الحديث - المستوى السادس
الدرس الأول
الدرس الأول - باب الوصايا
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
باب الوصايا
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وأهلا ومرحبا بكم مجددا مع هذه الدورة التي تجددت في كتاب عمدة الأحكام من كلام خير الأنام -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-.
نفتتح بإذن الله تعالى وعونه هذا المقرر الدراسي في هذه الدورة، ونتناول معًا باب الوصايا وما يتبعه، ومع الحديث الأول في باب الوصايا.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (باب الوصايا:
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) زاد مسلم: (قال ابن عمر: فو الله ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك إلا وعندي وصيتي).
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، هذا باب الوصايا، وكنا قد عرّفنا من قبل معنى كلمة الباب وهو في اصطلاحا العلماء: جملة مختصة من العلم تشتمل على فصول ومسائل غالبًا.
والوصايا جمع وصية؛ كالهدايا جمع هدية، والوصية والهدية متقاربتان في المعنى، وأصل كلمة الوصية اسم مصدر من الإيصاء أو التوصية.
ما الفرق بين المصدر واسم المصدر؟ هذا تُحَضِّرُونَه ونسألكم فيه في لقائنا الآتي.
إذن الوصية اسم مصدر بمعنى الإيصاء أو التوصية، والإيصاء أوالتوصية في اللغة مادة تدور على أمرين على الطلب وعلى الصلة، فالوصية هي أن تطلب من غيرك أمرا ليفعله في غيبتك، سواء كان في هذا في حياتك أو بعد مماتك، هذا معنى الوصية في اللغة، فإذا أوصيت فلانا بشيء فأنت تطلب منه أن يفعل أمرا، هذا الأمر يفعله لك سواء كنت حيا أو ميتا، هذا المعنى في اللغة.(1/1)
وتطلق الوصية في اللغة أيضا على معنى الصلة، تقول: أوصيته أو أُوصِيه –بالتخفيف- بمعنى وصلته، فالتوصية والوصية فيها معنى الصلة كما أن فيها معنى الطلب، وهذه الصلة ملحوظ معناها في معنى الوصية من الناحية الشرعية، لماذا؟
قالوا: لأن الموصي إذا أوصى لغيره فكأنه يصل عمله الصالح الذي كان منه في حياته بعد مماته، فإنه حين يوصي إلى غيره بعد مماته تزداد بذلك حسناته، وترتفع بذلك درجاته، وتزدان بذلك صحيفة أعماله؛ لأنه يختم له بخاتمة حسنة حين يكون آخر عمل يعمله هذا الإنسان أن يوصي؛ لأن الوصية -كما سنعرف- تمليك مضاف إلى ما بعد الموت، أو تبرع إلى ما بعد الموت، أو عقد ينتقل فيه الملك إلى هذا الذي وصّى إلى من أوصى إليه، وهذا الانتقال لا يكون إلا بعد الموت.
فالوصية تصل الإنسان بالناس بعد موته فيذكرونه بخير، فهو قد وصى بشيء من ماله لبعض وجوه القُرَبِ إلى الله تعالى، ولهذا فإن الوصية لا تكون إلا مشروعة، وهذا ما انعقد عليه إجماع علمائنا بحمد الله تعالى.
إذا أردنا أن نتناول معنى الوصية في الاصطلاح، وحين نذكر الاصطلاح فإننا نذكر فيه اصطلاح الفقهاء المتشرعة، يقولون -وقد اختلفت عباراتهم في معنى الوصية-: الوصية: تمليك مضاف لما بعد الموت، ومنهم من يعتبرها عقدا مضافا إلى ما بعد الموت، ومنهم من يعتبرها من جنس التبرع الذي يكون بعد الموت أيضا.
إذن هذا هو المعنى العام للوصية عند الفقهاء، وما التعريف الذي نرجحه أو نختاره؟ هل هو تمليك مضاف إلى بعد الموت؟ أو هو عقد مضاف إلى بعد الموت؟ أو هو تبرع مضاف إلى بعد الموت؟
نقول: الاختيار أن يقال: إنه عقد مضاف لما بعد الموت، وأن هذا العقد يشمل الوصية بأنواع القرب كما يشمل الوصية بالتصرفات.(1/2)
وهل يتصور أن تكون وصية ببعض الأعمال والأفعال؟ نعم، وهذا يسميه بعض الفقهاء بالإيصاء، ويفرقون أحيانا بين الوصية والإيصاء فيقولون: الوصية تتعلق بالأموال، والإيصاء يتعلق بالوصية للصغار، فكأن الإنسان إذا أوصى إلى أحد أحبابه بأن يرعى صغاره بعد مماته فإن هذا يسمى إيصاءً.
هذا عند بعض الفقهاء، أما الحنابلة ومعهم المالكية فإنهم يقولون: إن الوصية والإيصاء شيء واحد، فإذا قلنا وصية دخلت فيها الأمور المالية كما دخلت فيها أنواع التصرفات؛ ولهذا وجدنا أن المالكية والحنابلة يعرفون الوصية بتعريف يختلف شيئا ما عن تعريف الجمهور فماذا يقولون؟
يقولون: إن الوصية هي الأمر بالتصرف بعد الموت، فالتصرف هنا يشمل التصرف المالي والتصرف غير المالي نيابة عن المتوفى، وفي تعبير لهم آخر قالوا: إن الوصية هي عقد يوجب حقاً في ثلث مال العاقد يلزم بموته أو يوجب نيابة عنه بعد موته، هذا العقد يوجب نيابة من وصي له في خلافة الموصِي في أمر يكون نحو غيره، كأن يوصي أن يفعل معروفا إلى أولاده ونحو ذلك.
وبالجملة فإن هذه التعاريف تفيدنا أمورًا تتعلق بالوصية:
أولا: أن الوصية تفيد الملك، سواء كانت كان التمليك في الأعيان أو المنافع. وقد سبق لنا أن تكلمنا عن تعريف المال، وتحدثنا عن أن المنافع أموال على الراجح من قولَيْ أهل العلم، وعلى هذا فإن التصرف المالي يشمل التصرف في الأعيان كما يشمل التصرف في المنافع، ويجوز عندئذ أن تقع الوصية بالأعيان كما تقع بالمنافع.
من يضرب لنا مثالا على الأعيان وآخر على المنافع؟
إذا أوصى رجل بداره إلى شخص ما فهذا يوصي بماذا؟ بعين، هذه العين قد تكون عقارا وقد تكون منقولا؛ لأن الأموال تنقسم باعتبارٍ إلى منقولات وإلى عقارات، والعقارات تشمل الأرض والبناء، والمنقولات ما دون ذلك، إذن هذا مثال الأعيان المالية.(1/3)
ما مثال المنافع؟ سكنى الدار، لو وهبتك أو أوصيت لك سكنى الدار، فقلت: لفلان أن يسكن داري من بعدي، فهذه وصية، أوصيت بمنفعة هذه الدار لفلان فسار له أن يسكنها وأن يعمرها، إذن الوصية تفيد الملك.
والوصية قد تكون عقدا على المنفعة وقد تكون عقدا على العين، العقد على المنفعة يفيد ملك المنفعة، وهذا ما نسميه في العقود بعقد المنفعة، فمالك هذه المنفعة يملك أن ينتفع فيها بنفسه وأن ينفع بها غيره، فلو أوصى إنسان إلى آخر بأن ينتفع بسكنى داره من بعده فمات هذا الموصِي وآلت منفعة هذه الدار إلى ذلك الذي أُوصِيَ له فإنه يسكن هذه الدار وله أن يُسكنها غيره، فهو يملك منفعتها، وإذا ملك منفعتها ملك أن ينتفع بنفسه وأن يبيع منفعتها، أو يؤجرها أو ويهبها، فمالك المنفعة يملك أن ينتفع بنفسه، ويهب لغيره هذه المنفعة.
ومالك العين يملك أن يبيعها، ويملك أن يبيع منفعتها بأن يؤجرها، والوصية تقع بالأموال تملكا وتمليكا، وتقع أيضا على المنافع تملكا وتمليكا.
ثانيا: مما نلاحظ في هذه التعاريف أن الملك فيما أوصي به ينتقل إلى الموصَى إليه بموت الموصِي، ولا ينتقل ملك هذه الأعيان ولا المنافع إلا بعد موت الموصِي.
فالوصية تصرف مضاف لما بعد الموت، أو أمر بالتصرف لا يثبت هذا الأمر ولا يلزم إلا بعد الموت، ولا ينتقل الملك إلا بعد وفاة الموصي، وهو غير راجع عن وصيته، فإن رجع قبل موته كانت هذه الوصية باطلةً.
ثالثا: أن الوصية ليست من عقود المعاوضات، ونحن كنا قد تكلمنا في أول كتاب البيوع عن قسمة العقود، فهي -أي الوصية- ليست من عقود المعاوضات، فمن أي العقود هي إذًا؟ هي من عقود التبرعات؛ فإن الموصي لا يطلب ممن أوصى إليه أجرا وإنما يطلب من الله -عز وجل- الأجر ويبتغي منه الثواب، فهو عقد على سبيل التبرع، ولهذا عرف بعض الفقهاء الوصية فقال: تبرع مضاف لما بعد الموت.
ما دليل الوصية؟ وما حكمة مشروعيتها؟(1/4)
أولا: الوصية مشروعة بالإجماع بعد الكتاب والسنة، والمعقول يشهد لها ويدل عليها؛ فالقرآن الكريم ذكر الوصية غير مرة، ذكرها بلفظها، وذكر مادتها وفي كتاب الله -عز وجل-: ? كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ? [البقرة: 180].
إذن القرآن الكريم فيه ذكر هذه الوصية، والله -تبارك وتعالى- ذكر في آية النساء: ? مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ? [النساء: 12].
وآيات كثيرة جاء فيها ذكر الوصية، سواء كانت الوصية من الله -عز وجل- كقوله تعالى: ? وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ ? [النساء: 12]، أو كانت من العباد.
إذن مادة الوصية مع لفظها مذكورة في كتاب الله تعالى، وفي حديث الباب ما يشهد له؛ أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أمر بكتابة الوصية وحض على ذلك وحث عليه، وأمر ألا يبيت إنسان ليلة أو ليلتين أو ثلاث ليال -كما في بعض روايات الحديث- إلا ووصيته مكتوبة عنده.
إذن في السنة ذكر الوصية والحث عليها والأمر بها، وسيأتي مَعَنَا بيان حكمها التكليفي واختلاف العلماء في هل الوصية واجبة أم هي مستحبة؟
والذي نريده أن نؤكده أن الوصية ثابتة في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وفي الحديث: (إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم) الحديث في السنن بسند حسن، فهذا يدلك على مشروعيتها.
والإجماع منعقد على ذلك، نقله غير واحد من أهل العلم.(1/5)
أما من المعقول فإن العبد يحب أن ينتفع بماله في أخراه كما يحب أن ينتفع بماله في دنياه، وربما تطرق إلى الإنسان خوفٌ إذا هو أنفق ماله في حياته أن يفتقر، بل هو مأمور بألا يخرج من ماله بالكلية، ولو كان ذلك عن طريق الصدقة، وهو مأمور أيضا أن يبقي لورثته شيئا من المال، كما سيأتي معنا في الحديث الثالث في هذا الباب وهو (حديث سعد بن أبي وقاص، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يأمره ألا يترك ذريته وأولاده من بعده عالة يتكففون الناس، بل عليه أن يتركهم أغنياء)، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: (ما عال من اقتصد)، فالإنسان قد يخشى -وربما يكون قليل المال- لو أنفق هذا المال على ألا يقدر على جمع مثله، أو أن يحتاج إليه، أو أن تطول حياته فيحتاج إلى ماله فلا يتصدق به، وهو أيضا يريد أن ينتفع بماله بعد موته بأن يلحقه من ثواب هذا المال ومن بركته ومن خيره في قبره، فشرعت له الوصية، ولَمْ تشرع للمسلم فحسب، بل شرعت لجميع الخلق، فتجوز وتصح من جميع الخلق؛ المسلم وغيره لتحقيق هذا الغرض.
إذن إذا أنا أوصيت فإن مالي الذي أوصيت به لا يزال في ملكي، ولا يخرج عنه إلا بعد وفاتي، فلا يلزم عقد الوصية إلا بموتي، فأنتفع بموتي حال حياتي وأنتفع به بعد مماتي، فهذا يلبي حاجة الإنسان في انتفاعه بماله في الحالين، فتكثر -كما قلنا- في ميزان حسناته، وتزداد من الخير ومن البر درجاته، وتزدان صحيفة حسناته وصحيفة أعماله بهذا الخير وذلك البر.
انتهينا من هذا إلى أن الوصية مشروعة، وأنها –أيضا- مأمور بها في كتاب الله وفي سنة نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- والعقل يشهد بهذه المشروعية.
ننتقل بعد ذلك إلى الكلام عن أركان الوصية.
علمنا أن الوصية أمر بالتصرف بعد الموت، أو هي عبارة عن عقد يوجب حقا في ثلث مال العاقد، ويلزم هذا العقد بموته.
ما معنى يلزم العقد بموته؟(1/6)
العقود إما أن تكون لازمة، أو جائزة، أو موقوفة؛ العقود اللازمة قد تكون لازمة من الطرفين وقد تكون لازمة من طرف واحد، وعقد الوصية عقد جائز غير لازم من الطرفين، بمعنى أنه لو أن إنسانا أوصى لغيره بوصية فقال: لفلان داري من بعدي، أو لفلان كتابي أو مكتبتي من بعدي، قال ذلك في زمن سعة من عيشه مثلاً، ثم دارت السنون فاحتاج أن يبيع ذلك البيت أو أن يبيع ذلك الكتاب فهل له أن يبيع أو لا؟
له أن يبيع.
وهل للطرف الثاني أن يرد هذه الوصية؟
له أن يرد هذه الوصية، سواء كان هذا الرد في حياة من أوصى له أو كان الرد بعد مماته، إلا أن المعتبر في الرد أن يكون بعد الممات؛ لأن هذا هو وقت التمليك ونفوذ هذا العقد؛ لأن التصرف مضاف إلى ما بعد الموت، فعقد الوصية غير لازم من الطرفين، وليس من طرف واحد.
أركان عقد الوصية:
الجمهور يقولون أركان عقد الوصية أربعة:
صيغة - وموص - وموصى إليه - وموصى به.
الموصي: هو الذي يعقد هذا العقد فيتبرع بشيء من ماله، أو يطلب من غيره أن يشرف على عياله.
والموصى إليه: هو الذي يقبل هذا التبرع، سواء كان إنسانا أو جهة معينة يصح التبرع إليها.
والموصى به: هو المال أو ذلك التصرف الذي طلبه الموصِي من الموصي إليه.
والصيغة: هي الطريقة التي يتحقق بها إنشاء عقد الوصية، وهي تصرف إرادي يفصح عن رضا الموصي بانتقال ملكية ما أوصى به إلى الموصى إليه.
هذا هو معنى الصيغة، وجمهور الفقهاء -كما قلنا- يقولون: إن عقد الوصية يقوم على أربعة أقسام خلافا للحنفية؛ فإن الحنفية قالوا: ليس بهذا العقد إلا ركن واحد، ما هذا الركن؟
قالوا: الصيغة.(1/7)
وهل يتحقق في وجود عقد كالوصية لا يوجد فيها موص، ولا موصى إليه، ولا شيء يوصى به حتى يقصروا هذا العقد في ركن واحد هو الصيغة، هل الحنفية لا يعتبرون وجود موص، ولا موصى إليه، ولا موصى به أو يعتبرون؟ قطعا سيعتبرون؛ لأنه لا يتصور وجود عقد بدون هذه الأركان الثلاثة، لكنهم يقولون إنها بمثابة الشروط لهذا العقد، وليس بمثابة العقد الأركان.
على كل حال نحن نسير في هذه المسألة مع قول جمهور الفقهاء؛ فإن هذا أكثر انضباطا.
اتفق الحنفية مع الجمهور على أن الصيغة ركن من أركان هذا العقد، والصيغة إيجاب وقبول.
ما الإيجاب؟ قالوا: الإيجاب ما صدر عن الموصي من قول أو فعل ينبئ عن رضاه بانتقال ملك ما أوصى به إلى من أوصى إليه.
كيف ينعقد هذه الإيجاب؟ ينعقد بكل ما يدل عليه، سواء كانت الدلالة دلالة لفظية أو كانت الدلالة دلالة فعلية أو تصرفية.
الدلالة اللفظية هي القول، ويكون بالصريح تارة، وبالكناية تارة أخرى.
مثال اللفظ الصريح أن يقول: أوصيت بداري الموجودة بالحي الفلاني إلى فلان بعد موتي، فهذا لفظ صريح.
ومثال اللفظ الكنائي أن يقول: وهبت لفلان داري بعد موتي، ومعلوم أن الهبة بعد الموت وصية في المعنى، ونحن تعرضنا للهبة في كتاب البيع وعرفناها وتعاملنا معها، وفرقنا بينها وبين ما بعض ما له صلة بها من العقود، فإذا قال: وهبت لفلان داري بعد موتي كان هذا وصية في المعنى، وتصح بذلك الوصية.
ومثال الانعقاد بالفعل أن يكتب؛ لأن الكتابة نوعُ فِعْلٍ، وكأن يشير إشارة مفهمة، فعلى الصحيح أن هذا أيضا يفيد انعقاد عقد الوصي.(1/8)
هذا هو الإيجاب، والإيجاب يقابله القبول، والقبول يكون من الموصى إليه، والموصى إليه متى يقبل قبوله؟ يقبل قبوله بعد موت من أوصى له؛ لأن وقت التمليك هو وقت انعقاد العقد على التحقيق، ووقت انعقاد العقد لا يكون إلا بعد موت من أوصى؛ ولِهَذَا أيضا تفصيل عند الفقهاء فمن الفقهاء من يقول: ولا بد في القبول أن يكون قوليا أو فعليا؛ قوليا كأن يقول: قبلت وصية فلان، وفعليا كأن يتصرف فيما أوصى به إليه تصرف الملاك، مثل أن يعرضه للبيع أو أن يسومه، أو أن ينتفع به أو أن يُؤْجِرَهُ، فهذا تصرف فِعْلِيّ يدل على قبوله هذه الوصية.
فالقبول ما صدر عن الموصَى له من قول أو فعل يعبر عن رضاه.
وهناك من يقول: هل يتصور أن إنسانا يوصي إلي بداره مثلاً أو يوصي إلي بمحل تجاري ولا أقبله؟
نعم، هذا وارد؛ فكثير من الناس يتعففون عن قبول الوصية؛ لأنه يرى أن في ذلك منةً يتقلدها لهذا الذي أوصى إليه، وهو لا يحب أن يتقلد مِنَّةً لأحد، فلا يقبل هذه الوصية، وربما يرفض لسبب آخر، كأن يوصي إليه مثلاً بدار لا يستطيع أن ينتفع بها إلا بنفقات كثيرة، كأن تكون متهدمة أو تحتاج إلى إصلاحات أو أشياء من هذا القبيل، فإذا أراد أن ينتفع بها أنفق أموالا كثيرة لا يملكها أو لا يريد أن ينفقها فيرفض هذه الوصية ولا يقبلها.
إذن يتصور أن يوصى إلى إنسان بوصية فلا يقبلها، كأن يوصي إنسان إلى آخر بمحل تجاري عليه ديون، هذه الديون لا يستطيع سدادها، وربما زادت على رأس مال هذا المحل التجاري، فهو عندئذ يكون متورطا في هذه الوصية ولا يكون منتفعا بها، إذن لا بد من القبول.
الجمهور يقولون: لا بد من قول أو فعل، والحنفية يقولون: يكفي عدم الرد، فعدم الرد قبول عندهم قبول عند الحنفية.
إذا أردنا أن ننتقل بعد هذا إلى الكلام إلى الركن الثاني من أركان عقد الوصية فإننا نقول:
الركن الثاني: الموصِي، من الموصِي؟
هو ذلك الذي يتبرع بماله؛ أي من ينشئ هذا العقد أو هذا التصرف.(1/9)
وهذا الموصي له أربعة شروط، كلها شروط صحة؛ أي لصحة الوصية، وخامس لنفاذها وليس لصحتها فهنا أربعة شروط.
الشرط الأول: العقل، فلو أوصى مجنون لغيره لم تصحَّ وصيته، وكذا لا تصح وصية صبي لا يميز؛ لأنه لا يصح له تصرف في ماله، ولا أهلية له، أي أهليته في هذه الحال كحال الجنون أو حال الصغر الشديد لا يستقيم معها أن ينشئ عقدًا، فلا تصح العقود بعبارتهما، ولا تصح أيضا بعبارة وليهما -يعني ولي المجنون أو ولي الصبي- لو راح فأوصى فهل تصح هذه الوصية أو لا؟
نقول: لا تصح، لماذا؟
لأنه مكفوف اليد أن يتصرف في مال الصبي أو مال المجنون إلا بما فيه مصلحة هذين اللذين تولى أمرهما، ولا مصلحة لهما في أن ينفق مالهما وقد يحتاجان إليه، لذلك لا يملك الوصي أو الولي أن ينفق متصدقا متطوعا من مال من تولى أمره ولاية مالية؛ كالولاية على المجنون أو الولاية على الصبي الصغير، فهو مأمور باستثمار المال لا بالتبرع به.
الشرط الثاني:
شرط البلوغ: وهذا الشرط فيه بعض التفصيل؛ ذلك أن الفقهاء اشترطوا التمييز في الصبي حتى تصح وصيته. والتمييز هو سن سبع سنوات، هذا أول سن يعتبر في التمييز.
اتفق الفقهاء على شرطية التمييز، ثم إنهم اختلفوا بعد ذلك في شرطية البلوغ؛ فذهب الظاهرية وبعض الشافعية وبعض الحنفية إلى عدم صحة الوصية إذا لم يكن هذا الصبي بالغا، فاشترطوا البلوغ واعتبروا الوصية إذا صدرت من صبي مميز دون سن البلوغ وصيةً باطلةً.
وذهبت الحنفية في تفصيل إلى جوازها إن أوصى بأمر يتعلق بتجهزه ودفنه وتكفينه، وقالوا: إن هذا لا يتوقف على وصيته، فلو أوصى به جاز.
وأما المذهب الثاني -وهو مذهب المالكية وأكثر الحنابلة وبعض الشافعية- فهو أنه تقبل وتصح الوصية من صبي مميز إذا كان يعقل الوصية، ويعقل معناها ويعقل ما ترتب عليها.(1/10)
قالوا -وهذا تفصيل عند الحنابلة-: إذا بلغ عشر سنين صحت وصيته، وقالوا –في قول آخر-: إذا راهق، يعني ناهز البلوغ وقاربه وشارفه فإنه تصح وصيته ولو لم يبلغ، واشترط بعض الشافعية أن تكون في وجه من وجوه الخير، ويستدلون على ذلك بأن صبيا من غسان أوصى لأخواله، فرفع أمره إلى عمر -رضي الله تعالى عنه- فأجاز هذه الوصية، قالوا: وهي قصة اشتهرت، فلم تنكر فكان ذلك أجماعا.
ثم قالوا: إننا إنما نمنع من إنفاقه لماله حال حياته مراعاة لمصلحته، وأما الوصية تكون مضافة إلى ما بعد موته فإنها لا حرج فيها؛ لأنها لا تنتقص من ماله حال حياته شيئا، وإنما تنتقص من المال عند احتياجه إليه بعد مماته، فهذا من مصلحته أن يكثر ثواب ماله، ثم إنها إذا كانت في حدود الثلث فلا حظر فيها، ولا حيف يقع فيها على ورثة ذلك الصبي.
وبهذا يكون مذهب المالكية والحنابلة ومن وافقهم من الشافعية هو الراجح في هذا المسألة.
الشرط الثالث: شرط الرشد، ويقصد بالرشد حسن التصرف في المال، أن يكون رشيدا أي أن يكون حسن التصرف في المال، وهذا إنما يتأتى بنضج العقل واكتماله، والاهتداء إلى أوجه النفع وأوجه الضرر في التصرفات كافة، ويقابل الرشيد السفيه، فالرشد ضده السفه، وضده الغفلة أيضا.
والجمهور يذهبون إلى صحة وصية السفيه، قالوا: لأنه لا ضرر عليه في ماله في حياته، ولا ضرر أيضا على ورثته بعد مماته؛ لأن هذا إنما يخرج من ثلث ماله، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رخص في ذلك، وخالف بعضُ الفقهاء من الحنفية في هذه المسألة؛ فاعتبروا أن السفيه إذا كان محجورا عليه فلا يجوز أن يتصرف في ماله؛ لأنه ممنوع هو والغافل الذي لا يحسن البيع ولا الشراء ولا يتنبه إلى ما فيه من الغبن أو ما يقع فيه من الخداع، قالوا: إن هذا وذاك ممنوعان من التبرعات محافظة على مالهما، والراجح الأول كما بينا.(1/11)
الشرط الرابع: الرضا، فلو أكره إنسان على وصية لم تصحَّ، والرضا أصل في جميع العقود، فذهب الجمهور إلى بطلان وصية المكره؛ لأنه فَقَدَ الرضا، وانعدمت إرادته واختل رضاه، وذهب الحنفية إلى أن وصية المكره صحيحة إلا أنها موقوفة على إجازته بعد زوال الإكراه، فلو أن إنسانا حَمَلَ السلاح على إنسان، وقال له: اكتب وصيةً بكذا، فالجمهور يقولون: هذه الوصية باطلة لا اعتبار لها ولا اعتداد بها، والحنفية يقولون: بل هي صحيحة موقوفة على إجازته بعد زوال الإكراه عنه؛ لأنه تَصَرَّف وفَعَل وكَتَب وأشهد تحت الإكراه، ثم زال الإكراه وارتفع فماذا نقول؟ نقول-أي الأحناف-: هي باطلة ولا نقول هي صحيحة، لكنها موقوفة على إذنه؛ إن أجاز ما وقع منه تحت الإكراه قُبلت أو صحت وإن لم يجز بطلت وفسدت.
على كل حال المسألة عندئذ تكون قريبةً.
ويتفرع على الإكراه ما لو أوصى حال سكره؛ لأن الإكراه يفسد اختياره ويعدم رضاه، كذلك السكر يفسد اختياره ويعدم رضاه، لكنَّ الفقهاءَ -رحمهم الله- يفرقون بين حالين:
الحال الأولى: حال ما لو كان متعديا بسكره، يعني شرب الشراب المحرم من غير وجه حق؛ كمن شرب الخمر ونحوِها كالمخدرات وما يعمل عمل الخمر، ولم يكن له في ذلك من حق.
وهل يمكن أن يشربها الإنسان بحق؟ نعم كأن يُكره على شربها، أو يشربها بالخطأ، أو أن يقع تحت تأثير بنج مخدر جراء عملية جراحية، فيقع منه أن يتكلم -كما يقع من السكران بالشراب المحرم- بوصية أو بطلاق أو بما أشبه، فما الحكم إذا أوصى حال سكره؟
يقول جمهور العلماء: إن هذا الإنسان ولو كان متعديا بسكره فوصيته باطلة ولا تصح، وذهب طائفة من الحنفية والشافعية إلى صحة الوصية عقوبة له على تعديه بسكره.(1/12)
وعلى كل حال فإنها إذا صحت وأفاق يثبت له الخيار في إمضائها أو في الرجوع عنها، أما إذا كان السكر بغير محرم كما لو أعطي بنجا في عملية جراحية، والبنج هو ما يؤخذ ليغيب إحساس الإنسان بالألم، وقد يهذي معه الإنسان أو يقول ما لا يدري ولا يشعر، فإذا أخذ شيئا بطريق الخطأ، أو وقع تحت تأثير المخدر فقال شيئا فإنه لا يؤاخذ عند الجميع.
إنسان يهذي أو أخطأ أو سَبَق لسانه فأوصى فما حكمه؟ الجمهور على أنه لا تصح وصيته لعدم وجود الرضا والاختيار أيضا، وإنما وقع منه ذلك خطأ والله –تعالى- يقول: ? رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ? [البقرة: 286].
جمهور العلماء على بطلان وصيته خلافا للشافعية، هذه هي الشروط الأربعة التي تسمى شروط صحة، وهي تتعلق بالموصِي.
وهناك شرط خامس: وهو شرط نفاذِ هذه الوصية، ما هذا الشرط؟
قالوا: أن لا يكون الموصي مدينًا بدَيْنٍ يستغرق كلَّ التركة. هذا ليس شرطَ صحة وإنما هو شرطُ نفاذٍ؛ لأنه يصح له أن يوصي؛ فلو أن إنسانا أوصى بثلث ماله للفقراء أو لجهة من جهات البر والإحسان، ثم إنه حين مات وجد أن تركته عليها ديون تستغرقها، أو لا تفي بسدادها، فماذا نقدم؟
نقدم إنفاذ الوصية أم سداد الدين؟ ما رأيكم؟
الدَّيْن أولا يا شيخ
لماذا؟
لأن الدَّيْن يعلق في رقبة الميت حتى يقضى
سداد الدين واجب، وأما الوصية فمستحبة؛ لأنها نوع من أنواع القرب المندوبة، ولا يتعارض واجب مع مندوب إلا قدم الواجب، فعندئذ نقول: عليه أن يسدد الدين أولا، فلا تنفذ هذه الوصية؛ لأن الفرض أن الدين يستغرق التركة، فلا يبقى مجال بعدئذ لهذه الوصية؛ لذلك قلنا: هذا شرط إنفاذ واستحقاق، ألا تكون التركة مستغرقة في دين يأخذها كلها.
وهذه مسألة مهمة، وهي أن الإنسان لا يجوز أن يُبْدأ بتقسيم تركته إلا بعد أمور؟
الأمر الأول: أن يفرغ من المال الذي به جهازه من غسل وكفن وما يتعلق بذلك، فهذا مقدم؛ لأنه حق نفسه.(1/13)
الأمر الثاني: تأتي الديون، سواءً كانت الديون ديونا لله -عزّ وجلّ- كأن تكون عليه زكاة أو كفارات أو نذور أوجبها على نفسه في ماله، فهذا يجب أن يخرج من تركته، أو كانت الديون من حقوق العباد كأن يكون مدينا لزيد أو عمرو، والواجب عندئذ أن يسددَ ما لزيد وما لعمرو، ثم تأتي الوصية في المرتبة الثالثة، وبعد الوصية يأتي الإرث، فالإرث يأتي آخرا.
فنفقة الميت المتعلقة بجهازه ودفنه أولا، ثم الدَّين سواء كان لله -عزّ وجلّ- أو للعباد ثانيا، ثم الوصية ثالثا، ثم قسمة التركة على الترتيب المذكور.
ننتقل بعد هذا إلى شروط الموصَى له:
من الموصى له؟
هو من تنتقل إليه ملكية ما أوصى به الموصى، أو هو من ينوب عن الموصِي في فعل ما طلبه منه، أو في التصرف بما أمره به من أوصى.
وهو ركن الوصية عند الجمهور، وشرط فيها عند الحنفية.
الفقهاء وضعوا له شروطا، وإن وقعت لهم خلافات في تفاصيل ما يتعلق بهذه الشروط.
ما هذه الشروط التي وضعها فقهاؤنا للموصَى إليه؟
قالوا: أن يكون الموصى إليه أهلا للاستحقاق؛ أي له أهلية مالية تجعله يتحمل في ذمته هذه الوصية؛ فلو كان غير آدمي كأن أوصى لدابة أو لحيوان لا يعقل، أو لغير آدمي فهل تصح وصيته؟ لا تصح؛ لأن الموصى إليه ليس أهلا للاستحقاق وليست له ذمة يتحمل فيها هذا المال ولا يتحمل فيها هذه التصرفات التي يؤمر بها، فلو أن إنسانا في غير بلادنا وفي غير ديننا -بحمد الله- أوصى لكلبه أو لقطته -كما يقع هذا في غير بلاد المسلمين- فهل تصح هذه الوصية؟ نقول: لا تصح الوصية الباطلة؛ لأن الموصى إليه ليس أهلا للاستحقاق.
ولو أوصى إنسان للحجر الأسودِ فهل تصح وصيته؟
لا تصح هذه الوصية؛ لأنه لا توجد هنا أهلية للاستحقاق.
ولو أن إنسانا أوصى لمسجد فهل تصح وصيته أو لا؟(1/14)
نعم تصح، لماذا؛ لأن ليس المقصود أن الوصية للمسجد وأن للمسجد ذمة مالية، وإنما المقصود الإنفاق على مصالحه وعمارته وترميمه، فهذه الجهة الاعتبارية -وهي جهة البر في المساجد- هي عمارته وإقامتها وإصلاحها ونحو هذا، أما أن يوصي لجبل أو لجدار أو ما أشبه فإن هذا لا يتأتى، إلا إذا كانت الوصية لإقامة من يعمر هذا المكان أو يصلحه أو يرممه ونحو ذلك، عندئذ نقول: يجوز أن يوصي لمسجد أو لمدرسة أو نحوِ ذلك من الجهات.
إذن الشرط الأول: أن يكون هذا الموصى إليه أهلا لأن يستحق هذا المال.
الشرط الثاني: أن يكون الموصى إليه معلومًا، فلا تصح الوصية لمجهول، فلو قال إنسان: أوصيت لرجل بثلثي مالي -ولم يذكر هذا الرجل- فهل تصح هذه الوصية؟
لا تصح فنقول: هذه الوصية أيضا لا تصح، لكن لو قال: أوصيت لواحد من هذين الرجلين ولم يعين فالعلماء في ذلك لهم مسالك:
فمنهم من قال: الورثة يخيرون فيختارون أحدهما. ومنهم من قال: بل يقسم المال بينهما على التساوي.
فإن قال: أوقفت على المسجد ولم يبين جهة الصرف، بعض الفقهاء يقولون -وهم من الحنفية-: لا تصح هذه الوصية؛ لأنه لم يذكر الأبواب التي يريد أن ينفَق منها على المسجد، وبعضهم يقول: بل له أن يقف على المسجد من غير أن يبين الجهة؛ لأن العرف يقول: إنه يجوز أن يقف على المساجد، والمقصود بذلك عمارتها وإصلاحها ترميمها، ونحو هذا.
الشرط الثالث: أن يكون الموصى له موجودا عند الوصية إن كان معينا بالذات، أما إن كان معدوما فإنه لا تصح الوصية لانعدام محلها، فلو أن إنسانا أوصى لميت فهل تقع الوصية للميت؟ لا تقع الوصية للميت.
ولنا عودة -إن شاء الله تعالى- لاستكمال هذه المقدمة في باب الوصية حتى نكون منها على ذكر، ونحن نتناول أحاديثَ هذا الباب إن يسر الله وأعان.
إذن في لقائنا المقبل إن شاء الله نعود إلى ذكر بقية الأركان، وذكر الشروط المتعلقة بكل ركن.(1/15)
إلى هذا نقف وننتهي نسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما قلنا وبما سمعتم، وأن يجعل ذلك حجة لنا لا علينا، إنه جواد كريم، بر رءوف كريم.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟.
السؤال الأول:
عرف الوصية لغة واصطلاحا، واذكر حكمة مشروعيتها.
والسؤال الثاني:
بين أركان الوصية، وشروط كل ركن.
نحن تناولنا في هذه الحلقة الموصي، والموصى إليه إضافة إلى الصيغة.
ونعود -إن شاء الله تعالى- لاستكمال الشروط المتعلقة بالموصى إليه في لقائنا الآتي -إن شاء الله تعالى-.(1/16)
الحديث - المستوى السادس
الدرس الثاني
الدرس الثاني - تابع باب الوصايا
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
تابع باب الوصايا
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته يتجدد لقاؤنا معكم في شرح كتاب "عمدة الأحكام من كلام خير الأنام -عليه الصلاة والسلام-" وكنا قد ابتدأنا الحديث في باب الوصايا، وتناولنا الكلام عن أركان الوصايا، فذكرنا أن الوصية لها أربعة أركان على مذهب جمهور الفقهاء، وقلنا: إن هذه الأركان الأربعة هي: الصيغة، والموصي، والموصى إليه، والموصى به. وتناولنا الحديث عن الصيغة، ثم تكلمنا على شرط أو عن شروط الموصي، فذكرنا أربعة شروط لصحة الوصية، وذكرنا شرطا خامسا لنفاذها، ثم ابتدأنا الكلام عن شروط الموصى إليه، وتناولنا الشرط الأول وهو أن يكون أهلا للاستحقاق، وذكرنا في الشرط الثاني أن يكون الموصى إليه معلومًا، ثم تناولنا الشرطَ الثالثَ وتوقفنا عنده ولم نكمل الحديث، وهو أن يكون الموصى له موجودا عند الوصية إذا كان معينا بالذات، وقلنا: إنه لو أوصى إلى ميت لم تصح الوصية عند جمهور الفقهاء خلافا للمالكية.
ويمكن أن يوصي الإنسان إلى جهة معينةٍ غير موجودة وقت وصيته؛ كمسجد سوف يبنيه فإن يوصي لهذا المسجد في عمارته ورعايته والإنفاق عليه، يصحح الحنابلة هذا الأمر فيقولون: تصح وصيته إلى جهة ستوجد مستقبلا، أما الحنفية والشافعية فيذهبون إلى عدم صحة الوصية لجهة لم توجد وقت الوصية؛ أي لم تكن موجودة عند إنشاء هذه الوصية، ونلحظ أن المالكية الذين صححوا الوصية للميت يصححونها أيضا للمعدوم من الجهات ما دام أن وجود هذه الجهة يمكن أن يقع في المستقبل.
هذه الشروط الثلاثة كنا قد تناولناها بشكل من الاختصار في لقائنا الماضي ثم نواصل الشرح.(1/1)
من الشروط المهمة التي تتعلق بمن يوصى إليه أو بالجهة التي يوصى إليها:
ألا تكون هذه الجهة جهة معصية، أو جهة فعل محرم؛ فلو أن إنسانا أوصى ببناء كنيسة مثلاً أو بعمارتها، أو أوصى ببناء دار للفسق -والعياذ بالله- كبناء مرقص أو نادي للقمار وما أشبه، فهل تصح وصيته وتنفذ أو لا؟
لا تصح وصيته ولا تنفذ؛ لأن هذه وصية باطلة محرمة، لا تجوز من هذا الموصي ولا يجوز إنفاذها من بعده، وكذا لو أوصى هذا الإنسان بخمر أو خنزير أو آلات لهو أو آلات عزف محرمة فإن هذه معاص ومحرمات لا يجوز أن تكون محلا للوصية؛ لأن الأصل في الوصية أن تكون للقرب، فإن لم تكن في وجوه القرب فلتكن في أمور مباحة، أما الأمور المحرمة فالإجماع حاصل على عدم جواز الإيصاء بها، فهذه وصية لا تجوز من الموصي، ولا يجوز أن تكون محلا للوصية.
أوصى إنسان بأن يدفن في المسجد، وأن يبنى قبره وأن يرفع ضريحه وأن يستر بالستور، وأن توضع عليه القناديل، أوصى وجعل جزءا من ماله أو ثلث ماله لهذا، فهل هذه الوصية صحيحة أو لا؟ هذه الوصية ما حكمها؟ ليست صحيحة، لماذا؟ لأنها في جهة محرمة.
لو أوصى بشراء كتب إلحاد وزندقة وبدع وتفريقها هل تنفذ هذه الوصية؟ إذن من شروط الجهة الموصى لها أن تكون جهة خير وبر وقربة، أو جهة مباحة، أما أن تكون جهة معصية فهذا لا يجوز ولا يحل.
الشرط الخامس -شرط عدمي-: وهو ألا يكون الموصَى له قاتلا للموصي.
فلدينا قاعدة تقول: "من تعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه" هذه القاعدة يذكرها الفقهاء ويذكرون لها مثالا فيمن قتل مورثه فهل يرث منه؟ لا يرث لأنه لا ميراث لقاتل.
فلو أن إنسانا أوصى لآخر فاستعجل الثاني هذه الوصية فقتل من أوصى له فهل يستفيد من هذه الوصية أو لا؟ يستفيد أو لا يستفيد؟
ماذا تقول؟
لا يستفيد
لماذا؟
لأنه تعجل شيئا قبل أوانه
ما أوانه؟
أن يموت الموصي موتًا طبيعي(1/2)
الموت هنا هل هو السبب الذي ترتب عليه انتقال الملك من الموصي إلى الموصى إليه؟
الموت
حتى نشرح هذه المسألة ونفصلها أولاً: ينبغي أن نفهم قبل أن نستعجل في الإجابة هل هذا الموت أو هذا القتل كان بحق أو بدون حق؛ لأنه قد يقتل الموصى له الموصي بحق؛ كأن يقيم عليه الحد، أو يقتله قصاصا ونحو هذا، فهذا إذا وقع فإنه لا يمنع ولا ينبغي أن يقع خلاف في هذه المسألة، إذن الفقهاء اتفقوا على أن القتل كان بحق أو بعذر شرعي فإنه لا يمنع من استحقاق الوصية، ثم إنهم اختلفوا في القتل الذي يكون في غير حق، فذهبت الحنفية والحنابلة بقول لديهم إلى اعتبار هذا الشرط في الجملة، وقالوا: إذا وقع أن قتل الموصى له الموصي فإن هذا يؤثر في منع هذه الوصية، هذا عند الحنفية والحنابلة، وخالفهم في ذلك الشافعية في الراجح لديهم، أما المالكية فاعتبروا هذا الشرط بعد الوصية لا قبلها، فهم –المالكية- يقولون: لو أن إنسانا ضرب إنسانا فجرحه فأوصى هذا المجروحُ لجارحه، ثم مات جراءَ هذه الضربة فهل تنفذ الوصية أم لا؟
قالوا: تنفذ لأنه فعل ذلك بعد أن أصيب هذه الإصابة فكان قاصدا، أما لو كانت الإصابة قبل ذلك فإنه يحرم من هذه الوصية.
الشافعية في أرجح أقوالهم وبعض الحنابلة في قول لديهم قالوا بعدم اعتبار هذا الشرط؛ أي أنه لا يؤثر كونه قتله في استحقاق الوصية؛ لماذا؟ قالوا: لأن الوصية كالهبة فكما أن الهبة لا تتأثر بالقتل فلا تتأثر الوصية بذلك، وإذا جازت الوصية لكافر فلأن تجوز لقاتل من بابٍ أولى؛ لأن الكفر أشنع.
وردوا على الدليل الذي فيه لا يرث القاتل وقالوا: هذا في الإرث، وليس في الوصية، قالوا: وحديث "لا وصية لقاتل" لا يصح.(1/3)
الذين قالوا بأن القتلَ بغير حق يمنع الإرث -وهم الحنفية، والحنابلة في قول لديهم، والمالكية- هل كل قتل يمنع أم القتل العمد العدوان هو الذي يمنع؟ أم القتل الذي يستوجب عقوبة سواء كانت العقوبة مالية بالدية أو كان العقوبة بدنية بالقصاص؟ خلاف؛ الحنفية والحنابلة قالوا: إن كل قتل يمنع، سواء كان عمدا وعدوانا، أو شبه عمد، أو خطأ، ثم إن الحنفية استثنَوْا القتل بالتسبب، فلو أن إنسانا حفر بئرا ثم جاء إنسان فدافع آخر في هذه البئر لم يكن على حافرها عند الحنفية قصاص، هذا يسمونه قتل بالتسبب قالوا: لو أنه قتل بالتسبب لم يحرم من الوصية، وهذا خلاف من الحنفية والحنابلة، والمالكية قالوا: كل قتل عمد عدوان فأخرجوا قتل الخطأ، وقالوا: لو أنه قتله خطأ لم يكن ذلك مانعا من الوصية.
ومن الشروط أيضا: ألا يكون الموصى له وارثا، وفي كونه وارثا خلاف بين الفقهاء؛ ذلك أن الوارث له حق في الإرث، فإذا أخذ إرثه وأخذ وصية فوق إرثه فإن هذا قد يوغر الصدور، ويكون سببا في تقطيع الأرحام، لكن هل تبطل الوصية بذلك أو لا؟
ذهب الجمهور إلى أن الوصية بذلك صحيحة إلا أنها غير لازمة؛ لأنه لا مانع من تصحيحها، وهي غير لازمة لأنها موقوفة على إجازة الورثة، فلو أجاز الورثة ما فعل مورِّثُهم من كونه أعطى بعضهم أزيد من بعض أو خص بعضهم بوصية فإن هذا لا حرج فيه، فالوصية عندهم صحيحة موقوفة على من له حق الإجازة وهم الورثة بعد موت مورثهم هذا هو المذهب الأول.
المذهب الثاني -ذهب إليه طائفة من العلماء وهم الظاهرية-: فقالوا:" إن هذه الوصية لا تصح؛ إذ لا وصية لوارث مطلقًا سواء أجازها الورثة أم لم يجيزوها، فإن أجازوها كانت عطية مبتدأة أي عطاء جديد يعطونها لهذا الإنسان، وليس من الوصية التي أوصى بها مورثهم، فالظاهرية ومعهم بعض الحنابلة قالوا: إن هذه الوصية باطلة لا تصح، ولكن إن أحب هؤلاء أن يعطوا فليعطوا عطية جديدة مستأنفة.(1/4)
والراجح مذهب جمهور الفقهاء في كونها صحيحة موقوفة على إجازة الورثة الذين تصح إجازتهم، من الذين تصح إجازتهم؟ قالوا: من تحققنا من بلوغه واتصف بالعقل، لماذا؟ قالوا: لأن المنع كان لحق الورثة؛ لأن هذا سيكون فيه إضرار بالورثة؛ فإذا أذن الورثة في ذلك فلا حرج عندئذ؛ لأنهم أصحاب الحق في ذلك. وبهذا نكون قد أتينا على شروط الموصَى له.
لننتقل إلى الركن الآخر وهو ركن الموصى به.
الموصى به أول شروطه: أن يكون ممن يجري فيه الإرث، أو أن يكون قابلا للتمليك.
أي بعقد من العقود الناقلة للملكية، فإذا كان هذا الذي أوصى به مالًا مثليا أو كان قِيمِيا، أو عقارا أو منقولا، أو كان حقوقا عينية تقوّم بالمال كحق الشرب وحق المثيل ونحو ذلك، أو كان منفعة كمنفعة الدار أو غلة البستان أو ثمر النخل وما أشبه فكل ذلك يجوز أن تقع فيه الوصية.
الشرط الثاني: أن يكون الموصى به مالا متقوما عند الموصي، فلو أن إنسانا أوصى بميتة أو أوصى بدم فنقول: إن الميتة والدم ليس من الأموال؛ لأن الله تعالى حرم الانتفاع بهما فلا يعدان مالا متقوما، والمتقوم هو ما أباح الشارع الحكيم الانتفاع به، فلو أوصى بخمر أو خنزير أو ما أشبه لا تصح؛ لأنها غير متقومة بحق المسلم.
الشرط الثاني: ألا يكون الفعل الذي أوصى به مما لا يجوز شرعًا؛ لأننا قلنا: بأن الوصية قد تكون بالمال وقد تكون بالأفعال، فيشترط أن يكون هذا الأمر الموصى به مما يباح فعله شرعًا، فلو أوصى بطعام للنائحات عليه يوم موته، أي يؤمر بصنع الطعام لمن ينوح عليه ويندبه يوم موته -والعياذ بالله- أو أوصى بأن يخرج من ماله نذر للولي الفلاني أو للقبر الفلاني فهذا نذر باطل بالإجماع، وكذا لو أوصى لدور الفسق -والعياذ بالله تعالى- أو أوصى لخليلة له في الحرام، ونحو هذا من الصور التي قد توجد -والعياذ بالله تعالى- فهذا كله مما لا يحل ولا يصح.(1/5)
الشرط الثالث: أن يكون الموصَى به موجودًا عند الوصية في ملك الموصي؛ فلو أوصى بشيء لم يكن في ملكه إذا كان معينا بالذات لا يصح عند طائفة من الفقهاء، فلو قلت: مثلاً أوصيت بغنم فلان فإن هذا لا تنعقد به الوصية عند طائفة من أهل العلم، وذهبت طائفة إلى جواز ذلك؛ لأن الشأن إنما هو عند موت هذا الإنسان، فلربما اشترى هذه الأموال فدخلت في ملكه قبل موته فصححوا عندئذ هذا الأمر، فالشافعية والحنابلة يقولون بجواز ذلك.
الشرط الرابع: أن يكون الأمر الذي أوصى به لغير وارث، وألا يزيد عن ثلث تركته، فإن أوصى بما زاد عن الثلث -وسيأتي معنا في شروح الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الثلث والثلث كثير)- كأن جعل شطر ماله صدقة على الفقراء أو المساكين، أو أوصى به لفلان من الحكم؟
هنا اختلف الفقهاء فقالوا: إن القدر الزائد عن الثلث هذا موضوع الخلاف، أما الذي يدخل ضمن الثلث فلا خلاف على صحة الوصية فيه وبه، أما الذي زاد عن الثلث فذهب جمهور الفقهاء إلى صحة هذه الوصية، وأنها موقوفة على من على إجازة الورثة.
خالف في ذلك الظاهرة وبعض الشافعية وبعض المالكية فقالوا: قد (نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- سعد بن أبي وقاص أن يتصدق أو يوصي بشطر ماله، وقال له: الثلث والثلث كثير) فمعنى هذا النهي عن أن يوصي بأكثر من الثلث، فالوصية فيما زاد عن الثلث باطلة، ويجاب عليهم فيقال: إنما منع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك في الحديث رعاية لحق الورثة؛ لأنه قال له في الحديث: (إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير لهم من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) فهذا هو السبب فإذا أجاز الورثة ما أوصى به مورثهم صح ذلك، ولا حرج عندئذ في هذا الأمر.
ما شروط الإجازة؟ قالوا: عدة أمور:
الأمر الأول: أن تكون صادرة بعد وفاة مورثهم.
الأمر الثاني: أن يكون الوارث الذي يجيز بالغا عاقلا رشيدا. يجمع هذا قولهم: أن يكون أهلا للتبرع؛ أي: عاقلا بالغا رشيدا.(1/6)
الأمر الثالث: أن يكون المجيز عالما بما يجيز؛ أي لا بد أن يكون عارفا ماذا فعل مورثه وبأي شيء أوصى؟ وما القدر الزائد عن الثلث؟ فلا يجيز إجازة مبهة، فلو حدث هذا فلا تصح الإجازة وثبت له الحق في الرجوع عنها.
بهذا نكون قد أتينا باختصار على شروط الموصى به.
ننتقل بعد ذلك إلى مسألة أخرى مهمة؛ وهي مسألة:
بم تبطل الوصية؟
قد تعرضنا لذلك في ثنايا حديثنا السابق، وأيضا فيما ذكرنا من شروط أركان عقد الوصية.
ما مبطلات عقد الوصية؟
نقول: إن الوصية إذا وقعت مستوفية شرائطها مستكملة مقوماتها فإنها تكون عندئذ صحيحة، لكنها لا تكون لازمة حتى يموت الموصِي، فإذا مات انتقل الأمر إلى من أوصي له، فإن قبل الوصية فقد لزمت، وإن ردها فقد بطلت.
إذن لا بد أن نبحث في أسباب بطلان هذه الوصية.
الأسباب لها جهات هي:
الجهة الأولى: جهة الموصي نفسه.
الجهة الثانية: جهة من أوصي إليه.
الجهة الثالثة: تتعلق بما أوصي به.
أولا: ما يتعلق بالموصي:
السبب الأول: أن يرجع عنها في حياته، لأننا قلنا: أنها عقد غير لازم، فله أن يرجع عنها ما دام روحه ونفسه بين جنبيه، فإذا رجع عنها في حياته فقد بطلت هذه الوصية.
السبب الثاني: وهو سبب مختلف فيه، إذا زالت أهلية الموصي بالجنون، أو زالت أهليته بزوال عقله فهل تبطل وصيته أو لا؟
ذهب الجمهور -الحنفية والمالكية والحنابلة- إلى بطلان هذه الوصية بجنونه، ثم إنهم اختلفوا اختلافات يسيرة،؛ فيشترط الحنفية أن يكون الجنون مطبقا أي إذا دام شهرا هذا عند بعضهم، وعند بعضهم سنة، وهذا هو الجنون المطبق.(1/7)
وقال الحنابلة: أن يكون الجنون دائما أي مستمرا، عندئذ فإن هذه الوصية تبطل؛ لأنه يشترط أن يبقى هذا الإنسان الموصِي على أهليته، فكما أن المجنون لا يملك حق إنشاء الوصية –وقلنا: إن هذا من شروط الموصي ألا يكون مجنونا ولا صبيا صغيرا لا يميز- فكذا لا يستديم أمرها، فإن هذا الجنون يبطل أهليته ويمنعه من استكمال هذه الوصية؛ أي أنه كما لا يصح أن يبتدئها لا يصح أن يستديم أمرها قياسا على الوكالة، فيمكن لإنسان أن يوكل إنسانا بأمر ما، فإذا جن يبطل عقد الوكالة.
قالوا: فمن وكل إنسانا ببيع أرضه مثلاً ثم جن فإن عقد الوكالة بهذا ينفك، وقاسوا الوصية على الوكالة.
أما الشافعية فقد خالفوا الجمهور وقالوا: إن طروء الجنون لا يبطلها، وإنما ينزل الجنون منزلة الموت وعندئذ لا تبطل بموته بل تلزم، ونحن نقول: لا تبطل بما دون الموت، هذه حجة الشافعية.
السبب الثالث: ألا يكون هذا الموصي قد ارتد؛ حيث ذهب الحنفية والمالكية إلى أن الوصية تبطل بردة الموصي، وكذا لو قُتِل على ردته أو قالوا: لو حكم بلحوقه بدار الحرب وقضي بذلك فإن الوصية تبطل، هذا عند أبي حنفية ومالك، وذهب صاحبا أبي حنيفة -محمد بن الحسن والقاضي أبو يوسف- إلى أنه لا يشترط هذا، فلو أنه أوصى بشيء ثم ارتد لم تبطل وصيته؛ لأنه لا تبطل تصرفاته بذلك، وهذه التصرفات تكون نافذة.
المالكية يقولون: إن المرتد إذا أوصى ثم أرتد ثم رجع إلى الإسلام مرة أخرى تبقى وصيته صحيحة.
ثانيا: ما يتعلق بالموصى له:
إذا مات الموصى له قبل الموصي تبطل الوصية، وقد مر معنا أن قتل الموصى له للموصي يؤثر أيضا عند طائفة من الفقهاء في هذه الوصية عند الحنفية والمالكية الحنابلة هذه المذاهب الثلاثة قالت بتأثير القتل في الوصية.
وكذا لو رد الموصى له الوصية بعد موت من أوصى إليه؛ فإذا ردها بطلت ولم يجز بعدئذ أن يرجع إلى هذه الوصية.
ثالثا: ما يتعلق بالموصى به:(1/8)
هل تبطل الوصية من جهة الموصى به؟ نعم بهلاك هذا الذي أوصي به؛ فمثلا إنسان أوصى بمال معين لكن هذا المال هلك قبل موت الموصي فتكون الوصية به قد بطلت.
وكذا لو بان هذا المال مستحقا للغير كمن أوصى لإنسان بقطعة أرض ثم اتضح أن هذه الأرض كان عليها منازعة أسفرت عن ثبوت حق ذلك الطرف الآخر في هذه الأرض، أو استُحِقَّت ثمنا في بيع أو ما أشبه عندئذ تبطل الوصية بهذه الأرض.
ولو كان هذا المال مالا فيه وصية بفعل محرم فهذا أيضا تبطل معه الوصية ولا تحل.
بهذا نكون قد أتينا على المهم من الكلام على مبطلات الوصية بهذا نكون، وقد أخذنا فكرة موجزة عن أحكام عقد الوصية، ثم ندلف بعدئذ إلى الحديث الأول في هذا الباب وهو حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) زاد مسلم (قال: ابن عمر فوالله ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك إلا وعندي وصيتي).
هذا الحديث هو الحديث الأول في باب الوصايا وهو حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وقد مرت ترجمته -رضي الله تعالى عنه وعن أبيه- فلا نعيد ذكرها.
وهذا الحديث تناول فيه المصنف التنبيه إلى أهمية الوصية، وبيان فضلها وقيمتها، فالحديث يتضمن أمرا نبويا للوصية وحثا عليها؛ وذلك لما فيها من الخير الذي يطلب من المسلم تعجيله، وتجدر المصارعة إليه.(1/9)
وفي هذا الحديث أيضا تحذير من التسويف في أمر الوصية، أو تحذير من الإهمال في كل شأن يُهتم به شرعا، وفيه أيضا بيان فضيلة أصحاب نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- فإنهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- كانوا أسرع الناس إلى الخير، وكانوا أحرص الناس على البر، وهذا عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- يفيدنا أنه ما إن سمع من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا الحديث حتى بادر فامتثل، فما مرت ليلة إلا ووصيته مكتوبة عنده امتثالا لأمره -صلى الله عليه وآله وسلم-.
هذا هو المعنى الإجمالي لهذا الحديث، ولننتقل بعد ذلك إلى الشرح التفصيلي:
قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ما حق امرئ مسلم) ما هذه نافية بمعنى ليس أي ليس من حقه، وحق مبتدأ وخبره المستثنى وهو ما بعد إلا؛ ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته، فالخبر هنا ووصيته .. إلخ.
ما معنى "ما حق"؟ اختلف العلماء في معناه؛ قال الشافعي -رحمه الله تعالى- أي ما الحزم ولا الاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، وهذا يفيدك استحباب الوصية أي أن الحزم والاحتياط يقتضيان أن تكون كاتبا لوصيتك عندك. وقد ورد هذا الحديث بلفظ (ما حق امرئ يؤمن بالوصية) هكذا، ورواية أخرى تقول: (لا يحل لامرئ مسلم له مال) فهذه رواية أخرى لهذا الحديث فهذه الروايات بجملتها تفيد أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يحض ويحث ويأمر بهذه الوصية.
ما حق امرئ مسلم قوله: "مسلم" قيد، فما فائدته؟ يفيد اختصاص المسلم بالوصية أم أن الوصية تقع من المسلم ومن غيره؟(1/10)
تقع الوصية من المسلم وغير المسلم، إذن هذا القول إما أن يقال: أنه خرج مخرج الغالب، أو يقال: إنما هو للتهييج وللحض أو للحث، فكأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: لا يليق بمسلم، ولا ينبغي لمسلم أن يترك الوصية، بل تقع المبادرة منه سريعة إلى امتثال الأمر بالوصية؛ مما يشعر أن هذا قد يكون سببًا لنفي الإسلام عمن ترك ذلك، فهذا من أساليب الحض والتهييج، وإلا فإن وصية الكافر لمثله أو للمسلم جائزة بغير خلاف.
"إلا ووصيته مكتوبة عنده" هذه العبارة تفيد مشروعية الوصية، وعلى هذا انعقد إجمال المسلمين في مختلف الأعصار والأمصار، ثم إن الفقهاء -رحمهم الله تعالى- اختلفوا بعد ذلك في حكمها؛ هل الوصية واجبة أم مستحبة؟
وهل حديث يفيد الوجوب أم يفيد الاستحباب؟ هذا ما سنتناوله -بمشيئة الله تعالى وتوفيقه- في لقائنا الآتي لنفصل الكلام على أحكام هذا الحديث بشيء من الاستدلال والتعليل إن يسر الله تعالى وأعان.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟.
سؤال واحد هو:
عدد مبطلات الوصية؟(1/11)
الحديث - المستوى السادس
الدرس الثالث
الدرس الثالث - تابع باب الوصايا
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
تابع باب الوصايا
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، ونستأنف ما كنا قد ابتدأناه في درسينا الماضيين في باب الوصايا من كتاب "عمدة الأحكام"
تفضل يا شيخ عبد الرحمن بقراءة الحديث الأول مرة أخرى.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) زاد مسلم (قال ابن عمر: فوالله ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك إلا وعندي وصيتي))
كنا قد عرضنا في لقاءينا الماضيين لمقدمة عن الوصايا تناولنا فيها أركان الوصية، وما يتعلق بشروط كل ركن، ثم قرأنا هذا الحديث الأول في كتاب الوصايا، وهو حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- وقد تضمن هذا الحديث النبوي الكريم أمرًا بالوصية، وهذا الأمر سيأتي معنا أهو للوجوب أم للندب؟ لكن الحديث بجملته يحث حثا ظاهرًا على الوصية ويأمر بها، وهو –أيضا- فيه تحذير وتنفير من ترك الوصية، وفيه بيان لما كان عليه أصحاب نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- من المبادرة والمسارعة إلى امتثال أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.(1/1)
وهذا الحديث بدئ بقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ما حق امرئ مسلم) ما حق أي: ليس الحزم ولا الاحتياط للمرء المسلم أن يبيت ليلة أو ليلتين وعنده ما يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده أو عند رأسه، وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ما حق امرئ) يجعلنا نتوقف عند قوله: "امرئ" فهذا يطلق على الرجل أصالة، فهل المقصود أمر الرجال فحسب بالوصية، أم الأمر يتعدى الرجل إلى المرأة؟
تدخل النساء –أيضا- يا شيخنا
أحسنت. قوله: "امرئ" خرج مخرج الغالب، فهذا هنا من باب تغليب الرجال على النساء، فإلا فالمرأة مطالبة إذا كان عندها مال، ولها ما تريد أن توصي فيه ألا تبيت ليلة أو ليلتين أو ثلاث ليال -كما في بعض روايات هذا الحديث- إلا ووصيتها مكتوبة عندها، إذن هذا ليس خاصًّا بالرجال، بل يشمل الرجال والنساء، ثم هل هو خاص في الحكم بالمسلمين فلا يؤمر غير المسلمين بوصية، ولا تصح من غير المسلمين وصية أم تنفذ لغير المسلمين وصية؟
لا، بل هذا أيضا مما يقال فيه: إنه خرج مخرج الغالب، فالوصية تصح من غير المسلمين إجماعا، فما فائدة قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ما حق امرئ "مسلم")؟ قال العلماء: فائدة هذا التهييج على الوصية، وتمام الحث والحض عليها، والأمر بها، فكأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: إن المسلم الحق هو الذي يبادر إلى الوصية فلا يتركها، ولا يقصر في شأنها.
ثم قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (يبيت ليلة أو ليلتين) يدل على أن في الأمر شيئا من السعة، ما هذه السعة؟ هي التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بقوله: (ليلة أو ليلتين)، وفي بعض الروايات عند النسائي ومسلم وغيرهما (ثلاث ليال) فهذا يدل على أن الأمر مع جديته إلا أن فيه شيئا من السعة والرفق بالمكلف، لاسيما أن الإنسان تجد له حاجات وتنشأ له ارتباطات، فقد يقصّر أو يفرّط أو ينشغل، أو يفوته أن يكتب ويثبت، فهو في رخصة ليلة وليلتين وثلاث ليال، ونحوَ ذلك.(1/2)
قال: (إلا ووصيته مكتوبة عنده)، هذه الجملة من الحديث تدل على مشروعية الوصية، وهل هذه الدلالة دلالة على الإيجاب أم على الندب هذا ما سنحاول أن نبحثه في هذه الحلقة إن يسر الله تعالى وأعان.
قبل أن ندخل إلى ذلك علينا أن نحرر موضع ومحلَ النزاع بين العلماء في هذه المسألة:
لا شك أن العلماء قد اتفقوا على أمر واختلفوا في آخر؛ اتفقوا على أن من كان عليه دَيْن واجب، سواء كان هذا الدين من حقوق الله –تعالى- أو من حقوق الخلق فعليه أن يوثقه، سواء كان التوثيق بإشهاد أو بكتابة أو بأي أمر يحصل به. فإذا كان هذا الدين حقاً لله تعالى كالزكاة أخرها عن وقتها أو كالكفارات لم يؤدها فعليه أن يوثق ذلك؛ حيث لا يعلم أحد بإخراجه الزكاة، ولا يعلم أحد بأدائه الواجب عليه من الكفارات، فإذا لم يكن هذا معلوما فإن عليه فيما بينه وبين ربه أن يكتب هذه الديون التي لله -عز وجل-.
وكذا لو نذر مثلاً فقال: لله علي أن أذبح كذا، أو أن أتصدق بكذا، أو أن أفعل كذا من العبادات المالية فيجب عليه عندئذ أن يكتب ذلك، وإذا كان الحق حقاً من حقوق العباد لم يوثق كأن أودع أحدهم أمانة عنده ولم يشهد عليها، أو كان لبعض الناس دين عنده ولم يوثق هذا الدين - فإنه يتعين عليه أن يكتب ذلك لماذا؟ لأنه مأمور بحفظ الأمانة، والله -عز وجل- أمرنا بأن نودي الأمانة إلى من ائتمننا، إذن هذه القضية موضع اتفاق بين العلماء؛ أي أنه إذا كان الحق أو الدين من الحقوق الواجبة لله -عز وجل- أو للمخلوقين فيجب التوثيق.
ووقع الخلاف بعد ذلك بين العلماء في مسألة الوصية إذا كانت بغير دين أو حق واجب، أي إذا كانت بأمر مستحب أو بقربة أو بطاعة مالية، هل تجب أو تستحب؟
على ثلاثة أقوال لأهل العلم:
القول الأول: وهو قول جمهور العلماء -الأئمة الأربعة- وهو الراجح، وهو أن الوصية بهذه الأمور المستحبة إنما هي مستحبة.(1/3)
والقول الثاني: هو قول ابن حزم من الظاهرية، ومعه الزهري وطائفة من التابعين؛ حيث قالوا بالوجوب، ونقل هذا الوجوب أيضا عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كابن عمر والزبير وطلحة.
والقول الثالث: أنها إنما تجب لغير الوارثين من الأقربين، فهذه أقوال ثلاثة في هذه المسألة.
استدل القائلون بالوجوب بعموم الكتاب والسنة؛ فإن الله -عز وجل- قال: ? كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ? [البقرة: 180].
فهذه الآية قالوا: إنها دلت على وجوب الوصية، كيف دلت هذه الآية على وجوب الوصية؟ ومن أين استفيد؟
من قول الله -عز وجل-: "كُتِبَ عَلَيْكُمْ"
"كُتِبَ عَلَيْكُمْ" هذا اللفظ ظاهر في الإيجاب، ونظيره قول الله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ? [البقرة: 183] فمن ألفاظ الوجوب الظاهرة في كتاب الله وفي سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- قوله: كُتِب وفُرِض ونحو ذلك، فيظهر من هذه الآية وجوب الوصية.
وأيضا من قول الله تعالى: ? مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ? [النساء: 11] فبين الله –تعالى- أنه لا تقسم التركة ولا يوزع الإرث حتى تخرج الوصية، فهذا يدل على أن الوصية مأمور بها أمرَ إيجاب، ثم إن الحديث الذي معنا قالوا: إن قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ما حق امرئ مسلم) معناه أنه يجب عليه أن يكتب هذه الوصية، فإن لم يفعل كان مفرطا في الحق الذي أوجبه الله تعالى عليه، فاستدلوا بحديث الباب أيضا على إيجاد الوصية.
هذا قول ابن حزم -عليه رحمة الله- ومعه الزهري وطائفة من التابعين، وبعض أصحاب نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم-.(1/4)
القول الثاني: لداود من الظاهرية –أيضا- ومعه الشَّعْبِيُّ والنَّخَعِيُّ وبعض السلف، فقالوا: إنما تجب لغير الوارث القريب، أي لمن كان له ورثة، فهؤلاء الورثة ثبت حقهم بكتاب الله في آية المواريث، لكن بقي من القرابة من لا يرث، فهؤلاء الذين يرثون هم من لهم الحق الواجب في الوصية.
ما الذي حملهم على هذا؟
قالوا: إن الله -عز وجل- نسخ وجوب الوصية الذي في هذه الآية ? كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ? بآية المواريث، فهذه الآية حرمت الوالدين وحرمت الورثة من الأقربين من الوصية، لكنها لم تحرم غير الوارثين من الأقربين، فيبقى الوجوب قائما في حق غير الوارثين، فقالوا: إننا بهذا نوجب الوصية للقريب غير الوارث.
بماذا استدل الجمهور؟ وبماذا أجابوا على ما ذكره المخالفون؟
قالوا: إن هذه الآية نوافقكم على أنها منسوخة بآية المواريث، وهذا قول ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- ومعه عكرمة ومجاهد، وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنها منسوخة بآيات أُخَر، فثبت عند الجمهور أن هذه الآية منسوخة سواء أن كان الناسخ من كتاب الله -عز وجل-، أو كان الناسخ هو سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فإن من أهل العلم من أجاز أن تنسخ السنةُ الصحيحةُ كتابَ الله -عز وجل-.
فما السنة التي نسخة هذه الآية؟ قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) كما في الصحيح، وهذا هو الذي نسخ وجوب الوصية للوالدين والأقربين، إذن إما أن يكون الناسخُ كتابَ الله تعالى، وإما أن يكون الناسخُ هو سنةَ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عند من يجوِّز نسخ القرآن بالسنة.(1/5)
فكيف يجيب الجمهور على قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ما حق امرئ مسلم) إلى آخر الحديث، قالوا: نحمل هذا الحديث على وجوب الوصية في الديون الواجبة حقاً لله أو الواجبة حقاً للعباد، فقوله: (ما حق امرئ مسلم) هذا محمول على الوصية الواجبة، وهذا موضع اتفاقٍ بين الجمهور ومخالفيهم، وبعضهم قال: بل قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ما حق امرئ مسلم) أي أن هذا الحق المأمور به إنما يشمل أمرين؛ هما: الواجب والمستحب، فكأن كلمة "حق" في هذا الحديث تتناول الواجب كما تتناول المستحب، فإن "الحق" كما يكون واجبا يكون أيضا مستحبا، بل قد يطلق الحق على المباح أيضا، وإن كان هذا بِقِلّة، لكنه يصح لغة وشرعا.
فقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ماحق امرئ) هذا يفيد الحث والحض، ولهذا قال الشافعي والخطابي -عليهما رحمة الله-: إن معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: (ما حق امرئ مسلم) أي ما الحزم ولا الاحتياط للمسلم أن يبيت ليلتين وعنده شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده.
ثم مما يدل على مذهب الجمهور أنه لو كان الوصية واجبة لما جاز أن تقسم التركة إلا بعد إخراجها، فلو قُدِّر أن مورِّثا مات وترك ما ترك من التركة ولم يوص فلو كان هذا الحق واجبا أو كان هذا الأمر واجبا وهو الوصية لأمر بإخراج الثلث من تركته قبل أن تقسم، لكن بالاتفاق إذا مات الإنسان ولم يوص فإنه لا يخرج من تركته شيء، وهذا من أظهر الأدلة على الاستحباب.
كما أن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- منهم من أوصى ومنهم من لم يوص، بل أكثرهم لم تنقل له وصية، فهذا يدل على أن هذا الأمر لو كان شائعا الوجوب فيه لامتثل له أصحاب رسول الله عن بكرة أبيهم، ولو وقع من بعضهم تفريط لوقع النكير عليهم من غيرهم ممن حضرهم أو ممن عاش معهم من بقية صحابة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
فهذه بالجملة من الأدلة التي تدل على صحة مذهب الجمهور.(1/6)
وقد وقع أن بعض الفقراء الذين لم يكن لهم كثير مال جاءوا إلى بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألون في أمر الوصية، فيأتي رجل إلى عائشة -رضي الله عنها- عنده أربعة ألاف درهم وله ثلاثة أولاد فيستشيرها في أمر الوصية فتقول: اجعل الأربعة للثلاثة، فلا تأمره -رضي الله عنها- للوصية، وإنما جاء يستشير ويستخبر عن حكم الله –تعالى- في ذلك، فلا تأمره بالوصية بل تقول: اترك هذه التركة اليسيرة لهؤلاء الثلاثة.
وإذا أردنا أن ننظر إلى المسألة من المعقول فإننا نقول: الوصية في الأصل عطية مضافة إلى ما بعد الموت، فهي لا تجب حال الحياة؛ أي لا يوجب الشارع الحكيم أن تعطي أحدا حال حياتك، فلأن لا تجب بعد مماتك أَوْلَى، والله -عز وجل- يقول: ? مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ? [التوبة: 91].
إذن، الراجح مذهب الجمهور؛ لما علمنا من قوة أدلتهم؛ ولما رأينا من فعل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن فتاواهم، فابن عباس -رضي الله عنه- يُسأل عن رجل له سبعمائة درهم فيستشيره صاحبها هل يوصي؟ فيقول له: ليس عليك وصية، مع أنه سيترك سبعمائة، لكنها قليلة، فلا يرى ابن عباس أنه يوصي في هذه السبعمائة، وسيأتي معنا مزيد بسط لهذا.
ومع كون الوصية في الأصل مستحبةً إلا أنها قد تطرأ عليها الأحكام التكليفية الخمسة، فالأصل فيها الاستحباب، لكنها قد تجب، وقد تستحب، وقد تباح، وقد تكره، وقد تحرم.
فمتى تجب الوصية؟
تجب الوصية في الديون
تجب الوصية في الدين الذي لم يوثق، سواء كان الدين لله -عز وجل- أو كان للعباد، فكل دين لم يوثق يجب أن يوصي الإنسان فيه لأنه لا يدري متى ينتهي أجله؟ فلربما عاجلته منيته وهو على غير أهبة، ولم يوثق ما عليه من الحقوق لله -عز وجل- أو لخلقه.
فمتى تندب إذا؟(1/7)
تندب الوصية لمن له فائض مال من غنى، أي أن هذا المال الذي يتركه يغني ورثته ويفيض، فهو مندوب عندئذ أن يجعل هذا المال الفائض بالوصية التي استحبها جمهور العلماء في سائر القربات والطاعات التي تقرب من رب الأرض والسماوات.
ومتى تكون الوصية مباحة؟
قالوا: تباح الوصية بكل مباح، فإذا أوصى الإنسان غيره بفعل مباح كانت الوصية مباحة، ولو أوصى الإنسان إلى قريب له غني، فما حكم هذه الوصية؟ نقول: إنها مباحة، أو أوصى لأجنبي ليس بقريب، سواء كان هذا غنيا أو فقيرًا فإنه عندئذ يقال: إن هذه الوصية مباحة.
وهل تحرم الوصية؟
نعم، تحرم الوصية إذا كان بمعصية الله -عز وجل-، وتبطل أيضا إذا كانت بفعل المنكرات، أو بإقامة البدع والموبقات، أو بنشر كتب الإلحاد والزندقة ونحوِ ذلك.
كما تحرم الْمُضارة في الوصية؛ كأن يوصي الإنسان وإنما لِيَضُرَّ ورثته لا للقربة فهذا مما لا يجوز، وسيأتي معنا حكم ذلك، وهو من كبائر الذنوب.
إذن الوصية بالمحرم محرمة سواء أن كان فعلاً محرما أو كان نوع إضرار بورثته في هذه الوصية، فكل ذلك لا يجوز.
ومتى تكره الوصية؟
الوصية بالمكروهات مكروهة، والوصية من الفقير الذي ليست له تركة تغني أولاده تكون –أيضا- مكروهة؛ لأنه مأمور بأن يحسن إلى الأدنين والأقربين، فإذا خَلَّى الأقربين وذهب إلى الأبعدين، كان فعله هذا مفضولًا خلاف السنة، فأنت إذا أحسنت إلى ولدك ووارثك من بعدك، فإن هذا أولى من إحسانك إلى البعيد، إذن تكره الوصية للفقير الذي لا يترك مالاً يغني ورثته، أو يكون ما يتركه تافهًا يسيرا، بل نقل ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- الإجماع على أن هذا لا يكون فاضلا؛ حيث قال: "اتفقوا -يعني الفقهاء- على أن من لم يكن له غنى أو تركة إلا اليسير التافه أنه لا تندب له الوصية".
فبهذا نكون قد عرفنا أن الأحكام التكليفية الخمسة تدور حول الوصية وإن كانت في الأصل مستحبة.(1/8)
قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إلا ووصيته مكتوبة عنده) هذه الجملة تدل على مشروعية الكتابة، والعلماء متفقون على مشروعية كتابة الوصية، وعلى الإشهاد عليها، فمن كتب وصيته فليشهد عليها، فبهذا تقوم الحجة وتثبت الوصية، لكنهم -رحمهم الله تعالى- اختلفوا فيمن كتب وصيته ولم يشهد عليها، هل تكون هذه الكتابة حجة بنفسها في إثبات الوصية، أم تبقى هذه الوصية كأن لم تكن حتى يشهد عليها الموصِي؟
جمهور الفقهاء اشترطوا الإشهاد على الوصية، ولم يعتبروا الكتابة بدون إشهاد، فمحل الخلاف ما لو كتب وصيته، ثم لم يشهد عليها.
احتج الجمهور لمذهبهم من أن الكتابة من غير إشهاد لا حجة فيها بأن خطوط الناس قد تتشابه، ويصعب التميز بينها، فلا تقوم الحجة بذلك، وقالوا أيضا: إن الخطوط قد يدخلها الافتعال والتزوير ونحو ذلك؛ فربما توجد عند بعض الناس ملكة تقليد الخطوط ومحاكاتها، فهذا يفضي إلى أن تكون هذه الحقوق ضائعة بسبب ما يمكن أن يدخل من التلاعب في الوصية، قالوا: ولو كانت الوصية مكتوبة بخط معروف أنه خط صاحبها فقد لا يكون قد كتبها يقصد بها الوصية؛ لأنه قد يكون قد كبتها هازلا أو مجربا ولا يقصد إنشاءها، ووصية الهازل تصح عند الشافعية، ولا تصح عند جمهور الفقهاء.
فقالوا: إننا لا ندري أكان جادا أم كان هازلا وقالوا أيضا: إن الاعتماد على الكتابة دون إشهاد أمر محدث فنخشى أن يكون في هذا إحداث في الدين.(1/9)
الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- ومعه المالكية يجوزون الوصية المكتوبة ولو كانت من غير إشهاد، فالمالكية من الفقهاء والإمام أحمد في رواية عنده في مذهبه يعتبر الوصية المكتوبة ويعتد بها ولو خلت عن الشهود، ويعتبر أن هذا الخط بشرطه حجة إذا كان هذا الخط معروفا بأنه خط فلان ويُعرف هذا الخط، ولا يظهر في هذه الورقة ما يدل على وجود خطوط أخرى أو افتعال خطوط أخرى داخل هذه الورقة فإن هذه الورقة تثبت بها الوصية، ولو لم يقع عليها إشهاد، واستدلوا على هذا بعمومات كثيرة منها: أن الله -عز وجل- أمر بالكتابة، أين أمر الله -عز وجل- بالكتابة في المعاملات المالية؟
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ? [البقرة: 282].
فهذا أمر بالكتاب، وقوله تعالى أيضا:
? وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ ? [البقرة: 282] .
إذن هذه كلها أوامر بالكتابة، وهو ما يفيد أنها حجة.
وقد يناقَشُ هذا فيقال: إن الكتابة وإن كان مأمورا بها إلا إنها ليست على سبيل الوجوب.(1/10)
فنقول في الرد على هذا: بل إنها مأمور بها، سواء قلنا على سبيل الوجوب أو الندب، فإن هذا يفيد أنها حجة ينظر إليها، ويعتد بها، ويعتمد عليها، ثم إن هذا الدِّينَ نقل كتابة كما نقل شفاهة، والفقهاء متفقون على قبول الحديث المكتوب، بل يعلمون أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر بكتابة الحديث؛ فقال: (اكتبوا لأبي شاة) كما في الصحيح، فأمره -صلى الله عليه وسلم- بالكتابة في الحديث، وعمل السلف رضوان الله عليهم بكتابة الحديث وكتابة الأحكام الشرعية، ونقل ذلك جيلا فجيلا يدل على أن الكتابة حجة، ثم إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يكاتب الملوك والقياصرة الأكاسرة في زمنه، ويرسل هذه الكتب مع رسله -صلى الله عليه وآله وسلم- وكانت الحجة تقوم على أولئك القوم بخطه -صلى الله عليه وسلم- في الكتب التي عليها خاتمه -عليه الصلاة والسلام-.
فهذا بالجملة يدل على عمل الناس وتواترهم على ذلك جيلا فجيلا.
إذن هذا كله مما أدلى به المالكية وبعض الحنابلة ورواية عن الإمام أحمد على اعتماد الكتابة، وأنت إذا تأملت في هذا الأمر ترى أن الراجح هو جواز الاعتماد على الخط الظاهر الدلالة على أنه لفلان من الناس؛ لما ذكرنا من اتفاق الفقهاء والمحدثين على العمل بذلك، وتواتر النقل على الأمة جيلا فجيلا على اعتبار هذه الخطوط.
وإذا تركنا مسألة الخطوط تعطلت مصالح وضاعت حقوق كثيرة، بل أكثر البياعات التي تجري بين الناس لا يقع عليها إشهاد وإنما هي كتابة وتوقيع، وهذا التوقيع مع هذا الخط يدل على أن هذا الشيء المكتوب منسوب لفلان من الناس، وعليه فإن الراجح جواز الاعتماد على الكتابة في الوصية وإن لم يقع معها إشهاد.
بهذا نكون قد أتينا على المهم من مسألة كتابة الوصية.
وشيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- ينقل أن هذا مذهب جماهير السلف فيقول: "والعمل بالخط مذهب قوي، وعليه جمهور السلف".(1/11)
ومثله الشوكاني -رحمه الله تعالى- ينقل أن الخط الذي يستبين بشروطه حجة يجب الاعتماد عليها، وشريعة من الشرائع الثابتة في دين الإسلام.
لماذا ذكر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الوصية مكتوبة فقال: (ووصيته مكتوبة عنده)، وفي رواية قال: (ووصيته مكتوبة عند رأسه)؟ ألا يكفي الإشهاد؟ والجواب: نعم يكفي، لكن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أراد من هذا زيادة التوثيق والاحتياط لأمر الوصية، فطلبها كتابة أيضا.
زاد مسلم من حديث ابن عمر أنه قال عليه رضوان الله: (ما مرت ليلة منذ أسلمت إلا ووصيتي مكتوبة عندي) وفي رواية: (إلا ووصيتي مكتوبة عند رأسي)، فعلام يدل هذا التعقيب من عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما؟ دلالتها ظاهرة على شدة اتباع ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- وتلك صفته التي اشتهر بها -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- وهو في هذا كباقي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يتبعون السنة ظاهرا وباطنا، فابن عمر لم يبت ليلتين ولا ثلاثا، بل لم يبت ليلة إلا والوصية مكتوبة عند رأسه حين ينام، لم يكن هذا شأن عمر وحده، بل كان شأن الكثير من الصحابة، بل عدد من نساء الصحابة رضي الله تعالى عنهن.
وبهذا نكون قد أتينا على المهم من شرح هذا الحديث، لنتقل بعد ذلك إلى الحديث الثاني: حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه-.(1/12)
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن سعد أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: جاءني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله، قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثُلُثَيْ مالي؟ فقال: لا، فقلت: فالشطر يا رسول الله؟ فقال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير؛ إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك. قال: فقلت: يا رسول الله، أُخَلَّف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي وجه الله إلا ازددت به إلا درجة ورفعة، ولعلك أن تُخَلَّفَ حتى ينتفع بك أقوام، ويضر آخرون، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعدَ بنَ خولة يرثي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن مات بمكة).
هذا الحديث العظيم من رواية سعد بن مالك، وهو سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- بن أهيب ،أو وهيب، من بني زهرة، فهو من أخوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أمه حمنة بنت سفيان بن أمية رضي الله تعالى عن سعد؛ فإنه أحد السابقين الأولين إلى الإسلام، أسلم وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان أحدَ ثلاثة سبقوا إلى الإسلام، قال عن نفسه: "أسلمت وإني لَثُلُثُ الإسلامِ"، وقال في رواية: "ولقد مكثت سبع ليال وإني لَثُلُثُ الإسلام" يحكي هذا عن نفسه -رضي الله عنه- إذن هو من السابقين الأولين في الإسلام فهذه منقبته العظيمة.(1/13)
بدري، شهد بدرا والحديبية، وهو -رضي الله تعالى عنه- أحد العشرة المبشرين بالجنة كما في الحديث المشهور قال صلى الله عليه وسلم: (فسعد بن مالك في الجنة) -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- وهو أيضا الأمير الذي فتح الله تعالى على يديه بلاد العراق، وصاحب موقعة القادسية -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- وهو الذي فتح جلولاء في المعركة التي سميت بفتح الفتوح، وهو أمير الكوفة -رضي الله تعالى عنه-.
مناقبه كثيرة فهو الذي دعا له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بأن يكون مستجاب الدعوة، فكان كذلك -رضي الله تعالى عنه-، هو أحد الستة الذين جعل عمر -رضي الله تعالى عنه- الأمر إليهم بعد وفاته، فهو أحد الستة من أهل المشورة، فيمن تكون فيهم الخلافة والإمامة، كان متأهلا للإمامة والخلافة بخصائص العظيمة، وهو مع هذا روى عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- جملة من الأحاديث انفرد البخاري بخمسة عشر حديثا منها، ومسلم بثمانية عشر حديثا منها، وله في المتفق عليه جملة من الأحاديث.
سعد بن مالك -رضي الله تعالى عنه- كانت له مواقف مشهورة ومشهودة في الفتنة؛ لأنه عمَّر رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
لما حضرته الوفاة، يقول ابنه: "لما حضرت الوفاة أبي كان في حجري" يعني كانت رأسه في حجره، فلما رأى ما به من نزول الموت ومعالجة السكرات رق ولده له فبكى، فالتفت إليه أو رفع رأسه إليه فقال: "ما يبكيك؟ قال: لمكانك؛ ولما أرى مما نزل بك، قال: لا تبكِ فإني في الجنة".
يقول ذلك -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- لأنه يصدق بقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حين قال في حق أهل بدر ناقلا عن الله عز وجل: "اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم"، وينقل عنه أيضا ذلك الحديث العظيم الذي عند أصحاب السنن بسند صحيح من أن "أبا بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة" إلى آخر العشرة وفيهم سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.(1/14)
قال له: "فإني في الجنة، والله لا يعذبني الله أبدًا" عقب الذهبي -رحمه الله تعالى- على هذه الكلمة فقال: "صدق والله، فهنيئا له" لما حضرته منيته دعا بجبة صوف خلقة أي بليت هذه الجبة، فقال: "كفنوني فيها فإني لقيت المشركين فيها يوم بدر، وإنما خبأتها لهذا اليوم" أي يوم مماتي. فهو يستشفع على الله -تبارك وتعالى- بصالح عمله.
حضرته منيته سنة خمس وخمسين من الهجرة وهو ابن اثنتين وثمانين سنة -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- فكان آخرَ المهاجرين موتا وقيل: هو آخر العشرة المبشرين بالجنة موتا. لما قضى وحُمِل من قَصْرِهِ بالعقيق إلى مكان دفنه بالبقيع أدخل أولا على أم سلمة زوج نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- فلما رأته قالت وهي تبكي: "بقية أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فهو كأنه البقية الباقية من خيرتِهِم -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-.
هذه قصة سعد باختصار، إنما نذكرها لنأتسي ولنقتدي ولننتفع، ولتترطب هذه المجالس بالترضي عن أصحاب رسول الله الذين حملوا لنا هذا الدين غضا طريا نقيا؛ فصلوات الله وسلامه على نبينا ورضوانه ورحماته على صحابته الكرام البررة.
هذا الحديث العظيم أفاد فوائد كثيرة منها أن نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- كان حريصا على أن يتفقد أصحابه؛ فيزور مريضهم، ويعود من اشتكى منهم، لاسيما أصحاب السابقة والفضل منهم، وهو أيضا يعكس لنا كيف كانت نفسية الصحابة متعلقة بالدار الآخرة؛ فسعد -رضي الله عنه- لما مرض ذكر الموت، فلما ذكر الموت أراد أن يتصدق بماله كله، وتلك منقبة له، وهي حرصه على الدار الآخرة وزهده في المقابل بهذه الدار الفانية، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يرده فيما أراد من الوصية بماله كله أو بأكثره إلى الثلث وهو يقول: (الثلث، والثلث كثير).(1/15)
ثم هذا الحديث يكشف لك عن أن العبادة في الإسلام نطاقها واسع يشمل أمورا كثيرًا، وأن النية من الإسلام بموقع عظيم، وأن هذه الشريعة لا تعارض فطرة الإنسان؛ لكونه يطلب الخير لأبنائه ويطلب الغنى لورثته من بعده؛ فهي تأمر من ذلك وتحض وتحث عليه، كما يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
وفي هذا الحديث –أيضا- تسلية لسعد وقد أصابه مكروه المرض؛ بأن ما يستقبله من أعمال تأتي في عمره فيها من الخير والبركة له كما سيظهر لنا.
وفي هذا الحديث حرص نبينا -صلى الله عليه وسلم- على صحابته المهاجرين، وفيه دعاؤه لهم -رضي الله تعالى عنه- بأن يكمل الله تعالى لهم هجرتهم، وأن يتم عليهم فضله جل في علاه.
هذه معظم معاني هذا الحديث بإجمال لننتقل بعد ذلك إلى الشرح التفصيلي لهذا الحديث العظيم البركة، الكثير النفع كما سيتبين لنا بإذن الله تعالى.
ونحن -إن شاء الله تعالى- نتناول شرح الحديث تفصيلا في درسنا الآتي إن يسر الله تعالى وأعان، ونفسح المجال لإجابة أسئلة الدرس الماضي، وأيضا لاستقبال أسئلة إذا كان هناك أسئلة.
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول: عدد مبطلات الوصية؟
وكانت الإجابة:
مبطلات الوصية ثمانية:
أولا: موت الموصَى له المعين قبل موت الموصي.
ثانيا: الرجوع عن الوصية في حياته بتصريحٍ أو دلالة.
ثالثا: تعليق الوصية على شرطٍ لم يتحقق.
رابعا: زوال أهلية الوصي.
خامسا: رد الوصية من قِبَل الموصى له.
سادسا: قتل الموصَى له الموصِي.
سابعا: هلاك الموصَى به المعين.
ثامنا: تبطل الوصية إذا كانت لوارث ولم يجزها الورثة
نعم، كما تبطل الوصية إذا كانت بأمر محرم؛ فإنه لا يجوز إنفاذها.
تقول: هل يأثم الإنسان إذا كتب وصيته ولم يشهدْ عليها، ولم يعثر عليها الورثة بعد موته؟(1/16)
لا يأثم الإنسان إذا كتب وصية لم يشهد عليها، وإنما هو فعل أمرا مباحا، لكن الإنسان الحريص على أن تنفذ وصيته من بعده يحتاج إلى أن يحتاط، فيشهد على ما كتب حتى تبقى البينة؛ إما بالكتابة أو بالشهادة، وهذا يضمن له -بإذن الله- أن تنفذ هذه الوصية، فإذا فقدت الوصية ولم نعلم بها وبمحتواها فكيف لنا أن ننفذها؟ فإذا علم الورثة أن مورثهم أوصى وصية من القُرَبِ أو الطاعات التي يرجوا إنفاذها من بعده، لكنهم لم يعرفوا حقيقتها فإن عليهم أن يفعلوا الآتي ندبا:
أن يخرجوا من ماله ما تجود به أنفسهم ويتفقون عليه فيجعلونه في صدقة جارية، أو أمر ينتفع به مورثهم، يفعلون ذلك عن تراض، فإن اجتمعوا على ذلك فقد أحسنوا إلى مورثهم، ولا يجب هذا عليهم ما دامت الوصية لم تقع في أيديهم، ولم تثبت لديهم بكتابة ولا بإشهاد. والله أعلم.
يقول: معنا وصية تحتاج إلى تعديل بين وقت وآخر، فهل يلزم أن يطلع عليها الشهود كل مرة؟
يقول آخر: شخص أوصى لابن له بعقار معين في حياته، وتوفي الأب الموصِي قبل يكتب هذا العقار باسم هذا الابن، فهل هذا العقار يعتبر وصية أو هبة؟ وكيف نتعامل معه رغم وجود ورثة آخرين؟
كان سؤاله عن الوصية تحتاج إلى تعديل من وقت إلى آخر فهل يلزم أن يطلع الشهود عليها في كل تعديل
نحن اعتبرنا -بحمد الله- بأن الوصية تنعقد صحيحة بالكتابة ولو لم يقع إشهاد عليها، فإذا طرأ تعديل على وصيتك فإن عليك أن تعدل ذلك كتابة، فإن تيسر لك أن تشهد عليها فالحمد لله قد وثقتها بما لا يقبل البطلان؛ حيث عدلت الكتابة وأشهدت على ما عدلت، لكن إن استقلت الكتابة بالتعديل فإن هذا يكفي -إن شاء الله-.
كان يتحدث عن حالة أن الأب لم يوصِ، ولكن عزم على أن يكتب عقارا لابنه في حياته ثم توفي قبل أن يكتب هذا العقار(1/17)
إذا كان قد عزم الأب على أن يهب لابنه شيئا دون بقية إخوانه فلم يفعل فإننا نقول: إنه قد أصاب؛ لأنه على الراجح من قولي أهل العلم يجب عليه أن يسوي بين أبنائه في العطية، ولا يجور في هذه العطية فيميز واحدا من أولاده دون باقي أبنائه، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لبعض أصحابه حين جاء يشهده على ما أعطى لابنه: (أكلَّ ولدك نحلتهم أو أعطيتهم؟ قال: لا، قال: أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور)، كما وقع هذا في بعض الروايات، وكنا قد شرحنا هذا الحديث في دورتنا الماضية في باب التسوية بين الأولاد في العطية، فيجب عليه أن يسوي بين أولاده في العطية على ما هو المختار من قولي أهل العلم في هذه المسألة.
فإن كان الأب قد أشهد على هذه الوصية ومات موصيا بها فإن الأمر في هذا متروك للورثة؛ فإن أجازوا ما فعل أبوهم صحت هذه الوصية ونفذت، وإلا ثبت لهم حق الاعتراض عليها، ويصح عندئذ أن يأخذ هذا الولد هذا العقار من حصته من إرث أبيه، ويسامحه إخوانه على هذا الاختصاص، أما إن أجازوا هذه الوصية ثم ورَّثوا أخاهم بعد ذلك من التركة فهذا لا شيء فيه إذا وقع برضا من هؤلاء الورثة جميعا.
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعلمنا بما ينفعنا وأن ينفعنا وإياكم بما علمنا، إنه جواد كريم، بر رءوف رحيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة:
السؤال الأول:
بين حكم الوصية، واختلاف الفقهاء مرجحا ما تختار.
والسؤال الثاني:
بين حكم الكتابة في الوصية، وهل يعتد بها إذا خلت عن الإشهاد؟(1/18)
الحديث - المستوى السادس
الدرس الرابع
الدرس الرابع - الحديث الثاني من باب الوصايا
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
الحديث الثاني من باب الوصايا
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة، سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
نستأنف معًا أحاديث "عمدة الأحكام" من كتاب الوصايا، وفي لقائنا الماضي كنا قد تناولنا الحديث الأول بالشرح، وبدأنا في شرح الحديث الثاني فقرأنا متنه، فنواصل ما كنا قد ابتدأناه بعون الله وتوفيقه.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: ( (عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: جاءني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله، قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ فقال: لا، فقلت: فالشطر يا رسول الله؟ فقال: لا، قلت: فالثلث؟ فقال: الثلث، والثلث كثير؛ إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير ممن أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك. قال: فقلت: يا رسول الله، أُخَلَّفُ بعد أصحابي؟ فقال: إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلَّف حتى ينتفع بك أقوام ويُضر بك آخرون. اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم. لكن البائس سعد ابن خولة يرثي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن مات بمكة)).
كنا قد عرضنا في لقائنا الماضي ترجمة سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- فنشرع بحول الله في الشرح التفصيلي لهذا الحديث.(1/1)
قوله رضي الله تعالى عنه: (جاءني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي) هذه المقدمة ذكرها سعد بن أبي وقاص ليبين مناسبة الحديث وظرفه الذي وقعت فيه كلمات نبي الله -صلى الله عليه وسلم- لسعد فيما يتعلق بالوصية وغيرها.
قوله: يعودني: أي يزورني، فعيادة المريض أي زيارته. وقوله: عام حَجة الوداع الحجة -بفتح الحاء وبكسرها فتقول حَجة الوداع وحِجة الوداع، وكما أن الحاء بفتحها وبكسرها فالواو في الوداع أيضا بفتحها وكسرها فتقول: حجة الوَداع وحجة الوِداع- من وجع: أي من مرض اشتد به عليه رضوان الله عليه.
وقد اتفق الرواة عن الزهري وأصحابه أن هذا كان في عام حجة الوداع كما أُثبت في هذه الرواية، إلا أن ابن عيينة -رحمه الله تعالى- كما عند الترمذي وغيره قال: إن هذا كان في عام الفتح، ولا شك أن حجة الوداع لم تكن في عام الفتح، فالفتح كان عام ثمانية من الهجرة، وحجة الوداع كانت في السنة العاشرة، إذن هنا فرق بين عام الفتح وبين حجة الوداع، ولذلك قال بعض الحفاظ: إن هذا وهم من ابن عيينة، لكن يشهد لما قاله ابن عيينة رواية الطبراني ورواية أخرى في مسند الإمام أحمد ذكر فيها أن ذلك كان عام الفتح.
الجمع عندئذ أولى من الترجيح -كما يقولون- ولهذا حمل بعض أهل العلم هذا على وجود واقعتين: الواقعة الأولى كانت في عام فتح مكة، والثانية كانت عام حجة الوداع، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- زاره في هذه وفي تلك، وإن كان لا بد من الترجيح فالروايات الأكثر والأشهر أن هذا كان عام حجة الوداع.(1/2)
ثم هذه اللفتة الذي ذكّرنا بها سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- في هذا الحديث تدل على ما لنبينا -صلى الله عليه وسلم- من الأخلاق الكريمة وحسن معشره -صلى الله عليه وآله وسلم- وطيب خلقه ورفيع تواضعه -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو يتفقد أصحابه، فيزور مريضهم، ويعين من احتاج منهم، ويبذل نفسه ووجهه وقوّته وبدنه لأصحابه، فيأتي هذا ليزوره ويعطي ذاك من ماله، ويبذل لهذا من نفسه ووجهه -صلى الله عليه وسلم-، وفي المسند قال سعد: "اشتكيت فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدخل عليّ يعودني، فمسح وجهي، وصدري، وبطني وقال: (اللهم اشف سعدً)، قال: فما زلت يخيل إلي -انظر إلى هذه الكلمة الرقيقة- أني أجد برد كفه -صلى الله عليه وآله وسلم- على كبدي إلى الساعة" أي التي يروي فيها هذا الحديث.
نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- يعلم أصحابه وأمته من بعده هذا التواضعَ مع كثرة أعماله وانشغاله بأمور الحرب والسلم، وبأمور الدعوة وغيرها، إلا إنه لا يترك عيادة مريض من أصحابه -صلى الله عليه وآله وسلم-.
قال سعد لما دخل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فدعا لي" وفي رواية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وضع يده على جبهته، قال سعد: "يا رسول الله، إنه قد بلغ بي من الوجع ما ترى" وهذه مقدمة ثانية من سعد -رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالمقدمة الأولى يبين لنا فيها الظرف الذي صاحَبَ مجيءَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذه المقدمة الثانية يبين فيها للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما الذي يحمله على أن يتكلم بما سيتكلم به؛ فيقول: "يا رسول الله، قد بلغ بي من الوجع ما ترى" فهل كان هذا على وجه التشكّي والضجر والتسخط منه -رضي الله عنه- لأقدار الله تعالى المؤلمة؟(1/3)
لا، لم يكن هذا منه على هذا الوجه، وإنما كان هذا من سعد -رضي الله عنه- لعلة تأتي؛ فإنه خشي أن يكون هذا المرض هو مرضَ الموتَ، فإذا أَخْبَرَ الإنسانُ بما يجد لا على وجه التشكي والتسخط لأقدار الله، وإنما كان ذلك لعرض أمره على طبيب، أو لبيان ما انتهى إليه حاله وما هو مقبل عليه، أو ما يخشى مما يستقبلُ من أمره فإن هذا لا حرج فيه، فقال سعد ممهدا لحديثه الذي سيحدث به النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنه قد بلغ من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة" كان سعد -رضي الله عنه- من أكثر الصحابة مالا، وتعْجَب من شخصية سعد؛ فقد كان قائدا مجاهدا واليا، وكان يحدث الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ويعتزل الناس إلا في خير، ومع هذا يبيع ويشتري، ويأخذ ويعطي، هذه حاله، فحيثما توجهت إلى سعد وجدته قد ضرب في كل باب من أبواب الخير بسهم ونصيب، فقال: "أنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة" يعني له بنت واحدة ترثه، متى كان هذا؟
كان عام حجة الوداع، لكن إذا كان سعد ليس له إلا ابنة واحدة فهل تستاق جميع المال أم لها من تركته النصف؟
لها النصف، وإلى من يؤول باقي التركة؟
يؤول إلى أصحاب الفروض إن وجدوا، وهو قال: "لا يرثني إلا ابنة" فهذا يدل على أنه ليس هنا من أصحاب الفروض أحد، لكن ابن حجر -رحمه الله تعالى- يقول: كان له أبناء أخ، فهاشم ابن أخيه كان موجودا، وهذا له إخوة فهؤلاء من عصبته الذين يستاقون باقي التركة، فكيف يقول سعد -رضي الله عنه-: "لا يرثني إلا ابنة" وهناك أولاد أخيه عتبة بن وقاص ومنهم هاشم هذا؟
فقال أهل العلم: إنما قال ذلك لبيان الضعفة من ورثته، فلا يخشى على أحد من ورثته إلا هذا البنية لضعفها، وأما من عداها من الورثة فهم رجال أقوياء أشداء يقومون بأمر أنفسهم.(1/4)
ووقتها لم يكن لسعد من ولد، فماذا قال؟ قال: "أفأتصدق بثلثيْ مالي؟" فقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ل) ورد في بعض روايات الحديث أنه قال: "أفتصدق بمالي كله؟" فبدأ أولا بأن يتصدق بماله كله. وفي بعض روايات الحديث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سأله: (أوصيت؟) فقال: "بمالي كله في سبيل الله" فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ينازله، ويناقصه حتى وصل به إلى العُشر في بعض الروايات، وفي لفظ أنه قال: "أفأوصي بمالي كله؟" في كل ذلك يقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ل) يعني يمنعه وينهاه عن أن يعطي غير الوارث ماله كله، فقال سعد: فقلت: فالشطر؟ أي أنزل عن الثلثين إلى الشطر؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ل)، والشطر يطلق على النصف كما يطلق على الجزء.
قوله: الشطرُ يجوز أن يرفع ويجوز أن ينصب، فإذا أردنا أن نقول: قال: فالشطرَ -بالنصب- فكيف نعرب كلمة الشطر؟
من يعرف؟
مفعول به لفعل محذوف تقديره أخرج
أحسنت، هذه يمكن أن تكون منصوبة على فعل محذوف تقديره أخرج الشطر، أو أعين الشطر ونحو ذلك.
وهل يجوز جره؟
نعم يجوز
على أي أساس؟
أتصدق بالشطر تقديرها حرف جر
لا، هذا بالعطف على ثلثي مالي؛ لأن ثلث هنا مجرورة، فيجوز ذلك عطفا على قوله: "أفتصدق بثلثي مالي؟"
كل هذه الكلمات والعبارات التي يأتي بها سعد النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول له: (ل) إلى أن نازله النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الثلث فقال: (الثلث، والثلث كثير).(1/5)
هذه العبارة تدل على أمر مهم؛ وهو أنه ينبغي على الإنسان أن يشاور في خاصة أمره أهل العلم والفضل؛ فسعد -رضي الله تعالى عنه- لما دخل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- عائدا وزائرا جعل يشاوره في خاصة أمره، وفي المهم من حاله، وهو يخشى أن يكون قد حضر أجله وما بقى منه إلا قليل، وهو يطلب الأجر من الله –تعالى- ويتقرب إليه بأن يُخْرِجَ ماله كله فهل يسوغ له هذا؟ هل يصلح له هذا؟ هل يجزئه هذا؟ وهذا يدل على حرص أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على مشاورة نبيهم، ورغبتهم الشديدة في الخير وفيما يصلح أمرهم في الدنيا والآخرة.
وهو ينبئ -أيضا- عن عظيم زهدهم -رضي الله تعالى عنه- فكانوا متعلقين بالله -عز وجل- والدار الآخرة وبالمحل الأعلى، لم يكن لهم تعلق بهذه الدنيا ولا رغبة فيها، وإنما كان الغالب عليهم هذه الحال الطيبة المباركة التي رضيها الله -عز وجل- لأصحاب نبينا -صلى الله عليه وسلم- سواء من كانت الدنيا في يده أو من لم تكن الدنيا في يده. لقد كانت الدنيا خارج قلوبهم جميعا -رضي الله عنهم-.
قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (الثلث، والثلث كثير)، وفي رواية (الثلث كبير)، لكن أكثر الروايات على قوله: (الثلث، والثلث كثير) فقوله: كثير أو كبير شك من الراوي، والمحفوظ قوله: (كثير) ويجوز أن يقول: الثلث كما تكلمنا فيما يتعلق بالشرح.
إذن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الثلث، والثلث كثير) إقرار منه -صلى الله عليه وآله وسلم- بجواز الوصية ومشروعيتها من جهة، وبالوصية بالثلث من جهة أخرى، وأن هذا لا حرج فيه، وهذه الجملة من حديث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فيها تقييد لمطلق القرآن، فالنص من القرآن الذي قيدته هذه العبارة من الحديث قول الله تعالى: ? مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ?[النساء:11].(1/6)
فهذا نص مطلق أطلق فيه الوصية، وهنا في هذا النص النبوي قيدت الوصية بالثلث، فالوصية إنما تنفذ في حدود الثلث.
والعلماء جرى بينهم نقاش مفاده: هل الأكمل والأفضل والأكثر أجرا وخيرا أن يتصدق الإنسان أو أن يوصي بثلث ماله، أم أن الأفضل أن يتصدق بما دون الثلث؟ ما رأيكم؟
هذه مسألة سنبحثها -إن شاء الله وتعالى- في حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- الآتي بعد حديث سعد رضي الله تعالى عن الجميع.
ماذا قال -صلى الله عليه وآله وسلم- في تعليله لقوله: (والثلث كثير) قال -عليه الصلاة والسلام-: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) يجوز أن تكون أن هنا مفتوحة الهمزة فتقول: (أَنْ تَذََرَ) فيكون المضارع بعدها منصوبا، ويمكن أن تقول: (إِنْ تَذَرْ) ويكون المضارع بعدها مجزوما، قال النووي -رحمه الله-: وهما صحيحان.
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إنك أن تذرَ ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، هذه مسألة فطرية، فكل إنسان منا يحب الغنى لأولاده، ولا يحب لهم الفقر ولا يحب لهم الإعسار، فهذه مسألة فطرية، وهذا يدلك على أن هذه الشريعة لم تأت بما ينافي الفطرة، وإنما جاءت بما يتواءم ويتلاءم معها، وما تطوع به إنسان أو زاد فيه إنسان من أمر يصادم عامة ما جَبَل الله عليه الخلق؛ فإن الشريعة ترده إلى القصد والاعتدال؛ ولذا تجد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ينازله من كل ماله إلى الثلث؛ لأنه في بعض الروايات قال: (بمالي كله) يريد أن يوصي بماله كله في سبيل الله، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ينازله.
(إنك إن تذر) –بكسر الهمزة- هذه أسلوب شرط: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) أسلوب الشرط يحتاج إلى جواب شرط، فأين جواب الشرط هنا؟(1/7)
جواب الشرط: (خير) لكنّ هذا الجواب يفتقر أن يقترن بالفاء وجوبا، ولهذا عَدَل بعض الشراح عن أن تكون الهمزة مكسورة إلى أن تكون مفتوحة، لكن بعض اللغويين يجوّز هذا كابن مالك -رحمه الله تعالى- يجيز أن تكون الفاء وقعت محذوفة والتقدير فهو خير، ولا خصوصية للشعر أي لضرورة الشعر بهذا، ولهذا قال: ومن خص ذلك بالشعر بَعُدَ عن التحقيق، وضيّق ما ليس يضيق.
إذن على كلا التقديرين يجوز أن تكون "أن" مفتوحةَ الهمزة أو مكسورة الهمزة.
قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (أن تذر ورثتك أغنياء) هنا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما طابق جوابُهُ سؤالَ سعد؛ لأن سعدا قال: "ليس لي إلا ابنة" فلماذا عدل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: (ورثتك) فجاء بالجمع، إما لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- آثر أن يجيب جوابا يناسب كل الناس؛ فهو يقصد أن ينفع ويعلم سعدا وغيره، فليس الجواب خاصّا بسعد، وليست المسألة قاصرة على حكم معين يخص سعد بن أبي وقاص، وإنما هو لكل من يتأتى له الخطاب، ولهذا تجد الشراح من أهل العلم يقولون: هذه الواقعة أو هذه الحادثة تدل على أن الخطاب لسعد ولمن يأتي الخطاب من بعده من ذوي اليسار والغنى من أمة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- فإنهم مخاطبون بهذا.
وقد يقال: إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما بشر سعدا بأنه يطول في الحياة بقاؤه علم أنه تكون له ورثة، ومِنْ عَجَبٍ أن سعدا الذي ذكر عام حجة الوداع أنه ليس له إلا ابنة رزق بعد ذلك بأولاد وبنات كثر، حتى ذهب أصحاب الطبقات إلى أن سعدا ولد له عدد كبير ستة عشر رجلا، وثنتا عشر امرأة كلهم من صلبه -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، ولهذا كان جوابه -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)(1/8)
سعد -رضي الله عنه- في العام الذي قبض فيه عام خمس وخمسين أرسل زكاة ماله خمسة ألاف، وتوفي -رضي الله تعالى عنه- وثروته تقدر بمائتين وخمسين ألف دينار، وكان -رضي الله عنه- قد ابتنى قصرا في حمراء الأسد في جهة العقيق ذلك الوادي المبارك بمدينة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
إذن قوله: (أن تدع ورثتك) وضحنا فيه أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- خاطب سعدا ومن يتأتى له الخطاب من بعده؛ ولأن سعدا ستكون له ورثة كثر يأخذون من ماله، وتأمل لو أن سعدا ما راعى وصية النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ربما كان أولاده قد احتاجوا، لاسيما مع كثرة عددهم.
ما معنى عالة؟ أي فقراء، والفعل عال يعيل، والاسم عَيْلة، كما قال الله تعالى: ? وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ?[التوبة: 28].
ومعنى يتكففون الناس أي يسألون الناس بأكفهم، فكأن هذا من بسط الكف بالسؤال، فيتكفف الناس: أي يبسط كفه يسأل الناس بكفه، أو يسأل الناس ما يكف جوعه، أو يسأل الكفاف من الطعام الذي يقيم حياته ورمقه.
وفي هذا الحديث إباحة التصرف في ثلث الأموال، وأن ذلك من نعم الله تعالى على عباده ومننه أن أباح لهم التصرف في ثلث أموالهم بالصدقة أو بالوصية عند حضور أجلهم؛ ليكون ذلك زيادة في حسناتهم، وبركة في أجورهم وختاما تختم به صحيفة أعمالهم كما في الحديث: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم؛ زيادة في حسناتكم؛ ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم).
وهنا مسألة: لو أن إنسانا أوصى بثلث ماله أو بربع ماله مثلاً، أو بأقل من ذلك فقال: أوصيت بثلث مالي للفقراء، ثم إنه عاش بعد هذه الوصية سنين، وزادت ثروته ونمى ماله، ثم توفي فالوصية التي ستخرج تخرج من ثلث ماله حال صدورها، أم تخرج من ثلث ماله يوم توفي؟
نعم تفضل.
تجب الوصية من ماله يوم مماته؛ لأن الوصية تجب عند الوفاة(1/9)
هذا قول الجمهور؛ قالوا: تخرج الوصية بالثلث أو بالربع أو بما حدَّد وقدَّر من مالِهِ يوم يموت، هذا قول الإمام أحمد، وقول أبي حنيفة، والأصح عند الشافعية.
وأما القول الآخر فهو قول الإمام مالك ومن وافقه كالنخَعِي وعمر بن عبد العزيز وغير هؤلاء من التابعين قالوا: بل تخرج من ماله يوم أوصى، لا يوم يموت.
بأي شيء احتج الإمام مالك؟ قال: الوصية عقد، وهذا العقد أبرم يوم أن تلفّظ هذا الموصي بما تلفظ، فلا يجب عليه زيادة على ما أوجب، فلو أنه نذر أن يتصدق بثلث ماله في يوم من الأيام لوجب عليه أن يتصدق بثلث ماله الموجود يوم أن نذر؛ وعندئذ يظهر أن هذه الوصية يجب إنفاذها من الثلث يوم أن أوصى ذلك الإنسان.
فهل سلم الجمهور للمالكية وأكثر العراقيين بهذا القول؟
قالوا: لا، لا نسلم بهذا. لماذا؟ قالوا: أصلا لا نسلم أنها عقد، ولو قولنا: إنها عقد فإنها تخالف العقود تخالف العقود في الفورية؛ لأن هذا العقد لا يلزم إلا عند موت هذا الموصي، وتخالف العقد في القبول؛ فالأصل ألا يتراخي القبول عن الإيجاب، إذا قال: أوصيت لفلان بكذا فمتى يكون الإيجاب؟ وما هو المعتبر في الإيجاب؟ أن يكون هذا بعد الموت، فربما طال الزمان إلى سنوات، قالوا: ومع هذا تصح الوصية، فالوصية يتراخى فيها الإيجاب عن القبول، ولا تلزم إلا بعد الموت، وليس هكذا شأن العقود.
إذن للوصية وضع خاص، فقالوا: لا نسلم لكم أيها المالكية ومن وافقكم بأنها عقد كسائر العقود، وإنما هناك فرق يفرق بينها وبين بقية العقود.
فالراجح هو أن هذه الوصية تخرج من مال الموصي يوم موته.
هل لهذا الخلاف ثمرة ونتيجة؟
نعم، لو أن إنسانا -كما قلنا- زادت أمواله زيادة طائلة، فإن الثلث أو الربع أو الخمس يخرج من جملة ماله، هذا أوّلا.
ولو أن إنسانا ما ملك ورثته مالا إلا بعد موته، كإنسان قتل فَوُدِيَ فهل نخرج الثلث من ديته أو لا؟(1/10)
إذا كان قد أوصى بإخراج الثلث فهذه الدية ستورث عنه، وهي إنما وجبت بالموت أو وجبت مع الموت عندئذ ستضاف هذه الدية إلى تركته، وبالتالي ستثلث أو تربع أو تخمس بحسب الحصة التي أوصى بها هذا الذي مات خطأ أو عمدا فوُدِيَ.
عندئذ يظهر لنا أن في هذا الخلاف ثمرةً يجب أن نتنبه لها.
يقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لسعد: (إنك لن نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك) لماذا يخبره النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بهذا؟ ليبين له أن مفهوم العبادة أوسع وأشمل، وأن الأمور التي تجب كحق لبعض الناس يثاب الإنسان عليها أيضا، ولو كانت من جملة الواجبات فهو هنا يقول: (لك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، فأنت حين تترك من مالك ما تترك لورثتك تنفعهم بذلك، وهذا النفع ينفعك عند الله -عز وجل-.
وهو أيضا يؤكد على أن هذه الشريعة توائم فطر الناس، وتناسب ما خلقهم وجبلهم الله تعالى عليه، فالإنسان مفطور على أن يحسن إلى ولده إحسانا ماديا ومعنويا، فالشريعة تدعوه إلى هذا وتحث عليه وتجعل له في هذا أجرا إن هو وافق الشريعة موافقة عامة، وانضبط بأحكامها انضباطا عاما.
وأنت تلمس وتلمحه في أمور كثيرة؛ فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يخبر أصحابه ذات يوم أن الإنسان إذا أتى أهله كان له بذلك صدقة فيقول: (وفي بُضْعِ أحدِكم صدَقةٌ) فيعجب الصحابة "أيأتي أحدنا شهوته ثم يكون له أجر؟!" فقال -عليه الصلاة والسلام- وهو يعلمهم القياس الصحيح: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر).(1/11)
فيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر هذا الأمر أمر جِبِلّي، فإن فعلته تريد بذلك مرضاة الله وإعفاف نفسك وزوجك عن الحرام أُجرت على ذلك، ولو كان الباعث طبعيا وليس شرعيا، لكن استحضار هذا ودخول هذا في النية العامة يجعلك مأجورا، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تحدث عن الرجل الذي يحبس خيلا في الجهاد فقال: (ولو مر بها صاحبها على نهر فشربت منه ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات) كتب الله له عدد ما شربت حسنات فتأمل، فهذا تنبيه على هذه العبادة البدنية وهي الجهاد وحبس الخيل في سبيل الله أن الله -تبارك وتعالى- يجزيه بعدد ما شربت حسنات، ولو لم يكن مريدا لسقيها، ومع هذا يدخل هذا في النية العامة.
وهنا في حديثنا هذا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يذكر أن العبادة المالية التي هي الوصية للأبعدين أو للأقربين غير الوارثين يترتب عليها الأجر، وما بقي أيضا من مالك الذي تتركه لورثتك لتغنيهم به عن السؤال وتمنعهم به من التعرض بأكفهم للناس يكون لك به أجر أيضا.
وما يدريك لعل أجرك فيما تركت لورثتك من المال الحلال الصالح الطيب يكون خيرا وزخرا لك عند الله -تبارك وتعالى- ربما أكثر من صدقة تصدقت بها على أجنبي وأولادُك في حاجة إلى هذا المال؟ فالحمد لله رب العالمين الذي شرع لنا هذا الدين وجعلنا مسلمين.
(إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك) يعني حتى ما تجعل من اللقمة في فم امرأتك، وهو يشمل جميع ما تنفق مما تبتغي به وجه الله فهذا لبيان دخول كل شيء تنوي فيه نية الخير فإنك تثاب عليه وتؤجر عند الله -تبارك وتعالى-.
عندها يسأل سعد -رضي الله تعالى عنه- نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- سؤالا، وينتقل بنا السياق انتقالة جديدة، هذا النقلة يقول فيها سعد: "أخلف بعد أصحابي؟" ما معنى أخلف؟
يعني تتركوني وتذهبون، وتدعوني بمكة وترحلون؟ وما الحرج في هذا لو كان هذا سيقع؟(1/12)
الحرج أنهم كانوا يكرهون الإقامة بمكة بعد أن هاجروا منها؛ لأنهم صاروا بالهجرة مهاجرين، فلا يريدون أن يقيموا بمكة فيبطلوا هجرتهم ويرجعوا في طاعتهم، فهم أحرص الناس على أن لا تبطل لهم هجرة وأن يتم لهم أجر، وقد علموا ما في الهجرة من الفضل العظيم الذي ادخره الله -عز وجل- للمهاجرين.
وسعد -رضي الله عنه- من أوائل المهاجرين، ومن أوائل المسلمين، فهو يكره أن يقيم متخلفا بسبب مرضه فيسأل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بشغف وقلق: "أُخَلَّفُ بعْدَ أصحابي؟" وهذا السؤال يدل على حالته النفسية، فكيف عالجه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أجابه إجابة فيها تسلية وتسرية عنه فقال -عليه الصلاة والسلام-: (إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون) فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يرشد سعدا إلى أمر مهم؛ وهو إلا يكره من أمر الله شيئا، وقد علّم الله -عز وجل- النبي والصحب الكريم بقوله تعالى: ? لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ ?[النور: 11].
إنك إن تخلفْ يا سعد بمكة فتعملْ بها أو تحسنْ بها أو تصلحْ فيها أو يكنْ منك فيها عمل صالح فإن هذا خير ونفع ومصلحة لك، فلا تكره من أمر ربك حين يقدّر عليك مما تكره شيئا، فعسى أن يكون الخير في هذا الذي كرهت.
ولقد بشر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سعدا بشارة في ثنايا الإجابة فقال: ولعلك أن تخلف) لا في مكة ولكن في هذه الحياة: أي تبقى ويطول فيها عمرك (ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون) فهل وقع هذا؟
متى النبي -صلى الله عليه وسلم- يخاطب سعدا بهذا الخطاب ؟(1/13)
في السنة العاشرة، ومتى مات سعد؟ سنة خمس وخمسين؛ فتأخر أجل سعد -رضي الله عنه- بعد قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ولعلك أن تخلف) خمسا وأربعين سنة، وهل وقع هذا الذي وعده به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ نعم، انتفع بسعد أقوام لا حصر لهم، ولا يزال إلى يومنا هذا الذي نحيا فيه ينتفع أقوام بسعد، كيف؟ انتفع أقوام بالدخول في الإسلام عن طريق سعد بن أبي وقاص، فإن الله تعالى أخر أجله حتى فتح على يديه العراق سنة خمس عشرة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
وإلى يوم الناس هذا كل من عمل عملا صالحا في الإسلام كان لسعد -رضي الله تعالى عنه- منه وفيه نصيب؛ لأنه دل على هدى ودعا إليه لم يسبقه أحد إليه فيبقى ذلك كله في ميزانه -رضي الله عنه-.
فانتُفِع به في الإسلام هذا النفع العظيم، ولقد روى بعد ذلك حديث الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد أخرج البخاري ومسلم جملة من الأحاديث لسعد يبلغ خمسة عشر حديثا، وانفرد مسلم بطائفة، والبخاري بطائفة، وفي هذه الأحاديث كثير من الآداب والأحكام الشريعة التي انتفع بها ولا يزال المسلمون.(1/14)
ثم إن سعدا علّم المسلمين في مواقف كثيرة، علمهم في الفتنة أن يعتزلوها، فإنه -رضي الله عنه- ما شهد الجمل، ولا صفين، ولا التحكيم، وترك ذلك كله، ودُعِيَ إلى الخلافة فما رفع إليها رأسا، واعتزل ودعا من دعاه إلى ذلك أن يأخذ غنما فيتبع شعث الجبال في وقت الفتنة التي حصلت بعد مقتل عثمان -رضي الله تعالى عنه- ومقتل علي رضي الله تعالى عنه، ثم إنه علم كيف تكون المواقف القوية إذا وقع ما يغضب الله -عز وجل- فقد حُدِّثْنا أن سعدا -رضي الله تعالى عنه- جلس في مجلس وجاء فيه رجل يسب عليا والزبير وطلحة، فقال له: لا تسب إخواني، فلم يأبه الرجل بنهي سعد إياه، فما كان من سعد إلا أن صلى ودعا الله -عز وجل- فما لبث وهو في مكانه أن جاء جمل ضخم فهجم على هذا الرجل فسحقه وجعله بين البلاط وبين الكِرْكرَةِ، وهي هذا الخف الذي يكون أسفل عنق الجمل أو تحت زور الجمل، فجعل يسحقه حتى قضى عليه، فاتبعه سعيد بن المسيب قائلا له: هنيئا لك يا أبا إسحاق -كنية سعد -رضي الله عنه- أبو إسحاق- هنيئا لك يا أبا إسحاق؛ استجيبت دعوتك.
يقول الذهبي -رحمه الله-: "وهذه كرامة لسعد، ولأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين سبوا وشتموا" علي -رضي الله تعالى عنه- والزبير وطلحة؛ لأن الله -عز وجل- انتقم من هذا الذي وقع في عرضهم علم سعد الأمة بقوله وفعله، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
إذن، تأخر موته -رضي الله عنه- فانتفع به أقوام وتضرر به آخرون.
ثم إن نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- دعا لأصحابه قائلا: (اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم) دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد وإخوانه المهاجرين لِمَا يعلم من حرصهم على فضل الهجرة وثوابها، فدعا الله –تعالى- أن يتمم لهم أجرهم، وأن يكمل ثوابهم، وألا يحرمهم تمام الفضل والأجر بهجرتهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(1/15)
ثم إن النبي ذكر أحد أصحابه البدرين المباركين وهو "سعد ابن خولة" نسبة إلى أمه، قرشي، عامري، بدري، من فضلاء أصحاب نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، توفي بمكة عام حجة الوداع، ودفن بها، توجع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لهذا الصحابي أن مات ودفن بمكة التي هاجر منها؛ ولذا كانت دعوته لعموم المهاجرين أن يتم الله -عز وجل- عليهم نعمته بإكمال أجرهم وعدم انتقاص شيء من هذا الأجر أو ذلك الفضل.
وبهذا يكون هذا الحديث قد اكتمل شرحه، وبانت لنا بعض فوائده، ولنا فيه من الخير والبركة.
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول: بيّن حكم الوصية، واختلاف الفقهاء مرجحا ما تختاره
وكانت الإجابة:
اختلف الفقهاء في حكم الوصية على ثلاثة أقوال:
الأول: وهو قول الجمهور ومذهب الأئمة الأربعة وهو أن الوصية بالأمور المستحبة مستحبة.
الثاني: وهو قول ابن حزم والزهري وطائفة من التابعين وبعض الصحابة كابن عمر والزبير وطلحة وهو أن الوصية واجبة.
الثالث: وهو قول داود والشعبي والنخعي وبعض السلف وهو أن الوصية واجبة لغير الورثة.
وقول الجمهور وهو القول الراجح وذلك لعدة أسباب منها:
- أن آية وجوب الوصية قد نسخت بآية المواريث وبحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
- أن الحق المذكور في الحديث يشمل أمرين: الواجب والمستحب، ثم إنه لو كانت واجبة لما جاز توزيع تركة الميت الذي لم يوص إلا إذا أخرجنا منه
جزءا على سبيل الوصية على ألا يزيد على الثلث، ثم إن فعل بعض الصحابة دليل على عدم الوجوب؛ لكونهم ماتوا ولم يوصوا وإقرار بعض الصحابة لهم بعدم النكير عليهم
نعم هذه إجابة صحيحة.
السؤال الثاني: بين حكم الكتابة في الوصية، وهل يعتد بها إذا خلت من الإشهاد؟(1/16)
يقول: اختلف الفقهاء في حكم الوصية المكتوبة دون المشهد عليها، أو في حكم كتابة الوصية دون الإشهاد: جمهور العلماء قالوا: إن الإشهاد شرط لصحة الوصية، واحتجوا على ذلك بأن الخطوط قد تتشابه ويصعب التميز بينها، وأن الكتابة أمر محدث في الدين. واحتجوا أيضا بأن هذا قد يؤدي إلى الافتعال والتزوير.
أما الإمام أحمد والإمام مالك فقالوا: إن الكتابة تجوز دون الإشهاد، وردوا على أدلة الجمهور قائلين: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد كتب الأمراء والملوك وبعث رسائل إليهم مكتوبة، واعتدوا بعموم الأوامر بالقرآن الكريم كقوله تعالى: ?فَاكْتُبُوهُ? وقوله: ?وَلْيَكْتُبْ? واحتج بهذا العموم.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية أن مذهب جمهور السلف على الأخذ بالكتاب والإشهاد، وكذلك الشوكاني
هذه إجابة صحيحة.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة:
سؤال واحد
هل يعتبر في الوصية بثلث المال حالُ الوصية أو حالُ الموت؟(1/17)
الحديث - المستوى السادس
الدرس الخامس - الحديث الثالث من باب الوصايا وأول باب الفرائض
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
الحديث الثالث من باب الوصايا
وأول باب الفرائض
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة، سلام الله عليكم ورحمته الله تعالى وبركاته.
نستأنف رحلتنا المباركة مع عمدة الأحكام، ومع الحديث الثالث من باب الوصايا.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (الثلث، والثلث كثير))
هذا الحديث هو الحديث الثالث في باب الوصايا، وهو آخر أحاديث الباب، وقد ساقه المؤلف -رحمه الله تعالى- عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- وقد سبقت ترجمته فلا نعيد ذكرها.
قوله -رضي الله تعالى عنه-: "لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (الثلث والثلث كثير)" هذه رواية عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- يقول فيها: لو أن الناس غضوا، "لو" حرف يفيد في هذا السياق التمني، كما أنه قد يفيد الشرط في سياق آخر، وقد يفيد الخبر في سياق ثالث؛ فلو قلت لك: لو جئتني أكرمتك فإن هذا يكون مني على سبيل إخبارك بما لك من المنزلة عندي.
وهنا في الحديث يقول ابن عباس: "لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع" فـ"لو" هنا تفيد التمني، فليست على سبيل الخبر، وليست شرطية؛ لأن الشرط يحتاج إلى الصيغة المعروفة من فعله وجوابه، فهذه الصيغة هنا تفيد أن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- كان يحب ويتمنى هذا.(1/1)
ووقع في بعض الروايات ما يدل على هذا المعنى؛ فإنه -رضي الله عنه- كما نقل بعض أهل الحديث في كتبهم قوله: "لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع كان هذا أحب إلي" ثم علل هذا بقوله: فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (الثلث، والثلث كثير) وفي رواية قال: "كان أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-" وفي لفظ "كان أحب إلي" وفي لفظ "نمي ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: كان أحب إلى رسول الله".
قوله: (غضو) بمعنى نقصوا، أي في الوصايا من الثلث إلى ما دونه، فقال: لو أنهم غضوا من الثلث إلى الربع لكان هذا الفعل أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لأنه لما نازله سعد -رضي الله تعالى عنه- قال له: (الثلث، والثلث كثير) وهذا تعليل منه؛ لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- للغض من الثلث.
وقد شرحنا في لقائنا الماضي أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- علل ذلك بقوله: (إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)؛ فلأجل هذا حرِص النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على هذا المعنى.
ثم إن أهل العلم بحثوا هذه المسألة بشيء من التفصيل؛ فقالوا: هل الأولى والأفضل والأثوب والأكمل أجرا أن يوصي الإنسان بأقل من الثلث، أم أن الثلث هو الأولى والأفضل لمن أراد أن يتطوع بكتابة وصية أو بذكر وصية وبالإشهاد عليها؟
هذا الخلاف بين العلماء جار بين الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- فمن بعدهم من الفقهاء؛ فالمنقول عن الإمام أحمد -رحمه الله- وعن الشافعي -رحمه الله تعالى- أن الأولى للغني أن ينزل عن الثلث في وصيته.(1/2)
ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام- لسعد: (الثلث، والثلث كثير)، مع أن سعدا أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بغناه وكثرة ماله؛ ولهذا نجد أن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في هذه يقول: وددت لو أنهم غضوا من الثلث إلى الربع، وينقل هذا ابن قدامة -رحمه الله تعالى- عن طائفة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو منقول عن علي -رضي الله تعالى عنه- وأبي بكر -رضي الله تعالى عنه-، لكن المنقول عن أبي بكر أنه قال: "رضيت بما رضي الله به تعالى لنفسه" ما الذي رضيه الله تعالى لنفسه؟ الخمس، وما الدليل على أن الله تعالى رضي ذلك لنفسه؟
? وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ ? [الأنفال: 41].
فظاهر هنا أن الوصية بالخمس لها مستند استنبطه الصديق -رضي الله تعالى عنه- من هذه الآية، ثم إنه نقل عن علي -رضي الله تعالى عنه- قوله: «لَأن أوصي بالخمس خير وأحب إلي من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع خير وأحب إلى من أن أوصي بالثلث» وهكذا نجد أن طائفة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تواصوا بالغض من الثلث؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- (والثلث كثير).
قال ابن حجر: وهذا ما يتبادر إليه الفهم؛ أي أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رأى أن الثلث كثير؛ ولهذا قال بعض الرواة: الخمس أحب من الثلث.(1/3)
وينبغي أن يقال: إن هذا التطبيق محله حيث كان لهذا الإنسان ورثة يريد أن ينفعهم، أما إن كان لا وارث له فإنه لا حرج عليه عندئذ أن يوصي بالثلث؛ لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حين علل هذا قال: (إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) ولهذا قال الإمام النووي رحمه الله: "إذا كان الورثة فقراء استحب أن ينتقص من هذا الثلث، وإن كانوا أغنياء فلا" ومع هذا يبقى أن أكثر أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على أن ينزل الإنسان عن الثلث إلى ما دونه، وهو المقدم في مذهب الإمام أحمد والشافعي والإمام مالك -عليهم جميعا رحمة الله تعالى- على خلاف بينهم.
بل استظهر بعض المالكية أن يكون هذا على النصف من الثلث أي أن السدس أولى.
وهذا كله الاجتهاد يفوض فيه النظر إلى الفقهاء المجتهدين، كلٌّ بما رأى، وليس في هذا نص، ولكن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حد حدا لا ينبغي لأحد أن يتجاوزه؛ ألا وهو الثلث، فإن تجاوزه موص فإنه الوصية ترد إلى الثلث؛ أي لو أنه أوصى إلى بما يزيد عن ثلث ماله فإن الذي استظهره العلماء أن هذه الوصية ترد إلى الثلث، إلا أن يجيزها ورثته، فإذا أجاز الورثة ما فعل مورثهم فعندئذ تنفذ هذه الوصية، فكأنها نافذة في الثلث وما دونه، فإن زادت عن الثلث فهي موقوفة على إجازة من له الحق؛ وهم الورثة.
بهذا نكون قد أتينا على مجمل شرح حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- لننتقل بعد ذلك إلى كتاب الفرائض من كتاب عمدة الأحكام.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (باب الفرائض
عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر)، وفي رواية (اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما ترَكَت الفرائضُ لأولى رجل ذكر)).
باب الفرائض(1/4)
الفرائض جمع فريضة؛ بمعنى مفروضة أي مقدرة، والفرض يطلق في اللغة على معان متعددة: منها التقدير، ومنها الحد، ومنها الإنزال والإحلال والقطع ... إلى غير ذلك من المعاني الكثيرة التي قد يطول الوقت بذكرها، لكننا نقتصر على ما يتعلق بباب الفرائض من الفقه.
الفرائض جمع فريضة وهي هنا بمعنى المقدار المحدد، والشيء المقدر، والأمر المقطوع به؛ ولهذا تجد في كتاب الله ? وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ? أي: قدرتم لهن شيئا مقدرا، وفي قوله تعالى: ? نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ? [النساء: 7] أي مقدرا محدد، وقول بعضهم: فرضت لفلان كذا أي قطعت له كذا، فرضت له من مالي كذا أي قطعت له من مالي هذه القطعة أو هذا الجزء.
الفرائض علم عظيم جدًا، ويطلق عليه أيضا اسم علم المواريث، فإذا كنا نتحدث عن هذا العلم علم الإرث أو علم المواريث أو علم الفرائض فإننا نتحدث عن علم له أهميته وفضله ومنزلته، وقبل أن نتناول ذلك علينا أن نعرف حد هذا العلم اصطلاحا.
الفرائض اصطلاحا: علم يعرف به من يرث ومن لا يرث، كما يعرف به مقدار مال كل وارث.
فهو يقوم إذا على دعامتين ويتكون من ركنين ركينين:
الأول: ما يتعلق بمعرفة الأحكام الفقهية المتعلقة بمن يرث ومن لا يرث، ومن يرد عليه من المال، ومن يحجب حجب نقصان، أو يحجب حجب حرمان ... إلى آخر ما يبحث عن علم الفرائض من أحكامها، فالشق الأول إذًا شق فقهي يتعلق بالأحكام.
والثاني: شق حسابي يتعلق بمعرفة ما لكل وارث من حصة مقدرة، كيف نحسب ذلك؟ وكيف نقدر ذلك؟ وكيف نستخرج ذلك؟ وكيف نعلّم هذا لمن أراد أن يتعلم هذا العلم؟ فقال بعضهم: الفرائض هو العلم بقسمة المواريث فقها وحسابا.
ما موضوعه؟
موضوعه التركات.
من أي حيثية؟
من حيثية ما يتعلق بأحكامها واقتسامها، فنحن نبحث في علم الفرائض عن التركة.(1/5)
ما التركة؟ التركة ما يتركه الميت، وما الذي يتركه الميت؟ يترك أموالا، هذه الأموال قد تكون منقولة أو غير منقولة، فغير المنقول هو العقار والدار، والمنقول ما دون ذلك.
وقد يترك الميت حقوقا فتدخل في تركته، وقد يدخل اختصاصات فتبقى من تركته، كل ذلك يخضع لأحكام ويتعلق به حق الورثة ويجري فيه الاقتسام، إذن موضوع علم الفرائض هو التركات من حيث ما يعرض لها من أحكام تتعلق بقسمتها وحسابها.
ما حكم تعلم علم الفرائض؟
فرض كفاية
هذه هو الصحيح، علم الفرائض فرض كفاية إذا قام به من يسد حاجة الأمة إلى معرفة أحكام هذا العلم وكيفية اقتسام التركة فقد رفع الحرج عن الأمة، ولم تعد مطالبة به، فإن قصر في ذلك الجميع أثموا وحرجوا حتى يوجد فيهم من يقوم بهذا الواجب؛ لأن هذا العمل لا غنى للمسلمين عنه؛ حيث يتعلق بمعرفته معرفة كيف تقسم التركة, ولا بد أن يوجد في المسلمين من يقوم بهذا الفرض؛ لأنه لا غنى للإنسان عن أن يتناول ما تركه له مورثه، فإن رد هذا إلى الهوى وإلى ما يريده الناس كان الرد -والعياذ بالله- إلى ما به التنازع والشقاق، بل ما به التباغض والاقتتال.
إذن نعرف أن هذا العلم له شرف عظيم وفضل كبير، وقد وردت في ذلك أخبار وآثار، لكننا لا نطيل بذكرها؛ لأن المقام لا يتسع لذلك، لكن يكفينا أن نقول: إن ثمرة هذا العلم هو إيصال الحق إلى صاحبه، فنحن إذا أردنا أن نقسم التركة ولم يكن لدينا علم بما في كتاب الله –تعالى- وفي سنة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- من قواعد وأحكام تتعلق بقسمة الإرث فإننا سنخبط بذلك خبط عشواء، يترتب عليه ضياع الحقوق وذهابها عن أصحابها، وفي ذلك فساد عريض.
من أين نستمد هذا العلم؟
أولا: كتاب الله تعالى، وأنت تجد أن آيات سورة النساء جاءت مفصلة في بيان حقوق الورثة.
ثانيا: سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وبين أيدينا هذا الحديث الذي فيه قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ألحقوا الفرائض بأهله).(1/6)
ثالثا: علم النسب لأن به نعرف من له حق ومن ليس له حق؛ أي نفرق بين الأخ الشقيق والذي لأب والذي لأم، ونعرف كيف تتصل العلاقة بين الميت ومورثه، إذن لا بد من معرفة علم النسب.
هل هناك علم آخر؟
الحساب؟
صحيح؛ فكيف سنحسب إذا لم يكن عندنا من علم الحساب معرفة، أو لم يكن لنا به خبرة، فهذا العلم هو الذي يقع به اقتسام السهام المخصصة لكل وارث.
إذن علم الفرائض يقوم على دعامات ثلاث: علم الكتاب والسنة، ثم النسب، ثم علم الحساب، أما ما يتعلق بقواعد الاستدلال والاستنباط فهذه مستمدة في الجملة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ثم إن مسائل الفرائض أكثرها مجمع عليه والخلاف فيها قليل، ولهذا نكتة يجب أن نتفهمها ويجب أن نتعرف عليها؛ فالله -تبارك وتعالى- جعل مسائل الإرث أكثرَها مما نص عليه في الكتاب العزيز، وقد جاءت مفصلة؛ فتجد أن الآية الحادية عشرة، والثانية عشرة، والسادسة والسبعين بعد المائة من سورة النساء تتعلق بتفصيل الأحكام، وكذا الآية السابعة، والثالثة والثلاثين، والسابعة والعشرين بعد المائة من نفس السورة تتعلق أيضا بالمواريث، وتجد أن في سورة الأنفال إشارة إلى بعض من يرث، فالقرآن الكريم زخر بالنص على الورثة وعلى أنصبائهم؛ ليكون ذلك أدعى لارتفاع الخلاف؛ حتى إنك تجد أن أكثر مسائل الإرث منصوصا عليها؛ لأنك لو أردت أن تحقق العدل في القسمة ما استطعت أن تصل إلى ذلك، ولا أن تصل إلى ما يرضي جميع الأطراف، فلو أن ميتا مات وترك أبا، وأختا شقيقة، وأخا شقيقا، وأختا لأم ... وأردنا أن نوزع هذه التركة فكيف نوزعها إن لم يكن لدينا أثارة من علم من كتاب الله تعالى؟.
مات وترك: أبا - وأختا شقيقة - وأختا لأم - وأخا شقيقا ... فكيف نوزع هذه التركة؟
من يعرف؟
الأب صاحب فرد يأخذ السدس
ما شرطه الأب صاحب الفرض هنا؟
متى يكون الأب صاحب فرض هنا؟(1/7)
الأب يرث بالفرض، ويرث بالتعصيب، ويرث بهما معا، فهل سيرث هنا بالفرض، أم سيرث بالعصوبة النسبية، أم سيرث بهما معا؟
الأب سيأخذ بالفرض وبالتعصيب
ماذا سيأخذ؟
الأخت لأم ستأخذ السدس، والأخ الشقيق حجب الأخت الشقيقة، والأب سيأخذ الباقي
يعني ماذا؟
يعني الأب سيأخذ خمس أسداس؛ الباقي
والأخت الشقيقة لها شقيق؟
الأخت الشقيقة حجبها الأخ الشقيق
والأخت لأم هي التي لها؟
هي التي له
لماذا لها؟
الأخت لأم؟
لماذا ليست محجوبة؟
لآن آخر آية النساء ....
على كل حال هذه المسألة -وسيأتي معنا بيان ذلك- الأب يأخذ فيها جميع التركة ليس لأحد من هؤلاء شيء، فإن لم يكن لدينا علم من قسمة المواريث وما يتعلق بها فإننا سنخبط في هذا الحق خبط عشواء فلا يصل صاحب حق إلى حقه؛ لهذا عني القرآن الكريم بالنص على مسائل التركة، وبيان المستحق للتركة دون غيره؛ ليغلق باب النزاع والخصومة بين المسلمين.
إذن هذا ما يتعلق باستمداد هذا العمل، والسبب الذي جعل مسائل الإرث مسائل منصوص عليها.
من الذي وضع هذا العلم؟
يقولون: إن الواضع مَنِ ابتدأ التصنيف والتدوين فيه، ونحن نعلم أن نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ) فزيد بن ثابت -رضي الله تعالى عنه- هو أفرض هذه الأمة كما في الصحيح عن نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولذلك قال الناظم:
وأن زيدًا خص لا محالة *** بما حباه خاتم الرسالة
من قوله في فضله منبها *** أفرضكم زيد وناهيك به
أي تنويها عن فضله وشرفه -رضي الله تعالى عنه- وسبْقِه وتقدمه في هذا العلم؛ فزيد بن ثابت أعلم الأمة بهذا العلم، ثم إن الصحابة من بعده ومن صار على دربهم من التابعين، ومن تبعهم من الفقهاء قاموا بهذا العلم فصنفوا فيه، وألفوا ودونوا ما بين منظوم ومنثور؛ بحيث يبقى هذا العلم في هذه الأمة محفوظا -بإذن الله تعالى-؛ ولذا ورد أنه نصف العلم، وورد أنه من العلوم التي تغيب عن كثير من الناس.(1/8)
مسائل هذا العلم: هي المسائل التي تتعلق بقسمة التركة.
بهذا نكون قد عرفنا تعريفا موجزا بعلم الفرائض.
لنعود إلى قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر).
"ألحقوا الفرائض بأهلها" أي: ابدءوا بقسمة التركة مقدمين أصحاب الفروض على غيرهم، وأنت تعلم أن التركة إذا مات الميت تعلقت بها حقوق، هذه الحقوق إجمالا أربعة:
الحق الأول: مؤنة تجهيز هذا الميت؛ فإنه يحتاج إلى أن يغسل، ويكفن، ويحفر له قبره، ويلحد فيه، فإن احتاج هذا إلى شيء من المال فإن ما يتعلق بحق الميت هنا مقدم على حق غيره.
الحق الثاني: حق سداد الديون؛ سواء كانت الديون تتعلق بعين التركة؛ كما لو رُهِنَ شيء من التركة في دين فهذا يقدم، أو كانت ديونا لله -عز وجل- أو كانت لسائر العباد؛ فسداد الديون على كل حال مقدم على إنفاذ الوصايا، والوصايا هي الحق الثالث المتعلق بالتركة، فإذا أنفذت الوصايا في حدود الثلث فما بقي فهو إرث يقسم على وفق المقادير الشرعية التي قدرها الله -عز وجل- وفرضها في كتابه، أو في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا يذهب ذهنك إلى أن هذه المسائل في التركات كلها منصوص عليها، بل هناك مسائل مستنبطة اختلف فيها العلماء، لكنها قليلة، قد أبقى القرآن للسنة في الفرائض مدخلا، وأبقت السنة للاجتهاد وللرأي في الفرائض مدخلا، فصار للاجتهاد تعلق بقسمة التركات في بعض المسائل، كما أن السنة اختصت ببيان بعض مسائل التركة، كما هو معلوم من في مظان هذا العلم من كتب.(1/9)
إذا أردنا أن نعود مرة أخرى إلى الحديث فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها) ففي بيان أنه عند قسمة التركة يبدأ بأصحاب الفرائض، وسنذكر -إن شاء الله وتعالى- من أصحاب الفرائض؟ وما المقادير الشرعية التي قدرت لكل وارث؟ (فما بقي) من التركة بعد أن يعطى أصحاب الفرائض ما لهم (فلأولى رجل ذكر) فهذه إشارة إلى ما يسمى الإرث بالتعصيب، فالعصبة هو من يستاق التركة بعد أصحاب الفرائض؛ أي من يأخذ ما بقي من التركة بعد أصحاب الفرائض هذا الذي نسميه عصبة، وسيأتي معنا أيضا تنويه بشأن العصبات، وما يتعلق بأقسامها وأنواعها. هذا هو المعنى الإجمالي لهذا الحديث.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (اقسموا الفرائض على كتاب الله) هذا يدلك على أن كتاب الله -عز وجل- هو المعول والمعتمد في قسمة التركات؛ لما ذكرنا أن أكثر المسائل منصوص عليها.
أركان الفرائض ثلاثة؟ من يعرفها؟
الأول: الوارث. الثاني: الموروث. الثالث: المورث
هذه أركان الإرث الثلاثة.
ثم إن للإرث أسبابا ثلاثة، ما هذه الأسباب الثلاثة؟
أسباب ميراث الورى ثلاث *** كل يفيد ربه الوراثة
وهي نكاح وولاء ونسب *** ما بعدهن للمواريث سبب
أيضا الممنوعون من الإرث ثلاثة، من هم ؟
ويمنع الشخص من الميراث *** واحدة من علل ثلاث
رق وقتل واختلاف دين
رق وقتل واختلاف دين *** فافهم فليس الشك كاليقين
فالموانع التي تمنع من الإرث ثلاثة؟
ما هي؟
الرق: أن يكون عبدا مملوكا؛ إذ المملوك لا يَمْلِكُ؛ لأنه هو وماله مملوك لسيده، وهو مال يورَث في ذاته، فلا يملك بحال.
والقتل: فإنه ليس للقاتل شيء، فكل قتل ترتب عليه قصاص أو دية فإنه يمنع التوارث، وقاعدة ذلك: "أن من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه".
واختلاف الدين: لا يتوارث أهل ملتين شتى؛ فلا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.(1/10)
هذه موانع الإرث عند الجمهور وفي هذا تفاصيل لا نستطع أن نتناولها في هذا الشرح السريع لهذا الحديث.
الفرائض كما قلنا معتمدها ودليلها كتاب الله تعالى، وسنحاول أن نتعرفها من خلال آيات سورة النساء التي ذكرت الفرائض وذكرت أهلها وأصحابها.
ونقرأ في سورة النساء الآية السابعة والحادية عشرة والثانية عشرة والسادسة والسبعين بعد المائة ما نفهم من خلاله المواريث، وهذا الذي اخترنا أن نسير عليه في هذا الشرح اليسير السريع لهذا الحديث من أحاديث عمدة الأحكام.
? لِلرِّجَالِ نَصِيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ? [النساء: 7]..
هذه الآية قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: إنها نسخت وجوب الوصية التي ثبت في قول الله تعالى: ?كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ? نسخت بهذه الآية ? لِلرِّجَالِ نَصِيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا? إذن هذه الآية دلت على انتهاء العمل بالآية الأولى، وهي تدل أيضا على أن الله -عز وجل- تولى بيان مقادير التركة، ومقادير الإرث لكل وارث في كتابه؛ ولهذا قال جل من قائل: ? مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا? مقدرا من قبل الله -تبارك وتعالى- وهذا لقطع مادة النزاع والشقاق حول التركات وكيفية التوارث فيها.
ولهذه الآية سبب نزول؛ ذلك أن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنه- لما مرض عاده النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فجعل يسأله عمن يرثه فالنبي -صلى الله عليه وسلم- سكت، ولم يجب حتى نزلت هذه الآية.
نقرأ الآية الحادية عشرة:
?(1/11)
يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا? [النساء: 11].
قول الله تعالى: ?يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ? سمى بعض العلماء آيات المواريث بآيات الوصية؛ لأنها مبدوءة بقول الله تعالى: ?يُوصِيكُمُ اللَّهُ? وتأمل قوله: ?يُوصِيكُمُ اللَّهُ?، فالله تعالى يوصي الآباء بالأبناء، وفي هذا لفظ وإشارة كريمة إلى أن الله -عز وجل- وهو يوصي الآباء بالأبناء وقد جعل في قلوب الآباء غريزة حب الأبناء في ذلك إشارة إلى أن الله -عز وجل- أرحم بالولد من والده به، الله -تبارك وتعالى- أرحم بالإنسان منه بوالديه وأرحم بالوالدين منهم بأبنائهم؛ فالله -عز وجل- جعل ذلك وصية للآباء مع ما في قلوب الآباء من الرحمة وكمال الشفقة على الأبناء.
إذن هذه هي أول آيات قسمة المواريث، وهذه الآية الحادية عشرة تضمنت بيان ميراث الأبناء وميراث الآباء.(1/12)
ثم إن الله -عز وجل- ابتدأ بالأبناء، لماذا ابتدأ بالأبناء؟ لأن الغالب فيهم أنهم الأضعف والأصغر؛ ولأنهم قد يكون حقهم أكثر فيطمع فيه، فابتدأ الله -تبارك وتعالى- بتوثيقه وتحقيقه، والوصية به وتأمل أيضا قوله تعالى: ?يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ? أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن العطية للأولاد مع وجوب التسوية فيها إلا أن التسوية المطلوبة شرعا هي أن يعطى الولد مثل حظ الأنثيين، وهذا كما قدمنا أو كما شرحنا في ما مضى أن هذا هو مذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو ما انتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وغيره من المحققين أن التسوية في العطية والنحلة والهبة تكون على هذا النحو ?لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ? على أن هذه الآية عامة فيما يشمل الإرث والعطية.
قوله تعالى: ?يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ? أي إذا كان الورثة مختلطين -أبناء وبنات- فإن الحق الواجب يكون على هذا النحو ?لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ? ثم فصل تفصيلا فقال: ?فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ? ما المقصود بـ"نساء" في هذه الآية؟
يقصد "البنات" فإن كن نساءً أي بنات، فهذا بيان للإرث إذا كان الأولاد بنات فقط، فوق اثنتين، بل اثنتين فما فوق ?فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ? يعني إذا كانت التركة متمحضة لبنات فإن فرضهن هو الثلث.
ثم انتقل بعد ذلك إلى ما للآباء من فرض فقال: ? وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ? هذا السدس متى يستحق؟ إن كان له ولد، له السدس مما ترك إن كان له ولد، فيستحق الأبوان كل واحد منهما السدس إذا كان للوارث فرع وارث، فعند وجود الفرع الوارث فإن الأبوين يستحق كل واحد منهما السدس من تركة هذه الذي توفي من أولادهما.(1/13)
فإذا كان هذا لم يترك أولادا؟ أي مات ولا فرع له يرثه، فكيف يكون؟ قال الله تعالى: ?فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ? فرضا، فالأم هنا ترث الثلث فرضا، وهذا مما يتحول فيه الأب عن الإرث بالفرض إلى إرث بطريقة أخرى وستأتي معنا -إن شاء الله وتعالى-.
وقوله تعالى: ? فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ? فكأن الأم تأخذ السدس في حالة ما إذا وجد الفرع، أو وُجِد الإخوة. بهذا نكون قد تعرفنا على مجمل أحكام الأبناء والآباء.
لننتقل بعد ذلك إلى الآية الثانية عشرة وفيها بيان بقية الورثة.
?وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ? [النساء: 12](1/14)
هذه الآية تضمنت بيان ما للزوج وللزوجة من فرض مقدر في كتاب الله، كما تضمنت أيضا بيان ما للإخوة والأخوات لأم من إرث أيضا في كتاب الله تعالى، والزوج يرث نصف ما تركت زوجته في حالة أن ليس لها ابن مطلقا، لا منه ولا من غيره؛ فلو أن امرأة تزوجت برجل ثم إنها ماتت وتركت هذا الرجل، وتركت ابنا لها من غيره ففي هذه الحالة لا يرث فيها هذا الرجل أو هذا الزوج النصف، وإنما يرث الربع؛ لأنها تركت فرعا وارثا مطلقا، سواء كان منه أو من غيره، أي هذا الزوج أو من غيره.
فلو أنها تركت ابن ابنٍِ فهل يأخذ الزوج النصف فرضا أم ينزل إلى الربع؟
تركت زوجا وابن ابنٍ، ولم تترك ابن
ينزل إلى الربع
نعم ينزل إلى الربع ولا يأخذ النصف؛ لأنه في مقام الابن.
ومتى تأخذ المرأة ربع ما ترك زوجها؟ إذا لم يكن له ولد مطلقا لا منها ولا من غيرها، وكذا لو ترك ابن ابنٍ فإن هذا يحجب هذه المرأة عن الربع إلى الثمن.
ثم انتقل السياق بعد هذا إلى بيان ما للإخوة لأم من حق في هذه الآية، ولهذا قال الله تعالى: ? وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً?، ما معنى الكلالة؟
الرجل يموت ولا يترك أصلا ولا فرع
نعم، هو من مات وليس له من ورثته أصل وإن علا، ولا فرع وإن نزل، لكنه ترك إخوة، هؤلاء الإخوة أخوة لأم؛ فهذه الآية الثانية عشرة فيها بيان ما للإخوة لأم من إرث، والآية السادسة والسبعون بعد المائة فيها بيان ما للإخوة الأشقاء والإخوة لأب من إرث، ففي هذه الحالة يقول الله -تبارك وتعالى-: ? وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ? إذا الورثة سواء أن كانوا أخا أو أختا لأم فإن هؤلاء يرثون السدس عند الإنفراد، فإن اجتمعوا فإنهم يشتركون.
والإخوة لأم لهم أحكام تخصهم:
من هذه الأحكام أنهم يرثون بالسوية بلا فرق بين ذكر منهم أو أنثى.(1/15)
وأنهم يحجبون من أدلو به إلى هذا الميت ويشاركونه.
ويدلون بأنثى ومع ذلك يرثون.
هذه أحكام اختص بها من الإخوة لأم.
سؤالان يقول:
الأول: هل يلزم الإشهاد في الوصية التي تكتب بالحاسوب؟
الثاني: لو أوصى شخص بأن يصلى عليه في بلد غيرِ بلده كمكة أو المدينة، هل تنفذ وصيته أم لا، خاصة مع وجود مشقة؟
الأول: إذا كتبت الوصية على الحاسوب أو على الآلة الكاتبة فكيف لنا أن نعرف أن هذه الوصية منسوبة إلى صاحبها؟
العلماء الذين أجازوا الوصية بالكتابة قيدوا هذا بأن يُتَعرف إلى الخط، وأن يعرف أنه خط فلان، فخط الحاسب الآلي لا فرق فيه بين فلان وغيره فمن أين لنا أن نعرف؟ فإن كان ذلك كذلك فلا بد إذن من الإشهاد على هذه الوصية التي كتبت على هذا النحو، لكن يبقى هل يكتفى بما يسمى بالتوقيع الذي يوقع به الإنسان ويعرف منه خطه، هذا موضع أخذ ورد؛ لأن هذا التوقيع قد يقلد، وقد يشتبه ونحو هذا، فسدا للذريعة التي قد تفضي إلى شيء من الخلاف والنزاع فإن من كتب وصيته لا بخطه وإنما على الحاسب أو على أجهزة تكتب فينبغي أن يشهد على هذه الوصية من يعرفونه ويوثقون هذه الوصية بتوقيعاتهم وخطوطهم؛ ليرجع إليهم عند الاقتضاء. والله –تعالى- أعلى وأعلم.(1/16)
أما عن إجابة السؤال الثاني: الأصل أن الإنسان إذا توفي في بلد ألا ينقل إلى مكان آخر إلا إذا قامت لذلك حاجة، والحاجة هذه ينبغي أن تقدر بقدرها، أما أن يطالب الإنسان بأن ينقل من بلد بعيدة إلى أخرى بغير حاجة هذا ليس فيه شيء من السنة ينقل أو يؤثر، بخلاف ما لو كان قريبا من تلك البلدة أو قريبا من ذلك المكان فالأمر عندئذ يسير. والوصية بالفعل هي أحد نوعي الوصية -كما قلنا أن الوصية تكون بالمال أو بالقربى، وقد يكون بشيء يفعل بعد حياة الموصي- وهذا على كل حال إذا كان قريبا ويسيرا فهو يدخل في الوصية بالمباح، أما إذا كان هذا بعيدا عسيرا فإنه مما لا يستطاع ولا إثم على من ترك الوفاء بهذه الوصية، أو العمل بهذه الوصية؛ حيث تعثرت أو حيث خالفت المأثور والمنقول عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. والله تعالى أعلى وأعلم.
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول: هل يعتبر في الوصية بثلث المال حال الوصية أو حال الموت؟
وكانت الإجابة: اختلف أهل العلم على قولين: الأول: رأي الجمهور، وهو الراجح، على أن الوصية تخرج بالثلث أو دون الثلث على حسب ما أوصى به الميت. الثاني: رأي الإمام مالك أنها تخرج من ماله يوم أوصى به لا حال موته.
والسؤال الثاني: ما الحكم لو أن إنسانا أوصى بحق بثلث ماله هل تنفذ وصيته؟
وكانت الإجابة: لا تنفذ هذه الوصية
لا تنفذ؟ لا هذا ليس بصواب.
استظهر الحنابلة وغيرهم من الفقهاء أن كلام هذا المكلف ينبغي أن لا يبطل ما دام له في الحق محمل؛ إذا كنا نستطيع أن نحمله على معنى يصح فإننا نعمل به، فلو أن أحدهم أوصى بحرق ثلث ماله فإن هذا يصرف في إضاءة المساجد التي تضاء بالزيت، أو في تجميرها، أو في تطيب الكعبة بالطيب ونحو ذلك، فهذا مما يصح الوصية به من إكرام بيت الله الحرام، أو من إكرام وتطيب الكعبة المشرفة، أو من إضاءة المساجد.(1/17)
وكذا لو أوصى بدفن بثلث ماله فإن هذا يكون بشراء أكفان يكفن فيها الموتى، وهذا من الصدقة التي يتقرب بها الإنسان إلى الله، فالذين يموتون ولا يجدون أكفانا تشترى لهم بثلث مال هذا الإنسان أكفان ويكفنون فيها، وبهذا يدفن ثلث ماله ويثاب على ذلك.
وإذا أوصى بإغراق ثلث ماله فإن هذا يكون ببناء السفن ونحوها مما يستعان به على الجهاد ومصالحه. والله تعالى أعلى وأعلم.
وينبغي أن تصان عبارة المكلف عن الإهدار؛ إذ إعمال الكلام أولى من إهماله، فإذا حملنا كلام هذا الذي أوصى على هذا المحمل فإننا بذلك نجعله متقربا إلى الله ومثابا على ما أوصى به، وهذا مما يلغز به ويستملح في مسائل الفقه في باب الوصية. والله تعالى أعلى وأعلم.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة:
السؤال الأول:
عرف الفرائض لغة واصطلاحا. وبين موضوع هذا العلم وثمرته واستمداده.
والسؤال الثاني:
اشرح قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ألحقوا الفرائض بأهلها.... ) إلى آخر الحديث شرحا إجماليا.(1/18)
الحديث - المستوى السادس
الدرس السادس - تابع باب الفرائض
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
تابع باب الفرائض
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد:
فنكمل ما شرعنا فيه من شرح باب الفرائض من كتاب عمدة الأحكام، ونواصل ما كنا قد ابتدأناه من شرح حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر)، وفي رواية: (اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما ترَكَت الفرائضُ فلأولى رجل ذكر))
?يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ? [النساء: 176].
هذه الآية التي تليت عليكم هي الآية الأخيرة من سورة النساء، وهي متعلقة بإرث من يورث كلالة، وقد مر معنا ذكر الكلالة في الآية الثانية عشرة من نفس السورة، وبينا أن المقصود في تلك الآية هم الورثة الذين هم إخوة أو أخوات لأم، ونحن في هذه الآية آية الكلالة الثانية هذه الآية تتعلق بإرث الإخوة الأشقاء والإخوة لأب، فكأن الأولى متعلقة بالإخوة والأخوات لأم، وهذه الأخيرة متعلقة بالأشقاء وبالإخوة لأب.(1/1)
بينت الآية أن من مات كلالة -أي بلا أصل وارث يرثه ولا فرع وارث يرثه وترك إخوة أشقاء أو لأب- أنه إذا كانت له شقيقة أو لأب منفردة ليس معها أحد، أي ليس للميت ولد أن لها نصف ما ترك، سواء كانت شقيقة أو كانت لأب، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد؛ أي أنه إذا انفرد أيضا فإنه يستاق التركة جميعا تعصيبا. الحالة الثالثة: أن تكون هاتان المرأتان اثنتين فأكثر وعندئذ يرثان الثلثين مما ترك، كما قال الله تعالى: ? فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ? وهذه هي الحالة الثالثة وهذا مقدر في المرأتين، فإن كانتا أختين فما زاد فلهما الثلثان مما ترك، وإن كان إخوة رجالا ونساء مختلطين فللذكر مثل حظ الأنثيين، هذه هي قسمة هذه التركة في حال وجود من يورث كلالة وكان ورثته إخوة لأب أو إخوة أشقاء.
بهذا نكون قد أتينا على معرفة آيات المواريث من غير دخول في تفاصيل كثيرة.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها الفرائض) هي تلك الأنصباء التي قدرها الله -عز وجل- في كتابه للورثة.
من يعرف الفروض المقدرة في كتاب الله؟
ستة
ستة ما هي هذه الفروض الستة؟
النصف، ونصفه، ونصف نصفه
النصف، والربع، والثمن، ثم الثلثان، والثلث، والسدس.
فهذه هي الفروض التي ذكرها الله -عز وجل- في كتابه، ستة فروض مقدرة في كتاب الله -تبارك وتعالى- والسابع ثبت بالاجتهاد؛ وهو ثلث الباقي في المسألة العُمَريتين، ما المسألتان العمريتان؟
نعم.
أب، وأم، وزوجة
والثانية:
أب، وأم، وزوج
الزوجة أو الزوج مع الأبوين، هاتان هما المسألتان العمريتان وفيهما يورث ثلث الباقي، من الذي يأخذ ثلث الباقي؟ الأم تأخذ في العمريتين ثلث الباقي، فكأن هذا عده بعض الفقهاء من الأنصباء التي ثبتت اجتهادا.
إذا أردنا أن نتناول هذه الفروض المقدرة وأن نعرف أصحابها فأول هذه الفروض النصف:
النصف: يكون لمن؟(1/2)
أولا: للزوج، بشرط أن لا يكون لزوجته ولد مطلقا؛ لا منه ولا من غيره، وألا يكون لها ابن ابنٍ، فهذا هو الشرط حتى يستحق الزوج النصف، فهذا شرط عدمي أي عدم وجود الفرع الوارث لهذه الزوجة.
ومن أيضا يستحق النصف؟
ثانيا: البنت تستحق النصف بشرطين عدميين:
الأول: عدم المعصب له وهو من أخوها.
الثاني: وعدم وجود من يشاركها وهو أختها.
ثالثا: بنت الابن تستحق النصف بثلاثة شروط عدمية هي:
الأول والثاني: عدم المعصب وعدم المشارك لها وهو أختها؛ لأنه لو شاركتها أختها ستنزل بحصتها من النصف إلى الثلثين.
والثالث: عدم وجود الفرع الوارث الذي هو أعلى منها، فلو قدر وأن إنسانا توفي وترك بنتا وبنت ابن فإن هذا يحجب بنت الابن عن النصف.
رابعا: الأخت الشقيقة، وترث النصف بأربعة شروط؟
عدم المعصب، وعدم المشارك، وعدم الفرع الوارث، وعدم وجود الأصل الوارث.
فلو وجد أبوها أو جدها أو وجدت أمها فإن هذا يحجبها عن النصف.
خامسا: ممن يستحق النصف الأخت لأب، فكما أن الأخت الشقيقة تستحق النصف بشروط أربعة فإن الأخت لأب تستحق بخمسة شروط هي الشروط الأربعة التي ذكرناها أولا، والخامس هو عدم وجود الشقيقات أو الأشقاء.
فهذه الأصناف الخمسة التي تستحق النصف؛ الزوج، والبنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت لأب، يستحق الزوج النصف بشرط، وتستحق البنت النصف بشرطين، وتستحق بنت الابن النصف بثلاثة شروط، وتستحق الأخت الشقيقة النصف بأربعة شروط، وتستحق الأخت لأب النصف بخمسة شروط.
بهذا نكون قد عرفنا أصحاب النصف وهم رجل وأربع نسوة، ويجب أن نحفظ هذا حتى نتمكن من قسمة الإرث.
فمن يرث الربع؟ ذكرنا أن الفروض ستة، وبدأنا بالفرض الأول وهو النصف ثم ننتقل عنه إلى الربع من يرث الربع؟
صنفان: الزوج ،والزوجة:
الزوج يرث الربع بشرط وجودي وهو وجود الفرع الوارث.(1/3)
الزوجة تستحق الربع بشرط عدمي يقابل ذلك الشرط الوجودي وهو عدم وجود الفرع الوارث الذي يرث من زوجها، وهو ابنه مطلقا سواء منها أو من غيرها، فورثة إذن الربع اثنان هما زوجٌ وزوجة.
من يرث الثمن؟
يرث الثمن صنف واحد من هو؟
الزوجة بشرط وجودي هو وجود الفرع الوارث.
هكذا عرفنا ومن يستحق الربع ومن يستحق الثمن.
ننتقل إلى من يرث الثلثين، يرث الثلثين أربعة أصناف؟ هؤلاء الأصناف كلهن نساء.
فمن هن هؤلاء النسوة؟
** البنتان فأكثر، وترثان الثلثين بشرطين أحدهما وجودي والآخر عدمي؛ الوجودي: أن يكن اثنتين فأكثر من بنات الصلب. والعدمي: هو عدم المعصب؛ لأنه لو وجد المعصب سينزل بهن عن هذا الفرض.
** بنتا الابن فأكثر تَرِثَان الثلثين، وهذا يكون بثلاثة شروط؛ شرط وجودي، وشرطين عدميين، ما الشرط الوجودي؟
أن تكونا اثنين فأكثر
نعم وما العدمي؟
عدم المعصب، وعدم الفرع الوارث
** الأختان الشقيقتان فأكثر، وترثان الثلثين بأربعة شروط:
شرط وجودي
وثلاثة عدمية، الوجودي أن تكونا اثنتين
فأكثر
والعدمية؟
الفرع الوارث، وعدم وجود المعصب، وعدم وجود الأصل الوارث الذكر
هذا الذي ينزل بهن عن فرض الثلثين.
** الأختان لأب فأكثر، وترثان بخمسة شروط؛ وجودي وأربعة عدمية، فالوجودي عرفنا والعدمية عرفناها والشرط الخامس عدم وجود الأشقاء أو الشقيقات من الإخوة والأخوات.
وبهذا نكون قد أتينا على الأصناف التي ترث الثلثين، وعرفنا أن الأصناف كلها من النساء، وعددنا هذه الأصناف.
نعيد مرة أخرى لنحفظ، ما الأصناف الأربعة التي ترث الثلثين؟
البنتان، وبنتا الابن، الأختان الشقيقتان فأكثر، والأختان لأب فأكثر، بالشروط التي ذكرنا، هؤلاء هن اللائي يرثن الثلثين.
فكم صنف يرث الثلث؟
صنفان هما: الأم، والإخوة لأم؛ فالأم ترث الثلث بثلاثة شروط عدمية هي: عدم وجود الفرع الوارث مطلقا كما ثبت هذا في الآية. والثاني: عدم الجمع من الإخوة، اثنين فأكثر، والثالث؟(1/4)
ألا تكون هذه المسألة إحدى العمريتين
ألا تكون هذه المسألة إحدى العمريتين، لماذا؟
لأنها في العمرية ترث ثلث الباقي، وليس الثلث .
والإخوة لأم متى يرثون الثلث؟
إذا كانوا اثنين فأكثر
لدينا ثلاثة شروط؟
شرط وجودي وشرطان عدميان.
الوجودي: أن يكونوا اثنين فأكثر.
والعدميان: عدم الفرع الوارث، وعدم وجود الأصل الوارث من الذكور.
ينفرد الإخوة لأم أو الأولاد لأم -كما قلنا- بأحكام منها:
كون الثلث يقسم بينهم بالسوية بين البنين والبنات على حد سواء بلا فرق بين ذكر وأنثى.
وذكرنا أيضا أنهم يرثون مع من أدلوا به، وتشاركهم الأم في هذا.
وأنهم يحجبون من أدلوا به حجب نقصان؛ وهي الأم.
وأن ذكرهم يدلي بأنثى ويرث، وهذا لا عهد لنا به في الإرث إلا في هذه الحالة أي حالة الإخوة لأم.
عرفنا من يرث الثلثين ومن يرث الثلث، بقي أن نعرف من يرث السدس، كم صنف يرث السدس؟
يرث السدس سبعة أصناف:
** الأم، بشرط وجود الجمع من الإخوة والأخوات، أو وجود الفرع الوارث.
** الأب يرث أيضا السدس لماذا؟
لوجود الفرع الوارث ذكر
لوجود الفرع الوارث، فالأم ترث السدس عند وجود جمع من الإخوة، وعند الفرع الوارث، والأب يرث السدس عند وجود الفرع الوارث.
**والجد أيضا يرث، بشرطين ما هما؟
شرط وجودي: وهو وجود الفرع الوارث، وعدمي: هو عدم وجود الأب
** الجدة فأكثر ترث بشرطين؟
وجودي وعدمي؛ فالوجودي: أن تكون مدلية بوارث، فإذا أدلت إلى الميت بغير وارث لم ترث، والعدمي: عدم وجود الأم؛ لأنه إذا وجدت الأم حجب الجدة حجب نقصان أم حرمان؟
حجب حرمان
نعم، حجب حرمان.
** بنت الابن، متى تستحق السدس؟
تستحقه بشرطين عدميين هما: أولا: عدم المعصب.
عدم الفرع الوارث الأعلى منه
ثانيا: عدم الفرع الوارث الأعلى منها؛ لأنه يحجبها.
** الأخت لأب ترث السدس متى تحقق شرطان؟
عدم وجود المعصب، والثاني؟(1/5)
أن تكون مع أخت شقيقة، هذه ستأخذ النصف وهذه تكملة الثلثين وهو السدس، كما قضى ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- كما سبق دراسته في هذا الباب.
** الأخير من هذه الأصناف السبعة هو ولد الأم، سواء كان ذكرا أو أنثى، وهو الأخ أو الأخت لأم، وهذا مر معنا في الآية.
الأخ أو الأخت لأم متى يرث السدس يرث السدس بشروط ثلاث؟
الأول: عدم الفرع الوارث. والثاني: عدم الأصل الوارث من الذكور. والثالث: أن يكون منفرد
وهذه صور الكلالة التي شرحناها قبل قليل في هذا الدرس.
دليل هذا أية الكلالة الآية السادسة والسبعون ومائة من سورة النساء.
وبهذا نكون قد عرفنا أن الفروض ستة، وعرفنا أصحاب هذه الفروض، وعرفنا الشروط التي بها يرث أصحاب هذه الفروض. ننتقل بعد ذلك إلى الشق الثاني من الحديث.
الشق الأول قال فيه المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ألحقوا الفرائض بأهله) ألحقنا الفرائض بأهلها، وعرفنا من يأخذ النصف، ومن يأخذ الربع، ومن يأخذ الثمن، من يأخذ الثلثين، ومن يأخذ الثلث، ومن يأخذ السدس. بقي أن نعرف كيف يكون التعصيب؟ لأنه قال -صلى الله عليه وسلم-: (فما بقى فلأولى رجل ذكر) وهذا ما يعرف بإرث بالتعصيب، فكأن الإرث على ضربين:
الدرب الأول: ما يكون عن طريق الفرض. والثاني: ما يكون عن طريق التعصيب.
فما التعصيب؟
يقولون: التعصيب في اللغة مصدر عصب الشيء تعصيبا، وهو من الشد والتوثيق والإحكام ونحو هذا.
فالتعصيب فيه شد وتقوية وإحاطة، ويقولون: إن عصبة الرجل هم بنوه، والمحيطون به من قرابته، لماذا؟ لوجود معنى القربِ والإحاطة، فعصبة الرجل بنوه وقرابته.
أما في الاصطلاح: فإن العصبة كل ذكر لم يدخل في نسبه إلى الميت أنثى، فالأب عصبة، والعم عصبة، وابن العم الشقيق عصبة، وابن العم لأب عصبة ... إلخ.
ويقولون: إن العصبة والعاصب هو من يستحق جميع التركة بعد أصحاب الفروض.
والعلماء يقسمون العصبة إلى قسمين:
عصبة نَسَبية، وعصبة سَبَبية.(1/6)
فالنسبية تتعلق بالقرابة والنسب، والسببية تتعلق بماذا؟
بالعتق
أحسنت، العصبة بالنفس، والعصبة بالغير، والعصبة مع الغير، هذه أقسام ثلاثة للعصوبة النسبية، علينا أيضا أن نتعرفها:
أنواع العصبة النسبية:
**عصبة بالنفس: كل ذكر لا تدخل في نسبته إلى الميت أنثى وحدها، هذا يسمى عصبة بالنفس، وعند عد هؤلاء نجد أنهم أربعة عشر. من هؤلاء الأربعة عشر؟ الابن - وابن الابن - الأب - الجد وإن علا - الأخ الشقيق - الأخ لأب - أبناء الأخ الشقيق وإن نزل - أبناء الأخ لأب وإن نزلوا - العم الشقيق- العم لأب - ابن العم الشقيق وإن نزل
ابن العم لأب وإن نزل
المعتق
معتق - ومعتقة.
هذا ما يعرف بالعصبة بالنفس؛ أي هو عصبة بنفسه فيحيط بالميت بنفسه ولا تدل بينه وبين الميت أنثى.
إذا أردنا أن نعرف أحكام العصبة بالنفس فإننا نقول: إن من انفرد منهم حاز جميع المال، فلو أن ميتا توفي ولم يترك إلا عما فماذا نقول؟
هذا المال جميعه لهذا العم. أو لم يترك إلا ابن عم، أو لم يترك إلا ثلاثة من الأعمام فهؤلاء يأخذون المال أو يستاقون المال بالسوية.
الحكم الأول: أنهم يساقون جميع المال عند الانفراد.
الثاني: يأخذ هؤلاء ما أبقت الفروض، وإذا استغرقت الفروض التركة فكيف يكون الأمر؟ هل يرث هؤلاء بالتعصيب أو لا؟
لا يرثون، فإذا كانت التركة استغرقها أصحاب الفروض، فإنه لا يبقى شيء للعصبة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- (فما بقي) فإن لم يبق شيء فإنه يعلم من هذا أنه لا يكون له شيء.
قد يوجد عندي أب أو ابن أو عم من الورثة، فكيف أعرف من الذي يقدم؟ وما جهات العصوبة؟ ما هي جهات العصبة بالنفس؟ يقولون: إنها على الترتيب خمسة:
الجهة الأولى: جهة البنوة، ففي التعصيب البنوة مقدمة على الأبوة، وحين نقول البنوة فإننا نعني بذلك أبناء الميت وأبناء أبناء الميت بمحض الذكور وإن نزلوا، فهذه الجهة جهة تقدم في التعصيب بالنفس.
ما معنى بمحض الذكور؟(1/7)
يعني الابن وابن الابن وابن الابن وإن أدلى كل وارث منهم بذكر
نعم، بشرط أن يدلوا إلى الميت بذكر وليس بأنثى؛ لأن هذا هو الشرط في العصوبة النسبية، أن تكون بالذكور فلا يدلي الميت إلى وارثه بأنثى.
الجهة الثانية: جهة الأبوة، وهي تأتي بعد جهة البنوة بحيث لو تعارضت الجهتان قدمت جهة البنوة على الأبوة.
والجهة الثالثة: جهة الأخوة.
وجهة الرابعة: جهة العمومة.
الخامسة: جهة الولاء.
جيد، والولاء أي المعتق وعصبة هذا الذي أعتق.
إذا اجتمعت هذه الجهات فإننا نقدم ونؤخر، فنقدم على هذا الترتيب، فإذا اجتمعت بنوة أو أبوة قدمنا البنوة، وإذا اجتمعت أبوة وأخوة فإننا نقدم الأبوة، وإذا اجتمعت الأخوة لكن وقع اختلاف فصار عندنا أخ شقيق، وأخ لأب فمن نقدم؟
نقدم الأقوى
نقدم الأقوى، إذا استوت الجهة نقدم الشقيق على غيره؛ لأنه الأقوى، فالأصل أن نقدم الأقرب في الدرجة، وعند الاستواء تعتبر القوة في التقديم؛ ولهذا قال الناظم:
ففي الجهة التقديم ثم بقربه *** وبعدهما التقديم بالقوة اجعل
فالأقوى منزلة ورتبة وقربة هو الشقيق من الأخ لأب، فعندئذ يقدم، فهذه هي العصبة بالنفس.
القسم الثاني: العصبة بالغير: هو كل أنثى وصاحبة فرض لكنه أضيف إليها عصبة، فانتقلت من كونها صاحبة فرض إلى أنها سترث بالعصوبة من عصّبها، وغالبا ما يكون هذا هو أخوها الذكر؛ أي الذكر الذي في درجتها، كل أنثى صاحبة فرض -لو انفردت- عصّبها أخوها الذكر، فعندما نقول: البنت إذا انفردت ما لها؟ النصف، فإذا كان معصبها أخوها تأخذ تعصيبا الذكر مثل حظ الأنثيين تعصيبا، هنا عصبة بأخيها عصبة بالغير، هذا معنى قولهم: عصبة بالغيب.
عرفنا من هذا أن العصبة بالغير لا بد أن تكون أنثى، وقلنا: العصبة بالغير هي كل أنثى صاحبة فرض عند انفرادها، إذا انضم إليها أخوها عصبها، بهذا سنتكلم عن أربعة أصناف من النساء:(1/8)
الأولى: البنت. الثانية: بنت الابن الصلبية مع ابن الابن الذي هو في درجتها. الثالثة: الأخت الشقيقة فأكثر مع الأخ الشقيق فأكثر. الرابعة: الأخت لأب مع أخيها الذي هو لأب فأكثر.
فهذا ما نسميه بالعصبة بالغير.
القسم الثالث: العصبة مع الغير.
ما معنى العصبة مع الغير؟
هي أنثى صارت عصبة مع أنثى مثلها، وهذه الجهة لها حالتان:
** الأخت الشقيقة فأكثر.
**والأخت لأب فأكثر مع البنت.
وهذا ما نصت عليها السنة، ومضى معَنا قضاء ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
**وكذا الأخت الشقيقة فأكثر، والأخت لأب فأكثر مع البنت أو مع بنت الابن فأكثر فهذه تنزل من الثلثين إلى ماذا؟
النصف، والأخت تأخذ السدس تكملة
نعم، بدلا من أن تأخذ الثلثين الذي هو لاثنتين فأكثر فإنها تنزل إلى النصف، وتأخذ البنت أو بنت الابن السدس تكملة للثلثين، فهذه هي العصبة مع الغير.
عرفنا العصبة بالنفس - وعرفنا العصبة بالغير - وعرفنا العصبة مع الغير.
العصبة بالنفس رجالا أم فيهم نساء؟
رجال
أما العصبة بالغير ومع الغير فكلهن ماذا؟
إناث
العصبة بالنفس كم صنف؟ أربعة عشر، إلا المعتقة مع عصبتها، هذه هي تستثنى فيقال: إنها امرأة مع عصبتها، وتسمى عصوبة بالنفس.
والحالة الثانية: أربع أصناف وهي العصبة بالغير وكلهن نساء، والعصبة مع الغير حالتان كلهن إناث.
هذا ما يسمى بالعصوبة النسبية، وتبقى عندنا العصوبة السببية وقد ذكرناها.
هذه العصوبة السببية سواء كان ذكرا أو أنثى، يعني معتقا أو معتقة؛ فلو أن عبدا كان لرجل أو امرأة فأعتقه أو أعتقته، ثم إن هذا العبد مات ولا وارث له - فإن الذي يرثه هو من أعتقه رجلا كان أو امرأة، ومع هذا الرجل عصبته أو مع هذه المرأة عصبتها من الرجال.
بهذا نكون قد أتينا على معنى العصوبة، وأقسامها، وأصحاب هذه الأصناف التي ترث تعصيبا.
سبق أن ذكرنا أن الورثة قسمان: قسم يرث بالفرض، وقسم يرث بالتعصيب.(1/9)
والحقيقة أنهم على أقسام أكثر: فقسم يرث بالفرض، وقسم يرث بالتعصيب، وقسم يرث بالفرض تارة وبالتعصيب تارة ويجمع بينهما، وقسم لا يتأتى له الجمع، فإما بالفرض أو بالتعصيب ولا يجمع بينهما أبدًا.
ما هذه الأصناف؟ نريد أن نتعرفها.
ما يتعلق بالورثة أربعة أصناف: صنف يرث فرضا، وصنف يرث تعصيبا، وصنف يرث تارة بالفرض وتارة بالتعصيب وتارة يجمع، وصنف يرث بالفرض تارة وبالتعصيب أخرى ولا يجمع بينهما أبدا.
القسم الأول: فالذي يرث بالفرض فقط: الأم، وولداها، والزوجان، والجدتان.
كم هؤلاء؟ سبعة أصناف يرثون بالفرض فقط.
القسم الثاني: أما من يرث بالتعصيب فقط فاثنا عشر وارثا: الابن، وابن الابن وإن نزل، والأخ الشقيق، والأخ، وابن الأخ الشقيق وإن نزل، وابن الأخ لأب وإن نزل، العم الشقيق وإن علا، والعم لأب وإن علا، وابن العم الشقيق وإن نزل، وابن العم لأب وإن نزل، والمعتق، والمعتقة. هؤلاء يرثون بالتعصيب فقط.
القسم الثالث: من يجمع بين الفرض والتعصيب تارة، ويرث بالفرض تارة، ويرث بالتعصيب تارة، وهذا لا يتأتى إلا في الأب والجد.
فهما صنفان الأب يرث تارة للفرض، وتارة بالتعصيب، وتارة يجمع فيأخذ فرضه ثم يأخذ بالتعصيب، ومثل الأب في هذا الجد.
القسم الأخير: هم من يرث إما بالفرض أو بالتعصيب؛ أي تارة بالفرض وتارة بالتعصيب ولا يتأتى له الجمع أبدًا وهم أربعة أصناف: كلهن نسوة، ونحن ذكرناهن أثناء الحوار:
البنت فأكثر، متى ترث البنت فرضا؟
عدم المعصب، وعدم المشارك
ماذا تأخذ؟
النصف
ومتى ترث تعصيبا؟
إذا وجد المعصب له
فتكون عصبة مع الغير، من هو المعصب لها بحيث تكون عصبة مع الغير؟
أخوه
فتكون عصبة بالغير، أخوها الذي من نفس درجتها.
فالبنت هنا ترث عصبة بالغير وترث بالفرض.
الصنف الثاني: بنت الابن، هذه ترث فرضا وترث تعصيبا.
الثالث: الأخوات الشقيقات فأكثر إذا وجد معهن أنثى تعصبهن، فيأخذن بالتعصيب عصبة مع الغير.(1/10)
الرابع: الأخوات لأب يرثن بالفرض كما يرثن بالتعصيب.
الأخت لأب فأكثر - والأخت الشقيقة فأكثر - والبنت الابن فأكثر – والبنت، هؤلاء هن اللائي يأخذن إما بالفرض وإما بالتعصيب.
فهمنا الآن الورثة لهم أقسام أربعة: فرض فقط - تعصيب فقط - من يجمع بين الفرض والتعصيب- ومن ليس له أن يجمع إما أن يأخذ بالفرض وإما أن يأخذ بالتعصيب.
مَنْ أصحابُ الفروض المجمع على توريثهم؟
في الرحبية قال: إنهم على سبيل الإجمال عشرة، وعلى التفصيل سبعة عشر، فمن الذكور سبعة عشر تفصيلا. والنساء على الإجمال هن سبعة وعلى التفصيل هن إحدى عشر امرأة.
فإذا قلنا: الوارثون من الذكور والإناث على الإجمال كم؟ وعلى التفصيل كم؟ فنقول: على الإجمال هم سبعة عشر وعلى التفصيل هم أحد عشر، وخمسة عشر، فعلى التفصيل هم ست وعشرون فتأمل.
هذه الأصناف على سبيل الإجمال عند تفصيلها تكون خمسة عشر:
الابن وابن الابن وإن نزل - الأب - وأب الأب وهو الجد وإن علا - الأخ الشقيق - والأخ لأب - والأخ لأم - ابن الأخ الشقيق - وابن الأخ لأب - العم الشقيق - والعم لأب - ابن العم الشقيق - والعم لأب - ابن العم الشقيق - وابن العم لأب وإن نزل بمحض الذكور – الزوج المعتق - هؤلاء هم العشرة إجمالا والخمسة عشر تفصيلا.
والنساء يقولون: سبعة على الإجمال وإحدى عشرة على التفصيل من هن هؤلاء:
الأولى: البنت، الثانية: بنت الابن، الثالثة: الأم، الرابعة: الجدة لأم أو لأب وإن علت، الخامسة: الأخت الشقيقة، السادسة: الأخت لأب أو لأم -على سبيل الإجمال- السابعة: الزوجة المعتقة، هؤلاء هن السبعة.
ولو فصلنا فقلت: الأخت الشقيقة هذا يعد مع الأخت لأب، ويعد مع الأخت لأم، والجدة لأب والجدة لأم وهذا يعطيك إحدى عشرة امرأة، خمسة عشر من الرجال وإحدى عشر من النساء الجملة ست وعشرون وارثا يرثون فرضا وتعصيبا.
بهذا نكون قد عرفنا هؤلاء الورثة على سبيل البسط والإجمال، وعلى سبيل التفصيل والبيان.(1/11)
وبهذا نكون قد أتينا على المهم من الكلمات الجامعات فيما يتعلق بالفروض الواجبة والمقدرة، والتعصيب الذي يصار إليه بعد قسمة التركة وإعطاء أصحاب الفروض لأنصبائهم التي قدرها الله -عز وجل- وثبتت في السنة الصحيحة.
طبعا الحديث عن المواريث وتفصيلها يحتاج منا إلى أن نتكلم عن الرد والعول، والحجب بأنواعه حجب الحرمان وحجب النقصان، ونبين من الذين يدخل عليهم حجب النقصان ومن الذين يدخل عليهم حجب الحرمان، ولكن هذا المقام ليس مقامَ التفصيل في شرح الفرائض، وإنما هو حديث واحد ينبغي أن نشرحه مع جملة الأحاديث التي قررت علينا في هذا المقرر الدراسي، وقد سبق لكم في الفصل الدراسي الماضي دراسة المواريث في متن "القلائد البرهانية" في شكل مفصل.
وفي هذا -إن شاء الله وتعالى- تذكرة بما سبق درسه وفهمه، ولأن وقت هذا البرنامج يضيق فإننا نكتفي بهذه الإشارة، والحر -كما يقولون- تكفيه الإشارة.
لنتقل بعد ذلك للإجابة على أسئلة الحلقة الماضية ونطرح عليكم أسئلة هذه الحلقة.
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول: عرف الفرائض لغة واصطلاحا، وبين موضوع هذا العلم وثمرته واستمداده؟
وكانت الإجابة: الفرائض لغة: جمع فريضة بمعنى مفروضة، من تبادل الصيغ مثل رحيم بمعنى مرحوم.
والفرض يطلق على عدة معان منها: التقدير والمقدار والتأثير والحد والقطع والإنزال.
أما الفرائض اصطلاحا: فهي علم يعرف به من يرث ومن لا يرث، أو هو علم يعرف به مقدار ما لكل وارث من الورثة.
فعلم الفرائض له شقان: شق فقهي يتعلق بمن يرث وبمن لا يرث. وشق حسابي وهو معرفة مقدار ما لكل وارث.
موضوعه: التركات من حيث ما يتعلق بأحكامها وحسابها.
أما ثمرته فإيصال مقدار مال كل وارث أو إيصال الحق إلى صاحبه.
استمداده: يُستَمد علم الفرائض من ثلاث دعامات: الكتاب والسنة، وعلم النسب، وعلم الحساب.
السؤال الثاني: اشرح حديث: (ألحقوا الفرائض ... الحديث) شرحا إجماليا؟(1/12)
وكانت الإجابة: في هذا الحديث بيان لكيفية قسمة الإرث قسمة عادلة على وفق ما ثبت في كتاب الله تعالى؛ فيعطى أصحاب الفروض المقدرة أنصباؤهم كل بحسب ما فرض له، فإن بقي بعد ذلك من المال أو التركة شيء فإنه لأقرب رجل من الميت، فيراعى تقديم الأقرب فالأقرب فلا يرث البعيد مع وجود القريب، فالابن مقدم على الأب، فإن كانت جهتهم واحدة قدم الأقرب درجة؛ فالابن يقدم على ابن الابن، وإن كان من جهة واحدة ودرجة واحدة قدم الأقوى منهم وهو الشقيق على من لأب، أي الأخ الشقيق يقدم على الأخ لأب من إخوة وأبناء أو أعمام أو أبناء الأعمام
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟.
السؤال الأول:
بين الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى.
والسؤال الثاني:
عرف العصبة، وبين أقسامها.(1/13)
الحديث - المستوى السادس
الدرس السابع - تابع باب الفرائض
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
تابع باب الفرائض
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة، سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته.
أما بعد:
فمع هذا الدرس من كتاب "عمدة الأحكام" وفي كتاب الفرائض ما يزال حديثنا موصولا بإذن الله تعالى، ونحن مع الحديث الثاني حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله، أتنزل غدا في دارك بمكة؟ فقال: (وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟) ثم قال: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم)).
هذا هو الحديث الثاني في باب الفرائض، وهو حديث أسامة بن زيد -رضي الله تعالى عنهما- فَمَن أسامةُ رضي الله تعالى عنه؟
هو أسامةُ بنُ زيدِ بنِ حارثةَ مولى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وابن مولاه، الأمير الكبير رضي الله تعالى عنهما، حِبُّ رسول الله وابن حِبِّهِ. كان نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- يحبه ويدنيه كما سيظهر لنا في هذه الترجمة.
أسامة بن زيد كان يُكْنَّى بأبي زيد، وقيل: بأبي محمد، وقيل: بأبي يزيد، وقيل: بأبي حارثة رضي الله تعالى عنه وأرضاه. كان شديد السواد، خفيف الروح، شجاعا، عابدا، زاهدا، وكان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يحبه حبا كثيرًا ويدني مكانه ومنزلته منه.(1/1)
أمه حاضنة رسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ أمه هي أم أيمن رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وأبوه حب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- زيد بن حارثة، كان يقال: زيد بن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد تبنى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أباه صغيرا، وقد كان زيدٌ ابنَ أحدِ كبارِ بنِي قومه، ولما أُسِر واستُرِقَّ في الجاهلية عَلِم بذلك أبوه وعمه فجاءَا إلى مكة يطلبان فكاك أسره وعتق رقبته من الرق، فلما دَخَلَا على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وعنده زيد وعرَفا ابنهما طلَبَا من ذلك السيد أن يخلي بينهما وبين ابنهما الأمير ابن الأمير، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (دونكم) يعني الولد، ثم قال له: (إنك مني بالمكان الذي علمتَ، وهذا أبوك وهذا عمك قد جاءا يطلبانك فاختر ما شئت) فقال زيد: "ما كنت بالذي يختار عليك والِدا ولا وَلَدًا" وأبى زيد بن حارثة -رضي الله عنه- أن يرجع مع أبيه وعمه، وأن يبقى في مكانه الذي يكون فيه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فرح النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فرحا شديدا بحادثة وقعت حين دخل رجل قائف -يعني يفهم صنعة القيافة، والتي يُلحق فيها الرجل بأبيه عن طريق هذا العلم الذي كانت العرب تقدمه وتعتقد فيه- دخل وأسامة -وكما قلنا كان شديد السواد- مضطجع إلى جوار والده زيد، وزيد كان أبيض من القطن شديد البياض، وابنه شديد السواد، وكان أهل الجاهلية يطعنون في نسبه رضي الله تعالى عنه، فلما دخل مُجَزِّز المدلجي ورأى تلك الأقدام، وقد غطيت رءوس أصحابها قال: إن هذا الأقدام بعضها من بعض، فسر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- واستنار وجهه لما في ذلك في قطع القالة، ومن قطع الطعن الذي كان يقع فيه أهل الجاهلية في نسب أسامة رضي الله تعالى عنه.(1/2)
كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يجمع أسامة بن زيد إلى الحسن، وكان يدنيهما معه، وكان يقول: (اللهم إني أحب هذين) وكان أسامة يقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذني والحسنَ فيقول: (اللهم إني أُحبهما فأحبَّهما). وفي حديث المخزومية التي سرقت، قال بعض القوم: "لا يجترئ أن يكلم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيها إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لمنزلته العظيمة وقربِه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الحديث أن عليا -رضي الله عنه- قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: "أي أهلك أحب إليك؟ قال: (فاطمة) قال: من الرجال؟ قال: (الذي أنعم الله عليه وأنعمتُ عليه)" يعني من؟ يعني زيدا -رضي الله تعالى عنه- "ثم قال: ثم من؟ قال: (ثم أنت)".
إذن أسامة كان من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بمكانة عظيمة مباركة؛ ولهذا عرف الصحابة هذا القدر لأسامة ولأبيه، فعمر -رضي الله عنه- حين يفرض الفرائض ويعطي الأعطيات ويرتب الرواتب يجعل لأسامة ثلاثة ألاف وخمسَمائة، ويجعل لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم جميعا ثلاثة آلاف، فيسأله ولده: فيم ذلك؟ أي لم ذاك ولم يسبقني إلى مشهد؟ أي من المشاهد، قال: "كان أبوه أحبَّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أبيك، وكان هو أحبَّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منك" لذا عرَفَ له -رضي الله عنه- هذا فأعطاه ما لم يعط ولده.(1/3)
أقره النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على الإمارة وعيَّنَه بنفسه، وأمَّره على جيش فيه الفاروق والصديق لغزو الشام، وكان نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- يعرف شجاعته وبسالته فجعله على هذا الجيش وهو ابن سبع عشرة سنة أو ثمان عشرة سنة لم يكن أزيد من هذا، يعينه أميرا ويوليه الإمارة ويقول: (إن كان لخليقًا لها كما كان أبوه خليقا لها) أي جديرا بها؛ ولذا كان عمر إذا لقي أسامة بعد ذلك يقول: "السلام عليكم -أيها الأمير- ورحمة الله وبركاته. توفي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأنت أمير عَلَيَّ" يعني في هذا الجيش الذي أرسله فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إذن هذا هو أسامة -رضي الله عنه- الذي روى لنا هذا الحديث، وأحاديثه كثيرة وبلغت أزيد من مائة حديث اتفق البخاري ومسلم على خمسة عشر حديثا، وانفرد البخاري بواحد، وانفرد مسلم بحديثين.
نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- جاءته ذات يوم الحسيبة النسيبة القرشية فاطمة بنت قيس -رضي الله تعالى عنها- تستشيره فيمن تنكح؟ حيث قد خطبها معاوية -رضي الله تعالى عنه- ومعاوية هو من هو، وخطبها أيضا أبو جهل، وكلاهما قرشي، فجاءت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- تطلب مشورته، فقال: (أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهل فلا يضع عصاه عن عاتقه) يعني كناية عن أنه يضرب النساء أو أنه ضراب للنساء (ولكن أنكحي أسامة) أو قال في رواية: (أنكحك أسامة) فقالت -رضي الله تعالى عنها- أسامة؟! تقول ذلك تهاونا به، ثم ما أن لبثت أن قالت: سمعا وطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم. قالت -رضي الله عنها- فزوجَنِيه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فكرَّمني الله بأبي زيد، وشرفني ورفعني به. أثنت الثناء العطر بعد أن صارت زوجة أبي زَيد أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما.(1/4)
كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا لم يَغْزُ أعطى سلاحه إلى أحد رجلين: إما أن يعطي سلاحه لابن عمه علي رضي الله عنه، أو يعطي سلاحه لحبه وابن حبه أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما.
كان لأسامة موقف مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- نفعه الله تعالى به، ما هذا الموقف؟
في رواية أدرك أسامة ورجل من الأنصار رجلا من المشركين، فلما أمكنهما الله -عزّ وجلّ- منه جعل هذا المشرك يقول: لا إله إلا الله فما أمهله أسامة ولا ذلك الأنصاري حتى ضرباه بالسيف حتى برد؛ يعني حتى مات، ثم جاءا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقصا خبرهما عليه، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لأسامة: (فكيف بلا إله الله؟) قال أسامة: فوددت أني لم أسلم إلا يومئذ؛ يعني يوم أن وقعت هذه الواقعة من شدة ندمه على ما فعل.
نفع الله تعالى أسامة بهذا الحديث فعاهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ألا يقاتل من قال: لا إله إلا الله، فلما وقعت الفتنة بين أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عُدَّ من المعروفين الذين اعتزلوها، أربعة نفر كان منهم أسامة -رضي الله تعالى عنه- فإنه لزم بيته، ولهذا قال الذهبي: انتفع أسامة -رضي الله تعالى عنه- بيوم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فعصمه الله -عزّ وجلّ- فيمن عصم، وكان من هؤلاء سعد بن أبي وقاص، وقد ترجمنا له في لقاء مضى، وهذا اليوم نترجم لأسامة بن زيد -رضي الله عنه- ممن اعتزلوا الفتنة مع قلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أسامة سكن على بعد أميال قليلة من المدينة، وعاش بمنطقة يقال لها: "الجرف" وفيها توفي -رضي الله تعالى عنه- وأرضاه. كانت وفاته في آخر خلافة معاوية، سنة أربع وخمسين، وله من العمر خمس وسبعون سنة.
بهذا نكون قد انتهينا من التعريف براوي هذا الحديث، وهو أسامة بن زيد رضي الله عنه. لننتقل بعد هذا إلى المعنى الإجمالي لهذا الحديث.(1/5)
هذا الحديث يتحدث عن فتح مكة، وأن أسامة -رضي الله عنه- كان مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قبل أن تفتح مكة، فسأل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سؤالا: (أين تنزل غدا يا رسول الله؟) أي إذا دخلنا مكة، هل تنزل في دارك التي كانت لك قبل الهجرة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟) لم يعد لنا بمكة ما ننزل فيه مما يخصنا أو مما كنا نملكه قبل الهجرة، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشار إشارة لها تعلق بهذا السؤال حين قال -عليه الصلاة والسلام- بعد أن سكت: (لا يرث المسلم، ولا الكافر المسلم) في هذا إشارة إلى أنه قد وقع إرث بموت أبي طالب، وكان أبو طالب قد مات على الشرك وخلف أربعا من الولد؛ اثنين منهم قد أسلما، واثنين بقيا على الشرك. فأما اللذان أسلما فهما ... من يعرف؟
علي، وجعفر
علي وجعفر -رضي الله عنهما- أما اللذان لم يسلما فمن؟
عقيل وطالب
عقيل، وطالب الذي يكنى به أبو طالب، أما طالب فقد فُقد يوم بدر، فآلت التركة إلى عقيل، فباع الرباع والدور، ولم يستبقِ منها شيئا، ثم صارت بعد ذلك إلى أولاده كتركة، أو إلى أولاده كمال على خلاف بين أهل التاريخ.
فبين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه لا يرث كافر مسلما، ولا يرث مسلم كافرا؛ فإن الإرث إنما هو بسبب الموالاة والمناصرة والمعاضدة، فإذا انقطعت هذه الصلات وانبتت هذه العلاقات بسبب مِنِ اختلاف الدين فإنه لم يعد هنا سبب لأن يرث مختلف الدين بعضهم بعضا. وقد مر معنا أن من موانع الإرث اختلاف الدين.
أليس كذلك؟ بلى.
ننتقل إلى الشرح التفصيلي إلى هذا الحديث.(1/6)
قوله: يا رسول الله تنزل غدا في دارك بمكة؟ قلنا: إن هذا كان على سبيل السؤال، ويسأل رسولَ الله مستفهما مستعلما، وقد وقع هذا في عدد من الروايات، أين تنزل غدا يا رسول الله؟ وهل ستنزل في دارك أم في غيرها؟ فكانت إجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور) يعني أن عقيلا ما ترك لهم ما يسكنون فيه.
الرباع: جمع ربع، والربع هو المكان الذي يقيم الناس فيه، سواء كان بمعنى المنزل أو بمعنى البيوتات المتقاربة، أو الأماكن المتقاربة للإقامة. ثم قوله: (أو دور) يفيد معنى التأكيد؛ فالرباع هي الدور، وهذا على سبيل التأكيد، أو تقول: (أو) هنا شك من الراوي، الراوي الذي روى هذا الحديث شك هل قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (رباع) أم قال: (دور)؟
خلاصة الأمر -كما قلنا- أن مآل هذه البيوتات آل إلى من؟ إلى عقيل، وعقيل وقتها كان على الشرك، فأخذ هذه البيوتات أو هذا الدور فباعها، فقيل: إنه باعها وأعطى أولاده ثمنها، وقيل: إن هذا الدور قسمت في أولاده، وأنهم باعوها لأخي الحجاج بن يوسف الثقفي بمائة ألف دينار.
المهم أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أقر هذا التصرف الذي وقع، وهذا التصرف الذي وقع هو في الحقيقة تصرفان: التصرف الأول: أن عقيلا ورِث أباه وأخاه وكانا على الشرك، وانقطعت الموالاة والنصرة بين علي وجعفر بإسلامهما وموت أبيهما وأخيهما على الشرك، فلم يعد بينهما تناصر ولا توارث، فهذه أُولَى.
والأمر الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقر عقيلا على أن باع هذه الدور؛ أي أقره على هذا التصرف، فلم ينزعها ممن اشتراها منه، وهذا لأنه كان -عليه الصلاة والسلام- يقر أهل الجاهلية على معاملاتهم ترغيبا لهم في الدخول في الإسلام، وتطييبا –أيضا- لنفوسهم.(1/7)
وقد قال بعض العلماء: إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فعل ذلك أو ترك طلب هذه الدور؛ لأن بهجرته وهجرة أصحابه -رضي الله تعالى عنهم- انقطعت صلتهم بمكة، فلم يعد لهم أن يعودوا في هجرتهم وأن يرجعوا ليقيموا في مكة، بل كانوا يتحامَوْن ذلك ويتحاشَوْن الإقامة في مكة إلا لأداء النسك؛ لأنهم كانوا يرغبون أن يكمل الله –تعالى- لهم ثواب هجرتهم.
اختلف العلماء بعد هذا في هذه العقود -عقود البيع والإجارة- التي تكون في رباع ودور مكة؛ هل يجوز بيع أرضها ودورها؟ وهل تجوز إجارة رباعها ودورها أم لا؟
على مذهبين معروفين للعلماء:
المذهب الأول -وهو مذهب كثير من الفقهاء منهم الشافعية وغيرهم-: بالجواز؛ بجواز بيع تلك الرباع، وبيع تلك الدور وبإجارتها أيضا.
والمذهب الثاني -هو مذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة وطائفة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- والتابعين-: وفيه المنع من بيعها ومن إجارتها معا.
وأجاز شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وابن القيم بيعَ هذه الدور دون إجارتها؛ أجازا البيع دون الإجارة.
الشافعية ومن حذا حذوهم احتجوا بهذا الحديث؛ أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أقر عقيلا كما أقر غيره على تلك التصرفات التي تصرفوا فيها بهذه الدور أو بهذه الرباع أو بهذه الأراضي، ولم يبطل تلك التصرفات.
ثم إن الله -عزّ وجلّ- ذكر المهاجرين بأنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم فنسب الدور إليهم، وهذه النسبة تفيد أنهم يملكونها، قال: ? الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ? فإخراج المهاجرين كان من ديارهم التي هي لهم. فقالوا: إن هذا يفيد ملكيتهم، وهذه الملكية تدل على أن لهم التصرفَ فيما ملكوا؛ لهذا قالوا: يجوز البيع كما تجوز الإجارة.
وأما الحنابلة ومن وافقهم فقالوا: قد ورد النهي عن ذلك؛ كما قال عمر -رضي الله تعالى عنه- "لا يحل بيع بيوت مكة، ولا إجارتُها".(1/8)
وقال مجاهد: "مكةُ مباح" يعني هذه الأرض أرض مكة مباح؛ لأن الله –تعالى- جعلها سواء للعاكف في مسجد الحرام والبادي؛ يعني كل ينتفع بهذا المشعل الحرام، فهذه البيوت وهذه الأراضي وهذه الدور هي للحاجّ، ينزل منها حيث شاء، بل نقلوا أن عمر -رضي الله تعالى عنه- نهى أن تبوب أي أن يجعل للبيوت أبواب؛ حتى يسمح ذلك للحاج بأن ينزل في أفنية تلك البيوت، وأن يستقر فيها وقت إقامته بمكة لحج أو عمرة ونحو ذلك.
إذن هذان مذهبان.
والمذهب الثالث: لشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم؛ حيث ذهبا إلى جواز البيع، وقالا: إن هذا فرع ملكية لهذه الدور، وهذا بخلاف الإجارة. فمنعوا من ذلك.
على كل حال هذا خلاصة ما قيل في مسألة بيع الدور والرباع وإجارتها.
لننتقل بعد هذا إلى المسألة الأساسية التي لأجلها ساق المؤلف هذا الحديث وجاء به في هذا الموضع من باب الفرائض في كتاب عمدة الأحكام؛ وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر).
هذه المسألة اختلف العلماء فيها، واختلافهم يجب أن يحرر أولا، فقبل أن نذكر اختلافهم علينا أن نذكر أولا اتفاقهم حتى يتحرر لدينا محل النزاع.
قوله: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) هذا الحديث في معناه قوله -صلى الله عليه وسلم- كما عند الإمام أحمد وأبي داود وغيرهما: (لا يتوارث أهل ملتين شتى).(1/9)
أولا: اتفق الفقهاء على أن غير المسلم لا يرث المسلم مطلقًا، فهذا موضع اتفاق. وقال ابن القيم: أما توريث الكافر من المسلم فلم يختلف فيه أحد من الفقهاء في أنه لا يرثه؛ يعني الكافر لا يرث مسلما مطلقًا. لماذا؟ قالوا: لأن الله -عزّ وجلّ- قال: ? وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ? [النساء: 141]، فالولاية إذن منقطعة، والولاية والمناصرة والمعاضدة إنما تجري بين المؤمنين: ? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ?[التوبة: 71] والميراث مبني على هذه الولاية.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرث الكافر المسلم)، هذا لم يختلف عليه الفقهاء، فهو بحمد الله -كما تعلمون- حديث صحيح متفق عليه، لكن الخلاف بعد هذا جرى في الجملة الأخرى التي فيها (لا يرث المسلم الكافر)، ونحن قطعنا بأنه لا يجوز لكافر أن يرث مسلما مطلقًا، وأما الجملة الأخرى وهي الجملة الأولى من الحديث (لا يرث المسلم الكافر) فهذه وقع بين الفقهاء بعض الخلاف وبعض النزاع فيها؛ فتوريث المسلم من الكافر له أحوال، هذه الأحوال تتعلق بحال ذلك الكافر؛ فقد يكون حربيا، وقد يكون ذميا، وقد يكون مرتدا، فهذه حالات ثلاثة أساسية:
أن يكون الكافر حربيا: يعني مقاتلا للمسلمين، أو في قوم أو من قوم يقاتلون المسلمين ويناصبونهم العداء، فهذا اتفقت كلمة الفقهاء فيه أنه لا تجري بينه وبين المسلم موارثة مطلقًا (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) في هذه الحالة مطلقًا؛ يعني المسلم لا يرث الحربي من غير أهل ملتنا؛ أي من أهل الكتاب. المسلم لا يرث يهوديا ولا نصرانيا.
ولهذا نقل الإمام أحمد -رحمه الله- أنه ليس بين الناس اختلاف في أن المسلم لا يرث الكافر.(1/10)
ومقصود أحمد بهذا الحربي، لماذا؟ لأن الخلاف موجود في الحالتين الأُخْرَيين -حالة الذمي وحالة المرتد- إذن لدينا موضعٌ اتفق الفقهاء عليه، وهو أن المسلم لا يرث الحربي مطلقًا. فكما اتفقوا على أن الكافر لا يرث المسلم مطلقًا، سواء كان الكافر حربيا أو كان ذميا أو كان مرتدا، لا يرث المسلم مطلقًا - اتفقوا أيضا على أن المسلم لا يرث الحربي، فبقيت لنا حالتان:
الأولى: حالة ما لو كان الكافر ذميا؛ يعني له ذمة وعهد. اختلف الفقهاء في ذلك على مذهبين أساسين:
الأول: هو مذهب الجمهور، وهم الذين قالوا بامتناع التوارث بين المسلم والذمي، وعلى هذا أكثر أصحاب نبينا –صلى الله عليه وسلم- وأكثر التابعين.
والمذهب الثاني: هو جريان التوارث بين المسلم والذمي؛ يعني أن المسلم يرث الذمي ولا عكس. وهذا روي عن بعض أصحاب نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- كمعاذ بن جبل، وعُمر، ومعاوية -رضي الله تعالى عنهم- ونقل أيضا عن جماعة من التابعين منهم: سعيد بن المسيب، ومسروق، وقتادة ومحمد بن الحنفية وغير هؤلاء. وهذا المذهب اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ووافقه وتابعه عليه تلميذه ابن القيم.
الأدلة التي استدل أصحاب المذهب الأول بها هي الأدلة المعروفة الظاهرة من قول الله تعالى: ? وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ? [النساء: 141].
ومن عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يتوارث أهل ملتين شتى) يعني لا يجتمعان في الإرث، ولا يجري بينهما توارث. وكذا المعقول يقضي بانقطاع الصلة والقربى مع اختلاف الدين؛ فلا يجري توارث. إذًا أدلة الجمهور معروفة ظاهرة بينة.
ثم الكلام عن أدلة الفريق الآخر الذي رأى أن المسلم يجوز له أن يرث الذمي، فما هذه الأدلة؟(1/11)
قالوا: أدلتنا من السنة. ما دليلكم من السنة؟ قالوا: الحديث الذي روي عن عمرَ، ومعاذٍ، وعائذ بن عمرو، وطائفة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من قوله: (الإسلام يعلو ولا يعلى).
قالوا: هذا الحديث حسن بمجموع طرقه، وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أخرجه البيهقي، والدارقطني، والطبراني وغير هؤلاء بأسانيد من مقال يقوي بعضها بعضا، فهو بها حسن يحتج به.
قيل لهم: ما وجه الدلالة من هذا الحديث؟ ما رأيكم؟ كيف احتجوا بهذا الحديث على جريان التوارث بين المسلم والذمي؟
نعم. من يعرف؟
الإسلام يعلو ولا يعلى
هذه يثبت ولايةَ المسلم على الكافر ولا عكس (الإسلام يعلو ولا يعلى) فهذا يثبت ماذا؟ أن للمسلم ولايةً على الكافر ولا عكس؛ أي ليس للكافر ولاية على مسلم.
نوقش هذا الفهم وهذا الاستدلال بماذا؟ قالوا: بأن مقصود النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من قوله: (الإسلام يعلو ولا يعلى) أنه يعلو علو حجة وبرهان، أنه يعلو على غيره من الأديان علو حجةٍ وبرهان، أو علو سيف وسنان، ونحن معاشر المسلمين نعتقد أن حجة هذا الدين قائمةٌ ظاهرة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها "لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خاذلهم حتى يأتي أمر الله" إذن العلو في هذا الحديث إنما هو علو حجة وبرهان وهذا حاصل في كل زمان. أو علو سيف وسنان وقهر وغلبة وهذا قد يحصل في بعض الزمان دون بعض. وعليه فلا دليل لكم في هذا الحديث يدل على مدعاكم من أن الإسلام يعلو ولا يُعْلى أن هذا يدل على جريان التوارث من المسلم إلى الكافر ولا عكس، أي من ولاية المسلم على الكافر.(1/12)
ثم إنه نقلوا أقوالا أخرى: من هذا الأقوال: ما نقل على معاذ -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (نحن نرث الكفار ونحجبهم، ولا يرثوننا ولا يحجبونن) وأيضا ما روى أن معاذا كان باليمن فرفع إليه في يهودي مات وله أخ مسلم، فقال: (إن الإسلام يزيد ولا ينقص) قالوا: فورثه. فاستدلوا بما روي عن معاذ مرفوعا من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنا نرث الكفار ونحجبهم، ولا يرثوننا ولا يحجبونن) وبقضاء معاذ -رضي الله عنه- بتوريث مسلم من أخيه اليهودي.
قالوا: إن هذا ظاهر في جريان التوارث، وقد نوقش هذا. نوقش بماذا؟
بأن الحديث الأول لا يثبت مرفوعا، وليس لكم أن تحتجوا به، وسنده ذاهب زائل.
ثم قالوا: وقوله -أي قول معاذ- فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الإسلام يزيد أو ينقص) ليس فيه دلالة على التوريث؛ فإن الإسلام ولا ينقص معناه أن الإسلام يزيد بكثرة أتباعه وبكثرة الداخلين فيه، ولا ينقص بخروج من دخل فيه، فكيف فهموا هذا الحديث؟ قالوا: إن الإسلام يزيد الإنسان إذا دخله ولا ينتقصه شيئا كان له قبل أن يدخله، فهذا الرجل الذي كان على يهوديته ومات أخوه كان سيرثه؛ لأنهما من أهل ملة واحدة، فلما دخل في الإسلام لا يجوز أن نمنعه إرثه من أخيه؛ لأننا بذلك ننتقصه بذلك بعض حقه، والإسلام يزيد الإسلام خيرا ولا ينقص من مال كان له، فنقول: هذا الفهم ليس بصحيح؛ لأن هذه الصلة التي كانت بينه وبين أخيه قد انقطعت، بماذا؟ بدخوله في الإسلام حيث لا مناصرة عندئذ ولا موالاة، فهذه المعاضدة وهذه مما سبقت تخلفت، فبالتالي فلا معنى بأن لا يرث المسلم من الكافر.
ثم انتقلوا إلى أن يوردوا بعض أدلة من المعقول. ما أدلة المعقول؟(1/13)
قالوا: إنا نقيس الذمي على المنافق، المنافق أليس كافرا؟ بلى، لكنه كافر الباطن مسلم الظاهر، قالوا: هذا المنافق إذا مات كيف يكون الأمر؟ ألا تقسم تركته بين أبنائه من المسلمين، أم تعود إلى بيت مال المسلمين؟ قلنا: لا، بل تقسم بين أبنائه من المسلمين، قالوا: وقد وقع هذا لعبد الله بن أبيٍّ ابن سلول رأس الطائفة، وقد صلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عليه، ثم أنزل الله تعالى نهيه عن أن يصلي عليه النبي أو على أمثاله، قالوا: وقد قسم ماله بين أبنائه، وإننا نقيس الذمي على المنافق بجامع هو الكفر.
ما الجامع؟ ما العلة؟ قالوا: كلاهما كافر.
قلنا: هذا قياس في مقابلة نص، والأصل أنه لا اجتهاد مع نص، والنص ناطق بأنه (لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر) فلا يجوز إذن إهدار هذا النص بهذا القياس.
ثم نقول أيضا: إن القياس مع الفارق؛ لماذا؟ لأن المنافق لا يُحكم بكفره في الظاهر، وإنما يحكم بإسلامه والله تعالى يتولى السرائر، فهذا قياس يكون عندئذ متخلفا؛ لأنه قياس مع الفارق، فهذا يُحكم بإسلامه ظاهرا، وإن حكم بكفره باطنا، وأما الآخر فيحكم بكفره ظاهرا وباطنا. فهذا القياس قياس فاسد.
فجاءوا بقياس ثان: قالوا: إنا ننكح نساءهم ولا ينكحون نساءنا، فهذا يمكن قياسه في مسألة الإرث، فنقول أيضا: هذا قياس مع الفارق؛ لأن النكاح مبناه على التوالد، والتناسل، والتكاثر، وأما الإرث فمبناه على الموالاة والمناصرة، فهذا معنى غير موجود في هذا الحالة.
وأيضا نقول: إنه قياس في مقابلة نص، فلا تعويل عليه، ولا يصح الأخذ به.(1/14)
فجاءوا بقياس ثالث: قالوا: إن دماءنا لا تكافئ دماءهم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) دل هذا على أن دماء غيرهم لا تكافئهم؛ ولأننا لا نقتل مسلما بكافر، وهذا مذهب جماهير العلماء، إذن لو قَتل مسلم كافرا ذميا عمْدا فإنه لا يقتل به وإنما عليه الدية، فقالوا: فكما أن دماءنا لا تكافئ دماءهم فإننا نرثهم ولا يرثوننا، قلنا: أيضا هذا قياس مع الفارق؛ لأن الدماء والقصاص مبنية على العقوبة والزجر، وما نحن فيه ليس من هذا الباب، ولا يزال النص نصًّا ظاهرَ الدلالةِ على أن المسلم لا يرث الكافر ولا الكافر المسلم. هذه هي المساجلة بين الفريقين.
فما رأيكم؟ نرجح مذهب مَن؟
نرجح مذهب الجمهور
نرجح مذهب الجمهور لماذا؟
لقوة أدلتهم
لقوة أدلتهم ولضعف أدلة المخالف، وهل قول المخالف قول يعتبر أو لا يعتبر؟ يعتبر، لكنه ليس بالقول القوي الذي يترجح معه القول بجواز توريث المسلم من الكافر الذمي.
وتتأمل فيما روي عن الصحابة في هذا الباب فترى أن أكثره لا يوثق به كما قال ابن قدامة -رحمه الله تعالى- في المغنى، قال: "هذا المنقول عن الصحابة لا يوثق به" ومَعَنا أن عمر -رضي الله تعالى عنه- الذي نقل عنه القول بهذا ينقل عنه يمنع التوارث بين أهل الإسلام وبين غيرهم من أهل الممل، فقال: "إنا لا نرث أهل مرة غيرنا"؛ لذا نقول: إن الأدلة التي أوردها الجمهور أقوى من أدلة الفريق الآخر، ويظهر أيضا مَعَنا أن هذه المسألة متعلقة بإرث المسلم من الكافر، وأما الاتفاق فحاصل على أن الكافر لا يرث المسلم بحال.(1/15)
تأتي إلينا أحيانا مسائل: تأتي مثلاً امرأة مقيمة في بلاد الغرب، هذه المرأة تقول: أسلمت على كبر سن وضعف، ولا أجد من ينفق علي أو من يتزوجني، وإن أبي قد مات، أو أمي قد ماتت وتركت تركة كبيرة، وإرثا كبيرا، فهل أترك هذا الإرث ليستعين وينتفع به غير المسلمين، والمسلمون في حاجت إليه، وأنا شخصيا أيضا في حاجة إلى هذا المال؟ هل أتركه وأبقيه لهؤلاء يتقوون به مع حاجة هذه الجالية المسلمة أو الأقلية المسلمة في تلك البلاد -بلاد الغرب مثلاً- مع حاجتهم الشديدة والماسة لهذا المال؟ فبما نفتيها؟
نحن رجحنا قول الجمهور، وهذا الذي نراه راجحا من حيث الحكمُ، لكن يبقى أن الفتوى المتشخصة يراعي فيها المفتي حال السائل، وسياق مسألته، وسباقها وزمانها، وما يحيط بها من ملابسات وحيثيات قبل أن يطلق الفتوى، فحين تكون حالات فيها ضرورة، فإن الضرورة تقدر عندئذ بقدرها، هذا مما يفوض النظر فيه لأهل الفتيا والإفتاء في هذا البلد أو في هذه المحلة أو في هذا المكان الذي وقعت فيه هذه النازلة.
بقي أن نتحدث عن ميراث المرتد:
نقول: اتفق الفقهاء على أن المرتد لا يرِث أحدًا مِمن كان على ملته قبل أن يرتد، فإذا ارتد مسلم -والعياذ بالله- فإنه لا يرث أحدًا من أهل ملته.
لكن جاء بعد ذلك الخلاف في ميراث الغيرِ مِنَ المرتد؛ ميراث المسلم من المرتد: اختلف الفقهاء على في هذا على مذاهب، فذهب بعض الفقهاء -وهذا القول هو قول أكثرهم- إلى أن أموال المرتد لا تورث، وإنما هو فيء يعود إلى بيت مال المسلمين، وهذا على أساس من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) هذا القول منقول عن الإمام مالك والشافعي، وهي رواية عن الإمام أحمد رحمهم لله تعالى جميعا.(1/16)
والمذهب الثاني لأبي حنيفة رحمه الله: وفيه تفاصيل؛ قال أبو حنيفة: المرتدة أموالها إلى ورثتها من المسلمين، وأما المرتد فيفرق بين المال الذي اكتسبه قبل ردته، فهذا إلى ورثته من المسلمين، وما اكتسبه بعد ردته ففيء يعود إلى بيت المال.
ما وجه التفريق بين المرتد والمرتدة؟
قال: المرتدة امرأة، وهذه المرأة ليس من شأنها أن تحارب المسلمين؛ وعليه فإن هذا المال الذي في عصمتها باق كما هو في عصمتها، فإذا ماتت أو ارتدت فإنه يورث عنها، أما المرتد فإذا لحق بدار الحرب صار حربيا، وصار هذا المال لا يملكه؛ لأنه سيجعله حربا على المسلمين، فنحن نفرق بينما كان قد اكتسبه قبل ردته، فلأبنائه وورثته، وما كان بعد الردة فهذا فيء من الفيء الذي يعود إلى بيت المال.
عندنا أيضا قولٌ آخر يقول: إن مال المرتد لورثته مطلقًا، وهذا القول لأبي يوسف ومحمد من الحنفية، وهو رواية أيضا عن الإمام أحمد.
أوصي إخواني أن يستفيدوا من هذه المساجلات والمناظرات الفقهية، وأن يتعلموا كيف تورد الأدلة وكيف تناقش، وكيف يتأتى الترجيح والمقصود من هذا الإطالة في الأخذ والرد أن تبنى ملكة فقهية عند المتفقه يستطيع معها إيراد الدليل سالما عن المعارضة، ورد ما يرد على دليله من إيرادات، ومناقشة ما يرد على دليله من مناقشات.
آخر مذهب حتى لا نكون قد يعني اجتزأنا. المذهب الأخير هو مذهب الظاهرية وهو رواية عن الإمام أحمد: أن مال المرتد عائد إلى أهل ملته التي انتقل إليها؛ ذلك أن المرتد كافر، والكفار يتوارثون فيما بينهم.
بهذا نكتفي ونسأل الله -تبارك وتعالى-لنا ولكن التوفيق والسداد.
يقول: سؤال بالنسبة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أين داره التي كانت في مكة التي كان يعيش فيها مع السيدة خديجة قبل الهجرة، هل كانت ملكا لأبي طالب ولذلك لم يترك له عقيل من شيء؟(1/17)
والسؤال الثاني: المسلم الذي له أب أو أم كافرين ومات في دار غير إسلامية فلا يستطيع أن يؤتى بهذا المال كما لو كان في الدول الغربية، فلا يستطيع أن نحكم عليه، وهو ليس معاديا للمسلمين ولا شأن له بأمور المسلمين؟ هل في هذه الحالة يحكم أنه معاد أو ذمي؟ هو نصراني مثلاً أو يهودي أو على أي ملة من الملل الأخرى، لكنه في هذه الدار ليس ذميا؛ لأن الدولة نفسها دولة غير إسلامية فهل يصبح من ضمن الذميين أو من المعاهدين؟ هل بقول القائل أنه يرثه أم لا؟
الوارث كل الموجودين حاليا يقولون: إن هذه الأموال تذهب إلى أولاده الكفار، ونحن أولى بها، هل يقدر بقدره حتى ولو يكن محتاجا إلى هذه النقود، فتذهب هذه النقود إلى أولاد وهو ليسو مسلمين، والمسلمون أولى بهذه الأموال، حتى ولو لم يكونوا في حاجة ماسة إليها؟
في الحقيقة أن الدار التي نتحدث عنها هي في الأصل دار عبد المطلب، وهذه الدار كان لكل واحد من أبنائه حصة، ومن أبناء عبد المطلب عبد الله أبو نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فكان للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حصة موروثة عن أبيه في هذه الدار، فهذا يؤكد أن له -صلى الله عليه وسلم- دارا فيها ولد عليه الصلاة والسلام، هذه الدار لما ترك النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مكة مهاجرا ضمها عقيل وطالب إلى ملكهما، فلما مات طالب أو فقد يوم بدر عاد ذلك كله إلى عقيل، فهذه الرباع كان فيها دار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
بالنسبة لأسئلة الحلقة الماضية كان السؤال الأول: بين الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى؟ وكانت الإجابة: الفروض المقدرة في كتاب الله ستة: نصف ورب وثمن وثلثان وثلث وسدس.(1/18)
وأصولها سبعة: فالثمن وحده أو مع النصف من ثمانية، والربع وحده أو مع النصف من أربعة، والثلث والثلثان من ثلاثة، والنصف من اثنين؛ فهذه الأربعة لا تعول إذا كان مع النصف سدس أو ثلثان أو ثلث فهي من ستة وتعول إلى عشرة، وإن كان مع الربع أحد الثلاثة فهي من اثني عشر وتعول على الفرد إلى سبعة عشر، وإن كان مع الثمن أحد الثلاثة فهي من أربعة وعشرين وتعول إلى سبعة وعشرين، إذا لم ينقسم سهم فريق عليهم ....
هذه إجابة صحيحة وقد جاءت فيها الأخت المجيبة بما لم نأت به لضيق وقتنا، وهو الحديث عن الرد والعول، ونسأل الله تعالى لها التوفيق.
والسؤال الثاني: عرف العصبة وبين أقسامها؟
وكانت الإجابة: العصبة جمع عاصب كالطالب، وهم بنو الرجل وقرابته لأبيه؛ وسموا بذلك لشد بعضهم أزر بعض، وهذا اللفظ مأخوذ من قولهم: عصب القوم بفلان إذا أحاطوا به. فالابن طرف والأب طرف آخر، والأخ جانب والعم جانب آخر، والمقصود بهم هنا الذين يصرف لهم الباقي بعد أن يأخذ أصحاب الفروض أنصباءهم المقدرة لهم، فإذا لم يفضل شيء لم يأخذوا شيئا إلا كان العاصب جدا فإنه لا يحرم بحال، والعصبة كذلك هم الذين يستحقون التركة إذا لم يوجدْ من أصحاب الفروض أحد؛ لما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر).
وأقسامها تنقسم إلى قسمين:
عصبة نسبية، وسببية:
النسبية أصناف ثلاثة: عصبة بنفسه وبغيره ومع غيره.
والعصبة بالنفس هي كل ذكر لا يدخل في نسبته إلى الميت أنثى، وتنحصر في أصناف أربعة البنوة وتسمى جزء الميت، الأبوة وتسمى أصل الميت، والأخوة تسمى جزء أبيه، العمومة وتسمى جزء الجد.(1/19)
والعصبة بغيره هي الأنثى التي يكون فرضها النصف في حالة الانفراد والثلثين إذا كانت معها أخت لها فأكثر، وإذا كان معهما أو معهن أخ صار الجميع حينئذ عصبة به، وهن أربع: البنت أو البنات، بنت أو بنات الابن، الأخت أو الأخوات الشقيقات، الأخت أو الأخوات لأب، فكل صنف من هذا الأصناف الأربعة يكون العصبة بالغير وهو الأخ، ويكون الإرث بينهم ? لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ?.
أما العصبة مع الغير: فهي كل أنثى تحتاج في كونها عاصبة إلى أنثى أخرى.
وتنحصر العصبة مع الغير في اثنتين فقط من الإناث وهما الأخت الشقيقة والأخوات الشقيقات مع البنت أو بنت الابن، الأخت لأب أو الأخوات لأب أو بنت الابن ويكون لهن الباقي من التركة بعد الفروض
إجابة صحيحة.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟.
السؤال الأول:
ترجم لأبي زيد أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه.
والسؤال الثاني:
بين حالات إرث المسلم من الكافر، وحكم كل حال.(1/20)
الحديث - المستوى السادس
الدرس الثامن - تابع باب الفرائض
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
تابع باب الفرائض
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة، سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، ونرحب بكم مجددا مع استكمال "باب الفرائض" من كتاب "عمدة الأحكام من كلام خير الأنام صلى الله عليه وآله وسلم" ومع الحديث الثالث من هذا الباب؛ وهو حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- تفضل يا شيخ عبد الرحمن.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: ((عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نهى عن بيع الولاء وهبته)).
هذا الحديث حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- يتحدث عن نوع من أنواع الإرث؛ وهو الإرث بالولاء؛ فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أخبرنا أن من أسباب الميراث ما ينتج عن إعتاق العبد المملوك، فمن أعتق عبدا مملوكا فإنه يرثه إذا لم يكن له وارث من عصبته، فهذا الحديث -حديث عبد الله بن عمر- معناه الإجمالي أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نهى عن بيع الولاء، وعن هبته. وقد علمنا أن الولاء أحد أسباب الميراث، وقد مر معنا ذكر أسباب الميراث، فمن يَحفظُ من متن الرحبية من متن القلائد البرهانية ما يدل أو يشهد على أسباب الميراث؟
وهي ثلاثة نكاح ونسب *** ثم ولاء ليس دونها سبب
هذه عبارة صاحب البرهانية، فمن يحفظ من الرحبية؟
أسباب ميراث الورى ثلاثة *** كل يفيد ربه الوراثة
وهي ولاء ونكاح ونسب *** ما بعدهن للمواريث سبب(1/1)
نعم، إذن اتفق الجميع على أن الولاء من أسباب الإرث، وأن الولاء إنما ينشأ بسبب العتق، فإذا أعتق رجل أو أعتقت امرأة عبدا أو أمة مملوكة فمات هذا العبد أو ماتت تلك الأمة فإن هذا المعتق يرثها من غير عكس، يرثها إن لم يكن لها وارث من عصباتها النسبيين، ولا يرثه هذا المعتَقُ المعتِقَ. إذن، هذه العصوبة سببها العتق.
والحديث ينهى عن بيع الولاء كما ينهى عن هبته، لماذا؟ لأن الولاء كما في الحديث: (لُحْمة كلُحْمة النسب) فهذا لا يصح ولا يصلح أن يُشترى وأن يباع، إنّ النسب كما أنه لا يباع ولا يشترى فكذا الولاء، (إنما الولاء لمن أعتق) وسيأتي مَعَنَا هذا في الحديث الآتي حديث عائشة -رضي الله عنه- وهو مَعَنَا في هذا الدرس إن يسر الله تعالى وأعان.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (الولاء لحمة كلحمة النسب) هذا يدلك على أن كلا منهما لا يكتسب لا ببيع، ولا بشراء، ولا بهبة، ولا بنوع من أنواع التصرفات. هذا هو معنى هذا الحديث بشكل إجمالي.
قوله: (نهى عن بيع الولاء وهبته) الوَلاءُ بالمد وبفتح الواو هو ميراث المعتِقِ من المعتَقِ "العتيق" أي من العبد المملوك.
ابن دقيق العيد -رحمه الله تعالى- يقول: "حيث ثبت الولاء بوصف وهو الإعتاق فلا يقبل النقل إلى غيره بوجه من الوجوه؛ لأن ما ثبت بوصف يدوم بدوامه، ولا يستحقه إلا من قام به ذلك الوصف. من الذي قام به وصف العتق؟ المعتِق، فالمعتق هو الذي أعتق ووقع فعله على العتيق، أو على المعتَقِ فعندئذ هذه الصفة -صفة الإعتاق- صفة شخصية لا يمكن نقلها، ولا يمكن بيعها؛ لأن الذي قام بالعتق هو فلان أو فلانةُ، فهذا الحق يثبت له أو لها بشخصه ولنفسه، فلا يجوز له أن يتنازل عنه بهبة، ولا أن يتصرف فيه ببيع.
فهذا الحديث يتناول هذه المسألة.
الشوكاني -رحمه الله تعالى- يقول في هذا الحديث: "فيه دليل على أنه لا يصح بيع الولاء، ولا هبته؛ لأنه أمر معنوي كالنسب، فلا يجوز ولا يتأتى انتقاله".(1/2)
وهذا ظاهر واضح بيّن، لكن هذا الحكم هل هو مما اتفق عليه الفقهاء، أم مما وقع بينهم فيه خلاف؟
الحقيقة نقل ابن بطال "أنهم أجمعوا على أنه لا يجوز بيع الولاء، وأن حكم بيع الولاء كحكم بيع النسب وهذا لا يتأتى بحال، ولا يصلح بحال؛ مستدلين على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب، لا تباع ولا توهب)" والحديث صحيح بمجموع طرقه.
لكن نقل بعض العلماء أن خلافا يسيرا قد وقع؛ فقالوا: إنه جاء عن عثمان -رضي الله تعالى عنه- أنه قال بجواز بيعه، وعن ميمونة أنها قالت بجواز هبته. وقد نقل ابن حجر -رحمه الله- إنكارَ الصحابة هذا القول، كإنكار ابن مسعود ذلك في زمن عثمان، وكذا إنكار علي وعمر رضي الله تعالى عنهما، وابن عمر وابن عباس وجابر رضي الله تعالى عنهم، كما ورد هذا في مصنف عبد الرزاق وغيره.
إذن الصحيح الذي عليه الجماهير وأهل العلم سلفا وخلفا أن الولاء لا يباع ولا يوهب، وأنه لا يتأتى أن ينتقل؛ لأنه صفة قامت بمن أعتق.
هذا هو مجمل الكلام وفحواه عن هذا الحديث. لننتقل إلى الحديث الرابع والأخير من أحاديث "باب الفرائض" في "كتاب عمدة الأحكام".
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: ((عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: كان في بَرِيرَةَ ثلاث سنن: خيرت على زوجها حين عَتَقت. وأهدي لها لَحْم فدخل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والْبُرْمَةُ على النار، فدعا بطعام، فَأُتِيَ بخبز وأُدْمٍ من أُدْمٍ البيت، فقال: ألم أر البرمة على النار فيها لحم؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، ذلك لحم تُصُدِّقَ به على بريرة، فكرهنا أن نطعمك منه، فقال: هو عليها صدقة، وهو لنا منها هدية. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها: الولاء لمن أعتق)).
الحديث الرابع هو حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- وهي تحكي فضل بَرِيرَةَ مولاتها -رضي الله تعالى عنها- أيضا، فقالت: كان في بريرة، أو كانت في بريرة ثلاث سنن:
خيرت على زوجها حين عتقت.(1/3)
وأهدي لها لحم فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والبرمة على النار، فدعا بطعام، فَأُتِيَ بخبز وأدم من أدم البيت، قال: أفلم أر البرمة على النار فيها لحم؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، ذلك لحم تُصُدِّق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه، فقال: هو -هذا اللحم- عليها صدقة وهو منها لنا هدية.
ثم قالت عائشة -رضي الله عنها- وقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فيها: (إنما الولاء لمن أعتق).
هذا الحديث حديثٌ عظيم جليل، كثير الفوائد، غزير المعاني، أدهش العلماء، بل حير الفقهاء، واستفادوا منه فوائد لا تكاد تدخل تحت حصر، حتى إن بعض العلماء ألف في شرح هذا الحديث مصنفات مستقلة حديث بريرة -رضي الله تعالى عنها- وما كان من بركة هذا الحديث؛ حيث أوصل بعض العلماء الفوائد المستنبطة من حديث بريرة إلى أربعمائة فائدة؛ ما بين فائدة فقهية، وأدبية، وتربوية، وعلمية نافعة يستفيد منها كل مسلم وكل إنسان.
ونحن لا نستطيع أن نأتي على كل ما في هذا الحديث ولا على أكثره، وإنما نشير إلى ذلك إشارة، ويُطلب شرح هذا الحديث في الموسوعات والمطولات من كتب السنة.(1/4)
قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها- في معنى هذا الحديث الإجمالي: كان في بريرة ثلاث سنن، ما هذه السنن الثلاث؟ قالت: خيرت على زوجها حين عَتَقَتْ. بريرةُ هذه مولاة عائشة -رضي الله تعالى عنها- كانت مملوكة، ثم إنها طلبت من أهلها أن يكاتبوها أي أن تدفع لهم ثمن رقبتها على أقساط منجمة موزعة على السنوات، فكاتبوها، ثم إنها عجزت فلم تستطع، فأتت عائشة -رضي الله عنها- تطلب منها أن تعينها على كتابتها، فأعانتها عائشة -رضي الله تعالى عنها- كما سيأتي معنا في الشرح التفصيلي، وكان من ذلك أن عَتَقَت، وصارت حرة، وكانت في الوقت ذاته متزوجة من رجل يقال له "مغيث" وكان عبدا مملوكا، فصارت هي حرة وزوجها عبد، فاختل ميزان الكفاءة، والجماهير يتفقون على أنه لا يسوغ أن يتزوج العبد بالحرة، فإن وقع هذا فَعَتَقَت صار لها الخيار؛ فإن اختار البقاء معه مع حريتها ورقه فالأمر إليها، إن استدامت هذا النكاح فالأمر إليها، وإن اختارت نفسها أي اختارت أن تفسخ نكاحها فذلك أيضا إليها، فهذه السنة الأولى "لما عتقت اختارت نفسها فانفسخ عقد نكاحها؟
والثانية: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- دخل البيت ذات يوم وفي البرمة -وهو قدر من حجارة- لحم، فدعا بطعام فأتي بشيء، وقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم سيأتونه بلحم فلم يأتوه به، فسألهم عن ذلك، فقالوا: إن هذا اللحم لحم صدقة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يأكل الصدقة، فكرهنا أن نطعمك من شيء تكرهه، وتتحاشاه، وتتحاماه. فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الفقير إذا صار إليه مال فملكه، سواء كان هذا المال هبة أو هدية أو صدقة، فإن هذا الفقير له أن يبيعه، وأن يهدي منه، وأن يتصدق به، فهو صار مالكا لهذا المال فله أن يتصرف فيه بأنواع التصرفات، فهذه الثانية؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أفصح عن هذه السنة وهذا الحكم الفقهي المتعلق بما يصل إلى الفقير من مال.(1/5)
ثم ذكرت القضية الثالثة، وهي أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال في شأنها: (إنما الولاء لمن أعتق) ذلك أن عائشة -رضي الله تعالى عنها- لما أرادت أن تشتريها ثم تعتقها اشترط أهلها أن يكون الولاء لهم.
ما معنى الولاء الذي اشترطوه؟ قالوا: أنها إذا ماتت وهي صاحبة مال أن يعود إرثها إليهم، فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (اشتريها وأعتقيها، فإن الولاء لمن أعتق)، ثم قال: (ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) ثم إن عائشة -رضي الله تعالى عنها- فعلت وصارت بريرة مولاة لعائشة رضي الله تعالى عنها.
فهذه هي الأحكام الأساسية المستفادة من حديث بريرة، فهلمَّ إذن إلى الشرح التفصيلي.
قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها- كانت في بريرة ثلاث سنن.
بَرِيرَة اسمها، وقالوا: إنها بريرة ابنة صفوان، وقالوا: إنها كانت أمة لبعض الأنصار، وقيل: بأمة لبني هلال، وعلى كل حال فالثابت أنها -رضي الله عنها- كانت أمة، واسمها هذا مشتق من ثمر الأراك فالبرير هو ثمر الأراك.
هي مولاة عائشة -رضي الله تعالى عنها- كما قلنا. جاءت تخبر عائشة أن أهلها كاتبوها على تسع أواق من ذهب، وفي بعض الروايات جاءت تخبر أن أهلها كاتبوها على خمس أواق من ذهب، وجمع بعض العلماء فقالوا: كانت قد أدت بعض الأقساط التي جُعِلَتْ عليها، ودفعت بعض النجوم التي كانت قد تواعدت أو تعاقدت على دفعها، ثم إنه أن وقع أن عجزت عن سداد هذه الأقساط فجاءت تستعين بهذه بعائشة -رضي الله تعالى عنها- على السداد، فوقعت هذه القصة التي نحن بصددها الآن.
بريرة -رضي الله تعالى عنها- عاشت إلى زمن يزيد بن معاوية، وتوفيت في خلافته. زوجها رجل يقال له: "مغيث" ومغيث هذا كان أيضا عبدا مملوكا لبني المغيرة، وقيل: لبني أحمد بن جحش على خلاف بين العلماء في هذا.(1/6)
بريرة مع كونها أمة إلا إنها لم تكن أمة سوداء، وزوجها كان شديد الأدمة أو شديد السواد. على كل حال تقول عائشة رضي الله عنها: كان في بريرة ثلاث سنن.
ما مقصود عائشة في قولها: "ثلاث سنن"؟
ما معنى سنن في هذا الحديث؟
ثلاثة أحكام شرعية
أحكام شرعية فقهية، وقد ورد في بعض الروايات إنها قالت: (ثلاث قضيات) جمع قضية، والمقصود قضية نبوية؛ أي قضى فيها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قضاءه.
ما هذه الْأَقْضِيَةُ؟
قضى بأن لها حق الفسخ إذا هي عَتَقَتْ وصارت حرة، وزوجها عبدٌ. فهذا قضاء النبي صلى الله عليه وسلم، وقضى بأن المال الذي يهدى إليها أو يتصدق عليها به يجوز به أن تتصرف فيه تصرف المالك، وأنه ينتقل وصفه من كونه صدقة عليها إلى أنه هدية، تهديه بعد ذلك إلى من شاءت كما وقع ذلك في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم إنه أيضا قضى بأن الولاء لمن أعتق في قصة عتقها رضي الله تعالى عنها؛ لذا قالت عائشة: (ثلاث قضيات) أو (ثلاث سنن).
لكننا قبل قليل قلنا: إن هذا الحديث أدهش العلماء وحير الفقهاء، وانتفع به الألباء، وأنه صنفت فيه مصنفات، وكتبت فيه كتب، وأن الفوائد في هذا الحديث ربت على أربعمائة فائدة كما قال ذلك ابن حجر -رحمه الله- في الفتح، فكيف نجمع بين قولها ثلاث سنن وبين أن الفوائد كثيرة جدًا؟
من يستطيع أن يجمع لنا بين هذا وذاك؟
نقول: وجه الجمع أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قَعَّد في هذا الحديث قواعِدَ ثلاثا، لكن ما يندرج تحت هذه القواعد، وما يتفرع عنها، وما يرتبط بها، وما يلتحق بها، وما ينتسب إليها هذا كثير جدًا.
فالقضايا الأساسية ثلاثة وما يتفرع ويندرج ويحيط فهذا الذي استنبطه الفقهاء، وزاد على العددْ، وفاق كل حدّ.
إذن هذا المعنى معنى صحيح؛ أن الأحكام الأساسية المقصودة كانت ثلاثا، وأما ما تفرع عن هذا فهو أكثر من ذلك بكثير.(1/7)
قولها رضي الله عنها: (خيرت على زوجها حين عتقت) وقع في بعض الروايات: (في أن تقر تحت زوجها أو تفارقه) تقر تحته كزوجة، وفي رواية: (وخيرت فاختارت) أي اختارت نفسها في أن تفسخ نكاحها، وألا تبقى تحت عبد مملوك بعد أن صارت حرة. وفي بعض الروايات أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (قد أُعْتِقَ بُضْعُكِ فاختاري) يعني صرت قادرة على حل عقدة هذا النكاح الذي دخلت فيه، (قد أعتق بضعك معك فاختاري) إن شئت البقاء وإن شئت غير ذلك.
والعجب أن بريرة -رضي الله عنها- اختارت نفسها مع حُبِّ زوجها لها، وكان مغيث هذا يحبها حبا كثيرًا، ومع هذا اختارت نفسها، وقد نقل غير واحد من العلماء أن الْأَمَةَ إذا عَتَقَتْ فقد ثبت لها حق الفسخ، كما نقل ذلك ابن بطال وغيره من العلماء؛ ذلك أن العبد لا يكافئ الحرة بحال، وهذا فيه دليل على اشتراط الكفاءة، وأن هذه الكفاءة معتبرة على ما يتعلق بالحرية والعبودية. إذن بريرة -رضي الله تعالى عنها- اختارت نفسها، فعتقت كما قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
أيضا من الأحكام المتعلقة بهذه الجزئية أنها -رضي الله تعالى عنها- لما اختارت فراقه كان هذا الفراق فسخا للنكاح أم كان طلاقا؟ كان هذا من الفسخ للنكاح أم كان طلاقا؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على مذهبين اثنين:
فمنهم من قال: كان هذا الفراق فسخا. ومنهم من قال: كان هذا الفراق طلاقا.
ثم الذين اختاروا أنه فسخ قالوا: تعتد عدة المطلقة، كيف والفسخ الأصل فيه أن تعتد بحيضة واحدة؟ قالوا: لأنها صارت حرة، والحرة تعتد بثلاث حيْضات، فقالوا: مع قولنا بالفسخ فإنها تعتد بثلاث حيْضات، والقائلون بأنه فسخ هم الجمهور.
وقال مالك والأوزاعي والليث: هو طلاق بائن.(1/8)
"والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رأى مغيثا يطوف وراء بريرة في الطرقات، ودموعه على لحيته تتحدر، ويتوسل إليها ويرجوها أن تراجعه، فكان منه -صلى الله عليه وآله وسلم- أن شفع له عندها، فقالت رضي الله تعالى عنها: تأمرني يا رسول الله؟ قال: (إنما أنا شافع) فقالت: فلا حاجة لي فيه" وهذا يدلك على تواضع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ورعايته لحال أمته، سواء كانوا أحرارا أم مماليك، وكان -عليه الصلاة والسلام- أرفقَ الناس، فلما ما بهذا الرجل من الشدة جعل يشفع له عند من كانت زوجته.
وأيضا قال لها: (لو راجعته) لم يأمرها أمر جازما رعاية لحقها، ولهذا أرادت أن تستفسر منه فقالت: تأمرني يا رسول الله؟ قال: (إنما أنا شافع) فقالت: لا حاجة لي فيه، وهذا أيضا من كمال أدبها مع نبيها صلى الله عليه وسلم، فإنه لو أمرها ما تأخرت وما تخلفت، لكنها لما علمت أنها شفاعة وأن الأمر إليها قالت: لا حاجة لي فيه.
ثم في هذا الجزء من الحديث إشارة إلى أن الإنسان إذا اختار أمرا مباحا فإنه لا حرج عليه فيه ولا لوم؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما شفع لم يحرّج عليها ولم يثرّب عليها ولم يلزمها إلزاما، وإنما شفع شفاعة لعله أن يكون فيها خير لها وله، لكنها أبت، فما منعها ولا ثرّب عليها. وعلى هذا كما قلنا انعقد الإجماع؛ أي أن الأمة إذا عتقت ثبت لها الخيار.
هذه هي السنة الأولى التي وردت في هذا الحديث.(1/9)
السنة الثانية: قالت عائشة -رضي الله تعالى عنها- في بيانها: (وأهدي لها لحم، فدخل عَلَيَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والبرمة على النار وفيها اللحم) البرمة ما هي؟ قالوا: هي قدر من حجارة، فدعا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بطعام فجيء له بالخبز وإدام من أدم البيت، فتعجب النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا وسأل: (ألم أَرَ البرمة فيها لحم؟) فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن البرمة فيها لحم تُصُدق به على بريرة، وأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (إنه لا تحل لي الصدقة) وأخبر أيضا (أن آل محمد لا تحل عليهم صدقة) إذن لا يجوز لعائشة -رضي الله عنها- أن تدخل الصدقة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حكما جديدا، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو عليها صدقة، ولنا منها هدية) يعني هي تقبلته في ذمتها على أنه صدقة من الصدقات التي تجوز على الفقير، وتجوز على هذه المرأة التي هي مولاة لعائشة رضي الله عنها، لكنها إذا ملكت فوهبت أو باعت أو تصدقت أو تصرفت بأي نوع من أنواع التصرفات صح منها ذلك، فقال: (هو لها صدقة وهو منها لنا هدية) وهذه القطعة من الحديث فيها فوائد كثيرة:
من ذلك: أن الهدية التي تصدق بها على بريرة وهي مولاة لعائشة تدل على جواز الصدقة على من يمونه غيره، يعني من ينفق عليه غيره، من كان ينفق على بريرة؟ عائشة -رضي الله تعالى عنها- ومع ذلك أهدي لها، فهذا معناه أنه يجوز أن تتصدق على من تعلم أن غيرك ينفق عليه، أو يقوم بمؤنته ويقوم على حاله. فهذا من فوائد هذا الحديث.
وفيه أيضا أن الأمة إذا عتقت جاز لها التصرف لأنها صارت حرة.(1/10)
وفي الحديث إشارة أيضا لاستقلال ذمة المرأة، فالمرأة تتصرف في ذمتها بما تشاء. المرأة لها ذمة مالية مستقلة، وهذه بريرة تقبلت الصدقة وأعطت الهدية والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: (إنما النساء شقائق الرجال) فلا حَجْر عليها إذن، ولها أن تتصرف، وأن تفعل ما ترى أن فيه المصلحة.
وترى أيضا عائشة -رضي الله تعالى عنها- تدخل بيت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا الطعام أو هذا المال الذي تصدق به على بريرة من غير أن تستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذا يدل على ماذا؟
يدل للمرأة أن تتصرف في بيتها بالمعروف، وبما تعلم أن زوجها لا يمتنع منه، وأنه يأذن فيه. فقد علمت عائشة بما هو معروف في بيتها من زوجها -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يعترض على هذا المال الذي يهدى أو يتصدق به على هذه المرأة، وأيضا قد استعملت أواني البيت والوقود الموجود في البيت لأن تطبخ الطعام لهذه المرأة، ولم تعد في ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه أيضا أن المرآة راعية في بيت زوجها وأنها مسئولة عن رعيتها، فهي تقوم على هذا البيت بما يصلحه، وتتصرف في المال الذي فيه بالمعروف. وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما شكت هِنْدٌ من شُحِّ أبي سفيان قال لها: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) فقَيّد تصرفاتها بأن تكون بالمعروف، فلا يجوز أن تنفق من بيت زوجها متلفة لماله، أو مسرفة فيه، ونحو ذلك، وإنما تصرفاتها تصرفات مقيدة بأن تكون بالمعروف.
تأمل أيضا هذه الحالة: جواز أكل الصدقة للفقير، وجواز أكلها للغني إذا أهدى الفقير إليه، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- طلب أن يأكل من هذا الطعام مع أنها لم تَعْرِض عليه -صلى الله عليه وسلم- هذا الطعام؛ لأمور أو لاعتبارات:(1/11)
الاعتبار الأول: أنه أراد أن يدخل السرور على قلب هذه الضعيفة المسكينة مولاة عائشة بريرة رضي الله تعالى عنها، فَمَنْ بريرة حتى تهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالنبي يطلب هذه الهدية أُنْسًا لنفسها، وإدخالا للسرور على قلبها، فإنها تسر بذلك سرورا عظيما أن يطلب النبي -صلى الله عليه وسلم- طعامها هدية له، فهذا فيه من حسن عشرته وكمال أدبه مع الخلق، ومن عظيم تواضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا ينبغي أن يكون قدوة للرجال في بيوتهم، وأسوة للرجال مع زوجاتهم، ومع خدمهم الذين واللائي يخدمون هذه البيوت وتلك الأسر، أن يعاملوا بالمعروف وأن يحسن إليهم، وأن يرى هذا أنه واحد من هذه الأسرة أو من ذلك البيت.
وفيه أيضا أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يَحْرُمُ عليه أكل الصدقة؛ لأنه أقر عائشة على هذا، لكنه بين أن هذا المال ينتقل حكمه بالتصرف، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يسأل عن هذا اللحم أو عن هذه الذبيحة، مَن ذبحها؟ وكيف ذبحها؟ كيف ذكيت هذه الذبيحة؟ لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليؤصل لنا أصلا؛ وهو ترك السؤال عن ذبيحة ذبحت في بلاد المسلمين، أو في ديار المسلمين، فلا ينبغي إذن التنطع ولا ينبغي التكلف، وهذا قد نراه من بعض الناس، أنه لا يأكل طعاما -لاسيما إذا كان هذا الطعام لحما- حتى يسأل عن ذابحه، وكيف ذبحه، ويسأل عن أمور فيها شيء من التكلف؛ حيث لا شبهة، أما إذا قامت شبهة فقد يسوغ له أن يسأل، أما حيث لا شبهة فإن السؤال عند هذا تكلف لم نؤمر به.(1/12)
وكذا استفاد الفقهاء أنه لا يجب أن يسأل الإنسان عن مال وصل إليه إذا لم يكن فيه شبهة تعلم، فإن له أن يأخذه وله أن يتموله من غير أن يسأل أو يستفسر. وأنت ترى أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما سأل من الذي تصدق على بريرة؟ وهل ماله كله حلال أم في ماله حرمة، أو في ماله شبهة؟ ما سأل عن المتصدق، وإنما قبل هذه الهدية ولو كانت قليلة، وهذه فائدة أخرى؛ فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يقبل هذه الهدية من بريرة مع قلتها ويسرها.
أيضا من فوائد هذا الحديث أن من رأى أحدا يتعاطى أسبابا محرمة أو يتعاطى أسباب ما هو محرم فإن عليه أن يمنع أو أن ينبهه. إنسان سوف يتعاطى ما لا يحل له تعاطيه من طعام، أو شراب، أو لباس، أو دواء، أو ما أشبه لاسيما وقد كثرت في الناس أسباب محرمة أو ممنوعة شرعا؛ فإن من علم عليه أن يبين ويوضح لهذا الذي تعاطى هذه الأسباب وهو لا يعلم؛ لذلك لما أراد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يأكل من هذا اللحم منعته أم المؤمنين عائشة فلم تقدم له هذا اللحم، فما كانت لتعلم الحكم لولا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعلمها، ونبهها، وفهمها، فهذا يدل على تحفظها وتحوطها رضي الله تعالى عنها.
أيضا في هذا الحديث فائدة: وهي أن الرجل لا بأس أن يسأل عما عهده ورآه وشاهده أو تركه في بيته؛ ليتفقد وليعرف الخبر وليستوضح، فلربما وقع ما يستوجب التنبيه أو يستدعي التأكيد على هذا الأمر، أو يستدعي منعه. ولا يقولن أحد: إنه قد ورد في حديث أم زرع "أن زوج تلك المرأة كان لا يسأل عما عَهِدَ" فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سأل عما عهده؛ لأنه قال: ألم أر البرمة على النار؟ أي فيها اللحم، فهذا شيء شهده ورآه، فهذه المرأة كانت تمدح زوجها بأنه لا يسأل عن أمر قد فات ومضى زمانه، فهو لا يطلبه ولا يتفقده؛ لأنه علم أنه انقضى وانتهى.(1/13)
أما الحالة التي بين أيدينا فهو أمر حاضر رآه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بعينيه، وعلى كل حال فهذه المرأة تحكي عن ذلك الزوج في الجاهلية، وهذا لا يستدل به على إثبات ذلك الحكم. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- سأل متفقِّدا ليعلم ولينبه، وليدخل السرور على أهل البيت؛ ببيان هذا الحكم الذي فيه قبول الهدية من هذه المرأة.
ويؤخذ أيضا من هذا الحديث أن للرجل أن يفتي زوجته بما يعلم، ولو كانت هذه الفتيا بما لها فيه من حظ أو رغبة أو غرض صحيح، ما دام أنه لا يفتي بشيء فيه حرمة، أو فيه ترخصٌ لا يحل؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أفتى أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- بأنه يحل لها أن تأكل من هذا اللحم، وأنه لا يحرم على محمد ولا على آل محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. هذه هي السنة الثانية.
السنة الثالثة في هذا الحديث: قولُها رضي الله تعالى عنها: وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها: (الولاء لمن أعتق).(1/14)
يبدو أن ترتيب هذه السنن ليس على حال وقوعها، فلو تأملنا هنا ثلاث سنن ما هذه السنن الثلاث؟ تخيرها بعد عتقها، وجواز أن تهدي مما أهدي إليها أو تتصدق به عليها بعد أن صارت مولاة لعائشة أي بعد أن عتقت، والسنة الثالثة قوله عليه الصلاة والسلام: (الولاء لمن أعتق)، فقوله: (الولاء لمن أعتق) هو سابق في الترتيب لماذا؟ لأن عائشة -رضي الله عنها- لما أرادت أن تشتريها لتعتقها قالت: (إنهم لا يرضون –ببيعها- حتى يشترطوا أن يكون الولاءُ لهم) فعندها قالت عائشة: (لا حاجة لي فيك) يعني في عتقك على هذه الحال أو بهذا الشرط، ثم إنها لما سألت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أو لما تفقد النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر قال: (اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء؛ فإنما الولاء لمن أعتق) وقال: إن هذا الشرط لاغ هدر؛ لأنه ليس في كتاب الله، فالذي فيه كتاب الله أن الولاء لمن أعتق، وهذا الشرط الفاسد لا ينبغي أن يكر على عقد العتق بالإبطال؛ نظرا لأن الشارع الكريم متشوف للعتق، ويريده ويحث عليه، ويحقق هذه الولاية لكل من أعتق، سواء كان هذا العتق بسببِ نذرٍ واجبٍ أو بسبب كفارة واجبةٍ، أو كان بمحض التطوع، فمن أعتق كفارةً أو أعتق نذرًا أو أعتق تطوعًا فإن الولاء له.(1/15)
فلما قالت عائشة: "إنهم لا يرضون حتى يكون الولاء لهم" قال: (أعتقيها فإن الولاء لمن أعتق) ثم خطب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مبينا أن هذا الشرط لاغ، وأن كل شرط فاسد لا يحقق مقصودا، ويناقض مقصود العقد أو يهدر أمرا ثبّته كتاب الله أو ثبّتته السنة فإنه لا قيمة له ولا اعتبار به. فمنه -أي من هذا الشرط- ما يبطل ويصح العقد، ومن هذا الشرط ما يفسد العقد أيضا، فإذا كان الشرط مناقضا لمقصود العقد -كما لو باعه سيارة على ألا يبيعها- فإن هذا الشرط يُبْطِلُ العقدَ ويفسدُه ويُذهِبُ مقصودَه ويناقضُه، أو يبيعه ألا تنتقل الملكية إليه مثلاً، كما يحصل في بعض البياعات التي يتبايع بها بعض الناس جهلا، يبيع له ويبقي شيئا من الثمن ويقول: لا ينتقل الملك إليك حتى تكمل الثمن، فهذه الصورة صورة يبطل معها هذا العقد، لأنه بمجرد أن يبرم العقد تنتقل الملكية وتترتب الآثار. فإذا علقت الآثار فإن هذا يدل على عدم انعقاد مثل هذا العقد من البيع.
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (الولاء لمن أعتق) وهذا من صيغ الحصر (إنما الولاء لمن أعتق) هذا صيغة حاصرة للولاء فيمن أعتق، وهذا استدل به طائفة من العلماء على أن العِتاقة أو مولى العتاقة هذا المولى هو الذي أعتق، وأنه لا ولاية بعده إلا لمن أعتق؛ لأنه ورد عند بعض العلماء أنه جعل من الولاءِ الولاءَ بالمعاقدة؛ وهو أنه إذا تعاقد رجلان بينهما على أن يتوارثا ونحو هذا فإن هذا من الولاء الذي يترتب عليه انتقال الإرث.
ومنهم من قال: الإرث قد يتحقق للملتقط؛ فلو أن إنسانا التقط إنسانا، فإن له إرثَه إذ لم يكن له وارث في أسباب كثيرة، هذا الحديث نص عند الجمهور في منع مثل هذه الولاءات، وحصر الولاء التي الذي يترتب عليه الإرث في "من أعتق" وهذا يشهد له ما عند البخاري من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (والولاء لمن أعطى الورِقَ، ووَلِيَ النعمة) أي ولي نعمة العتق.(1/16)
فنكتفي بهذا المقدار ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى ويجعلنا وإياكم.
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول: ترجم الصحابي الجليل أسامة بن زيد رضي الله عنه.
وكانت الإجابة: هو أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل بن عبد العزى بن امرئ القيس، المولى الأمير، حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومولاه وابن مولاه، كنيته أبو زيد وقيل أبو محمد وأبو حارثة. كان أبوه ابيض اللون، وكان أسامة شديد السواد خفيف الروح شجاعا عابدا، رباه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجره، وأحبه كثيرًا. قال أسامة رضي الله عنه: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأخذني والحسن فيقول: (اللهم إني أحبهما فأحبهم) وفي حديث المخزومية التي سرقت قالوا: من يجترئ على أن يكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها إلا أسامة حبُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أقره النبي -صلى الله عليه وسلم- على جيش لغزو الشام وفي الجيش أبو بكر وعمر وكان عمره سبع عشرة أو ثماني عشر سنة، فطعنوا في إمارته فقال صلى الله عليه وسلم: (إن يطعنوا في إمارته فقد طعنوا في إمارة أبيه، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن ابنه هذا لمن أحب الناس إلي).
ما لقيه عمر قط إلا قال: "السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله، توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنت علي أمير" وكان نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إذا لم يغزُ أعطى سلاحه عليا أو أسامة.
توفي -رضي الله عنه- بموضع على ثلاثة أميال من المدينة جهة الشام يقال له "الجرف" وكان هذا في آخر خلافة معاوية رضي الله عنهم أجمعين، وكانت وفاته سنة أربع وخمسين من الهجرة، وله من العمر خمس وسبعون عاما.
والسؤال الثاني: بين حالات إرث المسلم من الكافر وإرث كل حالة.
وكانت الإجابة: الكافر أو الذمي أو الكتابي ينزل تحت واحد من هؤلاء الثلاث: إما أن يكون حربيا أو ذميا أو مرتدا:(1/17)
أما الحربي: فاتفق الجمهور على أنه لا يجري بينه وبين المسلم إرث مطلقا.
وأما الذمي: فله ذمة وعهد، ووقع الاختلاف على مذهبين: الأول:
وهو رأي الجمهور وأكثر الصحابة والتابعين، وهو المنع، واستدلوا بعموم لفظ الحديث، وقوله تعالى في سورة النساء: ? وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا? [النساء: 141] ، وحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يتوارث أهل ملتين. ومن المعقول أن لا يحدث توارث لانقطاع الصلة والولاء بينهما.
المذهب الثاني: وهو ما قاله معاذ ومعاوية وقتادة من التابعين، واختاره ابن تيمية، وهو جواز إرث المسلم من الكافر لا العكس، واستدلوا بحديث (الإسلام يعلوا ولا يعلى عليه) والحديث حسن بجميع طرقه، ويثبت أن للمسلم ولايةً على الكافر لا العكس، واحتجوا أيضا بقضاء معاذ في اليمن بإرث مسلم من أخيه اليهودي، وقال معاذ: "إن الإسلام يزيد ولا ينقص" واستدلوا أيضا ببعض الأدلة المعقولة فقالوا: إن المنافق يورث. وهذا قياس مع الفارق. وقالوا: إننا ننكح نساءهم لا العكس. وهذا أيضا قياس مع الفارق لأنه يقابل النص.
والراجح قول الجمهور لقوة أدلتهم وضعف أدلة المخالفين.
أما المرتد: فلا يرث أحدًا من أهل ملته، وجاء الخلاف في ميراث المسلم من المرتد:
فذهب الجمهور أن أموال المرتد لا تورث، ولكن ترد إلى بيت مال المسلمين، وهذا مذهب مالك والشافعية، ورواية عن أحمد.
وذهب أبو حنيفة إلى أن المرتدة ترد أموالها إلى ورثتها من المسلمين؛ لأن المرأة ليس من شأنها أن تحارب، وأما المرتدُّ إذا أُلْحِقَ بدار الحرب صار حربيا فنفرق بين ماله الذي اكتسبه قبل الردة والمال الذي اكتسبه بعدما ارتد؛ فما قبل الارتداد هو إرث للمسلمين، وما بعد الارتداد فهو فيء لبيت مال المسلمين
وذهب أيضا الظاهرية ورواية عن الإمام أحمد إلى أن هذا المال يعود إلى الكفار؛ لأن هذا المرتد انتقل إلى ملة أخرى، فأصحاب الملة الواحدة يتوارثون.(1/18)
هذا هو القول الرابع، ولعل المنصور في هذا الرواية الثانية في مذهب الإمام أحمد، وهو مذهب أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية بأن هذا المال يعود إلى ورثته من المسلمين. والله أعلم.
يقول: السؤال الأول: الذي يسلم في دار الكفر وأبوه كتابي ولا يعيش في دار الإسلام فهل يتبع في حكمه الذمي أو المعاهَد مع العلم أنه لا يحارب الإسلام؟
إذا لم يكن محاربا فإنه ملحق بأهل الذمة، وقد رجحنا أنه لا توارث بين المسلم والذمي على ما هو مذهب جمهور العلماء، وقلنا: إنه إذا وقعت واقعة أو نزلت نازلة في تلك البلاد والديار التي يعيش فيها المسلم مغتربا فإنه يعود في أمره إلى من يثق بدينه وعلمه من المفتين في تلك النواحي، فيسأله ويستفتيه ويعرض عليه نازلته، والمفتي يقدر الضرورة عندئذ بقدرها، والضرورات في أصلها تبيح المحظورات إذا كان لهذا وجه.
وهذه المسألة -كما قلنا- فيها خلاف بين الجمهور وبعض الفقهاء؛ منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم عليهم جميعا رحمة الله تعالى.
يا شخنا كأنكم أجبتم على السؤال الثاني؟
وهو؟
وهو يقول: بناء على الفتوى القائلة بأن المرأة الكبيرة لظروف معينة ترث المال من الكتابي تنفق به على نفسها وعلى المسلمين، فهل لمقدار المال الذي تنفقه على نفسها حدٌّ؟(1/19)
نحن لا نقول بأنه يجب على هذه المرأة أن تأخذ هذا المال أو أن تأخذ منه لنفسها، وإنما نقول: عليها أن ترجع إلى أهل الفتيا، فالذي نقرره هنا مدارسة للأحكام، وليس إفتاء، نحن نتدارس الحكم ثم يبقى هذا الحكم له واقع يتنزل فيه، ومعرفة الواقع جزء الفتيا، فلا بد من التحقق بمعرفة واقع هذه المسالة، هل هنا ضرورة أو لا؟ إذا كان المفتي يأخذ -كما رجحنا مذهب الجمهور- بعدم جريان هذا التوارث له أن ينتقل عن هذا إلى القول الآخر إذا وجدت ثمة ضرورة أو حاجة تنزل منزلة الضرورة، ولا شك أن القول بأخذ المال ورده إلى بيت مال المسلمين أو إلى تلك المراكز الإسلامية أو على العمل الخيري الإسلامي الموجود في تلك الديار مما ينفع المسلمين نفع عاما لا شك أن هذا القول له وجاهته وقوته، وعلى الترجيح فيه راجع إلى أهل العلم في تلك الديار. والله تعالى أعلى وأعلم وبقى لنا سؤالان عن هذا الدرس.
السؤال الأول:
ما حكم بيع الولاء وهبته؟ وما الدليل؟
والسؤال الثاني:
بين السنن الثلاث في حق بريرة الواردة في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.(1/20)
الحديث - المستوى السادس
الدرس التاسع - باب النكاح
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته، وأهلاً وسهلاً ومرحبًا بكم مجددًا مع كتاب "عمدة الأحكام" ومع "كتاب النكاح".
تفضل يا شيخ بقراءة الحديث الأول من كتاب النكاح.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (كتاب النكاح
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)).
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه.
كتاب النكاح. مرَّ معَنَا مفهوم كلمة "كتاب" والمقصود بها في هذا التركيب، فلا نعيد ذكر ذلك.
النكاح في اللغة: مصدر نَكح ينكح نكاحًا، يقال: نَكَح الرجلُ ونكحت المرأةُ، فالنكاح يطلق ويراد به معنى التزويج، وهو في أصل المعنى مأخوذ من الضم والتداخل؛ يقال: تناكحت الأشجار: أي تداخلت وتمايل بعضها على بعض، وانضم بعضها إلى بعض. فالنكاح في اللغة بمعنى الضم والتداخل، وهو لغة –أيضًا- يطلق على الوطء والجماع تارة وعلى العقد تارةً أخرى، ففي اللغة يطلق النكاحُ مرادًا به عقد التزويج، كما يطلق ويراد به الجماعُ أو الوطءُ.
وهو أيضا في كتاب الله –تعالى- وفي سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطلق ويراد به العقد تارة ويطلق ويراد به الجماع تارة أخرى، وهذا مما جعل العلماء يختلفون أهو حقيقة في العقد مجاز في الوطء؟ أم مجاز في العقد حقيقة في الوطء؟ أو هو مشترك بينهما؟(1/1)
وإذا تأملنا فإننا سنجد آياتٍ كثيرةً ورد فيها النكاح وقد أريد به العقد، كما ورد بقلةٍ في القرآن وقد أريد به الوطءُ. وبعض العلماء ممن رجّح أنه حقيقة في العقد قال: "لم يَرِدِ النكاح في القرآن مرادًا به غيرُ العقد إلا في موضع واحد" هل أحد يعرف هذا الموضع؟
?حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ? [البقرة: 230]
?حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ? هذا الموضع الوحيد في القرآن الكريم الذي يطلق فيه النكاح ولا يراد به العقد وإنما يراد به الوطء.
لكن هل هذا مُسلّم؟ إن هذا في الحقيقة لا يُسلّم، لا يُسلّم من جهة الحصر، ولا يُسَّلم من جهة المعنى، لا يُسلّم من جهة الحصر؛ لأنه وردت آيات أخرى وقيل: إن المراد بالنكاح فيها هو الوطء –أيضًا- أو هو خلاف التزويج، فماذا نقول في؟ ?حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ? [النساء: 6]، ماذا نقول في هذه الآية؟ ?حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ? هل المقصودُ بهذا العقد؟ النكاح هنا هل المقصود به العقد أم الوطء؟ ?حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ? هل المقصود هنا عقدُ الزواج أم القدرة على الجماع والوطء؟ نعم.. ومن حيث المعنى فإن الآية التي فيها ?حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ? إنما استفدنا أن النكاح المقصودَ أو الذي يحلل المرأة لزوجها الأول هو العقد الذي يكون فيه وطءٌ، وهذا لم نستفده من القرآن وإنما استفدناه من السنة؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا، حتى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ) هذا كناية عن وقوع الجماع، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في هذا الحديث يقول: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج) هذا أمر منه -صلى الله عليه وآله وسلم- بالزواج والتزويج.(1/2)
وأحاديث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن النكاح كثيرة، فيخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن أغراض الناس في النكاح فيقول: (تنكح المرأة لِأَرْبَعٍ) تنكح هنا المقصود به العقد أم الوطء؟ (تنكح المرأة لأربع) مقصود به العقدُ. وقوله عليه الصلاة والسلام: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) مقصود به العقد أم الوطء؟ الوطء، لماذا؟ (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) لماذا قلنا: إن المقصود هو الوطء؟ لأنها زوجة، والسؤال عما يَحِلّ للرجل منِ امرأته الحائض، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اصنعوا كلَّ شيء) أي منَ الاستمتاع (إلا النكاح) أي إلا الوطء.
إذن في لسان الشارع الحكيم في كلام الله تعالى وكلام رسوله الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- جاء النكاح مرادًا به العقد تارة والوطء تارة أخرى، وسيأتي معنا مزيدُ تفصيل ونقاش عند الكلام عن حقيقة هذا عند الفقهاء، والخلاف الذي جرى بينهم في هذا الأمر، والراجح مما ذكروه رحمهم الله تعالى.
أبو عليّ القالي يَفْرِق في اللغة بين الوطء والعقد في النكاح فرقًا لطيفًا فيقول: إن العرب تقول: "نَكَح الرجل فلانةَ يعني عقد عليها، فإن أرادوا أن يعبروا عن الوطء قالوا: نكح فلانٌ زَوْجَته" فالمقصود بذلك أنه إذا عبر بلفظ النكاح وصرح بالزوجية فالمقصود هو الوطء، وأما إذا أطلق ولم يذكر علاقة الزوجية فالمقصود هو العقد.
هذا النكاح عند الفقهاء تنوعت عباراتُهم في الدلالة عليه والتعريف به؛ فنجد أن حقيقة النكاح عقد يفيد حل استمتاع الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل. هذه هي حقيقة الزواج "عقد شرعي يفيد حل استمتاع كل من الرجل والمرأة ببعضهما البعض" هذه الحقيقة عبر عنها الفقهاء بعبارات مختلفة ومتعددة؛ فمثلاً نجد الحنفية يقولون: النكاحُ عقد يفيدُ حلَّ استمتاع الرجلِ بامرأة لم يمنع من نكاحها مانع شرعي.(1/3)
ومثل هذا قاله المالكية وقاله الشافعية، يقولون: النكاح عقد يتضمن إباحة وطء من تحل له بصيغة -يعني يكون ذلك بصيغة- معها وبها يستباح الاستمتاع بهذه المعقود عليها. هذا هو معنى التزويج، وهو معنًى متفق عليه بين الفقهاء بأسرهم.
من الملاحظ أن معنى النكاح والألفاظ التي عبرت عنه كثيرة جدًا، حتى إن بعض علماء اللغة كالثعالبي قال: "إن أسماء النكاح زادت على ألف اسم، وحصرها بعضهم فوصل بها إلى ألف وأربعين اسمًا" لماذا؟ قالوا: لأنه شريف، له شرف، له فضل، وكثرة الأسماء لمسمًى واحد تدل على شرفه، ونبل قدره، وهذا النكاح -كما تعلمون- سنة البشر بمن فيهم أنبياء الله –تعالى- ومرسلوهم.
إذن نحن سنبحث في هذا الباب العظيم الذي اتفقت في مشروعيته دواعي الفطرة، ودواعي الشرع ودواعي العقل.
نحب أن ندخل إلى اختلاف الفقهاء في حقيقة النكاح فنقول: اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب أساسية:
المذهب الأول -وهو المقدم عند الحنفية، وقال به بعض الشافعية، وبعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى في بعض كتبه-: أن النكاح حقيقةٌ في الوطء، مجاز في العقد.
المذهب الثاني: أنه حقيقةٌ في العقد مجاز في الوطء، وهذا هو المقدم عند الشافعية، والحنابلة، والمالكية أيضًا.
أما المذهب الثالث: هو أن النكاح حقيقة في كل منهما بالاشتراك؛ حقيقة في النكاح بمعنى العقد وبمعنى الوطء، يعني يدل على هذا وعلى هذا بأصل الوضع، وهذا إما أن يكون مشتركًا لفظيًا أو مشتركًا معنويًا. قال بهذا بعض الحنفية، وهو رأيٌ عند بعض الشافعية.
ما الأدلة التي استدل بها هؤلاء الفقهاء؟(1/4)
نحن نلحظ ونرى -كما قلنا- أن ألفاظ الشارع الحكيم في كتاب الله –تعالى- وسنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عبرت عن النكاح تارة بما يدل على العقد، وتارة بما يدل على الوطء وذكرنا بعض الأمثلة، فنريد منكم أن تذكروا لنا أمثلةً أُخرى مما يدل على أن النكاح قد يطلق شرعًا وهو حقيقةٌ في العقد، ويطلق وهو حقيقة في الوطء. من يذكر لنا بعض هذه الأمثلة من القرآن الكريم أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟
أبدأ أنا: قال الله تعالى: ?فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ? [النساء: 25] هذا حقيقة في العقد أم في الوطء؟ حقيقة في العقد؛ لأن المتزوج لا يستأذن أهلَ زوجته في وطئها، وإنما يُستأذن الأهلُ في النكاح بمعنى العقد، أليس كذلك؟
قوله تعالى: ?فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ? [النساء: 3] على ما يدل هذا؟ النكاح هنا يراد به العقد أم الوطء؟ يراد به العقد، لماذا يراد به العقد؟ لأنه لا يتأتى للإنسان أن يجامع امرأتين أو ثلاث أو أربع، وإنما يتأتى له أن يعقد على امرأتين وعلى ثلاث وعلى أربع نسوة، ثم إن هذا العدد حاصل في بيان العدد الذي يحل الجمع بينه من النسوة، يعني تجمع اثنتين ثلاثا أربعا، ولا يحل لك فوق أربع، فهذا يدلك على مسألة العقد.
من يذكر أمثلة أخرى؟
قول الله: ?وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ? [النساء: 25].
بمعنى؟
الوطء.
لا.. بمعنى العقد، ?وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً? يعني قدرة ونفقة ?أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ? فما البديل؟
?(1/5)
فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم? ينتقل من الزواج إلى التسري، وكذلك قولُ الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ? [الأحزاب: 49] هذا بمعنى العقد، وذكرنا بعض الأمثلة كقوله تعالى: ?فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ? [البقرة: 230] ?الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً? [النور: 3] يعني لا يطأ، واضح؟
إذا ثبت هذا فإنه يظهر لنا أن الشرع في استعماله للفظة النكاح جاء به مقصودًا به العقد تارة والوطء تارة، مما يجعلنا نرجح القول الثالث الذي فيه أنه مشترك، فلا تُعرف دلالته على أحد معنييه إلا بالقرينة التي تُظهر المعنى، وتأمل قول الله تعالى: ?وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? [البقرة: 221] هذا يحتمل الوطء والعقد، كيف؟ فهذا نهي عن نكاح مشركة، أي نهي على العقد على مشركة، ونهي عن وطئها أيضًا بملك اليمين، فهذه الآية تحتمل المعنيين، إذن رجّح ابنُ حجر وغيرُهُ من الفقهاء أنه مشترَكٌ بين العقد والوطء، وهو المختار في هذا السياق.
لسائل أن يقول: هذا الخلاف الذي أطلنا فيه ما ثمرته؟ وما فائدته؟
الكلام حول المسائل اللغوية والاصطلاحية هل هو مثمر؟ هل هو مفيد؟ هل ينفع الفقيه؟ هل يمكن أن ننتفع به؟
نقول: نعم، إن هذا الخلاف خلاف معنوي يترتب عليه ثمرة وفروع يختلف فيها الفقهاء.
اذْكر لنا بعض هذه الفروع.
لو أن إنسانًا -والعياذ بالله- زَنَى بامرأة، فهل يحل لابنه أن يتزوج من أمها؟ أو من بنتها؟ وهل يحل له هُوَ أن يتزوج من فرعها أو أصلها؟ هذه مسألة. لو أن إنسانًا زنى بامرأة هل تحرم أصولها وفروعها على والده وولده أم لا؟(1/6)
بِناءً على ما فهمنا من مذهب الحنفية ومذهب الجمهور، فمذهب الحنفية يقول: بأن النكاح يطلق ويراد به الوطء، فقول الله تعالى: ?وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم?[النساء: 22] النكاح هنا إذا أريد به الوطء فإنه سيترتب عليه التحريم، فيحرم على ابْنِهِ أن يتزوج بأصولها أو بفروعها، ويحرم عليه أن يتزوج منها. هل يَجوز له أن يتزوج بموطوءة أبيه من الزنا والعياذ بالله؟ عند الحنفية لا، لماذا؟ لعموم قول الله تعالى: ?وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ? فهذا خلاف ترتب عليه أثرٌ.
وتأمل، الجمهور يقولون: أن هذا هدَر لا اعتبار به، فيجوز لابنه أن يتزوج من فروعها ومن أصولها؛ لأن النكاح إنما يقصد به العقد. هذا فرع من الفروع.
أيضًا من حلف ألا ينكح، فهل يحنث بالوطء؟ أم يحنث بالعقد؟ خلاف، الحنفية ماذا سيقولون ومن معهم ومن وافقهم؟ يقولون: لا يحنث بالعقد وإنما يحنث بالوطء، خلافًا للجمهور.
وهكذا لو قال: لامرأة إن نكحتُكِ فأنت طالق، فماذا نقول؟ الحنفية يقولون: لو عَقَد عليها لم تطلق، فإن جامعها صارت بذلك طالِقًا، أما الجمهور فيقولون: لا، إذا عقد عليها فإنها تطلق بهذه العبارة .. وهكذا.
إذن، قد نحتاج إلى أن نحرر بعض الاصطلاحات، وأن نقف عليها بوضوح ودقة حتى نفهم ما يترتب عليها من آثار، أو ما ينشأ عنها من فروع فقهية تختلف فيها أنظارُ الفقهاء.
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج) من يَرْوِي هذا الحديث؟
هذا الحديث بِرواية عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، يجتمع نسبه مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في مدركة بن إلياس، وعبد الله بن مسعود أمُّه هي أمُ عبدٍ بنت عبد وُدٍّ الهذلية.(1/7)
أسلم رضي الله تعالى عنه فكان من السابقين الأولين إلى الإسلام ولإسلامه قصة: مر به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو يرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط فسأله -وكان معه أبو بكر رضي الله تعالى عنه- أن يحلب لهم، يعني من بعض الشياه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا غلام هل عندك من لبن فتسقينا؟) فقال: نعم، ولكني مؤتمن، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم جذعةً لم يَنْزُ عليها الفحل، يعني شاة لم تلد ولم يجر في ضرعها اللبن، فجاءه عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- بهذه الشاة فمسح النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ضرعها بيده ودعا فامتلأ ضرعها لبنًا، فجعل يحلب في هذا الإناء، حتى شرب الصديق وشرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- الضرع فقال له: (اقلص) فقلص، يعني فرجع إلى حالته الأولى، كأن لم يكن به لبن.
رأى ابن مسعود هذه الواقعة فأسلم من فوره، فكانت هذه قصةَ إسلامه، ببركة هذه المعجزة النبوية والعلم النبوي الذي أجراه الله -عز وجل- أمام عيني ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
قال: لقد شهدْتُنِي وأنا سادس ستة في الإسلام، فهو من السابقين الأولين، وهو أيضًا من الذين هاجروا إلى الحبشة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهو أيضًا ممن شهد بدرًا، وهو صاحب سواك النبي صلى الله عليه وسلم، وصَاحب طهوره، وصاحب نعليه، وصاحب سره، وصاحب وساده -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- هذا هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه.(1/8)
مناقبه أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر؛ هو أول من جَهَرَ بالقرآن بعد رسول الله -صلى الله عليه وآله ومن والاه- في مكة. كان نبينا يحبه ويدْنِيه ولا يقصيه، ويدخل عليه ويخرج من عنده، حتى قال أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: "لقد رأيت ابن مسعود وما أعده إلا من آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم" كان يَصحب النبيَّ في كل أحواله لاسيما في السفر، فكان إذا جلس النبي -صلى الله عليه وسلم- مجلسًا فخلع نعليه يبتدرهما عبد الله بن مسعود فيجعلهما في ذراعيه، يعني يلبس هذين النعلين في ذراعيه حال خلع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نعليه.
وله منقبة عظيمة -رضي الله تعالى عنه- حين مر به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ليلة وهو يقرأ القرآن في المسجد يعني يصلي، وكان معه أبو بكر وعمر، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم واستمع قراءته فقال: (من أحب أن يَقرأ القرآنَ طَريًا -أو قال: غضًّا- كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) من هو؟ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ثم إنه ختم صلاته فجلس يدعو فجعل النبي صلى الله عليه وسلم من بعد يقول: (سلْ تعطه، سلْ تعطه) هذه شهادة شهد بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن مسعود على هذه الحالة العظيمة التي كان عليها من التقدم في كتاب الله تعالى.
أَقْسَمَ -رضي الله تعالى عنه- بالله -عز وجل- أنه ما من آية أنزلت في كتاب الله –تعالى- إلا وهو يعلم أين أنزلت وفيمن أنزلت، وأنه لو علم أحدًا أعلمَ منه بكتاب الله تصله أعناقُ المطايا لضرب أكبادها إليه، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
عبد الله بن مسعود وَلِيَ قضاء الكوفة لعمر رضي الله تعالى عنه، وانْتَقَلَ إليها مدة من الزمان، وإنه بعد ذلك عاد إلى المدينة.(1/9)
رُوِيَ له من الحديث أكثر من ثمانمائة حديث أو روي له ثمانمائة وأربعون حديثًا، اتفق الشيخان على أربعة وستين منها وانفرد البخاري بواحد وعشرين، وانفرد مسلم بخمسة وثلاثين حديثًا، وروى عنه الخلفاء الأربعة وخلق كبير من التابعين.
توفي رضي الله تعالى عنه بالمدينة على الراجح من أقوال أهل السير، وكان ذلك سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: ثلاث وثلاثين، وهو ابن بِضع وستين سنة رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
عبد الله بن مسعود يروي لنا هذا الحديث عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في معناه الإجمالي يدل على أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يحثُّ الشباب ويأمرهم ويوجههم إلى البدار والمسارعة إلى الزواج، وألا يتركوا هذا الأمر مع القدرة عليه (من استطاع منكم الباءة فليتزوج) من ملك قدرة بدنية أو قدرة مالية على الزواج فإن عليه أن يبادر، وأن يسارع إلى الزواج، لماذا؟ لأنه (أغض للبصر، وأحصن للفرج). ثم إن النبي -صلى الله عليه- وسلم أرشد إلى البديل الشرعي لمن عَجَز عن الزواج مع تَوَقَانِ نفسه إليه، ورغبته فيه أن عليه أن يبادر إلى الصيام، وأن يجتهد في إدمان الصيام فإنه قاطع للشهوة، يعمل عمل الْمِبْضَعِ في أسباب هذه الشهوة، أي يقطعها، أو يقللها، أو يخففها بما يعين الإنسانَ على عبادة ربه –تعالى- وعلى البعد عن الذنوب جميعًا.(1/10)
إذا أردنا أن ندخل إلى الشرح التفصيليّ لهذا الحديث فإن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر الشباب) فيه نداء، والمعشر كل جماعة أو طائفة يجمعها وصف، فالشباب معشر، والرجال معشر، والنساء معشر، فتقول: يا معشر النساء، تقول: يا معشر الرجال، تقول: يا معشر الأنبياء، فـ (يا معشر الشباب) هذا نداء منه صلى الله عليه وآله وسلم لطائفة مخصوصة، من هذه الطائفة المخصوصة؟ طائفة الشباب، والشباب جمع شاب، وقد يُجمع أيضًا على شبان، وقد يُجمع على شَبَبَة، وهو في أصل مادته مأخوذ من الحركة والنشاط، فالشاب مَنْ فِيه الْحَرَكَةُ والنشاط، ولهذا تجد أن العلماء قالوا: إن سن الشباب يبدأ من البلوغ، وتعلم أن البلوغ هو أول القدرة على الجماع، الشباب سن يبدأ من أول البلوغ، وقال بعضهم: يبدأ من سن ست عشرة، إلى متى؟ قالوا: إلى الثلاثين، وهذا الذي اختاره النووي رحمه الله تعالى، لكن غيره من الشافعية والمالكية قالوا: بل يمتد إلى سن ثنتين وثلاثين، فمِنَ البلوغ إلى سن ثنتين وثلاثين هذا هو سن الشباب، وبعد ثنتين وثلاثين ينتقل إلى الكهولة إلى كم؟ إلى أربعين، فآخر الكهولة هو سن الأربعين، وبعد الأربعين هو شيخ.
إذن سن الشباب هو من السادسةَ عشرة إلى ثنتين وثلاثين، ما قبل ست عشرة يقال له حدَث، ويقال له: مراهق، ويقال له: صبي، والصبي ينقسم إلى مميز وغير مميز، إلى آخر هذه التفصيلات.(1/11)
خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث لمن؟ للشباب (يا معشر الشباب) وهذا ينبهك إلى فائدة عظيمة، وهي أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لا يُخَلّي طائفة من المسلمين من غير نصح ولا توجيه، فهو يوجه هذا النصح في هذا الحديث للشباب، والشباب يجمع الرجال والنساء، فليس المقصود بهذا مطلقَ الذكور فقط، فالشابات أيضًا يدخلن في هذا تغليبًا، فالخطاب هنا لمطلق الشباب من الرجال والنساء. هذه دعوة منه صلى الله عليه وآله وسلم للجميع بالمبادرة والمسارعة إلى الزواج.
يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج) الباءة تطلق ويراد بها الجماع، وتطلق ويراد بها القدرة على نفقات الزواج، وهي في الأصل مأخوذة من الْمَباءة، والمباءة يعني بمعنى المنزل الذي يتبوؤه الإنسان يعني ينزله، وإنما سميت كذلك؛ لأن الرجل إذا تزوجت امرأة بوأها منزلاً يعني أنزلها منزلاً، فتجد أنه مما يُطْلَبُ من الرجل أن يُحْضِرَ للمرأة المسكن، وهذه قد تكون عند بعض الناس من أَوَّل ما يُسأل عنه، هل عندك منزل؟ هل لديك شقة؟ هل تملك بيتًا؟ ربما يَسْأَلُ الناس عن هذا قبل أن يسألوا عن الدين؛ إذن الْمَبَاءةُ بمعنى المنزل.(1/12)
والباءة فيها لغات كثيرة تصل إلى أربع لغات، فتقول: باءَة وتقول: باءْ، وتقول: باه، وهي على كل حال بمعنًى، منهم من فرق فجعل بعض هذه اللغات تدل على الجماع، وبعضها يدل على امتلاك القدرة المالية على النفقة ونحو ذلك، لكن على كل حال هذا الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج) أي: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنته، وإلا فالأصل في الشباب أنهم فيهم هذه القدرةَ على الجماع، لكن المقصود أنه عنده قدرة على نفقاته، ويستطيع أن يتحمل تبعاته ونحو ذلك، فمن استطاع هذا فليتزوج ولا مانع من أن يكون المراد بـ (من استطاع منكم الباءة) الأمرين معًا، من استطاع منكم النفقات واستطاع منكم القدرة على الجماع.
لماذا وقع الخطاب في هذا الحديث للشباب، ولم يتجه إلى الكهول والشيوخ؟ نقول: لأن الشباب هو زمن اشتداد الرغبة وزمن إلحاحها على الإنسان، فهذه الفترة فترة الشباب مظنة ثوران الشهوة في الإنسان وغلبتها عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعين الشباب بهذا التوجيه، وإلا فلو أن الشيخ تاقت نفسه إلى الزواج فإنه مأمور بذلك أيضًا، والكهل كذلك، فهذا الخطاب الأصل فيه أنه متجه لكل من له رغبة أو يجد في نفسه حاجة لقضاء وطره، فالنصيحة له والموعظة له بأن يبادر إلى التزويج، وينبغي أن يُعلم أن هذا الخطاب -كما قلت- للشباب ولغير الشباب ممن يتأتى له الخطاب.
(من استطاع منكم الباءة فليتزوج) أَمَر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالزواج، فما حكمة مشروعية الزواج؟ ما حكمة مشروعية النكاح؟ لماذا قلنا إن النكاح مشروع؟(1/13)
نقول: لأنه ثبت ذلك بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وانعقد إجماع البشر من لدن الأنبياء، وإلى أن يرث الله –تعالى- الأرض ومن عليها على مشروعية النكاح، وأيضًا قام داعي العقل على ذلك، وداعي الفطرة؛ فالزواج مما اتفقت فيه دواعي العقل مع النقل مع الفطرة، بل بعض الفقهاء يقولون: ما اتفق يعني ما اتفق داعي الشرع، وداعي الفطرة، وداعي العقل على شيء ما اتفق على الزواج.
لو أردنا أن نستبصر في نقاط محددة بحكمة النكاح وفوائده وثمراته باختصار ومن غير إملال فإننا نقول: إن أول ذلك:
* بقاء الإنسان، شرع الله تعالى النكاح لما فيه من الإبقاء على نوع الإنسان؛ ذلك أن الله -تبارك وتعالى- حكم ببقاء الإنسان إلى يوم القيامة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتزويج، قال الله تبارك وتعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً? [النساء: 1] فهذا لا يتأتى إلا بالزواج، الإبقاء على النوع الإنساني لا يتأتى غالبًا إلا بهذا.(1/14)
* ومن حِكَمه أيضًا الامتثال لأمر الرحمن تبارك وتعالى، ففيه بقاء نوع الإنسان وفيه الامتثال لأمر الرحمن. أمرك الله تعالى في كتابه فقال: ?فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم? [النساء: 3]، وقال: ?وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ? [النور: 32] هذا أمر منه تبارك وتعالى بالتزويج، وأخبر الله تبارك وتعالى أن هذا الأمر به يُحصّل العبد رضا الله تبارك وتعالى، والله –تعالى- ذكر الزواج والتزويج في سياق الامتنان في بيان أنه نعمة من نعمه تعالى: ?وَمِنْ آيَاتِهِ? أي الآيات الدالة على وحدانيته -تبارك وتعالى- وعلى ربوبيته وألوهيته وانفراده بالأسماء الحسنى والصفات العلى ?أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً? [الروم: 21]، فهذا فيه امتثال لأمر الرحمن تبارك وتعالى بالزواج.
* وفيه أيضًا الاستنان بسنة النبي العدنان -صلى الله عليه وآله وسلم- لأنه هو الذي قال: (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وفيه حب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت متعبد بهذا أيضًا فهو عليه الصلاة والسلام هو الذي قال: (حُبِّبَّ إليَّ من دنياكم: الطيب، والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة) فأن تحب ما أحب رسولُ الله، وأن تأتسي بنبي الله، وأن تعمل بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك هو الاستنان بسنة النبي العدنان.
* ثم إن في الزواج تكثيرَ أهل الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث يقول: (تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم يوم القيامة) وفي رواية: (مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) روايات، حديث معقل بن يسار رضي الله عنه وغيره بسند صحيح.
إذن تكثيرُ هذه الأمة وتكثير سوادها مما تحصل به مباهاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمته، والله تعالى يقول: ?وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً? [النحل: 72] فهذا فيه تكثير للذرية.(1/15)
* وفيه صيانة وحفظ للأديان والأبدان، في الزواج صيانة وحفظ الأديان والأبدان؛ فأنت منهي عن الوقوع في الفاحشة، فبأي شيء تعتصم؟ تعتصم بالزواج، والله تعالى حين قال: ?وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا? [الإسراء: 32] جعل لك البديل الحلال، وهو: الزواج، فبالزواج تحفظ دينك من الوقوع في الموبقات، وإغواء الشهوات، وهو أيضًا يحفظ بدنك، فإن ماء الشهوة إذا احتبس في البدن أَضَرَّ، وإذا خرج سكنت النفس، واطمأن البدن، وصحت النفوس، وتفرغت لطاعة الله تبارك وتعالى وعبادته ?قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ? [الأعراف: 33] وتصريف هذه الشهوة في غير ما أحل الله اعتداء ?فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ? [المؤمنون: 7].(1/16)
* أيضًا هذا الزواج كما فيه ذلك فيه أيضًا مصلحة للإنسان ما هذه المصلحة؟ النفع الذي يأتيه من وراء الولدان، وما هذا النفع الذي يأتيك من وراء الولدان؟ نفع في الحياة، ونفع بعد الممات، ونفع في الآخرة يوم القيامة وفي العرصات؛ فأما الذي في الحياة فإعانته لك إذا كبرت، ومساعدته إياك إذا ضعفت، فالإنسان خلقه الله تبارك وتعالى وفيه سنة، ما هذه السنة؟ أن الله تعالى خلقنا من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة، حال الضعف والشيبة من يعينك؟ من يأخذ بيدك؟ من يدلك؟ من يرشدك؟ من يساعدك؟ إنه ولدك، فهو امتدادك في هذه الحياة، ثم إذا توفيت وانتقلت إلى رحمة الله -عز وجل- فهو الذي يدعو لك؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يلحق المسلم من عمله بعد موته قال: (أو ولدٍ صالحٍ يدعو له) فإذا كان هذا الصالح يوم القيامة في العرصات مقبولا عند الله -عز وجل- فإنه يشفع لك، فيأتيك من وراء الولدان هذا الخيرُ الكثيرُ، إعانته لك في حياتك، دعاؤه لك بعد مماتك، وشفاعته فيك إن كان من أهل الصلاح ومن أهل الفلاح.
وتأملْ، عمر رضي الله تعالى عنه يقول: "إني لأتزوج وما بي رغبة إلى زواج، وأطأ زوجتي وما بي شهوة إليها، ولكني أحب أن أكثر من سواد أمة النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلمي بأنه يحب ذلك" فهذا مما يستحضره الإنسان في هذه المسألة، أو في هذا الأمر.
وأيضًا من هذه الْحِكَم: حصول التعارف بين بني الإنسان ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا? [الحجرات: 13] وأحسنُ ما يؤدي إلى التعارف التصاهرُ، والله -تبارك وتعالى- خلق من الماء بشرًا فجعل منهم نسبًا وصهرًا فالمصاهرة شقيقة النسب في حصول التعارف والتآلف بين الناس.(1/17)
بهذا نكون قد ألممنا إلمامةً وأحطنا إحاطةً مختصرةً سريعةً بِحِكَم الزواج وفوائده وثمراته، لننتقل بعد هذا إلى الكلام عن حكم النكاح. نحن تحدثنا عن حكمته، ثم نتحدث بعد هذا عن حُكمه.
ذكر العلماءُ للنكاح له أحوالاً؛ فاتفقت كلمتُهُم على أن الإنسان إذا خَشِيَ على نفسِهِ العنت أو غَلَبَ على ظنه أنه يقع في العنَتِ، أو قطع بأنه يقع في العنت، وما العنت؟ الفاحشة -والعياذ بالله- الزنا -والعياذ بالله- ومقدمات الزنا -والعياذ بالله- كل ذلك من العنت - إذا كان الإنسان إذا وصل إلى هذه المرحلة فإنه وجب عليه أن يتزوج إذا كان قادرًا، يعني مالكًا لمؤن النكاح وقادرًا على الوطء، فهذا يجب عليه أن يتزوج إذا خاف أو غلب على ظنه أو تيقن وقوعه في الفاحشة والعياذ بالله تعالى. هكذا اتفقت كلمة العلماء فلا ينبغي أن يُختلف في هذه المسألة، لكنهم اختلفوا بعد ذلك في حال الإنسان إذا كان لا يخشى على نفسه الوقوع في الزنا، ويخشى أيضًا على نفسه إذا تزوج أن يظلم المرأة التي يتزوجها، أو أن يقع في حرام بسبب زواجه منها، كأن لا يعدل أو ما أشبه، إذا كانت له زوجة أولى أو نحو ذلك، اختلفوا في هذا وقالوا: هذه حال الاعتدال. إنسان تتوق نفسه إلى الزواج، وتستشرف نفسه إلى الزواج، وهو مع هذا لا يخشى على نفسه أن يقع في الزنا، ويخشى على نفسه أنه يتزوج أن يقع منه ظلم أو جور أو نحو ذلك فما حكم النكاح بالنسبة له؟ هذا الشخص المعتاد المعتدل؟
اختلف الفقهاء في هذا على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: القائلون بالاستحباب، وأن الزواج في هذه الحالة يكون سنة مؤكدة، وهم جمهور الفقهاء، وحين نقول الجمهور نتحدث عن الحنابلة ونتحدث عن الحنفية والمالكية وبعض الشافعية.
وخالف الشافعية فقالوا: إنه في هذه الحالة يكون الزواج مباحًا.(1/18)
وأغرب الظاهرية ومن وافقهم من بعض الفقهاء فقالوا: بأنه واجب، يعني فرضا على الإنسان أن يتزوج، لكنهم قيدوا هذا الوجوب بأن يكون مرة في العمر، وقالوا: إذا لم يتزوج فليتسر، يعني يتخذ سُرِّيَّةً، أي يتخذ أمة يطؤها، لماذا؟ ليكون ممتثلاً أمر الله عز وجل وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، هذه هي الأقوال الثلاثة.
نكتفي الآن بالإشارة إلى هذه الأقوال الثلاثة لنعود بعد ذلك في لقائنا الآتي إلى بيان هذه الأقوال وتفصيلها وبيان الرأي الراجح الذي تنشره الأدلة من أقوال العلماء الثلاثة في هذه المسألة، وبهذا نكتفي سائلين الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، ويجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يعلمنا وإياكم ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه جواد كريم.
وننتقل إلى الإجابة على الأسئلة التي كانت في الحلقة السابقة، والتي وردت أيضًا إلينا في هذه الحلقة.
يقول: الحقيقة تكلمتم في قصة إسلام عبد الله بن مسعود فقلتم: أنه كان راعيًا للغنم وعندما طُلِبَ منه الحليب قال: إني مؤتمن، ثم قلتم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بشاة وكانت لا تحلب فمسح على ضرعها، فهل هذا يستقيم والنبي يسحب هذا اللبن وهو الأصل ليس له، والراعي مؤتمن، فما مدى صحة هذا الحديث؟ وجزاكم الله خيرً.
هذه الرواية ذكرها الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في سيره، وكذا غيرُ واحد من أهل العلم، وصححوا أنها سبب إسلام عبد الله بن مسعود.(1/19)
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما تعدى على ملك أحد، لماذا؟ لأن هذا اللبن إنما أنشأه الله تعالى وخلقه لا في ملك هذا الإنسان وإنما أجراه معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم رد هذه الشاة إلى حالتها الأولى، ثم إن الإقراء أو القِرَى الذي طلبه النبي صلى الله عليه وسلم هو حق للضيف، وهذا الحق تعرفه العرب في جاهليتها كما تعرفها في إسلامها، فليس في هذا أي تعدٍ على ملك أحد. لم يكن اللبن مملوكًا لعقبة بن أبي معيط، ولو كان كذلك فإن جريان أعراف الناس بالقرى في الجاهلية قبل الإسلام يجعل لهذا الراعي أن يتصرف هذا التصرف، ومع هذا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرزأ عقبة بن أبي معيط شيئا من لبن كان له، وإنما أجرى الله تعالى له ذلك معجزة بينة، وسببًا داعيًا لإسلام عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
يقول: أريد من الشيخ أن يوضح لنا بالنسبة لذوي الأرحام تحديدهم، يعني هل هم الأصول الفروع؟ أريد تفصيل ذوي الأرحام؛ لأن هناك مصاهرة وأرحاما فيفرق لنا بينها؟
ستكون الإجابة في الحلقة القادمة –إن شاء الله- نظرا لضيق الوقت.
إجابة الحلقة الماضية: وكان السؤال الأول: ما حكم بيع الولاء وهبته؟ وما الدليل؟(1/20)
وكان الجواب: جاء في حكم بيع الولاء النهي عن بيع الولاء وهبته هو ما جاء في السائبة قوله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الولاء وعن هبته) وفيه دليل على أنه لا يصح بيع الولاء ولا هبته؛ لأنه أمر معنوي كالنسب فلا يتأتى انتقاله وقال ابن بطال: أجمع العلماء على أنه لا يجوز تحويل النسب وحكم الولاء حكمه لحديث (الولاء لُحمة كلحمة النسب) والدليل مما جاء أيضًا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى عن بيع الولاء وهبته) رواه الجماعة، وعن عبد الله بن عمر عند الحاكم وابن حبان وصححه البيهقي وأعله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب) وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من والى قومًا بغير إذن مواليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدل) متفق عليه، وليس لمسلم فيه بغير إذن ... جاء بأدلة كثيرة.
لا بأس.. هذا كل ما ذكر كافٍ والحمد لله، هو كان ينبغي فقط أن يشير إلى وجود ثمة خلاف ضعيف منقول عن بعض الصحابة وبعض التابعين ويبين الرد على هذا لتكتمل الإجابة.
السؤال الثاني: بَيِّن السنن الثلاث في حق بريرة الواردة في حديث عائشة رضي الله عنها؟
الجواب: كان في بريرة ثلاث سنن:
قضى بأن لها حق الفسخ إذا هي عتقت وصارت حرة وزوجها عبد، فهذا قضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانيًا: قضى بأن المال الذي يُهدى إليها أو يُتصدق به عليها يجوز أن تتصرف فيه تصرف المالك، وأنه ينتقل وصفه من كونه صدقة عليها إلى أنه هدية تهديه بعد ذلك إلى من شاءت، كما وقع ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم.(1/21)
ثالثًا: قضى بأن الولاء لمن أعتق في قصة عتقها رضي الله عنها، والحديث نص عند الجمهور في منع هذه الولاءات الإرث في من أعتق، وهذا يشهد له ما عند البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: (والولاء لمن أعطى الورِق وولِيَ النعمة) أي ولي نعمة العتق، والله أعلم.
نعم هذه إجابة صحيحة.
أسئلة المحاضرة.
نكتفي في هذه المحاضرة بسؤال واحد وهو:
بَيِّن حقيقة النكاح عند الفقهاء، وما ثمرة هذا الخلاف؟(1/22)
الحديث - المستوى السادس
الدرس العاشر - تابع باب النكاح
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
تابع باب النكاح
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه. الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته، وأهلاً وسهلاً ومرحبًا بكم مجددًا في هذا اللقاء من شرح عمدة الأحكام ونحن مع كتاب النكاح وقد بدأنا في شرح الحديث الأول فنكمل هذا الشرح بإذن الله تعالى، تفضل يا شيخ بقراءة الحديث الأول من كتاب النكاح.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه، كنا قد ابتدأنا شرح هذا الحديث في لقائنا الماضي ونحن نكمل ما ابتدأناه، تناولنا في الحديث الماضي الكلام على تعريف النكاح في اللغة وفي اصطلاح العلماء ووقفنا على اختلافهم في كون النكاح حقيقة في العقد أم مجازا فيه؟ حقيقة في الوطء أم مجازا فيه؟ وبينا الراجح من ذلك، ثم تناولنا الكلام على حكمة مشروعيته، وذكرنا حكمة المشروعية من سبعة وجوه، ثم بدأنا وشرعنا في شرح هذا الحديث بعد ترجمة عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- وتوقفنا عند الكلام على حكم النكاح، وعرفنا أن الفقهاء اتفقوا على أن من خشي على نفسه العنت وهو الوقوع في الفاحشة فإنه يجب عليه أن يتزوج وكذا من لو غلب على ظنه وكذا من لو تيقن أنه إن لم يتزوج فعل الفاحشة ووقع فيها والعياذ بالله فإنه يجب عليه أن ينكح متى؟ متى كان قادرًا على مؤن الزواج.(1/1)
ثم إنهم اختلفوا في حالة مشهورة مذكورة في كتب الفقه وهي: ما حكم النكاح حال الاعتدال؟ يقصدون بحال الاعتدال حال الإنسان العادي الذي لا يخشى على نفسه عنتًا ولا يخشى على نفسه جورًا إن هو تزوج، أو لا يخشى على نفسه ألا يقوم بحقوق زوجته، وألا يؤدي حق الله تعالى فيها، فهذا ما حكم النكاح بالنسبة له؟ اختلفوا في ذلك على مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن النكاح سنة، أن النكاح على هذا النحو سنة يُندب إليها، وهذا كما قلنا: مذهب الجمهور.
القول الثاني: أن النكاح مباح، وهذا المقدم عند الشافعية وبعض من وافقهم من فقهاء المذاهب.
المذهب الثالث: هو للظاهرية ورواية عن أحمد وبعض من وافقهم من الفقهاء المنفردين في هذه المسألة.
إذا أردنا أن نتناول هذا الخلاف وأن نقف على أسبابه فإننا نقول: إن الذين استدلوا بالاستحباب استدلوا بأدلة كثيرة ظاهرة في دلالتها على مرادهم ومقصودهم، قالوا: قال الله تعالى في كتابه العزيز: ?فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ? [النساء: 3] وقوله تعالى: ?مَا طَابَ لَكُم? يدل على وجود التخيير والاستطابة تنافي الوجوب، فإن الله تعالى خير الإنسان بين أن يأخذ اثنتين أو ثلاث أو أربع نسوة فهذا لا يدل على الوجوب، فيبقى الأمر مصروفًا عن الوجوب إلى الاستحباب، فإذا كان فعل الأمر الوارد في هذه الآية ?فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم? وفعل الأمر الوارد في آية أخرى وهي قول الله تعالى: ?وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ? [النور: 32] يقتضي الوجوب، فإن قوله تعالى: ?مَا طَابَ لَكُم? صارف عنه إلى الندب أو الاستحباب، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث الآتي بعد حديث الباب وهو حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: (وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فجعل ذلك من سنته -صلى الله عليه وسلم- وستأتي معنا مناقشات المخالفين لمذهب الجمهور.(1/2)
إذن الجمهور استندوا إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وإن من سنتنا النكاح) وفي رواية عند ابن ماجه (وإن من سنتي النكاح) فهذه الأحاديث بجملتها والآيات بجملتها تدل على أن الأصل في النكاح أنه مستحب وأنه سنة من سنن الأنبياء والمرسلين كما في حديث آخر أن النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-قال (أربع من سنن المرسلين الحناء والتعطر والسواك والنكاح) والثلاثة الأول باتفاق هي سنن فكذا الرابع وهو النكاح فالجمهور استدلوا بجملة من الأدلة من كتاب الله ومن سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وتأمل قول الله تعالى: ?فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ? [النساء: 3]، يعني عدل عن الزواج إلى التسري، ومعلوم أن الفقهاء لا يوجبون التسري، ولكن يجعلونه مباحًا أو مندوبًا إليه إذا عجز الإنسان عن الزواج، بل بعض الفقهاء لا يراه مباحًا وإنما يراه مكروهًا، إذن هذا البديل الذي يأخذ حكم المبدل ينبغي أن يكون الحكمان سواء فقوله تعالى: ?فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ? يصرف الوجوب إلى الاستحباب والندب. هذا الذي استدل به الجمهور على أن الزواج حال الاعتدال ماذا؟ مستحب أو سنة مؤكدة.
الذين قالوا بأن الزواج حال الاعتدال مباح، ما هي أدلتهم؟ وما هي حجتهم؟ قالوا: قد عبر الله -عزّ وجلّ- عن الزواج بلفظ الحل، والحل من الألفاظ الدالة على الإباحة، قال الله تبارك وتعالى: ?وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ? [النساء: 24] يعني أن تتزوجوا، فعبر عن الزواج بلفظ أو بعبارة الحل، وهذه من الألفاظ الظاهرة الدلالة على الإباحة.(1/3)
وفي قوله تعالى: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ? ثم قال: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ? [المائدة: 5] إذن جعل التزويج مباحًا، كيف عرفنا أنه مباح؟ قالوا: بقوله تعالى: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ? فالمعطوفات كلها هنا على ما هو مباح من جنس الطيبات، فهذا يدل على أن الأصل في النكاح أنه مباح أو أنه حلال، وأيضًا استدلوا بأن هذا الذي نتحدث عنه إنما هو حالة اعتدال، لا يخشى الإنسان على نفسه عنتًا ولا يخشى الإنسان على نفسه ظلما أو جورا فإن خشي على نفسه شيئا من ذلك فإنه يجب عليه، فلما كان الطعام الذي عُبِّرَ عنه بقوله تعالى: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ? لما كان الطعام مباحًا وكان الزواج معطوفًا عليه كان للزواج حكم الطعام، فهو مباح أيضًا، وذكروا أن الله -عزّ وجلّ- امتدح نبيه يحيى -عليه السلام- بأنه سيدًا وحصورًا ونبيًا من الصالحين، قالوا: والحصور من لا يأتي النساء، فهذا يدل على أن التخلي والتفرغ للعبادة عند من اعتدل حاله واعتدل مزاجه راجح، ويجعل التخلي للعبادة ونوافلها أولى من النكاح، إذن صار النكاح مباحًا والتخلي لنوافل العبادات والطاعات مندوبًا فقدم المندوب على المباح.
ثم انتقلوا إلى بعض الأدلة من المعقول، فقالوا: إن النكاح عقد يقصد به منفعة الإنسان كعقد البيع، النكاح عقد من العقود، يقصد به ماذا؟ يقصد به منفعة الإنسان، بماذا؟ بقضاء شهوته ورغبته وقضاء وطره، فإذا كان الإنسان لا يخشى على نفسه شيئا من زنا أو عنت وكان هذا الزواج يقع من الكافر والمسلم يقع من البر والفاجر، فهذا هو شأن المباح، وعليه فإننا نقول: إن الأصل حال اعتدال مزاج الإنسان أن النكاح في حقه مباح.(1/4)
ناقش الجمهور أدلة الشافعية ومن وافقهم فقالوا: أما آية النساء: ?وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ? [النساء: 24] قالوا: هذه الآية تعبير الحل فيها وارد بعد بيان المحرمات من النساء، تأمل الآية التي قبلها ماذا؟ ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ? [النساء: 23] فالآية ذكرت أسماء المحرمات من النساء ثم جاء البيان بعد ذلك لمن يباح الزواج بهن، فهذا التعبير تعبير بالحل ناسب أن يؤتى به بعد ذكر المحرمات وليس فيه بيان لحكم الزواج، وإنما هو بيان لحكم من يجوز الزواج بهن، ?وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ? يعني من هؤلاء النساء غير المحرمات عليكم، فهذا السياق ليس فيه ما يدل على أن الزواج مباح، وإنما فيه ما يدل على من يباح الزواج بهن.(1/5)
وآية المائدة: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ? [المائدة: 5] هذه الآية أيضا تعبير الحل فيها وارد بعد بيان ماذا؟ بعد بيان أنواع الأطعمة المحرمة، ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ? [المائدة: 3] فناسب أيضًا أن يأتي بعد تحريم الميتة والمحرمات من الأطعمة ما تباح طعمته من هذه المباحات من الطيبات، وليس المقصود أيضا بيان أن حكم الزواج حلال أو نحو ذلك مما فهموه، على أن دلالة الاقتران في هذه الآيات دلالة ضعيفة لا تدل على المراد، يعني كون النكاح جاء بين أشياء مباحات لا يدل هذا أنه له نفس الحكم بمطلق العطف، أو بمطلق دلالة الاقتران، ثم إنهم قالوا: إن الله -عزّ وجلّ- امتدح نبيه يحيى -عليه السلام-بماذا؟ بأنه كان سيدًا وحصورًا، والحصور من لا يأتي النساء، نقول: إن كان لا يأتي النساء عن عجز منه فهذا ليس بكمال في البشر، ليس بكمال في يحيى -عليه السلام- والله تعالى لا يمتدح نبيه إلا بكمال، وإنما الممدوح فيه عفته -عليه السلام-، على أنه قيل إنه كان متزوجًا، ولم يكن عزبًا، ولو قدر أنه كان عزبًا فهذا على خلاف سنة الله تعالى في أنبيائه ومرسليه، ما الدليل على أن سنة الله جارية في أنبيائه ومرسليه بالزواج والتزويج؟
قوله تعالى: ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً? [الرعد: 38] والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هو المشرع الذي يشرع لنا عن ربنا تبارك وتعالى، هو الذي قال: (وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) والقاعدة الأصولية التي عليها جماهير الأصوليين: أن شرع من قبلنا لا يكون شرعًا لنا إلا إذا جاء في شرعنا ما يؤكده أو يثبته أو يدل عليه.(1/6)
قولهم بأن الزواج قضاء شهوة ووطر يفعله المؤمن والكافر والبر والفاجر وكذا لا نسلمه، لماذا لا نسلمه؟ لأننا نقول: إن الزواج عبادة، وقربة يتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى ما الدليل؟ الدليل على أن هذا الزواج من أوله يثاب فيه الإنسان، بل قضاء الشهوة التي ذكروا إذا كانت من مسلم فإنه يثاب عليها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وفي بضع أحدكم صدقة) فجعل ذلك مما يقرب العبد من ربه، فكيف إذا نوى إعفاف نفسه وإعفاف أهله وزوجه؟ فكيف إذا نوى الذرية الصالحة التي تعبد الله تعالى وتوحده؟ وكيف إذا قامت على تربيتها والإحسان إليها وأنفق عليها؟ وهذا الإنفاق يثاب عليه الإنسان ما لا يثاب على نفقة التطوع أو النفل المطلق لماذا؟ لأن الله تعالى جعل النفقة على هؤلاء واجبا من واجبات المسلم ونحن نرى أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نهى عن التبتل والاختصاء، ولو كان التفرغ للعبادة ونوافلها أولى لقبل من عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- أن يختصي، أو أن يتبتل أو أن ينقطع لعبادة الله -عزّ وجلّ-، وهذا يشير في النهاية إلى أن ترك أمر الزواج مرجوح، وأن الراجح فعله، وأن الصواب فعله، هل على سبيل الوجوب أم على سبيل الندب؟ هذا ما يبحث في غير هذا الموضع، وقد بينا أن الجمهور ذهبوا إلى أن الزواج مطلوب في حال الاعتدال على سبيل الندب.(1/7)
وبكل حال فإن الرهبانية لا سبيل لها إلى الإسلام ولا قبول لها في الإسلام الرهبانية المبتدعة أخذت عن غير الإسلام وليس في الإسلام ما يقر رهبانية فإن الله تعالى أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة كما في الحديث: (إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة) فلا نقبل إذن هذا القول بإطلاق الإباحة، ويبقى معنا أن نذكر أدلة الموجبين للنكاح حال الاعتدال بل هم يوجبون النكاح مطلقًا، يرون النكاح واجبًا مطلقًا ومن هؤلاء؟ الظاهرية وبعض الحنفية، حيث ذهب بعض الحنفية إلى أن النكاح واجب، والواجب عند الحنفية ما ثبت بدليل ظني وما الدليل الظني عندهم؟ الدليل الظني عند الحنفية ما هو؟ أحاديث الآحاد، ما لم يتواتر فالمتواتر القرآن والسنة المتواترة، أحاديث الآحاد قالوا: هذه تفيد ظنًّا وعليه فهم يفرقون بين الواجب والفرض، فالواجب ما ثبت بدليل ظني، والفرض ما ثبت بدليل قطعي، والقطعي عندهم هو القرآن والسنة المتواترة، فهم يذهبون إلى الوجوب من هذه الجهة، وأما الظاهرية فقالوا: لنا عمومات الكتاب الآمرة بالتزويج، التي جعلت الزواج واجبًا؛ لأنه مأمور به وليس هنا ما يصرف الوجوب إلى غيره.
هذه الأدلة التي استدلوا بها مناقشة، كيف ناقشها الجمهور؟(1/8)
أول دليل ذهب إليه الظاهرية ومن وافقهم قول الله تبارك وتعالى: ?فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ? [النساء: 3]، قالوا: ?فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم? [النساء: 3] هذا مصروف، نحن نقول: هذا مصروف عن الوجوب إلى الاستحباب بما ورد في نفس الآية من تقييد الأمر بالاستطابة والاستطابة لا تتعلق بأمر واجب؛ لأن الواجب حتم لازم، لا اختيار فيه، ولا يجوز لإنسان أن يكون مخيرًا في هذا الأمر الذي أوجبه الله، ثم إن هذه الآية في الحقيقة إنما هي مسوقة لبيان العدد الذي ينتهي إليه الإنسان في أمر التعدد، إذا أراد الإنسان أن يجمع زوجتين أو ثلاثا أو أربعا فإن الآية تبين له الغاية والنهاية في هذا الأمر إلى أربع زوجات، ولا يستدل منها على وجوب نكاح الاثنتين ولا نكاح الثلاث ولا نكاح الأربع بغير خلاف بين الفقهاء إنما هي لبيان العدد الأقصى الذي للإنسان أن ينكحه، وقوله تعالى: ?وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ? [النور: 32] أيضا مصروفة من الوجوب إلى الندب بقوله تعالى: ?مَا طَابَ? [النساء: 3] في الآية الأخرى، وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وإن من سنتنا النكاح) و(أربع من سنن المرسلين).
حديثهم الذي استدلوا به على الوجوب ما هو؟ حديث هذا الباب: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) وهذا الحديث فيه أمر بالتزويج عند القدرة عليه فهذا الأصل فيه أنه يدل على الوجوب، فكيف يجيب الجمهور على هذا الدليل الذي أورده الظاهرية فقالوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج)؟ فليتزوج هذا مضارع اتصلت به لام الأمر (فليتزوج) فهو من الألفاظ الدالة على الوجوب فكيف نصرف الوجوب إلى غيره؟ كيف يتعامل الجمهور مع هذا الحديث؟
بقية الحديث صارفة
بقية الحديث تصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب، كيف ذلك؟
(ومن لم يستطع فعليه بالصوم).
((1/9)
ومن لم يستطع فعليه بالصوم) كيف ذلك؟ كيف يصرف هذا الجزء من الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فليتزوج) عن الوجوب إلى الندب؟ كيف؟ قرب لنا الدليل؟
لو كان صارفا كان ذكره وحده، لو كان يدل على الوجوب فقط لم يذكر بقية الحديث.
ما المانع أن يقال أن هذا البدل واجب كالأول.
الاستطاعة، رد الأمر للاستطاعة، والاستطاعة هنا مردها العبد نفسه.
((1/10)
من استطاع منكم الباءة فليتزوج)الظاهرية يقولون أيضا هذا متعلق بالاستطاعة، من استطاع فقد وجب عليه الزواج، ومن لم يستطع فعليه أن يتسرى، فإن لم يستطع فعليه أن يصوم، نحن نقول: إن عَجُزَ هذا الحديث يصرف أوله عن الوجوب إلى الندب، بماذا؟ بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (فعليه بالصوم) والصوم غير واجب، وهذا يدل على أن هذا كالبدل ليس أيضًا بواجب، يبقى فليتزوج، يبقى الزواج صار البدل عنه هو الصيام، والصيام ليس بواجب فدل هذا على أن الزواج ليس بواجب، ثم إن طائفة من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم -وإن كانت هذه الطائفة قليلة جدا- لم تتزوج، ولم ينكر عليهم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فهذا يدلك على أن الأمر بالزواج والتزويج حال الاعتدال إنما هو أمر على سبيل الندب لا على سبيل الوجوب، ثم إن هنا قاعدة يجب أن نتأملها؛ لأنها نافعة: "العادات والأمور الغرائزية والجبلية لا نجد الشرع يأمر بها أمر إيجاب"، ولا يطلبها طلبًا جازمًا وحتمًا لازمًا، لماذا؟ لأن داعي الفطرة وداعي الغريزة قائم في نفس الإنسان فهذا يغنيه عن داعي الشرع، أنت لا تجد أن الله تبارك وتعالى حين يأمرك بالأكل أو بالشرب أو ما أشبه يأمرك به أمر حتم وإلزام لماذا؟ لأن جبلتك وغريزتك وفطرتك تدعوك إلى هذا وتحملك عليه، حتى لو لم ينزل قول الله تعالى: ?وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا? [الأعراف: 31] فإن الإنسان سيأكل لماذا؟ لأنه يجوع وهذا الجوع أمر لا يقدر على رده إلا بالأكل، فكذا أمر النساء والنكاح هذا أيضا يتطلبه كل إنسان رُكِز في فطرة وغريزة وجبلة كل إنسان بداعي هذه الفطرة والغريزة هو يطلب هذا الأمر، فلا يحتاج إذن إلى أن يُلزم به شرعًا، فنحن نرجح إذن جانب الاستحباب، ومع الجمهور في قولهم: إنه إذا اعتدل مزاج هذا الإنسان فصار لا يخشى ولا يخاف على نفسه عنتًا وصار لا يخاف أيضا على نفسه أو من نفسه ظلمًا أن النكاح في حقه مستحب مسنون، ومع هذا(1/11)
فإن النكاح -كما قال هؤلاء العلماء باستثناء الظاهرية- يدور مع الأحكام التكليفية الخمسة، لكن الأصل فيه الاستحباب، أنه سنة مؤكدة لكن هل يكون واجبًا في بعض الأحوال؟ هل يكون محرمًا في بعض الأحوال؟ هل يكون مكروهًا؟ هل يكون مباحًا؟ نعم، ذهب إلى هذا عامة أصحاب المذاهب الفقهية المتبوعة، فقالوا: إن النكاح يجب، يجب متى؟ متى وقعت حالتان: الحالة الأولى ذكرناها، ومتفقون عليها الذي غلب على ظنه أو تيقن من وقوعه والعياذ بالله تعالى في العنت والفاحشة فهذا يجب عليه الزواج متى كان قادرًا يعني يملك المؤنة والقدرة على تبعاته وتكاليفه فإنه يتزوج وما لا يمكن دفعه من الفاحشة وفعل الحرام إلا به فإنه واجب، وما هي الحالة الثانية؟ الحالة الثانية التي يجب فيها النكاح؟ يقولون: يجب النكاح على من نذره، إذا قلنا: إن النكاح طاعة فإنه قد ينذر، فذهب الشافعية إلى أن النكاح إذا نذره صاحبه فإنه يقبل منه، وهذا نقله ابن الرفعة وإن كان فيه خلاف عند الشهاب الرملي وعند الخطيب الشربيني من الشافعية لكن ما نقله ابن الرفعة اعتماد أن من نذر النكاح فإنه يجب عليه، فإذا كان هذا المنذور مستحبًا فقد صار بالنذر واجبًا، وقال الحنابلة بوجوبه -أي هذا النذر- إذا كان من ذي شهوة، يعني إنسانا عنده توقان ورغبة فنذره فإنه يجب عليه أن يفعله لقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه) هاتان حالتان يجب فيهما الزواج.
ومتى يكون مستحبًا؟ نحن ذكرنا قبل قليل متى يكون مستحبًا حالة اعتدال الإنسان، يندب حال الاعتدال مع توقان النفس والأمن من الوقوع في الفاحشة والأمن من الوقوع في الظلم، وهل المرأة كالرجل في هذا؟ نعم، المرأة كالرجل في هذا وهذا مذهب الجمهور كما قدمنا.(1/12)
متى يكون هذا النكاح محرمًا؟ أو متى يكون مكروهًا؟ يكون مكروهًا عند الحنفية إذا خاف الإنسان أن يجور، خاف غير تيقن عندهم، إذا خاف الجور صار مكروهًا أما إذا تيقنه فإنه يكون حرامًا، والمالكية يقولون: النكاح يكون مكروه لمن لا يشتهيه ويقطعه النكاح +عن عبادة مستحبة، يعني أولى وأرجح من النكاح والشافعية يكرهونه لمن لم يحتج إليه ولم تتق نفسه إليه، أو لعارض عرض له من عجز أو مرض، وكذا الحنابلة، يقولون أيضا بكراهته لمن لا شهوة له، ولا ميل في نفسه إليه لماذا؟ لأنه يقولون: لأن الزواج هنا يكون مانعًا له من عبادة أرجح من جهة ومن تمام تحصنه لزوجته من جهة أخرى؛ لأنه لا يميل طبعا إلى النساء وهذا قد يضرها وقد يفتنها في دينها، وقد يحبسها عن تمام عفتها وكمالها، وقد يكون هذا بسبب اشتغاله، وعدم تفرغه، أو سفره أو كذا.. فلهذا يكرهون له هذا النكاح.
قلنا: إن الحنفية يقولون: إن من قطع بأنه يجور ويظلم الزوجة يحرمون عليه النكاح، والمالكية يعتبرون هذا محرمًا في حق من لا يقدر على الوطء كالعنين مثلاً أو من لا يملك نفقة يمنعونه من الزواج؛ لأن هذا يفضي إلى ظلمها ويفضي إلى الإضرار بها، والشافعية يحرمونه على من كان سفيهًا لا يصح نكاحه ولا يحتاج إليه، ويستطيع أن يجد من يقوم بحاله أو بمؤنة نفسه من غير احتياج إلى الزواج، والحنابلة لهم رأي آخر فيمن يحرم عليه وهو المسلم إذا كان بدار كفر أو بدار حرب من غير أن تقوم به ضرورة إلى النكاح؛ لأنهم يخشون عليه أن يؤسر يخشون عليه من الأسر فيسترق أو تسترق ذريته من بعده.(1/13)
ثم النكاح حكمه الإباحة عند الحنفية إذا كان مجرد قصد الإنسان أن يقضي وطره ولم يخف شيئًا، لم يخف عنتًا ولم يخف ظلمًا وإنما هو لقضاء الوطر فقالوا: قضاء الوطر كالأكل والشرب فهذا مباح، والمالكية قالوا: هو مباح لمن لا يولد له ولا يرغب في النساء، والشافعية قالوا: إذا وجد الأهبة من غير حاجة إلى نكاح ولا زواج ولا به علة فلا يكره له ولا يؤمر به فهو مباح عندهم وقد علمتم مذهب الشافعية في من اعتدل مزاجه أنه يباح له، وعندهم أيضًا أن التخلي لنوافل العبادات أولى من النكاح والحالة هذه.
الحنابلة أخيرًا يقولون: إن النكاح مباح لمن لا شهوة له؛ لأن الشارع لم يمنعه من التزويج والزواج لاسيما إذا كان هذا الإنسان لا علة به ولا خوف يخافه على نفسه ولا على زوجه إن تزوج فعندئذ يكون مباحًا.
خلاصة ما ذكرناه: أن النكاح يدور مع الأحكام التكليفية الخمسة، بهذا نكون قد أتينا على حكم النكاح سواءً حال الاعتدال أو حكم النكاح عند تغيير الأحوال، نعود بعد ذلك إلى الحديث، قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج).(1/14)
علل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أمره الشباب بالزواج والتزويج بقوله: (فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) ما معنى أغض؟ يعني أشد إعانة للإنسان على غض بصره عن المحارم وحفظًا لفرجه عن الوقوع في الفواحش وأروح لقلبه من التعلق بقضاء وطره، فهو يريح القلب ويجم النفس عن أن تقع فيما لا يحبه الله تعالى ويرضاه، لماذا؟ لأن النكاح يكسر الشهوة بقضاء الوطر ويسكن الثورة ثورة النفس، فعندئذ يحصل به من الإعفاف والعفة ما يفضي إلى غض البصر وتحصين الفرج، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ومن لم يستطع) ومن لم يستطع ماذا؟ من لم يستطع الباءة، سواءً كانت الباءة قدرة بدنية أو كانت الباءة قدرة مالية، أو كانت الباءة المجموعة من هاتين المسألتين القدرة المالية والقدرة البدنية، ومن لم يستطع فماذا عليه؟ قال: (فعليه بالصوم) عليه، يقولون علي اسم فعل أمر تقول: عليك بكذا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ? [المائدة: 105] يعني الزَموها أو ألزِموها، يقول: عليك بالصوم أي الزم الصوم فهو اسم فعل أمر أي الزم الصوم فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يصف علاجًا قاطعًا لهذه الرغبة المتأججة عند الرجل وعند المرأة، فهذا إغراء للمخاطب بلزوم الصيام ثم إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بين أثر الصيام في نفس الإنسان فقال: (فإنه له وجاء) ما معنى وجاء؟
الوجاء لغة هو فض الأنثيين وأطلق مجازًا على ...
فضُّ الأنثيين أم رضُّ الأنثيين؟
رض الأنثيين.(1/15)
نحن عندنا الوجاء وعندنا الاختصاء، فما الفرق بين الوجاء والاختصاء؟ ما الفرق بين الوجي والخصي؟ الوجاء: هو رَضُّ عروق الخصيتين، رضها يعني غمزها وطعنها وضربها حتى تتقطع فإذا تقطعت لم تعد هاتين الخصيتين تقدر على إخراج الماء أو صنع الماء الذي يكون سببًا في تأجج الشهوة في بدن الإنسان، فصار الوجاء قاطعًا للشهوة، يكون بماذا بالرض، والرض بمعنى الدق والغمز والضرب، وأما الاختصاء فهو استلال الخصيتين، فضها واستلالها هذا هو الخصاء، فقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) وورد في بعض الروايات وجاء وهو الخصاء وهو مدرج من كلام بعض الرواة وليس من المرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، يبقى الاختصاء سلُّهما والوجاء رضُّهما.
إذن قوله عليه الصلاة والسلام: (فإنه له وجاء) كأن النبي عليه الصلاة والسلام شبه الصيام بماذا؟ بهذا الشيء الذي يطعن في هاتين الخصيتين فيقطع عروقهما فيمنعهما من عملهما، وهذه تسمى استعارة في البلاغة يسمون هذه استعارة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- شبه الصيام بالقاطع والمانع الذي يمنعه، لكنه ليس مانعًا دائمًا، إنما هو مانع مؤقت، إلى حين، ولهذا قال الله تعالى: ?وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ? [النور: 33] بماذا يستعفون؟ يستعفون بالصيام هو الذي يعطيهم هذا العفاف، إذن قوله -عليه الصلاة والسلام-: (فعليه بالصوم فإنه له وجاء) أي قاطع للشهوة.(1/16)
بهذا نكون قد أتينا على المهم من شرح هذا الحديث. وقبل أن نغادر لا بد من كلمة قبل أن ندخل إلى الحديث الآتي في صفات من يستحب الشرع خطبتها، إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- رَغَّبَ الشباب فقال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) فإننا نقول: المرأة التي يُطلب نكاحها ويُرغب في زواجها لها خصائص ولها مواصفات دل عليها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في أحاديث كثيرة، وهذه الأحاديث مبثوثة في كتب الأحكام وفي كتب الآداب، حتى أن بعض الفقهاء نظم هذه الآداب، وجمعها شعرًا فقال:
صفات من يستحب الشرع خطبتها ** جَلَوْتُهَا لأولي الألباب مختصرة
صبية ذات دين زانها أدب ** بكر ودود ولود حكت في نفسها القمر
غريبة لم تكن من أهل خاطبها ** تلك الصفات التي أجلو لمن نظر
هذه الصفات مجموعة في هذه الأبيات هي التي يُرغب الشارع الحكيم كل مسلم في(1/17)
أن يبحث وراءها وأن يتطلبها في من يريد زواجها. "صفات من يستحب الشرع خطبتها ** جلوتها لأولي الألباب مختصرة - صبية" يحثك على نكاح الصغيرة، فهو يحثك على نكاح الصغيرات صغيرات الأعمار وهن غالبًا ما يكن أبكارًا، الأبكار صغيرات الأعمار، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما جاءه صاحبه جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- يسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تزوجك؟ فيقول: نعم، فيقول له: بكرًا أم ثيبا؟ فيقول: بل ثيبًا يا رسول الله، فيقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: هلا بكرًا هلا بكرًا) ثم يبين لماذا يحضه ويحثه على البكر، يقول: (تلاعبها وتلاعبك) فهذا فيه أمره -عليه الصلاة والسلام- بزواج البكر الصغيرة لماذا؟ لأنها أعذب فاهًا وأنتق رحمًا، الأبكار صغيرات الأعمار أكثر طواعية للأزواج لم يألفن الرجال ولم يعرفن الرجال، ومع هذا فإن الثيب لها في الإسلام حظها، بل ما تزوج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلا ثيبا باستثناء عائشة -رضي الله تعالى عنها وأرضاها- بمكان أبيها الصديق -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهي بكر صغيرة، بنت ست وبنى عليها وهي بنت تسع -رضي الله تعالى عنها وأرضاها- ولذلك كانت كثيرًا ما تعرض بحالها، وتنوه بشرفها، وتذكر مثالها بين زوجات رسول الله فتقول -رضي الله عنها-: أرأيت لو أنك يعني تخاطب رسول الله: كنت مسافرًا ثم جئت إلى دوحة شجرة جلس فيها وتحتها وانتفع بمائها وهوائها غيرك، وأخرى لم ينتفع بها أحد، ففي أيتهما كنت تقيل وتنيخ بعيرك؟ شجرة أولى جلس فيها أو تحت ظلها إنسان فأكل وشرب ونام وانتفع بهوائها ومائها وظلها وأخرى ما تزال بكرًا لم ينتفع أحد بها، ففي أيتهما كنت تقيل؟ أي تنام نومة القيلولة وتنيخ بعيرك؟ فيقول: (بل في التي لم يُقل فيها ويبتسم -صلى الله عليه وآله وسلم-) أنه يعرف مقصودها -رضي الله تعالى عنها وأرضاها-.(1/18)
ثم أيضًا يقول: "صبية ذات دين" فهو يبين لك ويحثك على زواج ذات الدين، والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر لِم تنكح المرأة؟ وبأي شيء يختار الرجال النساء، فقال: (تنكح المرأة لأربع) فذكر المال وذكر الجمال وذكر الحسب ثم جاء بالدين أخيرًا وقال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) يأمرك -صلى الله عليه وسلم- بنكاح ذات الدين فإن نكاح ذات الدين هو الخير، هو البركة، هو الفضل، هو الفوز لماذا؟ لأن الدنيا متاع فانٍ والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة)، من هي هذه الصالحة؟ (التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك) هذه هي الصالحة التي يُرغب في نكاحها ويُحرص على الزواج منها، وأما الذي يتزوج لمال فيوشك المال أن ينفد والذي يتزوج لجمال فإنه يوشك الجمال أن يزول، ولو لم يزل لربما كان الجمال وبالاً عليك في زواجها، لماذا؟ لأنه قل أن تَسْلم الجميلة بارعة الجمال لك، وقل أن تُسَلِّم لك، وقل ألا تُعنتك بطلبات ومصاريف وأشياء لرعاية هذا الجمال، فأنت ستكون مُعَنّى بين طلبات هذه التي تريد أن تحافظ على هذا الجمال وألا يمتهن، ومما يُحكى في كتب الأدب يقولون: إن امرأة جميلة تزوجت من رجل دميم، فنظرت يومًا في المرآة فقالت: أبْشِر فقال لها زوجها: وما ذاك؟ قالت: كلانا في الجنة، عجب الرجل ما السبب قالت: أعطيت مثلي فشكرت، وأعطيت مثلك فصبرت، والشاكر والصابر كلاهما في الجنة، هذا فيه تعريض بالرجل، فهذه لم تَسْلَم ولم تُسَلِم لزوجها، فهذا مما حَذَّر به الفقهاء منه، فقالوا: إن هذه الجميلة تتيه بجمالها وتفخر، أما ذات الدين إن كانت ذات مال أو حسب أو نسب فإنها يحوطها دينها ويمنعها دينها ويحفظها دينها من أن تأتي ما لا تُحمد عاقبته ولا تُرضى مغبته.(1/19)
"صبية ذات دين زانه أدب" فمع الدين يأتي الأدب، ويأتي المنبِت الصالح وتأتي التربية والتنشِئة التي يحبها الله تعالى ويرضاها رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، هذه المأدبة التي ترعى حق زوجها، وترعى حق أولادها "ذات دين زانه أدب بكر" وقد ذكرنا البكر "بكر ودود ولود" الودود الولود النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بزواجها، كما في حديث معقل بن يسار بسند صحيح عند أبي داود والنسائي وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم) وفي بعض الروايات: (مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يأمرك بهذا لتكثر أو ليكثر نسلك، وما من أحد إلا يحب ألا ينمحي في الوجود اسمه، وأن يبقى في الزمان وفي الدنيا رسمه، واسمك ورسمك إنما يحمله ولدك وولد وولدك من بعدك، فإنما أنت أثر لمن كان سبقك من آباء وأجداد وكل إنسان يرضى هذا ويبحث عنه، وعليه فنكاح الودود الولود، والولود تعرف بحال عائلتها، من أخوات وخالات وعمات ونحو ذلك، تعرف المرأة بكثرة ولادتها لذلك، وقد مر معنا حديث عمر -رضي الله عنه- أنه يتزوج المرأة وما به إلى الزواج رغبة ويطؤها وما به إلى الوطء شهوة رغبة في الولد، الودود الولود.(1/20)
"بكر ودود ولود حكت في نفسها القمر، غريبة لم تكن من أهل خاطبها" يعني الاغتراب في الزواج من شأنه أن يوثق الصلات وأن يربط بين العائلات وأن يجمع القلوب لأننا قلنا: إن المصاهرة أخت النسب، فهذا مما تجتمع به العائلات وتأتلف به القلوب، وقد ورد بعض الحديث في فضل الاغتراب أو في الأمر به، لكنها أحاديث لا تصح، فيبقى هذا أدبا من الآداب وليس سنة من السنن، وقد زوج نبينا -صلى الله عليه وسلم- ابنته وبَضعته فاطمة -رضي الله عنها- من ابن عمها علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عن الجميع وأرضى الله -عزّ وجلّ- الجميع وتقبل الله منا ومنكم وشكر الله تعالى لكم وبهذا نكتفي لنشرع في لقائنا الآتي في الحديث الثاني من أحاديث باب النكاح بمشيئة الله تعالى وننتقل إلى الإجابة على أسئلتكم وأسئلة الحلقة الماضية.
سؤال الحلقة الماضية: كان السؤال: بَيِّن حقيقة النكاح عند الفقهاء وما هي ثمرة هذا الخلاف؟
وكانت الإجابة: اختلف الفقهاء في حقيقة النكاح على ثلاثة مذاهب:
الأول: وهو قول الأحناف وبعض الشافعية وبعض الحنابلة، وقالوا: إن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد.
الثاني: وهو المقدم عند الحنابلة والشافعية، قالوا: حقيقة في العقد مجاز في الوطء.(1/21)
الثالث: وهو قول بعض الأحناف وبعض الشافعية، وهو حقيقة في القدر المشترك، وهذا هو الراجح، وقد رجحه ابن حجر غيره وذلك لأن الشرع جاء في استعمال كلمة النكاح تارة بمعنى العقد مثل قول الله تعالى: ?فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ? [النساء: 25]، وتارة بمعنى الوطء مثل قول الله تعالى: ?حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ? [البقرة: 230] ولا يجوز التفريق بينهما إلا بقرينة، وثمرة هذا الخلاف أن هذا الخلاف خلاف معنوي به يمكن الاستدلال والتعرف على الراجح في بعض المسائل مثل: إذا زنى أحدهم بامرأة فإن الأحناف يرون أن الزواج من فروع هذه المرأة، أو من أصولها محرم وكذلك محرم على والد الرجل بعكس الجمهور يرون حل ذلك ومثل من حلف ألا ينكح فإنه عند الأحناف يحنث إذا وطء أما إذا عقد فإنه لم يحنث، أما عند الجمهور فإنه يحنث بمجرد العقد. انتهت الإجابة.
لا بأس.. إجابة صحيحة.
الأخ الكريم يسأل عن ما الفرق بين ذوي الأرحام وبين الأصول؟.(1/22)
الأصل في التركة أن يُعطى أصحاب الفروض، وذكرنا من هم أصحاب الفروض، ثم قلنا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر) فذكر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- صنفين من الورثة: الصنف الأول: هم أصحاب الفرائض، وقد بينا من هم، هم أصحاب الأنصباء المقدرة في كتاب الله، ثم إن بقي شيء من التركة لم يستوعبه أصحاب الفروض، فإنه يعود إلى أولى رجل ذكر، وبينا العصبات وذكرنا العصبة السببية، وذكرنا العصبة النسبية، وذكرنا التعصيب بالولاء وبالعتق، ثم إن الفقهاء قالوا: أو اختلفوا حول إذا بقي شيء أو لم يكن هنا من العصبيات السببية أو الولائية أحد إلى أين يصير المال؟ بعض الفقهاء قال: يصير المال إلى بيت المال، ومنهم من قال: بل يصير إلى ذوي الأرحام، ذوي الأرحام من هم؟ هم من يدلون إلى الميت بأم، يدلون إلى الميت بأم فلا يرثون من هذه الجهة، وليسوا من أصحاب الفروض وليسوا من العصبة السببية أو النسبية، فهؤلاء كفء ومن الفقهاء كما قلت من ذهب إلى أنه تعود التركة إليه والعلماء في هذا منهم من يجعل هذا إلى القاضي فهو يقضي في هذه المسألة بما يراه، مثل ماذا ذوي الأرحام؟ مثل خال مثلاً، هل للخال شيء؟ ليس للخال شيء، فلا هو من أصحاب الفروض ولا هو من أصحاب العصبات، لكن إذا بقي مال هل يذهب المال إلى هذه الرحم أم يذهب إلى بيت المال رجح شيخ الإسلام وغيره أنه يعود إلى هؤلاء ولا يرجع إلى بيت المال؛ لأنها أدنى صلة، وبعضهم جعل صلات أخرى غير أهل الأرحام يرثون مثلاً الملتقط لو أن إنسانًا التقط لقيطًا ثم إن هذا اللقيط مات ولا وارث له، لا يعرف له وارث فهل يعود له أي للملتقط شيء؟ رجح شيخ الإسلام أيضا وبعض الفقهاء أن له ذلك على خلاف في تصحيح الحديث الوارد بما يطول ذكره ولا نستطيع أن نستوعبه الآن.
أسئلة الحلقة.
السؤال الأول: اذكر خلاف الفقهاء في حكم النكاح عند الاعتدال؟ مرجحًا ما تختار؟(1/23)
وجزاكم الله تعالى خيرًا(1/24)
الحديث - المستوى السادس
الدرس الحادي عشر - تابع باب النكاح
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
تابع باب النكاح
بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته، وما زلنا مع كتاب النكاح ومع الحديث الثاني من هذا الكتاب من حيث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: ( (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن نفرا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوا أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عمله في السرِّ؛ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فبلغ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني)).
هذا الحديث العظيم الذي يرويه أنس -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- يكشف عن حقيقة هذا الدين وعن طبيعته. فهذا الدين دين يوافق الفطرة ولا يصادمها. دين يعتبر بالغرائز البشرية ولا ينفيها. دين يحفظ على الإنسان قوته، ويُصرِّفُ هذه القوة في مرضاة الله -عزّ وجلّ-.(1/1)
نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا الحديث أتى إلى بعض أبياته طائفةٌ من أصحابه نفرٌ من أصحابه يسألون عن عبادته عن عمله في السر؛ أي عن عبادته التي تكون في بيته. فلما أُخبروا بهذه العبادة وما يكون منه -صلى الله عليه وسلم- في بيته؛ فكأنهم تَقَالُّوا هذا العمل من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم إنهم عادوا فاستدركوا، فقالوا وأيُّنا كرسول الله -صلى الله عليه وآله ومن والاه- هو قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وعليه؛ فإن اجتهادنا ينبغي أن يفوق اجتهاده -صلى الله عليه وآله وسلم- فجعل كل واحد منهم يفرض على نفسه فرضا يتقرب به إلى الله -عزّ وجلّ-. إما أنه يتقرب بهذا لذاته وبذاته، أو يتقرب به لأجل أن يتفرغ للعبادة والطاعة فأحدهم قال: لا أتزوج النساء، والآخر قال لا آكل اللحم أو لعله قال: -كما في رواية أخرى-: (أصوم فلا أفطر)، والثالث جعل على نفسه أن يصلي فلا يرقد.
فهذه الأمور الثلاثة حاول كل واحد منهم أن يتقرب بها إلى الله -عزّ وجلّ- ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلغه ذلك وعلم به؛ فما كان منه إلا أن قام يخطب في هذا الأمر المهم يحمد الله، ويثني عليه، ثم يقول: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا)، ثم يُبيّن أنه أعلمهم بالله تعالى وأنه -صلى الله عليه وسلم- أشدّهم له خشية، وأكثرهم به معرفة، وأشدهم له تقوى. لكنه -عليه الصلاة والسلام- يأتي بالأكمل فيصلي ويرقد، ويصوم ويفطر، ويتزوج النساء، ثم ينبه إلى قاعدة كُلية في هذه الشريعة؛ (فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فمن رغب عن هدي وسنتي إعراضا، أو استكبارا، أو استقلالا، أو ما أشبه ذلك؛ فليس مني.
وهذه كلمة عظيمة كما تحمل معنى الوعيد والزجر والتهديد تحمل معنًى يبلغ بالإنسان إلى الخروج من الملة إذا كان ذلك استكبارا عن قبول هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أو تحقيرا له، أو ابتعادا عنه من غير تأويل سائغ، لهذا قال (فمن رغب عن سنتي فليس مني) هذه كلمة شديدة.(1/2)
هذا هو المعنى الإجمالي لهذا الحديث. فإذا أردنا أن نتحدث عن تفصيل ما ورد فيه فهذا الحديث مبدوء بقول أنس -رضي الله تعالى عنه وأرضاه - أن نفرا، والنفر اسم جمع لا واحد له من لفظه. وهو من الثلاثة إلى التسعة، ويشبه ذلك الرهط، والرهط من الثلاثة إلى العشرة. فهؤلاء نفر من نفر جاؤوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- جاؤوا إلى بيوته، فسألوا أزواج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
هؤلاء قيل إنهم ثلاثة بل عُدت أشخاصهم، وعرفت أعيانهم في بعض الحديث فهؤلاء الثلاثة من المعروفين بعبادة وزهادة وعلم في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يأتي علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-، يأتي عبد الله بن عمرو بن العاص، يأتي أبو ذر -رضي الله عنه- ليسأل هؤلاء عن عبادة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في بعض الروايات اختلاف في عدّ هؤلاء. فقيل: هم عليّ، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو ذر، وفي رواية استبدل أبو ذر بعثمان من مظعون -رضي الله تعالى عنهم جميعا-.
هؤلاء جاؤوا ليسألوا أزواج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عن عمله في السرّ؛ أي عمّا يكون في بيته من عبادته ما يكون في بيته من عبادته. وهذا القدر من الحديث يدل على جواز السؤال عما خفي من أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مما له تعلق بما يُقْتَدى به فيه. فالصحابة المذكورون -رضي الله تعالى عنهم جميعا- جاؤوا ليتعرفوا على أحواله السرية كما عرفوا وتبينوا أحواله الجهرية ليقتدوا به -صلى الله عليه وآله وسلم- في سرٍّ وفي إعلان. فكما بانت له عبادته العلنيَّة الجهريَّة هم يبحثون –أيضا- عن عبادته الخفية أو السرية ليَكْمُلَ اقتداؤهم، وليَتِمَّ تأسِّيهم برسولهم -صلى الله عليه وآله وسلم-.(1/3)
إذن نستفيد من هذا أن آثار المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- السرية تُقْتَفى كما تُقتفى آثاره الجهرية أو العلنية، ونستفيد أيضا المتأملُ في هذا الحديث جوازَ الإخبار عن ذلك فإن أزواج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أخبروا هؤلاء النفر بما يعلمْن من حاله وخبره -صلى الله عليه وآله وسلم-. إذن يجوز هذا السؤال، ويجوز ذلك الإخبار ونستفيد –أيضا- أنه يُطلب العلمُ من النساء، وأن يطلب العلم من العبيد، وأن يطلب العلم من كل من كان عنده علمٌ.
على هذا درج الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ودرج السلف الصالح -رضوان الله عن الجميع- بل برَّز في العلم موالٍ كان الأحرار والسادة يأخذون عنهم ومنهم، وهذا كان كثيرًا فاشيا في زمن التابعين -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-.
نبينا -صلى الله عليه وسلم- كانت له عبادة سرية فيما بينه وبين ربه في بيته اطُّلِع عليها أو اطلع على بعضها، فنقلت. وهذا الذي نقل إلى هؤلاء الصحابة ليس بالضرورة كل حاله -صلى الله عليه وآله وسلم-. لكن حكت كل زوجة من الزوجات أو كل امرأة سئلت من الزوجات عمّا تعرف من حال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-. ولعله خفي على بعضِهن بعضُ حاله أيضا لكنّ الصحابةَ المذكورين لمَّا علموا بذلك؛ كأنهم تقالّوا هذه العبادة، فجاء منهم ما سيأتي في هذا الحديث.
إذن هذا الحديث وهذه القطعة منه تدلّك على حب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لنبيهم أولا، وحبهم للاقتداء به ثانيا، ومسارعة الجميع في مرضاة الله -تبارك وتعالى- باقتفاء آثار المصطفى ثالثا، وبشديد رغبتهم في الآخرة وبحرصهم على ذلك حرصا عظيما حتى وقعت منهم هذه الأسئلة.
قوله في هذا الحديث: قال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم.. كذا كذا كذا.(1/4)
هذا إنما جاء بعد أن وُصفت لهم هذه العبادة فوقع منهم هذا الاستقلال لها يعني تقالوها كما ورد هذا في الصحيح، فأراد كل واحد من هؤلاء أن يتفرغ للطاعة والعبادة، وأن يتجرد لهذا العمل بترك أمر من الأمور، أو بترك جانب من الجوانب الذي قد يشغله عن طاعة الله أو عن عبادة الله -سبحانه وتعالى-.
فجاء قول أحدهم: (أما أنا؛ فأصوم فلا أفطر، والثاني: أقوم؛ فلا أنام، والثالث يقول: لا أتزوج النساء).
في الرواية التي معنا قال الأول: (لا أتزوج النساء)، والثاني: (لا يأكل اللحم).. وهكذا.
هذه عبارات -على كل حال- متقاربة في مقصودها، وفي معناه وفي مدلولها. ولا شك أنهم أرادوا الخير. لكن ليس كل مريد للخير يصل إليه، وكم من مريد أخطأه هذا الخير. فلم يحصل له. هم أرادوا التعبد والتقرب إلى الله إلى الغاية، وإلى أن يستوفوا ويستولوا على النهاية. لكن هذا لم يتأتى بما ذكروا وبما أرادوا. وهذا يفيدك أنه يجوز للإنسان أن يخبر بما هو عليه من الاجتهاد في طاعةٍ أو عبادة ليعرف حكمها.
ليعرف هل هو على صواب؟
هل هو على سنة المتابعة؟
هل هو على قَدَمِ المتابعة أم أن عنده شيئا من الخلل، أو شيئا من الدَّخَل أو شيئا يحتاج إلى تصحيح أو تصويب؟
لماذا ساق الإمام عبد الغني -رحمه الله تعالى- هذا الحديث في هذا الباب؟
لأنه -كما تعلمون- وردت مناقشة. هذه المناقشة تتعلق بـ: هل التفرغ لنوافل العبادات أولى أم الاشتغال بالنكاح أولى؟
فكأنه -رحمه الله تعالى- أتى بهذا الحديث ليرد على قول من قال بأن التفرغ لنوافل العبادات أولى من الاشتغال بالنكاح، فساق هذا الحديث هذا المساق ليدلل على ما ذهب إليه الجمهور، وانتهى إليه السلف من تقديم النكاح على نوافل العبادات المطلقة.(1/5)
وهذه المسألة -على كل حال- قام العلماء ببحثها وانتهى الرأي فيها إلى قولين؛ قول هو للجمهور، وهو الذي عليه جماهير الصحابة والسلف -رضوان الله تعالى عليهم- من أن القيام بالنكاح وبمصالحه وبمؤنه وبما يترتب عليه أولى من التفرغ للعبادة أو لنوافل العبادات. وهذا القول هو قول الجماهير سلفًا وخلفًا.
إلا أن الشافعية خالفوا في هذه المسألة فقالوا: إن المتعبد المتخلي للقيام بالنوافل أولى مِمَّن كان النكاح في حقّه مستحبا، وجعلوا أيضا الاشتغال بالعلم من هذا السبيل فقالوا الاشتغال بالعلم –أيضا- يقدم على النكاح لِمَا يترتب على النكاح من انشغال قد يُؤَخِّر الإنسان عن طاعة، أو يذهب به عن الاشتغال بالعلم كما ينبغي.
إذا أردنا أن نناقش أقوال العلماء في هذا وأن نذكر أدلتهم فنحن طبعا مر معنا أدلةُ من قال بوجوب النكاح. فالقائلون بوجوب النكاح لا يرد عليهم هذا البحث لأن الظاهرية ومن وافقهم قالوا بأن النكاح واجب ولا مفاضلة بين واجب ومستحب. فالمسألة عند الظاهرية ومن وافقهم وقال بقولهم ينتهي إلى أن النكاح مقدم على نوافل العبادات مطلقًا. أما الجمهور وهم الذين قالوا باستحبابه فإنما رجحوه أيضا على نوافل العبادات. لماذا؟
لأن الله -عزّ وجلّ- ذكر في كتابه أن الأسوة والقدوة في نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- خاصة، وفي رسل الله عامة، فنبينا -عليه الصلاة والسلام- القدوة كما قال -جل وعلا-: ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ? [الأحزاب: 21]، وقال عن أنبياء الله ومرسليه: ? فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ? [الأنعام: 90]، والله –تعالى- ذكر: ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ? [الرعد: 38].(1/6)
فهذا دلك على أن الحالة الأكمل التي كان عليها رسل الله، وهم صفوة الخلق وهم أحب الخلق وهم أرضى الخلق وهم أعبد الخلق عند الله -عزّ وجلّ- كان حالهم الإقبالَ على الزواج، وحال نبينا -صلى الله عليه وسلم- خاصة كان الاستكثار من الزواج ثم إن نبينا -عليه الصلاة والسلام- لما بلغته مقالة هؤلاء الذين أرادوا التخلي والتفرغ للعبادة؛ قال: (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني)، وهذه كلمة تحمل معنى الزجر، وتحمل معنى الوعيد على ترك التزويج بسبب هذه الحجة، أو بسبب هذه العلة. حتى إن بعض العلماء أخذ من هذه الكلمة أن أمر الزواج قد اقترب جدًّا من الإيجاب؛ لأنه قال: (فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني)، ثم السنة الفعلية هذه سنة قولية قوله: (وأتزوج النساء فمن رغب مني فليس مني)، هذه سنة قولية، والسنة الفعلية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- واظب على الزواج ولم يتركه حتى في آخر عمره -عليه الصلاة والسلام- وهذا طبعا يعني ما لم تقم في حق رسول الله خصوصية فإنه يكون له ولمن يتأتى له الائتساء والاقتداء به من بعده من أمته. والحديث الذي سيأتي معنا في هذا الباب ساقه المصنف -أيضا- لغاية هي نفس هذا الغرض وهو حديث عثمان بن مظعون؛ أن النبي -عليه الصلاة والسلام- رد عليه التَّبَتُّل والتبتل هو الانقطاع عن النكاح وعن مصالحه والتفرغ لعبادة الله -عزّ وجلّ- ردَّ عليه التبتل؛ أي نهاه عنه نهاه عنه نهيا شديدا. فذلك كله يعني أن النكاح مُقدّم على نوافل العبادات.
فإذا قلنا إن النكاح من أسباب حفظ النفس عن الفاحشة، ومن أسباب التفرّغ للعبادة؛ ذلك أن الإنسان تؤرقه هذه الشهوة التي تتأجج بين جنبيْه لاسيما إذا كان شابا. فإن هذا مما يؤثر على عبادته أو يشوش عليه فكره، أو يأخذه ذات اليمين وذات الشمال. فإذا قضى من هذه الشهوة حاجته؛ فقد تفرغ رغبه عن الشواغل وهذا من شأنه أن يقبل به الإنسانُ على عبادة الله -عزّ وجلّ-.(1/7)
إذن هذا ما استدل به الجمهور، وأما ما استدل به الشافعية؛ فقد ذكرنا طرفا منه فيما مضى من ذلك قول الله –تعالى-: ? وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ? [أل عمران: 39]، والكلام في حق نبي الله زكريا، وقالوا إنه كان غير ذي زوج وقالوا إن الله –تعالى- امتدحه بذلك، وذكروا أيضا قول الله –تعالى-: ? زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ ? [آل عمران: 14].
وقالوا إن هذه الآية المذكورة في سياق الذنب بهذه الشهوات، ثم قالوا إن النكاح يشبه عقد البيع من أنه عقد معاوضة لأن الرجل يعاوض المرأة بما يدفعه إليها في لقاء هذا الاستمتاع الذي يكون بينهما فهو يشبه عقد البيع من هذه الجهة، أو عقد المعاملة من هذه الجهة. كل ذلك استدلوا به ليرجحوا أن التخلي للعبادات المحضة، أو لطلب العلم المحض مُقدّمٌ على النكاح.
والحق أن ما ذهب إليه الشافعية مرجوح؛ ذلك أن قول الله –تعالى-: ? زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ?[آل عمران 14]. هذا لم يخرج مخرج الذم، ولكن خرج مخرج بيانِ ما عليه النفس البشرية مما ركّبه الله -عزّ وجلّ- فيها. ثم إن المسلم إذا نوى بالزواج أن يعف نفسه، وأن يعف زوجه؛ كان له في ذلك من الخير والأجر، كما قال نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم-: (وفي بضع أحدكم صدقة).
فالنكاح بهذه الطريقة يتحول إلى عبادة بذاته النكاح يتحول إلى عبادة، وأما القول بأنه عقد معاوضة؛ فإن هذا لا يصح ولا يسلم من كل وجه والفرق بين البيع والشراء وبين النكاح فارقٌ عظيم والمصالح المترتبة على النكاح أعظم من المصالح المترتبة على البيع من غير شك. ولهذا فإن الصحيح أن النكاح أولى من التفرغ للعبادة هذا عند من؟(1/8)
عند من كان معتدلا لا يخاف على نفسه الزنا، وأيضا تَتُوق نفسه إلى الزواج. أما من عُدمت شهوته، أو انقطعت حاجته؛ فهذا قال بعض الفقهاء بأنه لا حرج في تركه النكاحَ، وأنه يصير في حقه مباحًا، ولو انشغل بغيره؛ لكان ذلك أولى. الحديث أو الحوار حول من كان معتدلا، أو الشخص العادي الطبيعي على كل حال الراجح تقديم النكاح على نوافل العبادات وقد اتفقت كلمة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا؛ فهذا ابن مسعود الذي روى لنا الحديث السابق -رضي الله تعالى عنه- يقول: "لو لم يبقَ من أجلي إلا عشرة أعلم أني أموت في آخرها؛ لتزوجت" يعني في هذه الأيام العشرة مخافة الفتنة هكذا يفهم ابن مسعود قضية الزواج والتزويج ابن عباس يأمر بهذا ويقول: "لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج" يعني لا تتم عبادة العابد وتكمل حتى يتزوج.
إذن هذه القضية قضية يجب أو ينبغي أن تكون يعني واضحة ظاهرة أن الإمام جاء بهذا الحديث ليرد على دعوى من قال بأن التخلي لنوافل العبادات أولى من الزواج والتزويج فجاء بهذا الحديث ليرد على قول هؤلاء القائلين.(1/9)
عدنا إلى سياق الحديث وفيه أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بلغه ذلك؛ أي بلغته مقالة هؤلاء القوم الذين ذكروا ما اعتادوه من أعمال وما أرادوه من أفعال، فانتدب النبي -عليه الصلاة والسلام- يخطب وهذا يدلك على استحباب الخطبة في الأمور المهمة لما حزبه أمر وأهمّه أمر؛ قام -صلى الله عليه وآله وسلم- خطيبا وفيها استحباب حمد الله –تعالى- والثناء عليه قبل الشروع في المقصود من هذه الخطبة. فالنبي -عليه الصلاة والسلام- حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (ما بال أقوام؟!) وهذا فيه تعريض بقول القائلين من غير ذكر لأشخاصهم، وهي طريقة نبوية ربانية في معالجة خطإ المخطئ فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان كثيرًا ما يُعْرض عن ذكر الناسب أسمائهم وأشخاصهم، وكان يُحَبِّذُ ما وسعه ذلك أن يقول: (ما بال أقوام؟!) لاسيما إذا كان المخطئ قد أخطأ عن حسن قصد وإذا كان المخطئ من أهل العلم أو الفضل فهذا مما يجب أن يُستر خطؤه، وألا يذكر وأن لا ينشر. لكنه لما خشي -صلى الله عليه وسلم- من أن تخرج هذه القالة من هؤلاء الثلاثة إلى غيرهم، فيُحْدَثُ في ذلك أو يحدث بسبب ذلك في دين الله –تعالى- حدثٌ لا يقبله النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يرضاه وهو على خلاف مقصوده ومحبوبه -صلى الله عليه وسلم- من تكفير سواد هذه الأمة المرحومة؛ قام -عليه الصلاة والسلام- خطيبا قام مذكرا قام معلما قام مُنَبِّها ومصححا لهذا الخطإ.
فقال في الحديث: (أما إني أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية) يعني ينبه –عليه الصلاة والسلام- أن ما أردتم من التقرب إلى الله وما أحببتم من حسن التعبد ليس كما أردتم، أو ليس كما ظننتم، وإنما أكثر لأجوركم وأحسن لثوابكم أن تفعلوا كما أفعل وكيف يفعل -صلى الله عليه وسلم-؟(1/10)
يصوم ويفطر، يقوم وينام، يتزوج النساء -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولا يصده ذلك عن أن يكون أعبد الخلق لله -عزّ وجلّ- ولا يمنعه ذلك من أن يكون أثوب الخلق وأكثر الخلق ثوابا وأجرا عند الله -تبارك وتعالى-.
هذا يدل على أن المشروع هو الاقتصاد في الطاعات، وأن يكلف الإنسان من العبادات ما يستطيع والنبي -عليه الصلاة والسلام- يعلم هذا يعلم كما علم -عليه الصلاة والسلام- كما علم الاجتهاد في العبادة بحاله وقاله، وكما علم المسارعة والمسابقة إليها بقوله وفعله يعلم أيضا الاقتصاد فيه، ويعلم المداومة عليها. نبينا -صلى الله عليه وسلم- هو الذي قام حتى ورمت قدماه الشريفتان -صلى الله عليه وآله وسلم-، ثم إنه داوم على القيام حتى قيل إن القيام كان في حقه واجبًا حتى بعد أن رُفع الوجوب في أول الأمر قيل إن الوجوب إنما رفع في حق أصحابه وبقي الوجوب في حقه -صلى الله عليه وآله وسلم- فبقي -عليه الصلاة والسلام- هذا حاله وذاك دأبه لا يترك قيام الليل في حضر ولا سفر -عليه الصلاة والسلام- لا يترك نصيبه من الليل، فكان -عليه الصلاة والسلام- لا تشاء تراه من الليل مصليا إلا رأيته ولا تشاء أن تراه نائما إلا رأيته لا تشاء تراه صائما إلا رايته ولا تشاء تراه مفطرا إلا رأيته. فكان -عليه الصلاة والسلام- يكلف من العمل ما يطيق وكان -عليه الصلاة والسلام- عمله ديمة لا ينقطع وهكذا كان يعلم أصحابه كان يعلم أصحابه وقصة سلمان مع أبي الدرداء -رضي الله عنهما- قصة معروفة مشهورة وقد نبه فيها سلمان أبا الدرداء أن يؤتي وأن يعطي كل ذي حق حقه وأقره رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- على هذا الفهم. فنبينا كما أمر بالاجتهاد والمسابقة والمسارعة أمر بالاقتصاد أيضا مع الديمومة والثبات يبلغ الإنسان أقصى الدرجات.
مَنْ لِي بِمِثْل سَيرِك المُدَلَّلِ تَمْشِي الهُوَيْنَى وتجي فِي الأَوَّلِ(1/11)
فأصحاب نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- سبقوا غيرهم بما وقر في قلوبهم وبما كان في أفعالهم وأقوالهم من الثبات والديمومة على الخير.
نبينا -عليه الصلاة والسلام- يأمر دائما بالتبشير لا بالتنفير وبالتيسير لا بالتعسير كما في الصحيح: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، وكان ينهى عن السير الحقحقة؛ السير الذي يتعب الإنسان يندفع بقوة ثم يتراجع يندفع بقوة ثم يتراجع. إذن ليس هذا من عمل المقتصدين الذين يقتصدون في العمل لكنهم يُداومون أو يدومون عليه. إذن هذه قضية يجب أن تفهم من هذا الحديث الذي سيق لبيان أن النكاح بفضائله فوق النوافل المطلقة بل هو بذاته من النوافل بل هو بذاته من العبادات التي يُتقرب بها إلى رب الأرض والسموات. وأنت مأمور بالسداد والمقاربة والاستعانة بالغدوة والروحة وبشيء من الدلجة. وهو -عليه الصلاة والسلام- يقول: (والقصد القصد تبلغوا) يعني الزموا القصد في أعمالكم وأقوالكم وأفعالكم تبلغوا المنزل الذي تريدون من مرضاة الله -عزّ وجلّ- وطاعته ورحمته.
إذن نبينا قال: (ما بال أقوام قالوا كذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء)، ولم يجد نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- حرجا أن يقول: (حبب إلى من دنياكم ثلاث) ويجعل إليه مما حبب إليه: الطيب والنساء الطيب والنساء. فنبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- تزوج واستكثر من الزواج ولهذا قال ابن عباس -رضي الله عنه- لبعض التابعين = سعيد بن جبير: "إن خير هذه الأمة أكثرها نساء".
ماذا يعني ابن عباس؟(1/12)
يعني أن خير هذه الأمة هو نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد تزوج وبالغ في التزويج والتزوج -عليه الصلاة والسلام- فيكون هذا إخبارا منه عن أن خير هذه الأمة أكثرها نساء، أو يكون المعنى إن من أسباب الخيرية أن تَكْثُر نساؤك؛ أي أن تزداد من الزواج، أو أن تكثر من الزواج. هذا إذا كنت في بقية الأمور حالك مقارب، لكن أن تكثر من الزواج وبقية الأمور حالك فيها على غير وجه السداد؛ هذا لا يجعلك من أهل الخيرية. لكن إن كنت في بقية الأبواب مسددا ومقاربا؛ فإن كثرة الزواج هذا مما يرضي الله -عزّ وجلّ- ويقربك منه.
ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ختم هذا الحديث بعبارة قوية تحذيرية تمثل قاعدة كلية من قواعد هذه الشريعة المطهرة، وهي قوله -عليه الصلاة والسلام-: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)، رغب عن الشيء؛ أي تركه، وأعرض عنه، وابتعد عنه. من رغب عن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- كراهة لها أو بغضة لها فإن هذا -والعياذ بالله- يكون خارج ملة الإسلام.
إذا كرهت سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بالجملة وهديه وطريقته؛ فهذا والعياذ بالله –تعالى- ينقلك عن الإسلام إلى غيره. لكن المقصود في هذا الحديث التحذير والتوعد الشديد. فهذا لا يعني أن من ترك شيئا من هذه المباحات أنه يكون بذلك قد خرج من الملة هذا إذا يعني إن كانت رغبته فيها، أو أنه قد خرج عن هذه السنة بضرب من ضروب التأويل الذي اعتقد معه أنه يسعه أن يفعل كذا أو أن كذا مناسب لحاله.(1/13)
قول بعضهم: لا أتزوج، أو قول بعضهم: لا أكل اللحم، أو قول بعضهم: كذا. هذا إذا لم تكن هناك شُبْهة لأنه إذا وجدت شبهة –مثلاً- في اللحم فتورع عنه؛ فإن هذا لا يكون مذموما، بل هذا يكون جاريا على سَنَن الشريعة. أو وقعت له شبهة في امرأة؛ فكف عن نكاحها خشية أن تكون أختا له من الرضاع مثلاً، أو أن يكون هنا سبب يدعو إلى تحريمها يعني كفّ عن زواج بعض النساء، أو كف عن أكل بعض الطعام، أو كف عن فعل كذا أو كذا هذا لا يكون فيه إعراض عن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا رغبة عنها. وبهذا نكون قد أتينا على معنى هذا الحديث بشيء من التفصيل ولننتقل بعد ذلك إلى الحديث الثالث من أحاديث كتاب النكاح.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: ((عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: رد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عثمان بن مظعون التبتلَ، ولو أذن له؛ لاختصين))
هذا الحديث هو الحديث الثالث في هذا الباب = حديث سعد بن أبي وقاص، وقد مرت ترجمته، وسبقت فلا نعيد بذكرها. وفيه: (أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رد على عثمان بن مظعون -رضي الله تعالى عنه- التبتل ولو أذن له لاختصين) هكذا قال سعد -رضي الله عن الجميع-.
أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة أخرى أحرص الناس على طاعة الله وأحرص الناس على الاقتداء بنبيهم -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأخوف الناس من الله ولا شك أن الشهوة التي تكون مركبة في الخلق يأتي من ورائها إما شغل بال، أو وقوع في مخالفة. فبعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بعض كبارهم وفضلائهم أرقه هذا الأمر، فجاء يستأذن رسول الله في أن يختصي في أن يسل خصيتيه أن يسل بيضتيه.
لماذا؟(1/14)
لأنهما مصدر هذه الشهوة التي تؤرقه، أو التي تزعجه أو التي تدنيه من المخالفة وهو من أشد الناس حرصا على ألا تقع منه مخالفة لله -عزّ وجلّ-، أو معصية لأمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-. فهو يريد أن يكون في عبادته هادئا مطمئنا ثابتا مستقرا لا تؤرقه هذه الشهوة، ولا تشغل باله فلذا جاء يستأذن في هذا الأمر في الانقطاع للعبادة وترك النكاح وترك هذا الأمر، أو جاء يستأذن في الاختصاء الفعليّ إزالة هذه الأمور التي تقلقه أو تزعجه. فبين له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن هذا ليس من سنته، وأن هذا ليس من طريقته، وأنه لا يقبل منه أن يختصي وأنه يرد عليه هذا الطلب ولا يجيبه إليه، ولو كانت به حاجة ماسّة؛ فإما أن يتزوج، وإما أن يصوم ولا ثالث لهذا. إما أن يتزوج فيقضي من الزواج حاجته، أو يصوم إن لم تكن به قدرة: ? وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ ? [النور: 33].
طيب في هذا الحديث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يرد على عثمان بن مظعون التبتّل. ردَّه يعني نهاه عن التبتل.
وما هو التبتل؟
التبتل معناه: الانقطاع. معناه الانقطاع، والمقصود به هنا: الانقطاع عن النكاح الانقطاع عن التزويج، ومنه قيل مريم البتول -عليها السلام-؛ لأنها لم تكن ذات زوج -عليها السلام-. إذن مريم سميت كذلك؛ لأنها لم تكن متزوجة، وكانت منقطعة لعبادة الله -عزّ وجلّ-.
وبعض العلماء كالطبري يقول: التبتل هو ترك لذّات الدنيا وشهواتها والانقطاع إلى الله –تعالى- بالتفرغ لعبادته. هذا معنى التبتل. التبتل: انقطاعٌ عن اللذات والشهوات والتفرغ لطاعة رب الأرض والسموات. والبخاري -رحمه الله تعالى- ترجم لهذا الحديث بقوله: "بابُ ما يُكره من التبتل"؛ إذن التبتل منهيٌّ عنه، التبتل غير مُرَغَّب فيه، التبتل وقعت الترجمة له في الكراهة.(1/15)
وفي هذا الحديث الرد ولو تأملنا في سبب هذا الحديث لو جدنا أن عثمان بن مظعون -رضي الله تعالى عنه- جاء يسأل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك والنبي يرده بعبارات كثيرة متعددة؛ فإنه قال: (فإن الله –تعالى- قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة)، وأمره بأن يصوم، وأمره بأن يصوم. وإذا تأملنا في هذه القضية فإنه قد يشوش عليها أمر يجب أن نقف عنده، وأن نتأمل فيه؛ وهي أن التبتل كما جاء النهي عنه وقع الأمر به، كما جاء النهي عنه -في هذا الحديث- والرد له وقع الأمر به.
أين وقع الأمر بالتبتل؟ من يعرف؟
في سورة المزمل: ?وتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا?.
?وتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا?، إذن الله -عزّ وجلّ- أمر نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- بأن يتبتل إليه تبتيلا؛ فكيف نجمع بين النهي عن التبتل والأمر به؟ كيف يتأتى لنا الجمع بين ما ثبت في كتاب الله -عزّ وجلّ- من قوله تعالى ?وتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيل? وبين رد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على عثمان بن مظعون التبتل؟
التبتل المأمور به هو التبتل على طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أما المنهي عنه؛ فهو الزيادة، أو الأعراض عما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو عما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-
جيد يعني معنى هذا أن هناك تبتلا مشروعا وتبتلا ممنوعا.
فما هو التبتل المشروع؟
التبتل المشروع هو ما كان فيه من التعبد والتزهد على طريقة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على طريقة (أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء). هذه هي الطريقة المحمدية المصطفوية التي كان عليها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وبها وصف متبتلا فإنه قام بالتبتل على الوجه الأتم الأكمل -عليه الصلاة والسلام-.(1/16)
إذن التبتل منه مشروع وهو ما كان عليه النبي -عليه الصلاة والسلام-. هذا الذي أمر به ذلك الذي لا يمنع مصالح النكاح ولا يضيع نسل المسلمين، ولا يضعف شوكتهم ولا يجعلهم عن هذه الحياة منحازين و عن مصالحها معرضين. بل فيها مشاركين وبها مشتغلين وإلى الله -تبارك وتعالى- داعين، وفي سبيله عاملين.
وليس المقصود بالتبتل أن ينعزل الإنسان في مسجد وأن ينقطع عن الناس وأن يخرج من دنياهم أو أن يعتزلهم إلى الصحاري والبراري والقفار. ليس هذا من التبتل المشروع، وإنما هو من التبتل الممنوع. والتبتل الممنوع أشياؤه وأموره كثيرة؛ فمنها طلب عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- الاختصاء إما أن يكون الطلب على ظاهره، وإما أن يكون الطلب يقصد به الانقطاع عن الزواج والعكوف على الطاعة والعبادة المحضة، أو شرائع التعبد والتنسك فحسب.
إذن هذا هو التبتل الممنوع الذي نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأنس -رضي الله عنه- يقول: (كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يأمر بالباء أو يأمر بالباءة)، وذكرنا اللغات في الباء والباءة وفي رواية: (وينهى عن التبتل نهيا شديدا)، يعني النبي -عليه الصلاة والسلام- حريص على ألا نسلكَ مسالك الأمم التي سبقتنا والله -تبارك وتعالى- من قبل حذرنا مسالك الأمم السابقة؛ فقال: ? وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ? [الحديد: 27]؛ ما فرضها الله -عزّ وجلّ- على هؤلاء، ولكن أرادوا أن يتقربوا إلى الله بشيء ظنوه مقربا إليه فخرجوا به عن حد الاعتدال إلى حد الغلو والتنطع والتشدد؛ فصار هذا وبالا عليهم وعلى ديانتهم وعلى عبادتهم.(1/17)
عثمان بن مظعون -رضي الله تعالى عنه- (جاء إلى رسول الله فقال: إني رجل يشق علي العزوبة فائذن لي في الاختصاء، فقال: لا ولكن عليك بالصيام)، وفي لفظ (يا رسول الله! أتأذن لي في الاختصاء؟)، وفي لفظ قال له نبينا -صلى الله عليه وسلم- (يا عثمان!! إن الله لم يبعثني بالرهبانية)، قال ذلك مرتين أو قال ذلك ثلاث مرات -عليه الصلاة والسلام-(وإن أحب الدين الحنيفية السمحة)، أو كما قال -صلى الله عليه وآله وسلم-. هذا العابد الزاهد عثمان بن مظعون الجمحي القرشي أحد السابقين الأولين إلى الإسلام أحد الذين هاجروا الهجرتين أحد البدريّين -رضي الله تعالى عنه- يطلب ذلك من رسول الله؛ مزيدا في التقرب والنبي -عليه الصلاة والسلام- ينهاه عن ذلك أشد النهي. وعثمان بن مظعون يعني بما أنه ورد ذكره في هذا الحديث ينبغي أن نقف على بعض فضائله. قد ذكرنا أنه -رضي الله تعالى عنه- من البدريين السابقين الأولين كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يحبه ويدنيه ويقربه، وكان -رضي الله تعالى عنه- قد أصيب في بدر أو جرح في بدر يعني جرحا، ثم إنه عاد فانتقض عليه فكانت وفاته منه، ولذلك قيل إنه مات بعد عودته من بدر وقيل بعدها بأشهر تقل أو تكثر. ولما مات -رضي الله تعالى عنه- جعلت امرأته يعني تثني عليه الخير وتقول هنيئا لك يا أبا السائب!! هينئا لك الجنة عثمان بن مظعون!! فقال لها النبي -عليه الصلاة والسلام-: (وما يدريكِ؟! إني -وأنا رسول الله- لا أدري ما يُفْعل بي) فسكتت المرأة، ووجمت النساء؛ لأنهن خشين على عثمان -رضي الله تعالى عنه- مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رجا له الخير. لكن لما ماتت ابنته زينب -رضي الله تعالى عنها- وأراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يدفنها؛ قال -عليه الصلاة والسلام- نعم السلف لنا هو عثمان بن مظعون عند ذلك بكين عليه -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.(1/18)
نبينا -صلى الله عليه وسلم- لما رآه وهو ميت قبَّل بين عينيه وقال: (اذهب أبا السائب؛ فقد خرجت منها ولم تتلبس منها بشيء)؛ يعني خرجت من الدنيا لم تأخذ من ثمرتها شيئا ولم تأخذ من أجرك شيئا فأجرك عند الله -عزّ وجلّ- كامل موفور بإذن الله –تعالى-. يقول سعد في هذا الحديث "ولو أذن له؛ لاختصينا" إما أنهم سينقطعون مثل عثمان للعبادة، أو أنهم سيختصون بالفعل. والاختصاء كما قلنا سل البيضيتين من الأنثيين بخلاف ماذا؟
بخلاف الوجاء أو الوجي فإن الوجاء: رض عروق الأنثيين. وبما أنّ هاتين البيضتين هما مصنع ذلك الماء الذي يكون منه الإنسان وهو المني فإن قطعهما أو سلهما أو رضَّ عروقهما هذا مما يقطع الشهوة لكنه مُثْلَة وتشويه للخلقة وقضاء على النسل. وهذا مما اتفق العلماء جميعا على حرمته، بل لو اعتدى إنسان على آخر فسل أنثييه، أو وجأها، أو قطعها؛ كان في ذلك دية كاملة؛ لأنه يكون قد اعتدى على نسل هذا الإنسان فقطعه. إذن إجماع العلماء على حرمة الاختصاء في الإنسان.
وهل يجوز فعل ذلك بالحيوان؟
قالوا: يجوز فعل ذلك بمأكول اللحم من الحيوان إذا كان صغيرا رغبة في وفرة لحمة وكثرته،إذن يجوز فعل ذلك بالحيوان الصغير الذي يرجى من وراء ذلك كثرة لحمه ووفرته. ولا شك أن الحكمة في النهي عن الاختصاء هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يحبه ويرضاه أن يكثر من ورائه أتباعُه على هذا الدين أتباعه على هذه الملة. وقد وردت أحاديث كثيرة صحيحة بمجموع طرقها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يباهي بأمته الأمم يوم القيامة، وأن ذلك مما يحبه ويسر به أن يكثر أتباعه على الحق وعلى هذا الدين الذي جاء به.(1/19)
إذن الخلاصة من هذا أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نهى عن التبتل وما ذاك إلا لإرادته أن يكثر نسل المسلمين الذين يقيمون الحق وبه يعدلون والذين يجاهدون الكفار، ويأخذون على أيديهم ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويعبدون الله -عزّ وجلّ- ويوحدونه، ويقدسونه، ويمجدونه.
بهذا نكون قد أتينا على المهم من هذه المعاني الطيبة في حديثيْ سعد بن أبي وقاص وفي حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عن الجميع-. بقى أن أقول إن قول الشافعية في قوله تعالى: ?سَيِّدًا وَحَصُورًا?؛ يحيى -عليه السلام- وليس في زكريا -عليهما جميعا صلوات الله تعالى وسلامه-.
بالنسبة لأسئلة الحلقة الماضية كان السؤال الأول:
اذكر خلاف الفقهاء في حكم الزواج عند الاعتداء. وكانت الإجابة: حال الاعتدال
وهذه إجابة من؟
هذه إجابة الأخت عبير من اليمن
يعني نريد أن ننوع في قراءة الإجابات.
كل حلقة أختار إجابة واحدة
لا بأس.
تقول حال الاعتدال: وهو من لا يخشى على نفسه العنت، وهو ألا يؤدي حق الله –تعالى- فيها.
اختلف العلماء فيمن كان حاله ذلك على ثلاثة أقوال؛ الأول: أنه سنة يُندب إليه، وهو قول الجمهور واستدلوا بقوله تعالى: ? فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ ? [النساء: 3]، فقالوا ما طاب لكم يدل على التخيير، وهو ينافي الوجوب ويصرفه إلى الاستحباب. والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال -كما جاء عند ابن ماجه-: (وإن من سنتنا النكاح)، وهو من سنن المرسلين. وفي الحديث: (أربع من سنن المرسلين..) ذكر منها النكاح والثلاث والحناء والسواك والتعطر والثلاث باتفاق هي سنن وكذا الرابعة كما أنه في قوله تعالى: ? فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ? [النساء: 3] فيه: نزول من النكاح إلى التسرِّي عند عدم القدرة عليه، والعلماء متفقون على عدم وجوب التسري؛ فلا يُعدل عن واجب إلا ما هو دونه.(1/20)
ثانيا: أنه مباح وهذا القول هو المقدم عند الشافعية ومن وافقهم واستدلوا بأن الله –تعالى- عبر عنه بلفظ الحل وهو لفظ من ألفاظ الإباحة قال تعالى:? وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ? [النساء: 24]، وفي قوله تعالى: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ? [المائدة: 5]، وقال إن الله –تعالى- امتدح نبيه يحيى بأنه حصور، والحصور هو الذي لا يأتي النساء؛ فهذا يدل على أن التفرغ للعبادة أولى من النكاح، ثم صاروا إلى الأدلة العقلية؛ فقالوا إن النكاح عقد من العقود يقصد به منفعة الإنسان بقضاء شهوته ووطره، وهو أمر يشترك فيه البر والفاجر فإذا لم يخش على نفسه العنت؛ فهذا شأن المندوب.
ورد الجمهور هذه الأدلة فقالوا: إن تعبير الحل في آية النساء إنما ورد بعد بيان المحرمات من النساء، فناسب ذكر الحل بعد التحريم، فهو هنا ليس ببيان حكم الزواج، وإنما هو لبيان من تحل منها الزواج. وأما آية المائدة؛ فكذا الحل فيها جاء بعد بيان ما حرم من الأطعمة فناسب ذكر الحل فيها. كما أن قولهم إن الحصور هو الذي لا يأتي النساء فإن كان هذا لعجز؛ فهو حينئذ لا يُعد مدحا، وليس بكمال عند البشر والله لا يمتدح أنبياءه إلا بكمال كما أن المدح فيه لعفته. وقيل إنه متزوج وليس بعزب، ولو قدر أنه كان عزبا؛ فهذا خلاف سنة الله في عباده ومرسليه قال الله تعالى: ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً? [الرعد: 38]. كما هو معلوم عند الأصوليين؛ أن شرع من قبلنا لا يكون شرعًا لنا إلا إذا جاء في شرعنا ما يؤكده ويثبته.(1/21)
ثالثا: أنه واجب وهو قول الظاهرية وبعض الأحناف وهو رواية للإمام أحمد واستدلوا بالوجوب في الآيات نحو قول الله: ? فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ ? الآية. فقالوا الأمر يدل على الوجوب كما استدلوا بلفظ الأمر في حديث: (يا معشر الشباب.. فليتزوج)؛ رد عليهم الجمهور فقالوا إن الوجوب مصروف بقوله –تعالى- ?ما طاب لكم?، والاستطابة لا تأتي مع الوجوب لأنه.. والقول الذي يظهر هو صحة ما ذهب إليه الجمهور لقوة أدلتهم ورجحان ما دونها والله أعلم.
على كلٍّ هذه إجابة صحيحة ووافية.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟
السؤال الأول:
ما معنى قوله -صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث: (فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني)؟
والسؤال الثاني:
ما وجه الجمع بين النهي عن التبتل في هذا الحديث والأمر به في قول الله تعالى: ?تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا?؟
رجائي إلى الإخوة والأخوات الذين يكتبون الإجابة أن يتأملوا قليلا في الأخطاء الإملائية، أو يتأملوا كثيرًا؛ لأنها متعبة في قراءته(1/22)
الحديث - المستوى السادس
الدرس الثاني عشر - المحرمات من النساء في النكاح
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
المحرمات من النساء في النكاح
بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اتبع هداه، الإخوة والأخوات في هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته، ومازلنا مع أحاديث كتاب النكاح ومع باب المحرمات في النكاح ومع الحديث الرابع في هذا الباب. تفضل يا شيخ.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن أم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله عنهما- أنها قالت: (يا رسول الله!! انكح أختي ابنة أبي سفيان، فقال: أو تحبين ذلك؟ فقلت: نعم، لست لك بِمُخْيلة، وأَحبُّ من شاركني في خير أختي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن ذلك لا يَحِلُّ لي، قالت: فإنا نُحَدَّثُ أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: بنت أم سلمة؟ قلت: نعم، فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري؛ ما حلت لي. إنها لابنة أخي من الرضاعة؛ أرضعتني وأبا سلمة ثُوّيْبَةُ، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن)، ومسلم: قال عروة: وثويبة مولاةٌ لأبي لهب، كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما مات أبو لهب؛ رآه بعض أهله بشر حِيْبَة، قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرًا غير أني سقيت من هذه بعتاقتي ثويبة).(1/1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه، هذا الحديث حديث جامع في بيان المحرمات من النساء، وله قصة واضحة ظاهرة، وقبل أن نخوض في شرح هذا الحديث والتعريف برواته وقصته وأسبابه وما تضمنه من المعاني أحتاج إلى أن نقف وقفة مع هذا الباب = باب المحرمات في النكاح، اتفق الفقهاء -رحمهم الله تعالى- على أن المحرمات في النكاح على ضربين = على قسمين؛ القسم الأول: مُحرّمات على التأبيد، والقسم الثاني: محرمات على التأقيت. والمحرمات على التأبيد هن أولئك النساء اللائي لا يحل لرجل أن يتزوج بهن أبدًا، وأما اللائي على التأقيت؛ فهن أولئك النسوة التي حال دون الزواج منهن مانع، ما دام هذا المانع موجود؛ فلا يحل الزواج بهن، فإذا زال هذا المانع؛ جاز الزواج بهن. وسوف ندلف إلى الكلام إلى على تفاصيل المحرمات تأبيدًا وتأقيتًا ليجتمع لنا شمل هذا الباب، ولنحيط علمًا بهذه الأصناف جميعًا.
إذا أردنا أن نتحدث عن المحرمات على التأبيد؛ أي اللائي لا يحل لرجل أن يتزوج منهن أو بهن أبدًا؛ فهن أربعة أصناف:
الصنف الأول: المحرمات بسبب القرابة، والثاني: المحرمات بسبب المصاهرة، والصنف الثالث: المحرمات بسبب الرضاعة، والصنف الرابع: المحرمات بسبب اللعان.
وقد ورد في كتاب الله –تعالى- وفي سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بيان هؤلاء المحرمات تأبيدًا وتأقيتًا، ومن المناسب المفيد أن نقرأ هذه الآيات التي وردت في بيان المحرمات لاسيما الآيات المتتابعات من سورة النساء، فإذا سمحت يا شيخ تقرأ لنا هذه الآيات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
?(1/2)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا? [النساء: 23]. هذه آياتٌ بيناتٌ ظاهراتٌ في دلالتها على بيان المحرمات تأبيدًا. وإذا أردنا أن نقف على هذه الآيات، وما تتضمنه من بيان المحرمات فإننا نقول: إن المحرمات بسبب القرابة على التفصيل سبعة، وعلى الإجمال أربعة، فنحاول أن نعد هذه الأصناف السبعة:
الصنف الأول: الأصول وإن علوْن، ما معنى كلمة الأصول هنا؟
الأمهات، معنى كلمة الأصول الأمهات، وإن علون، ما معنى علون؟
يعني الجدات وأمهات الجدَّات، وجدات الجدات.. إلى آخره، هذا معنى الأصول وإن علون. ما الدليل على حرمة الأمهات والجدات؟ أو ما الدليل على حرمة الأصول وإن علون؟
قول الله تعالى: ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ?؛ فهذا نص في الموضوع.
والصنف الثاني: البنات وإن نزلن، وقد نعبر عن البنات فنقول: الفروع وإن نزلن، يعني أصول الإنسان هم آباؤه وأمهاته، وفروعه هم: أبناؤه وبناته، فإذا كنا نتحدث عن النساء فالأصول من النساء هن الأمهات، والفروع من النساء هن البنات، إذن البنات وإن نزلن. وما الدليل على حرمة نكاح البنات؟
قول الله تعالى: ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ?.(1/3)
الصنف الثالث: الأخوات، والأخوات فروع الأبوين، الأخوات هن فروع الأبويْن، والأخوات: قد يكن لأبٍ، وقد يكن لأمّ؛ فلا فرق، الأخوات سواءً كن لأبوين أو كن لأب أو كن لأم، كل هؤلاء محرماتٌ تحريمًا أبديًّا، لا يجوز لأحد أن ينكح أخته، وإن نزلن.
طيب بنات الإخوة، وبنات الأخوات هؤلاء –أيضًا- محرمات أيضًا بنص هذه الآية التي معنا كما قال الله تعالى: ?وَأَخَوَاتُكُمْ?، وقال أيضًا: ?وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ? فبنات الأخ وإن نزلن، وبنات الأخت وإن نزلن كلّ هؤلاء محرمات تحريمًا أبديًّا بنص هذه الآية. ?وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ? العمات والخالات، والعمات والخالات هن فروع الأجداد، جدّك إذا كان له فرع غير أبيك، ماذا يكون؟
يكون عمًّا، أليس كذلك؟
إذن، العمات الخالات بنات الإخوة الأخوات البنات الأمهات هؤلاء هن السبعة الأصناف. فإذا أردنا أن نقسم هذه الأصناف السبعة إلى أربعة على سبيل الإجمال؛ فإننا نقول الأمهات وإن نزلن نقول: البنات وإن نزلن، نقول: الأخوات مطلقًا مع بنات الإخوة وبنات الأخوات، ثم نقول: العمات والخالات.
إذن هذه هي الأصناف الأربعة التي يُرَدُّ إليها أمر المحرمات تأبيدًا بسبب القرابة. المحرمات تأبيدًا بسبب القرابة أربعة أصناف على سبيل الإجمال منصوص عليهن في كتاب الله –تعالى-.
إذن عمة الإنسان محرمة عليه، طيب عمة أبيه هل تحل له أم لا تحل؟
لا تحل، وخالته محرمة عليه، وخالة أمه وخالة أبيه كل ذلك محرم عليه، إذن العمة والخالة من جهة الأب ومن جهة الأم، فعمة الأب محرمة، وخالة الأب أيضًا محرمة، وعمة الأم محرمة وخالة الأم أيضًا محرمة. إذن العمات والخالات مطلقًا كما قلنا الأخوات مطلقًا وبنات الأخ وبنات الأخت مطلقًا سواءً كن شقيقات أو غير شقيقات، هذا هو الصنف الأول أو القسم الأول من المحرمات تحريمًا أبديًّا وهن اللائي حُرِّمْنَ بسبب القرابة، وذكرنا أصنافهن الأربعة.(1/4)
الصنف الثاني: المحرمات بسبب المصاهرة؛ أي بسبب الزواج، وما ترتب عليه من آثار، وهن أيضًا أربع نسوة؛ أي أربعة أصناف: أصول الزوجة وإن علون، فروع الزوجة وإن نزلن، زوجة الفروع وزوجة الأصول، هذه أربعة أصناف سبب تحريمهن هو المصاهرة والزواج.
نوضح هذا؛ فنقول: أصول الزوجة؛ أي أمهات الزوجات، والله –تعالى- قال في الآية: ?وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ?، وإن علون، يعني يحرم عليك أن تتزوج بأم زوجتك وبأم أمها، يعني يحرم عليك نكاح أمها وجدتها وهكذا. هذا بنص كتاب الله -عز وجل-: ?وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ?. وهذا من جهة الأب ومن جهة الأم.
فلو قلنا: هل التحريم قاصر على أُمِّ الزوجة أَمْ يتعدى أيضًا من جهة الأب؟
فلو كان هذا الأب = أبو هذه الزوجة له أُمّ؛ فهل يجوز نكاح هذه الأم = أُمّ أبي الزوجة؟
لا، إذن من الجهتين؛ من جهة الأم والأب. لا يجوز لك أن تنكح أم زوجتك ولا أم أبي زوجتك.
بنات الزوجة وبنات أولادها أيضًا من المحرمات تحريمًا أبديًّا، بنت زوجتك وبنت بنتها، أو بنت ابنها.
كيف هذا؟
رجل تزوج بامرأة كانت متزوجة من غيره، وكان لها من غيره أولاد، فبنى بهذه المرأة فكان من هؤلاء الأولاد بنات؛ فهل له أن يجمع بين هذه المرأة وأمها؟
لا.
هل له إذا طلق أمها أن يتزوج ببنتها بعد فراق أمها؟
لا.
ما الدليل؟
?وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم?.
?وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم?.
ما معنى الربيبة؟
الربيبة هي بنت الزوجة التي رُبِّيَتْ في بيت زوج أمها، هذه تسمى ربيبة، وقد يسمى ربيب، ربيب للرجل أو للذكر، وربيبة للمرأة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كما سيأتي معنا في هذا الحديث كانت له ربيبة من زوجه أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- وكان هناك حديث نَمَى إلى علم بعض الزوجات أنه سيتزوج من ربيبته، فبين أن ذلك محرم من جهتين؛ من جهة كونها ربيبة، ومن جهة الرضاع.(1/5)
إذن الجهة الأولى من جهات التحريم في المصاهرة هي جهة أصول الزوج، والجهة الثانية: جهة الفروع، ?وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم? فيه شرط ذُكِرَ هنا وهو كونها في حجر زوج أمها. والثاني: أن تكون أمها قد دُخِلَ بها، أن تكون أمها مدخولاً بها.
إذا تخلف شرط من الشرطين؛ هل يتحقق التحريم أم لا؟
ما رأيكم؟
تخلف شرط من الشرطين؛ كأن كانت البنت ليست في حجر هذا الزوج، أو كانت الأم غير مدخول بها؛ فنقول: في الحالة الأولى إذا كانت الربيبة في غير حجر الزوج؛ فإنها محرمة أيضًا.
ما بال هذا الاشتراط؟
نقول: إن هذا الشرط إنما خرج مخرج الغالب، وإلا؛ فكل بنت لزوجتك محرمة عليك، سواءً ربيت هذه البنت في حجرك أو كانت خارج بيتك. فهذه المرأة بمجرد أن تبني بأمها؛ صارت محرمة عليك تحريمًا أبديّا، وهذا من حكمة الإسلام.
إذن الشرط المعتبر هنا ليس كونها في حجره أو لا، وإنما الشرط أن تكون أمها مدخولاً بها. والقاعدة التي يقررها الفقهاء في هذا: أن الدخول بالأمهات يحرم البنات. بخلاف ما يتعلق بالبنت مع أمها. فلو أن إنسانًا عقد على امرأة؛ لم يجز له أن يتزوج بأمها بحال. إذن القاعدة هنا: إن العقد على البنات يحرم الأمهات.
لماذا؟
لأن الأم قد تسمح وتصفح وتقبل نفسها أن يعقد عليها ثم يصير زوجها إلى ابنتها، أما البنت؛ فلا ويترتب على ذلك تقطيع الأرحام.
ولهذا كان مجرد العقد على البنت يحرم الأم، أما في حال الأم؛ فإن الدخول بها هو المحرم لا غير.
إذن القسم الثاني بنات الزوجات وبنات أولادهن. فلو قُدِّر أنّ لهذه الزوجة بنتا، وأن البنت تزوجت فجاءت ببنت؛ فهل يحل لزوج جدتها أن يتزوج منها؟
لا يحل.
لو كان لها ابن ثم إن هذا الابن تزوج فجاء ببنت؛ هل كان ذلك يباح له الزواج من هذه البنت؟
أيضًا لا.(1/6)
إذن لا فرق بين كونها بنتَ ابن أو بنتَ بنتٍ. وقد بينا الآية في هذا ?وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ?.
الصنف الثالث: زوجات الأب وإن علون. زوجة الأب هذه الزوجة جدتك أم لا؟ زوجة الأب وإن علون، وإن علون، يعني وإن علت هؤلاء الزوجات، فالأب إذا كان له أب وتزوج والأب إذا تزوج، هل هذه المتزوج منها تُعدّ أمًا؟
لا تعد.
لماذا؟
لأن الأب قد يتزوج زوجة اثنتين وثلاثا، والجد كذلك. فزوجة الأب وزوجة الجد محرمة تحريمًا مؤبدًا. إذن ليست الحرمة قاصرة على الجدة؛ لأن الجدة أم. وإنما حرمت من باب القرابة، أما هذه فتحرم من باب المصاهرة، من باب التزويج. فزوجة الأب وإن علا فهذه محرمة. وقد نعبر عن ذلك فنقول: زوجات الأصول.
وما هو الدليل في هذه الحالة؟
قول الله –تعالى-: ?وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً? [النساء: 22].
وتأمل في النهي عن الزنا جاء النهي ?وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً? [الإسراء: 32] وجعل نكاح زوجات الآباء ?فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً?، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- برجل أعرس بزوجة أبيه؛ فقتل؛ أي بعد علمه بحرمة نكاح زوجة الأب. فهذا من أغلظ المحرمات ومن أقبح الموبقات.
والصنف الرابع: زوجات الفروع وإن نزلوا، فيحرم عليك نكاح زوجة ابنك، ويحرم عليك نكاح زوجة ابن ابنك، وهكذا يحرم نكاح زوجة ابن الابن وإن نزل. وهذا الدليل عليه قول الله تعالى الدليل على حرمة نكاح زوجة الابن ?وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ?. إذن لا يجوز بحال أن يتزوج الرجل من زوجة ابنه وإن نزل.
سؤال: زوجة الابن بالتبني هل تحل أم تحرم؟
تحل.
تحل لماذا؟(1/7)
لقول الله –تعالى-: ?فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا? [الأحزاب: 37].
لأنك ينبغي أن تقول: لأن التبني باطل أولاً، فتقول: لا يصح أن تسأل هذا السؤال؛ لأنه قد جاء الإسلام فأبطل التبني بعد أن كان في صدر الإسلام مباحًا حتى تبنى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- زيدًا، فدُعِيَ زيد بن محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، فلما أمر الله تبارك وتعالى نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- بالزواج من زينب؛ كان هذا إيذانًا بإبطال التبني إلى يقوم القيامة.
إذن لا يجوز التبني والوعيد شديد فيمن انتسب إلى غير آبائه، فعندئذ نقول: التبني لا أصل له في الإسلام بل هو باطل وهدر، ولذا نقول: إن زوجة من كانت أو من كان ابنًا لإنسان بالتبني يجوز نكاحها من متبنيه؛ لأنها أجنبية عنه ليس بينه وبينها نسب ولا مصاهرة ولا رضاع.
ما رأيكم في زوجة الربيب؟ كان في حجري غلام ربيته فلما كبر وبلغ مبلغ الرجال تزوج، ثم إنه طلق زوجته، فهل يجوز لي أن أتزوج من زوجة ربيبي؟
يجوز.
يجوز.. مع كونه ربيبا؟
نعم لا إشكال ولا خلاف بين العلماء في جواز نكاح زوجة الربيب.
هل فروع الزوجة من غيري. كانت لي زوجة ومتزوجة قبلي وأنجبت، فهذه الفروع فروع زوجتي الفرع من غيره، هل تحرم أم لا؟ فروع زوجة الفرع من غيري؟ يعني ابني هذا فرعي تزوج بامرأة، وهذه المرأة كانت متزوجة من قبل ولها أولاد من زوجها الأول؛ فهل يحل لي أن أتزوج من فروعها التي جاءت بها عن غير طريق فرعي أم لا؟ ما رأيكم؟ يجوز لا إشكال.
لماذا؟
لأنه لا توجد هنا صلة قرابة ولا مصاهرة ولا شيء. هذه المرأة لها أولاد من غير ابني، وعليه؛ فإنه لا حرج في ذلك.(1/8)
ننتقل إلى الصنف الثالث وهو المحرمات بسبب الرضاع. نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وأخبر أن الرضاع يحرم ما تحرم الولادة، وهذا في الصحيح المتفق عليه. وعليه؛ فقد صارت الرضاعة بمثابة القرين والصِّنْو للمصاهرة والقرابة. والعلماء متفقون على أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، العلماء أجمعوا.
لكن وقع خلاف بينهم؛ هل يحرم بالرضاع ما يحرم بالمصاهرة أم لا؟
الجمهور؛ الأئمة الأربعة ومن وافقهم وسار في ركابهم يقولون: نعم، يحرم أيضًا من الرضاع ما يحرم بالمصاهرة، فتَحَصَّل من هذا أن الأصناف الأربعة التي ذكرناها في المحرمات من النسب أو القرابة مضافة إلى الأصناف الأربعة المحرمات بالمصاهرة يحرم بالرضاع ما يحرم من هذين الطريقين، فكأن الثمانية أصناف التي وقع التحريم بها أبديا في القرابة النسبية، وفي المصاهرة الزوجية يحرم ما يناظرها ويماثلها في الرضاعة. انتبهوا.
نقول: المحرمات من النسب أو بسبب القرابة أربعة أصناف على سبيل الإجمال، ومن طريق الزوجية والمصاهرة أربعة أصناف أيضًا. إذن هذه ثمانية أصناف. مثلها يحرم أيضًا عن طريق الرضاع؛ لعموم قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
نريد تفصيل هذه الأصناف الثمانية، نقول: الأم من الرضاعة وإن علت، الأم من الرضاع محرمة وإن علت. من هي الأم من الرضاعة؟
هي المرأة التي أرضعت هذا الولد خمس رضعات مشبعات على القول الراجح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة. هذه الأم من الرضاع هي محرمة وأصولها؛ أي أبوها أمها هذه هي الأصول، فأمها محرمة، أم أمها محرمة، أم أبيها أيضًا محرمة، كما هو الحال في مسألة القرابة النسبية، وكذلك أصول الأب الرضاعي؛ لأننا نقول: هو أب من الرضاعة أيضًا.
لماذا؟(1/9)
لأن هذا اللبن إنما ثاب إلى هذه المرأة، وفاء إلى هذه المرأة بسبب وطء هذا الرجل الذي كان سببًا في استيلاد هذه المرأة لمن كان ولدًا لها، فثاب اللبن إليها بسببه، إذن الأم الرضاعية وإن علت.
هنا سؤال: هل تحرم أمّ زوج الأمّ الرضاعية؟ فكر معي.. أم زوج الأم الرضاعية.
أولاً: قبل أن تفكر نريد من يتصور هذه المسألة، أو من يُكَيِّف لنا ويُصَوِّر لنا هذه المسألة، أم زوج الأم الرضاعية، من يشرح لنا التكييف والتصوير لهذه المسألة؟
يعني أن هذه الأم من الرضاعة كان لها زوج دُرَّ اللبنُ الذي رضعه هذا الرجل بسببه، ثم توفي هذا الرجل فتزوجت من آخر، هذا الرجل الآخر له أم، هذه هي صورة المسألة، هل يجوز زواجي من أم هذا الرجل أم لا؟.
واضح التصوير؟ فما الحكم إذن؟
الجواز إن شاء الله.
هل تحرم أم لا تحرم؟
لا تحرم.
لا تحرم أم زوج الأم الرضاعية.
طيب هل تحرم الأم الرضاعية للأخت أو للأخ النسبي؟
أم الرضاعية هل تحرم على الأخ أو الأخت النسبية؟
لا تحرم.
نريد تصوير المسألة؟
يعني يا شيخ أم أرضعت ولد دخل بيتًا فأرضعته ربة هذا البيت، أخوه النسبي هل يجوز أن يتزوج أخت هذا الرضيع من الرضاعة؟.
لا.. هل يجوز له أن يتزوج بأمه الرضاعية؟
بأمه الرضاعية أو أخته.
نعم.. يجوز؟
نعم يجوز.
لماذا يجوز؟
لأنه لم يرضع منه.
لأنه لا صلة بينه وبينها، وإنما هي أرضعت أخاه، فأخوه صار أخًا لجميع أبنائها، فالحرمة تعلقت بالرضيع، بهذا الذي ارتضع، أما أخوه النسبي فهو أجنبي عن هذه الأسرة بكاملها، فيتزوج بأخته الرضاعية، ويتزوج أيضًا من أم أخيه الرضاعية، واضح.
الأم النسبية هل تحرم على الأخ أو الأخت الرضاعية؟
أم نسبية هل تحرم على الأخ أو الأخت الرضاعية؟
هي عكس المسألة، هذه عكس المسألة، نقول: لا تحرم أيضًا، أخوك من الرضاعة ما علاقته بأختك النسبية؟
لا علاقة.
ما علاقته بأمك النسبية؟
لا علاقة، إذن يجوز.(1/10)
ننتقل إلى الكلام على الأخت.. قلنا إن أول هذه الأصناف الأم من الرضاعة وإن علت. طيب بعد ذلك البنات، فنقول: البنات وبنات الأولاد الرضاعيين كل هؤلاء يُحرّمن وإن نزلن، إذن البنات وبنت الابن الرضاعي كل هؤلاء يحرمن وإن نزلن، وهؤلاء يشملن كل أنثى رضعت من امرأة لرجل دَرَّ لبنُها بسبب حمل منه، فعندئذ يحرم على الرجل وعلى أصوله الزواجُ من هذه الأنثى التي رضعت، وكذلك فروعها النسبيين والرضاعيين؛ وذلك لعموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة)، (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
سؤال: الأخت الرضاعية للابن من النسب هل تحرم على الأب النسبي أم لا؟
أخت رضاعية لابنك من النسب هل تحرم عليك أم لا؟
أنت كان لك ابن وهذا الابن ارتضع من امرأة لها بنات فصار أختًا لهذه البنت مثلاً، فهل تحل لك هذه البنت كزوجة أم لا؟
تحل.
إذن العلاقة هنا أو الحرمة هنا متعلقة بمن ارتضع دون غيره.
ننتقل إلى الصنف الثالث: الأخوات وبنات الإخوة وبنات الأخوات من الرضاعة وإن نزلن، وهؤلاء يمكن أن نقول: هن الأخوات من أمّ وأب رضاعييْن. هذا الصنف الأول. الأخوات من أم رضاعية واحدة، هذا الصنف الثاني. الصنف الثالث: الأخوات من أب رضاعي واحد، أنا أريد من يتطوع فيشرح هذا الكلام الذي يبدو أنه صعب.
أخوات من أب وأم رضاعيين أنا أشرحها، الأخوات من أم وأب رضاعيين هذا رجل تزوج من امرأة فأولدها فثاب إليها اللبن فصارت ذات لبن، فجاء صغير أجنبي فارتضع من هذه المرأة خمس رضعات مشبعات، فصار ابنًا لهذه المرأة وابنا لهذا الرجل، فصار الأب صاحب اللبن أو الفحل صار أبًا له من الرضاعة، وصارت الأمّ أمًا له من الرضاعة.
إذن هذه أول صورة، الأخوات من أمّ وأب رضاعيين، فإذا كانت له هذا الولد الذي ارتضع كانت له أخوات من أمه وأبيه من الرضاعة؛ فإنهن يحرمن عليه.(1/11)
الصورة الثانية: الأخوات من أم رضاعية واحدة، الأخوات من أم رضاعية واحدة، نريد تكييف هذه الصورة تصوير هذه الصورة.
دون أب؟.
دون أب. قل يا شيخ ياسر.
كأن تكون امرأة كانت متزوجة برجل فأرضعت طفلاً ثلاث رضعات.
خمس رضعات، هذا المختار.
أرضعت من الأول ثلاث رضعات ثم طلقت.
لماذا تقدر بثلاث رضعات؟
أو رضعتين.
لماذا تقول رضعتان؟
لكي لا يكون هو أبًا لهذا الرضيع.
سبحان الله، إذا أرضعت رضعتين أو ثلاث رضعات على المختار من أقوال أهل العلم في المسألة فإن هذا لا يحرم؛ فلا يكون هذا الرضاع محرمًا للأمّ فضلاً عن الأب.
أنا يا شيخنا أشرح المسألة الثانية.
نعم. الأخوات من أم رضاعية واحدة، أم رضاعية واحدة.
هو يقصد يا شيخنا أن هذا الولد رضع من هذه الزوجة في حال زوجها الأول ثلاث رضعات دون الخمسة، ثم طلقت وتزوجت زوجا ثانيا فرضعت منه بقية الخمسة، فيصبح أنه رضع من هذه المرأة خمس رضعات مشبعات لكن من أبوين مختلفين فتصبح أمه من الرضاعة لكن ليس له أب من الرضاعة؛ لأنه لم يرضع خمس رضعات مشبعات من أب واحد.
نقول: الأخوات اللائي يقال عنهن محرمات بالرضاعة هؤلاء الأخوات أصناف ثلاثة:
الصنف الأول: أخوات من أم وأب رضاعيين.
الصنف الثاني: أخوات من أم رضاعية واحدة.
كيف يتأتى هذا؟ قل يا أخ.
أن يكون هناك طفل رضع من امرأة لها زوج دُرَّ اللبن بسببه، ثم توفي هذا الزوج فتزوجت آخر ثم ولدت منه فهذه البنت التي ولدت له تكون أخته من الرضاعة ومن أم واحدة.
لا..
هي المسألة يكون له أم دون أب.
واحدة.. واحدة.. هذا رجل أو هذا غلام صبي رضع من امرأة فصار ابنا لها من الرضاعة، ثم إنها طُلِقَت أو مات زوجها، فتزوجت.(1/12)
في الحالة الأولى كان لهذا الولد أخوات من الرضاعة من أمه ثم إن المرأة ثاب إليها لبن بسبب زواج جديد، فصارت ترضع أطفالها من زوجها الثاني، فزوجها الثاني كان سببًا في أن يثوب إليها لبن جديد بناءً على وجود أطفال جدد، فأطفال هذا الرجل من هذه المرأة صاروا إخوة أو أخوات للشخص الأول، إذن هنا اجتمع هذا الشخص اجتمعت له أخوات من أمه بسبب النكاح الأول، ومن أمه الرضاعية بسبب نكاحها الثاني، فصار هذا الرجل أو هذا الولد أخًا لأخواته من الرجل الأول، ولأخواته من الرجل الثاني. واضح؟
هذه صورة الأخوات من الأم الرضاعية. طيب صورة الأخوات من الأب الرضاعي كيف نصورها؟ صورة الأخوات من الأب الرضاعي؟
كأن يكون رجلٌ متزوجٌ بامرأتين فترضع إحداهما الرضيع ثلاث رضعات، أو رضعتين وتكمل الأخرى باقي...
لا يوجد شيء اسمه ثلاث رضعات أو رضعتان. هذا الكلام لا صحة له، ترضع خمس رضعات مشبعات فيصير ابنًا، وفي الحالة الأولى أيضًا ترضع خمس رضعات مشبعات حتى يصير ابنًا.
لو أرضعت ثلاثة.
لا يعتبر ابنا.
والثانية اثنين.
ولا ابن هنا ولا ابن هنا.
للرجل.
نقول: ولا ابن هنا ولا ابن هنا.
ولا هنا ولا هن.
نعم.. لأن هذا اللبن لا يؤثر التحريم ولا ينشر التحريم على ما هو مختار عند الحنابلة والشافعية إلا بعد خمس رضعات مشبعات. واضح؟
إذن ثلاث واثنتان. الكلام هذا غير صحيح؛ لأنه لو أن طفلاً ارتضع من امرأة رضعة أو رضعتين أو ثلاث رضعات أو أربع رضعات على ما هو مختار عند الشافعية والحنابلة فإنها لا تكون أمًا له، وهذا لا ينشر التحريم. واضح؟ هذا هو المختار. وسيأتي هذا -إن شاء الله تعالى- حين نشرح كتاب الرضاع بإذن الله تعالى، يبقى ثلاث واثنتان هذه لا تذكرها ثانية.
ترضع زوجته الرضيع خمس رضعات فأكثر ثم تموت مثل.
ماشي.
فتكون له زوجة أخرى ترضعه خمس رضعات أيضًا.(1/13)
لا ليس محتاجا أن يرضع ثانيةً، يعني هو لما ارتضع من هذه المرأة؛ صارت أمًا له، وصار هذا الرجل أبًا له، فأحدث الرجل زوجة أخرى؛ فلا داعي أن نميتها!!، دعه يتزوج زوجة ثانية. فإذا تزوج من ثانية، وصار له منها أولادٌ؛ صار هؤلاء الأولاد إخوة له من الأب الرضاعي. واضح؟ إذن هؤلاء كلهن محرمات.
الصنف الرابع: العمات والخالات من الرضاعة، وهذا أيضًا واضح، يعني مَن رضع من امرأة صار إخوتها وأخواتها بمثابة الخالات والأخوال، لا الأعمام والأخوال، بمثابة أخوال وخالات، ويكون إخوة زوجها بمثابة الأعمام وأخوات زوجها بمثابة العمات، إذن هؤلاء عمات وأعمام من الرضاع، وهذا أيضًا وإن علون، يعني العمة الرضاعية محرمة وعمة الأب الرضاعية محرمة والخالة الرضاعية محرمة، وخالة الأم أيضًا محرمة، يعني من جهتين من جهة الأب ومن جهة الأم، هذه أيضًا أسوة بما قلناه في الأحكام المتعلقة بالقرابة.
ننتقل بعد هذا إلى المصاهرة الرضاعية، نحن ذكرنا في المصاهرة أنه تحرم أربع نسوة أربعة أصناف من النساء تحرم بسبب الرضاع، وكذا بسبب المصاهرة، وكذا بسبب الرضاع، وهذا ما نسميه بالمصاهرة الرضاعية، ما هن؟
نقول: الأصول، والفروع الرضاعيون للزوجة، يعني لو أن لزوجتك أمًا من الرضاع فهي محرمة عليك، ولو أن لزوجتك بنتًا من الرضاعة فهي محرمة أيضًا عليك، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجماهير العلماء، وإن وقع بعض الخلاف في هذه المسألة لكنه ليس بالخلاف القوي الذي يضرّ. إذن مذهب الأئمة الأربعة وجماهير العلماء أن المصاهرة الرضاعية تحرم أيضًا كما تحرم المصاهرة الزوجية.(1/14)
إذن أمهات الزوجة الرضاعيات وإن علون محرمات، وبنات الزوجة الرضاعية محرمات وإن نزلن، وزوجات الأصول الرضاعيين وإن علون، زوجات الأصول الرضاعيين وإن علون وزوجات الفروع الرضاعيين وإن نزلوا، إذن يحرم على الأب الرضاعي أن يتزوج من زوجات ابنه من الرضاعة، هذا ينبغي أن يكون واضحًا ومستقرًا في الأذهان، ولأن الوقت يداهمنا فإننا ننتقل إلى ذكر المحرمات تحريمًا مؤقتًا.
بقي أن نذكر الملاعنة حتى نكون قد أكملنا ما يتعلق بالمحرمات تحريمًا أبديًا، نحن ذكرنا المحرمات بسبب القرابة والنسب، المحرمات بسبب المصاهرة، المحرمات بسبب الرضاع، وبقي أن نذكر المحرمات بسبب الملاعنة أو اللعان.
طبعًا الملاعنة أو اللعان هذا أمر يأتي بعد أن يقذف الرجل زوجته بالزنا، وليس له على ذلك من بينة، فيقع بينه وبينها الملاعنة، فيقسم أيمانًا مغلظة أنه من الصادقين، وتقسم أيمانًا مغلظة إنه من الكاذبين، يترتب على حلفه وحلفها أن يفرق بينهما، وإن كان بينهما ولد ينفيه هذا الرجل عن نفسه؛ نُفِيَ عنه نسبه وألحق بأمه، صار هذا الولد كابن الزنا، لكننا نقول: هو ولد الملاعنة أو ولد اللعان؛ لأننا لم نقطع بالزنا لكنه لما وقعت الملاعنة نفي نسب هذا الولد عن أبيه.
إذا حصلت الملاعنة فإنه وقعت بهذه الملاعنة فرقة بين الرجل وامرأته، هذه الفرقة هي فرقة مؤقتة أم فرقة دائمة؟
هذه الفرقة الأبدية، على الراجح الصحيح الكثير الذي عليه سائر العلماء؛ الأئمة الثلاثة ومن وافقهم خلافًا لأبي حنيفة -رحمه الله تعالى- فإنه قال: "إذا كذب الرجل نفسه فأقيم عليه حد القذف؛ انتسب الولد إليه وحل له أن يعقد على هذه المرأة بعقد ومهر جديدين وحُسِبَ ذلك التفريقُ طلاقًا وعُدَّ من طلاقه، لكنّ النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- قال: (ثم لا يجتمعان أبدً) كما عند الدارقطني وفي حديث الإمام أحمد في مسنده.(1/15)
إذن المختار الراجح أن الملاعنة يترتب عليها فراق وتحريم أبديٌّ، لا يفتقر إلى قضاء قاضٍ، بمجرد أن يقع ذلك؛ فقد حرمت المرأة على من كان زوجًا لها تحريمًا مؤبدًا.
ننتقل بعد ذلك إلى التحريم المؤقت؛ فنقول: عَدَّ الفقهاء عشرة أصناف، نحن سنمر عليها مرورًا سريعًا:
الصنف الأول:
المشغولة بحق الغير، وهذا يشمل الزوجات، يشمل المطلقات الرجعيات، يشمل المعتدات من وفاة أو من طلاق أو من فسخ أو لعان أو خلع، كل امرأة مشغولة بحق من كان زوجًا لها، أو بحق زوجها إن كانت رجعية؛ فهذه لا يجوز نكاحها حتى تبرأ ذمتها من هذا الشغل، وحتى ينقضي ارتباطها مع ذلك الرجل. واضح؟
الصنف الثاني:
من ليس لها دين منزل، من ليس لها دين سماوي منزل، يعني ليست بمسلمة ولا بكتابية، وإنما هي مشركة؛ بوذية أو هندوسية أو ملحدة أو وثنية أو لا دين لها؛ فهذه أيضًا تحرم تحريمًا مؤقتًا حتى تتدين، فإن تدينت بدين منزل؛ صارت مباحة، ويجوز نكاحها. واضح؟
الصنف الثالث:
المطلقة ثلاثًا فهذه محرمة على مطلقها، المرأة إلى طلقت ثلاثًا؛ فإنها لا تحل لمطلقها حتى تنكح زوجًا غيره، فإن طلقها ذلك الذي تزوجها بعد أن وقع بينهما الجماع، وذاقت عُسَيْلته وذاق عسيلتها، وخرجت من عدتها من الثاني؛ جاز للأول أن يراجعها إن ظن أن يقيما حدود الله. إذن المطلقة ثلاثًا هذه تحرم على مطلقها إلا بشروط: أن تنكح زوجًا غيره، أن يقصِد بهذا الزواج ولا يقصد يقصد التحليل، أن يذوق عسيلتها فيكون الدخول مشروطًا فيه الوطء، أن تخرج من عدتها.
كذلك من الأصناف المحرمات كما قلنا بسبب وصول العدد الأقصى إلى منتهاه، فمن معه أربع زوجات هل تحل له خامسة؟ لا تحل له خامسة. الخامسة لمن عنده أربع هذه محرمة تحريمًا مؤقتًا.
لماذا؟
لأنه إن طلق واحدة أو ماتت؛ جاز له أن يأتي بهذه الخامسة.
والنبي -عليه الصلاة والسلام- أمر غيلان الثقفي لما أسلم عن عشر نسوة أن يختار منهن أربعًا ويطلق الباقيات.(1/16)
الجمع بين محرمين، لا يجوز لأحد أن يجمع بين أختين، ولا يجمع بين امرأة وعمتها، ولا امرأة وخالتها، وهذا طبعًا عليه أدلة، لكن ضيق الوقت يمنعنا من الاسترسال.
المرأة المُحْرِمة لا يجوز أن تنكح، ولا أن يعقد عليها، فتحريمها مؤقت حتى تحل من إحرامه، المرأة التي ظاهر منها زوجها، هذه لا يجوز له أن يطأها حتى يُكَفِّرَ، سواءً أعتق رقبة أو صام أو أطعم. المهم أنه لا يجوز له أن يمسها أو يقربها حتى يكفر.
الزانية لا يجوز نكاحها حتى تتوب، فإن تابت؛ جاز نكاحها، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والآية قبل ذلك: ?الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً? [النور: 3]، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه أن ينكح امرأة تُعرف بالزنا.
الأمة التي يريد إنسان أن يتزوجها وعنده زوجة حرة، فلا يجوز أن يجمع بين حرة بزواج وأمة بزواج؛ لأن هذا فيه إضرار وإساءة للحرة.
كذلك جواز الحر من أمته، زواج الأمة من سيدها، لا يتزوجها على هذا الحال حتى يعتقها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أعتق صفية ثم تزوجها.
ولا يجوز أيضًا ولا يحل أيضًا زواج العبد من سيدته حال عبوديته حتى تُعتقه فإذا أعتقته؛ جاز عندئذ أن يتزوجها. وهذا طبعًا له تعليل وله تدليل، لكن الوقت يضيق والله المستعان، ونكتفي بهذا المقدار وننتقل إلى الأسئلة والإجابة عنها.
أسئلة الحلقة الماضية.
كان السؤال الأول: ما معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (من رغب عن سنتي فليس مني)؟
وكانت الإجابة: الرغبة عن الشيء الإعراض عنه، فالمراد ليس على طريقتي ولا يلزم منه الخروج عن الملة. هذا وإن كان رغبته عنها لضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه، وإن كانت رغبته إعراضًا وتنطعًا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله، فمعنى (ليس)؛ أي: ليس مني على ملتي.
السؤال الثاني:
ما وجه الجمع بين النهي عن التبتل في هذا الحديث والأمر في قوله تعالى: ?وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا? [المزمل: 8]؟(1/17)
وكانت الإجابة:
هذا تفرقة بين التبتل المشروع والممنوع، فأما المشروع ما جاء به من التعبد والتزهد على طريقته -صلى الله عليه وسلم- والتبتل الممنوع ما جاء مخالفًا لطريقة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كالاختصاء سواءً كان على ظاهره أو معناه من الانقطاع للطاعة. انتهت الإجابة.
جزاك الله خيرا، إجابة صحيحة.
أسئلة المحاضرة.
السؤال الأول: بَيِّنْ أصناف المحرمات من النساء على التأبيد.
السؤال الثاني: بين أصناف المحرمات من النساء على التأقيت.
يعني نريد عدَّ هذه الأصناف التي ذكرنا من غير كبير شرح ولا تفصيل.(1/18)
الحديث - المستوى السادس
الدرس الثالث عشر - تابع المحرمات من النساء في النكاح
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
تابع المحرمات من النساء في النكاح
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أهلا ومرحبا بكم مجددا مع أحاديث "عمدة الأحكام" ومع كتاب النكاح ومع باب المحرمات من النساء ونحن مازلنا مع حديث أم حبيبة -رضي الله عنها وأرضاها- فإلى شرح هذا الحديث.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: ((عن أم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله عنهما- أنها قالت: يا رسول!! انكح أختي ابنة أبي سفيان، فقال أَوَتُحِبِّيْنَ ذلك؟! فقلت: نعم، لست لك بمخلية، وأَحَبُّ من شاركني فِي خَيْرٍ أختي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- إن ذلك لا يَحِلّ لي، قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة قال: بنت أمّ سلمة؟! قلت: نعم، فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حَجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثُوَيْبَةُ، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن) ومسلم: (قال عروة: وثويبة مولاة لأبي لهب، كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله بشر حِيْبَة. قال له ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرا غير أني سُقِيت في هذه بعتاقتي ثويبة))(1/1)
هذا الحديث من رواية أم حبيبة -رضي الله تعالى عنها وأرضاها- واسمها على الصحيح هند بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية -رضي الله تعالى عنها وعن أبيها- زوج نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة، فلحق بدين النصرانية هناك ومات على غير الملة، فلما علم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بذلك تزوجها وهي هناك، وهي أقرب نساء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إليه نسبا، وهي أكثر نساء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- صداقا، وهي أبعد امرأة تزوج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- دارا لأنه تزوجها -رضي الله تعالى عنها- وهي بالحبشة، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار على الراجح من قوليْ أهل العلم.
فهي -رضي الله تعالى عنها- بهذا اختصت بخصائص دون باقي زوجات رسول الله بزيادة مهرها على الجميع وبقرب نسبها من نبينا -صلى الله عليه وسلم- فهي ابنة عمه -عليه الصلاة والسلام- وهي -رضي الله تعالى عنها- التي تزوج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وجهزها له صاحب الحبشة.
كان وَلِيُّها عثمان بن عفان على قول بعض أهل العلم، وقيل خالد بن سعيد بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- هما -رضي الله تعالى عنهما- الذيْن توليا العقد فإما أنه عثمان أو خالد بن سعيد على ما رجحه الذهبي -رحمه الله تعالى-.
يوم قدمت المدينة كان لها بضع وثلاثون سنة تزوج بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة وتوفيت على الراجح أيضا بالمدينة، وكانت -رضي الله تعالى عنها- عاقلة أريبة فطنة لما حضرتها منيتها دعت عائشة -رضي الله تعالى عنها- إليها وقالت إنه كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك!! فقالت عائشة -رضي الله تعالى عنها- من فَوْرِها وأنت غفر الله لك وأحلك من ذلك كله!! فقالت سررتني سرك الله!! ثم إنها دعت أم سلمة فقالت لها مثل ما قالت لعائشة -رضي الله تعالى عنها وأرضاها-.(1/2)
روت عن نبينا 65 حديثا ثم إنها -رضي الله تعالى عنها- توفيت على الراجح سنة 44 من الهجرة النبوية.
هذا الحديث الذي بين أيدينا حديث يتعلق بالمحرمات من النساء، وفيه أن أم حبيبة -رضي الله تعالى عنها- رملة أو هند بنت أبي سفيان -رضي الله تعالى عنها- عرضت على نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يتزوج من أختها وهي في عصمته: (فقالت له يا رسول الله!! انكح أختي بنت أبي سفيان، فعجب النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك فقال لها: أَوَتُحِبِّيْنَ ذلك؟! قالت: نعم) ثم بينت العلة والسبب في ذلك، فقالت: لست لك بمخلية؛ أي أنا لا أخلو أن تكون معك زوجة، وأن تتزوج من ضرة، وأحب من يشركني في خير هي أختي فأحب ذلك وفي بعض الروايات: أنها سَمَّتْ هذه الأخت وسيأتي معنا هذا في الشرح التفصيليّ بإذن الله تعالى.
فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ذلك لا يحل له فإنه لا يجوز له أن يجمع بين الأختين في نكاح واحد، فقالت فإنا نحدث أنك تنكح بنت أم سلمة يعني تنكح ربيبتك، وكما أن ربيبتك محرمة عليك فكذا هذا الأمر يعني إذا كان سيحل لك أن تتزوج من ربيبتك فإنه سيحل لك أن تجمع بين الأختين. لماذا؟
لأن الجمع بين الأختين إنما هو تحريم على التأقيت، وأما نكاح الربيبة فهو تحريم على التأبيد فكأنها قاست -رضي الله تعالى عنها- هذا على هذا، فبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن شيئا من هذا لن يحدث. لماذا؟
لأن هذه الربيبة كما أنها ربيبة لا تحل فهي أيضا ابنة أخيه من الرضاعة وبين أن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- نهى نساءه أن يعرضن عليه أخواتهن أو بناتهن.
هذا هو معنى الحديث بشيءٍ من الإجمال. فإذا أردنا أن نتناوله على التفصيل فإننا نقول:(1/3)
قولها -رضي الله تعالى عنها-: انكح أختي ابنة أبي سفيان. وقع التصريح باسمها في بعض الروايات؛ فقيل: إن اسمها عزة، وقيل: بل هي حَمْنَة بنت أبي سفيان فورد في روية لمسلم أنها سمتها بـ"عزة"، وفي رواية أخرى عند النسائي جاء ذكرها: (هل لك في ابنة أبي سفيان فقال ومن هي؟! قالت: حمنة). فهذان قولان في تحديد هَاتِه التي عُرضت على نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم-. لكن على كل حال قولها -رضي الله تعالى عنها-: انكح أختي ابنة أبي سفيان هذا فيه إشكال. لماذا؟
لأن الآية نازلة بتحريم الجمع بين الأختين كما قال الله تعالى: ? وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ ? [النساء: 23]، وهذا كنا قد عرضنا له في لقائنا السابق. فإما أنها -رضي الله تعالى عنها- لم تعلم التحريم، أو لم يكن التحريم قد نزل وهذا يرفع الإشكال؛ فإنها سألت أمرا لا تعلم حرمته، أو كان التحريم قد نزل. وهنا يقال إنها ظنت أو اعتقدت أن للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- خصوصيةً تُبيح له في هذا الشأن ما لا تبيح لغيره، فكما جاز له أن يجمع فوق أربع نسوة؛ فإنه سيجوز له أن يتزوج من ربيبته، أو أن يجمع بين الأختين في نكاح واحد.
إذن -رضي الله تعالى عنها- استدلت على جواز ذلك بالقياس على ما سمعته من أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سوف ينكح ابنة أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- وهي ربيبته فهذا هو الراجح على ما رجحه بعض أهل العلم. وسياق الحديث بجملته يدل على ذلك؛ لأنه أخبر أن ابنة أبي سلمة ربيبة، والربيبة محرمة وهي أيضا ابنة أخيه من الرضاعة.
قوله -عليه الصلاة والسلام- لأم حبيبة لرملة أو لهند بنت أبي سفيان: (أوتحبين ذلك؟!): هذا الاستفهام منه -صلى الله عليه وآله وسلم- يَحْمل معنى التعجب.
لماذا؟(1/4)
لأنها طلبت من نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن ينكح ضرة، وليس هذا من عادة النساء أن يطلبن نكاح الضرائر عليهن؛ فلهذا قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (أوتحبيبن ذلك؟!) يعني أن أجمع إليك ضرة؛ عندها بينت السبب -رضي الله تعالى عنها- فقالت: نعم لست لك بمخلية: مُخْلية بضم الميم وإسكان الخاء المعجمة وكسر اللام اسمُ فاعل من أخلى يُخلي فهو مخلٍ؛ أي لست بخالية من ضرة تشركني فيك على كل حال، قد علمتُ أنك تجمع النساء فلست بمخلية لك من ضرة تشركني إن لم تكن فلانة؛ ففلانة، وعندئذ؛ فأولى وأحب مَنْ شَرَكَتْنِي في خير في الدنيا والآخرة هي من؟ هي أختي ولذلك أرشحها لك فإني لا أنفرد بك ولا أختلي بك ولا يُخَلَّى بيني وبينك بل يكون معي من الضرائر والزوجات الأخريات فإذا كان الحال كذلك؛ فإن أحبّ إليَّ أن تنكح أختي حمنة أو عزة على ما ذكرنا من الخلاف.
إذن هنا ظاهر أنها تسعى في خير أختها، وهذا بالجملة يدلّك على جواز ذلك واستحبابه فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يقرعها ولم يعنفها على هذه النية وهي نية إرادة الخير بأختها لكنه بين -صلى الله عليه وآله وسلم- أن ذلك لا يحل له، وهذا هو موضع الشاهد من هذا الحديث قوله -عليه الصلاة والسلام-: (إن ذلك لا يحل لي)؛ أي إن هذا الأمر الذي ذكرتِ من الجمع بينكِ وبين أختكِ في هذا النكاح لا يحل لي فلست في هذا الأمر بصاحب خصوصية كما أنا في شأن التعدّد في الزواج. ولذلك قالت -رضي الله تعالى عنها- تعلل لِمَ قالت له هذا لِمَ طلب له هذا قالت: (فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة): نُحدَّث ذلك بالمبني للمجهول ومن هذه المرأة التي ذُكر أنها بنت أبي سلمة؟(1/5)
هي دُرَّة بنت أبي سلمة، وقيل ذرة والصواب الأول. وقد ورد في بعض الروايات أنها درة أو ذرة على الشكل من هو أبو سلمة هو عبد الله بن عبد الأسد بن هلال المخزوميّ هاجر -رضي الله تعالى عنه- بزوجه أم سلمة الهجرتين؛ أي هاجر إلى الحبشة، وهاجر إلى المدينة النبوية. ثم إنه -رضي الله تعالى عنه- لما دخل المدينة حضر بدرا وفيها أصيب يعني في بدر أصيب -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- ثم إن جرحه هذا اندمل، ثم إنه عاد فانتقض فمات منه في السنة الثالثة من هجرة نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم-.
تزوج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من أم سلمة تزوج من أم سلمة. ولما سمع النبي -عليه الصلاة والسلام- مقالتها حين قالت إنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (بنت أم سلمة؟!)، وهذا معناه أنه يريد أن يتثبت أهي الربيبة أم تقصد امرأة غيرها؟ فقال: (بنت أم سلمة؟!) يعني التي هي في حجره -صلى الله عليه وآله وسلم- فقالت: نعم بنت أم سلمة، فعندئذ بين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن ذلك لا يحل له ومن هي أم سلمة ما اسمها من يعرف؟
اسم أم سلمة؟ زوج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هي اسمها كاسم أم حبيبة فهي هند أيضا هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية -رضي الله تعالى عنها وأرضاها- بنت عم خالد بن الوليد -رضي الله تعالى عنه- وأبي جهل بن هشام عليه لعنة الله.
أبوها زاد الراكب فهو أحد أجواد العرب الذين عُرفوا في الجاهلية بأن من سافر معه فقد كفاه وأغناه فإنه كان يحمل الزاد لمن يركب معه فيكفيه مؤنة الطعام ويكفيه في سفره عن حمل الزاد. وكانت عند أبي سلمة فذكرنا أن أبا سلمة ما اسمه ما اسم أبي سلمة؟(1/6)
عبد الله بن عبد الأسد المخزومي -رضي الله تعالى عنه- فهاجرت معه الهجرتيْن، كانت رضي الله تعالى عنها من أجمل النساء، ومن أشرفهن نسبا ومن أوفرهن عقلا ومن أكثرهن فقها. فكانت -رضي الله تعالى عنها- تجمع هذه الخصال أنجبت لأبي سلمة عمر وسلمة وزينب ودرة هؤلاء أولادها من زوجها أبي سلمة.
قالت يوما لزوجها بالمدينة تحدث زوجها -رضي الله تعالى عنها- فقالت: "بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنة فلا تَزَوَّج –أي: لا تتزوج- بعد هذا إلا جمع بينهما في الجنة، ثم جاءت إليه فقالت: فتعالى أعاهدْك، فقال: على أيِّ شيء؟! قالت: إذا أنت مت قبلي أن لا أتزوج، وإذا مت قبلك أن لا تتزوج، فقال: أتطيعينني؟ قالت: نعم، فقال لها: إذا مت فتزوجي، ثم قال: اللهم ارزق أمّ سلمة زوجا لا يحزنها ولا يؤذيها!!" فمات قريبا من هذا الدعاء -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، فلما مات؛ قالت أم سلمة: "من خيرٌ من أبي سلمة؟".
ثم إنها أتت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تسأله ما تقول بعد وفاة زوجها فأمرها بالصبر وأن تسترجع وأن تسأل الله -عز وجل- أن يعقبها من أبي سلمة عُقبى حسنة فقالت ما قالت وهي لا تدري من أحسن وأفضل وأكمل من أبي سلمة. قالت: فلما خرجت من عِدَّتي فما لبثت أن جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام على الباب فذكر الخطبة.(1/7)
ورد أيضا أنها لما انقضت عدتها خطبها أبو بكر -رضي الله تعالى عنها- فلم تقبل، فجاءها عمر خاطبا فردته، فبعث إليها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقالت: مرحبا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم إنها قالت: "يا رسول الله!! إني غَيْرَى" يعني إني امرأة شديدة الغيرة، "وإني مُصْبِيَةٌ" يعني ذات صبيان لها صبيان وأطفال مازالوا منهم من يرضع ومنهم من لايزال صغيرا، وإني غيرى وإني مصبية وليس أحد من أوليائي شاهدا، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَمَّا غَيْرتُكِ؛ فأسأل الله تعالى أن يذهبها، وأما صبيانك؛ فعلى الله ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأما أولياؤك؛ فليس أحد يسمع بهذا إلا رَضِيَ)، يعني يسمع بخطبة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لها إلا رضي عندها قالت يا عمر! -والخطاب لابنها-: قمْ فزوجْ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فتزوجها نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم-.
نعود إلى سياق هذا الحديث.
قوله -عليه الصلاة والسلام- عن بنت أم سلمة عن درة يقول: (إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري؛ ما حلت لي لو لم تكن ربيبتي) الربيبة من هي؟
هي بنت الزوجة المدخول بها سواء كان ذلك بنسب أي بنتها من نسب، أو كانت بنتها من رضاعة.
عموما الربيبة هي بنت المرأة التي دخل بها الرجل سواء أكانت بنتا لنا من النسب أو كانت بنتا لها من الرضاع. والربيبة مشتقة من الربّ، والربّ هو الإصلاح والتعاهد والإقامة والحفظ والستر. فلو لم تكن ربيبتي؛ ما حلت لي أي أن هذه المرأة تُحرم عليّ من جهتين:(1/8)
الجهة الأولى: أنها ربيبة، وقد نص القرآن الكريم على حرمة نكاح الربائب في قول الله تعالى: ? وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ ? [النساء: 23]، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (من تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها؛ فلا بأس أن يتزوج ربيبته) هذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولا يحل له أن يتزوج أمها.
إذن الربيبة محرمة مطلقة سواء كانت من نسب أو كانت من رضاع سواء كانت هذه الربيبة في حجره أو في غير حجره. وما هو الحجر؟
الحجر ما يكون بين يديْ الإنسان من ثوبه فهذا كناية عن الحفظ والستر يعني هي في كنف هذا الربيبة رُبِّيَتْ في كنفي أصلحها وأتعاهدها، وأقوم عليها.
هنا لسائل أن يقول فلو كانت هذه الربيبة في غير كنفه وليست في عهدته، ولم تكن مقيمة مع أمها؛ أفلا يجوز له أن يتزوجها؟
نقول: لا بل الحرمة على التأبيد، والحرمة تثبت بمجرد البناء بأمها. وماذا عن هذا القيد الوارد في هذه الآية وهي قوله تعالى: ? فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ ?؟
قالوا: إن هذا القيد خرج مخرج الغالب.
ما معنى خرج مخرج الغالب؟
الغالب أن الربيبة تكون في حجر الإنسان تُرَبى أو يقوم زوج أمها على إصلاحها وتعاهدها ومعرفة حالها ونحو ذلك. لكنَّ هذا ليس بشرط في التحريم فبمجرد الدخول بالأم فإن هذا سيحرم الربيبة ولا بد.
لكنَّ قوما خلف قد نقل هذا عن علي وعن عمر -رضي الله تعالى عنهما- ونقل أيضا عن أهل الظاهر أنهم قالوا إذا لم تكن الربيبة بحجره فإنه يجوز له أن ينكحها، ونقل في ذلك أثران عن علي وعن عمر -رضي الله تعالى عنهما- وقالوا: إن هذا القيد له مفهوم الجمهور يقولون هذا القيد لا مفهوم مخالفة له.
ما معنى له مفهوم مخالفة وليس له مفهوم مخالفة؟(1/9)
إذا قلنا في حجوركم؛ فإن الحكم إذا قلنا أن هنا مفهوم مخالفة أن الحكم سيتغير إذا لم تكن في الحجر، أما إذا قلنا إنه لا مفهوم له؛ فإن التحريم سيتناول من كانت في حجره ومن لم تكن في حجره، وهذا كما قلنا قالوا إنه لم يقصد به القيد ولا الشرط وهذه الآية لم تخرج مخرج الشرط ولا مخرج القيد، وإنما خرجت مخرج الغالب على وزان قول الله تعالى: ? لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ? [آل عمران: 130].
حرمة الربا ثابتة في القليل والكثير لكنَّ الغالب على أكلة الربا على أنهم يبحثون عن هذه الأضعاف المضاعفة وقوله تعالى: ? وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ من إِمْلاَقٍ ?أو ? خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ ?.
إذا لم يكن بالإنسان إملاق هل يجوز له أن يقتل؟
أو إذا لم يخش الإملاق فهل يجوز له أن يقتل؟
لا يجوز.
فهذا إنما كما يقال خرج مخرج الغالب لأن أغلب من يفعل ذلك يكون متلبسا بهذا.
إذن الراجح هو مذهب جماهير العلماء سلفا وخلفا، وهو أنه لا يجوز نكاح الربيبة التي دُخل بأمها مطلقا سواء كانت في حجره أو لم تكن.
إذن هذه قاعدة يجب أن تُسَلَّم.
إن ماتت الأم قبل الدخول. رجل عقد على امرأة ولَمَّا يبنِ بها، وهما في هذه الفترة ماتت المرأة؛ فهل يجوز له أن ينكح ابنتها أم لا؟
ما رأيكم؟
نعم يجوز أن ينكحه
يجوز أن ينكح ابنتها مع أن أمها ماتت. لماذا؟
لأن القيد في الآية ? مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ ? وهو لم يبنِ بها بعد
لكنَّ الحكم قد يختلف بالموت فإن المرأة إذا ماتت وهي حال العقد يترتب على ذلك أحكام تتعلق بالدخول أحيانا مثل ماذا؟ من يعرف؟ إذا ماتت المرأة في حال العقد فإن هذا يتعلق به أحكام؛ فما هي هذه الأحكام؟
الميراث والعدة(1/10)
الميراث نعم. يثبت لها الصداق. نحن ربما ذكرنا في وقت من الأوقات قضاء ابن مسعود في بَرْوَع بنت واشق -رضي الله تعالى عنها- أنه ثبت لها حكم الإرث من زوجها، وبهذا الموت أيضا تكمل العدة إلى أشياء.
فهذا لأجله جعل بعض الصحابة وبعض الحنابلة يقولون: بتأبُّد الحرمة خلافا للجمهور والجمهور مذهبهم أقوى وأرجح؛ لأن معهم الآية، وإذا كان هذا يعني الموت تتحقق به بعض الأحكام التي تتحقق بالدخول إلا أنّ أحكاما أخرى أيضا تتخلف فالموت لا يجري مجرى الدخول في الإحصان مثلاً.
يعني من عقد على امرأة فماتت هل يتحقق بذلك أنه محصن؟
لا يتحقق إحصانه بالموت حتى يقع منه الوطء. وهذا إذا تخلف بالموت؛ ففي هذه الحالة لا يقال عن ذلك الرجل أو عن تلك المرأة إنها محصنة. وكذلك عدة الأقراء وأشياء كثيرة لا يتحقق معها أن الموت يقوم مقام الدخول.
وعليه؛ فإن القول المنصور هو قول جماهير أهل العلم قديما وحديثا في أن المرأة التي عُقِدَ عليها إذا ماتت عن زوجها جاز له أن يتزوج من ابنتها، أو من هذه الفتاة التي كانت ستكون ربيبة له لو أنه دخل بأمها.
قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة): بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الجزء من الحديث العلة الثانية من حرمة نكاحه من درة بنت أبي سلمة.
ما هي العلة؟
أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- عمُّها أيضا من الرضاعة وبين أن سبب ذلك أنه ارتضع من ثويبة التي أرضعت أبا سلمة فهو وأبو سلمة إخوة من الرضاع -صلى الله عليه وآله وسلم-، وعليه؛ فإنَّ هذا ينشر الحرمة إلى ابنته فهو عمها -صلى الله عليه وآله وسلم-. ونحن اتفقنا على أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ولعلنا مررنا على حديث عائشة -رضي الله عنها- لما استأذن عليها من؟(1/11)
أفلح أخو أبي القُعَيْسِ، قالت: "إن أفلح لم يكن هو أرضعني، وإنما أرضعتني امرأة أبي القعيس"، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم- حين امتنعت عن أن تأذن له قال: (ائذني له تربت يمينك!! فإنه عمك)، فأذنت له -رضي الله تعالى عنها أرضاها-.
إذن الرضاعة تنشر من الحرمة ما ينشر النسب فبين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- علتين في تحريم هذه الفتاة أو هذه المرأة عليه -صلى الله عليه وآله وسلم-. وهذا يفيدنا فائدة أصولية وهي أن الحكم قد يعلل بعلتين الحكم قد يعلل بعلتين وقد يعلل بأكثر من ذلك ثويبة.
من هي ثويبة؟
ثويبة هذه مولاة يعني أمة كانت لأبي لهب عمِّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. ومتى أرضعت ثويبة رسول الله والمشهور أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إنما أرضعته من؟
حليمة السعدية.
قالوا إن ثويبة -رضي الله عنها- أرضعت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أياما قلائل قبل أن تأخذه حليمة السعدية وكانت عدة هذه الأيام ثلاثة أيام. فهي أمه بهذا من الرضاع ثم إنها أرضعت حمزة بن عبد المطلب ولذلك حمزة أخو النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من الرضاع، وأرضعت أبا سلمة مع ولدٍ لها يقال له مسروح. فهذا الذي ثبت من أن ثويبة -رضي الله تعالى عنها- أُمًّا لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من الرضاع ولهذا يعني قال الله تعالى: ? وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ ? [النساء: 23].
بهذا نكون قد أتينا على الحديث المرفوع الذي بين يدينا إلا أن قطعة من الحديث منقولة عن عروة. هذه القطعة سنقف معها وقفة لكن قبل ذلك قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن):(1/12)
هذا فيه بيان حرمة الجمع بين المرأة وابنتها وبين الأخت وأختها فهذا تأكيد لما ثبت بالآية وبيان أيضا لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ليست له خصوصية في هذه المسألة، وفيه أيضا توجيه من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لنسائه أمهات المؤمنين أن لا يشتغلن بهذا الأمر فهو أدرى بما يصلح له، وهو أدرى بما يباح له وما يحل له، وفيه أيضا توجيه يستفيده المفتي حين توجه إليه أسئلة أن يستفصل في معرفة مقصود السائل فإننا نجد أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما طلبت منه رملة بنت أبي سفيان -رضي الله عنها- أن يتزوج من أختها قال لها: أوتحبين ذلك؟! فهذا استفصال منه -صلى الله عليه وسلم- فلما قالت إنا نحدث أنك تنكح ابنة أبي سلمة قال: بنت أم سلمة؟! فهو يستفصل ويستوثق ويستفهم من السائل مراده حتى لا يجيب على ما هو غير مقصود للسائل فيقع من ذلك خطأ يتدين به هذا السائل ويكون على المسؤول من ذلك كفل.
إذن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم التثبت من السائل قبل إجابته.
نحن سننتقل إلى الجزء الأخير من هذا الحديث وهو قول عروة: "ثويبة مولاة لأبي لهب، وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله بشر حيبة. قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألقَ بعدكم خيرا غير أني سُقيت في هذه بعتاقتي ثويبة" هذه الزيادة ليست في مسلم، وإنما هي من أفراد البخاري ثم إن هذه الزيادة زيادة مرسلة؛ فليس لها حكم هذا الحديث الصحيح لأن الأصل في المرسل أنه مردود فالمرسل من جنس المردود أليس كذلك؟ بلى. إذن هذه الرواية رواية مرسلة. ماذا فيها؟
فيها أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ارتضع من ثويبة، وأن هذه المرأة أرضعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكانت مملوكة لأبي لهب وأنّ أبا لهب لم يلق بعد موته خيرا غير أنه سقي بعتاقته ثويبة.(1/13)
قوله: "لم ألق بعدكم خيرا" ورد في بعض الرواية بدون ذكر خيرا لم ألق بعدكم يعني المنقول بحذف المعمول وهو كلمة خير لم ألق بعدكم، وروي: لم ألق بعدكم رخاء، وروي أيضا: لم ألق بعدكم راحة.
إذن "خيرا" هذه ليست منقولة في الصحيح.
وقوله: "بشر حيبة": يعني بشر حالة، وورد "بشر خيبة" وهذا تصحيف يعني الحاء تصحفت إلى خاء أي بشر خيبة لكن الصحيح أنها "بشر حيبة" أي بشر حالة.
وقوله: "غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة": "سقيت في هذه" الإشارة هنا إلى النقرة التي تحت إبهامه أو إلى ما رواه أو ما نقله السيوطي أنه كان يَمَصّ بين إصبعيه ماء يعني فيه نقرة تحت إبهامه في جزء يسير من يده يشرب ماءا يسيرا جدًا يعني ماء حقيرا جدًا بسبب ماذا؟
بسبب أنه أعتق ثويبة مرضعة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن هذه الرواية المرسلة ذهب بعضهم إلى أن الكافر ينتفع بعمله الصالح الذي يكون في الدنيا.
وفي بعض الروايات أنه قال "لما فرحت بمولد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أعتقت ثويبة، فسقيت في هذه يعني بعتاقتي إياها" استفاد السيوطي في هذه الرواية أنها تنصر مذهبه في الاحتفال أو في مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي، ولا يخفى أن مولد النبي -عليه الصلاة والسلام- والاحتفال به إنما هو بدعة باطنية إنما أحدثها الدولة الباطنية الرافضية الخبيثة المسماة بالدولة العبيدية أو الفاطمية.
وأن من وافقهم في ذلك أو على ذلك فإنه يثاب ونحن نرد على هاتين الدعويين.
الدعوة الأولى:
أن الكافر ينتفع بعمل صالح في الدنيا هذه الرواية يقال فيها أولا كمن قلنا إنها مرسلة، والمرسل من أقسام الضعيف، ولم يذكر أيضا من هذا الذي رأى هذه الرؤية من أهل أبي لهب فإن كانت عن كافر؛ فإنها تزداد وهنا على وهن، فلا يكون فيها من الحجة شيء، ثم إن هذا قد عارض الأصول الصحيحة الصريحة من كتاب الله -عز وجل- وهي قول الله تعالى ماذا؟
?(1/14)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ? [الفرقان: 23].
ثم لو فرض أن هذا الحديث المرسل الضعيف ثبت وصله إلى الرائي من أهل أبي لهب وكان هذا الرائي مسلما ولا نعلم الرائي وقتها كان مسلما أم لا فإننا نقول إن هذه المنامات لا حجة فيها ولا تشريع فيها ولا ينعقد بها حكم باتفاق المسلمين كيف وقد خالفت صريح كتاب الله تعالى؟!
ثم ما يقال من أنه يخفف عنه بسبب ذلك فعلى كل حال قد ورد ما يعارض هذا من قول الله تعالى: ? تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ? [المسد: 1]، وعلى تقدير قبول هذه الرواية فإنها تحمل على الخصوصية لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فليس فيها ما يدل على أن الكافر ينتفع بعمله الصالح إلا أن الله -عز وجل- جعل لأبي طالب هذه الخصوصية بنقله إلى ضحضاح من النار بما كان يحمي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
أما أن يستدل بهذا على مشروعية الاحتفال بما يسمى بالمولد النبوي؛ فهذا لا أصل له ولا حجة فيه لقائله. وبهذا نكون قد أتينا على المهم من شرح هذا الحديث لننتقل إلى الحديث الذي يليه وهو في تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: ((عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا يُجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها)).
هذا الحديث من رواية أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- وقد تقدمت ترجمته فلا نعيد ذكرها، وهي تؤكد ما كنا ذكرناه في درسنا الماضي من حرمة الجمع بين المرأة وعمتها والجمع بين المرأة وخالتها، وقلنا إن هذا من أقسام التحريم على التأبيد أم على التأقيت؟
من أقسام التحريم على التأقيت.
من أقسام التحريم على التأقيت فإن الجمع بين الأختين إنما هو جمع على التأقيت، والجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها جمع على التأقيت أيضا.(1/15)
إذن هذان من أصناف المحرمات على التأقيت وليس على التأبيد.
هذا الحديث تضمن بيانا لهذه الحرمة وهل هذه الحرمة ثابتة بكتاب الله تعالى متأكدة بسنة رسول الله -صلى الله عليه وآله ومن والاه- أم أن هذا مما استقلت السنة بتشريعه؟
هذا مما استقلت السنة المطهرة بتشريعه فليس في الكتاب العزيز ما يدل على حرمة الجمع بين المرأة وعمتها ولا الجمع بين المرأة وخالتها. وهذا مما يدلك على أن السنة المطهرة ولو كانت آحادا تستقل بتشريع الأحكام، وهذا يسميه بعض الأصوليين بالسنة الأصولية وهي تلك الأحكام التي كان مصدرها في التشريع سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-. وهذا يسميه أيضا بعض الأصوليين تخصيص للكتاب بالسنة. ما معنى تخصيص الكتاب بالسنة؟ وأين في هذا الحديث تخصيص لعموم الكتاب؟ من يعرف؟
في قول الله -عز وجل- بعد أن ذكر المحرمات من النساء قال: ? وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ? [النساء: 24]، فدل ذلك على هذا على أن الأمر بعد هذه الآية يعني المحرمات دون ما يذكر في هذه الآية يجوز نكاحهن فجاءت هذه الآية فخصصت هذه الصورة
جاء هذا الحديث
جاء هذا الحديث يخصص هذه الصورة
يخصص هذه الآية يخصص عموم القرآن في قول الله تعالى: ? وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ?، ما هو الذي أخرج من الإباحة؟
الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها.
وهذا الحديث يساق للدلالة على هذا المذهب الأصولي الذي هو مذهب جماهير أهل العلم ومذهب الأئمة الأربعة وأتباعهم من جواز تخصيص القرآن الكريم بالسنة ولو كانت آحادا، وذهب الحنفية إلى أن السنة المشهورة هي التي تخصص كتاب الله تعالى.
وهذا الحديث وقع من رواية عدد من الصحابة من ثلاثة عشر صحابيا كلهم يروون هذا الحديث عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- فهو من جنس المشهور عند الحنفية والذي يتأتى به التخصيص.(1/16)
لكن مع هذا وقع عند بعض الخوارج إنكارٌ لهذا الحديث أو إنكار للعمل بهذا الحديث، ولم يقولوا بدلالته على التخصيص.
على كل حال الحكمة من تحريم الجمع بين المرأة وخالتها أو بين المرأة وعمتها ما هي؟ من يعرف؟ ما الحكمة من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو بين المرأة وخالتها؟ من يعرف؟
الأصل العام وهو أن الإسلام جاء يحافظ على صلة الأرحام
أن هذا يترتب عليه قطيعة الرحم لأن المرأة وعمتها إذا كانتا ضرائر فإن هذا يُفضي إلى أن يقع بينهن أن ما يقع من الضرائر من التشاحن ومن الغيرة التي تفضي إلى تقطيع الأواصر والأرحام ولذلك جاء النهي عن ذلك في حديثه -صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا يجمع..) ومعنى قوله -صلى الله عليه وآله وسلم- (لا يجمع)؛ أي لا يجمع بنكاح ولا بوطء في ملك يمين يعني إذا قلنا إن هذا لا يجمع بين امرأة وعمتها وامرأة وخالتها من الحرائر فلا يجمع أيضا بين امرأة وعمتها ولا امرأة وخالتها من الإماء؛ أي لا يجوز له أن يطأهما معا لأن ملك اليمين لا تنكح وإنما توطأ بهذا الملك. فإن وطأ واحدة؛ فقد حرم عليه أن يطأ الثانية إلا أن يأتي بسبب يُحرم الأولى عليه كأن يبيعها مثلاً عندئذ يجوز له أن يطأ الأمة الأخرى.
على كل حال قوله -عليه الصلاة والسلام-: (لا يجمع)؛ أي لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها في نكاح سواء كان ذلك واقعا على الترتيب أو كان واقعا دفعة واحدة. فإن واقع دفعة واحدة؛ فإن هذا العقد في حقه الاثنتين يكون باطلاً إذا عقد على المرأة وعمتها بعقد واحد؛ فإن العقد يفسد ويبطل بالاثنتين معا. وإن كان هذا على الترتيب أي كان العقد على الترتيب فأيتهما يبطل عقدها؟ الأولى أم الثانية؟
الثانية بغير خلاف.(1/17)
إذن هذه المسألة مسألة الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها دليل للعلماء كافة على ما ذكرنا من جواز التخصيص بالسنة للكتاب واستقلال السنة بالتشريع، وهي أيضا تنهى عن هذا الأمر قياسا على ما يقع من علة تحريم الجمع بين الأختين فإذا كانت علة الجمع بين الأختين ووقوع التشاحن الذي يفضي إلى قطع الرحم؛ فكذلك الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها.
طيب العمة الحقيقية لا يجوز الجمع بينها وبين بنت أخيها.
طيب العمة المجازية هل يجوز أن يجمع بينها وبين ابنة أخيها؟ من هي العمة المجازية؟
أخت أبي الأب يعني أخت الجد والخالة المجازية هي أخت أم الأم. فهل يجوز أن يجمع الرجل بين امرأة وبين أخت جدتها؟ أو بين امرأة وأخت جدها؟
نقول: لا أيضا.
إذن هذا يشمل الخالة وإن علت ويشمل العمة وإن علت. بهذا نصل إلى نهاية هذا الدرس لكني أنبه على مسألة يسيرة حتى نفسح المجال لأخينا الشيخ عبد الرحمن وهو سؤال قد يبدو بدهيا في إجابته وهو:
هل يجوز أن يجمع الرجل بين بنتيْ عم في نكاحه أو بين بنتي خالة؟
هل يجوز ذلك أم لا؟
نعم، يجوز ذلك.
هل خالف في ذلك أحد؟
نعم خالف في ذلك بعض السلف لتوهمه أن هذا يُفضي إلى نفس العلة. لكن معنا النص فلا يجوز أن يتعدى موضع هذا النص في بيان المحرمات.
مسألة أتركها لكم تبحثون فيها ونجيب عليها في اللقاء الآتي:
رجل طلق امرأته ثم تزوج بأخرى فأنجب منها بنتا فتزوج آخر من مطلقته، ثم أراد أن يجمع إلى هذه المرأة المطلقة بنت ذلك الرجل يعني يجمع عنده مطلقة الرجل وابنته من غيرها فهل يحل له ذلك؟
هذا نجيب عنه في لقائنا الآتي إن يسر الله –تعالى- وأعان. وبهذا نكتفي لننتقل إلى الإجابة على الأسئلة.
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول:
بين أصناف المحرمات من النساء على سبيل التأبيد.
وكانت الإجابة: سبع من النسب:
1- الأمهات وإن علون.
2- البنات وإن نزلن.
3- الأخوات من أبوين أو أب أو أم.
4- وبناتهن.
5- وبنات الإخوة.(1/18)
6- والعمات.
7- والخالات.
وأربع بالمصاهرة:
1- أمهات الزوجات وإن علون.
2- وبناتهن وإن نزلن وإن كان دخل بهن.
3- وزوجات الآباء والأجداد وإن علون.
4- وزوجات الأبناء وإن نزلوا.
ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، وإذا حصلت الملاعنة فإذا وقعت الملاعنة؛ فهي فرقة بين الرجل وامرأته فرقة أبدية على الراجح الصحيح انتهت إجابة السؤال الأول
هذا صحيح.
والسؤال الثاني:
بين أصناف المحرمات من النساء على سبيل التأقيت.
وكانت الإجابة:
هن عشرة أصناف:
1- المشغولة بحق الغير.
2- الزوجات المطلقات الرجعيات.
3- المعتدات من الوفاة أو من طلاق أو فسخ أو لعان أو خلع.
4- المشركة حيث لا دين لها مثل البوذية والهندوسية حتى تدخل في الإسلام.
5- المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره.
6- أصول عدد نساء الأربع زوجات.
7- الجمع بين محرمين مثل المرأة وعمتها.
8- المرأة المحُرِمة حتى تتحلل من الإحرام.
9- المرأة التي ظاهرها زوجها حتى يكفر.
10- الزانية لا يجوز نكاحها حتى تتوب، والأمة التي يريد أن يتزوجها وعنده زوجة حرة فلا يجمع بينهما وزواج العبد من سيدته حتى تعتقه
هذه إجابة صحيحة.
أسئلة المحاضرة:
السؤال الأول:
بين حكم نكاح الربيبة التي ليست في حجر زوج أمها.
السؤال الثاني:
ترجم لأعلام الصحابة الذين ورد ذكرهم في هذا الحديث. والمقصود بالحديث حديث أم حبيبة.(1/19)
الحديث - المستوى السادس
الدرس الرابع عشر - باب الشروط في النكاح
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
باب الشروط في النكاح
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه، ومن اتبع هداه.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة، سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته، ومرحباً بكم مجدداً إلى هذا الدرس في عمدة الأحكام ومع باب الشروط في النكاح.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (
باب الشروط في النكاح
عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)).
هذا الحديث حديث عقبة بن عامر الجهني -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- له هجرة تصح، وقد بايع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على الهجرة، أبو حماد، وقيل: أبو عبس -رضي الله تعالى عنه- كان من علماء الصحابة وفقهائهم وقرائهم وشعرائهم، كبير الشأن رفيع القدر، وكان من فقراء المهاجرين -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- وأغناه الله تعالى وكفاه وآواه؛ فبعد أن كان من أهل الصفة وَلِيَ إمارة مصر، وكان في الجيش الذي فتحها، وولي إمارة جندها لمعاوية -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، وقد غزا الشام، وغزا البحر؛ أي أغزاه معاوية -رضي الله تعالى عنه- البحر، جاهد في سبيل الله طويلاً وكثيراً وروى الحديث عن نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- له خمسة وخمسون حديثاً.
وعاد بعد هذا الجهاد والغزو الطويل إلى مصر مرة أخرى فأقام بها وأكمل بها حياته، فهو عامر بن عقبة المصري؛ لأنه مات بها -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، ودفن بالقرافة المعروفة بالمقطم في القاهرة، وكان ذلك سنة ثمان وخمسين من الهجرة النبوية.(1/1)
هذا الحديث صُدِّرَ به باب الشروط في النكاح، ووضع هذه الأبواب من صنع بعض الشراح، وإلا فالشيخ -رحمه الله تعالى- عدَّه ضمن أحاديث باب النكاح، فهذا الحديث هو الحديث السادس من كتاب النكاح، وهو الحديث الأول في باب الشروط.
(عن عقبة بن عامر -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إن أحق الشروط أن تُوَفُّوا به ما استحللتم به الفروج)).
إذن حديثنا في هذا عن الشروط؛ أي: الشروط في عقد النكاح. وقبل أن ندخل إلى المعنى التفصيلي لهذا الحديث ينبغي أن نتفهّم معناه الإجمالي، هذا الحديث يدور على أهمية الوفاء، بالشروط التي يشترطها عاقدٌ لنفسه على صاحبه في عقد النكاح؛ ذلك أن هذا العقد؛ أي عقد النكاح عقدٌ تستباح به الفروج، ويقع بسببه الاستمتاع، وهذا لا بد للإنسان حتى يأتي به أو يحصل عليه أن يكون موفياً بهذا الشرط الذي استباح به هذا الفرج الذي كان محرماً قبل التزويج.
فإذا كان الوفاء بالشروط في كل وقت مأموراً به؛ فإنه في هذا العقد أشدّ وآكد وأوثق. لماذا؟
لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)، والله تعالى قال: ?أَوْفُوا بِالْعُقُودِ? [المائدة: 1]، فمن الوفاء بالعقد أن توفي بشرط هذا العقد، وحين نتحدث عن الشروط في النكاح فإننا نَتَبَيّن أن الشروط في النكاح على ضربين:
الضرب الأول: شروط صحيحة.
الضرب الثاني: شروط فاسدة، أو شروط غير صحيحة.
وأنت مأمور إذا دخلت في عقد النكاح أن توفي بتلك الشروط الصحيحة، وقوله: (إن أحق الشروط أن توفوا به) يقتضي وقوع التفاوت في شدة وثاقة كل شرط، وفي شدة الأمر بالوفاء بهذه الشروط، فالشروط المتعلقة بالنكاح أشدّ وآكد وأوثق وأوجب على العبد؛ لما يتعلق بها من استباحة حرمة الأبضاع، وتأكيد استحلالها أكثر لزوماً على العبد.(1/2)
الإمام أحمد -رحمه الله- أخذ بظاهر هذا الحديث، فجعل كل شرط في عقد النكاح يوافق مقتضى العقد ويكون للعاقد فيه مصلحة، جعل ذلك مباحاً، "كل شرط من مقتضى العقد، وهو يحقق مصلحة للعاقد جعل ذلك مباحاً"، وخالف بعد ذلك الشافعية ومعهم طائفة، فجعلوا الأصل في الشروط الحظر إلا ما جاء الشرع بإباحتها.
إذن كأن لدينا قوليْن أو نظريتيْن:
- نظرية تجعل الأصل في الشروط الإباحة والحل.
- وأخرى تجعل الأصل في الشروط الحظر والمنع.
فالنظرية الأولى تجعل الأصل الإباحة والحل إلا إذا ورد دليلٌ ينهى عن هذا الشرط.
والنظرية الأخرى تقول: إن الأصل في الشروط الحرمة والمنع إلا إذا ورد دليلٌ بالإباحة والجواز.
فكأن النظرية الأولى توسع باب الشروط، والثانية تضيقها، ولكلٍّ أدلته، وسوف نأتي على ذلك إن شاء الله تعالى.
إذن الشروط في عقد النكاح على ضربين:
الشرط الأول: شرط صحيح.
الشرط الثاني: شرط فاسد.
فما هو الشرط الصحيح؟
هو ما لا يخالف مقتضى العقد، وللمشترط من العاقديْن فيه غرض صحيح، أو منفعة أو مصلحة مقصودة، فهذا هو الشرط الصحيح في عقد النكاح.
والشرط الفاسد هو ما كان مخالفاً لمقتضى العقد وهو نوعان.
طيب إذا أردنا أن نفصل في الشرط الصحيح فنقول: إن الشرط الصحيح على ضربين أيضاً:
الضرب الأول: ما كان وارداً في صلب العقد، ومقترناً به أو حتى وارداً قبله بيسير، وكان مما يقتضيه العقد. ما هي أمثلة ما يقتضيه العقد؟(1/3)
كأن يشترط أن تسلم الزوجة نفسها لزوجها ليستمتع بها، أو كأن يشترط أن يكون على الرجل نفقتها، أو كأن يشترط على الرجل أن ينفق عليها، أو أن يكسوها، أو أن يسكنها، كل هذه شروط من مقتضى العقد، فمن مقتضى عقد الزواج حِلُّ الاستمتاع بين الرجل والمرأة، ومن مقتضى عقد الزواج، أن يلتزم الرجل بحسن العشرة، ومن مقتضى عقد الزواج أن ينفق عليها مما آتاه الله تعالى، وأن يسكنها من السكن الذي يلائمها ويناسبها، هذا شرط يُقال عنه إنه من مقتضى العقد، يعني تفرضه وتقتضيه طبيعة عقد الزواج، أو عقد النكاح.
والشرط الثاني: شرط للعاقد فيه مصلحة ومنفعة، وإن لم يكن من مقتضى هذا العقد. مثل ماذا؟
مثل أن تشترط المرأة على زوجها ألا ينقلها عن هذه البلد إلى بلد أخرى، أو أن تشترط المرأة على الرجل أن لا يتزوج عليها، أو أن لا يتسرى عليها؛ أي أن لا يمتلك أمة يطؤها بملك اليمين، أو أن تشترط أن يكون مهرها من نقد معين، أو أن يكون المهر كله مُعجّلاً، أو أن يشترط الرجل أن يكون المهر كله مؤجّلاً، أو من نقد معين أو ما أشبه، فهذا لكلا العاقدين فيه مصلحة، إن اشترط المرأة لنفسها أن لا يتزوج عليها، أو أن لا يخرجها من بلدها أو أن لا يؤخر عنها مهرها، أو أن يكون مهرها من كذا أو كذا، ذلك كله لها فيه غرض صحيح، وإذا اشترط الرجل في المرأة مثلاً أن تكون جميلة، أو أن تكون نسيبة، أو أن تكون حسيبة، أو أن تكون هذه المرأة فيها من الصفات التي يرغب بسببها في نكاحها فذلك له؛ لأنه يعني يجمع قلبه على الزواج ويغض بذلك بصره.. إلى آخره.
إذن هذا شرط صحيح للعاقد فيه غرض صحيح.
إذن الشروط الصحيحة على ضربين: شرط هو من مقتضى العقد، وشرط للعاقد فيه مصلحة.
هذا الشرط وقع الخلاف بين العلماء في حكمه، فذهبوا في حكم هذا الشرط إلى مذهبين اثنين:(1/4)
- المذهب الأول: صحة هذا الشرط مع العقد، وهذا مذهب الحنابلة، هذا يعرف عن الحنابلة، وهو مذهب طائفة من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- وطائفة أيضاً من التابعين، يذهبون إلى أن مثل هذا العقد صحيح، وأن مثل هذا الشرط أيضاً صحيح.
- وأما الطائفة الأخرى فهي أكثر من الطائفة التي أباحت، ونستطيع أن نسميها بالجمهور، فهؤلاء الجمهور ذهبوا إلى أن هذا الشرط يلغو وأن العقد يصح. يعني لو أن امرأة جاءت في عقد نكاحها فاشترطت على زوجها ألا ينكح عليها فقبل بهذا الشرط وتزوجها؛ فإن هذا الشرط لا يلزمه، لا يلزمه أن يفي به، وله أن يتزوج عليها مثلاً، أو لو شرطت عليه أن يكون المال من النقد الفلاني؛ فله أن يعطيها من نقد آخر.. وهكذا،
قالوا: لأن هذا ليس من صلب العقد ولا من مقتضاه، وهو أمر زائد على العقد، واستدلوا لهذا المذهب بأدلة؛ منها: قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (كل شرط ليس في كتاب الله؛ فهو باطل)، واستدلوا أيضاً بحديث آخر: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً، أو حَرَّمَ حلال) يقول: والشرط الذي فيه أنه لا يتزوج عليها أو أن لا يخرجها من بلدها أو كذا.. هذا يُحَرِّمُ عليه الحلال، أو يمنعه من الحلال، فعندئذ قالوا: إن هذا الشرط يلغو والعقد صحيح.
الحنابلة يقولون: لا، نحن نقول: الشرط يصح والعقد يصح، وإذا خالف الشرط فإنه يثبت لها الخيار. الخيار بين ماذا وماذا؟
بين إمضاء العقد أو فسخه.
طيب ما حكم وفاء هذا الرجل بهذا الشرط؟
واجب.
لا.. ليس واجباً، يقولون: إنه يُسَنُّ بأن يفي بهذا الشرط، فإن لم يفعل؛ فقد ثبت لها حق الفسخ. يُسَنُّ له أن يفي بهذا الشرط، فإن لم يفِ؛ فإن هذا يثبت لها حق الفسخ.
بأي دليل يستدل الحنابلة وعلى أيِّ شيء يعتمدون؟(1/5)
يعتمدون على قول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ? [المائدة: 1] ثم إنهم يستندون إلى حديث الباب: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)، وبقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (المسلمون على شروطهم) وقد ورد عند الأثرم بسنده أن رجلاً تزوج امرأة، ثم إنه شرط لها دارها، ثم أراد أن ينقلها عن هذه الدار، فخاصموه إلى عمر -رضي الله تعالى عنه- فقال: "لها شرطها. مقاطع الحقوق عند الشروط".
إذن فتوى عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه يُتقيد بشرطها، فإن تقيد به؛ فالحمد لله، وإلا؛ ثبت لها حق الفسخ. وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يقول: "ومقاصد العقلاء إذا دخلت في العقود، وكانت من الصلاح الذي هو المقصود؛ لم تذهب عفواً ولم تُهدر رأساً" يعني يقول: يعتبر امرأة ما رضيت بأن تدخل في أسر زوجها ولا أن تعيش معه إلا بشرط فهذا الشرط لا بد أن يعتبره هذا الزوج، وأن يحافظ عليه، وأن يرعاه؛ كالآجال في الأعواض، يعني مثلاً أنا اشتريت منك شيئاً، وضربنا أجلاً، وهذا الأجل رضيت فيه أنا مثلاً بشهر فلا يجوز لك أو فلا ينبغي لك أن تؤجلني أكثر من هذا الشهر؛ لأن لي غرضا في أن يكون هذا المال عندي بعد شهر مثلاً أو بعد سنة مثلاً، وكذلك قد أقول: أنا أريد هذا المال من العين الفلانية، من الذهب، أو من الريالات، أو من الدينارات، فهذا لي فيه غرض صحيح ومقصود، فإن أعطيتني من غيره؛ فإن هذا على خلاف ما رضيت به. شأن هذا أيضاً شأن الصفات في المبيعات، أنا بعت شيئاً بصفة معينة، وطلبت ثمناً بصفة معينة، فيتعين على من بايعني أو اشترى مني أن يرعى هذا القيد في الثمن، أو يرعى هذا القيد في المبيع ونحو هذا.(1/6)
إذن العقلاء يرعون هذا في معاملاتهم، فلا ينبغي بحال أن يفرط الرجل أو أن تفرط المرأة في أن يفي كل واحد منهما لصاحبه بما وقع التشارط عليه، وهذا هو الراجح الصحيح. ولقد رأينا من قضاء عمر -رضي الله تعالى عنه- ما يدلّ على اعتباره لهذا الشرط في هذه المسألة بالذات، مسائل النكاح، وابن قدامة -رحمه الله تعالى- ساق هذا المذهب عن عدد من الصحابة وقال: ولم يُعلم لهم مخالف؛ أي فكان هذا من إجماعهم -رضي الله تعالى عنهم-.
إذن الرأي الراجح هو ما انتهى إليه نظر الحنابلة ومن وافقهم في هذه المسألة.
الخلاصة: أن الشروط الصحيحة على ضربين:
الضرب الأول: ما وافق مقتضى العقد وهذا متفق عليه بين جميع الفقهاء؛ لأن مقتضى العقد أن يحل الاستمتاع بين الرجل والمرأة، مقتضى العقد أن ينفق الرجل على المرأة، أن يكسو الرجل المرأة، النفقة الواجبة، والكسوة الواجبة، فإذا تحقق هذا أو طُلِبَ هذا بمقتضى العقد؛ فإن هذا لا بد منه ولا غنى عنه، وطلبه كتحصيل الحاصل؛ لأنه مطلوب بأصل العقد.
وأما الشرط الثاني الذي وقع فيه الخلاف من الشروط الصحيحة: وهو ما لم يكن من مقتضى العقد لكن كان للعاقد فيه غرض صحيح، بحيث إنه لو لم يتحقق هذا الشرط، قد لا يرضى بهذا العقد، فهذا الراجح الصحيح أنه يلزم هذا العاقد أن يرعى هذا الشرط وأن يفي به، فإن لم يفِ؛ فقد ثبت للطرف الآخر حق الفسخ.
الشروط الفاسدة، أو قل إن شئت الشروط الباطلة وهي نوعان:
الأول: ما يلغو فيه الشرط ويصح العقد، أو ما يبطل فيه الشرط ويصح العقد.
والنوع الثاني: ما يبطل به العقد والشرط معاً.(1/7)
إذن الشروط والفاسدة على ضربين أيضاً: شرط فاسد في نفسه إلا أنه لا يفسد العقد، وآخر فاسد في نفسه مفسد للعقد، يعني لو أن إنساناً اشترط أن يكون له الخيار في عقد النكاح، فإن هذا شرط فاسد؛ لأن عقد النكاح لا يقبل الخيار، أو اشترط أن يكون له الخيار في ا لمهر، يعني يدفع المهر أو لا يدفعه، أو اشترط أن لا ينفق، أو اشترط على المرأة أن لا تلد منه، أو اشترط على المرأة أن لا ترث منه، أو اشترط على المرأة أن لا يسكنها داراً؛ فهذه شروط باطلة فاسدة في نفسها، لكنها لا تفسد العقد.
ماذا لو رضيت المرأة ببعض هذه الشروط؟
لو أن امرأة شارطها رجل فقال: أشارطكِ على أن لا تنجبي مني مثلاً، فإن قبلتِ تزوجتك، فقبلت، فهل يلزمها أن تفيَ بهذا الشرط؟
لا يلزمها. فإن التزمت بذلك؛ فبها ونعمت، وإلا؛ فيجوز لها أن تطالب بكافة حقوقها؛ من النفقة، ومن الإنجاب، ومن الإرث، وغير ذلك من الحقوق.
إذن هذا الشرط في ذاته أو في نفسه فاسد إلا أنه لا يفسد العقد، فإن قبلت به، أو قبل به فله ذلك؛ لأنه يسقط أو تسقط هي بعض حقها، أو تتنازل عن بعض حقها.
الصورة الثانية أو الضرب الثاني من الشروط: ما هو باطل أو فاسد في نفسه مبطل للعقد، وهذا يشمل، كل عقد نكاح تضمن شرطاً ورد النهي عنه بخصوصه، وهذا يشمل أربع حالات:
الحالة الأولى:
ما يسمى بنكاح الشغار، أو قل إن شئت اشتراط أن يجعل مهر ابنته مثلاً بضع ابنة من سيزوجها، فيقول له: أنكحك على أن تنكحني، يعني يجعل مهر هذه زواج هذه، فيخلو العقد عن ذكر مهر أو عن تسمية مهر أو عن مهر من أساسه، فهذا ما يُسمى بنكاح الشغار، وهذا اشتراط فاسد مفسد للعقد عند الجمهور، إن خلا العقد عن تسمية المهر.
الحالة الثانية من الشروط الفاسدة المفسدة للعقد:(1/8)
لو أنه اشترط في هذا العقد أن يكون مؤقتاً، أن يقول لها مثلاً: أنكحكِ إلى سنة، أو أتزوجكِ شهراً، فهذا التأقيت يبطل العقد عند جماهير العلماء وهي المتعة التي نهى عنها نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم-.
إذن الحالة الأولى: الشغار، والحالة الثانية: نكاح المتعة.
الحالة الثالثة:
أن يشترط أن يكون العقد غير مُنَجَّز، بمعنى: أن يُضاف إلى المستقبل؛ كأن يقول: أنكحتك إذا جاء المسافر، أو أنكحتك إذا دخل الشهر، أو أنكحتك إذا جاء رمضان، أو أنكحتك إذا رضي فلان. فهذا كله مضاف إلى المستقبل، وهذا عقد باطل؛ لأنه يجب في عقود النكاح أن تكون مُنَجَّزة لشدة تعلقها ووثوقها، فلا يجوز أن تؤقت ولا يجوز أن تضاف إلى المستقبل.
ومن الحالات أيضاً: نفي الحل، لو اشترط أنه لا ينكحها مثلاً؛ أي لا يطؤها، فهذا نفي لحل النكاح، فهذا يبطل العقد؛ لأنه يأتي على مقصوده الأساسي بالإبطال أو بالإهدار، فهذه كلها أمثلة للحالة أو للنوع الثاني من أنواع الشروط الفاسدة، وهي الشروط الفاسدة في نفسها المفسدة للعقد معاً، يبقى هذا الشرط إذا وجد في عقد فإنه يفسد العقد ويفسد الشرط معاً.
وهذا الحالات الأربع ورد النهي عنها بخصوصها في السنة الصحيحة الصريحة، ولهذا سيأتي معنا -إن شاء الله تعالى- في الحديث الآتي تحريم نكاح الشغار، لننتقل إذن إلى الحديث التالي.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم (نهى عن نكاح الشغار)).
هذا الحديث حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- وقد تقدمت ترجمته أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (نهى عن الشغار) فلفظة النكاح ليست في الصحيح، فنهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق.(1/9)
كان من عادة أهل الجاهلية أن يظلم الرجل ابنته أو أخته أو موليته فيجعل مهرها هو زواجه من امرأة أخرى، بحيث إنها تسلم نفسها لرجل يتزوجها بغير مهر، أو بغير صداق تنتفع هي به.
لماذا؟
لأن الذي ينتفع بالمهر عندئذ هو وليّها الذي زوجها، وهو زوجها على أن يتزوج هو من امرأة أخرى. هذا يفضي والعياذ بالله إلى ظلم بَيِّن شديد للمرأة، فهو من أكبر الظلم الذي كانت الجاهلية تتعاطاه وتتعامل به، والنبي -عليه الصلاة والسلام- نظراً لخطورة هذا أكَّد النهي عنه، فنهى عن الشغار.
وما هو الشغار؟
الشغار من الشغور والشغور هو الخلو، فإذا قلنا: شغر الزمان عن الإمام؛ فهذا معناه: أنه خلا، أو شغر البلد عن القاضي؛ فهذا معناه أنه خلا، فالشغور بمعنى الخلو، وهذا سُمِّيَ بنكاح الشغار؛ لأنه خلا عن مهر تقبضه المرأة وتنتفع به، وإنما صار الذي ينتفع بهذا هو وليها، والشغار أيضاً يطلق على معنى البُعد، وكأنه بُعد عن طريق الحق في شأن النكاح، فهذا النكاح الذي وقع شغاراً أبعد صاحبه النجعة، وخالف فيه الهدي المستقيم، وكما قدمنا فإنه كان من نكاح أهل الجاهلية.
قوله -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه عبد الله بن عمر: (نهى عن الشغار) المقصود: "نهى عن نكاح الشغار". والنهي -كما تعلمون- يقتضي التحريم، وعلى الصحيح فإنه يقتضي الفساد أيضاً. والفساد يرادف البطلان عند الجمهور خلافاً للحنفية الذين يقولون: إنه لا تلازم، فقد يكون العقد فاسداً ولا يكون باطلاً، على كل حال نهيه -صلى الله عليه وآله وسلم- عن الشغار يدل على أن هذا العقد مُحَرَّم، يبقى البحث في فساده، هذا ما سوف نأتي إليه.
قوله: (والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق)
هذا من كلام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أم من كلام بعض الرواة؟(1/10)
اختُلِفَ في ذلك؛ فمنهم من قال: هذا مُدْرَج من كلام بعض الصحابة، ومنهم من قال: بل هو مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأيَّد بعضهم هذا ببعض الأدلة وأيَّد بعضهم أنه مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ببعض الروايات.
وأياً ما كان الأمر؛ فهذا تفسير صحيح للشغار المذكور من قوله: (أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق) هذا تعريف صحيح من جهة اللغة ومن جهة الشرع، فإن قلنا: هو مرفوع، فهذا لا حرج فيه، وإن قلنا: هو من كلام بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن كلام أهل اللسان العربي فإن المقصود واحد، وكلا القولين على كل حال مقبول، والصحابة -رضي الله تعالى عنهم- أعلم بالمقال وأفقه بالحال.
ما هي علة النهي عن نكاح الشغار؟
لماذا وقع النهي عن نكاح الشغار؟
من أهل العلم من قال: إن نكاح الشغار علته هو أنه مُعَلَّق وموقف، ونحن قلنا: إن عقود النكاح لا تقبل التعليق، وإنما هي عقود مُنَجَّزة، وقلنا: لو أن رجلاً قال لصاحبه: أنكحك بعد شهر، أو زوجتك بعد سنة، أو زوجتك إن رضي فلان، ولا يُعلم رضاه، أن هذا العقد يقع باطلاً، لاسيما إذا أضاف هذا إلى المستقبل، فإنه لا اختلاف في أن العقد يبطل على هذا النحو، أما لو أضافه إلى ماضٍ أو إلى حاضر يتحقق فإن هذا لا حرج فيه، لو كانوا مثلاً في المجلس، وتقدم إليه فلان ليخطب ابنته، وعمها جالس، فقال: أنكحتك إن رضي عمها، فعمها قال: رضيت، فهل هذا أضافه إلى حاضر أم إلى ماضٍ أم إلى مستقبل؟
أضافه إلى حاضر، فإذا أضافه إلى حاضر فإن العقد يصح، فإن قال: رضيت؛ وقع العقد صحيحاً.
إذن عقود النكاح لا تقبل تعليقاً، فقالوا: إن عقد نكاح الشغار فيه التعليق والتوقيف، لماذا؟
قالوا: لأنه جعل كل عقد شرطاً في العقد الآخر.، أنكحك ابنتي على أن تنكحني ابنتك، فصار كل عقد شرطاً في العقد الآخر، فصار هذا تعليقاً وتوقيفاً.(1/11)
وقيل: إن العلة هي التشريك في البضع، يعني أشركك في هذا البضع على أن تشركني في هذا البضع، فصار هذا من التشريك في البضع، وهو أيضاً لا يحل.
وقيل -ولعله هذا أقوى وأرجح-: أن العلة هي نفي المهر، ونحن قلنا: إن نكاح الشغار من الشغور وهو الخلو والفراغ، فإذا خلا العقد عن مهر فإن هذا يفضي إلى بطلان هذا العقد أو إلى فساده على قول من قال به، ويفضي أيضاً إلى ما سيترتب على ذلك من آثار.
إذا أردنا أن نحرر الخلاف في هذه المسألة: ما حكم العقد الذي تضمن شغاراً؟
نقول: اختلف الفقهاء في هذا على مذهبين رئيسييْن:
المذهب الأول:
مذهب الجمهور، والجمهور قال: بأن هذا العقد إذا وقع يقع فاسداً وباطلاً، يعني أن هذا العقد عقد يجب فسخه، وعدم المضي فيه. لماذا؟
قالوا: لأن هذا العقد مُهْدَرٌ بنهيه -صلى الله عليه وسلم- وهذا مذهب الشافعي وأحمد ومالك في المشهور عنه، وهو قول عمر -رضي الله تعالى عنه- وزيد بن ثابت ومعاوية وغير هؤلاء من أصحاب رسول -صلى الله عليه وسلم-.
وأما الحنفية فقالوا:
إن هذا العقد يصح إذا ذُكِرَ المهر، يصح بشرط ذكر المهر، أو بتسمية مهر المثل، فيكون لهذه مهر مثلها، ولتلك مهر مثلها، ويصح بهذا العقد، فإن خلا هذا العقد عن تسمية المهر فإنه يكون فاسداً لا باطلاً.
والحنفية قالوا: إن العقد يصح والشرط يبطل، أو يُلغى، أو يُهدر، ويطالب كل واحد أن يدفع مهر مثل من تزوج، فكأنهم في هذه الحالة صححوا هذا العقد وأبطلوا الشرط.
الجمهور قال: إن العقد يفسد والشرط أيضاً يلغو.
هناك قالوا: الشرط يلغو والعقد يصح.
طيب كيف يخلو عقد عن مهر؟(1/12)
قالوا: لا.. إذا وقع ذلك فإنه يجب لها مهر المثل، فكأن المهر فسدت تسميته، فيطالب كل واحد منهما بأن يدفع مهر المثل، وهذا كما هو مذهب الحنفية هو رواية أيضاً عن الإمام أحمد واختارها عدد من المجتهدين كأبي ثور وابن جرير وسفيان الثوري -رحمهم الله تعالى جميعاً-، والراجح مذهب الجمهور، وهو: أن هذا العقد على هذا النحو يُعد عقداً باطلاً، لا اعتبار له، ويتعين فسخه، وعدم المضي فيه فإذا فُسِخَ فإنه تترتب على فسخه آثار، ما هي هذه الآثار؟ أو الآثار التي تترتب على هذا العقد الذي فُسِخَ:
أولاً: يترتب عليه إذا وقع جراء هذا العقد جماع ترتب عليه حمل أن يثبت النسب، لماذا؟ لأننا بهذا نصون الولد عن الضياع، حين نثبت نسبه.
ثانيا: أن هذا الذي وقع لا يوصف بزنا، وإنما يوصف بأنه نكاح فاسد وباطل بشبهة العقد، فيترتب على ذلك درء الحد.
ثالثاً: يُحكم ببطلانه بغير طلاق، وتلزم المرأة التي دخلت في هذا العقد أن تعتد وهذا مذهب الجمهور، ولا يثبت بينهما توارث على الراجح من أقوال أهل العلم.
ولا شك أن هذا الحكم يتعلق بكل مولية، يعني إذا كان الحديث واردا في أن يزوج الرجل ابنته بابنة الآخر، فقد يقع في غير البنت، فقد يقع في الأخت مثلاً وهذا أيضاً لا يخرجه عن كونه نكاح شغار، بل لو كانت بنتاً أو كانت أختاً أو كانت كذا؛ فكل ذلك مُحَرَّم.
نُقِلَ عن الإمام مالك -رحمه الله تعالى-: "أن هذا العقد يُفسخ قبل الدخول كما يُفسخ بعده" فالفسخ قبل الدخول لا حرج فيه، ولا تترتب عليه آثار، إنما الكلام في الفسخ بعد الدخول؛ لأنه تترتب عليه هذه الآثار.
بهذا نكون قد أتينا على المهم من شرح هذا الحديث، لننتقل بعد هذا إلى الحديث الآتي وهو متعلق بنكاح آخر كان يقع أيضاً في الجاهلية ووقع في صدر الإسلام، وهذا النكاح هو المعروف بنكاح المتعة.(1/13)
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن عليِّ بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية)).
هذا الحديث حديث علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- في تحريم نكاح المتعة، ومعلوم أن هذا النكاح نكاحٌ كان عليه أهل الجاهلية، ثم إنهم بعد أن دخل كثير منهم في الإسلام بقوا ردْحاً من الزمن أو مدة من الوقت يتعاطون هذا النكاح، إلى أن جاء التحريم يوم خيبر، فوقع تحريم هذا النكاح ووقع إبطاله إلى يوم القيامة، وعليه أجمع العلماء، ولماذا جاء هذا التحريم؟ ولماذا وقع هذا التحريم؟
معلوم أن للزواج في الشريعة مقاصد، وأن هذه المقاصد منها ما يتعلق بتكوين الأسر وتنظيم شأن المجتمع، والمجتمع حين يتكون إنما يتكون من لبنة هي الأسرة، هذه اللبنة إنما تتكون من أسرة مستقرة، يقر فيها الرجل مع المرأة، ينشأ عن هذا الزواج ذرية، تتربى هذه الذرية في أحضان هذا الرجل وتلك المرأة، لينشأ عن ذلك ذلك البيت المسلم الذي منه يتكون المجتمع المسلم، فإذا كان الزواج مؤقتاً فإن هذا زواج لا يُكتب له البقاء، ولا تُكتب له الديمومة، أن يتزوج الرجل المرأة إلى أجل، هذا زواج خلا عن مقاصده، هذا زواج خلا عن حقيقته التي أرادها الشارع الحكيم من استقرار البيوت واستقرار الأزواج وكان مباحاً في أول الإسلام للضرورة، الضرورة التي أباحته من شدة العزوبة ومن كثرة ما كانوا عليه من السفر والترحال، ثم جاء التأكيد والتأبيد لتحريمه ولو عند الضرورة.
وجاء أيضاً معه النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية، فهي حرام بهذا الحديث، وهذا أيضاً مثال لما ورد من تحريم السنة أو استقلال السنة بتشريع بعض الأحكام.
إذن هذا الحديث في جملته يدل على أمرين:
الأمر الأول: بطلان العقود المؤقتة، أو العقود التي يشترط فيها التأقيت، هذا أولاً.
الأمر الثاني: حرمة أكل لحوم الحمر الأهلية.(1/14)
هذا الحديث يحتاج منا إلى بسط وذكر خلاف العلماء فيما يحل من ذلك وما يحرم، ولهذا -إن شاء الله تعالى- عودة ورجعة في لقائنا الآتي بإذن الله -تعالى-؛ لأن أخانا الكريم يشير إلى انتهاء الوقت.
أسئلة الحلقة الماضية:
السؤال الأول: بَيِّن ما حكم نكاح الربيبة التي ليست في حجر أمها.
وكانت الإجابة:
الربيبة هي بنت الزوجة ولا يجوز نكاحها لقوله تعالى: ?وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم? [النساء: 23] وخرجت الآية مخرج الغالب على الصحيح. هذه إجابة مقتضبة.
على كل حال لا بأس. الأصل أن الربيبة -كما مر معنا- يحرم نكاحها مطلقاً سواءً كانت في حجر الزوج أو كانت في غير حجره، سواءً كانت في حجره أو في غير حجره، سواءً كانت بنتاً نسبية أو كانت بنتاً رضاعية لتلك المرأة التي بنى بها ذلك الرجل.
السؤال الثاني: ترجم للأعلام المذكورين في حديث أم حبيبة.
الإجابة: الترجمة الأولى لأم سلمة:
وهي زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، واسمها: هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله المخزومية، بنت عم خالد بن الوليد، وأبي جهل بن هشام.
أبوها: كان يُسمى زاد الراكب، أحد أجواد العرب من المهاجرات الأول، كانت عند أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي فتوفي عنها فتزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنة أربع من الهجرة. وكانت من أجمل النساء وأشرفهن نسباً وأوفرهن عقلاً وأكثرهن فقهاً ولها أولاد صحابة هم: عمر، وسلمة، وزينب، ودرة، وقد ورد أنه لما انقضت عدتها خطبها أبو بكر فردته، ثم عمر فردته، فبعث إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: مرحباً أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني غَيْرَى وأني مُصْبِيَةٌ، وليس أحد من أوليائي شاهداً، فبعث إليها فقال: (أما قولك: "إني مصبية" فإن الله سيكفيكِ صبيانكِ، وأما قولك: "إني غيرى" فسأدعو الله لكِ أن يُذهب غيرتكِ وأما الأولياء فليس أحد منهم إلا سيرضى بي)، كانت هذه ترجمة أم سلمة.(1/15)
وأما ترجمة أبي سلمة:
فهو عبد الله بن عبد الأسد بن هلال المخزومي، وأمه هي: برة بنت عبد المطلب بن هشام، هاجر -رضي الله عنه- بأم سلمة الهجرتين، وجُرِحَ يوم بدر جُرحاً اندمل ثم انتقض ومات منه، وذلك لثلاث مضين من جماد الآخرة سنة ثلاث من الهجرة.
الترجمة الثالثة لراوية الحديث واسمها رملة، وقيل هي أم حبيبة:
اسمها: رملة، وقيل: هند بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية -رضي الله عنها-، أم المؤمنين وزوج خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم-، هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة فتنصر ومات نصرانياً، وتزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو هناك.
قال الذهبي: "وليس في أزواجه -صلى الله عليه وسلم- من هي أقرب منه نسباً إليه ولا في نسائه من هي أكثر صداقاً منها، ولا من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها عقد له عليها وهي بالحبشة، أصدقها عنه صاحب الحبشة أربعمائة دينار وجهزها بأشياء وكان وليها عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وقيل: خالد بن سعيد بن العاص. انتهت إجابة السؤال الثاني.
جزاك الله خيرا، الإجابة صحيحة وافية.
كان هناك سؤال في الحلقة الماضية عن جواز أن يجمع الرجل بين مطلقته وابنته من غيرها..
نريد أن نسمع إجابة من أجاب من الإخوة.
النساء.. يجوز بهن.
لماذا؟
لأنهن أجنبيات عن بعضهن البعض.
مطلقة الرجل وابنته من غير مطلقته، يجوز الجمع بينهن؟
نعم.
ليس بينهن قرابة؟
نعم.
هل قال أحد..
كيف سيجمع ابنته من غيرها.. وابنته من غيرها؟.
نعم. يعني تزوج امرأة ثم طلقها، ثم تزوج امرأة فأنجب منها بنتاً فجاء رجل فتزوج مطلقته، ثم أراد أن يجمع إلى هذه المطلقة تلك البنت فهل يجوز ذلك؟ يجوز ومنع منه أيضاً بعض السلف كالحسن وعكرمة وابن أبي ليلى لكن لا يوجد ما يمنع هذا الجمع بين هاتين المرأتين.
يقول: ماذا لو اشترطت امرأة على زوجها أن لا يطأها إلا بعد الرجوع من الحج، فلما عادت طلبت الطلاق؟.
مرة أخرى السؤال.(1/16)
امرأة اشترطت على زوجها ألا يطأها إلا بعد الرجوع من الحج.
يعني قبل أن ينكحها أم بعد؟
أثناء العقد، يعني يعقد عليها ليكون محرماً، فلما عادت؛ أصرت على فسخ العقد، وطلبت الطلاق.
يعني هذه أخذته كمحرم فقط؟
نعم.
على كل حال هي إذا طلبت الطلاق على هذا الحال، فإنه يكون خلعاً وهو يُندب إلى أن يجيبها إلى هذا الذي طلبت، فإن كانت هي قد كرهت منه شيئاً، أو رأت منه شيئاً تكرهه فطلبت الطلاق فهو مُخَاطب بمثل قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) وإن كان وقع بينهما خلوة صحيحة يثبت بها ما يثبت بالخلوة فإنها عندئذ تكون امرأة مدخولاً بها، تكون امرأة قد دُخِلَ بها، لكن على كل حال، إذا طلبت أن تختلع فله أن يُخالعها بأن يشترط ما أعطاه إياها، وبهذا يُنصح.
يقول: في نكاح الشغار المذهب الأول البطلان، والإمام مالك فَصَّل في رواية له قبل الدخول وبعد الدخول.
الحقيقة أن المالكية لهم قولان: المشهور من مذهب الإمام مالك أو المشهور من قول الإمام مالك يوافق قول الجمهور، والقول الثاني: قول بإيجاب الفسخ، سواءً كان قبل أو كان بعد، ما هو سؤالك؟
هل هو وافق مذهب الحنفية بعد الدخول؟ وافق مذهب الحنفية بعد الدخول ووافق مذهب الشافعية والحنابلة قبل الدخول؟.
ماذا يقول الحنفية؟ الحنفية يقولون: إنه إذا وقع هذا النكاح خالياً عن ذكر مهر المثل فإنه يصح مع ذكر المهر، فإذا وقع العقد بدون أن يُذكر المهر، فتصحيحه بأن يُذكر أو أن يُلزم. إذن معنى هذا أن الشرط لغا وأن العقد صار صحيحاً، واضح؟ هذا هو مذهب الحنفية.
هم قصدوا ذلك؟.
نعم.
أسئلة الدرس.
السؤال الأول: اشرح حديث عقبة بن عامر شرحاً إجمالياً.
السؤال الثاني: بَيِّن حكم نكاح الشغار.(1/17)
الحديث - المستوى السادس
الدرس الخامس عشر - باب تحريم نكاح المتعة
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
... باب تحريم نكاح المتعة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة السلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
ونرحب بكم مجددا إلى درس "عمدة الأحكام" ونحن مازلنا مع أحاديث كتاب الأحكام ومع حديث علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- في تحريم نكاح المتعة، وكنا قد عرضنا له بإجمال في أسبوعنا الذي مضى، وفي هذا الأسبوع نفصل الكلام فيه بحول الله تعالى.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: ((عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية)).
كان من أنكحة الجاهلية هذا النوع من النكاح، وهو مندرج تحت ما يعرف باسم عام وهو اسم "النكاح المؤقت". فنكاح المتعة نكاح مؤقت كان أهل الجاهلية ينكح أحدهم المرأة أو يستمتع أحدهم بالمرأة زمنا في مقابل مال يدفعه إليها فإذا انقضى الأجل؛ بانت منه من غير افتقار إلى طلاق أو عبارة تكون منه. فإن كان بينهما ولد لم ينسب إليه فإن مات وهي معه لم يرثها ولم ترثه. هذا هو النكاح الذي عرف في الجاهلية بنكاح المتعة أو بمتعة النساء. ولما جاء الإسلام بقي الحال على ما كان عليه في الجاهلية، وقد اشتدت حاجتهم -رضي الله تعالى عنهم- إليه لشدة العزوبة عليهم ولكونهم كانوا يغزون ويسافرون السفر الطويل مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وبلادهم حارة ولا يصبرون عن النساء؛ فكان هذا مدعاة إلى الإبقاء على هذا الأمر في صدر الإسلام.
إلى أن جاء توقيت سيأتي معنا بيانه على وجه التفصيل هل كان هذا يوم خيبر أم كان هذا في عام الفتح؟(1/1)
جاء النهي حازما وجازما وباتّا وصريحا ونهائيا في تحريم هذا اللون من ألوان النكاح التي عرفت في الجاهلية باسم نكاح المتعة. وهذا النكاح حرمته ظاهرة وعلة تحريمه بينة والحكمة التي تدعو إلى تحريمه واضحة فإن النكاح من شأنه أن يكون الأسر والبيوت ومن شأنه أن يَقَرَّ الرجل مع زوجته/ ومن شأنه أن يكون عقدا دائما مستمرا لا منقطعا ولا مؤقتا ولا مضافا إلى أمر يتذبذب به هذا العقد ولهذا كان الأصل في عقد النكاح أن لا يُضاف إلى شرط وأن لا يكون معلقا على أمر يقع في المستقبل وأن لا يكون مؤقتا بوقت ينتهي إليه.
إذن مقاصد النكاح لا تتأتى من خلال هذا اللون من ألوان النكاح الذي عرف في الجاهلية. أضف إلى هذا أن في هذا النكاح نوعا من امتهان المرأة حين تُستأجر على الجماع ونحو ذلك باليسير مما كانوا يبذلونه؛ كالثوب، وقبضة الطعام من التمر أو من الدقيق، أو مما أشبه ذلك. لأجل هذا انتهى الأمر إلى تحريم هذا النكاح تحريما قاطعا ونهائيا وباتا لما فيه من مجانبة هذه العادات الكريمة التي تصون المرأة وتحفظها وتحفظ الأنساب أيضا من أن يتطرق إليها شيءٌ من الاختلاط.(1/2)
هذا الحديث حديث علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- وقبل أن نخوض في شرحه علينا أن نتذكر دائما أن راوي هذا الحديث هو علي -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- الذي تنتسب الشيعة إليه زورا وبهتانا الذي تنتسب الرافضة إليه كذبا ومينا، وإلا؛ فعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- هو صاحب هذه الرواية التي فيها النهي عن نكاح المتعة. وقد علمنا وعلمتم كما مر معنا في لقائنا الماضي بإجمال شرح هذا الحديث أن العلماء قاطبة سلفا وخلفا على حرمة هذا اللون من ألوان النكاح باستثناء المبتدعة من الرافضة الذين خالفوا جماهير الأمة بإباحتهم هذا اللون أو هذا النوع من أنواع الأنكحة التي ثبت النهي عنها. وقد مر معنا في بيان الشروط الفاسدة التي تفضي إلى إفساد العقد وإبطاله أن من ذلك تأقيت النكاح لمدة تتأقت فهذه المدة هي ظاهرة بينة واضحة في نكاح المتعة.
هذا الحديث الذي يرويه علي -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وفي رواية البخاري نهى عن المتعة بدون ذكر النكاح نهى عن المتعة، وهذا يشهد لقول من قال إن هذا اللون لا يسمى نكاح متعة وإنما يسمى متعة، ولا يصح إضافته إلى النكاح إلا مجازا لأنه ليس بنكاح على الحقيقة لكن ورد في بعض الروايات أنه نهى عن نكاح المتعة كما في هذه الرواية التي معنا، وهي عند الإمام أحمد ومسلم وهي بإضافة كلمة النكاح نهى عن نكاح المتعة.
ما هي المتعة؟
المتعة أن يستمتع الرجل بالمرأة كما يستمتع الزوج بزوجته لكن هذا الاستمتاع إلى أجل، فإذا انقضى الأجل؛ وقعت الفرقة.
إذن نكاح المتعة استمتاع كل من العاقدين ببعضهما إلى أجل، إلى وقت يتوقت، ثم إذا بلغ هذا الأجل مداه؛ فإن الفراق يتحقق بغير حاجة إلى ماذا؟ إلى عبارة تكون من الزوج، ولا حكم يحكم به حاكم فبمجرد أن يبلغ الأجل غايته، وأن يصل العقد إلى منتاه يقع الفراق بين هذا وتلك اللذان اجتمعا في هذا النكاح.(1/3)
في رواية نهى عن متعة النساء يوم خيبر إذن هناك رواية نهى عن المتعة وهناك رواية نهى عن متعة النساء، وثالثا نهى عن نكاح المتعة. والنهي عن نكاح المتعة كما ثبت في هذا الحديث ثبت في أحاديث أخرى منها حديث صَبُرَة الْجُهَنِي -رضي الله تعالى عنه- لما جاء مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عام الفتح فتح مكة وأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أذن أو رَخَّصَ لهم في الاستمتاع من النساء ثم إنه قبل أن يخرج صبرة -رضي الله تعالى عنه- من مكة سمع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: (يا أيها الناس! إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فَلْيُخَلِّ سبيله ولا تأخذوا مما أتيتموهن شيئا).
فهذا نص صحيح عند مسلم وغيره فيه أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حرم ذلك إلى يوم القيامة وجعل هذا النكاح وهذا اللون من الاستمتاع محرما بنص قوله -صلى الله عليه وآله وسلم- وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فهذا نص في هذه المسألة ينضاف هذا النص إلى حديث الباب الذي معنا فيتأيد بهذا الحكم ويتأبد تحريم نكاح المتعة.
لكن إشكالا وقع في هذا الحديث بسبب هذه الكلمة التي فيها نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر ظاهر هذا الحديث أن النهي كان يوم خيبر متى وقعت غزوة خيبر من يعرف في أي سنة؟
في السنة السابعة للهجرة
في السنة السابعة من الهجرة وقعت غزوة خيبر إذن لاحظت أن تحريم نكاح المتعة تأخر إلى خيبر وخيبر في السنة السابعة لكن وجدنا أن بعض الروايات فيها أنه نهى عن نكاح المتعة في عمرة القضاء أو في عمرة القضية وهذا ثبت في حديث مرسل لكن المرسل من جنس الضعيف وهذا من حديث الحسن مرسلا أنه نهى عنها في عمرة القضية وحديث صبرة الذي ذكرناه في الصحيح أن النهي عنها كان عام الفتح عام الفتح سنة كم؟
في العام الثامن للهجرة
في العام الثامن من الهجرة كان الفتح.(1/4)
إذن هذا أبعد من يوم خيبر وقيل إنها إنما حرمت عام أوطاس فمتى كان عام أوطاس؟
عام أوطاس هو عام الفتح أيضا لأن هذه الغزوة هي غزوة هوازن، وهي الغزوة التي انطلق فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن فتح مكة إلى أهل الطائف فهذه الغزوة كانت في نفس العام فإذا كان فتح مكة في رمضان؛ فإن هذه الغزوة كانت في شوال. إذن إذا قيل عام أوطاس أو ثبت النهي عنها في عام أوطاس كما في رواية الإمام أحمد ومسلم فإن هذا أن النهي كان في عام الفتح أيضا.
وهنا رواية أخرى أنه كان ذلك في تبوك، وتبوك متأخرة وهذه الرواية أيضا لا تصح. وتعددت معنا الروايات في: متى تحقق النهي عن المتعة؟
فنحن نجد الآن معنا عدة أقوال، ومن الأقوال أيضا أنها إنما حرمت في حجة الوداع إنما كان التحريم في حجة التحريم، وهذه رواية شاذة تخالف الصحيح المحفوظ الثابت من أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نهى عنها عام الفتح أو نهى عنها في عام خيبر فيتخلص من هذه الروايات أن الصحيح منها أن النهي وقع إما أن يكون قد وقع عام خيبر، وإما أن يكون قد وقع عام الفتح أو وقع في غزوة أوطاس، فإما أن يكون ذلك لدى فتح مكة أو لدى غزوة هوازن وكلتاهما واقع في عام الفتح.
إذن تخلص من هذا أن لدينا قولين:
القول الأول: إن التحريم إنما صح وثبت في عام خيبر أو في غزوة خيبر في السنة السابعة من الهجرة.
القول الثاني: إن هذا إنما وقع في عام الفتح.
ورجح طائفة من أهل العلم أن النهي إنما وقع عام الفتح أن النهي كما هو في حديث صبرة الذي ذكرناه كان في عام الفتح.
لماذا كان هذا في عام الفتح؟
قالوا لأمور:(1/5)
الأمر الأول: أن النهي في غزوة خيبر إنما كان عن لحوم الحمر الأهلية، ولم يكن عن المتعة لكن يقال إن قول علي -رضي الله عنه- نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر ظاهر في دلالته على أن المقصود أن التحريم إنما وقع في غزوة خيبر. ويُرد عليه بأنه إنما جمع علي هذا النهي لأنه يرد به قول ابن عباس -رضي الله عنهما-؛ لأن ابن عباس خالف في كلتا المسألتين خالف في كلتا المسألتين في حرمة لحوم الحمر الأهلية وفي حرمة نكاح المتعة. فأراد علي -رضي الله عنه- أن يجمع النهي أو أن يجمع الرد عليه في هاتين المسألتين لكن تاريخ النهي إنما هو مضاف إلى تحريم لحوم الحمر الأهلية.
وأما تحريم نكاح المتعة؛ فقد تأخر إلى ما بعد هذه السنة التي وقعت فيها غزوة خيبر، ثم الحظ معي أيضا أن بعض أهل العلم ذكروا كما في مسند أبي عوانة -رحمه الله تعالى- أنهم قالوا: معنى حديث علي أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأما المتعة؛ فسكت عنها، وإنما نهى عنها يوم الفتح. طيب إذا أشكل علينا حديث الباب؛ فقد بينا كيف نرد عليه.
لكن طائفةً من العلماء ذهبوا إلى أن النهيَ إنما وقع أين ومتى؟
عام خيبر.
ومنهم الشافعي -رحمه الله تعالى- وابن حجر فكيف يوجه إذن حديث صبرة -رضي الله تعالى عنه-؟ صبرة يقول: استمتعنا وأذن لنا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فاستمتعنا من النساء عام الفتح. ثم إنه لم يخرج من مكة حتى سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن هذا النكاح.
فكيف نوجه؟
كيف نجمع ما رأيكم؟
ما تقولون؟(1/6)
الشافعي -رحمه الله تعالى- يقول لا أعلم شيئا أبيح ثم حرم إلا المتعة. يعني المتعة كانت حلالا ثم حرمت يعني في عام خيبر ثم إنها أبيحت ثم إنها حرمت لا يعلم شيئا من دين الله تعالى كان الأمر فيه على هذا النحو إلا متعة النساء. فكأن الشافعي -رحمه الله تعالى- ومعه من وافقه وتابعه على هذا القول يقولون بأن النكاح في أول الإسلام كان مباحا ثم إنه عارض له التحريم يوم خيبر ثم إنه استثنى هذا التحريم وأبيح لهم التمتع من النساء عام الفتح ثم إنه عاد الأمر حراما بعد ذلك، هذا ما انتهى إليه الشافعي -رحمه الله تعالى- ومن معه ممن وافقه.
بم يستدلون؟
بهذا الحديث الذي معنا بحديث الباب الذي فيه أن النهي أو التحريم كان عام خيبر.
على كل حال إذا رجحنا أن النهي والتحريم كان عام الفتح فهو أولى، وإن قلنا بهذا القول فنعلم أن المتعة حرمت ثم أبيحت ثم حرمت تحريما نهائيا، ولا فرق بين أن نقول إن التحريم كان عام الفتح أو كان عام أوطاس؛ لأن أوطاس وادٍ كان بين الطائف ومكة وكانت فيه الغزوة المعروفة بغزوة هوازن أو غزوة الطائف أو غزوة أوطاس. والمعنى في هذا واحد.
أيًّا ما كان؛ فقد ظهر لنا أن تحريم نكاح المتعة كانت تحريما نهائيا وباتًّا بعد فتح مكة. وصبرة يقول: "وأقمنا بها يعني مكة وأقمنا خمسة عشر فأذن لنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في متعة النساء" وذكر الحديث إلى آخره إلى أن قال: "فلم أخرج من مكة حتى حرمها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-"، النبي -عليه الصلاة والسلام- صدر منه التحريم الجازم.
لنا أن نتساءل عندئذ فنقول: ما حكم نكاح المتعة إذا وقع؟ وقد جرى منا في ثنايا الحديث أن قلنا أن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قد أباحه فما حقيقة هذا؟ وهل مع ابن عباس أحد قال بحله أو بجوازه؟ وهل قوله -رضي الله تعالى عنه- قول مطلق؟ وهل رجع عنه ابن عباس؟ ونحو هذا من الأسئلة نحتاج إلى أن نقف عليه.(1/7)
نقول بالجملة: اختلف الفقهاء في حكم نكاح المتعة على مذهبين:
المذهب الأول:
لجماهير أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والتابعين والأئمة الأربعة وفقهاء أهل السنة سلفا وخلفا، وهو أن هذا النوع من النكاح فاسد وباطل ومحرم.
المذهب الثاني:
أنه يحل للضرورة، وهذا يُروى عن ابن عباس وعن أصحابه؛ كعطاء وطاووس وهو منقول وأيضا عن ابن جريج.
وما هي أدلة كل فريق؟
الجمهور استدلوا بكتاب الله –تعالى-، واستدلوا بسنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وبالآثار المروية عن أصحابه -رضوان الله تعالى عليهم- ونقلوا الإجماع على حرمة هذا النكاح.
إذن أنواع الأدلة كالتالي: الكتاب السنة، الآثار، المنقولة عن الصحابة، والإجماع.
فلو تأملنا من القرآن الكريم وجدنا قول الله: ? وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ?5? إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ? [المؤمنون: 5 - 6].
ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- يعلق على هذه الآية فيقول: "فكل فرج سوى هذين حرام" يعني كل فرج ثبت جواز الاستمتاع به بنكاح مشروع أو بملك يمين؛ فهو محرم وهذه المتعة نكاح لا؛ لأن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- لما سئل عن نكاح المتعة أنكاح هو؟ قال: لا. قيل: أملك يمين هو؟ قال لا. قالوا: فماذا هو؟ قال هو كما سمى الله. متعة يعني ليس بنكاح ولا بملك يمين. فعلق -رضي الله تعالى عنه- على هذا فقال: فكل فرج سوى هذين فهو حرام.
إذن هذه الآية ترتب اللوم على استمتاع بفرج لا يكون مأذونا في الاستمتاع بنكاح أو بملك يمين واضح؟. فإذا كانت ليست بزوجة ولا ملك يمين؛ فإن من استمتع بهذه المرأة يلحقه اللوم؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قال: ?فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ? إذن هذا استدلال من كتاب الله تعالى على حرمة المتعة.(1/8)
ثم أحاديث السنة المطهرة وقد سقنا حديث الباب وسقنا صبرة الجهني -رضي الله تعالى عنه- وسقنا حديث أو هنا جملة أحاديث أخرى حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله تعالى عنه- وهو عند مسلم وغيره أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- (رخص لهم في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنه). وهذا يدلك على ما دلك عليه حديث صبرة. وفي حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال أو روى أبو هريرة أنه: (هدم متعة النكاح والطلاق والعدة والميراث). ما معنى هذا الكلام؟
قال: إنه لما أبيحت المتعة؛ لم يكن ثمة نكاح. فلما شرع الطلاق وشرعت العدة وشرع الميراث كأمور تترتب على النكاح وأخليت المتعة عن ذلك؛ كان هذا هدما لنكاح المتعة. وقال علي -رضي الله تعالى عنه- في رواية "إنما كانت -أي المتعة- لمن لم يجد نكاحا" يعني كان هذا موضوع ضرورة. فلما نزل يعني النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة؛ نسخت. إذن هذا منه -رضي الله تعالى عنه- بيان لنسخ هذا اللون من ألوان الاستمتاع.
وابن عباس -رضي الله تعالى عنه- في رواية يقول إنما كانت المتعة أول الإسلام كان الرجل يقدم البلد ليس له به أهل يعني ليس له به أناس يعرفونه فيتزوج المرأة.
لماذا يتزوجها؟
قال بقدر ما يرى أنه يقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى نزلت الآية: ? إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ? [المؤمنون: 6]، عندها قال ابن عباس: "فكل فرج سوى هذين حرام". إذن هذا المعنى يجب أن يكون ظاهرا وواضحا.(1/9)
ثم إن عددا من فقهائنا وعلمائنا نقل الإجماع على حرمة النكاح فهذا ابن المنذر يقول: "جاء عن الأوائل الرخصة فيها ولا أعلم أحدًا يجيزها إلا بعض الرافضة ولا معنى لقول يخالف كتاب الله وسنة رسوله"، ثم إن القاضي عياض -رحمه الله تعالى- قال أيضا "ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلا ما نقل عن الروافض" وهذا أيضا تصريح بالإجماع الواقع بعد الخلاف الذي كان في أول الإسلام. وابن بطال من شراح البخاري قال: "وأجمعوا على أنه متى وقع الآن -أي نكاح المتعة-؛ بطل سواء كان قبل الدخول أم بعده. يعني سواء كان هذا الإبطال للعقد قبل أن يدخل بها أو كان بعد الدخول. ولم ينقل إلا أن ظُفَرًا جعل هذا الشرط بمثابة الشروط الفاسدة وقال بتأبد النكاح، يعني لو قال لها أمتعيني من نفسك شهرا مثلاً فقال أمتعتك يعني هذا الأجل فإنه يجيز أن يقع هذا النكاح متأبدا وأن يلغو الشرط، وهذا أيضا في شذوذ عما ذهب إليه جماهير أهل العلم؛ لأننا قلنا إن هذا الشرط شرط فاسد في نفسه مفسد للعقد؛ فلا يجوز عندئذ الدخول في هذا العقد الذي تضمن الشرط الفاسد المفسد للعقد.
إذن نقلنا الإجماع عن ابن المنذر وعن القاضي عياض من المالكية وعن ابن بطال من شراح البخاري، وعن طائفة كبيرة من أهل العلم كلهم ينهون عن هذا وينقلون اتفاق العلماء سلفا وخلفا على حرمته.
الذين مالوا أول الأمر إلى القول بحله وجوازه بأي شيء استدلوا؟
قالوا نستدل بكتاب الله تعالى قلنا بأي شيء تستدلون من القرآن قالوا نستدل بقول الله تعالى: ? فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ? [النساء: 24].
ما وجه الدلالة؟
وجه الدلالة من هذا ثلاثة مواضع:
ما هي هذه المواضع؟(1/10)
أنه ذكر الاستمتاع ولم يذكر النكاح والاستمتاع والمتعة شيء واحد إذن هذه الآية كأنها تدل على جواز المتعة عنده: ? فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ?، فقالوا هذا ذكر للمتعة أو للتمتع في كتاب الله تعالى ثم إنه أمر بإيتاء الأجر: ? فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ?، أمر بإيتاء الأجر والأجر إنما يكون في متعة أو في إجارة والمتعة إيجارة على منافع البضع كذا قالوا نستدل بأمر ثالث أن الأمر بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع يشهد على أن هذا عقد إجارة أو عقد استمتاع وليس عقد نكاح.
لماذا؟
قالوا: لأن الأصل في عقد النكاح أن يؤتى المهر قبل الاستمتاع؛ لأن المهر إنما يجب بالعقد ولا يجب المهر بعد الوطء والاستمتاع وإنما بمجرد أن يعقد الإنسان على تلك المرأة فإن يجب لها مهرها الذي سمي في العقد.
إذن هذه ثلاثة وجوه أوردوها للدلالة على حِلِّ ما ذهبوا إليه من قوله تعالى: ? فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً?. فكيف نجيب عن هذه الإيرادات؟
الإيراد الأول: أنه ذكر الاستمتاع ولم يذكر النكاح.
نحن نقول: إن الاستمتاع المذكور ليس استمتاعا خاليا عن نكاح وإنما هو الاستمتاع الذي يتضمنه النكاح الصحيح.
لماذا؟(1/11)
لأن المذكور في أول الآية -الآية التي معنا- والمذكور في آخر هذه الآية التي معنا هو النكاح لا غير؛ لأن الله تعالى ذكر أجناسا من المحرمات في أول الآية وهذه المحرمات محرمات تتعلق بالنكاح، ثم إنه أباح ما وراء ذلك أباح ما وراء ذلك فقول الله تعالى: ? وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ? [النساء: 24]. محصنين غير مسافحين يعني بالنكاح وغير مسافحين يعني غير زناة أو غير زانين. والله تعالى قال في نفس السياق: ? وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ? [النساء: 25]، يبقى الكلام عن ماذا؟
عن النكاح.
عن النكاح وليس عن شيء غيره.
إذن الاستمتاع هنا هو الاستمتاع المرتب على نكاح صحيح مشروع منعقد. إذن ذكر النكاح هنا مصرح به لا كما فهموا. ليس هنا ذكر إجارة بحال، وإنما ذكر نكاح، ولم يذكر معنا في السياق متعة وإنما ذكر الاستمتاع الذي هو مرتب على ثبوت عقد النكاح من قوله تعالى: ?فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ?، إلى آخر الآية.
ثم إنهم قالوا في الوجه الثاني: سُمِّيَ ما تعطاه المرأة في هذا أجرا والأجر لا يكون إلا إجارة والمتعة فيها معنى الإجارة لأنه يطلب أن ينتفع بهذه المرأة بمبلغ من المال إلى أجل.
نقول: وهذا أيضا لا يسلم لهم.
كيف لا نسلم هذا؟
نقول: إن المهر يسمى أجرا.
أين سمي المهر أجرا في كتاب الله تعالى؟
? فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ? [النساء: 25]
آتوهن ماذا؟
الأجور هنا ما هي؟
هي المهور باتفاق أهل العلم بالتفسير.
ثم إن الله -عزّ وجلّ- وَجَّه الخطاب إلى النبي فقال: ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ? [الأحزاب: 50]؛ أي مهورهن.(1/12)
إذن لا يسلم لكم أن قوله تعالى: ? فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ?، عائد على هذا المال الذي يدفع في متعة النساء، وإنما المقصود بذلك المهر الذي شَرَعَ الله تعالى وأوجب أن يكون في مهر الزوجة المنكوحة بعقد شرعي صحيح.
الوجه الثالث من الآية ماذا قالوا هم في هذا الوجه؟ ما هو الإيراد الذي أوردوه؟
ذكر الأجر بعد ذكر الاستمتاع
نعم ذكر الأجر متأخرا والله تعالى قال: ? فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ?، فبأي شيء نجيب؟
فيها تقديم وتأخير فالمقصود فأتوهن أجورهن إذا أردتم الاستمتاع بهن على وزان قول الله: ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ? [الطلاق: 1]؛ أي إذا أردتم أن تطلقوهن فطلقوهن للعدة التي أمر الله به واضح هذا المعنى؟ ? فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ ? [النحل: 98]؛ أي إذا أردت.
إذن هذا من باب التقديم والتأخير الظاهر في هذه الآية أي من جهة المعنى؛ أي فإذا أردتم الاستمتاع والدخول في هذا النكاح؛ فآتوهن أجورهن فلم يتأخر هذا العوض عن هذا العقد.
هذه الوجوه الثلاثة قد رددنا عليها.
وعلى التسليم بأن المقصود في هذه الآية هو ما ذهبتم إليه من حل نكاح المتعة أو إباحته فإننا نقول قد كان هذا مباحًا ثم نسخ قد كان هذا مباحًا ثم نسخ فنحن ندفع أولا بأن ما ذكرتم من هذه الوجوه الثلاثة لا يتأتى في هذا الآية، ولا يسوغ أن يُستفاد من هذه الآية حكمٌ بجواز نكاح المتعة.
وعلى التسليم بأن في الآية ما يدل فإننا نقول كان هذا في أول الأمر ثم إن هذا الحكم نسخ نسخا نهائيا ومعنا من الآثار والأخبار التي ذكرنا ما يدل على وقوع النسخ مما رواه ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- نفسه ومما رواه علي -رضي الله تعالى عنه-، ومما رواه أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه-.(1/13)
إذن اتفقت كلمات أصحاب نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- على أن المتعة بالنساء منسوخة كما قال ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- قال: "المتعة بالنساء منسوخة نسختها آية الطلاق والصداق والعدة والمواريث". هذا من ابن مسعود -رضي الله عنه- تصريح بثبوت وقوع النسخ وقد قدمنا لكم قول ابن عباس ونحن نركز على النقل عن ابن عباس -رضي الله عنه- ليتبين لنا من هذا أمران:
الأول: أنه وإن كان قد نقل عنه هذا في أول الأمر إلا أنه رجع إلى قول الجماعة؛ أي رجع إلى قول جماهير الصحابة -رضي الله تعالى عنه-. إذن ليس فيما ذهبوا إليه من الآية ما يدل على مشروعية نكاح المتعة. إذن هم استدلوا بالقرآن ونحن رددنا دليلهم من القرآن.
ثم إنهم استدلوا بحديث ابن مسعود الذي فيه: كنا نغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس لنا نساء فقلنا: ألا نستخصي؟! -أي ألا نختصي؛ لأن هذه العزوبة شقت عليهم وجهدوا معها وتعبوا فنهاهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن ذلك ثم قال ابن مسعود: (ثم رخص أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل)، يعني يدفع إليها ثوبا إلى أجل ثم قرأ عبد الله بن مسعود: ? لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ? [المائدة: 178]، ونقل عن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- قال: "كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر حتى نهى عنه عمر -رضي الله تعالى عنه-" طيب بأي شيء نجيب وكيف نرد على هذه الآثار المنقولة عن أصحاب رسول الله؟
الدفع الأول:(1/14)
أن هذا محمول على الحال التي كانت قبل ورود النسخ، فلما وقع النسخ؛ ارتفع هذا الحكم. وعلى التسليم أن بعض الصحابة خالف؛ فإن مخالفة بعضهم غير قادحة في العمل بهذا الحكم لاحتمال أنه اجتهد فيما ذهب إليه فأخطأ أو أنه التبس إليه الأمر أو ظن ذلك مقيدا بحال العزوبة وشدة الحاجة إلى النساء. ومع نقل الإجماع من لدن التابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة ومن جاء في زمنهم وبعدهم مع نقل الإجماع؛ فلا يتأتى أن يرد هذا الخلاف ولا أن يحتج به ولا أن يستدل به.
وقد قال عمر -رضي الله تعالى عنه- بمحضر ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- وبمحضر الصحابة جميعا قال: "أذن لنا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في المتعة ثلاثا ثم حرمها -ثلاثا: هذا كان في عام الفتح أو في عام أوطاس- قال: والله لا أعلم أحدًا تمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة" يعني رجم الزاني رجمه بالحجارة أي أجرى عليه حد الزنى وقال أيضا: "متعتان كانتا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج" هذا يدل بالجملة على معرفة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم بأن هذا الحكم قد نسخ وهو حكم الاستمتاع بالنساء قد نسخ وأن هذا النسخ كان فاشيا منتشرا معروفا بينهم.
ولهذا قال ابن العربي المالكي -رحمه الله تعالى- "وقد قال ابن عباس يقول بجواز المتعة ثم ثبت رجوعه عنها فانعقد الإجماع على تحريمها". وهذا أيضا نقله غير واحد من المالكية نقله القرطبي ونقله المازري كل هؤلاء ينقلون أنه وقع الخلاف بين الصحابة في هذا الأمر أوله ثم إنه انتهى الأمر إلى الإجماع على حرمته ثبت أن نكاح المتعة كان جائزا في أول الإسلام ثم ثبت التحريم أو تحريمه بالأحاديث الصحيحة أي أنه نسخ هذا كلام المازري وانعقد الإجماع على تحريمه.(1/15)
قال: "ولم يخالف فيه إلا طائفة من المبتدعة" ومعلوم أنه يقصد بذلك الرافضة وثم إنه نقل أيضا نقلا تقوم به الحجة لاجتماع الروايات نقل أن ابن عباس -رضي الله عنه- رجع عن ذلك أيضا. قال ابن دقيق العيد -رحمه الله-: وقد قيل إن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- رجع عن القول بإباحتها بعدما كان يقول به. وفقهاء الأمصار كلهم على المنع. بل سئل جعفر بن محمد وهو من آل بيت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن المتعة فقال هي الزنى بعينه.
إذن يظهر لنا أن الراجح الذي لا ينبغي أن يقع فيه خلاف ولا التباس ما انتهى إليه نظر فقهاء المسلمين من أهل السنة أجمعين من القول بحرمة هذا النكاح، وتأبد تحريمه إلى يوم الدين هذا هو حكم نكاح المتعة وقد أطلنا النفس فيه شيئا ما لنبين أن ما يثار في هذه الأيام من حل ما يسمى بمتعة النساء أو نكاح المتعة أو أن ذلك إنما حرمه عمر أن هذا القول قول باطل لا أساس له ولا أصل له، وإنما قد حرم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا النكاح بنفسه ومن قوله، وفهمه أصحاب رسول الله وأظهره عمر وأعلن الوعيد على من فعل ذلك ولم يرفع إليه أن أحدًا فعل هذا فأقام عمر عليه الحد بهذا نكون قد انتهينا من الكلام على حكم نكاح المتعة.
لسائل أن يقول وهذا النكاح هل له من صور؟ كيف كان يعقد؟ ما هي أشكاله؟
هناك أشكال ظاهرة واضحة بينة كأن يقول الرجل للمرأة: أمتعيني شهرا، فتقول: أمتعتك. كما لو قال لها: زوجيني، فتقول: زوجتك بعبارتها.
ومعلوم أن هذا النكاح لا يحتاج إلى ولي، ولا يحتاج عندهم أيضا إلى شهود فهو كأخي الزنى سواء بسواء.
ومن صوره أيضا أن يطلب منها أن تمتعه بنفسها مدة ولو مجهولة يعني يقول لها: أمتعيني بنفسك مدة، فتقول: قبلت.
هذه المدة كم؟
غير معلومة.(1/16)
فسواء كانت المدة معلومة أو كانت المدة مجهولة فهذا يدخل في نكاح المتعة. كذا لو اشترط طلاقها في وقت معين يلحقه الحنابلة بنكاح المتعة إذا اشترط فقال: أنكحك على أن أطلقك بعد شهر. فهذا يعده الحنابلة من نكاح المتعة ويعده غيرهم من النكاح المؤقت.
وكذا لو قال لها: أمتعيني بنفسك، ولم يذكر لا مدة معلومة ولا مجهولة فهو نكاح متعة أيضا يعني لو قال: أمتعيني ولم يذكر أجلا فهو أيضا ملتحق عند الحنابلة وغيرهم بنكاح المتعة.
وكذا لو قال إلى نهاية السنة أو إلى دخول الموسم أو إلى مجيء فلان. كل هذا مما يعد من صور هذا النكاح التي بها يفسد هذا العقد ويبطل ولا يكون له من الأثر الصحيح الذي يترتب على عقد النكاح.
طيب، ماذا نفعل لو وقع هذا النكاح؟
ما الذي يترتب عليه؟
أولا:
يترتب عليه التفريق بين الرجل وهذه المرأة سواء كان دخول أو لم يكن دخول. إذن أول شيء التفريق بينهما.
الثاني: أن التفريق لا يقع بطلاق، وإنما يقع من غير حاجة إلى طلاق ولا إيلاء، ولا يقع فيه ظهار، ولا يقع فيه لعان؛ لأن هذه الأمور إنما هي فرع ثبوت الزوجية الصحيحة فإذا لم تثبت زوجية صحيحة ولم يثبت نكاح صحيح؛ فلا طلاق له عليها ولا إيلاء له منها ولا له لعان عليها ولا يترتب على هذا العقد ما يترتب على النكاح الصحيح بل لو أن الرجل دخل بهذه المرأة في هذا النكاح الفاسد الباطل فهل تحل لمطلقها ثلاثا قبله هل يتحقق بهذا النكاح أو بهذه المتعة يعني حلها لمطلقها الذي بت طلاقها؟ لا تحل؛ لأن هذا النكاح كأن لم يكن. والقاعدة تقول: "إن الممنوع منه شرعًا كالمعدوم حسا" يعني لا أثر له كما لو كان شيئا لم يحصل ولم يقع.
طيب إن كان قد دخل بها؟
فإنه يجب لها مسمى المهر الذي سمي لها إذا سمى لها ثوبا أو مالا أو نقدا أو ما أشبه؛ فإنه يجب لأن هذا الرجل دخل بها واستمتع فلها أن تأخذ عوض ذلك الاستمتاع يعني لها المهر بما استحل من فرجها طيب.
إذا لم يكن ثمة مسمى؟(1/17)
فلها مهر مثلها فإن لم يكن لها مهر قد سمي فيكون لها مهر مثلها.
ذهب الحنفية إلى أنه لو سمي لها مهر فإن لها الأقل من المسمى أو من مهر المثل يعني لو سمى لها مثلاً ألفا ومهر مثلها خمسمائة فإن ما تسحقه ماذا؟
الخمسمائة ولا تستحق الزيادة.
إن جاءت منه بولد فما الحكم بسبب هذه المتعة المحرمة؟
يلحقه نسب هذا الولد سواء اعتقد أن هذا النكاح صحيح أم اعتقد أن هذا النكاح فاسد.
وهل هذا النكاح يحرم المصاهرة أم لا؟
جمهور العلماء على أنه يحرم فإذا نكح هذا المرأة نكاح متعة فإنه يحرم عليه أصولها وفروعها على نحو ما ذكرنا في المحرمات من النساء قبل ذلك.
هل يعاقب من جاء بهذا العقد وتعامل به؟
جمهور العلماء على أنه يعاقب.
هل يعاقب بالحد أم لا؟
جمهور العلماء على أنه لا يعاقب بالحد وإنما يعاقب بالتعزير.
لماذا؟
لأن له شبهة عقد.
فهذه الشبهة تدفع عنه الحد في قول الجمهور، وذهب الشافعية في مقابل الصحيح عندهم وفي قول ضعيف عند المالكية إلى أنه يجب في ذلك الحد والراجح الأول.
بهذا نكون قد أتينا على المهم من شرح هذا الحديث، وبيان ما يتعلق به من أحكام لننتقل إلى الإجابة على أسئلة الدرس الماضي وطرح أسئلة هذا الدرس.
بالنسبة لأسئلة الحلقة الماضية كان السؤال الأول:
اشرح حديث عقبة بن عامر شرحا إجماليا.
الجواب: أنه لكل واحد من الزوجين مقاصد وأوراد في إقدامه على عقد النكاح، فيشترط على صاحبه شروطا ليتمسك بها ويطلب تنفيذها، ولأن شروط النكاح عظيمة الحرمة قوية اللزوم لكونها استحق بها استحلال الاستمتاع بالفروج؛ فقد حس الشارع الحكيم العادل على الوفاء بها، ويؤخذ من الحديث وجوب الوفاء بالشروط التي التزم بها أحد الزوجين من صاحب ومثله زيادة في المهر والله أعلم.
والسؤال الثاني:
بين حكم نكاح الشغار.(1/18)
وكانت الإجابة: جاء على رسول -صلى الله عليه وسلم- الحديث النهي عن نكاح الشغار؛ لأن هذا النكاح كان في الجاهلية التي يظلم بها الأولياء مواليهم؛ إذ يزوجونهم بلا صداق يعود نفعه عليهن، وهذا ظلم والعلة في تحريمه وفساده هو خلوه من الصداق المسمى والله أعلم
لا بأس.
يقول: إذا نوى إنسان أن ينكح بنية الطلاق؛ فهل يصح هذا العقد؟
هذا المسألة اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
إن هذا العقد يصح ما لم يصرح بنيته، فإن صرح بنيته؛ بطل وهذا اختيار الموفق بن قدامة -رحمه الله- ومعه جمهور الفقهاء؛ أنه متى ما لم يصرح وكان ذلك مجرد نية تكون أو لا تكون يمضيها أو لا يمضيها؛ فإن العقد صحيح لأنه استجمع أركانه وشروطه من غير تعرض لشيء من الأركان والشروط بالإبطال أو بالإفساد. لكن لو أنه صرح بأنه يطلقها إذا غادر هذه البلد، أو يطلقها إذا سافر، أو يطلقها إذا انقضت حاجة معينة، أو إذا جاءت سنة معينة، أو إذا انتهى من دراسته، أو ما أشبه؛ فإن هذا يفضي إلى بطلان هذا العقد لأنه يكون نكاحا مؤقتا, وقد علمنا أن النكاح المؤقت باطل لأنه يتضمن شرطاً فاسدا مفسدا للعقد.
إذن القول الأول الجواز ما لم يصرح وهذا مال إليه الموفق بن قدامة -رحمه الله- ومعه في ذلك الجمهور.
القول الثاني:
إنه نكاح باطل أعلن ذلك أو لم يعلن وهذا اختيار الأوزاعي -رحمه الله تعالى- ووافقه من الحنابلة القاضي أبو يعلى وأصحابه.
القول الثالث: هو قول بكراهة هذا العقد وإن وقع صحيحا.
يقول: إذا كان اختيار الموفق وجمهور الفقهاء على أنه يصح ألا يمنع سدا للذرائع؟(1/19)
على كل كما أن الذرائع يجب سدها قد يجب فتحها فإذا كان إنسان ببلد هو فيه متغرب أو يخشى على نفسه الوقوع في العنت أو الزنى أو الحرام فأراد أن يعف نفسه ولم يتواطأ بلفظه ولم يصرح لا لزوجته ولا لوليها بما يضمر أو ما ينوي؛ فإن هذا لا يفضي إلى الفساد الذي نص عليه العلماء وفهمه الفقهاء. لكن هذا قد يمنع فسادا آخر وهو أن يتجرأ على محارم الله بزنى والعياذ بالله فهذا كما ننظر فيه إلى سد الذريعة أيضا ننظر إلى فتح الذريعة فالذريعة كما يجب سدها قد يجب أيضا فتحها فحيث خلا هذا العقد عن تأقيت؛ فإنه لا يوجد سبب يدعو إلى الإبطال.
أسئلة المحاضرة:
السؤال الأول:
بين حكم نكاح المتعة.
السؤال الثاني:
عدد الآثار المترتبة على نكاح المتعة.(1/20)
الحديث - المستوى السادس
الدرس السادس عشر - باب ما جاء في الاستئمار والاستئذان
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
باب ما جاء في الاستئمار والاستئذان
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه، الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة، سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم إلى درس عمدة الأحكام، وكنا قد شرعنا في شرح حديث علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- في تحريم نكاح المتعة وقد بقيت لنا منه قطعة يسيرة نستكملها في هذا الدرس فنعيد ذكر الحديث مرة أخرى.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية)).
تناولنا في درسنا الماضي الكلام على حرمة نكاح المتعة، وبينا مذهب العلماء المحققين سلفاً وخلفاً من أهل السنة والجماعة في هذا النكاح، وأنه فاسد وباطل لا تترتب عليه آثار النكاح الصحيح، ثم شرعنا في استكمال شرح هذا الحديث في القطعة الأخيرة منه وهي قوله -رضي الله تعالى عنه-: (وعن لحوم الحمر الأهلية)؛ أي وقع النهي منه -صلى الله عليه وآله وسلم- عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية، ولا اختلاف بحمد الله بين الفقهاء وعلماء الحديث في أن النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية كان عام خيبر، وقلنا إن عام خيبر كان هو العام السابع من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا الحديث يدل على أنهم كانوا يأكلون لحوم الحمر الأهلية، وقد يقال لحوم الحمر الإنسية، فالإنسية والأهلية بمعنى.(1/1)
ثم إنه وقع النهي عن ذلك، فورد أنهم في غزوة خيبر أكلوا الحمر فقيل للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (أُكِلَت الحُمُر) فسكت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم استمر الناس في ذلك فجيء إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقيل له: (أُفنيت الحمر) يعني استغرق الناس فيها حتى أوشكوا أن يأتوا عليها، فأمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من يؤذن في الناس بحرمة أكلها، وقد ورد الجمع كما قلنا في التحريم بين حرمة لحوم الحمر وبين حرمة نكاح المتعة عند من قال بذلك من أهل العلم، ووجه الحديث على أن التحريم كان قد وقع في يوم خيبر، ثم وقعت الإباحة ثم جاء التحريم نهائياً مؤبداً.
يعنينا الآن الكلام على لحوم الحمر الأهلية، حرمت لماذا هذه الحمر؟ إما أن تكون قد حرمت للحاجة إليها؛ لأن الحمير الحاجة إلى ركوبها والانتفاع بها ماسّة ? وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ? [النحل: 8]، إذن الأصل في هذه أنها تركب، وألا تُستهلك بأكل، وقيل: بل العلة أنها لكونها تخالط الناس وتلابسهم، تُستقذر وتستخبث فجاء المنع والتحريم نهائياً ومؤبداً في هذا الحديث فقد أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من يؤذن في الناس: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن ذلك) يعني عن أكل لحوم الحمر.
وهذا النهي منه -صلى الله عليه وآله وسلم- استفاد منه جماهير أهل العلم حرمة أكلها، وأن تحريمها مؤبد، واستفاد منه الأصوليون فائدة أخرى، فما هي هذه الفائدة الأصولية؟ من يعرف هذه الفائدة الأصولية التي استفيدت من نهي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا الحديث عن تحريم لحوم الحمر الأهلية؟
جواز استقلال السنة بالتشريع.(1/2)
جواز استقلال السنة بالتشريع، فإننا لا نجد في كتاب الله -تعالى- تحريم لحوم الحمر الأهلية، وإنما نجد ذلك من جهة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكنا قد عرضنا لهذا حين تكلمنا عن حرمة الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وقلنا: إن السنة حجة بنفسها، ولو كانت آحاداً، وأنها تستقل بالتشريع، وأن السنة عند الأصوليين تطلق على تلك الأحكام التي ثبتت بدليل مضاف إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ثابت من جهته -صلى الله عليه وسلم- دون القرآن، فهذه تسمى سنة أصولية، حكم استقلت السنة ببيانه دون القرآن، إذن هذا مما يُضرب مثالاً على ذلك، على استقلال السنة بالتشريع.
لما جاء هذا التحريم منه -صلى الله عليه وآله وسلم- وأرسل من ينهى عن ذلك؛ ذهب جماهير العلماء إلى حرمة أكل لحوم الحمر الإنسية أو الأهلية، طيب وهل هذا الحكم يتقيد بلحوم الحمر الأهلية والإنسية دون الوحشية والبرية أم أن هذا الحكم ينسحب على البرية والوحشية كما هو خاص بالأهلية والإنسية؟ ما رأيكم؟ هذا التحريم يعمّ الأهلية والوحشية أم خاص بالأهلية دون الوحشية؟
ينسحب هذا الحكم على الحمر الوحشية.
ينسحب أيضاً على الحمر الوحشية، فالتحريم هنا يشمل الوحشية والأهلية معاً، أتوافقون؟
أنا لا أوافق.
لا توافق.. لماذا لا توافق؟
لأن التقييد جاء بالحمر الأهلية.
التقييد جاء بالحمر الأهلية، فمعنى هذا أن الوحشية لا تحل أم تحل؟
معنى ذلك أن لحوم الحمر الوحشية مباح أكله.
لماذا؟ لأن هذا مفهوم صفة؟
لأن الصفة قيد.
ومفهوم الصفة هذا حجة أم ليس بحجة؟
حجة.
مفهوم الصفة حجة، قوية أم ضعيفة؟
قوية.
حجة قوية عند بعضهم، طيب لكن هنا استفدنا جواز أكل لحوم الحمر الوحشية من مفهوم الصفة؟ أم من مفهوم المخالفة؟
مفهوم المخالفة.
من مفهوم المخالفة، وليس مفهوم الصفة.
وهناك نص في تحليل الحمر الوحشية.
نص في تحليل لحوم الحمر الوحشية. ما هو هذا النص؟(1/3)
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أهدي إليه عجزة حمار وحش فأكله.
إذن القضية في هذا ليست في الحقيقة مفهوم الصفة، ولا مفهوم المخالفة، وإنما ثبت ذلك بدليل آخر، وهو: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في طريقه إلى مكة صاد بعض أصحابه حمار وحش، فأهدي منه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأكله، إذن هذا دلك على أن لحوم الحمر الوحشية مباحة، مباحة بهذا الدليل، ومباحة أيضاً بما يمكن أن يستفاد من مفهوم الصفة أو مفهوم المخالفة الذي معنا في هذا الحديث.
ذهب المالكية في رواية عندهم إلى كراهة أكل لحم الحمر الأهلية، ولم يذهبوا منه إلى التحريم، وهل لهم في ذلك قدوة من السلف؟ ما ذهب إليه بعض المالكية من قولهم بكراهة أكل هذه اللحوم هل لهم فيه قدوة؟ هل لهم فيه أسوة؟ هل نقلوه عن بعض السلف؟ من يعرف؟
نعم لهم قدوة.
لماذا؟
لأننا سقنا هذا الحديث أو المصنف -رحمه الله- ساق هذا الحديث من رواية علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في معرض الرد على ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله بحل نكاح المتعة وحل لحوم الحمر، فكما نُقِلَ عن ابن عباس القول بإباحة نكاح المتعة، نُقِلَ عنه أيضاً القول بإباحة لحوم الحمر، فرد عليه علي -رضي الله عنه- ببيان هذا الحكم، وأنه ثابت منه -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وافق ابن عباس في هذا بعض الصحابة كعائشة -رضي الله عنها-، ونقل أيضاً عن بعض السلف، والصحيح الذي تشهد له الأدلة الصحيحة الصريحة هو أنه إنما حُرِّمَ لحم الحمر الأهلية دون الحمر الوحشية.
واضح هذا؟
إذن نقول: إن الراجح في هذه المسألة ظاهر هذا الدليل من حرمة أكل لحوم الحمر الأهلية، سواءً كان التحريم لعلة هي الاستخباث والاستقذار، أو كان ذلك للحاجة إليها للركوب وغير ذلك، والله تعالى أعلى وأعلم، ثم ننتقل بعد هذا إلى الحديث الآتي في ما يتعلق بالاستئمار والاستئذان للمرأة عند نكاحها أو عند زواجها.(1/4)
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (باب ما جاء في الاستئمار والاستئذان: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله! وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت)).
هذا حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نهى عن أن تنكح الأيم حتى تستأمر، وأن تنكح البكر حتى تستأذن، فموضوع هذا الحديث يدور حول ما يتعلق بإذن المرأة عند زواجها، معلوم أن الله -تبارك وتعالى- جعل النكاح والإنكاح إلى الأولياء، ولم يجعل الإنكاح أو التزويج إلى النساء، وإنما جعله للأولياء، فجعل وليَّ المرأة هو المفوض في إبرام عقد زواجها وإنكاحها، لكنه لم يطلق يد الوليِّ بلا قيد ولا شرط، بل قيده، وضبطه.
بماذا؟
بما في هذا الحديث، هذا قيد أول في هذا الحديث، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى الأولياء أن يستبدوا بإنكاح هؤلاء النساء اللائي جُعِلْن في ولايتهن حتى يستأذن الوليُّ موليته، يستأذنها إن كانت بكراً ويستأمرها إن كانت أيِّماً، فنرى من هذا أن الإسلام جعل للمرأة حقاً لا يتتعتع ولا يتزعزع هذا الحق، وهو أن لها أن تختار من تريد أن تشاركه حياتها، وأن تقتسم معه أوقاتها، وأن تبذل له وتعطيه من نفسها ومن حياتها، جعل الإسلام ذلك لها، وجعل النساء في هذا شقائق الرجال، فلهم ولهن أن يختاروا وأن يخترْن، فكما يختار الرجل للمرأة أيضاً أن تختار، ولها أن تقبل، ولها أن ترد، والإسلام لا يحجر عليها، بل يرعاها، سواءً كانت أيماً أو كانت بكراً، سواءً كانت ثيباً أم كانت بكراً، لها هذا الحق، فلا يسوغ بحال أن يستبد الولي بإنكاح ابنته أو موليته بدون إذنها ولا رضاها.(1/5)
ثم إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بَيَّن في هذا الحديث كيف يظهر الرضا، وما هي أمارته بالنسبة للبكر، وبالنسبة للثيب، فبين أن البكر (إذنها صماته)، (أن البكر إذنها سكاته)، (أن البكر إذنها أن تسكت)، هذه روايات كلها صحيحة ثابتة عن نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما يتعلق بهذا النكاح وما يظهر من خلاله رضا هذه المرأة.
نعود مرة أخرى إلى نص هذا الحديث، يقول -عليه الصلاة والسلام-: (لا تُنْكح) ولا تنكح هذا مبني لما لم يسم فاعله، (لا تنكح) يعني مبني للمجهول، فلو أردنا أن نبنيه للمعلوم ماذا نقول؟
لا ينكح الرجل الأيم إلا أن يستأذنه.
لا.. الخطاب هنا لمن؟
للولي.
للأولياء، فيكون لا يُنْكح الولي موليته حتى يستأذنها، لا ينكحها لأحد حتى يأخذ إذنها، حتى يأخذ أمرها، إذن لا ينكح الولي موليته حتى يستأمرها، إذن (لا تنكح) "لا" هذه ناهية أم نافية؟
ناهية.
جيد، اقرأ الحديث.
(لا تنكح الأيم حتى تستأمر).
(لا تنكح الأيم حتى تستأمر)، يبقى هذه "لا" الناهية كذا؟
لا يا شيخ.. "لا" النافية.
"لا" النافية. من أين عرفت أنها نافية؟
لأنها تجزم.
الناهية تجزم ولا ترفع؟
الناهية تجزم.
الناهية تجزم، يعني لو كانت ناهية إذن الصواب أن نقول: "لا تنكح الأيم" بالجزم، طيب، لكنها مضبوطة في الحديث بالرفع، إذن دل هذا على أن "لا" هنا نافية، طيب هذا الأسلوب أسلوب النفي ما معناه؟ (لا تُنكح) هذا أسلوب نفي ما معناه؟
معناه النهي، هذا أسلوب نفي معناه النهي، فإن الخطاب موجه إلى الأولياء، فهو نهي للأولياء أن ينكحوا بناتهم أو أخواتهم أو ما أشبه حتى يستأمرن، إذن (لا تنكح)؛ أي لا ينكح الولي ابنته حتى يستأمرها، لا ينكح ابنته الأيم حتى يستأمرها.
الأيم ما معنى الأيم هنا؟(1/6)
الأيم: الأصل فيها أنها من لا زوج لها، سواءً كانت بكراً أو كانت ثيباً، الأيم من لا زوج لها مطلقاً، هذا في أصل اللغة، لكنك ترى في هذا الحديث أنها قوبلت بالبكر، لذا مال شُرَّاح الحديث إلى اعتبار الأيم هنا أنها الثيب، اعتبار الأيم هنا في هذا الحديث إلى أنها الثيب، طيب في قوله تعالى: ? وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ? [النور: 32]، الأيامى في هذا الحديث جمع أيِّم، والأيم هنا البكر أم الثيب؟ الأيم في هذه الآية ? وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ ? للبكر ولا للثيب؟
لكليهما.
إذن الأيامى في هذه الآية لمن لا زوج لها، إذن الأصل أن الأيم من لا زوج لها مطلقاً سواءً كانت بكراً أم ثيباً صغيرة أم كبيرة، سواءً مات عنها زوجها أو كانت مفارقة لزوجها بطلاق.
(لا تنكح الأيم)؛ أي الثيب، إذن الثيب هنا في هذا الحديث المطلقة والتي توفي عنها زوجها (حتى تُستأمر) حتى هنا لبيان ماذا؟
لبيان الغاية.
(حتى تستأمر). ما معنى تستأمر؟
يُطلب أمرها.
ما معنى يُطلب أمرها؟
ينظر بم تأمر في شأن نفسها، تأمر وليها بأن يزوجها من فلان أم من فلان؟ يعني هي صاحبة الأمر في هذا. من؟
الثيب التي سبق لها زواج، فمات عنها زوجها أو فارقها بطلاق.
(لا تنكح الأيم حتى تستأمر) يعني يطلب أمرها، قال: (ولا البكر؟ ولا تنكح البكر حتى تستأذن).
من هي البكر؟
التي لم يسبق لها زواج صحيح.
طيب لو أن امرأة دخلت في نكاح فاسد، فهل تعد بكراً بهذا الدخول في النكاح الفاسد أم تعد ثيباً؟
ما رأيكم؟
امرأة زالت بكارتها بنكاح فاسد كنكاح خلا عن الوليِّ مثلاً أو كنكاح متعة، أو كنكاح شغار، أو ما أشبه من أنواع الأنكحة المنهيّ عنها فهل تتحول بهذا شرعاً إلى ثيب وتكون بهذا محصنة أم لا؟
ما رأيكم؟
هذا سنتركه سؤالا نبحث عنه، من دخلت في نكاح فاسد فزالت بكارتها هل تكون بذلك محصنة ثيبة أم هي غير محصنة وهي بكر وإن زالت عذريتها؟(1/7)
لأن هذا يترتب عليه أحكام، يعني إذا قلنا أن امرأة زنت مثلاً هل يترتب على هذا الزنى إحصانها أم لا؟ طيب لم تزن وإنما دخلت في نكاح فاسد بشبهة عقد كنكاح المتعة مثلاً هل يترتب عليه إحصانها أم لا؟
يجب أن تجيبوا؛ لأننا أجبنا عن هذا في الدرس الماضي، قلنا لا يترتب على هذا النكاح إحصان، قلنا إنه لا يترتب على هذا النكاح نكاح المتعة إحصان، ما أسرع ما نسيانكم!
طيب على كل حال يُبحث هذا، ونسمع منكم تفصيلاً؛ لأن للعلماء في هذا تفصيلا واختلافا أيضاً.
نهيه -عليه الصلاة والسلام- للأولياء عن تزويج البنات أو الأخوات أو الموليات حتى يَرْضَيْن، هذا النهي الذي جاء في هذا الحديث تأكد في أحاديث كثيرة، بمجموعها نستطيع أن نقف على بعض الأحكام.
من هذه الأحاديث قوله -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في الصحيح: (الثيب أحق بنفسها من ولِيِّها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها) وهذا الحديث رواه الجماعة إلا البخاري، وفي رواية لمسلم وغيره أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (والبكر يستأمرها أبوها) هذه رواية مسلم وغيره، (والبكر يستأمرها أبوها) وفي رواية أخرى عند الإمام أحمد وغيره: (واليتيمة تستأذن في نفسها) وفي رواية أخرى: (ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تستأمر، وصمتها إقرارها) وعند البخاري أيضاً وغيره من حديث خنساء بنت خدام -رضي الله تعالى عنها- أنها أتت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد زَوَّجها أبوها وهي كارهة، وكانت ثيباً، جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي ثيب، فكرهت ما صنع أبوها، فما كان منه -صلى الله عليه وآله وسلم- إلا أن ردَّ نكاحَها، يعني جاءت هذه الثيب فزعمت أن أباها زوجها وهي كارهة، فرد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نكاحها.(1/8)
وفي الحديث الآخر بسند صحيح عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: (أن جارية بكراً أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-).
إذن جملة هذه الأحاديث تعلقت ببيان حق البكر والثيب في اختيار من تكون له زوجة، وأن الشارع الحكيم جعل لها أن تنظر في من يكون زوجاً له، سواءً كانت بكراً أم كانت ثيباً، وقد رأينا في عبارة هذا الحديث أنه: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن) فهل هنا فرق بين الاستئمار والاستئذان؟
من يتلمس لنا هذا الفارق بين الاستئمار والاستئذان؟
الاستئمار: طلب الأمر، والاستئذان: طلب الإذن. أيهما أقوى؟
طلب الأمر؛ لأنه لا يأمر فيها إلا بما تأمر في نفسها، وأما في الحالة الأخرى فهي حالة يُطلب فيها إذنها، والإذن دون الأمر، فهل لهذا التفريق علاقة بكون الأولى أيما والثانية بكرا؟
مال كثير من العلماء إلى هذا، فقال: إن هنا فرقاً بين أن تكون المرأة ثيباً وأن تكون المرأة بكراً فإن كانت ثيباً؛ فإنه لا يحل لأبيها أن ينكحها إلا برضاها فإن فعل؛ فسد نكاحها وبطل، إلا أن تجيز ما صنع أبوها. ما الدليل على هذا؟
الدليل حديث خنساء بنت خدام الأنصارية -رضي الله تعالى عنها-، وقد ثبت في هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ردَّ نكاحها بعد أن زَوَّجها أبوها وهي ثيب ممن لا ترضاه لنفسها زوجاً.(1/9)
إذن واضح هنا أن الثيب أحق بنفسها من وليها كما ورد في الحديث (أحق بنفسها من وليها)؛ أي لا يفتات وليها على هذه الثيب فيزوجها بغير رضاها، أو لا يستطيع الولي أن يجبرها، وليس عليها ولاية إجبار، وهذا تعبير معروف عند الفقهاء، فإنهم يقولون: إن الولاية على بدن المرأة على ضربين: ولاية إجبار، وولاية اختيار، فولاية الإجبار يملك فيها الولي أن يزوج من تحت ولاية بغير إذنها، وأما ولاية الاختيار فلا يملك هذا، وإنما يُنْدب إليه أن ينظر إلى ما يصلحها ويأخذ بما يرضيها، وأما في الحالة الأولى فله أن يستقل بتزويجها وإنكاحها ولو بغير أمرها أو رضاها، وهذا ما سنناقشه في هذه اللحظات.
أولاً: هنا ما ينبغي أن يُحرّر، جملة هذه الأحاديث اتفقت على مسائل:
المسألة الأولى: أنه لو كان لدينا ثيب بالغة عاقلة هذه لا يملك وليها ولو كان أباً أن ينكحها بغير رضاها، هذا ما استقرت عليه كلمة الفقهاء في الجملة، إذن هذا موضع متفق عليه بين الفقهاء. ثيب بالغة عاقلة. فلو كانت بكراً؛ فإن الخلاف جارٍ، لو كانت بكراً بالغةً عاقلة؛ فإن الخلاف جارٍ، ولو كانت ثيباً لكنها لم تبلغ، يعني ثيبا وصغيرة؛ فإن الخلاف جارٍ ولو كانت بكراً بالغةً غير عاقلة، فإن الخلاف جارٍ، غير عاقلة يعني مجنونة مثلاً أو في عقلها ضعف، أو عندها سَفَه أو جنونها غير دائم متقطع مثلاً ففي هذه الأحوال كلها الخلاف جارٍ، متى يتفق الفقهاء؟ على كونها ثيب عاقلة بالغة.
هنا يقولون: لا يجوز للولي أن يستقل بإنكاحها دون إذنها، فإن فعل؛ ثبت لها حق فسخ هذا النكاح ورده وإبطاله. وهناك مسألة أخرى يتفقون عليها وهي: إذا كانت بكراً لم تبلغ صغيرة، يعني كانت دون تسع سنين، إذا قلنا إن تسع سنين حد للبلوغ عند البنات أو عند النساء، فإذا كانت دون تسع هل لوليها أن يجبرها وأن ينكحها بغير إذنها؟
نعم.
باتفاق الفقهاء؟
باتفاق الفقهاء إلا من شذَّ وهو قليل.(1/10)
ما الدليل على جواز هذا الإنكاح؟ وما الدليل على جواز استقلال الولي أو الأب بإنكاح ابنته الصغيرة؟
الدليل على هذا أن أبا بكر -رضي الله تعالى عنه- زوج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من عائشة وهي ابنة ست، ثم أدخل عليها -صلى الله عليه وآله وسلم- وهي ابنة تسع، ولأن هذه الصغيرة لا يتأتى منها إذن؛ لأنها لا تعرف ما معنى هذا الإذن، لأنها لا تعرف ما معنى النكاح ابتداءً فكيف تأذن فيما لا تعرف؟!
اتفقوا أيضاً على أنه لا اعتبار لإذن البكر الصغيرة التي هي دون تسع. فهذان موضعان وقع الاتفاق عليهما من قبل الفقهاء.
أين جرى الخلاف؟
جرى الخلاف في مسائل، من هذه المسائل ومن أهمها:
اختلافهم في البكر البالغة العاقلة؛ هل يجوز أن يزوجها أبوها بغير إذنها ولا رضاها؟ هل يملك وليها -وهو الأب هنا- أن ينكحها بغير إذنها وبغير رضاها؟
هذا اختلف فيه الفقهاء على مذهبين اثنين:
المذهب الأول: أن وليها له أن يجبرها على هذا النكاح، ولو كانت غير راضية، وهذا المذهب هو المشهور من مذهب الإمام أحمد -رحمه الله-، والشافعي -رحمه الله تعالى- ومالك، وغيرهم من السلف.
إذن هذا مشهور مذهب أحمد، وهو مذهب مالك، والشافعي، وطائفة من السلف -رحمهم الله تعالى- أن للأب أن يجبر ابنته البكر البالغة على النكاح.
المذهب الثاني: هو الرواية الثانية عن الإمام أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة -رحمه الله تعالى-، ومذهب الأوزاعيّ، والليث، وأبي ثور، والثوريّ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وابن القيم، وطائفة أيضاً من السلف، وقال الترمذي: وهو مذهب أكثر العلماء، وهو أنه ليس للوالد أن يجبر ابنته البكر البالغة على نكاح من لا ترضاه، ولا تأذن في نكاحه، ليس له ذلك، فإن فعل؛ ثبت لها حق رد هذا النكاح، وثبت لها الخيار. إذن هذان مذهبان أساسيان ورئيسيان.(1/11)
بم استدل الأولون الذين قالوا بأن له حق الإجبار؟ بأي شيء استدل الذين قالوا بأن لأبيها أن يجبرها على نكاح من يرى؟
بعموم هذا الحديث.
حديث هذا الباب الذي فيه: أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- جعل (الثيب تستأمر، والبكر تستأذن) فقالوا: إن هذا يقتضي أن الإذن دون الأمر، وفي الحديث الآخر: (الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها) إذن جعل هنا رتبة أو درجة بين الثيب والبكر. ما هي هذه الدرجة؟
أن الأولى تستأمر والثانية تستأذن، فمفهوم المخالفة يقتضي نفي هذا الحق عن البكر دون الثيب.
ثم إنهم أيضاً قالوا: من المعقول أن الوالد لكمال شفقته وتمام محبته، يحرص على تحقيق مصالح ابنته في النكاح، فهو بما وهبه الله -تعالى- ورَكَزَ في فطرته من محبة هذه البنت يسعى في تحصيل مصالحها، وغالباً ما تكون البكر التي لم تخالط الرجال ولم تعرفهم، غالباً ما يكون عندها هذا الوعي، وذلك الإدراك للرجال، ولأمورهم، وهذا ينبغي أن يفوض النظر فيه إلى أبيها الذي هو وليها، وعليه؛ فإنهم قالوا إن الأب له أن يجبر ابنته البكر البالغة على زواج من يرى وأن هذا إذا وقع؛ يقع صحيحاً وليس لها أن تعترض ولا أن ترد ما فعل أبوها.
فما رأيكم؟ هل هذا المذهب يمكن أن يناقش أم لا؟ وبأي شيء يناقش؟
نحن ذكرنا بعض الأحاديث التي يمكن أن نناقش من خلالها هذا المذهب، من هذا أن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- روى في الحديث: (أن البكر يستأمرها أبوها) فمعنى هذا أنه كما أن الثيب تستأمر فالبكر أيضاً تستأمر، فإذا ثبت هذا حقاً، ثبت هذا الاستئمار حقاً للثيب؛ فقد ثبت أيضاً حق للبكر، وبالتالي لم يعد هنا وجه للتفريق بين الثيب والبكر؛ لأنه لما عبر في بعض الروايات بالإذن عبر في بعضها الآخر بالأمر، وبالتالي صارت البكر كالثيب سواءً بسواء في طلب أمرها عند النكاح.(1/12)
ومعنا حادثة وقعت وهي أن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- روى أن جاريةً بِكْراً أتت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فأخبرت أن أباها زَوَّجها بغير رضاها؛ فخيرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يعني أثبت لها حق الخيار، بين إمضاء ما صنع أو فعل أبوها، وبين رده، فهذا فرع عن ثبوت حقها في اختيار من تريد أن تكون له زوجة، وهذا معنى الاستئمار، ليس للاستئمار معنى إلا هذا، وأنت ربما قرأت حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (تُسْتَأْمَرُ النساء في..) يعني سألت عائشة رسول الله: (أتستأمر النساء في أبضاعهن؟! قال: نعم) وهذا عام يشمل البكر كما يشمل الثيب، فإذا وجد في الحديث أمر الثيب إلى نفسها، ووجد أيضاً أمر البكر إلى نفسها كما في حديث ابن عباس، فإن هذا يشهد أو يقوم معارضاً لما ذهب إليه الشافعية والمالكية والحنابلة في مشهور مذهبهم، ثم إن ما اعتمدوا عليه من مفهوم المخالفة يضعف عندما يقوم النص مخالفاً لما دل عليه مفهوم المخالفة، يعني مفهوم المخالفة ضعيف في مقابل النص، إذا ثبت النص على خلاف ما فهم من قوله: (والبكر تستأذن) فإن مفهوم المخالفة عندئذ يطرح في مقابل النص الذي ثبت في أن للبكر حقاً كما أن للثيب حقاً.
بم استدل أصحاب المذهب الثاني وهو المذهب الذي قال بأن البكر كالثيب سواءً بسواء لها أن تختار ولا يجوز لوليها أن يجبرها على نكاح لم تأذن فيه، بأيِّ شيء استدلوا؟
بالأدلة التي ذكرنا.
ما هي هذه الأدلة؟
حديث ابن عباس مرتين: حديث ابن عباس في أن: (البكر يستأمرها أبوها)، وحديث ابن عباس في أن: النبي -صلى الله عليه وسلم- (رد نكاح جارية بكرا)، هل يمكن أن يناقش الأولون المذهب الثاني بمناقشات يوجهون بها أدلة القائلين بالقول الثاني؟
نعم.
ما هي المناقشات المتصورة من قبل الشافعية والمالكية والحنابلة؟ ما رأيكم؟(1/13)
قال الشافعية أولاً: الاستئمار الذي في حديث ابن عباس معناه استطابة النفس، يعني لا يزوجها حتى يُطَيِّبَ خاطرها، ليس معنى الاستئمار هنا أنها تأمر وإنما أن تطيب نفساً بهذا الاختيار، واستدلوا على هذا بأنه ورد في بعض الحديث: (آمروا النساء في بناتهن) يعني أمهات البنات اللائي سيزوجن، ينبغي أن يستأمرن في بناتهن. الاستئمار هنا ليس معناه طلب أمرهن باتفاق؛ لأنه ليس للأم رأي في هذا يُلزم الأبَ أو يلزم البنتَ، وإنما هي استطابة نفسها، بأن تطيب نفساً وأن ترضى بهذا الرجل زوجاً لابنتها، لا أنها إذا انعدم رضاها أن النكاح يفسد أو أن النكاح يبطل أو أنه يثبت لها الخيار، وإنما أن تطيب بذلك نفساً وأن تقر بذلك عيناً؛ لأنه أحسن وأدوم لعشرة هذه البنت مع زوجها واستقرار حالها.
ثم إنهم ناقشوا أيضاً حديث ابن عباس أن: (البكر يستأمرها أبوها) قالوا: ذكر الأب هنا غير محفوظ، وقال بعضهم: بل المقصود بالبكر هنا اليتيمة، واليتيمة من فقدت أباها، وحديثنا عن جبر الأب ابنته، فإذا كان الولي غير أب فإنه يثبت لليتيمة أن تأمر في حق نفسها، أما إذا كان الوالي أو الولي هو الأب، فإن للأب أن يستقل لكمال شفقته ووفوره ليس مثله أحد من الأولياء إلا الجد عند بعضهم، وأما بقية أهل العلم فيقولون إن الأب ينفرد بهذا دون غيره.
قالوا: إذن المقصود بهذا الحديث اليتيمة التي فقدت أباها، فهذه التي تستأذن في زواجها. لكن أصحاب هذا المذهب قالوا: إن قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا تنكح) أو (حتى تستأمر) أو (حتى تستأذن) هذه كلها أفعال مبنية للمجهول، وأولى الناس بأن يكون معلوماً في هذا هو الأب، فتقدير الكلام حتى يستأذنها أبوها، حتى يستأمرها أبوها، حتى يُنكحها أبوها.(1/14)
إذن أولى الناس بهذا الفعل المبني للمجهول إذا صار معلوماً أن يكون هو الأب؛ لأنه الغالب وهو الكثير، وهو الأعم، فنحن ندفع قولكم بأن هذا في حق يتيمة أو في حق بكر يتيمة بأن كل هذه الأفعال المبنية للمجهول إنما تنسب إلى فاعل معلوم هو الأب غالباً وكثيراً والغالب الكثير هو الذي تتعلق به الأحكام والقليل النادر لا حكم له.
إذن الراجح فيما يظهر هو قول أصحاب القول الثاني الذين اتفقت الأدلة لهم، فجاؤوا بحديث ابن عباس، وفيه التصريح بأن البكر تُستأمر، وجاؤوا بحديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ردّ نكاح الجارية البكر، ووجهوا أحاديث الجمهور وأظهروا أن هذا الأمر ليس للوالد فيه أيضاً أن يستقل بإجبار ابنته، على أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الأيم أحق بنفسها من وليها) مال بعض أهل العلم إلى أنه على معناه اللغوي، الأيم هنا من لا زوج لها مطلقاً سواء كانت بكراً أو ثيباً، وهذا ما ذهب إليه الشعبيّ والزهريّ -رحمهما الله تعالى- من إطلاق هذا المعنى على أصله اللغوي، فكل امرأة بكراً كانت أم ثيباً أحق بنفسها من وليها، إلا أن تكون كما قلنا بكراً صغيرة، فهذه لا إذن لها ولا اعتبار لإذنها، هذا ما يرجح معنا قول الفريق الثاني، ويتأكد هذا أيضاً بأن الأب لا يتصرف في مالها، إلا بإذنها، فهكذا لا يتصرف في مصالح بدنها بالإنكاح والتزويج إلا بإذنها.
إذن بهذا يترجح معنا مذهب الفريق الثاني وهم الحنفية، والقول الثاني أو الرواية الثانية عن أحمد، وهو مذهب طائفة من المجتهدين من الحنابلة وغيرهم في أن البكر البالغة تستقل بأمر نفسها ولا يجوز لأبيها أن يجبرها على نكاح من لا ترضى.(1/15)
طيب لو كان الولي غير أب كأن كان الولي عمّاً، فهل للعم أن يستقل بإجبارها إذا لم يثبت هذا للأب حقاً فإنه لن يثبت لأحد من الأولياء بعدئذ؛ لأن أولى الناس بأن يثبت له هذا الحق هو الأب، فإذا رجحنا أن هذا الحق لا يثبت للأب حق الإجبار فإن هذا يعني أن هذا لن يثبت لأحد بعده من الأولياء، وإذا قررنا هذا؛ فإننا ينبغي أيضاً أن نقرر وأن ننبه البنات والنساء أن لا يبتدرْن إلى رأي بعيداً عن رأي أوليائهن فإن أوليائهن إنما يريدون صلاح هذه البنت بتزويجها من كفئها وبمهر مثلها وبمن يليق بها وبمن يُعرف بحسن خلقه وحسن حاله مع النساء فإذا اختار الوليُّ فإنما يختار غالبا عن مصلحة فاستقلال البنت بهذا دون رعاية ما اختاره لها الأولياء هذا قد يوقع بعض المفاسد التي لا تتنبه البنت لها لاسيما إذا لم تكن لها خبرة بالرجال ولا معرفة بهن. وإذا كنا نهى البنات على أن يكون لهن رأي يعني يتقدمن به بين يدين أوليائهن فإننا سننهى بالضرورة وأشد أن تتولى بنتٌ عقد نفسها فإن هذا من النكاح الفاسد والباطل، أو أن تنكح نفسها سرًّا أو ما أشبه بدون أن يعلم الأولياء فهذا من النكاح الذي يبطله الإمام أحمد الشافعي ومالك -عليهم جميعا رحمة الله- بل وأيضا يبطله بعض الحنفية فلا يجوز لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تنكح نفسها بعيدا عن أوليائها أو بعيدا عن إذن أوليائها.
ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر هذا الحديث حين قيل له فكيف إذنها؟ يعني كيف إذن البكر وقد علم حياؤها؟
قال: (إذنها أن تسكت) وفي رواية (إذنها صماتها) وقال في رواية ثالثة: (إذنها سكاتها) السكات والصمات وأن تسكت هذا لأنه يناسب حال البكر الحيية إذا عرض عليها أمر الزواج أن تصمت.
طيب إذا بكت هل يعتبر هذا صماتا؟
طيب إذا قالت لا أوافق هل يعتبر هذا موافقة؟
لا يعتبر.(1/16)
إذن الصمات الذي هو أمارة على الرضا وقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خطب علي فاطمة -رضي الله تعالى عنهما- دنا إلى خدرها وقال (إن عليا يذكركِ فسكتت فزوجها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من علي -رضي الله تعالى عنه- ابن عمه -صلى الله عليه وآله وسلم-). وبهذا نكون قد أتينا على المهم من شرح هذا الحديث وأتينا أيضا على نهاية هذه الحلقة.
السؤال الأول: بَيّنْ حكم نكاح المتعة.
وكانت الإجابة: اختلف الفقهاء في نكاح المتعة على مذهبين:
الأول: وهو قول الجمهور من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعين وفقهاء السنة سلفا وخلفا وقالوا هذا النكاح فاسد وباطل ومحرم واستدلوا من الكتاب والسنة آثار الصحابة والإجماع.
فمن كتاب الله تعالى: ? وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ?5? إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ? [المؤمنون: 5- 6]، وقال ابن عباس في هذه الآية: "كل فرج سوى هاتين فهو حرام".
ومن السنة حديث سمرة الجهيني وفيه إن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة وحديث سلمة بن الأكوع: (رُخص لنا في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهي عنه).
ومن آثار الصحابة ما ورد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن متعة النساء نسخت بآية الطلاق والعدة والمواريث، وقال نحو ذلك أبو هريرة -رضي الله عنه وعن صحابة رسولنا صلى الله عليه وسلم- أجمعين.
ومن الإجماع ما نقل عن القاضي عياض قوله: "ثم وقع الإجماع عن العلماء على تحريم نكاح المتعة إلا ما نقل عن الرافضة".
وهذا المذهب الأول جملة هو الراجح.
وأما القول الثاني: فيما نقل عن ابن عباس وقد رجع عنه من أنه يحل للضرورة
والسؤال الثاني: عدد الآثار المترتبة على نكاح المتعة.
وكانت الإجابة: الآثار المترتبة على نكاح المتعة:
أولا: التفريق بينهما ولا يقع هذا بطلاق ولا إيلاء ولا ظهار.(1/17)
ثانيا: لا تحل لمطلقها الأول؛ لأنه نكاح باطل.
فإذا كان قد دخل بها؛ فإنها تأخذ عوضا عن ذلك الاستمتاع وإن لم يكن لها مهر تأخذ مهر المثل وعند الحنابلة تأخذ الأقل من بين ما كتب أو مهر المثل.
إذا ترتب عن هذا النكاح ولد فإن نسبه يلحق بأبيه سواء اعتقد صحة النكاح أم لا؛ لأنه شبهة عقد. والجمهور على أن فاعل ذلك يعاقب بالتعزير وليس بالحد خلافا للشافعية في مقابل الصحيح عندهم.
أسئلة المحاضرة:
السؤال الأول:
بين حكم لحوم الحمر الأهلية.
السؤال الثاني:
ما حكم جبر الأب ابنته البكر البالغة على النكاح؟(1/18)
الحديث - المستوى السادس
الدرس السابع عشر - تابع كتاب النكاح "الحديث العاشر"
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
تابع كتاب النكاح "الحديث العاشر"
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه، الإخوة والأخوات طلبةَ هذه الأكاديمية العلمية المباركة، سلام الله عليكم ورحمته –تعالى- وبركاته، وأهلاً بكم مجددًا إلى شرح أحاديث "عمدة الأحكام"، ومع استكمال أحاديث كتاب النكاح، ومع الحديث العاشر من هذا الباب، حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها-، تفضل يا شيخ.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: (كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبتَّ طلاقي، فتزوجتُ بعده عبدَ الرحمن بن الزَّبير، وإنما معه مثل هُدْبَةِ الثوب، فتبسَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسَيْلته ويذوق عسيلتكِ، قالت: وأبو بكر عنده، وخالد بن سعيد بالباب ينتظر أن يُؤْذَنَ له، فنادى: يا أبا بكر! ألا تسمع إلى هذه ما تجهرُ به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!).
هذا الحديث حديثُ عائشة -رضي الله تعالى عنها- فيما روت من هذه القصة التي يُتَعَجَّبُ منها، يفيد هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يمنع الرجلَ الذي تزوج امرأة فَبَتَّ طلاقها؛ أي: طلقها ثلاثًا، يمنعه من العَوْدِ في هذا النكاح حتى تنكحَ هذه المطلقةُ زوجًا غيره، فإن طلقها؛ جاز له أن يراجعها إن ظن أن يقيما حدود الله.
ووقع في هذه الحادثة أو في هذه القصة شيءٌ يُتعجب منه، ويُستحيى منه، لذا؛ أنكر بعض الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- أنْ تجهرَ هذه المرأةُ بهذا الكلام بحضرة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، والنبي يتبسَّم وَيَتَحَلَّم -صلى الله عليه وآله وسلم-.(1/1)
الحديث من رواية عائشة -رضي الله تعالى عنها- وقد سبقت ترجمتها فلا نعيد بذكرها، لكنها ذكرت الحديث عن امرأة هي امرأة رفاعة، لم تُسَمَّ هذه المرأة = امرأة رفاعة ما اسمها؟! قال الشراح: اسمها أميمة، وقيل: سهيمة، أميمة وقيل: سهيمة، والراجح أنها تُمَيْمَةُ بنتُ وهبٍ، جاءت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تشكو حالها، ما حالها؟ حالها أنها كانت متزوجةً من رفاعة القرظي، ورفاعة هو ابن سموءل القرظي نسبةً إلى بطن من يهود، وهم بنو قريظة، ومعروف أن للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- معهم موقفًا.
هذه المرأة -امرأة رفاعة- جاءت تشكو إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حالها كما سيأتي معنا، وهذا يَدُلُّك على جواز أن تطلب المرأة من المفتي أن يُجيبها في خاصَّة أمرها؛ أي أنْ تعرض عليه أمرها الخاص الذي قد يُستحيى منه، فيسمع ذلك المفتي منها، ويُجيبها ولا حرجَ في ذلك، فهذا بالجملة فيه دلالة على جواز استفتاء المرأة للرجال.(1/2)
نلاحظ أنها قالت: "كنت عند رفاعة القرظي"؛ أي كنت عنده زوجة، كنت له أو كنت عنده زوجة، ثم إنه بَتَّ طلاقها، قالت: "فَبَتَّ طلاقي". البت في اللغة هو: القطع، والمبتوتة هي التي انقطعت علاقتها الزوجية بزوجها بحال من حاليْن: إما أن يكون قد طَلَّقَها ثلاث تطليقات فبانت منه، وهذا هو ما يسميه الفقهاء بالبينونة الكبرى، فالبينونة الكبرى ما وقع فيه الفراق بين الرجل وزوجته بإكمال عدة الطلاق ثلاث تطليقات، وهو يدل على أن هذه المرأة لا يجوز لها أن تعودَ إلى زوجها في هذا النكاح حتى تنكح زوجًا غيره، لقول الله -تعالى-: ?فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ? [البقرة: 230]، فهذه المرأة وَقَعَ لها ذلك، بَتَّ زوجها طلاقها، فكانت مبتوتة، أو كانت بائنة بينونة كبرى، وما الفرق بين البينونة الكبرى والبينونة الصغرى؟ نعم، تفضل.
البينونة الكبرى التي ذكرت حضرتك، البينونة الصغرى التي لا يجوز أن يرجع إلى زوجته إلا بعد أن يعقد عليها عقدًا جديدًا بمهر جديد.
نعم.. وما هي صور البينونة الصغرى؟
إما أن يُطلقها في عدَّة يجوز له أن يُراجعها فيها، ولكنها تنتهي العدّة ولم يراجعه.(1/3)
يعني رجل طلق امرأته طلقةً واحدةً رجعيةً ثم إنها اعتدت منه فبانت، فصارت أجنبية؛ فلا يجوز له أن يُراجعها بعد انقضاء عدتها، كالطلاق العادي المعروف، رجل يطلق المرأة ثم يتركها حتى تبين منه بانقضاء عدتها، فهذه تُسَمَّى بينونة صغرى، وهل هناك حالات أخرى للبينونة الصغرى؟ نعم.. هناك حالات أخرى كثيرة، منها ما لو وقع الطلاق على مال، أو وقع فسخ لهذا العقد، فإنها تَعْتَدُّ منه بِعِدَّةٍ لا يجوز له أن يُراجعها فيها، لو قالت له: طلقني على أن أرد إليك المهر مثلاً فَقَبِلَ فطلقها؛ فلا يجوز له أن يُراجعها وهي في عدتها؛ لأن الطلاق يقع طلاقًا بائنًا، وكذا لو طلقها قبل الدخول؛ فليست لها عدة تعتدها هذه المرأة.
إذن هذه المرأة = امرأة رفاعة ذَكَرَ في الحديث أنها طُلِّقت طلاقًا باتًّا، وهو مُحْتَمِلٌ في هذا الحديث بسياقه الذي معنا أن يكون ذلك إكمالاً لثلاث تطليقات، ويُحتمل أيضًا أن يكون الرجل قد قال: طلقتكِ ثلاثًا؛ أي جمع لها الطلاق الثلاث بعبارة واحدة دَفعةً واحدة، قال لها: أنت طالق ثلاثًا، أو قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، أو قال: أنت طالق، وطالق، وطالق، يعني جمع لها ثلاث تطليقات في عبارة واحدة، أو في مجلس واحد، وهذا مما اخْتَلَفَ فيه الفقهاء خلافًا طويلاً يأتي معنا -إن شاء الله تعالى- ذِكْرُه والتعليق عليه في "كتاب الطلاق"، لكن الذي معنا هنا أن هذه المرأة بُتَّ طلاقُها، يعني انقطع وبلغ الغاية التي تبلغها النساء وهي ثلاث تطليقات.
نحن عرفنا -من غير سياق هذا الحديث- أن الرجل كَمَّلَ لها العدة ثلاث تطليقات، ولم يجمع لها الثلاثَ دفعةً واحدة؛ لأنه وقع هذا في صحيح مسلم: (أن الرجل طلقها آخر ثلاث تطليقات)؛ فهذا يدل على أنه كَمَّل عِدَّة الطلاق لها ثلاث طلقات، كل طلقة في مجلس، وكل طلقة بعد أن تخرج من عدتها.(1/4)
إذن المرأة لا تحل له، ثم إن رجلاً آخر تزوجها، من هو هذا الرجل الآخر؟ قالت: "ثم إن عبد الرحمن بن الزَبير" بفتح الزاي، وهو من الصحابة أيضًا -رضي الله تعالى عنه-، والمقصود أنه عقد عليها وبنى بها، الرجل عقد عليها وبنى بها، لكنه لم يقعْ جماعٌ معتبرٌ شرعًا بينهما.
الحال أن هذه المرأة تزوجت من عبد الرحمن هذا وبنى بها، ثم إنها جاءت تشكو إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، تشكو ماذا؟ تقول: (وإنما معه مثل هُدْبَةِ الثوب)، أو قالت: (مثل هَدْبَةِ الثوب).
الهُدْبَة والهَدْبَة بمعنى، ما هي الهُدبة؟
قالوا: الهُدبة هو طرف الثوب الذي لم يُنسجْ، وهو مأخوذ من هُدبِ العين، أو هُدُبِ العين؛ أي أشفارها، الرموش التي تنبت على الأجفان يُقال لها هُدُب، هُدُب جمع هُدبة أو أهداب.
إذن هذه الحالة تصور فيها هذه المرأة أن رجلها أو أن زوجها بحالة لا يتمكن من جماعها، حيث وصفت أو شبهت آلة الذكورة عنده بطرف الثوب في ماذا؟ في عدم الانتشار والانتصاب، وهذا يمنع جماعها، ويؤثر في هذا الأمر تأثيرًا جعلها ترجع إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فشبهت هذا بطرف الثوب غير المنسوج، أو في ضعفه وعدم انتشاره، أو في صغره ودقته ورقته ونحو ذلك.
وعلى كل حال؛ فهي حالة قَلَّ أن تُصَرِّح بها المرأة وتستحي منها، ويُتَعجَّبُ من حالها إن هي صرحت بذلك، لكنها قالت كما في رواية للبخاري: (لم يقربني إلا هَنَّة واحدة، ولم يصل مني إلى شيء؛ أَفَأَحِلُّ لزَوْجِيَ الأول؟) قالت: (لم يقربني إلا هنة)؛ أي: محاولة يسيرة قليلة حقيرة، (لم يَقْرَبْني إلا هنة، ولم يصل مني إلى شيء) يعني لم يصل مني إلى الجماع، أفأحل بهذه المحاولة التي لم يترتب عليها حصول جماع كامل لزوجي الأول إن أردت الرجوع إليه؟
عندها قال لها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا).(1/5)
إذن هذه الحالة هي الحالة التي جاءت لأجلها المرأةُ شاكيةً إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فَتَبَسَّم النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- تَبَسُّمَ المتعجب؛ لأنها ذكرت ما يُستحيى منه، وهذا يدلك على أنه يجوز أن يُذكر ما يُستحيى منه عادة بحضرة المفتي، أو بحضرة العالم الذي يُطلب منه الجواب، أو تُرْجَى منه الإفادة، أو البيان، وأنت ترى أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يعنفْها، ولم ينهها، ولم يزجرها، وإنما تبسم وهذا نوعُ إقرارٍ منه -صلى الله عليه وآله وسلم- على جواز أن تسأل امرأة في شأن خاص كهذا، هذا إقرار منه؛ لأنه لم ينهها -عليه الصلاة والسلام-، ولو ارتكبت ما يحرم؛ ما كان له -صلى الله عليه وسلم- أن يسكت عنها، وإنما تبسم -صلى الله عليه وآله وسلم- تَبَسُّم المتعجب من حالها، لكنه قال لها: (لا) يعني أجابها عن قولها: (أفأحل لزوجي الأول؟) وهذا في الحديث الأول الذي في رواية البخاري فحسْب، وفي هذا الحديث قال لها: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا) وهذا يدلك على أمر يجب على المفتي أن يتفطن له عند إيراد الأسئلة عليه، فإن على المفتي أن يكون فطنًا فقيه النفس خبيرًا بأحوال الناس، وما يقصدون إليه من السؤال، إن المرأة حين تذكر هذا تذكره متطلعةً لأن تُطلق من عبد الرحمن لترجع إلى زوجها الأول، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول لها: (لا) هذا لأنه فهم مقصودها، وعرف أنها لم تستكمل الواجب في هذا الأمر، ولم يقع ما به تحليلها لزوجها الأول؛ إذ التحليلُ لا يكون بِمُجَرَّدِ العقد، وإنما التحليل بالوطء، حتى يطأها الثاني، ثم يطلقها بعد ذلك رَغْبَةً عنها؛ عندها يُقال: يجوز له أن ترجع إلى زوجها الأول، يعني المعنى: أنه لا يُكتفى بمجرد العقد، ولا بمجرد البناء الخالي عن وطء صحيح معتبر؛ لأنها ذكرت أن الرجل حاول محاولة يسيرة أو قالت: (هَنَّةً يسيرة لم ينل منها شيئًا) أي لم يصبها بالجماع الشرعي المعتبر.(1/6)
وعليه؛ فإنَّ الوطء الصحيح الذي يُبيحها لزوجها الأول هو ما يوجب الحدَّ لو كان هذا الجماعُ مُحَرَّمًا، وهو الوطء الذي يفسد الحجَّ لو كانت محرمة، أو الصيام لو كانت صائمة، أو يتحقق به الإحصان إن كانت بكرًا.. وهكذا، أما مجرد المداعبة ومقدمات النكاح أو مقدمات الوطء؛ فإن هذا لا تحل معه المرأة، وهذا خلاف الجمهور، بل خلاف جميع العلماء مع من؟ أحد التابعين، قال أحد التابعين: إنه يُكتفى بالعقد مع نية عدم التحليل لزوجها الأول، فإذا كان يتزوجها لا ينوي أن يُحللها لزوجها الأول ثم إنه طلقها قبل أن يبني بها أو قبل أن يجامعها فلا حرج عليها في أن تعود إلى زوجها، هذا خلاف سعيد بن المسيب -رضي الله تعالى عنه ورحمه- مع جماهير العلماء.
وخلاف آخر وُجد في هذه المسألة وهو خلاف الحسن البصري -رضي الله تعالى عنه ورحمه- فإنه ذهب إلى أنه لا يعتبر ذلك الجماعُ إلا إذا حصل فيه ومعه إنزال، وهذا أيضًا خلاف للجمهور؛ لأن الجمهور لا يشترطون ذلك.
ما السبب؟
السبب أنه فهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا.. حتى تذوقِ عسيلته، ويذوق عسيلتك) أن هذا كناية عن الإنزال، وليس عن الجماع، اعتبر ذلك كناية عن تمام وكمال الشهوة التي تحصل بقضاء الوطر بالإنزال، وليس عن مُطلق الجماع، والجمهور يخالفونه في ذلك.
إذن الوطء المعتبر هو ما كان معه انتشار وانتصاب ولو لم يكن معه إنزال، يعني أن تغيب حَشَفَةُ الذكر في فَرْجِ المرأة، بهذا يحصل الجماع الذي يبيحها لزوجها الأول ويحصل الجماع الذي تترتب عليه آثار وأحكامه، ولهذا قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا.. حتى تذوقي عسيلته ويذوقَ عسيلتكِ) حتى أي لبيان الغاية. والعسيلة هي لذة الجماع، وهذا -كما قلنا- من قبيل الكناية، فكأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كَنَى عن تغييب حشفة الذكر في فرج المرأة بذوق العسيلة، ولو لم يُنزل، والعسيلة تصغير ماذا؟
عسل.(1/7)
تصغير عسل، لكن العسل مؤنث أم مذكر؟ العسل مؤنث وقد يذكر، الأصل فيه أنه مؤنث وقد يذكر، وقيل: بل التصغير لقطعة من العسل، يعني قطعة من العسل يعني مؤنثة، فقيل: إن التصغير لقطعة من العسل فيقال فيها عُسَيلة، وهل التصغير للتقليل أم لأمر آخر؟
للتقليل، وقال بعضهم: للتحقير، المهم أنه يُكتفى بأدنى ما يُطلق عليه اسم الجماع وهو تغييب حشفة الذكر أو مقدارها في فرج المرأة، والمراد أن القدر القليل من ذلك يحصل به الجماع الذي تترتب عليه آثاره وتتعلق به أحكامه، وهذا طبعًا -كما قلنا- شرط اشترطه العلماء قاطبةً لِتَحِلَّ لزوجها الأول خلافًا لواحد من التابعين وهو سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى-.
هذا الأمر أمر جد خطير لماذا؟
لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لعن المُحَلِّل والمُحَلَّل له، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (لا.. حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك) وفي الحديث الآخر (لعن المحلل والمحلل له)، وعاد فقال: (ألا أخبركم بالتيس المستعار؟! قالوا: بلى يا رسول الله، قال: المُحلِّل، لعن الله المحلل والمحلل له!).
إذن هذا ترهيب ووعيد شديد من هذا النكاح، نكاح التحليل وقد نص العلماء على بطلانه وفساده، إذا كان المقصود منه تحليلها لزوجها، وهو من الحيل المحرمة، وهذا أيضًا يدلك، أو هذا من أدلة إبطال الحيل المحرمة؛ لأنه يتحيل به على أن ترجع زوجته إليه، والنبي -عليه الصلاة والسلام- رُوي عنه بسند فيه ضعف أنه قال: (العُسيلةُ الجماعُ)، ومما يدل على شرطية الإيلاج أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سئل عن الرجل يطلق امرأته ثلاثًا ويتزوجها آخر، فيغلق الباب ويرخي الستر، ثم يطلقها؛ أي قبل أن يدخل بها؛ فهل تحل لزوجها الأول؟
قال: (لا.. حتى يذوق العسيلة). واضح من هذا أن هذه المسألة تكاد أن تعتبر مسألة من مسائل الإجماع حتى إنه قال: (لا تَحِلُّ لأولٍ حتى يُجامعَها الآخر).(1/8)
ماذا نقول في خلاف ابن المسيب -رحمه الله تعالى- وهو من كبار التابعين؟
نقول: لعله لم يبلغه الحديث واكتفى بلفظ الآية، ما لفظ الآية؟
?فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ?.
وقد مَرَّ معنا أن النكاح يطلق على العقد كما يطلق على الوطء. ابن المنذر -رحمه الله- يقول: "وهذا القول الذي هو حِلُّها بِمُجَرَّدِ العقد لا نعلم أحدًا وافقه -أي سعيد بن المسيب- عليه إلا طائفة من الخوارج، ثم اعتذر عنه فقال: ولعله لم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر القرآن".
وهنا أريد أن أنبه إلى أدبٍ من آداب أهل العلم حين تقع من بعضهم شاذة أو فاذَّة أو يقع في خلاف ضعيف أو يتبع قولاً منكرًا أو مهجورًا أنهم يعتذرون عنه، ويظنون به الظنَّ الحسن، ولا يشنعون عليه، ولا يقولون فيه قولاً عظيمًا؛ لأنه مجتهد يدور بين أن يُؤْجَرَ أجرًا أو أن يُؤْجر أجرين؛ فلا يجوز إذن أن يُنال من عالم قال بمسألة وقعت فيها منه مخالفة لا عن قصد ولا عن تَعَمُّدٍ وإنما عن اجتهاد بَذَلَ فيه وسعه واستفرغ فيه جهده، ثم إنه أخطأ فيما أفتى فيه مؤخرًا فنجد أن العلماء يَعْتَذِرُ بعضهم عن بعض، هذه أخلاقهم، وتلك آدابهم والتي يجب أن نتأدب بها، وقد نُقِلَ عن داودَ الظاهريِّ أنه قال بقول سعيد، ونُقِلَ أيضًا عن سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى- أنه وافق قول سعيد بن المسيب، ومع هذا فنحن نقول: إن المسألة تكاد تكون من مسائل الإجماع، وأن هذا الخلاف خلاف لا يُعْتَبَرُ، مع ما ذكرنا من الأدلة والآثار والأخبار وما أفتى به رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذه الواقعة = واقعة امرأة رفاعة القرظي.
هذا الحديث في آخره تقول عائشة -رضي الله تعالى عنها-: (وأبو بكر عنده، وخالد بن سعيد) أبو بكر؛ جالس في هذا المجلس التي جاءت فيه امرأة رفاعة تقول هذا الكلام، وخالد بن سعيد بالباب.(1/9)
خالد بن سعيد هذا هو ابن العاص بن خالد الأموي القرشي -رضي الله تعالى عنه- من الصحابة. (بالباب)؛ أي خارج الغرفة ينتظر أن يُؤْذَنَ له كما في هذه الرواية: (ينتظر أن يؤذن له، فنادى يا أبا بكر! ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؟!).
خالد بن سعيد سَمِعَ الكلام ولم ير النبي -صلى الله عليه وسلم- متبسمًا فالصديق رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- متبسمًا فكف -رضي الله تعالى عنه- عن زجر هذه المرأة، لكن خالد لم ير النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن لم يؤذن له فيدخل، لكنه سمع فقط صوتها وهي تجهر بما تجهر به فقال: (يا أبا بكر! ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!) يعني ينكر على هذه المرأة ويأمر الصديق أن يُسْكِتَ هذه المرأة أن تقول مثل هذا الكلام الذي قد يخرج من بعض العامة في بعض المواقف لا يحسنون فيها التعبير أو لا يحسنون فيها التصرف فينبغي على العالم والداعية والمفتي والشيخ أن يحلم، وأن يصبر، وأن يوجه، وأن يعلم، وأن لا يعنف. هذه سيرة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهذه سيرة أصحابه التي تدل على كمال تعظيمهم، ومحبتهم، وتوقيرهم، وتقديرهم لنبيهم -صلى الله عليه وآله وسلم-، وحفظ جَنَابِ الأدب معه -عليه الصلاة والسلام-، فلا يُخدش جناب الأدب بحضرته -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكذا كل صاحب فضل من عالم أو حاكم ونحو ذلك لا ينبغي أن يقع في مجلسه شيءٌ من خدش الأدب، وذكر ما يُستحيى من ذكره من الكلام.
بهذا نكون قد أتينا على حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- وبيان المهم من هذا الحديث ولننتقل إلى باب عشرة النساء مع حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (
باب عشرة النساء(1/10)
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (من السنة إذا تزوج البكر على الثيب؛ أقام عندها سبعًا ثم قَسَمَ، وإذا تزوج الثيب؛ أقام عندها ثلاثًا ثم قسم)، قال أبو قلابة: (ولو شئت؛ لقلت: إن أنسًا رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-)).
هذا الحديث حديث يتعلق بباب عشرة النساء، وهو يتحدث خصوصًا عن موضوع يتعلق بالقَسْمِ للنساء إذا تزوجهن الرجل، وهو بِمُجْمَلِه يظهر لنا أن هذا الدين إنما عُنِيَ بإقامة العدل وموائمة الفطرة، وجُعِلَ العدلُ فيه في كل شيء، ونُهِيَ فيه عن الظلم قليله وكثيره على حدٍّ سواء، ثم إن العدل قد يقتضي التسويةَ وقد لا يقتضيها، لكنَّ المرادَ إقامةُ العدل وهو إعطاء كلِّ شيء وكل أحد حقه ومستحقه من غير زيادة ولا نقصان، من غير حيف ولا جور، فالثيب تختلف عن البكر، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا الحديث يُعلم الرجلَ إذا تزوج البكر على ثيب أن يمكث عندها سبعًا، وإذا تزوج ثيبًا على بكر أن يمكث عندها ثلاثًا.
لماذا؟
لأن العدل يقتضي رعاية حقِّ هذه البكر التي لم تعرف الرجال، ولم تألفهم، ولم يكن منها سابق عهدٍ بالرجال، فهي أكثر استيحاشًا وأكثر خجلاً وتحتاج إلى رجلها وزوجها أنْ يؤنسها وأن يُذهب وحشتها وأن يرعاها في هذه الفترة، لذا؛ أُمِرَ الرجل بأن يُقِيمَ عندها سبعًا، وأَمَّا الثيبُ؛ فيقيم عندها ثلاثًا؛ لأن حاجتها تندفع بالثلاث، وتقل حاجتها عن حاجة البكر، فهذا هو العدل الذي أقامه الله -تبارك وتعالى- على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- في شأن التعدد، فهذا الحديث يدور حول هذا المعنى.
وهو مبدوء بقول الراوي: (من السنة)، وهذا التعبيرُ يعتبره عامة الأصوليين له حكم الرفع، إذا قال الصحابي، أو إذا قال الراوي، أو إذا قال من ينقل الحديث: "من السنة كذا"؛ فإنه يدل على أن هذا الحديث ينصرف إلى سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.(1/11)
إذن الراوي الذي رَوَى قال: (من السنة)؛ أي من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقد قال سالم بن عبد الله بن عمر للزهري حين سأله عن قول ابن عمر للحجاج: "إن كنت تريد السنة ما معنى السنة؟" قال: السنة: سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وهل يعنون بذلك إلا سنته، فإذا قال سنة النبي؛ انتهى، لكن إذا قال: من السنة كذا وأطلق؛ فالراجح والذي عليه جماهير أهل العلم أن المقصود بذلك سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وعليه؛ فهذا الحديث له حكم الرفع، وأبو قلابة وهو ثقة فاضل عبد الله بن زيد، يَنْمِي هذا الحديث ويقول: "لو شئت؛ لرفعته" وهذا يدل على أنه كان مترددًا، يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أم هو موقوف على أنس -رضي الله تعالى عنه؟!
وقع منه التصريح بالرفع في رواية عند الإسماعيلي في "مستخرجه" وهذه الرواية من طريق أيوب من رواية عبد الوهاب الثقفي عنه عن أبي قلابة عن أنس أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كذا.
إذن هذا تصريح برفعه، برفع هذا الحديث، وقوله في آخر هذا الحديث: (لو شئت؛ لقلت: إنه يرفعه) يدلك على أنه كان مترددًا، وأن الغالب على ظنه ووهْله أن أنسًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إذن هذا الحديث تَحَرَّزَ الراوي فيه فوقفه على أنس تارة، ورفعه إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تارة أخرى، وتعبير "من السنة كذا" هذا يدل على أنه مرفوع إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
قوله: (من السنة إذا تزوج البكر على الثيب) هل هذا الحكم خاص إذا تجددت زوجة على أختها أم أن هذا الحكم عامٌّ في الزوجات؟
ما معنى هذا الكلام؟(1/12)
لو أن رجلاً كانت عنده ثيب امرأة تزوجها صارت ثيبًا، ثم إنه تزوج بكرًا كضَرَّةٍ لها، يعني أراد أن يأتي بتعدد فجاء بهذه المرأة الثيب أو البكر؛ فهل هذا الحكم الذي في الحديث أنه يقيم عند البكر سبعًا وعند الثيب ثلاثًا خاص بما لو كان ذلك في نكاح الضرائر أم في النكاح مطلقًا بحيث لو أنه تزوج بكرًا ولم يكن عنده زوجة غير هذه البكر فهو ملزم بأن يبيت عندها سبعًا أم لا؟
وكذا لو تزوج ثيبًا ولم تكن عنده زوجة قبلها ولا معها؛ فهو ملزم أن يبيت عندها ثلاثًا أم لا؟
ما رأيكم؟
هل هذا الحكم عامٌّ يشمل التي تأتي كزوجة ثانية والتي تأتي كزوجة أولى أم أن هذا الحكم خاصٌّ في حال التعدد بحيث إن التي جاءت على أختها كضرة يقيم عندها سبعًا إن كانت بكرًا ويقيم ثلاثًا إن كانت ثيبًا؟!
ما رأيكم؟
الزوجة الأولى هو مقيم عندها دهرًا لا يحتاج أن يفصل...
طيب.. هو مقيم عندها دهرًا، طيب.
وكذا الثيب.
لا.. يا شيخنا إلى من سيتركها؟ هو لم يتزوج عليها حتى يتركه.
نحن نريدك أن تجيب على هذا السؤال:
هل هذا الحكم خاص بنكاح الضرائرِ بعضهن على بعض أم أن هذا الحكم يثبت للمرأة مطلقًا إذا تزوجت؟
بمعنى: لو أن الرجل تزوج امرأة ولم يكن له سواها، وهذه بكر، فيجب عليه أن يقيم معها سبعًا بحيث إنه لا يجوز له أن يبيتَ عند غيرها ولو كان هذا البيات في بيته هو أو عند والديه أو في مكان آخر، لا يشترط أن يكون يبيت عند امرأة وإنما يبيت في عمله في مكانه في كذا عند أهله عند والديه، فهو مطالب بأن يبيت عندها هذه السبع أم أن هذا مختص بنكاح الضرائر؟
جمهور العلماء على أن هذا للمرأة إذا تزوجت مطلقًا، سواءً كان هذا الزواج سَبَقَهَا فيه غيرها أو كانت هي أول الزوجات.
إذن هذا قول الجماهير، من المخالف في هذا؟
خالف في ذلك الشافعية.
ماذا قالوا؟(1/13)
قالوا: يُستحب ولا يَجِبُ إذا كان هذا في نكاح لم تسبقها فيه غيرها، يعني هذا الرجل ليس على ذمته من النساء إلا هذه المرأة، فقالوا: يستحب، وهذا ذكره النووي -رحمه الله تعالى- عن الشافعية وإن كان هو قد مال إلى قول الجمهور، لكنه قرر مذهب الشافعية فقال: إن المذهب عندهم الاستحباب دون الوجوب.
وما رأيكم أنتم في هذه المسألة؟ هل هو مطلقٌ أم هو خاص بنكاح الضرائر بعضهن على بعض؟
نستطيع أن نستدل بحديث الباب وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: (إذا تزوج البكر على الثيب) نستدل بهذا للشافعية، (إذا تزوج البكر على الثيب) فهذا يدل على أنه كان زواج ونكاح ضرائر. لكن في بعض الروايات أنه قال -عليه الصلاة والسلام-: (للبكر سبعٌ، وللثيب ثلاثٌ) وأطلق، (للبكر سبع وللثيب ثلاث) فدل هذا على أن المقصود أن كل امرأة بكر تزوجت؛ فلها سبع، وكل ثيب تزوجت؛ فلها ثلاث، هذا يشهد للشافعية وذاك يشهد للجمهور، لكن الأصل أن المطلق يُحمل على المقيد، ثم إن قوله: (أقام عندها سبعًا ثم قسم) وفي رواية: (وقسم) وليس عند الإمام مسلم (ثم قسم) هذه (أقام عندها سبعًا ثم قسم)، ما المقصود بالإقامة هنا؟
المبيت.
أخونا يقول: المبيت.. نعم.
عدم الذهاب إلى الزوجة الأولى.
إذا لم تكن هناك زوجة أولى؟
عدم السفر.
أن لا يخرج من بيته؟ أم عدم السفر؟ أم أن لا ينشغل بأمر آخر؟ أم أن القضية قضية البيتوتة والمبيت يبدأ من أول الليل فيلزم بأن يقيم عندها من أول الليل أي من بعد أذان المغرب مثلاً؟
هل هذا المقصود؟
لا.. ليس هذا هو المقصود، المقصود ما هو أعم من البيات، يقيم عندها يعني يُطَوِّلُ مدةَ قيامِه وبقائه ومكثه ولبثه معها.
لماذا؟(1/14)
لأن من مقاصد هذه الفترة المؤانسة، والمجالسة، والتحبب إليها، وإزالة الوحشة، وإكرامها، إكرام هذه المرأة وبيان أنها عزيزة عند ذلك الرجل، الرجل الذي تزوج ثم خرج من أول يوم يكدح ويذهب في الطرقات ويعمل وكذا، ويلقى أصحابه وأحبابه وأصدقاءه وترك المرأة، هذا فيه نوعُ جفاءٍ. ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب الإقامة وأن هذا ليس من السنن بل هذا من الواجبات لحق هذه المرأة، ونبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لأم سلمة -وسيأتي معنا هذا- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرها بين أن يثلث لها يعني يعطيها ثلاثة أيام يُقيل، ثم يدور على نسائه، أو يسبع لها، ويسبع لنسائه، فطلبت أن يثلث لها؛ أي أن يقيم عندها ثلاثًا، وهو -صلى الله عليه وآله وسلم- أخبرها أنها لا تَهُون عليه يعني لا يُضَيِّع حقًّا لها أوجبه الله -تبارك وتعالى- وقسمه لها، فاختارت أن يثلث لها.
إذن يجب على الرجل أن يرعى هذه المسألة، سواءً أكان الزواج من بكر، أو كان الزواج من ثيب. لكن كما أن هنا تفريطا يوجد أيضًا إفراط، فالذي يخرج من أول ليلة ويخرج من أول يوم ويذهب إلى عمله ويترك هذه المرأة يقابله شخص آخر لا يخرج للصلاة يمكث في البيت ثم لا يخرج للصلاة، وربما مرت عليه الجمعة ما خرج أو الجماعة ما خرج، وقد عَلَّقَ الإمام ابن دقيق العيد -رحمه الله- فقال: "وأفرط بعض فقهاء المالكيَّة، فجعل مُقامه عندها عذرًا في إسقاط الجمعة إذا جاءت في أثناء المدة" ثم عَلَّقَ فقال: "وهذا ساقط منافٍ لقواعد الشريعة" منافٍ للقواعد، فإنَّ مثل هذا من الآداب أو السنن لا يُترك له الواجب.
ما هو الواجب؟
الجمعة، وابن حجر -رحمه الله تعالى- قال:(1/15)
"تنبيه: يكره له أن يتأخر في السبع والثلاث عن الصلوات وسائر أعمال البر" هذا مكروه للرجل أن يتأخر عن هذا بسبب أنه نكح امرأة ثيبًا كانت أو بكرًا، إذن لا بد أن نفهم أنه لا إفراط ولا تفريط. وفي الأمور المباحة يتخلى عنها لأجل أن يؤانسها، وأما في الواجبات؛ فلا يفرط فيها لأجل مؤانسة امرأته، فإن هذا مما لا يحل له؛ لأن حق الله -عز وجل- مُقَدَّم في هذه الحالة.
والسبع والثلاث هذا قدر توقيفيٌّ، وقفه النبي -صلى الله عليه وسلم- بوحي من ربه، فلا يجوز للرجل أن يزيد على سبع. إنسان تزوج من امرأة ثم إنه أعجبه حالها فزاد عن السبع بغير إذن زوجاته؛ فإنه يأثم بهذا، ويجب عليه أن يقضي إلا أن يرضَيْن، إلا أن ترضى الأولى، والأولى لن ترضى، إذن لا يزيد عن السبع إلا بإذنهن، فإن أَذِنَّ؛ فلا إشكال، لكن إن لم يأذنَّ؛ لم يكن له ذلك، فإن زاد وتجاوز؛ فإنه يقضي ذلك. والنبي -صلى الله عليه وسلم- قلنا: إنه لما تزوج أم سلمة قال: (إنه ليس بكِ هوان على أهلك) يعني من؟
يعني نفسه -صلى الله عليه وسلم- أنه أهلها، (فإن شئت؛ سَبَّعْتُ لكِ، وإن سبعت لكِ؛ سبعت لنسائي) وقال أيضًا: (وإن شئت ثلثت ثم درت فقالت: ثَلِّثْ) يعني اختارت هذا.(1/16)
استفاد بعض العلماء أن الثيب إذا أقام زوجها عندها سبعًا أنه يقسم للأخريات سبعًا مثلها، وهذا يدل على أنه قد ذهب تأثير الزواج في حقها، يعني قسم للثيب سبعًا على خلاف المسنون في هذا الحديث أو المذكور في هذا الحديث ثلاثًا قسم لها سبعًا أن حق الأخريات يثبت في سبع ليالٍ مثل هذه الثيب التي أخذت سبعًا، ومال بعضهم وهم من الشافعية إلى أن هذا إذا كان بإذنها ورضاها فيذهب حقها وفقدت هذه الميزة، وإذا كان هذا من فعل الزوج بغير إذنها ورضاها؛ فإنه يقضي الزوجات الأخريات أربع ليال، يقضيهن أربع ليال؛ لأن الثلاث الأول هذه كانت من حقها، والأربع كانت زيادة من الزوج بغير إذنها أو بغير رضاها، فهذا هو الذي يُقضى، ثم إنه بعد ذلك يدور بالسوية على نسائه، يعني يدور بالسوية على باقي النساء؛ ليعدل بينهن في هذا القسم الذي أوجبه الله -عز وجل-، ومعلوم أن هذا الحديث يدل على وجوب العدل بين الزوجات في المبيت، والأصل في العدل هو وقت البيتوتة، وليس وقت النهار؛ لأن وقت النهار هو وقت الاشتغال والذهاب والإياب والعمل والكسب ونحو ذلك بالنسبة للرجل، وإذا كان الرجل عمله بالليل وبيتوتته بالنهار فإن الأمر يختلف، بهذا نكون قد أتينا على المهم من شرح هذا الحديث وننتهي من هذه الحلقة لننتقل إلى الإجابة على الأسئلة وذكر أسئلة هذه الحلقة.
يقول: إذا تزوجت امرأة من رجل بعد تطليقها من زوجها الأول واتضح في زواجها الثاني أو زوجها قد أصيب بحالة مرضية تمنعه من جماعها، وبعد فترة طلقت منه؛ فهل تحل للزوج الأول؟.
لا تحل له، السؤال يقول: امرأة بُتَّ طلاقها، ثم نكحت رجلاً عِنِّيْنًا هذا العنين طرأت له عنة منعته من إتيانها، أو كان مريضًا لا يستطيع إتيانها، ثم بقيت عنده ما بقيت، ثم طلقها، فهل تكون بذلك قد حلت لمطلقها الأول؟(1/17)
لا.. لا تحل له؛ لأنه لم يقع الجماع، وقد قلنا: إنه يشترط أن يقع الجماع، وبعض العلماء فَصَّلَ تفصيلات دقيقة فقال: لو أنه جامعها وهي نائمة فهل يحصل بذلك التحليل أم لا؟
ما رأيكم؟
جامعها وهي نائمة هل يحصل التحليل أم لا يحصل؟
يحصل؛ لأن معنى الجماع وقع.
الجماع وقع.. لكن أكثر العلماء يقولون: لا يحصل، لماذا؟
لأنه قال: (لا.. حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فهي كانت نائمة لم تشعر بشيء، فمنع أكثر العلماء من جَرَيَانِ التحليل في حالة كهذه، فمن باب أولى لو كان مريضًا أو غير قادر أو عنينًا أو ما أشبه فإن هذا لا يحقق التحليل لزوجها الأول.
طيب يا شيخ ممكن تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها دون الجماع، يعني يتمتع بها وتتمتع به دون الجماع.
هذا هو الذي حصل بالنسبة لعبد الرحمن، عبد الرحمن جاء بمقدمات الجماع، وحاول محاولة كما قالت: (إلا هنة يسيرة، لم ينل مني فيه) يعني لم يصل إلى أن جامع، يعني وقعت منه مقدمات الأمر، لكنه لم يُتِمَّ هذا الأمر، فلم يَعُدّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا جماعًا؛ لأنه قال: (لا.. حتى تذوقي) ولم يقع الذوق، والمقصود بالذوق هنا حصول حقيقة الجماع الذي به يقع الإحصان وقلنا به أو عليه يتعلق وقوع الحد ونحو ذلك من الأحكام.
يقول: بالنسبة للمرأة الغير مدخول بها والرجل إذا تزوج وعقد بماذا يُسمى.. محصنين، وبالنسبة لقول ترك الصلاة أول أسبوع من الزواج، الصلاة في البيت هل قاسوه على الطعام أو عداه لعدم الخشوع والطمأنينة؛ لأن هذا مجرب يا شيخ؟.
سؤاله الأول عن تسمية المرأة غير المدخول بها أو مجرد العقد دون البناء أو الدخول يسمى محصن.
الصحيح من قول أهل العلم أن الإحصان لا يكون إلا بوطء في عقد صحيح، وأن المرأة لو وطئت في عقد فاسد ونحوه كالزنى والعياذ بالله لا يتحقق به إحصان فهو هدر، المحصن هو من تزوج أو دخل أو بنا في عقد صحيح، نعم.. هذا هو الراجح الصحيح من قوليْ أهل العلم.(1/18)
هو تكلم في السؤال الثاني عن ترك الصلاة، ولكن أعتقد أنه يقصد صلاة الجماعة.
نعم.. هو المقصود طبعًا هو إنكار أهل العلم على ترك الجماعة، وليس على ترك الصلاة، وإلا؛ فإن رجلاً يتزوج فيترك الصلاة خير له أن لا يتزوج، نعم..
يقول: ممكن يكون عذره أنه يصلي في بيته أنه إذا ذهب إلى المسجد لا يركز ولا يخشع في الصلاة.
إذا حصل هذا لواحد فإنه لا يصلح أن يكون حكمًا عامًا، لا سيما عند من يقول بوجوب صلاة الجماعة، وهو المقدم في مذهب الإمام أحمد وهو الصحيح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة: أن الصلاة يجب أداؤها جماعة إلا من عذر، فإن كان هذا الرجل في يوم أو في وقت أو في ظرف معذورًا بأكل ونحوه؛ فإن له أن يتخلف عن صلاة الجماعة، لكن هذا لا يتأتى له في كل وقت، وفي كل يوم، وفي كل ظرف أن يترك الجماعة لأجل أنه بنى بأهله، بل عليه أن يخرج لشهود الجمعة والجماعات، وحتى الذين يقولون بأن صلاة الجماعة فرض كفاية، أو يقولون بأنها سنة مؤكدة كما هو مذهب ابن حجر -رحمه الله تعالى- والشافعية، فإنه يقول: يُكره له، يعني هو يثرب عليه في أن يترك الجماعة ومن باب أولى الجمعة والجمعة فرض لا اختلاف على فرضية الجمعة، إلا ما نُقِلَ عن بعض المالكية وقوله لا يعتد به، من أنها فرض كفاية، وإلا فجماهير أهل العلم على أن الجمعة فرض عين، لا يجوز له أن يتركها، والله تعالى أعلى وأعلم.
أسئلة الحلقة.
السؤال الأول: ما معنى قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا.. حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك)؟
السؤال الثاني: بَيِّن ما يفيده قول الراوي: "من السنة كذا"؟(1/19)
الحديث - المستوى السادس
الدرس الثامن عشر - تابع كتاب النكاح (الحديث الثاني عشر)
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
تابع كتاب النكاح (الحديث الثاني عشر)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه، الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله عليكم ورحمة الله –تعالى- وبركاته.
ما زلنا مع أحاديث كتاب النكاح ومع الحديث الثاني عشر، وهو حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ؛ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ؛ لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا).
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين وبعد.
فحديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- حديث في باب عشرة النساء، وهو يتضمن أدبا من آداب الجماع، وهذا الأدب يتضمن في طياته تنويها بعظمة هذه الشريعة التي ترعى المسلم في كل أحواله، والتي تحافظ عليه أن يكون مرتبطا بربه في كل أحيانه.(1/1)
نرى هذه الشريعة المطهرة لا تترك أمر هذه الغريزة إلا بتهذيب وترتيب ربانيّ وبهدي يربطها بذكر الله -عز وجل-. فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يأمر من أراد إتيان أهله بالجماع أن يذكر الله -عز وجل- على هذا. وتأمل أن يذكر اسم الله -تبارك وتعالى- على هذا الجماع؛ يرفع هذه الفعلة ويزكيها ويباركها وينميها ويجعل الإنسان متشرفا بذكر اسم الله –تعالى- ومتبركا بذكر اسمه –تعالى- على هذا الأمر الذي قد يَستحي منه بعض الناس أحيانا، وينفر منه بعض الناس أحيانا، ويراه بعض المخالفين لدين الإسلام ارتكاسا في حمأة الحيوانية أحيانا أخرى. بعض أهل الملل المخالفة للإسلام يعدون مثل هذا الجماع والنكاح من جملة الخطايا ومن جملة البلايا التي تنزل بالإنسان عن رتبة علية، والحق أن هذا الدين نَمَّى وسما بهذه الغريزة وارتفع بها إلى أن جعلها ثوابا يُثاب عليه الإنسان، وعملا صالحا يتقرب به إلى الله كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (وفي بضع أحدكم صدقة).
جعل إتيان الرجل لأهله سببا لثوابه وأجره، وسببا لزيادة حسناته ورفعة درجاته عند ربه، بل جعل النكاح بذاته من الطاعات والعبادات التي يرجو المسلم برها وثوابها وفضلها، وأمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المسلم بأن يذكر الله -تبارك وتعالى- وأن يتبرك بذكر اسم الله -عز وجل- حين إرادة إتيان زوجته.
فهذا في الحقيقة سُموٌّ لا تعرفه شريعة غير هذه الشريعة المطهرة المباركة. دعاء يأمر به النبي -عليه الصلاة والسلام- كلَّ من أراد إتيان زوجته ليقول (باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا!!).
اعتصام والتجاء واحتراز من الشيطان، اعتصام بجناب الله -عز وجل- والتجاء إلى جنابه -جل وعلا- واحتراز من أن يقع الإنسان فريسةً للشيطان، وأن يتسلط عليه الشيطان في هذه الحالة التي يقارب فيها أهله ويصيب فيها شيئا من المتاع المباح من هذه الدنيا.(1/2)
إذن حصن المسلم على كل حال ذكر الله -تبارك وتعالى-، ذكر الله -عز وجل- على كل أمر يَهتم به، ويُهتم به في هذا الشرع المطهَّر. فإذا أردنا أن نتقل إلى الشرح التفصيلي لهذا الحديث؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:
(لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله): المقصود بالأهل هنا الزوجة، ويطلق الأهل أيضا على الأمة التي ينكحها؛ أي يطؤها سيدها فهي أهلٌ لهذا السيد، تُسمى أهلا كما تسمى الزوجةُ المنكوحةُ أهلا أيضا. إذن كلمة الأهل تطلق على الأمة كما تطلق على الحرة إذا كانت زوجة، ويطلق هذا أيضا على الرجل فالرجل أهل لزوجته كما أن الزوجة أهل لزوجها، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال ذلك لأم سلمة -كما مر معنا- في لقائنا الماضي فأخبر أنها لا تهون عليه -صلى الله عليه وسلم-؛ أي لا تهون على أهلها ويعني بذلك نفسه -عليه الصلاة والسلام-.
والنبي هنا يقول: (لو أن أحدكم إذا أراد) يعني قبل الشروع أم في أثنائه أم بعده؟ (إذا أراد): هذا يدلك على أن المقصود أن يقول الإنسان هذا الذكر قبل الشروع في الجماع، وكلمة (أراد) هنا تفسر ما ورد في حديث آخر من قوله -عليه الصلاة والسلام-(حين يأتي أهله): فحين يأتي أهله قد توهم أن المقصود أن يبسمل وقت الجماع لكن الرواية التي فَسَّرت هي هذه الرواية التي معنا (إذا أراد).
وهذا على غرار قول الله تعالى: ? فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ? [النحل: 98]، فإذا قرأت؛ أي فإذا أردت القراءة؛ لأن الاستعاذة متى تكون؟! أين تكون؟! قبل؛ أي عند الهم وعند الإرادة عند العزم قبل أن تباشر القراءة؛ فعليك أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وكذا إذا أردت أن تأتي أهلك؛ فلتذكر هذا الدعاء ولتقله قبل أن تشرع في الجماع.(1/3)
قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (باسم الله): الباء هنا تفيد الاستعانة، وقيل: إن الباء تفيد معاني أخرى لكنها هنا للاستعانة، للمصاحبة أيضا، للتبرك، وهي استعانة بالله -عز وجل- على كل شأن يهتم به شرعا فأنت تستعين بالله -تبارك وتعالى- على كل شأن تهتم به شرعا، وتتبرك بذكر اسم الله -عز وجل- على كل أمر تهتم به شرعا. والاسم في قولك: باسم: ما دل على مسمى، أو ما دل على معنى في نفسه ولم يقترن بزمن، ما دل على معنى في نفسه ولم يقترن بزمن وضعا.
الاسم مشتق من السمة وهي العلامة؛ لأن الاسم علامة على مسماه، وقد يكون مشتقا من السمو بمعنى العلو؛ لأنه يعلو مسماه، فإذا قلت: باسم الله فالجار والمجرور في قولك: باسم الله يتعلق بفعل محذوف يُقدر فعلاً متأخرا خاصا؛ فعلاً فتقول: باسم الله آكل، باسم الله أشرب، باسم الله أجامع، باسم الله أفعل، هذا فعل. والفعل يقدم أم يؤخر؟
قد يقدم وقد يؤخر، لكن تأخيره أولى. لماذا؟
لأن اسم الله –تعالى- مقدم شرعا فيجب أن يقدم طبعا، اسم الله مقدم رتبة وشرعا فيجب أن يقدم طبعا، فأنت تقدم اسم الله فتقول باسم الله مجريها كما في الآية باسم الله مجريها، ويجوز ماذا؟
أن يتقدم الفعل، لكن الأفضل والأولى هو أن يتأخر، وهذا أيضا يُفيد الحصر أنْ تحصل الاستعانة والتبرك باسم الله فيما تريد أن تفعله، فتقول: باسم الله أجامع حال كوني متبركا ومستعينا ومصاحبا اسم الله -تبارك وتعالى-.
وقد ورد في الحديث بأسانيد كلها فيها ضعف (كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيها بـ: باسم الله؛ فهو أبتر). أبتر يعني؟ أقطع. والمعنى أنه ناقص البركة والإنسان إذا أكل يلتمس بركة الأكل بأن ينتفع جسمه، وأن يتغذى، وأن يُذهب الله -عز وجل- جوعته، وكذا إذا أتى أهله؛ فإنه يلتمس بركة هذا الفعل بأن يرزقه الله -عز وجل- ولدا صالحا، وأن يُعف بذلك نفسه وزوجه، فهو يريد من كل فعل غاية ومنتهى.
ما هو منتهى هذا؟(1/4)
بأن يحصل له العفاف، وأن يعقبه الله –تعالى- الذرية الصالحة، وأن يكثر الله -عز وجل- نسل أمة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأن يخرج الله من صلبه من يعبد الله –تعالى- ويوحده لا يشرك به شيئا. هذه كلها تأتي ببركات هذا النكاح، فأنت تطلب بركة النكاح بذكر الله -تبارك وتعالى- على سبب الولد وهو الجماع، سبب الولد هو الجماع.
وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (اللهم جنبا الشيطان): في رواية للبخاري: (اللهم جنبي الشيطان) بالإفراد يعني المتحدث أو المتكلم يتحدث عن نفسه فيقول اللهم جنبي الشيطان وجنبنا أيضا، والمعنى: امنعنا منه، واحفظنا منه، وأجرنا منه، وأبعده عنا حال فعلنا للجماع، وهذا لما روي من أن الشيطان -وثبت هذا- أن الشيطان يحضر الإنسان عند طعامه، يحضره إذا دخل بيته، يحضره إذا جامع أهله، فالإنسان إذا دخل بيته فلم يذكر اسم الله -عز وجل-؛ دخل معه الشيطان، فإذا قرب إليه طعامه فلم يذكر اسم الله؛ أكل معه الشيطان، فإذا أراد أن يأتي أهله فلم يذكر اسم الله؛ جامع معه الشيطان كما نُقل ذلك عن مجاهد من أئمة التفسير.
إذن العبد يصحب اسم الله في كل أمر، ويحفظ اسم الله –تعالى- على كل فعل شريف له قدر، ولذلك تجد النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمرك إذا دخلت بيتك أن تقول: باسم الله، اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج وهكذا، يأمرك إذا أكلت أو طعمت أن تقول: باسم الله؛ لأن هذا يُذهب الشيطان ويُبقى لك بركة هذا الطعام، وتأمل قول الله -عز وجل-: ? وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ ? [الإسراء: 64]، المشاركة في الأموال من الشيطان كيف تكون؟(1/5)
بأن يأخذها الإنسان من غير حلها وأن يضعها بعد ذلك في غير حقها، يأخذ المال من غير حله بأنواع من المكاسب المحرمة ثم يضعه في غير حقه، فهذه شركة الشيطان للإنسان في ماله، يشاركه في ماله بهذه الصورة، وكذا لو أنه سرق أو فعل ما يحرم في اقتناص واكتساب هذه الأموال ثم ذهب بها ذات اليمين وذات الشمال؛ فإن ذلك مخالطة الشيطان إياه.
وقوله: ? وَالأَوْلاَدِ?، كيف تكون مشاركة الشيطان للإنسان في الأولاد؟!
لها صور كثيرة؛ من ذلك: ما أمر به الشيطان من أضلهم بأن يقتلوا أولادهم هذه شركة في الأولاد، ما أمرهم به الشيطان من أن يسموا أولادهم بأسماء معبوداتهم الباطلة؛ كأن يسموا مثلاً عبد الحارث، ويسموا عبد العزى، وعبد اللات، وعبد مناة، وغير ذلك من الأسماء.
فهذا أيضا من شركة الشيطان لهم في أولادهم، وتأمل أيضا إن من شركة الشيطان لهم في أولادهم أولاد الزنى -والعياذ بالله- أولاد الحرام؛ فإن هذا من أعظم مشاركة الشيطان للإنسان في ذريته، وكذا ما يفعله بعض أهل الملل المخالفة لدين الإسلام؛ كأن يصبغوا أولادهم في الكفر حتى يهودوهم وينصروهم ويمجسوهم؛ كصنع النصارى مثلاً بغمس أولادهم في مائهم الذي يعمدون فيه أبناءهم؛ فهذا أيضا من شركة الشيطان لهؤلاء في أولادهم.
وصورة الأخيرة وهي التي تعنينا الآن، وهي ما ذُكر ونُقل عن مجاهد -رحمه الله تعالى- "إذا جامع الرجل أهله ولم يسمِّ؛ انطوى الشيطان على إحليله فجامع معه أهله" يعني تشكل الشيطان بطريقة الله يعلمها على ذكر هذا الإنسان فصار كأنه يجامع مع هذا الإنسان زوجه؛ فتلك مشاركته إياه في ولده، واقرأ قول الله: ? وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ?، واقرأ أيضا قوله الله تعالى: ? لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ ? [الرحمن: 56]؛ فدل هذا على أنَّ الجان قد يصيب المرأة وينال منها ما ينال منها زوجها، وهذا إذا لم يذكر اسم الله -تبارك وتعالى- عند إرادة الجماع.(1/6)
فهذا معنى قوله: اللهم جنبنا الشيطان؛ أي: حال الجماع، وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم- (وجنب الشيطان ما رزقتن): هذا دعاء بحفظ الولد والذرية من كيد إبليس ومكره وإحاطته بالإنسان؛ ذلك أنه يحيط بالإنسان منذ أن يُولد إلى أن يموت، فإذا ولد؛ تخبطه الشيطان؛ أي طعنه في خاصرته أو طعنه في بطنه، ومن هذا يكون بكاء الولد وعند موته يعرض له ليفتنه عن دينه؛ فتلك فتنة الممات، وبين الولادة والممات لا يفارقه الشيطان، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم الشيطان، وقد بين الله -عزّ وجلّ- أن عداوته محيطة؛ فقال: ? إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ ? [الأعراف: 27].
إذن يراك ولا تراه، يعاديك لأنك مؤمن وهو كافر، فعداوة لأجل الدين، والعداوة من أجل الدين أشد ما تكون العداوة، وهو قد عادى أصلك وجدك وهو آدم -عليه السلام- إذا عادى جدك فسيعاديك؛ لأنهم قالوا: "عدو جدك لا يودك".
وهو يراك حيث لا تراه، ومن حيث لا تراه فيطلع على غفلاتك، ويطلع على عوراتك، ولهذا أنت مأمور بأن تحفظ عورتك، وأن لا تتكشف، وأن لا تتعرى؛ لما يقع من نظر الشيطان إليك هذا من جهة، وحياء من الله -عزّ وجلّ- ومن ملائكته من جهة أخرى، فإن معنا من ليس يفارقنا إلا عند ما لا بد منه؛ كقضاء الحاجة، وإتيان الأهل، وهؤلاء هم الملائكة، أما الشياطين والعياذ بالله؛ فإنهم ينتهزون الفرصة ويهتبلونها فيشاركون الناس في أموالهم وأولادهم، تلك وظيفتهم مع وظيفة الغواية.
ثم إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (فإن يقدر بينهما ولد في ذلك؛ لم يضره الشيطان أبدا):
فإن يقدر؛ أي من التقدير، يقدر الله -تبارك وتعالى- بين الرجل وامرأته في هذه الليلة أو في هذا الجماع أن يكون بينهما ولد، أو أن ينشأ من هذا ولد أو أن يخلق من هذا ولد؛ فقوله: (في ذلك) الإشارة إلى ماذا؟ من يعرف؟
((1/7)
فإن يقدر بينهما ولد في ذلك..). نعم، ما معنى (ذلك) هنا والإشارة إلى ذلك؟
أي في ذلك الجماع
لم يضره الشيطان وفي رواية لمسلم: (لم يسلط عليه الشيطان)، وفي رواية للبخاري: (لم يضره شيطان) من غير تعريف، وما هو الضرر المنفي في هذا الحديث؟ قوله -عليه الصلاة والسلام-: (فإن يقدر بينهما ولد في ذلك؛ لم يضره شيطان). ما هو الضرر المنفي في هذا الحديث؟
الضرر المنفي في هذا الحديث أنواع منوعة من الضرر؛ فمن قائل: إن الضرر المنفي هو الصَّرْع؛ ذلك أن الذي ذكر اسم الله تعالى عند تخليقه لا يتلبس به الشيطان، ولا يتخبطه الشيطان من المس؛ لأن المس تلبس من الشيطان والجان بالإنسان، فإذا ذكر اسم الله تعالى عند تخليقه وعند الجماع الذي ينشأ عنه هذا الولد؛ فإن هذا يمنع من تعرض الشيطان له بالضرر في المس.
وقيل: بل الضرر المنفي عنه هنا هو ما يتسلط به الشيطان على الإنسان عند ولادته؛ فلا يطعن في خاصرته أو لا يطعن في بطنه الطعنة التي ذكرت في الحديث الصحيح، وهذا من حفظ الله –تعالى- لهذا الولد عند ولادته.
وقيل: بل لا يضره في بدنه أبدا لا يضره الشيطان في بدنه، وهذا أعم من الضرر عند الولادة، أو أعم من الضرر في أثناء حياته، أو أعم من الضرر عند مماته، فبدنه محفوظ بإذن الله من الشيطان.
وقد يقال: إن بدنه منه عقله؛ فلا يتسلط الشيطان على عقله بالإيذاء ولا بالإغواء، لكن بعض أهل العلم قال: الحديث على إطلاقه؛ (لم يضره الشيطان)؛ أي في دنياه، في بدنه، في عقله، في دينه، وإذا لم يضره شيطان في دينه؛ فهل يعني هذا أن يكون معصوما، ألا تقع منه السيئات؟!
هذا فيه إشكال. لماذا؟(1/8)
لأن العصمة لا تثبت إلا للأنبياء، قال بعض أهل العلم: الصحيح من هذا أن هذا سببٌ لحفظه في دينه ودنياه، لكن السبب لا ينتج نتيجته إلا بشروط تتحقق وموانع تنتفي، فإذا جيء بالشروط كاملة على وجهها وانتفت الموانع كاملة على وجهها؛ كان هذا سببا داعيا لحفظه في دينه ودنياه، لكن قبل أن يتحقق هذا وإنما قد يتحقق بعضه فيتحقق بعض الحفظ، وتتحقق بعض العصمة لا العصمة المطلقة التي هي لأنبياء الله؛ فهذا يدل على أنه يكون إلى الهداية أقرب، وإلى الصلاح أقرب منه إلى ضد ذلك، لكن هو سبب يفعل فعله إذا استجمع شرائطه وانتفت موانعه.
وقيل: (لم يضره)؛ أي لم يضره بفتنة يفتنها إياه في دينه؛ فلا يتعرض له الشيطان بإغوائه عن دينه الذي هو الإسلام إلى الكفر والعياذ بالله تعالى.
وقيل -وهو الذي ذكرناه آنفا-: (لم يضره)؛ أي: لم يشارك أباه في جماع أمه، وهذا أيضا من الضرر الذي ينتفي في هذا الحديث.
هذا بالجملة يدل على ماذا؟
يدل على أن كيد الشيطان كما يكون بالوسوسة للإنسان يكون بغير ذلك. فالشيطان كما يتعرض لك بالوسوسة يتعرض لك بأذًى آخر؛ من هذا الأذى ما ذكرنا من المشاركة في النسل، من المشاركة في الأكل، من المشاركة في المال، من الإغواء بالفتنة عن الإسلام إلى الكفر، من الضرر في البدن بالمس ونحوه، فهذا كله من أذى الشيطان وضرره ومع هذا؛ فإن كيد الشيطان كان ضعيفا، فمتى ما استعاذ الإنسان بربه -تبارك وتعالى-؛ فإن الشيطان لا يعدو قدره، ولا يبلغ من العبد مراده؛ لأنه في حصن الذكر، فالذكر هو القلعة الحصينة التي يتحصن بها الإنسان من أذى الشيطان، ويدخل بها وفيها إلى عصمة الرحمن -تبارك وتعالى-.(1/9)
إذن هذا الحديث دلك على أن كيد الشيطان ليس قاصرا على الوسوسة، وإنما هو يتجاوز ذلك، وعلى الإنسان أن يتحفظ من الشيطان في كل أحواله وأحيانه وأفعاله، وأن يستحي أن يراه ربه -تبارك وتعالى- على معصية، أو أن تراه ملائكة الله -تعالى- على معصية، وأن يحظر ويتوقى أن يراه الشيطان؛ لأن هذا يدعوه إلى مزيد من إغوائه ومزيد من الطمع فيه، فإنه إذا رآه على معصية الله؛ طمع فيه وأراد أن ينال منه أكثر من ذلك، فهذا يغري الشيطان بإغواء هذا الإنسان نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يقينا وإياكم من شره، وأن يعافينا وإياكم من كيده، وأن يعصمنا بعصمة منه، وأن يحفظنا بحفظه، إنه جواد كريم بر رؤوف رحيم! وبهذا نكون قد انتهينا من هذا الحديث لننتقل إلى الحديث الآخر وهو الحديث الأخير في كتاب النكاح.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟! قَالَ: الْحَمْوُ الْمَوْتُ، ولمسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب قال: سمعت الليث يقول: الحمو: أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج؛ ابن العم ونحوه))(1/10)
هذا الحديث آخر أحاديث باب النكاح، وهو متعلق بالنهي عن الخلوة بالأجنبية، والنهي عن الخلوة بالأجنبية باب عظيم من أبواب الفساد، وخطير من أبواب الانحراف، ولذا؛ اعتنى المصنف بأن يورد في هذا الحديث في هذا الباب. وهو يحمل -كما قلنا- التحذير من خطر الدخول على النساء الأجنبيات بدون محرم منهن، وأشد ما يكون الخطر يكون من أقارب الزوج إذا دخلوا على المُغَيَّبَة فإن ذلك قد يدعو إلى الفواحش وحصول المنكرات، والوقوع في المحرمات، وهذا أمر يتحاشاه المجتمع النظيف الطاهر البريء السالم من الفواحش، وهو أمر يحرص النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على تطهير أمته منه، ولهذا لما نهى عن الدخول على المغيبات أو على الحرائر أو على النساء؛ سئل سؤالا لشدة الملابسة فإن أقارب الزوج يدخلون عليه ويخرجون، ويكثر دخولهم عليه وخروجهم؛ أخوه وابن عمه ونحو هذا؛ ألا يرخص لهؤلاء؟! فبين -صلى الله عليه وآله وسلم- أن هؤلاء هم أشد تحريما. لماذا؟ لأنهم أكثر ملابسة، ولأن دخولهم مُسَوَّغٌ ومُفَسَّرٌ وهذا قد يفضي إلى وقوع الريبة والعياذ بالله أو وقوع الفاحشة والعياذ بالله، فهذا تحذير من التساهل في التفريط الذي يخشى منه وقوع الحرام بل هو بعينه حرام حرمه الله تعالى وحرمه نبينه -صلى الله عليه وآله وسلم-.
قوله: (إياكم) ما إعراب (إياكم)؟
مفعول بفعل مضمر تقديره: أحذركم واتقوا وامتنعوا، إياكم والدخول.
الدخول ما إعرابها؟
معطوف على منصوب (إياكم والدخول).
إذن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يحذرنا من الدخول على النساء المغيبات من غير محرم يعني يحذر من خلوة بأجنبية لا محرم معها، وهو يقول: (قوا أنفسكم أن تدخلوا على امرأة أجنبية عنكم لا محرم معها)، وهو في الحديث الآخر يقول: (من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها؛ فإن ثالثهما الشيطان)، وهذه علة التحريم.(1/11)
لماذا نهى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن خلوة بالأجنبية؟
لأن ثالثهما سيكون الشيطان بالإغواء والإغراء بالفعل المحرم، وهو في الحديث الآخر: (لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له؛ فإن ثالثهما الشيطان)، (فإن) هذه تعليلية تبين أن علة التحريم أن الشيطان سيكون معهما بالإغواء والإغراء وتزيين الحرام، والعياذ بالله تعالى.
إذن هذا نهي عام (إياكم والدخول على النساء) هذا نهي عام يشمل قريبات الزوج وأقرباءه، يشمل المرأة التي مع محرمها أو التي ليست مع محرمها، إياكم والدخول على النساء.
لكن معلوم أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يعني في هذا الحديث المرأة التي ليس معها محرم منها، وهذا بالاتفاق أن النهي عن الدخول عن امرأة ليس معها محرم، فإن كان معها محرم؛ فإنه لا يمتنع ذلك بضوابطه فمثلا رجل معه زوجته هل يجوز لأحد أن يدخل عليهما؟
نعم، يجوز.
وأن يجلس إليهما؟
نعم، لكن بضوابط.
ما هي هذه الضوابط؟
ضوابط لا بد أن تُعرف، وإلا؛ كان هذا من الاختلاط الذي يُنهى عنه. فليست القضية فقط في أنه يحرم عليك أن تختلي بها ويحرم عليك أن تخالطها اختلاطا كبيرا، فإن من الاختلاط ما هو محرم، ومنه ما يباح للحاجة، فالمباح للحاجة؛ كدخولك السوق وفيه بعض النسوة، أو ذهابك إلى مكان عام وفيه نساء؛ فهذا اختلاط لا يقال عنه محرم، فإذا تضمن هذا الاختلاط نظرا فيه ريبة، أو تضمن مصافحة، أو تضمن كلاما لا يحل أن يكون بين الرجل والمرأة الأجنبية؛ كان هذا الاختلاط اختلاطا محرما.(1/12)
السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- تنهى النساء أن يخالطْن الرجال في الطرقات فتأمرهن بحواف الطرقات، وتقول: "عليكن بحواف الطرق" فكن -رضي الله عنهن- تسير الواحدة منهم بجوار الجدار حتى يكاد الثوب يلتصق بالجدار؛ حذرا من مخالطة الرجال، وكانت تقول: "خير للمرأة أن لا ترى الرجال، وأن لا يراها الرجال"، وفي الحديث: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد، ولا المرأة في الثوب الواحد)، كل هذا؛ لسد الذريعة المفضية إلى الحرام –والعياذ بالله تعالى- فإن النظر المحرم بريد الزنى، وإن الاختلاط المحرم يفضي إلى الزنى، وإن الخلوة المحرمة تفضي أيضا إلى وقوع المحرم -والعياذ بالله تعالى-، ولهذا قال: (إياكم والدخول على النساء)؛ أي: أحذركم الدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار يسأل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ويسترشده: (أفرأيت الحمو؟!)؛ أي: أخبرني عن حكم الحمو.
من هو الحمو؟
قالوا: الحمو أقارب الزوج، قيل: هو أخو الزوج، وقيل هو من يدخل على الرجل من أقربائه، وقيل بالعكس: الحمو أقارب الزوجة، لا يدخلون عليها أيضا ممن ليسوا من محارمها؛ يعني ابن عمها، ابن خالتها، ونحو هذا ليس من محارمها، وهو من قرابتها؛ فلا يجوز أن يختلي بها ابن عمها، ولا أن يختلي ابن خالها ونحو هذا، فأقاربها لا يجوز لهم أن يختلوا بها، وأقارب زوجها من غير محارمها لا يجوز أن يختلوا بها أيضا، ولهذا قال رجل من الأنصار: (أفرأيت الحمو؟! فقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: الحمو الموت)، والعرب إذا أرادت أن تصف شيئا بشدة الكراهة تبالغ في كراهته وعدم الالتفات إليه تسميه موتا، وهذا من شدة التحذير، يعني يخاف منه كما يخاف من الموت، وهنا تجد أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يحرص أن تبتعد الأمة عن مواطن الزلل، وعن أسباب وقوع الخلل.(1/13)
وعمر -رضي الله تعالى عنه- يؤثر عنه أنه كان يمنع العزاب من أن يسكنوا بجوار المتزوجين المتأهلين الذين لهم أهل، ويمنع المتأهل من سكنى في وسط العزاب؛ حفظًا للمجتمع من أن تشوبه شائبة، أو أن يقع فيه ما يعكر صفوه، ولهذا؛ كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يمنع من دخول الأجانب على المرأة، وينهى المرأة أن تُبديَ شيئا من زينتها لأحد، أو أن تخرج في ثياب متزينة فيها أو متعطرة بها أو كذا؛ لتفتن الرجال، والأحاديث في هذا كثيرة ظاهرة واضحة بينة في دلالتها على المقصود.
إذن هذا الحديث دل على تحريم الوسائل التي لها أحكام المقاصد تحريم الوسائل التي تحرم لأجل أنها تفضي إلى الحرام، ودل أيضا الابتعاد على مواطن الزلل والشبهات، ودل أيضا على أن الرجال المتأهلين يجب أن ينتبهوا لأهليهم؛ أن لا يدخل على أهليهم أحد من غير محارمهن؛ أبوها يدخل، أخوها، أبوه يدخل ونحو هذا. لكن أن يدخل أخوه أو أن يدخل ابن عمه أو ابن عمها؛ فإن هذا لا يحل؛ حسما لمادة الفساد في المجتمع.
ولا شك أننا رأينا واطلعنا وسمعنا عن فواحش إنما وقعت بسبب هذا التساهل الذي قد يقع في بيوتنا نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يحفظ مجتمعات المسلمين من كل سوء، وأن يدفع عن هذه المجتمعات كل شر وفتنة وبلية إنه ولي ذلك والقادر عليه، وبهذا نكون قد انتهينا من شرح هذا الحديث = الحديث الأخير من باب النكاح لننتقل بعد ذلك إلى باب الصداق.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (
باب الصداق
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أَعْتق صفية وجعل عتقها صداقها))
هذا الحديث ذكره المصنف -رحمه الله تعالى- في باب الصداق، وما هو الصداق؟
الصداق هو: العوض الذي تُعتطاه المرأة في مقابل ما يقع من الاستمتاع، أو في مقابل ما يقع بسبب الدخول في عقد النكاح.(1/14)
والصداق ثابتة مشروعيته بكتاب الله –تعالى- وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وبالإجماع، وهو ثابت أيضا بدلالة العقل.
فأما ثبوته بكتاب الله -عزّ وجلّ-؛ فقول الله تعالى: ?وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ? [النساء: 4]، وهذا يدل على أن الصداق له أسماء؛ فمنه النحلة، ومنه المهر، ونحو هذا. فعطية المرأة في عقد نكاحها اسمها الصداق، واسمها المهر، واسمها النحلة، ونحو هذا.
وقد ثبت في السنة أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (أصدق نساءه)، وقال لبعض أصحابه: (التمس ولو خاتما من حديد)، وهذا في الصحيح؛ (التمس ولو خاتما من حديد)، والعلماء مُجْمعون على مشروعيته؛ لتكاثر النصوص التي تدل عليه.
وهل للصداق حد لأكثره أو حد لأقله؟!
نرى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يَحُد لذلك حدا إلا أقل ما يتموله الناس، وقد أصدق بعض النساء أن يعلمها زوجها ما حفظ من كتاب الله تعالى؛ فقال: (أنكحتكها بما معك من القرآن)؛ أي على أن يعلمها ما يحفظ من كتاب الله –تعالى-. والآخر قال له: (التمس ولو خاتما من حديد)؛ أي أقل ما يمكن أن يتموله الناس.
ويستحب تخفيف الصداق؛ لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة)، وهذا الحديث يصلح للاحتجاج به في هذا الباب، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما أصدق امرأة من نسائه ولا أُصْدِقَتْ امرأةٌ من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية. لماذا؟
لأن النبي يعلم أمته التخفف والتخفيف والتيسير، وقد وقع بسبب المغالاة في المهور ما وقع من المفاسد والإشكالات الكثيرة التي تعج بها المجتمعات، ولهذا نحن في هذا الحديث = حديث أنس -رضي الله عنه- نرى أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها.(1/15)
صفية بنت حيي -أحد زعماء بني النضير- بن أخطب، وكانت زوجة رجل يقال له: كنانة، هذا الرجل وذاك الأب كلاهما قد هلك على الكفر؛ زوجها كنانة بن أبي الحقيق هذا قتل عنها يوم خيبر فكانت مترملة بموته، وقد فتح النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- خيبر عنوة؛ فصار الصبيان والنساء أرقاء للمسلمين، فوقعت صفية -رضي الله تعالى عنها- لنبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- فاستنقذها من ذل الرق وذل العبودية فجعل عتقها صداقا لها، وكان ذاك العتق فيه بركة على سائر من سُبِيَ من النساء؛ لأنه لم يبقَ أحد وقع في سهمه امرأة مسترقة من هؤلاء إلا أعتقها؛ إكراما لصفية زوج نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم-.
فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حين أعتقها وتزوجها جعل عتقها صداقها، واستفاد العلماء أنه يجوز أن يعتق الرجل أمته وأن يجعل هذا العتق صداقا لها، وفيه أيضا دليل على جواز كون الصداق منفعة دينية أو منفعة دنيوية فهذا العتق كان هو الصداق، وقد ورد أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- جعل الصداق إيجارة على تعليم كتاب الله -عزّ وجلّ-، وفي القرآن الكريم: ? إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ? [القصص: 27]، فجعل هذا المهر أو الصداق هو هذه الإيجارة التي تكون صداقا لتلك المرأة.
صفية -رضي الله تعالى عنها- فقدت أباها ومن بعده فقدت زوجها، وهي من بني قريظة -رضي الله تعالى عنها- فنكحها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. من العلماء من قال بعدم جواز أن يكون العتق صداقا لكن الصحيح في مذهب الإمام أحمد إلى جوازه؛ عملا بهذا الحديث الذي بين أيدينا.
وأما الأئمة الثلاثة؛ فمنعوا من ذلك، وتأولوا الحديث بما يخالف ظاهره، أو حملوه على خصوصية النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.(1/16)
بهذا نكون قد أتينا على المهم من شرح حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه-أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أعتق صفية وجعل عتقها صداقها).
لننتقل إلى الإجابة على أسئلة الحلقة الماضية ثم نذكر أسئلة هذه الحلقة.
بالنسبة لأسئلة الحلقة الماضية؛ كان السؤال الأول:
ما معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)؟
وكانت الإجابة: المراد بالعسيلة هنا الجماع أو الوطء، وهو قول جميع الفقهاء، وانفرد سعيد بن المسيب؛ فلم يشترط الوطء.
قال ابن المنذر: ولعله لم يبلغه الحديث. وهذا الحديث حجة عليه، ومخصص لعموم الآية، ومبين للمراد منها، وشذ الحسن أيضا؛ أي قال: وطء فيه إنزال؛ التفاتا لمعنى العسيلة، ولكن المراد هنا الجماع دون الإنزال. انتهت إجابة السؤال الأول.
السؤال الثاني:
ما معنى قول الراوي من السنة كذا؟
وكانت الإجابة:
إذا قال الراوي: من السنة كذا؛ فأكثر الأصوليين يحملها على أنها سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ أي له حكم المرفوع ولا تنصرف السنة إلى غيرها إلا بتخصيص يدل على ذلك.
يقول: لو كانت له أمة موطوءة وأراد عتقها وأن يتزوجها؛ فهل تستبرئ أم لا تستبرئ؟
على كل حال الأصل أن السيد إذا أراد أن ينكح أمته؛ فإنه يجب أن تستبرئ بحيضة، هذا إذا كانت المرأة مملوكة لغيره فصارت في ملكه فيجب أن تستبرئ، واستبراؤها يكون بحيضة واحدة. فإذا حاضت ثم طهرت؛ جاز له عندئذ أن يطأها سواء كان هذا الوطء بزواج أو كان وطأ بملك يمين.
يقول: إذا كانت موطوءة؟
إذا كانت موطوءة له؛ فلا حرج ولا إشكال.
يعني ليس لها أن تستبرئ؟
نعم؛ لأنها موطوءته هو، وإنما الاستبراء لحق ماء غيره، قد تكون موطوءة لغيره؛ فعندئذ يجب أن يستبرئ رحمها؛ أنه لا حمل فيه من رجل غيره، ولا يجوز له أن يسقي ماؤه زرع غيره كما في الحديث.
لو قلنا يا شيخ أن تستبرئ تعبدا؟(1/17)
إذا قلنا الأمر بالاستبراء تعبدا؛ إذن تستبرئ ثم يعقد عليها، لكن هنا الاستبراء له معنى وهو أن لا يكون في رحمها شيء من غيره.
يقول: هل دعاء الجماع مقتصر على الزوج فقط؟
ظاهر هذا الحديث كذا؛ أنه يقول: إذا أراد أن يأتي كذا: (اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتن). فليس فيه أن المرأة مأمورة بما يؤمر به الرجل.
يقول: بالنسبة لركوب المرأة للمواصلة القليلة المسافة؛ فهل تعتبر خلوة مع السائق؟
يعني استظهر بعض أهل العلم أن المرأة إذا ركبت في مواصلة عامة داخل المدينة؛ فإن ذلك لا يكون خلوة إذا أمنت الريب، فإن ركوبها مع السائق داخل المدينة في الأماكن المأهولة المعمورة لا يعد خلوة، فإن خرجت إلى خارج البلدة أو إلى أماكن لا يراها فيه أحد أو لا يشاهدها فيها أحد؛ فهذا يكون من الخلوة المحرمة.
يقول: شيخنا لو كان ابن عم الزوجة أو ابن خالها رضع معها خمس رضعات مشبعات؛ فهل يكون محرم لها؟
نعم إذا ثبت أنه أخٌ لها من الرضاع؛ فإنه يكون من محارمها، ويستبيح منها ما يستبيح محرمها من الاطلاع عليها، أو صحبتها، أو مصافحتها لا حرج فيها.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟.
السؤال الأول:
بين المقصود بقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (وجنب الشيطان ما رزقتن)؟
السؤال الثاني:
اشرح قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (الحمو الموت)؟(1/18)
الحديث - المستوى السادس
الدرس التاسع عشر - تابع كتاب النكاح
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
تابع كتاب النكاح
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. ونرحب بكم مجددا مع شرح أحاديث "عمدة الأحكام" ومع حديث سهل بن سعد الساعديّ -رضي الله تعالى عنه-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: ((عن سهل بن سعد الساعديّ -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك فقامت طويلا، فقال رجل: يا رسول الله! زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال: هل من عندك من شيء تصدقها؟! فقال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول -صلى الله عليه وسلم-: إن أعطيتها إزارك؛ جلست ولا إزار لك؛ فالتمس شيئا، قال: ما أجد، قال: التمس ولو خاتما من حديد، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هل معك شيء من القرآن قال: نعم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: زوجتكها بما معك من القرآن)).
هذا الحديث حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- فهو سعد بن مالك الخزرجي الأنصاري الإمام الفاضل المعمر بقية أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وآخر الصحابة موتا بمدينة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
سهل كان اسمه في الجاهلية حَزْنًا فلما أسلم؛ غَيَّر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- اسمه إلى سهل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يحب هذه الأسماء السهلةَ الطيبة فحول اسمه من حزن وهو الصعب الوَعْر الشديد إلى سهل.
حدث عنه عدد من الصحابة؛ منهم ابن عباس، وعدد جمٌّ من التابعين وتأخَّر موته حتى بلغ المائة -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- ثم إنه -كما قدمنا- آخر الصحابة موتا بمدينة النبي -عليه الصلاة والسلام.(1/1)
حديث سهل هذا يروي فيه أن امرأة جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- تهب نفسها إليه، وهذا من خصوصيات المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- كما ثبت ذلك في القرآن الكريم، وما الدليل على أن هذا من خصوصيات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؟
قول الله تعالى من سورة الأحزاب. من يعرف؟
? وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ? [الأحزاب: 50].
إذن الشاهد في هذه الآية قوله –تعالى-: ? خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ?؛ فهذا يدل على أن هذا من خصوصيات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فلما قامت المرأة تعرض نفسها على رسول -صلى الله عليه وآله وسلم- نظر إليها رسول الله؛ فلم يجد به حاجة إليها لكنه طأطأ رأسه وسكت -صلى الله عليه وآله وسلم-. فلما رأت المرأة أن الرسول لم يقض في أمرها بشيء؛ جلست، فقام أحد أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: يا رسول الله! زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فسأله النبي -عليه الصلاة والسلام- عن قدرته على الصداق فقال: إنه لا يجد شيئا، فأمره -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يلتمس شيئا ليُصْدِقَ به هذه المرأة فالتمس الرجل فلم يجد شيئا، فأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يلتمس أقل شيء يمكن أن يتموله الناس، أو أن يعتبره الناس مالا؛ فأمره بأن يلتمس خاتما من حديد؛ فلم يجد ذلك الرجل شيئا. فسأله النبي -عليه الصلاة والسلام-: (هل معك شيء من القرآن؟!) فأخبره أنه يحفظ سورة كذا وسورة كذا، فقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (زوجتكها بما معك من القرآن). وسيأتي معنا تفصيل هذا الحديث، وبيان ما يتعلق به من أحكام.
هذا هو المعنى الإجمالي لننتقل إلى الشرح التفصيليّ لهذا الحديث:(1/2)
قوله -رضي الله تعالى عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- جاءته امرأة: هذه المرأة قال الحافظ في "الفتح": لم أقف على اسمها. من هي؟! لا يعرف اسمها وقال بعض أهل العلم هي الواهبة نفسها لرسول وهي خولة بنت حكيم، أو هي أم شريك، والصواب أن هذه واقعة غير الواقعة التي جاءت فيها أم شريك أو خولة بنت حكيم، فظن بعض أهل العلم أن القصة متشابهة، أو أن القصة هي القصة؛ فقال بما قال. لكن الصواب أنها بخلاف التي وهبت نفسها ونزلت فيها الآية فهذه الرواية أو هذه القطعة من الحديث تفيد جواز أن تعرض نفسها على الرجل الصالح. فكما يخطب الرجل لنفسه؛ لا حرج في أن تخطب المرأة لنفسها، ولا حرج في أن يعرض الرجل مُوَلِّيَتَه على الرجل الصالح. وقد فعل ذلك أكابر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ فعل ذلك عمر -رضي الله تعالى عنه- حين عرض ابنته على أكابر الصحابة؛ منهم الصديق -رضي الله تعالى عنه-.
إذن نقول: لا حرج أن يخطب الرجل لنفسه بنفسه، ولا حرج أن يخطب الْمُوَلَّى لموليته أو الْوَلِيّ لموليته ولا حرج أن تخطب المرأة لنفسها إذا كان ذلك بالضوابط الشرعية. إذن لا حرج أن تخطب المرأة لنفسها الرجل الصالح الذي يراد لدينه وخلقه وأمانته.
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما عرضت المرأة نفسها قائلة: إني وهبت لك نفسي، أو قالت: إني جئت أهب لك نفسي. هذه ما معناها؟ وهل المقصود بأنها وهبت نفسها أنها مَلَّكَتْ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رقبتها؟(1/3)
لا، وإنما المراد أنها وهبت له أمر نفسها؛ لأن رقبة الحر لا يجوز تملكها رقبة الحر لا يجوز تملكها. فهذه جاءت تعرض على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نفسها بمعنى أن ينكحها بغير صداق هذا معنى أن تهب المرأة نفسها لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أي أن يتزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غير أن يصدقها؛ أي بلا مهر، وهذا يدل على وجوب المهر؛ لأن الخصوصية لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في ماذا؟ في أن ينكحها بغير مهر، الخصوصية للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في أن ينكحها بغير مهر، فلما عدل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يرغب في نكاحها وتقدم لخطبتها أحد أصحابه؛ طالبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بماذا؟
طالبه بالمهر؛ لأنه لا يصح أن يكون عقدٌ بغير مهر، فإن وقع؛ وجب أن يسمى لها مهرُ مثلها.
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نظر إلى هذه المرأة ثم طأطأ رأسه، طأطأ رأسه -صلى الله عليه وآله وسلم- وفي بعض الروايات: (فَصَعَّدَ النَّظَرَ إليْها وصوبه)؛ أي نظر إليها من أعلاها إلى أسفلها وهذا يدلك على جواز نظر الخاطب من مخطوبته إلى ما يدعوه إلى نكاحها.
وهذا معناه أن المرأة كانت سافرة عن وجهها وكفيها؛ لأن هذا النظر كان إلى ما يدعو إلى نكاحها، وهذا يدلك على أن هذه الواقعة كانت قبل شرع الحجاب قبل تشريع الحجاب فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نظر إليها ثم طأطأ رأسه -عليه الصلاة والسلام- طأطأ رأسه ولم يجب بشيء لماذا؟
لأنه صاحب الخلق القويم والأدب الرفيع -عليه الصلاة والسلام- لم يشأ أن يكسر قبلها، ولم يشأ أن يُخجلها ولم يشأ أن يقول كلمة تقع في قلبها موقعًا فسكت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.(1/4)
فلما رأت المرأة أن النبي لم يقض في أمرها بشيء بعد أن قامت طويلا؛ جلست. وعندها قام أحد الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- فقال: يا رسول الله! إن لم يكن لك بها حاجة؛ فزوجنيها: يعني ظهر أنك لم تقضِ فيها بشيء، وأنها قامت طويلا ثم جلست فإن لم يكن لك بها حاجة؛ لأنه قد يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- سكت وهو يريد أن يرتب أمرا؛ كأن ينتظر وقتا معينا فيتزوجها، لكن الرجل استدرك؛ فقال: إن لم يكن لك بها حاجة لا الآن ولا في المستقبل؛ فزوجنيها، فبادر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وسأله عمَّا يمكن أن يُصدقها به. وهذا أَكَّدَ أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يكن له بها حاجة فأمره -عليه الصلاة والسلام- بأن يأتي بصداقها، وما الذي جعل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يسأله؟
ظاهرٌ أن حال المتقدِّم لخطبة تلك المرأة لم يكن بالحال التي يَقْدِرُ معها على الصداق، ولذلك قال له: (هل عندك من شيء تصدقها؟!) ولم يَشْرِطْ عليه شيئا؛ فدل هذا على أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يعرف حاله من الفقر والمسكنة. فماذا أجاب الرجل؟
قال: ما عندي إلا إزاري هذا.
في بعض روايات الحديث أن الرجل ليس عليه إلا الإزار ولا رِدَاءَ له، في بعض الروايات أنه ليس عليه إلا إزاره ولا رداء له. فإذا أعطاها الرداء الإزار؛ بَقِيَ عريانا، فهذا لا يكون، فقال له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك!)؛ لأنه لو لكان له رداء؛ لوضع رداءه مكان إزاره، لكن لم يكن هذا موجودا لذلك قال: (إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك؛ فالتمس شيئا). معلوم أن الإزار هو ما يكون على أسفل البدن والرداء هو ما يكون على شقه الأعلى.(1/5)
هذا السياق يدلك على شدة ما كان عليه أصحاب نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- وأن كثيرًا منهم كان بحالة من الحاجة والفاقة والمسكنة، هذه الحاجة كانت ظاهرة وبينة حتى إن هذا الرجل ظهرت فاقته وحاجته بين الصحابة -رضي الله تعالى عنه-.
وهو يدل أيضا على مشروعية الزواج والتزويج للفقير وللمسكين، وأن هذا لا يمنعه أن يطلب العفاف، ولا يمنعه أن يطلب النكاح. وفي رواية هذا الحديث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أمره أن يذهب إلى أهله فيلتمس شيئا؛ أي يبحث عن شيء يقدمه؛ فهل أهله هؤلاء المقصود بهم زوجته؟ هل أهله المقصود بها زوجته أم أهله المقصود بها أقربوه؟
قد يكون هذا وقد يكون هذا؛ لأن الأهل كما يُطْلَق على الزوجة يُطلق على الزوج ويطلق على الأقارب. فقد يكون الرجل أيضا متزوجا وقد رغب في إعفاف نفسه أو في إعفاف هذه المرأة، فلم تمنعه حاجته ولا مسكنته من أن يسعى في هذا، وفي الحديث: (ثلاثة حق على الله عونهم) منهم الناكح الذي يطلب ويريد العفافَ.
وهذا أيضا يدلنا -بارك الله فيكم!- على أن الدنيا ليست بشيء، وأن الله –تعالى- يعطيها من يحب ويعطيها أيضا من لا يحب، ولو كانت الدنيا بمنزلةٍ عند الله -عز وجل-؛ لكان سادة الدنيا في المال والغنى والثراء أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، لكن ذلك لم يكن بمكرمة ولا بمنقبة = أن يكون أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأغنياء ومن أصحاب الثراء، ولكن اختار الله -عز وجل- لهم الحال التي ترضيه، والحال التي تقربهم من ربهم وتدنيهم إليه -جل في علاه-.
إذن قوله: (ما أجد) قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (التمس ولو خاتما من حديد).(1/6)
التماس الخاتم من الحديد –هنا- يدل على أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ينظر لحق المرأة؛ لأنه لا يريد أن يُخلي نكاحها عن عوض، لا يريد أن يخلي نكاحها عن مقابل يدفعه الرجل إليها، ولأن هذا مما يجب للمرأة على زوجها، وهو أطيب لنفسها وقلبها، وهو أيضا أمنعُ من الخصومة إذا سُمِّي المهر في العقد؛ فإنه أمنع من الخصومة. لكن هذا لا يعني أنه يجب أن يُسَمَّى المهر في العقد قد لا يجب، وإذا خلا العقد عن تسمية المهر؛ فالعقد صحيح، وإن كان ذكرُ المهر في العقد من السننِ المستقرة الماضية التي ينبغي أن تُراعى، ومما يدل على أنه قد يقع العقد صحيحا من غير أن يُفرض فرضٌ أو يحدد مهرٌ ما هي هذه الأدلة؟ هناك أدلة من القرآن ومن السنة؛ فمن يأتينا بدليل من القرآن الكريم؟
? لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ? [البقرة: 236]، فأثبت صحة الطلاق مع عدم الفرض والتقدير للمهر؛ فلا طلاق إلا بعد نكاح صحيح.
والطلاق أثر من آثار النكاح الصحيح فإذا صح الطلاق؛ فقد صح النكاح، والنكاح قد خلا عن ذكر المهر فهذا يدل على صحة العقد من غير أن يُسَمَّى المهرُ وليس من غير مهر، وإنما من غير أن يسمى المهر، فلو أنه عقد من غير أن يصدقها شيئا؛ وجب عليه أن يصدقها مهرَ مثلها.
وهناك حالات يجب أن يُذكر فيها المهرُ وجوبا؛ كأن يكون قد تراضيا على أكثر من مهر مثلها أو تراضيا على أقلّ من مهر مثلها؛ فهذا يجب أن يذكر في العقد؛ لأن هذا صار من الحق الذي لا يُرد إلى العرف. لماذا؟
لأننا تجاوزنا العرف؛ إما بزيادة عن مهر المثل، أو بنقصان عنه فوقع التراضي على هذا؛ وجب أن يذكر هذا في العقد لئلا تضيع الحقوق.(1/7)
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (التمس ولو خاتما من حديد)، وأمره أن يلتمس شيئا، وهنا وقع الخلاف بين العلماء في أقلِّ المهر؛ هل له حد أم لا؟ وما أقل المهر؟ هل هو خاتم الحديد أقل المهر أم للمهر حد آخر أم ليس له حد مطلقا؟
اختلف العلماء في هذا على قولين:
القول الأول:
وهذا قال به الشافعية والحنابلة وبعض المالكية والظاهرية؛ أنه لا حدَّ لأقله، وهو منقولٌ عن عدد من الصحابة والتابعين. لكنهم ضبطوا هذا بأنه أقلّ ما يتموله الناس عادةً أقل ما له قيمة يتمولها الناس عادة.
القول الثاني:
إن للمهر حدًّا أدنى لا يجوز أن يَقِلَّ عنه، وهذا من كلام المالكية والحنفية وهو مذهب طائفة من التابعين = إلى أن أقل المهر هو أقل مقدار تقطع فيه يدُ السارق لماذا؟
لأن هذا مالٌ [اعتبرت العقوبة] عليه. وانظر هذا المال أتلف عضوا، هذا المال المسروق كان سببا في إتلاف عضو من السارق وهي يده. وهذه المرأة التي سيتزوجها الإنسان سينقلها من البكارة إلى الثيوبة، وهذا يترتب عليه انتقالُ صفتها من البكارة إلى الثيوبة، فقالوا: أقل ما تُعَوَّضُ به هو أقلُّ ما جُعِلَ نصابًا في حد السرقة وهو ما تقطع فيه يد السارق.
ما هو أقله؟
أقله عند مالك ثلاثة دراهم من الفضة أو ربع دينار من الذهب خالصيْنِ من الغشِّ، أو ما يساويهما أو ما تبلغ قيمته هذا المقدار. أما أبو حنيفة؛ فهو أيضا قَرَّرَ أن أقل المهر ما يُقطع فيه يدُ السارق لكنه ذهب إلى أن أقل ما تقطع فيه يد السارق عشرة دارهم. إذن الخلاف بينهما في تقدير أقل ما تقطع فيه يد السارق.
لو أنَّ رجلا أمهر امرأة أقل مما تقطع به يد السارق؛ أي رجل أمهر امرأة تسعة دراهم، ثم ترافعا إلى حنفيٍّ؛ فرأى أن المهر أقلُّ من أقلِّ المهر؛ فماذا يعمل هذا الفقيه؟ ما رأيكم؟
أبو حنيفة يقول بأن أقل المهر عشرة دراهم، وهذا الرجل فرض لها تسعة دراهم؛ فماذا يقول أبو حنيفة؟(1/8)
يُلزمه بإكمال المهر إلى أقلِّه. ولو ترافعا إلى مالكي؛ فإنه يُجيز هذا العقد ويُصحح هذا المهر لماذا؟
لأنه أكثر من أقل المهر. لأن هذا المهر أكثر من أقله.
لأن أقله عنده كم؟
ثلاثة دراهم أو ربع دينار. عندئذ لا حرج عند المالكية. وعند الجمهور لا إشكال؛ لأن هذا جاء بما يصحّ أن يسمى مهرا جاء بما يصح أن يسمى مهرا.
لو أردنا أن نناقش الفقهاء الذين قالوا بأنه لا أقل للمهر والذين قالوا بأنه يتقدر بأقل مقدار؛ فما الذي نرجحه؟ وما الذي نختار؟
النبي -صلَّى الله عليه وآله وسلم- قال للرجل ماذا؟ (التمس، هل عندك من شيء ولو خاتما من حديد) فأطلق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الطلب للمهر من غير أن يُقَيِّدَه بقيد، وثبت عند الطبراني والحاكم من حديث سهل أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (زَوَّجَ رجلا بخاتم من حديد فصه فضة). فهذا أيضا يسير جدًّا.
إذن الجمهور يقولون: إن الأحاديث التي معنا والتي فيها الأمر بالصداق والآيات التي ذكرت الفريضة وذكرت الأجر يعني في الزواج وفي المهر ذكرته مُطْلَقًا عن كل قيد بل وقع أن امرأةً من بني فزارة تزوجت على نعلين؛ فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَرَضِيْتِ من نفسك ومالك بنعلين؟! قالت: نعم). فأجاز نكاحها -صلى الله عليه وآله وسلم- يعني هذا كان شيئا يسيرا قليلا لكنها قبلت ورضيت من نفسها بذلك.
سيأتي معنا بعض الأحاديث التي فيها أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ذكر أن الرجل لو أصدقها كَفًّا من طعام؛ أي ملء كفيه من طعام فرضيت المرأة؛ كان ذلك صداقا وكان ذلك نكاحا صحيحا.(1/9)
إذن الجمهور يستدلون بعمومات الأحاديث التي فيها الأمر بالمهر من غير تقديرٍ ولا تقييدٍ، والحنفية والمالكية ذهبوا إلى هذا التقييد استنباطًا من أن المهر يجب أن يكون مالا، والمال هو ما يُتَمَوَّلُ عادةً، المال هو ما يتخذه الناس مالا عادة. فلو أن إنسانا أعطى لغيره حبةَ قمحٍ؛ فهل هذه الحبة تكون مالا؟! حبة واحدة؟ لا يمكن أن يتمولها إنسان. ماذا يصنع بحبة قمح أو شعير أو أرز أو نحو ذلك؟! هذا لا يتأتى معه أن يتمول. وأغرب ابن حزم؛ فقال: "أي شيء يمكن تنصيفه يصح أن يكون مهرا أي مقدار يمكن تنصيفه يصح أن يكون مهرا". لماذا قال: يمكن تنصيفه؟ من يفكر معنا؟ ابن حزم أغرب فقال: "إن كل مال يمكن تنصيفه؛ أي أن يأتي على نصفين؛ فإنه يمكن أن يكون مهرا. لماذا؟
لأن المهر يتنصف.
لو أن الرجل فرض لامرأته مهرا ثم طلقها قبل الدخول؛ فلها نصف هذا المهر. فلو أننا فرضنا لها حبة قمح فإن هذا عند ابن حزم صحيحٌ مُجزئ بشرط أن يمكن تنصيف هذه الحبة إذا صار عليه أن يعطيها نصف ما فرض لها، وهذا -لا شك- بعيد وغريب.
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال للرجل بعد أن اجتهد فالتمس؛ فلم يجد شيئا، وفي بعض الروايات قام مُوَلِّيًا فلما رآه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- موليا لأنه جلس فطال مجلسه فلما قام وولى؛ دعاه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: (ماذا معك من القرآن؟) قال: معي سورة كذا وسورة كذا، وجعل يعدد ما يحفظ من كتاب الله –تعالى- فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في رواية أخرى: (تقرؤهن عن ظهر قبلك؟) قال: نعم، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (اذهب؛ فقد مُلِّكْتَهَ)، وفي رواية: (فقد مَلَّكْتُكَها بما معك من القرآن). وهذا كله في روايات المتفق عليه، وفي بعض الروايات أنه قال: (انطلق؛ فقد زوجتكها بما معك من القرآن).(1/10)
إذن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- زَوَّجَ الرجل على أن يعلم تلك المرأة ما يحفظ من كتاب الله -تعالى-. وقع اختلاف كثير في مقدار ما يحفظ هذا الرجل؛ فوردت رواية أنه يحفظ سورة البقرة وسورة، ووردت رواية أنه يحفظ سورة البقرة وسورة من المفصل، ووردت رواية أنه يحفظ عشرين آية من سورة كذا، وورد أنه يحفظ سورة الكوثر. لكن مع وقوع هذا الاضطراب في مقدار ما يحفظه الرجل من القرآن؛ فحسبنا أن نقول إن صداقه لهذه المرآة كان منفعة. ما هي المنفعة؟
تعليمها كتابَ الله -عز وجل-. هذا هو القدر المتفق عليه.
بقي أن بعض الرواة حفظ ما كان يحفظ هذا الرجل، وبعضهم نسي، وبعضهم ذكر تفصيلا، وبعضهم أجمل؛ فهذا على كل حال لا يضر، والرواية صحيحة، وهذا الاضطراب في مقدار حفظه لا يقضي على أصل الحادثة، فأصل الحادثة أنه زوج بما يحفظ من كتاب الله –تعالى-.
وهنا سؤال وهو مسألة مهمة هل يجوز جعل المنفعة صداقا؟
اختلف في ذلك على قولين:
الأول: للجمهور، وهو أنه يجوز أن تكون المنفعة صداقا. لماذا؟
قالوا: لأن كل ما جاز أن يكون مالا؛ فإنه يكون صداقا والجمهور -كما تعلمون- يعتبرون المنافع أموالا، وقد مر معنا هذا عندما شرحنا كتاب البيع؛ قلنا: إن الجمهور -خلافا للحنفية- يقولون بأن المنافع أموال؛ لأنها تقابل بالمال فالمنافع قلنا: منفعة الدار؛ أي سكناها فهذه السكنى تقابل بمال، وتُعَوَّضُ بالمال فهي معدودة لأجل هذا في الأموال.
أما الحنفية؛ فيقولون: إن المنفعة لا تكون أموالا، وهذا مذهبهم، وعليه؛ فإنهم لا يرون جواز أن تُنْكَحَ المرآة بمنفعة؛ أي أن يكون صداقُها منفعةً؛ كإيجارة ونحو ذلك، يرون هذا لا يسوغ ولا يكون مهرا. لماذا؟(1/11)
قالوا: لأن المنافع لا يمكن إحرازها ولا يمكن حيازتها، والأموال يشترطون فيها أن تكون مُتَقَوِّمَةً يمكن أن تُحَازَى وأن يحرزها صاحبها، أمَّا المنفعة؛ فأمرٌ مَعْنَوِيٌّ لا تُمْكِنُ حيازته ولا يمكن إحرازه، وبالتالي؛ يحكمون بأنه لا يجوز. ماذا يفعلون بهذا الحديث؟!
يوجهونه توجيهات؛ فمثلا يقولون: هذا كان خصوصية لهذا الرجل = أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أعطاه هذه الخصوصية وليست لأحد سواه، وهذا يرد عليه بأن هذه الخصوصية تحتاج إلى دليل والدليل لم يقم عندنا، بل معنا أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (زَوَّجْتُكَها بما معك من القرآن).
وهذا خلاف أيضا نعرضه؛ لأنه اختلف في: هل يجوز جعل تعليم القرآن مهرا أم لا؟
قلنا: إن الجمهور يعدون المنافع أموالا، لكن هؤلاء الجمهور اختلفوا في جعل الصداق هو تعليم القرآن، هل يسوغ هذا أم لا؟
لو قال: بأنه سيعلمها علما؛ كعلم الشعر مثلاً المباح، أو سيعلمها فقها، أو أدبا، أو شيئا من هذا؛ فلا اختلاف عند القائلين بالقول الأول على جواز أن يجعل ذلك مهرا، لكنهم اختلفوا في خصوص القرآن؛ فعندنا في هذه المسألة أقوال ثلاثة:
القول الأول: الجواز.
القول الثاني: عدم الجواز.
القول الثالث: الكراهة.
الذين قالوا بالجواز استدلوا بكتاب الله –تعالى- ومن ذلك: استدلوا لعموم جواز الإجارة بقول الله تعالى: ? قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ? [القصص: 27]؛ أي جعل منفعة بدنِه بالإيجارة لرعي الأغنام هي مهر هذه البنت، وتقرر هذا عند الجمهور، والمنافع أموال عندهم، و"شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا ما لم يرد في شرعنا ما يدل على النهي"، ولم يرد بل ورد ما يوافقه وما يؤكده؛ فهذا يثبت أصل المسألة.(1/12)
ثم إنهم احتجوا بحديث الباب: (قد زوجتكها بما معك من القرآن)، (ملكتكها بما معك من القرآن)، كل هذه عبارات عبر بها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن العقد لهذه المرأة.
قالوا: واستفدنا جواز ذلك من "الباء" وهي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (بم)، قالوا: إن هذه الباء باء للتعويض، أو باء للعوض أو باء للمقابلة، ويُقابل زواجك بمهرها، ومهرها هو تعليمها كتابَ الله -تبارك وتعالى-.
القرطبي -رحمه الله تعالى- يقول: "قوله -صلى الله عليه وسلم-: (علمه)؛ فـ: (عَلِّمْه) نَصٌّ في الأمر بالتعليم، والسياق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح؛ فلا يُلْتَفَتُ لقول من قال: إن ذلك كان إكراما للرجل؛ لأنه كان من حفظة كتاب الله؛ فإن الحديث مُصَرِّحٌ بِخِلافه" وهذا تجدونه في "المفهم" للقرطبي -عليه رحمة الله-.
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (علمه): هذا نص في أن المهر –هنا- هو تعليم هذه المرأة لكتاب الله -عز وجل-، وأيضا وَرَدَ تسميةُ السور التي سيعلمها هذه المرأة؛ فإنه ورد أنه سيعلمها هذه السور على سبيل المعاوضة بالمهر. فالنبي -عليه الصلاة والسلام-: جعل تعليمها مهرها لما لم يجد الرجل خاتما من حديد، ولا شيئا يستطيع أن يجعله في معاوضة أو في مقابلة هذا الزواج.
إذن النبي -عليه الصلاة والسلام- سأله عمَّا يحفظ فصار ما يحفظه معلوما، وصار هذا المعلوم يجب أن يُعلمه لزوجته؛ لأنه قيل: لو كان هذا أجرا أو كان هذا صداقا؛ لوجب أن يُعَيَّن ولا يجوز أن يكون شيئا مبهما غير معلوم.
قالوا: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما سأله واستفصل منه عن السور التي يحفظ؛ صار هذا المهر معلوما، وعليه؛ يصح عندئذ إجراء هذا العقد. ثم إنهم استدلوا أيضا من القياس؛ فقالوا: تعليم القرآن منفعة مباحة فيجوز أن يُجعل مهرا قياسا على جواز جعل مهرها تعليم فقه، أو أدب، أو غير ذلك من الأمور المباحة. فتعليم كتاب الله أولى من تعليمها سواه.
أما المانعون؛ فاستدلوا بماذا؟(1/13)
قالوا: إن الفروج لا تستباح إلا بالأموال. ما الدليل على هذا؟
قالوا: قول الله –تعالى-: ? وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم ? [النساء: 24].
فالفروج لا تستباح إلا بالأموال والله –تعالى- قال: ? وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ? [النساء: 25]، والطول هو المال، وقال: ? أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم ?، فابتغاء النكاح إنما يكون بالمال، وقد ورد هذا من القرآن الكريم، ومن فتوى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (هل عندك من شيء تصدقها؟!)، والمقصود أن يصدقها مالا.
واعترضوا أيضا؛ أي الحنفية ومن معهم على أنه لا يجوزُ أن يكون تعليم القرآن مَهْرًا ولا مالا = يُعَوَّض القرآن بالمال؛ لأنه روي أن أبي بن كعب -رضي الله تعالى عنه- (أخذ قوسا أهداها إياه رجل علمه شيئا من كتاب الله –تعالى-، فلما عرضها على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبره؛ قال: أخذت قوسا من نار، قال أُبي: فرددته).
قالوا؛ أي الحنفية: هذا يدل على أن الإجارة على كتاب الله -عز وجل- أو على تعليم القرآن لا تَحِلّ، وأنه يحرم أخذ العوض عليها، فإذا كان ذلك كذلك؛ فتعليمها لكتاب الله يقع قربةً ولا يقع مهرا فبماذا أجاب الجمهور؟
الجمهور أجابوا بأن الحديث فيه إسناده مقالا، وقالوا: بفرض صحته؛ فلا ينهضُ لمعارضة الحديث الذي معنا؛ لأن الحديث الذي معنا في الصحيحين هذا الحديث في الصحيحين، وهو نص في هذه المسألة وقصة الرجل الذي رقى بالقرآن وأخذ أجرا على رقياه في الصحيحين أيضا في الصحيح أيضا كان ماذا؟
كان أن الرجل اشترط أن يرقي بمال، فقرأ بالفاتحة ورقى ذلك الرجل، وأقره النبي -صلى الله عليه وآله وسلم.(1/14)
إذن، إذا أُخذ القرآن على الرقية والتطبب، وأُخِذ المال على تعليم كتاب الله -عز وجل- على سبيل المعاوضة بالمهر؛ فإن هذا لا حرجَ فيه. على أن متأخري الحنفية أفتوْا أيضا بجواز أخذِ الأجرة على تعليم كتاب الله –تعالى- لما خشوا أن يترتب على ذلك هجران كتاب الله –تعالى- ومن عدم عناية الناس به؛ قالوا: بجواز أخذ الأجرة على الآذان، وعلى الإمامة، وعلى تعليم كتاب الله –تعالى- خشية أن تُضَيَّعَ هذه الوظائف بين الناس. فصار متأخروهم إلى القول بالجواز على أن هذا موضع من مواضع الضرورة.
ثم إنهم قالوا أخيرا: لا يجوز أن يكون ذلك مهرا؛ لأن الفعل من القُرَبِ يعني تعليم القرآن من القرب ومن الطاعات المحضة؛ فلا يصح أن يكون مهرا، وهذا قياسا على الصلاة أو الصيام، فكما لا يصح أن يصلي عنها ويكون ذلك مهرا أو أن يصوم عنها ويكون ذلك مهرا؛ فلا يعلمها القرآن ويكون ذلك مهرا.
قلنا: هذا ينتقد بأمور وهذه الأمور أنتم تقرون بها فكتابة المصاحف قربة أم لا؟! بناء المساجد قربة أم لا؟! يجوز أخذ الأجر على ذلك أم لا؟ يجوز أخذ الأجر على بناء المساجد، وكتابة المصاحف؟!
نعم، إذن أخذ الأجر على القرب ليس كله ممنوعا.
إنسان لا يأخذ أجرا على الصلاة ولا يأخذ أجرا على الصيام لكن يأخذ أجرا على كتابة المصحف مثلاً، وعلى بناء المسجد مثلاً. على أن هنا القياس الذي قاسوه قياس مع الفارق؛ لأن هناك أعمالا تدخلها النيابة وأعمال لا تدخلها النيابة والتوكيل؛ فالصلاة والصيام كلاهما لا تدخلهما النيابة، أما تعليم كتاب الله -عز وجل- ونحو هذا؛ فتدخله النيابة فصار القياس مع الفارق، وبالتالي ظهر لنا رجحان ما ذهب إليه الجمهور من جواز جعل تعليم القرآن صداقا، وهذا كما ترون من تيسير الإسلام ومن بركة القرآن، ومن العناية بأهله وحفظته، ومن رفع قدرهم وتعظيم شأنهم في دين الله -عز وجل-.
بقي أن نتحدث عن الذين قالوا بالكراهة، قلنا: إن هناك أقوالا ثلاثة:(1/15)
القول الأول: الجواز ،وهو قول الجمهور.
القول الثاني: منع ذلك والقول بتحريمه وهو قول الحنفية.
القول الثالث: الكراهة وهي رواية عن أحمد وبعض الفقهاء، وذلك لما أدلة الإباحة وأدلة المنع متعارضة فصاروا أو آلوا إلى القول بالكراهة، وهذا ابن القاسم يعني من تلاميذ مالك يقول: "يُفسخ العقد قبل الدخول، ولا يفسخ بعده" أي إن كان المسمى هو تعليم القرآن المسمى صداقا هو تعليم القرآن ولم يكن قد دخل بها؛ يفسخ هذا العقد فإن كان قد دخل بها؛ فإنه يصح، وهذا يدلك على أنه لا يبطل العقد إبطالا مطلقا.
وهذا ابن العربي أيضا من المالكية أيضا يقول ويحكي عن بعض العلماء: أن رجلا قال: إنه تزوج من امرأة على أن يعلمها من القرآن فكانت كأنها إيجارة، قال: فكرهه مالك. هذه الكراهة هي الرواية الثانية عن الإمام أحمد لما سئل عن ذلك، فقال: أكرهه. من أهل العلم من حمل قول أحمد على التحريم ومنهم من حمله على الكراهة.
على كل حال لا اختلاف عند الحنابلة على جواز أن يصدقها منفعة معلومة لا اختلاف. لكن الإشكال في تعليم كتاب الله –تعالى- وعلى كل حال؛ فإن الراجح من هذا العَرْض هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من جواز جعل تعليم القرآن أو من جعل هذه المنفعة صداقًا في مهر المرأة، والحديث نص في الباب؛ فلا يتجاوز ولا يُستغنى عن دلالته لقوته ولضعف ما استدل به المخالفون.
بهذا نكون قد انتهينا من هذه الجزئية في هذا الحديث وهي أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- جعل مهرها وصداقها هو تعليمها كتاب الله -جل في علاه-.(1/16)
استفيد من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (ملكتكها) و(زوجتكها) ونحو ذلك انعقادُ الزواج بلفظ التمليك؛ لأنه قال: (ملكتكها)، وفي رواية قال: (مُلِّكْتَها) إذن هذه ألفاظ صدرت منه -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا شك أن الروايات التي نقلت لفظ التزويج أو لفظ الإنكاح أكثر لكن حتى رواية التمليك رواية صحيحة حتى رواية التمليك رواية صحيحة وإن كانت أقلَّ.
على كل حال ذهب الجمهور إلى انعقاد النكاح بلفظ التمليك كما ينعقد بلفظ التزويج كما ينعقد بلفظ الإنكاح. من المخالف في هذا؟ من الذين خالفوا الجمهور؟
خالف في ذلك الشافعية وبعض المالكية: قال الشافعية: لا بد أن يكون هذا بلفظ التزويج لا بد أن يكون بلفظ التزويج لكن الحديث حجة عليهم من قوله -صلى الله عليه وآله وسلم- (مَلكتكها).
والحنفية قالوا: يجوز بكل لفظ يقتضي التأبيد مع القصد فكأنهم وسعوا الأم،ر والحنابلة يقصرون هذا على ألفاظ ثلاث: الإنكاح، التزويج، والتمليك.
الحنفية أوسع الفقهاء مذهبا فيما ينعقد به النكاح؛ فقاولوا: كل لفظ يقتضي التأبيد مع قصد الإنكاح؛ فهذا يتأتى به، ولذلك أجازوه بلفظ البيع ونحو ذلك، ولفظ الهبة ونحو ذلك. أما الحنابلة؛ فاقتصروا على الوارد، والشافعية ضيقوا فجعلوا التزويج هو هذا اللفظ الذي ينعقد به النكاح.
لو أن رجلا عقد على امرأة على أنه سيُعَلِّمُها سورةً من القرآن فطلقها قبل الدخول؛ فماذا عليه؟ عقد عليها على أنه سيعلمها سورة من كتاب الله –تعالى- فطلقها قبل الدخول؛ فما رأيكم؟
أن يعفو عن نصف؛ فقد قال الله تعالى: ? إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ? [البقرة: 237]
يعفو عن النصف يعني ماذا يصنع؟
يتصدق(1/17)
يعني لا يعلمها هي لا تكون عفت؛ لأنه ثبت لها هذا حقًّا، ثبت لها نصف مهرها؛ فهو عَاقَدَهَا أو نكحها أو عقد عليها على أن يعلمها سورة من كتاب الله ثم بد له فطلها قبل أن يدخل بها، ولم يكن قد علمها فهي تريد أن تستوفي نصف مهرها ماذا تفعل؟
تعفو عنه
لماذا تعفو عنه؟! ثبت لها هذا حقا، لها حق لها نصف مهرها ماذا يفعل وماذا تفعل وهو طلقها فصارت أجنبية عنه؟!
يعلمها نصف ما قصد
يعني يعلمها نصف ما فرض لها يعلمها نصف هذه السورة.
هذا بإطلاق؟! ألا يُخشى من هذا فتنة؟! صارت أجنبية عنه وكان قد عقد عليها ثم طلقها؛ فكيف؟! هل نبيح هذا بإطلاق أم نقول: إن أُمنت الفتنة؟!
أقل شيء أن نقول: إن أمنت الفتنة، وقد يقال: لها أن ترجع عليه بنصف أجرة تعليم هذه السورة. يعني لو أن هذه السورة تُعلم وأجرة تعليمها مثلا بعشرة؛ فلها أن تطالبه بخمسة؛ لأن هذا هو نصف الذي سُمِّي لها. أما إذا كان لا يترتب على ذلك فتنة ولا يقع مع ذلك محظور شرعي من خلوة محرمة أو نحو ذلك فعلمها نصف السورة؛ فقد استوفت ما فرض لها.
هذا الحديث بجملته أفادنا فوائد كثيرة يجب أن نتنبه لها فمن ذلك:
جواز إظهار الفقر والقلة لحاجة؛ لأن هذا الرجل أظهر حاجته وفاقته حين أراد الزواج، وحين سأله النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وأيضا فيه بيان أن المهر حق وملك للمرأة، وليس حقاً لأحد سواها. فالمهر يدفع إليها؛ لأنها ستسلم نفسها إلى هذا الرجل، وتدخل في كنفه وتكون في بيته، وتقوم بالواجب عليها، والشرع جعل ذلك في مقابل قيامها بهذا إرضاءً لنفسها وتطييبا لخاطرها، وإظهارا لفضلها ومكانتها عند زوجها. إذن هذا لا حرج فيه.
وأيضا هذا الحديث يدل على جواز الخطبة على الخطبة إذا كان الإنسان يعلم أن الخاطب الأول لا يرغب في هذه المرأة. من أين استفدنا هذا؟(1/18)
استفدنا من عرض الرجل على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يزوجه تلك المرأة إن لم يكن له بها حاجة؛ فدل هذا على جواز الخطبة على الخطبة إذا علم الإنسان أن الأول لا حاجة له.
وأيضا فيه إظهار لفضيلة أهل القرآن ومنزلتهم، وما ينبغي أن يكون من رعاية حقِّهم من مجتمع المسلمين، وهو يدل أيضا على مشروعية تزويج المعسر ومنزلته والتيسير عليه، وهذا ظاهر من فعل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
إذن هذه كلها فوائد ومصالح ظهرت لنا من هذا الحديث المبارك. وأخيرا؛ فإن هذا الحديث يفيد أن الإمام له أن يزوج المرأة التي ليس لها أحد من أوليائها حاضرا أو شاهدا أو موجودا أو كائنا؛ فإن هذه المرأة من زوجها؟! زوجها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. والأصل أن يزوجها أولياؤها لكن الظاهر أن أولياءها لم يكونوا شاهدين أو حاضرين أو قائمين أو ليس أحدٌ من أوليائها مسلما؛ كأن تكون جاءت مهاجرة أو نحو هذا فزوجها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
بهذا نكون قد أتينا على المهم من هذه الفوائد الطيبة المباركة لننتقل إلى الإجابة على أسئلة الحلقة الماضية وأسئلة هذه الحلقة.
بالنسبة لسؤاليْ الحلقة السابقة كان السؤال الأول:
بين المقصود بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (وجنب الشيطان ما رزقتن)؟
وكانت الإجابة: أي لم يضره شيء وهذا دعاء بحفظ الولد في دينه ودنياه في دينه؛ أي بحكمة فيه وفي دنياه أن لا يتخبطه ولا يضره في عقله أو بدنه؛ أي الشيطان.
والسؤال الثاني:
طبعا هذه الإجابة ناقصة تحتاج إلى تكميل، ويحتاج إلى أن يُراجع ما ذكرناه؛ لأننا ذكرنا خمسة أوجه من الوجوه التي نقلها العلماء في الدعاء بأن يحفظ الله تعالى الولد من فتنة الشيطان ومضرته.
السؤال الثاني:
ما المقصود بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الحمو الموت)؟(1/19)
وكانت الإجابة: الحمو: هم أقارب الزوج؛ كعمه وأخيه وابن عمه وأقارب الزوجة الأجانب عنها؛ كابن عمها وابن خالها. والموت؛ أي الهلاك فخرج هذا الكلام مخرج التغليظ الشديد؛ أي أنه يجلب الهلاك
لا بأس لا بأس.
أسئلة هذه المحاضرة:
السؤال الأول:
بين حكم جعل تعليم القرآن صداقا في عقد الزواج.
السؤال الثاني:
اشرح اختلاف الفقهاء في أقل المهر.(1/20)
الحديث - المستوى السادس
الدرس العشرون - تابع كتاب النكاح
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
تابع كتاب النكاح
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اتبع هداه.
نواصل معكم أيها الإخوة الأفاضل ما كنا قد ابتدأناه في شرح كتاب "عمدة الأحكام"، ونحن مع بقية أحاديث تتعلق بالنكاح؛ لننتقل بعد ذلك إلى أحاديث الطلاق، وحديثنا الباقي هو حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه-: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردْع زعفران، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: مَهْيَم؟! فقال: يا رسول الله! تزوجت امرأة، فقال: ما أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب، قال -صلى الله عليه وسلم-: بارك الله لك! أولم ولو بشاة.).
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اتبع هداه.
هذا آخر أحاديث كتاب النكاح، وهو حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- أن نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- لقي صاحبه عبد الرحمن بن عوف -رضي الله تعالى عنه- وعليه أثر طِيْبٍ يُقال له الزعفران، وأثره أثرٌ أصفر يظهر على بدن الْمُتَطَيِّبِ، وهو في الأصل طيب نساء لكن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لَمَّا رآه على عبد الرحمن أنكره فسأله: (مَهْيَم؟)؛ أي أخبرني ما هذا؟! فقال -رضي الله تعالى عنه-: (إني تزوجت امرأة) فقال -عليه الصلاة والسلام- وهو يستعلم عن حاله، ويستفسر عن أخباره، ويتفقد شؤون أحبابه من أصحابه قال: (ما أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب، فقال له -صلى الله عليه وآله وسلم-: بارك الله لك! أولم ولو بشاة).
هذا إجمال ما في هذا الحديث من معنى لننتقل إلى شرحه بشكل تفصيليٍّ.(1/1)
عبد الرحمن هو ابن عوف الزهريّ القرشيّ -رضي الله تعالى عنه- أَحَدُ العشرة المبشرين، وأحد السابقين الأولين إلى الإسلام، وهو أحد البدريين -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- وأحد من شهد "بيعة العقبة" أحد من شهد بيعة الرضوان -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- لأنه مهاجريّ.
عبد الرحمن بن عوف أحد الثمانية الذين سبقوا إلى دين الله -عز وجل- وهو من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بمكانة عظيمة وقد حصلت له منقبة كبيرة حين صار أمر اختيار الخليفة بعد عمر -رضي الله تعالى عنه- إلى عبد الرحمن؛ لأنه أخرج نفسه من جملة الستة الذين صار إليهم أمرُ الشورى، وصار الاختيارُ إليه فصارت المفاضلة عنده بين عثمان وعلي -رضي الله تعالى عن الجميع- فجعل يستشير ويمرّ على كبار بيوت الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- يسألهم ويستخيرهم ويستشيرهم ويسأل ما عندهم من الرأي حتى استقر -رضي الله تعالى عنه- على تولية عثمان.
وله منقبةٌ أخرى عظيمة لم تحصل إلا للصدِّيق، فشارك الصديق -رضي الله عنه- في هذه المنقبة العظيمة. ما هي هذه المنقبة؟!
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ثبت أن الصديق قد أَمَّهُ وتلك منقبة الصديق، إلا أن عبد الرحمن بن عوف شارك الصديق هذه المنقبة كما أخبر بذلك المغيرة بن شعبة -رضي الله تعالى عنه- حين سئل: هل أَمَّ النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- أَحَدٌ من هذه الأمة غيرُ أبي بكر؟ فقال: نعم، فذكر أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- توضأ ومسح على خفيه وعمامته، وأنه صلى خلف عبد الرحمن بن عوف ركعةً من صلاة الصبح، صلى مع المغيرة خلف عبد الرحمن ركعةً من صلاة الصبح ثم جاء بالركعة التي سُبِقَ بها -صلى الله عليه وآله وسلم- فتلك منقبته العظيمة -رضي الله تعالى عنه- ولعلنا تحدثنا عن عبد الرحمن فيما سبق؛ فلا نطيل بذكر هذه الترجمة.
توفي -رضي الله عنه- وله خمس وسبعون سنة، وكان ذلك سنة اثنتين وثلاثين من هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.(1/2)
حديثنا الذي يرويه أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- أن النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- لَقِيَ عبد الرحمن وعليه رَدْع زعفران، الردع: هو الأثر الباقي من الشيء، فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رأى عبد الرحمن وعليه أثرٌ ظاهرٌ من طِيْبٍ هو الزعفران. والزعفران نبات طيب الريح لونه أصفر، وهذا المزعفر قد نُهِيَ الإنسان عن أن يتطيب به أو عن أن يلبسه، فلما رأى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عبد الرحمن وقد أصاب طيب الزعفران والزعفران طيب يظهر لونه ويخفى ريحه، ولهذا ناسب أن يكون من طيب النساء؛ لأن طيب النساء مما يظهر لونه ويخفى ريحه، فوجد وَضَرَ صفرة، يعني أثر صفرة في بعض روايات الحديث، وهذه الصفرة صفرة الزعفران، فقال له: ما أمرك؟! وما خبرك؟! ما شأنك؟! (مَهْيَم) فمَهْيَم هذه: اسم فعل أمر، بمعنى أخبرني عن حالك وعن شأنك، وقال بعضهم: يشبه أن تكون هذه الكلمة كلمة مركبة، والسبب الذي دعاه للاستفسار -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه رأى شيئًا أنكره على عبد الرحمن -رضي الله تعالى عنه- فقال: (يا رسول الله! إني تزوجت امرأة) فبان أن هذا الطيب من طيب تلك المرأة. وكيف أصابه هذا الطيب؟
إِمَّا أنه عَلَقَ به من امرأته يعني امرأته هي التي استعملت هذا الطيب، تطيبت به لزوجها في مقتبل عرسها، فأصابه شيء من ذلك، أو أنه تطيب بشيء من طيب امرأته وهي رخصة له -رضي الله تعالى عنه- في أول هذا الأمر.(1/3)
إذن إما أنه عَلَقَ به أثر هذا الطيب، أو أنه تَقَصَّدَ أن يضع من هذا الطيب فَرَخَّصَ له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-. ولما رسولنا -صلى الله عليه وآله وسلم- شديد الرعاية لأصحابه شديد الحَدَبِ عليهم، شديد الحرص عليهم؛ سأل عبدَ الرحمن: (ما أصدقتها؟!) وأنت تعرف أن عبد الرحمن هاجر إلى المدينة ليس معه شيء وليس عنده شيء، وأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- آخى بينه وبين بعض الأنصار، فجعل الأنصاريُّ يعرض عليه أن يطلق زوجه وأن يتزوج عبد الرحمن من إحداهن، وأن يعطيه نصف داره، وأن يقطعه شيئا من أرضه، وشيئا من هذا، وعبد الرحمن يقول له: "بارك الله لك في أهلك ومالك! ولكن دُلَّنِي على سوق المدينة" فجعل يَتَّجِر ويتكسَّبُ -رضي الله تعالى عنه- وكان من أمهر الصحابة -رضي الله عنهم- بالتجارة والبيع والشراء، فما هي إلا أيام يسيرة حتى اكتسب مالاً جعله صداقًا لهذه المرأة التي تزوج، ولذا؛ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بادر فسأله: (ما أصدقتها؟!) ماذا كان الصداق الذي قدمت لتلك المرأة؟! فقال -رضي الله تعالى عنه-: (وزن نواة من ذهب)، وفي بعض روايات الحديث عند البخاري قال: (نواة من ذهب) من غير ذكر الوزن (نواة من ذهب).
والعلماء بعضهم تأمَّل في معنى قوله: (وزن نواة من ذهب) وهل النواة المقصود بها هنا نواة التَّمْر أم نواة من الذهب؟ على كل حال هما قولان:
القول الأول: إنها وزن نواة من نوى التمر، وهو قول مرجوح؛ لأن الوزن لا يتحدد به، لاختلاف وزن أَنْوِيَةِ التمور.
القول الثاني: إن وزن نواة من ذهب هذا عبارة عن مقدار معلوم عندهم وهو وزن خمسة دراهم.(1/4)
فالمعنى أنه أصدقها ذهبًا وزنه خمسة دراهم، أو أنه أعطى وزن نواة من ذهب دراهم، يعني دراهم بوزن دراهم من ذهب. وعلى كل حال النواة عند أهل المدينة ربع دينار، وأنتم تعلمون أن المقصود بهذا الربع ربع الدينار نحو من خمسة دراهم، هذا بمجمله يدل على جواز أن يكون المهرُ شيئًا يسيرًا، وقد سبق معنا في الحديث السابق أن الرجل تزوج على أن يُعَلِّمَ امرأته شيئًا من كتاب الله -تبارك وتعالى- وقد سبق أيضًا أن بينا أنه في السنن بسند فيه شيء من الضعف أن امرأة من بني فزارة رضيت من نفسها ومالها بنَعْلَيْنِ، فسألها النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقالت: نعم، فأجاز نكاحها، وفي حديث جابر أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (لو أن رجلا أعطى امرأة صداقًا ملء يديه طعامًا؛ كانت له حلالا) وهذا أيضًا عند أحمد وبعض أصحاب السنن بسند لا يخلو من مقال. لكنَّ هذه الأحاديثَ بمجموعها تدل على تيسير النكاح، وترغيب الشباب فيه، والتنبيه على أن من السنة ومن البركة تيسيرَ نكاح المرأة، وقد ورد في ذلك بعض أحاديث أيضًا لا تخلو من مقال، لكن أنت تعلم من السنة العملية الصحيحة أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- زَوَّجَ المرأة بما مع الرجل من كتاب الله، يعني جعل صداقها تعليمها القرآن، وهذا من تيسير الأمر عليها وعلى من أراد الزواج بها، ورأينا أن الفقهاء الذين قالوا: إن للمهر ما يُقال عنه: إنه أقل ما يتقدر أو الحد الأدنى للمهر، قالوا: إنه كم؟ ماذا قال الشافعية؟ ماذا قال الحنفية؟ وماذا قال المالكية؟
نعم تفضل.
قال الحنابلة والشافعية: "لا حَدَّ لأقله".
"لا حد لأقله" هذا في الحقيقة قول الجمهور، وقد رَجَّحْنَاه، نعم.. ثم خالف في ذلك المالكية والحنفية، فقالوا: له أقل، نعم.. ما أقله؟
أقله: قدر ما يُقطع فيه يدُ السارق، وهو ربع دينار.(1/5)
وما يُقطع فيه يد السارق اختلف الحنفية مع المالكية فيه؛ فقال المالكية: هو ثلاثة دراهم، وقال الحنفية هو: عشرة دراهم، وقد رَجَّحْنا في لقائنا السابق أنه لا حَدَّ لأقلِّ المهر، بشرط أن يكون مما يَتَمَوَّلُه الناس عادة، وما يَصِحُّ أنْ يقع ثمنًا في بيع أو ثمنًا في إيجارة = في أجرة.
وقد رُوي عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- مرفوعًا: (إِنَّ أَعْظَمَ النِّكَاح بَرَكَةً أَيْسَرُه مَؤُونَةً) وهذا أيضًا بسند لا يخلو من مقال، لكن مجموع هذه الأحاديث تدل على هذا الأصل مع السنة العملية التي جرى عليها العمل في زمنه -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد ورد أيضًا: (إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأة تَيْسِيرُ خِطْبَتِها وتيسير صداقها، وتيسير رحمها).
على كل حال اتفقنا أن أَقَلَّ المهر لا يَتَقَدَّر، أقل المهر لا حَدَّ له، وإنما كُلُّ ما صَحَّ أن يكون ثمنًا في بيع أو في إيجارة مما يتموله الناس عادة يصح أن يكون مهرا، سواءً في ذلك الأعيان أو المنافع؛ لأن المنافع أموالٌ كما سبق بيانه.
طيب.. وهل للمهر حدٌّ أقصى؟ هل للمهر حدٌّ أقصى يجب أن لا تزيد المهور عنه أَمْ أَنَّ الأمرَ في ذلك مفتوح والباب في ذلك غير مُوصدٍ؟
لا حَدَّ لأكثره.
لا حَدَّ لأكثره هذا هو القول الصحيح.
لماذا؟
لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن صداقه لأزواجه -صلى الله عليه وآله وسلم- أخبرت أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان صداقه لزوجاته اثنتي عشرة أوقية ونش، النش نصف الأوقية، اثنتى عشرة أوقية ونش، ثم إنها سألت الرجل السائل فقالت: "أتدري ما النش؟!" قال: لا، قالت: "نصف أوقية" فتلك خمسمائة درهم.(1/6)
إذن النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- زَوَّج وتَزَوَّجَ بنحوٍ مِنْ خمسمائة درهمٍ، وهذا أيضًا من اليسير، وعمر -رضي الله عنه- نهى عَنْ أن يُغْلِيَ الناسُ صُدُقَ النساء؛ أي مهور النساء، قال: "فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا أو تقوى في الآخرة؛ كان أَوْلاكم بها النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- وقال: وما أَصْدَقَ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- امرأة من نسائه ولا أُصْدِقَت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية".
لكن قد يرد على هذا أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أَصْدَقَ أم حبيبة أربعة آلاف درهم دفعها عنه النجاشيُّ، أَصْدَقَ أم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله تعالى عنهما- أربعة آلاف درهم أَصْدَقَها عنه النجاشي.
إذن هذا يدلك على أنه لا حَدَّ لأكثره بل نَقَلَ بعضُ الفقهاء الإجماع على ذلك، وهذا نقله القرطبي وغيره؛ كابن قدامة، قال القرطبي -رحمه الله-: "وأجمع العلماء أيضًا أنه لا حد لكثيره"، ونحو هذا نقله ابنُ قدامةَ في كتاب "المغني".
إذن لا حَدَّ لأكثره هذا موضع اتفاقٍ بين العلماء، ما الذي يدل عليه؟!
يدل عليه قول الله -تعالى-: ?وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا? [النساء: 30]، والقنطار يزن سبعون ألف مثقال، يعني قيمة كبيرة عظيمة.
على كل حال ظهر لنا أنه كما أنه لا حَدَّ لأقله؛ لا حَدَّ لأكثره، لكنَّ الأولياء يُنْدَبون إلى تيسير نكاح البنات، والأولياء يندبون إلى التيسير على الأزواج، لا سيما مع اشتداد الأحوال وحصول الفاقة وقلة ذات اليد، وقد رأينا هذا من فعله -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في حديث ذلك الرجل الذي زَوَّجه باليسير، وكما أوردنا أيضًا من الروايات التي فيها أن امرأة رضيت من نفسها بنعلين، وأنه رُوي عنه أنه -صلى الله عليه وآله وسلم-: أنه من أعطاها ملء كفيه من طعام فرضيت؛ لكانت به حلالاً ونحو ذلك.(1/7)
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما سمع هذا من عبد الرحمن؛ قال له: (بارك الله لك!) عبد الرحمن أصدقها وزن نواة من ذهب، خمسة دراهم مبلغًا يسيرا جدًّا، وهذه الخمسة الدراهم دون ما قرره الحنفية على أنه أقلُّ المهر؛ لأنهم قدروا عشرة دراهم، فهذا يَدلك على مذهب الجمهور ورجحان مذهب الجمهور من أنه لا حَدَّ لأقله.
ثم إن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال له: (بارك الله لك!) وهذا فيه بيان مشروعية بل استحباب التهنئة بالزواج، (بارك الله لك!)، وفي الرواية الأخرى في السنن: (بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير!).
إذن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سَرَّهُ أن عبد الرحمن تَزَوَّجَ؛ فدعا له، ثم أرشده فقال: (أَوْلِمْ ولو بشاةٍ) ما هي الوليمة؟
الوليمة: هي الطعام المتخذ لأجل العرس.
وهي مطلوبة شرعًا، النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أَوْلَمَ لزوجاته ولبناته وفوائد الوليمة جَمَّةٌ وكثيرة وعديدة؛ فهي تصل ما بين الأُسَرِ، وتُؤلف ما بين القلوب وتُشهِر النكاح الذي يُطلب إشهاره، وتدعو إلى التواصل بين الأرحام والأحباب، فهذا مما وقع الطلب الشرعي له. وهل الطلب على سبيل الوجوب أم على سبيل الندب؟ يعني يجب أن تُقام الوليمة أم يُندب إليها؟
قولان لأهل العلم، ومن الذي يُندب إلى أن يُعِدَّ طعام الوليمة أو أن يقوم بطعام الوليمة أو أن يتكلف مال هذه الوليمة؟
الزوج؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الرحمن: (أَوْلِم ولو بشاة) ومن هنا لنا أن نسأل: ما حكم الوليمة؟ ما الراجح في حكم الوليمة؟ أهي على الوجوب أم هي على الاستحباب؟
الجمهور على أنها مستحبة، ما الدليل على استحبابها؟(1/8)
أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لصاحبه: (أَوْلِمْ ولو بشاة)، وثبت أنه أَوْلَمَ بغير الشاة -عليه الصلاة والسلام- فإذا كان (أَوْلِمْ ولو بشاة) على سبيل التقليل، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لم يولم بالشاة؛ فإن هذا لا يدل على وجوبها، وهي أيضًا طعامٌ يُصنع بسبب سرورٍ حادثٍ؛ أي فرح، فهي كسائر الأطعمة لا تجب، يعني إنسان يصنع طعامًا لأجل ما دخل على نفسه من السرور فيجمع أحبابه وأصحابه وقراباته فيطعمهم، هذا لأجل ما وقع له من النعمة، وما تجدد له من أسباب السرور، فهذا لا يجعل هذا الطعام واجبًا وإنما هو مستحبّ.
لكن مال الظاهرية وبعض الشافعية وهي أيضًا رواية في مذهب مالك وأحمد إلى وجوب الوليمة، لكن الذي معنا أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حين أَوْلَم مثلاً على صفية -رضي الله تعالى عنها- جعل وليمتها التمرة والأقطة والسمن، وكان هذا هو الطعامَ الذي وضعه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فلم يذبح شاة ولم يتيسر له ذلك، حتى قيل: إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما أَوْلَمَ بشيءٍ من ولائمِ نسائه كما أَوْلَمَ على زينب أَوْلَمَ بشاة؛ أي أن هذا أقصى ما تيسر له -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه أَوْلَمَ عليها بشاة.
وقد ذهب الظاهرية إلى وجوبِ الوليمة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (الوليمة حَقٌّ) وقال أيضًا: (ولا بد للعروس من وليمة).
لكنَّ (الوليمة حق)؛ أي أنها ليست بباطل، والحقّ منه واجب ومنه مُستحب، فهذا يدل على أن الوليمةَ ليست بواجبة كما ذهب إليه الظاهرية ومن وافقهم، بل هي مندوبة.
اخْتلُِف في وقت الوليمة، هل هو عند العقد أم بعد العقد أم عند البناء أم بعد البناء؟
على كل حال وقع أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أَوْلَمَ بعد الدخول، كما وقع هذا في زوجته صفية -رضي الله تعالى عنها- وكما وقع أيضًا في زوجته زينب فإنه -صلى الله عليه وآله وسلم- أَوْلَمَ بعد أن بنى بزوجته.(1/9)
وقد يُقال: إن الأمر واسعٌ بحسب ما تيسر، فيمكن للإنسان أن يولم بعد العقد، ويمكن أن يولم بعد البناء. وترى –هنا- في هذا الحديث أن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله تعالى عنه- متى أَوْلَمَ؟ بل متى أُمِرَ بالوليمة؟
كان ذلك بعد البناء، بعد بنائه بأهله، فهذا يدلك على أن الأمر واسع يبدأ من العقد وإلى أن يقع البناء، بل ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (أَوْلَمَ على صفية ثلاثةَ أيامٍ)؛ أي بعد بنائه بها.
وهذا الطعام = طعام الوليمة طعامٌ مبارك، فلا يصلح أن يدعى إليه الأغنياء دون الفقراء بل ورد النهي عن ذلك، ورد النهي عن طعام الوليمة؛ فقيل: (بئست الوليمة، يُدْعَى إليها الأغنياءُ ويُتْرَكُ الفقراء)؛ فلا يجوز تخصيص الأغنياء بالدعوة دون الفقراء؛ لحديث: (شَرُّ الطعامِ طعامُ الوليمةِ يُدْعَى إليها الأغنياءُ ويترك الفقراءُ).
وأيضًا مما يستحب فيها أن يساعد الأغنياء، وأن يعاون الأغنياء بما تيسر لهم في هذا الطعام؛ أي يُجامل الأغنياء في هذه الوليمة بتيسير الطعام؛ لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حين بنى بأم سلمة؛ قال: (مَنْ كان عِنْده شيءٌ؛ فَلْيَجِئْ به؛ فَبُسِطَتْ الأنطاعُ)؛ أي الجلود المدبوغة، وجعل كُلُّ واحد يأتي بما عنده؛ فهذا يأتي بتمر، وهذا يأتي بثمن، وذاك بأقط، وثالث بشيء آخر، ورابع، وهكذا حتى اجتمع من ذلك طعام تَسَاعَد فيه الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ليكون وليمة لأم سلمة -رضي الله تعالى عنها-.
إذن هذا أيضًا مما يستحب؛ أن يدعى إليها الأغنياء مع الفقراء وأن يَتَسَاعَد، ولذلك لَمَّا أَوْلَمَ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لابنته فاطمة؛ قال بعض الصحابة: "عليَّ كبشٌ"؛ أي أنا آتي بكبش، وقال الآخر: "عليَّ كذا" وهكذا.. وهذا أيضًا مما يقع بين المسلمين من التهادي والتحابُب والتعاون.(1/10)
ثُمَّ إنه يُطلب مِمَّن دُعِيَ إلى الوليمة أن يُجِيب ما لم يكن عنده ما يمنع إجابة الدعوة، فهذا من حق المسلم على أخيه، وقد ورد في بعض الحديث: (ومن لم يُجِبِ الدعوة؛ فقد عصى الله ورسوله).
إذن هذا من حق المسلم على المسلم، ثم إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لعبد الرحمن: (أَوْلِمْ ولو بشاة) فقوله (ولو) –هنا- يُفيد التقليل، يعني أقل ما يمكن، أو تفيد التمني، ومعلومٌ أنه لم يكن لدى كلِّ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا اليَسَار، وذاك الغنى، فلذلك قال بعض أهل العلم: إن هذه الوليمة بالشاة إنما تجب على الموسر دون المعسر، يعني لو قيل بوجوب الشاة على الموسر؛ لكان ذلك مقبولاً، أما أن يُقال بوجوبها مطلقًا فهذا لا يكون؛ لأنه لم يقع من فعله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولأن هذا يخالف ما عليه الأكثر من حال أصحابه -رضي الله عنهم- حيث كان أكثرهم لا يجد هذا الحد من المال.
القاضي عياض -رحمه الله- يقول: "وأجمعوا على أنه لا حَدَّ لأكثر ما يُولَمُ به" يعني إن كان -صلى الله عليه وسلم- أمره بالشاة؛ فإن هذا لا يعني تقييد ذلك بالشاة، لكن هذا حدٌّ أدنى للموسر، فلو أنه جمع إلى الشاة شياهًا وذبح وأطعم؛ فإن ذلك يقع موقعَ الإجزاء والصحة والكمال، لكن ليس للوليمة حدٌّ أقصى تنتهي إليه، لكنَّ المستحب أنها على قدر حال المولم أو على قد حال هذا الزوج من يسار أو إعسارٍ، وقد رأينا أَنَّ هذا تَفَاوَتَ في حقِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
بقي أن نقول: إن هذا الحديث هو آخر أحاديث "كتاب النكاح"، وبهذا نكون قد انتهينا من "كتاب النكاح" لنشرع بعد ذلك في الكلام على "كتاب الطلاق" وعلى أحاديثه.
ننتقل إلى أحاديث "كتاب الطلاق" فتقرأ الحديث الأول.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (
كتاب الطلاق(1/11)
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه طَلَّقَ امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمرُ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَتَغَيَّظَ منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: (لِيُرَاجِعْها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها قبل أن يمسها؛ فتلك العدة كما أمر الله -عز وجل-) وفي لفظ: (حتى تحيض حيضة مُسْتَقْبَلة سوى حيضتها التي طلقها فيه)، وفي لفظ: (فحُسِبَتْ من طلاقها وراجعه)، وفي لفظ: (فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)).
"كتاب الطلاق" والطلاق في اللغة: حل الوثاق ورفع القيد، وهو مشتق من الإطلاق والإرسال، الإطلاق والإرسال والترك هذه معانٍ تطلق لغة على الطلاق.
وشرعًا: هو اسم لحل عقدة النكاح، أو حلّ أو رفع قيد النكاح، وبعض العلماء يقول: الطلاق: رفع النكاح في الحال، أو المآل بلفظ مخصوص أو ما يقوم مقامه، حل عقدة النكاح، وكأن هذه العقدة وَقَعَ فيها الربط والشدّ والإحكام والاستيثاق؛ فكان الطلاق مقابلاً لهذا بحل تلك العقدة وفكها فك ذلك الارتباط بين الرجل والمرأة.
"في الحال": إذا كان الطلاق بائنًا، بائنًا: يعني لا يملك معه الرجل الرجعة على امرأته، الطلاق البائن هو ما لا يملك فيه الرجل الرجعة على امرأته في الحال أو في المآل، بمعنى أنها إذا خرجت من عدتها؛ لم يعد له رجعة عليها، يعني في المآل أي في الطلاق الرجعي، يبقى "في الحال أو المآل" في الحال: فيما لو بانت منه بينونة صغرى أو كبرى. وفي المآل: فيما لو طلقها طلاقًا رجعيًّا يملك عليها فيه الرجعة فخرجت من عدتها؛ فإنه لا رجعة له عليها.
ثم قال: "أو ما يقوم مقامه" ما يقوم مقام الطلاق اللفظي؛ كالطلاق بالكتابة، أو الطلاق بالإشارة المفهمة، وكالتفريق الذي يقع من القاضي في حالات معينة، فإنه يعده بعض الفقهاء طلاقًا كما في أنواع من الفُرْقة التي يحكم بها أو فيها القاضي.(1/12)
إذن الطلاق هو حل الوثاق هذا في اللغة، وفي اصطلاح أهل العلم: هو رفع النكاح في الحال أو في المآل بلفظ مخصوص أو ما يقوم مقامه، فهذا يدلك على أن الطلاق كما يقع باللفظ يقع بالكتابة والإشارة المفهمة.
الطلاق مشروع، بل هو من محاسن هذا الشرع المطهر، ثبتت مشروعيته بكتاب ربنا، وسنة نبينا، وبالإجماع الصحيح الصريح المنعقد وبالعقل والقياس الذي يدل على محاسنه.
فمن القرآن الكريم: قول الله تعالى: ?الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ? [البقرة: 229]، إذن هذا دلَّ على ذكر عدد الطلاق، ?الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ? [البقرة: 229] وأيضًا من القرآن ما يدل على مشروعية الطلاق: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ? [الطلاق: 1] يبقى هذا يدل على مشروعية الطلاق في كتاب الله، طيب ومن السنة؟ من يذكر لنا بعض أحاديث فيها ما يدل على مشروعية الطلاق؟ من يعرف؟ نعم تفضل.
حديث الباب أول.
حديث الباب هذا صحيح.
وحديث امرأة رفاعة.
وحديث امرأة رفاعة القرظي وقد مَرَّ معنا هذا الحديث، نعم جيد.. وحديث أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- طَلَّقَ، وهل طَلَّقَ الرسول بعض نسائه؟!(1/13)
نعم ثبت هذا، طَلَّقَ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حفصة ثم راجعها، وهذا الحديث رواه أبوها عمر -رضي الله تعالى عنه- قال: (طَلَّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حفصة ثم راجعه)، وقد روي أن النبي -عليه الصلاة والسلام- جاءه جبريل فقال له: (راجعها؛ فإنها صوامة قوامة) فراجعها رسول الله -صلى الله عليه وآله ومن والاه- والنبي -عليه الصلاة والسلام- أمر بالطلاق أحيانًا، كما في حديث ثابت بن قيس بن شماس -رضي الله تعالى عنه- لَمَّا جاءت امرأته تقول: (إني أكره الكفر في الإسلام، فقال لها: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة)، إذن أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بإيقاع الطلاق، وكما أوقع الطلاق بصريح لفظه؛ أوقعه بكنايته -عليه الصلاة والسلام- يعني طَلَّقَ حفصة فقال لها: (أنتِ طالق) وطَلَّقَ غيرها بالكناية فقال: (الحقِي بأهلكِ) من هذه التي طُلِّقَت بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الحقِي بأهلكِ)؟ من يعرف؟
بنت الجَون، هذه المرأة لَمَّا دنا منها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قالت: (أعوذ بالله منك! فقال: لقد عُذْتِ بعظيم الحقي بأهلك) فسرحها نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم-.
والإجماع منعقد على مشروعية الطلاق، وعلى جوازه من غير نكير، ولذلك قال ابن قدامة في المغني: "وأجمع الناس-أي المسلمين- على جواز الطلاق" إذن هذا من النقل ومن الإجماع.(1/14)
بقي أن نقول: إن الحياة الزوجية قد تسوء، وقد تفسد، وقد لا يكون لها حل، قد لا يبقى مع هذين الزوجين طريق يستطيعان من خلاله أن تلتئم به حياتهما، وتكثر المفاسد وتزداد، حتى يبقى هذا الوفاق بين الرجل والمرأة مفسدته راجحة، أو مفسدته متمحضة، فهنا تأتي الشريعة بكمالها وسموها لتزيل هذه المفسدة، ولترفع هذه المضرة التي ترتبت فشرع الطلاق لأجل ما وقع أو ما يقع أو ما قد يقع من مفاسد أعظم من مصالح النكاح، وهذا -كما قلت- لكثير من المشكلات التي تتعقد ولا يجد الزوجان أو لا يجد الحكمان طريقًا للحل إلا بالطلاق، ومع هذا فإن الطلاق يدور مع الأحكام يدور مع الأحكام الخمسة.
قال بعض الفقهاء: الأصل في الطلاق المنع، وعبروا عن المنع بالكراهة أحيانًا، وبخلاف الأولى أحيانًا أخرى، فذهب بعض أهل العلم؛ كالحنابلة مثلاً إلى القول بأن الأصل في الطلاق الكراهة، وذهب المالكية إلى أن الأصل في الطلاق أنه خلاف الأولى، وذهبت طائفة إلى القول بجوازه، أن الأصل فيه الجواز، ولكن الراجح أن الأصل فيه المنع سواءً كان المنع على سبيل خلاف الأولى أو الكراهة وهي رتبة أعلى من رتبة خلاف الأولى، لماذا؟
لأحاديث، ولسنة فعلية نراها في سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
أولاً: النكاح نعمة، كيف عرفنا هذا؟(1/15)
امتن الله -تعالى- بها علينا، وجعلها من آياته فقال: ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً? [الروم: 21] فهذه منة من مِنَنِ الله -عز وجل- علينا أن خلق لنا من أنفسنا أزواجًا، وجعل لنا من أزواجنا بنين وحفدة، فهذه مِنَّة الله -تعالى- على عباده بالتزويج، فقطع هذه النعمة وقطع هذه المنة من غير حاجة إلى قطعها لا يُقال عنه إنه جائز، قطع هذه النعمة بالطلاق وإبطال أثرها بالفراق لا يُقال عنه إنه جائز مطلقًا، ولكن يُقال عنه إنه خلاف الأولى، أو يُقال عنه إنه مكروه، وقد ورد في الحديث ما يشهد لهذا بأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (أَيُّمَا امرأةٍ سألت زوجها الطلاق من غير بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنة) فهذا يدلك على أن الطلاق وطلبه سواءً من المرأة أو من الرجل لا يقع موقعَ الإباحة إلا إذا وُجد البأسُ، أو وجدت الحاجة، أو وجد ما يقتضي إيقاع الطلاق، ولهذا لا يُعَبَّر عنه بالجواز مطلقًا على الراجح من أقوال أهل العلم.
تجد في حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (المنتزعات المختلعات هن المنافقات) يعني الطالبات لفسخ عقد النكاح أو للطلاق هن المنافقات وهذا لا شك أن فيه وعيدا شديدا.(1/16)
وأما حديث (إن أبغض الحلال إلى عند الله -أو إلى الله- الطلاق)؛ فهذا اختلف في صحته، وعلى القول بضعفه؛ فإن ضعفه من جهة السنة لا يؤثر في صحته من جهة المعنى؛ لِمَا ذكرنا مما يشهد لصحة معناه، فإذا كان العلماء قد حكموا بضعف إسناده، أو بأنه مرسل أو في إسناده من ليس بالقوي؛ فإن هذا لا يعني أن هذا المعنى غير منظور إليه في الشريعة، بل الشريعة متشوفة إلى بقاء الأسر في حفاظة وحياطة برباط الزواج الذي يعصم الأسر من التفكك، ويحفظ الأبناء من التشتت، ولو لم يكن في المنع من الطلاق إلا الحرص على مصلحة الأبناء والمحافظة عليهم؛ لكان هذا كافيًا. ثم إن الطلاق -كما قلت- يدور مع الأحكام الخمسة.
فإذا كان الأصل فيه المنع بكراهة أو بخلاف أولى؛ فإن هذا الحكم قد يتحول إلى الحرمة، وقد يتحول إلى الإباحة، أو إلى الكراهة، أو إلى الوجوب.
فمتى يكون الطلاق مباحًا؟
عند الحاجة إليه، يكون الطلاق مباحًا إذا قامت أسبابه، فإذا فسدت العشرة، وساء الخلق، وانقطع التواصل، وضعفت المحبة، وكثرت المفاسد؛ فإن الطلاق عندئذ يقع مباحًا، ومتى يُندب الرجل إلى أن يطلق امرأتَه؟ يستحب له أن يطلق امرأته متى؟
إذا كانت المرأة تفرط في حقوق الله الواجبة عليه؛ كأن تترك الصلاة مثلاً، فهذا يندب له أن يطلقها، أو أن تفرط في نفسها فتكون غير عفيفة مثلاً، أو يخشى أن يقع منها شيء من الحرام، أو أن لا تحفظ هذا الرجل في عرضه، فهذا يندب له أن يطلقها، وأنلا يُبْقي عليها.
وقد يجب الطلاق، متى يجب؟ إذا قلنا إنه مباح ويندب متى؟ متى يندب الطلاق؟ إذا فرطت في حق الله -تعالى- أو خشي أن تقع في الحرام وهي عنده، أو كانت غير عفيفة، أو ما أشبه.
ومتى يجب؟
يجب الطلاق على الرجل إذا كان مُوليًا وضرب له أجل، وبلغ الأجل ولم يطأ زوجته؛ فإنه يجب عليه أن يطلق، ويجبر عليه.
ما معنى موليًا؟(1/17)
ترك وطأها فأضر بها، وفي الآية قول الله تعالى: ?لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?226? وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ? [البقرة: 226، 227]، إذن بعد الأربعة أشهر التي ضُربت أجلاً إما أن يطأ ويعاشر، وإما أن يفارق ويسرح بإحسان، فإذا بلغ الأجل الذي ضُرِبَ له فلم يطأ؛ يجب عليه إما أن يطأ أو أن يطلق، وكذا إذا صار أمر الشقاق بين الزوجين إلى أن حُكِّمَ الحكمان فرأى الحكمان أن هذه العلاقة لا داعي لاستبقائها أو لحفظها أو لكذا لأن مفاسدها أكثر؛ فيجب عندئذ الطلاق، الله -تعالى- جعل إليهما هذا، وقال: ?إِن يُّرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَ? [النساء: 35] فإذا رأى الحكمان أن هذه العلاقة لا يجب أن تستمر أو أن تمتد فحكم بذلك؛ فقد وجب إيقاع الطلاق، كذا إذا علم أن هذه المرأة بقاءها معه قد يوقعه في الحرام ولا بد؛ كأن تطبع منه ما لا يستطيع الامتناع عنه من الحرام في مال أو في غيره، فعندئذ يجب عليه أن يفارقها.
وهل يجب على الرجل أن يطلق زوجته إذا أمره أبوه أو أمرته أمه بطلاقها أم لا؟
هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم وفيها حديث والحديث سيأتي معنا في باب الطلاق من أن ابن عمر طَلَّقَ زوجته وهذه الزوجة قال أهل العلم: هي التي أمره عمر بطلاقها، هي التي أمره أبوه بطلاقها، وكان يحبها -رضي الله تعالى عنه- يعني كان ابن عمر يحبها، وكان أبوه وهو عمر لا يحبها، وكان يكرهها، فأمره بطلاقها فأبى عبد الله بن عمر، فذكر ذلك -أي عمر رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا الأمر فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (طَلِّقها فطلَّقه).
وهذا يدل على أن للآباء على أبنائهم من الحق ما يحب رعايته، وعمر -رضي الله عنه- لم يكن ليأمره بطلاقها إلا لسبب يدعو إلى ذلك.(1/18)
على كل حال الطلاق كما يُباح يُنْدَب، وكما يُنْدَب يجب، وكما يجب يُكره، وكما يُكره يَحْرُم، فما هي الحالة التي يُكره فيها الطلاق؟
إذا كان من غير حاجة، يعني لما قلنا: إن الأصل في حكم الطلاق أنه مكروه أو خلاف الأولى، إلا إذا قام سبب يدعو إليه، فإذا دعا إليه سبب يقتضيه كان مباحًا، لكن إذا لم يكن هناك سبب وطلق الرجل امرأته؛ فإنه يكون بذلك قد قطع نعمة الزواج، وحرَم نفسه من هذا الخير، وهذا مكروه، وهو خلاف ما يجب من شكر نعمة الله -تبارك وتعالى-.
متى يكون الطلاق حرامًا؟
يكون الطلاق حرامًا إذا كان منهيًّا عنه، ومتى يُنهى عن الطلاق؟ إذا كان الطلاق بدعيًّا؛ كأن يطلقها في حيض أو يطلقها في طهر جامعها فيه، أليس هذا مما نُهِيَّ عنه؟!
بلى، فهذا الطلاق البدعيّ يقع حرامًا، ابن قدامة -رحمه الله- يقول: "أجمع العلماء في جميع الأمصار وكل الأعصار على تحريمه، ويسمى طلاق البدعة" وَيَحْرُمُ أيضًا إن عَلِمَ أن طلاقها يوقعه هو في الحرام؛ كأن يكون الرجل مثلاً في بلد ولا يتمكن من نكاح غيرها وبلد تكثر فيه الفتن، فإذا طلقها؛ عَلِمَ أنه يقع في الحرام ولا قدرة له على نكاح غيرها، فَيَحْرُمُ عليه عندئذ أن يطلقها؛ لأنه يقع بها إعفافُه، يقع إعفافه عن الحرام، فإذا عَلِمَ أنه إن طلقها وقع في الحرام؛ كان طلاقه إياها حرامًا.
هذه بعض الصور التي تَدُلَّكَ على أن حكم الطلاق يدور مع الأحكام التكليفية الخمسة، ذكرنا الإباحة، وذكرنا الكراهة، وذكرنا الوجوب، وذكرنا الندب، وذكرنا الحرمة.(1/19)
ننتقل بعد هذا إلى الكلام على أحوال الطلاق، أو لماذا حثت الشريعة على حفظ البيوت ومنعت من الطلاق أو أرسلت الحكم بجعل الطلاق مكروهًا أو بخلاف الأولى لما يتضمنه الزواج من المصالح التي لا تُحفظ ولا ترعى إلا ببقاء هذه الأسرة متماسكة، فإذا انفرط عِقد كما نرى في غير بلاد المسلمين في بلاد الغرب وغيرها من البلاد انفرط عِقد الأسرة من قرون فصارت الأسر مفككة، وصار المجتمع منهدمة أركانه، ولا يُرى فيه أثرُ الخير.
على كل حال الطلاق له أقسام، وهذه الأقسام تتعلق بحيثيات التقسيم، فإذا قلنا: ينقسم إلى صريح وكنائي؛ فهذا من جهة لفظه، إذا سألنا ما هي أقسام الطلاق من جهة اللفظ؟
تقول: صريح وكنائي، وينقسم من جهة أثره يعني من جهة الأثر الذي يترتب عليه إلى: رجعي وبائن، الطلاق ينقسم من حيث أثره إلى رجعي وبائن، ومن حيث حكمه إلى سنيّ وبدعيّ، ومن حيث تعليقه وتنجيزه ينقسم إلى: طلاق منجز ومعلق على شرط، ومضاف إلى المستقبل، إذن هذه حيثيات ينقسم إليها الطلاق.
مرة أخرى: ينقسم الطلاق من حيث اللفظ إلى: صريح وكنائي، ومن حيث الأثر إلى رجعي وبائن، ومن حيث الحكم إلى سنيّ وبدعيّ، ومن حيث تعليقه وإضافته إلى معلق ومنجز ومضاف إلى المستقبل. هذه هي أقسام الطلاق.
إذن نكتفي بهذه المقدمة ونواصل -إن شاء الله تعالى- شرح حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- في لقائنا الآتي، لننتقل إلى الإجابة على الأسئلة وطرح أسئلة هذه الحلقة.
إجابة أسئلة الحلقة السابقة.
السؤال الأول: بَيِّن حكم جَعْل تعليم القرآن صداقًا في عقد الزواج.
وكانت الإجابة:
انقسم الفقهاء إلى ثلاثة أقوال:
الأول بالجواز، والثاني بعدم الجواز، والثالث إلى الكراهة.(1/20)
أما الجواز؛ فلعموم الإيجارة لقول الله -عز وجل-: ?إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ? [القصص: 27]، وكذلك حديث الباب لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَلَّكْتُكَهَا بما معك) والباء للعِوض.
وأما الذين قالوا بعدم الجواز؛ فقالوا: إن الفروج لا تستباح إلا بالأموال لقول الله -تعالى-: ?وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْل? [النساء: 25] والطول هو المال، وقول الله -عز وجل-: ?أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم? [النساء: 24].
والذين قالوا بالكراهة قالوا: بتعارض الأقوال بين الجواز والمنع.. انتهت إجابة السؤال الأول.
لا بأس.
السؤال الثاني: اشرح اختلاف الفقهاء في أقل المهر.
وكانت الإجابة: ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه لا حَدَّ لأقله، وهو قول الجمهور، وهو الراجح وذهب المالكية والحنفية إلى أنه مقدار ما تقطع فيه يدالسارق، واختلفوا في ذلك هل مقدار المالكية قالوا بثلاثة دراهم، والحنفية قالوا عشرة دراهم وشذَّ الظاهرية بقولهم: كل ما يُقْسَم.. انتهت إجابة السؤال الثاني.
لا بأس.
يقول: في حكم الطلاق الواجب: في الشقاق بين الزوجين عند الحكميْن هل القاضي يطلق عنه أم يجبره على الطلاق؟.
لا.. يأمره بطلاقها.
لكن لا يطلق عنه؟.
لا.. يأمره بطلاقها.
السؤال الثاني: المولي إذا مضت عليه أربعة أشهر، طيب إن غاب من غير تصريح بالتولية أو كذا، غاب مدة عام مثلاً واشتكت الزوجة.
أينعم.. هذه ترفع أمرها إلى القاضي، وعلى القاضي أن يخاطبه بالفيئة أو بالرجوع، أو بأن يأتي أو بأن يحملها، فإن استجاب؛ فبذلك يكون حصل المقصود، وإلا؛ فيجيز بعض الفقهاء تطليقها للضرر، وهذا عند المالكية وبعض الحنابلة.
يقول: هل السجن يقاس على المولي إن اشتكت الزوجة؟.(1/21)
نعم، قال بذلك المالكية، إنه الذي لا يتمكن من وطئها، وخافت على نفسها الفتنة ورفعت أمرها للقاضي؛ فإما أن يُمَكَّنَ من ذلك أو أن يرسل إليها بطلاقها؛ حفظًا لها عن الفتنة والوقوع في الحرام.
يقول: بالنسبة للحديث الماضي حديث أنس، بالنسبة لصيغ التهنئة بالزواج بغير الصيغة الواردة ما حكمها؟.
إذا التزم الإنسان الصيغة الواردة؛ فهو أفضل وأولى وأكمل، لكن إذا وقعت منه تهنئة ومباركة من غير التزام هذه الصيغة؛ فهذا من المباح، لا يُقال فيه إنه حرام، ولا يُقال فيه إنه بدعة، إلا إذا استعمل ألفاظًا مخصوصة وقع فيها النهي، كقوله: بالرفاء والبنين مثلاً، فهذا مما وقع فيه النهي، أما إذا بارك بأي صيغة من صيغ التبريك والتهنئة؛ فلا حرج -إن شاء الله تعالى- والأولى التزام الثابت في سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فإن اعتقد أن هذه الصيغة هي المسنونة؛ كان ذلك ابتداعًا، إذا اعتقد أن هذه الصيغة التي لم تثبت هي المسنونة أو هي الواردة؛ كان هذا ابتداعًا غير ذلك لا حرج فيه إن شاء الله.
أسئلة الحلقة.
السؤال الأول: بَيِّن حكم الوليمة.
السؤال الثاني: اذكر حكم الطلاق، وأحواله.
يعني الأحوال التي ذكرنا مما يدور عليها حكم الطلاق، الأحكام الخمسة.(1/22)
الحديث - المستوى السادس
الدرس الحادي والعشرون - تابع باب الطلاق
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
تابع باب الطلاق
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه، ومن اتبع هداه.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة! سلام الله عليكم ورحمته –تعالى- وبركاته، ونرحب بكم مجددا مع أحاديث عمدة الأحكام، وكنا قد توقفنا عند مقدمة كتاب الطلاق، وقرأنا الحديث الأول من هذا الكتاب، ولا بأس أن نعيد بذكره تذكيرا لكم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه طَلَّقَ امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَتَغَيَّظَ منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: (لِيُرَاجِعْها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها قبل أن يمسها؛ فتلك العدة كما أمر الله عز وجل)، وفي لفظ: (حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها) وفي لفظ: (فَحُسِبَت من طلاقها، وراجعها عبد الله كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله، وصحبه، ومن والاه.(1/1)
تحدثنا في لقائنا الفائت عن مقدمة كتاب الطلاق، وعرفنا الطلاق، وقلنا: إنه رفع النكاح في الحال أو المآل بلفظ، أو ما يقوم مقامه. وتناولنا –أيضا- الكلام عن حكم الطلاق، وأنه يدور مع الأحكام الخمسة، والأصل فيه أنه خلاف الأولى، أو أنه مكروه، ووقفنا عند الحديث على أقسام الطلاق، وذكرنا أن الطلاق ينقسم إلى عدة أقسام من حيثيات مختلفة؛ فينقسم إلى صريح وكنائي من حيث لفظه، وينقسم إلى سنيٍّ وبدعيٍّ من حيث حكمه، وينقسم إلى مُعلق ومضاف إلى المستقبل، ومنجز من حيث التعليق والتنجيز، وينقسم أيضا إلى رجعي وبائن من حيث الأثر الذي يترتب عليه. هذه أقسام أربعة فَيَحْسُن بنا قبل أن نشرع في شرح هذين الحديثين من كتاب الطلاق أن نُعَرِّفَ بهذه المصطلحات.
الطلاق الصريح:
هو ما كان بلفظ الطلاق وما تصرف منه، وأضاف الحنابلة والشافعية لفظتيْ السراح والفراق؛ لما ثبت من ذكرهما في كتاب الله -عز وجل- فجعلوا أن ألفاظ الطلاق مع السراح والفراق هذه الألفاظ صريحة في إفادة الطلاق، ولا يتوقف وقوع الطلاق بهذه الألفاظ على نيَّة اللافظ، فإذا تلفظ الإنسان بلفظة الطلاق، أو الفراق، أو السراح؛ كان ذلك متعينا في إيقاع الطلاق بلفظه من غير حاجة إلى سؤاله عن نيته.
وهذا بخلاف الطلاق الكنائيّ؛ أي كناية الطلاق، فهي ألفاظ ليست صريحة في إرادة الطلاق، ولكنها تكون مُوقِعة للطلاق، أو يقع بها الطلاق إذا انضمت إليها نية المطلق، يعني إذا قال لزوجه: الحقي بأهلك ينوي طلاقها؛ فهي طالق، ولو قال لها: أنت بريَّة، و: أنت خليَّة، و: حبلكِ على غاربك، ونحو ذلك من الألفاظ يريد بها طلاقها؛ فإن طلاقها يقع.
على كل حال الكنائي يشترط لوقوع الطلاق به نيةُ الطلاق.
إذن هذا هو الطلاق الصريح، وهو ما كان بلفظ الطلاق، والفراق، والسراح، وما تصرف من لفظ الطلاق، والكنائي بألفاظ أخرى تفتقر إلى نيةٍ لإيقاع الطلاق بها.(1/2)
والرجعي: هو ما يملك فيه الزوج الرجعة على زوجته، هذا هو الطلاق الرجعي؛ كأن يطلقها طلقة واحدة، وتبقى في العدة؛ فهي في حال عدتها له أن يردها إلى عصمته مرة أخرى من غير أن يتوقف ذلك على رضاها، ولا اختيارها، ولا يتوقف هذا أيضا على عقد جديد، أو مهر جديد.
أما الطلاق البائن؛ فلا يملك فيه الرجل رجعتها، وهو ما يكون بعد استيفاء الطلاق الثلاث، يعني في الطلقة الثالثة من طلقات ثلاث متفرقات يثبت أن هذا الطلاق بائن، وكذا لو كان الطلاق على مال، وكذا لو كان الطلاق قبل الدخول؛ فإن ذلك –كلَّه- يقع طلاقا بائنا لا يملك فيه الرجل الرجعة على زوجته، حتى يكون يعقد عليها بعقد ومهر جديدين.
وفي حال ما إذا طلقها وقد استوفت طلاقها ثلاث طلقات؛ فإنه لا يحل له نكاحها حتى تتزوج غيره فيطلقها بعد أن يقع البناء، فإذا طلقها عندئذ؛ جاز له أن يردها بعقد ومهر جديدين.
طلاق السنة: هو أن يطلق الرجل المرأة طلقة واحدة، أن يطلقها طلقة واحدة طاهرا في طهر لم يمسها فيه، أو حاملا قد استبان حملها.
إذن طلاق السنة أن يطلقها طلقة واحدة وهي طاهر في طهر لم يمسها فيه، أو أن يطلقها حاملا قد استبان حملها، هذا هو طلاق السنة.
طلاق البدعة: أن يطلقها حائضا، أو في طهر جامعها فيه، هذا هو طلاق البدعة، ولا يجوز له أن يجمع لها الطلاق الثلاث دفعةً واحدةً بلفظ واحد في مجلس واحد، فهذا –أيضا- من المخالفة في أمر الطلاق.
والطلاق ينقسم أيضا إلى: مُنَجَّزٍ، ومُعَلَّقٍ ومضاف إلى مستقبل، فالمنجز ما لم يكن على شرط، ولا مضافا إلى زمن يقع في المستقبل؛ أي قُصِدَ به إيقاع الطلاق في الحال، هذا يسمى طلاقا منجزا.(1/3)
وأما المعلق؛ فهذا ما جعل الزوج الطلاق معلقا على شرط، هذا الشرط قد يكون من فعلها فإن فعلت؛ وقع الطلاق، أو لا يكون من فعلها من فعل غيرها، فإن وقع؛ وقع الطلاق، أو يكون مضافا إلى المستقبل، والمستقبل يعني إلى زمن، وقد يكون الزمن مما يأتي لا محالة؛ كأن يقول لها: إذا جاء أول الشهر مثلا؛ فأنت طالق، أو: إذا جاء العيد؛ فأنت طالق، وما أشبه، فهذا زمان سيأتي لا محالة، فهذا الطلاق فيه واقع.
إذن الطلاق إما أن يكون منجزا، أو معلقا على شرط، أو مضافا إلى زمن في المستقبل، هذا من حيث الإضافة والتعليق ونحو ذلك.
فهذه بعض مصطلحات تَمَسُّ الحاجة إلى معرفتها ونحن نبحث في باب الطلاق، لننتقل إلى شرح حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- وهو الحديث الذي صَدَّرَ به المصنف كتاب الطلاق، وهو: (عن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أنه طَلَّقَ امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فَتَغَيَّظَ منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: (ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها؛ فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله عز وجل) وفي لفظ: (حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيه)، وفي لفظ: (فَحُسِبَتْ من طلاقها، وراجعها عبد الله كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وهذه الإضافات عند مسلم دون البخاري.
ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- في هذا الحديث ارتكب مخالفة = ارتكب نهي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بأن طلق زوجته حائضا، فجاء بطلاق ما اسمه؟
الطلاق البدعي.(1/4)
فذكر عمر -رضي الله تعالى عنه- هذا لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فغضب رسول الله من فعل ابن عمر، غضب من فعله؛ حيث طلق حال الحيض، ثم إن عمر سأل نبينا -صلى الله عليه وسلم- ماذا يفعل؟ قال: (مره فليراجعه)؛ أي أمره بأن يأمر ابنه أن يراجعها، أن يراجع امرأته التي طلق، ثم يمسكها حتى تطهر من ذلك الحيض، ثم تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر، ثم إن شاء؛ طلق، وإن شاء؛ أمسك، يعني هو بالخيار بعد هذا الأجل، وإن شاء أن يسرحها؛ فلا حرج، فراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- واحتسبت تلك الطلقة الواقعة في الحيض بتطليقة، هذا هو المعنى الإجمالي لهذا الحديث.
قوله: (أنه طلق امرأته وهي حائض): هذه المرأة هي آمنة بنت غِفَار، وقيل: إن اسمها النوار، وهذا قد يُجمع بينه وبين الأول بأن اسمها آمنة بنت غفار، وتلقب بالنوار، وقد ورد أنه طلقها وهي في دمها حائض، طلقها وهي في دمها حائض، وفي أخرى: أنه طلقها في حيضها، والمعاني في ذلك متقاربة، فذكر ذلك أي ذكر بذلك عمر -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ويبدو أن المرأة المطلقة هي تلك التي أمر عمر -رضي الله تعالى عنه- ابنه بطلاقها، وهي التي مَرَّ ذكرها معنا في الدرس الماضي، حين قلنا: هل للأبوين أو لأحدهما أن يأمر ابنه بطلاق امرأته وفراقها؟! وذكرنا أن عمر -رضي الله عنه- أمر عبد الله ابنه بطلاق إحدى زوجاته أو امرأة تزوجها وكان عمر يكرهها وابنه يحبها؛ فأبى؛ أي عبد الله، فذكر ذلك عمر لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فأمره النبي بطلاقها؛ ففعل، فقد تكون هذه هي المرأة التي طلق ابن عمر وهي حائض، فهذه المرأة هي التي وقع عليها الطلاق.
إخبار عمر للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لماذا؟ لماذا أخبر عمر رسول الله بأن عبد الله طلق زوجه وهي حائض؟ هل كان هذا النهي عن طلاق الحائض غيرَ معلوم أم أنه كان معلوما؟
لعله كان غير معلوم.(1/5)
لعله كان غير معلوم، وهل يَتَغَيَّظُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ويغضب من عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- لأنه ارتكب أمرا لا يعلم حرمته؟!
نعم.
لماذا؟
لأنه لم يسأل عنه.
إذا كان معلوما؛ فقد جاز أن يسأل، أما إذا لم يكن معلوما؛ فإنه لا يسأل عن أمر غير معلوم، إما أن يكون النهي معلوما؛ فيصير تغيظ النبي -صلى الله عليه وسلم- من ابن عمر في محله، أو لا يكون معلوما؛ فلا يكون -هنا- سببٌ يدعو لتَغَيُّظِ النبي -صلى الله عليه وسلم-. فالظاهر أن النهي كان معلوما، فإذا كان النهي معلوما؛ فلماذا سأل عمر رسول الله صلى الله عليه ومن والاه؟!
ربما يكون أن الأمر خفي عن ابن عمر؟ وإما لأن ابن عمر أبى أن يطلق زوجته؟.
الطلاق وقع، الطلاق وقع في الحيض، وعمر ذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعْلِمُه أن ابنه فعل كذا. فلماذا؟
قد يُقال: لأن هذه هي الواقعة الأولى، والنهي كان معلوما، لكن هذه هي الواقعة الأولى التي يُوقِع فيها أحدُ الصحابة طلاقا في الحيض، وأراد عمر أن يعرف ماذا يفعل في هذا الطلاق الذي وقع في الحيض، ما هو الصحيح، أو ما هو الواجب تجاه هذه المسألة أو هذه النازلة التي وقعت للصحابة -رضي الله تعالى عنهم-؟!
أو ليُعَلِّمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ابنَ عمر ماذا يفعل بعد ارتكاب هذا النهي، أو ربما كان السؤال عن العدة؛ هل يُعتد بهذه الحيضة التي وقع فيها الطلاق أم لا يُعتد بها؟! سؤال عمر -رضي الله تعالى عنه- هنا؛ ليعرف هل هذه الحيضة التي وقع فيها الطلاق مما يعتد به في الطلاق أم لا؟!
هذه كلها أسباب تدعو إذن للسؤال، ولماذا ذهب عمر ولم يذهب عبد الله بن عمر؟(1/6)
قد يكون عمر -رضي الله عنه- ذهب؛ لأجل أنه يريد أن يحمل عن ابنه هذه المشقة، وذلك الحرج الذي ترتب على أنه خالف أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيكون عمر -رضي الله عنه- فعل ذلك شفقةً ورحمةً بابنه؛ ليتحمل عنه ما سيقع من تَغَيُّظِ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- على ابن عمر؛ لأنه ارتكب النهي، وهذا يدلك على أن نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يكن ليتغيظ، ولا ليغضب إلا إذا انتُهِكَتْ محارم الله تعالى، وهذا -كما قلت- يَدُلُّكَ على أن النهي كان معلوما، وإلا؛ فلا يتغيظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ابن عمر وهو يرتكب أمرا لم يَعْلَمْ حرمته.
إذن تغيظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعقبه أن قال: (ليراجعها) يعني أمرَ عمر أن يأمرَ ابنه أن يراجع زوجته، وفي رواية قال: (مُرْه؛ فليراجعها) فهذه صيغة أمر، والأصل في صيغ الأمر إذا أطلقت وتجردت عن القرينة أنها تفيد الوجوب، فبناءً عليه؛ فإن عبد الله أَرْجَعَ هذه الزوجة، وعليه؛ فلنا أن نسأل: هل إرجاع المرأة التي طلقت في الحيض واجبٌ على زوجها أم لا؟ واجب على زوجها أم هذا فقط مما يُسْتَحَبُّ؟
واجب على الزوج؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مره فليراجعها) والأمر يقتضي الوجوب.
هو قوله: (مره) هذا أمر ليس لابن عمر، إنما الأمر لعمر، فهل الأمر بالأمر يقتضي الوجوب؟
هذه مسألة اختلف فيها الأصوليون؛ هل الأمر بالأمر يقتضي الوجوب؟
هذه مسألة وقع الاختلاف فيها.
وعلى كل حال فهذه المسألة اختلف الفقهاء فيها بعد ذلك على قولين أو على مذهبين:
الأول: وجوب المراجعة.
الثاني: الاستحباب.
والقائلون بالوجوب هم: مالك -رحمه الله تعالى- وأحمد في رواية عنه، وبعض الحنفية، والجمهور على الاستحباب دون الوجوب.
ما هي القرينة التي صرفت الأمر في قوله: (فليراجعها) عن الوجوب إلى الندب عند الجمهور؟ ما هي القرينة التي صرفت الوجوب إلى الندب في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فليراجعها)؟(1/7)
القرينة هي: أن الزواج ابتداؤه ليس بواجب؛ فكذا استدامته، فكما أنه لا يجب عليه الزواج؛ فإنه أيضا لا يجب عليه استدامة حكمه، فهذه هي القرينة التي صرفت الوجوب إلى الاستحباب عند جمهور الفقهاء.
وبعضهم تعقب هذا؛ فقال: الطلاق مُحَرَّم في الحيض، واستدامة النكاح حال الحيض واجبة.
لماذا؟
لحرمة الطلاق في الحيض.
ولهذا وجدنا مالكا -رحمه الله تعالى- يجبر الرجل على مراجعة زوجته إن طلقها حال حيضها، يرى ذلك حقًّا عليه واجبا عليه لازما عليه.
اتفق الفقهاء على أنها إذا انقضت عدتها من غير مراجعة أنها تبين منه، لا خلاف بين الفقهاء على ذلك، أنها تبين منه وتمتنع الرجعة؛ أي لا يملك رجعتها، يعني إذا طلقها فاعتدت بحيضاتها إن كانت من ذوات الحيض، أو خرجت من عدتها بأي سبب كان؛ فعندئذ يقال: امتنعتْ الرجعةُ، لا يجوز له أن يرجعها.
الجماهير على أنه لا يؤمر بمراجعة من طلقها في طهر مسها فيه، وسيأتي الخلاف في ذلك، يعني هل الأمر سواء إن طلقها وهي حائض، أو طلقها في طهر مسها فيه هو مأمور بمراجعتها أم لا؟ هذا خلاف سيأتي معنا إن شاء الله.
بأي شيء تكون الرجعة؟
قال: (مره فليراجعها)، فبأي شيء تكون الرجعة؟
تكون الرجعة بالقول الذي يدل عليها؛ كأن يقول: أرجعتك، أو: رددتك، أو ما أشبه كل ما يؤدي هذا المعنى يتحقق به الرجوع، وهل يتحقق الرجوع بالفعل؟
خلاف بين العلماء.
وهل يجب الإشهاد على الرجعة؟
خلاف، والراجح الاستحباب.
هل يشهد؟
نعم.
استحبابا أم وجوبا؟
خلاف، والراجح الاستحباب.
ثم قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ثم يمسكها حتى تطهر)؛ يعني يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر؛ أي من حيضتها التي أوقع فيها الطلاق، ثم تحيض حيضة أخرى فتطهر، عندئذ له أن يطلق.(1/8)
إذن قوله: (ثم يمسكه)؛ أي يستمر بها في عصمته حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم بعد ذلك يُطلق إن شاء كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في رواية البخاري: (ثم ليدعها حتى تطهر، ثم تحيض حيضة أخرى، فإذا طهرت؛ فليطلقها) يعني هو عندئذ بالخيار.
ما هي الحكمة من إمساكها؟ يعني هي سَتُرْجَعُ إليه، ثم يمسكها حتى تطهر من حيضتها التي أوقع فيها الطلاق، ثم يتركها حتى تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر، ثم عندئذ هو بالخيار يطلق أو لا؛ فما هي الحكمة من إمساكها حتى تحيض حيضة أخرى؟!
قيل: ليستبرئها بطهر تامٍّ، ثم بحيض تام ليعلم براءة رحمها، أو ليعلم أنها ليست بحامل منه، ومن جهة أخرى لتعرف عدتها، فلا تستشكل عدتها، يعني هي متى ستعتد؟! إذا طلقها في قُبُلِ عدتها أي قبل أن تحيض فأوقع الطلاق، ثم حاضت؛ علمت أن هذه الحيضة هي أول حيضة تعتد بها، بخلاف ما لو طلقها في أثناء الحيض.
وقيل أيضا: لئلا تصير الرجعة لغرض الطلاق، يعني يرجعها ليطلقها، وإنما يرجعها ليمسكها فتبقى عنده حتى تحيض حيضة أخرى؛ لأنه ربما راجع نفسه في هذه المدة، وربما وهي مقيمة معه عاد إليها بجماع، أو بمقدماته، أو ما أشبه فيحصل من ذلك فائدة الرجوع، إذن يكون الرجوع ليس لأجل الطلاق، وإنما الرجوع لأجل الإمساك.
بأي شيء تطهر بانقطاع دمها أم باغتسالها من الحيض؟
الراجح أنها تطهر بالاغتسال.
لماذا؟
لأنه ورد في الحديث: (مُرْ عبد الله؛ فليراجعها، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى؛ فلا يمسها حتى يطلقها، وإن شاء أن يمسكها؛ فليمسكها).
إذن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى) دل على أن طهرها إنما هو بالاغتسال.(1/9)
ثم إنهم اختلفوا بعد ذلك في جواز طلاقها في الطهر الذي يلي ذلك الحيض الذي وقع فيه الطلاق على قولين: أرجحهما المنع؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يؤجل ذلك حتى تحيض حيضة أخرى، وتطهر منها؛ أي تخرج من هذه الحيضة. إذن القول الأول: المنع، وهو الراجح. والقول الثاني: الجواز، وهذا يخالف الروايات التي معنا في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بإمساكها هذه المدة حتى تحيض ثم تطهر.
ثم عاد فقال -صلى الله عليه وسلم-: (فإن بدا له أن يطلقها؛ فليطلقها قبل أن يسمه)؛ يعني إذا حاضت الحيضة الثانية ثم خرجت منها وطهرت؛ فهو بعدئذ بالخيار، إن شاء أن يطلق؛ فليطلق قبل المسيس؛ أي قبل الجماع؛ لأنه لو جامع؛ صار هذا طهرًا جامعها فيه، فإن أوقع طلاقًا في طهر جامعها فيه؛ فقد ارتكب المحذور مرة أخرى، ووقع في النهي ثانية.
قوله -عليه الصلاة والسلام-: (فإن بدا له أن يطلقها؛ فليطلقها قبل أن يمسها) وقع في رواية: (ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملا)، وهذا يدلك على أن طلاق الحامل ليس فيه بدعة، وطلاق الحامل طلاق سنة مطلقًا، من استبان حملها فطلقها زوجها؛ فإنه يطلقها للسنة، وليس بطلاق بدعي.
وهو أيضًا يدلك على حرمة الطلاق في طهر جامعها فيه.
مسألة هل يجبر الرجل على الرجعة إذا طلقها في طهر جامعها فيه؟ كنا ذكرناها وتقدم أن الجماهير على خلافه أنه لا يُجبر، وقال بجبره أيضًا بعض المالكية، الإمام مالك قال بجبره على رجعتها إذا طلقها في حيضها.
هل يجبر على إرجاعها إذا طلقها في طهر جامعها فيه؟
ذهب إلى هذا بعض المالكية خلافًا للمشهور؛ أي خلافًا لمشهور مذهب المالكية وجماهير أهل العلم.
قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (فتلك العدة التي أمر الله عز وجل)؛ أي أمر الله -عز وجل- أن تُطلق لها النساء، تلك العدة التي أمر الله -عز وجل- أن تطلق لها النساء.(1/10)
ننتقل بعد هذا إلى ما نُقِلَ في بعض الروايات عند مسلم: (فحسبت من طلاقها) وفي لفظ للبخاري: (حُسبت علي بتطليقة).
طبعًا جرى الخلاف سائغًا بين العلماء في هذه المسألة، وما هي هذه المسألة؟ مسألة وقوع الطلاق في الحيض، هل الطلاق الواقع في حيض واقعٌ شرعًا أم لا؟!
أقول: جرى الخلاف سائغًا بين العلماء في وقوع الطلاق البدعيّ في حالتين:
الحال الأولى: الطلاق في الحيض.
الحال الثانية: الطلاق في طهر جامعها فيه.
ويلتحق بهذا ما لو جمع عليها الطلاق ثلاثًا في مجلس واحد.
إذن هذه مسائل ثلاثٌ في الطلاق البدعي: الطلاق حال الحيض، والطلاق في طهر جامع فيه، وجمع الثلاث طلقات في عبارة واحدة أو في مجلس واحد.
وبين يدينا الآن هذه المسألة التي تتعلق بإيقاع الطلاق حال الحيض، هذه المسألة أقول:
الخلاف فيها سائغ بين العلماء، ولا يجوز أن يعتبر هذا الخلاف من الخلاف الشاذ، أو المنكور، أو المهجور، أو الضعيف، أو كذا.. الذي يُفَسَّقُ فيه المخالف، أو يُبَدَّعُ فيه المخالف، أو يُلحق فيه المخالف بأهل البدع والعياذ بالله؛ لأنه قال به بعض التابعين، وقال به أئمة كبار، وتابع هؤلاء الأئمة الكبار رجالات معروفةٌ من علماء هذا العصر.
إذن لا ينبغي التثريب على من أخذ بأي القولين في هذه المسألة إذا كان إنما يأخذه بدليله، ويقصد الحق ويبذل جهده في طلبه.
اختلف العلماء في وقوع الطلاق في الحيض على مذهبين اثنين:
الأول: للجماهير سلفًا وخلفًا، وهم أئمة المذاهب الأربعة، وأعيان أتباعهم في كل العصور، وهؤلاء جميعًا على إيقاع الطلاق البدعيّ، أي الواقع في الحيض، وهذا مذهب الجماهير -كما قلنا- من الصحابة والتابعين أيضًا.
قال ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: "فإن طلق للبدعة، وهو أن يطلقها حائضًا أو في طهر أصابها فيه؛ أثم، ووقع طلاقه في قول عامة أهل العلم". هذا كلام ابن قدامة في "المغني". أولا: قال بوقوع الطلاق، ثانيًا: قال بإثم مرتكبه حال الحيض.(1/11)
والقاضي عبد الوهاب المالكي أيضًا يقول: "الطلاق يقع في الحيض ثلاثًا كان أو أقل -يعني إن طلقها في الحيض ثلاثًا أو أقل وقع- قال: وهذا مذهب الفقهاء بأسرهم إلا طائفة شَذَّتْ".
والمرداوي من الحنابلة قال في "الإنصاف": "الصحيح من المذهب أن طلاقها في حيضها أو طهر أصابها فيه محرمٌ، ويقع نص عليهما -أي الإمام أحمد -عليه رحمة الله- وعليهما الأصحاب" يعني على وقوعه مع الإثم الأصحاب يعني أصحاب الإمام، وعليه الأصحاب.
والمذهب الثاني: أنه لا يقع، وهو منقول عن طاووس من التابعين، وهو مذهب ابن حزم من الظاهرية، وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وتلميذه شيخ الإسلام ابن القيم -عليهم جميعًا رحمة الله- وتابعهما على ذلك جماعة من أهل العلم المعاصرين.
طاووس -رحمه الله تعالى- يقول: "وجه الطلاق أن يطلقها طاهرًا من غير جماع إذا استبان أو إذا استبان حملها"، أن يطلقها طاهرًا من غير جماع، أو إذا استبان حملها فهذا طلاق يقع سُنيًّا، ثم إنه سئل ابنه = عبد الله بن طاووس فقال -يعني عن أبيه-: قال: "إنه كان لا يرى طلاقًا ما خالف وجه الطلاق، ووجه العدة" يعني إذا خالف وارتكب هذا النهي؛ فإن هذا الطلاق عنده لم يقع.
وقد سئل بعض التابعين وهو خلاس بن عمرو عن هذه المسألة؛ فقال: "لا تعتدُّ بتلك الحيضة" فحمل بعضهم أن قوله هذا يعني أنها لا تعتد العدة، يعني التي تترتب على وقوع الطلاق، لا تعتدُّ بتلك الحيضة يعني لا تعتدُّ العدة، ولكن الصحيح من معنى كلامه أن الحيضة التي أوقع فيها الطلاق لا تُعتبر من عدتها، وإنما تَستأنف حيضة جديدة. إذن هذا هو المعنى، وبالتالي فيكون هذا الكلام منقولاً عن طاووس دون خلاس بن عمرو.
ما هي أدلة الجمهور؟ وما هي أدلة مخالفيهم؟ وكيف نتعامل مع هذه المسألة؟(1/12)
الجمهور يقولون: حديث الباب حجة، وحديث الباب في رواياته الكثيرة الصحيحة دلالاتٌ ظاهراتٌ على أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- اعتبر الطلاق في الحيض واقعًا؛ من ذلك رواية نافع عن ابن عمر بلفظ أن رجلاً قال لعمر: إني طلقت امرأتي البتة وهي حائض، فقال: عصيت ربك وفارقت امرأتك، فقال الرجل: فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الله حين فارق امرأته وهي حائض يأمره أن يراجعها، فقال له عمر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يراجعها في طلاق بقي له؛ لأن الأول طلق امرأته ألبتة؛ يعني جمع لها الثلاث في عبارة واحدة، فاحتج هذا الرجلُ على عمر بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر ابن عمر أن يراجع زوجته، فقال: إن ابن عمر راجع زوجته في طلاق بقي له؛ يعني بقي له من طلاقه عليها، فراجعها إلى عصمته؛ لأنه بقي له من طلاقها شيء، فكأن عمر يُثبت وقوع الطلاق الثلاث ثلاثًا، وقد كان هذا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، ثم إنه رأى أن يعاقب الذين استهانوا بأمر الطلاق، وأن يوقع الثلاث ثلاثًا، فقال له عندئذ: "فأنت لم يبق لك ما ترجع به امرأتك".
وفي رواية مسلم قال لنافع: (ما صنعت التطليقة؟ قال: واحدة اعتدت بها) يعني سأل السائل نافعًا، فقال: (ما صنعت التطليقة؟ قال: واحدة اعتدت بها)؛ يعني اعتدت بها من طلاقها.
وعن سالم بن عبد الله بن عمر أنه أخبره؛ أي الراوي: أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فتغيظ منه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم قال: (فليراجعها) وقع في رواية هذا الحديث: وكان ابن عمر طلقها واحدة، فحسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(1/13)
الشاهد أن الروايات كثيرة، متظاهرة، متضافرة، صحيحة عن أن ابن عمر راجع امرأته، وحسبت تلك من طلاقها، وهذا منقول عن يونس بن جبير، ومنقول عن سعيد بن جبير، ومنقول عن عدد من التابعين الذين رووا ذلك عن ابن عمر؛ كالشعبي مثلاً وغير هؤلاء، ولذلك من أصرح ما نُقِلَ حديث أنس بن سيرين؛ أنه سمع ابن عمر يقول: "طلقت امرأتي وهي حائض..." الحديث، وفيه قلت لابن عمر: "أفاحتسبت تلك بتطليقة؟ قال: فمه؟!" يعني فماذا؟ يعني نعم احتسبت عليَّ تطليقة.
اعترض على هذه الأحاديث وعلى دلالتها من قِبَل المخالفين، فقالوا: إنها لم تصرح بمن الذي احتسب وقوع هذه الطلقة؛ حيث لا حجة في قول أحد دون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يعني في كل هذه الروايات (احتسبت بتطليقة)، (احتسبها بتطليقة)، (حسبت طلقة).. إلى آخر هذه العبارات، اعترض المخالفون، فقالوا: إن الأحاديث لم تُصَرِّح بمن الذي احتسب تلك التطليقة؛ فأجيب عن هذا الاعتراض:
بأن قول الصحابي: "أمرنا في عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بكذا.." أنه في حكم المرفوع، "أمرنا بكذا" أنه في حكم المرفوع، فكذا "احتسبت" أي احتسبها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من طلاقه.
ثم جاء الجمهور بحديث عند الدارقطني فيه عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (هي واحدة) هذا الحديث عند الدارقطني، فلو صَحَّ هذا الحديث وَسَلِمَ؛ لكان نصًّا في المسألة، ولذا قال ابن حجر -رحمه الله-: "وهذا نص في محل النزاع يجب المصير إليه". وقد أورد هذا النص بعض العلماء على ابن حزم؛ فقال -أي ابن حزم-: "لعله ليس من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-" فألزمه بأن هذا خلاف الظاهر، وهذا خلاف أصله؛ لأن أصلك أن تعتبر ما نقله الراوي إذا كان ثقة أنه من كلام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهنا حين قال ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (هي واحدة)، فهنا تصريح بأن القائل هو رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.(1/14)
ولهذا قال ابن القيم وهو يرد هذه الرواية: "لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قَدَّمنا عليها شيئًا، ولصرنا إليها بأول وهلة، ولكن لا ندري أقالها ابن وهب من عنده أم ابن أبي ذئب أم نافع؟! فلا يجوز أن يُضاف إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ما لا يُتيقن أنه من كلامه، ويُشهد به عليه، وتُرتب عليه الأحكام، ويقال: هذا من عند فلان، أو فلان، ويكون في ذلك شيء من الوهم أو الاحتمال".
هذا الكلام من ابن القيم ردّه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -عليه رحمة الله- فقال: "هذا الكلام فيه صواب وخطأ، أما الصواب؛ فهو اعترافه بكون هذه اللفظة لو صحت؛ صارت نصًّا في الباب يجب المصير إليه، وأما الخطأ؛ فهو تشككه في صحتها، لماذا يتشكك في صحتها وقد وردت صريحةً من كلام الراوي بأنه يرفع ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والمتفق عليه بين العلماء أن الأصل قبول رواية الثقة كما رواها، وأنه لا يجوز ردُّها بالاحتمال والتشكيك".
ثم إن الألباني جاء ببعض ما يشهد لهذه الرواية؛ فقال: "إن ابن وهب لم يتفرد بهذه الرواية، بل تابعه الطيالسيُّ كما تقدم" وجعل يذكر بعض المتابعات لهذه الرواية، فمن ذلك أن ابن عمر قال: "إنه طلق امرأته وهي حائض فأتى عمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فذكر ذلك له فجعله واحدة" يعني جعل هذا الطلاق واحدة، وهذه متابعة للطيالسيِّ، وأيضًا جاء بمتابعة لابن أبي ذئب وهي رواية ابن جريج عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (هي واحدة)، ثم جاء بمتابعة ثالثة وهي للشعبي أن الشعبي تابع نافعًا في هذه الرواية جاء أيضًا بأنه طلقها وعدها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: (هي واحدة).(1/15)
يقول محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى-: "وكل هذه الروايات مما لم يقف عليها ابن القيم في هذا الحديث"، ثم علق فقال: "وظني أنه لو وقف عليها؛ لتبدد الشك الذي أبداه في رواية ابن وهب، ولصار إلى القول بما دل إليه الحديث من الاعتداد بطلاق الحائض". الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" استقصى هذه الروايات، وبين رجحان الروايات التي فيها التصريح بأن طلاق الحائض واقع.
احتج المخالفون بجملة أدلة:
ببعض ألفاظ حديث ابن عمر؛ فإن نفس هذا الحديث في بعض ألفاظه ما يدل على أنها لم تحتسب، مثل ماذا؟
مثل أن عبد الله طلق امرأته وهي حائض، قال: "فردها عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يرها شيئًا". استدل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ومن معه بأن قوله: "لم يرها شيئًا" أي: إنها لم يُعتد بها، يعني لم يُعتد بهذه الطلقة، وقال إنها امرأته. قال ابن حجر: "إسناد هذه الرواية على شرط الصحيح، لكنهم ناقشوا في قوله: "لم يرها شيئًا" قالوا: "لم يرها شيئًا مستقيمًا"، وهذا توجيه ابن عبد البر، وتوجيه الشافعيِّ -رحمه الله-: "أنه لم يرها صوابًا" يعني لم يرها فعلاً صوابًا من ابن عمر، واستدلوا أيضًا بما روي عن الشعبي أنه قال: "إذا طلق امرأته وهي حائض لم؛ يعتدَّ بها".
ابن عبد البر يوجه هذه الرواية بأنه لم يعتد بها ليس بالطلقة، وإنما بالحيضة التي وقعت فيه الطلقة؛ أي لم يعتد بتلك الحيضة في عدة تلك المرأة، فوجهوا هذه الرواية أيضًا توجيهًا يوافق مذهب الجمهور.
ثم قالوا: وقد وقع التصريح بذلك عند ابن أبي شيبة من رواية نافع، قال: (لا تعتد بتلك الحيضة)؛ فقوى هذا مذهب الجمهور القائلين بوقوع الطلاق حال الحيض، وإذا صَحَّ حديث الدارقطني -كما قال ذلك الصنعاني أيضًا- فإن هذا يحسم النزاع.(1/16)
استدل أيضًا المخالفون بأن الأصل في النهي أنه يقتضي الفساد، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الطلاق في الحيض، وإذا كان النهيُ يقتضي الفساد؛ فإن الفاسد لا أثر له يترتب عليه؛ لأنهم قالوا: إن الممنوع منه شرعًا كالمعدوم حسًّا، ولأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (مَن عَمِلَ عَمَلاً ليس عليه أمرنا؛ فهو ردٌّ) أي مردودٌ عليه، ولأن الله -تبارك وتعالى- قال: ?فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ? [البقرة: 229] وهذا التسريح لم يكن بإحسان، هذا التسريح حين طلق في الحيض لم يكن تسريحًا بإحسان، فهذا كله مما لم يشرعه الله، ومما لا يعتد به شرعًا، وأجاب الجمهور بالتسليم بالتحريم، نحن نقول بأن الطلاق في الحيض حرام، وأن صاحبه يأثم، لكننا نقول بوقوعه.
لماذا؟
لثبوت الدليل المصرِّح بوقوع الطلاق، وأما ما ذُكِرَ من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك؛ فنحن نسلم بذلك، والرجعة التي يؤمر بها الرجل إنما هي فرع ثبوت الطلاق؛ لأنها لو لم تكن شيئًا؛ فإن المراجعة لا معنى لها، لو لم تكن هذه الطلقة مما يُعتد بها؛ فبأي شيء يراجعها؟
قالوا: نحمل ذلك على المراجعة اللغوية.
قلنا" الشرعية أولى، لماذا؟
هم لمَّا في الحديث قال: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعهَا) المراجعة أو الرجعة هذه فرع وقع الطلاق؛ لأنه لا يراجع زوجته، وإنما يراجع مطلقته.
قالوا: فأمره بالمراجعة يدل على وقوع الطلاق.
قالوا: لا، المقصود بالرجعة هنا الرجعة إلى حالها الأحسن، والأكمل، والأفضل، وهذه رجعة لغوية.
فأجابوا بأن الحمل على الشرعيات أولى من الحمل على اللغويات.(1/17)
بهذا ترى أن هذه المناظرة بين الجمهور ومخالفيهم تُحَوِّل هذه المسألة إلى مسألة يجوز الخلاف فيها، ويجري الخلاف فيها بين السلف والخلف؛ كما قال ذلك ابن حزم وغيره، وأنه لا إجماع صحيحًا صريحًا منعقد، ولهذا قال الصنعاني: "والحق أن هذه المسألة من مسائل الخلاف، والعمدة الدليل، ولا تبديع لمن اتبعه وإن أخطأ، ولا تضليل؛ لما تقرر أن كل مجتهد مصيب، والحاكم بين المختلفين والمتنازعين هو الدليل، ثم قال: وما ذكره الفريقان مُحْتَمَِلٌ، وإن كانت أدلة القائل بعدم الوقوع أقوى وأقل احتمالاً لكن إن ثبت ما أخرجه الدارقطني من طريق يزيد بن هارون عن أبي ذئب وابن إسحاق جميعًا عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (هي واحدة)؛ ففيه فصل النزاع، وبه الإقناع". وقول الحافظ ابن حجر وهو نص في موضع الخلاف يجب المصير إليه دالٌّ على أنه لا قدحَ فيه، وعليه؛ فإننا نقول بتقوية قول الجمهور في هذه المسألة، ونقول: إن الراجح في الطلاق البدعيِّ الواقع حال الحيض هو وقوع الطلاق في الحيض مع الإثم، والله تعالى أعلى وأعلم، وبهذا نأتي على ختام هذه الحلقة لنستكمل شرح الحديث، وما يتعلق بالأحاديث الأخرى في لقائنا الآتي إن يسر الله تعالى وأعان.
كان السؤال الأول: بَيِّن حكم الوليمة.
لما كانت الوليمة سببًا في فوائدَ عظيمة جليلة؛ في إشهار النكاح، والتواصل والتآلف بين الأسر، وتأليف القلوب؛ كان اختلاف العلماء على قولين أساسيين:
فالظاهرية والشافعية وأحمد ذهبوا إلى وجوب الوليمة، واستدلوا بحديث الباب وحملوا الأمر على الوجوب.
وذهب الجمهور إلى استحباب الوليمة، واستدلوا بأحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- في زواجه؛ فقد أوْلَمَ في بعضها والبعض الآخر لم يولِم، وحملوا الأمر على الاستحباب، وقد ثبت أن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أوْلَمَ بغير شاة، والراجح مذهب الجمهور.
هذه الإجابة عليها ثلاث مؤاخذات:
المؤاخذة الأولى:(1/18)
قوله: إن هذا مذهب الشافعية، وليس بصحيح.
المؤاخذة الثانية:
قوله: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوْلَمَ وترك الوليمة، وهذا أيضًا ليس بصحيح، بل النبي -صلى الله عليه وسلم- أوْلَمَ لكنه أوْلَمَ بشاة وأوْلَمَ بغير الشاة، فوقعت منه الوليمة -صلى الله عليه وآله وسلم-.
المؤاخذة الثالث: أن عبد الرحمن لم يولم بالشاة، وهذه لا ندري من أين أتى بها؟ وإنما النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أوْلِمَ ولم بشاة)، والراجح في هذه المسألة مذهب الجمهور، لماذا مذهب الجمهور هو الراجح؟
لأن إطلاق الأمر على الوجوب على القادر وغير القادر مما يؤخذ فيه.
أولاً: لأنه طعام يُصنع لسرور؛ فكان كسائر الأطعمة لا يجب، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أمره بأن يوْلِم؛ قال: (ولو بشاة) يعني للتقليل أو للتمني وقع أن أوْلَمَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشاة وأوْلَمَ بغير الشاة، فدل هذا على أنه لا يجب، وإنما هو مستحب.
السؤال الثاني: بَيِّن حكم الطلاق، وأحواله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الطلاق تطرأ عليه الأحكام الخمسة التكليفية؛ فقد يقع حرامًا، أو مكروهًا، أو واجبًا، أو مندوبًا.
فقد يقع واجبًا في صورتين مثلاً: في الشقاق بين الزوجين إذا ترافعها إلى الحاكم، وبعثهما إلى حكمين، ورأيا المصلحة في الطلاق؛ وجب على القاضي أن يطلق، أو يجبر الزوج على الطلاق، وقد يقع واجبًا أيضًا في المولي إذا مضت عليه أربعة أشهر، وطالبته المرأة بحقها؛ فامتنع من الفيئة والطلاق؛ فيوجب عليه القاضي الطلاق، وقد يقع الطلاق مكروهًا إن وقع بلا سبب من الزوج، وقد يكون حرامًا وهو الطلاق البدعي الذي أشرتم إليه، فإما في حيض، وإما في طهر جامعها فيه.
وقد يقع الطلاق مندوبًا إن كانت المرأة غير عفيفة، أو يخافا أو أحدهما أن لا يقيما حدود الله تبارك وتعالى. والله أعلم.
جزاك الله خيرا.
أسئلة الحلقة.
السؤال الأول: عَدِّد أقسام الطلاق ممثلاً لكل قسم.(1/19)
السؤال الثاني: اذكر الراجح من قوليْ العلماء في وقوع الطلاق حال الحيض.(1/20)
الحديث - المستوى السادس
الدرس الثاني والعشرون - تابع باب الطلاق
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
تابع باب الطلاق
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اتبع هداه.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة! سلام الله عليكم ورحمته –تعالى- وبركاته، ونرحب بكم مجددًا إلى أحاديث عمدة الأحكام، وما زلنا مع كتاب الطلاق، وقد تناولنا الحديث الأول في هذا الباب، وهو حديث ابن عمر، وكنا قد انتهينا في لقائنا الفائت إلى الكلام عن وقوع الطلاق في الحيض من عدمه، وبينا أقوال العلماء في هذه المسألة، ورجحنا ما تَرَجَّحَ بالدليل، وهو قول الجمهور من وقوع الطلاق البدعيّ حال الحيض مع الإثم.
وبقيت لنا حالةٌ كنا نريد أن نلقيَ ضوءًا عليها قبل أن نغادر هذه المسألة، وكنا قد عرضنا لهذه الحالة في حديث زوجِ رفاعة القرظي حين بَتَّ طلاقها، وتكلمنا عن المبتوتة، وتكلمنا عن الطلاق الثلاث، وأرجأنا الكلام عن هذا إلى مكانه في كتاب الطلاق، فهذا أوان الشروع في هذه المسألة بحول الله -تعالى- وعونه وطوله.
نقول: اتفق الفقهاء والعلماء على أنه يحرم على الزوج أن يطلق زوجته ثلاثًا بلفظ واحد، وسواءً جمع لها الثلاث دفعةً واحدة بأن قال: أنت طالق ثلاثًا، أو قال: أنت طالق، وأنت طالق، وأنت طالق، أو قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وسواءً أكان هذا في مجلس واحد، أو كان هذا في مجالسَ ثلاثةٍ متعددة، أو كان هذا في طهرٍ واحد، فكل ذلك ممنوع منه، وإنما له أن يُطلق طلقةً واحدةً، فإذا اعتدت منه؛ فله أن يراجعها إن شاء، فإذا بقيت معه مدة، وأوقع الطلاق مرةً واحدةً؛ فله ذلك، فإن ردها؛ فإن له ذلك حتى يأتي على الطلقة الثالثة التي تُوَفِّي عدة الطلاق، عندها تَبِيْنُ منه.(1/1)
أما أن يجمع الثلاث بلفظ واحد؛ كأن يقول: ثلاثًا، أو أن يجعل ذلك في مجلس واحد، أو أن يجعل ذلك بألفاظٍ متتابعةٍ في طهر واحد، كل ذلك اتفق الفقهاء على المنع منه، وعلى حُرمتِ.
لكن جرى الخلافُ بين العلماء في هذه المسألة: هل إذا جمع لها الطلاق بلفظ الثلاث دفعةً واحدة هل يقع الطلاق ثلاثًا أم لا؟
هذا وقع فيه الخلاف بين الفقهاء على أربعة مذاهب:
المذهب الأول:
هو مذهب الجماهير من أهل العلم سلفًا وخلفًا، وقد ذهبوا إلى أنه يقع ثلاثًا، وأن المرأة التي طلقت ثلاثًا بلفظٍ واحدٍ، أو في مجلسٍ واحدٍ، أو بألفاظٍ متعاقبةٍ في طهر واحد أنها تبين من زوجها بينونة كبرى، وقد بَيَّنَّا أن البينونة الكبرى هي التي لا يَحِلُّ معها الرجعة حتى تنكح زوجًا غيره، فإن طلقها؛ فلا جناح عليهما أن يتراجعا بعد أن تُزَوَّجَ من ذلك الذي يَبْنِي بها ويذوق عُسَيْلَتَها كما ذاق الأول، فإن طلقها؛ فعندئذ تحل الرجعة، أو يحل العقد عليها والزواج منها بعقد ومهر جديديْن.
إذن القول الأول قول الجمهور، وهو أن الطلاق يقع عليها ثلاثًا.
المذهب الثاني: هو قول طاووس من أئمة التابعين، ومختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وابن القيم، وطائفة من الظاهرية حيث قالوا: إن الثلاث لا يقع إلا واحدة، إذا جمع لها الثلاث؛ فإن الذي يقع من هذه الطلقات الثلاث هو طلقةٌ واحدةٌ.
المذهب الثالث: وهو للظاهرية، ومن وافقهم من بعض التابعين حيث قالوا: إن هذه الثلاث لا يقع بها شيء، وهو منقول عن بعض الزيديَّة.(1/2)
المذهب الرابع والأخير: هو قول من قال: إن الرجل إذا طلق ثلاثًا فإنه يُفَرَّقُ بين المدخول بها وغير المدخول بها، فإن كانت مدخولاً بها؛ وقع الطلاق ثلاثًا، وإن كانت غير مدخول بها؛ وقع الطلاق واحدةً، وهذا مرويٌّ عن بعض أصحاب ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- وإسحاق أن المطلقة ثلاثًا إن كان مدخولاً بها؛ وقع الطلاق ثلاثًا، وإن كانت غير مدخول بها؛ فإن الطلاق يقع طلقةً واحدة، وأنت تعلم أن غير المدخول بها إذا وقع عليها الطلاق؛ فإنه يقع طلاقًا بائنًا أيضًا، فإنه لا يملك عليها الرجعة
لماذا؟
لقول الله تعالى.
?فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا? [الأحزاب: 49].
هذا هو موضع الشاهد، إذن ما جعل الله -تعالى- للمطلقة قبل الدخول من عدة تعتدها على مطلِّقها، وإنما تبين منه بينونة صغرى، وما هي البينونة الصغرى؟
هي التي يجوز فيها للزوج أن يراجع فيها مطلقته بعقد جديد ومهر جديد.
نعم، هي التي يمكن أن يرد فيها المطلقُ زوجتَه إليه بعقد ومهر جديديْن من غير حاجة إلى أن ينكحها رجل غيره.
هذا هو ملخص هذه الأقوال الثلاثة، نحن سنعرض أدلة هؤلاء حتى نعرف القول الراجح.(1/3)
المذهب الأول: قلنا إنه مذهب جماهير الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة، وأتباع مذاهبهم حيث قالوا: إن الطلاق الثلاث إذا وقع من الرجل؛ يقع ثلاثًا، واستدلوا على ذلك بقول الله -تعالى-: ?وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ? [البقرة: 228] قالوا: الآية وقعت عامة، فيدخل فيها كلُّ طلاق، فكل طلاق سواءً كان رجعيًّا، أو بائنًا واحدًا، أو اثنين، أو ثلاثًا كلّ ذلك إذا وقع بلفظ مُفَرَّق أو بلفظ واحد؛ فإن هذا الطلاق واقع، ?وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ?، فكل من طُلِّقت؛ فإن طلاقها واقع، واستدلوا بقول الله –تعالى-: ?فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ? [البقرة: 230]، وقوله: ?لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ? [البقرة: 236]، وقوله تعالى: ?وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ? [البقرة: 237]، قالوا: هذه الآيات لم تُفَرِّق بين طلقة واثنتين وثلاث طلقات؛ فهي عموماتٌ مطلقة، لكن يرد على كلام الجمهور هنا أن هذه العمومات مُخَصَّصَةٌ، مخصصة بماذا؟ بما سيأتي ذكره من الأدلة، وأن هذه الإطلاقات الموجودة في الآية إطلاقاتٌ مقيدةٌ، مقيدة بماذا؟ بما سيأتي، ما هو الذي يقيد؟ أو ما هو الذي يُظهر أن المسألة ليست كما ذهبوا؟
قول الله تعالى: ?الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ? [البقرة: 229]، وسيأتي معنا وجهُ استدلالِ المخالفين بهذه الآية، لكن هم أنفسهم قالوا: إن هذه الآية تشهد لنا -معاشرَ الجمهور-.
كيف تشهد لكم؟(1/4)
قالوا: إن هذا السياق يدلُّ على جواز وقوع الطلاق مرتين، فوقوعه مرتين كوقوعه ثلاث مرار، فإذا جاز أن يقع الطلاق مرتين؛ جاز أن يقع ثلاث مرات، طبعًا هذا مُنَاقَشٌ، وسيأتي معنا مناقشة المخالفين، وإنما هم ذكروا هذا فقالوا: الآية دليل على جواز إرسال الطلقات الثلاث معًا، أو إرسال طلقتين من ثلاث معًا؛ فهذا يدل على أن هذا واقع.
ثم إنهم استدلوا من السنة ببعض الأدلة:
من ذلك أن رجلاً طلق امرأته ثلاثًا زَمَنَ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال -عليه الصلاة والسلام-: (أَيُلْعَبُ بكتاب الله وأنا بين أَظْهُرِكُمْ؟!) وكان هذا منه -صلى الله عليه وآله وسلم- مع شدة غضب حتى قال أحدهم: (يا رسول الله! ألا أقتله؟)؛ أي ألا أقتل هذا الذي طلق ثلاثًا؟! يعني من شدة ما رأى من موجدة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على ذلك الرجل.
هذا الحديث يدل على أن الطلاق وقع ثلاثًا كما يقول الجمهور؛ لأن غضبه -صلى الله عليه وآله وسلم- من فعل الرجل دَلَّ على وقوعه، ولو لم يقع الطلاق؛ لم يكن ليغضب هذا الغضب الشديد؛ لأن فعله لا يترتب عليه شيء، يعني إيقاعه الطلاق ثلاثًا إذا وقع واحدة فإن الثنتين الأخريين من الطلقتين يقعان لغوًا، لا يعتد بهما، لكن لما اعْتُدَّ بهذه الطلقات؛ دَلَّ هذا على أن الطلاق الثلاث يقع.
وورد أيضًا في الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- أن رجلاً طلق امرأته ثلاثًا فتزوجت، فطلق زوجها الثاني، فسئل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أتحل للأول؟! فقال: (لا، حتى يذوقَ عسيلتها كما ذاق الأول)، قالوا: إن هذا الحديث ليس فيه أن الرجل جَمَعَ لها الطلاق الثلاث دفعةً واحدة أو فرق الطلقات فهو عام على عمومه، فيشمل هذا ما لو أرسل الثلاثة دفعةً واحدة كما إذا فرقها في أوقات مختلفة.(1/5)
طبعًا هذا أيضًا يرد عليه أنه ليس فيه تصريح بأنه أوقع الثلاث دفعةً واحدةً، وحديث رُكانة فيه كما ثبت أن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- روى: (أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا، ونكح غيرها، ثم إنها جاءت شاكية إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: طلقتها ثلاثًا فقال: في مجلس واحد؟ فقال الرجل: نعم، قال: إنما تلك واحدة، إن شئت فراجعها) هذه الرواية استدل بها الجمهور، لكن قيل بأنَّ أثبت ما روي في قصة ركانة أنه طلقها ألبتة، ولم يطلقها ثلاثًا، وعلى كل حال فسيأتي للجمهور استدلالٌ بقصة ركانة نفسها على ما سيأتي للمخالفين استدلال بقصة ركانة نفسها على مذهبهم.
طبعًا وَرَدَت بعض الروايات الأخرى: (أن رجلاً طلق امرأته ألف تطليقة، فاحتُسِبَ منها ثلاث تطليقات وكانت البقية إثم عليه) كما روي: (إن أباكم لم يتق الله؛ فلم يجعل الله له مخرجًا، بانت منه بثلاث على غير السنة) يعني كان طلاقه هذا طلاق الثلاث على غير السنة، وتسعمائة وسبع وتسعون إثم في عنقه، وهذا عند الدارقطني وغيره بإسناد فيه ضعف، ولذلك ردَّ المخالفون مثل هذا الدليل.
أيضًا استدلوا بالحديث الصحيح الذي فيه أن الطلاق كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر أن الطلاق الثلاث كان واحدة، فقال عمر: "إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم" وفي لفظ: "أن أبا الصهباء قال: ألم تعلم أن الثلاث كانت واحدة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأبي بكر وصدر من إمارة عمر؟ قال: نعم" هذا أبو الصهباء يكلم ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- فيقول: "ألم تعلم أن هذه الطلقات الثلاث في عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كانت واحدة، وكذا في عهد أبي بكر، وكذا في سنتين من خلافة عمر؟ قال: نعم".(1/6)
الجمهور يستدلون بأنه وقع الإجماع في عهد عمر -رضي الله تعالى عنه- على أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثًا، يعني تحول الاجتهاد من إيقاع الثلاث واحدة إلى إيقاع الثلاث ثلاثًا، وكان هذا باجتهاد من عمر -رضي الله تعالى عنه- وأعلن اجتهاده هذا على الملإ إلا أن أحدًا لم ينكر على عمر، ولم يخالف؛ فكان هذا إجماعًا صحيحًا صريحًا منعقدًا، وألف بعض العلماء كتبًا في "لزوم الطلاق الثلاث دفعة بما لا يستطيع العالم دفعَه"، ألف بعض المفتين في مدينة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من المتأخرين قالوا: "لزوم الطلاق الثلاث دفعة بما لا يستطيع العالم دفعه"، واستدلوا بأن هذا إجماع صحيح صريح، وهذا من أدلتهم التي ساقوها الذي اتُّفِقَ عليه أن هذا إنما وقع في زمن عمر.
وقالوا في الاستدلال بالمعقول: إن الله -تبارك وتعالى- جعل للرجل أن يتأنى في إيقاع الطلاق، وأن لا يستعجل، وأنه في فسحة من أمره، فلا عليه أن يضيع حقه بإطلاق الثلاث مرة واحدة، بل عليه أن يتأنى فيرسل واحدة، ثم يتأمل ثم يرسل الثانية ثم يتأمل؛ لأن ذلك من شأنه أن يقضي على علاقته بهذه المرأة، وقالوا: كما أن النكاح مِلْكٌ يصح أن يُزال متفرقًا طلقةً، فطلقةً، فطلقةً فيصير أيضًا أن يُزال مجتمعًا، وهذا كسائر الأملاك، تستطيع مثلاً أن تبيع قطعة من أرضك، ثم قطعة، ثم قطعة، أو تبيعها دفعة واحدة، فهذا كذاك سواءً بسواء، هذا هو مذهب الجمهور باختصار يليق بالحال.
المذهب الثاني -كما قلنا- هو مذهب طاووس من التابعيين، وقول بعض الظاهرية، والذي انتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وتلميذه ابن القيم، وهو أن الطلاق الثلاث يقعن واحدةً، بم استدلوا؟
استدلوا بالقرآن الكريم أولاً:
من ذلك قول الله -تعالى-: ?الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ? [البقرة: 229]، ما معنى "مرتان"؟
أي مرة بعد مرة.(1/7)
صفته الشرعية: أن يقع مرة بعد مرة، وأن المكلف لا يملك أن يوقعه دفعةً واحدة، فإن فعل؛ فلا يقع من هذه الطلقات إلا واحدة؛ لأن الله -تعالى- حين قال: ?مَرَّتَانِ? هذا يعني مرة تتلوها مرة.
واستدلوا بالحديث الذي استدل به الجمهور من أن الطلاق في زمن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وخلافة أبي بكر، وسنتين من خلافة عمر كان الطلاق الثلاث يقعن واحدة، حتى جاء عهد عمر -رضي الله تعالى عنه- وبعد أن مرت من خلافته سنتان؛ رأى أن الناس قد تَعَجَّلوا أمرًا كان لهم فيه أناة فرأى أن يُمْضِيَ ذلك عليهم على وجه العقوبة، لَمَّا أكثر الناس من الطلاق، واستهانوا بأمره، وتعجلوا في هذا الأمر.
قالوا: واجتهاد عمر إنما هو اجتهاد لا يغير الأحكام الشرعية.
لماذا؟
قالوا: لأن الإجماع واقعٌ قبل عمر -رضي الله عنه- على أن الطلاق الثلاث واحدة، بل واقع في عهده أيضًا؛ لأنه إلى سنتين من خلافة عمر -رضي الله تعالى عنه- والطلاق الثلاث يعتبر واحدة، وأنت تعلم أن أبا الصهباء خاطب ابن عباس فقال: "ألم تعلم أن الثلاث كنَّ أو كانت تُجعل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وصدر من خلافة عمر ترد إلى واحدة؟ قال: نعم".
واستدلوا أيضًا بحديث ركانة الذي فيه: أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- (أمره أن يرد امرأته إليه، وأنه اعتبر الثلاث طلقة واحدة) قال: (كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثًا، فقال: في مجلس واحد؟! قال: نعم، قال: فإنما تلك واحدة؛ فأرجعها إن شئت، قال: فراجعَها) فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طُهر.(1/8)
فهذا دليلٌ ظاهرٌ واضحٌ من فتوى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في واقعة رُكَانة، وهم كما استدلوا بالكتاب استدلوا بالسنة، واستدلوا بالإجماع الذي نقلوه منعقدًا إلى زمن عمر -رضي الله تعالى عنه- ثم قالوا: وإن القياس يشهد لمذهبنا؛ ذلك أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (مَن عَمِلَ عَملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رَدٌّ)، وقالوا: إن المنهيَّ عنه شرعًا لا يقع، وقالوا: إن المنهيَّ عنه شرعًا كالمعدوم حسًّا؛ فلا اعتبار لهذا الذي وقع ممن طلق ثلاثًا؛ لأنه منهيٌّ عن هذا الطلاق.
ثم إنهم جاؤوا بدليل من المعقول فقالوا: إن العرب تقول: إذا وُصِفَ اللفظُ بالعددِ؛ فإنما هو إخبار عن وقوع الموصوف في الخارج بهذا اللفظ، لو أن الله -تبارك وتعالى- أمرك بأن تشهد أربع شهادات كما في آية الملاعنة، فهل يصح أن يشهد فيقول: أشهد بالله أربع شهادات أم هو مأمور بأن يأتي بشهادة ثم بشهادة، ثم بشهادة، وكذا النبي -عليه الصلاة والسلام- لَمَّا رَغَّبَ في الأذكار في الصباح وعند المساء لَمَّا قال: (من قال: لا إله إلا الله مائة مرة) فهل يحصل الثواب لمن قال: "لا إله إلا الله مائة مرة" أم من عَدَّهُنَّ مرة بعد مرة؟! إن هذا لا يتأتى إلا بأن يعدهن مرة بعد مرة، وكذا في القَسَامَة مثلاً، أن يُقسم الرجل يمينًا بالله أن هذا الذي قتل، هل يكفي أن يقول: أقسم بالله خمسين مرة أم لا بد أن يأتي باليمين بعد اليمين، بعد اليمين، وهكذا؟(1/9)
إذن لا بد؛ فلماذا تخلفت هذه القاعدة في الطلاق حين قال الله -تعالى-: ?الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ? أي مرة بعد مرة، وليس الطلاق ثلاثًا يُوقع الطلاق ثلاثًا، وإنما الطلاق ثلاثًا لا يخرج عن كون الطلاق واقعًا مرة واحدة. وهذا في كتاب الله -تعالى- كثير ?سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ? [التوبة: 101]؛ أي مرة بعد مرة، وليس إذا وُصِفَ هذا اللفظُ بالعدد يكفي فيه أن يُذكرَ هذا الوصفُ حتى يقع العدد المطلوب. إذن هذا هو المذهب الثاني.
المذهب الثالث:
هو مذهب بعض أهل الظاهر، وبعض التابعين حيث قالوا: إن الطلاق الثلاث لا يقع مطلقًا، ولم يروا ذلك شيئًا، وهؤلاء استدلوا بأدلة عدم وقوع الطلاق البدعيّ، والتي كنا قد تناولناها في لقائنا الماضي، وأشرنا إلى طرف منها، فقوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَن عَمِلَ عَملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ)؛ لأن هؤلاء ردوا وقوع الطلاق حال الحيض مطلقًا، وقالوا: إنه غير واقع.
وقلنا: إن بعض الفقهاء فرق بين المدخول بها وغير المدخول بها، فالمطلقة ثلاثًا ممن دُخِلَ بها، هذه يقع طلاقها ثلاثًا، وأما غير المدخول بها فإن طلقها ثلاثًا؛ فإنه يقع واحدة، فإذا وقع واحدة؛ بانت منه بينونة صغرى، وقد نقلوا في ذلك بعض الفتاوى، والمرويات عن ابن عباس وغيره.
والذي يعنينا –الآن- هو بيان الراجح من القوليْن الشهيريْن في هذه المسألة: هل يقع الطلاق الثلاث ثلاثًا أم يقع طلاق الثلاث واحدة؟
نقول: إن هذا القول الذي انتقل به الجمهور مما كان عليه الحال في عهده -صلى الله عليه وآله وسلم- وخلافة أبي بكر، وصدر من خلافة عمر إلى ما قال به عمر -رضي الله تعالى عنه- على أن حكم الحاكم يرفع الخلاف في المسألة لا يعني هذا أن الإجماع قد وقع منعقدًا صريحًا صحيحًا لا مُخالفَ في هذه المسألة، وإنما وقع أن اختار الحاكم، أو الخليفة هذا القول، وعمل به؛ فلم يكن لأحد أن يخالفه. لماذا؟(1/10)
لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف والنزاع، فعمر -رضي الله تعالى عنه- حين حكم بذلك حكم باختيار هذا القول، وهذا القول الذي قال به عمر -رضي الله تعالى عنه- إنما هو اجتهاد أداه إليه نظره في تحقيق المصلحة في ذلك الزمان، وفي ذلك المكان حين اجترأ الناس على التطليق فوقع من ذلك فساد، ما هو هذا الفساد؟ صار هناك شيء من التلاعب بالأيمان. فإذا نظرنا إلى مُدْرَكِ هذا الحكم؛ وجدنا أنه المصلحة، والاجتهاد لحسم مادة الفساد، فهذا الحكم الذي اجتهد فيه عمر -رضي الله تعالى عنه- منوطٌ بهذا، وليس في كتاب الله أو في سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله ومن والاه- أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثًا، وإنما فيه أنه يقع واحدةً، والرواية الصحيحة الصريحة تدلّ على ذلك، فإذا كان هذا القول الآن يُفْضِي إلى مزيدِ حرجٍ، أو إلى مزيدِ فسادٍ في الزمان، أو في أهل هذا الزمان؛ أفلا يكون الرجوع إلى القول الذي يقلل الفساد، ويحفظ الأسر، ويحفظ البيوت هو أولى بالصواب؟!
نعم، نقول: هو أولى بالصواب.
لماذا؟(1/11)
لأن عمر -رضي الله تعالى عنه- أراد أن يُضيِّق بابَ الفساد، أما الآن فمع اجتراء الناس أكثر، وتَضَيُّقِ هذا الأمر أكثر؛ فإن الرجوع إلى الحال الأُوْلَى هو الأَوْلَى، كما اجتهد عمر -رضي الله عنه- في سهم المؤلفة قلوبهم، فقال: ذلك كان أيام كان الإسلام في شيء من الضعف وفي شيء من الحاجة، وليس بالمسلمين من قوة ومَنَعَة، فكان هذا السهم = سهم المؤلفة قلوبهم يُدفع إلى بعض غير المسلمين، أو إلى من لم يحسن إسلامهم بعد من المسلمين تألفًا لقلوبهم على الإسلام، لكن لَمَّا قوي الإسلام في عهده، وامتدت رقعة العالم الإسلامي في زمنه امتدادًا لم يُرَ في عهد خليفة من قبله ولا من بعده، ورأى عز الإسلام بعينيه؛ فلم يَرَ هناك من سبب يدعو، ورأى أن المصلحة تقضي بإغلاق هذا السهم وليس بنسخه، فإذا جَدَّ بالمسلمين حالٌ من ضعفٍ، أو حاجة؛ كان الأمر جائزًا في أن يعود هذا السهم مرةً أخرى، إذا كان عمر -رضي الله تعالى عنه- نظر إلى المصلحة فيما أَفْتَى به؛ فنحن أيضًا لنا أن ننظر إلى المصلحة لا سيما وأن هذا الأمر ليس فيه نصٌّ، ودعوى الإجماع عليه لا تستقيم، أو لا يُسَلَّم بها، وعليه؛ فإن الذي يُفْتَى به في كثيرٍ من بلاد العالم الإسلامي اليوم هو أن طلاق الثلاث يقع واحدةً؛ حفظًا للأسر، وعملاً بالأدلة القديمة التي فيها أن إيقاع الثلاث يقع واحدة، وهذا اجتهاد عمر -رضي الله تعالى عنه- إذا وجد سببه أو زمانه؛ فإنه لا مانع من إعماله، وعدم إهماله، لكن القاعدة المحكمة في الشريعة أن "ارتكاب أخفِّ الضررين مفسدةً هو أولى من ارتكاب المفسدة الأكبر والأعظم.
بهذا نكون قد أتينا على مسألة وقوع الطلاق الثلاث، وانتهينا فيها إلى ترجيح قول من قال بأن الطلاق الثلاث يقع واحدة، لننتقل بعد هذا إلى الحديث الثاني في كتاب الطلاق وهو حديث فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها وأرضاها.(1/12)
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب، وفي رواية: طلقها ثلاثًا، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال: والله ما لكِ علينا من شيء، فجاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له، فقال: (ليس لكِِ عليه نفقة) وفي لفظ: (ولا سُكْنَى) فأمرها أن تَعْتَدَّ في بيت أم شَريك، ثم قال: (تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعْتَدِّي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده، فإذا حللت؛ فآذنيني) قالت: فلما حللتُ؛ ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أما أبو جهم؛ فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية؛ فَصُعْلُوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة بن زيد فنكحته) فجعل الله فيه خيرًا واغتبطت به).
هذا الحديث حديث فاطمة بنت قيس -رضي الله تعالى عنها وأرضاها- وهو الحديث الثاني في كتاب الطلاق، ويتعلق بالطلاق وبغيره من أبواب الفقه، وسبب إيراده هو قولها -رضي الله تعالى عنها-: إن أبا عمر بن حفص -وهو زوجها- طلقها البتة، وطلاقها البتة يعني أنه طلقها ثلاث تطليقات، والذي في كتب الشروح أنه جاء بالطلقة الثالثة، ولم يجمع عليها ثلاث تطليقات بلفظ واحد، وإنما وَفَّاها الطلاق ثلاثًا، يعني واحدة ثم أخرى، ثم ثالثة حتى وَفَّى لها الطلاق، والنووي -رحمه الله تعالى- يقول: "كان طلقها قبل هذا اثنتين" يعني طلقها طلقتين اثنتين، وورد في بعض ألفاظ الحديث عند مسلم: "أنه طلقها طلقة كانت بقيت لها من طلاقها". إذن قولها -رضي الله تعالى عنها-: "طلقها البتة" أي الطلقة الثالثة التي بها تصير بائنة بينونة كبرى.(1/13)
وكان هذا الطلاق وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير. لماذا أرسل الوكيل بشعير؟ أرسل الوكيل بهذا الشعير على سبيل النفقة لها، فلما جاءها هذا الطعام؛ سخطته، السخط ضد الرضا، يعني جاء لها بهذه النفقة فسخطت النفقة؛ أي كرهتها، ولماذا كرهتها؟ قالوا: لأنها استقلت ما أرسل، استقلت؛ أي رأته قليلاً، فلما استقلت ما أرسل فقال ذلك الوكيل: "والله ما لكِ علينا من شيء" يعني ليس لكِ حق علينا؛ لأنك مطلقة مبتوتة، ليس لكِ علينا من شيء لا من نفقة ولا من سكنى، فنفى عنها أن يكون لها شيء من نفقة واجبة، أو شيء من سكنى واجبة، فلما رأته يقول ذلك؛ جاءت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تشتكي، تشتكي من؟ تشتكي زوجها، وتشتكي وكيله الذي قال لها: "ليس لكِ علينا من شيء".
فجاءت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فذكرت ذلك له؛ أي ذكرت الواقعة أنها وَفَّى طلاقها ثلاثًا، وأنه أرسل إليها بيسير من شعير فسخطت ذلك وردته، فزعم وكيله أنه ليس لها على مطلقها من شيء، فقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ليس لكِ عليه نفقة) وفي لفظ: (ولا سكنى)، وهذا الحديث أخرجه البخاري مختصرًا وأخرجه مسلم بلفظه مُطَوَّلاً، فهذه الرواية تدل على أنه ليس لها على مطلقها البتة نفقة، ليس لها عليه نفقة ولا سكنى.
فلما قال لها ذلك رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لم تعد لتبقى في بيت مطلقها، فأمرها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أن تعتد في بيت أم شريك، وأم شريك هذه من فُضْلَيَات الصحابة -رضي الله تعالى عنها- وقد مر أن الواهبة نفسها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتي نزل فيها ذلك هي أم شريك، وقيل: خولة بنت حكيم رضي الله تعالى عنهن أجمعين.(1/14)
أمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تعتد عند أم شريك -رضي الله تعالى عنها- ثم قال: (تلك امرأة يغشاها أصحابي) يعني لِمَا لها من الفضل والمنزلة، يعني يزور الصحابة هذه المرأة لينتفعوا لما لها من علم وفضل، فأرشدها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أن تنتقل إلى بيت ابن أم مكتوم. لماذا؟ لأنه لا يُبصر، فلها أن تضع ثيابها في بيته، وهي بِأَمَنَةٍ من أن ينظرها، لكن لا يعني هذا جواز أن تطلق المرأة بصرها إلى الرجال؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- نهى عن ذلك، ولأن الأمر كما عَمَّ الرجال عَمَّ النساء ?وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ? [النور: 31]، وفي الحديث: (أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُما لا تبصرانه) وإن كان قد تكلم بعض أهل العلم في صحة هذه الرواية، لكن الذي جزم به كثير من أهل العلم كالنووي وغيره أنه لا يجوز أن تطلق المرأة بصرها كما لا يجوز للرجل أن يُطلق بصره، ولذلك قال النووي -رحمه الله-: "الصحيح الذي عليه الجمهور وأكثر أصحابنا أنه يحرم على المرأة النظر إلى الأجنبي كما يحرم نظره إليها، ويشتد الأمر إذا خيفت الفتنة".
وغاية ما في الباب أن يُقال: إن نظر المرأة إلى الرجل بدون نظر الرجل إلى المرأة.
لماذا؟
لأن ثوران الشهوة عندها بدون ما عند الرجل، ولهذا رخَّص الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- لعائشة -رضي الله تعالى عنها- أن تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، وغاية ما يُقال: إن نظرها إلى الرجال دون نظر الرجال إليها في المخالفة، وفي خوف ثوران الشهوة، لكن الاتفاق حاصل أن النظر مع الريبة، أو أن النظر مع الشهوة مُحَرَّمٌ عند جميع العلماء.
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أَمَرَها بأن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، كما أمر أم سلمة وميمونة بالاحتجاب حين دخل ابن أم مكتوم، فهي أيضًا مأمورة بأن تحتجب عنه، والمقصود أنها تقيم في بيته مع زوجاته، أو مع نسائه.(1/15)
إذن هذا الجزء من الحديث قولها -رضي الله تعالى عنها- أو قول الراوي عنها: فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال: (تلك امرأة يغشاها أصحابي) يدل على أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يحتاط في أمر النساء، ويحذر من خلوة أو مخالطة مُحَرَّمة، وهنا دليل يصلح لمن قال بتحريم الاختلاط الذي يُفضي إلى مفسدة، ولو صحبته بعض المصالح، فإن المرأة معتدة في بيت تلك الفاضلة من نساء الصحابة -رضي الله تعالى عنهن أجمعين- ومع هذا احتاط رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لهذا الأمر.
ثم قال: (تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابكِ عنده، فإذا حللت؛ فآذنيني)؛ أي: إذا خرجت من عدتك؛ (فآذنيني)؛ أي: فأعلميني.
لماذا؟
ربما لأنه -صلى الله عليه وآله وسلم- أراد أن يُنكحها أسامة، قال: (فإذا حللت؛ فآذنيني)؛ أي: فأخبريني بأنك خرجت من عدتك، وحللت للخطاب، وهذا ظاهر من آخر الحديث؛ لأنها أخبرته في نهاية الحديث أن معاوية وأبا جهم كليْهما قد خطباها إلى نفسها، فنهاها عنهما وقال: (انكحي أسامة).
قبل أن نغادر هذا الجزء من الحديث نلحظ أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بَيَّنَ لها أن لا نفقة ولا سكنى لها على زوجها، وهذا مذهبُ الحنابلة والشافعية، أن المرأة التي بُتَّ طلاقها ليس لها على مطلقها من نفقة ولا سكنى.(1/16)
وفي قول هو المُقدَّم في مذهب مالك والشافعي أن لها السكنى دون النفقة، هذا هو القول الثاني. القول الأول: ليس لها سكنى ولا نفقة، القول الثاني: إن لها السكنى دون النفقة، والقول الثالث: إن لها السكنى والنفقة، وهذا مذهب الحنفية، أن لها النفقة والسكنى، واستدلوا في هذا بما يُروى عن عمر: "أننا لا نترك أو لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري حفظت أم نسيت" وهذا لا يصح عن عمر -رضي الله تعالى عنه- والحديث حجة على الجميع، واللفظ الثابت من هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لها: (ليس لكِ عليه نفقة ولا سكنى) فأحظّ الناس في هذه المسألة الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- ومن وافقه، ومن اتبعه من التابعين، ومن الصحابة الذين نفوا عن المطلقة ثلاثًا، والبائن النفقة والسكنى على زوجها.
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لها: (فإذا حللت؛ فآذنيني)؛ أي فأعلميني وأخبريني، قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (أما أبو جهم؛ فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية؛ فَصُعْلُوك لا مال له) ما معنى (لا يضع عصاه عن عاتقه)؟(1/17)
العاتق هو المسافة ما بين العنق والمنكب، هذه تسمى عاتق، (لا يضع عصاه عن عاتقه) يعني يجعل عصاه دائمًا على عاتقه، يعني مرفوعة، يعني يجعل عصاه على عاتقه مرفوعة، فهذه كناية منه -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه ضَرَّاب للنساء، وقد صَرَّحَ بهذا في بعض روايات الحديث فقال: (أما أبو جهم؛ فَضَرَّاب للنساء) وهي قرشية حسيبة نسيبة، والرجل كانت فيه شدة، فأخبر بما فيه من عيبٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم ذكر معاوية فقال: (وأما معاوية؛ فَصُعْلُوك) فَصُعلوك بضم الصاد، والتصعلك هو الفقر، والصُعلوك هو الفقير، (وأما معاوية؛ فَصُعْلُوك لا مال له، ولكن انكحي أسامة) انكحي بكسر الهمزة، فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رَشَّحَ لها أسامة، وبين لها عيبًا في الأول وفي الثاني، وهذا لأنه كما قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (المستشار مؤتمن)؛ لأنها جاءت -رضي الله عنها- تستشير رسول الله، وتستأمره في خطبة أيٍّ من هذين الرجلين، فبين أن كليهما لا يصلح لها، وأن الذي يصلح لها، ويُصلحها هو أسامة، وأسامة قد مسه الرق؛ لأنه ابن مولى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ابن زيد بن حارثة -رضي الله عنه وعن أبيه- والمرأة قرشية حسيبة نسيبة، فهل لها أن تتزوج من رجل مسه الرق؟! النبي -صلى الله عليه وسلم- نَصَحَ بهذا، وهذا يدل لمذهب الذين قالوا بأن الكفاية أو الكفاءة إنما هي في الدين، ذلك أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أَنْكَحَ هذه المرأة القرشية الحسيبة النسيبة مولاه أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما.(1/18)
ثم استفدنا من هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أجاز الخطبة على الخطبة؛ لأن المرأة تقدم إليها أبو جهم، وتقدم إليها معاوية، ولكن لَمَّا كانت لم تركن إلى أحدها؛ جاز لثالث أن يتقدم، ويتحقق هذا الجواز إذا لم يعلم الخاطب الثالث؛ ذلك أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- خَطَبَ له ولم يكن يعلم وقتها -رضي الله تعالى عنه- بأن هذه المرأة مخطوبة لغيره، ثم إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رَجَّحَ لها أن تنكح أسامة، فكرهت هذا؛ لما لها من حسب ونسب وفضل، ثم أكَّد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا المعنى وبيَّنَ جواز نكاح غير المكافئ في النسب إذا رضيت به الزوجة، ورضي به أولياؤها، وتم العقد، قالت: (فاغتبطت به) يعني فرحت، وسعدت، وانتفعت بزواجها من أبي زيد أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه وعن أبيه.
بهذا نكون قد أتينا على المهم من حديث فاطمة بنت قيس -رضي الله تعالى عنها وأرضاها-.
بالنسبة لسؤالي الحلقة السابقة. كان السؤال الأول:
بَيِّن أقسام الطلاق ممثلاً لكل نوع.
يختلف الطلاق باعتبار لفظه ينقسم إلى طلاق صريح وطلاق كنائي، الطلاق الصريح؛ كـ: أنت طالق ومشتقاتها، والفراق لفظة الفراق والسراح عند الشافعية والحنابلة قالوا: لا نية للفظ فيه، وطلاق كنائي وهو ألفاظ ليست صريحة لكن إن انضمت إليها نية اللافظ؛ طلقت؛ كـ: أنت خلية، أو: حلبك على غاربك، وباعتبار أثره ينقسم إلى رجعي وبائن، رجعي: ما يملك فيه الزوج الحق على زوجته في الرجعة، والبائن بعد استيفاء الطلاق على الثلاث، أو على مال إلا بعقد ومهر جديدين، إلا في حالة استيفاء الثلاث لا ترجع للأول حتى تنكح زوجًا غيره، أما باعتبار حكمه، فينقسم إلى قسمين: طلاق سني، وهو الذي يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يمسها فيه، أو هي حامل، أو طلاق بدعي وهو يطلقها وهي حائض، أو يطلقها وهي في طهر جامعها فيه، أو يجمع لها ألفاظ الطلاق الثلاث.(1/19)
وينقسم باعتبار تنجيزه إلى: طلاق منجز ويقصد به إيقاع الطلاق في الحال، أو طلاق معلق على شرط من فعلها أو فعل غيرها أو معلق بزمن وينقسم لزمن مقيد ويقع وزمن مطلق، وحضرتك يا شيخ لم تفصل في الأخير.
جيد.. هذه إجابة صحيحة.
السؤال الثاني: اذكر الراجح من قولي العلماء في وقوع الطلاق حال الحيض.
أولاً: إن العلماء والتابعين ذكروا أن هذا الخلاف سائغ بين العلماء، وأنه ليس فيه إنكار ولا تبديع ولا تفسيق لمن خالف فيه، وينقسم القول فيه إلى قولين:
الأول: وهو قول الجمهور من الأئمة الأربعة وتابعيهم أن الطلاق في حال الحيض يقع، وقال ابن قدامة الكلام فيما معناه: إنه يقع وعليه الإثم.
أما القول الثاني وهو قول طاووس، وبعض الظاهرية، وشيخ الإسلام ابن تيمية: بأنه لا يقع حال الحيض.
نعم.. وما هو الراجح؟
لم نُرَجِّح في الحلقة السابقة.
لم نُرَجِّح وقوع الطلاق من عدمه في الطلاق في الحيض؟!
لا رَجَّحنا، رَجَّحنا قول الجمهور، وأن الطلاق واقع مع الإثم، وهذا الذي انتصر له عدد من أهل العلم بالحديث والفقه معًا، وهو -كما قلنا- مذهب جماهير العلماء سلفًا وخلفًا.. نعم جزاكم الله خيرًا.
يقول: سؤال على القول الراجح عند الجمهور: هل يجوز للفقيه أو للقاضي أن يحكم على خلاف قول الجمهور لمصلحة بقاء الأسرة؟.(1/20)
هذه المسألة هل للمفتي أن يفتي بخلاف ما يعتقده راجحًا أم لا؟ الصواب أنه لا يجوز له أن يفتي بخلاف ما يعتقد رجحانه، ولكن له أن يحيل على من يعتقد المذهب الآخر، يعني ليس لك أن تفتي وأنت مفتٍ بخلاف ما تعتقد أنه الراجح، أو أنه الصواب، أو أنه الظاهر من أقوال أهل العلم في المسألة، لكن لا حرج عليك أن تحيل السائل إلى غيرك ممن تعلم أنه ينتحل ذلك المذهب، وفي هذا سعة، سعة لك وسعة لهذا السائل، هذا هو الأولى من أن يُقال بأن له أن يفتيه بمذهب يراه مرجوحًا؛ لأنه مُتَعَبَّد لما يعتقد رجحانه، وهذا الذي انتصر له الشاطبي وغيره من أهل العلم في هذه المسألة.
وقد ورد أن بعض السائلين قد جاؤوا إلى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- فسألوه عن مسألة فأفتاهم بما له فيها من اجتهاد، فسألوه عمن يفتي باجتهاد آخر في هذه المسألة فدلهم على ذلك، فقال للسائل: أترى تلك الأسطوانة يعني أشار إلى إحدى أساطين المسجد؟ فقال: نعم، قال: اذهب فاسأل من يجلس تحتها ممن يعلم الإمام -رحمه الله تعالى- أنه يفتي بما يعتقد في هذه المسألة بخلاف ما عنده -رحمه الله تعالى- وقد كان يقول هذا ويتحدث فيه، فيقول: "ما عَبَرَ الجسر إلى خراسان مثل إسحاق" وإن كان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء فهذه الأشياء التي كانت عند إسحاق هي من مسائل الاجتهاد التي تكون بين الأئمة المجتهدين، وحيث لم يقطع الإنسان بأن قوله الحق، وأن قول مخالفه هو الخطأ أو الباطل فإن له أن يحيل إلى غيره ليحصل بذلك مصلحة لهذا السائل، والله تعالى أعلى وأعلم.
أسئلة الحلقة.
في هذه الحلقة سؤال واحد. السؤال الوحيد في هذه الحلقة:
بَيِّن الراجح من أقوال العلماء في وقوع الطلاق الثلاث ثلاثًا؟(1/21)
الحديث - المستوى السادس
الدرس الثالث والعشرون - باب العدة
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
باب العدة
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله، وصحبه، ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة! سلام الله عليكم، ورحمته –تعالى- وبركاته، ونرحب بكم مجددا مع شرح كتاب "عمدة الأحكام" ومع باب العدة من هذا الكتاب المبارك. تفضل بقراءة الحديث الأول:
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
( باب العدة
عن سُبَيْعَةَ الأسلمية أنها كانت تحتَ سعد بن خولة، وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدرا، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب -أي تلبث- أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تَعَلَّتْ من نفاسها؛ تَجَمَّلَتْ للخُطَّابِ، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك -رجلٌ من بني عبد الدار- فقال لها: ما لي أراكِ متجملة؟! لعلكِ ترجين النكاح، والله ما أنت بناكح حتى تمرَّ عليكِ أربعة أشهر وعشرٌ، قالت سُبَيْعَةُ: فلما قال لي ذلك؛ جمعتُ عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللتُ حين وضعتُ حملي، وأمرني بالتزوّج إن بدا لي، قال ابن شهاب: ولا أرى بأسأ أن تتزوج حين وضعتْ، وإن كانت في دمها غير أنه لا يقربُها زوجها حتى تطهرَ).
باب العدة
العدة في اللغة من العدِّ، أو العدد بمعنى الإحصاء والحساب، سُمِّيت بذلك لاشتمالها على العدد من الأقراء، أو الأشهر، العدة من العدد، وأنت تلحظ أن هذا الجمع مستعمل في اللغة؛ فأنت تقول: سِدَر جمع سِدْرة، فعدد جمع عدة.
على كل حال العدة في الاصطلاح هي: اسم للمدة التي تتربصها امرأة لمعرفة براءة رحمها، أو للتعبد، أو للتفجع على زوجها.(1/1)
وقد يقال –اختصارا- العدة هي: التربص المحدود شرعا، والمقصود أن المرأة إذا فارقت زوجها؛ فإنها تَعْتَدُّ منه سواء كان الفراق بطلاق، أو كان الفراق بموت، وسواء كانت المرأة كبيرةً أم كانت صغيرةً، وسواء كانت هذه المرأة حُرَّةً أم كانت أمةً، فالمرأة ذات الزوج إذا فارقها زوجها، وخلت عن زوج؛ فإنها تعتد، وعلى هذا وقع إجماع أهل العلم إلا ما لا يعتبر من خلاف يسير سنذكره.
إذن العِدَد أو العِدَّة هي: اسم لهذه المدة التي تتربصها امرأة بسبب فراقها لزوجها بموته، أو بطلاقها منه، وسواء كان الطلاق طلاقا بائنا، أو كان الطلاق طلاقا رجعيًّا.
والعلماء متفقون على مشروعية العدد، أو العدة في الجملة، أو إن شئت؛ فقل: متفقون على وجوبها على المرأة دون الرجل؛ فإن الرجل ليس عليه عدة، وهذا الوجوب ثابت بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن يذكر لنا الآية التي فيها ذكر عدةُ المطلقة؟
?وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ? [البقرة: 228].
هذه الآية دليل على مشروعية الاعتداد بالنسبة للمطلقات، المطلقات من ذوات الحيض، فالقروء جمع قرء، والقرء هو الحيض أو الطهر على خلاف سيأتي ذكره بين أهل العلم.
المرأة الصغيرة، والتي يئست من حيضها ما عدتها؟ ما هي الآية التي تُتَرْجِمُ لنا عن عدة الآيس والصغيرة؟
? وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ ? [الطلاق: 4].
والمرأة الحامل ما عدتها؟
?وَأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ? [الطلاق: 4].
والمرأة التي توفي عنها زوجها ما هي المدة التي تتربصها؟
?وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا? [البقرة: 234].(1/2)
إذن، تخلص لنا من هذا أن الاعتداد إما أن يكون بالأشهر، أو بالقروء، أو بوضع الحمل، فهذه أنواع ثلاثة للعدة؛ إما أن تكون العدة بوضع الحمل، أو تكون بالأقراء، أو تكون بالأشهر.
هل هناك نوع رابع من أنواع الاعتداد؟ هل تستطيعون أن تذكروا لنا نوعا رابعا؟
لا، هي أنواع ثلاثة؛ إما أن تعتد المرأة بحيض أو بطهر، وإما أن تعتد بأشهر، وإما أن تعتد بوضع ما في بطنها من حملٍ. والسنة تشهدُ بما شهد به كتاب الله -عز وجل- من مشروعية العدة، والأحاديث في ذلك كثيرة، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سبق معنا قوله في حديث فاطمة بنت قيس: (اعتدي في بيت ابن أم مكتوب؛ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده)، وقد سبق شرح هذا الحديث، والأمة مجمعة في الجملة على مشروعية العدة من غير خلاف معتبر، وهم مجمعون على أن المرأة التي تطلق قبل الدخول ما عدتها؟ المطلقة قبل الدخول ما عدتها؟
لا عدة لها؛ لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا? [الأحزاب: 49].
فالمرأة إذا عقد عليها زوجها، فطلقها قبل أن يبني بها؛ فهذه لا عدةَ عليها.
لماذا شرعت العدة؟ وما حكمة مشروعية العدة؟
العدة شرعت ليَتَرَوَّى زوج استعجل طلاق امرأته، فشرعت العدة لحفظ هذه الحياة الزوجية، وللحرص على استدامتها، وشرعت أيضا؛ تعظيما لأمر هذا النكاح، هذا النكاح الذي طُلِبَتْ فيه شروطٌ، وقامت من أجله تحقيقه أركانٌ، وسُبق بكذا وكذا من الْمُمَهِّدَات، والمقدمات لا ينبتُّ هكذا بكلمة، بل تبقى فترة، أو يبقى وقت يتروى فيه الرجل، ويراجع فيه نفسه، وشرعت العدة لأجل ذلك لقطع الطريق على العجلة التي تُورث الإنسان ندما.(1/3)
ثم في العدة أيضا معانٍ أخرى؛ منها: معرفة براءة رحم المرأة؛ فإن المرأة قد تعلق من زوجها بحمل، فإذا طلقها، فانبت طلاقها من لحظته، ثم علم أنها قد علقت منه بحمل؛ فإن هذا يُندمه، فشرعت العدة ليعلم، أو لتعلم براءة الأرحام.
ثم لو أنه طلقها من يومه فتزوجت من غدها، وكانت قد علقت منه بحمل؛ لسقى غيرُه زرعَه، وهذا مما يفضي -والعياذ بالله- إلى اختلاط الأنساب، لذا حَمَتِ الشريعة هذا، وحاطته بحياطة من مشروعية العدة التي تمنع اختلاط الأنساب.
ثم إن هذه المرأة التي عاشرت زوجها، وعاشرها زوجها، وعاشا معًا، ثم تُوفِّيَ عنها، فإن هذه الحالة حالة مؤلمة لقلبها، ولقلب أسرته، وعشيرته، فإذا مات الزوج عن المرأة؛ فبمجرد أن مات؛ قامت فتزوجت غيره.
ألا يكون في ذلك شيءٌ من إيغار الصدور؟!
ألا يكون في ذلك شيءٌ من استيحاش النفوس؟!
ألا يكون في ذلك شيءٌ من عدم مراعاة الوفاء الذي ينبغي أن يكون بين الأزواج؟!
لذا شُرعت العدة، وأُمرت المرأة في العِدَّة بأوامرَ من الله -تبارك وتعالى- تمنعها من التجملِ، وتمنعها من التزين، وتمنعها من التطيب، تمنعها من كذا وكذا من الأمور ليُرْعَى بذلك حق هذا الزوج الذي تُوفي.
وأخيرا؛ فإنَّ في امتثال أمر الله -عز وجل- بالاعتداد رعايةً لحقِّ الله –تعالى- الذي أَمَرَ بالعدة، ونهى المرأةَ في هذه الفترة عن مسائلَ كثيرةٍ جَعَلَتِ المرأة أشبه ما تكون بالْمُحْرِمَةِ في هذه الفترة لا سيما إذا كانت معتدة من وفاة؛ فإنها تُسمى عندئذ مُحِدًّا، أو تُسمى امرأةً حادًّا؛ أي مُحِدَّة على زوجها الذي توفي.(1/4)
فهمنا على كل حال معنى العدة، وفهمنا سبب مشروعيتها، وتكلمنا عن أنواعها، فبقي لنا أن ندخل بعد هذه المقدمة إلى الكلام على ما يتعلق بهذا الحديث الذي ابتدأ المصنف به كتاب العِدَدِ، وهو حديث سُبَيْعَةَ الأسلمية -رضي الله تعالى عنها- وسُبَيْعَةُ هي سُبَيْعَةُ بنتُ الحارث، وقيل إن الحارث هذا هو أبو برزة الأسلمي -رضي الله تعالى عنها وعن أبيها- وهي معدودة -كما عند ابن سعد- في المهاجرات -رضي الله تعالى عنها وأرضاها- رُوِيَ لها اثنا عَشَرَ حديثًا، اتفق البخاري ومسلمٌ على هذا الحديث الذي معنا من روايتها رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
سُبَيْعَة هذا تصغير ماذا؟
تصغير سبعة
وما سبعة هذه أخت الثمانية؟!
ما معنى سبعة؟
أنثى السَّبُع
أُنثى السبُع نعم، فأنثى السبع هي سبعة، والتصغير سُبَيْعَة، سُبَيْعَةُ الأسلمية -رضي الله تعالى عنها- صاحبة هذا الحديث الذي يدور معناه الإجماليُّ على أنها كان تحت رجل من المسلمين توفي عنها وهي حامل، ثم ما لبثت أن وضعت حملها بعد موت زوجها بزمن يسير، وكانت تعلم -رضي الله عنها- أنها تحل للخطاب بمجرد أن تضع حملها، فدخل عليها بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فرآها متجملة متزينة، فأنكر ذلك عليها.
لماذا؟
لأنه يعلم أن المرأة المحد ليس لها أن تتجمل، ولا أن تتزين، ولا أن تُخطب، فأنكر ذلك عليها، وأقسم أنه لا يحل لها أن تنكح حتى يمر عليها أربعة أشهر وعشر، فلما رأت هذا الرجل قد أقسم على هذا الحكم؛ جمعت على نفسها ثيابها، وحزمت أمرها، وذهبت إلى نبيها -صلى الله عليه وآله وسلم- تسأله، وتستفتيه، وتستشيره في هذا الأمر الذي سمعته من أبي السنابل -رضي الله تعالى عنه- فلما أخبرته الخبر؛ أفتاها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بأنها قد حلت للأزواج، وأمرها بالتزوج إن بدا لها؛ أي أن تتزوج.(1/5)
هذا ملخص هذا الحديث، وهو يدور إجمالا حول قضية من قضايا الاعتداد، والعدة، وسيأتي معنا ما عدة الحامل التي توفي عنها زوجها؛ لأجل هذا ساق المصنف -رحمه الله- هذا الحديث.
رضي الله تعالى عنها قالت: إنها كانت تحت سعد بن خولة؛ أي كانت زوجة عنده، كانت زوجة عند سعد بن خولة -رضي الله تعالى عنه- وفي الحديث، وهو من بني عامر بن لؤي، وهو بدريٌّ؛ أي شهد بدرا، تُوفِّيَ عنها، ونُقل الاتفاقُ على ذلك أنه توفي في حجة الوداع كما نَقَلَ ذلك ابن عبد البر، وبعضهم قال: بل مات مقتولا عنها، المهم أنه -رضي الله تعالى عنه- مات عن زوجة حامل، فلم تنشب؛ أي لم تلبث، أو لم يدم وقتٌ طويلٌ، أو لم يستمر زمانٌ طويلٌ حتى وضعت حملَها.
في بعض الروايات ورد أنها -رضي الله تعالى عنها- مكثت قريبا من عشر ليالٍ، وفي بعض الروايات أنها بقيت ثلاثا وعشرين ليلة ثم وضعت، وفي بعض الروايات أربعين، وأكثر الروايات تصريحا ذكرت أنها بقيت قرابة شهرين ثم وضعت ما في بطنها؛ أي أنها -رضي الله تعالى عنها- لم تبلغ مدة أربعة أشهر وعشر ووضعت حملها.
فلما تَعَلَّتْ من نفساها؛ أي لما طَهُرَتْ من نفاسها؛ تجملت للخطاب، لما ارتفع دم النفاس النفاس، وطهرت من دم النفاس بعد الولادة؛ تزينت بناءً على علمها أنه يجوز أن تنكح؛ لأنها بوضع ما في بطنها قد خرجت من عدتها.
دخل عليها أبو السنابل بن بعكك، قيل: إن اسمه عمرو، وقيل: عامر، وقيل: عبد الله في أسماء اختلف فيها الشراح كثيرًا، وهو في النهاية رجلٌ من بني عبد الدار رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(1/6)
فلما رآها متجملة؛ سألها سؤالَ المنكِر: ما لي أراكِ متجملةً؟! لعلك ترجين النكاح، والله ما أنت بناكح حتى تمر عليكِ أربعة أشهر وعشر. ورد في الصحيح أن أبا السنابل -رضي الله عنه- خطبها لنفسه؛ فأبت أن تنكحه، فقال: والله ما يصلح أن تنكحي حتى تعتدي آخر الأجليْن؛ أي أبعد الأجلين. وقع في رواية أخرى أنه قال أو في الحديث: فرغبت إلى شابٍّ خطبها؛ أي غير أبي السنابل رضي الله تعالى عنه.
أبو السنابل أقسم –هنا- على أنه لا يحل لها أن تنكح حتى يمر عليها أربعة أشهر وعشر. هذه القطعة من الحديث يمكن أن نستفيد منها بعض الفوائد المهمة:
أولا: ممارسة الصحابة -رضي الله عنه- للفُتيا في حياة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لأن هذا كان في حجة الوداع، والرجل أفتى هذه المرأة بهذه الفتيا بناءً على ما انتهى إليه علمه، ثم إنه أكد هذا الأمر فحلف على هذه الفتيا؛ قال: "والله ما أنت بناكح حتى تمر عليكِ أربعة أشهر وعشر".
إذن يجوز الحلف على الفتيا من المفتي إذا كان متوثقا مما يقول، وقد ورد في بعض روايات هذا الحديث أنه عَرَضَ عليها نفسه، أو أنه خطبها إلى نفسه، ونحو ذلك؛ فأبت، وهذا يدلك على أن المرأة الثيب لا تُجبر على نكاح لا ترضاه، وإنما أجابت شابا غيره.
فهذه جملة فوائد تتعلق بهذه القطعة من الحديث: جواز الحلف على الفتيا، فتيا الصحابة بحضرة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وفي حياته، أن الثيب لا تجبر على نكاح لا ترضاه.(1/7)
لما قال ذلك أبو السنابل؛ ألقى في نفسها رِيْبَةً، قالت: فجمعت عليَّ ثيابي، جمعت عليها ثيابها؛ أي لبست الثياب التي ستخرج بها إلى الطريق، ثم قالت: حين أمسيت فأتيت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-. وهذا يدلك على أن سُبَيْعَة -رضي الله عنها- كانت تتصف بالحزم، وكان فيها من الفطانة، والحصافة؛ فإنها لما ألقى في نفسها شكًّا مما تعلم؛ أرادت أن تتثبت، وطلبت -في هذه الفتيا الأعلمَ-، فتَوَجَّهت جهةَ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهذا يدلك على أنه يجوز للمستفتي إذا وقع في نفسه شيء من فتوى مفتيه أن يراجع غيره، وأن يراجع الأعلم والأوثق في نفسه علما وديانة، وأنه لا يجب عليه أن يُسَلِّمَ بكل ما سمع، وأن يقبل كل ما بلغه، وأنه لا حرج عليه في أن يستوثق لدينه. فجواز الرجوع إلى الأعلم عند وجود ما يدعو إلى عدم الثقة بالفتيا سُنَّةٌ مَرْضِيَّة، ثم إن مشروعية السؤال عن العلم ولو تضمن ذلك بعض ما يُسْتَحْيى منه؛ فإن المرأة ما لبثت أو ما نشبت حتى وضعت، ثم تزينت، وتجملت، وخطبها رجل؛ فأبت، ثم خطبها آخر؛ فأجابت، ثم قيل لها: لا يحل لك نكاحٌ حتى تمر عليكِ أربعة أشهر وعشرٌ.
جاءت تسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي هذا بعض ما قد تستحي النساءُ منه، وهذا يدلك على ما كانت عليه سُبَيْعَة -رضي الله عنها- من العلم، والفهم، وحسن التَّأَتِّي في الأمور رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
أتت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم عرضت عليه ما قال أبو السنابل؛ فكان فتيا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لها بأنها قد حلت للخطاب، وهكذا عند وقوع التنازع في أمر؛ فإن الرد إلى نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- وإلى سنته بعد مماته -صلى الله عليه وآله وسلم-.(1/8)
وسُبَيْعَةُ -رضي الله عنها- قالت: فجمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، فذهبت إلى رسول الله؛ هذا يدل على جواز خروج المرأة ليلا لحاجتها إذا أُمِنَ طريقُها، وأمنت الفتنة بخروجها، ولعلها اصطحبت معها من يؤنسها في طريقها.
المهم أننا نقول: إن هذا مما يشهد لجواز خروج المرأة ليلا لحاجتها إذا أمنت طريقها، وانتفت الفتنة من خروجها، ثم إن المسألة الأساس في هذا الحديث هي كما قلنا عدة الحامل إذا مات عنها زوجها.
هذه المسألة الخلاف فيها بين جماهير أهل العلم، وبين بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وبعض التابعين، وبعض الفقهاء من المالكية، وقد نُقِلَ عن بعض هؤلاء الذين قالوا بالقول الثاني نُقِلَ رجوعهم عنه. لكننا نحاول أن نلقي بعض الضوء على هذا الخلاف الفقهي.
ذهب جماهير أهل العلم سلفا وخلفا أن المرأة الحامل إذا مات عنها زوجها؛ فإنها تعتد بوضع حملها.
وأما القول الثاني؛ فإنها تعتد بأبعد الأجلين بآخر الأجلين؛ إما أن تضع حملها، أو أن تمضي أربعة أشهر وعشرا.
إذا كانت المرأة مضى عليها أربعة أشهر وعشر ولم تضع حملها؛ فهل تكون بذلك قد حلت؟
لا تحل
لا تحل، على قوليْ أهل العلم، وهذه من مسائل التي اتُّفِقَ عليها أنها إن بلغت أربعة أشهر وعشرا؛ فلم تضع ما في بطنها فهي في عدتها، وعدتها أن تضع حملها.
لكن أين الخلاف فيما لو وضعت قبل الأربعة أشهر وعشر؟
فمن أهل العلم من قال: إنها تعتد بأبعد الأجلين؛ إما وضع الحمل، أو الأربعة أشهر وعشر. فلو وضعت قبل ذلك؛ فإنها تتربص أربعة أشهر وعشرا.
لكن الأولين ماذا قالوا؟
قالوا: إن هذه المرأة لو وضعت حملها؛ فقد خرجت من عدتها، وحلت لخطابها، ولو كان ذلك عشية أن مات زوجها، يعني لو أن زوجها مات في أول النهار فوضعت حملها آخرها؛ فإنها بذلك تكون قد حَلَّت لخطابها، وجاز لها زواجُها، ولم يكن لها من عدة إلا هذا اليوم، أو هذه الساعات اليسيرات، وقد برئت من زوجها الأول، ومن عدة المتوفى عنها.(1/9)
نرى أن هذا القول منقول عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهو إحدى الروايتين عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وهو قول أبي السنابل قبل أن يردَّ عليه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذه الفتيا، وهو منقول عن بعض التابعين، وبعض المالكية. وعلى كل حال نعتني بذكر الأدلة التي ساقها العلماء، ونعتني بمعرفة سبب الخلاف.
سبب الخلاف هو التعارض بين عمومين، ما هما هذان العمومان؟
عموم آية البقرة، وعموم آية الطلاق، فأنت ترى أن الآية في سورة البقرة: ?وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا? [البقرة: 234]؛ فهذه الآية عامة فيمن؟!
عامة في كل من تُوفي عنها زوجها، عامة في كل من توفي عنها زوجها.
والآية الأخرى: ?وَأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ? [الطلاق: 4] عامة في ماذا؟!
في المرأة الحامل سواء كانت هذه الحامل ممن توفي عنها زوجها أو لم تكن كذلك، سواء كانت مطلقة طلاقا رجعيا، أو كانت مطلقة طلاقا بائنا.
فهنا تعارض العمومان؛ فماذا نفعل؟
يقولون: الجمع أولى من الترجيح، وإعمال الكلام أولى من إهماله، فمال من مال إلى أن يقول بأننا نُعْمِلُ هذه الآية وتلك؛ كيف نعمل هذه وتلك؟!
قالوا: إن هذه الآية: ?وَأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ? تعمل معنا في الحامل التي طلقت، فمتى وضعت حملها؛ فقد برئت من زواجها الأول، وانقضت عدتها، وإن كانت هذه الحامل قد توفي عنها زوجها؛ فإننا نقول: إما أن تبرأ من حملها بعد أربعة أشهر وعشر، وهذا لا خلاف فيه، ولا إشكال، لكنها إن برئت قبل ذلك؛ فإنها تعتد بأبعد الأجلين، وحملوا الآية الأولى = آية البقرة على عمومها؛ أي على المرأة الحائل التي توفي عنها زوجها؛ فإنها تعتد أربعة أشهر وعشرا.(1/10)
هذا في الحقيقة كلام يتجه، ويُقبل، ولا حرج فيه إذا لم يكن قد ورد عندنا حديث سُبَيْعَة؛ لأن حديث سُبَيْعَة قضى على هذا التفكير الفقهيِّ الصحيح، هذا تفكير فقهيٌّ صحيح، لكن حديث سُبَيْعَة كان كالنص في هذه المسألة؛ فصار هذا الحديث عمدةً في بيان أن الحامل مطلقا إذا وضعت حملها؛ فإنها تكون بذلك قد خرجت من عدتها.
استدل الجمهور بقول الله تعالى: ?وَأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ? قالوا: هذه الآية أولا عامة، وهي متأخرة في النزول عن آية البقرة أم متقدمة؟
آية الطلاق متأخرة عن سورة البقرة بسبع سنين، ثم إن التربص بهذه الأربعة أشهر وعشر في غير الحامل.
لماذا؟
لأن الإجماع على أنه لو تمادى الحمل بها فوق هذا المقدار أنها لا تحل حتى تضع ما في بطنها؛ فهذا إجماع هنا حتى على كلا القولين.
بان من هذا أن العموم الموجود في آية البقرة عمومٌ مخصوص، وأن عموم آية الطلاق عموم محفوظٌ. عموم آية البقرة عموم دخله التخصيص؛ لماذا؟
لأننا استثنينا من هؤلاء النسوة اللائي مات عنهن أزواجهن استثنينا منهن الحامل؛ فقلنا الحامل منهن تضع حملها، وتخرج من عدتها، ولا يلزم أن تتربص أربعة أشهر وعشرا، فمتى وضعت ما في بطنها؛ فقد انقضت عدتها، وأما آية سورة الطلاق؛ فهي باقية على عمومها.
واستدلوا من السنة بحديث الباب الذي قرأناه، وهو -كما قلنا- نصٌّ في هذه المسألة، ولا مَسَاغَ لأحدٍ أن يعدلَ عن هذا النص مع ما عَاضَدَه وظاهره من ظاهر كتاب الله –تعالى- والروايات في هذا الحديث روايات كثيرة صحيحة في البخاري ومسلم، أو فيهما معا، وفي غيرهما من كتب السنن. ومن ذلك حديث المسور بن مخرمة -رضي الله تعالى عنه- أن سُبَيْعَة الأسلمية نَفَسَتْ بعد وفاة زوجها بليالٍ فجاءت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فاستأذنته أن تنكح؛ فأذن لها.(1/11)
إذن هذا واضح في دلالته على أن المرأة الحامل إذا مات عنها زوجها فوضعت حملها قريبا أنها تخرج بذلك من عدتها، وهذا ما فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه.
ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "من شاء؛ لاعنته أن الآية في سورة النساء القُصْرَى نزلت بعد سورة البقرة بعد كذا وكذا شهرا"، وفي بعض الرواية أنها نزلت بعدها بأربعة عشر شهرا، وفي بعض الروايات بأكثر من ذلك حتى بلغت -كما قلنا- سبع سنين، وقال ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: "إنها –أي: آية الطلاق- نَسَخَتْ ما في البقرة" والنسخ هنا ما معناه؟
التخصيص
معنى النسخ هنا التخصيص الذي هو تمييز بعض الجملة بحكم يخص هذه الجملة.
وهم أيضا ذهبوا إلى دعم هذا المذهب بالمعقول، فهم لم يعولوا فقط على الكتاب، وعلى دلالة السنة، وإنما دعموا ما قالوا بالمعقول؛ فقالوا: هذه معتدة حامل فتنقضي عدتها بوضعها قياسا على من؟
قالوا: قياسا على المطلقة.
كيف نحقق هذا القياس؟
قالوا: يحقق هذا القياس أن العدة إنما شرعت لأجل استبراء الرحم، لمعرفة براءة رحم هذه المرأة، وأدل شيء على حصول براءة الرحم وَضْعُ ما في بطنها، وضع ما في رحمها، وضع هذا الحمل.
فوجب أن تنقضي العدة به؛ لأن به تمامَ العلم ببراءة الرحم، وهم -كما تعلمون- متفقون غيرُ مختلفين على بقاء العدة ببقاء الحمل؛ فوجب أن تنقضي العدة بوضعه متى كان الوضع، هم متفقون على بقاء العدة ببقاء الحمل، ولو زادت عن أربعة أشهر؛ فوجب أن يقولوا بأنه متى ما وضعت ما في بطنها؛ فإن ذلك يعني خروجها من عدتها، ولهذا ابن مسعود -رضي الله عنه- يعجب من هؤلاء فيقول: "أتجعلون عليها التغليظ، ولا تجعلون لها الرخصة؟! لأُنْزِلَتْ سورةُ النساء القُصْرى بعد الطُّولى": في أنها لو زاد حملها وبقي في بطنها عن أربعة أشهر وعشر أنها تبقى عدتها إلى أن تضع، ولو زاد هذا عن أربعة أشهر وعشر، ولكن إذا وضعت لا تجعلون لها الرخصة.
ما هي الطولى؟(1/12)
سورة البقرة، المقصود بها هنا البقرة.
بم استدل الذين قالوا إنها تعتد بأبعد الأجلين؟
بالقياس الذي شرحناه آنفا؛ فقالوا: إن إعمال الكلام أولى من إهماله، وإننا يُمكن أن نُعمل هذه على وجه، وأن نعمل تلك على وجه، والجمع -كما قلنا- أولى من الترجيح إلى آخر هذا الكلام.
هذا يعارضه بأن صريح السنة قد دَلَّ على اعتبار وضع الحمل فقط، ولم يدل على اعتبار شيء آخر في حق المتوفى عنها زوجها، ولهذا قال القرطبي -رحمه الله تعالى-: "والجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول" وهذا نظر حسن لولا ما يُعَكِّرُ عليه من حديث سُبَيْعَة الأسلمية، وابن عبد البر قال مثل هذا الكلام، ولولا حديث سُبَيْعَة الأسلمية -رضي الله تعالى عنها-؛ لكان القول ما قال علي وابن عباس؛ لأنهما عِدَّتان مجتمعتان بصيغتيْن، وقد اجتمعتا في الحامل المتوفى عنها زوجها؛ فلا تخرج من عدتها إلا بيقين، واليقين أبعد الأجلين. لو لم يكن عندنا هذا النص الوارد في حق سُبَيْعَة؛ لكان القول قولَ الذين ذهبوا إلى أنها تعتدُّ بأبعد الأجلين.
طبعا الراجح هو مذهب الجمهور؛ لقوة أدلته، وقد ثبت رجوع ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- عن هذا القول، وكذا رجوع أبي السنابل في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم.
هل للحمل الذي يُوضع شروطٌ حتى نقول بانقضاء العدة؟
قالوا: نعم، هناك شروط ثلاثة في الحمل.
ما هي هذه الشروط؟
قالوا:
الشرط الأول: أن ينفصل جميع الولد سواء كان الولد واحدا، أو كان توأما أو كان أكثر من ذلك.
الشرط الثاني: أن يمكن أن يُنسب هذا الولد إلى الميت ولو احتمالا.
فلو أن هذه المرأة جاءت بولد من زوجها لأقلَّ من ستة أشهر من زواجها به؛ فهل يمكن أن ينسب إلى هذا الميت؟
لا يُنسب إلى هذا الميت.
أو لو كان زوجها صغيرا لا يطأ مثله، فجاءت وهي حبلى بوفاته؛ فهل يُنسب هذا الولد إلى ذلك الصغير الذي مات؟
لا.(1/13)
إذن في مثل هذه الحالة لا تعتد بوضع الحمل؛ لأننا نقول: إن هذا الحمل ليس من زوجها، أو لا يثبت نسب هذا الولد إلى زوجها، لو أنها حملت فألقت شيئا لا يتبين فيه خلقُ إنسان؛ كأنها أسقطت شيئا لا يَتَبَيَّنُ الناظر فيه خلقَ الإنسان؛ فهل يعتبر بذلك ما ألقت وضعا للحمل الذي به تبرأ؟!
أكثر العلماء على أنها لا تحل بذلك، ويلزمها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر؛ لأنها لم تضع هذا الحمل.
إذن هذه شروط ثلاثة حتى نقول بأنها إذا وضعت حملها؛ فقد انقضت عدتها:
1- أن تأتي به جميعا، أو أن ينفصل الولد جميعا واحدا كان أو أكثر.
2- أن يمكن نسب هذا الولد إلى ذلك الزوج الذي توفي ولو احتمالا.
3- أن يُتَبَيَّنَ فيما ألقت مبادئ خلق الإنسان.
بهذا نكون قد أتينا على هذه المسألة. وبما أننا في باب العدة، وأن الشيخ سينقلنا بعد قليل إلى باب الإحداد؛ فإننا نذكر ولو بشيء من الاختصار الأحكام المتعلقة بالعدة، ما هي الأحكام التي تتعلق بالعدة؟!
الأحكام كثيرة لكننا ننبه إلى أهمها بشيء من الاختصار؛ لأن الوقت يوشك أن ينتهي:
أول هذه الأحكام: حرمة نكاح المعتدة.
المعتدة إما أن تكون معتدة من طلاق، أو من وفاة، أو من نكاح فاسد، أو من فُرقة فَرَّقَ فيها القاضي بينهما، أو من وطء بشبهة، أو من وطء سيد، أو من وطء زنا والعياذ بالله.
أو مأخوذة من بنات الكفار في الحرب
نعم، أو مَسْبِيَّة مأخوذة من بلاد غير المسلمين بسبب السبي، فهذه لا بد أن تعتد؛ فهل يجوز نكاح معتدة في عدتها؟
الأصل أنه لا يجوز نكاح المعتدة سواء كانت هذه المعتدة، معتدة من طلاق رجعي.
لماذا؟
لأنها زوجة، أو كانت من طلاق بائن؛ لتعلق حق مطلقها بها في هذه الفترة. إذن المعتدة لا يجوز نكاحها.
إلا في حالة الرجعية؛ فيجوز أن يُرْجِعَها زوجها إليه بفعل، أو بقول، فإن نوى بالفعل إرجاعها، فجامعها مثلا؛ فإن ذلك يُعد رجعة عند الحنابلة والحنفية.
هذه المعتدة هل يجوز التصريح بخطبة امرأة معتدة؟(1/14)
هل يجوز التعريض بخطبتها؟
نعم، من المعتدات من لا يجوز التصريح ولا التعريض؛ لأننا قلنا: إن الرجعية، أو المعتدة من طلاق رجعي زوجة فيحرم؛ لأنها زوجة غيرك، والله تعالى قال: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ? [النساء: 24]، فهذه محصنة، وهي مزوجة من رجل آخر، ولم يَنْبَتّ ما بينهما من الصلة، أو من العقد.
لكن التي توفي عنها زوجها هل يجوز التصريح لها أم يجوز التعريض؟
يجوز التعريض.
ما الدليل على جواز التعريض؟
?وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ? [البقرة: 235]
أكمل.
? عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ?
إذن هذه الآية تدل على جواز التعريض للتي توفي عنها زوجها، وقاس بعض العلماء على المتوفى عنها زوجها البائن.
إذن التي انقضى حق زوجها عليها بموته، أو بفراقها فراقا بائنا لا يجوز التصريح لها، وإنما يجوز التعريض.
ما مثال التعريض؟
أن يقول لها: إذا حللت فآذنيني، أو فأعلميني، أو مِثْلُكِ لا يُرغب عنه، أو عبارة نحو هذا. فإذا قال مثل هذا الكلمة؛ فقد عرض برغبته فيها. إذن، المحدة والمعتدة من وفاة يجوز التعريض لها دون التصريح بالخطبة.
ويجب عليها أن تقيم في بيت زوجها سواء كانت معتدة من طلاق، أو كانت معتدة وفاة، وما الدليل على وجوب أن تعتد المرأة في بيتها الذي طُلقت فيه؟
قول الله –تعالى- من سورة الطلاق: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ? [الطلاق: 1].(1/15)
إذن هذا يمنع الرجل ويمنع المرأة من الخروج حال العدة من بيت الزوجية.
المعتدة هل لها النفقة؟ لها السكنى؟ ليس لها نفقة ولا سكنى؟ لها السكنى دون النفقة؟ ما رأيكم؟
المعتدة لا تخلو من أن تكون رجعية، أو معتدة من طلاق بائن، أو معتدة من وفاة.
المطلقة طلاقا رجعيا، وهي في عدة الطلاق الرجعي؛ ماذا لها؟
لها النفقة والسكنى بغير خلاف بين أهل العلم.
والمعتدة من وفاة ماذا لها؟
لها السكنى، المعتدة من وفاة لها السكنى.
والمعتدة من طلاق بائن ماذا لها؟
اختلف الفقهاء على ثلاثة أقوال:
فالحنابلة: لا يجعلون لها شيئا، لا نفقة ولا سكنى.
والحنفية: يجعلون لها النفقة والسكنى.
والشافعية: يعطونها السكنى دون النفقة.
وقد رجحنا من قبل قول من قال بأن لا شيءَ لها. المعتدة من طلاق بائن ليس لها شيء للحديث الذي شرحناه حديث فاطمة بنت قيس -رضي الله تعالى عنها.
بقي أن نقول: من الأحكام ثبوت النسب من الولد الذي تأتي به في الحد الأقصى لمدة الحمل من وقت طلاق من طلقها، أو من وقت موت من مات عنها؛ فيثبت نسبه، ولا ينتفي عنه إلا باللعان سواء أقرت هذه المعتدة بانقضاء عدتها أم لم تقر على تفاصيلَ يُرجع لها في كتب الفقه.
بهذا نكون قد أتينا على المهم من شرح حديث سُبَيْعَة الأسلمية -رضي الله تعالى عنها- في بيان عدة الحامل التي تُوفي عنها زوجها، وبهذا نختم لننتقل بعد ذلك إلى إجابة على أسئلة الدرس الماضي، وأيضا إلقاء سؤالي هذا الدرس إن شاء الله تعالى.
بالنسبة لسؤاليْ الحلقة السابقة كان السؤال الأول:
بينْ الراجح من أقوال العلماء في وقوع الطلاق الثلاث ثلاثا.
يقول: اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- في وقوع الطلاق الثلاث ثلاثا:(1/16)
فذهب الظاهرية وبعض الزيدية أنه لا يقع منها شيء، وذهب ابن عباس أنه يفرق بين المدخول بها وغير المدخول بها؛ فالمدخول بها يقع الطلاق ثلاثا، وغير المدخول بها لا يقع إلا واحدة، وذهب طاوس، وابن تيمية، والذي انتصر ابن القيم أنه يقع منها واحدة فقط، واستدلوا بحديث ركانة، وقول الله تعالى: ? الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ ? [البقرة: 229]؛ أي مرة بعد مرة.
بَقِيَ القول الأشهر، والأذكر، والذي عليه الجمهور، وهو وقوع الطلاق الثلاث ثلاثا الذي عليه الأئمة الأربعة، وجماهير أهل العلم سلفا وخلفا هو أن هذا الطلاق الثلاث يقع ثلاثا، واستدلوا فيه بأدلة كثيرة سقناها ومن أشهرها الإجماع الذي ادعوه في عهد عمر -رضي الله تعالى عنه- لما كان الطلاق الثلاث في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي عهد أبي بكر، وفي سنتين من عهد عمر، أو في صدر خلافة عمر -رضي الله تعالى عنه- كان الطلاق الثلاث يقعن واحدة، ولما رأي عمر أن الناس اجترأوا على هذا الأمر الذي كان لهم فيه أناة؛ قال: لو أمضيناه عليهم ثلاثا فأمضاه عليهم ثلاثا، وذكرنا الأدلة ووازنا بينها، وانتهينا إلى أن اختيار ما مال إليه جماعة من المحققين، والذي انتصر له شيخ الإسلام -عليه رحمة الله- وعليه كثير من المعاصرين اليوم.
في هذه الحلقة سؤالان:
السؤال الأول:
عرف العدة لغة واصطلاحا، وبين حكمة مشروعيتها، واذكر أنواعها.
السؤال الثاني:
اذكر الراجح في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها.(1/17)
الحديث - المستوى السادس
الدرس الرابع والعشرون - باب تحريم إحداد المرأة أكثر من ثلاثة إلا على زوج
فضيلة الشيخ/ د. محمد بن يسري بن إبراهيم
باب تحريم إحداد المرأة أكثر من ثلاثة إلا على زوج
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اتبع هداه، الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة! سلام الله عليكم ورحمته -تعالى- وبركاته، ويتجددُ اللقاء معكم في هذا الدرس الذي هو آخر دروس هذه الدورة، التي نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يتقبل منا ومنكم فيها الصالحات، وأن يتجاوز لنا ولكم فيها عن الزلات، وأن يجعل هذا العمل صالحًا ولوجهه الكريم خالصًا إنه جواد كريم بر رؤوف رحيم.
كنا قد تناولنا في لقائنا الماضي الكلام على باب العدد، ثم إننا ننتقل إلى الكلام على باب الإحداد؛ لنختم بذلك هذا الباب، ونكون قد توقفنا عند أوّل كتاب اللعان.
في هذا الدرس ثلاثةُ أحاديث سنحاول أن نمرَّ عليها بشيء من الاختصار؛ حتى نتمكن من التعرض لجلّ معانيها بإذن الله -تعالى- ونسأل الله -جل وعلا- لنا ولكم التوفيق والسداد. (قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
(باب تحريم إحداد المرأة أكثر من ثلاثة إلا على زوج
عن زينب بنت أم سلمة قالت: تُوفي حميم لأم حبيبة فدعت بصُفرة فمسحت بذراعيها فقالت: إنما أصنع هذا لأني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا يَحِلُّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أنْ تَحِدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا)).
الإحداد في اللغة، أو الحدّ في اللغة هو الحاجز بين الشيئين، ويُطلق أيضًا على منتهاه، ويطلق الحد أيضًا على المنع، ولذلك قيل للبواب والحارث والسجَّان ومن يقف على الباب دائمًا حَدَّادًا، الذي يعنينا أننا حين نقول: أَحَدَّت المرأة؛ أي لبست الحِداد.
وما هي هذه اللبسة؟(1/1)
هي ثياب المأتم السوداء، إذن الحِداد هو ثياب المأتم السود، ويقال عن المرأة مُحِّد، ويقال عنها حادّ أيضًا، من أَحَدَّت فهي مُحِد.
والإحداد في الشريعة هو: ترك المرأة لزينتها مدةً معلومةً بعد وفاة زوجها، وقد يُقال بشيء من التفصيل:
الإحِداد: اجتناب المرأة ما يدعو إلى جماعها أو نكاحها، وما يرغب في النظر إليها، ويحسنها في أعين الرجال من زينة وطيب، ونحو ذلك.
المقصود امتناع المعتدة من وفاة زوجها من الزينة ونحوها مدةً معلومة هي هذه الأربعة أشهر وعشر التي نصَّ عليها كتاب ربنا -جل وعلا-. وهذا رعاية لحق ذلك الزوج، ودفعًا لتشوف غيره من الخطاب إليها في هذه الفترة.
إذن الإحِداد فيه تعظيم لحق هذا النكاح، ولحق هذا الزوج الذي مات عن هذه المرأة، فيه استبراء رحم هذه المرأة، فيه إظهار الحزن على فوات النكاح، وفوات مقاصده التي كانت فيها تلك المرأة. والنكاح نعمة في الدين، نعمة في الدنيا، نعمة في الدين والدنيا؛ فإن المرأة التي تزوجت قد كُفيت مؤْنة نفسها، فزوجها ينفق عليها، وقد وُجد من يقوم على إعفافها وهو زوجها، ومن يرعى مصالحها، ويقوم على تأديبها وتربيتها وتعليمها، فهذه نعمة تستوجب الشكر، وفقدها يستوجب إظهار الحزن.
ثم إن هذه العدة أو هذه الحالة = حالة إحداد للمرأة في عدتها كحال تلك المحرمة التي امتنعت من مباحات كثيرة لأجل هذه الحال = حال الإحرام؛ فكذا هذه المُحِد أو هذه الحاد تكون على هذه الحالة.
الحديث الذي معنا حديث زينب بنت أبي سلمة وأم سلمة -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- زينب هذه ربيبة رسول الله -صلى الله عليه وآله ومن والاه- وهي التي وُلدت في الحبشة من أم سلمة وأبي سلمة هي وأخوها عمر. وهي أيضًا -رضي الله تعالى عنها- بنت أخي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة، روت عن جماعة من أمهات المؤمنين، وروى عنها طائفة من التابعين وأخذوا العلم عنها وتوفيت -رضي الله عنها- سنة أربع وسبعين.(1/2)
هذا الحديث فيه أن أم حبيبة -رضي الله عنها- تُوفي أبوها أبو سفيان -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- فدعتْ أم حبيبة بعد وفاة أبيها بشيء من طيب فمسَّت منه، ومعلوم أن أهل الجاهلية كانوا يُبالغون في الحزن على الآباء وعلى الأزواج مبالغةً شديدة. لكنها -رضي الله تعالى عنها- لما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث)؛ أي فوق ثلاث ليال (إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا)؛ فإنها فعلت ذلك لتظهر جانب الامتثال، ولتعلم من حضر بحضرتها أن هذه هي سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يُحَدُّ على ميت فوق ثلاث، وفي بضع روايات الحديث عند مسلم: "أنها عند ثالثة فعلت هذا" يعني لَمَّا بلغت اليوم الثالث؛ أمرت بطيب فيه صفرة فمست منه -رضي الله عنها- وفي رواية: "أنها دهنت لجارية من هذا الطيب، ثم مست عارضيها بشيء من هذا الطيب" على ما سيأتي تفصيله في هذا الحديث.
الحميم هو من؟
هو القريب الذي يقترب من الإنسان بصلةٍ شديدة، وقد صُرِّحَ باسمه -رضي الله تعالى عنه- في بعض الروايات الأخرى، فكان هذا الحميمُ هو أبا سفيان بن حرب -رضي الله تعالى عنه- والحديث من رواية زينب أنها قالت: "دخلت على أم حبيبة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- حين توفي أبو سفيان بن حرب فدعت بطيب" إذن هذه الرواية الثانية مُصَرِّحَة باسمه رضي الله تعالى عنه.
في الرواية هذه: (فدعت بصفرة فمسحت بذراعيه) المقصود أنها دعت بطيب فيه صفرة، والصفرة تكون من أثرِ زعفران أو من أثر ورْس أو من أثر عُصْفُر ونحو ذلك مما له لون الأصفر، فهي دعت بطيب يظهر لونه، وهذا شأن طيب النساء، أن طيب النساء مما يظهر لونه ويخفى ريحه.(1/3)
مست بذراعيها، أو مسحت ذراعيها -رضي الله تعالى عنها- في الرواية الأخرى: "أنها دهنت جارية من هذا الطيب ثم مست عارضيها" -رضي الله تعالى عنها- ولماذا مسحت الذراعين والعارضين؟ لأنهما أظهر ما يبدو من المرأة، وحين تمس العارضين أو تمس الذراعين فهذا إظهار منها لامتثال أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وفي بعض الروايات قالت: "أما إنه ليس لي بالطيب حاجة" لكنها فعلت ذلك لتظهر الامتثال، ولتُعلِّم النساء، وهذا كان شأنها، وكان شأن بقية أمهات المؤمنين، فهذه زينب بنت جحش أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- زينب بنت جحش أم المؤمنين لما مات أخوها؛ فعلت كما فعلت أم حبيبة، وقالت نفس العبارة التي قالتها أم حبيبة، هذا لأنهن يُرِدْن إظهار السنة وتعليم النساء؛ لأنهن القدوات لنساء المؤمنين في كل زمان ومكان، فعمدنا إلى شيء من طيبهن فمسسن منه.
قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا يحل) استدل بقوله (لا يحل) تحريم الإحداد فوق الثلاث على ذي محرم إلا على زوج، واستُدل به أيضًا على وجوب الإحداد على الزوج المدة المذكورة، أربعة أشهر وعشرا؛ لأنه وقع الاستثناء، وعامة أهل العلم ذهبوا إلى وجوب إحداد المرأة على زوجها إلا نفرًا يسيرًا، ولعله لا يتحقق هذا إلا في الحسن البصري -رحمه الله تعالى- ونقل هذا أيضًا عن غيره، لكن أشهر من قال به هو الحسن البصري هو منقول عن الشعبي والحكم وغير هؤلاء، لكن قول الحسن كان الأشهر. الحسن -رحمه الله تعالى- ذهب إلى أنه لا يجب هذا الإحداد، وستأتي معنا حجته.
في هذا الحديث ادُعِيَ الإجماع للتصريح بالوجوب، لكن يعكر على هذا الإجماع مخالفة الحسن البصري -رحمه الله تعالى- ومن صار في ركابه، وإلا؛ فقد يقال إنه مسبوق بإجماع الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ولهذا ابن قدامة وغيره صرح بأن هذه المسألة من المسائل التي لا ينبغي أن يقع فيها خلاف.(1/4)
الذين خالفوا خالفوا متأوِّلين، وهكذا أكثر الخلاف الشاذّ إنما يأتي من جهة إما عدم العلم بالدليل، أو من جهة شيء من التأويل.
في حديث أسماء بنت عميس -رضي الله تعالى عنها- قالت: "دخل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- اليوم الثالث من قتل جعفر" أسماء كانت زوج جعفر -رضي الله تعالى عنه- فقال لها -عليه الصلاة والسلام-: (لا تُحدِّي بعد يومكِ هذا) وفي رواية قال لها: (تَسَكَّني ثلاثًا، ثم اصنعي ما شئتِِ).
المخالفون نظروا إلى هذه الروايات؛ فقالوا: هذه الأحاديث نسخت أحاديث الباب، قالوا لماذا؟ لأن موت جعفر متأخر، والروايات التي ذكر فيها وفاة مثلاً أبي سلمة أو وفاة أبي سفيان أو وفاة هؤلاء هذه روايات متقدمة.
أجاب الجمهور بأن هذه الروايات غير صحيحة، فهي ضعيفة من أكثر من جهة، فهي من جهة وقع فيها التصريح بعدم سماع بعض الرواة من بعض، يعني عبد الله بن شداد هذا قالوا: إنه لم يسمع من أسماء -رضي الله تعالى عنها- ومع هذا وقع الشذوذ؛ لأن هذه الأحاديث أحاديث خالفت الصحيح الصريح الظاهر البين الدلالة المتفق عليه، وهي أحاديث كثيرة. فلذلك الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أعلَّ هذه الأحاديث بالشذوذ لمخالفتها للصحيح الصريح من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثم إنهم حملوا النهي الموجود في هذا الحديث: (لا تحدِّي) على المبالغة أو على الجلوس للعزاء وللتعزية، فقالوا: قوله -صلى الله عليه وسلم- لها: (لا تحدِّي بعد يومكِ هذا)؛ أي لا تجلسي لعزاء ولا تبالغي في إحداد.
قال بعض أهل العلم: ويحتمل أنها كانت حاملاً فوضعت، يحتمل أنها كانت حاملاً فوضعت حملها بعد ثلاث فخرجت من عدتها، فقال لها: (لا تحدِّي)؛ لأنها بهذا صارت حاملاً ووضعت ما في بطنها فحلت بذلك وخرجت من عدتها.(1/5)
وقال بعضهم: بل طلقها قبل أن يُستشهد -رضي الله تعالى عنه- طلقها قبل أن يقتل؛ فلم يكن عليها إحداد. وعلى كل حال على فرض التعارض وعدم إمكان الجمع بين هذه المرويات؛ فالأحاديث التي تُثبت الإحداد الواجب أقوى من جهة إسنادها، وأقوى من جهة دلالتها؛ فتقدم على ما سواها مما عارضها.
ولهذا قال ابن المنذر -رحمه الله تعالى- وهو يتعرض لخلافِ الحسن البصري يقول: "كان الحسن من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد، وقد ثبتت الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإحداد، وليس لأحد بلغته هذه الأخبار إلا التسليم، ولعل الحسن لم تبلغه".
هذا من اعتذار أهل العلم بعضهم عن بعض؛ فقال: "لعل الحسن لم تبلغه هذه الأخبار، أو بلغته فتأولها بحديث أسماء"؛ أي وجد أن ثمة تعارض، فتأول هذا على عدم الوجوب، وحمل ذلك على الاستحباب.
الراجح الصحيح الصريح هو أن الإحداد على القريب الميت جائز بالإجماع، فيما لا يزيد على ثلاثة أيام، وأنَّ إحداد المرأة على زوجها واجبٌ أربعة أشهر وعشرًا إذا كانت حائلاً، وأما إذا كانت حاملاً؛ فعدتها بوضع حملها مطلقًا.
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَحِلّ) تناولنا شرحها. (لامرأة) امرأة هذا يطلق على الكبيرة دون الصغيرة، ولذا تمسك الحنفية بمفهوم هذه اللفظة، فقالوا بأنه لا إحداد على الصغيرة، وتمسك الجمهور بأن هذا عام في كل من توفي عنها زوجها، والآية عامة؛ فلا يُصار إلى هذا من غير دليل، فقوله –تعالى- في ذكر عدة من مات وخلف زوجه لا يتناول كبيرة دون الصغيرة، ولا حرة دون الأمة، ولا كذا دون كذا، بل الصغيرة كالكبيرة في هذا، والصحيح أنه يجب إحداد الكبيرة والصغيرة من غير فرق.
لماذا قُيِّدَ هذا بالمرأة؟
لأنه خرج مخرج الغالب. إذن الحديث المخاطب به النساء عمومًا، صغيرات كن أو كبيرات.(1/6)
قوله: (لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) ذهب الحنفية أيضًا ومعهم بعض المالكية إلى العمل بمفهوم هذا القيد، فقالوا: إن الكتابية لا عدة عليها، وكأنهم فهموا أن هذا الحكم خاصٌّ بالمسلمات دون الكتابيات، فمال الحنفية وبعض المالكية؛ كابن نافع وأشهب وغير هؤلاء إلى أن الكتابية لا تُحدّ على زوجها المسلم إذا مات عنها. والراجح أيضًا في هذه المسألة مذهب الجمهور.
لماذا؟
لأنها إنما تحد لحق الزوج، لحق زوجها المسلم، وذلك كأصل العدة، فكما أوجبنا عليها أن تعتد؛ فإنا نوجب عليها أن تحد، والآيات التي أطلقت هذا لم تقيده بشيء من إيمان أو غيره، وهذا أيضًا إما أن يقال فيه إنه خرج مخرج الغالب، أو إن هذا القيد إنما هو قيد للزجر، وللحث على الإحداد، وليس له مفهوم فيقال بمخالفته.
قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد) بَيَّنَّا معنى الإحداد. لكن رُوي "تُجد"وهذا إنما يُحمل على القطع من جددت الشيء أو جذذت الشيء؛ أي قطعته، فكأنها انقطعت عن الزينة.
(على ميت) قوله -صلى الله عليه وسلم-: (على ميت): هذا استدل به بعض أهل العلم على أنه لا إحداد على امرأة المفقود؛ لأنه لا يُعلم موته، وهذا خلافًا للمالكية، فإنهم قالوا: بوجوب إحدادها عليه، وهل هذه العبارة تُفيد جواز إحداد المطلقة البائن على زوجها أم لا؟ هل يجوز إحداد البائن على زوجها أم لا؟
رجل طلق امرأته فبانت منه؛ فهل تؤمر بالإحداد عليه قياسًا على هذه التي مات عنها زوجها بجامعٍ هو الفراق في كلٍّ هذه فرقة وتلك فرقة؟!(1/7)
فنقول: لا، وإن كان بعض أهل العلم قال بهذا، يعني هذا قول الشافعي في قديمه، وهي أيضًا رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- وقولٌ عند بعض التابعين كسعيد بن المسيب والثوري وأبي عبيد وطائفة من أهل العلم؛ لكن مذهب الجمهور هو الراجح الصحيح؛ لأن هذه البائن إنما فارقها زوجها باختياره، وقطع علاقته بها عن قصد وإرادة، وليس كان ذلك؛ لأن الأجل قد وافاه أو قد اخترمه، فهنا فارق يمنع من هذا القياس.
فلا معنى لأن نوجب عليها الحزن والرجل لم يحزن عليها حين فارقها، إذن الحق أن يقتصر على مورد النص في هذا، والعمل بالبراءة الأصلية فيما عداه. ومن ادعى وجوب إحداد البائن؛ فعليه الدليل، ولا دليل ظاهر في هذه المسألة.
قوله -عليه الصلاة والسلام-: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث): فيه جواز الإحداد إلى الثلاث على الميت القريب، وفيه بيان وجوب الإحداد على الزوج أربعة أشهر وعشرًا، هذا يفيد وجوب إحدادها على زوجها المدة المذكورة، وقد ذكرنا الحكمة التي تُرجى من هذا.
على كل حال هذا الحديث يُفيد بدلالة ما على منع المحدة من الطيب، محدة من وفاة زوجها أنها ممنوعة من الطيب.
أين هذه الدلالة في هذا الحديث؟ من يعرف؟
فعل أم حبيبة رضي الله عنه.
نعم.. فعل أم حبيبة وفعل أم المؤمنين زينب -رضي الله تعالى عنهن أجمعين- من مسِّها الطيب بعد ثلاث، يعني أن هذا به تخرج من إحدادها، فكأنها حال عدتها لا يجوز لها أن تمس طيبًا.
اقرأ يا شيخ الحديث الثاني.
(باب ما تجتنبه الحادة
عن أم عطية -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل ولا تمسّ طيبًا ولا شيئًا إلا إذا طهرت نبذةً من قُسط أو أظفار)).(1/8)
هذا الحديث حديث أم عطية -رضي الله تعالى عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تحد المرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج) هذا أفاد ما استفدناه من الحديث الماضي؛ فلا نعيد بذكره رغبة للاختصار.
لكن الجديد في هذا الحديث قوله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما روت أم عطية: (ولا تلبس ثوبًا معصوبًا).
الحاد منهية عن التزين في بدنها وفي ثيابها، وفي حليتها؛ فلا تلبس ثياب زينة، ولا تلبس ثيابًا للتجمل، فهي ممنوعة من لباسٍ يُحسنها ويجملها ويرغب فيها؛ كالثوب المصبوغ بعصفر أو بزعفران أو بألوان زاهية؛ كالأحمر والأصفر والأزرق الصافي وغير هذه الألوان التي تُظهر ما هي عليه من التهيؤ أو الاستعداد أو التجمل ونحو هذا.
(إلا ثوب عصب): وثوب العصب هذا المراد به برودٌ يمنيَّة كان غزلها يعصب ثم يصبغ قبل أن يُنسج، فهذه البرود وقع الاستثناء لها، وثوب العصب هذا من إضافة الموصوف إلى الصفة، وعصب بمعنى معصوب، فهذه ثياب موشاة من ثياب أهل اليمن، وقع الاستثناء من حديث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أي من هذه الألبسة التي نُهيت المرأة أن تتزيى بها أو أن تتزين بها حال عدتها.
وورد في الحديث (المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر، ولا المزعفر، ولا الثياب الممشقة، ولا الحلي)؛ أي هي ممنوعة من كل ذلك ولا تختضب ولا تكتحل، وابن عمر قال يعني موقوفًا عليه: ولا تكتحل، ولا تتطيب، ولا تختضب، ولا تلبس المعصفر، ولا ثوبًا مصبوغًا، ولا بردًا، ولا تتزين بحلي، ولا تلبس شيئًا يزيد من زينتها، أو تريد به التزين، ولا تكتحل بكحل إلا أن تكون محتاجة إليه، أما كحل الزينة؛ فليس لها أيضًا أن تكتحل به، وعائشة -رضي الله عنها- تصدق هذا فتقول: "لا تلبس الحادّ معصفرًا ولا تقرب طيبًا ولا تكتحل ولا تلبس حليًّا" كل هذا لأنها منهيّة عن إظهار أي لون من ألوان الزينة حالَ إحدادها.(1/9)
بل زاد بعض الحنابلة أنها لا تلبس النقاب ولا تلبس البرقع، لماذا؟ قالوا: لأنها متشبهة بالمحرمة، فلا تلبس نقابًا ولا برقعًا، على أن شيئًا من هذا قد يظهر من زينتها أو يرغب فيها الرجال، وهي مأمورة أيضًا بأن تجتنب الحلي بنوعيه من الذهب ومن الفضة في قول جماهير أهل العلم خلافًا للظاهرية، فإنهم أباحوا لها أن تلبس؛ لأنهم لم يصححوا حديثًا (نهى المرأة عن لبس الحلي).
إذن الأئمة الأربعة وأتباع مذاهبهم على أنه لا يجوز للمحدّ أن تلبس هذه الثياب المصبوغة، ولا أن تتزيى بهذه الحلي التي تتزيى بها المرأة أو تتزين بها المرأة في حال زواجها وفي حال عدم عدتها.
وفي هذا الحديث قال: (ولا تكتحل) وقلنا: إن هذا هو مذهب الأئمة الأربعة، وهو أيضًا مذهب الظاهرية في هذه المسألة لثبوت النهي في هذا الحديث الذي معنا، قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ولا تكتحل) فنهيت المرأة عن أن تكتحل؛ لأن هذا الكحل من إظهار الزينة وإظهار الزينة قد نهيت المرأة عنه، بل تجد ابن حزم -رحمه الله- في مسألة الحلي لما لم يصحح الحديث الذي فيه النهي عن لبسها الحلي؛ قال بجواز أن تلبس من الحلي ما شاءت بأي قدر كان وكذا وكذا وكذا، ولما صحح طبعًا هذا الحديث وهو في الصحيح النهي عن الكحل؛ قال: ليس لها أن تكتحل، ولو تضررت، قال: بل ولو ذهب نور عينيها، فلا يجوز لها أن تكتحل؛ لأنه صح الحديث عنده بنهيه -صلى الله عليه وسلم- عن أن تكتحل المرأة فقال: لا تكتحل ولا للضرورة، وهذا خلاف ما عليه جمهور أهل العلم.
لماذا؟
لأنهم رخصوا للمرأة التي رمدت عيناها، وصار الكحل دواءً لها وليس بزينة أن تكتحل وإن قيد بعضهم ذلك بأن تكتحل ليلاً وتمسحُ هذا الكحل نهارًا، إلا أن ابن حزم أَوْصَدَ هذا الباب، وعلى كل حال الأصل أنها لا تكتحل كحل زينة، وأن في الأدوية المعاصرة ما يُغنيها ويشفيها ويكفيها عن استعمال الكحل حتى ولو مرضت أو رمدت عيناها.(1/10)
بهذا نكون قد فهمنا حكمَ اكتحال هذه المحدّ، وأنه لا يجوز لها أن تكتحل كما لا يجوز لها أن تمسّ طيبًا لا في بدنها ولا في ثيابها، بل ولا يجوز لها أن تصنع هذا الطيب ولا أن تعمل في بيعه وشرائه؛ لأن هذا يُفضي في النهاية إلى أن ينالها منه، وهذا لهذا الحديث، ومن العلماء من بحث الأدهان المطيَّبة ما حكمها بالنسبة للمحد؟ الصحيح أنه لا يجوز لها أن تستعمل الأدهان المطيبة، يعني ما تضعه على شعرها أو على بدنها من الدهن الذي فيه شيء من الطيب، أو خلط بشيء من الطيب هذا أيضًا لا يجوز لها.
طيب لو كان هذا الدهن لا طيبَ فيه أو لا طيب معه؛ فما الحكم؟ ما رأيكم؟ هذا الادهان أو هذه الزيوت التي قد تستعملها المرأة في شعرها وفي بدنها لو كانت غير مطيبة، يعني ليس فيه رائحة الطيب، هل يجوز لها أن تستعملها؟
يجوز لها ذلك.
يجوز لها لماذا؟
المنهي عنه هو الطيب، وهي خلت من الطيب.
طيب أليس في هذا الدهان زينة لها؟ حين تضع على رأسها أو على بدنها أو على وجهها أو يديها من هذه الأدهان أليس هذا من الزينة؟
إن كان من الزينة.. فقد يكون لغير الزينة مثلاً للعلاج مثل.
طيب على كل حال ذهب الحنفية والشافعية إلى حرمة استعمالها لهذه الأدهان ولو كانت غير مطيبة، ومال الحنابلة مع المالكية إلى القول بجواز أن تستعمل هذه الأدهان إذا لم تكن مُطيبة، وليس للحادّة أن تمتنع من أن تغتسل، أو أن تتنظف، أو أن تقلم أظفارها، أو أن تمشط شعرها أو نحو ذلك، لكن ليس لها أن تستعمل في شعرها الطيب، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أم سلمة بأن تمتشط بما ليس فيه رائحة الطيب، يعني من السدر ونحوه، وعليه؛ فالصابون غير المطيب هذا لا حرج في استعمالها إياه.(1/11)
ثم إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- استثنى من الطيب طيبًا، أو استثنى من الطيب نوعًا من أنواع البخور فقال: (إلا إذا طهرت نبذةً من قسط أو أظفار) نبذة النبذ هو الشيء اليسير القليل، فكأنه رَخَّصَ لها في يسير من هذا الذي تستعمله بعد الحيضة ليُذهب الرائحة الكريهة في ذلك المحل، تستعمل هذا البخور أو ما يشبهه في إزالة الرائحة الكريهة في هذا المكان، وهذا لا حرج فيه، وقد استثناه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- للمرأة بحيث إنه لا يكون عليها في استعماله حرج إذا تتبعت به أثر الدم.
لننتقل بعد هذا إلى حديث أم سلمة وهو الحديث الأخير في باب الإحداد.
(عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا) مرتين أو ثلاثة، كل ذلك يقول: (لا) ثم قال: (إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول)، فقالت زينت: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حِِفشًا ولبست شرَّ ثيابها، ولم تمس طيبًا ولا شيئًا حتى تمر عليها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو طير أو شاة فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره).(1/12)
هذا الحديث هو آخر أحاديث باب الإحداد، وهو حديث أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- وهي تحكي أن امرأة جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تخبر أن ابنتها توفي عنها زوجها، وأنها تشتكي في عينيها رمدًا أو مرضًا وأن هذا من علاجه الاكتحال، فأرادت الرخصة من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فمنع من ذلك كل مرة تسأله في هذا فيمنع من ذلك ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: (إنما هي أربعة أشهر وعشر) يعني مدة ليست بالطويلة، وقد جاء الإسلام ليرفع عن هذه الأمة الآثار والأغلال التي كانت عليها في الجاهلية، ثم قارن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بين اعتداد المرأة في الإسلام وبين إحدادها على زوجها في الجاهلية، فقال: (وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول) هذا إشارة إلى عادةِ جاهلية في إحداد المرأة، ذلك أن المرأة كانت تحدُّ على زوجها سنة كاملة، لكنه إحداد لا يكاد يوصف، ولا يكاد يطاق، فتذكر زينب -رضي الله تعالى عنها- كيف كان إحدادهن في الجاهلية على أزواجهن. قالت زينب -رضي الله عنها- وهي أيضًا زينب بنت أبي سلمة، يعني زينب هي هذه الراوية للحديث الذي سبق، كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حِفشًا بكسر الحاء، هو البيت الصغير الحقير، قالت: دخلت حِفشًا ولبست شر ثيابها يعني قالوا: كانت تلبس درعًا من قطران، يعني شيء في غاية السوء والسواد، تلبس هذا الدرع، وربما طلت جسدها بشيء من هذا أيضًا إظهارًا للمبالغة في حزنها على ذلك الذي مات عنها.(1/13)
قالت: دخلت حِفشًا ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبًا ولا شيئًا. ولا شيئًا حتى الماء؟ قالوا: حتى الماء، يعني لا تضع الماء على بدنها سنة كاملة، انظر إلى أي مدى صارت المبالغة في إهانة المرأة والقسوة عليها، قالت: ولا شيئًا حتى تمر عليها سنة. تجتنب الزينة، تجتنب الماء، تجتنب مخالطة الناس، يعني تتوحش وتتوحد هذه المرأة، يطول شعرها الذي يجب أخذه أو الذي تندب إلى أخذه فلا تفعل، تحتاج إلى الماء لتغتسل فلا تفعل، تحتاج إلى الماء لتنتقص الماء ولتستنجي بالماء فلا تفعل، فهكذا كان إحداد أهل الجاهلية.
قالت: ولا شيئًا حتى تمر عليها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو طير أو شاة فتفتض به. يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول) هذا إشارة منها إلى أن ما لقيت تُعطى بعرة ومعروف أن البعرة هي روثة الحيوان، فترمي بهذه البعرة إشارة إلى أن ما مضى من ضيق وشدة وحرج لا يساوي حقَّ زوجها الذي مات في الجاهلية، ثم بعد ذلك تؤتى بشيءٍ من الطير أو شيء من الحيوان، تفتضّ به، يعني تتمسح به تستنجي به، والعجب أن يؤتى بطائر أو بحيوان أو بشيء من هذا تفتض به هذه المرأة فتمسح به جلدها ومحل قضاء الحاجة منها. تقول: ثم تؤتى بدابة حمار أو طير أو شاة فتفتض به.
الافتضاض معناه أنها تنقي درنها وتتمسح به لإزالة النجاسة والدرن والوسخ الذي لحق ببدنها طوال هذه السنة، هكذا عادتهم في جاهليته.(1/14)
تقول الراوية: فقلما تفتض بشيء إلا مات. يعني من شدة حالتها التي كانت عليها، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ذلك ما شاءت من طيب أو غيره. يعني تكون بذلك قد انقضت عدتها، فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقارن بين هذه الحالة المنكرة وهذه الصورة المزرية التي تكون عليها المرأة في عدتها إذا مات زوجها، وبين الحالة التي شُرعت لها في الإسلام من عنايتها بنظافة بدنها ومن عنايتها بطهارتها وصلاتها ومن إباحة الكُحل لها إن احتاجت إليه ضرورة، أو من إباحة شيء من بخور تذهب رائحة الحيض الكريهة، أو تتبع به أثر الدم النجس، وبين هذه الحالة التي كان عليها أهل الجاهلية فهذا يدل على يسر هذه الشريعة، وسماحتها، وعلوها، وطهارتها، ونزاهتها، وحفاظها على كرامة المرأة من جهة أخرى، وتقديرها لمنزلتها وقيمتها وتكريمها لها في الإسلام على خلاف ما كانت عليه من الجاهلية وفيه أيضًا بيانٌ حق الزوج على زوجه، وما ينبغي أن تكون عليه المرأة من رعاية هذا الحق، ولو تجشمت في ذلك ما تجشمت، أو شق عليها في ذلك ما يشق، فإن ذلك قليل في جنب ما أعطاه ذلك الزوج وما وفره ذلك الزوج من خلال ما ساق الله -تعالى- إليها عن طريقه من نعمة الزواج.
بهذا نكون قد أتينا على جملة المعنى الذي أردناه في هذه الأحاديث الثلاثة بشيء من الاختصار يُناسب الوقت الذي بقي لنا في هذه الحلقة نسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما قلنا وبما سمعتم إنه جواد كريم بر رؤوف رحيم، وننتقل إلى إجابة أسئلة الحلقة الماضية.
بالنسبة للسؤال الأول:
عرف االعدة لغة واصطلاحًا، وبين حكمة مشروعيتها، واذكر أنواعها.
بسم الله الرحمن الرحيم
العدة لغة بكسر العين المهملة مأخوذ من العَدَد بفتح الدل، أو من العد وهو بمعنى الحساب والإحصاء، والعِدَد جمع عدة مثل سدر جمع سدرة، وسميت بذلك لاشتمالها على العدد بين الأقراء، أو الأشهر غالبًا.(1/15)
واصطلاحًا: اسم لمدة تتربص بها المرأة؛ لمعرفة براءة رحمها أو للتعبد أو للتفجع على زوجها، وقيل: هو التربص المحدود شرعً.
لكم تعليق يا شيخ على الإجابة؟.
يعني بقي الكلام على أنواعها، الحديث فيه كلام على أنواعها، وأيضًا الكلام على حكمة المشروعية، فنحتاج منك مزيد بيان.
المشروعية اتفق العلماء على مشروعيتها في الجملة، وعلى وجوبها على المرأة دون الرجل، وذلك بالكتاب والسنة والإجماع، فالكتاب قوله تعالى: ?وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ? [البقرة: 228] وقوله تعالى: ?وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ? [الطلاق: 4] وقوله تعالى: ?وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ... ? [البقرة: 234] إلى آخر الآية.
جيد.. والأنواع؟ أخانا الكريم يكمل أنواع الاعتداد، تكلم عن الاعتداد بالأقراء.(1/16)
بسم الله الرحمن الرحيم، أما أنواع الاعتداد؛ فالمرأة بحسب حالها، إن كانت لا تحيض إما لصغرها أو لكونها آيسة؛ فإن عدتها ثلاثة أشهر؛ لقول الله تعالى: ?وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ? [الطلاق: 4] وإن كانت المرأة حاملاً؛ فإن عدتها وضع الحمل، وإن كانت المرأة متوفى عنها زوجها وليست حاملاً؛ فإن عدتها أربعة أشهر وعشرًا، ثم وقع الخلاف بين العلماء في عدة المرأة إذا توفي عنها زوجها وكانت حاملاً أهي أبعد الأجلين أم وضع الحمل؟ فالجمهور على أنه وضع الحمل استدلالاً بحديث سبيعة، وذهب علي بن أبي طالب وإحدى الروايتين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وطائفة من أهل العلم إلى أنها تعتد بأبعد الأجلين، وقد رجحنا أن عدتها وضع الحمل، وأما المرأة التي تحيض إذا طلقت؛ فإن عدتها ثلاثة قروء، وهل القرء هو الحيض أم الطهر؟ فيه خلاف بين أهل العلم. والله أعلم.
ما هو الراجح في الخلاف بين أهل العلم في معنى القرء؟
الذي رجحه كثير من أهل العلم وهو مذهب الجمهور أن القرء هو الحيض.
هذا مذهب الحنابلة، والحنفية، ومعهم الخلفاء الأربعة الراشدين وطائفة من أهل العلم. والحنفية والمالكية مع الشافعية وطائفة أيضًا من الصحابة والتابعين والسلف على أنه بمعنى الطهر.
السؤال الثاني: اذكر الراجح في عدة الحامل المتوفى عنها زوجه.(1/17)
نعم نحن تناولنا هذا في إجابة أخينا الكريم، وبهذا نكون قد أتينا على المقصود من شرح هذا الحديث، وأيضًا أتينا على ختام هذا الدرس، وختام هذه الدورة التي سعدنا فيها بلقاء إخواننا وأحبابنا الذين شاركونا بالحضور في هذا الأستوديو وأيضًا الذين تابعونا من خلال الأسئلة المباشرة أو من خلال الأسئلة عن طريق الإنترنت، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياهم بهذه المجالس، وأن يتقبل ذلك منا ومنهم، وأن يبارك في هذه القناة، وفي القائمين عليها، وأن يجعل هذا وذاك مما عملنا وعملوا في موازين حسناتنا وحسناتهم، إنه جواد كريم بر رؤوف رحيم.
يقول: السؤال الأول يا دكتور فيما يثيره بعض الناس في هذا العصر من جواز الدخول على النساء، ويستدلون ببعض الشبهات منها دخول أبي السنابل بن بعكك على سبيعة الأسلمية وقد تزينت، فكيف يجاب عن هذا أحسن الله إليك؟.
بارك الله فيك.. نحن قلنا إن سبيعة -رضي الله تعالى عنها- علمت وعرفت من سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنها إذا وضعت حملها؛ فقد حلت للخطَّاب، وجاز لها أن تنكح، فإذا دخل عليها بعض من يخطبها وهي تعلم أن هذا من الجائز؛ فإن ذلك لا حرج فيه، وهذا يدل عليه أنها خطبها فلان فأبت، ثم خطبها غيره من الشباب فأجابت ورضيت، فلما قام عندها ما استدعى يعني سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- ومراجعته فإنها جمعت عليها ثيابها، وعادت إلى حالتها الأولى وتسترت وخرجت تسأل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فليس في هذا جواز الخلطة المحرمة أو الدخول على المغيبات، وقد مر معنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إياكم والدخول على النساء) وهذا مما تناولناه بالشرح في بعض حلقاتنا التي مضت، وأنه سئل عن أقارب الرجل، أو أقارب المرأة: أفرأيت الحمو، فقال: (الحمو الموت).(1/18)
السؤال الثاني: بالنسبة لما في الحديث أيضًا من كون سبيعة الأسلمية -رضي الله عنها- كانت قد توفي عنها زوجها ومتزينة، واعتدت أربعة أشهر وعشرًا أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر وعدة الحامل وضع الحمل، فهل الأربعة أشهر وعشر وثلاثة أشهر في الآيسة والتي لم تحض، تحسب بالأشهر الهلالية أم الميلادية؟.
نعم، هذه مسألة مهمة، فعدة الشهور عند الله -عز وجل- اثنا عشر شهرًا، وهذه الأشهر هي الأشهر الهلالية التي تبدأ بترائي الهلال، وليست بهذه الأشهر الميلادية أو القبطية أو الزراعية أو سمها ما شئت من هذه الأسماء التي تعرف، فإنها أشهر هلالية، وأنت تعلم أن الشهر الهلالي بين أن يكون ثلاثين أو تسعا وعشرين، ولا يكون أبدًا الشهر الهلالي واحدا وثلاثين يومًا ولا يكون أيضًا ثمانية وعشرين يومًا، فهذه نقطة مهمة يجب أن نتنبه لها أن المقصود بهذه الأشهر هي الأشهر الهلالية، القمرية.
يقول: هل للمرأة المطلقة طلاقًا رجعيًّا أن تحد على زوجها بعد أن طلقت؟.
المطلقة طلاقًا رجعيًّا تحد على زوجها.
نعم. بعد أن طلقه.
يعني بعد أن خرجت من عدتها؟
نعم.
لأي أمرٍ تحد؟
يعني هو طلقها وهي في فترة العدة.
هي تعتد، وفرق بين المعتدة والمحدة.
أقصد تحد.
ليس لها أن تحد، بل هي مأمورة بالزينة، المرأة الرجعية المطلقة طلاقًا رجعيًّا عليها أن تتزين وأن تتجمل لزوجها، تتجمل له وتظهر من أخلاقها ومن زينتها أمامه ما يدعوه إلى ردها واسترجاعها.
ولو انقضت فترة العدة.
انقضت فترة العدة صارت أجنبية عنه، وإذا صارت أجنبية عنه؛ فإنها لا تحد ولا تعتد ولا علاقة لها به، فإنه ليس له عليها ولا إليها سبيل إلا بعقد ومهر جديدين.
يقول: وقوف الطب على حالة الرحم في هذه الأيام، هل يثبت به انتهاء العدة من ابتدائها؟.(1/19)
الحقيقة إن التطور التقني الواسع في هذا العصر صار له دخل في فتيا المفتي، وفي قضاء القاضي، وفي حسم الخلاف في بعض المسائل الفقهية، لكننا نقول: إن العلة في هذا ليس مجرد استبراء الرحم، بل استبراء الرحم جزء هذه العلة، وهناك أجزاء أخرى لا يمكن أن تستوفى؛ منها التعبد، والتعبد أي ما لا يعقل معناه، فلو أن الرحم استُبْرِئَ بيقين عن طريق ما يسمى بالأشعة التلفزيونية؛ فإنه يبقى حكم العدة قائمًا إلى أن تخرج المرأة من عدتها.
أما الأحكام التي قد تتعلق بمعرفة ما في الرحم؛ فهذا للطب فيه مدخل، مثلاً لو أننا نُورِّث الحمل مثلاً واستطعنا من خلال الأشعة التلفزيونية أن نعرف عدد الحمل، فعندئذ لا نحتاج إلى تقدير الأكثر في الإرث، وإنما نقتصر على ما رأيناه؛ لأن الفقهاء يفرضون له الأكثر احتياطًا، فإذا رأينا بما يسمى بالأشعة التلفزيونية أو السونار أن هذا هو مولود واحد، أو مولود واحد ذكر، أو مولود واحد أنثى وصار هذا معلومًا بشكل يُطمأَن معه إلى صحة النتيجة؛ فإنه لا حرج في أن يُعمل بهذا ويكون هذا من وسائل حسم الخلاف الفقهي، وهذا أيضًا في الاطلاع على الأرحام فيما يتعلق بأمور كثيرة، يعني مثلاً عدة المستحاضة، هذه لم نتكلم فيها، المستحاضة كيف تعتد؟ المستحاضة هذه دمها لا يَرْقَأ، فإن كانت تميز مثلاً كانت تميز بين دم الحيض ودم الاستحاضة؛ فعدتها بأقرائها، لكن إذا كانت لا تميز هنا إشكال، المالكية يجعلون لها سنة، يقولون: تسعة أشهر هذه لاستبراء الرحم؛ لأنه قد يوجد حمل مستكن، فيولد في تسعة أشهر، وثلاثة أشهر للاعتداد، يفرضون لها سنة، في قول آخر لديهم يفرضون عليها أربع سنوات، لما ورد عند بعضهم أن أكثر الحمل قد يصل إلى هذا المقدار، فمع وسائل الطب الحديثة والمعاصرة أمكن حسم هذه المسائل وبالتالي هذا يفضي إلى تضييق الخلاف الفقهي في بعض المسائل، ولا نطيل أكثر من هذا.(1/20)
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجمعنا وإياكم مجددًا على خير، وأن يجمعنا وإياكم في دار كرامته، إنه جواد كريم، بر رؤوف رحيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.(1/21)