أركبه البراق ، وهي زيادة صحيحة لم يذكرها الزهري في حديثه .
وقول خازن السماء : ( ( أرسل إليه ؟ ) ) الأظهر والله أعلم أنه أستفهم : هل أرسل الله إليه يستدعيه إلى السماء ، ولم يرد إرساله إلى أهل الأرض ، فإن ذلك كان قبل هذه الليلة بمدة طويلة ، والظاهر أنه لا يخفى مثل ذلك على أهل السماء وخزنتها ، لا سيما مع حراستها بالشهب ومنع الشياطين من استراق السمع منها .
وقيل أن اخل السماء لم يعلموا بإرساله إلى أهل الأرض حتى صعد إليهم ، ويشهد لهذا : أن في حديث شريك بن أبي نمر ، عن أنس في صفة الإسراء ، قال : ( ( ثم عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب بابا من أبوابها ، فنادى أهل السماء : من هذا ؟ فَقَالَ :
جبريل . فقال : ومن معك ؟ قال : معي محمد . قال : وقد بعث ؟ قال : نعم ، فقالوا : مرحبا به وأهلا ، فيستبشر به أهل السماء ، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم ) ) وذكر الحديث بطوله .
وقد خرجه البخاري في آخر كتابه هذا .
( ( والأسودة ) ) : جمع سواد ، وهو الشخص ، يقال : سواد وأسودة ، مثل قراح وأقرحة ، وتجمع : أسودة على أساود ، فهو جمع الجمع . ( ( والنسم ) ) : جمع نسمة ، وهي النفس .(2/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
والمراد بذلك : أرواح بني أدم ، وأن أهل الجنة على يمين ادم وأهل النار على يساره .
قال بعضهم : ولا يناقض هذا ما ورد : أن أرواح المؤمنين في الجنة ، أو في الصور الذي ينفخ فيه ، أو في القبور ، وأرواح الكافرين في سجين ؛ لأن هذا في أحوال مختلفة وأوقات متغايرة وفي هذا الجواب نظر .
ومنهم من قال : إنما رأى في السماء الدنيا عن يمين آدم وشماله نسم بنيه الذين لم يولدوا بعد ولم تخلق أجسادهم ، فأما أرواح الموتى التي فارقت أجسادها بالموت فليست في السماء الدنيا ، بل أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في سجين ، وقد قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ( [ الأعراف : 40 ] .
وقد جاء في حديث البراء بن عازب وأبي هريرة ، عن النبي ( : ( ( أن روح الكافر إذا خرجت لم تفتح لها أبواب السماء ، فتطرح طرحا ) ) ، وقرأ : ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ( [ الحج : 31 ] .
والأظهر والله أعلم : أن آدم ( في السماء الدنيا ينظر إلى نسم بنيه عن يمينه وشماله ، ونسم بنيه مستقرة في مستقرها ، فنسم المؤمنين في الجنة ونسم الكافرين في النار ، وليست عند آدم في السماء الدنيا .(2/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
ويدل على هذا : ما خرجه البزار وابن جرير والخلال وغيرهم من رواية أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية أو غيره ، عن أبي هريرة ، فذكر فذكر حديث الإسراء بطوله ، وفيه : أنه لما دخل إلى سماء الدنيا فإذا هو برجل تام الخلق ، لم ينقص من خلقه شئ كما ينتقص من خلق الناس ، عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة ، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة ، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر ، وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى وحزن ، فقال جبريل : هذا أبوك آدم ، وهذا الباب الذي عن يمينه الجنة ، فإذا نظر من يدخل من ذريته الجنة ضحك واستبشر ، والباب الذي عن شماله باب جهنم ، إذا نظر من يدخل من ذريته جهنم بكى وحزن - وذكر الحديث بطوله .
ومما يوضح هذا المعنى : أن النبي ( رأى في صلاة الكسوف الجنة والنار وهو في الأرض ، وليست الجنة في الأرض ، وروي : أنه رأى ليلة أسري به الجنة والنار أيضا ، وليست النار في السماء ، وإنما رآهما وهو في السماء تارة ، ورآهما وهو في الأرض أخرى .
وكذلك رؤية آدم وهو في السماء الدنيا نسم بنيه المستقرة في الجنة وفي النار ، وليست الجنة والنار عند آدم في سماء الدنيا .
وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة وهي مستقر أرواح الموتى في
( ( كتاب أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور ) ) . ولله الحمد .
وفي حَدِيْث الزُّهْرِيّ ، عَن أنس ، عَن أبي ذر ، أن النَّبِيّ ( رأى فِي السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى ، ولم يثبت كَيْفَ منازلهم ، إلا أنه وجد آدم فِي السماء الدنيا ، وإبراهيم فِي السماء السادسة ، وهذا - والله أعلم - مما لم يحفظه الزهري جيدا .(2/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
وفي رواية قتادة ، عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، عن النبي ( ، أنه رأى في السماء الدنيا آدم ، وفي السماء الثانية يحيى وعيسى ، وهما ابنا الخالة ، وفي السماء الثالثة يوسف ، وفي الرابعة إدريس ، وفي الخامسة هارون ، وفي السادسة موسى ، وفي السابعة إبراهيم عليهم السلام .
وفي حديث شريك بن أبي نمر ، عن أنس ، وقد خرجه البخاري في آخر صحيحه هذا : أنه رأى آدم في السماء الدنيا ، وإدريس في الثانية ، وهارون في الرابعة ، وآخر في الخامسة قال الراوي : لم أحفظ اسمه ، وإبراهيم فِي السادسة ، وموسى فِي السابعة بتفضيل كلام الله ( .
وهذا يوافق مَا فِي حَدِيْث الزُّهْرِيّ ، عَن أنس ، أن إبراهيم عَلِيهِ السلام فِي السماء السادسة ، وفيه - أيضا - : أنه مر بموسى ، ثم بعيسى ، ثم بإبراهيم ، وهذا يشعر برفع عيسى على موسى ، وهذا كله إنما جاء من عدم ضبط منازلهم كما صرح به في الحديث نفسه .
وفي حديث حماد بن سلمة عن ثابت ، عن أنس ، عن النبي ( في صفة الإسراء ، أنه رأى آدم في الأولى ، ويحيى وعيسى في الثانية ، ويوسف في الثالثة ، وإدريس في
الرابعة ، وهارون في الخامسة ، وموسى في السادسة ، وإبراهيم في السابعة مسندا ظهره إلى البيت المعمور .
وقد خرجه مسلم بطوله .
والذي رآه في السماء من الأنبياء عليهم السلام إنما هو أرواحهم ، إلا عيسى ( فإنه رفع بجسده إلى السماء .
وقد قال طائفة من السلف : أن جميع الرسل لا يتركون بعد موتهم في(2/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
الأرض أكثر من أربعين يوما ، ثم ترفع جثثهم إلى السماء ، روي ذلك عن ابن المسيب ، وعن عمر بن عبد العزيز ، وأنه قال : وأخبرني بذلك غير واحد ممن أدركته ، فعلى هذا يكون المرئي في السماء أشخاصهم كما كانوا في الأرض .
وقول ابن شهاب : ( ( أخبرني ابن حزم ) ) ، الظاهر : أنه أبو بكر بن عمرو ابن حزم .
( ( أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري ) ) أبو حبة بالباء الموحدة عند قوم ، وعند آخرين هو بالنون ، وقيل : هما إخوان ، أحدوهما ابوحبة بالباء ، والثاني ، أبو حنة
بالنون ، والله أعلم .
وقوله ( ( حتى ظهرت لمستوى ) ) أي : صعدت لمصعد وارتقيت لمرتقى .
و ( ( صريف الأقلام ) ) : صوت ما تكتبة الملائكة بأقلامها من أقضية الله تعالى ووحية ، أو ما ينسخونه من اللوح المحفوظ ، أو ما شاء الله من ذلك .
ويقال : أن صريف القلم : هو تصويته في رجوعه إلى ورائه ، مثل كتابته لحرف
( ك ) ، وصريره : هو تصويته في مجيئه إلى بين يديه ، مثل كتابته لحرف ( ن ) وما أشبه ذلك .
وقوله : ( ( ففرض الله على أمتي خمسين صلاة ) ) ، وفي رواية شريك بن أبي نمر ، عن أنس : ( ( ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى فيما يوحي خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة ) ) .
وقد تفرد شريك بهذه الألفاظ في هذا الحديث ، وهي مما انكرت عليه فيه .
وقوله : ( ( فرجعت بذلك حتى مررت بموسى ) ) ، وذكر مراجعته له وأمره بالرجوع إلى ربه ليخفف عن أمته - استدل بهذا من رجح رواية من روى أن موسى كان في السماء السابعة ، كما في رواية الزهري وشريك ، عن أنس ،(2/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
قال : لأنه لو كان إبراهيم في السابعة لكانت ألمراجعه بينه وبين إبراهيم .
ومن رجح أن موسى في السماء السادسة ، كما في رواية قتادة عن أنس ، قال : إنما وقعت المراجعة من موسى ( ؛ لأنه كان له امة عظيمة ، عالجهم اشد المعالجة ، وكان عليهم في دينهم آصار وأثقال ، فلهذا تفرد بمخاطبة النبي ( في ذلك دون إبراهيم ( .
وفي رواية شريك بن أبي نمر ، عن أنس التي خرجها البخاري في أخر صحيحه هذا : ( ( أن موسى ( قال له : ( ( أن أمتك لا تستطيع ذلك ؛ فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم ، فالتفت النبي ( إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك ، فأشار إليه جبريل أن نعم أن شئت ، فعلى به إلى الجبار سبحانه وتعالى ، فقال وهو في مكانه : يارب ، خفف
عنا ؟ فإن أمتي لا تستطيع هَذَا ، فوضع عَنْهُ عَشَرَ صلوات ، ثُمَّ رجع إلى موسى فاحتبسه فَلَمْ يزل موسى يردده إلى ربه حَتَّى صارت إلى خمس صلوات ، ثُمَّ احتبسه موسى عِنْدَ الخمس ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّد ، والله لَقَدْ راودت بني إسرائيل قومي عَلَى أدنى من هذه فضعفوا وتركوه ، وأمتك اضعف أجساداً وقلوباً وأبدانا وأبصاراً وأسماعا ، فارجع فليخفف عنك ربك ، كل ذَلِكَ يلتفت النَّبِيّ ( إلى جبريل ليشير عَلِيهِ ، ولا يكره ذَلِكَ جبريل ، فرفعه عِنْدَ الخامسة ، فَقَالَ : يارب ، أن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم فخفف عنا ، فقال الجبار ( : يا محمد ، قال لبيك وسعديك ، قال : أنه لا يبدل القول لدي ، كما فرضته عليك في أم الكتاب ، فكل حسنة بعشر أمثالها ، وهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك ، فرجع إلى موسى ، فقال : كيف فعلت ؟ فقال : خفف عنا ، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها ، قال موسى : قد - والله - راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه ، فارجع إلى ربك فليخفف عنك - أيضا -(2/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
قال رسول الله ( : يا موسى ، قد - والله - استحييت من ربي ، مما اختلف إليه . قال : فاهبط بسم الله ، قال : فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ) ) .
وهذه اللفظة مما تفرد بها شريك ، وقد تعلق بها من قال : أن الإسراء كان مناما ، وأجاب عنها قوم - على تقدير أن تكون محفوظة - : بان المراد باستيقاظه رجوعه إلى حال بشريته المعهودة منه في الأرض ، فإنه لما كان في السماء كان في طور أخر غير طور أهل الدنيا ، فلم يستفق من تلك الحال التي كان عليها ، ولم يرجع إلى حاله المعهودة إلا وهوفي المسجد الحرام .
وفي حديث شريك عن أنس : أنه لم يزل يحط عنه عشر صلوات إلى أن صارت خمسا ، وكذا في حديث قتادة عن أنس : أنه حط عنه عشرا عشرا ، ثم حط عنه خمسا ، فصارت خمس صلوات .
وفي حديث ثابت ، عن أنس : أنه حط عنه خمس صلوات ، ولم يزل يرده موسى ، قال : ( ( فلم أزل بين ربي تعالى وبين موسى حتى قال : يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة ، لكل صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة ، قال : فنزلت حتى انتهيت إلى موسى ، فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فسله التخفيف ) ) ، فقال رسول الله ( : ( ( فقلت : قد رجعت إلى ربي عز وجل حتى استحييت منه ) ) .
وفي حديث قتادة ، عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، عن النبي ( : ( ( قلت : سلمت ، فنودي أني قد أمضيت فريضتي ، وخففت عن عبادي ، وأجزي الحسنة
عشرا ) ) .
وفي رواية شريك ، عن أنس المتقدمة : أن موسى قال لمحمد ( بعد أن صارت خمسا : ( ( قد - والله - راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه ) ) .(2/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
وهو يدل على أن الصلوات الخمس لم تفرض على بني إسرائيل ، وقد قيل : أن من قبلنا كانت عليهم صلاتان كل يوم وليلة .
وقد روي عن ابن مسعود ، أن الصلوات الخمس مما خص الله به هذه الأمة .
ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود ، قال : لما أسري برسول الله ( انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة ، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض
منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها ، إذ يغشى السدرة ما يغشى ، قال : فراش من ذهب ، قال : فأعطي رسول الله ( ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لم يشرك بالله شيئا من أمته المقحمات .
وخرجه الترمذي بمعناه ، وعنده : ( ( فأعطاه ثلاثا لم يعطهن نبيا كان قبله ) ) .
وقد يعارض هذا ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن
عباس ، أن النبي ( قال : ( ( أمني جبريل عند البيت مرتين ) ) ، فذكر أنه صلى به الصلوات الخمس أول يوم في أول وقت ، وفي اليوم الثاني في أخر وقت إلا المغرب ، قال : ( ( ثم التفت إلي جبريل فقال : يا محمد ، هذا وقت الأنبياء من قبلك ، والوقت ما بين هذين ) ) .
وإن صح هذا فيحمل على أن الأنبياء كانت تصلي هذه الصلوات دون أممهم .
ويدل عليه : ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود من حديث معاذ ، أن النبي ((2/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
قال : ( ( اعتموا بهذه الصلاة - يعني : صلاة العشاء - ، فإنكم قد فضلتم بها على سائر
الأمم ، ولم تصلها امة قبلكم ) ) .
وقول ابن مسعود : ( ( أن سدرة المنتهى في السماء السادسة ) ) يعارضه حديث أنس المرفوع من طرقه كلها ؛ فإنه يدل على أنها في السماء السابعة أو فوق السماء السابعة ، والمرفوع أولى من الموقوف .
وفي حديث الزهري ، عن أنس ، في سدرة المنتهى : ( ( غشيها ألوان ، لا ادري ما هِيَ ) ) .
وفي حديث قتادة ، عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، عن النبي ( ، قال : ( ( ثم رفعت إلى سدرة المنتهى ، فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، فقال : هذه سدرة المنتهى ) ) .
في حديث ثابت ، عن أنس ، عن النبي ( ، قال : ( ( ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى ، وإذا ورقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال ، قال : فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ) ) .
خرجه مسلم .
وروى مسدد : ثنا يحيى ، عن حميد ، عن أنس ، أن رسول الله ( قال :
( ( انتهيت إلى سدرة المنتهى ، فإذا نبقها مثل الجرار ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تحولت ياقوتة أو نحو ذلك ) ) .
وخرجه الإمام أحمد ، وعنده : ( ( تحولت ياقوتا وزمردا ) ) .(2/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
وخرج الترمذي من حديث أسماء بنت أبي بكر ، قالت : سمعت رسول الله ( وذكر سدرة المنتهى ، قال : ( ( يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة ، أو يستظل بظلها مائة راكب ، فيها فراش الذهب ، كأن ثمرها القلال ) ) .
وخرجه الجوزجاني وغيره بزيادة في آخرة ، وهي : ( ( فقلنا يا رسول الله ، فماذا رأيت عندها ؟ قَالَ : ( ( فماء مفضض ) ) .
وفي حَدِيْث أبي جَعْفَر الرَّازِي ، عَن الربيع بْن أنس ، عَن أبي العالية أو غيره ، عَن أبي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيّ ( - فذكر حَدِيْث الإسراء بطوله ، وفيه : ( ( ثُمَّ انتهى النَّبِيّ ( إلى السدرة ، فَقِيلَ لَهُ : هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك عَلَى سنتك ، فإذا هِيَ شجرة يخرج من أصلها انهار من ماء غير آسن وانهار من لبن لَمْ يتغير طعمه وانهار من خمر لذة للشاربين ، وانهار من عسل مصفى ، وهي شجرة يسير الراكب فِي ظلها سبعين عاما لا يقطعها ، والورقة مِنْهَا مغطية للأمة كلها . قَالَ : فغشيها نور الخلاق ( ، وغشيها الملائكة أمثال الغربان حِينَ تقع عَلَى الشجر من حب الله ( ) ) - وذكر بقية الحديث .
خرجه البزار في ( ( مسنده ) ) وابن جرير في ( ( تفسيره ) ) والبيهقي في ( ( البعث والنشور ) ) وغيرهم ، وفي إسناده بعض اختلاف ، وروي موقوفا غير مرفوع .(2/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
وفي هذا تفسير لما تقدم من أنه غشيها فراش من ذهب ، فإن الفراش مثل الجراد ونحوه ، مما يطير ويقع على الشجر .
وقوله : ( ( ثم أدخلت الجنة ، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ) ) ، اختلفت النسخ في هذه اللفظة :
ففي بعضها : ( ( جنابذ ) ) ، والمراد بها : القباب ، وكأنها شبهت - والله أعلم - بجنابذ الورد قبل تفتحها .
وقد ثبت في حديث أبي موسى ، عن النبي ( ، قال : ( ( أن للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة ، طولها في السماء ستون ميلا ) ) .
وفي بعض النسخ : ( ( حبائل ) ) بالحاء المهملة واللام ، وفي بعضها : ( ( جبايل ) ) بالجيم واللام .
وقد قال الأكثرون : أن ذلك كله تصحيف وغلط .
وزعم بعضهم : أن حبائل - بالحاء المهملة واللام - جمع حبال ، وان حبالا جمع حبل ، والحبل : ما استطال من الرمل المرتفع كهيئة الجبال ، فيكون المراد بذلك : أن في الجنة تلالا من لؤلؤ .
والصحيح : ( ( جنابذ ) ) . والله أعلم .
وقوله : ( ( وإذا ترابها المسك ) ) ، والمراد - والله أعلم - : أن رائحة ترابها رائحة المسك ، وأما لونه فمشرق مبهج كالزعفران ، يدل عليه : ما في حديث أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( الجنة ملاطها المسك ، وتربتها الزعفران ) ) .(2/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
خرجه الإمام أحمد والترمذي ، وابن حبان في صحيحه .
والملاط : التراب الذي يختلط بالماء ، فيصير كالطين ، فلونه لون الزعفران في بهجته وإشراقه .
وريحه كريح المسك ، وطعمه كطعم الخبز ، يؤكل .
يدل على ذلك : ما في ( ( صحيح مسلم ) ) عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله ( لابن صائد : ( ( ما تربة الجنة ؟ ) ) قال : در مكة بيضاء مسك يا أبا القاسم ، قال : ( ( صدقت ) ) .
وفي ( ( المسند ) ) عن جابر ، قال : قال رسول الله ( لليهود : ( ( إني سائلهم عن تربة الجنة ، وهي در مكة بيضاء ) ) ، فسألهم ، فقالوا : هي خبزة يا أبا القاسم ، فقال رسول الله ( : ( ( الخبز من الدرمك ) ) .
وهذا يدل على أن لونها بيضاء ، وقد يكون منها ما هو ابيض ومنها ماهو اصفر كالزعفران . والله أعلم .
الحديث الثاني :
350 - حدثنا عبد الله بن يوسف : أنا مالك ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة ابن الزبير ، عن عائشة ، قالت : فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر ، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر .
تريد عائشة - رضي الله عنها - : أن الله تعالى لما فرض على رسوله الصلوات الخمس ليلة الإسراء ، ثم نزل إلى الأرض وصلى به جبريل ( عند البيت ، لم تكن صلاته حينئذ إلا ركعتين ركعتين في الحضر والسفر ، ثم(2/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
أقرت صلاة السفر على تلك الحال ، وزيد في صلاة الحضر ركعتين ركعتين ، ومرادها : الصلاة الرباعية خاصة .
ويدل عليه : ما خرجه البخاري في ( ( الهجرة ) ) من حديث معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : فرضت الصلاة ركعتين ، ثم هاجر النبي ( ففرضت أربعاً ، وتركت صلاة السفر على الأول .
كذا خرجه من رواية يزيد بن زريع ، عن معمر ، وقال : تابعه عبد الرزاق ، عن معمر .
وخرجه البيهقي من رواية عبد الرزاق عن معمر ، ولفظه : ( ( فرضت الصلاة على النبي ( بمكة ركعتين ركعتين ، فلما خرج إلى المدينة فرضت أربعاً ، وأقرت صلاة السفر ركعتين ) ) .
وقال : هذا التقييد تفرد به معمر عن الزهري ، وسائر الثقات أطلقوه - يعني : لم يذكروا الأربع . انتهى .
وفي تقييدها الزيادة بالأربع دليل على أنه إنما زيد في الحضر الرباعية خاصة .
وقد ورد ذلك صريحا عنها في رواية أخرى خرجها الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق ، قال : حدثني صالح بن كيسان ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : كان أول ما افترض على رسول الله ( من الصلاة ركعتان ركعتان ، إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا ، ثم أتم الله الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً في الحضر ، فأقر الصلاة على فرضها الأول في السفر .(2/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
وخرج الإمام أحمد - أيضا - عن عبد الوهاب بن عطاء ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن عائشة ، قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، إلا المغرب فرضت ثلاثا ؛ لأنها وتر . قَالَتْ : وكان رَسُول الله ( إذا سافر صلى الصلاة الأولى إلا
المغرب ، وإذا أقام زاد مع كل ركعتين ركعتين إلا المغرب ؛ فإنها وتر ، والصبح ؛ لأنه يطول فيها القراءة .
وفي رواية أخرى له بهذا الإسناد : كان أول ما افترض على رسول الله ( ركعتان ركعتان ، إلا المغرب ؛ فإنها كانت ثلاثا ، ثم أتم الله الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا في الحضر ، فأقر الصلاة على فرضها الأول في السفر .
وخرجه ابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) من طريق محبوب بن الحسن ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة ولفظه : فرض صلاة السفر والحضر ركعتين ركعتين ، فلما أقام رسول الله ( بالمدينة زيد في صلاة الحضر ، وتركت صلاة الفجر ، لطول القراءة ، وصلاة المغرب ؛ لأنها وتر النهار .
وخرجه البيهقي من وجه أخر عن داود كذلك .
وهذه الرواية إسنادها متصل ، وهي تدل على أن إتمام الظهر والعصر والعشاء أربعاً تأخرالى ما بعد الهجرة إلى المدينة .
وكذلك روى أبو داود الطيالسي : ثنا حبيب بن يزيد الانماطي : ثنا عمرو ابن هرم ، عن جابر بن زيد ، قال : قالت عائشة : كان رسول الله ( يصلي(2/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
بمكة ركعتين - تعني : الفرائض - ، فلما قدم إلى المدينة وفرضت عليه الصلاة أربعاً وثلاثا صلى وترك الركعتين اللتين كان يصليهما بمكة تماما للسفر .
وخرج الطبراني هذا المعنى - أيضا - بإسناد ضعيف عن سلمان الفارسي ( .
وخرج الإسماعيلي في ( ( مسند عمر ) ) من رواية إسماعيل بن عياش ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم وأرطاة بن المنذر ، عن حكيم بن عمير ، أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد : أما بعد ، فإنما كانت الصلاة أول الإسلام ركعتين ، فقال الناس : إنا قد امرنا أن نسبح أدبار السجود ونصلي بعد كل صلاة ركعتين ، فلما رأى النبي ( تطوعهم صلاها أربعاً ، وأمرهُ الله بذلك ، فكان يسلم بين كل ركعتين ، فخشينا أن ينصرف الصبي والجاهل يرى أنه قد أتم الصلاة ، فرأيت أن يخفي الإمام التسليمة الأولى ويعلن بالثانية ، فافعلوا ذلك .
هذا إسناد ضَعِيف منقطع ، ومتن منكر .
وقد عارض هذا كله : ما روي أن جبريل أم النبي ( عند البيت أول ما فرضت الصلاة ، وصلى به أربعاً .
فخرج الدارقطني من طريق جرير بن حازم ، عن قتادة عن أنس ، أن جبريل أتى رسول الله ( بمكة حين زالت الشمس ، فأمره أن يؤذن للناس(2/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
بالصلاة حين فرضت عليهم ، فقام جبريل أمام النبي ( ، وقام الناس خلف رسول الله ( . قال : فصلى أربع ركعات لا يجهر فيها بقراءة ، يأتم الناس برسول الله ( ، ويأتم رسول الله ( بجبريل عليه السلام ، ثم أمهل حتى إذا دخل وقت العصر صلى بهم أربع ركعات لا يجهر فيها بالقراءة ، يأتم المسلمون برسول الله ( ويأتم رسول الله ( بجبريل ، ثم أمهل حتى إذا وجبت الشمس صلى بهم ثلاث ركعات ، يجهر في ركعتين بالقراءة ولا يجهر في الثالثة ، ثم أمهله حتى إذا ذهب ثلث الليل صلى بهم أربع ركعات ، يجهر في الأوليين ولا يجهر الأُخريين بالقراءة ، ثم أمهل حتى إذا طلع الفجر صلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة .
ثم خرجه من طريق سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن النبي ( - بنحوه مرسلاً .
وهذا المرسل اصح ، وروايات جرير بن حازم عن قتادة خاصة فيها منكرات كثيرة ، لا يتابع عليها ، ذكر ذلك أئمة الحفاظ : منهم أحمد وابن معين وغيروهما . ومراسيل الحسن . فيها ضعف عند الاكثرين ، وفيه نكارة في متنه في ذكر التاذين
للصلاة ؛ والأذان لَمْ يكن بمكة ، إنما شرع بالمدينة .
خرجه البيهقي من طريق شيبان ، عَن قتادة ، قَالَ : حدّث الْحَسَن - فذكره مرسلا ، وذكر أنه نودي لهم : : ( ( الصلاة جامعة ) ) .
وخرجه أبو داود ( ( في مراسيله ) ) من رواية سعيد عن قتادة عن الحسن .
وروى البيهقي باسنادة من حديث يحيى بن سعيد ، عن أبي بكر بن محمد ، عن أبي مسعود ، قال : أتى جبريل النبي ( ، قال : قم فصل ؛(2/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
وذلك دلوك الشمس ، فقام فصلى الظهر أربعاً - وذكر عدد الصلوات كلها تامة في اليومين .
ثم قال : أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم لم يسمعه من أبي مسعود
الأنصاري ، إنما هو بلاغ بلغه .
وقد نقل إسحاق بن منصور ، عن إسحاق بن راهويه ، قال : كل صلاة صلى النبي ( بمكة كانت ركعتين ركعتين ، إلا المغرب ثلاثا ، ثم هاجر إلى المدينة ، ثم ضم إلى كل ركعتين ركعتين ، إلا الفجر والمغرب ، تركهما على حالهما . قال : وصلى جبريل بالنبي ( بمكة عند المقام مرتين .
وممن قال : أن الصلوات الخمس فرضت ركعتين ركعتين : الشعبي ، والحسن في رواية ، وابن إسحاق .
وقالت طائفة : فرضت الصلاة أول ما فرضت أربعاً ، إلا المغرب والصبح ، كذلك قال نافع بن جبير بن مطعم ، والحسن في رواية ، وابن جريج ، وهو اختيار إبراهيم الحربي ، ورجحه ابن عبد البر ، وتمسكوا بما لا حجة لهم فيه ، ولا يعارض حديث عائشة .
وفي حديث عائشة فوائد كثيرة تتعلق بقصر الصلاة في السفر ، تذكر في أبواب قصر المسافر - إن شاء الله تعالى .(2/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
- باب وجوب الصلاة في الثياب
وقول الله ( ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ( [ الأعراف : 31 ]
ومن صلى ملتحفا في ثوب واحد
ويذكر عن سلمة بن الأكوع ، أن النبي ( قال : ( ( يزره ولو بشوكة ) ) . وفي إسناده نظر .
ومن صلى في الثوب الذي يجامع فيه إذا لم ير فيه أذى
وأمر النبي ( أن لا يطوف بالبيت عريان .
أما قوله تعالى : ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ( فإنها نزلت بسبب طواف المشركين بالبيت عراة ، وقد صح هذا عن ابن عباس ، واجمع عليه المفسرون من السلف بعده .
وقد ذكر الله هذه الآية عقب ذكره قصة ادم عليه السلام ، وما جرى له ولزوجه مع الشيطان حتى أخرجهما من الجنة ، ونزع عنهما لباسهما حتى بدت عوراتهما ، فقال الله تعالى : ( يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ( [ الأعراف : 27 ] .
ثم قال : ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ(2/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( [ الأعراف : 28 ] .
والمراد بالفاحشة هنا : نزع ثيابهم عند الطواف بالبيت ، وطوافهم عراة كما كان عادة أهل الجاهلية .
ثم قال بعد ذلك : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ( .
والمراد بذلك : أن يستروا عوراتهم عند المساجد ، فدخل في ذلك الطواف والصلاة والاعتكاف وغير ذلك .
وقال طائفة من العلماء : أن الآية تدل على اخذ الزينة عند المساجد ، وذلك قدر زائد على ستر العورة ، وإن كان ستر العورة داخلا فيه وهو سبب نزول الآيات ، فإن كشف العورة فاحشة من الفواحش ، وسترها من الزينة ، ولكنه يشمل مع ذلك لبس ما يتجمل به ويتزين به عند مناجاة الله وذكره ودعائه والطواف ببيته ؛ ولهذا قَالَ تعالى عقب ذَلِكَ : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( [ الأعراف : 32 ] .
وروى موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه ، فإن الله أحق من تزين له ) ) .
خرجه الطبراني وغيره .
وقد روى جماعة هذا الحديث عن ابن عمر ، عن النبي ( - أو عن عمر - بالشك في ذلك .
خرجه البزاز وغيره .
وخرجه أبو داود . كذلك بالشك ، ولم يذكر فيه ( ( فإن الله أحق من(2/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
تزين له ) ) .
وروي ذكر التزين من قول ابن عمر ، فروي عن أيوب ، عن نافع ، قال : رآني ابن عمر أصلي في ثوب واحد ، قال : الم أكسك ثوبين ؟ قلت : نعم ، قال : فلو أرسلتك في حاجة كنت تذهب هكذا ؟ : قلت : لا . قال : فالله أحق أن تزين له .
أخرجه الحاكم وغيره .
والمحفوظ في هذا الحديث رواية من رواه بالشك في رفعه - : قاله الدارقطني .
وممن أمر بالصلاة في ثوبين : عمر ، وابن مسعود ، وقال ابن مسعود : إذ وسع الله فهو أزكى .
واستدل من قال : أن المأمور به من الزينة أكثر من ستر العورة التي يجب سترها عن الأبصار بأن النبي ( نهى أن يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء ، وبان من صلى عاريا خاليا لا تصح صلاته ، وبان المرآة الحرة لا تصح صلاتها بدون خمار ، مع أنه يباح لها وضع خمارها عند محارمها ، فدل على أن الواجب في الصلاة أمر زائد على ستر العورة التي يجب سترها عن النظر .
وأما الصلاة في ثوب واحد ملتحفا به ، ففيه عدة أحاديث عن النبي ( ؛ وقد خرج البخاري بعضها ، وستأتي في موضعها - أن شاء الله .(2/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
وأما حديث سلمة بن الأكوع الذي علقه البخاري ، وقال : في إسناده نظر ؛ فهو من رواية موسى بن إبراهيم ، عن سلمة بن الأكوع ، قال : قلت : يا رسول الله ؛ إني رجل أصيد ، أفأصلي في القميص الواحد ؟ قَالَ : ( ( نَعَمْ ، زره ولو بشوكة ) ) .
خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن حبان فِي ( ( صحيحه ) ) ، والحاكم وصححه .
واستدل به طائفة من فقهاء أهل الحديث على كراهة الصلاة في قميص محلول الإزار ، منهم : إسحاق بن راهويه ، وسليمان بن داود الهاشمي ، والجوزجاني وغيرهم .
وقال الإمام أحمد فيمن صلى في قميص ليس عليه غيره : يزره ويشده . وقال - أيضا - : ينبغي أن يزره .
وقد روى هذا الحديث عن موسى بن إبراهيم : الدراوردي - ومن طريقه خرجه أبو داود - وعطاف بن خالد - ومن طريقه خرجه الإمام أحمد والنسائي .
وموسى هذا ، زعم ابن القطان أنه موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث
التيمي ، وذكر ذلك عن البرقاني ، وأنه نقله عن أبي داود ، فلزم من ذلك أمران يضعفان إسناده : أحدهما ضعف موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي ؛ فإنه متفق عليه . والثاني : انقطاعه ؛ فإن موسى هذا لم يرو عن سلمة ، إنما يروي عن أبيه ، عن سلمة .
وذكر أن الطحاوي رواه عن ابن أبي داود ، عن ابن أبي قتيلة ، عن الدراوردي ، عن موسى بن محمد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن سلمة . قال :(2/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
فحديث أبي داود علي هذا منقطع .
هذا مضمون ما ذكره ابن القطان ، وزعم أن هذا هو النظر الذي أشار إليه البخاري بقوله : في إسناده نظر .
والصحيح : أن موسى هذا هو موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي ، نص على ذلك علي بن المديني - : نقله عنه القاضي إسماعيل في كتاب ( ( أحكام القرآن ) ) ، وكذا نقله المفضل الغلابي في ( ( تاريخه ) ) عن مصعب الزبيري ، وكذا ذكره أبو بكر الخلال في كتاب ( ( العلل ) ) ، وصرح به - أيضا - من المتأخرين عبد الحق الإشبيلي وغيره ، ولذلك خرج هذا الحديث ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) ؛ فإنه لا يخرج فيه لموسى بن محمد بن إبراهيم التيمي شيئا ؛ للاتفاق على ضعفه .
وقد فرق بين الرجلين يحيى بن معين - أيضا - ، ففي ( ( تاريخ الغلابي ) ) عن يحيى بن معين : موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي يضعف ، جاء بأحاديث منكرات .
ثم بعد ذلك بقليل ، قال : موسى بن إبراهيم المديني ، يروي عن سلمة بن
الأكوع ، عن النبي ( - في الصلاة في القميص الواحد : ( ( زره ولو بشوكة ) ) - ثبت .
وفي ( ( تاريخ مضر بن محمد ) ) ، عن ابن معين نحو هذا الكلام - أيضا - ، إلا أنه قال في الذي روى حديث الصلاة في القميص : ليس به بأس ، ولم يقل : ثبت .
وكذلك أبو حاتم الرازي ، صرح بالفرق بين الرجلين .
قال ابن أبي حاتم في ( ( كتابه ) ) : موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي ، روى عن سلمة بن الأكوع ، وعن أبيه عن(2/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
أنس ، روى عنه عطاف بن خالد ، وعبد الرحمن بن أبي الموالي ، وعبد العزيز ابن محمد ، سمعت أبي يقول ذلك ، وسمعته يقول : موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي خلاف هذا ، ذاك شيخ ضعيف الحديث . انتهى .
وتضعيفه التيمي دون هذا يدل على أن هذا ليس بضعيف .
وكذا فرق بينهما علي بن ألمديني ، فيما نقله عنه أبو جعفر بن أبي شيبة في ( ( سؤالاته له ) ) ، وقال في التيمي : ضعيف ، ضعيف ، وقال في الذي يروي عن سلمة : كان صالحا وسطا .
وكذلك فرق بينهما ابن حبان ، وذكر موسى بن إبراهيم هذا في ( ( ثقاته ) ) .
وكذلك صرح بنسبه أبو حاتم الرازي ، فيما نقله عنه ابنه في كلامه على ( ( أوهام تاريخ البخاري ) ) .
وقد ورد التصريح بنسبة موسى هذا في روايات متعددة :
فروى الشافعي : أنا عطاف بن خالد والدراوردي ، عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة ، عن سلمة بن الاكوع ، قال : قلت يا رسول الله ، أنا نكون في الصيد ، فيصلي احدنا في القميص الواحد ؟ قال : ( ( نعم ، وليزره ، ولو لم يجد إلا أن يخله بشوكة ) ) .
وروى الإمام أحمد في ( ( المسند : ثنا هاشم بن القاسم : ثنا عطاف ، عن(2/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
موسى بن إبراهيم بن أبي ربيعة ، قال : سمعت بن الاكوع - فذكر الحديث .
ورواه الاثرم في ( ( سننه ) ) : ثنا هشام بن بهرام : ثنا عطاف ، عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بيعة المخزومي ، أن سلمة بن الاكوع كان إذا قدم المدينة نزل على ابنه إبراهيم في داره ، قال : فسمعتة يقول : قلت : يا رسول الله ، أني أكون في الصيد ، وليس علي إلاّ قميص واحد ، أفأصلي فيه ؟ قال ( ( نعم ، وزره وان لم تجد إلا شوكه ) ) .
وكذلك رواه علي بن المديني ، عن الدراوردي : أخبرني موسى بن عبد الرحمن ، أنه سمع سلمة بن الاكوع - فذكره .
ففي هذه الروايات التصريح بنسبته وبسماعه من سلمة .
وأما رواية ابن أبي قتيله ، عن الدراوردي فلا يلتفت إليها ؛ فإن الشافعي وعلي بن المديني وقتيبة بن سعيد وغيرهم رووه عن الدراوردي على صواب ، ولم يكن ابن أبي قتيلة من أهل الحديث ، بل كان يعيبهم ويطعن عليهم ، وقد ذكر عند الإمام أحمد أنه قال : أهل الحديث قوم سوء فقال أحمد : زنديق زنديق زنديق .
وقد روه أبو أويس ، عن موسى بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن سلمة - أيضا .
ذكره البخاري في ( ( تاريخه ) ) عن إسماعيل بن أبي أويس ، عن أبيه - قال البيهقي : والأول أصح .
يعني : رواية من لم يذكر في اسنادة : ( ( عن أبيه ) ) .(2/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
وذكر البخاري في ( ( تاريخه ) ) : موسى بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي ربيعة ، سمع سلمة بن الأكوع ، روى عنه عطاف بن خالد .
وروى عبد الرحمن بن أبي الموالي ، عن موسى بن إبراهيم بن أبي ربيعة عن أبيه ، عن أنس ، أنه رأى النبي ( صلى في ثوب واحد ملتحفاُ فيه .
وهذا الحديث خرجه الإمام أحمد ، عن أبي عامر العقدي ، عن ابن أبي الموالي . فهذا هو النظر الذي أشار البخاري إلى إسناده في ( ( صحيحه ) ) ، وهو الاختلاف فِي إسناد الحَدِيْث على موسى بن إبراهيم .
وفي كونه علة مؤثرة نظر ؛ فإن لفظ الحديثين مختلف جدا ، فهما حديثان مختلفان إسناداً ومتنا .
نعم ؛ لرواية ابن أبي الموالي ، عن موسى ، عن أبيه ، عن أنس علة مؤثرة ، وهي أن عبد الله بن عكرمة رواه عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة - وهو : والد موسى - ، عن جابر ، عن النبي ( ، وقد خرج حديثه الإمام أحمد .
ولعل هذة الرواية أشبه ؛ فإن متن هذا الحديث معروف عن جابر بن عبد الله ، لا عن أنس .
لكن نقل ابن أبي حاتم ، عن أبيه في كلام جاء على ( ( أوهام تاريخ البخاري ) ) : أن رواية موسى عن أبيه عن أنس ، ورواية إبراهيم والد موسى عن(2/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
جابر من غير رواية ابنه موسى .
وهذا يدل على أن الإسنادين محفوظان .
وأما حديث الصلاة في القميص وزره بالشوكة ، فلا يعرف إلا بهذا الإسناد عن سلمة ، فلا يعلل بحديث غيره . والله أعلم .
وأما قوله : ( ( من صلى في الثوب الذي يجامع فية إذا لم ير فيه أذى ) ) ، فهذا فيه غير حديث ، لكنها ليست على شرطه :
فروى يزيد بن أبي حبيب ، عن سويد بن قيس ، عن معاوية بن حديج ، عن معاوية بن أبي سفيان ، أنه سال أخته أم حبيبة زوج النبي ( هل كان النبي ( يصلي في الثوب الذي يجامعها فيه ؟ قالت : نعم ، إذا لم ير فيه أذى .
خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه .
وخرج الإمام أحمد من رواية ضمرة بن حبيب ، أن محمد بن أبي سفيان الثقفي حدثه ، أنه سمع أم حبيبة تقول : رأيت رسول الله ( يصلي ، وعلي وعليه ثوب واحد ، فيه كان ما كان .
وروى الأوزاعي ، عن يعيش بن الوليد ، عن معاوية بن أبي سفيان ، قال : دخلت على أم حبيبة ورسول الله ( يصلي في ثوب واحد ، فقلت : إلا أراه يصلي كما أرى ؟ قالتا : نعم ، وهو الثوب الذي كان فيه ما كان .
خرجه أبو يعلى الموصلي .
ويعيش ثقة ، إلا أني لا أظنه أدرك معاوية .(2/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سمرة قال : سال رجل النبي ( أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي ؟ قالَ : ( ( نعم ، إلا أن ترى شيئا فتغسله ) ) .
وقال أبو حاتم الرازي والدارقطني : الصواب وقفه على جابر بن سمرة .
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : هذا الحديث لا يرفع عن جابر بن سمرة .
يشير إلى أن من رفعه فقد وهم .
وخرج ابن ماجه من رواية الحسن بن يحيى ألخشني : ثنا زيد بن واقد ، عن بسر بن عبيد الله ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي الدر داء ، قال : خرج علينا رسول الله ( ورأسه يقطر ماء ، فصلى بنا في ثوب واحد متوشحا به ، قد خالف بين طرفيه ، فلما انصرف قال له عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، تصلي بنا في ثوب واحد ؟ قَالَ :
( ( نعم ، اصلي فيه ، وفيه ) ) - أي : قد جامعت فيه .
والخشني هذا ، قال ابن معين فيه : ليس بشيء .
وأما أمر النبي ( أن لا يطوف بالبيت عريان ؛ فهو حديث صحيح ، وقد خرجه البخاري في موضع أخر من حديث أبي هريرة ، وسيأتي قريبا - أن شاء الله .
وهو من أحسن ما يستدل به على النهي عن الصلاة عريانا ؛ لأن الطواف(2/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
يشبه بالصلاة ، فالمشبه به أولى .
وقد روي عن ابن عباس - مرفوعا ، وموقوفا - : ( ( الطواف بالبيت صلاة ) ) .
خرج البخاري في هذا الباب حديث أم عطية :
فقال :
351 - ثنا موسى بن إسماعيل : ثنا يزيد بن إبراهيم ، عن محمد ، عن أم عطية ، قالت : امرنا أن نخرج الحيض يوم العيدين وذوات الخدور ، يشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم ، ويعتزل الحيض عن المصلى . قالت امرأة : يا رسول الله ، إحدانا ليس لها جلباب ؟ قَالَ : ( ( لتلبسها صاحبتها من جلبابها ) ) .
وقال عبد الله بن رجاء : ثنا عمران : ثنا محمد بن سيرين : حدثتنا أم عطية : سمعت النبي ( بهذا .
وإنما ذكر رواية عمران عن ابن سيرين وإن لم تكن على شرطه ؛ لأن فيها(2/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
التصريح بسماع ابن سيرين له من أم عطية له من النبي ( ؛ فإن من الرواة من رواه عن ابن سيرين ، عن أخته ، عن أم عطية ، والصحيح : رواية ابن سيرين ، عن أم عطية - : قاله الدارقطني وغيره ؛ فلذلك أشار البخاري إلى رواية عمران المصرحة بذلك .
و ( ( الجلباب ) ) : قال ابن مسعود ومجاهد وغيروهما : هو الرداء ، ومعنى ذلك : أنه للمرآة كالرداء للرجل ، يستر أعلاها ، إلا أنه يقنعها فوق رأسها ، كما يضع الرجل رداءه على منكبيه .
وقد فسر عبيدة السلماني قول الله ( : ( يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ ( [ الأحزاب : 59 ] بأنها تدنيه من فوق رأسها ، فلا تظهر إلا عينها ، وهذا كان بعد نزول الحجاب ، وقد كن قبل الحجاب يظهرن بغير جلباب ، ويرى من المرآة وجهها وكفاها ، وكان ذلك ما ظهر منها من الزينة في قوله ( : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ( [ النور : 31 ] .
ثم أمرت بستر وجهها وكفيها ، وكان الأمر بذلك مختصا بالحرائر دون الإماء ، ولهذا قال تعالى : ( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ( [ الأحزاب : 59 ] ، يعني : حتى تعرف الحرة فلا يتعرض لها الفساق ، فصارت المرآة الحرة لا تخرج بين الناس إلا بالجلباب ، فلهذا سئل النبي ( لما أمر النساء بالخروج في العيدين ، وقيل له : المرآة منا ليس لها جلباب ؟ فقال : ( ( لتلبسها صاحبتها من جلبابها ) ) - يعني تعيرها جلبابا تخرج فيه .
وإذا علم هذا المعنى ، ففي إدخال هذا الحديث في ( ( باب : اللباس في الصلاة ) ) نظر ؟ فإن الجلباب إنما أمر به للخروج بين الناس ؛ لا للصلاة ، ويدل عليه : أن الأمر بالخروج دخل فيه الحيض وغيرهن ، وقد تكون فاقدة الجلباب حائضا ، فعلم أن الأمر بإعارة الجلباب إنما هو للخروج بين الرجال ، وليس من(2/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
باب اخذ الزينة للصلاة ؛ فإن المرآة تصلي في بيتها بغير جلباب بغير خلاف ، وإنما تؤمر بالخمار ، كما روي عن عائشة عن النبي ( ، أنه قال : ( ( لا يقبل الله صلاة حائض بغير خمار ) ) .
خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والترمذي ، وحسنه .
وفي إسناده اختلاف ، وقد روي موقوفا على عائشة ومرسلا ؛ ولذلك لم يخرجه البخاري ومسلم ؛ وخرجه ابن خزيمة ، وابن حبان في ( ( صحيحيهما ) ) .
وفي رواية لها : ( ( لا يقبل الله صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار ) ) .
وقال الترمذي : العمل على هذا عند أهل العلم ، أن المراة إذا أدركت فصلت وشيء من شعرها مكشوف لا تجوز صلاتها .
وقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم أن على المرأة الحرة البالغ أن تخمر رأسها إذا صلت ، وأنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها إعادة الصلاة . قال : وأجمعوا أن لها أن تصلي وهي مكشوفة الوجه .
واختلفوا فيما عليها أن تغطي في الصلاة :
فقالت طائفة : عليها أن تغطي ما سوى وجهها وكفيها ، وهو قول الاوزاعي ، والشافعي ، وأبي ثور .
وقال أحمد : إذا صلت تغطي كل شيء منها ولا يرى منها شيء ، ولا ظفرها .
وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام : كل شيء من المراة عورة ، حتى ظفرها .(2/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
قلت : قد تقدم أن كشف وجهها في الصلاة جائز بالإجماع ، والخلاف في
الكفين ، وفيه عن أحمد روايتان .
وقال الحسن : إذا بلغت المحيض فصلت ولم توار أذنيها فلا صلاة لها .
وعند أبي حنيفة : لا يجب عليها ستر اليدين ولا القدمين .
وأما الوجه ، فقد ذكر ابن المنذر وغيره الإجماع على جواز كشفه في الصلاة ، وهذا يدل على أن اخذ المراة الجلباب في صلاة العيدين ليس هو لأجل الصلاة ، بل هو للخروج بين الرجال ، ولو كانت المراة حائضا لا تصلي فإنها لا تخرج بدون جلباب .(2/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
3 - باب
عقد الإزار على القفا في الصلاة
وقال أبو حازم ، عن سهل : صلوا مع رسول الله ( عاقدي أزرهم على عواتقهم .
حديث سهل بن سعد هذا قد خرجه البخاري بإسناده ، وسيأتي قريبا - إن شاء الله تعالى .
وأسند في هذا الباب حديث جابر من طريقين :
أحدهما :
352 - من طريق : واقد بن محمد ، عن محمد بن المنكدر ، قال : صلى جابر في إزار ، قد عقده من قبل قفاه ، وثيابه موضوعة على المشجب ، فقال له قائل : تصلي في إزار واحد ؟ قال : إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك ، وأينا كان له ثوبان على عهد رسول الله ( ؟
والثاني :
353 - من طريق : عبد الرحمن بن أبي الموالي ، عن محمد بن المنكدر ، قال : رأيت جابرا يصلي في ثوب واحد ، وقال : رأيت النبي ( يصلي في ثوب .
ليس في هذا الباب حديث مرفوع صريح في الصلاة في إزار واحد معقود على القفا ؛ وإنما في الرواية الأولى ذلك من فعل جابر ، وفي حديث سهل من فعل الصحابة خلف النبي ( ، وهو شبيه بالمرفوع .
والمرفوع في الباب : هو الصلاة في ثوب واحد ، من غير بيان كيفية لبسه .(2/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
وقد خرج البخاري فيما بعد هذا الباب من رواية ابن أبي الموالى - أيضا - عن ابن المنكدر ، قال : دخلت على جابر وهو يصلي في ثوب ملتحفاً به ، ورداؤه موضوع ، فلما أنصرف قلنا : يا أبا عَبْد الله ، تصلي ورداؤك موضوع ؟ قال : نعم : أحببتُ أن يراني الجهال مثلكم ، رأيت النبي ( يصلي هكذا .
وهذا يدل على أنه رأى النبي ( يصلي في إزار بغير رداء ، ورواية واقد بن محمد عن ابن المنكدر التي خرجها البخاري في هذا الباب صريحة في أن جابرا عقد إزاره من قبل قفاه ، فظهر من كلا الروايتين أن جابرا صلى في إزار عقده من قفاه ، وانه اخبر أنه رأى النبي ( يصلي كذلك .
ويؤخذ هذا - أيضا - من نهي النبي ( أن يصلي الرجل في ثوب واحد ، ليس على عاتقه منه شيء .
وقد خرجه البخاري فيما بعد ، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى .
قال الخطابي : يريد أن لا يتزر به في وسطه ، ويشد طرفيه على حقويه ، ولكن يتزر به ويرفع طرفيه ، فيخالف بينهما ، ويشد عقده على عاتقيه ، فيكون بمنزلة الإزار والرداء .
وقال الميموني : رأيت أبا عبد الله - يعني : أحمد - يصلي الفرض وعليه إزار واحد متوشحا به ، وقد عقد طرفيه في قفاه .
قال القاضي أبو يعلى : هذا محمول على أنه كان صغيرا لم يمكنه أن يخالف بين طرفيه ، فعقده من ورائه .
يشير إلى أن الارتداء بالثوب أفضل من الاتزار به ، وسيأتي بيان ذلك في الباب الآتي - إن شاء الله تعالى .(2/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
وخرج الطبراني بإسناد ضعيف ، عن أبي هريرة ، قال : صلى بنا رسول الله ( في ثوب متوشحا ، فلم ينل طرفاه ، فعقده .(2/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
4 - باب
الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به
وقال الزهري في حديثه : الملتحف : المتوشح ، وهو المخالف بين طرفيه على عاتقيه ، وهو الاشتمال على منكبيه .
وقالت أم هانئ : التحف النبي ( بثوب ، وخالف بين طرفيه على عاتقيه .
حديث أم هانئ قد خرجه البخاري في هذا الباب ، وإنما مراده هنا : تفسير الالتحاف المذكور فيه ، وقد حكى عن الزهري أنه فسره بالتوشح ، وذكر أن التوشح والالتحاف والاشتمال بالثوب المأمور به في الصلاة : هو أن يطرح الثوب على منكبيه ، ويرد طرفيه على عاتقيه ، فإن لم يردهما فهو السدل المنهي عنه ، كما سنذكره - إن شاء الله تعالى .
وقد فسر يعقوب بن السكيت التوشح ، فقال : هو أن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى ، ويأخذ طرفه الذي ألقاه على الأيسر من تحت يده اليمنى ، ثم يعقدهما على صدره .
وفرق الأخفش بين التوشح والاشتمال ، فقال : التوشح : هو أن يأخذ طرف الثوب الأيسر من تحت يده اليسرى ، فيلقيه على منكبه الأيمن ، ويلقي طرف الثوب الأيمن من تحت يده اليمنى على منكبه الأيسر .
قال : والاشتمال : أن يلتف الرجل بردائه أو بكسائه من رأسه إلى قدميه ، يرد طرف الثوب الأيمن على منكبه الأيسر .
خرج في هذا الباب ثلاثة أحاديث :
الحديث الأول :
حديث عمر بن أبي سلمة ، وخرجه من طرق :(2/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
فخرجه أولا :
354 - عن عبيد الله بن موسى : ثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عمر بن أبي سلمة ، أن النبي ( صلى في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه .
وبدأ بهذه الطريق لعلوها ؛ فإنه رواه عن عبيد الله بن موسى - وهو : العبسي الكوفي - ، عن هشام بن عروة سمعه منه .
وقد قيل : أنه لم يرو عنه في ( ( كتابه ) ) بغير واسطة غير هذا الحديث ، وهذا
وهم ؛ فإنه روى عنه - أيضا - بغير واسطة أول حديث في ( ( كتاب الإيمان ) ) ، وهو حديث : ( ( بني الإسلام على خمس ) ) .
ثم قال :
355 - ثنا محمد بن المثنى : ثنا يحيى ، عن هشام ، قال : حدثني أبي ، عن عمر ابن أبي سلمة ، أنه رأى النبي ( يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة ، قد ألقى طرفيه على عاتقيه .
ويحيى هو : القطان ، وفي هذه الرواية : زيادة تصريح هشام بسماعه له من أبيه ، ورؤية عمر بن أبي سلمة لذلك من النبي ( .
ثم قال :
356 - ثنا عبيد بن إسماعيل : ثنا أبو إسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، أن عمر بن أبي سلمة أخبره ، قال : رأيت النبي ( يصلي في ثوب واحد مشتملا به في بيت أم سلمة ، واضعا طرفيه على عاتقيه .
ففي هذه الرواية : تصريح عروة بسماعه له من عمر بن أبي سلمة ، وفيه - أيضا - : رؤية عمر للنبي ( يصلي كذلك ، وفيه تسمية ذلك اشتمالا ،(2/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
وتفسيره بوضع طرفي الثوب على عاتقيه .
وفي رواية خرجها مسلم في ( ( صحيحه ) ) : ( ( متوشحا به ) )
وأظن البخاري من هذه الوجوه الثلاثة عن هشام ليبين أن من رواه : عن هشام ، عن أبيه ، عن عَبْد الله بن عَبْد الله بن أبي أمية المخزومي ، عن النبي ( فقد وهم ؛ فإن إسحاق رواه ، عن هشام كذلك .
خرجه من طريقه الإمام أحمد .
وخرجه - أيضا - من طريق أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عروة كذلك ، وهو وهم - أيضا .
وممن جزم بأنه وهم : علي بن المديني ، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان .
وممن رواه عن هشام ، عن أبيه ، عن عمر بن أبي سلمة : شعبة ، ومالك ، وحماد بن زيد وغيرهم .
الحديث الثاني :
357 - ثنا إسماعيل بن أبي أويس : حدثني مالك ، عن أبي النظر مولى عمر بن عبيد الله ، أن أبا مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب اخبره ، أنه سمع أم هانئ قالت : ذهبت إلى رسول الله ( عام الفتح ، فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره . قالت : فسلمت عليه ، فقال : ( ( من هذه ؟ ) ) قلت : أنا أم هانئ بنت أبي طالب . فقال : ( ( مرحبا بأم هانئ ) ) ، فلما فرغ من غسله قام ، فصلى ثمان ركعات ملتحفا فِي ثوب واحد ، فلما انصرف قلت : يا رسول الله ، زعم ابن أبي ، أنه قاتل(2/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
رجلا قد أجرته : فلان بن هبيرة ، فقال رسول الله ( : ( ( قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ) ) . قالت : وذلك ضحى .
وخرجه مسلم من رواية جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن أبي مرة ، عن أم هانئ ، أن رسول الله ( صلى في بيتها عام الفتح ثمان ركعات ، في ثوب واحد ، قد خالف بين طرفيه .
وأول الحديث قد سبق في ( ( كتاب الغسل ) ) ، ويأتي الكلام على باقيه في ( ( صلاة الضحى ) ) وفي ( ( الجهاد ) ) في ( ( أمان المرأة ) ) - إن شاء الله تعالى .
الحديث الثالث :
358 - ثنا عبدالله بن يوسف : أنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن
المسيب ، عن أبي هريرة ، أن سائلا سأل رسول الله ( عن الصلاة في ثوب واحد ، فقال رسول الله ( : ( ( أو لكلكم ثوبان ؟ ) ) .
وقد رواه ابن عيينة والأوزاعي عن الزهري ، كما رواه مالك .
ورواه يونس وعقيل عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة .
قال أبو حاتم الرازي : كلاهما صحيح .
ورواه الأوزاعي ، [ و ] في روايته : قال : ( ( ليتوشح به ، ثم ليصل فِيهِ ) ) .
وقيل : أنه تفرد بهذه اللفظة عن الزهري .
وقوله : ( ( أو لكلكم ثوبان ؟ ) ) إشارة إلى أن منهم من لا يجد سوى ثوب
واحد ، فلو لَمْ يصل أحد فِي ثوب واحد لشق ذَلِكَ عَلَى بعض النَّاس أو كثير منهم ، والحرج مرفوع عَن هذه الأمة بقوله : ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ( [ المائدة : 6 ] ، وقوله : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ( [ الحج : 78 ] .(2/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
فدلت أحاديث هذا الباب كلها على أنه يجوز أن يصلي الرجل في ثوب واحد ، يشتمل به على منكبيه ، ويخالف بين طرفيه على عاتقيه ، وهو أفضل من الاتزار به ، وعقده على قفاه ، فإنه إنما يتزر به ويعقد عند ضيقه .
هذا قول أصحابنا والشافعية وغيرهم ، وسيأتي من حديث جابر التصريح بهذا المعنى .
وكان كثير من الصحابة يصلي كذلك ويأمر به ، منهم : علي ، وجابر ، وخالد بن الوليد .
وقد روي عن طائفة من السلف ما يدل على خلاف ذلك ، وان الاتزار بالثوب الواحد في الصلاة أولى من الاشتمال .
وروى وكيع ، عن فضيل بن غزوان ، عن عبد الله بن واقد قال : صليت إلى جنب ابن عمر وأنا متوشح ، فأمرني بالأزرة .
وعن عون بن صالح ، عن حيان البارقي ، قال : قال ابن عمر : لا تلبب كتلبب اليهود - يعني : في التوشح .
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) من طريق حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله ( - قال : أو قال عمر - : ( ( إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما ، فإن لم يكن إلا ثوب فليتزر ، ولا يشتمل اشتمال اليهود ) ) .
وقد سبق أنه حديث مختلف في رفعه وفي وقفه على عمر بن الخطاب ، وقد روي موقوفا على ابن عمر من قوله .
وفي رواية مرفوعة خرجها الحاكم وصححها : ( ( إذا لم يجد أحدكم إلا(2/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
ثوبا واحدا فليشده على حقويه ، ولا يشتمل اشتمال اليهود ) ) .
قال الأثرم في هذا الحديث : ليس كل أحد يرفعه ، وقد روي عن النبي ( من وجوه خلافه - يشير إلى الالتحاف والاتشاح بالثوب ، كما تقدم .
وإن صح حديث ابن عمر فهو محمول على ما إذا لم يرده على عطفيه ، فإن ذلك هو السدل المكروه ، وبذلك فسر السدل الإمام أحمد وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة .
وممن كره السدل في الصلاة : علي ، وابن مسعود ، قال أحمد : صح عن علي أنه كرهه ، وجعله من فعل اليهود ، واختلفوا فيه عن ابن عمر .
وفي كراهته أحاديث مرفوعة في أسانيدها مقال .
وعن أحمد ، أنه لا يكره ، إلا إذا لم يكن تحته قميص .
وكان الحسن وابن سيرين يسدلان على قميصهما ، ورخص النخعي في السدل على القميص ، وكرهه على الإزار ، وحكي نحوه عن أحمد .
وفسر آخرون السدل بما ذكرنا ، وزادوا : أن يكون مسبلا تحت الكعبين ، وهذا هو المروي عن الشافعي ، وهو الذي ذكره أكثر أصحابه ، وبعض أصحابنا ، وقاله الخطابي وغيره ، وجعلوا حكمه حكم إسبال الإزار تحت الكعبين : أن كان خيلاء حرم ذلك ، وإن لم يكن خيلاء ففيه الاختلاف المشهور .
والصحيح : أن ذلك ليس بشرط في السدل ، وان الاختلاف في كراهة السدل إذا لم يعطف أحد طرفي ثوبه على الآخر وإن لم يكن مسبلا . والله أعلم .
قال يزيد بن أبي حكيم : رايت سفيان الثوري يصلي مرخيا رداءه في الأرض ، قد اشتمله وكشف عن بطنه وصدره ، غير أنه زر طرفي الثوب ،(2/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
ممسكا عليها عند موضع الأزرة ، فسأله : أسدل هذا ؟ قال : لا ، حتى يرخيه ولا يمسكه .
وكذلك روى إسحاق بن منصور ، أنه رأى أحمد يصلي سادلا ، وطرفا ثوبه
بيده ، فإذا قام من الركوع خلى عنهما .(2/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
5 - باب
إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه
خرج فيه حديثين :
أحدهما :
قال :
359 - ثنا أبو عاصم ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( : ( ( لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ، ليس على عاتقه شيء ) ) .
هكذا الرواية : ( ( لا يصلي ) ) بالياء ، فيكون إخبارا عن الحكم الشرعي ، أو إخبارا يراد به النهي ، كما قيل مثله في قول الله تعالى : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( [ البقرة : 233 ] .
والثاني :
قال :
360 - ثنا أبو نعيم : ثنا شيبان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، سمعته - أو كنت سألته - قال : سمعت أبا هريرة يقول : أشهد أني سمعت رسول الله ( يقول : ( ( من صلى في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه ) ) .
في هذه الرواية تصريح يحيى بن أبي كثير بالسماع لهذا من عكرمة ، فزال بذلك ما كان يخشى من تدليسه ، والتصريح بسماع عكرمة له من أبي هريرة .
والحديث الأول : نهي لمن صلى في ثوب واحد أن يجرد عاتقيه ، والثاني :(2/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
أمر لمن صلى في ثوب واحد أن يخالف بين طرفية ويضعهما على عاتقيه .
وقد اجمع العلماء على استحباب ذلك وأنه الأفضل ، بل كرهوا للمصلي أن يجرد عاتقيه في الصلاة .
قال النخعي : كان الرجل من أصحاب النبي ( إذا لم يجد رداء يصلي فيه وضع على عاتقيه عقالا ثم صلى .
وقال النخعي - أيضا - : كانوا يكرهون إعراء المناكب في الصلاة .
خرجهما ابن أبي شيبة في ( ( كتابه ) ) .
وقد سبق قول ابن عمر - وروي عنه مرفوعا - : ( ( إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبه ؛ فإن الله أحق أن يتزين له ) ) .
وفي رواية عنه : ( ( إذا صلى أحدكم فليتزر وليرتد ) ) .
ولو صلى مكشوف المنكبين ، فقال أكثر الفقهاء : لا إعادة عليه ، وحكي رواية عن أحمد .
وقال أبو جعفر محمد بن علي : عليه الإعادة لارتكابه النهي .
والمشهور من مذهب أحمد : أنه أن صلى الفريضة كذلك أعاد ، وفي إعادة النفل عنه روايتان .
وقد قيل : أن الشافعي نص على وجوبه في الصلاة ، وحكى بعض المالكية عن أبي الفرج من أصحابهم : أن ستر جميع الجسد في الصلاة لازم ، وفي صحة هذا نظر .
ونص أحمد على أنه لو ستر أحد منكبيه وأعرى الآخر صحت صلاته ؛ لأنه لم يرتكب النهي ، فإن النهي هو إعراء عاتقيه ، ولم يوجد ذلك .(2/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
وقال القاضي أبو يعلي : يجب ستر جميع منكبيه كالعورة . وقال في موضع : يجزئ ستر بعضهما ، ولا يجب سترهما بما لا يصف البشرة ، كالعورة .
ولأصحابنا وجه : أنه يجزئ أن يضع على عاتقيه ولو حبلا أو خيطا وان لم يستره به .
ولهم وجه آخر : أنه كان ذلك يسمى لباسا أجزأه ، وإلا فلا .
وقد سبق أن من ألصحابه من كان يضع على عاتقيه عقالا ثم يصلي .
وقال النخعي : تقليد السيف في الصلاة بمنزلة الرداء . وكان سعيد بن جبير
يفعله . وعن الحسن قال : السيوف أردية الغزاة .
وروي عن عمر بن عبد العزيز ، أنه صلى بالناس في قوس ليس عليه رداء غيرهما .
وروى أبو نعيم الفضل بن دكين : ثنا مندل ، عن الأحوص بن حكيم ، عن مكحول ، قال : صلى رسول الله ( بالناس في قوس .
وقال النخعي : كان يكره القوس .
وقال الثوري : القوس والسيف بمنزلة الرداء . وعن الأوزاعي نحوه .(2/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
6 - باب
إذا كان الثوب ضيقاً
فيه حديثان :
أحدهما :
361 - ثنا يحيى بن صالح : ثنا فليح بن سليمان ، عن سعيد بن الحارث ، قال : سألنا جابر بن عبد الله عن الصلاة في الثوب الواحد ؟ فَقَالَ : خرجت مَعَ رَسُول الله فِي بعض أسفاره ، فجئت ليلة لبعض أمري فوجدته يصلي ، وعلي ثوب واحد فاشتملت بِهِ وصليت إلى جانبه فلما انصرف قَالَ : ( ( مَا السرى يَا جابر ؟ ) ) فأخبرته بحاجتي ، فلما فرغت قال : ( ( ما هذا الاشتمال الذي رايت ؟ ) ) قلت : كان ثوب - يعني : ضاق - قال : ( ( فإن كان واسعا فالتحف به ، وإن كان ضيقا فاتزر به ) ) .
قوله : ( ( ما السرى يا جابر ) ) يدل على أن هذا السير كان فِي آخر الليل ، وهو السرى ، وفهم النبي ( من جابر أنه جاء في ذلك الوقت لحاجة له ، ولذلك قال له ذلك .
وأما إنكاره عليه الاشتمال بالثوب الواحد ، فقال الخطابي : الاشتمال الذي أنكره أن يدير الثوب على بدنه كله ، لا يخرج منه يده .
قلت : قد خرج هذا الحديث مسلم وأبو داود وغيرهما بسياق يدل على بطلان هذا التفسير ، من رواية عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، عن جابر ،(2/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
فذكر حديثا طويلا ، وفيه : قال : كنت مع النبي ( في غزاة ، فقام يصلي ، وكانت علي بردة ذهبت أخالف بين طرفيها ، فلم يبلغ لي ، وكانت لها ذباذب فنكستها ، ثم خالفت بين طرفيها ، ثم تواقصت عليها لا تسقط ، ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله ( ، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه ، فجاء جبار بن صخر فقام عن يساره ، فأخذنا بيديه جميعا حتى أقامنا خلفه . قال : وجعل رسول الله ( يرمقني وأنا لا أشعر ، ثم فطنت به ، فأشار إلي أن أتزر بها فلما فرغ رسول الله ( قال : ( ( يا جابر ) ) قلت : لبيك
يا رسول الله ، قال : ( ( إذا كان واسعا فخالف بين طرفيه ، وإذا كان ضيقا فاشدده على حقوك ) ) .
فهذا السياق يدل على أن بردة جابر كانت ضيقة ، لا تتسع للاتزار بها والارتداء ، ولذلك تواقص عليها لئلا تسقط .
قال الخطابي في ( ( المعالم ) ) : معناه : أنه ثنى عنقه ليمسك الثوب به ، كأنه يحكي خلقة الأوقص من الناس - يعني : مائل العنق .
وقد استدل بهذا الحديث من قال : أن الصلاة بإزار واحد مع إعراء المنكبين صحيحة ؛ فإن النبي ( أمر جابرا أن يتزر ويصلي لما عجز عن ستر عورته ومنكبيه بالبردة التي عليه لضيقها .
وممن استدل بذلك الشافعي وأصحابه ومن وافقهم .
وقد روى شرحبيل بن سعد ، عَن جابر ، قال : قال رسول الله ( : ( ( إذا ما اتسع الثوب فتعاطف به على منكبيك ثم صل وإذا ضاق عن ذلك فشد به حقويك ، ثم صل على غير رداء ) ) .
خرجه الإمام أحمد ، وشرحبيل هذا مختلف في أمره .(2/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
وأجاب أصحابنا عن ذلك من وجهين :
أحدهما : ما أجاب به أبو بكر الأثرم : أن ذلك محمول على حالة العجز عن ستر المنكبين ، والنهي عن إعرائهما إنما يكون للقادر على سترهما .
وهذا - أيضا - قول إسحاق ، قال : أن أعرى منكبيه في الصلاة من ضرورة فجائز - : نقله عنه حرب .
والثاني : أن حديث جابر هذا محمول على صلاة النافلة ، وحديث أبي هريرة محمول على صلاة الفرض ، وهذا جواب أبي بكر عبد العزيز بن جعفر .
ويشهد له : أن في رواية البخاري أن ذلك كان ليلا ؛ وقوله : ( ( ما السرى يا جابر ؟ ) ) يدل على أنه كان من أخر الليل ، فيحتمل أن تكون تلك صلاة الليل ، أو صلاة الوتر . والله أعلم .
وقال حنبل : قيل لأبي عبدالله - يعني : أحمد - : الرجل يكون عليه الثوب اللطيف لا يبلغ أن يعقده ، ترى أن يتزر به ويصلي ؟ قال : لا أرى ذلك مجزئا عنه ، وأن كان الثوب لطيفا صلى قاعدا وعقده من ورائه ، على ما فعل أصحاب النبي ( في الثوب الواحد .
وهذه رواية مشكلة جدا ، ولم يروها عن أحمد غير حنبل ، وهو ثقة إلا أنه يهم أحيانا ، وقد اختلف متقدمو الأصحاب فيما تفرد به حنبل عن أحمد : هل تثبت به رواية عنه أم لا ؟
ولكن اعتمد الأصحاب على هذه الرواية ، ثم اختلفوا في معناها : فقال القاضي أبو يعلى ومن اتبعه : من وجد ما يستر به منكبيه أو عورته ولا يكفي إلا أحدهما فإنه يستر عورته ، ويصلي جالسا ؛ لأن الجلوس بدل عن(2/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
القيام ، ويحصل به ستر العورة ، فيستر بالثوب اللطيف منكبيه حيث لم يكن له بدل .
وقال طائفة من أصحابنا : إذا كان الثوب يستر منكبيه وعجيزته سترهما ، وصلى قاعدا لحصول ستر المنكبين وستر العورة ، فإن لم يحوهما اتزر به ، وصلى قائما .
وهؤلاء ، منهم : من اعتبر ستر عجزه خاصة ، فيكون قبله مستترا بالجلوس . وهذا إنما يصح على قولنا : أن العورة الفرجان خاصة ، فأما على المذهب المشهور : أن العورة ما بين السرة والركبة فقد حصل كشف معظم العورة ، وستر ذلك آكد من ستر المنكبين .
ومنهم : من اعتبر ستر جميع عورته مع المنكبين ، فأسقط القيام لذلك ، وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى ، وهو اقرب .
وقياس المذهب : أنه لا يلزمه ذلك في هذه الحال ، بل يخير بينه وبين ستر عورته وحدها وصلاته قائما ، كما يخير العاري بين أن يصلي قاعدا مراعاة لستر بعض عورته بالجلوس وبين أن يصلي قائما مراعاة لركن القيام .
ولأصحابنا وجه آخر : أنه يلزمه أن يستر عورته ويصلي قائما كقول جمهور العلماء ، ورجحه صاحب ( ( المغني ) ) ؛ لأن القيام وستر العورة واجبان بالإجماع ، بخلاف ستر المنكبين .
وعليه يدل : حديث جابر المخرج في هذا الباب ، وحديث سهل بن سعد كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - ، وإليه أشار أحمد في رواية حنبل بقوله : ( ( وعقده من ورائه على ما فعل أصحاب النبي ( ) ) ، لكن حديث سهل ليس فيه أنهم كانوا يصلون
جلوسا .
وقول الأثرم وإسحاق بن راهويه : أنه يفرق في ستر المنكبين بين القادر(2/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
والعاجز ، فيجب مع القدرة ويسقط عند العجز أشبه الأقاويل في المسألة ، وعليه يدل تبويب البخاري . والله أعلم .
الحديث الثاني :
362 - حدثنا مسدد ، ثنا يحيى ، عن سفيان : ثنا أبو حازم سلمة بن دينار ، عن سهل ، قال : كان رجال يصلون مع النبي ( عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة
الصبيان . وقال للنساء : ( ( لا ترفعن رءوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا ) ) .
في هذا الحديث من الفقه : أن الإزار الضيق يعقد على القفا إذا أمكن ليحصل به ستر بعض المنكبين مع العورة ، ولهذا استدل به الإمام أحمد في رواية حنبل كما سبق .
وفيه : أن صفوف النساء كانت خلف الرجال .
وفيه : أن من انكشف من عورته يسير في صلاة لم تبطل صلاته .
وقد استدل بذلك طائفة من الفقهاء ، وتوقف فيه الإمام أحمد ، وقال : ليس هو بالبين .
يشير إلى أنه لم يذكر فيه انكشاف العورة حقيقة ، إنما فيه خشية ذلك ؛ وإنما ذكر حديث عمرو بن سلمة الجرمي أنه كان يصلي بقومه في بردة له صغيرة فكان إذا سجد تقلصت عنه فيبدو بعض عورته حتى قالت عجوز من ورائه : ألا تغطون عنا است قارئكم .
وقد خرجه البخاري في موضع آخر من ( ( كتابه ) ) هذا .
ومذهب أحمد : أنه إذا انكشفت العورة كلها أو كثير منها ، ثم سترها في(2/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
زمن يسير لم تبطل الصلاة ؛ وكذلك أن انكشفت منها شيء يسير ، وهو ما لا يستفحش في النظر ولو طال زمنه ، وإن كان كثيرا وطالت مدة انكشافه بطلت الصلاة .
وكذا قال الثوري : لو انكشفت عورته في صلاته لم يعد - ومراده : إذا عاد سترها في الحال .
ومذهب الشافعي : أنه يعيد الصلاة بانكشافها بكل حال ، وعن أحمد ما يدل عليه .
وعن أبي حنيفة وأصحابه : أن انكشف من المغلظة دون قدر الدرهم فلا إعادة ، ومن المخففة أن انكشف دون ربعها فكذلك ، ويعيد فيما زاد على ذلك .
ولا فرق بين العمد والسهو في ذلك عند الأكثرين .
وقال إسحاق : أن لم يعلم بذلك إلا بعد انقضاء صلاته لم يعد .
وهو الصحيح عند أصحاب مالك - أيضا .
وحكي عن طائفة من المالكية : أن من صلى عاريا فإنه يعيد في الوقت ولا يعيده بعده . وقالوا : ليس ستر العورة من فرائض الصلاة كالوضوء ، بل هو سنة .
والمنصوص عن مالك : أن الحرة إذا صلت بادية الشعر أو الصدر أو ظهور القدمين أعادت في الوقت خاصة .(2/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
7 - باب
الصلاة في الجبة الشامية
وقال الحسن في ثياب تنسجها المجوس : لم ير بها بأسا .
وقال معمر : رأيت الزهري يلبس من ثياب اليمن ما صبغ بالبول .
وصلى علي ( في ثوب غير مقصور .
المقصود بهذا الباب : جواز الصلاة في الثياب التي ينسجها الكفار ، وسواء نسجوها في بلادهم وجلبت منها ، أو نسجت في بلاد المسلمين .
روى أبو إسحاق الفزاري ، عن زائدة ومخلد ، عن هشام ، عن الحسن ، أنه قال في الثياب التي تنسجها المجوس فيؤتى بها قبل أن تغسل : لا بأس بالصلاة فيها .
وروى سعيد بن منصور : ثنا حماد بن زيد ، عن مطر الوراق ، عن الحسن ، أنه كان لا يرى بأسا أن يصلي في السابري والدستوائي ونحو ذلك قبل أن تغسل .
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) عن الربيع بن صبيح ، عن الحسن ، قال : لا بأس مما يعمل المجوس من الثياب .
وعن علي بن صالح ، عن عطاء أبي محمد ، قال : رايت على علي قميصا من هذه الكرابيس ، لبيسا غير غسيل .
ورواه عبدالله بن الإمام أحمد في ( ( كتاب العلل ) ) : ثنا أبي : ثنا محمد بن ربيعة : ثنا علي بن صالح : حدثني عطاء أبو محمد قال : رأيت عليا اشترى(2/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
ثوبا سنبلانيا فلبسه ، ولم يغسله ، وصلى فيه .
وروى أبو بكر الخلال بإسناده ، عن ابن سيرين ، قال : ذكر عند عمر الثياب اليمانية ، أنها تصبغ بالبول ؟ فقال : نهانا الله عن التعمق والتكلف .
وروى الإمام أحمد ، عن هشيم ، عن يونس ، عن الحسن ، أن عمر بن الخطاب أراد أن ينهى عن حلل الحبرة ؛ لأنها تصبغ بالبول ، فقال له أبي : ليس ذاك لك ، قد لبسهن النبي ( ، ولبسناهن في عهده .
وروى ابن أبي عاصم في ( ( كتاب اللباس ) ) من طريق محمد بن عبيد الله العرزمي - وفيه ضعف - عن عبد الملك بن عمير ، عن قبيصة بن جابر ، قال : خطب عمر الناس ، فقال : أنه بلغني أن هذه البرود اليمانية التي تلبسونها تصبغ بالبول ؛ بول العجائز العتق ، فلو نهينا الناس عنها ؟ فقام عبد الرحمن بن عوف ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أتنطلق إلى شيء لبسه رسول الله ( وأصحابه فتحرمه ؟ إنها تغسل بالماء ، فكف عُمَر عَن ذَلِكَ .
وقد روي عَن الْحَسَن أنه كَانَ إذا سئل عَن البرود إذا صبغت بالبول ، فهل ترى بلبسها بأسا ؟ حدث بحديث عمر مع أبي بن كعب كما تقدم .
وقال حنبل : كان أبو عبدالله - يعني : أحمد - يصبغ له يهودي جبة فليبسها ، ولا يحدث فيها حدثا من غسل ولا غيره . فقلت له ، فقال : ولم تسأل عما لا تعلم ؟ لم يزل الناس منذ أدركناهم لا ينكرون ذلك .
قال حنبل : وسئل أبو عبدالله عن يهود يصبغون بالبول ؟ فقال : المسلم والكافر في هذا سواء ، ولا تسال عن هذا ولا تبحث عنه وقال : إذا علمت أنه لا محالة يصبغ من البول وصح عندك فلا تصل فيه حتى تغسله .
وقال يعقوب بن بختان : سئل أحمد عن الثواب يصبغه اليهودي ؟ قال :(2/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
ويستطيع غير هذا ؟ - كأنه لم ير به بأسا .
وقال المروذي : سمعت أبا عبدالله يسأل عن الثوب يعمله اليهودي والنصراني ، تصلي فيه ؟ قال : نعم ، القصار يقصر الثياب ، ونحن نصلي فيها .
وكل هذا يدل على أن ما صنعه الكفار من الثياب فإنه يجوز الصلاة فيه من غير غسل ، ما لم تحقق فيه نجاسة ، ولا يكتفى في ذلك بمجرد القول فيه حتى يصح ، وأنه لا ينبغي البحث عن ذلك والسؤال عنه .
وحكى ابن المنذر هذا القول عن مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي ، فلم يحك عن أحد فيه خلافا ، وهو قول الثوري وإسحاق - : نقله عنه حرب . ومن أصحابنا من قال لا نعلم في هذا خلافا . ومنهم من نفى الخلاف فيه في المذهب . ومن الأصحاب من حكى فيه خلافا عن أحمد .
ونقل أبو داود أن أحمد سئل عن الثوب النسيج يصلى فيه قبل أن يغسل ؟ قال : نعم ، إلا أن ينسجه مشرك أو مجوسي .
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ : قرأت على أبي عَبْد الله - يعني : أحمد - : ابن أبي عدي ، عن ابن عون ، قال : كان محمد بن سيرين يختار إذا اخذ الثوب من النساج أن لا يلبسه حتى يغسله . قال أبو عبد الله : إليه اذهب . أو قال : أحب إلي أن لا يصلي فيه حتى يغسله .
وحمل أبو بكر عبد العزيز بن جعفر هذه الرواية على أن الثوب نسجه مشرك وثني أو مجوسي ، كما رواه أبو داود ، فإن كان كتابيا صلى فيه بغير غسل ، على(2/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
ما رواه المروذي . قال : وإن صلى فيما نسجه وثني أو مجوسي من غير غسل فلا يتبين لي
الإعادة ؛ لأن الأصل طهارته .
وقال ابن أبي موسى : اختلف قول أحمد في الثوب ينسجه يهودي أو نصراني : هل يصلي فيه مسلم قبل أن يغسله أم لا ؟ على روايتين ، فأما الثوب الذي ينسجه مجوسي فلا يصلى فيه حتى يغسل قولا واحدا .
وهذا كله فيما ينسجه الكفار من الثياب ، ولم يلبسوه ، فأما ما لبسوه من ثيابهم ، فاختلف العلماء في الصلاة فيه قبل غسله :
فمنهم : من رخص في ذلك . قال الحسن : لا بأس بالصلاة في رداء اليهودي والنصراني وهو قول الثوري ، وأبي حنيفة ، ورواية عن أحمد . قال الثوري : وغسلها أحب إلي .
ومنهم : من كره ذلك ، من غير تحريم ، وهو قول الشافعي ، ورواية عن أحمد .
وكره أبو حنيفة وأصحابه ما ولي عوراتهم ، كالإزار والسراويل . وقال الشافعي : أنا لذلك أشد كراهة .
وقالت طائفة : لا يصلى في شيء من ثيابهم حتى يغسل ، وهو قول إسحاق ، وحكي رواية عن أحمد ، وهو قول مالك - أيضا - ، وقال : إذا صلى فيه يعيد ما دام في الوقت .
وفرقت طائفة بين من تباح ذبيحته ومن لا تباح :
قال أحمد - في رواية حنبل - في الصلاة في ثوب اليهودي والنصراني : إذا لم يجد غيره غسله وصلى فيه ، وثوب المجوسي لا يصلى فيه ، فإن غسله وبالغ في غسله فأرجو ؛ هؤلاء لا يجتنبون البول ، واليهود والنصارى كأنهم اقرب إلى الطهارة من المجوس .(2/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
وفرقت طائفة بين ما يلي عوراتهم وما لا يلي العورات :
قال أحمد - في رواية حنبل - : لا بأس بالصلاة في ثوب اليهودي والنصراني ، إلا ما يلي جلده ، فأما إذا كان فوق ثيابه فلا بأس به .
وقال عَبْد الله بن أحمد : سمعت أبي قال : كل ثوب يلبسه يهودي أو نصراني أو مجوسي إذا كان مثل الإزار والسراويل فلا يعجبني أن يصلى فيه ؛ وذلك أنهم لا يتنزهون من البول .
ونقل بكر بن محمد ، عن أبيه ، عن أحمد ، فيمن صلى في سراويل يهودي أو نصراني أو مجوسي : أحب إلي أن يعيد صلاته كلها .
ونقل حرب ، عن أحمد ، قال : لا يصلى في شيء من ثياب أهل الكتاب التي تلي جلده : القميص والسراويل وغير ذلك .
قال ابن أبي موسى : لا تستعمل ثياب المجوسي حتى تغسل ، ولا ما سفل من ثياب أهل الكتاب كالسراويل ، وما لصق بأبدانهم حتى يغسل .
والمسألة : ترجع إلى قاعدة تعارض الأصل والظاهر ، فالأصل الطهارة ، والظاهر أنه لا يسلم من النجاسة ، وقد يقوى ذلك الظاهر في حق من لا تباح ذبائحه ؛ فإن ذبائحهم ميتة ، وما ولي عوراتهم ؛ فإن سلامته من النجاسة بعيد جدا ، خصوصا في حق من يتدين بالنجاسة .
خرج البخاري في هذا الباب :
363 - حديث : الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن مغيرة بن شعبة ، قال كنت مع النبي ( في سفر ، فقال : ( ( يا مغيرة ، خذ الإداوة ) ) ، فأخذتها ، فانطلق رسول الله ( حتى توارى عني فقضى حاجته وعليه جبة شامية ، فذهب ليخرج يده من كمها فضاقت ، فأخرج يده من أسفلها ، فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة ، ومسح على خفيه ، ثم صلى .(2/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
وقد سبق هذا الحديث في ( ( كتاب الطهارة ) ) من وجوه أخر عن المغيرة ، وخرجه في ( ( كتاب اللباس ) ) من طريق الشعبي ، عن عروة بن المغيرة ، عن أبيه ، وفي حديثه : ( ( وعليه جبة من صوف ) ) .
وفيه من الفقه : جواز الصلاة فيما يجلب من بلاد المشركين من ثيابهم . وجواز الصلاة في الصوف ، وجواز الوضوء فيما هو ضيق الكمين وإن لم يتمكن من إخراج يديه منه عند الوضوء ، إذا أخرج يديه من أسفله .
وخرج الإمام أحمد ، وأبو داود ، من حديث علي بن زيد بن جدعان ، عن أنس ، أن ملك الروم أهدى للنبي ( مستقة من سندس ، فلبسها .
وعلي بن زيد ، مختلف في أمره ، وليس بالحافظ جدا .
قال الأصمعي : المساتق : فراء طوال الأكمام ، واحدتها : مستقة .
والمستقة : بفتح القاف . وتضم - أيضا .
قال الخطابي : يشبه أن تكون هذه المستقة مكففة بالسندس ؛ لأن نفس الفرو لا يكون سندسا .
قلت : بل الظاهر أن غشاء الفرو كان حريرا ، ويدل عليه : ما رواه سالم بن نوح ، عن عمر بن عامر ، عن قتادة ، عن أنس : أن أكيدر دومة أهدى إلى رسول الله ( جبة سندس ، فلبسها رسول الله ( ، فعجب الناس منها ، ثم أهداها إلى عمر ، فقال : يا رسول الله ، تكرهها وألبسها ؟ قال : ( ( يا عمر إنما أرسلت بها إليك لتبعث بها وجها فتصيب بها مالا ) ) . وذلك قبل أن ينهى عن الحرير .(2/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
وخرجه البزار وغيره ، وخرجه مسلم مختصرا .
وهذا - والله أعلم - هو فروج الحرير الذي قال عقبة بن عامر : أهدي لرسول الله ( فروج حرير فلبسه ، ثم صلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا ، كالكاره له ، ثم قال : ( ( لا ينبغي هذا للمتقين ) ) .
وقد خرجه البخاري في موضع آخر .
وخرج مسلم من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، قال : لبس النبي ( يوما قباء من ديباج أهدي له ، ثم أوشك أن نزعه ، ثم أرسل به إلى عمر - وذكر بقية الحديث .(2/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
8 - باب
كراهية التعري في الصلاة وغيرها
364 - حدثنا مطر بن الفضل : ثنا روح : ثنا زكريا بن إسحاق : ثنا عمرو بن دينار ، قال : سمعت جابر بن عبدالله يحدث ، أن رسول الله ( كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره ، فقال له العباس عمه : يا بن أخي ، لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة . قال : فحله ، فجعله على منكبيه ، فسقط مغشيا عليه ، فما رئي بعد ذلك عريانا .
هذا الإسناد مصرح فيه بالسماع من أوله إلى آخره ، وقد قيل : أنه من مراسيل الصحابة ؛ فإن جابرا لم يحضر هذه القصة ، وإنما سمعها من غيره ، إما من النبي ( أو من بعض أكابر أصحابه ، فإن كان سمع ذلك من النبي ( فهو متصل .
وقد اختلفوا في قول الصحابي : ( ( أن النبي ( فعل كذا ) ) ، هل يحمل على الاتصال ، أم لا ؟
والتحقيق : أنه أن حكى قصة أدركها بسنه ، ويمكن أن يكون شهدها حملت على الاتصال ، وإن حكى ما لم يدرك زمنه فهو مرسل لذلك . والله أعلم .(2/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
وبناء الكعبة حين نقل النبي ( مع قريش الحجارة لم يدركه جابر ، فإن ذلك كان قبل البعثة بمدة ، وقد قيل : أن عمر النبي ( كان حينئذ خمس عشرة سنة .
قال معمر ، عن الزهري : كان ذلك حين بلغ النبي ( الحلم .
وأما سقوطه مغشيا عليه ، فقيل : من شدة حيائه ( من تعريه ؛ فإنه كان مجبولا على أجمل الأخلاق وأكملها منذ نشأ ، ومن أعظمها شدة الحياء .
وقيل : بل كان لا مر شاهده وراءه ، أو لنداء سمعه عن التعري .
وقد خرج البخاري هذا الحديث في ( ( باب : بنيان الكعبة ) ) من ( ( كتاب : بدء الخلق ) ) من طريق ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، وفيه : قال . فخر إلى الأرض ، وطمحت عيناه إلى السماء ، ثم أفاق ، فقال : ( ( إزاري ، إزاري ) ) ، فشد عليه إزاره .
وقد روى الأزرقي في ( ( كتاب : أخبار مكة ) ) . ثنا جدي : ثنا مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه ، قال : جلس رجال من قريش في المسجد الحرام ، فيهم حويطب بن عبد العزى ومخرمة بن نوفل ، فتذاكروا بنيان قريش الكعبة - فذكر حديثا طويلا في ذلك - ، وفيه : فنقلوا الحجارة ، ورسول الله ( يومئذ غلام لم ينزل عليه الوحي ، ينقل معهم الحجارة على رقبته ، فبينا هو ينقلها إذ انكشف نمرة كانت عليه ، فنودي : يا محمد ، عورتك ، وذلك أول ما نودي - والله أعلم - ، فما رئيت لرسول الله ( عورة بعد ذلك ، ولبج برسول الله ( من الفزع حين نودي ، فأخذ العباس بن عبد المطلب فضمه إليه ، وقال : لو جعلت لنا بعض نمرتك على عاتقك تقيك الحجارة ، فقال : ( ( ما أصابني هذا إلا من التعري ) ) فشد رسول الله ( إزاره ،(2/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
وجعل ينقل معهم - وذكر بقية الحديث .
وقال - أيضا - : ثنا جدي وإبراهيم بن محمد الشافعي ، قالا : ثنا ابن خالد ، عن ابن خثيم ، قال : كان رسول الله غلاما حيث هدمت الكعبة ، فكان ينقل الحجارة ، فوضع على ظهره إزاره يتقي به فلبج به ، فاخذ العباس فضمه إليه ، فقال رسول الله ( : ( ( إني نهيت أن أتعرى ) ) .
يقال : لبج بفلان ، ولبط به ، إذا صرع ، وهو معنى ما في حديث جابر :
( ( فسقط مغشيا عليه ) ) .
وروى الإمام أحمد : ثنا عبد الرزاق : ابنا معمر ، عن ابن خثيم ، عن أبي
الطفيل ، وذكر بناء الكعبة في الجاهلية ، قال : فهدمتها قريش ، وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي ، تحملها قريش على رقابها ، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا . فبينا النبي ( يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة ، فضاقت عليه النمرة ، فذهب يضع النمرة على عاتقه فترى عورته من صغر النمرة ، ، فنودي : يا محمد ، خمر عورتك ، فلم ير عريانا بعد
ذلك .
وروى ابن سعد بإسناد ضعيف ، عن ابن عباس ، قال : أول شئ رأى النبي ( من النبوة أن قيل له : استتر ، وهو غلام ، فما رئيت عورته من يومئذ .
ويروى بإسناد أجود منه ، عن السماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن أبيه ، أن النبي ( قال : ( ( نهيت أن امشي عريانا ) ) ، [ قلت : اكتمها الناس مخافة أن يقولوا : مجنون ] .
وبعض رواته لم يذكر في إسناده : ( ( العباس ) ) .(2/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
وخرج البزار من حديث مسلم الملائي - وفيه ضعف - ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله ( يغتسل من وراء الحجرات ، وما رئي عورته قط .
وقال لا نعلم روي من وجه متصل بإسناد أحسن من هذا .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن المسور بن مخرمة ، قال : أقبلت بحجر أحمله ثقيل ، وعلي إزار ، فانحل إزاري ومعي الحجر ، فلم أستطع أن أضعه حتى بلغت به إلى موضع ، فقال رسول الله ( : ( ( ارجع إلى ثوبك فخذه ، ولا تمشوا عراة ) ) .
وفي ( ( مسند الإمام أحمد ) ) بإسناد جيد ، عن عبد الله بن الحارث بن جزء ، أنه مر وصاحب له بأيمن وفتية من قريش قد خلعوا أزرهم ، فجعلوها مخاريق يجتلدون بها وهم عراة ، قال : فلما مررنا بهم قالوا : أن هؤلاء لقسيسون ، فدعوهم أن رسول الله ( ، خرج عليهم ، فلما أبصروه تبددوا ، فرجع رسول الله ( مغضبا حتى دخل ، وكنت أنا وراء الحجرة ، فاسمعه يقول : ( ( سبحان الله ، لا من الله استحيوا ، ولا من رسوله استتروا ) ) ، وأم ايمن عنده تقول : أستغفر لهم يا رسول الله ، فبلأي ما أستغفر لهم .
وقوله : فبلأي : أي بشدة ، ومنه اللأواء ، والمعنى : أنه أستغفر لهم بعد شدة امتناعه من ذَلِكَ .
وخرج الأمام أحمد وأبو داود والنسائي وأبن ماجه والترمذي وحسنه من(2/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
حديث بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قلت : يا رسول الله ، عوراتنا ما نأتي منهن وما نذر ؟ قال : ( ( أحفظ عورتك إلا من زوجتك ، وما ملكت يمينك ) ) ، فقال : الرجل يكون مع الرجل ؟ قال : ( ( أن استطعت أن لا يراها أحد فأفعل ) ) ، قلت : فالرجل يكون خاليا ؟ قال : ( ( فالله أحق أن يستحيا منه ) ) .
وقد ذكره البخاري في موضع آخر من ( ( كتابه ) ) هذا تعليق مختصر ، فقال : وقال بهز ، عن أبيه ، عن جده .
وقد اجمع العلماء على وجوب ستر العورة بين الناس عن أبصار الناظرين ، واختلفوا في وجوب سترها في الخلوة ، على قولين ، هما وجهان لأصحابنا وأصحاب الشافعي ، ويجوز كشفها للحاجة إليه بقدرها بغير خلاف ، وقد سبق في ( ( كتاب : الغسل ) ) ذكر بعض ذلك .(2/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
9 - باب
الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء
خرج فيه حديثين :
الحديث الأول
365 حدثنا سليمان بن حرب : ثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، قال : قام رجل إلى النبي ( فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد ، فقال : ( ( أو كلكم يجد ثوبين ؟ ) ) ثم سأل رجل عمر ، فقال : إذا وسع الله عليكم فأوسعوا ، جمع رجل عليه ثيابه ، صلى رجل في إزار ورداء ، في إزار وقميص ، في إزار وقباء ، في سراويل ورداء ، في سراويل وقميص ، في سراويل وقباء ، في تبان وقباء ، في تبان وقميص . قال : وأحسبه قال : في تبان ورداء .
قد تقدم حديث أبي هريرة هذا من وجه آخر عنه ، وذكرنا أن قوله : ( ( أو لكلكم ثوبان ؟ ) ) ، ( ( أو كلكم يجد ثوبين ؟ ) ) إشارة إلى أنه لو لم تشرع الصلاة في ثوب واحد لشق على كثير منهم ؛ فإنه كَانَ فقيرا لا يجد ثوبين .
وفيه إشارة - أيضا - إلى أن الصلاة في الثوب الواحد إنما شرعت لقلة الثياب حينئذ ، فلما كثرت الثياب ، ووسع الله على المسلمين ، بفتح البلاد عليهم وانتقال ملك فارس والروم إليهم أمر عمر ( حينئذ بالصلاة في ثوبين ثوبين ؛ لزوال المعنى الذي كان لأجله شرعت الصلاة في ثوب واحد .
وكل ما يلبس على البدن فهو ثوب ، سواء كان شاملا له أو لبعضه ، وسواء كان مخيطا أو غير مخيط ، فالإزار ثوب ، والقميص ثوب ، والقباء ثوب ، والسراويل ثوب ، والتبان ثوب ، فلهذا قال عمر : إذا وسع الله(2/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
عليكم فأوسعوا ، جمع رجل عليه ثيابه ، صلى رجل في إزار ورداء والإزار : مَا يشده عَلَى وسطه ، والرداء مَا يلقيه عَلَى منكبيه في إزار وقميص ، في إزار وقباء ، في سراويل ورداء ، في سراويل وقميص ، في سراويل وقباء ، في تبان وقباء ، في تبان وقميص . وشك الراوي : هل قال في تبان
ورداء ؟ .
والتبان والرداء : بمنزلة السراويل والرداء .
فكل من هذه الأنواع التي ذكرها عمر رضي الله عنه صلاة في ثوبين ثوبين .
وقد روى الجريري ، عن أبي نظرة ، قال : قال أبي بن كعب : الصلاة في الثوب الواحد سنة ، كما نفعله مع النبي ( ولا يعاب علينا فقال أبن مسعود : إنما كان ذاك إذ كان في الثياب قلة ، فأما إذا وسع الله فالصلاة في الثوبين أزكى .
خرجه عبد الله أبن الإمام أحمد في ( ( المسند ) ) ، وفيه انقطاع .
وخرجه الدارقطني في ( ( علله ) ) من رواية داود بن أبي هند ، عن أبي نظرة ، عن أبي سعيد ، فصار متصلا . وذكر أنه روي عن داود ، عن أبي نظرة ، عن جابر .
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، قال : أختلف عَبْد الله بن مسعود وأبي بن كعب في الصلاة في الثوب الواحد ، فقال أبي : في ثوب ، وقال أبن مسعود : في ثوبين ، فبلغ ذلك عمر ، فقال : القول ما قال أبي ، وإن لم يأل أبن مسعود عن الخير .
وهذا منقطع أيضا .(2/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
وروى أبن وهب ، عن مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، عن سعيد ، قال : قال :
[ . . . . ] كنا نصلي في ثوب واحد ، حتى جاء الله بالثياب ، فقال : صلوا في ثوبين ، فقال أبي بن كعب : ليس هذا في شئ ، قد كنا نصلي على عهد رسول الله ( في الثوب الواحد ، ولنا ثوبان ، قيل لعمر بن الخطاب : ألا تقضي بين هذين وَهُوَ جالس ؟ قل أنا مع أبي .
وظاهر كلام أبي بن كعب أن الصلاة في ثوب واحد أفضل ، وكذلك كان يفعله جابر بن عبد الله وغيره .
ويحتمل : أنهم أرادوا بذلك بيان الجواز لئلا يتوهم متوهم أنه لا تجوز الصلاة في ثوب واحد ، ويدل على هذا الاحتمال : أن عمر قد صح عنه الأمر بالصلاة في ثوبين - كما خرجه عنة البخاري - فعلم أنه أراد تارة بيان الجائز ، وتارة بيان الأفضل .
وأكثر العلماء على استحباب الصلاة في ثوبين ، وقد تقدم عن ابن عمر وغيره ، وهو قول أكثر الفقهاء ، منهم : مالك ، والثوري ، والشافعي ، واحمد .
ويتأكد استحبابه عند مالك وأحمد في حق الإمام أكثر من غيره ، وظاهر كلام أحمد : كراهته للإمام دون المنفرد ، وكره مالك ذلك لأئمة المساجد إلا من يؤم في سفر أو في بيته ، فإن ذلك من زينة الصلاة المأمور بها ، والإمام هو المنظور إليه ، فيتأكد استحباب الزينة في حقه .
ويدل على هذا : أن صلاة النبي ( في الثوب الواحد ، إنما كان تارة في(2/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
بيته كما في حديث عمر بن أبي سلمة ، وتارة في السفر كما في حديث جابر .
وقد روي عن طائفة من السلف تفضيل بعض أنواع الثوبين على بعض : فقال أبو مالك : الصلاة في الإزار والقباء أحب إلي من الصلاة في القميص والإزار .
وعن النخعي ، قال : الصلاة في التبان والرداء أحب إلي من الصلاة في القميص والرداء .
والظاهر : أنه فضل التبان والسراويل على الإزار ؛ لأنه يواري العورة عن الأرض ، فقد روي عنه : أنه كره أن يفضي بفرجه إلى الأرض في الصلاة .
وأما أن يصلي في ثوب واحد ، فقال الشافعي وأصحابنا : أفضل ذلك القميص ، ثم الرداء ، ثم الإزار ، ثم السراويل .
ومن أصحاب الشافعي من قال : السراويل أولى من الإزار ؛ لأنه أستر ، وهذا مقتضى كلام النخعي كما سبق .
واستدل من رجح الإزار : بأنه يتجافى عنه ولا يصف الأعضاء بخلاف السراويل .
وسئل الإمام أحمد : السراويل أحب إليك أم الميازر ؟ فقال : السراويل محدث لكنه استر . وقال : أيضا - الأزر كانت لباس القوم ، والسراويل أستر .
قال : والحديث : ( ( من لم يجد الإزار فليلبس السراويل ) ) ، وهذا دليل أن(2/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
القوم قد لبسوا السراويلات .
وقد سبق حديث سلمة بن الأكوع في الصلاة في القميص ، وانه يزره ولو بشوكة .
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) عن جابر ، أنه أم في قميص ليس عليه رداء ، فلما انصرف قال : رأيت رسول الله ( يصلي في قميص .
وروى أبو نعيم الفضل بن دكين : ثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى : ثنا شيخ ، قال : أمنا الحسن - أو الحسين - بن علي ( في قميص خفيف ، ليس عليه إزار ولا رداء ، فلما صلى قال : هذه السنة - أو من السنة - ، وإنما فعلته لتنظروا أن عندنا الثياب .
وإذا صلى في قميص فإنه ينبغي أن يزره ، وقد تقدم قول من كره الصلاة في قميص غير مزرور استدلالا بحديث سلمة بن الأكوع ، فإن لم يزر القميص فإن كان تحته إزار أو سراويل صحت صلاته لاستتار عورته .
وقد روي ، عن نافع ، أن ابن عمر كان لا يصلي إلا وهو متزر ، وربما اتزر تحت قميصه وفوقه في السفر .
وإن لم يكن عليه إزار ولا سراويل ، فإن كان له لحيه كبيرة تستر جيبه بحيث لا يرى منه عورته صحت صلاته - : نص عليه أحمد في رواية الأثرم ، وهو قول داود
الطائي ، وأصح الوجهين للشافعية .
وإن لم يكن كذلك ، بل كان يرى عورة نفسه من جيبه لم تصح صلاته ، عند الشافعي وأحمد ، وتصح عند مالك وأبي حنيفة وأبي ثور ، كما لو رئيت عورته من أسفل ذيله .
وقد رخص في الصلاة في قميص غير مزرر : سالم بن عبد الله بن عمر وغيره من السلف .(2/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
وقال مالك : هو استر من الذي يصلي متوشحا بثوب .
وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت أحمد عمن صلى ولم يزر عليه ، ولم يحتزم ؟ فقال : جائز ، فقلت له : أنه لو نظر إلى فرجه رآه ، فقال : لا يمكن أن يرى ذاك .
وقال أبو أيوب - يعني : سليمان بن داود الهاشمي - : يزر عليه ، فإن لم يفعل وكان إذا ركع لا يستتر فرجه عن النظر أعاد الصلاة .
وقال أبو خيثمة : نأمره أن يزر عليه ، ولا أرى عليه إعادة ؛ لحديث النبي ( حين قال للنساء : ( ( لا ترفعن رءوسكن قبل الرجال ) ) من ضيق الأزر ، وحديث عمرو بن سلمة : ( ( غطوا عنا أست قارئكم ) ) .
قال الجوزاني : والقول في ذلك على ما قاله أبو خيثمة لما احتج به ، ثم قال : ثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود : ثنا زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي سعيد ، أنه سمع رسول الله ( يقول : ( ( يا معشر النساء ، إذا سجد الرجال فاخفضن أبصاركن ، لا ترين عورات الرجال ) ) من ضيق الأزر .
وروى الطبراني بإسناد ضعيف ، عن ابن عباس ، قال : دخلت على رسول الله ( وهو يصلي محتبيا ، محلل الأزرار .
الحديث الثاني :
366 - حدثنا عاصم بن علي : ثنا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال : سأل رجل رسول الله ( ، فقال : ما يلبس المحرم ؟ فقال : ( ( لا يلبس القميص ، ولا السراويل ، ولا البرنس ، ولا ثوبا مسه زعفران أو(2/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
ورس ، فمن لم يجد النعلين فليلبس الخفين ، وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ) ) .
وعن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ( - مثله .
القائل : ( ( عن نافع ) ) هو ابن أبي ذئب ، وقد سبق الحديث عنه بالوجهين - أيضا - في آخر ( ( كتاب العلم ) ) .
والمقصود من تخريج هذا الحديث في هذا الباب : أنه يدل على أن لبس ما ذكر فيه من اللباس كان متعارفا بينهم ، وقد عده النبي ( ونهى المحرم عن لبسه ، ففيه إقرار لغير المحرم على لباسه ، وقد سبق من كلام الإمام أحمد : استدلاله به على لباس السراويل .
وإذا أقر النبي ( أمته على لبس هذه الثياب في غير الإحرام ، فهو إقرار لهم على الصلاة فيها ، ولو كان ينهى عن الصلاة في شيء منها ليبين لهم ذلك .
وقد ورد النهي عن الصلاة في السراويل في حديث رواه الحسين بن وردان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : نهى رسول الله ( أن نصلي في السراويل .
خرجه الطبراني والعقيلي ، وقال : لا يتابع حسين عليه ، ولا يعرف إلا به .
ولو صح لحمل على الاقتصار على السراويل في الصلاة مع تجريد المنكبين ، يدل على ذلك : ما رواه أبو المنيب عبيد الله بن عبد الله العتكي ، عن عبد عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : نهى رسول الله ( أن يصلى في لحاف لا يتوشح به ، والآخر أن تصلي في سراويل ليس عليك رداء .(2/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
خرجه أبو داود .
وخرجه الطبراني والعقيلي ، ولفظه : نهى أن يصلي الرجل في السراويل الواحد ، ليس عليه شيء غيره .
وخرجه ابن عدي ، ولفظه : نهى رسول الله ( عن ملبسين : أحدهما : المصلي في ثوب واحد لا يتوشح به ، وأما الأخر : أن يصلي في سراويل ليس عليه رداء .
وأبو المنيب ، وثقه ابن معين وغيره . وقال البخاري : عنده مناكير ، وقال ابن عدي : عندي أنه لا بأس به . وقال العقيلي في هذا الحديث - : لا يتابع عليه ، ولا يعرف إلا به .
وقد روى عن عمر ، أنه كتب إلى بعض جنوده : إذا رجعتم من غزاتكم هذه فألقوا السراويل والأقبية ، والبسوا الأزر والأردية .
وهو محمول على أن لباس العرب المعهود بينهم أفضل من لباس العجم ، فخشي على من رجع من بلاد العجم أن يستمروا على لباس العجم ، فربما هجر لباس العرب بالكلية . ولهذا روي عنه أنه قال : إياكم وزي الأعاجم ، ويدل على هذا : أنه قد رخص في الصلاة في السراويل والأقبية ، كما خرجه البخاري عنه .(2/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
- باب ما يستر من العورة
خرج فيه ثلاثة أحاديث :
الحديث الأول :
367 - من رواية : الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : نهى رسول الله ( عن اشتمال الصماء ، وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء .
الحديث الثاني :
368 - من رواية : أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : نهى النبي ( عن بيعتين : عن اللماس والنباذ ، وان يشتمل الصماء ، وان يحتبي الرجل في ثوب واحد .
قد تضمن الحديثان - معا - النهي عن لبستين ، وسواء في ذلك حال الصلاة وغيرها .
وقد روى سفيان الثوري ، عن أبي الزناد - حديث أبي هريرة ، وقال فيه : نهى رسول الله ( عن لبستين في الصلاة - وذكر الحديث - إحداهما : اشتمال الصماء ، ولم يذكر تفسيرها .
وقد خرجه في ( ( كتاب : اللباس ) ) من رواية الزهري ، عن عامر بن سعد ، عن أبي سعيد بسياق مطول ، وفيه : أن النبي ( نهى عن لبستين : اشتمال الصماء ، والصماء : أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه ، فيبدو أحد شقيه(2/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
ليس عليه ثوب . واللبسة الأخرى : احتباؤه بثوبه وهو جالس ليس على فرجه منه شيء .
وهذا التفسير ، الظاهر أنه من قول الزهري أدرج في الحديث .
وعند الزهري فيه إسناد آخر : رواه عن عطاء بن يزيد ، عن أبي سعيد ، وقد خرجه البخاري في موضع آخر ، وذكر جماعة ممن رواه عن الزهري كذلك .
وخرج - أيضا - في ( ( اللباس ) ) من رواية مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : نهى رسول الله ( عن لبستين : أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء وإن يشتمل بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه .
وقد روى حديث أبي سعيد : جعفر بن برقان ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : نهى رسول الله ( عن لبستين : الصماء ، وهو أن يلتحف الرجل في الثوب الواحد ، ثم يرفع جانبه على منكبه ليس عليه ثوب غيره ، أو يحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس بينه وبين السماء شيء - يعني : سترا .
خرجه النسائي .
وهذا لم يسمعه جعفر من الزهري ، بل بلغه عنه ، وقد أنكره عليه جماعة من الأئمة ، وقالوا : رواياته عن الزهري ضعيفة جدا .
وهذا قول رابع عن الزهري في إسناده ، إلا أنه لا يصح .
وروي تفسيره - أيضا - من حديث أبي هريرة :(2/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
خرجه أبو داود وغيره من رواية أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : نهى
رسول الله ( عن لبستين : أن يحتبي الرجل مفضيا بفرجه إلى السماء ، ويلبس ثوبه واحد جانبيه خارج ، ويلقي ثوبه على عاتقه .
وخرجه النسائي من وجه آخر عن أبي هريرة ، عن النبي ( أنه نهى أن يلبس الرجل الثوب الواحد فيشتمل به ويطرح جانبيه على منكبيه ، أو يحتبي بالثوب الواحد .
ويروى من حديث أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( في هذا الحديث ، قال : وان يشتمل الصماء على أحد شقيه .
ويروى من حديث ابن سيرين ، عن أبي هريرة : نهى رسول الله ( أن يشتمل بالثوب ، ثم يرفعه على منكبه .
وخرجه البخاري مختصرا ، إلا أنه قال : ( ( نهي ) ) ولم يصرح برفعه .
وروى معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، أنه نهى أن يشتمل في إزاره إذا ما صلى ، إلا أن يخالف بين طرفيه على عاتقه .
وخرج النسائي من حديث ابن مسعود ، عن النبي ( ، أنه نهى أن يلبس ثوبا واحدا يأخذ بجوانبه فيضعه على منكبه ، فتلك تدعى الصماء .
وروى عبد الرزاق ، عن ابن جريج : اخبرني عمرو بن دينار ، عن عطاء(2/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
ابن مينا ، أنه سمعه يحدث عن أبي هريرة ، قال : نهى عن لبستين وبيعتين - فذكر الحديث - ، قال : وأما اللبسة الأخرى فإن يلقي داخلة إزاره وخارجته على أحد عاتقيه ، ويبرز صفحة شقه .
قال : ابن جريج : قلت لعمرو : أن جمع بين طرفي الثوب على شقه الأيمن ؟ قال : ما رأيتهم إلا يكرهون ذلك .
فحاصل ما دلت عليه الأحاديث في لبسه الصماء : هو أن يلببس ثوبا واحدا - وهو الرداء - فيشتمل به على بدنه من غير إزار ، ثم يضع طرفيه على أحد منكبيه ، ويبقى منكبه الآخر وشقه مكشوفا ، فتبدو عورته منه ، وبذلك فسر الصماء أكثر
العلماء ، ومنهم : سفيان الثوري ، وابن وهب ، وأحمد ، وأبو عبيد ، وأكثر العلماء .
قال الأمام أحمد : هو الاضطباع بالثوب إذا لم يكن عليه غيره .
وإنما سن الاضطباع للمحرم لأن عليه إزارا . فلو كان على المصلي إزار وقميص جاز له الاضطباع بردائه في ظاهر مذهب الإمام أحمد ، وروي عنه أنه يكره ذلك ، وإن كان عليه غيره .
وقال ابن وهب : وقد كان مالك أجازها على ثوب ، ثم كرهها .
ونقل ابن منصور ، عن إسحاق ، قال : اشتمال الصماء : أن يلتحف بثوب ، ثم يخرج إحدى يديه من تحت صدره .
قال أبو عبيد : قال الأصمعي : اشتمال الصماء عند العرب : أن يشمل الرجل بثوبه ، فيجلل به جسده كله ، ولا يرفع منه جانبا فيخرج منه يده ، وربما اضطبع فيه على تلك الحال .
قال أبو عبيد : كأنه ذهب إلى أنه لا يدري لعله يصيبه شيء يريد الاحتراس منه ، وأن يتقيه بيده فلا يقدر على ذلك .(2/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
قال : وأما تفسير الفقهاء ؛ فإنهم يقولون : هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره ، ثم يرفعه من أحد جانبيه ، فيضعه على منكبيه فيبدو منه فرجه .
قال أبو عبيد : والفقهاء أعلم بالتأويل في هذا ، وذلك اصح معنى في الكلام . انتهى .
وجعل الخطابي : اشتمال الصماء : أن يشتمل بثوب يجلل به بدنه ، ثم يرفع طرفيه على عاتقه الأيسر .
فإن لم يرفعه على عاتقه فهو اشتمال اليهود الذي جاء النهي عنه في حديث ابن عمر ، وإنما كان النبي ( يشتمل بالثوب ويخالف بين طرفيه ، فهو مخالف لهما جميعا .
وهذا الذي قاله أبو عبيد في تقديم تفسير الفقهاء على تفسير أهل اللغة حسن
جدا ؛ فإن النَّبِيّ ( قَدْ يتكلم بكلام من كلام العرب يستعمله فِي معنى هُوَ أخص من استعمال العرب ، أو أعم مِنْهُ ، ويتلقى ذَلِكَ عَنْهُ حملة شريعته من الصَّحَابَة ، ثُمَّ يتلقاه عنهم التابعون ، ويتلقاه عنهم أئمة العلماء ، فلا يجوز تفسير ما ورد في الحديث المرفوع إلا بما قاله هؤلاء أئمة العلماء الذين تلقوا العلم عمن قبلهم ، ولا يجوز الإعراض عن ذلك والاعتماد على تفسير من يفسر ذلك اللفظ بمجرد ما يفهمه من لغة العرب ؛ وهذا أمر مهم جدا ، ومن أهمله وقع في تحريف كثير من نصوص السنة ، وحملها على غير محاملها . والله الموفق .
ولو صلى وهو مشتمل الصماء ، ولم تبد عورته لم تبطل صلاته عند أكثر العلماء ، ومنهم من قال ببطلانها ، وهو وجه لأصحابنا .
واللبسة الثانية : أن يحتبي بثوب ليس عليه غيره .
الاحتباء : استفعال من الحبوة - بضم الحاء وكسرها - ، والحبوة : أن يقعد على إليتيه ، وينصب ساقيه ، ويحتوي عليهما بثوب ، أو نحوه ، أو بيده .(2/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
وقد كان النبي ( يحتبي في جلوسه بيده ، وقد خرج ذلك البخاري في ( ( الأدب ) ) .
وورد في ( ( سنن أبي داود ) ) أن جلوس النبي ( كان كذلك .
وهذه الهيئة أخشع هيئات الجلوس ؛ وقد سبق ذكر ذَلِكَ فِي ( ( كِتَاب : العلم ) ) فِي ( ( الجلوس عِنْدَ العالم ) ) .
وإنما نهى عن الاحتباء بثوب واحد ، فإذا كان على الرجل ثوب واحد فاحتبى به كذلك بدت عورته ، وهذا منهي عنه في الصلاة وغيرها ، فإن كان في الصلاة كان مبطلا لها على ما سبق ذكره في كشف العورة في الصلاة ، وإن كان في غيرها وكان بين الناس فهو محرم ، وإن كان في خلوة انبنى على جواز كشف العورة في الخلوة ، وفيه خلاف سبق ذكره .
وإن فعل ذلك وعليه سراويل أو قميص لم يحرم ؛ فإن النهي عن الاحتباء ورد مقيدا في ثوب واحد ، وورد معللا بكشف العورة .
ففي رواية البخاري - أيضا - من حديث أبي هريرة : نهى رسول الله ( أن يحتبي بالثوب الواحد ، ليس على فرجه منه شيء بينه وبين السماء .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن جابر ، أن النبي ( نهى أن يشتمل الصماء ، وان يحتبي في ثوب واحد ، كاشفا عن فرجه .
قال عمرو بن دينار : إنهم يرون أنه إذا خمر فرجه فلا بأس - يعني : بالاحتباء .
ومن أصحابنا من قال : حكي عن أحمد المنع من هذا الاحتباء مطلقا ، وإن(2/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
كان عليه ثوب غيره . وهذا بعيد .
وأما الملامسة والمنابذة ، فأتي ذكرها في موضعها من ( ( البيوع ) ) - إن شاء الله تعالى .
ومقصود البخاري بهذه الأحاديث : أن كشف الفرج منهي عنه ، وإن ستره مأمور به ، وهذا يقوي ما يميل إليه ، وهو : أن العورة الفرجان خاصة ؛ لكن النهي عَن اشتمال الصماء ليس فِيهِ تصريح بالتعليل بكشف الفرج خاصة ، فإنه ينكشف بلباس الصماء جانب الرجل كله ، فيدخل فيه : الورك والفخذ - أيضا - والله أعلم .
الحديث الثالث :
369 - خرجه من رواية : ابن أخي ابن شهاب ، عن عمه ، قال : أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة ، قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر ، نؤذن بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .
قال حميد بن عبد الرحمن ، ثم أردف رسول الله ( عليا ، فأمره أن يؤذن ب
( ( براءةً ) ) .
قال أبو هريرة : فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر : لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان .
ليس في حديث أبي هريرة هذا تصريح برفع ذلك إلى النبي ( . وقد روي عنه من وجه آخر بنحو هذا السياق - أيضا - ، وروي الحديث - أيضا - من حديث علي بن أبي طالب بلفظ يدل على رفعه .
خرجه الإمام أحمد والترمذي .(2/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
وقد روي حديث علي مرفوعا صريحا ؛ وروي - أيضا - مرفوعا من حديث ابن عباس بإسناد فيه ضعف .
وبكل حال ؛ فإنما نودي بذلك بمنى يوم النحر فِي حجة الصديق ( بأمر
رسول الله بذلك ، هذا أمر لا يرتاب فيه وإن لم يصرح بذلك في كثير من الروايات .
وقد كانت عادة أهل الجاهلية الطواف بالبيت عراة ، فأبطل الله ذلك ونهى عنه .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن ابن عباس ، قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانه ، وتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله
فما بدا منه فلا أحله
قال : فنزلت : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ( [ الأعراف : 31 ] .
فإن كان البخاري خرج هذا الحديث في هذا الباب ؛ لأن سبب النهي عن التعري في الطواف كان كشف فروجهم ، فنهوا عن ذلك خاصة ، ففيه نظر ؛ لأن ابن عباس إنما حكى هذا عن طواف النساء ، والمرأة كلها عورة بالنسبة إلى الصلاة سوى وجهها ، وفي كفيها خلاف سبق ذكره .(2/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
- باب الصلاة بغير رداء
370 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله : حدثني ابن أبي الموالي ، عن محمد بن المنكدر ، قال : دخلت على جابر بن عبد الله وهو يصلي في ثوب ملتحف به ، ورداؤه موضوع ، فلما انصرف قلنا : يا أبا عبد الله ، تصلي ورداؤك موضوع ؟ قال : نعم ، أحببت أن يراني الجهال مثلكم ؛ رأيت النبي ( يصلي كذا .
وقد سبق هذا الحديث بلفظ آخر .
وهذه الرواية تبين أن جابرا التحف بالثوب فصار له إزارا ورداء ، وهذا يرجع إلى الصلاة في ثوب واحد ، كما سبق ، ولكن مع ستر المنكب .
وقد اجمع العلماء على صحة صلاة من صلى في ثوب واحد وستر منكبيه .
قال ابن المنذر : لا أعلم أحدا أوجب على من صلى في ثوب واحد الإعادة .
وحكى الخطابي عن بعض العلماء أنه كان لا يجيز شهادة من صلى بغير رداء .
والظاهر : أنه إنما رد شهادته إذا أعرى منكبيه في الصلاة .
فأما من صلى في ثوب واحد مشتملا به ، وعطف طرفيه على منكبيه فلا كراهة في فعله ، ولا يرد شهادته بذلك أحد . والله أعلم .(2/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
- باب ما يذكر في الفخذ
قال أبو عبد الله :
ويروى عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش ، عن النبي ( : ( ( الفخذ عورة ) ) .
وقال أنس : حسر النبي ( عن فخذه .
وحديث أنس أسند ، وحديث جرهد أحوط ، حتى يخرج من اختلافهم .
وقال أبو موسى : غطى النبي ( ركبتيه حين دخل عثمان .
وقال زيد بن ثابت : أنزل الله على رسوله وفخذه على فخذي ، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي .
أشار البخاري - رحمه الله - في هذا الباب إلى اختلاف العلماء في أن الفخذ : هل هي عورة ، أم ليست بعورة ؟ وأشار إلى أطراف كثير من الأحاديث التي يستدل بها على وجوب ستر الفخذ ، وعدم وجوبه ، ذكر ذلك تعليقا ، ولم يسند غير حديث أنس المستدل به على أن الفخذ لا يجب سترها وليست عورة ، وذكر أنه أسند من حديث جرهد - يعني : أصح إسنادا - ؛ وان حديث جرهد أحوط ؛ لما في الأخذ به من الخروج من اختلاف العلماء .
فأما الأحاديث التي علقها في أن الفخذ عورة ، فثلاثة : حديث ابن عباس ، وجرهد ، ومحمد بن جحش .
فحديث ابن عباس : من رواية أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : مر النبي ( على رجل وفخذه خارجة ، فقال : ( ( غط فخذك ؛(2/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
فإن فخذ الرَّجُلُ من عورته ) ) .
خرجه الإمام أحمد .
وخرجه الترمذي - مختصرا - ، ولفظه : ( ( الفخذ عورة ) ) ، وقال : حديث
حسن . انتهى .
وأبو يحيى القتات ، اسمه : عبد الرحمن بن دينار ، ضعفه أحمد ويحيى والأكثرون .
وقد قيل : أن حبيب بن أبي ثابت تابعه على هذا الحديث ، ولا يصح ذلك .
وحديث جرهد : من رواية مالك ، عن أبي النضر ، عن زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد ، عن أبيه ، قال : كان جرهد من أصحاب الصفة ، قال : جلس رسول الله ( عندنا وفخذي منكشفة ، فقال : ( ( أما علمت أن الفخذ عورة ؟ ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود .
وكذا خرجه مالك في ( ( الموطإ ) ) ، ورواه بعضهم ، عن مالك ، فقال : عن أبي النضر ، عن زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد ، عن أبيه ، عن جده .
وخرجه الترمذي من طريق ابن عيينة ، عن أبي النضر ، عن زرعة بن مسلم بن جرهد ، عن جده جرهد ، قال : مر النبي ( بجرهد في المسجد وقد انكشف فخذه ، فقال : ( ( إن الفخذ عورة ) ) .(2/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
وقال هذا حديث حسن ، وما أرى إسناده بمتصل - يشير إلى أن زرعة لم يسمع من جده .
وقول ابن عيينة : زرعة بن مسلم بن جرهد وهم منه - : قال البخاري في ( ( تاريخه ) ) ، وإنما هو : زرعة بن عبد الرحمن ، وهو ثقة ؛ وثقه النسائي وغيره .
وخرجه الترمذي - أيضا - من رواية معمر ، عن أبي الزناد ، قال : أخبرني ابن جرهد ، عن أبيه ، أن النبي ( مر به وهو كاشف عن فخذه ، فقال له : ( ( غط فخذك ؛ فإنها من العورة ) ) .
وقال : حديث حسن .
وفي إسناده اختلاف كثير على أبي الزناد ، قد ذكره الدارقطني .
واختلف عليه في تسمية شيخه : فقيل : هو زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد . وقيل : زرعة بن جرهد . وقيل : عبد الرحمن بن جرهد . وقيل : جرهد بن جرهد .
وخرجه الترمذي - أيضا - من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن عبد الله بن جرهد ، عن أبيه ، عن النبي ( ، قال : ( ( الفخذ عورة ) ) .
وقال : حسن غريب . انتهى .
وابن عقيل ، مختلف في أمره ، والأسانيد قبله لا تخلو من انقطاع .
وحديث محمد بن جحش : من رواية العلا بن عبد الرحمن ، عن أبي كثير مولى محمد بن جحش ، عن محمد بن جحش - ختن النبي ( - ،(2/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
عن النبي ( ، أنه مر بمعمر وهو بفناء المسجد ، محتبيا كاشفا عن طرف فخذه ، فقال له النبي ( ( ( خمر فخذك يا معمر ؛ فإن الفخذ عورة ) ) .
خرجه الإمام أحمد .
وأبو كثير هذا ، لا يعرف إلا في هذا الإسناد .
وفي الباب - أيضا - : عن علي ، من طريق ابن جريج ، عن حبيب بن ثابت ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي ، قال : قال رسول الله ( : ( ( لا تكشف فخذك ، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت ) ) .
خرجه أبو داود وابن ماجه .
وقال أبو داود : فيه نكارة .
وله علتان :
إحداهما : أن ابن جريج لم يسمعه من حبيب ، ومن قال فيه : ( ( عن ابن جريج : أخبرني حبيب ) ) فقد وهم - : قال بن المديني .
وفي رواية أبي داود ( ( عن ابن جريج ، قال : أخبرت عن حبيب ) ) ، وهو الصحيح .
قال ابن المديني : رايته في كتب ابن جريج : اخبرني إسماعيل بن مسلم ، عن حبيب - : نقله عنه يعقوب بن شيبة .
ونقل ابن أبي حاتم الرازي عن أبيه ، قال : لم يسمع ابن جريج هذا الحديث من حبيب ، إنما من حديث عمرو بن خالد الواسطي ، فأرى أن ابن جريج أخذه من الحسن بن ذكوان ، عن عمرو بن خالد ، عن حبيب .(2/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
العلة الثانية : أن حبيب بن أبي ثابت لم تثبت له رواية عن عاصم بالسماع منه - : قاله أبو حاتم الرازي والدارقطني .
وقال ابن المديني : لا تصح عندي روايته عنه .
وأما أحاديث الرخصة : فحديث أنس في حسر الإزار ، قد أسنده في هذا الباب .
وحديث أبي موسى ، قد خرجه البخاري في ( ( المناقب ) ) من ( ( كتابه ) ) هذا ، ولفظه : أن النبي ( كان قاعدا في مكان فيه ماء ، قد انكشف عن ركبتيه - أو
ركبته - ، فلما دخل عثمان غطاها .
وهذا إنما فيه أن الركبة ليست عورة ، وليس فيه ذكر الفخذ .
وخرجه - أيضا - من وجه آخر ، عن أبي موسى ، أن النبي ( دخل بئر أريس ، وجلس على القف ، وكشف عن ساقيه ، ودلاهما في البئر .
وهذا لا دلالة فيه بحال .
وقد خرجه الطبراني من حديث الدراوردي ، عن شريك بن أبي نمر ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد ، أن النبي ( دلى رجليه في البئر ، وكشف عن فخذيه ، وذكر أن أبا بكر وعمر وعثمان جلسوا معه ، وفعلوا كفعله ، وكشفوا عن أفخاذهم .
وهذا الإسناد وهم ، إنما رواه شريك ، عن ابن المسيب ، عن ابن موسى باللفظ الذكور قبله ، كذلك هو مخرج في ( الصحيحين ) من رواية شريك .(2/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
وحديث زيد ابن ثابت : قد خرجه البخاري في ( ( التفسير ) ) بتمامه ، وفيه دليل على أنه يجوز مس فخذ غيره من وراء حائل ، ولو كان عورة لم يجز مسه من وراء حائل ولا غيره كالفرجين ، وقد خرج أبو داود حديث زيد بن ثابت من طريق آخر ، بسياق مخالف لسياق البخاري ، وفيه : أن زيد قال : كنت أكتب إلى جنب النبي ( ، فغشيته السكينة ، فوقعت فخذ رسول الله ( على فخذي ، فما وجدت ثقل شئ أثقل من فخذ رسول الله وذكر الحديث .
وهذه الرواية تدل على أن ذلك لم يكن عن اختيار من النبي ( ، وإنما كان في حال غشيه عند نزول الوحي عليه .
وقد خرج البخاري في هذا الباب .
371 من حديث : عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس ، أن رسول الله ( غزا خيبر ، فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس ، فركب نبي الله ( ، وركب أبو طلحة ، وأنا رديف أبي طلحة ، فأجرى رسول الله ( في زقاق خيبر ، وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله ( ، ثم حسر الإزار عن فخذه ، حتى أني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله (
وذكر بقية الحديث في فتح خيبر ، وقصة صفية ، وعتقها ، وتزويجها ، والدخول عليها ووليمتها ، وسيأتي ذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى .
ومراد البخاري بهذا : الاستدلال به على أن الفخذ ليست عورة ، وذلك من وجهين :(2/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
أحدهما : أن ركبة أنس مست فخذ النبي ( ، ولم ينكر ذلك ، وهذا يدل على أن الفخذ لا ينكر مسها ، ولو كانت عورة لم يجز ذلك .
والثاني : حسر الإزار عن فخذ نبي الله ( حتى نظر أنس إلى بياض فخذ النبي ( ، وسواء كان ذلك عن قصد من النبي ( وتعمد له عَلَى رِوَايَة من رواه : ( ( حسر الإزار ) ) ، - بنصب الراء - ، أو كَانَ من شدة الجري عَن غير وتعمد - عَلَى رِوَايَة من رواه : ( ( حُسِر الإزار ) ) ، بضم الراء - فإن النَّبيّ ( استدام ذَلِكَ ، ولم يرد الإزار
عليه ؛ فإنه لو فعل لنقله أنس .
وأيضا ، فقد تقدم حديث جابر ، أن النبي ( من بعد ما شد عليه إزاره حين كان ينقل حجارة الكعبة لم تر له عورة بعدها .
وروي عن عائشة ، أنها قالت : ما رأيت منه ذلك ( .
وقد خرجه الإمام أحمد .
ولو كان الفخذ عورة لصان الله نبيه عن أن يطلع عليه أحد .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عن عائشة ، قالت : كان رسول الله ( مضطجعا في بيته كاشفا عن فخذيه - أو ساقيه - ، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال ، فتحدث ، ثم استأذن عمر - وذكرت الحديث .
وهذه الرواية ليس فيها جزم بكشف الفخذ ، بل وقع التردد من الراوي : هل كشف فخذيه أو ساقيه ؟ فلا يستدل بذلك .
ووقع الحديث في ( ( مسند الإمام أحمد ) ) وغيره ، وفيه : ( ( أنه كان كاشفا عن فخذه ) ) ، من غير شك ، وفي ألفاظ الحديث اضطراب .
واختلف العلماء في الفخذ : هل هي عورة ، أم لا ؟(2/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
فقال أكثرهم : هي عورة ، روي ذلك عن عطاء ، وهو قول مالك ، والثوري ، وأبي حنيفة ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد في المشهور عنه .
وقالت طائفة : ليست الفخذ عورة ، وهو قول ابن أبي ذئب ، وداود ، وابن جرير والطبري ، وأبي سعيد الإصطخري من الشافعية ، وحكاه بعضهم رواية عن مالك ، وهو رواية عن أحمد رجحها طائفة من متأخري أصحابه ، وحكاه بعضهم عن عطاء ، وفي صحته نظر .
وحكي عن طائفة : أن الفخذ في المساجد عورة ، وفي الحمام ونحوه مما جرت العادة بكشفها فيه ليست عورة ، وحكي عن عطاء والأوزاعي ، ورجحه ابن قتيبة
وهذا كله في حكم النظر إليها .
فأما الصلاة : فمن متأخري أصحابنا من أنكر أن يكون في صحة الصلاة مع كشفها عن أحمد خلاف ، قال : لأن أحمد لا يصحح الصلاة مع كشف المنكبين ، فالفخذ أولى .
قال : ولا ينبغي أن يكون في هذا خلاف ؛ فإن الصلاة مأمور فيها بأخذ الزينة ، فلا يكتفى فيها بستر العورة .
والمنصوص عن أحمد يخالف هذا :
قال مهنا : سألت أحمد عن رجل صلى في ثوب ليس بصفيق ؟ قال : أن بدت عورته يعيد ، وإن كان الفخذ فلا . قلت لأحمد : وما العورة ؟ قالَ : الفرج والدبر .
وقد حكى المهلب بن أبي صفرة المالكي في ( ( شرح البخاري ) ) : الإجماع على أن من صلى مكشوف الفخذ لا يعيد صلاته . وهو خطأ .(2/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
باب
في كم تصلي المرأة من الثياب
وقال عكرمة : لو وارت جسدها في ثوب جاز .
يريد عكرمة : أن الواجب عليها في الصلاة ستر جميع جسدها ، فلو وارته كله بثوب واحد جاز ، ومراده بجسدها : بدنها ورأسها ، فلهذا قال كثير من الصحابة ، ومن بعدهم : تصلي المرأة في درع وخمار إشارة منهم : إلى أنه يجب عليها ستر رأسها وجسدها .
فإن سترت جسدها بثوب ورأسها بثوب جاز ، ولم تكره صلاتها ، وهو أدنى الكمال في لباسها ، وإن التحفت بثوب واحد خمرت به رأسها وجسدها صحت
صلاتها ، لكنه خلاف الأولى .
قال رباح بن أبي معروف : كان عطاء لا يرى أن تصلي المرأة في الثوب الواحد ، إلا من ضرورة .
وروى عمر بن ذر ، عن عطاء في المرأة لا يكون له إلا الثوب الواحد ، قال : تتزر به .
ومعنى : ( ( تتزر به ) ) : تلتحف به ، وتشتمل على رأسها وبدنها .
قال سفيان الثوري : أن صلت في ملحفة واسعة تغطي جميع بدنها أجزأها .
قال : وأكره أن تصلي في درع واحد ، فإن صلت كذلك فقد أساءت ، وتجزئها صلاتها .
وقال إسحاق : أن صلت في ملحفة واحدة غطت كل شئ من بدنها جازت صلاتها .(2/197)
"""""" صفحة رقم 198 """"""
والأفضل أن تصلي المرأة في ثلاث أثواب عند جمهور العلماء .
قال حرب الكرماني : ثنا إسحاق - هو : ابن راهويه - : ثنا المعتمر - هو : ابن سليمان - ، قال : سمعت أبي يحدث عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن عمر بن الخطاب ، قال : تصلي المرأة في ثلاثة أثواب إذا قدرت : درع ، وخمار ، وإزار .
حدثنا إسحاق : ثنا عبد الله بن نمير ، عن عبد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : تصلي المرأة في الدرع والخمار والملحفة .
فأما ( ( الدرع ) ) : فهو ما تلبسه على بدنها .
قال أبو طالب : قيل لأحمد : الدرع القميص ؟ قال : يشبه القميص ، لكنه سابغ يغطي رجليها .
وأما ( ( الخمار ) ) : فهو ما تختمر به رأسها .
وقد سبق حديث : ( ( لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار ) ) .
وأما ( ( الإزار ) ) : فاختلف تفسيره :
فقالت طائفة : هو مثل إزار الرجل الذي يأتزر به في وسطه ، وهذا قول إسحاق - : نقله عنه حرب ، وهو ظاهر كلام أحمد - أيضا .
وقال إسحاق : أن تسرولت بدل الإزار جاز ، وأن لم تتزر بل التحفت بملحفة فوق درعها بدل الإزار جاز .
وروي الفضل بن دكين في ( ( كتاب الصلاة ) ) : ثنا أبو هلال ، عن محمد بن سيرين ، قال : كانوا يستحبون أن تصلي المرأة في درع وخمار وحقو .
وقال ابن عبد البر : روي عن عبيدة ، أن المرأة تصلي في الدرع والخمار(2/198)
"""""" صفحة رقم 199 """"""
والحقو ، رواة ابن سيرين عنه ، وقال به ، وقال : الأنصار تسمى الإزار : الحقو .
وروى مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن امرأة استفتت عائشة ، فقالت : أن المنطق يشق علي ، أفأصلي في درع وخمار ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، إذا كَانَ الدرع سابغا .
قال : والمنطق هنا : الحقو ، وهو الإزار والسراويل .
والقول الثاني : أن المراد بالإزار : الجلباب ، وهو الملحفة السابغة التي يغطي بها الرأس والثياب ، وهذا قول الشافعي وأصحابنا ، وقد سبق عن ابن عمر ما يدل عليه .
وقال النخعي : تصلي المرأة في الدرع والملحفة السابغة ، تقنع بها رأسها .
وخرج أبو داود من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن محمد ابن زيد بن قنفذ ، عن أمه ، عن أم سلمة ، أنها سالت رسول الله ( : أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار ؟ قال : ( ( إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها ) ) .
وخرجه - أيضا - من طريق مالك ، عن محمد بن زيد ، عن أمه ، عن أم سلمة - موقوفا - ، وذكر جماعة تابعوا مالكا على وقفه .
وذكر الدارقطني أن وقفه هو الصواب .
خرج البخاري في هذا الباب :
372 - من حديث : الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : لقد كان رسول الله ( يصلي الفجر ، فيشهد معه نساء من المؤمنات ، متلفعات في(2/199)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
مروطهن ، ثم يرجعن إلى بيوتهن ، ما يعرفهن أحد .
قال الخطابي ( ( التلفع بالثوب ) ) : الاشتمال به ، ولفعه الشيب : شمله ، و ( ( المروط ) ) : الأردية الواسعة ، واحدها : مرط .
وقال عبيد : المروط : الأكسية تكون من صوف ، وتكون من خز ، يؤتزر بها .
وقال هشام ، عن الحسن : كانت لأزوج النبي ( أكسية تسمى المروط ، غير واسعة - والله - ولا لينة .
والمراد بهذا الحديث : أن النساء كن إذا شهدن صلاة الفجر في المسجد غطين رؤوسهن ، وثيابهن فوق دروعهن وخمرهن ، وهذا نظير أمر النبي ( لهن إذا شهدن العيدين بالجلباب ، كما تقدم .
وقد روي عن ابن عمر وابن سيرين ونافع : أن المرأة تصلي في أربعة أثواب - : حكاه ابن المنذر .
وقال ابن عبد البر : قال مجاهد : لا تصلي المرأة في اقل من أربعة أثواب .
قال : وهذا لم يقله غيره فيما علمت .
قال : والأربعة الأثواب : الخمار ، والدروع ، والملحفة ، والإزار . انتهى .
ولعل هذا إذا صلين مع الرجال في المساجد ونحوها ، فأما في بيوتهن فيكفيهن دون ذلك . والله أعلم .
وبقية فوائد هذا الحديث تأتي في موضع أخر - إن شاء الله تعالى .(2/200)
"""""" صفحة رقم 201 """"""
- باب إذا صلى في ثوب له أعلام ، ونظر إلى علمها
373 - حدثنا أحمد بن يونس : ثنا إبراهيم بن سعد : ثنا ابن شهاب ، عن
عروة ، عن عائشة ، أن النبي ( صلى في خميصة لها أعلام ، فنظر إلى أعلامها نظرة ، فلما انصرف قال : ( ( اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم ، فإنها ألهتني آنفا في صلاتي ) ) .
وقال هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : قال النبي ( : ( ( كنت انظر إلى علمها وأنا في الصلاة ، فأخاف أن تفتنني ) ) .
هذا الذي علقه عن هشام بن عروة . خرجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) من حديث وكيع ، عن هشام ، ولكن لفظه : أن النبي ( كانت له خميصة لها علم ، فكان يتشاغل بها في الصلاة ، فأعطاها أبا جهم ، وأخذ كساء له أنبجانيا .
ورواه أبو معاوية عن هشام - أيضا - ، ولفظ حديثه : قالت : كان للنبي ( خميصة ، فأعطاها أبا جهم ، وأخذ أنبجانية له ، قالوا : يا رسول الله ، أن الخميصة هي خير من الأنبجانية ؟ فقال : ( ( إني كنت انظر إلي علمها في الصلاة ) ) .
خرجه الإمام أحمد .
وخرجه أبو داود بمعناه من رواية ابن أبي الزناد ، عن هشام .
ورواه مالك ، عن هشام ، عن أبيه - مرسلا .(2/201)
"""""" صفحة رقم 202 """"""
وذكر ابن عبد البر : أن الأنبجاني مذكر في رواية الزهري ، وإنما أنثه مالك في روايته .
قلت : وكذا في رواية إبراهيم بن سعد التي خرجها البخاري هنا .
قال : وإنما هو كساء أنبجاني ، والأنبجاني لا يونث ، إلا أن يكون أراد الخميصة أو الشملة .
قال : وقال ثعلب : يقال : أنبجانية - بكسر الباء وفتحها - لكل ما كثف
والتف . قالوا : شاة أنبجانية : أي كثيرة الصوف ملتفة .
قال ابن عبد البر : وقال ابن قتيبة : إنما هو كساء منبجاني - بالميم - ؛ لأنه منسوب إلى منبج . قَالَ : وفتحت باؤه في النسب ؛ لأنه خرج مخرج منظراني
ومنجراني . قال : وعن ابن قتيبة يقول : جائز أن يقال : أنبجاني كما جاء في الحديث ؛ لأن رواته عرب فصحاء ، ومن الأنساب ما لا يجري على قياس ، وإنما هو مسموع ، هذا لو صح أنه منسوب إلى منبج . انتهى .
وفي الحديث : دليل على أن نظر المصلي إلى ما يلهيه عن صلاته لا يفسد صلاته ، ولا يلزمه إعادتها إذا كان ذلك قليلا ، ولهذا قالت عائشة : فنظر إلى أعلامها نظرة .
وأما إذا كثر شغل قلبه عن صلاته ، وحدث نفسه بغيرها ، فمن الفقهاء من أصحابنا وغيرهم من أوجب عليه الإعادة بذلك .
ثم منهم من علل ذلك : بأن عمل النفس إذا كثر في الصلاة أبطلها ، كعمل
البدن . وحكي ذلك عن ابن حامد .
ومنهم من علل : بوجوب الخشوع في الصلاة ، فإذا فقد في أكثر الصلاة أبطلها .(2/202)
"""""" صفحة رقم 203 """"""
وجمهور العلماء : على أنه لا تبطل بذلك الصلاة ، وحكاه بعضهم إجماعا ، وسيأتي ذكر ذلك في موضع آخر - إن شاء الله تعالى .
واستدل الشافعي بهذا الحديث على أن مجرد الاشتغال عن صلاته بنظر إلى شيء أو فكر فيه ، إذا لم يوجب له ذلك الشك في عدد الركعات لا يسجد له للسهو .
وفي الحديث : دليل على استحباب التباعد عن الأسباب الملهية عن الصلاة ، ولهذا أخرج النبي ( تلك الخميصة عنه بالكلية . فينبغي لمن ألهاه شيء من الدنيا عن صلاته أن يخرجه عن ملكه .
وقد ذكر مالك في ( ( الموطإ ) ) عن عبد الله بن أبي بكر ، أن أبا طلحة الأنصاري كان يصلي في حائط له ، فطار دبسي ، فانطلق يتردد يلتمس مخرجها ، فلم يجده لالتفاف النخل ، فأعجبه ذلك فأتبعه بصره ساعة ، ثم رجع فإذا هو لا يدري كم صلى ، فقال : لقد أصابتني في مالي هذا فتنة ، فأتى النبي ( ، فذكر ذلك له ، فقال : يا رسول الله ، هو صدقة لله عز وجل ، فضعه حيث أراك الله .
وذكر مالك - أيضا - عن عبد الله بن أبي بكر ، أن رجلا من الأنصار كان يصلي في حائط له بالقف في زمن الثمر ، والنخل قد ذللت ، وهي مطوقة بثمرها ، فنظر إلى ذلك فأعجبه ما رأى من ثمرها ، ثم رجع إلى الصلاة ، فإذا هو لا يدري كم صلى ، فقال : لقد أصابتني في مالي هذا فتنة ، فأتى عثمان بن(2/203)
"""""" صفحة رقم 204 """"""
عفان ( ، فذكر ذلك له ، فقال له : أنه صدقة ، فاجعله في سبيل الخير ؛ فباعه عثمان بخمسين ألفا فكان اسم ذلك : المال الخمسين .
و ( ( الخميصة ) ) : كساء رفيع يلبسه أشراف العرب ، وقد يكون له علم ، وقد لا يكون ، وقد يكون أبيض وأحمر وأسود وأصفر . و ( ( الأنبجاني ) ) : كساء غليظ بغير علم : ذكر ذلك ابن عبد البر وغيره .
وقال الخطابي : الخميصة : كساء أسود ، والأنبجانية : كساء له زئبر .
وقال أبو عبيد : الخمائص : ثياب من خز أو صوف معلم ، وهي سود ، كانت من لباس الناس .
وإنما خص بها أبا جهم بن حذيفة ؛ لأنه كان أهداها إلى النبي ( ، فردها إليه ، وطلب منه عوضا عنها كساء له غليظا ؛ تطييبا لقلبه ، حتى لا يحصل له انكسار برد هديته عليه ، ولذلك أعلمه بسبب الرد .
وفيه تحذير له من أن يشتغل بها أو بغيرها عن صلاته . هذا هو الذي ذكره ابن عبد البر .
ويدل على ذلك : ما خرجه مالك في ( ( الموطإ ) ) عن علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه ، عن عائشة ، قالت : أهدى أبو جهم بن حذيفة إلى رسول الله ( خميصة شامية لها علم ، فشهد فيها الصلاة ، فلما انصرف قال : ( ( ردي هذه الخميصة إلى أبي جهم ؛ فإني نظرت إلى علمها في الصلاة ، فكاد يفتنني ) ) .
وخرجه الإمام أحمد من طريق مالك .(2/204)
"""""" صفحة رقم 205 """"""
ولفظ : ( ( الفتنة ) ) إنما يعرف في هذا الحديث من هذا الوجه ، فأما من رواية هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، - كما علقه البخاري - فغير معروف .
وقد روي عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة هذا الحديث ، وفيه : أن النبي ( قال : ( ( فإني كنت إذا رأيت علمها ذكرت الدنيا ) ) .
وروي نعيم بن حماد ، عن ابن عيينة : أن النبي ( لم يكره الخميصة في
نفسها ، وإنما أخرجها عن ملكة لما كانت سبب شغله عن صلاته ؛ كما اخرج أبو طالحة ماله الذي ألهاه عن صلاته .
وهذا يؤيد ما ذكرناه من قبل .
واعلم ؛ أن الصلاة في الثوب الحسن غير مكروه ، إلا أن يخشى منه الإلتهاء عن الصلاة أو حدوث الكبر ، وقد كان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم ، يقوم بها الليل ، وقد كان النبي ( أحيانا يلبس حللا من حلل اليمن ، وبرودا حسنة ، ولم ينقل عنه أنه كان يتجنب الصلاة فيها ، وإنما ترك هذه الخميصة لما وقع له من تلك النظرة إلى علمها ، وقد قال الله عز وجل : ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ( [ الأعراف : 31 ] ، وقد سبق قول ابن عمر : الله أحق أن يتزين له .
وخرج أبو داود في ( ( مراسيله ) ) من حديث عبيدالله بن عتبة ، قال : كان
رسول الله ( - إذا قام إلى الصلاة - مما تعجبه : الثياب النقية الريح الطيبة .
ولم يزل علماء السلف يلبسون الثياب الحسنة ، ولا يعدون ذلك كبراً .(2/205)
"""""" صفحة رقم 206 """"""
وقد صح عن النبي ( أنه سئل عن الرجل يحب أن يكون ثوبه حيناً ونعله حسناً ؟ فقال : ( ( ليس ذلك من الكبر ، أن الله جميل يحب الجمال ) ) .
وقال جرير بن حازم : رأيت على الحسن طيلساناً كردياً حسناً ، وخميصة أصبهانية جيدة ، ذات أعلام خضر وخمر ، أزرتها من إبريسم ، وكان يرتدي ببرد له يمان أسود مصلب ، وبرد عدني وقباء من برد حبرة ، وعمامة سوداء .
وقال حرب : سألت إسحاق عن الصلاة في المنديل ، وأريته منديلاً له أعلام خضر وخطوط ؟ فقال : جائز .(2/206)
"""""" صفحة رقم 207 """"""
- باب أن صلى في ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته ؟
وما ينهي من ذلك
خرج فيه :
374 - حديث : عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس ، قال : كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها ، فقال النبي ( : ( ( أميطي عنا قرامك هذا ؛ فإنه لا يزال تصاويره تعرض في صلاتي ) ) .
( ( القرام ) ) : قيل : أنه ثوب من صوف ، فيه ألوان من العهون ، ويتخذ سترا ، أو كلة .
وقال الخطابي : هو ستر رقيق . قال : ويشبه أن تكون عائشة سترت به موضعا كان عورة من بيتها ؛ لنهي النبي ( عن ستر الجدر .
قلت : حديث النهي عن ستر الجدر إسناده ضعيف .
ولكن خرج مسلم من حديث عائشة ، أنها أخذت نمطا فسترته على الباب ، فلما قدم النبي ( رأى النمط ، فعرفت الكراهة في وجهه ، فجذبه حتى هتكه أو قطعه ، وقال : ( ( أن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين ) ) .
وفي ( ( مسند الإمام أحمد ) ) ، عنها في هذا الحديث : أن النبي ( قال لها : ( ( أتسترين الجدر يا عائشة ؟ ) ) قالت : فطرحته ، فقطعته مرفقتين ، فقد رأيته(2/207)
"""""" صفحة رقم 208 """"""
متكئا على إحداهما ، وفيها صورة .
وخرج مسلم من حديث عائشة ، قالت : كان في بيتي ثوب فيه تصاوير ، فجعلته إلى سهوة في البيت ، وكان رسول الله ( يصلي إليه ، ثم قال : ( ( يا عائشة أخريه
عني ) ) ، فنزعته ، فجعلته وسائد .
وفي ( ( الصحيحين ) ) ، عنها ، قالت : قدم رسول الله ( من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل ، فلما رآه رسول الله ( هتكه ، وقال : ( ( أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله عز وجل ) ) . قالت : فجعلناه وسادة أو وسادتين .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) عنها ، قالت : كان لنا ستر فيه تمثال طائر ، وكان الداخل إذا دخل استقبله ، فقال رسول الله ( : ( ( حولي هذا ؛ فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا ) ) .
فهذه ثلاث علل قد علل بها النبي ( كراهة الستر .
ويشهد للتعليل الثالث : حديث سعيد بن جمهان ، عن سفينة ، أن النبي ( جاء إلى بيت فاطمة ، فأخذ بعضادتي الباب ، وإذا قرام قد ضرب في ناحية البيت ، فلما رآه رسول الله ( رجع ، فتبعه علي ، فقال : ما رجعك يا رسول الله ؟ قال : ( ( أنه ليس لي ولا لنبي أن يدخل بيتا مزوقا ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه .
ويشبه هذا ما خرجه النسائي من حديث ابن عباس ، أن النبي ( اتخذ(2/208)
"""""" صفحة رقم 209 """"""
خاتما ولبسه ، وقال : ( ( شغلني هذا عنكم اليوم ، له نظرة ولكم نظرة ) ) ، ثم ألقاه .
وخرج الترمذي في ( ( كتاب العلل ) ) بإسناد فيه ضعف ، عن ابن عمر ، أن
رسول الله ( جعل خاتمه في يمينه ، ثم أنه نظر إليه وهو يصلي ويده على فخذه ، فنزعه ولم يلبسه .
وقد روي هذا الحديث عن طاوس مرسلا ، وفيه : أن هذا الخاتم كان من ذهب .
وهذا إنما كان النبي ( يفعله امتثالا لما أمره الله به ؛ أن لا يمد عينيه إلى زهرة الحياة الدنيا ، فكان يتباعد عنها بكل وجه ، ولهذا قال : ( ( مالي وللدنيا ، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ، ثم راح وتركها ) ) .
فكان حاله كله في مأكله ومشربه ولباسه ومساكنه حال مسافر ، يقنع في مدة سفره بمثل زاد الراكب من الدنيا ، ولا يلتفت إلى فضولها الفانية الشاغلة عن الآخرة ، وخصوصا في حال عباداته ومناجاته لله ، ووقوفه بين يديه واشتغاله بذكره ، فإن ذلك كان هو قرة عينه . فكان تلمح شيء من متاع الحياة الدنيا وزينتها الفانية في تلك الحال ؛ فإنه ذلك الصفاء ، فلذلك كان تباعده عنه غاية المباعدة . وهذا هو المعنى المشار إليه بقوله : ( ( فإنه لا يزال تصاويره تعرض في صلاتي ) ) .
وفيه : دليل على أن المصلي لا ينبغي أن يترك بين يديه ما يشغله النظر إليه عن صلاته .(2/209)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
وفي ( ( سنن أبي داود ) ) ، عن عثمان بن طلحة ، أن النبي ( قال : ( ( إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين ؛ فإنه ليس ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي ) ) .
وخرجه الإمام أحمد من حديث أم عثمان بنت سفيان ، أن النبي ( قال له في هذا الحديث : ( ( أنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يلهي المصلين ) ) .
والمراد بالقرنين : قرنا الكبش الذي فدي به إسماعيل عليه السلام ؛ فإنه ما كانا في الكعبة إلى أن أحرقا عند حريق البيت في زمن ابن الزبير .
وفي الحديث : دليل على جواز الصلاة في الكعبة .
وقد نص أحمد على كراهة أن يكون في القبلة شيء معلق من مصحف أو غيره .
وروي عن النخعي ، قال : كانوا يكرهون ذلك .
وعن مجاهد ، قال : لم يكن ابن عمر يدع شيئا بينه وبين القبلة إلا نزعه : سيفا ولا مصحفا .
ونص أحمد على كراهة الكتابة في القبلة لهذا المعنى ، وكذا مذهب مالك .
وقد ذكر البخاري تعليقا عن عمر ، أنه أمر ببناء المسجد ، وقال : أكن الناس من المطر ، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس . وسيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى .
ويستدل بحديث عائشة هذا على كراهة الصلاة إلى التصاوير المنصوبة ؛ فإن في ذلك مشابهة للنصارى وعباد الأصنام المصلين لها ، ولا يترك في المسجد صورة في بناء .(2/210)
"""""" صفحة رقم 211 """"""
سئل الحسن عن ساجة في المسجد فيها تصاوير ؟ قال : انجروه .
وتكره الصلاة في الكنائس التي فيها صور عند كثير من العلماء ، وهو مروي عن عمر وابن عباس ، وقول مالك وأحمد وغيرهما .
وأما الصلاة في ثوب فيه تصاوير ففيه قولان للعلماء ، بناء على أنه : هل يجوز لبس ذلك أم لا ؟
فرخص في لبسه جماعة ، منهم أحمد في رواية الشالنجي ، وكذلك قال أبو
خيثمة ، وسليمان بن داود الهاشمي ، واستدلوا بالحديث الذي جاء فيه : ( ( إلا رقما في ثوب ) ) .
وقد خرجه البخاري في ( ( كتاب : اللباس ) ) من حديث أبي طلحة .
وخرجه الإمام أحمد ، والنسائي ، والترمذي وصححه من حديث أبي أيوب وسهل بن حنيف ، عن النبي ( .
وكان كثير من السلف يلبس خاتما عليه صورة حيوان منقوشة في فصه .
وقالت طائفة : يكره ذلك ، وهو قول مالك والثوري ، وطائفة من أصحابنا .
وقالت طائفة : يحرم لبسه ، وهو رواية عن أحمد ، أختارها القاضي أبو يعلى
وغيره .
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عمران بن حطان ، عن عائشة ، قالت : كان النبي ( لا يرى في ثوب تصاوير إلا
نقضه .(2/211)
"""""" صفحة رقم 212 """"""
وقد خرجه البخاري في ( ( كتابه ) ) هذا عن طريق هشام ، عن يحيى ، ولفظه : لم يكن النبي ( يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه .
وظاهر تبويب البخاري يدل على كراهة الصلاة فيه استدلالا بقوله ( : ( ( لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي ) ) . ولكن هذا لا ينافي فيما فيه تصاوير في موضع لا يقع بصره عليه في الصلاة .
وصرح أصحابنا بكراهة استصحابه في الصلاة ، وسواء قلنا : يجوز لبسه أو لا .
ومذهب مالك : أنه لا يلبس خاتم فيه تماثيل ، ولا يصلى به ، ويلبس ثوب فيه تصاوير .
وأما الصلاة على بساط فيه تصاوير ، فرخص فيه أكثر العلماء ، ونص عليه أحمد وإسحاق ؛ لأنهم أجازوا استعمال ما يوطأ عليه من الصور .
وكره ذلك طائفة قليلة ، ومنهم : الجوزجاني ، وروى عن الزهري .
وذكر ابن أبي عاصم في ( ( كتاب اللباس ) ) له : ( ( باب : من قال : لا بأس بالصلاة على البساط إذا كان فيه صور : حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الرحيم : ثنا روح بن عبادة : ثنا شعبة ، عن الشيباني ، عن عبد الله بن شداد ، عن ميمونة ، قالت : كان النبي ( يصلي على الخمرة ، وفيها تصاوير ) ) .
وهذا الحديث مخرج في ( ( الصحيحين ) ) من حديث شعبة بدون هذه الزيادة .
وسيأتي بسط هذه المسائل في موضعها من الكتاب - إن شاء الله تعالى .
وقد بوب البخاري في ( ( كتاب : اللباس ) ) على ( ( كراهة الصلاة في(2/212)
"""""" صفحة رقم 213 """"""
التصاوير ) ) ، وأعاد فيه حديث عائشة الذي خرجه هاهنا ، وظاهر ذلك يدل على أنه يكره الصلاة في ثوب فيه صورة ، وعلى بساط عليه صورة ؛ فإن ذلك كله يعرض للمصلي في صلاته .
وبوب هناك - أيضا - على الرخصة فيما يوطأ من الصورة ، وعلى كراهة ذلك - أيضا - ، فأشار إلى الاختلاف فيه .(2/213)
"""""" صفحة رقم 214 """"""
- باب من صلى في فروج من حرير ثم نزعه
375 - حثنا عبد الله بن يوسف : ثنا الليث ، عن يزيد ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر ، قال : أهدي إلى النبي ( فروج حرير ، فلبسه فصلى فيه ، ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا ، كالكاره له ، وقال : ( ( لا ينبغي هذا للمتقين ) ) .
( ( يزيد ) ) ، هو : ابن أبي حبيب ، و ( ( أبو الخير ) ) ، هو : مرثد بن عبد الله
اليزني ، وهما مصريا جليلان .
و ( ( الفروج ) ) : قباء له فرج من ورائه ، هكذا قال أبو عبيد وغيره .
وقال يحيى بن بكير : سألت الليث بن سعد عن الفروج ؟ فقال : هو القباء .
وفي الحديث : دليل على جواز لبس الأقبية ، والصلاة فيها ، وهو قول أكثر أهل العلم .
وسئل عطاء : عن القباء يصلي فيه الرجل وحده ؟ فقال : أن القباء مفروج ، ولكن ليأتزر عليه إزارا تحته .
قال حرب : سئل أحمد عن الصلاة في الدراج ؟ فقال : وما بأسه ؟ قيل : أنه ذكر عن ابن المبارك ووكيع أنه ما كرهاه ، فرخص فيه ، وقال : ما أنفعه من ثوب .
وممن كره لبس الدراج : إسحاق - : نقله عنه ابن منصور .
واستدل الخطابي وغيره بهذا الحديث على صحة الصلاة في الحرير مع كراهته .(2/214)
"""""" صفحة رقم 215 """"""
وهذا غير صحيح ؛ فإن النبي ( إنما لبسه وصلى فيه قبل تحريمه ، وهذا أمر لا شك فيه ، فكيف يستدل به على صحة الصلاة بعد تحريمه ؟
وقد استدل إسحاق لصحة الصلاة في الحرير بأن النبي ( رخص للزبير وعبد الرحمن في قمص الحرير للحكة .
وهذا - أيضا - لا يصح ؛ فإنه من رخص له في الحرير أبيح له لبسه والصلاة فيه كالنساء ، وإنما اختلف الناس في صلاة الرجال في الحرير بعد تحريمه .
وأكثر أهل العلم على أن الصلاة فيه تجزئ ، وتبرأ بها الذمة ، ولا يلزم إعادتها .
وعن أحمد في ذلك روايتان .
ومذهب أهل الظاهر : أن الصلاة فيه غير مجزئة ، وتلزم الإعادة ، وهو اختيار كثير من أصحابنا ، وهو قول إسحاق ، إذا كان عالما بالنهي عنه .
وقال ابن القاسم صاحب مالك : يعيد ما دام في الوقت .
وكذا الخلاف في الصلاة في ثوب مغصوب ، أو مشترى بعين مال حرام .
وفي ( ( المسند ) ) : من حديث ابن عمر - مرفوعا - : ( ( من اشترى ثوبا بعشرة دراهم ، وفيه درهم حرام ، لم تقبل له صلاة ما دام عليه ) ) .
وقد ضعف الإمام أحمد هذا الحديث في رواية أبي طالب ، وقال : هذا ليس
بشيء ، ليس له إسناد .
يشير إلى ضعف إسناده ؛ فإنه من رواية بقية ، عن يزيد بن عبد الله الجهني عن هاشم الأوقص ، عن نافع .(2/215)
"""""" صفحة رقم 216 """"""
وقال أحمد - في رواية مهنا - : لا أعرف يزيد بن عبد الله ، ولا هاشما
الأوقص .
وقد أشتد نكير عبد الرحمن بن مهدي لقول من قال : أن من اشترى ثوبا بدراهم فيها شيء حرام وصلى فيه أنه يعيد صلاته ، وقال : هو قول خبيث ، ما سمعت بأخبث منه ، نسأل الله السلامة .
ذكره عنه الحافظ أبو نعيم في ( ( الحلية ) ) بإسناده .
وعبد الرحمن بن مهدي من أعيان علماء أهل الحديث وفقهائهم المطلعين على أقوال السلف ، وقد عد هذا القول من البدع ، فدل على أنه لا يعرف بذلك قائل من السلف .
وأكثر العلماء على أن العبادات لا تبطل بارتكاب ما نهي عنه ، إذا كان النهي غير مختص بتلك العبادة ، وإنما تبطل بما يختص النهي بها .
فالصلاة تبطل بالإخلال بالطهارة فيها ، وحمل النجاسة ، وكشف العورة ولو في الخلوة ، ولا تبطل بالنظر إلى المحرمات فيها ، ولا باختلاس مال الغير فيها ، ونحو ذلك مما لا يختص النهي عنه بالصلاة .
وكذلك الصيام ، إنما يبطل بالأكل والشرب والجماع ونحو ذلك ، دون ما لا يختص النهي عنه بالصيام ، كقول الزور ، والعمل به عند جمهور العلماء .
وكذلك الاعتكاف ، لا يبطل إلا بما نهي عنه لخصوص الاعتكاف وهو الجماع ، أو ما نهي عنه لحق المساجد كالسكر عند طائفة منهم . ولا يبطل بسائر المعاصي عند الأكثرين ، وأن خالف في ذلك طائفة منهم .(2/216)
"""""" صفحة رقم 217 """"""
وكذلك الحج ، إنما يبطل بارتكاب بعض ما نهي عنه فيه وهو الرفث ، دون الفسوق والجدال . والله أعلم .
وقد روي عن النبي ( ، أنه علل كراهة لبس الحرير في صلاته ، بأنه نظر إليه فألهاه عن صلاته .
خرجه ابن وهب في ( ( مسنده ) ) عن معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية حدير ابن كريب ، أن أكيدر أهدى النبي ( حلة حرير ، فشهد النبي ( فيها الصلاة ، فسها ، فصلى الظهر سبع ركعات ، فلما انصرف نزعها ، وقال : ( ( إني نظرت إليها ، فألهتني عن صلاتي ) ) .
وهذا مرسل .(2/217)
"""""" صفحة رقم 218 """"""
- باب الصلاة في الثوب الأحمر
376 - حدثنا محمد بن عرعرة : حدثني عمر بن أبي زائدة ، عن عون بن أبي
جحيفة ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله في قبة حمراء من أدم ، ورأيت بلالا أخذ وضوء رسول الله ( ، ورأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء ، فمن أصاب منه شيئا تمسح به ، ومن لم يصب منه شيئا أخذ من بلل يد صاحبه ، ثم رأيت بلالا أخذ عنزة فركزها ، وخرج رسول الله ( في حلة حمراء مشمرا ، صلى إلى العنزة بالناس ركعتين ، ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة .
هذا الحديث قد خرجه في مواضع متعددة ، مختصرا وتاما ، وقد سبق في ( ( أبواب الوضوء ) ) بعضه ، ويأتي في مواضع متفرقة - أيضا .
والمقصود منه هاهنا : أن النبي ( خرج في حلة حمراء مشمرا وصلى بالناس ، فدل على جواز الصلاة في الثوب الأحمر .
قال أبو عبيد : الخلة : برود اليمن من مواضع مختلفة منها . قال : والحلة إزار ورداء ، لا يسمى حلة حتى يكون ثوبين . انتهى .
وكذلك فسر سفيان الثوري الحلة الحمراء في هذا الحديث ببرد الحبرة - : حكاه عنه عبد الرزاق ، وهو في ( ( مسند الإمام أحمد ) ) وكتاب الترمذي .
وحينئذ ؛ فالحلة الحمراء التي لبسها النبي ( إنما كانت بردا مخططا فيه(2/218)
"""""" صفحة رقم 219 """"""
خطط
حمر ، ولم يكن كله أحمر .
وقد بوب البخاري في ( ( كتاب : اللباس ) ) : ( ( باب : الثوب الأحمر ) ) ، ثم خرج فيه من حديث البراء بن عازب ، قال : رأيت النبي ( في حلة حمراء .
والقول في هذا الحديث كالقول في حديث أبي جحيفة .
ثم قال : ( ( باب : الميثرة الحمراء ) ) ، وخرج فيه من حديث البراء ، قال : نهانا رسول الله ( عن لبس الحرير والديباج والقسي والإستبرق ومياثر الحمر .
( ( المياثر ) ) : مراكب ، سميت مياثر لوثارتها - وهو لينها ووطأتها ، وكانت من زي العجم .
وقد قيل : أنها كانت من ديباج أو حرير - : قاله أبو عبيد وغيره .
وفسر يزيد بن أبي زياد المثيرة بجلود السباع .
وقد خرج النسائي من حديث المقدام بن معدي كرب ، عن النبي ( ، أنه نهى عن مياثر النمور .
وفي الصلاة في الثوب الأحمر حديث آخر :
خرجه الطبراني من رواية سعد بن الصلت ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن حسين ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله ( يلبس يوم العيد بردة حمراء .
ورواه حجاج بن أرطاة ، عن أبي جعفر محمد بن علي ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كان رسول الله ( يلبس بردة الأحمر في العيدين والجمعة .(2/219)
"""""" صفحة رقم 220 """"""
كذا رواه حفص بن غياث ، عن حجاج .
وخالفه هشيم ، فرواه عن حجاج ، عن أبي جعفر - مرسلا - ، أن رسول الله ( كان يلبس يوم الجمعة بردة الأحمر ، ويعتم يوم العيدين .
خرجه ابن سعد من هذين الوجهين .
والمرسل أشبه .
وقد اختلف العلماء في لبس الأحمر :
فرخص فيه ابن المسيب ، والشعبي ، والنخعي ، والحسن ، وعلي بن حسين ، وابنه أبو جعفر .
وروي عن علي بن أبي طالب ، أنه كان يلبس بردا أحمر .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) ، أن أسماء بنت أبي بكر أرسلت إلى ابن عمر تقول له : بلغني انك تحرم مياثر الأرجوان ، فقال : هذه مثيرتي أرجوان .
والأرجوان : الشديد الحمرة .
وكرهت طائفة الثياب الحمر ، منهم : طاوس ، ومجاهد ، وعطاء .
وروي عن الحسن وابن سيرين ، قالا : هو زينة آل قارون .
وهو المنصوص عن أحمد في رواية المروذي ، وسوى بين الرجال والنساء في كراهته .
وروى عن عطاء وطاوس ومجاهد الرخصة فيه للنساء خاصة .
وروي عن عائشة ، أنها كانت تلبس درعا أحمر .
وفي كراهة الأحمر من اللباس أحاديث متعددة ، خرجها أبو داود وغيره ، يطول ذكرها هاهنا ، وربما تذكر في موضع آخر - إن شاء الله تعالى .(2/220)
"""""" صفحة رقم 221 """"""
ومنهم من رخص فيما حمرته خفيفة ، وكره الشديد الحمرة ، وروي ذلك عن مالك وأحمد ، ورجحه كثير من أصحابنا .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) ، عن علي ، أن النبي ( نهى عن لبس المعصفر .
وخرجه النسائي ، وزاد فيه : المفدم .
والمفدم : المشبع بالعصفر .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) - أيضا - عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : رأى رسول الله ( علي ثوبين معصفرين ، فقال : ( ( إن هذه من ثياب الكفار ، فلا تلبسها ) ) .
وقد اختلف في لبس المعصفر :
فكرهه طائفة ، روي عن عمر وعثمان وابن عمر وأنس ، وهو قول الزهري وسعيد بن جبير ومالك وأحمد .
ورخصوا فيه للنساء .
وحكى ابن عبد البر الاجماع على جوازه لهن .
وفي الرخصة لهن فيه حديث مرفوع .
خرجه أبو داود .
وهذا قد يخالف رواية المروذي عن أحمد بكراهة الأحمر للنساء ، كما تقدم ، لكن تلك مقيدة بإرادة الزينة به ، فقد تكون الرخصة محمولة على من لم يرد به الزينة .(2/221)
"""""" صفحة رقم 222 """"""
وهذا القول روي عن ابن عباس ، أنه يكره المعصفر للتزين به ، ويرخص فيما امتهن منه .
ورخص طائفة في المعصفر مطلقا للرجال والنساء ، روي عن أنس ، وعن أبي وائل ، وعروة ، وموسى بن طلحة ، والشعبي ، وأبي قلابة ، وابن سيرين ، والنخعي وغيرهم ، وهو قول الشافعي .
وكرهت طائفة المشبع منه - وهو المفدم - دون التخفيف ، روي عن عطاء وطاوس ومجاهد .
وحكي عن مالك وأحمد - أيضا - ؛ فإنه قال في المصبوغ بالدم : أن كانت حمرته تشبه المعصفر أكرهه ، وقال : لا بأس بالمورد ، وما كان خفيفا .
وحكى الترمذي في ( ( كتابه ) ) هذا القول عن أهل الحديث : أنهم كرهوا لبس المعصفر ، ورأوا : أن ما صبغ بالمدر أو غير ذلك فلا بأس به ، إذا لم يكن معصفرا .
وقد روي عن علي وابن عمر الرخصة في المصبوغ بالمشق - وهو المغرة - ، وقالا : إنما هو مدر أو تراب .
وفي كراهة المصبوغ بالمغرة : حديث خرجه أبو داود ، في إسناده مقال .
ومن الناس من قال : يكره المعصفر خاصة ، دون سائر ألوان الحمرة . وقال : لم يصح في غيره نهي .
ومنهم من حمل أحاديث الرخصة على الجواز ، وأحاديث النهي على كراهة التنزيه ، وهذه هي طريقة ابن جرير الطبري .
وزعم الخطابي أن المكروه من الأحمر ما صبغ من الثياب بعد نسجه ، فأما(2/222)
"""""" صفحة رقم 223 """"""
ما صبغ غزله ثم نسج - كعصب اليمن - فغير داخل في النهي .
وكذلك الشافعي فرق في المصبوغات بين ما صبغ قبل نسجه وبعده ، واستحسن لبس ما صبغ غزله ، دون ما صبغ بعد نسجه للزينة .
واختلف القائلون بكراهة الأحمر ، فيما إذا كان في الثوب شيء من حمرة : هل يكره أم لا ؟
فروي عن ابن عمر ، أنه اشترى عمامة واعتم بها ، فرأى فيها خيطا أحمر ، فردها .
وكذلك روى المروذي عن أحمد ، أنه أمره أن يشتري له تكة لا تكون فيها
حمرة .
وخرج أبو داود من حديث رافع بن خديج ، قال : خرجنا مع رسول الله ( في سفر ، فرأى رسول الله ( على رواحلنا وعلى إبلنا أكسية فيها خيوط عهن حمر ، فقال رسول الله ( : ( ( ألا أرى الحمرة قد علتكم ؟ ) ) فقمنا سراعا ، فأخذنا الأكسية فنزعناها عنها .
وفي إسناده رجل لا يعرف .
وخرج الطبراني وغيره من حديث إسحاق بن راهويه ، قال : قلت لأبي قرة : أذكر ابن جريج ، عن مسلم بن أبي مريم ، عن عبد الله بن سرجس ، أن النبي ( صلى يوما وعليه نمرة ، فقال لرجل من أصحابه : ( ( أعطني نمرتك ، وخذ نمرتي ) ) ، فقال : يا رسول الله ، نمرتك أجود من(2/223)
"""""" صفحة رقم 224 """"""
نمرتي . قال : ( ( اجل ؛ ولكن فيها خيط احمر ، فخشيت أن انظر ، إليه فيفتنني ) ) - ؟ فأقر به أبو قرة ، وقال نعم .
وهذا غريب .
ورخص فيه آخرون . روي عن الحسن ، وقد سبق .
ونص عيه أحمد في رواية أخرى عنه في كساء أسود عليه علم أحمر ، قال : لا بأس به .
ويستدل لهذا . بحديث لبس النبي ( حلة حمراء وبردا أحمر ؛ فإن المراد بالحلة البرد المخطط بحمرة ، كما قاله سفيان الثوري وغيره .(2/224)
"""""" صفحة رقم 225 """"""
- باب الصلاة في المنبر والسطوح والخشب
ولم ير الحسن بأسا أن يصلي على الجمد والقناطر ، وأن جرى تحتها بول ، أو فوقها أو أمامها ، إذا كان بينهما سترة .
وصلى أبو هريرة على ظهر المسجد بصلاة الأمام .
وصلى ابن عمر على الثلج .
مقصود البخاري بهذا الباب : أنه تجوز الصلاة على ما علا على وجه الأرض ، سواء كان موضوعا عليها وضعا ، كمنبر وسرير من خشب أو غيره ، أو كان مبنيا عليها . كسطح المسجد وغرفة مبنية عليه أو على غيره ، وكذلك ما علا على وجه الأرض مما يذوب ، كالثلج والجليد .
فهذه ثلاثة مسائل :
الأولى :
الصلاة على ما وضع على الأرض مما يتأبد فيها ، أو ينقل عنها كمنبر وسرير ونحوه ، فيجوز ذلك عند أكثر العلماء .
قال أبو طالب : سألت أحمد عن الصلاة على السرير الفريضة والتطوع ؟ قال : نعم ، إذا كان يمكنه مثل السطح .
وقال حرب : سألت إسحاق عن الصلاة على السرير من الخشب ؟ قال : لا بأس به .
وروى حرب بإسناده ، عن الأوزاعي ، أنه لم ير بأسا بالصلاة على الأسرة وأشباهها .
وليس في هذا اختلاف بين العلماء ، إلا خلاف شاذ قديم .(2/225)
"""""" صفحة رقم 226 """"""
روى أبو نعيم الفضل بن دكين : ثنا أبو بكر بن عياش ، عن إسماعيل بن سميع ، عن علي بن كثير ، قال : رأى عمار رجلا يصلي على رابية ، فمده من خلفه ، فقال : هاهنا صل في القرار .
ولعل هذا المصلي كان إماما لقوم يصلون تحته ، وسيأتي الكلام على ذلك - إن شاء الله تعالى .
المسألة الثانية :
الصلاة فيما بني على وجه الأرض كغرفة في المسجد ، أو فوق سطح
المسجد ، وكله جائز لا كراهة فيه بغير خلاف ، إلا في مواضع يسيرة اختلف فيها ؛ وقد أشار البخاري إلى بعضها : فمنها : صلاة المأموم فوق سطح المسجد بصلاة الإمام في أسفل المسجد ، وقد حكى عن أبي هريرة أنه فعله .
وحكى ابن المنذر فعل ذلك عن أبي هريرة وسالم بن عبد الله . قال : وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي ، وحكي عن مالك : أنه أن صلى الجمعة على سطح المسجد أعادها ظهرا .
ومذهب مالك : أن الجمعة لا تصلى فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام . وفي سائر الصلوات عنه روايتان : الجواز ، والكراهة ، وهي آخر الروايتين عنه .
وممن يرى جواز ذلك : الثوري وأحمد وإسحاق .
وروي سفيان ، عن يونس بن عبيد ، عن عبد ربه ، قال : رأيت أنس بن مالك صلى يوم الجمعة في غرفة بالبصرة بصلاة الإمام .
واحتج أحمد بهذا .(2/226)
"""""" صفحة رقم 227 """"""
وروى ابن أبي ذئب ، عن صالح مولى التوأمة ، قال : رأيت أبا هريرة يصلي على سطح المسجد بصلاة الإمام .
واشترط الإمام أحمد أن يكون ذلك بقرب الإمام ، أو يسمع قراءته - : نقله عنه حنبل ، ولم يشترط غير ذلك .
واشترط أكثر أصحابنا - كالخرقي وأبي بكر عبد العزيز وابن أبي موسى والقاضي - : إيصال الصفوف دون قرب الإمام .
وقد أشار إليه أحمد في رواية أبي طالب ، في الرجل يصلي فوق السطح بصلاة الإمام : أن كان بينهما طريق أو نهر فلا . قيل له : فأنس صلى يوم الجمعة في سطح ؟ فقال : يوم جمعة لا يكون طريق الناس .
يشير إلى أن يوم الجمعة تمتلئ الطرقات بالمصلين ، فتتصل الصفوف .
قال أبو طالب : فإن الناس يصلون خلفي في رمضان فوق سطح بيتهم ؟ فقال أحمد ذاك تطوع .
ففرق أحمد بين الفريضة والنافلة في إيصال الصفوف .
ونقل حرب ، عن أحمد خلاف ذلك ، في أمرآة تصلي فوق بيت ، وبينها وبين الإمام طريق ، فقال : أرجو أن لا يكون به بأس . وذكر أن أنس ابن مالك كان يفعل ذلك .
ونقل صالح بن أحمد ، عن أبيه ، أن ذلك يجوز يوم الجمعة ، إذا ضاق المكان ، كما فعل أنس .
وظاهر هذه الرواية : أنه لا يجوز لغير ضرورة .
والمذهب المنشور عنه : جوازه مطلقا ، كما تقدم .
وذكر أبو بكر الرازي : أن المشهور عند أصحابهم - يعني : أصحاب أبي حنيفة - أنه يكره ارتفاع المأموم على الإمام ، والإمام على المأموم ، خلافا(2/227)
"""""" صفحة رقم 228 """"""
لما قاله الطحاوي من التفريق بينهما .
ومنها : إذا بني على قنطرة مسجد أو غيره ، فإنه تجوز الصلاة إليه ، حكاه عن الحسن ، وخالفه غيره في ذلك .
روى حرب بإسناده ، عن همام : سئل قتادة عن المسجد يكون على القنطرة ؟ فكرهه . قال همام : فذكرت ذلك لمطر ، فقال : كان الحسن لا يرى به بأسا .
قال حرب : وقلت لأحمد : المسجد يبنى على القنطرة ؟ فكرهه ، وذكر : أراه عن ابن مسعود كراهته .
ونقل المروذي عن أحمد ، قال : كره ابن مسعود أن يصلى في المسجد الذي بنى على القنطرة .
قال : وقلت لأبي عبد الله - يعني : أحمد - : ترى أن أصلي في المسجد بني على ساباط ؟ قال : لا ؛ هذا طريق المسلمين .
وأصل هذه المسألة : أن طريق المسلمين لا يبنى فيه مسجد ولا غيره عند الإمام أحمد . وهواء الطريق حكمه عنده حكم أسفله ، فلا يجوز عنده إحداث ساباط على الطريق ، ولا البناء عليه . والنهر الذي تجري فيه السفن حكمه عنده كحكم الطريق ، لا يجوز البناء عليه .
ورخص آخرون في بناء المساجد في الطريق الواسع ، إذا لم يضر بالمارة .
ومنهم من اشترط لذلك إذن الإمام ، وحكي رواية عن أحمد - أيضا .
قال الشالنجي : سألت أحمد : هل يبنى على خندق مدينة المسلمين مسجد للمسلمين عامة ؟ قال : لا بأس بذلك ، إذا لم يضيق الطريق .
قال : وقال أبو أيوب - يعني : سليمان بن داود الهاشمي - : لا بأس بذلك ، إلا أن يكون في الثغر مخافة العدو . وبه قال أبو خيثمة .(2/228)
"""""" صفحة رقم 229 """"""
والبخاري يميل إلى الجواز ، وقد ذكره في ( ( أبواب : المساجد ) ) ، وفي ( ( البيوع ) ) ، واستدل بحديث الهجرة ، وأن أبا بكر ابتنى بفناء بيته بمكة مسجدا يقرأ فيه القران . وسيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى .
وأما ما حكاه أحمد ، عن ابن مسعود ، فروى وكيع وحرب بإسنادهما ، عن ابن سيرين ، أنه رأى مسجدا فوق قنطرة تحتها قذر ، فقال : كان ابن مسعود يكره الصلاة في مثل هذا .
وهذه الكراهة : يحتمل أن تكون لكون القنطرة طريقا للناس ، فلا يبنى عليها ، كما قاله الإمام أحمد ، ويحتمل أن تكون لكون القذر تحت هذا المسجد ؛ فإن في جواز الصلاة في علو الأماكن المنهي عن الصلاة فيها كالحش ونحوه لأصحابنا وجهين .
ولو صلى على سرير قوائمه على نجاسة صحت صلاته ، وأن تحرك بحركته ، عند أصحابنا وأصحاب الشافعي .
وحكي عن الحنفية ، أنه أن تحرك بحركته لم تصح ، وإلا صحت .
وقد حكى البخاري عن الحسن ، أنه يصلي على القناطر وأن جرى تحتها بول ، أو فوقها أو أمامها ، إذا كان بينهما سترة .
فأما أن كان البول يجري تحتها فقد ذكرنا حكمه آنفا ، واما أن كان أمامها أو فوقها ، وبينهما سترة فقد رخص فيه الحسن ، كما حكاه عنه .
وعن أحمد في الصلاة إلى الحش من غير حائل روايتان : إحداهما : تصح مع الكراهة . والثانية : لا تصح ، وهي اختيار ابن حامد وغيره .
ولا يكفي حائط المسجد ، ولا يكون حائلا - : نص عليه أحمد .
ومن الأصحاب من تأول قوله على أن النجاسة كانت تصل إلى ما تحت مقام المصلى ، فإن لم يكن كذلك كفى حائط المسجد .(2/229)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
ونقل حرب عن إسحاق ، أنه كره الصلاة في مسجد في قبلته كنيف ، إلا أن يكون للكنيف حائط من قصب أو خشب غير حائط المسجد ، وأن صلى فيه أعاد وأن كان للكنيف سترة من لبود ، فلا يصلي في المسجد من ورائه ، وأن كان الكنيف عن يمين القبلة أو يسارها فلا بأس .
ونقل أبو طالب ، عن أحمد : إذا كان الكنيف أسفل من المسجد بذراع ونصف فلا بأس .
ورخصت طائفة في الصلاة إلى الحش إذا كان بينهما سترة .
وقال الأوزاعي ، في رجل يصلي وبين يديه حش ، ودونه جدار من قصب ، وهو يصلي نحوه : لا أعلم به بأسا .
وقال الليث بن سعد : كتب إلي عبد الله بن نافع مولى ابن عمر : أما ما ذكرت من مصلى قبلته إلى مرحاض ، فإنما جعلت السترة لتستر من المرحاض وغيره ، وقد حدثني نافع ، أن دار ابن عمر التي هي وراء جدار قبلة النبي ( كانت مربدا لأزواج النبي ( يذهبن فيه ، ثم ابتاعته حفصه زوج النبي ( منهن ، فاتخذته دارا .
ولكن ؛ عبد الله بن نافع منكر الحديث : قَالَ البخاري وغيره .
والعجب أن البخاري اعتمد على ما ذكره في رسالته إلى الليث في إنكار النهي عن الصَّلاة في أعطان الإبل ، واستدل بما استدل به ، ولا دلالة فيه ، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .
وعند الشافعي وأصحابه : تكره الصلاة على مدفن النجاسة ، وتصح .
ومن أصحابه من كره الصلاة إلى النجاسة أيضا .
وحكي عن ابن حبيب المالكي ، أن من تعمد الصلاة إلى نجاسة بطلت صلاته ، إلا أن تكون بعيدة جدا .(2/230)
"""""" صفحة رقم 231 """"""
المسألة الثالثة :
إذا كان المستعلي على وجه الأرض مما لا يبقى على حاله كالثلج والجليد ، فقد حكى عن الحسن جواز الصلاة على الجليد .
ومعناه : إذا جمد النهر جازت الصلاة فوقه .
وقد صرح بجوازه أصحابنا وغيرهم من الفقهاء ؛ فإنه يصير قرارا متمكنا
كالأرض ، وليس بطريق مسلوك في العادة حتى تلحق الصلاة عليه بقارعة الطريق في الكراهة .
وحكى البخاري عن ابن عمر ، أنه صلى على الثلج .
ونص أحمد على جواز الصلاة عليه والسجود عليه .
ونقل عنه حرب ، قال : يبسط عليه ثوباً ويصلي . قلت : فإن لم يكن معه إلا الثوب الذي على جسده ؟ قال : أن أمكنه السجود عليه سجد ، وإلا أومأ . قال وإذا كان الثلج باردا فإنه عذر ، وسهل فيه .
قَالَ : وسمعت إسحاق - يعني : ابن راهويه - يقول : إذا صليت في الثلج أو الرمضاء أو البرد أو الطين فآذاك فاسجد على ثوبك ، وإذا اشتد عليك وضع اليدين على الأرض فضعهما على ثوبك ، أو أدخلهما كميك ، ثم اسجد كذلك .
قال : وسمعته - مرة أخرى - يقول : أن كنت في ردغة أو ماء أو الثلج ، لا تستطيع أن تسجد ، فاومئ إيماء ، كذلك فعل أنس بن مالك وجابر بن زيد وغيرهما . انتهى .
وأنس إنما صلى على راحلته في الطين ، لا على الأرض .
وحاصل الأمر : أنه يلزمه السجود على الثلج ما لم يكن عليه فيه ضرر ، فإن كان عليه ضرر لم يلزمه ، وأجزأه أن يومئ .
ولأصحابنا وجه آخر : أنه يلزمه السجود عليه بكل حال ، ولا يجزئه الإيماء .(2/231)
"""""" صفحة رقم 232 """"""
والثلج نوعان : تارة يكون متجلدا صلبا ، فهذا حكمه حكم الجليد كما تقدم ، وتارة يكون رخوا لا تستقر الأعضاء عليه ، فيصير كالقطن والحشيش ونحوهما .
ومن سجد على ذلك لم يجزئه إلا من عذر ، صرح بذلك طائفة من أصحابنا ، وجعلوا استقرار الجبهة بالأرض شرطاً ، واستدلوا بأنه لو علق بساطا في الهواء وصلى عليه لم يجزئه ، وكذا لو سجد على الهواء أو الماء .
وللشافعية في ذلك وجهان :
أصحابنا عندهم : أنه يلزمه أن يتحامل على ما يسجد عليه بثقل رأسه وعنقه حتى يستر جبهته ، ولا تصح صلاة بدون ذلك .
والثاني : لا يجب ذلك .
ولهم - أيضا - في الصلاة على الأرجوحة ، وعلى سرير تحمله الرجال وجهان ، أصحهما : الصحة .
وروى عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن موسى بن عقبة ، عن صالح مولى التوأمة ، قال : سمعت ابن عباس يقول : سأل رجل النبي ( عن شيء من أمر الصلاة ، فقال له رسول الله ( : ( ( إذا سجدت فأمكن جبهتك من الأرض ، حتى تجد حجم الأرض ) ) .
خرجه الإمام أحمد .
وفي إسناده لين .
وروى حرب الكرماني : ثنا إسحاق - هو : ابن راهويه - : ثنا سويد بن
عبد العزيز ، عن أبي جبيرة زيد بن جبيرة ، عن داود بن حصين ، عن نافع ، عن ابن
عمر ، قال : أصاب الناس الثلج على عهد عمر بن الخطاب ، فبسط(2/232)
"""""" صفحة رقم 233 """"""
بساطا ثم صلى
عليه ، وقال : أن الثلج لا يتيمم به ، ولا يصلي عليه .
واحتج إسحاق بهذا الحديث .
وإسناده ضعيف ؛ فإن زيد بن جبيرة وسويد بن عبد العزيز ضعيفان .
وقد روى أبو عبيد في ( ( كتاب الطهور ) ) بإسناد آخر ، وفيه ضعف - أيضا - : أن عمر أصابه الثلج بالجابية لما قدم الشام ، فقال : أن الثلج لا يتيمم به .
ولم يذكر الصلاة .
واختلف الرواة عن أحمد في الغريق في الماء : هل يومي بالسجود ، أم يلزمه أن يسجد بجبهته على الماء ؟ على روايتين عنه .
وقال القاضي أبو يعلى في بعض كتبه : لم يوجب أحمد السجود على الماء ؛ لأنه ليس بقرار ، وإنما أراد أنه يجب عليه أن يومي في الماء إلى قرب الأرض ، وإن غاص وجهه في الماء .
وهذا الذي قاله بعيد جدا .
وحمل أبو بكر عبد العزيز الروايتين عن أحمد على حاليين : فإن أمكنه السجود على متن الماء سجد ، وألا أومأ .
وقال أبو بكر الخلال : قول أحمد : يومئ ، يريد بالركوع . وقوله : يسجد على متن الماء ، في السجود .
فلم يثبت عن أحمد في الإيماء بالسجود خلافا .
ولو كان في وحل وطين لم يلزمه السجود عليه ، وإنما عليه أن يومئ ، ولم يحك أكثر الأصحاب فيه خلافاً ، بل قال ابن أبي موسى : لا يلزمه ذلك - قولا واحدا .
ومنهم من خرج فيه وجها آخر : بوجوب السجود على الطين إذا قلنا : لا تجوز له الصلاة في الطين على راحلته ، بل تلزمه الصلاة بالأرض ، وهو رواية(2/233)
"""""" صفحة رقم 234 """"""
عن أحمد واختارها ابن أبي موسى .
وفرق ابن أبي موسى بين المسألتين ، ووجه الفرق : أن المانع من الصلاة على الراحلة امتناع القيام والاستقرار الأرض دون امتناع السجود بالأرض ، ولأن في السجود على الطين ضررا ؛ فإنه ربما دخل في عينيه وأنفه وفمه ، وربما غاص فيه رأسه وشق عليه رفعه ، فلا يلزمه ، بخلاف السجود على متن الماء .
وممن قال : يومئ بالسجود ولا يسجد على الطين : أبو الشعثاء وعمارة بن
غزية .
وفيه حديث مرفوع :
خرجه الطبراني وابن عدي من طريق محمد بن فضاء ، عن أبيه ، عن علقمة بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا لم يقدر أحدكم على الأرض ، إذا كنتم في طين أو قصب أومئوا إيماءا ) ) .
وفي رواية لابن عدي : ( ( أو في ماء أو في ثلج ) ) .
ومحمد بن فضاء ، ضعيف ؛ ضعفه يحيى والنسائي وغيرهما .
ومذهب مالك : أنه يصلي في الطين بالأرض ، ولا يصلي على الراحلة .
واختلفت الرواية عنه في السجود في الطين : فروي عنه : أنه يسجد عليه . وروي عنه أنه يومئ .
وحمل ذلك طائفة من أصحابه على اختلاف حالين : فالحال التي يسجد عليه : إذا كان خفيفا ، كما سجد النبي ( في اعتكافه في الماء والطين ، وانصرف وعلى جبهته أثر الماء والطين . والحال التي يومئ : إذا كان كثيرا ، يغرق فيه المصلي .(2/234)
"""""" صفحة رقم 235 """"""
ونص أحمد على أنه إذا خشي أن تفسد ثيابه بالسجود على الطين أومأ ، ولم يسجد عليه .
وكذا قال أبو الشعثاء جابر بن زيد .
خرج البخاري في هذا الباب حديثين :
الحديث الأول :
قال :
377 - ثنا علي بن عبد الله : ثنا سفيان : ثنا أبو حازم : سألوا سهل بن سعد : من أي شيء المنبر ؟ فقال : ما بقي في الناس أعلم به مني ، هو من أثل الغابة ، عمله فلان مولى فلانة لرسول الله ( ، وقام عليه رسول الله ( حين عمل ووضع ، فاستقبل القبلة ، كبر وقام الناس خلفه فقرأ ، وركع وركع الناس خلفه ، ثم رفع رأسه ، ثم رجع القهقري فسجد على الأرض ، ثم عاد إلى المنبر ، ثم قرأ ، ثم ركع ، ثم رفع رأسه ، ثم رجع القهقري حتى سجد بالأرض ، فهذا شانه .
قال أبو عبد الله : قال علي بن عبد الله المديني : سألني أحمد بن حنبل عن هذا الحديث ، قال : فإنما أردت أن النبي ( كان أعلى من الناس ، فلا بأس بأن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث . قال : فقلت : أن سفيان بن عيينة كان يسأل عن هذا
كثيرا ، فلم تسمعه منه ؟ قال : لا .
هذا الحديث بتمامه مشهور عن ابن عيينة بهذا الإسناد ، رواه عنه الشافعي وغيره ، ولم يسمع منه الإمام أحمد إلا : ( ( كان من أثل الغابة ) ) - يعني : منبر النبي ( - ، وقد خرج هذا القدر منه عن سفيان في ( ( مسنده ) ) . وكان سفيان يختصر الحديث أحيانا .(2/235)
"""""" صفحة رقم 236 """"""
وإنما خرج أحمد بتمامه في ( ( مسنده ) ) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم ، عن
أبيه ، عن سهل بن سعد ، وقال في آخر الحديث : فلما انصرف قال : ( ( يا أيها الناس ، إنما فعلت هذا لتأتموا بي ، وتعلموا صلاتي ) ) .
وقد خرجه البخاري في موضع آخر من ( ( كتابه ) ) ، ومسلم - أيضا - من حديث يعقوب بن عبد الرحمن ، عن أبي حازم ، بهذه الزيادة .
ومقصود البخاري بتخريج هذا الحديث هنا : الاستدلال على جواز الصلاة على ما يوضع على الأرض من منبر وما أشبهه كالسرير وغيره .
وما ذكره البخاري عن علي بن المديني ، أن أحمد بن حنبل سأله عن هذا
الحديث ، وقال : إنما أردت أن النبي ( كان أعلى من الناس ، فلا بأس بأن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث .
فهذا غريب عن الإمام أحمد ، لا يعرف عنه إلا من هذا الوجه ، وقد اعتمد عليه ابن حزم وغيره ، فنقلوا عن أحمد : الرخصة في علو الإمام على المأموم .
وهذا خلاف مذهبه المعروف عنه ، الذي نقله عنه أصحابه في كتبهم ، وذكره الخرقي ومن بعده ، ونقله حنبل ويعقوب بن بختان ، عن أحمد ، أنه قال : لا يكون الإمام موضعه أرفع من موضع من خلفه ، ولكن لا بأس أن يكون من خلفه ارفع .
وممن كره أن يكون موقف الإمام أعلى من المأموم : النخعي والثوري ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي .
وقد روي ذلك عن ابن مسعود من غير وجه أنه كرهه ، ونهى عنه .
وخرج أبو داود من رواية الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام ، أن حذيفة(2/236)
"""""" صفحة رقم 237 """"""
أم الناس بالمدائن على دكان ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجذبه ، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك - أو ينهى عن ذلك - ؟ قال : قد ذكرت حين مددتني .
ومن رواية ابن جريج : أخبرني أبو خالد ، عن عدي بن ثابت ، قال : حدثني رجل ، أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن ، فأقيمت الصلاة ، فتقدم عمار بن ياسر ، وقام على دكان يصلي ، والناس أسفل ، فتقدم حذيفة ، فأخذ على يديه ، فأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة ، فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله ( يقول : ( ( إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مقام ارفع من مقامهم ) ) - أو نحو هذا ؟ قال عمار : لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي .
ورخص طائفة في ارتفاع الإمام على المأمومين .
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أم الناس فوق كنيسة وهم تحتها .
وروي نحوه عن سحنون .
وأما مذهب الشافعي ، فإنه قال : أختار للإمام الذي يعلم من خلفه أن يصلي على الشيء المرتفع ، ليراه من وراءه ، فيقتدوا بركوعه وسجوده . قال : وإذا كان الإمام علم الناس مرة أحببت أن يصلي مستويا مع المأمومين ؛ لأنه لم يرد عن النبي ( أنه صلى على المنبر إلا مرة .(2/237)
"""""" صفحة رقم 238 """"""
وكذا حكى ابن المنذر عن الشافعي جوازه إذا أراد تعليمهم ، واختاره ابن المنذر ، وقال : إذا لم يرد التعليم فهو مكروه ؛ لحديث ابن مسعود .
ومن أصحابنا من حكى رواية عن أحمد كذلك .
والذين كرهوا ذلك مطلقا اختلفوا في الجواب عن حديث سهل بن سعد في صلاة النبي ( على المنبر :
فمنهم من قال : قد يفعل النبي ( ما هو مكروه لغيره لبيان جوازه ، ولا يكون ذلك مكروها في حقه في تلك الحال ، ويكره لغيره بكل حال .
وهذا ذكره طائفة من أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وغيره ، ووقع في كلام الخطابي ما يشبهه .
ومنهم من قال : المكروه أن يقوم الإمام على مكان مرتفع على المأمومين ارتفاعا كذراع ونحوه ، فإنه يحوج المأمومين في صلاتهم إلى رفع أبصارهم إليه للاقتداء به وهو مكروه ، فأما الارتفاع اليسير فغير مكروه ، ويحتمل أن النبي ( كان وقوفه على درجة المنبر الأولى ، فلا يكون ذلك ارتفاعا كثيرا .
وتقدير الكثير بالذراع قول القاضي أبي يعلى من أصحابنا .
وقياس المذهب : أنه يرجع فيه إلى العرف .
وذكر الطحاوي - من الحنفية - أنه مقدر بما زاد على قامة الإنسان .
واستغرب ذلك أبو بكر الرازي .
واختلف القائلون بكراهة ذلك : هل تبطل به الصلاة ، أم لا ؟
فقال أكثرهم : تكره الصلاة ، ولا تبطل .
وقد تقدم أن الصحابة بنوا على الصلاة خلف من أمهم مرتفعا عليهم ، ولم يستأنفوا الصلاة .
وقالت طائفة : تبطل الصلاة بذلك ، وهو قول مالك وابن حامد من(2/238)
"""""" صفحة رقم 239 """"""
أصحابنا ، وحكي عن الأوزاعي نحوه .
واختلف أصحابنا : هل النهي متوجه إلى الإمام ، أن يعلو على من خلفه ، أم النهي متوجه إلى المأموم ، أن يقوم أسفل من إمامه ؟ على وجهين :
أحدهما : أن النهي للإمام .
فإن قلنا : أن هذا النهي يبطل الصلاة ، بطلت صلاة الإمام .
وهل تبطل صلاة من خلفه أم لا ؟ فيه روايتان عن أحمد في صلاة من اقتدى
بإمام ، صلاته فاسدة .
والثاني : أن النهي متوجه إلى المأمومين خاصة .
فعلى هذا ؛ أن كان الإمام في العلو وحده ، وقلنا : هذا النهي يبطل الصلاة ، بطلت صلاة المأمومين وصلاة الإمام ؛ لأنه صار منفردا ، وقد نوى الإمامة ، وهذا مبطل عند أصحابنا .
وأن كان معه في العلو أحد صحت صلاته وصلاة من معه ، وفي صلاة من أسفل منهم الخلاف السابق .
وأعلم ؛ أنه لم يقع في ( ( صحيح البخاري ) ) حكاية قول لأحمد في غير هذه
المسألة ، وهو خلاف مذهبه المعروف في كتب أصحابه ، ولم أعلم أحدا منهم حكى ذلك عن أحمد ، إلا أن القاضي أبا يعلى حكاه في ( ( كتاب الجامع الصغير ) ) له وجها . والله أعلم .
وفي قول سهل بن سعد : ( ( لم يبق أعلم بالمنبر مني ) ) : دليل على أن من اختص بعلم ، فإنه لا يكره له أن ينبه على اختصاصه به ؛ ليؤخذ عنه ، وتتوفر الهمم على حفظه وضبطه عنه ، وقد سبق في ( ( كتاب : العلم ) ) شيء من ذلك .
وبقية فوائد الحديث تذكر في مواضع أخر - إن شاء الله تعالى .(2/239)
"""""" صفحة رقم 240 """"""
الحديث الثاني :
قال :
378 - ثنا محمد بن عبد الرحيم : ثنا يزيد بن هارون : أبنا حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله ( سقط عن فرس فجحشت ساقه - أو كتفه - وآلى من نسائه شهرا ، فجلس في مشربة له درجها من جذوع النخل ، فأتاه أصحابه يعودونه ، فصلى بهم جالسا وهم قيام ، فلما سلم قال : ( ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر
فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وأن صلى قائما فصلوا قياما ) ) . ونزل لتسع وعشرين ، فقالوا : يا رسول الله ، انك آليت شهرا ؟ فقال : ( ( أن الشهر تسع وعشرون ) ) .
قال الخطابي : ( ( الجحش ) ) : الخدش ، أو أكبر منه . و ( ( المشربة ) ) : شبه الغرفة المرتفعة عن وجه الأرض .
وضبط غيره : ( ( راءها ) ) بالفتح والضم .
ومقصود البخاري بتخريج الحديث هاهنا : أنه تجوز الصلاة في الغرف والعلالي .
وقد كان النبي ( اعتزل في هذه المشربة شهرا لهجره لنسائه ، ولم يدخل إلى نسائه حتى فرغ الشهر ، ولم ينقل : هل كان برئ مما أصابه قبل الشهر ،(2/240)
"""""" صفحة رقم 241 """"""
أم لا ؟ والله أعلم بذلك .
وفي الحديث : دليل على أن المريض الذي يشق عليه حضور المسجد له الصلاة في بيته ، مع قرب بيته من المسجد .
وفيه : أن المريض يصلي بمن دخل عليه للعيادة جماعة ؛ لتحصيل فضل الجماعة .
وقد يستدل بذلك على أن شهود المسجد للجماعة غير واجب على الأعيان ، كما هو رواية عن أحمد ؛ فإنه ( لم يأمرهم بإعادة صلاتهم في المسجد ، بل اكتفى منهم بصلاتهم معه في مشربته .
وأما صلاة القائم خلف الجالس ، فقد بوب البخاري عليها في موضع آخر ، ويأتي الكلام عليها فيه إن شاء الله تعالى - ، وكذلك بقية فوائد الحديث .(2/241)
"""""" صفحة رقم 242 """"""
- باب إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد
379 - حدثنا مسدد ، عن خالد : ثنا سليمان الشيباني ، عن عبد الله بن شداد ، عن ميمونة ، قالت : كان رسول الله ( يصلي وأنا حذاءه وأنا حائض ، وربما أصابني ثوبه إذا سجد . قالت : وكان يصلي على الخمرة .
قد سبق هذا الحديث في ( ( أبواب الحيض ) ) ، والاستدلال به على طهارة ثياب الحائض ، وأنه تجوز الصلاة فيها مل لم ير فيها نجاسة .
ويستدل به - أيضا - على أن المصلي إذا حاذته امرأة وكانت إلى جانبه ، فإن صلاته لا تفسد بذلك ، إذا كانت المرآة في غير صلاة .
وقد نص على ذلك سفيان الثوري وأحمد وإسحاق ، ولا نعلم فيه خلافا .
وإنما اختلفوا فيما إذا كانا جميعا في صلاة واحدة ، وليس بينهما سترة :
فقال مالك والشافعي وأبو ثور وأكثر أصحابنا : لا تبطل بذلك صلاة واحد منهما مع الكراهة للرجل في مصافتها ، وفي التأخير عنها .
وقالت طائفة : تبطل صلاة من يليها ومن خلفها بحيالها ، وهو قول أبي حنيفة والثوري ، وطائفة من أصحابنا ، منهم : أبو بكر عبد العزيز ، وأبو حفص البرمكي ، وزاد : أنه تبطل صلاتها - أيضا .
ومن أصحابنا من خص البطلان بمن يليها دون من خلفها ، ولا وجه له ، ونص أحمد يدل على خلافه .
قال حرب : قلت لأحمد : الرجل يصلي وامرأة بحياله قائمة تصلي ، أو بين
يديه ؟ فقال : أن كانت بحياله فهو أسهل من أن تكون بين يديه . قلت :(2/242)
"""""" صفحة رقم 243 """"""
أيعيد الصلاة ؟ قال : ما أدري . وقال : أن كانت المرآة في غير الصلاة فإنه لا بأس ؛ قد كانت عائشة بين يدي النبي ( .
وقال إسحاق : تفسد صلاة المرآة دون الرجل ؛ لأنها هي المنهية عن مصافة الرجل وعن أن تتقدم بين يديه ، فتختص صلاتها بالبطلان ، لعصيانها بالمخالفة دونه .
وهذا ينبغي تقييده بما إذا كان هو يصلي قبل صلاتها ، ثم دخلت في الصلاة
بعده .
وقد قال محمد بن نصر : ثنا حسان بن إبراهيم ، في رجل صلى وركز بين يديه نشابة - أو لم يركز - ، ثم جاءت امرأة فصلت أمامه والنشابة بينهما : هل تفسد
صلاته ؟ : فقالَ : قَالَ سفيان : أن لم يركز فسدت صلاته . قلت : أرأيت أن ركز بعدما رآها تصلي أمامه : هل تفسد صلاته ؟ قالَ : لا .
وقال الأوزاعي في امرأة تصلي بصلاة زوجها : تقوم خلفه ؛ فإن ضاق مكانهما قامت عن يمينه ، وجعلا بينهما سترة ، فإن كانا في بيت فصلت امرأة في ناحية وصلى زوجها في ناحية بينهما عرض البيت وطوله فلا يفسد ذلك عليه صلاته .
وقال سفيان : أن كانت المرآة تصلي غير صلاة الرجل تفسد عليه صلاته .
وروى أبو نعيم الفضل بن دكين : ثنا هشام بن سعد : حدثني صالح بن جبير الأردني ، عن رجل ، قال : جئت عمر بن الخطاب ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، لي بيت فتكلف امرأتي فلا يسعنا إلا أن تقوم حذائي ؟ قال : أجعل بينك وبينها ثوبا ، ثم صل ما شئت .
أبنا إسرائيل : حدثنا ثوير ، قال : سألت مجاهدا ، قلت : اصلي وامرأتي(2/243)
"""""" صفحة رقم 244 """"""
إلى جنبي ؟ قالَ : لا بأس .
وقد ضعف الشافعي المروي عن عمر في هذا ، وقال : لا يعرف .
وخرجه البيهقي من طريق برد بن سنان ، عن عبادة بن نسي ، عن غضيف بن الحارث ، قال : سالت عمر بن الخطاب ، قلت : إنا نبدو فنكون في الأبنية ، فإن خرجت قررت ، وأن خرجت امرأتي قرت ؟ فقال عمر : أقطع بينك وبينها ثوبا ، ثم ليصل كل واحد منكما .
وخرجه الإسماعيلي في ( ( مسند عمر ) ) من رواية صفوان بن عمرو : ثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن الحارث بن معاوية الكندي ، أنه سال عمر ، قال : ربما كنت أنا والمرأة في ضيق ، فتحضر الصلاة ، فإن صليت أنا وهي كانت تجاهي ، وأن صلت خلفي خرجت من البناء ؟ قال : استر بينك وبينها بثوب ، ثم تصلي وراءك أن شئت .(2/244)
"""""" صفحة رقم 245 """"""
- باب الصلاة على الحصير
وصلى جابر بن عبد الله وأبو سعيد في السفينة قياما .
وقال الحسن : تصلي قائما ، ما لم تشق على صاحبك ، تدور معها ، وإلا
فقاعدا .
إنما افتتح هذا الباب بذكر الصلاة في السفينة ؛ لأن المصلي في السفينة لا يمكنه الصلاة على التراب ، ولا على وجه الأرض ، وإنما يصلي على خشب السفينة ، أو ما فوقه من البسط أو الحصير أو الأمتعة والأحمال التي فيها .
ولهذا المعنى - والله أعلم - روي عن مسروق ومحمد بن سيرين ، أنهما كانا يحملان معهما في السفينة لبنة أو آجرة يسجدان عليها ، والظاهر : أنهما فعلا ذلك لكراهتهما السجود على غير أجزاء الأرض ، أو أن يكون اختارا السجود على اللبنة على الإيماء ، كما اختار قوم من العلماء للمريض أن يسجد على وسادة ونحوها ولا يومئ .
وروى حماد بن زيد ، عن أنس بن سيرين ، أن أنس بن مالك صلى بهم في سفينة على بساط .
وقال حرب : قلت لأحمد في الصلاة في السفينة : يسجدون على الأحمال والثياب ونحو ذلك ؟ فسهل فيه .
قال : وقال إسحاق : يصلي فيها قائما على البسط .
وروى ابن أبي شيبة : ثنا مروان بن معاوية ، عن حميد ، عن عبد الله(2/245)
"""""" صفحة رقم 246 """"""
ابن أبي عتبة مولى أنس ، قال : سافرت مع أبي سعيد الخدري وأبي الدرداء وجابر بن عبد الله - قال حميد : وناس قد سماهم - ، فكان إمامنا يصلي بنا في السفينة قائما ، ونصلي خلفه قياما و ولو شئنا لأرفينا وخرجنا .
ورواه الأثرم عن ابن أبي شيبة ، وذكر أن أحمد احتج به .
وقد رواه عن حميد : معاذ بن معاذ وسفيان الثوري ، وقال : أراه ذكر منهم : أبا هريرة .
وروى الأثرم : ثنا مسلم بن إبراهيم : ثنا عبد الله بن مروان ، قال : سألت
الحسن ، قلت : أسافر ، فكيف الصلاة في السفينة ؟ قال : قائما ، ما لم يشق على أصحابك . قلت : أنها عواقيل ؟ قال : أدرها كما تدور ، فإذا استقبلت القبلة فصله .
وأكثر العلماء على أن المصلي في السفينة يلزمه أن يصلي قائما إذا قدر على ذلك من غير ضرر ، وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد .
وقالت طائفة : لا يلزمه القيام ، وله أن يصلي قاعدا بكل حال إذا كانت
سائرة ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .
وروي عن أنس ، أنه صلى بهم في السفينة قاعدا .
وعن مجاهد ، قال : كنا مع جنادة بن أبي أمية في البحر ، فكنا نصلي قعودا .
وهذه قضايا أعيان ، يحتمل فعلوا ذلك للخوف على أنفسهم ، أو لضرر يحصل لهم بالقيام .
وقد روي في هذا حديث مرفوع عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عمر ، أن النبي ( أمر جعفر بن أبي طالب وأصحابه أن يصلوا في السفينة قياما ، إلا أن يخافوا الغرق .(2/246)
"""""" صفحة رقم 247 """"""
وقد رواه عن جعفر بن برقان : عبد الله بن داود الخريبي ، ولم يسمعه منه ، بل قال : ثناه رجل من أهل الكوفة من ثقيف ، عن جعفر بن برقان .
واختلف عليه بعد ذلك في إسناده .
فقيل : عنه ، عن ابن عمر ، عن النبي ( .
وقيل : عنه ، عن ابن عباس ، عن النبي ( .
وقيل : عنه ، عن ابن عمر ، عن جعفر بن أبي طالب .
ورواه حسين بن علوان ، عن جعفر بن برقان ، عن ميمون ، عن ابن عباس ، عن النبي ( .
وحسين ، متروك الحديث .
ورواه - أيضا - أبو نعيم الفضل بن دكين : ثنا جعفر بن برقان ، عن ميمون ابن مهران ، عن ابن عمر ، عن النبي ( .
خرجه من طريقه الدارقطني والبيهقي .
وهذا منكر ، وفي صحته عن أبي نعيم نظر .
وقد خرجه الدارقطني من رواية بشر بن فافا ، عنه .
وهذا رجل لا يعرف حاله بالكلية ، وقد وصفه بالجهالة جماعة ، منهم عبد الحق الأشبيلي وابن الجوزي .
وخرجه الحاكم والبيهقي من طريق ابن أبي الحنين ، عن أبي نعيم .(2/247)
"""""" صفحة رقم 248 """"""
وزعم الحاكم أنه على شرط الشيخين ، وما أبعده من ذلك ، ولو كان مقاربا لشرط البخاري فضلا عن أن يكون على شرطه لذكره تعليقا ، ولم يقتصر على ما روى عن الصحابة خاصة .
وقال البيهقي : هو حسن . والله أعلم .
وقول الحسن : يدورون كلما دارت - يعني : أنهم يصلون إلى القبلة ، فكلما انحرفت السفينة عن القبلة داروا معها .
وهذا مع القدرة ، فإذا عجزوا عن ذلك للخوف على أنفسهم فإنه يكفيهم الاستقبال في أول الصلاة ، نص عليه مالك وأحمد وغيرهما من الأئمة . والله أعلم .
ثم قال البخاري - رحمه الله - :
380 - ثنا عبد الله بن يوسف : أبنا مالك ، عن إسحاق بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك ، أن جدته مليكة دعت رسول الله ( لطعام صنعته له ، فأكل منه ، ثم قال : ( ( قوموا فلأصلي لكم ) ) . قال أنس : فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس ، فنضحته بالماء ، فقام رسول الله ( وصففت أنا واليتيم وراءه ، والعجوز من ورائنا ، فصلى لنا رسول الله ( ركعتين ، ثم انصرف .
( ( مليكة ) ) : قال كثير من الناس : هي جدة إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، قالوا : والضمير في قوله : ( ( أن جدته ) ) إليه يعود ، لا إلى أنس .
وقد روى هذا الحديث عبد الرزاق ، عن مالك ، وقال : يعني : جدة إسحاق .
وهذا تفسير من بعض رواة الحديث .(2/248)
"""""" صفحة رقم 249 """"""
وقد ذكر ابن عبد البر وغيره : أنها هي أم سليم أم أنس بن مالك ؛ فإن أبا طلحة تزوجها بعد أبي أنس ، فولدت له عبد الله .
وقيل : بل مليكة أختها أم حرام زوجة عبادة ، وسماها جدته لأنها أخت جدته ، على حد قوله تعالى حاكيا عن بني يعقوب ، أنهم قالوا لأبيهم : ( نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( [ البقرة : 133 ] ، فإن إسماعيل عمه ، والعم صنو الأب .
وظاهر سياق الحديث : يدل على أن مليكة جدة أنس ، وهذا هو الأظهر . والله أعلم .
وروي صريحا من رواية مقدم بن يحيى ، عن عمه القاسم ، عن عبيد الله بن
عمر ، عن إسحاق بن أبي طلحة ، عن أنس ، قال : أرسلت جدتي إلى رسول الله ( - واسمها : مليكة - ، فجاءنا ، فحضرت الصلاة - وذكر الحديث .
خرجه أبو نعيم في ( ( تاريخ أصبهان ) ) .
وقد ذكر ابن سعد : أن مليكة بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار ، هي أم حرام وسليم وأم سليم وأم حرام ، أولاد ملحان .
فتبين بهذا أن مليكة جدة أنس حقيقة ، ولا يمنع من هذا أنه لم يذكرها في أسماء الصحابيات كثير ممن جمع في أسماء الصحابة ؛ لأن هذا الحديث الصحيح يشهد بذلك ، والاعتماد عليه أقوى من الاعتماد على قول مثل ابن(2/249)
"""""" صفحة رقم 250 """"""
إسحاق والواقدي .
ويعضد صحة هذا : أن أحدا ممن يعتمد على قوله لم يسم أم سليم : مليكة ، وقول أنس : ( ( فقمت إلى حصير لنا ) ) يدل على أن هذا البيت كان بيت أم سليم أم
أنس .
وقد رواه ابن عيينة ، عن إسحاق بن عبد الله مختصرا ، وصرح فيه بأن العجوز التي صلت وراءهم هي أم سليم أم أنس ، وهذا يدل على أنها هي التي دعت النبي ( إلى طعامها .
وخرجه النسائي من طريق يحيى بن سعيد ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن أنس ، أن أم سليم سألت رسول الله ( أن يأتيها ويصلي في بيتها فتتخذه مصلى ، فأتاها فعمدت إلى حصير فنضحته بماء ، فصلى عليه وصلوا معه .
وقوله : ( ( قد اسود من طول ما لبس ) ) يدل على أن لبس كل شيء بحسبه ، فلبس الحصير هو بسطه واستعماله في الجلوس عليه .
واستدل بذلك من حرم الجلوس على الحرير وافتراشه ؛ لأن افتراش فرش الحرير وبسطه لباس له ، فيدخل في نصوص تحريم لباس الحرير .
وزعم ابن عبد البر : أن هذا يؤخذ منه أن من حلف لا يلبس ثوبا ، وليس له نية ولا ليمينه سبب ، فإنه يحنث بما يتوطأ ويبسط من الثياب ؛ لأن ذلك يسمى لباسا .
وهذا الذي قاله فيه نظر ؛ فإن اللبس المضاف إلى الثوب إنما يراد به اشتمال البدن أو بعضه به دون الجلوس عليه ، بخلاف اللبس إذا أضيف إلى ما يجلس عليه ويفترش ، أو أطلق ولم يضف إلى شيء ، كما لو حلف لا يلبس شيئا .(2/250)
"""""" صفحة رقم 251 """"""
فجلس على حصير ، أو حلف لا يلبس حصيرا فجلس عليه .
ولو تعلق الحنث بما يسمى لباسا بوجه ما ، لكان ينبغي أن يحنث بمضاجعة زوجته وبدخول الليل عليه ؛ قال تعالى : ( هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنّ ( [ البقرة : 187 ] وقال : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً ( [ النبأ : 10 ] .
وكل ما لابس الإنسان من جوع أو خوف فهو لباس ؛ قَالَ تعالى : ( فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ( [ النحل : 112 ] .
ولا نعلم خلافا أنه لو حلف لا يجلس على بساط ، فجلس على الأرض لم
يحنث ، وقد سماها الله بساطا ، وكذلك لو حلف لا يجلس تحت سقف فجلس تحت السماء ، وقد سمى الله السماء سقفا ، وكذلك لو حلف لا يجلس في ضوء سراج فجلس في ضوء الشمس .
فإن هذه الأسماء غير مستعملة في العرف ، والأيمان إنما تنصرف إلى ما يتعارفه الناس في مخاطباتهم دون ما يصدق عليه الاسم بوجه ما في اللغة على وجه التجوز . والله أعلم .
وإنما قال أصحابنا : لو حلف ليرين امرأته عارية لابسة أنه يبرأ برؤيتها في الليل عارية ؛ لأن جمعه بين عريها ولبسها قرينة تدل على أنه لم يرد لبسها لثيابها ؛ فإن ذلك لا يجتمع مع عريها .
وأما نضح الحصير : فاختلف في معناه :
فقيل : هو تطهير له ، وإزالة لما يتوهم فيه من إصابة النجاسة له مع كثرة استعماله وطول عهده في بيته يتربى فيه أولاد صغار .
وعلى هذا ؛ فقيل : أن النضح هو الغسل ، وقيل : بل هو الرش .
وهذا يستدل به على تطهير ما شك في نجاسته بالنضح ، وقد سبق ذكر ذلك في ( ( كتاب : الوضوء ) ) ، وأن عمر وغيره فعلوه ، وأن من الناس من خالف فيه ،(2/251)
"""""" صفحة رقم 252 """"""
وقال : لا يزيده النضح إلا شراً .
وقيل : بل النضح هو تنظيف له من الوسخ ، وتلين له .
وعلى هذا ؛ فالمراد بالنضح فيه بالرش على ظاهر اللفظ .
وهو الأظهر . والله أعلم .
ويشهد لذلك : ما خرجه مسلم من حديث أبي التياح ، عن أنس ، قال : كان النبي ( أحسن الناس خلقا ، فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا ، قال : فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس ، ثم ينضح ، ثم يؤم رسول الله ( ونقوم خلفه ، فيصلي بنا . قال : وكان بساطهم من جريد النخل .
وخرج - أيضا - من رواية الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، قال : ثنا أبو سعيد الخدري ، أنه دخل على رسول الله ( ، فوجده يصلي على حصير يسجد عليه .
وهذه الصلاة كانت تطوعا ؛ يدل على ذَلكَ : ما خرجه مسلم من حديث
ثابت ، عن أنس ، قَالَ : دخل النَّبيّ ( علينا ، وما هوَ إلا أنا وأمي وأم حرام خالتي ، فقالَ : ( ( قوموا ، فلأصلي بكم ) ) ، في غير وقت الصلاة ، فصلى بنا .
وخرجه أبو داود ، وعنده : فصلى بنا ركعتين تطوعا .
وإنما خرجه البخاري في هذا الباب لأجل صلاة النبي ( على الحصير ، وقد خرجه في موضع آخر من ( ( كتابه ) ) هذا ، ولفظه : فقام عليه رسول الله ( .(2/252)
"""""" صفحة رقم 253 """"""
يعني على الحصير الذي نضح .
وقد تبين برواية أبي التياح ، عن أنس ، أنه كان من جريد النخل ، وقد سمي في بعض الروايات بساطا ؛ لأنه يبسط .
وخرج أبو داود من رواية قتادة ، عن أنس ، أن النبي ( كان يزور أم سليم فتدركه الصلاة احيانا فيصلي على بساط لها ، وهو حصير ننضحه بالماء .
وقد خرج البخاري - أيضا - في موضع آخر من ( ( كتابه ) ) هذا من حديث أنس بن سيرين ، عن أنس ، أن رجلا من الأنصار قال : يا رسول الله ، أني لا أستطيع الصلاة معك - وكان رجلا ضخما - ، فصنع للنبي ( طعاما ، فدعاه إلى منزله فبسط له
حصيرا ، ونضح طرف الحصير ، فصلى عليه ركعتين .
فدلت هذه الأحاديث على جواز الصَّلاة على الحصير .
وفي حديث أبي سعيد الذي خرجه مسلم التصريح بأنه سجد عليه .
وكذلك روى من حديث أنس .
خرجه الإمام أحمد من رواية عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن أنس ، قال : صلى بنا رسول الله ( في بيت أم سليم على الحصير قديم قد تغير من القدم . قال : ونضحه بشيء من الماء ، فسجد عليه .
وأكثر أهل العلم على جواز الصلاة على الحصير والسجود عليه ، وأن ذلك لا يكره إذا كان الحصير من جريد النخل أو نحوه مما ينبت من الأرض .(2/253)
"""""" صفحة رقم 254 """"""
وممن روي عنه أنه صلى على الحصير : ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وجابر ، وأبو ذر .
وقال النخعي : كانوا يصلون على الحصير والبوري .
وقال مجاهد : لا بأس بالصلاة على الأرض وما أنبتت .
ومذهب مالك : لا بأس أن يسجد على الخمرة والحصير وما تنبت الأرض ، ويضع كفيه عليها .
والسجود على الأرض أفضل عنده ، وعند كثير من العلماء .
وكان ابن مسعود لا يصلي على شيء إلا على الأرض .
وروي عن أبي بكر الصديق ، أنه رأى قوما يصلون على بسط ، فقال لهم : أفضوا إلى الأرض .
وفي إسناده نظر .
وروي عن ابن عمر ، أنه كان يصلي على الخمرة ويسجد على الأرض . ونحوه عن علي بن الحسين .
وقال النخعي في السجود على الحصير : الأرض أحب إلي .
وعنه ، أنه قال : لا بأس أن يصلي الحصير ، لكن لا يسجد عليهِ .
ونقل حرب ، عن إسحاق ، قال : مضت السنة من النبي ( أنه صلى على الخمرة والبساط ، وعلى الثوب الحائل بينه وبين الأرض . قال : وأن سجد الرجل على الأرض فهو أحب إلي ، وأن أفضى بجبهته ويديه إلى الأرض فهو أحب إلينا .
وأكثر صلاة النبي ( كانت على الأرض ، يدل على ذلك : أنه لما وكف المسجد وكان على عريش فصلى النبي ( صلاة الصبح ، وانصرف(2/254)
"""""" صفحة رقم 255 """"""
واثر الماء والطين على جبهته وأنفه .
وخرج أبو داود من رواية شريح بن هانئ ، عن عائشة ، قالت : لقد مطرنا مرة بالليل ، فطرحنا للنبي ( نطعا ، فكأني أنظر إلى ثقب فيه ينبع الماء منه ، وما رأيته متقياً الأرض بشيء من ثيابه قط .
وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : قالت : ما رأيت رسول الله ( يتقي الأرض
بشيء ، إلا مرة ؛ فإنه أصابه مطر فجلس على طرف بناء ، فكأني أنظر إلى الماء ينبع من ثقب كان فيه .
وخرجه ابن جرير والبيهقي وغيرهما ، وعندهم : أن شريحا قَالَ : سالت عائشة عن صلاة رسول الله ( - فذكرت الحديث .
وفي رواية لابن جرير : أن عائشة قالت : ما رأيت رسول الله ( صلى على شيء قط ، إلا أنه أصابنا مطر ذات ليلة ، فاجتر نطعا ، فصلى عليه .
وخرجه الطبراني ، ولفظه : كان رسول الله ( إذا صلى لا يضع تحت قدميه
شيئا ، إلا إنا مطرنا يوما فوضع تحت قدميه نطعا .
وهذه الرواية من رواية قيس بن الربيع ، عن المقدام بن شريح عن أبيه .
وخرج بقي بن مخلد في ( ( مسنده ) ) من رواية يزيد بن المقدام بن شريح ، عن
أبيه ، عن جده ، قال : قلت لعائشة : يا أم المؤمنين ، إن أناسا يصلون على هذه الحصر ، ولم أسمع الله يذكرها في القران ، إلا في مكان واحد : ( لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ( [ الإسراء :
8 ] ، أفكان النبي ( يصلي على الحصير ؟ قالت : لم يكن رسول الله ( يصلي على الحصير .(2/255)
"""""" صفحة رقم 256 """"""
وهذا غريب جداً .
ويزيد بن المقدام ، قال أبو حاتم : يكتب حديثه .
وخرج الإمام أحمد : ثنا عثمان بن عمر : ثنا يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن ، عائشة ، أن رسول الله ( كان يصلي على خمرة ، فقال : ( ( يا عائشة ، ارفعي حصيرك ، فقد خشيت أن يكون يفتن الناس ) ) .
وهذا غريب جدا .
ولكنه اختلف فيه على يونس :
فرواه مفضل بن فضاله ، عن يونس ، عن الزهري ، عن أنس ، أن النبي ( كان يصلي على الخمرة ، يسجد لها .
ورواه شبيب بن سعيد ، عن يونس ، عن الزهري - مرسلاً .
ورواه ابن وهب في ( ( مسنده ) ) عن يونس ، عن الزهري ، قال : لم أزل اسمع أن رسول الله ( صلى على الخمرة - وعن أنس بن مالك ، قال : كان رسول الله ( يصلي على الخمرة ويسجد لها .
فرواه بالوجهين جميعاً .
وأما رواية عثمان بن عمر ، عن يونس ، فالظاهر أنها غير محفوظة ، ولا تعرف تلك الزيادة إلا فيها .(2/256)
"""""" صفحة رقم 257 """"""
- باب الصلاة على الخمرة
381 - حدثنا أبو الوليد : ابنا شعبة : ثنا سليمان الشيباني ، عن عبد الله بن
شداد ، عن ميمونة ، قالت : كان رسول الله ( يصلي على الخمرة .
( ( الخمرة ) ) : الحصير ، كذا جاء تفسيره في بعض روايات هذا الحديث ، وكذا فسره الإمام أحمد وغيره .
وقال أبو عبيد : الخمرة شيء منسوج يعمل من سعف النخل ، ويرمل بالخيوط ، وهو صغير على قدر ما يسجد عليه المصلي أو فويق ذلك ، فإن عظم حتى يكفي الرجل لجسده كله في الصلاة أو مضطجعا أو أكثر من ذلك ، فهو حينئذ حصير ، وليس
بخمرة .
وقد سبق في الباب الماضي من رواية أخرى : أن النبي ( كان يصلي على
الخمرة ، ويسجد عليها .
وقد روى صلاة النبي ( على الخمرة من روايات عدة من الصحابة من طرق كثيرة ، ولم يخرج في ( ( الصحيحين ) ) سوى حديث ميمونة ، ولم يخرج في بقية الكتب الستة سوى حديث لابن عباس ، خرجه الترمذي ، وأسانيدها كلها لا تخلو من مقال .
وقد كان ابن عمر من الصحابة يصلون على الخمرة ، وإنما يكره ذلك من يكره السجود على غير الأرض .(2/257)
"""""" صفحة رقم 258 """"""
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز ، أنه كان يصلى على الخمرة ، ويؤتى بتراب حر ، فيوضع عليها في موضع سجوده ، فيسجد عليه .(2/258)
"""""" صفحة رقم 259 """"""
- باب الصلاة على الفراش
وصلى أنس على فراشه .
وقال أنس : كنا نصلي مع النبي ( فيسجد أحدنا على ثوبه .
حديث أنس المرفوع ، قد خرجه البخاري بإسناده في الباب الأتي ، ويأتي في موضعه مع الكلام عليه - أن شاء الله .
وحديثه الموقوف ، خرجه ابن أبي شيبة : ثنا ابن المبارك ، عن حميد ، عن أنس أنه كان يصلي على فراشه .
ثنا حفص ، عن ليث ، عن طاوس ، أنه كان يصلي على الفراش الذي مرض عليه .
وأصل هذه المسائل : أنه تجوز الصلاة على غير جنس ما ينبت من الأرض كالصوف والجلود ، ورخص في الصلاة على ذلك أكثر أهل العلم .
وقد روي معناه عن عمر ، وعلي ، وأبي الدرداء ، وابن عباس ، وأنس .
وروي عن ابن مسعود وضعف الرواية في ذلك عنه الإمام أحمد .
وهو قول أكثر العلماء بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد .
وقال ابن المنذر : كرهت طائفة السجود إلا على الأرض ، كان جابر بن زيد يكره الصلاة على كل شيء من الحيوان ويستحب الصلاة على كل شيء من نبات الأرض .(2/259)
"""""" صفحة رقم 260 """"""
وقال مالك في الصلاة على بساط الصوف والشعر : إذا وضع المصلي جبهته ويديه على الأرض فلا أرى بالقيام عليها بأسا . انتهى .
ومذهب مالك - فيما ذكره صاحب ( ( تهذيب المدونة ) ) - : أنه يكره السجود على الطنافس وثياب الصوف والكتان والقطن وبسط الشعر والأدم وأحلاس الدواب ، ولا يضع كفيه عليها ، ولكن يقوم عليها ويجلس ويسجد على الأرض ، ولا بأس أن يسجد على الخمرة والحصير وما تنبت الأرض ، ويضع كفيه عليها . انتهى .
وقال مجاهد : لا بأس بالصلاة على الأرض وما أنبتت .
وقول مجاهد وجابر بن زيد الذي حكاه ابن المنذر قد يدخل فيه القطن والكتان : لأنهما مما ينبت من الأرض .
وقال المروذي : كان أبو عبد الله - يعني : أحمد لا يرى السجود على ثوب ولا خرقة ، إلا من حر أو برد .
قال القاضي أبو يعلى : يحتمل أن يكون أراد بذلك ثوبا متصلا به ، ويحتمل أن يكون أراد به منفصلا عنه ؛ ليحصل تتريب وجهه في سجوده .
قلت : والأول اظهر ؛ لأن نصوصه بجواز الصلاة على البسط ونحوه متكاثرة .
خرج في هذا الباب ثلاثة أحاديث :
الحديث الأول :
382 - ثنا إسماعيل - هو : ابن أبي أويس - : ثنا مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة زوج النبي ( ، أنها قالت كنت أنام بين يدي رسول الله ( ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني(2/260)
"""""" صفحة رقم 261 """"""
فقبضت رجلي ، فإذا قام بسطتها ، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح .
وجه الاستدلال بهذا الحديث على جواز الصلاة على الفراش : أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تنام على فراش النبي ( الذي ينام هو وعائشة عليه ، وكان يقوم فيصلي من الليل وهي نائمة معترضة بين يديه على الفراش ، وكانت رجلاها في قبلته ، فإذا أراد أن يسجد غمزها فقبضت رجلها ليسجد في موضع ، وهذا يدل على أنه كان يسجد على طرف الفراش الذي كانت نائمة عليه ، وكانت رجلاها عليه . والله أعلم .
مع أنه يحتمل أن تكون رجلاها خرجت عن الفراش حتى صارت على الأرض في موضع سجوده .
ويدل على ذلك : ما رواه عبيد الله بن عمر ، عن القاسم ، أن عائشة قالت : كان رسول الله ( يصلي فتقع رجلي بين يديه - أو بحذائه - ، فيضربها فاقبضها .
الحديث الثاني :
قال :
383 - ثنا يحيى بن بكير : [ ثنا الليث ] ، عن عقيل ، عن ابن شهاب : أخبرني عروة ، أن عائشة أخبرته ، أن رسول الله ( كان يصلي وهي بينه وبين القبلة على فراش أهله اعتراض الجنازة .
الظاهر : أنه إنما خرج هذا الحديث بهذا اللفظ في هذا الباب ؛ لأنه فهم منه أن قوله : ( ( على فراش أهله ) ) يتعلق بقولها : ( ( كان يصلي ) ) ، وأن المراد : أن(2/261)
"""""" صفحة رقم 262 """"""
النبي ( كان يصلي على فراش أهله وعائشة بينه وبين القبلة اعتراض الجنازة ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير .
وقد خرجه في ( ( أبواب : المرور بين يدي المصلي ) ) من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه : اخبرني عروة ، أن عائشة قالت لقد كان رسول الله ( يقوم فيصلي من الليل ، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله .
وخرجه - أيضا - من طريق هشام ، عن عائشة ، قالت : كان النبي ( يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه .
وخرجه أبو داود من هذا الوجه ، ولفظه : أن النبي ( كان يصلي صلاته من الليل وهي معترضة بينه وبين القبلة ، راقدة على الفراش الذي يرقد عليه .
وكل هذه الألفاظ تبين أن المراد : أن نومها كان على الفراش ، لا أن صلاته ( كانت على الفراش .
الحديث الثالث :
قال :
384 - ثنا عبد الله بن يوسف : ثنا الليث ، عن يزيد - هو : ابن أبي حبيب - ، عن عراك ، عن عروة ، أن النبي ( كان يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة على الفراش الذي ينامان عليه .
هذا مرسل من هذا الوجه .
ودلالة لفظه كدلالة الذي قبله .(2/262)
"""""" صفحة رقم 263 """"""
وقد روي حديث هشام ، عن أبيه بلفظ يدل على ما فهمه البخاري ، فرواه أبو العباس السراج الحافظ : ثنا هناد بن السري : ثنا أبو معاوية ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله ( يصلي من الليل على الفراش الذي ينام عليه وأن بينه وبين القبلة .
وهذا من تغيير بعض الرواة بالمعنى الذي فهمه من الحديث ؛ لاتفاق الحفاظ من أصحاب عروة على غير هذا اللفظ ، وليس أبو معاوية بالحافظ المتقن لحديث هشام بن عروة ، إنما هو متقن لحديث الأعمش .(2/263)
"""""" صفحة رقم 264 """"""
- باب السجود على الثوب في شدة الحر
وقال الحسن : كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة ، ويداه في كمه .
روى ابن أبي شيبة : ثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن الحسن ، أن أصحاب
رسول الله ( كانوا يسجدون وأيديهم في ثيابهم ، ويسجد الرجل منهم على عمامته .
فقد تضمن ما قاله الحسن في هذا مسألتين :
إحداهما :
سجود المصلي ويداه في كمه ، أو في ثوبه ، وقد حكى عن الصحابة أنهم كانوا يفعلونه .
وروى أبو نعيم ووكيع في ( ( كتابيهما ) ) عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يصلون في برانسهم ومساتقهم وطيالستهم ، لا يخرجون أيديهم .
وروى وكيع ، عن الأعمش ، عن محارب - أبو وبرة - ، قَالَ : كان ابن عمر يلتحف بالملحفة ، ثُمَّ يسجد فيها ، لا يخرج يديه .
والصحيح عن ابن عمر : ما رواه مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان إذا سجد يضع كفيه على الذي يضع عليه وجهه . قال : ولقد رايته في يوم شديد البرد ويخرج يديه من تحت برنس له .(2/264)
"""""" صفحة رقم 265 """"""
وممن كان يسجد ويداه في ثوبه لا يخرجهما : سعيد بن جبير ، وعلقمة ، ومسروق ، والأسود .
وحكى ابن المنذر ، عن عمر الرخصة في السجود على الثوب في الحر ، وعن عطاء وطاوس . قال : ورخص فيه للحر والبرد النخعي والشعبي ، وبه قال مالك والأوزاعي واحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، ورخص الشافعي في وضع اليدين على الثوب في الحر والبرد . انتهى .
ونقل ابن منصور ، عن أحمد وإسحاق : لا يسجد ويداه في ثوبه ، إلا من برد أو علة ، وكذا نقل غير واحد عن أحمد : أنه لا يفعل ذلك إلا من علة ، ولا يفعله من غير علة .
وروى عنه جماعة من أصحابه : أنه لا باس بذلك ، ولم يقيده بالعلة ، فيحتمل أن يكون ذلك رواية عنه بعدم الكراهة مطلقا ، ويحتمل أن تحمل رواياته المطلقة على رواياته المقيدة ، وكلام أكثر أصحابنا يدل على ذلك ، وفيه نظر .
وبكل حال ؛ فيجرئ السجود وأن لم يباشر الأرض بيديه رواية واحدة ، ولا يصح عن أحمد خلاف ذلك البتة ، وإنما اصل نقل الخلاف في ذلك عن أحمد مأخوذ من كتب مجهولة لا يعرف أصحابها ، فلا يعتمد عليها .
ومذهب مالك : أنه أن كان حر أو برد جاز له أن يبسط ثوبا يسجد عليه ، ويجعل عليه كفيه ، مع قوله : يكره السجود على الثياب من غير عذر ، كما سبق .
وللشافعي قولان في وجوب السجود على الكفين .
وعلى قوله بالوجوب ، فهل يجب كشفهما أو يجوز السجود عليهما وهما في
كمه ؟ على قولين له - أيضا - ، أصحهما : أنه يجوز .(2/265)
"""""" صفحة رقم 266 """"""
وعلى القول الآخر ، فإنما يجب كشف أدنى جزء منهما ، لا كشف جميعهما .
المسألة الثانية :
سجود الرجل على كور عمامته وعلى قلنسوته ، وقد حكى الحسن عن الصحابة أنهم كانوا يفعلونه .
وممن روي عنه أنه كان يسجد على كور عمامته : عبد الله بن أبي أوفى ، لكن من وجه فيه ضعف .
وروى عبد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان يسجد على كور عمامته .
وقد خالفه من هو أحفظ منه كما سيأتي .
وروي عن عبد الله بن يزيد الأنصاري ومسروق وشريح السجود على كور العمامة والبرنس .
ورخص فيه ابن المسيب والحسن ومكحول والزهري والثوري والأوزاعي وإسحاق .
وكان عبد الرحمن بن يزيد يسجد على كور عمامة له غليظة ، تحول بينه وبين الأرض .
وقد روي ذلك عن النبي ( ، أنه كان يفعله ، من وجوه كلها باطلة ، لا يصح منها شيء - : قاله البيهقي وغيره .(2/266)
"""""" صفحة رقم 267 """"""
وروي عن النبي ( النهي عنه ، من وجوه مرسلة ، وفيها ضعف - أيضا .
وروي عن علي ، قال : إذا صلى أحدكم فليحسر العمامة عن جبهته .
وكان عبادة بن الصامت يفعله .
وروى أيوب ، عن نافع ، أن ابن عمر كان لا يسجد على كور العمامة .
وروى عبيد الله ، عن نافع ، أن ابن عمر كان يحسر عن جبهته كور العمامة إذا سجد ، ويخرج يديه ، ويقول : أن اليدين تسجدان مع الوجه .
وكره ابن سيرين السجود على كور العمامة .
وعن عمر بن عبد العزيز ما يدل على ذلك .
وقال النخعي وميمون بن مهران : أبرز جبيني أحب إلي .
وقال عورة : يمكن جبهته من الأرض .
وقال مالك : من صلى على كور العمامة كرهته ، ولا يعيد ، وأحب إلي أن يرفع عن بعض جبهته حتى تمس الأرض بذلك - : نقله صاحب ( ( تهذيب المدونة ) ) .
ومذهب الشافعي : لا يجزئه أن يسجد على كور عمامته ، ولا على طرف ثوبه وما هو متصل به ، حتى يكشف عن بعض محل سجوده فيباشر به المصلي .(2/267)
"""""" صفحة رقم 268 """"""
وكره أحمد السجود على كور العمامة ، إلا لعلة من حر أو برد يؤذيه ، فلم يكرهه كذلك .
وقال - في رواية صالح - : لا باس بالسجود على كور العمامة ، وأعجب إلي أن يبرز جبهته ويسجد عليها .
وقال - في رواية أبي داود - : لا يسجد على كور العمامة ، ولا على القلنسوة . قيل له : فمن صلى هكذا يعيد ؟ قال : لا ، ولكن لا يسجد عليها .
ولم يذكر القاضي أبو يعلى في ( ( الجامع الكبير ) ) وغيره من كتبه في صحة صلاته على كور العمامة ونحوها خلافا .
وحكى ابن أبي موسى رواية أخرى : أنه إذا سجد على كور عمامته لغير حر ولا برد أنه لا يجزئه .
ولم نجد بذلك نصا عنه صريحا بالإعادة ، إنما النص عنه بكراهته والنهي عنه .
وقد نقل أبو داود النهي عنه مع الإجزاء .
ونهى أحمد ابنه عبد الله عن سجوده في الصلاة على كمه ، ولم يأمره بالإعادة .
وأما من نقل رواية عن أحمد بالإعادة مطلقا بذلك فلا يصح نقله .
وقول ابن أبي موسى : أن سجد على قلنسوته لم يجزئه - قولا واحدا - ، لا يصح ، ورواية أبي داود عن أحمد ترده .
ولو كان جبينه جريحا وعصبه بعصابة ، جاز السجود عليها عند الشافعي ، ولا إعادة عليه ، ومن أصحابه من حكى وجها ضعيفا بالإعادة .
ولم يرخص عبيدة السلماني في السجود على العصابة للجرح ، وهذا حرج شديد تأباه السمحة .(2/268)
"""""" صفحة رقم 269 """"""
قال البخاري - رحمه الله - :
385 - ثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك - هو : الطيالسي - : ثنا بشر بن المفضل : ثنا غالب القطان ، عن بكر بن عبد الله ، عن أنس بن مالك ، قال : كنا نصلي مع النبي ( ، فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود .
وقد خرجه في موضع آخر من ( ( كتابه ) ) من طريق ابن المبارك ، عن خالد بن
عبد الرحمن - وهو : ابن بكير السلمي البصري - : حدثني غالب القطان ، عن بكر المزني ، عن أنس ، قال : كنا إذا صلينا خلف رسول الله ( بالظهر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر .
وقد خرجه مسلم من طريق بشر بن المفضل ، عن غالب ، ولفظه : كنا نصلي مع رسول الله ( في شدة الحر ، فإذا لم يستطع احدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه .
وخرجه البخاري في أواخر ( ( الصلاة ) ) كذلك .
وقد خرجه الترمذي من طريق خالد بن عبد الرحمن ، وقال : حسن صحيح .
وإنما ذكرت هذا ؛ لأن العقيلي قال : حديث أنس في هذا : فيه لين ، ولعله ظن تفرد خالد به ، وقد قال هو في خالد : يخالف في حديثه ، وقد تبين(2/269)
"""""" صفحة رقم 270 """"""
أنه تابعه بشر بن المفضل على جلالته وحفظه .
وقد أدخل بعض الرواة في إسناد هذا الحديث : ( ( الحسن البصري ) ) بين بكر وأنس ، وهو وهم - : قاله الدارقطني .
ومن تأول هذا الحديث على أنهم كانوا يسجدون على ثياب منفصلة عنهم ، فقد أبعد ، ولم يكن أكثر الصحابة - أو كثير منهم - يجد ثوبين يصلي فيهما ، فكانوا يصلون في ثوب واحد كما سبق ، فكيف كانوا يجدون ثيابا كثيرة يصلون في بعضها ويتقون الأرض ببعضها ؟
وقد روي عن أنس حديث يخالف هذا :
خرجه أبو بكر ابن أبي داود في ( ( كتاب الصلاة ) ) له : ثنا محمد بن عامر الأصبهاني : حدثني أبي : ثنا يعقوب ، عن عنبسة ، عن عثمان الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : كنا نصلي مع النبي ( في الرمضاء فإذا كان في ثوب أحدنا فضلة فجعلها تحت قدميه ولم يجعل تحت جبينه ؛ لأن صلاة النبي ( كانت خفيفة في إتمام .
وقال : سنة تفرد بها أهل البصرة .
قلت : يشير إلى تفرد عثمان الطويل به عن أنس ، وهما بصريان ، وعثمان هذا قد روى عنه شعبة وغيره ، وقال أبو حاتم فيه : هو شيخ .
وأما من قبل عثمان فهم ثقات مشهورون ، فعنبسة هو : ابن سعيد قاضي الري ، أصله كوفي ، ثقة مشهور ، وثقه أحمد ويحيى . ويعقوب هو : القمي ، ثقة مشهور - أيضا - وعامر هو : ابن إبراهيم الأصبهاني ، ثقة مشهور من أعيان أهل أصبهان ، وكذلك ابنه محمد بن عامر .
ولكن إسناد حديث بكر أصح ، ورواته أشهر ؛ ولذلك خرج في ( ( الصحيح ) )(2/270)
"""""" صفحة رقم 271 """"""
دون هذا . والله أعلم .
واستدل بعض من لم ير السجود على الثوب بما روى أبو إسحاق ، عن سعيد بن وهب ، عن خباب ، قال : شكونا إلى رسول الله ( الصلاة في الرمضاء ، فلم يشكنا .
خرجه مسلم .
وفي رواية له - أيضا - : أتينا رسول الله ( فشكونا إليه حر الرمضاء ، فلم يشكنا .
قالوا : والمراد بذلك أنهم شكوا إليه مشقة السجود على الحصى في شدة الحر ، واستأذنوه أن يسجدوا على ثيابهم ، فلم يجبهم إلى ما سألوا ، ولا أزال شكواهم .
واستدلوا على ذلك : بما روى محمد بن جحادة ، عن سليمان بن أبي هند ، عن خباب ، قال : شكونا إلى رسول الله ( شدة الحر في جباهنا وأكفنا ، فلم يشكنا .
ويجاب عن ذلك : بأن حديث خباب اختلف في إسناده على أبي إسحاق : فروي عنه ، عن سعيد بن وهب ، عن خباب . وروي عنه ، عن حارثة بن مضرب ، عن
خباب .
وقد قيل : إنهما من مشايخ أبي إسحاق المجهولين الذين لم يرو عنهم غيره ، وفي إسناده اختلاف كثير ؛ ولذلك لم يخرجه البخاري .
وأما معنى الحديث : فقد فسره جمهور العلماء بأنهم شكوا إلى رسول الله ( الصلاة في شدة الحر ، وطلبوا منه الإبراد بها ، فلم يجبهم ، وبهذا فسره رواة الحديث ، منهم : أبو إسحاق وشريك .(2/271)
"""""" صفحة رقم 272 """"""
وقد خرجه البزار في ( ( مسنده ) ) ، وزاد فيه : وكان رسول الله ( يصلي الظهر بالهجير .
وخرجه ابن المنذر ، وزاد في آخره : وقال : ( ( إذا زالت الشمس فصلوا ) ) .
وأما رواية من زاد فيه : ( ( في جباهنا واكفنا ) ) ، فهي منقطعة .
حكى إسحاق بن منصور ، عن يحيى بن معين ، أنه قال : هي مرسلة .
يعني : أن سليمان بن أبي هند لم يسمع من خباب .
وعلى تقدير صحتها ، فقد يكون شكوا إليه ما يلقونه من شدة حر الحصى في سجودهم ، وأنه لا يقيهم منه ثوب ونحوه .
وأيضا ؛ فلو كانوا قد طلبوا منه السجود على ثوب يقيهم حر الرمضاء لأمرهم بالسجود على ثوب منفصل ؛ فإن ذلك لا يكره عند الشافعي ولا عند غيره ؛ لشدة الحر كما سبق .
فإن قيل : فحمله على هذا ترده أحاديث الأمر بالإبراد بالظهر في شدة الحر .
قيل : عنه جوابان :
أحدهما : أن ذلك كان قبل أن يشرع الإبراد بها ، ثم نسخ ، وقد روي من حديث المغيرة ما يدل على ذلك .
والثاني : أن شدة الحر في الصيف لا تزول في المدينة إلا بتأخر الظهر إلى آخر وقتها ، وهو الذي طلبوه ، فلم يجبهم إلى ذلك ، وإنما أمرهم بالإبراد اليسير ، ولا تزول به شدة حر الحصى .
وقد قيل : أنهم إنما شكوا إليه أنهم كانوا يعذبون في الله بمكة في حر الرمضاء قبل الهجرة ، وطلبوا منه أن يدعو لهم ويستنصر ، فأمرهم(2/272)
"""""" صفحة رقم 273 """"""
بالصبر في الله .
وقد روى قيس ابن أبي حازم ، عن خباب هذا المعنى صريحا ، وبهذا فسره علي بن المديني وغيره .
والصحيح : الأول . والله أعلم .(2/273)
"""""" صفحة رقم 274 """"""
- باب الصلاة في النعال
386 - ثنا آدم بن أبي إياس : ثنا شعبة : ابنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد الأزدي ، قال : سالت أنس بن مالك : أكان النبي ( يصلي في نعليه ؟ قال : نعم .
لم يخرج في ( ( الصحيحين ) ) من أحاديث الصلاة في النعلين غير حديث سعيد ابن يزيد ، عن أنس هذا ، وتفرد به البخاري من طريق شعبة ، عنه .
وقد رواه سلم بن قتيبة ، عن شعبة ، عن سعيد وأبي عمران الجوني - كلاهما - ، عن أنس .
وأنكر ذلك على سلم يحيى القطان .
وقال الدارقطني : وهم في ذلك .
والصلاة في النعلين جائزة ، لا اختلاف بين العلماء في ذلك ،
وقد قال أحمد : لا بأس أن يصلي في نعليه إذا كانتا طاهرتين .
وليس مراده : إذا تحقق طهارتهما ، بل مراده : إذا لم تتحقق نجاستهما .
يدل على ذلك : أن ابن مسعود قال : كنا لا نتوضأ من موطئ .
خرجه أبو داود .
وخرجه ابن ماجه ، ولفظه : أُمرنا أن لا نكفت شعرا ولا ثوبا ، ولا نتوضأ من موطئ .(2/274)
"""""" صفحة رقم 275 """"""
وخرجه وكيع في ( ( كتابه ) ) ، ولفظه : لقد رايتنا وما نتوضأ من موطئ ، إلا أن يكون رطبا فنغسل أثره .
وروي عن ابن عمر ، أنه قال : امرنا أن لا نتوضأ من موطئ .
خرجه الدارقطني في ( ( العلل ) ) . وذكر أن بعضهم لم يرفعه ، وجعله من فعل ابن عمر .
والمراد بذلك : أن من مشى حافيا على الأرض النجسة اليابسة أو خاض طين
المطر ، فإنه يصلي ولا يغسل رجليه .
وقد ذكر مالك وغيره أن الناس لم يزالوا على ذلك .
وذكره ابن المنذر إجماعا من أهل العلم ، إلا عن عطاء ، فإنه قال : يغسل
رجليه . قال : ويشبه أن يكون هذا منه استحبابا لا إيجابا .
قال : وبقول جل أهل العلم نقول .
وهذا يبين أن جمهور العلماء لا يرون غسل ما يصيب الرجل من الأرض ، مما لا تتحقق نجاسته ، ولا التنزه عنه في الصلاة .
وقد روي الأمر بالصلاة في النعلين ، ما خرجه أبو داود وابن حبان في
( ( صحيحه ) ) من حديث شداد بن أوس ، عن النبي ( ، قال : ( ( خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ، ولا في خفافهم ) ) .
وروى عبد الله بن المثنى ، عن ثمامة ، عن أنس ، قال : لم يخلع النبي ( نعله في الصلاة إلا مرة ، فخلع القوم نعالهم ، فقال النبي ( : ( ( لم خلعتم نعالكم ؟ ) ) قالوا رأيناك خلعت فخلعنا ، قال : ( ( أن جبريل أخبرني أن فيهما قذراً ) ) .(2/275)
"""""" صفحة رقم 276 """"""
قال البيهقي : تفرد عبد الله بن المثنى ، ولا بأس بإسناده .
قلت : عبد الله بن المثنى ، يخرج له البخاري كما تقدم .
وهذا يدل على أن عادة النبي ( المستمرة الصلاة في نعليه ، وكلام أكثر السلف يدل على أن الصلاة في النعلين أفضل من الصلاة حافيا .
وقد أنكر ابن مسعود على أبي موسى خلعه نعليه عند إرادة الصلاة ، قال لهُ : أبالوادي المقدس أنت ؟
وكان أبو عمرو الشيباني يضرب الناس إذا خلعوا نعالهم في الصلاة .
وأنكر الربيع بن خثيم على من خلع نعليه عند الصلاة ، ونسبه إلى أنه أحدث - يريد : أنه ابتدع .
وكان النخعي وأبو جعفر محمد بن على إذا قاما إلى الصلاة لبسا نعالهما وصليا فيها .
وأمر غير واحد منهم بالصلاة في النعال ، منهم : أبو هريرة وغيره .
وقال الشافعي - ونقلوه عنه - : أن خلع النعلين في الصلاة أفضل ؛ لما فيه من مباشرة المصلي بأطراف القدمين إذا سجد عليهما .
ووافقهم على ذلك القاضي أبو يعلي وغيره من أصحابنا .
ولم يعللوا ذلك باحتمال إصابة النجاسة ، مع حكايتهم الخلاف في طين الشوارع : هل هو نجس أو طاهر يعفى عن يسيره ؟ فحكى أصحاب الشافعي له في ذَلكَ قولين ، وكذلك حكى الخلاف في مذهب أحمد بعض أصحابنا .
والصحيح عند محققيهم : أن المذهب طهارته ، وعليه تدل أحوال السلف الصالح وأقوالهم ، كما تقدم عنهم في ترك غسل القدمين من الخوض في الطين ، وهذا مروي عن علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة .(2/276)
"""""" صفحة رقم 277 """"""
قال الجوزجاني : لم ير المسلمون بطين المطر بأسا .
وقد صرح كثير من السلف بأنه طاهر ولو خالطه بول ، منهم : سعيد بن جبير وبكر المزني وغيرهما .
والتحرز من النجاسات إنما يشرع على وجه لا يفضي إلى مخالفة ما كان عليه السلف الصالح ، فكيف يشرع مع مخالفتهم ومخالفة السنن الصحيحة ؟
وقد اختلف العلماء : في نجاسة أسفل النعل ونحوه : هل تطهر بدلكها بالأرض ، أم لا تطهر بدون غسل ، أم يفرق بين أن يكون بول ادمي أو عذرته فلا بد من غسلها وبين غيرها من النجاسات فتطهر بالدلك ؟ على ثلاثة أقوال .
وقد حكى عن أحمد ثلاثة روايات كذلك .
والقول بطهارتها بالدلك كثير من أصحابنا ، وهو قول قديم للشافعي ، وقول ابن أبي شيبة ويحيى بن يحيى النيسابوري .
وقال ابن حامد من أصحابنا : تطهر بذلك .
والقول بالفرق بين البول والعذرة قول أبي خيثمة وسليمان بن داود الهاشمي .
وفي هذا الباب أحاديث متعددة .
وأجودها حديث أبي نعامة السعدي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، أن النبي ( قال : ( ( إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر ، فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه ، وليصل فيه ) ) .(2/277)
"""""" صفحة رقم 278 """"""
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان ( ( صحيحيهما ) ) والحاكم .
وقال : صحيح على شرط مسلم .
يشير إلى أن أبا نعامة وأبا نضرة خرج لهما مسلم ، وقد رواه جماعة عن أبي نعامة بهذا الإسناد .
ورواه أيوب ، واختلف عليه فيه ، فروي عنه كذلك ، وروي عنه مرسلاً ، وهو أشهر عن أيوب .
قال الدارقطني : الصحيح : عن أيوب سمعه من أبي نعامة ، ولم يحفظ إسناده فأرسله ، والقول : قول من قال : عن أبي سعيد .
وقال أبو حاتم الرازي : المتصل أشبه . والله أعلم .(2/278)
"""""" صفحة رقم 279 """"""
- باب الصلاة في الخفاف
387 - حدثنا آدم : ثنا شعبة ، عن الأعمش ، قال : سمعت إبراهيم يحدث عن همام بن الحارث ، قال : رأيت جرير بن عبد الله ، بال ، ثم توضأ ومسح على خفيه ، ثم قام فصلى ، فسئل ، فقال : رأيت رسول الله ( صنع مثل هذا .
قال إبراهيم ، فكان يعجبهم ؛ لأن جريرا كانَ من آخر من أسلم .
388 - حدثنا إسحاق بن نصر : ثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن المغيرة بن شعبة ، قالَ : وضأت رسول الله ( ، فمسح على خفيه
وصلى .
قد تقدم حديث جرير والمغيرة في المسح على الخفين بغير هذين الإسنادين .
وإنما المقصود هاهنا : أن النبي ( مسح على خفيه ثم صلى وهما عليه .
وقد صرح القائلون باستحباب خلع النعلين في الصلاة : أنه إذا كان قد مسح على الخفين ثم أراد الصلاة فإنه لو نزعهما لانتقضت طهارته عندهم ، كما سبق ذكره في أبواب نقض الوضوء ، فلذلك كان الأولى له أن يصلي في خفيه .
وليس لنا موضع يكره أن يصلي فيه في النعلين والخفين إلا الكعبة ؛ فإنه يكره لمن دخلها أن يلبس خفيه أو نعليه - : نص عليه عطاء ومجاهد واحمد ، وقال : لا أعلم أحدا رخص فيه .
وفي كثير من نسخ البخاري هاهنا بابان :
أحدهما : ( ( باب : إذا لم يتم السجود ) ) .(2/279)
"""""" صفحة رقم 280 """"""
والثاني : ( ( باب : يبدي ضبعيه ويجافي في السجود ) ) .
وقد أعادهما على وجههما في ( ( صفة الصلاة ) ) عند ( ( أبواب السجود ) ) وهو الأليق بهما ، فنؤخرهما إلى ذلك المكان - إن شاء الله تعالى .
وقد انتهى ذكر أبواب اللباس في الصلاة ، ويشرع بعده في أبواب استقبال القبلة .(2/280)
"""""" صفحة رقم 281 """"""
- باب فضل استقبال القبلة
يستقبل بأطراف رجليه القبلة - : قاله أبو حميد ، عن النبي ( .
حديث أبي حميد هذا ، خرجه البخاري بإسناده بتمامه في ( ( أبواب صفة الصلاة ) ) ، وفيه : أن النبي ( كان إذا سجد استقبل بأطراف رجليه القبلة .
وخرج ابن حبان في ( ( صحيحه ) ) من حديث عائشة ، قالت : فقدت النبي ( ليلة من الفراش ، فالتمسته ، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في السجود ، ناصبا
قدميه ، مستقبلا بأطراف أصابعه القبلة .
وخرجه مسلم ، ولفظه : ( ( وهو في المسجد ، وهما منصوبتان ) ) .
وقال ابن جريج : عن إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوس ، ما رأيت مصليا كهيئة عبد الله بن عمر ، أشد استقبالا للكعبة بوجهه وكفيه وقدمه .
وروى نافع ، عن ابن عمر ، قال : إذا سجد أحدكم فليستقبل بيديه القبلة ؛ فإنهما يسجدان مع الوجه .
وروي عنه ، قال : كان ابن عمر إذا صلى استقبل القبلة بكل شيء ، حتى
بنعليه .
وروى سالم عن ابن عمر ، أنه كره أن يعدل كفيه عن القبلة .(2/281)
"""""" صفحة رقم 282 """"""
وروى المسعودي ، عن عثمان الثقفي ، أن عائشة رأت رجلا مائلا كفيه عن القبلة ، فقالت : اعدلهما إلى القبلة .
وروى حارثة بن محمد - وفيه ضعف - ، عن عمرة ، عن عائشة ، أن النبي ( كان إذا سجد وضع يديه وجاه القبلة .
خرجه ابن ماجه .
واستحب ذلك كثير من السلف ، منهم : سالم والقاسم بن محمد والحسن وابن سيرين .
وقال حفص بن عاصم : هو من السنة .
قال الأثرم : تفقدت أبا عبد الله - يعني : أحمد بن حنبل - في صلاته ، فرأيته يفتخ أصابع رجله اليمنى فيستقبل بها القبلة ويجعل بطون أصابع رجله اليمنى مما يلي الأرض .
قال : والفتخ - يعني : بالخاء المعجمة - هو أن يكسر أصابعه فيثنيها حتى تكون أطرافها مواجهة للقبلة ، ولو لم يفعل ذلك كانت أطرافها إلى غير القبلة .
وفي حديث أبي حميد ، أن النبي ( كان إذا سجد فتخ أصابع رجليه .
خرجه أبو داود والترمذي .
قال البخاري - رحمه الله - :
391 - حدثنا عمرو بن عباس : ثنا ابن مهدي : ثنا منصور بن سعد عن(2/282)
"""""" صفحة رقم 283 """"""
ميمون بن سياه ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله ( : ( ( من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسول الله ( ، فلا تخفروا الله في ذمته ) ) .
392 - وحدثنا نعيم ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله ( : ( ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم ، إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل ) ) .
393 - وقال علي بن عبد الله : ثنا خالد بن الحارث ، ثنا حميد ، قال : سأل ميمون بن سياه أنس بن مالك فقال : يا أبا حمزة ، ما يحرم دم العبد وماله ؟ فقال : من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم ، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم .
وقال ابن أبي مريم : أبنا يحيى بن أيوب : ثنا حميد : ثنا أنس ، عن النبي ( .
هذا الحديث قد خرجه البخاري من طريقين :
أحدهما : من رواية منصور بن سعد ، عن ميمون بن سياه ، عن أنس مرفوعا .
وميمون بن سياه ، بصري اختلف فيه ، فضعفه ابن معين ، ووثقه أبو حاتم الرازي .(2/283)
"""""" صفحة رقم 284 """"""
والثاني : من رواية حميد ، عن أنس - تعليقا - من ثلاثة أوجه ، عنه . وفي بعض النسخ أسنده .
من أحدها : عن نعيم بن حماد ، عن ابن المبارك ، عن حميد ، عن أنس ، ورفعه .
والثاني : علقه عن ابن المديني ، عن خالد بن الحارث ، عن حميد ، أن ميمون بن سياه سأل أنسا - فذكره ، ولم يرفعه ، جعله من قول أنس .
والثالث : علقه ، عن ابن أبي مريم ، عن يحيى بن أيوب : ثنا حميد : ثنا أنس ، عن النبي ( ، وصرح فيه بسماع حميد له من أنس ، ورفعه إلى النبي ( .
ومقصود البخاري بهذا : تصحيح رواية حميد ، عن أنس المرفوعة .
وقد نازعه في ذلك الإسماعيلي ، وقال : إنما سمعه حميد من ميمون بن سياه ، عن أنس . قال : ولا يحتج بيحيى بن أيوب في قوله : ( ( ثنا حميد : ثنا أنس ) ) ؛ فإن عادة الشاميين والمصريين جرت على ذكر الخبر فيما يروونه ؛ لا يطوونه طي أهل العراق .
يشير إلى أن الشاميين والمصريين يصرحون بالتحديث في رواياتهم ، ولا يكون الإسناد متصلا بالسماع .
وقد ذكر أبو حاتم الرازي عن أصحاب بقية بن الوليد أنهم يصنعون ذلك كثيرا .
ثم استدل الإسماعيلي على ما قاله بما خرجه من طريق عبيد الله بن معاذ : ثنا أبي : ثنا حميد ، عن ميمون بن سياه ، قال : سألت أنسا : ما يحرم دم المسلم وماله ؟ قال : من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - الحديث .(2/284)
"""""" صفحة رقم 285 """"""
قال : وما ذكره عن علي بن المديني عن خالد بن الحارث فهو يثبت ما جاء به معاذ بن معاذ ؛ لأن ميمون هوَ الذي سأل ، وحميد منه سمع . والله أعلم . انتهى ما
ذكره .
ورواية معاذ بن معاذ ، عن حميد ، عن ميمون ، عن أنس موقوفة .
وقد ذكر الدارقطني في ( ( العلل ) ) أنها هي الصواب ، بعد أن ذكر أن ابن المبارك ويحيى بن أيوب ومحمد بن عيسى بن سميع رووه عن حميد ، عن أنس مرفوعا .
قال : وذكر هذا الحديث لعلي بن المديني ، عن ابن المبارك . فقال : أخاف أن يكون هذا وهما ، لعله : حميد ، عن الحسن - مرسلا .
قال الدارقطني : وليس كذلك ؛ لأن معاذ بن معاذ من الأثبات . وقد رواه كما ذكرنا - يعني : عن حميد ، عن ميمون ، عن أنس موقوفا .
وقد خرجه أبو داود في ( ( سننه ) ) من طريق يحيى بن أيوب كما أشار إليه
البخاري .
وخرجه أبو داود - أيضا - والترمذي والنسائي من طريق ابن المبارك وحسنه الترمذي وصححه وغربه ، وذكر متابعة يحيى بن أيوب له .
وخرجه النسائي - أيضا - من طريق محمد بن عيسى بن سميع : ثنا حميد عن أنس ورفعه .
ومن طريق محمد بن عبد الله الأنصاري : ثنا حميد ، قال : سأل ميمون بن سياه أنسا ، فقال : يا أبا حمزة ، ما يحرم دم المسلم وماله - فذكره موقوفا ، ولم يرفعه .(2/285)
"""""" صفحة رقم 286 """"""
وهذه مثل رواية خالد بن الحارث التي ذكرها البخاري ، عن ابن المديني ، عنه ، وقد جعلا ميمون بن سياه سائلا لأنس ، ولم يذكرا أن حميدا رواه عن ميمون ، ولعل قولهما أشبه .
وتابعهما معاذ بن معاذ على وقفه ، إلا أنه جعله : ( ( عن حميد ، عن ميمون ، عن أنس ) ) ، وهو الصحيح عند الإسماعيلي والدارقطني كما سبق .
وأما رفعه مع وصله ، فقد حكى الدارقطني عن ابن المديني أنه أنكره .
وكذا نقل ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، أنه قال : لا يسنده إلا ثلاثة أنفس : ابن المبارك ويحيى بن أيوب وابن سميع .
يشير إلى أن غيرهم يقفه ولا يرفعه ، كذا قال .
وقد رواه أبو خالد الأحمر ، عن حميد ، عن أنس - مرفوعا .
خرج حديثه الطبراني وابن جرير الطبري .
وروى ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة بن الزبير ، أن النبي ( كتب إلى المنذر بن ساوى : ( ( أما بعد ؛ فإن من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله والرسول ) ) .
خرجه أبو عبيد .
وهو مرسل .
وقد دل هذا الحديث على أن الدم لا يعصم بمجرد الشهادتين ، حتى يقوم بحقوقهما ، وآكد حقوقهما الصلاة ؛ فلذلك خصها بالذكر . وفي حديث آخر أضاف إلى الصلاة الزكاة .
وذكر استقبال القبلة إشارة إلى أنه لا بد من الإتيان بصلاة المسلمين(2/286)
"""""" صفحة رقم 287 """"""
المشروعة في كتابهم المنزل على نبيهم وهي الصلاة إلى الكعبة ، وإلا فمن صلى إلى بيت المقدس بعد نسخه كاليهود أو إلى المشرق كالنصارى فليس بمسلم ، ولو شهد بشهادة التوحيد .
وفي هذا دليل على عظم موقع استقبال القبلة من الصلاة ؛ فإنه لم يذكر من شرائط الصلاة غيرها ، كالطهارة وغيرها .
وذكره أكل ذبيحة المسلمين ، فيه إشارة إلى أنه لا بد من التزام جميع شرائع الإسلام الظاهرة ، ومن أعظمها أكل ذبيحة المسلمين ، وموافقتهم في ذبيحتهم ، فمن امتنع من ذلك فليس بمسلم .
وقد كان النبي ( يمتحن أحيانا من يدخل في الإسلام ، وقد كان يرى في دينه الأول الامتناع من أكل بعض ذبيحة المسلمين ، بإطعامه مما كان يمتنع من أكله ؛ ليتحقق بذلك إسلامه .
فروي أنه عرض على قوم - كانوا يمتنعون في جاهليتهم من أكل القلب ، ثم دخلوا في الإسلام - أكل القلب ، وقال لهم : ( ( أن إسلامكم لا يتم إلا بأكله ) ) .
فلو أسلم يهودي ، وأقام ممتنعا من أكل ذبائح المسلمين ، كان ذلك دليلا على عدم دخول الإسلام في قلبه ، وهذا الحديث يدل على أنه لا يصير بذلك مسلما .
ويشهد لذلك : قول عمر فيمن أسلم من أهل الأمصار وقدر على الحج ولم
يحج ، أنه هم بضرب الجزية عليهم ، وقال : ما هم بمسلمين .(2/287)
"""""" صفحة رقم 288 """"""
وحكي عن الحسن بن صالح ، أن المسلم إذا أسلم بدار الحرب ، وأقام بها مع قدرته على الخروج ، فهو كالمشرك في دمه وماله ، وأنه أن لحق المسلم بدار الحرب وأقام بها صار مرتدا بذلك .
وقوله : ( ( فذلك المسلم ، له ذمة الله ورسوله ) ) . الذمة : العهد ، وهو إشارة إلى ما عهده الله ورسوله إلى المسلمين بالكف عن دم المسلم وماله .
وقوله : ( ( فلا تخفروا الله في ذمته ) ) ، أي : لا تغدروا بمن له عهد من الله
ورسوله ، فلا تفوا له بالضمان ، بل أوفوا له بالعهد .
وهو مأخوذ من قولهم : أخفرت فلانا ، إذا غدرت به ، ويقولون : خفرته ، إذا حميته .(2/288)
"""""" صفحة رقم 289 """"""
- باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق
وليس في المشرق ولا في المغرب قبلة ؛ لقول النبي ( : ( ( لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول ، ولكن شرقوا أو غربوا ) ) .
مقصوده بهذا الباب : أن أهل المدينة ومن كان قريبا من مسامتهم كأهل الشام والعراق ، فإن قبلتهم ما بين المشرق والمغرب من جهة الكعبة ، وأن المشرق والمغرب ليس قبلة لهم ، وما بينهما فهو لهم قبلة ، بدليل أن النبي ( نهاهم عن استقبال القبلة بغائط أو بول ، وأمرهم أن يشرقوا أو يغربوا ، فدل على أن الشرق والغرب ليس لهم قبلة ، وما بينهما فهو لهم قبلة .
وقد روى عن ابن عمر وسعيد بن جبير ، أنهما قالا : ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المشرق .
وكذا قال الإمام أحمد : ما بين المشرق والمغرب قبلة لنا نحن أهل المشرق ، ليس هي لأهل الشام ولا أهل اليمن .
ومراده بعض أطراف الشام .
وهذا هو مراد عمر بقوله : ما بين المشرق والمغرب قبلة .
وقد روي مرفوعا ، إلا أنه ليس على شرط البخاري .
وقد قال أحمد : ليس له إسناد .
يعني أن في أسانيده ضعفا .(2/289)
"""""" صفحة رقم 290 """"""
وقال مرة : ليس بالقوي . قال : وهو عن عمر صحيح .
وأقوى ما ورد فيه مسندا : حديث عبد الله بن جعفر المخرمي ، عن عثمان ابن محمد الأخنسي ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( قال : ( ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) ) .
خرجه الترمذي .
وقال حديث حسن صحيح .
والأخنسي ، وثقه ابن معين وغيره . والمخرمي ، خرج له مسلم ، وقال ابن المديني : روى مناكير .
وخرجه ابن ماجه والترمذي - أيضا - من طريق أبي معشر نجيح السندي ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( .
وأبو معشر ، ضعيف الحديث .
وتابعه عليه : علي بن ظبيان ، فرواه عن محمد بن عمرو ، كما رواه .
خرجه ابن عدي .
وعلي بن ظبيان ، ضعيف - أيضا .
وفيه حديث مرسل :
رواه الإمام أحمد - في رواية ابنه صالح - ، عن أبي سعيد مولى بني هاشم : حدثني سليمان بن بلال ، قال : قال عمرو بن أبي عمرو : عن المطلب بن(2/290)
"""""" صفحة رقم 291 """"""
حنطب ، أن رسول الله ( قال : ( ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ، إذا وجهت وجهك نحو البيت الحرام ) ) .
وروى عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر ، قال : إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة .
وهذا هو الذي قال فيه أحمد : أنه صحيح عن عمر .
وقد رواه يحيى القطان وغير واحد ، عن عبيد الله .
ورواه حماد بن مسعدة ، عن عبيد الله ، وزاد فيه : ( ( إلا عند البيت ) ) .
وروي عن ابن نمير وحماد بن سلمة ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ( .
ورفعه غير صحيح عند الدارقطني وغيره من الحفاظ .
وأما الحاكم فصححه ، وقال : على شرطهما وليس كما قال .
وكذلك رواه محمد بن عبد الرحمن بن مجبر ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا .
وابن المجبر ، مختلف في أمره .
وقال أبو زرعة : هو وهم ، والحديث حديث ابن عمر موقوف .
وروي هذا المعنى - أيضا - عن عثمان وعلي وابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - ، ولا يعرف عن صحابي خلاف ذلك .
وكذلك قال إبراهيم وسعيد بن جبير : ما بين المشرق والمغرب قبلة ، زاد سعيد بن جبير : لأهل المشرق .(2/291)
"""""" صفحة رقم 292 """"""
وقال مجاهد فيمن مال عن القبلة : لا يضره ؛ ما بين المشرق والمغرب قبلة .
وقال الحسن فيمن التفت في صلاته : أن استدبر القبلة بطلت صلاته ، وأن التفت عن يمينه أو شماله مضت صلاته .
وروي عن حميد بن عبد الرحمن ، أنه أعاد صلاة صلاها في مسجد قيل له : إن في قبلته تياسرا .
ومذهب مالك : أنه أن علم في الصلاة أنه استدبر القبلة أو شرق أو غرب قطع وأبتدأ الصلاة ، وأن علم بذلك بعد الصلاة أعاد في الوقت ، وأن علم أنه انحرف يسيرا فلينحرف ال القبلة ويبني - : ذكره في ( ( تهذيب المدونة ) ) .
ومذهب أحمد : أن ما بين المشرق والمغرب قبلة ، لم تختلف نصوصه في ذلك ، ولم يذكر المتقدمون من أصحابه فيه خلافا ، وإنما ذكره القاضي أبو يعلى ومن بعده وأخذوه من لفظ له محتمل ليس بنص ولا ظاهر ، والمحتمل يعرض على كلامه الصريح ، ويحمل عليه ، ولا يعد مخالفا له بمجرد احتمال بعيد ، ولكن الشافعي له قولان في المسألة ، وأما أحمد فلم يختلف قوله في ذلك ، وقد صرح بمخالفة الشافعي فيه .
قال أحمد في رواية جعفر بن محمد : بين المشرق والمغرب قبلة ، ولا يبالي مغرب الصيف ولا مغرب الشتاء ، إذا صلى بينهما فصلاته صحيحة جائزة ، إلا أنا نستحب أن يتوسط القبلة ، ويجعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره ، يكون وسطا بين ذلك ، وأن هو صلى فيما بينهما ، وكان إلى أحد الشقين أميل فصلاته تامة ، إذا كان بين المشرق والمغرب ، ولم يخرج بينهما .
ونقل عنه جماعة كثيرون هذا المعنى .
وروي عنه أنه سئل عن قوله : مابين المشرق والمغرب قبلة ، فأقام وجهه نحو القبلة ، ونحا بيده اليمنى إلى الشفق ، واليسرى إلى الفجر ، وقال : القبلة(2/292)
"""""" صفحة رقم 293 """"""
ما بين هذين .
وقال في رواية الأثرم : إذا طلعت الشمس من المشرق فقد ثبت أنه مشرق ، وإذا غربت فقد ثبت أنه مغرب ، فما بين ذلك لأهل المشرق ، إذا كان متوجها إلى الكعبة .
وقد أنكر أن يكون المراد مشرق الشتاء خاصة ، وقال : لا يبالي مغرب الشتاء ولا مغرب الصيف ، إذا صلى بينهما فصلاته جائزة .
ومراده : أن ما بين أقصى المشارق إلى أقصى المغارب في الشتاء والصيف فهو
قبلة ، والمستحب أن يصلي وسطا من ذلك .
ولم يرد أحمد أنه في كل فصل من فصول العام يصلي وسطا بين مشرق الشمس ومغربها فيه حينئذ ؛ لأنه يلزم من ذَلكَ الانحراف إلى المشرق أو المغرب في بعض
الأزمان .
وإنما قَالَ أحمد هذا لأن الناس من فشر ( ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) ) بمشرق الشتاء ومغربه خاصة ، منهم : أبو خيثمة وسليمان بن داود الهاشمي ؛ فإن الشتاء لهُ مشرق ومغرب ، والصيف كذلك ، ولهذا ثناهما الله تعالى في قوله : ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( [ الرحمن : 17 ] ، وجمعهما في قوله : ( بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ( [ المعارج : 40 ] باعتبار مشارق الشتاء والصيف والخريف والربيع ؛ فإن لكل يوم من السنة مطلعا مشرقا خاصا ومغربا خاصا ، وأفردهما في قوله ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( [ الشعراء : 28 ] باعتبار الجنس .
ونقل الأثرم ، عن أحمد ، أنه قيل له : قبلة أهل بغداد على الجدي ؟ فجعل ينكر أمر الجدي ، فقال : أيش الجدي ؟ ولكن على حديث عمر : ( ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) ) .(2/293)
"""""" صفحة رقم 294 """"""
ومراده : أن الاستدلال بالجدي وغيره من النجوم ، كالقطب ونحوه لم ينقل عن السلف ، وأنه لا يجب الاستدلال بذلك ولا مراعاته ، وإنما المنقول عنهم الاستدلال بالمشرق والمغرب .
ولم يرد أن الجدي لا دلالة له على القبلة ؛ فإنه قال في رواية أخرى عنه : الجدي يكون على قفاه - يعني : للمصلي - ، وكلامه يدل على أن الاستدلال على العين بما يستدل به من يستدل على العين غير مستحب .
وقد تقدم نصه على أن من مال في صلاته إلى أحد الشقين ، ولم يخرج عما بين المشرق والمغرب فصلاته تامة ، وأن كان الأفضل أن يتوخى الوسط بينهما .
ويدل على ذلك : أن الصحابة - رضي الله عنهم - لما فتحوا الأمصار وضعوا قبل كثير منها على الجهة ، بحيث لا يطابق ذلك سمت العين على الوجه الذي يعرفه أهل الحساب ، وصلوا إليها ، وأجمع المسلمون بعدهم على الصلاة إليها ، وهذا يدل على أن تحرير حساب مسامة العين ليس هو الأفضل ، فضلا عن أن يكون واجبا .
ولهذا ؛ لما خالف في ذلك كثير من الفقهاء المتأخرين ، واستحبوا مراعاة العين أو أوجبوه ، واستدلوا على ذلك بالنجوم ونحوها رأوا أن كثيرا من قبل البلدان منحرفة عن القبلة ، فأوجب لهم ذلك الحيرة والشك في حال سلف الأمة من الصحابة ومن بعدهم .
وقد أوجب بعضهم مراعاة ذلك وأمر بهدم كل قبلة موضوعة على خلافه ، كما ذكره حرب الكرماني ، وهذا يفضي إلى تضليل سلف الأمة ، والطعن في صلاتهم .
واستحب بعضهم الاستدلال بعروض البلدان وأطوالها ومراعاة ذلك في
الاستقبال ، وأن لم يوجبوه كما قاله يحيى بن آدم وغيره .
والصحيح : ما قاله الإمام أحمد : أن ذلك كله غير مستحب مراعاته .(2/294)
"""""" صفحة رقم 295 """"""
وبذلك يعلم أن من أوجب تعلم هذه الأدلة ، وقال : أنه فرض عين أو كفاية - ممن ينتسب إلى الإمام أحمد - فلا أصل لقوله ، وإنما تلقاه من قواعد قوم آخرين تقليدا
لهم .
ويدل على ذلك من الأدلة الشرعية : قول النبي ( : ( ( إنا أمة أمية ، لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا وهكذا ) ) ، وخنس إبهامه في الثالثة ، ثم قال : ( ( صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ) ) .
فتبين أن ديننا لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب ، كما يفعله أهل الكتاب من ضبط عباداتهم بمسير الشمس وحسباناتها ، وأن ديننا في ميقات الصيام معلق بما يرى بالبصر وهو رؤية الهلال ، فإن غم أكملنا عدة الشهر ولم نحتج إلى حساب .
وإنما علق بالشمس مقدار النهار الذي يجب الصيام فيه ، وهو متعلق بأمر مشاهد بالبصر - أيضا - ، فأوله طلوع الفجر الثاني ، وهو مبدأ ظهور الشمس على وجه الأرض ، وآخره غروب الشمس .
كما علق بمسير الشمس أوقات الصلاة ، فصلاة الفجر أول وقتها طلوع هذا الفجر ، وآخره طلوع الشمس ، وأول وقت الظهر زوال الشمس ، وآخره مصير ظل كل شيء مثله ، وهو أول وقت العصر ، وآخره اصفرار الشمس أو غروبها ، وهو أول وقت المغرب ، وآخره غروب الشفق ، وهو أول وقت العشاء ، وآخره نصف الليل أو ثلثه ، ويمتد وقت أهل الأعذار إلى طلوع الفجر ، فهذا كله غير محتاج إلى حساب ولا كتاب .
وكذلك القبلة ، لا تحتاج إلى حساب ولا كتاب ، وإنما تعرف في المدينة(2/295)
"""""" صفحة رقم 296 """"""
وما سامتها من الشام والعراق وخراسان بما بين المشرق والمغرب .
ولهذا روي عن عثمان بن عفان ، أنه قال : كيف يخطئ الرجل الصلاة - وما بين المشرق والمغرب قبلة - ما لم يتحيز المشرق عمدا .
وقد اجتمعت الأمة على صحة الصف المستطيل مع البعد عن الكعبة ، مع العلم بأنه لا يمكن أن يكون كل واحد منهم مستقبلا لعينها بحيث أنه لو خرج من وسط وجهه خط مستقيم لوصل إلى الكعبة على الاستقامة ، فإن هذا لا يمكن إلا مع التقوس ولو شيئا يسيرا ، وكلما كثر البعد قل هذا التقوس لكن لابد منه .
ومن حكى عن الإمام أحمد رواية بوجوب التقوس لطرفي الصف الطويل فقد أخطأ ، وقال عليه ما لم يقله ، بل لو سمعه لبادر إلى إنكاره والتبري من قائله ، وهو خلاف عمل المسلمين في جميع الأمصار والأعصار .
وأما قول الله ( : ( وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ( [ النحل : 16 ] .
وقول عمر : تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق .
وروي عنه ، أنه قال : تعلموا من النجوم ما تهتدون به في بركم وبحركم ، ثم أمسكوا .
فمراده - والله أعلم - : أنه يتعلم من النجوم الشرقية والغربية والمتوسطة ما يهتدى به إلى جهة القبلة بعد غروب الشمس ، وفي حالة غيبوبة القمر ، فيستدل بذلك على الشرق والغرب ، كما يستدل بالشمس والقمر عليهما ، ولم يرد - والله أعلم - تعلم ما زاد على ذلك ، ولهذا أمر بالإمساك ؛ لما يؤدي إلى التوغل في ذلك إلى ما وقع فيه المتأخرون من إساءة الظن بالسلف الصالح .
وقد اختلف في تعلم منازل القمر وأسماء النجوم المهتدى بها ، فرخص فيه النخعي ومجاهد وأحمد ، وكره قتادة وابن عيينة تعلم منازل القمر .(2/296)
"""""" صفحة رقم 297 """"""
وقال طاوس : رب ناظر في النجوم ، ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق .
وروي ذلك عنه ، عن ابن عباس .
قال البخاري - رحمه الله - :
394 - حدثنا علي بن عبد الله ، قال : ثنا سفيان : ثنا الزهري ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي أيوب الأنصاري ، أن النبي ( قال : ( ( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبرها ، ولكن شرقوا أو غربوا ) ) .
قال أبو أيوب : فقدمنا الشام ، فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة ، فننحرف ، ونستغفر الله ( .
وعن الزهري ، عن عطاء : سمعت أبا أيوب عن النبي ( - مثله .
قد تقدم هذا الحديث في ( ( كتاب : الوضوء ) ) من وجه آخر عن الزهري ، ولم يذكر فيه قول أبي أيوب ، والرواية التي ذكرها آخرا مصرحة بسماع عطاء بن يزيد له من أبي أيوب . وقد سبق الكلام على الاختلاف في إسناده في ( ( أبواب : الوضوء ) ) .
وإنما ذكر هاهنا قول أبو أيوب ليدل على أن أبا أيوب - روي الحديث عن النبي ( - ، قد فهم مما رواه أن القبلة المنهي عن استقبالها هي جهة ما بين المشرق والمغرب ، وأن الانحراف لا يخرج به عن استقبالها المنهي عنه ، فلذلك احتاج مع ذلك إلى
الاستغفار .
وإذا ثبت أن القبلة المنهي عن استقبالها واستدبارها عند التخلي هي مابين المشرق والمغرب ، فهي القبلة المأمور بأستقبالها في الصلاة - أيضاً .(2/297)
"""""" صفحة رقم 298 """"""
و ( ( المراحيض ) ) ، قال الخطابي : هو جمع : مرحاض ، وهو المغتسل ، مأخوذ من رحضت الشيء إذا غسلته .
قلت : لما كانت بيوت التخلي بالشام يستعمل فيها الماء عادةً سميت : مغتسلاً ، ولم يكن ذلك معتاداً في الحجاز ، فإنهم كانوا يستنجون بالأحجار ، فكانت المواضيع المعدة للتخلي بين البيوت تسمى عندهم : كنفاً .
والكنيف : السترة ، وكل ما يستر فهو كنيف ، ويسمى الترس كنيفاً لستره .(2/298)
"""""" صفحة رقم 299 """"""
30 - باب
قول الله ( : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً ( [ البقرة : 125 ]
حديث عمر في سلب هذه الآية ، قد خرجه البخاري فيما بعد ، وسيأتي في موضعه قريبا - إن شاء الله تعالى .
وخرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث :
الحديث الأول :
395 - حدثنا الحميدي : ثنا سفيان : ثنا عمرو بن دينار ، قال : سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت العمرة ، ولم يطف بين الصفا والمروة ، أيأتي امرأته ؟ فقال : قدم النبي ( فطاف بالبيت سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين ، وطاف بين الصفا والمروة ، وقد كان لكم في رسول الله ( أسوة حسنة .
396 - وسألنا جابر بن عبد الله ، فقال : لا يقربنها حتى يطوف بين الصفا
والمروة .
مقصوده من هذا الحديث هاهنا : أن النبي ( لما اعتمر طاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين ، وكذلك فعل في حجته - أيضا .
وقد روى جابر ، أن النبي ( هذه الآية عند صلاته خلف المقام : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً ( [ البقرة : 125 ] .
خرجه مسلم .
وهذا كله يدل على أن المراد بمقام إبراهيم في الآية : مقامه المسمى بذلك(2/299)
"""""" صفحة رقم 300 """"""
عند البيت ، وهو الحجر الذي كان فيه اثر قدمه عليه السلام ، وهذا قول كثير من المفسرين .
وقال كثير منهم : المراد بمقام إبراهيم : الحج كله .
وبعضهم قال : الحرم كله .
وبعضهم قال : الوقوف بعرفة ، ورمى الجمار والطواف ، وفسروا المصلى : بالدعاء ، وهو موضع الدعاء .
وروي هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما .
وقد يجمع بين القولين ، بأن يقال : الصلاة خلف المقام المعروف داخل فيما أمر به من الإقتداء بإبراهيم ( مما في أفعاله في مناسك الحج كلها واتخاذها مواضع للدعاء وذكر الله .
كما قالت عائشة - وروي مرفوعا - : ( ( إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله ) ) .
خرجه أبو داود والترمذي .
فدلالة الآية على الصلاة خلف مقام إبراهيم عليه السلام لا تنافي دلالتها على الوقوف في جميع مواقفه في الحج لذكر الله ودعائه والابتهال إليه . والله أعلم .
وبكل حال ؛ فالأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى لا يدخل فيه الصلاة إلى البيت إلا أن تكون الآية نزلت بعد الأمر باستقباله ، وحديث عمر قد يشعر بذلك .
فيكون حينئذ مما أمر به من اتخاذ مقام إبراهيم مصلى : استقبال البيت الذي بناه في الصلاة إليه ، كما كان إبراهيم يستقبله ، وخصوصا إذا كانت الصلاة عنده .
وعلى هذا التقدير يظهر وجه تبويب البخاري على هذه الآية في ( ( أبواب(2/300)
"""""" صفحة رقم 301 """"""
استقبال القبلة ) ) ، وإلا ففيه قلق . والله أعلم .
الحديث الثاني :
397 - حدثنا مسدد : ثنا يحيى ، عن سيف ، قال : سمعت مجاهدا قال : أتي ابن عمر فقيل له : هذا رسول الله ( دخل الكعبة . فقال ابن عمر : فأقبلت والنبي ( قد خرج وأجد بلالاً قائما بين البابين ، فسأله بلالاً ، فقلت : أصلى النبي ( في الكعبة ؟ قال : نعم ، ركعتين بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخلت ، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين .
( ( سيف ) ) : هو ابن أبي سليمان - ويقال : ابن سليمان - المكي مولى بني
مخزوم .
وقوله : ( ( قائما بين البابين ) ) ، هكذا في أكثر النسخ ، وفي بعضها ( ( بين
الناس ) ) ، ولعله أصح .
وأن قيل : أن المراد قيامه في الموضع الذي هو بين البابين بعد فتحهما الذي فعله ابن الزبير اقتضى ذلك أن يكون واقفا في جوف الكعبة .
وقد خرج النسائي هذا الحديث ، وفيه : ( ( أنه وجد بلالا واقفا على الباب ) ) .
وهذا يدل على أنه لم يكن في الكعبة .
وخرجه البخاري في ( ( المغازي ) ) ، وعنده : ( ( فوجد بلالا وراء الباب ) ) .
وهذا يدل على أنه لم يكن في وسط البيت .
وقوله : ( ( صلى ركعتين ) ) ، يخالف ما رواه نافع ، عن ابن عمر ، أنه قال(2/301)
"""""" صفحة رقم 302 """"""
نسيت أن أسأل بلالا كم صلى ؟ وقد خرجه البخاري في موضع آخر .
والمقصود من هذا الحديث في هذا الباب : صلاة النبي ( لما خرج من الكعبة ركعتين في وجه الكعبة ، والمراد بوجه الكعبة : عند باب البيت .
ويأتي مزيد بيان لذلك فيما بعد - إن شاء الله تعالى .
الحديث الثالث :
398 - ثنا إسحاق بن نصر : ثنا عبد الرزاق : ابنا ابن جريج ، عن عطاء ، قال : سمعت ابن عباس قال : لما دخل النبي ( البيت دعا في نواحيه كلها ، ولم يصل حتى خرج منه ، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة ، وقال ( ( هذه القبلة ) ) .
هكذا خرجه البخاري عن إسحاق بن نصر ، عن عبد الرزاق .
وقد رواه أصحاب عبد الرزاق كلهم ، منهم : الإمام أحمد ، وإسحاق بن
راهويه ، فجعلوه : عن ابن عباس ، عن أسامة بن زيد .
وكذا رواه أصحاب ابن جريج وعنه ، منهم : محمد بن بكر البرساني ، وأبو عاصم ، ويحيى بن سعيد وغيرهم .
فسقط من إسناد البخاري ذكر : ( ( أسامة بن زيد ) ) ، وقد نبه على ذلك الإسماعيلي والبيهقي .
لكن رواه همام ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، لم يذكر فيه : ( ( أسامة ) ) .
وهذا مما كان ابن عباس يرسله احيانا ، ويسنده احيانا .
وكذلك خرجه البخاري في ( ( الحج ) ) من حديث عكرمة ، عن ابن عباس ، إلا أن رواية عبد الرزاق ، عن ابن جريج فيها ذكر ( ( أسامة ) ) ؛ فإسقاطه منها وهم .(2/302)
"""""" صفحة رقم 303 """"""
وقد تعارض ما نقله ابن عمر ، عن بلال ، وما نقله ابن عباس ، عن أسامة في صلاة النبي ( في الكعبة .
وقد روي عن ابن عمر ، عن أسامة وبلال وعثمان بن طلحة ، أن النبي ( صلى في الكعبة - أيضا - ، بخلاف رواية ابن عباس ، عن أسامة ، وهو في رواية لمسلم في ( ( صحيحه ) ) على اختلاف وقع في لفظه خارج ( ( الصحيح ) ) ؛ فإن من رواة الحديث من أسند الصلاة فيها إلى بلال دون صاحبيه اللذين كانا معه في الكعبة .
وقد روي ذلك عن أسامة من وجهين آخرين .
خرجهما الإمام أحمد في ( ( المسند ) ) .
وقد اختلف الناس في الجمع بين إثبات صلاة النبي ( في الكعبة ونفيها :
فمنهم : من حمل الصلاة على الصلاة اللغوية ، وهي الدعاء ، وجمعوا بذلك بين حديثي أسامة وبلال ، لا سيما وقد روي عن أسامة إثبات الصلاة ونفيها .
والأكثرون حملوا الصلاة على الصلاة الشرعية ، وهو الأظهر .
ثم اختلفوا :
فمنهم : من رجح حديث الإثبات على حديث النفي ، وقال : مع تعارض النفي والإثبات يقدم الإثبات ؛ لأن المثبت معه زيادة علم خفيت على النافي ، وهذه طريقة الشافعي وأحمد وغيرهما من العلماء .
وذكر الأزرقي في ( ( كتابه ) ) ، عن عبد العزيز بن أبي رواد ، قال بلغني أن الفضل بن عباس دخل مع النبي ( ، ثم أرسله النبي ( في حاجة ، فجاء وقد(2/303)
"""""" صفحة رقم 304 """"""
صلى النبي ( ، ولم يره فلذلك كان ينكر أنه صلى .
وحديث الفضل في إنكاره الصلاة ، قد خرجه الإمام أحمد من رواية أخيه
عبد الله ، عنه .
ومنهم : من قال : المثبت للصلاة أراد به صلاته في عام الفتح ، والنافي لها أراد صلاته في حجة الوداع ، وهذا قول ابن حبان .
وهو ضعيف جدا ؛ لوجهين :
أحدهما : أن ابن عباس لم ينفي صلاة النبي ( في الكعبة في وقت دون وقت ، بل كان ينكر ذلك جملة ، وكان يكره الصلاة في الكعبة ، ويقول : لا يستدبر من البيت شيء .
والثاني : أن النبي ( لم يدخل الكعبة في حجة الوداع بالكلية حتى يقال أنه دخل ولم يصل ، وابن عباس قال : أنه دخل ودعا ولم يصل .
وقد اختلف العلماء في حكم الصلاة في الكعبة :
فكان ابن عباس يكره الصلاة فيها بكل حال : الفرض والنفل وهو قول طاوس ، وأصبغ من المالكية ، وابن جرير الطبري .
وقالت طائفة : تجوز فيها صلاة الفرض والنفل ، وهو قول الثوري ، وأبي حنيفة ، والشافعي .
وقالت طائفة : يصلي فيها النفل دون الفرض ، وهو قول عطاء ، ومالك ، وأحمد في ظاهر مذهبه .
لأن النبي ( صلى فيها نفلا والنوافل يخفف فيها في استقبال القبلة دون
الفرائض ، بدليل صحة النفل على الراحلة في السفر إلى غير القبلة ، واما(2/304)
"""""" صفحة رقم 305 """"""
الفرض فلا يجوز إلى القبلة مع القدرة ، فيشترط له استقبال جميع البيت ، وأن لا يكون مستدبرا لشيء
منه .
وقال أحمد : إذا صلى فيها لا يصلي إلى أي جهة شاء ، بل يستقبل الجهة التي استقبلها النبي ( ، وهي تجاه الباب إذا دخل ، ويجعل الباب وراء ظهره .
ولم يرخص في الصلاة فيها إلا على هذا الوجه ، وحمل أصحابنا ذلك على الاستحباب ، وفيه نظر .
وقوله : ( ( ركع ركعتين في قبل القبلة ) ) ، قبل - بضم الباء ، ويجوز
إسكانها - ، والمراد به : وجه الكعبة ، كما في حديث ابن عمر المتقدم . وقد تقدم أن المراد به : عند باب البيت .
وقد روي أنه المقام الذي أم فيه جبريل النبي ( عند فرض الصلاة .
خرجه الأزرقي من حديث مسلم بن خالد ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن حكيم بن حكيم ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن ابن عباس ، أن النبي ( قال : ( ( أمني جبريل عند باب الكعبة مرتين ) ) .
وكذا خرجه ابن وهب في ( ( مسنده ) ) عن يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، به .
وقد خرجه أبو داود والترمذي ، وعندهما : ( ( أمني جبريل عند البيت مرتين ) ) .
وروى ابن جرير من طريق عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : البيت كله قبلة ، وقبلة البيت الباب .
وروى الأزرقي بإسناده عن ابن أبي نجيح ، قال : قال عبد الله بن عمرو بن(2/305)
"""""" صفحة رقم 306 """"""
العاص : البيت كله قبلة ، وقبلته وجهه ، فإن أخطأك وجهه فقبلة النبي ( ، وقبلته ما بين الميزاب إلى الركن الشامي الذي يلي المقام .
وكأنه يريد أن هذه الجهة هي التي كان النبي ( يصلي إليها وهو بالمدينة ، فإنها قبلة أهل المدينة .
وروى - أيضا - بإسناده عن ابن جريج ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن ابن السائب ، أن النبي ( صلى يوم الفتح في وجهة الكعبة ، حذو الطرقة البيضاء ، ثم رفع يديه ، فقال : ( ( هذه القبلة ) ) .
وخرج الإمام أحمد من طريق ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، أن ابن عباس كان يخبر ، أن الفضل بن عباس أخبره ، أنه دخل مع النبي ( البيت ، وأن النبي ( لم يصل في البيت حين دخل ، ولكنه لما خرج فنزل ركع ركعتين عند باب البيت .
وخرج النسائي من حديث عطاء ، عن أسامة ، أنه دخل هو والنبي ( البيت ، ثم خرج فصلى ركعتين مستقبل وجهة الكعبة ، فقال : ( ( هذه القبلة ، هذه القبلة ) ) .
وقوله ( : ( ( هذه القبلة ) ) ، قال ابن جرير : مراده : أن الكعبة هي القبلة ، وأن قبلة الكعبة الباب .
وقد صرح جماعة من العلماء ، منهم : سفيان الثوري بأن الصلاة إلى جهة الباب عند البيت أفضل من الصلاة إلى جهة أخرى ، وأن وقوف الإمام عند الباب أفضل .
وقال الخطابي : يحتمل أنه أراد أنه قد استقر أمر هذه القبلة فلا ينسخ كما(2/306)
"""""" صفحة رقم 307 """"""
نسخ بيت المقدس ، ويحتمل أن يكون علمهم السنة في مقام الإمام واستقبال البيت من جهة الكعبة ، وأن كانت الصلاة من جهاتها جائزة ، ويحتمل أن يكون دل به على أن حكم من شاهد البيت وعاينه في استقباله حسا خلاف حكم من غاب عنه ، فيصلي إليه توخيا واستدلالا .
وزعم غيره : أن مراده : أن القبلة هي الكعبة نفسها ، لا المسجد ولا الحرم ، وهذا قاله بعض من يرى أن الواجب على البعيد الاستدلال على العين .
وقول الخطابي أصح من هذا . والله أعلم .
وقد اختلف الناس في مقام إبراهيم الذي صلى النبي ( وراءه ركعتين في حجه وعمرته : هل كان عند باب البيت ؟ أم كان في مكانه الآن ؟ على قولين :
أحدهما : أنه كان في مكانه الآن ، وهذا قول ابن أبي مليكة وعمرو بن دينار وسفيان بن عيينة ، ولم يذكر الأزرقي غير هذا القول .
وروى شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، قال : كان المقام إلى لزق البيت ، فقال عمر لرسول الله ( : لو نحيته من البيت ليصلي الناس إليه ، ففعل ذلك رسول الله ( ، فانزل الله ( : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى ( [ البقرة : 125 ] .
وذكر موسى بن عقبة : أن النبي ( أخره في يوم الفتح إلى مكانه الآن ، وكان ملصقا بالبيت .
فعلى هذا : يكون النبي قد صلى وراءه في موضعه الآن في حجته ، وأما في عمرة القضية فصلى وراءه عند البيت .
والقول الثاني : أنه كان في عهد النبي ( ملصقا بالبيت ، وإنما أخره عمر إلى مكانه الآن ، هذا قول عروة بن الزبير ، رواه هشام بن عروة ، عن أبيه .(2/307)
"""""" صفحة رقم 308 """"""
وروي عنه ، عن أبيه ، عن عائشة .
وروى الإمام أحمد عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، : سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أن عمر أول من وضع المقام في موضعه الآن ، وإنما كان في قبل
الكعبة .
وعن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، قال : كان المقام إلى جنب البيت ، كانوا يخافون عليه ، من السيول ، وكان الناس يصلون خلفه ، فقال عمر للمطلب : هل تدري أين كان موضعه الأول ؟ قال : نعم ، فوضعه موضعه الآن .
وروي - أيضا - نحوه عن ابن عيينة ، خلاف قوله الأول .
وقال مالك : كان المقام في عهد إبراهيم ( في مكانه الآن ، وكان أهل الجاهلية ألصقوه إلى البيت خيفة السيل ، فكان كذلك في عهد النبي ( وأبي بكر ، فلما ولي عمر وحج رده إلى موضعه الذي هو فيه اليوم ، بعد أن قاس موضعه بخيوط قديمة كانت في خزائن الكعبة ، قيس بها حين أخر - : ذكر ذلك صاحب ( ( تهذيب المدونة ) ) .
وذكر ابن سعد أن النبي ( صلى يوم الفتح ركعتي الطواف خلف المقام ، وهو لاصق بالبيت .
فعلى هذا ؛ يحتمل أن النبي ( لما صلى في قبل الكعبة وقال : ( ( هذه القبلة ) ) أشار إلى المقام الذي أمر الله باتخاذه مصلى .
وقد ورد هذا في رواية الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، أن النبي ( دخل يوم الفتح الكعبة وأخرج مقام إبراهيم ، وكان في الكعبة فألزقه إلى(2/308)
"""""" صفحة رقم 309 """"""
حائط الكعبة ، ثم قال : ( ( أيها الناس ، هذه القبلة ) ) .
خرجه ابن مردويه .
والكلبي ، متروك لا يحتج به .
وقد ذهب قوم إلى أنه يستحب صلاة ركعتي الطواف في قبل البيت حيث كان المقام عندهم .
فروى عبد الرزاق ، عن جعفر ، عن عطاء بن السائب ، أنه رأى سالم بن
عبد الله طاف مع هشام بن عبد الملك ، فلما فرغا من طوافهما ذهب هشام ليركع عند
المقام ، فأخذ سالم بيده ، وقال : هاهنا ، فانطلق به إلى قبل البيت ، فترك من كسوته ثلاث شقاق مما يلي الحجر ، ثم استقبل الرابعة ، ثم صلى إليها ، ثم قال : أن المقام كان هاهنا ليس بينه وبين البيت إلا مقدار أربع أذرع ، فلما كثر الناس وتضيقوا حمله عمر فجعله هاهنا في هذا المكان الذي هو فيه .
وقد روي : أن الناس كانوا يصلون إلى جانب البيت ، وأن أول من صلى خلف المقام عمر في خلافته .
روى الإمام أحمد في ( ( كتاب المناسك ) ) عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن
هشام ، عن أبيه ، أن النبي ( وأبا بكر وعمر - بعض خلافته - كانوا يصلون إلى صقع البيت ، حتى صلى عمر خلف المقام .
وعن أبي معاوية ، عن هشام ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله ( إذا طاف بالبيت صلى الركعتين إلى صقع البيت .
قال أبو معاوية : يعني : حائط البيت . قال : وفعل ذلك أبو بكر ، ثم فعل ذلك عمر شطرا من خلافته ، ثم قال : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً ( [ البقرة : 125 ] ، فصلى إلى المقام ، فصلى الناس بعده .(2/309)
"""""" صفحة رقم 310 """"""
وهذا يوهم أن النبي ( لم يصل إلى المقام ، وهذا باطل يرده حديث ابن عمر وجابر كما تقدم ، وهذا يناقض ما قاله عروة : أن المقام كان في عهد النبي ( وأبي بكر ملصقا بالبيت ، فكيف يكون كذلك ثم يزعم أن النبي ( وأبا بكر صليا عند البيت ، ولم يصليا خلف المقام إلى أن صلى خلفه عمر ؟ فقد اضطرب قول عروة في هذا واختلف .
وقد كان النبي ( يخطب إذا خطب بالمسجد الحرام عند باب الكعبة .
وروي أنه خطب يوم الفتح على درج باب الكعبة .
وفي ( ( المسند ) ) ، عن ابن عباس ، أن النبي ( خطب وظهره إلى الملتزم .
ولم يكن بمكة منبر في عهد النبي ( .
وقد ذكر الأزرقي في ( ( كتابه ) ) عن جده ، عن عبد الرحمن بن حسن ، عن
أبيه ، قال : أول من خطب بمكة على منبر معاوية بن أبي سفيان ، قدم به من الشام سنة حج في خلافته ، منبر صغير على ثلاث درجات ، وكانت الخلفاء والولاة قبل ذلك يخطبون يوم الجمعة على أرجلهم قياما في وجه الكعبة وفي الحجر .(2/310)
"""""" صفحة رقم 311 """"""
31 - باب
التوجه نحو القبلة حيث كان
وقال أبو هريرة : قال النبي ( : ( ( استقبل القبلة وكبر ) ) .
مراده بهذا الباب : أن القبلة يجب التوجه إلى نحوها حيث كان المصلي من أقطار الأرض في حضر أو سفر ، كما دل عليه قوله تعالى : ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ( [ البقرة : 150 ] .
وحديث أبي هريرة الذي أشار إليه ، هو قول النبي ( للمسيء في صلاته لما علمه الصلاة : ( ( إذا قمت إلى صلاتك فاستقبل القبلة وكبر ) ) .
وقد خرجه مسلم بهذا اللفظ .
وخرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث :
الحديث الأول :
399 - حدثنا عبد الله بن رجاء : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كان رسول الله ( يصلي نحو بيت المقدس ستة عشر - أو سبعة عشر - شهرا ، وكان رسول الله ( يحب أن يتوجه إلى الكعبة ، فأنزل الله ( : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ( [ البقرة : 144 ] ، فتوجه نحو الكعبة ، وقال السفهاء من الناس - وهم اليهود - : ( مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( [ البقرة : 142 ] ، فصلى مع النبي ( رجل ، ثم خرج بعدما صلى ، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر(2/311)
"""""" صفحة رقم 312 """"""
يصلون نحو بيت المقدس ، فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله ( ، وأنه توجه نحو الكعبة ، فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة .
قد تقدم هذا الحديث في ( ( كتاب : الإيمان ) ) ، فإن البخاري خرجه في ( ( باب : الصلاة من الإيمان ) ) عن عمرو بن خالد ، عن زهير ، عن أبي إسحاق ، بأتم من هذا السياق ، واستوفينا الكلام على فوائده هنالك بما فيه كفاية .
الحديث الثاني :
400 - حدثنا مسلم بن إبراهيم : ثنا هشام : ثنا يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن
عبد الرحمن ، عن جابر ، قال : كان النبي ( يصلي على راحلته حيث توجهت به ، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة .
محمد بن عبد الرحمن ، هو : ابن ثوبان .
والمراد من هذا الحديث هاهنا : أن النبي ( لم يكن يصلي المكتوبة إلا على الأرض مستقبل القبلة ، فأما صلاة الفريضة على الأرض فواجب لا يسقط إلا في صلاة شدة الخوف ، كما قال تعالى : ( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ( [ البقرة : 239 ] .
وهل يسقط في الطين أو في المرض ؟ فيه قولان مشهوران للعلماء هما روايتان عن أحمد .
وفي ذلك أحاديث وآثار يطول ذكرها ربما تذكر في موضع آخر - إن شاء الله تعالى .
ولو صلى قائما في محمل على ظهر دابة ، فهل تصح صلاته ؟ حكى أصحابنا في ذَلكَ روايتين عن أحمد ، وللشافعية وجهان ، ومنهم من فرق بين أن تكون الدابة واقفة فتصح ، وسائرة فلا تصح .(2/312)
"""""" صفحة رقم 313 """"""
وحكى بعض أصحابنا الخلاف - أيضا - في الصلاة في السفينة لمن قدر على الخروج منها إلى الأرض ، ولم يشق على أصحابه .
ولأصحابنا وجهان في صحة الصلاة على العجلة - أيضا .
ومن الشافعية من حكى الإجماع على صحة الصلاة في السفينة قائما ، ولكن حكى في الصلاة في الزورق الجاري وجهين ، ففرق بين السفينة والزورق ، وهو الصغير من السفن .
ولا فرق في الصلاة بين النساء والرجال .
وخرج أبو داود من رواية النعمان بن المنذر ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : سألت عائشة : هل رخص للنساء أن يصلين على الدواب ؟ قالت : لم يرخص لهن في شدة ولا رخاء .
وأما ما خرجه بقي بن مخلد في ( ( مسنده ) ) : ثنا أبو كريب : ثنا يونس : ثنا عنبسة بن الأزهر ، عن أبي خراش ، عن عائشة ، قالت : كنا إذا سافرنا مع رسول الله ( نؤمر إذا جاء وقت الصلاة أن نصلي على رواحلنا .
فهو حديث لا يثبت ، وعنبسة بن الأزهر : قال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه ولا يحتج به . وأبو خراش : لا يعرف . ويونس ، هو : ابن بكير ، مختلف في أمره .
وأما استقبال القبلة في صلاة الفريضة ، ففرض مع القدرة لا يسقط إلا في حال شدة الخوف - أيضا - ، ويأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى .
وكذلك يسقط في حق من كان مربوطا إلى غير القبلة ، أو مريضا ليس عنده من يديره إلى القبلة فيصلي بحسب حاله .(2/313)
"""""" صفحة رقم 314 """"""
وفي إعادته خلاف . والصحيح عند أصحاب الشافعي : أن عليهم الإعادة ، والصحيح عند أصحابنا : أنه لا إعادة عليهم ، وعند المالكية : يعيد في الوقت إذا قدر ، ولا يعيد بعده .
وأما حكم الصلاة النافلة على الراحلة ، فيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى .
الحديث الثالث :
401 - حدثنا عثمان : ثنا جرير : عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : قال عبد الله : صلى رسول الله ( - قال إبراهيم : لا أدري زاد أو نقص - ، فلما سلم ، قيل : يا رسول الله ، أحدث في الصلاة شيء ؟ قال : ( ( وما ذاك ؟ ) ) قالوا : صليت كذا وكذا ، فثنى رجله ، واستقبل القبلة ، وسجد سجدتين ، ثم سلم ، فلما أقبل علينا بوجهه قال : ( ( أنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به ، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني ، وإذا شك أحدكم فليتحر الصواب فليتم عليه ، ثم يسلم ، ثم يسجد سجدتين ) ) .
المقصود من هذا الحديث هاهنا : أن من سها في صلاته وسلم وهو ناس ، ثم ذكر بعد سلامه ، فإنه يسجد للسهو ويستقبل القبلة ، فإن سجود السهو من تمام الصلاة ، ولو كان بعد السلام فهو جزء من الصلاة ، فيشترط له استقبال القبلة كالصلاة .
ويؤخذ من ذلك : أنه لا يسجد للتلاوة ولا للشكر إلا إلى القبلة ، وهذا على قول من اعتبر الطهارة لذلك - وهم جمهور المسلمين - ظاهر ، وأما من لم يعتبر الطهارة له - كما سيأتي في موضعه - ، فإنه لا يوجب استقبال القبلة له -(2/314)
"""""" صفحة رقم 315 """"""
أيضا - وكذلك صلاة الجنازة .
وقد حكي أن بعض المتقدمين كان يرى أنها دعاء ، فلا يشترط لها الوضوء ، فقيل له : فتفعل إلى غير القبلة ؟ فرجع عن قوله .(2/315)
"""""" صفحة رقم 316 """"""
باب ما جاء في القبلة ، ومن لم ير الإعادة على من سها
فصلى إلى غير القبلة
وقد سلم النبي ( في ركعتي الظهر ، فأقبل على الناس بوجهه ، ثم أتم ما بقي .
خرج فيه ثلاث أحاديث :
الحديث الأول :
قال :
402 - حدثنا عمرو بن عون : ثنا هشيم ، عن حميد ، عن انس ، قال : قال عمر : وافقت ربي في ثلاث : قلت : يا رسول الله ، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً ( [ البقرة : 125 ] ، وآية الحجاب ، قلت : يا رسول الله ، لو أمرت نسائك أن يحتجبن ؛ فإنه يكلمهن البر والفاجر ، فنزلت آية الحجاب ، واجتمع نساء النَّبيّ ( في الغيرة عليه ، فقلت لهن : ( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنّ ( [ التحريم : 5 ] ، فنزلت هذه الآية .
وقال ابن أبي مريم : أبنا يحيى بن أيوب : حدثني حميد ، قال : سمعت أنسا -
بهذا .
هذا الحديث مشهور عن حميد ، عن انس ، وقد خرجه البخاري - أيضا - في ( ( التفسير ) ) من حديث يحيى بن سعيد ، عن حميد .(2/316)
"""""" صفحة رقم 317 """"""
ورواه - أيضا - يزيد بن زريع وابن علية وابن أبي عدي وحماد بن سلمة
وغيرهم ، عن حميد ، عن انس .
وإنما ذكر البخاري رواية يحيى بن أيوب : حدثني حميد ، قال : سمعت أنسا ؛ ليبين به أن حميدا سمعه من انس ؛ فإن حميدا يروي عن انس كثيرا .
وروي عن حماد بن سلمة ، أنه قالَ : أكثر حديث حميد لم يسمعه من انس ، إنما سمعه من ثابت ، عنه .
وروي عن شعبة ، أنه لم يسمع من انس إلا خمسة أحاديث .
وروي عنه ، أنه لم يسمع منه إلا بضعة وعشرين حديثا .
وقد سبق القول في تسامح يحيى بن أيوب والمصريين والشاميين في لفظة : ( ( ثنا ) ) - : كما قاله الإسماعيلي .
وقال علي بن المديني في هذا الحديث : هو من صحيح الحديث .
ولم يخرج مسلم هذا الحديث ، إنما خرج من رواية سعيد بن عامر ، عن
جويرية ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر ، قال : وافقت ربي في ثلاث : في
الحجاب ، وفي أسارى بدر ، وفي مقام إبراهيم .
وقد أعله الحافظ أبو الفضل ابن عمار الشهيد - رحمه الله - بأنه روى عن سعيد بن عامر ، عن جويرية ، عن رجل ، عن نافع ، أن عمر قال : وافقت ربي في ثلاث . فدخل في إسناده رجل مجهول ، وصار منقطعا .
وروى ابن أبي حاتم من طريق عبد الوهاب بن عطاء ، عن ابن جريج ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : سمعت جابرا يحدث عن حجة الوداع ، قال : لما طاف النبي ( قال له عمر : هذا مقام إبراهيم ؟ قال : ( ( نعم ) ) ، قال : أفلا(2/317)
"""""" صفحة رقم 318 """"""
نتخذه مصلى ؟ فأنزل الله ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً ( [ البقرة : 125 ] .
وهذا غريب ، وهو يدل على أن هذا القول كان في حجة الوداع ، وأن الآية نزلت بعد ذلك ، وهو بعيد جدا ، وعبد الوهاب ليس بذاك المتقن .
وقد خالفه الحفاظ ، فرووا في حديث حجة الوداع الطويل ، عن جعفر بن
محمد ، عن أبيه ، عن جابر ، أن النبي ( أتى إلى المقام ، وقرا : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً ( [ البقرة : 125 ] ثُمَّ صلى ركعتين ، والمقام بينه وبين البيت .
وروى الوليد بن مسلم عن مالك ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن جابر ، قال : لما وقف النبي ( يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم ، قال له عمر : يا رسول الله ، هذا مقام إبراهيم الذي قال الله : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً ( [ البقرة : 125 ] ؟ قال : ( ( نعم ) ) .
قال الوليد : قلت لمالك : هكذا حدثك ؟ قال : نعم .
وقد خرجه النسائي بمعناه .
والوليد ، كثير الخطأ - : قاله أبو حاتم وأبو داود وغيرهما .
وذكر فتح مكة فيه غريب أو وهم ؛ فإن هذه قطعة من حديث جابر في حجة الوداع .
وقد روي حديث انس ، عن عمر من وجه آخر :
خرجه أبو داود الطيالسي : ثنا حماد بن سلمة : ثنا علي بن زيد ، عن انس ، قال : عمر : وافقت ربي في أربع - فذكر الخصال الثلاث المذكورة في حديث حميد ، إلا أنه قال في الحجاب : فأنزل الله : ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً(2/318)
"""""" صفحة رقم 319 """"""
فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ( [ الأحزاب : 53 ] ، قال : ونزلت هذه الآية : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ
طِينٍ ( [ المؤمنون : 12 ] ، فلما نزلت قلت أنا : تبارك الله أحسن الخالقين ، فنزل :
( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( [ المؤمنون : 14 ] .
وقول عمر : ( ( وافقت ربي في ثلاث ) ) ، ليس بصيغة حصر ، فقد وافق في أكثر من هذه الخصال الثلاث والأربع .
ومما وافق فيه القرآن قبل نزوله : النهي عن الصلاة على المنافقين .
وقوله لليهود : من كان عدوا لجبريل ، فنزلت الآية .
وقوله للنبي ( لما اعتزل نساءه ووجد عليهن : يا رسول الله ، أن كنت
طلقتهن ، فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل ، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك . قال عمر : وقل ما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول ، فنزلت آية التخيير : ( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنّ ( [ التحريم : 5 ] الآية .
وقد خرج هذا الأخير مسلم من حديث ابن عباس ، عن عمر .
وأما موافقته في النهي عن الصلاة على المنافقين ؛ فمخرج في ( ( الصحيحين ) ) من حديث ابن عباس ، عن عمر - أيضا .
وأما موافقته في قوله : ( مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ ( [ البقرة : 97 ] ، فرواه : أبو جعفر الرازي ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي ليلى ، عن عمر ورواه : داود ، عن الشعبي ، عن عمر ، وهما منقطعان .(2/319)
"""""" صفحة رقم 320 """"""
وقد روي موافقته في خصال آخر ، وقد عد الحافظ أبو موسى المديني من ذلك اثنتي عشرة خصلة .
وتخريج البخاري لهذا الحديث في هذا الباب : يدل على أنه فسر قوله تعالى :
( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً ( [ البقرة : 125 ] بالأمر بالصلاة إلى البيت الذي بناه إبراهيم ، وهو الكعبة ، والأكثرون على خلاف ذلك ، كما سبق ذكره .
الحديث الثاني :
قال :
403 - حدثنا عبد الله بن يوسف : أبنا مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن
عبد الله بن عمر ، قال : بينا للناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت ، فقال : أن رسول الله ( قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة ، فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة .
وقد تقدم في حديث البراء أن هذه القصة كانت في صلاة العصر ، وفي حديث ابن عمر أنها كانت في صلاة الصبح .
وقد قيل : أن أهل قباء لم يبلغهم ذلك إلى الصبح ، ومن دونهم إلى المدينة بلغهم في العصر يوم النسخ .
وفي هذا بعد ، وقد سبق ذكره في الكلام على حديث البراء في ( ( كتاب : الإيمان ) ) .
ومقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب : أن من صلى إلى غير القبلة لعذر ، مثل أن يظن أن القبلة في جهة فيصلي إليها ، ثم تبين له أن جهة القبلة غيرها ، إما في الصلاة أو بعد تمامها ، فإنه لا إعادة عليه ، وأن كان قد صلى إلى غير القبلة سهوا ، فإنه استند إلى ما يجوز له الإسناد إليه عند اشتباه القبلة ،(2/320)
"""""" صفحة رقم 321 """"""
وهو اجتهاده ، وعمل بما أداه اجتهاده إليه ، فلا يكون عليه إعادة .
كما أن أهل قباء صلوا بعض صلاتهم إلى بيت المقدس ، مستصحبين ما أمروا به من استقبال بيت المقدس ، ثم تبين لهم أن الفرض تحول إلى الكعبة ، فبنوا على صلاتهم وأتموها إلى الكعبة .
وهذا هو قول جمهور العلماء ، منهم : ابن المسيب ، وعطاء ، والحسن ،
والشعبي ، والثوري ، وابن المبارك ، وأبو حنيفة ، والشافعي - في القديم - ، وأحمد في ظاهر مذهبه ، حتى قال أبو بكر عبد العزيز : لا يختلف قوله في ذلك ، وهو قول إسحاق والمزني .
وقال مالك والأوزاعي : يعيد في الوقت ، ولا يعيد بعده .
قال ابن عبد البر : وهذا على الاستحباب دون الوجوب .
وقال الشافعي - في الجديد - : يجب عليه أن يعيد .
وعليه عامة أصحابه ، وهو قول المغيرة المخزومي من المالكية ، وحكاه بعض أصحابنا رواية عن أحمد .
وفرقوا بين هذا وبين أهل قباء ، بأن أهل قباء لم يعتمدوا في صلاتهم على اجتهاد يحتمل الخطأ ، بل على نص تمسكوا به ، والناسخ له لم يبلغهم إلا في أثناء الصلاة .
فإن قيل : أن النسخ لا يثبت في حقهم إلا بعد بلوغهم ، فلم يثبت في حقهم إلا في أثناء صلاتهم ، فلذلك بنوا على ما مضى منها .
وأن قيل : يثبت في حقهم قبل ذلك ، فقد تمسكوا بنص لا يجوز لهم تركه ولا الاجتهاد في خلافه ، ولا يلزمهم البحث عن استمراره ، فلا ينسبون إلى تفريط ، بخلاف المجتهد المخطئ .
ويمكن أن يجاب عن ذلك : بأن أهل قباء قد صح أنهم بلغهم ذلك في(2/321)
"""""" صفحة رقم 322 """"""
صلاة الصبح ، وقد ثبت بحديث البراء أن القبلة حولت في العصر ، وبينهما زمان طويل ، في مثله تنتشر الحوادث المهمة الواقعة ، ولا سيما مثل هذه الحادثة المتعلقة بالصلاة ، فإذا لم ينسبوا ذلك إلى نوع التفريط ، فالمجتهد في طلب القبلة بما يسوغ له الاعتماد عليه أولى أن لا ينسب إلى تفريط وتقصير ، إذا استفرغ جهده في الاستدلال والطلب ، فإن ذلك يقع في الأسفار كثيرا ، فالأمر بالإعادة يشق بخلاف الأمر بإعادة صلاة واحدة .
هذا حكم من خفيت عليه القبلة واجتهد في طلبها وأخطأ .
فإن تعذر الاجتهاد لظلمة ونحوها أو فقدت الأمارات أو تعارضت ، وصلى بحسب حاله ، ففي الإعادة وجهان لأصحابنا ، أصحهما : لا يعيد ، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وغيرهما ، لأنه شرط عجز عنه فسقط كالطهارة والسترة ، وكذا الجاهل بأدلة القبلة ، إذا لم يجد من يسأله .
ومن أصحابنا من قال : لا إعادة عليه ، وجها واحدا .
وهذا كله في السفر .
فأما في الحضر فلو أخطأ فيه القبلة أعاد عند الثوري ، واحمد في ظاهر مذهبه .
الحديث الثالث :
404 - حدثنا مسدد : ثنا يحيى ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : صلى النبي ( الظهر خمسا ، فقالوا : أزيد في الصلاة ؟ قال : ( ( وما ذاك ؟ ) ) قالوا : صليت خمسا ، فثنى رجليه ، فسجد سجدتين .
قد بين البخاري في أول الباب وجه الاستدلال بحديث سجود السهو على أن السهو عن استقبال القبلة لا يبطل الصلاة ، وهو أن النبي ( سلم من ركعتين(2/322)
"""""" صفحة رقم 323 """"""
في الظهر وأقبل على الناس بوجهه ثم أتم ما بقي ، وهذا إشارة منه إلى حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين .
وقد خرجه البخاري في ( ( أبواب سجود السهو ) ) ، لكن ليس عنده أنه أقبل على الناس بوجهه ، وإنما فيه : أنه قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) أنه أتى جذعا في قبلة المستجد فاستند إليها .
وهذا يدل على أنه ولى ظهره إلى القبلة واستقبل الناس بوجهه ، إلا أن يكون استند إليها وظهره إلى الناس ووجهه إلى القبلة .
وإنما يعرف لفظ : ( ( ثم أقبل على الناس بوجهه ) ) في حديث ابن مسعود الذي خرجه البخاري هاهنا .
وقد خرجه النسائي من طريق شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، ولفظه : أن رسول الله ( صلى صلاة الظهر ، ثم أقبل عليهم بوجهه ، فقالوا : أحدث في الصلاة حدث ؟ قال : ( ( وما ذاك ؟ ) ) فأخبروه بصنيعه ، فثنى رجليه ، واستقبل القبلة ، فسجد سجدتين ، ثم سلم .
ولكن هنا لم يكن قد بقي عليه غير سجدتي السهو ، على تقدير أن يكون زاد في الصلاة ؛ فإن إبراهيم شك : هل كان زاد فيها أو نقص ، كذا في ( ( صحيح مسلم ) ) التصريح بأن هذا الشك من إبراهيم .
وفي صحيح مسلم - أيضا - ، عن عمران بن حصين ، قال : سلم(2/323)
"""""" صفحة رقم 324 """"""
رسول الله ( في ثلاث ركعات من العصر ، ثم قام فدخل الحجرة ، فقام رجل بسيط اليدين ، فقال : أقصرت الصلاة يا رسول الله ؟ فخرج مغضبا ، فصلى الركعة التي كان ترك ، ثم سلم ، ثم سجد سجدتي السهو ، ثم سلم .
ودخوله الحجرة يلزم منه الانحراف عن القبلة بالكلية ؛ لأن الحجرة كانت عن يساره .
ومقصود البخاري : أن استدبار القبلة والانحراف عنها في الصَّلاة سهوا عن غير تعمد لا تبطل به الصَّلاة ، كما دل عليه حديث سجود السهو ، وقد نص عليه أحمد وغيره ، فيستدل بذلك على أن من صلى إلى غير القبلة عن غير تعمد أنه لا تبطل صلاته بذلك ، ولا إعادة عليه ، والله أعلم .
ورواية النسائي لحديث ابن مسعود يستدل بها على أن من نسي سجود السهو حتى سلم ثم ذكر فإنه يسجد ، وأن كان قد صرف وجهه عن قبلته ، وهو قول
الجمهور ، خلافا للحسن وابن سيرين في قولهما : لا يسجد حينئذ .
وقصة ذي اليدين يستدل بها على أن كلام الناسي لا يبطل ؛ كما هو قول الشافعي ، وأحمد في إحدى الروايات عنه .
وعلى أن العمل الكثير في الصلاة نسيانا يعفى عنه ، وهو رواية عن أحمد ، وقول للشافعي .
واستدل به بعضهم : على أن من سلم من نقصان فإنه يبني على ما مضى من صلاته ، وأن طال الفصل ، وهو قول الأوزاعي وغيره .
وسيأتي ذكر ذلك مفصلا في موضعه - إن شاء الله تعالى .(2/324)
"""""" صفحة رقم 325 """"""
33 - باب
حك البزاق باليد من المسجد
لما ذكر البخاري - رحمه الله - أبواب استقبال القبلة في الصلاة أتبعها بما تصان منه قبلة المصلي التي يصلي إليها ، من البصاق ونحوه .
وخرج الحديث في هذا الباب ثلاثة أحاديث :
الحديث الأول :
405 - حدثنا قتيبة : ثنا إسماعيل بن جعفر ، عن حميد ، عن أنس ، أن النبي ( رأى نخامة في القبلة ، فشق ذلك عليه حتى رئي ذلك في وجهه ، فقام فحكه بيده ، فقال : ( ( إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه - أو أن ربه بينه وبين القبلة - ، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلة ، ولكن عن يساره أو تحت قدمه ) ) و ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ، ثم رد بعضه على بعض ، فقال : ( ( أو يفعل هكذا ) ) .
وخرجه البخاري في موضع آخر من ( ( كتابه ) ) من طريق زهير ، عن حميد .
ولم يخرجه مسلم ؛ لما تقدم من قول حماد بن سلمة : أكثر ما رواه حميد ، عن أنس لم يسمعه منه ، إنما سمعه من ثابت .
وقد قال ذلك في هذا الحديث بخصوصه ، فذكر علي بن المديني ، قال : سمعت يحيى بن سعيد يقول : كان حماد بن سلمة يقول : حديث حميد عن انس ، أن النبي ( بزق في ثوبه ، ثم دلك بعضه ببعض ، إنما رواه حميد ، عن ثابت ، عن أبي حمزة . قال يحيى : ولم يقل شيئا ؛ هذا قد رواه قتادة عن أنس .(2/325)
"""""" صفحة رقم 326 """"""
فجعل يحيى القطان رواية قتادة عن أنس لهذا الحديث شاهدة لرواية حميد عن
أنس ، وأن لم يصرح بسماعه منه ، واكتفى بذلك .
وتبعه البخاري على ذلك ، وقد خرج حديث قتادة عن أنس فيما بعد .
وقد أشار البخاري في ( ( كتاب : الوضوء ) ) في ( ( باب : البصاق والمخاط يصيب الثوب ) ) أن سعيد بن أبي مريم روى هذا الحديث ، عن يحيى بن أيوب وعن حميد : سمعت أنسا ، فذكره ، فصرح فيه بالسماع .
وقد تقدم القول في قول يحيى بن أيوب : ( ( ثنا ) ) .
وهذا الحديث دال على كراهة أن يبصق المصلي في قبلة التي يصلي إليها ، سواء كان في مسجد ، أو لا ، فإن كان مسجد تأكدت الكراهة بأن البزاق في المسجد
خطيئة ، كما يأتي الحديث بذلك في بابه ، فإن كان في قبلة المسجد كان اشد كراهة .
وقد أمر النبي ( ببناء المساجد في الدور : أن تنظف وتطيب ، وسنذكره في موضع آخر - أن شاء الله .
وقد فسر قول الله ( : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ( [ النور : 36 ] : ببنائها وتطهيرها وتنزيهها عما لا يليق بها .
وفي الحديث : نهى المصلي أن يبزق وهو في الصلاة قبل قبلته بكل حال ، وليس فيه التصريح بالنهي عن أن يبزاق عن يمينه ، وورد التصريح به في أحاديث آخر ، وهو يفهم من أمره بأن يبزق عن يساره أو تحت قدمه أو في طرف ردائه .
وذكر اليسار وتحت القدم بلفظه ، والبصاق في طرف ردائه بينه بفعله و فكان دليلا على طهارة البزاق ، وهو رد على من قال بنجاسته ، كما سبق ذكره في ( ( أبواب : الوضوء ) ) ودليلا على أن تلويث طرف الثوب بالبزاق لحاجة إليه ليس(2/326)
"""""" صفحة رقم 327 """"""
مما ينبغي استقذاره والتنزه منه ؛ فلهذا بينه بالفعل مع القول .
وفي هذا الحديث : أنه حكه بيده ، فيحتمل أنه أراد أنه باشر ذلك بنفسه ، ولم يوله غيره من أصحابه ، وبهذا فسره الإسماعيلي ، ويحتمل أنه أراد أنه باشر حكه بيده من غير حائل حكه به .
وتبويب البخاري يدل على هذا ؛ ولهذا بوب بعده : ( ( باب : حك المخاط بالحصى من المسجد ) ) .
وقد روى عائد بن حبيب ، عن حميد ، عن انس ، أن النبي ( رأى نخامة في قبلة المسجد ، فغضب حتى احمر وجهه ، فجاءته امرأة من الأنصار ، فحكتها ، وجعلت مكانها خلوقا ، فقال رسول الله ( : ( ( ما أحسن هذا ) ) .
خرجه النسائي وابن ماجه وابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) .
وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله - يعني : أحمد - ذكر عائد بن حبيب ، فأحسن الثناء عليه . قلت له : روى عن حميد عن انس - فذكر له الحديث - ؟ فقال : قد روى الناس هذا على غير هذا الوجه .
يشير إلى رواية حميد التي خرجها البخاري ؛ فإنها مخالفة لرواية عائد في حكه
بيده ، وليس فيها ذكر الخلوق ، لكنها زيادة لم تنفها رواية البخاري ولم تثبتها .
وصرح بعض أصحابنا بوجوب حك النخامة عن حائط المسجد ، وباستحباب تخليق موضعها .
وإنما يكره البصاق إلى القبلة في الصلاة أو المسجد ، فإما من بصق إلى القبلة في غير مسجد فلا يكره له ذلك . وقد سبق ذكره في ( ( باب : استقبال القبلة بالغائط والبول ) ) .
وقوله ( ( ( أن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه ، أو أن ربه بينه وبين(2/327)
"""""" صفحة رقم 328 """"""
القبلة ) ) يدل على قرب الله تعالى من المصلي في حال صلاته ، وقد تكاثرت النصوص بذلك ، قال تعالى : ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ( [ العلق : 19 ] .
وفي ( ( صحيح مسلم ) ) ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء ) ) .
وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحيهما ) ) من حديث الحارث الأشعري ، عن النبي ، قال : ( ( أن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس
كلمات ، أن يعمل بهن ، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ) ) - فذكر الحديث - ، وفيه : ( ( وآمركم بالصلاة ؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا ) ) .
وصححه الترمذي .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة في ( ( صحيحه ) ) من حديث أبي ذر ، عن النبي ( ، قال : ( ( لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت ، فإذا التفت انصرف عنه ) ) .
وروى عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : إذا صلى أحدكم فلا يلتفت ؛ فإنه يناجي ربه ، أن ربه أمامه ، وإنه يناجيه .
قال عطاء : وبلغنا أن الرب عز وجل يقول : ( ( يا بن آدم إلى من تلتفت ، أنا خير لك ممن تلتفت إليه ) ) .
وقد رواه إبراهيم بن يزيد وعمر بن قيس ، عن عطاء ، عن أبي هريرة -(2/328)
"""""" صفحة رقم 329 """"""
مرفوعا كله .
ورواية ابن جريج أصح - : قاله العقيلي وغيره .
وكأن مقصود النبي ( بذكر هذا : أن يستشعر المصلي في صلاته قرب الله منه ، وأنه بمرأى منه ومسمع ، وانه مناج له وانه يسمع كلامه ويرد عليه جواب مناجاته له .
كما في ( ( صحيح مسلم ) ) ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( : ( ( أن العبد إذا قال : الحمد لله رب العالمين ، قال الله : حمدني عبدي ) ) - وذكر رده عليه في آيات الفاتحة إلى آخرها .
فمن استشعر هذا في صلاته أوجب له ذلك حضور قلبه بين يدي ربه ، وخشوعه له ، وتأدبه في وقوفه بين يديه ، فلا يلتفت إلى غيره بقلبه ولا ببدنه ، ولا يعبث وهو واقف بين يديه ، ولا يبصق أمامه ، فيصير في عبادته في مقام الإحسان ، يعبد الله كأنه
يراه ، كما فسر النبي ( الإحسان بذلك في سؤال جبريل ( له ، وقد سبق حديثه في ( ( كتاب : الإيمان ) ) .
وخرج النسائي من حديث ابن عمر ، قال : أخذ النبي ( ببعض جسدي ، فقال : ( ( أعبد الله كأنك تراه ) ) .
وقد كان ابن عمر قبل هذه الوصية وامتثلها ، فكان يستحضر في جميع(2/329)
"""""" صفحة رقم 330 """"""
أعماله وعباداته قرب الله منه واطلاعه عليه .
وكان عروة بن الزبير قد لقيه مرة في الطواف بالبيت فخطب إليه ابنته سودة ، فسكت ابن عمر ولم يرد عليه شيئا ، ثم لقيه بعد ذلك بعدما تقدم المدينة ، فاعتذر له عن سكوته عنه ، بأنا كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا .
وقد أخبر الله تعالى بقربه ممن دعاه ، وإجابته له ، فقال : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ( [ البقرة : 186 ] .
وقد روي في سبب نزولها : أن أعرابيا قال : يا رسول الله ، أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله ( : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ( [ البقرة :
186 ] .
خرجه ابن جرير وابن أبي حاتم .
وروي عبد الرزاق ، عن جعفر بن سليمان ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : سأل أصحاب رسول الله ( : أين ربنا ؟ فأنزل الله ( : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ( [ البقرة : 186 ] .
وروى عبد بن حميد بإسناده ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قَالَ : نزلت هذه الآية : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( [ غافر : 60 ] ، قالوا : كيف لنا به أن نلقاه حتى
ندعوه ؟ فأنزل الله عز وجل على نبيه ( : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ( [ البقرة : 186 ] ، فقالوا : صدق ربنا ، هو بكل مكان .(2/330)
"""""" صفحة رقم 331 """"""
وقد خرج البخاري في ( ( الدعوات ) ) حديث أبي موسى ، أنهم رفعوا أصواتهم بالتكبير ، فقال لهم النبي ( : ( ( إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا قريبا ) ) .
وفي رواية : ( ( أنه أقرب إليكم من أعناق رواحلكم ) ) .
ولم يكن أصحاب النبي ( يفهمون من هذه النصوص غير المعنى الصحيح المراد بها ، يستفيدون بذلك معرفة عظمة الله وجلاله ، وإطلاعه على عباده وإحاطته بهم ، وقربه من عابديه ، وإجابته لدعائهم ، فيزدادون به خشية لله وتعظيما وإجلالا ومهابة ومراقبة واستحياء ، ويعبدونه كأنهم يرونه .
ثم حدث بعدهم من قل ورعه ، وساء فهمه وقصده ، وضعفت عظمة الله وهيبته في صدره ، وأراد أن يري الناس امتيازه عليهم بدقة الفهم وقوة النظر ، فزعم أن هذه النصوص تدل على أن الله بذاته في كل مكان ، كما يحكى ذلك عن طوائف من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، وهذا شيء ما خطر لمن كان قبلهم من الصحابة - رضي الله عنهم - ، وهؤلاء ممن يتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وقد حذر النبي ( أمته منهم في حديث عائشة الصحيح المتفق عليه .
وتعلقوا - أيضا - بما فهموه بفهمهم القاصر مع قصدهم الفاسد بآيات في كتاب الله ، مثل قوله تعالى : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ( [ الحديد : 4 ] وقوله : ( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ( [ المجادلة : 7 ] ، فقال من قال من علماء السلف حينئذ : إنما أراد أنه معهم بعلمه ، وقصدوا بذلك إبطال ما قاله أولئك ، مما لم يكن أحد قبلهم قاله ولا فهمه من القرآن .(2/331)
"""""" صفحة رقم 332 """"""
وممن قال : أن هذه المعية بالعلم مقاتل بن حيان ، وروي عنه أنه رواه عن
عكرمة ، عن ابن عباس .
وقاله الضحاك ، قال : الله فوق عرشه ، وعلمه بكل مكان .
وروي نحوه عن مالك وعبد العزيز الماجشون والثوري واحمد وإسحاق وغيرهم من أئمة السلف .
وروى الإمام أحمد : ثنا عبد الله بن نافع ، قال : قال مالك : الله في السماء ، وعلمه بكل مكان .
وروي هذا المعنى عن علي وابن مسعود - أيضا .
وقال الحسن في قوله تعالى : ( إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ( [ الإسراء : 60 ] ، قال : علمه بالناس .
وحكى ابن عبد البر وغيره إجماع العلماء من الصحابة والتابعين في تأويل قوله :
( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ( [ الحديد : 4 ] أن المراد علمه .
وكل هذا قصدوا به رد قول من قال : أنه تعالى بذاته في كل مكان .
وزعم بعض من تحذلق أن ما قاله هؤلاء الأئمة خطأ ؛ لأن علم الله صفة لا تفارق ذاته ، وهذا سوء ظن منه بأئمة الإسلام ؛ فإنهم لم يريدوا ما ظنه بهم ، وإنما أرادوا أن علم الله متعلق بما في الأمكنة كلها ففيها معلوماته ، لا صفة ذاته ، كما وقعت الإشارة في القرآن إلى ذلك بقوله تعالى : ( وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ( [ طه : 98 ] وقوله : ( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ( [ غافر : 7 ] وقوله : ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ( [ الحديد : 4 ] .
وقال حرب : سألت إسحاق عن قوله : ( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ( [ المجادلة : 7 ] ؟ قال : حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد ،(2/332)
"""""" صفحة رقم 333 """"""
وهو بائن من خلقه .
وروى عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب مر بقاص ، وقد رفعوا أيديهم ، فقال : ويلكم أن ربكم أقرب مما ترفعون ، وهو أقرب إلى أحدكم من حبل الوريد .
وخرجه أبو نعيم ، وعنده : أن المار والقائل بذلك هو ابن عمر .
وخطب عمر بن عبد العزيز ، فذكر في خطبته : أن الله أقرب إلى عباده من حبل الوريد . وكان مجاهد حاضرا يسمع ، فأعجبه حسن كلام عمر .
وهذا كله يدل على أن قرب الله من خلقه شامل لهم ، وقربه من أهل طاعته فيه مزيد خصوصية ، كما أن معيته مع عباده عامة حتى ممن عصاه ؛ قالَ تعالى : ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ( [ النساء : 108 ] ، ومعيته مع أهل طاعته خاصة لهم ، فهوَ سبحانه مع الذين اتقوا ومع الذين هم محسنون . وقال لموسى وهارون : ( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ( [ طه : 46 ] وقال موسى : ( إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ( [ الشعراء : 62 ] وقال في حق محمد وصاحبه
( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ( [ التوبة : 40 ] .
ولهذا قال النبي ( لأبي بكر في الغار : ( ( ما ظنك بأثنين الله ثالثهما ) ) .
فهذه معية خاصة غير قوله : ( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ ( [ المجادلة : 7 ] الآية ، فالمعية العامة تقتضي التحذير من علمه وإطلاعه وقدرته وبطشه وانتقامه . والمعية الخاصة تقتضي حسن الظن بإجابته ورضاه وحفظه وصيانته ، فكذلك القرب .(2/333)
"""""" صفحة رقم 334 """"""
وليس هذا القرب كقرب الخلق المعهود منهم ، كما ظنه من ظنه من أهل
الضلال ، وإنما هو قرب ليس يشبه قرب المخلوقين ، كما أن الموصوف به ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( [ الشورى : 11 ] .
وهكذا القول في أحاديث النزول إلى سماء الدنيا فإنه من نوع قرب الرب من داعيه وسائليه ومستغفريه .
وقد سئل عنه حماد بن زيد فقال : هو في مكانه يقرب من خلقه كما يشاء .
ومراده أن نزوله ليس هو انتقال من مكان إلى مكان كنزول المخلوقين .
وقال حنبل : سألت أبا عبد الله : ينزل الله إلى سماء الدنيا ؟ قالَ : نعم . قلت : نزوله بعلمه أو بماذا ؟ قال : اسكت عن هذا ، مالك ولهذا ؟ أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد ، إلا بما جاءت به الآثار ، وجاء به الكتاب ، قال الله : ( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ ( [ النحل : 74 ] ينزل كيف يشاء ، بعلمه وقدرته وعظمته ، أحاط بكل شيء علما ، لا يبلغ قدره واصف ، ولا ينأى عنه هرب هارب ، عز وجل .
ومراده : أن نزوله تعالى ليس كنزول المخلوقين ، بل هو نزول يليق بقدرته وعظمته وعلمه المحيط بكل شيء ، والمخلوقون لا يحيطون به علما ، وإنما ينتهون إلى ما أخبرهم به عن نفسه ، أو أخبر به عنه رسوله .
فلهذا اتفق السلف الصالح على إمرار هذه النصوص كما جاءت من غير زيادة ولا نقص ، وما أشكل فهمه منها ، وقصر العقل عن إدراكه وكل إلى عالمه .(2/334)
"""""" صفحة رقم 335 """"""
الحديث الثاني :
406 - حدثنا عبد الله بن يوسف : أبنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله ( رأى بصاقا في جدار القبلة فحكه ، ثم أقبل على الناس ، فقال : ( ( إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه ؛ فإن الله قبل وجهه إذا صلى ) ) .
الحديث الثالث :
407 - ثنا عبد الله بن يوسف : ثنا مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن رسول الله ( رأى في جدار القبلة مخاطا - أو بصاقا ، أو نخامة - فحكه .
قد ذكرنا في الكلام على حديث انس ما يكون شرحا لهذين الحديثين ، فلا حاجة إلى إعادته .(2/335)
"""""" صفحة رقم 336 """"""
34 - باب
حك المخاط بالحصى من المسجد
وقال ابن عباس : أن وطئت على قذر رطب فاغسله ، وأن كان يابسا فلا .
روى وكيع في ( ( كتابه ) ) عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن يحيى بن وثاب ، قال : قلت لابن عباس : أتوضأ ثم أمشي إلى المسجد حافيا ؟ قال : صل ، لا بأس به ، إلا أن يصيبك نتن رطب فتغسله .
قال : وثنا أصحابنا ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، قال : لقد رأيتنا وما نتوضأ من موطئ إلا أن يكون رطبا فنغسل أثره .
ومعنى هذا : أن من كان حافيا فوطئ على نجاسة يابسة لم تعلق برجله فإنه يصلي ولا يغسل رجليه ، وأن أصابه نجاسة رطبة غسلها .
وروي هذا المعنى عن كثير من التابعين ، منهم : الحسن والشعبي وعطاء
والنخعي ، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري والشافعي واحمد ، ولا نعلم عن أحد من العلماء خلاف ذلك .
وأما أن كان ماشيا في نعل أو خف فأصاب أسفله نجاسة ، فقد سبق ذكر الاختلاف في وجوب غسله والاكتفاء بمسحه ودلكه بالتراب .
ولعل البخاري إنما أدخل هذه المسألة في هذا الباب ؛ ليستدل بها على طهارة المخاط والنخامة والبصاق ؛ فإنه لو كان نجسا لوجب غسله من حائط المسجد ، ولم يكتف بمسحه بالحصى .(2/336)
"""""" صفحة رقم 337 """"""
قال البخاري - رحمه الله - :
408 ، 409 - ثنا موسى بن إسماعيل : ثنا إبراهيم بن سعد : أبنا ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن ، أن أبا هريرة وأبا سعيد حدثاه ، أن رسول الله ( رأى نخامة في جدار المسجد ، فتناول حصاة فحكها ، فقال : ( ( إذا تنخم أحدكم فلا يتخمن قبل
وجهه ، ولا عن يمينه ، وليبصق عن يساره ، أو تحت قدمه اليسرى ) ) .
والظاهر : أن مراد البخاري بهذا الحديث في هذا الباب : أنه يجوز حك النخامة بحصاة من المسجد ؛ فإن الظاهر يدل على أنه تناول من المسجد حصاة وحك بها ما في قبلته .
وقد يكون ذكره لقول ابن عباس في اليابس أنه لا يغسله من رجله ، ثم يدخل ويصلي به ؛ ليبين به : أن ما يصيب تراب المسجد وحصاه من اليابسات المستقذرة لا تجب صيانتها عنه ، كما أن النبي ( حك النخامة اليابسة بحصاة من حصى المسجد ، فكذلك ما يصيب الأرجل من اليابسات المستقذرة لا تصان المساجد عنه ، بل يدخل الحافي ، ويصلي بها في المساجد ، وكذلك المتنعل يصلي في نعليه - كما تقدم - ، وقد يكون فيهما طين أو غير ذلك من الأعيان المستقذرة ، ولا تستحب صيانة المساجد عن ذلك .(2/337)
"""""" صفحة رقم 338 """"""
35 - باب
لا يبصق عن يمينه في الصلاة
خرج فيه حديثين :
الأول :
410 ، 411 - حديث : أبي هريرة وأبي سعيد الذي خرجه في الباب الماضي ، خرجه من طريق عقيل ، عن الزهري ، ولفظه مثل لفظه ، إلا أنه قال :
( ( في حائط المسجد ) )
والثاني :
قال :
412 - ثنا حفص بن عمر : ثنا شعبة : أخبرني قتادة ، قال : سمعت أنسا ، قال : قال النبي ( : ( ( لا يتفلن أحدكم بين يديه ، ولا عن يمينه ، ولكن عن يساره ، أو تحت رجله ) ) .
وليس في لفظ الحديثين تخصيص ذلك بالصلاة ، كما بوب عليه ، ولكن هو في رواية أخرى لحديث أنس ذكرها في الباب الآتي .
وقد يفهم من تبويب البخاري اختصاص كراهة البصاق عن اليمين بحال الصلاة ، وهو قول المالكية ، كما سنذكره فيما بعد - أن شاء الله .
والأكثرون على خلاف ذلك .(2/338)
"""""" صفحة رقم 339 """"""
قال معاذ : ما بصقت عن يميني منذ أسلمت .
خرجه ابن سعد .
وروي كراهته عن ابن مسعود وابن سيرين .
قال أحمد في رواية مهنا : يكره أن يبزق الرجل عن يمينه في الصلاة ، وفي غير الصلاة ؛ لأن عن يمينه ملك الحسنات .
يشير إلى حديث أبي هريرة ، عن النبي ( : ( ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبزق عن يمينه ؛ فإن عن يمينه ملكا ) ) .
وقد خرجه البخاري فيما بعد .
وخرج أبي داود هذه اللفظة من حديث أبي سعيد ، عن النبي ( .
وخرج الطبراني بإسناد ضعيف ، عن أبي أمامة ، قال : قام النبي ( ، فاستفتح الصلاة ، فرأى نخامة في القبلة ، فخلع نعله ، ثم مشى إليها فحتها ، يفعل ذلك ثلاث مرات ، فلما قضى صلاته أقبل على الناس ، فقال : ( ( أن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يقوم بين يدي الله عز وجل مستقبل ربه تبارك وتعالى ، وملكه عن يمينه ، وقرينه عن يساره ، فلا يتفلن أحدكم بين يديه ، ولا عن يمينه ، ولكن عن يساره ، وتحت قدمه اليسرى ، ثم ليعرك فليشدد عركه ، فإنما يعرك أذني الشيطان ) ) .
وروى وكيع في ( ( كتابه ) ) عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة ، قال : المصلي لا يبزق في القبلة ، ولا عن يمينه ؛ فإن عن يمينه كاتب الحسنات ،(2/339)
"""""" صفحة رقم 340 """"""
ولكن عن شماله ، أو خلف ظهره .
وقد قالَ كثير من السلف في قول الله عز وجل : ( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ( [ ق : 17 ] : أن الذي عن اليمين كاتب الحسنات ، والذي عن الشمال كاتب السيئات ، منهم : الحسن ، والأحنف بن قيس ، ومجاهد ، وابن جريج ، والإمام أحمد .
وزاد ابن جريج ، قال : أن قعد فأحدهما عن يمينه ، والآخر عن شماله ، وأن مشى فأحدهما أمامه والآخر خلفه ، وأن رقد فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه .
وعلى هذا ، فقد يخلو اليمين عن الملك إذا مشى أو رقد .
وحديث أبي أمامة فيه أن الذي على الشمال هو القرين .
يريد به : الشيطان الموكل بالعبد ، كما في ( ( صحيح مسلم ) ) عن ابن مسعود ، عن النبي ( ، قال : ( ( ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة ) ) . قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : ( ( وإياي ، ولكن الله أعانني عليه ، فلا يأمرني إلا بخير ) ) .
وقد ورد في حديث خرجه الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري - مرفوعاً - : ( ( أن القرين هو كاتب السيئات ) ) .
وإسناده شامي ضعيف .(2/340)
"""""" صفحة رقم 341 """"""
36 - باب
ليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى
فيه حديثان :
أحدهما :
413 - ثنا آدم : ثنا شعبة : ثنا قتادة ، قال سمعت أنس بن مالك ، قالَ : قال رسول الله ( ( ( أن المؤمن إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه ، فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه ، ولكن عن يساره ، أو تحت قدمه ) ) .
هذا مما صرح فيه بالسماع في جميع إسناده في هذه الرواية والتي قبلها ، وهو من صحيح حديث قتادة ، عن أنس .
والثاني
414 - ثنا عليّ : ثنا سفيان : ثنا الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي
سعيد ، أن النبي ( أبصر نخامة في قبلة المسجد ، فحكها بحصاة ، ثم نهى أن يبزق الرجل بين يديه ، أو عن يمينه ، ولكن عن يساره ، أو تحت قدمه اليسرى .
وعن الزهري : سمع حميداً ، عن أبي سعيد - نحوه .
ليس في هذه الرواية ذكر : أبي هريرة ، كما في الروايتين المتقدمتين عن الزهري .
وفي هذه الرواية : أن سفيان بن عيينة تارة ذكر سماع الزهري له من حميد ، وتارة عنعنه .
وعلي شيخ البخاري ، هو : ابن المديني ، وكانت له عناية بذلك .(2/341)
"""""" صفحة رقم 342 """"""
وأما سماع حميد له من أبي هريرة وأبي سعيد ، فقد صرح به إبراهيم بن سعد في رواية عن الزهري ، وقد خرجه البخاري فيما تقدم .
ودل هذا الحديث - مع غيره من الأحاديث المتقدمة - : على أن المصلي يبزق عن شماله أو تحت قدمه اليسرى .
وقد خرج مسلم في ( ( صحيحه ) ) من حديث يزيد بن عبد الله بن الشخير ، عن أبيه ، أنه صلى مع النبي ( فتنخع فدلكها بنعله اليسرى .
وخرجه أبو داود ، وعنده : عن يزيد ، عن أخيه مطرف ، عن أبيه ، قال : أتيت رسول الله وهو يصلي ، فبزق تحت قدمه اليسرى .
ورواه ابن المبارك عن الجريري ، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله ( وهو يتنخم في المسجد ، ثم دلكه بنعله اليسرى .
وخرجه الطبراني بإسناد ضعيف ، وفيه : أنه كان يصلي على البلاط .
والبلاط خارج المسجد .
وروي إبراهيم بن طهمان ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن محمد بن أبي عاصم ، عمن رأى رسول الله ( يصلي وفي رجليه نعلان ، فبزق فمسح بساقه بنعله في التراب ، والمسجد يومئذ فيه التراب .
وخرج أبو داود من حديث الفرج بن فضالة ، عن أبي سعيد ، قال :(2/342)
"""""" صفحة رقم 343 """"""
رأيت واثلة بن الأسقع في مسجد دمشق بصق على البوري ، ثم مسحه برجله ، فقيل له : لم فعلت هذا ؟ قال : لأني رأيت رسول الله يفعله .
وهذا يدل على جوازه في المسجد إذا غيبه ، وهو قول بعض أصحابنا ، ونص عليهِ أحمد في رواية أبي طالب ، قالَ : لا يبصق في المسجد تحت البارية ، فإنه يبقى تحت البارية ، وإذا كان حصى فلا باس به ؛ لأنه يواري البصاق .
وروى عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن العطاء ، قال : لا بأس بالتنخم في الحجر إذا غيبه .
يعني : حجر البيت .
وفي ( ( تهذيب المدونة ) ) : ولا يبصق في المسجد فوق الحصير ويدلكه ولكن تحته ، ولا يبصق في حائط القبلة ، ولا في مسجد غير محصب إذا لم يقدر على دفن البصاق فيه ، وأن كان المسجد محصبا فلا بأس أن يبصق بين يديه وعن يمينه وعن يساره وتحت قدمه ويدفنه . انتهى .
ولعل هذا في غير الصَّلاة .
وروى أبو عبيد بإسناد عن عمر ، أنه حصب المسجد ، وقال : هو أغفر
للنخامة .
وقال : معناه : أستر لها وأشد تغطية .
قال أبو عبيد : فيه من الفقه الرخصة في البزاق في المسجد إذا دفن .
وقالت طائفة : لا يفعل ذلك في المسجد ، بل خارج المسجد ، ولا يبزق في المسجد إلا في ثوبه ، أو يبزق في المسجد ويحذف بصاقه إلى خارج المسجد حتى يقع خارجاً منه .(2/343)
"""""" صفحة رقم 344 """"""
وهذا هو أكثر النصوص عن أحمد .
وكان أحمد يبزق في المسجد في الصلاة ، ويعطف بوجهه حتى يلقيه خارج المسجد عن يساره - : نقله عنه أبو داود .
وقال بكر بن محمد : قلت لأبي عبد الله - يعني : أحمد بن حنبل - : ما ترى في الرجل يبزق في المسجد ثم يدلكه برجله ؟ قال : هذا ليس هو في كل الحديث . قال : والمساجد قد طرح فيها بواري ليس كما كانت . قال : فأعجب إلي إذا أراد أن يبزق وهو يصلي أن يبزق عن يساره إذا كان البزاق يقع في غير المسجد ، يقع خارجا ، وإذا كان في مسجد ولا يمكنه أن يقع بزاقه خارجا أن يجعله في ثوبه .
وقد ذكرنا فيما تقدم عن حذيفة ، أن المصلي له أن يبصق خلفه ، وهذا إنما يكون بالتفات شديد بوجهه عن القبلة .
وقد روي هذا الحديث مرفوعا من حديث يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، عن منصور ، عن ربعي بن حراش ، عن طارق بن عبد الله المحاربي ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا كنت في الصلاة ، فلا تبزق عن يمنيك ولا بين يديك ، ولكن خلفك أو تلقاء شمالك أو تحت قدمك اليسرى ) ) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي .
وصححه ، وقال : العمل عليه عند أهل العلم .
وبوب عليه النسائي : ( ( الرخصة للمصلي أن يبزق خلفه أو تلقاء شماله ) ) .
وقد أنكر الإمام أحمد هذه اللفظة في هذا الحديث ، وهي قوله : ( ( خلفك ) ) ، وقال : لم يقل ذَلِكَ وكيع ولا عبد الرزاق .
قالَ الدارقطني : هي وهم من يحيى بن سعيد ، ولم يذكرها جماعة من(2/344)
"""""" صفحة رقم 345 """"""
الحفاظ من أصحاب سفيان ، وكذلك رواه أصحاب منصور عنه ، لم يقل أحد منهم : ( ( ابزق خلفك ) ) .
وروى سليمان بن حرب عن شعبة ، عن القاسم بن مهران ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، : ( ( إذا كان أحدكم في صلاته فلا يبزق عن يمينه ولا عن
يساره ، ولا عن بين يديه ، ولكن تحت قدمه اليسرى ، فإن لم يستطع ففي ثوبه ) ) .
وأخطأ سليمان في قوله : ( ( ولا عن يساره ) ) ؛ فقد رواه أصحاب شعبة ، عنه ، وقالوا : ( ( ولكن عن يساره تحت قدمه ) ) - : ذكره ابن أبي حاتم .
وقد خرجه مسلم في ( ( صحيحه ) ) كذلك .
واستدل ابن عبد البر بحديث تنخم النبي ( في صلا ته على أن النحنحة ونحوها لا تبطل الصلاة إذا كانت لعذر . قال : لأن للتنخم صوتا كالتنحنح ، وربما كان معه ضرب من النفخ عند القذف بالبصاق .
وقد أشار البخاري إلى ذلك في أواخر ( ( كتاب : الصلاة ) ) - أيضا - ، ويأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى .(2/345)
"""""" صفحة رقم 346 """"""
37 - باب
كفارة البزاق في المسجد
415 - حدثنا آدم : ثنا شعبة : ثنا قتادة : قال : سمعت أنس بن مالك ، قال : قال : رسول الله ( : ( ( البزاق في المسجد خطيئة ، وكفارتها دفنها ) ) .
قوله : ( ( خطيئة ) ) ظاهرة يقتضي أنه معصية ، وجعل كفارة هذه المعصية دفنها .
وهذا يستدل به من يقول : إن البزاق لا يجوز في المسجد مع دفنه ، كما لا يجوز لاحد أن يعمل ذنبا ويتبعه بما يكفره من الحسنات الماحية .
وفي ( ( صحيح مُسْلِم ) ) عَن أبي ذر ، عَن النَّبِيّ ( ، قَالَ : ( ( عرضت عليَّ أعمال أمتي ، حسنها وسيئها ، فوجدت فِي محاسن أعمالها الأذى يماط عَن الطريق ، ووجدت فِي مساوىء أعمالها النخامة تكون فِي المسجد لا تدفن ) ) .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان في ( ( صحيحة ) ) من حديث السائب بن خلاد ، أن رجلا أم قوما فبزق في القبلة ورسول الله ( ينظر ، فقال رسول الله ( حين فرغ : ( ( لا يصلي لكم ) ) ، فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم فمنعوه ، وأخبروه بقول رسول الله ( ، فذكر ذلك لرسول الله ( ، فقال : ( ( نعم ) ) . وحسبت أنه قال :
( ( إنك آذيت الله ورسوله ) ) .
وخرج أبو داود وابن خزيمة وابن حبان في ( ( صحيحهما ) ) من حديث حذيفة ، عن النبي ( ، قال : ( ( من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه ) ) .(2/346)
"""""" صفحة رقم 347 """"""
وخرج ابن خزيمة وابن حبان من حديث ابن عمر ، عن النبي ( ، قال :
( ( يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه ) ) .
وقال أبو هريرة : إن المسجد لينْزوي من النخامة كما تنْزوي الجلدة من النار .
خرجه وكيع وابن أبي شيبة وغيروهما .(2/347)
"""""" صفحة رقم 348 """"""
38 - باب
دفن النخامة في المسجد
416 - حدثنا إسحاق بن نصر : أبنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام بن منبه : سمع أبا هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه ؛ فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه ، ولا عن يمينه ؛ فإن عن يمينه ملكا ، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه ، فيدفنها ) ) .
دفن النخامة في المسجد مأمور به ، وهو كفارة لها كما في الحديث قبله ، وقد ورد الأمر بالحفر لها والأبعاد فيه ، كما في ( ( مسند الإمام أحمد ) ) من حديث عبد الرحمن بن أبي حدرد ، عن أبي هريرة ، عن النبي ( ، قال : ( ( إذا بزق أحدكم في المسجد فليحفر فليبعد ، فإن يفعل فليبزق في ثوبه ) ) .
وقد ورد تعليل ذلك بخشية إصابتها للمصلين ، ففي ( ( المسند ) ) عن سعد ابن أبي وقاص ، أن رسول الله ( قال : ( ( إذا تنخم أحدكم في المسجد فليبعدها ، لا تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه ) ) .
وقال علي بن المديني : هو حسن الإسناد .
وهذا مما يدل على إن قرار المسجد وباطنه يجوز أن يجعل مدفنا للأقذار
الطاهرة .
وقد كان بعض الصحابة والتابعين يتفلى في المسجد ويقتل القمل ويدفنه في المسجد ، روي ذلك عن معاذ وأبي هريرة وأبي إمامة وأبي العالية .(2/348)
"""""" صفحة رقم 349 """"""
وهو مما يستدل به على طهارة دم القمل والبراغيث ونحوها .
وحكى بعض أصحابنا في جواز دفنها في المسجد وجهين ، ولعلهما مبنيان على الخلاف في طهارة دمها ونجاسته .
ومذهب مالك : يكره قتلها في المسجد وإلقاؤها فيه .
وفي المسند بإسناد فيه بعض من لا يعرف ، أن رجلا وجد في ثوبه قملة ، فأخذها ليطرحها في المسجد ، فقال رسول الله ( : ( ( لا تفعل ، ردها في ثوبك حتى تخرج من المسجد ) ) .
وبإسناد تخر عن رجل من الأنصار ، أن رسول الله ( قال : ( ( إذا وجد أحدكم القملة فليصرها ، ولا يلقيها في المسجد ) ) .
وقد قيل : أنه مرسل .
وكذلك خرجه أبو داود في مراسيله .
والذي قبله - أيضا - مرسل - : نص عليه الإمام أحمد ، وذكر أن بعضهم
وصله ، وأخطأ في وصله . والله أعلم .(2/349)
"""""" صفحة رقم 350 """"""
39 - باب
إذا بدره البصاق فليأخذ بطرف ثوبه
417 - حدثنا مالك بن إسماعيل : ثنا زهير : ثنا حُميد ، عن أنس ، أن النبي ( رأى نخامة في القبلة فحكها بيده ، ورئي منه كراهية - أو رئي كراهية - لذلك وشدته عليه ، فقال : ( ( إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربه - أو إن ربه بينه وبين القبلة - ، فلا يبزقن في قبلته ، ولكن عن يساره أو تحت قدمه ) ) ، ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه ، ورد بعضه على بعض . قال : ( ( أو يفعل هكذا ) ) .
ومقصوده بتخريج هذا الحديث في هذا الباب : ذكر حكم البصاق في الثوب خاصة ، وقد بينه ( بقوله وفعله ، كما سبق التنبيه على ذلك ، وأن فيه إشارة إلى أن تلويث الثوب للحاجة إليه مما ينبغي التنزه عنه ، كما قد يأنف منه بعض أهل الكبر والأنفة .
والمصلي إن كان في المسجد فالأولى أن يبصق في ثوبه ويدلكه بعضه ببعض ، كما فعل النبي ( ؛ ليذهب أثره ، وهو أولى من البصاق في المسجد مع تغييبه ؛ للاختلاف في جوازه .
وإن كان خارج المسجد ، فقالت طائفة من أصحابنا : الأولى أن يبصق عن يساره ؛ لما فيه من صيانة الثوب عن تلويثه بالمستقذرات .
وخرج مسلم من حديث القاسم بن مهران ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، أن
رسول الله ( رأى نخامة في قبلة المسجد ، فاقبل عَلَى الناس ، فقال : ( ( ما بال حدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه ؟ أيحب أن يُستقبل فيتنخع(2/350)
"""""" صفحة رقم 351 """"""
فِي وجهه ، فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عَن يساره تَحْت قدمه ، فإن لَمْ يجد فيتفل هكذا ) ) . ووصف الْقَاسِم : فتفل فِي ثوبه ، ثُمَّ مسح بعضه عَلَى بعض .
وفي رِوَايَة لَهُ : قَالَ أبو هُرَيْرَةَ : كأني أنظر إلى رَسُول الله ( يرد ثوبه بعضه عَلَى بعض .
وهذا يستدل به على أن البصاق على الأرض حيث أمكن فهو أولى من البصاق في الثوب ؛ لأنه لم يأمر به إلا عند تعذر البصاق عن يساره ، وليس المراد أنه لا يجوز فعله إلا عند تعذر البصاق على الأرض ، بل المراد أنه لا حاجة إلى تلويث ثوبه بالبصاق مع القدرة على الاستغناء عنه .
فهو كقوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ( [ البقرة : 283 ] ، وقوله : ( فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ( [ البقرة : 282 ] ، وقوله تعالى : ( فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ( [ الأحزاب : 5 ] .
وقد قال النبي ( لزيد بن الحارثة : ( ( أنت أخونا ومولانا ) ) ، مع أنه كان يعلم أباه .(2/351)
"""""" صفحة رقم 352 """"""
40 - باب
عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة ، وذكر القبلة
418 - حدثنا عبدالله بن يوسف : أبنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله ( قال : ( ( هل ترون قبلتي هاهنا ؟ فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم ؛ إني لأراكم من وراء ظهري ) ) .
419 - حدثنا يحيى بن صالح : ثنا فليح بن سليمان ، عن هلال بن علي ، عن أنس بن مالك ، قالَ : صلى لنا رسول الله ( صلاة ، ثُمَّ رقي المنبر ، فقالَ في الصَّلاة وفي الركوع - : ( ( إني لأراكم من ورائي كما أراكم ) ) .
وروى قتادة ، عن أنس ، أن النبي ( قال : ( ( أقيموا الركوع والسجود ، فوالله إني لأراكم من بعدي ) ) - وبما قال : ( ( من بعد ظهري - إذا ركعتم وسجدتم ) ) .
خرجه البخاري في ( ( باب : الخشوع في الصلاة ) ) كما سيأتي من حديث شعبة .
وخرجه مسلم من رواية شعبة وسعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة .
وأظن أن البخاري عدل عنه هاهنا إلى حديث فليح عن هلال ؛ لأن قتادة لم يصرح فيه بالسماع ، وقد أكثر البخاري في ( ( كتابه ) ) هذا من تخريج حديث فليح بن سليمان عن هلال بن علي .
وهو هلال بن أبي ميمونة . روى عنه مالك وغيره ، وقد ذكر البخاري في ( ( تاريخه ) ) أنه سمع أنسا ، ولم يذكر ابن أبي حاتم في ( ( كتابه ) ) أنه يروي عن أنس ،(2/352)
"""""" صفحة رقم 353 """"""
وذكر أنه سأل أباه عنه ، فقال : شيخ يكتب حديثه .
وأما فليح بن سليمان ، فقال فيه ابن معين وأبو حاتم والنسائي : ليس بالقوي ، وضعفه ابن معين - أيضا - ، وقال : لا يحتج به . وحكي عن أبي كامل المظفر بن مدرك أنه كان يتقي حديثه ، وضعفه أبو زرعة الرازي ، وقال : هو واهي الحديث - : نقله عنه البرذعي ، وضعفه علي بن المديني - أيضا - نقله عنه أبو جعفر بن أبي شيبة في ( ( سؤالاته له ) ) .
وبكل حال ؛ فرواية شعبة عن قتادة عن أنس ، وإن لم يصرح بالسماع أقوى من رواية فليح عن هلال عن أنس . والله أعلم .
وخرج مسلم - أيضا - من حديث المختار بن فلفل ، عن أنس ، قال : صلى بنا
رسول الله ( ذات يوم ، فلما قضى أقبل علينا بوجهه ، فقال : ( ( أيها الناس ، إني إمامكم ، فلا تسبقوني بالركوع ، ولا بالسجود ، ولا بالقيام ولا بالانصراف ؛ فإني أراكم أمامي ومن خلفي ) ) . ثم قال : ( ( والذي نفس محمد بيده ، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ) ) . قالوا : وما رأيت يا رسول الله ؟ قال : ( ( رأيت الجنة والنار ) ) .
وخرج - أيضا - من طريق الوليد بن كثير : حدثني سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : صلى رسول الله ( ثم انصرف ، فقال : ( ( يا فلان إلا تحسن صلاتك ؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي ، فإنما يصلي لنفسه ، إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي ) ) .
دلت هذه الأحاديث على أن من رأى من يسيء صلاته فإنه يأمره بإحسان صلاته ويعظه ويبالغ في الوعظ ؛ فإن القلوب تستجيب إلى الحق بالموعظة الحسنة ما لا تستجيب بالعنف ، لا سيما إذا عم بالموعظة ولم يخص أحدا ، وإن(2/353)
"""""" صفحة رقم 354 """"""
خصمه فإنه يلين له القول .
وقد قال الله تعالى لنبيه ( : ( وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ( [ النساء : 63 ] وقال : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ( [ النحل : 125 ] .
وفي بعض هذه الروايات أنه خطب الناس على المنبر ، واتفقت الأحاديث كلها على أنه أمر بإقامة الركوع ، وفي بعضها : والسجود ، وفي بعضها : والخشوع ، وفي بعضها : أنه نهاهم عن مسابقته بالركوع والسجود والانصراف من المسجد بعد إتمام صلاته ، وهذا كما أمر المصلي الذي أساء في صلاته أن يعود إلى الصلاة ، وقال له : ( ( إنك لم تصل ) ) .
قال ميمون بن مهران : مثل الذي يرى الرجل يسيء صلاته فلا ينهاه كمثل الذي يرى النائم تنهشه الحية ثم لا يوقظه .
وعن يحيى بن أبي كثير نحوه .
ورأى ابن عمر رجلا لا يتم ركوعه وسجوده ، فقال له لما فرغ : يا بن أخي ، تحسب انك صليت ؟ إنك لم تصل ، فعد لصلاتك .
وكان المسور بن مخرمة وغيره من الصحابة إذا رأوا من لا يتم صلاته أمروه بالإعادة ، ويقولون : لا يعصى الله ونحن ننظر ، ما استطعنا .
قال النخعي : كانوا إذا رأوا الرجل لا يحسن الصلاة علموه .
قال سفيان : أخشى أن لا يسعهم إلا ذلك .
قال أبو خلاد : ما من قوم فيهم من يتهاون بالصلاة ولا يأخذون على يديه إلا كان أول عقوبتهم إن ينقص من أرزاقهم .
ورأى الإمام أحمد رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده ، فقال : يا هذا ، أقم صلبك في الركوع والسجود ، وأحسن صلاتك .(2/354)
"""""" صفحة رقم 355 """"""
وقيل له : الرجل يرى أهل المسجد يسيئون الصلاة ؟ قال : يأمرهم . قيل له : إنهم يكثرون ، وربما كان عامة أهل المسجد ؟ قال : يقول لهم . قيل له : يقول لهم مرتين أو ثلاثا فلا ينتهون ، يتركهم بعد ذلك ؟ قال : أرجو أن يسلم - أو كلمة نحوها .
وقال حنبل : قيل لأبي عبدالله : ترى الرجل إذا رأي الرجل لا يتم ركوعه ولا سجوده ، ولا يقيم صلبه ، ترى إن يأمره بالإعادة أو يمسك عنه ؟ قال : إن كان يظن أنه يقبل منه أمره وقال له ووعظه حتى يحسن صلاته ؛ فإن الصلاة من تمام الدين .
وقوله : ( ( إن كان يظن أنه يقبل منه ) ) ، يخرج على قوله : أنه لا يجب الأمر بالمعروف إلا لمن ظن أنه يقبل .
والمشهور عنه خلافه ، وانه يجب مطلقا مع القدرة .
ويجب الأمر بإتمام الركوع والسجود وإقامة الصلب في الصلاة ، وإن كان قد قال بعض الفقهاء : إن الصلاة صحيحة بدونه ؛ لأن الخلاف إذا كان مخالفا للسنن الصحيحة فلا يكون عذرا مسقطا للأمر بالمعروف .
وأيضا ؛ فالخلاف إنما هو في براءة الذمة منها ، وقد اجمعوا على إنها صلاة ناقصة ، ومصليها مسيء غير محسن ، وجميع النصوص المذكورة في هذا الباب تدل على الأمر لمن لا يتم الركوع والسجود بإتمامها .
وفي ( ( المسند ) ) و ( ( سنن ابن ماجه ) ) ، عن علي بن شيبان الحنفي - وكان أحد الوفد - ، قال : قدمنا على نبي الله ( ، فلمح بمؤخر عينه إلى الرجل لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود ، فلما قضى النبي ( صلاته قال : ( ( يا معشر المسلمين ، لا صلاة لامرئ لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود ) ) .
ومتى كان المسيء في صلاته جاهلا بما أساء فيه تعين الرفق في تعليمه ، كما(2/355)