كتاب فضائل القرآن
باب فضائل تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على الهادي الأمين نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، اللهم اغفر لنا ولشيخنا يا رب العالمين .
كتاب فضائل القرآن ، باب فضائل تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه ، وقول الله - عز وجل - يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (1) وقوله تعالى : مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) (2) وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق ، له أجران (3) أخرجاه ، وللبخاري عن عثمان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خيركم من تعلم القرآن وعلمه (4)
__________
(1) - سورة المجادلة آية : 11.
(2) - سورة آل عمران آية : 79.
(3) - البخاري : تفسير القرآن (4937) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (798) , والترمذي : فضائل القرآن (2904) , وأبو داود : الصلاة (1454) , وابن ماجه : الأدب (3779) , وأحمد (6/48) , والدارمي : فضائل القرآن (3368).
(4) - البخاري : فضائل القرآن (5027) , والترمذي : فضائل القرآن (2907) , وأبو داود : الصلاة (1452) , وابن ماجه : المقدمة (211) , وأحمد (1/57) , والدارمي : فضائل القرآن (3338)..(1/1)
ولمسلم عن أبي أمامة ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اقرءوا القرآن ، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ، اقرءوا الزهراوين : البقرة وسورة آل عمران ، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ، أو : كأنهما غيايتان ، أو : كأنهما فرقان من طير صواف ، تحاجان عن أصحابهما ، اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد ربي وأشكره وأثني عليه الخير كله ، من فأفضل وأعطى فأجزل وأنعم فتكرم ، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين ومنة للمؤمنين ومحجة للسالكين وحجة على المعاندين ، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين .
أما بعد :
فأولا : أشكر الله جل وعلا على ما يسر وهيأ من هذه الدورة العلمية التي تقام في هذا الجامع المبارك على أيدي إخوان فضلاء ، جزاهم الله خيرا على هذا العمل ، وجعل ذلك في موازين حسناتهم عند الله تعالى .
__________
(1) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/249).(1/2)
وهذا الدرس هو في كتاب ( فضائل القرآن الكريم ) لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، وهو ضمن مجموع مؤلفات الشيخ رحمه الله تعالى ، والشيخ غني عن التعريف ، إمام من الأئمة وعلم من الأعلام ، سار على منهاج النبوة في طلبه للعلم وتعليمه له ، وتلقيه للعلوم الشرعية ، فدعا الناس إلى عبادة الله تعالى وحده ونبذ الشرك وترك البدع والخرافات ، ومن أهم ما تميز به هذا الإمام الكبير ، السير على أدلة الكتاب والسنة على وفق منهج السلف الصالح لهما ، وإذا تتبعت مؤلفاته وجدت أن فيها ، إما دليل من القرآن أو من السنة أو من أقوال الصحابة أو كلام لأئمة الإسلام وسلف الأمة ، ليس فيها إطالة ولا إطناب ، كما في هذا الكتاب في فضائل القرآن الكريم ، إما الاستدلال على فضل القرآن بآية أو بحديث أو بأثر عن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم - وهذا هو العلم النافع المفيد الذي يجعل النفس زكية ومستقيمة وصالحة على الطريق السوي الذي يرضاه الله تعالى لعباده .
وعنوان هذه الرسالة هي ( فضائل القرآن الكريم ) ولا بد قبل الشروع في الكلام على الفضائل شرح هذا العنوان لأنه يكثر الكلام على مثل هذا العنوان ، فضائل القرآن الكريم فضائل الصحابة فضائل مكة فضائل المدينة ، وغير ذلك .(1/3)
فأقول : الفضائل جمع فضيلة ، وهي على وزن فعيلة ، والعرب تجمع فعيلة على فعائل ، وهذا جمع مقيس في كل رباعي مؤنث ثالثه حرف مد ، فليست جمع الفضائل فضل وإنما جمع الفضائل فضيلة ، وفضائل القرآن التي نحن بصددها هل هي للقرآن الكريم أو لمن يقرأ القرآن الكريم ؟ هذه الفضائل أصلها لازمة للقرآن الكريم لا تنفك عنه ، فضائل القرآن لازمة للقرآن الكريم ولا تنفك عنه ، ولكن هذه الفضيلة قد تتعدى إلى آخر بحسب ما يقوم به من عمل نحو القرآن ، فتنتقل هذه الفضيلة إلى المتفضل عليه ، ومتى تنتقل إليه ؟ إذا هو أحسن التعامل مع القرآن الكريم ، وقام بحقه ، وتلاه حق تلاوته ، وعمل به واتبعه وتدبره ، وأخلص لله تعالى في تلاوته ، حينئذ تنتقل هذه الفضائل إلى قارئ القرآن مع بقائها في القرآن الكريم ، أما إذا لم يحسن الإنسان العمل بالقرآن الكريم وهو يتلوه أيضا ، يتلو القرآن ويقرأه لكنه لا يعمل به ، أو يخالف عمله في حياته ، فهذا لا يتأهل إلى أن يكون من أهل فضائل القرآن الكريم .(1/4)
وهناك فرق بين الفضائل والفضول ، فكما سبق ، الفضائل هي جمع فضيلة ، والفضول جمع فضل ، ولهذا سمي حلف الفضول بحلف الفضول ، والفضول هو الشيء الزائد الذي لا يحتاج الإنسان إليه ، كما قال الله تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (1) أي ما فضل وما زاد ، وفي قوله تعالى : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ (2) العفو هنا الشيء الزائد ، أي ما فضل ، ولا يعني أن هذا الزائد قد لا يحتاج إليه ، قد يحتاج إليه لكن إذا لم يقم به الإنسان لا يضره شيء ، وقد يستعمل المعنى الثاني الذي هو الفضول ، فيما لا ينبغي أن يكون ، كما يقولون : هذا إنسان فضولي ، يعني أنه يتدخل في أمور لا تعنيه ولا تخصه ، وسموه " فضولي " كما قال أهل اللغة في هذا ، لكن قد تقول : إن الله سبحانه وتعالى قد سمى في القرآن فضل ، قال : قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ (3) وأنت قلت : إن الفضول جمع فضل ، فينبغي معرفة هذا القيد ، صحيح أن الفضول جمع فضل ، لكن الفضل إذا أضيف إلى الله تعالى اكتسب معنى آخر ؛ لأن الله جل وعلا هو مصدر الخير والإحسان ، وكل ما يضاف إلى الله تعالى فإنه ينال شرف الكمال وشرف التحقق والحصول ، كما قال الله تعالى : قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا (4) وقال تعالى عن الفضل أيضا : ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ (5)
فالفضل في القرآن لم يرد إلا مفردا ، ولم يأت على فضول ، وإذا أضيف إلى الله تعالى اكتسب معنى آخر ، ولا يدخل في معنى الفضول ، وينبغي معرفة هذا ، هذه مسألة قبل الدخول في الموضوع .
المؤلفات في فضائل القرآن :
المؤلفات في فضائل القرآن على نوعين :
__________
(1) 1 - سورة البقرة آية : 219.
(2) - سورة الأعراف آية : 199.
(3) - سورة يونس آية : 58.
(4) - سورة يونس آية : 58.
(5) - سورة المائدة آية : 54.(1/5)
النوع الأول : فضل آية مستقلة ، يعني بعض العلماء يؤلف في فضل آية مستقلة ، كما ألف أبو محمد الخلال المتوفى سنة أربعمائة وتسعة وثلاثين في فضل سورة الإخلاص ، فضل سورة واحدة ، فضل سورة الإخلاص ، وقد يكون أيضا فضل آية واحدة ، كما أفرد السيوطي آية الكرسي واستقصى فضائلها ، ويوجد مؤلف للشيخ ابن عثيمين : تفسير آية الكرسي وبيان ما فيها من الفضائل .
النوع الثاني : فضائل القرآن على وجه العموم بسوره كلها ، وهذا قد ألف فيه أهل العلم مؤلفات متعددة ، وهي على النحو التالي مرتبة حسب التواريخ :
ألف في ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة مائتين وأربعة وعشرين ، ومطبوع كتابه ، في فضائل القرآن الكريم ، وألف أبو عبد الله بن الضريس في فضائل القرآن الكريم ، وهو متوفى سنة أربع وتسعين ومائتين ، وألف فيها أيضا أبو الفضل الرازي ، وهو متوفى سنة أربع وخمسين وأربعمائة ، وألف فيها الحافظ ابن كثير رحمه الله ، وهي موجودة ضمن التفسير - فضائل القرآن الكريم .
وهذا الكتاب الذي بين أيدينا هو للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، المتوفى سنة ألف ومائتين وست من الهجرة ، وسماه في فضائل القرآن .
وهناك نوع ، لعله نوع ثالث من المؤلفات في فضائل القرآن الكريم ، وهو ما يكون في كتب السنة ، فبعض كتب السنة أفردت فضائل القرآن بكتاب مستقل ، من ذلك ما أفرد البخاري رحمه الله تعالى ، كتابا ضمن صحيحه وسماه فضائل القرآن الكريم ، وكذلك سار عليه الترمذي والنسائي .(1/6)
وربما هناك نوع رابع يستأنس به أيضا في فضائل القرآن الكريم ، وعلى طالب العلم أن يرجع إليه لمعرفتها ، وهي كتب التفسير ، كتب التفسير في مقدماتها كلام عن فضائل القرآن الكريم ، ما من مفسر إلا ويجعل في مقدمة كتابه محلا لبيان فضائل القرآن وآدابه وآداب حملته وغير ذلك ، فيوجد فيه كلام على فضائل القرآن ، ومن أوسعها والله أعلم هو كتاب القرطبي : أحكام القرآن الكريم ، وبعده جمال الدين القاسمي ، في محاسن التأويل . هذا ضمن المدخل قبل الشروع .
ومما يدخل أيضا في العنوان : الإضافة ، وهي فضائل القرآن الكريم ، كلمة القرآن الكريم ، اختلف أهل العلم في هذه الكلمة ، هل هي مصدر أم وصف ؟ هل هي مهموزة أو غير مهموزة ؟ يعني قرآن أو قران ، والمختار عند أهل العلم ، عند جماهير أهل العلم ، أن لفظة أو كلمة القرآن ، مصدر من قرأ يقرأ قراءة ، وهو مهموز ، وصار هذا الاسم علما على القرآن الكريم ، ما بين دفتي المصحف الشريف ، فإذن هذه الكلمة هي مصدر من قرأ يقرأ قراءة ، بالهمز ، ويدل لذلك أيضا ما أخبر الله تعالى في كتابه في قوله تعالى : إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) (1) ويدل له كذلك أول كلمة نزلت في القرآن الكريم وهي في صدر سورة العلق : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) (2)
فالكلمة مصدر وهي مهموزة ، وهي تجمع ما دل عليه القرآن الكريم ، فالقرآن الكريم جمع في سوره وآياته الحكم والمواعظ والعبر ، والوعد والوعيد والقصص وأخبار السابقين ، وهذا القول هو قول جمهور أهل العلم ، وهو المختار .
__________
(1) - سورة القيامة آية : 17 - 18.
(2) - سورة العلق آية : 1.(1/7)
ولكن ذهب آخرون إلى أن كلمة ( قرآن ) هي وصف وأنها غير مهموزة ، يعني أنها قران ، أي من قرنت الشيء بالشيء ، أي ضممت بعضه إلى بعض ، وقالوا : إن سور القرآن مقرون بعضها ببعض ، وآياته مقرون بعضها ببعض ، ومجموع بعضها إلى بعض ، وفيها الحكم والمواعظ والعبر كذلك ، وبهذا استشهدوا بقراءة ابن كثير ، عبد الله بن كثير المكي الذي يقرأ في القرآن الكريم بالنقل ولا يقرأ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ (1) يقرأ ( إن هذا القران ) إلا في موضعين في سورة القيامة ، كما هو موضح في علم القراءات ، ولكن أهل العلم قالوا : ليس هذا هو الأصل وإنما نقل الحركة من الهمزة إلى التسهيل هو لأجل كثرة دوران هذا اللفظ في القرآن الكريم ، وإن كانت القراءة أيضا سنة متبعة يأخذها الأول عن الآخر لا مجال فيها للرأي ولا للقياس .
في هذا الباب قال المؤلف : باب فضائل تلاوة القرآن الكريم وتعلمه وتعليمه ، وصدر ذلك بآية المجادلة وهي قول الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (2) فالمؤلف اقتصر هنا على وجه الشاهد من الآية ، وهو قوله تعالى : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (3)
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 9.
(2) - سورة المجادلة آية : 11.
(3) - سورة المجادلة آية : 11.(1/8)
وفي هذا المقام أبين معنى هذه الآية تفسيرا ، فقوله تعالى : يَرْفَعِ (1) هذا فعل مضارع مجذوم وجوابه هو جواب الأمر المتقدم ، الأمر تقدم في أول الآية في قوله تعالى : وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ (2) فهذا الفعل مضارع مجذوم بإجماع القراء ، يعني ليس فيه قراءة وقراءة ، بل هو مجذوم يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ (3) والضمير في قوله مِنْكُمْ (4) هو عائد على الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ (5) يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (6) وحرف " من " هنا هي تبعيضية ، والمعنى أي يرفع الله الذين امتثلوا أمر الله تعالى وامتثلوا ما تعلموه من العلوم الشرعية ، فعملوا بها ونشروا هذا العلم وطبقوه في حياتهم ، فإن الله تعالى يميزهم عن غيرهم ويرفعهم درجات تفوق من لم يعمل بعلمه ومن لم يتعلم .
__________
(1) - سورة المجادلة آية : 11.
(2) - سورة المجادلة آية : 11.
(3) - سورة المجادلة آية : 11.
(4) - سورة المجادلة آية : 11.
(5) - سورة المجادلة آية : 11.
(6) - سورة المجادلة آية : 11.(1/9)
ثم قال الله : وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (1) أصل الإتيان في اللغة هو المجيء مطلقا ، ولهذا عطف وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (2) هو معطوف على الذين آمنوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (3) وهذا من عطف الخاص على العام ، للاهتمام به والعناية ، وهذا كثير في القرآن الكريم ، من ذلك قول الله تعالى حتى يتضح به المقام : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (4) هذا من عطف العام على الخاص ، وفي قوله تعالى : مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ (5) فجبريل هو من الملائكة مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ (6) فجبريل داخل في الملائكة ، لكنه عطفه على ما سبق ذكره لمكانته وعلو قدره من بين الملائكة ، أفرده بالذكر ، وهكذا في هذه الآية أفرد من تعلم العلم وتلقاه من مصادره الصحيحة وعمل به ، أفرده بالذكر من أهل الإيمان مع أنه من أهل الإيمان ، بل إن أهل العلم هم أهل الخشية ، وهم أهل الإيمان الحق ؛ لأن الله تعالى يقول : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (7) فالعطف حينئذ هو من عطف الخاص على العام للاهتمام به والتنويه بذكره والعناية .
__________
(1) - سورة المجادلة آية : 11.
(2) - سورة المجادلة آية : 11.
(3) - سورة المجادلة آية : 11.
(4) - سورة آل عمران آية : 110.
(5) - سورة البقرة آية : 98.
(6) - سورة البقرة آية : 98.
(7) - سورة فاطر آية : 28.(1/10)
وهكذا يأتي في القرآن الكريم ذكر الذين أوتوا العلم ، وهذه مسألة تفسيرية تحتاج منكم إلى بحث واستقراء ، ولهذا في قوله تعالى حينما ذكر الله قصة قارون : وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ (1) وفي سورة الروم : وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ (2) وقال تعالى في سورة العنكبوت : بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ (3) فأهل العلم حينما يأتي ذكرهم في القرآن في مثل هذا الموضع فإنه مقام ثناء وشرف ورفعة لهم ، فتجدهم ينكرون المنكر ويأمرون بالمعروف ويدعون إلى الخير .
ففي قصة قارون قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ (4) أهل العلم الحق الذين لا يريدون الدنيا ، قالوا : " ويلكم " يحذرونهم ، والله تعالى ذكر أن القرآن الكريم هو آيات في صدور الذين أوتوا العلم ، ومن غرائب هذه الآيات أنها لم ترد إلا في السور المكية ما عدا سورة واحدة والله أعلم جاءت وهي مدنية وإنما أكثرها سور مكية ، في قوله : أوتوا العلم .
__________
(1) - سورة القصص آية : 80.
(2) - سورة الروم آية : 56.
(3) - سورة العنكبوت آية : 49.
(4) - سورة المجادلة آية : 11.(1/11)
وفيه أيضا ما يشابه هذا ، أوتوا الكتاب ، فهذا مبحث تفسيري نفيس يحتاج من طالب العلم إلى أن يتوقف عنده ، فقال هنا : الذين أوتوا العلم ، ما المراد بالعلم الذي أوتوه ؟ ابن جرير الطبري وغيره من أهل التفسير يقول : أوتوا العلم بالله وبكتابه وبرسوله ، وهم أهل القرآن الكريم ، ولهذا استشهد بها المؤلف في هذا الموضع بهذا الجزء من هذه الآية يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (1) فقد ميز الله تعالى أهل العلم بالقرآن الكريم على غيرهم من سائر الناس ومن سائر أهل الإيمان ، بأن الله قد أثنى عليهم وأعلى من مكانتهم وشرفهم ونوه بذكرهم وجعل لهم من الثواب ما ليس لغيرهم من سائر المؤمنين ، كما يروى عن عبد الله بن مسعود يقول : " إن الله جل وعلا وهب أهل العلم من الثواب ما ليس لغيرهم من سائر المؤمنين " وعلى أحد التفسيرات أن أهل العلم هنا هم أهل القرآن الكريم .
ثم ذكر الله تعالى هذا الفضل الذي ميزهم به عن غيرهم ، فما هو ؟ قال : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (2) والدرجات هي تنبئ عن العلو والرفعة وشرف المكانة ، وهل هي محددة هذه الدرجات ؟ ليست محددة بحد ، ولهذا جاءت منكرة ولم تأت معرفة في هذا اللفظ ، قال : درجات ، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (3) فهي جمع درجة والدرجة هي المنزلة الرفيعة ، وجاءت منكرة إشارة إلى كثرة أنواع الدرجات في الدنيا وفي الآخرة ، وما يناله من الفضل . وفيها معنى الكرامة والشرف والرفعة .
هذه الآية العظيمة نأخذ منها عدة دلالات ، فأقول : دلت هذه الآية :
__________
(1) - سورة المجادلة آية : 11.
(2) - سورة المجادلة آية : 11.
(3) - سورة المجادلة آية : 11.(1/12)
أولا : على فضل العلم وفضل العلماء ، فيها دلالة على فضل العلم وفضل العلماء ، حيث نوه الله تعالى بشأن من تعلم ، والمقصود بالعلم هنا العلم الشرعي الذي هو علم القرآن وعلم السنة ، ونوه بشأن أهل العلم وما لهم من الأجر والثواب .
ودلت هذه الآية أيضا على فضل أهل القرآن الكريم الذين يتلونه حق تلاوته .
ودلت هذه الآية كذلك على أن الرفع في الدنيا يكون بالنصر والتأييد وحسن الذكر ، ويكون أيضا الرفع في الآخرة بدخول الجنة وحصول الثواب ومراتب الرضوان من الله تعالى .
ودلت هذه الآية على أن العلم بالله وبرسله ، هو الذي بعث الله تعالى به أنبياءه ، وبعث به نبينا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو مبلغ عن ربه ، ومعرف عن ربه ، يعرف العباد ما لربهم من الحقوق ، وما يجب عليهم نحو ربهم جل وعلا ؛ لأن اللام التي في ( العلم ) هي لام العهد وليست للاستغراق ، أي العلم المعهود الذي جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام .
وإذا كان الحال كذلك وأن هذا النبي عليه الصلاة والسلام جاء بهذا القرآن ليعلم الناس ما يجب عليهم لربهم ، كان واجبا على العباد أن يتبعوه ، وأن يقتفوا أثره وأن يسلموا لحكمه عليه الصلاة والسلام .
والرفعة في الدنيا مكانة عظيمة ، يهبها الله تعالى لمن يشاء من عباده ، ويهبها لأهل القرآن خاصة الذين عملوا به ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، لعلي أذكر مثالين :(1/13)
المثال الأول : ما أخرجه الإمام مسلم في قصة عامر بن الحارث الخزاعي ، الذي كان واليا على مكة ، ولاه عمر على مكة ، فلقيه عمر ، لقي نافعا في عسفان ، فلما لقيه قال له : من أمرت على هذا الوادي ؟ كأنه ينكر عليه ، كيف تخرج وتترك هذا الوادي أو هذا المكان بلا وال ؟ قال : إني أمرت عليهم ابن أبزى ، عبد الرحمن بن أبزى ، قال مستنكرا عمر : ومن ابن أبزى هذا ؟ فسكت نافع وقال : ابن أبزى ، إنه حافظ للقرآن وعالم بالفرائض ، وكان عمر وقافا عند حدود الله ، وقال : لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين (1) فهذا دليل على أن الله رفعه وهو مولى من الموالي رفعه الله .
المثال الثاني : قصة أبي لما جاءه النبي عليه الصلاة والسلام ، والقصة في صحيح مسلم ، ناداه وقال له : يا أبي إن الله أمرك أن تقرأ علي سورة البينة ، قال : أوسماك الله لي ؟ قال : نعم ، فبكى أبي فرحا بهذه الرفعة ، قال : وسماك باسمك في الملأ الأعلى (2) لأنه يقرأ القرآن وهو سيد القراء وهو من كبار القراء ، أثنى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وتتبعوا الأمثلة ، هي كثيرة حقيقة ، يعني قصة عبد الله بن قيس ، أبو موسى الأشعري ، وقصة ابن عباس لما جمع له عمر ، جمع الصحابة وأتى بابن عباس وسألهم عن معنى قوله تعالى : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) (3) ففهم منها ابن عباس ما لم يفهمه غيره من الصحابة التي هي قرب أجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : لم أفهم منها إلا ما فهمه ابن عباس ، فهذا دليل على الرفعة وعلو المكانة إذن .
__________
(1) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (817) , وابن ماجه : المقدمة (218) , وأحمد (1/35) , والدارمي : فضائل القرآن (3365).
(2) - أحمد (3/489).
(3) - سورة النصر آية : 1.(1/14)
هذا ما يتعلق بهذه الآية ، وبقي فيها أيضا من الدلالات أنها دلت على أن المراد بالرفعة هي الشرف وعلو المنزلة ، ولهذا الله تعالى ذكر نظائر هذه الآية في القرآن الكريم ، قال تعالى عن الأنبياء عليهم السلام : * تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ (1) ماذا بعدها وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ (2) رفع بعضهم ، ليسوا على درجة واحدة ، الأنبياء .
وكذلك في قوله تعالى عن سائر الناس في آخر سورة الأنعام : وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ (3) وقال تعالى : نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ (4) وقال تعالى : رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ (5) فتبين أنها الرفعة في هذه الآية وفي الآيات التي تلوتها ، المراد بها الشرف وعلو المنزلة ، وهذه من إطلاقات الرفع أو الرفعة في القرآن الكريم ؛ لأن كلمة ( الرفع ) كما يقول أهل اللغة وأهل التفسير لها إطلاقات متعددة ، منها الشرف وعلو الرفعة ، ومنها أيضا رفع الأجسام الموضوعة إذا أعليتها من مكانها ومقرها ، فإنك ترفعها ، ولهذا قال تعالى : وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ (6) وهو رفع لشيء معلوم ومعروف ، رفعه الله تعالى على بني إسرائيل .
وتارة يكون الارتفاع في البناء ، إذا أردت أن تطوله وترفعه أكثر ، ولهذا قال تعالى : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ (7) فدل على أن الرفعة في أصلها هي تعني مرتبة عالية وأعلى .
فأهل القرآن الكريم هم أهل الرفعة والمكانة عند الله جل وعلا ، ثم عند الناس ، يرونهم ويحترمونهم ويجلونهم كما سيأتي في الأبواب .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 253.
(2) - سورة البقرة آية : 253.
(3) - سورة الأنعام آية : 165.
(4) - سورة الأنعام آية : 83.
(5) - سورة غافر آية : 15.
(6) - سورة البقرة آية : 63.
(7) - سورة البقرة آية : 127.(1/15)
أما الآية الثانية ، وهي قوله تعالى : مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ (1) دائما نسمع في القرآن الكريم " ما كان " مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ (2) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ (3) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ (4) آيات كثيرة ، أهل التفسير يقولون دائما إذا جاءوا إلى عند مثل هذه الآية وهم يذكرونها في الموضع الأول ، يقولون : أي ما ينبغي ، ما كان ، أي ما ينبغي ، ولكن هذا المعنى قاصر يحتاج إلى تعريف ووضع قاعدة وضابط يستطيع طالب العلم أن يعرف المعنى في أي موضع من القرآن الكريم ، فقوله تعالى : ما كان ، هذه الكلمة إذا جاءتك في القرآن فإنها تستعمل في الشيء الممتنع شرعا وقدرا ، وفي هذا الموضع استعملت هذه الكلمة بمنع ما كان شرعا وقدرا كما سيأتي ، وأما امتناع الشيء قدرا ففي قوله تعالى : وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) (5) فهذا أمر ممتنع على الله أن يكون الله ناسيا أو منسيا ، قدرا ممتنع وممتنع أيضا شرعا ، وهذا مثاله كقوله تعالى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) (6) لو شاء الله أن يعذبهم ونبيهم فيهم لشاء سبحانه ، ولكن هذا الأمر ممتنع شرعا كما يقول ذلك أهل التفسير . والذي ذكر هذه الفائدة هو الشيخ ابن عثيمين ، يرجع إليه في تفسير هذه الآية في سورة آل عمران ، وكتابه مطبوع .
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 79.
(2) - سورة آل عمران آية : 179.
(3) - سورة الأحزاب آية : 36.
(4) - سورة الأنفال آية : 33.
(5) - سورة مريم آية : 64.
(6) - سورة الأنفال آية : 33.(1/16)
قال تعالى أيضا بعدها : مَا كَانَ لِبَشَرٍ (1) البشر ، لفظ بشر يقع على الواحد وعلى الجمع ؛ لأنه بمنزلة المصدر ، كلمة بشر تطلق على الفرد وتطلق على المجموع ؛ لأنه بمنزلة المصدر ، والبشر هو الواحد والجماعة من بني آدم ، يطلق على الإنسان ويطلق على أكثر من إنسان لأنه بشر ، لكن سبب التسمية سمي بذلك لأمرين :
الأول : لظهور بشرته ، فإن بشرة الإنسان ظاهرة وبارزة لا يغطيها شعر ولا يغطيها صوف ولا يغطيها وبر ، ليس كسائر الحيوانات ، وإنما بشرته واضحة وبينة .
وقيل : الثاني : سمي بشرا لظهور أثر البشارة عليه فيما إذا أخبر بخبر سار ، وهذا أمر معروف ، إذا جئت إنسانا وأخبرته بما يسره فإنه يتغير وجهه ويستبشر بهذا الخبر ، وترى هذا الخبر ، يعني سرور هذا الخبر ، ظاهرا على قسمات وجهه وفي عينه وفي وجهه كاملا ، فتظهر البشارة في وجه الإنسان ، ولا مانع يقول العلماء : ولا مانع من اجتماع الأمرين في هذا اللفظ .
ولكن هناك حكمة ، الحكمة من أن الله جل وعلا جعل الإنسان ذا بشرة واضحة للناس ، يرون بشرته بدون أن يغطيها شيء ، قالوا : الحكمة في ذلك أن يبحث عما يقيه من حر الشمس وما يستر به عورته وما يحفظ به سوأته ، ثم أيضا يذكره هذا الذي هو الكساء الحسي ، يذكره بأن يسعى في اكتساب الكساء المعنوي وهو التقوى ، كما قال الله تعالى لبني آدم : يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ (2) التي هي التقوى ، فالمسلم يسعى بعد أن أنعم الله عليه بهذا اللباس وستر عورته والتجمل بهذا اللباس ، أن يسعى في اكتساب اللباس المعنوي وهو لباس التقوى ، هذا ما يتعلق بلفظ البشر .
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 79.
(2) - سورة الأعراف آية : 26.(1/17)
وفي الآية أيضا إشارة إلى ثلاثة أشياء ، الآية فيها إشارة إلى ثلاثة أمور ، وتتبعوا معي في الآية أن الله تعالى قال : مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ (1) هذا الأول ، والحكم ، هذا الثاني ، والنبوة ، هذا الثالث .
فإيتاء الكتاب هو ما جاء في الوحي المنزل ، والحكم هو العلم والفهم ، والنبوة هي التبليغ والإخبار عن الله تعالى ، فهذه ثلاثة أمور جاءت مرتبة ترتيبا دقيقا ومنظما .
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 79.(1/18)
ولكن لماذا قال : النبوة ، مع أنه تقدم وقال الله تعالى : مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ (1) فالكتاب لا يؤتى إلا لمن ؟ للنبي ، فلماذا ذكر النبوة مرة ثانية ؟ هل لهذا وجه ؟ لهذا وجه ، يعني ما وجه ذكر النبوة بعد ذكر قوله تعالى : أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ (2) الجواب أنه قد يطلق إيتاء الكتاب على من أرسل إليهم به ، لا من أرسل به ، يعني القوم قد يطلق عليهم أنهم أوتوا الكتاب لكنهم لم يرسل إليهم ، لم يُنَبَّئوا ولم يبلغوا برسالة يبلغونها ، ودل على هذا قوله تعالى : الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ (3) وقال تعالى : الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ (4) والخطاب ليس للنبي في هذه الآية ، وفي هذه الآية أيضا ( أوتوا العلم ) المتقدمة ، فالشاهد أن الذين أوتوا الكتاب لا يلزم منه أن يكون المخاطب به النبي المرسل ، وإنما يخاطب به المرسل إليهم ليعملوا به وليذكروا بما فيه حتى يقوموا به حق القيام ، ولهذا ذكر الله تعالى النبوة بعد إيتاء الكتاب ، حتى لا يتوهم متوهم أن الذين أوتوا الكتاب هم رسل أيضا ، وليسوا برسل في الآيات التي تلوتها ، وإلا فإن كتب الله تعالى أنزلت على أنبياء .
ثم قال الله تعالى ، وهو الثاني : النبوة ، النبوة إما أن تكون مهموزة أو غير مهموزة ، اللفظ إما أن يكون بهمز : النبوءة ، أو النبوة ، وبالهمز قرأ نافع براوييه ، في جميع القرآن الكريم ما عدا موضعين في الأحزاب وسائر وعامة القراء قرؤوا بدون همز : النبوة ، والنبوة إذا سارت واوية هي من الارتفاع ؛ لأن رتبة الأنبياء أعلى رتبة ، وأعلى طبقة في الخلق هم رتبة الأنبياء ، فإنها مأخوذة من النَّبْوَة وهو الارتفاع .
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 79.
(2) - سورة آل عمران آية : 79.
(3) - سورة البقرة آية : 146.
(4) - سورة البقرة آية : 121.(1/19)
والثاني الذي هو الهمز في كلمة ( النبوءة ) تكون مأخوذة من النبأ ، وهو الخبر ، فالنبي أو الرسول منبأ ومنبئ ، يعني منبأ من عند الله ومنبئ للناس ، منبئ لقومه أو منبئ لمن بعث إليهم من سائر الناس ، فإما أن تكون اللفظة مهموزة أو غير مهموزة مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ (1)
ثم قال الله تعالى : ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ (2) هنا في هذه الكلمة : ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ (3) هذا هو الممتنع الذي انصب عليه النفي ، النفي أين جاء فيه ؟ جاء في أول الكلام مَا كَانَ (4) فالذي انصب النفي عليه هو القول أن يأتي ويقول : يا ناس كونوا عبادا لي من دون الله .
وفي كلمة : ثُمَّ يَقُولَ (5) قراءتان ؛ القراءة الأولى متواترة والثانية شاذة ، القراءة المتواترة هي قراءة النصب : ثُمَّ يَقُولَ (6) وهي عطف على ما تقدم : مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ (7) والتقدير : ثم أن يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ، فهي معطوفة على المنصوب المتقدم في قوله : يُؤْتِيَهُ (8) أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ (9) وقرئ شاذا بالرفع : ( ثم يقول للناس ) على الاستئناف ، وليست على العطف ، إذن كلمة ثُمَّ يَقُولَ (10) هذا هو الممتنع الذي لا يمكن أن يقع .
وقوله : كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ (11) فحال الإنسان بين ثلاثة أمور :
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 79.
(2) - سورة آل عمران آية : 79.
(3) - سورة آل عمران آية : 79.
(4) - سورة آل عمران آية : 79.
(5) - سورة آل عمران آية : 79.
(6) - سورة آل عمران آية : 79.
(7) - سورة آل عمران آية : 79.
(8) - سورة آل عمران آية : 79.
(9) - سورة آل عمران آية : 79.
(10) - سورة آل عمران آية : 79.
(11) - سورة آل عمران آية : 79.(1/20)
أن يكون عبدا خالصا لله تعالى ، أو أن يكون عبدا لله ولغيره ، أو أن يكون عبدا لغير الله ؛ أي ثلاثة أحوال ، فالأول هو المخلص ، والثاني والثالث هو المشرك بالله جل وعلا ، فالأول هو المتحقق في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والأمران الثاني والثالث ، هذا هو المنتفي ، ولهذا كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أخلص الناس لله تعالى ، قال الله تعالى : قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) (1) أمره الله تعالى أن يكون مخلصا ، وقال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام قَانِتًا لِلَّهِ (2) يعني أنه مخلصا لله تعالى في عبادته ودعوته ، في عبادته لربه ودعوته الناس إلى عبادة ربهم ، ولهذا ذكر الله تعالى في سور متعددة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنهم عبدوا الله حق عبادته ، وأنهم دعوا الناس إلى عبادة الله خالصة ، وكل نبي يقول لقومه : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، وتكرر لفظ العبودية أيضا من الأنبياء في سورة الأعراف : أن اعبدوا الله واتقوه ، من الأنبياء عليهم السلام لبيان هذا الحق العظيم الذي هو لله جل وعلا وليس لغيره .
ثم قال الله تعالى : وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ (3) هذا استدراك ، قوله تعالى : ولكن ، هذا استدراك ، وهو واقع أيضا في مقابلة النفي الذي صدرت به الآية ؛ لأن في الجملة حذفا ، ولا بد أن يقدر ، وهذا التقدير : ولكن يقول : كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب ، حتى نفهم معنى السياق ودلالته حينئذ ، وكلمة ( ربانيين ) واحدهم رباني ، وهو من كان عبدا لله خالصا لوجهه ، وكلمة الرباني نأخذ منها أربع فوائد :
الأولى : أن الرباني هو الذي يربي الناس على صغار المسائل قبل كبارها .
__________
(1) - سورة الزمر آية : 11.
(2) - سورة النحل آية : 120.
(3) - سورة آل عمران آية : 79.(1/21)
الفائدة الثانية : أن الرباني هو الذي يربي الناس على شريعة الله تعالى ، بالعلم والدعوة والعبادة والأخلاق والمعاملة الحسنة .
الفائدة الثالثة : أن الرباني هو العالم بدين الرب ، الذي يعمل بعلمه ؛ لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم بل جر على نفسه وبالا وخزيا وعارا ، فلا بد من العمل بالعلم .
الفائدة الرابعة : أن الرباني منسوب إلى التربية أو إلى الربوبية ، فباعتباره مضافا إلى الله ربوبية ، وباعتباره مضافا إلى الإصلاح يعني إصلاح الشيء ، فهو تربية ، يعني باعتبار مضافين ، إذا أضيف إلى الله تعالى فإنه ربوبية ، وإذا أضيف إلى إصلاح الشيء وتنميته ، فإنها تربية .
ولهذا فإنه لا يصح شرعا أن يطلق على الإنسان رب إلا مضافا ، فيقال : رب الدار ، رب السيارة ، رب الإبل ، وإنما يطلق على الله تعالى بغير إضافة ، فهو مختص بالله جل وعلا ، ولهذا أنكر يوسف عليه السلام قال : أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) (1) فالرب إذا أضيف صح إطلاقه على البشر ، وأما إطلاقه بدون إضافة فلا يصح حينئذ .
والمعنى معنى هذه الآية ، ما معنى كونوا ربانيين ؟ أي كونوا مخلصين للرب متعبدين له مربين للخلق على ما تقتضيه الشريعة ويقتضيه الإسلام ، وفسرها الصحابة والتابعون بتفسيرات متعددة ، فقالوا : الربانيون ، أو معنى ربانيين ؛ أي كونوا فقهاء حكماء علماء أتقياء ، والمعنى مشتمل أو محتمل لكل هذه المعاني .
وقوله : بِمَا كُنْتُمْ (2) هذه سببية ، أي بسبب تعليمكم للناس كونوا قدوة لغيركم ، اعملوا بما تتعلمون ، وادعوا الناس إلى الخير وحثوهم عليه ، لا يرى منكم الناس شيئا يخالف ذلك ، فإن هذا مذمة وعار على الإنسان .
__________
(1) - سورة يوسف آية : 39.
(2) - سورة آل عمران آية : 79.(1/22)
وفي قوله تعالى : بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) (1) تعلمون فيها قراءتان سبعيتان ، الأولى : ( بما كنتم تعلمون ) وهي قراءة الكوفيين وابن عامر ، والكوفيون هم حمزة وعاصم والكسائي ، وقرأ معهم ابن عامر ، قرؤوا بالتشديد : ( بما كنتم تعلمون ) بضم التاء وتشديد اللام مع كسرها ، وقرأ بقية القراء : ( بما كنتم تعلمون ) بالفتح بدون تشديد ، أي بالتخفيف ، ولكن التشديد هنا أبلغ ؛ لأن ذاك يتعلم فقط يعلم ، أما التشديد فإنه يعلم ويعلم ، اجتمع فيه أمران : أمر التعلم وأمر التعليم ، وأما على القراءة الثانية بالتخفيف ، فليس فيها إلا التعلم ، يقول العلماء : فالتشديد أبلغ لأن كل معلم عالم ، بمعنى يعلم ، وليس كل من علم شيئا يكون معلما ، فالتشديد يدل على مزيتين : على مزية العلم والتعليم ، وأما التخفيف فليس فيه إلا واحدة وهي العلم فقط ، فالتعليم أبلغ وأمدح حينئذ .
بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) (2) دلالات هذه الآية :
دلت هذه الآية على أمور :
أولها : فضل العلم ومزية أهله ، وأعظمه علم القرآن الكريم ؛ لأنه جاء في بعض التفاسير أن الربانيين هم أهل القرآن ، ولهذا استشهد بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على فضائل القرآن الكريم ، هذا وجه الاستشهاد .
الأمر الثاني : دلت الآية على أن التعليم نفعه متعد للآخرين ، وما كان متعديا للآخرين فهو أفضل وأعظم أجرا ، والله تعالى قد قال : وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (77) (3) وقال تعالى : وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ (4) أي لن يعدموا فضله وثوابه .
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 79.
(2) - سورة آل عمران آية : 79.
(3) - سورة الحج آية : 77.
(4) - سورة آل عمران آية : 115.(1/23)
ودلت الآية على الإخلاص لله تعالى في طلب العلم ، وأن العلم والتعلم والتعليم والدراسة ، تستوجب على الإنسان أن يكون ربانيا ؛ أي عابدا للرب جلا وعلا بهذا العلم ، فلا يصرفه لشيء آخر ولا يتعلمه لعرض من الدنيا ، ولا لينال به مكانة ووجاهة عند الناس ، ليقال : إن فلانا عالم وفلانا حافظ وفلانا معه قراءات ومجاز وكذا ، حتى إن ابن الجوزي في تلبيس إبليس ذكر ما يلبس به الشيطان على القراء لأنهم يذهبون ويتتبعون الأسانيد ويأخذون الإجازات من كل مكان ، حتى يقال : إن فلان معه إجازات ، قال : إن هذا من تلبيس إبليس على من يقرأ القرآن الكريم ، فإذا قرأ رواية فالحمد لله ، ولكن إذا قرأ عدة روايات وجعلها بينه وبين ربه إلا من جاء يطلب منه العلم فيعطيه حينئذ ، ولكن لا ينبغي للإنسان أن يباهي وأن يفاخر .
من طلب علما ، في الحديث : من طلب علما مما يبتغى به وجه الله لا يجد رائحة الجنة أو عرف الجنة (1) وفي الحديث الآخر : من طلب علما ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء أو ينال به عرضا من الدنيا ، أدخله الله النار (2) رواه ابن ماجه ، يعني هناك أحاديث عظيمة تخوف طالب العلم وقارئ القرآن من أن يدخله الرياء في قلبه من الشهرة والذكر والثناء بين الناس ، فلا بد أن يكون مخلصا لله جل وعلا ، وهذه الآية دلت عليه .
__________
(1) - أبو داود : العلم (3664) , وابن ماجه : المقدمة (252) , وأحمد (2/338).
(2) - الترمذي : العلم (2655) , وابن ماجه : المقدمة (253).(1/24)
الأمر الرابع : دلت الآية على عصمة الأنبياء ، وأنهم أمناء في التبليغ عن الله ، فلا يصح شرعا ولا عقلا أن يأتي نبي ويأمر الناس أن يعبدوه من دون الله ، فالأنبياء هم أول الموحدين لله تعالى ولا يصح ، وإن كانت الآية جاءت في سياق نصارى نجران ، حينما ذكروا عن عيسى عليه السلام ووسموه بالألوهية ، والسورة من أولها ربما إلى قوله تعالى : وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ (1) أنها في نصارى نجران ، فكانوا يسمون عيسى عليه السلام بالألوهية ، وحاورهم النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك : فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ (2) إلى آخر الآية فيها ، وفي أولها ، ولكن الله تعالى بعد أن ذكر ما لعيسى من المقام والرفعة عند الله جل وعلا قال : مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ (3) إلى آخره ، ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ (4) فنفى الله تعالى عنه ذلك .
الأمر الخامس : أن النبوة تقتضي العبودية الكاملة لله تعالى والخضوع التام للواحد القهار جل وعلا ، ولهذا قال الله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) (5) ويقول موسى عليه السلام : رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) (6) كانوا يفتقرون إلى الله ويلجئون إليه وهم الأنبياء المعصومون المؤيدون بالوحي من الله تعالى .
السادس : دلت الآية على قيام العلماء بواجب النصح للأمة والإصلاح في المجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
هذا ما يتعلق بهذه الآية أو بهذه الآية والآية التي تليها .
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 121.
(2) - سورة آل عمران آية : 61.
(3) - سورة آل عمران آية : 79.
(4) - سورة آل عمران آية : 79.
(5) - سورة الزمر آية : 11.
(6) - سورة القصص آية : 24.(1/25)
ثم ساق المؤلف جملة من الأحاديث في فضائل سور القرآن ، وهناك قاعدة يذكرها أهل العلم ، يقول العلماء : إن الأحاديث الثابتة في فضائل القرآن هي قليلة وليست كثيرة ، ولهذا ينبغي على طالب العلم أن يتأكد ويتحرى صحة الأحاديث في فضائل القرآن الكريم ، ولا يسلم لكل حديث يأتي إلا بعد أن يتأكد من صحته وصحة سنده وثبوته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .(1/26)
جاء هذا الحديث الذي فيه ثناء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أهل القرآن ، ووصف منه عليه الصلاة والسلام لأهل القرآن وما هم عليه من الرفعة والمكانة ، فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة (1) والماهر جمعه مهرة ، والماهر في الأصل هو الحاذق لكل عمل المتقن له ، وأما في وصف القرآن الكريم فإنه الحافظ الكامل الحفظ الذي لا يتردد في حفظه ، ومتقن لحفظه وتلاوته ، وضابط لما يحفظه ، يعني يعرف مواطن الوقف والابتداء ، ويعرف مخارج الحروف وصفاتها ، ويعرف الأحكام المتعلقة بالتلاوة ، فهو يفصح القرآن ويحبره تحبيرا ، فهذا هو الحاذق الذي بلغ الرتبة العليا في القراءة ، ولهذا جعل الله تعالى له أجورا متعددة ، لم يحدد له أجرا كما ذكر في الذي يتعتع ، قال : له أجران ، وإنما قال في حق الماهر قال : مع السفرة الكرام البررة ، والبررة هو وصف للملائكة ؛ لأن كلمة السفرة هي الكشف والبيان أنهم ظاهرون فيما يقولون ؛ لأن كلمة سفرة تدل على الكشف والبيان والظهور ، لهذا يقال : سفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت ، قال الله تعالى : وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) (2) أي بان وظهر وبان ضوءه ، ظهر للناس انكشف ، ومنه قيل للتفسير تفسير لأنه يكشف عن بيان معنى الآية ودلالاتها ، قال الله تعالى : وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) (3)
__________
(1) - البخاري : تفسير القرآن (4937) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (798) , والترمذي : فضائل القرآن (2904) , وأبو داود : الصلاة (1454) , وابن ماجه : الأدب (3779) , وأحمد (6/48) , والدارمي : فضائل القرآن (3368).
(2) - سورة المدثر آية : 34.
(3) - سورة الفرقان آية : 33..(1/27)
أي أحسن بيانا ووضوحا ، فلهذا سمي السفرة بهذا الاسم ، فإذن المتتعتع في القرآن الكريم هو الذي يجد صعوبة في النطق به ، ويتردد لسانه في قراءة القرآن الكريم ، وقد يتبلد لسانه في إخراج الحرف ، لا يستطيع أن يظهره سليما فصيحا بينا متقنا مضبوطا ، لا يستطيع لكنه يتمنى ذلك ، رغبته يتمنى لكنه يجاهد نفسه ، لأن الماهر كان يتعتع فلما جاهد نفسه بالقراءة ترقى إلى رتبة أعلى حتى أصبح ماهرا في التلاوة حاذقا لها ضابطا متقنا لهذه التلاوة ، كما ضبط أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وأسيد بن حضير وغيرهم كانوا من القراء الضابطين المتقنين الحذاق ، أثنى عليهم النبي عليه الصلاة والسلام .
لكن لا يفهم أن لذلك أجرين ، وليس للحاذق أو الماهر ، ليس له إلا أجر واحد ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر له أجرين ، فأجر الحاذق أكثر من أجرين ، أجر الحاذق أكثر من أجرين ، بل هو أجور متعدية لا تحد بحد .
فالماهر بالقرآن قد فاق غيره ممن هو دونه بالفضل والأجر والثواب من الله تعالى ، كيف لا وهو مع ملائكة الله يحفظونه ويكرمونه ويقومون بحمايته وحراسته من كل شيء ، فإذن هذا فضل عظيم ، فالحديث يدل على دلالات عظيمة :(1/28)
منها أولا : الحث على الاجتهاد في تقوية النطق بالقرآن الكريم وتحسين اللفظ به ، ودل الحديث أيضا على عظم ثواب المكثر لتلاوة القرآن المجيد لتلاوته ، ودل الحديث كذلك على أن الإنسان وإن كان ضعيفا في النطق لا يستطيع أن يقيم الحروف ، أن يقرأ القرآن أيضا ، لا يستنقص نفسه ويقول : أنا لست من قراء القرآن ولن أدرس القرآن ولن .. ولن .. فعليه أن يجتهد ويقرأ حتى ولو كان عاميا ، يجاهد نفسه في صحة النطق بالتلاوة والقراءة حتى يستفيد هذا الأجر العظيم ويترقى من أجر إلى آخر ، الله تعالى يقول : وَتَزَوَّدُوا فَإِن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (1) ويقول تعالى : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) (2) وقال تعالى : وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى (3) فالإنسان لا يبقى على حاله بل يسعى إلى أن يطور نفسه ويجتهد في تقويم نفسه دائما ، هذا داخل أيضا في التربية ، يربي نفسه على الأشياء النافعة والمفيدة ، ومن أعظمها وأجلها قراءة القرآن الكريم ؛ لأن القرآن يمتاز عن غيره من سائر الكلام حتى الحديث القدسي ، القرآن فيه أجور عظيمة ، وفيه ثواب كبير من الله تعالى .
وهذا الحديث يفسر الآية التي في سورة (فاطر) عندما قال الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) (4)
__________
(1) - سورة البقرة آية : 197.
(2) - سورة محمد آية : 17.
(3) - سورة مريم آية : 76.
(4) - سورة فاطر آية : 29 - 30.(1/29)
فأنت أيها القارئ للقرآن تسعى في الأجر من الله ، وتبتغي من الله تعالى أن يمنحك أجورا كثيرة ، فاعمل ، فلا بد من العمل ، وخير العمل هو العمل للقرآن الكريم تلاوة وقراءة وتدبرا وعملا واتباعا ، حتى تنال الأجر من الله تعالى .
ومعلوم أن الإنسان إذا تعلم القرآن وجاهد نفسه وداوم على القراءة لا شك أنه سوف يترقى من درجة إلى أخرى ، وكذلك في الحفظ ، إذا داوم وخصص لنفسه وقتا لقراءة القرآن وعرض هذه القراءة على قارئ حافظ متقن ضابط ، فسوف يترقى إلى هذه الدرجة العليا بإذن الله تعالى ويكون مع الماهرين ، أو مع المهرة الذين هم الحذاق الضابطون .(1/30)
ثم جاء الحديث الآخر ، حديث عثمان - رضي الله عنه - وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) وهذا الحديث أيضا فيه بيان فضل قراءة القرآن ، وكما تقدم : القرآن كله فضائل متعددة لا تنتهي ، ولكن هذه الفضائل متى تكتسب ؟ تكتسب إذا أقبل العبد المسلم إلى قراءة القرآن ، فإنه ينال هذه الخيرية التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، و ( خير ) هي صيغة تفضيل ، يعني كأن الذي يتعلم القرآن ويعلم القرآن خير ممن ليس كذلك ، ولكنه خير من خير ، نحن نقرأ في القرآن أن الله تعالى قد وصف هذه الأمة بمجموعها أنها خير الأمم في قوله تعالى : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (2) إذن حتى الذي لا يقرأ القرآن يعني لا يجتهد فيه ، هو من خير الناس ، فكيف إذا جاء الخير هنا ؟ قال : خيركم ، الجواب أن يقال : إن هذا هو خير الخير ، يعني أنه اصطفاء من ذلك الخير ، خير الخير هم أهل القرآن ؛ لأن الله تعالى وصف أهل القرآن بالخيرية ، وهم قد وصفوا بها من الله تعالى من قبل في القرآن الكريم ، حيث قال تعالى : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (3)
__________
(1) - البخاري : فضائل القرآن (5027) , والترمذي : فضائل القرآن (2907) , وأبو داود : الصلاة (1452) , وابن ماجه : المقدمة (211) , وأحمد (1/57) , والدارمي : فضائل القرآن (3338).
(2) - سورة آل عمران آية : 110.
(3) - سورة آل عمران آية : 110..(1/31)
فالذي يقرأ القرآن ويتعاهد القرآن فهو داخل في هذه الخيرية ، وتزداد هذه الخيرية خيرا إلى خير إذا قام الإنسان بتعليم القرآن ، يعني ما اكتفى بعلم القرآن فقط بل علم غيره ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول : خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) أي علمه لغيره وهذا الحديث دل على فوائد :
أولها : حصول الخيرية لمن تعلم القرآن وعلمه وأخلص لله .
الثانية : تزداد الخيرية خيرا على خير لمن علم القرآن لغيره من الناس .
الثالثة : دل الحديث على الحث على العمل المتعدي نفعه للآخرين ؛ لأن تعليمك للآخرين هو نفع متعد ، فإذا علمت غيرك فغيرك سوف يعلم غيره وهكذا ، والقرآن ما وصل إلينا إلا كذلك ، النبي عليه الصلاة والسلام تلقى القرآن من جبريل ، والصحابة تلقوا القرآن من النبي والتابعون تلقوا القرآن من الصحابة ، وهكذا تلقى الناس جيلا عن جيل حتى وصل إلينا القرآن غضا طريا ، فإذن العمل المتعدي النفع .
ولا تقل : إن هذا سوف يأخذ مني وقتا وجهدا ، هذا هو الخير الذي وصف الله تعالى به أهل القرآن الكريم .
الرابعة : الترغيب في تلاوة القرآن الكريم .
الخامسة : أن القرآن أشرف العلوم .
__________
(1) - البخاري : فضائل القرآن (5027) , والترمذي : فضائل القرآن (2907) , وأبو داود : الصلاة (1452) , وابن ماجه : المقدمة (211) , وأحمد (1/57) , والدارمي : فضائل القرآن (3338).(1/32)
السادسة : أن من تعلم القرآن وعلمه فقد كمل لنفسه ولغيره ، أو هو مكمل لنفسه ولغيره ، والعمل المتعدي أيها الإخوة نفعه للآخرين ، هو الذي كان يحث عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويحث أصحابه ويحث أمته عليه ، ولهذا لما جاء عبد الله بن سلام وحفظ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديثا ، أكثركم يحفظ هذا الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام : أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام (1) فيها نفع قاصر وفيها نفع متعد ، ولكنه يذكر الناس بالأمرين ، فالأمر المتعدي نفعه إلى لآخرين أعظم أجرا عند الله ، فالعالم الذي يعلم الناس العلم والقارئ الذي يُقرئ الناس القرآن ، والآمر بالمعروف والذي يسعى على الأرملة والمسكين واليتيم ، والذي يطعم الطعام ، وهكذا ، هذه منافع متعدية ، أعمال متعد نفعها إلى الآخرين فأجرها أعظم وأكثر ، وهي طريق الفلاح في الدنيا والآخرة كما قال الله تعالى : وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (77) (2) وقال تعالى في الآية الأخرى في الأمر بالمعروف : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (3) ماذا بعدها وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) (4) إذن حكم عليهم بالفلاح وحقق لهم الفلاح لأن أعمالهم متعدية المنافع ، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمسارعة في الخيرات .
__________
(1) - الترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2485) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1334) , وأحمد (5/451).
(2) - سورة الحج آية : 77.
(3) - سورة آل عمران آية : 104.
(4) - سورة آل عمران آية : 104.(1/33)
ولهذا أثنى الله تعالى على طائفة من أهل الكتاب بقوله : * لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ ×pyJح !$s% يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ (1) ماذا بعدها وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) (2) ثم قال : وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ (3) يعني لن يعدموه ينبغي تدبر القرآن .
وهذا من فضائل القرآن يا إخوان ، حينما تقرأ حديثا يحث على تلاوة القرآن وعلى الأجر المترتب أو تقرأ آية ، لا تمر عليها مرور الكرام ، وإنما تأمل وتدبر لأن الله تعالى أمر وحث على التدبر وقال : كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (4) نقف عند هذا القدر وهناك أحاديث أخر ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
الأحاديث الدالة على فضل القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، اللهم اغفر لنا ولشيخنا يا رب العالمين ، قال المؤلف رحمه الله : ولمسلم عن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ، اقرؤوا الزهراوين : البقرة وسورة آل عمران ، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ، أو : كأنهما غيايتان ، أو : كأنهما فرقان من طير صواف ، تحاجان عن أصحابهما ، اقرؤوا سورة البقرة ، فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة (5)
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 113 - 114.
(2) - سورة آل عمران آية : 114.
(3) - سورة آل عمران آية : 115.
(4) - سورة ص آية : 29.
(5) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/249).(1/34)
وله عن النواس بن سمعان قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ ، تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ ، وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَةَ أَمْثَالٍ ، مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ ، قَالَ : كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ ، أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ ، تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا (1)
وعن ابن مَسْعُودٍ قال ُقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، لَا أَقُولُ : الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ (2) رواه الترمذي وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وله وصححه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ : اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا ، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا (3)
ولأحمد نحوه من حديث أبي سعيد ، وفيه : فيقرأ ويصعد بكل آية درجة ، حتى يقرأ آخر شيء معه (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد :
__________
(1) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (805) , والترمذي : فضائل القرآن (2883) , وأحمد (4/183).
(2) - الترمذي : فضائل القرآن (2910).
(3) - الترمذي : فضائل القرآن (2914) , وأبو داود : الصلاة (1464).
(4) - ابن ماجه : الأدب (3780) , وأحمد (3/40).(1/35)
تقدم الكلام على أول الباب في آيات صدر بها المؤلف هذه الرسالة ، ثم ثنى بعد ذلك بذكر الأحاديث الدالة على فضل القرآن الكريم على وجه العموم ، ثم فضل بعض السور من القرآن الكريم على وجه الخصوص ، والحديث الذي معنا هو حديث مسلم الذي يرويه أبو أمامة - رضي الله عنه - في قوله عليه الصلاة والسلام : اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه (1) هذا هو الشطر الأول من الحديث ، فهذا أمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقراءة القرآن ، والإكثار من تلاوته ، والله تعالى قد أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بذلك في القرآن الكريم ، كما أمر أمته أيضا بتلاوة القرآن ، يقول تعالى : اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ (2) ويقول تعالى : وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ (3) وفي الآية الثالثة يقول تعالى عن نبيه عليه الصلاة والسلام في آخر سورة النمل : وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ (4)
ويقول تعالى أيضا مثنيا على من يتلو القرآن من أهل الكتاب : يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) (5) ويقول تعالى أيضا : إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ (6) والآيات في هذا كثيرة لكن هذه أظهرها ، وهي التي يشهد لها هذا الحديث ، فقوله عليه الصلاة والسلام : اقرؤوا القرآن (7) فقراءة القرآن على نوعين :
__________
(1) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/249).
(2) - سورة العنكبوت آية : 45.
(3) - سورة الكهف آية : 27.
(4) - سورة النمل آية : 92.
(5) - سورة آل عمران آية : 113.
(6) - سورة فاطر آية : 29.
(7) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/249).(1/36)
قراءة واجبة ، يجب على الإنسان أن يقرأ القرآن ، وقراءة غير واجبة ، فأما القراءة الواجبة فإنها في الصلاة لا تصح صلاة المصلي إلا إذا قرأ بفاتحة الكتاب من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصلاته خداج خداج خداج (1) فالواجب على المسلم ومن دخل في الإسلام أن يتعلم شيئا من القرآن ، وعلى وجه الاختصاص سورة الفاتحة ؛ لأن بقراءتها يستطيع أن يصلي ، فهذه القراءة واجبة ، فلا تصح الصلاة بدون قراءة الفاتحة ، والقراءة غير الواجبة هي من خلق المسلم ، أن يداوم على تلاوة القرآن الكريم ، للآيات السابقة التي فيها الأمر من الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام ، وأمته تدخل في هذا الأمر تبعا لما أمر به عليه الصلاة والسلام .
__________
(1) - مسلم : الصلاة (395) , والترمذي : تفسير القرآن (2953) , والنسائي : الافتتاح (909) , وأبو داود : الصلاة (821) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (838) , وأحمد (2/285) , ومالك : النداء للصلاة (189).(1/37)
والنبي عليه الصلاة والسلام أيضا أمر أمته بتلاوة القرآن ، كما في هذا الحديث قال : اقرؤوا القرآن (1) أي أكثروا من قراءته ، وداوموا على قراءته ، والقراءة أيضا ليست قراءة مجردة من العمل أو الاتباع ؛ فإن الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به ، أو يقرأه ويقع في المحرمات وهو يعلمها ، فهذا مخالف لما دل عليه القرآن الكريم ؛ لأن الله تعالى قد أمر بالاتباع ، أي باتباع هذا القرآن الكريم ، قال الله تعالى : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ (2) وقال تعالى في أول سورة الأعراف : اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ (3) يقول العلماء : إن الله تعالى حينما أمر بالاتباع أمر كذلك بالتدبر ، فقال تعالى : كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ (4) وذم الله تعالى أقواما لم يتدبروا القرآن الكريم ، فقال : أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ (5) وقال تعالى أيضا : أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ (6) في موضعين في القرآن الكريم ، هذا استفهام إنكاري يعني أليس لهم عقول ولهم أسماع ولهم تفكير ؟ فإذا قرؤوا عليهم أن يتدبروا ويعلموا ما دل عليه القرآن الكريم .
__________
(1) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/249).
(2) - سورة الأنعام آية : 155.
(3) - سورة الأعراف آية : 3.
(4) - سورة ص آية : 29.
(5) - سورة المؤمنون آية : 68.
(6) - سورة النساء آية : 82.(1/38)
وقال العلماء ، وهذه قاعدة من قواعد فهم القرآن الكريم ، عندنا تدبر وعندنا اتباع ، قال العلماء : التدبر يورث العلم ، والاتباع يورث العمل ، وقد أشار إلى هذا ابن القيم رحمه الله في كثير من كتبه ، فالذي يقرأ القرآن ويتدبر الآية يستفيد علما كثيرا ويتأمل في هذه الآية فيما ورد في السياق قبلها وبعدها وفي هذه الآية التي يتلوها أيضا ، يتدبر ويعمل فكره ، ويقرأ في كتب التفسير ، ويسأل عما أشكل عليه ، حينئذ يكتسب علما وهذا من أفضل العلوم ، وهو تدبر القرآن الكريم .(1/39)
ثم إن الاتباع - كما قلت - يورث العمل ، فمن عمل بالقرآن فقد اتبع القرآن ، يقول تعالى في آية : فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) (1) وقال في آية أخرى : فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) (2) يعني من عمل بالقرآن ، ويقول ابن عباس : " من عمل بالقرآن ضمن الله تعالى له الفلاح والسعادة في الدنيا ، وألا يشقى في الآخرة " عند سورة طه : وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا (3) كما قال الله ، وقبلها قال تعالى : فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا (4) إذن الاتباع هو يعني العمل ، والتدبر هو يعني الحصول على العلم ، على علم القرآن الكريم ، فقوله عليه الصلاة والسلام : اقرؤوا القرآن (5) حث للناس أن يقووا صلتهم بكتاب الله ، قراءة وتدبرا وعملا ، ثم بين النتيجة أو الثمرة الناجمة عن قراءة القرآن بالتدبر والاتباع ، قال عليه الصلاة والسلام : فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه (6) أي القرآن الكريم يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ، وشفاعة القرآن من وجهين :
الأول : إن كان عليه ذنوب وخطايا شفع له القرآن في تخليصه منها .
والثاني : إن لم يكن عليه ذنوب ، شفع له القرآن في رفع درجته في الجنة ؛ أي في المسابقة إليها ، أو في جميعها ، وكل ذلك بفضل الله تعالى وكرمه .
__________
(1) - سورة طه آية : 123.
(2) - سورة البقرة آية : 38.
(3) - سورة طه آية : 124.
(4) - سورة طه آية : 123 - 124.
(5) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/249).
(6) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/249).(1/40)
وهنا مسألة ، وهي ربما قد تكون تكررت في هذا الحديث وفي الأحاديث الآتية ، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فإنه يأتي (1) أي القرآن ، وفي الأحاديث التي ستأتي يقول : يؤتى بالقرآن ، وهذه مسألة تحدث فيها العلماء ، هل القرآن يأتي ؟ وجاء عند أحمد حديث في فضل آية الكرسي ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في فضلها : إن لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش (2) أي آية الكرسي إن لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش (3) ومعنى ذلك ، معنى قوله عليه الصلاة والسلام : فإنه يأتي ، أي القرآن ، أو : يؤتى بالقرآن ، أو أن الآية لها لسان وشفتان ، العلماء تكلموا في هذا ، وسأحيلكم إلى المراجع التي فيها الكلام حتى تراجعوه ، قالوا : إن المقصود من ذلك ثواب قراءة القرآن يكون يوم القيامة في صورة رجل ، وقد ذكر ذلك البخاري في كتاب خلق أفعال العباد ، المجلد الثاني ، صفحة مائة وستين ، وذكره الترمذي أيضا في فضائل القرآن ، حيث قال الترمذي رحمه الله : ومعنى هذا الحديث عند أهل العلم ، أي كلمة : فإنه يأتي ، أنه يجيء ثواب القرآن ، كما فسر بعض أهل العلم هذا الحديث وما يشبهه من الأحاديث . وذكر ذلك أيضا ابن تيمية في الفتاوى ، في المجلد الخامس صفحة ثلاثمائة وتسعة وثمانين ، في المجموع .
__________
(1) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/249).
(2) - أحمد (5/141).
(3) - أحمد (5/141).(1/41)
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أخبر مجيء القرآن في هذه السورة أراد به الإخبار عن قراءة القارئ ، وذلك هو ثواب القرآن الكريم ، كما في بعض الأحاديث أيضا : يؤتى بالملك في صورة كبش وجاء في بعض فضائل سور القرآن كما جاء في فضل سورة تبارك أنها تحاج عن صاحبها ، تحاج ، والذي يحاج هو الثواب ، ثواب هذه السورة ، فإذا جاء مثل هذا اللفظ في الأحاديث النبوية : يؤتى ، يحاج ، يأتي ، فالمقصود من ذلك هو إتيان ثواب القرآن الكريم ، أو كما قال البخاري أن الله جل وعلا يجعل هذا الثواب في صورة إنسان ، أو في صورة رجل . وتراجع المسألة في المراجع التي أشرت إليها .
فهذا الحديث دل على فضل قراءة القرآن الكريم ، وأن قارئ القرآن الكريم ينال هذه الرتبة وهذه المزية وهذا الشرف وهذه الرفعة والشفاعة ، إذا عمل بالقرآن الكريم ، أما أنه يقرأ هذا القرآن وهو يعرض عنه ويعرض عن آياته ، فقد تحمل وزرا كبيرا ، وسوف يسأل عن هذا أمام الله جل وعلا ، أو أنه يكون قرأ القرآن ولكنه لم يجاوز الحنجرة ، كما وصف النبي عليه الصلاة والسلام الخوارج بذلك ، يتدينون بالعبادة والزهد والورع وكثرة العبادة وقراءة القرآن والخشوع ، لكن العمل لديهم بالقرآن يكاد يكون مفقودا ، وإن وجد فهو عمل لا يوافق هدي القرآن الكريم ، كما قال عليه الصلاة والسلام : يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم (1) فلا يعملون به العمل الصحيح وإن كانوا يعملون به فيما يرون هم ، لكن العمل الصحيح المقتضي لهذه الدلالات لا يوجد عندهم .
__________
(1) - البخاري : استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6931) , ومسلم : الزكاة (1064) , والنسائي : الزكاة (2578) , وأبو داود : السنة (4764) , وأحمد (3/4).(1/42)
هذا الحديث في أوله ، وهو : اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه (1) هذا المقطع الأول للقرآن كله ، لبيان فضل القرآن على وجه العموم ، وتدخل فيه أيضا سورة البقرة وسورة آل عمران التي سيأتي الحديث عنها ، فالشاهد أن النبي عليه الصلاة والسلام عمم الفضل في فضل قراءة القرآن الكريم ، ثم بعد ذلك عطف العامل وهو القراءة ، وقال : اقرءوا الزهراوين ، البقرة وسورة آل عمران (2) خص هاتين السورتين بالذكر ، وهذا - كما قلنا - تخصيص من عموم ، عمم الأول ، وقال : اقرءوا القرآن ، وسورة البقرة وآل عمران ضمن القرآن ، ولكنه رجع وخصص سورتين من سور القرآن بمزية وشرف وفضل ، فقال : اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران (3) فبدأ عليه الصلاة والسلام بذكر الأوصاف التي اشتملت عليها هاتان السورتان ، فبدأ بالوصف الأول وقال : الزهراوين ، ومعنى الزهراوين : النيرتان ؛ أي النيرتان ، الزهراوين النيرتين ، هذا وصف عام ، ثم بين المجيء الذي يأتي فيه ثواب سورة البقرة وسورة آل عمران ، وهي جزء من القرآن الكريم داخلة في المعنى السابق الذي ذكرته لكم ، فإنهما تأتيان ، فالإتيان هنا المقصود به الثواب ، ثواب هاتين السورتين ؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة ، ووصف هذا الإتيان بهذا الثواب بأوصاف ، ولعله ثلاثة أوصاف كما سيأتي أيضا في الحديث الذي بعده :
__________
(1) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/249).
(2) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/249).
(3) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/249).(1/43)
الوصف الأول : قال : غمامتان ، جمع غمامة ، والغمام هو السحاب الملتف إذا كان قريبا من الرأس ، يعني قريبا يراه الإنسان وهو مظله ، والله تعالى قد ذكر الغمام في قوله تعالى : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ (1) وهذا الإتيان هو إتيان يليق بالله ، يليق بجلاله ، إتيانا يليق به سبحانه .
ثم جاء الوصف الثاني : قال : غيايتان ، والغياية : كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه ، من السحاب أو غيره .
ثم جاء الوصف الثالث: قال : أو كأنهما فرقان من طير صواف ، والفرقان أي قطيعان ، الفرق هو القطيع من كل شيء ؛ أي قطيعان ، عليها من طير صواف أي مصطفة ، تحاجان عن أصحابهما ، وهذه المحاجة أيضا داخلة فيما تقدم من أنه الثواب .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 210.(1/44)
ثم قال أيضا : اقرؤوا سورة البقرة ، فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة (1) خصص بعد تخصيص ، خصص سورة البقرة من سورة آل عمران ، أولا خص سورة البقرة وآل عمران من عموم ، ثم خصص من خصوص ، وخص سورة البقرة ، قال : اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة (2) المراد بالبطلة في الحديث : السحرة ، وما وجه التسمية بالبطلة ؟ نعم .... يعني أنهم أهل باطل ، يعني ما يفعلونه باطل ، والوجه في ذلك تسمية لهم باسم فعلهم ؛ لأن ما يأتون به باطل ، والله تعالى قد قال في سياق الحديث عن السحرة : فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) (3) باطل فعلهم ، وقال تعالى في سورة الأعراف : إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) (4) فسموا بطلة ، سموا بهذه التسمية تسمية لهم باسم فعلهم ؛ لأن ما يأتون به باطل ، ولا يستطيعون قراءتها ، ولهذا قال : لا تستطيعها البطلة ، وإنما لم يستطيعوا قراءتها وذلك لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل ، ولهذا - كما سيأتي في التفريق ما بين سورة البقرة وسورة آل عمران - الله تعالى قد ذكر في هذه السورة الحديث عن السحر وبيان ضرره ، أولا بيان عاقبته وما يترتب عليه ، وبيان عاقبته وضرره ، بين ما يترتب عليه وهو الكفر في الآية : وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا (5) ثم إنهم لا يستطيعون الضرر إلا بإذن الله تعالى ، لكن ما وقعوا فيه هو ضرر ، ما وقعوا فيه هو ضرر على أنفسهم ، والعقاب الذي سوف ينالونه في الآخرة .
__________
(1) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/254).
(2) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/254).
(3) - سورة الأعراف آية : 118.
(4) - سورة الأعراف آية : 139.
(5) - سورة البقرة آية : 102.(1/45)
ذكر الله تعالى في آخرها : وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ (1) ذكر الله قال : مَا يَضُرُّهُمْ (2) إثبات الضرر وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (3) هذا هو العقاب ما له في الآخرة من خلاق وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) (4) ثم جاء تحذير من الله تعالى لهم وتخويفهم بالله ، وتخويفهم بما هم عليه وأن عليهم أن يتوبوا من هذا الفعل وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (5) يعني لأثابهم الله تعالى على هذه التوبة ، كما نادى الله تعالى من اتهم ربه بالكفر ، ناداهم وهو الرحيم الرحمن قال : أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) (6) فهؤلاء السحرة لا يستطيعون هذه السورة ، بل هي مما يزعجهم ويقلقهم ، وكما جاء في فضل أيضا سورة البقرة ، وقد ساقها ابن كثير في أول السورة أن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله شيطان (7) إن مما يزعج الشياطين ويزعج السحرة قراءة هذه السورة العظيمة ، لما لها من الفضل والبركة .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 102.
(2) - سورة البقرة آية : 102.
(3) - سورة البقرة آية : 102.
(4) - سورة البقرة آية : 102.
(5) - سورة البقرة آية : 103.
(6) - سورة المائدة آية : 74.
(7) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (780) , والترمذي : فضائل القرآن (2877) , وأبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/378).(1/46)
وقد وصفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الوصف الجامع لكل خير ، ما هو ؟ فإن أخذها بركة ؟ (1) ونكر هذه البركة ، ولم تأت معرفة ، فإن أخذها بركة ؛ بركة في كل شيء ، ونكرها لتذهب فيها النفس أي مذهب في البركة ، والقرآن كله مبارك على وجه العموم أيضا ، لكن هذه السورة خصت ببركة خاصة ، كما قال الله تعالى عن القرآن : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ (2)
لم يأت في القرآن وصف القرآن بأنه المبارك ، وإنما مبارك ، جاء إيش منكر؟ أي لتعم هذه البركة كل ما يخطر ببال الإنسان، بركة في الإيمان، بركة في الطاعة، بركة في العمر، بركة في الأولاد، وفي المال، وفي الحفظ، والصيانة والتأييد والنصر، هذه بركة عامة، فالقرآن وصف بأنه كله مبارك، والنبي -عليه الصلاة والسلام- خص سورة البقرة ببركة خاصة؛ ولهذا قال بركة مفردة، مفردة لأنها لسورة البقرة، والذي يترك سورة البقرة، وهو قادر على قراءتها، ومهملٌ هذا الوعيد أمامه، قال: وتركها حسرة (3)
والحسرة هو ما يتحسر به الإنسان في نفسه، ما يتحسر به الإنسان من ضيق، أو قلقٍ، أو اضطرابٍ نفسي، أو فزعٍ أو خوفٍ، وغير ذلك من الحسرات التي تأتي؛ ولهذا الله تعالى قال لما أعرض أعرض الناس عن استجابة الأنبياء قال الله تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ (4) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ (5) إلى آخر الآية.
ولعل خصوصية سورة البقرة بهذه المزايا التي سمعناها في الحديث في طرد الشيطان من أجل أن مقصودها ملازم لطرد الشيطان يعني مقصود هذه السورة وما احتوته من المعاني والدلالات.
__________
(1) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/249).
(2) - سورة الأنعام آية : 92.
(3) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/249).
(4) - سورة يس آية : 30.
(5) - سورة يس آية : 30.(1/47)
الحديث الثاني: وهو حديث النواس بن سمعان يقول: يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران (1) ثم ضرب -عليه الصلاة والسلام- ثلاثة أمثال قد تقدم بعضها، وهي الغمامتان، ثم ذكر مثلين آخرين يضمان إلى ما سبق من أمثلة قال: أو ظلتان سوداوان وأن بينهما شرق (2) أي بينهما مشرق، والمشرق هو الضياء والنور كما يقال أشرقت الشمس أي أضاءت، وقوله سوداوان -الظلتان واضحة- هو إشارة بالسواد إلى قوة هذا الظل الذي حاصل؛ لأنه الآن إذا غيمت السماء بغيوم شديدة في وقت الضوء والشمس اختفت الشمس، وتراكم السحاب وتآلف بعضه مع بعض الله تعالى قال : يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ (3) يعني تألف السحاب بعضه مع بعض، ثم اسود هذا السحاب، أوقع إيش أوقع ظلمة شديدة.
وهذا شيء مشاهد ومحسوس، فلا يعنى بالسواد هنا أنه شيء فيه عقاب أو فيه ظلمة؛ ولهذا ينبغي أن يوضح أمر ذكره أهل التفسير، بين الظلتين عندما قال -عليه الصلاة والسلام- كأنهما غمامتان أو ظلتان بين الظلتين السوداوين مشارق أنوار وإنما نبه في هذا الحديث على هذا الضياء؛ لأنه لما قال سوداوان قد يتوهم متوهم أنهما مظلمتان، فنفى ذلك بقوله بينهما إيش شرق، والشرق هو إضاءة الشرق هو إضاءة.
__________
(1) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (805) , والترمذي : فضائل القرآن (2883) , وأحمد (4/183).
(2) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (805) , والترمذي : فضائل القرآن (2883) , وأحمد (4/183).
(3) - سورة النور آية : 43.(1/48)
قال: بينهما شرق أي مشارق أنوار ومشارق الأنوار هي الضياء، والنور الساطع، إذن ما المراد بقوله سوداوين؟ أي من كثافتهما التي بسببها حالتا من تحتهما وبين حرارة الشمس، وشدة اللهب في ذلك الموقف، يعني حالة هذه السحابة بهذه الظُلة، وهذه الظُلة التي فيها وهذا السواد حجبت الحرارة، وحرارة الشمس أن تقع على صاحب هذا القرآن، وخص منه سورة البقرة وآل عمران.
ثم عطف أيضاً معنى آخر، وقال: أو كأنهما حذقان من طير صواف (1) الحذق هو الجماعة من كل شيء، سواء كان من الناس أو من الطير أو من غيرهما، وحذقان جمعها حذق، لكن الوصف جاء لسورتين، ويروى أيضاً: خرقان بالخاء والراء وهو ما انخرق من الشيء وبان منه، ولكن هذا ما يترجح، والصواب هو الأولى كما ذكر ذلك أهل الحديث شراح الحديث، وترجعون في معاني هذه الألفاظ الغريبة في هذا الحديث إلى كتب غريب الحديث، ومنها كتابان كتاب غريب الحديث للخطابي أبو سليمان، وكتاب غريب الحديث في نهاية النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، في معنى هذه الألفاظ الغريبة التي جاءت في هذه الأحاديث.
الكلام هنا قلنا تخصيص بعد عموم، وهو لسورة البقرة وآل عمران، نعود إليهما مرة ثانية، ذكر العلماء أن في سبب تسمية سورة البقرة وسورة آل عمران بالزهراوين وجهين ذكر العلماء وجهين:
الأول : إما لهدايتهما قارئهما بما يزهر له من أنوارهما لما يزهر له من أنوارهما.
والوجه الثاني: وإما لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة.
__________
(1) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/249).(1/49)
وهنا هذا الوصف كله يدور على الضياء والنور، سواء كان في غمامتان أو غيايتان أو فرقان أو ظلتان أو سوداوان، هذا كله يدور على تحقق وجود النور، إذن تأمل في القرآن أيضا أليس القرآن موصوف بأنه نور ، كتاب ، قال تعالى قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) (1) ويقول تعالى : وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا (2) أي القرآن كله نور، الأصل أن القرآن كله نور، لكن هذه السورة أو هاتان السورتان خصتا بنورٍ أقوى وبنورٍ يفضل ذلك النور يزيد عليه، وهذا فضل خاص.
يأتينا إنسان، ويقول: إن القرآن كله موصوف بأنه نور، أيضا القرآن موصوف بأنه بركة كما تقدم، القرآن مأمور بقراءته كله، لكن هذه السورة سورة البقرة وسورة آل عمران خصتا بهذا الفضل العظيم، وهذه المزية الكبيرة؛ ولهذا في حديث عند البخاري يرجع إليه في قصة أسيد بن حضير وهو ممن آتاه الله صوتاً حسناً، مثل أبي موسى الأشعري، وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود، وغيرهم من الصحابة.
أسيد بن حضير كان يقرأ في بيته سورة البقرة، في الليل وعنده فرسه، ويقرأ سورة البقرة، فاجتال هذا الفرس عن مكانه، يعني بدأ يتحرك، فسكت أسيد فسكن الفرس، ثم رجع فقرأ فتحرك الفرس، وكاد أن يطأ ابنه، فلما جاء من الغداة أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- بذلك وقال قال: هذه الملائكة -يعني فَرِحة بقراءتك لهذه السورة- ولو بقيت أن تقرءها إلى صلاة الفجر لنزلت الملائكة ورآها الناس هذا من فضل هذه السورة سورة البقرة، والحديث في صحيح البخاري يراجع في فضل هذه السورة العظيمة.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 15.
(2) - سورة الشورى آية : 52.(1/50)
إذن نقول وجه بيان فضل سورة البقرة يمكن أن نأخذ هذا البيان هذا الفضل من خلال السورة نفسها، هذه السورة سُميت بسنام القرآن، وسنام الشيء هو أعلاه، وسُميت أيضاً سماها بعض الصحابة بأنها فسطاط القرآن فسطاط القرآن، والفسطاط هو ما أحاط بالمكان هو ما أحاط بالمكان، ونالت هذه السورة هذه المزية وهذا الفضل لأمور:
أولاً : أن فيها أفضل آية في القرآن الكريم وهي آية الكرسي وجاء في صحيح مسلم وفي بعض السنن: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- سأل أبي بن كعب وقال: أي آية في كتاب الله أعظم؟ فأجابه أبي بما فتح الله عليه قال آية الكرسي قال النبي -عليه الصلاة والسلام- ليهنك العلم أبا المنذر (1) أي هنيئاً لك هذا العلم الذي قلته، فهي سيدة آي القرآن، وأعظم آية في القرآن، وأفضل آية في القرآن هي آية الكرسي، وليس الحديث عن فضل هذه الآية، وإنما هذه الآية جاءت في سورة البقرة .
ثانياً : جاء في هذه السورة فضل آيتين من آخر سورة البقرة، وجاء في الصحيح: من قرأ الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة كفتاه (2) وهي آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ (3) إلى آخر الآيات.
__________
(1) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (810) , وأبو داود : الصلاة (1460) , ومالك : النداء للصلاة (187).
(2) - البخاري : فضائل القرآن (5010) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (807) , والترمذي : فضائل القرآن (2881) , وأبو داود : الصلاة (1397) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1369) , وأحمد (4/121) , والدارمي : الصلاة (1487).
(3) - سورة البقرة آية : 285.(1/51)
الثالث : أن الله تعالى فرض فيها شعيرة من شعائر الإسلام وركنا من أركان الإسلام وهو الصيام يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ (1) وفي هذه السورة آخر آية نزلت وهي قوله تعالى : وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) (2) وفي هذه السورة أيضاً تشريع التوجه إلى القبلة لهذه الصلاة العظيمة قال تعالى : فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (3) ومن ذلك أيضاً فيها التحذير من السحرة، والتحذير من إتيانهم أو تصديقهم، وفيها أيضاً بيان حد القصاص يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ (4) وفيها كذلك بيان كثير من الأحكام الشرعية والمعاملات.
وخلاصة ما في هذه السورة يدور على أمرين:
الأول : سمو هذا الدين ، أن فيها حديث عن سمو هذا الدين على من سبقهم وعلو هديه وأصول تطهيره للنفوس .
الثاني : بيان شرائع هذا الدين لأتباعه وبيان ما تصلح به أحوالهم.
هذا ما يخص سورة البقرة ، لكن الترغيب من النبي -عليه الصلاة والسلام- في هذه السورة جاء في هذا الحديث جاء لسورتين سورة البقرة وآل عمران، إذن يمكن أن ينشأ هنا سؤال أو يقول قائل: ما وجه الحث والترغيب في قراءة هاتين السورتين هل بينهما تشابه ؟ هل بينهما ترابط ؟ الجواب : بينهما تشابه من وجوه متعددة :
الوجه الأول : أن السورتين افتتحا بالحروف المقطعة، فهذه افتتحت بقوله تعالى : "الم" وسورة آل عمران كذلك بـ "الم"
ثم أيضاً الثاني : في السورتين بيان لأحكام الحج والعمرة .
والثالث : في السورتين -والآيات واضحة يعني لا نقرأ إلا ما أشكل منها .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 183.
(2) - سورة البقرة آية : 281.
(3) - سورة البقرة آية : 144.
(4) - سورة البقرة آية : 178.(1/52)
وفي السورتين أيضاً التحذير الشديد والتنفير العظيم من التعامل بالربا، وجاء التصدير أيضاً بلفظ الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا (1) وفي سورة آل عمران يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً (2) التحذير من الربا تحذيراً بليغاً جاء في هاتين السورتين .
الرابع : ذكر الشهادة في سبيل الله، وبيان فضل الجهاد وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ (3) وهناك وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا (4) وبيان ما للشهادة من الفضل والأجر العظيم عند الله تعالى .
الخامس : فضل المسجد الحرام: ففي سورة البقرة جاء التنويه بمكانة البيت الحرام والتوجه إلى القبلة في آيات متعددة، ثم جاء الحديث في سورة آل عمران وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا (5) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ (6) إلى آخر الآيات بيان فضل المسجد الحرام الذي يليه التنويه بشأن القرآن، وهذا جاء في افتتاح كل سورة الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ (7) وفي سورة آل عمران نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ (8)
__________
(1) - سورة البقرة آية : 278.
(2) - سورة آل عمران آية : 130.
(3) - سورة البقرة آية : 154.
(4) - سورة آل عمران آية : 169.
(5) - سورة آل عمران آية : 97.
(6) - سورة آل عمران آية : 96 - 97.
(7) - سورة البقرة آية : 1 - 2.
(8) - سورة آل عمران آية : 3.(1/53)
التنويه بشأن القرآن الذي يليه أيضاً وهو ذكر اسم الله الأعظم في السورتين؛ ولهذا جاء حديث عند أبي داود من حديث أسماء بنت يزيد : أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم قال : اسم الله الأعظم في هاتين السورتين في سورة البقرة وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) (1) وفي سورة آل عمران اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) ويقول أهل العلم كما عند أحمد أن اسم الله الأعظم في الثلاث الآيات التي في سورة التي في القرآن أولها في سورة البقرة في آية الكرسي اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (3) وفي صدر سورة آل عمران الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) (4) وفي سورة طه * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ (5) اسم الله الأعظم في هذه الآيات.
ومن الوجوه أيضاً المجادلة والمحاجة؛ ففي سورة البقرة ذكر الله تعالى أن إبراهيم حاج النمرود أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ (6) وهو نبي من أنبياء الله، وفي سورة آل عمران النبي -عليه الصلاة والسلام- حاج قام بمحاجة نصارى نجران الوفد الذين جاءوا إليه فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ (7) إلى آخر الآية ، فيها محاجة .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 163.
(2) - سورة آل عمران آية : 1 - 2.
(3) - سورة البقرة آية : 255.
(4) - سورة آل عمران آية : 1 - 2.
(5) - سورة طه آية : 111.
(6) - سورة البقرة آية : 258.
(7) - سورة آل عمران آية : 61.(1/54)
وهناك وجه شبه بينهما، وهذا منهج دعوي يسير عليه الداعية أنه يقيم الحجة على من يدعوه إلى الحق إذا أبى عن ذلك، وإبراهيم عليه السلام ضرب الله له أروع الأمثلة في القرآن الكريم حينما حاج قومه وهو يدعوهم إلى التوحيد، ومن ذلك ما أخبر الله تعالى عنه في سورة الأنبياء * وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) (1) إلى أن بين دعوة الحق، وأقام على قومه الحجة، أيضا في ذلك حتى إنهم رجعوا إلى أنفسهم، واتهموا نفوسهم بأنهم ظالمون، وغير ذلك أقام عليهم الحجة، كما أن إبراهيم عليه السلام قام بمحاجة أبيه * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) (2) الآية واضحة، كل هذه محاجة في بيان الحق، قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ (3) فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقيمون الحجج على أقوامهم بالدعوة إلى الله وينذرونهم ويخوفونهم، والله تعالى بعثهم مبشرين ومنذرين ، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ (4) ينذرونهم بعذاب الله، ويبشرونهم برضوان الله تعالى، وهذا قد جاء في هذه السورة هذا تأمل سريع، وإلا من تأمل وأنعم النظر سيجد شيئا أكثر.
__________
(1) - سورة الأنبياء آية : 51.
(2) - سورة الأنعام آية : 74.
(3) - سورة الأنعام آية : 83.
(4) - سورة النساء آية : 165.(1/55)
ومن ذلك أيضاً الختم بالأدعية المتضمنة للربوبية، وهذا كله جاء في أواخر السورتين، ففي آخر سورة البقرة جاء فيها : رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا (1) رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ (2) إلى آخر الآية ربنا . . ربنا . . تكرر لفظ الربوبية، وفي آخر سورة آل عمران أيضاً رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ (3) تكرر ثلاث مرات خلاف ما ورد في وسطها أيضاً من لفظ الربوبية، كذلك من أوجه الشبه بين السورتين ذكر الطير، فالله تعالى حينما طلب إبراهيم عليه السلام من ربه وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ (4) حتى يطمئن قلبه أحيا هذه الطير.
كذلك فعل عيسى عليه السلام في هذا، في سورة آل عمران مين يذكر الآية ، نعم ... أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ (5) فذكر الطير أنه يحيي الموتى بإذن الله، فهذه أوجه شبه تدلك على ما لهذه السورتين من الفضل والمزية على غيرهما، إذن لما كان لهاتين السورتين هذه المزايا والفضائل، فإن التالي لهما حق تلاوته، وكان حاملا لهما ومستظهرا لما فيهما استحق هذا الفضل من الله تعالى يوم القيامة، وهو هذا النور المشرق الذي يحفظه وينصره ويؤيده بهذه السورة العظيمة.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 286.
(2) - سورة البقرة آية : 286.
(3) - سورة آل عمران آية : 193.
(4) - سورة البقرة آية : 260.
(5) - سورة آل عمران آية : 49.(1/56)
وأذكر لكم كتابا اعتنى بهذه المعاني ولم أذكره أمس وهو في فضائل القرآن، لكنه نفيس جداً من حيث إنه يجمع كل الآثار والأحاديث في فضل هذه السورة، وهو كتاب مصاعد النظر (إلى مشارف إلى مقاصد السور) للبقاعي، وهو في ثلاث مجلدات (مصاعد النظر إلى مقاصد السور) في ثلاث مجلدات، وساق جملة من الآثار والأحاديث من الأحاديث والآثار عن الصحابة، وعن التابعين في فضل كل سورة في القرآن الكريم، يعني هو أوسع جمع كلام من تقدم من أهل العلم الذين ذكرت لكم أسماءهم أمس؛ لأنه متأخر، هذا في القرن التاسع الهجري، حتى إنه ذكر أثراً عند الإمام مالك في الموطأ، أن ابن عمر - رضي الله عنه - مكث على قراءة سورة البقرة كم قيل ؟ ست وقيل ثمان وقيل اثنا عشر، وليس عجزاً في حفظها، وإنما يتأمل ما فيها من الأحكام، ومن الهدايات والدلالات والتشريعات، فيقال في بعض الروايات أنه لما انتهى منها نحر جزوراً فرحاً بذلك.
ولهذا كان هذا هو منهج الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا لا يتجاوزون العشر الآيات إلا وقد قرءوها، وتعلموها، وعقلوها، وفهموا ما فيها من الأحكام ومن الآداب والتشريعات، ليس كحال الناس بعدهم، يحرصون على القراءة السريعة، والهذ السريع دون التأمل والتدبر، فلا بد من التدبر كما أشرت لكم سابقاً، فهذا هو الذي ينال به صاحبه الفضيلة والأجر من الله تعالى، هذا ما يتعلق بالأحاديث التي سبقت وتقدمت.
ونذكر دلالة هذه الأحاديث هذه الأحاديث في فضل سورة البقرة وآل عمران :(1/57)
دلت الأحاديث أولاً : برواياتها أن هذا الفضل لا يكون إلا لأهل القرآن، الذين يعملون به، وليس لأهله الذين يقرءونه ولا يعملون به، هذا لا يكون لهم؛ لأنه ولله المثل الأعلى لو جاء إنسانا خطاب من ملك أو أمير أو مسئول، وقال له في هذا الخطاب عليك أن تعمل كذا وكذا وكذا وتنفذ، وأعطاه قائمة، فجلس هذا الإنسان المكلف بهذا الخطاب يقرؤه على الناس ويردده، يقرؤه في الصباح وفي المساء، ومن الغد يقرؤه في الصباح والمساء، هل هذا يكون استجاب لما في هذا الخطاب ؟ لا يكون استجاب له، إنما يردد كلاماً.
فكذلك الذي يقرأ القرآن -ولله المثل الأعلى- يقرأ القرآن لكنه لا يعمل به، وإن كان يؤجر عليه، الأجر على قراءة القرآن ثابت، ولكن عليه العمل به بقدر ما يستطيع، فعليه أن يعمل ويجتهد في العمل بهذا القرآن؛ لينال هذه المزية.
الثاني : دلت الأحاديث على فضل سورة البقرة على سائر سور القرآن، حتى على سورة آل عمران، ودل الحديث، دلت الأحاديث أيضاً على فضل سورة آل عمران، ودلت الأحاديث أيضاً على أن سورة البقرة وقاية لمن قرأها أو قرئت عليه من كل شر وبلاء، وخاصة السحر الذي ابتلي به الناس، ومما دلت عليه الأحاديث أن الإنسان سوف يرى أثر عمله بالقرآن، سوف يرى أثر عمله بالقرآن وخاصة لهاتين السورتين .(1/58)
والحديث الآخر، وهو حديث عبد الله بن مسعود، وهذا فيه بيان فضل تلاوة القرآن على وجه الدقة والبيان والتوضيح؛ ولهذا يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- من قرأ حرفاً (1) وهذا من باب الحث على الإكثار من تلاوة القرآن الكريم، ولم يقل من قرأ سورة، أو من قرأ آية، أو من قرأ حزباً، أو من قرأ جزءاً، وإنما جاء بالحرف الواحد، وكم في القرآن من حروف! آلاف الحروف، من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول "الم" حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف (2) تفصيل دقيق لبيان الأجر المترتب على تلاوة القرآن الكريم.
وهذا أيضاً يذكر بالآية التي في سورة فاطر في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ (3) انظر إلى العمل إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ (4) إقامة الصلاة من العمل بالقرآن وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ (5) من العمل بالقرآن سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) (6) جاءت الأجور من الله تعالى لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ (7) هذا عموماً لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث يبين هذه الأجور وفضلها، وأنها قد تزيد على الحسنة في الحرف الواحد؛ لأن الله تعالى يضاعف الأجور لعباده، كما قال تعالى في الإنفاق مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) (8)
__________
(1) - الترمذي : فضائل القرآن (2910).
(2) - الترمذي : فضائل القرآن (2910).
(3) - سورة فاطر آية : 29.
(4) - سورة فاطر آية : 29.
(5) - سورة فاطر آية : 29.
(6) - سورة فاطر آية : 29.
(7) - سورة فاطر آية : 30.
(8) - سورة البقرة آية : 261.(1/59)
فدل الحديث على هذا الفضل الكبير لمن يقرأ القرآن، وأنه سوف يثاب على الحرف الواحد، حتى من هذه الحروف المقطعة التي ضرب بها النبي -عليه الصلاة والسلام- المثل، ثم قال المصنف: وله -أي لمن سبق ذكره- وهو الترمذي وصححه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها (1)
ولأحمد نحوه من حديث أبي سعيد، وفيه: فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه (2) وهذا بيان لفضل صاحب القرآن، الذي يقرأ القرآن ويعمل به، وهو بيان للجزاء المترتب على ما يناله هذا القارئ في الآخرة بعد أن يقضي الله تعالى بين العباد، فيدخل أهل الجنة الجنة، يقال لصاحب القرآن من بين سائر الناس بهذه المزية، فقوله: يقال لصاحب القرآن (3) كأنه ينادى مناداة من بين سائر الناس؛ لما له من هذه المزية، والجنة درجات فيكرم قارئ القرآن بهذا الفضل العظيم، وهو يقرأ القرآن أيضاً، فقارئ القرآن كما تقدم هو مقدم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة، كما سيأتي من الأحاديث.
__________
(1) - الترمذي : فضائل القرآن (2914) , وأبو داود : الصلاة (1464).
(2) - ابن ماجه : الأدب (3780) , وأحمد (3/40).
(3) - الترمذي : فضائل القرآن (2914) , وأبو داود : الصلاة (1464).(1/60)
وفي هذا الحديث بيان بتقديم قارئ القرآن في الدار الآخرة، ويعرفه إخوانه من أهل الجنة أنه تميز عليهم بهذه الميزة بقراءة القرآن الكريم، فيؤمر أيضاً بترتيل القرآن كما كان يرتله في الدنيا ولا يتوقف عند منزلة محددة، وإنما قال: فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها، وهو يقرأ ويمشي، والحديث ربما يؤخذ منه دلالة على أن الإنسان يقرأ القرآن في أي وقت يجد نفسه نشيطا ومستعدا لتلاوة القرآن الكريم، حتى ولو كان يمشي ليستفيد من وقته ويردد ما حفظه ويتعاهد ما قرأه؛ حتى لا يضيع، وهذا فضل عظيم لقارئ القرآن أن ينال هذه الدرجة وهذه الرتبة عند الله تعالى في الآخرة.
فقارئ القرآن هو من أهل الجنة الذين يكرمهم الله تعالى بمزية على غيرهم بهذه الدرجات العليا، وهذا يذكرنا بالآية السالفة يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (1) فهذه الدرجات في الدنيا وفي الآخرة؛ في الدنيا تكون بالنصر والتأييد وبالذكر الحسن، وفي الآخرة جاء التفسير لها بهذا الحديث، فإنه يقرأ ويصعد هذه الدرجات، وكلها فضل من الله، ولا يقف عند هذه الدرجة إلا حينما يتوقف عن القراءة .
ونتوقف عند هذا القدر .
أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ :
عدة أسئلة تستفسر عن يقول كيف أولنا قوله - صلى الله عليه وسلم - إنه يأتي يوم القيامة بإتيان الثواب ولم نمرها كما جاءت ؟
هكذا فسر أهل العلم؛ لأن الذين يقولون إن القرآن يأتي كأنه كأن القرآن مخلوق، والبخاري ذكر هذه وفصل القول فيها في الكتاب المتقدم خلق أفعال العباد، ولشيخ الإسلام كلام واسع وطويل في هذه المسألة، وأنا أحيل السائل إلى قراءة ما ذكره شيخ الإسلام في المجلد الخامس الذي تقدم ذكره؛ ولأن الثواب الذي جعله الله تعالى لقارئ القرآن هو الذي يأتي، وهكذا فسره أهل العلم بهذا البيان، وهو بيان واضح لا إشكال فيه .
أحسن الله لكم
__________
(1) - سورة المجادلة آية : 11.(1/61)
يقول هل المقصود بصاحب القرآن قارئ القرآن أم حافظ القرآن؟
صاحب القرآن هو الذي يقرأ القرآن؛ ولهذا في الحديث: اقرءوا القرآن (1) ما قال احفظوا القرآن، وإنما الحفظ أيضاً هو جاء فيه مزية أخرى؛ ولهذا قال تعالى: بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ (2) يعني في صدورهم أنه محفوظ، والصحابة رضوان الله عليهم استظهر أكثرهم القرآن الكريم، ومنهم أبي وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وشهد لهم النبي -عليه الصلاة والسلام- بهذا الحفظ الذي حفظوه، وبهذا الإتقان الذي ضبطوه، فالحديث يصدق على هذا وهذا، ولكن حافظ القرآن الذي يحفظه له مزية على غيره؛ لهذا في الحديث الذي سيأتي يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله (3) يعني يؤمهم الحافظ للقرآن الكريم، وليس يؤمهم الذي يقرأ وليس عنده حفظ، يؤمهم الحافظ، فالحافظ للقرآن الكريم له مزية على قارئ القرآن الذي لم يحفظ .
أحسن الله إليكم يقول:
ما حكم وضع نغمات الجوال مقاطع من تلاوات القرآن ؟
أتصور أو أظن أن فيه فتوى من اللجنة الدائمة في هذا، وأن القرآن الكريم له حرمته، وهو كلام الله تعالى، وأهل العلم تكلموا في أحكام المصحف وما ينبغي نحوه، والذي يضع مثل النغمات على الجوال إنما هي تسلية أو سد فراغ، حتى يتمكن من الرد عليه، يكون كلام الله تعالى لملء هذا الفراغ حتى يأتي كلام البشر ويرد عليه، هذا لا يليق بالقرآن الكريم، وليس من آداب القرآن الكريم.
__________
(1) - Takreej file not found.
(2) - سورة العنكبوت آية : 49.
(3) - مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (673) , والترمذي : الصلاة (235) , والنسائي : الإمامة (780) , وأبو داود : الصلاة (582) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (980) , وأحمد (4/121).(1/62)
حتى أهل العلم تكلموا في من يعلق الآيات آيات القرآن الكريم التي تعلق أيضاً حتى يقرأها الإنسان يتذكر بس تكلموا في هذا، منهم من منع أيضاً، فكيف بالجوال، والجوال أيضاً مشتمل على قضايا أخرى تخالف القرآن في الصور وفي الكلمات نابية أحيانا، في الرسائل التي توضع فيه، ثم إن الجوال أيضاً المتكلم فيه قد أحياناً يسب ويشتم، ويتكلم إذا اتصل بأحد يتكلم عليه، أو يسب أو يشتم، أو يتحدث في أعراض الدنيا، أو في أمور محرمة، ثم أجعل القرآن بين هذا ، لا يمكن أن يقول بهذا إنسان يسعى إلى الأدب مع القرآن الكريم .
وهكذا يعني المحاذير كثيرة، المحاذير كثيرة جداً، وكذلك الأدعية أنا سمعت : كثير منهم يضع أدعية يعني أدعية ... سواء إذا كان للحرم ... بدون أي شيء، عندك وسائل الآن، يوجد لديك لهذا الجوال، يعني وسخر الله لك في وسائل كثيرة، فاستخدم فيه ما ينفع ويفيد، والآن تجعل الأدعية التي فيها ربنا وفيها ألفاظ الجلالة أنها تكون للتسلية وللسماع، السماع اللي يسمونه نافلة القول يستمع هذا الكلام حتى بس يتمكن الإنسان من الرد عليه، حتى آداب الدعاء، الدعاء له آداب أيضاً، فهذه الأمور كلها على الإنسان أن يتقيها ويحذر، فليست من الأمور التي فيها أدب مع كلام الله تعالى، ومع الأدعية.
وكذلك الأذان، الأذان يجعل للتنبيه مؤذن أيضاً، وأشد من هذا -نسأل الله السلامة- بعضهم يجعل التنبيه أغاني، تجعلها موسيقات وأغاني حتى يتنبه بهذا، وهذا مبتلى به كثير من الناس نسأل الله السلامة حتى في المساجد، وأنا كنت أذكر يعني إخواني الذين يقعون في هذا بأن في هذا أذية للناس، وأذية للملائكة الذين يحضرون للصلاة، والله تعالى يقول : وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) (1)
__________
(1) - سورة الأحزاب آية : 58.(1/63)
فكيف تسعى لأذية المسلمين بما أنعم الله تعالى عليك مع وجود الوسائل التي تعينك على أن تلغي هذا الشيء إلا في الأحوال النادرة التي يكون فيها الإنسان ساهيا وناسيا، فالإنسان الساهي والناسي قد يعذر في هذا، لكن أن تكون عادة للإنسان .
أحسن الله إليكم:
يقول : هل يحصل ثواب قراءة البقرة وآل عمران بمجرد القراءة، أم لا بد من حفظهما ؟
لا ، قراءتها ، قراءة سورة البقرة وآل عمران، كما جاء في هذا الحديث: اقرءوا البقرة وآل عمران (1) اقرءوا هذا يصدق عليهم، لكنه يمتثل لما فيها من الأحكام والأوامر والنواهي، ويعمل بهما ولا أن يقرأها وهو يخالف ما عليها من الأوامر والنواهي، لكن المقصود من ذلك العمل، أنه يعمل ويتدبر حتى يحصل له الثواب .
أحسن الله إليكم :
يقول : كيف نفهم حديث ولا تستطيعها البطلة (2) وبين حديث أبي هريرة أن الشيطان علمه آية الكرسي (3) ؟
قلنا : إنهم لا يستطيعونها، بينا العلة أنهم لا يستطيعونها؛ لما هم عليه من الضلال ومن الباطل؛ ولهذا لا يدخل الشيطان البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، ونقول لك: إن أبا هريرة قرأ عليه آية الكرسي، وحينما قرأ عليه نطق بالحق ، قال النبي -عليه الصلاة والسلام- : صدقك وهو كذوب (4) ودله قال اقرأ علي كذا وكذا فقرأ آية الكرسي فشرد وذهب حينئذ، ما استطاع أن يأتي مرة أخرى، إذن هذا الحديث يصدق لما جاء فيه ولا تستطيعها البطلة .
أحسن الله لكم وأثابكم ونفعنا بعلمكم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
بيان ما يلقاه صاحب القرآن الكريم من الأجر والثواب
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/254).
(2) - مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (804) , وأحمد (5/254).
(3) - البخاري : بدء الخلق (3275).
(4) - البخاري : بدء الخلق (3275).(1/64)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا إلى يوم الدين، اللهم اغفر لنا، ولشيخنا يا رب العالمين .
قال المؤلف رحمه الله: ولأحمد أيضاً عن بريدة مرفوعا: تعلموا سورة البقرة (1) فذكر مثل ما تقدم في الصحيح في البقرة وآل عمران، وفيه: وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول له : هل تعرفني فيقول له ما أعرفك ؟ فيقول له : هل تعرفني فيقول ما أعرفك ؟ فيقول : أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك بالهواجر وأسهرت ليلك وإن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا فيقولان بم كسينا هذه فيقال بأخذ ولدكما القرآن ثم يقال له اقرأ واصعد في درجة الجنة وغرفها فهو في صعود ما دام يقرأ هذاً كان أو ترتيلا (2) وعن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أهل القرآن هم أهل الله وخاصته (3) رواه أحمد والنسائي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا الحديث تابع لما تقدم من أحاديث في بيان فضل القرآن، وما ينال أهله من الخير والثواب، وتقدم الكلام على فضل سورة البقرة وفضل سورة آل عمران.
__________
(1) - أحمد (5/348) , والدارمي : فضائل القرآن (3391).
(2) - أحمد (5/348) , والدارمي : فضائل القرآن (3391).
(3) - ابن ماجه : المقدمة (215) , وأحمد (3/127) , والدارمي : فضائل القرآن (3326).(1/65)
وفي هذا الحديث بيان لما يلقاه صاحب القرآن الكريم من الأجر والثواب عند الله تعالى يوم القيامة، ومن الألفاظ الغريبة في هذا الحديث قوله: حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب (1) والشاحب هو المتغير اللون من هزال أو تعب أو عارض أو مرض أو سفر أو نحو ذلك، والشحوب هو من آثار الخوف، وقد يكون من قلة المأكل والمشرب.
وصاحب القرآن حينما ينشق عنه القبر يكون في خوف وفزع من هول ذلك اليوم العظيم، ولكن القرآن الكريم شفع له في ذلك الموقف العظيم كما تقدم في الحديث: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه (2) فيأتيه القرآن الكريم على صورة ثواب يثاب عليه قارئ القرآن فيؤنسه ويطمئنه في ذلك اليوم العظيم بأن ما قام به في الدنيا من تعب وسهر وبذل جهد ووقت في قراءة القرآن، فهذا هو الثواب العظيم الذي سوف يناله في ذلك الموقف، ولا يكون هذا الثواب إلا لمن قرأ القرآن وعمل به، واتبع القرآن، وائتمر بأوامره، وانتهى عند نواهيه.
__________
(1) - ابن ماجه : الأدب (3781) , وأحمد (5/348) , والدارمي : فضائل القرآن (3391).
(2) - Takreej file not found.(1/66)
ولهذا جاء في الحديث الآخر الذي أخرجه الحاكم من حديث سهل بن معاذ، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قرأ القرآن وعمل بما فيه أُلبس والداه تاجا يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا (1) فما ظنكم بالذي عمل بهذا، فالعمل متعدٍ إلى غير قارئ القرآن، وهو إلى من تسبب في حفظ القرآن وهما الوالدان؛ ولهذا الله تعالى يقول: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ (2) فيصل الثواب إلى من تسبب في قراءة القرآن وتعليمه، كما تقدم في الحديث: خيركم من تعلم القرآن وعلمه (3) ؛ ولهذا كما يقول الشاطبي في لاميته -وهو يتكلم عن فضل القرآن- يقول :
هنيئاً مريئاً والداك عليهما ... ملابس أنوار من التاج والحلى
فما ظنكم بالنجل عند جزائه ... أولئك أهل الله والصفوة الملا
أولوا البر والإحسان والصبر والتقى ... حلاهم بها جاء القرآن مفصلا
أي مبيناً وموضحا، والقرآن هو أعظم تجارة يتاجر فيها الإنسان مع ربه كما تقدم في آية فاطر: يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) (4) ويقول تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ (5)
__________
(1) - أبو داود : الصلاة (1453).
(2) - سورة الطور آية : 21.
(3) - البخاري : فضائل القرآن (5027) , والترمذي : فضائل القرآن (2907) , وأبو داود : الصلاة (1452) , وابن ماجه : المقدمة (211) , وأحمد (1/57) , والدارمي : فضائل القرآن (3338).
(4) - سورة فاطر آية : 29.
(5) - سورة الصف آية : 10 - 11.(1/67)
والقرآن الكريم هو التجارة الرابحة التي لا كساد فيها، بل فيها خيرٌ عظيم، وذكر في هذا الحديث أيضاً بعضاً من مراتب القراءة، وهي الهذ والترتيل، قال: فهو في صعود ما دام يقرأ هذاً كان أو ترتيلا (1) فمراتب القراءة أولها الترتيل، وهو الذي جاء به القرآن الكريم في قوله تعالى : وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) (2) ومن مراتب القراءة أيضاً التحقيق، وهو التأني في التلاوة، وإظهار المخارج والصفات.
ومن ذلك أيضاً من المراتب الحدر، وهو القراءة بتعجل أسرع من الترتيل، وأسرع من التحقيق، وجاء في الهذ في هذا الحديث جاء بالهذ، وإن كان ورد أن ابن مسعود قال "لا تهذوا القرآن هذ الشعر" والمقصود بالهذ هنا هو قراءة القرآن بسرعة، أي يسرع في تلاوته، في تلاوة القرآن الكريم .
والحديث الآخر بيان لفضل أهل القرآن، وأنهم أهل الله وخاصته، فأهل القرآن هم أولياء الله كما قال تعالى : أَلَا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ َOخgِٹn=tو وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) (3) أهل القرآن هم الذين يحبهم الله ويحفظهم ويؤيدهم وينصرهم؛ لأنهم يقرءون كلامه جل وعلا، ويتعبدون الله تعالى بهذا القرآن الكريم، كما تقدم في الآيات التي فيها الحث على تلاوة القرآن الكريم، وهذا بيان لمزيد الفضل الذي يناله قارئ القرآن .
باب ما جاء في تقديم أهل القرآن وإكرامهم
باب ما جاء في تقديم أهل القرآن وإكرامهم، وكان القراء أصحاب مجلس عمر كهولا كانوا أو شبابا
__________
(1) - أحمد (5/348) , والدارمي : فضائل القرآن (3391).
(2) - سورة المزمل آية : 4.
(3) - سورة يونس آية : 62.(1/68)
وعن أبي مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً (1) وفي رواية سلمى: ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه (2) رواه مسلم .
وللبخاري عن جابر: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول : أيهم أكثر أخذاً للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد (3)
وعن أبي موسى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان (4) حديث حسن رواه أبو داود .
هذا هو الباب الثاني في هذه الفضائل، وهو في تقديم أهل القرآن في الدنيا، وأهل القرآن مقدمون في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة .
__________
(1) - مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (673) , والترمذي : الصلاة (235) , والنسائي : الإمامة (780) , وأبو داود : الصلاة (582) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (980) , وأحمد (4/121).
(2) - مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (673) , والترمذي : الصلاة (235) , والنسائي : الإمامة (780) , وأبو داود : الصلاة (582) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (980) , وأحمد (4/121).
(3) - البخاري : الجنائز (1343) , والترمذي : الجنائز (1036) , والنسائي : الجنائز (1955) , وأبو داود : الجنائز (3138) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1514) , وأحمد (3/298).
(4) - أبو داود : الأدب (4843).(1/69)
مقدمون في الدنيا بهذا الحديث في عبادة من أشرف العبادات، وهي الصلاة، قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله (1)
ومقدمون في البرزخ في الحديث الذي بعده قال: كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول أيهم أكثر أخذاً للقرآن (2) وهذا الحديث ورد في سياق الحديث عن غزوة أحد التي قتل فيها أكثر من سبعين رجلا من الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- فهذا في البرزخ في القبر، وهذا من التقديم والكرامة .
الكرامة الأولى: أنه مكرم ومقدم في الدنيا بالإمامة بإمامة الصلاة.
والثانية في البرزخ: أنه يقدم من بين الشهداء فيبدأ به أولا في الدفن .
والثالث: الذي هو التقديم في الآخرة كما تقدم من الحديث السابق ، حديث: يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقف عندها (3) هذا في الآخرة .
__________
(1) - مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (673) , والترمذي : الصلاة (235) , والنسائي : الإمامة (780) , وأبو داود : الصلاة (582) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (980) , وأحمد (4/121).
(2) - البخاري : الجنائز (1343) , والترمذي : الجنائز (1036) , والنسائي : الجنائز (1955) , وأبو داود : الجنائز (3138) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1514) , وأحمد (3/298).
(3) - الترمذي : فضائل القرآن (2914) , وأبو داود : الصلاة (1464).(1/70)
فتبين بهذا أن قارئ القرآن مقدم في هذه الأحوال الثلاثة، وهذا ولا شك فضل ومزية، وكرم من الله تعالى، وهذا الحديث ذكره المؤلف في هذه الفضائل لبيان فضل أهل القرآن، وأنهم مقدمون، وإلا فإن الحديث يذكر في الغالب في أبواب الفقه وفي باب الصلاة كتاب الصلاة حينما قال -عليه الصلاة والسلام- يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله (1) فإذا قيل من أحق الناس بالإمامة؟ أحق الناس بالإمامة الأقرأ والأجود والأحفظ لكتاب الله؛ لأن الإمامة وظيفة دينية عظيمة تولاها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وتولاها أصحابه، وتولاها التابعون من بعده، وحرصوا عليها، حتى إنه ورد في فضل الإمامة الأحاديث الدالة على ذلك منها أن له من الأجر مثل أجر من صلى خلفه، وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- أيضا يطلبون من النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يجعلهم أئمة للناس في الصلاة، كما جاء عن عثمان بن العاص في مسند الإمام أحمد، وعند أبي داود أنه طلب منه قال له اجعلني إماما ، فجعله النبي -عليه الصلاة والسلام- إماماً، لما لهذه الإمامة من الفضل العظيم ، والحديث دل على أن الأقرأ هو الأقدم في الإمامة .
__________
(1) - مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (673) , والترمذي : الصلاة (235) , والنسائي : الإمامة (780) , وأبو داود : الصلاة (582) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (980) , وأحمد (4/121).(1/71)
وهناك أحاديث أخر منها حديث مالك بن الحويرث ، وهو عند البخاري ومسلم في قوله -عليه الصلاة والسلام- : إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أقرؤكم (1) وفي حديث عمرو بن سلمة أيضا، وهو عند البخاري: ويؤمكم أكثركم قرآناً (2) وعند مسلم: وأحقهم بالإمامة أقرؤهم (3) هذه الأحاديث كلها تشهد على أن قارئ القرآن مقدم على غيره في الإمامة .
وقد وقع خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة، ولكنهم لم يختلفوا في أن صاحب القرآن وصاحب الفقه هم مقدمون في الإمامة، لكن إذا اجتمع قارئ وفقيه أو عالم بالسنة فأيهم يقدم حينئذ؟ هذا هو الخلاف بين أهل العلم ، الإمام أبو حنيفة استشهد بهذا الحديث، واستدل به على أن قارئ القرآن يقدم على غيره، حتى على الأفقه لظاهر الحديث: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله (4) حتى ولو اجتمع قارئ وفقيه قال يقدم القارئ لهذا الحديث .
__________
(1) - البخاري : المغازي (4302) , وأبو داود : الصلاة (585).
(2) - البخاري : المغازي (4302) , والنسائي : الأذان (636) , وأحمد (5/30).
(3) - مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (672) , والنسائي : الإمامة (840) , وأحمد (3/34) , والدارمي : الصلاة (1254).
(4) - مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (673) , والترمذي : الصلاة (235) , والنسائي : الإمامة (780) , وأبو داود : الصلاة (582) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (980) , وأحمد (4/121).(1/72)
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأفقه هو أولى بالإمامة من القارئ، إذا كان هذا الفقيه يحسن من القراءة ما تصح به الصلاة فهو مقدم حينئذ؛ لأنه أعلم بأحوال الصلاة من حيث الفقه؛ ولهذا قال العلماء: ما يجب من القراءة في الصلاة محصور، وما يجب في الفقه ليس بمحصور ، قد يحدث للإمام بعض القضايا والحوادث في صلاته، ولا يعرف إذا كان ليس بفقيه ، فحينئذ قالوا يقدم الأفقه وإن كان معه شيء من القرآن الكريم ، وهذا هو قول الثلاثة، والمسألة مسألة فقهية لا نتوسع فيها، وإنما نأخذ وجه الشاهد .
وفي الحديث أيضاً دلالة على أن إمامة المرأة للرجال لا تجوز؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال : يؤم القوم أقرؤهم (1) فكلمة قوم المراد بها الرجال، وهذا رد على من يقول بإمامة المرأة للرجال بهذا الحديث؛ لأن إطلاق لفظ (قوم) في أصل اللغة على الرجال، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ (2) أي رجال من رجال عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ (3) ثم عطف النساء وقال: وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ (4) فتبين أن النساء لا يدخلن في القوم فهم الرجال ، ويقول زهير بن أبي سلمى :
ولا أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
فجعل القوم هنا بمعنى الرجال، هذه دلالة لغوية ، وبها جاء القرآن الكريم، ولكن الفقهاء تكلموا على أن المرأة تؤم نساء مثلها؛ لحديث أم ورقة كما عند أبي داود.
__________
(1) - مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (673) , والترمذي : الصلاة (235) , والنسائي : الإمامة (780) , وأبو داود : الصلاة (582) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (980) , وأحمد (4/121).
(2) - سورة الحجرات آية : 11.
(3) - سورة الحجرات آية : 11.
(4) - سورة الحجرات آية : 11.(1/73)
ما وجه الترتيب في هذا الحديث؟ قال : يؤم القوم أقرؤهم (1) ثم انتقل إلى أعلمهم بالسنة، ثم إلى أقدمهم هجرة، ثم إلى أقدمهم سناً، ثم إلى أقدمهم في الإسلام، قال العلماء : لأن الإمامة خلافة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إذ هو الإمام الأول -عليه الصلاة والسلام- فالإمامة تكون بعده للأقرب إليه منزلة، والأشبه به رتبة واقتداء، فجاء الترتيب من النبي -عليه الصلاة والسلام- على هذا النحو في الإمامة، لكن قد يقول قائل إن النبي -عليه الصلاة والسلام- قدم أبا بكر - رضي الله عنه - في الإمامة مع وجود من هو أقرأ منه.
أُبي كان أقرأ الصحابة، سيد القراء، قال عليه الصلاة والسلام: أقرؤكم أبي أي أحسنكم قراءة، فقدم النبي -عليه الصلاة والسلام- أبا بكر في الإمامة، قال العلماء بأن هذا التقديم لإفهام الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- بتقديمه في هذه الإمامة التي هي الصغرى، استحقاقه للإمامة الكبرى بعد النبي -عليه الصلاة والسلام- فأراد أن يشعر الصحابة بأن أبا بكر هو الخليفة بعدي، كما أنه هو الخليفة عني في هذه الصلاة، وهي الفريضة، وهي الإمامة الصغرى، فهو الخليفة عني في الإمامة الكبرى؛ لهذا كان - رضي الله عنه - هو الخليفة الأول بعد النبي -عليه الصلاة والسلام- وإلا فإن هناك من الصحابة من هو أقرأ.
__________
(1) - مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (673) , والترمذي : الصلاة (235) , والنسائي : الإمامة (780) , وأبو داود : الصلاة (582) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (980) , وأحمد (4/121).(1/74)
ومن فضل أيضاً قارئ القرآن أن الصحابة -رضوان الله عليهم- قدموا بعض التابعين في الإمامة، كما قدم ابن عمر يزيد بن القعقاع أبو جعفر المدني المتوفى بعد المائة، وهو من أقرأ أهل المدينة، منحه الله صوتاً حسناً وأداءً جيداً، وقرأ على كثير من الصحابة، وقد أكرمه الله تعالى بهذا القرآن، حتى إن بعض من ترجم له حينما توفي الذي هو أبو جعفر يزيد بن القعقاع، قال: إن المغسل الذي جاء يغسله وجد ما بين نحره إلى صدره مثل ضوء الشمس ما استطاع ليه؟! وقالوا: إن هذا هو نور القرآن، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فقدمه ابن عمر، مع أن ابن عمر أفضل منه، وهو من الصحابة، قدم أبا جعفر المدني في الإمامة، وهذا من الفضائل التي يتمتع بها قارئ القرآن.
ثم جاء في الحديث قال : ولا يؤُمَّن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه (1) خرجه مسلم، صاحب البيت هو مالك له، ولا يصح أن يتصرف فيه إلا بإذنه في أي عمل كان، حتى ولو كان عبداً، فإنه أولى وأحق من غيره بالإمامة في بيته، إذا كان صالحاً للقراءة، وكان عارفا بها فإنه يقدم، فلا يصح أن يؤم في بيته إلا بإذنه.
وقوله: (تكرمته) ما أعد لإكرامه، والتكرمة هنا بمعنى الفراش الذي يقعد عليه، أو السرير أو الكرسي المعد لمكانه، ومن الأدب على الإنسان الذي يدخل منزلا، فإنه لا يجلس إلا حيث يقال له اجلس هنا، لا يذهب يجلس في أي مكان، أو يجلس في مكان مخصص لصاحب البيت، وإنما من الأدب أن يجلس حيث يقال له اجلس.
__________
(1) - مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (673) , والترمذي : الصلاة (235) , والنسائي : الإمامة (780) , وأبو داود : الصلاة (582) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (980) , وأحمد (4/121).(1/75)
وما وجه المنع هنا؟ قال: لا يَؤُمًن الرجل (1) وجه المنع أنه مبني على منع التصرف في ملك الغير إلا بإذنه، أن هذا مبني على منع التصرف في ملك الغير إلا بإذنه، ولماذا خص التكرمة التي هي موضع الجلوس لصاحب البيت؟ خصها بالذكر للتساهل في القعود عليها، وإذا منع القعود عليها فمنع أيضاً التصرف بنقلها أو بيعها أو التصرف فيها بغير إذنه، فقد منع هذا الداخل إلى هذا البيت أن يتصرف في شيء لا يخصه داخل البيت، ويقاس عليه أيضا غيره، لكن هنا ذكر هذه التكرمة لأنها هي التي تخص صاحب البيت ويجلس عليها.
ودل الحديث على فوائد: منها شرف الإمامة في الصلاة، وفضلها، ومكانتها، ومنها أن الإمامة بالناس عون على الطاعة وملازمة للجماعة، ودل الحديث أيضاً على فضل صلاة الجماعة.
والرابع : أن للقارئ الحافظ للقارئ الحافظ أن يطلب الإمامة في الصلاة إذا كان جديراً بها وقارئا، كما جاء بعض الصحابة إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ومنهم عثمان بن العاص، قال: اجعلني إماما يريد أن يكون إماماً لأنه حافظ للقرآن.
والخامس : دل الحديث على التفقه في دين الله، فإن قارئ القرآن لا يكتفي أيضاً بالحفظ والتلاوة والقراءة، عليه أن يجتهد أيضاً في التفقه في دين الله، ومعرفة ما في هذه الآيات التي يحفظها من العلم والهدايات والدلالات والمعاني، ويقرأ ذلك في كتب التفسير، ويسأل عما أشكل عليه؛ حتى يضم الخير إلى الخير، ويضم الفقه إلى الفقه.
ثم الحديث الذي بعده وهو أيضاً من فضل أهل القرآن؛ أنهم يقدمون في البرزخ، وعند الدفن في القبور يقدمون على غيرهم، هذا الحديث أيضاً دل على فوائد:
__________
(1) - مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (673) , والترمذي : الصلاة (235) , والنسائي : الإمامة (780) , وأبو داود : الصلاة (582) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (980) , وأحمد (4/121).(1/76)
منها أن ميزان التفاضل بين المسلمين هو التمسك بالإسلام، والقيام بما أمر الله، والله تعالى يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (1) وفي مقدمة ذلك المحافظة على القرآن الكريم؛ حتى ينال المسلم هذه الخيرية وهذه الفضيلة التي خص بها أهل القرآن، فإن الناس لا يتفاضلون بقوة أبدانهم، ولا بكثرة أموالهم، ولا بما يلبسون، ولا بما يأكلون ويشربون، وإنما يتفاضلون بالأعمال الصالحة ، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم ولكن ينظر إلى أعمالكم وقلوبكم (2) فهذا هو الميزان، فانظر في هذه الغزوة العظيمة التي مات فيها عدد كبير من الصحابة -رضوان الله عليهم- سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- حين الدفن قال: أيهم أكثر أخذاً للقرآن (3) فإنه يقدم، وهذا من الفضائل لأهل القرآن أيضا.
__________
(1) - سورة الحجرات آية : 13.
(2) - مسلم : البر والصلة والآداب (2564) , وابن ماجه : الزهد (4143).
(3) - البخاري : الجنائز (1343) , والترمذي : الجنائز (1036) , والنسائي : الجنائز (1955) , وأبو داود : الجنائز (3138) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1514).(1/77)
ودل الحديث على أن أهل القرآن يتفاضلون فيما بينهم، كما جاء في الحديث: أكثرهم أخذا للقرآن (1) ما قال قدموا أهل القرآن قال: أكثرهم أخذا للقرآن الكريم (2) فكلمة ( أكثرهم ) تدل على التفاضل، فمن الناس من يحفظ القرآن كاملا، ومنهم من يحفظ نصفه، ثلثه، ربعه، أقل من ذلك ثم أيضاً، منهم يحفظ القرآن ويعمل به، ومنهم من يحفظه ولا يعمل به، ومنهم من يحفظه ويقتدي به، ويأتمر بأوامره، ويتأدب بآدابه، ويتخلق بأخلاقه، ومنهم من يحفظه ولا يأبه بذلك، لا يأتمر ولا ينتهي ولا يتأدب بآدابه، فهم يتفاضلون إذن.
فقراء القرآن ليسوا على درجة واحدة، والصحابة -رضوان الله عليهم- كان فيه حفظة، ولكن أنتم لا تقرءون عن مشاهير القراء من الصحابة إلا عدد محدود، كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يبرزهم للصحابة، ويثني عليهم أمام الأشهاد، حينما قال: أقرؤكم أبي وقال: من أحب أن يأخذ القرآن غضا طريا فليأخذه عن ابن أم عبد (3) وقال لأبي موسى الأشعري: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود (4) وقال لأسيد بن حضير مع أن فيه من الصحابة من يحفظ أيضاً القرآن، لكن هؤلاء تميزوا بميزات خصتهم عن غيرهم، فأهل القرآن حينئذ يتفاضلون لهذا الحديث.
__________
(1) - البخاري : الجنائز (1343) , والترمذي : الجنائز (1036) , والنسائي : الجنائز (1955) , وأبو داود : الجنائز (3138) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1514).
(2) - البخاري : الجنائز (1343) , والترمذي : الجنائز (1036) , والنسائي : الجنائز (1955) , وأبو داود : الجنائز (3138) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1514).
(3) - ابن ماجه : المقدمة (138) , وأحمد (1/7).
(4) - البخاري : فضائل القرآن (5048) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (793) , والترمذي : المناقب (3855).(1/78)
ودل الحديث أيضاً على تقديم أهل القرآن على غيرهم، فهم يقدمون في جميع الأحوال، وأعظم التقديم يناله قارئ القرآن كما ذكرت لكم ثلاثة أمور، في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة، وفي الدنيا في أشرف مقام، وهو الصلاة العبادة العظيمة، الركن الثاني من أركان الإسلام.
والحديث الآخر هو من الآداب التي دعا إليها الإسلام، وحث عليها القرآن منها : إن من إجلال الله (1) أي من تعظيمه جل وعلا تبجيله إكرام ذي الشيبة المسلم (2) لأن هذا المسلم الذي بلغ من العمر ما بلغ في الإسلام قد صام وصلى وقرأ القرآن، وسبح وهلل وذكر الله كثيرا فقد سبق غيره بهذا الأعمال أيضاً، فمن الآداب أنه يكرم، وأنه يحترم ويقدم ويوقر أيضاً، كما جاء في بعض الأحاديث عند أحمد وعند الترمذي : ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا (3) فهذه آداب إسلامية، وهي من آداب القرآن الكريم، ومن آداب أخوة الإسلام، والله تعالى قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (4) وقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (5)
__________
(1) - أبو داود : الأدب (4843).
(2) - أبو داود : الأدب (4843).
(3) - الترمذي : البر والصلة (1919).
(4) - سورة الحجرات آية : 10.
(5) - سورة التوبة آية : 71.(1/79)
والثاني: حامل القرآن وهذا وجه الشاهد من سياق هذا الحديث (حامل القرآن) وليس على إطلاقه، جاء قيده بقيد قال: غير الغالي فيه والجافي عنه (1) يعني أن هناك من يغلو في القرآن، يعني بين نقيضين، بين إفراط وبين تفريط، وبين غلو وبين جفاء، والأصل هو الوسط كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا (2) فالغالي في القرآن، من أمثلة ذلك أن يبالغ مثلا في قراءته للقرآن؛ يبالغ في النطق كما ذكر ذلك أبو عمرو الداني عثمان بن سعيد المتوفى سنة 444 في كتابه (التحديد في علم التجويد) هذا كتاب من أنفس الكتب، يعني كالتقعر والتكلف في التلاوة، والميلان أن يميل يمينا ويسارا ويتحرك، أو يقرأه بألحان محرمة التي جاء الشرع بتحريمها، أو يقرأه على طريقة الموسيقى والأنغام التي هي محرمة لا تجوز، هذه لا تجوز، أو يبدأ يقرأ القرآن في أماكن لا تصح ولا تجوز، ولم يأت بها الشرع، كمن يقرأ في المآتم وغيرها، أو في الموالد التي لم تثبت ولم تصح هذا هو راح يغالي بالقرآن، غالى به وضعه في غير موضعه، ولا يصح أيضاً، ومنهم ربما ما سألتم عن الذين يدخلونه في الجوال أو غيرهم، وهنا جاء النهي عنه غير الغالي، هذا لا يدخل فيه.
__________
(1) - أبو داود : الأدب (4843).
(2) - سورة البقرة آية : 143.(1/80)
كذلك والجافي عنه (1) الجافي عنه هو الذي ينعم الله تعالى عليه بحفظ القرآن، ثم يترك هذا القرآن وينصرف عنه، ويحفظ إما أنه يحفظ القرآن كاملا، أو يحفظ قدراً منه ثم ينساه، يهمل هذا القرآن؛ لأن من إعجاز القرآن هو التعاهد تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا أو تفلتا من الإبل في عقلها (2) القرآن يحتاج إلى مداومة، هذا من إعجازه، وهو ميسر أيضاً، فأما الذي يقرأه ثم ينساه، أو يتركه ولا يراجعه فهذا قد جفا القرآن وتركه، وابن القيم -رحمه الله- قد ذكر أنواع الهجر للقرآن الكريم، من أنواع الهجر: هجر تلاوته فلا يقرأه إلا في أوقات يرى نفسه أنه فاضي فيها أو ليس عنده وقت ، عنده وقت مناسب يبدأ يقرأ، أين الورد؟! أين الحزب اليومي الذي تخصصه لنفسك، كالغذاء الذي تغذي به روحك بهذا القرآن الكريم؟! ترك تلاوته، قال: وترك تدبره هو يقرأ القرآن صحيح لكنه لا يتدبر القرآن، يقف عند النواهي فلا ينتهي عنها، ويقرأ الأوامر فلا يأتمر بها، ويقرأ الدعوة إلى الأخلاق فلا يتخلق بها، ما يتدبر، ترك تدبره والعمل به، هذا أيضاً هو هجر للقرآن، وجفوة للقرآن الكريم.
__________
(1) - أبو داود : الأدب (4843).
(2) - البخاري : فضائل القرآن (5033) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (791) , وأحمد (4/397).(1/81)
ومن ذلك ترك التحاكم إلى القرآن الكريم، والواجب على العباد جميعا أن يتحاكموا إلى القرآن، كما قال الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ (1) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) (2) ومن أنواع جفوة القرآن هو ترك الاستشفاء به أو التداوي به، ففيه الخير والبركة، وفيه الشفاء لكل الأمراض التي تطرأ على الإنسان من القلق والاضطراب والسحر والعين، وما يسمى بالرقية الشرعية، يقرأ من القرآن الكريم، والله تعالى قد سماه شفاء، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ صن!$xےد©ur لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) (3) وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (4) وقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى صن!$xےد©ur (5) والشفاء هنا شوفوا منكرة أيضاً ما جاءت معرفة، فهي عامة لكل الأمراض التي تحدث للإنسان، إلا الأمراض التي معروفة، كالجرح وإجراء العمليات، وغير هذه، هذه أمراض حسية واضحة، يعني كل إنسان يشاهدها، لا يأتي إنسان يقول أنا أقرأ على هذا الجرح حتى يلتحم، وإنما يقرأ على المريض بما فيه من علة، وما فيه من مرض، ويختار الآيات المناسبة.
__________
(1) - سورة النساء آية : 59.
(2) - سورة النساء آية : 65.
(3) - سورة يونس آية : 57.
(4) - سورة الإسراء آية : 82.
(5) - سورة فصلت آية : 44.(1/82)
إذن قال: وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه (1) فالذي يسير في حمله للقرآن بالاعتدال، وربما يدخل يعني يدخل في الغالي والجافي فيه الخوارج الذين لم يعلموا هداية القرآن على الوجه الصحيح، فهم أيضاً غلاة وجفاة من نواح متعددة، يستشهدون ببعض الآيات، ويتركون بعضها، ولا يجمعون نصوص الشرع ولا أدلة القرآن بعضها مع بعض، إن هناك مطلقاً ومقيدا، وهناك عام وهناك خاص، وهناك ناسخ وهناك منسوخ، كل هذا ينبغي لمن يريد أن يقعد، أن ينزل حكما على حالة من الحالات أن يعرف هذه الأحكام الفقهية في الدلالات القرآنية، ومن يجتهد من نفسه في إصدار الأحكام للناس دون علم فهو داخل في هذا، فهو داخل في الجافي وفي الغالي
وإكرام ذي السلطان (2) وهذا من الأدب في التعامل أيضاً مع ولي أمر المسلمين، ومعرفة قدره، ومكانته التي بوأه الله تعالى لها؛ لأن بالإمام جمع كلمة المسلمين، وتآلف القلوب، ودرء الفتن التي تحصل بين الناس، وبإمام المسلمين تقام شعائر الإسلام، وتظهر الحدود، ويزجر الناس، ويلزمون بالعمل بما أمر الله تعالى، ويطاع ولي الأمر في المعروف كما قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (3) ولهذا لم يعد العامل كلمة وأطيعوا أولي الأمر؛ لأن طاعتهم مقيدة بطاعة الله وطاعة رسوله، وإنما هي في المعروف، ولا يسوغ التحدث بعيوب السلطان أو غيبته؛ لأنه مسلم من المسلمين، فكيف بالحال وهو يتولى مسئولية عظيمة، وقيادة كبيرة وهي مصالح المسلمين، وينبغي أن يدعى له بالتوفيق والصلاح والهداية والنفع، وهذا من آداب الإسلام التي حث عليها القرآن الكريم والسنة النبوية.
باب وجوب تعلم القرآن وتفهمه واستماعه والتغليظ على من ترك ذلك
__________
(1) - أبو داود : الأدب (4843).
(2) - أبو داود : الأدب (4843).
(3) - سورة النساء آية : 59.(1/83)
باب وجوب تعلم القرآن وتفهمه واستماعه والتغليظ على من ترك ذلك
وقول الله تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا (1) وقال تعالى: * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) (2) وقوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا (3) الآية.
عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (4) أخرجاه .
وعن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ارحموا ترحموا واغفروا يغفر الله لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون (5) رواه أحمد.
هذا هو الباب الثالث
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 25.
(2) - سورة الأنفال آية : 22.
(3) - سورة طه آية : 124.
(4) - البخاري : العلم (79) , ومسلم : الفضائل (2282) , وأحمد (4/399).
(5) - أحمد (2/165).(1/84)
قال: باب وجوب تعلم القرآن وتفهمه، واستدل المؤلف -رحمه الله تعالى- بهذه الآية في حق الكفار في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا (1) هذه الآية في سورة الأنعام وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ (2) والآية التي نظير هذه الآية في سورة الإسراء أيضاً في قوله تعالى وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ (3) في موضعين من القرآن الكريم .
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 25.
(2) - سورة الأنعام آية : 25.
(3) - سورة الإسراء آية : 45 - 46.(1/85)
المؤلف قال: وجوب تعلم القرآن وتفهمه واستماعه . والثاني قال: التغليظ على من ترك ذلك، هل المؤلف ذكر ما يدل على وجوب تعلم القرآن وتفهمه واستماعه؟ ما صدر المؤلف شيئا بذلك، وإنما هذا يفهم بالمخالفة أيضاً، وما تقدم من الأحاديث الأخرى التي دلت على وجوب تعلم القرآن وتفهمه، وفي هذا الباب استدل المؤلف بالأدلة التي فيها التغليظ على من ترك الاهتداء بالقرآن والعمل بالقرآن والسير على منهج القرآن بهذا الدليل، وهو قوله تعالى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ (1) أي الكفار، جعل الله تعالى على قلوبهم أكنة، والأكنة هي جمع كنان، وهو ما يستر الشيء ويغطيه ويكنه، وقال تعالى هنا: عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ (2) أي لئلا يفقهوه أن هنا بمعنى لئلا، كما قال تعالى أيضاً، وهذا في القرآن كثير في آية الفرائض قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا (3) أي لئلا تضلوا، لئلا تضلوا، وهنا قال: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ (4) أي لئلا يفقهوا ما في هذا القرآن، وتكون الأكنة التي جعلها الله تعالى عليهم حائلة بينهم وبين فهم القرآن، هم يسمعون القرآن، ويسمعون الهدايات والدلالات، لكنهم لا يفهمون فهم انتفاع وفائدة، لا يفهمون ولا يفقهون فهم انتفاع وفائدة، كما قال تعالى في آيات أخرى: أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (5) هم معهم عقول يستطيعون يمشون ويعرفون الطريق، ولكن لا يعقلون عقل رشد يميزون به؛ ولأن العقل الصحيح هو الذي يدل الإنسان إلى الخير، وهم سوف يعترفون في الآخرة بالحقيقة عندما يدخلونها، يقول الله تعالى عنهم: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ (6)
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 25.
(2) - سورة الأنعام آية : 25.
(3) - سورة النساء آية : 176.
(4) - سورة الأنعام آية : 25.
(5) - سورة المائدة آية : 103.
(6) - سورة الملك آية : 10..(1/86)
يعني عقل رشد لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) (1) لكنهم لا يفقهون فقها يعطيهم فهما ونفعاً يستفيدون به من هذا القرآن.
ثم أيضاً أخبر الله تعالى عنهم في المقطع الثاني من الآية أنه تعالى جعل في آذانهم وقرا، والوقر ( وقرا ) أي صمما وثقلا، أي صمما وثقلا؛ لئلا يسمعوا سماع قبول وانتفاع؛ لئلا يسمعوا سماع قبول وانتفاع، هم يسمعون لكن السماع الذي لديهم ليس سماع قبول ورضا وتسليم وانتفاع، هذا غير متحقق فيهم، قد تقول ما هو السبب في هذا أنهم لا يسمعون ولا يفقهون، والله تعالى يقول قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ (2) في الأرض وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ (3) نقول: إن الله تعالى قد بين في موضع آخر في القرآن الكريم السبب الذي جعلهم لا يفقهون ولا ينتفعون بهذا القرآن، وهو ما وقعوا فيه من الكفر، أنهم كفروا بالله تعالى، فجازاهم الله تعالى على كفرهم بطمس بصائرهم وإزاغة قلوبهم وصم آذانهم، وهذا في القرآن كثير، من ذلك قوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ (4) وقال تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا (5) أي قلوبهم بِكُفْرِهِمْ (6) وقال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا (7) وقال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) (8) وقال تعالى أيضا في سورة النحل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ (9)
__________
(1) - سورة الملك آية : 10.
(2) - سورة الملك آية : 23.
(3) - سورة الملك آية : 23.
(4) - سورة الصف آية : 5.
(5) - سورة النساء آية : 155.
(6) - سورة النساء آية : 155.
(7) - سورة البقرة آية : 10.
(8) - سورة الأنعام آية : 110.
(9) - سورة النحل آية : 107..(1/87)
أي الكفار اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَن اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) (1) قال بعدها: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ (2) هذا هو السبب، السبب أن الله جعل على قلوبهم هذه الأكنة، وجعل في آذانهم هذا الصمم، أن هذا بسبب كفرهم الذي وقعوا فيه.
__________
(1) - سورة النحل آية : 107.
(2) - سورة النحل آية : 108.(1/88)
وفي هذا رد على طائفة القدرية حينما يقولون: إن الشر لا يقع بمشيئة الله، بل يقع بمشيئة العبد، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وهذا قول باطل دل القرآن على بطلانه، كما في قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا (1) وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى (2) وقال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا (3) يقول ابن القيم -رحمه الله- رداً على هذه الفرقة : والحاصل أن تلك النفرة والإعراض والبغض من أفعالهم وهي مجعولة، وهي مجعولة لله سبحانه ، هو الذي جعلها؛ لأنه قال : وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ (4) الله هو الجاعل، هو الذي جعل قلوبهم هكذا، كما أن الرأفة والرحمة وميل الأفئدة إلى بيت الله الحرام، أو إلى أي أمر من الأمور هي بفعل الإنسان، كما قال الله تعالى عن دعوة إبراهيم: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (5) الله هو الجاعل، جعلها على وجه الحقيقة، ثم يقول: فالله سبحانه وتعالى هو الجاعل للذوات بصفاتها وأفعالها وإرادتها واعتقادها، فذلك كله مجعول مخلوق له سبحانه، وإن كان العبد فاعلا له باختياره وإرادته، فالشاهد أن هذه الآية ونظيرتها فيها رد على القدرية الذين ينسبون إلى الله ما ليس إليه جل وعلا، وهذا داخل في التغليظ في العقوبة؛ لأنهم كفروا بالله فأعقبهم الله تعالى أنهم لا ينتفعون بهذه الهداية وهذه الدلالات التي في القرآن الكريم.
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 107.
(2) - سورة الأنعام آية : 35.
(3) - سورة السجدة آية : 13.
(4) - سورة الأنعام آية : 25.
(5) - سورة إبراهيم آية : 37.(1/89)
ثم جاءت الآية الأخرى في سورة الأنفال، وهي أيضا من باب التغليظ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) (1) شر الناس هم الكفار كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) (2) وهنا قال: * إِنَّ شَرَّ (3) أصل كلمة شر في اللغة أشر ولكن حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال والدوران، مثل كلمة أيضا خير أصلها أخير قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ (4) أصلها: قل أذلك أخير أم جنة الخلد، وليس المقصود يعني المفاضلة بين الجنة والنار، وإنما لبيان مزية الجنة وسوء النار، كما قال حسان :
فشركما لخيركما الفداء
فهؤلاء هم شر الدواب، أي من دب على الأرض، ومنهم بنو آدم، وهؤلاء هم الكفار الذين أعمى الله بصائرهم، وصم آذانهم عن قبول الحق؛ ولهذا: لما جاء عتبة إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وطلب منه -كان سفيرا لأولئك القوم- يقول للنبي -عليه الصلاة والسلام- إن أردت مالا أعطيناك إن أردت نساء زوجناك إن أردت جاها ملكناك فتركه حتى انتهى فقال أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم فقرأ عليه هذه صدر سورة فصلت، حتى وصل عند قوله تعالى فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً (5) فقال يكفي يكفي، فذهب إلى قومه وبين أنه ليس بقول بشر، وأثنى على القرآن أيضاً؛ لأنهم لا يريدون القبول ولا الانتفاع ، الشاهد من هذه الآية والتي تليها بيان ما عليه حال الكفار من الإعراض والصدود عن القرآن الكريم، وعدم الانتفاع به، وذلك بسبب كفرهم الذي وقعوا فيه، فعاقبهم الله تعالى على ذلك أن حرمهم هذا الخير، وهذا من عدله سبحانه وتعالى.
__________
(1) - سورة الأنفال آية : 22.
(2) - سورة البينة آية : 6.
(3) - سورة الأنفال آية : 22.
(4) - سورة الفرقان آية : 15.
(5) - سورة فصلت آية : 13.(1/90)
ثم جاءت الآية الثانية وهي قوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا (1) قبلها جاء الثواب لقارئ القرآن وهو داخل فيما أراده المؤلف، وجوب تعلم القرآن وتفهمه واستماعه فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي (2) هذا هو التغليظ في العقوبة، أي من أعرض عن أمري وأعرض عن كتابي عن القرآن العظيم وما فيه؛ لأن القرآن هو الذكر، من أسماء القرآن أنه هو الذكر وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي (3) فنسبه الله تعالى إليه؛ لأنه كلامه الذي تكلم به سبحانه وتعالى، عاقبة هذا الإعراض بينها الله تعالى، وهي إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهنا اكتفى المؤلف بسياق العقوبة على الإعراض التي في الدنيا قال: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا (4) في حياته: يعيش في ضيق، وفي شدة، وفي قلق، وفي اضطراب، وفي حسرة، وقد لا ينام الليل من شدة ما يواجه في أموره، حتى ولو كان غنيا ثريا ذا منصب وجاه، وذا لباس وطعام وشراب وقوة، لكنه معرض عن القرآن الكريم، لا يقرأه، وقد لا يؤمن به، وقد لا يقرأه وهو مؤمن به، ولا يحكمه في حياته، ولا يمتثل لأمره، فإن هذه العقوبة شاملة لمن كان كذلك، أو وقع في هذه الحالة: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا (5)
__________
(1) - سورة طه آية : 124.
(2) - سورة طه آية : 123 - 124.
(3) - سورة طه آية : 124.
(4) - سورة طه آية : 124.
(5) - سورة طه آية : 124.(1/91)
ثم ساق المؤلف أيضا هذا الحديث العظيم، الذي فيه الذي ضرب فيه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مثلاً حيا، وواقعا ومشاهدا ومحسوسا يراه الناس ، تمثيل بالهدى الذي بعث به -عليه الصلاة والسلام- فهو بعث بالهدى الذي هو العلم، وبعث بدين الحق الذي هو العمل، يقول تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) (1) في موضعين من القرآن، فالهدى هو العلم، ودين الحق هو العمل به، هذا هو الذي بعث به النبي -عليه الصلاة والسلام- فأراد عليه الصلاة والسلام أن يبين لأصحابه ثمرة هذا الاتباع لهذا العلم وهذا الهدى، فضرب مثلاً بغيث نزل من السماء على الأرض، وجعله في ثلاثة أنواع، والمعنى: أن الأرض التي ينزل عليها الغيث على ثلاثة أنواع، كذلك الناس ثلاثة أنواع في أو أمام هذا الهدي الذي بعث به النبي عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) - سورة التوبة آية : 33.(1/92)
النوع الأول: شبه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من يحمل هذا العلم ويتفقه فيه، شبهه بالأرض الطيبة التي أصابها المطر، أو أصابها الغيث فانتفع الناس بها، إحنا قلنا : الغيث أولى لأن المطر لم يأت في القرآن إلا بوصف العذاب، إلا في موضع واحد، في سورة النساء، في قوله تعالى إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ (1) وإن الله تعالى يقول: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ (2) فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ (3) سماه رحمة أيضا، فهو غيث كما جاء في الحديث أيضاً في نفسه كمثل الغيث (4) سماه غيثا لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما ينطق عن الهوى، فالشاهد أن النوع الأول أن الذي يحمل العلم، ويسهر في طلبه، ويتحمله، ثم يتفقه فيه، ويراجع، ويحرر المسائل، ويدعو الناس إليها، ويحثهم في العمل بها، مثله كمثل الأرض التي نزل عليها الغيث، وكانت صالحة للإنبات، فشربت هذا الماء وأنبتت الكلأ والعشب، فشرب منه الناس وأكلوا، وشربت منه البهائم، وخرج من أثر ذلك الخير الوفير للناس؛ ولهذا يقول الله تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) (5) يعني بهيج يبهج في نضرته لأنها صالحة للإنبات، وقال تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) (6)
__________
(1) - سورة النساء آية : 102.
(2) - سورة الشورى آية : 28.
(3) - سورة الروم آية : 50.
(4) - البخاري : العلم (79) , ومسلم : الفضائل (2282) , وأحمد (4/399).
(5) - سورة الحج آية : 5.
(6) - سورة فاطر آية : 9.(1/93)
والنوع الثاني : من الأرض ومن الناس أنه شبه من تحمل العلم، وتلقاه ولم يتفقه فيه؛ شبهه بالأرض الصلبة التي لا تنبت حينما ينزل عليها الماء، لكنها تمسك الماء والناس يأتون ويأخذون هذا الماء وينتفعون به؛ فكذلك الناس كذلك بعض الناس يتحمل العلم ويحفظه ويجمعه من أطرافه، لكنه لم يتفقه فيه ولم ينشره للناس، وإنما إذا جاءه أحد يريد أن يأخذ منه هذا العلم أعطاه، حفظا ، ليس عنده الفهم والإدراك في تحرير المسائل أو بيانها وإيضاحها للناس، لا يستطيع ذلك ولا يعرفه؛ فشبهه بهذه الأرض التي ينزل عليها الماء ولكنها لا تنبت ويبقى فيها الماء؛ فيأتون الناس ويأخذون من هذا الماء وينتفعون به .
والنوع الثالث: شبه من لم يفهم ولم يحمل العلم؛ لم يحمل علما ولم يفهم أيضا شبهه بالأرض السبخة بالقيعان التي لا تنبت ولا تمسك الماء، فهذا لا خير فيه؛ مثل الأرض التي لا نفع فيها ولا فائدة حتى إذا نزل عليها الماء لا هي تمسك الماء ولا هي تنبت الكلأ، فهذا الإنسان شبه بمثل هذه الأرض شبه بمن لم يتعلم العلم ولم يحمله ولم يفهم أيضا لو ألقي عليه، وفي هذا الحديث من تأمله وجد أن التمثيل بعد ذكر الأرض مثل لطائفتين وسكت عن واحدة، انظر إلى الحديث قال في صفحة إحدى عشر، قال: وأصاب منها طائفة أخرى (1) بعدها قال: فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به (2) هذا واحد فعلم وعلم (3)
__________
(1) - البخاري : العلم (79) , ومسلم : الفضائل (2282) , وأحمد (4/399).
(2) - البخاري : العلم (79) , ومسلم : الفضائل (2282) , وأحمد (4/399).
(3) - البخاري : العلم (79) , ومسلم : الفضائل (2282) , وأحمد (4/399).(1/94)
الثانية: ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (1) فذكر الأولى التي ذكرت، والثالثة في الحديث، ولم يأت بالثانية ؛ الطائفة الثانية من الناس التي تحملت العلم وحفظت العلم، ولكنها لم توصله إلى آخرين، ولم تتفقه فيه، اكتفى بمثالين لطائفتين، والوجه أيضا أن يقال: إما لأنها، يعني التي لم تذكر، الطائفة الثانية ؛ لأنها دخلت في الأولى بوجه، لأنه قد حصل منها نفع في الدين؛ وهو الحفظ والتحمل، فهي داخلة في الأولى التي تحملت وتفقهت في دين الله، وإما لأنه أخبر بالأهم فالأهم، وهما الطائفتان المتقابلتان: فيه طائفة عليا وفيه طائفة سفلى، فالوسطى فيما بينهم داخلة في الأولى بجامع الفائدة والمنفعة، وهذا ورد في الحديث وقد نص على ذلك القرطبي في "المفهم"؛ فليراجع حينئذ في الجزء السادس صفحة اثنين وثمانين.
وبهذا الحديث نعلم أن علوم الشريعة قسمان: أصول وفروع، فعلم الأصول: هو ما يسمى بالفقه الأكبر، هو معرفة الله تعالى، وتصديق رسله، فعلى كل مكلف أن يتعلم ما يوصله إلى معرفة ربه والإيمان به والإيمان برسله، والله تعالى قد قال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (2) هذا من باب الاعتقاد في باب الأصول؛ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (3)
__________
(1) - البخاري : العلم (79) , ومسلم : الفضائل (2282) , وأحمد (4/399).
(2) - سورة محمد آية : 19.
(3) - سورة محمد آية : 19.(1/95)
والقسم الثاني: وهو علم الفروع وهو علم الفقه ومعرفة أحكام الدين، فهذا أيضا قسمان : قسم فرض عين ، وقسم فرض على الكفاية . فأما الفرض العين على المسلم: هو تعلم الطهارة، وتعلم الصلاة التي يستطيع أن يقيمها على الوجه الشرعي، فعلى كل مكلف أن يتعلم كيف يتوضأ، وكيف يتطهر، وكيف يغتسل، وكيف يصلي ؛ يتعلم أحكام الصلاة حتى لا يتعبد الله على جهالة، هذا فرض عين، ويدخل في ذلك أيضا من أكرمه الله تعالى بمال، فيجب عليه أن يتعلم أحكام الزكاة، أو يسأل حتى يؤدي حق الله تعالى فيها .
والقسم الثاني الذي هو فرض على الكفاية من العلوم، وهو التزود من العلم والتبحر فيه، وتقليب المسائل، وقراءة الكتب، وبذل الوقت والجهد في طلب العلم الشرعي، هذا فرض على الكفاية، وليس واجبا على الجميع، والحديث الآخر وهو حديث ابن عمر فيه ترغيب وترهيب، هذا الحديث أوله فيه ترغيب، قال: ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم (1) هذا ترغيب وحث على فعل الخير، والرحمة هنا عامة لكل الخلق ؛ لبني آدم ولغيرهم، والله تعالى قد أمر عباده بأن يتراحموا فيما بينهم، وقال النبي عليه الصلاة والسلام : ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء (2) ؛ فالتراحم بين المسلمين هو من مقتضيات أخوة الإسلام، ومن الآداب الإسلامية التي دعا إليها القرآن، وحث عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
__________
(1) - أحمد (2/165).
(2) - الترمذي : البر والصلة (1924) , وأبو داود : الأدب (4941).(1/96)
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (1) وعلى المسلم أن يكون رحيما بإخوانه . أولا: يكون رحيما بنفسه، فيرحم نفسه من الوقوع في المعصية، وهذه رحمة بنفسه هو؛ فلا يرتكب ما حرم الله، ولا يخالف ما أمر الله، فهذه رحمة لنفسه، ينقذها من الهلاك، ويرحم إخوانه بالإحسان إليهم بنشر الخير، ببذل المعروف، بالصدقة، بالبر، بكفالة اليتيم، بإطعام الطعام، بإطعام المسكين، وكفالة الأسير، وغير ذلك من أنواع أعمال البر . واغفروا يغفر الله لكم (2) أي تجاوزوا عمن أخطأ إليكم بخطأ أو زلة، لا تعاقبوه بمثل ما عاقبكم، وإنما ادعوا له بالهداية، وبلغوه أن ما فعله خطأ لا يجوز فعله، ولهذا لما أخذ أبو بكر على نفسه أن يقاطع أحدا من قرابته، ولعله مسطح، نعم، أنزل الله تعالى في سورة النور: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ (3) إلى أن قال الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) (4) فقطع ما فعله أبو بكر، وبدأ بالإحسان والبر ؛ لأنه استجاب لأمر الله، الله تعالى يقول : أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) (5) ؛
__________
(1) - البخاري : الأدب (6011) , ومسلم : البر والصلة والآداب (2586) , وأحمد (4/270).
(2) - أحمد (2/165).
(3) - سورة النور آية : 22.
(4) - سورة النور آية : 22.
(5) - سورة النور آية : 22..(1/97)
فإن الواجب على الإنسان أن يكون رحيما بإخوانه متجاوزا عن سيئاتهم، لا يثرب عليهم ما فعلوا؛ ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام هو معلم البشرية وإمام الناس، خاطبه الله تعالى بقوله: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (1) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (2) لا بد من الرحمة، فهو رحمة مهداة إلى الخلق عليه الصلاة والسلام، بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) (3) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) (4)
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 159.
(2) - سورة آل عمران آية : 159.
(3) - سورة التوبة آية : 128.
(4) - سورة الأنبياء آية : 107.(1/98)
فهذه الرحمة التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام شاملة حتى للكافر، وهي إنقاذه من الكفر، ودعوته إلى الإسلام، فالرحمة رحمتان: رحمة عامة ورحمة خاصة ؛ رحمة عامة للمسلمين وغير المسلمين، ورحمة خاصة لأهل الإيمان التي تشملهم في الدنيا وفي الآخرة، ولهذا قال تعالى : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (1) ولكن الخاصة : فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) (2) ومن هؤلاء يا ربنا، نعم، يُؤْمِنُونَ (156) (3) بعدها الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ (4) - بعدها الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ (5) هؤلاء هم أهل الإيمان، ثم ذكر الثمرات المترتبة على هذا الاتباع، الذي هو الفلاح، قال في آخرها : فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) (6) ثم قال : وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) (7) ثمرات عظيمة لمن يسير على هذا النهج الصحيح .
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 156.
(2) - سورة الأعراف آية : 156.
(3) - سورة الأعراف آية : 156.
(4) - سورة الأعراف آية : 157.
(5) - سورة الأعراف آية : 157.
(6) - سورة الأعراف آية : 157.
(7) - سورة الأعراف آية : 158.(1/99)
ثم جاء الترهيب بعد ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام : ويل للأقماع لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون (1) والأقماع: جمع قمع، والقمع: هو الإناء الذي يترك، أو يوضع في رؤوس الظروف، يعني في رؤوس الأواني، في أعلاها، فتمتلئ بالمائعات من الأشربة ونحوها، لكن ربما نمثل بها حتى يتضح المقام مثل ما يسمى في لغة العامة بالمحجن؛ لأن المحجن عندما يوضع في . . . له من الأسفل مجرى صغير، فيوضع هنا والمجرى داخله، فيصب الماء فيه، فينزل الماء أو الدهن أو الشراب، ينزل ولا يتسرب منه أي شيء، ما يضيع منه شيء، فشبه الله تعالى أولئك الذين يسمعون القول الحسن، ويسمعون كلام الله وكلام رسوله، ولا ينتفعون به، شبههم بمثل هذا الذي يجري منه الماء ولا ينتفع به، ولكنه يذهب إلى غيره. إذن نقول: شبه أسماع الذين يستمعون القول ولا يعونه ولا يحفظونه ولا يعملون به بهذه الأقماع التي لا تعي شيئا مما يفرغ فيها، وهكذا عقول الكفار الذين يسمعون الحق ويسمعون الهدى كما تقدم، طبع الله على قلوبهم فجعلهم الله تعالى مثل الأنعام.
__________
(1) - أحمد (2/165).(1/100)
كما قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ (1) إلى أن قال الله : أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (2) وقال في آية أخرى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) (3) ؛ لأنهم لا يستفيدون بالمواعظ ولا بالتذكير ولا بالآيات ولا بما يلقى إليهم من هذه الحكم والمواعظ، فأصبحوا مغلفة أسماعهم لا يستفيدون منها، ثم جاء الويل الثاني لمن يصر على ذنب فعله، الإنسان بطبعه يرتكب الذنب، لكن يتوب إلى الله، ويرجع ويستغفر ولا يعود إليه، وإن وقع فيه مرة أخرى فعليه أن يتوب أيضا، ولكنه إذا أصر على الذنب تلو الذنب مع علمه بتحريمه فهذا جاء فيه الوعيد.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 179.
(2) - سورة الأعراف آية : 179.
(3) - سورة الفرقان آية : 44.(1/101)
كما قال : ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون (1) ولهذا قال الله تعالى في سورة آل عمران : وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ (2) بين الله ما لهم من الجزاء ؛ لأنهم أقلعوا عن الذنب، ومن لم يقلع عن الذنب فإنه داخل في الوعيد، ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى : إِن الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا (3) تذكروا أن هذا لا يجوز، وأن هذا مخالف، تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) (4) يعني رجعوا عن الذنب إلى الله تعالى، فالواجب على الإنسان أن يقلع عن كل ذنب ارتكبه، وإذا وقع في ذنب أن يتوب إلى الله تعالى منه، وهذا خلق من أخلاق القرآن الكريم التي دعا إليها، وهذا هو وجه الشاهد من هذا الحديث، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
باب الخوف على من لم يفهم القرآن أن يكون من المنافقين
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) - أحمد (2/165).
(2) - سورة آل عمران آية : 135 - 136.
(3) - سورة الأعراف آية : 201.
(4) - سورة الأعراف آية : 201.(1/102)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولجميع المسلمين يا رب العالمين، قال المؤلف رحمه الله: باب الخوف على من لم يفهم القرآن أن يكون من المنافقين، وقوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ (1) الآية، وقوله - عز وجل - وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا (2) الآية . عن أسماء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة الدجال، يؤتى أحدكم فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن لا أدري أي ذلك، قالت أسماء: فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا وآمنا واتبعنا، فيقال : نم صالحا؟ فقد علمنا إن كنت لمؤمنا، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته (3) أخرجاه.
وفي حديث البراء في الصحيح : أن المؤمن يقول: هو رسول الله، فيقولان: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
__________
(1) - سورة محمد آية : 16.
(2) - سورة الأعراف آية : 179.
(3) - البخاري : الجمعة (1053) , ومسلم : الكسوف (905) , وأحمد (6/345) , ومالك : النداء للصلاة (447).
(4) - أبو داود : السنة (4753) , وأحمد (4/287).(1/103)
هذا هو الباب الرابع الذي أشار فيه المؤلف إلى خطورة من لم يتفهم القرآن وهو يسمعه، وأنه داخل في صفة من صفات المنافقين، أو داخل في وصف المنافقين الذين ذمهم الله تعالى في كتابه، ثم صدر المؤلف هذا الباب بقوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ (1) وهذه الآية في سورة القتال، وهي في سياق أهل الكفر، وقد قال الله تعالى قبلها : وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) (2) وقال بعدها أيضا : وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) (3) ثم قال بعد ذلك: "وَمِنْهُمْ" أي من هؤلاء الكفار وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ (4) هذا صنف من الكفار الذين أسروا الكفر وتظاهروا بالإيمان، وإلا فإن الله تعالى قد قال في آية أخرى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ (5)
__________
(1) - سورة محمد آية : 16.
(2) - سورة محمد آية : 8.
(3) - سورة محمد آية : 12.
(4) - سورة محمد آية : 16.
(5) - سورة يونس آية : 42.(1/104)
وتقدم لنا في الآية بالأمس، "ومنهم " وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ (1) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ (2) إلى أن قال الله: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ (3) ففي هذه الآية صنف من الكفار الذين هم المنافقون يحضرون مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، ويستمعون القرآن، ويستمعون الذكر والمواعظ، ولكنهم لا ينتفعون بها، ولا يجدون منها فائدة ؛ لإعراض قلوبهم عنها، فإذا خرجوا من مجلس النبي عليه الصلاة والسلام سألوا الصحابة -رضوان الله عليهم - ماذا قال في مجلسه وماذا سمعتم؟ ولهذا تكملة الآية : قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا (4) أي ماذا قال قبل قليل؟ و أُوتُوا الْعِلْمَ (5) هنا: هم الصحابة ولم يذكر المؤلف هذه الآية ولكنه اكتفى بالوصف الذي هو وصف النفاق في هذه الطائفة، وهذه صفة من يتظاهر بالإسلام فلا يعرضون عن سماع القرآن كحال المشركين الذين لا يريدون سماع القرآن، بل إنهم سعوا إلى الطعن واللغو فيه، كما قال الله تعالى : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ (6)
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 25.
(2) - سورة الأنعام آية : 25.
(3) - سورة الأنعام آية : 25.
(4) - سورة محمد آية : 16.
(5) - سورة محمد آية : 16.
(6) - سورة فصلت آية : 26..(1/105)
أما هؤلاء الصنف فإنهم يجلسون في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، ويستمعون القرآن، ويقرءوه، ويسمعون المواعظ لكنهم لا يستفيدون منها ولا ينتفعون، وهم يظهرون الإيمان ويبطنون خلافه، فإذا خرجوا من المجلس تغيرت حالهم، وبدءوا يسألون، والسياق في هذه الآية وما بعدها يدل على ذمهم ؛ لأنهم سألوا سؤالا ينبئ عن مذمة سائله، ألم تحضروا المجلس وتسمعوا الكلام والمواعظ والحكم فكيف لا تنتفعون بها؟ تخرجون من المجلس وتقولون ماذا قال آنفا! وهذا من صفات المنافقين أنهم يستهزئون، يستهزئون بأهل الإيمان، كما وصف الله تعالى حالهم في سورة البقرة وفي غيرها من سور القرآن، ربما أنهم قالوا هذا على سبيل السخرية والاستهزاء، فالآية فيها تحذير شديد من صفات المنافقين الذين إذا تليت عليهم الآيات، هم يأتون إلى مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، ويريدون الانتفاع إذا كان فيه مصلحة لهم، أما إذا كان يخالف أهواءهم وطبائعهم فإنهم يعرضون، قال الله تعالى : وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) (1) هذه صفة أهل النفاق، وصفة أهل الإيمان : إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا (2) فهم الذين ينتفعون بهذه الآيات حينما يسمعونها، أو يقرءونها يستفيدون منها، وجاءت الآية الثانية في سورة الأعراف: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ (3)
__________
(1) - سورة النور آية : 49 - 50.
(2) - سورة النور آية : 51.
(3) - سورة الأعراف آية : 179..(1/106)
وهذه أيضا جاءت في سياق الذم لمن خلق الله له سمعا وبصرا وفؤادا يستطيع أن يميز بهذه الجوارح الخير من الشر، والباطل من الحق، والهدى من الضلال ؛ فيستفيد حينئذ، ولكن هؤلاء لم يستفيدوا، كما قال الله تعالى في آية أخرى : وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ (1) إلى آخر الآية، لم تغن عنهم ولم تفدهم، وإنما وظفوها واستعملوها في شهواتهم، وفيما يغضب الله تعالى : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا (2) أي خلقنا وجعلنا وهيأنا، هذا معنى كلمة ذرأ : خلقنا وهيأنا وجعلنا لجهنم أناسا يعملون بعملها، ويكونون من أهلها، كما أعد الله تعالى للجنة أهلا يعملون لها، ويجتهدون في طلبها، وهذا يدل على سعة علم الله تعالى بخلقه قبل أن يخلقهم، وحين خلقهم ؛ فهو عالم بما يعملون وما سيعملون، ولهذا جاء في صحيح مسلم : إن الله تعالى قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة (3) فعلمه جل وعلا شامل ومحيط، وهذه الآية تدل على سعة علم الله، وعلى عدله في خلقه، وأنه لا يظلم أحدا قد أرسل الرسل وأقام الحجج وأنزل الكتب، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا (4)
__________
(1) - سورة الأحقاف آية : 26.
(2) - سورة الأعراف آية : 179.
(3) - مسلم : القدر (2653) , والترمذي : القدر (2156) , وأحمد (2/169).
(4) - سورة طه آية : 123 - 124..(1/107)
من أحسن فله الجزاء جزاء الحسنى، ومن أساء فله العاقبة، وله العذاب، وهؤلاء قد خلق الله لهم هذه الجوارح ؛ لكي يميزوا ويعرفوا ويسمعوا الكلام الطيب ويستفيدون منه، ويسمعون الكلام الباطل وينكرونه ويعرضون عنه، ولكن ضرب الله تعالى لهم وصفا ذميما أن جعلهم كالأنعام، كما قال في خاتمة الآية : أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ (1) ولم يكتف بهذا الوصف؛ بل إن الأنعام خير منهم لأن البهائم، بهيمة لا تفهم ولا تعقل، أما هؤلاء فإنهم يفهمون ويعقلون ولم يستعملوها فيما ينفع ويفيد، أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) (2) فهذه غفلة مذمومة؛ لأن الغفلة قد تكون ممدوحة في حال من الأحوال، ولكن هذه مذمومة ؛ لأنها غفلة عن الحق، غفلة عن القرآن، غفلة عن الهدى، أما الغفلة الممدوحة فهي الغفلة عن الشر، كما قال الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ (3) ليسوا غافلات عن الحق، غافلات عن الشر فهذه غفلة ممدوحة، كما في الحديث : أكثر -ما يدخل- أهل الجنة البله الذين هم يغفلون عن الشر، أو يعلمونه ولا يقعون فيه، ثم جاء الحديث بعد ذلك من حديث أسماء، والشاهد في هذا الحديث هو قوله عليه الصلاة والسلام: فيقول: محمد رسول الله جاء بالبينات والهدى، والبينات هي الآيات الواضحات، كما قال الله تعالى : لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ (4) الآيات الدالة على وحدانية الله وألوهيته.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 179.
(2) - سورة الأعراف آية : 179.
(3) - سورة النور آية : 23.
(4) - سورة الحديد آية : 25.(1/108)
وهذا حديث طويل فيه، جاء ذكره في كتب السنن، وأخرجه في الأخير في حديث البراء في الصحيح أخرجه كذلك مسلم، أخرجه أحمد مطولا بإسناد صحيح، وأخرجه الدارمي في الرد على الجهمية، والطبري في التفسير وغيرهم، وهو في سياق فتنة القبر وما يلقاه الإنسان في قبره، ما يلقاه: إما نعيما أو عذابا.
والشاهد من سياق هذا الحديث أن المؤمن يجيب بأجوبة موافقة لما كان عليه في الدنيا، وأنه قد آمن بربه، وصدق بنبيه، وعمل بكتابه وبما جاء النبي عليه الصلاة والسلام من هذه البينات، حتى إنه يقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، الله تعالى يقول: فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا (1) فالمؤمن قد آمن بهذا الكتاب، واستفاد منه وعمل، واتبع وتدبر، وصدق ما جاء فيه ؛ فنال ثمرة ذلك العمل أن كان منعما في قبره ولم يجد فيه فتنة ولا عذابا ولا فزعا ولا خوفا.
وهذا الباب دل على أمور منها : التحذير من صفات المنافقين، ومنها كذلك سعة علم الله وأنه شامل محيط بكل شيء، ومنها التحذير من الغفلة، والإعراض عن القرآن، والله جل وعلا قد حذر عباده من الغفلة في آيات كثيرة في القرآن الكريم، كقوله تعالى : وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) (2) وقال عن نبيه عليه الصلاة والسلام مذكرا له: وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) (3)
ودل الباب أيضا على أن القرآن يحفظ الإنسان من فتنة القبر إذا هو عمل به، واتبعه وتدبره ؛ فإنه يحفظه من فتنة القبر، فخير القرآن عظيم، وممتد معه في الدنيا وفي حياة البرزخ، وفي الحياة الآخرة يوم القيامة.
__________
(1) - سورة التغابن آية : 8.
(2) - سورة الكهف آية : 28.
(3) - سورة الأعراف آية : 205.(1/109)
باب قول الله تعالى وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ الآية، وقوله مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا الآية
الباب الخامس : باب قول الله تعالى : وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ (1) الآية، وقوله : مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا (2) الآية .
عن أبي الدرداء قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا؟ فقال : ثكلتك أمك يا زياد ، إن كنت لأعدك من فقهاء المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم ؟ (3) رواه الترمذي وقال: حسن غريب، وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أنزل عليه: إِن فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ (4) إلى قوله: سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) (5) قال: ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها رواه ابن حبان في صحيحه.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 78.
(2) - سورة الجمعة آية : 5.
(3) - الترمذي : العلم (2653) , والدارمي : المقدمة (288).
(4) - سورة آل عمران آية : 190.
(5) - سورة آل عمران آية : 191.(1/110)
في هذه الآية في أول هذا الباب تحذير من صفات اليهود الذين لا يعملون بما أنزل الله عليهم، وقد قال الله تعالى : ومنهم ، أي : من اليهود، وأخبر سبحانه أن هؤلاء اليهود قد تخلقوا بأخلاق المنافقين، وسلكوا منهجهم فلا يعملون بما أنزل الله تعالى عليهم من التوراة، وقد قال الله تعالى في آية أخرى مبينا وجه الشبه بين المنافقين وبين اليهود : * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (1) فربط أو بين وجه الشبه بين المنافقين وبين أهل الكتاب في عدم الانتفاع بما أنزل الله تعالى عليهم، فهذه الطائفة من اليهود أخذت صفات المنافقين، وتشبهت بهم في الإعراض والصدود، كما سيأتي في بيان الأمانة .
والأميون هم الذين لا يكتبون ولا يقرءون، الأميون: جمع أمي، ونسبة الأمي قيل: إنه منسوب إلى الأمة، بمعنى عامة الناس فهو يرادف العامي، وقيل: منسوب إلى أمه التي ولدته، فهو بقي على تلك الحال التي كان عليها فلم يكتسب علما جديدا، الأول: هو الأمة منسوب إلى الأمة، والثاني: منسوب إلى الأم، والثاني هو الأولى، وهو الذي رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره وغيره.
__________
(1) - سورة الحشر آية : 11.(1/111)
وقوله تعالى: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ (1) أي أنهم لا يعلمون ما في هذا الكتاب الذي أنزله الله تعالى، ولا يدرون ما أودع الله تعالى فيه من الحكم والمواعظ والعبر والأحكام والفرائض، فهم أيضا كالبهائم لا يستفيدون مما بين أيديهم من هذه المنافع العظيمة، لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ (2) والأماني: جمع أمنية، مأخوذة من التمني، وهي في هذا الموضع تعني تخلق الكذب، أو اختلاق الكذب، تعني اختلاق الكذب، وتخرصه وافتعاله، ومنه يقال: تمنيت كذا إذا افتعلته وتخرصته، ومن ذلك الخبر المروي عن عثمان - رضي الله عنه - يقول: ما تغنيت ولا تمنيت ، ومعنى ما تغنيت ولا تمنيت: أي ما تخرصت بالباطل ولا اختلقت الكذب ولا الإفك ولا الافتراء، في هذا الموضع هو بمعنى الكذب والاختلاق، وإلا للأماني ، والأمنية لها إطلاقات ولها معان، لكنها جاءت في هذا السياق كما يقول ابن جرير الطبري: إنها بمعنى اختلاق الكذب، وهذا أحد التفسيرين في معنى الأماني، والتفسير الثاني : في قوله الْأَمَانِيُّ (3) بمعنى التلاوة والقراءة، فكأنهم يقرءون ويتلون لهذا الكتاب لكنهم لا يفقهون معناه، ولا يعملون به، وإنما يرددونه ويتلونه فقط دون عمل به، ورجح الطبري أن الأماني هي بمعنى الكذب وهو الأقرب حينئذ، أنهم كانوا يكذبون فيما يقولون، ويكذبون بأفواههم، وقد بين الله تعالى تحريفهم للتوراة والإنجيل، وأنهم حرفوها وزادوا ونقصوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ (4) والتحريف : هو باب من أبواب الكذب أيضا؛ فيناسب السياق أن يقول: إنهم اختلقوا الكذب لا يعلمون الكتاب إلا أماني إلا كذبا وافتراء واختلاقا، كما رجح ذلك ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 78.
(2) - سورة البقرة آية : 78.
(3) - سورة الحديد آية : 14.
(4) - سورة النساء آية : 46.(1/112)
والآية جاءت في ذم اليهود الذين أعطوا التوراة، وأنهم لم ينتفعوا بها، وجاءت الآية التي بعدها وهي قوله تعالى : مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا (1) ذم آخر للذين نزل عليهم الكتاب ولم يعملوا به؛ تحملوا هذا العلم ولكنهم لم يعملوا به، ضرب الله بهؤلاء مثلا بأسوأ مثال، وهو مثل الحمار البهيمة الذي لا يفهم شيئا يحمل الكتب النافعة والمفيدة ولا يستفيد منها شيئا ؛ فهو معذور ؛ لأنه بهيمة لا يفهم ولا يفقه، لكن هؤلاء يفهمون ويفقهون ؛ لأن الله تعالى قد جعل لهم جوارح يدركون بها، فتحملوا هذه التوراة، وأنزلت عليهم ولم يعملوا بها ولم يتفقهوا ما فيها ؛ فكانوا مثل الحمار أو أشد، والله جل وعلا قد ضرب في القرآن الكريم مثلين سوأين: المثل الأول في الكلب، والمثل الثاني في الحمار ؛ لأنهما في البلادة أشد من غيرهم من سائر الحيوانات، قال الله تعالى في سورة الأعراف: وَاتْلُ ِNخgِٹn=tو نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ (2) وهذا من بني إسرائيل؛ هذا الرجل الذي آتاه الله تعالى الآيات، ثم انسلخ منها وتركها وأعرض عنها وركب هواه وسلك مسلك الشيطان، فضرب الله تعالى به مثلا سيئا، كما قال تعالى في آخر الآية: سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ (3) هذا مثل سيئ كما في هذه الآية أيضا: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا (4)
__________
(1) - سورة الجمعة آية : 5.
(2) - سورة الأعراف آية : 175 - 176.
(3) - سورة الأعراف آية : 177.
(4) - سورة الجمعة آية : 5..(1/113)
فهناك ضرب مثلا بالكلب، وهنا ضرب مثلا بالحمار، وهما أشد بلادة من غيرهم من سائر الحيوانات.
نعم ، هذا قال مثل الذين كذبوا بآياتنا ، لكن ذكر الكلب كمثل، فمثله كمثل الكلب، وهنا قال مثل، مثل الذين ، وهذا ضرب للأمثال كما سيأتي في الآيات القادمة إن شاء الله.
فالشاهد من الآيتين: ذم اليهود، والتشنيع عليهم؛ حيث لم يستفيدوا مما أنزل الله عليهم، ثم جاء الحديث بعد ذلك، والشاهد في الحديث أيضا، نكتفي بالشاهد؛ لأنه هو الذي يتعلق بالباب ، عندما قال زياد بن لبيد قال : كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ والحديث فيه دلالة على أن من حفظ القرآن وتلقاه عليه أن يعمل بما فيه ؛ فإن القرآن لم ينزل للتلاوة فحسب، وإن كان هذا من مقتضيات الإنزال، لكن المقصود الأعظم هو العمل بهذا القرآن، فليست القراءة هي المقصودة فحسب، بل لا بد من العمل بما في هذا القرآن الكريم، وقد استنكر عليه هذا الأمر حينما قال له : هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فهم لم يعملوا بها، فخشي أن يكون هناك شبه بينهم وبين المسلمين الذين أكرمهم الله تعالى بهذا القرآن، الذي حوى جميع ما في الكتب السابقة، بل وزاد عليها من العلوم والهدايات، فكيف لا يستفاد منه، والله تعالى يقول : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ (1) أي : حافظا وشاهدا على ما تقدم من الكتب، فليس المقصود هو القراءة أو تحفيظ الأبناء أو تحفيظ النساء وجعلهم يرددون هذه الآيات، فعليهم أن يعملوا بهذا القرآن؛ لأن الله تعالى قد بين للعباد ما يحتاجون إليه في دنياهم وفي أخراهم في هذا القرآن الكريم، قال تعالى : مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (2) وقال: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ (3)
__________
(1) - سورة المائدة آية : 48.
(2) - سورة الأنعام آية : 38.
(3) - سورة النحل آية : 89..(1/114)
وقال تعالى : إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (1) ؛ ففيه الهداية والدلالة والحفظ والصيانة والتأييد لمن عمل بهذا القرآن.
والشاهد في الحديث المقصود العمل بالقرآن الكريم وليست التلاوة، فمن يداوم على التلاوة، ويمن الله تعالى عليه بقراءة القرآن فليعمل به، كما تقدم تفصيل ذلك في الأبواب السابقة.
وفي الحديث الآخر تذكر عائشة أن قوله تعالى : إِن فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) الآية، لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها وذكر المؤلف رحمه الله، أو خرجه عند ابن حبان في صحيحه، ويلزم الرجوع إلى تفسير ابن كثير ؛ فقد استوفى بعض طرق هذا الحديث، واستوفى بعض تخريجه أيضا الذي حقق كتاب صحيح ابن حبان ؛ يرجع إليه فإن فيه تخريج موسع، والمقام لا يقتضي الإطالة، ورواه أيضا أبو الشيخ في أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه درجة الحديث في درجة الحسن، وهذه الآية آية عظيمة وما بعدها من الآيات إلى آخر السورة .
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 9.
(2) - سورة آل عمران آية : 190.(1/115)
قد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا استيقظ من نومه مسح بيديه وجهه بعد الاستيقاظ من النوم، وقرأ هذه الآية؛ العشر آيات من آخر سورة آل عمران: إِن فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (1) إلى آخر الآيات أو آخر السورة، والحديث في الصحيحين من حديث ابن عباس حينما زار خالته ميمونة، ونام تلك الليلة روى هذا الحديث، وهذا يدل على فضل هذه السور، وهذه الآيات العظيمة، والمؤلف اكتفى بوجه الشاهد منها وإن كان قال في آخرها إلى آخر الآيات إلى قوله تعالى : سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) (2) أخذ وجه الشاهد من هذه الآيات وهي الآية الأولى، وأن أهل القرآن الذين يقرءون هم يعملون به، ومن العمل بالقرآن هو التفكر في هذا القرآن الكريم.
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 190.
(2) - سورة آل عمران آية : 191.(1/116)
فالإنسان لا يخلو من ثلاث هيئات في حياته، قالوا: لا يخلو إما أن يكون قائما، أو قاعدا، أو مضطجعا على جنبه، والآية جاءت بهذه الأوصاف، أو هذه الهيئات الثلاث: يذكرون الله قياما، وقعودا، وعلى جنوبهم، ويتفكرون أيضا وصفهم بأنهم أهل تفكر واتعاظ واعتبار، ووصفهم في موضع آخر بأنهم أهل التقوى، قال تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) (1) وصفهم بالتقوى، ووصفهم أيضا بالعقل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ (2) إلى أن قال الله تعالى : لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) (3) فجمعوا بين العقل الراشد، وبين التفكر الصحيح، وبين التقوى التي هي غاية كل مؤمن في هذه الحياة ؛ لأن التفكر فيما خلق الله تعالى يدل الإنسان إلى عظمة ربه، وتقديسه، والإيمان به وتقواه؛ ولهذا قال الله تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) (4)
__________
(1) - سورة يونس آية : 6.
(2) - سورة البقرة آية : 164.
(3) - سورة البقرة آية : 164.
(4) - سورة الذاريات آية : 21..(1/117)
وأعظم شيء يتفكر فيه الإنسان أيضا في نفسه وفي خلقه الذي خلقه الله، ويتفكر في خلق السماوات حيث رفعها الله، وعلى سعتها، ويتفكر في هذه الأرض التي جعلها الله تعالى مستقرا لعباده لا تميد بهم ولا تزيغ ولا يكون فيها زلازل تميد بهم عن الأرض إلا ما يقدره الله تعالى فيها، هذه الأمور كلها تدعو الإنسان إلى أن يتفكر وأن يتأمل، كذلك في اختلاف الليل والنهار، وتقلبات الأحوال هذه تدعو إلى التفكر، فأولئك القوم لم يتفكروا: لا اليهود، ولا النصارى، ولا المنافقين، ولا غيرهم ممن كان على شاكلتهم لا يتفكرون، وإنما الذي يتفكر هو من آتاه الله إيمانا صحيحا وعقلا راشدا وفكرا سليما وتحقق له بذلك التفكر، والتأمل في هذه الآيات الكونية التي تدعو إلى عبادة الله جل وعلا؛ لأن هذا التفكر يفضي بالإنسان إلى أن يقدس ربه ويعظمه، ماذا قال أهل الإيمان وأهل التفكر قالوا: سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) (1) قدسوا ربهم ونزهوه عما لا يليق به، ودعوه أيضا بأدعية عظيمة ذكرها الله تعالى بعد هذه الآية، وكان من نتيجة هذا التفكر أن الله جل وعلا أكرمهم بالاستجابة، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ (2) إلى آخر الآية، هذه ثمرات التفكر.
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 191.
(2) - سورة آل عمران آية : 195.(1/118)
وكما قيل، ربما إنسان يقول: كيف أتفكر أنا أشاهد السماوات وأشاهد الأرض؟ وقد سئل الأوزاعي عن ذلك وقيل له: ما غاية التفكر فيهن ؛ في السماوات وفي الأرض؟ قال: يقرؤهن وهو يعقلهن؛ يعقل هذه الآيات ويتأملها، ويتفكر في هذه السماوات التي رفعها الله بلا عمد، وفي هذه الأرض التي لا تميد، وفي هذا الليل الذي ينسلخ، ثم يأتي النهار؛ رحمة بالعباد وإحسانا بهم، كل هذه تجعل الإنسان حينما يتفكر يعقل هذه الآيات، وفي بعض الآثار وبعض الأحاديث: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليل، ورفع رأسه في السماء، وشاهدها، ودعا بأدعية مشهورة وهي الحفظ قال: اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي (1) إلى آخر الحديث ، دعا بحفظه؛ دعا بالحفظ بعد أن تأمل في هذه السماوات، وفي هذا الخلق الذي خلقه الله تعالى، وقد قال الله تعالى آمرا عباده أن يتأملوا ويتفكروا في خلق الله: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ (3) فهذا الأمر بعض العلماء رأى أن النظر إلى السماء، وإلى نعم الله واجب لهذا الأمر، بعضهم بالغ وقال: إنه يجب على الإنسان أن ينظر، ويتأمل ويتفكر: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) (4)
__________
(1) - أبو داود : الأدب (5074) , وابن ماجه : الدعاء (3871) , وأحمد (2/25).
(2) - سورة يونس آية : 101.
(3) - سورة ق آية : 6 - 7.
(4) - سورة يونس آية : 101.(1/119)
فهؤلاء اليهود والنصارى والمنافقون ومن أعرض عن ذكر الله يمر على هذه الآيات ولا تؤثر في نفسه كما قال تعالى : وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) (1) وقال تعالى : وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) (2) فأهل القرآن وأهل الإسلام خاصة يتأملون ويتفكرون ؛ فإن الله تعالى قد أمرهم ودعاهم وحثهم، وخلق لهم ما يعينهم على ذلك، يقول أبو سليمان الداراني - وهذا ذكره ابن كثير في آثار كثيرة يعني ارجعوا لها- قال: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت علي فيه نعمة ولي فيه عبرة، يتأمل ويعتبر في هذه النعم التي بين يديه ؛ فإن التأمل والتفكر في مثل هذه النعم والمخلوقات يزيد في الإيمان، ويثبت اليقين، ويقوي الصلة بالله جل وعلا ؛ فيرغب الإنسان في فضل ربه، وينقاد لأوامره، ويحافظ على حدوده، ويستفيد خيرات كثيرة من أعظمها أن الله تعالى يستجيب أمره إذا دعاه ؛ فاستجاب لهم لأنهم استجابوا لأمر الله كما قال تعالى : وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي (3) أي ليمتثلوا أمري، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) (4) وقال تعالى في آية أخرى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ (5) فها هو ربنا يدعو عباده إلى التفكر فيما خلق؛ حتى يثيبهم فهو صاحب الفضل أولا وآخرا .
باب إثم من فجر بالقرآن
__________
(1) - سورة يوسف آية : 105.
(2) - سورة يوسف آية : 106.
(3) - سورة البقرة آية : 186.
(4) - سورة البقرة آية : 186.
(5) - سورة الأنفال آية : 24.(1/120)
الباب السادس: باب إثم من فجر بالقرآن وقوله تعالى : وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) (1) وقوله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) (2) وقوله : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا (3) الآية .
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يخرج في هذه الأمة - ولم يقل منها - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم وحلوقهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فينظر إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في فوقه هل علق به من الدم شيء؟ (4) أخرجاه، وفي رواية : يقرءون القرآن رطبا وكان ابن عمر يراهم شرار الخلق، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين .
وللترمذي وحسنه عن أبي هريرة مرفوعا : من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار (5)
__________
(1) - سورة البقرة آية : 26.
(2) - سورة المائدة آية : 44.
(3) - سورة البقرة آية : 174.
(4) - البخاري : استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6931) , ومسلم : الزكاة (1064) , والنسائي : الزكاة (2578) , وأبو داود : السنة (4764) , وأحمد (3/60).
(5) - الترمذي : العلم (2649) , وأبو داود : العلم (3658) , وابن ماجه : المقدمة (261) , وأحمد (2/344).(1/121)
في هذا الباب بيان لإثم من أعرض عن القرآن وتركه وراء ظهره ولم يعمل به بعد أن بلغه، وذكر الآية التي في صفة من خرج عن الطاعة، وفارق الحق وقع في الضلال ؛ لأن الله تعالى قد ذكر قبل هذه الآية أهل الإيمان، وما هم عليه من الاستجابة والإذعان: * إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ (1) أي يعلمون أن هذا القرآن هو الحق الذي أنزله الله تعالى، ضرب الله مثلا لعباده بهذه الآية، وإذا ضرب الله مثلا كان صغيرا أو كبيرا ؛ فإن أهل الإيمان يؤمنون بهذا، ويزدادون إيمانا، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا، ويعلمون أنها الحق من الله تعالى، وأما الذين في قلوبهم مرض فيشككون، ويقع في قلوبهم الريب فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ قال الله تعالى : يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا (2) وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) (3) وهذا وجه الشاهد من الآية: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) (4) الذين خرجوا عن الطاعة، ووقعوا في الضلال ولم يستفيدوا من هذه الأمثال التي يضربها الله تعالى لعباده، وهي كثيرة ومتعددة، ولا يفهم هذه الأمثال ولا يدركها ولا يعقلها إلا أهل العلم الصحيح، كما قال تعالى : وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) (5)
__________
(1) - سورة البقرة آية : 26.
(2) - سورة البقرة آية : 26.
(3) - سورة البقرة آية : 26.
(4) - سورة البقرة آية : 26.
(5) - سورة العنكبوت آية : 43..(1/122)
والله جل وعلا يكثر من ضرب الأمثال في القرآن ؛ ليقيم الحجج على عباده، ويوضح لهم طريق الحق وسبيل الهدى ؛ ترغيبا وترهيبا ليسلكوا طريق الحق ويعرضوا عن طريق الضلال، وفي جانب التوحيد أيضا يبين الله تعالى أمثالا كثيرة ؛ ليقيم بها الحجة على العباد : مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا (1) ضرب بهم مثل بأوهى شيء وأقل شيء وأضعف شيء، الذي هو بيت العنكبوت، ففي هذه الآية بين المصنف أن الذي لا يتبع القرآن ولا يعمل به فقد وقع في الضلالة، ودخل في الفسق، وهذا هو الإثم والعقوبة على ذلك، وبين في الآية الأخرى أن الذي لا يحكم بما أنزل الله، وقد علمه، وفضل غيره على حكم الله قد وصفه الله تعالى بالكفر.
__________
(1) - سورة العنكبوت آية : 41.(1/123)
وفي هذه الآية وفي نظائرها التي هي وصف بالفسق وبالظلم وبالكفر كلام لأهل العلم ليس هذا موضعه، وإنما الذي جحد القرآن ولم يعمل به ولم يتحاكم إليه فإن الله تعالى قد وصفه بالكفر، كما في هذه الآية، ثم قال الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا (1) وهذه الآية أيضا في شأن المنافقين، وفي شأن أهل الكتاب؛ لأنه كما تقدم بينهم وجه شبه: بين أهل النفاق، وبين أهل الكتاب الذين لم يعملوا بما في الكتاب، فتكون هذه الآية في اليهود : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا (2) ؛ فهم كتموا الحق الذي جاءهم من عند الله، وأعظم شيء كتموه وهو في كتابهم : إخبار الله تعالى لهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قد قال الله تعالى : وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (3) فهم عرفوا ذلك وكتموا الحق، كما قال الله تعالى : الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) (4)
__________
(1) - سورة البقرة آية : 174.
(2) - سورة البقرة آية : 174.
(3) - سورة الصف آية : 6.
(4) - سورة البقرة آية : 146..(1/124)
فكانوا يكتمون الحق ولا يوضحونه، وهو قد جاء في كتبهم، وبينه الله تعالى لهم، ووضحه لهم فكتموا هذا الحق الذي جاءهم من عند الله، وهذا من الحسد الذي في قلوبهم على أهل الإسلام، كما أخبر الله تعالى بذلك في آية أخرى، قال: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ (1) فهم حسدوا أمة الإسلام، وكانوا يتمنون ويتوقعون أن الرئاسة، أو أن القيادة ستكون عندهم، ولكن الله تعالى حكيم في خلقه ؛ فكتموا ما وصلهم من الحق، وكان هذا من الذم الذي ذمهم الله تعالى به في هذه الآية، ثم عطف على ذلك بمعنى آخر، وقال: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا (2) يشترون بما يقولونه للناس من الحق، يعني حينما يقولون للناس يفتونهم، أو يبينون لهم شيئا من الأحكام فإنهم يأخذون عليها الأجور، يأخذون المال من الناس جزاء على ما قدموه لهم من بيان ما في كتبهم؛ تمشيا مع أهوائهم، وانتصارا لمذهبهم وطريقتهم، ولهذا وصف الله تعالى الثمن بأنه قليل في كل الآيات، فقوله تعالى: ثَمَنًا قَلِيلًا (3) نقول: هذا وصف ملازم للثمن المأخوذ عوضا عن استبدال الآيات، أو استبدال العلم الذي يقدمونه، وكل ثمن في جنب ذلك فهو قليل، ونقرأ في القرآن الكريم آيات تشهد لهذا المعنى في قوله تعالى: وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا (4) هذا أيضا لبني إسرائيل، ثم يقول تعالى : ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا (5) تكرر هذا اللفظ أيضا، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا (6)
__________
(1) - سورة البقرة آية : 109.
(2) - سورة البقرة آية : 174.
(3) - سورة البقرة آية : 174.
(4) - سورة البقرة آية : 41.
(5) - سورة البقرة آية : 79.
(6) - سورة آل عمران آية : 77..(1/125)
فذكر ذلك يعني: ثَمَنًا قَلِيلًا (1) ؛ تحقيرا لكل ثمن عن ذلك، فسماه الله تعالى قليلا أنه لا يساوي شيئا ولا يصح أن يفعل هذا مع أوامر الله التي أمر بها العباد وشرعها لهم، ولكن هؤلاء اليهود كتموا العلم، من صفاتهم أنهم كتموا الحق، وأنهم استهزءوا بآيات الله أيضا، وصرفوها في مطامع دنياهم.
وهذا الخطاب أيضا وإن كان لبني إسرائيل غير أن خطابات القرآن الكريم التي يذكرها الله تعالى فيه، وما يذكر الله تعالى فيه من القصص ومن المواعظ ومن العبر المتعلقة بالأمم الأخرى ؛ يقصد من ذلك الاعتبار، والاتعاظ، وأخذ الحذر مما وقع فيه غير الناس، مما وقع فيه غيرهم، كما قال تعالى : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى (2) ولهذا لما يأتي ربنا جل وعلا في سورة الشعراء، ويذكر قصص الأنبياء، ومواقف أقوامهم معهم تتكرر فيها في السورة هذه : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً (3) - من يذكر الآية؟ - وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ (4) يذكر الله تعالى يذكرهم بهذه الآيات، وهذه القصص حتى يعتبروا ويتعظوا ؛ لأنه في آخر السورة امتن الله تعالى بإنزال القرآن، قال : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) (5) بعد أن ذكر القصص امتن الله على هذه الأمة بإنزال القرآن .
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 77.
(2) - سورة يوسف آية : 111.
(3) - سورة الشعراء آية : 8.
(4) - سورة الشعراء آية : 8.
(5) - سورة الشعراء آية : 192 - 195.(1/126)
والعلماء حينما يتكلمون في مثل هذه المسألة يطرقون مسألة في كتب التفسير، وهي مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن، أو تعليم العلم الشرعي، أو على الأذان، أو على الإمامة، أو على الرقية، أو على غير ذلك من الأمور الشرعية، يذكرون هذه المسألة أيضا حتى يبينوا فيها الحق، وحاصل القول ، نذكر خلاصة القول وإلا ليس هذا الموضع موضع التفصيل: أن جمهور أهل العلم أجازوا ذلك، أجازوا أخذ الأجرة على مثل ذلك، منهم: الحسن، وعطاء، والشعبي، ومالك، والشافعي، وأحمد كل هؤلاء أجازوا؛ استنادا لقول النبي عليه الصلاة والسلام : إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله تعالى (1)
__________
(1) - البخاري : الطب (5737).(1/127)
ثم جاء الحديث في هذا الباب، وهذا الحديث التحذير من الخوارج وما هم عليه، فيه التحذير من الخوارج وما هم عليه من الضلال . جاء في أول الحديث قول أبي سعيد الخدري : يخرج في هذه الأمة (1) - وهو في الصحيحين - ولم يقل منها ، الأحاديث التي عن الخوارج وأوصافهم جاءت مفصلة في الصحيحين، في كتاب مسلم، في باب الزكاة . وفي صحيح البخاري مفصلة ومفرقة، جاءت أوصافهم موضحة ومبينة، وموقف المسلم منهم، وجزاؤهم في هذه الدنيا ؛ الرجوع بالتفصيل إلى قراءة تلك الأحاديث وبيان شروحاتها، لكن قال أبو سعيد الخدري: يخرج في هذه الأمة ولم يقل منها (2) وهذه العبارة لها معنى هذه من أدل الدلائل على سعة علم الصحابة، ودقيق نظرهم وتحريهم في معرفة الألفاظ، وبيان معناها ومدلولاتها على وجه الحقيقة ؛ لأنه قال: يخرج في هذه الأمة (3) في غير من، فقوله: في هذه الأمة (4)
__________
(1) - البخاري : استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6931) , ومسلم : الزكاة (1064) , والنسائي : الزكاة (2578) , وأبو داود : السنة (4764) , وأحمد (3/60).
(2) - البخاري : استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6931) , ومسلم : الزكاة (1064) , والنسائي : الزكاة (2578) , وأبو داود : السنة (4764) , وأحمد (3/60).
(3) - البخاري : استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6931) , ومسلم : الزكاة (1064) , والنسائي : الزكاة (2578) , وأبو داود : السنة (4764) , وأحمد (3/60).
(4) - البخاري : استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6931) , ومسلم : الزكاة (1064)..(1/128)
من قال في هذه الأمة، أنه لم يحكم بكفر الخوارج، ومن قال أنهم منها ولم يقل منها؟ يعني من العلماء من قال بكفر الخوارج، ومنهم من لم يقل بكفر الخوارج، كما ذهب أبو سعيد وغيره ، يخرج في هذه الأمة (1) أي منها، يعني لهم حكم الإسلام؛ لأنهم لم يخرجوا من دائرة الإسلام على قوله: في هذه الأمة ولم يقل منها (2) يخرج في هذه الأمة أي يخرج فيها أناس كفار، يقولون بأقوال تخالف الإسلام ؛ فهذا قد حكم بكفرهم حينئذ بهذا اللفظ في قوله يخرج في هذه الأمة، وإذا قلنا: ولم يقل منها، أي أنهم على الإسلام ولو أتوا ما أتوا من الكبائر ومن العظائم.
فأهل العلم ذهبوا إلى تكفير الخوارج، ومنهم من ذهب إلى عدم تكفيرهم، وقول جماهير أهل العلم: إنهم ليسوا بكفار، وإنهم من هذه الأمة ؛ ففرق بين قوله: " في هذه الأمة" ، و " من هذه الأمة " .
__________
(1) - البخاري : استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6931) , ومسلم : الزكاة (1064) , والنسائي : الزكاة (2578) , وأبو داود : السنة (4764) , وأحمد (3/60).
(2) - البخاري : استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6931) , ومسلم : الزكاة (1064).(1/129)
وذكر المصنف في هذا الحديث بعضا من أوصافهم التي لا تخفى، وخاصة في هذا الزمن الذي انكشف عوارهم، وظهر خطرهم، وبين العلماء ضلالاتهم ؛ فإن الخوارج هم طائفة من أهل البدع وأهل الأهواء، الذين يخرجون في الإسلام، وليسوا وليد هذه الساعة ولا هذا الزمن ؛ بل من صدر الإسلام وإلى الآن، فيخرجون في أمة الإسلام ويدعونهم إلى الضلالات، ويحكمون عليهم بأحكام بغير ما أنزل الله تعالى، وقال ابن عمر، ولعل هذا هو الشاهد: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المسلمين ؛ أخذوا الآيات التي هي حكم على الكفار فنزلوا أحكامها على المسلمين، كما قال الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) (1) وكقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (2) وكقوله تعالى : وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) (3) وكقوله تعالى : وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) (4)
__________
(1) - سورة محمد آية : 34.
(2) - سورة النساء آية : 48.
(3) - سورة النساء آية : 141.
(4) - سورة البقرة آية : 254..(1/130)
أخذوا هذه الأحكام فنزلوها على أهل الإسلام ؛ لمجرد الذنوب والخطايا التي يرتكبها المسلمون، فكأنهم يكفرون المسلمين بالمعاصي والذنوب والكبائر، ويعمدون إلى أهل الإسلام وهم أهل التوحيد ؛ منهم من يصلي ويزكي ويصوم ويتدين ويتعبد الله ويتلو القرآن فيحكمون عليه كما حكموا على الكفار، فيستبيحون دمه وماله وعرضه، وقد ابتلي المسلمون بهم في هذا الزمن فضلوا وأضلوا، وخرجوا بين المسلمين، ودعوا الناس إلى الضلالات، وهم على جهل عظيم، وسوء فهم لأدلة نصوص الشرع، وما أوتي من أوتي منهم إلا بسوء فهمه لنصوص الشرع ؛ ولهذا جاء التحذير منهم، وأنهم واقعون في الإثم، وليست هناك طائفة من طوائف المسلمين حذر منها النبي عليه الصلاة والسلام كما حذر من هذه الطائفة، وأكثر وأبدى وأعاد في ذلك، كما في الأحاديث الواردة في الصحيحين، وهذا من الإثم الذي يقع فيه صاحبه، كما صدر المؤلف، قال: باب إثم من فجر في القرآن الكريم، وما ذلك إلا لأنهم اتبعوا أهواءهم، وأرادوا أن ينزلوا الآيات وفهم الآيات على ما يهوونه في أنفسهم وما يسيرون عليه، وهذا خلاف للشرع ؛ لأن الحكم الشرعي هو الذي يطوع الهوى إلى الشرع، وليس الهوى هو الذي يطوع الأحكام الشرعية.
وقد ذكر الله تعالى أنبياءه بهذا الأمر الخطير: وهو اتباع الهوى والأهواء، قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) (1)
__________
(1) - سورة الجاثية آية : 18.(1/131)
فالخوارج لا يعلمون الأدلة والأحاديث علما صحيحا، وهذا نهي من الله تعالى لنبيه، وهو ليس كذلك وإنما هو من باب التذكير، وكما قال الله تعالى عن داود عليه السلام : يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (1) انظر كيف وصف الهوى بأنه ضلال، ووصفه أيضا بأنه ظلم، قال الله تعالى : وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ (2) فأمر الله تعالى باتباع الشريعة وليس باتباع الأهواء التي هي طريق الضلال وطريق الظلم : إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) (3) وذكَّر الله تعالى المسلمين بأن أهل الكتاب كانوا على أهواء يسيرون في أهوائهم، ينتقلون من هوى إلى هوى أشد منه، إلى هوى آخر أشد منه إلى الوقوع في الضلالة، نسأل الله السلامة، قال الله تعالى في سورة المائدة : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ (4) إلى أن قال الله : وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) (5) بهذه الأهواء التي اتبعوها، وسلكوا طريقها، وقال الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ (6)
__________
(1) - سورة ص آية : 26.
(2) - سورة القصص آية : 50.
(3) - سورة النجم آية : 28.
(4) - سورة المائدة آية : 77.
(5) - سورة المائدة آية : 77.
(6) - سورة الأنعام آية : 159..(1/132)
فرقوا دينهم بهذه الأهواء والضلالات، وقد ذم الله تعالى أهل الأهواء، ومن يتبع الهوى في القرآن الكريم بأوصاف كثيرة، منها قوله تعالى : أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) (1) وقال تعالى : وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِن اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) (2) وصف هذا بأنه ظلم.
فالواجب على المسلم أن يحذر من هذه الأفعال الذميمة، التي حذر الله تعالى منها عباده، وذكر المصنف هذه الصفات الذميمة لهذه الطائفة من الناس التي ضلت عن طريق الحق، وزاغت عن سواء السبيل، ووقعت بسوء فهمها في سوء أعمالها، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، وزين لهم سوء أعمالهم وظنوا أنهم على الحق ؛ حتى إن الذي لا يتبعهم يجرمونه، وربما أدخلوه مع طائفة الكفار وحاربوه وقاطعوه .
__________
(1) - سورة الجاثية آية : 23.
(2) - سورة القصص آية : 50.(1/133)
والواجب على المسلمين جميعا الانصياع إلى الحق والهدى الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ (1) والله تعالى قد قال في آية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (2) ثم قال بعدها وهو التحذير: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (3) أي إن لم تستجيبوا لله وللرسول فإنكم معرضون للوقوع في الفتنة، والخوارج وقعوا في الفتنة ؛ لأنهم لم يستجيبوا لأمر الله، ولا أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الآية الأخرى يقول تعالى : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) (4) ورتب الله تعالى في هذه الآية عقوبات عظيمة ومغلظة على من يعرض عن الاستجابة لله ولرسوله .
ثم ختم الباب أيضا بالعقوبة لمن يكتم علما تعلمه، فالذي يتعلم علما يجب عليه أن يبلغه لغيره على قدر استطاعته، ويشهد لهذا قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ (5) نهى عن كتمه فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا (6) وقد قال عليه الصلاة والسلام : بلغوا عني ولو آية (7) فدلالة الناس على الخير وتعليمهم العلم هو من القربات إلى الله تعالى.
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 32.
(2) - سورة الأنفال آية : 24.
(3) - سورة الأنفال آية : 25.
(4) - سورة النور آية : 63.
(5) - سورة آل عمران آية : 187.
(6) - سورة آل عمران آية : 187.
(7) - البخاري : أحاديث الأنبياء (3461) , والترمذي : العلم (2669) , وأحمد (2/159) , والدارمي : المقدمة (542).(1/134)
أما الذي يتعلم العلم، ويعرف الحق، ويعرف الحكم، ولا يعلم الناس ولا يدلهم عليه فهو معرض للعقوبة، كما في الآية السابقة، وفي هذا الحديث يوم القيامة، وهذا أيضا من الوعيد الشديد، وأعظم العلم هو علم القرآن، فالمسلم الذي تعلم القرآن عليه أن يسعى في نشره وبثه بين الناس وتعليمهم لأحكامه وهداياته.
باب إثم من راءى بالقرآن
الباب السابع: باب إثم من راءى بالقرآن :
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه لك، قال: كذبت ، ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار (1) رواه مسلم .
في هذا الحديث أيضا بيان إثم من راء بأعماله الصالحة، وجاء فيه ذكره ثلاث نعم:
النعمة الأولى: نعمة الاستشهاد في سبيل الله.
والنعمة الثانية: هي نعمة إتيانه القرآن الكريم.
والنعمة الثالثة هي : ما وسع الله تعالى على هذا الإنسان من المال الوفير.
__________
(1) - مسلم : الإمارة (1905) , والنسائي : الجهاد (3137) , وأحمد (2/321).(1/135)
والشاهد في الحديث الثاني وهو: ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به (1) إلى آخر الحديث، فدل الحديث على النهي الشديد في التحذير من المراءاة بكلام الله جل وعلا، وأن الإنسان لا يقرؤه إلا ابتغاء وجه الله وامتثالا لأمر الله وطلبا لما عند الله من الثواب العظيم، وليجاهد الإنسان نفسه في ذلك ؛ فإن النية تقلب على الإنسان، كما يقول سفيان: أشد ما واجهت علي نيتي ؛ لأنها تتقلب علي، فيجاهد الإنسان نفسه دائما في النية، ويجعلها خالصة لله تعالى في مقام العبادة لله، ومن أعظمها قراءة القرآن الكريم ؛ لأن الرياء بالأعمال الصالحة هو طلب المنزلة والرفعة والجاه في قلوب الناس بهذه العبادات وأعمال البر ؛ حتى يقال ويشار إليه بالبنان، وحتى يسمع الناس ما يفعله من هذه العبادة، وقد ورد في الحديث : من سمَّع سمع الله به (2) وهذا الحديث فيه بيان عظيم لعقوبة مغلظة على من يعمل الأعمال الصالحة، كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) (3) ترائي الناس بهذه الأعمال.
وفي هذا أيضا ذم لأهل النفاق وتحذير من صفاتهم ؛ فإن أعمالهم كلها قائمة على المراءاة، سواء كانت أعمالا ظاهرة كالصلاة، كما أخبر الله تعالى في قوله: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى (4) وأعمال باطنة، كما قال الله تعالى: يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) (5)
فالحذر الحذر من صفة أهل النفاق، ومن الرياء بهذه العبادات، وعلى وجه الخصوص القرآن الكريم .
__________
(1) - مسلم : الإمارة (1905) , والنسائي : الجهاد (3137) , وأحمد (2/321).
(2) - البخاري : الرقاق (6499) , ومسلم : الزهد والرقائق (2987) , وابن ماجه : الزهد (4207) , وأحمد (4/313).
(3) - سورة الغاشية آية : 2 - 4.
(4) - سورة النساء آية : 142.
(5) - سورة النساء آية : 142.(1/136)
هذا سائل يقول أحسن الله إليك: ما المراد من قول المؤلف: فجر بالقرآن ؟
كما ساق الآية فيها أنه يدل على خروجه، خرج عن الطاعة: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) (1) الذين خرجوا عن الهدى، والحق الذي جاءهم من عند الله تعالى، وهو إثم عظيم .
هذا سائل يقول : هل يجوز قراءة سورة يس على المحتضر، علما بأن الحديث صححه ابن حبان، وضعفه الألباني ؟
ورد في هذا الأثر الذي أشار إليه، استحب بعض العلماء عند الاحتضار، لكن لا يكون بعد خروج الروح عند الاحتضار ، نعم .
أحسن الله إليك، يقول أحدهم: ورد عن أحد السلف أنه قال: من حفظ القرآن في صدره فإنه بعيد أن يزيغ أو يضل ؟
إذا عمل بالقرآن الكريم، الله تعالى أوضح في هذه الآية: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) (2) هذه الآية واضحة وبينة أن من أنعم الله تعالى عليه بالقرآن الكريم فحفظه، وعمل بما فيه، واتبع أوامره فإن الله تعالى يسعده في هذه الدنيا ويكرمه في الآخرة بالرضوان ودخول الجنة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
باب إثم من تأكَّل بالقرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولجميع المسلمين يا رب العالمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى في الباب الثامن : باب إثم من تأكَّل بالقرآن :
وعن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : اقرءوا القرآن وابتغوا به وجه الله - عز وجل - قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه (3) رواه أبو داود.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 26.
(2) - سورة طه آية : 123.
(3) - أبو داود : الصلاة (830) , وأحمد (3/397).(1/137)
وله معناه من حديث سهل بن سعد، وعن عمران أنه مر برجل يقرأ على قوم فلما فرغ سأله، فقال عمران: إنا لله وإنا إليه راجعون، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من قرأ القرآن فليسأل الله تبارك وتعالى به؛ فإنه سيجيء قوم يقرءون القرآن يسألون به الناس (1) رواه أحمد والترمذي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم زدنا علما وهدى وتقى وبعد:
__________
(1) - الترمذي : فضائل القرآن (2917) , وأحمد (4/432).(1/138)
هذا الباب اشتمل على بعض الأحاديث الدالة على إثم من ضيع القرآن وجعله مجال اكتساب لمصالح الدنيا، فالحديث الأول رواه أبو داود، وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين يأتون ويقرءون القرآن ويقيمون حروفه ويحسنون نطقه، ولكنهم يطلبون به عرضا من الدنيا، ولا يأتي في بالهم الفضل العظيم الذي أعده الله تعالى لقارئ القرآن الكريم، كما تقدم من الآيات والأحاديث السابقة، فوصفهم بأنهم يقيمونه إقامة القدح وهو السهم، إقامته لا اعوجاج فيها ، فلا تجد في قراءتهم خطأ ولا عيب، وإنما هي سليمة من حيث النطق والأداء، وجعلوه مجال اكتساب لمصالح دنياهم، فقوله : يقيمونه، أي يصلحون ألفاظه وكلماته، ويتكلفون أيضا في مخارجه وصفاته، والتكلف في مثل هذا الأمر مذموم، وقد قال الله تعالى عن نبيه عليه الصلاة والسلام : وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) (1) فالقرآن عبادة، والعبادة تؤدى بتوسط واعتدال لا غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، وقد ذكرت لكم أن الداني أبا عمرو الداني ذكر في كتابه التحديد هذه العيوب التي جاء بها أناس في زمانه، وهو من علماء القرن الخامس الهجري أنهم يتقعرون ويتشدقون ويتنطعون في تلاوة القرآن الكريم، ويخرجون الحروف عن مفهومها في أصل اللغة ؛ فهؤلاء جاء الذم لهم، وإن كانوا يقرءون القرآن قراءة صحيحة لا لحن فيها ولا خطأ، ولكن مراداتهم ونياتهم اتجهت إلى مطامع الدنيا، وقد قال الله تعالى في ذم ذلك : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) (2)
__________
(1) - سورة ص آية : 86.
(2) - سورة هود آية : 15 - 16..(1/139)
فمن أراد بالأعمال الصالحة، والعبادات أعمال الدنيا فعمله باطل، قال تعالى : وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (1) وقال تعالى : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ (2) الآية، وقال تعالى : كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) (3) وقال تعالى : إِن هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) (4)
فهذا الذي قرأ القرآن وأقام حروفه، وأحسن في أدائه لم يرد به وجه الله تعالى، ولم يرد به الثواب الآجل الذي ينتظره عند الله، وإنما أراد الثواب الدنيوي العاجل المتمثل في عرض من الدنيا، فقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث والذي بعده الذين يبالغون في عمل قراءة القرآن كمال المبالغة : إما أنهم لأجل أن يريدوا الرياء والسمعة والشهرة والثناء بين الناس حتى يوصف هذا الإنسان بأنه قارئ، قد سبق الوعيد الشديد في الحديث المتقدم ، أول من يقضى عليه في ذلك اليوم قارئ يقرأ القرآن لا لأجل الله وإنما لأجل طلب الدنيا.
وإما أن يقرءوا هذا القرآن لأجل الحصول على المال، ويتكسبون به الأموال، كما يوجد في بعض الدول أناس يجلسون في الطرقات يقرءون القرآن حتى يعطيهم الناس أموال، ويحسنون أصواتهم، ويقرءونها بألحان وبقراءات؛ حتى يعطيهم الناس الأموال، وهذا أمر منكر ولا يجوز ؛ لأن هذه عبادة يبتغى بها وجه الله تعالى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) (5) يرضى إذا جعل هذه العبادة لله تعالى، سوف يرضى بالثواب العظيم من ربه جل وعلا، وهؤلاء يتعجلون الثواب في الدنيا، ولا ينتظرون ما وعدهم الله تعالى به من الثواب الآجل في الآخرة، والآيات في هذا كثيرة.
__________
(1) - سورة هود آية : 15 - 16.
(2) - سورة الإسراء آية : 18.
(3) - سورة القيامة آية : 20.
(4) - سورة الإنسان آية : 27.
(5) - سورة الليل آية : 20 - 21.(1/140)
وقول النبي عليه الصلاة والسلام : من قرأ القرآن فليسأل الله تبارك تعالى به (1) يعني : إذا قرأ سورة أو ختم أو آية فليطلب من الله أن يجعل له ثواب هذه التلاوة التي تلاها، وهذا داخل في مسائل الدعاء ؛ لأن الدعاء على ضربين : دعاء مسألة، ودعاء عبادة . فدعاء العبادة هو أولى من دعاء المسألة، فيقرأ القرآن ليثني على ربه، ويعظمه، ويمجده، ويتلو كلامه الذي أنزله على عباده ؛ فهذا من باب تعظيم الله ومن باب تعظيم القرآن : مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) (2) وقد يقرأ القرآن ويسأل الله تعالى أن ينفعه بهذا الثواب، وأن يبارك في عمره وأولاده، ويجعل ثواب هذا القرآن له ، هذا مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام : فليسأل الله تبارك وتعالى به (3)
وهذا الحديث دل على وجوب تحري الإخلاص في العمل، ودل أيضا على التحذير من الرياء والسمعة بالأعمال الصالحة، فـ من سمع سمع الله به، ومن راء راء الله به (4) ودل الحديث على التفكر في معاني القرآن والتدبر لآياته، فإذا قرأه الإنسان يتدبر ما فيه من الحكم والمواعظ والعبر والحدود والزواجر والنواهي والوعد والوعيد والثواب والعقاب، لا لأجل أن ينال به شيئا من الدنيا.
باب الجفاء عن القرآن
قال المؤلف رحمه الله تعالى: باب الجفاء عن القرآن :
__________
(1) - الترمذي : فضائل القرآن (2917) , وأحمد (4/432).
(2) - سورة نوح آية : 13.
(3) - الترمذي : فضائل القرآن (2917) , وأحمد (4/432).
(4) - البخاري : الرقاق (6499) , ومسلم : الزهد والرقائق (2987) , وابن ماجه : الزهد (4207) , وأحمد (4/313).(1/141)
وعن سمرة بن جندب في حديث الرؤيا الطويل مرفوعا قال : أَتَانِي اللَّيْلَةَ اثنان فذهبا بي قَالَا : انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ على رَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتََدْهَده الْحَجَرُ هَاهُنَا فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يُصِبحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ في الْمَرَّةَ الْأُولَى، فقُلْتُ لَهُمَا: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ قَالَا: هذا رَجُلٌ علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار يفعل به إلى يوم القيامة (1) وفي رواية : الذي يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة (2) رواه البخاري.
ولمسلم عن أبي موسى أنه قال لقراء البصرة: اتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم (3)
وعن ابن مسعود قال: إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استحلته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم ؛ حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم
وهذا الحديث فيه وعيد شديد وتغليظ في العقوبة، جاء هذا الحديث طويلا في صحيح البخاري في كتاب تعبير الرؤى، وذكر في هذا الحديث ما يتعلق بعقوبة من أعرض عن القرآن الكريم، وإلا فالحديث فإن فيه عقوبات متعددة، وبشائر أيضا في الرؤى، منها: عقوبة من يعرض عن القرآن، وعقوبة من يختلق الكذب، وعقوبة من يتعامل بالربا، وعقوبة من يقع في الزنا .
__________
(1) - البخاري : التعبير (7047) , وأحمد (5/8).
(2) - البخاري : الجمعة (1143) , وأحمد (5/8).
(3) - مسلم : الزكاة (1050).(1/142)
ذكر النبي عليه الصلاة والسلام هذه العقوبات في هذا الحديث، ومنها: هذه العقوبة المغلظة العظيمة التي تنخلع منها الأفئدة، وتنزعج منها النفوس، كيف لا يكون ذلك وهذا قد أعرض عن كتاب الله جل وعلا، ويدل لذلك ما قال الله تعالى في آية أخرى : وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) (1) ويستفهم ويقول: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) (2)
ودل هذا الحديث على عقوبة مغلظة شديدة لمن أنعم الله تعالى عليه وعلمه القرآن ثم تركه وراء ظهر، ولم يقرأه، ولم يعمل به، ولم يتبعه، ولم يتدبره، وجاءت العقوبة في أشرف موضع خلقه الله تعالى للإنسان وهو هذا الوجه؛ لأنه ارتكب أعظم جناية في حق الله جل وعلا، وهي تضييعه لأمر الله، وارتكابه لما نهى الله تعالى عنه ؛ فهو رأى ما يوجب رفضه لهذا القرآن ، حينما قرأ القرآن فكأنه رأى في نفسه ما يوجب رفضه لكتاب الله تعالى الذي هو أشرف كلام وأشرف الأشياء؛ فكانت العقوبة من جنس العمل، فعاقبه الله تعالى بهذا العقاب في أشرف أعضائه وهو الرأس، ويثلغ رأسه ، أي: يشدخ ويدق، وقوله: يتدهده ، أي ينحط من علو إلى أسفل، وهذا نكاية في العقوبة، والعذاب الحاصل.
__________
(1) - سورة طه آية : 124.
(2) - سورة طه آية : 125 - 126.(1/143)
والحديث دل على تعذيب تاركي القرآن الكريم بعد أن علمه وقرأه وتلقاه، ولهذا يقول الله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (1) فهو بدل هذه النعمة التي هي أعظم نعمة منَّ الله تعالى بها عليه وهي القرآن الكريم فرفضه وأعرض عنه، ولم يجتهد في مراجعته ولا العمل به ولا قراءته ولا القيام به .
والحديث أيضا يدل من المفهوم الآخر أن على قارئ القرآن أن يحيي ليله بالقرآن في صلاته وفي تهجده، فذلك أثبت له وأعظم أجرا له عند الله تعالى، ودل الحديث على أن الصلاة تسمى قرآنا، ولهذا قال: الذي يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة (2) كما قال الله تعالى: وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ (3) أي صلاة الفجر وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) (4) والمقصود بالقرآن هنا هو الصلاة، ونوه بالذكر صلاة الفجر؛ لمكانتها من بين الصلوات، ولأنها تشهدها الملائكة، ولأنها قد تكون ثقيلة على النفوس ؛ فجاء لها هذا الوصف والشرف والثناء من الله تعالى .
__________
(1) - سورة إبراهيم آية : 28 - 29.
(2) - البخاري : الجمعة (1143) , وأحمد (5/8).
(3) - سورة الإسراء آية : 78.
(4) - سورة الإسراء آية : 78.(1/144)
وظاهر الحديث أن تارك القرآن يعذب على تركه للقرآن، وعلى تركه لأداء الصلاة المكتوبة عليه، وهذا الحديث هو من أحاديث الترهيب والتخويف، وفي الحديث الثاني: النهي عن التشبه بأهل الكتاب الذين تركوا كتاب الله وراء ظهورهم ولم يقرءوه ولم يعملوا به، وإن قرءوه فإنهم لا يعملون به، ويدل لذلك كما سيأتي في الآية التي في سورة الحديد : * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) (1)
فالله جل وعلا نهى عباده أن يتشبهوا بالذين تحملوا الكتاب من قبلهم، وهم اليهود لما تطاول عليهم الزمن ومرت بهم الأيام والسنون عدلوا عن هذا الكتاب وتركوه ؛ فكان ذلك سببا لقسوة قلوبهم.
وقد بين الله تعالى في آيات أخرى أنهم اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وأنهم نبذوا القرآن وراء ظهورهم، وأقبلوا على أهوائهم وعلى شهواتهم وعلى ما يقوله الناس لهم، وقدموا آراء البشر على قول الله تعالى ؛ فكانت العاقبة أيضا من جنس العمل أن قست هذه القلوب، فلما قست فإنها لا تقبل حينئذ موعظة، ولا تلين لتوجيه ولا إرشاد، وهذا من العقوبة أيضا وردّ أمر الله .
__________
(1) - سورة الحديد آية : 16.(1/145)
فالمقصود بالأمد - وكما سيأتي في الآية - هو المدة والزمن والوقت ، فحينما نزل عليه نزلت عليهم الكتب أمروا أن يعملوا بها ، وأن يحافظوا على ما فيها من الأوامر ، ويجتنبوا ما فيها من النواهي ، ويتبعوا شرع الله ؛ ولكنهم نسوا ذلك ، وتركوه واستبدلوه بغيره ، فخالفوا أحكام الله تعالى ، ولم يخافوا عقابه ؛ فجاء التحذير لهذه الأمة في قوله تعالى : * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا (1) أي ألم يأت الوقت لكم يا أهل الإيمان أن تخضع وتذل قلوبكم لأمر الله تعالى ، ولا يكون بينكم تشبه وبين الأمم التي رفضت أوامر الله تعالى .
وفي القرآن نهي كثير عن التشبه بأهل الكتاب وأهل الضلال وأهل الأهواء وأهل البدع : وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ (2) وفي الآية الأخرى مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ (3) جاءهم البينات جاءهم العلم من الله ، وجاءتهم البينات في هذه الكتب التي أنزل الله تعالى عليهم فيها ؛ لكن قلوبهم قست ، كما قال الله تعالى : ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ (4) فالله تعالى قد حدد بداية القسوة ، ولم يحدد نهايتها ، قال : ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ (5) أي ذلك الأمر ولم يحدد النهاية ؛ فكانت قسوة القلوب صفة لليهود ، لا تفارقهم في حياتهم .
وقال تعالى في آية أخرى : قَاسِيَةً (6) وفي قراءة " قسية " قلوبهم قاسية أي مشتدة متمردة على الاجتراء ، وعلى الافتراء ، وعلى الكذب في تغيير أحكام الله تعالى ، وقسوة القلب تعني غلظه وصلابته وخلوه من الرحمة والإحسان ، وبعده عن العمل والاتباع ، وانكبابه على المعاصي ، وفعل المحرمات هذه صفة القلوب القاسية .
__________
(1) - سورة الحديد آية : 16.
(2) - سورة آل عمران آية : 19.
(3) - سورة البقرة آية : 213.
(4) - سورة البقرة آية : 74.
(5) - سورة البقرة آية : 74.
(6) - سورة المائدة آية : 13.(1/146)
وقد ذكر الله تعالى أنواع القلوب منها قلوب مريضة ، وقلوب قاسية ، وقلوب سليمة ؛ فقلوب اليهود وأهل الكتاب الذين حرفوا كتاب الله ، واخترعوا من أنفسهم كتبا أخرى أمروا الناس أن يتعبدوا بها ، كما في الحديث : فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استحلته أنفسهم ؛ لأن الكتاب الذي نزل عليهم يخالف أهواءهم ولا يجعلهم يعيشون في شهواتهم فازدادت قلوبهم غلظة وجفاء وكذبا ، فقاموا وألفوا كتابا وأحدثوه واخترعوه ، ودعوا الناس أيضا إليه إلى هذا الكتاب لأنه يوافق أهواءهم ويجري مع شهواتهم وهذا عين الضلال وعين الهلاك ؛ لأن الحق ، كما في الحديث : وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم والواجب على الإنسان الذي خلقه الله تعالى أن يخضع ويخشع وينقاد لأمر الله تعالى ، ولا يطلب في ذلك خيرة لنفسه ، كما قال تعالى : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (1) وقال تعالى : وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (2) فكيف يختارون كتابا على كتاب الله هذا النهاية في الضلال ، والبعد عن الحق وعن الهدى ؛ لأن الحق واضح وبين ، الحق قديم ، كما يقول عمر ، الحق قديم لا يغيره شيء لا يتغير مع الزمان أو مع المكان أو مع الأجيال فهو باقٍ لا يتغير ، وظاهر لا ينخفض ، ومنصور لا ينهزم ، قال تعالى : وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) (3) وقال تعالى : بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ (4)
__________
(1) - سورة الأحزاب آية : 36.
(2) - سورة القصص آية : 68.
(3) - سورة الإسراء آية : 81.
(4) - سورة الأنبياء آية : 18..(1/147)
أي هالك فالحق منصور ، والباطل مخذول ، وهذا هو حكم الله تعالى في كتابه ، وعلى ألسنة رسله ؛ ولهذا فإن الله تعالى قد ذكر في القرآن آيات كثيرة وسور متعددة في الحديث عن بني إسرائيل حتى جاءت سورة تسمى بسورة بني إسرائيل وهي سورة الإسراء ، وجاءت سورة البقرة فيها حديث طويل ، وفي سورة آل عمران -أيضا- حديث طويل عن الضلالات والبدع وتحريف نعم الله ، وازدراء فضل الله عليهم ؛ فتراكمت هذه الضلالات فكونت لديهم قسوة في قلوبهم وإعراضا عن الهدى وعن الحق ، نسأل الله السلامة والعافية .
وهذا الحديث الأخير -أيضا- رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب ، وذكره ابن كثير في التفسير والسيوطي في الدر المنثور .
باب من ابتغى الهدى من غير القرآن
الباب العاشر : باب من ابتغى الهدى من غير القرآن
وقول الله - عز وجل - وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا (1) الآيتين ، وقوله تعالى : وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ (2) الآية .
وعن زيد بن أرقم قال : قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبا بماء يدعى خما فحمد الله ، وأثنى عليه ، ووعظ ، وذكر ثم قال : أما بعد : أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول من ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما : كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال : وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي (3) وفي لفظ : أحدهما كتاب الله هو حبل الله من تبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة (4) رواه مسلم .
__________
(1) - سورة الزخرف آية : 36.
(2) - سورة النحل آية : 89.
(3) - مسلم : فضائل الصحابة (2408) , وأحمد (4/366) , والدارمي : فضائل القرآن (3316).
(4) - مسلم : فضائل الصحابة (2408).(1/148)
وله عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب يقول : أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة (1)
وعن سعيد بن مالك قال : نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن فتلاه عليهم زماناً ، فقالوا : يا رسول الله لو قصصته علينا فأنزل الله - عز وجل - الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) (2) الآية ، فتلاه عليهم زماناً رواه ابن أبي حاتم بإسناد حسن .
وله عن المسعودي عن القاسم أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملوا ملة فقالوا : حدثنا يا رسول الله ، فنزلت : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا (3) ثم ملوا ملة فقالوا : حدثنا يا رسول الله ، فأنزل الله - عز وجل - * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ (4) الآية ورواه عبيد عن بعض التابعين ، وفيه : فإن طلبوا الحديث دلهم على القرآن
وكان معاذ بن جبل يقول في مجلسه كل يوم - قل ما يخطئه أن يقول ذلك - : الله حكم قسط هلك المرتابون إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي فيوشك أحدهم أن يقول قد قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره ، فإياكم وما ابتدع فكل بدعة ضلالة ، وإياكم وزيغة الحكيم - زيغة منصوبة على الإغراء ، وإياكم وزيغة الحكيم - وإياكم وزيغة الحكيم - وعلى التحديد على التحديد ، نعم - ، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق ؛ فتلقوا الحق ممن جاء به ، فإن على الحق نوراً . الحديث رواه أبو داود .
__________
(1) - مسلم : الجمعة (867) , والنسائي : صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه : المقدمة (45) , وأحمد (3/310) , والدارمي : المقدمة (206).
(2) - سورة يونس آية : 1.
(3) - سورة الزمر آية : 23.
(4) - سورة الحديد آية : 16.(1/149)
وروى البيهقي عن عروة بن الزبير أن عمر أراد أن يكتب السنن ؛ فاستشار الصحابة فأشاروا عليه بذلك ثم استخار الله شهراً ثم قال : إني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله - عز وجل - وإني لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً .
كذلك هذا الباب في التحذير - عن ال - في التحذير من الإعراض عن القرآن الكريم وترك الهدى الذي جاء به القرآن العظيم ، صدر المؤلف هذا الباب بهذه الآية وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا (1) ومعنى قوله : وَمَنْ يَعْشُ (2) أي : ومن يعرض ويتغافل ويتعامى عن كتاب الله تعالى ، وهذه الكلمة مأخوذة من العَشاء في العين أي كلمة وَمَنْ يَعْشُ (3) ومن من غرائب الألفاظ من العشاء في العين إذا كان في بصره آفة العشا ؛ فهو ضعيف البصر ، والمعنى : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ (4) من ينظر في القرآن نظرا غير متمكنٍ فيه فلا حظ حينئذ إلا السماع لكلماته دون تدبر ولا انتفاع بآياته ومعانيه فهو يسمع فقط ، وهذه كما تقدم حال المنافقين الذين كانوا يحضرون مجلس النبي عليه الصلاة والسلام ، ويستمعون القرآن ، ويخرجون ولا يستفيدون شيئا ثم يعرضون عنه ، فكانت العقوبة لمن أعرض وتغافل وتعامى عن كتاب الله جاءت في هذه الآية أيضا من التقابل أيضا نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) (5)
__________
(1) - سورة الزخرف آية : 36.
(2) - سورة الزخرف آية : 36.
(3) - سورة الزخرف آية : 36.
(4) - سورة الزخرف آية : 36.
(5) - سورة الزخرف آية : 36..(1/150)
أي نهيئ له ، ونتيح ونعد له شيطانا يلازمه ليضله ويغويه أيضا ، وهذا كقوله تعالى للذين أعرضوا وصدوا عن سواء السبيل ، قال تعالى : * وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) (1) فهو خاسر الذي يعرض عن القرآن الكريم ، وقع في الخسارة ، وقد قال الله تعالى في آية أخرى أيضا : وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) (2) وهذه من العقوبات التي تحل بمن يعرض عن هذا القرآن ، فمن أعرض عن هذا القرآن وتغافل وتعامى عن قراءته وتدبر آياته أو التحاكم إليه أو العمل به ؛ فإنه سيكون قرينا للشياطين ، وقد قال الله تعالى أيضا في آية أخرى : أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) (3) وكان ذلك بسبب كفرهم وإعراضهم عن دين الله تعالى ؛ حتى قال الله تعالى في آية أخرى : وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) (4) يأزونهم يدفعونهم إلى الشر ويزينون لهم العمل الباطل ؛ لأن هذا من طبع الشيطان أنه يزين الباطل للناس قال تعالى : وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) (5)
__________
(1) - سورة فصلت آية : 25.
(2) - سورة النساء آية : 115.
(3) - سورة مريم آية : 83.
(4) - سورة الأعراف آية : 202.
(5) - سورة الأنعام آية : 43..(1/151)
حتى إنه سوف يرى هذا العمل هو الأحسن وهو الصحيح ، يصوره له في صورة الحسن والجمال والكمال ؛ حتى يظن أن ليس بعده شيء ، كما قال الله تعالى : أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ (1) يقول الشاعر :
يقضى على المرء في حال غيبته
حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وهكذا الشيطان يغري بني آدم ويزين لهم الضلالات والمعاصي ، فإذا جاء يوم القيامة تبرأ منهم إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ (2) نسأل الله السلامة والعافية .
__________
(1) - سورة فاطر آية : 8.
(2) - سورة الأنفال آية : 48.(1/152)
وهذه الآية فيها وعيد شديد ، والكافر والمعرض عن القرآن إذا جاء يوم القيامة سوف يتمنى أن يكون بينه وبين هذا الذي أغواه أمد بعيد ، وهذا جاء في هذه الآية أيضا قال تعالى : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) (1) هكذا يكون يوم القيامة ، ويقول تعالى : يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا (2) الثانية وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ (3) قد حذرهم الله تعالى في هذه الدنيا وأنذرهم وأقام عليهم الحجج ، وقد عظم الله شأن القرآن ورفع من شأنه وأعلى من مكانه ، يدل على ذلك أن الله تعالى أضافه إلى اسم من أسمائه في هذه الآية قال : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ (4) ذكر مضاف والرحمن مضاف إليه ، وهذه إضافة شرف وتعظيم ؛ فالقرآن ذكر لأنه يذكر النفوس ويذكر العباد بما يجب عليهم نحو ربهم ، ويحذرهم وهو من باب التذكير أيضا ، والله تعالى قد قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) (5)
__________
(1) - سورة الزخرف آية : 36 - 38.
(2) - سورة آل عمران آية : 30.
(3) - سورة آل عمران آية : 30.
(4) - سورة الزخرف آية : 36.
(5) - سورة ق آية : 45.(1/153)
وما أحوج الناس في كل زمان وفي هذا الزمان على وجه الخصوص التذكير بكتاب الله ليس قراءة فحسب ، وإنما قراءة واتباعا وعملا وتدبرا ففيه الهداية وفيه العصمة من الزيغ والضلال ، وجاءت الآية أيضا فيها إشادة بما في القرآن وثناء وتعظيم من الله جل وعلا ، قال : وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ (1) ولهذا قال نزلنا بنون العظمة هذا من باب التعظيم للقرآن الكريم ، وسماه باسمه ، وبين الصفة التي جاء فيها وهي البيان تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ (2) فكلمة شيء جاءت في سياق نكرة في سياق العموم ، كما هو مقرر عند أهل الأصول أنها تفيد العموم ، كلمة شيء من ألفاظ وكل من ألفاظ العموم وشيء نكرة فيفيد العموم ، فأنه بيان لكل ما يريده الناس ، علمه من علمه ، وجهله من جهله ؛ لكن لا يستطيع البيان والتوضيح إلا أهل العلم وأهل البيان ، قال تعالى في آية أخرى : مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (3) مَا فَرَّطْنَا (4) ما موصولة هنا مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ (5) من كلمة من التي هي موصولة دلت على أن في القرآن كل ما يحتاجه الناس ، ويطلبونه في صلاحهم في حياتهم وفي معادهم عند ربهم .
__________
(1) - سورة النحل آية : 89.
(2) - سورة النحل آية : 89.
(3) - سورة الأنعام آية : 38.
(4) - سورة الأنعام آية : 38.
(5) - سورة الأنعام آية : 38.(1/154)
ثم جاء هذا الحديث الآخر الذي بعد هذه الآية من حديث زيد بن أرقم وهو في صحيح مسلم ، وقد انفرد به مسلم ، قال : قام قام فينا رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى حُمًّا وهذا اسم لبئر قديمة بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، قام عليه الصلاة والسلام يعظهم ويذكرهم ، وكان من جملة هذا التذكير أن ذكرهم بكتاب الله تعالى ، ووعظهم ، وبين لهم أنه يجب التمسك بهذا القرآن ، والاستمساك به والعمل ، وقد قال الله تعالى له : فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) (1) ؛ فأمر الصحابة أن يتمسكوا بهذا القرآن الذي أنزله الله تعالى عليه ، وقال : وأنا تارك فيكم ثقلين (2) الأول وهو القرآن الكريم في قوله ، فسمى كتاب الله أنه ثقيل ؛ وذلك تعظيما وتأكيدا لشأن هذا القرآن ، وأيضا لثقل العمل به ؛ لأن العمل به ليس يسيرا إلا لمن فتح الله على قلبه بالإيمان ، وقد قال الله تعالى : إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) (3) وهو هذا القرآن ، القرآن ميسر في حفظه وفي تلاوته ، لكن العمل به لا يكون إلا لأهل الإيمان وأهل الحق ؛ ولهذا سماه النبي عليه الصلاة والسلام ثقل ، والثقل هو الشيء المحمول الثقيل ؛ لهذا سمي الجن والإنس الثقلين ، وفي الآية الأخرى عن حواء فَلَمَّا أَثْقَلَتْ (4) به أثقلت يعني حملته ، وزاد وزن هذا الجنين في بطنها فزاد حملها حينئذ فهو ثقيل ، وسمي الجن والإنس ثقلين ؛ لأن الأرض تثقلهم وتحملهم عليها ، هذا من إطلاقات ومعنى هذه الكلمة .
__________
(1) - سورة الزخرف آية : 43.
(2) - مسلم : فضائل الصحابة (2408) , وأحمد (4/366) , والدارمي : فضائل القرآن (3316).
(3) - سورة المزمل آية : 5.
(4) - سورة الأعراف آية : 189.(1/155)
وذكر أيضا بالثاني وهو الحث على احترام أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإكرامهم ، وأن أهل بيته هم من أشرف مكان وجد على وجه الأرض ؛ فينبغي احترامهم وتوقيرهم ، والتأدب معهم لا سيما إذا كانوا متبعين لأمر الله عاملين بسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيجب احترامهم ، ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى ، والحديث عند هذه الآية قال تعالى : قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى (1) أي إلا قرابتي وعليكم بالرجوع إلى كتابين في التفسير فيها بيان لهذه الآية (في تفسير ابن كثير وفي أضواء البيان) عند هذه الآية فيها كلام نفيس حول مكانة أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام والرد على الطوائف التي غلت في ذلك .
__________
(1) - سورة الشورى آية : 23.(1/156)
فهنا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام وليس هذا هو وجه الشاهد من الباب ، وإنما وجه الشاهد هو كتاب الله عندما قال : أنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به (1) فهذه وصية النبي عليه الصلاة والسلام لأمته : الأخذ بكتاب الله والتمسك به ، يعني بتلاوته والعمل به واتباعه والحكم به بين الناس ، فهو حبل الله المتين ، فقال في الحديث وفي لفظ أحدهما كتاب الله هو حبل الله من تبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلال (2) فحبل الله قيل : عهد الله ، وقيل : السبب الموصل إلى مرضاته ورحمته ، وقيل : نوره الذي يهدي به ، وقد أمر الله تعالى المسلمين وأهل الإسلام أن يتمسكوا بذلك ، وأن يجتمعوا عليه في قوله تعالى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (3) ؛ لأن فيه النجاة وفيه العصمة ؛ فيه النجاة من الضلال وفيه العصمة من الزيغ والانحراف ، وفيه السعادة والفلاح .
__________
(1) - مسلم : فضائل الصحابة (2408) , وأحمد (4/366) , والدارمي : فضائل القرآن (3316).
(2) - مسلم : فضائل الصحابة (2408).
(3) - سورة آل عمران آية : 103.(1/157)
وجاء في الحديث الآخر من حديث جابر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يلازم هذه الجمل العظيمة التي يفتتح بها خطبه أما بعد ؛ فإن أصدق الحديث أو فإن خير الحديث - على إحدى الروايتين - كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وشر الأمور محدثاتها - وكل - وكل في رواية وكل بدعة - وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1) يكررها عليه الصلاة والسلام حتى يثبت الناس على الحق دائما ويحفظوا هذه النصوص ويعرفوا مدلولاتها ، ويعرفون أن السنة فيها الخير وفيها الهدى والنجاة ، والبدع التي تخالف السنة فيها الضلال وفيها الهلاك ، كان يكررها ليثبتها في القلوب ، ويحذر من البدع التي كان يخشى منها على أمته عليه الصلاة والسلام .
__________
(1) - مسلم : الجمعة (867) , والنسائي : صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه : المقدمة (45) , وأحمد (3/310) , والدارمي : المقدمة (206).(1/158)
وجاء الحديث الثالث من حديث سعيد بن مالك لما نزل عليه الصلاة والسلام القرآن تلاه عليهم أي قرأه ، كان يعلمهم القرآن ويتلقون من فيه عليه الصلاة والسلام ، وقرأ عليه كثير من الصحابة القرآن وفهموه ، وكان يعلمهم هذا القرآن ، فلما مضى زمن كان من حرص الصحابة رضوان الله عليهم على سماع هذا القرآن وسماع ما ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام فإنهم يستبشرون به لأنه خير يأتيهم ، فيقولون لو قصصت علينا أي ما نزل عليك من هذا القرآن وبينته فقص عليهم أحسن القصص ، وهي سورة يوسف قال تعالى : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ (1) فتلا عليهم هذه الآية ، وقص عليهم هذه القصة ؛ لأنهم يريدون أن يأخذوا العبرة والاتعاظ ويزدادون إيمانا ؛ ولهذا فإن قراءة الصالحين وسير السلف هي تقوي إيمان العبد ، وكان الله جل وعلا يقوي ويثبت قلب نبيه عليه الصلاة والسلام بالقصص السابقة قال تعالى : وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) (2) سماها موعظة فهي تثبت فهم يريدون الصحابة رضوان الله عليهم أن يسمعوا هذا القرآن وما فيه من القصص وما فيه من العبر ؛ حتى يثبت إيمانهم ويقوى يقينهم ويحرسون على فعل الخير ، وهذا الحديث كما قال رواه ابن أبي حاتم بإسناد حسن ، أيضا رواه البزار والطبري في التفسير ، وابن حبان وأبو يعلى .
__________
(1) - سورة يوسف آية : 3.
(2) - سورة هود آية : 120.(1/159)
وجاء الحديث الرابع : وله عن المسعودي ، هو عبد الرحمن ، عن القاسم ، المسعودي ، عن سفيان الثوري أيضا ، عن القاسم ، أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ملوا ملة ، هؤلاء حينما ملوا أرادوا أن يذكَّروا بما ينفعهم ويفيدهم لا كما هو الحال بمن يمل ويطول عليه الوقت يذهب ويقضيه فيما يضر ولا يفيد ، فيما يهلك ولا ينفع ، في معاصٍ وفي محرمات وفي قيل وقال وغيبة ونميمة ، لكن انظر إلى حرص الصحابة رضوان الله عليهم ملوا ملة ، يعني : طال عليهم الوقت يريدون أن يجددوا نشاطهم ويقووا أذهانهم بشيء ينفعهم ، فقالوا : حدثنا يا رسول الله ، فحدثهم بأفضل الحديث الذي هو القرآن الكريم ، الله تعالى قال : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا (1) قال تعالى : فَبِأَيِّ حَدِيثٍ (2) سمى القرآن حديثا فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) (3) فحدثهم بهذا القرآن وجاء وصف القرآن في الآية آية يوسف وهذه الآية بأن القرآن حكيم ، وبأنه متشابه أيضا ، القرآن محكم ليس فيه تناقض ولا تعارض ولا تضارب كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ (4) ومن الآيات ما هي متشابهة ، قال : كِتَابًا مُتَشَابِهًا (5) والتشابه على نوعين :
__________
(1) - سورة الزمر آية : 23.
(2) - سورة الأعراف آية : 185.
(3) - سورة الأعراف آية : 185.
(4) - سورة هود آية : 1.
(5) - سورة الزمر آية : 23.(1/160)
النوع الأول : هو أن يشبه بعضه بعضا في الحسن ، وفي الجمال ، وفي قوة اللفظ والمعنى ، ومتشابه في الدلالة والهداية ، وآيات متشابهة وهو القسم الثاني التي لا يعلمها إلا الله ، كما قال : وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ (1) المتشابهات لا يعلمها إلا الله ، وهي كعلم الساعة الأمور المغيبة عن العباد لا يعلمونها ، فهذه يجب الإيمان والتسليم لها ، ثم أيضا لما مضى عليهم زمن ملوا ملة وطلبوا من النبي عليه الصلاة والسلام أن يذكرهم ، فانظر كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام يختار لهم ما فيه تأثير لقلوبهم ، وإلا فكل القرآن - يعني - مؤثر في النفس ، لكن آيات فيها تخويف وفيها ترهيب وفيها ترغيب وفيها دلالة على الخير ، جاء بهذه الآية : * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ (2) حتى قال ابن مسعود - رضي الله عنه - ما كان بين إسلامنا وبين نزول هذه الآية إلا أربع سنين * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا (3) هذه الآية خوطب بها صفوة البشر بعد الأنبياء وهم الصحابة رضوان الله عليهم ، فكيف بحالنا الآن ؟ أمروا أن يخشعوا ، وأن يذلوا وأن تخضع قلوبهم لأوامر الله ولكتابه ، ونهاهم عن التشبه بأهل الكتاب الذين ضلوا وأضلوا وزاغت قلوبهم وقست ، ولا تكونوا كالذين * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) (4) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا (5) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ (6)
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 7.
(2) - سورة الحديد آية : 16.
(3) - سورة الحديد آية : 16.
(4) - سورة الحديد آية : 16.
(5) - سورة الحديد آية : 20.
(6) - سورة الحديد آية : 17..(1/161)
إلى آخره والحياة الدنيا أن هؤلاء تعلقوا بالدنيا وساروا في أعراضها وطلبوها وتركوا ما أمر الله تعالى به ؛ ولهذا فإن الإنسان عليه أن يجاهد نفسه دائما ، ولا يقرأ إلا ما ينفعه ويفيده ، ومن أعظم ذلك كتاب الله جل وعلا ، وكما هو يأتي الآن في بعض المعارض معارض الكتاب وغيره أنه يوجد كتب للتوراة والإنجيل وبعض الناس يذهب يحرص على أن يقرأ ويطلع ما فيها ، جاء الذم في ذلك ، كما ورد عند أحمد لما جاء عمر مجتهد - رضي الله عنه - اجتهد - ووقف في - ووقع نظره على قطعة من كتب أهل الكتاب وجاء بها إلى النبي عليه الصلاة والسلام فغضب عليه الصلاة والسلام ، فقال : أمتهوكون فيها يابن الخطاب ، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، والذي نفسي بيده لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي (1) لكن يقرأها الإنسان إذا كان يقرأ مثل هذه ليفند ما فيها من الشبه والأباطيل ، وعلى علم وعلى تقوى ، ويكتب فيها ، صحيح ، أما أن الإنسان يقرأ فيها وينظر فيها من باب بس الاطلاع ، فهذا ورد فيه النهي ، ويقاس على ذلك أيضا كتب أهل البدع وكتب الضلالات وكتب السحر وكتب تعليم النجوم ، وما إلى ذلك ، يعني المقام في هذا يطول وليس هذا له تعلق بالكتاب ، لكن الإشارة إليه مطلوبة خاصة في هذا الزمن الذي ابتلي كثير من الناس بهذه الضلالات وهذه البدع والخرافات ، فالشاهد أن هذه الآية التي هي قوله تعالى تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) (2) وقوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ (3) وقوله تعالى : * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا (4) في هذا مدح للقرآن وثناء عليه ، وترغيب في قراءته والعمل به ، وأنه كاف شاف عما سواه من الكتب .
__________
(1) - أحمد (3/387) , والدارمي : المقدمة (435).
(2) - سورة يونس آية : 1.
(3) - سورة الزمر آية : 23.
(4) - سورة الحديد آية : 16.(1/162)
وفي الحديث الذي بعده هذا معاذ - رضي الله عنه - قام في مجلس من المجالس يعظ ويذكر إخوانه ، وكان أول ما بدأ به هو تعظيم الله وتقديسه ، قال في ذلك : الله حكم قسط ، هذا تعظيم لله جل وعلا ، هلك المرتابون ، إن وراءكم فتنا ، أي : بعدكم ستأتي فتن عظيمة ؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم عندهم من العلوم ما ليس عند غيرهم ، وقال فيها : ويفتح فيها القرآن ، ومعنى هذه اللفظة : أنها كناية عن شيوع إقراء القرآن وقراءته وكثرة تلاوته ، ومن لوازم الشيوع أنه يكثر القراء ويكثر التالين لكتاب الله تعالى ، وهذا كما قال يكثر في أيام الفتن يشيع إقراء القرآن وقراءته وتكثر تلاوته بحيث يقرأه المنافق ، المؤمن والمنافق والكبير والصغير والمرأة والرجل يقرءون هذا القرآن قراءة لكن ليس فيها عمل مجردة من العمل ، فقال بعد ذلك من الألفاظ أنه قال حتى الذي يقرأ القرآن قال لهم أو يقول في نفسه : حتى أبتدع لهم غيره ، وربما يخلطه في القرآن ، أي : أخترع لهم البدعة غير القرآن الكريم لأجل أن يتركوا القرآن والسنة ويتبعوا الشيطان ويطيعوه فيقعوا في البدعة ، هكذا يفعل أهل البدع ، فجاء معاذ - رضي الله عنه - وقال : إياكم وزيغة الحكيم ، أي انحراف العالم عن الحق ، فالعالم قد ينحرف عن الحق يركب الهوى ، ويزيغ عن الهدى ، ويقع في الضلالة ويظن أن ما يدعو إليه هو الحق ، فقال : إياكم ، أي : أحذركم مما صدر من لسان العلماء من الزيغ والضلال الذي هو خلاف الحق ، وكم يظهر في زمان علماء يدعون إلى بدع ، ويفتون بمحرمات قواطع في الشرع يفتون بأنها حلال ، هذه هي زيغة الحكيم ، زيغة العالم الذي يدعو الناس إلى ضلالة ، ومعلوم أن أهل الحق هم أهل قلة وليسوا أهل كثرة ، كما قال الله تعالى : وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) (1) وقال سبحانه : وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) (2)
__________
(1) - سورة هود آية : 40.
(2) - سورة سبأ آية : 13..(1/163)
وقال تعالى : وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) (1) فأهل الحق وأهل العلم الصحيح هم قليل في المجتمع دائما وليسوا بكثير الذين هم كثير هم أهل البدع وأهل الضلالات ، ثم قال : فإن على الحق نورا ، أي : لا يخفى عليكم الكلام الحق ، وربما تسمعونه أيضا من المنافق كلام حق وكلام صحيح ، فالحق عليه نور وضياء وبهجة ووضوح ، فلا يغرنكم ولا يخدعنكم وربما يدخل مع هذا الحق غيره ، كما صدق ذلك الكذوب وجاء إلى أبي هريرة عندما قال له - اقرأ علي سورة - اقرأ علي آية الكرسي ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام صدقك وهو كذوب (2) ويصدق المنافق في أشياء ولكنه كاذب في أصله ، فإذا سمعتم الحق من المنافق فالحق أنتم تعرفونه عليه ضياء ونور وإشراقة ، ولهذا غير المسلم قد يأتي أحيانا بالحق ، وهو عندنا يا أهل الإسلام ونعرفه ، كما جاء ذاك الرجل إلى عمر في صحيح مسلم قال : إن آية في كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : وأي آية قال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ (3) قالت اليهود : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (4)
__________
(1) - سورة يوسف آية : 103.
(2) - البخاري : بدء الخلق (3275).
(3) - سورة المائدة آية : 3.
(4) - سورة المائدة آية : 3..(1/164)
فقال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه ؛ نزلت في يوم عرفة ، حق واضح وبين جاء به هذا ، فإذا كان في زمن الفتن تروج الضلالات وتروج البدع والخرافات ويتلبس على الناس الحق ولا يعرفونه ، فالمسلم يميز الحق من الباطل حتى ولو جاء من غير المسلمين ، وكذلك قال ، كلمات الحكيم الباطلة لا تخفى على الناس ؛ لأن الناس دائما إذا سمعوا المنكر حتى ولو لم يكونوا علماء ينكرونه كمن يفتي بغير ما عليه جماعة المسلمين ، كما هو الواقع في زماننا هذا ، من الناس من يخالف ما عليه جماعة المسلمين في بعض مسائل العلم ، ويفتي بجوازها وحلها ، وآخر ما سمعتم الذي هو يقول جواز أن الكبير يرضع حتى تحرم عليه المرأة ، وفي قصة سهلة بنت سهيل من مولى أبي حذيفة وهي قصة خاصة بتلك الرجل وتلك المرأة لا يقاس عليها غيرها ، كما نص على ذلك أهل العلم - المتقدمين والمتأخرين - ومنهم سماحة الشيخ ابن باز ، فالشاهد أن أهل الحق - وأهل الإسلام - وأهل الإسلام إذا سمعوا الكلام الباطل فإنه لا يدخل عقولهم بل ينكرونه وليسوا بعلماء هم ، فكان من معاذ - رضي الله عنه - أنه يحذر من الفتن ومن التباس الحق بالباطل ، فإن الفتن يلتبس فيها الحق مع الباطل ولا يعرفه إلا أهل العلم ، فالواجب الحذر كل الحذر .
الحديث الأخير وهو من رواية البيهقي أن عمر - رضي الله عنه - هم أن يكتب السنة ، أي يدونها ؛ ولكنه استخار وتراجع ورأى أنه لا يكتب هذا ؛ وذلك صيانة لكتاب الله جل وعلا ، وحتى لا يلتبس بالقرآن ما ليس فيه ، وإنما السنة بدأ تدوينها في عهد الخليفة الراشد الصالح عمر بن عبد العزيز في أوائل المائة - أوائل المائة - من الهجرة النبوية ، كما هو مقرر في علم الحديث .
باب الغلو في القرآن
قال المؤلف رحمه الله : باب الغلو في القرآن .(1/165)
فيه حديث الخوارج المتقدم ، وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة ؟ قلت : بلى يا رسول الله ولم أرد بذلك إلا الخير ، قال : فصم صوم داود فإنه كان أعبد الناس ، واقرأ القرآن كل شهر ، قلت : يا رسول الله إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : فاقرأه في كل عشر ، قلت : يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك (1)
ولمسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : هلك المتنطعون (2)
ولأحمد عن عبد الرحمن بن شبل مرفوعا اقرؤوا القرآن ، ولا تغلوا فيه ، ولا تجفوا عنه ، ولا تأكلوا به ، ولا تستكثروا به (3)
وعن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه (4) رواه أبو داود والترمذي .
في هذا الحديث النهي عن الغلو في القرآن الكريم في العمل وفي القراءة ، وقد تقدم كما قال المصنف الكلام على غلو الخوارج في العمل بالقرآن الكريم .
__________
(1) - البخاري : أحاديث الأنبياء (3418) , ومسلم : الصيام (1159) , والنسائي : الصيام (2391) , وأبو داود : الصوم (2427) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1346) , وأحمد (2/188) , والدارمي : فضائل القرآن (3486).
(2) - مسلم : العلم (2670) , وأبو داود : السنة (4608) , وأحمد (1/386).
(3) - أحمد (3/428).
(4) - الترمذي : العلم (2663) , وأبو داود : السنة (4605) , وابن ماجه : المقدمة (13) , وأحمد (6/8).(1/166)
وفي هذا الحديث توجيه من النبي عليه الصلاة والسلام إلى الاقتصاد والتوسط والاعتدال في أداء العبادات التي يقوم بها العبد ، والشاهد من هذا الحديث هو قراءة القرآن الكريم ، فعبد الله بن عمرو بن العاص كان عنده طاقة وقدرة إلى أن يقرأ القرآن كثيرا ويختمه ، فوجهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا التوجيه الحكيم ، فكان في هذا الحديث وصية عظيمة من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في التوسط والاعتدال في أداء العبادات ومنها قراءة القرآن الكريم .(1/167)
وقد كان للسلف عادات مختلفة ، كان للسلف عادات مختلفة في موقفهم من القرآن الكريم يتفاوتون ؛ فمنهم من كان يختم القرآن في شهر ، ومنهم من كان يختمه في عشرين ، ومنهم من كان يختمه في عشر ، ومنهم من كان يختمه في سبع ، ومنهم من كان يختمه في ثلاث ، ومنهم من كان يختمه في ليلة ، كما أثر عن عثمان - رضي الله عنه - فكانوا يتفاوتون في ختم القرآن الكريمن لكن الأفضل والأحسن في هذا ما أوصى به النبي عليه الصلاة والسلام أن يختم القرآن في سبع ، في سبع ليال ، فإن هذه المدة كافية لقراءة القرآن مع التدبر والتأمل والتفكر بمعانيه وآياته ، والأولى للإنسان أن يكثر دائما من قراءة القرآن الكريم ما يمكنه الدوام عليه ، ولا يعتاد إلا ما يغلب عليه ، لا يقول إنني سأقرأ القرآن في ليلة كذا أو في الثلاث ليال ، يرتب لنفسه عادة ثابتة دائمة لا تنقطع ، فهذا هو أحب الأعمال إلى الله ، أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل ، واعملوا من العبادة - كما في الحديث الصحيح - ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا (1)
__________
(1) - البخاري : الجمعة (1151) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (782) , والنسائي : القبلة (762) , وأبو داود : الصلاة (1368) , وابن ماجه : الزهد (4238) , وأحمد (6/267)..(1/168)
والناس أيضا يختلفون باختلاف أحوالهم ، منهم من يتولى شئون المسلمين بإمامة عامة ، أو إمامة خاصة ، أو في وظيفة أو في حسبة ، كما نص على ذلك النووي في شرحه ، الناس يتفاوتون قد يمر على الإنسان عشرون يوما إلى عشرة أيام ما يقرأ فيه القرآن إلا في الصلوات لأنه لا يجد وقتا يقرأ فيه ، وإنما هو في أعمال صالحة ونافعة للأمة للمسلمين ، فهذا معذور لأنه في عمل متعد النفع إلى الآخرين ، وإن خصص له وقتا يقرأ فيه القرآن فهذا أمر حسن ، ولكن لا تثريب عليه في ذلك ، كما جاء عن أهل العلم ، حتى إن ابن عمر - رضي الله عنه - كان حريصا على أن يقرأ القرآن في أكثر من سبع في ثلاث أو أقل من ذلك ، لكن أكد له النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يقرأ إلا في سبع ، ولذلك في بعض الروايات ندم عبد الله بن عمرو بن العاص على أنه لم يأخذ بوصية النبي عليه الصلاة والسلام لا في قيام الليل ولا في قراءة القرآن ؛ لأنه عجز وثقل جسمه ولم يستطع الوفاء بذلك ، وهكذا الإنسان تمر عليه فترات في فترات يقوى وفترات يضعف ، إن للنفوس إقبال وإدبار فانتهزوا إقبالها ، انتهزوا هذا الإقبال للنفوس في العمل الصالح وقراءة القرآن .
ويقوم الإنسان بقراءة القرآن بحسب جهده بحسب ما يتيسر له من الوقت والناس في هذا مختلفون ومتفاوتون ؛ لكن هذا الحديث دل على فوائد عديدة منها :
الإرشاد إلى الاقتصاد في العبادة ، وعدم الغلو والزيادة .
ومن الفوائد أيضا : الإرشاد إلى تدبر القرآن الكريم ؛ لأن القراءة ينبغي أن تكون مصحوبة بالتدبر لا بس أن يهزه الإنسان هزا ولا يفهم ما يقول
الثالثة : أنه ينبغي الدوام على ما صار عادة له من الخير ولا يفرط فيه ، يداوم على هذا العمل وإن كان قليلا ولا يفرط فيه .
الرابعة : أن من تكلف الزيادة على ما طبع عليه من عمل يقع في الخلل والنقص .
الخامسة : المضي على الحرص على ملازمة العبادة وإن قلت .(1/169)
السادسة : كراهية التشدد على النفس ، لا يشدد الإنسان على نفسه ، والله تعالى قد رفع عن عباده الآصار والأغلال التي كانت على من قبلهم من الأمم .
السابعة : جواز تحديث المرء بما عزم عليه من فعل الخير ، يقول عزمت أن أصوم اليوم ، عزمت أن أختم أن أختم سورة كذا اليوم ، دل ذلك لأنه لأن عبد الله بن عمرو عرض على النبي عليه الصلاة والسلام وأقره على ذلك .
الثامنة : جواز تفقد الإمام لأمور رعيته صغيرها وكبيرها .
التاسعة : أن الأولى في العبادات تقديم الواجبات على المندوبات ، أن يقدم الإنسان الواجبات على المندوبات ، ولهذا جاء في الحديث : إن لنفسك عليك ، في هذا الحديث جاء إن لنفسك عليك حقا ، ولزورك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا (1) هناك واجبات على الإنسان أن يقوم بها تجاه نفسه وتجاه أهل بيته ، فيحافظ على الواجبات ويهتم بها ويقدمها على المندوبات ، ولا يصح للإنسان أن يترك واجبا ثم يذهب إلى مندوب كمن يكون في عمل ويذهب مثلا في عمل مكلف به في وظيفة رسمية متعلقة بمصالح المسلمين ثم يذهب إلى عمل مندوب ويتركه ، ويغيب عن العمل ، هذا لا يصلح ولا يجوز .
__________
(1) - البخاري : الصوم (1968) , والترمذي : الزهد (2413).(1/170)
والحديث الذي بعده برواية أبي داود والترمذي ، والذي قبله أيضا في صحيح مسلم قال : هلك المتنطعون (1) المتنطعون جمع متنطع ، وهو : المتعمق الغالي المتجاوز للحد في قوله وفعله ، ويدخل في ذلك قراء القرآن المتنطعون والمتكلفون والمتقعرون في تلاوة القرآن الكريم ، وحكم عليهم بالهلاك ، وهذا ذنب للغلاة في القول وفي الفعل ، والإنسان لا يصح له أن يتكلف شيئا ، يفعل ما يستطيع فعله من الأمور ، ولا يكلف نفسه فوق طاقته وفوق قدرته ، وحتى فوق ما هو مشروع ، قد يكون قادرا لكنه يخالف الشرع ، لا يفعل هذا الشيء ، وقد قال الله تعالى لنبيه وما أنا قال الله تعالى عن نبيه عليه الصلاة والسلام : وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) (2) إذا هذه الأمة أمة الوسط وأمة الاعتدال .
والحديث الثاني من رواية أحمد عن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري قال : اقرءوا القرآن لا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به (3) وهو حديث صحيح رواه أحمد بإسناد قوي ، وأخرجه البزار ، والطبراني في الأوسط ، وقد تقدم الكلام على الغلو وعلى الجفاء .
__________
(1) - مسلم : العلم (2670) , وأبو داود : السنة (4608) , وأحمد (1/386).
(2) - سورة ص آية : 86.
(3) - أحمد (3/428).(1/171)
الغلو : هو مجاوزة الحد في كل شيء ، والمقصود من الحديث أي : لا تجاوزوا الحد في قراءتكم للقرآن الكريم ، ولا تتأولوه بالباطل ، ولا تتجاوزوا الحد في العمل به ، ولا تزيدوا في طلبه وفي تلاوته عن الحد المعتدل ، وقوله : " ولا تأكلوا ولا تستكثروا " أي : لا تأكلوا به الأموال ولا تطلبوا به دنيا ، سواء كان ذلك في حاجة خاصة أو في حاجة عامة ؛ لأن القرآن كما تقدم عبادة ، والعبادة يبتغى بها وجه الله تعالى ، وقد ذم الله جل وعلا الذين يريدون الدار الآخرة بأمور الدنيا أعمال الآخرة يتطلبونها بأمور الدنيا ، كما تقدم في الآيات : كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21) (1) إِن هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) (2) في قوله تعالى : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ (3) إلى آخر الآية مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) (4) فالقرآن من أعمال الآخرة التي يتقرب بها إلى الله تعالى .
فدلت الأحاديث المتقدمة على النهي في الزيادة في القرآن الكريم على الحد المطلوب سواء كان ذلك في القراءة أو في العمل والاتباع .
سائل يقول : أحسن الله إليكم ، هل تنصحوننا يا شيخ بقراءة كتاب بستان الواعظين ورياض السامعين ؟
فيه مواعظ ، هناك كتب تقرأ خير منه هي شروحات الأدلة شروحات الأحاديث الصحيحة فيها خير كثير ، التي فيها الأحاديث الصحيحة وليست الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة .
__________
(1) - سورة القيامة آية : 20 - 21.
(2) - سورة الإنسان آية : 27.
(3) - سورة الإسراء آية : 18.
(4) - سورة الشورى آية : 20.(1/172)
أحسن الله إليكم شيخنا ، يقول السائل : هل من كلمة حول سلامة الصدر بين طلبة العلم وكيفية التعامل بينه وبين سائر الخلاف .
سلامة الصدر مما يوصف بها أهل الإيمان ، ولهذا أبو بكر رضي عنه الله لم يزد في صلاة ولا في صيام ولا في عبادة إنما في سلامة صدره وسلامة الصدر دليل على صحة الإيمان عند العبد ، وهي طريق إلى جمع الكلمة وتآلف القلوب ، والمؤمن لا يحمل في نفسه الغل ولا الحقد ولا البغضاء لإخوانه ، قال تعالى : وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) (1) وأهل الجنة قد نفى الله تعالى عن قلوبهم الغل ، فالمسلم يحرص على طهارة نفسه وسلامة قلبه من المعاصي والمحرمات من السخرية والاستهزاء والحقد والكراهية والبغضاء والحسد ، فإن هذه تزيده ضيقا وحرجا في نفسه ؛ فليطهر قلبه بالإيمان ، وليطهره بهذا القرآن نسأل الله لنا ولكم التوفيق والإعانة وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
تابع باب الغلو في القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة السلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولجميع المسلمين يا رب العالمين .
قال المؤلف - رحمه الله - في باب الغلو في القرآن :
وعن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه (2) رواه أبو داود والترمذي .
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) - سورة الحشر آية : 10.
(2) - الترمذي : العلم (2663) , وأبو داود : السنة (4605) , وابن ماجه : المقدمة (13) , وأحمد (6/8).(1/173)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وارزقنا علما وهدى وتقى يا رب العالمين .
هذا الحديث تابع للباب الذي تقدم الكلام على بعضه ، وفي هذا الحديث حث على التمسك بالسنة واتباع ما جاء فيها ، وفيه أيضا رد على من يطعن في سنة النبي عليه الصلاة والسلام أو يشكك فيها أو يردها ولا يعمل بها ويكتفي بما في القرآن الكريم ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : لا ألفين ، أي : لا أجد وألقى ، أحدا منكم إذا جاءه الأمر من أمري ، أي : من سنتي ، ثم رد هذا الأمر ويكتفي بما في القرآن الكريم فيقول : لا أدري ، أي : لا أعلم غير القرآن ، ولا أتبع غير القرآن ، وقال : ما وجدنا ، أي : نقتصر على ما في القرآن فنطبقه ونعمل به ولا نأخذ بالسنة ، وهذا أيضا مخالف لمقتضى القرآن ، الذي يأخذ بالقرآن فقط ويترك السنة فقد خالف ما دل عليه القرآن الكريم ؛ لأن الله تعالى قد أمر باتباع نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - ولزوم سنته وطاعته فيما أمر ، فقال تعالى : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ (1) قال تعالى : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (2) وقال تعالى : وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (3)
__________
(1) - سورة النساء آية : 80.
(2) - سورة المائدة آية : 92.
(3) - سورة الحشر آية : 7..(1/174)
فالسنة شارحة للقرآن ومبينة له وموضحة لما فيه ، ثم يقال لهؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالقرآنيين وأنهم لا يعملون إلا بالقرآن ، يقال لهم : كيف تتعبدون الله تعالى بما شرع ؟ وليس في القرآن الكريم تفصيلات أو بيان موضح لبعض العبادات ، جاء ذلك على وجه العموم ، فإذا جاء مثلا لأهم ركن من أركان الإسلام وهي الصلاة ، الله تعالى قد حدد الأوقات في القرآن الكريم على وجه الإجمال قال تعالى : فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) (1) قال تعالى : أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) (2) فجاء النبي عليه الصلاة والسلام وبين ووضح هذه الأوقات ؛ متى يصلى الظهر والعصر والمغرب وهكذا بقية الأوقات ، وكذلك الزكاة ، عندك مال كيف تزكيه ؟ جاء الأمر على وجه الإجمال في القرآن الكريم وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ (3) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ (4) فبين النبي عليه الصلاة والسلام هذا البيان بأبلغ ما يكون ووضحه ، وكذلك الحج ، وكذلك الصيام ، وكذلك سائر الأعمال ، وأكثرها جاء بيانها وتوضيحها في السنة ، فالذي يأخذ بالقرآن فقط ولا يأخذ بالسنة فإنه قد رد القرآن الكريم وهو لا يشعر ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، هو يبلغ عن ربه ، فالقرآن وحي منزل متعبد بتلاوته ، والسنة كذلك وحي إلا أنها غير متعبد بتلاوتها ، ولكن يتعبد بالأحكام التي فيها والأوامر التي جاءت فيها من النبي عليه الصلاة والسلام ، فهو لا يقول إلا حقا ولا يأمر إلا بحق ولا يقول إلا صدقا .
__________
(1) - سورة الروم آية : 17 - 18.
(2) - سورة الإسراء آية : 78.
(3) - سورة البقرة آية : 43.
(4) - سورة البقرة آية : 195.(1/175)
فالشاهد من هذا الحديث التحذير من مخالفة هدي النبي عليه الصلاة والسلام والتشنيع على من يترك العمل بالسنة ويكتفي بمصدر واحد وهو القرآن الكريم ، حتى الأخبار التي جاءت بالآحاد بعضهم يرد الأخبار أخبار الآحاد يردها ولا يعمل بها ، والذي عليه جمهور أهل العلم ، عليه أهل السنة أن العمل بالآحاد أيضا داخل في هذا المجال ، والسنة هي قرينة القرآن وصنو القرآن ، وكما تقدم الله جل وعلا أنزل هذا القرآن على نبيه عليه الصلاة والسلام وهو يقوم بالبيان والتوضيح لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (1) فأنى لهؤلاء الذين يأخذون بالقرآن أنى لهم أن يعرفوا الأحكام كلها إلا من القرآن ومن السنة .
باب ما جاء في اتباع المتشابه
باب ما جاء في اتباع المتشابه :
في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ (2) إلى قوله : وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (3) فقال : إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم انتهى .
وقال عمر : يهدم الإسلام زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وحكم الأئمة المضلين .
ولما سأل صبيغ - صبغ صبغ صبغ بن عسل صبغ بكسر الباء صبغ - ولما سأل صبغ عمر عن (الذاريات) وأشباهها ضربه عمر والقصة مشهورة .
__________
(1) - سورة النحل آية : 44.
(2) - سورة آل عمران آية : 7.
(3) - سورة آل عمران آية : 7.(1/176)
في هذا الباب بيان وتحذير ؛ بيانٌ للآيات التي أنزلها الله تعالى في كتابه ، فالله جل وعلا يخبر أن في القرآن آيات محكمات أي بينات ، وواضحات الدلالة ، ليس فيها التباس ولا إشكال على أحد ، وآيات أخر هي متشابهة ، أي : متشابهة في الدلالة ، وكما تقدم وسبق وأن قلنا : إن التشابه له معنيان : إما أنه يشبه بعضه بعضا في الجمال وفي اللفظ وفي المعنى ، وإما أنها من الآيات المتشابهة التي تخفى على كثير من الناس أو بعضهم ، فمن رد ما اشتبه من القرآن الكريم ولم يعرفه رد هذا المشتبه إلى الواضح وهو المحكم البين ، رد الواضح إلى ما كان متشابها من هذه الآيات فهو قد سلك سبيل الهدى ، ومن عكس أيضا بدأ يتتبع المتشابه فقد انعكس أي ضل وزاغ وهوى ، وهوى في هواه ، والعلماء قد اختلفوا في المحكمات والمتشابهات ما هي :
فقيل : إن المحكمات الآيات المحكمات هي ناسخه ، أي : ناسخ القرآن وما جاء فيه من حلال وحرام وحدود وفرائض ، وأما المتشابه فهي المنسوخة المتشابهات المنسوخات والمقدم منها والمؤخر والأمثال والإقسام ، ولا يؤمن بهذا إلا من يعمل به أنه إذا أشكلت عليه آيات ردها إلى المحكم وآمن بالجميع ، وأن الكل من عند الله تعالى .
وقيل : المحكمات القرآن كله ما عدا الحروف المقطعة التي في أوائل السور ، فهذه من المتشابه .
وقيل : إن الآيات المحكمات هي آيات الأحكام التفصيلية ، وأما الآيات المتشابهات فهي آيات الوعيد .(1/177)
وحاصل القول في هذه المسألة : أن الآيات المحكمة ما اتضح معناها ولم يخف مدلولها ؛ لأن الله تعالى جعل في هذه الآيات العصمة للعباد وجعل فيها الحجة عليهم أن يعملوا بها ويقيموها في حياتهم ، والمتشابه هو ما استأثر الله تعالى به في علمه ، والله تعالى قد ابتلى عباده بالآيات المحكمات والآيات المتشابهات أيضا ، ابتلاهم بالحلال والحرام ، وابتلاهم بالوعد والوعيد ، وابتلاهم بكل ما جاء في القرآن الكريم ، وأهل العلم ربما يعلمون المتشابه أيضا إذا أنعموا النظر فيه ودققوا وعملوا ، ولهذا قال الله تعالى : وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ (1) هذا على الوقف ، وأما على الوصل وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا (2) أي يؤمنون بما جاء في هذا القرآن من المتشابه ويطلعون ويعلمون ويوضحون للناس ما فيها مما علموه واستنبطوه من الأدلة التي وقفوا عليها ، فيوضحون للعباد ما وصل إلى أفهامهم - باستناد - مستندا إلى أدلة صحيحة وواضحة ، والله تعالى قال في هذه الآية : هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ (3) أم الكتاب هي المحكمات وهي أصله الذي يرجع إليه عند الاستدلال ، كما سمى الله تعالى الفاتحة الكتاب بأنها أم القرآن ، سماها أم القرآن ؛ لأنها أصل كل ما في القرآن ، ما يدور في القرآن من أحكام ومن دلالات ومعان فإن سورة الفاتحة قد اشتملت عليه ، كما قرر ذلك أهل العلم ، وكما يقال لمكة أيضا أم القرى ؛ لأنها أصل البلاد تتجه إليها الأنظار والقلوب بالعبادة فهي قبلة المسلمين وفيها الكعبة المشرفة ؛ فسميت بذلك سميت أم القرى .
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 7.
(2) - سورة آل عمران آية : 7.
(3) - سورة آل عمران آية : 7.(1/178)
فكأن الله جل وعلا قال المحكمات أصول ما أشكل عليكم من الكتاب ؛ فتعين حينئذ أن ما أشكل منه يرد إلى ما وضح منه وهذا هو المعنى الصحيح ، فالذي يشكل من الآيات يرد إلى المحكمات الواضحات البينات ؛ لكن الذين في قلوبهم مرض وميل وضلال وخروج عن الهدى لا يتبعون إلا المتشابه ، ليضربوا القرآن بعضه ببعض ، وقد يستدلون بالمتشابه لينتصروا بذلك لعقائدهم وآرائهم ، وينتصرون به لأقوالهم ، ونفوسهم ، ولا يردون ما أشكل من القرآن إلى ما وضح وبان منه ، ولهذا فإن أهل الكلام دائما يستدلون بالآيات المتشابهة ويحتجون بها ، كما يفعل الخوارج - أيضا- الذين أخذوا آيات نزلت في شأن الكفار ونزلوها على المسلمين ، كما فعلت النصارى -أيضا- حينما قالوا حينما قال الله تعالى عن عيسى عليه السلام : إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ (1) فأخذوا كلمة الروح والقدس فألهوا عيسى وعظموه أكثر مما يستحقه ؛ لأنه عبد ، ولم يرجعوا إلى الآيات التي فيها الوضوح والدلالة كقوله تعالى عن عيسى عليه السلام : إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) (2) وقال تعالى أيضا في حق عيسى عليه السلام : إِن مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) (3)
__________
(1) - سورة النساء آية : 171.
(2) - سورة الزخرف آية : 59.
(3) - سورة آل عمران آية : 59..(1/179)
هذه آية واضحة ترد المشكل إلى هذا الواضح ، وأن عيسى عليه السلام عبد من عباد الله لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، وإنما ميزه الله تعالى بالرسالة والنبوة وفضله على سائر البشر -أيضا- في زمانه ، فهذا هو من رد الواضح المشكل إلى الواضح ، ولا يأخذ الإنسان بالآية المشكلة ويبقى يدور في فلكها ثم ينشرها بين الناس ؛ وهناك آيات أيضا توضحها وتبينها .
فحذر الله تعالى وحذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الذين يتبعون المتشابه يتتبعون الآيات المتشابهة ويستدلون بها ويدعون الناس إلى العمل بها ، وربما أن هناك آية واضحة توضحها أو تقيدها أو تبين أنها منسوخة أو غير ذلك من الأحكام ، فهؤلاء قال النبي عليه الصلاة والسلام : فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم (1) فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ (2) ضلال وخروج عن الهدى ووقوع في الضلال فَيَتَّبِعُونَ (3) أي يسيرون خلف هذه الآيات ويتتبعونها بالقرآن مَا تَشَابَهَ مِنْهُ (4) لأجل ماذا ؟ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ (5) للوقوع في هذه الفتنة وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ (6)
وفي الأثر الآخر عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : يهدم الإسلام زلة عالم ، وربما يزل عالم في حكم من الأحكام ويفتي به أو يدعو الناس إليه وهو يخالف مقتضى الشرع ؛ فيوقع الناس في الضلالة وهذه زلة منه ، وقد يركب الهوى ولا يعود عن هذا الرأي بل يلتمس له من الأدلة ما ينصره فيقع في الزلة ويقع في الضلال .
__________
(1) - البخاري : تفسير القرآن (4547) , ومسلم : العلم (2665) , والترمذي : تفسير القرآن (2994) , وأبو داود : السنة (4598) , وابن ماجه : المقدمة (47) , وأحمد (6/256) , والدارمي : المقدمة (145).
(2) - سورة آل عمران آية : 7.
(3) - سورة آل عمران آية : 7.
(4) - سورة آل عمران آية : 7.
(5) - سورة آل عمران آية : 7.
(6) - سورة آل عمران آية : 7.(1/180)
وكذلك المنافق الذي يجادل في آيات الله ، كما قال تعالى : مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا (1) كما سيأتي .
والثالث : هو حكم الأئمة المضلين ، إمام المسلمين مأمور شرعا أن يحكم بين العباد بما أنزل الله تعالى ، كما قال الله لنبيه : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ (2) وقال تعالى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ (3)
__________
(1) - سورة غافر آية : 4.
(2) - سورة المائدة آية : 49.
(3) - سورة النساء آية : 59..(1/181)
وإذا خالف الأئمة أو إمام -الإمام الموثوق- خالف هذه الأدلة وتركها وعمل بالقوانين الوضعية والآراء البشرية فقد أوقع الناس في الضلالة وأضلهم عن سواء السبيل ، ولهذا قال المصنف : ولما سأل صبغ عمر - رضي الله عنه - عن الذاريات وأشباهها ضربه عمر ، هذا رجل جاء إلى المدينة ، وكان يتتبع المشكل من القرآن الكريم ، يتتبع المشكلات ويسأل الناس عنها ؛ حتى إذا لم يعلموها أوقعهم في الشك والريب في القرآن الكريم ، فقال عمر : ايتوني به ، فلما جاء ، قال : ماذا عندك ؟ سأل عمر عن سأل عمر عن بعض الآيات في سورة الذاريات ، قال : ما هي الذاريات ؟ بين له عمر أنها الرياح ، ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولها ما قلتها لك ، ثم قال له : الحاملات ما هي ؟ قال : السحاب ، ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولها ما قلتها لك ، ثم سأله عن الجاريات ، قال : هي السفن ، ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولها ما قلتها لك ، ثم سأله ، وهكذا ، ثم ضربه عمر -في بعض الروايات ضربه حتى أدماه- لأنه أظهر أمرا لا يريد منه العلم والفائدة ، وإنما يريد منه التعنت والعناد التعنت والعناد وإيقاع الناس في الشك والريب ، وهذا منهج أخذه الأئمة ، كما حكى القرطبي قال : كان بعض الأئمة من السلف يعاقبون من يسأل عن الحروف المشكلة في القرآن ؛ لأن السائل إن كان يريد إظهار بدعة وإثارة فتنة فهو حقيق بالضرب والتعزير ، وإن كان ، وإن لم يكن ذلك مقصده فإنه قد استحق أن يعاتب وأن يؤدب على هذا الفعل الذي فعله ، فالمسلم لا يسأل إلا عما يشكل عليه ويريد فهمه ، لا يسأل وهو يفهم حتى يوقع المسئول في حرج أيضا أو يبث فتنة بين الناس بعد الجواب عليه ، وهذا من التضليل في تحريف القرآن الكريم ، وهذا الحديث فيه ضعف الذي يقول لما سأل صبيغ الأثر فيه ضعف ، قال ابن الكثير : لا يصح رفعه وأقرب ما يكون أنه موقوف على عمر ، وقد(1/182)
ذكر هذه القصة أيضا البزار في مسنده ، وأخرجها الدارمي ، والآجري في الشريعة ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة .
باب وعيد من قال في القرآن برأيه وبما لا يعلم
باب وعيد من قال في القرآن برأيه وبما لا يعلم :
وقول الله تعالى : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ (1) إلى قوله : وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) (2)
وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من قال في القرآن برأيه - وفي رواية : من غير علم - فليتبوأ مقعده من النار (3) رواه الترمذي وحسنه .
وعن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قال في القرآن بِرَأْيِهِ فأصاب فقد أخطأ (4) رواه أبو داود والترمذي وقال : غريب .
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 33.
(2) - سورة الأعراف آية : 33.
(3) - الترمذي : تفسير القرآن (2951) , وأحمد (1/233).
(4) - الترمذي : تفسير القرآن (2952) , وأبو داود : العلم (3652).(1/183)
نعم هذا الباب ذكر فيه المؤلف الوعيد الشديد على من تجرأ في القول على الله بلا علم ثم صدر هذا الباب بهذه الآية العظيمة في سورة الأعراف يأمر الله تعالى فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للناس : إن ربي حرم كذا وكذا قال : "إنما" وإنما هذه من أدوات الحصر ، فحصر المحرمات في خمسة أشياء أو أربعة أشياء : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) (1) أو نقول وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ (2) هذه واحدة فتكون أربعا ، وهذه الآية جمعت أصول المحرمات في القرآن الكريم ، جمعت أصول المحرمات في القرآن الكريم ، وابتدأ الله تعالى فيها بالأسهل ثم الأشد ثم الأخطر والأعظم من ذلك ، ولا يعني الترتيب البداية من الترتيب أنه أعظم ، بدأ الله تعالى فيها بالأسهل ثم ترقى إلى الأشد فالأشد فالأعظم خطورة ، فأول شيء حرمه الله تعالى على العباد ، كما قال تعالى في هذه الآية إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ (3) فالفواحش كلها محرمة الفواحش القولية والفواحش الفعلية ، هذه محرمة ظاهرا وباطنا ، ودخل في هذا التحريم في الفواحش كل فاحشة قالها الإنسان أو عملها الإنسان ، وقد ذكر الله تعالى في آية أخرى هذا التحريم : * قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (4) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ (5)
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 33.
(2) - سورة الأعراف آية : 33.
(3) - سورة الأعراف آية : 33.
(4) - سورة الأنعام آية : 151.
(5) - سورة الأنعام آية : 151..(1/184)
فيها الفواحش هذه ؟ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ (1) نهى عن قربان الفواحش ، ثم في القرآن الكريم جاء تفصيل لبعض الفواحش التي فيها خطورة شديدة على المجتمع منها أيضا الزنا قال : وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) (2) خص بعض الفواحش بالذكر لشناعتها وبشاعتها وخطورتها بين الناس ، وإلا فإن الله تعالى قد حرم الفواحش ودخل في هذا التحريم الفواحش الظاهرة والباطنة القولية والفعلية ، ثم بعد ذلك قال : وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ (3) الإثم هو الخطايا والمعاصي التي يرتكبها العباد ويقعون فيها بما تدعوه إليهم شهواتهم ، ويقول تعالى : وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ (4) سورة الأنعام وَذَرُوا (5) يعني : اتركوا وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ (6) يعني الشيء الخفي والشيء الظاهر الذي في العلن والذي في السر حتى حديث النفس ابتعدوا عنه وإن كان الإنسان لا يؤاخذ عليه لكن لا يحدث نفسه بفعل معصية وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ (7) جاء التأكيد على النهي أيضا في هذه الآية ، فالإثم هو الخطايا والمعاصي والذنوب التي يرتكبها الناس في حياتهم ، والبغي هو الاعتداء على الناس في أموالهم ودمائهم وأعراضهم وديارهم -أيضا- الاعتداء عليهم في ديارهم في ديارهم وأموالهم وأعراضهم ودمائهم ، ودخل في هذا البغي كل شيء حرمه الله تعالى من الاعتداء ، وجاءت آيات أخرى أيضا تحذر من ذلك وتنذر فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) (8) وقال : فَبَغَى ِNخgِٹn=tو (9)
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 151.
(2) - سورة الإسراء آية : 32.
(3) - سورة الأعراف آية : 33.
(4) - سورة الأنعام آية : 120.
(5) - سورة الأنعام آية : 120.
(6) - سورة الأنعام آية : 120.
(7) - سورة الأنعام آية : 120.
(8) - سورة البقرة آية : 178.
(9) - سورة القصص آية : 76..(1/185)
هذا عن قارون ، يعني : تطاول عليهم وربما سلب أموالهم واعتدى عليهم ، ومن ذلك أيضا ما يقع من الحوادث فهي داخلة في البغي ، والله تعالى قد قال : وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ (1) الفساد في الأرض هو تعطيل السبل والمنافع على الناس وقطع مصالحهم أو إراقة دمائهم وسلب أموالهم وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) (2) فنهى الله تعالى عن البغي في هذه الآية وحرمه ، وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ (3) وقيده بغير الحق ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ (4) وهذا هو الثالث ، حذر أيضا من الشرك بالله وأدخله في دائرة التحريم ، وأن من مات على الشرك بالله فإنه من أهل النار ، قال تعالى : إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ (5) أي : ومات على الشرك فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) (6) ودخل في هذه الكلمة وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ (7) كل أنواع الشرك صغيرها وكبيرها ، فكلها محرمة حرمها الله تعالى ، وختم هذا التحريم بأعظم محرم حرمه الله وهو القول على الله بلا علم ، الذي هو الكذب والافتراء واختلاق الكلام ، ولأن أيضا ، فما هو أعظم إذا الشرك بالله أو القول على الله بلا علم ؟ القول ، كما قال أهل العلم ؛ لأن الشرك بالله هو فرد من أفراد القول على الله بلا علم ؛ لأن الشرك أيضا هو كذب ، الشرك هو نسبة شيء إلى الله ما لا يجوز ، وهو داخل في أنواع الكذب ، والقول على الله بلا علم أعم أعم من ذلك فقال تعالى : وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) (8)
__________
(1) - سورة القصص آية : 77.
(2) - سورة القصص آية : 77.
(3) - سورة الأعراف آية : 33.
(4) - سورة الأعراف آية : 33.
(5) - سورة المائدة آية : 72.
(6) - سورة المائدة آية : 72.
(7) - سورة الأعراف آية : 33.
(8) - سورة الأعراف آية : 33..(1/186)
الإنسان لا يقول شيئا في أحكام الشريعة أو في القرآن والسنة إلا وهو يعلم ، ومن تكلم أو أفتى الناس بما لا يعلم فهو داخل في هذا الوعيد الشديد ، وقد تشبه بالمشركين الذين يقولون على الله ما لا يعلمون ، قال الله تعالى : وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) (1) قال تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) (2) وقال تعالى : أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ (3) فهؤلاء كلهم داخلون في الوعيد ، قال تعالى في سورة البقرة أيضا : وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ (4) هذا في حق المشركين ، فالشاهد وأن هذه الآية أيها الإخوة فيها بيان عقوبات مغلظة ومحرمات كبيرة على الإنسان أن يتأملها .
__________
(1) - سورة النحل آية : 116.
(2) - سورة يونس آية : 59.
(3) - سورة الشورى آية : 21.
(4) - سورة البقرة آية : 169 - 170.(1/187)
وكما قال أهل العلم : هذه الآية جمعت أصول المحرمات ، والإنسان لا يقول في دين الله إلا بما يعلم ولا يجوز أن يفتي الناس بما يخالف الكتاب أو السنة أو ما عليه إجماع الأئمة ؛ لأن هذا من المشاقة في ما عليه أهل الإسلام ، وقد قال تعالى : وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى (1) يقول أنا سوف أخالف إجماع الأمة وأفتي بهذه المسألة بين الناس ، هو إما أن يريد أن يضل الناس أو يريد أن يشتهر بين الناس ، وأن يعلم باسمه وأنه فلان ، وهذا ربما يكون داخلا في مثل هذا الوعيد الشديد وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) (2)
وفي الحديثين التاليين أيضا تحذير شديد في تفسير القرآن بغير علم ، وأن الإنسان المسلم لا يقول في القرآن برأيه ، وإنما يقول بما علمه وأنه الحق الموافق لما في الكتاب وفي السنة .
ويحسن بنا أيضا أن نبين في هذا المقام على وجه السرعة التفسير وأنه على نوعين : تفسير بالمأثور ، وتفسير بالرأي .
فالتفسير بالمأثور : هو الذي يعتمد على المنقول الصحيح من تفسير القرآن بالقرآن أو تفسير القرآن بالسنة أو تفسير القرآن بأقوال الصحابة أو تفسير القرآن بأقوال التابعين ، هذا هو القسم الأول من التفسير ، فهذا التفسير يدور على الرواية والنقل ، وهذا هو الذي يجب اتباعه والأخذ به ؛ لأنه الطريق الصحيح الذي فيه النجاة ، وهو آمن سبيل للحفظ من الزيغ والزلل في كتاب الله تعالى والتفسير .
القسم الثاني : التفسير بالرأي ، وهو قسمان أيضا : قسم مذموم وقسم ممدوح :
__________
(1) - سورة النساء آية : 115.
(2) - سورة الأعراف آية : 33.(1/188)
فأما القسم المذموم : الذي يعتمد فيه المفسر على فهمه الخاص واستنباطه بالرأي المجرد الذي لا يستند على أصول شرعية ، فهذا ولا شك مدعاة للشطط والوقوع في الزيغ والضلل والضلال ، وقد قال الله تعالى : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) (1) وهذا المعنى هو المقصود في الحديث الذي هو التفسير بالرأي المذموم ، هذا الذي جاء النهي عنه في الحديثين من قال في القرآن برأيه - وفي رواية من غير علم - فليتبوأ مقعده من النار (2) وفي الحديث الآخر قال : من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ (3) أي : أنه كان لا يتحرى الصواب يقول قولا ووافق الصواب ، فلم يجتهد في الصواب الصحيح ، وإنما وافق مع الأخطاء التي وقع فيها وافق الصواب أيضا ، وهذا داخل في الآية السابقة ، وهو في القول على الله بلا علم .
والنوع الثاني : وهو التفسير بالرأي الممدوح : وهو ما يستند على أصول شرعية وضوابط علمية ، ذكر أهل العلم منها : صحة الاعتقاد ، والتجرد عن الهوى ، والعلم بالعلوم الأخرى المساندة ، والعلم باللغة العربية ، وأن يسعى في طلب التفسير من طرقه وضوابطه الصحيحة ، هذا تفسير ممدوح ؛ ولهذا جمع بين التفسير بالرأي الممدوح والتفسير بالأثر أئمة من العلماء ؛ منهم الطبري ، ومنهم ابن كثير ، ومنهم البغوي ، هؤلاء جمعوا بين الأمرين بين النقل وبين بين الأثر والرأي الرأي الصحيح .
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 36.
(2) - الترمذي : تفسير القرآن (2951) , وأحمد (1/233).
(3) - الترمذي : تفسير القرآن (2952) , وأبو داود : العلم (3652).(1/189)
أما بعض التفاسير فإنها سلكت مسلك الرأي المذموم ؛ كتفاسير المعتزلة ، وتفاسير الرافضة ، وبعض تفاسير الأشاعرة ، تفسير الزمخشري تفسير معتزلي فيه ضلالات كثيرة ، وإن كان فيه معاني كبيرة من اللغة لكنه سلك مسلك الرأي المذموم ، وهذا القول على الله تعالى بلا علم في القرآن الكريم داخل في هذا الوعيد الشديد ، نعم .
باب ما جاء في الجدال في القرآن
باب ما جاء في الجدال في القرآن :
قال أبو العالية : آيتان ما أشدهما على من يجادل في القرآن قوله تعالى : مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا (1) وقوله : وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) (2)
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : جدال في القرآن كفر (3) رواه أحمد وأبو داود وإسناده جيد .
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوما يتمارون في القرآن ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب (4)
__________
(1) - سورة غافر آية : 4.
(2) - سورة البقرة آية : 176.
(3) - أبو داود : السنة (4603) , وأحمد (2/258).
(4) - مسلم : العلم (2666) , وابن ماجه : المقدمة (85) , وأحمد (2/185).(1/190)
وكذلك الجدال في القرآن أيضا على ضربين : جدال مذموم ، وجدال ممدوح ، والمؤلف هنا يحذر من الجدال المذموم في القرآن الكريم ، الذي سلكه الكفار وسلكه المنافقون وسلكه أهل الأهواء والبدع ، وأما الجدال الممدوح فهو الجدال بالتي هي أحسن ، كما قال تعالى : * وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (1) قال تعالى : وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (2) هذا هو جدال ممدوح وليس على إطلاقه أنه مذموم ، وذكر الله تعالى -في هذا الباب- ذكر الله تعالى في القرآن الكريم هذه الآية في سورة غافر : مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا (3) الكافرون يجادلون في القرآن ؛ لأجل أن يدفعوا الحق ويردوه بعد بيانه وظهوره ووضوحه ، فهم يجادلون فيه لرد ما فيه من الحق وتشكيك الناس فيه ، كما قال الله تعالى عنهم : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) (4) وهذه السورة سورة غافر وردت فيها المجادلة في ثلاثة مواضع ، يعني فيها من تأمل في هذه السورة : إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ (5) في وسطها ، وفي آخرها قال إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ (6) ثم قال في آخرها ذكر المجادلة ، وذكر عاقبة المجادلة بغير حق قال : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) (7)
__________
(1) - سورة العنكبوت آية : 46.
(2) - سورة النحل آية : 125.
(3) - سورة غافر آية : 4.
(4) - سورة فصلت آية : 26.
(5) - سورة غافر آية : 56.
(6) - سورة غافر آية : 56.
(7) - سورة غافر آية : 69..(1/191)
فهذه السورة فيها حديث عظيم عن مجادلة الكفار وما لهم من العقاب في هذه المجادلة بعد أن قص الله تعالى في هذه السورة تلك المجادلات التي صارت فيها بين من آمن منهم وبين من كفر ، الرجل المؤمن من آل فرعون وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ (1) فيها مجادلات كثيرة لبيان الحق وتوضيحه ، فبين الله تعالى عاقبة الكفار في آخرها : مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) (2) فهم يجادلون في آيات الله لأجل إبطال الحق الذي وصلهم وعلموه وبينوه لأنه لا يوافق أهواءهم ، وهكذا سلك أهل الكتاب هذا المسلك الخطير فأصبحوا يجادلون حتى وقع بينهم الخلاف فيما أنزل الله عليهم من الكتب ، قال تعالى في هذه الآية التي ذكرها المصنف : وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) (3) قيل : إن الكتاب هنا التوراة ادعت النصارى أن فيها صفة عيسى وأنكرت اليهود هذه الصفة ، وقيل : إنهم أيضا خالفوا ما كان عليه سلفهم في العمل بهذا الكتاب ، وقيل : خالفوا ما في هذا الكتاب مما جاءهم من صفة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقيل : إن المراد بالكتاب أيضا القرآن الكريم فإن الكفار اختلفوا فيه ، كفار قريش لما نزل القرآن وقع بينهم خلاف منهم من قال : إنه سحر ، ومنهم قال : إنه كهانة ، ومنهم من قال : إنه قول شعر ، ومنهم من قال : إن الذي جاء به مجنون ، كما قص الله تعالى علينا في القرآن الكريم تعالى الله عن ذلك ، وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، فالآية محتملة لهذا وهذا ، وإنما قال : وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) (4)
__________
(1) - سورة غافر آية : 28.
(2) - سورة غافر آية : 4.
(3) - سورة البقرة آية : 176.
(4) - سورة البقرة آية : 176..(1/192)
والشقاق هنا معناه : المنازعة والمجادلة والمخالفة ، المنازعة والمجادلة والمخالفة والتعادي ؛ لأنه إذا وقع النزاع والجدال وقع المعاداة بين الناس ، وأصل هذه الكلمة مأخوذة من الشق وهو الجانب ، فكأن كل واحد من الفريقين في طريق وهذا في طريق ، يعني : هذا في شق وهذا في شق ، كأنهم انفصلوا بسبب الاختلاف والمنازعة فيما بينهم ، ولهذا قال الله : لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) (1) لا يلتقيان ، المختلفان لا يلتقيان .
ثم جاء الحديث الذي بعده بين فيه النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة ، أثر أبي العالية لم يخرجه المصنف هنا ، وقد جاء في بعض الآثار عندما قال : قال أبو العالية : آيتان عندنا آيتان - في بعض الروايات - قال أبو العالية : اثنان ما أشدهما ، وهذا هو الذي يستقيم مع السياق وهو الذي في تفسير ابن كثير أو في الدر المنثور ، وقد أخرج الأثر عبد بن حميد .
الحديث الثاني فيه نهي عن الجدل في القرآن أيضا وتحذير من ذلك ، والحديث رواه أبو داود أحمد وأبو داود بإسناد جيد ورواه أيضا البزار ، ومعنى الحديث في قوله : جدال في القرآن كفر (2) المراد بهذا الجدال نوع من أنواع الجدال وليس كل الجدال ، نوع من أنواع الجدال المؤدي إلى الشك والتكذيب لما جاء في القرآن الكريم ، وهذا هو كفر فالجدال في متشابه القرآن والخوض فيه قد يوصل الإنسان أيضا إلى الكفر ، وسماه كفرا ، قال : جدال في القرآن كفر (3) سماه كفرا لما يخشى من عاقبته ، لما يخشى من عاقبته .
يعني : كأن يأتي إنسان ويستدل بآية ثم يأتي آخر ويستدل بآية أخرى ، وهذا يكذب هذا وهذا يكذب هذا ، ولا يكون التكذيب منصبا على الشخص قد يكون منصبا على القرآن .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 176.
(2) - أبو داود : السنة (4603) , وأحمد (2/258).
(3) - أبو داود : السنة (4603) , وأحمد (2/258).(1/193)
وفي هذا آيات كثيرة الجدال فيه ، يعني : لو جاء إنسان وقال : الله تعالى أخبر في كتابه أنه سوف يقف كل إنسان ويسأله عما عمل قال تعالى : وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) (1) وقال في آية أخرى تبين أنهم لا يسألون : فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) (2) وقال تعالى : وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) (3) ما يتكلم هذا ، كيف يقولون هذا ؟ فهذا يستدل بهذه الآية التي تبين وهذه الآية التي تنفي ، فيقع الجدال والشقاق والخلاف ، كما فعلت الزنادقة أيضا فعلوا ذلك وشككوا في القرآن الكريم ، وكما قالوا عند قوله تعالى : فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) (4) قال فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ (5) هنا تفاوت ، فالذي يقرأ التفسير ويقرأ ما قاله أهل التفسير وكلام المفسرين ، وابن عباس قد تكلم في هذه المسائل كثيرا وأجاب على هذه الإشكالات ، وكتاب الرد على الزنادقة كتاب جيد للإمام أحمد ، هذا الكتاب يقرأ فيه مثل هذه النظائر ، رسالة صغيرة للإمام أحمد اسمها الرد على الزنادقة ، جاء بمثل هذه الآيات التي يضربون بعضها ببعض ويريدون أن يشككوا في القرآن ثم يؤول بهم الأمر إلى التكذيب للقرآن الكريم ، هذا هو الكفر الذي عنى به الحديث .
__________
(1) - سورة الصافات آية : 24.
(2) - سورة الرحمن آية : 39.
(3) - سورة الإسراء آية : 97.
(4) - سورة المعارج آية : 4.
(5) - سورة السجدة آية : 5.(1/194)
والحاصل أن المراد أن المراء في القرآن والجدال الذي يكون لقصد التكذيب بالقرآن الكريم ولإبطال آياته هذا كفر والعياذ بالله ، أما الذي يريد الكشف عن حقيقته القرآن وبيان ما فيه ، لكنه يسأل لماذا في الآية كذا وفي الآية كذا هو قصده أن يأخذ المعنى ويستفهم حتى لا يقع في نفسه ريب وشك ، فهذا لا يدخل في الكفر ، إذا أراد الوصول إلى المعنى الحقيقي ، ولهذا قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوما يتمارون في القرآن ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب (1) هذه الجملة الأخيرة قوله : إنما ، هي أخرجها مسلم وستأتي في الحديث في الباب القادم ، وإنما لا يصح للإنسان أن يضرب القرآن بعضه ببعض فيتشبه بأهل الكتاب ويتشبه بأهل الكفر والزيغ والضلال ، إذا أشكل عليه شيء يسأل عما أشكل عليه حتى يصل إلى الحق ويصل إلى الهدى في معنى الآيات ، وليس هناك بين آيات القرآن تعارض أو اختلاف أو تنافر في المعاني بل هي متسقة ومتناسقة ومتقاربة ومتوافقة بعضها يشهد لبعض وبعضها يوضح بعضا ، والأمثلة على هذا كثيرة يعني بيان هذه الآيات يطول ، ولكن نكتفي بما جاء في الباب
باب ما جاء في الاختلاف في القرآن في لفظه أو معناه
باب ما جاء في الاختلاف في القرآن في لفظه أو معناه :
وقول الله - عز وجل - وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ (2) الآية ، وقوله : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ (3) الآية .
__________
(1) - مسلم : العلم (2666) , وابن ماجه : المقدمة (85) , وأحمد (2/185).
(2) - سورة هود آية : 118 - 119.
(3) - سورة البقرة آية : 213.(1/195)
وفي الصحيح عن ابن مسعود قال : سمعت رجلا يقرأ آية سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ خلافها ، فأخذت بيده فانطلقت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له ، فعرفت في وجهه الكراهة فقال : كلاكما محسن ، فلا تختلفوا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا (1)
وفيه أيضا عن ابن عمر قال : هجرت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمعت أصوات رجلين اختلفا في آية ، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرف في وجهه الغضب فقال : إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب (2)
وفي المسند من حديث عمرو بن شعيب قال : كنا جلوسا بباب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم : ألم يقل الله كذا وكذا ؟ وقال بعضهم : ألم يقل الله كذا وكذا ؟ فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان ، فقال : أبهذا أمرتم أو بهذا بعثتم ، أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعضه ؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا ، إنكم لستم مما هاهنا في شيء ، انظروا الذي أمرت به فاعملوا به ، والذي نهيتم عنه فانتهوا عنه (3) وفي رواية : خرج وهم يتنازعون في القدر ، وكذا رواه الترمذي من حديث أبي هريرة ، وفيه : خرج ونحن نتنازع في القدر ، وقال : حسن .
__________
(1) - البخاري : الخصومات (2410) , وأحمد (1/405).
(2) - مسلم : العلم (2666) , وأحمد (2/192).
(3) - ابن ماجه : المقدمة (85) , وأحمد (2/195).(1/196)
في هذا الباب أيضا النهي الشديد عن الخوض في القرآن الكريم أو الاختلاف فيه ، وصدر المؤلف الباب بقوله تعالى : وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ (1) الذين جاءوا بعد عصر النبي عليه الصلاة والسلام وبعد القرون المفضلة اختلفوا في أديانهم وعقائدهم ومللهم ، قيل : إن الآية محمولة على هذا ، يعني : أن المختلفين هم الذين اختلفوا في أديانهم وعقائدهم وآرائهم ومذاهبهم ، ولا يزال هذا الاختلاف باق ومستمر ، وقيل معنى ثان أن الاختلاف : المراد به الاختلاف في الرزق وطلب المعاش ، وهذا قول للحسن ، وبين القولين تضاد ، والصحيح هو الأول أن الاختلاف لا يزال بين البشر قائما ، والاستثناء حينئذ يكون منقطعا ، قوله : وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ (2) فالاستثناء هنا منقطع أي إلا المرحومين من أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أمر الله تعالى به من الدين ، وما جاءتهم به الرسل من البينات والهدى ، فهؤلاء هم أهل الرحمة ، وتمسكوا في هذا الخلاف الواقع بين الناس تمسكوا بما جاءهم من عند الله تعالى ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ (3) فهم أهل الإسلام وأمة الإسلام الذين آمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام وصدقوه وآمنوا بالرسل وصدقوا ما جاءهم من الكتاب وعملوا به ، فهؤلاء هم الذين تنالهم الرحمة .
ويقول قتادة : أهل رحمة الله هم الجماعة وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم ، وأهل معصية الله هم أهل الفرقة وإن اختلفت ديارهم وأبدانهم ، هؤلاء هم أهل رحمة الله التي قال الله تعالى في آية أخرى عن رحمته سبحانه : فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) (4)
__________
(1) - سورة هود آية : 118 - 119.
(2) - سورة هود آية : 118 - 119.
(3) - سورة هود آية : 119.
(4) - سورة الأعراف آية : 156.(1/197)
والآية الثانية أيضا فيها بيان ما حصل للأمم بعد أن كانوا على التوحيد قال تعالى : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ (1) أي : كان الناس كما يقول ابن عباس : كانوا ما بين آدم وبين نوح عليهما السلام عشرة قرون كانوا على التوحيد الخالص ، وبعد ذلك دب فيهم الشرك وظهر الشرك بينهم ، كانوا أمة واحدة على دين واحد وعلى توحيد خالص ، فبعد ذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ابتداء من نوح عليه السلام يبشرونهم بفضائل التوحيد وينذرونهم بعواقب الشرك الذي وقعوا فيه وهذا يدل على أنهم اختلفوا فيما بعد كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ (2) فلما وقع فيهم الخلاف لم يستجيبوا أيضا لهذا الحق الذي جاء به الأنبياء بل زاد الخلاف والشقاق والجدال بينهم وجادلوا أنبياءهم ورد أكثرهم ما جاءهم من التوحيد وأنكروه ، فهذا أيضا داخل في الوعيد الشديد فيمن تقوم عليه الحجة ويبلغه البيان ثم يخالفه ويقع في الاختلاف .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 213.
(2) - سورة البقرة آية : 213.(1/198)
وجاء الحديث أيضا الذي في الصحيح في قول ابن مسعود - رضي الله عنه - سمعت رجلا ، قيل : إن الرجل هو أبي ، كما في بعض الروايات ، وتذكر بعض الروايات الأخرى في غير الصحيحين ، الحديث في الصحيحين ، عند البيهقي وغيره : أن الاختلاف وقع بينه وبين أبي في سورة من القرآن الكريم وهي سورة الأحقاف ، خلاف يسير ، كم عدد آياتها ؟ هذا يقول : خمسة وثلاثين ، وهذا يقول : ستة وثلاثين ، اختلفوا في عدد هذه الآيات في هذه السورة ، فيقول : فذكرت ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام ، فعرف ذلك في وجهه أي أنه تغير وأنكر كيف يقع هذا الخلاف في القرآن الكريم ، وأنا بين ظهرانيكم ، فصوب كل واحد لما قال ، ثم أيضا حذرهم وأنذرهم ، فقال : كل كلامكم حسن ، ولكن إياكم أن تتشبهوا بمن سبقكم من الأمم فإنكم إن وقعتم في هذا الخلاف وسرتم عليه وقعتم في الهلكة ، قال : فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا (1) وهذا قد ورد بين الصحابة أيضا في غير هذا الموضع .
__________
(1) - البخاري : الخصومات (2410).(1/199)
وفي الصحيح أيضا صحيح البخاري سمع عمر - رضي الله عنه - سمع هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان ، فلما سمعه عمر في حياة النبي عليه الصلاة والسلام كأنه استنكر هذا الحرف الذي قرأ به ، فأخذه وذهب به إلى النبي عليه الصلاة والسلام فذكر له أنه قرأ بحرف لم تقرئنيه ، فقال عليه الصلاة والسلام : اقرأ يا عمر ، فقرأ عمر ، فقال : هكذا أنزل ، قال : اقرأ يا هشام ، فقرأ هشام ، فقال : هكذا أنزل - ثم جاء الحديث في آخره - قال : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه (1) فصوب النبي عليه الصلاة والسلام هذا وهذا ولم ينكر عليهم في هذا الأمر ، الشاهد أنهم ذهبوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليزيلوا هذا الخلاف ، وابن مسعود كما في هذا الحديث أنه أخذ بيده إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليبحث عن الحق ويعرف ، وهذا مصداق قوله تعالى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ (2) يعني ردوا ما اختلفتم فيه في حياته أي للصحابة ، وبعد موته ردوا إلى سنته ، وعودوا إلى ما ذكره من أحاديث صحيحة لتصلوا في ذلك إلى الجواب .
الصحابة رضوان الله عليهم كانوا حريصين على ذلك فالواحد منهم يأخذ بيد أخيه ويذهب به ليطلب الصواب والقول الحق في هذه المسألة ، وقد دل الحديث على أمور منها :
الحض على لزوم الجماعة والحرص على الألفة والتحذير من الفرقة والاختلاف .
ودل الحديث : النهي عن المراء في القرآن بغير حق ، أما إذا كان لقصد طلب الحق ووضوح المعنى فهذا لا شيء فيه .
__________
(1) - البخاري : فضائل القرآن (5041) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (818) , والترمذي : القراءات (2943) , والنسائي : الافتتاح (938) , وأبو داود : الصلاة (1475) , وأحمد (1/42) , ومالك : النداء للصلاة (472).
(2) - سورة النساء آية : 59.(1/200)
ودل الحديث : على الرجوع إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف .
وفي الحديث الذي بعده حديث -عمرو بن العاص عن - عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : هجرت إلى النبي ، هجرت أي : خرجت في الهاجرة وهي شدة الحر ، أي : خرجت في الهاجرة وهي شدة الحر ، ثم ذكر في هذا الحديث أنه سمع صوت رجلين اختلفا في آية وحذرهم النبي عليه الصلاة والسلام كما حذر من سبق مع ابن مسعود ، لكنه غضب أيضا في هذا الخلاف الذي حصل ، وقوله : اختلفا ؛ لأن هذا الاختلاف لم يكن اختلافا في القراءة كما سبق ، لأن الاختلاف الأول صوبه النبي عليه الصلاة والسلام ، وقال : حسن ، وقال لعمر وهشام : هكذا أنزل ، وهنا قال : فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرف في وجهه الغضب ، يعني : كأن الأمر يختلف عن الأول ، فهذا الاختلاف لم يكن اختلافا في القراءة ؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد سوغ أن يقرأ القرآن على سبعة أحرف وإن اختلفت القراءات فهذا جائز ، هذا لا يختلف فيه المسلمون ، يعني في القراءات ، ويحتمل أيضا أن يكون الاختلاف لقصور فهم بعضهم على بعض ، يعني بعضهم فهم من الآية كذا ، وكأن الثاني أنكرها ، ويحتمل أيضا أنها من الآيات المتشابهة ، فتعرض الاثنان لتأويلها ، تعرضا لتأويل هذه الآية المتشابهة ، فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكأنه يقول لهم الواجب عليكما التسليم في آيات القرآن الكريم والإيمان به ، وإياكم والخوض فيما لا يعنيكم في معاني القرآن الكريم ، وتبين أن الإنكار هنا يختلف ، أن الاختلاف في هذا الحديث يختلف عن الاختلاف في الآية السابقة ، القراءات ليس فيها اختلاف ، يعني اختلاف تضاد لا ، إنما هي قراءات متفاوتة ، هذا يقرأ بحرف كذا ، وهذا يقرأ بحرف كذا ، والقرآن كله قرئ على حرف واحد من الأحرف السبعة ، عندما قال عليه الصلاة والسلام : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، فلم يبق من هذه السبعة إلا حرفا واحدا ، وأما البقية الستة فهي(1/201)
لا توجد ، استقر القرآن بعد العرضة الأخيرة وبعد الجمع الذي حصل من الصحابة رضوان الله عليهم في مراحله الثلاث على حرف واحد من الأحرف السبعة ، وهي القراءات السبع التي سبعها ابن مجاهد .
وفي الحديث التالي الذي في المسند وأخرجه ابن ماجه والترمذي أيضا من حديث عمرو بن شعيب أنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضا على جماعة من الصحابة كانوا يتدارءون أو يتمارون بآيات من القرآن الكريم ، هذا يقول قال الله كذا وكذا ، وهذا يقول لا ألم يقل الله كذا وكذا ، فارتفعت أصواتهم في هذا الاختلاف الواقع بينهم ، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مغضبا ، وكأن عيناه احمرت أو زاد انفتاحها من شدة ما يرى من هذا الاختلاف الذي واقع ، ثم استفهم لهم : أبهذا أمرتم أم بهذا بعثتم ؟ إنكم لم تؤمروا بهذا ولم تخلقوا لهذا ، خلقتم للتسليم لكتاب الله تعالى والإيمان به وألا تضربوا بعضه ببعض ، وقد وقع مثل هذا للأمم السابقة قبلكم فأهلكهم الله وأنزل بهم عقوبته ، فإياكم إياكم أن تقعوا مثل ما وقعوا فيه ، وفي بعض الروايات كما ذكر المصنف أنهم كانوا يتنازعون في مسائل القدر ، وهذا يقول ينزع آية ويقول قال الله ، والثاني ينزع آية ويقول قال الله تعالى ، والقدر هو سر الله في خلقه لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، بل الواجب الإيمان والتسليم لقضاء الله تعالى وقدره ، وعدم الخوض في ذلك ، ولهذا سموا القدرية قدرية لأنهم خاضوا في مسائل القدر التي نهي المسلم أن يخوض فيها ، ولما بلغ ابن عمر عن أولئك الجماعة الذين كانوا يخوضون في مسائل القدر ، وقيل له : إنهم يقولون إن الأمر أنف ، أي : الأمر مستأنف إن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها أما قبل وقوعها فإنه لا يعلمها تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، فقال : أبلغهم أني بريء منهم وهم برآء مني ، وهذه من المسائل العظيمة الخطيرة من مسائل الاعتقاد وأن الإنسان لا يخوض فيها ، عليه أن يعتقد(1/202)
ما اعتقده النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة والتابعون وسلف هذه الأمة في مسائل الاعتقاد ، ومن أهمها القدر الذي يسول الشيطان للإنسان الخوض في مثل هذا ، في الحياة وفي الممات ، وفي الشقاء وفي السعادة ، وما أشبه ذلك ، فقوله عليه الصلاة والسلام في ألفاظ الحديث أنهم يتنازعون في هذا في مسائل القدر النهي الشديد عن الخوض في المتشابه من آيات القرآن الكريم ، نعم .
باب إذا اختلفتم فقوموا
قال المؤلف رحمه الله : باب إذا اختلفتم فقوموا :
في الصحيح عن جندب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : اقرؤوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه (1)
ولهما عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ، قال : فقال عمر : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غلبه الوجع ، وإن عندنا كتاب الله حسبنا ، وقال بعضهم : بل ائتوا بكتاب ، فاختلفوا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوموا عني ولا ينبغي عند نبي تنازع (2)
ولمسلم عن ابن مسعود أنه قرأ سورة يوسف ، فقال رجل : ما هكذا أنزلت ، فقال : أتكذب بالكتاب ؟
__________
(1) - البخاري : فضائل القرآن (5060) , ومسلم : العلم (2667) , وأحمد (4/313) , والدارمي : فضائل القرآن (3361).
(2) - البخاري : العلم (114) , ومسلم : الوصية (1637) , وأحمد (1/222).(1/203)
هذا الحديث رواه البخاري ومسلم ، قال عليه الصلاة والسلام : اقرؤوا القرآن ما ائتلفت ، أي : ما اجتمعت قلوبكم ، فإذا اختلفتم ، أي : في فهم معانيه ، فقوموا عنه ، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام : فقوموا عنه ، هذا يحتمل أن يكون النهي خاصا بزمنه عليه الصلاة والسلام لئلا يكون ذلك سببا لنزول ما يسوؤهم من القرآن ، ما يسوؤهم أي نزول القرآن لأن الله تعالى قال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ (1)
__________
(1) - سورة المائدة آية : 101..(1/204)
ويحتمل أن يكون أيضا أنه في زمنه وغيره ، أي اقرؤوا القرآن ، فإذا وقع بينكم خلاف أو عرضت لكم شبهة تقتضي المنازعة الداعية إلى افتراق قلوبكم فاتركوا القراءة حتى لا يستمرئ الخلاف فيما بينكم ، حتى في غير فهم المعاني ، في الأداء في أداء التلاوة نفسها ، هذا يقول حكم الآية كذا من حيث التجويد في المد أو في الصفة أو في المخارج ، ويطول النقاش حول هذا ، وأنا قرأت بكذا وأنت قرأت بكذا ، المد فيه أربع حركات فيه خمس حركات يطول النقاش داخل في هذا أيضا ، يعني : شامل في معاني القرآن وفي أداء القرآن ، يعني : قوموا لا تواصلوا هذا العمل ، وأمره عليه الصلاة والسلام بالقيام عند الاختلاف في عصره وفي غير عصره كذلك كما تقدم ، ومقصود الحديث الأمر بالاستمرار في قراءته وتدبره دون الخوض في معانيه وتفسيره ، لأن الإنسان الذي يقرأ القرآن وآخر يقرأ القرآن ثم هذا يقطع القراءة ويسأل جاره الذي يقرأ ثم يجيبه ثم يبدأ نقل كلام أهل التفسير ثم الردود والمعاني والترجيحات يطول ويبقى الخوض ، وهذا أيضا قاطع لتلاوة القرآن الكريم ، فكأنه يزجرهم عن أن يقطعوا القراءة لأجل سؤال عن معنى يؤدي إلى الخلاف والشقاق ، أما إذا كان القارئ يقرأ القرآن وأشكل عليه معنى كلمة وأمامه شيخ أو عالم أو مفسر ثم وقف يسأله عن معنى هذه الآية فهذا لا يدخل في هذا الأمر ، ولا يدخل في الأمر بالقيام في قوله " فقوموا " يعني : قوموا عن تلاوته ، المقصود أن قطع القراءة لأجل معنى يؤدي إلى الخلاف ، فإذا كان الحال كذلك تفرقوا وقوموا عن التلاوة لئلا يتمادى بكم الخلاف والشر ثم بعد ذلك تفترق قلوبكم بعد أن جمعها الله تعالى ؛ لأن القراءة تكون بأمرين : تكون باللسان وبالقلب ؛ اللسان بالنطق والقلب بالتدبر ، فأمره باستدامة القراءة ؛ لأنه إذا نطق بلسانه وتدبر بقلبه جمع خيرا كثيرا ، وإذا قطع القراءة وقع الخلاف وانصرف اللسان وانصرف القلب ، انصرف اللسان وانصرف القلب ،(1/205)
وهذا حتى يحصل في الأمور العادية بين الناس ، لو أن الإنسان يقرأ كتابا عاديا يريد أن يفهم أو يذاكر عنده اختبار ويأتي إنسان ويقاطعه ، يؤشر إليه يعني انتظر انتظر حتى أنتهي حتى لا تذهب إيش المعلومات التي في ذهنه ولا يشرد التركيز الذي يريد أن يركز على هذه المعلومات ، فكتاب الله تعالى أولى ، كذلك من يكتب يجلس يكتب مثلا معروضا أو خطابا أو كذا ، يأتي إنسان يسأله فيؤشر إليه أنه ينتظر حتى ينتهي من الكتابة حتى لا يشوش على ذهنه ثم تذهب عنه الأفكار والمعاني ، ينسى ماذا يقول ، فكذلك كلام الله تعالى لا بد أن يكون اللسان ناطقا والقلب حاضرا إلا إذا أشكل على الإنسان أشياء فإنه له أن يسأل .
ودل الحديث على أن من أراد أن يتلو القرآن فلا يبحث عن معانيه في حال قراءته لا يبحث عن معانيه في حال قراءته مع غيره ، يقرأ القرآن لا يبحث مع زميله أو صديقه أو أخيه ، لا يبحث معه بل يفرد لذلك وقتا يقرأ فيه القرآن الآية ثم يتباحث هو وزميله في معنى الآية ، حتى يصلون إلى المعنى ، وعلى الباحثين الذين يبحثون في معاني القرآن الكريم وفي تفسيره أن يقصدوا أيضا ، يؤخذ من الحديث أن يقصدوا ببحثهم في التفسير التعاون على البر والتقوى ، وأن يقصدوا أيضا ابتغاء وجه الله تعالى ، ويقصدوا نفع أنفسهم وزيادة التعليم لهم ، وعليهم أن يلازموا الأدب والوقار ، فإن اتفقت أفهامهم فالحمد لله ، وإن وقع بينهم خلاف أثناء النقاش فلينفصلوا ؛ لأنه لا يجوز المراء في القرآن الكريم ، ونتوقف عند هذا القدر للصلاة .
بسم الله الرحمن الرحيم(1/206)
نستكمل الباب الذي فيه الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه ، والحديث أخرجه أحمد في المسند وابن ماجه والترمذي ، وحديث ابن عباس أيضا وهو في الصحيحين يقول ابن عباس : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في مرضه : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ، قال : فقال عمر : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غلبه الوجع وإن عندنا كتاب الله حسبنا ، وقال بعضهم : بل ائتوني بكتاب ، فاختلفوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قوموا عني ولا ينبغي عند نبي تنازع (1)
__________
(1) - البخاري : العلم (114) , ومسلم : الوصية (1637) , وأحمد (1/222)..(1/207)
هذا الحديث الذي أمر فيه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : ائتوني بكتاب ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الصحابة بإحضار كتاب يكتب فيه لهم ، النبي عليه الصلاة والسلام معصوم فيما أوحى الله تعالى إليه فلا يغير شيئا من الأحكام سواء كان في صحته أو في مرضه ، ومعصوم كذلك من ترك بيان ما أمر الله تعالى به سواء كان ذلك في الصحة أو في المرض ، وهو عليه الصلاة والسلام ليس معصوما من الأمراض ولا من العلل التي تطرأ للبشر مما لا ينقص من منزلته ولا يذهب بشيء مما أوحاه الله تعالى إليه ، وقد وقع خلاف بين أهل العلم في1 هذا الكتاب ذكروا ماذا سيكتب فيه النبي عليه الصلاة والسلام ، وهو لم يكتب شيئا ، قالوا : إنه عليه الصلاة والسلام أراد أن ينص على الخلافة من بعده ، يعني ينص على الخلافة من بعده لما مرض وأشرف على الالتحاق بالرفيق الأعلى ، وقال بعضهم : إنه أراد أن يبين لأمته المهمات من الأحكام ليرتفع عنهم النزاع ويحصل لهم الاتفاق مما أوحاه الله تعالى إليه وليس بشيء جديد ، وقالوا : إن الله جل وعلا أوحى إليه ألا يكتب لأن هذا من المصلحة ، ولكن هنا يشكل قول عمر ، قد أجاب عنه أهل العلم ، قال : فقال عمر : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غلبه الوجع وإن عندنا كتاب الله حسبنا ، فهذا القول من عمر ليس برد ولا يحمل كما قال الخطابي على أنه توهم الغلط والخطأ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو ظن شيئا غير ذلك مما لا يليق بحال النبي عليه الصلاة والسلام ، لكنه عليه الصلاة والسلام لما غلب عليه المرض واشتد به الوجع خاف عمر أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض في مرضه مما لا عزيمة له فيه ، يقول الشيئ وهو لا يعزم فيه ، فهذا هو قول عمر ، ورأى عمر أيضا ألا يجد المنافقون لهذا مدخلا أو كلاما ، فإن كتاب الله قد تم وكمل لقوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي(1/208)
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (1) حتى قال أهل العلم : إن هذا القول من عمر هو من دلائل فقهه ودقة نظره وتأمله العجيب ، وعمر أراد بهذا القول التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرد شيئا غير ذلك ، وقد تكلم ابن حجر والقرطبي على هذا المعنى وشيخ الإسلام في الفتاوى أيضا فليراجع في مظانه ، ثم قال في الحديث أيضا : -فما اختلفوا- فاختلفوا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قوموا عني ولا ينبغي عند نبي تنازع (2) خشي أن يستمر هذا الخلاف فيما بينهم ويقع بينهم شقاق في هذه المسألة .
__________
(1) - سورة المائدة آية : 3.
(2) - البخاري : الجهاد والسير (3053) , ومسلم : الوصية (1637) , وأحمد (1/222).(1/209)
والأثر الذي بعده عند مسلم من قول ابن مسعود أنه قرأ سورة يوسف ، فقال رجل : ما هكذا أنزلت فقال : أتكذب بالكتاب ؟ ونص الحديث : أن عبد الله بن مسعود قال : كنت بحمص فقال لي بعض القوم : اقرأ علينا ، طلبوا منه أن يقرأ ، قال : فقرأت عليهم سورة يوسف ، فقام رجل ممن سمع هذه السورة وقال : ما هكذا أنزلت ، فغضب عليه عبد الله بن مسعود وقال : ويحك والله لقرأتها على رسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال لي : أحسنت ، فبينما أنا أكلمه وجدت منه ريح الخمر -من هذا الذي تكلم- قال : فقلت : أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب ، لا تبرح حتى أجلدك ، قال : فجلده الحد ، والحديث أخرجه مسلم والبخاري ، وهذا إنكار على من كذب أيضا بالقرآن ، ونسبه ابن مسعود إلى الكذب في قوله على جهة التغليظ غلظ عليه في هذا القول الذي قاله ، وليس على حقيقته إذ لو كان ذلك لحكم بردته ، يعني : هو لو قال ذلك معتقدا أنه كذب فيما يقول لحكم عليه ابن مسعود أنه مرتد ، وإنما قال له ابن مسعود ما سمعنا ، والرجل إنما كذب في قول عبد الله يعني في نسبته لكذا ولم يكذب القرآن كذب عبد الله بن مسعود ، وهذا هو الظاهر من قول الرجل ، ولذلك أقام عليه هذه العقوبة المغلظة ، وأقام عليه الحد ، والمسألة الثانية في هذا الكلام هي مسألة إقامة الحد عليه ، ربما يأتي ويقول إنسان عبد الله بن مسعود أقام الحد وهو من سائر الناس فمن رأى إنسانا يفعل هذا فليقم عليه الحد ، هذا كلام خطأ ، فالجواب على ذلك أن يقال : إن عبد الله بن مسعود رأى أنه قام مقام ولي الأمر فأنفذ فيه الحد ، أو لأن عبد الله بن مسعود كان كذلك ، فقد تولى على الكوفة وتولى القضاء هناك في زمن عمر وفي جزء من خلافة عثمان - رضي الله عنه - فأقام عليه الحد من هذا الوجه ، ولا يفسر بأن إقامة الحد من سائر الناس فهذا راجع إلى إمام المسلمين أو نائبه هو الذي يقيم الحدود بين الناس في الأرض .(1/210)
باب قول الله تعالى ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها
باب قول الله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا (1) الآية :
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - الكبر بطر الحق وغمط الناس (2)
وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : من أكبر الذنوب عند الله أن يقول العبد : اتق الله ، فيقول : عليك بنفسك .
وفي الصحيح عن أبي واقد الليثي قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر ، فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب واحد ، قال : فوقفا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها ، وأما الآخر فجلس خلفهم ، وأما الثالث فأدبر ذاهبا ، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا أخبركم عن النفر الثلاثة ؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله ، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه (3) انتهى .
قال قتادة في قوله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ (4) الآية : لعله أن لا يكون أنفق مالا ، وبحسب امرئ من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق .
__________
(1) - سورة الكهف آية : 57.
(2) - مسلم : الإيمان (91) , والترمذي : البر والصلة (1999) , وأحمد (1/399).
(3) - البخاري : العلم (66) , ومسلم : السلام (2176) , والترمذي : الاستئذان والآداب (2724) , وأحمد (5/219) , ومالك : الجامع (1791).
(4) - سورة لقمان آية : 6.(1/211)
وهذه الآية فيها أيضا التغليظ على من أعرض عن القرآن الكريم فقول الله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ (1) أي : لا أحد أظلم ، إذا جاءت الكلمة أي لا أحد أظلم ممن فعل كذا وكذا ، ولا أحد أظلم ممن وصلته الآيات وسمعها ووعاها وأدركها ثم أعرض عنها ونسيها وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) (2) فهذه الآية فيها وعيد شديد على من أعرض عن كتاب الله سواء كان قراءة أو عملا به أو تحاكما إليه ، والحديث بعده فيه تحذير أيضا من الكبر الذي هو بطر الحق ، وغمط الناس وهذا جزء من حديث أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه ، ولعل المصنف لم يذكر له تخريجا ، وهو من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا ، قال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس (3) هذا هو الشاهد من هذا الحديث فكلمة بطر الحق رد الحق ، وهو الطغيان عند النعمة وطول الغنى ، كما قال الله تعالى : كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) (4) ويبغي أيضا طريق إلى البغي ، فَبَغَى ِNخgِٹn=tو وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ (5)
__________
(1) - سورة السجدة آية : 22.
(2) - سورة السجدة آية : 22.
(3) - مسلم : الإيمان (91) , والترمذي : البر والصلة (1999) , وأحمد (1/399).
(4) - سورة العلق آية : 6 - 7.
(5) - سورة القصص آية : 76..(1/212)
قارون لما كثر ماله بغى وتكبر على قومه ، فيجعل ما جعله الله حقا الذي هو التوحيد بطر الحق بطر رد الحق والدين والإسلام ويجعل ذلك والعياذ بالله باطلا فلا يقبله فلا يرى الحق حقا ولا يرى الباطل باطلا ، أو أنه لا يقبل الحق ولا يريده لأنه يخالف هواه ويخالف شهواته ، وغمط الناس هو احتقارهم وازدراؤهم والاستهزاء بهم ، فالمتكبر هو يتكبر على الحق وعلى الخلق ، وقد ذم الله تعالى الكبر في كتابه وبين وعيد المتكبرين وحذرهم من إبليس وهو إمام المتكبرين الذين تكبروا عن الحق أبى واستكبر وكان من الكافرين ، وكان عذاب تلك القرية أنها لم تقبل الحق قال تعالى : وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا (1) فهؤلاء لم يقبلوا الحق وهو القرآن الكريم ولم يعملوا به فوقعوا في هذا الوعيد الشديد ، ويقول ابن مسعود في الأثر : من أكبر الذنوب عند الله أن يقول العبد : اتق الله ، فيقول : عليك بنفسك ، هذه كلمة خير وكلمة نافعة ودعوة صالحة أن يدعو الإنسان لأخيه ويقول اتق الله ، الله جل وعلا قد أمر نبيه بها وقال : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (2) وأمر بها الأنبياء وأُمِرَ بها المؤمنون : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ (3) وأمر بها عامة الناس يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ (4) حتى الكافر يؤمر بتقوى الله ، وإذا أمر الكافر بتقوى الله المقصود من ذلك الإتيان بالتوحيد والإقلاع عن الشرك كما قال الأنبياء لأقوامهم أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) (5) أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) (6)
__________
(1) - سورة القصص آية : 58.
(2) - سورة الأحزاب آية : 1.
(3) - سورة البقرة آية : 278.
(4) - سورة النساء آية : 1.
(5) - سورة الأعراف آية : 65.
(6) - سورة الأعراف آية : 65..(1/213)
أي أفلا تقلعون عن الشرك وتأتون بالتوحيد ، وإذا أمر بها النبي عليه الصلاة والسلام فإن المقصود من ذلك الثبات عليها يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (1) أي اثبت عليها ، وكذلك المؤمن ، وأما إذا قيلت للعاصي والمذنب فالمقصود الإقلاع عن المعصية والإتيان بالطاعة ، فالإنسان إذا دعا لأخيه فليقبل منه هذه الدعوة وليبادله أيضا بنفس الدعوة أيضا ويدعو له ، هذا هو الذي ينبغي بين المسلمين جميعا أن يدعو بعضهم لبعض وألا يدعو بعضهم على بعض ، فعد عبد الله بن مسعود هذه الكلمة أنها من الكبائر .
__________
(1) - سورة الأحزاب آية : 1.(1/214)
وفي الحديث التالي في الصحيحين من حديث البخاري ومسلم عن أبي واقد الليثي قصة الثلاثة ، قال في حديث أبي واقد الليثي : إذ أقبل ثلاثة نفر ، النفر هو اسم جمع يدل لذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام سمى الثلاثة بالنفر ، ولا يصح أن يقال للاثنين نفر هذا لغة ولا للواحد نفر ، هذا يقال للثلاثة فما فوق ، لأن أن الثلاثة هم نفر ، وهو اسم جمع وذكر هؤلاء الثلاثة فقال : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا أخبرك ، أخبره عن النفر الثلاثة الذين ذكر ، أما الأول فهو آوى إلى الله أي : لجأ وانضم إليه ، وهذه لغة في القرآن ، يعني آوى فلان إلى فلان انضم إليه ، وهذا قد لجأ إلى ربه ورغب ما عنده ، وقد قال الله تعالى : أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) (1)
__________
(1) - سورة الضحى آية : 6..(1/215)
يعني آواك ، ومعنى هذا أن هذا الرجل الذي آوى إلى هذه الذي دخل إلى هذه الحلقة أن هذا الرجل لما انضم إلى هذه الحلقة ونزل فيها فقد طلب ما عند الله وسعى في تحقيق مرضاة ربه لأنه يريد الخير من هذا العلم الذي يدار في هذه الحلقة ، الحلقة بالسكون وليست بالفتح ، يعني هنا الحلقة بفتح الحاء وسكون اللام الحلقة ، وإذا قلنا الحلقة بفتح اللام وفتح الحاء فإنها جمع حالق الشعر ، يعني هؤلاء حلقة أي حالقين شعورهم ، وأما الحلقة التي تدار للعلم أو لغيره فهذه تسمى بتسكين اللام الحلقة ، وأما الثاني فيقول النبي عليه الصلاة والسلام : استحيا ، يعني : وهبه الله حياء ، والحياء من الإيمان ، يعني : دخل في المسجد ووجد جمعا كثيرا وحينما جلسوا استحى أن يتقدم ، وهذا يحصل لبعض الناس أنه يستحي أن يتقدم أمام الناس يغلب عليه الحياء لا يحب أن يزاحم الناس ولا يحب أن يقول لهم تفسحوا لي أو كذا ، والتفسح في المجالس هو من آداب المجالس ، والذي منعه هو حياؤه ، ولكنه جلس خلف الصف ، فحياؤه الذي منعه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : فهذا قد استحيا من الله ، هذا قد استحيا من الله تعالى ، وفي الحديث استحيوا من الله حق الحياء (1) والثالث هو المعرض فسره النبي عليه الصلاة والسلام بأنه المعرض إن كان منافقا فهو داخل في الوعيد الشديد ، وإن كان مسلما فقد فوت على نفسه خيرا كثيرا ، يعني من يجلس يستمع الحلقة ثم يقوم لغير حاجة كأنه يعني سئم من هذا الحديث أو مل منه فهذا فوت على نفسه خيرا كثيرا ، لكنه لا يدخل في الإثم ، وقد يكون الإنسان يخرج لحاجة أيضا لضرورة هذا لا شيء عليه ، ولكن هذا الذي في الحديث أعرض فأعرض الله عنه لأنه كما تقدم في الآية وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا (2)
__________
(1) - الترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2458) , وأحمد (1/387).
(2) - سورة محمد آية : 16..(1/216)
يعني كأنهم أعرضوا لأنهم لم يفهموا ، لم يفهموا ماذا يقال لهم .
والحديث دل على فوائد منها :
الحض على مجالسة العلماء ومداخلتهم ، فإن الجليس لا يشقى بمجالستهم .
ودل الحديث أيضا على جواز التحلق لسماع العلم في المسجد حول العالم ، التحلق يجوز جواز التحلق عند العالم لطلب العلم .
ودل الحديث على الحض على سد خلل الحلقة ؛ لأن القرب من العالم أولى وأفضل ، يعني في حسن الاستماع والحفظ مما يقوله ، وربما في السؤال مع العالم .(1/217)
والأثر الثاني الأخير في هذا الباب قول قتادة : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ (1) قال قتادة : لعله أن لا يكون أنفق مالا ، وبحسب امرئ من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق ، فالذي يختار هذا الحديث الباطل على حديث الحق وقع في الضلالة ودخل في الوعيد وخسر الخسران المبين ، وتفسير لهو الحديث كما يقوله الصحابة رضوان الله عليهم منهم ابن عباس وجابر وعبد الله بن مسعود : أنها الغناء الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويقسي القلب ، وهو قول جماعة من الصحابة حتى إن عبد الله بن مسعود يقسم ثلاثا أن لهو الحديث هو الغناء ؛ لأنه يلهي ويصد ، والحديث إما لك وإما عليك ، فمثل هذا الحديث باطل يؤدي إلى قسوة القلب وإلى الإعراض عن القرآن الكريم والإعراض عن ذكر الله والإعراض عن أمره ونهيه وشرعه ، فلهذا دخل في التغليظ في العقوبة أيضا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ (2) لأن من وقع في المعاصي ومنها الغناء والمزامير والطرب قد يأتيه يوم ويزدري ويستهزئ بآيات الله إذا توغل في قلبه حب هذه المعاصي والذنوب والمزامير والطرب بدأ يكره الحق وبدأ يزدري أهله ويبغضهم ويحتقرهم وبدأ يتكبر على قول الحق الذي يدلونه عليه ، وهذا هو عين الضلالة نسأل الله السلامة ، نعم .
باب ما جاء في التغني بالقرآن
باب ما جاء في التغني بالقرآن :
__________
(1) - سورة لقمان آية : 6.
(2) - سورة لقمان آية : 6.(1/218)
وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن (1) وفي رواية : لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به (2) أخرجاه .
وعن أبي لبابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس منا من لم يتغن بالقرآن (3) رواه أبو داود بسند جيد .
__________
(1) - البخاري : فضائل القرآن (5023) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (792) , والنسائي : الافتتاح (1017) , وأبو داود : الصلاة (1473) , وأحمد (2/284) , والدارمي : فضائل القرآن (3497).
(2) - البخاري : التوحيد (7482) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (792) , والنسائي : الافتتاح (1017) , وأبو داود : الصلاة (1473) , وأحمد (2/284) , والدارمي : الصلاة (1488).
(3) - أبو داود : الصلاة (1469) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1337) , وأحمد (1/172) , والدارمي : فضائل القرآن (3488).(1/219)
هذا الباب هو آخر الأبواب ، وفيه الحث على تحسين الصوت بقراءة القرآن الكريم ، وإذا قيل تحسين الصوت لا يدخل في ذلك التكلف المنهي عنه من التقعر والتنطع في ألفاظ القرآن الكريم لحروفه وإخراجها عن مخارجها الصحيحة ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن (1) ومعنى : ما أذن ، أي ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن ، هذا معنى الحديث ، دل على ذلك قوله في الحديث : يجهر به ، جاء في بعض الروايات أي يتلوه ويجهر به ، وذلك أنه يجتمع في قراءة الأنبياء عليهم السلام ، لما قال ما أذن الله لنبي ، يجتمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت وحسن الكمال لكمال خلقهم وتمام خشيتهم لربهم وذلك هو الغاية ، فالأنبياء أعطاهم الله صوتا حسنا لتلاوة القرآن الكريم ، والله جل وعلا يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم كما قالت عائشة رضي الله عنها عند البخاري : سبحان الذي وسع سمعه الأصوات ، ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين هي أعظم ، ثم استماعه لصوت أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، أبلغ وأشد وأعظم كذلك أبلغ وأعظم كما دل عليه هذا الحديث ، يدل على كمال الأنبياء وتمام خشيتهم لله تعالى ، ويدل على ذلك أن الله تعالى يقول : وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ (2)
__________
(1) - البخاري : فضائل القرآن (5023) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (792) , والنسائي : الافتتاح (1017) , وأبو داود : الصلاة (1473) , وأحمد (2/284) , والدارمي : فضائل القرآن (3497).
(2) - سورة يونس آية : 61..(1/220)
فهو سبحانه مطلع على عباده ويسمع أصواتهم كلهم دقيقها وجليلها سرها وعلانيتها ، أحاط علمه بكل شيء ووسع سمعه الأصوات ، والإذن هنا بمعنى قيل أيضا الأمر ولكن الصحيح هو الأول ، الأول هو الصحيح وهو السماع ، ما هو القرينة ؟ القرينة قوله : يجهر به في الحديث ، قال : يجهر به ، يدل على أنه يستمع لقراءته ، ودل على ذلك أيضا قوله تعالى : إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) (1) وأذنت هنا استماع فالإذن هنا بمعنى الاستماع ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) (2) وحق لها أيضا أن تستمع ، والتغني الوارد في الحديث كما فسره سفيان بن عيينة المراد به الاستغناء بالقرآن عن غيره ، والاستغناء أيضا بالقرآن عن أعراض الدنيا ، ويدخل في ذلك أيضا تحسين الصوت بالقرآن الكريم ، يسعى الإنسان في تحسين صوته وترتيله وقراءته ؛ لأن الله تعالى يقول : وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) (3) فتحسين الصوت بالقرآن الكريم جاء الأمر به في حديث زينوا القرآن بأصواتكم (4) أو زينوا أصواتكم بالقرآن (5) فالمؤمن القارئ يسعى إلى تحسين صوته بالقرآن الكريم ، ويحاول أن يسعى إلى إخراج الحروف من مخارجها الصحيحة ويكمل الصفات ويؤدي الأحكام ويحرص على حسن الأداء ، لكن لا يخرج عن الحد المعقول والمطلوب فيقع في الألحان المحرمة أو فيما يتعلق بالطرب بالأصوات .
__________
(1) - سورة النشقاق آية : 1 - 2.
(2) - سورة النشقاق آية : 2.
(3) - سورة المزمل آية : 4.
(4) - النسائي : الافتتاح (1015) , وأبو داود : الصلاة (1468) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1342) , وأحمد (4/285) , والدارمي : فضائل القرآن (3500).
(5) - النسائي : الافتتاح (1015) , وأبو داود : الصلاة (1468) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1342) , وأحمد (4/285) , والدارمي : فضائل القرآن (3500).(1/221)
وبهذا هناك مسألة يعني يكثر السؤال فيها وهي القراءة بالألحان ، فهذه من المسائل التي اختلف فيها الفقهاء ، قد ذكرها ابن القيم في زاد المعاد ، والعلماء فيها على ثلاثة أقوال ، قراءة القرآن بالألحان :
الأول : القول الأول أجاز بعضهم تلحين القرآن ولو بالغ الإنسان في ذلك لكن لا يخرج القرآن عن صيغته وصفته وألفاظه وحروفه ، أجازوا المبالغة ، وهذا فريق من الأحناف أجازوا المبالغة بالقراءة بالألحان .
والثاني : قالوا يكره تلحين القرآن تلحينا غير مفرط ، يكره ؛ لأنه قد يترتب على ذلك إخراج القرآن إخراج حروف القرآن عن مخارجها الصحيحة ، وهذا قول مالك وقول أحمد وهو القول الظاهر .
الثالث : أنه يستحب تلحين القرآن تلحينا غير مفرط بحيث لا يخرجه عن صيغته ، وهذا قال به بعض الفقهاء والمتأخرين ، والمختار في هذه المسألة أن قراءة القرآن تقرأ بالألحان بقدر معلوم وليس بتكلف قوي ، والمقصود بالقدر هو إعطاء الحروف حقها ومستحقها من المخارج والصفات ومعرفة المواقف موقف الآية والابتداء فيها ، ولا أن يكون فيها تكلف أيضا ولا خروج عن الحد المعقول في القراءة ، قالوا : وذلك إذا قصد به الاتعاظ والاعتبار وتقريب قلوب الناس إلى القرآن الكريم حتى يتأثروا به أيضا فيكون سبيلا لأن يعملوا به ، وأما إذا قصد بالتلحين في القراءة الاهتزاز واعتلاء الصوت وخفضه ورفعه بقوة ، وكذلك الطرب والأصوات التي تحدث بعد القارئ بالتكبير أو التهليل أو الإعجاب أو غير ذلك فهذا لا يجوز ، هذا محرم هذا لا يجوز ، ولكن إذا قصد بذلك الاتعاظ والعبرة وتقريب قلوب الناس وتأثير الناس ، وقد أعطى الله هذا القارئ صوتا حسنا وتأثيرا في قراءته فإذا قرأ على من حوله بقراءة فيها لحن باعتدال واتزان وتوسط فهذا لا بأس به كما أشار إلى ذلك ابن القيم في زاد المعاد .(1/222)
وبهذا نصل إلى ختام الكتاب نسأل الله تعالى أن يختم لنا بخير ، وأن يجعل مآلنا إلى خير ، وأن يرزقنا الرحمة فهو خير الراحمين ، وأن يحفظنا وهو خير الحافظين ، وأن يسلك بنا صراطه المستقيم ، وأن يجعلنا هداة مهتدين واقفين عند حدود ربنا لا معتدين متبعين لسنة نبينا لا مبتدعين ، ونسأل الله تعالى أن يمن علينا برحمة يهدي بها قلوبنا ويلم بها شعثنا ويرحم بها ضعفنا ويدفع بها الفتن عنا إنه على كل شيء قدير ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
أحسن الله إليكم سائل يقول : نرجو بسط الكلام في مسألة الأحرف السبعة ، وهل هي موجودة الآن ؟ وما هذه الروايات السبع ؟(1/223)
الكلام على الأحرف السبعة يكون عند قول النبي عليه الصلاة والسلام : أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه (1) وهذا من الأحاديث المشكلة عند أهل العلم ، بعضهم لم يصل إلى جواب في هذا المعنى حتى إن السيوطي وصل فيها إلى اثنين وثلاثين قولا وكذلك ابن الجزري في النشر في القراءات العشر ، وقوله عليه الصلاة والسلام : أنزل القرآن على سبعة أحرف (2)
__________
(1) - البخاري : فضائل القرآن (4992) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (818) , والترمذي : القراءات (2943) , والنسائي : الافتتاح (938) , وأبو داود : الصلاة (1475) , وأحمد (1/42) , ومالك : النداء للصلاة (472).
(2) - البخاري : فضائل القرآن (4992) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (818) , والترمذي : القراءات (2943) , والنسائي : الافتتاح (938) , وأبو داود : الصلاة (1475) , وأحمد (1/42) , ومالك : النداء للصلاة (472)..(1/224)
يعني أن المراد بذلك كما قال الطبري : سبع لغات من لغات العرب ، والعلماء اختلفوا في هذا اختلافا كبيرا جدا البسط فيه يطول ، والأحرف السبعة لم يجمع الصحابة رضوان الله عليهم في تدوين المصحف إلا على حرف واحد من هذه الأحرف السبعة كما قلت لكم ونحن نقرأ بقراءة واحدة من القراءات السبع التي هي حرف من الأحرف السبعة ، ولكن قد يشكل القراءات السبع مع الأحرف السبعة ، وهذا قد لام العلماء ابن مجاهد عندما ألف كتابه السبعة بسبعة قراء وهم نافع إلى أن ينتهي بالكسائي ، قال : يا ليته زاد أو نقص عن هذا ، يقول ابن الجزري من العلماء يقول : يا ليته زاد أو نقص ، يعني جاب ثمانية قراء أو ستة قراء حتى لا يتوافق اللفظ مع الحديث فيشكل حينئذ ، حتى إن بعض الناس ظن أن الأحرف السبعة هي القراءات السبع وهذا خطأ وغلط لا يصح ، القراءات السبع هي حرف من الأحرف السبعة ، وأما الأحرف الستة الباقية فكما يقول العلماء إن عثمان - رضي الله عنه - أحرق تلك المصاحف ولم يبق منها شيء ، والناس الآن يقرؤون على حرف واحد سواء قرؤوا بقراءة نافع أو ابن كثير أو قرؤوا بقراءة أبي عمرو أو نافع أو ابن عامر أو قرؤوا بقراءة حمزة أو الكسائي أو عاصم فهذا حرف من الأحرف السبعة .
أحسن الله إليكم يقول السائل : ما حكم القراءة بالمقامات مثل ما يسمى الرست نهاوند وغيرها من مقامات ؟(1/225)
هذه أدخلوها في الألحان أيضا وهي مصطلح جديد ، ما يسمى بالمقامات ، يعني : الذي يرفعون أيديهم في المدود ويخفضون كما يفعلون أحيانا أصحاب الموسيقات يتعلمونها الذين يرفعون أيديهم كذا وكذا هذه في المدود وغيرها هذه التي لا ينبغي فعلها ، هي لا تأتي بتعلم ولا بتكلف وإنما تأتي بالصوت والقراءة فلا يتعلم هذه الألحان ، يتعلمها في أماكن مخصوصة ومعاهد معلومة ويقرأ فيها هذا ، قد يخرج القرآن عن هيئته وصورته ويبعد الفائدة والمنفعة فيتأثر الإنسان بالصوت ولا يتأثر بالقرآن ، بالمدود ويتأثر بالألحان التي يلحن فيها هذا القارئ ، وأقول لا بد أن يؤخذ من هذه الألحان بقدر معلوم وليس بزيادة تخرجها عن حدها .
أحسن الله إليكم يقول : كيف يكون هناك بدعة حسنة لقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نعم البدعة ؟
العلماء قالوا إنه يريد المعنى اللغوي ولا يريد المعنى الشرعي في هذه المسألة ، من حيث اللغة وليس من حيث الشرع ، وإلا كل البدع ضلالة كما عمم النبي عليه الصلاة والسلام قال : كل بدعة ضلالة (1) هذا من حيث المفهوم اللغوي يصح أن يقال هذا .
سائل يقول : أحسن الله إليكم كيف يكون المؤمن مستحيا من الله حق الحياء ؟
__________
(1) - مسلم : الجمعة (867) , والنسائي : صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه : المقدمة (45) , وأحمد (3/310) , والدارمي : المقدمة (206).(1/226)
الاستحياء من الله أن يحفظ نفسه من الوقوع في المحارم والمعاصي ، ما هو تعريف الإحسان ؟ الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، فإذا حدثتك نفسك بمعصية فتذكر العليم الخبير ، وما الذي منع يوسف عليه السلام من الوقوع بالمعصية إلا حياؤه وخوفه من الله تعالى ، وقد قال تعالى ، ومن وقع في معصية فعليه أن يتذكر ربه وأن يتذكر قول الله تعالى : ِ@©.uqs?ur 'n?tم ح"ƒحoyèّ9$# ةOٹدmچ9$# اثتذب "د%©!$# y71tچtƒ tûüدm مPqà)s? اثترب y7t7=s)s?ur 'خû tûïد‰ةf"،،9$# اثتزب ¼çm¯Rخ) uqèd كىٹدJ،،9$# قOٹخ=yèّ9$# اثثةب (1) ختمها بالسمع والعلم ، قال ¼çm¯Rخ) uqèd كىٹدJ،،9$# (2) يراك ويطلع على أحوالك "د%©!$# y71tچtƒ tûüدm مPqà)s? اثترب y7t7=s)s?ur 'خû tûïد‰ةf"،،9$# اثتزب ¼çm¯Rخ) uqèd كىٹدJ،،9$# قOٹخ=yèّ9$# اثثةب (3) فرق بين من يفعل المعصية في مكان خال ، وبين إنسان يذكر الله في مكان خال ، فهذا من السبعة الذين أظلهم الله : ورجل ذكر الله ففاضت عيناه (4) من البكاء ليس عنده أحد خاليا ، فليتذكر الإنسان نفسه وليتذكر أن الله مطلع على أحواله ، هذا هو الحياء الذي يمنع الإنسان ، والحياء شعبة من شعب الإيمان .
أحسن الله إليكم ، سائل يقول : هل هناك شروح على هذا المتن ؟
فيما أعلم الإخوان لم يذكروا لي شيئا ولم أقف على شيء في هذا ونكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
__________
(1) - سورة الشعراء آية : 217 - 220.
(2) - سورة الشعراء آية : 220.
(3) - سورة الشعراء آية : 218 - 220.
(4) - البخاري : الأذان (660) , ومسلم : الزكاة (1031) , والترمذي : الزهد (2391) , والنسائي : آداب القضاة (5380) , وأحمد (2/439) , ومالك : الجامع (1777).(1/227)