بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الجنائز
كتاب الجنائز هو آخر أبواب الصلاة ختم به المؤلف كتاب الصلاة .
وختمُ كتاب الصلاة بباب الجنائز في غاية المناسبة لأن الجنائز آخر شيء من الحياة فينتقل إلى عالم آخر وهو عالم الآخرة ، وذلك بالوفاة ، فإن العالم عالمان عالم الدنيا وعالم الآخرة .
534- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اَللَّذَّاتِ: اَلْمَوْتِ } رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ, وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
الشرح :
استفتح المؤلف رحمه الله هذا الكتاب بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكثروا من ذكر هادم اللذات ، الموت " .
وهذا الخبر رواه الإمام الترمذي رحمه الله وابن ماجة وابن حبان في صحيحه من طريق الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة به .
ورواه النسائي في سننه من طريق محمد بن إبراهيم عن محمد بن عمرو به .
ومحمد بن عمرو مختلف فيه ، وثقه النسائي ويحي بن معين ، وعن يحي أنه قال : ما زال الناس يتقون حديثه .
والمتأمل لكلام أهل الجرح والتعديل لمحمد بن عمرو يجد أن المرء صدوق ، ولكنه يهم ويخطئ أحياناً خصوصاً في أحاديث أبي سلمة بن عبدالرحمن ، ولذلك لا يقبل ما أنفرد به بالأصول التي تحتاجها الأمة .
وللحديث شاهد عند المقدسي في المختارة من طريق مؤمل إسماعيل عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .
وقد زعم بعض المتأخرين أن هذا الخبر على شرط مسلم ، وهذا وهم وغلط ، فليس مؤمل بن إسماعيل من رجال مسلم الذين اعتمد أحاديثهم بالأصول ، ومؤمل بن إسماعيل سيئ الحفظ ، قاله غير واحد من المحدثين .
والخلاصة أن حديث الباب حديث حسن .
قوله " أكثروا " :(1/1)
هذا أمر ، والأصل في الأمر أن يحمل على الوجوب ما لم يمنع من ذلك مانع .
قوله " ذكر هادم اللذات " :
روي بالدال المهملة وبالمعجمة وهو الموت.
فإن تذكر الموت والإكثار من ذكره يقي النفوس من الوقوع في المحرمات ،كالغيبة والنميمة وأكل أموال الناس بالباطل والسرقات والربا ونحو ذلك من المحرمات .
فإن تذكر الموت يخطم النفوس عن كل قبيح ويحيي القلوب ،فلذلك شرع للمسلم الإكثار من ذكر الموت كي يفطم نفسه من الوقوع في المحرمات .
ولأن الإكثار من ذكر هادم اللذات يعطي العبد دافعاً من الازدياد في أعمال الآخرة ويحيي القلوب ويكسر النفوس عن الكبر وعن العجب فلا ينبغي للعبد أن يغفل عن الموت وإلا قسى قلبه ، وتمرد وارتكب الفواحش والمحرمات حتى يطبع على قلبه ويكون عليه كالران .
ولذلك شرع للمسلم أن يزور القبور ليتذكر الآخرة كما سيأتي إن شاء الله في حديث أبي سعيد الخدري المخرج في صحيح الإمام مسلم رحمه الله .
535- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ اَلْمَوْتَ لِضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِ, فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اَللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ اَلْحَيَاةُ خَيْرًا لِي, وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ اَلْوَفَاةُ خَيْرًا لِي } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
الشرح :
وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان لا بد متمنياً فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خير لي وتوفني ما كانت الوفاة خير لي " .
هذا الخبر متفق عليه قال البخاري رحمه الله حدثنا ابن سلام قال أخبرنا إسماعيل بن عليه عن عبدالعزيز بن صهيب عن أنس بن مالك به .
وقال مسلم حدثنا زهير بن حرب قال حدثنا إسماعيل فذكره .
ورواه أحمد والترمذي والنسائي كلهم من طريق إسماعيل به .(1/2)
ورواه الإمام أحمد والطيالسي من طريق شعبة عن عبدالعزيز بن صهيب به .
ورواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم من طرق عن ثابت البناني عن أنس بن مالك به .
قوله " لا يتمنين ":
(لا ) هنا ناهية ، وقد تقدم أن الأصل في النهي التحريم كما أن الأصل في الأوامر الإيجاب ولا نخرج عن هذه القاعدة إلا بدليل ، إما قرينة تصرف الأمر عن الإيجاب إلى الاستحباب أو النهي عن التحريم إلى الكراهية أو يَرِدُ حديث آخر يصرفه عما ذكر .
قوله "لضر نزل به " :
هذا وصف أغلبي وإلا لو لم ينزل به ضر وتمنى الموت نهي عن هذا ، ولكن الغالب على النفوس أنها تتمنى الموت حين ينزل بها الضر كالمرض ونحوه ، وتجد بعض الناس قليل الصبر إذا أصابته نكبة من نكبات الزمان تمنى الموت ولا يدري لعله إذا مات والحالة هذه كان حصباً من حصب جهنم .
ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " خيركم من طال عمره وحسن عمله " فإن العبد لعله إذا طال عمره ازداد من الخير فلا وجه حينئذ لتمني الموت ولربما يموت على خاتمة سيئة .
ولكن على العبد أن يسأل الله التوفيق والسداد ، وحسن الختام فإن الأعمال بالخواتيم .
ولكن جاء عن بعض الصحابة أنهم يتمنون الموت خشية الفتن وهذا جوزه بعض أهل العلم ، وهذا مقصد حسن لأنه يخشى على دينه ويخاف على إسلامه ، وأما مجرد وقوع المرض أو نكبة من نكبات الزمان كحادث أو وفاة حبيب ونحو ذلك ويتمنى الموت فهذا غلط .
علماً أن بعض العلماء ذهب إلى العمل بظاهر الحديث فقال: لا يشرع تمني الموت حتى بالخوف على الدين وربما ينفع الله به كما قال الرسول لسعد والحديث في الصحيحين " ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون " .
فلذلك أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أدب جم بليغ عظيم إذا سئم العبد الحياة يقول : " اللهم أحيني ما كانت الحياة خير لي ، وتوفني ما كانت الوفاة خير لي " . والله أعلم .(1/3)
536- وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - عَنِ اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: { اَلْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ } رَوَاهُ اَلثَّلَاثَةُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
الشرح:
وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المؤمن يموت بعرق الجبين " .
هذا الخبر يقول عنه المؤلف رواه الثلاثة وكلهم من طريق قتادة بن دعامة السدوسي عن عبدالله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم به .
قال الترمذي في جامعه : وقال بعض أهل العلم لا نعلم لقتادة سماعاً من عبدالله بن بريدة .
وقد ذكر البخاري في التاريخ الكبير أن قتادة لم يسمع من عبدالله بن بريدة ، ولا ريب أن قتادة عاصر ابن بريدة نحواً من أربعة وأربعين عاماً ، فإن ابن بريدة قد توفي سنة (خمس بعد المائة) بينما ولد الإمام قتادة رحمه الله سنة( ستين )، ومن ثم قال بعض أهل العلم إن عدم سماع قتادة من عبدالله بريدة محمول على مذهب الإمام البخاري رحمه الله في عدم الاكتفاء بالمعاصرة وإثبات اللقي ولو مرة واحدة ، وفي هذا نظر ، والظاهر أن البخاري رحمه الله لا يريد من إثبات الإنقطاع هذا المذهب .
وقد جاء الخبر عند النسائي من طريق كهمس عن عبدالله بن بريدة عن أبيه به ، وهذا سند متصل صحيح ومن ثم صحح الخبر ابن حبان في صحيحه .
قوله " المؤمن يموت بعرق الجبين " :
هذا محمول عند أهل العلم على أحد وجهين :
الوجه الأول : إن المؤمن يموت بعرق الجبين بما يكابده من المشاق بطلب المال الحلال ، فإن طلب المال الحلال لا بد له من تعب وكلفة ومشقة .(1/4)
الوجه الثاني : إن المؤمن لما يكابده من شدة السياق وسكرات الموت يموت بعرق الجبين ، ولعل هذا القول أقرب من القول الأول ،لأن شدة النزع أمر ثابت لا إشكال فيه ، وقد جاء في الصحيحين من حديث هلال الوزان عن عروة عن عائشة قالت: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه فإذا اغتم كشفها " الحديث .
فللموت سكرات يجدها كل إنسان عند الاحتضار إلا أن منهم من تخفف عليه هذه السكرات ومنهم من تشدد عليه .
537- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ, وَالْأَرْبَعَةُ .
الشرح:
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " .
هذا الخبر رواه مسلم رحمه الله في صحيحه فقال حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين قال أخبرنا بشر بن المفضل قال حدثنا عمارة بن غزية قال عن يحي بن عمارة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم به .
ورواه مسلم في صحيحه من طريق يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به .
ورواه أحمد وأهل السنن كلهم من طريق عمارة بن غَزية عن يحي بن عمارة عن أبي سعيد به .
قوله " لقنوا موتاكم " :
هذا أمر والأصل في الأوامر حملها على الإيجاب ، إلا أن أهل العلم حملوا هذا الخبر على الاستحباب فإن صح إجماع في هذا ، وإلا فالأصل حمل الأوامر على الإيجاب .
وقد اختلف أهل العلم في هذا التلقين فقيل:
إن هذا التلقين يكون عند الاحتضار وهذا قول أكثر المحققين من أهل العلم .(1/5)
وقال بعضهم هذا التلقين بعد الدفن يلقن لا إله إلا الله ، ويذكر ما مات عليه ، وهذا القول فيه ضعف ،والصحيح القول الأول ، يدل على هذا ما جاء عند ابن حبان في صحيحه " فإن من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " ، فهذا يؤيد وينصر القول الأول وأن التلقين عند الاحتضار حتى ينتفع المحتضر ، ويقول هذه الكلمة العظيمة ، وأما التلقين بعد الوفاة فبدعة في الدين على القول الصحيح وسيأتي إن شاء الله بحث هذه المسألة في موضعها .
وقد استحب بعض أهل العلم عدم أمر المحتضر بهذه الكلمة ، فلا يقال له قل لا إله إلا الله ، وإنما يذكره بها كأن يتشهد عنده أو يذكر له بعض الأحاديث الواردة في فضل من قالها ، والسبب في هذا لئلا يضجر فيفاجئه المحتضر بعدم قولها .
أما الكافر إذا احتضر فيقال له قل لا إله إلا الله كما فعل الرسول مع عمه أبي طالب ففي الصحيحين وغيرهما من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة أتاه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عبدالله بن أمية وأبو جهل ، فقاله له : يا عم قل لا إله إلا الله " الحديث ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالنطق بها لأنه لو مات على عدم النطق بها لكان خالداً مخلداً في النار وهذا هو الواقع في حق أبي طالب ، نسأل الله السلامة والعافية .
أما المسلم فيختلف عن الكافر في هذه القضية فلو أمرته بقول لا إله إلا الله فلربما جزع من هذا وأخذته العزة بالإثم والمطلوب نفعه لا ضره ، والنفع يحصل بتذكيره بلا إله إلا الله أو ذكر الأحاديث الواردة في فضلها عند الموت .(1/6)
وفي الحديث دليل على فضل لا إله إلا الله وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم المبدأ ، وذلك لما رواه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح من طريق النحوي عن أشعث بن أبي الشعثاء قال حدثني رجل من بني مالك ابن كنانة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخللها ويقول : أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " ، وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم المنتهى فقال : لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " لتكون حياة المسلم معمورة بالتوحيد معمورة بنور لا إله إلا الله ، وليعلم المسلم عظم حاجته إلى التوحيد وليعلم أهمية التوحيد للنفوس البشرية فإن التوحيد يخرج العباد من رق العبيد إلى رق العبودية الواجبة .
وفي الحديث دليل أيضاً على فضل النطق بهذه الكلمة العظيمة عند الاحتضار ونستنبط من الحديث أنه لو كان هناك كلمة تقال عند الاحتضار أعظم من
لا إله إلا الله لقالها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذا جاء عند الترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال" أفضل الذكر لا إله إلا الله " ورواه ابن حبان في صحيحه .
وحديث صاحب البطاقة حديث مشهور رواه أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه وسنده صحيح على شرط مسلم من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص وفيه " ولا يثقل مع اسم الله شيء " ، والمراد باسم الله هنا( لا إله إلا الله ).
538- وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ - رضي الله عنه - أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: { اقْرَؤُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس } رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
الشرح:
وعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقرءوا على موتاكم يس "
هذا الخبر رواه الإمام النسائي في عمل اليوم والليلة وابن حبان في صحيحه من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان وليس بالنهدي عن معقل بن يسار به .(1/7)
ورواه أبو داود في سننه وابن حبان في صحيحه وابن ماجة وغيرهم من طريق عبدالله بن المبارك عن سليمان التيمي عن أبي عثمان وليس بالنهدي عن أبيه عن معقل بن يسار به .
وقد أعل هذا الخبر ابن القطان بالاضطراب والوقف وجهالة أبي عثمان وأبيه .
وقد قال الإمام علي بن المديني في أبي عثمان : لم يرو عنه غير سليمان التيمي
وهذا إسناد مجهول .
وقال الإمام الدارقطني إسناده ضعيف ولا يثبت بهذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ويقال أيضاً لا يصح في فضل سورة يس حديث عن رسول صلى الله عليه وسلم ويقال أيضاً لا يصح في فضل في فضل سورة (يس) حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجميع الأحاديث الواردة في (يس) ضعيفة وأشدها ضعفاً ما اشتهر على الألسنة (بأن (يس ) لما قرئت له ) ،وهذا لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وقد توسع بعض الجهال في هذه القضية فجعلوا يقرؤون يس عند قبور الأموات رجالاً ونساءً فارتكبوا في ذلك عدة محاذير :
المحذور الأول : أنهم عملوا بحديث ضعيف في الأحكام الشرعية وخلاف الجادة عند أئمة الحديث .
المحذور الثاني : أنهم ابتدعوا في الدين ويقرؤون القرآن في المقابر وهذا محرم ولا يجوز فإن المقابر لم تبن لهذا .
المحذور الثالث : دخول نسائهم المقابر ، والمرأة منهية عن إتباع الجنائز فضلاً عن زيارة المقابر كما في حديث ابن عطية في الصحيحين .
وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم زوارات القبور " حديث حسن رواه الترمذي من طريق عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به .
وبعضهم أيضاً يقرأ قراءة جماعية ، إضافة إلى ذلك أنهم يضعون الورود والزهور على قبور موتاهم ، وإن البدعة لتجر إلى بدعة أخرى .
والخلاصة : أن حديث الباب حديث ضعيف ، وقد حمله ابن حبان على قراءتها عند الاحتضار وهذا لو صح الخبر ، وأما مع ضعفه فلا يشرع التعبد بقراءتها لا عند الاحتضار ولا عند غير ذلك .(1/8)
وخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع
وعلى المسلم أن يتبع ولا يبتدع ،وعلى طالب العلم أن يحرص كل الحرص على العمل بالأحاديث الصحيحة وترك العمل بالأحاديث الضعيفة والواهية ، وعليه أن يبلغ العوام ومن لا معرفة له بمدارك الأحكام الأحاديث الصحيحة دون الضعيفة والواهية حتى يعتادوا العمل بالنصوص الصحيحة وترك العمل بالأحاديث الضعيفة ، وإلا سادت بينهم البدع وعمت بينهم الجهالات والضلالات كما هو واقعنا اليوم والسبب في هذا التساهل بقضية العمل بالحديث الضعيف .
والحق أيضاً أن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقاً لا بالفضائل ولا بغيرها ، لأن الكل شرع من عند الله ، علماً أنه ليس هناك حديث ضعيف في الفضائل إلا وله ارتباط في الغيبيات ، فينبغي التنبه لهذه القضية والموفق من وفقه الله والله الهادي إلى سبيل الرشاد .
539- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: { دَخَلَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِي سَلَمَةَ - رضي الله عنه - وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ, ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اَلرُّوحَ إِذَا قُبِضَ, اتَّبَعَهُ الْبَصَرُ" فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ, فَقَالَ: "لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ. فَإِنَّ اَلْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا تَقُولُونَ". ثُمَّ قَالَ: "اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ, وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي اَلْمَهْدِيِّينَ, وَافْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ, وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ, وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
الشرح:(1/9)
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ، ثم قال: إن الروح إذا قبض أتبعه البصر " فضج ناس من أهله ، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون " ثم قال : اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين وافسح له في قبره ونور له فيه واخلفه في عقبه " .
هذا الخبر رواه الإمام مسلم رحمه الله وأبو داود وابن ماجة .
قال مسلم رحمه الله حدثنا زهير بن حرب قال أخبرنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق الفزاري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن قبيصة بن ذؤيب عن أم سلمة بنحوه .
والحافظ رحمه الله اختصر بعضه وقدم فيه وأخر .
ورواه أبو داود وابن ماجة من طريق أبي إسحاق الفزاري بنحوه .
قولها" وقد شق بصره " :
المعنى أن بصره قد شخص فأغمض النبي صلى الله عليه وسلم عينيه ، ففيه استحباب تغميض عيني الميت .
قولها " فضج ناس " :
المعنى أن أناساً من أهل أبي سلمة ضجوا حينما توفي فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا وأمرهم ألا يدعوا إلا بخير لأن الملائكة تؤمن على دعائهم ، وليس هذا خاصاً بهم فإن الملائكة تؤمن على دعاء كل داع فلربما دعا الشخص بسوء فيستجاب الدعاء فيهلك فعليه أن يدعو بما فيه خير وصلاح لدينه ودنياه فلربما استجيب الدعاء فسعد بهذا الدعاء دنياً وأخرى .
قوله " اللهم اغفر لأبي سلمة " :
فيه استحباب الدعاء للميت قبل الدفن .
وقوله صلى الله عليه وسلم " وارفع درجته في المهديين " :
فيه إثبات الشفاعة في رفع درجات قوم دخلوا الجنة .
وللشفاعة أنواع :
النوع الأول : شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف أن يقضى بينهم .
النوع الثاني : شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة .(1/10)
النوع الثالث: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في رفع درجات بعض أهل الجنة ، وهذا النوع من أنواع الشفاعة يستدل له بحديث الباب فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (وارفع درجته في المهديين) .
النوع الرابع : شفاعته في قوم استوجبوا النار ألا يدخلوها .
النوع الخامس: شفاعته في قوم دخلوا النار أن يخرجوا منها ، وهذا النوع من أنواع الشفاعة تنكره الخوارج والمعتزلة لأنهم يرون تخليد أصحاب الكبائر في النار ، ويرد عليهم بقول الله ( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) وغيرها من الأدلة.
النوع السادس: شفاعته صلى الله عليه وسلم بتخفيف العذاب عن عمه أبي طالب .
قوله " واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين " :
هذا ما أسقطه الحافظ رحمه الله من الحديث وهذا موجود في صحيح الإمام مسلم يؤخذ من هذا استحباب الدعاء للعقب لعل الله أن يبارك فيهم وقول الرسول (واغفر لنا وله ) فيه استحباب البدء بالنفس قبل الغير في الدعاء .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وافسح له في قبره ونور له فيه ) لأن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار .
في الحديث دليل على أن القبر قد يكون نوراً على صاحبه وقد يكون ظلاماً كما جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هذه القبور مملوئة ظلمة على أصحابها وإن الله ينورها عليهم بصلاتي) ، وأُعل بالإرسال .
وفي الحديث دليل على استحباب الدعاء بما تيسر للميت والأولى اختيار الأدعية الجامعة ، والحديث صريح أن هذا الدعاء وقع قبل الدفن .
ويؤخذ من عموم الحديث استحباب تسلية أهل الميت لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا له ، دعا لهم أيضاً بقوله( واخلفه في عقبه ) فقد سلاهم بهذا وشرح صدورهم .
والشاهد من سياق الحديث لكتاب الجنائز قولها ( فأغمض عينيه ) فيه استحباب تغميض عيني الميت لأن الروح إذا مات العبد تبعه البصر .(1/11)
ويستفاد من هذه اللفظة أن الروح جسم من الأجسام قال ابن القيم في كتاب الروح " ولكن ماهيته تختلف عن سائر الأجسام ".
540- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا: { أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
الشرح:
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي سجي ببرد حبرة " .
هذا الحديث متفق على صحته قال البخاري رحمه الله حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عائشة رضي الله عنها به .
وقال مسلم حدثنا زهير بن حرب وحسن الحلواني وعبد بن حميد قال عبد أخبرني وقال الآخران حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عائشة رضي الله عنها به .
قولها " سجي " :
التسجية هي التغطية .
قولها " ببرد" :
جمع البرد أبراد ، ومفرد البرد بردة فيجمع البردة على برد وأبراد .
وقولها" حبرة " :
صفة للبرد ، والمراد من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سجي ببرد وهو نوع من اللباس يجلب من اليمن شبيه بالقطن ، قيل أن لونه أخضر ولكن صاحب هذا القول لم يذكر دليلاً على هذا .
ويستفاد من هذا استحباب تسجية الميت لئلا تنكشف عورته ، وجاز تسجيته بالشيء الثمين ، وإن ثبت قول القائل إن هذا البرد لونه أخضر استفيد من هذا مشروعية التسجية بأي لون ، وإن لم يثبت هذا فخير شيء البياض لأنه خير اللباس كما سيأتي إن شاء الله .
541- وَعَنْهَا { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اَلصِّدِّيقَ - رضي الله عنه - قَبَّلَ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ مَوْتِهِ } رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ .
الشرح:
وعنها أن أبا بكر رضي الله عنه قبل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته " رواه البخاري .(1/12)
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبدالله قال حدثنا معمر ويونس عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عائشة به .
وفي الباب عن عاصم بن عبيدالله عن القاسم بن محمد عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مضعون حينما توفي " .
رواه أبو داود والترمذي في جامعه وإسناده ضعيف جداً ، لحال عاصم بن عبيدالله ، قال عنه أبو حاتم سيء الحفظ مضطرب الحديث ، وضعفه الإمام أحمد وأبو زرعة وقال مالك شعبتكم يشدد بالرجال ويروي عن عاصم بن عبيدالله ، ومع كون شعبة روى عن عاصم بن عبيدالله إلا أنه شدد فيه وقال عنه قولاً لم يقله أحد قبله ولا بعده قال رحمه الله :لو سألت عاصم بن عبيدالله من بنى مسجد البصرة لقال حدثني فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بناه " ، والمقصود أن عاصم بن عبيدالله متفق على ضعفه ومع هذا صحح له أبو عيسى وخولف في هذا وعيب عليه هذا ، وضعفه من هو أقعد منه كأبي زرعة وأبي حاتم وأحمد ومالك وأمثالهم .
فالاعتماد في هذه المسألة على فعل أبي بكر ، وفيه دليل على جواز تقبيل الميت ، وقال بعضهم بالاستحباب وفيه نظر ، فغاية ما في الخبر الجواز وفعل أبي بكر لا يراد به التعبد ، إنما فعل هذا فعلم الجواز فلو كان التقبيل محذوراً ما فعله .(1/13)
قال بعض الشراح إن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم تبركاً ، وهذا غلط من وجوه ، ولكن قبل أن نذكر هذه الأوجه ينبغي أن نعرف أن كثيراً من شراح الحديث يتساهلون في هذه القضية خصوصاً الحافظ ابن حجر في فتح الباري والنووي في شرحه لصحيح مسلم ، والعيني في عمدة القاريء وقد تبع هؤلاء كثير ممن جاء بعدهم فلا يكاد يمر بهم خبر من هذا القبيل إلا أخذوا منه إستحباب التبرك بآثار الصالحين ، ولا ريب أن هذا الفعل بدعة في الدين لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرغب أمته فيه ، ولو كان مشروعاً لما أهمله فقد قال أبو ذر رضي الله عنه " ما من طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وذكر لنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم علماً " رواه أحمد من طريق ابن عطية قال قد حدثني الأشياخ عن أبي ذر ، وإسناده جيد .
وروى الإمام مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما بعث الله نبياً إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم " .
فلو كان التوسل والتبرك بآثار الصالحين خيراً وفيه صلاح لهذه الأمة لبينه النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في قوله " أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم " فعلم أنه من الشر الذي حذرنا منه صلى الله عليه وسلم ، ودخل في عموم حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " .
ولذلك ترى بعض الجهال يتبركون بعمائم العلماء وعمائم طلبة العلم ويتبركون بعرقهم وبنعالهم ويتوسلون بذواتهم وهذا من الإحداث في الدين ومن فعل الصوفية الضالين .
أما هذه الأوجه :
الوجه الأول : فمن أين لنا أن أبا بكر فعل هذا تبركاً ولا يستطيع قائل هذا القول أن يورد دليلاً على قوله ، غاية ما عنده الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً .(1/14)
الوجه الثاني : أن أبا بكر لو فعله تبركاً لفعله مع غير النبي صلى الله عليه وسلم ولكن أبا بكر ما ذكر هذا ولا أومأ إليه ، ولا فعله مع غير النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم اختصاص بهذا التقبيل أيضاً .
الوجه الثالث : أن أبا بكر لو فعله تبركاً ففي هذا إذا مسألتان :
المسألة الأولى : أنه يختص التقبيل بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن لذاته من الشرف ما ليس لغيره وأصحاب هذا القول لا يلتزمون هذا ، وهذا يلزمهم .
المسألة الثانية: أنه لو فعله تبركاً لقلنا بخصوصية هذا الفعل مع النبي صلى الله عليه وسلم .
الوجه الرابع: أن أبا بكر رضي الله عنه حين فعل هذا فعله محبةً يدل على هذا سياق الخبر ، ولذلك بكى أبو بكر وقال: (والله ما يجمع الله لك بين موتتين) فظاهر السياق يرد على من زعم أن أبي بكر فعل هذا تبركاً .
الوجه الخامس : أنه لو فعل هذا تبركاً لبادر كل الصحابة الى فعله ، لماذا يختص أبو بكر بهذا الفعل؟ لماذا ما أتت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولا أتى عمر ثم عثمان ثم علي وسائر الصحابة وتبركوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وتبركوا بذاته فلما لم يقع هذا الفعل ؟ .
علم أنهم أجلّ وأعلم بالله من أن يتبركوا بالتقبيل .
الخلاصة : غاية ما في الأثر أن يدل على جواز تقبيل الميت ، والعلم عند الله.
542- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: { نَفْسُ اَلْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ, حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
الشرح:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه " .
رواه أحمد والترمذي من طريق سعد بن ابراهيم عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة به .(1/15)
ورواه ابن حبان في صحيحه من طريق عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به ، ورواته كلهم ثقات .
وعمر بن أبي سلمة تكلم فيه شعبة ، وقال النسائي : ليس بذاك ، بينما قال أحمد بن صالح: إن شاء الله قال ابن معين لا بأس به ، وقال البرقي : أكثر أهل العلم على الإحتجاج به .
ومن ثم قال عنه الحافظ في التقريب : صدوق يخطيء .
والخبر إسناده لا بأس به ، فقد قال البخاري رحمه الله كلمة جامعة في عمر بن أبي سلمة قال عنه : صدوق إلا أنه يخالف في بعض حديثه .
فعليه إذا تبين مخالفته طرح حديثه وإلا فيعتبر به ، وعمر هنا لم يتفرد به بل تابعه الزهري كما سبق في رواية ابن حبان .
والحديث دليل على عظم أمر الدَين ، وأن نفس المؤمن معلقة به مهما كان صلاحها حتى يقضي عنها دينها .
وقد روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه من طريق القتباني عن أبي عبدالرحمن الحبلي عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين".
ففي الحديث دليل على عظم الدين وعظم حقوق العباد ، فإذا كان الدين الذي أخذه المرء برضا صاحبه لا يغفر ، فما بالك بمن يتسلل لأخذ أموال الناس بالباطل ويغتصب أموالهم ومن ثم جاء الوعيد الشديد فيمن أخذ شيئاً من أموال الناس بغير حق ، ففي الصحيحين وغيرهما عن سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من ظلم قيد شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أراضين " .
ومن الأدلة أيضاً على عظم أمر الدين ما رواه النسائي في سننه عن محمد بن جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيى ثم قتل ثم أحيى ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه " .(1/16)
ومن ثم امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الذي عليه الدين ، فالواجب على العبد التخلص من حقوق العباد ، فقد جاء في البخاري من حديث أبي المغيث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أخذ أموال الناس يريد أدائها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله".
ومعنى هذا أن من اقترض أموال الناس وفي نيته السداد فإن الله ييسر له أموره ويقضي عنه ديونه وأما من أخذ أموال الناس وفي نيته المماطلة أو عدم السداد ولعله يُخرِج (صك إعسار) قبل أن يحين الأجل فمثل هذا يتلفه الله ويمحق بركة ما أخذ محقاً حسياً أو محقاً معنوياً .
فالأمر عظيم والناس يريدون حقوقهم وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه .
543- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي اَلَّذِي سَقَطَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَاتَ: { اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ, وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
الشرح :
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي سقط من راحلته فمات " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه " .
هذا الخبر متفق عليه قال البخاري رحمه الله حدثنا أبو النعمان قال أخبرنا حماد وهو ابن زيد عن أيوب وهو ابن أبي تميمة السختياني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.
وقال مسلم رحمه الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال أخبرنا سفيان ابن عيينة عن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به .
قوله " اغسلوه ":
هذا أمر والأمر يقتضي الإيجاب إلا لصارف ولا صارف لهذا الخبر فدل على وجوب تغسيل الميت ، وهذا مذهب جماهير العلماء .
وعن مالك رحمه الله أن هذا سنة واختاره القرطبي ، والحق ما ذهب إليه الجمهور .
قوله " بماء وسدر " :(1/17)
الحكمة من وضع السدر ليتصلب جسد الميت ومن ثم لا ينتن ، وبعض العوام إذا أراد أن يغسل الميت وضع ماءً حاراً وهذا غلط ، لأن الماء الحار يرقق الجلد والمشروع تصليبه لا ترقيقه لأن ترقيقه يورث نتنه إلا أنه لا مانع من استعمال الماء الحار في الإيام الباردة ، أما إستعماله لغير الحاجة فهذا غلط ، والأولى مزج السدر بالماء .
ولم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هنا عدداً للغسل فلذلك جاء في حديث أم عطية في الصحيحين قال ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً إن رأيتن ذلك بماء وسدر " .
قوله " وكفنوه في ثوبين ":
في هذا الحديث دليل على أنه لا يشترط في الكفن الوتر .
أما كونه لا يشترط فهذا لا نزاع فيه في المحرم وغيره ، والأولى أن يقال في هذا الحديث دليل على أنه لا يستحب في الكفن الإيتار إلا أن هذا خاص بالمحرم ، وأما غير المحرم إذا مات فالأولى أن يكفن في ثلاثة أثواب لما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كفن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة " .
والله جل وعلا يقول: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " .
والأولى في الكفن أن يكون أبيضاً لقول عائشة (بيض ).
وفي الحديث فوائد أخرى ليست متعلقة في بابنا ولكن نشير إلى بعضها زيادة في الفائدة - تمامه " ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً " –
فمن فوائد الحديث : أن من شرع في عبادة وحالت المنية دونها كتب له أجرها كاملاً .
الفائدة الثانية : أن من شرع في الحج أو العمرة ومات دون أن يتمها ، أنه لا يشرع إتمامها عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال : أتموا عن صاحبكم .
الفائدة الثالثة : أنه لا يخمر رأس المحرم إذا مات ، وألحق بذلك الفقهاء الأحياء ، وأيدوا هذا بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن لبس البرانس ، والحديث متفق عليه من حديث ابن عمر .(1/18)
الفائدة الرابعة : أن من مات محرماً يبعث يوم القيامة ملبياً وهذه منقبة .
544- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: { لَمَّا أَرَادُوا غَسْلَ اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا: وَاَللَّهُ مَا نَدْرِي, نُجَرِّدُ رَسُولَ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا, أَمْ لَا?….. } اَلْحَدِيثَ، رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ .
الشرح:
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما ندري نجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا أم لا " الحديث ، تمامه عند أبي داود " فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم من أحد إلا وذقنه في صدره ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ويدلكون بالقميص دون أيديهم " وكانت عائشة تقول " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه " .
هذا الخبر رواه أحمد وأبو داود في سننه وابن الجارود في المنتقى وابن ماجة في السنن والحاكم في المستدرك كلهم من طريق محمد بن إسحاق قال حدثني يحي بن عباد عن أبيه عباد بن عبدالله بن الزبير قال سمعت عائشة فذكره .
الخبر رواته كلهم ثقات وقد صرح ابن إسحاق بالسماع فانتفت شبهة تدليسه . وقد صححه ابن حبان والحاكم وجماعة آخرون .
وتتمته عند أبي داود وغيره " فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم " الحديث
وهو دليل على مشروعية تغسيل الميت ، وقد تقدم أن هذا واجب كما هو قول جماهير العلماء .(1/19)
وفي الحديث دليل على اختلاف الصحابة في تغسيل الرسول صلى الله عليه وسلم هل يجرد من ثيابه كسائر الموتى أم لا ، فنأخذ من هذا أن الصحابة كان عندهم علم أن سائر الأموات يجردون من ثيابهم ولكن وقع الخلاف بينهم هل يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم أم لا ؟ .
فبعضهم قال نجرده كما نجرد موتانا ، قد يعلل لهم فيقال وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، فلو كان للنبي صلى الله عليه وسلم إختصاص بهذا لبينه ووضحه ولما تركهم يختلفون ويتنازعون ، وقال آخرون لا نجرده كما نجرد موتانا فعظمة النبي صلى الله عليه وسلم وجلالته تقتضي عدم تجريده كسائر الأموات فإن عورته أشد حرمة من عورة غيره ، فلما وقع الخلاف بينهم ألقى الله عليهم النوم فما منهم من أحد إلا وذقنه على صدره من النعاس ، فسمعوا منادياً يقول :(غسلوه في ثيابه) فاتفقوا على هذا فكان الرجل يدلك من وراء الثياب .
إن قال قائل في هذا إشكال كيف غسلوه في ثيابه وهذا يستلزم أن يكون كفن بها وعائشة تقول كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أثواب :
الجواب: لا تنافي بين هذين الأمرين فقول عائشة كفن بثلاثة أثواب أي من وراء أو فوق ثيابه صلى الله عليه وسلم ، فكانت اللفايف الثلاث بعد ثيابه فحينئذ يزول الإشكال ويتم الجمع بين الحديثين ، وهذا أمر واضح لمن تأمل.
والحاصل أن الصحابة اتفقوا بعد اختلافهم على تغسيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثيابه ، ولذلك قالت عائشة في آخر الحديث :(لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله إلا نساؤه ) .
فنأخذ من هذا الحديث جواز تغسيل المرأة لزوجها ، وكذلك يجوز العكس وسيأتي إن شاء الله بحث هذه القضية في موضوعها .(1/20)
545- وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: { دَخَلَ عَلَيْنَا اَلنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا, أَوْ خَمْسًا, أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ, بِمَاءٍ وَسِدْرٍ, وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا, أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ"، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ, فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ.فَقَالَ: "أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ" } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: { ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ اَلْوُضُوءِ مِنْهَا } .
وَفِي لَفْظٍ ِللْبُخَارِيِّ: { فَضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ, فَأَلْقَيْنَاهُ خَلْفَهَا } .
الشرح :
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت : دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته فقال: " اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك ، بماء وسدر ، واجعلن في الأخيرة كافوراً ، أو شيئاً من كافور " فلما فرغنا آذناه ، فألقى إلينا حقوه فقال " أشعرنها إياه " متفق عليه
وفي رواية " ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها " .
وفي لفظ للبخاري " فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناها خلفها " .
قال الإمام أبو عبدالله البخاري رحمه الله حدثنا إسماعيل بن عبدالله قال أخبرنا مالك عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أم عطية به .
وقال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا يحي بن يحي قال أخبرنا يزيد بن زريع عن أيوب به .
وقوله : وفي رواية " إبدأن بميامنها " :
هذه الرواية متفق عليها من طريق خالد عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية .
وقوله وفي رواية للبخاري " فضفرنا.... "
هذه الرواية جاءت في البخاري من طريق هشام بن حسان قال حدثتنا حفصة بنت سيرين عن أم عطية .(1/21)
وجاء عند ابن حبان في صحيحه من طريق حماد بن سلمة عن أيوب وهشام وحبيب عن محمد بن سيرين عن أم عطية بلفظ " وجعلنا لها ثلاثة قرون " وفي هذا اللفظ نظر ، والمحفوظ أن هذا الفعل من أم عطية رضي الله عنها ، ولا يستبعد أن يكون الوهم من حماد بن سلمة رحمه الله ، وأنه وإن كان إماماً إلا أنه صاحب أوهام بالحديث .
قولها " دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته " :
فيه جواز مثل هذا الفعل ، وفيه جواز مخاطبة الرجال للنساء الأجنبيات للمصلحة والحاجة .
قوله " اغسلنها " :
فيه دليل على وجوب تغسيل الميت ، لأن هذا أمر والأمر يقتضي الإيجاب وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وهو قول جماهير العلماء سلفاً وخلفاً ، وخالف في ذلك مالك رحمه الله فرأى الإستحباب ومذهب الجمهور أصح .
قوله " ثلاثاً " :
حمل هذه اللفظة جمهور العلماء على الاستحباب وقالوا الواجب مرة واحدة وما زاد فمستحب.
وذهب الكوفيون والإمام المزني وأهل الظاهر إلى إيجاب الثلاث لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( اغسلنها ثلاثاً ) ولم يقل مرة أو ثلاثاً أو خمساً إنما قال اغسلنها ثلاثاً ، فوجب اعتبار مفهوم العدد وأن المرة الواحدة لا تكفي فلا بد من استيفاء العدد .
قوله " خمساً " :
أي إن احتجتم لذلك فيما لو لم تنق الثلاث تغسل خمساً ، فإن قال قائل ألا نكتفي بأربع إذا أنقت ؟ .
الجواب : إن الأربع مجزئة ولكن القطع على الوتر مستحب ، فمن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خمساً أو سبعاً للقطع على وتر .
قوله " سبعاً " :(1/22)
جعل بعض العلماء هذا العدد نهاية الغسلات ، والحق أن الميت إذا لم يطهر بالسبع يزاد إلى تسع فنكتفي بما يغلب على الظن أنه قد طهر ، فإذا رأينا إن التسع تطهر أكثر من السبع طهرناه تسعاً ، وإذا رأينا أن الزيادة على هذا العدد أبلغ في التطهير وإن لم يطهر كلياً زدنا على ذلك ، ولكن هذا ليس واجباً لأن هذا قد يشق على المغسل إنما الواجب أن يغسله ثلاثاً .
قوله " بماء وسدر " :
تقدم أن السدر يخلط مع الماء ، وفي هذا دليل على أن تغير الماء بالطاهرات لا يسلب الماء الطهورية بل هو طاهر مطهر ، وفي هذا الحديث رد على من زعم أن الماء المتغير بالطاهرات يكره الوضوء به فالنبي صلى الله عليه وسلم جعله طاهراً مطهراً .
وفي هذا الحديث إيماءً إلى منع تقسيم المياه إلى ثلاثة أقسام كما هو المشهور من مذهب الحنابلة والشافعية ، والحق أن المياه قسمان طاهر ونجس ، والطاهر هو المطهر أما إثبات طاهر غير مطهر فلا أصل له ولا دليل عليه ، وأيضاً لا وجه له من النظر وقد سبق تقرير هذه القضية في باب المياه .
قوله " واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور " :
وهذا نوع من أنواع الطيب وفي هذا دليل على اختلاف أمور الوفاة عن أمور الحياة فالمرأة لا يجوز لها أن تضع الطيب الذي تظهر رائحته عند الرجال الأجانب ، أما بعد الوفاة فلا مانع من ذلك ففي هذا دليل على اختلاف أمور الموت عن أمور الحياة ، ولا يجوز قياس هذا على هذا لوجود الفوارق الكبيرة .
قوله " أبدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها " :
الجمهور على أن هذا مستحب ، ودليلهم ما رواه الشيخان وغيرهما من طريق شعبة عن أشعث أبن أبي الشعثاء عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله " .
ظاهر هذا الحديث يدل على إستحباب البُداءة بالميامن دون الإيجاب.
وقول أم عطية " فضفرنا شعرها ثلاثة قرون " :(1/23)
فيه جواز مثل هذا ، وقد اتفق العلماء رحمهم الله على جواز نثره لأن الضفر ليس واجباً فإذا لم يكن واجباً بالحياة فمن باب أولى ألا يجب بعدها.
إن قال قائل ما هي الحكمة من ضفر الشعر؟.
علل بعض أهل العلم بأن الحكمة من هذا هو تجميع الشعر لئلا يتناثر فيؤذي المغسل وفي هذه الحكمة نظر لأنه يمكن ضفره مرة واحدة لو كانت هذه الحكمة ، فلذلك قد يقال بأن الحكمة تعبدية كما أنه قد سبق أن هذا الفعل من أم عطية وليس من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وغاية ما فيه الجواز وأما الاستحباب فيحتاج إلى دليل.
546- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: { كُفِّنَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ, لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ. } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
الشرح:
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة " . متفق عليه .
قال الإمام البخاري قال حدثنا محمد بن مقاتل قال أخبرنا عبدالله عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به .
وقال مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ويحي وأبو كريب واللفظ ليحي قال يحي أخبرنا وقال الآخران حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة به .
قولها" كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثوب " :
في هذا دليل على استحباب التكفين في هذا العدد ، وقد ذكر الإمام البغوي رحمه الله في شرح السنة كراهية الزيادة على هذا العدد .
قولها " بيض " :
خصص البياض هنا لأنه خير اللباس ، وقد روى أهل السنن بسند صحيح من طريق عبدالله بن عثمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( البسوا من ثيابكم البياض فإنها خير لباسكم وكفنوا فيها موتاكم ).(1/24)
ففي هذا الحديث دليل على استحباب تكفين الأموات بالبياض وظاهر الحديث العموم فيشمل الرجال والنساء ،ولا مانع من تكفين النساء بالبياض وجعل الخارجي من غير البياض .
قولها " سحولية ":
ضبط بوجهين بفتح السين وضمها ، وهي ثياب بيض نقية تجلب من اليمن وهي قطنية.
قولها " ليس فيها قميص ولا عمامة " :
تقدم في حديث عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم غُسِّل في ثيابه ، وتقدم أن هذا لا ينافي هذا الحديث ، فقد جعلت اللفائف فوق ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن هذه اللفائف ليس فيها قميص ولا عمامة .
ففيه استحباب التكفين بمثل هذا ، ولكن هذا لا ينفي التكفين بالقميص كما سيأتي هذا على حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس ابن أبيّ (قميصه ) وهو متفق على صحته فدل هذا على جواز التكفين بالقميص ، ولكن عائشة رضي الله عنها تخبر خبراً أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة .
وفي الحديث دليل على استحباب تحسين الكفن لما جاء في مسلم من حديث ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير المكي عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن تكفينه ) .
ذكر الإمام البغوي رحمه الله في شرح السنة: أن المراد بالإحسان هنا ليس المغالاة في الأكفان ، إنما المراد بذلك الكفن الأبيض النظيف دون الإسراف أو التبذير .
547- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: { لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اَللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ جَاءٍ اِبْنُهُ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ, فَأَعْطَاه إِيَّاهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
الشرح:
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما توفي عبدالله بن أبيّ جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أعطني قميصك أكفنه فيه ، فأعطاه إياه" .
هذا الحديث متفق عليه .(1/25)
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا مسدد قال أخبرنا يحي بن سعيد عن عبيدالله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر به .
وقال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة عن عبيدالله به .
وفي الباب عن جابر في الصحيحين من طريق ابن عيينة عن عمرو عن جابر رضي الله عنهما قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن أبيّ بعد ما دفن فأخرجه ، فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه " .
وظاهر الحديثين التعارض فقد دل الخبر الأول أن ابن عبدالله بن أبيّ ، طلب من النبي صلى الله عليه وسلم قميصه ، وظاهر الحديث الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إليه في قبره ونبشه وألبسه قميصه ، وقد قيل في الجمع بينهما أن قوله في حديث ابن عمر " وأعطاه إياه " أي أنعم له بذلك ، ودل حديث جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم تولى هذا الأمر بنفسه بعدما أعلم عبدالله بن عبدالله بن أبي أنه يعطيه قميصه ، وقيل بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه أولاً إحدى قميصيه ثم ألبسه الثاني ، والسبب في كون النبي صلى الله عليه وسلم أعطى هذا المنافق قميصه أن له نعمةً ويداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه كسا العباس رضي الله عنه لما أُسر ببدر فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافئه على صنيعه حتى لا يكون لمنافق عليه نعمة .
وفي الحديث دليل على جواز التكفين بالقميص .
ويجوز الاقتصار بالكفن على ثوب واحد إذا ستر ، أما إذا لم يستر فتجب الزيادة ما لم يمنع من ذلك مانع كعدم وجود غيره .
ويستفاد من الحديث شكران المعروف ولو كان صاحبه منافقاً أو كافراً ، وقد روى الإمام أبو داود والنسائي بسند صحيح من طريق الأعمش عن مجاهد عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من صنع إليكم معروفاً فكافئوه " .(1/26)
ظاهر الحديث يدلى على أن هذا الصانع سواء كان مؤمناً أم كافراً ، فإن كان مؤمناً فتجازيه بإحسانه ، وإن كان كافراً فترد عليه إحسانه لئلا يميل قلبك إليه .
ويستفاد من الحديث أيضاً ، جواز نبش القبر للحاجة ، وقد دل على هذا حديث جابر رضي الله عنهما .
ويستفاد من الحديث أيضاً جواز النفخ في الريق .
ويستفاد من الحديث أيضاً أن من دفن بغير كفن ينبش ونظير هذا لو لم يغسل .
إن قال قائل كيف أعطى النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنافق قميصه مع أنه كان حرباً على هذا الدين وكان يؤلب على النبي صلى الله عليه وسلم .
الجواب : قد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يرد عليه نعمته حين أحسن إلى العباس رضي الله عنه .
وإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المنافق قميصه لا يقتضي هذا الموالاة ولا النصرة ولا المحبة ، إنما هو من باب رد الجميل ، ولأن ابنه أيضاً قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم هذا ، وكان الابن صالحاً ، ولأنه سأله ذلك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلاً .
548- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: { الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ, فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ, وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ } رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ, وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ .
الشرح:
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ألبسوا من ثيابكم البياض ، فإنها من خير ثيابكم ، وكفنوا فيها موتاكم " .
هذا الخبر رواه الخمسة إلا النسائي كلهم من طريق عبدالله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به .
وعبدالله بن عثمان قال عنه يحي بن معين ثقة حجة ، ووثقه النسائي والعجلي وجماعة ، بينما قال الإمام علي بن المديني رحمه الله : منكر الحديث.
قال الإمام النسائي : كأن الله خلق علي بن المديني للحديث .(1/27)
والمتأمل لأحاديث عبدالله بن عثمان يجد أنه صدوق وأنه حسن الحديث وقد يخطئ ويهم ، ومن ثم قال عنه الحافظ ابن حجر رحمه الله في التقريب صدوق ، وقد خرج له مسلم والأربعة .
وفي الباب عن سمرة رواه الإمام النسائي رحمه الله من طريق سعيد بن أبي عروبة عن أيوب عن أبي قلابة عن سمرة بنحوه ، ورجاله كلهم ثقات ، وقد قال الترمذي رحمه الله في جامعه وفي الباب عن سمرة وابن عمر وعائشة .
وحديث ابن عباس حديث حسن صحيح .
قوله " ألبسوا من ثيابكم البياض " :
الأمر هنا للاستحباب باتفاق أهل العلم ، والأمر هنا عام في جميع الملابس يستحب للعبد أن يكون لباسه أبيض ، ولكن هذا لا يعني كراهية اللباس بغير هذا اللون فقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم الأحمر والأسود والأخضر وغير ذلك من الألوان .
قوله " فإنها من خير ثيابكم " :
هذه اللفظة صريحة في تفضيل اللباس الأبيض على غيره سواء كان ثوباً أم غترة(1) ، فجميع ما يلبسه المرء يستحب فيه أن يكون أبيض .
قوله " وكفنوا فيها موتاكم " :
هذا الشاهد من سياق هذا الحديث وقد تقدم حديث عائشة في الصحيحين : كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف " .
فيستحب في الكفن أن يكون أبيض نظيفاً ، ولو كفن بغير الأبيض جاز وأجزأ ولكنه خالف الأولى والأفضل ، فالأفضل باللباس بما فيه الكفن أن يكون أبيض نظيفاً .
إلا أن المسلم يستحب في حقه أن يتجنب الإسراف والمغالاة في الأكفان فإن الأمر كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:( فإن الحي أولى بالجديد من الميت ، إنما هو للمهلة ) رواه البخاري في صحيحه من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها .
549- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
الشرح :
__________
(1) - لباس خاص بالرجال يوضع على الرأس..(1/28)
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه " . رواه مسلم .
قال مسلم رحمه الله حدثنا هارون بن عبدالله وحجاج بن الشاعر قال حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج أخبرني أبو الزبير المكي أنه سمع جابر بن عبدالله فذكر الخبر .
قال الإمام البغوي في شرح السنة المراد بتحسين الكفن هو البياض والنظافة لا كونه ثميناً .
وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في فهم هذا الحديث فقال الإمام البغوي رحمه الله ما تقدم ذكره ، وقال بعض أهل العلم المراد بتحسين الكفن هو طلب الشيء الثمين الغالي ، وهذا قول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
استدل الإمام البغوي رحمه الله بحديث أبي بكر الصديق السابق " فإن الحي أولى بالجديد من الميت ، إنما هو مهلة " رواه البخاري .
واستدل أيضاً بما رواه أبو داود في سننه من طريق عمرو بن هاشم عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر الشعبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعاً " .
ولكن في هذا الإسناد نظر ، عمرو بن هاشم لين الحديث ، وفي سماع الشعبي من علي خلاف بي أهل العلم .
إلا أن ما ذكره البغوي واختاره قول قوي لأن قوله صلى الله عليه وسلم : فليحسن كفنه . لا يدل على المغالاة إنما يحمل على النظافة والبياض حيث لا يكون الكفن وسخاً أو يكون متخرقاً لا ينتفع به .
وأما على القول الثاني فيؤخذ من الحديث إستحباب طلب الأفضل بالكفن لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال " فليحسن كفنه " .
وأجرة الكفن تؤخذ من مال الميت قبل إعطاء أهل الحقوق حقوقهم وقبل قسمة الميراث لأن أكثر ما يرد في تركة الميت خمسة حقوق وهي مرتبة إن ضاقت التركة والحقوق .(1/29)
فأولاً : أجرة الكفن والحفر ونحوهما فندفع أجرة الكفن قبل الديون سواء كانت لله أو للآدمي ، والأفضل للمسلم أن لا يدع أحداً يمن عليه بالكفن فإما أن يشتريه قبل وفاته ، وهذا أمر لا مانع منه ذكره الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه وغيره من أهل العلم ، وإما أن يوصي بأن يشترى له الكفن من ماله ، وبعض الناس يهمل هذه المسألة فيكون غنياً لا يسمح لأحد في الحياة أن يتصدق عليه بدرهم فإذا توفي وخلف المال سمح للناس أن يتصدقوا عليه بكفن هذا خلاف الأولى والأفضل .
550- وَعَنْهُ قَالَ: { كَانَ اَلنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَجْمَعُ بَيْنَ اَلرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحَدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ, ثُمَّ يَقُولُ: "أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ?", فَيُقَدِّمُهُ فِي اَللَّحْدِ, وَلَمْ يُغَسَّلُوا, وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ } رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
الشرح:
وعنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ، ثم يقول : أيهم أكثر أخذاً للقرآن فيقدمه في اللحد ، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم " رواه البخاري .
قال البخاري حدثنا عبدالله بن يوسف قال أخبرنا الليث عن ابن شهاب عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن جابر به .
وقد أعله بعض أهل العلم بأن معمراً وعمرو بن الحارث ومحمد بن اسحاق وجماعة رووا هذا الخبر عن الزهري عن عبدالله بن ثعلبة .
ولكن جاء الخبر عن معمر عن الزهري بذكر جابر رضي الله عنه ، ولعل هذا هو الذي جعل البخاري رحمه الله يقدم رواية الليث عن الزهري على رواية غيره ، والليث بن سعد ثقة إمام وهو من المتقنين لأحاديث الزهري .
وقد أورد البخاري رحمه الله هذا الخبر من طرق في صحيحه عن الليث ومداره على الليث عن الزهري ، ورواه عن الليث جمع .
قوله : يجمع بين الرجلين :
في هذا دليل على جواز دفن الرجلين في القبر الواحد للحاجة وأما لغير الحاجة فلا يجوز بل يجب حفر قبر آخر للدفن فيه .(1/30)
وقد اختلف أهل العلم في الذكر والأنثى هل يدفنان جميعاً أم لا ؟.
قال بعض العلماء لا مانع من دفنهما إذا كان الرجل أحد محارمها وهذا قول لفقهاء الحنابلة .
وقال بعض العلماء لا تدفن المرأة مع الرجل مطلقاً ، وذهب واثلة بن الأسقع إلى جواز دفن المرأة مع الرجل الأجنبي فيقدم الرجل وتكون المرأة خلفه .
ولكن ذكر بعض أهل العلم أنه يجعل بينهما تراب لئلا يتلاصق الجسدان ، وهذا مجرد اجتهاد ذكره الحافظ في فتح الباري ولم يذكر دليلاً عليه .
قوله " في ثوب واحد " :
قال بعض أهل العلم كُفِّنا جميعاً في ثوب واحد ، وهذا ظاهر الخبر وهو الذي فهمه غير واحد من الشراح ، وقال بعض أهل العلم شق الكفن نصفين فكفن كل واحد بالنصف الآخر .
قوله " ثم يقول : أيهم أكثر أخذاً للقرآن فيقدمه في اللحد " :
في هذا فوائد :
فضيلة حفظ القرآن وأن صاحبه يقدَّم على غيره ، وفي صحيح الإمام مسلم عن عمر رضي الله عنه قال ألا إني سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين .
فصاحب القرآن له منزلة عالية في الدنيا ورفعة في الآخرة .
هذا التقديم للاستحباب لا للإيجاب لأن الخبر لم يرد بلفظ الأمر الصريح الدال على الإيجاب ، فظاهر السياق أنه للاستحباب لا للإيجاب .
أن هذا التقديم لا يلزم منه التفضيل الأخروي ، فلربما كان المؤخر عند الله أفضل من المقدم ، إنما هذا الترتيب في القبر على حسب منازلهم في الدنيا .
قوله " ولم يغسلوا " :
وهذا حكم الشهيد ، والمراد بالشهيد شهيد المعركة ، فعندهم لا يغسل كما هو قول جماهير العلماء وهو اختيار الأئمة الأربعة ، وقد جاء عن سعيد بن المسيب والحسن وبعض أهل العلم أن الشهيد يغسل كسائر الأموات ، وفي هذا نظر وقول الجمهور أصح فلم يرد دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتغسيل الشهداء ،فحديث الباب صريح برد هذا القول .(1/31)
وأما غير شهيد المعركة كمن قتل دون ماله أو المبطون أو المطعون أو من مات بالغرق أو الحريق والهدم ، فإن هؤلاء وإن كانوا شهداء إلا أنهم يغسلون ويكفنون ويصلى عليهم لأن أحكامهم تختلف عن أحكام شهيد المعركة ، وإطلاق الشهادة عليهم هذا بالنسبة للأجر .
قوله " ولم يصل عليهم " :
احتج بهذا بعض الفقهاء على ترك الصلاة على الشهداء ، وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في هذه المسألة ، فقال بعض أهل العلم : لا يصلى على الشهيد وهو قول الحنابلة ، وقال بعضهم يصلى على الشهداء مطلقاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد بعد مضي ثمان سنين صلاته على الميت" والحديث متفق على صحته .
وقد اختار ابن القيم في "تهذيب السنن" إن الإمام مخير فيهم إن شاء صلى وإن شاء ترك ، وهذا قول للإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايات عنه ، قال ابن القيم " وهي الأليق بأصوله ومذهبه ".
551- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: { سَمِعْتُ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَا تُغَالُوا فِي اَلْكَفَنِ, فَإِنَّهُ يُسْلُبُ سَرِيعًا" } رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
الشرح:
وعن علي رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعاً " .
قال الإمام أبو داود رحمه الله حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال أخبرنا عمرو بن هاشم عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر الشعبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وهذا الخبر أعل بعلتين :
العلة الأولى : ضعف عمرو بن هشام ، قال عنه الإمام أحمد : صدوق ولم يكن صاحب حديث ، وقال عنه البخاري : فيه نظر ، وضعفه أبو حاتم والإمام مسلم والنسائي .(1/32)
العلة الثانية : الانقطاع بين عامر الشعبي وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، الشعبي على الصحيح ولد سنة (28) وأما علي رضي الله عنه قتل سنة (40) ، فقد أدرك الشعبي من حياة علي رضي الله عنه ثنتي عشرة سنة ومثل هذه المدة يمكن فيها السماع ، ولكن ذكر الإمام الدارقطني رحمه الله أن الشعبي لم يسمع من "علي" إلا حديثاً واحداً ، فعليه هذا الخبر منقطع .
والخبر يدل على منع المغالاة في الكفن وقد تقدم قول أبو بكر الصديق:( إن الحي أولى بالجديد من الميت إنما هو للمهلة) . رواه البخاري في صحيحه من حديث عائشة .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم " إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه " فمعناه على ما سبق تقريره من حيث البياض والنظافة لا من حيث المغالاة ، فإن المغالاة في الأكفان لا تشرع ولا فائدة في هذا ، ومن لم يقدسه عمله لم يقدسه كفنه ، ولم يرتب الله عز وجل أجراً على المغالاة في الأكفان ، وإلا لتسابق إلى ذلك سلفنا الصالح إلى هذا الخير .
552- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا ; أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا: { لَوْ مُتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ } اَلْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَابْنُ مَاجَهْ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
الشرح :
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها " لو مت قبلي لغسلتك"
هذا الخبر رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة وابن حبان في صحيحه من طريق الإمام محمد بن اسحاق عن يعقوب بن عتبة عن الزهري عن عبيد الله عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم من جنازة بالبقيع فقالت عائشة وارأساه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أنا وارأساه" الحديث وقد اقتصر المؤلف رحمه الله على الشاهد منه.(1/33)
وقد ذكر الحافظ المزي رحمه الله في تحفة الأشراف أن النسائي رواه في الكبرى ورواه أيضاً عبدالرزاق ورواه البيهقي في دلائل النبوة ،وعند البيهقي في الدلائل صرح ابن إسحاق بالسماع من يعقوب ، وقد جاء الخبر في صحيح الإمام البخاري من طريق سليمان بن بلال عن يحي بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها وليس فيه " لو مت قبلي لغسلتك " .
فلذلك لا يستبعد أن تكون هذه الجملة شاذة ، وقد أورد البخاري رحمه الله خبر عائشة في صحيحه بطوله إلا هذه الجملة فلم يذكرها .
والخبر احتج به مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء سلفاً وخلفاً على جواز تغسيل الزوج لزوجته ، وعزاه بعض أهل العلم إجماعاً ، وفيه نظر ، فقد خالف في ذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله ، إلا أن مذهب الجمهور أصح من مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة ، وأما العكس فقد جوزه أبو حنيفة وجماهير العلماء ، فجوزوا للمرأة أن تغسل زوجها ، فقد تقدم قول عائشة رضي الله عنها : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه . رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن .
وأما تغسيل الرجل لغير زوجته وإن كانت محرماً له فإن هذا محرم باتفاق أهل العلم ، وكذلك الأمر بالنسبة لتغسيل المرأة لغير زوجها ولو كان أخاها لأمها وأبيها فإن هذا لا يجوز ، إلا أن بعض الفقهاء كفقهاء الحنابلة والشافعية استثنوا من لم يتجاوز سبع سنين فجوزوا للمرأة أن تغسله كما أنهم جوزوا للرجل أن يغسل الطفلة الصغيرة ، والأولى في الأمرين معاً أن يتولى تغسيل البنت امرأة وأن يتولى تغسيل الذكرِ ذكرٌ .
553- وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا: { أَنَّ فَاطِمَةَ أَوْصَتْ أَنْ يُغَسِّلَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اَللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ } رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ .
الشرح :
وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن فاطمة رضي الله عنها أوصت أن يغسلها علي رضي الله تعالى عنه " .(1/34)
هذا الخبر رواه الدارقطني من طريق عبدالله بن نافع عن محمد بن موسى عن عون بن محمد عن أمه عن أسماء رضي الله عنها .
ورواته كلهم ثقات إلا أم عون فإنها غير معروفة .
ورواه الإمام الشافعي رحمه الله عن إبراهيم بن محمد قال حدثنا عمارة عن أم محمد عن أسماء .
وإبراهيم بن محمد شيخ الشافعي متروك الحديث تركه أحمد وابن معين والنسائي والدارقطني .
ورواه الإمام الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن موسى عن عمارة المهاجر وعون بن محمد عن أم جعفر قالت حدثتني أسماء قالت : غسلت أنا وعلي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم" .
ورواته كلهم ثقات إلا أم جعفر فإنها غير معروفة .
وخبر الباب يدل على جواز تغسيل الزوج لزوجته ، وبهذا قال الإمام مالك والشافعي وأحمد ، وهو قول جماهير العلماء سلفاً وخلفاً ، وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله فمنع تغسيل الزوج لزوجته ، وهو قول الثوري وروي عن الشعبي ، وقول الجمهور أصح .
وأما تغسيل المرأة لزوجها فقد نقل ابن عبدالبر في الاستذكار الإجماع على جوازه ، وذلك في كتاب الجنائز على أثر أسماء أنها غسلت أبا بكر الصديق ، وأسماء هذه هي بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
ونقل الإجماع على هذه المسألة غير واحد من أهل العلم ، وأما تغسيل الأب لأبنته أو الرجل لأحد محارمه فهذا لا يجوز قولاً واحداً عند أهل العلم .
554- وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - -فِي قِصَّةِ الْغَامِدِيَّةِ اَلَّتِي أَمَرَ اَلنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجْمِهَا فِي اَلزِّنَا- قَالَ: { ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصُلِّيَ عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
الشرح :
وعن بريدة في قصة الغامدية التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها في الزنا قال : ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت " . هذا الخبر رواه الإمام مسلم في صحيحه .(1/35)
قال رحمه الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال أخبرنا عبدالله بن نمير –ح- وحدثنا محمد بن عبدالله بن نمير وتقاربا في اللفظ قال حدثني أبي قال حدثنا بشير بن المهاجر عن عبدالله بن بريدة عن أبيه به .
وبشير بن المهاجر لين الحديث ، وخرج له مسلم في المتابعات لا في الأصول ، وقد خولف في هذا الخبر فروى الخبر بطوله غيلان بن مجامع المحاربي عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه فلم يذكر قصة الصلاة عليها ، وهذا هو المحفوظ في الخبر ، وأما رواية بشير بن المهاجر فمنكرة .
وفي الباب عن يحي بن أبي كثير عن أبي قلابة عن عمران بن حصين أن امرأة جُهنية أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا ...الخبر وفيه :
( فأمر بها فشكت عليها ثيابها ورجمت ثم صلى عليها) .
والخبر رواه مسلم وهو دليل على مشروعية الصلاة على من أقيم عليهم الحدود ، وقد قال بعض أهل العلم ويشرع للإمام ترك الصلاة للتنكيل بهم ولردع غيرهم عن هذا الفعل العظيم ، كما أنه يشرع للإمام ترك الصلاة على الغال وعلى من قتل نفسه ،وعلى من ترك دَيناً لا وفاء عنده ،وهذا قول فقهاء الحنابلة ووافقهم على بعض هذه المسائل أبو حنيفة والإمام الشافعي رحمهم الله .
والصحيح في هذه المسألة التفصيل فإن كان المرجوم قد تاب قبل رجمه فالأولى الصلاة عليه لأن التوبة تجب ما قبلها .
وحديث الباب يدل على هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على الجهنية ، وفي هذا ستر لعيبها وتطييب لخواطر أهلها ، وأما إن لم يتب الزاني أوالزانية من زناهما ورجما على هذا فيشرع للإمام ومن ينظر الناس إليه ترك الصلاة عليهما لردع أمثالهما ومن تسول لهم أنفسهم بالباطل .(1/36)
فإن جريمة الزنا جريمة عظيمة إلا أن ترك الصلاة على القول الصحيح ليس خاصاً ممن زنا ، فيشرع لمن يُقتدى بهم أن يدعوا الصلاة على كل مفسد في الأرض كالمبتدع والزاني غير التائب وشارب الخمر والغال وقاتل نفسه وغيرهم من المفسدين في الأرض ذلك لينكل غيرهم عن هذا الفعل العظيم .
فالصلاة على هؤلاء بالجملة فرض كفاية إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين ، ولا يشرع لجميع الناس ترك الصلاة عليهم فإن هذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم وإنما المشروع لمن يُقتدى بهم ترك الصلاة عليهم لغرض صحيح ولمصلحة راجحة ، ولذلك لو قدر استواء الأمرين صلى أولم يصل ، شرعت الصلاة في حقه عليهم لأن المقصود بترك الصلاة عليهم قد فقد .
وفي الحديث دليل على مشروعية الرجم فالزاني والزانية إذا كانا محصنين يجب رجمهما حتى يموتا .
وفي الحديث دليل أيضاً على عدم كفر الزانية ، وفيه رد على الخوارج الذين يكفرون بكبائر الذنوب .
وفي الحديث دليل على أن التوبة تجب ما قبلها .
وفي الحديث دليل على أخذ المرء بجريمة الزنا إذا أقر على نفسه ، وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله أيهم أفضل أن يقر على نفسه بالزنا ليقام عليه الحد أو يستر على نفسه كما ستره الله ؟.
أصح الأقوال : أن يستر على نفسه كما أن الله ستر عليه ، يشرع له أن يستر على نفسه وأن لا يفضحها ، ولعله أيضاً لا يصبر على إقامة الحد ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة " .(1/37)
فالأولى للمسلم أن يستتر بستر الله جل وعلا ولا يبدي ما فعله من الجرائم فإن الله غفور رحيم لمن تاب إليه وعمل صالحاً كما قال تعالى " وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ).
وقال تعالى ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (82).
555- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: { أُتِيَ اَلنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ, فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الشرح :
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال أُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه" رواه مسلم .
قال رحمه الله حدثنا عون بن سلام قال أخبرنا زهير عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة به .
ورواه النسائي في سننه عن اسحاق بن منصور قال أخبرنا أبو الوليد عن أبي خيثمة زهير وفيه " أما أنا فلا أصلي عليه " .
ومفهوم هذا أنه لا مانع من الصلاة عليه وهذا قول عامة العلماء .
وأما لفظ مسلم فيدل على أنه يشرع للإمام ومن هو قدوة للناس أن يدع الصلاة على قاتل نفسه ليرتدع غيره من هذا الفعل العظيم ،وأما عامة الناس فيصلون عليه .(1/38)
والحديث صريح في عدم كفر قاتل نفسه وهذا مذهب أهل السنة والجماعة قاطبة ، وقد أجمع أهل السنة بعد خلاف قديم لابن عباس أن قاتل المسلم له توبة وليس كافراً ، وأن من قتل نفسه تحت المشيئة إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له ، فإنه داخل تحت المشيئة المذكورة بقوله تعالى" إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ).
فلا يخلد في النار إلا الكفرة الفجرة ولا يقطع لأحد بجنة أو نار ،وإنما يرجى للمحسنين ويخاف على المسيئين ، ومن حيث العموم يقال المؤمنون في الجنة والكفرة في النار فهذا وعد الله ، والحديث صريح في عدم كفر قاتل نفسه .
وقد توقف بعض المتأخرين في هذه المسألة والحق أنه لا وجه للتوقف ، فالحديث صريح في هذه القضية فقتل النفس كبيرة من كبائر الذنوب لا توجب كفراً ، وحينئذ لا يجوز الحكم على من قتل نفسه بالنار لأنه ليس كافراً إذ لو كان كافراً لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم " أما أنا فلا أصلي عليه " لأنه يجب حينئذ منع غيره من الصلاة عليه لأنه كافر ، وهذا لا قائل به من أهل السنة والجماعة ، فقتل النفس كبيرة من الكبائر قد رتب الله على ذلك وعيداً شديداً ، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم عظم هذا الأمر ولكنه لا يصلى إلى حد الكفر .
وفي الحديث رد المرجئة الذين يقولون : لا يضر مع الإيمان ذنب . إذا لو كان لا يضر مع الإيمان ذنب ما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على هذا .
فقد تضمن هذا الخبر مع قصره الرد على طائفتين خبيثتين الطائفة الأولى طائفة الخوارج الذين يكفرون بكبائر الذنوب ، والطائفة الثانية وهي أخبث من الطائفة الأولى وهي طائفة المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب ، وقد كفرهم الإمام ابن بطة رحمه الله في الجزء الثاني من الإبانة .
يقول الإمام الزهري رحمه الله : ما ابتدع في الإسلام بدعة أضر على الإسلام من هذه يعني المرجئة .(1/39)
556- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - -فِي قِصَّةِ اَلْمَرْأَةِ اَلَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ اَلْمَسْجِدَ- قَالَ: { فَسَأَلَ عَنْهَا اَلنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: مَاتَتْ, فَقَالَ: "أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي"? فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، فَقَالَ: "دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا", فَدَلُّوهُ, فَصَلَّى عَلَيْهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَزَادَ مُسْلِمٌ, ثُمَّ قَالَ: { إِنَّ هَذِهِ اَلْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا, وَإِنَّ اَللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ } .
الشرح:
قال المؤلف رحمه الله :
وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد ، فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا :ماتت ، فقال: أفلا كنتم آذنتموني ، فكأنهم صغروا أمرها ،فقال : دلوني على قبرها ، فدلوه ، فصلى عليها " متفق عليه .
قال البخاري رحمه الله حدثنا محمد بن فضيل قال حدثنا حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة به .
وقال مسلم رحمه الله حدثني أبو الربيع الزهراني وأبوكامل فضيل بن حسين الجحدري قالا: حدثنا حماد بن زيد عن ثابت البناني به .
وعند مسلم زيادة " إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم " ، وهذه الزيادة مدرجة من كلام ثابت البناني رواها مرسلة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فأدرجت في هذا الخبر قال هذا البيهقي رحمه الله ،ونص عليه الحافظ في فتح الباري ، والظاهر أن البخاري أعرض عنها على عمد ، فلذلك نقول إن هذه اللفظة شاذة فإن مدار الخبر على حماد بن زيد وقد رواه عن حماد بن زيد جمع منهم محمد بن فضيل ، وأحمد بن واقد ، وسليمان بن حرب ، ورواية هؤلاء عند البخاري .
ورواه أيضاً أبو كامل وأبو الربيع ورواية هذين عند مسلم .(1/40)
فلم يذكر واحد من هؤلاء هذه الزيادة إلا ما وقع في رواية أبي كامل عند مسلم ، وقد جاء في بعض طرق الحديث ما يبين إدراج هذه الزيادة وأن ثابتاً أرسلها .
وهذا يؤكد شذوذ رفعها فإن الحفاظ الذين رووا الحديث عن حماد لم يذكروها فشذوذها حينئذ متيقن .
قوله " في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد " :
فيه استحباب كنس المساجد وتنظيفها ، وكنس المساجد يعتبر قربة من القرب الشرعية لأن المساجد بيوت الله عز وجل في الأرض فمن نظفها واعتنى بها فقد اعتنى ببيوت الله جل وعلا.
قوله " فقالوا : ماتت " :
كأنهم صغروا أمرها لأن هذه المرأة كانت سوداء وكانت غير معروفة ولم يكن لها كبير عمل في نظرهم ، فلذلك لما توفيت صلوا عليها ودفنوها ولم يعلموا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما لا يعلمون فيعرف عظم هذه المرأة وعظم عملها وأنه لا عبرة بالظواهر ، فربَّ رجل محتقر أعظم عند الله بأضعاف مضاعفة ممن يشار إليه بالبنان .
وفي صحيح مسلم من طريق يزيد الأصم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ".
وفي صحيح البخاري أيضاً من طريق عبدالعزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ما تقولون في هذا .
قالوا : هذا حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يستمع لقوله ، فمر رجل آخر فقال : ما تقولون في هذا ، قالوا : هذا حري إن خطب ألا ينكح وإن شفع ألا يشفع وإن قال ألا يستمع لقوله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (هذا خير من ملئ الأرض من مثل هذا ) .(1/41)
فإن العبرة بالأعمال وما يقع في القلب من الإيمان والتصديق والمحبة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، أما الظواهر فالناس نعم يتعارفون بها في الدنيا ، وأما عند الله جل وعلا فلا تساوي شيئاً ، قال تعالى " يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ " أي يظهر طيبها من خبيثها وصالحها من طالحها .
قوله " دلوني على قبرها " :
فيه تفقد الإمام لأحوال رعيته والسؤال عنهم ، ويؤخذ من هذا الحديث أيضاً السؤال عمن فُقِد فلعله يكون مريضاً فيُزار أو يكون مسافراً فيُطمئن على حاله.
وفي السؤال عن حال المرء فوائد كثيرة منها :
فرح المسؤول عنه فإنه يفرح إذا علم أن فلاناً وخصوصاً إذا كان عالماً أو طالب علم يسأل عن حاله ، ومنها تطييب خاطر أهله فإن الأهل إذا علموا أن فلاناً يسأل عن ابنهم فرحوا بهذا وعلموا مقداره عنده وأن له شعوراً يشعر بالمسؤولية ويشعر بفقد الأحبة .
ومن الفوائد الصلاة على القبر ، وفي صحيح مسلم من طريق غندر عن شعبة عن حبيب الشهيد عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر .
وقد قال الإمام أحمد في الصلاة على القبر : ومن ينكر هذا .
ونقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على جواز الصلاة على القبر ، ولكنهم اختلفوا في تحديد المدَّة ، ولكن في هذا الإجماع نظر ، لأن الإجماع إنما وقع على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على القبر .
ولكن قال بعض الفقهاء هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فأين الإجماع حينئذ .
نعم لو قال القائل هذا إجماع من الصحابة لكان وجيهاً فلا يعلم عن صحابي قط أنه منع من الصلاة على القبر ، والأحاديث في هذا كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أما العلماء رحمهم الله فقد اختلفوا في الصلاة على القبر فذهب جماهير العلماء إلى مشرعية الصلاة على القبر وهؤلاء اختلفوا هل لهذا مدة أم لا؟
منهم من قدرها بشهر كالحنابلة ، ومنهم من قدرها إذا لم يبل الميت ، ومنهم من لم يقدر هذا .(1/42)
والصحيح عدم التقدير والتحديد ، ولكن هل يصلى على كل أحد ؟ .
الجواب: لا ، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على قبر كل ميت ولم يكن الصحابة يفعلون هذا ، نعم إذا توفي من يعز عليك أو من كنت تحرص على الصلاة عليه ، وفاتتك الصلاة حينئذ فلا مانع أن تصلي على القبر ، أما ما يفعله الآن بعض العوام عندنا إذا دخل المقبرة قالوا هذا توفي بالأمس وهذا توفي كذا فيصلون جماعات على القبور وهم لا يعرفونهم وليسوا ممن يعز عليهم فقدهم ، وهذا في الحقيقة بدعة في الدين وليس لهذا أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا قاله أحد من الأئمة المتبوعين .
قوله " فصلى عليها " :
ظاهر الحديث أنه صلى عليها ، وصلى عليها من صلى عليها قبلُ ، وجاء هذا مصرحاً به في حديث ابن عباس رضي الله عنهما فنأخذ من هذا قاعدة : أن الشيء يدخل ضمناً وتبعاً ما لا يدخل استقلالاً وهذه قاعدة فقهية عظيمة .
من هذا أيضاً قراءة القرآن في المقابر بدعة ومحرمة ولكن تجوز القراءة ضمن الوعظ والإرشاد فدخلت القراءة ضمناً وتبعاً .
من هذا أيضاً أكل (السرو(1)( استقلالاً لا يجوز لأنه من الخبائث ولكن يدخل ضمناً وتبعاً ضمن التمر فتأكله ضمن التمر لا مانع منه .
وهذه القاعدة مطردة في جميع المسائل فيدخل الشيء ضمناً ما لا يدخل استقلالاً .
قوله : " إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم " :
__________
(1) --( السرو) هو السوس ، وفي لسان العرب مادة (سوس) :السوس العث وهو الدود الذي يأكل الحب واحدته سوسة حكاه سيبويه وكل آكل شيء فهو سوسه دوداً كان أو غيره .(1/43)
هذه الرواية شاذة كما سبق ، وقد احتج بهذه الرواية بعض أهل العلم على منع الصلاة على القبر وإن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لقوله: " وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم " فبين النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة في هذا ، ولكن قد سبق أن هذه الرواية شاذة ، وتقدم أيضاً أن الصلاة على القبر مشروعة ، والعجيب أن بعض الناس يصلي على الجنازة قبل الدفن في المقبرة مع أنه قد صلى عليها من قبل ، وليس هناك دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز الصلاة على الجنازة في المقبرة ومع هذا يمتنع بعض الناس من الصلاة عليها بعد الدفن وهي مشرعة بأحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فالصلاة على القبر بعد الدفن آكد من الصلاة عليها قبل الدفن ، ولذلك الأحوط للمسلم إذا فاتته الصلاة على الجنازة في المسجد وصُلِّيَ عليه في المقبرة ألا يصلي معهم بل ينتظر حتى تدفن فَيُصلِّي عليها لأنه ليس هناك دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة في المقبرة .
إن قال قائل الصلاة عليها قبل الدفن أولى من الصلاة عليها بعد الدفن ؟
الجواب : أن هذا قياس وهو في الحقيقة في مقابلة النص ، وما كان الصحابة في العهد النبوي يصلون على جنائزهم في المقابر ، ولولا ما جاء أيضاً من الآثار عن أبي هريرة وعن غيره من الصلاة على الجنازة في المقبرة لكان هذا الأمر مبتدعاً ، ولكن جاء عن أبي هريرة وعن بعض الصحابة ، وهذا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك منع هذا الإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايتين ، وهو اختيار ابن الماجشون وجماعة من الفقهاء ، فرأوا الصلاة عليها بعد الدفن أولى من الصلاة عليها قبل الدفن ، وقد تقدم بحث هذه القضية على حديث أبي سعيد " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " إلا إن هذا الخبر لا يصح إلا مرسلاً .(1/44)
فقد رواه عمرو بن يحي عن أبيه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ورواه عن عمرو بن يحي جمع فرواه الدراوردي وحماد بن سلمة عن عمرو بن يحي عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم .
بينما رواه السفيانان ( سفيان الثوري و سفيان بن عيينة ) عن عمرو بن يحي مرسلاً ، وهذا أصح ، كما هو اختيار الإمام الدارقطني في العلل ، وبه قال الإمام الترمذي في جامعه لأن السفيانان أوثق بكثير من الدراوردي ومن حماد بن سلمة ومن أمثالهما ممن رفع الحديث .
557- وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - { أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَنْهَى عَنِ اَلنَّعْيِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
الشرح :
وعن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن النعي " رواه أحمد والترمذي من طريق حبيب بن سليم عن بلال بن يحي العبسي عن حذيفة به .
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح هكذا وقع في بعض النسخ
( صحيح ) ، وفي بعض النسخ ( هذا حديث حسن ) ، وهذا هو الذي ذكره الحافظ المزي في تهذيب الكمال ، وهذا هو الذي ذكره الحافظ ابن حجر كما هنا .
وحبيب بن سليم روى عنه جمع من الثقات منهم عبدالله بن المبارك وأبو نعيم وذكره ابن حبان في ثقاته ، والخبر حسنه الحافظ في فتح الباري .
وإسناده لا بأس به لأن حبيباً صدوق على الصحيح .
وللحديث شاهد عند النرمذي في جامعه من طريق عنبسه عن أبي جمرة عن ابراهيم عن علقمة عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والنعي فإنه من عمل أهل الجاهلية " ، وأعله الترمذي رحمه الله بالوقف فقد رواه سفيان عن أبي جمرة فأوقفه ، ثم قال أبو عيسى رحمه الله : وأبو جمرة أسمه ميمون بن الأعور وليس بالقوي عند أهل الحديث .
فيتضح من هذا أن الخبر لا يصح لا موقوفاً ولا مرفوعاً ، والعمدة في هذا خبر حذيفة فلا بأس بإسناده .
قوله " نهى " :(1/45)
الأصل في النهي أن يكون للتحريم ، وهذا قول جماهير الأصوليين كما أن الأصل في الأمر أن يكون للإيجاب ، والصحيح أن النهي للتحريم ما لم يمنع من ذلك مانع ، والموانع كثيرة منها أن ينعقد الإجماع على عدم القول بظاهر الحديث ، ومنها أن يفعل النبي فعلاً يخالف النهي فحينئذ يصح النهي للتنزيه كما قال في المراقي :
وربما يفعل للمكروه مبيناً أنه للتنزيه
فصار في حقه من القرب كالنهي أن يشرب من فم القرب
ومنها أيضاً أن تكون في الحديث نفسه قرينه على عدم التحريم ، وقد جعل الإمام ابن عبدالبر رحمه الله من القرائن هنا أن يكون النهي أدباً .
قوله " عن النعي " :
المراد بالنعي هنا ما يفعله أهل الجاهلية من الإعلام بوفاة الميت على وجه التفاخر والتباهي ، وقد ذكر الإمام الترمذي في جامعه أن بعض أهل العلم منع الإعلام بوفاة الميت مطلقاً ، وأصحاب هذا القول أخذوا النهي من هذا الحديث ، ولكن جاء في حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النجاشي حين توفي أعلم النبي صلى الله عليه وسلم به " ،والحديث في الصحيحين فعُلم أن المراد بالنهي هنا ليس مجرد الإعلام بل هو أمر زائد على الإعلام .
والنعي يشمل أموراً كثيرة منها :
الإعلام بوفاة الميت على وجه التفاخر .
ومنها أن يصحب هذا شيء من النوح ونحو ذلك .
ومنها أن يصحبه ضرب الخدود وشق الجيوب.
أو ذكر أفعاله الباطلة على وجه الافتخار كأن يقال : مات فلان المغنِّي أو اللاعب الفلاني . والله المستعان .
558- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - { أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَعَى اَلنَّجَاشِيَّ فِي اَلْيَوْمِ اَلَّذِي مَاتَ فِيهِ, وَخَرَجَ بِهِمْ مِنَ الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ, وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
الشرح:
قال المؤلف رحمه الله :(1/46)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربعاً.
هذا الخبر متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا إسماعيل قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال مسلم رحمه الله أخبرنا يحي بن يحي التميمي قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب به .
ورواه البخاري ومسلم من طريق الليث بن سعد عن عقيل بن خالد بن عقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة به.
قوله " نعى النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي " :
المراد بالنعي هنا الإعلام بوفاته ، وما جاء في حديث حذيفة السابق من ذم النعي فمحمول على النعي الذي يصحبه تفاخر وتعالي على العباد فالنعي نوعان :
نعي جائز ، وهو إعلام أهل الخير والصلاح بوفاة فلان ليصلوا عليه ويدعوا له بالرحمة لأن الميت ينتفع بكثرة المصلين عليه كما سيأتي إن شاء الله في حديث ابن عباس .
نعي محرم ، وهو الإعلام بوفاة الميت على وجه النوح والسخط أو على وجه التفاخر أو يصحب هذا شيء من الآت المعازف ونحوها.
قوله " النجاشي " :
هو علم على كل من كان ملكاً للحبشة كما أن فرعون علم على كل من ملك في مصر ، وكما أن قيصر علم على ملك الروم وكسرى علم على ملك الفرس وهكذا يقال في أسماء الأعلام .
وليس النجاشي اسم رجل بعينه ، وإنما هو علم على ملك الحبشة وإلا فأسمه (أصحمة ).
قوله " في اليوم الذي مات فيه ":
في هذا علم من أعلام النبوة فلا يستطيع أن يخبر بهذا إلا نبي مرسل وذلك لبعد المسافة بين المدينة وبين الحبشة ، ولما توفي النجاشي أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بوفاته في اليوم الذي مات فيه وهذا علم صريح من أعلام النبوة .
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صلوا على صاحبكم .
قوله " وخرج بهم إلى المصلى " :(1/47)
هذا هو المحفوظ في الحديث ، وأما ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في (البقيع) فالرواية ليست صحيحة ، والمحفوظ في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بهم إلى المصلى .
فيستفاد من هذا مشروعية الصلاة على الجنائز في المصلى ، وأيهم أفضل الصلاة على الجنازة في المصلى أم في المسجد ؟
الجواب : أن الصلاة على الجنازة في المصلى أفضل لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الصحابة من بعده .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في جواز الصلاة على الجنازة في المسجد وذلك على ثلاثة مذاهب لأهل العلم :
المذهب الأول : المنع مطلقاً .
المذهب الثاني : الجواز مطلقاً .
المذهب الثالث : التفصيل ، إذا لم تتخذ عادة فلا مانع من ذلك ، لحديث عائشة في مسلم وسيأتي إن شاء الله ولفظه " ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن بيضاء إلا في المسجد " .
ويمنع من هذا إذا اتخذت عادة لأن هذا لم يكن هدي النبي صلى الله عليه وسلم الراتب .
قوله " وكبر عليه أربعاً " :
أكثر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التكبيرات على الجنائز أنه يكبر أربعاً ، حتى نقل ابن عبدالبر رحمه الله الاتفاق على عدم جواز الزيادة على هذا العدد ، وسيأتي إن شاء الله بحث هذه المسألة ، فقد حفظت الزيادة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جمع من الصحابة رضي الله عنهم وذلك على أهل الصلاح وأهل الفضل والعلم والتقى ومن كان له قدم صدق في الإسلام .
والخبر احتج به الإمام أحمد والشافعي على جواز الصلاة على الغائب ، وهذه المسألة فيها خلاف مشهور بين أهل العلم رحمهم الله وذلك على النحو التالي :(1/48)
ذهب الإمام أحمد والشافعي إلى مشروعية الصلاة على الغائب سواء كان الغائب في بلاد إسلامية أو في بلاد كفرية وهذا هو اختيار الإمام أبي محمد بن حزم رحمه الله ، وقال -رحمه الله- : ولم يأت عن الصحابة خلافه ، وأبو محمد رحمه الله إنما قصد بهذا أنه لم يأت اللفظ الصريح الوارد بالمنع ، ويريد بهذا ويشير إلى أن سكوتهم وعدم ورود شيء يدل على الإنكار حجة في هذه القضية ، وهذه القاعدة لا تسلم لأبي محمد لأن هذا نقل للعدم ، ونقل العدم ليس علماً ، فإن للقائل أن يقول ويحج أبا محمد في هذه القضية ويعكس عليه الأمر رأساً لعقب :
لو كانت الصلاة مشروعة لصُلّيَ على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب ، فهذا نقل لإجماع الصحابة لعدم المشروعية ، فلذلك قضية نقل العدم قضية تحتاج إلى تحرير أكثر ، ولكن المراد أن قول أبي محمد " ولم يأت عن الصحابة خلافه " فيه نظر .
المذهب الثاني : في المسألة أن الصلاة على الغائب لا تشرع مطلقاً ، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ، وأصحاب هذا القول رأوا الخصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الغائب ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على غائب إلا النجاشي فلو كانت الصلاة على الغائب شرعاً لصلى النبي صلى الله عليه وسلم على غيره ممن مات في أرض نائية.
المذهب الثالث : تشرع الصلاة على الغائب إذا مات المسلم في أرض الكفار ولم يوجد من يصلي عليه ، أما إذا مات في بلاد أهل الإسلام وصلوا عليه فلا تشرع صلاة الغائب حينئذ وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم عليهما رحمة الله .
المذهب الرابع : أن صلاة الغائب تشرع على كل من مات من أهل الفضل والصلاح سواء صُلّيَ عليه أم لم يُصلَّ عليه ، وهذا القول هو اختيار ابن سعدي رحمه الله .(1/49)
والأظهر في هذه القضية أن صلاة الغائب لا تشرع إلا لمن مات في ديار الكفار ، والدليل على هذا أن الصحابة لم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب ولا نقل عن صحابي قط أنه صلى على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب ، فلو كانت صلاة الغائب مشروعة لبادر إلى فعلها الصحابة الأخيار فقد كانوا أحرص الناس على الخير ، ويوضح هذا ويبينه أن أبا بكر رضي الله عنه توفي ولم يصل عليه صلاة الغائب ، ثم قتل من بعده عمر ولم يصل عليه صلاة الغائب ، ثم قتل من بعده عثمان ووقعت الفتنة ولم يصل عليه إلا نفر قليل ، وكان الناس يمنعون من الصلاة عليه ، ومع هذا الفعل لم يصل عليه صلاة الغائب ثم قتل من بعده علي رضي الله عنه ولم يصل عليه صلاة الغائب ، ثم مات من بعد ذلك أئمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ولم يصل عليهم صلاة الغائب ولم يكن هذا معروفاً عند أئمة الهدى .
إنما جاءت قضية عينية بالصلاة على النجاشي مجازاة له على فعله بالصحابة حين حماهم واستقبلهم ونصرهم وقال (أنتم سيوم في أرضي) فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكافئه على صنيعه ، وليس هذا شرعاً عاماً للأمة ، هذا ما يظهر في هذه المسألة والعلم عند الله .
559- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا: سَمِعْتُ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: { مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ, فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا, لَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ شَيْئًا, إِلَّا شَفَّعَهُمْ اَللَّهُ فِيهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
الشرح :
قال المؤلف رحمه الله " وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه " رواه مسلم .(1/50)
قال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا هارون بن معروف وهارون بن سعيد الأيلي والوليد بن شجاع السكوني قال الوليد حدثني وقال الآخران حدثنا عبدالله بن وهب قال حدثني أبو صخر عن شريك بن عبدالله بن أبي نمر عن كريب مولى ابن عباس عن عبدالله بن عباس به .
وفي الباب عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه " رواه مسلم من طريق أبي قلابة عن عبدالله بن يزيد رضيع عائشة عن عائشة به .
قوله " ما من رجل مسلم " :
خرج بذلك المشرك فلو صلت عليه أمة الثقلين ما نفعه ذلك شيئاً ودخل بالحديث المسلم الفاسق فإنه ينتفع بكثرة المصلين عليه إذا كانوا لا يشركون بالله شيئاً .
قوله :" فيقوم على جنازته أربعون رجلاً " :
هذا العدد شرط في التشفيع ، فلو نقص العدد لم يحصل الفضل الوارد بهذا الحديث وإن زاد العدد فهذا أفضل وأزكى ولكن هذا العدد مقيد بقوله " لا يشركون بالله شيئاً " ، وشيئاً نكرة في سياق النفي تفيد خلوصهم من الشرك الأكبر والأصغر ، لأن صاحب الشرك الأكبر لا تصح صلاته وصاحب الشرك الأصغر لا تصح شفاعته هنا ، فلا بد من خلو المصلين من نوعي الشرك ففيه أنه لا يفرح بكثرة المصلين ما لم يكونوا متقين ، ولا يضر العبد قلة المصلين عليه ، كما أن كثرة المصلين إذا لم يكونوا متقين لا تنفعه ، لأن الناس وإن كانوا شهداء الله في الأرض إلا أنهم يتعاملون مع الظواهر والله عليم بالبواطن ، فكم من إنسان لا يصلي عليه إلا نفر قليل وقد شهد له بالجنة كعثمان رضي الله عنه ، ما صلى عليه إلا نفر قليل جداً ، وهو ثالث الخلفاء الراشدين وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ، فقلة المصلين ليست علامة على عدم صلاح الرجل ، كما أن كثرة المصلين ليست دليلاً على صلاحه ، ولكن يرجى للمحسنين ويخاف على المسيئين ، ومن علامات الصلاح بإذن الله كثرة المصلين إذا كانوا متقين .(1/51)
قوله " إلا شفعهم الله فيه" :
فيه إثبات الشفاعة للمؤمنين ، وليست الشفاعة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن هناك أنواعاً من أنواع الشفاعة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم كشفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف أن يُقضى بينهم وكشفاعته بدخول أهل الجنة الجنة ، وكشفاعته صلى الله عليه وسلم برفع منازل أهل الجنة ، وكشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه من العذاب .
أما الشفاعة لمغفرة ذنوب المذنبين فليست هذه خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم فإن المؤمن يشفع ، ويشفِّعه الله ، وليس لأحد أن يشفع عند الله إلا بإذنه قال تعالى ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) .
560- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: { صَلَّيْتُ وَرَاءَ اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا, فَقَامَ وَسْطَهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
الشرح:
قال المؤلف رحمه الله :
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها " متفق عليه .
قال الإمام البخاري حدثنا مسدد قال أخبرنا يزيد بن زريع حدثنا حسين حدثنا عبدالله بن بريدة عن سمرة به .
وقال مسلم حدثنا يحي بن يحي قال أخبرنا عبدالوارث بن سعيد عن حسين المعلم به.
والخبر دليل على بيان صفة الصلاة على المرأة ، ويجزئ الوقوف أمامها سواء كان عند رأسها أو في وسطها أو عند رجليها .
والمستحب الوقوف وسطها عند عجيزتها ، وهذا الحكم خاص بالصلاة على المرأة كما هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله وجماعة من الأئمة .
وذهب الإمام أبو حنيفة والبخاري وجماعة من أهل العلم إلى عموم هذا الحكم في المرأة والرجل ، فكما أنه يقف وسط المرأة يقف أيضاً وسط الرجل وفي هذا نظر فقد روى الإمام أبو داود بسند قوي من طريق عبدالوارث عن أبي غالب وهو ثقة عن أنس بن مالك أن النبي صلى على رجل فوقف عند رأسه" .(1/52)
وهذا الخبر احتج به فقهاء الحنابلة وجماهير العلماء سلفاً وخلفاً على التفريق بين الرجل والمرأة ، والخلاف هنا خلاف استحباب وليس خلاف إيجاب ، فلو وقف الجميع عند رأسه أو عند البطن أو عند القدمين أجزأ ، إنما القضية قضية أفضلية وأولوية فالأولى أن يقف الإمام عند رأس الرجل ، ويقف عند عجيزة المرأة وإذا اجتمع رجل وامرأة يجعل عجيزة المرأة عند رأس الرجل ويقف عند رأس الرجل مقدماً له على المرأة ويكبر عليهما جميعاً وإذا أُتي بجنازة بعد هذا تجعل خلفهم وهكذا.
561- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: { وَاَللَّهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى اِبْنَيْ بَيْضَاءَ فِي اَلْمَسْجِدِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الشرح:
قال المؤلف رحمه الله :
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد " رواه مسلم .
قال مسلم رحمه الله حدثنا هارون بن عبدالله ومحمد بن رافع واللفظ لابن رافع قال أخبرنا أبن أبي فُديك أخبرنا الضحاك بن عثمان عن أبي النظر عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أن عائشة لما توفي سعد بن أبي وقاص قالت : أدخلوا به المسجد حتى أصلي عليه فأُنكر ذلك عليها فقالت والله ..)الحديث.
وفي الباب عند أبي داود من طريق ابن أبي ذئب عن أبي صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له " .
وهذا الخبر احتج به أبو حنيفة رحمه الله على منع الصلاة على الجنازة في المسجد ولكن هذا الخبر معلول فإن أبا صالح مولى التوأمة ضعفه يحي بن سعيد حتى جاء عن مالك أنه كذبه ، ولينه أبو حاتم والنسائي وغيرهما .(1/53)
وجاء عن أحمد أنه قال : لا بأس برواية القدامى عنه ، وقد جعل ابن عدي رحمه الله في (الكامل) رواية ابن أبي ذئب من القدامى ، والحق في أبي صالح انه ضعيف مطلقاً سواء روى عنه القدامى أو لم يروي عنه القدامى ، ولا ريب أن رواية القدامى عنه أحسن حالاً من غيرها ولا يقتضي هذا قبوله خصوصاً إذا تفرد.
وأُعل الخبر أيضاً بأن المحفوظ فيه " فلا شيء عليه " كما وضح هذا ابن القيم رحمه الله في (تهذيب السنن ).
وأيضاً لو صح الخبر لكان الواجب الجمع بينه وبين حديث عائشة في الباب ، فحديث عائشة يدل على جواز الصلاة على الجنازة في المسجد وظاهر السياق أن هذا الفعل لم يكن معروفاً على وجه الدوام إذ لو كان معروفاً ما أنكر الصحابة رضوان الله عليهم على عائشة ، ولذلك ذكر ابن القيم رحمه الله أن المستحب الصلاة على الجنازة في الصحراء ولا مانع من الصلاة عليها في بعض الأحيان في المساجد .
قولها " لما توفي سعد بن أبي وقاص " :
سعد رضي الله عنه هو ابن مالك أحد العشرة المبشرين بالجنة وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله فأدمى وكان مستجاب الدعوة ، وقد توفي سنة (51) وقيل سنة (56) قال الحافظ في الإصابة وهذا أشهر .
قولها" ادخلوا به المسجد " :
فيه جواز طلب مثل هذا للمرأة كأن تطلب المرأة الدخول بالجنازة إلى المسجد لتصلي عليه ، لأن عائشة طلبت أن يدخل بسعد إلى المسجد لتصلي عليه وفيه جواز صلاة المرأة على الجنازة ، وفيه جواز الصلاة على الجنازة في المسجد ولكن الأفضل الصلاة عليها في الصحراء .
قولها : " فأنكر ذلك عليها " :
أي أنكر عليها الصحابة رضي الله عنهم ولعلهم لم يبلغهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد ، وإلا لما أنكروا لما علم عنهم من الانقياد .
قولها " والله " :
فيه جواز الحلف بدون استحلاف .
وقولها : والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد :(1/54)
فحينئذ مُكنت عائشة رضي الله عنها من الصلاة على الجنازة ،وفيه ما عليه الصحابة رضي الله عنهم من قبول الحق والإذعان لذلك ، وفيه أن الواجب على المسلم الإدلاء بمحجته إذا فعل أمراً ينكره العامة أو ينكره بعض طلبة العلم ، ليسلم أولاً من قيل وقال ، ويُعلِّمَ غيره ثانياً ، مع أن الواجب على المسلم ألا يبادر بالإنكار حتى يسأل عن الحجية ولذلك جاء في صحيح مسلم من حديث هشيم عن حصين بن عبدالرحمن قال : كنت عند سعيد بن جبير فقال: من منكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ، فقلت : أنا ، ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ولكني لُدغت ، قال : فما صنعت ؟ قال: ارتقيت ، قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي عن بريدة بن الحصيب أنه قال : لا رقية إلا من عين أو حُمَة ، قال : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ولكن ، حدثنا ابن عباس )إلى آخره ، فهذا الأثر فيه التثبت والسؤال عن الحجة والإرشاد إلى حجة أقوى منها .
562- وَعَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: { كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا, وَإِنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا, فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكَبِّرُهَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ .
الشرح:
وعن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال كان زيد بن أرقم رضي الله عنه يكبر على جنائزنا أربعاً ، وإنه كبر على جنازة خمساً فسألته فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها " رواه مسلم والأربعة .
قال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار قالوا : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة ، وقال أبو بكر : عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال " الحديث .
ورواه أحمد وأهل السنن كلهم من طريق شعبة عن عمرو بن مرة به .(1/55)
وقد تقدم حديث الزهري في الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على النجاشي أربعاً " .
وإلى هذا ذهب جماهير العلماء يرون التكبير أربعاً وذلك على عامة الناس سواء كانوا علماء أم لم يكونوا ، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على هذه المسألة وذلك لما روى عبدالرزاق في المصنف عن الثوري عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرون خمساً وستاً وسبعاً فجمعهم عمر رضي الله عنه على أربع " .
قد حسن هذا الإسناد الحافظ أبن حجر ، وهذا هو المشهور عن عمر رضي الله عنه ولكن ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنه لا مانع من الزيادة لأنه أمر فعله النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز العدول عنه ، وأما اختيار عمر رضي الله عنه لأربع فلعله لما رأى أن الناس لا يتقيدون بعدد ، وكان يعلم أن الأمر واسع في التكبير جمعهم على أربع ولذلك صح عن ابن عباس أنه يكبر ثلاثاً ) رواه عبدالرزاق في المصنف.
فلذلك قال بعض أهل العلم بعدم تقييد العدد وفي هذا القول نظر ، والصحيح أنه لا يجوز النقص عن أربع تكبيرات ، وأما الزيادة فالقول الراجح أنه لا مانع منها ، فنهي عمر عن الأربع كإنفاذ الثلاث في الطلاق ، لما روى مسلم رحمه الله في صحيحه من طريق عبدالرزاق عن معمر عن عبدالله بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال : كان الطلاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر كان طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر إن الناس قد استعجلوا شيئاً كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم) .(1/56)
وهذا لا يعني تغيير هذا الحكم كما قرره ابن القيم في إعلام الموقعين ، فإن الأحكام قد يجتهد فيها العالم في وقت ما ولا يقتضي هذا تغيير الحكم على وجه العموم وعلى الإطلاق حيث يبقى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم معزولاً على وجه الدوام وكذلك التكبير يمكن حمل الزيادة على الأربع في حق العلماء وأهل الخير والصلاح ومن لهم جهود تجاه هذا الدين فلذلك كبر زيد على هذه الجنازة خمساً واستدل بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخبر عن نفسه ، يوضح هذا حديث علي رضي الله عنه :
563- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - { أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا, وَقَالَ: إِنَّهُ بَدْرِيٌّ } رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَأَصْلُهُ فِي "اَلْبُخَارِيِّ.
الشرح:
وعن علي رضي الله عنه أنه كبر على سهل بن حنيف ستاً وقال : " إنه بدري " فدل الخبر على جواز التكبير بهذا العدد على أهل الخير وأهل الصلاح .
قد قال الحافظ رحمه الله رواه سعيد بن منصور وأصله في البخاري حيث رواه البخاري رحمه الله من طريق ابن عيينة عن عبدالرحمن بن عبدالله الأصفهاني عن عبدالله بن معقل عن علي رضي الله عنه ..الحديث ) ولم يذكر البخاري رحمه الله عدداً في روايته ، ولكن جاء ذكر العدد عند الحاكم وسعيد بن منصور وغيرهما ، ولكن جاء في بعض الروايات أنه كبر خمساً ، وهذا لا يغير من الحكم شيئاً لأن المراد أنه زاد على الأربع ، وروى الإمام الطحاوي والدارقطني والبيهقي وغيرهم من طريق (عبد خير) قال : كان علي رضي الله عنه يكبر على أهل بدر ستاً وعلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعلى سائر المسلمين أربعاً " .
وهذا سند صحيح إلى علي رضي الله عنه ، ولا ريب أن علياً رضي الله عنه فعل هذا بمحضر من الصحابة ولو كان فعله غلطاً لأنكروا عليه .(1/57)
وعلم من هذا الأثر جواز الزيادة على الأربع وهو الحق فلا مانع من كون الإمام يزيد على الأربع على العلماء العاملين وعلى طلبة العلم الذبن لهم جهود تجاه هذا الدين وعلى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وأما سائر الناس فيكبر عليهم أربعاً ولا يزيد على هذا العدد ، والله أعلم .
564- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: { كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا وَيَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ اَلْكِتَابِ فِي اَلتَّكْبِيرَةِ اَلْأُولَى } رَوَاهُ اَلشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ .
الشرح:
قال المؤلف رحمه الله :
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر على جنائزنا أربعاً ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى " .
رواه الإمام الشافعي رحمه الله فقال حدثنا ابراهيم بن أبي يحي قال أخبرنا عبدالله بن محمد بن عقيل عن جابر به .
وابراهيم شيخ الشافعي هو ابن محمد قال عنه القطان كذاب وقال يحي بن معين : رافضي خبيث ، وقال عنه الإمام أحمد رحمه الله :جهمي قدري كل بلاء فيه ترك الناس حديثه ، وتركه أيضاً الإمام أبو حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم ، ولم أر هذا الخبر إلا من طريقه عن ابن عقيل وهو مختلف فيه ، وقد وثقه الإمام أحمد في رواية وصحح له جملة من الأحاديث ووثقه أيضاً البخاري وصحح له أيضاً بعض الأحاديث ، ووثقه إسحاق والحميدي والترمذي وغيرهم ، وضعفه جماعة منهم الإمام أحمد في رواية وابن عيينة وأبو داود وغيرهم ، وقد تقدم الكلام عنه وأنه صدوق حسن الحديث إذا لم يُخالف أو يتفرد بأصل ،... (1)لم يصحح حديثه أحد الأئمة الكبار .
قوله " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر على جنائزنا أربعاً " :
__________
(1) -هنا بياض . ولعله (أو) لم يصحح حديثه ....(1/58)
تقدم حديث الزهري في الصحيحين عن سعيد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى وكبر عليه أربعاً " ، وتقدم أيضاً أنه لا مانع من الزيادة في عدد التكبيرات على أهل الفضل والصلاح والعلماء والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر .
ومن نقل الإجماع على وجوب الاقتصار على أربع فقد غلط ، وقد كان علي رضي الله عنه يكبر على المهاجرين ستاً ، والأثر صحيح إلى علي .
وتقدم أيضاً أنه كبر على زيد ستاً ، وتقدم فعل زيد بن أرقم أنه كبر خمساً
وقال:( قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم) والخبر في مسلم .
قوله " ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى " :
وبهذا قال الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وقالوا لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن بينما ذهب الإمام أبو حنيفة ومالك ، ومروي عن ابن عمر بسند صحيح في الموطأ وهو قول أبو هريرة كما هو في الموطأ بسند صحيح أنه لا قراءة في صلاة الجنائز إنما هو الدعاء والثناء على الميت .
والقول الأول أصح فإن الفاتحة مشروعة في الصلاة على الجنازة وتكون بعد التكبيرة الأولى ، قال الإمام النسائي رحمه الله حدثنا قتيبة بن سعيد قال أخبرنا الليث بن سعد عن الزهري عن أبي أمامة قال : السنة في الصلاة على الجنائز أن يقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب مخافتة " والخبر رواته كلهم ثقات وقد سمع الزهري من أبي أمامة .
والعلماء في قضية قراءة الفاتحة على الجنائز على مذاهب :
المذهب الأول : أنها واجبة وهذا قول أحمد والشافعي .
المذهب الثاني :أنها غير مشروعة وهذا مذهب أبي هريرة وابن عمر وبه قال مالك وأبو حنيفة وجمع من العلماء وهؤلاء لم تبلغهم الأخبار في قراءة الفاتحة.
المذهب الثالث : أن الإمام مخير بين القراءة وعدمها ، والقول الأول أصح .(1/59)
565- وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: { صَلَّيْتُ خَلَفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ, فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الكْتِابِ فَقَالَ: "لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ" } رَوَاهُ اَلْبُخَارِيّ .
الشرح:
قال المؤلف رحمه الله : وعن طلحة بن عبدالله بن عوف رضي الله عنه قال :صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب فقال : ليعلموا أنها سنة " رواه البخاري.
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا محمد بن بشار قال أخبرنا غندر عن شعبة عن سعد بن ابراهيم عن طلحة بن عبدالله بن عوف " الحديث .
ورواه الإمام الترمذي من طريق عبدالرحمن بن مهدي قال أخبرنا سفيان عن سعد بن ابراهيم به .
ولكن رواه ابن الجارود في المنتقى من طريق محمد بن يوسف قال أخبرنا سفيان عن زيد بن طلحة عن ابن عباس وفيه " قرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر بالقراءة " والخبر رواته كلهم ثقات ، وزيد بن طلحة وثقه أبو حاتم وغيره ، ولكن المحفوظ عن سفيان ما رواه عنه الترمذي من طريق ابن مهدي عنه .
وقد رواه أيضاً الإمام النسائي من طريق إبراهيم بن سعد قال حدثني أبي عن طلحة ، فذكر فيه "بفاتحة الكتاب وسورة " .
ورواه أيضاً إبراهيم بن حمزة عن إبراهيم بن سعد به .
قال البيهقي في السنن الكبرى على قوله " وسورة " : هي غير محفوظة ، وتعقبه ابن التركماني رحمه الله فقال: بل هي محفوظة .
الخبر رواه سعد بن إبراهيم عن طلحة بن عبدالله بن عوف ، ورواه عن سعد شعبة وسفيان بلفظ الفاتحة فقط .
ورواه أحمد بن يوسف عن سفيان عن زيد بن طلحة بزيادة " سورة " ، توبع سفيان على هذه الرواية ، تابعه إبراهيم بن سعد ، ولكن عن أبيه عن طلحة بن عبد الله .(1/60)
وقد اقتصر البخاري رحمه الله على رواية شعبة عن سعد بن إبراهيم بدون ذكر السورة ، ولعل هذا أقرب إلى الصواب ، لأن شعبة رحمه الله أوثق من ابراهيم بن سعد ، وقد تابع شعبة سفيان والراوي عن سفيان هو ابن مهدي وهو ثقة ثبت ، خالف محمد بن يوسف وهو أقل مرتبة من عبدالرحمن فرواه عن سفيان عن زيد بن طلحة ولم يذكر طلحة بن عبدالله والمحفوظ عن سفيان الأول .
فتعين بهذا ترجيح رواية شعبة بالاقتصار على فاتحة الكتاب دون سورة ، والأمر كما قال البيهقي رحمه الله " ذكر السورة غير محفوظ " ، وبهذا يتضح أن ثقة الرواة لا يلزم منها صحة الإسناد .
قوله " صليت خلف ابن عباس ..."الخ :
ظاهره أن ابن عباس جهر بالقراءة وجاء هذا الظاهر مصرحاً به في كثير من الطرق وقد اختلف العلماء في حكم الجهر بقراءة الفاتحة ، وتقدم عندنا خبر أبي أمامة : ( السنة المخافتة فيها ) وبهذا قال أحمد رحمه الله قال : يسرّ بفاتحة الكتاب ، وعنه: يجهر للتعليم ، كما كان عمر يجهر بالإستفتاح ليعلمهم .
وذهب فريق ثالث إلى مشروعية الجهر بالفاتحة مطلقاً وفي هذا نظر لأن ابن عباس إنما جهر ليعلمهم السنة .
وأما حكم قراءة الفاتحة فقد تقدم أنها واجبة على الصحيح .
قوله " ليعلموا أنها سنة " :
إذا قال الصحابي لتعلموا أنها سنة أو من السنة كذا وكذا فهل لذلك حكم المرفوع أم لا ؟ .
الصحيح أن الصحابي إذا قال من السنة كذا وكذا فلهذا حكم الرفع كما هو قول جماهير العلماء ، قال العراقي في ألفيته :
قول الصحابي من السنة أو نحو أمرنا حكمه الرفع ولو
بعد النبي قاله بأعصر على الصحيح وهو قول الأكثر
أما إذا قال لتعلموا أنها سنة فيحتمل أن يكون قال هذا استنباطاً ويحتمل أن يكون قال هذا أو فعله نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو الذي رجحه أكثر أهل العلم بهذا الحديث .(1/61)
وقالوا المراد بقول ابن عباس " ليعلموا أنها سنة " أي سنة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة وليس مراد ابن عباس في السنة في هذا الخبر المرادفة للمستحب فهذا اصطلاح حادث لا يصح تنزيل الأدلة هنا عليه إنما مراده رضي الله عنه أنها شرع ثابت وهذا بصرف النظر هل هي واجبة أم مستحبة .
566- وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: { صَلَّى رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ: "اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ, وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ, وَاعْفُ عَنْهُ, وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ, وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ, وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ, وَنَقِّهِ مِنْ اَلْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ اَلثَّوْبَ اَلْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ, وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ, وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ, وَأَدْخِلْهُ اَلْجَنَّةَ, وَقِهِ فِتْنَةَ اَلْقَبْرِ وَعَذَابَ اَلنَّارِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
الشرح:
قال المؤلف رحمه الله : وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعاءه " اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله ، وأدخله الجنة وقه فتنة القبر وعذاب النار " رواه مسلم رحمه الله .
قال مسلم حدثنا هارون بن سعيد الأيلي أخبرنا ابن وهب أخبرني معاوية بن صالح عن حبيب بن عبيد عن جبير بن نفير سمعه يقول سمعت عوف ..الحديث .
ورواه مسلم رحمه الله من طريق عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه به .
ورواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه كلهم من طريق حبيب بن عبيد قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ، ونقل عن البخاري أنه قال هذا أصح شيء ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب .(1/62)
قوله " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة " :
الصلاة على جنازة فرض كفاية إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين ،ولا يصح دفن الجنازة قبل الصلاة عليها ، فإن فعل هذا هل تنبش للصلاة عليها أم يصلى على القبر ؟ قولان للفقهاء في هذه القضية :
القول الأول : أنها تنبش للصلاة عليها .
القول الثاني : يكتفى بالصلاة على القبر ، وهذا هو اختيار النووي رحمه الله.
أما إذا دفنت قبل أن تغسل ، الصحيح أنها تنبش لتغسل ثم تدفن .
قوله " فحفظت من دعاءه " :
يحتمل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر به ليعلمهم ، ويحتمل هذا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أعلمه به ، وفي هذا نظر لأن عوفاً يقول:حفظت من دعاءه ، أي حين كان وراءه يصلي ، ثم اختلف أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة فقال بعض الفقهاء يجهر بالدعاء مطلقاً ، وقال بعضهم للتعليم فقط وهذا هو الصحيح .
والأصل في الدعاء الإسرار ولا يجهر إلا بقصد التعليم ، وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على هذا " اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله ) (وزوجاً خيراً من زوجه ) وهذه اللفظة لم يذكرها الحافظ رحمه الله مع أنها موجودة في صحيح الإمام مسلم ، فقد ذكر السيوطي رحمه الله أن هذه اللفظة تقال في حق الرجل ، وأما في حق المرأة فلا تقال لأن زوجها في الدنيا هو زوجها في الآخرة إن كان من أهل الجنة ، والأزواج في حق المرأة لا يتعددون ، بخلاف الرجل فإن زوجاته تتعدد فلذلك يقال ( وأبدله زوجاً خيراً من زوجه ) ، وسيأتي إن شاء الله حديث أبي هريرة في الدعاء للميت وأنه يقال أولاً ثم يثنى بهذا الدعاء المذكور في حديث عوف بن مالك لأن حديث أبي هريرة حديث عام في الدعاء للمسلمين عموماً وأما حديث عوف فإنه دعاء خاص .(1/63)
وأما الدعاء للفرط والسقط فلم يثبت بهذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن صح عن أبي هريرة أنه كان يقول " اللهم قه عذاب النار " رواه مالك وابن أبي الدنيا في كتاب العيال .
567- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: { كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ يَقُولُ: "اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا, وَمَيِّتِنَا, وَشَاهِدِنَا, وَغَائِبِنَا, وَصَغِيرِنَا, وَكَبِيرِنَا, وَذَكَرِنَا, وَأُنْثَانَا, اَللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى اَلْإِسْلَامِ, وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى اَلْإِيمَانِ, اَللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ, وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ, وَالْأَرْبَعَةُ .
الشرح:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة يقول " اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان ، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده " .
يقول المؤلف رواه مسلم والأربعة ، والخبر لم يروه الإمام مسلم فهذا إما غلط من الناسخ أو سبق قلم من الحافظ رحمه الله ، والظاهر الأول لأن مثل هذا لا يخفى على مثل الحافظ ابن حجر رحمه الله وذلك لوجهين :
الوجه الأول : أن هذا الحديث مختلف فيه وأكثر الأئمة على تضعيفه فيبعد أن يختلط على الحافظ مثل هذا .
الوجه الثاني : أن الحافظ حين خرجه بالتلخيص لم يعزه إلى الإمام مسلم فعلم أن هذا من الناسخ وليس من الحافظ .
وهذا الخبر رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة كلهم من طريق يحي بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة .(1/64)
وأعله الإمام أبو حاتم بالعلل فقال : والحفّاظ لا يقولون فيه أبو هريرة ، يذكرونه عن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال الإمام الترمذي في جامعه ورواه هشام الدستوائي وعلي بن المبارك عن يحي بن أبي كثير عن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً .
وقد ذكره الترمذي معلقاً من طريق عكرمة بن عمار عن يحي بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عائشة رضي الله عنها ، قال الترمذي : وهذا غير محفوظ . وهذا صحيح فإن عكرمة يغلط ويضطرب بأحاديث يحي بن أبي كثير وقد قال الإمام أحمد: عكرمة عن يحي مضطرب الحديث قال عبدالله فقلت له : مِن يحي الاضطراب ؟ قال : لا ، من عكرمة .
ورواه أحمد في مسنده من طريق همام عن يحي بن أبي كثير عن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم به .
وأيضاً هذا معلول .
ورواه الإمام الترمذي في جامعه أيضاً وابن الجارود في المنتقى من طريق يحي بن أبي كثير عن أبي ابراهيم الأشهلي عن أبيه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فذكره .
قال أبو حاتم: وأبو إبراهيم وأبوه مجهولان لا يعرفان .
ولكن الترمذي رحمه الله قال : وهذا حديث حسن صحيح .
وقد رجح الإمام البخاري طريق يحي عن أبي إبراهيم وجعله هو المحفوظ ، والخبر فيه نوع اضطراب ، وأصح طريق له هو طريق يحي عن أبي إبراهيم الأشهلي كما رجح هذا الإمام البخاري رحمه الله ، وأصح حديث ورد في الدعاء للميت هو حديث عوف السابق قاله الإمام أبو عبدالله البخاري رحمه الله .
وللمسلم أن يدعو بما أحب إذا صلى على الميت قاله أصحاب الإمام أحمد رحمه الله .(1/65)
فليس الدعاء في الصلاة على الميت توقيفياً فللمسلم أن يدعو بما شاء إلا أن الأولى أن يقتصر المصلي على الوارد ، فإذا فرغ من الوارد له أن يدعو بما يناسب الحال والأولى أن يكرر الدعاء له بالمغفرة لأنه محتاج إليها ، وإن كرر " اللهم قه عذاب النار " فلا بأس بهذا ، فقد تقدم في حديث عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول " اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله وأدخله الجنة وقه فتنة القبر وعذاب النار " ، وقد استحب بعض الفقهاء أن يقدم الدعاء المذكور في حديث أبي هريرة لأنه دعاء عام ثم يثني بحديث عوف بن مالك .
والدعاء للميت يكون بعد التكبيرة الثالثة لما روى عبدالرزاق في المصنف وابن الجارود في المنتقى من طريقه قال أنبأنا معمر عن الزهري قال سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف يحدث ابن المسيب ويقول:( السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلص في الدعاء للميت ).
وصفة الصلاة عليه أن يكبر أولاً تكبيرة الإحرام ويرفع يديه في الأولى للإجماع عليها ثم يستعيذ ويبسمل ويقرأ أم الكتاب وقراءتها واجبة كما سبق بحث هذه المسألة ، ثم يكبر الثانية وهل يرفع يديه أم لا ؟ قولان عند الفقهاء:
فقد روى البخاري في جزء رفع اليدين من طريق عبيدالله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر ( أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة ) وهذا سند صحيح إلى ابن عمر ،ورواه البيهقي في السنن الكبرى وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما من طرق كثيرة .(1/66)
القول الثاني في المسألة : أنه لا يرفع يديه لأن هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح قياس صلاة الجنازة على الفريضة إلا في الأولى ، أما تكبيرات الزوائد فلا نظير لها ، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على الجنائز بضعة عشر عاماً ولم ينقل عنه صحابي قط أنه كان يرفع يديه في الزوائد ومثل هذا توفر الهمم والدواعي على نقله فلو كان يرفع يديه لنقل لنا وأما فعل عبدالله فهذا محض اجتهاد ، وقد حفظ عن عبدالله مسائل كثيرة اجتهد فيها كما كان يدخل الماء عينيه حتى عمي ولم يوافقه على ذلك أحد .
ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه التكبيرة ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم وصف لهذه الصلاة إلا أن الأولى أن يقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد " ، وإذا اقتصر على قوله " اللهم صل وسلم على محمد " صح وأجزأ .
ثم يكبر التكبيرة الثالثة ويدعو للميت ثم يكبر التكبيرة الرابعة وإن دعا لا مانع
ثم يسلم .
وهل يسلم تسليمة واحدة أم يسلم تسليمتين ؟.
قولان لأهل العلم يأتي ذكرهما وذكر الراجح منهما إن شاء الله .
قال عبدالله بن مسعود ثلاث خلال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن تركهن الناس إحداهن التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة " رواه البيهقي .
568- وَعَنْهُ أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: { إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى اَلْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ اَلدُّعَاءَ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
الشرح:(1/67)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء " رواه أحمد وأبو داود وابن حبان في صحيحه والبيهقي كلهم من طريق محمد بن سلمة عن محمد بن اسحاق عن محمد بن ابراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وقد صرح ابن اسحاق بالسماع عند ابن حبان والحديث حسن .
وفي الباب حديث عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، وقد سبق ذكره وفيه ( ويخلص الدعاء للميت ) .
وفي الحديث دليل على استحباب إخلاص الدعاء للميت ، وظاهر الحديث الأمر بهذا والأصل في الأمر عند جماهير الأصوليين أنه للإيجاب قال في المراقي :
وافعل لدى الأكثر للوجوب وقيل للندب أو المطلوب
وقيل للوجوب أمر الرب وأمر من أرسله للندب
فجماهير العلماء يرون أن الأمر يقتضي الإيجاب إلا لصارف ، والنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بهذا الحديث إذا صلينا على الميت أن نخلص له الدعاء إلا إن الجمهور حملوا هذا الأمر للاستحباب دون الإيجاب ، ولكن الأصل حمله على الإيجاب إلا بقرينة تدل على الاستحباب .
ويستفاد من الحديث أن الميت ينتفع بالدعاء له ، فلو لم يكن ينتفع ما كان لدعائنا فائدة ، وقد احتج شيخ الإسلام بهذا على أن الدعاء يصل إلى الأموات قال النووي رحمه الله في الأذكار النووية : وهذا بالإجماع .
والحق أيضاً أن جميع القرب تصل إلى الأموات سواء كانت القربة بدنية أو القربة مالية وقد سبق تقرير هذا مراراً وذكرنا الأدلة على هذه القضية وأقوال العلماء فيها وستمر بنا إن شاء الله مرة أخرى ونذكر مباحثها وما يتعلق بها.
وقد تقدم عندنا حديث أبي قلابة عن رضيع عائشة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من ميت يصلي عليه أمة من الناس يبلغون مائة كلهم يشفعون فيه إلا شفعوا فيه " .
وهذا دليل على إنتفاع الميت بالدعاء وهو شاهد في المعنى لحديث الباب .(1/68)
569- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: { أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ, فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ, وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
الشرح:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه ، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم " متفق عليه .
قال البخاري رحمه الله حدثنا علي بن عبدالله قال حدثنا سفيان قال حفظناه من الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وقال مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعاً عن ابن عيينة.
ورواه مسلم من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبي هريرة به .
قال الحافظ في فتح الباري وهذا محمول على أن للزهري شيخين فيه .
قوله " أسرعوا بالجنازة ":
اختلف العلماء في المراد بهذا الحديث على قولين :
القول الأول : أن المعنى أسرعوا بتجهيزها ، وأصحاب هذا القول أيدوا رأيهم بقوله " لا ينبغي لجنازة أن تحبس بين ظهراني أهله " وهذا الخبر رواه أبو داود في سننه وفي إسناده مقال .
القول الثاني: أن المعنى أسرعوا الخطى بالذهاب بها إلى المقبرة فقد جاء عند أبي داود بسند قوي من طريق عيينة بن عبدالرحمن عن أبيه أن أبا بكرة رضي الله عنه قال " كنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نرمل بها رملاً " .
ولا يبعد أن يقال أن الحديث يشمل المعنيين فيكون المعنى أسرعوا بتجهيزها والمشي بها لدفنها فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم .
فقد رجح بعض أهل العلم المعنى الثاني لقوله " فشر تضعونه عن رقابكم " ، وقد يجاب عن هذا فيقال أن المعنى " فشر تضعونه عن رقابكم " أي الأمانة التي حملتم إياها من الإسراع في تجهيزها ودفنها .(1/69)
وقد يقال أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى المعنى الثاني للانتهاء من المعنى الأول .
والمقصود أن الحديث على القول الراجح يشمل المعنيين يشمل الإسراع بتغسيلها وتجهيزها كما أنه يشمل الإسراع بالذهاب بها إلى المقبرة ، ولكن دون جري ودون المشي بها خطوة خطوة ، يقول ابن القيم رحمه الله : وهذا من البدع .
ونستفيد من ظاهر الحديث استحباب المشي بالجنازة دون الركوب بها .
570- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { "مَنْ شَهِدَ اَلْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ, وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ". قِيلَ: وَمَا اَلْقِيرَاطَانِ? قَالَ: "مِثْلُ اَلْجَبَلَيْنِ اَلْعَظِيمَيْنِ" } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِمُسْلِمٍ: { حَتَّى تُوضَعَ فِي اَللَّحْدِ }.
وَلِلْبُخَارِيِّ: { مَنْ تَبِعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا, وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطَيْنِ, كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ } .
الشرح:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط , ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان " قيل : وما القيراطان قال : مثل الجبلين العظيمين " متفق عليه .
قال البخاري رحمه الله حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد قال حدثنا أبي قال أخبرنا يونس عن الزهري قال حدثنا عبدالرحمن بن الأعرج عن أبي هريرة به .
ورواه مسلم رحمه الله من طريق ابن وهب عن يونس به .
وقوله " ولمسلم :حتى توضع في اللحد ":
جاءت هذه الرواية من طريق عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بها .(1/70)
وقوله " وفي رواية للبخاري من حديث أبي هريرة " من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين كل قيراط مثل جبل أحد " :
وهذه الرواية جاءت في الصحيح من طريق روح قال حدثنا عوف عن الحسن ومحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وفي الباب عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط فإن تبعها فله قيراطان " وهذا الخبر يوضح أن أحد القيراطين يحصل بمجرد الصلاة عليها ويتم القيراط الثاني بشهودها حتى تدفن .
قوله " من شهد " :
ترد هذه اللفظة في لغة العرب على أربعة معاني :
المعنى الأول : بمعنى حضر كما في قول الله تعالى :(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه)ُ.
المعنى الثاني : بمعنى مطَّلِع قال الله تعالى ( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) أي مطَّلِع .
المعنى الثالث : بمعنى الإخبار ، من هذا القبيل قول عبدالله بن عباس : شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر " بمعنى أخبر ، والحديث في الصحيحين .
المعنى الرابع : بمعنى الإقرار والاعتراف ومن هذا القبيل قول المسلم " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله " .
قوله " حتى يصلى عليها ":
ظاهر هذه الرواية أن القيراط الأول لا يتم إلا بتشييعها والصلاة عليها بينما ظاهر حديث سهيل السابق أن القيراط يتم بمجرد الصلاة عليها ويمكن الجمع بينهما بأن يقال :إذا شهدها حين تشيع ثم صلى عليها صار قيراطه أعظم ممن اقتصر على الصلاة عليها لأن القراريط تختلف وبعضها أكثر من بعض وأثقل في الميزان .
وفي الحديث دليل على فضل اتباع جنازة المسلم والصلاة عليها وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث البراء قال أمرنا رسول الله بسبع ونهانا عن سبع أمرنا باتباع الجنائز " الحديث .(1/71)
وجاء في الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " حق المسلم على المسلم خمس " ومنها اتباع جنازته .
وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في حكم اتباع الجنائز :
فذهب أكثر أهل العلم إلى الاستحباب.
وذهب بعضهم إلى الإيجاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهذا .
والصحيح التفصيل : فإنه لا ريب أن اتباع كل جنازة يشق ولا يمكن أن يقال بوجوبه ، والصحيح في هذه المسألة أن يقال أنه يجب إتباع جنازة كل من كان له عليك فضل من قريب حميم أو رحم ونحو ذلك وأما من عداهم فيستحب اتباع جنازته .
واتباع الجنائز فيه فضائل للتابع والمتبوع فإن المتبوع ينتفع بدعاء المسلمين له ،والتابع يستفيد من الأجر المترتب على إتباع جنازته والصلاة عليه ولربما قيل انصرفوا مغفوراً لكم .
فإن قال قائل :من صلى عليه فله قيراط ، لماذا مثَّل بالقيراط ؟.
الجواب : لما كان القيراط معروفاً عندهم ومشهوراً مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم به لئلا يستشكل أمره ، فقد كانت أمثلة النبي صلى الله عليه وسلم تقريباً للأذهان ، وكما أنه صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً بحمر النعم في حديث سهل بن سعد والحديث في الصحيحين ، وكما أنه صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً للمسلم وشبهه بالنخلة والحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر ، ولهذا نظائر .
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن القيراطين مثل الجبلين العظيمين ، يؤخذ من هذا عظم ثواب من اتبع الجنازة حتى يصلى عليها ثم تبعها حتى تدفن .
خرج من هذا من اتبع جنازة مجاملة أو مداراة أو تطييباً لأهله ، فمثل هؤلاء وإن كانوا يؤجرون بمداراتهم ولتطييب خواطر أهليهم ، ولكنهم لا يدخلون ولا ينالون هذا الأجر المرتب عليه في هذا الخبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إيماناً واحتساباً " أي طلب الثواب من الله وتقرباً إليه بالصلاة على هذه الجنازة .(1/72)
571- وَعَنْ سَالِمٍ, عَنْ أَبِيهِ - رضي الله عنه - { أَنَّهُ رَأَى اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ, يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ } رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ, وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ وَطَائِفَةٌ بِالْإِرْسَالِ .
الشرح:
وعن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وهم يمشون أمام الجنازة " .
هذا الخبر رواه الحمسة من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم بن عبدالله عن ابن عمر به .
ورواه ابن جريج وجماعة عن ابن عيينة عن الزهري عن سالم به .
ورواه معمر ويونس بن يزيد ومالك بن أنس وغيرهم عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الزهري وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أما الجنازة ،وقد رجح إرساله الإمام أحمد وأبو حاتم والبخاري ، وقال الترمذي في جامعه :(وأهل الحديث كلهم يرون أن المرسل أصح) ، وهذا نقل للإجماع لأن هذا الخبر لا يصح إلا مرسلاً ، وقد قال علي بن المديني رحمه الله لابن عيينة : الناس يخالفونك في هذا ، فقال سفيان رحمه الله :هكذا سمعته من الزهري ولم أسمعه لا مرة ولا مرتين ، ولكن هذا لا يقتضي ترجيح رفعه كما فعل بعضهم ، فإن الثقة قد يخطئ ويهم خصوصاً أن المحدثين الأوائل قد أجمعوا على ترجيح إرسال هذا الخبر ، وقد روى هذا الخبر الإمام أبو عيسى رحمه الله من طريق محمد بن بكر عن يونس عن الزهري عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يمشون أمام الجنازة " .
قال الإمام البخاري رحمه الله : وهذا خطأ ، الصحيح ما رواه غير واحد عن يونس عن الزهري مرسلا ً.(1/73)
وقد رواه الطحاوي رحمه الله عن طريق أبي زرعة عن يونس بن يزيد عن الزهري عن أنس به ، ورواته كلهم ثقات حفاظ ، وهذا أيضاً أخشى أن يكون وهماً لأن مداره على الزهري ولا يصح من طريق الزهري إلا مرسلاً كما جزم بذلك الإمام البخاري رحمه الله وغيره من أكابر أهل العلم في العلل .
وهذا الخبر يدل على فضيلة المشي أمام الجنازة وأن هذا هوا لمشروع للراجل وقد صح هذا عن جمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الراكب فلا يسير إلا خلفها ، وهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء رحمهم الله على أقوال :
القول الأول :مشروعية المشي أمامها ، وأصحاب هذا القول احتجوا بحديث الباب وبفعل عبدالله بن عمر ، والسند إليه صحيح .
القول الثاني :أن الماشي له أن يمشي أمامها وعن يمينها وعن شمالها وله أيضاً أن يمشي خلفها وذلك لما روى أبو داود والنسائي وغيرهما بسند قوي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الراكب يسير خلفها والماشي حيث شاء ) .
القول الثالث : استحباب المشي خلفها لمرسل طاووس قال : ما مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلف الجنازة .
القول الرابع :أنه لا أفضلية بشيء من هذا فله أن يمشي أمامها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها وذلك لعموم حديث المغيرة السابق وهذا القول لعله أقرب الأقوال إلى الدليل ، أما الراكب فلا يسير إلا خلفها لحديث المغيرة السابق .
572- وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: { نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ, وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْه ِ.
الشرح:
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: نهينا عن إتباع الجنائز ولم يعزم علينا " متفق عليه .
قال البخاري حدثنا قبيصة بن عقبة قال أخبرنا سفيان عن خالد عن أم الهديل عن أم عطية رضي الله عنها .(1/74)
قال مسلم رحمه الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة ح حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا عيسى بن يونس كلاهما عن هشام عن حفصة عن أم عطية .
قولها " نهينا " :
الأصل في النهي التحريم ما لم يرد صارف يصرفه عن ذلك ، وقد أخذ بظاهر الحديث الإمام أحمد رحمه الله فحرم على المرأة إتباع الجنائز ، وأخذ الإمام الشافعي وجماعة بعدم التحريم وقالوا بأن النهي للتنزيه لقول أم عطية ولم يعزم علينا قال شيخ الإسلام رحمه الله : (وقول أم عطية " ولم يعزم علينا" لعلها تريد ولم يؤكد النهي ، وإلا فهذا ظن منها ، ولا عبرة بظنها فالأصل أن نأخذ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم) وما ظنه الراوي فهذا ينظر فيه إن احتفت به قرائن وأيدت ظنه بعض الأدلة قُبل وإلا فلا ، وقد علم من أصول الشريعة أن المرأة ضعيفة وعلم من أصولها نهيها عن مزاحمة الرجال ، وإتباع المرأة للجنائز يسبب ضرراً عليها ومخالطة ومزاحمة للرجال .
فالأصل في هذه المسألة أن نأخذ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم ، والنهي يقتضي التحريم ، وإذا كانت المرأة منهية عن إتباع الجنائز فمن باب أولى أن تنهى عن زيارة المقابر ، وذلك لما رواه الترمذي في جامعه وابن ماجة وغيرهما من طريق عمران بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لعن الله زوارات القبور " وهذا إسناد جيد .(1/75)
وقوله "زُوارات " بضم الزاي ، وقد ضبطها بعضهم " زَوارات " بفتحها ، فعلى الثاني يكون النهي منصباً للمكثرات من الزيارة ، وعلى الأول يكون النهي عاماً لأنه لا يكون حينئذ ثمة صيغة مبالغة وهذا أرجح ، لأن المرأة لا يشرع لها زيارة المقابر لأنها إذا نهيت عن إتباع الجنائز فلا يمكن أن يؤذن لها بزيارة المقابر ،قال شيخ الإسلام رحمه الله " وليس هناك شيء في الشريعة يمنع أوله ويباح آخره " وهذا صحيح من حيث العموم لكن قد يعترض على الشيخ رحمه الله بالنذر ، منع أوله وجعل آخره عبادة من أجل العبادات ، فالنذر أولاً مكروه بل عند الشيخ أنه محرم ولكن إذا التزمه الإنسان وجب الوفاء به وصار قربة وعبادة كما قال تعالى " يوفون بالنذر " وقوله تعالى" وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه " ، وهذه المسألة سوف يأتي إن شاء الله بسطها وذكر أدلتها على حديث أبي هريرة " لعن الله زائرات القبور " .
573- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: { إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا, فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْه ِ.
الشرح:
قال المؤلف رحمه الله تعالى :
وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا رأيتم الجنازة فقوموا فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع " متفق عليه .
قال الإمام البخاري رحمه الله حدثنا مسلم بن ابراهيم قال حدثنا هشام عن يحي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي سعيد الخدري به .
وقال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا محمد بن المثنى قال أخبرنا معاذ بن هشام عن أبيه عن يحي به .
وفي الباب عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا رأيتم جنازة فقوموا لها " متفق عليه .
وقد أخذ بظاهر الحديث جماعة من السلف فرأوا وجوب القيام للجنازة سواء كانت الجنازة جنازة مسلم أو جنازة كافر .(1/76)
فأصحاب هذا القول يرون مشروعية القيام لها وهذا من تعظيم الله جل وعلا ومن إجلاله وتوقيره ، وليس المراد تعظيم ذات الميت فإن الكافر لا حرمة له ، وإنما المراد ما سبق ذكره .
ويحصل بالقيام لها تذكر الموت والاتعاظ وما يتبع ذلك من الفوائد التي يحصل بها حياة القلوب والبعد عن الدنيا والقرب من الآخرة ، فلو أن الناس أكثروا من تذكر الموت وزيارة المقابر لقل ظلمهم وكثر خيرهم وقل تنافسهم في الدنيا وساد الخير والنصح والصلاح والفلاح في أفرادهم ومجتمعاتهم .
وذهب بعض العلماء إلى أن هذا الخبر منسوخ بما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمنا معه وقعد وقعدنا معه " .
قال أصحاب هذا القول : إن قعود النبي صلى الله عليه وسلم هو آخر الأمرين وهو ناسخ لحديثي أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما .
وذهب فريق ثالث من العلماء إلى حمل الأمر بقوله " فقوموا لها " على الاستحباب وحمل حديث علي رضي الله عنه على الجواز وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم عليهما رحمة الله .
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا أولى من ادعاء النسخ .
وهذا صحيح لأن النسخ لا بد من توفر أمرين :
الأمر الأول : معرفة المتقدم من المتأخر .
الأمر الثاني : عدم إمكان الجمع .
أما المقدمة الأولى فنعرف يقيناً من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قام ولكن أنى لنا أن نعرف أنه أمر بهذا في أول الأمر ثم جلس بعد الأمر وهذا ما لا يمكن إثباته ، لكن الذي نعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قام أولاً ثم قعد بعد هذا على وفق ما جاء في حديث علي ، وقد يكون الأمر بالقيام جاء بعد القعود هذا غير بعيد .
الأمر الثاني : عدم إمكان الجمع ، وهذا الجمع ممكن ، فإذا أمكن الجمع بين الحديثين فهو أولى من إدعاء النسخ ، قال في المراقي :
والجمع واجب متى ما أمكنا وإلا فللأخير نسخ بينا(1/77)
والجمع هنا سهل حيث يقال قوله صلى الله عليه وسلم " فقوموا لها " للاستحباب فيستحب لكل مسلم أن يقوم للجنازة إذا مرت به .
ويحمل حديث علي رضي الله عنه على الجواز في الجلوس وأن من جلس فلا حرج عليه ، لأن الأمر الأول للاستحباب ، وهذه طريقة مفيدة للجمع بين الأحاديث وعليها علماء المالكية ، وقد يسلك هذا المنهج بعض فقهاء الحنابلة فإذا تعارض عندنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم مع فعله أو نهيه - مع فعل خالفه - فإن أمكن فنحمل أمره عليه الصلاة والسلام على الاستحباب وفعله المخالف للأمر على الجواز ، ونحمل نهيه على التنزيه وفعله المخالف للنهي على الجواز كما قال في المراقي رحمه الله :
وربما يفعل للمكروه مبيناً أنه للتنزيه
فصار في حقه من القرب كالنهي أن يشرب من فم القرب
وقوله " فلا يجلس حتى توضع " :
جاءت رواية " حتى توضع على الأرض "، وجاءت رواية أخرى " حتى توضع في اللحد " .
ورواية (الأرض ) أصح ، واختار هذا الإمام البخاري رحمه الله ،وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
وأما رواية " اللحد " فهي رواية معلوله ، وقد رجح أبو داود رحمه الله رواية (الأرض )على رواية (اللحد).
والمتأمل لعمل الصحابة رضي الله عنهم يجد أنهم يجلسون إذا وضعت على الأرض كما في حديث البراء وحديث علي وبأحاديث غيرها " فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله ولما يلحد " ،دلت هذه الرواية وغيرها من الروايات على أن المحفوظ " حتى توضع على الأرض " .
574- وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ, أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ - رضي الله عنه - { أَدْخَلَ الْمَيِّتَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيِ الْقَبْرَ، وَقَالَ: هَذَا مِنَ السُّنَّةِ } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد َ.
الشرح:
قال المؤلف رحمه الله :
وعن أبي اسحاق أن عبدالله بن يزيد أدخل الميت من قبل رجلي القبر . وقال : هذا من السنة " رواه أبو داود .(1/78)
قال أبو داود رحمه الله حدثنا عبيدالله بن معاذ وهو العنبري قال حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي اسحاق وهو السبيعي قال:
أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد فصلى عليه ثم أدخله القبر من قبل رجلي القبر وقال هذا من السنة .
وهذا إسناد صحيح ورواته كلهم حفاظ ثقات ، وقد رواه أيضاً الإمام ابن أبي شيبة والبيهقي وجاء عند الإمام أحمد وأبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك بنحوه وإسناده صحيح .
والخبر يدل على أن السنة في إدخال الميت القبر أن يُسلَّ من قبل رجليه والذي جرى عليه عمل المسلمين أن تكون رجلا الميت مواجهة لجهة الجنوب ، ويكون رأسه من جهة الشمال موجهاً إلى القبلة هذا ما جرى عليه عمل المسلمين لمن كان الغرب قبلتهم .
وقول عبدالله بن يزيد ، وهو صحابي وهو الخطمي " السنة " :
أي سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقول الصحابي من السنة كذا وكذا لا يحتمل إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال العراقي رحمه الله في ألفيته :
قول الصحابي من السنة أو نحو أمرنا حكمه الرفع ولو
بعد النبي قاله بأعصر على الصحيح وهو قول الأكثر
قال بعض أهل العلم : إن الميت يدخل معترضاً من جهة القبلة .
وقال آخرون : يسل من قبل رأسه .
والعلماء مجمعون على جواز إدخال الميت القبر من أي جهة ولكنهم مختلفون في الأفضل ، والأفضل ما دل عليه حديث أبي اسحاق السبيعي .
575- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: { إِذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي الْقُبُورِ, فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ, وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . } أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ, وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالْوَقْف ِ.
الشرح:
قال المؤلف رحمه الله :(1/79)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا وضعتم موتاكم في القبور فقولوا : بسم الله وعلى ملة رسول الله " .
هذا الخبر رواه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان من طريق همام قال حدثنا قتادة عن أبي بكر الصديق عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم به .
ورواه أبو داود في سننه عن مسلم بن ابراهيم عن همام عن قتادة بنحوه .
إلا أنه ذكر فعلاً لا قولاً أي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين وضعه في القبر" بسم الله ..." الخ .
ورواه النسائي رحمه الله من طريق عبدالله بن شعبة عن قتادة عن أبي بكر الصديق عن ابن عمر موقوفاً .
وذكره البيهقي في السنن أيضاً أن همام بن يحي تفرد برفعه .
والحديث وقفه أصح من رفعه كما قال الدارقطني رحمه الله ، فإن شعبة والدستوائي في قتادة أوثق من همام بن يحي .
وقد روياه عن قتادة موقوفاً .
والخبر جاء عند الترمذي من طريق الحجاج بن أرطاه .
وعند ابن ماجه من طريق ليث بن أبي سليم عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً .
والحجاج بن أرطاة ضعيف الحديث ، وليث بن أبي سليم مختلط .
والصحيح في الخبر أنه من قول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما .
ويحتمل أن يأخذ الخبر حكم المرفوع لأن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي وإن قيل هذا من قبل الرأي فمثله لا بد أن يشتهر فيكون اتفاقا من الصحابة رضي الله عنهم. ولذلك استحب أهل العلم لواضع الميت في القبر أن يقول " بسم الله وعلى ملة رسول الله " أي على طريقته وشرعه ومنهجه ، وهذا الذكر لا يستحب أن يقال إلا لمن يضع الميت في القبر ، ونلاحظ على بعض الناس أنه يقوله عند إهالة التراب على الميت وهذا غلط لأن الخبر مقيد لمن يضع الميت في القبر ، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرٌ في هذا الموضع .(1/80)
وما جاء في المسند وغيره حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو يدفن " مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى " فهذا لا يثبت عنه وقد أنكره ابن حبان وغيره من أهل العلم .
والمشروع للمسلم أن يحثو التراب وهو ساكت ، والمشروع له أن يسأل الله لأخيه التثبيت .
576- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا; أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: { كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِم ٍ .
577- وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: { فِي الْإِثْمِ } .
الشرح:
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كسر عظم الميت ككسرة حياً " رواه أبو داود قال رحمه الله حدثنا القعنبي حدثنا عبدالعزيز بن محمد ، عن سعد يعني بن سعيد ، عن عمرة بنت عبدالرحمن عن عائشة به .
وسعد بن سعيد " أخو يحي بن سعيد " سيء الحفظ .
ولكن جاء الخبر عند ابن حبان في صحيحه من طريق سفيان قال حدثنا يحي بن سعيد عن عمرة بنت عبدالرحمن به . ورواته كلهم ثقات .
ورواه ابن ماجة من طريق عبدالله بن زياد قال أخبرنا أبو عبيدة بن عبدالله بن زمعة عن أمه عن أم سلمة ، وزاد : في الإثم .
ولكن في إسناده عبدالله بن زياد غير معروف .
والمحفوظ في هذا الخبر رواية سفيان عن يحي بن سعيد .
قوله " كسر عظم الميت " :
أراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا تعظيم حرمة الميت وأن الاعتداء على بدنه كالاعتداء على بدن الحي ، فكما أن كسر عظم الحي لا يجوز ويوجب قصاصاً العضو بالعضو فكذلك كسر عظم الميت والاعتداء على حرمته بأخذ شيء من أجزائه ككبد أو أصبع أو غير ذلك لا يجوز فيدخل في هذا نبش القبور لغير حاجة فإن هذا لا يجوز لأنه اعتداء على حرمات المسلمين .(1/81)
وأما قضية أخذ عضو من أعضاء الميت إما بعد الوفاة أو حين يوشك على الهلاك فهذه قضية فيها تفصيل:
فإن قرر طبيبٌ حاذق أن مرض هذا الشخص مما لا يرجى برؤه وأن أخذ عضو من أعضائه يسبب حياة شخص آخر فبعض الفقهاء في هذه القضية يرخص ويرى أنه لا مانع من ذلك ، وبعض أهل العلم يمنع هذه المسألة مطلقاً لأن أخذ عضو من الأول قد يؤدي به إلى وفاته ، وحينئذ يكون الطبيب ضامناً ومتسبباً في هلاك هذا الشخص وإن كان مرضه لا يرجى برؤه فعليه الضمان وعليه الدية وعليه كفارة الخطأ .
أما قضية التشريح فأيضاً فيها تفصيل :
فإن كان التشريح لحالة جنائية فلا مانع من ذلك كان يكون التشريح للتأكد من القاتل أو لغير ذلك من الأسباب فمثل هذا تستدعيه الضرورة ، والمصلحة هنا مقدمة على المفسدة الناتجة من التشريح .
وأما إن كان تشريح الجثة لمعرفة الأمراض الفتاكة بالمسلمين أن لمعرفة دواء هذا الداء فمثل هذا على الراجح لا مانع منه
وأما إن كان التشريح لتمرين الأطباء على هذه القضية فهذا لا يجوز لأن هذا اعتداء بدون حاجة ولكن في هذه القضية لا مانع من تشريح الجثث الكافرة للتعلم بها أما جثة المسلم فلها حرمة يجب صيانتها وتعظيمها ومعرفة قدرها ولكن لما كانت جثة الكافر لا حرمة لها ميتته أقبح من ميتة الكلب كان التعلم عليها لا مانع منه .
578- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - قَالَ: { أَلْحَدُوا لِي لَحْدًا, وَانْصِبُوا عَلَى اللَّبِنِ نُصْبًا, كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . } رَوَاهُ مُسْلِم ٌ.
الشرح:
وعن سعيد بن أبي وقاص قال : ألحدوا لي لحداً وانصبوا على اللبن نصباً كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه مسلم .
قال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا يحي بن يحي قال أخبرنا عبدالله بن جعفر المسوري عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن سعد به .(1/82)
فهذا الخبر يدل على تفضيل اللحد على الشق لأنه هكذا لأنه هكذا فُعل بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا يختار الله جل وعلا لنبيه إلا الأكمل والأفضل .
وقد روى أهل السنن من طريق علي بن عبدالأعلى بن عامر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" اللحد لنا والشق لغيرنا " .
وهذا يدل على أن اللحد أفضل من الشق .
وهذا الخبر في إسناده عبد الأعلى بن عامر قال عنه يحي بن سعيد : تعرف وتنكر ، وضعفه الإمام أحمد وأبو زرعة وجماعة ،وقال الإمام النسائي رحمه الله : ليس بالقوي.
قوله " وانصبوا علي اللبن نصبا ":
فيه مشروعية نصب اللبن على الميت وذلك بعد وضعه في اللحد ثم بعد اللبن يهال عليه التراب .
وفي الحديث دليل على جواز الوصية بمثل هذا لأن سعداً أوصى باللحد وهو أفضل عند الأئمة الأربعة وجماهير العلماء سلفاً وخلفاً من الشق .
والشق جائز إلا أنه مفضول وقد يكون فاضلاً في البلاد الرملية التي لا تتماسك تربتها .
579- وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَابِرٍ نَحْوُهُ, وَزَادَ: { وَرُفِعَ قَبْرُهُ عَنِ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ } وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان .
الشرح:
وللبيهقي عن جابر رضي الله عنه نحوه ، وزاد : ورفع قبره عن الأرض قدر شبر " ، أي ورواه أيضاً ابن حبان في صحيحه من طريق الفضيل بن سليمان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبدالله .
ورواه البيهقي من طريق عبد العزيز عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلاً ، والمرسل أقرب من الموصول .(1/83)
والحديث يدل على جواز رفع القبر مقدار شبر ، وهذا قد رخص فيه غير واحد من أهل العلم ، أما ما زاد على الشبر فالقول الصحيح أنه يهدم لأن رفع القبور من أفعال الذين لا يعلمون ، ومن وسائل عبادتها دون الله عز وجل ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا أئمة الهدى يرفعون قبورهم زيادة على الشبر فضلاً عن البناية عليها ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي الهياج الأسدي عن علي رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " أي سويته بالأرض .
وظاهر هذا الخبر يدل على أن الأصل في القبور تسويتها بالأرض ، إلا أن هذا الحديث حمله غير واحد من أهل العلم على ما زاد على الشبر لأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم كان بنحو شبر ، وهكذا كانت قبور الصحابة رضوان الله عليهم .
وأما ما رواه البخاري في صحيحه عن سفيان التمّار قال : رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً) أي مرتفعاً فهذا محمول عند المحققين على أنه لا يزيد على الشبر وهذا الحمل لا بد منه فإذا كان يحرم رفع القبر على الشبر فما بالك بالبناية عليها فلا ريب أن البناية على القبور من كبائر الذنوب ومن خصائل الجاهلية ومن وسائل الشرك الأكبر ومن ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر أو يبنى عليه وبعض الناس يعتقد أنه حُرّ التصرف بقبر ميته ويقول هذا قبر أبي أو أخي ولي حر التصرف به ، وهذا الظن غلط فليس للمرء حق التصرف في قبر ميته ، فإذا دفن في المقبرة وجب مراعاة الشرع في هذا .
كذلك الحصا التي توضع عند رأس الميت وعند قدميه يحرم رفعها علماً أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لم يكونوا يضعون حجرين كما هو حالنا اليوم إنما كانوا يضعون حجراً واحداً ، وأيضاً لكي يعرفوا القبر ليس غير ، فلو عرف القبر بدون أحجار كان أفضل وأزكى.(1/84)
ولذلك يحسن في حق طلبة العلم أن يوصوا بعدم وضع حجرين عند قبورهم لأنهم قدوة للناس ، ولأن الناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم فإذا أوصوا بمثل هذه الأمور كان الأمر حسناً وأما العوام والصغار فلا عبرة بهم فهم يتنافسون على إطالة الأحجار ولا ندري ماذا سيصنعون بعد هذا ، فالتوحيد في النفوس في هذا الزمان قليل ، وإتباع الدليل أقل وأقل ، وإتباع الهوى قد استحكم على قلوب كثير من العباد .
قال أبو تمام الطائي :
وعبادة الأهواء في تطويحها في الدين فوق عبادة الأصنام
580- وَلِمُسْلِمٍ عَنْهُ: { نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ, وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ, وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ } .
الشرح:
ولمسلم عنه رضي الله عنه : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر ، وأن يقعد عليه ،وأن يبنى عليه " .
قال مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله به .
ورواه من طريق عبدالرزاق عن ابن جريج قال حدثنا أبو الزبير قال حدثنا جابر به .
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق أبي معاوية محمد بن خازم الضرير عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر وفيه النهي عن الكتابة .
قوله " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم " :
الأصل في النهي أن يكون للتحريم ما لم يدل دليل على خلاف هذا ، والدليل على أن الأصل في النهي التحريم ، قوله جل وعلا " وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً " .
ولا ريب أن مخالفة الأمر معصية وارتكاب النهي معصية ، وفي صحيح الإمام البخاري من طريق فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قيل يارسول الله ومن يأبى .
قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى " .
هذا الحديث يدل ظاهره أن النهي يقتضي التحريم .(1/85)
قوله " أن يقعد عليه " :
الجلوس على القبر محرم ولا يجوز بل جاء في بعض الأخبار ما يدل على أن القعود على القبر كبيرة من الكبائر ، ففي صحيح الإمام مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر " .
فالأموات لهم حرمة يجب احترام قبورهم وصيانتها عما فيه ضرر عليهم .
والحديث يدل أيضاً على تحريم البناية على القبور ، والبناية على القبور فيها مفاسد كثيرة :
المفسدة الأولى : أن هذه وسيلة إلى عبادتها .
المفسدة الثانية : أن هذا من فعل عباد القبور ، والروافض هم الذين يضعون القباب على قبور الأولياء والصالحين .
المفسدة الثالثة : أن هذا الفعل مخالف لما بعث الله به أنبياءه ورسله عليهم أفضل الصلاة والسلام .
المفسدة الرابعة : أن هذا يسبب ويؤدي إلى عبادتها وتعظيمها عن القدر المشروع كما أنه يسبب أيضاً ضيقاً في المقابر ، وكذلك أن هذا من الإسراف والتبذير ، ومن المفاسد أيضاً أن هذا الفعل ارتكاب لصريح النهي ، فلذلك يجب هدم القباب والبنايات التي على القبور وهدمها من التوحيد ، وإبقاءها من شعائر عباد القبور الروافض .
وكذلك في حديث أبي معاوية عن ابن جريج النهي عن الكتابة ، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله :
فمن العلماء من يرى جواز الكتابة على القبور وأصحاب هذا القول يضعفون رواية أبي معاوية عن ابن جريج .
وبعض أهل العلم يرى النهي عن الكتابة وهذا أولى سداً للذرائع ، وإن كانت رواية أبي معاوية غير محفوظة ، إلا أن النهي عن الكتابة من باب سد الذرائع ، ولذلك يجوز الاكتفاء بعلامة دون كتابة ليعرف الإنسان قبر صاحبه .
وكذلك يحرم تجصيص القبور والنهي كما سبق للتحريم .
وهل وضع (الخرسان)(1) بمنزلة التجصيص ؟ .
__________
(1) - صغار الحجارة .(1/86)
الجواب : فيه تفصيل فإن كان وضع الخرسان يزيد عن الشبر فهذا بمنزلة الجص ، يجب إزالة ما زاد على الشبر ، وأما إذا كان وضعه تابعاً للشبر فبعض العلماء يرخص بهذا لأن الخرسان يحتفظ بالتربة ويحفظها عن الهدم ونحو ذلك.
581- وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ - رضي الله عنه - { أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ, وَأَتَى الْقَبْرَ, فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ, وَهُوَ قَائِمٌ } رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيّ ُ .
الشرح:
وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على عثمان بن مظعون ، وأتى القبر فحثى عليه ثلاث حثيات وهو قائم " رواه الدارقطني رحمه الله من طريق القاسم بن عبدالله عن عاصم بن عبيدالله عن ابن عامر بن ربيعة عن أبيه به .
والقاسم بن عبدالله قال عنه الإمام أحمد رحمه الله : ليس بشيء ، وعنه قال : كذاب ، وقد اتهمه بالكذب غير واحد ، بل قد أجمع كبار المحدثين على تركه وتكذيبه فالخبر إذاً موضوع .
ولكن في الباب ما يغني عنه فروى ابن ماجة رحمه الله من طريق الأوزاعي عن يحي بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم على جنازة فأتى قبره فحثى ثلاث حثيات من عند رأسه " .
والحديث رواته كلهم ثقات ولكن أعله الإمامان أبو زرعة وأبو حاتم بالإرسال ، وقالا أبو سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم هو المحفوظ .
وللحديث شاهد من طريق عبيدالله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم حثا على القبر وقرأ " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " .
ولكن هذا الشاهد باطل لأنه مسلسل بالضعفاء وقد قال الإمام ابن حبان رحمه الله : إذا اجتمع بالإسناد عبيدالله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم بن عبدالرحمن فهو مما عملته أيديهم .(1/87)
والحقيقة أنه لا يصح في الباب شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحسن ما في الباب حديث الأوزاعي عن يحي ، ومع هذا أعله الإمامان أبو زرعة وأبو حاتم بالإرسال .
وأما ما يفعله الآن بعض العوام إذا حثى الأولى قال : منها خلقناكم ، والثانية يقول : وفيها نعيدكم ، والثالثة يقول : ومنها نخرجكم تارة أخرى
فهذا من محدثات الأمور وليس على هذا أثارة من علم ولا دليل ولا برهان إنما هو استحسان لا أصل له ، فالحديث السابق مع أنه متروك ورد بقراءة مطلقة لم يرد بهذا التفصيل المبتدع .
وقد استحب بعض أهل العلم أن يحثو على رأس الميت ثلاثاً وهذا مبني على صحة الخبر ، وقد سبق الكلام عليه ، والله أعلم .
582- وَعَنْ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - قَالَ: { كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: "اِسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ, فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ" } رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ الْحَاكِم ُ .
الشرح:
وعن عثمان رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " .
هذا الخبر رواه الإمام أبو داود في سننه فقال : حدثنا ابراهيم بن موسى الرازي قال حدثنا هشام قال أخبرنا عبدالله بن بحير بن ريسان عن هاني مولى عثمان عن عثمان به .
وقد حسنه الإمام النووي في الأذكار وابن حجر .
و(عبدالله بن بحير) وثقه ابن معين .
و(هاني مولى عثمان) صدوق ، والخبر صححه أيضاً الحاكم في مستدركه .
قوله : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت" :(1/88)
فيه أن الدعاء بعد الفراغ من دفن الميت ، وفيه أن الدعاء يصل إلى الأموات فلو لم يكن الدعاء يصل إلى الأموات لم يكن للاستغفار له معنى ، وقد نقل النووي في الأذكار النووية وغيره من أهل العلم الإجماع على أن الدعاء يصل إلى الأموات وهذا الإجماع صحيح ، فقد نقله غير واحد ،والأدلة صريحة في هذا قال تعالى " وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ " وهذه الآية صريحة بوصول الدعاء إلى الغير ، فلو لم يكن الدعاء يصل إلى الأموات لم يكن للدعاء لهؤلاء معنى ولم يشن الله عليهم بهذا ، وقال تعالى " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ " أي عن نوح وعن إبراهيم أيضاً فلو لم يكن دعاؤهم ينفع لم يكن للدعاء معنى ولم يقرهم الله على ذلك ، وقال تعالى " وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ " والاستغفار نوع من أنواع الدعاء ، وقد أمر الله نبيه أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات فلو لم يكن ينفعهم الاستغفار لم يأمرهم الله بذلك .
والأدلة في كون الدعاء يصل إلى الغير كثيرة جداً ، الأمر كما سبق مجمع عليه وإنما اختلفوا في العبادات الأخرى هل تصل إلى الأموات أم لا ؟.
وقد نقل ابن القيم الاتفاق أيضاً ، على أن القرب المالية تصل إلى الأموات وجعل الخلاف محصوراً في القرب البدنية ثم رجح رحمه الله وصول القرب البدنية إلى الأموات ،وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أحد قوليه .
قوله " استغفروا لأخيكم " :(1/89)
لأن المشروع بعد الدفن الاستغفار للميت ، وقد ترك هذا الدعاء واعتاض عنه بعض العوام بقوله " حللوا أخاكم " ، وهذا استبدال بالذي هو أدنى عن الذي هو خير فالأولى طلب الاستغفار له وسؤال الله جل وعلا له الثبات فإن قضية تحليل الميت راجعة إلى كل شخص ومن ثبته الله بالقول الثابت فقد عفا الله عنه ، وأيضاً الناس لهم حقوق منهم من يريد حقه ، وأيضاً جعْل الكلام عاماً "حللوا أخاكم" فيه نظر فربما لم يكن لهؤلاء حق على هذا الميت فالمرء ليس موكلاً عنه حتى يقول هذا ولكن من علم له حق وجب سداد الحق له أو يطلب منه العفو ، أما تعميم هذا في المقابر فهذا لا أصل له والأولى النهي عن هذا أيضاً ، ففي ذلك محاذير شرعية والاعتياض عن السنة بالبدعة .
قوله " واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " :
فيه إثبات السؤال في القبر وهذا مجمع عليه في حق المسلمين بين أهل العلم ، والحق أيضاً أن الكافر والمنافق يسألان أيضاً ، أما المؤمن فيثبته الله جل وعلا " يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ " ، وأما الكافر أو المنافق فيضلهم الله جل وعلا فلا يدرون ماذا يقولون ، المؤمن يقول ربي الله والإسلام ديني ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي ، فإن المرء إذا وضع في قبره سئل عن ربه وعن دينه وعن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
وفي الحديث دليل على إثبات عذاب القبر لمن أراد الله جل وعلا عذابه .
وفي الحديث دليل على أن دعاء المؤمنين ينفع ، وإلا لم يكن لسؤال الله جل وعلا التثبيت لهذا الميت معنى .(1/90)
583- وَعَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ أَحَدِ التَّابِعِينَ قَالَ: { كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إِذَا سُوِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ قَبْرُهُ, وَانْصَرَفَ اَلنَّاسُ عَنْهُ, أَنْ يُقَالَ عِنْدَ قَبْرِهِ: يَا فُلَانُ! قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ. ثَلَاثُ مَرَّاتٍ, يَا فُلَانُ! قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ, وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ, وَنَبِيِّ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - } رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مَوْقُوفًا .
584- وَلِلطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا مُطَوَّلاً .
الشرح:
وعن ضمرة بن حبيب رضي الله عنه -أحد التابعين- قال : كانوا يستحبون إذا سوي على الميت قبره ، وانصرف الناس عنه أن يقال عند قبره ، يا فلان قل لا إله إلا الله ، ثلاث مرات ، يافلان ، قل ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد" .
هذا الخبر مقطوع والمقطوع يختلف عن المنقطع ، فالمنقطع من متعلقات الإسناد والمقطوع من متعلقات المتن ،والمقطوع هو قول التابعي عمن دونه والمقطوع لا تقوم به حجة كهذا الأثر ، ولهذا الأثر شاهد باطل يرويه الطبراني في الكبير من طريق اسماعيل بن عياش عن عبدالله بن محمد القرشي عن يحي بن أبي كثير عن سعيد بن عبدالله الأودي عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وقد ضعفه النووي وابن القيم وجماعة من المحققين بل حكم عليه ابن القيم رحمه الله بالوضع كما في المنار المنيف ، ولا يصح في الباب شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع هذا اختلف أهل العلم رحمهم الله في حكم التلقين فذهب بعض الفقهاء إلى استحبابه ، فيقال عند قبر الميت بعد دفنه يا فلان قل لا إله إلا الله ثلاث مرات ، يا فلان قل ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم.(1/91)
وذهبت طائفة من محققي العلماء إلى أن التلقين بدعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولو كان مشروعاً لشرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ولفعله الصحابة من بعده فقد كانوا أحرص الناس على الخير وأقربهم للسنة وأتبعهم لها فلم لم يفعلوا التلقين مع انعقاد سببه وإمكان فعله علم أنه بدعة وضلالة ، والحقيقة أيضاً أن هذا التلقين من وسائل الشرك لأنه يخاطب ميتاً والله يقول " إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ " .
وأيضاً هذا التلقين لا ينفع لمن أراد الله فتنته .
وببدعية التلقين قال الإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم وهو الحق .
بل القول الحق أن التلقين تجاوز حد البدعة وذلك لوجوه :
الوجة الأول :لم يصح به أثر والله جل وعلا إنما تعبدنا بالأحاديث الصحاح لا بالأقوال الباطلة والآثار الواهية .
الوجه الثاني : أن هذا التلقين لم يكن معروفاً عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم فلو كان مشروعاً لتواتر نقله عن الصحابة .
الوجه الثالث :أنه لم يدل دليل لا من الكتاب ولا من السنة أن التلقين ينفع الأموات وأقل ما يقال فيه حينئذ أنه بدعة .
الوجه الرابع : أن هذا التلقين لا يفيد صاحبه لا شرعاً ولا نظراً إنما ينفع المرء إذا وضع في قبره عمله .
الوجه الخامس : أن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا بعد الدفن أن نستغفر له (واسألوا له التثبيت ) وغير هذا تكلف وخروج عن متابعة السنة .
585- وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا } رَوَاهُ مُسْلِم ٌ .
زَادَ اَلتِّرْمِذِيُّ: { فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ } .
586- زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: { وَتُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا } .
الشرح :(1/92)
وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها " زاد الترمذي " فإنه تذكر الآخرة " وزاد ابن ماجه " وتزهد في الدنيا " .
قال الإمام مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبدالله بن نمير ومحمد بن المثنى واللفظ لأبي بكر وابن نمير قالوا حدثنا محمد بن فضيل عن أبي سنان عن محارب عن عبدالله بن بريدة عن أبيه به .
ورواه الترمذي بالزيادة من طريق سليمان بن بريدة عن أبيه به .
ورواه ابن ماجة من طريق ابن جريج عن أيوب بن هاني عن مسروق بن الأجدع عن عبدالله بن مسعود بلفظ " وتزهد في الآخرة " .
وأيوب بن هاني صدوق فيه لين ، وقد جاء في صحيح مسلم " فإنها تذكر الموت " وذلك من طريق يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : زار النبي صلى الله عليه وسلم فبكى وأبكى من حوله فقال: استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يؤذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت " .
قوله صلى الله عليه وسلم " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ":
هذا في أول الأمر فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن زيارة القبور لأنهم حديث عهد بإسلام وحديث عهد بأمور الجاهلية ، فيخشى أن تتعلق قلوبهم بالأموات فحسماً لهذا المفسدة نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً عن زيارة القبور ، فلما رسخ الإيمان في قلوبهم وعرفوا توحيد ربهم وانصاعوا للأدلة الشرعية كتاباً وسنة أذن لهم بزيارة القبور ، إلا أن هذا الإذن خاص بالرجال كما هو قول الإمام أحمد وطائفة من المحققين لأن المرأة سريعة التأثر فيخشى من الإذن لها بزيارة القبور أن تفتتن بالأموات ومن ثم نهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن اتباع الجنازة ، كما في الصحيحين من حديث أم عطية " نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا " فضلاً عن زيارة المقابر .
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور .(1/93)
587- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - { أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ } أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
الشرح:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور " رواه الترمذي وصححه ابن حبان .
هذا الخبر جاء بلفظين:
اللفظ الأول " لعن الله زائرات القبور " وهذا لفظ ابن حبان .
وأما لفظ الترمذي " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زَوارات القبور " ، ويُقرأ " زُوارات " ، ولفظ ابن حبان يوضح المعنى ، فيكون اللفظ منصباً على الزائرات مطلقاً سواء اتخذن هذا عادة أم لا .
والحديث سنده حسن فقد رواه الترمذي وابن حبان من طريق قتيبة بن سعيد قال حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه به .
وروى أهل السنن أيضاً من طريق محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " .
وأبو صالح لين الحديث ، والمحفوظ بهذا الخبر حديث أبي هريرة وهو يقتضي تحريم زيارة القبور في حق النساء ، بل يدل الحديث أن زيارة النساء للقبور كبيرة من كبائر الذنوب ، لأن حد الكبيرة ما ختمت بغضب أو لعنة أو وعيد شديد ، وأما احتجاج الإمام الشافعي وطائفة من الفقهاء على زيارة النساء للقبور بحديث شعبة في الصحيحين عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بامرأة تبكي عند القبر فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : اتق الله واصبري ، فقالت : إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي " الحديث .
فهذا قد أجاب عنه ابن القيم بقوله " اتق الله " يشمل نهيها عن زيارة المقابر ، وهناك وجه آخر أحسن من هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لها قومي بل أمرها بتقوى الله والصبر وعدم الجزع والدعاء بدعوى الجاهلية.(1/94)
فيقال : ليس في الحديث أن المرأة داخل المقبرة فلربما كان القبر متنحياً ، وهذا أمر مشهور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، كما مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبر منبوذ ، وغير ذلك من الأحاديث ، فربما كانت هذه المرأة عند قبر ليس في المقبرة فحينئذ لا يتم الاستدلال به على زيارة النساء القبور .
وأيضاً هذا الحديث ليس صريحاً بل هو حديث محتمل ، وعندنا حديث صريح بنهي المرأة عن زيارة القبور ألا وهو اللعن للمرأة إذا زارت المقابر .
والحكمة من زيارة القبور أنها تذكر الآخرة والموت ، والعبد إذا تذكر الموت وتذكر الآخرة قل شره وكثر خيره بينما إذا أعرض عن تذكر الموت والآخرة قسى قلبه وزاد إعراضه وقل إيمانه .
وزيارة القبور على مراتب :
المرتبة الأولى : زيارة شرعية وهو زيارة قبور المسلمين والأقارب بدون شد رحل ، للدعاء لهم وتذكر الآخرة .
المرتبة الثانية : زيارة قبور المشركين لسؤال الله العافية ، فهذه زيارة جائزة ،كما زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه ، فإن العبد إذا زار قبور المشركين وعلم أنهم كلهم في النار سأل الله العفو العافية وزادت رغبته بهذا الدين والتمسك به .
المرتبة الثالثة : زيارة محرمة وهي تتراوح ما بين الشرك الأكبر والأصغر والبدعة وهي زيارة المقابر إما لسؤال أهلها وهذا شرك أكبر ، وأما لطلب الدعاء عندها وهذا بدعة ووسيلة من وسائل الشرك . والله أعلم .
588- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اَلنَّائِحَةَ , وَالْمُسْتَمِعَةَ } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ .
الشرح :
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله صلى الله عيه وسلم النائحة والمستمعة " .
هذا الخبر رواه الإمام أبو داود والبغوي في شرح السنة من طريق محمد بن الحسن بن عطية العوفي عن أبيه عن جده عن أبي سعيد الخدري .
وفيه ثلاث علل :(1/95)
العلة الأولى : ضعف محمد بن الحسن قال عنه أبو زرعة : لين الحديث ، وضعفه أحمد ويحي بن معين ، وقال البخاري : لم يصح حديثه .
العلة الثانية : الحسن بن عطية ضعيف الحديث أيضاً ضعفه البخاري وغيره .
العلة الثالثة : ضعف عطية العوفي .
" اللعن ":
هو الطرد والإبعاد ، فمن لعنه الله فقد أبعده الله جل وعلا عن رحمته وطرده عن ذلك .
قوله " النائحة " :
النوح هو رفع الصوت بتعداد مآثر الميت ، وهذا من خصال أهل الجاهلية فإن الواحدة من نساء أهل الجاهلية تجلس : وآمياه ، وآبياه ، تموت وأنت تصل الرحم وأنت تسقى الحجيج ، تفعل كذا وتفعل كذا ، لسان حالها يقول كيف تموت وأنت تفعل هذا ، أمثلك يموت ، مثلك ينبغي أن يعيش ، هذه النائحة ملعونة ، وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الذي رواه مسلم من طريق أبي سلام قال حدثنا أبو مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونها الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء في النجوم ، والنياحة على الميت " .
وقال: "النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " ، وهذا وعيد شديد على النائحة وهذا يقتضي أن النياحة كبيرة من كبائر الذنوب ، وأنها تعذب يوم القيامة في سربال من قطران أي رصاص مذاب يوضع على جلدها وسائر جسمها .
قوله " والمستمعة " :(1/96)
أي التي تستمع النائحة وهذا وإن كان الخبر ضعيفاً ، إلا أن القاعدة الكلية عند أهل العلم أن الراضي بالذنب كفاعله ، فالذي يجلس عند النائحة ويسمعها شيطان أخرس له حضه من الإثم كالنائحة تماماً ، فلو كان في قلبه غيرة وحمية على الدين لبادر بالإنكار على هذه النائحة وعلى الأقل إذا عجز عن الإنكار عليها يفارق المجلس وهذا الأمر كثير في النساء ، بعض النساء تجلس ولا تنكر ،وبعض النساء تنوح معها مداراة لها وتطييباً لخاطرها ، لأن بعض النساء تعتقد أنه لا يطيب خاطر أختها إلا إذا ناحت معها ، وإذا ما ناحت معها ما عظمت الميت ، ولا قدرته حق قدره .
لذلك يجب أحد أمرين إما الإنكار أو مفارقة المجلس ، وأما الجلوس والسكوت فهذا محرم ، والراضي في الذنب كفاعله والله تعالى يقول (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) ، أخذ من هذه الآية أهل العلم أن الراضي في الذنب كفاعله ، والأدلة على هذا كثيرة والظاهر أنه إجماع من أهل العلم ما لم يكن الجلوس عن إكراه .
589- وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: { أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لَا نَنُوحَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْه ِ .
الشرح:
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ننوح " متفق عليه .
قال البخاري حدثنا عبدالله بن عبدالوهاب قال حدثنا حماد بن زيد قال أخبرنا أيوب عن محمد بن سيرين عن أم عطية به .
وقال مسلم حدثنا إسحاق بن ابراهيم قال حدثنا أسباط قال حدثنا هشام عن حفصة عن أم عطية .
قولها " أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم " :(1/97)
أي وذلك حين المبايعة ، فلما بايعت النساء النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يشركن بالله شيئاً لا يسرقن ولا يزنين ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصين في معروف أخذ عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ينحن " .
لماذا أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا ينحن ؟ .
لأن النياحة كانت من عادات الجاهلية ، كان التنبيه على هذه القضية من عزائم الأمور ، ولولا أهمية هذا الأمر وأن المسلم يحرم عليه النياحة لما أخذ عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، والمرأة مأمورة بالصبر والاحتساب فلربما أصيبت المرأة بمصيبة كفقد بعض الأحبة ، فتذهب دنياها ودينها والعياذ بالله كالنائحة الثكلى لا ديناً حفظت ولا استفادة من المال المقصود بها المستأجرة .
فلذلك على المرأة إذا أصيبت أن تحتسب الأجر عند الله وأن تصبر ، وعلى وليها أن يذكرها بالله ، وما أعده الله للصابرين من الثواب والأجر العظيم .
وهل من العقل إذا أصيب الإنسان بمصيبة أن يفقد أمرين : أن يفقد ما أصيب به ، وأن يفقد الأجر والثواب ؟ لا ، العاقل لا بد أن يضفر بأحد أمرين أو يضفر بهما جميعاً ، قال تعالى (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ (157) .
الذين يقولون عند المصائب (إنا لله وإنا إليه راجعون) يحضون بثلاث قرب عظيمة :
الأولى : عليهم صلوات من ربهم .
الثانية : لهم الرحمة .
الثالثة :يهدي الله قلوبهم .
590- وَعَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - عَنِ اَلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: { اَلْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْه ِ.
591- وَلَهُمَا: نَحْوُهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَة َ.
الشرح:(1/98)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الميت يعذب في قبره بما نيح عليه " متفق عليه .
قال البخاري حدثنا عبدان قال أخبرنا عبدالله قال أخبرنا ابن جريج عن عبدالله بن عبيد الله بن مليكة عن ابن عمر .
ورواه مسلم عن عبد بن حميد وابن رافع واللفظ لابن رافع قالا حدثنا عبدالرزاق عن ابن جريج به .
وهذا الحديث استشكله بعض أهل العلم إذ كيف يعذب الميت بقبره بما نيح عليه والله تعالى يقول " وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى " ، ومن ثم أنكرت عائشة هذا الحديث وظنت أنه معارض للقرآن ولعائشة رضي الله عنها نحو هذا التأويل أحاديث معروفة ، ولا وجه لقول عائشة رضي الله عنها فإن هذا الخبر محفوظ عن جمع من الصحابة يبعد غلطهم كل البعد ، فهذا الخبر محفوظ عن ابن عمر وعن عمر رضي الله عنه والخليفة الراشد أعلم من عائشة ، ومحفوظ أيضاً عن المغيرة بن شعبة ومحفوظ عن أبي موسى وعن غيره من الصحابة فلا إشكال ولا ارتياب أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق بهذا الحديث ، بل أقطع يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، فلقد روي لنا بالأسانيد الصحاح التي لا يشك فيها عالم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قالها ، وطائفة من أهل العلم تثبت الخبر كالبخاري وغيره ولكنهم يقولون في معناه إذا كان هذا من عادته وطائفة أخرى تقول إذا وصى أن يناح عليه عذب ، قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الأقوال غلط من أصحابها والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الميت يعذب ، ما قال يعاقب ، فقال شيخ الإسلام يعذب بمعنى يتألم إذا نيح عليه ، وذلك أنه يتكدر ويتألم بفعل أهله أنهم ينوحون عليه بدل أن يدعوا له وينوحون عليه فيحصل له من التألم كما يحصل للغير من سوء أفعال أهله ، ففي حال الحياة المرء يتألم ويتكدر إذا رأى أباه أو أمه يفعلون المعاصي فيرثي لحالهم ويتألم لأفعالهم ، ولكن هل عوقب على أفعالهم ؟ لا شك لا يعاقب ، يقول(1/99)
شيخ الإسلام رحمه الله ، هذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم " السفر قطعة من العذاب " ، إذا سافر المرء يحصل له عذاب بسبب السفر ، ولكن هل عوقب ؟ الجواب : لا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال قطعة من العذاب سماه عذاباً ولم يسمه عقاباً ، وهذا في الحقيقة ظاهر جيد لمن يتأمل وهذا في الحقيقة هو القول المختار عند المحققين واختاره بعض السلف وقد أطال شيخ الإسلام ترجيحاً لهذا القول فلتراجع الفتاوى في كتاب الجنائز .
فالمشروع لمن توفي ميته أن يشتغل بالدعاء له والتصدق عنه وفعل القرب تجاه هذا الميت فإن البكاء وإن كان جائزاً لكنه لا ينفع ، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول "العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب " متفق عليه .
592- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: { شَهِدْتُ بِنْتًا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تُدْفَنُ , وَرَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ عِنْدَ اَلْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ } رَوَاهُ اَلْبُخَارِيّ ُ .
الشرح:
وعن أنس رضي الله عنه قال : شهدت بنتاً للنبي صلى الله عليه وسلم تدفن ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند القبر ، فرأيت عينيه تدمعان ".
هذا الخبر رواه البخاري قال البخاري حدثنا عبدالله بن محمد قال أخبرنا أبو عامر قال حدثنا فليح بن سليمان عن بلال بن علي عن أنس بن مالك .
وفليح بن سليمان تكلم فيه غير واحد من ألمحدثين فقال عنه يحي بن معين لا يحتج بحديثه ، وقال الإمام الآجري قلت لأبي داود : قال ابن معين : عبدالله بن محمد بن عقيل وعاصم بن عبيد الله وفليح بن سليمان لا يحتج بحديثهم . قال أبو داود : صدق .
وقال النسائي وغيره : ليس بالقوي ولكن وثقه جماعة آخرون ، وتخريج البخاري له في الأصول يدل على أنه عنده ثقة ومن ثم قال الحاكم رحمه الله : وتخريج الشيخين له مما يقوي أمره .(1/100)
والقاعدة : أمثال فليح بن سليمان ممن طعن في أكابر أهل العلم وخرج له البخاري أو الشيخان ، أن يقال : أنهما خصوصاً البخاري رحمه الله يخرجان لمن تُكلِم فيه مما وافقه عليه غيره أو ما علم أنه ضبطه وأتقنه ، وهذا حصل لهما بالتتبع ، ولذلك تجد بعض أحاديث هؤلاء في غير الصحيحين فيها ضعف بيِّن ، وهذا مما يدلنا على أن البخاري خصوصاً يتتبع أحاديث الراوي فلا يخرج له إلا ما وافقه عليه غيره أو علم أنه ضبطه فأتقنه .
وحديث الباب أورده المؤلف ليبين أن البكاء جائز عند فقد الأحبة وأنه ليس من النياحة وجواز البكاء محمول عند أهل العلم على ما إذا لم يصحبه صوت مرتفع أو ضرب للخدود أو شق للجيوب أو نقع أن لقلقة .
والنقع : هو ضرب التراب على الرأس .
واللقلقة : رفع الصوت بالبكاء .
ولذلك قال عمر كما في البخاري معلقاً : دعهن يبكين على أبي سليمان- يعني خالد بن والوليد- ما لم يكن نقع أو لقلقة " .
أراد بهذا أن يوضح أن البكاء لا مانع منه على الميت ما لم يكن في ذلك شيء من خصال الجاهلية كوضع التراب على الرأس أو رفع الصوت في البكاء وأما مجرد دمع العين فهذا لا مانع منه بل هذا رحمة يجعلها الله جل وعلا في قلوب عباده الرحماء ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم (العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون " الحديث متفق على صحته من حديث أنس بن مالك .
وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأخذ بلسانه " .
وأيهم أكمل للعبد ألا تدمع عينه تصبراً وتجلداً أم أن دمع العين أكمل ؟(1/101)
لا إشكال أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل هدي ، وطريقته أحسن طريقة ، وفعله خير الأفعال ، ولا يمكن لأحد من البشر أن يأتي بفعل أحسن من فعله ولا بطريقة أحسن من طريقته ، وقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته ، فدل هذا أن دمع العين أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن دمع العين من الرحمة ومما يجعله الله في قلوب عباده الرحماء ، ويفهم من هذا أن تقلص العينين من البكاء من قساوة القلوب وإن أبعد القلوب عن الله القلب القاسي.
593- وَعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: { لَا تَدْفِنُوا مَوْتَاكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَّا أَنْ تُضْطَرُّوا } أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه ْ .
وَأَصْلُهُ فِي "مُسْلِمٍ", لَكِنْ قَالَ: زَجَرَ أَنْ يُقْبَرَ اَلرَّجُلُ بِاللَّيْلِ, حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ.
الشرح:
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا " رواه ابن ماجة في سننه من طريق ابراهيم بن يزيد المكي عن أبي الزبير عن جابر .
وإبراهيم بن يزيد هذا هو الخوزي ، تركه البخاري وأحمد وجماعة من أهل الحديث ، وقد جاء عند ابن ماجة من طريق الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"صلوا على موتاكم بالليل والنهار " وهذا أيضاً ضعيف ، (ابن لهيعة) سيء الحفظ قاله يحي وأحمد وغيرهما ، ولكنه أقوى من حديث الخوزي ، وحديث الخوزي يدل على منع الصلاة على الميت بالليل إلا عند الحاجة والضرورة .(1/102)
وحديث ابن لهيعة يدل على جواز الصلاة على الأموات بالليل والنهار فقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث ابن جريج عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن فدفن في غير كفن طائل فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل ليلاً إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك ، وقال صلى الله عليه وسلم " إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه " وقد احتج بهذا الحديث الإمام ابن حزم رحمه الله على منع الدفن ليلاً ، وفي هذا نظر ، فإن نهي النبي صلى الله عليه وسلم جاء لسبب ، وهذا السبب أن الصحابة رضي الله عنهم حين قبض الصحابي كفنوه بكفن غير طائل ، فلهذا السبب نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل ليلاً وأمر بتحسين الكفن ، وأما من علم من نفسه تحسين الكفن فلا مانع من القبر ليلاً ، فقد قال البخاري رحمه الله (باب الدفن ليلاً ودفن أبو بكر رضي الله عنه ليلاً ) قال ابن حجر في فتح الباري وهذا كالإجماع بينهم ، يعني بين الصحابة في جواز الدفن ليلاً ، ثم ساق البخاري حديث ابن عباس وهو متفق على صحته أن رجلاً توفي بليل " وفي رواية "إمرأة " ، فدفنوها فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا كنتم آذنتموني .
فلو كان الدفن ليلاً مكروهاً أو منهياً عنه لزجر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة حين دفنوا الرجل ليلاً ، والمتأمل للأدلة يتبين له أن الدفن ليلاً كان مشهوراً في العهد النبوي ومشهوراً بين الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا كما قال عنه الحافظ كالإجماع بينهم وقد دفن النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً كما في خبر عائشة وغيره ، رواه أبو داود وغيره .
ويحمل حديث جابر على السبب المذكور فيما تقدم .(1/103)
594- وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: { لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ -حِينَ قُتِلَ- قَالَ اَلنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - "اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا, فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ" } أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ, إِلَّا النَّسَائِيّ َ .
الشرح:
وعن عبدالله بن جعفر رضي الله عنه قال : لما جاء نعي جعفر حين قتل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنعوا لآل جعفر طعاما ً ، فقد أتاهم ما يشغلهم " رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي والبغوي بشرح السنة وغيرهم كلهم من طريق سفيان بن عيينة قال حدثنا جعفر بن خالد بن سارة عن أبيه عن عبدالله بن جعفر به .
وعبدالله بن جعفر صحابي ولد في أرض الحبشة وكان يضرب به المثل في الجود والسخاء قال عنه الذهبي " كان كبير الشأن كريماً جواداً يصلح للإمامة " .
والحديث إسناده صحيح ، وقد احتج به الإمام أحمد وغيره من أهل الحديث وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح .
قوله " لما جاء نعي جعفر " :
وذلك في السنة الثامنة من الهجرة في غزوة مؤتة .
قوله " اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم " :
هذا أمر والأصل في الأوامر أن تحمل على الوجوب كما هو قول أكثر الأصوليين ، والذي يضع الطعام هم أقاربه أو جيرانه وغيرهم ، والحكمة من هذا لأن أهل الميت مشغولون بحزنهم على ميتهم فكان الأولى بأقاربه أو جيرانه أن يصطنعوا لهم طعاماً لأن هذا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض وهذا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه السنة تكاد تكون مهجورة في زماننا هذا بل الذي اشتهر في زماننا هذا هي سنة الجاهلية وذلك أن أهل الميت هم الذين يصطنعون طعاماً للناس ، وتراهم يجتمعون في بيت الميت لإكرام الوافدين وصنع الطعام لهم وهذه بدعة سيئة وجاهلية قبيحة وفي ذلك مفاسد كثيرة :
الأولى : أن هذا الفعل من أفعال أهل الجاهلية .(1/104)
الثاني : أن هذا خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله "اصنعوا لآل جعفر طعاماً " .
الأمر الثالث : أن الاجتماع في بيت الميت قد نهى عنه أهل العلم ولا يشرع للمرء أن ينتظر المعزين في بيته كما قال الشافعي رحمه الله : ينصرفون لقضاء حوائجهم ومن لقيهم عزاهم .
الأمر الرابع : أن بعض أهل العلم قال : أن هذا من النياحة ، وقد جاء عند ابن ماجة بسند رواته كلهم ثقات عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال : كنا نعد الاجتماع عند أهل الميت وصنع الطعام لهم من النياحة " ،ولكن أعل الإمام أحمد هذا الأثر .
وقوله " صلى الله عليه وسلم فقد أتاهم ما يشغلهم" :
في هذا دليل على أن الحزن عند فقد الأحبة ليس مذموماً ، قد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم " إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب " متفق عليه من حديث ابن عمر .
595- وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى اَلمَقَابِرِ: { اَلسَّلَامُ عَلَى أَهْلِ اَلدِّيَارِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ, وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اَللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ, أَسْأَلُ اَللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ } رَوَاهُ مُسْلِم ٌ.
الشرح:
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، و إنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية " .
رواه مسلم فقال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب قالا حدثنا محمد بن عبدالله الأسدي عن سفيان عن علقمة عن سليمان بن بريدة عن أبيه به .(1/105)
وفي الباب عن عائشة رواه مسلم في صحيحه ، وفي الباب أيضاً حديث العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، رواه مسلم أيضاً في صحيحه .
وحديث الباب رواه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجة وذكره ابن حبان في صحيحه .
قوله : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر":
تقدم عندنا أن زيارة المقابر خاصة بالرجال وأما المرأة فلا يجوز لها أن تزور المقابر ، فعلى هذا يكون قوله " يعلمهم " أي يعلم الرجال دون النساء .
قوله " إذا خرجوا إلى المقابر " :
فيه دليل على مشروعية زيارة المقابر إلا أنه لا يشرع للمسلم أن يتخذ القبور أعياداً فالمشروع للمسلم أن يفاوت بين الزيارة ولا يتخذ لنفسه يوماً معيناً لا يزور المقابر إلا فيه ، قال صلى الله عليه وسلم " لا تتخذوا قبري عيداً " والحديث صحيح رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة .
قال شيخ الإسلام : والعيد إسم لما يعود إما بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع .
قوله " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين " :
في هذا دليل على المغايرة بين المؤمن و المسلم فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا ً ، إلا أنه لا ريب أن الإسلام يحتاج إلى إيمان يصحح الإسلام فلا يمكن أن يوجد عبد مسلم ليس بمؤمن أبداً فالصلاة من الإيمان ، وأنه لا بد أن يكون هذا مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن يكون مؤمناً بالقدر خيره وشره ، وهذا كله من الإيمان أما إذا أفرد الإسلام فيدخل فيه الإيمان ، وإذا جمعا فيراد بالإيمان ما يعقد عليه المرء في قلبه ، ويراد بالإسلام الانقياد والعمل بأوامر الشرع الظاهرة .
وفي الحديث دليل على أن الأموات ينتفعون بالدعاء لهم فلو لم يكن الميت ينتفع بالدعاء ما كان للدعاء معنى ولذلك أجمع العلماء على أن الميت ينتفع بدعاء الغير له نقله النووي وشيخ الإسلام وجماعة آخرون .(1/106)
والصحيح أيضاً أن جميع القرب المالية والبدنية تصل إلى الأموات كما هو مذهب الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام في أحد قوليه ، وانتصر لهذا القول الإمام ابن القيم في كتاب الروح ، فقد بحث هذه القضية وذكر أدلة المجيزين والمانعين وتوصل في النهاية إلى أن القرب جميعها تصلى إلى الأموات سواء كانت مالية أو بدنية .
وفي الحديث مشروعية الدعاء للأموات ، وقد استدل بهذا الحديث بعض العلماء على أن الميت ترد عليه روحه حين السلام عليه ، كما وضح هذا ابن القيم في كتاب الروح وشيخ الإسلام في كتاب الجنائز .
596- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: { مَرَّ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقُبُورِ اَلْمَدِينَةِ, فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ اَلْقُبُورِ, يَغْفِرُ اَللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ, أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالْأَثَرِ" } رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ, وَقَالَ: حَسَن ٌ .
الشرح:
وعن ابن عباس قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة ، فأقبل عليهم بوجهه فقال " السلام عليكم يا أهل القبور ، يغفر الله لنا ولكم ، أنتم سلفنا ونحن بالأثر " رواه الترمذي من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس به .
وقابوس قال عنه أحمد : ليس بذاك .
وقال أبو حاتم : لا يحتج بحديثه ضعيف لين الحديث .
وضعفه يحي بن معين والنسائي والدارقطني وغيرهم .
ووثقة يعقوب بن سفيان .
والصحيح أنه لين الحديث كما هو قول أكثر المحدثين.
وحديث الباب أحتج به بعض الفقهاء المتأخرين على مشروعية السلام على أهل القبور وإن لم يدخل المرء المقبرة ، فمجرد المرور عليهم يكفي بالسلام عليهم ، وهذا فيه نظر ، لأن حديث الباب ضعيف ولا يصح الاحتجاج به ، والسلام لا يشرع إلا إذا دخل المسلم المقابر أما مجرد المرور عليهم فلا يكفي بالسلام عليهم ومثله يحتاج إلى دليل .(1/107)
وحديث الباب ضعيف الإسناد والكتابات الموجودة : (لا تنسوا السلام على الأموات إذا مررتم بهم) ، هذا من فعل الذين لا يعلمون فليس هناك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح يقتضي التجويز فضلاً عن مشروعية السلام لمن مر بالقبور ولم يدخل المقابر .
597- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ, فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا } رَوَاهُ اَلْبُخَارِيّ.
598- وَرَوَى اَلتِّرْمِذِيُّ عَنِ اَلمُغِيرَةِ نَحْوَهُ, لَكِنْ قَالَ: { فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ } .
الشرح:
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تسبوا الأموات ، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " رواه البخاري .
قال البخاري رحمه الله حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن عائشة .
ورواه الترمذي في جامعه وأحمد بن حنبل في مسنده وابن حبان في صحيحه عن المغيرة بن شعبة ، وزاد في آخره " فتؤذوا الأحياء " وقد ذكر الترمذي في إسناده اختلافاً .
قوله " لا تسبوا الأموات " :
قال بعض أهل العلم يشمل هذا المسلمين والكافرين فيحرم سب الأموات على هذا القول وإن كان الميت كافراً ، وقال بعض أهل العلم هذا خاص بأموات المسلمين لأنه قد أفضى إلى ما قدم .(1/108)
وقال بعض أهل العلم بالتفصيل فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الأموات " إن كان الميت كافراً ويتأذى قريبه الحي المسلم بسبه حينئذ يحرم سبه ، وأما إذا كان لا يتأذى أحد بسبه أو كان الكافر مؤذياً للمسلمين متعرضاً لحرماتهم فمثل هذا لا يحرم سبه ، وأما إذا كان الميت مسلماً فإن كان مبتدعاً فيسب ليحذر شره ، ولكن ينبغي أن يعرض عن سبه حال وجود أقاربه ، وأما إذا كان الميت من سائر أموات المسلمين لا يُعرف وإن كان ليس بصاحب طاعة فحينئذ يحرم سبه فقد أفضى إلى ما قدم ولأنه مسلم له حرمة والتفكه بحرمات المسلمين لا يجوز ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم السبب في النهي عن سب الأموات بقوله صلى الله عليه وسلم " فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " .
فلربما كان هذا الرجل الذي تسبه من أهل الجنة وأنت من أهل النار ، فلذلك ينبغي للمسلم أن يعرض عن لحوم أموات المسلمين فإن في هذا مفاسد منها : أنه نوع من أنواع الغيبة ومنها أن هذا السب أذية للأحياء ومنها أنك تعرض نفسك للسب أيضاً.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خيرة العباد أحمعين أما بعد
فقد وقفت على كتاب الجنائز شرح بلوغ المرام وهو من إملائي وكلامي فلا مانع من نشره للإستفادة منه .
كتبه
سليمان بن ناصر العلوان
1/8/1417هـ
التوقيع(1/109)