كتاب الكبائر
للشيخ: محمد بن عبد الوهاب
-رحمه الله-
شرح الشيخ:
صالح بن فوزان الفوزان
-حفظه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين,وعلى الإمام المجدد محمد ابن عبد الوهاب-رحمه الله تعالى-في كتابه كتاب الكبائر..
بسم الله الرحمن الرحيم.. وبه نستعين..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على عبده و رسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الشيخ الإمام المجدد رحمه الله ألف مؤلفات كثيرة نادرة ومفيدة في بيان التوحيد وبيان الشرك, وفي بيان المعاصي والذنوب, كل ذلك من باب النصيحة للمسلمين, والدعوة إلى الله –عزوجل-والإصلاح في الأرض, وهذه طريقة الرسل عليهم الصلاة السلام, والإنسان مادام على قيد الحياة فإنه سيعمل ويتحرك ولا يبقى ساكنا وجامدا لا يتحرك, لا بد أن يتحرك ولا بد أن يعمل, فإما أن يكون عمله في الخير أو في الشر ؛ ولهذا بعث الله الرسل لدعوة الناس للخير وتحذيرهم من الشر, والله جعل دارين للجزاء, الجنة وهي دار المتقين العاملين بالطاعات, والنار دار الكافرين العاملين بالمعاصي والسيئات وفرق بينهم فقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}
الله جل وعلا يميز بين أفعال عباده ولا يظلم أحد فالمحسن يضاعف له إحسانه ويزيده من فضله وكرمه, والمسيء: إما أن يعفوا عنه أو يجازيه بمثلها {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا}(1/1)
السيئة بمثلها ولا تضاعف؛ لأنه عدل من الله, والحسنة يضاعفها الله ويزيدها وينميها فضلا منه..{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} فالمضاعفة فضل من الله, والجزاء على السيئة بمثلها عدل من الله.
والطاعات قسمين: واجبات أو مستحبات
الواجب.. ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه
المستحب... مايثاب فاعله ولا يعاقب تاركه..هذه الطاعات.
المعاصي تنقسم إلى أقسام:
منها ما هوكفر وشرك, ومنها ما هو كبيرة دون الشرك, ومنها ما هو الصغيرة.
فأما الكفر والشرك هذا لا يغفره الله إلا إذا تاب صاحبه منه قبل أن يموت, لو مات عليه فهو خالد مخلد في النار {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}
وأما الكبائر التي دون الشرك فهذه تحت المشيئة إن شاء الله غفر لصاحبها وإن شاء عذبه {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}.
أما الصغائر تسمى الصغائر وتسمى اللمم هذه تكفر بأشياء:
أولا: الصلوات الخمس يكفرالله بها الصغائر {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} قال صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر).
والله حث على التوبة والاستغفار وهو مما يمحو به, وإن كان كبيرة, وإن كان كفر, وإن كان شركا من تاب وأصلح العمل فإن الله يتوب عليه, وباب التوبة مفتوح الليل والنهار ما لم يغرغر العبد، إلى أن تطلع الشمس من مغربها حينئذ لا يقبل من أحد توبة {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً}.
والذنوب تنقسم إلى: كبائر وصغائر(1/2)
وضابط الكبيرة: ذكره الشيخ -عن ابن عباس- وهو الذي اختاره المحققون كابن تيمية وغيره.
وقد ألف في الكبائر مؤلفات منها هذا الذي بين أيدينا، وكتاب الكبائر للذهبي, ومنها الزواجر عن اقتراب الكبائر لابن حجر.
وهذه الكبائر -كما ذكرنا- إن كانت شركًا بالله أو كفرًا بالله فإنها لا تغفر إلا بالتوبة ومن مات ولم يتب فإنه خالد مخلد في النار {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}
{إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}.
أما إن كانت هذه الكبائر دون الشرك فعند أهل السنة والجماعة: تُفَسِّق ولا تُكَّفِر صاحبها يحكم عليه أنه فاسق وأنه ناقص الإيمان لكن لا يكفر بها، بدليل أن الله قال: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}، فهي لا تُكَّفر وإنما تفسق وتنقص الإيمان, ولهذا رتب الله عليها الحدود مثل: السرقة, والزنا, شرب الخمر, القتل العمد, العدوان, وقطاع الطريق؛ رتب الله عليها حدودًا، ولو كان مرتكبوها كفارًا لما أقيم عليهم الحدود لقتلوا مرتدين, فإقامة الحد دليل على أنها ليست كفرًا وإنما هي كبائر ومعاصي تقام الحدود المرتبة عليها, وهذه الحدود إما زواجر وإما مكفرات، يقام عليه الحد في الدنيا ولا يقام عليه مرة أخرى في الآخرة.
أما الخوارج يحكمون على مرتكب الكبيرة بالكفر والخلود في النار, ولا يفرقون بين كبيرة الشرك والكفر وبين كبيرة المعاصي, يقولون الكبائر كلها مكفرة والعياذ بالله.(1/3)
وأصحابها مخلدون في النار, أخذوا بآيات الوعيد وتركوا آيات المغفرة والوعد, أخذوا بجانب من الأدلة وتركوا جانبا لعدم فقههم, وعدم معرفتهم للكتاب والسنة واعتمادهم على فهمهم, دون الرجوع إلى أهل العلم, هذه نتيجة الانعزال عن أهل العلم, تورث مثل هذا تورث هذا الضلال.
والمعتزلة يقولون: مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان, ولكنه لا يدخل في الكفر بل إنه في منزلة بين المنزلتين, ليس بمؤمن ولا كافر, فإن مات ولم يتب فهو خالد مخلد في النار, كما يقوله الخوارج, اجتمعوا مع الخوارج في جزائه في الآخرة, وخالفوهم في حكمه في الدنيا ابتدعوا المنزلة بين المنزلتين كما يقولون.
والمرجئة على النقيض يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية, الإيمان في القلب وهو التصديق، وهو لا يزيد ولا ينقص, والمعاصي لا تضر, مادام أنه مؤمن بقلبه فإن المعاصي لا تضره ولا تنقص إيمانه.
هذا مذهب المرجئة لأنهم لا يدخلون العمل في حقيقة الإيمان.
ويقولون: الإيمان هو الاعتقاد بالقلب, بعضهم يقول: اعتقاد بالقلب ونطق باللسان.
وبعضهم يقول: هو المعرفة فقط ولو لم يعتقد كالجهمية هذا أشد أنواع الإرجاء.
وقسم يقولون: الإيمان هو قول باللسان دون اعتقاد بالقلب وهذا قول الكرامية.
المرجئة على اختلاف فرقهم الأربع لا يُدخلون الأعمال في الإيمان ويقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب, ولا يزيد ولا ينقص, فإيمان أبو بكر مثل إيمان أفسق الناس؛ لأنه مادام أنه مؤمن بقلبه يكفي هذا.
هذا مذهب المرجئة وهو تفريط, الخوارج مذهبهم إفراط وغلو, وكلا الطائفتين ضال مخالف للحق.
الصواب مذهب أهل السنة والجماعة المأخوذ من الكتاب والسنة, فالخوارج والمعتزلة يقال لهم الوعيدية؛ لأنهم أخذوا بنصوص الوعيد, والمرجئة أخذوا بنصوص الوعد وتركوا نصوص الوعيد, أهل السنة والجماعة جمعوا بين نصوص الوعد والوعيد وهذا هو الحق.
المعاصي لا يقال أنها لا تضر -كما قال المرجئة-, بل تضر, تنقص الإيمان, تفسق.(1/4)
ولا يقال إنها تخرج من الملة -كما تقوله الخوارج والمعتزلة- بل صاحبها مؤمن ناقص الإيمان, مؤمن بإيمانه فلا يعطى الإيمان المطلق, ولا يسلب منه مطلق الإيمان.
لا يعطى الإيمان المطلق كما تقوله المرجئة, ولا يسلب منه الإيمان كما تقوله الخوارج والمعتزلة.
وهذا أمر مهم جدا التفقه فيه ومعرفته خصوصا هذا الزمان, الذي التبس فيه الحق بالباطل وظهر المتعالمون الذين يتعالمون على الكتب وعلى فهمهم دون الرجوع إلى أهل العلم, اختلطت الأمور الآن,فظهر من يكفرون الناس وظهر من يتساهلون وهم المرجئة على طرفي نقيض, فلابد من معرفة الحق في هذا والتمسك به لئلا ينحرف الإنسان فيكون مع المغالين, أو ينحرف ويكون مع المفرطين المتساهلين, بل يكون الإنسان معتدلا في هذا الأمر, فإنه مزلة أقدام ومضلة أفهام.
لأنهم إذا حكموا على المسلمين بالكفر استحلوا دمائهم, وأموالهم وشقوا عصى الطاعة وحصل ما يحصل كما حصل من الخوارج من قبل, وإذا قالوا بقول المرجئة تسلط أهل الكفر والشر والنفاق يرتكبون الفواحش والكفر والعصيان ويقولون نحن مؤمنون.
كلا المذهبين خطر شديد على هذا الدين.
المتن..
قال رحمه الله تعالى: "وقول الله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية".
الشرح: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}: هذا دليل على أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر, وأن من اجتنب الكبائر كفر الله عنه الصغائر, وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى.
{وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً}: هذا وعد من الله, وفيه رد على الخوارج والمعتزلة.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}
ومن الأدلة على أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر -آية النجم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ}.
كبائر الإثم: هي المعاصي.(1/5)
الفواحش: جمع فاحشة وهي ما تناهى قبحه وشناعته.
{إِلَّا اللَّمَمَ}: وهي الصغائر.
ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} الصغائر تكفر بمكفرات كثيرة منها:
- اجتناب الكبائر كما في هذه الآية
- ومنها: الصلوات الخمس.
- ومنها: المصائب التي تنزل بالإنسان -من الأمراض والأسقام والهموم, وموت الأقارب, حتى الشوكة يشاكها كلها مكفرات للصغائر وهذا من فضل الله عز وجل.
والآية الثانية في الشورى{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}
الآية روى ابن جرير عن ابن عباس قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب
الشرح:
الكبائر: هي المعاصي ما نهى الله عنه.
ما نهى الله عنه معصية ومحرم لكن إن رُتب عليه وعيد في الآخرة, أو حد في الدنيا فإنه كبيرة, وإن لم يرتب عليه عقوبة ولا وعيد فإنه معصية صغيرة من اللمم.
(ختمه الله) أي.توعد الله عليه بالنار أو لعن من فعله, أو لعنه الرسول - صلى الله عليه وسلم- هذا كبيرة.
(أو غضب): توعده الله بالغضب, هذا كبيرة.
(أو حد في الدنيا): مثل القصاص, قطع يد السارق, جلد الزاني.
هذه الكبائر التي عليها حد في الدنيا أو غضب أو توعد باللعن هذه هي الكبائر.
وما نهى الله عنه ولم يرتب عليه شيء من ذلك فهي من الصغائر.
وله قال: هي إلى 700أقرب منها إلى السبع.
الشرح: عن ابن عباس الكبائر كثيرة هي إلى 700 أكثر منها إلى السبع.
لكن الكبائر تنقسم إلى قسمين: الكبائر ليست على حد سواء منها كبائر عظيمة ومنها دون ذلك.
هناك أكبر الكبائر وهناك ما هو كبائر وليس من أكبر لكبائر فالكبائر تتفاوت، وأما عدها يرجع فيه إلى الكتاب والسنة.
خذ هذا الضابط الذي ذكره ابن عباس وطبقه على المعاصي، فما انطبق منها فهو كبيرة, وما وجدت أنه منهي عنه ولم يرتب عليه شيء منها فهو صغيرة وحرام.(1/6)
والعلماء ألفوا في الكبائر: الحافظ الذهبي أوصلها إلى أكثر من 70, وابن حجر الهيثمي أوصلها إلى أكثر من 400، ابن عباس قال: هي إلى 700 أقرب
أكبر الكبائر: السبع الموبقات كما قال صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات).
وله عنه قال هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
"لا كبيرة مع الاستغفار": فمن استغفر الله صادقا من قلبه تاب الله عليه, ومحا عنه ذنبه, والصغيرة لا يتساهل بها إن استمر عليها, فالصغيرة تعظم وتصبح كبيرة. لا يتساهل بها الإنسان لأنها قد تجره على الكبائر, فليحذر الإنسان من المعاصي, والكبائر والصغائر. قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}.
قالوا: الكفر معروف، أكبر الكبائر
الفسوق: الكبائر التي دون الكفر, والعصيان هي الصغائر.
ولعبد الرزاق عنه هي إلى سبعين أقرب منها إلى السبع
ما حصرت بعدد ولكن تنضبط بهذا الضابط الذي روي عن ابن عباس واختاره المحققون كابن تيمية -رحمه الله- وغيره من أهل العلم.
ثم قال رحمه الله تعالى. (باب أكبر الكبائر)
الشرح: عرفنا أن الكبائر ليست سواء منها أكبر الكبائر ومنها الكبائر دون ذلك, والسبع الموبقات أكبر الكبائر (ألا أنبئكم أكبر الكبائر, قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك بالله, والسحر, وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, وأكل الربا, وأكل مال اليتيم, والتولي يوم الزحف , وقتل المحصنات المؤمنات الغافلات).
في الصحيحين عن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلي يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين)(1/7)
الشرك بالله أكبر الكبائر؛ لأنه لا يغفر إلا بالتوبة صاحبه مخلد في النار, بخلاف الكبائر التي دون الشرك, فإنها وإن عذب صاحبها في النار, فإنه لا يخلد فيها, وقد لا يعذب يعفو الله عنه ولا يعذب.
قلنا: بلي يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين.
(وعقوق الوالدين): لأن الله لما ذكر حقه ذكر حق الوالدين, قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}
حق الوالدين يأتي بعد حق الله, عقوق الوالدين من أكبر الكبائر بعد الشرك, هو الذي يلي الشرك والعياذ بالله.
كما أن حق الوالدين يلي التوحيد {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}
وكان متكئاً فجلس فقال: (ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.
الزور: الكذب، سمي زروا: لأن صاحبه يزينه, ويزوره, ويحسنه, حتى يقبل.
الكذب يزور ويحسن ويزين حتى يظنه الناس صدقا وحق، فالزور أعظمه الشرك ودعاء غير الله عزوجل.
وشهادة الزور: التي يشهد بها عند القاضي لأجل أن يحكم للخصم بها, هذه الشهادة من أكبر الكبائر. تساهل الناس بالشهادة فأصبحوا يفزعون ويتعاونون وهي من أكبر الكبائر بعد الشرك.
وأنت تضر صاحبك الذي تشهد له ما قلت تمنعه تضره لأنك أدخلت عليه ما يستحق وأخذت الحق من صاحبه وتهاونت بحق الله سبحانه وتعالى، شهادة الزور خطيرة جدًا، ولكنها أصبحت عند كثير من الناس من الأمور السهلة التي يفزع بها إليها عند صديقه وقريبه وصاحبه. وربما يكون بعضهم هذا نفع له و إعانة له.
ومنها: التزكيات الباطلة, الذين يزكون الشخص وهو غير أهل للتزكية هذا من شهادة الزور, إذا حكمت أن هذا الشخص طيب وأنه خلوق وأنه.. وأنه.. وأنه صاحب دين وهو ليس كذلك هذا من شهادة الزور.
(باب كبائر القلب)(1/8)
كبائر القلب تنقسم إلى قسمين:
1- كبائر على الجوارح كالزنا والسرقة وقتل النفس.
2- وكبائر من أعمال القلوب مثل الكبر والحسد من الكبائر لكنها ليست أعمال على الجوارح لكنها من أعمال القلوب.
الكبر والاختيال والعجب وازدراء الناس واحتقارهم وبغض الحق والمعروف وحب المنكر هذا من أعمال القلوب.
عن أبي هريرة -رضى الله عنه- قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله لا ينظر إلى صوركم، وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواه مسلم.(1/9)
الله جل وعلا لا ينظر نظر اعتبار وجزاء، لا ينظر إلى الأجسام وجمالها مع فساد القلوب, ربما يكون العبد جميل الجسم جميل المظهر لكن قلبه فاسد, الله لا ينظر إليه نظر إكرام ونظر رحمة, وإنما ينظر إليه نظر غضب, قال تعالى في المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} أو عندهم جمال وحسن طلعة، ولكن قلوبهم فاسدة {وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} فليس العبرة بجمال الجسم قد يكون جسمه دميما ومحتقرا عند الناس لكنه كريم عند الله لأن قلبه طيب، قلبه طيب مؤمن صادق مع الله عز وجل ولهذا يقول -صلى الله عليه وسلم-: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) ليس العبرة بالمظهر، وإنما العبرة بالمخبر، وكذلك الأموال ليست محل اعتبار عند الله {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى}، {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} فمحل الاعتبار عند الله ليس جمال المظهر وليس كثرة المال والمنصب وإنما الاعتبار بالقلب، ينظر إلى القلب وإلى العمل الصالح حتى وإن كان صاحب القلب الطيب والعمل الصالح ليس له منظر يغري الناس ويعجب الناس بل ربما يكون محتقرًا عند الناس وهو كريم على الله –جل وعلا-.
وعن النعمان بن بشير رضى الله عنه مرفوعًا: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، أله وهي القلب).
نعم هذا يدل على أهمية القلب في الجسم: أن العبرة ليست بجمال الجسم إنما العبرة بالقلب، القلب.. للجسم، هذه المضغة وهذه اللحمة التي هي صغيرة بالنسبة للجسم، هذه هي محل الاعتبار عند الله عز وجل.(1/10)
حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- طويل، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الحلال بين وإن الحرام بين...)
مضغة مضغة قطعة لحم قطعة لحم، إذا صلحت وصارت قلبًا سليمًا طيبًا معتبرًا ذاكرًا لله عز وجل خائفًا من الله خاشعًا لله، محبًّا للخير وأهل الخير، مبغضًا للشر وأهل الشر، فهذا قلب طيب، وهذا هو القلب السليم كما قال تعالى: { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وقال في إبراهيم عليه السلام: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} سليمًا لله عز وجل من الغش والكبر والخداع والمكر وغير ذلك من آفات القلوب، فإذا صلحت الأعمال الجوارح هذا دليل على صلاح القلب، وإذا فسدت أعمال الجوارح فهذا دليل على فساد القلب؛ لأن القلب هو ملك الجوارح والملك إذا صلح صلحت الرعية وإذا فسد فسدت الرعية، وكذلك القلب في الجسم ولهذا كان -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الدعاء: (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك)، والراسخون في العلم يقولون: { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} فالقلب هو الأصل وهو مصدر الخير أو مصدر الشر، ومصدر الصلاح للجسم أو الفساد للجسم.
بعض المغالطين أو المغرورين إذا قيل له: لماذا تحلق لحيتك؟ لماذا لا تصلي؟ قال: الإيمان في القلب، ربما يستدل بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (التقوى هاهنا -وأشار إلى صدره صلى الله عليه وسلم-) نعم الإيمان في القلب، ولكن إذا كان في القلب إيمان صلح العمل وصلحت الجوارح، وحلق اللحية وترك الصلاة والذنوب هذا فساد يدل على أن القلب فاسد، وإذا صدر عن الجوارح وعن الجسم أعمال طيبة هذا دليل على أن القلب صالح. (إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)
فلايكون صلاح في القلب مع فساد في الجوارح أبدا.
(باب ذكر الكبر)(1/11)
هذا من آفات القلب ومن أعمال القلب الكبر وهو الترفع على الناس وعدم قبول الحق إذا استكبر عن الحق والله تعالى يقول: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} والكفار إنما كفروا ورفضوا إتباع الرسل من باب الكبر والترفع في أنفسهم {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا}.
{إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} يترفعون {لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ} وهكذا يترفعون عن الحق، يتكبرون على الرسل يتكبرون على ربهم عز وجل.
والكبر مرض خطير وقل من يسلم منه، لكن الإنسان يقاومه بالتواضع ويقاومه بالانكسار بين يدي الله عز وجل.
وقول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً}
مختال: من الاختيال وهو الكبر, والفخور: هو الذي يفخر بنفسه وبآبائه وحسبه ونسبه, يفتخر على الناس بذلك.
الله "لا يحبه" يعني: يبغض المختال والفخور, وهما من الكبر.
والفخر بالأحساب والطعن في الأنساب من أمور الجاهلية التي أخبر عنها الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أربع في أمتي من أمور الجاهلية لا يتركونهن ,الفخر بالأحساب والطعن بالأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت).
وقول الله تعالى: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}
يعني: النار بئس مثوى المتكبرين. لبئس النار مثوى المتكبرين يعني: مقامهم وجزاؤهم.
فجعل النار جزاء للمتكبرين هذا فيه تحذير من الكبر.
الكبر بطر الحق وغمط الناس
ليس معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم وإلى صوركم) ليس معناه أن الإنسان لا يتجمل أو لا يطلب الرزق.(1/12)
معناه: يتجمل من غير كبر. يتجمل في ملبسه وجسمه وهيئته ومظهره, إن الله جميل يحب الجمال, الكبر في القلب ليس في الجسم, قد يكون رثًّا وسخا لكنه متكبر والعياذ بالله, وقد يكون نظيفًا جميلاً بهيًّا وهو متواضع لله, الرسول كان أحسن الناس جسمًا ومنظرًا وأطيب الناس رائحة -عليه الصلاة والسلام-, ليس معنى كل من كان جميلاً فهو متكبر, هذا يرجع إلى القلب, وليس كل ذميم يكون متواضع لله, العائل المستكبر كما سيأتي.
العائل يعني: الفقير، هذا من أبغض الناس عند الله عزوجل.
وإن الرجل ليتكبر وعليه العباءة, فليس العبرة بالمظاهر؛ العبرة بالقلوب, وإلا حسن المظهر مطلوب منا.
عن ابن مسعود -رضى الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) فقال رجل: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة قال: (إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناس) رواه مسلم.
هذا فيه الوعيد الشديد على المستكبر, أنه لا يدخل الجنة وفيه كبر حتى يمحصه الله عزوجل من الكبر.
فقال رجل: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة قال: (إن الله جميل يحب الجمال) جميل هذا وصف لله جل وعلا, ويحب الجمال من خلقه يتجملون ويتزينون ويظهرون بمظهر حسن, ويشكرون نعمة الله عليهم خصوصًا إذا جاؤا إلى المساجد والمجامع متجملون متطيبون في أحسن مظهر شكرًا لله تعالى.
الكبر بطر الحق وغمط الناس
حتى ولو كان مظهره ليس جميلا, إذا كان يبطر الحق ويغمط الناس هذا هو الكبر.
(بطر الحق): دفعه وعدم قبوله إذا تبين له.
كثير من الناس لا يقبلون الحق -ولا حول ولا قوة إلا بالله- تقول لهم: قال الله وقال رسوله، لا يقبلون، يتبعون أهوائهم وشهواتهم، أو من يقلدونه من رؤسائهم وزعمائهم وقادتهم, وممكن يتبركون بالأحاديث والآيات من باب التبرك أما العمل فلا يعملون ما يتخبط لهم من رؤسائهم.(1/13)
حتى بعض طلبة العلم تقول له: هذا ليس كذا؛ لا يقبل وهذا كبر, الواجب من المسلم لو تبين له الحق أخذ به وبادر بالأخذ به؛ لأنه لو علم الحق ولم يأخذ به يصاب بالزيغ والعياذ بالله {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} تبين لهم الحق وصدق الرسول فلم يقبلوا فختم على قلوبهم.
وروى البخاري عن حارثة بن وهب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر) العتل: الغليظ الجافي، والجواظ: قيل المختال الضخم وقيل القصير البطين وبطر الحق رده إذا أتك، وغمط الناس احتقارهم.
هذا تفسير الكبر: بطر الحق وغمط الناس, تفسير من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالذي لا يقبل الحق هذا مستكبر, والذي يحتقر الناس هذا مستكبر.
ولأحمد وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد رفعه (من تواضع لله درجة رفعه الله درجة حتى يجعله في أعلى عليين، ومن تكبر على الله درجة وضعه الله درجة حتى يجعله في أسفل سافلين)
الجنة في عليين وهي للمتواضعين المؤمنين الصادقين, والنار سجين في أسفل سافلين هذه للكفار والمنافقين والمستكبرين فبئس مثوى المستكبرين لأنهم تكبروا فوضعهم الله وأولئك تواضعوا فرفعهم الله في أعلى عليين.
وللطبراني عن ابن عمر رفعه: (إياكم والكبر فإن الكبر يكون في الرجل وعليه العباءة) رواته ثقات.
البطر يكون الإنسان ما عليه جمال ولا ثياب جميلة ويستكبر, فقير عليه عباءة مرقعة, وهو متكبر, وقد يكون عليه ثياب جميلة وهو فقير عابد لله تعالى. وفي الحديث الآخر (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ أشيمط زاني، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه).
((1/14)
أشيمط زاني): الشايب كبير السن ويزني، لو كان شاب ربما يقال غلبت عليه الشهوة. الشايب ما زنى إلا لحب المعاصي والسيئات وحب الناءة (أشيمط زاني) صغره تحقيرًا له.
(وعائل مستكبر) العائل: الفقير, الغني ممكن يتكبر بماله, لكن هذا فقير ما عنده شيء يغره. فدل على أن الكبر من سجيته وطبيعته ما عنده شيء يحمله على الكبر.
والحمد لله رب العالمين.
انتهى اللقاء الأول من كتاب الكبائر للشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله
الأسئلة:
1- سائل يقول: سماحة الشيخ، هل الكبائر في نواهي الشريعة أكثر من الصغائر؟
ليس لدي إحصائية لهذا، لكن لاشك أن المنهيات كلها محرمات والأصل فيها التحريم ، والتحريم ينقسم إلى قسمين : كبائر وصغائر، وقد تكون النواهي للكراهة.
2- وهذا سائل يقول: ما المقصود بمطلق الإيمان والإيمان المطلق؟
مطلق الإيمان يعني الإيمان الناقص الذي معه أصل الإيمان فقط وعنده نقص كثير أما الإيمان المطلق فمعناه الإيمان الكامل الذي ليس فيه نقص، لا يعطى إيمان مطلق كما تقوله المرجئة أنه مؤمن كامل الإيمان كما يقولون ولا يسلب مطلق الإيمان كما تقوله الخوارج والمعتزلة.
3- وهذا سائل يقول: ما تفسير قوله تعالى:( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن ) ما المقصود بالأمن في الآية ؟
الأمن ضد الخوف، الأمن في الآخرة والأمن في الدنيا أيضا، فأهل التوحيد هم أهل الأمن في الدنيا وفي الآخرة ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ) إلى قوله تعالى في آخر الآية (يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) هذا في الدنيا، وفي الآخرة لهم الأمن من النار والعذاب، والظلم المراد به الشرك.
4- وهذا سائل يقول: هل البدع تدخل في باب الكبائر لأن صاحبها متوعد بالعقوبة في الآخرة أم أنها ليست من هذا الباب ؟(1/15)
البدع تنقسم إلى ثلاثة أقسام: بدع مكفرة مخرجة من الملة كدعاء غير الله والذبح لغير الله والنذر لغير الله، وبدع محرمة وكبيرة من كبائر الذنوب مثل البناء على القبور والصلاة عند القبور هذه بدع وكبائر لكن لاتصل إلى حد الكفر بل هي وسيلة من وسائل الشرك، وبدع دون ذلك، بدع صغيرة، هذه أخف من البدع التي قبل، البدع على ثلاثة أقسام بدع مكفرة وبدع كبائر وبدع صغائر.
5- وسائل يقول : نفض الكفر في الأحاديث النبوية هل هي كلها مخرجة من الملة أفيدونا في ذلك ؟
الذي يخرج من الملة الكفر الأكبر، والذي لا يخرج من الملة الكفر الأصغر مثل الحلف بغير الله ومثل قتال المسلم، قال –صلى الله عليه وسلم-: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " يعني كفر أصغر لا يخرج من الملة، الذي يقتل النفس عمدا عدوانا لا يحكم عليه بالكفر، يحكم عليه بأنه مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب ومتوعد بوعيد شديد ، لا يخرج من الإسلام إلا إذا استحلّ قتل المسلم فإنه يكفر.
6- وهذا سائل يقول: هل النظر إلى المحرمات وسماع المنكرات من الأغاني في القنوات الفضائية هل هي من الكبائر أو أنها من الصغائر حيث كثر من يطلع عليها ويعد هذه الأمور من الصغائر ؟
الأصل فيها أنها محرمات وأنها من الصغائر لكن إن أصرّ عليها وداوم عليها تحولت إلى كبائر، وأيضا هي تجر إلى الكبائر تجر إلى الزنا، استماع الغناء والنظر إلى الصور الفاتنة تجر إلى الزنا ويرغبّ فيه وفي الفجور.
7- هل من وقع في كبيرة يترتب عليها حد وطلب من أهله تنفيذ الحد عليه في بلاد لا يحكم فيها بشرع الله هل ينفذونه أم لا ؟
لا، لا ينفذ الحدود إلا ولي أمر المسلمين ولا ينفذ الحدود سائر الناس.
8- هل يجوز للرجل أن يسكن مع أهله إذا كانوا لا يصلون الصلوات الخمس ؟
لا يجوز له أن يسكن مع أهله وهو يقدر على الاستقلال والسكنى وحده والانفراد إذا كان يقدر على هذا لا يجوز له السكنى مع أناس لا يصلون فليبتعد عنهم.(1/16)
9- ما حكم جلوس الزوج مع زوجته في المنصة أمام النساء ليلة الزفاف ؟
هذا حرام ولا يجوز أنه يجلس أمام النساء ينظر إلى زينتهن لأنهن حاضرات متزينات متطيبات ربما أن أكثرهن سافرات أيضا فينظر إليهن وهن ينظرن إليه نظر شهوة لأنه جاء متجملا هذا لا يجوز أبدا قال جلّ وعلا: ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ) وقال: ( قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ) هذا فيه النظر المحرم منه ومن النساء فلا يجوز هذا.
10- عندي قناة المجد وزوجتي ترى البرامج المفيدة كالدروس والمحاضرات ونحوها ويقع نظرها على المشايخ فما حكم مشاهدة المرأة لهذه الصور ؟
إ ذا كانت تنظر إلى المشايخ نظر شهوة فهذا حرام ولا يجوز لها.
11- هل يجوز لي أن أتصرف في مال غيري إذا كنت أعلم أنه يأذن لي في ذلك ؟
لا، لا تتصرف في مال غيرك إلا بصريح الإذن أما مجرد الظن أنه يأذن لك لا يكفي هذا.
12- ما الفرق بين الكبر والكبرياء ؟
لا فرق بينهما، الكبر والكبرياء في الخلق سواء، أما الكبرياء لله عز وجل فهي حق الله من أسمائه المتكبر وله الكبرياء سبحانه هذا بحق، وهو الكبير المتعال وهو المتكبر بحق أما المخلوق فليس من حقه أن يتكبر لأنه ضعيف ومطلوب منه التواضع لله ولخلقه، تكبر المخلوق بغير حق.
13- عراقي يقول: أنا عراقي كردي عقيدتي عقيدة أهل السنة والجماعة واسمي هو: هوكر فهل يجوز لي أن أتسمى بهذا الاسم أم يلزمني تغييره حفظكم الله ؟
لا يلزمك تغييره لأن هذا الاسم ليس فيه محذور إلا أنه أعجمي فقط، ليس فيه محذور إلا أن يكون له معنى في الأعجمية سيء غيّره.
14- ما حكم الصلاة خلف إمام مبتدع؟
إذا كانت بدعته مكفرة أو مفسقة فلا يصلى خلفه أما إذا كانت بدعة صغيرة فلا بأس من الصلاة خلفه لكن التماس غيره لا شك أنه أفضل.
تم بفضل الله.(1/17)
كتاب الكبائر
للشيخ: محمد بن عبد الوهاب
-رحمه الله-
شرح الشيخ:
صالح بن فوزان الفوزان
-حفظه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المعلم-رحمه الله تعالى-
(باب ذكر قسوة القلب)
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
لازال المؤلف رحمه الله في ذكر كبائر القلوب ومنها:كبيرة قسوة القلب، إن قسوة القلب كبيرة من كبائر الذنوب وهذا القلب هو ملك البدن كما قال صلى الله عليه وسلم:((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد- سائر الجسد-, وإذا فسدت فسد سائر الجسد)) فإذا كان هذا القلب ليناً بذكر الله سبحانه وتعالى, لانت له الأعضاء وانطلقت في فعل الخير. وإذا كان هذا القلب قاسياً, فإن هذا يؤثر على الأعضاء قسوة وجموداً وكسلاً عن طاعة الله جل وعلا. وهذا القلب قد يقسو ويكون أشد من الحجر، أشد قسوة من الحجر. قال تعالى:( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:74)، فالقلب يكون أقسى من الحجر إذا أعرض عن ذكر الله عز وجل.وقسوة القلب لها أسباب ستأتي أو يأتي ذكر بعضها لنرى أسباب قسوة القلوب لها أسباب وكذلك يكون أقسى من الجبل.
قال تعالى: ( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) (الحشر:21)(1/1)
القرآن يُليِّن القلب ولكن إذا أعرض القلب عن تدبر هذا القرآن, وعن تأمله فإنه يقسو.في حين أن القرآن لو خاطب به الله الجبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ؟ لأن قلب ابن آدم يكون أشد تجمداً وقسوة من الجبل, فهذا هو القصد من هذا الباب تحذير من قسوة القلوب, واتخاذ الأسباب التي تلين القلوب، وسيأتي ذكرها وأعظمها تلاوة القرآن بتدبر، وحُضُور قلب، فإن هذا القرآن يلين القلوب.
وقوله تعالى: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (المائدة:13)
ومن أسباب قسوة القلب نقض الميثاق مع الله جل وعلا، نقض العهد مع الله(ألم أعهد إليكم يا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(يس:60)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف:172)(1/2)
الله أخذ الميثاق على بني آدم وهم في أصلاب أبائه, أخذه بأن استخرج ذرية آدم كالذر، ثم أخذ عليهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا, فمن عبد غير الله فقد خان هذا العهد وأخلف هذا الميثاق. وهذا كما ذكر الله عن بني إسرائيل: ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (المائدة:12) ثم قال بعدها: ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ )ما وفوا بهذا الميثاق بل نقضوا وعاندوا وكابروا كما هو مفصل عن سيرة بني إسرائيل في القرآن وما حصل منهم من تنكرات تغيرات تمحلات ولا يزالون على هذه الصفات الذميمة والعياذ بالله. فلما نقضوا الميثاق أثر ذلك فيهم فصارت قلوبهم قاسية فبما نقضهم يعني: بسبب، فبما: فبسبب، وما: هذه صلة لتأكيد والأصل فبنقضهم ميثاقهم، بسبب نقضهم ميثاقهم، فبما نقضهم ميثاقهم منصوب على أنه مفعول؛ لأن النقض مصدر أضيف والمصدر إذا أضيف يعمل عمل فعله, فبما نقضهم ميثاقهم نقض مضاف فبما نقضهم مضاف إلى الضمير ضمير الجماعة فبما نقضهم هذا ضمير جماعة، ميثاقهم منصوب على أنه مفعول، والميثاق هو الذي أخذه الله عليهم ميثاق بني إسرائيل، فلما نقضوه ساءت أفعالهم. أولاً: أن الله لعنهم يعني طردهم وأبعدهم من رحمته. هذا أول عقوبات نقضهم ميثاقهم أن الله لعنهم، فالكفار من بني إسرائيل ملعونين (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) الكفار من بني إسرائيل ملعونون.(1/3)
أما المؤمنون منهم فهم صالحون أثنى الله عليهم (لَيْسُوا سَوَاءً) هذا فيه رد على الذين يقولون لا تلعنوا اليهود والنصارى، الله لعنهم من قبل: ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعّنَاهُمْ) هذه واحدة، والثانية (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة) بسبب نقضهم العهد مع الله قست قلوبهم، ولو أنهم وفوا بالعهد مع الله للانت قلوبهم، وهذا ليس خاص ببني إسرائيل فهذا يشمل كل من فعل فعلهم من المسلمين وغيرهم، كل من فعل مثل فِعل بني إسرائيل بأن نقض العهد الذي بينه وبين الله فإنه يُقَسي قلبه( وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ من بعد مَوَاضِعِهِ) (المائدة:41)، هذه من صفا تهم تحريف كلام الله عز وجل مثال ذلك أن الله قال لهم: ً (ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ) ( البقرة: 58)، أي حط عنا ذنوبنا، أي الاستغفار، أمرهم الله بالسجود وأمرهم بالاستغفار, فغيروا فجعلوا يدخلون الباب يزحفون بدل السجود هذا تغيير بالفعل بدل السجود يزحفون على أجسادهم، وغيروا اللفظ وقولوا حطة قالوا حنطة, حنطة يعني الحب البر يعني نطلب بر، ما يقولون نطلب مغفرة، أي يريدون أكل، همهم بطونهم قالوا حنطة يعني ما يطلبون المغفرة إنما يطلبون حنطة فغيروا عهد الله سبحانه وتعالى حرفوا كلامه؛ لأنه إذا قسا القلب جرى على تحريف الكلام، كلام الله سبحانه وتعالى:( وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ)(الأعراف:161) ، هذا في الأعراف وفي البقرة: (نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ )(البقرة: 58)، لأنه إذا قلتم حطة: يعني: نستغفر، غفر الله لكم (نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ* فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) ( البقرة: 58-59) قالوا: حنطة(1/4)
زادوا نون مثل ما زادت الأشاعرة في "استوى" استولى زادوا لام على كلام الله، هذا تحريف -والعياذ بالله-بزيادة حرف على كلام الله زيادة حرف على كلام الله يغير المعنى تماماً.
( وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُم) (البقرة: 58) و(نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ ) (الأعراف:161) (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:58) و(سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)(الأعراف:161) (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا) (البقرة:59) و(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً) (الأعراف: 162) -الآيتين- (غير الذي قيل لهم)، ما قالوا حطة قالوا حنطة، النون هذه أهلكتهم -والعياذ بالله- هذا تحريف لكلام الله عز وجل.( فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (البقرة:59)
( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ) (الأعراف:162).
ظلم وفسق تحريف كلام الله ظلم وفسق والعياذ بالله ويورث قسوة القلب.
وقوله تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } الآية (سورة الزمر :23)(1/5)
ما هو علاج قسوة القلوب؟ علاج قسوة القلوب: أعظم علاج هو كتاب الله عز وجل، أن تتلوه بتدبر ( كِتَابًا مُّتَشَابِهًا) يعني يشبه بعضه بعضاً في الحسن، والجمال، والصدق (كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ )مكرر، كرر الله فيه المواعظ، كرر فيه القصص، لأجل تليين للقلوب، (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أما الذين لا يخشون ربهم يمر عليهم ولا يؤثر فيهم، هذا دليل على أن القرآن يلين القلب، (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ) فدل على أن تلاوة القرآن مع التدبر وحضور القلب يلين القلب كما في الآية الأخرى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ" (الأنفال:2)، فذكر الله يلين القلوب، ، والغفلة عن ذكره تقسي القلوب إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حقا) السبب أولاً أنهم إذا تليت عليهم آيات الله عز وجل لانت قلوبهم لها، وخشعت لها، فانقادت جوارحهم للطاعات، وبادرت بأداء المفروضات، وترك المحرمات، هذا هو الأساس لتليين القلوب: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ )هو القرآن أحسن الحديث ،ومن أحسن من الله حديثاً "الله نزل أحسن الحديث كتاباً" إلى آخر الآية.
وقوله تعالى: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } الآية(16) سورة الحديد .
هذا عتاب من الله جل وعلا للمؤمنين، عتاب لهم في أنهم أعرضوا عن القرآن أو انشغلوا عنه، وحصل في قلوبهم شيء من القسوة فعاتبهم الله: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ(1/6)
ُقلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) -وهو القرآن- (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ)-اليهود والنصارى- (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ )(الحديد:16) انشغلوا بالدنيا وبالملذات والمأكولات والأموال والأولاد فمضى عليهم عهد طويل وهم لا يلتفتون إلى كتاب الله فطال عليهم الأمد فنتج عن ذلك: أن قست قلوبهم لما أعرضوا عن التوراة والإنجيل قست قلوبهم يحذر الله المؤمنين أن يعملوا مثل عملهم، أن يعرضوا عن القرآن فتقسوا قلوبهم مثل ما قست قلوب الذين من قبلهم..
عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً: ((ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ))(1)
هذا من أسباب لين القلب وهو الرحمة للمستضعفين والمحتاجين والمساكين، فالعطف عليهم والإحسان إليهم يلين القلب, أما الإعراض عن المحتاجين والمساكين فإن هذا يقسي القلب ومجالسة الفقراء والمساكين تلين القلب, ومجالسة الأغنياء والمترفين تقسي القلب. فمخالطة الفقراء والمساكين والنظر إليهم والإحسان إليهم هذا مما يلين القلوب ويبعث على الرحمة، والجزاء من جنس العمل، (ارحموا ترحموا)، ارحموا الفقراء والمساكين يرحمكم الله عز وجل والعكس بالعكس عدم الرحمة يتسبب عنه أن الله لا يرحم من لا يرحم المساكين والضعفاء؛ لأن الجزاء من جنس العمل. (ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم )إذا أساء أحد إليك أساء في حقك فقابله بالمغفرة والإحسان من أجل أن يغفر الله لك، أنت تسيء في حق الله عز وجل فإذا كنت تريد أن الله يغفر ه لك، فاغفر لمن أساء إليك؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
(
__________
(1) رواه أحمد في مسنده/ قال الألباني صحيح " صحيح الترغيب والترهيب"(1/7)
ويل لأقماع القول) الأقماع: جمع قمع وهو ما نسميه العوامة المحجان ما يحجن به الماء والأشياء المائعة يمر عليه ولا يتأثر به كذلك هؤلاء شبههم بالذي يمر عليه الذكر والقرآن ولا يتأثر به هذا مثل الجمع الذي تعبى به الأواني لا يأخذ شيء ولا يستفيد شيء إنما هو ممر فقط.
"ويل لأقماع القول" الذين يمر عليهم القول ولا يتأثرون به مثل المائع الذي يمر بالقمع ولا يتأثر به.
" ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون " ما في أحد معصوم يقع الإنسان في المخالفات والسيئات لكن يتوب إلى الله أما إذا أصر ولم يتب فإن الله توعده بالعقاب" ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون " الله جل وعلا يقول: " وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 133-134-135) ، الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة.وقالوا:"لا كبيرة مع الاستغفار, ولا صغيرة مع الإصرار" الواجب على المسلم إذا أذنب ذنباً بادر بالتوبة,أما إذا أصر وبقي عليها فهذا متوعد بالوعيد الشديد" وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (آل عمران:135).
وللترمذي عنه مرفوعاً: (( لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد القلوب من الله القلب القاسي)).(1)
__________
(1) رواه الترمذي وورد بلفظ "وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي" /قال الألباني ضعيف " ضعيف الترغيب والترهيب"(1/8)
هذا بيان سبب آخر من أسباب قسوة القلب وهي كثرة الكلام, كثرة الكلام بغير ذكر الله، أما كثرة الكلام بذكر الله فكل ما أكثر اللسان من ذكر الله لان قلبه, وكل ما أكثر الكلام بغير ذكر الله قسا قلبه. كثير من الناس يقضي أوقاته بالقيل والقال والكلام الذي لا فائدة فيه، والضحك واللهو والغفلة، هذا يقس القلب, فإكثار الكلام إن كان بغير ذكر الله فإنه يقسي القلب، وإن كان بذكر الله مهما أكثر فإنه يلين القلب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما يأتي"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"(1)وهذا الكلام الذي تقوله لا يذهب في الهواء بل يُسجل عليك" مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" يُسجل عليك كلامك، ويوم القيامة يُعرض عليك، في ديوانك، في صحيفتك, ليس كلام تتكلمه تُرفه عن نفسك وتضيع وقتك فيه وينتهي ،لا،هو محفوظ، (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المجادلة: 6)
ولهما عن جرير رضي الله عنه مرفوعاً)) من لا يرحم الناس لا يرحمه الله )) أخرجاه(2)
هذا كما سلف" ارحموا ترحموا"مفهومها أن من لا يرحم لا يُرحم، وهذا المفهوم نطق به هذا الحديث. )) من لا يرحم الناس لا يرحمه الله )) من رحم الناس رحمه الله, ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الله, لأن الجزاء من جنس العمل"هذه قاعدة"
) باب ذكر ضعف القلب(
__________
(1) صحيح البخاري/كتاب الأدب/باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
(2) صحيح مسلم / كتاب الفضائل/باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك(1/9)
نعم القلب يقسو هذا من آفات القلب القسوة ومن آفاته أيضاً ضعفه, يكون القلب ضعيف، لا يصبر على الشدائد، ولا يحسن الظن بالله عز وجل, إذا أصابه شيء ضعف، ولم يتحمل, من يضعف عن مقابلة الشدائد ولا يتحمل وتخور قواه، وكما يقولون تنهار أعصابه، هذا هو الضعيف "ضعيف القلب" أما الذي قلبه قوي ومؤمن بالله عز وجل فهذا لا تؤثر فيه الأحداث مهما اشتدت، ولا تنهار أعصابه، بل يبقى شامخاً قوياً يواجه الشدائد والمصاعب، ويخرج منها مرفوع الرأس بإذن الله, أما الذي ينهار عند أول شدة هذا ضعيف القلب وضعف القلب آفة(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى عقبه)(الحج: 11)، هذا نتيجة ضعف القلب" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ" (العنكبوت:10)، ذهب مع الفتنة يريد أن ينجو من أذى الناس ولو بالتنازل عن دينه وإيمانه، وينسى النار التي هي أشد من أذى الناس"جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ"فهو مثل الذي ينجو من الرمضاء بالنار، فهو خرج من شدة إلى شدة أكبر منها، خرج من حرارة إلى حرارة أشد -والعياذ بالله- ولو أنه صبر على الحرارة اليسيرة لنجى من الحرارة الكبيرة، لا بد من الابتلاء والامتحان ولكن ما يخرج من الفتن إلا قوي القلب قوي الإيمان، أما ضعيف القلب فهو على خطر فكأنما القلب يقسو كذلك يضعف.
وقول الله تعالى: { وربطنا على قلوبهم } الآية(الكهف: 14).(1/10)
أصحاب الكهف ربط الله على قلوبهم يعني قواها ولهذا أعلنوا برآءتهم من الكفار وانعزلوا عنهم. " وربطنا على قلوبهم "يعني: ثبتناها "إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) (الكهف: 14) ،لأن قومهم يعبدون الأصنام."لقد قلنا إذا شططا" "لن ندعو من دونه إلها"كما يدعوه قومهم ، " وربطنا على قلوبهم" ثبتهم الله وقوى قلوبهم، فلو كانت قلوبهم ضعيفة لانهارت، لكن قلوبهم قوية بسبب أن الله ربط عليها.
(فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)(الكهف: 14-15) ،ثم اعتزلوا عنهم ورحلوا للغار وأووا إلى الغار وجرى عليهم ما جرى من النوم الذي ذكره الله عز وجل ثم بعثهم الله بعد ذلك, وإذا بالناس تغيروا وجاء جيل آخر اسلموا وآمنوا، والأولين كفار، عندما ناموا كان الناس كفار وعندما استيقظوا وإذا الناس مسلمين وهم لا يعلمون يحسبون أن لهم ساعة نائمين،يحسبون الجيل الذي يعلمونه باقي ولذلك أرسلوا واحداً منهم يشتري لهم طعام على تخوف، لم يعلموا أن الأمور تغيرت والوضع تغير, والكفار ذهبوا وأتى مسلمين لكن الشاهد من قوله "وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ" الله عز وجل قوى قلوبهم، فواجهوا هذه الأمة الكافرة، واجهوها بالثبات، فكانت النتيجة لهم أن الله أجرى لهم هذه الكرامة، يعني من كرامات الأولياء، النوم هذا من كرامات الأولياء.(1/11)
وكما قال في أم موسى, أم موسى لما وضعته ضاقت به ذرعا؛ لأن فرعون يقتل الذكور قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ )(سورة: 7) القصص، من الذي يصبر أن امرأة تلقي ابنها في البحر؟ فاقذفيه في اليم، أين يذهب؟ يذهب لبيت فرعون شيء عجيب (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ* فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) إلى قوله تعالى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)(القصص:7-8-9-10) ، والشاهد لولا أن ربطنا على قلبها، لولا أن الله ثبتها لقالت بما فعلت؛ لكن الله ربط على قلبها وقوي إيمانها بوعد الله عز وجل فلم تبح بهذا الأمر العظيم.
وقوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ *وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } الآيتين (العنكبوت: 1-2-3)(1/12)
هذه الآية فيها أن سنة الله جل وعلا التي لا تتغير أنه لا يترك المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، لأن الذين يُظهرون الإسلام منهم من هو صادق ومنهم من هو منافق، فلو لم يمتحنوا لم يتميز المنافق، وصار مثل المؤمن، الله جل وعلا يريد أن يميز هذا من هذا، فيجري الشدائد والمحن فيثبت أهل الإيمان، ويتبين أهل النفاق "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون" لا يمتحنون ( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) فليعلمن الله الذين صدقوا في إيمانهم والذين كذبوا في إيمانهم. والله تعالى يقول:( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ )(آل عمران:179) أنتم لا تعرفون المؤمن الصادق من المؤمن الكاذب، ليس لكم سوى الظاهر هذا غيب لا يعلمه إلا الله، لكن الله يُجري الامتحان فيتبين المنافق، في وقعة الأحزاب ( إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ) (الأحزاب:12) انظر بالأمس يقولون نحن مسلمون معكم، ولما جاءت الشدة قالوا ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا، ظهر ما في قلوبهم والعياذ بالله، أما المؤمنون (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (الأحزاب:22) ، تبين موقف المنافقين وموقف المؤمنين في غزوة الأحزاب هذا امتحان.(1/13)
وقوله تعالى: { قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } (المائدة:22)
هذا من ضعف القلوب، أن فيها قومًا جبارين، لما قال يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي هي بالتحديد بيت المقدس وكانت بيد الكفار، العماليق، وكانوا غلاظ الأجسام أقوياء، خرج بهم موسى غازيًا لفتح بيت المقدس فما كان منهم إلا أن تخاذلوا وجبنوا عن لقاء الجبارين(إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا ) ما شاء الله إذا خرجوا منها مالكم فضل، أنتم أخرجوهم بالجهاد في سبيل الله والإخلاص والصدق (فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) هذا من ضعف القلوب، وفي النهاية قالوا: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: 24)، هذه النهاية، لما ألح ّ عليهم صرحوا، اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون- والعياذ بالله- انظروا موقفهم هذا مع موقف صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر تواجه المسلمون والكفار، والكفار مقدار المسلمين مرتين، المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر، والكفار يربون على الألف، بأسلحتهم وقوتهم وجبروتهم فاستشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، "فقالوا: يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن أمامك ومن خلفك، والله لو خضت فينا هذا البحر لخضناه معك ماتخلف منا رجل" هذا الموقف الإيماني، قارنوا به موقف بني إسرائيل اذهب أنت وربك فقاتلا، ذاك من ضعف القلوب، وهذا من قوة القلوب.(1/14)
وقوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } الآية(العنكبوت: 10)
هو أمامه عذابان، عذاب الناس الذين يعذبونه على إيمانه، ويريدون منه الردة عن دينه، وعذاب الله إذا ارتد أيهما أشد ؟ عذاب الناس أم عذاب الله؟ عذاب الله أشد، فكونه يصبر على دينه وينجو من عذاب الله ولو أصابه أذى الناس هذا هو الحزم، أما العكس وهو أنه يخرج من عذاب الناس إلى عذاب الله يرتد عن دينه، فهذا من العجز والضعف (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ) (العنكبوت، فهم عند الرخاء يقولون كنا معكم، نحن عضو من أعضائكم ونحن نقاتل معكم وندافع، لكن إذا جاءت الشدة انخذلوا، وتكلموا بالكلام القبيح، هذه صفة المنافقين في كل زمان ومكان، ليس فيهم إلا ضعف القلوب، وليس فيهم قوة القلوب التي عند المؤمنين.
ولهما عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً: (( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه))(1)
__________
(1) رواه البخاري/كتاب البخاري/باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده(1/15)
المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، هذا محل الشاهد، كثرة الكلام في الناس والغيبة والنميمة والسباب والشتم، لا يسلم المسلمون من لسانه، هذا فيه عيب كثرة الكلام، وأن الإنسان يجب أن يمسك لسانه، ولا يتكلم إلا بخير، ويكف لسانه عن الشر، المسلم يعني هذا من خصال المسلم أن المسلمون يسلمون من لسانه ويده، هذا من خصال الإسلام وليس الإسلام كله، لكن هذا خصلة من خصال الإسلام. والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه والهجر في اللغة: الترك، وهو أنواع، كأن يهاجر المسلم من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فرارا بدينه وهذا أعظم أنواع الهجرة، وهجرة المنكر بأن تترك لمنكر، تترك المنكر والحرام قال تعالى: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ( المدثر:5)، والرجز: الأصنام وهجرها تركها، المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، هذه كلمة عامة وهي نوع من أنواع الهجرة التي أمر الله بها، وليست الهجرة قاصرة على الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وأيضا الهجرة من الباطل إلى الحق ومن البدعة إلى السنة، هذه هجرة.
قال رحمه الله تعالى: " أبواب كبائر اللسان"
) باب التحذير من شر اللسان (
وقول الله تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } (الفرقان: 63)(1/16)
من صفات عباد الله التواضع يمشون على الأرض هونا، لا بتكبر وتبختر، وإنما يمشون مِشية المتواضع، (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير) (لقمان:19) ، فيمشي مشية المتواضع لا مشية المتكبر المختال"يمشون على الأرض هونا" "وإذا خاطبهم الجاهلون" المراد بالجاهلون هنا: الجاهلون في الكلام، الجهل عدم العلم، والجهل عدم الحلم، والمراد هنا: جهل عدم الحلم، فهم إذا قابلوا السفهاء وتكلموا عليهم السفهاء لا يردون عليهم، بل يتركونهم، قالوا سلاما، سلام متاركة، أو يقولون سلاما أي كلام فيه سلامة لهم من الإثم، ولا يقابلون كلام الأحمق ولا يردون عليه بالمثل هذا من صفات عباد الرحمن، وفي الآية الأخرى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِين) (سورة القصص:55)
إبراهيم عليه السلام لما قال له أبوه : (أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} (مريم:46) قال: (سَلَامٌ عَلَيْكَ) سلام متاركة، ( سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم:47) ، ما رد عليه بل قال سلام عليك يعني: تركه، فأهل الإيمان هكذا، لا يتطاولون مع السفهاء، يرفعون أنفسهم عن التطاول مع السفهاء والسخفاء في القول، يتركونهم ولا يردون عليهم، والشاعر يقول:
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت(1/17)
أما لو رددت عليه يفرح ويزيد من سفاهته عليك، لكن إذا تركته فإنه ينقطع شره، هذا علاج عظيم، أي: إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلام هذا من صفات عباد الرحمن أنهم لا يسفهون مع السفهاء ولا يُطاولونهم في الكلام، بل يترفعون عن الخوض معهم؛ لأن السفيه كلما رددت عليه زاد عليك، إذا تركته سكت، فالعلاج بتركه، من آفات اللسان: أنك تدخل مع السفهاء في المجادلات هذا من آفات اللسان ، دخولك مع السفهاء في المجادلات والمهاترات هذا من آفات اللسان.
وقوله تعالى: { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْه } (سورة القصص:55)
هذا في صفة المؤمنين من أهل الكتاب، هذه صفة الذين آمنوا بالقرآن وآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، (فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)(العنكبوت:47) {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ )(القصص:55) الذين آمنوا من أهل الكتاب هذه صفاتهم أنهم إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه.
وقوله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد } (ق:18)
هذا دليل على أن الكلام الذي يصدر كلّه يسجل، الكلام الطيب يسجله ملك الحسنات، والكلام السيئ يسجله ملك السيئات، "مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" ملك يسجل الحسنات وملك يسجل السيئات، الحفظة (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ*كِرَامًا كَاتِبِينَ) الانفطار (الانفطار:10-11) ،حافظين يحفظون عليكم أعمالكم و أقوالكم يسجلون حسناتكم وسيئاتكم، ومنها الألفاظ التي تتلفظ بها، إن كانت ألفاظ طيبة وألفاظ ذكر لله كتبت مع حسناتك، وإن كانت ألفاظ سيئة كتبت مع سيئاتك فاحذر من كبائب اللسان؛ لأنها تسجل عليك
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (( من كان يؤمن باله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )) أخرجاه(1)
__________
(1) صحيح البخاري/كتاب الأدب/باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر(1/18)
هذه وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) يعني الإيمان الكامل ( فليقل خيرا أو ليصمت ) لا يتكلم إلا بخير، وينظر إن كان الكلام خير تكلم، وإن كان الكلام شر سكت، قبل أن يتكلم ينظر ويتأمل، هل كلامه خير تكلم هل كلامه فيه شر سكت، فيسلم، السكوت سلامة، مَثَل عامي، الصمت حكمة وقليل فاعله.
ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنهما مرفوعاً: )) من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه، أضمن الجنة))(1)
من يضمن أي من يتكفل بهاتين الجارحتين بحفظهما، من تكفل بحفظهما ضمن له الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجنة، مابين لحييه يعني اللسان، أي مابين الفكين الأعلى والأسفل هو اللسان فإن حفظته ضمن لك - صلى الله عليه وسلم - الجنة، وإن لم تحفظه فأنت على خطر، ومابين رجليه يعني الفرج، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) ( المؤمنون:5-6)، من حفظ فرجه إلا مما أحله له الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضمن له الجنة، ومن لم يحفظ فرجه فهو متوعد بالنار.
وعن سفيان بن عبد الله قال قلت: (( رسول الله ما أخوف ما تخاف على ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: " كف عليك هذا ")) قال الترمذي حسن صحيح.(2)
__________
(1) صحيح البخاري/ كتاب الرقاق / باب حفظ اللسان.
(2) رواه الترمذي قال الألباني حسن صحيح." صحيح الترغيب والترهيب"(1/19)
هذا سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه - سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أي شيء أخوف علي فأخذ بلسان نفسه وقال: " كف عليك هذا، دل هذا على أن اللسان أخطر شيء على الإنسان فعليك أن تحذر من لسانك، لأنه سلاح ذو حدين، إما أن يقتلك وإما أن تقتل به خصمك، فعليك أن تحفظه مثل ما تحفظ السلاح لئلا يقتلك السلاح، أليس إذا صار معك سلاح تتوثق منه وتغلقه، لكي لا يقتلك، فاللسان احفظه امسكه وإلا هو مثل السلاح يضربك ويقتلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما قال لسانك بالقول بل بين له بالفعل، فأمسك لسانه وقال كف عليك هذا، والشاعر يقول:
يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فعثرته بالقول تذهب رأسه وعثرته بالرجل تبرى على مهل
ويقول الآخر:
احفظ لسانك أيها الإنسان لايلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تخاف لقاءه الشجعان
والمثل يقول: "كم كلمة تقول لصاحبها دعني".
احفظ لسانك إذا كنت تريد النجاة وإلا فإن لسانك سلاح يكون ضدك، وأكثر الناس اليوم ليس لهم هم إلا بالقيل والقال والغيبة والنميمة والتجريح بالناس والتفسيق والتبديع والتكفير بغير حق ليس لهم شغل إلا هذا، تركوا طلب العلم الآن وصار همهم ماذا تقول في فلان و ماذا تقول في فلان، أنتم أتباع فلان أو فلان وهكذا، أنت شامي ولا أنت كذا وكذا ، يا إخوان ليس كذلك المسلم، المسلم يخاف الله عز وجل، يطلب العلم، ويحفظ لسانه عن السفهاء ولايتجارى مع الناس، وإذا سمع كلام جاهل أعرض عنه ولم يلق له بالا، إذا كنتم تريدون النجاة لأنفسكم اشتغلوا بالعالم واحفظوا ألسنتكم، فالزمان زمان فتنة، والآن كما ترون وتأتي باسم الدين وباسم العلم والعلماء احذروا من هذا، عليكم بطلب العلم والإقبال على طاعة الله، وترك فلان وعلان، ترك الذين يستشيرونكم ويستخرجون الكلام منكم، وينشرونه في الناس قال فلان وفلان أفتى بكذا، اتركوا عنكم هؤلاء.(1/20)
وله وصححه عن معاذ رضي الله عنه: (( قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ . وهل يكب الناس في النار على وجوههم ـ أو قال على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم ))(1)
لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل أو معاذ لما سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما يدخله الجنة ويباعده عن النار بين له رسول الله ما يباعده عن النار ويدخله الجنة ، قال ألا أدلك على شيء إذا حفظته أوكما قال - صلى الله عليه وسلم - ، قال: بلى ، قال كف عليك هذا ،أي اللسان ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ألا أدلك على ملاك ذلك كله، قال بلى يارسول الله ، قال : كف عليك هذا ، فقال يارسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ ؟ قال: " ثكلتك أمك يا معاذ. ثكلتك أي: فقدتك، هذا أصله دعاء، دعاء على شخص بالموت لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقصد هذا وإنما هي كلمة يتمثل بها ولا يقصد معناها مثل ويحك ويلك.
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجه/قال الألباني صحيح " السلسلة الصحيحة"، " صحيح ابن ماجه"(1/21)
هذه أمور يقولها الإنسان وهو لا يقصد معناها، وهل يكب الناس في النار على وجوههم ـ أو قال على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم " انتبهوا الإنسان قد يعمل أعمال فضيلة وجليلة ثم يحصدها بلسانه، يسب الناس ويغتاب الناس فتذهب حسناته لهم، تؤخذ حسناته وتعطى للمظلومين يوم القيامة، فلسانه هو الذي جنى على أعماله فتذهب لغيره، ولمن تذهب؟ لعدوه لمن اغتابه، لو ذهبت لوالديك أو لأحد تحبه لكن تذهب لعدوك، وهذا أصعب شيء فعليك إذا عملت عملا صالحا أن تحافظ عليه، الله جل وعلى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد:33) ، فإذا عملت عملا صالحا حافظ عليه أكثر مما تحافظ على الدراهم، إذا كانت لديك دراهم تخاف عليها تسرق، تذهب، تخاف تتلف، فأعمالك أولى أن تحافظ عليها، أنت تشتري خزانة لحفظ المال، لم لا تشتري خزانة لحفظ الأعمال وهو إمساك اللسان، هذا أمر الناس يتساهلون فيه وهو خطير.
وله عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان تقول اتق الله فينا فإنما نحن بك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا )) قوله تكفر أي تذل وتخضع.(1)
__________
(1) رواه الترمذي قال الألباني: حديث حسن "صحيح الترغيب والترهيب"(1/22)
هذا معناه أن الأعضاء كلها تابعة للسان كما قال صلى الله عليه وسلم: " ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله "(1)فالقلب هو ملك الأعضاء، ولهذا كلما يصبح الإنسان وأعضاؤه تكفر اللسان: أي تخضع له تخضع للسان؛ لأنه ملكها، فمعنى تكفر اللسان: يعني تخضع له وتنقاد له، تقول اتق الله توصيه تقول اتقي الله فإنما نحن بك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا، هذا كلام من لاينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم - ، والأعضاء تتكلم وإن كنتم لا تسمعون ولا تدرون، وفي يوم القيامة تتكلم بكلام مسمع (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (فصلت:20-21)، (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يس:65) ، تشهد الأعضاء وتتكلم ، في الدنيا تتكلم مع القلب وأنت لا تشعر تقول له اتق الله تتكلم معه في كل صباح تقول له اتق الله فإنما نحن بك .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزِل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب )) أخرجاه.(2)
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) رواه البخاري/كتاب الرقاق/ باب بَاب حِفْظِ اللِّسَانِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ وَقَوْلِهِ تَعَالَى ومسلم/ كتاب الزهد والرقاق / بَاب التَّكَلُّمِ بِالْكَلِمَةِ يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ(1/23)
وللترمذي وصححه عن بلال بن الحارث رضي الله عنه مرفوعاً : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه: وأن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه)).(1)
ولمسلم بن جندب بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعاً: ((أن رجلاً قال والله لا يغفر الله لفلان ؟ فقال الله عز وجل من ذا الذي يتألى على أن لا أغفر لفلان ؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك " ورُوى أن القائل رجل عابد قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته)).(2)
هذه الأحاديث كلها في موضوع الكلمة الطيبة والكلمة السيئة، قال جل وعلا: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ) (إبراهيم:24-25-26)
__________
(1) رواه الترمذي/ قال الألباني حديث حسن. " صحيح الترغيب والترهيب"
(2) رواه مسلم/ كتاب البر والصلة والآداب /باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى(1/24)
وقال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ)(فاطر:10) ، الكلام الطيب يصعد لله إذا كان معه عمل صالح ( والعمل الصالح يرفعه ) وفي هذه الأحاديث أن الكلمة الطيبة يكتب الله رضوانه لصاحبها إلى يوم يلقاه، والكلمة السيئة يكتب الله بها غضبه على صاحبها إلى يوم يلقاه، والكلمة الطيبة يرفعه الله بها درجات، والكلمة السيئة يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب كلمة واحدة.(1/25)
رجل من بني إسرائيل كان عابدا واعظًا رأى أخا له على المعصية فنهاه عنها فلم يتركها، ووجده مرة ثانية ووعظه ولم يتركها، فلما كان في المرة الثالثة قال والله لا يغفر الله لفلان – والعياذ بالله – فغضب الله عليه فقال: من ذا الذي يتألى علي، أي يحلف علي ألا أغفر لفلان، هذا سوء ظن بالله، وسوء أدب مع الله عز وجل، أنت تحلف على الله ألا يفعل الخير، هذا لا يجوز، لا يجوز تحجر على الله عز وجل، تحجر عليه وتحلف عليه أنه ما يفعل الخير، " والله لا يغفر الله لفلان" من ذا الذي يتألى على أن لا أغفر لفلان ؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك " فلما يأس هذا الرجل من رحمة الله وقنّط الناس منها، بل أساء الأدب مع الله ماذا جرت عليه كلمته قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته. ولاحول ولا قوة إلا بالله، كانت هذه كلمة واحدة، فكيف بالكلام الكثير من هذا النوع أو أشد من هذا النوع، فعلى المسلم أن يفطن للسانه، قد يكثر الإنسان من الأعمال الصالحة لكن يهمل اللسان يتركه يحصد فيها، مثل الذي يزرع ويترك الحصّاد يحصد في زرعه ! لا يبقى له شيء، فهذا اللسان حصاد يحصد أعمالك فعليك بإمساكه وعقله والتأكد من ضبطه ، لا تتركه وتكون هذّارا، ثرثارا، دائبا الكلام بدون فائدة، الكلام وإن لم يكن فيه مضرة لأحد لكنه ثرثرة وضحك هذا فيه خسارة عليك لأنه يضيع عليك الوقت ، أما إذا كان الكلام محرما هذا ضرره واضح، هذا إثم وعقوبة عليك، فعليك إمساك لسانك، الله يحصي عليك أقوالك وأفعالك وحتى خطرات قلبك ونياتك.
تم بحمد الله وفضله(1/26)