- الدرس الأول -
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
ميزة هذا الكتاب:
إن كتاب عمدة الأحكام من كلام خير الأنام محمد - صلى الله عليه وسلم - للحافظ عبد الغني المقدسي, من خيرة كتب الأحكام المختصرة, وقد اقتصر فيه مؤلفه رحمه الله في أحاديث الأحكام على ما اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم, وأحاديثه صحيحة مشهورة متلقاة بالقبول عند أهل هذا الفن.
ترجمة المؤلف:(1/1)
هو الإمام المحقق المؤرخ حافظ عصره, تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر الجمَّاعيلي المقدسي ثم الدمشقي, ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة بجماعيل, وكان قدومه مع أسرته من بيت المقدس إلى مدينة دمشق إلى مسجد أبي صالح ثم انتقلت أسرته إلى سفح قاسيون فبنوا داراً تحتوي على عدد كبير من الحجرات دُعيت بدار الحنابلة, ثم شرع مع أسرته في بناء أول مدرسة في جبل قاسيون وهي تلك المعروفة بالمدرسة العمرية وقد عرفت تلك الضحاية التي سكنوها بالصالحية فيما بعد نسبة إليهم لأنهم كانوا من أهل العلم والصلاح, وقد نشرت هذه الأسرة المذهب الحنبلي في الشام, فانتشرت مدارس المذهب لا في الصالحية فحسب, بل في دمشق ذاتها, وكثر أتباع هذا المذهب في ضواحي دمشق, تتلمذ في صغره على عميد أسرته العلامة الفاضل الشيخ أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي, ثم تتلمذ على شيوخ دمشق وعلمائها, فأخذ عنهم الفقه وغيره من العلوم, ثم قصد بغداد سنة 560هـ ونزل عند الإمام عبد القادر الجيلاني, فقرأ عليه شيئاً من الفقه والحديث, وأقام عنده أربعين يوماً, بعدها مات الشيخ الجيلاني عليه رحمة الله تعالى, فأخذ عن الشيخ أبي الفتح بن المني الفقه والخلاف, ثم رحل إلى أصفهان عليه رحمة الله تعالى فمكث فيها وقتاً طويلاً يدرس ويدرّس إلى أن عاد إلى بغداد مرة ثانية سنة 578هـ فحدّث بها, ثم انتقل إلى دمشق, فأجمتع الناس عليه وكان رجلاً صالحاً رقيق القلب سريع الدمعة عليه رحمة الله تعالى, بناءً على ذلك حصل له قبول من الناس عظيم, فحسده بنو الزكي وبنو الدولعي والحسد موجود ولذلك قيل: ما خلا جسد من حسد, لكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه, وجهزوا الناصح ابن الحنبلي فتكلم تحت قبة النسر في المسجد الأموي, وأمره أن يجهر بصوته ما أمكنه حتى يشوش على الحافظ عبد الغني, وعند ذلك حوَل الحافظ عبد الغني ميعاد درسه إلى ما بعد العصر خشية الصدام(1/2)
بينه وبينهم فذكر يوماً عقيدته, فثار عليه القاضي بن زكي الدين, وضياء الدين الدولعي, فعقدا له مجلساً في قلعة دمشق يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 595هوتكلموا معه في مسألة العلو ومسألة النزول ومسألة الحرف والصوت, وطال الكلام في هذه المسائل فظهر غليهم الحافظ بالحجة وهكذا الحق واضح أبلج, فقال له الصارم برغش والي القلعة: (كل هؤلا على ضلال وأنت على الحق ؟ فقال: نعم), فأرسلوا من كسر منبره في الجامع الذي كان يدرس فيه, ومنعوه من الجلوس فيه, فضاق ذرعاً ورحل إلى بعلبك, لأن الرجل ليس طالب دنيا, وطالب العلم لا يكون في بلد يمنع فيه عن طلب العلم لأنه لا يعيش إلا بالطلب ولا يرتاح إلا بالطلب في طلبه وتدريسه ومن بعلبك رحل إلى مصر, فنزل عند الطحانين, وصار يقرأ الحديث, وصار له حشد وأصحاب, فثار عليه الفقهاء بمصر, وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر فاقرّ نفيه إلى المغرب, غير أن الحافظ عبد الغني مات في مصر قبل وصول كتاب النفي إليه عليه رحمة الله تعالى.
عبادته وتضرعه:
كان لا يضيع شيئاً من وقته, كان يصلي الفجر, ويقرأ القرآن والحديث, ثم يتوضأ ويصلي الكثير من النوافل إلى قبيل الظهر, ثم ينام شيئاً ثم يصلي الظهر ويقبل على التسميع, تسميع المتون, والتسبيح إلى صلاة العصر فيصليها, ويتابع ما كان عليه حتى الغروب, إن كان صائماً أفطر وصلى المغرب, وينتقل إلى العشاء فيصليها وينام إلى نصف الليل, ثم يستيقظ فيتوضأ ويصلي إلى قبيل الفجر فينام قليلاً, ثم يستيقظ لصلاة الفجر, وهذه عبادته عليه رحمة الله.
شيوخه:
أخذ العلم عن الشيخ أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي, والشيخ عبد القادر الجيلاني, وهبة الله ابن هلال, وأبي ظاهر السفلي في الإسكندرية, وأقام عنده ثلاثة أعوام وكتب عنه الكثير, وغيرهم.
تلامذته:(1/3)
أخذ العلم عن ولداه: أبو الفتح, وأبو موسى , وعبد القادر الرهاوي, وموفق الدين بن قدامة المقدسي, وآخر من سمع منه محمد مهلهل الجيتي, وغيرهم الكثير.
مصنفاته:
صنف تصانيف كثيرة عليه رحمة الله تعالى في مختلف العلوم والفنون, ومنها ما هو كبير في عدة مجلدات, ومنها ما هو صغير في رسائل منها:
* اعتقاد الإمام الشافعي.
* الإقتصاد في الإعتقاد.
* أخبار الحسن البصري.
* الأربعين من كلام رب العالمين.
* تحفة المطاليب في الجهاد والمهاجرين.
* الترغيب في الدعاء والحث عليه.
* الجامع الصغير لأحكام البشير النذير - صلى الله عليه وسلم - .
* حديث الإفك.
* ذم الرياء.
* ذم الغيبة.
* فضائل رمضان.
* فضائل الصدقة.
* المصباح في عيون الصحاح.
* وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
* فضائل عشر ذي الحجة.
* صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الإسراء والمعراج.
* وهذا الكتاب عمدة الأحكام من كلام خير الأنام محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وفاته:
كانت وفاته في يوم الاثنين الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من ستمائة من الهجرة, وله تسع وخمسون سنة, ودفن بمقبرة القرافة بمصر إلى جوار الشيخ أبي عمرو بن مرزوق رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
- الدرس الثاني -
{ كتاب الطهارة }
قال المصنف رحمه الله تعالى: كتاب الطهارة.
الكتاب لغة : الجمع, ومنه قولهم تكتب بنو فلان أي اجتمعوا. ومنه قولهم كتيبة لمجموعة الفرسان من الجيش, وسميت هذه المؤلفات كتباً لما فيها من جمع للمسائل والأحكام.
الكتاب في الاصطلاح: اسم لجملة من العلوم تحتوي أبواب ومسائل.
وأما الطهارة في اللغة: هي النظافة والنزاهة.
وأما الطهارة في الشرع: فهي أعم من الطهارة في المعنى الاصطلاحي.
وهي في الشرع: الطهارة من مناهي الله عز وجل والتحلي بأوامره.
والطهارة تنقسم إلى قسمين:
أ) طهارة معنوية.
ب) طهارة حسية.
والمعنوية أيضاً تنقسم إلى قسمين:(1/4)
1. طهارة كبرى: وهي تطهير القلب من أدران الشرك وأدناسه وتحليته بالعقيدة والتوحيد الخالص.
2. طهارة صغرى: وهي تطهير القلب من أدناس الأخلاق ورذائلها وتحليته بفضائل الأخلاق فيطهر قلبه من الحقد والغل ونحو ذلك.
والطهارة الحسية وهي التي يبحثها الفقهاء تنقسم إلى قسمين:
1) طهارة رفع الحدث.
2) طهارة زوال الخبث.
{ الحديث الأول }
حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول { إنما الأعمال بالنيات } , وفي رواية { بالنية } , { وإنما لكل إمرءٍ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله, فهجرته الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه } .
أجمع المسلمون على عظم موقع هذا الحديث وكثرة فؤائده وصحته, حتى قال الشافعي وآخرون هو ثلث الإسلام, وقال الشافعي يدخل في سبعين باباً من أبواب الفقه, وقال آخرون هو ربع الإسلام. قال عبدالرحمن بن مهدي عليه رحمة الله: (ينبغي لمن صنف كتاباُ أن يبدأ بهذا الحديث تنبيهاً للطالب على تصحيح النية).
ونقل الخطابي ذلك عن الأئمة مطلقاً وقد فعل ذلك البخاري وغيره فابتدءوا بهذا الحديث قبل كل شيء حتى ذكره البخاري في سبعة مواضع من كتابه وهذه المواضع هي { كتاب بدء الوحي } , و { كتاب العتق } , و { كتاب مناقب الأنصار } , و { كتاب الطلاق } , و { وكتاب الإيمان } , و { كتاب الإكراه } , و { كتاب الحيل } .
قال أبو عبدالله " أي الإمام أحمد " ليس في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث. وقال ابن مهدي: يدخل في ثلاثين باباً من العلم.
وأما وجه كون هذا الحديث ثلث العلم:
ووجهه البيهقي: كونه ثلث العلم لأن كسب العبد إما أن يكون في قلبه أو لسانه أو جوارحه.(1/5)
وهذا الحديث يتعلق بالنية " النية أحد أقسامها وأرجحها لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها), أما أن يكون بالقلب أو اللسان أو الجوارح كل واحد ثلث, وهذا وجه كونه ثلث العلم.
وكلام الإمام أحمد يدل على أنه بكونه ثلث العلم يدل على أنه أراد أن هذا الحديث أحد القواعد الثلاث التي ترد إليها جميع أحكام الفقه.
والإمام أحمد رحمه الله تعالى يرى أن جميع الأحكام ترد إلى ثلاث قواعد وهي:
1/ هذا الحديث { إنما الأعمال بالنيات } .
2/ وحديث عائشة رضي الله عنها { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } .
3/ وحديث { الحلال بّين والحرام بّين..الخ } .
وعلى كل هذا الحديث فيه كلام ولعلنا لا نتطرق لهذه, ما نريد أن نشعب الأخوات لأن طريق هذا الحديث كما قال ابن حجر: (قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردوداً لكونه فرداً) , لأنه ما أتى إلا من طريق واحد. ونشرع في معنى الحديث وفؤائد الحديث.
قال في الحديث { إنما الأعمال بالنيات } :
(إنما): موضوعة للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه.
فتقدير هذا الحديث أن الأعمال إنما تحسب بالنية ولا تحسب إذا كانت بلا نية بمعنى أنه ليس المقصود أن العمل لا يوجد إلا بنية, يعني قد يوجد العمل وتختلف النية وبهذا يكون المعنى: أن الإثابة والجزاء متوقف أمرهما على النية.
الكلمة الثانية (النيات) مؤكدة للأولى (الأعمال) وهذا خطأ لماذا ؟
قال: { إنما الأعمال بالنيات } على رواية النيات ما يكون هنالك إشكال لأنه مقابلة الجمع بالجمع(الأعمال) و(النيات).
يقول إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى: (يقول كأنه أشار بذلك " يعني في قوله إنما الأعمال بالنيات " أن النية تتنوع كما يتنوع العمل فمن قصد بعمله وجه الله تعالى أو تحصيل موعوده أو اتقاء وعيده) فقد حصل ذلك ومن أراد غير ذلك فله ما نوى.
وقد ورد في رواية أخرى { إنما الأعمال بالنية } وهو لفظ مسلم.(1/6)
جمع مقابل مفرد يكون وجه ذلك أن النية محلها القلب وهو متحد فناسب إفرادها بخلاف (الأعمال) فإنها متعلقة بالظواهر وهي متعددة فناسب جمعها ولذا قال { إنما الإعمال بالنية } ولأن النية ترجع إلى الإخلاص وهو الواحد الذي لا شريك له سبحانه وتعالى.
وقد وقع في صحيح ابن حبان بلفظ { الأعمال بالنيات } بحذف إنما وجمع الأعمال بالنيات وأنكر ذلك أبي موسى المديني لكن ذلك متعقب برواية ابن حبان بل قد وقع في رواية مالك عن يحيى عند البخاري في كتاب الإيمان بلفظ { الأعمال بالنية } وكذا في كتاب العتق من رواية الثوري وفي كتاب الهجرة من رواية عماد بن زيد بلفظ { الأعمال بالنية } ووقع عنده أيضاً في النكاح بلفظ { العمل بالنية } في إفراد كل منهما.
فأصبح عندنا:
{ إنما الأعمال بالنيات } .
{ إنما الأعمال بالنية } .
{ الأعمال بالنية } .
{ الأعمال بالنيات } .
{ الأعمال بالنية } .
{ العمل بالنية }
خمسة ألفاظ...
وقوله (بالنيات) : النية لغة القصد وهي عزيمة القلب كما قال بذلك النووي عليه رحمة الله تعالى.
وفي الشرع: هي قصد الشيء مقترنا بفعله.
- الدرس الثالث -
قال ابن حجر عليه رحمة الله تعالى: (لفظ العمل يتناول فعل الجوارح حتى اللسان. فتدخل الأقوال في ذلك).
يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: (وأخرج بعضهم الأقوال بأنها ليست داخله في قوله { أنما الأعمال بالنيات } "يقول ابن حجر: وهو بعيد ولا تردد عندي في أن الحديث يتناولهما أي يتناول حتى الأقوال " وهذا ظاهر أنه لابد من النية الصالحة حتى يكون العمل مقبولاً).
والذي يحتاج إلى نية هي الأعمال وأما التروك فلا تحتاج إلى نية.
قال النووي رحمه الله: (وأما إزالة النجاسة فالمشهور عنها أنها لا تفتقر إلى نية لأنها من باب التروك والترك لا يحتاج لنية. وقد نقلوا الإجماع فيها (أي في الترك لا يحتاج إلى نية) ثم قال: وشذ بعض أصحابنا فأوجبها (يعني أوجب نية الترك) أ.هـ.(1/7)
فعلى هذا: لو أن إنسان على ثوبه نجاسة ثم زالت بدون نية نحكم بطارة ثوبه أو ألقى عليه إنسان ماء "سكب عليه ماء" ثم زالت النجاسة أو خرج إلى المطر وأصاب الثوب المطر ثم زالت النجاسة فإن النجاسة ترتفع لأن الترك لا يحتاج إلى نية.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (وأما التروك فهي وإن كانت فعل كف لكن لا يطلق لفظ العمل.
قال: { وإنما لكل امرئ ما نوى } :
مسألة: قوله { إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى } هل هما جملتان بمعنى واحد أم أن الثانية مؤكدة لمعنى الأولى ؟
القرطبي رحمه الله أشار إلى أن الجملة الثانية تأكيد الأول يعني قوله وإنما لكل امرئ ما نوى هي بمعنى قوله إنما الأعمال بالنيات, لكنها مؤكدة لها.. ولكن ليس بصحيح, لماذا ؟ لأن القاعدة عندنا: أن الأصل في الكلام أن يكون تأسيساً لا تأكيداً, يعني الأصل لما أتكلم حث بكلام كثير كل كلامي يكون تأسيس يعني جديد لا تأكيد, إلا أن تبين جملة مؤكدة لجملة, لكن الأصل في الكلام أن يكون تأسيساً لا تأكيداً.
ثم إننا إذا تأملنا وجدنا أن بينهما فرقاً عظيماً يعني قوله { إنما الأعمال بالنيات } وقوله { ولكل امرئ ما نوى } يتبين أن بينهما فرقاً عظيماً كما ذكر ذلك الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى فالأولى سبب والثانية نتيجة كيف يكون ذلك ؟
الأولى سبب فقوله { إنما الأعمال بالنيات } هذه سبب بين فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كل عملٍ لابد فيه من النية كل عمل يعمله الإنسان وهو عاقل مختار لابد فيه من نية ولا يمكن لأي عاقل مختار أن يعمل عملاً إلا بنية حتى قال بعض العلماء: (لو كلفنا الله عملاً بلا نية لكان من التكليف ما لا يطاق) فلو قيل لإنسان قم فتوضأ بدون نية (بدون نية الوضوء) لكان هذا ما لا يطيقه الإنسان.
وأما قوله { وإنما لكل امرئ ما نوى } فهذه نتيجة, كيف نتيجة ؟(1/8)
يعني إن نوى الإنسان بهذا العمل الله والدار الآخرة حصل له ذلك, وإن نوى بعمله الدنيا فقد تحصل له وقد لا تحصل, هذا نتيجة فتبين أن معناها غير المعنى الأول.
إذاً قوله { إنما الأعمال بالنيات } هذه سبب يعني يبين فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - الكل, أن كل عملٍ لابد له من النية.
ولم يقل: عجلنا له ما يريد, بل قال ما نشاء, لا ما يشاء هو (لمن يريد) لا لكل إنسان فهنا قيد المعجل والمعجل له وعلى هذا يكثر الإنسان بإرادته لعمل الخير أن يريد به عرض من الدنيا فإن الإنسان من السفه أن يترك الأمر المتحقق إلى أمر مظنون... الأمر المتحقق هو أن الإنسان إذا أراد بعمله الله والدار الآخرة فإنه يؤجر عليه بلا شك نقول ذلك حسن ظن بالله - عز وجل - أما إذا أراد به الدنيا فإن الله تعالى قد يعطيه هذا وقد لا يعطيه... كما قال الله - عز وجل - { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ } .
قال النووي رحمه الله: (عند قوله " وإنما لكل امرئ ما نوى " قالوا: فائدة ذكره بعد { إنما الأعمال بالنية } بيان أن تعيين المنوي شرط لقوله { وإنما لكل امرئ ما نوى } فلو كان على الإنسان صلوات مقضية لا يكفيه أن ينوي الصلاة الفائتة فقط بل يشترط أن ينوي كونها ظهراً وعصراً ولولا اللفظ الثاني وهو قوله { وإنما لكل امرئ ما نوى } لأقتضى الأول وهو قوله { إنما الأعمال بالنيات } صحة النية بلا تعيين) إ.هـ.
وقوله { إنما الأعمال بالنيات } :
هذه ميزان لكل عمل, لكنه ميزان الباطن, يعني هذا أمره إلى الله - عز وجل - يعني ما نستطيع أن نقول لإنسان أنك نويت بهذا العمل غير الله, هذا ميزان الباطن ولذلك إياك وإياك أن تدخلي في نية الناس ومقاصدهم, وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } هذا ميزان للأعمال الظاهرة, فعندنا ميزانان.(1/9)
قال: { فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله } :
الهجرة لغة: الترك, والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره.
وأما في الاصطلاح: فهي ترك ما نهى الله عنه.
وقد وقعت الهجرة في الإسلام على وجهين:
الأول/ الانتقال من دار الخوف إلى دار المن كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة.
الثاني/ انتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان وذلك بعد أن استقر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالمدينة إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه, وعلى هذا يكون معنى الهجرة هي: الانتقال من بلد الكفر إلى دار الإسلام.
وإذا هاجر الناس فإنهم يختلفون بالهجرة:
1- فمنهم من هاجر إلى الله ورسوله يعني إلى شريعة الله التي شرعها الله على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا هو الذي ينال الخير.
2- ومنهم من يهاجر لدنيا يصيبها, كرجل في بلاد الكفر سمع أن بلداً من بلاد المسلمين مرتعاً خصباً لاكتساب الأموال, فهاجر من أجل ذلك لا يقصد بذلك الاستقامة على دين الله سبحانه وتعالى, فهذا هجرته إلى ما هاجر إليه.
3- من يهاجر يريد بذلك امرأة يتزوجها فمريد الدنيا ومريد المال لم يهاجروا إلى الله ورسوله فليس لهما من نصيب في الآخرة.
أيضا من المسائل تحت هذا الحديث أقسام الهجرة وهي تنقسم إلى ثلاث أقسام:
القسم الأول/ هجرة المكان وأعظم ما في ذلك:
الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام وهذه الهجرة واجبة إذا كان الإنسان لا يستطيع إظهار دينه أما إذا كان يستطيع إظهار دينه ولا يعارض إذا أقام شعائر الإسلام الظاهرة, فإن الهجرة هنا لا تجب عليه لكنها تستحب, وبناءً على هذا يكون السفر إلى بلد الكفر أعظم من البقاء فيه, كيف هذا ؟(1/10)
يعني مثلاً لدينا إنسان مسلم نشأ هناك ويستطيع إظهار شعائر دينه نقول هجرته مستحبة يعني يجوز له البقاء, أما كون الإنسان من بلد الإسلام ويريد الانتقال إلى بلد الكفر لسياحة بحجة أنه يستطيع إظهار شعائر دينه (لغير ضرورة شرعية) نقول له لا يجوز ذلك لأن السفر إلى بلاد الكفار أعظم من البقاء فيها وعلى هذا نقول لا يجوز للمسلم إذا كان في بلد الإسلام السفر إلى بلاد الكفار لما في ذلك من الخطر على دينه وأخلاقه وإضاعة المال وتقوية لاقتصادهم وبناءً على هذا لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات كعلم العقيدة, وغالب الذين يذهبون حظهم من العلم الشرعي كحظ الفلاة في رابعة النهار من الظل, يعني ليس عندهم شيء.
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يحميه من الوقوع في الشهوات (من الوقوع في الحرام).
الشرط الثالث: أن يكون مضطراً إلى ذلك كمريض للاستشفاء, أو يكون محتاج إلى علم لا يوجد في بلاد المسلمين (والعجيب مما صنع أن هناك من يتخصص في اللغة العربية في الخارج).
القسم الثاني من أقسام الهجرة/ هجرة العمل:
وهي أن يهجر الإنسان ما نهى الله عنه من المعاصي والفسوق كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده, والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه } (1).
القسم الثالث/ هجرة العامل:
__________
(1) والحديث في البخاري ومسلم.(1/11)
كهجرة الرجل المجاهر بالمعصية الذي لا يبالي بها, لكن هذا يقيد إذا كان الهجر يفيده, لكن عندنا الهجر إذا كان لأمر دنيوي لا يخل فوق ثلاث, وإذا كان لمصلحة شرعية فهذا لا يجوز ولو طالت المدة ودليل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - هجر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وهم {كعب بن مالك, وهلال بن أمية, ومرارة بن الربيع} هجرهم 50 ليلة, لكن هذا يقيد فيما إذا كان الهجر يفيده, أما إذا كان لا يفيده ولا يردعه يعني كإنسان يتعامل بالربا إذا كان هجره هجر زيارته يردعه بأنه يجب هجره وأما إذا كان لا يردعه ولا يفيده فنقول: الأصل عدم الحل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث...إلخ(1) } .
وقوله في الحديث { إلى دنيا } :
بضم الدال هي فُعلى من الدنو ومن القرب وإنما سميت لسبقها للأخرى وقيل سميت بذلك لدنوها من الزوال.
وقوله { يصيبها } :
أي يحصلها لأن تحصيلها كإصابة الصيد (الغرض) بالسهم لجامع حصول المقصود.
قال: { لدنيا يصيبها أو امرأة } أليست المرأة من الدنيا ؟
بلى. إذا لماذا نص عليها ؟ قيل لأنه إنما نص عليها لاهتمامه بها وبهذا الأمر وذلك لزيادة التحذير من هذه الفتنة لأن الافتنان بها أشد ولذلك خصها النبي كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - { ما ترك علي من فتنة هي أشد على الرجال من النساء } .
هنا قال: { فهجرته إلى ما هاجر إليه } وفي الأولى قال { فهجرته إلى الله ورسوله } لماذا غاير بينهما ؟
إنما قال ذلك بقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله وعظم شأنهما بخلاف الدنيا والمرأة فإن السياق يشعر بالإعراض عنهما لذا قال { فهجرته إلى ما هاجر إليه } .
هذا الحديث فيه فؤائد منها:
*عدم جواز الإقدام على العمل قبل معرفة حكمه.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(1/12)
* أن من صام تطوعاً بنية قبل الزوال فإنه لا يحسب له إلا من وقت النية, يعني لو أن إنساناً مثلاً قام في وقت الضحى من يوم الخميس فقال لعلي أصوم لكنه ما نوى إلا من وقت الظهر أو العصر فإنه لا يحسب له إلا من وقت النية, ويصح صومه.
* أن الواحد الثقة إذا كان في مجلس جماعة ثم ذكر شيئاً في ذلك المسجد لا يمكن غفلتهم عنه ولم يذكره غيره فإن ذلك لا يقدح في صدقه, لأن علقمة ذكر أن عمر خطب على المنبر وذكر الحديث وهذا الحديث طريقه واحد أي لم يصح من جهة أخرى عنه غير علقمة.
* فيه جواز زيادة النص على السبب لأن الحديث سيق في قصة المهاجر لتزوج المرأة ومع ذلك ذكرت الدنيا في القصة زيادة في التحذير والتنفير.
عظم شأن النية وأن شأنها عظيم.
أن من كانت هجرته لله ورسوله يعني من عمل صالحاً ابتغاء مرضاة الله فإنه يحصل له ما يريد يحصل له ذلك بفضل الله سبحانه وتعالى ومنته وكرمه وأما من هاجر إلى دنيا يصيبها أو أمراة ينكحها فإن هذا قد يحصل له وقد لا يحصل.
- الدرس الرابع -
قال المصنف في الحديث الثاني:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ } والحديث عند البخاري والترمذي والإمام أحمد.
قال { لا يقبل } المراد بالقبول هنا: هو ما يراد في الصحة وهو الأجزاء.
وحقيقة القبول: أي قبول الطاعة هو ثمرة وقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذمة.
ولما كان الإتيان بشروطها(العبادة) مظنة الأجزاء الذي القبول ثمرتها عبر عنها بالقبول مجازاً, لأنه قد توجد الطهارة لكن لا تقبل الصلاة لكن لما كان الإتيان بشروط الصلاة ومنها الطهارة مظنة الأجزاء عبّر عن ذلك بالقبول مجازاً.
وقوله في الحديث { إذا أحدث } : أي وُجد منه الحدث والمراد به الخارج من أحد السبيلين.
والحدث عند العلماء يطلق على ثلاث إطلاقات:
الإطلاق الأول/ يطلق على الخارج من السبيلين (البول والغائط).(1/13)
الإطلاق الثاني/ يطلق على الوصف القائم بالبدن الذي يمنع من الصلاة ونحوها.
الإطلاق الثالث/ يطلق الحدث على نفس الخروج, والمراد هنا في الحديث الإطلاق الأول, أي إذا خرج منه الخارج من السبيلين.
واستدل بهذا الحديث على بطلان الصلاة بالحديث سواءً كان الخروج اضطرارياً أو اختيارياً وأيضاً استدل بذلك على أن الوضوء لا يجب لكل صلاة, لأن القبول في قوله { لا يقبل الله } إنتهى إلى غايته لأنه قال { حتى يتوضأ } .
وقوله { يتوضأ } التعبير هنا بالغالب, وإلا المراد هنا التطهير سواءً كان ذلك بالماء أو ما يقوم مقامه, لأن الإنسان قد لا يجد الماء, فهل ممكن أحد يستدل علينا بهذا الحديث ؟ يقول لا, حتى يتوضأ ؟
لا. هنا التعبير بالغالب وهذا هو الغالب في حياة الناس, أنهم لا يصلون إلا بعد الوضوء لكن قد يحصل للإنسان فقد الماء أو عدم قدرة على استعماله(الماء) فتيمم فالتعبير هنا بالغالب والمعنى يتوضأ, أي بالماء أو ما يقوم مقامه.
وقد روى النسائي بإسناد قوي عن أبي ذر مرفوعاً { الصعيد الطيب وضوء المسلم } فأطلق الشارع على التيمم وضوء لكونه قام مقامه.
ولا يخفي أنه المراد من قوله { لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ } أي أنه يأتي بالوضوء مع باقي شروط الصلاة.
وقوله { حتى يتوضأ } الوضوء بضم الواو وهو النظافة والحسن, والوضوء بفتح الواو فهو الماء الذي يتوضأ به.
وفي الشرع هو استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة في الشرع.(1/14)
الحكمة في الوضوء/ أنه جوهر الصلاة وروح الصلاة أن يتصور العبد أنه أمام الله - عز وجل - ولكي يتهيأ ذهن الإنسان لذلك ويتخلص من شواغل الحياة, فرض الوضوء قبل القيام بالعبادة لماذا ؟ لكون الوضوء آلة هادية لتنبيه ذهن الإنسان المستغرق في أعمال الحياة إلى أداء الصلاة, حكمة عظيمة, وإنما أمرنا بالتنبيه للصلاة بهذا الشيء المحبب إلى النفس بالأصل, فإن المستغرق بفكره في أعمال التجارة أو الصناعة ونحوها, لو قيل له: قم مباشرة لوجد صعوبة في تأديتها, ومن هنا كانت الحكمة في الوضوء لأنه يساعد على ترك التفكير الأول ويعطيه الوقت الكافي في تفكير عميق... من نوع آخر, لكن أيضاً نحن نحتاج في الحقيقة إلى أن ننقل الوضوء من كونه عادة إلى كونه عبادة والله المستعان. والطهارة الصغرى يقتصر فيها على غسل الأطراف التي جرت العادة بانكشافها وخروجها من اللباس فتسرع إليها الأوساخ كما جرت العادة بنظافة هذه الأشياء عند الدخول على الكبراء وتقابل الناس بعضهم مع بعض.
كما أن غسل هذه الأعضاء الأربعة فيه تنبيه للنفس من النوم والكسل وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: جاءت السنة باجتناب الخبائث الجسمانية والتطهر منها وكذلك جاءت باجتناب الخبائث الروحانية والتطهر منها. ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - { إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاثاً (أو فليستنشق) فإن الشيطان يبيت على خيشومه } وقال أيضاً { إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلهما ثلاثاً } فعلل الأمر بالاستنشاق بمبيت الشيطان على خيشومه. فعُلِم أن ذلك سبب الطهارة من غير النجاسة الظاهرة. هناك سبب آخر ولذلك قال شيخ الإسلام جاءت السنة باجتناب الخبائث الجسمانية والتطهر منها وهذا غنما يكون في غسل الأطراف الأربعة وكذلك جاءت باجتناب الخبائث الروحانية ولعل الإستنثار ثلاثاً وغسل الكف ثلاثاً للقائم من نوم الليل هو من هذا.(1/15)
والوضوء من أهم شروط الصلاة لقوله - صلى الله عليه وسلم - { إن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ } (1).
وأيضاً مما روى مسلم في كتاب الطهارة ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { الوضوء شطر الإيمان } .
ومن عظم الوضوء نزلت فريضته من السماء كما قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ... } .
واختلف العلماء هل فرض الوضوء في مكة المكرمة أو في المدينة ؟ والمحققون من أهل العلم على أنه فرض في المدينة لعدم النص الناص على خلاف ذلك.
مسألة:
إذا كان الإنسان لا يجد ماء ولا تراباً أو ما كان من جنس الأرض ؟ (لأنه على الصحيح سيأتي معنا أنه يصح التيمم على الأرض وما كان من جنس الأرض).
أما أن كان من غير جنس الأرض فتيمم على الغبار صح ذلك ولو كان نجس وعلى هذا إذا كان الإنسان لا يجد ماءً ولا تراباً فعلى خلاف, والصحيح أنه يصلي حسب حاله, يعني يصلي بلا وضوء ولا تيمم وإذا صلى لا يعيد صلاته بعد ذلك إذا قدر على الماء أو التراب لقوله - صلى الله عليه وسلم - { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } ولقوله تعالى { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (2) فهذا اتقى الله ما استطاع. ما كان من غير جنس الأرض كالخشب فيشترط لتيممه أن يكون عليه غبار والغبار من جنس الأرض.
{ الحديث الثالث }
عن عبدالله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهم قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { ويلٌ للأعقاب من النار(3) } .
قوله { ويل } اختلف أهل العلم في معنى ذلك على أقوال نذكر منها:
القول الأول/ قال ابن الأثير: أن المراد بالويل الحزن والمشقة والهلاك.
__________
(1) وهذا في الصحيحين.
(2) التغابن: من الآية16).
(3) رواه البخاري ومسلم.(1/16)
القول الثاني/ وقد ذكر ابن حجر فيما رواه ابن حبان في صحيحة من حديث أبي سعيد مرفوعاً { ويل, وادي في جهنم } وهذا هو الأقرب.
قوله { الأعقاب } :
العقب هو مؤخر القدم, قال البغوي رحمه الله معناه: (ويل لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها, وقيل إنما أراد أن العقب مختص بالعقاب إذا قصر بغسله لأن العقاب يختص به).
فؤائد الحديث:
*غسل الأعضاء الثلاثة وجوباً بكاملها ولذلك شدد النبي - صلى الله عليه وسلم - على العقب الذي قد لا يصيبه الماء من تركه في النار, ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - { من ترك موضع شعرة من الجنابة لم يصبه الماء عذبه الله بالنار كذا وكذا } فعلى المسلم الحذر من عدم إسباغ الوضوء. وعليه أيضاً الحذر من الوسواس وغسل الرجلين فرض من فروض الوضوء. خلافاً لما عليه الرافضة قبحهم الله فهم يقولون (وأرجلكم) بكسر اللام فهم يرون أن حقهما المسح (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) فتكون معطوفة على الرؤوس, بينما القراءة الصحيحة (وأرجُلكم) فتكون معطوفة على غسل الوجه واليدين.
* أن عدم إسباغ الوضوء من كبائر الذنوب.
* إثبات وجود النار وأنها موجودة.
* أن العذاب يتبعض فليس بلازم أن يتعذب الإنسان كله بالنار. فإذا كان طرف يده لا يصيبه الماء مثلاً, تعذب اليد وهكذا بقية الأعضاء. ولذلك قال ابن حجر رحمه الله: وإنما خصصت بالذكر أي الأعقاب دون غيرها لوجود السبب أو الصورة السبب لأنه يقول: الأعقاب فيلتحق بها ما في معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصل التساهل في إسباغها, ولذلك ورد في الحاكم وغيره من حديث عبدالله بن الحارث { ويلٌ للأعقاب وبطون الأقدام من النار } وإنما خصت الأعقاب لأنه قد يحصل فيها التساهل أكثر من غيرها وعلى هذا فليتنبه المسلم.
- الدرس الخامس -
{ الحديث الرابع }(1/17)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً, ثم لينتثر, ومن استجمر فليوتر, وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثاً, فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده } وفي لفظ لمسلم { فليستنشق بمنخريه من الماء } وفي لفظ { من توضأ فليستنشق } .
قوله في الحديث { لينتثر } :
الاستنثار: هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق.
وقوله { فليجعل في أنفه ماء } :
يدل على وجوب الاستنشاق وهذا مذهب الإمام أحمد أنهما واجبان في الوضوء (المضمضة والاستنشاق).
القول الأول/ وهو مذهب الإمام أحمد أنهما واجبان في الوضوء والغسل.
أما القول الثاني/ فهو قول المالكية والشافعية أنهما لا يجبان لا في الوضوء ولا في الغسل أي سنة في الغسل والوضوء.
القول الثالث/ وهو قول أبي حنيفة رحمه الله أنهما رحمه الله أنهما يجبان (المضمضة والاستنشاق) في الغسل أما في الوضوء فعلى سبيل الاستحباب.
والراجح هو القول الأول.
قال { ومن استجمر فليوتر } .
يسن للإنسان أن يستجمر وتراً. والإستجمار وتراً ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول/ أن يكون الاستجمار واجب.
القسم الثاني/ أن يكون الاستجمار مستحب.
أما الاستجمار الواجب فهو ثلاث مسحات يعني لا تكفي واحدة ولا اثنان حتى ولو أنقتا أي حتى لو أنقت الواحدة والاثنتان وهذا قول أكثر أهل العلم, أنه لابد من ثلاث حتى لو أنقت الواحدة والاثنتان فإنهما لا تجزئ. وقال بعضهم: إذا أنقت الواحدة أو الاثنتين أجزأ ذلك ولكن حديث سلمان وفيه(أن لا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) يدل على أنه لابد من ثلاث, أما المستحب فهو الاستجمار المسنون. فإذا لم تنتقي الثلاث فإنه يزيد رابعة وجوباً فإذا أنقت الرابعة يزيد خامسة استحباباً لينقي على وتر.
وهذا هو الفرق بين الاستجمار الواجب والاستجمار المستحب.
الاستجمار لغة: مأخوذ من الجمار وهي الحجارة الصغيرة.(1/18)
أما في الاصطلاح فالمراد بها تطهير محل الخارج سواءً كان بولاً أو غائط بالأحجار ونحوه.
والوتر هو جعل العدد وتراً.
هنا مسألة:
هل يجب الاستنثار بعد الاستنشاق ؟
هنا صحيح أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الوضوء والغسل ولكن هل يجب الاستنثار بعد الاستنشاق يقال أنه سنة وليس بواجب , طيب .. قد تقول طالبة العلم لماذا ؟ لأن في الحديث أمر حيث قال (فلينتثر) وقد أخذنا من ألفاظ الوجوب في أصول الفقه الفعل المضارع المقترن باللام. (فلينتثر) إذاً لماذا قلنا بالسنية ؟
ولكن قلنا ذلك (أن الاستنثار بعد الاستنشاق) سنة لأن هناك صارف يصرفه من الوجوب إلى السنية والصارف هو أن الاستنثار هنا لتحصيل كمال لأن تنظيف الأنف حصل بلاستنشاق.
وقوله(لينتثر) هذا كمال تنظيف وشبيه ذلك(المضمضة) فإنه إذا جعل الماء في فمه فبلعه أجزئه لأنه لا يلزم أن يمجّه في فمه لأن (مجّه) سنة.
قال { وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثاً } .
مسألة:
غسل اليدين بعد القيام من نوم الليل هل هو واجب أوليس واجب ؟
الجمهور قالوا: أنه ليس بواجب, والمشهور من مذهب الحنابلة: الوجوب وهذا هو الراجح أن الإنسان إذا قام من نوم الليل يجب أن يغسل يديه ثلاثاً.
ولذلك النهي هنا نهي تحريم كما في مذهب الظاهرية وقال الشيخ محمد رحمه الله: فلو غسل يديه في الإناء أو غمس يديه في الإناء قبل أن يغسلهما فإنه يأثم.
هنا مسألة:
قال في الحديث { فلا يغمس) إذا أراد أحدنا أن يتوضأ من صنبور أو يصب عليه الماء فهل يجب عليه أن يغسل يديه أم أن ذلك مختص بمن سيغسل يديه من الإناء.
المشهور أنه لا يلزم إذا كان من صنبور أو أحد صبّ عليه لأن الحديث (لا يغمس).
والقول الثاني: على الوجوب لأن الغرض واحد مثل قوله - عز وجل - { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً (1) } .
- الدرس السادس -
متابعة شرح الحديث السابق:
__________
(1) النساء: من الآية10)(1/19)
في حديث أبي هريرة الرابع كما تقدم وقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - { إذا توضأ أحدكم ...الخ } .
وقفنا عند قوله { لا يدري } وهذه المسألة مؤاخذة النائم على قسمين:
القسم الأول/ مؤاخذة بأقواله.
كما لو طلق وهو نائم أو قذف أو شتم شخصاً وهو نائم فهذا لا يؤاخذ لأنه قال: فإنه لا يدري.
القسم الثاني/ أفعال النائم وهذه على قسمين:
الأول: ما كان حقاً لله - عز وجل - فلا يؤاخذ عليه كما لو شرب خمراً وهو نائم أو شرب وهو صائم ناسياً أو نائماً فإنه لا يؤاخذ.
الثاني: ما كان حقاً للآدمي فإنه يؤاخذ على ذلك إذا أتلفه حتى ولو كان نائماً فإنه يؤاخذ على ذلك بالضمان.
وعلى هذا لو انقلبت المرأة على طفلها وهي نائمة لزمتها الدية والكفارة.
هنا مسألة:
ما هي العلة في النهي عن الغمس قبل الغسل ؟
1- مذهب الحنابلة قالوا بأن العلة تعبدية يعني أنها لا تُعقل أي غير معقولة يعني النهي عندهم غير معلل فالمسألة عندهم متوقفة على النص أي نتعبد ونستسلم للشارع بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.
2- قالوا بأنها معللة ولكن ما هي العلة ؟ الذين قالوا بأن هنالك علة اختلفوا فالشافعية يقولون (العلة هو خوف النجاسة) لأنهم كانوا في بلاد الحجاز يستجمرون وكانت بلاد الحجاز حارة فعلى هذا يحتمل أن الإنسان يعرق ثم يسيل شيء من النجاسة ثم يلامسها بيده.
أما قول شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: (أن العلة هي خشية ملامسة الشيطان ليد النائم ملامسة حقيقية).
ونظير ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - { إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنشق ثلاثاً فإن الشيطان يبيت على خيشومه } والحديث في الصحيحين وهذا فلأحوط أن يغسل يديه وإن لم يغمس كما تقدم "يعني حتى لو أراد أن يتوضأ من الصنبور فإنه يغسل يديه ثلاثاً قبل أن يشرع فإنه يغسل يديه ثلاثاً" وأصح التعاليل هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بأن العّلة خشية ملامسة الشيطان ليد النائم ملامسة حقيقية.(1/20)
وقوله { فإنه لا يدري أين باتت يده } :
يد هذا مفرد مضاف وعند الأصوليين أن المفرد المضاف يقتضي العموم. وعلى هذه قوله يد يشمل اليدين جميعاً.
{ الحديث الخامس }
قال وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري, ثم يغتسل فيه } ولمسلم لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب } .
البول في الماء لا يخلو من أمور:
الأمر الأول/ أن يكون الماء جارياً كثيراً كالوادي أو الساقي فهذا لا يُنهى عن البول فيه ولا بأس من البول فيه.
الأمر الثاني/ أن يكون جارياً قليلاً يعني يجري لكنه قليل فظاهر الحديث انه لا بأس فيه " أي من البول فيه " , اللهم إلا إذا تضمن مفسدة فإنه يحرم قد يستدل على هذا من وجه آخر لكونه يفسده على الناس.
الأمر الثالث/ أن يكون راكداً قليلاً لا أشكال في حرمة البول فيه لهذا الحديث.
الأمر الرابع/ أن يكون راكداً كثيراً, فظاهر الحديث أنه ينهى عن ذلك حتى لو كان كثير والفقهاء رحمهم الله يصرحون بالكراهة (كراهة البول فيه) خصوصاً الشافعية لكن ظاهر الحديث أنه ينهى عن ذلك والأصل في النهي التحريم لأنه يقذّره على غيره.
الفؤائد من الحديث:
1-النهي عن إيذاء الناس لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن البول في الماء الراكد لما في ذلك من إيذأ الناس ولما فيه من تنجيس الماء عليهم ولقوله تعالى { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً(1) } .
2-أن التغوط يدخل في هذا الحديث كما هو مذهب الجمهور فالحديث فيه النهي عن البول والتغوط يدخل في النهي لأن التغوط أشد إيذاءً للناس مع أن الظاهرية قالوا بأن النهي خاص بالبول دون الغائط لكن هذا جمودٌ على النص وهذا لا يأتي بمثله الشريعة والصحيح مذهب الجمهور فإذا كان نهى عن البول في الماء الدائم الذي لا يجري فالتغوط من باب أولى.
__________
(1) الأحزاب:58).(1/21)
3-أن النهي عن البول في الماء الراكد عام سواء بال الإنسان مباشرة بالماء أو بال في إناء ثم صبه في الماء والظاهرية قالوا بأنه لو بال في غناء ثم صبه في الماء فإنه لا يدخل في النهي وهذا غريب والصحيح كما قلنا أن هذا جمودٌ على النص.
4-أن الإنسان يُنهى عن كل ما يؤدى إلى تقذير الماء أو تنجيسه.
هنا مسألة:
ما حكم الاغتسال من الماء الراكد الذي بال فيه ؟ يعني هل الاغتسال من الماء الراكد الذي بال فيه على سبيل التحريم أو سبيل التتريه ؟
نقول هنا فيه تفصيل:
1/إن كان الماء قليلاً بحيث ينجسه هذا البول فالنهي هنا على سبيل التحريم.
2/أما إن كان الماء كثيراً ثم بال فيه واغتسل فهذا على سبيل التتريه يعني النجاسة تضمحل في الماء الكثير فلا تؤثر في رائحته ولا في طعمه ولا لونه.
قال في الحديث ولمسلم { لا يغسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب } .
هنا مسألة أخرى:
ما حكم الاغتسال في الماء الدائم إذا كان الإنسان على جنابة { يعني غسله واجب)؟
نقول المسألة تنقسم إلى أربعة أقسام:
1.إن كان الماء كثيراً جارياً: فلا بأس من الاغتسال فيه.
2.إن كان الماء قليلاً جارياً: ظاهر الحديث أنه لا بأس أن يغتسل فيه وهو جنب إلا إذا كان هناك مفسدة كما تقدم.
3.أن يكون قليلاً راكداً: هذا فيه قولان:
أ-أنه يكره (هذا قال فيه الكثير من أهل العلم) يعني يكره أن يغتسل في الماء القليل الراكد وهو جنب.
ب-أنه يحرم (هذا قول الظاهرية وهو الأقرب لأن الأصل في النهي التحريم).
4.أن يكون كثيراً راكداً: ظاهر الحديث أنه يحرم لأن الأصل في النهي التحريم.
مسألة:
هذه الرواية استدل بها بعض الفقهاء أن الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام (طهور, طاهر, نجس) ؟
الطهور: ما بقي على أصله.
النجس: ما تغير بنجاسة يعني تغيرت أحد أوصافه الثلاثة طعمه أو لونه أو ريحه.
الطاهر: قالوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الاغتسال بالماء الدائم.(1/22)
استدلوا بهذا أن الماء يكون طهور ولا نجس لماذا ؟ قالوا لأنه ليس هناك دليل على نجاسة هذا الماء لأن المؤمن طاهر وحتى الكافر, واستدلوا بهذا على أن الماء ثلاثة أنواع.
لكن القول الصحيح أن الماء على قسمين لن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم عن حكم الماء وإنما عن حكم الاغتسال.
مسألة:
ماذا يصنع من كان على جنابة ووجد ماء دائماً ؟
نقول كما قال أبو هريرة لما قيل له: كيف يفعل يا أبو هريرة يعني إذا كان منهي عن الاغتسال في الماء الدائم وهو جنب قال { يتناوله تناولاً } أي يأخذ منه وهو خارج ويغتسل منه.
ولعلنا نقف عند الحديث السادس, والله تعالى أعلم.
- الدرس السابع -
{ الحديث السادس }
معنا في كتاب عمدة الأحكام الحديث السادس وهو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال { إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً } ولمسلم { أولهن بالتراب } .
قوله في الحديث { إذا شرب } هذا هو المقصود { بالولوغ } الوارد في الحديث الذي بعد هذا لأنه سيأتي في الحديث السابع حديث عبدالله بن مغفل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { إذا ولغ الكلب } فالولوغ المقصود في هذا الحديث هو قوله { إذا شرب } لأن الولوغ هو أن يشرب الكلب بطرف لسانه يعني يُدخل لسانه في الإناء ثم يشرب.
هذا الحديث وحديث أبي هريرة فيه فؤائد:
1/نجاسة الكلب, نجاسة ولوغ الكلب ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - { فليغسله سبعاً } وهذا هو قول الجمهور.
2/ أن نجاسة الكلب نجاسة مغلظة لأن العلماء يقسمون النجاسة إلى ثلاثة أقسام:
أ- نجاسة مغلظة: وهي نجاسة الكلب والحق بعض العلماء الخنزير بالكلب وهو المشهور من مذهب الحنابلة فقالوا: إذا ولغ الخنزير في الإناء فإنه يغسله سبعاً قياساً على الكلب هذا سيأتي إن شاء الله تعالى.(1/23)
ب- نجاسة مخففه: وهي بول الصبي الذي لم يأكل الطعام وهذا يكفي فيه النضح يعني يُرش عليه الماء رشاً وقولنا الصبي الذي لم يأكل الطعام ليس المقصود وأنه إذا وُضِعَ في فمه الطعام لم يأكله لأن الصبي حتى ولو صغر إذا وضع في فمه الطعام فإنه يأكله لكن معنى ذلك الصبي الذي لا يتشوف إلى الطعام ولا يشتهيه ولا يشير رغبةً به ليس المقصود أنه إذا وضع في فمه أكله لأن هذا قد يحصل من الصغر جداً وإنما المقصود أنه ليس بطعاماً له ولا يتشوف إليه ولا يريده وألحق شيخ الإسلام بهذا القسم المذي وهو الذي يخرج عند التفكير في الجماع أو الحديث بالجماع أو عند المداعبة قال بأنه يكفي بأن يرش شيء من الماء إذا أصاب شيئاً من الثياب.
ج- نجاسة متوسطة: وهي ما بين هذين القسمين يعني ليس من النجاسة المغلظة ولا من النجاسة المخففة وهذا كنجاسة بول الجارية والكبير ونحو ذلك.
3/ فيه دليل لمن قال أن النجاسة المغلظة هي الولوغ فقط أما بول الكلب ونحو ذلك فهذه ليست مغلظة وإنما يكفي غسلها حتى يقلب على الظن زوالها خلافاً للظاهرية.
هنا مسألة:
هل يسبع في غسل ولوغ الكلب أم لا, يعني هل يغسله سبعاً أو لا ؟
* الجمهور وهو المذهب: أنه لابد من سبع غسلات لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { فلغسله } .
* القول الثاني للأحناف: أن التسبيع ليس بواجب وإنما هو على سبيل الاستحباب وهذا قول الأحناف والأحناف يطردون المسألة ويقولون بأن النجاسات لا يسبع فيها لا يعني لا يغسلها سبعاً.
* أما دليل الجمهور وأنه لابد من التسبيع في غسل ولوغ الكلب استدلوا بقوله { فليغسله سبعا } وهذا كما تقدم معنا من ألفاظ والوجوب, يغسل فعل مضارع اقترنت به اللام.
أما الأحناف فأستدلوا على أن التسبيع ليس بواجب, ما هو دليلهم على ذلك ؟
دليلهم على ذلك أن أبا هريرة { سئل عن الإناء الذي ولغ فيه الكلب, فأفتى أنه يُغسل ثلاثاً } وإسناده صحيح لكن يجاب عن هذا بأجوبة:(1/24)
ج: أنه ورد عن أبي هريرة بإسناد أصح من هذا وهو الحديث الذي معنا أنه يغسل سبعاً.
وهذا أولى من الرواية التي أفتى أنه يُغسل ثلاثاً لأمرين:
الأمر الأول/ أنه موافق لما روى يعني هذا موافق لما روى الغسل سبعاً.
الأمر الثاني/ أنه أصح إسناداً أما الإفتاء بثلاث فلعله نسي وهذا الجواب الأول.
الجواب الثاني:
أنه إذا تعارض ما رأى مع ما روى فالعبرة بما روى لا بما رأى, لأنه سُئِل عن الإناء الذي ولغ فيه الكلب فأفتى أنه يُغسل ثلاثاً هذا يحسب ما رأى لكنه روى في حديث أبي هريرة الذي بين أيدينا أنه سبعاً وعلى هذا إذا تعارض ما رأى مع ما روى فالعبرة بما روى وعلى هذا فالراجح أنه يُغسل سبعاً, قال ولمسلم { أولاهن بالتراب } .
ورد عدة روايات:
رواية ورد { أولهن } , وفي رواية { أخراهن } , وفي رواية { أخراهن } , وفي رواية ثالثة ورد { إحداهن } , وفي رواية رابعة ورد { أولهن أو أُخراهن } .
هذه أربع روايات فأيهما أرجح ؟
نقول:
المستحب أن يكون التراب في الغسلة الأولى ترجح رواية { أُلاهن } لماذا ؟
لأن رواية إحداهن مطلقة, لأنه قال: إحداهن تحتمل الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة فتحمل على الغسلة الأولى, ورواية { أولهن أو أُخراهن } فيها شك أو تفيد الشك لم يبق عندنا إلا رواية { أُلاهن } وَ { أخراهن } فترجح عليها رواية أولاهن لماذا ؟ لأنه إذا غسل التراب في المرة الأولى فإن ذلك مدعاة لأن يكون الإناء أنظف لأن يغسل بعد ذلك ست مرات بخلاف ما لو جعل التراب في الغسلة الأخيرة وكونه على كل يجعل التراب في الغسلة الأولى هذا على سبيل الاستحباب فلو جعله في الآخرة فإنه لا بأس بذلك ثم قال المصنف رحمه الله تعالى بعد ذلك, وله في حديث عبدالله بن مغفل قال - صلى الله عليه وسلم - { إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب } .
قوله في الحديث هنا { وعفروه الثامنة بالتراب } هل تجب الغسلة الثامنة أولا تجب؟(1/25)
مذهب الجمهور: الحنابلة, الشافعية, والمالكية, والأحناف يعني الأئمة الأربعة: أنه لا يجب إلا سبع غسلات إحداهن بالتراب.
القول الثاني: وهو قول الحسن البصري أن الواجب ثمان غسلات لقوله وعفروه الثامنة بالتراب وجمع بعض العلماء بين ذلك وقال: الثامنة ليست غسلة مستقلة وإنما هي مضافة إلى إحدى الغسلات فهي تقوم مقام الثامنة وعلى هذا يقال يعفره الأولى ثم يغسله سبعاً. قالوا: فإذا أضيف إلى إحدى الغسلات تراب فإنه بمنزلة الثامنة.
هنا أيضاً مسألة:
هل لابد من التراب أم يكفي غيره ؟
قال بعض العلماء أن عين التراب ليست متعينة يعني لا يلزم أن يكون بالتراب فلو غسل بتراب أو صابون أو أشنان ونحو ذلك كفى ذلك لكن الظاهرية تمسكوا بظاهر النص وقالوا بأنه لابد من التراب وبعض المتأخرين يؤيد هذا ويقول بأن الكلب إذا ولغ في الإناء فإنه ينزل معه دودة لا يزيلها إلا التراب وهذا هو القرب.
أيضاً من المسائل:
يؤخذ من الأحاديث السابقة أنه لا فرق بين الكلب المأذون فيه وغير المأذون فيه ؟
الكلب المأذون فيه, مثل كلب الصيد والماشية والحرث.
فلا فرق بينهما سواءً أُذن فيه أم لم يؤذن فيه فكل منهما إذا ولغ يغسل سبعاً إحداها بالتراب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق فإذا ولغ الكلب في الإناء فإنه يجب غسله سبع مرات لأن الشارع أطلق ولم يفرق.
أيضاً من المسائل:
هل يقاس الخنزير على الكلب أو لا يقاس.
مذهب الحنابلة بأنه يقاس عليه يقولون بأن الخنزير إذا ولغ في الإناء فغنه يجب غسله سبعاً.
والقول الثاني: الجمهور وهم الشافعية, والمالكية, والحنفية قالوا بأنه لا يلحق به وإنما يُغسل يعني ولوغ الخنزير كغيره لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على الكلب ولم ينص على الخنزير أما كون الخنزير رجس فا الله تعالى وصف الخمر بأنها رجس أيضاً وهي لا تغسل سبعاً.
أيضاً من المسائل:(1/26)
ما ولغ فيه الكلب فإنه نجس, لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإراقته ولذلك قال { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مِرار } .
وما ولغ فيه الكلب فغنه ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون مائعاً يعني يكون كالماء مثلاً هذا يجب إراقته.
القسم الثاني: أن يكون يابساً فهذا لا يجب إراقته كالدهن المتجمد مثلاً هذا لا يجب إراقته وإنما يُلقى ما مسه الكلب أو ما ظُن أن الكلب أخذ منه بلسانه فقوله في الرواية السابقة (فليرقه) هل الأمر هنا للنجاسة, يعني هل كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإراقته لكونه نجساً أو لغير ذلك فيه قولان لأهل العلم:
القول الأول: ما عليه أكثر أهل العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بإراقته لكونه نجساً.
القول الثاني: أنه لا يلزم من ذلك أن يكون لنجاسته بل قد يكون ذلك لمضرته وهذا يتخرج على كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لأن شيخ الإسلام يرى أن المانعات لا تنجس إلا بالتغير فهو إذا تغير بولوغ الكلب أو كان يُحتمل ظن التغير فالأمر ظاهر أنه نجس كما لو كان الماء قليل, أما إذا كان كثيراً لا يحتمل التغير فهنا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لوجود الضرر الذي يخلفه ولوغ الكلب, وبالمناسبة دَأبَ كثير من المسلمين مع الأسف الشديد إلى اقتناء الكلب وذلك إنما يكون لغير حاجة ليس كلب صيد أو ماشية أو حرث فدأبوا على اقتنائه تشبهاً بالكفار والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن من اتخذ كلباً لغير حاجة فإنه ينقص كل يوم من أجره قيراطان ولا شك أن ذلك من مظاهر التغريب ونتيجة لذلك وجدت بعض المحلات التي تتاجر بالكلاب, أكرم الله تعالى الجميع وهذا مصداق لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - { لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه, قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال فمن } , يعني إذا لم يكن هم فمن يكونون.(1/27)
فعلى هذا يحذر المسلم من غبة هذا الأمر ولذلك قالوا بأن الكلب من الأموال المختصة.
كيف من الأموال المختصة؟
يعني من استغنى عنه إذا كان كلب ماشية أو صيد أو حرث أطلقه ويستفيد منه غيره فلا يجوز بيعه لكن إن احتاج الإنسان إلى ذلك باقتناء كلب صيدٍ أو ماشية أو حرث ولم يجد إلا بيعاً فإنه لا حرج في ذلك وإنهم قالوا بأنه من الأموال المختصة من استغنى عنه أطلقه. والله تعالى أعلم.
- الدرس الثامن -
{ الحديث الثامن }
عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه رأى عثمان - رضي الله عنه - دعاء بوضوء, فافرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاث ويديه إلى المرفقين ثلاثا, ثم مسح برأسه, ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا, ثم قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا, وقال { من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه } .
قوله في الحديث { بوَضو } بالفتح أي دعا بماء يتوضأ به, وبالضم الفعل { وُضوء } أي الماء الذي يتوضأ به.
وقوله { فأفرغ على يديه } المقصود بهما الكفين كما جاء في الرواية الأخرى { فغسل كفيه ثلاث مرات } والكف هو ما بين أطراف الأصابع إلى الرسغ.
وقوله { تمضمض } المضمضة هي جعل الماء في الفم وإدارته فيه ثم مجه.
وقوله { واستنشق } الاستنشاق هو جذب الماء إلى داخل الأنف, و { استنثر } مأخوذ من النثرة وهي طرف الأنف والمقصود إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق. وقوله { ثم غسل وجهه } حد الوجه من منحنى الجبهة طولا إلى الذقن وعرضا من الأذن إلى الأذن.
وقوله { إلى المرفقين } إلى بمعنى مع لأنه قال: ويديه إلى المرفقين, إلى هنا بمعنى (مع) أي مع المرفقين والدليل على أن إلى بمعنى مع قوله تعالى { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ(1) } .
وهل المرافق داخلة في الغسل أم لا ؟
__________
(1) النساء: من الآية2).(1/28)
بعض العلماء قالوا بأن المرافق ليست داخلة في الغسل بظاهر الآية. والقول الثاني: بأنهما داخلان والروايتان مرويتان عن مالك.
والثاني لأشهب, أشهب من المالكية والأولى عليها أكثر العلماء أو أكثر أهل العلم على دخول المرفقين وهو الراجح والدليل على دخول المرفقين قوله تعالى { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } (1) والرسول - صلى الله عليه وسلم - فسر هذه الآية بفعله حتى أنه كان يشرع في العضد الذي فوق المرفق كما ورد ذلك في حديث أبي هريرة وهنا قال ويديه إلى المرفقين هنا أطلق لفظ اليدين ولكن يجب أن يقيد ذلك إلى المرفقين لأن اليد في الأصل إذا أطلقت لا يراد بها إلا الكف كما قال تعالى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (2) وقوله تعالى { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } (3) ولم يمسح الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التيمم إلا الكفين والمرفق هو المفصل الذي بين العضد والذراع وسمي بذلك من الارتفاق لأن الإنسان يرتفق عليه أي يتكئ.
قال { ثم مسح برأسه } :
يؤخذ من هذا مشروعية مسح الرأس وهو واجب وأيضاً قوله { ثم غسل كلتا رجليه } يؤخذ مشروعية غسل الرجلين وهو واجب بالإجماع.
ثم قال { من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه } :
__________
(1) المائدة: من الآية6).
(2) المائدة:38).
(3) المائدة: من الآية6).(1/29)
فيه استحباب سنة الوضوء وأنه يستحب للإنسان أن يصلي بعد كل وضوء ركعتين, الدليل على ذلك حديث بلال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له { يا بلال حدثني بأرجي عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دُفا نعليك البارحة في الجنة } أي ليلة أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال { أما أنه ليس لي من كبير عمل إلا إنني ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت لله ركعتين } حتى لو كان في وقت نهي بشرط ألا يكون توضأ ليصلي لكن لو أن الإنسان توضأ ليقرأ القرآن أو لكي يكون على طهارة أو أي سبب من الأسباب في وقت النهي كبعد العصر مثلاً أو بعد الفجر أي جلس في مصلاه ثم أحدث فأراد أن يكون على طهارة ثم قام فتوضأ فله أن يصلي ركعتين حتى لو كان وقت نهي لأنها من ذوات الأسباب لكن في وقت النهي بشرط ألا يكون فعل ذلك من أجل أن يصلي فإذا كان فعل ذلك من أجل أن يصلي فإنه يمنع من ذلك.
قوله { لا يحدث فيهما نفسه } :
أي لا يحدث بشيء من أمور الدنيا ومالا يتعلق بالصلاة وليس معنى ذلك أنه لا يعرض له شيء فلو عرض له حديث من أمور الدنيا فأعرض عنه بمجرد عروضه عفي عن ذلك وحصلت له هذه الفضيلة إن شاء الله تعالى, إنما المقصود لا يحدث شيء من أمور الدنيا أي لا يستجلب هذه الخواطر بعض الناس هو الذي يستجلب أي يجلس ويفكر لكن لو عرضت له ثم دافعها فإنه تحصل له هذه الفضيلة إن شاء الله لأن هذا ليس بفعله, وقد عفي عن هذه الأمة الخواطر التي تعرض ولا تستقر فالمعنى أنه إذا طرأ عليه حديث النفس فإنه يدافعه ليس المعنى أنه لا يطرأ عليه شيء ولكن المعنى أنه يدافعه إذا طرأ عليه.
قال: { غفر له ما تقدم من ذنبه } :
المقصود بذلك الصغائر أما الكبائر فإنها لا تكفرها إلا بالتوبة.
هذا الحديث فيه مسائل ما يقرب ثمان مسائل لا نقف عندها.
- الدرس التاسع -
{ تابع الحديث الثامن }
المسائل في الحديث:
المسألة الأولى:(1/30)
غسل الكفين ثلاثا في ابتداء الوضوء هذا سنة بإجماع العلماء ويستثنى من ذلك غسلهما للقائم من نوم الليل والمشهور من مذهب الحنابلة كما تقدم أنه يجب غسلهما ثلاثاً لحديث أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { إذا قام أحدكم من نومه فلغسل يديه ثلاثاً قبل أن يغمسهما في الإناء فإنه لا يدري أين باتت يده } .
المسألة الثانية:
قوله { ثم تمضمض واستنشق } هل المضمضة والاستنشاق واجبتان أم لا ؟
في المسألة خلاف:
* القول الأول: قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى(أنهما واجبان في الغسل والوضوء)
* القول الثاني: أنهما سنتان في الغُسل والوضوء.
* القول الثالث: قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى(أنهما واجبتان في الغُسل دون الوضوء) يعني في الغسل واجبتان وفي الوضوء سنة.
والصحيح في ذلك هو القول الأول(أنهما واجبتان في الغُسل دون الوضوء) والدليل على ذلك قول الله - عز وجل - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } (1) والأنف والفم داخلان في الوجه.
ما هو الدليل أنهما داخلان في الوجه ؟
الدليل { أن من تمضمض واستنشق وهو صائم فإنه لا يفطر } وهذا ما استدل به على مذهب الحنابلة. أيضاً ما يقرب من اثنين وعشرين صحابياً من الذين وصفوا وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكروا أن واحداً منهك أخل بها. وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في سنن أبي داود { إذا توضأ أحدكم فليعجل في أنفه ماءً ثم لينثر } .
وهذا هو القول الراجح أنهما واجبان في الغسل والوضوء.
كيفية المضمضة والاستنشاق:
كيفية المضمضة:
1/المستحبة: أن يجعل الماء ثم يديره في فمه ثم يمجه.
2/المجزئه: وهي أن يدخل الماء في فيه حتى لو ابتلعه صح ذلك.
كذلك الاستنشاق له كيفيتان:
1/المستحبة: أن يصل الماء إلى أقصى الأنف بما يسمى الاستنشاق ويجذبه بنفسه.
__________
(1) المائدة: من الآية6).(1/31)
2/المجزئة: وهي أن يوصل الماء إلى داخل الأنف وقد نص علماء الشافعية عليهم رحمة الله إنه إذا وصل الماء إلى الفي أو الأنف أجزاء ذلك.
المسألة الثالثة:
(أنه عند غسل اليدين من مفصل الكف خطأ لأن غسلهما في أول الوضوء سنة فغسل اليدين لابد أن يكون من أطراف الأصابع إلى المرفقين) ولا يكفي غسلهما في أول الوضوء لأن ذلك سنة.
المسألة الرابعة:
اختلف العلماء في الواجب في مسح الرأس.
المذهب قالوا: أنه يجب مسح جميع الرأس لظاهر هذا الحديث قوله(ثم مسح برأسه), قالوا أنه مفرد مضاف والمفرد المضاف يعم كل مسح الرأس.
والشافعي يقول: أنه إذا مسح ثلاث شعرات فأكثر كفى ذلك.
وأبي حنيفة يقول: يكفي مسح ربع الرأس.
لكن الصحيح هو الأول وأنه يجب مسح جميع الرأس لم يرد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتصر على بعض الرأس إلا إذا كان لابساً العمامة. بل في حديث عبدالله بن زيد لما وصل مسح الرأس { ثم اقبل بهما من مقدم رأسه ثم أدبر بهما ردهما إلى المكان الذي بدء منه } وهذا يدل على أنه مسح جميع الرأس.
وبعض النساء قد تسأل وتقول إذا بدأت بمسح الرأس يلزم أن أرده ثانية ؟
لا يلزم ذلك والرد مستحب لأنه قد تقول يفسد الشعر ويؤدي إلى انتفاشه فنقول لا يلزم وإنما الرد سنة.
المسألة الخامسة:
إذا لم يمسح الرأس وإنما غسل رأسه هل يجزئه ذلك أم لا ؟
بعض العلماء قالوا بأنه يجزئه ذلك ولكنه خلاف السنة فينتهي عن ذلك.
وبعضهم قال: لا يجزئ مطلقاً لأن الوارد هو المسح وهذا غسل.
وقال بعضهم يجزئ ذلك إذا أمر يده أثناء الغسل على رأسه وهذا هو الأحوط . كذلك لو أن أحدهم بل يديه بالماء ثم وضعهما وضعاً على رأسه ولم يحركهما لأجزئ ذلك.
المسألة السادسة:
أن الرأس يمسح مرة واحدة وهذا هو ما عليه جمهور العلماء, المالكية والحنابلة والحنفية يرون أنه الرأس يمسح مسحة واحدة.
القول الثاني: قول الشافعية يرون أن الرأس يثلث لكن الصحيح مذهب الجمهور وهذا هو الذي يعبره هذا.(1/32)
الحديث لأنه قال { ثم مسح برأسه } ولم يقل ثلاثاً والشافعية يستدلون بحديث عثمان - رضي الله عنه - في رواية مسلم { أنه توضأ ثلاثاً } هذا عام لكن خرج الرأس بأدلة أخرى الاقتصار على مرة واحدة كما في هذا الحديث, أيضاً استدل الشافعي بما في سنن أبي داوود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه ثلاثاً لكن هذا الحديث لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
المسألة السابعة:
هل يثلث في الوضوء أم يخالف ؟
لأنه ورد الوضوء ثلاثاً ثلاثاً ومرتين مرتين ومرة مرة ومخالفة كيف المخالفة...أن يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه ثلاثاً ويغسل يديه مرتين ورجليه مرة واحدة والمسموح معروف مرة واحدة في كل الصفات.
القول الأول: وهو قول الإمام النووي وقد ذهب إلى ذلك ابن شهاب يعني دائماَ يغسل ثلاثاً إلا في الرأس كما تقدم.
القول الثاني: أنه يغاير بين السنن الواردة في ذلك والسنة أربع كما تقدم.
انتبهي يا أخت يعني غسل الوجه مرة واحدة أي بغرفة واحدة لا يجزئ يجب أن تأخذ غرفة أخرى وتعمم وجهها بها يعني غسلة واحدة حتى ولو كانت بأكثر من غرفة انتبهي وكذلك في جميع الأعضاء ليس معنى غسل واحدة أي بغرفة وقد تأخذ بمرتين ولا تكفي ولو كانت بأربع غرفات المهم أن يتم الغسل.
والقاعدة عند شيخ الإسلام أن السنة أن يأتي بهذا مرة وهذا مرة وهذا مرة وذكر لذلك أمور وفؤائد:
1. حفظ العلم فبذلك يرسخ العلم.
2. أخشع للقلب.
3. أن في ذلك إحياء للسنة.
4. أن في هذا الفعل نقل للعبادة من كونها عادة إلى كونها عبادة.
يجب أن لا يزيد الإنسان عن ثلاث غسلات والعلماء يرون أن ذلك بدعة مكروهة.
والدليل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - { سيكون أقوام من أمتي يعتدون في الطهارة والدعاء } رواه أحمد وأبو داوود بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن المغفل - رضي الله عنه - .
وأيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - { من تعدى فقد أساء } الغسلة المعتبرة هي ما شملت العضو.(1/33)
المسألة الثامنة:
غسل الرجلين إنما يكون إلى الكعبين, والكعبان عند الجمهور هما العضمان الناتئان على جانبي القدم يعني أسفله, ومن أوضح الأدلة على ذلك:
حديث النعمان بن بشير في صفة الصف في الصلاة قال { فرأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه } هذا دليل على أن العظمان الناتئان في جانبي القدم هما الكعبان.
أما الرافضة قبحهم الله عليهم من الله ما يستحقون فقالوا: أن المراد بالعظم هو الناتيء في ظهر القدم يعني هو يكون على ظهر القدم من فوق بين مفصل القدم والأصابع ولا شك ببطلان هذا القول والرافضة لو كانوا من الطيور لعدو رخماً ولو كانوا من الحيوانات لعدو حملاً.
وصدق شيخ الإسلام حين يقول بأنهم { شر من وطء الحصى } بل قال { إنه لا حظ للرافضة من بيت مال المسلمين } .
فنسأل الله أن يذلهم.
- الدرس العاشر -
{ الحديث التاسع }
عن عمرو بن يحي المازني عن أبيه قال { شهدت عمرو بن أبي الحسن سأل عبدالله بن زيد عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكفأ على يديه من التور فغسل يديه ثلاثاً ثم أدخل يديه في التور فمضمض واستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات ثم أدخل يده في التور فغسل وجهه ثلاثاً ثم أدخل يده فغسلهما مرتين إلى المرفقين يديه فمسح بهما رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ثم غسل رجليه } .
وفي رواية { بدء بمقدمة رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه } .
وفي رواية { أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماء في تور من صُفر } .
التور: شبه الطست.(1/34)
في هذا الحديث قال { بتور } وقال الداوودي عليه رحمة الله تعالى هو قدح, وقال الجوهري من علماء اللغة هو إناء يشربه منه, وقيل هو الطست, وقيل هو مثل القدر يكون من صفر أو حجارة, وفي رواية عبد العزيز بن أبي سلمه قال { أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماء في تور من صُفر } .
والصُفر بضم الصاد وبكسرها صِفر هذا من النحاس, وقوله فأكفأ ورد في رواية سليمان بن حرب عن وهب فكفأ.. وفي رواية فأفرغ والمراد بكلتا الروايتين إخراج الماء من الإناء على اليد يعني يميل الإناء ويصب على يديه.
وقوله في الحديث:
1- { فتوضأ لهم } أي لأجلهم.
2- وقوله { فتوضأ لهم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - } أي مثل وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا أحد يستطيع أن يتوضأ وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله في الحديث الذي قبله { من توضأ نحو وضوئي } يعني لا أحد يستطيع أن يتوضأ وضوئه - صلى الله عليه وسلم - , ولذلك ما أحد يبلغ في العبادة كعبادة النبي - رضي الله عنه -.
3- وقوله { ثم ادخل يديه في التور } في هذه الرواية تجديد الاغتراف لكل عضو, يعني كل عضو يأخذ له ماء.
وقوله { ثم ادخل يديه في التور } ورد في رواية أخرى { ثم ادخل يده } وفي رواية { ثم ادخل يديه } يعني بالتثنية, قال ابن حجر رحمه الله تعالى { وأظن أن الإناء كان صغيراً فاغترف بإحدى يديه ثم أضافها إلى الأخرى } .. وإلا لا شك أن الاغتراف باليدين جميعاً أسهل وأقرب تناولاً كما قال الشافعي رحمه الله.
4- وقوله { فأقبل بهما وأدبر } فيما أن يستحب للإنسان أن يبدأ بالمسح من المقدمة إلى المؤخرة ثم يردهما مرة أخرى والحكمة في ذلك لأن الشعر يختلف إقباله وإدباره وعلى كل الرد مرة أخرى لا يجب.
ليس بلازم الواجب يسقط إذا بدأ بمقدم رأسه إلى قفاه, لأن بعض النساء قد تسأل وتقول إنه يؤدي إلى انتفاش الشعر لو رددت ؟(1/35)
نقول لا يلزم لق الرد فلو مسحت من المقدمة إلى المؤخرة كفى ذلك وكونك تردين من المؤخرة إلى المقدمة هذا سنة واعلمي إنه كيفما مسح الإنسان أجزا ذلك بأي طريقة لأن الله تعالى قال { وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ } (1) لكنه كون يستحب أن يبدأ من مقدمة رأسه لأنه ورد في ذلك من رواية مالك بن عبدالله بن زيد أنه قال { بدءاً بمقدم رأسه } وفي رواية البخاري ومسلم حجة على من قال أن السنة أن يبدأ بمؤخرة الرأس لأن بعض أهل العلم قال السنة أن يبدأ من مؤخرة الرأس إلى مقدمة بظاهر قوله { أقبل وأدبر } فنقول هذه مفسرة تفسر الإجمال هنا.
5- وقوله { ثم ادخل يديه ومسح بهما رأسه } هذا فيه انه يستحب أن يمسح رأسه بماء جديد ولو مسح رأسه بفضل يده فهذا على خلاف والصحيح أنه يجزئ, لماذا؟
لأن استعمال الماء بطهارة لا يخرجه عن الطهور به, أما الأذنين فهل يأخذ لهما ماءاً لهما جديداً ؟ أم يمسح بفضل ما مسح به رأسه ؟
الصحيح أنه يمسح أذنيه بفضل ماء الرأس وما ورد أنه يأخذ لهما ماءً جديداً فهذه رواية شاذة " الرواية الشاذة هي الرواية الصحيحة التي تخالف ما هو أصح منها".
6- وقوله { ثم غسل رجليه } تقدم بيان ذلك.
7- وقوله { أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماء في تور من صُفر } أي نحاس جيد.
نقف عند فؤائد الحديث.
- الدرس الحادي عشر -
{ الحديث التاسع }
فؤائد الحديث التاسع:
1- فيه سؤال العالم عما لا يعلم الإنسان من الحكم ولذلك قالوا: لعبد الله بن زيد توضأ لنا وضوء الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
2- فيه ان سؤال العالم ليس من المسألة المكروهة لكن لا شك أن لسؤال العالم آداب ينبغي أن يتأدب بها ولعلنا نرشد إلى شريط (أدب المستفتي) للشيخ المنجد , وعلى كل طالب سماعه.
__________
(1) المائدة: من الآية6).(1/36)
3- فيه أيضاً التعليم بالفعل وهو أسلوب من أساليب النبي - صلى الله عليه وسلم - في التربية ولذلك طلبوا منه أن يتوضأ لهم وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا شك أن الفعل أبلغ في التعليم لكن ليس أقوى في الدلالة, فأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - أقوى في الدلالة من أفعاله لكن بالنسبة للفعل أبلغ في التعليم لذلك قيل فعل رجل بألف رجل أبلغ من قول ألف رجل برجل يعني فعل واحد يؤثر في التعليم لألف رجل من ألف رجل يتكلمون ليؤثروا برجل واحد وهذا أسلوب من أساليب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
4- الاستعانة بالغير أثناء الوضوء وهي على أقسام:
* قسم لا باس به وهذا مثل حمل الماء وتقريبه وتهيئته لحديث أنس أنه كان يحمل إداوه من الماء وهو غلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - هذا لا باس به, كذلك تهيئته والصب عليه هذا أيضاً لا بأس به كما فعل المغيرة عندما صب للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال { فأهويت لأنزعها, فقال: دعها فإني أدخلتهما طاهرتين } أيضا عائشة رضي الله عنها قالت { كنا نُعد له طهوره وسواكه } والمقصود بالطهور الماء.
* القسم الثاني من أقسام الاستعانة بالغير في الوضوء غسل الأعضاء كأن يقوم إنسان بغسل رجلي إنسان أو يديه ونحو ذلك هذا إذا كان لغير عذر فإنه مكروه لكنه صحيح لو أن إنسان قام وجلس إنسان وجاء إنسان وقام ووضع الإناء في فمه ووضعه في أنفه وغسل وجهه وغسل يديه ومسح رأسه بالنيابة عنه ومسح أذنيه بالنيابة عنه وغسل رجليه أجزأ ذلك لكنه لغير عذر فإنه يكره.
5- أن غسل الكفين في أول الوضوء مستحب.
6- أن السنة عدم الفصل بين المضمضة والاستنشاق ولذلك قال { فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات } يعني يأخذ ثلاث غرفات كل غرفة بعضها للمضمضة وبعضها للاستنشاق.
7- أن المضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه هذا على سبيل الاستحباب يعني لو أن الإنسان عكس فغسل وجهه ثم مضمض واستنشق لجاز ذلك, لماذا ؟(1/37)
لأن المضمضة والاستنشاق من الوجه.
8- فيه بيان صفة من صفات وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأننا قلنا أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا ومخالفة كما قلنا أن يغسل الوجه ثلاثا ويديه مرتين ورجليه مرة واحدة والمسح في جميع هذه الصفات مرة واحدة وفي هذا الحديث صفة وهي المخالفة حيث قال { فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات ثم أدخل يده في التور فغسل وجهه ثلاثا ثم أدخل يديه فغسلهما مرتين إلى المرفقين ثم أدخل يديه فمسح بهما رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ثم غسل رجليه } فهذه المخالفة صفة من صفات وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -.
9- فيه الترتيب في الوضوء وهو على قسمين:
الترتيب الأول: ترتيب بين الأعضاء الأربعة التي ذكرها الله في القرآن وهي الوجه واليدين والرأس والرجلين وهذا شرط من شروط الوضوء لا يصح إلا فيه فلو أن إنسان غسل رجليه قبل مسح رأسه لما صح وضوءه فالترتيب بين الأعضاء الأربعة شرط من شروط الوضوء وعلى هذا لو جاء شخص وسأل فقال توضأت ولكني غسلت رجلي قبل وجهي أو يدي قبل الوجه, نقول له: لا أعد وضوءك مرة أخرى وإن كان قد صلى نقول أعد الصلاة.
الترتيب الثاني:
ترتيب بين الميامن والمياسر أو بين الوجه والمضمضة والاستنشاق وهذا سنه فلو تمضمض واستنشق أو غسل وجهه ثم تمضمض واستنشق صح وضوءه أو لما تمضمض واستنشق غسل يديه لكنه غسل اليسرى قبل اليمنى صحّ ذلك لن هذا ترتيب بين الميامن والمياسر فهذا كله سنة.
- الدرس الثاني عشر -
{ الحديث العاشر }
عن عائشة رضي الله عنها قالت { كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله } .
التيمن: هو الابتداء بالأفعال باليد اليمنى والرجل اليمنى والجانب الأيمن أيضاً كما في الغسل.
تنعله: أي لبس النعال.
ترجله: الترجل هو تسريح الشعر ودهنه.(1/38)
وعلى هذا يستحب للمرأة أن تبدأ بالجانب الأيمن عند تسريح الشعر أو دهنه وزاد بعضهم(وسواكه) أي إذا إستاك يبدأ بالجانب الأيمن.
قال(وطهوره) أي الوضوء(وطُهوره) بالضم يعني الفعل الوضوء.
أما (طَهور) بالفتح هو الذي يتطهر منه, قال الشيخ تقي الدين(هو عام مخصوص) يعني قوله { وفي شأنه كله } إما مخصوص فهو في الأشياء التي يبدأ فيها باليد اليسرى أو الرجل اليسرى أو الجانب الأيسر, هذا على تقدير إثبات الواو لأنه قال { في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله } لكن إذا حذفها { في تنعله وفي ترجله وفي طهوره في شأنه كله } بدون الواو يكون المعنى أنه لا يترك ذلك لا سفراً ولا حضراً ولا في فراغه ولا في شغله.
وأما كون النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن قال ابن حجر عليه رحمة الله : ( قيل أنه كان يحب الفأل الحسن إذ أصحاب اليمين أهل الجنة) وقد ورد في رواية عن سليمان بن حرب بن شعبة { ما استطاع } أي أنه كان يحافظ على ذلك ما استطاع, ففيه المحافظة على ذلك يعني التيمن للطيبات استخدام اليد اليمنى والرجل اليمنى والجانب الأيمن والتياسر في الأشياء المستقذرة فيه المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانع من ذلك.
فؤائد الحديث:
1- أنه يشرع للإنسان أن يبدأ لبس النعال باليمين لأنها من الطيبات, ما وجه ذلك أي كونه من الطيبات ؟
قالوا لأن فيه وقاية للرجل من الشوك وغيره, إذا أراد أن يلبس فنيلة أو سراويل يُقال(سراويل) لأن المفرد والجمع يُقال عليه سراويل فإنه يبدأ بذلك بالكم الأيمن لأنه بذلك ستر للبدن هذا وجه كونه من الطيبات.
كذلك التطهر والغُسل هذه الأفضل أن يبدأ فيها باليمين وهذه المسألة لا تخلو من ثلاث حالات:
* ما كان من قبيل الطيبات فهذا تقدم له اليد اليمنى والرجل اليمنى كلبس النعال والثوب ودخول المسجد ونحوه.
* ما كان من قبيل الخبائث فهذا تقدم له اليد اليسرى والرجل اليسرى كدخول الخلاء والخروج من المسجد والخروج من البيت.(1/39)
* ما لم يظهر فيه الطيب ولا الخبيث كالسواك مثلاً هذا تقدم له اليد اليمنى والرجل اليمنى على تقدير { وفي شأنه كله } وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيامن.
2- وفيه أن الإنسان إذا أراد الوضوء يبدأ بالميامن وهذا هو السنة وهو ما عليه الجمهور.
يعني لو أن الإنسان عندما وصلي اليدين غسل اليد اليسرى قبل اليمنى أو الرجلين على قول الجمهور لأن وضوءه صحيح خلافاً لمن قال: بأن الترتيب بين الميامن والمياسر واجب فالترتيب بين الأعضاء هذا ركن فلا يقدم الرجل على اليد مثلاً لكن الكلام على الترتيب في غسل اليمنى قبل اليسرى, الجمهور أجمعوا على أنه سنة وبعضهم قال بأن الترتيب واجب لكن الصحيح أن ذلك سنة, قال النووي رحمه الله تعالى(اجمع العلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة من خالفها فاته الأجر وتم وضوءه) وعلى هذا أن الصحيح أن ذلك سنة وعلي رضي الله عنه قال(لا أبالي بأي أعضائي بدأت).
وقد ورد في السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالمياسر هذا في الترتيب بين الميامن والمياسر أما الترتيب بين الأعضاء فهو لا بد منه وقد وجد بالنص فلو غسل رجليه قبل يديه بطل وضوءه وعلى هذا قال الله - عز وجل - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ(1) } .
هذا الترتيب جاء بالنص, الترتيب بين الميامن والمياسر ورد بالنص لكن جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدء بالمياسر فدل على أن ذلك سنة.
3- يستحب للإنسان إذا كان له شعر أن يرجله أي يسرحه وقد ذكر العلماء إنه يستحب ترجيل الشعر(غباً) أي أحياناً وعلى هذا فالسنة أن يبدأ بالأيمن.
__________
(1) المائدة: من الآية6).(1/40)
4- إستحباب الانتعال ( أي لبس النعال) كما هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتركه أحياناً لكن بشرط ألا يؤدي هذا التنعل إلى التبرج كما تفعل بعض النساء هداهن الله وللأسف الشديد أما تبرج بصوته أي تضرب به الأرض أو بارتفاعه فيؤدي ذلك إلى بروز المراة وارتفاعها ولذلك قال { وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ(1) } السعدي رحمه الله يقول في معنى كلامه(بأنها منهية عن إحداث الصوت بالأرجل سواء كان ذلك عن طريق الخلخال أو غير ذلك) كما تفعله بعض النساء من استخدام أحذية ذات كعوب قاسية تحدث صوتاً عند المشي فإن ذلك لا شك من التبرج أو يكون مرتفعاً يؤدي إلى بروزها.
5- من محاسن الدين الإسلامي انه اعتنى بالنظافة كما في التنعل والترجل والتطهر ونحو ذلك.
{ الحديث الحادي عشر }
عن نعيم المعمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { أن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل } .
قوله { غرة } أصل الغرة لمعة بيضاء تكون في جبهو الفرس ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر والمراد بها بالنور الكائن في وجوه أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله (محجلين): من التحجيل وهو بياض يكون في ثلاث قوائم الفرس والمراد به هنا أيضاً النور.
ونتوقف عند قول المصنف رحمه الله تعالى { من أراد أن يطيل غرته فليفعل } .
- الدرس الثالث عشر -
{ تابع الحديث الحادي عشر }
تقدم معنا الحديث الحادي عشر وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث النعيم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { أن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل } .
وتحدثنا عن الغرة والتحجيل وتوقفنا عند قال من استطاع منكم أن يطيل غرته ولم يقل تحجيله:
__________
(1) النور: من الآية31).(1/41)
المقصود: أي يطيل الغرة والتحجيل وأقتصر على أحدهما لدلالتها على الأخرى أي أن الثانية تدل عليها كقوله - عز وجل - { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } (1) اقتصر على ذكر الغرة وهي مؤنثة دون ذكر التحجيل وهو مذكر لأن محل الغرة وأصلها لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس فاقتصر على ذكر الغرة لأن محل الغرة أشرف أعضاء الوضوء في الجبهة وأول ما يقع عليه النظر في الإنسان. على أنه في رواية مسلم من طريق عمارة بن غُزَيّة ذكر الأمرين ولفظه(فليطل غرته وتحجيله) والمراد بإطالة الغرة بالنسبة للوجه: يغسل مع الوجه جزء من الرأس وبالنسبة لليد يغسل جزء من العضد وبالنسبة للرجل جزء من الساق.
هل إطالة الغرة والتحجيل مشروعين أو ليسا مشروعين ؟
هذه المسألة على خلاف:
1- المشهور من مذهب الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية وقول أكثر الحنفية أنه يشرع إطالة الغرة والتحجيل يعني إذا غسل الإنسان الوجه يغسل جزء من الرأس وبالنسبة لليد يغسل جزء من العضد وبالنسبة للرجل يغسل جزء من الساق وأيضاً هو مذهب أبي هريرة لأن قوله في الحديث { فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل } هذا كلام أبي هريرة يسمى مُدرج كما قال الناظم رحمه الله:
والمدرجات في الحديث ما أتت ... من بعض ألفاظ اتصلت
وإلا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتهي عند قوله { إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء } إلى هنا الحديث.
__________
(1) النحل: من الآية81)(1/42)
وقوله(فمن أستطاع): هذا من كلام أبي هريرة(مدرج) وهو أن يذكر الراوي عقب كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كلاما لنفسه أو لغيره فيرويه متصلاً بالحديث والإدراج أحياناً يكون بأول الحديث أو في وسطه كما قال في حديث عائشة - رضي الله عنه - قالت { كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتحنث, ثم قالت: والتحنث التعبد الليالي ذوات العدد } قولها و التحنث التعبد ذوات العدد هذا مدرج, يعني تفسير لكلمة التحنث, وأحياناً يكون في آخره, ولذلك يرى أبو هريرة مشروعية إطالة الغرة والتحجيل لأنه هو الذي زاد في الحديث, وذلك بقوله فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل.
2- القول الثاني: قالوا بعدم استحباب الغرة والتحجيل بل يقتصر الإنسان على ما جاء في الكتاب والسنة يغسل الوجه فقط لا يغسل جزء من الرأس بالنسبة لليد يغسل إلى المرفقين يعني مع المرفقين والرجل إلى الكعبين يعني مع الكعبين كما تقدم, وقالوا لا يستحب الزيادة على ذلك.(1/43)
وقد قال بهذا القول ابن بطال رحمه الله تعالى رحمه الله تعالى وطائفة من المالكية واستدلوا على ذلك بالآية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } (1) فلآية واضحة قال { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } ولم يأمر سبحانه بغسل شيء من الرأس وكذلك قال { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بين صفة الوضوء قال { فمن تعدى ذلك فقد أساء وظلم } وكذلك الذين وصفوا وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - (22) صحابيا ومع ذلك لم يرد بإسناد صحيح ان النبي - صلى الله عليه وسلم - أطال غرته وغسل شيئاً من الرأس أو أطال تحجيله وهذا القول هو الذي رجحه ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب زاد المعاد.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الزاد: (وأما حديث أبو هريرة يعني الذي معنا في صفة ووضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه غسل يديه حتى أشرع في العضدين ورجليه حتى أشرع في الساقين قال: فهو إنما يدلّ على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء ولا يدل على مسألة الإطالة انتهى كلامه من رحمه الله تعالى).
الذين قالوا بمشروعية إطالة الغرة والتحجيل أصحاب القول الأول اختلفوا في قدر المستحب على أوجه ولا شك أن هذا فيما يضعف القول الأول .
3- بعضهم قال أنه يستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين من غير تقدير يعني له أن يغسل إلى الآباط والكعبين تغسل إلى الركبة أو إلى آخر الفخذ هكذا من غير تقدير.
والقول الثاني: قالوا إلى نصف العضد والساق يعني على المرفقين نصف العضد وعلى الكعبين نصف الساق.
والقول الثالث: إلى المنكب بالنسبة لليدين وإلى الركبتين بالنسبة للرجلين.
__________
(1) المائدة: من الآية6).(1/44)
قال النووي رحمه الله: (وأحاديث الباب تقتضي هذا كله يعني عند الذين قالوا(بالإطالة) أحاديث الباب تقتضي هذا كله أنه من غير تقدير أو أنه إلى نصف العضد والساق أو بالنسبة لليد إلى المنكب وبالنسبة للرجل إلى الركبة لكن الصحيح عدم مشروعية ذلك وهي الزيادة على الكعبين والمرفقين والرأس.
في هذا الحديث فضل الوضوء حيث أنه سبب للنور يوم القيامة ولا شك أن هذه نعمة عظيمة من نعمه سبحانه وتعالى أن جعل هذه الأعمال البسيطة مرتبة عليها أجور عظيمة. وفي لفظ لمسلم رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين ثم قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول { أن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل } ذكرنا أن الإطالة الغرة والتحجيل وعدم مشروعية ذلك وذكرنا جواب ابن القيم وأن عناية ما فيه يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الضوء ولا يدل على مسألة الإطالة, أما فعل أبو هريرة - رضي الله عنه - فهو محمول على أنه يرى إطالة الغرة والتحجيل.
وقوله { أن أمتي يدعون يوم القيامة } :
قال ابن حجر: استدل الحلمي بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة. قال ابن حجر وفيه نظر لأنه ثبت في قصة سارة - رضي الله عنه - مع الملك الذي أعطاها هاجر أن سارة لما هم الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي, كذلك في قصة جريج الراهب فإنه قام وتوضأ وصلى ثم كلّم الغلام.(1/45)
والظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل لا أصل الوضوء لأن أصل الوضوء كان مشروعاً بدليل قصة سارة - رضي الله عنه - وقصة جريج الراهب, وقد صُرّح بذلك برواية مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً قال { سيما (أي علامة) ليست لأحد غيركم } يعني الغرة والتحجيل ما قال الوضوء وإنما يقصد الغرة والتحجيل وفي هذه الرواية كما تقدم دليل لمن قال بإطالة الغرة إلى المنكبين لكن ذكرنا الصحيح عدم مشروعية إطالة الغرة والتحجيل.
{ الحديث الثاني عشر }
قال في لفظ لمسلم قال { سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء } .
الحلية: هي ما يلبسه المؤمن يوم القيامة في الجنة وما يحلّى به المؤمن يوم القيامة في الجنة نسأل الله تعالى ذلك كما قال - عز وجل - { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ(1) } فإن الحلية في الجنة تبلغ من المؤمن حيث يبلغ الوضوء.
في هذه الرواية فضل من فضائل الوضوء حيث بلغت الحلية كل مكان غسله الإنسان, وفيه أيضاً دليل لمن قال باستحباب إطالة الغرة والتحجيل.
لكن سبق أن ذكرنا كلام ابن القيم وأن غاية ما فيه أنه يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء ولا يدل على مسألة الإطالة.
قال باب دخول الخلاء
{ الحديث الثالث عشر }
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي كان إذا دخل الخلاء قال: { اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث } .
__________
(1) فاطر: من الآية33).(1/46)
قال في الفتح " أي فتح الباري " كان يقول عند إرادة دخول الخلاء لا بعده يعني قوله كان إذا دخل الخلاء أي إذا أراد أن يدخل لذا قال ابن حجر كان يقول عند إرادة الدخول وبعد الدخول وقد صرح بهذا البخاري في كتاب الأدب المفرد قال حدثنا أبو النعمان حدثنا سعيد بن زيد حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: حدثني أنس قال { كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يدخل الخلاء ... } لاحظي هنا التصريح قال: إذا أراد فذكر مثل حديث الباب وهذا في الأمكنة المعدة أي إذا أراد أن يدخل دورة مياه يقول هذا الذكر أما في غيرهما كما لو كان يقضي حاجته في البر فإنه يقول هذا الذكر في أول الشروع عند تشمير الثياب أي إذا شمر يقول هذا الذكر كما هو مذهب الجمهور.
ونقف عند قوله { الخبث والخبائث } .
- الدرس الرابع عشر -
قال: { باب دخول الخلاء والاستطابة }
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء قال: { اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث } .
تقدم بيان كلمة خلاء, وقفنا عند قوله { الخبث والخبائث } , وقفنا عند قوله { الخبث والخبائث } , يقول الخطابي رحمه الله تعالى: الخبُث بضم الباء جمع خبيث, والخبائث جمع خبيثة, يريد ذكران الشياطين وأثاثهم وقيل بأن الخبث هو الشر والمكروه.
والخبائث: الشياطين فيكون هنا كأنه استعاذ من الشر وأهله وهذا التفسير أحسن من الأول وهو تفسير القاضي عياض رحمه الله تعالى.
وهذا الذكر إذا أراد الإنسان دخول الخلاء مشروع بدليل هذا الحديث فإذا أراد الإنسان دخول الخلاء يقول هذا الذكر وكذا الإجماع على مشروعية هذا الذكر.
العلماء اجتمعوا على مشروعيته عند دخول الخلاء فقد نقل الإجماع على ذلك جماعة من أهل العلم منهم النووي كما في كتابه المجموع وابن القاسم في حاشيته على الروض وغيرهم.(1/47)
قال النووي رحمه الله تعالى في شرحه لصحيح مسلم: (وهذا الأدب " يعني الذكر عند دخول الخلاء) مجمع على استحبابه ولا فرق فيه بين البنيان والصحراء).
قال الإمام أحمد رحمه الله: (ما دخلت قط المتوضأ ولم أقلها إلا أصابني ما أكره).
ولم أقلها: أي لم أقل هذا الذكر إلا أصابني ما اكره.
وهنا مسألة:
هل الذكر خاص بالحشوش لأن الحش مكان قضاء الحاجة أو هو عام حتى ولو دخل المغاسل ؟
على خلاف:
القول الأول: أنه عام في البنيان والصحراء لكن إن كان المكان مُعد لقضاء الحاجة فإنه يقول هذا الذكر قبل دخول المكان وإن كان في الصحراء قال الذكر قبل أن يشمر ثوبه أي قبل أن يرفع ثوبه.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا مذهب الجمهور واستدلوا بهذا الحديث { إذا دخل أحدكم الخلاء) وقالوا: بأن الخلاء هو الموضع الذي يخلو الإنسان بنفسه لقضاء الحاجة يعني أي موضع يخلو الإنسان فيه بنفسه لقضاء الحاجة يعدونه من الخلاء, قالوا: ولا يشترط أن يكون معد لقضاء الحاجة ما دام أن الإنسان يخلو بنفسه في هذا الموضع لقضاء حاجته فإن هذا من الخلاء ويقول الذكر كما أطلق الغائط على المكان المنخفض من الأرض في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - { إذا أتيتم الغائط } قوله إذا أتيتم الغائط يعني المكان المنخفض لقضاء الحاجة, هذا القول الأول أنه عام في البنيان وفي الصحراء.
القول الثاني: أنه خاص بالحشوش يعني بالحمامات المعروفة الآن أكرم الله الجميع لحديث زيد بن أرقم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { إن هذه الحشوش مُحْتَظَرَة أي محظورة فإذا أراد أحدكم أن يدخل فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث } .
وهذه رجاله ثقات واختلف في إسناده, والحافظ ابن حجر ذكر ذلك في الفتح وصحح خلافه يعني لا يرى أن هذا هو الصحيح والأقرب هو القول الأول أنه عام خاصة وأن حديث زيد بن أرقم قد تُكلم فيه وحديث أنس الذي معنا أصح منه وهو مطلق في أماكن الخلاء.(1/48)
يعني لو صح حديث زيد بن أرقم لقلنا بأنه قيد حديث أنس الذي معنا لكن لما يصح يبقى حديث أنس على عمومه: كان إذا دخل الخلاء والخلاء هو موضع قضاء الحاجة المكان الذي يقضي فيه الإنسان حاجته وعلى هذا نقول بأن الراجح أنه عام في البنيان والصحراء. فإذا كان المكان معد لقضاء الحاجة يقول هذا الذكر قبل الدخول كما تقدم.
وإن كان في الصحراء يقول هذا قبل أن يشمر ثوبه, يعني إذا وصل المكان الذي يريد أن يقضي حاجته فيه قبل أن يرفع ثوبه لقضاء الحاجة يقول هذا الدعاء.
هنا مسألة أيضاً:
إذا دخلت المرأة الخلاء بطفل ليقضي حاجته أو لتنظفه فهل تعوَد الطفل بالذكر الوارد أولا, يعني هل تقول له: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث(تعوذه), خاصة إذا كان لا يعرف ؟
يقول الرملي رحمه الله: إذا دخل الإنسان الخلاء بطفل لقضاء حاجة الطفل فهل يسن له أن يقول على وجه النيابة عن الطفل: اللهم أنه يعوذ به أو يقول: اللهم إني أعوذ بك لنفسه, أولا يسن قول شيء من ذلك ؟
قال الرملي فيه نظر ولا يبعد أن يقول ذلك أي يقول: أ،ه يعوذ بك والذي يظهر أن هذه المسألة مبنية على مسألة أخرى وهي: هل التعوذ إذا دخل الإنسان من أجل أن هذه الأماكن محتضرة يعني تحضرها الشياطين أو من أجل قضاء الحاجة وكشف العورة أو منهما معاً.
نقول إن كان من أجل كونه محتضرة يعني تحضرها الشياطين أو منهما معا فإنه يعوذ عن الطفل ويعوذ عن نفسه, فيقول: اللهم إنه يعوذ بك ثم يقول الداخل اللهم إني أعوذ بك ...الخ, وإن كان من أجل قضاء الحاجة وكشف العورة فإنه يتعوذ للطفل فقط, يقول اللهم إنه يعوذ بك. لكن تقدّم أن هذا الذكر عام في البنيان والصحراء قد يكون من أجل قضاء الحاجة وكشف العورة, لم يتضح الراجح.(1/49)
والذي ينبغي أن يتنبه له لابد من تعويد الطفل على هذه الأذكار أعني تعويذ الطفل فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين ويقول أن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق(أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة) والحديث في البخاري, ففي هذا الحديث مشروعية هذا الدعاء.
ثم قال: وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة لغائط ولا ببول ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا } .
قال ابو أيوب: فقدمنا الشام ووجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله - عز وجل - .
قوله { فوجدنا مراحيض } : المراحيض جمع المرحاض وهو المكان المعد لقضاء الحاجة.
وقوله الغائط: هو المكان المطمئن من الأرض فكُنَّي عن الحديث بمكانة يعني عُبر عن الحدث كما قاله ابن قتيبة رحمه الله.
وهنا مسألة:
من مسائل هذا الحديث وهي حكم استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة ؟
هذه المسألة أختلف فيها أهل العلم على سبعة أقوال:
القول الأول: أنه يحرم مطلقاً, إذا قلنا يعني يحرم الاستقبال والاستدبار في البنيان والصحراء وهذا هو المشهور من مذهب الحنفية ورجحه من المالكية ابن العربي وهو رواية في مذهب الأمام أحمد واختاره ابن حزم وهو قول أبي أيوب الأنصاري وأبو هريرة أيضاً وقال به أيضاَ ابن مسعود من التابعين قال به مجاهد وإبراهيم ألنخعي والثوري وأبي ثور وعطاء والأوزاعي وغيرهم.
القول الثاني: قول من قال أنه يجوز مطلقاً يعني الاستقبال والاستدبار في البنيان وفي الصحراء وهذا قول عائشة وقال به عروة وربيعة وداود.(1/50)
القول الثالث: قول من قال بأنه يحرم استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء ويجوز استقبالها واستدبارها في البينان, يعني التفريق بين البينان والصحراء يحرم مطلقاً في الصحراء ويجوز مطلقاً في البينان وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة ونسبه الحافظ ابن حجر في الفتح إلى الجمهور, قال بأن هذا قول الجمهور واختاره البخاري في صحيحه قال ابن حجر وهذا أعدل الأقوال.
القول الرابع: قيل يكره استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء وفي البنيان يعني الحكم على الكراهة ليس على سبيل التحريم.
القول الخامس: قول من قال يحرم الاستقبال في الصحراء والبينان ويحل الاستدبار فيهما يعني التفريق بين الاستقبال وبين الاستدبار وهذا رواية عن أبي حنيفة وأحمد.
القول السادس: قول من قاله بأنه يجوز الاستدبار في البنيان فقط ويحرم الباقي أي يحرم الاستقبال والاستدبار في الصحراء ويحرم الاستقبال في البينان وهذا وجه من مذهب الحنابلة.
القول السابع: قول من قال أن التحريم مختص بأهل المدينة ومن على سمتها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { ولكن شرقوا أو غربوا } أما من كانت قبيلته من جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقاً لكن هذا أضعف الأقوال.
والراجح من هذه الأقوال:
أنه يحرم استقبال القبلة والاستدبار في البنيان والصحراء ويستثنى من ذلك جواز الاستدبار في البنيان يعني القول الراجح على الإطلاق أنه يحرم لكن يستثنى من ذلك أي أنه يجوز الاستدبار في حال البنيان, يعني يحرم الاستقبال والاستدبار في الصحراء والاستقبال في البنيان أما الاستدبار في البنيان يجوز, والدليل على ذلك حديث أبي أيوب الذي معنا قال { أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها(1) } .
قال أبو أيوب { فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله - عز وجل - } (2).
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم.(1/51)
لكن كيف استثنينا استدبار القبلة في البنيان وأنه جائز, الدليل على ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استقبل الشام واستدبر الكعبة.
قال الشيخ محمد بن عثيمين عليه رحمة الله تعالى في فتاوى الشيخ: (القول الراجح عندي في هذه المسألة أنه يحرم الاستقبال والاستدبار في الفضاء ويجوز الاستدبار في البنيان دون الاستقبال لأن النهي عن الاستقبال محفوظ ليس تخصيص والنهي عن الاستدبار مخصوص بالفعل كيف هذا ؟ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال { فلا تستدبروا القبلة ولا تستدبروها } فالنهي عن الاستقبال محفوظ لم يخصص منه شيء عام والنهي عن الاستدبار مخصص بالفعل يعني أن النهي عن الاستدبار في الصحراء أما في البنيان فقد ثبت بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه استدبر في البنيان, قال: رقيت على بيت حفصة فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقبل الشام مستدبر الكعبة هذا في البنيان, هذا معنى قوله بأن النهي عن الاستقبال محفوظ ليس فيه تخصيص والنهي عن الاستدبار مخصوص بالفعل, وأيضاً كما يقول الشيخ: الاستدبار أهون من الاستقبال, ولهذا كما يقول الشيخ والله أعلم جاء التخفيف فيه فيما إذا كان الإنسان في البنيان والأفضل أن لا يستدبرها إذا أمكن) انتهى كلامه رحمه الله وعلى هذا نقول الصحيح أنه يحرم الاستقبال والاستدبار لكن يستثنى استدبار الكعبة في البنيان لأن ذلك وارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع الأسف أن بعض البيوت لا تراعي هذا الآن, والآن بعض الناس قد يدخل الخلاء ويكون المرحاض إلى غير جهة القبلة ولكنه إذا أراد أن يقضي حاجته ما يتأمل فقد يستقبل القبلة يستقبلها من حيث لا يشعر فالواجب التنبه لمثل ذلك.(1/52)
فإذا دخل الإنسان دورة المياه وأراد قضاء الحاجة " ما هو يتوضأ لا " لقضاء الحاجة فيحرم عليه أن يستقبل القبلة أما استدبار القبلة داخل البنيان قلنا أنه يجوز ولكن الأفضل ألا يستدبره و أما في الصحراء فيحرم عليه استقبال القبلة واستدبارها.
- الدرس الخامس عشر -
- تابع الحديث الرابع عشر }
مسألة:
الذين قالوا بالتفريق بين الصحراء والبنيان لا فرق عندهم في الساتر بين الحيوان والدابة والحجارة وكثيب الرمل ونحوه, مثلاً : لو أرخى ذيله أي طرف ثوبه في قبالة القبلة في الفضاء واستدبر الكعبة هل يحصل له الستر أم لا ؟ لأننا قلنا أن في البنيان يجوز استدبار القبلة فهل فعله هذا حصل به الستر وأصبح في حكم البنيان أو لا ؟
هذا له وجهان عند الشافعي والحنابلة والصحيح عندهم الإكفاء في ذلك يعني يرون أنه يكفي إرخاء الثوب في الفضاء ويستدبر الكعبة لا بأس بذلك ما لم يؤدي ذلك إلى تنجس الثوب, وقالوا: لأن المقصود أنه لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بسوءته, قالوا وهذا المقصود يحصل بالذيل أي طرف الثوب وبهذا قال المالكية لكن الظاهر أن ذلك لا يكفي كما سيأتي إن شاء الله تعالى, فإذا كان في الفضاء الآن ومن المعلوم أن الفضاء فيه أشجار وأحجار وقد يكون بينه وبين القبلة شجرة وقد تكون المسافة بين كل شجرة وأخرى كلم(100متر) فهل يشترط لارتفاع قدر مسافة معينة حتى نقول هذا ساتر وهل يجب أن تكون المسافة معينة.
المسافة هنا مبنية على حل الاستدبار في البنيان أما الحنيفة فهم يقولون بأن الاستدبار محرم مطلقاً وهم هنا لا يحتاجون التفصيل.(1/53)
أما الذين قالوا بالتفريق بين الاستدبار في الصحراء والبنيان أي الذين قالوا أنه يجوز استدبار الكعبة في البنيان فهم يفصلون ذلك, قال ابن ناجي من المالكين: لم أقف عندنا على مقدار السترة أما الحنابلة والشافعية فهم لا يشترطون أن يكون قريب من الساتر أي في البنيان وإن كان في غيره أي في غير البنيان قالوا: يشترط أن يكون بينه وبين الساتر قدر ثلاثة أذرع فما دون هذا بالنسبة للمسافة, أما الارتفاع قالوا: يكون قدر مؤخرة الرجل يعني طولها تقريباً ذراع قال: فإن زاد ما بينه وبين الساتر على ثلاث أذرع في الفضاء أو كان ارتفاعه أقصر من مؤخرة الرحل فهو حرام وإنما اعتبروا بالمسافة ثلاثة أذرع قياساً على السترة في الصلاة واعتبروا مؤخرة الرحل في الارتفاع من أجل أن تستر أسفله فإذا ستر أسفله بلغ المقصود والأقرب في ذلك ويُرجع في ضابط ذلك إلى العُرف يعني ما ورد تحديده في الشرع ننظر في الصحراء إذا كان بينه وبين القبلة ساتر فإنه يجوز أن يستدبر القبلة في الصحراء لكن ما ورد تحديد إذا كان العُرف يعتبر أنّ هذا مستقبل أو مستدبر فإن هذا محرم وعلى هذا لابد أن يكون الساتر قريب أو في حكم القريب للإنسان, ارتفاعه لابد أن يكون مرتفعا وعلى هذا الحجر الصغير لا يكون ساتر وبالنسبة لإرخاء الذيل الظاهر أنه لا يعتبر ستر لأن المحرم في الصحراء الاستقبال والاستدبار وليس ستر البول وهذا الذي أرخى ذيله واستدبر الكعبة يكون مستدبرا يعني إرخاء الذيل ما يمنع كونه مستدبر.
فؤائد الحديث:
1-النهي عن استقبال القبلة واستدبارها حال البول والغائط لأن الأصل في النهي أنه للتحريم والفساد إلا لقرينة.
2-أنه يجوز استقبال بيت المقدس واستدباره حال قضاء الحاجة لأن النهي إنما ورد للقبلة فقط فيبقى ما عداه على الأصل.(1/54)
3-أن الاستنجاء والاستجمار حال استقبال القبلة جائز لكن النهي عن الاستقبال والاستدبار هو حال قضاء الحاجة, فعلى هذا لو أن إنسان قضى حاجته منحرفاً عن القبلة ثم لما أراد أن يستنجي أو يستجمر استقبل القبلة أو استدبرها جاز ذلك.
4-أنه لا بأس من استقبال الشمس والقمر واستدبارهما حال قضاء الحاجة وهذا اختاره بعض الشافعية وبعض الحنابلة ورجحه الشوكاني وهو الراجح والدليل على ذلك يعني عدم الكراهة حكم شرعي يفتقر إلى دليل أي يحتاج إلى الدليل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { ولكن شرقوا أو غربوا } هنا في إذن باستقبال الشرق والغرب أو استدبارهما فلابد أن يكونا أو أحدهما في الشرق أو في الغرب وقيل يكره استقبالهما واستدبارهما " أي الشمس والقمر " حال قضاء الحاجة وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفية وقول في مذهب المالكية وعليه جمهور الشافعية والحنابلة لكن الراجح أنه لا يكره.
5-أنه لا بأس أن يجامع زوجته وهو مستقبل أو مستدبر القبلة لأن النهي إنما ورد في حال قضاء الحاجة.
6-أنه لا بأس لإنسان أن يمد رجله إلى جهة القبلة أو يسند ظهره كذلك لأن النهي إنما ورد في حال قضاء الحاجة فقط وقد ورد في حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسند ظهره إلى القبلة, وفي الحديث الطويل في قصة الإسراء والمعراج قال { ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل " أي طلب أن يفتح له " لأن السماء ملئت حرساً شديداً وشهبا فقيل من ؟ قال: جبريل, قيل ومن معك ؟ قال محمد - صلى الله عليه وسلم - , قيل قد بعث إليه ؟ قال: قد بعث إليه, قال: ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم - عليه السلام - وقد أسند ظهره إلى البيت المعمور } .
البيت المعمور هذا على قواعد إبراهيم يعني كالكعبة في السماء السابعة و الشاهد قوله { وقد أسند ظهره إلى البيت المعمور } .(1/55)
7-في قوله - صلى الله عليه وسلم - { ولكن شرقوا أو غربوا } هذا خطاب لأهل المدينة أما نحن هنا فلو شرقنا أو غربنا لا ستقبلنا القبلة أو استدبرناها فعندنا هنا نقول ولكن أشملوا أو أجنبوا.
8-قوله في الحديث ونستغفر الله - عز وجل - هذا يدل على أن الصحابة فهموا أن استقبال واستدبار القبلة محرم حال قضاء الحاجة لأن الاستغفار إنما كان عن معصية.
{ الحديث الخامس عشر }
عن عبدالله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال { رقيت يوماً على بيت حفصة فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبراً الكعبة, وفي رواية (مستقبل بيت المقدس) بدل (مستقبل الشام).
فؤائد الحديث:
1/هذا الحديث كما تقدم دل على جواز استدبار الكعبة في حال البنيان وفي رواية (ومستقبل بيت المقدس) وهما بمعنى واحد لأن بيت المقدس في الشام.
2/فيه أن الإنسان يقضي حاجته وهو قاعد لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
3/احتياط الإنسان حال قضاء الحاجة حتى لا تصيبه النجاسة ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قعد على لبنتين كما ورد في بعض الروايات.
4/لا بأس من دخول الإنسان بيت الأقارب: يقول رقيت يوما على بيت حفصه(عبد الله بن عمر أخته حفصه).
5/أنه لا بأس من دخول الإنسان إلى سطح البيت إذا كان عُرف لفظي(أن جاره أذن له بذلك) أو تعارف الناس على ذلك, لكن أن كان هذا يؤدي إلى كشف بيوت الجيران فلابد من الإذن وعلى هذا الصعود إلى الخزان هذا لا يجوز إلا بإذن الجيران حتى يحتاطوا أما الصعود الآن إلى السطح فهذا عرفا لا بأس به لأنه لا يؤدي إلى كشف بيوت الجيران.
{ الحديث السادس عشر }
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال { كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي معي إداوة من ماء وعُنَزَه فيستنجي بالماء } .
العنزة: الحربة الصغيرة.
الخلاء: المكان المعد لقضاء الحاجة.
الإداوة: هي الإناء الصغير من الجلد.(1/56)
العُنَزَه: هي عصا عليها زُج(بضم الزاي) أي سنان يعني مسنن في طرفها وفي الطبقات لابن سعد أن النجاشي كان أهداها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا يؤيد أنها كانت على صفة الحربة لأنها من ألآت الحبشة.
فؤائد الحديث:
1- فيه جواز استخدام الغير إذا كان هذا الغير يرضي بذلك ويكون هذا مستثنى من مبايعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه (ألا يسألوا أحدا شيئاً) لأنه كان قد بايعهم على ذلك حتى أنه كان سوط أحدهم يسقط فلا يقول لأخاه ناولني إياه لكن نقول إذا كان هذا المستخدم لا يتثاقل ذلك فلا بأس من استعماله.
2- أنه يستحب للإنسان إذا أراد قضاء الحاجة أن يستتر, والاستتار على قسمين:
* استتار واجب: وهذا ستر العورة, والعورة يجب سترها إلا عن الزوجة أو ملك اليمين لقوله تعالى { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ*ِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } (1).
* استتار محبب: وهو إخفاء جميع البدن وهو أن يبتعد الإنسان إذا كان في الفضاء في الخلاء حتى لا يراه أحد أو أن يجلس في مكان منخفض أو خلف شجرة من بعده كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك.
- الدرس السادس عشر -
تابع فؤائد الحديث السادس عشر:
__________
(1) المؤمنون6:5).(1/57)
3- فيه الاستنجاء بالماء ويجوز تركه إلى الحجارة حتى ولو كان قادراً على الماء الآن بعض الناس يعتقد أنه لا يجوز أن يستجمر بالحجارة والورق ونحو ذلك حتى يعدم الماء وهذا غير صحيح فالإنسان يجوز له ذلك حتى مع وجود الماء جمهور المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية كل المذاهب الأربعة وقيل أنه لا يلزمه الاستنجاء بالماء, بعض أهل العلم يرى أنه لا يجوز وقد حكي عن بعض السلف روى ذلك عن ابن السيد وكان يقول إنما ذلك كان وضوء النساء وروى ابن شيبة عن ابن حذيفة قال: روى عن الاستنجاء بالماء فقال إذن لا تزال في نتن وسنده صحيح صحح إسناده الحافظ في الفتح وأيضاً روى ابن شيبة عن ابن عمر أنه كان لا يستنجى بالماء وإسناده حسن وأيضاً روى عن ابن الزبير أنه رأى رجلاً يغسل الغائط أثر الغائط أنه يغسله بالماء فقال ما كنا نفعله وهذا إسناده صحيح, وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع من الاستنجاء بالماء لأنه مظعون يعني يشرب كذا نقل ابن حجر عن منع ابن حبيب كما في حاشية ألخرقي أنه يوجب الاستنجاء بالماء ولا يجوز الاقتصار على الاستجمار بالحجارة مع وجود الماء وهذا عكس ما نقله ابن حجر عنه .
من قالوا بجواز الاستنجاء بالماء لهم أدلة على ذلك:
* منها حديث الباب حديث أنس الذي معنا قال { فيستنجي بالماء } .
* ومن ذلك حديث أبي هريرة قال { كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء دعا بماء فاستنجى ثم مسح بيده على الأرض ثم توضأ } وهذا ما رواه أحمد في المسند.
* وأيضاً من أدلة ما ورد في حديث عائشة أنها قالت { مُرن أزواجكن يغسلوا عنهم أثر الخلاء والبول, فإنا نستحي أن ننهاهم عن ذلك } هذا لعله يضاف إلى الأدلة كما سبق الذي تكلمنا عنه, نقول { مرن أزواجكن } .
فائدة:(1/58)
ما كانت تقوم خطيبة أو داعية تأمر الأزواج بل تقول للنساء مُرن أزواجكن ليغسلوا أثر الخلاء والبول فإنا نستحي أن ننهاهم عن ذلك وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله كما رواه أحمد في مسنده.
* وأيضاً من أدلة ذلك حديث عائشة قالت { ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من غائط قط إلا مس الماء } وهذا إسناده صحيح.
* وأيضاً ورد حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسل مقعدته ثلاثاً, وقال ابن عمر قد فعلنا " يعني الاستنجاء بالماء " فوجدناه دواء طهورا وهذا رواه إسحاق في المسند لكنه ضعيف جداً.
الذين منعوا من الاستنجاء بالماء قالوا لا يجوز لهم أدلة على ذلك:
* الدليل الأول: قالوا بأن الماء مطعوم فيجب تكريمه والاستنجاء به إهانة له(مطعوم يعني يشرب منه).
* الدليل الثاني: قالوا بأن الاستنجاء بالماء فيه إتلافاً للماء.
* الدليل الثالث: قالوا بأنه يبقى باليد نتنه بعد الاستنجاء بالماء يبقى فيها دائماَ.
لكن يجاب عن ذلك:
* أما الدليل الأول كونه مطعوم ويجب تكريمه, فيقال:
بأنه ثبت تطهير دم الحيض بالماء, ثبت أن الحائض إذا أصاب ثوبها دم الحيض تطهره بالماء, وكذلك أيضاً تطهير بول الإعرابي كما في حديث بول الإعرابي وهما في الصحيحين (تطهير دم الحيض وبول الإعرابي) في الصحيحان فدل ذلك على أنه لا يعتبر ذلك امتهاناً للماء, وقد أنزل الله سبحانه الماء مطهراً في قوله - عز وجل - { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً(1) } , فالله - عز وجل - امتن علينا بكونه مطهرا لنا من النجاسات والأحداث والماء النازل من السماء ماء عذب فهذا تعليل في مقابل النص فيطرح.
* وأما دعوى أنه تلف للماء فيقال أنه تلفه كان في مقابل منفعه وليس بدون مقابل.
* وأما دعوى أنه يبقى في اليدين نتن بعد الاستنجاء:
فهذه يمكن علاجه في تنظيف اليد بالصابون ونحوه.
مسألة:
__________
(1) الفرقان: من الآية48).(1/59)
أيهما أفضل الاستنجاء أو الاستجمار ؟
على خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: أن الاستنجاء بالماء أفضل وهو مذهب الأئمة الأربعة المالكية والشافعية والحنابلة والحنيفة.
القول الثاني: أن الاستجمار أفضل من الاستنجاء بالماء وهو رواية عن الإمام احمد وهو منقول عن بعض السلف كما تقدم ذكر بعضهم في مسألة الاستنجاء بالماء.
أدلة القول الأول: الذين قالوا بأن الاستنجاء بالماء أفضل:
قالوا: بأن الماء قالع للنجاسة يعني يقلع النجاسة يزيلها تماماً والحجر ونحوه مخفف لها لأنها الاستجمار ما يزيل النجاسة تماماً ولذلك قالوا: في الاستجمار المجزئ أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء, يعني ضابط الاستجمار المجزئ أن يبقى أثر لاحظ (استجمار مجزئ) أي يكفي لا يزيله إلا الماء, قالوا, بأن الماء قالع للنجاسة والحجر مخفف لها وما كان قالعاً للنجاسة فهو أفضل.
دليلهم الثاني: قالوا بأن الماء هو الأصل في تطهير النجاسات كما في تطهير دم الحيض إذا أصاب الثوب وكذلك البول كما في قصة بول الإعرابي ونحوه. بينما يرى كثير من الفقهاء أن الاستجمار على خلاف الأصل وأنه رخصة تخفيف على الأمة لن الماء قد لا يكون موجودا في كل مكان والبول والغائط قد يأتي فجاة.
على كل ما تقدم أنه يجوز للإنسان أن يقتصر على الاستجمار مع قدرته على الاستنجاء واستعمال الماء لكن نحن نشير إلى خلاف.
أما من قالوا: بأن الاستجمار أفضل فلهم على ذلك تعديلات منها:
1. أن هذا هو المعروف عند أكثر الصحابة.
2. ما تقدم قالوا: بأن الماء مطعوم فيجب تكريمه والاستنجاء به إهانة له.
3. أنه في الاستنجاء تلف للماء. وأيضاً قالوا بأنه يبقى في اليدين نتن بعد الاستنجاء فالاستجمار أفضل وقد سبقت الإجابة عن هذه الأدلة والراجح هو القول الأول.
واعلمي يا طالبة العلم أن الإنسان إذا قضى حاجته فله ثلاث حالات:(1/60)
1) الحالة الأولى: أن يجمع بين الاستنجاء وهذا هو مذهب الجمهور وهذا أفضل يعني يقدم الحجارة ونحوه أو المناديل لتخفيف النجاسة ثم يتبعها الماء.
من قالوا باستحباب الجمع بين الحجارة والماء لهم أدلة على ذلك. ذكروا دليلين أحدهما صريح ضعيف والأخر صحيح لكنه غير صريح يعني الدليلين الصريح يستحب الجمع بينهما يعني يدل دلالة صريحة لكن ضعيف المشكلة والدليل الأخر صحيح لكن غير صريح على هذه المسألة.
أما الدليل الأول وهو الصريح الضعيف: هو حديث ابن عباس لما نزلت هذه الآية في أهل قباء { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } (1) سألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن طهورهم فقالوا: إنا نتبع الحجارة بالماء يعني نستجمر بالحجارة أولا ثم نتبعه بالماء هذا الحديث صريح لكن إسناده ضعيف جداً والمعروف من حديث أهل قباء ذكر الاستنجاء بالماء دون ذكر الحجارة.
أما الدليل الآخر الصحيح غير الصريح: هو حديث أبي هريرة انه كان يحمل مع الرسول إداوة لوضوئه وحاجته فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا ؟ يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -, فقال: أنا أبو هريرة, فقال: أبغني أحجار استنقي بها ولا تأتني بعظم ولا بروثه, قال فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعته إلى جنبه ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت فقلت: ما بال العظم والورثة ؟ فقال هما إطعاما الجن وأنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد(يعني الطعام) فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا بروثه إلا وجدوا عليها طعاما } .
فقالوا: يبعد أن يحمل أبو هريرة الماء ولا يستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم -, فقالوا ربما جمع بين التراب والماء فهذا الدليل صحيح لكنه غير صريح يعني ليس فيه دلالة قوية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بينهما ولا شك أن الأقرب أن الإنسان يجمع بينهما.
__________
(1) التوبة: من الآية108).(1/61)
يعني الجمع بينهما أفضل وإن هناك بعض المعاصرين من يرى من الغلو لكن يقال بأن إزالة النجاسة ليس كالعبادة التوقيفية التي يطلب فيها موافقة الشرع في الجنس والصفة والمقدار والوقت يعني هذا مجرد إزالة نجاسة يعني ليست كالعبادة مثل: الصلاة, الزكاة, الحج التي يطلب فيها موافقة الشارع تماماً في الجنس والصفة والمقدار والوقت. الآن مناديل الورق ليست موجودة في الزمن السابق فعلى هذا لو أزال بها الإنسان ثم اتبع ذلك بالماء كان ذلك من النظافة وباب التروك أخف من فعل المأمورات والله أعلم.
الحالة الثانية: أن يستنجي بالماء يعني يقتصر على الماء وهو أفضل لأنه ابلغ من الاستجمار.
الحالة الثالثة: هو الاستجمار وهو مجزئ حتى مع وجود الماء على الصحيح على خلاف ما يعتقد بعض الناس والدليل على ذلك حديث عائشة - رضي الله عنه - ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه } وهذا الحديث رواه أحمد وأبو داوود وإسناده صحيح.
- الدرس السابع عشر -
{ الحديث السابع عشر }
عن أبي قتادة الحارث بن ربعي النصاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ولا يتمسح من الخلاء بيمينه ولا يتنفس في الإناء } تقدم أن الأصل في النهي أنه للتحريم وذكرنا بعض ألفاظ التحريم كما تقدم من هذه الأدلة حديث الباب الذي معنا.(1/62)
وأيضا حديث سلمان وفيه { لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخرئة } يعني حتى لآداب قضاء الحاجة قال: فقال أجل { لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو عظم } واضح الحديث نهانا } والحديث لمسلم, وأيضا حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا تستقبلوها ولا تستدبروها ولا يستنجي بيمينه وكان يأمر بثلاثة أحجار...الخ(1) } .
أما الذين قالوا بالكراهة فقد استدلوا بالأدلة السابقة لكنهم حملوها على الكراهة, قالوا: ما تقتضي التحريم.
* ما هي القرينة الصارفة من التحريم إلى الكراهة ؟
* نحن نسبق أن قلنا في أصول الفقه أن الأصل في النهي أنه للتحريم, إذاً لماذا قالوا أنه للكراهة.
* لأن هناك صارف عندهم نقل من التحريم إلى الكراهة, ما هو هذا الصارف ؟
قالوا: أن ذلك من باب الآداب لأن فيه قاعدة (أن النهي في باب الآداب يقتضي الكراهة) وهو لا يصل إلى حد التحريم فيحتما أن تكون الحكمة من النهي كون اليد اليمنى معدة للأكل بها فلو استنجى بها فقد يتذكر ذلك عند الأكل فيؤدي ذلك إلى نفوره.
أما الذين فرقوا وقالوا: أنه بالنسبة لمس الذكر مكروه يعني حال قضاء الحاجة وحال الاستنجاء والاستجمار وأما بالنسبة للاستنجاء باليمين فهو محرم استدلوا بحديث أبي قتادة " الذي معنا " لكنهم قالوا بأن الاستنجاء أقبح من مس الذكر باليمين حال قضاء الحاجة كون الاستنجاء باليمين أقبح, قالوا لأن فيه ملامسة للنجاسة بخلاف مس الذكر باليمين انه مكروه لأن الأصل في الذكر أنه طاهر والراجح أن القول بالتحريم قول قوي بتحريم ذلك لأن الصارف ليس واضحاً فالأولى ألا يفعل ذلك والقول بالتحريم قول قوي.
مسألة:
هل النهي عن مس الذكر حال البول فقط أم هو عام ؟
قولان لأهل العلم:
__________
(1) رواه احمد وإسناده حسن.(1/63)
1. قيل أنه يكره مس الذكر باليمين مطلقاً أي في حال البول وغيره.
2. أو يحرم على القول بالتحريم كما تقدم وهذا ظاهر عبارة الإمام أحمد قال في الفروع(أكره أن يمس فرجه بيمينه).
وقيل بأن الكراهة أو التحريم على ما تقدم من الخلاف حال البول فقط وهذا هو الأقرب الذين قالوا بالإطلاق يعني في حال قضاء الحاجة أو الاستنجاء أو الاستجمار(الذين قالوا بأنه يحرم أو يكره مطلقاً) , قالوا بأنه إذا نهي عن مس الذكر حال البول مع مظنة الحاجة في تلك الحالة يكون النهي في غيرها مع عدم الحاجة من باب أولى.
لكن الراجح كما قلنا أنه يقيد ذلك حال البول أو الغائط أما إذا انقطع البول فلا فرق بين الذكر وغيره من الأعضاء ولا يقاس الأخف على الأغلظ فلو كان مسه منهي عنه مطلقاً باليمين لجاءت النصوص الواضحة التي تنهى عن مسه مطلقاً.
المسألة الثانية:
التنفس في الإناء مكروه والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه كما في هذا الحديث, لكن إذا كان ذلك يؤدي إلى تقديره على الغير يعني كون الإنسان يتنفس فيه فيؤدي إلى غيره يتقذر من ذلك فإنه يحرم لأنه من باب أذية المسلم أما ما ورد في حديث أنس في الصحيحين { كان يتنفس في الإناء ثلاثا } .
كيف نجمع بين هذا وهذا الحديث ؟
لأنه هنا قال { ولا يتنفس في الإناء } وحديث أنس قال { كان يتنفس في الإناء ثلاثا } فيقال: النهي الذي في حديث أبي قتادة الذي معنا أن النهي عن التنفس في الإناء وهو يشرب, أما حديث أنس فالمراد بهذا انه يشرب ثم يطلق الإناء وهكذا ثلاثا يفعل ذلك.
وقد ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه - ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { لا تشربوا واحدا كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث وسموا إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا أنتم رفعتم } يعني التسمية في البداية والحمد إذا انتهى تماما والحديث في الترمذي وفيه:
1) حرص الشارع على النظافة والطهارة.(1/64)
2) فيه حرص الشارع على مراعاة الغير ولذلك قال { ولا يتنفس في الإناء } .
3) تحريم أذية المسلم لأن قوله في الحديث { ولا يتنفس في الإناء } هذا يؤدي إلى تقذيره على الغير وكراهته لذلك.
{ الحديث الثامن عشر }
عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنه - قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقيرين فقال: { أنهما ليعذبان, وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة, فأخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة, فقالوا: يا رسول الله لم فعلت هذا ؟ قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا } .
قوله مر بقبرين هذه رواية الأعمش وفي رواية مجاهد عن ابن عباس قال { مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوتاً...الخ } .
قوله { مر بقبرين فقال: أنهما ليعذبان } :
أعاد الضمير على القبرين مجازا والمراد به من في القبرين يعني المراد من في القبرين.
ولقوله { وما يعذبان بكبير } :
قيل أن المعنى أي أن ذلك ليس بكبير أي ليس بأكبر الكبائر كالقتل مثلاً وإن كان كبره في الجملة, وقيل أن المراد أنه ليس بكبير فيما يعتقدان (أي يعتقدان أن هذان الأمران ليسا بكبير)أو في اعتقاد المخاطبين لكنه عند الله تعالى كبير كما في قوله - عز وجل - { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } (1).
وقيل ليس بكبير في مشقة الاحتراز فالإنسان لا يشق عليه أن يحترز من النميمة أو يتنزه من البول ولذا قيل ليس بكبير في مشقة الاحتراز من ذلك وهذا جزم به البغوي وغيره ورجحه ابن العيد رحمه الله وجماعة وقيل ليس بكبير لمجرده ولكن صار كبيرا بالمواظبة عليه لكثرة النميمة والآخر واظب على عدم الاستتراه من البول لم يحصل منهما مرة واحدة أو مرتين بل واظبا عليه وقد يكون يحتمل هذه المعاني كلها.
قال { لا يستتر } :
__________
(1) النور: من الآية15).(1/65)
قال ابن حجر رحمه الله كذا في أكثر الروايات(لا يستتر) وقد روى في رواية ابن عساكر(لا يستبرئ) ولمسلم وأبي داوود في حديث الأعمش(يستتره) يعني رواية (لا يستتر) ورواية (لا يستتره) ورواية (لا يستبرئ) فعلى رواية الأكثر وهي قوله(لا يستتر) المعنى أنه لا يجعل بينه وبين بوله سترة بمعنى لا يتحفظ منه فعلى هذا رواية (يستتر) توافق رواية(لا يستتره) لأن قوله(لا يستتره) من التتره وهو الإبعاد وقد وقع عند أبي نعيم في المستخرج من طريق وكيع عن الأعمش كان(لا يتوقف) وهي مفسرة للمراد لكن قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى " انتبهي" لو حمل الاستتار على حقيقته " أي ما يجعل بينه وبين بوله سترة " للزم أم مجرد كشف العورة كان هو سبب للعذاب المذكور في الحديث, ثم قال(وسياق الحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية) وهو يشير إلى حديث ما صححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة مرفوعا(أكثر عذاب القبر من البول) يعني بسبب ترك التحرز منه, قال( ويؤيده أي يؤيد المقصود أن لفظ من العذاب على عدم التوقي من البول) أن لفظ من في هذا الحديث لما أضيف إلى البول اقتضى نسبة الاستتار الذي عدمه سبب العذاب من البول(بمعنى أن ابتداء سبب العذاب من البول) فلو حمل على مجرد كشف العورة لزال هذا المعنى وعلى هذا الظاهر في الحديث يعني تعين الحمل على مجاز, قال(أما أحدهما فكان لا يستتر من البول) يعني لا يتوقى منه( لا يستتره) وذلك من أجل أن تجتمع ألفاظ الحديث على معنى واحد لأن مخرج الحديث واحد, ويؤيده في حديث أبي بكرة عند أحمد عن ابن ماجة { أما أحدهما فيعذب من البول, قال(من البول) وفي رواية (من بوله) قال ابن بطال أراد البخاري أن المراد بقوله(كان لا يستتره من البول) بول الناس لا بول سائر الحيوانات فلا يكون فيه حجة على من حمله على العموم.
نقف عند قوله { فأما الآخر فكان...الخ } .
- الدرس الثامن عشر -
{ الحديث الثامن عشر }(1/66)
قال - صلى الله عليه وسلم - { وأما الأخر فكان يمشي بالنميمة } .
قال ابن دقيق العيد رحمه الله { هو نقل كلام الناس } , والمراد به هنا ما كان يقصد الإضرار فأما ما اقتضى مصلحة أو ترك مفسدة فهو مطلوب.
يقول النووي رحمه الله وهي (أي النميمة) نقل كلام الغير بقصد الإضرار وهي من أقبح القبائح " وتعقب هذا الكرماني رحمه الله " فقال: هذا لا يصح على قاعدة الفقهاء, يعني قوله " وهي من أقبح القبائح " فإنهم يقولون الكبيرة هي الموجبة للحد ولا حد على المشي بالنميمة, لكن ما نقله الكرماني عن الفقهاء هذا ليس هو قول جميعهم لأن الرافعي رحمه الله.
حكى في تعريف الكبيرة وجهين:
أحدهما هذا: وهو وجه أنها موجبه للحد.
والآخر: قال ما فيه وعيد شديد لكن على القول الأول غير ما نص عليه في الأحاديث الصحيحة أنه كبيرة, يعني بعض الأحاديث نص على أن هذا الشيء كبيرة حتى وإن لم يترتب عليه حد في الدنيا, إن الكبيرة هي الموجبة للحد ولابد من حمل هذا الحديث ان المراد به غير ما نص عليه في الأحاديث وإن لم يترتب عليه حد في الدنيا وإلا للزم من ذلك ألا يُعد, فعقوق الوالدين وشهادة الزور من الكبائر مع أنه لا حد فيهما ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على أنهما من الكبائر.
قال { فأخذ جريدة رطبة } وللأعمش { فدعى بعسيب رطب } .
والعسيب: هو الجريد التي لم ينبت فيه خوص وإن نبت فهي السعف, وقيل بأنه خص الجريدة بذلك لأنه بطيء الجفاف لأنه قال { لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا } فهو بطيء الجفاف.
قال { فشقها نصفين } وفي رواية أخرى { فكسرها كسرتين } .
والكسرة: هي القطعة من الشيء المكسور. وقد نتبين من هذه الرواية التي معنا أنها كانت نصفا.
قال { فغرزها } وفي رواية أخرى { فوضع } وقوله { غرز } أخص من قوله { وضع } لأن الوضع يحتمل أنه وضعها على القبر وضع هكذا ويحتمل أنه غرزها هذا (عام) لكن غرز أخص بمعنى أنه ركزها في القبر.
فؤائد الحديث:(1/67)
1) إثبات عذاب القبر كما هو مذهب أهل السنة والجماعة بدليل الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فلقوله - عز وجل - { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } (1), وقوله - عز وجل - { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَر } (2).
العذاب الأدنى هو عذاب القبر, وفي الآية الأولى قال { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } (3).
يدل على أن هذه النار التي يعرضون عليها قبل قيام الساعة فعلم من هذا أن هذا عذاب قبل يوم القيامة وليس هناك عذاب إلا في القبر.
أما الأدلة من السنة كهذا الحديث وأيضاً الاستعاذة في الصلاة حيث قال { ثم ليستعيذ بالله من أربع وذكر منها وأعوذ بك من عذاب القبر } والإجماع منعقد على إثبات عذاب القبر أي أجمع أهل السنة والجماعة وإن خالف بذلك المعتزلة فخلافهم مردود عليه.
2) تحريم النميمة " وهي نقل الكلام على وجه الإفساد بين الناس " وان ذلك من عذاب القبر نسأل الله السلامة والعافية, فلنتقي الله - عز وجل - من كانت تفعل هذا لأنه من أسباب عذاب القبر أي الأسباب التي يعذب الإنسان بها في قبره.
3) وجوب الإستتار من البول والتنزه منه.
__________
(1) غافر: من الآية46).
(2) السجدة: من الآية21).
(3) غافر:46).(1/68)
4) أخذ من هذا بعض العلماء أنه يشرع للإنسان أن يأتي بجريدة ويغرزها على القبر لكي يخفف عن صاحب القبر العذاب وممن ذهب إلى هذا ابن حجر رحمه الله, لكن هذا باطل لا يصح لأن الإنسان لا يدري هل صاحب هذا القبر يعذب أولا وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه قد كشف له عن ذلك يعني علم ذلك بالوحي يقول القاضي عياض رحمه الله(لأنه علل غرزهما على القبر على القبر بأمر مغيب { ليعذبان } . وقال أبو سلمان الخطابي(فإنه من ناحية التبرك بأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالتخفيف عنهما فكأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدا كما وقعت له المسألة من تخفيف العذاب عنهما وليس في أصل الجريد الرطب معنى ليس باليابس .
يقول ابن باز رحمه الله في التعليق على كتاب الفتح( والصواب في هذه المسألة ما قاله الخطابي "خلافاً لما قاله ابن حجر" منه استنكار وضع الجريد ونحوه على القبور لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله إلا في قبور مخصوصة أطلع على تعذيب أهلها ولو كان مشروعا لفعله في كل القبور وكبار الصحابة كالخلفاء لم يفعلوه وهم أعلم بالسنة من بريدة رضي الله عن الجميع) أ.هـ.
* لماذا قال(وهم أعلم من بريدة) ؟
لأن ابن حجر نقل عن بريدة بن الحصين أنه أوصى أن يوضع على قبره جريدة.(1/69)
5) قال بعض العلماء أن شق العسيب وهو رطب أنه ما دام رطباً فإنه يسبح. وقال بعض العلماء أنه يشرع مطلقا أن يأخذ عسيباً ويغرزه سواءً كان رطباً أو غيره والصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كشف له حال القبرين فشفع شفاعة مؤقتة إلى أن ييبس هذا العسيب وهذا هو الصحيح, وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وشقه للعسيب أخذ منه العلماء استحباب العبادة عند القبر وإنها من أسباب التخفيف على الميت قالوا " فيستحب ذكر الله ونحو ذلك " لماذا ؟ قالوا: لأنه تقدم أن العسيب الرطب يسبح ولذا قال البغوي في شرح السنة(فيه دليل على أنه يستحب قراءة القرآن على القبور لأنه أعظم من كل شيء بركة وثواباً) هم الآن بنوا هذه المسألة على تسبيح العسيب لكن هذا ضعيف.
وقد ذكر شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم أن العبادات على القبر أقسام:
القسم الأول:
الصلاة: يعني كونه يقصد القبر للصلاة, فإذا قصد بها صاحب القبر فهو شرك نسأل الله العافية, كما يفعل بعض الناس الآن يذهب إلى القبر من أجل أن يصلي لصحابه فهذا شرك أما لو قصد بهذه الصلاة رضاء الله ولكن اعتقد بهذا أفضلية فهو " بدعة " كما قال شيخ الإسلام وهو شرك أصغر لأن القاعدة أن كل ما كان وسيلة إلى الشرك فهو شرك أصغر, فالصلاة عند القبر محرمة وكذلك بعض الفقهاء رحمهم الله يقولون لو كانت المقبرة كبيرة جداً وفيها قبر واحد فإن الصلاة فيها محرمة بل والصلاة غليها إلا كانت بعيدة عرفا, وقال بعضهم: لو كانت معدة لدفن ولم يدفن فيها أحد لصحت الصلاة فيها.
القسم الثاني:
الذبح عند القبر: أيضاً محرم لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم - { لا عقر في الإسلام } .
والمراد بالعقر كما ورد بالمصنف عند عبد الرزاق هو الذبح عند القبر.
القسم الثالث:(1/70)
سائر العبادات: يعني من قراءة القرآن والذكر والصدقة ونحو ذلك. إذا قصد القبر لكي يفعل هذه العبادة فهي بدعة لا تجوز, فمثلاً إذا قصد المقبرة من أجل أن يتصدق يرى أن الصدقة في المقبرة أفضل من غيرها أو ليقرأ القرآن أو يذكر الله فهذه بدعة, ولكن لو وقع ذلك ولم يقصد العبادة عند القبر ولكن وقع ذلك اتفاقا كأن يذهب لزيارة المقبرة وهو يقرأ شيء من القرآن ودخل المقبرة وهو يقرأ ولم يقصد ذلك فهذا جائز أو مثلاً جاءه سائل يسأل فأعطاه " أي تصدق عليه " لكن ما قصد ذلك وإنما وقع اتفاقا فإنه لا بأس بذلك.
- باب السواك -
{ الحديث التاسع عشر }
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة } .
لولا: حرف امتناع لوجود مشقة.
السواك: مأخوذ من ساك إذا دلك وقيل مأخوذ من قولهم جاءت الإبل تتساوك أي تتمايل وأيضاً يطلق السواك على ألآله وعلى الفعل ألآله أي العود على الفعل كالتسوك يطلق عليه السواك.
أما في الاصطلاح: هو استعمال سواك ونحوه لتطهير الفم وهذا أحسن تعريف.
أما قولهم " استعمال سواك " هذا ظاهر أما قوله " ونحوه " بمعنى كما سيأتي أنه إذا استعمل خرقه أو طرف شماغه لتنظيف أسنانه عند الوضوء أو الصلاة ونحوه فإنه يحصل من الأجر بقدر ما يحصل من الإنقاء, ولذلك قال " استمال سواك ونحوه لتطهير الفم " وهذا أحسن تعريف . أ.هـ.
- الدرس التاسع عشر -
{ تابع الحديث التاسع عشر }
وقفنا عند فؤائد الحديث:(1/71)
1. مشروعية السواك والجمهور على أنه سنة وليس بواجب, قال الشافعي رحمه الله فيه دليل على أن السواك ليس بواجب لأنه لو كان واجب لأمرهم وشق عليهم به أو لم يشق وإلى القول بعدم وجوبه صار أهل العلم بل ادعى بعضهم فيه الإجماع على عدم وجوب السواك لكن حكى الشيخ أبو حامد وتبعه الماوردي عن إسحاق بن راهوية قال: هو واجب لكل صلاة ولذلك يرون أنه من تركه عامداً بطلت صلاته يعني كأنهم يرون أنه شرط من شروط الصلاة عند الظاهرية " يعني كأنه قول ثالث " أنه واجب ولكن ليس بشرط يعني إذا تركه متعمدا يأثم لكن الصلاة صحيحة والراجح أنه مستحب كما هو رأي الجمهور فالسواك مستحب في كل وقت لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال { السواك مطهرة للفم مرضاة للرب } قالوا ولا شك أن طهارة الفم ورضى الرب مشروعان في وقت, لكن السواك يتأكد في مواضع منها:
1) الموضع الأول عند الصلاة:
وهذا ما عليه جمهور العلماء خلافا للإمام مالك رحمه الله لكن ذكر القرطبي في كتابه المفهم أن مالك لا يرى السواك في المسجد ولا يعني هذا أنه لا يرى السواك للصلاة, ولذلك مذهب المالكية أنهم يرون أنه إن صلى في المسجد فإنه لا يستاك يعني كأنهم يرون أنه من باب التنظف والمسجد منزه عن ذلك وأما إن صلى في غير المسجد فإنه يستاك والعلة في المنع عند المالكية كونه في المسجد, والراجح مذهب الجمهور استدلالاً بهذا الحديث أنه يتأكد عند الصلاة سواء كانت الصلاة في المسجد أو غيره.
مسألة:
محله من الصلاة, متى ؟(1/72)
عند تكبيرة الإحرام (يعني إذا أراد أن يكبر تكبيرة الإحرام فإنه يستاك) كذلك لو استاك قبل تكبيرة الإحرام بزمن يسير يكفي هذا يصبح أصاب السنة أو هو في الطريق إلى المسجد أو في أثناء دخوله المسجد يكفي هذا المهم أن يكون بين استياكه وبين تكبيرة الإحرام زمن يسير لكن كلما كان أقرب كان أفضل أما قول بعضهم " عند كل صلاة " يعني عند كل وضوء هذا غير صحيح لأنه قد يكون هناك بعد بين الوضوء والصلاة فعلى هذا نقول محله عند تكبيرة الإحرام (مع الأسف كثير من النساء لا تستخدم السواك ولو استعملته لكانت مثار تعجب الحاضرات يعني كان السواك حكر على الرجال والأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام إلا ما دل الدليل على اختصاص أحدهما بحكم دون الآخر, وبناءً على هذا قلما تستخدم السواك في الاجتماعات والمناسبات ونحو ذلك بل قد تكون مثار للسخرية والتعجب ونحو ذلك وهذا لا شك سببه البعد عن السنة).
مسألة:
ما هي الصلاة في قوله { عند كل صلاة } ؟
أي صلاة المقصودة بقوله { صلاة } يشمل كل صلاة سواء كانت فرضاً أو نفلا وحتى صلاة الجماعة لأنها صلاة, وضابط الصلاة التي يطلق عليها صلاة ويشترط لها استقبال القبلة وستر العورة ويسن عندها السواك هي " كل صلاة تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم " كما ذكر ذلك ابن القيم في كتاب تهذيب السنن, وعلى هذا إذا أراد الإنسان أن يصلي راتبة الظهر مثلاً يستاك للسنة الأولى ثم إذا أراد أن يصلي السنة الثانية يستاك وكذلك عند الفريضة يستاك والسنة البعدية يستاك وهكذا.
لأنه قال { عند كل صلاة } وقوله هذا مفرد مضاف يعم كل صلاة, وعلى هذا مثلاً فسجود التلاوة وسجدة الشكر ونحوه ليس بصلاة لأنها على الصحيح لا تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم خلافاً لمذهب الحنابلة وعلى هذا يجوز للإنسان أن يسجدها وهو غير ساتر للعورة وإلى غير القبلة ومن دون تكبير وإنما هي سجدة مجردة.
مسألة:(1/73)
عند تأكد السواك عند الصلاة هل يشرع السواك للتيمم والغسل أم لا ؟
استحب ذلك بعض الفقهاء حتى قال بعضهم لو استاك للوضوء قبل الغسل فإنه يشرع للغسل لأننا قلنا أن الغسل المستحب كما سيأتينا أن يتوضأ وضوءاً كاملاً قبل الغسل ثم يغسل هذا إذا أراد أن يطبق غسل السنة, والله أعلم.
حجة هؤلا أنه إذا كان السواك مشروع للطهارة الصغرى(الوضوء) فالطهارة الكبرى من باب أولى(الغسل) هذا بالنسبة للغسل وإذا كان مشروع في الوضوء ففي بدله وهو التيمم عند فقد الماء أو عدم القدرة على استعماله من باب أولى والظاهر أنه يشرع ذلك لأنه سنة مستقلة.
نقف عند الموضع الثاني مما يتأكد عنده السواك وهو عند الوضوء.
- الدرس العشرون -
الموضع الثاني من المواضع التي يتأكد عندها السواك:
2)عند الوضوء:
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة } كما في البخاري أما محله عند الوضوء, أين يكون محله ؟(1/74)
الجمهور قالوا بأنه يكون عند المضمضة, يعني إذا وصل إلى المضمضة يستاك, وقيل بأنه يستاك قبل الوضوء وهذا قول في الحنفية والمالكية والشافعية يعني نقول لكل مذهب قولان, الذين قالوا إنه عند المضمضة استدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - { لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء } , فقوله (مع) المعية هنا تقتضي المصاحبة يعني مصاحبة للوضوء, لأن من تسوك بعد غسل الكفين وقبل المضمضة يصدق عليه أنه تسوك مع الوضوء وليس قبله, وأما الذين قالوا بإن محله قبل الوضوء استدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء } فعند هنا لا تقتضي المصاحبة كما في السواك عند كل صلاة, والذي يظهر والله أعلم أن الحديثين بمعنى واحد يعني (مع كل وضوء) أو (عند كل وضوء) فإحدى الروايتان تفسر الأخرى, فالعندية لا تعارض المعية في قوله(مع كل وضوء) ولو تسوك قبل المضمضة يعني سواء كان ذلك قبل غسل الكفين أو بعد غسلهما وقبل المضمضة فهذا أولى لماذا ؟
لأن السواك إذا نظف الأسنان ثم جاء بعده المضمضة ثم مج الماء يكون قد اقتلع كل أذى أقتلعه السواك والأقرب إنه يستاك قبل المضمضة سواء كان ذلك قبل غسل الكفين فيكون قبل الوضوء تبعا لرواية (مع كل وضوء) أو (عند كل وضوء) تبعا لرواية( عند كل وضوء) فالسواك إذا نظف الأسنان ثم جاء بعده المضمضة ومج الماء يكون قد اقتلع كل أذى إقتلعه السواك من الأسنان أو اللثة, وعلى كل الأمر في ذلك واسع سواء كان بعد غسل الكفين وقبل المضمضة أو قبل أن يشرع في الوضوء بزمن يسير أو قبل المضمضة , والله أعلم .
3)الموضع الثالث عند تغير رائحة الفم:(1/75)
والدليل حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال { السواك مطهرة للفم مرضاة للرب } كما روى ذلك البخاري وهو مذهب الأئمة الأربعة, قال العراقي (وتغير الفم سواء فيه تغير الرائحة أو تغير اللون كصفرة الأسنان).
4)الموضع الرابع عند دخول المنزل:
بدليل حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - { كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك(1) } .
يقول القرطبي رحمه الله " يحتمل أن يكون ذلك لأنه كان يبدأ بصلاة النافلة فقلما كان يتنقل في المسجد فيكون السواك لأجلها " يعني كان القرطبي يرى أن السواك ليس من أجل دخول البيت وإنما من أجل النافلة, وقال غيره الحكمة من ذلك أنه تتغير رائحة الفم عند محادثة الناس فإذا دخل البيت كان من حسن معاشرة الأهل إزالة ذلك, وهذا من حسن معاشرة الزوجة وهذا قد يكون له وجه لأن ابن عباس رضي الله عنه يقول " إني أتجمل لزوجتي كما أحب أن تتجمل لي " وهذا يوافق قول الله - عز وجل - { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } (2) وقوله تعالى { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ(3) } وفي قصة صاحب مسلم فعمر - رضي الله عنه - لما راجعته امرأته كأنه أنكر ذلك وحديث, وحديث صاحب مسلم يقول(كنا معاشر قريش لا تغلبنا النساء فلما قدمنا المدينة واختلطت نساؤنا بنساء الأنصار فغلبنا النساء بمعنى أنها كانت تراجع وتبدي رأيها وهذا لا شك محمود شرعاً أن يسمع الرجل للمرأة ويستثيرها بل إن غلبة المرأة على الرجل في الأمور التي لا محذور فيها شرعاً من الأمور التي يحمد عليها الإنسان بخلاف من يقول أن في ذلك انتقاص للرجل, كاختيارها لأثاث البيت ونحو ذلك مما لا يكون من خلاله ارتكاب محرم.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) البقرة: من الآية228).
(3) النساء: من الآية19).(1/76)
ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حصر عن البيت وأمر الصحابة أن يحلقوا رؤوسهم وأن ينحر واهديهم من كان معه هدي تلكأ الصحابة فدخل إلى أم سلمة مغضباً فكأنها أشارت عليه فقالت: أخرج وأفعل ذلك وسيفعلون, فخرج النبي فنحر ونحر الصحابة وبدأ بعضهم يحلق بعضا حتى كادو يقتتلون. ولذلك فأحق من يتكلم عن حقوق المرأة (لم يكملها الشيخ لعله نسى) هذه الحقوق التي ضاعت بين أرجاف المرجفين من المنافقين والعلمانيين والذين يريدون أن تكون المرأة حرة بنفسها وأن ينزعوا القوامة من الرجل وما بين أُناس تربوا على إمتهان حقوق المرأة فضاعت الحقيقة الناصعة بين هؤلا وبين هؤلا ودين الله وسط. لكن عمر لما أنكر على زوجته مراجعتها أي تشير عليه كأنها أشارت إلى أن ابنتك حفصة تراجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومراجعة حفصة كما هو معلوم في حديث طويل على كلٍ وزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - لما غضب ليس غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - لمراجعتها لأمر يباح لها شرعا وإنما غضبه لأنهن سألن النفقة وهو لا يجد - صلى الله عليه وسلم - فألححن عليه بذلك حتى خيرهن بين الطلاق أو البقاء معه أما الإستشارة في أمور دنيوية تخص الزوجين والاستنارة بفكرها والأخذ برأيها فهذا مما يحمد عليه الرجل ولا ينهى ولا شك أنه الآن هناك خلط في فهم هذه المفاهيم فطائفة تريد أن تحرر المرأة نفسها وأن تصبح حرة نفسها تخرج وتلبس ما شاءت لا حكم للرجل عليها ولها الحق أن تزاحم الرجال وأن تسافر مع الغير بدون محرم ونحو ذلك مما ينزع قوامة الرجل وطائفة أخرى يريدون أن تكون المرأة تبعاً للرجل في كل شيء حتى إنه يسطى على حقوقها بإسم الشرع فيؤخذ مالها بغير إذنها ولا حق لها بل ربما حُرمت من الميراث بل بعض القبائل الآن يحرمون المرأة من الميراث وهذا مما ابطله الإسلام فضاعت الحقيقة الناصعة والأمر البين والحقوق العظيمة التي جعلها الإسلام للمرأة فضاعت بين هذين الطرفين(1/77)
ولذلك فإن من يجب عليهم التكلم بهذا الموضوع هم أهل الدعوة والصلاح لأن الحقوق التي ينادون بها منسجمة مع فطرة الإنسان ومع خلقه والمرأة تقبلها بسهولة إن شاء الله تعالى لكن المرأة ما اشرأبت عنقها وتطاولت وانتظرت أهل النفاق والعلمنة إلا لأن الحقيقة الناصعة والحق الشرعي أصبح غائباً والله تعالى المستعان.
وعلى كل أيا كان السبب فإنه يشرع للإنسان إذا دخل بيته سواء ليلاً أو نهاراً أن يبدأ بالسواك تأس بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
5)الموضع الخامس عند الانتباه من النوم:
بدليل حديث حذيفة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من نومه يشوص فاه بالسواك وهو مذهب الأئمة الأربعة.
6)الموضع السادس عند قراءة القرآن:
وهو مذهب الأئمة الأربعة, بدليل حديث على - رضي الله عنه - قال { أمرنا بالسواك } .
هنا قاعدة:
إذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - { أمرنا } فالآمر هو الله سبحانه وتعالى, وإذا قال الصحابي { أمرنا } فالآمر هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - , وقال { إن العبد إذا قام يصلي أتاه الملك فقام خلفه يستمع القرآن ويدنو فلا يزال يستمع ويدنوا حتى يضع فاه على موضع فيه فلا يقرأ آية إلا كانت في جوف الملك(1) } , وعلى هذا إذا كان الملك يدنو منه فيستحب للإنسان أن يطيب فاه بالسواك.
7) الموضع السابع عند الطواف:
واستدلوا بذلك لأنهم قالوا إن الطواف بمعنى الصلاة فيشرع عند ابتداءه كما يشرع لابتداء الصلاة, هذا قال به بعض أهل العلم لكن نوقش هذا بعدم التسليم هذا لا يسلم للاختلاف بين الصلاة والطواف في الهيئة وإباحة الكلام يعني (الهيئة) ينحرف الإنسان إلى غير القبلة ويتحرك يذهب يمين وشمال والكلام أثناء الطواف دون الصلاة ونحو ذلك. وعلى كونه يتأكد عند الطواف هذا فيه نظر والصحيح أنه ليس من المواضع التي يتأكد عندها السواك. لكن نحن نذكر ما ذكره أهل العلم وما كان فيه نظر نبينه.
__________
(1) إسناده صحيح.(1/78)
الموضع الثامن عند الغسل:
ودليله أن السواك متأكد عند الوضوء كذلك الغسل قياساً على الوضوء "تقدم ذلك" .
الموضع التاسع عند دخول المسجد:
ودليل ذلك أنهم قالوا أن السواك إذا تأكد عند دخول المنزل فتأكده عند دخول المسجد من باب أولى, لكن هذا يناقش بعد التسليم فنقول بأننا لا نسلم بهذا والصحيح أن السواك لا يشرع عند دخول المسجد ولا يتأكد فيه, لماذا ؟
لأن كل شيء وجد سببه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقل أنه فعله فليس بمشروع هذه القاعدة, يعني السبب كان موجود وهو دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد في أوقات كثيرة ومع ذلك لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك وعلى هذا نقول الصحيح أنه لا يشرع عند دخول المسجد فكما أن فعله سنة كذلك فإن تركه سنة.
وعليه فإن دخول المسجد من مواضع تأكد السواك.
نقف عند الموضع العاشر من المواضع التي يتأكد عندها السواك.
- الدرس الحادي عشر -
10)الموضع العاشر من المواضع التي يتأكد عندها استخدام السواك:
السواك يوم الجمعة:(1/79)
فالحنفية يرون استحباب السواك عند الاجتماع بالناس مطلقا في الجمعة وغيرها. وقيل بأن السواك فرض لأزم يوم الجمعة وهو اختيار ابن حزم. كان ابن حزم يرى أنه فرض أي لابد منه يوم الجمعة, والدليل على وجوبه يوم الجمعة حديث أبي سعيد الخدري عن أبيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال { غُسل الجمعة واجب على كل محتلم والسواك وأن يمس من الطيب ما قدر عليه } والحديث في مسلم وهو في البخاري في غير هذا اللفظ. أيضاً ما ورد عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا قيل رجل من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا لا يضر الجهالة به لأن الصحابة كلهم عُدول فعدم تسميته لا تؤثر في صحة الحديث " أنه قال - صلى الله عليه وسلم - { ثلاث حق على كل مسلم, الغسل يوم الجمعة, وأن يمس من الطيب } . والظاهر في ذلك أن السواك يتأكد يوم الجمعة وكذلك عند اجتماع الناس كالعيد والجمعة وهذا مأخذ حسن يعني الظاهر أنه عند كل يجتمع للناس وهذا قياساً على الجمعة.
11)الموضع الحادي عشر:
هل يستحب السواك عند الاحتضار؟
ذكر بعض الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة أنه يسهل خروج الروح واستدلوا على ذلك بحديث عائشة كما سيأتي, المهم في نهاية الحديث أن عائشة لما أخذت السواك من أخيها عبدالرحمن وقضمته وطيبته ثم دفعته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأستن به قالت(فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استن استناناً قط أحسن منه فماعدا أن فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع يده أو أصبعه ثم قال { بل الرفيق الأعلى "ثلاثا" } ثم قضى أي مات - صلى الله عليه وسلم - , وكانت تقول: مات بين حاقني وذاقنتي) .
فكون النبي - صلى الله عليه وسلم - إستاك في ذلك اللحظة هل لكونه مسنوناً عند خروج الروح أو لكونه مسنوناً في كل لحظة ؟ هذا يحتاج إلى تأمل لكن لا يبعد استحباب السواك عند الاحتضار لأمور:
وهذه الأمور هي:(1/80)
أولاً: تطيب الفم عند اقتراب الملائكة لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس.
ثانياً: استعداداً للقاء الله - عز وجل - .
ثالثاً: كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - إستاك في تلك اللحظة مع كونه مشغولاً بنفسه " الاحتضار فيه شغل لإنسان " الذي يظهر أنه قصد الإستياك لتلك اللحظة.
أما كونه يسهل خروج الروح هذا يحتاج إلى توقيف أي يحتاج إلى دليل ولا دليل على ذلك.
الفؤائد:
الأولى/ فيه دليل للأحناف الذين قالوا بمشروعية السواك للصائم في كل وقت, وهذا يدل عليه هذا الحديث { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة } أي عند كل وقت فيشمل الصلوات والوضوء الذي قبل الزوال وبعده.
أما القول الثاني: للحنابلة وهو المشهور من مذهب الشافعية قالوا: أنه يكره للصائم أن يستاك بعد الزوال, يعني بعد أذان الظهر.
أما القول الثالث: يكره الاستياك بسواك رطب قبل الزوال وبعده, ويباح بسواك يابس مطلقا وهذه رواية الإمام مالك وأحمد, والأقرب أنه مسنون للصائم وغيره في كل قبل الزوال أو بعده لحديث { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة } وفي رواية { عند كل وضوء } .
الثانية/ فيه مسألة أصولية وهي هل للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجتهد في المسألة التي لم يرد نص أو ليس له ذلك ؟
يعني إذا سئل عن مسألة لم يرد فيهما دليل هل للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجتهد بذلك ؟ هذا الحديث يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - له أن يجتهد فيما لم يرد فيه النص وقد يقر على ذلك وقد لا يقر فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الأمر بالسواك في هذا الحديث خشية المشقة فكونه ترك الأمر به هذا يدل على أنه اجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم - .(1/81)
الثالثة/ رأفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمته حيث أنه لم يأمر بذلك خشية المشقة عليهم, ولذلك قال - عز وجل - { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ(1) } .
الرابعة/ فيه موضع من المواضع التي يتأكد عندها السواك وهو قوله { عند كل صلاة } .
الخامسة/ فيه جواز استخدام { لولا } وقد يكون استخدامها ليس مذموماً دائماً وإنما إذا كانت من قبيل الأخبار فلا بأس بها كما في هذا الحديث لقوله - صلى الله عليه وسلم - { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة } وفي رواية { عند كل وضوء } . وأيضاً كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة { لولا أن قومك حديثي عهد بإسلام لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم } وأيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - { لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم } يعني كأنه اختار نسك التمتع - صلى الله عليه وسلم - لأنه ساق الهدي والإنسان إذا ساق الهدي تعين في حقه القران, أما إذا كان استخدم لولا فيه اعتراض على القضاء والقدر والتسخط والجزع هذا أمر لا يجوز.
{ الحديث العشرون }
عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال { كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك } . وفي رواية أخرى { إذا قام ليتهجد } .
التهجد: هو الصلاة بالليل. وفي هذا قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الليل والتهجد كما قال الله تعالى { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً(2) } .
__________
(1) التوبة:128).
(2) الاسراء:79).(1/82)
وفي هذا الحديث ما تقدم تأكد السواك عند القيام من نوم الليل سواء كان لصلاة أو لغيره عام, فلو قام الإنسان ليقضي حاجته أو لأي غرض من الأغراض أو ليشرب أو ليصلي فغنه يستحب أن يشوص فاه بالسواك, لأن الحديث عام حيث قال { إذا قام من الليل يشوص فاه } بالسواك أي يدلكه بالسواك.
{ الحديث الحادي والعشرون }
عن عائشة رضي الله عنها قالت(دخل عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا مُسندته إلى صدري, ومع عبدالرحمن سواك رطب يسنن به فأبدّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصره, فأخذت السواك فقضمته, وطيته, ثم دفعته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستن به, فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استن استناناً قط أحسن منه, فما عدا أن فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع يده أو إصبعه ثم قال { في رفيق الأعلى "ثلاثا" ثم قضى وكانت تقول: مات بين حاقني وذاقنتي).
في قولها: (فأبده) أي مد النظر وأطاله إليه.
وقضمته: أي مضغته والقضم هو الأخذ بطرف اللسان يعني كأنها أرادة أن تلينه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وحكى عياض أن الأكثر رووه بالصاد يعني " فقصمته " أي كسرته أو قطعته.
وقولها (بين حاقنتي وذاقنتي) :
الحاقنه: ما أسفل من الذقن.
الذاقنه: ما علا منه.
والحاقنة: نقرة الترقوة ويقال بأن الحاقنة هي المطمئن من الترقوة والحلق يعني الذي في جانب المطمئن من الحلق الكتف يعني عند الحلق فيه مكان مطمئن هذا هو الحاقنة.
على كل فيه أقوال كثيرة والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة: هو ما بين السحر والنحر, والسحر هو الصدر, والنحر هو موضع النحر, والمراد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات ورأسه بين حنكها وصدرها, وهذا لا يغاير الحديث الذي ورد أنه مات على فخذها هذا لا يغاير هذا, لماذا ؟
لأن الحديث الآخر أنه مات على فخذها محمول على أنها رفعته من على فخذها إلى صدرها.
فؤائد الحديث:(1/83)
1. هذا فيه أن السواك عند الاحتضار وقد تقدم بيان ذلك.
2. أيضاً فيه أن السواك لا بأس أن يستخدمه اثنان فأكثر بعد تنظيفه, ولذلك كان أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر يستن بهذا السواك فأخذته وقضمته وطيبته أي بالماء ثم دفعته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فاستن به أي إستاك به.
3. أنه لا بأس من استناد الزوج على زوجته يؤخذ من هذا الحديث ومن حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتكي في حجر عائشة وهي حائض ويقرأ القرآن.
4. وفيه دخول المحرم على محارمه إذا أُذن له بذلك, ولذلك عبد الرحمن أخو عائشة دخل عليها والرسول - صلى الله عليه وسلم - يحتضر في حجرها.
5. فيه فهم عائشة لحال النبي - صلى الله عليه وسلم - لطول عشرتها معه لما "أبدّه " الرسول - صلى الله عليه وسلم - أطال النظر إليه عرفت أنه يريده فأخذته ثم قالت وفي لفظ " فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك, فقلت آخذه لق فأشار برأسه: أن نعم " هذا لفظ البخاري ولمسلم ونحوه.
{ الحديث الثاني والعشرون }
عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال(أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يستاك بسواك رطب قال: وطرف السواك على لسانه, وهو يقول { أع أع } والسواك في فيه, كأنه يتهوع).
التهوع: هو التقيؤ أي له صوت كصوت المتقيئ على سبيل المبالغة.
هذا الحديث فيه فائدة:
أن السواك ليس خاص بالأسنان كما يعتقد بعض الناس, يعني بعض الناس يعتقد أن السواك خاص للأسنان فقط عام للفم كله, قال ابن حجر رحمه الله تعالى: فيه تأكيد السواك وانه لا يختص بالأسنان وأنه من باب التنظف وإزالة القاذورات لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول { لابد من إزالة القاذورات } فعلى هذا نقول بأن السواك ليس خاص بالأسنان يذلك في جوانب الفم وحتى اللسان لأنه عام لجميع الفم.
نقف عند المسح على الخفين.
والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه أجمعين.(1/84)