صهيل الجياد
في شرح
كتاب الجهاد
من بلوغ المرام للحافظ ابن حجر رحمه الله
شرح فضيلة الشيخ
عبدا لرحيم بن مراد الشافعي
قال شيخ الإسلام محمد بن عبدا لوهاب النجدي " إنما عودينا من أجل التكفير والقتال " الدرر أهـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
( وقد أ وعبت الأمّة في كل فن من فنون العلم إ يعاباً ، فمن نور الله قلبه هداه بما يبلغه من ذلك ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرة وضلال ) مجموع الفتاوى 10/665
الطبعة الأولى
25رجب1424هـ
أبو مراد الشافعي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " والصلاة والسلام على القائل " قاتلوا من كفر بالله " وعلى آله وصحبه الذين قاتلوا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . أما بعد
فهذا شرح لكتاب الجهاد من بلوغ المرام للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ، وهو شرح مبسط للمبتدئين في طلب العلم خصوصاً في أحكام الجهاد .
ومن المعلوم أن شرف العلم بشرف المعلوم ، فدونك يا طالب العلم الكتاب والسنة أنهل منهما وأستغل حياتك بحفظهما والعمل بهما والدعوة إليهما والصبر على الأذى فيهما حتى يأتيك اليقين غير مبدل و لا مغير والله المستعان .
ادأب على جمع الفضائل جاهداً وأدم لها تعب القريحة والجسد
واقصد بها وجه الإله ونفع من تلقاه ممن جد فيها واجتهد
واترك كلام الحاسدين وبغيهم هملاً فبعد الموت ينقطع الحسد
وأعلم أن أفضل العلوم علم التوحيد ، فعليك بما كتب السلف في ذلك وألزم غرزهم تفلح ، وأعلم أن الطريق شاق وأن الجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات ، فالصبر الصبر حتى تلقى الله غير مبدل و لا مغير ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) والله المستعان .
لا توحشنّك غربة بين الورى فالناس كالأموات في الحسبان
أو ما علمت بأن أهل السنة الغرباء حقاً عند كل زمان(1/1)
قل لي متى سلم الرسول وصحبه والتابعون لهم على الإحسان
من جاهل ومعاند ومنافق ومحارب بالبغي والطغيان
وتظن أنك وارث لهم وما ذقت الأذى في نصرة الرحمن
وبالنسبة لتخريج الأحاديث والحكم عليها فقد اكتفيت بما ذكره الشيخ سمير الزهيري في تحقيقه لكتاب بلوغ المرام وإذا خالفنا الشيخ في الحكم على الأحاديث بيناه في مكانه . والله أعلم
إن تجد عيباً فسُد الخلل لا **** جل من لا عيب فيه وعلى
أسأل الله تعالى أن يتقبله مني وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن لا يجعل لأحد من الخلق فيه نصيباً آمين .
كتب
أبو مراد الشافعي
كلمات مضيئة من أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية :
(ما أنزل الله في القرآن من آية إلا وقد عمل بها قوم، وسيعمل بها آخرون. فمن كان من الشاكرين الثابتين على الدين، الذين يحبهم الله عز وجل ورسوله؛ فإنه يجاهد المنقلبين على أعقابهم، الذين يخرجون عن الدين، ويأخذون بعضه ويدعون بعضه) . (الفتاوى 28/413)
( واعلموا أن الجهاد فيه خير الدنيا والآخرة ، وفي تركه خسارة الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى في كتابه : { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } ، يعني إما النصر والظفر ، وإما الشهادة والجنة ، فمن عاش من المجاهدين كان كريماً له ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ، ومن مات منهم أو قتل فإلى الجنة)(الفتاوى28/417).
( وكذلك اتفق العلماء - فيما أعلم - على أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد ، فهو أفضل من الحج ، وأفضل من الصوم التطوع ، وأفضل من الصلاة التطوع ) (الفتاوى 28/418) .
((1/2)
واعلموا - أصلحكم الله - أن النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين ، وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وهؤلاء القوم مقموعون والله تعالى ناصرنا عليهم ، ومنتقم لنا منهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . فابشروا بنصر الله تعالى وبحسن عاقبته ، قال الله تعالى في كتابه: { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } . وهذا أمر قد تيقناه وتحققناه والحمد لله رب العالمين ) (الفتاوى 28/419)
( واعلموا - أصلحكم الله - أن من أعظم النعم على من أراد الله به خيراً أن أحياه إلى هذا الوقت الذي يجدد فيه الدين ، ويحيي فيه شعار المسلمين ، وأحوال المؤمنين والمجاهدين ، حتى يكون شبيها بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فمن قام في هذا الوقت بذلك : كان من التابعين لهم بإحسان الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم .
فينبغي للمؤمنين أن يشكروا الله تعالى على هذه المحنة التي حقيقتها منحة كريمة من الله ، وهذه الفتنة التي في باطنها نعمة جسيمة ، حتى - والله - لو كان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار - كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم - حاضرين في هذا الزمان ، لكان من أفضل أعمالهم جهاد هؤلاء القوم المجرمين ) (الفتاوى 28/420)
((1/3)
فإن نصوص الكتاب والسنة اللذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم تتناول عموم الخلق بالعموم اللفظي وبالعموم المعنوي وعهود الله في كتابه وسنته تتناول آخر هذه الأمة كما نالت أولها وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم ليكون عبرة لنا فنشبّه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها فيكون للمؤمن من المستأخرين شبه بما كان للمؤمن من المستقدمين ويكون للكافر والمنافق من المستأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المستقدمين كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة وأجمل ذكر قصص الأنبياء { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} .... ) . الفتاوى (28/425)
( ويجب جهاد الكفار واستنقاذ ما بأيديهم من بلاد المسلمين وأسراهم , ويجب على المسلمين أن يكونوا يداً واحدة على الكفار , وأن يجتمعوا ويقاتلوا على طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله , ويدعو المسلمين إلى ما كان عليه السلف من الصدق وحسن الأخلاق ؛ فإن هذا من أعظم أصول الإسلام وقواعد الإيمان التي بعث الله بها رسله وأنزل كتبه , أمر عباده عموماً بالاجتماع ونهاهم عن التفرق كما قال تعالى { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية لابن قاسم (3/221).
الإهداء
إلى الأبطال التسعة عشر الذين مرغوا أنف أمريكا في التراب ..
إلى الأبطال التسعة عشر الذين مرغوا أنف أذناب أمريكا في التراب ..
إلى المجاهدين في كل مكان ..
إلى المسجونين في ذات الله في كل أرض ..
إلى المطاردين والمطلوبين في كل قُطر ..
أهدى لكم هذا الكتاب ..
اللهم إن أمريكا وحلفائها يملكون أقماراً صناعية في السماء ينشرون بها باطلهم وكفرهم وأنت فوق السماء اللهم فانشر هذا الكتاب في كل مكان وأنفع به الإسلام والمسلمين وأختم لنا بالشهادة في سبيلك آمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الجهاد في اللغة مشتق من الجهد بفتح الجيم وضمها وهو المشقة (القاموس المحيط (1/286) .(1/4)
قال الحافظ ابن حجر : ( الجهاد بكسر الجيم أصله لغة المشقة يقال جهدت جهاداً بلغت المشقة .. وشرعاً بذل الجهد في قتال الكفار ) فتح الباري (5/6) .
وقال النووي ( الجهاد والمجاهدة والاجتهاد والتجاهد : بذل الوسع ) تحرير التنبيه ص:338.
ويقول ابن رشد القرطبي (فكل من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيل الله إلا أن الجهاد إذا أطلق فلا يقع بإطلاقه إلا على مجاهدة الكفار بالسيف حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) المقدمات الممهدات لابن رشد (1/342) .
قلت : وفي مسند أحمد وعبد الرزاق من حديث عمرو بن عبسة أن رجل قال لرسول الله صلي الله عليه وسلم ( وما الجهاد ؟ قال أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم , قال فأي الجهاد أفضل ؟ قال من عقر جواده وأهريق دمه ) قال الهيثمي في المجمع ورجاله رجال الصحيح . قلت وأصله في الصحيحين من حديث ابن عباس .
1 -عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَ ضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ: " مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ, وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِهِ, مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1) .
قال الصنعاني في سبل السلام : والمراد من الحديث هنا أن من لم يغزو بالفعل ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على خصلة من خصال النفاق، فقوله: "ولم يحدث نفسه" لا يدل على العزم الذي معناه عقد النية على الفعل، بل معناه هنا لم يخطر بباله أن يغزو، ولا حدّث به نفسه ولو ساعة من عمره ولو حدّثها به أو خطر الخروج للغزو بباله حيناً من الأحيان، خرج من الاتصاف بخصلة من خصال النفاق.
وهو نظير قوله صلى الله تعالى عليه وعلى وآله وسلم: "ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه" أي لم يخطر بباله شيء من الأمور؛ وحديث النفس غير العزم وعقد النية.
وذهب جماعة من علماء الأصول على أن الحديث دليل على وجوب العزم على الجهاد عند إمكان فعله ا.هـ .
__________
(1) - صحيح. رواه مسلم ( 1910 ).(1/5)
والحق ما ذهب إليه علماء الأصول من أن المراد بالتحديث العزم على الجهاد والعزيمة الصادقة والإرادة الجازمة ؛ وليس المراد منه خاطرة تمر في النفس ثم تذوب في سراديب الحياة وتدفن في أودية الدنيا وشعابها ؛ ومما يوضح ذلك ويبينه ويكون علامة عليه ؛ الإعداد والاستعداد للجهاد في سبيل الله وبذل الوسع واستفراغ الجهد والطاقة في ذلك فقد قال الله تعالى{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَه عُدَّةً..}.
قال شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تيمية – رحمه الله تعالى :
فَنَقُولُ أَوَّلًا الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ هِيَ الَّتِي يَجِبُ وُقُوعُ الْفِعْلِ مَعَهَا إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ حَاصِلَةً ....
وَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " إنَّمَا كَثُرَ فِيهَا النِّزَاعُ ; لِأَنَّهُمْ قَدَّرُوا إرَادَةً جَازِمَةً لِلْفِعْلِ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْفِعْلِ وَهَذَا لَا يَكُونُ . وَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ إذَا فَعَلَ مَعَهَا الْإِنْسَانُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَانَ فِي الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ التَّامِّ : لَهُ ثَوَابُ الْفَاعِلِ التَّامِّ وَعِقَابُ الْفَاعِلِ التَّامِّ الَّذِي فَعَلَ جَمِيعَ الْفِعْلِ الْمُرَادِ حَتَّى يُثَابَ وَيُعَاقَبَ عَلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ قُدْرَتِهِ ...(1/6)
ثم قال : " فَالْمُرِيدُ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ الْكَامِلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إمَامًا وَدَاعِيًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } فَاَللَّهُ تَعَالَى نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَالْقَاعِدِ الَّذِي لَيْسَ بِعَاجِزِ ; وَلَمْ يَنْفِ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَبَيْنَ الْقَاعِدِ الْعَاجِزِ وَيُوَافِقُهُ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ : { إنَّ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ . قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ . قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَاعِدَ بِالْمَدِينَةِ الَّذِي لَمْ يَحْبِسْهُ إلَّا الْعُذْرُ هُوَ مِثْلُ مَنْ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي مَعَهُ فِي الْغَزْوَةِ يُثَابُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَوَابَ غَازٍ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ فَكَذَلِكَ الْقَاعِدُونَ الَّذِينَ لَمْ يَحْبِسْهُمْ إلَّا الْعُذْرُ .(1/7)
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ عَمَلًا ثُمَّ لَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا لِمَرَضِ أَوْ سَفَرٍ ثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ لِوُجُودِ الْعَجْزِ وَالْمَشَقَّةِ لَا لِضَعْفِ النِّيَّةِ وَفُتُورِهَا فَكَانَ لَهُ مِنْ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الَّتِي لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهَا الْفِعْلُ إلَّا لِضَعْفِ الْقُدْرَةِ مَا لِلْعَامِلِ وَالْمُسَافِرِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا مَعَ مَشَقَّةٍ ...إلى أن قال :(1/8)
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ ماجه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةٍ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَمَالًا فَهُوَ يَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَقَالَ رَجُلٌ : لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ فُلَانٍ لَعَمِلْت بِعَمَلِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ } وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُطَوَّلًا وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ فَهَذَا التَّسَاوِي مَعَ " الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ " هُوَ فِي حِكَايَةِ حَالِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَكَانَ صَادِقًا فِيهِ وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ إرَادَةً جَازِمَةً لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْفِعْلُ إلَّا لِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ ; فَلِهَذَا اسْتَوَيَا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ .(1/9)
وَلَيْسَ هَذِهِ الْحَالُ تَحْصُلُ لِكُلِّ مَنْ قَالَ : " لَوْ أَنَّ لِي مَا لِفُلَانِ لَفَعَلْت مِثْلَ مَا يَفْعَلُ " إلَّا إذَا كَانَتْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ مَعَهَا إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ حَاصِلَةً وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ ذَلِكَ عَنْ عَزْمٍ لَوْ اقْتَرَنَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ لَانْفَسَخَتْ عَزِيمَتُهُ كَعَامَّةِ الْخَلْقِ يُعَاهِدُونَ وَيَنْقُضُونَ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَزَمَ عَلَى شَيْءٍ عَزْمًا جَازِمًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَعَدِمَ الصوارف عَنْ الْفِعْلِ تَبْقَى تِلْكَ الْإِرَادَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ الْمُقَارِنَةِ للصوارف كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } وَكَمَا قَالَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ . فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ }.ا.هـ الفتاوى (10/720) .
وهو اختيار ابن القيم في زاد المعاد الجزء الثالث . واختاره كذلك الشيخ المجاهد عبد الله عزام في كتابه صور وعبر .
فالحديث يبين أن ترك الجهاد المتعين دليل على النفاق , قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (28/436) :
(ومن هذا الباب – أي النفاق الأصغر- الإعراض عن الجهاد فإنه من خصال المنافقين قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من مات ولم يغز ..فذكره ) ا.هـ فترك الجهاد مطلقاً دليل نفاق صاحبه وآية الأعذار الثمانية أبطلت الأعذار التي لم تستثنها النصوص.(1/10)
وعن بشير ابن الخصاصية السدوسي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه قال: فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن أقيم الصلاة وأن أؤدي الزكاة وأن أحج حجة الإسلام وأن أصوم شهر رمضان وأن أجاهد في سبيل الله فقلت: يا رسول الله أما اثنتان فوالله ما أطيقهما , الجهاد والصدقة فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله فأخاف إن حضرت تلك جشعت نفسي وكرهت الموت والصدقة فوالله مالي إلا غنيمة وعشر ذود هن رسل أهلي وحمولتهم قال: فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حرك يده ثم قال فلا جهاد ولا صدقة فلِمَ تدخل الجنة إذاً. قال: قلت: يا رسول الله أنا أبايعك قال: فبايعت عليهن كلهن. رواه الأمام أحمد وهذا لفظه , ورواه النسائي في السنن الكبرى وفيه إن حضرني قتال , وفيه فبما تدخل الجنة. قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في كتابه تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد بعد هذا الحديث : ( ففي الحديث أن الصدقة والجهاد شرط في دخول الجنة مع حصول التوحيد والصلاة والحج والصيام....) ا.هـ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية على قوله تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد ) الفتاوى (28/438) .
وفي الحديث دليل على أنه قد يجتمع في المسلم شعبة نفاق (عملي ) وشعبة إيمان وفيه رد على الخوارج والمعتزلة . قال ابن تيمية ( إذ كان من أصول أهل السنة التي فارقوا بها الخوارج : أن الشخص الواحد تجتمع فيه حسنات وسيئات , فيثاب على حسناته , ويعاقب على سيئاته )(الفتاوى 27/477) .(1/11)
وقال أيضاً (وطوائف أهل الأهواء من الخوارج والمعتزلة والجهمية والمرجئة كراميهم وغير كراميهم يقولون إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق ومنهم من يدعى الإجماع على ذلك وقد ذكر أبو الحسن في بعض كتبه الإجماع على ذلك ومن هنا غلطوا فيه وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد وقالوا لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب ومعصية يستحق بها العقاب . الفتاوى ( 7 / 353).
أما الكفر فلا يجتمع مع الإيمان بحال فهما ضدان لا يجتمعان , وهذا بيّن فقد يكون في المسلم خصال نفاق كالكذب وإخلاف الموعد ولا يخرجه ذلك من الإسلام , وأما النفاق الأعتقادي أو البدع المكفرة كبدع الجهمية والرافضة والشرك بالله , فلا تجتمع مع الإسلام قال تعالى {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن }.
قال ابن تيمية رحمه الله (ولهذا كان كل من لم يعبد الله فلا بد أن يكون عابدا لغيره يعبد غيره فيكون مشركا وليس في بني آدم قسم ثالث بل إما موحد أو مشرك أو من خلط هذا بهذا كالمبدلين من أهل الملل والنصارى ومن أشبههم من الضلاّل المنتسبين إلى الإسلام) (الفتاوى 14/282)(1).
2- وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " جَاهِدُوا اَلْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ, وَأَنْفُسِكُمْ, وَأَلْسِنَتِكُمْ" رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ (2) .
__________
(1) 1- انظر كتاب الحقائق في التوحيد لشيخنا العلامة على الخضير فك الله أسره وأسر إخوانه .
(2) - صحيح. رواه أحمد ( 3 / 124 و 153 و 251 )، والنسائي ( 6 / 7 )، والحاكم ( 2 / 81 )، وهو عند أبي داود أيضاً ( 2504 ).(1/12)
أولا : قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله :( والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين على كل مسلم ) وقال شيخ الإسلام ( والجهاد منه ما هو باليد , ومنه ما هو بالقلب , والدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة , فيجب بغاية ما يمكنه )(1).
قال الشوكاني في نيل الأوطار كتاب الجهاد :قال الماوردي :والتحقيق أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه .ا.هـ
ثانيا: فيه دليل على أن جهاد جميع الكفار والمشركين من أعظم الجهاد سواء المشركين في العبادات والنسك أو في الحكم والإمامة , قال الشوكاني : (قوله " جاهدوا المشركين " الخ ) , فيه دليل على وجوب المجاهدة للكفار بالأموال والأيدي والألسن وقد ثبت الأمر القرآني بالجهاد بالأنفس والأموال في مواضع ا.هـ
قال سماحة الوالد الإمام حمود بن عقلا الشعيبي في فتوى عن حكم الجهاد : ( قوله صلى الله عليه وسلم ( جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم ) هذا أمر منه صلى الله عليه وسلم بالجهاد ، والأمر يقتضي الوجوب ما لم يصرفه صارف إلى الندب أو الإباحة ولا صارف هنا يصرف أمره عليه الصلاة والسلام في الجهاد من الوجوب إلى غيره ) ا.هـ .
ثالثا : قال الصنعاني: أما وجوب الجهاد بالنفس، فهو: بالخروج والمباشرة للكفار ا.هـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
(
__________
(1) 3- المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية (3/213) . جمع محمد بن عبد الرحمن بن قاسم .(1/13)
فكل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب فإنه يجب قتاله { حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله } ولأن الله لما بعث نبيه , وأمره بدعوة الخلق إلى دينه لم يأذن له في قتل أحد على ذلك ولا قتاله , حتى هاجر إلى المدينة , فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور} .
ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .(1/14)
وأكد الإيجاب , وعظم أمر الجهاد في عامة السور المدنية وذم التاركين له ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب , فقال تعالى { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } ... ) ا.هـ الفتاوى (28/350) .
( وكانت خاتمة المراحل مرحلة قتال المشركين كافة : من قاتَلَنا منهم ومن كف عنا ، وغزوهم في بلادهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، وهذه المرحلة هي التي استقر عندها حكم الجهاد ، ومات عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذه المرحلة نزلت آية السيف وهي قوله تعالي{فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ...} ، وقال تعالى :{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.}
وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم ( اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلُّوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليداً ...)(1).
... وقد لخص الإمام ابن القيم تلك المراحل في قوله:
( وكان محرماً ثم مأذوناً به ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال ثم مأموراً به لجميع المشركين ...)(2).
__________
(1) أخرجه مسلم ( 1731 ) وأبو داود ( 2612 ) والترمذي ( 1617 ) وابن ماجه (2858) من حديث بريدة .
(2) زاد المعاد : ( 2/58 ) .(1/15)
وقد نص أهل العلم من السلف ومن بعدهم على أن المرحلة الأخيرة ناسخة لما قبلها من المراحل،قال الإمام ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى{فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره}.
فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح بفرض قتالهم حتى تكون كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة أو يؤدوا الجزية عن يد صغاراً )) . ثم نقل رحمه الله القول بالنسخ عن ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس(1).
وكذا نقل الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) نقل القول بالنسخ عن ابن عباس ثم قال :(( وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي :إنها منسوخة بآية السيف،ويرشد إلى ذلك أيضاً قوله تعالى:( حتى يأتي الله بأمره ...)(2).
وقال ابن عطية في تفسيره لآية السيف : (( وهذه الآية نسخت كل موادعة في القرآن أو ما جرى مجرى ذلك ،وهي على ما ذكر مائة آية وأربع عشرة آية ))(3).
... وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى(فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) هذه الآية منسوخة بقوله { قاتلوا الذين لا يؤمنون } ،إلى قوله :{ صاغرون } ،عن ابن عباس وقيل : الناسخ لها: فاقتلوا المشركين(4).
وقال في تفسير قوله تعالى :{ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم } وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصفح ))(5).
وقال ابن حزم :(( ونُسخ المنع من القتال بإيجابه ))(6).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : فأمره لهم بالقتال ناسخ لأمره لهم بكف أيديهم عنهم(7).
__________
(1) انظر تفسير الطبري :(2/503-504) .
(2) تفسير القرآن العظيم (1/154).
(3) تفسير ابن عطية : ( 6/412 ) .
(4) الجامع لأحكام القرآن : (2/71) .
(5) المصدر السابق : (8/205) .
(6) الإحكام في أصول الأحكام ( 4/82) .
(7) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح : (1/66) .(1/16)
وقال السيوطي: قوله تعالى: ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم). هذه آية السيف الناسخة لآيات العفو والصفح والإعراض والمسالمة ،واستدل بعمومها الجمهور على قتال الترك والحبشة ))(1).
وقال أيضاً : (( كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار والتولي والإعراض والكف عنهم فهو منسوخ بآية السيف ))(2).
وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم :
فقد قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى{ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} :
وهذه الآية منسوخة بأمر الله بقتال المشركين ،وإنما قلنا هي منسوخة لإجماع أهل التأويل على أن ذلك كذلك(3).
وقال الجصاص في قوله تعالى{ فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعلنا لكم عليهم سبيلاً }:
ولا نعلم أحداً من الفقهاء يحظر قتال من اعتزل قتالنا من المشركين،وإنما الخلاف في جواز ترك قتالهم لا في حظره فقد حصل الاتفاق من الجميع على نسخ حظر القتال لمن كان وصفه ما ذكرنا(4).
... وقال الشوكاني : (( أما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية أو القتل فهو معلوم من الضرورة الدينية ... وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ باتفاق المسلمين بما ورد من إيجاب المقاتلة لهم على كل حال مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم إلى ديارهم ))(5).
ونقل الإجماع أيضاً صديق حسن خان بنفس ألفاظ الشوكاني دون أن ينسب القول إليه(6).
__________
(1) الإكليل في استنباط التنزيل : (ص :138 ) .
(2) التحبير في علم التفسير : (ص :432) .
(3) 10) تفسير الطبري : ( 25/144) ط دار الفكر ،بيروت .
(4) 11) أحكام القرآن (2/222) .
(5) 12) السيل الجرار (4/518-519) .
(6) 13) انظر الروضة الندية (2/333) .(1/17)
ومما ينبغي أن يعلم أن المقصود بالنسخ هنا أن قتال المشركين صار واجباً بعد أن كان منهياً عنه أو مأموراً به لرد العدوان فقط ،أي أن المنسوخ هو الاقتصار على الدعوة اللسانية والاقتصار على جهاد الدفع ،بحيث صار قتال المشركين واجباً وإن لم يبدؤونا بالقتال ،هذا مع بقاء القتال الدفاعي وبقاء الدعوة والجدال بالتي هي أحسن كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم(1).
قال سماحة الوالد الإمام حمود بن عقلا الشعيبي رحمه الله تعالى :
( فإن من له أدنى إلمام ومعرفة بتاريخ الدول والحكومات لا يبقى لديه شك مطلقاً في أن الجهاد بأنواعه من أعظم الوسائل بل هو أعظم الوسائل مع الإيمان بالله والتوكل عليه لحماية الأمة المسلمة ومقدساتها من تطاول الأعداء عليها وطمعهم في خيراتها .
فإن العدو إذا عرف مدى استعداد المسلمين وعرف ماهم عليه من القوة القتالية والتدريب والتأهيل فإنه يحسب لمهاجمة بلاد المسلمين ألف حساب.
والعدو الكافر يدرك ما للجهاد من آثار في تغيير ميزان المعارك التي تجري بين المسلمين وأعدائهم , ولهذا نجد الكفار باختلاف مناهجهم واتجاهاتهم يخشون الجهاد وينفرون عنه هم وعملاؤهم بكل ما يستطيعون من وسائل لأنهم يعلمون جيداً أنهم لا يستطيعون السيطرة على الأمة إذا كانت تملك وسائل الجهاد .
ولهذا نرى الدول الكافرة ومن يدور بفلكها من الحكومات العميلة يشنون حرباً شعواء على الشباب الذين يريدون الانضمام إلى إخوانهم المقاتلين في الجبهات والثغور وإذا ظفروا بأحد منهم اعتقلوه وأودعوه في غياهب السجون مدداً طويلة يلاقي فيها شتى أنواع التعذيب والإهانة .
__________
(1) 1- بتصرف من رسالة ( مراحل تشريع الجهاد نسخ اللاحق منها للسابق ) لعبد الآخر حماد الغنيمي .(1/18)
ويلقبون المجاهدين بألقاب شائنة كالإرهابيين والمتطرفين والمتشددين ونحو ذلك , إرهابيون ومتطرفون لأنهم يضحون بأنفسهم في قتال الصهاينة والروس والبوذيين وغيرهم وما من شك أننا وإخواننا المجاهدين إرهابيون بهذا المعنى أي : نرهب أعداء الله تنفيذاً لأمره سبحانه وتعالى حيث قال ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ...) الآية .
وهنا سؤال يفرض نفسه وهو أنه قبل سنوات إذا أراد الشباب الذهاب للجهاد في الأفغان يلقون التشجيع والتخفيض في التذاكر وربما المساعدات المالية من بعض الدول العربية ، هذا كان في الفترة التي كان الأفغان فيها يحاربون الإتحاد السوفييتي أما الآن فالذي يريد الذهاب إلى الأفغان من الشباب للجهاد يلقون من نفس الدول العربية التي كانت تشجع على الجهاد في تلك الفترة المطاردة والاعتقال والتلقيب بالإرهابيين والمتطرفين والمتشددين فلماذا يكون هذا ؟
والجواب أن التشجيع على الجهاد في الفترة السابقة له ما يبرره عند تلك الدول المشجعة , لأن القتال كان بين الأفغان والإتحاد السوفييتي الذي تعتبره دول الكفر كأمريكا وبريطانيا أعدا عدو لها , أما قتال الأفغان الآن فهو ضد أمريكا وبريطانيا وأوربا كلها ، لأن هذه الدول تقف مع المعارضة في الأفغان وتدعمها بشتى أنواع الدعم من طائرات ودبابات ورجال وخبرات .
إذن فالذي يذهب إلى الجهاد في الأفغان يحارب أمريكا وزميلاتها في الكفر .(1/19)
وإذا أردت أن تعرف فضل الجهاد وأهميته فقارن بين حالة المسلمين قبل أن يشرع لهم الجهاد وحالتهم بعد أن فرض عليهم الجهاد فإنهم كانوا قبل مشروعية الجهاد مستضعفين في مكة ، وكفار قريش يؤذونهم بشتى أنواع الأذى ولا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم ؛ الأمر الذي جعل من يريد الدخول في الإسلام يُخفى أمره ويتستر على إسلامه خوفا من أذى قريش إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه عند ما أراد أن يُعلن إسلامه شهر سيفه وأعلن إسلامه ولم يبال بأحد ، أما غيره فإنه لا يجرؤ على إعلان إسلامه خوفا من أذى قريش كما سبق .
وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأسس الدولة الإسلامية وشُرع له الجهاد وبدأ ببعث السرايا والبعوث بدأ الناس يُهاجرون إلى المدينة ويعلنون إسلامهم ودخل كثيرون من قبائل العرب في الإسلام وقد صور الشاعر هذا المعنى بقوله :
دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب ............ وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف صلت بكفه ............ له اسلموا واستسلموا وأنابوا
وبالجهاد قامت دولة الإسلام واتسعت حتى عم الإسلام جزيرة العرب وحتى استولى المسلمون بالجهاد على ممالك كسرى وقيصر ، وأصبحوا سادة الدنيا وقادتها .
ولأهمية الجهاد في حماية المسلمين ومقدساتهم أكثر سبحانه وتعالى من ذكره في القرآن الكريم حيث ورد فيه من آيات الجهاد ما يزيد على مائتي آية ما بين آيات تدل على فرض الجهاد ووجوبه على المسلمين ، وآيات ترغب فيه وتبين فضله وما أعده الله للمجاهدين من الثواب في الآخرة . وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم حث على الجهاد ورغب فيه وحذر من القعود عنه ) ا.هـ
ولقد عد الإمام عبد الله بن المبارك الإنشغال بالعبادة في الوقت الذي تنتهك فيه المحارم ويباد فيه المسلمون وتهدم فيه المساجد وتحرق فيه المصاحف من اللعب كما في رسالته إلى الفضيل التي قال فيها : يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعبوا .(1/20)
وقال الله تعالى { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } . هذا في العبادة فكيف بمن ألهته الدنيا .
بل ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية : أن الإمام أحمد ( سئل عن رجل قدم يريد الغزو ولم يحج فنزل على قوم ثبطوه عن الغزو وقالوا : إنك لم تحج تريد الغزو ؟ قال أبو عبد الله : يغزو ولا عليه , فإن أعانه الله حج , ولا نرى بالغزو قبل الحج بأساً . قال أبو العباس- ابن تيمية- : هذا مع أن الحج واجب على الفور عنده , لكن تأخيره لمصلحة الجهاد ... وكلام أحمد يقتضي الغزو وإن لم يبق معه مال للحج , لأنه قال فإن أعانه الله حج ...) المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية لأبن قاسم (3/216) .
قال الإمام العلامة حمود العقلا في فتوى عن حكم الجهاد :
( وكما تقدم أن الجهاد في سبيل الله أنواع فتارة يكون بالمال وتارة يكون باللسان وتارة يكون بالقلم وأعلى هذه الدرجات وأفضلها الجهاد بالنفس لأنه أشق على المقاتلين ، وأكثر تضحية ولأنه قد تترتب عليه الشهادة ومعلوم ما أعد الله للشهداء من الأجر والثواب ، ولأنه أشد نكاية بالعدو مما سواه من أنواع الجهاد ، ولأن ما سواه من أنواع الجهاد مكمل له والجهاد بالنفس هو الذي يرهب العدو ويحطم معنوياته وهو الذي يتحقق به النصر غالبا وتتم به حماية حوزة المسلمين والذب عن حرماتهم وقديما قيل :
السيف أصدق إنباء من الكتب ......... في حده الحد بين الجد واللعب ( ا.هـ(1/21)
قال الشيخ المجاهد الدكتور عبد الله عزام رحمه الله تعالى ( لاشك أن الجهاد بالنفس أعلى مرتبة من الجهاد بالمال ولذا لم يعف الأغنياء في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم من المشاركة بأنفسهم أمثال عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما , لأن صقل النفوس وتربية الأرواح إنما تتم على مستوى رفيع في خضم المعركة , ولذا فقد أوصي صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة قائلاً(.. وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام ) حديث صحيح رواه أخمد . قلت : وقال للرجل الذي استأذنه في السياحة ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ) رواه أبو داود والحاكم وابن حبان بإسناد جيد وصححه كذلك شيخ الإسلام ابن تيمية .
ولذلك عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيفتن المرء في قبره ؟ قال ( كفى ببارقة السيوف فوق رأسه فتنة ) حديث صحيح رواه النسائي . ولذا فقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإنشغال بالدنيا عن الجهاد , فقد أشار ذات مرة إلى سكة محراث وقال ( لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل ) رواه البخاري في صحيحه , قلت : وقد بوب عليه البخاري باب: ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع، أو مجاوزة الحد الذي أمر به.
وفي الصحيح ( إذا تبايعتم بالعينة , وأخذتم أذناب البقر , ورضيتم بالزرع , وتركتم الجهاد , سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) رواه أبو داود(1), وروى الترمذي ( لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا ) والضيعة : هي العقار أو الحرفة .
ففي هذه الأحاديث جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم متاع الدنيا وأسباب الإنشغال : الزراعة والتجارة بالربا وحيلة العينة والإنتاج الحيواني والصناعة والحرف –الضيعة- , فالإنشغال بهذه في وقت يتعرض له المسلمون لمعركة الوجود أو الأجتثاث يعد حراماً ....ا.هـ
__________
(1) 1- قلت والصواب ضعف هذا الحديث ففيه انقطاع ومجاهيل وضعفاء ضعفه الذهبي وابن حجر وغيرهم وسيأتي تخريجه في باب السبق .(1/22)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( فإن المدينة لم يكن فيها طحان ولا خباز , لعدم حاجتهم إلى ذلك , كما أن المسلمين لما فتحوا البلاد كان الفلاحون كلهم كفاراً , لأن المسلمين كانوا منشغلين بالجهاد ) الفتاوى (28/88) وقال ( فلم يكن البائعون ولا المشترون ناساً معينين , ولم يكن هناك أحد يحتاج الناس إلى عينه أو ماله , ليجبر على عمل أو على بيع , بل المسلمون كلهم من جنس واحد , كلهم يجاهدون في سبيل الله , ولم يكن أحد من المسلمين البالغين القادرين على الجهاد إلا من يخرج في الغزو , وكل منهم يغزو بنفسه وماله , أو بما يعطاه من الصدقات أو الفيء , أو ما يجهزه به غيره ) انتهي من الفتاوى (28/96) .
رابعا : الإعانة للمجاهدين ومساعدتهم فهي كذلك من الجهاد في سبيل الله فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل يدخل ثلاثة نفر الجنة بالسهم الواحد صانعه يحتسب في صنعه الخير والرامي به ومنبله . رواه الترمذي من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه .(1/23)
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر (ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ..الحديث ) وعند الطبراني في الكبير ( ومن مشي مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام ..الحديث ) .ومثله من مشي مع المجاهدين في تخليص جوازاتهم وتأشيرات السفر وجمع التجهيز لهم وتشييعهم والخروج معهم لتوديعهم أو استقبالهم والدعاء لهم فكل ذلك من الإعانة لهم وهو من الأمور المشروعة فقد روى أحمد وابن ماجة عن معاذ عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال ( لأن أشيع غازياً فأكفيه في رحله غدوةً أو روحةً أحب إليّ من الدنيا وما فيها ) ويشهد له ما في الصحيحين ( أن ابن الزبير وابن جعفر وابن عبّاس لقوا النبي صلي الله عليه وسلم وهو قادم فحمل اثنين منهم وترك الثالث ) وعن السائب بن يزيد ( لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك خرج الناس يتلقونه من ثنية الوداع ) رواه أبو داود والترمذي وصححه وللبخاري نحوه .
قال الشوكاني : والتشييع الخروج مع المسافر لتوديعه وفيه الترغيب في تشييع الغازي وإعانته على بعض ما يحتاج إلى القيام بمؤنته , لأن الجهاد من أفضل العبادات والمشاركة في مقدماته من أفضل المشاركات . وفي الحديث دليل على مشروعية تلقي الغازي إلى خارج البلد , ولما في ذلك من التأنيس له والتطييب لخاطره والترغيب لمن كان قاعداًَ في الغزو)(1)ا.هـ من نيل الأوطار .
(وعن الربيع بنت معوذ قالت : " كنا نغزو مع رسول الله صلي الله عليه وسلم نسقي القوم ونخدمهم ... الحديث ) رواه البخاري واحمد . قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار كتاب الجهاد في شرحه لهذا الحديث : قولها " كنا نغزو " جعلت الإعانة للغزاة غزوا ا.هـ قلت : وهو ما يفهم من قولها نسقي القوم ونخدمهم " .
__________
(1) 4-قلت وهذه السنة أي توديع المجاهد أو استقباله أستبدلت بالتحذير منه واستقباله في السجون, ويستقبل الكفار ويودعون بالترحيب في حلهم وترحالهم .(1/24)
وفى معناه حديث سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ, أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ, أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ, أَظَلَّهُ اَللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِم ُ (1) .
__________
(1) - ضعيف. رواه أحمد (3 / 487)، والحاكم (2 / 89- 90 و 217) وفي سنده عبد الله بن سهل بن حنيف، وهو مجهول.(1/25)
ومن إعانة المجاهدين إيوائهم ونصرتهم ومساعدتهم , وهنا يبرز لنا أهمية الإيواء والنصرة للمجاهدين المطاردين والمطلوبين من الأمريكيين وعملائهم من الطواغيت , فهي من أعظم مناقب الأنصار رضي الله عنهم بل مدحهم الله في كتابه علي ذلك كما مدح المهاجرين على الأيمان والهجرة قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ . وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ . وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.(1/26)
فالمجاهدون آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كما نحسبهم والله حسيبهم , حملهم إيمانهم , على الهجرة والجهاد فقاموا بما أمرهم الله . وينتظرون دور الَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ , ليتحقق فيهم وصف أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ , ويستحقوا منزلة , أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ , قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المنافع التي يجب بذلها :
( إذا قدر أن قوما اضطروا إلى سكني في بيت إنسان إذا لم يجدوا مكاناً يأوون إليه إلا ذلك البيت , فعليه أن يسكنهم , وكذلك لو احتاجوا إلى أن يعيرهم ثياباً يستدفئون بها من البرد , أو إلى آلات يطبخون بها , أو يبنون أو يسقون : يبذل هذا مجاناً . وإذا احتاجوا إلى أن يعيرهم دلواً يستقون به , أو قدراً يطبخون فيها , أو فأساً يحفرون به , فهل عليه بذله بأجرة المثل لا بزيادة ؟ فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره . والصحيح بذل ذلك مجاناً إذا كان صاحبها مستغنياً عن تلك المنفعة وعوضها , كما دل عليه الكتاب والسنة , قال الله { فويل للمصلين . الذين هم عن صلاتهم ساهون . الذين هم يراءون . ويمنعون الماعون } وفي السنن عن ابن مسعود قال : كنا نعد الماعون عارية الدلو والقدر والفأس ) ا.هـ الفتاوى (28/96) .
خامسا : قال الصنعاني : وجوبه بالمال هو: بذله لما يقوم به من النفقة في الجهاد والسلاح ونحوه وهذا هو المفاد من عدة آيات في القرآن {جاهدوا بأموالكم وأنفسكم} ا.هـ
وقال الإمام العلامة حمود العقلا : أما الجهاد بالمال فله أهمية كبيرة إذ لا يستغني عنه المقاتلون لتأمين السلاح والذخيرة وتأمين نفقة الجند ومعالجة الجرحى وكل ما تحتاجه المعركة فهو مكمل للجهاد بالنفس ا.هـ.
ولذلك قال بعض أهل العلم أنه إذا أحتاج المجاهدون للمال فإن الادخار يحرم حينئذ ويجب إنفاق المال في الجهاد .(1/27)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عند قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } فانتظمت هذه الآية حال من أخذ المال بغير حقه , أو منعه من مستحقه من جميع الناس ..ثم قال { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة في سبيل الله , والجهاد أحق الأعمال باسم سبيل الله , سواء كان ملكاً أو مقدماً أو غنياً , أو غير ذلك . وإذا دخل في هذا ما كنز من المال الموروث والمكسوب , فما كنز من الأموال المشتركة أولى ) الفتاوى (28/440) .
وقال ابن تيمية أيضا ( ومن عجز عن الجهاد ببدنه وقدر على الجهاد بماله وجب عليه الجهاد بماله وهو نص أحمد في رواية ابن الحكم , وهو الذي قطع به القاضي في أحكام القرآن في سورة براءة عند قوله تعالى { انفروا خفافاً وثقالاً } فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله .
وعلى هذا فيجب على النساء الجهاد بأموالهن إن كان فيها فضل وكذلك في أموال الصغار إذا احتيج إليها , كما تجب النفقات والزكاة , وينبغي أن يكون محل الروايتين في واجب الكفاية . فأما إذا هجم العدو فلا يبقي للخلاف وجه ... ثم قال :ولذلك قلت : لو ضاق المال عن إطعام جياع والجهاد الذي يتضرر بتركه قدمنا الجهاد وإن مات الجياع , كما في مسألة التترس وأولى , فإن هناك نقتلهم بفعلنا وهنا يموتون بفعل الله ) المستدرك على الفتاوى لابن قاسم (3/214) .
ويجب كذلك على تجار السلاح أن يبيعوه للمجاهدين ليتمكنوا من قتال الكفار وإخراجهم من بلاد المسلمين .
قال ابن تيمية :
((1/28)
وأما في الأموال فإذا أحتاج الناس إلى سلاح للجهاد , فعلى أهل السلاح أن يبيعوه بعوض المثل ولا يمكنون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون – هذا من التسعير الواجب - والعاجز عن الجهاد بنفسه يجب عليه الجهاد بماله في أصح قولي العلماء , وهو إحدى الروايتين عن أحمد , فإن الله أمر بالجهاد بالمال والنفس في غير موضع من القرآن , وقد قال الله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال النبي صلي الله عليه وسلم [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] أخرجاه في الصحيحين , فمن عجز عن الجهاد بالبدن لم يسقط عنه الجهاد بالمال , كما أن من عجز عن الجهاد بالمال لم يسقط عنه الجهاد بالبدن ) (الفتاوى 28/88) .
[قال القرطبي (اتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها,وقال مالك: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم , وهذا إجماع أيضا) ا.هـ وهو فرض على النساء وفي أموال الصغار(1)كما قال ابن تيمية .فإن الحفاظ على الدين مقدم على الحفاظ على النفوس , والحفاظ على النفوس أولى من الحفاظ على المال , فأموال الأغنياء ليست أغلى وأثمن من دماء المجاهدين فلينتبه الأغنياء إلى حكم الله في أموالهم حيث أن الجهاد في حاجة , والمجاهدون لا يجدون قيمة السلاح أو الذخيرة ويموت المئات من المسلمين يوميا ويقتل أضعافهم وديارهم في يد الكفار والأغنياء غارقون في شهواتهم إلا من رحم الله](2).
ويدخل فيه – أي الجهاد بالمال - كل ما كان في باب الجهاد من تجهيز الغزاة والمجاهدين في سبيل الله لحديث زيد بن خالد( من جهز غازياً فقد غزا ) متفق عليه (قال الإمام الشوكاني : أي هيّأ له أسباب سفره وما يحتاج إليه مما لا بد منه ) ا.هـ
__________
(1) 1- كاليتامى والوارثين من غير المكلفين .
(2) 2- الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان للشيخ الدكتور عبد الله عزام رحمه الله بتصرف .(1/29)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( ومن كان قادراً ببدنه , فليأخذ من أموال المسلمين ما يتجهز به , سواء كان المأخوذ زكاة , أو صلة , أو من بيت المال أو غير ذلك , حتى لو كان الرجل قد حصل بيده مال حرام وقد تعذر رده إلى أصحابه لجهله بهم ونحو ذلك , أو كان بيده ودائع أو رهوناً أو عوار قد تعذر معرفة أصحابه , فلينفقها في سبيل الله , فإن ذلك مصرفها ....
ومن أراد التخلص من الحرام والتوبة ولا يمكن رده إلى أصحابه فلينفقه في سبيل الله على أصحابه , فإن ذلك طريق حسنة إلى خلاصه مع ما يحصل له من أجر الجهاد ) الفتاوى (28/422) . ومنه شراء لوازم السفر وتذاكر السفر وأجرة السيارة وكذا ما يكون من تسهيل هذه الأمور مما يقوم به ( المنسق(1) من اتصالات واستئجار منازل ومضافات لتسهيل مهمة المجاهدين في الداخل والخارج .
ومن ذلك تأمين أسر المجاهدين والشهداء والأسرى لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث زيد المتقدم ( ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا ) قال الشوكاني : وكذا من يخلفه فيمن ترك بعده يباشر من المشقة أيضاً , فإن الغازي لا يتأتى منه الغزو إلا بعد أن يكفي ذلك العمل فصار كأنه يباشر معه الغزو ) ا.هـ نيل الأوطار .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ويجب على القعدة لعذر أن يخلفوا الغزاة في أهلهم وأموالهم ) المستدرك على مجموع الفتاوى ( 3/216) .
__________
(1) 3- وهو من يقوم على تسهيل مهمة المجاهدين وترتيب أمورهم وتنسيق رحلاتهم وتجهيزهم بما يحتاجونه من أموال ومعلومات وغير ذلك .(1/30)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ( وفي السنن : أن النبي صلي الله عليه وسلم كان إذا أتاه مال أعطى الآهل قسمين والعزب قسما . فيفضل المتأهل على المتعزب ؛ لأنه محتاج إلى نفقة نفسه , ونفقة امرأته . والحديث رواه أبو داود وأبو حاتم في صحيحه , والإمام أحمد في رواية أبي طالب وقال : حديث حسن , ولفظه عن عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه الفيء قسمه من يومه , فأعطي الآهل حظين وأعطي العزب حظا ..
ثم قال : وأما من قتل أو مات من المقاتلة فإنه ترزق امرأته وأولاده الصغار . وفي مذهب أحمد والشافعي في أحد قوليه وغيرهما : فينفق على امرأته حتى تتزوج وعلى ابنته الصغيرة حتى تتزوج وعلى ابنه الصغير حتى يبلغ . ثم يجعل من المقاتلة إن كان يصلح للقتال , وإلا إن كان من أهل الحاجة والذين يعطون من الصدقة وفاضل الفيء والمصالح , أعطي له من ذلك وإلا فلا ) الفتاوى (28/584-586) .
فالواجب السعي وبذل الجهد في جمع التبرعات والصدقات والزكوات وتحريض التجار والموسرين وتذكيرهم بواجبهم تجاه الجهاد ,
وتذكيرهم بمثل قوله تعالى {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين } وقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون }.
وقد بوب البخاري على هذه الآيات باب : أي الصدقة أفضل، وصدقة الشحيح الصحيح. وأورد حديث : أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان) والحديث متفق عليه .(1/31)
وكذلك بناء الأوقاف الخيرية وصرف ريعها للمجاهدين , فإن ذلك واجب ليس على المجاهدين فحسب بل على طلبة العلم والدعاة بل على كل غيور على دينه فهو واجب على الجميع , وقد كان عليه الصلاة والسلام يجمع التبرعات في مسجده وفي محرابه , ويحث الناس على ذلك , فعن المنذر بن جرير، عن أبيه ؛ قال:
كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار. قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء. متقلدي السيوف. عامتهم من مضر. بل كلهم من مضر. فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة. فدخل ثم خرج. فأمر بلال فأذن وأقام. فصلى ثم خطب ( فقال: " { يا أيها الناس ! اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } إلى آخر الآية .{ إن الله كان عليكم رقيبا}. والآية التي في الحشر: { اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله} تصدق رجل من ديناره ،من درهمه، من ثوبه ،من صاع بره، من صاع تمره (حتى قال) ولو بشق تمرة "قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها. بل قد عجزت .قال: ثم تتابع الناس .حتى رأيت كومين من طعام وثياب. رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل. كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده. من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده. من غير أن ينقص من أوزارهم شيء). رواه مسلم .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال ): خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد، فصلى ركعتين، لم يصل قبل ولا بعد، ثم مال على النساء، ومعه بلال، فوعظهن وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تلقي القلب والخرص). رواه البخاري .(1/32)
وكان عليه الصلاة والسلام يحث حتى أزواجه ويربيهم على ذلك ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: ( أينا أسرع بك لحوقا؟ قال: (أطولكن يدا). فأخذوا قصبة يذرعونها، فكانت سودة أطولهن يدا، فعلمنا بعد: أنما كانت طول يدها الصدقة، وكانت أسرعنا لحوقا به، وكانت تحب الصدقة( .
وقد حاز أصحابه رضي الله عنهم قصب السبق في ذلك فجهز عثمان بن عفان رضي الله عنه جيش العسرة , وأنفق عبد الرحمن بن عوف الذهب في سبيل الله , وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله في سبيل الله , وأنفق أبو بكر ماله كله في سبيل الله ولم يمنعهم ذلك من المشاركة بأنفسهم . فيالهم من رجال ضربوا أروع الأمثلة في البذل والتضحية في سبيل نصرة دينهم ومرضاة ربهم .
ولا تستمعوا إلى المنافقين ولا إلى الطواغيت ولا إلى العصرانيّين(1)ولا إلى غيرهم من الذين يسعون جاهدين لمنع المسلمين من الجهاد بأموالهم كما منعوهم من الجهاد بأنفسهم عبر مجلس الكفر البرلماني التشريعي ( مجلس الشورى ) وغيره من مؤسساتهم وذلك عن طريق ما يسمونه غسيل الأموال , ومنع المؤسسات الخيرية وغير ذلك فهؤلاء لا يفقهون ,كما ذكر الله حال المنافقين الذين كانوا يسعون لمنع التبرعات التي تصل إلى رسول الله وإلى من معه من المجاهدين قال تعالى {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ }. ...
سادسا : والجهاد باللسان بإقامة الحجة عليهم ودعائهم إلى الله تعالى، وبالأصوات عند اللقاء , وهجوهم وتخويفهم وتوعدهم بالقتل، والدعاء عليهم بالخذلان والهزيمة , وللمسلمين بالنصر والتمكين .
__________
(1) ولشيخنا علي الخضير رسالة في العصرانيين(1/33)
ومن الجهاد باللسان : فتوى العلماء في بيان التوحيد ومناصرة أهله والتحريض على الجهاد وبيان أحكامه وكشف شبهات المضلين وفضح زيغ الزائغين من علمانيين ومنافقين والرد علي المثبطين والمرجفين والمخذلين والمعوقين من علماء السلاطين ودعاة التعايش والتسامح مع الكفار, وكذلك الدفاع عن الجهاد والمجاهدين وإخراج البيانات التي تظهره بأنصع صورة , وترد عنه الحملة الإعلامية المسعورة , خاصة عندما تخالف هوى السلطان فهنا تكون الفتوى شديدة على النفس لأنها قد تكلف العالم وظيفته أو سجنه أو عنقه .
قال الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب:
(ومن أفضل الجهاد : جهاد المنافقين في زمن الغربة ...] ا.هـ الدرر السنية (8/3).
قال تعالي { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم..} والمنافق إذا أظهر النفاق صار مرتداً بذلك يقاتل على ردته وأما إذا لم يظهر النفاق فهؤلاء جهادهم باللسان لكشف باطلهم وفضح مناهجهم كما قرر ذلك ابن تيمية في الصارم المسلول وكذا ابن القيم في زاد المعاد.
ولاشك أن هذا أوجب ما يكون على العلماء وطلبة العلم والدعاة الصادقين ,
قال ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين 2/121) :
((1/34)
وأي دينٍ ، وأي خيرٍ ، فيمن يرى محارم الله تنتهك ، وحدوده تضاع ، ودينه يترك ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغب عنها ، وهو بارد القلب ، ساكت اللسان ، شيطان أخرس , كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق ؟! , وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين ؟ , وخيارهم المتحزن المتلمظ , ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل ، وجد واجتهد , واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه ، وهؤلاء - مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم - قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون , وهو موت القلوب ; فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى , وانتصاره للدين أكمل) .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله في سكوت علماء زمانه عن فتنة ترققها فتنة اليوم (الدرر 8/372) :
( وأكثرهم يرى السكوت عن كشف اللبس في هذه المسألة ، التي اغتر بها الجاهلون ، وضل بها الأكثرون ، وطريقة الكتاب والسنة وعلماء الأمة تخالف ما استحله هذا الصنف من السكوت ، والإعراض في هذه الفتنة العظيمة ، وإعمال ألسنتهم في الاعتراض على من غار لله ولكتابه ولدينه . فليكن منك يا أخي طريقة شرعية ، وسيرة مرضية ، في رد ما ورد من الشبه ، وكشف اللبس ، والتحذير من فتنة العساكر ، والنصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، وهذا لا يحصل مع السكوت ، وتسليك الحال على أي حال ، فاغتنم الفرصة ، وأكثر من القول في ذلك ، واغتنم أيام حياتك ، فعسى الله أن يحشرنا وإياك في زمرة عساكر السنة والقرآن ، والسابقين الأولين ، من أهل الصدق والإيمان) .(1)
__________
(1) 1- من مقدمة التبيان في كفر من أعان الأمريكان للشيخ المجاهد ناصر الفهد فك الله أسره وإخوانه من العلماء العاملين المجاهدين .(1/35)
وقد روى الإمام أحمد في مسنده بإسناد حسن ( إن من أمتي قوما يعطون مثل أجور أولهم ينكرون المنكر ) .
قال شيخ المجاهدين الشيخ أسامة بن لادن حفظه الله تعالى :
( وفي هذا المجال لابدّ من الحديث أننا إذا عرفنا علماء السوء وعلماء السلاطين ينبغي البحث بجد واجتهاد عن الصادقين من العلماء, عن الذين يصدعون بالحق ولا يخافون لومة لائم، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللَّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ، فينبغي الالتفاف حولهم والتشاور معهم في نصرة لا إله إلا الله والعمل لتحكيم شرع الله سبحانه وتعالى.
والصادقون من العلماء لهم صفات, والصادقون بيّن الله سبحانه وتعالى صفاتهم في كتابه الكريم قال : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . فمن أبرز صفات الصادقين: 1- صفة الإيمان. 2- وصفة الجهاد في سبيل الله .
وهذا المعنى نجده يتكرر، ويقترن الصدق مع الجهاد، ومع النصرة, ومع قول الحق, والصدع به, فمن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الذين يهاجرون والذين ينصرون الله ورسوله ويجاهدون في سبيل الله هؤلاء في سبيل الله وللتمكين لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء هم الصادقون .
ومن أعظم الجهاد كلمة الحق والصدع بها، كما مضى معنا في الحديث عن نبينا عليه السلام : ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر))، فالعلماء الذين يصدعون بالحق؛ هؤلاء هم الصادقون وهذه صفتهم.(1/36)
فأبرز صفات الصادقين؛ الجهاد باليد وباللسان , وهنا ينبغي أن نؤكد على شباب الصحوة ما مر معنا؛ أن فيهم من الطاقات ما يكفي وزيادة لإقامة الحق, ولإقامة دولة الإسلام, ودولة الخلافة, ولكن ينبغي أن يتحرروا ويحرروا عقولهم من التقليد الأعمى، فقد صح عن نبينا عليه السلام أنه قال: (( لا تكونوا إمعة، تقولون؛ إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم؛ إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا)) [رواه الترمذي وحسنه]. ( الحديث ضعيف )
وسأذكر لكم قصة ذات مغزى كبير أن أولي الألباب والنهى إذا قلدوا مَن أمامهم دون أن يتدبروا, فقد يضيع منهم خير عظيم, بل قد تضيع عليهم الآخرة - ولا حول ولا قوة إلا بالله - فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه ، وعمرو بن العاص من دهاة العرب المعدودين, وخالد بن الوليد عبقري في الحروب, ومع ذلك تأخر إسلامهما لأكثر من عشرين سنه تقريباً, والنور بين يديهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشرة سنة بين أظهرهم في مكة ولا يرون هذا النور مع شدة ذكائهم ونباهتهم، فماهو السبب؟!
السبب؛ التقليد الأعمى, كانوا ينظرون إلى أولئك الرجال العظام في قريش -أهل الندوة- ويقتدون بهم, وعطّلوا عقولهم، فلما أسلم خالد وعمرو بن العاص قبل الفتح بشيء يسير - أي قريباً من عشرين سنة منذ بعثت محمد صلى الله عليه وسلم - فقال له بعض أصدقائه: (أين كان عقلك يا خالد ولم تر هذا النور لعشرين سنة؟)، فقال كلمة ينبغي التوقف عندها كثيراً للمقلدين، قال: (كنا نرى أمامنا رجالاً كنّا نرى أحلامهم كالجبال) - الوليد بن المغيرة, وعمرو بن هشام, وعتبة وشيبة ابني ربيعة, والعاص بن وائل السهمي, وأمية بن خلف - قوم عبّأوا على الناس عقولهم أنهم هم الذين يعرفون الصواب, وكانوا يقودونهم إلى المهلكة في الدنيا والآخرة.(1/37)
فلما حرر خالد عقله نفع الله به وتفجرت طاقات, فكان سيفاً من سيوف الله فتح الله به أرضاً عظيمة في بلاد فارس وفي بلاد الروم.
فأقول: كثيرٌ من الناس عندهم من الطاقات الهائلة، ولكن يعطلها باتباع قاعد، باتباع من رضي بأن يكون مع الخوالف, فلا نجاة لهذه الأمة إلا بإتباع المنهج كاملاً، فكما ذكرت الخطر ملازم بصفة دائمة لهذه الدعوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها....
ومن المسائل المهمة أيضاً هنا؛ أن يبتعد الشباب عن أولئك الذين قد ضيّعوا الأمانة وخانوا الأمة فيما اؤتمنوا عليه فينبغي التمييز بين أهل الأمانة الذين يؤدّون ما احتملوا من ميراث النبوة على نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، وبين الذين أخذوا الشهادات العلميّة وأخذوا الدين للوظائف يأكلون به من هذه الدنيا على حساب دينهم - ولا حول ولا قوة إلا بالله )(1).
ولذا لا يستفتى في أمور الجهاد إلا الصادقون العالمون العاملون قال بن تيمية رحمه الله تعالى : (والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا , دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم , ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا ) المستدرك لابن قاسم (3/220) قال الشيخ عبد الله عزام : أي يشترط في الذي يفتي في أمور الجهاد أن يكون قادرا على الاستنباط مخلصا وأن يعرف طبيعة المعركة وأحوال أهلها.(2)
__________
(1) 1- مقاطع من شريط مفرغ لمحاضرة بعنوان ( توجيهات ) للشيخ المجاهد أسامة بن لادن من منير التوحيد والجهاد , وليتهم سموها فكوا القيود لأنه هو مضمون المحاضرة فقد بين حال علماء السلطان ودورهم في تخدير شباب الأمة خدمة للطواغيت , فأنصح كل طالب للحق سماعها والاستفادة منها , أو قراءتها مفرغة .
(2) 2- إتحاف العباد بفضائل الجهاد الشيخ عبد الله عزام رحمه الله تعالى. بتصرف .(1/38)
وقال شيخ الإسلام أيضاً ( ولهذا كان الجهاد موجباً للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم , كما دل عليه قوله تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى , ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما : إذا اختلف الناس في شيء , فانظروا ماذا عليه أهل الثغور , فإن الحق معهم , لأن الله يقول { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } الفتاوى (28/442) .
قال الإمام العلامة حمود بن عقلا الشعيبي رحمه الله تعالى في فتوى عن حكم الجهاد :
ومن أنواع الجهاد ، الجهاد باللسان والقلم وهذا يشمل كل قول يكون من شأنه تقوية معنويات الجند ، وتحطيم معنويات العدو كالشعر والخطابة وإشاعة انتصارات المسلين وهزائم أعدائهم ، ومن ذلك رفع الأصوات بالتكبير والذكر عند الحملة على العدو وتحميس الجيوش وتشجيعهم ووعدهم بالانتصارات وهزيمة أعدائهم ، وكذلك الدعاء لهم بالنصر والتأييد .
ومن أقوى الوسائل في العصر الحاضر لهذا النوع من الجهاد الإعلام فإن كل من له أدنى إلمام بالإعلام يدرك أن له آثارا بعيدة في تغيير الموازين بالنسبة للمعارك التي تجري بين المسلين وأعدائهم لما يشتمل عليه الإعلام من نشر لانتصارات المسلمين على أعدائهم وتأييد لهم وإظهار بطولاتهم والثناء عليهم لأن هذه الأمور من شأنها أن تشد أزر المجاهدين وتحملهم على أن يتفانوا في طلب النصر وهزيمة الأعداء ، ولذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهتم بهذا النوع من الجهاد ـ أي الجهاد باللسان ـ فيأمر شعراء المسلين كحسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك بأن يهجوا خصومه من الكفار كما جاء عند مسلم من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( ثم اهجوا قريشا فإنه أشد عليها من رشق بالنبل ) وقال صلى الله عليه وسلم لحسان ( اهجهم وروح القدس معك ) وقال لحسان ( إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .(1/39)
هذا إذا كان الإعلام صادقا والقائمون عليه مخلصون لدينهم وأمتهم أما إذا كان الإعلام على ما هو عليه الآن من اهتمام بشؤون تافهة بعيدة عن الجهاد وأحوال المجاهدين .
وإنك إذا تأملت أي وسيلة من وسائل الإعلام في هذا العصر سواء المرئية منها والمسموعة والمقروءة لا تجد فيها عرضا لقضايا المسلمين المضطهدين من قبل أعداء الله وأعدائهم سواء في ذلك قضية الفلسطينيين الذين مازالوا منذ أكثر من خمسين عاما وهم يعانون من غطرسة الصهاينة واعتداءاتهم على هذا الشعب الأعزل بالتقتيل والاعتقالات وانتهاك الحرمات .
وكذلك غطرسة الروس الملاحدة في الشيشان منذ أكثر من عشر سنوات وممارسة الجرائم في حق هذا الشعب المسلم من تقتيل وتدمير وانتهاك للحرمات و إذا تتبعت وسائل الإعلام في العالم العربي والإسلامي وجدت أنها في شغل شاغل عن هذه القضايا وأمثالها ووجدت جل اهتمام القائمين على الإعلام في هذه البلدان بعرض الأمور التي لا تمت إلى قضايا الإسلام والمسلمين بحال وإنما هي عبارة عن عرض للحفلات الغنائية والمباريات الرياضية وكذلك عرض للصور الخليعة والمسلسلات الهابطة وكذلك كيل المدح والإطراء للحكام والقادة ونسبة البطولات والتبرعات بالأموال التي لا وجود لها في الحقيقة إلا على الورق وألسنة المذيعين وكذلك أخبار الحل والترحال والمقابلات واللقاءات للقادة ا.هـ(1/40)
ويمكن القيام بذلك من خلال لجنة إعلامية كإعلام مضاد يًبيّن فيها مقاصد الجهاد وأهداف المجاهدين عبر الأشرطة المسموعة والمرئية(1)
__________
(1) 1- لا شك أن التصوير أمر محرم لورود النصوص بتحريمه , ونحن ممن يرفض خروج المشائخ والدعاة في القنوات الفضائية لما فيها من محرمات كثيرة التصوير أحدها , ولكن نقول هنا أنه يجوز في باب الجهاد ما لا يجوز في غيره فقد شاهدنا تأثير ضربات الحادي عشر من سبتمبر بعد نقلها إعلامياً ولو ترك نقلها ما حصل ما حصل من تغير في الأفهام والعقول ونظرة الناس لزوال البهرج الزائف للحضارة الأمريكية , وكذالك كلمة من أسامة بن لادن أو الظواهري أو أبو غيث تهز عرش بوش فضلاً عن النتائج التي حققها فلم كول من معرفة الناس لكثير من الحقائق ,ومن تأمل النصوص وجد أنه يجوز في الجهاد مشية الخيلاء مع أن الله يبغضها , ويجوز فيه الكذب مع أنه محرم في الأصل ويجوز الصبغ بالسواد للمجاهد مع المنع لغيره , بل أجاز النبي صلي الله عليه وسلم للصحابة أن يتكلموا فيه وفي دعوته لقتل رجل واحد كما في الصحيحين في قصة قتل كعب بن الأشرف وقتل سلام ابن أبي الحقيق , وقتل خالد الهذلي , وقد ذكر أهل العلم كثيراً من الأمور التي يجوز للمجاهد فعلها مع أنها في الأصل محرمة إذا كان في ذلك مصلحة للجهاد والمجاهدين ودعت الضرورة لفعلها , كما ذكر ابن كثير أن بعضاً من المسلمين كانوا مدداً للمجاهدين في بلاد النصارى ولا يستطيعون العبور إلا في سفن عبر مضيق يراهم فيه النصارى فشد المسلمون أوساطهم بزنارات كما يفعل النصارى وأشاروا لهم إشارتهم فظن النصارى أنهم منهم فتركوهم يعبرون فقال ابن كثير : هذا فعل جيد , وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى ج28 عن لبس الحرير للمجاهد فقال يجوز لبسه للمجاهد عند الضرورة باتفاق المسلمين وقال إن كان ذلك من باب إرهاب العدو جاز , والأدلة كثيرة في أنه يجوز للمجاهد ما لا يجوز لغيره , ومن ذلك وضع الصورة في الجواز حتى يسافر للإعداد والجهاد وكذلك حلق اللحية للضرورة والحاجة ولبس البنطال أو الإسبال أو تزوير جوازات سفر وهويات للمجاهدين يتنقلون بها وغير ذلك مما لا يتسع المقام لبسطه ولعل الله أن ييسر إخراج رسالة في ذلك والله أعلم .(1/41)
, وكذلك النشرات الدورية والمذكرات والبحوث التي تبّصر الناس وتستنهض هممهم لنصرة الدين.
وكل ما فيه إغاظة ونكاية للعدوّ فهو من الجهاد قال تعالى { وَلاَ يطئون مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وقال صلى الله عليه وآله وسلم لحسان: "إنّ هجوا الكفار أشد عليهم من وقع النبل". وهو في الصحيحين من حديث عائشة وجاء فيهما أيضا من حديث البراء بلفظ ( أهج المشركين فإن روح القدس معك ) .
جهاد المرأة
3 -وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ ! عَلَى اَلنِّسَاءِ جِهَادٌ? قَالَ: "نَعَمْ. جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ, اَلْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ" رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَه (1) . وَأَصْلُهُ فِي اَلْبُخَارِيِّ (2).
(وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله على النساء جهاد؟) هو خبر في معنى الاستفهام وفي رواية: أعلى النساء؟ (قال: "نعم جهادٌ لا قتال فيه الحجُّ والعمرة". رواه ابن ماجه وأصله في البخاري) بلفظ "قالت عائشة: استأذنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجهاد فقال: "جهادكنّ الحج" وفي لفظ له آخر "فسأله نساؤه عن الجهاد فقال "نعم، الجهاد الحج"، وأخرج النسائي عن أبي هريرة "جهاد الكبير أي العاجز والمرأة والضعيف: الحج". ولكنه ضعيف .
__________
(1) - صحيح. رواه ابن ماجه ( 2901 ).
(2) - وبألفاظ مختلفة، ففي رواية عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد. فقال: " جهادكن الحج". . وفي أخرى عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم سأله نساؤه عن الجهاد؟. فقال: "نعم الجهاد الحج" . انظر البخاري حديث رقم ( 1520 )، وأطرافه.(1/42)
أولا: دل الحديث على أنه لا يجب على المرأة قتال ، وعلى أن الثواب الذي يقوم مقام ثواب جهاد الرجال حج المرأة وعمرتها كما في الرواية الأخرى (قالت: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد. فقال: " جهادكن الحج". ..
ثانيا: جواز الجهاد لهن فلا دليل في الحديث على عدم الجواز، وقد أردف البخاري هذا الباب بباب خروج النساء للغزو وقتالهن , فاشتراك المرأة في الجهاد جائز ويكون في الخطوط الخلفية . ففي البخاري ومسلم وغيرهما ما يدل على أن جهادهن إذا حضرن مواقف الجهاد سقي الماء ومناولة السهام ومداواة المرضى قلت : لأن لمس الجرح فيه ألم وليس فيه تلذذ , وفي حديث أم عطية الأنصارية " وأداوي الجرحى ... الحديث رواه مسلم " ( قال الشوكاني : فيه دليل على أنه يجوز للمرأة الأجنبية معالجة الرجل الأجنبي للضرورة ... ولا تباشر بالمس مع إمكان ما هو دونه) وقد بوب البخاري باب: مداواة النساء الجرحى في الغزو : وأورد حديث الربيع بنت معوذ قالت : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة .
ثالثا: ولا يكون من شابّة أو جميلة بلا محرم , قال محمد بن الحسن في السير :( ولا ينبغي للشواب أن يخرجن أيضاً في الصوائف ونحوها , فأما العجائز فلا بأس بأن يخرجن مع الصوائف لمداواة الجرحى , ولا يعجبني أن يباشرن القتال لأن بالرجال غنية عن قتال النساء , فلا يشتغلن بذلك من غير ضرورة ) وقال ابن قدامة في المغني (8/315) : ويكره دخول النساء الشواب أرض العدو لأنهن لسن من أهل القتال وقلما ينفع بهن فيه لاستيلاء الخور والجبن عليهن ولا يؤمن ظفر العدو بهن فيستحلون ما حرم الله منهن )(1).
__________
(1) 1-من إتحاف العباد بفضائل الجهاد للشيخ الدكتور عبد الله عزام رحمه الله تعالي .(1/43)
رابعا: أما القتال فلا تقاتل إلا مدافعة ولا تقصد العدوّ إلى صفته وطلب مبارزته . ويؤيد هذا أن النبي صلي الله عليه وسلم لما حوصرت المدينة في غزوة الخندق رفع النساء إلي آطام المدينة وأبعدهن عن أرض المعركة , وأخرج مسلم من حديث أنس "أن أم سليم اتخذت خنجراً يوم حنين وقالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه" فقولها إن دنا مني دليل على أنها لاتتقصد طلبه وقتاله ولكن إذا هجم عليها وقصد قتالها فيجب عليها أن تدافع عن نفسها وهذا أقرب الأوجه للجمع بين الأدلة والله أعلم .
وكذلك فإن الجهاد مما فضل الله به الرجال وأختصهم به ففي حديث أم سلمة رضي الله عنها؛ قالت: يا رسول الله! تغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث؟ فنزل قوله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}. رواه الترمذي وأحمد وابن جرير والحاكم وغيرهم, وفي لفظ قالت: يا رسول الله! لا نقاتل فنستشهد، ولا نقطع الميراث؟ فنزلت الآية السابقة، ثم أنزل الله: {إِنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى..} الآية. رواه الترمذي وابن جرير والطبراني والحاكم .
وقال شيخنا العلامة على الخضير في جواب له على سؤال عن حكم جهاد المرأة :
( ليس على المرأة جهاد مسلح لمفهوم حديث عائشة أنها سألت الرسول صلى الله عليه وسلم ( يا رسول الله هل على النساء من جهاد ؟ قال نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة ) رواه احمد . فدل الحديث انه ليس عليهن جهاد واجب , ولقوله تعالى { وقرن في بيوتكن } ولما في طبيعة المرأة من الضعف والخوف , أما دفاعها عن نفسها إن صال عليها صائل فنعم لقوله { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم } وهذا عام في رد العدوان حتى للنساء .(1/44)
لكن إن رأى أهل الجهاد أو علماؤهم إشراك بعض النساء للحاجة فلا مانع بعد إذن أهل الجهاد أو علمائهم لأن بعض الصحابيات كن يخرجن للجهاد , ولا تناقض بين قولنا هذا , لأن نفينا في أول السؤال نفي للوجوب وفي آخره بيان الجواز بعد إذن أهل الشوكة من الجهاديين أو علمائهم والله أعلم )ا.هـ
قلت: وقد ذكر الرملي من الشافعية والكاساني من الأحناف وغير واحد من أهل العلم في مسألة جهاد الدفع أن المرأة تخرج بغير إذن زوجها ووليها عموماً ، ويفهم منه تعين الجهاد عليها ، والذي يظهر أنه لا يتعين عليها إلا إذا دخل عليها العدو أو هاجمها ويدل على ذلك أدلة منها :
1ـ أم سليم أتخذت خنجراً للدفاع عن نفسها ولما سألها النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟! عللت فعلها بقولها " إتخذته إن دنا مني كافر بقرت بطنه " فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فقولها " إن دنا مني " يدل على أن مناط(1)تعين الجهاد عليها ليس دخول العدو بلاد المسلمين وإنما مناط ذلك دخول العدو عليها .الحديث رواه مسلم . والله أعلم
2ـ فعل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب عندما رفع النساء على أطم من آطام المدينه ..الحديث بمعناه ))
مسألة:
( قيام النساء بالعمليات الإستشهادية ).
يرد هنا إشكال في جواز ما تقوم به بعض الأخوات المجاهدات في فلسطين والشيشان وغيرها من عمليات استشهادية وهل فعلهن هذا مشروع ؟
فنقول :
أولا: دلت النصوص كما رأيت على جواز قتالهن ومشاركتهن كما في حديث أم عطية في قولها غزوت مع رسول الله صلي الله عليه وسلم سبع غزوات وحديث الربيع بنت معوذ كنا نغزو مع رسول الله صلي الله عليه وسلم..
ولم نقل إن فعلها محرم وإنما قصدنا نفي وجوب الجهاد لحديث الباب وغيره فلم نقف على دليل يوجب عليهن الجهاد وغاية ما في النصوص جواز غزوهن .
__________
(1) أي السب في تعين الجهاد عليها(1/45)
ثانيا: إن الشروط التي ذكرناها إنما هي في الأماكن التي هي مظنة الفتنة لتنقلها وتعرضها اضطراراً لمقابلة الرجال وهذه منتفية في العمليات الإستشهادية هذا ما ظهر لي والله أعلم , .
ثالثا: أما مسألة العمليات الإستشهادية فهي مشروعة ومن الجهاد في سبيل الله وسيأتي معنا في حديث الصعب وحديث أبي أيوب وغيرها بيان ذلك إن شاء الله تعالى .
اذن الوالدين:
4-وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُهُ فِي اَلْجِهَادِ. فَقَالَ: " أَحَيٌّ وَالِدَاكَ?" , قَالَ: نَعَمْ: قَالَ: " فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ" . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ(1). 0
5 -وَلِأَحْمَدَ, وَأَبِي دَاوُدَ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ, وَزَادَ: " "اِرْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا, فَإِنْ أَذِنَا لَكَ; وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا" (2).
هذا الحديث فيه من الفوائد :
أولاً : ( في هذا الحديث دليل على أن إذن الوالدين شرط من شروط الجهاد ، وشروط الجهاد تسعة كما ذكر ذلك ابن قدامه في المغني حيث قال رحمه الله ”ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورية والسلامة من الضرر ووجود النفقة“(3). ويضاف إلى هذا شرطان آخران: إذن الوالدين وإذن الدائن للمدين(4). فيكون مجموع الشروط تسعة.
__________
(1) - صحيح رواه البخاري ( 3004 )، ومسلم ( 2549 ).
(2) - صحيح كسابقه. رواه أحمد ( 3 / 75 - 76 )، وأبو داود ( 2530 )، وأوله: عن أبي سعيد؛ أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن. فقال: " هل لك أحد باليمن؟" قال: أبواي. قال: "أذنا لك" قال: لا. قال: فذكره.
(3) المغني والشرح الكبير: ج10/ ص366.
(4) نفس المصدر: ص381.(1/46)
قلت: هذا إذا كان الجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد تسقط أربعة شروط من هذه التسعة وهى: الحرية والذكورية وإذن الوالدين وإذن الدائن، وتكون شروط وجوب الجهاد العيني خمسة فقط وهى: الإسلام والبلوغ والعقل والسلامة من الضرر ووجود النفقة، ويسقط كذلك شرط وجود النفقة وتصير الشروط أربعة فقط إذا دهم العدو بلاد المسلمين ولم يكن هناك خروج إليه، وهذا أحد مواضع الجهاد العيني ).فتأمل ليس هناك ذكر لإذن ولي الأمر .
ثانياً : قال الصنعاني :ذهب بعض العلماء إلى أنه يسقط فرض الجهاد مع وجود الأبوين أو أحدهما لما أخرجه أحمد والنسائي أن أباجاهمة قال: يا رسول الله أردت الغزو وجئت لأستشيرك فقال: "هل لك من أم"؟ قال: نعم قال: "الزمها وظاهره سواء كان الجهاد فرض عين أو فرض كفاية، وسواء تضرر الأبوان بخروجه أو لا " وفيه محمد بن طلحة صدوق له أوهام , ولكن قال شيخنا عبد الله السعد حفظه الله إسناده لا بأس به .
ثالثاً : ذهب الجماهير من العلماء إلى أنه يحرم الجهاد على الولد إذا منعه الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين لأن برّهما فرض عين والجهاد فرض كفاية. فإذا تعين الجهاد فلا إذن .
قال ابن تيمية (نصوص أحمد تدل على أنه لا طاعة لهما في ترك الفرض ) المستدرك على الفتاوى (3/217) .
قال الإمام العلامة حمود العقلا في فتوى عن حكم الجهاد :
أما الخروج للجهاد فهذا يختلف حكمه مع اختلاف فرضية الجهاد , فإذا كان الجهاد فرض عين وجب النفير على كل قادر عليه ولا يستطيع الوالدان أو أحدهما منع الولد من الخروج بل ولا يحل لهما ذلك .
أما إذا كان الجهاد فرض كفاية يقوم به من الأمة من يكفي لدحر العدو فهذا هو الذي يُستأذن فيه الوالدان والغريم وهذا هو الذي يُحمل عليه قوله صلى الله عليه وسلم للذي استأذنه في الخروج للجهاد (أحي والداك ؟ قال نعم قال ارجع ففيهما فجاهد ) ا.هـ .(1/47)
قلت ( وإذا تعين الجهاد يسقط إذن الوالدين لما روى ابن حبان في صحيحة من طريق عبد الله بن عمر جاء رجل إلي النبي صلي الله عليه وسلم فسأله عن أفضل الأعمال قال :الصلاة قال :ثم مه ؟ قال الجهاد قال:فإن لي والدين فقال : آمرك بوالديك خيرا فقال : والذي بعثك بالحق نبيا لأجاهدن ولأتركنهما قال :فأنت أعلم ) قال الحافظ وهو محمول على فرض العين توفيقاً بين الحديثين وحسنه رحمه الله كما في فتح الباري (6/198)
وهو قول الشوكاني في نيل الأوطار كتاب الجهاد والشيخ عبد الله عزام في كتاب الدفاع عن أراضي المسلمين وأختاره كذلك الإمام العلامة حمود العقلاء رحم الله الجميع في فتوى عن حكم الجهاد واستئذان الوالدين , وغيرهم من أهل العلم . وقد نقل الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية وابن حزم وغيرهما على أنه لا يستأذن في الجهاد إذا تعين , وكما في القاعدة الأصولية : لا إستأذان في فروض الأعيان .
مسألة : فإن قيل : برّ الوالدين فرض عين أيضاً، والجهاد عند تعينه فرض عين، فهما مستويان ما وجه تقديم الجهاد؟.
فنقول أولاً : إذا تعين الجهاد صار كفرض الصلاة والصيام وطاعتهما هنا في تركه معصية لله ومخالفة لأمره , وإنما رضاهما في رضي الله فإذا عارضت طاعتهما طاعة الله قدمنا طاعة الله على طاعتهما وأمر الله على أمرهما , قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار ( وهذا كله إن لم يتعين عليه الجهاد , فإذا تعين فتركه معصية , ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) ا.هـ . ثانياً:أن مصلحة الجهاد أعم، إذ هي لحفظ الدين والدفاع عن المسلمين، فمصلحته عامة وهي مقدمة على غيرها وهو يقدّم على مصلحة حفظ البدن .(1/48)
ثالثا: وفي الحديث دلالة على عظم برّ الوالدين , وهل هو أفضل من الجهاد أم لا ؟ فيه خلاف فذهب بعضهم إلى أن بر الوالدين أفضل لما تقدم واختار بعض أهل العلم أن الجهاد أفضل لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة ( أي العمل أفضل قال إيمان بالله وجهاد في سبيله ) وفيهما من حديث أبي سعيد الخدري ( أي الناس أفضل ؟ فقال صلي الله عليه وسلم :رجلٌ يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه ..الحديث ) وفي الصحيحين أيضاً من حديث النعمان بن بشير ( في قصة الصحابة الذين قال بعضهم أفضل العمل سقاية الحاج وقال الآخر عمارة المسجد الحرام وقال الثالث الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتما وفيه .. فأنزل الله تعالي { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن امن بالله واليوم الأخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله }..الحديث ) .
قال ابن حجر في الفتح (واستدل به على أن الجهاد أفضل الأعمال مطلقا لما تقدم تقريره وقال بن دقيق العيد القياس يقتضي أن يكون الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه ففضيلته بحسب فضيلة ذلك والله أعلم ) ا.هـ فتح الباري ( 6/5) .
وقد نقل الشوكاني في نيل الأوطار عن الحافظ في الفتح وكذا عن ابن دقيق العيد وغيرهم من أهل العلم أجوبة عن الاختلاف في مثل هذه الأحاديث من تفضيل الصلاة مرة و تفضيل البر أخرى أو الجهاد ملخصها :
1- اختلاف أحوال السائلين بأن أجاب كل قوم بما يناسبهم .
2- اختلاف الأوقات بأن يكون هذا العمل في ذلك الوقت أفضل من غيره . 3- أن المراد الفضل المطلق , أو أنه من أفضل الأعمال .
ولعل الأقرب والله أعلم أنه إذا تعين الجهاد فهو أفضل وإذا كان على الكفاية فبر الوالدين أفضل توفيقاً بين الأحاديث , فقد قال الإمام الشوكاني بعد ذكر هذه الأجوبة :المراد بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين لأنه لا يتوقف على إذن الوالدين , فيكون برّهما مقدماً عليه ا.هـ(1/49)
وبعد أن عرفنا حكم استئذان الوالدين فيحسن أن نتبعها بمسائل أخرى في باب الاستئذان يقع فيها الإشكال كذلك وهي مسألة استئذان صاحب الدين ومسألة استئذان ولى الأمر أو الحاكم .
أولاً : مسألة استئذان صاحب الدين :ـ
قال بعض أهل العلم يجب استئذان صاحب الدين وعمدتهم في ذلك حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبي قتادة أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام فيهم فذكر لهم ( أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال ) فقام رجل فقال يا رسول الله , أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي ؟ فقال له رسول الله صلي الله عليه وسلم ( نعم , إن قتلت في سبيل الله , وأنت صابر محتسب , مقبل غير مدبر ) ثم قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ( كيف قلت ) قال أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم ( نعم , إن قتلت في سبيل الله , وأنت صابر محتسب , مقبل غير مدبر , إلا الدين , فإن جبريل قال لي ذلك ) رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي .ومثله حديث عبد الله بن عمرو ( يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين ) رواه مسلم .
وللجواب عن أدلة الموجبين نقول :
أولا: أن الوعيد المذكور في الأحاديث خاص بمن كان يستطيع الوفاء بدينه ولم يف به فقد صحت زيادة عند الإمام أحمد وعند البزار كذلك أنه قال ( فلما ولى دعاه فقال , إلا أن يكون عليك دين ليس له وفاء ) قال الهيثمي : وإسناد أحمد حسن . قال الإمام القرطبي رحمه الله : الدين الذي يحبس به صاحبه عن الجنة – والله أعلم – هو الذي قد ترك له وفاء ولم يوصي به , أو قدر على الأداء ولم يؤده , أو أدانه - استدانه – في سرف أو في سفه ومات ولم يوفه . وأما من أدان في حق واجب لفاقة أو عسر ومات ولم يترك وفاء فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله ا.هـ(1/50)
وقد أفتى ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (4/183) بأن ينظر المدين , فإن لم يكن معه سداد دينه فإنه ينفر ولا ينتظر قضاء الدين ا.هـ
ويؤيد هذا ما في الصحيحين وأحمد من حديث أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله ) وما رواه النسائي وابن ماجة عن أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها قالت : إني سمعت نبي وخليلي صلي الله عليه وسلم يقول ( ما من مسلم يدان ديناً يعلم الله منه أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا ) ففي هذين الحديثين ما يدل على اعتبار النية الصادقة في الأداء وأن الله يؤدي عن صاحبها فيرجى أن لا يتناوله الوعيد السابق وقد قال تعالي { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } ولهذا قيد العلماء أمر التشديد في الدين بمن تهاون بقضائه أما من استدان ديناً في غير سرف ولا تبذير ثم لم يمكنه قضائه فإن الله يقضي عنه مات أو قتل كما ذكر ذلك ابن مفلح في الفروع (6/194) .
وقد اتفق الفقهاء على أن المسلم إذا وصى بقضاء دينه أو جعل له وكيلاً وكان عنده وفاء فإنه يجوز له الخروج بغير إذن صاحب الدين ولو كان الجهاد فرض كفاية , وكذا الحال فيما إذا كان الدين مؤجلاً لم يحل وقته بعد وهذا باتفاق الأئمة الأربعة ودليلهم قصة عبد الله بن حرام الأنصاري في الصحيحين أنه خرج وعليه دين كثير فأوصى به ابنه جابر ثم استشهد وذلك بعلم النبي صلي الله عليه وسلم ولم يذمه , بل مدحه وقال ( ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع ) رواه أحمد من حديث جابر , بل كلمه الله كفاحا بلا ترجمان وقال تمنى يا عبدي قال :أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية قال : إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون فتمنى : قال أتمني أن ترضى عني فإني عنك راضي ).(1/51)
ثانيا: أن الكلام المذكور إنما هو في فرض الكفاية ولذا قال ابن النحاس في مشارع الأشواق عند ذكر الاختلاف في جواز خروج من عليه دين , قال : وهذا كله في الجهاد الذي هو فرض كفاية ا.هـ
وللإمام الشوكاني في نيل الأوطار كلام نفيس ويحسن أن ننقله للفائدة قال :
[ ولا يخفى أن بقاء الدين في ذمة الشهيد لا يمنع من الشهادة بل هو شهيد مغفور له كل ذنب إلا الدين , وغفران ذنب واحد يصح جعله ثمرة للجهاد فكيف بمغفرة جميع الذنوب إلا واحداً منها ؟ ... وغاية ما اشتملت عليه أحاديث الباب هو أن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه إلا ذنب الدين , وذلك لا يستلزم عدم جواز الخروج إلى الجهاد إلا بإذن من له الدين , بل إن أحب المجاهد أن يكون جهاده سبباً لمغفرة كل ذنب استأذن صاحب الدين , وإن رضي بأن يبقي عليه ذنب واحد منها جاز له الخروج بدون استئذان , وهذا إذا كان الدين حالاً ] ا.هـ
أما إذا تعين الجهاد فإنه يخرج من غير إذن دائنه وهذا المتفق عليه عند الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد منهم ابن تيمية وغيره .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( سئلت عمن عليه دين وله ما يوفيه وقد تعين الجهاد ؟ فقلت من الواجبات ما يقدم على وفاء الدين : كنفقة النفس والزوجة والولد , ومنها ما يقدم وفاء الدين عليه كالعبادات من الحج والكفارات . ومنها ما لايقدم عليه إذا خوطب به كصدقة الفطر . فإن كان الجهاد المتعين لدفع الضرر كما إذا حضره العدو أو حضر هو الصف قدم على وفاء الدين كالنفقة وأولى ...ثم قال : إذا كان الغرماء يجاهدون بالمال الذي يستوفونه فالواجب وفاؤهم لتحصيل المصلحتين : الوفاء والجهاد ) المستدرك لابن قاسم (3/214) .
ثانياً : مسألة استئذان ولى الأمر أو الحاكم.
قال شيخنا العلامة على الخضير ثبته الله وسدده في رسالته الماتعة [ الإمامية ] :
[(1/52)
نحن اليوم أمام تيار جديد وهو تيار ربط الأحكام والحقوق الشرعية وشعائر الدين الظاهرة بالحاكم وبالإمام في الوقت الذي لهؤلاء الأئمة والحكام توجهات تخالف الشريعة , فيؤدي إلى تعطيل هذه الشعائر أو جعلها أداة للسياسة, فبدل أن تكون السياسة تابعة للدين أصبح العكس حتى قال بعضهم , الدين يخدم السياسة ..
وإذا كان المعطلة من جهمية ومعتزلة وأشعرية وغيرهم قد أوّلوا آيات وأحاديث الصفات وحرفوها إلى أصولهم الباطلة , فإن هؤلاء أوّلوا وحرفوا الآيات والأحاديث المتعلقة بالجهاد والقيام بالشعائر الظاهرة والحقوق والواجبات الشرعية وخصوها بالحكام مع تعطيل الحكام لها .
قال ابن تيمية في الفتاوى (28/508) عن الأمراء بل يطيعهم في طاعة الله ولا يطيعهم في معصية الله , إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وهذه طريقة خيار الأمة قديما وحديثا , وهي واجبة على كل مكلف وهي متوسطة بين الحرورية ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشىء عن قلة العلم , وبين طريقة المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقا , وإن لم يكونوا أبرارا .ا.هـ واليوم مذهب الإمامية المعاصرة قائم على أنهم يوجبون على الإنسان إتباع المذهب الفقهي السياسي المناسب للحكام أو المذهب الوطني أو الإقليمي أو الدولي أو العالمي , وهو جزء من توجه المنهزمين والمتخاذلين لا كثرهم الله , وجزء من توجه المرجئة المعاصرة المصانعين للحكام .( ثم ذكر شيخنا علي الخضير فك الله أسره متي كان أول ظهور هذا التيار من لدن ابن تيمية وابن القيم الى زمن الإمام محمد بن عبد الوهاب فقال :(1/53)
ثم عادوا للظهور بشكل فردي في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لما قام لله يقيم الحدود والشعائر الظاهرة , أنكر عليه بعض العلماء المعاصرين له وقالوا له لا يجوز فعلك لأنه لم يأذن الإمام فرد عليهم وقال في كتاب تاريخ نجد ص 454 : ولا يعرف أن أحدا من العلماء ذكر أن شيئا من الأحكام لا يصح إلا بإذن الإمام الأعظم ... ثم قال كما أني لمّا أمرت برجم الزانية قالوا لا بد من أذن الإمام , فإن صح كلامهم لم يصح ولا يتهم القضاء ولا الإمامة ولا غيرها .ا.هـ ورد عليهم أيضا في عموم قنوت النوازل في كتاب التوحيد في مسائل باب ( أيشركون ما لا يخلق ) في المسألة الثامنة والثالثة . إلى أن قال :
وتصدى لهذه الشبهة في الوقت الحاضر شيخنا العلامة حمود بن عقلا الشعيبي رحمه الله
في ثلاث فتاوى هي : فتوى في وجوب الجهاد وفرضيته وفتوى في القنوت للنوازل وفتوى في شروط الإفتاء , وذكر في هذه الأمور الثلاثة أنها لا تربط بإذن الإمام إذا وجبت ولزم البيان .
وإذا كان العلماء حرموا بالإجماع إتباع عالم معين بعينه يأخذ بكل قوله ويحرم مخالفته , لأنه أنزله منزلة الرسول ومنزلة المعصوم ؟ فكيف يوجبون متابعة الحكام في كل ما يقولون , ويحرمون مخالفتهم مطلقاً , مع أن الكلام في العالم العارف بالكتاب والسنة , فكيف بالحكام الجهلة في الأحكام الشرعية , هل يستوون ؟ وهذا مخالف للإجماع . قال ابن القيم رحمه الله :[ إن العالم قد يزل ولا بد إذ ليس بمعصوم فلا يجوز قبول كل ما يقوله وينزل منزلة المعصوم فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض وحرموه وذموا أهله ا.هـ إعلام الموقعين 173], فانظر إلى حكاية الإجماع وهو في العلماء فكيف بالحكام الجهلة بالشريعة .(1/54)
وقال ابن القيم :[ إذا عرف أن العالم زل , لم يجز له أن يتبعه باتفاق المسلمين فإنه إتباع للخطأ على عمد ا. هـ إعلام الموقعين 173]. ونحن نقول إذا عرف أن الحاكم زل لم يجز له أن يتبعه باتفاق المسلمين فإنه إتباع للخطأ على عمد .
وهذا في العلماء , فكيف يوجبون على من عرف خطأ الحاكم أن يتبعه ؟ قال ابن مسعود رضي الله عنه : لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر , فإنه لا أسوة في الشر .ا.هـ
وهؤلاء يريدون منك أن تتبع سياسة الحكام إن رضي فعليك أن ترضي , وإن شجب فعليك أن تشجب , وإن أنكر فعليك أن تنكر , وإن قام بحملة ضد المجاهدين فعليك أن تساعده في هذه الحملة , وأقل شيء أن تسكت عن بيان الحق , وإلا فأنت خارجي وتكفيري وصاحب فتنة ومستعجل ومتحمس وإرهابي
وأشد من ذلك من جارى الحكام يلبّس على الناس كما فعل علماء بني إسرائيل { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } انتهى(1).
(وقال ابن هبيرة في العقد الياقوتية [ إن من مكائد الشيطان أن يقيم أوثاناً في المعنى تعبد من دون الله , مثل أن يتبين له الحق : فيقول ليس هذا في مذهبنا تقليداً لمعظَّم عنده قد قدّمه على الحق ]. وقال ابن رشد في فتح العلي المالك 1/390 [ وطاعة الإمام واجبة ولو كان غير عدل ,إلا إذا أمر بمعصية , ومن المعصية منعه الجهاد الواجب ] ا.هـ)(2).
وقد جاء عند ابن حبان ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) وفي الصحيحين ( لا طاعة في معصية الله و إنما الطاعة في المعروف ) .
قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار عند شرحه لهذا الحديث :
[
__________
(1) 1- من رسالة الإمامية المعاصرة لشيخنا العلامة على الخضير فك الله أسره فراجعها ففيها فوائد بل فرائد قيمة وهي موجودة في إجابة الشيخ على أسئلة في منتدى السلفيون .
(2) 2- من رسالة الدفاع عن أراضى المسلمين للدكتور عبد الله عزام .(1/55)
قوله " لا طاعة في معصية الله " أي لا تجب بل تحرم على من كان قادراً على الامتناع . وفي حديث معاذ عند أحمد ( لا طاعة لمن لم يطع الله ) وعند البزار في حديث عمران بن حصين والحكم بن عمرو الغفاري (لا طاعة في معصية الله ) وسنده قوي , وفي حديث عبادة بن الصامت عند أحمد والطبراني ( لا طاعة لمن عصى الله ) ولفظ البخاري في حديث الباب : ( فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) وهذا تقييد لما أطلق في الأحاديث المطلقة القاضية بطاعة أولي الأمر على العموم , والقاضية بالصبر على ما يقع من الأمير مما يكره , والوعيد على مفارقة الجماعة , والمراد قوله " لا طاعة في معصية الله " نفي الحقيقة الشرعية لا الوجودية , وقوله " إنما الطاعة في المعروف " فيه بيان ما يطاع فيه أولي الأمر وهو الأمر بالمعروف لا ما كان منكراً , والمراد بالمعروف ما كان من الأمور المعروفة في الشرع لا المعروف في العقل أو العادة , لأن الحقائق الشرعية مقدمة على غيرها على ما تقرر في الأصول ] ا.هـ
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي : ( هذا الحديث : قيد في كل من تجب طاعته من الولاة والوالدين والزوج وغيرهم , فإن الشارع أمر بطاعة هؤلاء وكل منهم طاعته فيما يناسب حاله وكلها بالمعروف ....
وكلها تقيد بهذا القيد , وأن من أمر منهم بمعصية الله بفعل محرم , أو ترك واجب , فلا طاعة لمخلوق في معصية الله . فإذا أمر أحدهم بقتل معصوم , أو ضربه , أو أخذ ماله , أو بترك حج واجب , أو عبادة واجبة , أو بقطيعة من تجب صلته , فلا طاعة لهم , وتقدم طاعة الله على طاعة الخلق ) بهجت قلوب الأبرار للسعدي . وللإمام أبو عمر بن عبد البر كلام نفيس كذلك في الاستذكار (14/36) فأنظره .
قال الرملي في نهاية المحتاج 8/60 [ ولا كراهة – أي في عدم استئذان الإمام – في حالات :
1- إذا فوّت الإمام المقصود.
2- أو عطل الغزو.
3- أو غلب على ظنه عدم الإذن كما بحث ذلك البلقيني ] ا.هـ.(1/56)
قوله ( إذا فوت المقصود) أو خشي فواته من ذلك ما فعله سلمة بن الأكوع رضي الله عنه عندما قاتل الذين عدوا على إبل الصدقة فقاتلهم ولم يستأذن النبي صلي الله عليه وسلم فأقره بقوله (خير رجالتنا سلمة ) وقسم له من الغنيمة , فلو ذهب يستأذن في قتالهم لفات المقصود ولم يدركهم .
وهنا كلام نفيس في الرد على هذه الشبهة للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله حيث قال في الرد على اعتراضات ابن نبهان كما في (الدرر 8/199 – 200) :
" ويقال : بأي كتابٍ ، أم بأية حجةٍ أن الجهاد لا يجب إلا مع إمامٍ متبع ؟! هذا من الفرية في الدين ، والعدول عن سبيل المؤمنين ، والأدلة على إبطال هذا القول أشهر من أن تذكر ، من ذلك عموم الأمر بالجهاد ، والترغيب فيه ، والوعيد في تركه ، قال تعالى ) وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ )(البقرة: من الآية251) ، وقال في سورة الحج ) وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ... الآية)(الحج: من الآية40) .
وكل من قام بالجهاد في سبيل الله فقد أطاع الله وأدى ما فرضه الله ، ولا يكون الإمام إماماً إلا بالجهاد ، لا أنه لا يكون جهاد إلا بإمام ، ....إلى أن قال :(1/57)
والعبر والأدلة على بطلان ما ألفته كثير من الكتاب والسنة والسير والأخبار وأقوال أهل العلم بالأدلة والآثار ، لا تكاد تخفى على البليد ، إذا علم بقصة أبي بصير لما جاء مهاجراً فطلبت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده إليهم بالشرط الذي كان بينهم في صلح الحديبية ، فانفلت منهم حتى قتل المشركين اللذين أتيا في طلبه ، فرجع إلى الساحل ، لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ويل أمه مسعر حرب ، لو كان معه غيره) فتعرض لعير قريش – إذا أقبلت من الشام – يأخذ ويقتل ، فاستقل بحربهم دون رسول الله ، لأنهم كانوا معه في صلح – القصة بطولها – فهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخطأتم في قتال قريش لأنكم لستم مع إمام؟ . سبحان الله! ما أعظم مضرة الجهل على أهله ؟ عياذاً بالله من معارضة الحق بالجهل والباطل "(1).
__________
(1) 1- التبيان في كفر من أعان الأمريكان للشيخ المجاهد ناصر الفهد فك الله أسره .(1/58)
ولم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الجهاد , بل كان استئذان استشارة بعد عقد النية أو بعد تسجيل اسم الصحابي في الغزوة كما في حديث جاهمة كما في بعض ألفاظه ( إني استكتبت في غزوة كذا , أي كتبت اسمي , وهذا في الغزو وجهاد الطلب وهو فرض كفاية , أما إذا تعين الجهاد بعد الإستنفار أو دخول العدو بلاد المسلمين فإن الإستئذان حينئذ يصبح علامة نفاق , قال تعالى { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ }(1).
قال شيخ الإسلام بن تيمية بعد هذه الآية (فهذا إخبار من الله بأن المؤمن لا يستأذن الرسول في ترك الجهاد , وإنما يستأذنه الذي لا يؤمن , فكيف بالتارك من غير إستئذان ؟ ومن تدبر القرآن وجد نظائر هذا متظافرة على هذا المعنى ) الفتاوى (28/438) .
__________
(1) 2- الدفاع عن أراضى المسلمين للشيخ المجاهد الشهيد عبد الله عزام بتصرف .(1/59)
تأمل هذا وتأمل قول بعض دعاة التعايش عن شهداء أفغانستان (هم في أتون نار تلظى أو عجلوا بأنفسهم إلى النار أو كما قال أحد علماء السلطان ليسوا بشهداء) لأنهم لم يستأذنوا طواغيته المعطلين للجهاد والمحاربين لأهله وهذا من التألي على الله والقول عليه بغير علم وهو يقول { يأيها الذين أمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم , تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبةً في جنات عدن ذلك الفوز العظيم } فالجهاد ينجي من العذاب وهم يقولون في نار تلظى , والله يقول ذلكم خير وهم يقولون شؤم وشر , والله يقول يغفر لكم والرسول صلى الله عليه وسلم يقول يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين وهم يقولون عصاة ليسوا بشهداء والله يقول فوز عظيم وهم يقولون ماذا استفادوا , منهم القتيل ومنهم الأسير وصدق الله إذ قال عنهم وعن أمثالهم {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
وقال تعالى { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا }.(1/60)
وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ }.
وقالوا مغرر بهم فبين الله عوارهم { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } وقال {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا } .(1/61)
أما المؤمنون فقالوا { هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماننا وتسليما , من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } . فالذين يطعنون في المجاهدين بشتى الطعون ويلمزونهم بأنواع الهمز واللمز ويستحلون أعراض من جادوا بأنفسهم في سبيل الله وضحوا بالدنيا من أجل نصرة الدين , وكلما سمعوا هيعة أو صيحة طاروا إليها يبتغون الموت مظانه يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ,وهؤلاء لا يتعدى عملهم التقلب بين أنواع النعيم والنوم على الفراش الوثير ولا يستيقظون إلا على البخور ولا ينامون إلا على العطور هؤلاء لا يجوز الجلوس معهم كما قال شيخ الإسلام بن تيمية ( فالزناة واللوطية وتاركوا الجهاد والمبتدعة وشربة الخمر , هؤلاء لا نصيحة فيهم لا لأنفسهم ولا للمسلمين ويجب مقاطعتهم وعدم الجلوس معهم ) الفتاوى المجلد الخامس عشر . وقال في سؤال عن هجر شارب الخمر إذا أظهر ذلك ( وجب الإنكار عليه علانية ولم يبق له غيبة ... فلا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام ..ثم قال : وكذلك هجر الصحابة الثلاثة الذين ظهر ذنبهم في ترك الجهاد الواجب حتى تاب الله عليهم ) الفتاوى (28/218) .(1/62)
فاعتبر ترك الجهاد الواجب ذنب يستحق صاحبه عليه الهجر وعدم الجلوس معه , فكيف بالتارك المثبط المخذل المعوق عن القيام بالواجب فقد قال الله تعالى عن أمثالهم { قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا } قال شيخ الإسلام ابن تيمية : قال العلماء : كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة , فإذا جاءهم أحد قالوا له : ويحك ! اجلس فلا تخرج . ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر : أن ائتونا بالمدينة فإنا ننتظركم , يثبطون عن القتال ... ثم قال : فوصف الله المثبطين عن الجهاد -وهم صنفان – بأنهم إما أن يكونوا في بلد الغزاة , أو في غيره ... قال الله فيهم { فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد } وهذا السلق بالألسنة الحادة يكون بوجوه :
تارة يقول المنافقون للمؤمنين : هذا الذي جرى علينا بشؤمكم , فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين , وقاتلتم عليه , وخالفتموهم ؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة .
وتارة يقولون : أنتم أشرتم علينا بالمقام هنا , والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت , وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا .
وتارة يقولون : أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو , وقد غركم دينكم , كما قال الله تعالى { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
وتارة يقولون : أنتم مجانين , لا عقل لكم , تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناس معكم . وتارة يقولون أنواعاً من الكلام المؤذى الشديد ) ا.هـ الفتاوى ( 28/456-458) .(1/63)
6 -وَعَنْ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أَنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ اَلْمُشْرِكِينَ" رَوَاهُ اَلثَّلاثَةُ وَإِسْنَادُهُ [ صَحِيحٌ ], وَرَجَّحَ اَلْبُخَارِيُّ إِرْسَالَهُ (1) والحديث صححه شيخنا المحدث عبد الله السعد .
7 -وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ اَلْفَتْحِ, وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (2) .
وللعلماء في مسألة الهجرة أقوال:
القول الأول : مذهب الجمهور: وهو وجوب الهجرة من ديار المشركين من غير مكة لحديث جرير ولما أخرجه النسائي من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعاً "لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم أو يفارق المشركين" وقوله تعالى:{فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره }
__________
(1) - صحيح. رواه أبو داود ( 2645 )، والترمذي ( 1604 ) من طريق أبي معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل. قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل وقال: فذكره. وزاد: "قالوا: يا رسول الله! لم؟ قال: " لا تراءى ناراهما". وهذا سند صحيح كما قال الحافظ، لكنه معلول بالإرسال -ومن هذا الوجه رواه النسائي ( 8 / 36 ) - كما نقل ذلك عن البخاري، وأيضاً قاله أبو داود. وأبو حاتم. والترمذي والدارقطني. قلت: لكن له شواهد يصح بها، وتفصيل ذلك بالأصل.
(2) - صحيح. رواه البخاري ( 2825 )، ومسلم ( 1353 )، وزادا: "وإذا استنفرتم فانفروا".(1/64)
قال الشوكاني : قال الحافظ : وكانت الحكمة أيضاً في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى من يؤذيه من الكفار , فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه وفيهم نزلت { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا } وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها ا.هـ
وأجابوا بأن حديث "لا هجرة" يراد به نفيها عن مكة، كما يدل له قوله: "بعد الفتح" فإن الهجرة كانت واجبة من مكة قبله.
قال البغوي في شرح السنة : يحتمل الجمع بطريق أخرى , فقوله ( لا هجرة بعد الفتح ) أي من مكة إلى المدينة وقوله ( لا تنقطع ) أي من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار إسلام ....إلى أن قال : ( ولا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو) أي مادام في الدنيا دار كفر فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه .. ا.هـ نيل الأوطار للشوكاني .(1/65)
قال بن كثير في تفسيره : لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض قطع المودة بينهم وبين الكفار .ثم ساق عددا من الروايات بأسانيدها وذكر حديث ( أنا بريء ممن يقيم بين ظهراني المشركين ) وحديث سمرة بن جندب أما بعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله ) وذكر حديث الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) . قال : ومعنى قوله إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين فيقع بين الناس فساد منتشر .ا.هـ من تفسير ابن كثير لسورة الأنفال (2/331) .
القول الثاني- قول الحنفية من أمثال الجصاص وابن عابدين قالوا بأن الهجرة لا تجب وأن الأحاديث منسوخة بحديث ابن عباس وأنه عام ناسخ لوجوب الهجرة الدال عليه ما سبق واستدلوا :
1- بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر من أسلم من العرب بالمهاجرة إليه، ولم ينكر عليهم مقامهم ببلدهم كما في حديث بريدة: " فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين" الحديث سيأتي بطوله، فلم يوجب عليهم الهجرة .
ورد عليهم الجمهور بأنها أصبحت دار إسلام ، قال الطيبي وغيره والمعنى أن الهجرة التي هي
مفارقة للوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة قد انقطعت، إلا أن المفارقة بسبب
الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر، والخروج في طلب العلم،
والفرار من الفتن، والنية في جميع ذلك معتبرة , وقال النووي: المعنى أن الخير الذي انقطع
بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة.(1/66)
2- وقال الأحناف والأحاديث غير حديث ابن عباس محمولة على من لا يأمن على دينه قالوا: وفي هذا جمع
بين الأحاديث .
قال العلامة عبدا لعزيز الجربوع فك الله أسره في رسالته الماتعة " الإعلام بوجوب الهجرة من دارالكفر إلى دار الإسلام " ما ملخصه " الهجرة لها مقصودان :
1- الفرار من الفتنة ، وخوف المفسدة الشركية لأن كثرة المساس تميت الإحساس .
2- مجاهدة أعداء الله ، والتحيز إلى أهل الإسلام ونصرتهم .
والراجح عدم النسخ وهو قول الجمهور .
وأختلف أصحاب هذا القول في حكم الهجرة ؟
هل هو على الوجوب أم على الإستحباب والندب ؟
الراجح التفصيل :
فالمسلم في دار الكفر له حالات :
الحالة الأولى : أن لا يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ويمكنه الهجرة ، فهذا يأثم وعليه تجري آيات وأحاديث الوعيد في ترك الهجرة وفي الجامع المهذب قال : وأما دار الحرب فوجوب الهجرة إجماعاً ، نقله الشوكاني في النيل .
الحالة الثانية : أن لا يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ولا يمكنه الهجرة ، فهذا مستضعف بنص القران وعليه الإستعداد للهجرة متى وجد إلى ذلك سبيلا .
الحالة الثالثة : أن يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ولا يمكنه الهجرة ، فهذا لا يختلف عن الحالة الثانية إلا في مسألة إظهار الدين ولكن ينبغي له أن يتحين الفرصة ويحاول ويبذل جهده ويستفرغ وسعه في الهروب والهجرة من هذه الدار .
الحالة الرابعة : أن يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ويمكنه الهجرة إن أراد ، فهذه الحالة قد أختلف العلماء فيها :
القول الأول : القائلون بالنسخ وعدم وجوب الهجرة وهم الأحناف قالوا باستحباب الهجرة فقط .
القول الثاني : أن من هذه حاله يحرم عليه الهجرة وبهذا أفتى الرملي من الشافعية وقال : لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عثمان يوم الحديبية إلى مكة لقدرته على إظهار دينه ، ولأنه بإقامتهم بها إسلام غيرهم .(1/67)
القول الثالث : وهم القائلون بوجوب الهجرة على من هذه حاله وهم الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة.
والراجح القوال الثالث لظهور الأدلة والله تعالى أعلم أهـ .
وقال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله في رسالة قيمة حول هذا الموضوع(1)
فقد قسم المقيمين في بلاد الحرب إلى ثلاثة أقسام :
أحدهما: أن يقيم عندهم رغبة واختياراً لصحبتهم، فيرضى ما هم عليه من الدين أو يمدحه، أو يرضيهم بعيب المسلمين، أو يعاونهم على المسلمين بنفسه أو ماله أو لسانه: فهذا كافر عدو لله ولرسوله لقوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ } قال ابن جرير: قد برئ من الله وبرئ الله منه لارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. وقال تعالى:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم.ْ
وقال صلى الله عليه وسلم(من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله) .
وصح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (من بنى بأرض المشركين فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة ) قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (ص200) إسناده صحيح .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وظاهر هذا أنه جعله كافر بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور.
__________
(1) 29) اسمها : الدفاع عن أهل السنة والأتباع : نشرها حفيده إسماعيل بن سعد بن عتيق بدون تاريخ .(1/68)
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: لما ذكر الأنواع التي يكفر بها الرجل: قال النوع الرابع: من سلم من هذا كله ولكن أهل بلده يصرون على عداوة التوحيد وإتباع أهل الشرك وهو يعتذر أن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ويجاهد بماله ونفسه فهذا أيضاً كافر، فإنه لو يأمرونه بتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه ترك ذلك إلا بمخالفتهم فعل. وموافقته لهم مع الجهاد معهم بنفسه وماله مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله أكبر من ذلك بكثير فهذا أيضاً كافر وهو ممن قال الله فيهم:
{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا }
القسم الثاني: أن يقيم عندهم لأجل مال أو ولد أو بلاد وهو لا يظهر دينه مع قدرته على الهجرة، ولا يعينهم على المسلمين بنفس ولا مال ولا لسان، ولا يواليهم بقلبه ولا لسانه، فهذا لا يكفرونه لأجل مجرد الجلوس، ولكن يقولون أنه قد عصى الله ورسوله بترك الهجرة، وإن كان مع ذلك يبغضهم في الباطن لقول الله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا{
قال ابن كثير: (ظالمي أنفسهم) أي بترك الهجرة، ثم قال: فهذه الآية عامة لكل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر، وليس متمكناً من إقامة الدين فهو مرتكب حراماً بالإجماع وبنص هذه الآية .(1/69)
قلت: وقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما. أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فيرمى به فيصيبه فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله هذه الآية (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) ."وعند ابن المنذر بسند لا بأس به أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستغفر لهم "قاله شيخنا عبدا لله السعد . قلت : فهؤلاء خرجوا مع المشركين في غزوة بدر فهذا يدل على أن كفرهم بتوليهم للمشركين ومظاهرتهم لهم.
وقد سد الله باب الأعذار الواهية عن الهجرة والجهاد في قوله تعالى:
{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ{.
وما من أحد يترك الهجرة إلا وهو يعتذر بشيء من هذه الثمانية وقد سد الله على الناس باب الإعتذار بها وجعل من ترك الهجرة لأجلها أو لأجل واحد منها فاسقاً وإذا كانت مكة هي أشرف بقاع الأرض وقد أوجب الله الهجرة منها ولم يجعل محبتها عذراً فكيف بغيرها من البلدان.
القسم الثالث: من لا حرج عليه في الإقامة بين أظهرهم وهو نوعان:
(ا) أن يكون مظهراً دينة فيتبرأ منهم وما هم عليه، ويصرح لهم ببراءته منهم وأنهم ليسوا على حق، بل إنهم على باطل وهذا هو إظهار الدين الذي لا تجب معه الهجرة كما قال تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1}لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {إلى آخر السورة.(1/70)
فأمره أن يخاطبهم بأنهم كافرون، وأنه لا يعبد معبوداتهم، وأنهم بريئون من عبادة الله أي أنهم على الشرك وليسوا على التوحيد، وأنه قد رضي بدينه الذي هو عليه وبرئ من دينهم الذي هم عليه كما قال تعالى:
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {104} وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { فمن قال مثل ذلك للمشركين لم تجب عليه الهجرة.(1/71)
وليس المراد بإظهار الدين: أن يترك الإنسان يصلي ولا يقال له اعبد الأوثان! فإن اليهود والنصارى لا ينهون من صلى في بلدانهم ولا يكرهون الناس على أن يعبدون الأوثان؟! بل المقصود: أن إظهار الدين هو: التصريح للكفار بالعداوة كما احتج خالد بن الوليد على مجاعة بأنه سكت ولم يظهر البراءة كما أظهرها ثمامة واليشكري. والقصة معروفة في السير، فما لم يحصل التصريح للمشركين بالبراءة منهم ومن دينهم لم يكن إظهار الدين حاصلاً(1).
(2) أن يقيم عندهم مستضعفاً وقد بين الله الاستضعاف في كتابه فقال:
{إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً{.
وهذا الاستثناء بعد ما توعد المقيمين بين أظهر المشركين بأنّ {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا {.
__________
(1) 38) الدفاع (ص 16) والقصة المذكورة هنا أوردها المؤلف في كتابه (النجاة والفكاك) حيث قال : لما سار خالد إلى اليمامة لقتال المرتدين بعث قبله مائتي فارس ، وقال من أصبتم من الناس فخذوه فأخذوا (مجاعة) في ثلاثة وعشرين رجلاً من قومه فلما وصلوا إلى خالد فقال له : يا خالد : لقد علمت أني قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فبايعته على الإسلام وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس ، فإن يك كاذباً قد خرج فينا فإن الله يقول : (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فقال خالد : يا مجاعة تركت اليوم ما كنت عليه أمس وكان رضاك بأمر هذا الكذاب وسكوتك ، عنه وأنت أعز أهل اليمامة وقد بلغك مسيري – إقرار له ورضاء بما جاء به فهلا أبديت عذراً وتكلمت فيمن تكلم ؟ فقد تكلم ثمامة فرد وأنكر ، وتكلم اليشكري : فإن قلت : أخاف قومي . فهلا عمدت إلي أو بعثت إلي رسولاً ؟ فقال : إن رأيت يا بن المغيرة أن تعفو عن هذا كله ؟ فقال خالد : قد عفوت عن دمك ، ولكن في نفسي حرج من تركك . بيان النجاة والفكاك (ص 68- 70)(1/72)
فاستثنى من لا يستطيع حيلة ولا يهتدون سبيلاً. قال ابن كثير: لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين
ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق
وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً{ فذكر في الآية الأولى: حالهم وهو العجز عن الخروج وعدم دلالة الطريق.
وذكر في الآية الثانية: مقالهم وهو أنهم يسألون الله أن يخرجهم من بلاد الشرك الظالم أهلها وأن يجعل لهم ولياً يتولاهم وناصراً ينصرهم، فمن كانت تلك حاله وهذا مقاله {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا{(1).
وقد ذكر البغوي: أن الأسير المسلم عند الكفار إذا استطاع الخلاص والانفلات منهم لم يحل له المقام بينهم، فإن حلّفوه أنهم إن خلوه لا يخرج فحلف فخلوه، وجب عليه الخروج ويمينه يمين مكره لا كفارة عليه فيها، وإن حلف استطابة لنفوسهم من غير أن يحلّفوه فعليه الخروج إلى دار الإسلام ويلزمه كفارة اليمين شرح السنة للبغوي(10/246 ).
أما حكم السفر إلى بلاد الكفار الحربية لأجل التجارة ففي ذلك تفصيل: فإن كان يقدر على إظهار دينه ولا يوالي المشركين جاز له ذلك فقد سافر بعض الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر رضي الله عنه وغيره إلى بلدان المشركين لأجل التجارة ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أحمد في مسنده وغيره.
__________
(1) 40) الدفاع (ص16) وما ذكره الشيخ حمد هنا موافق تماماً لإجابة الشيخين حسين وعبد الله ابني محمد بن عبد الوهاب حين سئلا في هذا الموضوع انظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (1/39) الطبعة الأولى سنة 1346 هـ مطبعة المنار بمصر .(1/73)
وإن كان لا يقدر على إظهار دينه ولا على عدم موالاتهم لم يجز له السفر إلى ديارهم كما نص على ذلك العلماء وعليه تحمل الأحاديث التي تدل على النهي عن ذلك. ولأن الله تعالى أوجب على الإنسان العمل بالتوحيد، وفرض عليه عداوة المشركين، فما كان ذريعة وسبباً إلى إسقاط ذلك لم يجز. انتهى من الجامع الفريد .
وبعد هذه النصوص الكثيرة الصريحة علينا أن ندرك مدى الهوة التي وصل إليها المسلمون اليوم، ومدى موالاتهم لأعداء الله والإقامة بأرضهم وابتعاث أبنائهم إلى ديارهم لتحضير الشهادات العليا في الشريعة واللغة العربية!.
إنها مهزلة مبكية ووصمة عار سيسجلها التاريخ: أن يذهب أبناء المسلمين لأخذ الشهادات في العلوم الشرعية واللغة العربية من بلاد الكفار!
بعد أن عرفت الخلاف في مسألة الهجرة وأحكامها فهنا مسائل ذات صلة بها وهي الآتي :
مسألة : الدور ، وما هي دار الإسلام ، وما هي دار الكفر .
أولاً : دار الإسلام ، وهي التي يحكمها المسلمون وتعلوا بها أحكام المسلمين .
ثانياً : دار الكفر ، وهي التي يحكمها الكفار وتعلوا بها أحكامهم .
قال ابن حزم رحمه اله ( الدار إنما تنسب للغالب عليها والحاكم فيها والمالك لها ) أهـ المحلى (11/200).
وقال ابن القيم(751هـ) : ( ما لم تجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها ، فهذه الطائف قريبة إلى مكة جدا ولم تصر دار إسلام بفتح مكة ) أهـ أحكام أهل الذمة (1/366).
وقال الشوكاني (1250هـ) في السيل الجرار (4/575) : (الاعتبار بظهور الكلمة فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام ؛ فهذه الدار دار إسلام ولا يضر ظهور الخصال الكفرية فيها لأنها لم تظهر بقوة الكفار ولا بصولتهم ، كما هو مشاهد في أهل الذمة من اليهود والنصارى والمعاهدين الساكنين في المدائن الإسلامية ، وإذا كان الأمر بالعكس فالدار بالعكس ) أهـ.
وقال سليمان بن سحيمان (1349هـ) شعراً :-(1/74)
إذا ما تغلب كافر متغلب على دار إسلام وحل بها الوجل
وأجرى بها أحكام كفر علانيا وأظهرها فيها جهاراً بلا مهل
وأوهى بها أحكام شرع محمد ولم يظهر الإسلام فيها وينتحل
فذي دار كفر عند كل محقق كما قال أهل الدراية بالنحل
وما كل من فيها يقال بكفره فرب امرئ فيها على صالح العمل
مسألة مهمة جداً :
هناك بعض الغلاة الذين يقولون إذا كانت الدار دار كفر( فأهلها كفار) وهذا غلو مفرط وشطط واضح والحق الذي دلت عليه النصوص أن التكفير له أسباب ظاهره منضبطه وليس للدار دخل فيها قال ابن سحمان :
وما كل من فيها يقال بكفره فرب امرئ فيها على صالح العمل
ودار الكفر نوعان :
1) بلاد كفار حربيين.
2) بلاد كفار مهادنين بينهم وبين المسلمين صلح وهدنة. فتصير إذا كانت الأحكام للكفار: دار كفر، ولو كان بها كثير من المسلمين(1)
عوداً على الحديث يقول أبو محمد المقدسي في رسالته الماتعة الثلاثينية ....( قال ابن حزم بعد أن ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " ( وهو عليه السلام لا يبرأ إلا من كافر . قال تبارك وتعالى (( المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض )) ، ثم قال ؛ ( فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختارا محاربا لمن يليه من المسلمين فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها من وجوب القتل عليه متى قدرعليه ، ومن اباحة ماله ، وانفساخ نكاحه وغير ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم ، وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه ، ولم يحارب المسلمين ، ولا أعان عليهم ، ولم يجد في المسلمين من يجيره فهذا لا شيء عليه لأنه مضطر مكره ) . أهـ المحلى ( 13/138-139)
__________
(1) 1(1) الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن بن سعدي (1/92) الطبعة الأولى سنة 1388 هـ دار الحياة بدمشق .(1/75)
تنبه لقول ابن حزم رحمه الله " فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختارا محاربا لمن يليه من المسلمين فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها "".
قلت فقد جعل مناط تكفيره هو حربه للمسلمين وليس مجرد البقاء في دار الكفر فلينتبه لهذا ، يوضح هذا ويجليه قوله تعالى (( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم )) .
فسماهم مؤمنين مع أنهم كانوا في مكة حين كانت دار كفر ، ورغم أنهم كانوا مستخفين لا يعلمهم المؤمنون.
ويزيده وضوحاً قوله تعالى في تفاصيل قتل المؤمن خطأً: (( وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ..))
فسماه تبارك وتعالى مؤمنا ، وجعل في قتله خطأ كفارة ؛ مع انه مقيم مع أعدائنا في دار الحرب ، على قول طائفة من السلف والفقهاء والمفسرين كما في تفسير ابن جرير وغيره .. وانظر روضة الطالبين ( 9/381) .
وقال الشوكاني في فتح القدير (1/498) : ( و هذه مسألة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم ثم أسلم ولم يهاجر وهم يظنون أنه لم يسلم وأنه باق على دين قومه ، فلا دية على قاتله ، بل عليه تحرير رقبة مؤمنة ، واختلفوا في وجه سقوط الدية، فقيل وجهه أن أولياء القتيل كفار لا حق لهم في الدية ، وقيل وجهه أن هذا الذي آمن حرمته قليلة .. لقول الله تبارك وتعالى : (( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير )) أهـ .
وتأمل وصف الله لهم بالذين آمنوا مع أنهم لم يهاجروا من دار الكفر في ظل وجود دار إسلام كانت الهجرة واجبة إليها .(1/76)
وأيضاً قوله عليه الصلاة والسلام " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " فسماه مسلماً ولم ينفي عنه صفة الإسلام وهذا كله من الدلائل على أن مثل هذا لا يكفر رغم تقصيره في الهجرة ، وعصيانه بالمقام بين ظهراني المشركين ، ولا يعكر على ذلك براءة النبي صلى الله عليه وسلم منه وكون البراءة الكلية لا تكون إلا من الكافر لان المراد بالبراءة هنا براءة الذمة من عقله كاملا(1)، كما قد فسر في الحديث نفسه ، ومن ذلك أيضا قصور حقه في النصرة لتقصيره في الهجرة ، فهذه قرائن صارفة للبراءة المكفرة ، إلى براءة من نوع ثان فسرتها السنة وذكرها الله تعالى في قوله : (( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير )) .
اللهم إلا أن يضم إلى إقامته في دار الكفر وتقصيره بالهجرة الواجبة إلى دار الإسلام ؛ مظاهرته للمشركين ومحاربته للمسلمين ، فحينئذ تكون البراءة منه براءة كلية مكفرة ..
قال ابن حزم بعد أن ذكر الحديث أعلاه : ( وهو عليه السلام لا يبرأ إلا من كافر . قال تبارك وتعالى (( المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض )) ، ثم قال ؛ ( فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختارا محاربا لمن يليه من المسلمين فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها من وجوب القتل عليه متى قدرعليه ، ومن اباحة ماله ، وانفساخ نكاحه وغير ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم ، وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه ، ولم يحارب المسلمين ، ولا أعان عليهم ، ولم يجد في المسلمين من يجيره فهذا لا شيء عليه لأنه مضطر مكره ) . أهـ المحلى ( 13/138-139)
__________
(1) وفي رواية للبيهقي (9/12-13) وغيره وفيها عنعنة الحجاج بن أرطأة : ( من أقام مع المشركين ، فقد برئت منه الذمة )(1/77)
وهو صريح في أن اللحوق بدار الكفر إنما يكون كفرا ، إذا ما انضاف إليه محاربة المسلمين وإعانة الكفار ومظاهرتهم عليهم ، فهو يتنزل على أنصار الشرك المحاربين للدين أو من ظاهر المشركين والكافرين على الموحدين لا على عموم المقيمين في دار الكفر .
ثم قال ابن حزم : ( وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب كان عازما على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم لأن الوليد بن يزيد كان نذر دمه إن قدر عليه ، وهو كان الوالي بعد هشام فمن كان هكذا فهو معذور .
وكذلك من سكن بأرض الهند والسند والصين والترك والسودان والروم من المسلمين ، فإن كان لا يقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر أو لقلة مال أو لضعف جسم أو لامتناع طريق فهو معذور .
فإن كان هنالك محاربا للمسلمين معينا للكفار بخدمة أو كتابة فهو كافر.) أهـ
وإياك أن تفهم من قوله : (معينا للكفار بخدمة أو كتابة فهو كافر ) ، التكفير بمجرد إعانة الكفار بمطلق الخدمة أو الكتابة ، كما يطلقه بعض الغلاة ، فقد رأيت كيف ربط ابن حزم هذه الإعانة بحرب المسلمين ، فهذا هو الكفر ، أعني حرب المسلمين ومظاهرة الكفار ونصرتهم عليهم في حربهم ولو بالكتابة ونحوها ، لا مطلق خدمتهم والكتابة لهم ، فهذا فيه تفصيل سيأتي في تفصيل العمل عند الكفار .
ثم قال رحمه الله : (وإن كان إنما يقيم هنالك لدنيا يصيبها وهو كالذمي لهم وهو قادر على اللحاق بجمهرة المسلمين وأرضهم فما يبعد عن الكفر وما نرى له عذرا ونسأل الله العافية .
وليس كذلك من سكن في طاعة أهل الكفر من الغالية ومن جرى مجراهم لأن أرض مصر والقيروان ( يشير إلى العبيديين ) وغيرهما فالإسلام هو الظاهر وولاتهم على كل ذلك لا يجاهرون بالبراءة من الإسلام بل إلى الإسلام ينتمون وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفارا .
وأما من سكن في أرض القرامطة مختارا فكافر بلا شك لأنهم معلنون بالكفر وترك الإسلام ونعوذ بالله من ذلك .(1/78)
وأما من سكن في بلد تظهر فيه بعض الأهواء المخرجة إلى الكفر ، فهو ليس بكافر لأن اسم الإسلام هو الظاهر هنالك على كل حال من التوحيد والإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والبراءة من كل دين غير الإسلام وإقامة الصلاة وصيام رمضان وسائر الشرائع التي هي الإسلام والإيمان ، والحمد لله رب العالمين . ) أهـ .
ومعلوم أن هذا كله في ظل وجود دار إسلام ..
وتأمل اعتبار ابن حزم لظهور شرائع الإسلام وخصائصه العظام كتوحيد الله والإقرار بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإظهار الصلاة وصيام رمضان وانتساب الولاة للإسلام وعدم براءتهم منه – رغم كفرهم ؛ تأمل اعتباره لذلك في تسويغ إقامة المسلم – أو على الأقل عدم تكفيره – لإقامته في دار كفر هكذا وصفها وهكذا حال ولاتها .. ولا يماحك في شبه هذا لحال بلاد المسلمين اليوم إلا مكابر .
وكذا الحديث المذكور في براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن أقام بين ظهراني المشركين ؛ فقد قيل في ظل وجود دار إسلام ، بل قد قيل في وقت كانت الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم واجبة قبل فتح مكة، ومع هذا لم يكفر أمثال هؤلاء بمجرد إقامتهم بين المشركين ، وإن أثموا وعوقبوا بنقصان حرمتهم ، وضعف وقصور ولايتهم ..
فإذا ما عدمت دار الإسلام التي يهاجر المسلم إليها فإنه بإقامته بدار الكفر معذور إذا ما اتقى الله واجتنب الشرك ، وإعانة أهله على المسلمين ، إذ لا سبيل إلى دار إسلام يهاجر إليها حتى يأثم بتقصيره في ذلك ، فضلا عن أن يكفر !! .
فكيف إذا كانت إقامته في دار الكفر والحالة كذلك ، لأجل نصرة دين الله وإظهار التوحيد ومقارعة الشرك والتنديد ؟ لا شك أن مثل هذا المسلم محسن مأجور قائم بدين الله تبارك وتعالى أنتهى من رسالة الشيخ أبي محمد فك الله أسره(1)..
__________
(1) أنصح إخواني بقراءة هذه الرسالة الفريده المسماه بالثلاثينية التي تدلك على سعة علم هذا الرجل وتبين لك ظلم علماء السلطان لهذا النابغه(1/79)
8 - وَعَنْ أَبِي مُوسَى اَلْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اَللَّهِ هِيَ اَلْعُلْيَا, فَهُوَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) .
وفي الحديث هنا اختصار ولفظه "عن أبي موسى أنه
قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: من قاتل..." الحديث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه تعالى :كلمة الله هي كتابه وما فيه من أمره ونهيه وخبره ا.هـ الفتاوى(28/416) .
وفي الحديث دليل على أن القتال في سبيل الله يكتب أجره لمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
مسألة :إذا انضم إليها قصد غيرها، وهو المغنم مثلاً، هل هو في سبيل الله ؟.
قال الطبري: إذا كان أصل المقصد إعلاء كلمة الله تعالى لم يضر ما حصل من غيره ضمناً، وبذلك قال الجمهور. فعلى هذا: العمدة الباعث على الفعل ويتأيد بقوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم}.
مسألة: إذا استوى القصدان فعلى قسمين :
القسم الأول التشريك في الغنيمة :
فظاهر الحديث والآية: أنه لا يضر فإنه لا ينافي الجهاد بل إذا قصد بأخذ الغنيمة إغاظة المشركين والانتفاع بها على الطاعة كان له أجر فإنه تعالى يقول: {ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح} والمراد النيل المأذون فيه شرعاً ويدل على ذلك أيضا :
__________
(1) - صحيح. رواه البخاري ( 2810 )، ومسلم ( 1904 ) عن أبي موسى؛ أن رجلا أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! الرجل يقاتل للمغنم. والرجل يقاتل ليذكر. والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.(1/80)
أ_ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: قبل القتال "من قتل قتيلاً فله سلبه" دليل على أنه لا ينافي قصد المغنم في القتال بل ما قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ليجتهد السامع في قتال المشركين.
ب - وفي البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسولي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة". دليل على جواز تشريك النية إذ الإخبار به يقتضي ذلك غالباً.
ج _ وفي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ... وأحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي قبلي ) .
د - ثم إنه قد يقصد المشركين لمجرّد نهب أموالهم كما في غزوة بدر حيث انتدب النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم بدر، وقال : ((هذه عير قريش، فيها أموالهم؛ فاخرجوا إليها؛ لعل الله ينفلكموها ).رواه ابن إسحاق، وعبد الرزاق، والطبراني، والبيهقي في الدلائل ، وقال الله تعالى : {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} ولم يذمّهم بذلك، مع أن في هذا الإخبار عن محبتهم للمال دون القتال؛ فإعلاء كلمة الله يدخل فيه إخافة المشركين وأخذ أموالهم وقطع أشجارهم ونحو ذلك .
القسم الثاني التشريك بالذكر :
يبطل الأجر لما رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه بإسناد جيد قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر، ماله؟ قال: "لا شيء له" فأعاده ثلاثا كل ذلك يقول: لا شيء له ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغى به وجهه".ولعل بطلانه هنا لخصوصية طلب الذكر لأنه انقلب عمله للرياء والرياء مبطل لما يشاركه بخلاف طلب المغنم 0
مسألة :(1/81)
وأمّا حديث أبي هريرة عند أبي داود "أن رجلاً قال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من الدنيا، فقال: لا أجر له فأعاد عليه ثلاثاً كل ذلك يقول: لا أجر له ".فهو محمول على من كان الباعث له العرض من الدنيا .
وإلا فإنه قد كان تشريك الجهاد بطلب الغنيمة , أمراً معروفاً عند الصحابة، فإنه أخرج الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح أن عبد الله بن جحش قال يوم أحد: اللهم ارزقني رجلاً شديداً , أقاتله ويقاتلني , ثم ارزقني عليه الصبر , حتى أقتله وآخذ سلبه. فهذا يدل على
جوازه عندهم وأنهم يدعون الله تعالى بنيله , ولو كان أمراً مذموماً لما أخذه النبي صلي الله عليه وسلم وقال (وجعل رزقي تحت ظل رمحي ) رواه أحمد عن ابن عمر , وقال كما في الصحيحين من حديث جابر (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لنبيٍ قبلي ) بل كان يحث الصحابة عليه , والأصل جوازه كما قال تعالى { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وإنما يحمل مثل حديث أبي هريرة وغيره على من لم يرد وجه الله وإنما مقصوده الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب .(1/82)
قال ابن حجر (روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم ) وذكر بعض المتأخرين للتعبير بثلثي الأجر في حديث عبد الله بن عمرو , حكمة لطيفة بالغة , وذلك أن الله أعد للمجاهدين ثلاث كرامات , دنيويتان وأخروية , فالدنيويتان السلامة والغنيمة , والأخروية دخول الجنة , فإذا رجع سالما غانما فقد حصل له ثلثا ما أعد الله له , وبقي له ثلث , وإن رجع بغير غنيمة , عوضه الله عن ذلك , ثوابا في مقابلة ما فاته , وكأن معنى الحديث , أنه يقال للمجاهد , إذا فات عليك شيء من أمر الدنيا عوضتك عنه ثوابا , وأما الثواب المختص بالجهاد فهو حاصل للفريقين معا . فتح الباري (6/ 9) .
قال الشيخ عبدالقادر بن عبدالعزيز في كتابه العظيم العمدة في إعداد العدة " وقال بعض أهل العلم هو على ظاهره وقد أورد البخاري رحمه الله هذه المسألة في كتاب فرض الخمس من صحيحه في باب [من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره؟] هكذا معلقا الحكم ولم يجزم فيه بشيء. وأورد فيه حديث أبي موسى الأشعري «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا». وفَصَّل ابن حجر الأحوال المختلفة ولم يجزم في الحكم(1) بخلاف النووي الذي جزم في الحكم في هذه المسألة فقال في شرح حديث عبد الله بن عمرو السابق «ما من غازية تغزو...» قال النووي: -
__________
(1) فتح الباري: ج6/ص28،29،226.(1/83)
”فالصواب الذي لا يجوز غيره أن الغزاة إذا سَلِموا أو غنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم أو سلم ولم يغنم، وأن الغنيمة هي في مقابلة جزء من أجر غزوهم. فإذا حصلت لهم فقد تعجلوا ثلثي أجرهم المترتب على الغزو، وتكون هذه الغنيمة من جملة الأجر، وهذا موافق للأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة، كقوله «مِنّا من مات ولم يأكل من أجره شيئا، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدبُها» أي يَجْتَنِيها فهذا الذي ذكرنا هو الصواب وهو ظاهر الحديث ولم يأت حديث صريح صحيح يخالف هذا فتعين حمله على ما ذكرنا وقد اختار القاضي عياض معنى هذا الذي ذكرناه بعد حكايته في تفسيره أقوالا منها قول من زعم أن هذا الحديث ليس بصحيح ولا يجوز أن ينقص ثوابهم بالغنيمة كما لم ينقص ثواب أهل بدر، وهم أفضل المجاهدين وهى أفضل غنيمة، قال وزعم بعض هؤلاء أن أبا هانئ حميد بن هانئ رَاوِية مجهول ورَجَّحوا الحديث السابق في أن المجاهد يرجع بما نال من أجر وغنيمة فرجحوه على هذا الحديث لشهرته وشهرة رجاله ولأنه في الصحيحين وهذا في مسلم خاصة، وهذا القول باطل من أوجه فإنه لا تعارض بينه وبين هذا الحديث المذكور، فإن الذي في الحديث السابق رجوعه بما نال من أجر وغنيمة ولم يقل أن الغنيمة تنقص الأجر أم لا، ولا قال أجره كأجر من لم يغنم فهو مطلق وهذا مقيد فوجب حمله عليه. وأما قولهم أبو هانئ مجهول فغلط فاحش بل هو ثقة مشهور روى عنه الليث بن سعد وحَيْوة وابن وهب وخلائق من الأئمة ويكفي في توثيقه احتجاج مسلم به في صحيحه. وأما قولهم إنه ليس في الصحيحين فليس لازما في صحة الحديث كونه في الصحيحين ولا في أحدهما. وأما قولهم في غنيمة بدر، فليس في غنيمة بدر نص أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قدر أجرهم وقد غنموا فقط، وكونهم مغفورا لهم مرضيا عنهم ومن أهل الجنة لا يلزم أن تكون وراء هذا مرتبة أخرى هي أفضل منه مع أنه شديد الفضل عظيم القدر.(1/84)
من الأقوال الباطلة ما حكاه القاضي عن بعضهم أنه قال لعل تعجل ثلثي أجره إنما هو في غنيمة أخذت على غير وجهها وهذا غلط فاحش إذ لو كانت على خلاف وجهها لم يكن ثلث الأجر. وزعم بعضهم أن المراد أن التي أخفقت يكون لها أجر بالأسف على ما فاتها من الغنيمة فيضاعف ثوابها كما يضاعف لمن أصيب في ماله وأهله وهذا القول فاسد مباين لصريح الحديث. وزعم بعضهم أن الحديث محمول على من خرج بِنيَّة الغزو والغنيمة معاً فنقص ثوابه وهذا أيضا ضعيف. والصواب ما قدمناه والله أعلم.“(1).أهـ.
9 -وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ اَلسَّعْدِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لَا تَنْقَطِعُ اَلْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ اَلْعَدُوُّ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ (2) .
قال الشوكاني : وحديث عبد الله بن السعدي رجال إسناده موثوقون , وقد أخرجه أيضاً ابن ماجة وابن منده والطبراني والبغوي وابن عساكر. ...وفيه دليل على أن الهجرة باقية ما بقيت المقاتلة للكفار ا.هـ قلت وقد أخرجه الترمذي كذلك .
قلت وله شاهد عند أبي داود من حديث معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة "...الحديث وصححه ابن حجر وله شاهد آخر عند أحمد من حديث بن أبي أمية : لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد . وقال عنه الحافظ ابن حجر حديث صحيح .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي: ج13/ ص52،53.
(2) - صحيح. رواه النسائي ( 6 / 146 و 147 )، وابن حبان ( 1579 ) عن عبد الله بن السعدي قال: وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كلنا يطلب حاجة، وكنت آخرهم دخولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "حاجتك" فقلت: يا رسول الله إني تركت من خلفي وهم يزعمون أن الهجرة قد انقطعت، فذكر الحديث.(1/85)
قال الصنعاني في سبل السلام : دل الحديث على ثبوت حكم الهجرة وأنه باقٍ إلى يوم القيامة، فإن قتال العدو مستمر إلى يوم القيامة.ا.هـ
10 -وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: أَغَارُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِيَّ اَلْمُصْطَلِقِ, وَهُمْ غَارُّونَ, فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ, وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1)
ونافع : هو مولى بن عمر، يقال: أبو عبد الله نافع بن سرجس ؛ كان من كبار التابعين من أهل المدينة سمع ابن عمر وأبا سعيد وهو من الثقات المشهورين بالحديث المأخوذ عنهم مات سنة سبع عشرة ومائة وقيل عشرين 0
(المصْطَلِق )- بطن شهير من خزاعة .
(وهم غارّون) جمع غارّ أي غافلون على غرّة وفيه: وأصاب يومئذٍ جويرية0
فيه مسألتان:
الأولى: الحديث دليل على جواز المقاتلة قبل الدعاء[ الدعوة ] إلى الإسلام في حق الكفار الذين قد بلغتهم الدعوة من غير إنذار، وهذا أصح الأقوال الثلاثة في المسألة.
قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم، وعلى معناه تظاهرت الأحاديث الصحيحة وهذا أحدها، وحديث كعب بن الأشراف، وقتل ابن أبي الحقيق وهى في الصحيحين وغير ذلك.
والثاني : عدم وجوب الإنذار مطلقاً، ويرد عليه حديث بريدة الآتي.
والثالث : وجوبه مطلقاً، ويرد عليه هذا الحديث.
__________
(1) - صحيح. رواه البخاري ( 2541 )، ومسلم ( 12 / 35 - 36 نووي ) وانظر "ناسخ الحديث ومنسوخه" لابن شاهين رقم (467 بتحقيقي). "غارون": بالغين المعجمة وتشديد الراء، أي: غافلون.(1/86)
قلت وفيه رد على الذين يقولون " دعوة الغرب والأمريكان أفضل من قتالهم " ويشغبون على عوام الناس ببعض الأحاديث التي ظاهرها تقديم الدعوة على القتال أو فضل الدعوة إلى الله تعالى ، ونحن لا ننكر فضل الدعوة إلى الله تعالى ولكن لا نضرب الأدلة بعضها ببعض كاليهود وأشباههم وإنما نقول لهؤلاء وأمثالهم أن الراجح في هذه المسألة تقديم الدعوة قبل القتال إذا لم تبلغهم الدعوة فأما إذا بلغتهم فلا كرامة يقاتلون وهذا الخلاف بين السلف في جهاد الطلب وأما جهاد الدفع فلا خلاف أنهم يقاتلون الصائل والمعتدي عليهم قبل الدعوة وهو قول محمد بن الحسن الشيباني كما في السير ونحوه لابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة .
والثانية: في قوله: "فسبى ذراريهم":
1- دليل على جواز استرقاق العرب لأن بني المصطلق عرب من خزاعة، وإليه ذهب جمهور العلماء، وقال به مالك وأصحابه وأبو حنيفة والأوزاعي .
2- وذهب آخرون: إلى عدم جواز استرقاقهم، وليس لهم دليل ناهض، ومن طالع كتب السير والمغازي علم يقيناً استرقاقه صلى الله عليه وآله وسلم للعرب غير الكتابيين كهوازن وبني المصطلق، وقال لأهل مكة: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وفادى أهل بدر، والظاهر أنه لا فرق بين الفداء والقتل والاسترقاق لثبوتها في غير العرب مطلقاً، وقد ثبتت فيهم ولم يصح تخصيص ولا نسخ.
قال أحمد بن حنبل: لا أذهب إلى قول عمر ليس على عربي ملك. وقد سبى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من العرب كما ورد في غير حديث وأبو بكر وعليّ رضي الله عنهما سبيا بني ناجية. ويدل له الحديث الآتي:(1/87)
11 - وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ, عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اَللَّهِ, وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ اَلْمُسْلِمِينَ خَيْراً, ثُمَّ قَالَ: "اُغْزُوا بِسْمِ اَللَّهِ, فِي سَبِيلِ اَللَّهِ, قَاتِلُوا مِنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ, اُغْزُوا, وَلَا تَغُلُّوا, وَلَا تَغْدُرُوا, وَلَا تُمَثِّلُوا, وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيداً, وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ, فَأَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا, فَاقْبَلْ مِنْهُمْ, وَكُفَّ عَنْهُمْ: اُدْعُهُمْ إِلَى اَلْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ. ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى اَلتَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ اَلْمُهَاجِرِينَ, فَإِنْ أَبَوْا فَأَخْبَرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ اَلْمُسْلِمِينَ, وَلَا يَكُونُ لَهُمْ (1) . فِي اَلْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ اَلْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمْ اَلْجِزْيَةَ, فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ, فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اَللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ, فَلَا تَفْعَلْ, وَلَكِنْ اِجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ; فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ (2) . أَهْوَنُ مِنْ أَنَّ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اَللَّهِ, وَإِذَا أَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اَللَّهِ, فَلَا تَفْعَلْ, بَلْ عَلَى حُكْمِكَ; فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اَللَّهِ أَمْ لَا" . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (3) .
__________
(1) - سقط من" أ".
(2) - وفي" أ": "ذمتكم" والذي في مسلم: " ذممكم وذمم أصحابكم" ومعنى " تخفروا": تنقضوا.
(3) - صحيح..رواه مسلم ( 1731 ) ( 3 ) وقد اختصر الحافظ بعض عباراته.(1/88)
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه : وهو ابن الحصيب الأسلمي . (قال صاحب تيسير العزيز الحميد : قال الحربي : السرية : الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها . والجيش: ما كان أكثر من ذلك .وهم الجند أو السائرون إلى الحرب أو غيرها.قوله ( قاتلوا من كفر بالله ) هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر المحاربين وغيرهم , وقد خصص منهم من له عهد , والرهبان والنسوان , ومن لم يبلغ الحلم , وقد قال متصلاً به (ولا تقتلوا وليداً ) وإنما نهي عن قتل الرهبان والنسوان , لأنه لا يكون منهم قتال غالباً , وإن كان منهم قتال أو تدبير قتلوا ) ا.هـ .
قلت جاء عند أحمد وأبي داود والترمذي من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير الصحابة أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولا تغلب اثنا عشر ألفاً من قلةٍ(1)" قال الترمذي عقبه حسن غريب وأخرجه الحاكم وقال هذا اسناد صحيح . وجاء عن الزهري مرسلاً والحديث لا بأس به إن شاء الله تعالى .
(ولا تغلُّوا) الغلول الخيانة في المغنم مطلقاً.(ولا تغْدروا) الغدر ضد الوفاء.(ولا تمثلوا) من المثلة، يقال مثل بالقتيل إذا قطع أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيئاً من أطرافه . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فأما التمثيل في القتلى فلا يجوز إلا على وجه القصاص وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما : ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة إلى أن قال : إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا , فنفعل بهم مثل ما فعلوا ) الفتاوى (28/314) .
__________
(1) وللفائدة فقد جاء في حديث جيد الإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يخرج من
أبين عدن اثنا عشر ألفاً ينصرون الله ورسوله "(1/89)
وقال أيضاً ( وإن مثل الكفار بالمسلمين فالمثلة حق لهم , فلهم فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر , ولهم تركها , والصبر أفضل , وهذا حيث لا يكون في التمثيل بهم زيادة في الجهاد ولا نكال لهم عن نظيرها . فأما إن كان في التمثيل السائغ لهم دعاء إلى الإيمان أو زجر لهم عن العدوان فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع ) المستدرك لابن قاسم (3/223) .
(ولا تقتلوا وليداً) المراد غير البالغ سن التكليف وإلا فقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر سبعمائة يهودي قال عطية القرظي رضي الله عنه عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فكان من أنبت قتل وكنت ممن لم ينبت . رواه البخاري .
(فادعهم إلى ثلاث خصال) أي إلى إحدى ثلاث خصال، وبينها بقوله: (فأَيتهنَّ أجابوك إليها فاقبل منهم وكُفَّ عنهم) أي القتال.وبينها بقوله: (ادعُهُم إلى الإسلام ).وبيان حكم أعراب المسلمين تضمنه قوله: (ولا يكون لهم في الغنيمة).
الغنيمة:
ما أصيب من مال أهل الحرب وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فَأَمَّا " الْغَنِيمَةُ " فَهِيَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي " سُورَةِ الْأَنْفَالِ " الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَسَمَّاهَا أَنْفَالًا ; لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ }...(1/90)
فَالْوَاجِبُ فِي الْمَغْنَمِ تَخْمِيسُهُ وَصَرْفُ الْخُمُسِ إلَى مَنْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى ; وَقِسْمَةُ الْبَاقِي بَيْنَ الْغَانِمِينَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ . وَهُمْ الَّذِينَ شَهِدُوهَا لِلْقِتَالِ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا . وَيَجِبُ قَسَمُهَا بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ فَلَا يُحَابَى أَحَدٌ لَا لِرِيَاسَتِهِ وَلَا لِنَسَبِهِ وَلَا لِفَضْلِهِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَاؤُهُ يَقْسِمُونَهَا . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : { أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه رَأَى لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ ؟ } وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَد { عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَكُونُ حَامِيَةَ الْقَوْمِ يَكُونُ سَهْمُهُ وَسَهْمُ غَيْرِهِ سَوَاءً ؟ قَالَ : ثَكِلَتْك أُمُّك ابْنَ أُمِّ سَعْدٍ ; وَهَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ ؟ } .(28/270) .
(والفيءِ) هو ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد.
(فاسألهم الجزية) وهي الخصلة الثانية من الثلاث . (وإن همْ أَبَوا فاستعن بالله وقاتلهم) وهذه هي الخصلة الثالثة.
1 - وقد دل الحديث على أنه يدعو أمير المشركين إلى الإسلام لأنه رأس الشوكة قبل قتالهم وجوبا إن لم تبلغهم الدعوة فإن بلغتهم فمستحب .
قال شيخنا العلامة على بن خضير الخضير نفع الله بعلمه في كتابه العظيم الجمع والتجريد شرح كتاب التوحيد :(1/91)
المسألة الخامسة والعشرون :الدعوة إلى الإسلام قبل القتال والشاهد ( ثم ادعهم إلى الإسلام ) : وهذه قاعدة من قواعد الدعوة أنه لا بد من قيام الحجة قبل القتل والقتال والتعذيب إذا لم يكن قد دعوا من قبل ، أما إذا دعوا من قبل فتكرار الدعوة مرة أخرى سُنّة (التيسير ص110 ،والفتح ص92 ).
المسألة السادسة والعشرون : أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا ، والشاهد (ثم ادعهم إلى الإسلام ) ووجه كونه سنة لأنه دعوة ليهود خيبر ،وقد دعوا قبل ذلك ، وعرفوا ماذا يُراد منهم ، ومعنى مشروع أي مستحب .(التيسير ص110 ،والفتح ص92 )
وفيها قضية معاصرة :
وهى هل يُدعى اليوم في باب القتال والجهاد العام ؟ الجواب لا فقد عرف الأعداء هذا الدين وماذا يُراد منهم . سئل الإمام أحمد هل يُدع أحد اليوم (أي في زمنه ) فقال : لا أعرف اليوم أحدا يُدعى قد بلغت الدعوة كل أحد فالروم قد بلغتهم الدعوة وعلموا ما يُراد منهم (المغني والشرح 10/380 ) ، قال الترمذي في باب الدعوة قبل القتال 5/267 ( وقال أحمد لا أعرف اليوم أحدا يُدعى ) فإذا كان هذا زمن أحمد فما بالك بزماننا ؟ ا.هـ من الجمع والتجريد .
2 - كما دل له إغارته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على بني المصطلق وهم غارّون وإلا وجب دعاؤهم .
3- وفيه دليل على دعائهم إلى الهجرة بعد إسلامهم، وهو مشروع ندبا بدليل ما في الحديث من الإذن لهم في البقاء وذلك لأن ديارهم صارت دار إسلام وتجرى عليهم أحكامه..
4- وفيه دليل على أن الغنيمة والفيء لا يستحقهما إلا المهاجرون، وأن الأعراب لا حق لهم فيهما إلا أن يحضروا الجهاد، وإليه ذهب الشافعي، خلاف لمن أدعى النسخ فإن دعوى النسخ لا تصح كما ذكر ذلك الصنعاني والشوكاني .
وفي الحديث مسائل:
الأولى:(1/92)
1- دل على أنه إذا بعث الأمير من يغزو أوصاه بتقوى الله وبمن يصحبه من المجاهدين خيراً، ثم يخبره بتحريم الغلول من الغنيمة وتحريم الغدر وتحريم المثلة وتحريم قتل صبيان المشركين، وهذه محرّمات بالإجماع.
الغزو: معناه الطّلب يقال : ما مغزاك من هذا الأمر أي ما مطلبك ، وسمّي الغازي غازياً , لطلبه الغزو : فقوله أغزوا بسم الله , دليل على أن ذلك في جهاد الطلب وغزو الكفار في عقر دارهم وهو فرض على الكفاية عند الجمهور قال ابن قدامة في المغني (8/345) [ وفرض الكفاية هو :الفرض الذي إذا قام به البعض سقط عن الآخرين , أي الذي إن لم يقم به من يكفي أثم الناس كلهم وإن قام به من يكفي سقط عن سائر الناس فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع كفرض العين ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض الناس له وفرض العين لا يسقط بفعل غيره ] ا.هـ
قلت وقد قال ابن القيم في كتابه الفروسية " وجهاد الطلب وهو طلب العدو في دياره لا يقدم عليه إلا سادات المؤمنين " .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (فإذا كان ابتداء , فهو فرض على الكفاية , إذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين , وكان الفضل لمن قام به كما قال الله تعالى { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله }) (الفتاوى 28/359) .
وقال الإمام ابن حزم في المحلي (7/291) [ والجهاد فرض عين على المسلمين فإذا قام به من يدافع العدو ويغزوهم في عقر دارهم ويحمي ثغور المسلمين سقط فرضه عن الباقين , وإلا فلا ] ا.هـ
وقال الفقهاء رحمهم الله : يجب الجهاد في كل عام مرة أو مرتين . وهذا في جهاد الطلب .
قلت : وهذا النوع – أي جهاد الطلب - هو الذي فيه الخلاف بين السلف رحمهم فالجمهور كما مر معنا قالوا أن غزو الكفار في عقر دارهم وقتالهم إذا لم يسلموا أنه فرض كفاية .(1/93)
وذهبت طائفة من أهل العلم أنه فرض عين منهم الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه والمقداد ابن الأسود رضي الله عنه وسعيد بن المسيب وابن شبرمة وغيرهم نقل ذلك الطبري وابن النحاس في مشارع الأشواق وغيرهم من أهل العلم فقد روى الطبري من رواية أبي الضُحى قال : أول ما نزل من براءة {انفروا خفافاً وثقالاً } وقد فهم بعض الصحابة(1)من هذا الأمر العموم فلم يكونوا يتخلفون عن الغزو ـ تأمل قوله الغزو أي الطلب ـ حتى مات , منهم أبو أيوب الأنصاري والمقداد بن الأسود وغيرهم , وقد نقل ذلك ابن حجر في فتح الباري (6/46) .
وروى الإمام ابن حزم بسنده أن أبا أيوب الأنصاري كان يقول : قال الله تعالى { انفروا خفافا وثقالا } فلا أحد من الناس إلا خفيف أو ثقيل . المحلى (7/291) .
وقال أبو طلحة رضي الله عنه في قوله تعالى خفافا وثقالا : كهولاً وشباناً ما سمع الله عذر أحد . مختصر تفسير ابن كثير (2/144) .
وقال الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنك عليل فقال ( استنفر الله الخفيف والثقيل فإن لم أتمكن من الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع ) ا.هـ الجامع لأحكام القران (8/150)
__________
(1) 1- قلت هذا فهم بعض الصحابة, و لم نسمع من بقية الصحابة من ينكر عليهم أو يسفه فهمهم أو ينتقصهم أو يحذر منهم فضلاً عن أن يدعوا لمحاربتهم ومحاربة فكرهم المتطرف على زعمهم بل مدحوا صدقهم وجهادهم وسطروا ذلك في كتبهم ودرسوا أبنائهم سيرهم . وأما موظفو الدولة من مفتين وغيرهم , فلم يقولوا مسألة خلافية على أقل تقدير مع أن الدفع مجمع عليه وهم من خالف الإجماع , بل قالوا متحمسون متطرفون وخوارج , ولكنه الهوى إذا اجتمع مع الدنيا أوقع صاحبه في مهاوي الردى.(1/94)
قلت فيقال للذي أفنى حياته وعمره مجاهداً بقلمه وقالهِ إن الجهاد اليوم فرض كفايه ، ما تقول في فروض الكفايات الأخرى من تغسيل الموتى والصلاة عليهم ودفنهم إن لم يقم المسلمون بذلك مع علمهم ، سيجيب بلا تردد آثمون فما بالكم بالجهاد اليوم الذي لم تحصل الكفايه فيه إلى اليوم فالله المستعان .
وأما جهاد الدفع : وهو جهاد العدو الصائل على بلاد المسلمين أو أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم فهو فرض عين بالإجماع قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً ) . وقال ابن تيمية ( وقتال الدفع مثل أن يكون العدو كثيراً لا طاقة للمسلمين به ؛ لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين . فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يسلموا . ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتلة أقل من النصف فإن انصرفوا استولوا على الحريم , فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب لا يجوز الانصراف عنه بحال , ووقعة أحد من هذا الباب .
وقال : جهاد الدفع للكفار يتعين على كل أحد , ويحرم فيه الفرار من مثليهم لأنه جهاد ضرورة لا اختيار , وثبتوا يوم أحد والأحزاب وجوبله , وكذا لما قدم التتار دمشق(1) المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية لابن قاسم ( 3 / 218-219) .
__________
(1) وفي زماننا الأمريكان أشد من التتار و لايلتفت إلى القاعدين المنهزمين الذين يلبسون على الناس دينهم ويقولون لا قبل لنا بأمريكا وقد رخص الشرع بالفرار إذا كان العدو أكثر من مثليهم، نعم قد يقال بقولهم في جهاد الطلب أما جهاد الدفع فلا يجوز فافهم هذا فإنه مهم .(1/95)
ولم يختلف أحد من السلف أن جهاد الدفع فرض عين لا يشترط له شرط كالزاد والراحلة وقد نقل الإجماع على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن حزم وابن عبد البر بل الأئمة الأربعة مجمعون على ذلك بل قالوا لو سبيت امرأة أو أسر رجل أو دخل العدو بلاد المسلمين أو أخذ شبراً منها تعين الجهاد . قال ابن تيمية ( ويجب جهاد الكفار واستنقاذ ما بأيديهم من بلاد المسلمين وأسراهم ) المستدرك لابن قاسم (3/ 221) .
قال ابن عابدين وهو من علماء الحنفية ( وفرض عين إن هجم العدو على ثغر من ثغور الإسلام فيصير فرض عين على من قرب منه , فأما من وراءهم ببعد من العدو فهو فرض كفاية إذا لم يحتج إليهم , فإن احتيج إليهم – تأمل – بأن عجز من كان بقرب العدو عن المقاومة مع العدو أو لم يعجزوا ولكنهم تكاسلوا ولم يجاهدوا فإنه يفترض على من يليهم فرض عين كالصلاة والصوم لا يسعهم تركه , وثم وثم إلى أن يفترض على جميع أهل الإسلام شرقا وغربا على هذا التدرج ) ا.هـ حاشية ابن عابدين (3/238 ) .
وجاء في حاشية الدسوقي المالكي ( ويتعين الجهاد بفجئ العدو قال : أي توجه الدفع بفجئ ( مفاجأة ) على كل أحد وإن امرأة أو عبداً أو صبياً , ويخرجون ولو منعهم الولي والزوج ورب الدين ) ا.هـ حاشية الدسوقي (2/174) .
وأما الشافعية ففي نهاية المحتاج للرملي ( فإن دخلوا بلدة لنا وصار بيننا وبينهم دون مسافة القصر فيلزم أهلها الدفع حتى من لا جهاد عليهم ) نهاية المحتاج (8/58) .
وأما الحنابلة فقد ذكر ابن قدامة في المغني ( ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع :
1- إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان 2- إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم 3- إذا استنفر الإمام لزمهم النفير.المغني ( 8/345) .
وقال أيضاً رحمه الله وإذا لم تحصل الكفاية في الثغور أثم الجميع .(1/96)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب , إذ بلاد الإ سلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة(1), وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم , ونصوص أحمد صريحة بهذا ) ا.هـ المستدرك لابن قاسم (3/218) .
ومن هنا يتبين لنا ويتضح جليا أن سبب الخلل الحاصل عند كثير من المتأخرين ممن كتب في الجهاد أو تحدث عنه, هو عدم التفريق بين أحكام جهاد الطلب وجهاد الدفع .
وقد نبه ابن تيمية رحمه الله على ذلك فإن زمانه مشابه لزماننا , فقد صال التتار على العراق والشام وغيرها من بلاد المسلمين وقام المتخاذلون في زمنه والمرجفون فقالوا لا مقام لنا بالشام وقال بعضهم لا طاقة لنا بالتتار .
__________
(1) هذا قول شيخ الإسلام فلماذا نقدم كلام شيوخ السلطان العاري من الأدلة والمستند إلى الحدود الوهمية التي من أجلها تعقد المحبة والولاء والبراء والجهاد.وصدق الله تعالى ( وأن هذه أمتكم أمةً واحدة ) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ( المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه .وكذب علماء السلطان .(1/97)
ولما قابل القاعدين من العلماء في مصر وحرضهم على الجهاد تعللو بعللٍ ورثوها صاغراً عن صاغر بصق في وجوههم(1)، وأنطلق مجاهداً ولم يقل نحن مستضعفون ونحتاج للتربية والإعداد مائة عام , وعلينا بالدعوة والحوار مع التتار , و قام لله قومةً صادقةً, وحرض الأمة وجيشها , وقاد المعارك تلوا المعارك , فنصره الله يوم علم صدقه , وأخرج التتار من بلاد المسلمين , وسطرت سيرته , وخلد ذكره , وذهب المخذلون , لأن التاريخ لا يسطر في صفحاته إلا العظماء ولا يخلد إلا ذكر الأبطال بل ويحفظ لهمم صدقهم وتضحياتهم ومواقفهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على اشتراط القاضي الزاد والراحلة في الجهاد إذا تعين فقال ( وما قاله القاضي من القياس على الحج لم ينقل عن أحمد , وهو ضعيف ؛ فإن وجوب الجهاد قد يكون لدفع ضرر العدو فيكون أوجب من الهجرة . ثم الهجرة لا تعتبر فيها الراحلة فبعض الجهاد أولى . وثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم ( على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه وأثرة عليه ) فأوجب الطاعة التي عمادها الاستنفار في العسر واليسر , وهذا نص في وجوبه مع الإعسار ؛ بخلاف الحج هذا كله في قتال الطلب .
وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً . فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب من دفعه , فلا يشترط له شرط ؛ بل يدفع بحسب الإمكان , وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم , فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر , وبين طلبه في بلاده(2) المستدرك لابن قاسم ( 3/ 215) .
__________
(1) والبعض اليوم لا يحفظ من الدين إلا قول ابن عساكر " لحوم العلماء مسمومه " فأين هو من فعل هذا الحبر وقد نقل القرافي الإجماع على أن الآيات والأحاديث الواردة في فضل العلماء إنما هي في العاملين فقط .
(2) فافهم هذه القاعدة تفهم علماً كثيراً .(1/98)
والله سبحانه يقول { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ومن هنا تبعيضية , فإذا أخرجونا من بعض ديارنا فكأنما أخرجونا من ديارنا كلها , وفي هذا رد على من حصر الجهاد بالحدود الصهيو أمريكية . فالأمريكان قاتلونا في الدين ومن أجله كما صرح بذلك زعيم الكفر بوش , وأخرجونا من ديارنا كما فعلوا بتيمور الشرقية وأفغانستان وغيرها , وظاهروا اليهود على إخراجنا من فلسطين وغيرها ومن يتولهم بعد ذلك فأولئك هم الظالمون .(1/99)
بل كما قال ابن تيمية (فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجباً على المقصودين كلهم وعلى غير المقصودين لإعانتهم كما قال الله تعالى { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر}(1)وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنصر المسلم وسواء كان الرجل من المرتزقة للقتال أو لم يكن . وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله ,مع القلة والكثرة , والمشي والركوب ,كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد , كما أذن في ترك الجهاد ابتداءً لطلب العدو , الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج , بل ذم الذين يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم { يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً} فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس , وهو قتال اضطرار, وذلك قتال اختيار(للزيادة ) في الدين وإعلائه , ولإرهاب العدو , كغزاة تبوك ونحوها ) الفتاوى (28/359) فمن علم بحالهم واستطاع نصرتهم لزمه ذلك كما قال ابن تيمية هنا .
وقال القرطبي أيضاً ( كل من علم بضعف المسلمين عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم) ا.هـ فتح الباري (6/30).(2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : بعد ما ذكر أصناف الكفار الذين يقاتلون من كفار أصليين أو مرتدين (هؤلاء كلهم يجب قتالهم بإجماع المسلمين . حتى يلتزموا شرائع الإسلام ، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، وحتى تكون كلمة الله - التي هي كتابه وما فيه من أمره ونهيه وخبره - هي العليا .
__________
(1) ففي هذا رد على من أستدل بباقي الأية وهي قوله تعالى ( إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) فيقول بيننا وبين أمريكا ميثاق فهذا شيخ الإسلام يقول " فيصير دفعه واجبأً على المقصودين وغير المقصودين " وهذا يلزم منه عدم الوفاء بعهود طواغيت العرب مع بوش فلينتبه لهذا .
(2) 1- انظر مشارع الأشواق وكذا التمهيد لابن عبد البر ونيل الأوطار للشوكاني كتاب الجهاد .(1/100)
هذا إذا كانوا قاطنين في أرضهم فكيف إذا استولوا على أراضي الإسلام : من العراق ، وخراسان ، والجزيرة ، والروم ، فكيف إذا قصدوكم وصالوا عليكم بغياً وعدواناً : { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم } .) ا.هـ(1)وقال شيخ الإسلام كذلك لسلطان مصر الملك الناصر محمد بن قلاوون وهو يستحثه وعساكره لقتال التتار: ( إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطان يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن .. ثم قال : لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر , فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسئولون عنه ).(2)ا.هـ
قال الإمام حمود بن عقلا الشعيبي رحمه الله تعالى : (وحكم الجهاد في وقتنا الحاضر أنه فرض عين على كل قادر عليه وقد أجمع علماء الأمة قديما وحديثا على أن الجهاد يكون فرض عين في ثلاث حالات : الأولى : إذا حصر العدو بلدا من بلاد المسلمين أو احتلها .
والحالة الثانية : إذا حضر الصف في معركة بين المسلمين والكفار .
والحالة الثالثة : إذا استنفره الإمام الشرعي .
ونحن إذا نظرنا إلى ما يجري في فلسطين وفي الشيشان وجدنا أن العدو قد احتل هذه البلدان وآذى أهلها بشتى أنواع الأذى من القتل والتدمير والسلب والنهب وانتهاك الأعراض .
إذاً فيجب على الأمة الإسلامية حكاما ومحكومين كل فيما يخصه أن يهبوا لنصرة إخوانهم المضطهدين في هذه البلدان وغيرها ، وليعلنوا الجهاد ويشنوها حربا شعواء على أعداء الله في فلسطين وفي والشيشان وغيرها ) ا.هـ.
وقال شيخنا العلامة على الخضير حفظه الله تعالى :
(
__________
(1) 2- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 28/410).
(2) 3- البداية والنهاية ( 14/211) .(1/101)
الجهاد في هذا الوقت فرض عين { مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ } وقد نقل جمع من أهل العلم أن بلاد المسلمين إذا دهمت وجب القتال , وأيضا إذا صال صائل وجب فرضا , وقد صال التالف الدولي اليوم لمحاربة الإرهاب ويقصدون محاربة الإسلام والمسلمين والجهاد في كل مكان كما صرح طاغوتهم الأكبر أنها حرب صليبية , وهي حرب متعددة الأنواع , عسكرية واقتصادية وثقافية واجتماعية ، وفي جميع الأمكنة وعلى جميع الأصعدة , وكل يجب عليه بقدر ما يستطيع , وليس ميدان القتال هو أفغانستان فقط , بل نجاهدهم في كل مكان فإن نوعية الحرب اليوم اختلفت ,وليس لها ميدان معين ولا ارض محددة , فهم صالوا على الإسلام في كل مكان , فنحاربهم في كل مكان ... ) ا.هـ
قال ابن حجر : قال أهل العلم : لو أسر أسير مسلم وجب استنقاذه ولو أتى على جميع أموال المسلمين فإذا لم يوجد المال تعين الجهاد ا.هـ
قال شيخنا العلامة على الخضير عن واجب الأمة تجاه أسرى المسلمين في كل مكان قال :
( إخراجهم بما يستطيعون , فإن فكاك الأسير واجب على القادر وفرض عين قال تعالى { إنما الصدقات – إلى أن قال – وفي الرقاب } قال بعض أهل العلم من معاني الرقاب , فك الأسير , وقال تعالى { فك رقبة } ذكر القرطبي أن منها الأسير وفي الحديث الصحيح ( فكوا العاني ) أي الأسير , ونقل القرطبي وطائفة من أهل العلم الإجماع على وجوب فكاك الأسير , وعليهم أيضا أن يقنتوا لهم مدة لفعله صلى الله عليه وسلم في المستضعفين في مكة قنت لهم يدعوا في نجاتهم كما في الصحيح ) ا.هـ(1/102)
إذاً يتعين الجهاد بوجود أسرى من المسلمين عند الكفار, فلنا عند الكفار ثار, من أمريكان وروس ويهود وهندوس وغيرهم من الطواغيت . وواجبنا تجاه إخواننا عظيم ومسئوليتنا في فك أسرهم كبيرة وهم في أعناقنا سواء في جوانتناموا أو في أمريكا أو في فلسطين عند اليهود أوفي روسيا أو في كشمير أو في غيرها من بقاع الأرض .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للأسير العقيلي حين قال : يا محمد علام أوخذ ؟ فقال : بجريرة حلفائك من ثقيف . وأسره النبي صلى الله عليه وسلم لينال بذلك من حلفائه مقصوده , ولو أسرنا حربيا لأجل تخليص من أسروه منا جاز باتفاق المسلمين . ولنا أن نحبسه حتى يردوا أسيرنا , ولو أخذنا مال حربي حتى يردوا علينا ما أخذوه لمسلم جاز ) المستدرك على الفتاوى لابن قاسم (3/ 243) .
فيا لله كم من بلاد للمسلمين تئِن أسيرةً تحت وطأت الاحتلال (الاستعمار) وكم من فتاة سبية عند الكفار وكم من أسير عندهم وكم وكم , ثم يتبجح أهل الأهواء من علماء السوء والمنادين بالاستسلام للكفار الذين تركوا العمل بالكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة إلى أهواء الحكام ورغباتهم ولم يكتفوا بالقول أن الجهاد فرض كفاية حتى سموا الجهاد إرهاب وتعاونوا مع الطواغيت للصد عنه ومحاربته .
((1/103)
إنهم يدعون إلى عدم مقاتلة أولياء الشيطان، ويدعون إلى موالاتهم وإلى مودتهم وإلى الإستكانة إليهم وإلى تمييع نصوص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، انهزموا وذلوا واستكانوا لأنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا يمثلون إلا اسماً مسمى، همهم التقليد الأعمى، وديدنهم الركض خلف كل ناعق ولو كان الأمر هكذا لهان الخطب لإنه لا عبرة بهم ففي أرض الله من يقوم بدين الله والله متكفل بذلك. ولكن أن يمتد جبنهم وذلتهم إلى لي النصوص القرآنية والسنة النبوية فيقال: إن الجهاد في الإسلام هو الدفاع فقط وأنه لا جهاد في هذا العصر , فهذا ما يجب أن نعريه، ولا نسكت عنه، مهما كانت ألقابهم ومهما كانت شهرتهم، فإن دين الله هو الحق والحق أحق أن يتبع ونقول: إنه لا حياة شريفة في ظل هذا الدين الحنيف إلا بالعودة إلى ينابيعه الصافية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم العقيدة الصحيحة وسيرة سلف الأمة وإدراك معنى لا إله إلا الله ومعنى العبادة ومعنى الدين، ومعنى الجهاد في سبيل الله. وليس في سبيل الأرض أو الوطن أو الجنس أو اللون أو الشخص أو.. أو.. الخ. وعلى المسلمين اليوم إدراك هذه المعاني والاستعلاء بأنفسهم وعقيدتهم من تمييع المائعين وكيد الكائدين، وأن يواجهوا كل موقف بما يمليه عليهم كتاب ربهم وسنة نبيهم، وليعلموا أنهم مفتقرون إلى معية الله وولايته لهم وأن كيد الشيطان كان ضعيفاً )(1).
__________
(1) 1- الولاء والبراء لمحمد سعيد القحطاني بتصرف يسير .(1/104)
مسألة : قد يقول قائل قولكم يجب النفير على الجميع حتى يدفع الكفار ويخرجوا من ديار المسلمين أمر عسير وصعب لأسباب منها : تفريغ للبقاع الإسلامية للعلمانيين وغيرهم , ومنها أن أرض الجهاد لا تتسع لعشر معشار المسلمين وغير ذلك . فنقول : لو طبق المسلمون أمر ربهم في النفير أسبوعاً واحداً لفلسطين فلن يبقى فيها أحد من اليهود , وكذلك في أفغانستان وكشمير والعراق والجزيرة وغيرها , ولكننا ننتظر في كل مرة و ننظر إلى البلد الإسلامي الذي وقع تحت سيطرة الكفار حتى يبتلع وتبدأ المآسي بعد أن يقتل مئات الآلاف من المسلمين , ثم نرثيه بخطب رنانة ودموع هنّانة وحوقلات وقليل من الدمعات إن وجدت وتأوهات كثيرة , والله لقد سئمنا من هذه المناظر ومن هذا الذل الذي تعيشه الأمة كما يقول القائد خطاب رحمه الله .
إن كثيرا من المسلمين وللأسف يفكرون بالإسلام تفكيراً قومياً فلا تتعدى نظراتهم الحدود الجغرافية التي رسمتها معاهدة سايكس –بيكو , أو خطها جون أنطوني البريطاني أو الفرنسي .إن ابن مدينة الرمثا الأردنية على حدود سورية , ليشعر بالانتماء ويشتد بتفكيره القومي إلى ابن العقبة الأردنية _التي تبعد أكثر من ستمائة كم – أكثر من ارتباطه بابن مدينة درعا السورية التي لا تبعد عشرة كيلوا مترات عن الرمثا(1). وقل مثل ذلك في كل بلاد المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله .
المسألة الثانية الجزية :-
أولاً : ممن تؤخذ الجزية ؟ وهل تؤخذ من العرب ؟
في الحديث دليل على أن الجزية تؤخذ من كل كافر كتابي أو غير كتابي عربي أو غير عربي لقوله "عدوك" وهو عام، وإلى هذا ذهب مالك والأوزاعي وغيرهما.
__________
(1) 4- الدفاع عن أراضي المسلمين بتصرف.(1/105)
وذهب الشافعي: إلى أنها لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس عرباً كانوا أو عجماً لقوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية} بعد ذكر أهل الكتاب، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" وما عداهم داخلون في عموم قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} وقوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}.
والذي يظهر عموم أخذ الجزية من كل كافر لعموم حديث بريدة. وأما الآية فأفادت أخذ الجزية من أهل الكتاب، ولم تتعرض لأخذها من غيرهم ولا لعدم أخذها، والحديث بين أخذها من غيرهم.
من حمل قوله صلى الله عليه وسلم "عدوك" على أهل الكتاب فقد أبعد النجعة ، ولا يخفى بطلان دعوى: أنه لم يبق بعد نزول آية الجزية إلا أهل الكتاب، بل بقي عباد النيران من أهل فارس وغيرهم، وعباد الأصنام من أهل الهند، وأما عدم أخذها من العرب فلأنها لم تشرع إلا بعد الفتح، وقد دخل العرب في الإسلام، وقد سبى صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك من العرب بني المصطلق وهوازن؛ وهل حديث الإستبراء إلا في سبايا أوطاس ؟ وسيأتي قريبا.
واستمر هذا الحكم بعد عصره صلى الله عليه وآله وسلم ففتحت الصحابة رضي الله عنهم بلاد فارس والروم، وفي رعاياهم العرب خصوصاً الشام والعراق ولم يفرقوا بين عربي وعجمي بل عمموا حكم السبي أو الجزية على جميع من استولوا عليه وإلى هذا المعنى جنح ابن القيم في الهدي ولا يخفى قوّته(1).
وقال الشيخ / المرداوي –رحمه الله- في (الإنصاف) 10/425 " قد تقدم أن مرجع الجزية والخراج إلى اجتهاد الإمام على الصحيح من المذهب فله أن يزيد وينقص على قدر ما يراه" وانظر كذلك (أحكام أهل الذمة) 1/36 وكذلك (الكافي) 5/584 .
ثانياً: من لا تجب عليه الجزية :-
قال ابن القيم –رحمه الله- في (أحكام أهل الذمة) 1/48 " ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا مجنون : هذا مذهب الأئمة الأربعة وأتباعهم" .ا.هـ
__________
(1) 3- ملخصا من سبل السلام للصنعاني .(1/106)
قال ابن المنذر : ولا أعلم عن غيرهم خلافهم . وقال أبو محمد (ابن قدامه) في (المغني) لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في هذا " ا.هـ (المغني 13/216) .
... قال ابن القيم –رحمه الله- 1/53,52 " ولا جزية على فقير عاجز عن أدائها : هذا قول الجمهور وللشافعي ثلاثة أقوال هذا أحدها .... والصحيح أنها لا تجب على عاجز عنها فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وإنما فرضها عمر –رضي الله عنه- على الفقير المعتمل لأنه يتمكن من أدائها بالكسب وقواعد الشريعة كلها تقتضي ألا تجب على عاجز كالزكاة والدية والكفارة والخراج(( لا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها)) (ولا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة)...ولا جزية على شيخ فانٍ ولا أعمى ولا مريض لا يرجى برؤه قد آيس من صحته وإن كانوا موسرين ، وهذا مذهب أحمد وأصحابه وأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد أقواله لأن هؤلاء لا يقتلون ولا يقاتلون فلا تجب عليهم الجزية كالنساء والذرية "ا.هـ وانظر كذلك (المغني)13/219 . و(الإقناع) 2/129.
أما الراهب المنقطع في الصومعة عن الناس لا تؤخذ منه إلا إذا خالط الناس :
قال ابن القيم –رحمه الله- في (أحكام أهل الذمة) 1/54 " فأما الرهبان فإن خالطوا الناس في مساكنهم ومعايشهم فعليهم الجزية باتفاق المسلمين وهم أولى بها من عوامهم فإنهم رؤوس الكفر وهم بمنزلة علمائهم وشمامستهم ا.هـ(1/107)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- ( الفتاوى 28/660 ) " وأما الراهب الذي يعاون أهل دينه بيده ولسانه مثل أن يكون له رأي يرجعون إليه في القتال أو نوع من التخصيص ، هذا يُقتل باتفاق العلماء إذا قدر عليه وتؤخذ منه الجزية وإن كان حبيساً ( منقطعا ً ) منفرداً في متعبده . فكيف بمن هم كسائر النصارى في معائشهم ومخالطتهم الناس .... فهؤلاء لا يتنازع العلماء في أنهم من أحق النصارى بالقتل عند المحاربة وبأخذ الجزية عند المسالمة وأنهم من جنس أئمة الكفر الذين قال فيهم الصديق – رضي الله عنه – ما قال وتلا قوله تعالى : ( فقاتلوا أئمة الكفر ) ... فهل يقول عالم : إن أئمة الكفر الذين يصدون عوامهم عن سبيل الله ويأكلون أموال الناس بالباطل ويرضون بأن يُتخذوا أرباباً من دون الله لا يقاتَلون ، ولا تؤخذ منهم الجزية مع كونها تؤخذ من العامة الذين هم أقل منهم ضرراً في الدين وأقل أموالاً ، لا يقوله من يدري ما يقول " ا.هـ .(1)
ثالثاً: وقت دفع الكافر الجزية للمسلمين :-
قال الإمام ابن القيم –رحمه الله- في (أحكام أهل الذمة) 1/46 " وتجب الجزية في آخر الحول ولا يطالبون بها قبل ذلك . هذا قول الإمام أحمد والشافعي . وقال أبو حنيفة : تجب بأول الحول.... قال الأكثرين ، لما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية على أهل الكتاب و المجوس لم يطالبهم بها حتى ضربها عليهم . ولا ألزمهم بأدائها في الحال وقت نزول الآية بل صالحهم عليها . وكان يبعث رسله وسعاته فيأتون بالجزية والصدقة عند محلهما واستمرت على ذلك سيرة خلفائه من بعده . وهذا مقتضى قواعد الشريعة وأصولها فإن الأموال التي تتكرر بمرور الأعوام إنما تجب في آخر العام لا في أوله كالزكاة والدية "ا.هـ
__________
(1) 1- وانظر ما قال الشيخ / الحجاوي في (الإقناع) 2/129 "ا.هـ .وما قال الشيخ / موفق الدين –رحمه الله- في (الكافي) 5/589 "(1/108)
رابعاً:- ما هي مصلحة المسلمين من أخذ الجزية ومصلحة الكافر من دفعها ؟ .
قال الإمام ابن القيم –رحمه الله- في كتابه (أحكام أهل الذمة) 1/30 " أما مصلحة أهل الإسلام فما يأخذونه من المال الذي يكون قوة للإسلام مع صغار الكفر وإذلاله وذلك أنفع لهم من الكافر بلا جزية . وأما مصلحة أهل الشرك فما في بقائهم من رجاء إسلامهم إذا شاهدوا أعلام الإسلام وبراهينه أو بلغتهم أخباره فلابد أن يدخل في الإسلام بعضهم : وهذا أحب إلى الله من قتلهم والمقصود إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله . ليس في إبقائهم بالجزية ما يناقض هذا المعنى . كما أن أهل الكتاب بالجزية بين ظهور المسلمين لا ينافي كون كلمة الله هي العليا وكون الدين كله لله فإن من كون الدين كله لله إذلال الكفر وأهله وصغاره وضرب الجزية على رؤوس أهله والرق على رقابهم فهذا من دين الله ولا يناقض هذا إلا ترك الكفار على عزهم وإقامة دينهم كما يحبون بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة – والله أعلم –"ا.هـ. انظر كذلك المغني 13/156
المسألة الثالثة:
تضمن الحديث النهي عن إجابة العدوّ إلى أن يجعل لهم الأمير ذمة الله وذمة رسوله بل يجعل لهم ذمته، وقد علله بأن الأمير ومن معه إذا نقضوا عهدهم، فهو أهون عند الله من أن يخفروا ذمته تعالى، وإن كان نقض الذمة محرماً مطلقاً.
وكذلك تضمن النهي عن إنزالهم على حكم الله، وعلله: بأنه لا يدري أيصيب فيهم حكم الله أم لا، فلا ينزلهم على شيء لا يدري أيقع أم لا؟ بل ينزلهم على حكمه وهو دليل على أن الحق في مسائل الاجتهاد مع واحد وليس كل مجتهد مصيباً للحق وهذا القول الأول في هذه المسألة .أهـ(1)
__________
(1) 2- ملخصاً من سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني .(1/109)
قال الإمام الشوكاني :قوله ذمة الله : الذمة عقد الصلح والمهادنة , وإنما نهي عن ذلك لئلا ينقض الذمة من لا يعرف حقها وينتهك حرمتها بعض من لا تمييز له من الجيش فيكون ذلك أشد لأن نقض ذمة الله ورسوله أشد من نقض ذمة أمير الجيش أو ذمة جميع الجيش وإن كان نقض الكل محرما .. وفيه دليل لمن قال إن الحق مع واحد...والحق أن كل مجتهد مصيب من الصواب لا من الإصابة ( وهذا القول الثاني في المسألة ), وقد قيل : أن هذا الحديث لاينتهض للاستدلال به على أن ليس كل مجتهد مصيباً , لأن ذلك كان في زمن النبي صلي الله عليه وسلم و والأحكام الشرعية إذ ذاك تنزل وينسخ بعضها بعضاً ويخصص بعضها ببعض , فلا يؤمن أن ينزل على النبي صلي الله عليه وسلم حكم خلاف الحكم الذي قد عرفه الناس ا.هـ(1/110)
والذي يظهر أن المقصود في هذه الواقعة أن يجتهد في الحكم عليهم إما بالأسر أو الفداء أو القتل أو الرق كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لمعاذ حينما أرسله إلى اليمن( بما تحكم فيهم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد قال أجتهد رأي ) والحديث صححه ابن تيمية وابن القيم وابن كثير والشوكاني والحق أنه ضعيف إذ مداره على الحارث بن عمرو قال الترمذي وليس إسناده عندي بمتصل وممن ضعفه البخاري والعقيلي والدارقطني وابن حزم وابن طاهر المقدسي وعبدالحق الأشبيلي وابن الجوزي والذهبي والله أعلم .وذلك يكون بالاستنباط من الكتاب والسنة وقياس الواقعة على ما يماثلها- وهو ما يسمي فقه النوازل- لا أن يشّرع نظاماً جديداً أو لجنة أو مادة أو مرسوماً أو يطبق قرارات الأمم الملحدة ( فإن ذلك منازعة لله عز وجل في خاصية من خصائصه ومن إدّعاها لنفسه فقد ألّه نفسه ونصبها نداً يعبد من دون الله لأنها من المعلوم من الدين بالضرورة فالله يقول{أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر}, فهو الحَكَمْ واليه يرجع الحكم والتشريع , { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } بل الأنبياء لا يحق لهم التشريع وإنما هم واسطة بين الخلق والخالق قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في رسالته تحكيم القوانين:
(إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين)(1).
يقول: العلامة ابن القيم في تفسير قوله تعالى:
{
__________
(1) 2- تحكيم القوانين (ص1) طبع سنة 1380 هـ مطابع الثقافة بمكة .(1/111)
تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (هذه التسوية إنما كانت في الحب والتأله وإتباع ما شرعوا، لا في الخلق والقدرة والربوبية، وهي العدل الذي أخبر به عن الكفار كقوله {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ}التفسير القيم (396).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (منهاج السنة): (ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر. فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير إتباع لما أنزل الله فهو كافر.ا.هـ)(1).
وقال أيضاً ( من عمل في الأرض بغير كتاب الله وسنة رسوله فقد سعى في الأرض فساداً ...وقد قال تعالى { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته ,فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ....) الفتاوى (28/471,470) .
مسألة :
قول الله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) .
سبب نزولها في اليهود حيث شرّعوا التحميم والجلد للمحصن ، وبدلوا شرع الله فأنزل الله تعالى الآيات الثلاث من سورة المائدة ، الحديث رواه مسلم .
وجاء في صحيح مسلم عن البراء بن عازب أنه سئل عنها فقال رضي الله عنه وأرضاه (في الكفار كلها)
فدل هذا على أن هذه الآية الأصل فيها أنها في الكفار . فكل من بدل دين الله أو شرع ما لم يأذن به الله فحكمه حكمهم .
__________
(1) 3- كتاب الولاء والبراء للدكتور محمد سعيد القحطاني بتصرف .(1/112)
والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما ذكر ذلك العلماء ، قال الحسن نزلت في اليهود وهي فينا واجبة.
فيجب عليك أخي طالب العلم أن تفرق بين حاكمٍ الأصل في حكمه الحكم بالقوانين الوضعية الكافرة وبين حاكمٍ يحكم بشرع الله ولكن في بعض القضايا يحكم بغير ما أنزل الله .
ثم أعلم أنه لو شرع قانوناً واحداً فهو كافر بالله العظيم قال الشيخ محمد بن ابراهيم رحمه الله " لو قال من حكّم القانون أنا أعتقد أنه باطل فهذا لا أثر له ، بل هو عزل للشرع كما لو قال أحد أنا أعبد الأوثان وأعتقد أنها باطل .أهـ. الفتاوى 6/189
وأعلم أن مناط تكفير من حكم بغير ما أنزل الله ليس الإستحلال فقط ، بل مجرد التشريع فقط كفر مخرج من الإسلام قال تعالى ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) فالمستحل كافر والمشرع كافر ومن أراد التحاكم إلى غير الشرع ولو لم يتحاكم فهو كافر قال تعالى ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم أمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ) .
وما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال ليس الكفر الذي تذهبون إليه إنما هو كفر دون كفر .
هذا الآثر ضعيف في إسناده هشام بن حجير ضعفه أحمد وابن معين .
وخالفه طاووس فروى عن أبيه عن ابن عباس قال هو كفر ، وما يروى عن السلف أنه كفر دون كفر هذا صحيح وهو متجه للحاكم المسلم والقاضي المسلم الذي يحكم بشرع الله وهذا هو دينه كما قال أبو مجلز ولكن في بعض القضايا يحكم بالرشوة والشهوة فهذا لا يكفر حتى يستحل لأن فعله معصية ، وعليه تحمل جميع أقوال العلماء التي أ شترطت الإستحلال .
أما التشريع فلا ، وهذا هو حال طواغيت اليوم يشرعون من دون الله ويحتكمون لهيئة الأمم المتحدة وهي ربهم الذي يطيعونه في التحليل والتحريم .(1/113)
قال تعالى ( و لا يشرك في حكمه أحدا ) وفي قراءة ابن عامر وهي قراءة سبعيه ( و لا تشرك في حكمه أحداً ) قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ( والشرك في التشريع كالشرك في العبادة ) ويقول رحمه الله ( وعلى كل حال فلا شك أن من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله فقد أشرك به مع الله ) 4/ 173 ، وقال رحمه الله في تفسير قوله تعالى ( إن هذا القران يهدي للتي هي أقوم ) ومن هديه للتي هي أقوم أن كل من اتبع تشريعاً غير التشريع الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح مخرج من الملة الإسلامية ) .
قال ابن أبي شيبة ثنا علي بن مسهر عن الأعمش عن عمارة قال : نزل معضد إلى جنب شجرة فقال : ( والله ! ما أبالي صلّيت لهذه من دون الله أو أطعت مخلوقاً في معصية الله ) رجاله ثقات . قلت يعني في التشريع .
قال شيخنا سليمان العلوان حفظة الله تعالى " ومسألة التشريع " من المسائل الظاهرة التي لا يعذر بها أحد مطلقاً .
لذلك يا طالب الحق أبصر الحق ، فالحق أبلج والباطل لجلج ، فهذه الدولة السعودية عضو مؤسس لهيئة الأمم المتحدة ( المشرعة من دون الله تعالى ) وأنظر إلى نظام العمل والعمال والغرفة التجارية ومحكمة وزارة الإعلام والشرطة العسكرية فكل هذه قوانين مشرعة مضادة لشرع الله تعالى ، وأنظر إلى محاكم الروافض الشركية في الأحساء ، وأنظر كيف تؤمن هذه الدولة للروافض الأمن حتى يؤدوا الشرك الأكبر " شرك القبور " في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيرها .
تنبيه :
قال الشنقيطي في أضواء البيان (4/82): (تنبيه: اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السموات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك،
وإيضاح ذلك أن النظام قسمان ؛ إداري وشرعي :(1/114)
- أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع فهذا لا مانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة فمن بعدهم، وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط ومعرفة من غاب ومن حضر ... مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك صلى الله عليه وسلم، وكااشترائه – أعني عمر رضي الله عنه- دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجناً في مكة المكرمة ، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر(1)، فمثل هذه الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع لا بأس به كتنظيم شؤون الموظفين وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة.أهـ
وفي الحديث بيان موقف المسلم من الكافر الحربي :
[1] فإما أن يسلم ويصبح أخاً في الله له مالنا وعليه ما علينا .
[2] أو يدفع الجزية عن يد وهو صاغر إن أبى الإسلام .
[3] أو القتل إن أبى دفع الجزية .كما أفاده هذا الحديث .
مسألة :فإن قال قائل : الله يقول ( لا إكراه في الدين ) فكيف تلزم الكفار بالإسلام ؟.
نقول نعم, لا إكراه في الدين , لا نكره أحداً في دخول الإسلام , فإذا شاء أسلم وإن شاء أبى وكفر , ولكن نلزمه بدفع الجزية وإلا القتال وهو ظاهر حديث بريدة رضي الله عنه .
__________
(1) أما إذا وضع السجن كعقوبة قانونية وضعية تستبدل بالحدود والعقوبات الشرعية، فقد صار كما هو الواقع اليوم من التشريعات الطاغوتية الكفرية وليس من التراتيب والتنظيمات الإدارية، حيث كان قديماً يستعمل للحجر والتوقيف والتعزير ونحوه فقط ولا يستبدل بالحدود والعقوبات الشرعية.(1/115)
قال ابن جرير الطبري في تفسيره(3/19)" لا إكراه في الدين , إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حلَّ قبول الجزية منه بأدائه الجزية ورضاه بحكم الإسلام .........( لا إكراه في الدين ) لا يُكره أحد في دين الإسلام عليه " ا. هـ .
وقال في قوله تعالى ( لا إكراه في الدين ) مخصوصة بآية السيف .
{ وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله ..} فالحكم لابد أن يكون لله على جميع الخلق ولكن لا إكراه في الدخول إلى الإسلام فإذا سيطر سلطان المسلمين على منطقة ما فإن أهلها لا يجبرون على اعتناق عقيدة الإسلام، ولكن يجب أن يخضعوا لسلطانه، فإن أسلموا فلهم ما للمسلمين وإن طلبوا البقاء على ديانتهم فعليهم دفع الجزية للمسلمين وإلا فالسيف بينهم وبين المسلمين والله أعلم(1).
12 - َعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (2) . قال الصنعاني ورَّى : أي سترها بغيرها وقد جاء الاستثناء في ذلك بلفظ "إلا في غزوة تبوك إنه أظهر لهم مراده" وأخرجه أبو داود وزاد فيه: ويقول "الحرب خدعة".
وكانت توريته أنه إذا قصد جهة سأل عن طريق جهة أخرى إيهاماً أنه يريدها، وإنما يفعل ذلك لأنه أتم فيما يريده من إصابة العدو وإتيانهم على غفلة من غير تأهبهم له. وفيه دليل على جواز مثل هذا، وقد قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "الحرب خدعة". رواه مسلم.
ومن العجائب أن بعضهم يسب المجاهدين ويسكت عن المنكرات وأعظمها الكفر ويستدل بهذا الحديث ، فالحمد لله على نعمة العقل .
__________
(1) 1- وانظر كذلك تفسير ابن كثير(1/318) , و التنكيل لما في بيان المثقفين من الأباطيل للشيخ ناصر الفهد .
(2) 2 - صحيح. رواه البخاري ( 2947 )، ومسلم ( 2769 ) ( 54 ). ورى: أي سترها وأوهم غيرها.(1/116)
13 - َعَنْ مَعْقِلٍ; أَنَّ اَلنُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ اَلنَّهَارِ أَخَّرَ اَلْقِتَالِ حَتَّى تَزُولَ اَلشَّمْسُ, وَتَهُبَّ اَلرِّيَاحُ, وَيَنْزِلَ اَلنَّصْرُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ, وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ (1) . وَأَصْلُهُ فِي اَلْبُخَارِيِّ (2) .
قال الصنعاني في سبل السلام :
ولم يذكر ابن الأثير معقل بن مقرّن في الصحابة، إنما ذكر النعمان ابن مقرّن وعزا هذا الحديث إليه، وكذلك البخاري وأبو داود والترمذي أخرجوه عن النعمان بن مقرّن وراجعت التقريب للمصنف فلم أجد فيه صحابياً يقال له معقل ابن النعمان، ولا ابن مقرّن فتعين أن لفظ معقل في نسخ بلوغ المرام سبق قلم وهو ثابت فيما رأيناه من نسخه .
قال: وأصله في البخاري.فإنه أخرجه عن النعمان بن مقرّن بلفظ: "إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلاة "قالوا: والحكمة في التأخير إلى وقت الصلاة مظنة إجابة الدعاء.
وأما هبوب الرياح فقد وقع به النصر في الأحزاب كما قال تعالى: {فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها} فكان توخي هبوبها مظنة للنصر، وقد علل بأن الرياح تهب غالباً بعد الزوال فيحصل بها :
1-تبريد حدّ السلاح للحرب 2- والزيادة للنشاط . ولا يعارض هذا ما ورد من أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يغير صباحاً لأن هذا في الإغارة وذلك عند المصادفة للقتال.
__________
(1) 3- صحيح. رواه أحمد ( 5 / 444 - 445 )، وأبو داود ( 2655 )، والنسائي في "الكبرى" ( 5 / 191 )، والحاكم ( 2 / 116 ).
(2) 4 - رواه البخاري ( 3160 ) عنه قال: "ولكني شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح، وتحضر الصلوات".(1/117)
14 - وعنْ اَلصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اَلدَّارِ مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ. (1) . يُبَيِّتُونَ, فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِم وَذَرَارِيهِمْ, فَقَالَ: "هُمْ مِنْهُمْ". متَّفَقٌ عَلَيْهِ (2)
ووقع في صحيح ابن حبان أن السائل هو الصعب ولفظه: سألت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وساقه بمعناه .وفي لفظ البخاري: عن أهل الدار وهو تصريح بالمضاف المحذوف.
قال في موسوعة الجهاد :
التّبييت لغةً : مصدر بيّت الأمر إذا دبّره ليلاً ، وبيّت النّيّة على الأمر : إذا عزم عليه ليلاً فهي مبيّتة بالفتح . وبيّت العدوّ : أي داهمه ليلاً . وفي التّنزيل العزيز { إذْ يُبَيِّتُون ما لا يرضى من القولِ } وفي السّيرة : « هذا أمر بُيِّتَ بليل » . والتّبييت في الاصطلاح بمعناه اللّغويّ ، والبيات اسم المصدر ، ومنه قوله تعالى : { أَفَأمِنَ أهلُ القرى أن يأتيَهم بَأسُنا بَيَاتَاً وهم نائمون } .
يطلق العرب البيات أو التّبييت على الإغارة على العدوّ ليلاً .
وفي التّنزيل : { قالوا تقاسَمُوا باللّه لَنُبَيِّتَنَّهُ وأهلَه ثمّ لنقولَنّ لوليّه ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أهلِه وإنّا لصادقون } فالفرق بين تبييت العدوّ وبين الإغارة عليه : أنّ الإغارة مطلقة ، إذ تكون ليلاً أو نهاراً ، أمّا التّبييت فهو في اللّيل .
قال الصنعاني والتبييتُ: الإغارة عليهم في الليل على غفلة مع اختلاطهم بصبيانهم ونسائهم فيصاب النساء والصبيان من غير قصد لقتلهم ابتداء ا.هـ.
__________
(1) - كذا في "الأصل" ، وفي البخاري: " عن أهل الدار من المشركين" . وفي النسخة " أ" : " عن الذراري من المشركين" وهي رواية مسلم.
(2) - صحيح رواه البخاري ( 6 / 146 / فتح )، مسلم ( 1745 ). يبيتون: أي يغار عليهم بالليل.(1/118)
ويرى بعض الفقهاء : أنّ أهل الكتاب والمجوس لا تجب دعوتهم قبل القتال ، لأنّ الدّعوة قد بلغتهم ، ولأنّ كتبهم قد بشّرت بالرّسالة المحمّديّة . ويدعى عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا .
وهذا الحديث أخرجه ابن حبان من حديث الصعب وزاد فيه: "ثم نهى عنهم يوم حنين" وهي مدرجة في حديث الصعب ففي سنن أبي داود زيادة في آخره. قال سفيان: قال الزهري: ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد ذلك عن قتل النساء والصبيان . فإنها من مراسيل الزهري وهي أوهى المراسيل كما لا يخفى ولذا فهي زيادة ضعيفة.
وأما ما في البخاري قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأحدهم: "إلحق خالداً فقل له: لا تقتل ذرّية ولا عسيفاً". فهو محمول على قصد النساء والصبيان وحديث الصعب على قتلهم تبعاً لاقصداً فإنه يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً هذا إذا لم تكن المرآة مقاتله وإلا جاز قتلها حينئذٍ قصداً والله أعلم .
ومثله ما أخرج الطبراني في الأوسط من حديث عمر قال: لمّا دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة أتي بامرأة مقتولة فقال: "ما كانت هذه تقاتل" ونهى عن قتل النساء.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة :
1- ذهب الجمهور: إلى جواز قتل النساء والصبيان في البيات عملاً برواية الصحيحين.وقوله "هم منهم" أي في إباحة القتل تبعاً لا قصداً إذا لم يمكن انفصالهم عمن يستحق القتل.قال الشوكاني :قوله هم منهم : أي في الحكم في تلك الحالة وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى المشركين إلا بوطء الذرية فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم .وفي الحديث دليل على أنه يجوز تبييت الكفار قال الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم في الغارة بالليل وأن يبيتوا وكرهوا بعضهم, قال أحمد وإسحاق لابأس أن يبيت العدو ليلا .اهـ نيل الأوطار.(1/119)
2-وذهب مالك والأوزاعي: إلى أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال، حتى إذا تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان أو تحصنوا بحصن أو سفينة هما فيهما لم يجز قتالهم ولا تحريقهم.
وإليه ذهب بعضهم إلا أنهم قالوا في التترس: يجوز قتل النساء والصبيان حيث جعلوا ترساً، ولا يجوز إذا تترسوا بمسلم إلا مع خشية استئصال المسلمين. ونقل ابن بطال وغيره اتفاق الجميع على عدم جواز القصد إلى قتل النساء والصبيان للنهي عن ذلك , وفي قوله "هم منهم" . قال الشوكاني :( أي في الحكم في تلك الحالة , وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم ؛ بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى المشركين إلا بوطء الذرية فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم ) ا.هـ
وفي الحديث دليل علي جواز العمليات الإستشهادية . قال الإمام العلامة حمود بن عقلا الشعيبي رحمه الله تعالى في فتوى بجواز العمليات الإستشهادية مسألة البيات :
ويقصد بها تبييت العدو ليلا وقتله والنكاية فيه وإن تضمن ذلك قتل من لا يجوز قتله من صبيان الكفار ونسائهم , قال ابن قدامة : يجوز تبييت العدو , وقال أحمد : لا بأس بالبيات وهل غزو الروم الإ البيات , وقال : لا نعلم أحداً كره البيات . المغني مع الشرح (10/503) .ووجه الدلالة أنه إذا جاز قتل من لا يجوز قتله من أجل النكاية في العدو وهزيمته فيقال : وكذلك ذهاب نفس المجاهد المسلم التي لا يجوز إذهابها , لو ذهبت من أجل النكاية جاز أيضاً, ونساء الكفار وصبيانهم في البيات قتلوا بأيدي من لا يجوز له فعله لولا مقاصد الجهاد والنيات ] ا.هـ.(1/120)
15- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا; أَنَّ اَلنَّبِيَّ قَالَ لِرَجُلٍ تَبِعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: " اِرْجِعْ. فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ولفظه عن عائشة قالت: "خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل بدر فلما كان بحرّة الوبرة أدركه رجل قد كان تُذكر فيه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: جئت لأتبعك وأصيب معك قال أتؤمن بالله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، فلما أسلم أذن له".
مسألة الإستعانة بالمشرك على المشرك وهي على أقوال :
القول الأول : لا يجوز الإستعانة بالمشركين في القتال وهو قول الإمام مالك وطائفة من أهل العلم وهو الراجح وأدلتهم:
1- حديث الباب الذي أورده المصنف ( فارجع فلن أستعين بمشرك ) وهو نص في المسألة . 2
__________
(1) - صحيح. رواه مسلم ( 1817 ) وهو بتمامه: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك، وأصيب معك. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تؤمن بالله ورسوله ؟" قال: لا. قال: ..... فذكر الحديث. وزاد: قالت: ثم مضى، حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل. فقال له كما قال أول مرة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة. قال: " فارجع. فلن أستعين بمشرك" ثم رجع فأدركه بالبيداء. فقال له كما قال أول مرة: " تؤمن بالله ورسوله ؟" قال: نعم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فانطلق".(1/121)
2- وروى أحمد والطبراني والشافعي والبيهقي والحاكم من حديث خبيب بن عبد الرحمن (إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين) قال الهيثمي في مجمع الزوائد : رجال أحمد والطبراني ثقات .
3-أن أدلة المجيزين التي استدلوا بها مراسيل ضعيفة لا تقوم بها حجة ولا تعارض الأحاديث الصحيحة .
4-وعلى فرض صحتها فإنه عليه الصلاة والسلام لم يستعن بهم في القتال بل في استعارة بعض الأسلحة كما هو الحال مع صفوان فلم يشترك في القتال بل استعار منه أدرعه , وشراء الأسلحة من الكفار أو استعارتها منهم شيء والاستعانة بهم في القتال شيء آخر وهذا بيّن كما في قوله (إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين).
( قال ابن عبد البر في التمهيد :
وأما شهود صفوان بن أمية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا والطائف وهو كافر فإن مالكا قال لم يكن ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقال مالك ولا أرى أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إلا أن يكونوا خدما أو نواتية.
قال أبو عمر : وفيه جواز العارية والاستعارة وجواز الاستمتاع بما استعير إذا كان على المعهود مما يستعار مثله وحديث صفوان هذا في العارية أصل في هذا الباب .
وأما ما روي أنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أبي سفيان للخروج إليه يوم أحد انطلق وبعث إلى بني النضير وهم زفر فقال لهم إما وإما أعرتمونا سلاحا فقد قال الثوري والأوزاعي أنهم أهل ذمة ولذا قالوا يسهم لهم, وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يسهم لهم ولكن يرضخ لهم )ا.هـ.
5-وحتى الذين أجازوا الاستعانة جعلوا لها شروط ومن هذه الشرط أن يكون مأمون الجانب أو حسن الرأي في المسلمين وهذه يصعب توفرها في كفار زماننا الذين يكيدون للمسلمين في كل مكان .
القول الثاني :قال الصنعاني في سبل السلام :
ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم إلى جواز ذلك وأدلتهم :(1/122)
1- أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم استعان بصفوان بن أمية يوم حنين . واستعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم. أخرجه أبو داود في المراسيل.وأخرجه الترمذي عن الزهري مرسلاً، ومراسيل الزهري ضعيفة. قال الذهبي: لأنه كان خطاّء ففي إرساله شبهة تدليس. وقال البيهقي: تفرد بهذا الحسن بن عمارة وهو متروك . قال والصحيح : وساق بسنده إلى أبي حميد الساعدي قال (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خلف ثنية الوداع إذا كتيبة قال : من هؤلاء ؟ قالوا بنو قينقاع رهط عبد الله بن سلام . قال : أو تسلمون ؟ قالوا لا : فأمرهم أن يرجعوا وقال ( إنا لا نستعين بالمشركين ) فأسلموا .
2- وبأن الذي ردّه يوم بدر تفرس فيه الرغبة في الإسلام فردّه رجاء أن يسلم، فصدق ظنه. قال الشوكاني في نيل الأوطار : وفيه نظر ؛ لأن قوله ( لا أستعين بمشرك ) نكرة في سياق النفي تفيد العموم ا.هـ
3-أن الاستعانة كانت ممنوعة فرخص فيها. وقد استعان يوم حنين بجماعة من المشركين تألفهم بالغنائم.انتهى.
وقد اشترط بعضهم أن يكون معه مسلمون يستقل بهم في إمضاء الأحكام.قلت : لأنه مسلم ولن يستطيع تنفيذ أحكام الإسلام مالم يكن معه مسلمون وهذا شرط فيمن يصحب الحاكم من المقاتله فكيف بالحاكم فإنه لا يصح عقده مالم يكن مسلما, وقال الشافعي إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة استعين به وإلا فيكره.
قال ابن عبد البر في التمهيد : وقال الشافعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابهم لا بأس بالإستعانة بأهل الشرك على قتال المشركين إذا كان حكم الإسلام هو الغالب عليهم وإنما تكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر .
قلت وهذا ظاهر أنهما قصدا أهل الذمة الذين تحت سلطان الإسلام .(1/123)
قال شيخنا العلامة على بن خضير الخضير نفع الله بعلمه ونصره وأيده في فتواه ( الراية) وهي عن القتال في العراق : وكل الحالات التي ذكر أهل العلم فيها الإستعانة أو إعانة كفار على كفار على تقدير صحتها ومشروعيتها فيها الأمور التالية :
? لابد أن يكون المسلمون أقوياء ويدهم هي الغالبة , كما حصل في تعاون الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة , وهم أهل ذمة تحت حكم الرسول صلى الله عليه وسلم , ومقهورون بحكمه .
? أو على أقل تقدير للمسلمين قوة وشوكة يمنعون عن أنفسهم غلبة الكفار الذين استنصروا بهم , لو صالوا عليهم أو على دينهم .
? أو ضعفاء لكن مع كافر مسالم غير صائل عليهم وغير ملتزم لحربهم قبل وبعد .
? ويكون الكافر حسن الظن بالمسلمين وتؤمن خيانته .
وكل واحدة مما سبق ليست موجودة في نازلة المسلمين في العراق , فكيف يقاس وينزل على مفترق ؟ .
وعدم تصور المسائل على حقيقتها يؤدي إلى الوقوع في مزالق وسوف أذكر أمثلة معاصرة لنوع من هذه المسائل , وهي تنزيل لكلام أهل العلم القدماء على نوازل حديثة لا تنطبق عليها :
1- فتوى الشيخ محمد بن على العجلان لما أفتى لأحد الأمراء وهو أمير ضعيف أن يستعين ويستنصر بالمشركين وعباد القبور وهم أقوياء ويدهم الغالبة ضد البغاة واستدل على ذلك بالضرورة ولم يدرك حقيقة الموقف , وإنما حقيقة الموقف أن جاء عسكر المشركين وهم أقوياء بذريعة الدفاع عن أمير ضعيف مظلوم ثم سطوا على الأحساء وحكموها بالقانون , والأمير الذي استنصر بهم وقاتل تحت رايتهم أمير ضعيف لا يستطيع أن يمنع الكفر الذي نشروه , فما هي الفائدة من استنصار ضعيف بقوي أدى ذلك إلى فرض الكفر .(1/124)
فرد عليه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في مجموع الرسائل والمسائل النجدية 3/65, ووضح هذه المسألة وقال إن حقيقة الفتوى ليست مسألة استنصار , بل هي تولية وجلب وتمكين للكفار إلى دار إسلامية حكموا فيها بالطاغوت وهدموا شعائر الإسلام , وجعل فتوى ابن عجلان سلما لولاية المشركين , وسبباً لارتداد المرتدين وذريعة لتعطيل الدين . وقال في 3/59 إن حقيقة فتوى ابن عجلان تسليط عسكر المشركين على بلاد الإسلام ( راجع 3/64) وقال عنها 3/37 إن رسالة ابن عجلان فيها الاستدلال على جواز خيانة الله ورسوله وتخلية بلاد المسلمين وتسليط أهل الشرك عليها بمسألة خلافيه في جواز الاستعانة بمشرك ليس له دولة ولا صولة ولا دخل في الرأي .
2- مثلها أحداث الخليج لما جاء حزب البعث الكافر إلى الكويت , ثم استنصر حكام الخليج الضعفاء بأمريكا وحلفائها الصليبيين ولهم أطماع في الخليج , وقاتلوا تحت راية الكفار , وأفتى من أفتى بالجواز بدعوى الضرورة والله يغفر لنا ولهم , وكان حقيقة الإستعانة تمكين أمريكا الكافرة من السيطرة على الخليج .
3- ومثل من لم يعرف حقيقة الموقف فأفتى بجواز الصلح مع يهود بدعوى الضرورة ودعوى تنزيله على صلح الحديبية , وحقيقة الموقف أنه استسلام وتمكين لليهود الأقوياء من فلسطين , وإلغاء البراء منهم ومحاولة لإزالة روح العداء مع اليهود .. ا.هـ
وقد فصّل الإمام حمود العقلا الشعيبي في رسالته القيمة ( القول المختار في حكم الإستعانة بالكفار ) وبين تحريم الإستعانة بالكفار وذكر الأدلة على ذلك فرحمه الله رحمة واسعة فليراجعها من أراد مزيد بسط للمسألة , وأما الإستعانة بالمنافق فيجوز إجماعاً لاستعانته صلى الله عليه وآله وسلم بعبد الله بن أبيّ وأصحابه.
مسألة مهمة :(1/125)
ومما يجب على المسلم الموحد معرفته أن الخلاف بين أهل العلم إنما هو في جواز الاستعانة بالكافر على الكافر أما مسألة الاستعانة بالكافر على المسلم أو مناصرة الكفار ومظاهرتهم ومعاونتهم على المسلمين فإنها ردة وكفر وخروج من الملة ولاحول ولا قوة إلا بالله وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم منهم ابن حزم وابن تيمية وغيرهما وعده الإمام محمد بن عبد الوهاب الناقض الثامن من نوا قض الإسلام(1). ولهذا كان كل من أعان أمريكا في حربها على الإسلام بمسمى حرب الإرهاب سواء في أفغانستان أو العراق أو غيرها كتحالف الشمال بقيادة مسعود ورباني وسياف أو باكستان أو تركيا أو أي دولة عربية أو خليجية أو غيرها فهم كفار مرتدون بذلك.
16 - وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا; أَنَّ رَسُولَ اَللَّه صلى الله عليه وسلم رَأَى اِمْرَأَةً مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ, فَأَنْكَرَ قَتْلَ اَلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (2) . قال صاحب سبل السلام : وقد أخرج أبو داود في المراسيل عن عكرمة: أنه صلى الله عليه وآله وسلم "رأى امرأة مقتولة بالطائف فقال: ألم أنه عن قتل النساء؟ من صاحبها؟ فقال رجل: يا رسول الله أردفتها فأرادت أن تصرعني فتقتلني فقتلتها فأمر بها أن توارى"
__________
(1) 1- ومن هنا تعلم فساد فتوى من أفتي بجواز قتال الجندي الأمريكي المسلم إخوانه المسلمين في أفغانستان والعراق . فضلاً عن مناصرة الأمريكان على المسلمين .أنظر التبيان في كفر من أعان الأمريكان للشيخ المجاهد ناصر الفهد فك الله أسره .
(2) - صحيح. رواه البخاري ( 3014 )، ومسلم ( 1774 )، وفي رواية لهما أيضاً: " فنهى عن قتل النساء والصبيان".(1/126)
ومفهوم قوله "تقاتل" وتقريره لهذا القاتل يدل على أنها إذا قاتلت قتلت وإليه ذهب الشافعي، واستدل أيضاً بما أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث رباح بن ربيع التميمي قال: كنا مع رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في غزوة فرأى الناس مجتمعين فرأى امرأة مقتولة فقال: "ما كانت هذه لتقاتل" ا.هـ ويقال في هذا ما قيل في حديث الصعب أن المرأة إذا قاتلت جاز قتلها ". قال الشوكاني في نيل الأوطار : ولهذا لم ينكر صلى الله عليه وسلم على قاتل المرأة التي أرادت قتله.ا.هـ وقد قتل عليه الصلاة والسلام المرأة القرظية لما قتلت رجلاً من المسلمين كما رواه احمد وأبو داود وغيرهم عن عائشة , ولذا فالإجماع قائم على أن المرأة إذا قاتلت قتلت , وأن علة المنع من قتلها أنها ليست من أهل القتال , فإذا قتلت جاز قتلها حينئذ .
17 -وَعَنْ سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم " اُقْتُلُوا شُيُوخَ اَلْمُشْرِكِينَ, وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ (1) والحديث جيد إن شاء الله .
قال الصنعاني في سبل السلام:شرخهم هم الصغار الذين لم يدركوا، ذكره في النهاية.
والشيخ من استبانت فيه السن أو من بلغ خمسين سنة أو إحدى وخمسين كما في القاموس، والمراد هنا الرجال المسان أهل الجلد والقوة على القتال ولم يرد الهرمى.ويحتمل أنه أريد بالشرخ من كان في أول الشباب فإنه يطلق عليه كما قال حسان: إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنوباً
فإنه يستبقى رجاء إسلامه كما قال أحمد بن حنبل: الشيخ لا يكاد يسلم والشباب أقرب إلى الإسلام فيكون الحديث مخصوصاً بمن يجوز تقريره على الكفر بالجزية..ا.هـ
__________
(1) - ضعيف. رواه أبو داود ( 2670 ) واللفظ له، والترمذي ( 1583 ) من طريق قتادة، عن الحسن، عن سمرة به .(1/127)
قال الشوكاني في نيل الأوطار: والشيخ المأمور بقتله في الحديث هو من بقي فيه نفع للكفار ولو بالرأي كما في دريد بن الصمة( فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من حنين بعث أبا عامر على جيش أوطاس فلقي دريد بن الصمة وقد كان نيف على المائة وقد أحضروه ليدبر لهم الحرب فقتله أبو عامر ) ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي موسى والقصة معروفة. قال احمد بن حنبل في تعليل أمره صلى الله عليه وسلم بقتل الشيوخ :إن الشيخ لا يكاد يسلم والصغير أقرب إلى الإسلام.ا.هـ
18 - وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُمْ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ . رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ (1) . وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُطَوَّلاً (2) .
وفي المغازي من البخاري عن علي أنه قال: أنا أول من يجثو للخصومة يوم القيامة؛ قال قيس: وفيهم أنزلت {هذان خصمان اختصموا في ربهم} قال: هم الذين تبارزوا في بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم تبارزوا وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. قال ابن كثير: والأحاديث والآثار في هذا كثيرة تدل على جواز المبارزة لمن عرف من نفسه بلاء في الحروب وشدة وسطوة.
أولا:الحديث دليل على جواز المبارزة وإلى ذلك ذهب الجمهور .
ثانيا: وذهب الحسن البصري إلى عدم جوازها .
ثالثا: وشرط الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق: إذن الأمير كما في هذه الرواية وهو الصواب .
__________
(1) - صحيح. رواه البخاري ( 3965 ).
(2) - صحيح. رواه أبو داود ( 2665).(1/128)
19 - وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ اَلْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ اَلْأَنْصَارِ, يَعْنِي: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ (1) قَالَهُ رَدًّا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَمَلَ عَلَى صَفِ اَلرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ . رَوَاهُ اَلثَّلَاثَةُ, وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ, وَابْنُ حِبَّانَ, وَالْحَاكِمُ (2) . أخرجه المذكورون من حديث أسلم بن يزيد أبي عمران قال: "كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى حصل فيهم، ثم رجع فيهم مقبلاً فصاح الناس: سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: أيها الناس إنكم تؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصره قلنا بيننا سراً: إن أموالنا قد ضاعت فلو أنا قمنا وأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكانت التهلكة الإقامة التي أردنا" وصح عن ابن عباس وغيره نحو هذا في تأويل الآية.
قلت وقد كان في هذه الغزوة المفسر ابن عباس والمحدثان الحافظان ابن عمر وأبو هريرة ولم ينكروا عليه فرحمهم الله جميعاً ذكره في البداية والنهاية .
وفيه دليل على جواز دخول الواحد في صف القتال ولو ظن الهلاك. وكأن القائل يقول: إن الغالب في واحد يحمل على صف كبير أنه يظن الهلاك.
وقال المصنف في مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو: أنه صرح الجمهور أنه إذا كان :
1-لفرط شجاعته .
2-وظنه أنه يرهب العدوّ بذلك .
__________
(1) - صحيح. رواه أبو داود ( 2665).
(2) - صحيح. رواه أبو داود ( 2512 )، والنسائي في "التفسير" ( 49 ) والترمذي ( 2972 )، وابن حبان ( 1667 )، والحاكم ( 2 / 275 ). وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب".(1/129)
3-أو يجري المسلمين عليهم، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن , خرّج أبو داود من حديث عطاء بن السائب, قال ابن كثير: ولا بأس به عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "عجب ربنا من رجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه فعلم ما عليه فرجع رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه".ا.هـ من سبل السلام.
وحديث الباب من أدلة جواز العمليات الإستشهادية بل نقل ابن النحاس في مشارع الأشواق (1/588) الإجماع علىجواز تقحم المهالك في الجهاد ونقل النووي في شرح مسلم (12/187) الإتفاق كذلك على جواز التغرير بالنفس في الجهاد ,وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (28/540) :وقد روى مسلم في صحيحه عن النبي صلي الله عليه وسلم قصة أصحاب الأخدود , وفيها : أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين .
قال سماحة الإمام حمود بن عقلاء الشعيبي رحمه الله : ووجه الاستشهاد في مسألة الحمل على العدو العظيم لوحده وكذا الانغماس في الصف وتغرير النفس وتعريضها للهلاك أنها منطبقة على مسألة المجاهد الذي غرر بنفسه وانغمس في تجمع الكفار لوحده فأحدث فيهم القتل والإصابة والنكاية ا.هـ(1/130)
وقد تجلت فيها هذه المقاصد وأكثر منها .فإن ما قام به المجاهدون في فلسطين والشيشان وكردستان والعراق وأفغانستان والجزيرة وغيرها خير شاهد وقد أثبتت هذه العمليات فعاليتها وظهرت ثمارها فهي أشد نكاية بإخوان القردة والخنازير من يهود وأمريكان وبأقل الخسائر قال تعالى { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون } .
فكل شيء يغيظ الكفار ويرعبهم ويرهبهم فهو من القوة التي امرنا بإعدادها ومن ذلك هذه العمليات الإستشهادية لاسيما في زمن تكالب فيه الأعداء وانظمت إليهم عصابة الحكام المنظمة في محاربة الإسلام واحتلال بلاد المسلمين في صورة من صور الاستعمار الجديدة حتى يخرجوا من فلسطين ويخرجوا من جزيرة العرب كما وصى بذلك الرسول صلي الله عليه وسلم وكانت من أخر وصاياه قبل موته , وحتى يخرجوا من كل بلاد المسلمين .
وقد أفتى بجواز هذه العمليات جمع من العلماء وعلى رأسهم الشيخ المجاهد الدكتور عبد الله عزام رحمه الله والإمام المجاهد الشيخ حمود العقلا رحمه الله وشيخنا العلامة علي الخضير وشيخنا البحاثة ناصر الفهد والشيخ المجاهد أحمد الخالدي والشيخ الدكتور عمر عبد الرحمن فك الله أسرهم وعذب من عذبهم , وشيخنا العلامة المحدث عبد الله السعد وشيخنا العلوان والشيخ المجاهد أسامة بن لادن والشيخ المجاهد أبو عمر السيف , وغيرهم من أهل العلم . قال سماحة الوالد الإمام حمود بن عقلا الشعيبي :
((1/131)
لابد أن تعلم أن هذه العمليات المذكورة من النوازل المعاصرة التي لم تكن معروفة في السابق بنفس طريقتها اليوم , ولكل عصر نوازله التي تحدث فيه , فيجتهد العلماء على تنزيلها على النصوص والعمومات والحوادث والوقائع المشابهة لها والتي أفتى بمثلها السلف , قال تعالى { ما فرطنا في الكتاب من شيء } وقال عليه الصلاة والسلام عن القرآن ( فيه فصل ما بينكم ) , وإن العمليات الإستشهادية المذكورة عمل مشروع وهو من الجهاد في سبيل الله إذا خلصت نية صاحبه وهو من انجح الوسائل الجهادية ومن الوسائل الفعالة ... وقال : ويدل على مشروعيتها أدلة من القرآن والسنة والإجماع ومن الوقائع والحوادث التي تنزل عليها وردت وأفتى فيها السلف ) ا.هـ من فتوى في جواز العمليات الإستشهادية في تاريخ 2/2/1422 .
20 - وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَرَقَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي اَلنَّضِيرِ, وَقَطَعَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) . قال الصنعاني : وقد كره ذلك الأوزاعي وأبو ثور واحتجا بأن أبا بكر رضي الله عنه وصى جيوشه أن لا يفعلوا ذلك.كما رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعي وأجيب بأنه رأى المصلحة في بقائها، لأنه قد علم أنها تصير للمسلمين فأراد بقاءها لهم وذلك يدور على ملاحظة المصلحة .
وذهب الجماهير إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو ، وعلى جواز إفساد أموال أهل الحرب بالتحريق والقطع لمصلحة، وفي ذلك نزلت الآية: {ما قطعتم من لينة} الآية قال المشركون: إنك تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع الأشجار وتحريقها. قال في معالم التنزيل: اللينة معناه النخلة الكريمة وجمعها لين .
__________
(1) - صحيح. رواه البخاري ( 4031 )، ومسلم ( 1746 ). وزادا: "وهي البويرة. فأنزل الله عز وجل: ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله".(1/132)
قال الشوكاني : والحديث المذكور فيه دليل على جواز التحريق في بلاد العدو .قال في الفتح :ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو.
وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه ألا يفعلوا شيئا من ذلك وأجاب الطبري بأن النهي محمول على القصد في ذلك بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في حال القتال كما وقع في نصب المنجنيق على الطائف وهو نحو مما أجاب به في النهي عن قتل النساء والصبيان وبهذا قال أكثر أهل العلم وقال غيره :إنما نهى أبو يكر عن ذلك لأنه قد علم أن تلك البلاد تفتح فأراد بقاءها على المسلمين.انتهى . ولا يخفى أن ما وقع من أبي بكر لا يصلح لمعارضة ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لما تقرر من عدم حجية قول الصحابي .ا.هـ من نيل الأوطار.
21 - وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ اَلصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم "لَا تَغُلُّوا; فَإِنَّ اَلْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي اَلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1)
تقدم أن الغلول: الخيانة. قال ابن قتيبة: سمي بذلك لأن صاحبه يغله في متاعه أي يخفيه، وهو من الكبائر بالإجماع كما نقله النووي، والعار: الفضيحة.
ففي الدنيا أنه إذا ظهر افتضح به صاحبه وأما في الآخرة فلعل العار ما يفيده ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وذكر الغلول وعظم أمره فقال: لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، على رقبته فرس له حمحمة يقول: يا رسول الله أغثني؛ فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك ... الحديث" وذكر فيه البعير وغيره.
فإنه دل الحديث على أنه يأتي الغال بهذه الشنيعة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، فلعل هذا هو العار في الآخرة للغال، ويحتمل أنه شيء أعظم من هذا.
__________
(1) - حسن. انظر "الأصل".(1/133)
قال الشوكاني : وأحاديث الباب تدل على تحريم الغلول من غير فرق بين القليل منه والكثير . ونقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر وقد صرح القرآن والسنة بأن الغال يأتي يوم القيامة والشيء الذي غلّه معه فقال الله تعالى { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} وثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال( لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس على رقبته شاة) الحديث انتهى.
ويؤخذ من هذا الحديث أن هذا ذنب لا يغفر بالشفاعة لقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا أملك لك من الله شيئاً". ويحتمل أنه أورده في محل التغليظ والتشديد، ويحتمل أنه يغفر له بعد تشهيره في ذلك الموقف.
والحديث الذي سقناه ورد في خطاب العاملين على الصدقات، فدل على أن الغلول عام لكل ما فيه حق للعباد وهو مشترك بين الغال وغيره.
مسألة :
هل يجب على الغال ردّ ما أخذ؟ قلت: قال ابن المنذر: إنهم أجمعوا على أن الغال يعيد ما غل قبل القسمة. وأما بعدها فقال الأوزاعي والليث ومالك: يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي، وكان الشافعي لا يرى ذلك وقال: إن كان ملكه فليس عليه أن يتصدق به وإن كان لم يملكه لم يتصدق به فليس له التصدق بمال غيره، والواجب أن يدفعه إلى الإمام كالأموال الضائعة(1).
__________
(1) 1- ملخصا من سبل السلام وبمثله قال الشوكاني في نيل الأوطار.(1/134)
22- وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِك ٍأَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (1) . وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ (2) . السلب هو ما يوجد مع المحارب من ملبوس وأداة حرب وغيرها , فما أجلب به المقتول من ملبوس ومركوب وسلاح لا ما كان باقياً في بيته . فالقاتل يستحق جميع السلب وإن كان كثيراً حتى الدابة كما في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع في قصة قتله صاحب الجمل أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال ( من قتل الرجل ؟ فقالوا : سلمة بن الأكوع , قال له سلبه أجمع ) فكل شيء وجد مع المقتول وقت القتل سلب ,سواء كان مما يظهر أو يخفى وهو الظاهر من هذا الحديث المؤكد بلفظ أجمع(3).
مسألة : هل يجب استئذان الإمام في أخذ السلب أم لا ؟
القول الأول: قالوا في الحديث دليل على أن السلب الذي يؤخذ من العدو الكافر يستحقه قاتله سواء قال الإمام قبل القتال: من قتل قتيلاً فله سلبه، أو لا، وسواء كان القاتل مقبلاً أو منهزماً، وسواء كان ممن يستحق السهم في المغنم أو لا، إذ قوله: "قضى بالسلب للقاتل" حكم مطلق غير مقيد بشيء من الأشياء.
قال الشوكاني في نيل الأوطار : وقد ذهب الجمهور إلى أن القاتل يستحق السلب , سواء قال أمير الجيش قبل ذلك من قتل قتيلاً فله سلبه أم لا .ا.هـ
قال الصنعاني في السبل : قال الشافعي: وقد حفظ هذا الحكم عن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في مواطن كثيرة:
1- منها يوم بدر حكم بسلب أبي جهل لمعاذ بن الجموح لما كان هو المؤثر في قتل أبي جهل.
2- وكذا في قتل حاطب ابن أبي بلتعة لرجل يوم أُحد أعطاه النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سلبه. رواه الحاكم والأحاديث في هذا الحكم كثيرة.
__________
(1) - صحيح. رواه أبو داود ( 2719 ) في حديث طويل.
(2) - صحيح. رواه مسلم ( 1753 ) ( 44 ).
(3) 4- نيل الأوطار للشوكاني .(1/135)
3 -وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم حنين "من قتل قتيلاً فله سلبه" بعد القتال لا ينافي هذا، بل هو مقرر للحكم السابق فإن هذا كان معلوماً عند الصحابة من قبل حنين، ولذا قال عبد الله بن جحش: اللهم ارزقني رجلاً شديداً أقاتله ويقاتلني ثم ارزقني عليه الصبر حتى أقتله وآخذ سلبه أخرجه الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح.
القول الثاني : قول أبي حنيفة وغيره : إنه لا يكون السلب للقاتل إلا إذا قال الإمام قبل القتال مثلاً: من قتل قتيلاً فله سلبه وإلا كان السلب من جملة الغنيمة بين الغانمين ، وهو قول لا توافقة الأدلة،
وقال الطحاوى: ذلك موكول إلى رأي الإمام، فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أعطى سلب أبي جهل لمعاذ بن الجموح بعد قوله له ولمشاركه في قتله كلاكما قتله لما أرياه سيفيهما.
وأجيب عنه بأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إنما أعطاه معاذاً لأنه الذي أثر في قتله لما رأى عمق الجناية في سيفه، وأما قوله: كلاكما قتله فإنه قاله تطييباً لنفس صاحبه.
مسألة :
وأما تخميس السلب الذي يعطاه القاتل فعموم الأدلة من الأحاديث قاضية بعدم تخميسه وبه قال أحمد وابن المنذر وابن جرير وآخرون، كأنهم يخصصون عموم الآية، فإنه أخرج حديث عوف بن مالك أبو داود وابن حبان بزيادة "ولم يخمس السلب" وكذلك أخرجه الطبراني.
مسألة :واختلفوا هل تلزم القاتل البينة على أنه قتل من يريد أخذ سلبه؟ :
1- فقال الجمهور : إنه لا يقبل قوله إلا بالبينة لورود ذلك في بعض الروايات بلفظ "من قتل قتيلاً عليه بينة فله سلبه". وهو حجة في المسألة وهو الحق .
2- وقال مالك والأوزاعي: يقبل قوله بلا بينة، قالوا: لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد قبل قول واحد ولم يحلفه بل اكتفى بقوله، وذلك في قصة معاذ بن الجموح وغيرها فيكون مخصصاً لحديث الدعوى والبينة .(1/136)
لذلك إذا قتلت أمريكياً أو بريطانياً أو غيرهم ولك عليه بينة فسلبه وما تجده معه هو لك أيها المجاهد من سلاح شخصي ( كلاشنكوف أو مسدس أو ذخيرة شخصية أو قنابل يدوية أو دولارات في جيبه وملابسه ) أو غير ذلك فهي لك , ونقل ابن عطية المفسر عن أكثر الفقهاء أن البينة هنا يكفي فيها شاهد واحد , أما المعدات الكبيرة والدبابات والمدافع فهذه تعود في الغنيمة .
3- وَعَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي - قِصَّةِ قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ - قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ, ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَأَخْبَرَاهُ, فَقَالَ: "أَيُّكُمَا قَتَلَهُ? هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا ?" قَالَا: لَا. قَالَ: فَنَظَرَ فِيهِمَا, فَقَالَ: "كِلَاكُمَا قَتَلَهُ, سَلْبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِوِ بْنِ اَلْجَمُوحِ" . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) .
(قوله : فابتدراه) تسابقا إليه ، وقوله :( فنظر فيهما) أي في سيفيهما :
استدل به على أن للإمام أن يعطي السلب لمن شاء وأنه مفوض إلى رأيه لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن ابني عفراء قتلا أبا جهل ثم جعل سلبه لغيرهما،
قال الشوكاني : أجاب الجمهور بأن في السياق دلالة على أن السلب يستحقه من أثخن في الجرح ولو شاركه غيره في الضرب والطعن .ا.هـ
قال الصنعاني :وإنما حكم به صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لمعاذ بن عمرو بن الجموح لأنه رأى أثر ضربته بسيفه هي المؤثرة في قتله لعمقها فأعطاه السلب، وطيب قلب ابني عفراء بقوله: كلاكما قتله.. وإلا فالجناية القاتلة له ضربة معاذ بن عمرو ا.هـ
__________
(1) - صحيح. رواه البخاري ( 3141 )، ومسلم ( 1752 )، وقد ساقه الحافظ هنا مختصراً.(1/137)
24 - وَعَنْ مَكْحُولٍ; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَبَ اَلْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ اَلطَّائِفِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "اَلْمَرَاسِيلِ" وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. (1)
وَوَصَلَهُ الْعُقَيْلِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ (2) . قلت وعليه العمل عند أهل العلم .
مكحول هو أبو عبد الله مكحول بن عبد الله الشامي كان من سبي كابل(3)، وكان مولى لامرأة من قيس وكان سندياً لا يفصح، وهو عالم الشام ولم يكن أبصر منه بالفتيا في زمانه، سمع من أنس بن مالك وواثلة وغيرهما، ويروي عنه الزهري وربيعة الرأي وعطاء الخراساني، مات سنة ثمان عشرة ومائة .
وقال السهيلي: ذكر الرمي بالمنجنيق الواقدي كما ذكره مكحول وذكر أن الذي أشار به سلمان الفارسي وفي الصحيحين من حديث ابن عمر حاصر أهل الطائف شهراً. وفي مسلم من حديث أنس أن المدة كانت أربعين ليلة.
وفي الحديث دليل أنه يجوز قتل الكفار إذا تحصنوا بالمنجنيق ويقاس عليه غيره من المدافع ونحوها(4).
__________
(1) - ضعيف. رواه أبو داود في "المراسيل" ( 335 ) من طريق سفيان، عن ثور، عن مكحول، به. وهو وإن كان صحيح السند، فهو ضعيف؛ لأنه مرسل. وروي أيضاً بسند صحيح، عن الأوزاعي قال: قلت ليحيى بن أبي كثير: أبلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق؟ فأنكر ذلك. وقال: ما يعرف هذا.
(2) - منكر. رواه العقيلي في" الضعفاء الكبير" ( 2 / 244 ) وفي سنده عبد الله بن خرا ش قال عنه أبو حاتم ( 2 / 2 / 46 ): "منكر الحديث، ذاهب الحديث، ضعيف الحديث".
(3) وهذه واحدة من بركات الجهاد أن هذا السبي صار إماماً من أئمة المسلمين
(4) 2- سبل السلام للأمير الصنعاني .(1/138)
ومثله ما قام به الأبطال المجاهدون في غزوتي نيويورك وواشنطن المباركة وقد عملوا بحديث الصعب في البيات وهذا الحديث كذلك كما قال الإمام أحمد وإسحاق : وهل غزو الروم إلا البيات , فهم لم يتجاوزوا الدليل كما يقوله من طمس الله بصيرته ممن يتبنى الدفاع عن الكفار وأذنابهم من الطواغيت.
25 - وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ اَلْمِغْفَرُ, فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ, فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ اَلْكَعْبَةِ, فَقَالَ: "اُقْتُلُوهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) .
(المغفر) في القاموس المغفر كمنبر زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة أو حلق يتقنع بها المتسلح .
أولاً : فيه دليل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة غير محرم يوم الفتح، لأنه دخل مقاتلاً، وهذا دليل أنه دخل مكة فاتحاً وأن مكة فتحت عنوة وهذا هو الحق , وهو ما رجحه ابن القيم في زاد المعاد والحافظ في الفتح وقال : والحق أن صورة فتحها عنوة , والشوكاني في نيل الأوطار وقال : وأكثر هذه الأحاديث تدل على أن الفتح عنوة , ويلزم من ذلك منع بيع دورها وإجارتها , خلافاً لما ذهب إليه الشافعي,ولكن يختص به ذلك، فإنه محرم القتال فيها ابتداءً كما قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "وإنما أحلت لي ساعة من نهار" الحديث وهو متفقٌ عليه .
__________
(1) - صحيح. رواه البخاري ( 3044 )، ومسلم ( 1357 ).(1/139)
ثانيا: وأما أمره صلى الله عليه وآله وسلم بقتل ابن خطل، وهو أحد جماعة تسعة أمر صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بقتلهم، ولو تعلقوا بأستار الكعبة، فأسلم منهم ستة، وقتل ثلاثة منهم ابن خطل. فإن ابن خطل كان قد أسلم فبعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصدّقاً، وبعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه مسلماً، فنزل منزلاً وأمر مولاه أن يذبح له تيساً ويصنع له طعاماً، فنام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً فعدا عليه فقتله ثم ارتدّ مشركاً، وكانت له قينتان تغنيانه بهجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمر بقتلهما معه فقتلت إحداهما واستؤمن للأخرى فأمّنها.
قال الخطابي: قتله صلى الله عليه وآله وسلم بحق ما جناه في الإسلام، فدل على أن الحرم لا يعصم من إقامة واجب ولا يؤخره عن وقته ا هـ.
مسألة :وقد اختلف الناس في مسألة إقامة الحدود في الحرم :
1-فذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفى الحدود والقصاص بكل مكان وزمان، لعموم الأدلة، ولهذه القصة.
2-وذهب الجمهور إلى أنه لا يستوفى فيها حد لقوله تعالى: {ومن دخله كان آمنا} ولقوله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا يسفك بها دم".
وأجابوا عما احتج به الأولون بأنه لا عموم للأدلة في الزمان والمكان، بل هي مطلقات مقيدة بما ذكرناه من الحديث، وهو متأخر، فإنه في يوم الفتح بعد شرعية الحدود.وهذا الكلام فيمن ارتكب حداً في غير الحرم ثم التجأ إليه، تأمل هذا فيمن أرتكب حد قال الجمهور إذا التجأ إلى الحرم لا يقتل فكيف بالمجاهد الفار بدينه ولم يرتكب حداً .
وأما إذا ارتكب إنسان في الحرم ما يوجب الحد فذهب بعضهم : أنه يخرج من الحرم ولا يقام عليه الحد وهو فيه. وذهب ابن عباس رضي الله عنه إلى أنه يقام فيه فقال: من سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم. رواه أحمد عن طاووس عن ابن عباس(1/140)
وفرقوا بينه وبين الملتجيء إليه: بأن الجاني فيه هاتك لحرمته والملتجىء معظم لها، ولأنه إن لم يقم الحد على من جنى فيه من أهله لعظم الفساد في الحرم، وأدّى إلى أن من أراد الفساد قصد إلى الحرم ليسكنه وفعل فيه ما تتقاضاه شهوته(1).
مسألة : وللإنسان الدفاع عن نفسه إن صال عليه أو على ماله أو عرضه أو دينه صائل ولو كان مسلماً وهذا يسمى دفع الصائل , وهو الذي يسطو بالقوة على الأعراض والنفوس والأموال , لقوله عليه الصلاة والسلام ( من قتل دون ماله فهو شهيد , ومن قتل دون دمه فهو شهيد , ومن قتل دون دينه فهو شهيد , ومن قتل دون أهله فهو شهيد ) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد عن سعيد بن زيد . وعند النسائي ( من قتل دون مظلمة فهو شهيد ) وعند أحمد (نعم الميتة أن يموت الرجل دون حقه ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية لما سئل عن قتال التتار ومن تحيز إليهم من عسكر المسلمين ( وإذا كانت السنة والإجماع متفقين على أن الصائل المسلم إذا لم يندفع صوله إلا بالقتل قتل , وإن كان المال الذي يأخذه قيراطاً من دينار , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( من قتل دون ماله فهو شهيد ,ومن قتل دون دمه فهو شهيد , ومن قتل دون دينه فهو شهيد ,ومن قتل دون حرمه فهو شهيد ) فكيف بقتال هؤلاء الخارجين عن شرائع الإسلام , المحاربين لله ورسوله , الذين صولهم وبغيهم أقل ما فيهم ؟ فإن قتال المعتدين الصائلين ثابت بالكتاب والسنة والإجماع , وهؤلاء معتدون صائلون على المسلمين في أنفسهم وأموالهم وحرمهم ودينهم , وكل من هذه يبيح قتال الصائل عليها , ومن قتل دونها فهو شهيد , فكيف بمن قاتل عليها كلها ....)الفتاوى (28/541)
__________
(1) 1- سبل السلام للصنعاني بتصرف.(1/141)
قال الشيخ عبد الله عزام : وقد اتفق الأئمة الأربعة على وجوب دفع الصائل على الأعراض , وأما الصائل على النفس والمال فيجب دفعه عند الجمهور ولو أدى إلى قتل الصائل المسلم . قال الجصاص : لا نعلم خلافاً أن رجلاً لو شهر سيفاً على رجل ليقتله بغير حق أن على المسلمين قتله . وكم كلف جهل هذا الحكم الشرعي المسلمين من ضحايا لأن المخبر يأخذ زوجته في منتصف الليل ولا يقتله خوفاً من سفك دم امرئ مسلم(1)ا.هـ
ولما كان بين عبد الله بن عمرو وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان. تيسروا للقتال: فركب خالد بن العاص إلى عبد الله بن عمرو، فوعظه خالد. فقال عبد الله بن عمرو: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) 2- إتحاف العباد بفضائل الجهاد للشيخ المجاهد الدكتور عبد الله عزام تقبله الله في الشهداء .(1/142)
من قتل دون ماله فهو شهيد". رواه مسلم . فهذا الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص استعد لقتال جنود الخليفة وهم من هم , من أجل أرضه واستدل بهذا الحديث على من أنكر عليه , فكيف بجنود الطواغيت الذين إنما هم إمتداد للحملة الصليبية الأمريكية التي تستهدف المجاهدين للقضاء عليهم وعلى الإسلام الذي يحملونه , كرجال المباحث ومن عاونهم من قوات الطواري وغيرهم أو من يسمونهم – مكافحة الإرهاب - يوم يهاجمون ويداهمون الآمنين من الشباب المجاهد ويروعون نسائهم وأطفالهم بل ويعتقلون النساء – كما حصل في الخالدية بمكة - ثم يتهمونهم بأنهم مفسدون في البلد الحرام والمشركون الرافضة يتجولون في مكة والمدينة والرسول صلي الله عليه وسلم يقول (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) ويقول (لعن الله من آوى محدثا) فيتركون أهل الأوثان ويقاتلون أهل الإسلام ثم يقولون لماذا يقاتلوننا فيه والله يقول{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ َ}ونرد على الذين تفيهقوا بأنه لا يجوز للمجاهدين والمهاجرين الملتجئين بالحرم واللائذين ببيت الله الحرام الدفاع عن أنفسهم مستدلين بقول الرسول صلى الله عليه وسلم "وإنما أحلت لي ساعة من نهار"....الحديث وهو متفقٌ عليه . بأن هذا الحديث إنما يتوجه على الذين يداهمون المجاهدين ويقاتلونهم ابتداءاً وليس عليهم جناية ولا حد .(1/143)
ولا نعلم في كتاب الله ولا سنة رسول الله نصاً يأمر بمعاقبة من ذهب للجهاد في سبيل الله بل كما مر معنا أن السنة هي إكرام المجاهد وتوقيره لا أن يعاقب بالسجن والقتل من أجل الأمريكان والله تعالى يقول { من دخله كان آمنا} فلهم الحق في الدفاع عن أنفسهم ولو في الحرم قال تعالي { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وقال تعالى {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} ومثله ما حصل من عبد الله بن الزبير في الدفاع عن نفسه يوم صال عليه الحجاج وظهره إلى الكعبة أي في داخل الحرم ].
وتورع كثير من المجاهدين في قتال رجال الامن والمباحث حتى لو صالوا عليهم. فها هم يسافرون بحثاً عن الشهادة فإذا جاءتهم عند أبواب منازلهم أعرضوا عنها فضلاً عمن يذهب بنفسه إليهم ويسلم نفسه لهم أو يوقع عندهم حضوراً وانصرافاً في كل شهر ويوفر عليهم مهمة البحث عنه , ومن عجز عن المقاومة فعليه أن يختفي عنهم فهي سنة وعبادة تغيظهم , ويكتب له بإغاظتهم أجراً { وَلاَ يطئون مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .(1/144)
فإن الاختفاء من سنن الأنبياء . فقد قال نبي الله إبراهيم الخليل { إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وقال الله تعالى عن موسى عليه السلام { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وعلماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } واختفى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في الغار وهاجر إلى المدينة ولم يسلم نفسه , وكذا صهيب رضي الله عنه حتى قال عليه الصلاة والسلام ربح البيع أبا يحي وقصته معلومة وكذلك أبو بصير وأبو جندل وغيرهم , ولذا أختفى الإمام أحمد في المحنة عند ابن هانىء ثلاث ليال وطلب التحول فقال له تلميذه ابقى عندنا يا إمام لهو أحب إلينا قال لقد اختفى النبي صلي الله عليه وسلم في الغار ثلاثا ثم تحول(1). وقد اختفى الإمام المحدث سفيان الثوري وهو أمير المؤمنين في الحديث ومن اعلم أهل زمانه عن الخليفة . واختفى سعيد بن جبير عن الحجاج بضعة عشر سنة , وهم الإمام الزهري بالرحيل إلى بلاد الروم للاختفاء بها حين هدده هشام بالقتل , ولو تتبعنا التاريخ لوجدناه مليء بمثل ذلك وليس هذا مقام البسط ولعله يكفي من السوار ما أحاط بالعنق(2).
__________
(1) 3- مسألة جواز الإستئسار والاستسلام : تجوز في حال أن الإنسان عجز عن المقاومة ولم يقدر على المدافعة ولا أمكنه الهرب كما ذكر ذلك الشوكاني في نيل الأوطار وغيره وليس هذا مقام بسطها إنما هي إشارة أما أن يذهب ويسلم نفسه فهذا والله الذي جرئ الأوباش .
(2) وأختفى الإمام البربهاري رحمه الله خوفاً من ظلم خليفة زمانه ، وتأمل فعله هذا ثم تأمل قوله رحمه الله " من علامة أهل السنة الدعاء لولاة الأمور " يتبين لك أن الإمام إذا كان مسلماً فإنه لا يطاع في معصية وأنه يجوز لك إذا خشيت ضرره الهرب منه فكيف إذا كان مرتداً لتوليه للكفار ولتحكيمه شرعهم .(1/145)
وقد سبق معنا الحديث عن الهجرة لمن كان قادراً عليها مع وجود أرض للنصرة والإيواء ولكن إن لم يستطع المقاومة والجهاد والدفاع عن نفسه , ولم يستطع اللحاق بأرض رباط وجهاد فلا أقل من أن يغيظهم بالاختفاء حتى يحكم الله بيننا وبينهم .
وصدق القائل : عش عزيزاً أو مت وأنت كريمٌ بين طعن القنا وخفق البنودِ .
26 - وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ; أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَةً صَبْراً . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "اَلْمَرَاسِيلِ" وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (1) .
سعيد بن جبير رضي الله عنه هو أبو عبد الله سعيد بن جبير ألأسدي مولي بني والبة بطن من بني أسد بن خزيمة كوفي، أحد علماء التابعين، سمع ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأنساً وأخذ عنه عمرو بن دينار وأيوب. قتله الحجاج سنة خمس وتسعين في شعبان منها، ومات الحجاج في رمضان من السنة المذكورة .
في القاموس: صبر الإنسان غيره على القتل أن يحبس ويرمى حتى يموت. وقد قتله صبراً، وصبراً عليه، ورجل صبورة: مصبور للقتل انتهى .
والثلاثة هم طعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط. ومن قال بدل طعيمة: المطعم بن عدي، فقد صحف كما قاله المصنف. وهذا دليل على جواز قتل الصبر إلا أنه قد روي عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم برجال ثقات وفي بعضهم مقال: "لا يقتلن قرشي بعد هذا صبراً" قاله صلى الله عليه وآله وسلم بعد قتل ابن الأخطل يوم الفتح , ذكره صاحب السبل .
وفي الحديث دليل على أن المرتد يقتل وذلك أن عقبة بن أبي معيط أسلم ثم أرتد وقتل مسلماً فلذلك يفرق بين الردة المغلظة والردة المجردة , أما المغلظة فيقتل ولا يستتاب , وأما المجردة فيستتاب فإن تاب وإلا قتل وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
مسائل مهمة في هذا الباب :
لمرتد : هو الراجع عن دينة .
__________
(1) - ضعيف؛ لإرساله. وهو في "المراسيل" برقم ( 337 ).(1/146)
1- وتكون الردة بالإعتقاد المكفر أو بالقول المكفر أو بالعمل المكفر أو الترك المكفر هذا عند أهل السنة والجماعة ، كما أن الإيمان قول وعمل واعتقاد .
2- ولم تنط أحكام الردة إلا بالقول المكفر أوالعمل المكفر أو الترك المكفر دون الإعتقاد يعني لا يطبق حد الردة إلا بالشيء الظاهر من الأقوال أو الأعمال كما في الصحيحين " من بدل دينه فاقتلوه " أو بالإقرار ، نص على ذلك جمع من العلماء منهم الشافعي وشيخ الإسلام وغيرهما .
ولذلك المنافقون لا يقتلون إلا إذا أظهروا نفاقهم قال تعالى ( ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً ) لأنهم إذا أظهروا كفرهم صاروا مرتدين نص عليه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى .
3- الاستتابة: لها معنيان:
الأول : تبين شروط وموانع التكفير عند الحكم .
الثاني : طلب التوبة من المكلف الذي حصل منه الكفر .
4- التفريق بين المقدور عليه وغير المقدور عليه ، فالمقدور عليه هو الذي يستطيع المسلمون أن يقيموا عليه حد الردة وهذا الذي يستتاب ، وأما غير المقدور كالذي تحميه القوانين أو الحكومات المرتدة فهذا لا تشترط إستتابتة قولاً واحداً .
3- 5- التفريق بين من ردته رده مجرده وبين من ردته ردة مغلظة وهو الذي ضم إلى ردته القتال عليها أو الزنديق الذي تكررت ردته ، فهذا يقتل و لا يستتاب بخلاف الأول فإنه يستتاب ذكره شيخ الإسلام في الصارم المسلول .(1/147)
6- التفريق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية ، فإن من وقع في كفر ظاهر فهو كافر ، مثل الشرك في العبادة أو في الحكم " التشريع " أو مثل مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين ، فإن هؤلاء قد قامت عليهم الحجة بالقران والرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى " لأنذركم به ومن بلغ " فمن وقع في المكفرات الظاهرة يستتاب فإن تاب وإلا قتل ويفرق بين المقدور عليه وغير المقدور عليه وبين من ردته رده مجردة أو مغلظة وممن فرق بين المسائل الظاهرة والخفية علماء كثيرون منهم أبو حنيفة والشافعي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن رجب الحنبلي وأئمة الدعوة النجدية قاطبة ـ أنظر لزاماً كتاب نفيس جداً أسمه " عارض الجهل " .
7- أما المسائل الخفية كالقدر والإرجاء فلا يكفر أحد خالف الكتاب والسنة في ذلك حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة أنظر " كتاب عارض الجهل " .
8- صفة قيام الحجة في المسائل الظاهرة والخفية ، لفظ قيام الحجة مذكور في كلام العلماء في المسائل الظاهرة والخفية ، ولكن صفة قيام الحجة تختلف من المسائل الظاهرة إلى الخفية ، فصفة قيام الحجة في المسائل الظاهرة بلوغ الدليل والسماع به فقط . وصفة قيامها في المسائل الخفية بلوغ الدليل وشرح وإزالة التأويل المشتبه فيه ، فإذا فهمت هذا الفرق زالت كثير من الإشكالات التي تردُ في كلام العلماء عند ذكرهم للفظ قيام الحجة .راجع كتاب عارض الجهل للشيخ أبي العلا بن راشد بن أبي العلا الراشد .(1/148)
9- التفريق بين النوع والعين أو الفعل والفاعل في التكفير ، أجمع أئمة الدعوة النجدية على أن التفريق لا يكون إلا في المسائل الخفية ، فأما المسائل الظاهرة فإن الواقع في المكفرات الظاهرة أو المعلومة من الدين بالضرورة فإنه كافر بعينه ، وقد رد جمع من العلماء على من نسب لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أنهما يفرقان مطلقاً بين النوع والعين منهم الشيخ سليمان بن سحمان والشيخ إسحاق بن عبدالرحمن والشيخ محمد بن عبدالوهاب وعبدالله وإبراهيم ابنا عبداللطيف آل الشيخ قلت والحق أن شيخ الإسلام لا يفرق إلا في المسائل الخفية أما الظاهرة فلا يفرق رحمه الله . أنظر لزاماً كتاب " عارض الجهل " .
تنبيه :
كتاب عارض الجهل قدم له الشيخ صالح الفوزان ، والذي تلخص للباحث عدم العذر بالجهل في المسائل الظاهرة مثل الشرك بعبادة الله سبحانه وتعالى ، فانظر إلى الفوزان لا يعذر بالجهل بالشرك الأكبر ويكفر من حصل منه ذلك ، بينما هناك طوام عند دولته السعودية ومكفرات ظاهرة ليست خفية مثل تشريع القوانين الوضعية والتحكام لهيئة الأمم المتحدة ونظام العمل والعمال ومحكمة وزارة الإعلام والغرفة التجارية وقوانين البنوك ومظاهرتها لإمريكا ضد المسلمين في أفغانستان والعراق ، ثم هو بعد ذلك يدافع عنها ويجادل عنها ويصف الموحدين الذي يعملون بالدليل بالخوارج .
10- الفرق بين المتمكن من العلم وغير المتمكن من العلم :
الأول : المتمكن من العلم الذي يستطيع أن يرفع عن نفسه الجهل ـ ومثلوا له بمن نشأ بدار الإسلام أو قريباً منها أو في أزمنة العلم وانتشاره وكذلك من يمكنه سؤال العلماء فهذا ليس بمعذور .
الثاني : غير المتمكن من التعلم أو العلم ـ ومثلوا له بمن كان في أزمنة الفترات وكذلك أزمنة اندثار آثار النبوة أو من نشأ بدار الحرب لأنها ليست محلاً لشهرة الأحكام .(1/149)
فأين تطبيق حكم المرتد على تركي الحمد ومنصور النقيدان وحسن المالكي والرويشد وغيرهم من المرتدين المتمردين على الشريعة وقد أفتى العلماء بقتلهم وردتهم ثم يقولون نحن نحكم بالشرع ونطبق الحدود وهم أطبقوا الكتب على الحدود ولم يعملوا بها .
27 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَى رَجُلَيْنِ مِنْ اَلْمُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنْ اَلْمُشْرِكِينَ أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ (1) . وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ (2) .
والحديث رواه كذلك ابن حبان وأحمد بزيادة ( من بني عقيل ) .
ذهب الجمهور إلى جواز مفاداة المسلم الأسير بأسير من المشركين. كما دل عليه الحديث , خلافا لما ذهب إليه أبو حنيفة وغيره من أنه لا يجوز المفاداة ويتعين إما قتل الأسير أو استرقاقه أو المفاداة بغيره أو بمال .
وقد وقع منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قتل الأسير كما في قصة عقبة بن أبي معيط. وفداؤه بالمال كما في أساري بدر. والمنّ عليه كما منّ على أبي غرّة يوم بدر على أن لا يقاتل، فعاد إلى القتال يوم أحد فأسره وقتله وقال في حقه:"لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" والاسترقاق وقع منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لأهل مكة ثم أعتقهم ولهوازن وثقيف في حنين .
قال ابن القيم في زاد المعاد عن هديه عليه الصلاة والسلام في الأسرى :
__________
(1) - صحيح. رواه الترمذي ( 1568 ) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
(2) - صحيح. رواه مسلم ( 1641 ) في حديث طويل من رواية عمران رضي الله عنه، وفيه: أسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا. ففدي بالرجلين.(1/150)
كان يمن على بعضهم ، ويقتل بعضهم ، ويفادي بعضهم بالمال ، وبعضهم بأسرى المسلمين ، وقد فعل ذلك كله بحسب المصلحة ا.هـ . وهو الصواب أن ذلك يرجع للأمير حسب مصلحة المسلمين, إلا في بداية جهاده ودعوته , فلابد من الإثخان حتى يمكن له { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }ومن ثم فله الأسر أو المفاداة أو القتل أو الاسترقاق {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } .
قال الشوكاني : أخرج البيهقي من حديث ابن عباس أنه قال في قوله تعالى {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} أن ذلك كان يوم بدر والمسلمون في قلة , فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى { فإما منّا بعد وإما فداءً } فجعل النبي صلي الله عليه وسلم والمؤمنين بالخيار ..) ومذهب الجمهور أن الأمر في الأسرى من الرجال إلى الإمام يفعل ما هو الأحظى للإسلام والمسلمين .... ثم قال بعد ذكر الأقوال في المسألة:والحاصل أن القران والسنة قاضيان بما ذهب إليه الجمهور ..قال الترمذي بعد أن ساق حديث عمران بن حصين المذكور : والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم وغيرهم أن للإمام أن يمن على من شاء من الأسرى , ويقتل من شاء منهم , ويفدي من شاء(1) ا.هـ
وأسرانا في فلسطين وجوانتناموا وغيرها , لم يفادوهم ولم يدفعوا أموالاً لفك أسرهم ولم يأخذوا أسرى من الكفار حتى يطلق الكفار سراحهم فإلى الله المشتكى .
__________
(1) 1- مختصراً من نيل الأوطار كتاب الجهاد باب المنّ والفداء في حق الأسارى .(1/151)
28 - وَعَنْ صَخْرِ بْنِ اَلْعَيْلَةِ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اَلْقَوْمَ إِذَا أَسْلَمُوا ؛ أَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ, وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ (1).
صخر ابن العَيْلة ويقال ابن أبي العيلة عداده في أهل الكوفة وحديثه عندهم. روى عنه عثمان بن أبي حازم وهو: ابن ابنه .
والحديث فيه ضعف إلا أن أصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله؛ فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم وحسابهم على الله ) وفي بعض الألفاظ (حتى يشهدوا ) وهو مروي عن أبي هريرة من طرق كثيرة وقد جاء في بعضها عن ابن عمر . وفي الحديث دليل على أن من أسلم من الكفار قبل أسره حرم دمه وماله .
قال ابن القيم في زاد المعاد: وكان هديه أن من أسلم قبل الأسر ، لم يسترق ، وكان يسترق سبي العرب ، كما يسترق غيرهم من أهل الكتاب وكان عند عائشة سبية منهم فقال أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل . وفي الطبراني مرفوعاً : من كان عليه رقبة من ولد إسماعيل ، فليعتق من بالعنبر ا.هـ
قال الصنعاني في سبل السلام :
1- فمن أسلم طوعاً من دون قتال أو قبل أن يؤسر أحرز ماله وأرضه وذلك كأرض اليمن قلت :ولما في حديث صخر عند أحمد بلفظ ( إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله ) وعند أبي داود ( يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم ).
2- وإن أسلم بعد القتال أي في الأسر فالإسلام قد عصم دمه وأما أمواله فقال بعض العلماء المنقول غنيمة وغير المنقول فيء.
ذهب الإمام مالك وابن القيم أن الأرض تكون وقفاً يقسم خراجها في مصالح المسلمين وأرزاق المقاتلة وبناء القناطر والمساجد وغير ذلك من سبل الخير، إلا أن يرى الإمام في وقت من الأوقات أن المصلحة في قسمتها كان له ذلك.
__________
(1) - حسن. رواه أبو داود ( 3067 ) وهو وإن كان ضعيف السند؛ إلا أن في الباب ما يشهد له.(1/152)
قال ابن القيم: وبه قال جمهور العلماء وكانت عليه سيرة الخلفاء الراشدين , وهو ما فعله عمر في فتوحات الشام ووافقه عليه سائر الصحابة وكذلك جرى في فتوح مصر وأرض العراق وأرض فارس وسائر البلاد التي فتحوها عنوة، فلم يقسم منها الخلفاء الراشدون قرية واحدة , ووافقه على ذلك جمهور الأئمة وإن اختلفوا في كيفية بقائها بلا قسمة، فظاهر مذهب الإمام أحمد وأكثر نصوصه على أن الإمام مخير فيها تخيير مصلحة لا تخيير شهوة. فإن كان الأصلح للمسلمين قسمتها قسمها. وإن كان الأصلح أن يقفها على المسلمين وقفها عليهم. وإن كان الأصلح قسمة البعض ووقف البعض فعله. فإن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعل الأقسام الثلاثة، فإنه قسم أرض قريظة والنضير. وترك قسمة مكة، وقسم بعض خيبر، وترك بعضها لما ينوبه من مصالح المسلمين.ا.هـ
29 - وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: " لَوْ كَانَ اَلْمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا, ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ اَلنَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ" رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ (1) .
قال الصنعاني: جبير ابن مطعم ابن عدي رضي الله عنه. وجبير صحابي عارف بالأنساب. مات سنة ثمان أو تسع وخمسين .
النتنى :المراد بهم أسارى بدر، وصفهم بالنتن لما هم عليه من الشرك، كما وصف الله تعالى المشركين بالنجس، والمراد لو طلب مني تركهم وإطلاقهم من الأسر بغير فداء لفعلت ذلك، مكافأة له على يد كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وذلك أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما رجع من الطائف دخل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في جوار المطعم بن عدي إلى مكة. فأمر أولاده الأربعة فلبسوا السلاح وقام كل واحد منهم عند الركن من الكعبة فبلغ ذلك قريشاً فقالوا له: أنت الرجل الذي لا تخفر ذمتك .
__________
(1) - صحيح. رواه البخاري ( 3139 ).(1/153)
وفيه دليل على أنه يجوز ترك أخذ الفداء من الأسير، والسماحة به لشفاعة رجل عظيم، وأنه يكافأ المحسن وإن كان كافراً .ا.هـ
وذلك راجع للإمام أو الأمير, وفيه دليل على جواز سب وشتم موتي المشركين لقوله ( ألنتنى ) 0
30 - وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: أَصَبْنَا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ, فَتَحَرَّجُوا, فَأَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (1) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2) .
قال الصنعاني :قال أبو عبيد البكري: أوطاس وادٍ في ديار هوازن. . قوله ( فتحرجوا ) أي من الجماع .
والحديث دليل على انفساخ نكاح المسبية سواء سبي معها زوجها أولا , وذهب الشافعي وغيره من أهل العلم إلى أنه لا بد من إسلام الوثنية.وسبايا أوطاس هن وثنيات وقد عرفت أنه لم يأت دليل بشرطية الإسلام.
قال ابن القيم في زاد المعاد الجزء الثالث :
__________
(1) - صحيح. رواه البخاري ( 3139 ).
(2) - صحيح. رواه مسلم ( 1456 ).(1/154)
ولما قسم سبايا بني المصطلق ، وقعت جويرية بنت الحارث في السبي لثابت بن قيس بن شماس ، فكاتبته على نفسها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها ، فأعتق بتزوجه إياها مائة من أهل بيت بني المصطلق إكراماً لصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهي من صريح العرب ، ولم يكونوا يتوقفون في وطء سبايا العرب على الإسلام ، بل كانوا يطئونهن بعد الاستبراء ، وأباح الله لهم ذلك ، ولم يشترط الإسلام ، بل قال تعالى : {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} ( النساء : 24) ، فأباح وطء ملك اليمين ، وإن كانت محصنة إذا انقضت عدتها بالإستبراء ، وقال له سلمة بن الأكوع ، لما استو هبه الجارية الفزارية من السبي : والله يا رسول الله ! لقد أعجبتني ، وما كشفت لها ثوباً ، ولو كان وطؤها حراماً قبل الإسلام عندهم ، لم يكن لهذا القول معنى ، ولم تكن قد أسلمت ، لأنه قد فدى بها ناساً من المسلمين بمكة ، والمسلم لا يفادى به ، وبالجملة فلا نعرف في أثر واحد قط اشتراط الإسلام منهم قولاً أو فعلاً في وطء المسبية ، فالصواب الذي كان عليه هديه وهدي أصحابه استرقاق العرب ، ووطء إمائهن المسبيات بملك اليمين من غير اشتراط الإسلام ا.هـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( والرق الشرعي سببه الكفر لما لم يسلم ويعبد الله أباح الله للمسلم أن يستعبده ) المستدرك (3/224) .
حكم استبراء السبية :
القول الأول: وجوب استبراء السبية بحيضة وهو قول الشافعية والحنفية والثوري والنخعي وأستدلوا بأدلة منها :
1- حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبي أوطاس " لا توطأ حامل حتى تضع و لا غير حائلاً حتى تحيض حيضة " رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وقال الشوكاني إسناده حسن .
وجه الدلالة ـ حتى تحيض حيضة . مع إتفاق الجميع على تحريم وطئ الحامل حتى تضع .(1/155)
2- حديث علي ابن أبي طالب " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ حامل حتى تضع و لا حائل حتى تستبرأ بحيضة " قال الشوكاني وفي إسناده ضعف وانقطاع .
قلت الحائل هي غير الحامل
3- حديث رويفع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن ثيباً من السبايا حتى تحيض " أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والدارمي والطبراني والبيهقي وصححه الضياء المقدسي وابن حبان وحسنه البزار وأصله عند أبي داود والترمذي .
القول الثاني : أن الإستبراء إنما يجب في حق من لم تعلم براءة رحمهما وأما من علمت براءة رحمهما فلا استبراء في في حقها ، وأستدلوا ببعض الأدلة :
1- حديث بريدة عند البخاري وفيه أن "علي رضي الله عنه لما رأى الغنيمة وفيها السبي دخل وخرج وقد أغتسل " وعند أحمد " قال أرأيتم تلك الوصيفة وقعت عليها " ثم بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر بل قال " إن له في الخمس أكثر من ذلك "
2- وبما عند البخاري معلقاً وعند عبدالرزاق موصولاً عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال " إذا كانت الأمة عذراء لم يستبرئها إن شاء "
الراجح :
الاستبراء إنما هو للعلم ببراءة الرحم فحيث تعلم البراءة لا يجب وحيث لا يعلم ولا يظن يجب الاستبراء ، اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم قال الشوكاني وهو الحق ، لأن العلة معقولة فإذا لم توجد المئنة كالحمل و لا المظنة كالمراة المزوجة فلا وجه لإيجاب الاستبراء ، والقول بأن الاستبراء تعبدي وأنه يجب في حق الصغيرة وكذا في حق البكر والآيسة ليس عليه دليل . والله أعلم أهـ النيل .
مسألة يجوز سبي النصيرية والدرزية
قال ابن تيمية في الفتاوى :(1/156)
كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم لاهم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين ، بل هم الكفرة الضالون ، فلا يباح أكل طعامهم ، وتسبى نساؤهم ، وتؤخذ أموالهم ، فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم ، بل يقتلون أينما ثقفوا ويلعنون كما وصفوا ... ا.هـ وكذلك سبي الرافضية قال ابن تيمية ( والرافضة الجبلية يجوز أخذ أموالهم وسبي حريمهم ) المستدرك (3/223) .
لأنهم كفار لا أقول مرتدون بل مشركون أصليون قال أحمد بن حنبل وعبدالرحمن بن مهدي الرافضة على غير ملة الإسلام" جميعهم يعبدون القبور ويذبحون لغير الله ويجعلون في علي رضي الله عنه صفات الألوهية وقد كفروا أئمة الهدى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما ليس هذا محل بسطه , وقد اعتبر الشيخ حمد بن ناصر أن الرافضة كفار أصليين ولا يُعذرون بالجهل ( الدرر 10/335 ).
وكذلك يجوز سبي نساء الكفار سواء كانت أمريكية أو بريطانية أو يهودية أو فلبينية أو روسية أو هندوسية أو غيرهن من الكافرات , ولأن الحرب بيننا وبينهم قائمة , وذلك بأن يأخذها عنوة ويسبيها .( ولكن ينظر لمصلحة المجاهدين والجهاد ويقدم العدو الأعظم خطراً على غيره ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وكذلك لو سرق أنفسهم أو أولادهم أو قهرهم بوجه من الوجوه – يعني جاز - فإن نفوس الكفار المحاربين وأموالهم مباحة للمسلمين .. ثم قال : حتى قال أبو حنيفة وأحمد في رواية منصوصة عنه : أنه إذا هادن المسلمون أهل بلد وسباهم من باعهم للمسلمين جاز الشراء منه ) انتهي من الفتاوى (29/224) .
وقال الشوكاني في نيل الأوطار كتاب الجهاد :
وفيه جواز سبي ذراري المشركين بانفرادهم قبل التعرض لرجالهم ا.هـ
ولكن يفرق هنا بين أخذها عنوة واسترقاقها , وبين أن يذهب إليهم ويزني بالنساء سواء بمال أو بغيره ويتركها تذهب , فهذا ليس سبياً بل هو صورة من صور الزنا فلينتبه المسلم من الخلط بينهما .(1/157)
مسألة: وهل يفرق بين السبية وأولادها إذا سباهم جميعا ؟
قال أحمد: يحرم ذلك, واستدل بأحاديث في مسنده وفي الترمذي كذلك ( من فرق بين امرأة وابنها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) وإسناده جيد بمجموع الطرق, وقد استدل به الإمام أحمد وغيره على ملك اليمين فكيف بمن فرق بين المجاهد وأمه وبينه وبين أولاده وزوجته , ألا يخشون أن يفرق الله بينهم وبين أحبتهم في الدنيا والآخرة .
وكذا لا يجوز الجمع بين الأختين ولا الأم وبنتها ولا غير ذلك مما هو معلوم وذلك في الجماع والوطء.
31 - وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةٍ وَأَنَا فِيهِمْ, قِبَلَ نَجْدٍ, فَغَنِمُوا إِبِلاً كَثِيرَةً, فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ اِثْنَيْ عَشَرَ بَعِيراً, وَنُفِّلُوا بَعِيراً بَعِيراً مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) .
(قِبَل نجد) أي جهة نجد, وهي نجد الجزيرة على الصحيح وليست نجد العراق كما يظن البعض.
( سهمانهم) جمع سهم وهو النصيب.
السرية: قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه، وهي من مائة إلى خمسمائة؛ والسرية التي تخرج بالليل، والسارية التي تخرج بالنهار.
والمراد من قوله: سهمانهم أي بلغ نصيب كل واحد منهم اثني عشر بعيراً،
النفل:زيادة على الغنيمة للمجاهد الغازي ,
والغنيمة هي ما غنمه المجاهدون بالقتال ,
والفئ هو ما حصل للمسلمين بدون قتال .
وقوله: "نفلوا" مبني للمجهول فيحتمل أنه نفلهم أميرهم وهو قتادة كما عند مسلم أن القسم والتنفيل كان من أمير الجيش ولم يغيره النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وأقره . ويحتمل أنه النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من رواية ابن عمر عند مسلم أيضاً بلفظ "ونفلنا رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعيراً بعيراً" ,
__________
(1) - صحيح. رواه البخاري ( 3134 )، ومسلم ( 1749 ).(1/158)
وفي حديث عند أبي داود الجمع بين الروايات وهو بلفظ "فأصبنا نعماً كثيرة وأعطانا أميرنا بعيراً بعيراً لكل إنسان ثم قدمنا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقسم بيننا غنيمتنا فأصاب كل رجل اثني عشر بعيراً بعد الخمس" فدل على أن التنفيل من الأمير، والقسمة منه صلى الله عليه وآله وسلم وتولى الأمير قبض ما هو للسرية جملة من الرسول صلي الله عليه وسلم ثم قسم ذلك على أصحابه .
وفي الحديث دليل على جواز التنفيل للجيش، ودعوى أنه يختص ذلك بالنبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لا دليل عليه، بل تنفيل الأمير قبل الوصول إليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في هذه القصة دليل على عدم الاختصاص وفيه جواز التنفيل قبل القتال وبعده خلافا لما ذهب إليه مالك . و هل يكون التنفيل من أصل الغنيمة أو من الخمس ؟ قال الخطابي: أكثر ما روي من الأخبار يدل على أن النفل من أصل الغنيمة.ا.هـ ملخصاً من سبل السلام .
32- وَعَنْهُ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (1) يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ, وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (2) .
وَلِأَبِي دَاوُدَ: أَسْهَمَ لِرَجُلٍ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ, وَسَهْماً لَهُ (3) .
__________
(1) - كذا "بالأصلين" ، وأشار ناسخ "أ" في الهامش إلى نسخة: "النبي".
(2) - صحيح. رواه البخاري ( 4228 )، ومسلم ( 1762 ) من طريق نافع، عن ابن عمر - واللفظ للبخاري - وزاد: "قال: فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس فله سهم".
(3) - صحيح. رواه أبو داود ( 2733 ).(1/159)
الحديث دليل على أنه يسهم لصاحب الفرس ثلاثة سهام من الغنيمة، له سهم ولفرسه سهمان. وإليه ذهب مالك والشافعي وغيرهم لهذا الحديث، ولما أخرجه أبو داود من حديث أبي عمرة أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "أعطى للفرس سهمين ولكل إنسان سهماً فكان للفارس ثلاثة أسهم"، ولما أخرجه النسائي من حديث الزبير أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم "ضرب له أربعة أسهم سهمين لفرسه وسهماً له وسهماً لقرابته" يعني من النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.وذهب الحنفية وغيرهم إلى أن الفرس له سهم واحد لما في بعض روايات أبي داود بلفظ "فأعطى للفارس سهمين وللراجل سهماً" وهو من حديث مجمع بن جارية، ولا يقاوم حديث الصحيحين. وأما إذا حضر بفرسين فالجمهور قالوا : لا يسهم إلا لفرس واحد إذا حضر بها القتال .(1/160)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( وَالْعَدْلُ فِي الْقِسْمَةِ : أَنْ يُقْسَمَ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ ذِي الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ ; هَكَذَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ خَيْبَرَ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ : لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ ; وَلِأَنَّ الْفَرَسَ يَحْتَاجُ إلَى مَئُونَةِ نَفْسِهِ وَسَائِسِهِ - وَمَنْفَعَةُ الْفَارِسِ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ رَاجِلِينَ - وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يُسَوَّى بَيْنَ الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ وَالْهَجِينِ فِي هَذَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ الْهَجِينُ يُسْهَمُ لَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ . وَالْفَرَسُ الْهَجِينُ : الَّذِي تَكُونُ أُمُّهُ نَبَطِيَّةٌ - وَيُسَمَّى الْبِرْذَوْنَ - وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ التتري سَوَاءٌ كَانَ حِصَانًا أَوْ خَصِيًّا وَيُسَمَّى الأكديش أَوْ ر مكة وَهِيَ الْحِجْرُ ; كَانَ السَّلَفُ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ الْحِصَانَ لِقُوَّتِهِ وَحِدَّتِهِ وَلِلْإِغَارَةِ وَالْبَيَاتِ الْحِجْرَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا صَهِيلٌ يُنْذِرُ الْعَدُوَّ فَيَحْتَرِزُونَ وَلِلسَّيْرِ الْخَصِيُّ لِأَنَّهُ أَصْبَرُ عَلَى السَّيْرِ ) الفتاوى (28/271).(1/161)
33- وَعَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا (1) قَالَ: سَمِعْتَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا نَفْلَ إِلَّا بَعْدَ اَلْخُمُسِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ , وَأَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ اَلطَّحَاوِيُّ (2) .
معن بن يزيد رضي الله عنه. هو أبو زيد معن بن يزيد السلمي له ولأبيه ولجده صحبة شهدوا بدراً كما قيل: ولا يعلم من شهد بدراً هو وأبوه وجده غيرهم، وقيل: لا يصح شهوده بدراً. يعد في الكوفيين، ابن يزيد.
( "لا نَفَلَ")) المراد بالنفل هو ما يزيده الإمام لأحد الغانمين على نصيبه. وقد اتفق العلماء على جوازه، واختلفوا هل يكون من أصل الغنيمة أو من الخمس؟ وحديث معن هذا ليس فيه دليل على أحد الأمرين. بل غاية ما دل عليه أنها تخمس الغنيمة قبل التنفيل منها. وتقدم ما قاله الخطابي من أن أكثر الأخبار دالة على أن التنفيل من أصل الغنيمة.
واختلفوا في مقدار التنفيل فقال بعضهم: لا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث أو من الربع كما يدل عليه قوله :
__________
(1) - في الأصل: "رضي الله عنه" والمثبت من "أ" وهو له ولأبيه ولجده صحبة رضي الله عنهم.
(2) - صحيح. رواه أحمد ( 3 / 470 )، وأبو داود ( 2753 و 2754 )، والطحاوي في "المعاني" ( 3 / 242 ) من طريق أبي الجويرية قال: أصبت جرة حمراء فيها دنانير في إمارة معاوية في أرض الروم. قال: وعلينا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني سليم يقال له: معن بن يزيد. قال: فأتيته بها يقسمها بين المسلمين فأعطاني مثل ما أعطى رجلا منهم، ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيته يفعله. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: . .... فذكره. وزاد: قال: ثم أخذ فعرض علي من نصيبه، فأبيت عليه. قلت: ما أنا بأحق به منك. والسياق لأحمد.(1/162)
34 - وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةٍ - رضي الله عنه - قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ اَلرُّبْعَ فِي اَلْبَدْأَةِ, وَالثُّلُثَ فِي اَلرَّجْعَةِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ اَلْجَارُودِ, وَابْنُ حِبَّانَ, وَالْحَاكِمُ (1) .
قال الصنعاني: حبيب بن مسلمة رضي الله عنه وهو عبد الرحمن بن حبيب بن مسلمة القرشي الفهري وكان يقال له حبيب الروم لكثرة مجاهدته لهم(2). ولاه عمر أعمال الجزيرة وضم إليه أرمينية وأذربيجان، وكان فاضلاً مجاب الدعوة. مات بالشام أو بأرمينية سنة اثنتين وأربعين.
دل الحديث أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يجاوز الثلث في التنفيل، وقال آخرون: للإمام أن ينفل السرية جميع ما غنمت لقوله تعالى: {قل الأنفال لله والرسول} ففوضها إليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، والحديث لا دليل فيه على أنه لا ينفل أكثر من الثلث.
__________
(1) - صحيح. رواه أبو داود (2750) وابن الجارود ( 1079 )، وابن حبان ( 4815 )، والحاكم (2/ 133) من طريق مكحول قال: كنت عبداً بمصر لامرأة من بني هذيل فأعتقتني، فما خرجت من مصر وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك أسأل عن النفل، فلم أجد أحدا يخبرني فيه بشيء، حتى أتيت شيخاً يقال له: زياد بن جارية التميمي. فقلت له: هل سمعت في النفل شيئاً ؟ قال: نعم. سمعت حبيب بن مسلمة الفهري، به. والسياق لأبي داود.
(2) فهذا من العلماء والرواة للحديث يكثر الغزو ومثله شيخ البخاري أحمد السامرائي الحافظ يقول قتلت بيدي هذه ألف تركي وعالم آخر سمي بالقصاب لكثرة قصبه للروم ولا ننسى عبدالله بن المبارك وغيرهم كثير(1/163)
واعلم أنه اختلف في تفسير الحديث، فقال الخطابي رواية عن ابن المنذر: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فرَّق بين البدأة والقفول حين فضل إحدى العطيتين على الأخرى لقوة الظهر عند دخولهم وضعفه عند خروجهم، ولأنهم وهم داخلون أنشط وأشهى للسير والإمعان في بلاد العدو وأجم وهم عند القفول لضعف دوابهم وأبدانهم، وهم أشهى للرجوع إلى أوطانهم وأهاليهم لطول عهدهم بهم وحبهم للرجوع، فيرى أنه زادهم في القفول لهذه العلة والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال الخطابي بعد نقله كلام ابن المنذر: هذا ليس بالبين لأن فحواه يوهم أن الرجعة هي القفول إلى أوطانهم وليس هو معنى الحديث، والبدأة إنما هي ابتداء السفر للغزو إذا نهضت سرية من جملة العسكر فإذا وقعت بطائفة من العدو فما غنموا كان لهم فيه الربع ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة أرباعه، فإن قفلوا من الغزوة ثم رجعوا فأوقعوا بالعدو ثانية كان لهم مما غنموا الثلث لأن نهوضهم بعد القفول أشدّ لكون العدو على حذر وحزم. انتهى، وما قاله هو الأقرب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (وَكَانَ يُنَفِّلُ السِّرِّيَّةَ فِي الْبِدَايَةِ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثُ بَعْدَ الْخُمُسِ . وَهَذَا النَّفْلُ ; قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْخُمُسِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ يَكُونُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ ; لِئَلَّا يُفَضِّلَ بَعْضَ الْغَانِمِينَ عَلَى بَعْضٍ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَفْضِيلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِمَصْلَحَةِ دِينِيَّةٍ ; لَا لِهَوَى النَّفْسِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ مَرَّةٍ . وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الشَّامِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ ) الفتاوى (28/270) .(1/164)
35 - وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنْ اَلسَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً, سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ اَلْجَيْشِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) .
فيه أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يكن ينفل كل من يبعثه، بل بحسب ما يراه من المصلحة في التنفيل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( لَكِنْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ زِيَادَةُ نِكَايَةٍ : كَسَرِيَّةِ تَسَرَّتْ مِنْ الْجَيْشِ أَوْ رَجُلٍ صَعِدَ حِصْنًا عَالِيًا فَفَتَحَهُ أَوْ حَمَلَ عَلَى مُقَدَّمِ الْعَدُوِّ فَقَتَلَهُ فَهَزَمَ الْعَدُوَّ وَنَحْوَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَاءَهُ كَانُوا يُنَفِّلُونَ لِذَلِكَ ) الفتاوى (28/270) .
36- وَعَنْهُ قَالَ : كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا اَلْعَسَلَ وَالْعِنَبَ , فَنَأْكُلُهُ وَلَا نَرْفَعُهُ رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ (2) . وَلِأَبِي دَاوُدَ: فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ اَلْخُمُسُ . وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (3) .
لا نرفعه: لا نحمله على سبيل الادخار، أو لا نرفعه إلى من يتولى أمر الغنيمة ونستأذنه في أكله اكتفاء بما علم من الإذن في ذلك. وذهب الجمهور إلى أنه يجوز للغانمين أخذ القوت وما يصلح به وكل طعام أعتيد أكله عموماً وكذلك علف الدواب قبل القسمة، سواء كان بإذن الإمام أو بغير إذنه، ودليلهم هذا الحديث، وما أخرجه الشيخان من حديث ابن مغفل قال: "أصبت جراب شحم يوم خيبر فقلت: لا أعطي منه أحداً فالتفت فإذا رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يبتسم".
__________
(1) - صحيح. رواه البخاري ( 3135 )، ومسلم ( 1750 ) ( 40 ).
(2) - صحيح. رواه البخاري ( 3154 ).
(3) - صحيح. رواه أبو داود ( 2701 )، وابن حبان ( 4805 ) ولفظ ابن حبان: "فلم يخمسه النبي صلى الله عليه وسلم".(1/165)
وهذه الأحاديث مخصصة لأحاديث النهي عن الغلول. ويدل له أيضاً الحديث الآتي وهو قوله:
37- وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَصَبْنَا طَعَاماً يَوْمَ خَيْبَرَ, فَكَانَ اَلرَّجُلُ يَجِيءُ, فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ, ثُمَّ يَنْصَرِفُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ اَلْجَارُودِ, وَالْحَاكِمُ (1) .
فإنه واضح في الدلالة على أخذ الطعام قبل القسمة وقبل التخميس قاله الخطابي.
وأما سلاح العدوّ ودوابهم فلا أعلم بين المسلمين خلافاً في جواز استعمالها. فأما إذا انقضت الحرب ردّها في المغنم.
وأما الثياب والحرث والأدوات فلا يجوز أن يستعمل شيء منها إلا أن يقول قائل: إنه إذا احتاج إلى شيء منها لحاجة ضرورية كان له أن يستعمله مثل أن يشتدّ البرد فيستدفىء بثوب ويتقوّى به على المقام في بلاد العدوّ مرصداً له لقتالهم. وسئل الأوزاعي عن ذلك فقال: لا يلبس الثوب إلا أن يخاف الموت.
38 - وَعَنْ رويفع بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَلَا يَرْكَبُ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ اَلْمُسْلِمِينَ, حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ, وَلَا يَلْبَسُ ثَوْباً مِنْ فَيْءِ اَلْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ, وَالدَّارِمِيُّ, وَرِجَالُهُ لابأس بهم (2) .
يؤخذ منه جواز الركوب ولبس الثوب وإنما يتوجه النهي إلى الإ عجاف والإخلاق للثوب، فلو ركب من غير إعجاف، ولبس من غير إخلاق وإتلاف جاز. فلو غنم سيارة جاز له استعمالها حتى تنتهي المعركة ثم يرجعها في الغنيمة العامة .
__________
(1) - صحيح. رواه أبو داود ( 2704 )، وابن الجارود ( ( 1072 )، والحاكم ( 2 / 126 ).
(2) - حسن. رواه أبو داود ( 2159 و 2708 )، ، والدارمي ( 2 / 230 ).(1/166)
39 - وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ اَلْجَرَّاحِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " يُجِيرُ عَلَى اَلْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ" أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ, وَأَحْمَدُ, وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ (1) .
"يجير: من الإجارة وهي الأمان (على المسلمين بعضهم". وفي إسناده ضعف.لأن في إسناده الحجاج بن أرطاة، ولكن يجبر ضعفه الأحاديث الآتية وهى قوله:
40 - وَلِلْطَيَالِسِيِّ: مِنْ حَدِيثِ عَمْرِوِ بْنِ الْعَاصِ: " يُجِيرُ عَلَى اَلْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ" (2).
41 - وَفِي "اَلصَّحِيحَيْنِ" : عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "ذِمَّةُ اَلْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى ِبهَا أَدْنَاهُمْ" (3) .
42 - زَادَ اِبْنُ مَاجَه مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: " يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ" (4) .
43 - وَفِي "اَلصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثٍ أَمِ هَانِئٍ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ" (5) .
كالدفع لتوهم أنه لا يجير إلا أدناهم فتدخل المرأة في جواز إجارتها على المسلمين كما أفاده الحديث .
__________
(1) - صحيح بشواهده. رواه أحمد ( 1 / 195 )، وأبو يعلى ( 876 و 877 ).
(2) - صحيح بشواهده. رواه أحمد ( 4 / 197 ).
(3) - صحيح. رواه البخاري ( 6755 )، ومسلم ( 1370 ) وهو مرفوع في حديث طويل.
(4) - . حسن. رواه ابن ماجه ( 2685 ) من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ولكن لفظه ليس كما ذكره الحافظ، وإنما: ".. ويجير على المسلمين أدناهم، ويرد على المسلمين أقصاهم". ونحو الجملة الأخيرة عن ابن عباس عند ابن ماجه أيضاً ( 2683 ).ولكن رواه أبو داود ( 2751 ) باللفظ الذي ذكره الحافظ وأيضاً من طريق عمرو بن شعيب، به.
(5) - صحيح. وهو جزء من حديث رواه البخاري ( 3171 )، ومسلم ( ( 1 / 498 / رقم 82 ).(1/167)
أم هانىء: بنت أبي طالب، قيل: اسمها هند وقيل: فاطمة، وهي أخت علي بن أبي طالب رضي الله عنه "قدْ أجرْنا من أجرْت .وذلك أنها أجارت رجلين من أحمائها وجاءت إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم تخبره أن علياً أخاها لم يجز إجارتها، فقال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "قد أجرنا" الحديث.
والأحاديث دالة على صحة أمان الكافر من كل مسلم ذكر أو أنثى حر أم عبد مأذون أو غير مأذون لقوله: "أدناهم" فإنه شامل لكل وضيع، وتعلم صحة أمان الشريف بالأولى.
وعلى هذا جمهور العلماء وحملوه على أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أمضى ما وقع منها، وأنه قد انعقد أمانها لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سماها مجيرة، ولأنها داخلة في عموم المسلمين في الحديث على ما يقوله بعض أئمة الأصول أو من باب التغليب .
وخالف جماعة من أصحاب مالك فقالوا: لا يصح أمان المرأة إلا بإذن الإمام، وذلك لأنهم حملوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأم هانىء "قد أجرنا من أجرت" على أنه إجازة منه، قالوا: فلو لم يجزها لم يصح أمانه , قلت :وكذلك لو لم يجز الرجال لم يصح أمانهم حينئذ , فدل أن قول الجمهور هو الموافق للأدلة.
44 - وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَأَخْرِجَنَّ اَلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ اَلْعَرَبِ, حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِماً" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (1) .
وأخرجه أحمد بزيادة "لئن عشت إلى قابل" , قال النووي : لأنه صلى الله عليه وسلم كان عازما على إخراج الكفار من جزيرة العرب، كما أمر به في آخر عمره .
وأخرج الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أوصى عند موته بثلاث: منها "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"
__________
(1) - صحيح. رواه مسلم ( 1767 ).(1/168)
وأخرج البيهقي من حديث مالك عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب".
قال مالك: قال ابن شهاب: ففحص عمر عن ذلك حتى أتاه الثلج واليقين عن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أنه قال: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب فأجلى يهود خيبر" قال مالك: وقد أجلى يهود نجران وفدك أيضاً.
والحديث دليل على وجوب إخراج اليهود والنصارى والمجوس من جزيرة العرب لعموم قوله: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" وهو عام لكل دين، والمجوس بخصوصهم حكمهم حكم أهل الكتاب كما عرفت.
وأما حقيقة جزيرة العرب، فقال مجد الدين في القاموس: جزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند وبحر الشام ثم دجلة والفرات، أو ما بين عدن أَبْين إلى أطراف الشام طولاً، ومن جدّة إلى أطراف ريف العراق عرضاً؛ انتهى , وأضيفت إلى العرب لأنها كانت أوطانهم قبل الإسلام وأوطان أسلافهم وهي تحت أيديهم.
وبما تضمنته الأحاديث من وجوب إخراج من له دين غير الإسلام من جزيرة العرب قال مالك والشافعي وغيرهما.
قال الشيخ الإمام /حمود بن عقلاء الشعيبي – رحمه الله- في كتابه (القول المختار في حكم الاستعانة بالكفار) :
"وأما حدودها [أي جزيرة العرب] فقد اتفق المؤرخون والجغرافيون تقريباً على حدودها الثلاثة الغربي والجنوبي والشرقي واختلفوا في الحد الشمالي اختلافاً يقرب من أن يكون لفظياً . والذي يتلخص من كلام المؤرخين والجغرافيين في تحديد الجزيرة أنها تحد من الغرب ببحر القلزم المعروف بالبحر الأحمر ومن الجنوب بالبحر العربي ومن الشرق بالخليج العربي [خليج البصرة] ومن الشمال ببادية الشام .
قال شيخ الإسلام (جزيرة العرب التي هي من بحر القلزم إلى بحر البصرة ومن أقصى حجر اليمامة إلى أوائل الشام . بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم ولا تدخل فيها الشام وفي هذه الأرض كانت العرب حين البعث وقبله ) (اقتضاء الصراط المستقيم) .(1/169)
قال أبوعبيد والأصمعي "هي من حفر أبي موسى (حفر الباطن) إلى اليمن طولاً ومن رمل يبرين إلى منقطع السماوة عرضاً" .... وبالجملة فالجزيرة العربية هي قاعدة الإسلام والمسلمين ومنطلقه العريق وهي أولى البلاد بأن تكون خالصة للإسلام والمسلمين طاهرة من رجس اليهود والنصارى . بأي مسمى جاءوا إليها سواء مسمى الإعانة أو الدفاع أو الإقامة ولذا جاء التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم بتطهير الجزيرة العربية منهم .
قال ممليه عفا الله عنه : والعجب مما ذهب إليه بعض العلماء من أن المراد بجزيرة العرب التي ورد ذكرها في الأحاديث هي الحجاز فقط حيث خصصوا الحكم بإجلاء اليهود والنصارى والمشركين من الحجاز مع أن الحجاز لا ينطبق عليه تعريف الجزيرة لأن الجزيرة جزء من اليابسة يحيط به الماء من جميع جهاته أو من أغلبها والحجاز لا يحيط به الماء من جميع جهاته ولا من أغلبه وإنما يحده من جهة واحدة وهي الجهة الغربية فكيف يطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم جزيرة العرب في الأحاديث الكثيرة.
وقد بحثت عن دليل يخص الحجاز بهذه التسمية فلم أجد سوى أمرين استدل بهما القائلون بأن الحجاز هي جزيرة العرب وهما دليلان لا يوصلان إلى المدعى:
أما الأول : فقالوا إنه ورد عنه صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث قوله " أخرجوا اليهود من الحجاز "
وأما الثاني : فإنهم قالوا إن الحكام وبعض العلماء تركوا اليهود في اليمن وتيماء فلو كانت هذه الأماكن من الجزيرة لما تركوا اليهود فيهما . الجواب عن هذين الدليلين :-(1/170)
أما الأول: فإنه قوله صلى الله عليه وسلم أخرجوا اليهود من الحجاز وهو لا يتنافى مع قوله صلى الله عليه وسلم : أخرجوهم من جزيرة العرب لأن الحجاز جزء من جزيرة العرب ومعلوم أنه قد تقرر في علم الأصول أن ذكر يعض أفراد العام أو أجزاء الكل لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون بعض أفراد العام أو أجزاء الكل مخالفاً لحكم العام أو الكل أو موافقاً له . فإن كان موافقاً له فهو مؤكد له غير معارض له كما في ذكر إجلاء اليهود من الحجاز فإنه موافق لقوله " أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب " غير معارض له لأن الحجاز من جزيرة العرب وإن كان ذكر بعض أفراد العام أو أجزاء الكل مخالفاً لحكم العام أو الكل فهو مخصص له غير ناسخ له .
ثانياً : أما استدلالهم بترك بعض الحكام والعلماء لليهود في تيماء واليمن . فالجواب عنه أن يقال : أولاً : قد يكون لتركهم لليهود في اليمن وغيره مبرر يقتضي ذلك يكون تركهم في هذه الأماكن وعدم إجلائهم فيه مصلحة للإسلام والمسلمين تربوا على مفسدة بقائهم .
ثالثاً: وقد يكون غير قادرين على إجلائهم ...... وأما قول الشافعي : إنه لا يعلم أحداً أجلاهم من اليمن فليس ترك إجلائهم بدليل فإن أعذار من ترك ذلك كثيرة وقد ترك أبو بكر –رضي الله عنه- إجلاء أهل الحجاز مع الإ تفاق على وجوب إجلائهم لشغله بجهاد أهل الردة ولم يكن ذلك دليلاً على أنهم لا يُجلَون بل أجلاهم عمر-رضي الله عنة- وأما القول بأنه صلى الله عليه وسلم أقرهم في اليمن بقوله لمعاذ " خذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافراً " فهذا كان قبل أمره صلى الله عليه وسلم بإخراجهم فإنه كان عند وفاته كما عرفت . فالحق وجوب إجلائهم من اليمن لوضوح دليله .... فأما الدول الواقعة فيها فمنها جمهورية اليمن والمملكة والكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر وعمان .." ا.هـ .(1/171)
قال العلامة بكر أبو زيد في رسالته خصائص جزيرة العرب بعد ذكر حدود الجزيرة ( وعليه ؛ فالأردن , وسوريا , والعراق ؛ ليست في محدود أرض العرب ( جزيرة العرب ) التي عُرفت بهم في ظعنهم وإقامتهم ) ا.هـ .
قال الإمام الصنعاني : وقد كان آخر كلامه صلى الله عليه وآله وسلم "اخرجوا المشركين من جزيرة العرب" كما قال ابن عباس: أوصى عند موته.
وأخرج البيهقي من حديث مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: بلغني أنه كان من آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أنه قال: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقين دينان بأرض العرب".
والقول بأن تقريرهم في اليمن قد صار إجماعاً سكوتياً، لا ينهض على دفع الأحاديث، فإن السكوت من العلماء على أمر وقع من الآحاد أو من خليفة أو غيره من فعل محظور أو ترك واجب لا يدل على جواز ما وقع ولا على جواز ما ترك، فإنه إن كان الواقع فعلاً أو تركاً لمنكر وسكتوا لم يدل سكوتهم على أنه ليس بمنكر، لما علم من أن مراتب الإنكار ثلاث: باليد أو اللسان أو القلب، وانتفاء الإنكار باليد واللسان لا يدل على انتفائه بالقلب، وحينئذٍ فلا يدل سكوته على تقريره لما وقع حتى يقال قد أجمع عليه إجماعاً سكوتياً إذ لا يثبت أنه قد أجمع الساكت إلا إذا علم رضاه بالواقع، ولا يعلم ذلك إلا علام الغيوب.
وبهذا يعرف بطلان القول بأن الإجماع السكوتي حجة ولا أعلم أحداً قد حرر هذا في ردّ الإجماع السكوتي مع وضوحه والحمد لله المنعم المتفضل فقد أوضحناه في رسالة مستقلة. ا.هـ
قال الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد في رسالته خصائص جزيرة العرب :
فهذه الأحاديث في الصحاح نصُّ على أنّ الأصل شرعاً منع أيِّ كافرٍ – مهما كان دينه أو صفته – من الاستيطان والقرار في جزيرة العرب , وأن هذا الحكم من آخر ما عهده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمته .
وبناءً على ذلك :(1/172)
1- فليس لكافرٍ دخول جزيرة العرب للاستيطان بها .
2- وليس للإمام عقد الذمة لكافرٍ , بشرط الإقامة لكافرٍ بها , فإن عقده ؛ فهو باطل .
3- وليس للكافر المرور والإقامة المؤقتة بها إلا لعدة ليالٍ , لمصلحةٍ ؛ كاستيفاء دين , وبيع بضاعةٍ , ونحوهما .
4- وليس للكافر اتخاذ شيءٍ من جزيرة العرب داراً ؛ بتملكِ أرضٍ , أو بناءٍ عليها ؛ لأنه إذا حرِّمت الإقامة والاستيطان ؛ حُرِّمت الأسباب إليهما , وما حُرّم استعماله ؛ حُرّم اتخاذه . ولهذا ؛ فلو أحيى الكافر أرضا فيها – لوضع فاسدٍ يمكّنه - ؛ لم يُملّك بالإحياءِ , والواجب نزعه منه بوجهة الشرعيّ . ولو تملّك – كذلك – لم يكن له حق الشفعة , فليس لعرقٍ ظالم حق .
5- ولا تدفن جيفة كافر بها , فإن مات على أرض الجزيرة ؛ نقل عنها ؛ إلا للضرورة ؛ كالتعفن , فتغيّب جيفته في عماءٍ من الأرض , لا في مقبرةٍ تعد لهم .
6- بناءً على ما أجمع عليه العلماء من تحريم بناء المعابد الكفرية مثل الكنائس في بلاد المسلمين , وأنه لا يجوز اجتماع قبلتين في بلدٍ واحدٍ من بلاد الإسلام .. إلى أن قال : وفي الإقناع (4/ 287) قال الحجاوي في " باب حكم المرتد " ما نصّه نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية – رحم الله الجميع - :
( وقال الشيخ – أي شيخ الإسلام ابن تيمية -: من اعتقد أنّ الكنائس بيوت الله , وأن الله يعبد فيها , أو ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله وطاعة لرسوله , أو أنه يحب ذلك أو يرضاه , أو أعانهم على فتحها وإقامة دينهم , وأن ذلك قربة , فهو كافر . وقال في موضع آخر : من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله , فهو مرتد , وإن جهل أن ذلك محرم , عرّف ذلك , فإن أصر صار مرتداً ) انتهى .
بناء على جميع ما تقدم فإنه ليس لكافر إحداث كنيسةٍ فيها , ولا بيعةٍ ولا صومعةٍ , ولا بيت نارٍ , ولا نصب صنمٍ ؛ تطهيراً لها عن الدين الباطل , ولعموم الأحاديث .(1/173)
وعليه ؛ فليس للإمام الإذن بشيءٍ منها , ولا الإبقاء عليه ؛ محدثاً كان أو قديماً .
7- ولأنه لا يجوز إقرار ساكنٍ وهو على الكفرِ , فإن وجد بها كفّارٌ ؛ فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف . وعليه ؛ فلا تثبت الجزية في رقابهم مع الإقامة بها .
8- وبما أنّ جزيرة العرب دار إسلام أبداً ؛ فهي جميعها أرض عُشرٍ, لا تكون خراجيّةً أبداً , لأن الخراج بمنزلة الجزية , فكما لا تثبت في رقابهم مع الإقامة بها, لا تثبت في أرض تملّكوها ظُلماً بها , لكنّه الإسلام , أو السيف , أو الجلاء ) ا.هـ من رسالة خصائص جزيرة العرب للعلامة بكر أبو زيد .
من هنا يتبين أن الواجب والفرض في حق المسلمين إخراج الأمريكان وغيرهم من جزيرة العرب ولو كانوا معاهدين أو ذميين لعموم هذه الأدلة , فكيف وهم قد دخلوا محتلين مغتصبين لأرض الحرمين ينهبون خيراتها ويتحكمون فيها ويطارد المجاهدين والصالحين من أجلها فبدل أن يخرجوا الأمريكان حموهم وأخرجوا المسلمين من المهاجرين بدينهم من بلادهم والمستضعفين الذين يريدون الحرم الآمن فيقبض عليهم بحجة عدم حمل إقامة نظامية ومخالفة أنظمة الجوازات الطاغوتية ( من جنسيات ووطنيات وقوميات وأحكام جاهلية ) والأمريكان ومن معهم من البريطانيين وغيرهم من الكفرة يحمون , والرافضة أهل الشرك والضلال يدخلونهم الكعبة , والمجاهدين والمهاجرين يقبض عليهم في الحرم , وعلماء السوء والضلال يعتبرون من أوى مجاهدا مطاردا من أمريكا محدثاً ومن أدخل الأمريكان والرافضة ليس بمحدث قاتلهم الله أنى يؤفكون .(1/174)
وهذا الحكم – أي وجوب إخراج الكفار من الجزيرة – ليس خاصاً بالأمريكان فقط , بل يشمل كل من دان بغير دين الإسلام , من يهود ونصارى ومشركين , كما في الأحاديث , فيجب إخراج الأمريكان والبريطانيين والفرنسيين والإيطاليين والهولنديين والفلبينيين والبوذيين والشيوعيين والهندوس والرافضة المشركين وغيرهم من الكفرة هذا هو حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وفي أمثالهم .
ونحن نعلم أنهم لن يخرجوا بالحوارات , ولا بالخطب , ولا بالمفاوضات , ولا بالمظاهرات , وهم دخلوا بأكثر من ستين ألف جندي بطائراتهم ومدرعاتهم وقواتهم لينهبوا خيرات البلاد , فلن يخرجوا إلا بالقتل والتفجير والعمليات البطولية الإستشهادية والاقتحامات , والاغتيالات والترصد لهم في كل مكان , وإلا لن يخرجوا بغير ذلك وفلسطين خير شاهد وسيأتي الحديث على شبهة أنهم معاهدين أو ذميين في باب الجزية والهدنة .
45- وَعَنْهُ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي اَلنَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ, مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ اَلْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ, فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً, فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ, وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ فِي اَلْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ, عُدَّةً فِي سَبِيلِ اَللَّهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1)
) الإيجاف) من الوجف وهو السير السريع (الركاب ) بكسر الراء الإبل (الكُراع) اسم لجمع الخيل .
__________
(1) - صحيح. رواه البخاري ( 2904 )، ومسلم ( 1757 ) ( 48 ). "يوجف": الإ يجاف هو الإسراع، والمراد أنه حصل بلا قتال. "الكراع" الدواب التي تصلح للحرب.(1/175)
بني النضير: قبيلة كبيرة من اليهود وادعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد قدومه إلى المدينة على أن لا يحاربوه وأن لا يعينوا عليه عدوه، وكانت أموالهم ونخيلهم ومنازلهم بناحية المدينة فنكثوا العهد، وسار معهم كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى قريش فحالفهم، وكان ذلك على رأس ستة أشهر من واقعة بدر كما ذكره الزهري.
وذكر ابن إسحاق في المغازي أن ذلك كان بعد قصة أُحد وبئر معونة؛ وخرج إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستعينهم في دية رجلين قتلهما عمرو بن أمية الضمري من بني عامر فجلس النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم إلى جنب جدار لهم فتمالؤا على إلقاء صخرة عليه من فوق ذلك الجدار، وقام بذلك عمرو بن جحاش بن كعب فأتاه الخبر من السماء، فقام مظهراً أنه يقضي حاجة وقال لأصحابه: لا تبرحوا ورجع مسرعاً إلى المدينة، فاستبطأه أصحابه فأخبروا أنه رجع إلى المدينة، فلحقوا به فأمر بحربهم والمسير إليهم فتحصنوا فأمر بقطع النخل والتحريق وحاصرهم ست ليالٍ.
وكان ناس من المنافقين بعثوا إليهم أن اثبتوا وتمنعوا، فإن قوتلتم قاتلنا معكم فتربصوا فقذف الله الرعب في قلوبهم فلم ينصروهم، فسألوا أن يجلوا من أرضهم على أن لهم ما حملت الإبل فصولحوا على ذلك، إلا الحلقة بفتح الحاء المهملة وفتح اللام فقاف وهي السلاح فخرجوا إلى أذرعات وأريحا من الشام وآخرون إلى الحيرة ولحق آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب بخيبر وكانوا أول من أجلى من اليهود، كما قال تعالى: {لأول الحشر} والحشر الثاني من خيبر في أيام عمر رضي الله عنه.
وقوله: (مما أفاء الله على رسوله) الفيء: ما أخذ بغير قتال، قال في نهاية المجتهد: إنه لا خمس فيه عند العلماء، وإنما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب لأن بني النضير كانت على ميلين من المدينة فمشوا إليها مشاة غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه ركب جملاً أو حماراً، ولم تنل أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم مشقة في ذلك.(1/176)
وقوله: "كان ينفق على أهله" أي مما استبقاه لنفسه، والمراد أنه يعزل لهم نفقة سنّة، ولكنه كان ينفقه قبل انقضاء السنّة في وجوه الخير ولا يتم عليه السنّة، ولهذا توفي صلى الله عليه وآله وسلم ودرعه مرهونة على شعير استدانه لأجله.
وفيه دلالة على جواز ادخار قوت سنّة، وأنه لا ينافي التوكل، وأجمع العلماء على جواز الادخار مما يستغله الإنسان من أرضه، وأما إذا أراد أن يشتريه من السوق ويدخره فإن كان في وقت ضيق الطعام لم يجز بل يشتري ما لا يحصل به تضييق على المسلمين كقوت أيام أو أشهر، وإن كان في وقت سعة اشترى قوت السنّة. وهذا التفصيل نقله القاضي عياض عن أكثر العلماء(1).
46 - وَعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ, فَأَصَبْنَا فِيهَا غَنَمًا , فَقَسَمَ فِينَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَائِفَةً, وَجَعَلَ بَقِيَّتَهَا فِي اَلْمَغْنَمِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَرِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ (2) .
الحديث من أدلة التنفيل، وقد سلف الكلام فيه، فلو ضمه المصنف رحمه الله إليها لكان أولى.
__________
(1) 2- مختصراً من سبل السلام .
(2) - لا بأس به. رواه أبو داود ( 2707 ) من طريق عبد الرحمن بن غنم قال: رابطنا مدينة قنسرين مع شرحبيل بن السمط، فلما فتحها أصاب فيها غنما وبقرا، فقسم فينا طائفة منها وجعل بقيتها في المغنم، فلقيت معاذ بن جبل، فحدثته، فقال معاذ: فذكره. قلت: وفي سنده أبو عبد العزيز الأردني. قال أبو حاتم ( 4 / 2 / 170 ): "ما بحديثه بأس".(1/177)
47 - وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم "إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ, وَلَا أَحْبِسُ اَلرُّسُلَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1) .
"إني لا أخيسُ. في النهاية: لا أنقضه .
في الحديث دليل على حفظ العهد والوفاء به، ولو لكافر، وعلى أنه لا يحبس الرسول، بل يرد جوابه، فكأن وصوله أمان له فلا يجوز أن يحبس بل يرد.
48 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَتَيْتُمُوهَا, فَأَقَمْتُمْ فِيهَا, فَسَهْمُكُمْ فِيهَا, وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتْ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ, فَإِنْ خُمُسَهَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ , ثُمَّ هِيَ لَكُمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (2) .
قال القاضي عياض في شرح مسلم: يحتمل أن يكون المراد بالقرية الأولى هي التي لم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب، بل أجلى عنها أهلها وصالحوا، فيكون سهمهم فيها أي حقهم من العطاء كما تقرر في الفيء.
ويكون المراد بالثانية: ما أخذت عنوة، فيكون غنيمة يخرج منها الخمس والباقي للغانمين، وهو معنى قوله: "هي لكم" أي باقيها. وقد احتج به من لم يوجب الخمس في الفيء، قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً قبل الشافعي قال بالخمس في الفيء.
__________
(1) - صحيح رواه أبو داود ( 2758 )، والنسائي في "الكبرى" ( 5 / 205 )، وابن حبان ( 1630 ) عن أبي رافع قال: بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقي في قلبي الإسلام. فقلت: يا رسول الله! إني والله لا أرجع إليهم أبداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكر الحديث وعندهم "البرد" بدل "الرسل" وزادوا: "ولكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن، فارجع" قال: فذهبت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلمت.
(2) - صحيح رواه مسلم ( 1756 ).(1/178)
بَاب اَلْجِزْيَةَ وَالْهُدْنَةَ (1)
وقد عرفها الإمام ابن القيم –رحمه الله- في (أحكام أهل الذمة) 1/34 قال :( فالجزية هي الخراج المضروب على رؤوس الكفار إذلالاً وصغاراً . والمعنى : حتى يعطوا الخراج عن رقابهم . واختلف في اشتقاقها فقال القاضي في (الأحكام السلطانية) : اسمها مشتق من الجزاء إما جزاء على كفرهم لأخذها منهم صغاراً أو جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقاً قال صاحب (المغني) هي مشتقة من جزاه بمعنى قضاه لقوله تعالى ((لا تجزي نفس عن نفس شيئاً)) فتكون الجزية مثل الفدية . قال شيخنا : والأول أصح وهذا يرجع إلى أنها عقوبة أو أجرة ... ثم عقد فصل – رحمه الله - أن الجزية عقوبة وإذلال للكفار وليست أجرة عن سكنى الدار ثم بين خطأ القول بأنها أجرة من ستة وجوه ثم قال : ففساد هذا القول يعلم من وجوه كثيرة ) ا.هـ .
"والهدنة": هي متاركة أهل الحرب مدة معلومة لمصلحة قال ابن القيم :( أهل الهدنة" فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم سواءً كان الصلح على مال أو غير مال : لاتجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة .) وشرعت الجزية سنة تسع على الأظهر، وقيل سنة ثمان.
__________
(1) - كتب ناسخ "الأصل" هنا: "بلغ معارضة بأصل مؤلفه رحمة الله عليه على يد كاتبه أضعف خلق الله؛ عمر بن علي التتائي".(1/179)
49- عَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا - يَعْنِي: اَلْجِزْيَةُ - مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ رَوَاهُ اَلْبُخَارِيّ ُ (1) . وَلَهُ طَرِيقٌ فِي "اَلْمَوْطَأِ" فِيهَا اِنْقِطَاع ٍ (2) .
وهي ما أخرجه الشافعي عن ابن شهاب أنه بلغه: "أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أخذ الجزية من مجوس البحرين" قال البيهقي: وابن شهاب إنما أخذ حديثه عن ابن المسيب، وابن المسيب حسن المرسل، فهذا هو الانقطاع الذي أشار إليه المصنف.
وأخرج الشافعي من حديث عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: لا أدري كيف أصنع في أمرهم، فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يقول: "سنوا بهم سنّة أهل الكتاب".
وأخرج أبو داود والبيهقي عن ابن عباس قال: جاء رجل من مجوس هجر إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فلما خرج قلت له: ما قضى الله ورسوله فيكم قال: شراً؛ قلت: مه قال: الإسلام أو القتل. قال: وقال عبد الرحمن بن عوف: قبل منهم الجزية. قال ابن عباس: وأخذ الناس بقول عبد الرحمن وتركوا ما سمعت. قلت: لأن رواية عبد الرحمن موصولة وصحيحة ورواية ابن عباس هي عن مجوسي لا تقبل اتفاقاً.
__________
(1) - صحيح. رواه البخاري ( 3157 ).
(2) - روى مالك في "الموطأ" ( 1 / 278 / 42 ) عن جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه؛ أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم. فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". قلت: وهذا كما قال الحافظ هنا وفي "الفتح" ( 6 / 261 ): " هذا منقطع مع ثقة رجاله".(1/180)
وأخرج الطبراني عن مسلم بن علاء الحضرمي في آخر حديثه بلفظ "سنوا بالمجوس سنّة أهل الكتاب" وأخرج البيهقي عن المغيرة في حديث طويل مع فارس وقال فيه: "فأمرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدّوا الجزية" وكان أهل فارس مجوساً.
فدلت هذه الأحاديث على أخذ الجزية من المجوس عموماً ومن أهل هجر خصوصاً، كما دلت الآية على أخذها من أهل الكتاب اليهود والنصارى. قال الخطابي: وفي امتناع عمر رضي الله عنه من أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذها من مجوس هجر؛ دليل على أن رأي الصحابة أن لا تؤخذ الجزية من كل مشرك كما ذهب إليه الأوزاعي وإنما تقبل من أهل الكتاب.
وقد اختلف العلماء في المعنى الذي من أجله أخذت الجزية منهم. فذهب الشافعي في أغلب قوليه: إلى أنها إنما قبلت منهم لأنهم من أهل الكتاب وروي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقال أكثر أهل العلم: إنهم ليسوا من أهل الكتاب، وإنما أخذت الجزية من اليهود والنصارى بالكتاب ومن المجوس بالسنّة انتهى.
قلت: قدّمنا لك أن الحق أخذ الجزية من كل مشرك كما دل له حديث بريدة، ولا يخفى أن في قوله: "سنوا بهم سنّة أهل الكتاب" ما يشعر بأنهم ليسوا بأهل الكتاب. ويدل لما قدمناه قوله:
50 - وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ, عَنْ أَنَسٍ, وَعَن (1) عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْثٍ خَالِدُ بْنُ اَلْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ, فَأَخَذُوهُ ,(2) فَحَقَنَ دَمِهِ, وَصَالَحَهُ عَلَى اَلْجِزْيَةِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد َ(3) .
__________
(1) - سقط "عن" من "أ".
(2) - وفي "أ": "فأخذه"، والذي في "السنن": "فأخذه، فأتوه به".
(3) - حسن. رواه أبو داود ( 3037 )، والبيهقي ( 9 / 187 ) مطولا.(1/181)
هو أبو عمرو عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه العدوى القرشي. ولد قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسنتين وكان وسيماً جسيماً خيراً فاضلاً شاعراً مات سنة سبعين قبل موت أخيه عبد الله بأربع سنين؛ وهو جد عمر بن عبد العزيز لأمه روى عنه أبو أمامة ابن سهل بن حنيف وعروة بن الزبير (عن أنس) أي ابن مالك (وعن عثمان بن أبي سليمان رضي الله عنه) أي ابن جبير بن مطعم القرشي المكيّ، سمع أبا سلمة بن عبد الرحمن وعامر بن عبد الله بن الزبير وغيرهم (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر) , ودومة الجندل اسم محل .
قال الخطابي: أكيدر دومة: رجل من العرب يقال: إنه من غسان. ففي هذا دليل على أخذ الجزية من العرب كجوازه من العجم انتهى. قلت: فهو من أدلة ما قدمناه.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم بعث خالداً من تبوك والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بها في آخر غزاة غزاها وقال لخالد "إنك تجده يصيد البقر" فمضى خالد حتى إذا كان من حصنه بمبصر العين في ليلة مقمرة أقام وجاءت بقر الوحش حتى حكت قرونها بباب القصر فخرج إليها أكيدر في جماعة من خاصته، فتلقتهم جند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذوا أكيدر وقتلوا أخاه حسان فحقن رسول الله دمه وكان نصرانياً، واستلب خالد من حسان قباء ديباج مخوّصاً بالذهب، وبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأجار خالد أكيدراً من القتل حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن يفتح له دومة الجندل، ففعل، وصالحه على ألفي بعير وثمانمائة رأس وألفي درع وأربعمائة رمح فعزل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صفيه خالصاً، ثم قسم الغنيمة الحديث" . قوله صفيه : أي ما يأخذه قائد الجيش .
وفيه أنه قدم خالد بأكيدر على رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فدعاه إلى الإسلام فأبى فأقره على الجزية.(1/182)
51 - وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى اَلْيَمَنِ, وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَاراً, أَوْ عَدْلَهُ معافرياً أَخْرَجَهُ اَلثَّلَاثَةِ, وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ, وَالْحَاكِم ُ(1) . (أو عدلَهُ") بالعين المهملة مفتوحة وتكسر: المثل، وقيل: بالفتح ما عادل من جنسه وبالكسر ما ليس من جنسه، (معافرياً) النسبة إلى معافر، وهي بلد باليمن تصنع فيها الثياب فنسبت إليها، فالمراد أو عدله ثوباً معافرياً . والحديث دليل على تقدير الجزية بالدينار من الذهب على كل حالم أي بالغ، وفي رواية محتلم، وظاهر إطلاقه سواء كان غنياً أو فقيراً، والمراد أنه يؤخذ الدينار ممن ذكر في السنّة، وإلى هذا ذهب الشافعي فقال: أقل ما يؤخذ من أهل الذمة دينار عن كل حالم، وبه قال أحمد فقال: الجزية دينار أو عدله من المعافري لا يزاد عليه ولا ينقص.
إلا أن الشافعي جعل ذلك حداً في جانب القلة وأما الزيادة فتجوز لما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم صالح أهل نجران على ألفي حلة النصف في محرم والنصف في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً وثلاثين من صنف من أصناف السلاح يغزو بها المسلمون ضامنين لها حتى يردّها عليهم إن كان باليمن كيد".
قال الشافعي: وقد سمعت بعض أهل العلم من المسلمين ومن أهل الذمة من نجران يذكر: أن قيمة ما أخذوا من كل واحد أكثر من دينار وإلى هذا ذهب عمر فإنه أخذ زائداً على الدينار.
__________
(1) - صحيح. رواه أبو داود ( 3038 )، والنسائي ( 5 / 25 - 26 )، والترمذي ( 623 )، وابن حبان ( 794 )، والحاكم ( 1 / 398 ). المعافري: ثياب تكون باليمن، نسبة إلى بلد هناك.(1/183)
وذهب بعض أهل العلم: إلى أنه لا توقيف في الجزية في القلة ولا في الكثرة، وأن ذلك موكول إلى نظر الإمام، ويجعل هذه الأحاديث محمولة على التخيير والنظر في المصلحة. وهذا هو الحق .وفي الحديث دليل على أنها لا تؤخذ الجزية من الأنثى لقوله: "حالم".
قال في نهاية المجتهد: اتفقوا على أنه لا يجب الجزية إلا بثلاثة أوصاف: الذكورة والبلوغ والحرية. واختلفوا في المجنون والمقعد والشيخ وأهل الصوامع والفقير قال: وكل هذه مسائل اجتهادية ليس فيها توقيف شرعي قال: وسبب اختلافهم هل يقتلون أم لا؟ ا هـ.
هذا وأما رواية البيهقي عن الحكم بن عتيبة أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كتب إلى معاذ باليمن "على كل حالم أو حالمة ديناراً أو قيمته" فإسنادها منقطع وقد وصله أبو شيبة عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس بلفظ "فعلى كل حالم دينار أو عدله من المعافر ذكر أو أنثى حرّ أو عبد دينار أو عوضه من الثياب "لكنه قال البيهقي: أبو شيبة ضعيف . قلت ولا يصح عن الحكم إلا خمسة أحاديث وهذا ليس منها ..
وفي الباب عن عمرو بن حزم ولكنه منقطع، وعن عروة وفيه انقطاع، وعن معمر عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ وفيه "وحالمة" لكن قال أئمة الحديث: إن معمراً إذا روى عن غير الزهري غلط كثيراً. وبه يعرف أنه لم يثبت في أخذ الجزية من الأنثى حديث يعمل به.(1/184)
وقال الشافعي: سألت محمد بن خالد وعبد الله بن عمرو بن مسلم وعدداً من علماء أهل اليمن وكلهم حكوا عن عدد مضوا قبلهم يحكون عن عدد مضوا قبلهم كلهم ثقة أن صلح النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لأهل الذمة باليمن على دينار كل سنة ولا يثبتون أن النساء كنّ ممن يؤخذ منه الجزية. وقال عامتهم: ولم يؤخذ من زروعهم وقد كان لهم زروع ولا من مواشيهم شيئاً علمناه. وقال: وسألت عدداً كبيراً من ذمة أهل اليمن متفرقين في بلدان اليمن فكلهم أثبت لي لا يختلف قولهم أن معاذاً أخذ منهم ديناراً عن كل بالغ منهم وسموا البالغ حالماً قالوا: وكان في كتاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مع معاذ "أن على كل حالم ديناراً".
واعلم أنه يفهم من حديث معاذ وحديث بريدة المتقدّم أنه يجب قبول الجزية ممن بذلها، ويحرم قتله، وهو المفهوم من قوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية}: أنه ينقطع القتال المأمور به في صدر الآية من قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} بإعطاء الجزية، وأما جوازه وعدم قبول الجزية فتدل الآية على النهي عن القتال عند حصول الغاية، وهو إعطاء الجزية فيحرم قتالهم بعد إعطائها. وكل ما مضي من أخذ الجزية فهو في الكافر الأصلي أما المرتد فإنه يستتاب فإن لم يتب قتل وذلك في المرتد ردة غير مغلظة وإلا قتل بدون استتابه إن كانت ردته مغلظة لقوله عليه الصلاة والسلام ( من بدل دينه فاقتلوه ) .(1/185)
52 - وَعَنْ عَائِذٍ بْنُ عَمْرِوِ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اَلْإِسْلَامِ يَعْلُو, وَلَا يُعْلَى" أَخْرَجَهُ اَلدَّارَقُطْنِيّ ُ(1) . فيه دليل على علو أهل الإسلام على أهل الأديان في كل أمرٍ لإطلاقه، فالحق لأهل الإيمان إذا عارضهم غيرهم من أهل الملل كما أشير إليه في إلجائهم إلى مضايق الطرق، ولا يزال دين الحق يعلو ويزداد علواً، والداخلون فيه أكثر في كل عصر من الأعصار.
53 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَا تَبْدَؤُوا اَلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ, وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ, فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ" رَوَاهُ مُسْلِم ٌ (2) .
__________
(1) - حسن. رواه والدارقطني ( 3 / 252 / 31 ) بسند ضعيف، فيه مجهولان. وقد حسن الحافظ في" الفتح" ( 3 / 220 ) - سنده بعد أن عزاه للروياني والدارقطني، فلعله عند الروياني من طريق آخر غير طريق والدارقطني، وإلا فيكون ضعيفاً أيضاً. قلت: ولكن له شواهد تقويه مرفوعاً. وأيضاً يصبح موقوفاً على ابن عباس كما علقه البخاري، ووصله غيره.
(2) - صحيح. رواه مسلم ( 2167 ).(1/186)
فيه دليل على تحريم ابتداء المسلم لليهودي والنصراني بالسلام لأن ذلك أصل النهي وحمله على الكراهة خلاف أصله، وعليه حمله الأقل. وإلى التحريم ذهب الجمهور من السلف والخلف. وذهب طائفة منهم ابن عباس إلى جواز الابتداء لهم بالسلام وهو وجه لبعض الشافعية إلا أنه قال المازري: إنه يقال: السلام عليك بالإفراد، ولا يقال: السلام عليكم. واحتج لهم بعموم قوله تعالى: {وقولوا للناس حسنا} وأحاديث الأمر بإفشاء السلام. والجواب: أن هذه العمومات مخصوصة بحديث الباب. وهذا إذا كان الذمي منفرداً، وأما إذا كان معه مسلم جاز الابتداء بالسلام وينوي به المسلم، لأنه قد ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مر على مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين فسلم عليهم.
ومفهوم قوله: "لا تبدءوا" أنه لا ينهى عن الجواب عليهم إن سلموا. ويدل له عموم قوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} وأحاديث "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم" وفي رواية: "إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم فقولوا: وعليك".
واتفق العلماء على أنه يرد على أهل الكتاب ولكنه يقتصر على قوله: وعليكم، وهو هكذا بالواو عند مسلم في روايات، قال الخطابي: عامة المحدثين يروون هذا الحرف بالواو، قالوا: وكان ابن عيينة يرويه بغير الواو.
وقال الخطابي: هذا هو الصواب لأنه إذا حذف صار كلامه بعينه مردوداً عليهم خاصة، وإذا أثبت الواو اقتضى المشاركة معهم فيما قالوه.
قال النووي: إثبات الواو وحذفها جائزان صحت به الروايات، فإن الواو وإن اقتضت المشاركة فالموت هو علينا وعليهم ولا امتناع منه .
مسألة :هل يجوز السلام على الرافضة أو اليهود والنصارى من باب الدعوة ؟
الجواب : سئل شيخنا العلامة على الخضير فك الله أسره عن ذلك فقال :(1/187)
السلام على الرافضة أو غيرهم من الكفار لا يكون جائزاً إلا من باب الإكراه . وأما قولك من باب الدعوة فليس بصحيح , ولا دليل على مثله من باب الدعوة , بل قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( لاتبدؤا اليهود والنصارى بالسلام ) ولكن يجوز زيارتهم للإهداء لهم ,أي إهداء شريط أو كتاب ينصح فيه , أو ينصحه مباشرة والدليل على ذلك ما في الصحيح من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار عمه يدعوه إلى الإسلام , وروى الإمام أحمد أنه عليه الصلاة والسلام زار يهودياً فأسلم .ا.هـ
وفي الحديث دليل على إلجائهم إلى مضايق الطرق إذا اشتركوا هم والمسلمون في الطريق فيكون واسعهُ للمسلمين فإن خلت الطريق عن المسلمين فلا حرج عليهم. وأما ما يفعله اليهود في هذه الأزمنة من تعمد جعل المسلم على يسارهم إذ لاقاهم في الطريق فشيء ابتدعوه لم يروِ فيه شيء وكأنهم يريدون التفاؤل بأنهم من أصحاب اليمين فينبغي منعهم مما يتعمدونه من ذلك لشدة محافظتهم عليه ومضادة المسلم. ا.هـ ملخصاً من السبل .
قلت رحم الله الصنعاني لو رأي ما يفعله اليهود والنصارى اليوم , فلم توسع لهم الطرق فحسب بل أخليت لهم الديار وبنيت لهم القواعد ومنع المسلمون منها .(1/188)
54 - وَعَنْ اَلْمِسْوَرِ بْنُ مَخْرَمَةَ. وَمَرْوَان ُ; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ اَلْحُدَيْبِيَةِ. ... .. فَذَكِّرْ اَلْحَدِيثَ بِطُولِهِ, وَفِيهِ: " هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرِوٍ: عَلَى وَضْعِ اَلْحَرْبِ عَشْرِ سِنِينَ, يَأْمَنُ فِيهَا اَلنَّاسُ, وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد َ (1) . وَأَصْلِهِ فِي اَلْبُخَارِيّ ِ (2) .
قال الصنعاني : (فذكر الحديث) هكذا في نسخ بلوغ المرام بإفراد "ذكر" وكأن الظاهر "فذكرا" بضمير التثنية ليعود إلى المسور ومروان وكأنه أراد فذكر أي الراوي.
الحديث دليل على جواز المهادنة بين المسلمين وأعدائهم من المشركين مدة معلومة لمصلحة يراها الإمام وإن كره ذلك أصحابه ولا يجوز مهادنتهم مطلقا لما فيه من تعطيل الجهاد وهذا عقد باطل , فإنه ذكر في المهادنة ما يفيده الحديث الآتي وهو قوله:
__________
(1) - حسن. رواه أبو داود ( 2766 ) من طريق المسور ومروان بن الحكم؛ أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال. قلت: وهذا الحديث هو الذي قصده الحافظ - رحمه الله - وإن كان قد ساقه بلفظه هو، وأيضاً صرح بأن الحديث طويل، وليس الأمر كذلك، إذ ليس عند أبي داود سوى ما ذكرت. نعم ساق أبو داود الحديث في الصلح بطوله، لكنه من طريق المسور وحده ( 2765 ) ليس فيه محل الشاهد الذي ذكره الحافظ.
(2) - انظر ( 5 / 329 - 333 ).(1/189)
55 - وَأَخْرُجَ مُسْلِمٍ بَعْضِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ, وَفِيهِ: " أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدْهُ عَلَيْكُمْ, وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا. فَقَالُوا: أَنَكْتُبُ هَذَا يَا رَسُولُ اَللَّهُ? قَالَ: "نَعَمْ. إِنَّهُ مِنْ ذَهَبٍ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اَللَّهُ, وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ, فَسَيَجْعَلُ اَللَّهُ لَهُ فَرَجاً وَمُخْرِجاً" " (1) .
المراد من جاء من المسلمين إلى كفار مكة لم يردوه إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ومن جاء من أهل مكة إليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ردّه إليهم فكره المسلمون ذلك (فقالوا: أنكتب هذا يا رسول الله؟ قال: "نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءَنا منهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً".
فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كتب هذا الشرط مع ما فيه من كراهة أصحابه له. وقد ساقه ابن القيم في زاد المعاد وذكر فيه كثيراً من الفوائد.
وفيه أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رد إليهم أبا جندل بن سهيل وقد جاء مسلماً قبل تمام كتاب الصلح، وأنه بعد رده إليهم جعل الله له فرجاً ومخرجاً، ففر من المشركين ثم أقام بمحل على طريقهم يقطعها عليهم وانضاف إليه جماعة من المسلمين حتى ضيق على أهل مكة مسالكهم. والقصة مبسوطة في كتب السير.
__________
(1) - صحيح. رواه مسلم ( 1784 ).(1/190)
وقد ثبت أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لم يردّ النساء الخارجات إليه، فقيل لأن الصلح وقع في حق الرجال دون النساء، وأرادت قريش تعميم ذلك في الفريقين، فإنها لما خرجت أم كلثوم بنت أبي معيط مهاجرة طلب المشركون رجوعها فمنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، وأنزل الله تعالى الآية فيها: {فلا ترجعوهن إلى الكفار}. قال الصنعاني : والحديث دليل على جواز الصلح على رد من وصل إلينا من العدو كما فعله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أن لا يردّوا من وصل منا إليهم. وذكر ابن قدامه المقدسي –رحمه الله- أن رد الرجال مع عدم الحاجة من الشروط الفاسدة فقال في (شرح الكبير)10/380 : أو رد الرجال مع عدم الحاجة إليه ....فهذه كلها شروط فاسدة إلى أن قال .. ولا يجوز الوفاء بشيء من هذه الشروط " ا.هـ (يقصد المسلم الذي عند الكافر صاحب الهدنة وليس المسلم الذي عند المسلمين ويسلم إلى الكفار فهذه ردَّه ) .
قلت : والظاهر أن ذلك خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم إذ أنه قال ( ومن خرج منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً ) كما ذهب إلى هذا القرطبي (8/39) وأبو داود وغيرهما.
56- وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِو ٍ; (1) عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مِنْ قَتْلِ مُعَاهِداً لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ اَلْجَنَّةِ, وَإِنَّ رِيحَهَا لِيُوجَدَ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامّاً" أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيّ ُ (2) .
(لم يرحْ) أصله يراح أي لم يجد (رائحة الجنّة وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً". أخرجه البخاري
وفي لفظ للبخاري: "من قتل نفساً معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله ــــ الحديث". وفي لفظ له تقييد ذلك بغير جرم، وفي لفظ له بغير حق. وعند أبي داود والنسائي بغير حلها. والتقييد معلوم من قواعد الشرع.
__________
(1) - تحرف في "أ" إلى "عمر".
(2) - صحيح. رواه البخاري ( 3166 ).(1/191)
وقوله: "من مسيرة أربعين عاماً" وقع عند الإسماعيلي سبعين عاماً، ووقع عند الترمذي من حديث أبي هريرة. وعند البيهقي من رواية صفوان بن سليم عن ثلاثين من أبناء الصحابة بلفظ "سبعين خريفاً" وعند الطبراني من حديث أبيّ مسيرة مائة عام، وفيه من حديث أبي بكرة خمسمائة عام وهو في الموطأ من حديث آخر وفي مسند الفردوس عن جابر "إن ريح الجنة ليدرك من مسيرة ألف عام".
وقد جمع العلماء بين هذه الروايات المختلفة قال المصنف ما حاصله: إن ذلك الإدراك في موقف القيامة وإنه يتفاوت بتفاوت مراتب الأشخاص فالذي يدركه من مسيرة خمسمائة أفضل من صاحب السبعين إلى آخر ذلك؛ وقد أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي ورأيت نحوه في كلام ابن العربي .
وفي الحديث دليل على تحريم قتل المعاهد. وتقدم الخلاف في الاقتصاص من قاتله، وقال المهلب: في هذا دليل على أن المسلم إذا قتل المعاهد أو الذمي لا يقتص منه، قال: لأنه اقتصر فيه على ذكر الوعيد الأخروي دون الدنيوي. هذا كلامه.(1)
هذا في حق الذمي والمعاهد لا يقتص منه وهم يزعمون أن الأمريكان معاهدين فكيف يقتصون من المجاهدين ويقتلونهم , فكيف إذا عرفت أنهم ليسوا معاهدين , ولو عاهدهم الحاكم لم يصح لأنهم في جزيرة العرب بل كيف إذا علمت بأنهم محتلين معتدين على بلاد المسلمين في أفغانستان والعراق والجزيرة وغيرها فهل عرفت شدة تلبيس علماء السوء وجهل كثير من المسلمين بأمور دينهم ؟ وهل عرفت أن ما يقوم به المجاهدون هو أمر مشروع بل واجب ليس عليهم فحسب بل على جميع المسلمين حتى يخرج اليهود والنصارى من ديار المسلمين ؟
وهنا مسألة مهمة وهي:
__________
(1) 1- سبل السلام باختصار .(1/192)
من هم الذين تنطبق عليهم أحاديث الوعيد في قتل الذمي , وقد كانت من المسلمات عند المسلمين فأثار علماء السوء حولها بعض الشبه والضلال تبريراً لتخاذل حكامهم وتلبيساً على من أراد تنفيذ أمر الله وأمر رسوله صلي الله عليه وسلم من عداوة الكفار وقتالهم وبغضهم وعدم موالاتهم كما قال عمر لا نقربهم وقد أبعدهم الله ولا نعزهم وقد أذلهم الله هذا لمن؟ لأبي موسي الأشعري في كاتب أتخذه فكيف بمحارب محتل لبلاد المسلمين كالأمريكان وغيرهم,ولذا رأيت لزاماً على أن أذكر هذه المسألة بشيء من البسط لتتضح المسألة على من أراد الحق فإن اليهود والنصارى لاعهد لهم في زماننا ولا ذمة ولا نقول أنتقض عهدهم بل لاعهد لهم أصلاً لأن ما يسمي بالمعاهدات الدولية إنما بنيت على شروط فاسدة فضلاً عن أنها تمت بين كفار أصليين محتلين لبلاد المسلمين وبين عصابة الحكام المرتدين الذين وضعهم هؤلاء الكفار فالشروط فاسدة ومن عقدها لا يصح عقده فحسبنا الله على علماء السوء الذين كتموا الحق وأضلوا الخلق وقالوا الباطل وزينوه وباعوا دينهم بثمن بخس دراهم معدودة تذهب لذتها وتبقى عقوبتها ولبسوا على الناس بجعل هؤلاء ولاة أمر والدفاع عنهم في الحرم وفي غيره قال القاضي عياض: ( أجمع العلماء على أنّ الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنّه لو طرأ عليه كفر ينعزل... وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها... وكذلك عند جمهورهم البدعة... فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلاّ لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر ولا يجب في المبتدع إلاّ إذا ظنّوا القدرة عليه فإنّ تحقّقوا العجز لم يجب القيام فيها وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفرّ بدينه) [شرح صحيح مسلم للنووي 12/229.(1/193)
وقال ابن حجر: (وملخّصه أنّه ينعزل بالكفر إجماعاً، فيجب على كلّ مسلم القيام في ذلك) [فتح الباري 13/123.
واليك البرهان والدليل واليك البرهان والدليل على ما أقول . وقبل الشروع في بيان أحكام أهل العهد لابد من معرفة هؤلاء وما هي مصطلحات الفقهاء حتى ننزل الأحكام الشرعية عليهم.
أولاً : ينقسم الكفار إلى قسمين : ... ... 1- أهل حرب 2- أهل عهد .
ثانياً : وينقسم أهل العهد إلى ثلاثة أقسام : 1- أهل أمان 2 - أهل هدنة 3- أهل ذمه
قال ابن القيم - رحمه الله – في كتاب (أحكام أهل الذمة) 1/335 :
" الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد , وأهل العهد ثلاثة أصناف : أهل الذمة و أهل هدنة و أهل أمان , وقد عقد الفقهاء لكل صنف باباً فقالوا : باب الهدنة ، باب الأمان ، باب عقد الذمة ولفظ " الذمة والعهد " يتناول هؤلاء كلهم في الأصل . وكذلك لفظ " أهل الذمة " عبارة عمن يؤدي الجزية وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله ، إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله بخلاف "أهل الهدنة" فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم سواءً كان الصلح على مال أو غير مال : لاتجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة . "وأما المستأمن" فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهؤلاء أقسام : رسل وتجار ومستجيرون حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن فإن شاءوا دخلوا فيه وإن شاءوا رجعوا إلى بلادهم ، وطالبوا حاجة من زيارة أو غيرها وحكم هؤلاء ألا يهاجروا ولا يقتلوا ولا تؤخذ منهم الجزية وأن يعرض على المستجير منهم الإسلام والقرآن فإن دخل فيه فذاك وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحق به ولم يعرض له قبل وصوله إليه فإذا وصل مأمنه عاد حربياً كما كان .(1/194)
وقال الشيخ /عبد الرحمن بن قاسم في (حاشية الروض المربع ) 4/ 302" والفرق بين المعاهد والمستأمن والذمي أن المعاهد وهو من أخذ عليه العهد من الكفار و المستأمن هو من دخل دارنا منهم بأمن والذمي من استوطن دار الإسلام بتسليم الجزية "ا.هـ
وقال ابن القيم - رحمه الله – في كتاب (زاد المعاد)3/124" فصل :في هديه في الأمان والصلح ومعاملة رسل الكفار وأخذ الجزية ومعاملة أهل الكتاب والمنافقين وإجارة من جاءه من الكفار حتى يسمع كلام الله ورده إلى مأمنه ووفائه بالعهد وبراءته من الغدر " ا.هأولاً : الأمان , وهو عند الخوف ويحرم به قتل ورق وأسر وأخذ مال (الإقناع 2/117).ويصح أمان المسلم المكلف ذكراً كان أو أنثى حراً أو عبداً مطلقاً وجملة ذلك أن الأمان إذا أعطي أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم ويصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكراً كان أو أنثى حراً أو عبداً أو أسيراً (ابن قدامه المقنع 2/341)(وفي شرح المقنع ويسمى الشرح الكبير)10/ 341 وبهذا قال الثوري والشافعي والأوزاعي وإسحاق وابن القاسم وأكثر أهل العلم وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه - وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يصح أمان العبد إلا أن يكون مأذوناً له قي القتال لأنه لا يجب عليه الجهاد فلا يصح أمانه ... ثم قال الشيخ الشارح ولنا ما روى علي رضي الله عنه – عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال " ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منهم صرف ولا عدل " رواه البخاري والعبد إما أن يكون أدناهم فيصح أمانه بالحديث أو يكون غيره أدنى منه فيصح أمانه بطريق التنبيه " ا.هـ . (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف) 10/341 ) وهو مذهب الإمام أحمد رحمه .(1/195)
وفي الإقناع 2/117" ويشترط أن يكون من مسلم عاقل مختار ولو مميزاً حتى من عبد وأنثى وهرم وسفيه لا من كافر ولو ذمياً ولا من مجنون وسكران وطفل ومغمي عليه ونحوه "ا.هـ .إذاً لا يصح الأمان من الكافر , والذين جعلوا الأمان للأمريكان مرتدون ,لحكمهم بالقوانين الوضعية في التجارة والدماء والحدود والعسكرية وغيرها, وكذا تحاكمهم إلى الطاغوت كهيئة الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية بل هم عضو مؤسس فيها , واستحلالهم الربا فضلاً عن مناصرة الكفار ومظاهرتهم مما هو معلوم ومشتهر .
مسألة : هل ينعقد أمان لساب الرب سبحانه أولمن سب النبي صلى الله عليه وسلم ؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله في كتاب (الصارم المسلول على شاتم الرسول)صـ 402:
"الطريقة السابعة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله " وقد كان معاهداً قبل ذلك , ثم هجا رسول الله عليه الصلاة والسلام وقتله الصحابة غيلة بأمر رسول الله عليه الصلاة والسلام مع كونه قد أمنه على دمه وماله باعتقاده بقاء العهد , ولأنهم جاءوه مجيء من قد أمنه ولو كان كعب بمنزلة كافر محارب فقط لم يجز قتله إذا أمنهم كما تقدم , لأن الحربي إذا قلت له أو عملت معه ما يعتقد أنه أمان صار له أماناً , وكذلك كل من يجوز أمانه, فعلم أن هجاءه للنبي عليه الصلاة والسلام وأذاه لله تعالى ورسوله لا ينعقد معه أمان ولا عهد وذلك دليل على أن قتله حد من الحدود كقتل قاطع الطريق إذ ذلك يقتل وإن أُمِن كما يقتل الزاني والمرتد وان أمن وكل حد وجب على الذمي فإنه لا يسقط بالإسلام وفاقاً "ا.هـ
مسألة : أثار بعضهم شبهة وهي أن الأبطال العظام الذين قادوا السرايا المباركة في أمريكا قد دخلوا بأمان وهو( الفيزا أو تأشيرة الدخول) وقالوا أنه كما ذكر أبن تيمية هنا ,( أن الحربي إذا قلت له أو عملت معه ما يعتقد أنه أمان صار له أماناً) فكيف تدخل بأمانهم وتغدر بهم ؟(1/196)
فالجواب :كما قال ابن تيمية أيضاً هنا ( فعلم أن هجاءه للنبي عليه الصلاة والسلام وأذاه لله تعالى ورسوله لا ينعقد معه أمان ولا عهد ) فإن كعب بن الأشر ف كان له أمان أنتقض بسبه لله ورسوله وتحريضه على قتل المسلمين فدخل الصحابة بأمانه في حصنه وهو يظن بقاء العهد , وقاموا بعملية اغتيال ناجحة , بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم وأصل القصة في الصحيحين ومثلها قصة اغتيال سلام ابن أبي الحقيق وهي أيضاً في الصحيحين , وغير ذلك من الأدلة , فإذا اعتبرنا ذلك أمان , قلنا جاز قتلهم لأذاهم لله ولنبيه ولكتابه ولعباده المؤمنين .
فقتل أئمة الكفر من الأمريكيين والبريطانيين وغيرهم بالاغتيالات والبيات وغير ذلك إنما هو من هذا القبيل , ومن هنا يعلم الجميع أن شباب الجهاد لا يقومون بأعمال مخالفة للشرع , وإنما هي مخالفة للطواغيت وعملائهم وسدنتهم ومخالفة لأنظمة الكفر, مقررين بذلك أصل دين الإسلام كما قال الإمام محمد بن عبد الوهاب وهو أمر الله وأمر رسوله من الكفر بالطاغوت والإيمان بالله, فلله درهم وبوركت جهودهم ونصرهم الله على من خالفهم وأخزى من خذلهم .
ثانياً : أما أهل الهدنة :-(1/197)
قال الشيخ / شمس الدين ابن قدامه المقدسي في (شرح الكبير) 10/373 " ومعناها أن يعقد الإمام أو نائبه عقداً على ترك القتال مدة بعوض وبغير عوض ويسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة وهي جائزة لقوله تعالى ((براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين )) وقوله ((وإن جنحوا للسلم فاجنح لها )) وروى مروان والمسور بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بن عمرو على وضع القتال عشر سنين ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتى يقوى المسلمون . وإنما تجوز النظر للمسلمين إما لضعفهم عن القتال أو للطمع في إسلامهم بهدنتهم أو في أدائهم الجزية أو غير ذلك من المصالح وتجوز على غير مال لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح يوم الحديبية على غير مال وتجوز على مال يأخذه منهم فإنها إذا جازت على غير مال فعلى مال أولى ..." ا.هـ انظر (الإقناع) 2/123
قال الشيخ موفق الدين ابن قدامه –رحمه الله- ولا يجوز ذلك (أي الهدنة) إلا على وجه النظر للمسلمين وتحصيل المصلحة لهم لقول الله تعالى ((فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون )) ولأن هدنتهم من غير حاجة , ترك للجهاد الواجب لغير فائدة " (الكافي)5/573 .
مسألة :من هو الذي يعقد الهدنة:-
قال الشيخ / ابن قدامه المقدسي –رحمه الله – في (المغني)13/213 "ولا يصح عقد الذمة والهدنة إلا من الإمام أو نائبه . وبهذا قال الشافعي "ولا نعلم فيه خلافاً . لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة "ا.هـ(الإقناع)2/123 " (الكافي) 5/577" (الشرح الكبير) 10/388 " قلت قد مر معنا أنه لا يصح إلا من حاكم مسلم .ولأن الأمان غير الهدنة فإن الأمان كما مر يصح من كل مسلم ,أما الهدنة فلا تصح إلا من الأمام أو نائبه .
شروط عقد الهدنة :(1/198)
قال الشيخ / شمس الدين ابن قدامه المقدسي –رحمه الله- في (شرح الكبير)10/380 "الشروط في عقد الهدنة تنقسم قسمين ، صحيح وفاسد . فالفاسد مثل أن يشترط نقضها لمن شاء منهما فلا يصح ذلك لأنه يفضي إلى ضد المقصود منها وكذلك إن شرط رد النساء المسلمات إليهم أو مهورهن أو رد سلامهم أو إعطاءهم شيئاً من سلاحنا أومن آلة الحرب أو يشترط لهم مالاً في موضع لا يجوز بذله أو يشترط رد الصبيان أو رد الرجال مع عدم الحاجة إليه ( انظر أخي لا يرد المسلم الذي عند الكافر صاحب الهدنة لغير حاجة ليس المسلم الذي عند المسلمين ويسلم إلى الكفار فهذا تولي وردَّه عن الإسلام {ومن يتولهم منكم فإنه منهم } ) فهذه كلها شروط فاسدة وكذلك إن شرط إدخالهم الحرم لقوله تعالى ((إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا )) ولا يجوز الوفاء بشيء من هذه الشروط " ا.هـ . فإن شرط في الهدنة شرطاً فاسداً ... فهل يبطل عقد الهدنة ؟ على وجهين بناءً على الشروط الفاسدة ومتى وقع العقد باطلاً فدخل بعض الكفار دار الإسلام فإن الأمان لم يصح " ا.هـ ( الكافي ) 5/577 " وقال المرداوي في (الإنصاف) 10/380 " إذا شرط في المهادنة نقضها متى شاء أو رد النساء إليهم أو سلاحهم أو إدخالهم الحرم بطل الشرط قولاً واحداً " ا. هـ .
مسألة : هل يجوز أن تكون الهدنة مطلقاً مع اليهود والنصارى والمشركين ؟
قال الشيخ شمس الدين بن قدامة – رحمه الله- ( الشرح الكبير 10/378 ) " ولا يجوز عقدها إلا على مدة معلومة لأن مهادنتهم مطلقاً تفضي إلى تعطيل الجهاد بالكلية لكونها تقتضي التأبيد فلم يجز ذلك وتجوز على المدة القصيرة والطويلة على حسب ما يراه الإمام من المصلحة .... وإن قال هادنتكم ما شئتم لم يصح لأنه جعل الكفار متحكمين على المسلمين وإن قال : ما شئنا أو شاء فلان أو شرط لنفسه دونهم لم يجز أيضا " ا.هـ(1/199)
وقال الشيخ / موفق الدين ابن قدامه المقدسي –رحمه الله- " ولا يجوز عقد الهدنة مطلقاً غير مقدرة بمدة لأن إطلاقها يقتضي التأبيد فيفضي إلى ترك الجهاد أبداً ويرجع في تقديرها إلى رأي الإمام على ما يراه من المصلحة في قليل و كثير "ا.هـ .
ومن هنا تعرف أخي طالب الحق أن المعاهدات والقرارات التي تنادي بالسلام المطلق ومكافحة الإرهاب (أي الجهاد ) ووضع الحدود بين الدول لمنع الجهاد والغزو أنها تكفي لبيان ردة هؤلاء الحكام الخونة لدينهم وأمتهم وأن دعوة الحوار والتعايش هي دعوة باطلة روج لها دعاة منتكسون. وأنظر كلام ابن القيم في (زاد المعاد) 3/421 . فصل وفيها جواز صلح ....
وكذلك من الشروط الفاسدة :
1- أي شرط فيه اعتراف أو إقرار للكفار على شبر من أراضي المسلمين , فلا يقرون بالبقاء في فلسطين ولا أفغانستان ولا جزيرة العرب ولا غيرها من بلاد المسلمين التي كانت في يوم من الأيام تحت حكمهم .جاء في فتح العلي المالك ( 1/ 289) ( وإذا أوقع الخليفة الصلح مع النصارى والمسلمون لا يرون إلا الجهاد فمهادنته منقوضة وفعله مردود ) ا.هـ
2- أن لا يتضمن شرط فيه تعطيل شعيرة الله أو إهمال شعائره أو إذلالاً للمسلمين وغير ذلك مما سيأتي .
ولذا فالحل السياسي والمفاوضات في فلسطين باطلة بطلاناً أصلياً لا يلحقها الإجازة ولا التصحيح حتى يخرج اليهود صاغرين من فلسطين.(1/200)
وكيف تقام المعاهدات وكيف تكون هدنة مع اليهود وهم لم يخرجوا من فلسطين فضلاً عن ذل المسلمين والأذى الذي لحقهم ولحق المساجد وعلى رأسها المسجد الأقصى , ولكن جهل هذه الأحكام الشرعية في فقه الجهاد , وجهل التوحيد من جهة أخري جعلت الأحزاب المقاتلة الإ من رحم الله تضع يدها في يد الطاغوت ياسر عرفات العميل العلماني الذي يصرح بالديمقراطية ويؤمن بمجلس الكفر وهيئته ( مجلس الأمم ) والديمقراطية دين { ومن يبتغي غير الإسلام دين فلن يقبل منه } وما رئيس الوزراء الجديد محمود عباس أبو مازن إلاّ أشد كفراً من عرفات فهو بهائي , والبهائية لا يؤمنون بجنة ولا نار ويجيزون نكاح المحارم وغير ذلك , فكيف ينتصرون ولم يكفروا بالطاغوت ولم يحققوا التوحيد , وهم لازالوا يتعاونون كذلك مع الرافضة لعنهم الله والنصيرية والدروز وغيرهم وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه [ من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله ] رواه مسلم وأحمد . وان خاف وإن خاف نقض العهد منهم نبذ إليهم عهدهم لقول الله تعالى ((وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ))
وقال الإمام ابن القيم –رحمه الله- "
وفيها: أن أهل العهد إذا حاربوا من هم في ذمة الإمام وجواره وعهده. صاروا حرباً له بذلك ولم يبق بينهم وبينه عهد فله أن يبيتهم في ديارهم. ولا يحتاج أن يعلمهم على سواء وإنما يكون الإعلام إذا خاف منهم الخيانة فإذا تحققها صاروا نابذين العهد "ا.هـ (زاد المعاد) 3/420. (الشرح الكبير) 10/389 ) (الإنصاف)10/389 ).
ثالثاً : أما أهل الذمة :
فقد مر معنا أنه لا يجوز عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه . (المغني) 13/213 ).(1/201)
وأما صفة العقد : أقررتكم بجزية واستسلام . أو يبذلون ذلك فيقول أقررتكم على ذلك ونحوهما . فالجزية مال يؤخذ منهم على وجه الصغار كل عام بدلاً عن قتلهم وإقامتهم بدارنا "ا.هـ ( الحجاوي في الإقناع2/127)
مسألة : من هم أهل الذمة الذين يعقد لهم ؟
هذه المسألة مبنية على مسألة أخرى , وهى ممن تؤخذ الجزية ؟ فعندما وقع الخلاف في هذه المسألة وقع الخلاف في أهل الذمة أقول وقع الإجماع على أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس . ووقع الخلاف في عبدة الأوثان من العجم والعرب , والصحيح كما تقدم في حديث بريدة وغيره أنها تؤخذ من كل كافر .
قد يقول قائل : ما علاقة مسألة من هم أهل الذمة بمسألة ممن تؤخذ الجزية ؟
نقول لأن الجزية أول شروط عقد الذمة فلا تصح ذمة إلا بجزية وبالتالي إذا عرفت من هم أهل الجزية عرفت من هم أهل الذمة .
قال ابن القيم –رحمه الله- في كتاب (أحكام أهل الذمة) 1/28 "والمسألة مبنية على حرف : وهو أن الجزية هل وضعت عاصمة للدم أو مظهراً لصغار الكفار وإذلال أهله فهي عقوبة. فمن راعى فيها المعنى الأول قال : يلزم من عصمها لدم من خف كفره بالنسبة إلى غيره – وهم أهل الكتاب – أن تكون عاصمة الدم من يغلظ كفره . ومن راعى فيها المعنى الثاني قال : المقصود إظهار صغار الكفر وأهله وقهرهم وهذا أمر لا يختص أهل الكتاب بل يعم كل كافر . قالوا : وقد أشار النص إلى هذا المعنى بعينه في قوله ((حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)) فالجزية صغار وإذلال ."ا.هـ(1/202)
المراد بالمعنى الأول – وهو عصمة الدم – أي أن الجزية تعصم من خف كفره كأهل الكتاب والمجوس لقوله "سنوا بهم سنة أهل الكتاب " وبالتالي لا تكون عاصمة لمن غلظ كفره كعبدة الأوثان وغيرهم من المشركين . والمراد بالمعنى الثاني – الذلة والصغار – أي أن الجزية ذلة وصغار لكل كافر سواءً كان من أهل الكتاب أو المجوس أو عبدة الأوثان أو غيرهم من المشركين فيدفعها للمسلمين ، وهو ذليل صاغر لقوله (( عن يد وهم صاغرون )) والمعنى الثاني هو الذي رجحه ابن القيم وأن الجزية تؤخذ من كل كافر لأنها وضعت صغاراً وإذلالاً فقال –رحمه الله- في (أحكام أهل الذمة) 1/36 " قد تبين بما ذكرنا أن الجزية وضعت صغاراً وإذلالاً للكفار ...."ا.هـ
وبالتالي تعقد الذمة مع كل كافر على ترجيح ابن القيم وغيره من العلماء بناءً على أن الجزية تؤخذ من كل كافر إذلالاً وصغاراً له . والله أعلم .
قال في (المغني) 13/207 "فصل : ويجوز عقد الذمة المؤبدة بشرطين . أحدهما : أن يلتزموا إعطاء الجزية في كل حول . والثاني : التزام أحكام الإسلام وهو قبول ما يحكم به عليهم من أداء حق أو ترك محرم لقول الله تعالى (( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )) وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة " فادعهم إلى أداء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم "ا.هـ (الإقناع) 2/127 )
قال الحجاوي (الإقناع)2/132) وإذا شرط في الذمة شرط فاسد مثل أن يشرط أن الجزية عليهم أو إظهار المنكر أو إسكانهم الحجاز ونحوه فسد العقد :ا.هـ .
رابعاً : حالات المعاهد : قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله للمعاهد ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يستقيم لنا فنستقم له كما استقام فيكون مخلى سبيله لكن ليس أخا في الدين .(1/203)
الحالة الثانية : أن يتوب من الكفر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة فيصير أخاً في الدين ولهذا لم يقل هنا فخلوا سبيلهم كما قال في الآية قبلها،لأن الكلام هناك في توبة المحارب وتوبته توجب تخلية سبيله . وهنا الكلام في توبة المعاهد وقد كان سبيله مخلى وإنما توبته توجب أخوته في الدين . قال سبحانه ((ونفصل الآيات لقوم يعلمون)) .
الحالة الثالثة : أن ينكث يمينه بعد عهده ويطعن في ديننا فأمر بقتله وبين أنه ليس له أيمان ولا إيمان والمقصود من قتاله أن ينتهي عن النقض والطعن لا عن الكفر فقط لأنه قد كان معاهداً مع الكفر ولم يكن قتاله جائزاً فعلم أن الانتهاء من مثل هذا عن الكفر ليس هو المقصود بقتاله وإنما المقصود بقتاله انتهاؤه عن ما أضر به المسلمين من نقض العهد والطعن في الدين وذلك لا يحصل إلا بقتل الواحد الممكن وقتال الطائفة الممتنعة قتالاً يعذبون به ويخزون وينصر المؤمن عليهم إذ تخصيص التوبة بحال دليل على انتفائها في الحال الأخرى "ا.هـ .(الصارم المسلول على شاتم الرسول )( ص 395)"
خامساً : الأحكام العمرية [ أحكام عمر بن الخطاب –رضي الله عنه – في أهل الذمة ] :-
قال الإمام ابن القيم –رحمه الله- في كتاب (أحكام أهل الذمة) 2/113(1/204)
" قال عبد الله ابن الإمام أحمد :حدثني أبو شرحبيل ألحمصي عيسى بن خالد قال حدثني عمر أبو اليمان وأبو المغيرة قالا : أخبرنا إسماعيل بن عياش قال : حدثنا غير واحد من أهل العلم قالوا : كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غَنم :" إننا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها ديراً ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا ماكان منها في خطط المسلمين وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً وألا نكتم غشاً للمسلمين وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفياً في جوف كنائسنا . ولا نظهر عليها صليباً ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القرءاة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون وألا نخرج صليباً ولاكتاباً في سوق المسلمين وألا نخرج باعوثاً –قال : والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر – ولا شعانين [قال المحقق : الشعانين عيد النصارى يقع يوم الأحد السابق لعيد الفِصح يحتفل به النصارى زاعمين دخول المسيح عليه السلام] ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين وألا نجاورهم بالخنازير ولا نبيع الخمور ولا نظهر شركاً ولا نرغِّب في ديننا ولا ندعو إليه أحداً ولاً نتخذ شيئاً من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين وألا نمنع أحداً من أقربائنا أرادوا الدخول في الإسلام .(1/205)
وأن نلزم زينا حيثما كنا وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم وأن نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا ونشد الزنانير على أوساطنا ولا ننقش خواتمنا بالعربية ولا نركب السرج ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشدهم الطريق ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس ولا نطلع عليهم في منازلهم ولا نعلم أولادنا القرآن ولا يشارك أحد منا مسلماً في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة . وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط ما نجد . ضمنا لك ذلك على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق " فكتب ذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- فكتب إليه عمر :" أن امضِ لهم ما سألوا وألحق فيهم حرفين اشترطها عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم : ألا يشتروا من سبايانا ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده " فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط . قال الخلال في كتاب (أحكام أهل الملل) أخبرنا عبد الله بن أحمد "فذكره .... قال ابن القيم : وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها . ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها فذكر أبو القاسم الطبري – من حديث أحمد بن يحي الحلواني – حدثنا عبيد بن جياد حدثنا عطاء بن مسلم الحلبي عن صالح المرادي عن عبد خير قال :" رأيت علياً صلى العصر فصف له أهل نجران هذا والله خطي بيدي وإملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أمير المؤمنين أعطنا ما فيه . قال ودنوت منه فقلت : إن كان راداً على عمر يوماً فاليوم يرد عليه .(1/206)
فقال : لست براد على عمر شيئاً صنعه وإن عمر كان رشيد الأمر وإن عمر أخذ منكم حيزاً مما أعطاكم ولم يجرَّ عمر ما أخذ منكم إلى نفسه إنما جرَّه لجماعة المسلمين "ا.هـ .
وقال شيخ الإسلام – رحمه الله – (في اقتضاء الصراط المستقيم ) ص 121 " وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم ، وهي مجمع عليها في الجملة بين العلماء من الأئمة المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة ولولا شهرتها عند الفقهاء لذكرنا ألفاظ كل طائفة فيها ..." ا.هـ .
وقال أيضاً ( وعليه العمل عند أئمة المسلمين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عليكم بسنتي , وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي , تمسكوا بها , وعضوا عليها بالنواجذ , وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل محدثة بدعة , وكل بدعة ضلالة ) , وقوله صلى الله عليه وسلم اقتدوا بالذين من بعدي ؛ أبي بكر وعمر ) ؛ لأن هذا صار إجماعاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , الذين لا يجتمعون على ضلالة على ما نقلوه وفهموه من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , وهذه الشروط مروية من وجوه مختصرة ومبسوطة ) الفتاوى (28/652).
سادساً : شرح ابن القيم – رحمه الله- لهذه الشروط في كلام نفيس جداً . وقد اخترت بعض الشرح .
فقال رحمه الله 2/160 " فصل : قولهم " ولا نرغِّب في ديننا ولا ندعو إليه أحداً "(1/207)
هذا من أولى الأشياء أن ينتقض العهد به فإنه حراب الله ورسوله باللسان وقد يكون أعظم من الحراب باليد . كما أن الدعوة إلى الله ورسوله جهاد بالقلب وباللسان . وقد يكون أفضل من الجهاد باليد . ولما كانت الدعوة إلى الباطل مستلزمة – ولابد – للطعن في الحق كان دعاؤهم إلى دينهم وترغيبهم فيه طعناً في دين الإسلام وقد قال تعالى (( وإن نقضوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر)) ولا ريب أن الطعن في الدين أعظم من الطعن بالرمح والسيف . فأولى ما انتقض به العهد الطعن في الدين ولو لم يكن مشروطاً عليهم فالشرط ما زاده إلا تأكيداً وقوة" ا.هـ وهذا بالضبط ما تقوم به شركات النصارى ومؤسساتهم وهيئاتهم من التنصير للمسلمين.
وقال 2/164 "فصل قولهم " وألا نمنع أحداً من أقربائنا أراد الدخول في الإسلام "
فهذا أيضاً يقتضي انتقاض عهدهم به فإنه مشروط عليهم وهو أيضاً محاربة لله ورسوله بالمنع من الدخول في دينه فالأول دعاء إلى الدخول في الكفر وترغيب فيه وهذا منع لمن أراد الانتقال منه والعدول عنه" ا.هـ .
فكيف بهم كما في مصر وغيرها من قتلهم وتعذيبهم للقسيسين إذا دخلوا الإسلام .
وقال 2/165" فصل : وقولهم " وأن نلزم زينا حيثما كنا وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا فرق الشعر ولا في مراكبهم "(1/208)
هذا أصل الغيار وهو سنة سنها من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وجرى عليها الأئمة بعده في كل عصر ومصر . وقد تقدمت بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أبو القاسم الطبري في سياق ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على وجوب استعمال الغيار لأهل الملل الذين خالفوا شريعته . صغاراً وذلاً وشهرة وعَلَما عليهم ليعرفوا من المسلمين في زيهم ولباسهم ولا يتشبهوا بهم . وكتب عمر إلى الأمصار أن تجز نواصيهم وألا يلبسوا لبسة المسلمين حتى يعرفوا . وعن عمر بن عبد العزيز مثله . قال :وهذا مذهب التابعين وأصحاب المقالات من الفقهاء المتقدمين والمتأخرين . ثم ساق من طريق العرياني : حديث عبد الرحمن بن ثابت عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله لا يشرك به وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم "رواه الإمام أحمد في مسنده .قال أبو القاسم .هذا أحسن حديث روي في الغيار وأشبه بمعناه وأوجه في استعماله لما ينطق بمعناه ومفهومه بما يقتضي فحواه من قوله "وجعل الذل والصغار على من خالف أمري"فأهل الذمة أعظم خلافاً لأمره وأعصاه لقوله، فهم أهل أن يذلوا بالتغيير عن زي المسلمين الذين أعزهم الله بطاعته وطاعة رسوله من الذين عصوا الله ورسوله فأذلهم وصغرهم وحقرهم حتى تكون سمة الهوان عليهم فيعرفوا بزيهم . ودلالته ظاهرة في وجوب استعمال الغيار على أهل الذمة في قوله صلى الله عليه وسلم "من تشبه بقوم فهو منهم " ومعناه إن شاء الله أن المسلم يتشبه بالمسلم في زيه فيعرف أنه مسلم والكافر يتشبه بزي الكافر فيعلم أنه كافر فيجب أن يجبر الكافر على التشبه بقومه ليعرفه المسلمين به .(هذا قول أبي القاسم الطبري) "ا.هـ(1/209)
أما لباسهم فهو أن يلبسوا ثوباً يخالف لونه لون سائر الثياب .... كخرقة يجعلها في عمامته أو قلنسوة يخالف لونُها لونَها ولا يمنعون لبس فاخر الثياب ولا العمائم ولا الطيلسان لأن التميز حصل بالغيار والزنار (المغني) 12/247 " الشرح الكبير 10/447)
والواقع أن أبناء المسلمين اليوم إلا من رحم الله هم الذين تشبهوا بالكفار في زيهم ولباسهم بل ألزمت حكوماتهم الكافرة جندها بلبس البنطلون والقبعة تشبهاً بالكفار وقد نهينا عن ذلك , ولم نسمع بهذه العزة إلا ما كان من الإمارة الإسلامية في أفغانستان أيام الطالبان أعادهم الله ونصرهم فقد أمر الملا محمد عمر بتطبيق هذه الشروط فلله دره .
وقال ابن القيم –رحمه الله- 2/181 " فصل قالوا" ولا نتقلد السيوف "(1/210)
يمنع أهل الذمة من تقليد السيوف لما بين كونهم أهل ذمة وكونهم يتقلدون السيوف من التضاد فإن السيوف عز لأهلها وسلطان . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا يشرك به وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم " فبالسيف الناصر والكتاب الهادي عزَّ الإسلام وظهر في مشارق الأرض ومغاربها وقال تعالى ((لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد)) وهو قضيب الأدب . وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة :" بيده قضيب الأدب" فبعث الله رسوله ليقهر به أعداءه ومن خالف أمره .فالسيف من أعظم ما يعتمد في الحرب عليه ويرهب به العدو وبه ينصر الدين ويذل الله الكافرين والذمي ليس من أهل حمله والعز به . وكذلك يمنعون من اتخاذ أنواع السلاح وحملها على اختلاف أجناسها كالقوس والنشاب والرمح وما يبقى بأسه . ولو مكنوا من هذا لأفضى إلى اجتماعهم على قتال المسلمين وحرابهم "ا.هـ . ولا نتقلد السيوف الله المستعان , تقلدوا الرشاشات في جدة والرياض بل الدبابات والطائرات بل ليس لنا شيء ولهم الأساطيل في بلادنا .
وقال 2/201 "فصل " وأن من ضرب مسلماً فقد خلع عهده "(1/211)
وهذا لأن عقد الذمة اقتضى أن يكونوا تحت الذلة والقهر وأن يكون المسلمون هم الغالبين عليهم فإذا ضربوا المسلمين كان هذا الفعل مناقضاً لعهد الذمة الذي عاهدهم عليه . وهذا أحد الشرطين اللذين زادهما عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- وألحقهما بالشروط . فإن عبد الرحمن بن غنم لما كتب إلى عمر بن الخطاب بكتاب الشروط قال :" أمضِ لهم ما سألوه وألحق فيه حرفين أشترطها عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم : ألا يشتروا من سبايانا شيئاً ومن ضرب مسلماً عمداً خلع عهده " فأقر بذلك من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط "ا.هـ .فكيف بمن قتل عشرة ملايين من المسلمين , ثم يقولون لهم عهد .
قلت : - والذمي الذي يكون في بلاد المسلمين تحت حكمهم غير الكافر الحربي الذي في دياره مستقل عن حكم الإسلام وذلك كما تقرر سابقاً في غير جزيرة العرب أما في الجزيرة فيحرم إقامة الكفار واستيطانهم لا ذميين ولا محاربين ولا عمال ولا خدم فضلاً عن محتلين غازين كالأمريكان .
سابعاً : الأماكن التي يمنع منها أهل الذمة وغيرهم ؟
وقال الإمام ابن القيم –رحمه الله- في (أحكام أهل الذمة) 1/141 " فصل الأماكن التي يمنع أهل الذمة من دخولها :(1/212)
ثم ذكر حديث أبي هريرة –رضي الله عنة- قال : بينا نحن في المسجد خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال انطلقوا إلى يهود فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدارس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم فقال : يا معشر يهود أسلموا . فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم . فقال : ذلك أريد فقال : أسلموا فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم . قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أريد ثم قالها الثالثة فقال : اعلموا أنما الأرض لله ورسوله وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض . فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله " متفق عليه وذكر جملة من النصوص التي تبين أنهم يمنعون من الجزيرة ومن سكناها ولوا كانوا أهل ذمة . وقد أسلفنا الحديث عن وجوب إخراجهم منها فيما سبق بما يغني عن الإعادة
وانظر كلام ابن قدامه المقدسي –رحمه الله- في (الشرح الكبير) 10/469 " وانظر كذلك (أحكام أهل الذمة)1/142 .
ثامناً : أمصار المسلمين :
قال الشيخ / ابن قدامه المقدسي –رحمه الله- في (المغني) 13/239 " فصل :
أمصار المسلمين على ثلاثة أقسام :
أحدها : ما مَصَّره المسلمون كالبصرة والكوفة وبغداد و واسط فلا يجوز فيه إحداث كنيسة ولا بِيَعة ولا مجتمع لصلاتهم ولا يجوز صلحهم على ذلك . بدليل ما روي عن عكرمة قال : قال ابن عباس : أيما مِصر مصَّرَته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه ولا يضربوا فيه ناقوساً ولا يشربواً فيه خمراً ولا يتخذوا فيه خنزيراً . رواه الإمام أحمد واحتج به . لأن هذا البلد ملك للمسلمين .(1/213)
القسم الثاني : ما فتحه المسلون عَنوة . فلا يجوز إحداث شيء من ذلك فيه . لأنها صارت ملكاً للمسلمين وما كان فيه من ذلك ففيه وجهان . أحدهما : يجب هدمه وتحرم تبقيته لأنها بلاد مملوكة للمسلمين . الثاني : يجوز لأن في حديث ابن عباس : أيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوه فإن للعجم ما في عهدهم ولأن الصحابة -رضي الله عنهم- فتحوا كثيراً من البلاد عَنوة فلم يهدموا شيئاً من الكنائس ويشهد لصحة هذا وجود الكنائس والبِيَع في البلاد التي فتحت عنوة ومعلوم أنها ما أحدثت فيلزم أن تكون موجودة فأبقيت .
القسم الثالث : ما فتح صلحاً وهو نوعان : أحدهما : أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عنها فلهم إحداث ما يختارون فيها لأن الدار لهم . والثاني : أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين ويؤدون الجزية إلينا فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم من إحداث ذلك وعمارته ... والأولى أن يصالحهم على ما صالحهم عليه عمر –رضي الله عنه- ويشترط عليهم الشروط المذكورة .... وروى كثير بن مرة قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تبنى الكنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها " قال المحقق " ذكره السيوطي في (الجامع الكبير)1/880 وعزاه إلى الديلمي وابن عساكر"ا.هـ . انظر كذلك (الشرح الكبير)10/460- 464 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ( الفتاوى 28/ 634 ) " وقد اتفق المسلمون على أن ما بناه المسلمون من المدائن لم يكن لأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة " ا.هـ .(1/214)
وقال أيضاً – رحمه الله – ( الفتاوى 28/655 ) " ولا نزاع في جواز هدم ما كان بأرض العنوة إذا فتحت . ولو أقرت بأيديهم لكونهم أهل الوطن كما أقرهم المسلمون على كنائس بالشام ومصر ثم ظهرت شعائر المسلمين فيما بعد بتلك البقاع بحيث بنيت فيها المساجد ، فلا يجتمع شعائر الكفر مع شعائر الإسلام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يجتمع قبلتان بأرض ) ولهذا شرط عليهم عمر والمسلمون – رضي الله عنهم – أن لا يظهروا شعائر دينهم " ا. هـ .
تاسعاً: مواقف بعض الخلفاء تجاه أهل الذمة:-
موقف عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- :-
ذكر ابن القيم –رحمه الله- في (أحكام أهل الذمة) 1/165" عن أبي موسى –رضي الله عنه- قال : قلت لعمر –رضي الله عنه- إن لي كاتبا نصرانياً قال: مالك قاتلك الله أما سمعت الله تعالى يقول ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم )) ألا اتخذت حنيفاً قال : قلت : يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه. قال : لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله .(1/215)
وكتب إليه بعض عماله يستشيره في استعمال الكفار فقال : إن المال قد كثر وليس يحصيه إلا هم فاكتب إلينا بما ترى فكتب إليه :" لا تدخلوهم في دينكم ولا تسلموهم ما منعهم الله منه ولا تأمنوهم على أموالكم وتعلموا الكتابة فإنما هي للرجال ". وكتب إلى عماله : أما بعد فإنه من كان قبله كاتب من المشركين فلا يعاشره ولا يوازره ولا يجالسه ولا يعتد برأيه . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستعمالهم ولا خليفته من بعده . وورد عليه كتاب معاوية بن أبي سفيان : أما بعد يا أمير المؤمنين فإن في عملي كاتباً نصرانياً لا يتم أمر الخراج إلا به فكرهت أن أقلده دون أمرك فكتب إليه : عافانا الله وإياك قرأت كتابك في أمر النصراني أما بعد فإن النصراني قد مات والسلام " . أي أن النصراني سوف يموت فمن تتخذ للكتابة !! لابد من استعمال المسلمين في أمور المسلمين .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ( الفتاوى 28/ 643 ) " وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل كيف مكنهم الله وأيديهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء لما قاموا من ذلك بما قاموا به. وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله الله تعالى وكبته . وليس المسلمون محتاجين إليهم ولله الحمد ( أي أهل الذمة ) فقد كتب خالد بن الوليد – رضي الله عنه – إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول : إن بالشام كاتباً نصرانياً لا يقوم خراج الشام إلا به . فكتب إليه : لا تستعمله . فكتب : إنه لا غنى بنا عنه . فكتب إليه عمر : لا تستعمله.فكتب إليه :إذا لم نوله ضاع المال . فكتب إليه عمر – رضي الله عنه - : مات النصراني والسلام . " ا.هـ .
موقف عمر بن عبد العزيز –رحمه الله- "1/66"(1/216)
فأما عمر بن عبد العزيز –رحمه الله تعالى- فإنه كتب إلى جميع عماله في الآفاق : أما بعد فإن عمر بن عبد العزيز يقرأ عليكم من كتاب الله ((يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس )) جعلهم الله " حزب الشيطان" وجعلهم من ((الأخسرين أعمالاً. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )) واعلموا أنه لم يهلك من هلك من قبلكم إلا بمنعه الحق وبسط يد الظلم وقد بلغني عن قوم من المسلمين فيما مضى أنهم إذا قدموا بلداً أتاهم أهل الشرك فاستعانوا بهم في أعمالهم وكتابتهم لعلمهم بالكتابة والجباية والتدبير ولا غيرة ولا تدبير فيما يغضب الله ورسوله . وقد كان لهم في ذلك مدة وقد قضاها الله تعالى فلا أعلمن أن أحداً من العمال أبقى في عماله رجلاً متصرفاً على غير دين الإسلام إلا نكلت به فإن محو أعمالهم كمحو دينهم وأنزلوهم منزلهم التي خصهم الله بها من الذل والصغار وآمر بمنع اليهود والنصارى من الركوب على السروج إلا على الأكف وليكتب كل منكم بما فعله من عمله ".
موقف هارون الرشيد –رحمه الله- "1/170 "
وأما هارون الرشيد فإنه لما قلد الفضل بن يحي أعمال خرسان وجعفراً أخاه ديوان الخراج أمرهما بالنظر في مصالح المسلمين : فعمرت المساجد والجوامع والصهاريج والسقايات وجعل في المكاتب لليتامى وصرف الذمة عن أعمالهم واستعمل المسلمين عوضاً منهم وغير زيهم ولباسهم وخرب الكنائس وأفتاه بذلك علماء الإسلام".
موقف المقتدر بالله –رحمه الله- "1/174 "(1/217)
وأما المقتدر بالله فإنه سنة خمس وتسعين ومائتين عزل كتّاباً نصارى وعمالهم وأمر ألا يستعان بأحد من أهل الذمة حتى أمر بقتل أبي ياسر النصراني عامل مُؤنِس الحاجب . وكتب إلى نوابه بما نسخته : عوائد الله عند أمير المؤمنين توفي على غاية رضاه ونهاية أمانيه وليس أحد يظهر عصيانه إلا جعله الله عظة للأنام وبادره بعاجل الاصطلام ((والله عزيز ذو انتقام)) فمن نكث وطغى وبغى وخالف أمير المؤمنين وخالف محمداً صلى الله عليه وسلم وسعى في إفساد دولة المؤمنين عاجله أمير المؤمنين بسطوته وطهر من رجسه دولته والعاقبة للمتقين . وقد أمر أمير المؤمنين بترك الاستعانة بأحد من أهل الذمة في عمل من الأعمال فليحذر العمال تجاوز أمير المؤمنين ونواهيه "ا.هـ .
عاشراً :نقض العهد :
مر معنا أن أهل العهد ينقسمون إلى ثلاثة أقسام- أهل أمان - أهل هدنة - أهل ذمة .فأن النواقض كذلك عامة لأهل العهد كلهم .ولذا نقول هنا بماذا ينتقض العهد ؟ وهل يلزم إذن الأمام وحكمه في نقض الهدنة أو العهد أو الأمان ؟
قال الشيخ شمس الدين ابن قدامه المقدسي -رحمه الله - ( الشرح الكبير 10/ 376
فإن نقضوا العهد بقتال ( أي قتال المسلمين ) أو مظاهرة أو قتل مسلم ( سبحان الله قتل مسلم ينقض عهد المعاهد ! فأين ذهبت دماء المسلمين الذين قتلوا بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ثم ندعي أن لهم هدنة وصلحا , سبحانك هذا بهتان عظيم ) أو أخذ مال انتقض عهدهم لأن الهدنة تقتضي الكف فانتقضت بتركه ولا يحتاج في نقضها إلى حكم الإمام لأنه إنما يحتاج إلى حكمه في أمر محتمل وفعلهم لا يحتمل غير نقض العهد وإذا انتقض جاز قتالهم لقول الله تعالى ( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ) الآيتين . وقال تعالى ( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) "ا.هـ .
وقال الشيخ موفق الدين -رحمه الله- ( الكافي 5/ 579) :(1/218)
فصل : وإن نقض أهل الهدنة العهد بقتال أو مظاهرة عدو أو قتل مسلم أو أخذ مال ( يأخذ عدونا ثرواتنا من نفط وغيره ثم نقول هم أهل عهد , لا حول ولا قوة إلا بالله ) انتقض عهدهم لقول الله تعالى ( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ) ولا يحتاج في نقضها إلى حكم الإمام " ا.هـ .
هذا لأهل الهدنة والأمان . وسوف يأتي معنا أهل الذمة في نقضهم الذمة .
للفائدة :- لا يوجد في زماننا هذا أهل ذمة تنطبق عليهم شروط عقد الذمة .
قال الشيخ الحجَّاوي - رحمه الله – ( الإقناع 2/ 148 ) "
فصل في نقض العهد :
من نقضه بمخالفة شيء مما صولحوا عليه حل ماله ودمه . ولا يقف على حكم الإمام فإذا امتنع من بذل الجزية أو التزام أحكام ملة الإسلام بأن يمتنع من جري أحكامنا عليه ولو لم يحكم بها عليه حاكمنا أو أبى الصغار أو قاتل المسلمين منفرداً أو مع أهل حرب أو لحق بدار حرب مقيما بها . انتقض عهده ولو لم يشترط عليهم وكذا لو تعدى على مسلم ولو عبدا أو فتنه عن دينه أو تعاون على المسلمين بدلالة مثل مكاتبة المشركين ومراسلتهم بإخبارهم أو زنى بمسلمة ولا يعتبر فيه أداء الشهادة على الوجه المعتبر في المسلم بل يكفي استفاضة ذلك واشتهاره . قاله الشيخ . أو أصابها باسم نكاح أو قطع طريق أو تجسس للكفار أو إيواء جاسوسهم أو ذكر الله تعالى أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء ونحوه " ا.هـ .
( لا تخلوا صحفهم اليومية بل وكل وسائل إعلامهم من طعن وسب وشتم للقرآن وللنبي صلى الله عليه وسلم وللدين ولشعائر الإسلام . فأي عهد لهؤلاء الكفار المحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين ).
وقال الشيخ موفق الدين - رحمه الله – ( الكافي 5/615 ) " ينتقض عهد الذمي بأحد ثلاثة أشياء :
((1/219)
1) ... الامتناع من بذل الجزية . (2) الامتناع من التزام أحكام الإسلام . (3) قتال المسلمين سواء شرط عليهم أولم يشرط لأن الله سبحانه وتعالى أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية ويلتزموا أحكام الملة فإذا امتنعوا من ذلك وجب قتالهم فإذا قاتلوا فقد نقضوا العهد لأن العهد يقتضي الأمان من الجانبين والقتال ينافيه فانتقض العهد به ا. هـ .
وقال ابن القيم- رحمه الله - ( أحكام أهل الذمة 2/ 209) ":
قلت : لفظ القاضي في التعليق : مسألة إذا امتنع الذمي من بذل الجزية ومن جريان أحكامنا عليهم صار ناقضا للعهد . وكذلك إذا فعل ما يجب عليه تركه والكف عنه مما فيه ضرر على المسلمين وآحادهم في مال أو نفس : وهي ثمانية أشياء , الاجتماع على قتال المسلمين وألا يزني بمسلمة ولا يصيبها باسم نكاح ولا يفتن مسلماً عن دينه ولا يقطع عليه الطريق ولا يؤوي للمشركين عينا ( جاسوسا ) ولا يعاون على المسلمين بدلالة – أعني لا يكاتب المشركين بأخبار المسلمين – ولا يقتل مسلما . وكذلك إذا عمل ما فيه إدخال غضاضة ونقص على الإسلام وهي أربعة أشياء :- ذكر الله وكتابه ودينه ورسوله بما لا ينبغي سواء شرط عليهم الإمام أنهم متى فعلوا ذلك كان ناقضا لعهدهم أو لم يشرط في أصح الروايتين : نص عليها في مواضع " ا. هـ .
وقال ابن القيم - رحمه الله – أيضا (2/ 203)
((1/220)
فصل : إذا ما خالفوا شيئاً مما عوهدوا عليه قالوا " ضمنا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكننا وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق ) هذا اللفظ صريح في أنهم متى خالفوا شيئاً مما عوهدوا عليه انتقض عهدهم كما ذهب إليه جماعة من الفقهاء . وقال شيخنا ( ابن تيمية ) : هذا هو القياس الجلي فان الدم مباح بدون العهد والعهد عقد العقود فإذا لم يفِ أحد المتعاقدين بما عاقد عليه فإما أن يفسخ العقد بذلك أو يتمكن العاقد الآخر من فسخه . هذا أصل مقرر في عقد البيع والنكاح وغيرهما من العقود .... فإن الحكم المعلق بالشرط لا يثبت بعينه عند عدمه باتفاق العقلاء . وإنما اختلفوا في ثبوت مثله ......ا هـ)
مسألة : لو قذف ذمي مسلما وشتمه . هل ينقض العهد أم لا ؟
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- ( أحكام أهل الذمة 2/ 206) "
وقد نص أحمد على أن قذف المسلم وسحره لا يكون نقضا للعهد في غير موضع وهذا هو الواجب وهو تقرير المذهب .." ا. هـ .
أما الشتم فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن يهودي قال : هؤلاء المسلمون الكلاب أبناء الكلاب يتعصبون علينا , وكان قد خاصمه بعض المسلمين فقال :
( إذا كان أراد بشتمه طائفة معينة من المسلمين , فإنه يعاقب على ذلك عقوبة تزجره وأمثاله عن ذلك , وأما إن ظهر منه قصد العموم , فإنه ينتقض عهده بذلك ويجب قتله (الفتاوى 28/668) .
وقال الشيخ الحجاوي -رحمه الله – ( الإقناع 2/150 ) :
" وان قال هؤلاء المسلمون الكلاب أبناء الكلاب , إن أراد طائفة معينة من المسلمين عوقب عقوبة تزجره وأمثاله . وإن ظهر منه قصد العموم انتقض عهده ووجب قتله ) ا .هـ. وانظر كذلك حاشية الروض المربع لابن قاسم رحمه الله (4/322) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ( الصارم المسلول ص255 ) " فان ناقض العهد قسمان :(1/221)
1- ممتنع لا يقدر عليه إلا بالقتال 2- ومن هو في أيدي المسلمين :-
أما الأول : فأن يكون لهم شوكة ومَنَعة فيمتنعوا بها على الإمام من أداء الجزية والتزام أحكام الملة الواجبة عليهم دون ما يظلمهم به الوشاة أو يلحقوا بدار الحرب مستوطنين بها ، فهؤلاء قد نقضوا العهد بالإجماع ." ا.هـ .
سكوت بقية المعاهدين على النقض ينقض عهدهم 0
قال ابن القيم – رحمه الله – ( في الهدي 3/136) " فصل وكان هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا صالح قوما ً فنقض بعضهم عهده وصلحه وأقرهم الباقون ورضوا به غزا الجميع وجعلهم كلهم ناقضين كما فعل بقريظة والنضير وبني قينقاع وكما فعل في أهل مكة فهذه سنته في أهل العهد وعلى هذا ينبغي أن يجري الحكم في أهل الذمة كما صرح به الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم ... . وبهذا القول أفتينا ولي الأمر لما أحرقت النصارى أموال المسلمين بالشام ودورهم وراموا إحراق جامعهم الأعظم حتى أحرقوا منارته وواطؤا عليه وأقروه ورضوا به ولم يُعلموا ولي الأمر فاستفتى فيهم ولي الأمر من حضره من الفقهاء فأفتيناه بانتقاض عهد من فعل ذلك وأعان عليه بوجه من الوجوه أو رضي به وأقر عليه وأن حده القتل حتما ً لا تخيير للإمام فيه كالأسير بل صار القتل له حدا ً والإسلام لا يسقط القتل إذا كان حدا ً ممن هو تحت الذمة ملتزما ً لأحكام الله بخلاف الحربي إذا أسلم فإن الإسلام يعصم دمه وماله ولا يقتل بما فعله قبل الإسلام فهذا له حكم والذمي الناقض للعهد إذا أسلم له حكم آخر . وهذا الذي ذكرناه هو الذي تقتضيه نصوص الإمام أحمد وأصوله ونص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وأفتى به في غير موضع " ا.هـ .
وقال الشيخ موفق الدين ابن قدامه – رحمه الله – (الكافي 5/579 ) " وإن نقض بعضهم وسكت سائرهم انتقضت الهدنة في الجميع لأن ناقة صالح عقرها واحد فلم ينكر عليه قومه فعذبهم الله جميعا ً . ... " ا.هـ .
وانظر كذلك الإقناع 2/123 والشرح الكبير 10/376 .(1/222)
مسألة : هل ينتقض عهد النساء والذرية بنقض عهد رجالهم ؟
ينقسمون إلى قسمين :
أحدهما نساء وذرية الرجل المهادن :
قال الشيخ الحجّاوي – رحمه الله – ( الإقناع 2/126 ) " وينتقض عهدُ نساء ٍ وذرية ٍ بنقض عهد رجالهم تبعا ً ويجوز قتل رهائنهم إذا قتلوا رهائننا " ا.هـ .
وقال الشيخ شمس الدين – رحمه الله – ( الشرح الكبير 10/391 ) " فصل : وإذا نقضوا العهد حلت دماؤهم وأموالهم وسبي ذراريهم . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجال بني قريظة حين نقضوا عهدهم وسبى ذراريهم وأخذ أموالهم . ولما هادن قريشا ً فنقضوا عهده حل له منهم ما كان حرم عليه منهم " ا.هـ . وقال في الإنصاف 10/391 " ينتقض عهد النساء والذرية بنقض عهد رجالهم تبعا ً لهم " ا.هـ .
الثاني : نساء وذرية الرجل الذمي :
قال الشيخ شمس الدين – رحمه الله – ( الشرح الكبير 10/508 ) " قوله ( ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقض عهده ..) لأن النقض وجد منه دونهم فاختص حكمه به . قال شيخنا في كتاب العمدة : إلا أن يذهب بهم إلى دار الحرب وذكر في المغني أنه لا يباح سبي الذرية وإن ذهب بهم إلى دار الحرب " ا.هـ .
وقد مر معنا أن المعاهد إذا نقض العهد وسكت الباقون ولم ينكروا فقد نقض عهدهم وإن أنكروا وتميزوا عن الناقض وراسلوا الإمام بذلك فلا ينتقض عهدهم وهذا يشمل الرجال والنساء والذرية وغيرهم من المعاهدين ، والله أعلم .
من أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في نقض العهد :
هذه أقوال شيخ الإسلام – رحمه الله – مختارة من كتابه المشهور ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) :
" فعلم بذلك إجماع الصحابة على أن أهل العهد ليس لهم أن يظهروا الاعتراض علينا في ديننا وأن ذلك منهم مبيح لدمائهم" ص 202 .(1/223)
" وإظهار الطعن في الدين لا يجوز للإمام أن يعاهدهم مع وجوده منهم أعني مع كونهم مُمكَّنين من فعله إذا أرادوا ، وهذا مما أجمع المسلمون عليه . ولهذا بعضهم يعاقبون على فعله بالتعزيز وأكثرهم يعاقبون عليه بالقتل .وهو مما لا يشك فيه مسلم ومن شك فيه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " ا.هـ ص 215 . رحم الله الشيخ فكيف بمن فعل ذلك ولم يتردد ولم يشك فيه .
" وعهدهم لا ينتقض بما يقولونه سراً من كفر أو تكذيب فإن هذا لا بد منه وكذلك لا ينتقض العهد بما يخفونه من السب وإنما ينتقض بما يظهرونه " ص 224 .
" قوله سبحانه ( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ) الآيات . وقد قرأ ابن عامر والحسن وعطاء والضحاك والأصمعي وغيرهم عن أبي عمرو ( لا إيمان لهم ) بكسر الهمزة وهي قراءة مشهورة ، وهذه الآية تدل على أنه لا يعصم دم الطاعن إيمان ولا يمين ثانية . أما قراءة الأكثرين فإن قوله ( لا أيمان لهم ) أي لا وفاء بالأيمان ومعلوم أنه إنما أراد لا وفاء في المستقبل بيمين أخرى إذ عدم اليمين في الماضي ، قد تحقق بقوله ( وإن نكثوا أيمانهم ) فأفاد هذا أن الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يُعقد له عقد ثانٍ أبداً ... فثبت أن الناكث الطاعن في الدين إمام في الكفر لا إيمان له من هؤلاء وأنه يجب قتله وإن أظهر الإيمان " ص 391 .(1/224)
" أن قتل ذمي إذا سب إما أن يكون جائزا ً غير واجب أو يكون واجبا ً والأول باطل بما قدمناه من الدلائل في المسألة الثانية وبينا أنه قَتْلٌ واجب . وإذا كان واجباً فكل قتل يجب على الذمي بل كل عقوبة وجبت على الذمي بقدر زائد على الكفر فإنها لا تسقط بالإسلام أصلاً وقياساً جلياً . فإنه يجب قتله بالزنى والقتل في قطع الطريق وبقتل المسلم أو الذمي ولا يسقط الإسلام قتلاً واجباً . وبهذا يظهر الفرق بين قتله وقتل الحربي الأصلي أو الناقض المحض فإن القتل هناك ليس واجباً عينا ً" ص 452.
أن عيب ديننا وشتم نبينا مجاهدة لنا ومحاربة فكان نقضاً للعهد كالمجاهدة والمحاربة بالأولى " ص 206 .
" فعلم بذلك أن شروط المسلمين عليهم أن لا يظهروا كلمة الكفر وأنهم متى أظهروها صاروا محاربين وهذا الوجه يوجب أن يكون السب نقضاً للعهد عند من يقول : لا ينتقض العهد به إلا إذا شرط عليهم تركه كما خرَّجَه بعض أصحابنا وبعض الشافعية في المذهبين " ص 208 .
ذكر هذا الكلام رحمه الله بعدما ذكر شروط عمر في صلح الجزيرة التي مرت معنا .
" فإنه لا خلاف بين المسلمين أنا إذا سمعنا مشركا ً أو كتابيا ً يؤذي الله ورسوله فلا عهد بيننا وبينه بل وجب علينا أن نقاتله ونجاهده إذا أمكن ذلك " ص 216 .(1/225)
فيا بشراك إن عرفتها وفهمتها فهماً جيدا ً فتخرج من ظلمات الجهل بمُسَلَّمات الدين المجمع عليها يوم أن جهلها كثير من الناس وتخبطوا فيها خبط عشواء ولم يعرفوا سر المعاهدة وحكمتها التي من أجلها عقدت لها المعاهدة مع الكفار , فإذا عرفت ذلك فأعلم أنه لاعهد للأمريكان واليهود ولا للروس والهندوس ولا لغيرهم ولا ميثاق ولا أمان بل ليس بيننا وبينهم إلا السيف حتى يخرجوا من ديار الإسلام وحتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون هذا حكم الله ورسوله فيهم .(1)
__________
(1) 1- وقد نقلت في هذا الفصل كثيرا مما حوته رسالة القول الضبط للأخ أبو ذر النجدي جزاه الله خيراً بتصرف وإضافة لما يتطلبه المقام من تعليقات ومسائل معاصرة وهى رسالة قيمة في بابها أسأل الله أن تري النور قريباً حيث لم يتمكن من نشرها لضروفه الأمنية ولكن للأمانة العلمية أشرت أليها.(1/226)
وأما شبهة عدم قتل المدنيين منهم : فنحن نعلم أنه لم يعرف في الكتاب والسنة ما يسمى بالمدني والعسكري , بل قاتل النبي صلى الله عليه وسلم قريش واعتبرهم دولة محاربة وشمل ذلك أهلها وهذا بالإجماع , ولما نقضت بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة العهد مع أنه لم ينقض العهد إلا نفر منهم شمل الحكم الجميع فعاقبهم كلهم حتى عوامهم . فإن علة قتل هؤلاء وقتالهم ليست لأنهم عسكريون فحسب , بل لأنهم كفار لا يدينون دين الحق , والله تعالى رتب القتال على ذلك حتى يكون الدين كله لله . قال تعالى ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه ) وقال تعالى (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ). وقال تعالى ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ).
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن رسول الله صلي الله عليه وسلم [أغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ...الحديث] رواه مسلم . وقوله عليه الصلاة والسلام ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) رواه مسلم عن أبي هريرة .(1/227)
وغير ذلك من النصوص التي تبين أن علة قتال الكفار – مدنيين كانوا أو عسكريين – هي كونهم كفارا , قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( فكل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب فإنه يجب قتاله { حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله } ) ا.هـ الفتاوى (28/350) .
وقد نقل صاحب تيسير العزيز الحميد في باب تفسير التوحيد الإجماع على أن سبب القتال للمشركين هو فعل الشرك والكفر أو ترك التوحيد , ونقل صاحب مراحل تشريع الجهاد عن القرافي قوله ( ظواهر النصوص تقتضي ترتيب القتال على الكفر والشرك ).
ونحن نقاتل المحتلين لبلادنا لأسباب كثيرة يكفي أحدها لوجوب قتالهم كيف وقد اجتمعت ,
فمن هذه الأسباب
1 - ما بينا من الأمر النبوي بإخراج اليهود والنصارى والمشركين .
2- ومنها دفع العدو الصائل على بلاد المسلمين ومنها بلادنا .
3 - ومنها أيضا الأمر في الكتاب والسنة بقتال الكفار كافة حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
4 - ومنها ذلك نصرة المستضعفين في الأرض من المسلمين المستنصرين بإخوانهم ولسان حالهم يقول , إن الأمريكان وحلفائهم صالوا علينا في أفغانستان والعراق وغيرها وينطلقون لقتلنا وتهديم منازلنا ومساجدنا من مطاراتكم وقواعدهم في أرضكم , فإن لم تستطيعوا الوصل إلينا فكفوا أيدهم من عندكم , أوقفوا مددهم من عندكم ونحن نتكفل بمن عندنا .
5- ... ومنها أنهم قتلوا المدنيين من المسلمين , فلنا الحق في قتل المدنيين منهم قال تعالى{ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}.
6-ومنها أسرانا عند الكفار في كل مكان , وغير ذلك من الأسباب التي توجب علينا قتالهم وقتلهم .(1/228)
فدونكم يا أحفاد خالد وحمزة والقعقاع والزبير والمثني بن حارثة , دونكم مصالح المحتلين النصارى , ودونكم قواعدهم وسفاراتهم ومساكنهم في داخل الجزيرة وخارجها , فإنهم لا يفهمون سوى لغة الدم , فليسوا بأصبر منكم على القتال , ولا هم أحرص منكم على الجنة , فها قد عرفتم الحق بدليله من الكتاب والسنة الإجماع ومن كلام أهل العلم المعتبرين قديما وحديثا , فلم يبقى سوى العمل , والجد والاجتهاد , والإعداد والجهاد , وجمع السلاح وتحريض أبناء الأمة وقتال المحتلين وطردهم , بأي طريقة وفي كل مكان , والله مظهر دينه ومعلى كلمته وناصر عباده الموحدين .
بَاب اَلسَّبْقِ وَالرَّمْي
السّبْق بفتح السين المهملة وسكون الموحدة مصدر، وهو المراد هنا. ويقال بتحريك الموحدة،وهو الرهن الذي يوضع لذلك "والرمي" مصدر رمى والمراد به هنا المناضلة بالسهام للسبق .
ويصح أن يسمى كذلك باب الإعداد والتدريب , فإن الأحاديث المذكورة في الباب تبين ما هو المشروع من السبق والإنتضال والتدريب , وبما أنه في كتاب الجهاد فإن التدريب لا ينفصل عن الجهاد بل التدريب للجهاد كالوضوء للصلاة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( ولهذا شرعت المسابقة بالخيل , والإبل , والمناظلة بالسهام , وأخذ الجعل عليها ؛ لما فيه من الترغيب في إعداد القوة ورباط الخيل للجهاد في سبيل الله , حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يسابق بين الخيل هو وخلفاؤه الراشدون , ويخرجون الأسباق من بيت المال ) ا.هـ الفتاوى (28 ).(1/229)
57 - عَنْ اِبْنِ عُمَرَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَابَقَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْلِ اَلَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ, مِنْ الْحَفْيَاءِ, وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةِ اَلْوَدَاعِ. وَسَابَقَ بَيْنَ اَلْخَيْلِ اَلَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ مِنْ اَلثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِد ٍ(1) بَنِي زُرَيْقٍ, وَكَانَ اِبْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْه ِ (2) زَادَ اَلْبُخَارِيُّ, قَالَ سُفْيَانُ: مِنْ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ اَلْوَدَاعُ خَمْسَةِ أَمْيَالٍ, أَوْ سِتَّةَ, وَمِنْ اَلثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيل ٍ (3) .
(الخيل التي قد ضمرت) من التضمير وهو كما في النهاية: أن يظاهر عليها بالعلف حتى تسمن ثم لا تعلف إلا قوتها لتخف، زاد في الصحاح: وذلك في أربعين يوماً، وهذه المدة تسمى المضمار، والموضع الذي يضمر فيه الخيل أيضاً مضمار، وقيل: تشد عليها سروجها وتجلل بالأجلة حتى تعرق فيذهب رهلها ويشتد لحمها
قال الصنعاني : (من الحفياء): مكان خارج المدينة .(وكان أمدها) بالدال المهملة أي غايتها .(ثنية الوداع) محل قريب من المدينة سميت بذلك: لأن الخارج من المدينة يمشي معه المودعون إليها .
الحديث دليل على مشروعية السباق وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها في الجهاد، وهي دائرة بين الاستحباب والإباحة بحسب الباعث على ذلك ا.هـ وبمثله قال الشوكاني في نيل الأوطار.
__________
(1) - سقط من "أ".
(2) - صحيح. رواه البخاري ( 420 )، ومسلم ( 1870 ).
(3) - البخاري برقم ( 2868 ).(1/230)
قال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب وعلى الأقدام، وكذا الترامي بالسهام واستعمال الأسلحة، لما في ذلك من التدرّب على الحرب. وفيه دليل على جواز تضمير الخيل المعدّة للجهاد وقيل إنه يستحب. قال الشوكاني : ولا يخفي اختصاص ذلك بالخيل المعدة للغزو ا.هـ
58 -وَعَنْهُ; رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَبْقَ بَيْنَ اَلْخَيْلِ, وَفَضْلِ اَلْقَرْحُ فِي اَلْغَايَةِ رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّان َ(1) .
القُرَّح: جمع قارح، والقارح ما كملت سنه كالبازل في الإبل.
فيه مثل الذي قبله دليل على مشروعية السباق بين الخيل، وأنه يجعل غاية القرح أبعد من غاية ما دونها لقوّتها وجلادتها وهو المراد من قوله: وفضل القرّح.
59 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم "لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ, أَوْ نَصْلٍ, أَوْ حَافِرٍ" رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَالثَّلَاثَةَ, وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّان َ (2) . وأخرجه الحاكم من طرق وصححه ابن القطان وابن دقيق العيد .
(لا سبق) هو: ما يجعل للسابق على السبق مِنْ جُعل , قوله: "إلا في خف" المراد به الإبل، والحافر الخيل، والنصل السهم أي ذي خف أو ذي حافر أو ذي نصل على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه
والحديث دليل على جواز السباق على جُعل .
وفي الحديث فوائد :
1- فإذا أخرج ولي الأمر مالاً من بيت المال للمتسابقين كان ذلك جائزاً باتفاق الأئمة أهـ من فتاوى شيخ الإسلام 28/22.
__________
(1) - صحيح. رواه أحمد ( 2 / 157 )، وأبو داود ( 2577 )، وابن حبان ( 4669 ). القرح: جمع قارح، والقارح من الخيل هو الذي دخل في السنة الخامسة.
(2) - صحيح. رواه أحمد ( 2 / 474 )، وأبو داود ( 2574 )، والنسائي ( 6 / 226 )، والترمذي ( 1700 )، وابن حبان ( 4671 ). وقال الترمذي: "حديث حسن".(1/231)
2- وكذلك لو بذل العوض أجنبي صح عند أرباب المذاهب الأربعة .
3- بذل العوض من أحد المتسابقين ، وصورة ذلك أن يقول أحد المتسابقين للآخر سابقني فإن سبقتني فأعطيك سَبقاً وجُعْلاً مقداره كذا ، و لا يخرج الآخر شيئاً من ماله ألبته ، فإن تسابقا فسبق المخرج ( باذل العوض ) أحرز السبق وعاد إليه ماله وإن سبق الآخر أخذ السبق ، وإن جاءا معاً كان الجعل للمخرج ( باذل العوض ) لأن الآخر لم يسبقه ، وهذه صورة جائزة على الراجح .
4ـ بذل العوض من المتسابقين جميعاً ، وصورته أن يتسابق إثنان أو أكثر وللفائز جُعل دفعه المتسابقون كل واحد منهم دفع جزءاً من ذلك الجعل ، وفي هذه الصورة خلاف فالحنابلة وجميع الشافعية يقولون لا يجوز بذل العوض من جميع المتسابقين إلاّ أن يُدخل في السباق محلل والراجح أنه يجوز بذل العوض من المتسابقين ولو بدون محلل قال بهذا القول شيخ الإسلام وابن القيم .(1/232)
60 - وَعَنْهُ, عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ أَدْخُلُ فَرَساً بَيْنَ فَرَسَيْنِ - وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ - فَلا بَأْسَ بِهِ, وَإِنْ أَمِنَ فَهُوَ قِمَارٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَإِسْنَادُهُ ضَعِيف ٌ (1) .
(لا يأمن أَنْ يُسْبق) أي يسبقه غيره .
ولأئمة الحديث في صحته إلى أبي هريرة كلام كثير حتى قال أبو حاتم: أحسن أحواله أن يكون موقوفاً على سعيد بن المسيب، وقد رواه يحيى بن سعيد عن سعيد من قوله، انتهى. وهو كذلك في الموطأ عن الزهري عن سعيد. وقال ابن أبي خيثمة: سألت ابن معين عنه فقال: هذا باطل وضرب على أبي هريرة. وقد غلّط الشافعي من رواه عن سعيد عن أبي هريرة.
أستدل بهذا الحديث أكثر الحنابلة وجميع الحنفية والشافعية وبعض المالكية على أنه لا يجوز أن يكون بذل العوض من جميع المتسابقين إلاّ أن يُدخل في السباق محلل ومن أدلتهم أيضاً :
1- ما رواه أحمد عن ابن مسعود مرفوعاً : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الخيل ثلاثة
والحديث وفيه " وفرس يغالب عليها الرجل ويراهن ، فثمنه وزر ، وركوبه وزر "
__________
(1) - ضعيف. رواه أحمد ( 2 / 505 )، وأبو داود ( 2579 )، وابن ماجه ( 2876 ) من طريق سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، به. وسفيان بن حسين ضعيف في الزهري كما هو معروف، وأغلب ظني أن هذا من كلام ابن المسيب، فقد رواه مالك في "الموطأ" ( 2 / 468 / 46 ) عن يحيى بن سعيد؛ أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: ليس برهان الخيل بأس إذا دخل فيها محلل، فإن سبق أخذ السبق، وإن سبق لم يكن عليه شيء. فلعل هذا هو أصل الحديث. والله أعلم. ثم رأيت أبا حاتم قال في "العلل" ( 2 / 252 / رقم 2249 ): " هذا خطأ. لم يعمل سفيان بن حسين بشيء، لا يشبه أن يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسن أحواله أن يكون عن سعيد بن المسيب قوله. وقد رواه يحيى بن سعيد، عن سعيد قوله" .(1/233)
والحديث فيه ضعف ، له إسنادان أحدهما فيه شريك بن عبدالله القاضي سيء الحفظ والآخر فيه راوٍ لم يسم .
2- حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل وجعل بينهما سبقاً ، وجعل بينهما محللاً . وقال لا سبق إلاّ في حافر أو خف أو نصل . رواه ابن حبان . وهذه الزيادة شاذة " وجعل بينهما محللاً " . قال ابن حبان في إسناده عاصم ابن عمر ، كان سيء الحفظ كثير الوهم فاحش الخطأ فترك من أجل كثرة خطئه . وغيرها من الأحاديث الضعيفة وتقدم أن الراجح جوازه بدون محلل وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه .
ومن أدلة شيخ الإسلام على جواز أخذ الجعل بلا محلل الآتي :
1- حديث ركانة أن النبي صلى الله عليه وسلم صارعه وكان شديداً ، فقال : شاة بشاة ، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم . رواه البيهقي وأبوداود في المراسيل قال البيهقي " وهو مرسل جيد وروي موصولاً بإسناد ضعيف .
2- حديث ابن عباس ونيار الأسلمي قال : قالت قريش لأبي بكر زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارساً في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك قال : بلى .فارتهن أبو بكر والمشركون ن وتواضعوا على الرهان . رواه الترمذي إلا أن في حديث نيار : وكان ذلك قبل تحريمه . وأجاب ابن القيم عن ذلك بأن انتصار الروم الذي دفع فيه أبو بكر الرهان كان عام الحديبية فدل على تأخره .
قال شيخ الإسلام : وما علمت بين الصحابة خلافاً في عدم اشتراط المحلل ، فإن الصحابة لا يحفظ عن أحد منهم قط أنه اشترط المحلل أو راهن به مع كثرة تناضلهم ورهانهم ، بل المحفوظ عنهم خلافه فقد قال رجل عند جابر بن زيد ( أبو الشعثاء البصري تابعي ثقة ـ التهذيب 2/ 38) أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا لا يرون بالدخيل بأساً ( المحلل ) فقال هم كانوا أعف من ذلك . والله أعلم .(1/234)
61 -وَعَنْ عَقَبَةِ بْنُ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى اَلْمِنْبَرِ يَقْرَأُ: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } "أَلَا إِنَّ اَلْقُوَّةَ اَلرَّمْيُ, أَلَا إِنَّ اَلْقُوَّةَ اَلرَّمْيُ, أَلَا إِنَّ اَلْقُوَّةَ اَلرَّمْيُ (1) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .(2) .
__________
(1) - سقطت الجملة الثالثة من "أ" . وهي في "الصحيح".
(2) - صحيح. رواه مسلم ( 1917 ).(1/235)
وقد جاء هذا الحديث بعد أن عشنا مع أحكام الجهاد والغزو ثم أحكام أهل الذمة والعهد مروراً بمواقف العزة والبطولة والأمجاد والتاريخ العريض للأمة المجاهدة ثم إذا رفعت رأسك ونظرت حولك وأجلت خاطرك في بلاد الإسلام في هذه الأزمنة وددت لو أنك تحت التراب ولا ترى ما وصلت إليه الأمة من ذل وضعف وتسلط للكفر , ولكن سرعان ما تتذكر أن هذه هي سنة الله في من فرط في مصدر عزه وأن هذا مصداق لقول الرسول صلي الله عليه وسلم ( يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها , قلنا : يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ قال : أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل تنزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن : قالوا وما الوهن ؟ قال حب الحياة وكراهية الموت ) رواه أبو داود وأحمد وهذا لفظه عن ثوبان , ورواه احمد والبخاري في التاريخ الكبير عن أبي هريرة والحديث صحيح , وفي معناه حديث ابن عمر ( إذا تبا يعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) رواه أبو داود وأحمد , إلا أن الحديث ضعيف , فقد ضعفه الذهبي والبيهقي وأبو نعيم والشافعي و ابن حجر وغيرهم .(1)
__________
(1) 4- الحديث منقطع من طريق عطاء ابن أبي رباح فهو لم يسمع من ابن عمر وكذا أبو بكر بن عياش اختلط لما كبر وساء حفظه , وفي إسناد أحمد الأخر أبو جناب الكلبي وهو ضعيف وشهر بن حوشب وهو ضعيف , , وإسنادي أبي داود تفرد بها حيوه بن شريح المصري عن إسحاق بن عبد الرحمن ابن أسيد الأنصاري قال أبو حاتم شيخ ليس بالمشهور لا يُشتغل به وقال الحاكم مجهول . وفيه عطاء الخرساني قال في التقريب يهم كثيرا ويدلس وقال الذهبي في الميزان له مناكير وهذا منها.وقد أورده ابن حجر في البلوغ وقال في إسناده مقال وقال صديق حسن القنوجي وعندي انه معلول وكذلك ضعفه البيهقي : قلت والراجح ضعفه ويغني عنه حديث ثوبان المتقدم.(1/236)
فأقول ومن هنا نعرف أهمية الإعداد العسكري فإن هذه الأحاديث وما في معناها تصف ولا شك حال الأمة اليوم من حب الدنيا وكراهية الموت وترك للجهاد , ولا خلاص للأمة إلى بالرجوع إلى الجهاد وتنفيذ أمر رب العباد يوم قال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } وقوله { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا }
ولا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بإعداد العدة وإرهاب العدو والتدريب على السلاح , قال ابن تيمية [ إذا سقط الجهاد للعجز عنه وجب الأعداد له فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ] الفتاوى 28/259 .
لا سيما مع تكالب الأعداء واحتلالهم لبلاد المسلمين وتسلطهم عليها زيادة على أن كثيراً ممن لم يفقهوا حقيقة هذا الدين يصرفون الشباب عن الإعداد العسكري إلى الإعداد العلمي –زعموا – والى التربية المزعومة عبر كرة الطائرة وصحون الكبسات , وهنا مسائل يحسن ذكرها وبسطها لكثرة الأسئلة فيها وجهل كثير من المسلمين بأحكام الإعداد في سبيل الله :
أولاً : الإعداد للجهاد نوعان :
1- أعداد إيماني بالعلم الشرعي والتزكية قال تعالى[ يتلوا عليهم آيته وزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة] .(1/237)
2- إعداد مادي بإعداد القوة والتدريب عليها وبالنفقة في سبيل الله وقد أمر الله به في قوله تعالى[وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]
وورد تفسيرها في حديث الباب , حيث فسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي وهذا التفسير منه عليه السلام نص في موضع النزاع بين من يقول إن الإعداد للجهاد يكون بالتدريب على السلاح وبين من يقول الإعداد يكون بالتربية والتزكية إذ أن الحديث يبين أن القوة التي أمر الله بإعدادها هي القوة المادية من مختلف أسلحة الرماية( من المسدس والكلاشنكوف مرورا بالبيكا والدوشكة والأربيجي إلى المدافع والدبابات إلى تي.إن. تي وغيرها من المتفجرات) مع التدريب عليها وهذا مما لا يسع المسلم تركه مع الاستطاعة .
قال القرطبي في تفسيره "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " قال ابن عباس : القوة هنا السلاح والقسي ا.هـ
و قال الصنعاني : أفاد الحديث تفسير القوّة في الآية بالرمي بالسهام لأنه المعتاد في عصر النبوّة، ويشمل الرمي بالبنادق للمشركين والبغاة، ويؤخذ من ذلك شرعية التدرّب فيه، لأن الإعداد إنما يكون مع الاعتياد، إذ من لم يحسن الرمي لا يسمى معدّاً للقوة ا.هـ(1/238)
أما التربية والتزكية فهي داخلة في الإعداد الإيماني في الجهاد وهو واجب أيضا . ومعسكرات التدريب وساحات الجهاد خير مكان لتربية الرجال والكشف عن معادنهم وسلوكهم بما توفره من طول المعاشرة والتعرض للمشاق والأسفار, فلا خلاف على ضرورة الإعداد الإيماني مع الإعداد المادي أما أن يصرف معنى الإعداد في الآية على الإعداد الإيماني وحده أو اتخاذ الإعداد الإيماني ذريعة للقعود عن الإعداد المادي والتدريب فهذا يأباه النص والحديث , فمن لم يتربى في الخنادق فلن تنفعه تربية الفنادق .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ومن كان كثير الذنوب ، فأعظم دوائه الجهاد ، فإن الله عز وجل يغفر ذنوبه كما أخبر الله تعالى في كتابه بقوله سبحانه : { ويغفر لكم ذنوبكم } ) ا.هـ الفتاوى (28/422) .
فهذه فتوى شيخ الإسلام للتائبين والمذنبين أن يهذبوا أنفسهم ويتربوا في ارض الجهاد فهي كما قال أعظم دواء أين هي من فتاوى علماء الزمان الذين قعدو في طريق الهجرة والجهاد كالشيطان(1).
__________
(1) 1- إشارة إلى حديث سبرة بن أبي فاكه قال:
-سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال تهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرآة ويقسم المال فعصاه فجاهد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة ومن قتل كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة. رواه احمد الترمذي والنسائي وابن حبان(1/239)
وقال شيخ الإسلام أيضاً (أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في غزوة تبوك { رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر } فلا أصل له ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله , وجهاد الكفار من أعظم الأعمال ، بل هو أفضل ما تطوع به الإنسان قال الله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما } وقال تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين . الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون . يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم . خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } وثبت في صحيح مسلم وغيره عن ( النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج وقال آخر : ما أبالي أن أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال علي بن أبي طالب الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتما فقال عمر : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن إذا قضيت الصلاة سألته فسأله فأنزل الله تعالى هذه الآية ) ا.هـ من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان .
قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار في باب الحث على الرمي على حديث عقبة هذا :(1/240)
قال القرطبي : " إنما فسّر القوة بالرمي , وإن كانت القوة تظهر بإعداد غيره من آلات الحرب لكون الرامي أشد نكاية في العدو وأسهل مؤنة له , لأنه قد يرمي رأس الكتيبة فيصاب فينهزم من خلفه انتهي . وكرر ذلك للترغيب في تعلمه وإعداد آلاته و وفيه دليل على مشروعية الإشتغال بتعليم آلات الجهاد والتمرن فيها والعناية في إعدادها ليتمرن بذلك على الجهاد ويتدرب فيه ويروض أعضاءه .ا.هـ
فالاشتغال بها مشروع للمدرب والمتدرب على حد سواء ولذا ينبغي كذلك على من تعلم وتدرب على الأسلحة أن يدرب الآخرين عليها ولا يكتفي بأنه تدرب هو فحسب .
قال الشيخ عبد الله عزام : وهذا الحديث من دلائل النبوة , لأن الرمي بالسهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن الوسيلة الغالبة في المعارك إذ أن معظم أدوات المعارك المستعملة السيف والرمح , أما اليوم فالرمي هو الوسيلة الغالبة في الحروب الحديثة ابتداء من طلقة المسدس والبندقية , ومروراً بالمدفعية والهاون , وانتهاء بالصواريخ(1).ا.هـ
ثانياً : حكم الإعداد والتدريب ؟
حكمه واجب على كل مسلم مكلف من غير أصحاب الأعذار الشرعية إذ أنه مقدمة من مقدمات الجهاد ويدل على وجوب التدريب ما يلي:
1- أن الجهاد في هذه الأيام فرض عين كما ذكرنا سابقا فبلاد المسلمين يحكمها الآن ويتسلط عليها الكفار بين مستعمر أجنبي كافر أو حكومة محلية كافرة وجهاد هؤلاء لايتم إلا بالإعداد له فما لا يتم الواجب به إلا واجب.
__________
(1) 1- إتحاف العباد بفضائل الجهاد للشيخ الدكتور عبد الله عزام رحمه الله تعالي .(1/241)
2- قوله تعالي { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } مع حديث الباب فالأمر فيها للوجوب مع عدم وجود قرينة صارفة إلى الندب . قال الإمام ابن حزم رحمه الله في (المحلى 5 / 419) : (قال تعالى : )وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ). ففرض علينا إرهابهم , ومن أعانهم بما يحمل إليهم فلم يرهبهم ; بل أعانهم على الإثم والعدوان ) ا.هـ.
3- قوله تعالى [وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ] فجعل سبحانه وتعالى ترك إعداد العدة للجهاد(ومنه التدريب) من صفات المنافقين وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الأمر في الآية للوجوب وذلك لوقوع الذم على تركه وهذا يتضح من قوله صلى الله عليه وسلم(من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى) رواه مسلم من حديث عقبة بن عامر قال النووي : هذا تشديد عظيم في نسيان الرمي بعد علمه وهو مكروه كراهة شديدة لمن تركه بلا عذر.أ/هـ
فإذا كان هذا الزجر والوعيد في حق من تعلم الرماية ثم لم يواظب على التدريب حتىلاينساه فكيف بمن لم يتعلمها إبتداءا؟
قال سماحة الشيخ الإمام حمود بن عقلا الشعيبي رحمه الله في فتوى عن حكم الجهاد :
( أما الخروج للإعداد فلا يلزم فيه إذن الوالدين ولا أحدهما ولا الغريم لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا به وأوجبه علينا فقال ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) وهذا أمر منه سبحانه وتعالى لعباده بالإعداد للعدو والتدرب على فنون القتال والأمر يقتضي الوجوب مالم يصرفه صارف إلى الندب أو الإباحة ) ا.هـ
وسئل فضيلة الشيخ العلامة على الخضير ثبته الله : ما حكم الإعداد الحربي تدريباً واقتناءً واختراعاً ؟(1/242)
فأجاب : واجب لقوله تعالى { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } ومن القواعد المجمع عليها ( أن ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب ) ا.هـ
وقال أيضاً حفظه الله : ويجب على المسلم أن يجتهد في إتقان الأسباب ويحرص على الأنظمة الحديثة في الحرب . قال ابن تيمية في رسالة عموم بعثته : ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتال الترك وأن أمته ستقاتلهم ومعلوم أن قتالهم النافع إنما هو بالقسي الفارسية ولكن قوتلوا بالقسي العربية .... فلم تغني عنهم شيئا بل استطالوا على المسلمين بقوة رميهم فلا بد من قتالهم بما يقهرهم .ا.هـ ... والأصل في أساليب الحرب وتشكيلاته الإباحة فإذا تعينت أنظمة معينة نافعة وجبت للقيام بفرض الجهاد فما لايتم الواجب إلا به فهو واجب ...) انتهي من فتوى الراية في قضية العراق .
مسألة : على من يجب التدريب؟.
عرفنا أن التدريب العسكري فرض عين ولكن ما هو السن الذي يجب عند بلوغه التدريب على المسلم؟.
نقول سن وجوب التدريب العسكري هو سن التكليف الشرعي وهو سن البلوغ لقوله صلى الله عليه وسلم ( رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ ....) رواه أبو داود والنسائي والدارمي وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي , وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفرقان : وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما . واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول .
وتحديد سن البلوغ يكون بالاحتلام أو الإنبات أو السن .
فالاحتلام أن يخبر الصبي عن نفسه بذلك .والإنبات وهو إنبات الشعر الخشن حول الفرج ودليله حديث عطية القرضي قال :( عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فأمر من ينظر من أنبت قتل ومن لم ينبت خلي سبيله فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي)رواه الخمسة وقال الترمذي حديث حسن صحيح .(1/243)
وأما السن فهو بلوغ السن الخامسة عشرة لحديث ابن عمر ( عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمسة عشر سنة فأجازني) متفق عليه واللفظ لمسلم قال النووي :[باب بيان سن البلوغ] وهو السن الذي يجعل صاحبه من المقاتلين ويجري عليه حكم الرجال في أحكام القتال وغير ذلك قوله عن ابن عمر – وساق الحديث السابق- هذا دليل لتحديد البلوغ بخمس عشرة سنة وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن وهب وأحمد وغيرهم انتهى.
فسن خمس عشر سنة كقرينة على البلوغ هو سن التكليف الشرعي الذي تجب عنده فروض العين ومنها الجهاد إذا تعين وبالتالي فهو السن الذي يجب عنده التدريب والإعداد على أبناء المسلمين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( ولم يكن من المسلمين البالغين القادرين على الجهاد إلا من يخرج في الغزو ) الفتاوى (28/96) .
قال ابن عبد البر في مختصر السيرة ( وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ _ في غزوة أحد _سمرة بن جندب الفزاري ورافع بن خد يج ولكل واحد منهما خمس عشرة سنة وكان رافع راميا ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد والبراء بن عازب وأسيد بن ظهير وعرابة بن أوس بن أرقم وأبا سعيد الخدري ثم أجازهم كلهم عليه السلام يوم الخندق_ أي بعد ذلك بعام_ إلى قوله _ وإنما رد من لم يبلغ خمس عشرة سنة وأجاز من بلغها )(1).
ومن تأمل قول بن عبد البر إن الصحابي رافع بن خد يج عندما أجيز للقتال في هذا السن كان راميا أي متقنا للرماية أدرك أنه تدرب على الرماية حتى أتقنها قبل سن الخامسة عشرة وأدرك أن الصحابة كانوا يتدربون ويدربون أبناءهم قبل بلوغهم هذا السن ليصبحوا مؤهلين للقتال عندها .
__________
(1) 2- كتاب الدرر في اختصار المغازي والسير لأبن عبد البر .(1/244)
بل كان المربي العظيم والقائد الفذ محمد صلي الله عليه وسلم يحث على ذلك ويشجع شباب الصحابة ويشاركهم في بعض الأحيان في التدريب فقد روى البخاري وأحمد من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال:
مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بني فلان). قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لكم لا ترمون). قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ارموا فأنا معكم كلكم ) وهذا لفظ البخاري .
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث عمر بن عبسة ( أيما مسلم رمي بسهم في سبيل الله فبلغ مخطئا أو مصيبا فله من الأجر كرقبة أعتقها من ولد إسماعيل ) رواه الخمسة والطبراني وصححه الترمذي . وفي الحديث دليل على أن الأجر يحصل لمن رمي بسهم في سبيل الله بمجرد الرمي وذلك كما قال الشوكاني : تفضلاً من الله جل جلاله على عباده لجلالة هذه القربة – التدريب – العظيمة الشأن التي هي لأصل الإسلام أعظم أس وبنيان .ا.هـ
وكما حث عليه الصلاة والسلام على التدريب ورغب فيه فقد حذر من ترك الرمي أو نسيانه فامتثل الصحابة ذلك الأمر ليس الشباب فحسب بل حتى الشيوخ فقد روى مسلم في صحيحه من طريق الليث عن الحارث بن يعقوب عن عبد الرحمن بن شماسة أن فقيما اللخمي قال لعقبة بن عامر رضي الله عنه : تختلف بين هذين الغرضين – الهدفين – وأنت كبير يشق عليك , قال عقبة بن عامر : لولا كلام سمعته من رسول الله صلي الله عليه وسلم لم أعانه , قال الحارث :فقلت لأبن شماسة : وما ذاك ؟ قال : إنه قال : من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى ) . الغرض : الهدف يرمي إليه , لم أعانه : أكابد وأتحمل مشاقه .(1/245)
قال الشوكاني : وفي ذلك إشعار بأن من أدرك نوعاً من أنواع القتال التي ينتفع بها في الجهاد في سبيل الله ثم تساهل في ذلك حتى تركه كان آثماً شديداً , لأن ترك العناية بذلك يدل على ترك العناية بأمر الجهاد , وترك العناية بالجهاد يدل على ترك العناية بالدين لكونه سنامه وبه قام . ا.هـ
وقد كان التدريب قديماً ميسراً لكل مسلم وذلك لبساطة الأسلحة كماً وكيفاً , ولكن مع تطور الأسلحة باكتشاف البارود وظهور الأسلحة الفتاكة والثقيلة ! خشي الحكام الظالمون من محاسبة الشعوب لهم , فقصروا حمل السلاح والتدرب عليه على فئة محددة من الشعب كالجيش والحرس والشرط وغيرها , وظل باقي الشعب محروما من ذلك , بل ومقهورا في أغلب الأحيان بالأقلية المسلحة , وحتى لا تشعر الشعوب بالقهر الحقيقي الذي يكتنفها , أغرقها الحكام الظالمون في كل ما يلهيها عن ذلك , من صراع على لقمة العيش إلى ملاهي وطرب إلى مسرح وسينما إلى ملاعب ومباريات , إلى أندية ومسابقات إلى خدع صحفية إلى أحزاب وانتخابات وبرلمانات كفرية وغير ذلك من الأساليب الشيطانية لخداع الشعوب .
فالواجب على كل مسلم أن يغتنم أي فرصة تتاح له للتدريب وعليه أن يسعى لذلك كما قال تعالي { ومن أراد الآخرة وسعي لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} وعلى المسلمين أن يتعاونوا لتحقيق هذا الواجب الشرعي { وتعاونوا على البر والتقوى } وذلك بتيسير وصول الشباب إلى ميادين الجهاد والإعداد وإمدادهم بالمال ورعاية أسرهم في غيابهم ( فمن جهز غازيا فقد غزا ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا ) متفق عليه.(1/246)
ومن لم يتيسر له الوصول إلى معسكرات التدريب في أفغانستان وغيرها فعليه بالشعاب والأودية والجبال فإن أجر الإعداد مرتب على القيام بالتدريب ولم يرتب على الذهاب إلى أفغانستان أو غيرها , لاشك أن تلك الأراضي تتميز بوجود المجتمع المجاهد الذي يساعد على التدريب والقتال فضلاً عن قلة المخذلين والمنافقين إن لم نقل انعدامهم , إلا أنه إن تعذر الذهاب فالحمد لله { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } و{اتقوا الله ما استطعتم } وكما قدمنا أن الأجر على العمل فمن رمي بسهم – رصاصة أو قذيفة – في سبيل الله استحق الأجر سواء رمي بها في قندهار أو في الرياض .
قال ابن كثير " وأعدوا لهم ما استطعتم " أي مهما أمكنكم من قوة ومن رباط الخيل .
وقال الطبري : { ما استطعتم من قوة } يقول : ما أطقتم أن تعدوه لهم من الآلات التي تكون قوة لكم عليهم –الكفار- من السلاح والخيل .
وقال الجصاص :أمر الله المؤمنين في هذه الآية بإعداد السلاح والكراع قبل وقت القتال إرهابا للعدو(1). انتهى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وقد روي ( أن قوماً يتناضلون , فقيل : يا رسول الله ! قد حضرت الصلاة , قال : إنهم في الصلاة ) فشبه رمي النشاب بالصلاة وكفي بذلك فضلاً ) المستدرك لابن قاسم (3/218) .
__________
(1) 1- وقد استفدت في هذا الباب من كتاب العمدة في إعداد العدة ونقلت بعضاً من فوائده مع اختصار وتصرف وزيادات تناسب المقام .(1/247)
وقال شيخ الإسلام أيضاً ( الرمي في سبيل الله , والطعن في سبيل الله , والضرب في سبيل الله كل ذلك مما أمر الله تعالى به ورسوله , وقد ذكر الله تعالى الثلاثة , فقال تعالى { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّا بعد وإما فداءً حتى تضع الحرب أوزارها } وقال تعالى { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } وقال تعالى { يا أيها الذين امنوا ليبلوكم الله بشيءٍ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } وقال تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم } وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قرأ على المنبر هذه الآية فقال ( ألا إن القوة الرمي , ألا إن القوة الرمي , ألا إن القوة الرمي ) ثم قال بعد سرده بعض الأحاديث : وهذا لأن هذه الأعمال هي أعمال الجهاد , والجهاد , والجهاد أفضل ما تطوع به الإنسان ... ولهذا الرباط في الثغور أفضل من المجاورة بمكة والمدينة , والعمل بالرمح والقوس في الثغور , أفضل من صلاة التطوع , وأما في الأمصار البعيدة من العدو , فهو نظير صلاة التطوع .
وفي الصحيحين عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال ( إن في الجنة مائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض , أعدها الله للمجاهدين في سبيله ) .
وتعلم هذه الصناعات هو من الأعمال الصالحة لمن يبتغي بذلك وجه الله عز وجل فمن علم غيره ذلك كان شريكه في كل جهاد يجاهد به لا ينقص أحدهما من الأجر شيئاً, كالذي يقرأ القرآن ويعلم العلم , وعلى المتعلم أن يحسن نيته في ذلك ويقصد به وجه الله , وعلى المعلم أن ينصح للمتعلم ويجتهد في تعليمه ... ثم قال .. وأصل هذا أن يعلم أن هذه الأعمال عون على الجهاد في سبيل الله , والجهاد في سبيل الله مقصوده أن يكون الدين كله لله , وأن تكون كلمة الله هي العليا ) ا.هـ الفتاوى (28/22,10) .
((1/248)
ومن أمضى الأسلحة التي لا يزال يملكها المسلمون سلاح الشهادة،ذلك السلاح الذي لا يزال مع قدمه يطاول أعتي ما اخترعته قوى الشر من وسائل الفتك وأدوات التدمير.إنه السلاح الذي لا يمكن لتقنيتهم أن تخترع له مضاداً،ولا يمكن لوسائلهم الشيطانية أن تبطل أثره ومفعوله .
وقد دلت النصوص كما أسلفنا على جواز التغرير بالنفس طلباً للشهادة ورغبة في إحداث نكاية في عدو أو تحقيق مصلحة للمسلمين ،وقِصار النظر هم الذين لا يرون في ذلك إلا نوعاً من الإلقاء باليد إلى التهلكة .
أما أهل العلم والفقه فيعلمون أن إهلاك النفس في سبيل الله هو السبيل إلى إحيائها الحياة الحقيقية ،كما قال تعالى {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون}
ولقد أحسن القائل : تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
ولذا فإن الله عز وجل حين سمي نبيه يحيى بهذا الاسم ،أراد أن يهبه من الحياة ما يتوافق به الاسم مع المسمى ،فلم يكن أبلغ في ذلك من أن يختار له الشهادة ،ليرزقه الحياة الكاملة .
ولما علم السلف الكرام عظم مكانة الشهادة في الإسلام تسابقوا لنيلها وإن كانوا ممن عذر الله ،قال القرطبي : (( قال العلماء : فعذر الحق سبحانه أصحاب الأعذار وما صبرت القلوب ؛فخرج ابن أم مكتوم إلى أُحد وطلب أن يعطي اللواء فأخذه مصعب بن عمير ،فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها فأمسكه باليد الأخرى فضرب اليد الأخرى فأمسكه بصدره وقرأ :
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) ، هذه عزائم القوم ،والحق يقول ( ليس على الأعمى حرج ) وهو في الأول، ( ولا على الأعرج حرج ) ،وعمرو بن الجموح من نقباء الأنصار أعرج وهو في أول الجيش قال له الرسول صلى الله عليه وسلم ( إن الله قد عذرك فقال : والله لأحفر ن بعرجتي هذه في الجنة ))(1).
__________
(1) ... ... (1) الجامع لأحكام القرآن : (8/ 226) .(1/249)
وفي فضل الشهادة والشهيد يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : ( لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرفة الشجي فتنوع المدعون في الشهود فقيل لا نثبت هذه الدعوى إلا ببينة { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }، فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الرسل في أفعاله وأقواله وهديه وأخلاقه ،فطولبوا بعدالة البينة وقيل لا نقبل العدالة إلا بتزكية يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ،فتأخر أكثر المدعين للمحبة وقام المجاهدون ،فقيل لهم : إن نفوس المتحابين وأموالهم ليست لهم فسلموا ما وقع عليه العقد ف( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة )،وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين ،فلما رأى التجار عظمة المشتري وقدر الثمن وجلالة قدر من جرى عقد التبايع على يديه ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه هذا العقد ،عرفوا أن للسلعة قدراً وشأناً ليس لغيرها من السلع فرأوا من الخسران البين والغبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة ،تذهب لذتها وشهوتها وتبقى تبعتها وحسرتها فإن فاعل ذلك معدود في جملة السفهاء فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان رضاء واختياراً من غير ثبوت خيار وقالوا :والله لا نقيلك ولا نستقيلك ،فلما تم العقد وسلموا المبيع ،قيل لهم :قد صارت نفوسكم وأموالكم لنا والآن فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معها، { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } ،لم نبتغ منكم بنفوسكم وأموالكم طلباً للربح عليكم بل ليظهر أثر الجود والكرم في قبول المعيب والإعطاء عليه أجل الأثمان ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به علم الخلائق فقد أعطى السلعة وأعطى الثمن ووفق لتكميل العقد وقبل المبيع على عيبه وأعاض عليه أجل الأثمان واشترى عبده من نفسه بماله وجمع له بين الثمن والمثمن وأثنى(1/250)
عليه ومدحه بهذا العقد وهو الذي وفقه له وشاءه منه )(1).
وتالله لو لم يكن للشهادة من فائدة إلا نيل رضا الله والجنة لكان ذاك سبباً كافياً للحرص عليها والعمل على نيلها ،ومع ذلك فإن حوادث التاريخ والواقع يدلان على أن للتضحية بالنفس أكبر الأثر في الحط من عزيمة الأعداء وإشعارهم بالهزيمة،وبالأمس القريب ،رأينا أمريكا بكل قوتها وجبروتها تفر هاربة من لبنان على إثر بضع عمليات ضحى فيها أفراد بأنفسهم ،وساعتها لم تستطع أقوى دولة في العالم أن تصمد في وجه بضعة أفراد يريدون الموت في سبيل قضيتهم، ومثلها في الصومال وإن شاء الله في الجزيرة والعراق وأفغانستان يكون لها نفس المصير وما ذلك على الله بعزيز .
فيا أيها المعتدلون المتريثون : لا بأس أن تبقوا على تريثكم واعتدالكم ، ولكن أفسحوا الطريق لطلاب الشهادة الساعين في تكميل مهر الحور العين ، فإن لم تكونوا لهم مُعينين فلا أقل من أن لا تكونوا من المثبطين المخذلين ،
وإلا فلستم من الناصحين المحسنين الذين عذرهم الله في قعودهم وترْكهم جهاد الكافرين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .(2)
هذا وقد تم الفراغ من التعليق على الأحاديث صبيحة يوم الأحد الخامس والعشرين
من شهر رجب لعام أربع وعشرين وأربعمائة وألف
من هجرة المصطفي صلى الله عليه وسلم
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
كتبه أبو مرادالشافعي
من بلاد الحرمين
__________
(1) زاد المعاد : (2/60) .
(2) من رسالة مراحل تشريع الجهاد .(1/251)