حديث وشرح
الحمد لله رب العالمين ، أحمده سبحانه وهو أهل للحمد ، وأشكره جل جلاله وهو أهل الثناء والمجد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا رب لنا سواه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً . . . أما بعد :
بوب البخاري في صحيحه : " باب حسن المعاشرة مع الأهل " ، يقول : كيف يكون المسلم مع أهله في حسن المعاشرة ، وفي لين الجانب وفي السهولة ، ويسر التعامل ، كيف يكون ؟ ثم أتى بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم مع عائشة ، ويظهر لنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام مع كثرة أشغاله وأعماله وارتباطاته وما يأتيه من نوائب ، بل أمور الأمة تدار على كفه عليه أفضل الصلاة والسلام ، وأحداث الأمة وجهادها وإدارتها وقيادتها ؛ ومع ذلك وجد وقتاً يستمع إلى مثل هذا الكلام ، وهذا من لين جانبه ، وعظيم حلمه ، ومن بره عليه أفضل الصلاة والسلام ، وحسن عشرته مع أهله ، كما قال تبارك وتعالى : " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ " [ القلم 4 ] ، وقال تعالى : " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ " [ آل عمران 159 ] .
ثم جاء البخاري بهذه القصة العجيبة في صحيحه ، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب عائشة رضي الله عنها أكثر من سائر نسائه ، وكانت عائشة مع ذلك بنت أبيها ، فأبو بكر أحفظ الناس ، وأفصحهم ، وأصفحهم ، يحفظ السير والأنساب والأخبار والأشعار ، وإذا تكلم أبو بكر في مجلسٍ من مجالس العرب سكتوا جميعاً ، فأتت ابنته عائشة تشبهه ، ومن شابه أباه فما ظلم .(1/1)
فكان عليه الصلاة والسلام يأنس لحديث عائشة ، ويسألها عن أخبار الناس ؛ لأنها - كما قال الزهري : كانت تحفظ ثمانية عشر ألف بيت شعر ، وكانت تحفظ أخبار العرب ، وما وقع أيام العرب وقصص العرب ، وفي مرة من المرات جلس عليه الصلاة والسلام مستريحاً هادئ البال مطمئن النفس ، فأخذ يداعب ويمازح زوجته المبرأة الطاهرة الصديقة بنت الصديق ، وهذا الحديث الذي سنذكره هو من كلام عائشة رضي الله عنها وعن أبيها وعن سائر الصحابة أجمعين ، تقول : جلس إحدى عشرة امرأة ، فتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً ، وهؤلاء النساء قال أبو محمد بن حزم الظاهري : هن من خثعم ، وهي من قبائل الجنوب الشهيرة في التاريخ ، قال أبو محمد بن حزم ، قال : هن من خثعم ، وقال بعضهم : هن من اليمن .
قال بعضهم : ولا يهمنا أن يَكُنَّ من اليمن أو من غطفان أو من خثعم أو مدغشقر ، إنما الفائدة أنهن جلسن .
المهم أن النسوة جلسن وليس معهن رجال ، وهذا مجلس للنساء خاصة ، وعددهن إحدى عشرة امرأة ، وسوف تتكلم كل امرأة بوصف زوجها ، تصفه لأخواتها وزميلاتها وقريناتها ، والداهية الدهياء ، أن بعضهن ستمدح ، وبعضهن ستذم ، وبعضهن ستتوسط ، يقول ابن حجر : وغالب أحاديث النساء إذا خلون ، تكون عن الرجال ، وغالب أحاديث الرجال عن المعيشة والمال ، وهذا أمرٌ معلوم إلا في النادر ، كان لكل واحدة منهن زوج ، وتبدأ الأولى ، والذي يستمع لهذه الأخبار هو محمد عليه الصلاة والسلام ، والتي تتكلم عائشة ، وهي من أحفظ الناس ، ومن علماء الصحابة ، وكان يعود إليها الصحابة في كثير من القضايا الفقهية والحديثية ، فهي فقيهة مجتهدة اجتهاداً مطلقاً رضي الله عنها وأرضاها .(1/2)
والآن يستمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محاضرة كاملة عن أخبار نساء الجاهلية ، ويجلس إمام البشرية ، وهادي الإنسانية ، ومزعزع كيان الوثنية ، متواضعاً أمام فتاة صغيرة السن فتية ، لكنه أوتي خلقاً عظيماً يقول الله فيه : " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ " [ القلم 4 ] ، وفي الأخير سوف يعلق عليه الصلاة والسلام على القصة بكلام ، وإليكموها بالكمال والتمام :(1/3)
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً ، فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ ، أَنْ لَا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا ، قَالَتِ الْأُولَى : زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ ، لَا سَهْلٍ فَيُرْتَقَى ، وَلَا سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ ، قَالَتِ الثَّانِيَةُ : زَوْجِي لَا أَبُثُّ خَبَرَهُ ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَذَرَهُ ، إِنْ أَذْكُرْهُ ، أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ ، قَالَتِ الثَّالِثَةُ : زَوْجِي الْعَشَنَّقُ ، إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ ، قَالَتِ الرَّابِعَةُ : زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ ، لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ ، وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ ، قَالَتِ الْخَامِسَةُ : زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ ، وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ ، قَالَتِ السَّادِسَةُ : زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ ، وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ ، وَإِنِ اضْطَجَعَ الْتَفَّ ، وَلَا يُولِجُ الْكَفَّ ، لِيَعْلَمَ الْبَثَّ ، قَالَتِ السَّابِعَةُ : زَوْجِي غَيَايَاءُ أَوْ عَيَايَاءُ طَبَاقَاءُ ، كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ ، شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ ، قَالَتِ الثَّامِنَةُ : زَوْجِي الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ ، وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ ، قَالَتِ التَّاسِعَةُ : زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ ، طَوِيلُ النِّجَادِ ، عَظِيمُ الرَّمَادِ ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ ، قَالَتِ الْعَاشِرَةُ : زَوْجِي مَالِكٌ ! وَمَا مَالِكٌ ؟ مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ ، لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ ، قَلِيلَاتُ الْمَسَارِحِ ، وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ ، أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ ، قَالَتِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ ! وَمَا أَبُو زَرْعٍ ؟ أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ ، وَمَلَأَ مِنْ(1/4)
شَحْمٍ عَضُدَيَّ ، وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي ، وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ ، فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ ، وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ ، فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ ، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ ، وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ ، أُمُّ أَبِي زَرْعٍ ، فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ ؟ عُكُومُهَا رَدَاحٌ ، وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ ، ابْنُ أَبِي زَرْعٍ ، فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ ؟ مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ ، وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ ، بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ ، فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ ؟ طَوْعُ أَبِيهَا ، وَطَوْعُ أُمِّهَا ، وَمِلْءُ كِسَائِهَا ، وَغَيْظُ جَارَتِهَا ، جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ ، فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ ؟ لَا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا ، وَلَا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا ، وَلَا تَمْلَأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا ، قَالَتْ : خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالْأَوْطَابُ تُمْخَضُ ، فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ ، فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا ، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا ، رَكِبَ شَرِيًّا ، وَأَخَذَ خَطِّيًّا ، وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا ، وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا ، وَقَالَ : كُلِي أُمَّ زَرْعٍ وَمِيرِي أَهْلَكِ ، قَالَتْ : فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ " [ متفق عليه ] .(1/5)
هذا الحديث من أعقد وأغرب الأحاديث في كتب السنة، وقد شرحه ما يقارب عشرة من العلماء، كل شرح في مجلد، وأعظم من شرحه القاضي عياض ، قاضي المغرب وعالمها، وابن حجر شرحه فيما يقارب ثلاثين صفحة وهو حديث عجيب، فيه فوائد جمة ، سوف نستعرضها أثناء الشرح ، والآن حان أوان الشروع في المقصود فبالله التوفيق وعليه السداد .
أشكر الأخوة على مرورهم ، وهذه هي الحلقة الثانية من موضوعنا [ فوائد حديثية ] ، ونبدأ على بركة الله تعالى :
شرح الحديث :
قَالَتِ الْأُولَى / وهي ولم تُسمى : زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ ، لَا سَهْلٍ فَيُرْتَقَى ، وَلَا سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ : شبهت زوجها بلحم الجمل الكبير السن ، ومع ذلك فهو غث هزيل ، وشبهت سوء خلقه بالجبل الوعر ، الذي يصعب ارتقاؤه ، وهو قليل الخير ، ومع ذلك كله ، فلا يرغب أحد في الانتقال إليه لخبثه وسوء خلقه ، قال القاضي عياض : أعطت التشبيه حقه ، ووفته قسطه .(1/6)
لقد وصفت زوجها بأسوأ الأوصاف ، ونعتته بأشد النعوت ، فهو قليل الخير ، إن أتى عبس ، وإن خرج أفلس ، وإن دخل ضرب ، وإن قام شجب ، لا يأتي بخير ، ولا يذهب بخير ، كَلٌّ على مولاه ، صخابٌ لا يقيم ديناً ، ولا يحترم مروءة ، فهو قليل البركة في البيت ، ولا بركة فيه من دخوله على أهله ، فلا يربيهم على شعائر الإسلام ، ولا يعلمهم الأخلاق الحميدة ، والصفات الحسنة ، وإنما يترك الحبل على الغارب ، فيعج البيت بالملاهي والأغاني ، واللعب واللهو ، حتى يكون مسكناً للشياطين ، ومأوى للجن ، فهذا قال الله فيه : " وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا " [ الأنعام 70 ] ، وعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ " [ أخرجه مسلم ] .(1/7)
فكم من الآباء والأمهات من يهمل تربية أبنائه ، ويتركهم للشوارع والأرصفة لتربيهم ، وتنشئوهم ، وكذلك يتركونهم فريسة سهلة ، وصيداً ثميناً للقنوات الفضائية تحتضنهم وتقدم لهم الرعاية والأمومة والأبوة ، ما بين أفلام عاهرة ، ومسلسلات هابطة ، وحفلات غنائية ساقطة ، حتى أصبح كثير من بيوتات المسلمين وكأنها واحة للفساد ، وميدان للرذيلة ، فكثرت الأمراض النفسية ، وتعددت حالات الصرع والجنون ، والقلق والسهر ، والاكتئاب النفسي ، لأن الشياطين قد عشعشت ، وبنت أوكارها في تلك المنازل ، فأصبحت مأوى للجن ، ومسرحاً لهم ، ولو استبدلت تلك البيوت أفعال البغاء ، وما تسببه من آثار وخيمة على الأفراد والمجتمعات والبيوتات ، لو استبدلت كل ذلك بذكر الله تعالى ، وقراءة القرآن ، وتعليم الأبناء ما ينفعهم عند ربهم ، لعاشت تلك البيوت براحة واطمئنان ، ولهربت الشياطين منها ، وشتان ما بين البيتين ، بيت في النعيم وآخر في الجحيم والعياذ بالله ، فلا يستوي بيت تعيش فيه الجنون والشياطين ، وبيت مطمئن تسكنه الملائكة ، إذ لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا ، أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْبَابِ ، فَلَمْ يَدْخُلْ ، فَعَرَفَتْ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ ، قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ، مَاذَا أَذْنَبْتُ ؟ قَالَ : " مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ ؟ " فَقَالَتِ : اشْتَرَيْتُهَا لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ ، وَقَالَ : " إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا(1/8)
تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ " [ أخرجه مسلم ] ، وهكذا هو بيت المسلم ، عامراً بذكر الله تعالى ، مملوءاً بآياته ، ممزوجاً بأقوال رسوله صلى الله عليه وسلم ، لا تسمع فيه إلا قال الله وقال رسوله ، ينفر منه الشيطان ، وتدخله الملائكة .(1/9)
فالمرأة الأولى قالت : أن زوجها شحيح بالمال يعني : عنده سبعة أقفال ، يقفل الصندوق ولا يفتحه إلا ليضع فيه زيادة ، أما أن يأخذ منه فحرام عليه ، ولو أضطر إلى أن يستلف لاستلف ، لكن المهم أنه لا يفتح صندوق النقد ، ومفتاحه في غترته ، وإذا أراد أن يفتح فلا يفتح حتى يقرأ آية الكرسي ، وإذا فتح قلل العطاء ، ويسأل عن أعواد الكبريت ، وعما دخل وعما خرج من البيت ، والسمن عنده بالملعقة ، والدقيق بالقطارة كما يقولون ، بخيل شحيح ، كان أبو سفيان رضي الله عنه حسن الخلق ، لكنه شحيح على أهله ، ولذلك شكته هند بنت عتبة ، شريفة من أشراف قريش ، فقد أتت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام شاكية أبا سفيان لشحه رضي الله عنه ، وعدم إنفاقه على أهل بيته ، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ ، لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ ، إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ ، مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ " [ متفق عليه ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ " [ أخرجه مسلم ] ، فهناك من الأزواج من لا ينفق على أهله ، وإذا رأيته مع الآخرين ربما قلت : ذاك حاتم الطائي ،(1/10)
وكان الأجدر والأولى به أن ينفق على أهل بيته ، لأن الله سيسأله عنهم يوم القيامة ، لأن نفقتهم واجبة عليه ، فهو كريم مع الغير والبعيد ، بخيل شحيح مع القريب وذا الرحم ، ولا شك أن ذلك أمر محرم شرعاً ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ " [ أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ] ، وأخرجه أبو داود في سننه بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ " .(1/11)
وفي التحذير من البخل والشح إليكم هذه الباقة المطهرة من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، عَنْ أَسْمَاءَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تُوكِي ـ يعني : لا تقبضي يديك عن الإنفاق خشية الفقر ـ فَيُوكَى عَلَيْكِ " [ أخرجه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري ] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأسماء رضي الله عنها : لا تبخلي بما في يدك من رزق الله تعالى الذي امتن به عليك ، بل أنفقي ولا تخشي الفقر ، فإن فعلت ذلك وأمسكت خشية الإنفاق والفقر فربما ضيق الله عليك بسبب الشح والبخل ، وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " اتَّقُوا الظُّلْمَ ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ " [ أخرجه مسلم ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ ، قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ ، وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ ، بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ ، وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَالِمٍ بَخِيلٍ " [ أخرجه الترمذي ] ، وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ : الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ " [ أخرجه الترمذي ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ(1/12)
وَسَلَّمَ : " لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا ، وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا " [ أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة ] ، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا ؟ قَالَ : " أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ ، تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ : لِفُلَانٍ كَذَا ، وَلِفُلَانٍ كَذَا ، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ " [ متفق عليه ] .
فإذا كان الزوج بتلكم المثابة من الشح والتقتير على زوجته وأولاده ، وتضييع حقوقهم ، ولا يعطيهم ما يكفيهم لنفقتهم في المنزل ولوازم الدراسة واللباس ، أقول : للمرأة إذا منعها زوجها من النفقة أو العطاء، أو من اللباس، أو النفقة الضرورية، أو منعها من أن تعطي أبناءها ما يذهبون به إلى المدرسة، أو الملابس، أو الطعام، فلها أن تأخذ من ماله بدون علمه لكن بالمعروف، لا تفسد ماله بل تأخذ قدر الحاجة ولا تزيد عليها، ولا تستأذنه ولا تخبره؛ لأن هذا رخصة من محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا رخص صلى الله عليه وسلم فلا نعود لأحدٍ غيره ، وهذه الرخصة كانت لهند بنت عتبة رضي الله عنها خاصة ، وللنساء عامة ، ممن أزواجهن بخلاء أشحاء ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها ، أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ، فَقَالَ : " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " [ متفق عليه ] .(1/13)
المقصود أن تلك المرأة قد عُرف زوجها بالشراسة ، وأنه قليل الخير ، لا يتبسم إلا نادراً ، سبحان الله بعض الناس لا يعرف الابتسامة أبداً ، ولو قيل له كل الطرف والفكاهات والمضحكات فتراه عابساً ، ومن الناس من لا يتبسم في ستة أشهر إلا مرة ، أو ربما تبسم في السنة مرة أو مرتين ، وربما أخطئ أحياناً فتبسم ، وهذا خلاف نهج محمد عليه الصلاة والسلام ، سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه عليه الصلاة والسلام إذا دخل فقالت : " كان ضحاكاً بساماً " ، وكم هي الأحاديث التي تبين ضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، فلنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، ثم لا نقول ذلك الكلام لنغير من طبائع الناس ، ولكن على الإنسان أن يتوازن ، ولا نقول : إن الإنسان معصوم ، ولكنه قد يهذب من حاله ومن روحه مع أهله قليلاً قليلاً ، ولا يستبعد أحدكم أن تقول امرأته في غيبته كهذا الكلام ، فالمرأة لا بد أن تتكلم في زوجها ، ولو قالت : إنها لا تذكر خبره ، بل تتكلم وتترجم له وتحاضر عنه الليل والنهار ، مع زميلاتها في عملها إن كانت موظفة ، أو مع جاراتها بعد أكل الفصفص وشرب الشاي ، فيبدأن بالمقبلات ، ويثنين بأكل لحوم الأزواج وغير الأزواج ، وهكذا هي غالب مجالس النساء .
فكونوا أيها الأزواج على حذر ، ولا يظهر منكم إلا كل خير .
---------------------------------------------
وقَالَتِ الثَّانِيَةُ / واسمها عمرة بنت عمرو التميمي : زَوْجِي لَا أَبُثُّ خَبَرَهُ : يعني لا أظهر حديثاً عنه ، ولا أبين شيئاً من أخباره ، فهو رجل سيئ .
وهنا بدأت بغيبة زوجها وذكر عيوبه ، ولا شك أن الإسلام يحرم الغيبة قولاً وسماعاً ، قال النووي رحمه الله في الأذكار : " كما أن الغيبة محرمة فكذلك سماعها محرم " .(1/14)
وقد ذكر الله تعالى تحريم الغيبة في كتابه فقال سبحانه وتعالى : " ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه " [ الحجرات ] قال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ " [ أخرجه مسلم ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ ؟ فَقَالَ : " تَقْوَى اللَّهِ ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ " ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ ؟ فَقَالَ : " الْفَمُ وَالْفَرْجُ " [ أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد ] ، واللسان كما هو معلوم من أسباب دخول الجنة أو النار ، فمن أمسك لسانه عن الحرام ، وحصن فرجه عن الحرام ضمن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة ، ومن أفلت زمامهما ، كان قريبا من النار ، وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ " [ أخرجه البخاري ] ، ما أقبح اللسان إذا أطلق له العنان ، لأنه يسلك بصاحبه طريقاً ممهداً إلى الجنة أو النار والعياذ بالله ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ ، يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ " [ أخرجه أبو داود وأحمد ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه(1/15)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ " قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ " ، قِيلَ : أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ ؟ ، قَالَ : " إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ " [ أخرجه مسلم ] ، فاللسان رئيس الأعضاء ، وكل الأعضاء تخشى من فلتاته ، لأنه سبب الهلاك والدمار في النار ، إذا لم يُحسن التعامل معه ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه مرفوعاً قَالَ : " إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ ، فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ : اتَّقِ اللَّهَ فِينَا ، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا ، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا " [ أخرجه الترمذي وأحمد ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا ، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا ، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ " [ متفق عليه واللفظ للبخاري ] ، وفي لفظ لمسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ ، مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا ، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ " ، ولخطورة الغيبة ، وترك اللسان على الغارب أورد لكم هذه الأحاديث ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ(1/16)
لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ ، يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ ، قَالَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ " [ أخرجه أبو داود ] وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ ، فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ ؟ ، قَالَ : " لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ ، ثُمَّ قَالَ : أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى : " تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ " حَتَّى بَلَغَ " يَعْمَلُونَ " ، ثُمَّ قَالَ : أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ ؟ فَقُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " رَأْسُ الْأَمْرِ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ ، ثُمَّ قَالَ : أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ فَقُلْتُ لَهُ : بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ : " كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا " ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ ، فَقَالَ : " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ ، إِلَّا(1/17)
حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ " [ أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد ] .
المقصود أن المرأة بدأت بذكر عيوب زوجها فقالت : إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَذَرَهُ : تقول : إن ذكرت عيوبه فهي كثيرة ، وإن بدأت بواحدة توالت الأخريات ، فعيوبه كالمسبحة إذا قطعتها توالى خرزها ، فاكتفت بالإشارة إلى أن له عيوباً كثيرة ، وخافت إن ذكرتها أن تصل إليه فيطلقها ولها منه أولاد ، فالتزمت الصمت وآثرت السكوت عن تفسير عيوبه .
إِنْ أَذْكُرْهُ ، أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ : فُسرت العجر والبجر بتفاسير ولعل أقربها للصواب : أن العجر : العقد التي تكون في البطن واللسان ، والبجر : العقد التي تكون في السرة .
ثم استعملت في الهموم والغموم ، كقول علي رضي الله عنه يوم الجمل : " أشكو إلى الله عُجَري وبُجَري " .
واستعملت العجر والبجر في المعايب كما قاله الأصمعي وغيره .
فزوجها كان مستور الظاهر ، رديء الباطن ، كثير المعايب ، كثير العقد النفسية ، سيئ المكارم .(1/18)
نعم أيها الأخوة هناك من الأزواج من إذا بدأ حياته الزوجية وفي بداية أيامه الأولى من زواجه تسمع كلمات الحب والغزل والغرام والهيام تنساب من شفتيه ، وتشعر بقطرات العسل والشهد ينطق بها لسانه ، وبعد مضي حول أو أكثر من الزواج لا تسمع إلا الشتم والسب وذكر العيوب ، والكلام الجارح ، واللسان البذيء ، وربما زادت وقاحته ومد يده على زوجته ، فلسان الزوج أحد من السيف ، فهو وسيف الحجاج بن يوسف اخوة أشقاء ، فذاك يذبح بسيفه ، وهذا يقتل بلسانه ، وليس ذاك هو خلق المسلم ، بل المسلم حريص على راحة أهله ، واطمئنان بيته ، وأمن أسرته ، وجمع الشمل ، ولم الشعث ، ينشر الحب والحنان بين أفراد عائلته ، أما أن يكون كالوحش المفترس إذا دخل المنزل هدأت الأصوات ، فلا تسمع إلا همساً ، فالموت أرحم من هذه الحياة في ذاك البيت المخيف ، فربما رميت إبرة وسمعت صوتها ، من شدة الهدوء والصمت ، والخوف والهلع ، ولا ترى الأب إلا ضارباً ، أو سليط لسان ، مزمجراً مكشراً عبوساً ، فهذه حياة بئيسة ، نكدة تعيسة ، لا تولد إلا أجيالاً لا خير فيهم لأهليهم ولا لمجتمعاتهم ولا لدينهم ، بل ربما أرادوا الخلاص من أبيهم بشتى الوسائل والطرق ، فهلا عقل الأزواج سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله وكيف كان يكون في حاجتهم ؟ وكيف يكون في مهنة بيته ؟ فاستوصوا أيها الأزواج والآباء بأهليكم خيراً ، ولا سيما الزوجات بالذات ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ " [ متفق عليه ] ، عَنْ سُلَيْمَانَ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي(1/19)
أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَحَمِدَ اللَّهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَذَكَّرَ وَوَعَظَ ، فَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ قِصَّةً ، فَقَالَ : أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا ، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ، أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا ، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا ، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ ، فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ ، أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ ، وَطَعَامِهِنَّ " [ أخرجه الترمذي ، وقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ يَعْنِي : أَسْرَى فِي أَيْدِيكُمْ ] ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ : خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ النَّاقَةَ ، وَذَكَرَ الَّذِي عَقَرَهَا فَقَالَ : " إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا " ، انْبَعَثَ بِهَا رَجُلٌ عَزِيزٌ عَارِمٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ ، مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ ، ثُمَّ ذَكَرَ النِّسَاءَ ، فَوَعَظَ فِيهِنَّ ، ثُمَّ قَالَ ، علَامَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْأَمَةِ ، وَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ ، ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي ضَحِكِهِمْ مِنَ الضَّرْطَةِ ، فَقَالَ : علَامَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ " [ متفق عليه ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(1/20)
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَفْرَكْ ـ لا يبغض ـ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ " [ أخرجه مسلم ] ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ ، قَالَ : " أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوِ اكْتَسَبْتَ ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ ، وَلَا تُقَبِّحْ ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ " قَالَ أَبو دَاود : وَلَا تُقَبِّحْ أَنْ تَقُولَ قَبَّحَكِ اللَّهُ " [ أخرجه أبو داود ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا ، أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا " [ أخرجه الترمذي ، وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ : الْيَتِيمِ ، وَالْمَرْأَةِ " [ أخرجه ابن ماجة وأحمد ] ، ومعنى الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم يلحق الإثم لمن ضيع حق اليتيم والمرأة .(1/21)
فهذه الأدلة تدل على اعتناء الإسلام بحقوق المرأة ، وعدم تضييعها ، فلقد كانت المرأة في العصور الجاهلية تعد من سقط المتاع ، بل كانت تُعد من ضمن الإرث ، فإذا مات زوجها ورثها أهل الزوج ، ولما جاء الإسلام وانبثق نوره ، وتفجرت ينابيعه ، أعطى المرأة حقها ، وصان مكانتها ، ورفع شأنها ، حتى ارتقت مرتقى عالياً ، وتسنمت مكانة عظيمة ، وهكذا هي المرأة في الإسلام لها حقوقاً ، وعليها واجبات ، ومع الأسف فهناك من الأزواج من لم يرع حقوق المرأة ، بل عاملها كما كانت تعامل في الجاهلية ، فلا يشاورها ولا يأخذ برأيها ، ولا يقدرها ، ولا يحترمها ، حتى دبت الفرقة والنفرة بين الأزواج ، ومن النساء اليوم من لا تعلم بعمل زوجها ، ولا كم راتبه ، ولا ماله ولا ما عليه ، فربما مات المسكين وضاعت ديون الناس ، فيحاسب بها في قبره ويوم حشره ، وربما أيضاً ضاعت حقوق أولاده عند الناس ، ولا شك أن ذلك جهل من الأزواج بحقوق الزوجات ، وحدث عن مثل تلك المآسي ولا حرج .
---------------------------------------------
وقَالَتِ الثَّالِثَةُ / واسمها حُبّى بنت كعب اليماني : زَوْجِي الْعَشَنَّقُ : الطويل المذموم ، فهي ربما خافت من طوله فلا تتكلم بحضرته مهابة منه ، فذمته بالطول الفارع ، قيل : لأن الطول في الغالب دليل السفه لبعد الدماغ عن القلب ، فلا يضخ إليه الدم بسهولة ، مع أن الطول مدح عند العرب ، فهي تشير على أنها منه على حذر ، فلا تستطيع الحديث معه ، فهي على مضض .(1/22)
تقول : طويل العنق فيه خبل ، وقيل : هو الطويل الذاهب الطول ، ولله سبحانه في خلقه ما يشاء ، ونحن لا نذم الطويل ولا القصير ، وليس عندنا معامل كيماوية للناس : " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " [ الحجرات 13 ] ، وليس عندنا أبيض ولا أسود، ولا أخضر ولا أحمر، وفي الحديث الصحيح عند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ ، وَأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ ، وَأَعْمَالِكُمْ " ، فهذه الزوجة غضبت حتى من صورة زوجها تقول : هو طويل ، رأسه يصطدم في السقف دائماً ، والطول على كل حال من أحسن ما يكون ؛ لكن إذا كان معتدلاً ، لأن الله عز وجل وصف طالوت بذلك ، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لما قالت اليهود : " أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ " [ البقرة 247 ] .
قال المفسرون : كان طويلاً ، والطول طيب إذا صاحب تقوى ، والقصر طيب إذا صاحب تقوى الله ، ولا بارك الله في طولٍ أو في قصرٍ بلا تقوى ، فلا يقاس الناس يوم القيامة بالسنتيمتر ، ولكنهم يقاسون بالأعمال الصالحة وبالحسنات : " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ " [ الزلزلة 7-8 ] .
لكن هكذا تقول هذه المرأة، قالوا العشنق: هو الأحمق الأهوج الخبل المعتوه، الذي قليلٌ عقله وتصرفه ، والأحمق لا يعرف طريقه ولا يهتدي لخير ، ولذلك تجده يخسر الدنيا والآخرة والعياذ بالله ، ولا يعرف مصلحته ، من أعظم مصالحه أن يهتدي ولكن لا يهتدي .(1/23)
إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ : يعني إذا ذكرت عيوبه ، فبلغه ذلك فسيطلقها لا محالة ، وإن سكت على ذلك ، فهي عنده كالمعلقة ، لا هي متزوجة ، ولا هي مطلقة ، فكأنها تقول : أنه سيئ الخلق ، لا يتحمل مشاكل أهله ، ولا يستمع لقضاياهم ، فما إن تذكر له هماً أو حزناً إلا ويبادر بطلاقها ، فكله جفاء وغلظة ، وهي لا تريد فراقه ، فتصبر على سوء خلقه رجاء ما عند الله تعالى ، وليس هذا الفعل من شيم المسلم ، بل اسمعوا ماذا قالت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيَّ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : " لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا ، وَلَا مُتَفَحِّشًا ، وَلَا صَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ " [ أخرجه الترمذي وغيره وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] ، وهكذا يجب أن يكون الرجل في بيته خاصة ، ومع الناس عامة .
والفاحش : هو البذيء السيئ الخلق ، والمتفحش : هو الفاحش ، والصخاب : الذي يرفع صوته ، ويغضب ويزمجر ويسب ويشتم .
فهي تقول : إذا تكلمت أو رددت عليه ، فالطلاق جاهز على طرف لسانه ، لا يأتي بشيء إلا طلق ، والبعض الآن أصبح يطلق بالألف ، وتعدى بعضهم فطلق بالمليون ، بعضهم يسأل يقول : أنا طلقت زوجتي بالمليون ، أتى رجل إلى ابن مسعود قال : طلقت زوجتي بمائة مائة مرة ، قال : ما عليك - الحمد لله الأمر سهل - طلقت بثلاث ، وبقي عندك سبعة وتسعون ، يعني : لا تتكلف ، ولا تهتم ، أما ثلاث فقد ذهبت ، وسبعة وتسعين ادخرها لزوجاتٍ أخر .(1/24)
قالت : إن أنطق أطلق : يعني: ما عنده مفاوضة ، ولا كلام ولا يقبل وجهات النظر ، وعنده دكتاتورية ، فهو لا يقبل رأيها ولا كلامها أبداً ، وبعض النساء لا يمكن أن تتدخل مع زوجها في أي قضية حتى في قضية نفسها ، وبعضهن على الطرف الآخر تتحدث حتى في مشكلة الشرق الأوسط ، وفي كل قضية تتحدث وتلقي محاضرات وتتكلم .
فكما هو واضح من كلام الثلاث أنهن نزلن بسكاكين على الأزواج ، وهذه من طبيعة الزوجات في الغالب ، ولا غرابة في ذلك من قبل النساء ، فلن ترضيها ولو قدمت لها الدنيا بأسرها ، ثم عجزت يوماً عن تحقيق غرض أو طلبٍ لها قابلت كل ما قدمت لها بالجحود والنكران ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُرِيتُ النَّارَ ، فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ ، يَكْفُرْنَ ، قِيلَ : أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ ؟ قَالَ : يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا ، قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ " [ متفق عليه ] ، لكن فيهن عفيفات ، كريمات ، دينات ، محترمات ، راضيات بأقل ما يقدم لهن ، ولا نقصد والله جرح النساء ، ولا نندد بهن ، ولكن درس علمي ذو فوائد جمة لمن تأملها وأخذ بها .
---------------------------------------------
وقَالَتِ الرَّابِعَةُ / واسمها المُهْدد بنت أبي هرومة ، مادحة زوجها : زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ : يعني أن زوجها لين الجانب لا ثقل فيه ، خفيف الوطأة على صاحبه ، ولا شر فيه يُخاف منه .
لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ : وصفت زوجها ببلاد تهامة ، فجوها معتدل ، لا حر مفرط فيه ، ولا برد ، فزوجها حامي الذمار ، مانع لداره وجاره ، ولا مخافة عند من يأوي إليه ، ووصفته بالجود ، فجو تهامة لا ريح هوجاء ، ولا فيه صخب ولا نصب ولا إزعاج ، وهو سهلٌ سلس .(1/25)
وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ : لا تخاف من زوجها ، ومن كان عنده فلا يخاف ، تقول : لا ملل عنده فيسأم من عشرتها ، وليس بسيئ الخلق فتسأم من عشرته ، فهي لذيذة العيش عنده ، كلذة أهل تهامة بليلهم المعتدل ، فزوجها جميل العشرة ، طيب الكلام ، هين لين ، إذا دخل بيته هش وبش ، وهذه صفة من صفات المؤمن ، وقل من يتحلى بها من الناس اليوم ، ولا سيما الأزواج ، وهناك من الأزواج من يضيع حقوق زوجته ويتركها عبثاً ، ولا يكترث بشروط النكاح من مواصلة الدراسة أو التعليم أو غير ذلك من الشروط المدونة في عقد النكاح ، مع أن أعظم الشروط أن يوفى به ما اشترطته المرأة على زوجها ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ أَحَقَّ الشَّرْطِ أَنْ يُوفَى بِهِ ، مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ " [ متفق عليه ] ، عن أَبي بَكْرٍ رضي الله عنه ، عن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا " [ أخرجه مسلم ] .(1/26)
وهذه نقطة مهمة أنبه الأزواج عليها ، وهي إثقال كاهل الزوجة بالولائم وكثرة العزائم ، حتى تتورم رجلاها ، وتُنهك قواها ، لا يقدر للمرأة تعبها ، ولا يشعر بسوء نفسيتها ، فالمرأة عنده لا قيمة لها بتاتاً ، فتراه كل يوم والآخر يجلب أحد زملائه في العمل أو غير العمل ، ويدعوه للغداء أو العشاء ، وربما تكون الزوجة مريضة ، أو أحد أبنائها متوعكاً صحياً ، أو تكون في حالة لا تسمح لها باستقبال أحد ، أو البيت لا تتوفر فيه متطلبات الدعوة ، لأن المرأة كما هو معلوم تحب إذا قدمت لضيف طعاماً ، فأولاً : أن تتفوق وتتفنن فيما تقدمه ، وثانياً : أن يؤكل كل ما يُقدم ، فمن أجل ذلك ينبغي للزوج أن يأخذ رأي زوجته فيما سيُقدم عليه ، بحدود المعقول ، أما ترك الأمر للمرأة هكذا ، والموافقة لها كلما رفضت دعوة فهذا لا شك من الخطأ ، لأن زمام الأمر لا بد أن يكون بيد الرجل لأنه صاحب القوامة والمسؤولية والأمر والنهي ، فعلى الزوج أن يراعي حال الزوجة ، ولا يغض النظر عن قيامها بشؤون منزلها ، وتربية أطفالها ، والاهتمام بنفسها ، وإن كانت موظفة انشغال جزء من وقتها بوظيفتها ، فكل تلك الأمور لابد أن يأخذ الزوج بعين الاعتبار ، ويراعي حقوق زوجته عليه ، كما يحب هو أن تراعي زوجته حقوقه عليها ، ومن الأزواج من لا تسمع منه زوجته كلمات الشكر والعرفان ، ولو أضاءت له أصابع يديها ، وهذا لا شك من الغفلة بأهمية المرأة ، وهضم حقوقها ، فياليت شعري متى يدرك الأزواج تقدير حقوق الزوجات ، والقيام بأعباء المسؤولية الزوجية .
---------------------------------------------(1/27)
وقَالَتِ الْخَامِسَةُ / واسمها كبشة ، تمدح زوجها : زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ : يعني إذا دخل البيت فهو كالفهد في غفلته عن معايب البيت ، فهو لا يقبح بل يرشد إذا رأى خطأً ، وكذلك فهو حيي ، وقليل الشر ، وكثير النوم ، فهو يشبه الفهد في بعض الصفات ، وقيل : أنه إذا دخل البيت وظب على زوجته ، كما يثب الفهد ، فهو من شدة حبه لها ، إذا دخل أسرع إلى الاتصال بها ، فهو لا يصبر عنها إذا رآها ، ويتميز بسجايا الكرم ، ونزاهة الشمائل ، والمسامحة في العشرة .
وهي عندما وصفته بالنوم ، لا تقصد صفة عار ومذلة وخوف وجبن ، فلا تقصد صفة ذم زوجها ، ولهذا قالت :
وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ : إذا خرج من البيت أصبح كالأسد ، لقوته ، وشجاعته وإقدامه ، فوصفته وصف استعارة لهذين السبعين ، فهو كالفهد إذا دخل تناوم وتغافل ، وإذا خرج فهو كالأسد صال وجال .
وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ : أي أنه شديد الكرم ، كثير التغاضي ، لا يتفقد ما ذهب من ماله إذا كان في حاجة أهله ، أو كان في وجوه الخير ، وأعمال البر ، وإذا جاء بشيء إلى بيته ، لا يسأل عنه بعد ذلك ، ويصلح معايب البيت باللين والتوجيه السليم ، فلا يقبح ولا يضرب بل يرشد ويؤدب أدباً إسلامياً صحيحاً وفق منهج الكتاب والسنة ، ويتفقد حال أهله ، ويتلمس أوضاعهم عن كثب ، ويهتم بتربية أبنائه وبناته ، وينشئهم تنشئة دينية سليمة ، ويحترم زوجته ويقدرها ويعرف لها حقها ، ويقيم لها وزنها ، لا يسبها إذا أخطأت ، ولا يلومها إذا غفلت ، بل يثني عليها خيراً ، ويعطيها بقدر حاجتها في لباسها وفي أكلها وشربها ، وتكاليف سفرها ، وتحسين أوضاع بيتها ، كل ذلك بالمعروف ، ويساعدها في تربية الأبناء ، وأعمال المنزل ، وهكذا هو دأب النبي صلى الله عليه وسلم فلنا فيه أسوة حسنة ، وقدوة طيبة ، ومثالاً يحتذي به .
فتلك المرأة وصفت زوجها بأنه كريم، وشجاع ، ومسامح .(1/28)
وقال بعض أهل العلم : أن ما ذكرته من قولها في زوجها ، يحتمل المدح والذم ، فأما المدح ما ذكرناه سابقاً ، وأما الذم فكأنها تشير بوحشيته إذا دخل البيت فهو كالفهد يبطش ويضرب ويسب ويشتم ، ويقع عليها بلا رحمة ولا تؤدة ، بل يثب وثوب الوحش ، فهو غليظ جافي الطباع ، صعب الأوضاع ، يواقع بلا مداعبة ولا ملاعبة .
وإذا خرج على الناس كان أشد شراسة ، وأعظم غلظة ، ولا يراعي حق الزوجة إذا تعبت أو مرضت ، أو تكاسلت بعض الشيء نتيجة كثرة أعباء البيت ، وصعوبة التربية ، فهو لا يراعي ذلك ، ولا يكترث بها إذا مرضت ، فلا يتفقد أحوالها ، ولا يستدعي لها طبيبة ، ولا يذهب بها إلى المستشفى ، بل يتركها مهملة ، ولربما طلبت منه حاجة للبيت ، فسرعان ما يثب عليها كالوحش ضرباً وركلاً وسباً وشتماً ، ولا شك أن ذلك من سوء الطباع ، وشراسة الأخلاق ، وسوء المعاملة ، وعدم معرفة بأحكام الشريعة المبنية على كتاب الله تعالى ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
---------------------------------------------
وقَالَتِ السَّادِسَةُ / واسمها هند : زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ : يعني أنه يجمع في أكله أصناف الأطعمة ، ولا يكتفي بصنف واحد ، فيخلطها مع بعضها ، لنهمه وشراهته ، فإذا أكل لا يبقي شيئاً .
تقول هذه الزوجة : إن زوجي يأكل الغداء ويتركني ، ولا أكاد أنزل الصحن إلا وقد انتهى وغسل وقال : " الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة " ، اللقمة الواحدة بخمس ، والأجر على الله ، وإذا اشتغل على السفرة اشتغل بإتقان وحكمة عملاً بحديث : " إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه " ، يشرب البارد قبل الحار، ولا يعجزه شيء .(1/29)
مع العلم أن كثرة الأكل عيب في حق الرجل ، فقد كان العرب يتسابون بكثرة الأكل ، المقصود أن كثرة الأكل تذم، وإذا كان يعين صاحبه على النوم والكسل والخمول وعلى المعصية فهو أشد ذماً، فإن بعضهم يأخذ نعم الله ولا يشكره، ولكن الأكل إذا كان في طاعة الواحد الأحد فهنيئاً مريئاً، وصح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث سِنَانِ بْنِ سَنَّةَ الْأَسْلَمِيِّ صَاحِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ " [ أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد وغيرهم ] ، فكل مما أحل الله، وكل الطيبات من اللحم، والعسل، ولكن كن رجلاً صالحاً تعبد الله بهذا الطعام، قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ " [ المؤمنون 51 ] . وقال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ " [ البقرة 172 ] .
كل من الطيبات وأكثر، ولكن لا تداوم على التبجح والشبع الكثير فإنه يكثر من النوم، ويكثر كذلك من الكسل، والخمول وهو يعرض صاحبه للأمراض، ولا تمت يبساً وجوعاً مثل المسيحيين والرهبان فهذا ليس من الإسلام، وخير الأمور أوسطها، ولا تقتصر كذلك على ما لا يكفي وعندك الكثير لكن قل: رب أوزعني شكر هذه النعمة .
ثم تقول : وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ : يعني إذا شرب لم يبق شيئاً في الإناء ، فهو يشتفه عن آخره ، لا يجرع الماء ، لا يشرب مثل الناس بل يدغفه دغفاً ، وهذا مذموم ، ومن السنة أن يشرب الإنسان على دفعات ، وإن شرب مرة واحدة فهو من السنة التقريرية للنبي صلى الله عليه وسلم ـ وسيأتي ذلك في آداب الطعام والشراب وهي دروس تنتظر إلقاءها بإذن الله تعالى ـ وبعض الناس يشرب مثل شرب الثور تسمع له جرجرة ، وهذا لا ينبغي .(1/30)
وتقول : وَإِنِ اضْطَجَعَ الْتَفَّ : يعني إذا نام ، التحف بلحاف وانحرف في ناحية من نواحي البيت ، وترك زوجته كئيبة لذلك ، لابتعاده عنها .
وَلَا يُولِجُ الْكَفَّ ، لِيَعْلَمَ الْبَثَّ : يعني لا يمد يده إليها ليعرف حزنها ، لتبث إليها همها وغمها ، ومنه قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام قال : " قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون " [ يوسف 86 ] ، فهو لا يتفقد أحوالها ، ليزيل أتعابها ، ويذهب أوجاعها ، بل ربما زاد في ذلك لابتعاده عنها ، وليس هذا هو مقصود الزواج والنكاح في الإسلام ، بل مقصوده الألفة والمحبة والسكينة وبث الأحزان من قبل الزوجين لبعضهما ، فكل منهما سكنٌ للآخر قال تعالى : " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم ومودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " [ الروم 21 ] .
فهي تقول :أمرض عنده ولا يضع يده عليّ ليعرف هل أصبت بالحمى أم لا ، لا يعرف التمريض وليس فيه رحمة ، نعم أيها الأخوة : بعض الناس فيه عطف وحنان إذا مرض الطفل وضع يده على جبهته ، وهذا هديه عليه الصلاة والسلام ،كان إذا أتى إلى أصحابه يضع كفه الشريفة على صدر الصحابي فيسأل عن حاله، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ : " لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " ، فَقَالَ لَهُ : " لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " ، قَالَ : قُلْتُ : طَهُورٌ ! كَلَّا ، بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ ، تُزِيرُهُ الْقُبُورَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَنَعَمْ إِذًا " [ أخرجه البخاري ] .(1/31)
وهذه المرأة جمعت لزوجها كثيراً من صفات الذم والنقيصة ، فهو بخيل ، لئيم ، وسيئ العشرة مع أهله ، قليل الرغبة في النكاح ، مع شدة شهوته للطعام والشراب ، وهذا غاية الذم عند العرب ، فإن العرب تذم بكثرة الطعام والشراب ، وتمدح بقلتها وكثرة الجماع لأنها دليل على صحة الذكورية والفحولية .
---------------------------------------------
وقَالَتِ السَّابِعَةُ / واسمها حُبّى بنت علقمة : زَوْجِي غَيَايَاءُ : مأخوذ من الغياية وهي الظلمة ، وكل ما أظل الشخص ، فكأنه لا يهتدي إلى مسلك يسلكه لمصلحته ، أو أنه ثقيل الروح كالظل المتكاثف الظلمة الذي لا إشراق فيه .
أَوْ عَيَايَاءُ : أي الذي لا يضرب ولا يلقح من الإبل .
طَبَاقَاءُ : الأحمق المطبق الحمق ، فهو لا يتحكم في أمره ، ولا يهتدي لطريق الصواب ، وقيل : هو الذي ينزل على المرأة بصدره أثناء الجماع ، ويرتفع من أسفله ، فلا تستمتع به المرأة ، ولا يحصل لها منه إلا الإيذاء والعذاب .
كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ : أي أن كل صفة سيئة في الناس هي فيه ، وكل عيب في البشر فهو يتسم به ، فكل عيب موجود فيه ، وقد بلغ غاية العيب .
شَجَّكِ : أي أن زوجها كثير الشجاج ، فهو دائماً يصيبها في رأسها فيجرحها .
أَوْ فَلَّكِ : أي الجرح في الجسد ، فزوجها كثير الكسر والضرب ، وربما كان المعنى : أنه كثير الخصام والسباب ، فيكسر زوجته بسلاطة لسانه ، وشدة خصومته .
أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ : من الشج والفل ، وفي رواية الزبير : " إن حدثته سبك ، وإن مازحته فلك ، وإلا جمع كلاً لك " ، سبحان الله العظيم ، ونعوذ به من تلك الطبائع السيئة ، والأخلاق الهدامة ، فإما أن يضرب ، وإما أن يكسر ، وربما جمع الاثنتين معاً الضرب والكسر ، وكأن المرأة لا قيمة لها في الإسلام .(1/32)
تقول : زوجها عنده عصا ، وكل يوم يشجها ، وجسمها أصبح حقل تجارب للضرب ، فمرة يضرب بالمشعاب ، ومرة بالهراوة ، ومرة بالسكين فتقول : مرة شجة في الرأس ، ومرة فلة في الظهر ، ومرة يجمع بين الحسنيين هداه الله ، فيشج في الرأس ويضرب في الكتف ، وهذا من الضرب ، والضرب في الإسلام في حدود ، والمقصود الضرب غير المبرح ، أما المبرح فممنوع أبداً ، ويباح الضرب الغير مبرح فيما إذا نشزت المرأة وعصت زوجها ، ففي تلك الحال ، عليه أن يذكرها بالله ويخوفها به ، ويعضها موعظة حسنة ، فإن لم يجدي هذا الأمر ، فعليه أن يهجرها في الفراش ، فإن أبت فعليه أن يضربها ضرباً غير مبرح ، لقول الله تعالى : " واللاتي تخافون نشوزهن فعضوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً " ، ولا يضرب الوجه فإنه حرام ، ولا يقبح ، والتقبيح : هو اللعن وهو حرام ، ولا يضرب الأماكن الخطرة في جسمها كالبطن والرأس والصدر وما شابه ذلك ، هذه من الأمور التي ينبغي أن يتنبه لها الأزواج ، ضرب غير مبرح ، بل ضرب خفيف ، خفيف ، الذي هو قدر سوط أو سوطين من غير تبريح يقولون : كان شريح عنده زوجة اسمها زينب يقولون : كانت تعصيه ، قالوا : لو ضربتها ؟ فقال :
رأيت رجالاً يضربون نساءهم فشلت يميني حين أضرب زينبا
فالمقصود هنا أنها تقول : إنه رجل سريع الضرب ، سريع العصا ، بخيل على أهله .(1/33)
أتت فاطمة بنت قيس تستشير محمداً صلى الله عليه وسلم بعد أن طلقها زوجها فتقدم لها ثلاثة مُعَاوِيَةُ وَأَبُو الْجَهْمِ بْنُ صُخَيْرٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، فكلهم تقدموا في آن واحد يريدون أن يتزوجوا منها ، فذهبت إلى محمد عليه الصلاة والسلام وهو يعرف الناس ، قالت : يا رسول الله ! تقدم أسامة وتقدم أبو جهم وتقدم معاوية ، فبمن تنصحني منهم ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ تَرِبٌ ، لَا مَالَ لَهُ ـ يعني على الحديدة ما عنده شيء في البيت، عنده فئران تتطارد في البيت، وهذه نصيحة، والدين النصيحة، وأصبح فيما بعد ملكاً رضي الله عنه وأرضاه ـ وَأَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ ـ عصاه معلقة بالبيت يضربهن بها ـ وَلَكِنْ أُسَامَةُ فَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا أُسَامَةُ أُسَامَةُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاعَةُ اللَّهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ خَيْرٌ لَكِ قَالَتْ فَتَزَوَّجْتُهُ فَاغْتَبَطْتُ بِهِ " [ أخرجه مسلم وغيره ] فنكحته فاغتبطت به " أي : أنها هنئت معه وكانت في أحسن عيشة بمشورة محمد عليه الصلاة والسلام .
وجاءت امرأة إلى عمر رضي الله عنه تقول : تقدم الزبير يريد أن يتزوجني - والزبير أحد العشرة المبشرين بالجنة ، وهو حواري الرسول عليه الصلاة والسلام ، الإمام العلم الذي يدوس الأبطال في المعركة مثلما يدوس الأسد العنز - أتت هذه المرأة إلى عمر وقالت : " ما رأيك في الزبير ؟ قال عمر : يدٌ بقرطٍ ويدٌ بعصا " ، يقول : احذري منه فإنه ضرَّاب للنساء .(1/34)
وبعض الرجال يضرب ضرباً فيه تكسير للعظام ، وإسالة للدماء ، وهذا أمر محرم مع الحيوان فضلاً عن الإنسان ولا سيما شريكة الحياة ، وسلوى الأحزان ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ " [ متفق عليه واللفظ للبخاري ] .
فالمرأة السابعة وصفت زوجها بالحمق ، والتناهي في سوء العشرة ، وجمع النقائص ، فإذا حدثته سبها ، وإذا مازحته ضربها ، وإذا أغضبته كسر عضواً من أعضائها ، أو شق جلدها ، أو أغار على مالها ، أو جمع كل ذلك لها من الضرب والجرح والكسر وموجع الكلام وأخذ المال ، فسبحان الله أي عشرة تلك ، وأي حياة تعيشها المرأة مع رجل كهذا الرجل ضراب للنساء ، سباب ، شتام ، لعان ، إنها لحياة تعيسة ، وعيشة مرة ، الموت أحسن منها .
وهناك من الأزواج من يرتكب بل بعض الأزواج لا تراه الزوجة إلا عند الطعام ، أو النوم ، أو الفراش ، أما غير ذلك فتراه لاهياً لاعباً ، مستهتراً بحقوق الزوجة ، دائم الخروج من المنزل ، لا يعود إلا آخر الليل ، حياته نكد وتعب ، وإذا خرج من بيته وهو بين أصدقائه تسمع الضحكات ، وترى توزيع الابتسامات ، وعلى العكس من ذلك إذا دخل بيته عبس وتقطب وجهه ، فتراه مسود الوجه ، حاجباه إلى أعلا ، لا تعرف الابتسامة محياه ، وأدنى كلمة يسمعها يختلق بسببها المشاكل ، ويوقع القلاقل ، حتى وكأن البيت سجن أبو غريب بالعراق ، وليست هذه أخلاق الرجال في الإسلام ، لأن الإسلام دين معاملة ومسامحة ومحبة وتفان وإيثار ، وليس دين عنف وجبروت وحطمة ، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ " [ أخرجه مسلم وأحمد ] ، والحطمة : الرجل العنيف برعاية الإبل .(1/35)
واسمعوا لهذا الحديث الذي يدل على رحمة الإسلام ورأفته بالمرأة ، وعنايته بها أشد عناية ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ . . . قال لي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا ؟ فَقُلْتُ : تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا ، فَقَالَ : " هَلَّا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا ، تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوُفِّيَ وَالِدِي أَوِ اسْتُشْهِدَ وَلِي أَخَوَاتٌ صِغَارٌ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ مِثْلَهُنَّ فَلَا تُؤَدِّبُهُنَّ وَلَا تَقُومُ عَلَيْهِنَّ فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا لِتَقُومَ عَلَيْهِنَّ وَتُؤَدِّبَهُنَّ . . . " [ متفق عليه ] .
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : سَابَقَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقْتُهُ " [ أخرجه ابن ماجة ] .
---------------------------------------------
وقَالَتِ الثَّامِنَةُ / واسمها باسرة بنت أوس بن عبد : زَوْجِي الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ : ملمسه كملمس الأرنب ، وصفته بأنه ناعم الجسد كنعومة وبر الأرنب أو أنها كنَّت بذلك عن حسن خلقه ، ولين جانبه .(1/36)
وهناك من الرجال من لا يدري عن أولاده شيئاً ، فهو بعيد عنهم لا يعلم عن حالهم شيئاً ، لا يلاطفهم ، ولا يداعبهم ، ولا يلاعبهم ، ولا يهش ويبش معهم ، كأنهم أغراب عنه ، فحياته وموته بالنسبة لهم سواء ، ولا ريب أن ذلك خطأ فادح في التربية ، ومخالف لما تقتضيه الطبيعة البشرية ، والحياة الإنسانية ، والتربية الصحيحة ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : " أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَبِيٍّ يُحَنِّكُهُ ، فَبَالَ عَلَيْهِ فَأَتْبَعَهُ الْمَاءَ " [ متفق عليه ] ، عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا ، فَقَالَ الْأَقْرَعُ : إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : " مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ " [ متفق عليه ] ، وعَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ " [ متفق عليه ] ، وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قال : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ ، وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الْأُخْرَى ، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا ، ثُمَّ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا ، فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا " [ أخرجه البخاري ] ، وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ(1/37)
وَسَلَّمَ ، كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ ، فَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا ، وَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا " [ أخرجه مسلم ] .
وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ : وريحه طيب ، وعرقه طيب ، لنظافته واستعماله الطيب ، والزرنب : نوع من الطيب ، رائحته زكية وجميلة ، وهو شجرة عظيمة توجد بجبل لبنان ، لا تثمر لها أوراق بين الخضرة والصفرة ، وقيل : هو حشيشة دقيقة طيبة الرائحة وليست ببلاد العرب وإن كانوا ذكروها . وقيل : هي الزعفران ولكنه ليس صحيح ، فكأنها كنَّت عن زوجها بمعاشرته الجميلة الطيبة .
فالمرأة تقول : أن زوجها دائماً يتطيب ، والنساء يعجبهن الطيب ، وعلى المسلم أن يكون متطيباً دائماً ، لا سيما عند الاتصال بالزوجة ، والطيب من أحسن ما يكون، ولذلك يوصى به عند المصافحة والملاقاة ، ودخول البيت ، والذهاب إلى الصلاة ، وهو يزكي النفس ، ويفتح الذهن ، ويجعل للإنسان تأصيلاً في عقله ، ويركز اهتمامه ، وهو قوت الروح ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ " [ متفق عليه ] .(1/38)
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب ، لزهو رائحته ، وخف محمله ، عن أَنَسٌ رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ " [ أخرجه البخاري ] ، وعلى المرأة أن تتفقد أحوال زوجها ، فتطيبه عند خروجه لا سيما محافل الرجال ، كالصلاة والعمل والولائم وما شابه ذلك ، فتذكره إن نسي ، هكذا كان دأب السلف رحمهم الله ورضي عنهم ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ ، حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ " [ أخرجه البخاري ] ، وكان عرق محمد عليه الصلاة والسلام كأحسن المسك وإذا صافحه المصافح بقي وقتاً طويلاً كما قالوا يجد رائحة الطيب في كفه ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عِنْدَنَا ـ نام القيلولة ـ فَعَرِقَ ، وَجَاءَتْ أُمِّي بِقَارُورَةٍ فَجَعَلَتْ تَسْلِتُ الْعَرَقَ فِيهَا ، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ! مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ ؟ " قَالَتْ : هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ " [ أخرجه مسلم ] ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَطْيَبُ الطِّيبِ الْمِسْكُ " [ أخرجه الترمذي وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] ، والطيب محبب إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ ، وَجُعِلَت قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ " [ أخرجه النسائي وأحمد ] .(1/39)
وقالت المرأة : " وأنا أغلبه والناس يغلب " ، فوصفته مع جميل العشرة لها والصبر عليها ، بالشجاعة ، وغلبة المرأة للرجل ، وتحمله إياها دليل على كرمه ، ومسامحته ، ودليل رجولته ، قال معاوية : " يغلبن الكرام ، ويغلبهن اللئام " ، فزوجها كريم طيب التعامل ، لين الجانب ، وقولها : " والناس يغلب " فيه تتميم ، لأنها لو اقتصرت على قولها " وأنا أغلبه " ، لظُن أنه جبان ضعيف ، فلما قالت " والناس يغلب " دل على أن غلبها إياه إنما هو من كرم سجاياه ، فتممت بهذه الكلمة المبالغة في حسن أوصافه .
لكن على الرجل أن يكون حازماً في الأمور الشرعية فلا يتركها للمرأة برمتها ، بل لابد أن يكون له دور المرشد والمربي ، لأن هناك أموراً لو تركت على ظاهرها لانقلب البيت رأساً على عقب ، فغلبة المرأة للرجل ليست في كل شيء بل بضوابط ، لأن المرأة قاصرة في تفكيرها تتعامل مع الأمور بعاطفتها ، والرجل هنا أفضل منها وأقوم ، ولا يترك لها الأمر على الغارب تسرح وتمرح ، ونفي ذات الوقت لا يُشدد عليها وتُعامل معاملة العبيد والإماء ، لا بل الوسط الوسط ، وما أجمل السهولة والليونة في التعامل مع القوارير ، لأنهن كالقوارير يؤثر فيهن أدنى كلمة ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى أَزْوَاجِهِ وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ ، فَقَالَ : " وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ ، رُوَيْدًا سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ " [ متفق عليه واللفظ لمسلم ] .(1/40)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : أَهْدَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فِي قَصْعَةٍ ، فَضَرَبَتْ عَائِشَةُ الْقَصْعَةَ بِيَدِهَا ـ من الغيرة ـ فَأَلْقَتْ مَا فِيهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " طَعَامٌ بِطَعَامٍ ، وَإِنَاءٌ بِإِنَاءٍ " [ أخرجه البخاري والترمذي واللفظ له ] ، فانظروا كيف عالج النبي صلى الله عليه وسلم الموقف دون اللجوء إلى الضرب أو الكسر أو الطلاق ، بل بهدوء الأعصاب ، ومعرفة ما يعتري النساء من الغيرة ، عالج الموقف بيسر وسهولة ، فطعام مكان الطعام ، وإناء أرسله مكان الإناء المكسور ، والحمد الله لم تقم القيامة ، ولم تظهر الساعة .
---------------------------------------------
وقَالَتِ التَّاسِعَةُ / ولم تُسَمَّ : زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ : كنَّت زوجها بالبيت العالي المرتفع ، الذي يعليه أهله ويضربونه في الأماكن المرتفعة ليراه الضيوف وأصحاب الحاجات فيقصدونه ، فهي تقول : إن زوجها كريم ، شريف الذكر ، ظاهر الصيت ، بكرمه وجوده ، فبيت زوجها في وسط الحي يعرفه الصغير والكبير ، ولا يتيه عنه أحد ، لأن البخلاء عند العرب يسكنون في شوارع ضيقة ، لا يهتدي لها الإنسان ، فيضيع قبل أن يصل البيت ، ولذلك إذا وصف لك البخيل بيته قال : على يمين المسجد ، ثم لف على اليسار ، ثم خذ يمينك ، ثم يسارك حتى تضيع .
قالت : طَوِيلُ النِّجَادِ : والنجاد : هو حمالة السيف ، وهو كناية عن طول زوجها ، وكما قلنا فالعرب تمدح طويل القامة ، فهي تقول : أن زوجها شجاع مقدام ، فهو صاحب سيف وبسالة وإقدام .(1/41)
عَظِيمُ الرَّمَادِ : يعني ناره لا تطفأ ، ليراها الضيفان والزوار ، فيأتون إلى بيته ويقصدونه ، فذلك يلزم أن داره كثيرة الرماد جراء كثرة إشعال النار باستمرار ، وهذا دليل على كرمه ، وقالوا : كان إبراهيم الخليل عليه السلام أستاذ التوحيد ، وشيخ العقيدة ؛ كان عنده قصر في أرض كنعان وله بابان، يقول للخادم من خدامه: إذا أتيت بضيف فأنت عتيقٌ لوجه الله، فانظر كيف سيكون شعور الخادم، سيأتي بضيف ولو من التراب، فيذهب هذا الخادم فيأتي بضيف، أحدهم ذهب فأتى برجلٍ كافر مشرك فأدخله في قصر إبراهيم عليه السلام، فقدم له إبراهيم صحفه، ولذلك يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنه في القرآن : " فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ " [ الذاريات 26 ] ، والعجل هو التبيع ، قال : ( سمين ) وفي سورة هود ( حنيذ ) ، فهو سمين وحنذه على الجمر حتى يكون أشهى ، قالوا : فقرب الطعام لهذا المشرك وقال له : قل : بسم الله ، قال المشرك : لا أعرف بسم الله ، قال : قل : بسم الله ، قال : لا. قال : قل : بسم الله ، قال : لا . قال : والله لا تطعمه ، فأوحى الله له : يا إبراهيم عجباً لك ؟ خلقت هذا ، وله ستون سنة أطعمه وأسقيه ، وأرد أن يتعشى عندك ليلة فحرمته .(1/42)
ولا يخفى عليكم أن أكرم من عرفت الخليقة محمد عليه الصلاة والسلام ، وكان يخرج بالطعام على الناس ويدخل أصحابه على طعامه ، فلا يمنع أحداً ، وسأله رجل فأعطاه بردته ، ويعطي مائة ناقة ، وكان المال عنده مثل التراب ، ولم يدخر شيئاً في هذه الدنيا ، بل مات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي ، فالمال الذي بين يديه ليس له ، بل للمسلمين ، فهو عليه الصلاة والسلام أكرم الناس أجمعين ، وأجود الخلق عامة ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ " [ متفق عليه ] .
واختلفوا في أكرم العرب ، على كل حال جلس ثلاثة في البيت العتيق واختلفوا في أكرم العرب ، فقال بعضهم : أكرم العرب : عرابة الأوسي ، كان يطعم صباح مساء ، وقال الثاني : عبد الله بن جعفر ، وقال الثالث : بل أكرم العرب : قيس بن سعد بن عبادة فقالوا : كلٌ منا يذهب ، ويلبس ألبسة رديئة ، ويظهر في مظهر مسكين ، ويسأل صاحبه ، ثم عودوا إلى الحرم ، وننظر ماذا يعطيكم ، فذهب صاحب عبد الله بن جعفر الطيار إليه ، فوجده قد خرج إلى الشام على فرس يريد سفراً قال : أنا رجل منقطع وأريد مالاً ، قال : خذ هذا السيف وخذ هذا الفرس ، ولو كنت في المدينة أعطيتك ، وأنا أريد السفر ، لكن سوف أنزل تحت هذه الشجرة حتى يأتيني ركب والله يرزقك ، قال : لا أقطعك ، ولا أقطع سفرك ، قال : والله لتأخذنه ، قال : فأخذت السيف والفرس بما عليه ، وجلس هو تحت شجرة ينتظر المسافرين . هذا الأول .(1/43)
وذهب الثاني عند قيس بن سعد بن عبادة ، فطرق عليه الباب ، فخرجت الجارية قال : أريد مالاً ، أنا فقير ، فذهبت قالت : مولاي نائم ولكن خذ ألف دينار ، ولو كان يقظان لأعطاك - وألف دينار تعادل مائة ألف اليوم – وهذا هو الثاني .
وذهب الثالث إلى عرابة الأوسي فوجده قد عمي ، وخرج إلى المسجد على عبدين يتكئ على أحدهما باليمنى ، وعلى الآخر باليُسرى ، ويريد صلاة العصر فقال : أعطني من مال الله ، قال عرابة الأوسي : ذهبت النفقات بأموالي ما بقي إلا هذان العبدان خذهما لك ، قال : فأخذتهما وأخذ هو يعتمد ويلتمس الجدار إلى أن وصل المسجد قالوا : أكرمهم عرابة الأوسي .
المهم أن المرأة قالت : قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ : المقصود بالناد : النادي ، ولكنها وقفت عليها بالسكون من أجل موافقة السجع بين الكلمات ، والنادي : هو مجلس القوم ، ومكان حديثهم واجتماعهم ، فهي تقول : إن بيت زوجها قريب من النادي ، لأن الضيوف إنما يقصدون النادي ، تعرضاً لمن يضيفهم من أهله ، فهو قريب الدار من النادي ، وهذا دليل على كرمه وحسن خلقه ، أو أنها وصفت زوجها بأنه شريف في قومه ، صاحب رأي ومشورة ، فإن اشتوروا في أمر اعتمدوا على رأيه ، وامتثلوا أمره لشرفه فيهم ، وبالجملة فقد وصفت زوجها بالسيادة والكرم ، وحسن الخلق ، وطيب المعاشرة .
---------------------------------------------
وقَالَتِ الْعَاشِرَةُ / واسمها كبشة بنت الأرقم ، وهي كالخامسة : زَوْجِي مَالِكٌ ! وَمَا مَالِكٌ ؟ : هنا استفهام وتعجب ، فهي تقول : أي شيء هو مالك ؟ ما أعظمه وأكرمه ، واسم زوجها : مالك .
مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ : أي أن زوجها فوق ما يوصف من الجود والكرم ، والشجاعة والسماحة ، والخلق الحسن والبسالة ، فهي زادت في إعظام زوجها ورفعت مكانته .
لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ : فيه إشارة إلى كثرة إبل زوجها .(1/44)
قَلِيلَاتُ الْمَسَارِحِ : فنظراً لكرم زوجها ، فلا يوجه إلى المسارح من إبله إلا القليل ، وأما الباقي فهي في فناء بيته ، تحسباً لنزول الأضياف عليه ، حتى يكون مستعداً لضيافتهم ، وتقديم كل ما يحتاجونه من لوازم الضيافة .
وعادة العرب يقولون : يؤخرون مسارح الإبل ينتظرون الضيف ، والبخيل يسرحها من بعد صلاة الفجر ، لا يصلي الفجر إلا وقد قال لأبنائه : إلى المرعى ، بخلاف الكريم ، فهو يؤخرها لعله أن يأتي ضيف .
وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ ، أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ : المِزْهَر : آلة من آلات اللهو ، وهو العود عندما يُضرب به فرحاً بالضيفان ، ولا يخفى على كل مسلم تحريم الغناء وآلات العزف والطرب ، فهي محرمة بكتاب الله تعالى في خمسة مواضع منه ، ومحرمة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، ومحرمة بإجماع علماء الأمة الذي يُعتد بقولهم في هذا الشأن .
فإذا سمعت الإبل صوت العود ، أيقنت بالهلاك ، لأنها ستُذبح ، وتُقدم للضيفان ضيافة لهم ، فلقد اعتادت الإبل على سماع صوت المزهر عند قدوم الضيف ، ونحر إحداها ، ولهذا إذا سمعت صوت المزهر أيقنت بالموت .
كان الجاهليون إذا قدم الضيف ضربوا الدف والضيف قريب، فتعرف الناقة أنه قد حكم عليها بالإعدام لما تسمع من صوت الدف .
والحاصل أن المرأة جمعت لزوجها في وصفها له بين الثروة والجاه ، والكرم ، وكثرة القِرى للضيف والاستعداد له .
---------------------------------------------
وقَالَتِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ / واسمها عاتكة بنت أكيمل بن ساعده اليمنية : زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ ! وَمَا أَبُو زَرْعٍ ؟ أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ ، والأَنَسْ : مأخوذ من النوس ، وهو الشيء المتحرك ، وأناسه : حركه .(1/45)
تقول : زوجها يهدي لها الذهب واللؤلؤ وما يوضع في الأذن ، حتى تدلت أذنها من كثرة ما وضعته فيها من زينة الذهب ، تقول : فزوجي أحسن عندي من حلي الأذن بالأنس واللطف والسكينة ، والقرب والهدوء والليونة .
وتقول : وَمَلَأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ ، أي : أنه أطعمها حتى سمنت ، فتقول : هو عندي أحسن من الشحم الذي في عضدي لما بيني وبينه من قرب ومودة ورحمة .
وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي ، تقول: أعطاني من الدنيا حتى افتخرت على زميلاتي وأخواتي، وتعاظمت إلي نفسي، وهذا ليس محموداً على الإطلاق ، وسيأتي بيان ذلك في الفوائد ، من تحريم الغرور والعظمة والكبر .
تقول : وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ ، أي: أن أهلها أصحاب غنم في بادية فقيرة .(1/46)
فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ ، وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ ، أي : فتحولت إليه فأصبح عندي خيل لأن عنده خيلاً وعنده أطيطاً أي: إبل تئط أطيطاً، في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ ، أَطَّتِ ـ ضجت وصوتت ـ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ ، إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ ـ الطرق ـ تَجْأَرُونَ ـ تتضرعون ـ إِلَى اللَّهِ ، قال أبو ذر : لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ ـ تقطع وتستأصل ـ " [ أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد ] عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ : أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : جُهِدَتِ الْأَنْفُسُ ، وَضَاعَتِ الْعِيَالُ ، وَنُهِكَتِ الْأَمْوَالُ ، وَهَلَكَتِ الْأَنْعَامُ ، فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا ، فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللَّهِ ، وَنَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَيْحَكَ ! أَتَدْرِي مَا تَقُولُ ؟ وَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ ، ثُمَّ قَالَ : " وَيْحَكَ ! إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ ، شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ ، وَيْحَكَ ! أَتَدْرِي مَا اللَّهُ ؟ إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَاوَاتِهِ لَهَكَذَا ،(1/47)
وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ " [ أخرجه أبو داود ] ، والأطيط : صوت القتب ، وصوت المحمل على الجمل ، والخشب الذي تسمع له صريف .
تقول : عنده إبل وخيل وعطاء كثير .
وينبغي للمرأة ألا تتزوج الرجل لماله، بل تتزوجه لدينه، فالمال وحده لا ينفعها، ولو كان عنده مال قارون ، وكثير من الفتيات تزوجن رجالاً ذوي أموال ، ولكن أهل الأموال هؤلاء كانوا فجرة ، وأهل ربا وخيانة مع الله ، وأهل غدر مع الواحد الأحد ، فأصبحت حياتهم غدراً وزوراً وبعداً عن الله .
وهناك نساء تزوجن فقراء ، ولكن هؤلاء الفقراء عرفوا الله ، أهل صيام وصلاة ، وعبادة وتقوى لله ، فسعدن سعادة ما بعدها سعادة ، فلا تعد المال شيئاً فهو لا يساوي شيئاً إلا بتقوى الله .
ثم تقول : فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ ، تقول: أتكلم وألقي ما في ذهني فلا يقبحني ولا يقاطعني، ويستمع إلي، وهي خصلة جيدة في الرجال، ويجب أن يعيها المسلم فيسمع لصوت المرأة، والإسلام هو الذي عرف قدر المرأة وسمع صوتها بعد أن قتلت الجاهلية صوتها المرأة ووأدتها، ولم تعترف بها، فجاء الإسلام فكرمها.
وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ ، تقول : أرقد في الصباح حتى الضحى ، أي أنها تسهر وتلهو ثم تنام متأخرة فلا تضطر للقيام بل تظل نائمة حتى وقت الضحى ، ولو عرفت التسبيح حتى طلوع الشمس وقراءة القرآن كان أحسن ، لكن تصف أنها مرتاحة ، وأنها تنام على ما تريد، وتقوم متى أرادت.
وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ وفي لفظ " فاتقمح " ، أي: أشرب فأزيد من الشرب، فهي تشرب من اللبن، وتشرب من العسل، وتشرب من السمن لا يقول: كفى، إنما تشرب جهدها ، وهذا لكرمه ولطفه ولين جانبه .
ثم تصف أم أبي زرع وابنه وزوجه الأخرى وبنته فتقول : أُمُّ أَبِي زَرْعٍ ، فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ ؟(1/48)
عُكُومُهَا رَدَاحٌ ، تقول: كثيرة النعم، حتى أمه عندها غرف نوم، وعندها فرش، وعندها خيرٌ كثير .
وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ ، تقول: حتى بيت أم أبي زرع واسع .
ابْنُ أَبِي زَرْعٍ ، فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ ؟ مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ ، تقول: مثل السيف، لأن العرب تفتخر بمن يختصر في نومه وفي أكله، تقول: ينام على أدنى شيء، ينام مرة عند الباب، ويدخل مرة ينام في أي مكان؛ لأن ذلك يدل على الشجاعة، وعلى القوة، والعصامية، كان بعض العرب ينام مع الأسود، وبعضهم ينام مع الغنم وفي مسارح الإبل من شجاعته ليحميها .
وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ ، تقول: أدنى شيء يشبعه، فلا يأكل الطعام علينا، والعرب تفتخر بذلك .
بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ ، فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ ؟ طَوْعُ أَبِيهَا ، وَطَوْعُ أُمِّهَا ، تقول: تطيع أباها وأمها، يعني أنها بارة .
وَمِلْءُ كِسَائِهَا ، تقول : إنها ممتلئة الجسم مع اعتدال الخلقة .
وصغر ردائها : أي أنها جيدة الملبس، تزين أهلها بأخلاقها الشريفة ووقارها .
وَغَيْظُ جَارَتِهَا ، أي أن جارتها أو جاراتها يحسدنها .
جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ ، فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ ؟ لَا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا ، أي: أنها لا تنقل الخبر من البيت، وهذا فيه مدحٌ لأهل البيت ألا ينقلوا أخبارهم، وعلى المسلم ألا ينقل خبر أهله الخاص في المجالس، وعلى المسلمة ألا تنقل خبر زوجها الخاص في المجالس، فإن هذا مذموم، وقد استنكره عليه الصلاة والسلام، وهو من المجاهرة.
وَلَا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا ، أي : كذلك لا تصرف مالنا ولا تضيعه .
ولا تملأ بيتنا تعثيثا أي : أنها مرتبة للبيت ، والعرب تمدح الترتيب والإسلام جاء به.(1/49)
وَلَا تَمْلَأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا ، فعلى النساء أن يتقين الله في ترتيب البيوت ، وفي التزام النظام والأناقة ، لأن من صفات اليهود أنهم أوسخ الناس أفنية ، فالمرأة العاقلة تجعل للملابس مكاناً ، وللمكتبة مكاناً ، وللمطبخ مكاناً ، ولكل شيء مكاناً يخصه ، أما أن تكون الملاعق بين الكتب ، والسكاكين بين البطانيات ، والصحون في المجلس ، وحالة لا يعلمها إلا الله ، فهذا ينبئ بأنه أصاب البيت رجة أو زلزال ، وهذا ليس بوارد في الإسلام .
قَالَتْ : خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالْأَوْطَابُ تُمْخَضُ ، فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ ، فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا .
فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا ، أي رجلاً غنياً .
رَكِبَ شَرِيًّا ، عنده فرس جيد .
وَأَخَذَ خَطِّيًّا ، وبيده رمح .
وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا ، كثير الأنعام .
وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا ، وأعطاني من كل رائحة زوجاً ، أي : من كل الإبل والبقر، والغنم .
وَقَالَ : كُلِي أُمَّ زَرْعٍ وَمِيرِي أَهْلَكِ ، قَالَتْ : فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ : تقول : كل شيء أعطانيه لا يملأ صحناً من أصغر صحون ذاك، ويتمدح هذا الثاني ويقول : افعلي ماشئت بهذا المال .
فقال النبي عليه الصلاة والسلام - خاتماً للحديث وهو يتبسم : " يا عائشة ! كنت لك كأبي زرع لأم زرع ، إلا أن أبا زرع طلق وأنا لا أطلق " [ حديثٌ صحيح رواه الطبراني عن عائشة ورواه الترمذي في الشمائل موقوفاً إلا قوله : " كنت كأبي زرع " فرفعاه ، وقالوا : وهو يؤيد رفع الحديث كله ، ورواه البخاري في النكاح ، ومسلم في الفضائل ] .
فوائد الحديث :(1/50)
هذا الحديث من الأحاديث المهمة في العلاقة الأسرية بين الزوجين ، ونستنبط من الحديث عدة فوائد ، أجملها بلا شرح ، وإليكها للفائدة :
تحريم الغيبة :
تحريم إفشاء سر الزوجين :
التحذير من سوء العشرة بين الزوجين :
الرحمة بالزوجة والأولاد :
المساعدة في شؤون البيت ، وتربية الأبناء :
الطلاق يتدرج بين أحكام الحكم التكليفي الخمسة ، فتارة يكون حراماً :
تحريم الغناء وآلات اللهو ، وجواز الضرب بالدف للنساء فقط لكن بضوابطه الشرعية :
تحريم البخل في الإسلام :
أهمية حق الزوج ، ومن أعظم ذلك المعاشرة الزوجية :
حكم الضرب في الإسلام ، سواء ضرب الزوجة ، أو الأولاد :
تحريم الفخر والخيلاء والكبر :
حكم التعدد :
حكم الخدم :
وجوب طاعة الوالدين ولو كانا كافرين :
هذا ما تيسر جمعه وكتابته في هذا الموضوع المهم ، والله تعالى أعلى وأعلم وأجل وأكمل ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ، والحمد لله رب العالمين .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام الجامع الكبير بتبوك(1/51)