شرح كتاب "الصيام" من كتاب "عمدة الأحكام " للحاففظ المقدسي.
شرحه الشيخ: د/ بندر بن نافع العبدلي.
الصيام لغة: مجرد الإمساك والكف مطلقا.
وفي الاصطلاح: التعبد لله بالإمساك عن المفطرات بنيةٍ من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.
? والصيام فرض على ثلاث مراحل:
1. إيجاب صيام يوم عاشوراء.
2. فرض صيام رمضان على التخيير بين الصيام والإطعام.
3. فرض صيام رمضان على التعبين، قال الله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
? صيام رمضان مفروض بالكتاب والسنة والإجماع:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - (بني الإسلام على خمس .... وذكر منها صيام رمضان).
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على فرضيته وأنه أحد أركان الإسلام وأحد مبانيه العظام.
وفرض في السنة الثانية من الهجرة قال في "الإنصاف" "بالإجماع".
وصام النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع رمضانات إجماعاً.
? فرض الصيام لحكم عظيمة منها:
1- حصول التقوى للعبد.
2- تعويد النفس على الصبر والتحمل.
3-أن فيه تضييقا لمجاري الشيطان على الإنسان.
4-معرفة قدر نعمة الله على العبد بتناول ما يشتهيه من طعام وشراب.
5-مافيه من الصحة للبدن.
6- اشتماله على أنواع من العبادات الكثيرة.
? 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه).
تخريجه:
أخرجه البخاري (1914) ومسلم (1082) وأصحاب السنن من طريق يحي بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ لمسلم ،ولفظ البخاري: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم).
وعند الترمذي: (لا تقدموا شهر رمضان بصيام قبله).
مفردات الحديث:(1/1)
قوله: "لاتقدموا" أصلها لا تتقدموا بتائين فحذت إحداهما للتخفيف، أي لا تسبقوا، ولا ناهية.
"رمضان": هو اسم لذلك الشهر المعروف سمي به لشدة الرمضاء فيه هذا في الأصل لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التى وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام شدة الحر ورمضه.
"إلا رجل": بالرفع لأنه مستثنى من كلام تام غير موجب.
"صوماً": أي صوما معينا. فليصمه: اللام للإباحة.
فقه الحديث: فيه مسائل:
المسألة الأولى: حكم سبق رمضان بصوم يوم أو يومين.
يقال: منهي عنه،والنهي للكراهة عند بعض أهل العلم، وهو للتحريم عند آخرين، وهذا أصح لأنه الأصل فيه. قال الترمذي رحمه الله: "والعمل على هذا عند أهل العلم كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول شهر رمضان لمعنى رمضان،وإن كان رجل يصوم صوما فوافق صيامه ذلك،فلا بأس به عندهم"ا..ه.
المسألة الثانية: حكم سبق رمضان بثلاثة أيام فأكثر. فيه خلاف على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يجوز، لمفهوم هذا الحديث ، وهو مذهب الجمهور.
القول الثاني: أنه لا يجوز وأن المنع يمتد إلى السادس عشر من شعبان، وهو قول كثير من الشافعية. واستدلوا بحديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) أخرجه أصحاب السنن.
القول الثالث: أنه يحرم التقدم بيوم أو يومين ، ويكره التقدم من نصف شعبان. وإليه ذهب الروياني من الشافعية، وكأنه رأى الجمع بين الحديثين.
والقول الأول أصح لمفهوم حديث الباب.
وأما حديث "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" فقد قال أحمد وابن معين عنه "منكر" . واستدل البيهقي والطحاوي على ضعفه واستنكاره بحديث الباب.قال البيهقي: الرخصة على ذلك بما هو أصح من حديث الباب.
المسألة الثالثة: حكم صوم يوم الشك:
يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون منظر الهلال غيم أوقتر.
وعند الحنابلة يوم الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء صحوًا ولم ير الهلال.(1/2)
اختلف العلماء في صوم يوم الشك على قولين:
القول الأول: أنه مكروه لهذا الحديث، فمن صام يوم الشك فقد تقدم رمضان بصوم يوم.
ولقول عمار بن ياسر: "من صام اليوم الذي يشك فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - ".
القول الثاني: أنه محرم، وهو مذهب الشافعي؛ لأن المعصية في لفظ الشارع لا تكون على المكروه بل على المحرم.
وهذا هو الصحيح.ومال إليه الصنعاني حيث قال: "والأدلة مع المحرمين".
فيه فوائد:
1. جواز قول رمضان بدون إضافة الشهر إليه، قال النووي: "وهو المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه البخاري والمحققون وهو الصواب. خلافاً لمن قال بالكراهية من أهل العلم استدلالاً بحديث أبي هريرة مرفوعاً: "لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله، ولكن قولوا شهر رمضان".فهو حديث ضعيف أخرجه ابن عدي في الكامل وضعفه بأبي معشر نجيح المدني.
وقد بوب البخاري في" صحيحه" فقال :"باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان ومن رأى كلَّه واسعا".
2. مراعاة الشارع للتقيد بالحدود الشرعية وعدم تعديلها، وهذا أحد الحكم التى ذكرت في النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين ، وقد علل النهي بعلل أخرى فيها نظر.
3. أن من كان له صوم معين معتاد جاز له سبق رمضان بصوم يوم أو يومين. سواء كانت العادة بنذر أو بقضاء غيره.
? 2- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقول: (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له).
تخريجه وطرقه:
أخرجه البخاري في (1900)، ومسلم (1080) من طريق الزهري، عن سالم، عن أبيه رضي الله عنهما.
وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر بلفظ "لاتصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له". ولفظ مسلم "فإن أغمي عليكم".
وأخرجه مسلم من طريق حماد بن أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر وفيه: "فاقدروا ثلاثين".(1/3)
وأخرجه البخاري ومسلم من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم (ولا تفطروا حتى تروه إلا أن يغم عليكم فإن غم عليكم فاقدروا له).
مفردات الحديث:
قوله" إذا رأيتموه": أي هلال رمضان، وقد دل عليه اللفظ الآخر: "لاتصوموا حتى تروا الهلال".
قوله: "فإن غم عليكم" أي حال بينكم وبين رؤيته غيم أونحوه. وفي رواية: "عمي" من العمى وهو الخفاء.
قوله: "فاقدروا له" أي أبلغوه قدره وهو تمام ثلاثين يوما. وقيل : ضيقوا عليه من القدر وهو التضييق...
فقه الحديث: فيه مسائل:
المسألة الأولى: متى يجب صوم رمضان.
يصام برؤية هلاله، لقوله تعالى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
ولحديث الباب، وانعقد الإجماع عليه.
والرؤية المعتبرة: رؤيته في الليل بعد غروب الشمس كما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم ،قال عمر: "إذا رأيتموه في النهار فلا تصوموا حتى تروه في العشية".
ب- إتمام عدة شعبان ثلاثين يوما لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين) وفي رواية (فأكملوا العدة ثلاثين). وإكمال شعبان لا يخلو من أمرين:
1- أن يكون ليلة الثلاثين صحوًا فهنا نكمل شعبان ثلاثين يوما للحديث المتقدم.
2- أن يحول دون رؤية الهلال ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو غبار أو نحو ذلك فهل يثبت بذلك دخول شهر رمضان.
فيه خلاف:
فالمذهب عند الحنابلة: أنه يثبت بذلك دخول الشهر ،قالوا: يجب صومه احتياطاً، استدلوا بالحديث "فاقدروا له".
و بما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يصوم في يوم الغيم.
والقول الثاني: أنه لا يجب صومه وهو رواية عن الإمام أحمد ونسب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
واستدلوا بهذا الحديث برواية "فاقدروا له ثلاثين" أي احسبوا تمام الشهر....(1/4)
ويجاب عن فعل ابن عمر بأجوبة: 1- أنه اجتهاد منه رضي الله عنه وقد خالف غيره من الصحابة.
2- أنه كان يفعل ذلك ويفتى بخلافه، والعبرة بما روى لا بما رأى.
3- أنه كان يفعل ذلك على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب.
المسألة الثانية:إذا رؤي الهلال في بلد فهل يلزم الناس كلهم الصوم أو لا؟.
فيه خلاف:
القول الأول: أنه إذا رؤي الهلال في بلد لزم جميع الناس الصوم. وهذا مذهب الحنابلة والأحناف والمالكية. واستدلوا بأدلة كثيرة:
منها حديث الباب ،ووجه الدلالة منه: أن الخطاب فيه لجميع المسلمين.
القول الثاني: أنه إذا رؤي في بلد وجب عليهم الصيام ، وعل كل بلد يوافق بلد الرؤية في مطلع الهلال. وهذا مذهب الشافعية،واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والصنعاني في "سبل السلام". وروي عن بعض السلف كعكرمة وغيره. واستدلوا بأدلة منها:
مارواه مسلم عن كريب أن أم الفضل أرسلته في حاجة إلى معاوية، ومعاوية في الشام فروا الهلال في الشام فصاموا وكان ممن رآه كريب، رأوه ليلة الجمعة، ثم إن كريباً قضى حاجته من الشام ورجع إلى المدينة والتقى بابن عباس رضي الله عنهما فسأله ابن عباس متى صام معاوية ؟قال: صام يوم الجمعة، قال: هل رأى الهلال ؟قال: نعم وأنا رأيته أيضا، فقال: إنا لم نصم إلا يوم السبت ،قال له: أفلا تكتفي برؤية معاوية؟ قال: هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قالوا: ولم يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يكتب إلى البلدان إذا ثبتت رؤية الهلال في المدينة.
القول الثالث: أنه إذا ثبت عند الحاكم فإن هذه الرؤية شاملة لجميع البلدان التي تحت سلطته. وهذا رأي ابن الماجشون من المالكية ، وعمل الناس عليه.
والراجح والله أعلم القول الثاني، فهو مؤيد بظاهر القرآن وصريح السنة. ولولا حديث كريب لكان القول الأول هو الصحيح.
المسألة الثالثة: من هو الذي تثبت رؤيته؟
من توفرت فيه الشروط الآتية:(1/5)
1. أن يكون مسلما. وقد روي فيه حديث ابن عباس، رواه الخمسة.
والصحيح أنه مرسل ، كما قال النسائي رحمه الله.
2. أن يكون مكلفا وهو البالغ العاقل، وفي الطفل المميز خلاف، والجمهور على أن شهادته مردودة لأنه لا يوثق بخبره.
والصحيح أنها مقبولة إذا كان يعرف عنه التثبت وعدم التسرع، وهو قول بعض الشافعية وبعض الحنابلة.
3. أن يكون عدلا ً لحديث "فإن شهد شاهدان ذوا عدلٍ فصوموا وأفطروا " رواه النسائي من حديث عبدالرحمن بن زيد.
4. اشترط بعض العلماء أن يكون الرائي ذكرًا ، والصحيح أنه لا يشترط؛ لأنه خبر ديني فاستوى فيه الرجال والنساء كالرؤية والإخبار بدخول الوقت وخروجه ونحو ذلك.
المسألة الرابعة: إذا انفرد واحد برؤية الهلال فهل يلزمه الصوم والإفطار؟.
أما في هلال رمضان فالجمهور وهو قول الأئمة الأربعة أنه يجب عليه الصوم لقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث "إذا رأيتموه فصوموا" وهذا قد رآه.
ولقوله تعالى:{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وهذا قد شهد الشهر.
القول الثاني: أنه لا يجب عليه الصوم إذا رأي هلال رمضان وحده، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. واستدلوا بأدلة منها:
قوله - صلى الله عليه وسلم - (صومكم يوم يصومون وفطركم يوم يفطرون)، رواه الترمذي، ومعناه أن الصوم المعتبر والفطر المعتبر هو ما وافق فيه المسلم جماعة المسلمين، وقال: أن هذا اليوم محكوم عليه شرعا أنه من شعبان؛ لأنه كذلك عند الناس فكيف يصوم يوما من شعبان. وهذا القول هو الصحيح.
وأما في هلال شوال فذهب الجمهور إلى أنه إذا رأي هلال شوال وحده فإنه لا يجوز له الفطر.
واستدلوا: بالحديث السابق، ولأن خروج رمضان لا يثبت شرعا إلا بشهادة اثنين وهذا الذي رآه واحد فيلزمه الصوم.
القول الثالث: أنه يجوز له أن يفطر، وهو قول الشافعية واختيار الصنعاني رحمه الله.(1/6)
واستدلوا بحديث الباب وفيه "إذا رأيتموه" وهذا رآه.
والراجح قول الجمهور أنه لا يجوز له الفطر بل يبقي صائما حتى يفطر مع الناس.
فيه فوئد:
1- أن المراد برؤية الهلال من يثبت به الحكم الشرعي برؤية رجلين فأكثر في خروج الشهر أو رجل في دخوله. لا رؤية جميع المخاطبين.
2-أنه لا يعول على الحساب في معرفة دخول الشهر وخروجه، وإنما المعول عليه الرؤية لقوله "إذا رأيتموه".
? 3- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (تسحَّروا فإنَّ في السحور بركة).
? 4- وعن أنس بن مالك، عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال: (تسحَّرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قام إلى الصلاة، قال أنس: قلت لزيد: كم كان بين الأذان والسَّحور؟ قال: قدر خمسين آية).
تخريج الحديثين وطرقهما:
حديث أنس الأول: أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (1095)، وابن ماجه (1692) من طريق عبدالعزيز بن صهيب عن أنس.
وهو عند مسلم أيضاً، والترمذي (708)، والنسائي (4/141)، وأحمد من طريق قتادة وعبد العزيز بن صهيب عن أنس.
وحديث أنس الثاني: أخرجه البخاري (1921)، ومسلم (1097)، والترمذي (703)، والنسائي ((4/143)، وابن ماجه (1694)، من طريق هشام الدستوائى، عن قتادة، عن أنس.
مفردات الحديثين:
"السَّحور" يقال: السُّحور والسَّحور فبالفتح مايتسحر به، وبالضم نفس الفعل.... الإحكام (3/331).
"كم كان بين الأذان" المراد بالأذان هنا الإقامة.
فوائد الحديثين:
1. مشروعية السحور وهو مستحب لأن الله حث عليه وأمربه.
2. استحباب تأخيره إلى قبيل طلوع الفجر لحديث أنس الثاني، وقوله: "قدر خمسين آية" أي متوسطة لا طويلة ولا قصيرة لا سريعة ولا بطيئة.
قال ابن حجر: "وهي قدر ثلث خمس ساعة". أي أربع دقائق. وقال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: "لكنى قرأتها فبلغت نحو ست دقائق".
3. إثبات البركة في طعام السحور، وبركته من وجوه:(1/7)
الوجه الأول: امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: التقوى به على العبادة.
الوجه الثالث: مخالفة أهل الكتاب لحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه في صحيح مسلم.
"فصل مابين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر".
الوجه الرابع: زيادة النشاط لاسيما في أيام الصيف.
الوجه الخامس: المحافظة على صلاة الفجر مع الجماعة.
الوجه السادس: إدراك فضيلة أخر الليل للذكر والدعاء.
4.ومن الفوائد: أن السحور يحصل بأقل ما يتناوله المرء من مأكول ومشروب لقوله: "تسحروا" وأطلق.
لكن الأفضل أن يكون على تمر أو معه تمر، لما روي أبوداود بسند صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نعم سحور المؤمن التمر".
? 5- وعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم.
تخريجه وطرقه:
أخرجه البخاري (1925،1926)، (1930،1931،1932).
ومسلم (1109/78) من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال أخبرتني عائشة وأم سلمة...واللفظ للبخاري.
وأخرجه مسلم (1109) (80) من طريق أبي بكر بن عبدالرحمن عن أم سلمة ليس فيه (عائشة) وفيه: "ثم لايفطر ولا يقضي".
ومن طريق سليمان بن يسار عن أم سلمة بنحو حديث الباب.
وأخرجه البخاري (1930) من طريق ابن شهاب، عن عروة وأبي بكر بن عبدالرحمن، عن عائشة ليس فيه "أم سلمة".
وله طرق متعددة ساقها النسائي في "سننه" وأشار إلى الاختلاف في روَّاتها.(1/8)
وهذا الحديث له قصة وهي: أن أبابكر قال: سمعت أباهريرة يقص يقول في قصصه: "من أدركه الفجر جنباً فلا يصم" فذكرت ذلك لأبي يعنى – عبدالرحمن بن الحارث- فأنكر ذلك، فانطلق عبدالرحمن وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة فسألهما عبدالرحمن عن ذلك، قال: فكلنا هما قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - : يصبح جنبا من غير حلم ثم يصوم، قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال مروان: عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة فرددت عليه ما يقول.
قال: فجئنا أباهريرة وأبوبكر حاضر ذلك كله، قال: فذكر له عبد الرحمن، فقال أبوهريرة: أهما قالتاه لك ؟ قال: نعم، قال: هما أعلم،ثم رد أبوهريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن العباس، قال: فرجع أبوهريرة عما كان يقول في ذلك. كذا عند مسلم.
مفردات الحديث:
"كان" بحث الأصوليين فيها هل تدل على الاستمرار أو لا؟ والغالب أنها تدل على الاستمرار إذا كان خبرها فعلاً مضارعاً.
"وهوجنب" أي ذوجنابه. وهي شرعا كل ما أوجب الغسل من جماع أو إنزال.
"من أهله" من للسببية أي من جماع أهله.
فقه الحديث:
فيه مسألة وهي حكم صوم من أصبح جنباً.
الجمهور على أن صومه صحيح لهذا الحديث، وقد نقل إجماعاً.
وذهب أبوهريرة وبعض التابعين إلى أن من أصبح جنباً فإنه يقضي ذلك اليوم.حكاه الترمذي في "سننه".
وقد روى البخاري معلقاً عن أبي هريرة قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالفطر". ووصله أحمد وابن حبان من طريق معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة.
وورد عند عبد الرزاق من طريق معمر، عن ابن شهاب عن ابن عبد الله بن عمر ، عن أبي هريرة.
لكن رد البخاري هذا الحديث بقوله: "والأول أسند".(1/9)
وأجاب عن ابن المنذر والخطابي وغيرهما بأنه منسوخ، وقرر ابن دقيق العيد بأن قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ ْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}البقرة 187، يقتضى إباحة الوطء في ليلة الصوم، ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه، ومن المعلوم بالضرورة أنه يصبح فاعل ذلك جنباً ولا يفسد صومه، فإن إباحة التسبب للشيء إباحة لذلك الشيء" ا..هـ.
ومما يدل على النسخ ما أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تسمع من وراء الباب فقال: يارسول الله: تدركنى الصلاة وأنا جنب أفأصوم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وأنا تدركنى الصلاة وأنا جنب فأصوم .... الحديث.
وهذا الحديث يبطل قول من قال بالخصوصية. لأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل.
وأما فتيا أبي هريرة فإن أباهريرة رجع عن قوله ذلك.
قال سعيد بن المسيب: رجع أبو هريرة عن فتياه. ورجح ذلك ابن حجر في الفتح (4/146).
فيه فوائد:
1- أن هذا الحكم عام للفرض والنفل، لرواية: "ولا يقضى". ونقل عن بعض السلف كالنخعي إيجاب القضاء في الفرض، دون النفل. وهو ضعيف.
2- أن الحائض والنفساء في معنى الجنب عند أهل العلم إذا انقطع دمها ليلاً ثم طلع الفجر قبل أن تغتسل.
قال النووي في شرح "مسلم" "مذهب العلماء كافة صحة صومها إلا ما حكي عن بعض السلف مما لا يعلم صح عنه أولاً".
وفي المسألة عن الإمام أحمد قولان، وعن ابن الماجشون أنها إذا أخرت غسلها حتى طلع فيومها يوم فطر؛ لأنها في بعضه غير طاهرة. والصحيح الأول.
? 6- وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نسي وهو صائم فأكل أوشرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه).
تخريجه وطرقه:
أخرجه البخاري (1933)، (6669)، ومسلم (1155/ 171)، وأبو داود (2398)، والترمذي (722،721)، وابن ماجه (1673) من طرق عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة.(1/10)
وفي رواية الترمذي "فإنما هو رزق رزقه الله".
مفردات الحديث:
قوله: "وهو صائم" جملة حالية من فاعل"نسي".
"فليتم" أي فليكمل. "أطعمه الله وسقاه" أضافه إلى الله لأنه حصل بدون قصد من الفاعل.
فقه الحديث: فيه مسألة: وهي حكم صوم من أكل أو شرب ناسياً:
جمهور العلماء على أن صومه صحيح، لقوله: "فليتم صومه...". ونسبه ابن العربي لجميع فقهاء الأمصار.
فقد أفتى به جماعة من الصحابة،وهو موافق لقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}البقرة225.
فالنسيان ليس من كسب القلب.
وذهب الإمام مالك: "إلى أن من أكل في رمضان ناسياً فعليه القضاء.
واستدل بأن الإمساك عن المفطرات ركن الصوم فحكمه حكم من نسي ركنا من الصلاة؛ فإنها تجب عليه الإعادة وإن كان ناسياً.
وتأول أصحابه قوله: "فليتم صومه" أن المراد فليتم إمساكه من المفطرات، و حمل بعضهم الحديث على صوم التطوع.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأن الحديث ورد عند الحاكم بلفظ: "فلاقضاء عليه ولا كفارة" وهذا صريح في صحة صومه وعدم قضائه له.
وفي سقوط القضاء أحاديث لا تخلو من ضعف.
وأما القياس على الصلاة: فإنه في مقابلة النص فيكون فاسد لاعتباره.
وظاهر رواية الحاكم تدل على أن جماع الناس لا يفسد صومه، قال الشارح: "ومن أراد إلحاق الجماع بالمنصوص عليه فإنما طريقه القياس، والقياس مع الفارق متعذر إلا إذا بين القائس أن الوصف الفارق ملغي".
والصحيح أنه لا يفسد صومه لعموم قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. قال الله قد فعلت. ولرواية الحاكم.
وفيه من الفوائد:
1- أن عمل الناسي لا ينسب إليه شرعاً.
2- سعة رحمة الله سبحانه بعفوه عن الناسي ورفع المشقة عنه.(1/11)
? 7- وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل فقال: يارسول الله! هلكت، قال: مالك؟قال: وقعت على امرأتي، وأنا صائم- في رواية: أصبت أهلي في رمضان- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا، قال: فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينا نخن على ذلك أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر – والعرق: المكتل – قال: أين السائل؟ قال: أنا، قال: خذ هذا فتصدق به، فقال الرجل: على أفقر منى يارسول الله؟ فو الله ما بين لابتيها-يريد: الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى مدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك).
الحرة : أرض تركبها حجارة سود.
تخريجه وطرقه:
أخرجه البخاري (1936)، ومسلم (1111)، وأبوداود (2392)، والترمذي (724)، والنسائي في "الكبرى" (2/211)، وأحمد (2/208)، ومالك في "الموطأ" (1/296) من طريق الزهري قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أباهريرة ..... وقد رواه عن الزهري خلق كثير... وعند أحمد زيادة: "بنتف شعره ويدعو ويله ......".
مفرداته:
"هلكت" الهلاك في الأصل الموت، والمعنى وقعت في الإثم الذي يهلكني.
"بعرق" قال المصنف: العرق: المكتل، هذا تفسير من بعض الرواة.
"فيه تمر" لم يبين مقداره في شيء من طرق الصحيحين، لكن ورد في طرق أخرى أنه نحو خمسة عشر صاعاً.
"على أفقر" متعلق بمحذوف تقديره أتصدق به.
"لابتيها" أي لا بتي المدينة، وهما حرتاها الشرقية والغربية، تثنية لابه وهي الحرة، ويقال فيها: لوبه ونوبه بالبنون.
فقه الحديث:
هذا الحديث حديث جليل كثير الفوائد. قال ابن حجر: "إنه قد اعتنى بعض المتأخرين ممن أدرك شيوخنا بهذا الحديث، فتكلم عليه في مجلدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة".
وفيه مسائل:(1/12)
المسألة الأولى: حكم جماع الصائم في نهار رمضان.
يقال: هو محرم بل من أعظم الذنوب التى يقترفها الصائم. وعليه الكفارة المغلظة المذكورة في الحديث.
وظاهر الحديث يدل على وجوب الكفارة أنزل أو لم ينزل، وسواء كان الجماع ممن يباح له كالزوجة أو ممن لا يباح كالأجنبية.
وفي الكفارة مباحث:
المبحث الأول: أن هذه الكفارة تجب على الترتيب عند جماهير العلماء؛ لأن - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل الرجل عن خصلة :إلاحين قال له: "إنه لا يستطيع، أو لايجد".
القول الثاني: أن الكفارة على التخيير، وهو مذهب بعض الفقهاء ورواته عن الإمام أحمد، ومالك. واستدلوا برواية لهذا الحديث عند مسلم بلفظ: "عليك رقبة أو صيام أو إطعام". و أو تأتى بلغة العرب للتخيير.
والصحيح الأول وأن الترتيب واجب، وإن الرواية الثانية في الصحيحين فيها الترتيب،
وقد روي الترتيب عن الزهري نحو ثلاثين نفسا أو يزيد.
ورجح الترتيب أيضا: بأن راويه حكى لفظ القصة على وجهها فمعه زيادة علم من صورة الواقعة.
وراوي التخيير حكى لفظ راوى الحديث فدل على أنه من تصرف الرواة.
ثم إن الترتيب أحوط.
المبحث الثاني: قيد جمهور العلماء الرقبة بالمؤمنة حملاً للمطلق على المقيد في كفارة القتل، قالوا: لأن كلام الله في حكم الخطاب الواحد فيترتب المطلق على المقيد.
وخالف الحنفية فقالوا: بجواز إخراج الرقبة الكافرة.
المبحث الثالث: إذا لم يجد الرقبة ولا ثمن الرقبة فإنه يصوم شهرين، ويشترط في هذين الشهرين أن يكونا متتابعين.
فإن شرع في الصوم ثم وجد الرقبة فإنه لا يجب عليه أن ينتقل إليها نص عليه أحمد والشافعي.
فإن أفطر لغير عذر لزمه الاستئناف من جديد، وإن كان لعذر كمرض أو سفر أكمل صيامه ولم ينقطع تتابعه.
المبحث الرابع: إذا لم يستطع الصيام فإنه يطعم ستين مسكينا.
وأختلف أهل العلم في قدر ما يطعم كل مسكين، والمشهور أن لكل مسكين مدبر أو نصف صاع من غيره، كما جاء في فدية الحج .(1/13)
وعليه فإذا أراد الإنسان أن يطعم فإما أن يصنع طعاما يكفى لثلاثين شخصا من المساكين ويدعوهم ليأكلوا في منزله، وإما أن يدفع من الطعام ما يكفى ستين مسكيناً.
لكن بقي أن يقال: كيف لم يستطع هذا الأعرابي الصيام وقد صام رمضان؟.
فالجواب: قد ورد في رواية ابن إسحاق لهذا الحديث أنه قال: "وهل أثبت إلا من الصوم". وفي لفظ: "وهل لقيت ما لقيت إلا من الصوم". فدل على أن الرجل لا يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين وإلا يقع منه جماع.
المبحث الخامس: إذا لم يستطع جميع أنواع الكفارة فهل تسقط عنه؟ فيه خلاف.
فالمذهب عند الحنابلة أنها تسقط. واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث "خذ هذا فأطعمه أهلك". وإطعامهم له ليس على سبيل الكفارة وإنما لحاجته وأهله إليه فهو صدقة. واختاره الصنعاني رحمه الله.
القول الثاني: أن الكفارة تبقى في ذمته، وكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يقل له كفِّر لأنه أخبر بما يجب عليه أولاً، وكونه أعطاه هذا التمر صدقه لأهله لا يعنى أنه لا تجب عليه الكفارة. وهذا قول للشافعي، ومال إليه ابن دقيق العيد.
وقواعد الشريعة تؤيد القول الأول. إلا إذا اغتنى من قريب. فقد يقال: بلزوم الكفارة عليه حينئذٍ .
المبحث السادس: هذه الكفارة لا تجب إلا بشرطين:
1- أن يكون الفطر بالجماع.
2- أن يكون هذا الجماع في نهار رمضان.
فإن تخلف أحد هذين الشرطين لم تجب.
و دليله هذا الحديث، فهو صريح في وجوب الكفارة بالإجماع، وفي نهار رمضان، وبناءً عليه قول من قال من أهل العلم إن من أفطر بأي مفطر من المفطرات فعليه القضاء والكفارة كما نقله الترمذي عن سفيان الثوري، وابن المبارك، وإسحاق، ونقله، ابن حجر عن المالكية، فهو ضعيف.
وكذا إذا جامع من لا يجب عليه الصوم لمرض أو سفر فعليه القضاء فقط، وكذا إذا جامع في قضاء رمضان لزمه القضاء فقط.
المبحث السابع: لم يبين في هذا الحديث هل على المرأة كفارة؟.(1/14)
فيه تفصيل وهو: إن كانت المرأة معذورة بجهل أو نسيان أو إكراه، فإنه لا يجب عليها كفارة.
وإن كانت مطاوعة يعنى مكنته وهي طائعة مختارة ففيه خلاف:
فالجمهور على أنه يجب عليها الكفارة ، لهذا الحديث ولأن الأصل تساوى الرجال والنساء في الأحكام.
القول الثاني: أن المرأة ليس عليها كفارة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المرأة أن تكفِّر، ولم يرشد السائل لذلك وهو قول الشافعي.
والجواب عنه من وجهين:
1. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سأل الرجل دون المرأة، فأخبره وسكت عن المرأة.
2. أن الظاهر في قصة الحديث -كما في بعض ألفاظه – أنها مكرهة ويدل له ما رواه الدار قطني وغيره.
أنه ما قال: يارسول الله هلكت وأهلكت، فقوله: "أهلكت" دليل أنها مكرهة.
ويدل له أيضاً: قول الرجل في بعض ألفاظ الحديث "وهل أوتيت ما أوتيت إلا من الصيام". وهذا يدل على أنه لا يصبر عن الجماع.
وقد أشار بعض الفقهاء إلى ذلك وقالوا: ظاهر الحال أن المرأة مكرهة، فلم يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكفارة.
المبحث الثامن: إذا كرر الجماع في يومين ولم يكفَّر ففيه خلاف:
والصحيح أنه تلزمه كفارتان، وكذا لوكرره في اليوم واحد ولم يكفر.
المسألة الثانية: هل يلزم من جامع في نهار رمضان قضاء ذلك اليوم الذي أفسده بالجماع؟.
فيه خلاف: فالجمهور على أنه يجب عليه قضاء ذلك اليوم.
واستدلوا:
1. أنه ورد في حديث الباب زيادة بلفظ: "كله أنت وأهل بيتك وصم يوماً واستغفر الله".
2. أنه أفسد يوماً بالجماع فلزمه قضاؤه؛ لأنه تعلق بذمته.
القول الثاني: أنه لا يجب عليه القضاء، وهو مذهب الشافعي، ونصره ابن حزم رحمه الله.
واستدلوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المجامع بالقضاء.
والروية التى فيها أمر المجامع بالقضاء شاذة لا تثبت، وممن ضعفها من المحققين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .(1/15)
وبأن المجامع أفطر عمدًا. ومن أفطر عمدًا فإنه لا يقبل من القضاء، وعليه التوبة والاستغفار والإكثار من العمل الصالح. وهذا القول هو الصواب.
فيه فوائد:
1- أن من ارتكب معصية لا حد فيها فإنه لا يعزر إذا جاء مستفتياً.
2- الندم على المعصية.
3- الرفق بالمتعلم والتلطف به.
4- حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - .
5- استعمال الكناية فيما يستحى منه.
6- جواز الحلف بدون استحلاف.
7- فيه الحث على التعاون على الخير والسعي فيه.
... ... باب الصوم في السفر وغيره
هذا الباب عقده المؤلف لبيان حكم الصوم في السفر وهل هو أفضل أو الفطر؟
قوله: "وَغيره". يعنى غير الصوم في السفر من قضاء رمضان،والصوم عن الميت، وتعجيل الفطر، والوصال.
? 8- عن عائشة رضي الله عنها، أن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (أصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، قال: ((إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر)).
? 9- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا نسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم).
? 10- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله في شهر رمضان، في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و عبد الله بن رواحه).
? 11- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلِّل عليه، فقال: (ما هذا؟ قالوا: صائم، قال: (ليس من البر الصوم في السفر).
ولمسلم (عليكم برخصة الله التى رخَّص لكم).(1/16)
12- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر، فمنا الصائم، ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حارٍ، وأكثرنا ظلاً صاحب الكساء، فمنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوَّام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ذهب المفطرون اليوم بالأجر ).
تخريج الأحاديث وطرقها:
الحديث الأول: أخرجه البخاري (1942، 1943)، ومسلم (1121)، وأصحاب السنن من طريق هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة. وللفظ للبخاري.
وعند مسلم زيادة أنه قال: يارسول الله "إنى رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر؟".
وفي لفظ له: "هو رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه".
ولأبي داود: من طريق محمد بن حمزة بن عمرو عن أبيه: "وأنه ربما يصادفني هذا الشهر – يعنى رمضان- وأنا أجد قوة".
الحديث الثاني حديث أنس:
أخرجه البخاري (1947)، ومسلم (1118)، وأبوداود (2405) من طريق حميد الطويل، عن أنس.
الحديث الثالث حديث أبي الدر داء.
أخرجه البخاري (1945)، ومسلم (1122)، وأبوداود (2409)، وابن ماجه (1663) من طريق إسماعيل بن عبيد، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء .
الحديث الرابع حديث جابر :
أخرجه البخاري (1946)، ومسلم (1115)، وأبوداود (2407)، والنسائي (4/177) من طريق محمد بن عمر بن الحسن، عن جابر ، واللفظ للبخاري.
الحديث الخامس حديث أنس رضي الله عنه:
أخرجه البخاري (2890)، ومسلم (1119)، والنسائي (4/182) من طريق عاصم الأحول، عن مورِّق، عن أنس رضي الله عنه.
مفردات الأحاديث:
قوله: "أأصوم في السفر" لم يبين ما المراد بالصوم، لكن قول عائشة: "وكان يسرد الصوم" يرجح أن المراد به التطوع، إلا أن إحدى روايات مسلم وهي قوله:"هي رخصة من الله ...". تفيد أن المراد به صوم رمضان، وجاء ذلك صريحاً في رواية أبي داود كما تقدم.
قوله: "فلم يعب" أي ينكر.(1/17)
قوله: "ليس من البر" أي الخير.
قوله: "عليكم برخصة الله" أي بتسهيله وتيسيره.
قوله: "أكثر ظلاً صاحب الكساء" أي صاحب الثوب الذي ينشره فوقه يتقي به الشمس.
قوله: "الرِّكاب" الإبل.
قوله: "ذهب" أي اختص.
قوله: "بالأجر" أي بالثواب، لما قاموا به من الأعمال التى فاتت الصائمين ولم يفتهم أجر الصيام؛ لأنهم سيقضونه.
فقه الأحاديث:
فيها مسألة وهي حكم الصيام في السفر.
يقال: الصيام في السفر لا يخلو من حالين.
الحال الأولى: أن يترتب عليه مشقة، فالسنة الفطر للمسافر فيه، ولا يخلو الصوم من أن يكون مكروها أو محرما بحسب الأذى الذي يلحقه البدن في الصيام.
ويدل له حديث جابر "ليس من البر الصيام السفر". فيقال: أن صوم المسافر مع المشقة ليس من البر.
وكذا إذا كان في الفطر مصلحة فإنه أفضل من الصوم لحديث أنس "ذهب المفطرون اليوم بالأجر".
الحال الثانية: أن لا يكون فيه مشقة، ففيه خلاف بين أهل العلم:
فالمذهب عند الحنابلة وهو قول الأوزاعي وإسحاق "أن السنة للمسافر الفطر".
واستدلوا بالنصوص السابقة، وكذا الآثار التى نقلت عن الصحابة، والتى تدل على كراهية الصوم في السفر ولو بلا مشقة، وعملاً بالرخصة.
القول الثاني: أن الصوم في السفر أفضل، وهو قول جمهور العلماء أبو حنيفة، ومالك، والشافعي.
واستدلوا: بحديث أبي الدرداء: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان في حر شديد ....وما فينا صائم إلا رسول الله وعبد الله بن رواحة.
وقالوا: أن الصوم في السفر أسرع في إبراء الذمة.
ولأنه أيسر على المكلف.
وحملوا حديث "ليس من البر ....، وحديث "أولئك العصاة ...." على من شق عليه الصوم.
والقول الثالث: أنه مخبر مطلقاً إن شاء صام وإن شاء أفطر.
وهو اختيار البخاري رحمه الله، لحديث "فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم".(1/18)
القول الرابع: أن الصوم في السفر لا يجزئ عن الفرض، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر لظاهر قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر}وهو قول الظاهرية.
وتأولها الجمهور بأن المراد فأفطر فعدة من أيام أخر.
فيها فوائد:
1- الحث على السؤال عما يشكل.
2- ظاهر الأحاديث يدل على أنه لا فرق في السفر بين الطويل والقصير.
3- أن من سافر في أثناء اليوم وهو صائم جاز له أن يفطر.
ومذهب الجمهور أن من أصبح صائما في بلده ثم سافر، فإنه لا يجوز له الفطر؛ لأنه شرع في عبادة واجبة فوجب عليه إتمامها. وهو ضعيف.
4- أن إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة وهو من سنته.
5- أن التوقي من أسباب الضرر لا ينافى كمال التوكل على الله سبحانه.
6- تفقد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه وعنايته بهم.
7- جواز الازدحام على رؤية الأشياء الغريبة.... وفيه تأمل.
8- فضل خدمة الأصحاب في السفر.
? 13- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان).
تخريجه:
أخرجه البخاري (1950)، ومسلم (1146)، وأبوداود (2399)، والنسائي (4/150-191)، وابن ماجه (1669) من طريق يحي بن سعيد الأنصاري، عن أبي سلمة، عن عائشة.
وفيهما قال يحي: "الشغل من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وعند مسلم: غير أنه قال: وذلك لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
لكن ابن حجر رحمه الله ضعف هذه الزيادة في "الفتح"، وقال: مما يدل على ضعف هذه الزيادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم لنسائه فيعدل، وكان يدنو من المرأة في غير نوبتها فيقبل ويلمس من غير جماع فليس في شغلها بشيء من ذلك ما يمنع الصوم. .....
فيه فوائد:
1- جواز تأخير قضاء رمضان إلى شعبان.
2- أنه لا يجوز تأخير القضاء إلى ما بعد رمضان الآخر، وهذا يؤخذ من مفهوم الأثر، وهو قول جمهور العلماء رحمهم الله.(1/19)
فإن فعل بلا عذر فعليه مع القضاء أن يطعم عن كل يوم مسكيناً، لآثار صحيحة ثابتة عن الصحابة رضي الله عنهم، منهم ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة.
القول الثاني: أنه يقضي فقط ولا يجب عليه الإطعام، وهو مذهب أبي حنيفة وإبراهيم النخعي وغيرهما.
قالوا: لأنه لم يثبت فيه حديث مرفوع. والأصل براءة الذمة.
وهذا لقول فيه قوة ووجاهة.
3- أن المبادرة بالقضاء أولى، لأن عائشة رضي الله عنها اعتذرت بكونها لاتستطيع.
? 14- وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من مات وعليه صيام، صام عنه وليه)).
وأخرجه أبوداود، وقال: هذا في النذر، وهو قول أحمد بن حنبل رضي الله عنه".
? 15- وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: (لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم، قال: (فدين الله أحق أن يقضي).
وفي رواية: (جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يارسول الله إن أمي ماتت، وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال: (أريت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها؟ " قالت: نعم، قال: (فصومي عن أمك).
تخريجهما وطرقها:
حديث عائشة: أخرجه البخاري في الصوم – باب من مات وعليه صوم (1952)، ومسلم (1147)، وأبوداود في الصوم – باب فيمن مات وعليه صيام (2400) من طريق عبيد الله ابن أبي جعفر، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها.
وحديث ابن عباس: أخرجه البخاري (1935)، ومسلم (1148)، من طريق الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والرواية الأخرى: أخرجها مسلم (1148/156) من طريق عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، حدثنا الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وعلق البخاري بعضه.
مفردات الحديثين:
"من مات" أي أيُّ إنسان مات.(1/20)
"وعليه صيام" أي في ذمته صيام واجب. وعلى: تفيد الوجوب.
"صام عنه وليه"المراد بالولي: القريب، والوارث أولى القرابة به.
فقه الحديثين: فيهما مسائل:
المسألة الأولى: حكم قضاء الصوم الواجب على الميت عنه.
فيه خلاف:
فالجمهور على أن الأمر في الحديث محمول على استحباب، فهو من البر والإحسان، والصلة.
وذهب أهل الظاهر إلى أن الأمر للوجوب (1).أخذًا بظاهر الحديث.
والصواب مع الجمهور، لأنه لو قيل بالوجوب للزم أن يأثم الولي بعدم القضاء، وهذا لا يصح لقوله تعالى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
وذهب الأئمة الثلاثة أبوحنيفة، ومالك، والشافعي إلى أنه لا يقضى عن الميت وإنما يطعم عنه.
واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. وقوله عزوجل:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}.
ولأثر روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يصم أحدٌ عن أحدٍ ولا يصلي أحدٌ عن أحدٍ".
والصواب الأول.
المسألة الثانية: ما المراد بالصوم في الحديث؟ فيه خلاف:
فذهب الإمام أحمد وكثير من فقهاء الحديث إلى أن المراد صوم النذر، بل نص الإمام أحمد على ذلك كما نقله عنه أبوداود، واستدلالاً بهذه الأحاديث.
وحملوا المطلق في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس.
- أنه صح عن بعض الصحابة تفسيره بذلك كعائشة وابن عباس ورضي الله عنهم.
قالوا: والفرق بين الصيام الواجب بالنذر الصيام الواجب بأصل الشرع، أن الصيام الواجب بالنذر لايجب وإنما أوجبه المكلف على نفسه، فأشبه الدين وصار مما تدخله النيابة.
القول الثاني: أن الحديث عام يشمل الواجب بالنذر والواجب بأصل الشرع.
وهذا قول الشافعية،وابن حزم، واختيار شيخينا ابن عثيمين رحمه الله.
واستدلوا بعموم حديث عائشة.
__________
(1) "المحل" ( 7 / 2).(1/21)
قالوا: وحمله على صوم النذر تخصيص بلا دليل، وإنما هو اجتهاد، ثم إن الواجب بأصل الشرع أكثر وقوعاً من الواجب بالنذر، فكيف يحمل الحديث على النادر ويترك الكثير ؟.
والقول الأول أقوى لأنه مؤيد بآثار الصحابة رضي الله عنهم.
? 16- عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)).
? 17- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، فقد أفطر الصائم )).
تخريجهما وطرقهما:
حديث سهل: أخرجه البخاري في الصوم –باب تعجيل الإفطار (1957)، ومسلم (1098) من طريق مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.
حديث عمر: أخرجه البخاري في الصوم –باب متى يحل فطر الصائم (1954)، ومسلم (1100)، وأبوداود في الصوم – باب وقت فطر الصائم (2351)، والترمذي في أبواب الصوم – باب ماجاء إذا أقبل الليل وأدبر النهار فقد أفطر الصائم (698) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن أبيه فذكره. وعندهم زيادة: للبخاري: "وغربت الشمس"، والباقون: "وغابت الشمس".
مفردات الحديثين:
"بخير" أي في خير.
"ما عجلوا" ما ظرفية، أي مدة فعلهم ذلك ومبادرتهم إليه.
"أقبل الليل" : أي بان ظلامه.
"من ههنا" : أي من المشرق.
"أدبر النهار" : ولى وضياؤه.
"من ههنا" : أي من المغرب.
"أفطر الصائم" : أي حل له الفطر، أو أفطر حكماً.
ويحتمل أن الجملة خبرية بمعنى الأمر ، أي فليفطر.
فيهما فوائد:
1- استحباب تعجيل الإفطار إذا تيقن الصائم أو غلب على ظنه غروب الشمس، وأن هذا أمر مرغب فيه، وهو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهدي صحابته الكرام.(1/22)
في صحيح مسلم (1). أن مسروقاً قال لعائشة رضي الله عنها: رجلان من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كلاهما لا يألو عن الخير، أحدهما يعجِّل المغرب والإفطار، والآخر يؤخر المغرب والإفطار، فقالت: من يعجل المغرب والإفطار؟ قال: عبد الله – يعنى ابن مسعود- فقالت: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع.
قال البخاري: "وأفطر أبوسعيدحين غاب قرص الشمس".
وقال عمرو بن ميمون الأودي رحمه الله: -كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أسرع الناس إفطارًا، وأبطأهم سحورًا". (2).
2- أن وقت الإفطار إنما هو بغروب الشمس وإن كان الضياء باقياً.
3- قال ابن دقيق العيد: في هذا الحديث رد على الشيعة في تأخيرهم الفطر إلى ظهور النجوم، ولعل هذا هو السبب في وجود الخير بتعجيل الفطر، لأن الذي يؤخره يدخل في فعل خلاف السنة" (3).
وأشار ابن حجر إلى علة أخرى وهي أن اليهود والنصارى يؤخرون، وقد ورد فيه حديث، وفيما ذكره نظر، لأن الحديث ضعيف.(4).
4- أن تعجيل الإفطار سبب لاستمرار الناس في الخير وتأخيره سبب لنزع الخير منهم.
وحينئذٍ فينبغي للمسلم أن يبادر بتعجيل الإفطار لينال هذه الخيرية.
مسألة (1): قال أهل العلم: يستحب أن يفطر على رطب، فإن لم يجد فعلى تمر، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء. وقد ورد فيه حديث رواه الدارقطني وصححه عن أنس.
فإن لم يجد فإنه يفطر بالنية.
مسألة (2): اعلم أن الأحاديث التى رويت في الدعاء الإفطار كلها ضعيفة لا يثبت منها شيء.
ومنها: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، سبحانك وبحمدك، اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم".
__________
(1) برقم (1099).
(2) "فتح الباري" (4/199) وقال: وهو عند عبد الرزاق وغيره بإسناد صحيح.
(3) "إحكام الإحكام " مع العدة. (3/390).
(4) أخرجه أبوداود (2353) وفيه تفرد محمد بن عمرو بن علقمة وهو من لا يحتمل تفرده . انظر "تهذيب التهذيب". (9/375)، "فتح الباري" (4/199).(1/23)
ومنها: "ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله".
? 18- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال، قالوا:إنك تواصل؟قال: (إنى لست مثلكم، إنى أطعم وأسقى).
رواه أبوهريرة، وعائشة، وأنس بن مالك.
? 19- ولمسلم: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل إلى السحر).
تخريجها وطرقها:
حديث ابن عمر: أخرجه البخاري في الصوم – باب الوصال (1962)، ومسلم (1102/55) من طريق مالك، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (1965)، ومسلم (1103) من طريق الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، وفيه: "فلما أبواْ أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً، ثم يوماً، ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخَّر الهلال لزدتكم، كالمشكل لهم حين أبواْ أن ينتهوا".
حديث عائشة: أخرجه البخاري (1964)، ومسلم (1105) من طريق عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.
حديث أنس بن مالك: أخرجه البخاري (7241)، ومسلم (1104) من طريق حميد الطويل، عن ثابت، عن أنس، وفيه: "لو مدَّ بي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون نعمقهم، إنى لست مثلكم، إنى أظل يطعمني ربي وسيقنى).
حديث أبي سعيد الخدري: أخرجه البخاري (1963) من طريق الليث بن سعد، عن ابن الهاد، عن عبدالله بن خباب، عن أبي سعيد رضي الله عنه.
وعزو المؤلف الحديث لمسلم سبق قلم، فالحديث من أفراد البخاري. ولم يخرجه مسلم.
مفردات الحديثين:
"الوصال": هو وصل يوم بآخر في الصيام.
"كهيئتكم" : أي صفتكم.
"إنى أطعم وأسقى": جملة تعليلية لبيان الفرق بينهم وبينه.
والمطعم والمسقي له هو الله عزوجل.
"فليواصل إلى السحر": اللام للأمر، والمراد به الإباحة، والسحر: آخر الليل.
فقه الحديثين:
فيهما مسألة: وهي حكم الوصال في الصوم.
فيه خلاف على ثلاثة أقوال:(1/24)
القول الأول: أن الوصال محرم. وهو مذهب الجمهور.
واستدلوا: 1- بظاهر النهي في الحديث، فإن الأصل فيه التحريم، ومواصلة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه قصد بها النبي - صلى الله عليه وسلم - التنكيل لا التقرير.
2- حديث عمر رضي الله عنه المتقدم: "إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" متفق عليه.
وجه الدلالة منه: أن الشرع لم يجعل الليل محلاً لسوى الفطر، وانتهاء وقت الصيام، فالوصال فيه مخالفة لوضعه كيوم الفطر.
القول الثاني: التفصيل، وهو جواز الوصال إلى السحر، مع أن المبادرة بالفطر أفضل، وما زاد على ذلك فهو مكروه.
وهو قول الإمام أحمد، وإسحاق، وبعض المالكية، وطائفة من أهل الحديث (1) ورجحه ابن القيم (2).
واستدلوا: بحديث أبي سعيد، وفيه إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن أراد أن يواصل من أصحابه أن يواصل إلى السحر.
القول الثالث: أن الوصال جائز إن قدر عليه، وهو مروي عن عبد الله بن الزبير.
قال الترمذي: "وروي عن عبد الله بن الزبير أنه كان يواصل الأيام ولا يفطر".(3).
وروي ابن أبي شيبه عنه: "أنه واصل خمسة عشرة يوماً".(4).
وذهب إليه طائفة من السلف، كعبد الرحمن بن أبي نعم، وإبراهيم بن يزيد التيمي، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وأبو الجوزاء وغيرهم. (5).
واستدلوا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واصل بأصحابه يوماً ثم يوماً حتى رأي الهلال، ولوكان النهي للتحريم لم يواصل بهم ولم يقرهم بل أنكر عليهم.
__________
(1) "الاستذكار" (10/151)، "المغنى" (4/437).
(2) "زاد المعاد"(2/38).
(3) "جامع الترمذي" (2/140).
(4) "المصنف" (3/84)، وفي "فتح الباري" (4/204)، "إسناده صحيح".
(5) أنظر "فتح الباري" (4/204).(1/25)
وقد أخرج أبوداود من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلي، حدثني رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهي عن الحجامة والمواصلة، ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه.
فصرح الصحابي بأنه لم يحرم الوصال، وأن النهي مصروف عن التحريم إلى كراهة التنزيه.
ولكن يقال: هذا فهم واجتهاد من الصحابي رضي الله عنه، وإلا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - واصل بهم من باب التنكيل كما تقدم فدل ذلك على تحريمه.
والأقرب - والله أعلم- القول الأول.
المسألة الثانية: ما الحكمة من النهي؟.
يقال: لما فيه من إنهاك البدن، وإحداث الملل، والتعرض للتقصير في بعض الواجبات من صلاة ونحوها، أو التقصير في أعمال اليومية التى كلف الإنسان بها، ولما فيه من الأضرار الحاصلة أو المتوقعة.
المسألة الثالثة: ما المراد بقوله: "إنى أطعم وأسقى؟".
يقال: المراد به الطعام والشراب المعنوي، وهو ما يعطيه الله عزوجل من القوة والانشغال بذكره ومناجاته عن الطعام والشراب فلا يتأثر بالوصال.
وهذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - ، وليس لأحد غيره.
فيه فوائد:
1- أن الأصل التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يقوم دليل على خصوصية الحكم به.
2- شدة متابعة الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموافقته.
3- حسن تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يبين للصحابة سبب الفرق بينه وبينهم ليزدادوا طمأنينة في الحكم.
باب أفضل الصيام وغيره.
... عقد المؤلف رحمه الله هذا الباب لبيان صوم التطوع، وبدأ بأفضل الصيام، ثم بالصيام المنهي عنه، ثم صوم التطوع المطلق وإليه الإشارة بقوله، "وغيره".(1/26)
? 20- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنى أقول:والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ماعشت، فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي، قال: (فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر.
قلت: فإنى أطيق أفضل من ذلك، قال:"فصم يوماً وأفطر يومين". قلت: فإنى أطيق أفضل من ذلك، قال:"فصم يوماً وأفطر ويوماً"؛ فذلك صيام داود عليه السلام، وهو أفضل الصيام"، فقلت: "فإنى أطيق أفضل من ذلك".
وفي رواية: (لا صوم فوق صوم داود – شطر الدهر – صم يوماً وأفطر يوماً).
وعنه قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - (إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً).
? 21- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلى - صلى الله عليه وسلم - بثلاث: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام).
تخريجهما وطرقهما:
حديث عبد الله بن عمرو الأول: أخرجه البخاري في الصوم – باب صوم الدهر (1976)، ومسلم (1159/181) من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عبدالله بن عمرو بن العاص فذكره. واللفظ للبخاري، وفي آخره عندهما: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا أفضل من ذلك".
زاد مسلم في رواية: قال عبد الله بن عمرو: "لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليَّ من أهلي ومالي".
والرواية الأخرى:
أخرجها البخاري في الصوم – باب صوم داود عليه السلام (1980)، ومسلم (1159/191)من طريق خالد الحذاء، عن أبي قلابة قال: أخبرني أبو المليح قال: دخلت مع أبيك على عبد الله بن عمرو فحدثنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر له صومي فدخل عليَّ فذكره....(1/27)
الرواية الثالثة: أخرجها البخاري في التهجد – باب من نام عند السَّحر (1131)،ومسلم(1159/189) من طريق سفيان بن عيينة، حدثنا عمرو بن دينار، أن عمرو بن أوس أخبره أن عبد الله بن عمرو بن العاص أخبره ... فذكره .
حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري في الصوم –باب صيام البيض (1981)، ومسلم (721).
مفردات الحديثين:
قوله "أخبر": بضم الهمزة :أعلم.
"بابي أنت وأمي": بأبي جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لقوله: "أنت". والتقدير: مفدى بأبي أنت وأمي.
"فإني أطيق ": أستطيع.
" شطر الدهر": نصف الدهر.
وقوله "أحب الصيام إلى الله": أي أشده حبا.
"صيام داود ...صلاة داود" نسبتهما إليه لأنه أول من سنهما.
وقوله: "أوصاني" الوصية هي العهد بالاهتمام والعانية.
"خليلي": المراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسماه خليلاً لأنه محبته تحللت باطن قلبه.
فوائد الحديثين:
1- أن أفضل صوم التطوع أن يصوم يوما ويفطر يوما، لأنه صوم نبي الله داود عليه السلام، الذي أعطاه الله قوة في العبادة وملازمة لها.
2- فضيلة صيام ثلاثة أيام من كل شهر وأنه يعدل صيام الدهر، وصيام ثلاثة أيام له جهتان:
الجهة الأولى: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر مطلقا، وهذا ثابت من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله.
أما قوله: فكما في أحاديث الباب، حديث عبد الله بن عمرو، وحديث أبي هريرة.
وأما فعله: فقد قالت عائشة رضي الله عنها: "كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام لا يبالي صامها من أوسط الشهر أم آخره". رواه مسلم.
الجهة الثانية: أن تكون هذه الثلاثة في الأيام البيض. وقد ورد فيها عدة أحاديث، لكن كلها فيها مقال. وبوَّب البخاري في "صحيحه". على حديث أبي هريرة وهو حديث الباب بقوله: باب صيام البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة".(1/28)
قال ابن حجر: "البخاري جرى على عادته في الإيماء إلى ما ورد في بعض طرق الحديث، ثم ساق حديث أبي هريرة عند أحمد والنسائي... ثم قال: وهذا الحديث أختلف فيه على موسي بن طلحة اختلافا كثيرًا بينه، الدارقطني ...". (1).
وحينئذٍ فيقال: الأمر في هذا واسع، وكون الإنسان يجعل الثلاثة الأيام في أيام البيض حسن ويحصل فيه موافقة السنة من غير ضرر.
3- أن ثواب الحسنة بعشر أمثالها.
4- أنه ينبغي بعد النظر ومراعاة أحوال المستقبل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: في رواية عند مسلم: (إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر). فالإنسان في حال نشاطه يختلف عن حاله في كبره وضعف بدنه.
5- جواز تفدية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأب والأم، وفي جواز ذلك على غيره خلاف، والأكثرون على جوازه. (2).
6- أن أفضل صلاة التطوع في الليل أن ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وهي صلاة داود عليه السلام.
7- أن الأعمال الصالحة تتفاوت عند الله بحسب حسنها وموافقتها للشرع، وبحسب ما يقوم في قلب العابد عند فعلها.
8- فضل ركعتي الضحى، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصي أباهريرة بهما، ولأنهما تجز يان عن ثلاثمائة وستين صدقة، كما صح به الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
9- إثبات صفة المحبة لله عزوجل، لقوله: (أحب الصيام ... أحب الصلاة).
10- أنه ينبغي للإنسان أن يتثبت مما ينسب للغير من قول أو فعل ويقرره عليه لقوله: "أنت الذي قلت ذلك".
11- حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفقته على أمته، حيث كان يرشد إلى الأسهل فالأسهل.
12 فضيلة الوتر قبل النوم، لكن هذا فيمن يخشي أن لا يقوم من أخر الليل وقد تقدم بيانه في كتاب الوتر.
? 22- وعن محمد بن عباد بن جعفر قال: "سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم".
__________
(1) "الفتح" (4/226).
(2) "معجم المناهج اللفظية" بكر أبوريد ص (622).(1/29)
زاد مسلم "ورب الكعبة " .
? 23- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده).
شرع المؤلف رحمه الله ببيان ما يكره صومه وما يحرم، فبدأ بكراهة صوم يوم الجمعة في هذين الحديثين.
تخريجهما وطرقهما:
حديث جابر: أخرجه البخاري في الصوم –باب صوم يوم الجمعة (1984)، ومسلم (1143) من طريق عبد الحميد بن جبير بن شيبة، عن محمد بن عباد به، زاد البخاري: "يعني أن ينفرد بصومه"
وزيادة مسلم بلفظ: "وربَّ هذا البيت".
قال ابن حجر في "الفتح" (4/233): "وعزاها صاحب العمدة لمسلم فوهم".
وقد أخرجها باللفظ الذي ذكره المصنف النسائي في "الكبرى" (2760).
حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (1985)، ومسلم (114).
لفظ البخاري: "إلا يوما قبله أو بعده".
ولفظ مسلم : "إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده".
وهو باللفظ الذي ذكره المصنف أخرجه النسائي في "الكبرى" (2769).
مفردات الحديثين:
قوله: "أنهى" الهمزة للاستفهام، والمراد به الاستعلام.
قوله: "صوم يوم الجمعة" أي إفراده بالصوم، كما في رواية البخاري.
قوله: "ورب الكعبة"أي خالقها ومعظمها.
قوله: "لا يصومن" لا ناهية والفعل بني على الفتح في محل جزم لاتصاله بنون التوكيد.
فقه الحديثين: فيهما مسألتان:
المسألة الأولى: حكم إفراد يوم الجمعة بالصوم ؟.
يقال: هو منهي عنه، واختلف في النهي على قولين:
القول الأول:أن النهي للكراهة ، وهو قول جمهور العلماء . والصارف للنهي من التحريم إلى الكراهية قوله: "إلا أن يصوم قبله أو بعده" ، فدل على أن النهي عن صومه ليس للحتم.
القول الثاني: أنه للتحريم، لأنه الأصل فيه. وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1).
__________
(1) "الإنصاف مع شرح الكبير" (7/531).(1/30)
أخذًا بظاهر الحديث، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر جويرية بنت الحارث زوجته بالفطر لماد خل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: أصمت أمس؟ قالت:لا، قال: أتريدين أن تصومي غدًا؟" قالت: لا، قال: فأفطري". رواه البخاري. (1)
وهذا القول قول قوي.
ثم يقال: إنما ينهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم إذا تقصد إفراده.
أما إذا صامه بلا تقصد فلا نهي،قال الإمام أحمد: "إنما كره صوم الجمعة أن يتعمده الرجل"(2).
وتزول الكراهة بأمرين:
الأول: أن يصوم قبله يوما أو بعده يوماً موالياً له، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، واشتراط أن يكون موالياً هو ظاهر اللفظ، ويدل له حديث جويرية السابق .
الثاني: إذا صادق يوم الجمعة عادة للإنسان، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم". رواه مسلم.(3) .
وفي أصل المسألة قول ثالث وهو: أنه لا يكره إفراد الجمعة بالصوم؛ لأنه يوم، فأشبه سائر الأيام (4).
وهو قول ضعيف جدًا مصادم للنص الصريح في النهي عن إفراده بالصوم.
قال الداودي: "لعل النهي ما بلغ مالكاً".(5)
المسألة الثانية: ما الحكمة من النهي عن إفراده بالصوم؟
الحكمة من ذلك – والله أعلم – لأن يوم الجمعة عيد الأسبوع،فأعطي شيئاً من أحكام العيد، وله من الخصائص ما ليس لغيره من الأيام.(6)
فيهما فوائد:
1- فضيلة يوم الجمعة حيث أختص بالنهي عن إفراده بالصوم.
2- حكمة التشريع الإسلامي حيث فرق بين صوم يومي العيدين ويوم الجمعة.
3-جواز الحلف بدون استحلاف.
__________
(1) رقم (1989).
(2) "مسائل أحمد رواية أبي داود" ص (137).
4 برقم (1144)، وأعل بالإرسال
5 "حاشية ابن عابد" (2/83)، "المغني" (4/426).
(5) "الفتح" (4/234).
(6) أشار إلى هذه العلة ورجحها ابن دقيق العيد، وابن الملقن، وابن حجر.
انظر :"الإحكام مع العدة" (3/418)، "الإعلام" (5/360)، "الفتح" (4/235).(1/31)
4- جواز صوم يوم السبت، لقوله: "أو يوماً بعده"، وأنه لا كراهة في إفراده، ومارد من النهي عن صومه فهو منكر لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
? 24- وعن أبي عبيد مولى ابن أزهر-واسمه: سعد بن عبيد – قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: هذان يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر: تأكلون فيه من نسككم".
? 25- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يومين: الفطر والنحر، وعن الصماء، وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد، وعن الصلاة بعد الصبح والعصر".
أخرجه مسلم بتمامه.
وأخرج البخاري الصوم فقط.
تخريجهما وطرقهما:
حديث عمر بن الخطاب: أخرجه البخاري في الصوم –باب صوم يوم الفطر (1990)، ومسلم في الصيام – باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى (1137) من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن أبي عبيد به.
وأخرجه البخاري في الأضاحي- باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي (5571) من طريق يونس، عن الزهري به، وفيه: "شهدت العيد يوم الأضحى ...".
حديث أبي سعيد: أخرجه البخاري في الصوم -باب صوم يوم الفطر (1991، 1992)، ومسلم (827/141) من طريق عمرو بن يحي ،عن أبيه، عن أبي سعيد.
وقد أخرجه البخاري بتمامه، وأخرج مسلم الصوم فقط، وعبارة المؤلف فيها انقلاب.
مفردات حديث أبي سعيد :
قوله: "وعن الصماء" بفتح المهلة وتشديد الميم والمد، والمراد اللبسة الصماء، وهي: أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب.
وقيل: هي أن يتجلل الرجل بثوبه ولا يرفع منه جانباً(1).
قوله:"وأن يحتبي" الاجتباء أن يجلس على أليتيه ناصباً فخذيه وساقيه ويشدهما إلى ظهره بشيء خيط أو سير أو نحوه (2).
فيهما فوائد:
1- تحريم صوم يومي العيدين عيد الفطر وعيد الأضحى، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صومهما.
__________
(1) "النهاية" (3/54).
(2) "النهاية" (1/335).(1/32)
2- أن من صامهما أو صام أحدهما فإنه آثم وصيامه باطل.
3- أن من نذر صيام يوم العيد لم ينعقد نذره .
4- أن الحكمة من النهي عن صيامهما هو الأكل من النسك في عيد الأضحى تقربا إلى الله تعالى، وتمييز الصوم من الفطر في عيد الفطر.
5- النهي عن اشتمال الصماء ، والاجتباء بالثوب الواحد، وهو للتحريم إن بدت العورة وإلا فللكراهة ، وقد ورد في رواية البخاري زيادة: "إذا لم يكن على فرجه منه شيء بينه وبين السماء".
6- النهي عن الصلاة بعد صلاة الصبح والعصر سدًا لذريعة التشبه بالكفار الذين يسجدون للشمس عند طلوعها وغروبها
? 26- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من صام يوماً في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً).
تخريجه وطرقه:
أخرجه البخاري في الجهاد – باب فضل الصوم في سبيل الله (2840)، ومسلم في الصيام – باب فضل الصيام في سبيل الله (1153/168) من طريق عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج،عن يحي بن سعيد وسهيل ابن أبي صالح، أنهما سمعا النعمان بن أبي عياش الزرقي يحدث عن أبي سعيد ... فذكره.
مفردات الحديث:
"في سبيل الله" أي في الجهاد في سبيل الله. قال ابن دقيق: "العرف الأكثر فيه استعماله في الجهاد".
"بعَّد الله وجهه" أي جعل الله وجهه بعيدًا ، والمراد جميع البدن، وخص الوجه بالذكر لشرفه.
"خريفا" أي سنة، وعبر به عن السنة من باب التعبير بالبعض عن الكل.
فيه فوائد:
1- فضل الصيام في الجهاد في سبيل الله تعالى، لأنه يجمع بين مشقتين مشقة الجهاد والمرابطة، ومشقة الصيام، إلا أن يضعفه ذلك عن مهمة الجهاد.
2- أن ثواب صوم اليوم الواحد في سبيل الله أن يبعد الله الصائم عن النار سبعين عاماً.
3- أن الجزاء من جنس العمل، فكما عرَّض ا لمقاتل نفسه للأعداء وهو صائم لإعلاء كلمة الله جازاه الله بأن بعَّد عنه النار سبعين عاماً.(1/33)
4- تنوع الثواب، فإنه كما يكون في حصول المحبوب، كذلك يكون في النجاة من المرهوب.
باب ليلة القدر
ليلة القدر من باب إضافة الشيء إلى صفته، فهي من القدر والشرف. أي الليلة الشريفة.
أو من التقدير فتكون من باب إضافة الظرف إلى ما يحويه، أي: الليلة التى يكون فيها تقدير ما يجري في تلك السنة، كما قال تعالى {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}.
وليلة القدر هي الليلة التى أنزل الله فيها القرآن وجعلها سبحانه خيرًا من ألف شهر في بركتها، وفي بركة العمل الصالح فيها، قال - صلى الله عليه وسلم - : "من قام ليلة القدر إيمانا واحتساباً غفرله ما تقدم من ذنبه".
? 27- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجالا ً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - "أرواْ ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها، فليتحرها في السبع الأواخر".
? 28- وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر".
? 29- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عاماً حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين – وهي الليلة التى يخرج من صبيحتها من اعتكافه – قال: "من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، فقد أريت هذه الليلة، ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر"، فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد، فأبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى وجبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين".
تخريج الأحاديث وطرقها:(1/34)
حديث عبدالله بن عمر : أخرجه البخاري في كتاب فضل ليلة القدر – باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر (2015)، ومسلم في الصيام – باب فضل ليلة القدر (1165) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
حديث عائشة: أخرجه البخاري في فضل ليلة القدر – باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر (2017) زاد في آخره: "من رمضان".
وهذا الحديث من أفراد البخاري ولم يخرجه مسلم.
حديث أبي سعيد الخدري: أخرجه البخاري في الاعتكاف – باب الاعتكاف في العشر الأواخر (2027)، ومسلم (1167) من طريق يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي سعيد رضي الله عنه. واللفظ للبخاري.
مفردات الأحاديث:
" أُروا " بضم الهمزة، أي أراهم الله تعالى.
" السبع الأواخر" أي السبع البواقي.
" تواطأت " أي اتفقت.
" متحريها" التحري القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول، أي فمن كان طالبا مصادفتها بالعمل الصالح والقيام فيها.
" في الوتر من العشر الأواخر". أي ليالي الأوتار.
وقوله: "أريت" أي أراني الله في المنام.
"أنسيتها" أي أنساني الله إياها، والنسيان: ذهول القلب عن معلوم.
"رأيتنى" أي رأيت نفسي في المنام.
" على عريش " أي بناء من سعف النخل يرصف على خشب.
"فوكف" : أي فخر منه الماء.
"أثر الماء والطين" علامة الماء والطين.
فقه الأحاديث:
فيها مسألة: وهي ما هو الزمن الذي تتحرى فيه ليلة القدر ؟
يقال: دلت أحاديث الباب على أن ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، وأنها في السبع الأواخر آكد، وليالي الأوتار أبلغ، وهذا هو وجه الجمع بين الأحاديث.(1/35)
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه ينبغي للمؤمن أن يتحرى ليلة القدر في جميع ليالي العشر، لأن جميع ليالي العشر قد تكون أوتارًا باعتبار نقصان الشهر أو تمامه، فالوتر باعتبار ما مضي من الشهر ليلة إحدى عشرين، وثلاث وعشرين، وخمس عشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، وقد يكون باعتبار ما بقي، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لتاسعة تبقى، لسابعة تبقى، لخامسة تبقى، لثالثة تبقى"(1). فإذا كان الشهر ثلاثين فتاسعة تبقي ليلة اثنتين وعشرين، وسابعة تبقى ليلة أربع وعشرين، وخامسة تبقى ليلةستٍ، وثالثة تبقى ليلة ثمان(2).
وقد اختلف في تعيين هذه الليلة، فذكر ابن حجر ستة وأربعين قولاً، وأكثرها أقوال لا دليل عليها، بل باطلة (3).
وأظهر الأقوال أنها في العشر الأواخر، وأوتارها آكد،وليلة سبع وعشرين أبلغ ، وقد كان أبي بن كعب رضي الله عنه، يحلف أنها ليلة سبع وعشرين (4).
ومع ذلك فإنها تنتقل في ليالي العشر، وروي عن أبي قلابة أنها تنتقل في وتر"(5).
وفي ليلة القدر مباحث:
المبحث الأول: ما هي الحكمة في إخفاءها؟.
يقال: الحكمة في إخفاء هذه الليلة أن يجتهد العباد في طلبها رجاء إصابتها، ويتبين بذلك من كان جادًا في طلبها حريصا على اغتنامها وإحيائها، ممن ليس كذلك بل لا يقيم لها وزنا ولا يعرف لها فضلاً.
المبحث الثاني: ما هي علامتها؟.
لليلة القدر عدة علامات منها:
- أن الشمس تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها(6).
- أنها ليلة هادئة ساكنة.
- ما يلقيه الله عزوجل في قلوب بعض عباده من الانشراح والطمأنينة والراحة تلك الليلة.
__________
(1) أخرجه البخاري (2021).
(2) "الفتاوى" (25/285).
(3) "الفتح" (4/262).
(4) أخرجه مسلم (762).
(5) أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (4/252).
(6) ورد ذلك في حديث أُبي في صحيح مسلم برقم (762).(1/36)
- قد يرى بعض الناس أنوارًا ساطعة في الأفق (1).
المبحث الثالث: ما ذا يستحب فيها؟
يستحب فيها الصلاة والدعاء والاستغفار، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.
وكثرة الدعاء لا سيما بما ورد، ومنه:(اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعفوعنى) (2).
وأما تخصيصها بعمرة فليس بمشروع، وقد نبه شيخنا ابن عثيمين رحمه الله على أن تحرى العمرة في ليلة القدر قد يكون بدعة؛ لأنه تخصيص بما لم يأت دليل من الشارع على تخصيصه.
والعمرة خصت في رمضان كله، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "عمرة في رمضان تقضى حجة" أو قال:"حجة معي". رواه مسلم.
من فوائد الأحاديث:
1- أن الله تعالى قد يكرم بعض عباده فيريه في منامه ما ينفعه.
2- أن الرؤيا الصالحة إذا تواطأت ودلت القرينة على صدقها ولم تخالف الشرع فإنه يعمل بها.
3- محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - للتيسير على أمته.
باب الاعتكاف
الاعتكاف لغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه.
وشرعاً: لزوم مسجد لعبادة الله تعالى.
والاعتكاف مشروع بالكتاب والسنة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله وإقراره، وهو من أجل الطاعات وأفضل القربات لما فيه من التفرغ لعبادة الله وتخلي القلب والبدن عن مشاغل الدنيا.
قال ابن رجب رحمه الله: "معني الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق، للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قويت المعرفة بالله، والمحبة له، والأنس به، أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله بالكلية على كل حال"(3).
والاعتكاف في رمضان وفي العشر الأواخر منه، تأسيا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وهذه منا سبة ذكر باب الاعتكاف في كتاب الصوم.
__________
(1) ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (25/286).
(2) أخرجه الترمذي (3513) وقال: "حديث حسن صحيح".
(3) "اللطائف" ص (203).(1/37)
? 30- عن عائشة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عزوجل، ثم اعتكف أزواجه بعده.
وفي لفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان، فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه.
تخريجه وطرقه:
أخرجه البخاري في الاعتكاف – باب الاعتكاف في العشر الأواخر (2026)، ومسلم (1172/5) من طريق الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها.
وعندهما بلفظ: "من بعده".
واللفظ الآخر: أخرجه البخاري في الاعتكاف – باب الاعتكاف في شوال (2041) وعنده: "فإذا صلى الغداة دخل مكانه" بدل: "جاء".
مفردات الحديث:
"في كل رمضان": بتنوين رمضان، أي في كل رمضان يمر عليه من كل عام.
"صلى الغداة": أي صلى صلاة الغداة وهي: صلاة الفجر.
"مكانه": أي مكان اعتكافه، وهو خباء صغير يضرب في رحبة المسجد.
فقه الحديث: فيه مسألتان:
المسألة الأولى: حكم الاعتكاف.
يقال: هو مسنون بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب، ففي قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}.
وأما السنة: ففي أحاديث كثيرة، منها أحاديث الباب.
وأما الإجماع: فقد حكاه غير واحد من أهل العلم، قال ابن قدامة:"ولا نعلم بين العلماء خلافا في أنه مسنون"(1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أجمع المسلمون على أنه قربة وعمل صالح"(2).
المسألة الثانية: متى يد خل المعتكف معتكفه.
يقال: دل هذا الحديث على أنه يدخل مكان اعتكافه بعد صلاة الفجر من اليوم الحادي والعشرين، وهو رواية عن الإمام أحمد (3)، وبه قال الأوزاعي والليث والثوري (4).
__________
(1) "المغنى "(4/456).
(2) "شرح العمدة – كتاب الصيام" (2/711).
(3) "شرح العمدة – كتاب الصيام" (2/779).).
(4) "نيل الأوطار" (5/275).(1/38)
ويدل له أيضا حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكفه". متفق عليه.
والقول الثاني: أنه يدخل معتكفه قبل غروب الشمس يوم عشرين، وهذا قول جمهور العلماء (1)، لحديث أبي سعيد المتقدم وفيه: "من كان اعتكف معي فليعتكف في العشر الأواخر".
وجه الاستدلال: أن لفظ العشر" بغير هاء عدد لليالي، وأول هذه الليالي ليلة إحدى وعشرين.
وأولوا حديث عائشة على أنه دخل من أول الليل، ولكن إنما يخلو بنفسه في المكان الذي أعده للاعتكاف بعد صلاة الصبح (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ويشبه والله أعلم أن يكون دخوله معتكفه صبيحة العشرين قبل الليلة الحادية والعشرين، فإنه ليس في حديث عائشة أنه كان يدخل معتكفه صبيحة إحدى وعشرين، وإنما ذكرت أنه كان يدخل المعتكف بعد صلاة الفجر .... والعشر صفة الليالي لا للأيام، فمحال أن يريد الاعتكاف في الليالي العشر وقد مضت ليلة منها (3).
وهذا هو الأقرب والله أعلم.
وأما وقت خروج المعتكف فهو بغروب الشمس ليلة العيد، لأن العشر الأواخر تنتهي بانتهاء الشهر، والشهر ينتهي بغروب الشمس من ليلة العيد، على القول الراجح (4).
فيه فوائد:
1- أن حكم الاعتكاف باق لم ينسخ، لقوله: "ثم اعتكف أزاوجه من بعده".
2- أنه يجوز للمعتكف أن يخصص له مكانا في المسجد يتخذه معتكفا يخلو به، على أن غالب المساجد اليوم فيها غرف صالحة للإقامة فيها والاعتكاف، فتقوم مقام الخباء والخيمة.
3- مشروعية اعتكاف النساء في المسجد، ونص أهل العلم على أنه يسن للمرأة كما يسن للرجل، لكن بشرط إذن زوجها إن كانت ذات زوج، وألا يحصل بذلك فتنة. وبينتها خير لها.
__________
(1) "الفروع" (3/170)، "بداية المجتهد" (2/206).
(2) "نيل الأوطار" (5/275).
(3) "شرح العمدة" (2/779).
(4) انظر: "الاستذكار" (10/295).(1/39)
31- وعن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت ترجِّل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض، وهو معتكف في المسجد، وهي في حجرتها يناولها رأسه.
وفي رواية: "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان".
وفي رواية : أن عائشة قالت: "إن كنت لأدخل البيت للحاجة – والمريض فيه – فما أسأل عنه إلا وأنا مارَّة".
تخريجه وطرقه:
أخرجه البخاري في الاعتكاف – باب المعتكف يدخل رأسه البيت للغسل (2046)، ومسلم في الحيض (297/9) من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها. واللفظ للبخاري.
والرواية الثانية: أخرجها مسلم (297/6) من طريق مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة.
والرواية الثالثة: أخرجها مسلم (297/7) من طريق الزهري، عن عروة وعمرة بنت عبدالرحمن، أن عائشة رضي الله عنها، قالت: فذكرته.
مفردات الحديث:
ترجَّل: ... " أي تسرح شعر رأسه وتدهننه.
حجرتها: ... أي بيتها.
إلا لحاجة الإنسان: ... " أي البول والغائط.
إن كنت: ... إن مخففة من الثقيلة وهي للتوكيد.
للحاجة: ... أي للبول أو الغائط.
مارَّة: ... " أي عابرة بدون وقوف عنده أو تعريج عليه.
فقه الحديث:
فيه مسألة: وهي حكم خروج المعتكف من المسجد:
يقال: الخروج من المسجد قسمه أهل العلم إلى قسمين.
الأول: الخروج ببعض البدن، فهذا جائز، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج رأسه إلى عائشة فترجله وهو في المسجد.
الثاني: الخروج بجميع البدن، فهذا ينقسم إلى عدة أقسام:
1- أن يكون خروجه مما لا بد له منه شرعا أو طبعا، كالخروج لحاجة البول والغائط، أو الطعام والشراب ونحوها، فهذا جائز.
2- الخروج لأمر مباح لا ينافي الاعتكاف كالأكل ونحوه، فهذا جائز أيضاً.
3- الخروج لقربة من القرب كعيادة المريض، وإتباع الجائز، فهذا لا يجوز إلا بالبشرط.
4- الخروج لأمر ينافي الاعتكاف، كالبيع والشراء، فهذا لا يصح ويبطل الاعتكاف.
5- الخروج للضرورة، كالحريق في المسجد ونحوه، فهذا لا بأس به ولا يبطل الاعتكاف.
فيه فوائد:(1/40)
1- جواز تنظيف المعتكف رأسه، ومثله تنظيف بدنه وثيابه.
2- طهارة بدن الحائض.
3- جواز استخدام الرجل زوجته فيما جرت به العادة .
4- أنه لا بأس بسؤال المعتكف عن المريض حال مروره به إذا خرج لحاجة.
? 32- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قلت: يارسول الله! إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة – وفي رواية: بوما – في المسجد الحرام؟ قال: (فأوفى بنذرك).
ولم يذكر بعض الرواة: "يوما" ولا "ليلة".
تخريجه وطرقه:
أخرجه البخاري في الاعتكاف –باب الاعتكاف ليلاً (2032)، ومسلم في الأيمان (1656/27) من طريق يحي بن سعيد القطان، عن عبيد الله بن عمر، أخبرني نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما فذكره.
وقوله : "ولم يذكر بعض الرواة...."
قال مسلم في "صحيحه" ": أما أبو أسامة والثقفي ففي حديثهما: اعتكاف ليلة، وأما في حديث شعبة فقال: جعل عليه يوما يعتكفه، وليس في حديث حفص، ذكر يوم ولا ليلة".
مفردات الحديث:
نذرت: أي أوجبت لله على نفسي ، والنذر هو إلزام المكلف نفسه عبادة غير واجبة.
الجاهلية: أي في زمن الجاهلية.
فقه الحديث: فيه مسائل:
المسألة الأولى: حكم الوفاء بالاعتكاف المنذور.
يقال: واجب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عمربن الخطاب رضي الله عنه، بالوفاء باعتكافه المنذور.
المسألة الثانية: هل الصوم شرط في الاعتكاف؟
يقال: استدل بهذا الحديث على أن الصوم ليس شرطا في الاعتكاف، لقوله: "ليلة". والليل ليس محلا للصوم، وقد أمر بالوفاء به.
وهذا مذهب الشافعي، وأحمد، وقول بعض المالكية، وابن حزم(1).
القول الثاني: أن الصوم شرط الاعتكاف مطلقا، سواء أكان اعتكافا واجبا أم تطوعا.
وهذا مذهب مالك، وبه قال بعض المالكية، ورواية عن أخمد(2)، ورجحه ابن القيم (3).
القول الثالث: أن الصوم شرط في الاعتكاف الواجب دون التطوع، وهو مذهب الحنفية.
__________
(1) "المحلى" (5/268).
(2) "المهذب: (1/257)، "الإنصاف" (3/360).
(3) " زاد المعاد" (2/88).(1/41)
واستدلوا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف إلا صائما، إلا ما كان قضاءً.
ولقول عائشة رضي الله عنها: "السنة على المعتكف ألا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ... وفيه: ولا اعتكاف إلا بصوم (1).
والصحابي إذا قال من السنة انصرف إلى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويُعد مرفوعا حكما.
والصحيح القول الأول أن الصوم ليس بشرط في الاعتكاف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف العشر الأول من شوال قضاءً، ولأن الاعتكاف عبادة مستقلة بنفسها، فلم يكن الصوم فيه شرطا كالحج والجهاد.
ولكن لا يخفى أن الصوم أفضل ليستعين به المعتكف على العبادة، والذكر والدعاء وقراءة القرآن.
المسألة الثالثة: هل يصح نذر العبادة من الكافر؟.
فيه خلاف:
القول الأول: أنه لا يصح، وهو قول الجمهور (2).
واستدلوا: بأن النذر عبادة وقربة، والكافر ليس من أهل القرب.
وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة:
منها: أنه مؤول على أنه أمر بأن يأتى باعتكاف يوم شبيه بما نذر.
ومنها: أنه على تقدير محذوف أي "مثل نذرك" ونحوه.
القول الثاني: أنه يصح، وهو قول للشافعي، ورواية عن الإمام أحمد.
واستدلوا بهذا الحديث.
وجه الاستدلال منه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر عمر على نذره وأمره بالوفاء به، ولو لم يصح ما أقره ولا أمره بالوفاء.
وهذا القول هو الصحيح.
فيه فوائد:
1- حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم.
2- أن من نذر الاعتكاف في مسجد معين لزمه.
3- تعين المسجد الحرام إذا نذر العبادة فيه.
__________
(1) أخرجه أبوداود في الصوم –باب المعتكف يعود المريض (2473) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها. وقال أبوداود عقبة: "غير عبد الرحمن لا يقول فيه،: قالت: السنة، جعله قول عائشة".
(2) "الإعلام" لابن الملقن (5/444).(1/42)
? 33- وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً فحدثته، ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبنى – وكان مسكنُها في دار أسامة بن زيد- فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرعا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "على رسلكما؛ إنها صفية بنت حيي" فقالا: سبحان الله ! يارسول الله ! فقال: "إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، وإنى خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا". أو قال: "شيئاً".
وفي رواية: "أنها جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلبُ، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة، ثم ذكره بمعناه".
تخريجه وطرقه:
أخرجه البخاري في بدء الخلق – باب صفة إبليس وجنوده (3281)، ومسلم في كتاب السلام (1275/24) من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن صفية بنت يحي فذكرته.
وعند البخار: ""سوءاً" بدل: "شرًا".
والرواية الأخرى: أخرجها البخاري فى الاعتكاف – باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد (2035)، ومسلم ((1275/25) من طريق شعيب، أخبرني الزهري، عن علي بن الحسين أن صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته. وليس عند مسلم قوله: "حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة".بل قال: ثم ذكر بمعنى حديث معمر.
مفردات الحديث:
"لأنقلب": لأرجع.
"ليقلبني": ليرجعني إلى منزلي.
"على رسلكما": أي هينتكما لا تسرعا.
"شرًا أو قال شيئا": شك من الراوى، ولا يختلف به المعنى، لأن الشيء الذي يلقيه الشيطان في قلب ابن آدم لا يكون إلا شرًا.
فيه فوائد:
1- جواز زيادة المعتكف والتحدث معه، بشرط ألا يطيل المكث عنده ولا يشغله عن مقصود الاعتكاف.
2- جواز خروج المرأة ليلاً لغرض بشرط أمن الفتنة .(1/43)
3- جواز خروج المعتكف من المسجد يشيع زائره للحاجة.
4- حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - مع نسائه.
5- أن الشيطان يتسلط على ابن آدم بحيث إنه يجرى منه مجرى الدم.
6- مشروعية تسبيح الله سبحانه عند التعجب.
7- أنه ينبغي للإنسان أن يخبر بما يدفع عنه السوء.(1/44)