فُسر بها الحديث، مع أنه بعيد. والمعنى الثاني -القريب-: أن يقول
قائل لآخر: بعني الناقة. فيقول: لا؛ هذه عزيزة عندي. طيب: بعني
الذي في بطنها -نتاجها-، وبعض الناس يحرص على النوعية خاصة في
الخيل، فيحجز الحمل الموجود في هذه الفرس، ويشتريه -تكون معروفة
بأصالتها، فيحرص الناس على سلالتها، فيتسابقون في شراء نتاجها-
وكذلك الإبل، ففي زمن عمر باع رجل ناقة بثمانين جملاً -أنا ما
كنت أظن أن يصل السعر إلى هذا الحد- فالنوعية والسلالة تجعل الناس
يرغبون في نتاجها، فصاحب هذه الناقة الأصيلة لن يبيعها، ولكن سيبيع
نتاجها، فيأتي إنسان ويشتري حبلها، وهو لم يأت بعد، فنهي عن ذلك،
لماذا؟ لا ندري هل ستأتي بناقة أو جمل؟ وهل ستأتي بكبيرة أو صغيرة؟
وكما يقولون: سمحة الخلقة أو لا! بيضاء أو حمراء! وهناك صفات يرغب
فيها المشتري قد تختلف، وهل ستأتي بمولود حي، أو أنها تموت ولا
تنتج؟! أما بيع حبل الحبلة: فالمراد أن تنتظر الحبلى حتى تضع، ثم
ينتظر المولود حتى يكبر وينتج، ونتاجه هو المبيع، فالجهالة تكون في
هذا أكثر وأكثر، فإذا منع في الحمل الموجود بالفعل؛ فيمنع في نتاجه
فيما بعد من باب أولى، والسبب في ذلك وجود الغرر، وكل بيع فيه غرر
في السلعة، أو في الثمن؛ فهو منهي عنه، فمثلاً: لو قال قائل:
اشتريت منك الناقة بما في يدي! بما أحمل من النقد، بما في هذا
الصندوق! بما في هذه الخرقة! ولا تعرف هل هو نحاس، أو ذهب، أو فضة،
أو حصاة؟! ولا تعرف كم عدده، ولا مقداره، ولا وزنه..! فهذا غرر.
إذاً: النهي عن بيع حبل الحبلة يحمل على أحد الأمرين: أن يجعل
موعداً لسداد الديون، وهذا ضعيف، أو أن يقع البيع على نفس الحمل
حينما يأتي، أو على نتاج الحمل بعد أن يوضع، وهذا فيه غرر كبير؛
ولهذا نهي عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
شرح حديث : (النهي عن بيع الولاء وهبته)
قال رحمه الله تعالى: [ وعنه (أي: ابن عمر ) رضي الله عنه: (أن(3/210)
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء، وعن هبته )
متفق عليه ]. تقدم لنا أن الولاء نعمة بموجب الحرية، أو وصف
اعتباري يلحق المعتق، ويتبع المعتِق، وهي صلة بين المعتِق وعتيقه،
صفة معنوية يربط المعتَق بمن أعتقه، ونبه فيها صلى الله عليه وسلم
بقوله: (الولاء لحمة كلحمة النسب )، ولحمة النسب لا تباع، ولا
توهب، فهل تبيع أخاك أو تبيع ولدك؟ لا، النسب لا يباع، فكذلك
الولاء حل محل النسب، فلا يباع، ولا يورث، ولا يوهب، فكيف لا يورث،
وصاحب الولاء قد مات، وترك ورثة؟! قالوا: نعم، لا ينتقل بالفرض،
ولكن ينتقل بالعصبة، للأولى الذي يحل محل المعتِق، وأشرنا في قصة
بريرة بأنه لو مات إنسان وله ولاء على عبد، وخلّف ورثة: ولد،
وبنت، وزوجة، وأم، فالولاء خاص بالولد، وليس للبنت، ولا للزوجة،
ولا للأم نصيب ميراث فيه؛ ولهذا لا يبيعه، ولا يهبه -أي: الولاء-
إنما يبقى ارتباط وثيق بين المعتِق والمعتَق، والله تعالى أعلم.
( كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [6] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (نهى عن بيع العُربان)
2 شرح حديث: (نهى أن تباع السلع حيث تبتاع)
3 شرح حديث ابن عمر حينما كان يبيع بالدنانير ويأخذ الدراهم والعكس
4 شرح حديث النهي عن النجش
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [7]
هناك بيوع محرمة نهى عنها الشارع الحكيم؛ لما فيها من ضرر وغرر، ومن
تلك البيوع التي نهى عنها الشارع: بيع العربون، لما فيه من أكل أموال
الناس بالباطل، ونهى الشارع أيضاً عن بيع السلعة قبل حيازتها ونقلها
إلى الملك؛ وذلك لأن السلعة قبل حيازتها لم تمتلك ملكاً كاملاً. ويجوز
بيع السلعة بنقد ثم استيفاء الثمن بنقد آخر، ولكن بشرط: أن يكون الثمن
الآخر بسعر يومه، وأن يدفع كاملاً، فينصرف البائع والشاري دون أن يبقى
بينهما شيء. ونهى الشارع عن النجش بجميع صوره؛ لما في ذلك من التحايل(3/211)
على أموال الناس وأخذها بغير حق؛ ولما فيه من إفساد للناس وللأسواق.
شرح حديث: (نهى عن بيع العُربان)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف
رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن بيع العُربان ) رواه مالك ، قال: بلغني عن عمرو بن
شعيب به ].
بيع العربون: صورته وحكمه
يقال: بيع العُربان أو بيع العربون، والعربون عند الناس في العرف:
أن تأتي إلى صاحب سلعة، وتريد السلعة، وليس عندك من المال ما يكفي
لشرائها، فتقول لصاحب السلعة: ليس عندي الثمن كاملاً، ولكن أمهلني
إلى الغد -مثلاً- حتى آتيك بالثمن كاملاً، فالبائع يقول: أنا أخشى
أن تذهب ولا ترجع، وربما يأتي زبون يريد السلعة ولا أستطيع أن
أبيعها؛ لأني ارتبطت معك، ولكن أعطني عربوناً أضمن به رجوعك،
فيقول: هذا العربون، السلعة بمائة، وهذه عشرة، فإن جئتك بكامل
الثمن أخذت السلعة ودفعت لك الباقي، والباقي هو تسعون؛ لأننا
احتسبنا العربون من الثمن، وإن لم تتحصل القيمة عند المشتري، وجاء
إلى صاحب الدكان، أو صاحب السلعة، وقال: إن الثمن لم يتحصل عندي،
فسامحني، وأعطني العشرة، فيقول: لا، أنت دفعت العشرة على أنها ربط
للبيع، وتعويض لي عن تفويت فرص بيع السلعة في مدة انتظارك، فقد
جاءني عدة زبائن يريدون شراءها، فبحجزك للسلعة فوَّت عليّ بيعها،
فالعربون غير مرجوع. هذا هو بيع العربون الذي كانوا يتبايعون به،
يشتري السلعة، ويدفع جزءاً من الثمن، عربوناً على توثيق البيع، على
شرط: إن جاء بالثمن أخذ السلعة، ومضى العقد، وإن لم يأت بالثمن
فيكون العربون ملكاً لصاحب السلعة، تعويضاً له على ما فوت عليه من
عقود مع أشخاص آخرين. وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن هذا البيع؛
لأنه إذا تعاقد معه ودفع العربون توثيقاً للبيع، ولم يحصل البيع،(3/212)
فبماذا يستحل هذا العربون من مال أخيه والسلعة عنده؟! قد يقول: إنه
فوت عليّ الزبائن، فيقال: الزبائن موجودون، والسوق مفتوح، فإن ذهب
هذا يأتي ذاك، وأين الإرفاق بالناس؟ وأين الوفاء بالوعود؟! إذاً:
هذا البيع حرام إن كان الشرط فيه امتلاك العربون إذا لم تتم
الصفقة، أما إذا كان سيرد له العربون، فأكثر العلماء على النهي عن
هذه الصورة، كما ذكرها مالك رحمه الله تعالى. ونحن نقول -من
باب الإنسانية، ومن باب الإرفاق، ومن باب التورع-: ليس هناك موجب
لأخذك من مال أخيك شيئاً بدون مقابل، وكونك تزعم بأنه فوت عليك فرص
البيع، وإذا ما جاءك زبون! ولا سأل عنها أحد! فالأصل أنه ما فات
عليك شيء، فلماذا تأخذ العربون؟ إذاً: الغرر موجود، وأكل أموال
الناس بالباطل موجود، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك،
وبعض المتأخرين يقول: إنه جائز؛ لأنه دفعه عن رضا، خاصة إذا قال:
إذا ما أحضرت لك الثمن فهو لك، فكأنه متبرع به.. سبحان الله! هل
جاء وقال: السلام عليكم، أنا والله عندي عشرة زائدة خذها لك، أم
أنه دفعها مضطراً حتى تبقى السلعة؟! إنما دفعها لحاجة، فكيف نقدر
بأنه متبرع؟ هذا بعيد، ولماذا لم يتبرع صاحب السلعة ويرد العشرة؟!
فالواقع أن هذا النوع من المعاملات فيه تعريض لأكل الأموال
بالباطل.
شرح حديث: (نهى أن تباع السلع حيث تبتاع)
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
(ابتعت زيتاً في السوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحاً
حسناً، فأردت أن أضرب على يد الرجل، فأخذ رجل من خلفي بذراعي،
فالتفت، فإذا هو زيد بن ثابت ، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى
تحوزه إلى رحلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع
السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم )رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، وصححه ابن حبان والحاكم ].
بيع السلعة قبل حيازتها: صورته وحكمه(3/213)
هذه صورة من صور البيع المنهي عنها أيضاً؛ لتوثيق البيع، وفض
النزاع، وهي مبنية على قاعدة، يقول ابن عمر : اشتريت زيتاً،
وبينما أنا أمشي في الطريق -الزيت عند البائع، وهو قد دفع الثمن-
علم شخص بما اشتريت، فأعطاني ربحاً حسناً، ولكن الزيت انتقل من عند
التاجر إلى الطريق فقط، (فأردت أن أضرب بيدي على يده) وضرب اليد
على اليد في البيع يسمى الصفقة، والتصفيق: هو الصوت الناتج عن
التقاء الكفين، وسمي به عقد البيع، وهو إما صفقة رابحة، أو صفقة
خاسرة. قال: فأردت أن أعقد البيع، فإذا برجل من روائي يمسك يدي
التي أردت أن أصفق بها على يده، وقال: لا تبعه حتى تنقله من محل
البائع، وتحوزه إلى محلك، لماذا يا زيد ؟! قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم : (نهى أن تباع السلع حيث تبتاع ) يعني: في
مكانها الذي بيعت فيه: (حتى يحوزها التجار إلى رحالهم ) أي:
محلاتهم. حتى ولو كان بين السوق وبين محلك شارع واحد، واشتريتها
وتركتها عند تاجر الجملة، ورجعت إلى دكانك، وستنقلها غداً، فجاءك
إنسان، وطلب سلعة مثل التي اشتريتها، وتركتها عند التاجر، فلا تبعه
من تلك السلعة التي عند التاجر حتى تحوزها إلى محلك، ثم بعها من
محلك. يقولون: هذا في المنقول مكيلاً، أو موزوناً، أو معدوداً، أما
الأمور الثابتة، كما لو اشتريت بيتاً، وتريد بيعه، فهل تحوزه
وتنقله؟! البيت ليس منقولاً، فيقولون: إن المبيع المنقول لا تتم
الصفقة فيه إلا بالاستلام، فحتى تستلمها وتستوفيها، وما دامت عند
البائع فهي على ضمانه، فلو تلفت عنده فهو ضامن. إذاً: لا تتم
الصفقة في المنقولات حتى تستوفى، إذاً: ملكك لها غير تام، والملك
غير التام لا تستطيع أن تبيعه، فالمرأة إذا كان صداقها ألفاً، فإذا
طلقها قبل أن يدخل بها، فلها من الألف خمسمائة، مع أنها كانت تملك
ألفاً، لكنها لم تملك الألف ملكاً كاملاً، وإنما كان الملك ناقصاً؛(3/214)
لأنه متوقف على الدخول، فكذلك هنا: الملك ناقص؛ لأنه متوقف على
الحيازة، وذلك في كل مكيل، أو موزون، أو معدود يمكن زحزحته، وقد
كنا نشاهد هذا في سوق الحراج، فمثلاً: كوم الحبحب، فإذا اشتراه
وزحزحه بيده عن مكان البيع، وبعضهم يأتي بغطاء ويضعه على الحبحب،
وبعضهم يأتي بشيء من البرسيم ويضعه على العنب، إشارة إلى أنه قد
حازه، ووضع يده عليه؛ لأن السوق للجميع، وقد يشتري بالجملة، فإذا
اشترى عشرة صناديق، فعليه أن ينقلها من مكان صناديق التاجر ولو
لمسافة متر، فتصبح في حيازته وملكه؛ لأن أرض السوق ملك للجميع. فلا
يبيع الإنسان السلعة إذا اشتراها إلا بعد أن يحوزها؛ لأنه بحيازتها
تم الملك، وانقطعت علاقتها بالبائع، أما الأعيان التي لا تحاز ولا
تنقل، فتكون حيازتها بالتخلية، فمثلاً: اشتريت بيتاً، وفيه أغراض
للبائع، فعليه أن يأخذها، ويخلي لك البيت، فإن أخلى البيت وسلم لك
المفتاح، فقد حزت البيت، وامتلكته ملكاً تاماً، وكذلك البساتين،
يخليها من حاجاته، ويرفع يده عنها، فتكون في حيازتك. فإذاً: رفع
يده، ووضعت أنت يدك؛ فقد صارت حيازة، وكذلك السيارة، حتى تحوزها
وتنقلها، وتأخذ مفاتيحها، وحينئذ يحق لك أن تبيعها، أما أن تشتريها
من المعرض، وتبيعها في المعرض، وفي محلها، فهذا لا يجوز، ويقع في
مثل هذا كثير من الناس، والله تعالى أعلم.
أهمية فقه المعاملات
وبالمناسبة: أوصيكم بالعناية بالفقه، والعناية بالمعاملات؛ لأن
مدار الإسلام عليها، فأنت تصلي، وتلبس الثياب، وتأكل الطعام،
وتصوم، وتفطر، وتسكن في ملك، أو في أجرة، وتسافر إلى الحج، وكل ذلك
من الربح، سواء كان من نتاج عندك، أو من بيع وشراء، فإذا كان البيع
والشراء سليماً، فكل أعمالك ستكون سليمة، وإذا كان فيه خلل عياذاً
بالله، فكل أعمالك فيها خلل؛ لأننا سمعنا سعداً رضي الله تعالى
عنه يقول: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال(3/215)
(أطب مطعمك تجب دعوتك )، وعمر يمر بالأسواق، ويسأل الباعة،
ويختبرهم في أحكام الربا، والبيع، والكيل، والوزن، فإذا وجد جاهلاً
أقامه، وقال: قم، لا تفسد علينا أسواقنا، قم، لا تمنع المطر عنا؛
لأنه إذا وجد الغش والتدليس والربا منع القطر، والعياذ بالله.
فنصيحتي لكل المسلمين أن يعنوا بالفقه؛ لأننا وجدنا دراسة الفقه
قليلة، ونجد التركيز والاهتمام والعناية بالحديث دون الفقه،
والحديث هو الأصل، ولكن كما يقولون: له نقاد وصيارفه، يحسنون
تصريفه واستنتاجه، وهم الفقهاء، فنأخذ ما صنعوا، ونمشي معهم أيضاً
في الحديث، ونتبع كل قاعدة بأدلتها، وبالله تعالى التوفيق.
شرح حديث ابن عمر حينما كان يبيع بالدنانير ويأخذ الدراهم والعكس
قال المصنف رحمه الله: [وعنه -أي ابن عمر - رضي الله عنه قال:
(قلت: يا رسول الله! إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ
الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذه وأُعطي هذه
من هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر
يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء ) رواه الخمسة وصححه الحاكم ]. يذكر لنا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما صورة مبيع واستيفاء
الثمن مقاصة، فيقول: إني أبيع الإبل بالدنانير، وآخذ عنها الدراهم،
والدنانير عملة ذهبية، وهو في العدد يسمى ديناراً، وفي الوزن يسمى
مثقالاً، والدراهم عملة فضية، وهو في العدد وفي الوزن سواء، إلا أن
الفقهاء ربما فرقوا وقالوا: وعشرة دراهم وزناً، عشرة دراهم عداً،
وهذا حينما يختلف الضرب، وتحصل هناك زيادة ونقص. وأصل الدنانير:
عملة رومية، أو فارسية، وقد تعامل بها العرب على ما هي عليه، ولم
يتغير وزن المثقال، لا في جاهلية ولا في إسلام، أما الدارهم فقد
تغيرت، فكان هناك الدرهم الكبير، والدرهم الصغير، وفي زمن بني أمية
جُمع الدرهم الكبير والدرهم الصغير وسبكا معاً فصارا درهمين،(3/216)
واتحدت الدراهم، وهذا من واجب ولي الأمر، فعليه أن يوحد العملة
التي يتعامل بها الناس، حتى لا يقع خطأ أو غرر في المسمى. وموضوعنا
الآن في كونه يبيع بالدراهم، ويأخذ الدنانير، والعكس. ومنطوق
الحديث يبين أن عبد الله بن عمر كان يتعاطى البيع والشراء،
وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين تاجر ومزارع،
وهذه كما يقولون: وسائل الإنتاج والكسب، فالزراعة فيها كل البركة،
وكان أكثر عمل الأنصار الزراعة، والتجارة كذلك، وهي تسع وتسعون
بركة، والتاجر الصدوق مع الأنبياء والصديقين يوم القيامة. ولا بأس
أن الرجل الصالح، أو العالم، أو غيره يعمل في التجارة، ومعلوم أن
الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان يتاجر في البز، أي: القماش،
فقد كانوا يتكسبون لأنفسهم، وهذا نبي الله داود كان يصنع بيده
الدروع، ويأكل من كسب يده، فابن عمر رضي الله تعالى عنه كان
يعمل، ويكتسب، ولا مانع من أن يشتغل طالب العلم بذلك، وحبذا طالب
العلم التاجر؛ لأنه يستغني بذلك عن أن يتطلع إلى الناس، أو ينظر
الناس إليه بعين الرحمة لفقره، ولأن تستغني عن الناس تكن أميراً في
نفسك.
بيع السلعة بثمن واستيفاؤه بثمن آخر: صورته وحكمه
فيقول: كنت أبيع الإبل، يقولون: إن سوق الإبل كان عند بقيع الغرقد،
والبقيع الآن معروف مكانه، وفي أي موضع من مواضع البقيع؟! لا يهمنا
هذا، فكان يتاجر، ويبيع ويشتري في الإبل، إذاً: هناك من يتاجر في
الإبل، وهناك من يتاجر في الغنم، وهناك من يتاجر في الأطعمة، وفي
الألبسة، وكل على حسب اتجاهه ومعرفته، وسؤاله رضي الله تعالى عنه:
إني أبيع هذا البعير بألف درهم، ويقول في بعض الروايات: (فأذهب مع
المشتري لينقدني الثمن، فلم يجد دراهم، ويجد دنانير، فآخذ الدنانير
عوضاً عن الدراهم) إذاً: أنا بعت بشيء، وقبضت شيئاً آخر، فهل يجوز
هذا؟ فأفتاه صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا بأس أن تأخذها بسعر(3/217)
يومها )، فإذا بعت البعير بألف درهم، والمشتري يريد أن يقدم لك
دنانير، فكم سعر الدينار بالدرهم؟ الدينار أخذ أسعاراً متفاوته،
أقل ما وصل إليه في الصرف ثمانية دراهم، وأعلى ما وصل إليه في
الصرف اثنا عشر درهماً، واستقر الأمر بعد ذلك في زمن عمر رضي
الله تعالى عنه على عشرة دراهم، ونحن نجد المقارنة في باب الزكاة،
فنصاب الذهب عشرون مثقالاً، وقد قلنا: المثقال والدينار شيء واحد،
ونصاب الفضة مائتان درهم، إذاً: الدينار عادل عشرة دراهم، إذاً:
صرف الدينار يساوي عشرة دراهم. فإذا بعت البعير بألف درهم، وجئت
معه إلى البيت ليعطيك دنانير بدل الدراهم، فهل تأخذها بسعر يومها،
أم بسعر أمس، أم بسعر جديد غير موجود الآن وإنما هو متوقع فيما
بعد؟ خذها بسعر يومها؛ لأنك تصارف الدراهم إلى دنانير، والصرف يجب
أن يكون بسعر يومه. قال: (ما لم تفترقا وبينكما شيء)، فإذا بعته
بألف، والألف الدرهم إذا قسمناها على عشرة -والعشرة الدراهم تساوي
ديناراً واحداً- فإن فيها مائة دينار، فقال: أنا عندي تسعة وتسعون
ديناراً، وسيبقى لك دينار واحد إلى الغد إن شاء الله، أو إلى بعد
ساعة، فإن هذا لا يجوز، ولكن يجب أن تأخذها كاملة، سواء كنت ستأخذ
الدنانير عن الدراهم، أو تأخذ الدراهم عن الدنانير، فمثلاً: بعته
بعشرة دنانير وجئت إلى البيت، وقال: ما عندي دنانير، عندي دراهم،
فليس هناك مانع، ولكن بسعر يومها، الدينار بعشرة دراهم، وهذه عشرة
في عشرة يساوي مائة، فإن أعطاه إياها كاملة فبها ونعمت، أما أن
يعطيه الدراهم ناقصة، ولو بدرهم واحد، فهذا ممنوع؛ لأن الصرف يجب
فيه التقابض والتسليم في مجلس العقد، ولا يجوز فيه التأجيل؛ لأن
أصل الصرف بيع، وإن غلب عليه اسم الصرف، فأنت تبيع الذهب بالفضة،
والفضة بالذهب، ولكن غلب عليه اسم الصرف لأن تعامل الصراف إنما
يكون بالعملة، ولكثرة تحريكه لها يكون لها صريف، أي: صوت -كأنه(3/218)
دعاية وإعلان- فلما غلبت هذه الحركة سمي صرفاً؛ لصريف الدراهم في
حركة الصراف، فإذا أعطيته ديناراً ليصرفه لك دراهم، والدينار
بعشرة، وقال لك: خذ هذه التسعة، وبعد ساعة ارجع وأعطيك العاشر، فلا
يجوز ذلك؛ لأنه قد يتغير السعر، وهذا خاص بالذهب والفضة وجميع
أنواع العملة، وأما بقية السلع فلا تدخل في هذا، فلو اشترى طعاماً
أو نحوه، ودفع جزءاً من المال وبقي على جزء إلى أجل، فلا بأس في
هذا. ومعلوم موضوع البورصة، فتجد الشخص يعلم عن ارتفاع العملة وعن
نزولها في الدقيقة، وبعض الأشخاص تراه جالساً على التلفون مع
البنك، كم سعر الآنصة اليوم، الآن بكذا، فيقول: لي احجز بكذا، بع
لي، وهو عمل فيه مقامرة، وربا، ولا يجوز؛ لأنه بيع وشراء بدون
استلام وبدون قبض، فهو بيع في الهواء، وهذا هو عمل البورصات وبهذه
الطريقة فهو ربا محض. فهنا: إذا تصارفتما، أو تبادلتما، وأخذت
الدراهم بدلاً عن الدنانير، والدنانير بدلاً عن الدراهم، فجائز
بشرطين: الأول: أن تكون بسعر يومها. الثاني: أن لا يبقى لك عنده
شيء. إذاً: هذا هو شرط الصرف، وهو خاص بالربويات، والذي يمهمنا في
الثمن، فلو أنه استبدل نقداً بنقد، فيشترط أن يكون بسعر يومه، وأن
يكون التقابض حالاً، والله تعالى أعلم.
شرح حديث النهي عن النجش
قال المصنف رحمه الله: [وعنه -أي ابن عمر - رضي الله عنه قال:
(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجْش ) متفق عليه].
النجش: صوره وحكمه
النجْش أو النَجَش صورته الاصطلاحية: أن يزيد الإنسان في السلعة
دون رغبة في شرائها. وبعض الناس يعمل هذا فضولاً منه، وبعض الناس
يعملها قصداً؛ إما يؤجَّر على ذلك، وإما كيداً في أحد المتبايعين،
وصورتها تكون دائماً في بيع المزاد، أو المزايدة، فحينما يعرض
الدَّلال السلعة، أو يعرضها صاحبها، فيقول: هذه السيارة بعشرة
آلاف، فيأتي واحد ويقول: بعشرة وخمسمائة، فيأتي آخر ويقول: بإحدى(3/219)
عشر، وهي تساوي عشرين، لكنهم فتحوا باب المزاد بعشرة، فيتزايدون
فيها، فيأتي إنسان لا ناقة له فيها ولا جمل، ودخّل نفسه مع الناس،
واعتبر نفسه تاجراً من التجار، وراغباً من الراغبين، فحينما قيل:
هذه بعشرة، قال هو: عشرة ونصف، وآخر قال: إحدى عشر، وقال ثالث:
إحدى عشر ونصف، ثم قال هو: باثني عشر، وهكذا، وضع رأسه ضمن رءوسهم،
وأخذ يزايد، فهذا الشخص الذي يزيد في السلعة دون رغبة فيها يُعدَّ
ناجشاً. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم عن ذلك،
والعلة في ذلك: أنه الراغب الحقيقي يزيد بمقدار رغبته وتقديره
للسلعة، أما الناجش فإنه سيزيد من غير تقدير، ثم سيسحب نفسه ويذهب،
فليس متحملاً مسئولية الزيادة، ولكن ماذا يفعل إن وقف السعر عليه؟
سيضطر إلى التراجع، فترجع السلعة للذي قبله، فإذا كان الناجش قد
أوصلها إلى عشرين، والذي قبله أوقفها على تسعة عشر، فسترجع للذي
قبله بالتسعة عشر، وتسقط زيادة الناجش الأخيرة، وفي هذا العمل
مضرة، وإفساد للسوق، فإن كان فضولياً فهذا تعدٍ، وإذا كان غير
فضولي، ولكنه بقصد، فإما أن يكون القصد هذا من قبل نفسه، وإما أن
يكون بدافع من البائع، وبعض البائعين قد يتفق مع بعض الأشخاص
ليزيدوا في السعر، فيفتح باب الزيادة بعشرة، فيأتي هذا العميل
المساعد فيقول: بإحدى عشر، والراغب في الشراء يظن أن هذا صادق،
وأنها تساوي إحدى عشر، فيزيد خمسمائة من أجل أن يأخذها، والعميل
يقول: إحدى عشر وخمسمائة، وكل واحد ينجش ويزيد، والراغب في السلعة
يزيد حقيقة، ويكون قد لبس عليه بسبب زيادة العميل، وتزيد السلعة عن
قيمتها الحقيقة بسبب الناجش، وما مصلحة الناجش في هذا؟ خدمة صاحب
السلعة والزيادة في سعرها، فلو لم يدخل العميل ليناجش، ويزيد في
السعر؛ لما نفقت السلعة، ولما ارتفع سعرها أكثر مما تستحقه. إذاً:
فالناجش غاش، ومدلس، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛(3/220)
لأن فيه تعاوناً على الإثم والعدوان، والواجب على المسلم أن يساعد
على البر والتقوى، لا أن يساعد على الإثم والعدوان. وهنا شيء آخر،
وهو: إذا غرر بالمشتري، وزيد عليه في السعر بسبب المناجشة التي
تواطأ عليها البائع والمناجش، فإن ثبت ذلك فالمشتري بالخيار، فإن
شاء أمضى البيع برغبته، وإن شاء رد السلعة وأخذ الثمن. إذاً: النجش
عيب، ويعطي المشتري الحق في فسخ العقد؛ لأنه تدليس وغش، ولهذا نهى
عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو مضت السلعة فيكون البائع قد أكل
من مال أخيه المسلم بالباطل، فليتق الله أصحاب الأسواق. وهنا صورة
أخرى، وهي عكس الصورة السابقة، وكما يقول ابن تيمية في كتاب
الحسبة: يجب على طالب العلم أن يعرف أوضاع الأسواق، حتى يستطيع أن
يحكم على أعمال الناس. فمثلاً: يأتي إنسان بسيارة ويريد بيعها،
فيأتي شخص يريد شراءها، فيجد أشخاصاً آخرين يريدون شراءها أيضاً،
فيتواطئون جميعاً على ألا يزيدوا في السعر، أو ألا يدخلوا في
المزايدة حتى يقف السعر عند حد فيه بخس للسلعة، على أن يتشاركوا
فيما بخسوا به صاحب السلعة، فهؤلاء تواطئوا على بخس السلعة، ثم
أكلوا فارق البخس فيما بينهم، وهذا حرام، وإنما أكلوا سحتاً. وهناك
صورة أخرى: أن يأتي شخص إلى البائع، فيعطي للسلعة سعراً أكثر من
قيمتها، ثم لا يشتريها، فمثلاً: قيمة السلعة الحقيقية ثلاثون،
فيأتي هذا الرجل ويقول: هذه السلعة تساوي خمسين، وذلك حتى ينطبع في
ذهن البائع هذا السعر، فلا يبيعها إلا به، وهذا السعر لن يجده
حقيقة، ولن يدفعه له أحد، ويسمى هذا بربط الرأس، وإنما فعل ذلك
الرجل هذه الحيلة ليصرف الناس عن هذه السلعة، فيتفرد بالبائع حتى
يبخسه، ولا يعطيه قيمتها الحقيقية، فضلاً عن أن يعطيه ما وعده به
من قبل، فإذا كان صاحب السلعة مضطراً، فسيبيعه السلعة بأقل من
قيمتها الحقيقية، فتؤكل أموال الناس بالباطل عن طريق هذه الحيل.(3/221)
يقول ابن تيمية : حيل الأسواق وعقود البيع كثيرة جداً، خاصة في
أنواع المكاييل والموازين، وهذه العقود والبيعات تكون في المزاد،
فليتق الله ربه كل إنسان، ويتحرى الصدق والحلال. إذاً: نهى صلى
الله عليه وسلم عن بيع النجْش أو النجَش، ويلحق به كل ما فيه تحايل
على إسقاط شيء من سعر السلعة، أو زيادة في سعرها على من لا يعرف
السعر الحقيقي.
جواز رد السلعة إذا غبن فيها المشتري
وقد كان رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يبيع ويشتري، لكنه
أحمق، لا يحسن تقدير السلعة، فإن وجد سلعة في يد إنسان وأعجبته
سأل: بكم هذه السلعة؟ ثم يأخذها على كلام صاحبها، وإن كانت في يده
سلعة ويريد بيعها، فأتى من يريد شراءها، باعها له على ما أراد،
فيكون -أي: المشتري- قد زاد في سعر السلعة بحسب كلام البائع (30%)،
وقد يكون أنقص من قيمة ما في يده بحسب كلام المشتري (30%)، أو
(40%)، فتضرر أهله بذلك، فقالوا: يا رسول الله! امنع حبان بن منقد من البيع والشراء؛ لأنه أتلف علينا أموالنا، يشتري بسعر زائد،
ويبيع السلعة بثمن ناقص، ويخسرنا فيها، فقال له صلى الله عليه وسلم
(دع البيع والشراء )، فقال: يا رسول الله! لا أستطيع أن أدع
البيع والشراء، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إذا بعت أو اشتريت
فقل: لا خلابة )، والخلابة: النقص، فكان حبان بن منقد -بعد
هذا- إذا تبايع مع إنسان أو اشترى منه قال: لا خلابة، فإذا علم
أهله بالمبيع أو المشترى ووجدوا الغبن فاحشاً، رجعوا إلى صاحبه
وأبطلوا البيع؛ لأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر حالته
العقلية وجعل حق نقض البيع وإمضائه لأهله؛ لأنهم هم الذين يتحملون
الغرم. وهل يجوز لإنسان أن يقول عندما يشتري: لا خلابة؟ إن كانت
حالته كحالة ابن منقذ فيجوز ذلك، أما إذا لم يكن كذلك، كأن كان
حاذقاً، وإنما زادوا عليه في ذلك، فإن هذا يرجع إلى باب آخر، وهو:
هل كان الغبن فاحشاً أم لا؟ إذاً: كل ما يكون من التحايل، على(3/222)
زيادة أو نقص السعر في السلعة في السوق في المزاد العلني فهو باطل،
والمشتري أو البائع إذا ظهر له التحايل عليه فله الحق في فسخ
البيع، أما سلع المحلات والدكاكين، فإذا جاء الزبون وقال لصاحب
الدكان: بكم هذه السلعة؟ فقال: بخمسة، فاشتراها، ثم جاء الثاني
وقال: بكم؟ فقال: بخمسة، فقال: أريدها بأربعة ونصف، فقال: لا بأس
خذها، ثم جاء الثالث وقال: بكم؟ فقال: بخمسة، فقال: أريدها بخمسة
إلا ربع، فلا بأس بهذا. وهذا التفاوت لا بد منه؛ لأن طبيعة الناس
المساومة، وإن كان السعر محدداً فلا مانع، ويستريح الذكي والبليد،
ولكن إذا كانت هناك مساومة، وحدث هناك شيء من الغبن اليسير، فإن
عادة الناس التسامح في المماكسة، والزيادة، أو الغبن الخفيف، الذي
لا يؤثر على النفس، أو على المال، أما في حالة الغبن الفاحش، كأن
تكون السلعة بخمسة، فيبيعها بخمسين، فهذا غبن فاحش، ولمن وقع عليه
الغبن الحق في رد السلعة؛ للغبن الفاحش الذي وقع عليه.
( كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [8] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (نهى أن يبيع حاضر لباد...)
2 شرح حديث: (من فرق بين والدة وولدها...)
3 شرح حديث: (أمرني أن أبيع غلامين...)
4 شرح حديث: (غلا السعر في المدينة)
5 شرح حديث: (لا يحتكر إلا خاطئ)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [9]
لقد حرص الإسلام على إرساء المحبة والألفة بين المسلمين، وسد كل باب
يفضي إلى النزاع والفرقة، ولذلك نهى عن بيوع ومعاملات تفضي إلى الفرقة
والنزاع، وتفسد المحبة والألفة بين المسلمين، ومن تلك المعاملات: بيع
الرجل على بيع أخيه، أو أن يخطب على خطبة أخيه، أو أن تسأل المرأة طلاق
أختها لتتزوج زوجها، ونهى عن سوم الرجل على سوم أخيه، ونهى عن أن يُفرق
بين المرأة وولدها، أو بين الأخوين ببيع أو نحوه، ونهى عن الاحتكار،
فلا يحتكر إلا خاطئ. وإذا غلت الأسعار، فيجب على المسلمين أن يرجعوا(3/223)
إلى الله، فإن الله هو المسعر، وما نزل الغلاء إلا بسبب الذنوب
والمعاصي، وبالعودة إلى الله يرتفع الغلاء، ويجوز لولي الأمر أن يُسعر
إذا دعت الحاجة، لاسيما في الأشياء التي لا تعرف تكلفتها عادة، وكذلك
إذا ظهر المحتكرون.
شرح حديث: (نهى أن يبيع حاضر لباد...)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين
اصطفى. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه -أي: أبي هريرة - رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع
حاضرٌ لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب
على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها )
متفق عليه، ولمسلم : (لا يَسمُ المسلم على سوم أخيه ) ].
بيع الحاضر للباد تقدم، وبيع النجش تقدم، والنجش: هو الزيادة في
السلعة بدون قصد الشراء، ويترتب عليه أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن
المشتري سيزيد على زيادة السائم الأول، ثقة منه بأنه راغب، وأن
السلعة تستحق ذلك. ويضيف العلماء إلى صور النجش: ما يفعله بعض
الناس حينما يأتي بالسلعة إلى السوق فيقال له: بكم هذه؟ فيقول: قد
أعطوني فيها خمسين، مع أنه لم يعطه أحد شيئاً، ولكنه هو الذي كذب
ووضع هذا السعر، فكأنه زاد لنفسه من نفسه تعريراً بالمشتري، فإن
صدّقه المشتري واشترى على قوله، ثم تبين له الغبن، فهو بالخيار.
بيع الرجل على بيع أخيه: صوره وحكمه
قوله: (ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ). بيع الرجل على بيع أخيه
والسوم على سومه كلاهما من هذا القبيل، وصورة بيع الرجل على بيع
أخيه: أن يأتي إنسان ويشتري سلعة من شخص، ويشترط لنفسه الخيار لمدة
يومين ليستشير، فيأخذ السلعة في يده على ذمة الخيار لمدة يومين،
والمشتري والبائع كلاهما له الخيار في الإمضاء والفسخ -إلا إذا
اشتُرط الخيار لواحد منهما فقط، فإذا اشترى المشتري واشترط الخيار
لنفسه فقط، فليس للبائع حق الفسخ- وفي مدة الخيار علم جار البائع(3/224)
بما حدث، فذهب إلى المشتري وقال له: ما دام أنك في مدة الخيار،
فارددها إلى صاحبها وسأبيعك نفس السلعة بسعر أقل، فيكون هنا قد باع
على بيع أخيه. وصورة الشراء على شراء أخيه كما لو اشترى المشتري
السلعة بألف، وعلم بذلك شخص وهو في حاجة إلى السلعة، فذهب إلى
البائع وقال له: بكم بعت يا فلان؟ فقال: بعتها بألف، فقال: يا أخي!
لماذا لم تخبرني، لو كان عندي علم لأخذتها بألف ومائتين، فما دام
أن لك الخيار، ولك حق الفسخ في يومين، فافسخ البيع، وسأشتريها بألف
ومائتين، فيكون قد اشترى على شراء أخيه، وفي كلتا الصورتين إفساد
بين الناس، وإفساد للسوق، وفي الحديث: (أحب لأخيك ما تحب لنفسك ).
إذاً: هاتان الصورتان منهي عنهما؛ لما فيهما من إفساد بين الناس،
ثم إنه صلى الله عليه وسلم خاطب الناس في هذا بقوله: (ولا يبيع
الرجل على بيع أخيه )، ولم يقل على بيع الغير، ولكن قال: (على
بيع أخيه)، إذاً: من حق الأخوة ألا تتعدى على أخيك، وهذا من
البلاغة النبوية، فقد كان يمكن أن يقول: لا يبيع أحدكم على بيع
غيره، ولا يشتري على شراء غيره، ولكنه قال: (أخيه)، فكأنه يذكره
بحق الأخوة بينهما، فما دمت اعتبرته أخاً لك فأحب له ما تحب لنفسك.
وهكذا فالتشريع في المعاملات قد يلمس العاطفة، وقد ينبه الضمير،
ويوجه الإنسان بإنسانيته، فيشعره بأن هذا أخوه، ولا ينبغي أن يفسد
عليه بيعه، وأن هذا أخوه، فلا ينبغي أن يفسد عليه شراءه، فيكون
أنانياً يحب لنفسه ما لا يحب لغيره.
النهي عن الخطبة على خطبة الغير
قال: (ولا يخطب على خطبة أخيه ). الخُطبة: هي الخطبة على
المنابر، وفي النوادي، وفي الحفلات، والخِطبة: هي خطبة الرجل
للمرأة، فإذا خطب إنسان امرأة أو فتاة، فلا يخلو الحال من أحد
أمرين: إما أنه مجرد استفهام، وقد يكونون قبلوا خطبته أو لم
يقبلوا، وإما أن يكونوا قد قبلوا ولم يبق إلا المفاهمة في الحواشي(3/225)
والتنفيذ، فإن كانت الخطبة مجرد حديث، ولم يستجب أهل المرأة إليهم،
وفهم من حالهم أنهم رفضوا، وقد يكون الرفض بلطف، فيعتذروا بقولهم:
هي تريد أن تتعلم إلى أن تكمل تعليمها، مع أنها في الحقيقة راسبة،
ومهيأة للزواج، ولكنهم ردوه بلطف، وهذا من الآداب الاجتماعية، فعلم
أنهم غير راغبين، فهنا لا مانع من أن يتقدم شخص آخر بالخطبة، أما
إذا كانوا في مرحلة المفاهمة، ولم يظهر من أهل المرأة رفض ولا
قبول، فليبق وليكف، فإذا ظهر من أهل المرأة القبول حرم التقدم،
وإذا ظهر منهم النفي فلا مانع من التقدم. وإذا علم بأن أهل المرأة
قد قبللوا الخاطب، ولكنهم ما زالوا في بحث موضوع الجهاز، كالفراش
وصفته، والتعنتات التي أرهقت الناس، وهذا كثير، وهذا قليل... إلخ،
فالمبدأ الأساسي هو القبول بهذا الخاطب، ولكن ما زالوا في بحث
الحواشي، والتعليقات، والهوامش، فإذا تقدم إنسان آخر ورأى أهل
العروس فرقاً بعيداً بينه وبين الأول، فالأول إنسان مسكين يعمل
بأجر يومي، ويسكن في بيت شعبي، وجاء هذا وعنده عمارة، وسيارة، ومال
كثير، فقالوا: والله لا نضيع بنتنا عند هذا، ولا نفوّت هذا، فهذا
أحسن لنا، وسيرفضون الأول الذي رضوا به ابتداءً لعدم ظهور هذا،
فيأتي هذا دون مبال بشعور أخيه، ودون مبال بحاجته، ودون مبال
بكرامته، وعلاقته وأخوته، فكأنه أهدر حق أخيه بالكلية، فقبلوه
وزوجوه. والجمهور: على أنه إذا رفع ذلك إلى الحاكم فإنه يبطل العقد
الثاني، ويمنع زواج الثاني منها؛ لأنه بُني على باطل، وهو خطبته
على خطبة أخيه. والجمهور -ما عدا مالك - يقولون: يفسخ العقد
ولو دخل بها، و مالك يقول: إذا فات الأمر ودخل بها فلا يُفسخ؛
لأنه بالدخول بها دخلت حقوق أخرى جانبية، فقد تكون حاملاً، وإذا
قلنا بالفسخ فستشتت الولد، ويفرق بينه وبين أمه، وبينه وبين أبيه،
وتكون هناك أشياء مترتبة على ذلك، كالعدة، والنفقة، وأشياء كثيرة،(3/226)
فلذلك لا يفسخ العقد، بل يستمر، ويلحق ذلك المتعدي الإثم. أما
الأئمة الثلاثة رحمهم الله فيقولون: حتى لو دخل بها فإنه يفسخ
العقد، وإن حملت فالولد لأبيه، ويلحق به؛ لأن الزواج كان بعقد -وإن
كان الواجب عدم إيقاع هذا العقد- استوفى شروط صحة العقد، وبه
استباح المرأة. إذاً: لا يجوز أن يخطب على خطبة أخيه، وجاء في بعض
الروايات: (حتى يدعوا أو يقبلوا ) أي: حتى يتركوا، أو يتموا
فيما بينهم. يقول بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: إِنَّ
هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ
وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ [ص:23-24]
-من باب تلطيف الموضوع على أن عنصر المرأة موجود- قالوا: نبي الله
داود خطب على خطبة رجل آخر فزوجوه، وقال الآخرون: إن الخطبة على
خطبة أخيه لم تكن ممنوعة عندهم كما هي ممنوعة عندنا، والله أعلم
بذلك.
سؤال المرأة طلاق أختها: صورته وحكمه
قال: (ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها ).
المقصود بأختها أي: أختها المسلمة، وليس أختها من النسب؛ لأن أهلها
لو علموا بأنها طلبت طلاق أختها من النسب لتتزوج بزوج أختها؛
لرفضوا أن يزوجوه بها، ولقالوا: كيف نعطيه هذه وقد طلق أختها!
إذاً: المراد بأختها أي: المسلمة. وصورة هذه المسألة: أن يأتي رجل
متزوج ويخطب امرأة، فتقول: مرحباً، على العين والرأس، وأنعم، لكن
طلق التي عندك وأنا أتزوجك، وقوله: (تكفأ) كأنه كناية عما يتحمله
الرحم، وتتلقاه المرأة في المعيشة مع الزوج، وكل ذلك في إناء
الحياة والعشرة الزوجية، (لتكفأ ما في إنائها) لتأتي هي بإنائها من
جديد، فهذه أنانية فوق اللازم، وكذلك عنصر الأخوة، فلا تطلب المرأة
طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها، من خير المعيشة: من النفقة، ومن
حسن العشرة، ومن الإيواء، فتحرم الزوجة الأولى من هذا من أجل أن(3/227)
تأتي هي وتحل محلها، وهذا ينافي الأخوة، ولذلك خاطبها نهاها في هذا
الحديث عن هذا الأمر. وهنا وقفة جانبية واستراحة خفيفة: بعض النسوة
الآن يتقدم إليها المتزوج فتقول: أنا لا أريد أن تكون معي ضرة، لا
تتزوج عليّ ولا تكن متزوجاً قبلي، وهذا الشرط من حيث هو لا بأس به؛
لأنها تريد المصلحة لنفسها، لكن أن تقول: طلق الزوجة الموجودة من
قبل، فهذه هي المصيبة، ثم نقول للأخوات والبنات: ما هو الأُولى لك؟
أن تكوني تحت نصف رجل، أو أن تكوني خالية بالكلية؟ نصف رجل أولى؛
لأنه سيقسم بينك وبينها بالعدل، ومئونتك مكفية، وكرامتك حاصلة،
ونفقتك مؤداة، وأصبحت في خيمة رجل، تستظلين بها بجانب وأختك في
الجانب الآخر، أو خيمتك بجانب خيمتها، وإناؤك بجانب إنائها، وما
يأتيها في إنائها يأتيك مثله في إنائك، وبذلك تكونان أخوات. إذاً:
الغلط كل الغلط فيما يحصل الآن من بعض النساء، من أن المرأة -وخاصة
الفتيات- لا تقبل أن تتزوج من متزوج إلا العاطلات النوادر، وقد
سمعت من شخص ثقة حينما خطب فتاة -وهو متزوج وله أولاد بالغين-
فبادرت الفتاة بقبوله، فقيل لها: ماذا تريدين من هذا الرجل وله
أولاد بالغون، مع أن الشباب يتمنون ويتقدمون لخطبتك وترديهم من
قبل؟! فقالت: نعم؛ لأن الشاب طائش، وهو طوال الليل في الخارج، ولا
يأتي إلى وهو متعب، فينام، ثم يصبح نائماً.. وكذا وكذا، وليس فيه
خير، أما هذا فرجل عاقل، وله بيت، وهو مجرب، ويعرف حق الزوجة،
ويقوم بواجبه، وطيلة ليله يكون عندي، ولا أشتغل عنه، ولا أغير
عليه.. فمثل هذا أولى من ألف واحد من الشباب الذين تتطلعون إليهم،
فنحن ننصح الفتيات قبل النسوة العوانس بأن الزواج من متزوج خير،
أما إذا كانت تزوجت من شاب لم يتزوج، ولكن على شرط أن يكون لها
وحدها، فإن التي لم ترض بضرة، فقد يكون لزوجها عشرات الضرائر
صداقة، من خلال السهرات -عياذاً بالله- والذهاب والعودة، وينشغل(3/228)
بهن عن زوجته، فماذا تنال منه؟! إذاً: سؤال المرأة طلاق أختها
لتكفأ ما في إنائها هذا خطأ كبير، ولا ينبغي لأي امرأة أن تفكر في
هذا، وبالله تعالى التوفيق.
السوم: معناه وحكمه
قال: (ولا يسم على سوم أخيه ). البيع إما مساومة أو مزايدة،
فبيع المساومة: أن تكون السلعة في يد صاحبها، فيقول المشتري: بكم
هذه؟ فيقول: بعشرة، بخمسة، بثلاثة، باثنين، فالذي تتبايع معه وحدك
هذا سوم، فإذا تشاغلتما في السوم، وقال لك: أفكر، ولم يبع، فجاء
الثاني وسام بأكثر -في غياب الآخر- فهذا لا يجوز؛ لأن البائع يبتّ
في الرفض. والبيع الثاني: المزايدة، كأن يقال: هذه بخمسة، من يزيد؟
بخمسة ونصف، من يزيد؟ وهكذا، فحيثما رسا المزاد بيعت، فالبيع
بالمزايدة ليس فيه النهي عن السوم على سوم الغير؛ لأن الباب مفتوح،
وكذلك إذا كان المبيع وقفاً، أو غنيمة، أو تركة لميت له ورثة،
فيجوز فيه السوم؛ لأن السلعة مملوكة لأشخاص، فينبغي على البائع
فيها أن يتحرى السعر الأفضل إلى آخر لحظة، فالتركة فيها قُصّار
وفيها نساء، والوقف وقف لحق الله تعالى، والغنيمة لم تقسم، أو إذا
سيم على السهم، وبائع الغنائم يريد أن يُقسم القيمة على الغانمين،
فلهم حقوق، فينبغي أن يتحرى، ولا يتم التحري إلا بالسماح بالسوم
على سوم أخيه، أما إذا كانت في الحراج، فوقعت المزايدة، فلا حرج في
ذلك، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه باع بالمزايدة في هذا
المسجد الشريف، كما في قصة الشاب الذي جاء وطلب الصدقة، فقال له:
(أراك قوياً جلداً، قال: ليس عندنا شيء، قال: ما عندك؟ قال: حلس
وقعب، قال: عليّ بهما، فلما جاء بهما، قال: من يشتري مني هذا؟ فقال
رجل: بدرهم، قال: من يزيد؟ فقال رجل: بدرهمين ) فهذا سام على
سوم أخيه؛ لأنها مزايدة. وهكذا النهى عن السوم على سوم أخيه مثل
النهي عن البيع على بيع أخيه، إلا إذا كان البيع مزايدة فلا مانع(3/229)
أن يسوم وأن يزيد، إلى أن تصل السلعة إلى نهايتها، وبالله تعالى
التوفيق.
شرح حديث: (من فرق بين والدة وولدها...)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فرق بين والدةٍ
وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ) رواه أحمد وصححه الترمذي والحاكم ، ولكن في إسناده مقال، وله شاهد].
عظمة هذا الدين ورحمته بالخلق
يذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي أيوب هذا في كتاب البيوع، باب
شروطه وما نهي عنه، فيقول لنا أبو أيوب رضي الله تعالى عنه أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فرق بين والدةٍ وولدها
فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة )، والحديث فيه النهي عن
أن يُفرِّق السيد بين الأمة وبين ولدها في البيع، فما علاقة
الأحبة، وعلاقة يوم القيامة؟! وكان يمكن أن يقال: لا تُفرِّقوا بين
الأم وولدها، أو لا ينبغي التفريق، ولكن مصداقاً لقوله سبحانه: وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]،
ولأن دين الإسلام هو دين الرحمة، ومصداقاً لقوله صلى الله عليه
وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )، فهذه أم معها ولدها،
وكم يصعب على الأم أن تفارق ولدها؟! ونعلم ما حصل في قصة أصحاب
الأخدود، وفي قصة المرأة التي جاءت إلى عائشة وهي تحمل طفلتين
فأعطتها عائشة تمرة، فشقتها نصفين، وأعطت كل طفلة نصفاً
واجتزأت هي بالنواة تمصها، وذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال لها: (لله أرحم بعباده من هذه الأم بطفليها )، وتلك
المرأة في قصة أصحاب الأخدود، فحينما ظنت المرأة بولدها فأنطقه
الله وقال لها: (يا أماه! قعي في النار ولا تتقاعسي)، وعندما ذكروا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم عطف تلك الأم على ابنتيها قال:
(أترون أن هذه الأم تلقي بولديها في النار؟ قالوا: لا، قال: لله
أرحم بعباده من هذه الأم بطفليها ). ثم نأتي إلى عوامل جانبية(3/230)
أخرى، فإن الرحمة في الإسلام لم تقف عند الإنسان، فقد دخلت امرأة
النار في هرة حبستها، ودخلت امرأة بغي الجنة في كلب سقته، فالإسلام
دين الرحمة، ودين العاطفة، ودين إيقاظ الضمير. ثم ننتقل خطوة
بعيدة، وطويلة جداً، ونقرع الطبل في آذان أولئك الآباء والأمهات
الذين يقع بينهم النزاع والشقاق لأمور شخصية بينهما، وتقع المصيبة
على الأولاد، وينتزع الأولاد من الأم قهراً، لا لشيء إلا لمضارتها،
فنقول : (من فرّق بين الأم وولدها)، وإن كان ذلك في المبيع فكذلك
في الحضانة، وللقاضي أن ينظر في مصلحة الطفل أهي عند أمه، أم هي
عند أبيه، أم عند شخص ثالث؟ لأن مصلحة الطفل مقدمة، أما الأبوان
فقد تفرقا وسار كل في طريقه، وهذا لا يزال ناشئاً، فأي مكان يكون
أصلح له فيضعه القاضي فيه. والمجال في هذا الموضوع واسع، ولكن
يهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم -مع كثرة مسائل التشريع،
ومسئوليات الأمة، والتبليغ في الحضر والسفر، وفي السلم والحرب- لم
يُهمل هذا الجانب الإنساني، بل قال: (من فرّق بين الأم وولدها) مع
أن كليهما مملوك، وقد يكون باقياً على شركه وعلى كفره، فالناحية
الإنسانية والرحمة ليست قاصرة على كافر ومسلم، بل شملت -كما أشرنا-
الحيوان، وهكذا يرطب النبي صلى الله عليه وسلم القلوب ويبللها
بالشفقة والرحمة. وهنا يأتي الفقهاء ويفرعون ويقعدون، ويأتون
بمسائل، منها: متى يكون ذلك؟ قالوا: إذا كان الطفل دون البلوغ، أما
إذا بلغ فأصبح رجلاً فيذهب حيث شاء، فقد يتركها ويذهب عنها، أما
دون البلوغ فعاطفة الأمومة أشد إليه منها حينما يكبر، فغداً يكبر
ويتزوج امرأة ولا يدري عن أمه شيئاً، أما دون البلوغ فالعاطفة
مرتبطة به أكثر، وهنا سواءً كانت الأم مسلمة أو مشركة وهي أمة
مملوكة، وكذلك الولد، علماً بأن الولد يُلحق بأفضل دين الأبوين،
فلو أن نصرانياً تزوج مشركة، حكم للولد بدين النصارى؛ لأنه خير من(3/231)
الوثنية، ولو أن مسلماً تزوج كتابية، حكم للولد بدين الإسلام؛ لأنه
أفضل من دين النصرانية.
ما يلحق بالنهي عن التفريق بين الأم وولدها
إذاً: مما نهي عنه في المبيع أن تفرق بين الأم وولدها، وهنا يأتي
السؤال: وما حكم التفريق بين الولد وأبيه، والأخ وأخيه، والقرابة
ذوي الرحم؟ لما كان حديث أبي أيوب بين الأصل والفرع، ويلحق
الأب بالأم، أعقبه بحديث علي (أمرني أن أبيع غلامين أخوين... ).
إذاً: حديث أبي أيوب مع حديث علي رضي الله تعالى عنهم
جميعاً يكملان لنا حلقة كل قرابة في الدرجة الأولى، الولد مع
الأبوين، والأخ مع أخيه، والأخت مع أخيها، فهذه الدائرة لا يجوز أن
يفرق بينها، إلى متى؟ قالوا: إلى حد البلوغ، وإذا ترك فيما بعد ذلك
فهو أولى. يقول أبو أيوب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (من فرّق بين الأم وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم
القيامة )، ففي الدنيا لو فُرّق بين الإنسان ومن يحب أسبوعاً
لقلق عليه، وانزعج وتألم وتضجر، فكيف إذا فارقه سنة أو سنتين؟!
لربما طار قلبه عليه، فكيف بما لا نهاية له يوم القيامة؟! ونعلم
بأن الله سبحانه يجعل قرة أعين الصالحين من عباده أن يلحق بهم من
تقر أعينهم بهم، قال تعالى: وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21]،
فقد تكون الذرية ما وصلت إلى درجة الأبوين، ولكن الله -فضلاً منه
ورحمة- يرفع درجة الأولاد ليلحقوا بدرجة الآباء إكراماً للأبوين
(أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) وليس على حساب الوالدين، بل
فضلاً من الله: وَمَا
أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21]
لم نأخذ من حساب الأبوين، ورفعنا به الأولاد حتى يتساووا، بل
الأبوان على ما هما عليه من الدرجة، والأولاد والذرية كانوا بعيدين
عنهم، فتفضل الله على الذرية البعيدة فألحقها بالأبوين، فضلاً من(3/232)
عنده؛ لتقر أعينهم بهم، فكيف إذا كان يوم القيامة ويُفرق بينه وبين
أولاده؟! الله يجمع بينهم لتقر أعينهم، وهذا يعمل على أن يُفرّق
بينهم. وإذا قدر أن البيع انعقد فهل يتم البيع أو يفسخ؟ يفسخ، على
ما جاء في حديث علي : (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
أبيع غلامين )، وسنأتي إليه إن شاء الله.
شرح حديث: (أمرني أن أبيع غلامين...)
قال المصنف رحمه الله: [ وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين،
فبعتهما، ففرقت بينهما، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعاً ) رواه أحمد ،
ورجاله ثقات، وقد صححه ابن خزيمة ، وابن الجارود ، وابن
حبان ، والحاكم ، والطبراني ، وابن القطان ].
النهي عن التفريق بين ذوي الأرحام في البيع
قوله: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين )
يقولون: إن تدرج السن: من رضيع، إلى فطيم، إلى غلام، إلى شاب،
فالرضيع معروف، والفطيم: هو من كان على وشك الفطامة، أو قد فُطِم،
والشاب: ما بين أوائل التمييز إلى البلوغ، وبعضهم يقول: الغلام
لغة: يطلق على الرجل الوافي، كما قيل في الحجاج بن يوسف : إذا
هبط الحجاج أرضاً مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء
العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها فهو رجل مقاتل، والعادة
أن الغلام والجارية يطلقان على من كان دون البلوغ، وقد يطلق على ما
بعده، أما في عُرف اللغة فيطلق على من بلغ إلى سن الثلاثين، وهو
الشاب فقوله:(أمرني أن أبيع غلامين) أي: صغيرين، لا يوجد لهما أم
ولا أب، ولكن الأخوة. وقوله: (فبعتهما وفرقت بينهما) فواحد ذهب إلى
الشرق، وواحد ذهب إلى الغرب، وكل واحد مع الزبون الذي اشتراه.
وقوله:: (فجئت فأخبرت رسول الله على ما وقع مني) لماذا؟ لأن الرسول
صلى الله عليه وسلم أمره أن يبيع، والبيع مطلق، وليس فيه تفصيل(3/233)
للاجتماع أو الافتراق، فلما وقع ما وقع من علي بالتفريق
بينهما، وهو زائد عن ماهية البيع، بل الذي يفهم من قوله: (أمرني أن
أبيع غلامين) أي: بيعة واحدة، فالمتبادر إلى الذهن أن هذه الصيغة
تدل على أن يبيعهما بيعة واحدة، أي: دون تفريق، ولكن اللفظ عام،
فعلي رضي الله تعالى عنه نظر إلى ماهية البيع دون قيد، فباع
هذا هنا، وباع هذا هناك، فجاء وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بما فعل، وكأنه أوجس في نفسه أن الأمر ببيعهما لم يتناول التفريق.
فقال صلى الله عليه وسلم: (أدركهما) وكلمة (أدركهما)، وكأنه خاف
الفوت، تقول: فلان أدرك الصلاة، أي: على آخر لحظة.. فلان أدرك
الفائت، فلان أدرك من سبقه، وفلان أدرك السارق، وذلك إذا سرق شيئاً
ثم فرَّ به فجريت وراءه، وأمسكت به، فلا تقل: لحقته، وقل: أدركته،
لأن الدرك الظفر، و(أدركهما) صيغة تدل على التشديد، والحرص في
اللحاق بهما.
إبطال البيع إذا فُرَّق به بين أخوين
ثم بيّن له صلى الله عليه وسلم فقال: (ولا تبعهما إلا جميعاً)
لماذا؟ لأنهما أخوان، والتفريق بين الأخ وأخيه قطيعة للرحم، والله
قد أمر بأن توصل، وكلمة الأخوين تشمل الأصناف الثلاثة: الشقيق،
ولأب، ولأم، فمطلق الأخوة موجود، وإذا كان الرابط بينهما أبعد من
الأخوة، كالرجل وابن أخيه، والرجل وعمه، أو الغلام وعمه، فهل يدخل
في هذا أم لا؟ بعض العلماء وسع وقال: كل ذي رحم لا يفرق بينهما ما
دام أنه دون البلوغ، وبعضهم قال: جاء النص في دائرة الدرجة الأولى:
ولد مع أبيه، أخ مع أخيه، فهذه الدائرة تُسمى: بالقرابة من الدرجة
الأولى، فهذا لا يُفرق بينهما، وإن وقع التفريق بينهما ببيع أو
نحوه فإنه يُفسخ البيع ويُرد، ولا يباعان إلا جميعاً.
شرح حديث: (غلا السعر في المدينة)
قال المصنف رحمه الله: [ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
(غلا السعر في المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال(3/234)
الناس: يا رسول الله! غلا السعر، فسعر لنا، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق، وإني
لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا
مال ) رواه الخمسة إلا النسائي وصححه، ابن حبان ].
سبب الغلاء وكيفية رفعه
غلاء السعر يكون بقلة السلعة، أو كما يُقال: الطلب من العرض، فتكون
هناك المزاحمة على السلع، فترتفع الأسعار، وارتفاع الأسعار إما أن
يكون بقلة السلعة، أو بحرص بعض المواطنين على الجمع، وسيأتي
التنويه إلى هذا المعنى، فيأتي أصحاب الأموال إلى الأسواق، ويجمعون
السلع، أعطاهم الله المال، فأخذوه وخزنوه، وقلَّت السلع في السوق،
فغلا السعر، سواءً أخذه لنفسه، أو أخذه محتكراً، لبيعه فيما بعد،
بصرف النظر عن الحكم، فهذا هو موجب غلاء السعر. فقالوا: (يا رسول
الله! غلا سعر فسعر لنا) ضع سعراً لا يتجاوزه التجار، وهذا ما
يُقال له: التسعيرة، أو التسعير، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن
الله هو المسعر) وهل المراد أن الله سينزل أسعار السلع؟ ليس هذا هو
المراد، ولكن الله تعالى هو الذي يرخص إذا أنزل البركة، وكثر
الصنف، وكثرت الأسواق؛ رخصت السلع، وإذا منع المطر، ومنعت السلع
وقلَّت؛ غلا السعر، فيكون المسعر حقيقة هو الله سبحانه وتعالى
وقوله: (القابض الباسط) القابض: يقبض الرزق عن عباده، فتقل السلع،
فيغلو السعر، والباسط: يبسط الرزق لمن يشاء، فتتوفر السلعة، ولهذا
يكون دائماً وأبداً الرجوع إلى الله (القابض، الباسط). وقوله:
(الرازق). وهذا صريح بأن الله الرازق إذا أوسع الرزق للعباد رخصت
الأسعار، وإذا ضيق عليهم غلت الأسعار، ولذلك فعلينا أن نفتش عن
أسباب تضييق الرزق وأسباب منع القطر، وأسباب محق البركة؛ ليتجنبها
الناس. إذاً: السعر بيد الله؛ لأنه القابض، الباسط، الرازق،
فبالقبض يكون الغلاء، وبالبسط والرزق يكون الرخاء. ثم رجع إلى نفسه(3/235)
صلى الله عليه وسلم ليعلمنا بعض الآداب فقال: (إني لأرجو أن ألقى
الله ). وكلنا سيلقى الله، ولكن ليس الرجاء على أن يلقى الله،
فإن لقاء الله حتمي وبدون رجاء، ولكن على القيد الذي بعده: (أرجو
أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني ... ) أي: أرجو أن لا أكون
متحملاً لأحد منكم في ذمتي حقاً، في دم، أو مال، وقوله: (أحدٌ) عام
شامل، بخلاف الواحد للعدد، فقوله تعالى: قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]
فيه مطلق الوحدانية لله سبحانه، فقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(أحد) يشمل كل فرد على وجه الأرض من بني آدم، (منكم) أي: وليس لأحد
منكم يا أصحاب الطلب له في ذمتي مظلمة، وكأنه يشير إلى أن التسعير
إذا لم يوفق المسعر إلى الصواب، فهو ظلم لصاحب السلعة إن كان
التسعير أقل من قيمتها، وظلم للمستهلك إن كان التسعير أكثر مما
تستحق، وبهذا لا يسلم المسعر من مظلمة، (وإني لأرجو أن ألقى الله
وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة ) في ذمتي أو عندي، في أي شيء؟ (في
دم ولا مال ) سبحان الله! الرسول صلى الله عليه وسلم سيظلم في
الدم؟! بعوضة لا يظلم فيها، لكن إياك أعني واسمعي يا جارة! وإذا
كان سيد الخلق -وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- يخشى أن يلقى
الله بمظلمة في دم أو في مال فغيره من باب أولى. والكلام هنا هو في
التسعير، والتسعير مال، ولكن لما كان الموقف موقف تحذير من الظلم
في المال، جاء بالدم معه؛ لأنه أهم: (وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة
في دم ولا مال ) أين محل المظلمة في المال؟ في التسعير؛ لأنه
إما أن يكون زائداً عن القيمة فيكون ظلماً للمستهلك، أو ناقصاً عن
القيمة فيكون ظلماً للمالك.
حكم التسعير للحاجة
ومع وجود هذا الحديث النبوي الكريم، الذي أعلن فيه صلى الله عليه
وسلم براءته من الظلم في موضوع التسعير، فهل يجوز التسعير إن دعت
الحاجة أم لا؟ ومتى يكون ذلك؟ ومن الذي يملك ذلك؟ هذا من جانب(3/236)
الفقه، فبعض العلماء قالوا: لا يجوز التسعير، فالمسعر هو الله،
وإذا وقع الغلاء فارجعوا إلى الله وتوبوا إليه، وأصلحوا شأنكم؛
يبسط لكم الرزق، وجاء الناس إلى عمر رضي الله تعالى عنه
وقالوا: (غلا اللحم فسعره لنا، فقال: أرخصوه أنتم!) نحن نشتكي غلا
السعر، واللحم عند الجزارين، ونحن أصحاب الحاجة، فتقول: أرخصوه
أنتم! وهل نملكه حتى نرخصه؟! قالوا: وكيف نرخصه وليس في أيدينا؟
قال: اتركوه لهم، فكل واحد منهم ذبح عشر أو اثنتي عشرة شاة، وذاك
ذبح بعيراً... إلخ، وكلهم ينتظر إتيان الناس ليبيع، فلم يأتهم أحد،
فبالأمس كانوا يقولون: الأوقية -مثلاً- بريالين، واليوم يقولون:
بريال ونصف، فإذا ذهب نصف النهار قالوا: بريال وربع، فإذا أذن
العصر قالوا: بريال، وسيبيعون ولو بنصف ريال، وهو أحسن لهم من أن
يعفن اللحم ويرمى، فقال: أرخصوه أنتم، وكيف نرخصه ولا نملكه؟ قال:
اتركوه، وماذا لو تركتم اللحم يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً، وكلوا
غيره، فإذا علِم الجزارون أنهم إذا رفعوا السعر تركه الناس، فلن
يرفعوا السعر، وهكذا بقية السلع، لكن إذا كان هذا في اللحم، وقد
يكون من الكماليات في الطعام، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل
الخل والزيت والملح ويكتفي الإنسان بالذي يكون. لكن إذا كان الغلاء
في أمر ضروري، كالدقيق، والملح، والدهن، وهذه الأشياء التي لا غنى
عنها، فماذا يكون الحل؟ ينص الفقهاء على أنه إن حصل الغلاء بسبب
جلب النوع من السوق إلى المستودع من قبل تاجر الجملة، ويسمى
المحتكِر، فجمع السلعة من السوق وقال: الآن السلعة موجودة إبانها
التمر وقت الجُذاذ الكل مليء إلى أن تمضي مدة، وكل واحد استهلك
الذي عنده، ثم ذهب يبحث في السوق فلم يجد السلعة، وذلك التاجر ما
زال يخزن السلعة، ولا يريد بيعها الآن، وينتظر حتى يرتفع السعر
قليلاً، فهذا هو المحتكِر على ما سيأتي، ولا يحتكِر إلا مخطئ.
أقسام المحتكر(3/237)
قالوا: المحتكِر على قسمين: محتكر لا ينتظر ارتفاع السعر، ولكن
ينتظر خفة الصنف من السوق، فيمُد الناس، يقول مالك في هذا: قد
يكون محسناً؛ لأنه وفر السلعة، وأخرجها عند الحاجة بسعر يومها.
ومحتكِر ينتظر ارتفاع السعر ليتحكم، فحينما اشتدت بالناس الحاجة
أخذ يتحكم في السعر، فما كان سعره عشرة جعله بخمسين، وليس كل الناس
يستطيع أن يضاعف الثمن خمس مرات، قالوا: في هذه الحالة لولي الأمر
أن يتدخل بما يحقق (لا ضرر ولا ضرار)، إذا أبعدنا نظرية التحكم،
ومع عدم وجود هذا الصنف في السوق فكم يساوي؟! يساوي كذا، فيُلزم
التاجر أن يبيع بذلك السعر، وكما يقول الفقهاء: يُقدر له ربح
محتمل، ويأمره أن يبيع بالسعر الفلاني، قالوا: هذا لا بأس به؛ لأن
فيه مصلحة المستهلك، وفيه رفع مظلمة المحتكِر. ويقول ابن تيمية -في هذه المسألة- وابن القيم في الطرق الحكمية: ونظير ذلك
أرباب المهن الضرورية، التي يحتاج إليها الناس، ومثل بالسقائين،
والخبازين، وفي الماضي كان السقَّائون يحملون الماء في آنية بين
طرفي عود، ويأتون بالماء من العيون ونحوها إلى البيوت، فإذا أضرب
هؤلاء فماذا تعمل العجوز في بيتها؟ وماذا يعمل الشيبة في بيته؟
وماذا تعمل المرأة المخبأة المخدرة في بيتها؟ سيضطرون إلى الخروج
لجلب الماء، وهذا مناف لوضعهم الحقيقي، وليس كل إنسان يستطيع أن
يحمل قربته، فيذهب ويأتي بالماء، وكذلك الخبازون إذا أضربوا
فالبيوت ليست مهيأة للطحن والعجن والخبز، بناءً على أن الأفران
تشتغل، والخبز ينزل إلى السوق، ويشتري الناس حاجتهم. يقول ابن
تيمية رحمه الله وابن القيم : حينئذٍ يُلزِم ولي الأمر
هؤلاء بالعودة إلى العمل إجباراً، ولا يسمح لهم بالإضراب، وتعطيل
مصالح الناس؛ لأن الناس ارتبطت حياتهم بذلك، وكذلك نحن الآن نقول:
لو أن عمال مصلحة المياه (السقاءون) أضربوا عن العمل وتوقف تسيير
المياه إلى البيوت، أو الصيانة، فعلى ولي الأمر إجبارهم على العمل؛(3/238)
لأنه بتوقفهم تتوقف مصالح الناس، وكذلك الكهرباء لو أن عمال
الكهرباء أضربوا، لأن الأجرة قليلة، يُقال لهم: زاولوا عملكم
واطلبوا الزيادة، ولا تضربوا فتعطلوا مصالح الناس.
لولي الأمر أن يسعر إذا دعت الحاجة
وهكذا بيّن صلى الله عليه وسلم أنه يرجو أن يلقى الله وليس في ذمته
مظلمة لأحد، فإذا وقعت الحاجة واضطر الناس، فهل يقول ولي الأمر:
أرجو ألا ألقى الله وفي ذمتي مظلمة لأحد، أو يتدخل بما يرفع الضرر
عن الطرفين (لا ضرر ولا ضرار) فيأتي بأرباب الخبرة لتقدير سعر شراء
تلك السلعة، وكم يعطى للتاجر من أرباح عليها، فيقدر أرباب الخبرة
الأسعار، ويلزم ولي الأمر التاجر بذلك السعر، فيكون حداً فاصلاً
بين المالك والمستهلك. وكان في السابق إذا أردت أن تأخذ شيئاً من
الدكان، فتجده -مثلاً- في هذا الدكان بخمسة، وفي الدكان المقابل
بعشرة، فلا يوجد ضابط للسعر في السلعة، وهذا أكثر ما يكون في
الصيدليات، فتتفاوت الأثمان بكثرة، والناس لا يعرفون قيمة الدواء،
ولا بكم تكلفته، والمريض مضطر إلى أن يشتري، أما الأشياء المتداولة
يومياً، من سكر، وشاي وصابون، ولوازم، فهذه أسعارها متداولة عند
الناس، أما الأدوية فمجهولة، فلما وقع مثل هذا قام المسئولون
ووضعوا على كل دواء سعره؛ لئلا يُخدع الجاهل بالأسعار، ولا يغتنم
البائع جهل المشتري فيتحكم كيفما شاء. إذاً: هناك أشياء اتفق على
تسعيرها للجهالة بحقيقتها عند عامة الناس، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (لا يحتكر إلا خاطئ)
قال المصنف رحمه الله: [ وعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحتكر إلا خاطئ )
رواه مسلم ].
الاحتكار: معناه، وحكمه
الاحتكار: هو جمع السلعة أياً كانت، سواء كانت من المطعومات، أو
الملبوسات، أو أدوات منزلية، أو أي نوع من الأنواع، جمعه واحتكره
لنفسه وسكت عليه، والخاطئ: اللغة فيها خاطئ ومخطئ، والمخطئ ضد(3/239)
العامد، وهو الذي يرتكب الشيء خطأً دون ما قصد إليه ولا عمد (رفع
لأمتي الخطأ والنسيان )، أما الخاطئ فهو الذي يتعمد الذنب (لا
يحتكر إلا خاطئ) أي: مذنب آثم، بخلاف المخطئ الذي يقع في الفعل دون
ما قصد منه. وقد أشرنا إلى أن الاحتكار قسمان: احتكار لنفسه، وهذا
لا يسمى محتكراً، بل يسمى خازن خزن لنفسه، ويجوز للإنسان أن يخزن
لنفسه ما يكفي بيته سنة، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يفعل ذلك من سهمه من خيبر ومن غيرها، فإذا جمع الإنسان لنفسه في
بيته فلا شيء في ذلك؛ لأنه لا يريد غنيمة على حساب الآخرين، إذا لم
يكن لنفسه وكان للسوق، فإما أن يقصد بهذا الاحتكار تواجد الصنف،
وارتفاع السعر أمر طبيعي يتحكم فيه السوق، وحينما يقل الصنف قدمه
دونما تحكم، فهذا أيضاً ليس بخاطئ، ولكن المحتكر الخاطئ الذي يتعمد
جمع الصنف ويرى بالناس حاجة فلا يبرزه، إمعاناً في حاجتهم، وطلباً
في زيادة السعر، فهذا هو الخاطئ، وهذا هو الذي من حق الحاكم أن
يتدخل في أمره.
( كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [10] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (الخراج بالضمان)
2 شرح حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عروة البارقي ديناراً
ليشتري شاة فاشترى شاتين
3 شرح حديث: (نهى عن شراء ما في بطون الأنعام...)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [11]
إن من عظمة هذا الدين اشتماله على القواعد العامة التي تدخل فيها
جزئيات لا حصر لها، وإن تغير الزمان والمكان ومن ذلك قاعدة: الخراج
بالضمان، وهي قاعدة كفيلة بحل كثير من مشاكل البيوع. كما أجاز الشارع
للوكيل أن يتصرف في ملك موكله بما أذن له فيه الموكل، فإن تصرف فيما لم
يؤذن له فيه -في مصلحة موكله- فإن ذلك متوقف على إجازة المالك ومنعه.
ومن حكمة الشارع أنه لم يجعل حداً معيناً للربح، ولكن لا يجوز استغلال
الجهلة بالأسعار وغبنهم، ومن غبن غبناً فاحشاً فله حق فسخ العقد أو(3/240)
استعادة الغبن. وكل بيع فيه جهالة وغرر فإنه لا يجوز، ولذلك لا يجوز
شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، ولا ما في ضروعها، ولا يجوز شراء
العبد الآبق، ولا المغانم حتى تقسم وتستلم، ولا الصدقات حتى تقبض، ولا
ضربة الغائص، وكذلك كل ما كانت فيه جهالة أو لا يستطاع تسليمه.
شرح حديث: (الخراج بالضمان)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن
عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخراج
بالضمان ) رواه الخمسة، وضعفه البخاري وأبو داود ،
وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وابن القطان ]. هذا الحديث قاعدة من القواعد
الفقهية، ومن الصعب على طلبة العلم التفريق بين القاعدة الأصولية
والقاعدة الفقهية. فمن القواعد الفقهية: (المشقة تجلب التيسير)،
(لا ضرر ولا ضرار)، (الخراج بالضمان)، فهذه قواعد فقهية. أما
الأصولية فمثل: (الأمر للوجوب)، (النهي للتحريم)، (العام يحمل على
الخاص)، (المطلق يحمل على المقيد)، فهذه أصولية في طريقها، وتلك
فقهية في طريقها.
الخراج بالضمان قاعدة عامة في البيع والشراء
فقوله: (الخراج بالضمان ) قاعدة تحل عامة مشاكل البيع والشراء،
والخراج: هو الكسب والربح؛ كأن يكون عند إنسان: عبيد وخيول وأرض،
فيحصّل من وراء ذلك فوائد، فالعبيد تشتغل وتأتي له بالخراج، والخيل
تعمل وتأتي له بخراج، والأرض تزرع وتنبت وتأتي له هذا بخراج.
فالخراج: هو الفائدة التي تعود على المالك من ملكه. والضمان: هو
ضمان المتلف. فإذا أخذت عارية -والعارية مضمونة- وتلفت عندك فإنك
تضمنها، وإذا اعتدى ولدك أو بهيمتك أو أنت على شيء لغيرك فإنك
تضمنه. فالضمان: هو تعويض عما أتلفه الإنسان، إذاً: الخراج ضد
الضمان، فإنك في الضمان تدفع، وفي الخراج تأخذ. فعائشة رضي
الله تعالى عنها تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الخراج(3/241)
بالضمان )، وتطبيق ذلك في أكثر صور المبيع عند النزاع. فمثلاً:
إنسان اشترى سيارة على أنها خالية من العيوب، وهو لا يدري عن
السيارات ودقائقها، ومكثت عنده أسبوعاً أو أسبوعين، ويذهب بها من
عمله إلى البيت، فركب معه مهندس، فقال: السيارة فيها خلل، فعرف
العيب بعد عشرة أيام، وهذا العيب الذي اطلع عليه مؤخراً لو علم به
وقت الشراء لما اشتراها، أو قد يشتريها ولكن ينقص من الثمن بقدر
النقص بهذا العيب، فله أن يردها، ويسمى: الرد بالعيب، أو خيار
العيب، وإذا اختلف مع البائع بأن قال البائع: هذا العيب حصل عندك
أنت وليس عندي أنا، فيقدر ذلك أرباب الخبرة، فينظرون هل هذا العيب
جديد أم قديم، فإن حكموا بأن العيب قديم، فعند ذلك يكون البائع قد
دلس وغش المشتري، فيحكم برد السيارة، فإن قال البائع: السيارة
بعشرة آلاف وهي عنده منذ عشرة أيام، ويذهب بها كل يوم إلى العمل،
فأجرة السيارة في اليوم مائة ريال، فأخصم لي أجرة السيارة من
قيمتها التي هي عندي، ثم أرد له الباقي، فيقال له: لا، الخراج
بالضمان، ما معنى الخراج بالضمان هنا؟ استعماله السيارة المدة التي
كانت عنده فائدة عادت عليه، فهي خراج، وقد يكون استعملها للأجرة
فحصل على خراج من وارئها مدة وجودها عنده، من يوم العقد إلى اكتشاف
العيب، ولو تلفت أو حدث فيها عيب جديد، فإنه على حساب المشتري التي
هي في يده. إذاً: ما دام أنه يضمن نقصها فيستحق خراجها، وهكذا
الخراج بالضمان، فما استفاده لا يحق للبائع أن يطالب فيه؛ لأنها
كانت في ضمانه، فلو تلفت لتحمل ضمانها، وبالله تعالى التوفيق.
شرح حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عروة البارقي ديناراً
ليشتري شاة فاشترى شاتين
قال المصنف رحمه الله: [وعن عروة البارقي رضي الله عنه: (أن
النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به أضحية، أو شاة،
فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فأتاه بشاة ودينار، فدعا له(3/242)
بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى تراباً لربح فيه ) رواه الخمسة
إلا النسائي ، وقد أخرجه البخاري في ضمن حديث، ولم يسق
لفظه، وأورد الترمذي له شاهداً من حديث حكيم بن حزام ].
أصل عملة الدينار ومقداره
يسوق لنا المؤلف رحمه الله تعالى عن البارقي رضي الله تعالى
عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً، والدينار: عملة
ذهبية، والدينار والمثقال شيء واحد، وهو من حيث الوزن يزن مثقالاً،
ومن حيث العملة يعتبر ديناراً، والدينار كان في الزمن السابق
يتراوح صرفه ما بين ثمانية دراهم إلى اثني عشر درهماً، واستقر أمره
زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بعشرة دراهم، وهو السعر
الذي جاء به تشريع الزكاة، في كل عشرين ديناراً ربع العشر، وفي كل
مائتي درهم ربع العشر، وعشرين في عشرة بمائتين. إذاً: أعطاه
ديناراً، وهذا يدل على أن المسلمين كانوا يتعاملون بالدنانير،
والدنانير عملة غير عربية وإنما هي فارسية أو رومية، والدراهم
ساسانية، ثم ضربت إسلامية في زمن بني أمية. فهذه الدنانير في أيدي
المسلمين ويتعاملون بها وهي عملة أجنبية عنهم، كما هو الحال الآن،
يتعامل المسلمون بالدولار وبالمارك وبالين، وكلها عملات أجنبية،
ولكن النقد لا يعرف الجنس، وكما قيل: النقد ملك لمن هو في يده، فمن
حل في يده درهم فهو له وينسب إليه.
إقراره صلى الله عليه وسلم لعمل عروة البارقي
فذهب عروة ليشتري شاة أو أضحية، كلاهما سواء؛ لأن الأضحية
بالشاة، والشاة للأضحية، وهذا اختلاف في اللفظ، وقد يكون من الراوي
الأول أو الثاني، فذهب فاشترى بالدينار شاتين، ثم في عودته بهما
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه شخص وساومه على إحدى
الشاتين، فباعها عليه بدينار، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم
وقال: هذا ديناركم وهذه شاة لكم، فسأله صلى الله عليه وسلم: ماذا
فعلت؟ إذا كنت أتيت بالدينار وأتيت بشاة، فمن أين لك هذه الشاة؟(3/243)
والدينار على حاله لم يصرف، فقال له رضي الله تعالى عنه: اشتريت
بالدينار شاتين، وبعت إحدى الشاتين بدينار. وهنا -مع هذا العمل-
يدعو له الرسول صلى الله عليه وسلم بالبركة: (بارك الله لك في بيعك
وشرائك ) أي: أقره على هذا العمل واستحسنه ودعا له، فكان ببركة
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له ما باع صفقة أو اشترى صفقة ولو
تراباً إلا وربح فيها، وكان الناس يأتون إليه بأموالهم ليشاركهم
فيها، التماساً لبركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تصرف الوكيل في مال موكله
وللعلماء في هذا مباحث، فحينما أعطي الدينار ليشتري الشاة، فهل
أعطيه وكالة أو أمانة؟ إن قلنا: وكالة، فقد ذهب الوكيل وتصرف،
فاشترى شاتين بدلاً من شاة، وهل للوكيل أن يتصرف في غير ما وكل
فيه؟ هو وكل في شراء شاة، لكنه اشترى شاتين، فهل شراؤه الشاتين
داخل ضمن الوكالة في شراء الشاة، أو أن الوكالة كانت عامة؟ الوكالة
العامة كأنه يقول له: اشتر لنا ما في نظرك من شاة أو نحوها،
فبالوكالة العامة يكون له الحق أن ينظر أي الشياه أصلح، ولو وجد
شاة كبيرة بدينار، ووجد شاتين متوسطتين بالدينار، فاشترى إحدى
الصفقتين، كان ذلك بمقتضى الوكالة صحيحاً، ونحن الآن إذا أتينا إلى
سوق الأغنام ربما وجدنا خروفاً بألف ريال، بينما بجواره الخرفان
الأخرى من أربعمائة إلى ستمائة، فثمن الخروف الأول ألف ريال، فلو
أضفت إليه مائتين فستشتري ثلاثة، إذاً: الأسعار تختلف، والسلع
تتفاوت فيها القيمة، هذا في الصورة الأولى، ولنقل: إنه وجد شاة
بدينار، ووجد شاتين بدينار، فاستحب أن يأخذ الشاتين بدلاً من
الشاة، وهذا التصرف من الوكيل لمصلحة موكله. مضى العقد الأول، ومضى
بالشاتين، وفي الطريق يأتي إنسان يساومه، فباعه إحدى الشاتين، فهل
له الحق في بيع ملك موكله الذي وكله في شراء شاة فتجاوز، أو تخير،
أو عمل المصلحة فاشترى شاتين بدلاً من شاة؟ وهنا بعد أن اشترى ودخل(3/244)
المبيع في ملك موكله، فهل يملك أن يخرجه من ملك موكله بالبيع دون
أن يوكله الموكل في البيع؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يوكله في
بيع، وإنما وكله في الشراء فقط، فبأي صفة يبيع ما اشتراه لموكله؟
قالوا: إن السبب في شرائه الشاتين هو مراعاة مصلحة موكله، فوجد أن
من مصلحة موكله الاجتزاء بشاة، والشاة الأخرى زائدة، ومن مصلحة
موكله أن يغنمه قيمة الزائدة، فباعها باسم موكله. وهنا يقول
الفقهاء: إذا تصرف الوكيل بما يظنه مصلحة لموكله دون أن يأذن له
فيه، فإن هذا العقد يسمى: العقد المعلق، فهو معلق على إقرار
الموكل، فإن رضي وأقر فلا مانع، وإن رفض فالبيع مرفوض ومردود، فهو
باع الشاة تفويضاً من نفسه، طلباً لمصلحة موكله، وبثمن ليس فيه
نقص، بل فيه ربح مائة بالمائة، فباع الشاة على هذا الاعتبار، ولما
جاء وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم -باعتباره في نظام العقود
موكلاً له- سأله: ماذا فعلت؟ فأخبره بما فعل في الشراء وفي البيع؛
فاستحسن ذلك، وأجاز تصرف الوكيل في هذا البيع، ولو لم يكن مأذوناً
له مشافهة فهو مأذون له اعتباراً، ولو لم يكن مأذوناً له اعتباراً
فقد أقر العقد، ويقول الفقهاء: إن اعتبار العقد المعلق ابتداء من
إجازة الموكل لا من وقوع العقد.
تحديد الربح
وهنا جاءت مسألة لا زال الناس يخوضون فيها إلى الآن، فهذا اشترى
شاتين بدينار، وباع شاة منهما بدينار، فلما كان في الطريق، وهو في
نفس اليوم، ولم تتغير الأسعار في الأسواق، ولا قل الوارد وكثر
الطلب، فالسوق على ما هو عليه، لم يطرأ عليه ما يقتضي زيادة الثمن،
فكم ربح في هذه الصفقة؟ ربح مائة في المائة، ويأتي هنا السؤال
المهم: كم يجوز أن يربح؟ وكم يكون الغبن؟ وكم تكون الزيادة؟ ومتى
يفسخ البيع؟ ومتى يحق للمشتري ادعاء الغبن؟ وهذه القضية إلى الآن
لم يستقر فيها رأي، لا على تحديد السعر، ولا على تحديد صورة الغبن،(3/245)
وأهم ما يكون في ذلك، والمرجع ما لم يكن المشتري جاهلاً فغره
البائع، وما لم يكن البائع مستغلاً لظروف المشتري ويتحكم فيه، فإذا
كانا على هذه الحال وعلى قارعة الطريق، وليس هناك إلزام ولا إكراه،
ولا استغلال لظروف المحتاج، فالبيع سليم ولو كان الربح مائتين في
المائة. وبعض السلع ربما كان الربح فيها خمسمائة في المائة، لكن مع
اختلاف الزمن ومع اختلاف الأسعار، وعندنا بيع السلم لا بد أن يكون
هناك أجل في تسليم السلعة، ويكون بسبب هذا الأجل تغيير في السعر
بزيادة أو بنقص، فنقرر وجود الزيادة ووجود النقص وإلا لما كان
سلماً. فعلى هذا لا يمكن لإنسان أن يتحكم في سوق، ولا في سلعة، ولا
في تاجر، ولا في متجر، ولا في مصنع، بتحديد سعر البيع والربح، إلا
إذا كان هناك استغلال للمشتري، وما يوجد الآن من بعض التسعير لبعض
السلع، فإنما ذلك مما استجلبه الناس باستغفال الجاهل، وبعدم معرفته
قيمة السلعة، وباستغلال البائع جهالة المشترَي، فجعلوا في بعض
السلع بياناً للأسعار، كما هو حاصل في الأدوية، فإننا نعرف الفرق
بين حبة الأسبرين وحبة الفيتامين، فبعض أنواع الفيتامين قد تساوي
الحبة الواحدة ثلاثة ريال، وعلبة الأسبرين كلها تساوي ثلاثة ريال،
ولكننا لا نعرف الفرق من الناحية الكيماوية أو الطبية، فلما لم نكن
نعلم ذلك ويمكن للصيدلي أن يستغل ظروف كل مريض؛ جعلوا المسألة
واضحة، وقربوا الموضوع، وقدروا الربح المناسب لهذه السلعة، ووضعوا
الأسعار على كل علبة، وكذلك المحلات الكبيرة التي تسمى: (سوبر
ماركت) وفيها من أنواع السلع والبضائع، ولا يريد صاحبها النزاع في
المساومة، فوضع أسعار السلع أمامك، فإن أعجبك سعرها أخذتها، وإن لم
يعجبك تركتها، والذين يضعون هذه الأسعار يراعون مصلحة المالك
ومصلحة المستهلك، على مبدأ فقهي إسلامي: (لا ضرر ولا ضرار)، لا ضرر
على المالك في بخس سلعته، ولا ضرار على المشتري في استنزاف ماله في
هذه السلعة.(3/246)
حد الغبن الذي يحق به فسخ العقد
إذاً: ليس هناك حد -كما يقولون- في ادعاء الغبن في السلعة، فهذا في
نهاره وقبل غروب الشمس يربح مائة في المائة، والرسول صلى الله عليه
وسلم يقره ويدعو له بالبركة، ولكن الفقهاء أيضاً تدخلوا وقالوا:
إذا لم يكن هناك تحديد للأسعار، ووجدت سلعة في عشرين دكاناً في
السوق، فخمسة عشر دكاناً يبيعها بعشرة، وجاء صاحب دكان وباعها على
إنسان بعشرين، فهل يقر على ذلك؟ يقول العلماء: هذا غبن، فقد غبن
المشتري بعشرة، ونسبة العشرة من العشرة مائة في المائة، فيكون من
الغبن الفاحش، فيحق للمشتري فسخ العقد وإرجاعها. إذاً: ما هو حد
الغبن الذي يجعل المشتري يدعي الغبن ويطلب رد السلعة؟ قال بعضهم:
إذا كان ثلاثين في المائة، أو أربعين في المائة، أو خمسين في
المائة، أي: من ثلاثين فما فوق، وأقل من ثلاثين في المائة لا يعتبر
غبناً، ولا ترد به السلعة، قالوا: إن مثل هذه النسب لابد أن
تتفاوت؛ لأنه لا بد من الربح، ولكن المسألة ترجع إلى جشع البائع،
وإلى قناعته، وحسن تعامله، ورفقه بالناس. إذاً: هذا الحديث أصل في
حلية الربح ما لم يكن هناك تدليس أو غش أو انتهاز لفرصة، أو
استجهال مشترٍ. والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (نهى عن شراء ما في بطون الأنعام...)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء ما في بطون الإنعام حتى تضع،
وعن بيع ما في ضروعها، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم
حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص )رواه
ابن ماجة و البزار و الدارقطني بإسناد ضعيف]. هذا وإن
كان بإسناد ضعيف إلا أن معناه صحيح، فإن جميع هذه البيوع راجعة إلى
الغرر، وكما أسلفنا في أول كتاب البيوع: أنه يجب الحذر والتحفظ من
أكل أموال الناس بالباطل، وتلك الأشياء التي ساقها هنا واضحة
الغرر.
النهي عن بيع ما في بطون الأنعام(3/247)
فنبدأ أولاً بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما في بطون الأنعام.
وبهيمة الأنعام: هي من ذوات الأربع مأكولة اللحم: الإبل، والبقر
ومعها الجاموس، والغنم ومعها الماعز، فهذه تحمل، أو كما يقولون:
الثدية، أي: ذات ثدي فتلد وترضع. فنهى صلى الله عليه وسلم عن بيع
ما في بطونها، فلو رأيت ناقة لقحاء وحملها ظاهر جداً، وبقى لها شهر
أو أكثر أو أقل لتضع حملها، وكان نوع هذه الناقة من حمر النعم من
خيار الإبل، وتريد من نسلها، وتحرص أن تسبق إلى شراء ما في بطنها،
حتى لا يسبقك الناس بعد ولادتها، فهذا لا يجوز؛ لأنك لا تدري هل
ستأتي بفصيل أو ببكرة كما يقولون؟ بذكر أم أنثى؟ سوي الخلقة أم
ناقص؟ إذاً: لا زال في صندوقه مقفلاً عليه لا نعلم عن كيفيته، فهذا
فيه جهالة، كما لو جئت إلى إنسان بصندوق وقلت: هذه الصناديق فيها
ملابس وأحذية -بدون رقم أو برقم- لكن نوع الصناعة ومقاساتها
وألوانها كل ذلك مجهول داخل الصندوق، فلا يجوز بيع ما في داخله حتى
تفكه وترى ما فيه وترتضيه، فكذلك ما في بطون الأنعام، سواء كانت في
أوائل حملها، أو في أواخره، احتياطاً من كونه قد يأتي حياً وقد
يأتي ميتاً، وقد يأتي على الجهة التي أنت تصورتها وتمنيتها وقد
يأتي على جهة أخرى، فلو وقع البيع في هذه الحالة فالبيع باطل؛ لأن
النهي يقتضي الفساد.
النهي عن بيع ما في ضروع الأنعام
قال: (وعن بيع ما في ضروعها). هنا مشكلة: ترى الناقة محفلة، أو ترى
الناقة وضرعها ممتلئ، أو البقرة أو الشاة، فتقول: أشتري ما في هذا
الضرع من الحليب بكذا، وقد قدرته مثلاً لتراً، فحلبت فكان نصف لتر،
أو البائع قدره لتراً، فحلبت فإذا به لتر ونصف، فيكون فيه غرر، فإن
نقص عن تقديرك أنت فغرر عليك، وإن زاد عن تقدير البائع فهو غرر على
البائع، إذاً: ماذا نفعل؟ احلب حتى يجتمع عندك، ثم بع. وفي بعض
المدن شاهدنا الذين يبيعون الحليب، ولم نرهم يبيعون الحليب في(3/248)
الأواني، ولكن ترى البهيمة معه في السوق، فإذا قلت له: أعطني نصف
كيلو، فإنه يحلب أمامك في إناء ويزن لك ويعطيك! لا غشه بالماء، ولا
باعه في ضرع مجهول، فيعطيك حليباً طازجاً من الضرع، فإذا كان الأمر
كذلك فنعم الحال، وإذا لم يمكن كذلك فلا يجوز أن تبيع الحليب في
الضرع كثيراً كان أو قليلاً، ومعروف أن بهيمة الأنعام تختلف في جرم
الضرع، فبعض الحيوانات تجدها نحيلة الضرع، ولكنه يأتي بحليب أكثر
من الضرع الذي تراه ضخماً، فربما تكون تلك الضخامة في لحم وجرم
الضرع، فالضرع المتين إذا كان فيه نصف لتر فسيجعل الضرع كبيراً،
والثانية جرم ضرعها رقيق وخفيف، فلو كان فيه لتر فما يظهر فيه.
إذاً: التقدير بالرؤية مع اختلاف أحجام الضروع فيه غرر على ما
بداخلها.
كل ما كان فيه جهالة لا يجوز بيعه
إذاً: النهي عن بيع ما في بطون الأنعام، والنهي عن بيع ما في
الضروع من الحليب قاعدة أساسية عند الفقهاء، يندرج تحتها كل ما
تجدد من أنواع السلع، فتعرض على الجهالة، فهذه صناديق -كما قلنا-
لكن لا ندري عن نوع الصناعة، قد يقول: هو جلد أمريكي ممتاز، ولكن
لا ندري عن نوع الخياطة والصناعة، وعن الحجم عريض المقدمة أو خفيف
المقدمة .. وهكذا، أو هذه صناديق فنايل، صفتها كذا، صناعة المحلة
الكبرى -كما يقولون- أو صناعة إنجليزية، ولكن هل نوع الغزل رفيع أو
متين؟ .. ونحو ذلك، وكذلك في المطعومات، ما لم يكن هناك ما يسمى:
الأنموذج. فمثلاً: جاءك إنسان بمائة علبة حلاوة طحينية، وقال:
العلبة هذه فيها كيلو، أبيعك المائة علبة بكذا، لكن الحلاوة
الطحينية منها الناعم جداً الممتاز، ومنها الخشن، ولا أدري هذا من
أي الأنواع، فقال: فك هذه وانظرها وتذوق منها، فنظرت وعرفت واقتنعت
بالنوعية الموجودة أمامك، فاشتريت المائة علبة، فهل من المعقول أن
تكلفه أن يفتح المائة علبة لتنظر فيها؟! قد تكون ملحومة وملصقة حتى(3/249)
لا يأتيها الهواء فتفسد، فيضحي بواحدة ليريك، فاشتريت المائة وذهبت
وأخذت النموذج وذهبت بها إلى متجرك وبعتها على هذا النموذج، فلو
تبين أن أحداً أخذ منك عشر علب وفتحها فوجد منها خمساً على غير
النموذج، فهذه الخمس مغايرة للمتفق عليه في العقد، والمشتري سيرجع
عليك؛ لأنك بعته على هذا النموذج، وأنت ترجع على البائع الذي باعك
على هذا النموذج، إذاً: انتفى الغرر، ولكن إذا لم تر لها نموذجاً،
ولم تعلم لها نوعية ولا كيفية بالوصف، فإنههم يقولون: ولو بالوصف،
فإذا لم يأت بنموذج، ووصفها بصفات شاملة كاملة، كما لو أراد أن
يبيع أكواب الشاي، فقال: هي صناعة كذا، طولها كذا، وقطر الدائرة
كذا، والزجاج صفته كذا، وذكر الأوصاف التي تشتمل عليها الأكواب
بحيث أننا لو فتحنا ونظرنا لا يختلف المنظر عن المخبر، فإذا تم ذلك
صح البيع، وإن رأيت خلاف الوصف فأنت بالخيار: فإما أن تأخذ وتسترجع
قيمة النقص -وهو الأرش- أو ترد السلعة وتأخذ حقك. إذاً: النهي عن
بيع ما في بطون بهيمة الأنعام، والنهي عن بيع ما في الضروع قاعدة
فقهية عامة، ومن هنا نقول: ليس في الفقه طريق مسدود، وليس هناك
جديد على الفقه في الإسلام؛ لأنه مهما تجددت أنواع وصور السلع
ومبيعاتها ستجد لها أصلاً فيما جاء في كتاب الله أو سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، أو قعده علماء المسلمين، وإن واجهت الإنسان
مسألة فسيجد لها أصلاً وحلاً في كتب الفقه، وإن لم يجد لها حلاً في
كتب الفقه، فإن مردها إلى اجتهاد الفقهاء، ولذلك فإن باب الاجتهاد
مفتوح، فيجتهد أهل الخبرة والفقهاء والعلماء في مواصفات هذا الشيء
الجديد، وأي الأصناف أقرب إليه في القديم فنلحقه به، فإن سعة الفقه
الإسلامي بالقواعد العامة لا بالجزئيات.
النهي عن بيع العبد الآبق
قال: (وعن شراء العبد وهو آبق). ننتقل إلى نوع آخر من أنواع
البيوع، ليس من قبيل الغرر بالجهالة، ولكن من قبيل الغرر بالعجز عن(3/250)
التسليم، وهو النهي عن بيع العبد الآبق. يقال: آبق وشارد، آبق
للعبد، وشارد للبعير، تقول: شرد البعير، وأبق العبد، والآبق: هو
الهارب، قال تعالى: إِذْ
أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الصافات:140]،
فالآبق والشارد بمعنى واحد، إلا أنه اصطلح على إطلاق الآبق في
الإنسان، والشارد في البعير وغيره. والعبد الآبق عن سيده لا يخلو
من أمرين: إما أن يعلم مكانه الذي هو فيه، وإما أن لا يعلم مكانه،
فإذا كان لا يعلم مكانه فهو في الجهالة أعمق وأبعد، فإنه لا يعلم
أهو حي أو ميت؟ أما إذا اعلم أين هو، كأن يأبق من المدينة إلى جدة،
ويعرف عنوانه ومكانه، فجاء إنسان وقال: يا أخي! عبدك هذا الذي أبق
عليك وعجزت عنه بعنيه، فباعه له فاشتراه، فعند أن يذهب إليه ليأخذه
فقد لا يجد أصلاً، وقد يجده هالكاً، وقد يجده ولا يستطيع أخذه؛
لشدة تمرده وقوته، فإن وجده هالكاً، فإن ذلك يكون على حساب صاحبه،
لا على حساب المشتري؛ لأنه ما زال في ملكه، وإن لم يجده، أو وجده
ولم يستطع أخذه؛ فإن ذلك ينقض البيع، ولذلك نهي عن بيع العبد
الآبق. إذاً: المشتري إما أن يكون جاهلاً بمكان العبد الآبق؛
فشراؤه غرر من أول لحظة، وإما أن يكون عالماً بمكانه، وطمع أن يحصل
عليه، فذهب إليه ولقيه وعجز عن أخذه فسيرجع على البائع. ومثله
البعير الشارد، فإذا شرد عليك بعير، ولا تعلم أين هو، فهذا لا سبيل
إلى بيعه، فجاء إنسان وقال: يا فلان! وجدت بعيراً عليه وسمك -وكانت
العرب تسم الإبل، فكل قبيلة تسم إبلها على صفحة العنق، أو على لوح
الكتف، أو على المؤخرة، فهذه عادة كانت عند العرب، حتى لو ذهبت في
أي مكان ورآها أي إنسان عرف أنها من إبل القبيلة الفلانية فلا يمد
يده إليها فقال: وجدت بعيراً من سمة إبلك في المحل الفلاني، فقال:
هذا شارد عني من زمان، ثم قال: بعنيه، فباعه له، واشتراه، فذهب
ليأخذ البعير فإذا بالبعير هايج، وعجز المشتري أن يخضع البعير وأن(3/251)
يقوده إليه، فماذا سيفعل؟ سيرجع على البائع، وكذلك إذا ذهب ليأخذه
فلم يجده، فحينئذ أيضاً يكون معجوزاً عن تسليمه. فالعبد الآبق
والبعير الشارد يعجز صاحبه عن تسليمه للمشتري، وهكذا كل سلعة يعجز
مالكها عن تسليمها للمشتري لا يجوز بيعها.
حكم بيع المغصوب في حالة وجوده عند الغاصب
وهنا صورة أخرى: فإذا جاءت يد عاتية طاغية واغتصبت عبداً وصاحبه
يراه صباحاً ومساء؛ لكونه موجوداً في نفس القرية ولكنه لم يستطع أن
يأخذه، فلو جاء إنسان وقال: أبيع عليك هذا العبد فإن فلاناً اغتصبه
مني وعجزت عنه، فإن كان المشتري يظن من نفسه أنه قادر على استخلاصه
من غاصبه واشتراه فلا مانع، فإن تم له استخلاصه فذاك، وإن عجز عن
استلام العبد من الغاصب رجع إلى البائع، وفي هذه الحالة يكون بيعه
إياه على مظنة القدرة، فإذا لم تتحقق فلا.
حكم بيع المغصوب على الغاصب
ولو أن الغاصب بنفسه قال: يا أخي! أنت تعبتني من توسيط الناس، ومن
الذهاب والإياب، وأنا لن أعطيك العبد، فإني محتاج له في عمل مهم،
وأنت بالخيار: إما أن تسكت، وإما أن تبيعه عليَّ، فإذا كان ثمنه
مائة قال: أعطيك خمسين ديناراً، فإن بعته بخمسين فخمسون في اليد
خير من مائة عند الغاصب، فبعته على غاصبه، فهل يجوز بيعه على غاصبه
أم لا يجوز بيعه عليه؟ يجوز بيعه على الغاصب؛ لأن الغرض أن يسلمه
للمشتري، وهو الآن في يد المشتري، ولا يحتاج إلى تسليم جديد، ولا
يوجد مانع من صحة البيع. إذاً: لا يجوز بيع المغصوب إلا على غاصبه،
أو قادر على أخذه من غاصبه، وهذا غاصبه وفي يده، وقد دفع الثمن،
ولا يحتاج إلى تسليم؛ لأنه عنده، إذاً: يجوز أن يبيعه على غاصبه؛
لأنه لا يحتاج إلى تسليم جديد يعجز عنه. أما إذا كان المشتري شخصاً
ثالثاً، والثالث هذا عجز عن استلامه، فيحتاج إلى تسليم، ولما عجز
عن استلامه واستخلاصه، والبائع -أيضاً- عاجز عن تخليصه وتسليمه؛(3/252)
فالبيع باطل، أما إذا باعه على الغاصب نفسه فالبيع صحيح، وكون
الغاصب معتدياً، أو استغل السعر، هذا شيء آخر، وهو داخل في استحقاق
العقاب، فإنه مستحق للإثم والوعيد، ولكن الفقهاء يبحثون المسألة من
حيث صحة العقد وبطلانه، فالعقد صحيح، وعليه إثم الاغتصاب، وعليه
إثم النقص في الثمن، فإنه يجب عليه -شرعاً- أن يسلمه لصاحبه وصاحبه
يكون حراً فيه.
النهي عن بيع المغانم قبل قسمتها واستلامها
قال: (وعن شراء المغانم حتى تقسم). مما يدخل تحت بيع ما لا يملك
تسليمه: إذا غزا الغزاة وغنموا وأصبحت الغنيمة في جملتها للغزاة،
وكانوا مائة شخص، فأصبح لكل شخص واحد في المائة من الغنيمة، ولو
قدر أن الغنيمة مائة بعير، فسيكون لكل غاز بعير، فقد عرف سهم
الغازي في الجملة، فهل يصح لشخص من الغزاة أن يقول لأحد الناس: أنا
لي في الغنيمة بعير، وأبيعك إياه بمبلغ كذا، فهو حق ثابت في
الغنيمة ولكن على سبيل الإجمال، وهل يدري أي الإبل سيكون له؟ وكم
سيساوي هذا البعير الذي سيكون من نصيبه؟ وهل ندري ماذا سيقع في هذه
الغنيمة؟ إذاً: لا يجوز بيع حصته من الغنيمة حتى تقسم ويستلمها،
وقد كان في زمن بني أمية وكان ميناء المدينة في الجارود في جمع،
وكان يؤتى بالغنائم -من الحبوب- من مصر وما وراءها، وكانوا يعطون
للغزاة سندات فيها نصيب كل شخص: فلان له إردب، فلان له إردبان،
فلان له نصف إردب، فلان له كذا، فيأتون بها إلى المدينة فيأخذها
أصحابها ليذهبوا إلى الميناء ويستلموا حصصهم، فكان البعض منهم يأخذ
السند ويبيع ما فيه على الآخرين، فقام بعض السلف وقال: يا مروان ! إنك تبيح الربا، فهؤلاء يبيعون ما لا يملكون، أي: إنهم لم
يستلموها ولم تصل إلى أيديهم، فمنعوا من ذلك، فهو وإن كانت حصته في
الغنيمة مضمونة شرعاً، وكانت معلومة العين، فالغنيمة مائة ألف، وهم
ألف نفر، فلكل واحد مائة؛ فلا يحق له أن يبيع حصته ولو كانت معلومة(3/253)
المقدار؛ لأنها ملك عام في الجملة، حتى تقسم ويقبض نصيبه، وحينئذ
يبيع كيف شاء.
النهي عن بيع الصدقات حتى تقبض
قال: (وعن شراء الصدقات حتى تقبض). وذلك مثل الصدقات التي توزع على
المحتاجين بسندات، فكانوا يبيعون ما في السندات من تلك الصدقات،
وأيضاً لو كان من عادة التاجر الفلاني أن يقسم صدقاته على البيوت،
وصفتها كذا وكذا، وجاء بصدقة كبيرة -مثلاً- وجعل لكل بيت إردباً أو
كيساً أو نحوه، وقد كان يؤتى بالصدقات وتجعل في سرسون في محطة
القطار، فمعروف أن لكل إنسان مقداراً معيناً، وعنده سند في ذلك،
وينتظر وقت التسليم فيذهب يستلم، فلا يجوز لإنسان أن يبيع حصته من
الصدقة المعينة بسند في يده وهي لا زالت في مكانها حتى يستلمها،
فإن أراد أن يبيعها فله ذلك، أما قبل أن تقسم وقبل أن يستلمها فلا
يجوز بيعها، فهي مثل المغانم.
النهي عن ضربة الغائص وما شابهها
قال: (وعن ضربة الغائص). يقولون: ضربة الغائص، وعمل الغوص أمر
قديم، وكذلك رمية الصياد، وضربة الغائص: أن يأتي الغائص الذي يغوص
في البحر ويبحث عن الصدف فقد يجد فيها لؤلؤاً وقد لا يجد فيها
شيئاً، فيأتي الغواص على حافة البحر ويغوص وما يرزقه الله يجمعه
ويبيعه، فيأتي إنسان ويقول: يا فلان! أشتري منك ما يحصل لك في
ضربتك هذه، أي: في غوصتك إلى البحر، فسيذهب ويغوص، ولكن لا ندري ما
الذي سيأتي به، فقد يجد صدفة أو صدفتين فيها لؤلؤ، وقد يجد الصدف
فارغاً! فضربة الغواص أي: بيع ما يحصل عليه الغواص في ضربته، وهذا
لا يجوز؛ للجهالة. وكذلك رمية الشبكة، كأن يقول: ارم الشبكة وعلى
حسابي وبعشرة ريال، فيرمي الشبكة وربما طلع فيها ما لا تحب أن
تراه، وربما لم يطلع فيها شيء، وربما طلع فيها ما يغني الصياد طوال
السنة، فكيف تأخذه منه بعشرة ريال! إذاً: ما ستأتي به الشبكة نظير
ما ستأتي به ضربة الغواص، وكل ذلك مجهول. وكذلك نصب الفخ، فلو قلت(3/254)
لصاحب الفخ: الذي يأتي به الفخ لحسابي وأنا أشتريه منك بكذا، فأنت
تنتظر غزالاً، أو تنتظر نعامة، أو تنتظر بقر الوحش، فإذا به يمسك
لك ذئباً؛ وكذلك إذا اشترك في شراء حمولة الباخرة، وهو لا يعلم عن
كمية البضاعة، ولا عن نوعيتها، ولا كم تساوي، وهل هي مناسبة أم
لا... إلخ. فكل ما كان مجهول النتيجة، فمنها تجددت صوره وأنواعه،
فإن القاسم المشترك بين ذلك كله هو وجود الجهالة، وبه يحكم على هذه
المعاملات بالتحريم. وبالله تعالى التوفيق.
( كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [12] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته)
2 شرح حديث: (إذا تبايع الرجلان فهما بالخيار)
3 شرح حديث: (البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا...)
4 شرح حديث: (إذا بايعت فقل: لا خلابة)
كتاب البيوع - باب الخيار
المعاملات في الإسلام مبنية على عقود، والعقود عادة إنما تتم بالإقرار
والموافقة، ومن هذه العقود عقود البيع إذ تدخل تحت هذا، إلا أنه من
سماحة هذا الدين أن أجاز لمن رأى التراجع عن بيعه أن ينقضه برضا الطرف
الثاني عن طريق الإقالة، وهذا مبني على التسامح.
شرح حديث: (من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أقال مسلماً
بيعته أقال الله عثرته ) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه
ابن حبان والحاكم ]. قبل البدء في شرح هذا الحديث ننبه إلى
موضوع التلقيح الاصطناعي؛ لأنه ربما يدخل في الشجر عن طريق
التطعيم، كأن تكون شجرتين متجاورتين ومن فصيلة واحدة كالأملاح،
فيؤخذ غصن من هذه، ويضبب ويجرح، مع غصن من هذه يضبب ويجرح، ثم تدبس
الضبتان معاً ويوضع عليها الطين، وتلف بالخرق، ثم يوالى عليهما صب
الماء، ثم هاذان الغصنان سينبت منهما جذور جديدة، ثم تفصل هذه(3/255)
الأغصان وتزرع من جديد كشتلة، فتأتي الثمرة جامعة بين خصائص
الشجرتين، فمثلاً: ما يسمى بيوسف أفندي هو من برتقال وليمون، وهذا
نوع من تلقيح شجرة بشجرة. على كل: هذا باب واسع في مجاله، والذي
يهمنا النهي عن بيع الملاقيح، ولكن يجوز أن يكارم صاحبه عليه.
انتقل المؤلف رحمه الله إلى حديث خاتمة الباب، وهو نعم الخاتمة،
وهو يأتي على جميع صور البيع، وعلى جميع العقود اللازمة، ما عدا ما
يدخل فيه المحرمات كالنكاح والطلاق، وذكر هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أقال
مسلماً أقال الله عثرته )، هنا قيد (المسلم)، وفي رواية: (من
أقال نادماً أقال الله عثرته يوم القيامة ) .
تعريف الإقالة وصورتها
الإقالة هي المسامحة والرفع، تقول: أقلني من العقد. أي: سامحني فيه
وارفعه عني. وهذه من أحسن مكارم الأخلاق بين المتبايعين، وتدل على
كرم النفس والسماحة، والتماس العذر وقبوله من الأخوة، وهي معروفة
قبل الإسلام وفي الأمم الماضية، وقد جاء عن نبي الله داود عليه
السلام حينما أوحى الله إليه: أن ابنِ لي بيتاً في بيت المقدس،
وأراه المكان الذي يبني فيه البيت -أو المسجد- وكان الموضع ملكاً
لرجل من بني إسرائيل فاستدعاه، وقال له: ثامني على هذا الحوش؛
لأبني فيه بيتاً للرب سبحانه. قال: اشتر. فقال: بمائة ألف. قال:
بعتك، ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك: الأرض أحسن أم الثمن؟ قال:
استنصحتني؛ الأرض أحسن. قال: أقلني. قال: أقلتك. قال: اشتر. قال:
بمائتي ألف. قال: بعتك، ثم قال: أستنصحك: الأرض أم الثمن. قال:
الأرض. قال: أقلني... خمس مرات. يهمنا في هذا الخبر: أنه طلب من
نبي الله أن يقيله فأقاله، وفي الخبر: النصح لله ولعامة المسلمين،
وهذا نبي معصوم من الغش، فنصح للرجل بالحق، ولو كان ذلك على نفسه
هو؛ حتى ارتفع السعر خمسة أضعاف، وذلك نتيجة النصح والصدق، أخيراً(3/256)
لما تعب داود عليه السلام من الرجل قال له: سم ما شئت أعطه لك.
قال: أو تفعل؟ قال: نعم، قال: تملأه علي إبلاً وبقراً وغنماً. قال:
قبلت. ودعا بني إسرائيل ليجمعوا في الحوش من تلك الأنعام حتى
ملئوه. يهمنا في هذا وجود عنصر الإقالة، وصورة الإقالة كما أشارت
رواية الحديث الأخرى: (من أقال نادماً ): رجل اشترى السلعة
برغبة منه، ثم بعد ذلك بدا له أمر وندم على شرائها، قد يكون كطلبة
العلم، يرى الكتاب في المكتبة فيعجبه، ثم يرجع إلى مكتبه ليضعه ضمن
الكتب فيجده موجوداً عنده، وكثيراً ما يقع هذا، فيرجع إلى صاحب
المكتبة: أنا أخذت الكتاب فوجدته موجوداً عندي في المكتبة، وندمت
على شرائه، تقيلني؟ فهنا إن كان صاحب المكتبة كريم النفس، يحب
لأخيه ما يحب لنفسه، يقيل عثرات الإخوان سيقول: لا عليك يا أخي،
بكم أخذته مني؟ تفضل هذا ما دفعته، هذه هي الإقالة، وهي لا تتقيد
بزمن.
جواز وقوع الإقالة من البائع والمشتري
أصل المبحث في الإقالة هو حول نقطة أصولية هي: هل الإقالة بيع أم
فسخ؟ إن قيل: إنها بيع فيجري فيها أحكام البيوع، وإن قيل: فسخ،
فتجرى عليها أحكام الفسخ بأن يرجع الأمر إلى ما كان عليه قبل
العقد: يأخذ المشتري الثمن الذي دفع، ويرد السلعة التي أخذ، أما
إذا قلنا: إنها بيع، دخلتها المساومة.. أرد الكتاب؟ كم ستدفع؟ كم
ستنزل من الثمن؟ أعطيك واحد في المائة ورد الباقي، أو البائع ندم
وجاء إلى المشتري وقال: ندمت على بيعه لأنه ليس عندي غيره. أي: أن
الندم قد يكون من البائع أو من المشتري، فكلٌ منهما قد يعتريه
الندم، وقد يضطر إنسان أن يقدم سلعة للبيع لضرورة نزلت به، وهذه
السلعة من ألزم ما تكون عليه، ثم يندم ويستعيض عنها ويريد أن
يرجعها، كرجل اضطر إلى مال وليس عنده، فجاء لزوجه -وكانت خيرة-
فقالت له: خذ، بع هذا. فأخذه على استحياء وانكسار نفس، كيف يحتاج
ويمد يده إلى مال الزوجة، وهو الذي قد أعطاها إياه منحة من عنده؟(3/257)
لكن للضرورات أحكام، فذهب وباع. بعد قليل جاء الله بالفرج من جانب
آخر؛ فندم على بيع ما كان لا ينبغي أن يبيعه، فجاء إلى المشتري
وقال: أنا ندمت، بعتك المصاغ في حالة اضطرار، والآن فرج الله
الأمر، وأريد أن أرد المصاغ لأهله. إذاً: الندم جاء من البائع، كما
أنه يأتي من المشتري، وحينئذ المشتري أيضاً يكون كريم النفس، طيب
الأصل، ينظر إلى حاله، فيعذره في ندمه، ويقول: لا عليك رد القيمة،
فيرد إليه كامل القيمة. الإقالة: هي رد المبيع واسترجاع الثمن، لكن
ما حكمها المترتب عليها، هل هي بيع أم فسخ؟ إن قلنا: فسخ؛ فإن
الأمر يرجع إلى ما قبل العقد، ولا يترتب عليها ما يترتب على البيع،
فمثلاً: شخص له شقص في بيت فباعه، وكان الشريك غير راغب في الشفعة،
وترك الشفعة وسقطت شفعته؛ لأنه لم يبادر إليها، ثم علم أن البائع
الذي هو شريكه استقال المشتري واسترجع الشقص لملكه، فرجع شريكاً له
مرة أخرى، ولو قلنا: الإقالة بيع، فللشريك أن يأخذها بالشفعة، وإن
قلنا: فسخ، فليس له حق أن يقول: أنا آخذ الحصة بالشفعة، فنقول له:
هذا فسخ للعقد، ورجعت الحصة إلى ما كانت عليه لصاحبها، فليس بيعاً.
وإن كان طالب الإقالة المشتري، وجاء ليرد السلعة إلى صاحبها: بكم
اشتريتها؟ بمائة، كم تسقط من الثمن؟ قال: عشرة في المائة .. أنت
تأتي لترد والثاني والثالث يرد، ماذا أستفيد أنا؟ اشتريت بمائة أنا
أقبل أن أرد لك السلعة وآخذ عشرة في المائة من قيمتها، إن قلنا:
الإقالة فسخ فلا يحق له أخذ شيء، وما دفعه المشتري يأخذه كاملاً،
وإن قلنا: بيع، فلا مانع من المساومة من جديد، كما لو كانت الإقالة
من البائع: أنا بعتها عليك بمائة، ردها علي وأعطيك عشرة فوق
المائة، فإذا قلنا: إن الإقالة بيع، جاز فيها الزيادة والنقص على
سبيل المبايعات: مساومة ومزايدة ومناقصة، وإن قلنا: فسخ؛ فلا دخل
للزيادة ولا للنقص فيها، وإن قلنا: إنها بيع دخل حق الشفعة للشفيع،(3/258)
وإن قلنا: إنها فسخ لا دخل للشريك بالشفاعة فيها. إن قلنا: إنها
بيع، ووجد عيب لم نطلع عليه من قبل؛ فللمشتري عوض الأرش في العيب
على أنه بيع، وإن قلنا: هي فسخ؛ فسلعتك ترجع إليك على ما كانت هي
عليه.
شمول الإقالة لأبواب المعاملات
الرسول صلى الله عليه وسلم رَغّب في الإقالة وحث عليها؛ لبقاء
الألفة والمودة والأخوة بين المتبايعين، وقد لا يخلو منها سوق من
الأسواق، وكثير من الناس ربما يعرض له ما يجعله يرجع عن هذا العقد؛
فالذي ينبغي على المسلمين أن يراعوا هذا الحديث، وأن يعامل بعضهم
بعضاً بهذا الإرفاق. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أقال الله عثرته )،
الجزاء من جنس العمل، والعثرة: هي ضربة اصطدام في حجر أو نحوه،
يعثر قد يسقط ويجرح، ثم عممت في كل زلة وخطأ يرتكبه الرجل، يقال:
هذه عثرة من فلان. أي: في هذا التصرف أو العمل أو الممشى، فلو أن
إنساناً أخطأ عليك. كانت هذه زلة وعثرة، ثم جاء واعتذر إليك، عندها
ينبغي أن تقيل عثرته وزلته وتقبل اعتذاره، وهذا من إقالة أخيك في
ما ندم عليه، مما ارتكبه في حقك، وهكذا تدخل في كل العلاقات بين
الأصدقاء والإخوان؛ لتبقى أصول المودة، وليست قاصرة على البيع
والشراء، ولكن أصل البحث فيها في البيع والشراء لضمان الحقوق
واسترجاعها، وقد تعمم بأكثر من ذلك لما بين الناس وبعضهم من
الصلات. ومن أحسن ما ورد في باب إقالة العثرات: ما جاء عن الحسن بن
علي رضي الله تعالى عنهما مع محمد ابن الحنفية أخوه لأبيه،
محمد ابن الحنفية أمه من بني حنيفة، والحسن بن علي أمه بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الخبر: كانا معاً في السوق،
فحدث بينهما ما يقع بين الإخوة، وذهب كل منهما إلى بيته، فلما
استقر محمد ابن الحنفية في بيته أخذ ورقة وكتب فيها: من محمد
ابن الحنفية إلى الحسن بن علي ابن بنت رسول الله صلى الله
عليه وسلم. انظروا إلى هذا الأسلوب، هو ابن علي ، فلماذا لم(3/259)
يقل: محمد بن علي ؟ هضم نفسه إلى أقصى حد وانتسب إلى الجارية،
ونسب أخاه إلى أعلى حد.. بعلي ابن عم رسول الله. وابن بنت
رسول الله؛ لأنه في معرض التكريم والإصلاح. أما بعد: تعلم ما كان
بيني وبينك في السوق، وقد رجعنا إلى بيوتنا، ولقد هممت بعد العودة
أن آتيك وأستسمح منك، وأستقيلك ما كان مني، ولكني تذكرت مكانك من
رسول الله - فهو ابن بنت رسول الله، وابن علي ابن عم رسول
الله- فكرهت أن أكون بمجيئي صاحب فضل عليك، فإذا أتاك خطابي هذا
فخذ ثيابك، وشد نعلك، وائتني أنت في بيتي ليكون لك الفضل علي.
انظروا إلى مكارم الأخلاق! استكثر أن يكون له الفضل على الحسن بن
علي ابن بنت رسول الله بأن يأتيه في بيته، هذا يد وفضيلة ومنة،
قال: لا، أنا لست كفئاً أن تكون لي عليك يد ومنة وأنت ابن بنت رسول
الله، وهذه المكرمة يجب أن تكون من ابن بنت رسول الله علي أنا،
لأني أنا ابن الحنفية . إذاً: إقالة عثرات الإخوان تكون في كل
الأمور. والله سبحانه وتعالى أعلم.
شرح حديث: (إذا تبايع الرجلان فهما بالخيار)
قال رحمه الله تعالى: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما: عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ]. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء
سمع من رسول الله أو قال له رسول الله، بأي حالة من الحالات فابن
عمر يسند الخبر إلى رسول الله، يعني: أن هذا الخبر الذي
سيأتينا به إنما هو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس من عنده
ولا من عند صحابي آخر، بل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. [
(عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا تبايع الرجلان ) ].
(تبايعا)، على وزن تفاعلا، من طرفين، مثل تشاجرا، تشاركا، تقاربا،
وهي هنا صيغة من صيغ العقود، وفي علم البيان تصلح إنشاء وإخباراً،
وكذلك حينما تقول: بعت الكتاب. فهي تصلح أن تكون إخباراً عن البيع
الماضي، وتصلح أن تكون إنشاءً في البيع، كما لو جاء إنسان وقال:(3/260)
أريد هذا الكتاب؟ يقول: بعتك. فـ(بعتك) يمكن أن تكون إنشاء كلام
وإنشاء حكم نسبي، ويمكن أن يكون إخباراً عن ماض، فإذا قال:
(تبايعا) يعني تم البيع بينهما أو أخذا يتبايعان، والفرق بينهما:
هو الذي سيأتي عليه مبنى الخلاف بين الأئمة رحمهم الله. فإذا قلنا:
إذا تبايعا أخذا في المبايعة، تبايع الرجلان: تفاهما على البيع،
وحصل الإيجاب والقبول، وتمت عناصر البيع. (الرجلان) هل الرجلان
مفهوم صفة أم أنه مفهوم لقب؟ بمعنى يدخل فيه المرأتان أو رجل مع
امرأة كذلك؟ المعنى: إذا تبايع المتبايعان رجلان، امرأتان، رجل
وامرأة.. كل ذلك ما دام أنه في حيز التكليف والعقل والحرية وصحة
التصرف والأهلية فهو داخل في: (إذا تبايع الرجلان). ثم قال: [ (فكل
واحد منهما بالخيار ) ]. هما: ضمير مثنى، وعندنا اثنان فقط:
البائع والمشتري، فكل واحد منهما بالخيار في البيع الذي أوقعاه،
أي: من حق كل واحد منهما أن يقول لصاحبه: أنا رجعت عن البيع،
والثاني يقول له: أنا رجعت عن الشراء، فكل واحد منهما بالخيار.
خيار المجلس
وقوله: [ (ما لم يتفرقا وكانا جميعاً ) ]. هذا يسمى خيار
المجلس، فما داما مجتمعين وكانا في مجلس في السوق أو البيت ما عدا
المسجد؛ لأن المسجد لا يصح فيه البيع والشراء، فإذا كانا في سيارة،
طائرة، أوتوبيس، باخرة... في أي مكان يجمعهما وتبايعا فيه، فهما
بالخيار ما لم يتفرقا، سواء كانا في الدكان، أو المعرض فتبايعا
وأخذ المشتري سلعته وخرج، فقد افترقا عن مجلس العقد، فهنا لما
افترقا فلا خيار، وإن كان المعرض كبيراً، وفيه عدة أصناف من السلع،
وعند كل صنف بائع، فوقف عند هذا الصنف وتبايع مع المسئول فيه، وتم
البيع، وأخذ سلعته، وذهب -في نفس المعرض- إلى الصنف الثاني؛ فقد
افترقا عن محل عقد الصنف الأول. وهكذا يقول أحمد رحمه الله:
الافتراق بين المتعاقدين في كل صورة بحسب العرف، فإن كانا في دكان(3/261)
صغير وخرج أحدهما من الباب فقد افترقا، إذا جاء راجعاً وقال: أنا
رجعت. نقول له: ليس لك خيار، ثم ننظر: إن ادعيت موجباً آخر فنعم،
أما لمجرد عدم الرغبة فهذا يكون ممتداً ما دمت معه في المجلس، فإذا
فارقته وبعدت عنه فحينئذ افترقت، فليس لك حق الخيار في المجلس. إذا
كانا في سفينة -كما يقول أحمد - وكانت صغيرة يكون التفرق بذهاب
هذا هنا أو ذهاب هذا هناك، وإن كانت كبيرة وذات أدوار، ونزل هذا
إلى السفل وصعد هذا إلى العلو، إن كان وإن كان... بحسب ما يكون
العرف، فإن وقع الافتراق فلا خيار للمجلس، قال هنا: ما لم يفترقا
وكانا جميعاً، أما إذا تبايعا عن بعد، بالمراسلة، بالهاتف،
بالفاكس، بكذا وبكذا، فهم متفرقون أصلاً، فلا يدخل في هذا الباب،
إلا إذا قلنا: وهما على السماعة، وتفاهما على البيع، وقبل أن ينهيا
المحادثة قال أحدهما: يا فلان! أنا تراجعت، لم نفترق بعد، ما زلنا
على السماعة، والحديث لا زال موصولاً، حينها لهما الحق في ذلك.
وهذا الخيار يفسخ العقد دون رضا الطرف الثاني، سواء كان الذي أراد
الفسخ هو البائع كأن يكون تأسف على بيعها، أو ادعى غبناً أو لم
يدع، أو مجرد رغبة في السلعة، وكذلك المشتري، ولو لم يدع غبناً،
يقول: إن سعرها طيب ورخيص، لكن أنا عندي غيرها في البيت، وأنا في
غنى عنها، ما دام في المجلس مع البائع فله حق الرد ولو بالقوة، أما
إذا افترقا عنه؛ فحينئذ بطل خيار المجلس. وسيأتي خيار الشرط وهو
أوسع ما يكون وأطول وأكثر تفريعاً.
ذكر خلاف العلماء في ثبوت خيار المجلس
هذا النوع من خيار المجلس قال به كل من أحمد والشافعي رحمهما الله ومن وافقهما أو من سبقهما من الصحابة والتابعين، أما
مالك وأبو حنيفة رحمهما الله فلم يقولا به، وصار هناك
تشنيع على مالك وأبي حنيفة ، الحديث صحيح ولماذا لم يقولا
به؟ وقد رواه مالك في الموطأ، وما كان يجهله، ولكن لماذا يرويه(3/262)
ولا يعمل به؟ وهذا هو الذي كثر الحديث عنه عند أهل الحديث في شأنه
وفي شأن مالك ، حتى قال بعض معاصري مالك فيه مقالاً، وكذلك
هو مذهب ربيعة شيخ مالك ، ومذهب خالد الزنجي شيخ
الشافعي ، وإذا جئنا إلى سبب رفض مالك العمل بهذا الحديث،
يقول: هذا مما ليس عليه عمل أهل المدينة، مع أن ادعاء الإجماع في
المدينة لا يتأتى؛ لأن هناك ابن أبي ذئب -وهو من قرناء مالك - قد عمل به، وأخذ بخيار المجلس، وقد ابن عبد البر من أخذ به
من المدينة، وبعد إطالة النقاش قال: إن المالكية والأحناف سردوا في
هذا الباب شيئاً كثيراً لا دليل لهم فيه، شبهتهم -كما نص مالك في الموطأ-: بأنه لم ير أحداً من أهل المدينة يعمل به، وهناك نصوص
أخرى ساقها أبو حنيفة رحمه الله، منها: أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ [المائدة:1]،
يقول: إذا كنا سنجعل خيار المجلس عند التبايع فلا يمكن وفاء بعهد
ولا وفاء عقد، وكلما عقدنا عقداً اختار في المجلس فسخه. ولكن
أجابوا عن ذلك: بأن هذا عام في طريق، وهذا خاص في طريق آخر، ولا
يرد هذا على ذاك. ثم يقولون: لو قلنا بخيار المجلس بعد انعقاد
العقد، وهو: إن كان لم يقع العقد فله الحق، وإن كان بعد انعقاد
العقد فقد انتهى ما بينه وبين صاحبه، وقالوا: إذا تبايعا بمعنى
تساوما، فإذا كانا في حالة المساومة فكل منهما بالخيار، فقال ابن
عبد البر وغيره: لو حملناه على المساومة لضاعت فائدة الحديث؛
ومعلوم أنه قبل أن يأتي هذا الحديث أن المتساومين بالخيار، ولا
يحتاجان إلى حديث يعطيهما حق الفصل ما داما في المساومة ولم يستقر
الأمر، إذاً: كل منهما له حق. وقالوا أيضاً: البيعان بالخيار، إذا
قال البائع: بعت، والمشترى لم يقرر بقوله: اشتريت. فهذا التبايع
وجب من طرف واحد -وهو البائع- والمشتري لم يقل: اشتريت. يعني: أن
البيع وقع من طرف واحد، وبقي الطرف الثاني لم يعقد العقد، فقد عقد
على نفسه -وهو البائع- الخيار قبل أن يعقد المشتري البيع بقوله:(3/263)
اشتريت؛ لأن البيع لم يتم بعد. وكما قال ابن عبد البر رحمه
الله: كل ما ذكروه احتجاجاً برد الحديث لا محل له، وقال أيضاً عن
الإمام أبي حنيفة رحمه الله: إنه عادة ما يعرض حديث الآحاد على
الأصول في الكتاب والسنة، فإذا وجده مخالفاً ربما تركه. وهذا من
أشد ما يؤخذ على أبي حنيفة رحمه الله. وهنا نحب أن ننبه الإخوة
على كلام ربما وقفوا عليه لابن أبي ذئب في مالك -ليعلموا
ما بين الأقران- وإذا كان ابن أبي ذئب يحمل على مالك ،
فلماذا لا يحمل على ربيعة شيخه، وعلى أبي حنيفة وأصحابه
محمد بن الحسن وأبي يوسف وزفر ، وكلهم يقولون بعدم
خيار المجلس؟ فإذا كانت المسألة علمية، وكان الاجتهاد موجوداً وله
مجال في القضية فلا ينبغي التحامل على أحد الطرفين فيما فهمه.
ويقول ابن عبد البر اعتذاراً عن مالك : لعله قد بلغه ما
ينسخ هذا الحديث، فترك العمل به. والراجح عند جمهور العلماء: ثبوت
خيار المجلس، وعليه مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله، وهو
قول ابن عمر ومن وافقه من الصحابة من التابعين، وهذا القدر
يهمنا في هذا الحديث: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار
ما لم يتفرقا ) .
الرد على من تأول التفرق بتفرق الأقوال
ومما تأولوا به هذا الحديث أن قوله: (تفرقا) أي: بالكلام، .. كأن
يتبايعا بخمسة أو بستة أو بعشرة، صفاته كذا وكذا وكذا. في هذا
المجال لهما الخيار، لكن إذا قال: قبلت .. اشتريت، بعت.. أخذت..
اليوم سمعنا أخبار كذا وكذا، وأخذا يتحدثان عن موضوع بعيد عن موضوع
العقد، هنا افترقا في القول عن موضوع العقد، فحملوه في بعض
التأويلات على الافتراق بالقول، وبعضهم يدخل دلالة اللغة في هاتين
الكلمتين، والواقع أن كلاً منهما تستعمل مكان الأخرى: وَإِنْ
يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء:130]
، وَمَا تَفَرَّقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَةُ [البينة:4]،(3/264)
((وما تفرق)) أي: في الكلمة، (( إن يفترقا )) أي: بأبدانهما، فجاءت
في كلا الأمرين تعبر عن افتراق الأبدان وافتراق الكلمة. ولكن يرد
هذا التأويل قوله: (وكانا جميعاً) بأبدانهما، فيكون الافتراق
بالأبدان وليس باللسان، وهذا القدر يكفي في التنويه على هذا
الحديث، ومن أخذ به، ومن رده، وبم رد من تأويلات، والله تعالى
أعلم.
جواز سقوط خيار المجلس
قوله: (إذا تبايع الرجلان؛ فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا أو
يخير أحدهما صاحبه ) فالتفرق يسقط خيار المجلس، وكذلك يخير
أحدهما الآخر وهما في المجلس.. البائع قال للمشتري: ما رأيك؟ شاور،
اختر، أتمضِ البيع؟ خيره في المجلس فاختار البيع، وهما في المجلس،
ثم بعد فترة وهما في نفس المجلس، قال: تراجعت. لماذا؟ قال: لا زلنا
في المجلس: (ما لم يفترقا) ونحن ما افترقنا، يقول له: لا؛ لأن
صاحبك خيرك فاخترت إمضاء البيع فلا خيار لك. (أو يخير أحدهما الآخر )
سواء كان الذي خير صاحبه البائع واختار المشتري الإمضاء، أو الذي
خير صاحبه المشتري واختار البائع المضي في البيع، فإذا خير أحدهما
صاحبه وقال: تعاقدنا، تبايعنا؟ قال: نعم. قال: لك خيار؟ قال: لا،
أنا جزمت وانتهيت، عندها يكون انتهى العقد، ولا خيار للمجلس بعد
ذلك، أو يقول أحدهما: أنا من جانبي أمضيت، والبائع: أنا بعت
وانتهيت، وأنت شاور وفكر، ولك الخيار إلى الغد، أما أنا فلا خيار
لي. أصبح الخيار هنا لواحد، والثاني أسقط خياره وأعطى صاحبه مهلة،
فيذهب هذا صاحب الخيار ويأتي في المهلة أو قبلها ويقول: أمضيت
البيع، انتهى. فإذا جاء وقال: ما ناسبني -بشرط ألا تنتهي المهلة-
فله الحق في تلك المدة أن يختار وأن يرد السلعة أو أن يمضي العقد.
إذاً: بالافتراق، أو بتخيير أحدهما الآخر ينتهي خيار المجلس.
وينبغي التنبيه أيضاً على أن هناك أنواعاً من البيوع لا يدخلها
خيار المجلس. منها: بيع السلطان؛ فإذا قام السلطان ببيع مال إنسان(3/265)
مدين ليسد دينه، وأعلن عنه، ورسا المال على شخص، فلا يحق للذي رسا
عليه البيع وهو في المجلس أن يقول: لي خيار المجلس. ومنها: بيع
التركة بين الورثة.. الورثة لهم تركة وأرادوا أن يبيعوها
ليتقاسموها، وسواء واحد منهم أو خارج عنهم اشترى شيئاً من التركة
فليس له خيار فيما اشتراه. ومنها إذا كان يشتري من نفسه لنفسه بأن
كان ولياً أو وصياً على صبي، وأراد أن يبيع من ماله للصبي أو يشتري
من مال الصبي لنفسه، فإذا تم العقد، فلا خيار له؛ لأن الخيار للنظر
في المصلحة، وكذلك بين الشركاء، إن كانوا شركاء في شركة، وأرادوا
أن يتفاصلوا وعرضوا الموجود للبيع، فاشترى أحد الشركاء أو جاء
إنسان من الخارج واشترى من سلع الشركة، فلا خيار مجلس في ذلك.
فهذه: بيع السلطان والتركة والشركة، ومن كان متولياً طرفي العقد في
صفقة، فلا خيار لواحد من هؤلاء، كما أنه هنا لا خيار بعد التفرق،
ولا خيار بعد أن يخير أحدهما الآخر. قال: [ (فإن خير أحدهما الآخر
فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع ) ]. هذه صورة ثانية: تبيعني
هذه السلعة؟ - لا، أنت لست مشترياً، أنت ستذهب تشاور أمك أو زوجتك
أو كذا، أنا أريد بيع وشراء ليس فيه خيار، خيره قبل العقد، قال: لا
مشاورة ولا خيار، نتبايع وننهي البيع الآن؛ فتبايعا. ليس له أن
يرجع ويقول: لي خيار المجلس، وإن كان بعض الحنابلة يجيز له ذلك،
لكن الجمهور على أنه ما دام خيره من قبل وخشي من هذا التطويل،
وقال: ما هناك خيار، ونتبايع على ألا خيار بيننا. فقال: قبلت.
وتبايعا على ألا خيار بينهما، فقد تم البيع. قال: [ (وإن تفرقا بعد
أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع؛ فقد وجب البيع ) ]. لم
يقل البائع: أنا تركت البيع ورجعت. ولم يقل المشتري: أنا تركت
البيع ورجعت.. بعت، اشتريت، في أمان الله، تفرقا، بعد هذا التفرق
ما حصل من واحد منهما أنه رجع، أو طلب الفسخ، أو الخيار، أمضيا
البيع ومضى كل في سبيله، وحينها لزم البيع.(3/266)
شرح حديث: (البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا...)
قال رحمه الله تعالى: [ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي
الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البائع والمبتاع
بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه
خشية أن يستقيله ) ]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البائع
والمبتاع -بصريح العبارة- بالخيار -في عقد البيع- ما لم يتفرقا إلا
أن تكون صفقةَ -أو صفقةُ- خيار ) على ما تقدم في حديث ابن عمر . أشتري منك على أن يكون لي الخيار عدة أيام، ونجد أغلبهم على أن
مدة الخيار ثلاثة أيام، ومالك يقول: ليس في ذلك حد عندنا ينتهى
إليه، وكل سلعة خيارها بحسبها، فإذا اشتريت ثوباً أو بعيراً، فهذه
يكفي فيها ثلاثة أيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صاحب
المصراة ثلاثة أيام يحلب وينظر، وبعد الثلاثة الأيام ستظهر، قال:
وأكثر من ذلك أكرهه. إذا اشترى عبداً على الخيار: هل تكفي ثلاثة
أيام لاكتشاف كل نوايا العبد أو طبائعه أو أخلاقه؟ لا تكفي، اشترى
داراً، هل الثلاثة الأيام تكفي لمعرفة الدار وحسن بنائها، ومعاملة
جيرانها، وتصريف مرافقها ومنافعها؟ لا، فقالوا: كل سلعة بحسب
مكانها تكون مدة اختيارها. إذاً: (إلا أن تكون صفقة خيار)، أي:
مشروط لها خيار، كم يكون؟ الجمهور يقولون: ثلاثة أيام، ومالك يقول: لا حد في ذلك عندنا؛ لاختلاف السلع فيما تحتاجه من مدة
يتأملها المشتري، ويعرف محاسنها وعيوبها، والحديث يجيز وجود الخيار
بين المتبايعين إلى مدة ما اتفقا عليه؛ ما لم تكن المدة حيلة
لاستفادة البائع من المبيع؛ على ما سيأتي بيانه في الخيار في
الأجرة على مدة لا تلي العقد. قال: (إلا أن تكون صفقة خيار) وصفقة
الخيار: أن يتفق الطرفان على وجود خيار لأحد المتعاقدين مدة معينة
بعد إمضاء العقد، سواء كان الخيار للبائع.. أنا أبيعك لكن أريد أن
تعطيني مهلة يومين، المشتري: أما أنا فقد أمضيت البيع من عندي،(3/267)
وأنت لك مهلة ثلاثة أيام. أو كان الخيار للمشتري، البائع قال:
بعتك. والمشتري قال: اشتريت؛ ولكن أريد أن أشاور أخي الأكبر، أشاور
صديقي، أشاور صاحب خبرة. قال: لك ثلاثة أيام. فوقعت الصفقة صفقة
خيار، فهما على شرطهما، إن اختار إمضاء البيع في المدة فالحمد لله،
وإن اختار رد المبيع وفسخ العقد فله الحق في ذلك، وإن كان دفع
الثمن يسترجعه. ثم تأتي الأحكام والتفريعات التي نص عليها ابن عبد
البر وغيره: إذا كان الخيار مدة عشرة أيام، والسلعة في يد
المشتري من أجل أن يختبرها، فضمانها وغرمها على من؟ وغنمها لمن؟
تقدم لنا بأن الغنم بالغرم، فهي في يد المشتري على ملكه، وإن تلفت
فعلى حسابه، وإن غنمت فلحسابه، إن رد البيع أو أمضاه، أو كان عبداً
يحتاج إلى مئونة، أو فرساً يحتاج إلى علف فعلى المشتري؛ لأنها في
ملكه، أما إذا بقيت في يد البائع فهي أمانة عنده للمشتري. وهذه
التفريعات التي تكثر في هذا الباب لا تحصيها إلا موسوعات الفقه
الموسعة. إذاً: جاز خيار الشرط، وخيار الشرط أهم ما فيه هو: ألا
يتخذ حيلة، وهذه الحيلة كنا نسمع بها في اليمن على مدى واسع في
العقارات، يأتيه ويبيعه العقار ويقول له: لك الخيار إلى أن تأتيني
بالثمن فأرد العقار عليك.. باعه البيت واستلمه وسلم الثمن، ثم ذهب
البائع بالثمن، وانتقل المبيع من بيت أو أرض إلى المشتري على أن
البائع له الخيار متى ما جمع الثمن جاء به إلى المشتري استرد البيت
أو البستان، المحظور في هذا ما هو؟ كان يأتي ويقول: أقرضني ألفاً.
يقول: ما عندي قرض. لكنني لست مستغنياً، أعطني البيت وخذ الألف،
ويوم أن تردني الألف خذ بيتك. (خذ بيتك) هذه ما هي؟ ظل يجمع الألف
سنة سنتين والبيت بيد المشتري، وحينما يرجع البائع ويقول: لي
الخيار، وقد أحضرت الثمن، فيسلم الثمن كاملاً للمشتري ويسترجع
البيت. سكنى البيت لمدة سنتين من قبل المشتري حتى جمع البائع الثمن(3/268)
مرة أخرى ورده لحساب المشتري الذي انتفع بها، هل كان الأصل في ذلك
بيع وشراء والغرم بالغنم، أم كان البيع مبناه على أن المشتري يقرض
البائع ويستفيد مقابل القرض سكنى البيت؟ فحينئذ يكون الشرط في
الخيار حيلة، وربما تجدونها في كتب الحنابلة في الإجارة، (ويصح
خيار الشرط في الأجرة ما لم تكن على مدة تلي العقد). هذه عبارة زاد
المستقنع، وبيان هذا: إذا كان عندك بيت، وتريد أن تؤجره، فأجرته
الآن، والمستأجر استلم البيت ودفع الأجرة، وشرط لك الخيار في رد
البيت شهراً، البيت عندك شهر، والأجرة عندك، إن هو وقع له اختيار
الرد سيرده بعد شهر والأجرة عندك، ترد له الأجرة ويرد لك البيت،
حينما أخذ البيت عنده والخيار شهر، فرد البيع واسترد الأجرة كاملة،
أجرة الشهر إن كان استفادها مقابل مجرد خيار؛ فلا بأس، لكن إذا كان
الشرط والمهلة تلي عقد الإجارة؛ فهي حيلة ليستفيد المستأجر سكنى
البيت شهراً، وسيرده بعد مدة الخيار ويسترجع الأجرة كاملة. أما إذا
كانت مدة الخيار لا تلي العقد فهذا صحيح. مثلاً: نحن الآن في شهر
جماد الآخر، قال: أؤجرك البيت سنة كاملة تبدأ من واحد رمضان، وبينه
وبين رمضان أكثر من شهرين فقال له: لكن أنا أريد أن أشاور؟ قال: لك
الخيار شهر ونصف من الآن! هل سيستلم البيت؟ استلام البيت في الأول
من رمضان، والخيار يبدأ من الآن؛ لأن عقد الإيجار الآن والتسليم في
واحد رمضان، فإذا جعل له خياراً شهراً كاملاً لكنه لا يلي مدة
العقد؛ لأن مدة العقد من واحد رمضان، بل هو دون مدة العقد، هل
سيحصل هناك حيلة أو غبن في شيء؟ لا، اختر على ما ترى، والبيت عند
مالكه، وهناك وقت طويل حتى يأتي رمضان، استلم البيت وسلم الأجرة،
والفترة هذه كلها لك الخيار فيها، إذاً: ما ضاع شيء على صاحب
البيت. إذاً: خيار الشرط على ما شرطاه، ولكن يكره مالك وغيره
أن يكون على مدة طويلة؛ لأن فيها شبه نزاع، وألا يكون لحيلة(3/269)
يستفيدها أحد المتعاقدين في مدة هذا الشرط. [ (إلا أن تكون صفقة
خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله ) ]. هذا -كما
يقال- استطراد وتذييل يؤكد معنى الافتراق: ما لم يفترقا، أي:
بالأبدان، ولا يحل له، أي: أحد المتعاقدين أن يفارقه من المجلس
خشية أن يندم أو يستقيله، هل معناها التفرق بالأبدان أم التفرق
بالأقوال؟ بالأبدان، تعاقدتما وأنتما في المجلس، وتخاف أن يرجع في
كلامه فتخرج من المكان قصداً خشية أن يرجع، يعني: فارقه ليضيع عليه
خيار المجلس، فلا يحل له؛ لأنه فوت عليه فرصة أعطاه الشرع إياها،
وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما -وهو راوي الحديث الأول-
إذا تعاقد مع إنسان على شيء يهمه حينما يتم العقد يفارقه ويخرج، ثم
يرجع إليه، قالوا: إذاً كيف يفعل ابن عمر هذا، والرسول يقول:
(ولا يحل له أن يفارقه )؟ يذكر العلماء هذا دليلاً على أن
التفرق يراد به تفرق الأبدان وليس تفرق اللسان، ويعتذرون عن ابن
عمر بأن مفارقته لمن تعاقد معه بائعاً أو مشترياً أنه لم يبلغه
هذا النهي، ولا يحل له أن يفارقه خشية كذا، أو أنه يتأول ذلك على
سبيل الإرشاد وليس على سبيل اللزوم.. على كل له عذره، والله تعالى
أعلم. قال: [ وفي رواية: (حتى يتفرقا عن مكانهما ) ]. هذا هو
التفرق بالأبدان عن مكانهما.
شرح حديث: (إذا بايعت فقل: لا خلابة)
قال رحمه الله تعالى: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ذكر
رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع. فقال: إذا
بايعت فقل: لا خلابة )، متفق عليه]. معنى هذا الحديث: أن رجلاً
كان يبيع ويشتري ولكنه كان يخدع في البيع، وقيل: كان قد أصيب في
رأسه، وحصل في عقله شيء في المساومة وفي إدراك قيم الأشياء، فكان
يبيع ويشتري ويغبن كثيراً، فاشتكاه أهله إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فاستدعاه وقال: دعك من البيع والشراء الذي خسرت أهلك(3/270)
فيه، فيقول: يا رسول الله! ما لي غنى عن البيع والشراء.. لا أستطيع
أن أترك السوق ولا البيع والشراء، لابد لي من البيع والشراء. فقال
له صلى الله عليه وسلم: إذا بعت أو اشتريت فقل لمن تتعاقد معه: لا
خلابة. هذه الكلمة بمعنى: لا نقص، إن كنت أبيع لا نقص في الثمن،
وإن كنت أشتري لا نقص من جانبك تزيده علي في السعر، فكان إذا تعاقد
مع أحد يقول له: لا خلابة. وإذا تناكر مع إنسان يأتي واحد من
الصحابة يشهد له بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه هذا الحق،
والمؤلف يسوق هذا هنا لبيان جميع أنواع الخيار المتبقية، وهي تقوم
على خيار الغبن. فهذا الرجل كان يغبن في البيع والشراء، وأعطاه
الرسول صلى الله عليه وسلم حق النقض فيما يتعاقده إن ثبتت زيادة
عليه في السعر إذا اشترى، أو ثبت عليه نقص في البيع إذا باع، فكان
إذا اشترى سلعة ورجع بها إلى أهله وأخبرهم بالثمن إن أقروا ثمنها
مضت، وإلا رجعوا على البائع واسترجعوا الثمن. وهنا المبحث في هذا
الحديث: هل لكل إنسان أن يقول: لا خلابة؟ فبعض العلماء يقول: لكل
إنسان أن يقول ذلك؛ لأن هذا منع للغبن. والآخرون قالوا: لم يجعل
ذلك للعموم، ولكن جعلها لهذا الشخص بذاته فقط، فلا تصح إلا له ولمن
كان مثله؛ بأن كان سفيهاً، أو لا يحسن المساومة ... إلخ، فإذا وجد
من في مثله وفي تلك الحالة، وقال هذه الكلمة: لا خلابة، فهو على
ذلك، أما عامة الناس، والذي يتعاطى البيع والشراء، والذي يتعالم
ويجعل نفسه أشطر الناس، ويحصل ويحصل... لو قالها لا يسمع منه.
والمؤلف ساق هذا الحديث هنا مع الحديثين المتقدمين -خيار المجلس
وخيار الشرط- ليبين كل نوع من أنواع الخيار والتي يذكرها العلماء
إلى سبعة أصناف داخلة تحت هذا الحديث، وهناك نوع يسمى باسمه: خيار
الغبن، وخيار الغبن عند الأئمة تقدم بعض أفراده، ويثبت إذا تلقى
الركبان، وإذا وقع النجش، وللمسترسل الذي لا يعرف الأسعار، وفيما(3/271)
يتعلق بنوع من البيوع: التولية والمرابحة والمواضعة، والتولية: هو
أن تأتي للتجار: بكم هذه السلعة؟ فيقول: أنا لا أريد منك مكسباً،
ولا أن تخسرني، أبيعها لك برأس مالها عشرة. قلت: اشتريتُ. فتبين أن
رأس مالها ثمانية، فهذا غبن، ودلس عليك في السعر، فيرد حصة الربح.
وكذلك النقص، يقول: أنا لا أريد ربحاً ولا حتى رأس مال، أنا أتنازل
لك بعشرة في المائة من رأس المال، كم قيمتها؟ مائتين، ثم تبين أن
قيمتها مائة وثمانون، فيكون قد أخذ عشرون زيادة عن رأس مالها، أو
قال: أنقص لك ثلاثين، وتبين أنه زاد الثلاثين في سعرها، أي: اختلف
قوله في المرابحة، في المواضعة، في التولية؛ فحينئذ يأتي الخيار.
كذلك إذا باعه سلعة فوجد فيها عيباً لم يكن يعلمه؛ دلسه البائع أو
أخفاه عليه، ثم اكتشف ذلك فله خيار العيب. وكذا إن باعه موصوفاً في
الذمة، والموصوف على قسمين: موصوف بعينه، مثلاً: كان في سفر على
بعير له، فقال له: بعني بعيرك الذي كان معنا في السفر وكنت تركبه،
ما صفاته؟ كم عمره؟ كم يحمل؟ كم يستطيع الصبر على العطش؟ وذكر
أوصافاً معينة، فلما أخذت البعير المعين وجدت فيه نقصاً، عندها لك
الخيار. أما إذا قلت: أريد بعيراً صفته وصفته وصفته... قال: عندي،
ولم يعين لك بعيراً بعينه، فجاءك ببعير فوجدت فيه نقصاً من تلك
الصفات، فلا خيار لك، وعليه أن يأتيك بغيره حتى يستوفي لك الصفات
التي أردتها في أي بعير من إبله. وهكذا -أيها الإخوة- أنواع الخيار
ستة أو سبعة على ما تقدم، والذي ساقه المؤلف رحمه الله في هذا
الباب يعتبر الأصل الذي يدور عليه، وجميع التفريعات عليه توجد في
أمهات الكتب. وبالله تعالى التوفيق.
( كتاب البيوع - باب الربا [1] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (الذهب وزناً بوزن...)
2 شرح حديث النهي عن بيع التمر بالتمر متفاضلاً
كتاب البيوع - باب الربا [2]
اتفق أهل العلم على جريان الربا في الذهب والفضة؛ وفي البر والشعير(3/272)
والتمر والملح، واختلفوا في علة الربا فيها؛ ولهذا اختلفوا في الأشياء
التي تلحق بهذه الأصناف الستة، ومعرفة خلافهم، ومآخذ أقوالهم، تدرب
الطالب على التفقه، وتمرنه على الاجتهاد، فحري بطالب العلم أن يهتم
بهذا الباب.
شرح حديث: (الذهب وزناً بوزن...)
أنواع الربا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(الذهب بالذهب وزناً بوزن مثلاً بمثل، والفضة بالفضة وزناً بوزن
مثلاً بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا ) رواه مسلم ]. تقدم
الكلام على الربا في الأصناف الستة المتقدمة: الذهب، والفضة،
والبر، والشعير، والتمر، والملح، وتبين لنا أصول الربويات، وأن
الربا يدور على أصله الحقيقي وهو الزيادة، وموضوعه كما قسمه
الفقهاء: ربا الفضل. وربا النسيئة. فربا الفضل: هو الزيادة، إذا
بيع جنس بجنسه وحصلت زيادة في أحد الطرفين، مثلاً: تمر بتمر صاع
بصاع وزيادة درهم مع أحد الصاعين، فهذا هو ربا الفضل. والنسيئة:
صاع بصاع، لكن يقول: آخذ صاعك اليوم، وأرد إليك صاعي الذي هو الثمن
غداً، هذا هو ربا النسيئة.
هل يجري الربا في غير الأصناف الستة؟
نذكر مسألة كثر الخلاف فيها، واختلفت المذاهب في القول بها: هل
الربا مقصور على هذه الأصناف الستة أم أنه يدخل في غيرها؟ أو بمعنى
علمي: هل يلحق بها غيرها أم لا؟ وإذا كان غيرها يلحق بها فبأي
مبدأ؟ وبأي علة؟ لأن القياس عند العلماء: هو إلحاق مسكوت عنه
بمنطوق به لعلة جامعة، كما أنهم ألحقوا كل مسكوت عنه من المسكرات
بالخمر، بجامع علة الإسكار، فالتحريم جاء نصاً في الخمر، ثم ألحق
الفقهاء به كل مسكوت عنه، بأي اسم كان، إذا وجدت علة تحريم الخمر
في ذاك المسكوت عنه، وعلة الخمر الإسكار، فإذا وجد الإسكار في(3/273)
العسل أو في اللبن أو في أي ثمرة ألحقت بالخمر في التحريم، وهذا
أمر متفق عليه. إذاً: إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به يحتاج إلى
رابط، ويحتاج إلى قرابة، ويحتاج إلى صلة نسب بين المسكوت عنه
والمنطوق به، فهل يلحق بتلك الأصناف غيرها أم لا؟ وإذا كان يلحق
بها غيرها فما هي العلة؟ ذهب داود الظاهري إلى أن المنصوص عليه
في الربويات لا يلحق به غيره، وأن أي نوع من الحبوب غيرها من
المطعوم أو المكيل أو الموزون أو المدخر أو غيره لا يلحق
بالربويات، والربا لا يكون عنده إلا في هذه الأصناف الستة المنصوص
عليها فقط، وهذا قول انفرد به عن جمهور العلماء، وعامة علماء
المسلمين يلحقون غير المنصوص عليه به، وما هي؟ وبأي شيء يكون
الإلحاق؟ قالوا: توجد علة يلحق بها المسكوت عنه، وهذه الست الأصناف
نماذج، وكأنها تنبيه بالأخص على الأعم.
العلة الربوية في الأصناف الستة
الذهب والفضة هما المصدر بهما نصوص الربا، ما هي العلة في كونهما
ربويين؟ وإذا وجدت فيهما علة فهل هي قاصرة عليهما أم تتعدى إلى غير
الذهب والفضة؟ الجمهور على أن علة الذهب والفضة في الربا علة
قاصرة، أي: لا تتعدى محلها؛ ولهذا لا يقاس على الذهب والفضة موزون
من المعادن الأخرى، وما هي العلة القاصرة؟ قالوا: هي ثمن المبيعات،
وقيمة المتلفات. فالذهب والفضة ليسا سلعة، ولكن لها مهمة وهي
الثمنية، فلكون الذهب والفضة ثمنية فلا ينبغي أن تدخل في البيع
والشراء والزيادة والنقص، هذا على أنها عملة والعلة الثمنية، فلا
نتحكم فيها بيعاً وشراء وتكون خالصة من الربا والزيادة. إذاً:
الذهب والفضة عنصران ربويان لا يقاس عليهما. فإذا كان ذهبٌ ومعدن
آخر: نحاس، أو قصدير، أو زنك، أو برونز أو أي نوع من أنواع
المعادن، فإذا بيع ذهب بتلك المعادن وزناً بوزن فهل ينبغي فيه
المساواة في الوزن؟ قالوا: لا؛ لأن الذهب ليس سلعة بل هو ثمن
وقيمة؛ ولذا علة الربا فيه قاصرة عليه. وهل يجوز أن نبيع الموزونات(3/274)
الأخرى غير الذهب والفضة جنسها بجنسها؟ قالوا: نعم، والعلة في
الذهب والفضة هي الثمينة. وقيل: الوزن، ومن قال بأن العلة هي الوزن
قال: كل موزون يدخل فيه الربا، وإذا جعلنا الذهب والفضة علتهما
قاصرة عليهما وهي الثمنية فلا ربا في الموزونات. نأتي إلى الأربعة
الأصناف الأخرى المذكورة، ما هي الصفات المشتركة بينها؟ تمر، بر،
شعير، ملح، نؤخر الملح، فهذه الثلاثة: تمر، بر، شعير، ما هو الوصف
الذي يشترك بينها؟ أولاً: الكيل؛ لأنها كلها تقدر كيلاً، إذاً:
الكيل جزء من علة الربا. ثانياً: الطعم. وهل الطعم في التمر والبر
والشعير كالطعم في التفاح والخوخ؟ ثالثاً: الاقتيات، إذاً: يكون
مطعوماً مقتاتاً، فالتمر والبر والشعير موزون مطعوم مقتات، وهل
يوجد وصف آخر أم لا؟ الادخار، ممكن أن ندخر التمر والشعير والبر
سنة أو سنتين بخلاف التفاح والخوخ، فالفواكه إذا لم تكن في
الثلاجة، أو وقف الكهرباء فسدت، فهي لا تدخر. إذاً: هناك من قال:
العلة في الربويات الثلاثة الموجودة مع الذهب والفضة هي الكيل،
فقال: كل مكيلٍ بيع بجنسه فهو ربوي، وجماعة زادوا وقالوا: ليست
العلة الكيل وحده، بل العلة كونه مكيلاً مقتاتاً، والمقتات يتضمن
المطعوم، وجماعة زادوا في العلة الادخار مع الكيل والاقتيات،
فاختلف اجتهاد الفقهاء في اعتبار العلة المشتركة بين الأصناف
الثلاثة، فما وجدت العلة فيه مما لم يسم ألحق بها قياساً. فمثلاً:
الدخن والذرة غير منصوص عليهما، وهل توجد في الدخن والذرة علّة
جامعة مع الثلاثة المذكورة؟ كلاً من الدخن والذرة مكيل وقوت ويدخر،
إذاً: لا فرق بينها، فتلحق بالأصناف الستة، فبعضهم ألحق المسكوت
عنه بجامع العلة، وبعضهم قال: هناك غير العلة، وهي تقارب المنفعة.
فمثلاً: الزبيب ليس من الستة الأصناف، لكن قال: إن الزبيب يشارك
التمر في المعنى، فما الفرق بين التمر والزبيب؟ كلاهما حلو، ويكال،(3/275)
ويقتات، ويدخر، فقال: أنا لا ألحق بالقياس، بل ألحق بالاشتراك في
المعنى، وتوسعوا في هذا، وأجروا الربا في اللحم باللحم، مثل: لحم
الإبل بلحم الغنم؛ لأنه قريب منه في المنفعة، إذاً: من عمل بالقياس
ألحق كل ما لم يذكر بما ذكر إن وجدت فيه العلة، واختلفوا في معرفة
العلة ما هي؟
مذهب الأحناف والحنابلة
قال الحنابلة: العلة هي الكيل، حتى أجروا الربا في الأشنان،
والأشنان نوع من النبات ينبع على مجاري المياه، كان يغسل به الصوف
دون الصابون؛ لأنه يذهب عنه الأوساخ والآكلة، ولا يوهن الصوف، فهو
نوع من النبات، لكنه يباع بالكيل. وألحقوا بالأصناف الستة الحناء،
فإنه إذا دق ورق الحناء صار مثل الدقيق، والعرف فيها الكيل،
فقالوا: إذا بيع حناء بحناء فالعلة الكيل، فيمنع الربا فيها بجامع
الكيل، واستدلوا بما جاء عند ابن حبان : (كل ما يوزن مثلاً
بمثل، وكذلك الكيل ). وبهذا أخذ الحنابلة والأحناف. ومن العلماء
من قال: العلة هي: الطعم مع الكيل؛ لحديث: (الطعام بالطعام مثلاً
بمثل )، وكان طعامهم يومئذ الشعير، ولكن اللفظ: (الطعام بالطعام )
أنتم طعامكم الشعير، وهناك في مكة طعامهم البر، وهناك في أندنوسيا
طعامهم الأرز، وهناك في أفريقيا طعامهم اللوبيا، إذاً: الطعام في
كل مكان بحسبه، ولفظ الطعام عام، ولا نخصصه بطعامهم يومئذٍ، هذا
طعامكم أنتم، لكن طعام غيركم غير هذا. إذاً: علة الربا، وإلحاق غير
المنصوص عليه، اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، فمن استقرت عنده علّة
الربا، ثم وجدها في غيرها ألحقه بها، فبعضهم عنده العلة الكيل
والوزن فقط لحديث ابن حبان : (كل موزون مثلاً بمثل، وكذلك
الكيل ) يعني: وكذلك كل مكيل؛ ولهذا اقتصر الحنابلة على أن
العلة الكيل فقط.
مذهب المالكية
المالكية عندهم أن العلة هي أن يكون قوتاً مدخراً، فإذا بيع الجنس
بجنسه كيلاً أو وزناً، وكلاهما قوت مدخر فيجري فيهما الربا إلا(3/276)
مثلاً بمثل يداً بيد. وهناك من يقول: نلحق بالمنطوق به كل ما كان
زكوياً، فما هي الحبوب التي تزكى؟ هل التفاح يزكى؟ لا، هل التفاح
يكال أو يوزن؟ عرفه العدد، والآن صار الناس يوزنون كل شيء، ذكر
العلماء القدماء أن مما لا يكال ولا يقتات الفواكه، وابن قدامة يقول: التفاح والفرسك والخوخ والمشمش والكمثرى والخيار ليست مكيلة،
وليست مدخرة، هي مطعومة ولكن ليست مدخرة. قيل: إن العلة هي الكيل
والوزن كما جاء التنصيص عليها في بعض النصوص، وهي موجودة بالفعل في
هذه المسميات الست، ومالك ألحق بالمطعوم ما يصلح المطعوم وهو
الملح، فالملح ليس قوتاً لكنه مدخر ومكيل، اجتمعت فيه العلتان.
إذاً: لا تبع مكيلاً بمكيل مدخراً بمدخر إلا مثلاً بمثل، يداً بيد،
والملح ولو لم يكن قوتاً فبه صلاح القوت. الحنابلة يردون -كما يذكر
ابن قدامة في المغني- على مالك في قوله: بإصلاح القوت،
ويعترضون عليه بالحطب، فالإدام يصلحونه بالحطب والنار، لكن هذا ليس
لإصلاح ذات الطعام، بل لإنضاجه، لكن الملح في الطعام يكون جزءاً
منه، وألحقوا به التوابل التي تدخل في الطعام، إذاً: قضية الربويات
فيما عدا المنصوص عليه بحرٌ لا ساحل له. وكلٌ من الأئمة رحمهم الله
ألحق من غير المسميات ما وجدت فيه العلة التي استقرت عنده، والعلة
دائرة بين المقدار الذي هو الكيل والوزن، مكيل بمكيل، موزون
بموزون، وبين الأوصاف الأخرى الموجودة في المنصوص عليها، أن تكون
قوتاً ومدخراً، وعلى هذا فيجري الربا بلا خلاف عند الجمهور في
الدخن والذرة والأرز. والسمسم قوت، ويحكى أن جماعة أضافهم ناس،
فقدموا لهم صحن عسل وصحن سمسم، وهم غير عارفين بطبيعة أهل البلد!
فرءوا طفلاً صغيراً فقالوا: تعال تعال كل، فجلس الطفل الصغير، وغمس
أصبعه في العسل، ثم في السمسم ولحسه، فقالوا: بس! قم، قم، كلم أمك!
فهو قوت. وبذر القطن يعصر ويخرج منه زيت، ولكن ليس قوتاً، وحينما(3/277)
نعصر البذرة، وأصبح عندنا زيت، فالزيت مكيل أو موزون؟ الأصل فيه
الكيل، وكذا السمن وجميع السوائل الأصل فيها الكيل، فأصبح عندنا
الزيت مكيلاً، وأصبح مدخراً، فيدخل في أنواع الربويات، فلو بيع زيت
بذرة قطن بزيت بذرة قطن وجب الحلول والتقابض والتساوي. وإذا بيع
زيت بذرة القطن بزيت الزيتون، فهل اتحد الجنس أو اختلف؟ اختلف،
(بيعوا كيف شئتم )، فلا يلزم فيه التساوي، ويلزم التقابض؛ لأن
كلاً منهما دهن، ويدخلان في علة المقدار التي هي الكيل والادخار.
والتفصيل بالجزئيات في أنواع الربويات لا يمكن حصره، ولكن الإلحاق
موجود عند الأئمة الأربعة، وما امتنع من الإلحاق إلا داود الظاهري ؛ لأنه لم يقل بالقياس.
الحكمة من تحريم الربا في المطعومات
الإلحاق يكون بالعلة، كما ألحقنا كل مسكر بالخمر لوجود علة الإسكار
فيه، وهنا يقول ابن رشد في البداية: وصف الطعم يدل على اشتقاق
العلة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (الطعام بالطعام )،
فوصفه بكونه طعماً يدل على أن العلة هي الطعم، كما في قوله سبحانه: وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]،
علة القطع هنا هي السرقة؛ لأن الحكم تعلق بوصف وهو السارق، والسارق
اسم فاعل يشتق من سرق يسرق فهو سارق. إذاً: (الطعام بالطعام) دلت
كلمة الطعام على علة الربا كما أن كلمة السارق دلت على علة القطع،
وكذلك قوله تعالى: الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور:2]،
فوصف الزنا في الطرفين هو علة الجلد، إذاً: الطعم علة في الربا
لقوله: (الطعام بالطعام ). والذين يقولون: ما خرج عن الأصناف
الستة يلحق بها بعلة الكيل والجنس، قالوا: أصل الربا في اللغة هو
الزيادة، ولما كانت زيادة الجنس على الجنس غبن، فإذا وجد في المكيل
من غير المسميات -مثل الأشنان والحناء- فالعلة واحدة، والأصل حفظ
الأموال وعدم الغبن، فيجب أن يكونا متساويين في الفائدة وفي(3/278)
النتيجة، فكيف أعطيك صاع حناء وتعطيني صاعاً إلا ربع؟! لماذا تغبني
في ربع الصاع هذا؟ فما دامت متساوية في المنفعة فيجب أن تكون
متساوية في المقدار؛ ولذا ذكر ابن رشد قاعدة تبين الربا، وهي
أن ما خرج عن قانون الربا مما ليس بربوي، فتكون القيمة بين المبيع
والمشترى، لو أن كلاً منهما سلعة بنسبة آحاد هذا الصنف في جنسه مع
نسبة آحاد الجنس الثاني في جنسه، ويمثل ويقول: مثلاً: نشتري فرساً
بثياب، فالثياب ليست ربوية، والفرس غير ربوي، فيصح أن نشتري الفرس
بمائة ثوب، بمائتين ثوب، بعشرين ثوباً، ولكن ما الذي يقدر قيمة
الفرس بعدد الثياب؟ قالوا: النسبة، أي: نسبة هذا الثوب الواحد في
جنسه كنسبة الفرس الواحد في جنسه، فإذا تحققت النسبة ارتفع الغبن،
هذا الفرس في جنسه كم يساوي؟ مثلاً يساوي ألف ريال، وهذا الثوب في
جنسه كم يساوي؟ قالوا: عشرة ريال، إذاً: نسبة الفرس في الأفراس ألف
ريال، ونسبة الثوب في الثياب عشرة ريال، فكم ثوب نقدر للفرس حتى لا
يحصل غبنٌ؟ مائة، إذاً: نأخذ الفرس بمائة ثوب، ولو أخذناه بمائتين
يحصل غبن، لو أخذناه بخمسين يحصل غبن، إذاً: النسبة التقديرية بين
غير الربويات ترجع إلى المساواة، وترفع الغبن. إذاً: إذا كان
المبيع جنساً واحداً فما الذي يرفع الغبن؟ التساوي، كيل بكيل، وزن
بوزن، فلا يحصل غبن، ستقول: هذا جنس جيد، وهذا جنس رديء، إن
بعناهما متماثلين وقع الغبن فيما هو فرق بين الجودة والرداءة،
فنقول: سد هذا الباب، وبع الجيد بدراهم، واشتر بالدراهم الرديء، أو
العكس بع الرديء بدراهم، واشتر بالدراهم الجيد، وفي تلك البيعتين
لا غبن؛ لأنك ستبيع الرديء بنسبته من جنسه بالثمن المتعادل، وتشتري
بالدراهم التي عندك الجيد بنسبته من جنسه بالدراهم، وانتفى الغبن
في الصفقتين.
شرح حديث النهي عن بيع التمر بالتمر متفاضلاً
قال رحمه الله: [ وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله(3/279)
عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر
فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر
هكذا؟ فقال: لا. والله يا رسول الله! إنا لنأخذ الصاع من هذا
بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لا تفعلوا، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً، وقال في
الميزان مثل ذلك ) متفق عليه، ولمسلم : (وكذلك الميزان )
]. نعلم جميعاً أن خيبر فتحت عنوة، وأنها أصبحت للمسلمين، وأن
الرسول صلى الله عليه وسلم أبقى اليهود فيها يعملونها على جزء من
الثمرة، وأصبحت معاملة عند المسلمين تسمى المخابرة، وهي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر في بلدهم، وكان صلى الله
عليه وسلم يرسل إليهم ابن رواحة يخرص عليهم التمر، فيلتزمون
بحصة المسلمين، ويأخذون حصتهم، فالعامل بمعنى الأمير، بمعنى
الوكيل، بمعنى النائب، عامل رسول الله في خيبر، يعني: نائبه في
إدارتها، والحكم فيها، وما يتعلق بشئونهم دنيوياً ودينياً. إذاً:
كان صلى الله عليه وسلم قد نظّم أمور الدولة، وأقام العمّال، ونظم
الجباية، ورتب الإدارات، كما قيل: التراتيب الإدارية في الدولة
المسلمة الفتية، هذا العامل سواء كان أميراً أو قاضياً أو حاكماً
أو غير ذلك جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جيد، فلما نظر
إليه صلى الله عليه وسلم قال: (أكُلّ تمر خيبر هكذا؟ )، وهذا
مما ينبه عليه العلماء: أن ولي الأمر يجب أن يتفقد الولاة والعمال،
كيف جاء العامل بهذا التمر؟ هل كل تمر خيبر هكذا أو أنه تصرف؟
فتبين أن العامل قد تصرف، فقال: لا والله! يا رسول الله! ما كل تمر
خيبر هكذا، إنا لنشتري الصاع من هذا الجيد بالصاعين من دونه، أو
الصاعين بالثلاثة، يعني: متفاضلاً، إذاً: نشتري الجنس بجنسه كيلاً
مطعوماً مقتاتاً مدخراً مع التفاضل. فماذا قال صلى الله عليه وسلم؟(3/280)
(لا تفعل ) ، لا تفعل ماذا؟ أن تشتري الجنس الواحد بجنسه
متفاضلاً، هل تبغى تشتري جنساً بجنسه؟ يجب أن يكون متساوياً، وأما
الجودة والرداءة فحلها آخر، وليس في الإسلام طريق مسدود أبداً،
عندك السوق، بع الرديء بنقد، فيحصل في يدك النقد ثمناً للرديء،
وانقطعت العلاقة بالرديء، وأصبح في يدك نقد ثمنه، فتذهب إلى السوق
وتشتري جيداً بالنقد، وأصبحت الصفقة الثانية بين الجيد والنقد، ولا
علاقة للصفقة الثانية بالرديء الأول، وإن كان النقد ثمناً لها؛ لأن
ببيع الرديء بالدراهم انقطعت علاقة الرديء، ونستأنف علاقة جديدة
بالدراهم التي بأيدينا. إذاً: هذا خروجٌ من مأزق فوارق الجودة
والرداءة. وقوله: (وقال في الميزان مثل ذلك )؛ يعني: لأن التمر
مكيل، فكأنه قال: كل مكيل بيع بجنسه متفاضلاً لا يجوز، ماذا أفعل؟
بع بالتساوي، وإن كان فرق في الجودة والرداءة فبع بالنقد واشتر
بالنقد، وكذلك افعل في كل ميزان، وليس المراد بكلمة ميزان هنا:
الآلة التي نزن بها؛ لأنها آلة مصنّعة لا ربا فيها، ولكن المراد:
وكذلك الموزون بالميزان. تكلمنا على حديث التمر الجنيب إجمالاً،
وهناك مباحث في هذا الحديث فيما يتعلق بالأحكام الفقهية في تلك
الصفقة، وهذا الحديث يبين بصفة عامة أن الجنس بجنسه لا بد أن يكون
متماثلاً متساوياً ويداً بيد، فهذا الذي استعمله رسول الله صلى
الله عليه وسلم. إذاً: لا يجوز شراء التمر الجنيب صاعاً بصاعين من
الجمع، والجمع يقال: إنه مجموع أصناف مجهولة الاسم، وغالباً ما
تكون تلك الأصناف مجهولة الاسم قليلة الجودة عن المعروف المتعين
باسمه، وكما نشاهد الآن في المدينة الشيء الفاخر الجيد معروف اسمه،
يقول لك: صفاوي، شلبي، سكري، ومثله تمر الإخلاص المعروف في
الإحساء، فالتمور الجيدة محافظة على اسمها ومعينة عند الناس، لكن
التمور التي غير متميزة قد يكون لها اسم ولكن لا يحفظ. فكونه اشترى(3/281)
صاعاً جنيباً جيداً بصاعين أو صاعين بثلاثة، لا يجوز، والرسول صلى
الله عليه وسلم عاب ذلك وقال: (لا تفعل ) لا تفعل في هذه
الصفقة، أو لا تفعل في المستقبل، (ولكن بع الجمع بدراهم، واشتر
بالدراهم جنيباً ). إذاً: هذا منهج للتعامل بين الرديء والجيد،
وإذا كنا لا نقبل أن نتبادل جيداً برديء مثلاً بمثل؛ لأنه غير
معقول، عندي تمر من أجود ما يكون، وتعطيني تمراً أردأ ما يكون،
وتقول: مثلاً بمثل، أعطني صاعاً بصاع! أنا غير معطيك، فكيف نفعل؟
صاحب التمر الرديء يريد أن يأكل تمراً جيداً، فليعمل بهذا المنهج،
وهو أن تدخل القيمة وسيطاً بين الرديء والجيد، بع الجمع بدراهم،
وبعد أن أخذت الدراهم ثمناً للجمع اشتر بالدراهم جنيباً جيداً،
ويكون هناك انفكاك بين الصفقة الأولى في الجمع، وبين الصفقة
الثانية في الجنيب.
هل أبطل النبي صلى الله عليه وسلم البيع الربوي قبل العلم بالحكم
الشرعي؟
سؤال يبحثه العلماء: إذا كانت تلك الصفقة الصاع بصاعين لا تجوز،
فهل أبطل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصفقة، ورد الرجل الجنيب
واسترجع الصاعين من الجمع أم سكت عن تلك الصفقة وكان التنبيه لما
يستقبل؟ التحقيق في ذلك أن الأحكام قبل التشريع تمضي، والحكم بعد
صدوره يكون للمستقبل، وكما يقول الأصوليون: ليس للأوامر رد فعل
عكسي، إنما تكون للمستقبل، ولا ترجع على الماضي، فالماضي مضى بما
كان. والنظم والقوانين والتشريعات إنما تكون من صدورها إلى ما بعد،
وهذا هو نص القرآن الكريم، وخاصة في الربويات، فتقدم لنا في دراسة
الربا نص القرآن الكريم: فَمَنْ
جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [البقرة:275]،
يعني الربا الذي حصل عليه قبل مجيء الموعظة له، ما طالب المرابين
أن يردوا الربويات على أصحابها، ولكن تركها لهم؛ لأنه ما كان هناك
تشريع، ولا كان هناك نهي، فهم أكلوها على مبدأ التعامل عندهم، ثم
جاء النهي وتبين الواقع: وَإِنْ(3/282)
تُبْتُمْ فَلَكُمْ [البقرة:279]
من الآن رُءُوسُ
أَمْوَالِكُمْ [البقرة:279].
إذاً: يحرم الربا بعد الموعظة، فما كان قبل الموعظة ترك لهم، ومما
يثبت تعميم هذا الحكم أو هذه القاعدة بأن الأوامر للمستقبل أو أن
ما وقع قبل الإعلام أو قبل التشريع يترك ما جاء عن عمر رضي
الله عنه أنه أتي بنكاح شهد عليه رجل وامرأتان، والأصل في الشهادة
شاهدا عدل ممن ترضون من الشهداء، أما قوله تعالى: فَإِنْ
لَمْ يَكُونَا [البقرة:282]
فهذه لا دخل لها في النكاح والطلاق والدماء، ولكن في الأموال تجوز
شهادة رجل وامرأتين، ولما كان الأمر كذلك فماذا يفعل عمر ؟
قال: لو كنت سُبقت أو سَبقت؛ لرجمت. لو كنت سُبقت على ما أعلم
بالتنبيه ممن سبقني سواء كان عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن
أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أو لو كنت سَبقت بالإعلام بعدم
صحة النكاح برجل وامرأتين، لو كنت أعلنت ذلك بين الناس، وسبق العلم
بمنع هذا، ثم فعل بعد العلم؛ لرجمت؛ لأنه يكون فعل بعد العلم،
وإصرار على المخالفة، لكن كانت الشبهة قائمة: فَإِنْ
لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة:282]،
فهم عمموا الحكم في الأموال وفي الفروج، وربما يجعلوها حتى في
الدماء، فعمر رضي الله تعالى عنه لما لم يكن هناك علمٌ منتشر
سابق بمنع الشهادة في النكاح برجل وامرأتين -أي: بعدم إدخال النساء
في الشهادة في النكاح والطلاق- عذر هؤلاء، ولم يجعل لهذا الفعل أو
هذا النهي رد فعل سابق، وأمر بتجديد العقد؛ لأن العقد تبين أنه
باطل، وهل عاقبهم نتيجة لبطلان العقد لأنهما كانا زانيين؟ لا، بل
من الآن، فكذلك هنا، وإن كان بعض الناس يقول: الرسول أمره برد ذلك،
لكن الآخرين يقولون: لم يثبت هذا، ونحن نقول: لا حاجة إلى البحث عن
رد العقد الأول أو عن إبطاله، وأنه غير جائز شرعاً ونقول: إنه قد
وقع قبل العلم، وما وقع قبل العلم وقبل التشريع فإنه يترك كما في
كتاب الله: فَلَهُ(3/283)
مَا سَلَفَ [البقرة:275]،
ثم تكون قاعدة عامة في جميع العقود التي صدرت، وكان الجهل يحتمل
فيها؛ لأن هناك أشياء لا يعذر أحدٌ بجهله، فبعد حادثة عمر لو
عقد أحد بشاهدٍ وامرأتين هل نقبل منه؟ هل نقول: لم نسُبق ولا سَبق
العلم، ولا نعاقبه؟ لا. هذا ما يتعلق بحكم الصفقة الأولى، وقد وقعت
مغايرة للحكم الشرعي، ومضت على ما مضت عليه ويستأنف العمل الجديد
بما بعد هذا الإعلام.
( كتاب البيوع - باب الربا [3] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (إذا تبايعتم بالعينة)
كتاب البيوع - باب الربا [4]
إذا كانت الأمة تقدم دنياها على دينها، وتمزق دينها لترقع دنياها،
وتترك الجهاد في سبيل الله، وتتغافل عن فضائله وفوائده؛ فإن الله يبتلي
هذه الأمة بالذل والصغار أمام الكفار حتى ترجع إلى دينها، وقد بين
النبي عليه الصلاة والسلام هذا في حديثه المشهور الذي يعتبر من دلائل
نبوته، فينبغي تدبره، والانتفاع به.
شرح حديث: (إذا تبايعتم بالعينة)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [ وعن ابن
عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع،
وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم )
]. إذا تبايعتم، يعني: حصل البيع من طرفين أو من أكثر تكراراً،
وصار البيع بالعينة متداولاً، شائعاً ظاهراً فاشياً، (واتبعتم
أذناب البقر، وتركتم الجهاد ) اتبعتم أذناب البقر فيه تقبيح،
وإن كان العمل شريفاً؛ لأنه في مقابل ترك الجهاد، والجهاد هو ذروة
سنام الإسلام، فما كان معطلاً لهذا السنام فإنه يقبح، واتباع أذناب
البقر كناية عن الاشتغال بالزراعة والحرث، والتعامل مع البقر. ومن
النعم الزراعة، واختلف العلماء أيهما أفضل: الزراعة أم التجارة؟(3/284)
قيل: إن الله أنزل مائة قيراط من البركة، تسعة وتسعون منها في
التجارة، وواحد في جميع الأعمال، ومع ذلك فالزراعة أفضل من
التجارة؛ لأن كسب التجارة للتاجر، وفائدة الزراعة للإنس وللحيوان
وللطير، وحتى للجن، فالرسول صلى الله عليه وسلم أتاه وفد الجن ثم
قالوا: (نريد الطعام يا رسول الله! فقال لهم: كل عظم ذكر اسم الله
عليه؛ كساه الله لكم لحماً كأوفر ما كان )؛ ولهذا يسن للإنسان
إذا ألقى العظام أن يسمي الله ليكون طعاماً لمؤمني الجن لا
لكفارهم، قالوا: (وعلف دوابنا؟ قال: كل روث حيوان يكون علفاً
لدوابكم ). إذاً: الجن إما أن يأكل من الزرع مباشرة، أو
بالواسطة، وقد جاء أنه سرق الطعام من هذا المسجد، وأبو هريرة رضي الله عنه كان حارساً عليه، فأمسكه ليلة ثم ثانية ثم ثالثة، وفي
كل مرة كان الجني يعتذر ويقول: أنا مسكين، أنا صاحب عيال، ويتركه،
وفي المرة الثالثة قال: لأربطنك حتى تصبح بيدي رسول الله، فقال:
أقول لك: اتركني هذه المرة، وأعلمك آية تحرس لك كل شيء من جميع
الجن، فقال: وما هي؟ قال: آية الكرسي، إذا قرئت على شيء لا يستطيع
جني أن يقربه. فتركه، وهذه فائدة عظيمة، ولما غدا أبو هريرة على رسول الله في الصباح استقبله رسول الله وقال: (ماذا فعل أسيرك
البارحة يا أبا هريرة ؟! قال: والله! يا رسول الله! كذا كذا،
فقال: أتدري مع من كنت تتعامل في الليالي الثلاث؟ قال: لا، قال:
إنه من الجن )، إذاً: الجني يأخذ الطعام ويأكله، فالزراعة
يستفيد منها الجن مع الإنس، والزراعة هي أصل الأقوات، والتاجر لا
ينبت نبات الأرض، والحبوب والألبان واللحوم كلها ليست إنتاج التاجر
الذي في المعرض! بل هي بسبب الزارع الفلاح الذي يكابد الليل
والنهار، ومع ذلك يكني صلى الله عليه وسلم عن هذا ويقول: (واتبعتم
أذناب البقر ) لماذا؟ (وتركتم الجهاد ).
ترك الجهاد مهلكة
ترك الجهاد مهلكة، ذكروا في تفسير قوله سبحانه: وَلا(3/285)
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]
قصة رجل من المسلمين، اصطف الفريقان، فبرز من الصف وقاتل واخترق صف
الكفار حتى اخترقه إلى الجهة الأخرى، ثم جاء راجعاً أيضاً كاراً
يقتل من يلاقيه حتى رجع إلى صف المسلمين. فقال قائل: هذا يلقي
بنفسه إلى التهلكة، وحده يخترق صفوف العدو! والله يقول: وَلا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]،
فقال رجلٌ من الأنصار: لا تقولوا ذلك، والله! لقد نزلت فينا معشر
الأنصار، لما أتم الله الدين ونزل على رسوله الكريم: الْيَوْمَ
يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]
وانتشر الإسلام في جزيرة العرب، فقلنا: لقد انشغلنا عن أموالنا
وبساتيننا ومزارعنا، وقد انتشر الإسلام، لو رجعنا إلى مزارعنا
لنصلحها، فنزلت: وَلا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]،
فقال: التهلكة بترك الجهاد؛ لأننا إذا تركنا الجهاد جاءنا العدو،
وما انتصر الإسلام وانتشر إلا بالاستمرار في الجهاد، وقد قال صلى
الله عليه وسلم: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه
الجهاد في سبيل الله ).
فضل الجهاد في سبيل الله
وفضل الجهاد ليس في حاجة إلى بيان، وتكفي آية واحدة، فالمولى
سبحانه وتعالى هو الممتن على الإنسان بإيجاده، والممتن عليه بما
بيديه، ثم يأتي سبحانه ويتلطف مع عباده ويعقد معهم صفقة ويقول: إِنَّ
اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:111] اشترى منهم ماذا؟ أَنفُسَهُمْ [التوبة:111]،
هل ورثوها من آبائهم؟ هل صنعوها؟ هل أنتجوها؟ لا، بل منحهم الله
إياها، وكما يقول ابن القيم وغيره من علماء الرقائق: أنفسهم
هنا هي أرواحهم، والنفس تطلق ويراد بها الروح، وتطلق ويراد بها(3/286)
الجسم مع الروح معاً، قال الله: لا
تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84]،
وقال: أَخْرِجُوا
أَنفُسَكُمْ [الأنعام:93]،
وقال: يَا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي [الفجر:27-28]،
فقد تطلق ويراد بها الروح فقط، وقد يراد بها مجموع الإنسان، فهنا
اشترى من المؤمنين أنفسهم، يعني: شخصيتهم روحاً وجسماً
(وَأَمْوَالَهُمْ) اشتراها، وما هو الثمن؟ (بِأَنَّ لَهُمْ
الْجَنَّةَ) الثمن والله غالٍ، وسلعة الله غالية، (بِأَنَّ لَهُمْ
الْجَنَّةَ)، إذاً: يكفي هذا، وقال تعالى عن الشهداء: أَحْيَاءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل
عمران:169]، فلا حاجة إلى الكلام في هذا، والسكوت عنه أولى؛ لأنه
بوضوحه لا يحتاج إلى بيان، فترك الجهاد في سبيل الله مهلكة، ومن
يوم أن ترك الناس الجهاد في سبيل الله واشتغلوا بالزراعة وببيع
العينة، سلط الله عليهم الذل.
الحرص على ما ينفع في الدين والدنيا
هل نترك الزراعة ونموت من الجوع؟! هل نترك البيع والشراء ونعطل
مصالحنا؟ لا، والله سبحانه وتعالى جعل الحياة الدنيوية أمراً
مؤقتاً، وجعل الحياة الأخروية هي الدائمة، وأمرنا أن نعمر الدنيا،
وفيها نعمر الآخرة، كما قال سبحانه: فَامْشُوا
فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15]،
وقال: (التاجر البار مع الكرام البررة )، وتقول عائشة : (من
بات كالة يده من عملٍ بات مغفوراً له)، فالإسلام دين عمل، ودين
إنتاج، لكن لا نغلب كفة على كفة، فالإنسان روحٌ وجسد، وكلا الطرفين
يحتاج إلى غذاء، وكلاً منهما مغاير في التكوين للآخر، قال الله: الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]،
وقال عن الجسم: وَاللَّهُ
أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً [نوح:17]،
تعيش كالنبات الذي ينبت، وتعيش على النبات، ومردك إلى الأرض. فإذا
نظرنا إلى الأمم الماضية: نجد أن اليهود غلبت عليهم الماديات، كمن(3/287)
ترك الجهاد واشتغل بالزراعة والتجارة، فما كانت النتيجة؟ احتالوا
على ما حرم الله حتى جعل الله منهم القردة والخنازير. ونجد النصارى
غلبوا جانب الروح كما قال الله تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً
ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ
رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27]،
فكلتا الأمتين جنحت بها المسيرة أولئك فرطوا، وهؤلاء أفرطوا، وجاءت
الأمة المحمدية كما وصفها الله: وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143]،
يقول العلماء: الوسط العدل، وسطاً بمعنى: عدلاً، وسطاً بمعنى: أفضل كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ [آل
عمران:110] وسطاً أي: اعتدالاً؛ لأن خير الأمور الوسط، وقال الله
في افتتاحية المصحف في الفاتحة: اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].
والاستقامة: وسط بين طرفين، فالشجاعة وسط بين التهور وبين الجبن،
والكرم وسطٌ بين الإسراف والتبذير وبين الشح والبخل، وهكذا في
العبادات وفي المعاملات، اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]
هذا وسط، وذكر الطرفين النائيين المنحرفين صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ
وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]،
فالمغضوب عليهم هم اليهود؛ لأنهم تركوا العمل بما علموا، والضالون
هم النصارى؛ لأنهم عملوا على جهالة وضلالة، أما المسلمون فلا،
قصدوا وأخذوا الوسط جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143]
لماذا؟ لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143]
أي: بالوسطية، وبإمكانكم الاعتدال في المسيرة والمعاملات،
(لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، أمة متوسطة بلا إفراط ولا
تفريط. وجاءت النصوص: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا [الجمعة:9]
وليس المراد بالسعي: الجري الذي يخرج عن المروءة، ولكن خذوا في(3/288)
الأسباب، ارجعوا إلى بيوتكم، اغتسلوا، تطيبوا، غيروا الملابس،
واذهبوا إلى أين؟ أَجِيبُوا
دَاعِي اللَّهِ [الأحقاف:31] فَاسْعَوْا
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9].
والسعي إلى ذكر الله غذاء للروح، والبيع غذاء للبدن، ولكن لكلٍ
وقته (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ) هل نقعد في الصوامع كما فعل
النصارى؟ لا، إِذَا
نُودِي لِلصَّلاةِ [الجمعة:9]
هل نعرض عن الداعي، ونضرب في الأسواق، ونعمل في التجارة، ونغفل عن
حي على الصلاة؟ لا، إذاً: الإسلام أعطى الجسم حقه بطرفيه، الروح
غذاءها ومقوماتها بالعبادات، وأعطى البدن غذاءه هُوَ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي
مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15]،
الأرض ما هي مستعصية عليكم، تزرعون، وتحفرون، وتصنعون، وتخرجون
المعادن، الأرض مذللة لكم، والمناكب هي الأعالي، لا تمشوا في بطون
الأودية، بل على قمم الجبال! فَامْشُوا
فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15]. فَإِذَا
قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]
(ابتغوا واذكروا) سبحان الله! (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)
بالكسب والمعيشة، ومع ذلك: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). أيها الإخوة! الإسلام جمع بين
المصلحتين، ووازن بين حاجة الإنسان روحاً وجسداً، فإذا غلبت كفة
على كفة اختل التوازن، إذا غلبت كفة الروح كما كان النصارى فسدت
الدنيا؛ ولذا النصراني يقول لك: إذا ضربك أحد على خدك الأيسر فأدر
له خدك الأيمن، ما هذا الخنوع؟ لا والله! بل اضربه على خده. واسأل
اليهود عن القرية التي قال أهلها: نحن لا نعمل يوم السبت؛ لأنه
ممنوع العمل فيه عندهم، وكانت تأتي الحيتان على وجه الماء يوم(3/289)
السبت، فما قدروا أن يصبروا، فاحتالوا بأن رموا الشباك يوم الجمعة،
وتركوها إلى يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، وقالوا: ما عملنا شيئاً
يوم السبت! والله! لو عجوزة عمياء تقول لها: عملنا وعملنا ستقول:
والله! هذه حيلة، ما تخفى عليها. إذاً: (إذا تبايعتم بالعينة،
واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد )، أما إذا لم نترك الجهاد
فلنتبع أذناب البقر والجواميس والخيل والإبل، ولنستزرع كل شبرٍ على
وجه الأرض، ما دامت راية الجهاد قائمة، والإسلام عنده من ينصره
ويرفع رايته، فالحمد لله، ويجب على الأمة كلها أن تعمل، والعجب كل
العجب أن الشرق الأوسط بأكمله إنما لحقه ما لحقه من ضائقة الاقتصاد
هو من ترك أذناب البقر؛ لأن نسبة ما هو مزروع في الشرق الأوسط كله
لا يوازي 25% من أراضيهم، والعالم الأوروبي اتسع في المزارع،
وصاروا يغزوننا، ويفيضون علينا بإنتاج البر، بل يتلفونه في البحر
من أجل المحافظة على الأسعار في الأسواق، ولا حول ولا قوة إلا
بالله. وزير زراعة دولة أوروبية يقول: بإمكان دولة كذا أن تنتج
غذاء للعالم كله، ولا يكلف الميزانية إلا 10% فقط! ويقول أستاذ
الاجتماع علي عبد الواحد وافي : لو أن مصر زرعت نصف أرضها
الصالحة للزراعة؛ لكفت العالم العربي كله، والآن تستقرض الحبوب!!
والله! شيء مؤلم يا إخوان!
حرمة بيع العينة
حذر النبي الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من بيع العينة، وقد
وقع مصداق ما قال: (إذا تبايعتم بالعينة )، والعينة عند
الفقهاء: اصطلاح لنوع من البيع مخصوص، وهي صورة واحدة عند الجمهور،
وعند الحنابلة عكس العينة يأخذ حكم العينة، والعينة: هي من العين،
قيل: هي الاشتغال بالنقد عندما تكثر الأموال بأيدي الناس، ومن قبل
كانت المعاملات مقايضة بيع الصنف بالصنف. والآخرون يقولون: لا،
العينة هي بيع العين بذاتها بيعتين: تأتي إلى التاجر وتريد منه
قرضاً ألف ريال، فيقول لك: والله! أنا ما عندي قرض، أبيع سكراً(3/290)
وشاهياًوأرزاً، ولكن من أجلك أنا أبيعك من السكر مائة كيس بألف
ريال. - أنا ما عندي فلوس. - لا مانع، لك مهلة. اشتريت المائة كيس
بألف ريال وتدفعها بعد ستة أشهر! وأنت جئت تبغى أكياس سكر أو تبغى
ريالات؟! تبغى الريالات، وهو يعرف هذا، وكتب: عليك ألف ريال قيمة
مائة كيس سكر، تقول: هات الأكياس! فيقول: نعم، هي موجودة انظرها
بعينك لكن قل لي: أين تضعها؟ وما تبغى بالمائة الكيس؟ هل ستفتح
محلاً؟! - لا، ما أنا فاتح محل، سأذهب أبيعها، وآخذ ثمنها، وأقضي
حاجتي، فالتاجر يقول لك وكأنه يعاملك بالرفق وبالمعروف: لا يا أخي!
لا تتعب نفسك، أنا أشتريها منك بالنقد. - اشترها مني. -
بثمانمائة!! - أنت الآن بعتها لي بألف!! - لا، ذاك مؤجل، لكن هذا
أعطيك الثمانمائة الآن. فأنت تقول: أين أبيعها؟ فتختصر الطريق
وتقول له: هات ثمانمائة. - خذ، فأخذت الثمانمائة في جيبك، ورجعت
إلى بيتك، وحقيقة الأمر آلت هذه الزيادة الكريمة لهذا التاجر
الرحيم الرفيق إلى الربا، فإنك أخذت ثمانمائة نقداً، وعلى ظهرك
ألفٌ مؤجلة، ويبقى الفرق بينهما مائتين، هذه هي العينة، وابن عباس رضي الله تعالى عنه يقول: (...الربا بينهما حريرة)، كان بعض الناس
يجلس في دكانه وعنده أثواب قماش حرير أو قطن أو غير ذلك، فيأتيه
رجل فيقول: يا فلان! أبغى ألفين ريال قرضة. - والله! ما عندي، خذ
لك بالدين حريراً، فأخذ حريراً بالمبلغ الذي يريده إلى سنة، فيبغى
يأخذه، فيقول له: أين تذهب؟! لماذا تتعب نفسك؟! أنا اشتريه منك
بكذا، ويرجع الحرير إلى محله، ففي هذه الصورة تتحقق العينة، ويتحقق
الربا. ولكن يقول الفقهاء: إذا كان التبايع على بابه. أنت بحثت عمن
يقرضك ألفاً فلم تجد، فجئت إلى التاجر واشتريت منه البضاعة ديناً
على نية أنك تبيعها، وتأخذ الثمن وتقضي مصلحتك، فاشتريت منه بألف
ريال ديناً إلى ستة أشهر، لا ننسى النهي عن بيعتين في بيعة، ولا(3/291)
ننسى زيادة الثمن من أجل الأجل. فأخذت السكر أو الرز من التاجر،
وسجل عليك الثمن إلى نصف سنة، ثم جئت بالسيارة وحملت الرز أو السكر
إلى بيتك، ثم أخذت تبيعه على من يأتيك، ولا علاقة للبائع في بيعك
بالنقد، فالجمهور على أن هذا جائز، ويسمى التورق. ولو ذهبت
بالبضاعة من عند التاجر إلى السوق، وقلت: يا دلال! حرج لي على هذه
المائة كيس من الرز، بخمسمائة .. بستمائة حتى وقف المزاد على
ثمانمائة، من الذي يزايد؟ إذاً: الذي يزايد، ويشتري، بعيد كل البعد
عن البائع، فالبيع صحيح ولا شيء فيه، أما إذا كان البائع بالأجل
أرسل شخصاً وراء المشتري ليشتري منه البضاعة بنقد بكذا، فهذه عين
العينة، أما إذا بيعت على غير بائعها، مؤجلاً أو بأي ثمن كانت
نقداً، ولا ترجع إلى صاحبها الأول، ولا إلى من لا تجوز شهادته له
من الأقارب أو الشريك أو الوكيل؛ إذا لم ترجع للأول فلا شيء عليه.
إذاً: العينة متى تكون محرمة؟ إذا رجعت السلعة المبيعة بثمن مؤجل
إلى بائعها بنقدٍ أقل من ثمن التأجيل.
حرمة الحيلة على الربا
ما هو عكس العينة؟ إنسان احتاج إلى نقد وما وجد أحداً يعطيه، فبحث
عمن يبيعه أرزاً إلى آخر السنة بثمن مؤجل فما وجد أحداً يعطيه، هو
غير معروف في السوق أو غير مؤتمن أو مماطل، المهم ما أحد بايعه،
فذهب إلى البيت وقال لزوجته المسكينة: اعملي معروفاً، هات المصاغ
الذي عندك، وأنا أبغى كذا، وأبغى أتصرف، وأفعل لك وأفعل، حيل كثيرة
تحصل، فقالت: لا مانع يا ابن الحلال! تفضل، فأخذ المصاغ من المرأة،
وذهب إلى الصائغ وقال: أنا عندي هذا الحلي وأريد أن أبيعه، قال: ما
عندي مانع، فوزنه وقال: والله! هذا قيمته ألف ريال، فقال: بعت،
أعطني الألف، الصائغ أخذ الحلي، والرجل أخذ الألف، ووضعها في جيبه،
ثم قال للصائغ: يا شيخ! والله! أنا آسف، هذا حق امرأتي، وأنا قلت
لها: سآتي لك به، وأخاف أن تقع مشكلة ونزاع وكذا وكذا، اعمل معي(3/292)
معروفاً، خلصني من هذه المشكلة، قال: ماذا تريد؟ قال: أنا أشتريه
منك بثمن مؤجل بألف ومائتين. قال له: لا مانع، اكتب لي سنداً بألف
ومائتين ثمن حلي وزنه كذا، تفضل خذ الحلي، فرجع إلى بيته بحلي
المرأة، وبألف ريال، وعلى ظهره للصائغ ألف ومائتان ريال، فهذا حكمه
حكم بيع العينة، فالحلي دليل على الطريق، والعملية انتهت على ألف
ريال نقداً، بألف ومائتين بعد سنة، وهذا عكس العينة؛ لأن المبيع
ملك المشتري، بخلاف الأولى، وكلاهما مآله إلى الربا. ما موقف
العلماء من هذا العقد؟ الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ، مالك ،
أحمد رحمهم الله على فساد البيع والتحريم. الشافعي يقول:
إن كان البائع والمشتري لأكياس الأرز مثلاً متفقان بنظرات العيون،
وبقسمات الوجوه، ويعرفان بحالة الواقع، وكلاهما يعرف ماذا عند
صاحبه، فكأنهما متفقان لفظاً، وكما قيل: الموجود عرفاً كالموجود
حقيقة، فإذا جاء إلى رجل معروف أنه قعد في دكانه، ولا يبيع أرزاً
ولا سكراً، عنده عشرون أو ثلاثون كيساً على طول السنة وهي موجودة،
ويبيعها في اليوم عشرين مرة! ويسترجعها، إذاً: الذي يأتي إليه عادة
هل يريد أن يشتري أو من أجل العينة؟ من أجل العينة؛ لأنه معروف
بهذا، يقول الشافعي رحمه الله: إذا وقع العقد على غير اتفاق
بين الطرفين فلا مانع. والجمهور يقولون: لا يجوز أبداً، ما دامت
السلعة سترجع إلى بائعها؛ فسداً للباب تمنع، ومالك خاصة عنده
سد الذرائع مقدم، وهو أصل من أصول مذهبه، وسد الذرائع هو: ترك ما
لا بأس به مخافة مما به بأس. إذاً: حكم بيع العينة عند الأئمة
رحمهم الله أنها ممنوعة وباطلة عند الأئمة الثلاثة، وفيها تفصيل
عند الشافعي ، وأجاب عليه الجمهور، وبالله تعالى التوفيق.
معنى قوله: (واتبعتم أذناب البقر)
في قوله صلى الله عليه وسلم: (واتبعتم أذناب البقر ) بعضهم
يصرفه إلى شيء بعيد فيقول: إذا سخر القوي الضعيف، وساقه بذنب(3/293)
البقر، ففي بعض الجهات يتخذ من ذنب البقر سوط، خاصة في حالات
الطغيان، وتسخير الناس في مشاريع حفر نهر، أو في بناء جسر، أو في
كذا وكذا، ويسخرون المواطنين للعمل بالقوة دونما أجرة، من أجل أن
يقيموا تلك المشاريع، ويسوقونهم بسياطٍ من ذنب البقر، وبعضهم
يستعمل إحليل البقر سوطاً، ييبسه بالملح ويصبح كالسوط إلى غير ذلك،
ولكن التفسير الصحيح هو الأول: اتبعتم أذناب البقر: أي بالزراعة،
وتركتم الجهاد من أجلها، ويكون عليه هذا الوعيد: (سلط الله عليكم
ذلاً )؛ لأنكم تركتم الجهاد الذي فيه قتل النفس، وقتل النفس
عزة، تطلب إحدى الحسنيين: شهادة أو نصر، والجزاء من جنس العمل،
فعوملوا بنقيض قصدهم، هم تركوا الجهاد ليسلموا من القتل فجاءهم
الذل، والذل موت معنوي، وانظر إلى الرقيق إذا أعتقه رجل، فله
الولاء؛ لأنه بمثابة من أحياه حياة معنوية (سلط الله عليكم ذلاً لا
يرفعه حتى ترجعوا إلى دينكم )، هذه المصيبة الكبرى، إذاً: ما
يقع في الأمم من كوارث وأحداث ومذلة للأفراد والجماعات، إنما هو
بسبب، وكل شيء بقضاء الله وقدره، ولكن من قضائه إذا تركت الجهاد
سلط عليك الذل، فإذا تركتم الجهاد واستعضتم عنه بالدنيا، جاء الذل
بسبب ذلك، ولا يرفع هذا الذل الذي لحق بالأمة حتى ترجع إلى إلى إِنَّ
اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]،
ولما سألوا في غزوة أحد أَنَّى
هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل
عمران:165]، لماذا من عند أنفسهم؟! الرسول يؤكد عليكم: (لا تبرحوا
أماكنكم ولو رأيتم الطير تتخطفنا )، فنزلوا إلى الغنيمة، فحصل
ما قضا الله وقدره، وما شاء فعل وَيَتَّخِذَ
مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل
عمران:140]. المهم أن آخر هذا الحديث خطير؛ لأن الأمة الإسلامية
إذا أرادت عزتها وأرادت مكانتها التي كانت عليها في القمة، وفي
المقدمة؛ فلتجاهد في سبيل الله؛ وبهذا تحصل لها قيادة الأمم،(3/294)
والوسطية الكريمة، والخيرية على الناس، وإنما يحصل هذا بالدين،
فإذا شغلت عنه وضيعته، ضيعت مكانتها وأفلت الزمام من يدها، فمتى
ترجع إلى دينها، يرد الله عليها ما أخذ منها، وبالله تعالى
التوفيق.
( كتاب البيوع - باب الربا [5] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (رخص في العرايا...)
2 شرح حديث: (رخص في بيع العرايا دون خمسة أوسق)
3 شرح حديث: (نهى رسول الله عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها..)
4 شرح حديث: (نهي عن بيع العنب حتى يسود)
5 شرح حديث: (لو بعت من أخيك تمراً فأصابته جائحة...)
6 شرح حديث: (من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر...)
كتاب البيوع - باب الرخصة في العرايا وبيع الأصول والثمار
الإسلام دين ودنيا، وعبادات ومعاملات، وقد نظم الإسلام أحكام المعاملات
تنظيماً حكيماً، ويظهر ذلك بوضوح في باب البيوع، وهو باب واسع شمل كل
أنواع المعاملات المالية وبين أحكامها، ومن هذه البيوع التي بينها
الشرع بيع الثمار ووضع الجوائح وبيع العرايا.
شرح حديث: (رخص في العرايا...)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى
عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تبيع
بخرصها كيلاً ) متفق عليه، ولمسلم : (رخص في العرية يأخذها
أهل البيت بخرصها تمراً يأكلونها رطباً ]. (رخص) يعني: أعطى
رخصة في شيء ممنوع. (رخص في العرايا أن تباع) (أن) تفسيرية، تفسر
معنى العرايا التي رخص فيها رسول الله. (أن تباع -النخلة أو
النخلات- بخرصها تمراً)، تباع ثمرة النخلة والنخلتين وهي رطب
بخرصها تمراً، وصورة بيع الرطب على رءوس النخيل بخرصها تمراً كيلاً
معلوماً تقدم لنا في المزابنة، والمزابنة: هي بيع الرطب على رءوس
النخيل بخرصه تمراً مكيلاً. مثلاً: هذا البستان فيه مائة نخلة،
فتعطيه خمسين وسقاً من التمر الآن، ويدع لك النخل، لكن عندما تأخذ(3/295)
رطباً، وتجفف التمر، تحصل على خمسين أو أربعين أو ستين، هذا ممنوع،
وهو من المزابنة. (رخص في العرايا) ما هي العرية؟ سيأتي بعد البيان
الإجمالي (بخرصها تمراً) حالاً، ويدفع التمر لصاحب النخل، وكيف رخص
في هذا وهي مزابنة؟ قال: لكي يأكلها المشتري رطباً لا أن يجففها،
وموجب الترخيص فيها الرفق بالمسلمين، وهي: أن يأتي إنسان لصاحب
بستان يأكل الرطب، وجيرانه ليس لديهم المال ليشتروا نخلة أو
نخلتين، ويجوز أن تشتري ثمرة هذه النخلة من رطب بمبلغ كذا نقداً،
تسلمه الآن أو لاحقاً، لا مانع، مثل الذين يشترون الثمر كله
ويتولون أمره، ينزلون منه رطب، يجففون منه، هذا بيع وشراء طبيعي،
لكن جيران البستان ليس عندهم نقد يشترون رطباً يتفكهون به كما
يتفكه الناس، وعندهم تمر، جاءهم زكاة من فاعل خير، إذاً الناس
يأكلون رطباً جنياً وهؤلاء يأكلون تمراً جافاً من العام الماضي،
قالوا: نريد أن نأكل رطباً نحن أيضاً، فهؤلاء الناس الذين لا
يستطيعون شراء رطب النخلة نقداً وعندهم تمر، رخص لهم صلى الله عليه
وسلم أن يشتروا ذلك عرية، وسميت النخلة التي يباع رطبها بالتمر
خرصاً عرية .. ليست عارية، بل عرية من عريانة؛ لأن العارية من
الاستعارة ويستعير، لكن عرية عريانة عن ماذا؟ عن حكم المزابنة
بمقتضى الرخصة، فخرجت عن حدود المزابنة، لماذا؟ لخصوص هؤلاء الناس
ليتمكنوا من مشاركة أصحاب البساتين والنقود من أن يأكلوا رطباً مع
الناس. وهنا أحكام عديدة؛ من أهم تلك الأحكام في رخصة العرية: أن
تكون في حدود التفكه، هل يجوز أن يشترى البستان كاملاً بخرصه تمراً
ويقال: عرية أتفكه؟ هل كامل البستان للتفكه أو للتجارة؟ للتجارة،
إذاً: في حدود التفكه. إنسان عنده أسرة من شخصين أو ثلاثة أو أربعة
هؤلاء يكفيهم نخلة .. نخلتين، فيأخذ بقدر ما يكفيه للتفكه. فإذا
اشترى على قدر ما يحتاج بتقديره، وبعد أن اشترى قال: ما لنا(3/296)
والرطب! دعنا نجففها وتصير تمراً لعلنا نحصل على أكثر مما دفعنا.
هذا لا يجوز. إذاً: الشرط الأول: أن يكون في حدود التفكه، الشرط
الثاني: ألا يتعمد ترك الرطب على الشجر حتى يثمر؛ لأنه بهذا يكون
قد باع تمراً بتمر مؤجلاً، ويكون قد استغنى عن الرطب، وما دام أنه
استغنى عن الرطب فترجع العرية إلى المزابنة مرة أخرى، إذاً: رخص في
بيع العرية.. والعرية هي: النخلة أو النخلات يشتريها صاحب العيال
بخرص ما فيها من رطب تمراً يدفعه حالاً عند العقد ولا يؤجله. ثم هو
يباشر أخذ الرطب للأكل، وما سبقه عن الأكل وأتمر فلا بأس؛ لأنه لم
يتعمد تركه حتى يجف ويصير تمراً. وإذا زاد من رطبه ماذا يفعل في
هذا الزائد هل يتركه على الشجر حتى يجف؟ لا، له أن يبيع أو أن
يهدي؛ لأنه أخذ منه في حدود طاقته. قال رحمه الله: [ ولمسلم (رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً يأكلونها رطباً )
]. رخص أن يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً، أي: يأكلها أهل البيت،
إذاً العرية: هي بيع الرطب بخرصه تمراً، وهو عين المزابنة، لكن لما
كانت للحاجة لأهل البيت لكي يأكلوا رطباً رخص في ذلك رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
شرح حديث: (رخص في بيع العرايا دون خمسة أوسق)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها من التمر فيما
دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق ) متفق عليه ]. هذا هو القيد،
قلنا بأنه لا يحق أن يشتري ثمرة البستان كله عرية، ولكن يشتري نخلة
أو نخلتين في حدود ما يخرج عن ظنية الاتجار، فما كان في حدود خمسة
أوسق، والوسق ستون صاعاً، في حدود ثلاثمائة صاع، وقد تكون العائلة
كبيرة وذات أرحام وأقارب، وقد يكونون مختصرين، لكن في مجال الخمسة
أوسق، أما لو كان الرطب على النخل يخرص بستة أوسق فلا، هذه خرجت عن
كونها عرية، هذا يريد أن يتاجر، إذاً: خمسة أوسق فأقل يجوز بيعها(3/297)
بخرصها رطباً يأكله أهل البيت، سواء زاد وأهدوا أو باعوا، أو جف
عليهم وغلبهم.. اشتد الحر وسبق الصيف أوانه، أحياناً تأتي بعض
السنوات في منتصف المدة، وتجد البستان بعد أن كان كله رطباً فإذا
به في أسبوع واحد كله صار تمراً لشدة الحر. إذاً: المقدار الذي
يكون فيه الترخيص ببيع الرطب بخرصه تمراً إذا كان الخرص خمسة أوسق
فأقل، هذا ما ذكره العلماء في التمر والرطب، وهل يقاس على ذلك
الرخصة على العنب بالزبيب، والمشمش بالمجفف منه؟ بصفة عامة:
الفواكه تجفف، التين يجفف، والعنب يجفف، والمشمش يجفف. يهمنا: هل
يقاس على الرطب والنخلة والتمر غيرها مما يشاكلها، وأهم ذلك العنب
والتين أم أنها تقف عند المنصوص؟ يقول الأصوليون: الرخص لا تتعدى
محلها؛ لأنها على خلاف الأصل وخلاف القاعدة، فيكون ما عداها
محظوراً، ويكون ما عداها مغايراً لها. إذاً: لا يقاس العنب بأن
يخرص ويباع بخرصه زبيباً، ولا التين بخرصه تيناً مجففاً، فالعرية
خاصة بالنخلة رطباً وتمراً، وما عدا ذلك لا يدخل في الرخصة.
شرح حديث: (نهى رسول الله عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها..)
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى
البائع والمبتاع )، متفق عليه، وفي رواية: (وكان إذا سئل عن
صلاحها قال: حتى تذهب عاهتها ) . وعن أنس بن مالك رضي الله
تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى
تزهى، قيل: وما زهوها؟ قال: تحمار وتصفار ) متفق عليه، واللفظ
للبخاري ]. هذا نوع من أنواع البيوع الممنوعة احتياطاً من
الربا؛ ومن أكل المال بالباطل. الثمار: جمع ثمرة، ويدخل في ذلك
الرطب، العنب، التفاح، الخوخ، الرمان... كل ما يسمى ثمرة (حتى يبدو
صلاحها) صلاحها في ماذا؟ في إمكانية أكلها عند متوسط الناس، لا عند
الجائعين يأكلونها وهي خضراء، لكن متوسط الناس أصحاب الأذواق(3/298)
المعتدلة، فإذا بدا صلاح الثمرة جاز بيعها، وهل المراد بصلاح
الثمرة كل حبة على حدة؟ قالوا: لا، بين صلى الله عليه وسلم ما هو
صلاحها، قال: (أن تزهو)، فما زهوها؟ قال: (تحمار أو تصفار) ما
الفرق بين: تحمار وتحمر؟ تفعال: تدل على الشروع في الشيء، والمضي
فيه إلى النهاية، فمعنى (تحمار) بدأت مخايل الحمرة وإن لم تكتمل
حمرة الثمرة كلها، بمجرد ابتداء اللون، أو الصفرة تميزت ثمرة هذه
النخلة بالاحمرار، وثمرة تلك النخلة بالاصفرار ولو لم يكتمل
الاحمرار في هذه، ولا الاصفرار في تلك. وجاء في بعض الروايات عن
العنب: (حتى يتموه حلواً )، يتموه موهاً من الماء، وأصل الماء:
موهٌ، فإذا جرى الماء في العنب، بمعنى: العنب في أوله الحبة مثل
قطعة لحم، فإذا بدأ في الصلاح بدأ الماء يجري داخل الحبة، ويتموه
حلواً، وقد يتموه في بادئ أمره لكن على الحموضة، فحينئذ ما بدا
صلاحها ولا تصلح للأكل، لكن إذا تموه وجرى فيه الماء، وكان الماء
طعمه حلواً فيها فقد بدا صلاحها. والعلة في هذا كله: ما جاء في
الرواية: (حتى تؤمن العاهة)، أي: الآفة، وفي بعض الروايات: (حتى
يطلع النجم )، أي: نجم الثريا، وَالنَّجْمِ
إِذَا هَوَى [النجم:1]،
ذكر منكراً، ويفسره الجميع بأنه الثريا، أمنت العاهة على الثمار،
وهذا من قدرة الله سبحانه وتعالى، وليس للثريا تأثير في الثمار،
ولكن توقيت للفصول في السنة واختلاف الأجواء بما يناسب الزروع، وكل
زرع له فصل معين يجود إن صادفه ويفشل إن لم يصادفه، قد يهيج ويخضر
ولكن لا يثمر، وسمعت من الشيخ ابن صالح رحمة الله تعالى علينا
وعليه يحكي عن شخص فلاح كبير السن، مر على جماعة يزرعون الدبا
الحمراء -التي يقولون عنها: الشرقية- في الضحى، فقال: يا أولادي!
لو صبرتم حتى تزول الشمس. قالوا: وما الفرق بين الآن وزوال الشمس
إلا ساعة أو ساعتين. قال: لا، الشمس تنزل في برج كذا بعد زوال(3/299)
الشمس من هذا اليوم، وهو أول أوان زرع هذا النوع، فكأنهم شباب
استخفوا بشيبته، قال: علموا ما زرعتموه قبل الزوال، وما زرعتموه
بعد الزوال، فكانت النتيجة فارقاً بعيداً، فما زرعوه قبل الزوال
ورقه كبير، وأخضر طويل، وثمرته قليلة، وما كان بعد الزوال الثمرة
أكثر من الورق. إذاً: هناك مواسم زراعية تتناسب مع الجو والهواء
والحرارة والبرودة، وكلنا يعلم، والفلاح أعرف بهذا، هناك مزروعات
صيفية ومزروعات شتوية، والآن جاءوا بالبيوت المحمية لإيجاد جو
يتناسب طيلة السنة مع المزروعات، وأصبحت ترى مزروعات الصيف شتاءً،
ومزروعات الشتاء صيفاً؛ لأن البيوت المحمية لا فرق فيها بين صيف
وشتاء. فقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يطلع النجم )، (حتى تؤمن
العاهة ) ، (حتى يحمار أو يصفار ) ، (حتى يزهو )، كل تلك
أوصاف في الثمرة تدل على أنها تجاوزت مرحلة الإتلاف والآفة. جاء في
وضع الجوائح: بأنه إذا اشتراها بعد أن بدا صلاحها، ثم جاءت جائحة
سماوية كبرد أسقط الثمرة -كما هو معروف عند أهل الزراعة آفة-
وأتلفت الثمرة، ما حكم المشتري مع البائع؟ يرد الثمن، (علام يأكل
أحدكم مال أخيه بغير حق ) لأن الثمرة لا زالت في بستانك، فهي
على حسابك. يهمنا هنا: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة
لتكون ثمرة. أما إذا بيعت لتكون علفاً أو غرضاً آخر، جاء إلى
النخيل، والنخيل فيه أقنية بكثرة، فالبعض منها يزال تخفيفاً على
النخل لتكون علفاً للدواب، فهل باعها على أن تكون ثمرة يبدو
صلاحها؟ لا، ولا ينتظر بدو صلاحها، فهكذا إذا بيعت الثمرة لا
لكونها ثمرة بل لغرض آخر فإن ذلك ليس فيه نهي، النهي عن بيع الثمرة
لتبقى في مكانها في أصولها ثمرة يتم نضجها ويستوفيها المشتري،
عندها لا يجوز عقد البيع حتى يبدو الصلاح.
مقياس بدو الصلاح
إذا كان البستان فيه مائة نخلة، وظهرت حبة أو حبتين زاهية، هل بحبة
أو حبتين زهت يحكم ببدو صلاح ثمرة البستان؟ لا، هذه بشائر خير لا(3/300)
مانع، لكن إذا انتشر الاحمرار في أكثر النخيل أو في النخلة
الواحدة، وبدا الصلاح في بعض نخيل البستان، وكان البستان فيه عدة
أنواع، والصلاح بدا في نوع منه، وبقيت الأنواع الأخرى، أيجوز بيع
جميع الأصناف على بدو صلاح صنف واحد أو لابد من بدو الصلاح في جميع
الأصناف؟ جميع الأصناف، إذا بدا الصلاح في بستان زيد وجواره بستان
عمرو لم يبدو فيه صلاح، فهل نقول: صلاح بستان عمرو يصلح لصلاح
بستان زيد؟ لا، المنطقة واحدة والحد واحد؟ لا، التربة تختلف،
والماء يختلف، والصلاح كذلك يتفاوت.. وهكذا. بدو الصلاح يكون
غالباً في البستان الواحد، وإذا كان هناك أصناف وأنواع فإنه يعم
الأصناف، وحينئذ تباع الثمرة على بدو صلاحها بنقد لا من جنسها،
وبعد ذلك له أكلها رطباً، أو باعها رطباً، أو جففها.. دخلت في ملكه
فيصنع فيها ما بدا له.
شرح حديث: (نهي عن بيع العنب حتى يسود)
قال رحمه الله: [وعن أنس رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد )،
رواه الخمسة إلا النسائي وصححه ابن حبان والحاكم ].
تتمة لما تقدم: قال في حق النخيل: (حتى تحمار أو تصفار )،
(تفعال)، هذه تدل على الشروع في الشيء والمضي فيه إلى الكمال، كما
في قوله سبحانه: قَالَتِ
الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا
أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ [الحجرات:14]،
(ولما يدخل) يعني: يدخل ويستمر في دخوله إلى الكمال والتمام، فكذلك
يحمار ويصفار، يعني: يبدأ اللون إلى أن يأتي في الكمال. جاء في
العنب: حتى يسود، وهل كل عنب سيسود؟ لا، هناك عنب أسود وأحمر
وأبيض، وشريفي، وحجازي، ومصري، وبناتي... العنب كثير، لماذا أسود
بالذات؟ الذي أصله أسود حتى يسود، ويسواد على وزن يحمار ويصفار،
ولكن العنب الأبيض الذي ليس فيه سواد! هلا تذكرتم الأسودين، حتى
يسواد يعني: يجري فيه اللون الأسود كناية عن الماء، (شهرين: هلال(3/301)
وهلال وهلال لم يوقد في بيت محمد صلى الله عليه وسلم ناراً. قال:
فما كان طعامكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء) الماء إذا رأيته في
مكان عميق رأيته أحمر أو أسود؛ لغزارة مائه، فيسود بمعنى يظهر فيه
الماء، هو كان أخضر فيروزي، ثم لما وجد الماء فيه مال إلى السواد.
إذاً: حتى يسود بمعنى يجري فيه الماء، كما قال: (يتموه حلواً ).
قال: [ (وعن بيع الحب حتى يشتد ) ]. وكذلك بيع الحب في مزرعته،
إنسان عنده عشرون فداناً، قمحاً، ثم جاء إنسان وقال: أريد أن أشتري
منك مزرعتك هذه، فهل اشتراها ليحصدها علفاً، أو ليبقيها حتى يشتد
الحب ويحصد ويذري؟ إن كان اشتراها لتكون علفاً فلا مانع، وإن كان
اشترها ليبقيها في زرعها حتى يشتد الحب ويستحصد ويحصد ويدوس ويصفي
ويأخذ حباً. لا يجوز البيع حتى يشتد الحب في سنبله؛ لأنها قبل
اشتداد الحب أول ما تكون الحبة فارغة، ثم يجري فيها اللبن، سبحان
الله! من أين جاء هذا اللبن؟ الأرض ليس فيها لبن، الماء ما فيه
لبن، عود القمح ما فيه لبن، حينما ينعقد هذا اللبن داخل غلاف الحبة
ويشتد، قبل الاشتداد يسمى فريكاً فتفرك السنبلة وتأكلها، حب أخضر.
هذا لا يجوز، حتى يشتد وتريد أن تأكلها فصاحب الأسنان القوية هو
الذي يستطيع أن يأكلها. فإذا ما اشتد الحب في سنبله أمنت عليه
الآفة، وإذا ما أردت أن تحصد فكيفما شئت، لكن لا يباع بقمح كيلاً،
بل بالنقد، فإذا ما اشتراه نقداً بعد اشتداد حبه جاز، وقبل أن يشتد
الحب لا يجوز بيعه. وقلنا: إذا كان الشراء مراداً به التبقية حتى
يحصد، أما إذا كان مراده بالشراء أخضر علف أو أي شيء آخر هذا ليس
داخلاً في هذا.
شرح حديث: (لو بعت من أخيك تمراً فأصابته جائحة...)
قال رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو بعت من أخيك تمراً فأصابته
جائحة؛ فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ )،(3/302)
رواه مسلم ، وفي رواية له: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
بوضع الجوائح ) ]. يأتي المؤلف رحمه الله في نهاية باب البيوع
بهذين الحديثين، الحديث الأول: (إذا باع أحدكم ثمراً لأخيه فأصابته
جائحة؛ فلا يأخذ من ماله شيئاً )، وأمر صلى الله عليه وسلم بوضع
الجوائح. صورة هذا الحديث مما تقدم لنا في بيع الثمار وحدها دون
الأصول: أنها لا تباع حتى يبدو صلاحها، وبدو الصلاح: هو أن يمكن
لصاحب الذوق المعتدل أن يأكله، ثم بين صلى الله عليه وسلم نوع هذا
الصلاح: بأن ثمر النخل.. تحمار أو يصفار، وفي العنب أن يتموه
حلواً؛ فإذا حصلت تلك الصفات في الثمار جاز بيعها دون أصولها، كما
هو المعروف عند أهل المدينة ببيع الصيف، يعني: ثمرة النخل صيفاً،
ويكون هناك العنب والرمان والتين، وكل ذلك تباع الثمرة دون الأصل
-أي: دون الشجرة- بخلاف ما إذا باع الشجرة والأرض وانتقل الأصل
للمشتري، فسيأتي في الحديث حكم ذلك؛ فعلى أن الثمار لا تباع حتى
يبدو صلاحها، وفي بعض الروايات: (حتى يطلع النجم وتؤمن العاهة )،
والنجم هو الثريا، وبمشيئة الله سبحانه يعتدل الجو وتؤمن الآفات
على الزراعة. فإذا أمنت العاهة في غلبة الظن وأن الثمرة ستظل سليمة
إلى النهاية جاز بيعها، فإذا باعها قبل بدو الصلاح كان مغايراً لما
جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معرضاً لإصابة الآفة،
أما إذا اشترى الثمرة بعد بدو الصلاح وعلى الوجه الشرعي، ثم جاءت
جائحة، والجائحة هي الحدث العام الذي يجتاح -بمعنى: يكتسح ويدفع ما
أمامه- بعد أن وقع البيع بعد بدو الصلاح على الوجه المشروع، وجاءت
على غير العادة، فمثلاً: اشترى الصيف بعد بدو الصلاح، وبعد أن
اشتراه بشهر -أو أكثر أو أقل- جاءت ريح عاتية فأسقطت الثمار
وأتلفتها، أو جاء مطر مصحوب ببرد، وأسقط البرد الثمرة وأتلفته، أو
نحو من ذلك الذي هو خلاف العاهات الزراعية والآفات التي تعتري(3/303)
الزراعة مما هو معهود عند علماء الزراعة، فتأتي آفة عامة بحدث
مفاجئ فتتلف الثمرة، هذه هي الجائحة؛ فحينئذ وقع البيع ودفع
المشتري الثمن أو لم يدفع وكان في ذمته، وخلى بينه وبين الثمرة
يأخذ منها ما شاء، ويستغلها كيفما شاء. وعلى صاحب النخلة أو الشجرة
أن يسقي إذا احتاجت إلى سقي، أو يمنع من سقيها إذا كان ذلك يضرها،
فلو كان لصاحب النخيل زراعة تحت النخل وتحتاج إلى سقي، لكن السقي
يضر بالشجر؛ فيمنع للمضرة عما هو مبيع.
إلزام البائع بوضع الجوائح
إذا جاءت الجائحة وأتلفت الثمرة المبيعة بعد بدو الصلاح على الوجه
الشرعي، فهذه الثمرة التي أتلفتها جائحة سماوية على من يكون
الضمان؟ الحديث هنا يقول، للبائع: فلا يأخذ من ماله شيئاً لماذا؟
لأن ضمان الثمرة ما دامت على الشجرة على البائع. وهنا يقع الخلاف،
ونجد القلة من العلماء من يقول: البائع لا يتحمل أي شيء، وإنما عوض
هذا المثال وتلفه وضمانه على المشتري؛ لأن البائع باع ما تحت يده،
وخلى بينه وبين المشتري، فهو في عهدة المشتري، إن سلم سلم له، وإن
تلف تلف عليه. يمكن أن يقول إنسان: هذا مقتضى العقل والقياس، ولكن
تخلية البائع للمشتري بينه وبين الثمرة ليست تخلية كاملة، بل هي
متعلقة ببقائها، ومن هنا كان الحديث صريحاً صحيحاً ولا يحتمل
الاجتهاد عند من يعمل اجتهاده، وكما قيل: لا اجتهاد مع النص،
والحديث في آخره يقول: (بأي حق يأكل مال أخيه)، أنت بعت الثمرة
بألف ريال، والمشتري دفع الألف، وبعد لحظات، أو أيام، أو أسابيع،
وبعد أن اشترى منك في أوائل بدو الصلاح، وبعد أن اكتمل الصلاح،
وأراد أن يستثمر ما اشتراه، ويجني الثمرة؛ فإذا بجائحة تتلف الثمرة
عليه، أين المبيع؟ لكأن البائع لم يسلم المشتري عين ما باعه عليه،
إذاً: من أول بدو صلاحها إلى أن ينضج ويكتمل صلاحها، إلى أن يستنفد
المشتري ثمرته هي في ضمان البائع، والحديث صريح، ولا ينبغي(3/304)
الاجتهاد في معارضة النص، والجمهور على أن: ضمان الثمرة هذه التي
ما بيعت إلا بعد بدو الصلاح، وتلفت بآفة عامة سماوية، وليس من صنع
أحد؛ فإنها من ضمان البائع. أما إذا كان ذلك بصنع أحد بأن جاء
وأطلق عليها الماء في الليل وزاد إلى أن أفسدها، أو جاء وكانت ثمرة
أخرى دون النخيل، أو النخيل ليس مرتفعاً بكثرة؛ وجاء وأطلق فيها
إبله أو بقره فأتلفت الثمرة، إذاً: يكون هناك متعدٍ، والمتعدي
ضامن، فيكون ضمانها على من تعدى. إذاً: الكلام في الجوائح العامة
السماوية التي لا دخل لأحد فيها.
قانون التأمين البحري وفساده
نشأ في عالم التجارة والقوانين الاقتصادية ما يسمى بالتأمين
البحري، والتأمين البحري هو أول نوع من أنواع التأمين التي انتشرت
الآن في العالم، كانت التجارة بحرية، وكان القراصنة يعتدون على
السفن، وكانت أكثرها شراعية أو بخارية صغيرة، وكانت الأمواج تأتي
عاتية، فلربما طغت الأمواج وأغرقت السفينة، ولربما سطا اللصوص
والقراصنة عليها واجتاحوها، فإذا كانت هناك تجارة في عرض البحر،
وجاءت الأمواج والرياح فأغرقت السفينة بما فيها من السلاح، المشتري
اشترط التسليم في بلده، والمنتج البائع تعهد له بإرسال السلعة إلى
محله، لكنها في الطريق ما بين محل الإنتاج ومحل الاستلام تلفت بآفة
لا باعتداء، فإذا كان التلف باعتداء القراصنة فهذا تعد من إنسان؛
فهو ضامن؛ فعليهم أن يتبعوهم، أما إذا تلفت بأمر إلهي سماوي: رياح
عاتية، أمواج شديدة؛ فأغرقت التجارة؛ فيكون الضمان على البائع؛ لأن
المشتري لم يستلم شيئاً بعد، فقاموا وأنشأوا الضمان البحري، وتقوم
الشركات تضمن السلعة من موضع إنتاجها أو مبيعها، وتتعهد بشحنها
ومتابعة الجو والحالة الجوية، ثم نوع السفينة التي تحملها، وقبل
ذلك نوع التعبئة، وتعبئة الزجاج غير تعبئة القماش غير تعبئة الخشب،
فشركة التأمين تتولى كنائب عن المشتري استلام السلعة، وتعبئتها بما(3/305)
يناسبها، ثم النظر في السفن التي تحمل هل هي صالحة للإبحار إلى محل
التسليم أم لا؟ ثم تسأل مصلحة الأرصاد: هل هناك احتمال رياح أو
إثارة رياح أو أمواج؟ بقدر ما لديهم من معلومات يتبادلونها مركزاً
عن مركز آخر، فإذا ما اطمأنت شركة التأمين على سلامة الوصول شحنت
البضاعة، وأبحرت السفينة، ومضت في طريقها إلى محل التسليم. إذا
عملت كل هذا ووقع المحظور، وجاءت جائحة عارضة بعد كل هذه
الاحتياطات؛ فإن شركة التأمين هنا تضمن، والإسلام يقول: توضع
الجوائح، فنظام الاقتصاد يحمل شركات التأمين ضمان ما ضمنت به في
سلامة وصوله إلى المشتري؛ لأنها تأخذ على ذلك التأمين جعلاً، فلما
أخذت الجعل وتوثقت من الأحوال التي تتعلق بإبحار البضاعة، وجاء أمر
عارض، فتتحملها، وكونها تتحمل أو لا تتحمل فإنها قد تتحمل في السنة
صفقة أو صفقتين، بينما تحصل من المؤمنين على مئات الصفقات وتصل
بسلامة ولا تغرم شيئاً، فنسبة ما تغرمه في تلك الحالات لا يتجاوز
العشرة في المائة أو العشرين في المائة من مجموع ما يدخل عليها من
الصفقات الأخرى، هذا لا يهمنا، ولكن نقول: إن هذه القضية بذاتها
عالجها رجال الاقتصاد وأخطئوا فيها، وهنا الإسلام يقول: (إذا باع
أحدكم ثمراً فاجتاحته جائحة، فلا يأخذ من ماله شيئاً).
النسبة التي بها توضع الجوائح
قوله: (أمر بوضع الجوائح)، يعني: وضع قيمتها، والجوائح تكون على
حالات نسبية، قد تجتاح الجائحة جميع الثمرة، ولا يبق منها ما يصلح،
وقد تجتاح البعض، وحينما تجتاح الجميع فلا خلاف أن هذا الحديث
موضوعها، أما إذا اجتاحت البعض والبعض قليل؛ فإن هذه تجري بها
العادة بأن تهب رياح، أو أن يأتي مطر نوعاً ما فيسقط بعض الثمرة أو
يتلفها، فإذا كان الاجتياح لشيء قليل فلا وضع، ولا يرجع المشتري
على البائع بشيء؛ لأن ذلك في حدود المعتاد. وما حد القليل من
الكثير؟ يقدره البعض بالثلث، إذا وقعت الجائحة على ثلث الثمرة وضعت(3/306)
من قيمتها عند البائع، باع البستان بألف، وجاءت الجائحة وأتلفت ثلث
الثمرة؛ فالبائع يرد ثلث ثمن الثمرة للمشتري، أما إذا كان المتلف
أقل من ذلك فهذا يغتفر ويتسامح فيه؛ لأنه من عوارض البيع والشراء،
ومن حالات البساتين والرياح وغير ذلك. إذاً المبدأ الأساسي: ضمان
البيع والشراء، وأن عهدة المبيع في ذمة البائع حتى يستوفيه
المشتري، وتقدم لنا نظير ذلك: لو أن إنساناً اشترى من آخر مائة كيس
من الحب، ودفع الثمن، ولم يستلم ذلك، ولم تزل تلك الأكياس في
مستودع البائع، فتلفت الأكياس في مستودع البائع، فتكون من ضمان
البائع؛ لأن المشتري لم يستلم السلعة من المبيع؛ فهي في عهدة
البائع حتى يستلمها المشتري، فكذلك هنا النخيل بمثابة الأكياس في
المستودع؛ فلما ضمن الشرع للبائع ما تلف في مستودعه كذلك ضمنه ما
تلف على أشجاره، ثم أمر بوضع الجوائح -وهي ما يجتاح الثمار- ولكن
تفصيل بعض العلماء: إذا كانت الجائحة اجتاحت الجميع فعلى هذا النص،
وإذا كانت اجتاحت قليلة فهذا مما يتسامح فيه، والحد بين القلة
والكثرة هو الثلث، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر...)
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها
للبائع الذي باعها إلا أن يشترط المبتاع )، متفق عليه]. هذا
تابع لبيع الثمرة والأصول: إذا اشترى إنسان بستاناً، والبستان قد
أُبر نخله، والتأبير وضع الوبار، وهو دقيق طلع فحل النخل في
إناثها، وهذه الطريقة خاصة بالنخل، ولذا قالوا: إن أميز أنواع
النباتات هي النخلة، كما قالوا: إن أميز أنواع الحيوانات الخيل،
فالنخلة متميزة عن بقية الأشجار بصفات هي أقرب إلى صفات الإنسان،
وأرقى أنواع النباتات النخلة؛ لما فيها من الشبه بالإنسان، في
حياتها إذا جززت الرأس ماتت، وجميع الأشجار تقطع أغصانها يميناً(3/307)
وشمالاً، وتنبت وتعود إلى ما كانت عليه إلا النخلة، إذا جززت رأس
النخلة ماتت، وكذلك ما يقال في أن النخلة ليست لها أغصان في وسطها
كشجرة الرمان والتوت وغيرها، بل ساق واحد كالإنسان وعمود واحد،
وكذلك قالوا: جميع أجزائها يستفاد منها، ولا يلقى منها شيء، وكذلك
الإنسان مفيد للمجتمع بكليته: بعينه، بأذنه، بلسانه، بيده،
برجله... كل ذلك يفيد الأمة، فكذلك النخلة: في ورقها، في جريدها،
في ثمارها، في نوى ثمرها، في جذوعها، في كرانيفها... كل ذلك يستفاد
منه ولا يتلف منه شيء. ثم قالوا أيضاً في هذه العملية -عملية
التلقيح وعدم التلقيح-: الإنسان لابد في تلقيحه من لقاء الذكر
بالأنثى، فيكون هناك التلقيح كما يقال له فعلاً، ويكون هناك الولد
بين الذكر والأنثى، فكذلك ثمرة النخلة لابد من تأبير وبار الذكر أو
فحل النخل بطلع الأنثى، يعني تلقيحها متميز ذكر وأنثى، بخلاف بقية
الأشجار، سواء كانت الحمضيات من ليمون وبرتقال وأترج وسوى ذلك أو
العنب أو التين أو الرمان... جميع الفواكه فإن فيها أيضاً تأبير
-فيها تلقيح- ولكن ليس هناك نوع من شجر العنب، ولا التين ولا
البرتقال هذا ذكر وهذه أنثى، الكل منتج، والكل مثمر، ولابد للثمرة
من لقاح. كيف تلقح تلك الأشجار؟ أما النخلة فقد عرفنا بأن الإنسان
يأتي ويأخذ أبار الفحل ويضعه في طلع الأنثى، وبقية الأشجار من الذي
يلقحها؟ بين الله سبحانه ذلك فقال: وَأَرْسَلْنَا
الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [الحجر:22]،
يقولون: إن الشجرة بذاتها تكون فيها أزهار ملقحة، وأزهار تتلقح،
فالشجرة الواحدة من كل صنف تحمل النوعين: زهور فيها لقاح ولا تثمر،
وزهور تأخذ اللقاح وتثمر، ما الذي ينقل اللقاح من تلك الزهور
الملقحة إلى تلك الزهور المتلقحة؟ الرياح، تمر بالشجرة فتأخذ من
لقاح زهرة التلقيح وتمر على الزهور الأخرى فتعلق بها لواقح الزهور
الملقحة فتلقحها بإذن الله. وعلماء الزراعة يقولون: أيضاً الفراش(3/308)
والنحل وبعض الحيوانات أو الحشرات تساعد في التلقيح، فالنحلة: تنزل
على هذه الزهرة -وهي زهرة لقاح- لتمتص منها، فيعلق بأرجلها نوع من
اللقاح، فتنتقل إلى زهرة أخرى لتأخذ منها وجبة غذائها، ويسقط ما
علق بأرجلها في تلك الزهرة الأخرى فتتلقح بذلك. ويقول أيضاً علماء
الزراعة: جميع الحبوب لها لقاح، وإذا لم يأتها اللقاح فلا تجد فيها
الحبوب، وربما بعض الفلاحين يعرف أن في المزرعة كاملة بعض السنابل
على هيئة الدخان، أو هيئة القطن المحروق، والسنبلة الطبيعية لها
-كما يقال- السَفَاة، الإبر الصغيرة الممتدة إلى أعلى، وإذا مررت
عليها بإصبعك وجدتها كالمنشار مسننة، تلك الفجوات الصغيرة في تلك
السفاة الطويلة هي أنابيب ونوافذ تتلقى بها اللقاح الندى، ويدخل من
خلالها إلى الحبة عند أول ظهورها في السنبلة، فهناك تلقح وتمشي في
نموها، ثم تصير لبناً، ثم تعقد، ثم تكون حبة، فإذا مرت الرياح على
تلك السنابل الملقحة لقحتها، وهي نادرة؛ لأن الواحدة تلقح آلاف
الأفدنة. إذاً يهمنا في هذا: أن النخل له طبيعة في التأبير، فإذا
أبرت النخلة بدأت في النمو، وبدأت في مسيرتها إلى النضج، من الذي
وضع أساس النضج في النخلة: المشتري أم البائع؟ البائع هو الذي أبر،
إذاً: مسيرة نمو الثمرة ووصولها إلى النضج من عمل البائع، لذا فهي
من حقه.
تعارف أهل المدينة على أن الثمر لمن أبّر
وقضية أن الثمرة أو الشجرة إذا أُبرت فثمرتها للبائع قضية معروفة
في المدينة قبل الإسلام بسنين، كما يذكر علماء التاريخ والأدب: أن
بعض التبباعة جاء من اليمن في طريقه إلى أفريقيا، فمر بالمدينة،
فاستطاب جوها، فترك ولده ملكاً عليهاً ليرجع ويأتي بأهله ليسكنوها،
وفي أثناء غيبة الملك في ذهابه إلى أفريقيا رجع فوجد ولده مقتولاً،
لماذا؟ لأن ولده جاء إلى نخلة مثمرة، وطلع وجذ ثمارها، فجاء صاحبها
وضربه بالمنجل على رأسه وقال: إنما الثمر لمن أبَّر. ليس لإنسان لم(3/309)
يؤبر ولا دخل له أن يعتدي عليها، وكان من شأنه أنه لما وجد ولده
مقتولاً حاصر المدينة، وأخذ يقاتلها ويقاتلونه، إلى أن طال الحصار
فطال عليهم الزمن ونفد زادهم، فقال أهل المدينة فيما بينهم
-لتعلموا حال أهل المدينة قديماً-: ليس من الإنصاف أن نقاتل قوماً
جياعاً نفد طعامهم، ونحن نأوي إلى بيوتنا ونسائنا نستريح ونتغذى،
ثم نصبحهم بالقتال وهم جياع. قالوا: ماذا نفعل؟! هم المعتدون،
ليرحلوا، ما رحلوا، قالوا: إذا لم يرحلوا نقدم لهم العشاء، فإذا
بالملك يقول: واعجباً لأهل هذه القرية!! نقاتلهم نهاراً ويقروننا
ليلاً! فخرج عليه حبران من أحبار اليهود بالمدينة وسألاه: ماذا
تريد من هذا الحصار الطويل؟ قال: أستأصل أهلها الذين قتلوا ولدي.
قالوا: لا تتعب نفسك، لن تسلط عليها. قال: ولماذا؟ قال: إنها مهاجر
آخر نبي يأتي من الحرم... إلى آخر القصة. والذي يهمنا أن الثمر لمن
أبر، ويأتي الحديث: (من باع نخلاً قد أُبرت، فإن الثمرة للبائع ما
لم يشترط المبتاع )، وعلى هذا: فلو أن إنساناً أبر نخله، ثم جاء
بعد التأبير وباع البستان، الثمرة التي في النخل المبيع تكون
للبائع، إلا إذا اشترط المشتري أن الثمرة تابعة، ولو أن إنساناً
جاء يستأجر البستان سنتين أو ثلاث، ووجد النخل مؤبراً، عقد الإجارة
من الآن، ويمضي العقد ثلاث سنوات، ثمرة هذه السنة التي أبرها
المؤجر للمؤجر، إلا إذا اشترطها المستأجر. صاحب البستان احتاج
نقداً فرهن البستان وقد أبر نخله، الثمرة الموجودة داخلة في الرهن
مع الأصول أو خارجة عنه؟ خارجة؛ لأن صاحب النخل قد أبر، فلا تدخل
الثمرة ضمن الرهن، وعلى هذا فالحديث مبين بأن من أبر نخلاً فإن
الثمرة له، فلو باع النخل وقد أبرت فإن الثمرة ترجع للبائع ما لم
يشترطه المبتاع -المشتري- فإذا اشترط ووافق على ذلك البائع، ف
(المؤمنون عند شروطهم ) .
134976 ( كتاب البيوع - أبواب السلم والقرض والرهن [1] )(3/310)
( كتاب البيوع - أبواب السلم والقرض والرهن [1] )
عناصر الموضوع
1 من أحكام القرض
2 شرح حديث: (الظهر يركب بنفقته...)
3 شرح حديث: (لا يغلق الرهن من صاحبه...)
4 شرح حديث: (خيار الناس أحسنهم قضاءً)
5 شرح حديث: (كل قرض جر منفعة فهو ربا)
كتاب البيوع - أبواب السلم والقرض والرهن [2]
جعل الله عز وجل الناس بعضهم لبعض سخرياً، ومن ذلك التسخير ما يكون
بينهم من المعاملات المالية، فكل إنسان مهما استغنى بنفسه إلا أنه
يحتاج إلى غيره سواء كانت حاجة جسدية أو مالية، وهذا يدخله معهم في
معاملات، ومن هذه المعاملات الاستدانة، وعندها فقد يحتاج بعض الدائنين
إلى ما يوثقون به ديونهم وهو ما يعرف بالرهن. وقد فرع الفقهاء عليه
أحكاماً كثيرة ومسائل عديدة.
من أحكام القرض
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الظهر يركب بنفقته )].
يتعلق بالقرض أبواب تجر إلى الربا، فلو كان القرض عيناً؛ كأن تكون
اقترضت ألف دينار، أو إردباً من التمر، وتقدم بأنه لا يجوز لك إذا
شفعت لإنسان شفاعة فأهدى إليك هدية أن تأخذها؛ لأنك بهذا تكون قد
دخلت في باب الربا، وإذا أقرضت إنساناً فأهدى إليك بسبب القرض، فكل
قرض جر نفعاً فهو ربا. ويختلف الفقهاء في جواز القرض في أشياء؛ لأن
القرض يكون في معين: موصوف معلوم؛ ليكون عند السداد موضع وفاق، أما
إذا كان القرض في شيء غير منضبط، فلا، قالوا: كل ما صح سلماً صح
قرضاً، أما الجواهر والأحجار الكريمة فلا يصح السلم فيها؛ لأنه لا
يمكن انضباطها، وكذا في الفيروز والياقوت والعقيق والزمرد.. لو
قلت: أسلمت فيما وزنها كذا جرام، فإن شكلها وصفاءها ونعومتها
تختلف، ولا يمكن انضباط ذلك، ولهذا قالوا: لا يصح السلم في الأحجار
الكريمة، ولا الجواهر النفيسة؛ لأنها لا تنضبط عند التسليم، فكذلك(3/311)
القرض؛ لأنك عند ردها نختلف؛ هل هذا الذي اقترضت أو غيره؟ إذاً: لا
يجوز القرض فيها. والحيوان: هل يجوز القرض فيه أم لا؟ يختلفون:
الجمهور على الجواز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: (استسلف بكراً
ورد خياراً رباعياً )، قالوا: هذا من حسن الأداء، ونحن هنا في
بيع وشراء، وفرق بين البيع والشراء عند مقاطع الحقوق وبين حسن
الأداء مكارمة. الإماء والعبيد هل يصح القرض فيهم؟ قالوا: هذا يرجع
إلى حكم القرض، هل هو عقد تمليك على القطع أم مؤقت؟ اقترضت ألف
دينار، هذه الألف التي اقترضتها امتلكتها ملكاً قاطعاً تاماً أو
معلقاً؟ فمن قال: هو ملك تام مقطوع به؛ فيجوز عنده، ومن قال: هو
مؤقت؛ لأنه معلق بالذمة لصاحبه، قال: لا يجوز، وقوم قالوا: يجوز في
العبيد ولا يجوز في الإماء؛ لأننا إذا أقرضنا الأمة، وقلنا: هو
تمليك، ربما استمتع بها وهي ليست ملكاً له على الحقيقة، لذا قالوا:
يجوز قرض الأمة لمن لا يحل له وطؤها، كامرأة لا تطأ؛ أبوها، أخوها،
ذو محرم منها؛ لأنه لا يتأتى المحظور. إذاً: هناك مباحث في القرض
للتوسع فيها يرجع إلى كتب الفقه، والله أعلم.
شرح حديث: (الظهر يركب بنفقته...)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً،
ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب
النفقة ) رواه البخاري ]. هذا شروع من المؤلف في مباحث
الرهن، والرهن في اللغة: الحبس، كما جاء في الحديث : (الميت مرهون
في قبره بدينه )، أي: محبوس فيه، والرهن في اصطلاح الفقهاء:
توثيق دين بعين يمكن الاستيفاء منها، وقد بين سبحانه أنه عند عدم
وجود الكاتب أو الكتابة يكون الرهن: فَرِهَانٌ
مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]،
سواء كان ذلك في السفر لتعذر الكتابة، أو كان في الحضر. والرهن عقد
جائز؛ وإذا وقع فهو لازم، وذلك: إذا كان إنسان مديناً بدين لآخر،(3/312)
لكنه لا يثق في المدين لوفاء الدين، فيقول له: أحضر لي رهناً
توثيقاً للدين، فيقدم إليه الرهن، وكما يقولون: كل ما جاز بيعه
سلماً جاز رهنه؛ لأن العين المرهونة عند نهاية أجل الدين يردها
المرتهن للراهن، فإذا حصل فيها خلاف أو نزاع، لابد أن يرجع إلى ما
صح سلماً؛ أي: بالوصف.
شرط العين المرهونة
العين المرهونة لابد أن تكون معلومة للطرفين، حتى إذا ما جاء وقت
السداد، ورد العين المرهونة لصاحبها لا يكون هناك نزاع. والرهن
بمجموع أمره لا يجوز للمرتهن أن يستفيد منه على حساب الدين، والدين
قد يكون قرضاً حسناً، أو ثمن مبيع، أو أجرة عين متأخرة، فتأخذ
رهناً عليها، أو بعته عيناً والثمن مؤخر فتأخذ رهناً منه إلى
التسليم اقترضت منه ألفاً أو عشرة آلاف وطلب رهناً، فلا مانع من
ذلك، وهذه كما يقولون: من العقود المكملة والمتممة لعقد البيع؛
لأنه توثيق للثمن المؤجل، وكل عين جاز الانتفاع بها جاز رهنها على
ما تقدم في أوصاف السلم. ويشترط في الراهن: أن يكون جائز التصرف؛
لأن غير جائز التصرف لا يحق له أن يرهن؛ لأن الرهن تسليط المرتهن
بالعين المرهونة.
حكم الاستفادة من العين المرهونة
إذا رهن إنسان شيئاً كان له غنمه وعليه غرمه، وبعض الناس ربما اتخذ
عقد الرهن وسيلة للانتفاع مقابل القرض الذي أقرضه، طلب منه قرض
عشرة آلاف وهو لا يقدر أن يقول له: على أن تردها ومعها مائة، أو
ومعها إردب من التمر، أو ومعها كذا، أو تعمل لي كذا؛ لأنه ربا
صريح، فيقول: ترهن لي البيت، أو السيارة، أو كذا، فيقول: أرهن لك،
فحينما يقدم إليه العين المرهونة يأخذها ويستفيد منها، داراً
يسكنها، سيارة يستعملها، أشياء من هذا القبيل، فما استفاده من عين
الرهن لا يحق له أن يأخذه؛ لأنه بمثابة -على ما سيأتي- قرض جر
نفعاً بواسطة الرهن، حتى الهدية لا يقبلها إلا إذا عاوض عنها، فإذا
كان للعين المرهونة نفقة، ومنها منفعة, فلها وعليها، على ما يأتي(3/313)
تفصيله، وإذا كانت لا تحتاج كلفة كالدار، والأرض الزراعية، فيرهنه
إياها يأخذها ويزرعها، ويستغل زراعتها، فيتعين عليه أن يحتسب كم
حصل من زراعتها، كم من حصل من سكنى الدار، فيحسبها ويخصمها من
الدين التي هي مرهونة فيه، فلما كان الرهن لا يجوز للمرتهن أن
يستغله لحسابه زائداً عن الدين الذي له، جاء هذا التنبيه: (الرهن
يركب، والضرع يحلب، وعلى الراكب وعلى الحالب - أو الشارب- النفقة)
. إذاً: حينما يكون الرهن يعطي ويأخذ، فإن ما يعطيه يحاسب به فيما
يأخذه؛ أي: من النفقة، فإذا كان يعطي ولا يأخذ؛ كالدار مثلاً، تعطي
سكنى ولا تأخذ شيئاً، اللهم إن كانت صيانة خفيفة أو كذا فتحسب.
موقف العلماء في الاستفادة من الرهن
هناك من يقول: تحريك الرهن المتحرك قد يكون واجباً وقد يمتنع، إذا
كانت السيارة مرهونة عندك وأنت لا تستعملها، ومدة الدين ستة أشهر،
هل تظل السيارة واقفة في محلها ستة أشهر أم أنه ينبغي عليك ما بين
فترة وأخرى أن تشغلها وتحركها بما يمنع مفسدتها؟ لأن طول مدة
وقوفها قد تؤدي إلى الإضرار بها. إذاً: لابد من الحركة لمصلحتها لا
لمصلحتك أنت، كذلك إذا رهن عنده فرساً أو بعيراً في غنى عنه، لكن
طول مكثه في مكانه الزمن الطويل قد يؤذيه، ولابد أن تحركه، سواء
راكباً أو قاعداً، على ما فيه مصلحته، لكن إذا كانت لك حاجة في هذا
الرهن؛ بأن تقضي حاجتك عليه، وهذا يتطلب منك نفقة؛ نأتي أولاً
للراهن: أنت يا صاحب البعير، هل تتعهد بالنفقة لرهنك عند المرتهن
أم أنك تتركه وتذهب؟ فإن تعهد بنفقته فلا يحق للمرتهن أن يركبه
لمصلحته، لكن يمشيه لمصلحة البعير، أما إن كان الراهن ترك البعير
عند المرتهن، ثم سافر، أو لم يرجع؛ هنا البعير يحتاج إلى نفقة،
وإذا تركناه تلف، وهو أمانة في يد المرتهن، ماذا يفعل؟ يقول
العلماء هنا: إذا كان في البلدة حاكم يعرض الأمر عليه: هذا رهن في
يدي، وصاحبه تركه لي، ويحتاج إلى نفقة، وليس هناك من ينفق عليه،(3/314)
فيستأذن الحاكم في ركوبه بنفقته، وقيل: بدون إذن الحاكم، أنفق على
البعير أو على الرهن بنية الرجوع على صاحبه، وإذا جاء صاحبه رجع
عليه، أما إذا أنفق بدون نية الرجوع، على أنه متبرع، ويريد أن يخرج
من عهدة حبس الحيوان وتجويعه وتعطيشه، فإن أنفق متبرعاً فلا يرجع؛
لأن: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه )، وإذا أنفق
بنية أن يرجع على صاحبه فله الحق في الرجوع، فإذا كان البعير
صالحاً للركوب وهو في حاجة إليه، ننظر كم علف البعير في اليوم؟ إن
قدرناه بعشرة ريالات، فبكم سيركب البعير في حاجته المتقطعة، بما
يساوي خمسة، وعلى هذا يحسب متوسط هذا المجموع فيما يحصل له من
فائدة ركوب البعير، فإذا كان ما يحصل عليه من ركوب البعير في
مصلحته يتساوى مع الإنفاق عليه، فقد انتهت المسألة، أما إذا كان ما
ينفقه على البعير أكثر مما يحصل عليه من مصلحة البعير، فيحتسب
ويرجع بالباقي على صاحبه، وإن كان ما يحصل عليه أكثر من نفقته فلا
مانع من ذلك، ويحتفظ بالزائد لصاحب البعير، ويخصمه من الدين الذي
هو عليه عند الوفاء، هكذا الارتفاق والانتفاع بالرهن. أما أن ينتفع
به لمصلحته، ولا يحسب ذلك على صاحبه؛ فهذا هو النفع الذي جاء بسبب
القرض وأنه هو ربا. كذلك لو رهن عنده شاة أو بقرة فيها حليب.. تريد
أن تأكل وتعطي حليباً، فإن تركناها دون حلبها تضررت، وإن منعنا
الأكل عنها تلفت، إذاً: لابد من مراعاة المصلحة، وكما يحافظ عليها
في نفقتها وسقيها يحافظ عليها أيضاً فيما تحتاجه؛ من محل مبيتها،
وربطها، وتمشيتها في بعض الأحيان حتى لا تتألم أرجلها أو شيء من
هذا، ثم عليه أن يعرف: كم تعطي حليباً؟ وكم تأخذ نفقة في اليوم؟
وإذا نظرنا بالمقاصة: وجدنا أنها تعطي حليباً بخمسة عشر، وتأخذ
نفقة بعشرة، حينها له على صاحبها كل يوم خمسة، فإذا جاء الأجل وجاء
المدين بالدين خصم من مجموع الدين مجموع الأموال التي توافرت عنده(3/315)
على مدار الأيام من قيمة حليبها؛ لأنه حق لصاحبها. إذاً: الرهن لا
ينتفع به أبداً لمصلحة المرتهن إلا إذا حسب ذلك من الدين الذي له،
فإذا كان الرهن يعطي ويأخذ فتحصل هناك المقاصة، وإن كان يوجد حاكم
استأذنه وقدر له النفقة، وإن لم يوجد عمل ذلك لمصلحة الرهن، ثم
تحاصى مع صاحبه عند الوفاء، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (لا يغلق الرهن من صاحبه...)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له
غنمه وعليه غرمه )، رواه الدارقطني ، والحاكم ورجاله
ثقات، إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله]. هذه أيضاً ناحية
كانت تقع ولا زالت عند كثير من الناس؛ يقترض الدين إلى أجل، ويقدم
المقترض الرهن، فإذا جاء الأجل ولم يسدد امتلك المرتهن الرهن،
ويجيء صاحبه بعد فترة ويقدم الدين، فيقول له: أنت لم تسدد، والرهن
صار مكان الدين. هذا لا يجوز، فمهما طال الزمن لا يغلق الرهن، ولا
ينسد عليه باب تسديد الدين واسترجاع العين المرهونة، فإذا طال
الزمن وجاء الموعد قال له: هذا ملكك رهن، ولي عندك الدين، فإن عندك
استطاعة أن تسدد ديني وتأخذ رهنك، فنعم، وأنا ما طلبت الرهن إلا
توثيقاً لحقي. ماذا نفعل؟ يعرض المسألة على الحاكم، والحاكم يكلف
من يبيعه بالمزاد العام على ملأ من الناس حتى لا يكون هناك هضم
للحق، ولا تواطؤ فيه، كم دينك؟ مائة. بكم بيع الرهن؟ مائتين، إذاً:
خذ حقك ورد الباقي لصاحبه، الدين مائتان والرهن بيع بمائة، كم بقي
لصاحب الدين؟ مائة، إذاً: الرهن نزلت قيمته ولم يسدد الدين، أيضاً
لا نقول: إن قيمة دينك في الرهن، لا. بل نبيع الرهن بما يساوي في
يوم السداد، إن زاد عن الدين دفعنا الزيادة لصاحبه، وإن نقص عن
الدين صار في ذمة صاحبه؛ إما أن يدفع أو أن يكون ديناً عليه. هذا
معنى قوله: (لا يغلق الرهن). أما ما ينص في بعض الكتابات والعقود:(3/316)
إذا لم تسدد فيكون الرهن ملكاً لي، ولا حق لك في الرجوع فيه، فكل
ذلك باطل؛ لأنه يأكل مال الغير بغير حق، الرهن يساوي ألفاً، ودينك
مائة، لم تأكل تسعمائة؟ ليس لك حق في هذا، لك الذي يوثق دينك،
والرهن موجود لتوثيق الدين، لا ضرر ولا ضرار. كنا نسمع في بعض
الأقطار المجاورة: أنهم يتخذون طرقاً للاستفادة من الدين، وحقيقة
الأمر أنه دين جر نفعاً للدائن بلا شك، وله صور مختلفة، وقوالب
متنوعة، وبحجة خيار الشرط والرهن؛ يأتي إلى إنسان ويقول: أبيعك هذه
الدار، ولي الخيار سنة، فيأخذ البائع ثمن الدار، ويستلم الدار
المشتري، ويسكنها مدة الخيار، فإذا انقضت السنة جاء البائع وقال
للمشتري: أنا اخترت أن أرد البيع. ليس هذا خيار الشرط، أنا اخترت
وفكرت واشترطت سنة، فوجدت أن البيع غير نافع لي، ففسخ البيع، خذ ما
دفعت ورد علي الدار، اشتراها المشتري بألف وبعد سنة رد الألف
واسترد الرجل داره، وسكنى الدار سنة استغلها المشتري بتواطئ
بينهما، كأنه أقرضه ألفاً واسترجعه بعد سنة، ومع القرض سكن الدار،
وكان عليه أن يقدر بكم تؤجر الدار في السنة، ويخصمها من الألف.
كذلك الرهن: أرهنك البستان، الدار، السيارة، أي شيء له دخل، ومدة
وجود الدين سنة أو سنتين أو أكثر أو أقل والمرتهن يستغل العين
بفوائدها. وكنا نشاهد هذا في الأراضي الزراعية، والبيوت؛ فلان رهن
بيته، أو أرضه، وإذا بقيت في يد الراهن لا مانع، لكن تكون ممنوعة
من البيع والشراء. أما إذا سلمت للمرتهن وصار يستغلها فتلك الغلة
هي المنفعة التي جرها القرض، لكنهم ما جعلوها في صورة قرض جر
نفعاً، لا؛ بيع ورهن وسداد الرهن، واسترجاع العين، ولفة طويلة،
وكلها تصب في: (قرض جر نفعاً). وهناك مباحث عديدة في موضوع الرهن
والقرض، وتجدون ذلك في كتب الفقه الموسعة؛ وهي: التحذير من كل ما
يمكن أن يقصد به المدين نفع الدائن بسبب الدين من الهدايا، أو أن(3/317)
يعمل له ما يجامله به، من أن يساعده في شيء ما كان يساعده فيه من
قبل، ولذا كان يقول بعض السلف: لو أقرضت إنساناً ألف دينار، وأهدى
إليك حمل تبن فلا تقبله. وكان بعض السلف إذا أقرض إنساناً قرضاً
يكره أن يجلس في ظل بيته، خشية أن يكون هذا من منفعة القرض، وهل ظل
البيت يبذل فيه صاحب البيت شيء؟ لكن يقولون: الشحيح لا يرضى لإنسان
أن يستظل في ظل بيته، والأولاد الصغار يفعلون هذا؛ إذا تخاصموا لا
يدع الآخر يجلس في ظل بيتهم، فإلى هذا الحد كانوا يتورعون من أن
يستفيدوا أدنى فائدة ممن أقرضوه مخافة أن تكون تلك الفائدة -على
ضآلتها- قرضاً جر نفعاً، وكل هذا كان تورعاً، من روائح الربا
الكريهة. ولكنهم يقولون: إن كان بينك وبين المقترض علاقة سابقة؛
مثلاً: كان صديق لك، وجاء يقترض منك، وكنت قبل القرض تتبادل معه
الزيارة، وتتناول عنده الطعام على حسب الضيافة أو الصداقة، ثم صار
القرض، هل تمتنع؟ وقد كنتم من قبل تتبادلون الهدايا في المناسبات،
فأهدى إليك هدية في مناسبة، هل تمتنع عنها؟ قالوا: يأخذها بحكم
الصداقة حتى لا يقطع الصلة التي بينهم أو يسيء علاقته بصديقه، ولكن
لابد أن يكافئ عليها، إما بهدية تعادلها، وإما بتقديرها وحسابها من
الدين الذي له عليه، والبعض يقول: إذا أقرضته لا تدخل بيته ولا
تأكل طعامه، لأنه يكارمك ويوسع لك ويخجل ويعمل ويتكلف بسبب الحمل
الذي على ظهره، قالوا: هذا لا يجوز، لكن إذا كان قبل القرض هناك
صلة والملاطفة والمزاورة موجودة، وتبادل الهدايا والمكارمة قائمة،
فلا مانع في ذلك مادام سيحسبه ويعاوضه عليه، أما أن يأخذها هكذا
ويسكت، لا. فهذا قرض جر نفعاً.
شرح حديث: (خيار الناس أحسنهم قضاءً)
قال رحمه الله: [وعن أبي رافع رضي الله عنه : (أن النبي صلى
الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل من إبل
الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فقال: لا أجد إلا(3/318)
خياراً رباعياً، فقال: أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء )،
رواه مسلم ]. المؤلف يأتي بعد حديث: (الرهن يركب بنفقته، والضرع
يشرب بنفقته )، وسيأتينا: (كل قرض جر نفعاً؛ فهو ربا )؛
فالزيادة في الوفاء في الدين نفع: أقرضته ألفاً وردها ألفاً وصاعاً
من تمر، هذا نفع أم لا؟ نفع. والمؤلف هنا يعطينا صورة ليست من صور
النفع الذي جره القرض، ولكن من صور مكارم الأخلاق في شخصية الرسول
صلى الله عليه وسلم، كما جاء عن عبد الله بن عمرو : (أمرني أن
أجهز جيشاً؛ فكنت آخذ البعير بالبعيرين). وهنا: (استسلف)، والهمز
والسين والتاء للطلب، مثل: استغفر، استقدم، واستسلف: أي: طلب سلفة.
(بكراً)، البكر: البعير الصغير، ثم جاء الرجل في الموعد يطلب بكره،
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا رافع بالقضاء من إبل
الصدقة، فبحثوا فيها عن مماثل للقرض، وهو البكر نظير البكر، قال:
لم أجد إلا خياراً رباعياً، والخيار يزيد عن البكر، وكان من حق
المقاصة لو دفع إليه الرباعي أن يأخذ منه فرق الرباعي من البكر؛
بكرك الصغير لا يوجد عندي، وعندي ما يزيد عنه، كما لو وجد أقل من
البكر ودفع له النقص، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما لم يجد
النظير المعادل المطابق ووجد ما هو خير منه قال: (أعطه إياه، خيار
الناس أحسنهم قضاء )، إذاً: هذا من باب الإحسان، وليس من باب
الربا، وليس مشروطاً في العقد من قبل؛ أنا أقرضك بكراً لكن بشرط أن
ترد لي أحسن منها. إن جاء الشرط في البداية بهذا بطل العقد، لكن إن
جاء عن طيب نفس المقترض فالجمهور يقولون: لا بأس. وهنا يأتي النزاع
في كون المقرض يقبل زيادة في الدين أو لا يقبل؟ فنجد الجمهور
يقولون: إن كانت الزيادة جاءت من المقترض بعد سداد الدين؛ بأن كان
الموعد في يوم واحد رجب، فسدد الدين، ثم سافر المقترض وجاء بهدية
ودفعها للمقرض، وقد انتهى من السداد من عشرين يوماً يردها أم(3/319)
يأخذها؟ البعض يقول: لا يأخذها؛ لأنها امتداد لخيط القرض. والبعض
يقول: خيوط القرض انتهت بالدفع والسداد، وهذا شيء دفعه إليه عن طيب
نفس منه، قدمه لمن أسدى إليه معروفاً فأكرمه، فنجد النزاع في هذا.
ومن أراد التحقيق فيها فليرجع إلى نيل الأوطار للشوكاني ، فقد
ساق نصوصاً عديدة في هذا. لكن الجمهور يقولون: لا يقبل الزيادة عند
السداد، وهل بعد السداد يقبل المكارمات؟ هذا محل النزاع. مالك رحمه الله يقول: نعم؛ لحديث: (خيار الناس أحسنهم وفاء )، وإذا
كان الحسن في الوفاء ذاتي وليس خارجياً، كالصورة التي معنا؛
الزيادة الموجودة في الرباع الخيار ذاتية، وكما يقولون: نماء متصل،
فمالك يقول: إن كان الحسن في ذات الدين فلا بأس، كما في قضية
البكر والخيار، أما إذا أتى له ببكر ومعه عنز، العنز هذه زيادة
خارجية، مالك يقول: لا، هذه خارجة عن الموضوع ولا يحق له أن
يأخذها، ولو كانت الزيادة في الخيار الرباعي أكثر من العنز مرتين
لا مانع؛ لأنه وصف للدين، وقد أحسن المقترض في سداد قرضه إلى من
أقرضه. وعلى هذا: من أقرض إنساناً شيئاً ففي مدة القرض لا يحق له
أن يقبل منه شيئاً، كما قيل: ولا عوداً من أراك، إلا إذا كان العهد
بينهما قبل القرض تبادل الهدايا، يقبلها ويعوضه عنها، سواء قبل أن
يسدد القرض في مناسبات تأتي أو بعد أن يسدد، وإذا انتهى القرض وسدد
المدين دينه، ثم جاء المدين في مناسبة وقدم لمن كان أقرضه هدية،
يقبلها أم لا؟ هناك من يقول: إنها من توابع القرض فلا يقبل، وهذا
هو التورع. وهناك من يقول: لا. القرض انتهى، والدين سدد، وانقطعت
العلاقة، وهذا جاء متبرعاً محسناً، فلا ينبغي أن تردها. وهذه
النقطة نقول فيها: الله تعالى أعلم. عند سداد الدين هل يقبل زيادة
في القرض بعينه؟ الجمهور يقولون: لا، ومالك يقول: إن كانت
الزيادة متصلة من عين المقرض أو القرض الذي قدمه فلا بأس، هذا بكر(3/320)
وهذا خيار رباعي، وإن كانت خارجة عنه من غير جنسه فلا يقبلها
تطبيقاً للحديث في هذه القضية بالذات، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (كل قرض جر منفعة فهو ربا)
قال رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : (كل قرض جر منفعة فهو ربا )، رواه الحارث بن
أبي أسامة ، وإسناده ساقط]. هذه هي القاعدة العامة التي أخذ بها
جمهور الفقهاء، وإن كان الحديث متكلم في سنده ولا ينهض للاحتجاج
وحده، لكن تشهد له قرائن أخرى؛ ما هو الربا؟ الربا زيادة عن الدين،
وهذا القرض إن جر نفعاً اتفق مع الربا في الصورة، ولا يحتاج هذا
حتى إلى نص أو حديث في المسألة. (نفعاً)، نفعاً هنا: نكرة، مطلق
يعني: كل ما ينتفع به الشخص، كما قال بعض العلماء: ولو عوداً من
أراك، ولو أن يستظل في ظل حائطه، ولو حمل تبن، فإن له قيمة، لكن
عود الأراك، أو الظل في جداره؟ كل ذلك يقول: لا يحق له أن يأخذه؛
لأنه ربا، (كل قرض) أي قرض أياً كان، وإذا كان الأمر في القرض
نقداً فإنه ينجر على كل دين، مثلاً: مدين في ثمن مبيع، أو في أجرة
بيت، فلا يوجد قرض، فلكون الدين موجوداً لا يجوز أن تنتفع من وجود
دينك عليه لأي منفعة كانت، لك دينك فقط، أو ثمن مبيعك أو أجرة
العين، أو نقد القرض الذي أقرضته أياً كان، وهذه أصبحت قاعدة عند
الفقهاء معمول بها دون منازعة، أجمعوا على العمل بهذه القاعدة :
(كل قرض جر نفعاً فهو ربا)، سواء صح السند، أو كان فيه اضطراب، أو
فيه ضعف، فإن العلماء تقبلوه بالقبول، ورتبوا عليه هذه الأحكام،
وأصبحت معمولاً بها عند الأئمة رحمهم الله، وبالله تعالى التوفيق.
( كتاب البيوع - باب التفليس والحجر [1] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: رد النبي عليه الصلاة والسلام ابن عمر يوم أحد وهو ابن
أربع عشرة سنة
2 شرح حديث: (عرضنا يوم قريظة فكان من أنبت قتل...)
3 شرح حديث: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها)(3/321)
4 شرح حديث: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة ...)
كتاب البيوع - باب التفليس والحجر [2]
جعل الله المال قياماً لمصالح الدين والدنيا، والشريعة جاءت بأحكام
تحافظ على هذه الضرورة، ومن ذلك أنها تشرع الحجر على مال الصغير
والسفيه المبذر لمصلحتهما، وترغب المرأة في استشارة زوجها في مالها،
وبهذه الأحكام وغيرها يصلح أمر الفرد والمجتمع.
شرح حديث: رد النبي عليه الصلاة والسلام ابن عمر يوم أحد وهو ابن أربع
عشرة سنة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن
عمر رضي الله عنهما قال: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم
يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق
وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ) متفق عليه، وفي رواية للبيهقي : (فلم يجزني ولم يرني بلغت ) وصححه ابن خزيمة ]. يقول:
(عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة
سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق -والخندق كان بعد أحد
بسنتين؛ لأن غزوة الخندق كانت في السنة الخامسة على الصحيح- وأنا
ابن خمس عشرة سنة فأجازني). أتى المؤلف بهذا الحديث في باب التفليس
والحجر، ليبين أن الحجر كما يكون على المال يكون أيضاً على النفس،
فالصغير يحجر عليه، والمفلس الذي زاد دينه على رأس ماله يحجر عليه،
بل إنه حجر على: معاذ بن جبل وهو أعلم الأمة بالحلال والحرام،
فهو كامل العقلية ومتوفر العلم والأهلية ولكن حجر عليه من جهة
الإفلاس في المال.
الحجر للسفه والصغر
الحجر نوعان: حجر بإفلاس، وحجر بسفه، فلو أن إنساناً ما عليه ديون،
ولا أحد يطالبه بشيء، لكنه يبذر ماله يميناً ويساراً، ويضيع ما
معه، فهذا سفه، فهل نتركه يضيع المال أو نحجر عليه؟ نحجر عليه،
خلافاً لأبي حنيفة ، والأئمة على أن الموسر الذي ماله كثير(3/322)
ولكن عقله قليل، فهو ينذر المال ويتلفه، نحجر عليه، وكأننا نضعه في
حجرة. كان في زمن عمر رضي الله تعالى عنه رجل يدعى أسيفع ،
وكان هذا الرجل مغرماً بالدعاية والفخر، فإذا جاء وقت الحج اختار
أسرع الإبل من أجل أن يسرع بعد الحج ويأتي إلى المدينة قبل الحجاج،
فيقال: سبق أسيفع الحجاج، وكل سنة يريد شيئاً أحسن من شيء،
فتكاثرت عليه الديون، فأخبر عمر رضي الله عنه بخبره، فخطب في
الناس وقال: أيها الناس! إن أسيفعاً قد رضي من دينه ومروءته أن
يقال: سبق أسيفع ، وقد لحقه الدين، فمن كان له عليه دين
فليأتنا غداً، وباع عمر رضي الله تعالى عنه الموجود من أمواله
وسدد الغرماء، فهذا كان يضيع المال في غير محله، فهذا هو السفه،
فإذا وجد إنسان كبير عمره ثلاثون أو أربعون سنة، أو أكثر أو أقل،
لكنه لا يضع المال في محله ويبذره فإنه يمنع من التصرف في ماله
لحفظه، قال الله: إن الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27].
والصبي الصغير إذا كان يمتلك مالاً ميراثاً أو هبة أو غير ذلك، لو
تركناه وماله سيبذر فيه، فليس عنده كامل الأهلية في التصرف في
ماله، ولا يعرف ما ينفعه وما يضره فيه، فهو قاصر الأهلية في المال،
فلا نتركه يضيع المال وعندما يكبر يقول: أعطوني! لا، فمن الآن نحجر
عليه، فالسفيه في التصرف بالمال والصبي الصغير يحجر عليهما.
متى يحجر على الصغير؟
حد الصغر من الكبر سن أربعة عشر وخمسة عشر، فأربعة عشر آخر حد
الصغر, وخمسة عشر في حد الكبر، ومن يحدد عمر الإنسان؟ جاء رجل عندي
في شهادة، فقلت له: كم عمرك؟ فضحك، قلت له: ماذا هناك؟ قال: تريد
عمري في التابعية أو على حساب أمي وأبي؟ قلت له: كلاهما، حتى أنظر
الفرق بينهما؟ قال: في التابعية عمري تسعون سنة، وعلى حساب أمي
وأبي فوق المائة! فإن كان هناك ضبط لتحديد السن قُبِل، والناس
مؤتمنون على أعمارهم. ومن الناحية الطبية يحدد عمر الإنسان في نقطة(3/323)
واحدة فقط يقيناً قطعاً، وما عداها يكون ظناً وتخميناً، وهي سن
السادسة عشرة، يقول الأطباء: هناك عظمان متقابلان يسعى كل منهما
إلى الآخر، فإذا بلغ الإنسان ستة عشر سنة التقا العظمان معاً، فهما
متباعدان، وكل ينمو ويمتد إلى الآخر إلى نهاية سن السادسة عشرة
سنة، فيلتقي العظمان، وقبلها يعلم أنه ما بلغ ست عشرة سنة، وبعدها
يعلم أنه تجاوز ست عشرة سنة، لكن كم بقي عليه حتى يصل إلى ست عشرة
سنة؟ تخمين، وكم مضى عليه منذ وصل إلى ست عشرة سنة؟ تخمين. والمؤلف
رحمه الله يسوق هذا الحديث هنا ليبين أن الصغير الذي يحجر عليه
لعدم الأهلية المالية حده خمس عشرة سنة، فإذا كان عمره خمس عشرة
سنة لا يحجر عليه، وإذا مات الرجل وترك من الأولاد من هم في سن
أربع عشرة فأقل فهم في وصاية، ويقام عليهم وصي يتصرف في أموالهم
بالحكمة لمصلحتهم، وإذا كان منهم من تجاوز الخمس عشرة سنة فليس
عليهم وصاية، وعند أبي حنيفة سبع وعشرون سنة، وليس هناك وقت
ابتداء للحجر بوصف الصغر، لكن قد يأتي الحجر بعد ذلك لوصف السفه.
والصغير لا يعطى ماله إلا بعد البلوغ والرشد، يقول المولى سبحانه: فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]،
وقبل هذا قال: وَلا
تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ [النساء:5]،
فالسفيه لا يتحكم في المال بل نحجر عليه، وإذا آنسنا من الصغار
الرشد بعد التمرين والتدريب، بأن نعلمه البيع والشراء في الأشياء
الخفيفة، فعند ذلك نعطيه ماله بعد البلوغ والرشد، وكنا نشاهد في
المدينة في الستينات الطفل الصغير يبيع الجاز والكبريت والملح،
وأشياء خفيفة ليس فيها غبن عليه.
متى يفك الحجر عن الصبي؟
يفك الحجر عن الصبي إذا بلغ خمس عشرة سنة، وبعد البلوغ يجري القلم
عليه في العبادات، ولكن في المعاملات يربط مع السن الرشد، وما هو
الرشد؟ بعض العلماء يقولون: الرشد هو حسن التصرف في المال، وحسن(3/324)
التدبير في المال، والشافعي وغيره يقولون: أول صفات الرشد حفظ
الدين، فينظر هل هو مستقيم في دينه أم لا؟ لأنه إذا كان مستقيماً
في دينه يؤدي الصلوات ويصوم ويصدق في الحديث فسيحافظ على أمر
دنياه، وهناك من يقول: لا، الدين للدين والدنيا للدنيا، فلو كان
حصيفاً في ماله وسفيهاً في دينه ندفع إليه المال، والآخرون يقولون:
إذا لم يكن رشيداً في دينه فسيضع المال في أي طريق كان، ولا يفرق
بين حلال وحرام، ونص الشافعي على أن الصبي إذا بلغ الخامسة
عشرة وهو يضيع ما بيده في اللعب فإنه سفيه لا يعطى له ماله، ومن
السفه اللعب بالصواريخ النارية، فالعبرة في الحجر ليس مجرد العمر
بل يشترط مع العمر وصف الرشد، وهذا نص كتاب الله: فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً ،
فإذا بلغ الخامسة عشرة فقد تجاوز مرحلة اليتم، وتجاوز مرحلة الصغر،
لكن ننظر هل رشد أم لا؟ فإن رشد فيكون قد اكتمل من الجانبين المادي
والمعنوي، وإذا لم يكن مع البلوغ رشد فنقول: لا نعطيك مالك حتى
تعقل. إذاً: المؤلف رحمه الله أتى بهذا الحديث ليبين لنا الفرق بين
البلوغ وعدم البلوغ، وهل البلوغ متوقف على أربع عشرة وخمس عشرة أو
أن هناك علامات أخرى؟ يوجد علامات أخرى كما في قصة بني قريظة، فمن
علامة البلوغ الإنبات، فنبات الشعر في العانة علامة على البلوغ،
وإذا احتلم وأمنى فهو أيضاً علامة على البلوغ، وقد يحتلم في
الثانية عشرة من عمره، وكذلك الجارية إذا حاضت، وتقول عائشة رضي الله تعالى عنها: (إذا بلغت الجارية تسع سنوات فهي امرأة )
فتكون قد بلغت، ولكن من حيث التكليف الشرعي والإلزام بالفرائض فحتى
تبلغ خمس عشرة سنة.
حرص شباب الصحابة على الخير
قال ابن عمر : عُرضت فرفضت ثم عُرضت فقبلت، ما هذا العرض؟ وما
الذي جاء به حتى يعرض؟ غلام عمره أربع عشرة سنة ويأتي ويزامل
الرجال، ليس في نزهة أو رحلة، أو حفلة، بل في قتال تتطاير فيه(3/325)
الرءوس! انظروا كيف كان الشباب في ذلك الوقت! والآن صار الشباب
شباب الموضة، وشباب التوليتة، لا تنسوا -يا إخوان- شباب الرعيل
الأول، عمره أربع عشرة سنة ويزاحم الرجال، ويحمل السيف في القتال.
ولما استعرض النبي صلى الله عليه وسلم أهل بدر، كان غلام يمشي على
أطراف أصابع قدميه، فقال له أخوه: لماذا تفعل هذا يا أخي؟! قال:
أخشى أن يراني رسول الله فيتصاغرني فيردني، وأنا أحب الشهادة،
سبحان الله! يتطاول على أصابع قدميه لئلا يراه رسول الله صلى الله
عليه وسلم قصيراً فيقول له: ارجع، أنت لا تصلح للجهاد، فيحتال
للقتال، واستشهد فعلاً في غزوة بدر. هذه النوعية -يا إخوان- من أين
نأتي بها؟ هل من الشباب في هذا الوقت عشرة في المائة، أو خمسة في
المائة مثل تلك النوعية؟ لا، لأنهم نشئوا أول ما نشئوا على الأخلاق
الفاضلة، وعلى الفروسية، وهؤلاء نشئوا أول ما نشئو على الحضارة
والمدنية. نريد أن نغرس في نفوس أبنائنا أصالة الإسلام، وأن نوجد
آثاره في حياتهم العملية، فهذا ابن عمر رضي الله تعالى عنه
يعرض يوم أحد، وتعرفون كم كان عدد الكفار، والنسبة بين الطرفين،
فيرد لصغره! وعرض رافع بن خديج وسمرة بن جندب في أحد، فرد
أحدهما فذهب الآخر يبكي عند أبيه، قال: ماذا بك تبكي؟! قال: (أجاز
النبي عليه الصلاة والسلام فلاناً وردني وأنا أصرعه، فذهب أبوه إلى
الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ولدي يقول: كذا وكذا -يا رسول
الله- فأجزه، فناداهما الاثنين وتصارعا أمامه، وفعلاً صرعه فأجازه ).
شرح حديث: (عرضنا يوم قريظة فكان من أنبت قتل...)
قال رحمه الله: [وعن عطية القرظي رضي الله تعالى عنه قال:
(عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، فكان من أنبت قتل،
ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي ) رواه
الأربعة ]. البلوغ يحصل إما ببلوغ خمس عشرة سنة، وإما بنبات الشعر
في العانة، وهذه علامة بارزة ترتبط بسن البلوغ وبدء الأهلية،(3/326)
وعلامة الإمناء قد تكون مبكرة عن هذا الحد، فبعض الفتيات قد تحتلم،
في تسع سنوات، وبعض الشباب في سن اثنتي عشر قد يحتلم ويكون بالغاً
من الناحية الجنسية، وليس بالغاً من الناحية الأهلية، وبالله تعالى
التوفيق.
شرح حديث: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها)
قال رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله
تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجوز للمرأة
عطية إلا بإذن زوجها، وفي لفظ: لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا
ملك زوجها عصمتها ) ]. هذا الحديث يشعر أن الزوجة إذا ملك الزوج
عصمتها حجر عليها أن تتصرف في مالها إلا بإذن زوجها، وهذا هو مذهب
مالك رحمه الله، فعنده أن المرأة إذا تزوجت لا تتصرف في مالها
إلا بإذنه، وعند غيره أن المرأة لها حق التصرف في مالها ما لم يكن
هناك سفه، أو هناك تضييع، والمقصود بمالها: المملوك لها خاصة سواء
كان ميراثاً عن أبيها أو أمها، أو هدية أو تجارة، بخلاف مال زوجها
فإنها لا تملك فيه إلا التصرف بالمعروف كإعطاء السائل، وإعارة
المتاع واسترجاعه، والجمهور على أن هذا من باب الإرشاد، واحتياطاً
لقوله تعالى: وَلا
تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ [النساء:5]،
وقالوا: إن المرأة قد لا تحسن التصرف في المال، وقد جاءت النصوص
المشهورة في تصرف المرأة بمالها بغير إذن زوجها؛ فمن ذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم خطب في يوم عيد، ثم أتى النساء فوعظهن وحثهن
على الصدقة، فجعلت المرأة تتصدق بقرطها، أو بخاتمها، أو بسوارها،
وتلقي من حليها الذي معها في حجر بلال رضي الله تعالى عنه، ولم
تستأذن زوجها في هذا التصرف، وكان الرجال في جهة والنسوة في جهة.
وكانت خديجة رضي الله تعالى عنها تقدم المال لرسول الله صلى
الله عليه وسلم، وكانت تنفق عليه صلوات الله وسلامه عليه، وكون
المرأة إذا تزوجت وأصبحت في عصمة رجل؛ لا تتصرف في مالها، هذا مذهب(3/327)
المالكية، وبعضهم يحد ذلك بسنتين إلى أن يعرف حصافتها في مالها،
وحسن تدبيرها فيه، وعلى كلٍ، فهذا الحديث للإرشاد. واتفقوا على أنه
لا يحق للمرأة إذا دخلت في أشهر الحمل الأخيرة أن تتصرف في شيء من
مالها، قيل: إذا أنهت الشهر السادس، وقيل: إذا أخذها المخاض، فإذا
أخذها المخاض فلا يحل لها بيع ولا شراء ولا وصية؛ لأنها في حالة
يخشى عليها فيها من الموت، وتكون كمن وقف في الصف في المعركة، فإنه
لا يحل له أن يوصي بأكثر من الثلث؛ لأن المال معرض لأن ينتقل منه
إلى الورثة، وكذلك المريض مرضاً مخوفاً فلا يحق له التبرع ولا
الوصية إلا في حدود ما سمح به الشارع، وهو ثلث المال، فالمرأة إذا
أخذها المخاض تمنع من التصرف في مالها مطلقاً، وإذا أنهت الشهر
السادس كان ذلك على سبيل الكراهية، وإذا كانت غير حامل وكانت في
عصمة رجل فإن أمرها قد انتقل من أمر أبيها إلى زوجها، وهذا مما
يعظم حق الزوج على الزوجة، حتى إنه يتحكم في مالها الذي لا يخصه،
وغير مالك جعل ذلك للإرشاد، ولها أن تتصرف في مالها، ولها
أهلية التصرف في المال كغيره من الأمور التي لها الحق فيها، والله
تعالى أعلم.
شرح حديث: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة ...)
قال رحمه الله: [وعن قبيصة بن مخارق رضي الله تعالى عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد
ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل
أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش،
ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت
فلاناً فاقة فحلت له المسألة ) ]. تقدم وجوب التعفف عن المسألة
وأن: (من سأل وعنده أوقية أتى يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم )،
وقد ذكرنا قصة الشاب الذي جاء يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال له: (أراك قوياً جلداً! قال: ليس عندي شيء وعندي عجوز في(3/328)
البيت، قال: ماذا عندك في البيت؟ قال: حلس نفترش نصفه، ونلتحف
بنصفه، وقعب نأكل ونشرب فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: علي بهما،
فأخذهما صلى الله عليه وسلم وقال: من يشتري هذا؟ فقال رجل: بدرهم،
فقال: من يزيد؟ قال رجل: بدرهمين، فباع ذلك عليه وأعطى الشاب
الدرهمين وقال: اشتر طعاماً لأهلك، واشتر بدرهم فأساً وحبلاً وأتني
بهما، فجاءه بالفأس والحبل، فأخذ الفأس ووضع فيها عوداً وقال: اذهب
واحتطب، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب يحتطب ويبيع ويستغني بما
يعود عليه من هذا العمل، ثم جاء بعد الموعد ووقف على النبي صلى
الله عليه وسلم في ثوب جديد ومعه دراهم، فقال صلى الله عليه وسلم:
لأن يأخذ أحدكم فأساً وحبلاً فيحتطب فيبيع فيستغني؛ خير له من أن
يتكفف الناس السؤال ) وقال عليه الصلاة والسلام: (ومن يصبر
يصبره الله ) وقال: (ما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر )
فالصبر على الحاجة أولى من مد اليد. وهنا في باب الحجر يبين المؤلف
متى يجوز للإنسان أن يسأل، والواجب أن يكف الإنسان عن المسألة،
والمسألة بمعنى السؤال، والسؤال والمسألة يأتيان اصطلاحاً في سؤال
استفسار كما يسأل طالب العلم أو المستفتي في مسألة نازلة به ويطلب
حكمها، قال الله: لا
تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]،
وهذا من باب المسألة في العلم سواءً ما يتوقع أو لا يتوقع، وتكون
المسألة بمعنى سؤال الحاجة، وطلب العون، سواءً كان نقداً أو متاعاً
أو مساعدة كشفاعة بجاه إنسان عند إنسان آخر، وهذه المسألة هي
المرادة بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل المسألة إلا لإحدى
ثلاثة)، والمراد بالثلاثة هنا: الجنس، وليس ثلاثة أشخاص فقط، ولكن
ثلاثة أصناف من الناس هم الذين تحل لهم المسألة.
جواز السؤال لمن تحمل حمالة
قال عليه الصلاة والسلام: (رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى
يصيبها ثم يمسك). رجل تحمل حمالة أو امرأة، وذلك بأن تكون هناك(3/329)
خصومة بين الناس، أو نزاع، ويشتد الأمر بين الطرفين، ويحتاج الأمر
إلى تدخل من يصلح بينهما، ويكون النزاع على مال، فيأتي إنسان خير
ذو مروءة فيتحمل الشيء الذي تنازعوا عليه، وكل يدعيه لنفسه، فهذا
تحمل حمالة لغير منفعته الخاصة، ولكن للإصلاح بين الناس. وسيأتي في
هذا الكتاب باب الصلح وحكم الجوار، ويبين فيه أقسام الصلح، وهذا
الباب من أهم أبواب الفقه، قيل: إن جبريل عليه السلام أخبر النبي
صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة تتمنى أن تكون من أهل الأرض لكثرة
ما ترى من ثواب عملين، وهما: الإصلاح بين الناس، وسقي الماء، فالذي
يتحمل حمالة فهو ساع للإصلاح بين المتنازعين، وإن كان أصل النزاع
على مال أو نفس تحمل الغرم، كما قيل: سعى ساعياً غيض بن مرة بعدما
تبذل بين العشيرة بالدم تحمل ديات الفريقين، وأصلح بينهما، فالذي
تحمل هذا لمصلحة الطرفين وجبت مساعدته، ولا نتركه يتحمل من ماله،
فله أن يأخذ من الزكاة، وله أن يسأل ولو كان وفير المال؛ لأنه لم
يتحمل لمصلحة شخصه، وإنما توسط مروءة وإصلاحاً، فلو تركنا كل إنسان
يتدخل بالإصلاح بين الناس ويتحمل ما يدفعه للإصلاح من عين ماله،
لأحجم الناس عن هذا التدخل، وتركوا هذا العمل الخير، وبقي النزاع
بين الناس، ولكن ما دام أنه تحمل الغرم لمصلحة الآخرين، فعلى
الآخرين أن يساعدوه، وأن يعطوه ما سأل حتى يبلغ ما تحمله، فإن كانت
القضية تحتاج إلى تحمل ألف، أو مائة ألف، أو مائتين ألف ريال أو
أكثر أو أقل، فإذا أصاب بمسألته ما يوفي عنه حمالته كف عن المسألة؛
لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فما دامت الحمالة موجودة
فله حق في السؤال، وما دامت قد زالت وارتفعت فليس له حق، ووجب عليه
أن يكف عن المسألة.
جواز السؤال لمن أصابته جائحة
وقوله: (ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب
قواماً من عيش). مثلاً: إنسان صاحب تجارة، وله سفن في عرض البحار،(3/330)
تحمل تجارته ورأس ماله، فجاءت(أمواج عاتية، ورياح صاخبة، فأغرقت
تلك السفن، فهذه جائحة أصابت ماله، وبقي لا مال عنده، فهل نتركه
على هذه الحالة؟ لا، بل تحل له المسألة، وهل يسأل حتى يحصل على ما
فات عليه؟ لا، فقد يكون فات عليه الشيء الكثير جداً، ولكن كما قال
عليه الصلاة والسلام: (حتى يصيب قواماً من عيش )، أي: المال
الذي يقيم حياته ومعيشته على نمط أمثاله في حياتهم، ولا نقول:
ينبغي أن يكتفي بأقل ما يمكن أن يعيش به إنسان، فإذا كانت له
عائلة، وله أولاد، وله التزامات، فإن له أن يسأل (حتى يصيب قواماً
من عيش)، حتى يكون كأمثاله في حياتهم اليومية، لا أن يستمر في
المسألة حتى يستعيض كل ما افتقده من تجارته، فقد يكون افتقد الشيء
الكثير. ومثل ذلك إذا أصيب ماله بحريق أو بغرق أو بلصوص، المهم أي
جائحة عامة اجتاحت ماله، كان بالليل غنياً فأصبح فقيراً كما قيل:
وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل وما يدري الفقير
متى غناه، فالغني أمر بيد الله، وما يدري الغني متى يعيل: يعيل
بمعنى: يفتقر: وما تدري وإن ذمرت سقباً يكون لك أم لغيرك ذا الفصيل
إذا كانت لك ناقة حامل، وذمرت سقبها، فلا تدري: أيكون لك هذا
الفصيل، وتعيش حتى يكبر وتستمع به أم تتركه مع عنايتك به لغيرك؟
فهذه أمور غيبية لا يعلمها إلا الله، ولا يقدر قدرها إلا الله،
فإذا كان إنسان صاحب مال واجتاحت ماله جائحة، فتجب مساعدته من باب
التعاون الإسلامي، أو كما يقولون: التضامن الاجتماعي، فأخوة
الإسلام تجعل المسلم مع المسلم كالجسد الواحد، وأي فرد آخر أصيب
بمثل ذلك فيساعده الجميع، فهو أخوهم قد أصيب بهذه الجائحة، فمن حقه
عليهم أن يساعدوه، (وله أن يسأل حتى يصيب قواماً من عيش).
جواز السؤال لمن أصابته فاقة
وقوله: (ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه:
لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة). وهذا شخص ثالث، فالأول:(3/331)
تحمل حمالة لغيره، فيأخذ حتى يسترد ما تحمل، ولو كان عنده مال؛
لأنه فاعل خير لغيره، فوجب تعاون المسلمين معه، والثاني: ماله
موجود، ولكن اجتاحته جائحة فأصبح معدماً، وهذا من حقه على إخوانه
المسلمين أن يتعاونوا معه، وإذا سأل حلت له المسألة (حتى يصيب
قواماً من عيش) ولا نتركه -بعد أن كان ذا مال وفير- يتكفف الناس
السؤال؛ لأن هذا أصعب ما يكون عليه، وهذا أصعب عليه من ضياع ماله
واجتياحه؛ لأنه ما تعود هذا، بخلاف الشخص الذي نشأ على المسألة،
فلا يهمه أن يسأل أعطوه أو طردوه، عبسوا في وجهه أو استبشروا في
وجهه؛ لأنه تعوّد على ذلك فلا يضيره، بخلاف الشخص العفيف المستغني
بماله الذي لم يتعود المسألة، فإنه إذا اضطر إلى قرضة من المال،
توقف وأحجم أن يطلب من أحد قرضاً، مع أنه سيقترض ويرد؛ لأن القرض
يشعر بالحاجة، فمن حقه على المسلمين أن يعطوه ويساندوه (حتى يصيب
قواماً من عيش). وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى
عنه أنه قال: لو أن رجلاً مات جوعاً في محلة قوم لألزمتهم ديته،
لأنه كان يجب عليهم أن يطعموه، ومن هنا يحق للمسلم أن يعلن للعالم:
أن ما تدعونه من الضمان الاجتماعي هو موجود في الإسلام بأكثر مما
لديكم، ولا ننسى فريضة الزكاة، فهي ضمان إجباري: وَالَّذِينَ
فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]،
فيجب أن يتميز المجتمع الإسلامي بالتعاطف والتراحم، كما قال صلى
الله عليه وسلم: (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر
الجسد بالسهر والحمى ) يعني: أحس بشكوى العضو، ولو كان في أقصى
العالم، وقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )، فهذا
الأول والثاني. والثالث: لم يتحمل حمالة لغيره، ولم يك ذا مال
فاجتاحت ماله جائحة ولكنه ضعيف الحال، فقير أصابته فاقة، ودخله
بقدر حاجته، ولكنه في بعض الظروف تعطلت روافد مصرفه، مثلاً: كانت(3/332)
له تجارة فتعطلت، أو كانت له تجارة فخسر فيها، أو كانت له زراعة
فقل دخلها، فأصابته فاقة بأي سبب، ومهما كانت الأسباب فمادام أنه
قد أصابته الفاقة، وهو في حالة الحاجة والاضطرار؛ فحينئذ له الحق
أن يسأل، وإلى متى؟ (حتى يصيب قواماً من عيش).
شهادة ثلاثة لمن أصابته فاقة وشروطهم
الثالث الذي أصابته الفاقة لابد أن يشهد له ثلاثة من ذوي الحجا
بأنه قد أصابته فاقة، والأصل في الشهادة كما قال الله: ذَوَى
عَدْلٍ [الطلاق:2]،
ولو شهد اثنان على إنسان في قتل نفس لقتل، فيقتل المسلم بشهادة
رجلين، وهنا يشترط صلى الله عليه وسلم أن يقوم ثلاثة من ذوي الحجا،
والحجا هو: العقل، فيشهدون بأن فلاناً هذا قد أصابته فاقة، والموجب
لكون الشهادة هنا ثلاثة أشخاص، مع أنه يكتفى في الجنايات بشاهدين:
أن الشاهدين في الجناية يشهدان في أمر ظاهر عياناً، فهما مثلاً
رأياه يقتل بآله حادة أو يخنق، وشهدا على أمر ظاهر واضح، أما من
أصابته الفاقة فهو في بيته، وهو في أمره وشأنه، فلا نعلم حقيقة
مدخله وحقيقة معيشته؛ ولهذا يشترط في هؤلاء الشهود: أن يكونوا من
محلته التي يسكن فيها، وأن يكونوا من ذوي الحجا ممن يدركون ويعرفون
مداخل الرجل، ويقارنون بين دخله وبين نفقته؟
الموظف قد يكون فقيراً
لو أن موظفاً له راتب شهري، ولكن لوازم حياته ومستلزماته أكثر من
هذا الراتب، فهل يكون غنياً أو فقيراً؟ الفقهاء حددوا المسكين بأنه
من كان دخله أقل من نفقته، والفقير من لا دخل له، كما في الآية: أَمَّا
السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79]،
كان عندهم سفينة يعملون في البحر، ويكرونها، ومع ذلك سماهم مساكين؛
لأن دخلهم من السفينة لا يكفي نفقة عوائلهم، وكذلك قد يكون حال
صاحب وظيفة، صاحب معرض، صاحب سيارة، صاحب مزرعة، صاحب عمارة، صاحب
أي سبب من الأسباب التي يتعاظمها الناس، وينظرون إليها نظرة إعجاب،(3/333)
فقد يكون الدخل مع عظم المورد لا يفي بالحاجة، وهذا أشق ما يكون في
المجتمع؛ لأن من لا شيء له ظاهر: لا مزرعة، ولا معرض، ولا وظيفة،
ولا شيء، فالكل يقول عنه: مسكين ليس عنده شيء، ويتعاطفون معه، لكن
هذا يرون مظهره، ويرون دخله، فيرون أشياء عظيمة، ولا يعلمون بحاله!
فالمورد قد لا يكفي، بل قد يكون له وقت معين، كما سئل أحمد عن
رجل له مزرعة، وزرع فيها، ونبت الحب ونما وجف، ولم يبق عليه إلا
الحصاد، وليس عنده ما يحصد به، وليس عنده نفقته، فهل يعطى من
الزكاة؟ قال: يأخذ من الزكاة مع أنه بعد الحصاد سيكون لديه المال
الوفير، لكن في هذه الساعة ليس عنده شيء. وأجمعوا أنه إذا كان
الرجل يملك منزلاً كبيراً يسعه ويسع غيره معه، وليس عنده نفقة، فله
أن يأخذ من الزكاة؛ لأنه لن يأكل من هذا البيت الكبير! ولا يكلف
ببيعه والسكن في بيت صغير، وهذا مستوى حياته. فمن أصابته فاقة بأي
سبب، وشهد له بالفاقة ثلاثة من ذوي الحجى، فله أن يسألها، وكان
الشهود ثلاثة لأن المشهود به أمر خفي، وما كل إنسان حتى من الجيران
يعلم بحقيقة أمره، ولن يقول له: كم راتبك؟ وكم مصرفك؟ وكم نفقة
عيالك؟ وفي هذه الآونة الأخيرة خاصة، تنوعت وتوسعت مرافق الحياة،
فالولد في المدرسة يحتاج، والمريض في المستشفى يحتاج، ونفقات
المرافق العامة تحتاج، مثل فواتير كهرباء، وفواتير ماء، وفواتير
هاتف، وكلها لوازم شهرية، وأنت تنظر إليه كل يوم في ثياب طيبة،
ذاهب إلى الدائرة، وراجع من العمل، وتظن أنه يذهب خماصاً، ويرجع
وقد ملأ جيوبه من المال! وهو راتب والله سبحانه وتعالى أعلم بحاله،
ومعظم الموظفين -لا أقول: خمسون بالمائة بل الأكثر- ربما لا يأتي
عليهم نهاية الشهر إلا وقد استدانوا. إذاً: هذا الصنف من الناس يجب
التنبه لهم؛ ولذا جعل الشارع ثلاثة من العقلاء الأذكياء الذين لهم
بصيرة، ويعرفون حقيقة حياته وحقيقة معيشته، فيشهدون بأن فلاناً(3/334)
أصابته فاقة فعلاً، يعني: ليس عنده ما يكفي حاجته في هذه الحالة،
ولا نقول له: يطير في السماء! ولكن نقول: له الحق أن يسأل ويأخذ
حتى يسد حاجته، وفي هذا الحديث بيان وجوب التعفف، وإعطاء الفرد
المسلم حقه بما يسد حاجته، وتعاون المجتمع في مثل هذه الحالات. ومن
هنا -يا إخوان- تجدون في المحاكم إذا ادعى إنسان إعساراً، وادعاء
الإعسار لا يكون إلا في المدين، سواءً أعسر في نفقة شرعية، أو أعسر
في نفقة سفه، أو أعسر في أمر مما يخصه هو، فيطلب منهم في المحاكم
تقديم ثلاثة شهود، واثنان يزكيانهم، ويشهدان على صدقهم وأمانتهم
ومعرفتهما بهم، وبالله التوفيق.
134998 ( كتاب البيوع - باب الصلح ) : ( سالم
)
( كتاب البيوع - باب الصلح )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (مطل الغني ظلم)
2 شرح حديث: (حق الغريم وبرئ منهما الميت)
3 شرح حديث: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم)
4 شرح حديث: (لا كفالة في حد)
كتاب البيوع - باب الحوالة والضمان
شريعة الإسلام شريعة متكاملة، جاءت بما يصلح الدين والدنيا، وكما أنها
حكيمة في أمور العبادات، فهي حكيمة في أمور المعاملات، ويتبين هذا في
باب الحوالة والضمان، فإن من درس هذا الباب ظهر له الأحكام الحكيمة في
المعاملات المالية وغيرها.
شرح حديث: (مطل الغني ظلم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي
هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع ) متفق
عليه، وفي رواية لأحمد : (ومن أحيل فليحتل ). ]. هذا باب
الحوالة والضمان، والحوالة: بفتح الحاء وكسرها حَوالة وحِوالة،
فَعالة وفِعالة، وهي من التحول أو التحويل، والضمان من الضم بأن
ينضم شخص لشخص آخر في الوفاء بما عليه، والضمان بمعنى الكفالة.(3/335)
والحوالة صورتها: إنسان دائن، وإنسان مدين له، وهذا المدين هو دائن
لشخص ثالث، فشخصيات الحوالة ثلاثة: رقم واحد له دين على رقم اثنين،
ورقم اثنين عليه دين لرقم واحد، وله دين عند رقم ثلاثة.
أركان الحوالة
الحوالة أركانها خمسة: المحيل الذي هو وسط بين المحال والمحال
عليه، والمحال، والمحال عليه، والدين الذي يحال به، والدين الذي
يحال عليه. فهذه أركان الحوالة الخمسة، ثلاثة منها في الأشخاص،
واثنان في الحقوق. أتى المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الباب ليبين
حكم هذه العملية إذا وقعت، وماذا يترتب عليها؟ وقوله عليه الصلاة
والسلام: (مطل ..) المطل والمط: التطويل والتسويف، أتى أجل الدين
وهو يَمطُّ فيه ويبعده ويسوف في الأداء، فإن كان الماطل غنياً فهو
ظالم؛ لأن الواجب عليه أن يؤدي الدين في موعده. والمطل مصدر،
وقوله: (مطل الغني )، هل الغني فاعل المصدر أم مفعول له؟ الصحيح
أنه فاعل، والمصدر مضاف لفاعله، أي: الغني الذي يمطل الناس ظالم،
وبعضهم يقول: يحتمل من حيث الصناعة اللغوية أن يكون المصدر مضافاً
لمفعوله، وأن يكون الغني مفعولاً للمطل، فيكون الماطل غنياً آخر،
ويقولون: إذا كان صاحب الحق غنياً فمطل المدين له ظلم، فإذا كان
مطله للغني ظلماً، فما بالك إذا مطل الفقير؟! ولكن الحديث الذي
معنا يُبعد هذا الاحتمال؛ لأن في آخره: (يُحل عرضه وعقوبته )،
وحلّية العرض والعقوبة تكون للمدين المطلوب الذي يمطل في سداد
الدين. إذاً: المصدر مضاف لفاعله. قال: (مطل الغني ظلم )، فإذا
كان المدين فقيراً فهل مطله ظلم أم خارج عن الظلم؟ خارج عن الظلم؛
لأنه مسكين ما عنده شيء؛ ولذا يقول الشافعي : لا يجوز حبسه؛
فهو ليس بظالم، فهو غير واجد، وقالوا: لو كان له مال مغيّب عنه أو
لا تصل يده إليه، فهو كالفقير لا يكون ظالماً. إذاً: معنى الحديث:
أن مماطلة الواجد القادر على سداد الدين في أجله ظلم، وهذا الظلم(3/336)
(يُحِل عرضه): كيف يحل عرضه؟ يقول: فلان هذا مماطل.. فلان هذا سيء
المعاملة.. حتى اختلف العلماء: هل يفسَّق وترد شهادته بالمماطلة،
ويكون هذا ذنب يخرجه عن العدالة؟ فالبعض يقول: نعم، والبعض يقول:
لا، إلا إذا تكرر، يعني: مطل دائناً مرّة فلا يفسق، لكن مرتين
وثلاث، وصارت معاملته هكذا مع الناس فيُحكم عليه بالفسق، ولا تقبل
شهادته لأنه ظالم، وينبغي أن يبادر الناس بسداد الديون، ولا يستحلي
إنسان ويستمرئ المماطلة بالدين. وقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا
أتبع أحدكم على مليء فليتبع )، (ومن أحيل على مليء فليحتل )،
بكلا اللفظين، من الذي يحيل؟ ومن المحال؟ ومن المحال عليه؟ قلنا:
الحوالة فيها ثلاثة أشخاص، رقم واحد له ألف عند رقم اثنين، ورقم
اثنين معترف بالألف لرقم واحد، فجاء رقم واحد يطلب ألفه من رقم
اثنين، ورقم اثنين -سواء كان واجداً أم لا- قال: اذهب وخذ ألفك
التي علي من رقم ثلاثة، فيكون قد حوّله إلى شخص ثالث، هذه صورتها
في الأشخاص، والذي يحال هو رقم واحد، فإذا أحلت على مليء فاحتل،
وإذا أُحيل على غير مليء: أيحتل أم يرفض؟ يرفض.
شروط الحوالة
في الحوالة شروط: فيشترط شرط في المحال، والمحيل، والمحال عليه،
وشرط في الدين الذي للمحال على المحيل، والدين الذي للمحيل على
المحال عليه، لأنه يوجد دينان: دين بين رقم واحد واثنين، ودين بين
رقم اثنين وثلاثة. وإذا كان المحال عليه مليئاً، فهل يلزم رضا
المحال في إحالته على الثالث أو لا يلزم؟ الحنابلة والجمهور أنه لا
يلزم رضاه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيل على مليء
فليحتل )، والذي يشترط رضاه هو المحيل، فلو أن المحيل لم يحل
هذا، وهذا عرف أن له عند الشخص الثالث ألف ريال، فذهب يقول له:
أعطني ألف ريال مما لرقم اثنين عليك، فسيقول له الثالث: أهو أحالك
علي؟ فيقول له: ما أحالني، إذاً: لن يعطيه. فهل يشترط في الحوالة(3/337)
رضا المحيل فقط، أو يشترط رضا المحال والمحال عليه؟ لا يحق للمحال
عليه أن يقول للمحيل: لم تحِل عليّ؟ فهذا حقه عليه، وله يستوفيه
بنفسه أو بنائب عنه أو بغيره، والذي عليه أن يدفع الألف سواءً
وضعها في يده أم في يد شخص آخر. إذاً: المحال عليه لا يؤخذ رضاه
إلا عند مالك في صورة واحدة وهي: إذا كان المحال عدواً للمحال
عليه، فهو عدو له لا يتعامل معه. فإذا كان المحال عدواً للمحال
عليه فمالك يقول: المحال عليه لا يلزمه أن يعطيه؛ لأنه أحال
عليه عدواً، وهو لا يتعامل مع عدوه، والجمهور يقولون: الحديث مطلق.
وقالوا: يشترط في الدين الذي أحيل أن يكون مساوياً للدين الذي أحيل
عليه في الجنس، فإذا كان له ألف ريال سعودي أو ألف روبية أو ألف
دولار؛ فيجب أن يكون الدين الذي للمحيل على المحال عليه من جنس
ذلك، يعني: يحيل أبو الريالات على ريالات، ويحيل أبو الدولارات على
الدولارات. فلو كان هذا مدين لعدة أشخاص بعدة مبالغ، واحد له
استرليني، وآخر له سعودي، وآخر له دولار، وهو كذلك أيضاً له ديون
عند الناس بأنواع من العُمَل، فجاءه المطالبون، فيحيل كل دائن له
على نوع الدين الذي له عند الآخر. أما إذا كان هذا له ألف ريال
عنده وهو له ألف دولار عند هذا، فلا يصح أن يحيل الألف الريال على
الألف الدولار؛ لأن فيها مصارفة بدون تسليم. وإذا كان الجنس
واحداً، عنده ألف ريال لهذا، وله خمسة آلاف ريال على ذاك، فأحال
صاحب الألف على صاحب خمسة آلاف، فتصح الحوالة. وإذا كان العكس، هذا
له خمسة آلاف على هذا، وهذا له ألف على ذاك، فهل يحيل بالخمسة على
الواحد؟ لا، بل يحيل بالواحد على الواحد لتساوي الدينين. ويشترط في
الدين الذي يحال عليه شرط مهم، وهو: أن يكون ثابتاً مستقراً
للمحيل، ليس قابلاً للنقض والفسخ، فلو أن هذا كان قد باع للثالث
سلعة، والثالث اشترط الخيار فيها شهراً، وجاء رقم واحد يطالب(3/338)
بالدين، فأحاله على قيمة المبيع لذاك الثالث، فلا تصح الحوالة؛ لأن
قيمة المبيع لم يستقر في ذمة المشتري، وبقي له الخيار، وإذا كان
الخيار باقياً فإن الثمن معلَّق. إذاً: لا يصح أن يحيل عليه، لأنه
يمكن أن يفسخ البيع ولا يدفع الحوالة التي أحاله عليها. والمرأة
إذا كان لها ألف ريال صداق على الزوج، ولكنه لم يدخل بها، فهل لها
أن تحيل بدين عليها على الزوج، ليأخذ المحال الألف من صداقها؟ لا،
لأنه لم يدخل عليها، والصداق إنما يستقر بالدخول، فهذا دين ليس
مستقراً. وإذا كان رجل له دين سَلَمٍ على رجل، فهل يحيل عليه؟ لا
يحيل عليه؛ لأن دين السَّلَم لا يبدَّل ولا يغيَّر ولا يُحال عليه.
إذاً: يشترط في الدين الذي يحال عليه: مماثلة الدين المحال،
واستقراره في ذمة المحال عليه. قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أحيل
أحدكم على مليء )، المليء يكون -كما يقول الحنابلة- بالقول
وبالفعل وبالجاه، مليء: عنده الوفاء بالدين. ويشترط لصحة الحوالة
حلول الدينين، هذا له ألف حل أجلها، وهذا له ألف عند ذاك وحل
أجلها، لكن إذا كان دين هذا حلّ على هذا، ودين الثاني لم يحل على
الثالث، فلا يحيل على مؤجل؛ لأنه سيقول المحال عليه: ما حل الأجل
حتى أدفع لك، فلو جاء صاحب الدين الأصيل وقال: أعطني ديني، يقول
له: ما حل الأجل، وما لك حق في المطالبة. إذاً: يشترط لصحة الحوالة
رضا المحيل، واتفاق جنس الدينين، وحلول الأجل فيهما، وبقي شروط،
وهو: أن يكون المحال عليه مليئاً معروفاً بالوفاء، فيكون عنده مال،
ويعطي ولا يماطل، ولا يكون معروفاً عند الناس بأنه لا يدفع الدين
الذي عليه إلا بالمحاكم وبالحبس وبالإساءة، فلو كان على هذه الحالة
فليس مليئاً في الحوالة، ويرفض المحال أن يحتل إلى هذا؛ لأنه رجل
معروف بالمطل، وقد لا يعطيه إلا بعد سنة! ويشترط الحنابلة أيضاً أن
يستطيع المحال مقاضاة المحال في المحكمة، ومفهومه لو أن مديناً(3/339)
أحال دائناً على والد الدائن، وقال له: عند والدك لي ألف ريال،
اذهب وخذه. فهل الابن يستطيع أن يقدم أباه للمحكمة في الدين؟ لا،
وسيقال له: ارجع فأنت ومالك لأبيك. ولو كان الرجل مديناً لأمير أو
سلطان أو إنسان ظالم جبار أو إنسان يأكل حقوق الناس ولا يبالي،
فحول دائنه على من لا يستطيع إحضاره إلى مجلس القضاء، فهل هذا مليء
أم غير مليء؟ غير مليء؛ لأنه يحتاج إلى مقاضاة وإلى معاناة، وقد
يحصل الوفاء، وقد لا يحصل. إذاً: إذا استوى الدينان جنساً، ورضي
المحيل، وكان المحال عليه مليئاً؛ تمت الحوالة، وبها تبرأ ذمة
المحيل من دين المحال، ويتحول المحال إلى المحال عليه، ولا يرجع
إلى المحيل بحال من الأحوال أخذ أو لم يأخذ، حتى لو قدر أن المحال
توانى عن مطالبة المحال عليه حتى أصبح فقيراً، فلا يقول: هذا غير
مليء؛ لأنه وقت أن حوّله المحيل كان المحال عليه مليئاً، والمحال
هو الذي تأخر، ولا يحق له أن يرجع إلى المحيل. وقد جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أن رجلاً يمانياً كان له دين عند علي ،
فأحاله على إنسان مليء معروف، فذهب وبعد فترة جاء يطالبه فإذا
المحال عليه مفلس، فرجع إلى علي ، وطالبه بالدين، فقال له: قد
أحلتك، فقال الرجل: هو مفلس، فقال له: لم ترض بنا، ورضيت بغيرنا
بديلاً، اذهب ولا كرامة. أي: أن حقك كان علينا، وأنت لم ترض أن
تنتظر، وحوّلناك وتحوّلت، وإذا لم تحصل على دينك فليس لك أن ترجع
علينا مرة أخرى. ولهذا يقولون: إن الدين المحال برضا المحيل على
مليء ينتقل في الحال، ولا يرجع المحال على المحيل بالدين بحالة من
الأحوال، ومن يوم أن حوّله برئت ذمته، وانتقل الدين إلى المحال
عليه.
الخلاصة
الحوالة فيها ثلاثة أشخاص، وسط وطرفان، وفيها الدين مكرر: دين
المحال، ودين المحيل على المحال عليه، وفي كل من الأركان الخمسة
نوع من الاشتراط، والمبدأ الأساسي أن الدائن أتى يطلب المدين حقه،(3/340)
وقد حل الأجل، والمدين قال: أنا أحيلك على مدين لي، كما أنا مدين
لك تطالبني أنا لي أيضاً مال عند مدين أطالبه، فأحيلك عليه بدينك
عليّ حتى تستوفيه من المدين لي، فهذا له دين على الثاني، والثاني
له دين على ثالث، والدينان قد حل الأجل بدفعهما، والدينان من جنس
واحد، فجاء دائن الشخص الأول يطالب مدين الشخص الثاني بدينه؛ لأن
الدائن طالب المدين بحقه، وهذا المدين الشخص الثاني هو دائن في نفس
الوقت، والشخص الثالث مدين وليس دائناً، فالدائن الأول جاء لمدينه
وقال: أعطني، فقال: مرحباً، وكما أنك تدينني فأنا أدين غيري، وكما
أنك تطالبني، بدينك فأنا أطالب غيرك، فاذهب وخذ دينك ممن أطالبه
بديني. ويشترط أن يكون دين الدائن الأول من عين دين الدائن الثاني
للشخص الثالث، فهذا دين بين (أ) و (ب)، وذاك دين بين (ب) و (ج)،
فإذا استوى النوع صحت الحوالة بهذا الدين. ويشترط في المحال عليه
أن يكون مليئاً، ولا يشترط في المحال أن يرضى ويأذن، فصاحب الدين
الأول لا يؤخذ رأيه، فيقول له المدين: حقك عندي، اذهب وخذه من
هناك. والأصل في المعاملات عين المعاملة، فلو كان إنسان مديناً،
وشخص من أهل الخير علم بأنه مدين، فذهب وسدد الدين عنه من غير أن
يشعره، فيكون الدين في هذه الحالة قد تم سداده، وفي الحديث: (أرأيت
لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم ) ، وستأتي قصة أبي
قتادة . فإذا اتفق الدينان، والمحيل رضي بالإحالة، والإحالة
كانت على مليء؛ فحينئذٍ انتقل دين المدين بالنسبة إلى الشخص الدائن
الأول إلى الثالث وهو المدين الثاني، وليس للأول الحق أن يرجع على
الثاني، حتى ولو أن الثالث لم يعطه فلساً مادام أنه مليء. أما إذا
أحاله على إنسان غير مليء مفلس، فإن كان المحال يعلم بإفلاسه ورضي
بالحوالة صحت؛ لأنه رضي بالإحالة على من عرف حاله، وإذا كان لم
يعلم بأفلاسه، وافق على الإحالة وقال: هذا رجل سمعته طيبه، وذهب(3/341)
إليه، فإذا به مفلس محجور عليه من قبل الحاكم، ففي هذه الحالة له
أن يرجع على المحيل؛ لأن شرط الإحالة لم يتحقق؛ لأنه ما أحيل على
مليء. والمليء هو الذي يستطيع أن يدفع، ويستطيع المحال أن يرفعه
إلى الحاكم، ويستطيع أن يأخذ حقه منه بدون مماطلة. وإذا أحال بأكثر
من حقه على المدين له، فليس عليه إلا أن يدفع دينه، فمثلاً: الأول
له خمسة آلاف على الثاني، والثاني له ألف على الثالث، فالثاني حول
هذا بالخمسة على الثالث، فيقول الثالث للأول: ليس له عندي إلى ألف
ريال، تفضل هذه الألف، والأربعة الآلاف لا أتحملها عنه، ويرجع
المحال على المحيل بالأربعة الآلاف الباقية.
شرح حديث: (حق الغريم وبرئ منهما الميت)
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (توفي رجل
منا، فغسلناه وحنطناه وكفناه، ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقلنا: تصلي عليه، فخطا خطىً ثم قال: أعليه دين؟ فقلنا:
ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة ، فأتيناه فقال أبو قتادة : الديناران علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حق الغريم
وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم، فصلى عليه ). رواه أحمد وأبو
داود والنسائي ، وصححه ابن حبان والحاكم ]. هذه
مسألة طويلة الذيل، ويذكر ابن شبة أنه صلى الله عليه وسلم أول
ما قدم المدينة كان إذا احتضر الميت آذنوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم به، فيذهب إلى بيته وينتظره حتى يقضي، ثم يجهزونه ويصلي عليه،
فقالوا: لقد أكثرنا على رسول الله، فلو أننا نجهز الميت ثم نأخذه
إلى بيت رسول الله ليصلي عليه هناك، فكان يذهب إلى البيوت ليصلي
على الجنائز في المدينة، فأشفقوا عليه صلى الله عليه وسلم، واتفقوا
على أن يحملوا الجنازة من مكانها إلى بيت رسول الله، فكان يصلي بها
في مصلى الجنائز، ومكان مصلى الجناز هو هذا الحوش الذي ترونه
محاطاً ما بين باب جبريل إلى باب البقيع الجديد، وكانوا قديماً(3/342)
يسمونه: فرش الحجر، وهو مصلى الجنائز، فكانوا إذا أتوا بالميت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه سأل عن دينه، ولم يكن
يسأل عن أي عمل له، وإنما يسأل أعليه دين أم لا؟ والسؤال عن الدين
خاصة يدل على شدة الاهتمام بالدين؛ لأن الميت مرهون بدينه في قبره،
والشهيد الذي استشهد في المعركة وعليه دين مرهون بدينه حتى يوفي
الله عنه يوم القيامة. وقوله: (فخطا خطىً ثم قال: أعليه دين؟
فقلنا: ديناران، فتأخر وقال: صلوا على صاحبكم )، كأنه يقول:
صلاتي لا تنفعه، مع أن صلاته شفاعة له، ودعاء له بالمغفرة والرحمة،
وقد سمع رجل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة جنازة فقال:
تمنيت أن أكون أنا هذا الميت لهذا الدعاء! فقال أبو قتادة : صل
عليه -يا رسول الله- والدين في ضماني، وقد روي مثل هذا عن علي ، فقال صلى الله عليه وسلم: (حق الغريم، وبرئت ذمته) أي: هل الدين
تحول عليك؟ فقال: نعم صار في ذمتي، وبرئت منه ذمة الميت، فتقدم
وصلى عليه. فهذا الضمان، فأبو قتادة ضمن بقضاء دين الميت،
قالوا: يصح الضمان عن الميت. وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله
عليه وسلم (سأل أبا قتادة من الغد فقال: ما فعل الديناران؟
فقال: يا رسول الله! إنما مات أمس، ثم من بعد الغد سأله: ماذا فعل
الديناران؟ فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الآن بردت عليه جلدته ). ولهذا يقال: المدين تتم براءته من وقت
السداد، لا من حين الضمان، فهو ضمنه قبل أمس، لكن ما سدد عنه إلا
اليوم، فالآن بردت جلدته من حر الدين.
شرح حديث: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم (كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين،
فيسأل: هل ترك لدينه من قضاء؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا
قال: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى(3/343)
بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ) متفق
عليه ]. بعد أن فتح الله على المسلمين، وأصبحت تأتيهم الغنائم، قال
عليه الصلاة والسلام: (من ترك غرماً فعلي، أو كلاً فلي -يعني: من
كان عاجزاً ذا عاهة فأنا ضامن له، فإن ترك ديناً فعلي دينه- قيل:
يا رسول الله! وعلى الأئمة بعدك؟ قال: نعم، وعلى كل إمام بعدي )
أي: أن بيت مال المسلمين المنتظم يتضمن سداد دين المعدم، ومغنم
الميت يرجع إلى أهله، وهذه -والله- هي الرحمة المهداة فعلاً، إن
كان الميت مفلساً معدماً ليس عنده ما يسدد به دينه سدده عنه رسول
الله، وإن كان غنياً ذا مال فماله لورثته، ولا يأخذ منه عليه
الصلاة والسلام شيئاً، قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم )،
فكان من مات وعليه دين لم يصل عليه، وبعد أن فتح الله عليه الفتوح
صار يصلي على من مات وعليه دين، ويقضي دينه من بيت مال المسلمين.
ويسوق المؤلف هذا الحديث في باب الضمان؛ لأن دين الميت تحوّل عنه،
والضامن اشتغلت ذمته بهذا الدين عن الميت. ويؤخذ منه أنه يصح سداد
الدين من وارث الميت ومن غيره أياً كان، وهل يرجع على ورثة الميت
أو لا يرجع؟ إن كان ترك وفاءً، وفعل ذلك رحمة بالميت فله أن يرجع،
وإن كان فعل ذلك تطوعاً أو صدقة أو هبة فليس له أن يرجع، وبالله
تعالى التوفيق.
شرح حديث: (لا كفالة في حد)
قال رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا كفالة في حد )، رواه البيهقي بإسناد ضعيف]. الكفالة والضمان في الدين على الميت جائزة، وكذلك
تجوز في الدين الذي على الحي. واختلف العلماء في كفالة الوجه
ويسمونها: كفالة الحضور، فإن الكفالة قسمان: كفالة غرم وأداء،
وكفالة حضور، فكثير من العلماء يقول: كفالة الحضور ليست صحيحة ولا
تجب، والكفالة الصحيحة كفالة الدين؛ لأنه التزمه وتعهد به. يختم
المؤلف الباب بحديث: (لا كفالة في حد )، بمعنى: لو إنسان لزم(3/344)
عليه حد، فلا يأتي إنسان آخر ويقول: اتركوه، وأنا كفيل به! وإذا
ذهب وتغيب ماذا ستفعل؟ أنت لا يقام عليك حد لم ترتكبه، وكيف تعاقب
على جرم غيرك؟ هذا لا يجوز، فلا يصح كفالة صاحب حد في إحضاره
لإقامة الحد عليه؛ لأن الحدود ليس فيها شفاعة، والحدود ليس فيها
نيابة، والحدود ليس فيها مصالحة، إذا بلغت السلطان لا يصح أن يصالح
عليها؛ لأنها حق لله، وبالله تعالى التوفيق.
( كتاب البيوع - باب الشركة والوكالة [1] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (بعث رسول الله مع عروة بدينار يشتري له أضحية ...)
2 شرح حديث: (بعث رسول الله عمر على الصدقة ...)
3 شرح حديث:(نحر النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثاً وستين بدنة ...)
4 شرح حديث: (واغد -يا أُنيس- على امرأة هذا ...)
كتاب البيوع - باب الشركة والوكالة [2]
الشريعة الإسلامية مبنية على التيسير، والحرج منفي عنها، ومن الأحكام
الفقهية التي شرعت للتسهيل على العباد الوكالة، ولها صور كثيرة منها:
الوكالة في البيع والشراء، والوكالة في جمع الزكاة، والوكالة في ذبح
الأضاحي والبدن، والوكالة في إقامة الحدود، وغير ذلك.
شرح حديث: (بعث رسول الله مع عروة بدينار يشتري له أضحية ...)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن
والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عروة البارقي رضي
الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار
يشتري له أضحية .. ) الحديث رواه البخاري في أثناء حديث وقد
تقدم]. لما كانت مهمة هذا الكتاب المبارك بيان أدلة الأحكام، فهو
يذكر من الحديث محل الدليل، كالحديث السابق: (اشتركت أنا و عمار وفلان .. ) الحديث؛ لأن موضع الشاهد منه: (اشتركت)، وكذا حديث:
(إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه ) ولم يذكر كيف عرف أنه وكيله،
وهذا له جانب آخر. وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى البارقي ديناراً ليشتري له أضحية، والشاهد هنا أن عروة قد تصرف تصرف(3/345)
الوكيل، ونحتاج إلى إيراد كامل الحديث ليتبين مناط الاستدلال على
الوكالة؛ لأن مجرد إعطائه ديناراً ليشتري له شاة قد لا يكون وكالة،
فعندما أقول لك وأنت ذاهب إلى السوق: خذ هذا، واشتري لي كذا، فهذه
مساعدة وتعاون، وليست وكالة. والذي حصل من عروة أنه ذهب
بالدينار واشترى شاتين، هو أعطاه ديناراً يشتري شاة واحدة، فهو
تصرف، وهذا التصرف بحكم الوكالة. ولما اشترى الشاتين، لقيه رجل
وقال: أتبيع شاة من هاتين؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بدينار، فباع
شاة من الشاتين بدينار، فهو باع ملك غيره، فالمال للرسول صلى الله
عليه وسلم، واشترى الشاتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاز له
أن يبيع ملك الغير بالوكالة. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وقال: (خذوا شاتكم، وهذا ديناركم)، فسأله عن خبره، فذكر له الخبر،
فهل قال له: وكالتك مفسوخة؟ لا، بل قال: (بارك الله لك في بيعك
وشرائك ) ، فكان الناس يأتونه، ويلقون إليه أموالهم شراكة معه؛
بغية بركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لو أخذ حفنة من
تراب ليبيعها لربح فيها! وعرف الناس أنه أصابته دعوة رسول الله صلى
الله عليه وسلم. انتهينا من باب الوكالة، وهذا تصرف تصرف الوكيل،
وأقره وكيله على ما تصرف، ولو لم يأمره من قبل؛ ولهذا فإن الوكيل
لو تصرف لمصلحة موكله وأقره الموكل على ذلك صح التصرف، وإذا تصرف
ظاناً منه أنه لمصلحة موكله ولكن موكله رفض، فالتصرف باطل، ويكون
لحساب الوكيل، وهو يتحمل مسئوليته، ولهذا تفصيلات عديدة في باب
الوكالة. إذاً: الوكالة انتهت، ولكن هل نقف على هذا بهذه السرعة؟
ونحن نعلم أن الحديث بحر، ودلالته لا تنتهي، والناس يتفاوتون في
الاستنتاج وفي التفقه في معنى الحديث، فمن العلماء من قال: استنتجت
من حديث: (يا أبا عمير ! ما فعل النغير؟ ) أربعين مسألة!
هل يحدد ربح البائع؟
يذكر الفقهاء في باب البيوع زيادة الثمن ونسبة الربح، فهذا الرجل(3/346)
كانت نسبة الربح عنده مائة في المائة، فكم نسبة الربح؟! ليست هناك
نسبة في ربح البيع والشراء، ولكن ينبغي ألا يستغل البائع جهالة
المشتري، وألا يستغل البائع حاجة المشتري واضطراره فيزيد عليه. ذات
مرة رأيت نسخة من كتاب (المستصفى) للغزالي ، طبعة قديمة في
مجلد ممتاز، فقلت لصاحب المكتبة: بكم هذا؟ قال: هذا غالي الثمن،
ولعل هذا من باب التحريض، فقلت: بكم؟ قال: بخمسين ريالاً. وكان في
ذلك الوقت راتب الجندي الشهري ستين ريالاً، فكم تكون نسبة قيمة هذا
الكتاب؟ وكم قدر الخمسين ريالاً لطالب العلم في ذلك الوقت؟ المهم
اشتريت الكتاب، وحمداً لله وشكراً له على ما كنت عليه في ذلك
الوقت، فرآه معي بعض الإخوان فأعجب به، وقال: من أين؟ فقلت: من
فلان، قال: أوه! عسى ما أكلك، قلت: كيف أكلني؟ قال: هذا إذا عرف أن
المشتري طالب علم، وله حاجة ماسة إلى الكتاب، يضاعف عليه القيمة،
فمرة ثانية إذا أردت أن تشتري منه أرسل شخصاً عامياً عادياً ليشتري
لك، بكم اشتريت؟ قلت: بخمسين ريالاً، قال: أوه! رده، قلت: لا
والله! لو قال لي بمائة لاشتريته، فالفلوس تذهب وتنتهي، لكن هذا
يبقى، ولا زال عندي بحمد الله إلى الآن منذ خمسين سنة في مكتبتي.
المهم أن مثل هذا كان المفروض عليه أن يخفف على طالب العلم. ومرة
أخرى كنت أريد كتاب (التقرير على التحرير)، وفتشت عنه في المدينة
وفي مكة فلم أجده، فقال لي رجل: هو موجود في مكتبة باصفرين في جدة
في سوق الندى، فذهبت إليه، وبعد العشاء وجدت المكتبة، وكانت صغيرة،
وفيها رجلان جالسان معهما فانوس، فسلمت عليهما، وقلت: لا مؤاخذة
أقطع حديثكم قليلاً، قالا: نعم، قلت: يا شيخ عندك كتاب كذا؟ قال:
نعم، عندي نسختان، قلت: أبغى نسخة، قال: ليست للبيع، قلت: في
المثل: مطابق وأخوه عريان، يعني: كيف تلبس ثوبين وأخوك عريان؟
فأعطه ثوباً منهما، قلت له: لماذا يا شيخ؟! قال: هذه طبعة قديمة،(3/347)
وأصبح الكتاب مفقوداً وأنا معتز به، قلت: جزاك الله خيراً، لكن إذا
جاءك طالب علم فبعه، لعل الله ينفعه به، وأنا مضطر إليه، وهو غير
موجود، وعجزت أن أحصله، وأنت رجل كبير السن، وتعرف حاجة طالب العلم
للكتاب، فقال: لا، أبداً، فقال له صاحبه: يا شيخ خف الله، معك في
المكتبة نسختان، وطالب علم يجيء إليك ويقول لك: أبغى واحداً وتقول
له: لا. حرام عليك، قلت: جزاك الله خيراً ساعدني. وأخيراً قال لي:
بخمسة وثلاثين ريالاً، وهو ثلاثة أجزاء، والله! لو قال لي: بثلاثة
آلاف، وكانت في يدي في ذاك الوقت، لأعطيته بطول يدي، فقلت له:
مرحباً بخمسة وثلاثين أو خمسة وأربعين أكثر أو أقل بسيطة، فقال
الذي بجواره: هات ثلاثين فقط قلت: والله! إنك رجل خير، وفيك بركة،
تفضل، وقال لي: هما في الرف، تخير إحدى النسختين وخذها، وكانت
النسختان متقاربتين، فأخذت نسخة منهما، وفي أمان الله، السلام
عليكم. يهمني أنه ليس هناك تحديد للربح، ولكن نؤكد على الرفق، وعدم
استغلال جهالة المشتري، وعدم استغلال شدة حاجته.
حكم التسعير
يبحث الفقهاء في حكم التسعير وتحديد الثمن، ولقد طلب الصحابة رضوان
الله تعالى عليهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسعر لهم فقال:
(إن الله هو المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحدكم عندي
مظلمة ) وما هي المظلمة؟ أن تحدد عليه سعر السلعة وتمنعه من
الربح، أليست هذه مظلمة؟ ولما جاءوا لعمر وقالوا: يا عمر ! غلى اللحم فسعره لنا، فقال: لا، أرخصوه أنتم، قالوا: كيف نرخصه
وليس عندنا؟! قال: اتركوه لهم، فتركوه اليوم الأول، وتركوه اليوم
الثاني، فإذا بالجزارين ينادونهم: هلموا -يا جماعة- للحم، قالوا:
لا، أنتم أغليتموه علينا، ثم رخصوه لهم. إذاً: متى يكون التدخل؟
عند الاحتكار، إذا جمع تجار أو تاجر ما في السوق، ثم أغلاه بعدما
نفذ ما بأيدي الناس، مثل بعض تجار التمور وقت الجذاذ يجمع ما نزل(3/348)
السوق من الصنف الطيب، وبعد شهر أو شهرين الناس يبحثون عن التمر
لكن قد ابتلعته بالوعة التاجر الفلاني، فيقولون: بع لنا يا فلان!
قال: لا، أنا لا أبيع الآن، وينتظر شدة الحاجة ليتحكم، وبعد أن كان
الصاع بريال يبيعه باثنين أو بثلاثة أو بأربعة، فحينئذ يتضرر
الناس، فيتدخل ولي الأمر كما ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله،
كما يتدخل عند توقف بعض الطوائف عن أعمالهم مثل السقايين
والخبازين. فلو أن أصحاب الأفران أضربوا عن أن يخبزوا، فماذا نأكل؟
تشتري دقيقاً وتعجنه، وتشتري فرناً وتخبز، وهل كل إنسان يقدر أن
يعمل هذا؟ لا، فيلزمهم الإمام بالرجوع إلى العمل. وكذلك السقاة،
كانوا من قبل يأخذون الماء على الكتف، والآن لو أن عمال مصلحة
المياة توقفوا عن العمل، وأوقفوا الماء، ولم يوجد ماء في البلد،
فهل لولي الأمر أن يتركهم؟ لا، بل يلزمهم على العودة إلى العمل.
وهكذا شركة الكهرباء لم يعد للناس عنها غنى، وقد نصبر عن الطعام
والشراب ولكن لا نستغني عن الكهرباء، لا نقدر نمشي في الظلام، ولا
نعيش في الظلام، نصبر على الجوع حتى ييسر الله، فلو أضرب عمال
الكهرباء، وتوقفت المكائن أو الموتورات عن الإنتاج، فولي الأمر
يلزمهم بمعاودة العمل؛ لأن مصالح الناس ترتبت عليه. إذاً: التسعير
لا يكون إلا عند الاحتكار لما يحتاجه الناس، ولا يوجد له نظير في
الأسواق، فيلزم ولي الأمر المحتكرين أن يخرجوا البضاعة ويقدر لهم
الربح المناسب، وذلك بالنظر إلى رأس المال، فلا هو يزيده على الناس
ولا هم ينقصونه عنه، وفعلاً إن الله هو المسعر، فالسعر بيد الله
سبحانه وتعالى، قد يجمع إنسان ويجمع الآخر لمناسبة معينة، لكن تأتي
المناسبة والكل يخرج ما عنده، فيكثر العرض على الطلب فيرخص السعر،
ونظام الاقتصاد يكون بالمعادلة بين العرض والطلب، وإذا كان الطلب
كثيراً والعرض قليلاً غلا في السعر، وإذا كان العرض كثيراً والطلب(3/349)
قليلاً صارت البضاعة رخيصة، فالكل يعرض في تلك المناسبة التي جمع
لها، فيكثر العرض ويقل الطلب فترخص السلعة عما كان يتوقعه التجار.
شرح حديث: (بعث رسول الله عمر على الصدقة ...)
مشروعية بعث الجباة لجمع الزكاة
قال المصنف رحمه الله: [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة ) الحديث متفق
عليه]. هذا من أحاديث الوكالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث
عمر على الصدقة، وبعث العمال من هدي النبي صلى الله عليه وسلم
ومن بعده من الخلفاء الراشدين، وكان العمال يجمعون الصدقة من أرباب
الأموال الظاهرة، ويوزعونها على المحتاجين، أو يأتون بها إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وهم العاملون عليها، وقد بين العلماء أن
هؤلاء العاملين يذهبون إلى أصحاب الماشية وبهيمة الأنعام على
مياههم، فيجمعون ما عندهم من إبل أو بقر أو غنم، ولا يفرقون بين
مجتمع، ولا يجمعون بين مفترق، ويحصون على الناس ما يملكون، فمن بلغ
عنده النصاب أخذوا الزكاة منه، ونصاب الغنم أربعون، وإلى مائة
وعشرين ففيها شاة، ومائة وواحد وعشرون فيها شاتان إلى مائتين،
وهكذا في كل مائة شاة. ونصاب الإبل أقله خمس وفيها شاة، وعشر فيها
شاتان، وإذا بلغت خمسة وعشرين فبنت مخاض، فكان هؤلاء العمال إذا
أتوا إلى الناس قبضوا منهم الزكاة بحسب ما لديهم من تعليمات،
وأخذوها منهم بالوكالة عن ولي الأمر. ومن غرائب ما حدث في مثل ذلك
أنه صلى الله عليه وسلم بعث عامله إلى جهة الحناكية، فوجد عند رجل
خمسةً وعشرين من الإبل، فقال: (زكاة إبلك بنت مخاض )، وبنت
المخاض هي: التي لها سنة ودخلت في الثانية، يعني: أمها ماخض
بأختها، فقال الرجل: بنت مخاض! ماذا تجزي هذه وليست ظهراً فيركب،
وليست ضرعاً فيحلب؟! ولكن هذه ناقة كوماء خذها في سبيل الله، فقال
العامل: لم تجب عليك فلا أستطيع أن آخذ أكثر من الواجب، فتشاح(3/350)
العامل مع صاحب الإبل، فقال العامل لصاحب الإبل: إن كنت مصراً
فدونك النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فاذهب بها إليه، فإن
قبلها قبضتها منك، فجاء مع العامل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وأخبره وقال: يا رسول الله! إن بنت مخاض في سبيل الله لا تجزي
شيئاً، ولكن هذه ناقة كوماء (يعني: سمينة مثل كوم اللحم) خذها في
سبيل الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أطيبة بها نفسك؟ قال: نعم
يا رسول الله! فقال للعامل: خذها، وقال له: بارك الله لك في إبلك! )
فتناسلت إبله إلى زمن معاوية رضي الله تعالى عنه، حتى كان يخرج
العشرات من رءوس الإبل في زكاته. نرجع إلى تتمة الحديث: لما رجع
عمر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إن خالد بن الوليد منع زكاته، و العباس أمسك زكاته )، اشتكاهم عمر إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما خالد فإنكم تظلمون خالداً ، لقد احتبس عتاده وأدراعه في سبيل الله )
يعني: وهذا مال وقف لا زكاة فيه ما دام أنه في سبيل الله. وأخذ منه
الفقهاء أن الوقف إذا كان وقفاً خيرياً للفقراء والمساكين قربة لله
فلا زكاة فيه؛ لأنه كله في سبيل الله، أما إذا كان وقفاً أهلياً
-وهذا اصطلاح عند الفقهاء- بمعنى وقف على أشخاص معينين يقتسمون
ريعه، فهنا ينظر لكل واحد على حدة، فمن أخذ من هذا الوقف ما فيه
نصاب، ومكث عنده الحول، فإنه يزكي عليه لا على أنه وقف ولكن على
أنه مال اكتسبه.
حكم تقديم إخراج الزكاة؟
وأما زكاة العباس فقال عليه الصلاة والسلام: (فإنها عليّ )،
وذكر في بعض الروايات: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان استسلف
من العباس زكاة سنتين ). ويختلف العلماء هل يجوز تقديم زكاة
سنة قبل مجيء حولها أم لا؟ مالك وغيره يقول: لا يجوز؛ لأنها
مؤقتة كتوقيت الصلوات، وكما أنه لا تصح صلاة قبل دخول وقتها، فكذلك
لا يصح أخذ زكاة قبل مجيء موعدها، ولكن الجمهور يقولون: هذه حالة(3/351)
نادرة، وكان صلى الله عليه وسلم احتاج إلى هذه الزكاة من العباس فاستسلفه، أي: أخذ زكاة تلك السنة، واستسلفه زكاة السنة التي
تليها. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث العمال وكلاء
عنه.
قصة ابن رواحة عندما خرص نخل خيبر
ترك النبي عليه الصلاة والسلام خيبر في أيدي اليهود يعملونها
بالنصف، فإنه لما أراد أن يجلوهم صلى الله عليه وسلم عنها، قالوا:
(نحن أعرف بالأرض وبالنخل وبالزراعة منكم، وأنتم مشغولون عنها،
فدعنا فيها نقوم بها، فقال: نترككم ما شاء الله )، يعني: بدون
تحديد زمن، وبدون التزام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث
إليهم عند إبان الجذاذ من يخرص نخلهم، وأرسل إليهم يوماً عبد الله
بن رواحة ، فجمعوا له من حلي نسائهم وقالوا: هذا لك وخفف عنا،
يعني: إن كنت تجد أن نخل خيبر ألف وسق فاجعلها ثمانمائة أو
سبعمائة، لكنه كان أشد خوفاً لله منهم، وقال (والله -يا إخوة
الخنازير- لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض الناس إلي،
وليس حبي لرسول الله أو بغضي إياكم بحاملي على أن أحيف عليكم، أنا
قاسم وإن شئتم فاقبلوا ووفوا إلينا، وإن شئتم فارفعوا أيديكم ونوفي
إليكم)، فقالوا: يا ابن رواحة ! والله! بهذا قامت السماوات
والأرض، أي: بالعدالة حين القدرة، فهو قال فيها: عشرة آلاف وسقاً،
لكم خمسة آلاف، ولنا خمسة آلاف، فإن شئتم التزموا لنا بالخمسة
الآلاف وسقاً ونكف عنكم، وإن شئتم ارفعوا أيديكم ونحن ندفع إليكم
خمسة آلاف وسقاً، فهذه هي عين العدالة والمساواة. الوكالة بابها
طويل، والحاجة إليها ضرورية ولازمة، والوقت لا يتسع لأكثر من هذا،
والوكيل الذي ذهب لقبض أموال الزكاة وكيل عن ولي الأمر مطلقاً، ولو
ماتت بعض الأنعام في طريقه، فهل عليه شيء من هذه الأنعام؟ يده يد
أمانة، لا ضمان عليه فيها إلا إن فرط أو تعدى فهو ضامن، وإن لم
يفرط ولم يتعد فليس بضامن؛ لأنه مؤتمن على ذلك، ولم تجن يده جناية(3/352)
على ما تحت يده. وهل له أن يتصرف فيها ويبدلها؟ فعل ذلك معاذ في اليمن، فإنه استبدل الزكاة والجزية بالثياب، وقال: هذا أرفق
عليكم، وأنفع لأصحاب محمد؛ لأن مئونة النقلة من اليمن إلى المدينة
كبيرة، فعندما يسوق بهيمة الأنعام من اليمن إلى المدينة، كم يأخذ
عليه من زمن؟ وكم يتلف عليه منها؟ فبدلها بالوكالة عن ولي الأمر
بثياب.
شرح حديث:(نحر النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثاً وستين بدنة ...)
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله
عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين، وأمر علياً رضي الله عنه أن يذبح
الباقي ) الحديث رواه مسلم ]. عندما حج الرسول صلى الله
عليه وسلم، كان علي شريكاً معه في الهدي، وكان علي و أبو
موسى الأشعري في اليمن، وكان علي على مخلاف، و أبو موسى على مخلاف، واجتمعا على أن يحجا، فقدم علي رضي الله تعالى عنه
بعدد من الإبل هدياً، والرسول صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة
ومعه هدي، فاجتمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما خرج به من
المدينة وما جاء به علي من اليمن مائة بدنة، فشرك علياً معه، فلما كان يوم النحر ذهب صلى الله عليه وسلم لينحر الهدي، فنحر
بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة ثم وكل علياً في أن ينحر بقية
المائة. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم باشر نحر عدد، ووكل علياً في نحر عدد آخر. وتكملة الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر
علياً أن يأتي بالجزارين من أجل أن يسلخوا تلك الإبل، وأن
يقطعوا لحمها، ويقسموها على الحاضرين، وأمره أن يتصدق بجلالها،
والجلال جمع جلالة، وهي ما تجلل به البدنة من الغطاء، كانوا
يغطونها بقماش مثل الزينة؛ لأنها هدية مقدمة إلى الله سبحانه
وتعالى هَدْيًا
بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]،
وكانت تلك الجلال تجمع في منى، ويأخذها بنو هاشم ويصنعون منها كسوة
الكعبة، وما يفيض يتصدق به، وكان من عادتهم -كما فعل ابن عمر -(3/353)
أن يحللوها عند خروجها من المدينة، وإذا انفصلوا عن ذي الحليفة
نزعوها عنها لئلا تمزقها الشجر، ولا تتسخ بالنوم على الأرض، وإذا
قدموا إلى مكة وصعدوا بها إلى عرفات جللوها بها، ونزلوا بها إلى
المنحر ثم ينزعونها عنها حتى لا تتلوث بدمائها. ومن هديه صلى الله
عليه وسلم أن أمر بأن يؤخذ له من كل بدنة بضعة لحم، وجمعت تلك
القطع المائة في القدور وطبخت، وشرب صلى الله عليه وسلم من المرق
وأكل من اللحم، قال الله: فَكُلُوا
مِنْهَا وَأَطْعِمُوا [الحج:28]،
وقالوا: إن الحكمة والسر في أن المهدي يأكل من هديه لكي يختار
نوعية الدم الذي سيريقه، ولا يكون مريضاً ولا هزيلاً، بل يتخير ما
سيأكل منه؛ ليطعم غيره. والذين يبحثون وراء الرموز ووراء الحكم من
أجل الاستنتاجات يقولون: في فعله صلى الله عليه وسلم هذا حكمة
عظيمة وإشارة لذوي الألباب، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر
ثلاثاً وستين، ولم ينحر ستين، ولا سبعين، قالوا: وهذا مقصود؛ وذلك
أنه صلى الله عليه وسلم توفي عن ثلاثة وستين سنة، فالسنة التي حج
فيها هي تمام الثلاثة والستين، وقولنا: هي مقصودة فيه نوع من
التجوز، لكن سواء كانت بالصدفة أو مقصودة فهي إشارة، فكأنه يقول
للأمة: هذا عدد أعوام حياتي، أعيش ثلاثة وستين سنة، وفعلاً رجع إلى
المدينة صلوات الله وسلامه عليه، ومكث زمناً غير بعيد، وانتقل إلى
الرفيق الأعلى. إذاً: نحر بيده صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين.
لماذا أهدى النبي عليه الصلاة والسلام مائة بدنة؟
بعض طلبة العلم يفتش وينبش ويسأل: لماذا أهدى مائة؟ كان يكفيه شاة
أو يشترك هو وستة في بدنة، قالوا: لا، هذا العدد أيضاً له تاريخ؛
لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (أنا ابن الذبيحين )،
والمراد: أبوه عبد الله و إسماعيل عليه السلام. أما إسماعيل
عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: يَا
بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ [الصافات:102](3/354)
إلى قوله: وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ [الصافات:103]
إلى قوله: وَفَدَيْنَاهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].
يقولون: إن هذا الذبح والفداء الذي نزل به جبريل هو القربان الذي
كان قد قربه هابيل: إِذْ
قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ
يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ [المائدة:27]،
هابيل قدم كبشاً كبيراً طيباً، وقابيل قدم حزمة زرع، وكان صاحب
زراعة، وهابيل كان صاحب ماشية، فذاك الكبش من ذاك الوقت يرعى في
الجنة، حتى نزل فداء لإسماعيل، والله أعلم، لكن هكذا يقول بعض
العلماء. وعبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً
أخذ للذبح، وذلك حينما رأى أبوه عبد المطلب في المنام قائلاً
يقول له: أحيي برة، وبرة هي: زمزم، وكانت جرهم لما جلت عن البيت
ردمت زمزم، وهذا كالحروب العسكرية يدمرون المنشآت حتى لا يستفيد
عدوهم منها، فطمسوها وبقيت مطموسة، فأتي فقيل له: أحيي برة، يعني:
يحيها بنبشها، قال: وأين هي؟ قالوا: حيث ترى الغراب ينكت في الأرض،
في المكان الفلاني، أي: حول الكعبة، فخرج فإذا بالغراب ينكت في
محل، فبدأ بالحفر، وكلما مر عليه بنو هاشم وأهل مكة، سألوه: ماذا
تفعل يا عبد المطلب ؟ قال: أحفر زمزم، قالوا: كيف تبحث عن
زمزم، وزمزم مطموسة، ولا أحد يعرف مكانها؟! قال: أنا عرفت مكانها،
فكانوا يسخرون منه، فلما نزل بالحفر رأى طي البئر، فقالوا: زمزم
ليست لك وحدك، نحن شركاء معك في زمزم، ومنعوه من إتمام الحفر حتى
يشتركوا معه، وتكون زمزم للجميع، فما استطاع أن يقاومهم، فنذر لله
إن رزق بعشرة بنين، وعاشوا حتى يحملوا السلاح ليذبحن واحداً منهم
لله، دار الزمن واكتمل عنده عشرة من البنين، فاجتمعوا فأخبرهم
بنذره، فقالوا: وف بالنذر، قال: من أذبح؟ قالوا: اختر، فاستهموا،
فكان السهم على عبد الله ، فأخذه ومضى ليذبحه، فقامت قائمة
قريش، وكان عبد الله أحب أبنائه لأهل مكة، فقالوا: لا والله!(3/355)
لن تذبحه، قال هذا الذي وقع عليه السهم، قالوا: لا، أبداً،
فاحتكموا إلى عدة أشخاص، وأخيراً احتكموا إلى كاهنة كانت في جهة
الحنكية شرقي المدينة، فقالت لهم: كم دية الرجل عندكم؟ قالوا: كذا،
قالت: استهموا على ولدكم مع عشرة من الإبل، فإن طلعت السهام على
الإبل فانحروها وتكون فداءً له، وإن طلعت السهام على ولدكم فزيدوا
الإبل عشراً وأعيدوا القرعة، فما زالوا يقترعون ويطلع السهم على
عبد الله ، ويزيدون حتى وصلت الإبل مائة، وحينئذ طلع السهم على
الإبل، ففرحت قريش وقالوا: سلم عبد الله اذبح الإبل، قال: لا،
عشر مرات وأنا أعيد القرعة ويطلع السهم على ولدي، سأعيد القرعة،
فأعادها فطلعت على الإبل، ثم أعادها فطلعت على الإبل، ثلاث مرات،
فذبحت الإبل فداء لعبد الله والد رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ ولهذا كان يقول: (أنا ابن الذبيحين )، وقوله هذا: يرد على
من يقول: إن الذبيح هو إسحاق، وكثير من الناس يقول هذا، ولكن
التحقيق في هذه المسألة أن الذبيح حقيقة هو إسماعيل عليه السلام،
واليهود هم الذين صرفوا كلمة الذبيح لإسحاق ليذهبوا بها فخراً لهم،
ففدي عبد الله بمائة من الإبل، وعاش عبد الله حتى أودع
الأمانة التي كان يحملها في مقرها، وذهب إلى حال سبيله، وجاءت تلك
الأمانة إلى الوجود، وهي النبي صلى الله عليه وسلم، ومضى عليه من
العمر أربعون سنة، ثم كانت الرسالة، وعاش ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشر
سنوات بالمدينة، وكل ذلك عمر الرسالة، فلما حج أهدى مائة من الإبل،
وكأنه يقول: لئن فدي أبي بمائة من الإبل أن تذبح للأصنام، فأنا
أذبح مائة من الإبل لوجه الله تعالى، وهكذا يربطون بين هذا وبين
ذاك، وكما ربطوا بين نزوله في المحصب وهي المعلاة، فإن النبي صلى
الله عليه وسلم لما نزل من منى بات هناك، وتجدون في كتب الفقه
والحديث خلافاً في هذا: هل كان هذا النزول من النسك أو كان على
سبيل الإرفاق بالناس حيث يبيت في أول مكة بدلاً من أن يدخل في(3/356)
الليل مكة ويتعب أصحابه، وهذا أخف عليهم عند خروجه إلى المدينة؟
قالوا: لا، لقد كان هذا النزول متعلقاً بحدث وقع في أول الأمر وهو:
أنه صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد كتبوا الصحيفة
الظالمة على مقاطعة بني هاشم، وألجئوهم للدخول إلى الشعب، وتلك
الصحيفة كتبت بظلم في ذلك المكان، في خيف بني كنانة، فكأنه صلى
الله عليه وسلم يقول: لئن شهد هذا الخيف كتابة صحيفة ظالمة فليشهدن
نزول الأمة الإسلامية بعد نزولها من الحج، وتكون ليلة مباركة تمحو
آثار تلك الليلة الظالمة.
شرح حديث: (واغد -يا أُنيس- على امرأة هذا ...)
قال رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة العسيف،
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أُنيس - على
امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) الحديث. متفق عليه ]. هذا
الحديث -يا إخوان- مباحثه كثيرة، ومواضيعه هامة وخطيرة؛ لأنه يتعلق
بعدة أمور، وأول هذا الحديث، أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم ومعه رجل آخر، فقال: يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفاً عند
هذا -والعسيف: الأجير- فزنى بامرأته، فقالوا: على ولدك مائة شاة،
فافتديت ولدي بمائة شاة فاقض بيننا -يا رسول الله- بكتاب الله،
فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم، سأقضي بينكما بكتاب الله، على ابنك
جلد مائة وتغريب عام، وغنمك رد عليك، واغد -يا أُنيس - على
امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ). إذاً: القضية قضية حد من حدود
الله، ومجيء والد العسيف مع زوج المرأة إلى رسول الله عليه الصلاة
والسلام له شأن، ولو أن الرجل جاء بولده فقط ولم يسم أحداً؛ ما طلب
رسول الله المرأة؛ لأن الحد يقام على من أقر على نفسه، ولو أقر على
امرأة بعينها لا يقبل منه؛ لأنه إقرار الغير على الغير، والرسول
صلى الله عليه وسلم كما يقال: (يلم ولا يتبع). فالغامدية لما
جاءت هل سألها: زنيت بمن؟ لا لم يسألها، وهكذا ماعز لما اعترف(3/357)
بأنه زنى، هل قال له: زنيت بمن؟ ما سأل، ولو قالت الغامدية :
زنيت بفلان، وجاء فلان وقال: هي تكذب، فهل يمكن أن يقام عليه الحد
بمجرد قولها؟ لا، وكذلك ماعز لو قال: زنيت بفلانة، وجيء بها
وقالت: لا، هو يكذب، هل يقام عليها الحد لمجرد دعوى؟ لا، فلابد من
أربعة شهود صفتهم كذا وكذا أو الإقرار من الشخص نفسه. لكن هنا
اجتمع الطرفان: الرجل يقر على ولده، وولده يسمع، وهذا يقوم بمثابة
إقرار الولد، وزوج المرأة يسمع، وهذا لا يكون بمثابة إقراره عليها،
لأنها لم تؤاخذ بإقرار زوجها بل قال: (اغد) ليسمع منها شخصياً. فمن
أهم مباحث الحديث: مجيء هذين طائعين طالبين إقامة الحد، وقد أفتي
والد العسيف بفتوى خطأ، فقيل له: عليك أن تفدي ولدك بمائة شاة،
وهذا حكم غير صحيح، وإذا رفع الحكم الباطل إلى ولي الأمر فإنه
يلغيه، فقال: (غنمك رد عليك )؛ لأن هذا باطل.
رجم الزاني المحصن
قال والد العسيف: اقضي بيننا، بكتاب الله، فقضى بينهما بكتاب الله
وقال: (على ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد -يا أُنيس - إلى
امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها )، فقضى بينهما بكتاب الله،
الطرف الأول عليه جلد مائة؛ لقوله تعالى: الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]،
والجلد بكتاب الله، والطرف الثاني قال: (واغد -يا أُنيس - إلى
امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )، خذ المصحف! هل في المصحف رجم
الزاني؟ هل تقرءون الآن في المصحف رجم الزاني؟ لا، لكن قال
الأصوليون ومدققوا علماء الحديث: إن الرجم من كتاب الله؛ لأن
الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (سأقضي بينكما بكتاب الله )
وحكم في امرأة هذا بالرجم؛ لأنها محصنة، والعسيف ما هو محصن، بل هو
أعزب بكر، والبكر عليه الجلد، وهذا في نص كتاب الله، وأين الرجم في
كتاب الله؟ الرسول يقول: (سأقضي بينكما بكتاب الله )، وقضى على
المحصنة بالرجم، ونحن لا نجد الرجم في كتاب الله! وهل كتاب الله(3/358)
فيه ظاهر وباطن؟! لا، ولكن قضاء رسول الله من قضاء الله، وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]،
وقال العلماء: بالإجماع كانت آية الرجم ثابتة في كتاب الله، ونصها:
(والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله)، ثم نسخ
لفظها وبقي حكمها، وقد خطب عمر الناس يوم الجمعة وقال: (آية
الرجم ليست في المصحف، ولكننا قرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ورجمنا معه). فهي ثابتة في كتاب الله أو غير
ثابتة؟ غير ثابتة الآن، وما الذي حصل؟ حصل نسخ اللفظ، وبقي الحكم.
وهنا يتساءل علماء الشريعة ما دام الحكم باقٍ فلماذا ينسخ اللفظ؟
قالوا: تكريماً لهذه الأمة، حتى لا يسجل على شيوخها أنهم زناة،
فإذا بقيت تقرأ: (الشيخ والشيخة إذا زنيا)، ففيه أن من شيوخ هذه
الأمة زناة، لكن من دواعي الستر من المولى سبحانه على ضعاف هذه
الأمة نسخ اللفظ وبقي الحكم، وها هو صلى الله عليه وسلم يقرر هنا
أن الرجم في كتاب الله، فحكم بينهما بكتاب الله، وحكم على المرأة
بالرجم، إذاً: الرجم في كتاب الله.
صحة الوكالة في إقامة الحدود
تصح الوكالة والنيابة من ولي الأمر إلى إنسان لينفذ الحكم أو ليسمع
الإقرار ويقوم مقامه، ففي هذا الحديث لم يدع المرأة، والمتهم بريء
حتى تثبت إدانته، فلا نستدعيها وما عرفنا أنها زنت، ومجرد قول والد
العسيف: إن ابني زنى بامرأة هذا؛ لا يثبت زناها؛ لأنها قد تنكر،
فوكل النبي صلى الله عليه وسلم من يذهب إليها ويسألها.
إقامة الحد بالإقرار أو الشهود
بعض العلماء يقولون: يجب تكرار الإقرار لإقامة الحد، كما يشترط في
الشهادة أربعة، فقالوا: يجب أن يقر الزاني على نفسه في مجلس الحكم
أربع مرات بأنه زنى، لكن هل الرسول قال له: اسمع منها الاعتراف
أربع مرات وما قيمة التكرار إذا كان الإقرار صادراً من الجاني؟
وإنما احتجنا لأربعة شهود؛ لأنهم يثبتون الزنا على غيرهم. ولماذا(3/359)
يجب الأربعة الشهود في الزنا مع أن البكر يجلد، وتكفي شهادة رجلين
في قطع الرقبة في القصاص؟ إذا شهد شاهد واحد بأنه رأى بعينه الزنا
كالمرود في المكحلة، فهل الشاهد الواحد يقام به الحد؟ إذا شهد
اثنان، هل نقيم بشهادتهما حداً على طرفين؟ لا، الزنا يكون باشتراك،
ولا يتأتى من جانب واحد، وإذا ثبت الزنا بالشهادة، فسنقيم الحد على
الطرفين، فلما كانت إقامة الحد على طرفين احتجنا إلى أربعة شهود،
حتى نكون قد أقمنا الحد على كل واحد منهما بشاهدين، ولا يكون في
ذلك هضم ولا يكون في ذلك نقص. ويقول بعض الفقهاء: إنما تشدد الشرع
في إثبات الزنا لدرء المفاسد والسمعة وعدم إشاعة الفاحشة وكذا
وكذا، ولذا البعض يقول: ما أقيم حد زنا بشهادة قط إلى اليوم، فهو
متعذر. إذاً: لماذا الحد؟ قالوا: هو كالسوط المعلق، فكلما هم أحد
بالزنا رأى هذا السوط يسقط عليه أو رأى تلك الحجارة تقذفه، فامتنع،
ففيه إرهاب وتخويف، لكن هذا تشريع، والله سبحانه وتعالى أعلم
بالحكمة، بخلاف القوانين الوضعية فقد تكون خالية من الحكمة، ويهمنا
أن التشريع الإسلامي حكيم ثابت، وهو أقوى من رسوخ الجبال. وقوله:
(واغد -يا أُنيس - على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )،
مفهوم المخالفة إذا لم تعترف فلا ترجم، فأتى إليها فاعترفت فرجمها،
وهذه هي الوكالة في إقامة الحدود، وبالله تعالى التوفيق. والراجح
الاكتفاء في الإقرار بمرة واحدة، وليس بلازم أن يقر عدة مرات،
والذين اشترطوا تكرار الإقرار، استدلوا بأن ماعزاً أقر فأعرض
عنه، فجاءه من قبل وجهه فأقر فأعرض عنه، أربع مرات، قالوا: ليستخلص
منه أربعة إقرارات ليثبت الحد عليه، لكن لا والله ما كان رسول الله
ليحتال على ماعز حتى يستخلص منه أربعة إقرارات وهو لا يدري
ذلك، ولكن كان يعرض عنه لعله يولي ويدبر، كما جاء أنه قال لرجل جاء
بزان: (هلا سترته بردائك )، و الغامدية اعترفت وهي حامل،(3/360)
فقال: (اذهبي حتى تضعي، فرجعت ووضعته، ثم جاءت، فقال: اذهبي حتى
تفطميه، فرجعت ثم جاءت به مفطوماً، وفي يده كسرة يأكل منها، فقال:
اذهبي حتى تجدي من يكفله )، فهل كان يردها هذا الرد من أجل أن
تأتي بعد ذلك؟ لا، ولو أنها لم تأت ما طلبها، وبالله تعالى
التوفيق.
( كتاب البيوع - باب الإقرار )
عناصر الموضوع
1 حديث: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)
2 حديث: (أدِ الأمانة إلى من ائتمنك...)
3 حديث: (إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً)
كتاب البيوع - باب العارية
من سنن الله عز وجل في خلقه أنه جعلهم محتاجين إلى بعضهم البعض، فلا
يستطيع أحد أن يعيش بمفرده دون الآخرين مهما كان، ولهذا شرع الله عز
وجل للناس التعامل فيما بينهم البين، وبين لهم ما يحل من هذه المعاملات
وما يحرم، ومن هذه المعاملات التي أباحها الله عز وجل للناس لحاجتهم
إليها: العارية، بل إن الله عز وجل ندب إليها وتوعد من يمنع الماعون.
حديث: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [ عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) رواه أحمد والأربعة وصححه الحاكم ]. هذا الحديث ليس فيه نص في ذكر
العارية، ولكن فيه: (على اليد ما أخذت )، سبحان الله! هل اليد
هي الآخذة أو الإنسان هو الذي يأخذ بيده؟! الجواب: هو الإنسان ولكن
هذا من البلاغة؛ لأن اليد هي المباشرة، فأسند الفعل إليها، وأما
حقيقة فليست هي الآخذة ولكنها آلة الأخذ، وهنا (اليد) (الـ) هنا
للجنس أي: كل يد (عليها ما أخذت حتى تؤديه ). (تؤديه) يعني:
ترده من حيث أخذته، ومن أين أخذته؟ أخذته من شخص جاز التصرف فيه.
الأشياء التي تصح إعارتها
(ما أخذت ) (ما) عام يخصص بما يجوز أخذه وهو الذي تجوز إعارته،(3/361)
وقد وسع الفقهاء فيما تجوز إعارته حتى قالوا: العبد والجارية. لكن
ينص الحنابلة في بعض كتبهم: على أنه لا تصح إعارة الجارية في موطن
الفتنة، كما لو أعيرت لرجل تخدم عنده وليس عنده أحد فهو سيخلو بها،
وهذا لا يجوز، لكن إعارة الجارية لامرأة لا بأس بها.
وجوب رد العارية
(على اليد ما أخذت ) أخذت ممن؟ ومن أين؟ وهل أخذت سرقة أو أخذت
غصباً؟ المراد: أخذت من مالك العارية أو من ينوب عنه. (حتى) وحتى:
حرف غاية، (تؤديه) أي: ترده من حيث أخذته، واستدلوا على وجوب ردها
بقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]،
والحديث عام في كل ما أخذته يد من غيرها، إذا استأجرت عيناً، أو
استأجرت سيارة فعليك أن تؤديها: (على اليد ما أخذت ) وهي في
ضمانها حتى تؤديه، فإذا استعرت أرضاً مثلاً: فعليك هذه الأرض حتى
تؤديها، أو استعرت داراً تسكنها، أو دكاناً تستخدمه، أو دابة
تركبها، وكل ذلك مما تصح إعارته فعليك ضمانها، وعليك حفظها. (على
اليد ما أخذت ) هنا يقولون: في الحديث محذوف مقدر يرجع تقديره
إلى حكم العارية. أي: مؤداة أو مضمونة. فإن كانت مؤداة فعلى اليد
حفظها، وإن كانت مضمونة فعليها ضمانها. أي: على اليد ضمان ما أخذت،
وعلى اليد حفظ ما أخذت، وكلا التقديرين وارد. وعليه يأتي البحث في
العارية أمضمونة هي أم مؤداة؟ والفرق بين مضمونة ومؤداة: المضمونة
لو تلفت بصرف النظر عن صور الإتلاف فيما تلفت، وقلنا: عليه الضمان
ضمن القيمة أو المثلية، والقيمة إن كانت مقومة، والمثل إن كانت
مثلية، وأما مؤادة فالموجود منها يرده ويؤديه إلى صاحبها، والتالف
لا ضمان فيه. إذاً: العارية من حيث هي مندوب إليها في الحكم، وقد
ذم الله مانعيها في عموم قوله سبحانه: وَيَمْنَعُونَ
الْمَاعُونَ [الماعون:7]،
ثم يأتي الكلام عن أنواعها وعن أحكام المعير، والمستعير، والضمان.(3/362)
إذاً: (على اليد ما أخذت حتى ترده)، هل في هذا الحديث تنصيص على
ضمان أو عدم ضمان؟ يقول العلماء: ليس في الحديث تنصيص وإنما فيه
تقدير نحتاج إليه: (على اليد ما أخذت حتى ترده ) ماذا عليها؟
بعضهم يقول: على اليد حفظها وضمانها، وقيل: على اليد أداؤها، وعلى
كلا الوجهين جاءت الأقوال والمذاهب في الضمان وفي الأداء وعدم
الضمان، وكل له وجهة، وتحقيق المناط هنا في الأداء أو الضمان ما لم
يوجد تعدٍ أو إفراط، فإذا تلفت في إفراط أو تعدٍ فيكون بالإجماع
ضامن، وأما إذا تلفت في عين ما استعيرت له فهنا جاء الخلاف: فإذا
استعار دابة ليركبها فذهب وحمل عليها الحطب فتلفت، فهو بهذا قد
تعدى، وإذا استعارها ليركبها من المدينة إلى قباء فذهب وحملها خشب
من البيت إلى قباء، فهو بهذا قد استعملها في غير ما استعارها له.
فهو بحمل الخشب عليها قد تعدى، فإن تلفت تحت الخشب فهو ضامن
باتفاق، وكذلك إذا تلفت بتفريط، فإذا استعارها ثلاثة أو أربعة أيام
ليركبها، ولما وصل إلى البيت لم يعطها ماءً ولا علفاً فتلفت فهذا
فيه تفريط. وإذا استعرت سيارة ومشيت بها من غير زيت، ولا ماء، ولا
كشفت على كذا ولا على كذا، ومشيت بها في محلات وعرة فبنشرت
الكفرات، وعطلت المكينة، فأنت بهذا قد حصل منك تفريط في عدم النظر
فيما تحتاج إليه السيارة، وتعدٍ في مشيك بها في طريق غير معبد لا
تمشي فيه السيارات، ففي هذه الحالة لا خلاف في ضمانها. ولكن الخلاف
في نقطة واحدة والبحث محصوراً عليها وهي: فيما لو استعارها ليركبها
فركبها وفي أثناء الطريق قبل أن يصل إلى الغاية التي استعارها من
أجلها وسماها لصاحبها تلفت تحته، فهنا يأتي الخلاف، ولكن إن
استعارها للفريش فقال له: أعطني دابتك، أو أعطني سيارتك أتوصل
عليها للفريش -منطقة- وآتي، فلما وصل تعداها إلى المساجيد -منطقة-
والذي سافر على الجمال يعرف المساجيد، أو الطريق الأول قبل طريق(3/363)
الهجرة. استعارها لمكان معين ولكنه تجاوز المكان، فتلفت في حدود
المجاوزة، فهو ضامن، ضامن الأجرة؛ لأن صاحبها لم يأذن له في تلك
الزيادة، وضامن عينها إن تلفت في تلك الزيادة؛ لأنها تلفت بسبب
التعدي. إذاً: أهم مباحث العارية أولاً: الندب إليها وتذكر أم
المؤمنين عائشة رضي الله عنها وتقول: إنه كان عندها ثوب قطري
-نسبة إلى قطر- ثمنه خمسة دراهم وما كانت امرأة تتزين في المدينة
إلا استعارته. الآن يستأجرون من الكويفيرة أو يذهبون إلى المرأة
التي تعنى بتهيئة النسوة أو العرائس فعندها أنواع من ثياب العرائس،
وبعض الناس لا يقدر أن يشتري بدلة عروسة فيستأجر أو يستعير، وقد
كان نساء الأنصار رضي الله تعالى عنهن ربما استعارت المرأة منهن
ثوباً لتخرج إلى حاجتها إذا لم يكن عندها ثياب تخرج بها. والذي
يهمنا أن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تعير ثياباً كانت
عندها. إذاً: هذا من استباحة المنفعة بغير عوض؛ لأنه مأذون فيه من
صاحب العين، وعليه أن يرد العين بعد استيفاء منفعتها، وهذا من أهم
المرافق بين المسلمين وتعاطفهم وتعاونهم.
الخلاف في معنى الحديث
إذاً: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) استدل به من قال: بأن
العارية مضمونة، والآخرون ينازعون في الاستدلال بهذا الحديث
ويقولون: الحديث محتمل تقديرين: الأول: على اليد حفظ العارية.
والثاني: على اليد ضمان العارية. فعلى تقدير الحفظ فهو ليس بضامن،
وعلى تقدير الضمان فهو ضامن، ولا نزاع فيما لو تلفت بتعدٍ أو
تفريط.
من فوائد حديث: (على اليد ما أخذت...)
ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا كان للعارية مئونة رد فهي على
المستعير، فإذا استعرت سيارة من المدينة لتصل بها إلى آبار علي
فوصلت، فليس من حقك أن ترجع إلى صاحبها وتقول له: سيارتك في آبار
علي اذهب فخذها؛ لأن على اليد ما أخذت حتى تؤديها. إذاً: عودتها من
آبار علي إلى صاحبها بالمدينة على المستعير، ولو تلفت هناك أو(3/364)
تعطلت فالمسئول عن إعادتها هو المستعير، ثم ننظر هل هو ضامن للعطل
فعليه أن يصلحه أو ليس بضامن، وهكذا إذا استعار شيئاً آخر فإن عليه
أن يرده من حيث أخذه وأجرة الرد على المستعير.
حديث: (أدِ الأمانة إلى من ائتمنك...)
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك
ولا تخن من خانك ) رواه الترمذي وأبو داود وحسنه، وصححه
الحاكم ، واستنكره أبو حاتم الرازي ، وأخرجه جماعة من
الحفاظ. وهو شامل للعارية ]. الحديث الثاني في هذا الباب أيضاً أعم
من العارية، (أد الأمانة إلى من أئتمنك ) انظر: (من ائتمنك):
يعني: لا تخلف ظنه فيك، ائتمنك واعتبرك أميناً، فأمَّنك أمانة،
والأمانة والأمن مأخوذان من لفظ واحد فكأنه آمن على سلعته عندك،
وهي آمنة عندك من الضياع، وأنت أمين عليها، فيجب عليك أن تحفظها.
(أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ): إذا خان: فهل
خيانته إياك عيب أو مدح؟ وهل فيها إثم أو أجر؟ الجواب: فيها إثم،
فإذا كنت أنت تستنكر عليه أنه خانك فكيف ترتكب ما تنكره عليه؟! قال
تبارك وتعالى: إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]،
فعليك أن تؤدي الأمانة إلى صاحبها، والأمانة: لفظ عام شامل سواءً
كان في الحقيقة أو المجاز. أبو طلحة لما مرض ولده وكان شغوفاً
به وكلما دخل سأل عنه زوجه أم سليم ، وفي يوم من الأيام توفي
الطفل وأبو طلحة غير موجود، فقالت لأهله: لا يكلمه أحد قبلي،
فلما جاء سأل عن الولد فقالت: إنه في غاية الراحة -ما كذبت ولكن
ورّت- فهيأت له عشاءه ثم تهيأت له حتى قضى حاجته. وانظر إلى القدرة
والتحمل عندها، فولدها مات ولم تنزل عليه دمعة عين، ولم يحصل منها
ولولة ولا صياح ولا بكاء، واستقبلت زوجها بهذا الاستقبال، حتى في
نفسها، فتجهيز الطعام أمره سهل، ولكن أن تتهيأ وتمكنه من نفسها،(3/365)
فأي نفس تقبل هذا الآن؟ ولكن هذا منها كان وفاءً بحق الزوج، وأين
هذا الصنف يا إخوان؟! وأين هذه النوعية من النسوة؟ إنها نسوة الصدر
الأول من السلف الصالح، فهذه هي الزوجة التي تعين زوجها على كل
خير، وتكون فعلاً سكناً له. لما قضى حاجته قالت: يا أبا طلحة !
أرأيت لو كان لجيرانك أمانة عندك فطلبوها أتؤديها إليهم أم تمسكها
عندك؟ قال: بل أؤديها.قالت: إذاً: إن الله قد أخذ ولدك، فقم فواره،
فغضب وقال: سكتِ عليَّ حتى أكلت، ودنوت مني حتى اقترفت، ثم تقولين:
وار ولدك، ثم غدا في الصباح يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (فتبسم وقال: أعرستما البارحة؟ قال: نعم، قال: بارك الله
لكما في ليلتكما )، فأنجبت الولد المبارك وكان منه الخير
الكثير. إذاً: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ) أياً كان نوعها على
سبيل المجاز أو على سبيل الحقيقة، والمراد هنا: الأمانة الحقيقية
العينية، ائتمنك على كتاب، ائتمنك على أوراق، أئتمنك على نقد، على
آلة، على أي شيء، فأي عين ائتمنك عليها فأدها إليه.
حكم خيانة الخائن
قال: (ولا تخن من خانك ) وفي هذه المسألة يقولون: لو أن الذي
خانك وأخذ من مالك ولم يرده ولم تقدر على أخذه منه جهراً فظفرت له
بمال سراً أو خفية أو دون علم منه، فهل تأخذ حقك مما ظفرت به من
ماله أو تؤديه إليه كاملاً وتطالب بمالك الذي أخذه من قبل؟ للعلماء
في هذه المسألة مباحث طويلة، وقد أطال ابن عبد البر في هذه
المسألة وكذلك ابن رجب عند حديث : (لا ضرر ولا ضرار )
لمناسبة عندهم فيه، وهذه المسألة تسمى عند المالكية في الفقه
بالاعتصار: من العصر، أي أنه يعتصر حقه مما ظفر به من مال خصمه،
ويقول ابن عبد البر : إنه إن أخذ حقه، أي: مقابل حقه لم تكن
خيانة؛ لأن الخيانة هي: أخذ الشيء ظلماً، وهذا حينما أخذ هل اعتدى
على صاحب المال وظلمه أو استرد حقه؟ استرد حقه. وابن حزم يقول:(3/366)
يتعين عليه أن يأخذ؛ لأن في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قيل: يا رسول الله! أنصره إذا
كان مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: تردعه عن الظلم )
فأنت حينما تأخذ حقك من ماله فقد ردعته عن الظلم ورفعت المظلمة
التي كانت عنده لغيره، وتغيير المنكر واجب. والجمهور يختلفون، وابن
عبد البر يجيب عن هذا الحديث: (ولا تخن من خانك )، ويستدل
بجواز أخذ الحق بأدلة أخرى مع تفصيل إن كان المال الذي ظفرت به هو
من عين مالك، فإذا كان قد اغتصب عليك صحوناً فضفرت بعشرة صحون له،
وهو أخذ منك خمسة فخذ خمسة ورد له الخمسة، وكذلك إن كان المال الذي
أخذه عليك دراهم وظفرت بدراهم له، أو دنانير فإن كان من غير عين ما
خانك به فهل تأخذ مقدارها أم لا؟ إذا خانك في لباس، أو في ثياب،
وظفرت له بمال فضة أو ذهباً وهذا المال من غير جنس ما أخذ منك فهل
تأخذ قيمة ما خانك فيه؟ على هذا الخلاف الذي يذكرونه عند هذا
الحديث: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) ويقول ابن
عبد البر : لا تخن من خانك. أي: بعد أن أدى إليك ما كان قد
خانك فيه، فإذا كان قد خانك في مال ثم أداه إليك ثم ظفرت له بمال
بعد ذلك فلا تأخذ من ماله وتقول: لأنه كان قد أخذ مني، وكان قد
خانني، فالمعاملة قد ارتفعت ولم يعد الآن خائناً لك؛ لأنك قد
استوفيت حقك منه. فقوله: (ولا تخن من خانك )، أي: بعد وفائه
حقك، أما قبل وفاء الحق إذا أخذت حقك من ماله فلست بخائن، واستدلوا
على ذلك بحديث هند مع أبي سفيان لما قالت: (يا رسول الله!
إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني ويكفي عيالي أفآخذ
من ماله ما يكفيني؟ قال: خذي من ماله ما يكفيكِ ويكفي عيالكِ
بالمعروف )، فهو أمسك عنها وقصر عنها في النفقة وهذا يُعد
خيانة، وهي ظفرت بماله تحت يدها فتأخذ من ماله ما يسد حاجتها، فهل
هي خائنة؟ قالوا: لا؛ لأن الخيانة تنتفي إذا كانت بالمعادلة، كما(3/367)
جاء في عموم قوله سبحانه: وَجَزَاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]،
وقوله: وَإِنْ
عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]،
والمجازي على السيئة ليس مسيئاً والمعاقب على قدر ما عوقب به ليس
معاقباً وإنما مسترد للحق. إذاً: (أد الأمانة إلى من ائتمنك )،
هذا صفة عامة. و(ولا تخن من خانك )، أي: بعد وفاء الأمانة، وأما
من أخذ حقه من الخائن فهو ليس بخائن. (لا تخن) أنا ما خنت ولكن
أخذت حقي.
حديث: (إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً)
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال:
(قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتتك رسلي فأعطهم
ثلاثين درعاً، قلت: يا رسول الله! أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟
قال: بل عارية مؤداة ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان . وعن صفوان بن أمية رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعاً يوم حنين فقال: (أغصب يا
محمد؟! قال: بل عارية مضمونة ) رواه أبو داود وأحمد والنسائي وصححه الحاكم : وأخرج له شاهداً ضعيفاً عن ابن
عباس رضي الله عنهما ]. قوله: عن يعلى بن أمية رضي الله
عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتتك رسلي
فأعطهم ثلاثين درعاً قلت: يا رسول الله! أعارية مضمونة أو عارية
مؤداة؟ قال: بل عارية مؤداة ). يسوق لنا ابن حجر رحمه الله
في نهاية باب العارية هذين الحديثين: حديث يعلى وحديث صفوان ، فيعلى يقول: (قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتتك
رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً )، مبدئياً في هذا الجزء من الحديث ما
يدل على أن للشخص أن يرسل رسولاً عنه في قضاء حاجته، ويكون بمثابة
الوكيل في القبض، فإذا سلّم المرسل إليه الرسالة إلى هذا الرسول
فكأنه سلمها إلى من أرسله. (إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً )
الدرع هو: لباس من زرد الحديد، حلق صغيرة، فراغ الحلقة أقل من(3/368)
الـ(سم) ينظم بعضها في بعض حتى تكون كالثياب على صورة القميص،
يلبسها الفارس ليتدرع بها من وقع السهام أو الرماح أو السيف،
وتختلف جودةً ورداءةً وطولاً وقصراً إلى غير ذلك، وهي من أهم آلات
الحرب. وفي هذا الحديث: الاستعانة في أداة الحرب بالعارية مع قوله
سبحانه: وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]،
ما يدل على أن استعداد المسلمين يكون بصنعهم وبملكهم وبالاستعارة
من غيرهم، ومثل الإعارة الإجارة، ومثل الإجارة الشراء ولو من غير
المسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إلى يعلى وقال له:
(أعط رسلي ثلاثين درعاً ). وهنا يستوضح يعلى : (أعارية
مؤداة أم عارية مضمونة؟ )، المؤداة هي: التي تبقى بعد استعمالها
على ما كانت عليه فيؤديها للمعير، والمضمونة هي: التي إذا تلفت
-وتحت كلمة تلفت ضع خطين- تلفت فيما استعيرت له أو تلفت بتعدٍ أو
تقصير يضمنها المستعير، فقال له صلى الله عليه وسلم: (بل عارية
مؤداة ). وقوله: (مؤادة )، الفقهاء يتفقون ويقولون: إذا كانت
العارية مؤداة فالتالف لا ضمان فيه، بخلاف العارية المضمونة، فما
بقي على طبيعته رده بعينه وما تلف فيما استعير له أو بتعدٍ أو
بتفريط فهو ضامن، وقوله: (مضمونة) يعني: يعوض عن التالف إن كان
مثلياً فبمثله، وهذه الأدرع إذا تلفت فعليه أدرع مثلها من نوعها
ومن مقاسها، وإن كان في الوقت الحاضر فهناك أواني معروفة الماركة،
أو المساحة، أو المقياس، فعليه مثلها. وهذا الحديث نص في أن
العارية مؤداة. ومعنى مؤداة: أن العين الباقية على ما هي عليه
أولاً ترد، والتالفة لا ترد، ولا ضمان فيها، وفي حديث صفوان :
(بل عارية مضمونة ) وهذا من تعارض الأحاديث، وهي مهمة هذا
الكتاب، بلوغ المرام لأدلة الأحكام. فالفقهاء مختلفون في العارية
هل هي مؤداة أو مضمونة؟ فمن قال: مؤداة استدل بحديث يعلى . ومن
قال: العارية مضمونة استدل بحديث صفوان . إذاًَ: إذا وقع(3/369)
الخلاف في الحديث وأخذ كل إمام برواية أو بحديث مغاير للآخر وكلا
الحديثين صحيحان فهل يمكن أن يعيب من قال بأحد القولين على من قال
بالقول الآخر؟ مثلما يقول الشناقطة: (ما بال بائك تجر وبائي لا
تجر) فلا تعب عليَّ وأنا آخذ بحديث صحيح، كما أني لم أعب عليك
حينما أخذت بحديث صحيح، فكلانا مستدل بدليل شرعي، ولكن هناك خطوة
أرقى وهي: النظر في مختلف الحديث إلى ما هو الراجح وهل المسألة
اتفاقية؟ وهل كل من الطرفين متساوٍ مع الآخر؟ وهناك أشياء قال فيها
ابن القيم رحمه الله: لا اعتراض على أحد إذا أخذ بأحد الأقوال
فيها لصحة أسانيدها، وهي: ألفاظ الأذان، والصوم في السفر أو الفطر،
والتيمم ضربتان أو ضربة واحدة، فالأذان هل يربع ويرجع فيه أم لا؟
وهل الإقامة مثل الأذان أم لا؟ ومن أخذ بتربيع التكبير أو بتثنيته
وجعل الإقامة كالأذان أو أفردها فالكل صحيح، ومثل هذا أنواع
المناسك في الحج: فمن أخذ بأحدها: أخذ بالإفراد، أو أخذ بالتمتع،
أو أخذ بالقران فنسكه صحيح؛ لأن كل نسك فيه نصوص صحيحة، ولا ينبغي
الخلاف فيها ولا الاعتراض على من خالف غيره؛ لأنه إن ذهب إلى واحد
منها فبدليل صحيح والآخر إن ذهب إلى غيره فبدليل صحيح، فلا خلاف،
وهذه المسألة قد أطالوا فيها القول. ونأخذ الكلام على حديث صفوان أولاً: عن موضوعه، ثم نرجع إلى القضية من صلبها لا من خارج عنها إن
شاء الله. وصفوان يقول هذا بعد فتح مكة وكان صفوان لا زال
على دين قومه، وكان هذا في غزوة حنين في عام الفتح، عند أن بلغ
النبي صلى الله عليه وسلم أن هوازن قد جمعت له، فبادرها قبل أن
تبادره؛ لأنه كان يعلم قوة هوازن، وكان قد خرج معه من المدينة عشرة
آلاف مقاتل وتهيأ معه من مكة ألفان فصاروا اثني عشر ألفاً والعشرة
الذين جاءوا من المدينة جاءوا بسلاحهم وبكامل عدتهم، وأما الذين
جاءوا معه من مكة فالبعض منهم ينقصه شيء؛ لأن البعض خرج لإسلامه،(3/370)
والبعض خرج حمية لقومه، والبعض خرج للنظر وللغنيمة. فاحتاج النبي
صلى الله عليه وسلم دروعاً لهذا العدد الجديد، وهو يعلم أن صفوان عنده دروع عديدة، فأتاه وسأله، وصفوان ما زال على دين قومه لم
يسلم حتى قيل: إنه هرب ثم رجع، فطلب منه مائتي درع، وقيل ثمانين،
وقيل: مائة، وقال له: (وتوصلها إلينا إلى حنين )، أي: أعرنا
إياها وعليك حملها تبرعاً من عندك، وهنا سأل كما سأل يعلى :
هذه العارية على أي أساس على أنها مضمونة أو على أنها مؤداة؟ فكان
جواب رسول الله لصفوان : (بل مضمونة ).
حكم الاستعانة بالكافر
وهنا قبل أن نأتي إلى الدروع نأتي إلى ما هو أهم من ذلك، صفوان لا زال على دين قومه مشركاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقاتل
مشركين، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويستعين بصفوان ويستعير منه أدرعاً وصفوان ما زال مشركاً، فهل في هذه
الاستعارة استعانة أو لا؟ الجواب: نعم، فيها استعانة، وهي استعانة
بمشرك. إذاً: نقف هنا ونقول بكل وضوح إلى أنه لا مانع للمسلم إن
احتاج أن يستعين بغير المسلم على عدو دينه سواءً كان العدو مشركاً
أو كتابياً أو غير ذلك، وهذه المسألة كنا قد سمعنا فيها سابقاً
كلاماً كثيراً وما أحببنا الخوض فيها ولا الوقوف عليها أو تناولها.
واستدل بعض الناس بحديث: (ارجع فإنا لا نستعين بمشرك ) وكتبت
الصحف في ذلك وتكلم الناس واستدلوا بما ذكرنا بحديث الرجل الذي
أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروحاء وقال: (خرجت أقاتل معك
-حمية لقومه- وأرجو الغنيمة، فقال له: أسلمت؟ قال: لا، قال: ارجع
لا نستعين بمشرك )، ثم رجع إليه وفي المرة الثالثة (قال: نعم،
أسلمت، قال: فامض إذاً ) فهناك يقول: (لا نستعين بمشرك )
وهنا يستعير من مشرك، والناس لهم في هذا نظران: قالوا: إن غزوة بدر
كانت في السنة الثانية فقال: (لا نستعين بمشرك ) من أجل ترسيخ
العقيدة، ووضع خط الفصل بين الإيمان والشرك، وعزل المؤمنين عن(3/371)
المشركين واستقلالهم بذاتهم وتميزهم، وأما في حنين فقد تميز
الإسلام بذاته، وأصبحت له خصوصيته ومكانته ودولته فلا يضره بعد ذلك
مخالطة المشركين. وبعضهم يقول: ما كان في بدر فهو في السنة الثانية
وما كان في حنين فهو في السنة الثامنة والمتأخر ناسخ للمتقدم،
ووالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه بحث هذه
المسألة في أضواء البيان وذكر فيها أقولاً عديدة، ورجح جواز
الاستعانة بغير المسلم ما لم يكن في ذلك حيف أو مضرة على الإسلام
أو المسلمين. وفي قصة الهجرة التي هي من أخطر أحداث الإسلام كان
الصديق رضي الله تعالى عنه حينما كان مع رسول الله ذاهبين
ليلاً من البيت إلى الغار فكان يمشي تارةً خلفه وتارةً أمامه
وتارةً عن يمينه وتارةً عن يساره فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(ما بالك يا أبا بكر ؟! قال: يا رسول الله! أتذكر الرصد فأكون
أمامك، وأتذكر الطلب فأكون وراءك، قال: أوددت لو كان شيء أن يكون
فيك أنت؟ قال: نعم، يا رسول الله! إن أهلك أهلك وحدي أما أنت فمعك
الرسالة )، فهذه مخاطرة في الخروج في الهجرة في كونه يشق مواقع
ومنازل القبائل المعادية ويخاطر أمام فداء بمائة ناقة لمن أتى به
حياً أو ميتاً، ولكن عناية الله هي التي كانت ترعاه. فهنا حدث
الهجرة من أخطر أحداث الإسلام ولهذا لما فكر عمر بنظره الثاقب
ونوره الإيماني بوضع التاريخ اعتبر الهجرة هي بداية التاريخ؛ لأن
بها انتقل الإسلام من المطاردة إلى المهاجمة، ومع هذه الخطر كان
دليل الركب في الهجرة عبد الله بن أريقط . وعبد الله بن أريقط كان على دين قومه ومع كونه على دين قومه كانوا يأتمنونه على
أرواحهم ورواحلهم وزادهم وأسرارهم، وتواعدوا معه عند الغار بعد
ثلاث؛ لأن عنده المروءة، والرجولة، والصدق، والوفاء، وهذه جعلته
يتعالى فوق الماديات، فضحى بنفسه، وما ذهب يقول للمشركين: تعالوا
أنا أدلكم عليهما وأعطوني المائة حتى تكون غنيمة لي طول عمري؛ ولكن(3/372)
هذه المائة لا قيمة لها في الغدر، ففي هذه القصة استعانة بمشرك في
أخطر وقائع الإسلام. نأتي أيضاً إلى تعامل الرسول في المدينة مع
اليهود فقد كان يعاملهم ويبيع ويشري منهم، وفي نهاية الأمر كان
درعه مرهوناً عندي يهودي في ثلاثين صاعاً من طعام، فبالنظر إلى
قضية صفوان نهدئ ما في ثائرة نفوس بعض الإخوة في قضية (لا
نستعين بمشرك) ويمكن الاستدلال أيضاً من نفس الواقعة، فالرسول صلى
الله عليه وسلم يوم خرج إلى بدر هل خرج لقتال جيش أو لأخذ عير؟
الجواب: خرج لأخذ عير، يعني: أنه في غنىً عن أن يستعين بمشرك، ولا
توجد حاجة داعية لهذه الاستعانة، لكن إذا كانت الحاجة داعية
فسيتغير الموقف ويتغير الحكم، فلو قلنا: إنه رده في بادئ الأمر
ليتميز الإسلام عن غيره بخط واضح عريض فلا بأس بهذا القول، وإن
قلنا إنه رده كما يقول بعض العلماء: لعلم رسول الله بما أعلمه الله
أنه إذا رده يسلم فيكون رده لا لكونه مشركاً ولكن بغية أن يسلم،
ولكن هذا الشيء نحن لا ندخل فيه؛ لأنه خاص بالرسول صلى الله عليه
وسلم، والأعمال التشريعية هي للأمة وهو ما عنده علم بأنه سيسلم أو
لا يسلم. لكن إذا قلنا: بأن الواقعة التي توجه إليها صلى الله عليه
وسلم في نظره وفي تقديره وفي حكم القوة والعسكرية كما يقال، تدل
على أنه ليس في حاجة إلى عدد كثير؛ لأنه عند خروجه من المدينة قال:
(من كان ظهره حاضراً فليركب ) واستمهلوه أن يأتوا برواحلهم من
العوالي، فقال: ما أنا بمنتظر، فإذا كان ما هو بمنتظر للمسلمين فهل
يبقى في حاجة إلى أن يأخذ مشركاً؟! وأما هنا فالموقف مغاير؛ لأن
هوازن ذات شوكة، ونحن نعلم ماذا حدث حينما بادروهم بالنبل عند
نزولهم الوادي فرجعوا حتى نادى رسول الله العباس وأمره أن
ينادي أصحاب الشجرة -أهل بيعة الرضوان- وأهل العقبة فناداهم فرجعوا
والتفوا حوله وكان النصر، فلم تغن عنهم كثرتهم في ذلك اليوم. إذاً:(3/373)
هو كان في حاجة إلى عدد أكثر، وفي حاجة إلى عتاد يوازي أو يغطي
حاجة العدد الجديد الذي خرج معه من مكة. إذاً: نحن في الوقت الحاضر
قد تطرأ على المسلمين أحداث، ويكون عدوهم أكثر منهم عتاداً وعدة
ورجالاً، ونجد من غير المسلمين من يمد المسلمين بالإعارة أو
بالإجارة أو بالهبة أو بأي صفة كانت، فهل نتوقف عن هذه الإعارة أو
الإجارة ونترك العدو يتمكن منا أو نقبل عارية المشرك أو حتى ما
وراء الآلة؟ الجواب: أننا نقبل، وقد ذكرت لكم كلمة الملك فيصل رحمه الله في هيئة الأمم، عند أن استحكم المعسكر الشيوعي وبدأت
المملكة في مبدأ تنويع مصادر السلاح؛ لأن وحدة مصدر السلاح خطر على
الأمة؛ لأن الأمة تكون تحت رحمة مصدر سلاح واحد، وأنتم تعلمون أن
في حرب العبور بعض الدول سحبت طيرانها من المعركة، فلو كان
الاعتماد على جهة واحدة لوقفنا، وروسيا بالذات امتنعت أن تقدم قطع
الغيار لطيرانها الموجود في مصر إلا بدفع القيمة نقداً وبالعملة
الصعبة، ومصر في ذلك الوقت ليس عندها عملة صعبة ولا سهلة؛ لأنها في
حرب، خرجت من ثلاثة حروب، فكيف يكون الحال؟! واعتقد أن هذا ليس
بسر؛ لأنهم يقولون: أخبار الحروب بعد خمس عشر سنة لم تعد سراً،
فالملك فيصل سجل أعظم موقف في الحروب وفي التاريخ، فلما أخبره
السادات بالموقف استشار الملك فيصل مستشاريه الماليين
فقالوا: ما عندك مال، فقال: بل عندي، فقالوا: نحن المختصين بالمال
نعرف أنه ليس عندك، وأنت تقول: عندي، فمن أين؟ قال: من رصيد الريال
في البنك الدولي، فالريال كان ضمانه كاد أن يصل إلى مائتين في
المائة ويصير من العملة الصعبة، فأخذ من رصيده شيكاً مفتوحاً ودفع
للسادات ما دفعه لروسيا قيمة قطع الغيار واستمرت الحرب. وهنا
أخذ الملك فيصل في ذاك الوقت سلاحاً من روسيا شراءً، فقالوا
له: أنتم دولة إسلامية وتحاربون الشيوعيين ثم تشترون منهم سلاحاً!(3/374)
فقال: أنتم امتنعتم أن تبيعوا لنا ونحن اشترينا منهم حديداً مصنعاً
وليس مبادئاً شيوعية، أي: أن الذي اشتريناه هو حديد مصنع ليس فيه
مبادئ شيوعية، والمدفع الروسي والمدفع الأمريكي كلاهما حديد مصنع
وليس بينهما فرق. يهمنا أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم واستعارته
الدروع من صفوان وهو على دين قومه مبدأ من مبادئ الحروب مع
العدو إذا احتاجت الأمة من غيرها عتاداً عارية أو شراءً أو
استئجاراً.
لماذا استعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان عارية مضمونة ومن يعلى
عارية مؤداة؟
وهنا ننظر في جوبه صلى الله عليه وسلم وموقفه من إعارة دروع صفوان وإعارة دروع يعلى له، فهذه دروع وهذه دروع، وهذه إعارة وهذه
إعارة، لكن واحداً منهم يقول له: (مؤداة) والثاني يقول له:
(مضمونة). فهل نستطيع أن نتوسع ونقول -ما وجدت من نبه على هذه- إن
الذي قال له: (مؤداة) هو مسلم صحابي جليل ومن واجبه أن يساهم في
القتال والجهاد بنفسه وماله، فإذا كانت عنده دروع واحتاجها
المسلمون فالواجب عليه أن يقدمها ؟ وهنا يقول: هي لكم يا رسول
الله! لأنه مسلم وهو مطالب بالجهاد، وقد توفرت عنده آلة قتال، وطلب
منه الرسول إعارتها، فلا أقل من أن يعيرها ولكن بأخف الأمرين:
(مؤداة)؛ لأنها إذا تلف منها شيء فالرسول هو الذي استعارها، وهو
استعار هذه الدروع للقتال، وهذا القتال هو في سبيل الله، فكيف
يغرمهم ما أتلفوه في سبيل الله وهو مسلم، بل الواجب عليه أن يقاتل
ويساهم. إذاً: هذا واجب، ويشهد الله أن نفسي مستريحة له، لكن صفوان لو قال: لا أعيرك يا محمد! فله الحق؛ لأن هذا ماله، وهو على غير
دين الإسلام، وسيقاتل بها النبي صلى الله عليه وسلم بني دينه، فلو
قال: لن أعطيكم، فما بقي إلا الغصب، وما بقي إلا أن يقال: محمد
يغتصب، ومحمد يسلب أموال الناس وغيرها من ألفاظ التشنيع، لكن يقابل
موافقته وهو مشرك أن يعير المسلمين أدرعه ليستعينوا بها على قتال(3/375)
أهل دينه فهذا منه كافٍ جداً، وتلفها في الحرب ليس على صفوان منه شيء، سواء انتصروا أم انهزموا. إذاً: من حق صفوان أن تكون
عاريته مضمونة. إذاً: على هذا لا خلاف ولا نزاع ولا ينبغي أن ينصب
الخلاف في العارية هل هي مضمونة أو مؤداة، فلكل عارية ظروفها. ولذا
فإن من الفقهاء من توسط وقال: مضمونة إن اشترط ضمانها، وبعضهم
يقول: ليست مضمونة ولو اشترط الضمان، وعبارة ابن قدامة في
المغني: والعارية مضمونة وإن شُرط عدم ضمانها. أي: هي بذاتها
مضمونة. ثم نرجع إلى صلب الموضوع، ما الذي جعل كلاً من الأول
والثاني يتساءل هل هي مضمونة أو مؤداة؟ ألا يوحي هذا التساؤل إلى
أن تعاملهم في العارية كان بحسب الشرط؟ الجواب: يوحي إلى أنه كان
فيها قبل ذلك أحكام صادرة، وإلا لما سألوا، فلو كانت مؤداة قولاً
واحداً والعرف عندهم فيها الأداء فليس هناك حاجة إلى أن يسألوا،
وإن كانت مضمونة والعرف عندهم فيها الضمان فليس هناك حاجة إلى أن
يسألوا؛ لأن العرف محكم، لكن أظن -والله تعالى أعلم- أنهم فيما
بينهم كانت العارية عندهم على الأمرين، أي: بحسب الشرط، فإن اشترط
ضمانها فهي مضمونة وإن لم يشترط ضمانها فهي مؤداة. إذاًَ: نستطيع
أن نجمل القول في العارية حتى ندخل في الباب الذي بعد هذا وهو باب
الغصب؛ لأن مباحثه واسعة، وحتى لا يفوت علينا مثل الذي فات في
موضوع العارية نقول: العارية من حيث الضمان وعدم الضمان مندوب
إليها، فإذا استعرت شيئاً من حق أخيك المسلم فعليك أن ترفق به وأن
ترده، والعارية هي كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها من حق
المال )، فالإبل يعار فحلها ودلوها ومنيحتها وحلبها على الماء
إلى غير ذلك، ومدلول يمنعون الماعون كما فسره ابن عباس القدر
والقدوم والميزان.. إلى آخره. فإذا كان مندوباً إليها فلا ينبغي أن
تمنع أخاك شيئاً ينتفع به ولا مضرة عليك بذلك، ولكونها مندوبة يجب(3/376)
ردها في أي وقت طلبها صاحبها؛ لأنها في يد المستعير أمانة، ولكن
يقولون: إلا إذا كان عند طلبه إياها يترتب على ردها مضرة للمستعير،
ويمثلون على ذلك بلوح خشب فيما لو استعاره ووضعه في السفينة فجاء
صاحبه في نصف البحر وقال: أعطني اللوح حقي، فلو أعطاه فسيغرق وينزل
إلى قاع البحر، فلا يمكن أن يرد اللوح في هذا الوقت، بل على صاحبه
أن يصبر حتى يخرج المستعير إلى البر ويخلع له لوحه ويعطيه إياه،
وكذلك لو استعار سيارة من إنسان من المدينة النبوية إلى جدة وفي
نصف الطريق قال له: أعطني سيارتي، فقال المستعير: وأنا أين أذهب؛
لأنه مقطوع ما عنده سيارة أخرى. إذاً: عليه أن يردها، حين طلبها
المعير ما لم يكن في ردها مضرة على المستعير.
حكم إعارة العارية وتأجيرها
وحكم رد العارية لصاحبها، فالكلام كله ينحصر في جزئية وهي: فيما
إذا تلفت العين المعارة، وإذا لم تتلف، فإذا أخذها وانتفع بها ثم
جاء بها وقال: جزاك الله خيراً، بارك الله لك في عين مالك، فهنا
انتهت المسألة، لكن إذا تلفت في يد المستعير فهنا الخلاف، وإذا
كانت في يد المستعير فليس له أن يعيرها، إلا ما جاء عن الإمام أبي
حنيفة رحمه الله أنه قال: له حق في أن يعيرها، والجمهور
يقولون: ليس له حق في ذلك؛ لأن المعير ائتمن المستعير بذاته وأما
غيره فلم يأذن له أن يعطيه، واتفقوا على أنه لا يؤجرها، فلو قال:
أعرني إياها يومين، فقضى حاجته في يوم وأجرها في اليوم الثاني، فلا
يحق له ذلك، وإن تلفت في يد المستعير الثاني أو المستأجر فصاحبها
بالخيار إن شاء ضمن المستعير الثاني؛ لأنه لم يأذن له، وإن شاء ضمن
المستأجر، وإذا ضمن المستأجر الذي كان قد استأجرها على أنها
للمستعير ودفع له الأجرة فإنه يرجع على من أجرها عليه؛ لأنه أجر ما
لا يملك. فإن تلفت تحت يده نظرنا: هل تلفت في استعمالها فيما
استعيرت له أو خارجاً عنه، وقد نبهنا على قول الفقهاء: إن تلفت(3/377)
فيما استعيرت له بغير تعدٍ ولا تفريط فهنا محل البحث: هل يضمن أو
لا يضمن، فإن كان استعارها لشيء فتعدى حدود الشيء المستعارة له
إليه أو فرط في العين حين استعمالها فتعديه وتفريطه يقتضي الضمان،
ولهذا كانت القاعدة في قانون الجنايات أن المسئولية تترتب على
التعدي أو التفريط، هذا مناط المسئولية في الجنايات. فكذلك هنا،
إذا استعارها إلى مسافة فتجاوزها، أو استعارها إلى نوع من العمل
فتعدى إلى عمل آخر أو إلى نفس العمل ولكن تجاوز الحد. مثلاً:
استعارها لينقل عليها أسمنت وحمولتها طن فذهب وحمل عليها طنين،
فهذه استعيرت له ولكنه ليس في حدود طاقتها، فهو بهذا قد تجاوز
وتعدى. وكذلك إذا تلف من العارية جزء يؤثر على المنفعة بباقيها
فالحكم كما هو في تلف عين العارية فما استعملت له أو فيما استعيرت
له بتعدٍ أو بتفريط فيكون الضمان في الجزء المفقود. والله تعالى
أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
( كتاب البيوع - باب الغصب [1] )
عناصر الموضوع
1 حكم من زرع في أرض بدون إذن مالكها
2 قضاء رسول الله في الغارس بدون إذن
كتاب البيوع - باب الغصب [2]
لقد حرم الإسلام الغصب وحذر منه، ورتب عليه الوعيد الشديد، وضمن لمن
غصبت أرضه حقوقه، وجعل بين الغاصب والمغصوب حقه سبلاً وطرقاً للصلح،
فحكم على من غرس بقلع غرسه، وعلى من زرع بأخذ نفقته.
حكم من زرع في أرض بدون إذن مالكها
قال المصنف رحمه الله: [ وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم
فليس له من الزرع شيء، وله نفقته ) رواه أحمد والأربعة إلا
النسائي ، وحسنه الترمذي ، ويقال: إن البخاري ضعفه ].
بالتأمل فيما ساقه المؤلف رحمه الله في باب الغصب، وما تقدم في
اغتصاب شبر أو شيء من الأرض، والتحذير والوعيد الشديد من الظلم(3/378)
والاغتصاب، وجاء بحديث القصعة، وبيان أن الغصب معه قيمة المتلفات،
ولهذا يقول ابن رشد : البحث في الغصب من عدة جهات، منها: من
جهة أن المغصوب إذا وجد بعينه رد إلى صاحبه بتمامه بلا خلاف، أما
الطوارئ فبخلاف ذلك، والطوارئ: هي المتغيرات التي تحدث في المغصوب،
بأن غصب غزلاً فنسجه، أو شاة فذبحها... إلى غير ذلك مما يطرأ على
المغصوب من زيادة أو نقص. ثم جاء المؤلف رحمه الله بهذين الحديثين،
ويمكن أن يقال: إن أحد الحديثين يغني عن الآخر، كحديث: (من غرس
النخل حكم بالأرض لصاحبها، ولصاحب النخل أن يرفع نخله)، ثم جاءت
القضية العامة: (ليس لعرق ظالم حق )، لكنه جاء بالحديث الذي
قبله فيما يتعلق بالزرع، فكان أحد الحديثين يتعلق بالزرع، والآخر
بالغرس. وفرق بين الزرع والغرس: أن الزرع -كما يقولون- زراعة
موسمية مؤقتة، وأقصى ما يكون مدته في الأرض ستة أشهر على حسب نوعية
المزروع، وإن كان البعض قد يتجدد على جدات -وخاصة في الحجاز- إلى
خمس سنوات، وهو نوع من البرسيم، وفي غير المدينة يسمى البرسيم
الحجازي. فالزرع مهما كان له أمد، فهو بخلاف الغرس فإنه يعمر
طويلاً، فالحديث الأول: (من زرع في أرض قوم)، ولم يقل: غرس،
وللمغايرة بين الحديثين اختلف العلماء، ونحن نأخذ مدلول الحديثين
كلاً على حدة، ثم نرجع بالنظر بين الحديثين، وخلاصة ما ذكره
العلماء في هذه القضية المزدوجة.
حكم استخدام العين في غير ما أجرت له
(من زرع في أرض قوم)، والقوم للجماعة، فمن زرع في أرض غيره، وهو لا
يملكها أو هي مملوكة للآخرين، فما حكم هذا الزرع الذي زرعه في ملك
غيره؟ هذه هي القضية الأولى، وقد حكم فيها صلى الله عليه وسلم
بقوله: (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء) فلو
استأذنهم: أعيروني الأرض أزرع فيها. لا مانع، وإذا استأجر منفعة
الأرض عين الأرض، كما يقول الفقهاء: عقد الإجارة عين على منفعة(3/379)
مضمونة، تستأجر الدار وتشتري الدار، فإذا اشتريتها ملكت عينها، ولك
الانتفاع بها بما شئت من امتثالك بما تملك، لكن استأجرتها، فأنت
اشتريت المنفعة التي يمكن أن تؤخذ من الدار. وما المنفعة؟ كل
بحسبه، إن كان هناك نص على عين المنفعة التي تستوفى فهي المعقود
عليها، استأجرتها مدرسة، أو مستودعات، أو للسكنى، فعلى ما عقدت
عليه، ولا يحق لك أن تستفيد من الدار بمنفعة أكثر مما استأجرتها من
أجله.. استأجرتها لتسكن أنت فيها وعيالك، فلا يحق لك أن تجعلها
مستودعات؛ لأن المستودعات تضر بالبنيان أكثر من السكنى؛ لأن فيها
البضائع والمطعومات، وربما جاءت الفئران، ويكون الأخذ والرص الذي
يهز الجدران، فلا يجوز ذلك. وكذلك لا يجوز لك أن تجعلها مدرسة؛ لأن
المدرسة تضم الأطفال، أو غير العابئين بالمسئوليات والقيم، فتكون
مضرتها على البنيان أكثر من السكنى، أما إذا استأجرتها لمدرسة، ثم
هونت من المدرسة وسكنت، فالسكنى أقل إرهاقاً على البنيان من
المدرسة؛ فلا مانع، كما لو استأجرت سيارة لنقل الأحجار، ثم ما وجدت
أحجاراً فنقلت أخشاباً أو برسيماً، وإذا ما وجدت برسيماً ركبت أنت،
فكلما كان استيفاء المنفعة مقابل المعقود عليه كان أوفى بالعقد،
وإن نقصت فلا مانع، أما إن زادت عن المعقود عليها فلا يحق لك ذلك.
ما يلزم به صاحب الأرض إن أذن بالزرع
إن زرع الأرض بإذن أصحابها، فهذا يكون منهم بمثابة التنازل عن حقهم
بالاستفادة من الأرض، وإن سمحوا له بالاستفادة منها فلا يحق لهم
بعد ذلك أن يعارضوا أو يطالبوا برفع الزرع؛ لأنه وضع بالعدالة وليس
بالظلم، ووضع البذر وحرث وسقى ونبت بإذنهم ورضاهم، فلا يحق لهم بعد
أن وصل الزرع إلى مرحلة ما قبل الحصاد أن يطالبوا برفعه، كمن أعار
سفينة لإنسان أو أجّره إياها، وجاء في عرض البحر وقال: رجعت عن
الإعارة، أعطني سفينتي، الإعارة عندك مؤقتة، ولصاحبها أن يطلبها(3/380)
حيث شاء، ولكن هل وسط البحر موضع تسليم؟ وأين أذهب بمن فيها؟! لا
يحق له ذلك؛ لأنه أعارها وهو يعلم بأنه سيعبر بها النهر. وكذلك
الأرض إذا زرع فيها بإذن أهلها، ونبت الزرع، وقارب الحصاد لا يحق
له أن يرجع في هذا الإذن؛ لأن فيه مضرة على الزارع وتغرير به، ويجب
عليه أن ينتظر حتى يستحصد الزرع ويأخذ زرعه، ويقول له: خذ أرضك.
أما إذا كان زرع بغير إذنهم فتلك المنفعة التي يريد أن يأخذها من
الأرض فالزرع ملك لأصحابها، ولم يأذنوا لك فيها: (ولا يحل مال امرئ
مسلم إلا عن طيب نفسه )، وهم ما طابت أنفسهم بها، فجاءوا
يطالبونه. ولو أنه اغتصب الأرض -على رأي الجمهور بأن الغصب يدخل في
العقار غير المتحرك، أي: في المملوك الثابت كالأرض والبنيان،
خلافاً للأحناف؛ فإنهم لا يرون الغصب في الثوابت وإنما في
المتحركات المتحولات- فإذا اغتصب الأرض واحتواها، فعلم بذلك
أصحابها، فجاءوا والأرض على ما هي عليه، لم تدخلها الزيادة
والنقصان. كأن يأخذ من ترابها إلى جهات أخرى؛ فتصبح الأرض مجرد حفر
أو منخفضة عن جاراتها، وتصبح في هذه الحالة غير صالحة للزراعة حتى
تسوى، ويرد لها ما أخذ منها، فيكون هناك نقصان، فإذا أدرك صاحب
الأرض أرضه تحت يد الغاصب كما هي ردت إليه بعينها بالإجماع، وليس
لهم على الغاصب شيء، وليس للغاصب عندهم شيء، بقي الحق العام -كما
يقال- فكونه يتعمد الاعتداء على مال الغير، هذه فوضى، فولي الأمر
له أن يعزره على تعديه. أما إذا جاء صاحب الأرض ووجد الزرع، فماذا
يكون الحكم؟ هذا يقول: أرضي، والآخر يقول: زرعي. ماذا نفعل معهما؟
الحديث صريح: (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء،
وله نفقته). نسأل الزراع: الزرع هذا كم عمره؟ ومتى يحصد؟ بعد ثلاثة
أشهر. إذاً: الزرع لم يأت بالحب في الوقت الحاضر، وجاء صاحب الأرض
يطالب بأرضه، فيقال لصاحب الزرع: ليس لك من زرعك شيء؛ لأنك وضعت(3/381)
البذرة، وسقيت الماء فقط، والنبات الذي نبت نموه من الأرض، والأرض
ملك لغيرك، فيكون الزرع ملك لغيرك، وما أنفقته حتى صار الزرع إلى
هذا الحد فهو حقك، وضعت بذراً فيها بعشرة، وحرثتها بخمسة، وسقيتها
ماءً بخمسة، نفقتك على الزرع وصلت إلى هذا الحد فلك هذه النفقة،
هذا ظاهر هذا الحديث والله أعلم.
صورة الصلح بين المتنازعين على الأرض
في هذه المسألة الواردة في هذا الحديث وسع الفقهاء رحمهم الله
التفصيل فيها، وقالوا: إذا لم يكن له من الزرع شيء فله النفقة،
والزرع يرجع لصاحب الأرض.. فهل يلزم الزارع بأخذ النفقة فقط ويترك
الزرع، وهل يلزم أصحاب الأرض بأن يدفعوا النفقة ويأخذوا الزرع؟ لو
قالوا: لا نريد الزرع، ليأخذ زرعه، لن ندفع شيئاً.. ماذا يقال لهم؟
في هذه الحالة يخير أصحاب الأرض: في أن تحسب عليه الأرض بالإيجار
إلى أن تستحصد، ويكون كالمستأجر من غيره، وبهذا نكون قد جمعنا بين
المصلحتين: (لا ضرر ولا ضرار )؛ صاحب الزرع يأخذ زرعه، وصاحب
الأرض يأخذ أجرة مثلها، فنكون ضمنا لصاحب الأرض حقه وفائدته من
أرضه، وحفظنا على الغاصب زرعه، وقد دفع أجرة الأرض. وابن حزم يشنع على الفقهاء في هذه القضية، ويقول: على هذا فكل من يريد أن
يغصب أرضاً ما عليه إلا أن يذهب ويزرع فيها وسوف يدفع الأجرة ويأخذ
الزرع، فهذا يمكن المعتدين من زيادة الاعتداء. ولكن الفقهاء
يقولون: يجب مراعاة المصلحة، فقولنا له: خذ زرعك وهو إلى الآن لم
يستحصده، ماذا سيفعل به؟ سيعدمه، ويتلفه، وإتلاف المال لا يجوز،
فإذا أمكن الاستفادة من هذا المال في المستقبل نحافظ عليه، وأنت يا
صاحب الأرض لما فاتت عليك مصلحة أرضك، نضمنها لك بالأجرة.
قضاء رسول الله في الغارس بدون إذن
[ وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: (قال رجل من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم في أرض، غرس أحدهما فيها نخلاً والأرض للآخر، فقضى(3/382)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض لصاحبها، وأمر صاحب النخلة أن
يخرج نخله، وقال: ليس لعرق ظالم حق ) ]. قبل الكلام على هذا
الحديث ننظر ما يقوله العلماء في شأن اختلاف الناس في أحكام
الأراضي، وخاصة الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن عمل أهل
المدينة هو القدوة، وكما يذكر عن مالك أنه قال: إن العالم كله
في الأراضي والمساقاة والمزارعة تبع لأهل المدينة؛ لأنهم كانوا
يعملون فيما بينهم فيتفقون تارة ويختلفون أخرى، فإذا ما وقع خلاف
بينهم كان مرده إلى رسول الله. إذاً: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم هو الذي يشرف على الخلافات التي تقع في الأراضي، وليس هذا في
قطر من أقطار الدنيا، وكل العالم يتتبع ويسأل: ماذا فعل رسول الله
في مثل ذلك؟ ماذا قضى في ذلك؟ وما ينقل عن أهل المدينة في مثل هذه
القضايا فهو نقل لأصل عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. لو أن
هذان الرجلان في الشام أو مصر أو اليمن ووقع النزاع بينهم، فإنهم
سيختصمون للعلماء الذين سوف يبحثون عما فعل وقضى به رسول الله في
هذه المسألة، وسيرجعون إلى عمل أهل المدينة في هذه المسألة. رجلان
اختصما كل منهما خاصم الآخر، صاحب الأرض يخاصم في أرضه، وصاحب
النخل يخاصم في نخله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. شخص غرس
نخلاً في أرض قوم، فجاء أصحاب الأرض يخاصمون في أرضهم ويطلبونها
فقضى رسول الله بأن الأرض لصاحبها.
تولية الرسول للقضاة من أصحابه
النص هنا: (فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض لصاحبها).
إذاً: الرسول تولى القضاء بين الأفراد، وهذا مصداق قول الله تعالى: لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105].
ثم قد يولي قضاة في ما بعد عنه، كما وقع لمعاذ رضي الله تعالى
عنه حين بعثه إلى اليمن، وكذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه،
فكان معاذ قاضياً وأميراً وجابياً للزكاة والجزية، وكان هناك(3/383)
عمال أيضاً للزكوات في أقاليم اليمن، وكان معاذ هو المشرف
عليهم، ويتنقل ما بين حضرموت إلى صنعاء، وأبو موسى في مكانه،
ولذا سأله: (بم تقض يا معاذ ؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم
تجد في كتاب الله؟ -لأن كتاب الله نصوص محدودة- قال: بسنة رسول
الله. قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ).
وهنا العلماء يزيدون بعد قول معاذ بم يقض القاضي؟ بكتاب الله،
فإن لم يجد فبسنة رسول الله، فإن لم يجد هل يجتهد رأيه؟ لا؛ لأنه
غير معاذ وقد تقدمه من أهل الحل والعقد، من هم أهل العلم وأدرى
بالحكم، فينظر في أقضية أصحاب رسول الله، هل في هذه القضية نص عن
صحابي، أو عن خليفة راشد؟ فمعاذ يقف عند حد الكتاب والسنة، ثم
يعطي لنفسه حق الاجتهاد، وغير معاذ ممن يأتي بعده أمامه جبال
راسيات، فعليه أن يبحث في حكم النازلة في الكتاب، ثم السنة، ثم سلف
الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فإذا وجد عنهم أقضية في
قضيته أخذ بها، وإذا لم يجد اجتهد رأيه؛ لأنه لم يبق هناك من يرجع
إليه. قضى صلوات الله وسلامه عليه لصاحب الأرض بأرضه. (وأمر صاحب
النخل)، والأمر والقضاء سيان؛ والقضاء ملزم أكثر من الأمر، (وأمر
صاحب النخل أن يخرج نخله) هذا الحد الأدنى في القضاء، ولكن لكل
قضية ملابساتها وجوانبها، فلو أن صاحب الأرض قال: لا تتعب نفسك،
ولا تقطع النخل وتخسره وتفسده، وبمقدار ما أنفقت عليه أعطيك نفقته
واترك لي النخل، ولهذا قال: (أمر) ولم يقل: (قضى)؛ لأن القضاء
ملزم، والأمر قد يأتيه بعض عوارض فتصرفه.
كيفية الصلح بين المتنازعين
لو اتفق صاحب الأرض مع صاحب النخل أن يتركه له، وأحياناً يمكن
الاستفادة من رفع النخلة من مكان إلى مكان آخر، والاستفادة منه
كغرسه، وأحياناً لا، وجاءت الروايات في هذا الحديث: (وإني لرأيتها
تضرب بالفئوس وإنها لنخل عم -يعني طويلة- ) يعني: لا يوجد رافعة
لتنقلها في أرض أخرى، ولا يمكن رفعها إلا بتكسيرها، فحينئذ تكسر،(3/384)
وهنا في أول الحديث: أن الرجل غرس في أرض قوم؛ فلو أنه حينما جاء
يغرس بحث فلم يجد لها معالم، وهي أرض بيضاء صالحة للزراعة، ولا
يوجد فيها آثار تملك، وظنها أرض بيضاء لا ملك لأحد عليها فغرس. هل
معنى الظلم والتعدي موجود أم أنه الخطأ؟ حتى ولا الخطأ؛ لأنه رأى
أرضاً بيضاء ليس فيها معالم تملك، والفقهاء ينصون في باب إحياء
الموات: أن من أحيا أرضاً ميتة ملكها، وإذا استمر في إحيائها عشر
سنوات، ثم مات وجاء أولاده فلم يستطيعوا الاستمرار في الإحياء
فتركوها حتى اندثرت معالم الإحياء، وعادت مواتاً كما كانت قبل
أبيهم، فهل يجوز لأحد أن يعيد إحياءها لنفسه لأنها صارت مواتاً أو
لا يجوز ذلك؟ النزاع في هذه المسألة موجود، وعند الحنابلة لا يجوز
ذلك؛ لأنه سبق عليها ملك لغيره. هنا: إذا علم أن الأرض لقوم وغرس
فيها بغير إذنهم -كما جاء في الزرع- وجاء بالوديان معتمداً وحفر
الفِقَر وغرس النخل وسقى وكبر النخل وأثمر، ثم جاء صاحب الأرض -
مسافراً، مسكين، مريض...- ولم يعلم، بخلاف ما إذا علم من أول وهلة،
ورآه يحفر، ولم يسأله، وتركه حتى جاء بالودي وغرسه وسقاه، وترك
الأمر حتى صارت نخلاً عُماً، وأصبحت تؤبر وتثمر، وجاء يقول: أعطني
أرضي.. ولماذا سكت حتى غرم هذا كله، وانتظرت حتى أصلحها ثم قلت له:
أعطني أرضي؟! ولهذا يقول الفقهاء: هل يمكن الانتفاع من هذا النخل
وهذه حاله أم لا؟ جاء الحديث بأنه ما كان يمكن في ذلك الوقت؛ لأنه
صار نخلاً طوالاً، ولا يمكن رفعه وحمله وسحبه إلى أرض أخرى لكي
يغرس فيها، واللفظ الآخر: (رأيتها تضرب بالفئوس) معناها: تحطم؛
لماذا؟ أليس هذا من إتلاف المال؟ نعم، ولكن قبل إتلافها الأمر صدر
والحكم مضى، ولكن الحق لا يتعدى صاحب الأرض وصاحب النخل؛ فإن اتفقا
فقال صاحب الأرض: اشترِ الأرض، وتبقى لك الأرض مع النخل. فلا مانع،
وإذا قال صاحب النخل: اشترِ مني النخل، واتفقا لا مانع، لكن هو ليس(3/385)
بمشتريه، وقد صدر فيه أمر بأن ينزع، لكن إن كان من باب الإصلاح
واتفقا على ذلك فلا مانع. لكن يأتينا هنا الأمر برفع النخل، وهناك
في الزرع: (له النفقة)، وهنا لم يقدر له نفقة، بل النخل يقطع ويرفع
بعينه، إذا كان النخل المثمر هذا يقطع ويتلف فهل نبحث له عن نفقة؟
لا؛ لأنه أنفق في شيء لا يملكه، والأصل فيه التعدي.
مناسبة تشبيه المغتصب بعرق الظالم
ثم قال: (ليس لعرق) هنا بعض العلماء يقول: يجب أن يختلف الحكم في
اغتصاب الأرض بزرع، أو اغتصابها بغرس؛ لأن الزرع جعل فيه صلى الله
عليه وسلم نفقة الزرع للغاصب، والنخل لم يجعل له فيه شيء، وأشاروا
بأن الزرع مؤقت والغرس مستديم، وبعضهم يقول: إن قلنا: (ليس لعرقِ
ظالم). إذاً: الظلم نسب لصاحب العرق، وإذا قلنا بالتنوين: (ليس
لعرقٍ ظالم) أسندنا الظلم للعرق، وإسناد الظلم للعرق مجاز، فالأولى
إسناده لصاحب العرق. وإذا اجتث نخله؛ لأنه عرق ظالم، كانت الأرض
صالحة لأنه يأتي بالحراث ويحرث ويبذر القمح، أو لتخطيط أشجار
موالح، كانت وكانت... يقول الفقهاء: إذا اجتث النخل عليه أن يجتث
أصول الصنو في الأرض، ثم عليه أن يسوي الحفر التي نشأت عن قلع
النخيل من أصله، ويسلم الأرض غير ناقصة المنفعة؛ لأنه إذا قطع
النخلة من وجه الأرض كان الباقي تحت الأرض أكثر من الذي قطع من
أعلى، ويعيق الزراعة والغرس، ويحتاج إلى مئونة وكلفة، لذا على صاحب
العرق الظالم أن يرفع عرقه برفع جذور النخلة، ومن المعلوم أن جذور
النخلة تمتد إلى عمق الأرض. لا نقول له: اتبعها في باطن الأرض
وأخرجها.. لا. يقول علماء النبات: إن سطح الأرض هو الخط المنصف بين
جذور الشجرة في باطن الأرض وبين جذعها وأغصانها، أي: أن النخلة لها
جذور في باطن الأرض، لو اجتمعت لكانت مثل طول النخلة إلى رأسها،
وكذلك جميع الأشجار، وأصحاب المزارع يعرفون ذلك، شجر الأثل إذا كان
قريباً من البئر تمتد عروقه إلى قاع البئر، وربما أفسده، وهذه -كما(3/386)
يقولون- عملية توازن؛ لأن الشجرة ذات جرم كبير، وهذه السارية
الموجودة عندنا الآن على سطح الأرض، هل جيء بعمود ووسد على سطح
الأرض أم أن تحته قواعد عميقة يمكن أن تمسك هذه السارية، وتمسك ما
يأتي فوقها؟ فكذلك عروق الشجرة، هي في باطن الأرض تعادل أعلى
الشجرة حتى يمكن أن تصلبها، وإذا جاءت رياح عاتية ما الذي يمسك
الشجرة ألا تذهب مع الرياح؟ إنها تلك العروق التي في بطن الأرض
المتعادلة مع ظاهر الأرض من تلك الشجرة. فلا نقول لصاحب النخل:
تتبع كل عرق حتى ينتهي، لكن نقول: مجموع الصنو، وهو منتهى الشجرة
ومجموع عروقها، ينتزعه، ثم بعد ذلك يسوي الأرض.
كيفية نظر القاضي للخصومات
هنا -يا إخوان- مسألة: قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرقِ ظالم
حق) عممه الفقهاء في كل ظلم، فلو أنه جاء إلى أرض إنسان، وله أرض
بجوارها في مخطط واحد، وجاء هذا ليبني، فتجاوز عن حده إلى أرض
الجار بمتر، وبنى، فإن البنيان الذي قام على أرض الجار بزحف المتر
عرق ظالم، ويحمل عليه وإن لم يكن هناك عروق، وإن كان مبانٍ فهناك
قواعد، حتى وإن كان بنياناً عادياً؛ فكل عمل وقع في ملك الغير له
دوام وثبوت أطلقوا عليه عرق ظالم. ولكن هل هذا الحديث يمكن أن يطبق
في كل صغيرة وكبيرة؟ قال لي والدنا الشيخ الأمين حينما كلفت
بالقضاء وجئت أستشيره ماذا أفعل؟ قال: أوصيك بتقوى الله والتأني
والتريث في فهم القضية، فلكل قضية ملابساتها، ولا يوجد قضية مثل
الثانية، ثم تبين لي فيما بعد أن القضايا تدخل المحكمة كما يدخل
الأشخاص، لا يوجد اثنان متفقان، حتى التوأم فيهم بعض المخالفات في
الشكل، فكذلك القضايا، كل قضية تدخل المحكمة ففيها بعض المغايرة عن
أختها ولو كانت من نوعها، هذه قضية سرقة، وهذه قضية سرقة، خمس
قضايا سرقة لا يمكن أن تكون القضايا الخمس متفقة في كل الملابسات.
ومن واقع العمل: نجد أن هناك بعض الأمور قد يتمسك فيها بعض الأشخاص(3/387)
بهذا الحديث وهي من التوافه، كما وقع من إنسان اشترى قطعة أرض من
مخطط، ثم تقدم إلى الأمانة، وعملت الذرعة والتطبيق وأعطي الرخصة
وحفر وبنى إلى أربعة أدوار، ثم بعد خمس سنوات من بداية البناية جاء
الجار، وقال: إن صاحب العمارة تجاوز علي بخمسة عشر سنتيمتراً، وأنا
أطلب هدم العمارة وإرجاعه عن حقي وتسليم أرضي كاملة. بعد خمس سنوات
وهو ساكت! ولما رأيته قلت له: هذا البيت من يسكن فيه؟ قال: أنا،
قلت: ألم تره عندما حفر القواعد ورفع الأعمدة، حتى بنيت أربعة
أدوار ثم تأتي وتقول: هذا حقي؟! هو يريد أن يشهر بهذا النص سلاحاً
قوياً، ولكن هل يتحقق موضوع الغصب والظلم في هذه القضية؟ ثم قال
المدعى عليه: والله أنا لا أعرف ذرعة، ولا أعرف أن هذه من حق غيري،
أنا عندي صك فيه ذرعة محددة، وتقدمت لطلب رخصة، والأمانة جاءت
بمهندس، والمهندس ذرع المخطط، ووضع للمقاول علامات، وأنا ليس لي
دخل في هذا ولا أعرف هذا. فلو طبقنا فعلاً هذا النص هل تحقق الظلم
من صاحب العمارة، أم أن هذا من باب الخطأ، أو ما يسمى بالتجاوز
الذي يمكن أن يعفى عنه أو يغتفر؟ هنا خمسة عشر سنتيمتراً في قطعة
ضلعها ثلاثون متراً، ماذا يكون هذا؟ مسألة: رأيته يحفر.. ما سألت،
رفع الأعمدة.. ما سألت، سقف الدور الأول.. ما سألت، لماذا سألت
الآن، من الذي أدراك بأنه اغتصب من أرضك؟ قال: قال لي الناس، قال
الناس.. ليس بصحيح، أتت الهيئة وذرعوا أرض العمارة، فما وجدوا أي
تجاوز. قال: كان هناك سور وتعداه. تعال احفر جنب جدارك ونرى السور،
فأتوا حفروا فما وجدوا شيئاً، ما ثبت الظلم هنا. فقال: لا. (ليس
لعرق ظالم حق )، أين تحقيق الظلم الذي وقع من هذا الشخص؟!
أخيراً: طلبناً تقدير هذا الذي يدعيه، وإن كان غير ثابت عندنا، لكن
من باب مصالحة، وقلنا: هذا حقك أربعمائة ريال. قال: لا أريد. ورفعت
للتمييز وصُدق الحكم، وأتينا قلنا له: خذ حقك. قال: لا أريده.(3/388)
فحولناه إلى بيت المال، وبعد أربعة أو خمسة أشهر جاء وقال: أعطني
حقي. قلت له: حقك عند بيت المال، اذهب وارفع دعوى عليه وخذ حقك
منه. إذاً: تطبيق النصوص لابد أن يراعى فيه المبادئ الأساسية.
فقوله: (غرس في أرض قوم) يعني: عمداً؛ لأنه يعلم أنها أرض قوم،
فإذا لم يكن هناك العمد، ولم يكن هناك تعريف الغصب بالقوة والقهر،
فتطبيق النص ليس متأتياً.
احتياط القاضي في القضايا المالية والتعويضات
إن مما هو جار على ألسنة الكثيرين: ما يقع من النزاع بين الزوجين،
وتطلب الزوجة المخالعة، وقد عرضت عليّ قضية كان الوكيل فيها من
طلبة العلم الأخيار، والموكل عنها أيضاً من أسرة أبو طالب علم من
الأخيار، فعرض الخلع، فقال وكيل الزوجة: نعطيه ما دفع، وهذه عند
الناس جارية. متى كان الزواج؟ قالوا: منذ اثنتي عشرة سنة. لابد أن
يوجد هناك رأي خاص، وهل ما دفعه من اثني عشرة سنة هو بعينه اليوم
في القيمة الشرائية، ثم جلست في لجنة وفيها من قادة وأخيار أهل
المدينة، أربعة أشخاص، وجاء في هذه القضية، فقال رجل منهم: والدي
تزوج أمي بريال، فجاءت المناسبة: لو أرادت أن تخالع بعد أن صرت أنت
رجلاً كبيراً تدفع ريال؟! فقلت له: إن القيمة الشرائية تختلف من
اثني عشرة سنة إلى اليوم. قال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (أتردين عليه حديقته )؟ هذا المعنى الملتحق في أذهان طلبة
العلم، نعم قال ذلك، ولكن هل الحديقة في عينها كالنقد بالريال؟ لا،
من عشرين سنة كان الريال الفضة مستعمل، ثم جاءت الريالات الورق،
وكان الريال الورق محبب ومقدم عند الناس على الفضة، وكان من أراد
الحج والسفر جاء بمائة ريال فضة ومعها ريالين للصراف ليأخذ ورقة
بمائة ريال، حتى تكون خفيفة في الحمل، الآن الريال الفضة صار سلعة
وهدايا عند الزواج، فتغيرت الأوضاع. فقلت: يا فلان! أنت تعلم أن
القيمة الشرائية للمال تختلف بحسب الزمن، ولكن الحديقة هي بعينها،(3/389)
إن ارتفعت الأسعار ارتفعت معها، وإن نزلت الأسعار نزلت معها، فهي
بعينها لم تنقص ولم تزدد، فإذا كان الصداق حديقة نعم تردين الحديقة
عليه، لكن إذا كانت نقداً، والنقد في ذلك الوقت يختلف عما هو عليه
الآن.. إذاً: القيمة الشرائية للصداق الذي دفعه الرجل من اثني عشرة
سنة تعادل القيمة الشرائية لنفس المبلغ الآن بنصف القيمة، فيكون
خاسراً لو أنه أخذ ما دفع. إذاً: هذه النصوص بعمومها يجب أن تؤخذ
بالموازنة، وبملابساتها، ويراعى حديث: (لا ضرر ولا ضرار ) .
مبحث فيما يطرأ على العين المغصوبة
لقد فرع الفقهاء رحمهم الله على مسألة النخل -ولا يزال في كل ما
يمكن أن يقال فيه: إنه غصب وطرأت عليه الطوارئ- مسألة ما يطرأ على
المغصوب كما يقول ابن رشد في بداية المجتهد: البحث في أصل
الغصب وعين المغصوبة، والبحث في الطوارئ التي تطرأ على المغصوب.
مثلاً: إنسان اغتصب سيارة، ثم مكثت عنده شهراً، ثم رأى إطاراتها
قديمة، فذهب وغير لها الإطارات الأربعة، وجاء صاحبها يطلبها، هذه
السيارة حصل فيها زيادة. إذاً: هناك طوارئ، ولنقل: لم يغير
الإطارات ولكن أحد الإطارات تلف وتركه مركوناً بجانب الباب، فجاء
صاحبها يطلبها. فهل بقيت على ما كانت عليه وقت الغصب أو نقصت؟
نقصت. إذاً: ينظر في هذه العين مع نقصها. وهناك من يقول: إذا حصلت
هناك زيادة بفعل الغاصب دون مادة يضيفها؛ فلا شيء له في فعله،
ويردها كما هي، وإذا حصل هناك نقص فهو ضامن لهذا النقص في تلك
العين التي اغتصبها؛ لأنه مكلف بأن يردها كما هي. وتقدير هذا النقص
يكون بحسب قيمتها يوم أن اغتصبها أو يوم أن يردها؟ نجد هناك
الخلاف: من يراعي أصل السلعة يوم اغتصابها؛ قال: يرد قيمة الناقص
يوم اغتصبها، والنقص؟ كأن يكون اغتصبها قبل ستة أشهر، والنقص حصل
بالأمس، فيقدر هذا النقص من يوم اغتصبها. والآخرون يقولون: يقدر
حين يردها؛ لأنها تحت يده إلى أن تؤخذ منه. وهذا الخلاف موجود حتى(3/390)
في بعض المذاهب فيما بينهم، كما هو منصوص عند بعض المالكية، والباب
-كما يقال- فروعه متعددة، وما وجدت تفريعات أكثر منها في المغني
لابن قدامة ، وكشاف القناع للحنابلة أيضاً. والله تعالى أعلم،
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
( كتاب البيوع - باب الغصب [3] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (قضى رسول الله بالشفعة في كل ما لم يقسم...)
2 شرح حديث: (الشفعة في كل شرك...)
3 شرح حديث: (جار الدار أحق بالدار)
كتاب البيوع - باب الشفعة [1]
من القواعد العظيمة في الشريعة أنه لا ضرر ولا ضرار، فرفع الشرع الضرر
عن المسلم وحرم عليه الضرار، ولذلك جاءت أحكام كثيرة في الشرع تدل على
هذه القاعدة، ومنها: الشفعة، فالشفعة شرعت لرفع الضرر عن الشريك أو
الجار ممن قد يأتي ويحصل منه الضرر والأذى.
شرح حديث: (قضى رسول الله بالشفعة في كل ما لم يقسم...)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، أما بعد: قال المصنف رحمه الله:
[عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: (قضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود،
وصرفت الطرق فلا شفعة ) متفق عليه واللفظ للبخاري ، وفي
رواية لمسلم : (الشفعة في كل شِرك: في أرض، أو ربع، أو حائط،
لا يصلح -وفي لفظ: لا يحل- أن يبيع حتى يعرض على شريكه )، وفي
رواية الطحاوي : (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل
شيء ) ورجاله ثقات].
مناسبة ذكر باب الشفعة بعد باب الغصب
مناسبة ذكر باب الشفعة بعد باب الغصب؛ لأن بينهما شبهاً وهو انتزاع
ملك الغير بغير إذنه؛ لأن الغاصب يستولي على ملك الغير قهراً وبغير
إذنه، وكذلك الشفعة، فالشفيع ينتزع حصة المشفوع عليه قهراً. أي:
بالقوة أو بدون رضاه؛ فبينهما شبه ما.
تعريف الشفعة وصورتها وسبب مشروعيتها(3/391)
والشفعة لغة: من الشفع ضد الوتر، فالوتر واحد، والشفع اثنان فأكثر
مما يقبل القسمة على اثنين بدون باقٍ، كالأربعة والستة والثمانية
والعشرة.. إلخ، فهذه أعداد شفع، والواحد والثلاثة والخمسة
والسبعة.. أعداد وتر؛ لأنها لا تقبل القسمة على اثنين بدون باق.
والشفعة قيل: أخذت من معنى الشفع بمعنى: الزيادة، وبمعنى: الضم،
وبمعنى: النصرة. والشفعة عند الفقهاء رحمهم الله هي: أن يأخذ
الشريك حصة شريكه ممن اشتراها عن طريق الحاكم. وقال بعض العلماء:
إن الشفعة غايرت القاعدة العامة في احترام أموال الناس؛ لأن بها
انتزع حق المالك بغير رضاه، والقاعدة هي قول النبي صلى الله عليه
وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ) فقالوا: غايرت
القاعدة العامة، ولكن استندت إلى قاعدة أخرى وهي: (لا ضرر ولا ضرار )؛
ولهذا يقولون: شرعت الشفعة لرفع الضرر عن الشريك. وصورتها على سبيل
الإجمال: أن يكون العقار -ربع أو دار، أي: أرض أو بيت أو بستان-
مملوكاً لاثنين هما شريكان فيه، وتلك الشركة على الإشاعة، كل له
النصف أو الربع أو ثلاثة أرباع، أو الثلث أو الثلثان، بدون قسمة
ولا تمييز، أو له ثلاثون أو ستون في المائة من عين العقار، فيبيع
أحد الشريكين حصته إلى شخص ثالث، فيأتي الشريك الذي لم يبع ويخشى
مضرة الذي اشترى بأن يسيء معه الشراكة أو يكون رجل سوء؛ فيشفع عليه
وينتزع منه الحصة التي اشتراها من شريكه ويضمها إلى حصته هو، فيكون
قد شفع حصة شريكه إلى حصته بضمها إليه. هذا هو هيكل الشفعة، وذكر
بعض العلماء: أن الشفعة في الجملة كانت موجودة في الجاهلية وإن لم
تكن على النظام المشروع والموجود في الإسلام، وذكروا: أن الرجل كان
إذا أراد أن يبيع بيته -وليس فيه شركة لأحد- فإذا علم رجل بذلك،
وأتاه وقال: أنا أحب أن أشتري البيت، قدمه على غيره، فاعتبروا ذلك
من الشفعة. ومن القواعد العامة في الإسلام: احترام الأموال، ومن(3/392)
القواعد العامة: رفع الضرر، فالشفعة يجتمع فيها الأمران؛ يجتمع
فيها احترام المال والتعدي عليه، ويجتمع فيها وجود المضرة. أما أخذ
المال؛ فلأن الشفيع يأخذ حصة المشتري بدون رضاه، والمال محترم وهذا
فيه مضرة على المشتري أن ينتزع ماله بغير رضاه، وفيها أيضاً رفع
الضرر عن الشريك الذي لم يبع؛ لأن المشتري أجنبي عنه، وقد يعلم من
سلوك المشتري الذي سيدخل شريكاً معه ما يتضرر به. إذاً: هناك مضرة
على الذي اشترى بانتزاعه منه، وهناك مضرة على الذي لم يبع بدخول
شخص ثالث عليه، فاجتمعت المضرتان. والقاعدة عند الأصوليين: (إذا
وجدت مضرتان؛ فيرتكب أخفهما ضرراً). فقالوا: إن المضرة التي تكون
على المشتري بأخذ الحصة منه وردها إلى الشريك أخف من المضرة التي
ستكون على الشريك من المشتري الجديد سيئ الخلق أو سيئ الشراكة أو
العشرة. إذاً: يرتكب أخف الضررين؛ فيلغى شراء المشتري الجديد وترجع
الحصة إلى صاحب الشراكة القديمة، والمشتري سيأخذ ما دفع، وليس عليه
مضرة مالية، فإذا اشترى بألف فسيرد إليه الألف الذي دفع، وانتهت
المشكلة، بخلاف ما لو ألغينا الشفعة، فسيأتي شخص آخر -وبحكم
التملك- ربما طالب بالقسمة في المشاع، وربما زاحم صاحب الشراكة
الأول فتكون المضرة مستمرة. ويقولون: ما خالف في الشفعة من السلف
إلا عالم واحد يقال له: الأصم، فإنه قال: هذا اشترى وتملك، فكيف
ننزع منه ملكه بغير رضاه؟ وأجاب الجمهور: بأن هذا من باب ارتكاب
أخف الضررين. والعالم كله على سبيل الإجمال يقرر الشفعة في القضاء
المدني ما عدا بلداً واحداً عربياً ألغى الحكم بالشفعة في عهد قريب
حوالي في الخمسينات بينما القضاء الفرنسي إلى اليوم يعمل بالشفعة،
والقوانين الأوربية كلها تقر العمل بالشفعة. إذاً: كما يقول
العلماء: الشفعة ثابتة بالكتاب، وبالسنة وبالإجماع. أما الكتاب
فبالعمومات، وأما السنة فبنصوص تفصيلية كما ذكر المؤلف رحمه الله(3/393)
هنا. وأما الإجماع: فالعمل بها ماض من زمن النبي صلى الله عليه
وسلم على مر العصور الإسلامية، وهلم جرا. إذاً: الشفعة مشروعة بلا
نزاع، ولا عبرة بالأصم في مخالفته، ولا عبرة بإلغاء بعض الدول
العربية المتأخرة للشفعة، فقد كانت موجودة عندها قبل الإلغاء، وهو
حجة عليها.
أركان الشفعة وفي أي شيء تكون
وهذه النصوص التي جاءت وسمعناها في الشفعة كما يقول ابن رشد رحمه الله تعالى: تبحث من عدة جوانب: أولاً: أركان الشفعة،
وأركانها: شافع، ومشفوع عليه، ومشفوع فيه. أما الشافع: فهو الشريك
الأول، وأما المشفوع عليه فهو المشتري، وأما المشفوع فيه، فهو موضع
البحث عند العلماء. ثانياً: في أي شيء تكون؟ عندنا الحديث الأول
وفيه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم
يقسم، فإذا جرت القسمة، وصرفت الطرق، وضربت الحدود؛ فلا شفعة )
يؤخذ من هذا الحديث: أن الذي تقع فيه الشفعة هو الملك المشاع مثل
عقار يمكن أن يقسم وتميز الحصص الشائعة، كما يقال: قسمة إفراز،
فإذا كان هناك اثنان يمتلكان بيتاً أو أرضاً، واحد منهما له الثلث
والآخر له الثلثان فهو مشاع، فلكل واحد منهما حصته في كل شبر منها،
كل شبر من الأرض لأحدهما فيه الثلث والآخر له الثلثان؛ لأن هذا حق
مشاع داخل في جميع جزئيات الأرض المشتركة، وهذا خلاف ما يقال عند
المتأخرين والمتقدمين: ما كانت الشراكة فيه على التعيين، بمعنى:
هذه الأرض ألف متر، له خمسون متراً ولشريكه الباقي، فهنا هذه شركة
على التعيين بالأمتار وليست مشاعة بنسبة مئوية، وهذا النوع من
الشراكة، الجمهور على أنه لا شفعة فيه، وعند بعض المالكية أنها
تساوي الشراكة المشاعة بدون تعيين وتحديد مقدار. فإذا كان الحديث:
(الشفعة فيما لم يقسم ). إذاً: يكون قابل القسمة فإذا كان
العقار من حيث الصغر أو من حيث موضوع عمله لا يقبل قسمة فلا شفعة
فيه، فلو أن هناك مصنعاً لتجميع سيارات، أو منجرة فيها آلات يساعد(3/394)
بعضها بعضاً؛ فمنها المنشار الذي يشق الخشب والذي يمسحه ومنها ما
يثقبه، وكلها يكمل بعضها بعضاً، فلا يمكن قسمتها، فلا يمكن قسمة
المنشار، ولا يمكن قسمة الآلة التي تنعم الخشب، فإذا قسمت وأخذ
واحد منشاراً، وأخذ الثاني قطعة من خشب فالمنشار بدون تلك القطعة
لا يعمل شيئاً، أو كان العقار صغيراً، كدكان مساحته متر في متر
ونصف، وقد شاهدنا سابقاً بعض الدكاكين لا يزيد عن متر في مترين،
متر واجهة ومترين عمق، فكيف يقسم؟ وإذا قسم لا يستفاد من قسمته،
فهذا لا شفعة فيه. وقالوا: ما أبطلت الشفعة المنفعة المقصودة منه
فلا شفعة فيه، ومثلوا بالحمام، والحمام هو: مبنى كبير فيه مرافق
لجلوس الناس وراحتهم بعد الاستحمام، وفيه مغطس فيه ماء حار، وفيه
موضع للتدليك، فلو قسمنا هذا الحمام لبطل كونه حماماً؛ لأن كل شقص
منه لا يؤدي وظيفته كحمام بكامله. إذاً: لا تصح فيه شفعة. وكذلك
الرحى على ما كانت قديماً، كانت تدار بالماء وتدار بالهواء، وهي
تقبل القسمة؛ لأنها حجر فوق وحجر تحت، ولكن أحد الحجرين لا يعمل
بدون الآخر، كما يقول المثل العامي: (يد واحدة لا تصفق)، أي: لابد
من ضم اليد الثانية إليها، وكذلك الرحى، وهكذا البيت الصغير، إذا
لم يقبل القسمة وإذا قسم عطلت منافعه، فلا يصلح لسكنى أحد. إذاً:
قوله: (ما لم يقسم) يفيد أنه لا شفعة إلا فيما يقبل القسمة؛ لأن
نفي القسمة لا يكون عن شيء من شأنه أن يقبل القسمة، وهذه قاعدة عند
علماء المنطق يسمونها: (العدم والملكة)، وهو أنه لا يحق لك أن تنفي
صفة عن شيء إلا إذا كان قابلاً للاتصاف بها، فلا تقول: هذا الكرسي
لا يطير؛ لأنه ليس من شأنه الطيران، ولا تقول: هذه السارية لا
تسمع؛ لأنه ليس من شأنها أن تسمع، فتنفي عنها شيئاً ليس من شأنها،
اللهم إلا إذا كان في العصور الحديثة حيث صارت السماعات تجعل في
الجدران!! فهنا: ( مالم يقسم ) نفي القسمة يدل على أن المتحدث عنه(3/395)
قابل للقسمة. ومن هنا خص الجمهور الشفعة في الشراكة؛ لأنه إذا ضربت
الحدود، بمعنى: قسمت فلا شفعة، فإذا كان هناك ألف متر من الأررض
وأردنا أن نقسمها مناصفة فهل يتعين أن كل قسم يكون خمسمائة متر أو
يمكن أن يتفاوت في القسمة بحسب المواقع، فإذا كانت هناك واجهة
عشرون متراً، وواجهة من الجهة الثانية عشرة أمتار، وقسمناه عرضاً،
فسيكون النصف على الواجهة الأولى عشرون متراً، والنصف على الواجهة
الثانية عشرة أمتار، فهل يستويان معاً وتتحد فيهما الرغبة؟ الجواب:
لا، بل لابد أن ننقص من القسم الذي على الواجهة الواسعة لنعوض صاحب
الواجهة الصغيرة. إذاً: بحسب القسمة، وقعت القسمة بالمناصفة في
الحقوق، لا في عين المساحة إذا قسمت ووضعت الحدود؛ لأن المشاع ليس
فيه حدود، (فإذا وضعت الحدود ) أي: جعل هذا حد قسمي وهذا حد
قسمك، (وصرفت الطرق ) كأن يكون الطريق كله في الشارع الواسع؛
لأنه مشترك مشاع، ولما قسمنا اضطررنا أن نوجد طريقاً آخر للقسم
الثاني فجعلنا طريقه من الشارع الآخر سواءً شرقاً أو غرباً، فحينئذ
إذا وقعت القسمة وضربت الحدود وصرفت الطرق، فقد انتفت الشراكة،
وأصبح كل واحد من الشريكين جاراً للآخر، فقالوا: لا شفعة للجار
بمقتضى هذا الحديث، وهو كما ذكر المؤلف رواه الشيخان البخاري ومسلم ، وليس فيه أي مطعن. إذاً: (قضى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالشفعة في كل مالم يقسم ) يعني: في كل شراكة في أي عقار
قابل للقسمة ولم يقسم، فإذا ما جرت القسمة، وضربت الحدود، وصرفت
الطرق انتفى معنى الشراكة وأصبحا بدل الشريكين جارين.
شرح حديث: (الشفعة في كل شرك...)
قال المصنف رحمه الله: [وفي رواية مسلم : (الشفعة في كل شرك:
في أرض، أو ربع، أو حائط ) ]. (الشفعة في كل شِرك ) والشرك
بأن يكون -كما تقدم- شركاً مشاعاً، ليس شركاً محدداً بالأمتار،
فهذا نص في أن الشفعة تكون في كل شرك، والمجاور ليس شريكاً إنما هو(3/396)
مجاز. قوله: (الشفعة في كل شرك: في أرض، أو ربع، أو حائط ). (في
أرض -أرض بيضاء- أو في ربع ) والربع: قيل: الأرض البيضاء التي
لا غرس فيها، وقيل: هي التي فيها الغروس، يعني: نقول: في بستان أو
في أرض بيضاء أو في بيت.
حكم البيع إذا لم يعرض البائع على شريكه
قوله: (لا يصلح -وفي لفظ: لا يحل- أن يبيع حتى يعرض على شريكه ).
أي: لا يصلح لأحد الشريكين أن يبيع حصته في الشراكة حتى يعرضها على
شريكه، فيقول له: أتأخذ نصيبي أو أبيعه؟ فإن قال: آخذ، فالحمد لله،
وهو أولى من الغير، وإن قال: لا آخذ، فله أن يبيعه من غيره؛ لأنه
سيأتي في شروط الأخذ بالشفعة: أن الشفيع يأخذ بعين الثمن الذي أخذه
به الأجنبي، وأن يكون الثمن حالاً، وإنما الخلاف فيما إذا كان باع
نصيبه مؤجلاً، فهل يأخذه الشفيع أيضاً بثمن مؤجل وكما أجل للأجنبي
يؤجل لشريكه؟ قالوا: نعم، إذا كان مليئاً أو أتى بكفيل غارم. إذاً:
في بادئ الأمر إذا أراد الشريك أو أحد الشركاء -فقد يكون العقار
شركة بين اثنين أو أكثر- أن يبيع، فلا يحق له إلا إذا عرض على
الشركاء، فإن أجازوا فالحمد لله، وإن أبوا وقالوا: نحن نشتري
فيأخذون، وكيف يأخذون إذا كانوا مجموعة؟ لو كان الشريك واحداً
فسيأخذ حصة الشريك الآخر لنفسه لكن إذا كانوا ثلاثة وكل واحد قال:
أنا أشتري، وكل الثلاثة قالوا: نأخذ بالشفعة، فهل نعطي واحداً من
الشركاء الجزء المبيع ونترك البقية؟ أو نقول: أيها الشركاء! أنتم
كلكم لكم حق الشفعة. بأي صفة تكون الشفعة لهم كلهم؟ فإذا كان
الثلاثة: واحد له السدس، والثاني له الثلث، والثالث له الربع، فهل
نعطيهم من حصة الشريك الذي باع بقدر شراكتهم الشائعة فيه، فالشريك
بالربع في الأرض العامة يأخذ ربع المبيع بالشفعة، والشريك بالثلث
في الأرض العامة يأخذ الثلث من المبيع بالشفعة؟ قيل: إنهم يأخذون
بقدر أنصبائهم في التملك في العين المشتركة، وقيل: يأخذون بعدد(3/397)
الرءوس. أي: نقسم حصة الشريك الذي باع عليهم بعدد رءوسهم، وأعتقد
أن الأول أضبط وأوفق تمشياً مع قواعد البيع والشراء. فهنا لا يصح
للشريك أن يبيع حصته حتى يؤذن شريكه.
هل للشريك أن يشفع بعد البيع إذا عرض عليه قبله
وهنا إذا قال الشريك: أنا لا أشتري، فقال له: أنا سأبيع، فقال له:
بع. فقال له: ولكن هل ستشفع بعدما أبيع أم ستترك الشفعة؟ فسكت ولم
يقل شيئاً، أو قال: لا أشفع، فباع الشريك حصته على ثالث، وبعد أن
باع جاء الشريك وقال: سأشفع، فهل يحق له طلب الشفعة، أو أن طلبه
سقط بإسقاطه إياه قبل العقد؟ المسألة خلافية، ولكن المنصوص عليه
عند الحنابلة والراجح عند الجمهور: أنه إذا عرض عليه فقال: لا أشفع
وسكت حتى باع، فإن أصل الشفعة لا يأتي بها إلا عقد البيع للشقص،
وهل هناك شفعة قبل أن يبيع؟ الجواب: لا شفعة قبل البيع، وهو عندما
قال: أسقطت حقي في الشفعة، فحقه لم يأت بعد؛ لأن الشريك لم يوقع
البيع فلا محل للشفعة، فهو أسقط مالم يملك، فلما جاء عقد البيع جاء
العقد معه بحق الشفعة، فقيل له: لماذا قلت: أنا لا أشفع وغررت
بشريكك؟ قال: لا، هو يريد أن يتفق المشتري عليّ، وإذا باع له
فسيبيع له بألف، وإذا علم بأني سأشفع فسيتفق معه على ألفين؛ لأن
الشفيع لا يأخذ إلا بما وقع عليه البيع للأجنبي، فإذا قال الشريك:
أنا سأشفع إذا بعت فقد يذهب شريكه الآخر ويبيع ما يساوي ألفاً
بألفين، ويزيد الألف هذا إما تعجيزاً للشفيع ليترك الشفعة، وإما
زيادة في الظاهر ثم يتقاسمان الألف الزائدة بينهما على حساب
الشفيع، فإذا قال الشريك: أنا لن أشفع، اذهب وبعه، فهو ينفي
الاتفاق على المضرة والغرر به، وكذلك إذا قال: أنا تركت ولم يقل:
أشفع، حتى لا يدخلوا عليه الزيادة في الثمن لعلمهم أنه سيشفع.
إذاً: لا يبيع حتى يؤذن صاحبه فيشتري أو يترك، فإن اشترى فالحمد
لله، وإن ترك حتى باع الشريك، فله الحق أن يأتي ويقول: مادام أن(3/398)
البيع قد وقع فأنا أشفع، وهذا أيضاً نص على أن الشفعة في الشراكة
وليس فيه الجوار. قوله: وفي رواية الطحاوي : (قضى النبي صلى
الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء ). هناك لا شفعة إلا فيما
يقسم، وإذا وقعت القسمة انتفت، الشفعة في ربع أو دار. أي: في عقار
ثابت، وهنا قال: (في كل شيء ) إذا وجدت شراكة في أي شيء سواءً
كانت في سيارة، أو في سفينة أو -كما يقول البعض- في سيف، أو في
فرس، أو في حيوان أو متاع منقول، فكلمة: (في كل شيء) جمعت كل شيء،
ولم يقل بهذا الجمهور، ولكن يروى هذا عن مالك وعن أحمد ولكن مذهب الحنابلة على خلاف ذلك، فهذا الحديث أو هذا الأثر يشعر
بجواز الشفعة في كل شراكة، وإذا سألك أحد: كيف أشفع في سيارة
فشريكي الأول الذي كان معي ابن حلال لا يدقق معي ولا يحاسبني
-وسيأتي هذا- فإما أن يأخذ السيارة ويقول: أحاسبك، أو يأتي كل يوم
إليّ ويقول: حاسبني حساب السيارة اليوم، فأنا أشفع وآخذ حقي؟
فبعضهم يقول: إذا تضرر الشريك من شركة الآخر تباع ويفض النزاع بين
الطرفين؛ ولتعذر الاستفادة من الشراكة أو الشفعة في المنقول
كالثياب، فكيف يشفع في الثوب؟ وإذا باع عباءته أو باع مشلحه، فقال:
شريكه أنا أشفع فيه، فإن لي النصف فيه، فقد اشتريناه شركة، أو
ورثناه سوية من أبينا، وهذا يصح التملك فيه، يقولون: إن الأثر الذي
عند الطحاوي لا يمكن أن يناهض ما جاء في الصحيحين، فقد جاء
بصريح النطق: (لا شفعة إلا في ربع أو دار ) (قضى بالشفعة في كل
مالم يقسم ) والسيارة والثوب ونحو ذلك، هذه لا تقسم ولا يمكن
الانتفاع بحصة منها. إذاً: ما يمكن إلا أن نبيع؛ ولهذا حتى
الروايات التي جاءت عن بعض الأئمة أصحابهم لم يعملوا بها.
شرح حديث: (جار الدار أحق بالدار)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جار الدار أحق بالدار ) روه
النسائي ، وصحح ابن حبان ، وله علة]. قوله: (جار الدار أحق(3/399)
بالدار ) هذا نص صريح في أن الجار أحق بدار الجار. ونحن في خصوص
الشفعة، والحديث لم يتعرض لمعنى الشفعة. إذاً: أحق بها بماذا؟ هل
هو حق بالإجارة أو بالارتفاق أو بالانتفاع أو أحق بالشفعة؟ كل هذه
احتمالات، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، ولكن هناك من يقول
بهذا الحديث في إثبات الشفعة في الجوار، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ويتفق الأحناف مع الجمهور في أن الشفعة أولاً للشريك في
الأشياء الشائعة مالم تقسم. ثم يقول أبو يوسف : إذا لم يوجد
شريك شائع يطالب بالشفعة فللجار المطالبة.
مراتب الشفعة عند الأحناف
ولذا يقولون: الشفعة على ثلاث مراتب: الشفعة في الشراكة الشائعة
للشريك، والشفعة في الجوار إذا وجدت شراكة في مرافق العقارين،
والشفعة في الجوار بلا مشاركة في المرافق. والمشاركة في المرافق
قالوا: في الطريق؛ بأن يكون البيتان يقعان على طريق أو شارع واحد
بشرط أن يكون غير نافذ أي: أن هذا الطريق مشترك بين الجار هذا
والجار هذا؛ لأن الجار إذا باع على شخص آخر فسيأتي من يزاحمه في
هذا الطريق وقد يكون شرساً أو سيئاً، فيؤذي الجار في الطريق،
فقالوا: يوجد هنا معنى الشراكة، ويحتمل معنى المضرة؛ فيعطى الجار
الحق في الشفعة إذا لم يوجد الشريك الشائع صاحب الحصة؛ فإن وجد
-كما يقول أبو يوسف - حجب الشفعة عن غيره، فإذا لم يوجد شريك
أو وجد ولم يطالب بالشفعة فللجار الذي له الشراكة في مرافق الجوار
حق الشفعة. وكذلك الأرض، هذا له أرض بحدودها وجاره له أرض بحدودها،
إذا كان بينهما اشتراك في الماء الذي يسقي الأرضين، ولكن ينص أبو
يوسف أيضاً بأن يكون على نهر صغير لا تجري فيه سفن، وأن يكون
النهر محدوداً يسقي مزارع معينة وليس عاماً يمشي إلى ما شاء الله،
وعلى هذا: مراتب الشفعة عند الأحناف: أولاً: تكون للشريك شراكة
شائعة كالجمهور. ثانياً: للجار الذي له شراكة في مرافق العقار.(3/400)
ثالثاً: للجار الذي لا شراكة له في هذا العقار ولا شراكة له في
مرافقه. وحجتهم هذا الحديث: (جار الدار أحق بالدار )، ولكن كما
قالوا: هذا الحديث له علة، وقد تكلم عليه العلماء، فسنده لا يقاوم
ما تقدم. قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي رافع رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بصقبه )
أخرجه البخاري والحاكم وفيه قصة]. وهي: أن أبا رافع قال للمسور بن مخرمة : ألا تأمر هذا -يعني: سعد بن أبي وقاص - أن يشتري مني داري -وهي قرب سعد - فقال سعد : والله ما
أزيدك على أربعة آلاف، فقال أبو رافع : لولا أني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بصقبه ) ما بعتك بأربعة
آلاف. الواقع أن هذا الحديث له عدة جوانب، وفيه عدة شبه، والوقت لا
يكفي لعرض أو لبيان نقاط المغايرة لأحكام الشفعة؛ لأنه كان له بيوت
داخل الدار وليس بينهما شراكة مشاعة، وإنما هي جوار، وفي هذا
الحديث قصة وهي تحتاج إلى زيادة إيضاح، ولعلنا نرجئه إن شاء الله
إلى درس قادم، وبالله تعالى التوفيق. ونحب أن ننبه الإخوة إلى أن
مباحث الشفعة في جزئياتها متسعة جداً، وقد كُتبت فيها رسائل تصل
إلى الثمانمائة صفحة، والتفصيل في كل جزئياتها إنما هو عند
المذاهب، وقد تناولوا الشفعة في الإجارة؛ كأن يكون هناك شركاء
وواحد أجر حصته، وكذلك الشفعة بالنسبة للغائب والصغير والمجنون
والمولى عليه والمتراخي في طلبها، وأيسر ما يؤخذ في هذا: (المغني)
لابن قدامة ، و(المجموع) للنووي ، وقد تناولها ابن قدامة في (المقنع) ولكن بشيء من التعقيد. وننصح الإخوة بأن يراجعوا موضوع
الشفعة إذا أرادوا التوسع في الجزئيات والتصور لبعض مواضيعها فيما
يتعلق بنوع الثمن وكيف ينتقل الشقص، وكل هذا سيأتي إن شاء الله لكن
على سبيل الإجمال، وأما التوضيح الوافي فهو كما أشرت إما في
الرسائل المتخصصة، وإما في (المغني) لابن قدامة وهو أقل(3/401)
تفريعاً من النووي في (المجموع)، فيرجع إلى تلك المراجع
الأصيلة. وبالله تعالى التوفيق. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله
على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
( كتاب البيوع - باب الشفعة [2] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (ثلاث فيهن البركة...)
2 ما يجوز أن يشترطه رب المال على العامل
3 اقتسام الشركاء مال المضاربة
كتاب البيوع - باب القراض
لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض، وهو عقد من عقود الشركة في
الجاهلية وأقره الإسلام، ويعرف أيضاً باسم المضاربة، ويقوم هذا العقد
على أن يأتي أحد الطرفين بالمال ويقوم الطرف الآخر بالعمل، وهو نوع من
الإجارة، إلا أنه عفي فيها عن الجهالة في الأجر، ويحق لصاحب المال أن
يشترط على العامل تجنب التعامل في أمور معينة أو مع أشخاص بعينهم،
ولكنه يمنع من هذا الشرط إن كان فيه تحجير على العامل في عمله، وأما
أرباح المال فعلى ما يتفق عليه الطرفان. ومن الأحكام المجمع عليها في
القراض: أن الجهالة مغتفرة فيه، وأنه لا ضمان على العامل فيما تلف من
رأس المال إذا لم يتعد أو يفرط.
شرح حديث: (ثلاث فيهن البركة...)
[عن صهيب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وخلط البر بالشعير
للبيت لا للبيع ) رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف]. إن الله سبحانه
وتعالى جعل البركة مائة جزء، تسعة وتسعين منها في البيع والشراء،
وواحد في بقية الأسباب الأخرى كلها: صناعة .. زراعة .. هكذا
يقولون. وأعتقد أن هذه النسبة أمر نسبي وليس قطعياً، وكم من صانع
يبارك الله له في صناعته، وكم من زارع يبارك الله له في زراعته،
وكان بعض الصحابة يثمر بستانه في السنة مرتين ببركة دعوة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فهنا الحديث: (البركة في ثلاثة)، وفي غيرها أم
فيها فقط؟ كل شيء أراد الله سبحانه وتعالى أن يبارك فيه حصلت فيه(3/402)
البركة، هذا صاحب الدينار والشاة قال له صلى الله عليه وسلم: (بارك
الله لك في بيعك وشرائك )، فكان لو التمس تراباً بارك الله له
فيه وربح، وكان الناس يأتونه بأموالهم ليضارب بها؛ التماساً لدعوة
رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالبركة. البركة: الزيادة
والنماء، وحفظ الشيء والخير فيه، فهنا جعلها في ثلاث، وليس هذا من
باب القصر الحقيقي، ولكنه قصر نسبي؛ لأن من أساليب البلاغة في
القصر تعريف الطرفين، تقول: الشاعر زيد، مع أن أسلوب القصر: إنما
الشاعر زيد؛ لأن (إنما) أداة حصر، و(ما وإلاّ) كذلك، ما الشاعر إلا
زيد، ولذا نقول في كلمة الشهادة: (لا إله) نفي، (إلا الله)، وقالوا
أيضاً: تقديم ما حقه التأخير: (إياك نعبد)، وأصل الترتيب العربي في
غير القرآن: نعبدك، فكان الأولى أن كاف الخطاب تتأخر عن الفعل:
(نعبدك ونستعينك ونستهديك ونستغفرك )، كما في الحديث، لكن لما
قدم المفعول وكانت الكاف المتصلة انفصلت عن الفعل جيء لها (بإي)
لتقوم عليها (إياك)، فتقديم ما حقه التأخير من أساليب الحصر،
وتعريف الطرفين -أي: المبتدأ والخبر- من أدوات الحصر، فهنا (ال)
أداة التعريف، (بركة) معرفة، ثم ذكر الثلاث وهي معارف كلها. إلا أن
هذا الحصر نسبي -كما يقولون- وليس قطعياً، أو حقيقياً. يعني: إن
كانت البركة في أمور فتلك الثلاث منها، أو أن الله خص هذه الثلاث
ببركة زائدة عن عموم البركة في بقية الأشياء، فيكون لها فضل
اختصاص.
بركة البيع إلى أجل وصورته
[(ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل )]. أول هذه الثلاث: (البيع
إلى أجل) أما البيع إلى أجل الواقع الآن فهو بيع آخر. أما البيع
إلى أجل الذي هو محل البركة: هو أن لا تزيد مقابل الأجل في سعر
السلعة، إذا كانت بعشرة وبعتها بعشرة والثمن مؤجل إلى شهر .. شهرين
أما هذا هو البيع إلى أجل، أما إذا كانت بعشرة وتبيعها إلى شهرين
أو ثلاثة أشهر بخمسة عشر فما بعت لأجل، لأنك قبضت ثمن الأجل؛ لأن(3/403)
الغرض في البيع إلى أجل التخفيف والتيسير، واللطف والرفق بالمعسر،
وهذا كله من باب التراحم بين المسلمين. وتذكرون قصة الرجل من بني
إسرائيل الذي كان يوصي عماله أن ييسروا على الناس ويقول لهم: يسروا
على كل معسر لعل الله أن ييسر علينا، فلما لقي ربه قال له: ما عندك
من عمل؟ لا لك عمل كبير، ولكنك كنت تيسر على المعسر، ونحن أحق بأن
نيسر عليك، والجزاء من جنس العمل. وعلى هذا فإن البيع إلى أجل
منطلق من: الرفق.. الرحمة.. التيسير.. عدم التضييق على المدين الذي
ليس عنده قيمة السلعة، وخاصةً إذا كانت من السلع الضرورية: طعام ..
لباس .. أو ما يحتاجه المسلم في بيته، أما الكماليات فأمرها آخر..
كبعض الناس يسعى إلى تلفزيون ملون ودش، وفيديو، وما حاجة هذا كله؟!
وفر لقمة العيش لأهلك أولاً، وهذه كماليات، أو ربما هي زائدة عن
الحاجة، أو ممنوعة محرمة. فإذا وجدت حاجة لذلك، وتدعوه الضرورة لأن
يشتري السلعة وهو مسكين ليس بيده شيء، ماذا تعمل معه؟ تعسر الأمر
عليه في ثمن لقمة الخبز وهو يريدها لأهله؟! تقول: أنا أبيع أربعة
بريال، ما دام الثمن مؤجلاً فأبيعك اثنين بريال، إذاً: حملته عسراً
فوق عسره، عسر زيادة الثمن، وعسر الذلة التي حملته إياها وأشعرته
بها، ولو كنت أنت في مكانه كيف تريد أن يعاملك الناس؟! ألم يكن من
مبادئ الإسلام أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، ولكن ما أصعب هذا!!
وأحياناً تحدث مشاكل بسبب اختلاف تعامل الناس، والوفاء بالعهد،
وأداء الأمانة. هذا غير المعاملات الفاسدة في السوق، وكانوا يعطيه
القرض ويوفي بحق الله وبعهده، كما ذكر ابن كثير: عن رجل تاجر جاء
إلى بلد فنقصت عليه ألف دينار، فكان يذهب إلى التجار ويقول:
أقرضوني أنا تاجر في بلدي، فيطالبوه بكفيل غارم، .. رجل غريب لا
أحد يعلمه، من أين يأتي بكفيل حتى لو كان كفيلاً حاضراً، حتى جاء
إلى رجل فقال: ائتني بكفيل، قال: كفيلك رب العالمين. قال: رب(3/404)
العالمين؟ قال: نعم. قال: قبلت، وأعطاه الألف دينار، ثقة بعهد
الله، ومتى الموعد؟ قال: مثل هذا اليوم، في السنة القادمة. ولما
جاء الموعد حضَّر الرجل الألف وطلب سفينة ليذهب إليه فلم يجد، ومضت
أيام طويلة وهو قلق، بينما صاحبه هناك ينتظر السفينة فلا يأتي أحد،
وهذا ينتظر سفينة يركب أو يدفع المال أمانة ليسدد صاحبه، ولما طالت
المدة رجع الرجل إلى بيته وأخذ خشبة وحفر داخلها، ووضع الدنانير في
حفرتها، وأطبق عليها، وجاء بها إلى البحر، وقال: اللهم أنت كفيلي
وهذه وديعتي أوصلها لصاحبها وفك عني ديني، ثم رماها في البحر، ورجع
إلى بيته وأخذ يجمع ألفاً ثانية إن تيسرت له سفينة ذهب بها، وكان
صاحبه هناك كل يوم يذهب إلى البحر ينتظر السفينة فلم يجد شيئاً،
وفي يوم من الأيام رأى خشبة تتلاطمها الأمواج وتقذف بها، حتى جاءت
بها على الساحل أمامه، فقال: بدلاً من أن أرجع بلا شيء آخذ هذه
الخشبة لعلنا نتدفأ بها، فحملها إلى البيت، ومع ثقل الماء حينما
وصل البيت ألقى بها قالت له زوجه: ألقيت صاحبك؟ قال: لم أجده، وجئت
بهذه الخشبة، فلما ألقاها في الأرض مع ثقلها بالماء فإذا بها تنكسر
وتخرج الدنانير، ومعها الكتاب: اللهم! إن هذه أمانتي وأنت وكيلي
فأوصلها إلى من قبل كفالتك. وبعد سنة جاء الرجل بألف أخرى، وأتى
إلى التاجر، فحينما لقيه قال: قد وفىّ الله عنك دينك، قال: أوصلتك
الرسالة؟ قال: بلى، وصلتني في الخشبة ومعها الخطاب. إذاً كان هذا
النوع في السابق: إذا استدان كان وفياً، وإذا عاهد كان أوفى، وإذا
اقترض على نية السداد سدد، وكما تقول أم المؤمنين عائشة رضي
الله تعالى عنها في الحديث: (ما اقترض إنسان على نية الوفاء إلا
كان الله في عونه ) وكانت دائماً تقترض، لغير حاجة وتقول: بركة
لهذا الحديث، وأنا أريد أن يكون الله في عوني ما دمت مقترضة. نقول:
لعل هناك عوامل تمنع من القرض إلى أجل منها: تغير معاملات الناس،(3/405)
وصاحب الدين لا يصل إلى حقه، بل حتى إذا وصل إلى المحكمة تناكرا،
ونفى حتى السند الذي وقعه بيده، ويقول: ليس بتوقيعي ولا أعرفه ولا
ولا ... إلخ. أما إنساناً وثقت فيه وبعته وزدت في الثمن من أجل
الأجل وأتاك بالكفيل. إذاً: حقك مضمون، فلماذا تزيد في الثمن من
أجل الأجل؟! وهنا النزاع الطويل المتقدم في البيع والربا والصرف،
ومنهم من حملها على. حالاً بكذا ومؤجلاً بكذا.. إلى غير ذلك. إذاً:
البيع الأجل الذي أنيطت به البركة هو البيع إلى أجل بدون زيادة في
السعر مقابل الأجل.
بركة المقارضة وانتفاع الناس بعضهم ببعضهم
[ (ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة ) ]. ساق المؤلف
رحمه الله هذا الحديث ليستدل به على جواز المقارضة، وأنها مشروعة
وفيها البركة، وكونها فيها البركة تستلزم أنها حلال ومشروعة، ولا
يوجد نص صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صحة شركة
المضاربة، كما قال ابن حزم رحمه الله ونقل ذلك عنه. وإذا فتشنا
في كتب الحديث لا نجد نصاً على عين شركة المضاربة، ولكن هناك ما
يعتبر أصلاً، لا حاجة إلى النص وهو: أن الإسلام جاء إلى الأمة
وهناك عقود متعددة .. إجارة .. بيع .. أنكحة .. موالاة .. رق؛ فنظر
الإسلام في تلك العقود فأقر صحيحها وألغى فاسدها، وأصلح ما كان
فيها من فاسد، فنهى عن الجمع بين الأختين لأنه فاسد، ونهى عن نكاح
زوجة الأب، وقال الله: إِنَّهُ
كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22]،
يعني: زيادة عن الزنا، بينما قال في الزنا: إِنَّهُ
كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]،
ولكن هذا فيه: (ومقتاً)؛ لأن فيه اعتداء على حق الوالد، فألغه. جاء
الإسلام أيضاً فوجد من هو متزوج بعشر نسوة فصحح الزواج في الجملة
وألغى الزائد عن الأربعة، كما في الحديث: (اختر منهن أربعاً وطلق
سائرهن )، وهذا كان في قضية غيلان حين أسلم وتحته عشر نسوة،(3/406)
وأما بقية عقود الأنكحة التي جاء الإسلام وهي موجودة فلم يبحث
فيها، من الذي عقد لك.. كيف تزوجت.. ما نوع الصداق ...إلخ. وهكذا
كانت الشركة موجودة، وكانت أكثر أنواع المشاركة عند العرب هي
المضاربة، ونعلم أن تجارة أبي سفيان كانت مضاربة، كما جاء في
الأخبار: (ما من بيت في مكة إلا وله فيها سهم)، فكانوا يجمعون
المال ويعطونه لأبي سفيان ليتجر به بين الشام واليمن. إذاً:
هذه شركة مضاربة، فلما جاء الإسلام ووجد شركة المضاربة قائمة
والناس يتعاملون بها لم ينههم عنها وأقرهم عليها، وهذا توثيق
وتشريع بالتقرير على وجودها واستمراريتها، ومع هذا الحال لا نحتاج
إلى نصوص؛ لأنها مستمرة في طريقها، وقد أقرها الإسلام على ما هي
عليه.
بركة خلط البر بالشعير قوتاً لا للبيع
[ (ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة, وخلط البر بالشعير
للبيت لا للبيع ) رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف]. هذا قيد لابد
منه: للبيت لا للبيع. يقول بعض المشايخ: كان إنسان يأتيه كل يوم
برطل حليب وهو يقول له: لا تغش الحليب بالماء، قال: والله يا شيخ!
أنت كثرت وأنا كنت أخلط لكن الآن تبت، وفي يوم من الأيام كان خادم
هذا الشيخ غير موجود، ومن عادته أنه يخفف الحليب بالماء لأجل الدسم
الذي فيه، فلما أخذ الحليب قال له: ناولني الماء أضعه على الحليب،
قال: يا شيخ! كل يوم تقول لي: لا تخلط الحليب بالماء وأنت الآن
تخلطه بنفسك!! قال: أنا أخلطه لأشرب، قال: هذا حقك وأنا هذا حقي،
فمثلما تخلط أنت حليبك بالماء أنا أخلط حليبي أيضاً، قال: أنت
عندما تبيعه هكذا فهذا غش، قال: لا. أبداً كله سوى. فالقيد هنا
للبيت خلط البر بالشعير لا للبيع، ولو كان هنا دكتور من علم الغذاء
لشرح لنا غاية الحكمة من البر من حيث هو أصناف قد يصل إلى عشرين
صنف، وهو يتفاوت قوة وضعفاً ويسميه العوام عرق، فإن عجينة القمح لو
عجنت إلى أقصى وتشبعت بالماء تستطيع أن تصنع منها خيوطاً، هذا الذي(3/407)
يعمل (الكنافة) قال: سبحان الله! (يخلق من العجينة دبارة)، فهذه لا
تصلح تلك الخيوط لا من دقيق الشعير ولا الذرة، لكن تصلح من البر،
وطبيعة دقيق البر اليبوسة والقوة. اترك قطعة من عجين البر على شكل
عمود فإذا يبست كل اليبوسة تعجز أن تكسرها، وبعضهم كان يصنع كراسي
وسرائر للنوم بعجين البر، يشبعه بالماء ثم يلفه حتى التجبيس حتى
يصير قوياً. إذاً إذا أكل الإنسان من عجين البر وحده كان فيه قوة
وحرارة على المعدة، ولا يصلح لكبار السن، ولا لضعيف المعدة، ولابد
لهذه القوة في دقيق البر من تخفيفها، والعوام في بعض البلاد
يخففونها بالذرة الشامي؛ لأن الذرة الشامي ليس لها عرق يتفتت مثل
الرمل، ولو جعلت منه فطيراً لا يمكن أن تجعله مثل الرقاق، ولا يصلح
منه الرقاق أبداً؛ لأنه ليس له عرق قوي، فيدخلون الذرة الشامية مع
البر الجيد مناصفة، ورب الأسرة لما يخلطها يجعلها أثلاثاً، الثلثين
ذرة والثلث براً، البر ليمسك الذرة، ويكون هناك عرق حتى يخبز
ويحتفظ به إلى مدة ما.
فوائد خلط الشعير بالبر
خلط الشعير بالبر لأمور: أولاً: تيسيراً على صاحب العيال؛ لأن قيمة
الشعير أرخص من قيمة البر. ثانياً: تسهيلاً على أصحاب المعدة
الضعيفة. ثالثاً: مساعدة للشيَّاب والعجائز؛ فإن لهم قدرة على خبز
الشعير وليس لهم قدرة على خبز البر. فهنا يبين النبي صلى الله عليه
وسلم أن خلط البر بالشعير فيه بركة. أولاً: زيادة في المئونة،
ثانياً: قلة في الثمن والسعر في الشعير، ثالثاً: معالجة للذين من
طبيعتهم الإمساك؛ فمن أكل خبز الشعير لا يحصل عنده إمساك قط، ومن
داوم على خبز البر يحصل عنده الإمساك اليومين والثلاثة. إذاً: من
لطف الله ومن الحكمة النبوية والإعجاز أن يجعل البركة في خلط
الشعير مع البر للبيت للأكل لا للبيع؛ لأن في خلطه للبيع تدليس،
فصاع البر بعشرة، فإذا كان فيه عشرة في المائة من الشعير فقد زاد(3/408)
تسعة، وصار بإحدى عشر. وعلى هذا يسوق المؤلف رحمه الله هذا الحديث
في خصوص القراض؛ لأنه في باب القراض قال النبي صلى الله عليه وسلم
كما يروي عن ربه: (أنا ثالث الشركاء؛ فإن صدقا وبينا كنت بينهما،
وإن خان أحدهما الآخر خرجت من بينهما )؛ وهذا عام في الشراكة،
أبدان.. أعيان.. وجوه، لكن المؤلف لدقته ساق هذا الحديث وإن كان
إسناده ضعيفاً، لكنه مناسب لهذا الباب، وهو من باب الحث على
الإرفاق بالناس في البيع إلى أجل، وفي تيسير المعيشة في خلط البر
بالشعير. والله تعالى أعلم.
ما يجوز أن يشترطه رب المال على العامل
قال المصنف رحمه الله: [وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه: (أنه
كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة: أن لا تجعل مالي في
كبد رطبة ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به بطن مسيل؛ فإن فعلت شيئاً
من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه الدار قطني، ورجاله ثقات ].
عدم جعل المال فيما فيه الضرر والخسارة
هذه صور من صور معاملات الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ فقد كان
يشترط على العامل الذي أعطاه المال ليعمل فيه مضاربة هذه الشروط،
فيقول: هذا المال الذي أعطيتك عشرة آلاف فلا تجعله في ذي كبد رطبة،
ويعنى بها: هنا: الإبل، البقر، الغنم، الخيل، بهيمة الأنعام بشكل
عام، فقد يكون من عشاق الطيور، فذو كبد رطب لا تجعل مالي تجارة
فيه، حتى وإن كانت التجارة في ذي الكبد الرطب رابحة؛ لأن خطرها
شديد؛ لأن كل ذي كبد رطب يحتاج إلى رعاية وعناية خاصة حفاظاً على
حياته؛ فإذا سافرت إلى جهة ما وجئت بألف رأس من الغنم، بحسب الواقع
هذه الألف كم سوف تصل؟ هل ستصل الألف هي الألف، أو تتوالد وتزيد،
أم أنه يحتمل أن تنقص بموت بعضها؟ احتمال النقص فيها قوي، ولكن لو
جئت بألف كيس فول سوداني: هل من المحتمل أن ينقص منها شيء؟ بطبيعة
حالها: لا. ضعها ونم فوقها على السفينة، إلى أن يقولوا لك هذه جدة،(3/409)
لكن ألف رأس غنم لا تقدر أن تنام عنها.. بل تقدم لها الماء والعلف،
وتنظر التي سقطت تحت أختها، والتي ركبت عليها الثانية، والتي
نطحتها... تحتاج إلى رعاية، وإذا قصرت في هذه الرعاية عرضتها
للتلف. إذاً: يجوز له أن يشترط عليه أن لا يجعل رأس ماله في ذي كبد
رطب مخافةً على رأس المال. وهنا مسألة: لو أن العامل لم يبالِ بهذا
الشرط، وقال: إن ذوات الكبد الرطب تربح خمسة أضعاف قيمتها، وأنا لا
أريد أن أفوت علي هذه الفرصة، وأتى بها؛ فإن سلمت فلا كلام لأحد
عليه، وفي المثل: ما كل مرة تسلم الجرة، لكن إن حصل فيها عطب ومات
منها ما يلحق الخسارة، من الذي يتحمل الخسارة؟ الأصل في المضاربة
أن الوضيعة من رأس المال، والعامل لا يتحمل أي شيء إلا إذا تعدى أو
فرط، وهو هنا ما التزم بشرط صاحب المال وتعدى وفرط، فيكون الضمان
على حسابه هو. هذا الشرط لصاحب رأس المال مصلحةً فيه، وكذا إن
اشترط شرطاً آخر، وقال: هذا مالي تعمل فيه بشرط أن لا تتعامل مع
التاجر الفلاني، أو المؤسسة الفلانية، أو الشركة الفلانية، فتجاوز
وتعامل، فهو ضامن، ولماذا يمنعه من شخص بعينه أو مؤسسة بعينها،
بعضهم يقول: ليس له حق في ذلك؛ لأن فيه حجر له في التحرك في البيع
والشراء، فعندما يحظر عليه أشخاصاً، إذاً الباقي قليل، والباقي قد
لا يكون فيهم من الربح مثل هذه النواحي التي منعه منها، وإن كان هو
ملتزماً بشرط صاحب رأس المال لماذا؟ لأن صاحب رأس المال يعلم من
هذا الشخص الذي منعه التعامل معه أنه رجل لا يتحرى الحلال، ويتعامل
بالربا أو بالمحرمات، أو يتعاطى الممنوعات، أو يعمل في الظاهر في
مباحات.. سكر وشاهي وحليب وقشطة ولكن في الخفاء يعمل في الممنوعات،
والكل يصب في صندوق واحد، فإذا كان صاحب رأس المال يعلم عن إنسان
هذه الحالة فمن حقه أن يمنع شريكه من التعامل معه؛ لأن في هذا
إعانة له على الباطل، وكذلك المؤسسات. فإذا اشترط صاحب رأس المال(3/410)
على العامل شروطاً لا تضر بالتجارة فلا بأس؛ بخلاف ما إذا قال له:
الصنف الفلاني لا تعمل فيه، وليس فيه مضرة، كأن يعمل في القماش
وقال له: صنف الحرير لا تعمل فيه، فيقول: أنا آخذ الحرير وأبيعه
على الحريم، وعلى الرجل ليلبسه أهله، وليس حراماً على الرجل أن
يقتني الحرير ما لم يستعمله، يقتنيه ليهديه أو ليقدمه إلى زوجه إلى
بناته إلى ذوي رحمه لا مانع في ذلك، كما جاء عن عمر رضي الله
عنه: أنه رأى حلة تباع، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال: يا رسول الله! ابتع هذه الجبة لتلبسها وتستقبل بها الوفود.
أي: زي رسمي كما يقولون. وهذا أمر مشروع. (ماذا على أحدكم لو اتخذ
لجمعته سوى ثوبي مهنته )، لا مانع أن يكون للإنسان لباس
للمجتمعات وللهيئات ويكون ذا هيئة، كما قال البخاري في الأدب
المفرد: (حسن السمت من الإيمان)، فيتحلى بحلة جميلة عند الأجانب،
وهذا فيه إظهار عظمة الإسلام، ولهذا أبيح بعض المحرم في أرض
المعركة. واتفق العلماء على جواز لبس الحرير بمقدار أربعة أصابع
على حافة الجبة، وتحلية السيف بالذهب، مع أن الذهب محرم على
الرجال؛ لأن في رؤية العدو لهذه الحلية إشعار بأن خصمه غني،
متوافرة عنده الإمكانيات؛ فيعظم في عين الخصم. وسمعت من والدنا
الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أن جماعة من قبيلته
كان فيهم تجار وفيهم أهل مدافع وقتال، وكانوا يسيرون بقافلة
للتجارة، فرأوا من بعيد قطاع طريق قد يعترضونهم، فأوقفوا الإبل،
وكانوا على حالة أهل السفر، والشخص في السفر يلبس ما يلاقي به
وعثاء السفر وتراب الصحراء، فأناخوا إبلهم وأخرجوا حللاً للقاء
الوجهاء حينما يأتون المدن وينزلون الأسواق، فخلعوا ملابس السفر
ولبسوا أفخر لباسهم، وحملوا سلاحهم ونظموا أنفسهم ومشوا، فلما دنوا
منهم ورأوا عليهم الأبهة والطمأنينة وعدم المبالاة ابتعدوا عن
طريقهم، فلما اجتازوهم أناخوا الإبل وأخرجوا من تجاراتهم أشياء(3/411)
ووضعوها على الطريق كأنها هدية لهم. يهمنا في هذا: أن العدو حينما
رأى المظهر والهيئة عظم في عينه مكان خصمه. وفي غزوة تبوك جاء أبو
طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكيس فيه قثاء، فقال:
من أين هذا؟ قال: جئت به معي من المدينة، والقثاء دون بقية الفواكه
تتحمل مدة طويلة بعد قطفها، فأكل منها صلى الله عليه وسلم؛ فإذا
بغلام لأبي طلحة يمشي وعليه ثياب مهلهلة، وهم سيلقون العدو
غداً، فقال: أليس لهذا الغلام ثوباً سوى ذلك؟ قال: بلى يا رسول
الله! ثوب اشتريته له عند السفر وهو في العيبة، قال: ألبسه إياه،
فدعاه وألبسه الثوب فإذا به إنسان آخر، ثم قال له: أليس هذا خير من
ذاك، فسمعها الغلام، فقال: هو في سبيل الله يا رسول الله! قال: هو
في سبيل الله، فاستشهد في تبوك. نقف هنا ونقول: هذا غلام، سواء لبس
اللبس الحسن أو القبيح فمعروف أنه غلام، ومن عادة بعض الغلمان أنه
ربما اكتفى بالإزار فقط دون الرداء، أو كما يقولون الآن: باللباس
دون فنيلة، وحال السفر هذا حق، لكن ما دمنا سنقبل على العدو غداً
فإذا رأى العدو حالنا نمشي مطأطئي الرءوس منحني الظهور، والغلمان
كأنهم لا شيء، أو مساكين ليس لديهم ما يلبسو. إذاً: هؤلاء القوم هم
هزلاء هلكى فيظهر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين وحتى غلمانهم
في الهيئة الحسنة التي تعظم في عين الخصم والعدو. جاء عمر رضي
الله تعالى عنه بحلة وجدها تباع عند المسجد، فقال: يا رسول الله!
اشتر هذه والبسها لتستقبل فيها الوفود، فنظر فيها رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقال: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له يا عمر ).
هنا عمر اقترح أن يلبس رسول الله حلةً جميلة، ولكن التطبيق
العملي وتحقيق المناط لا يصلح في هذه الحالة التي جاء بها عمر ، فلو أن عمر جاء بجبة أخرى ذات قماش يلبسه ذو خلاق لكان قبلها
رسول الله، وبعد فترة جاء قماش للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك(3/412)
الذي يلبسه من لا خلاق له، فأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم
منها إلى عمر ، فجاء عمر إلى الرسول -وهذه قضية منطقية-
كيف يلبسها من لا خلاق له والرسول يرسل مثلها إلى عمر ؟ نتيجة
المقدمة المنطقية اجعلها معلقة، لكن عمر فهم هذا؛ فجاء: يا
رسول الله! فقال: بالأمس تقول لي: إن هذا يلبسه من لا خلاق له،
واليوم تهدي إلي منها، فقال: (يا عمر ما أهديتها لك لتلبسها
أنت ) فأرسلها عمر إلى أخ له في مكة قبل أن يسلم. وهكذا
العامل في مال الغير لو أنه عمل في الحرير بناءً على جوازه، وأن
الرجل لن يستعمله لنفسه فلا مانع في ذلك، فإذا شرط عليه رب المال
أن لا يعمل في هذا النوع فقد يكون قد حجر عليه في تعاطي الربح في
أنواع البيع والشراء. إذاً: اشتراط رب المال على العامل بعض الشروط
إن كانت لحفظ المال فهي جائزة كما هو الحال هنا.
عدم وضع المال في مكان يحتمل فيه المضرة
(لا تجعله في ذي كبد رطب ولا تنزل به بطن المسيل). نهى الرسول صلى
الله عليه وسلم المسافر بالليل أن ينزل في بطن الوادي؛ لأن هذا فيه
خطر عليه؛ لأن السيول من طبيعتها أن تأتي من محلات بعيدة وتمشي في
بطن الوادي إلى أن تصل إلى محلات ما جاءها قطرة مطر واحدة، ولا
غابت عنها الشمس، ولا سمعوا فيها رعداً، ولا رأوا فيها سحاباً،
ويكون آتٍ عن بعد ربما مائة كيلو، ويكون هؤلاء نيام فيجرفهم، ولهذا
نهى صلى الله عليه وسلم أن يعرس المسافر في بطن الوادي أو على
قارعة الطريق المطروقة نهاراً؛ لأن الهوام في الليل تخرج وتتتبع
الطريق المطروقة نهاراً، لعل إنساناً سقط منه شيء، أو ألقى بشيء
وهو يمشي من فضلات الطعام، أو أي شيء يصلح لتلك الهوام تأكلها، فهي
تطلب هذا في الطريق الذي يسلكه الناس نهاراً؛ لأنه مظنة أن يسقطوا
أو يلقوا شيئاً ربما أكلته هوام الأرض، فينهى إذا لم يكن ذي كبد
رطب وكان يابساً، جئت من ينبع مثلاً أو رابغ بفحم أو بأقط أو بشيء(3/413)
من اليابسات، فهذه لا تعرس بها على قارعة الطريق مخافة عليك أنت،
وعلى من معك من الغلمان، بل ابتعد عن الطريق الذي يسلكه الناس
نهاراً، وإن فعلت فأنت ضامن.
نفقة عامل المضاربة
مسألة: وهنا في عمل العامل: هل لعامل المضاربة نفقة من مال
المضاربة أم أن ونفقته على حسابه هو أم يأخذها من رأس مال الشركة؟
يتفقون على أن نفقته من رأس مال الشركة، ولكن بأي ميزان؟ هل بميزان
الترف والسعة، ويضيع رأس المال في مصاريفه .. ينزل في أفخر
(الفنادق)، ويأكل أفضل الأطعمة، ويتوسع على حساب غيره؟ لا. وكذا هل
يجتزئ بالتمر والماء؟ لا. إنما يأخذ النفقة بالمعروف، كما لو كان
في سفره هذا لحسابه هو كيف سيعمل؛ سيجتزئ في الصباح بالعيش والفول،
وفي الظهر بإدام وكذا ويكون مقتصداً في نفقته، وهكذا إما أن يقدر
له رب المال مقداراً معيناً يومياً لنفقته، وإما أن يتركه لأمانته،
فلا يسرف ويجحف برأس المال، ولا يبخل فيؤثر على نفسه؛ لأنه يجب أن
يكون نشيطاً ويأخذ حقه. وهل يتبع نفقته الكسوة؟ فيكتسي من رأس
المال ما دام في سفره؟ البعض يقول: الكسوة خارجة من النفقة، والبعض
يقول: الكسوة جزء من النفقة، والبعض يفصل ويقول: إذا كانت سفرته
هذه من الطول والزمن بحيث تبلى ثيابه قبل الشركة، فيستعيض عنها
بجديد مثلها على حساب الشركة، أما إن كانت السفرة قصيرة ومثلها لا
يكون لها أن تبلي الثياب التي يلبسها؛ فليس له كسوة. إذاً: النظر
بالمعروف. وحينما تكون البضاعة التي يعمل فيها العامل تحتاج إلى
عمال؛ لأنها بالات وأكياس كبيرة والعامل لا يقوى على حملها، أو
تحتاج إلى التحميل في السيارة من مكان مشتراها وتنزيل من السيارة
في مستودعاتها فأجرة الحمال من عمل العامل أو من رأس المال؟ قالوا:
من رأس المال، وكذا إن كانت تحتاج التجارة إلى مستودع تحفظ فيه إلى
أن يصرفها؛ فأجرة المستودع هذا من المال وإن كان لرأس المال(3/414)
مستودعاً فيستعمله، وإن لم يكن له استأجر بالمعروف من رأس المال.
وإذا كان عند التصريف والبيع السلعة نافقة والزبائن كثر واحتاج إلى
من يعمل معه لسرعة إنجاز تصريفها، فيستأجر عمالاً معه، وأجرة
العامل عليه هو من حصته أو على مصلحة التجارة، ويكون من رأس المال؟
وإذا جاء العامل ورأى الربح والعمل وقال: أنت جعلت لي الربح
مناصفة، ونحن الحمد لله وجدنا خيراً كثيراً، أريد أن تجعل لي شيئاً
مقطوعاً خارجاً عن النصف، يعني: يومياً خمسة أو عشرة ريال أو
شهرياً ألف ريال مثلاً، قال: وحصتك من الربح النصف، قال: معها.
أيجوز له ذلك أو لا يجوز؟ أجمعوا على أنه لا يجوز للعمال أن
يشترطوا نقداً معيناً، فإذا اشترط العامل لنفسه نقداً معيناً دون
حصته من الربح، قال: أنا ما أدري الربح كم يكون: كثير قليل. ولكن
أريد منك مبلغاً يومياً أو شهرياً كذا، فحينئذٍ لا يكون عقد شراكة
بل يكون عقد إجارة، ويكون الربح كله لصاحب المال، وللعامل ما
اشترطه من المبلغ المقطوع، ولا عليه ربحت أو خسرت. هذه أهم أطراف
نواحي شركة المضاربة، وما يجوز فيها من الشروط وما لا يجوز، وهنا
حكيم بين لنا العلة في ذلك، وله الحق في ذلك.
حكم ركوب البحر للتجارة في الحاضر والماضي
[ولا تحمله في بحر]. هنا نظر للمجتهد، ويجب على العلماء اتخاذ
الاجتهاد والاستنباط والنظر، هل هذا الشرط يمكن أن يعمل به في
الوقت الحاضر أم لا؟ لا تتسرع وتقول: نعم أو لا، يجب على طالب
العلم الآن وعلى العلماء والهيئات العلمية التي تعقد الندوات أو
المؤتمرات إذا نظرت في مثل هذا أن تكون ذا بصيرة.. هل استخدام
البحر في ذاك الوقت هو عين استخدام البحر في هذا الوقت؟ هناك نصوص
سابقة لمن كان ينهى عن ركوب البحر للحج لأنه مجازفة وخطورة، ونحن
نقول: إن ركوب البحر ترجع طبيعته إلى الآلة التي تركب، فإنسان يأتي
من السودان إلى جدة يعبر البحر عرضاً، بواسطة لنش، أو لنش شراعي،(3/415)
هل هو كمثل من يأتي في باخرة تمخر العباب؟ لا، يمكن هذا اللنش
الصغير يأتيه سمك القرش ويأخذه من النصف، لكن من في باخرة كبيرة
ينام ويلعب، وحتى لو أراد السباحة فهناك حوض سباحة في الباخرة...
مدينة تتحرك، فهل خطورة البحر في ذاك التاريخ مع السفن الشراعية
موجودة الآن مع البواخر الآلية التي تمشي بطاقة البخار أو الاحتراق
الداخلي بالديزل أو غيرها، وهذا الجرم الكبير كالأعلام، أعتقد أن
الخطورة ليست واحدة، والوضع يختلف، فإذا قال: لا تضع مالي في بحر،
نقول: إن كنت تخاف عليه من السفينة الشراعية التي يقف عنها الهواء
وتغرق، أم من القرصنة في البحار فهذا أمر انتهى. وهذه كانت مهمة
البريطانيين، بريطانيا قبل أن تصبح دولة متحضرة كانوا قراصنة في
البحار يقطعون الطريق على السفن، فإذا كان الطريق فيه القراصنة
يأخذون البواخر قهراً ويسلبون ما فيها. فله حق، وإذا كانت هناك
تأمينات بحرية؛ لأن الحاصل الآن: أنه لا تبحر سفينة من ميناء
ببضاعة إلا وهي مؤمن عليها، وكيف يؤمن عليها؟ يقولون: أول عقود
التأمين في العالم التأمين البحري، يأتي التاجر ويشتري السلعة من
لندن، وتريد الجهة المصدرة تصدير البضاعة إلى جدة؛ لأن الشرط في
عقد البيع: إما تسليم محلي أو تسليم إلى ميناء المشتري، فتتعهد
الجهة البائعة بإيصال السلعة إلى ميناء المشتري، فإذا كان التوصيل
على حساب المشتري فشركة التأمين البحري مهمتها أن تأخذ عقد الشراء
وتذهب إلى المصنع الذي باع وتتابع تعبئة السلع في الصناديق، وهل
هذه التعبئة سليمة أو ليست سليمة، فإن كانت البضاعة من زجاج لابد
لها من تغليف ومحافظة... فتقف وتشرف على تعبئتها تعبئةً سليمة،
فإذا انتهت من التعبئة وتريد أن تشحنها في الباخرة المبحرة إلى
جدة، تنظر أي البواخر التي اختارها المصنع، وهل هي جديدة قوية تعبر
المحيطات أم هي مخلخلة ليست قوية معرضة للانفصال أو الانكسار أو(3/416)
الانشطار، فإن كانت صالحة سمحت شركة التأمين بتعبئة البضاعة
المعبأة من المصنع فيها، ثم تنظر متى ستبحر؟ وتذهب شركة التأمين
إلى مصلحة الأرصاد وتسأل عن هذا اليوم؛ فإن قالوا: والله عندنا
أخبار عن عاصفة قادمة من الجهة الفلانية وسرعتها كذا كما هو في
النشرة الإخبارية، وليس كما يظن بعض الناس أن النشرة الجوية
تكهنات، لا، بل هي مبنية حقائق ونظريات علمية واقعية. فمثلاً:
المرصد الذي في جدة والذي في الهند ودونهما مراصد ما بين دلهي إلى
جدة، فالمرصد الذي يلي الهند مباشرة يتلقى من المرصد الهندي أنه
مرت بي عاصفة ورياح هوجاء سرعتها في الدقيقة كذا، وإذا استمرت في
اتجاهها سوف تصلكم بعد كذا، فتصلهم على حسب التقدير، فيتصل هذا
المركز بالذي بعده وهكذا إلى جدة مرت بنا عاصفة كذا سرعتها كذا،
وإذا استمرت على هذا النحو سوف تصلكم وقت كذا، وهكذا يتناقلون
الأخبار لا سلكياً، وعندما تنتهي إلى ما قبل جدة مركز جدة يعلن
عنها. إذاً: النشرة الجوية ليست تكهناً، وإنما هي عبارة تناقل
للمعلومات من المراكز بعضها إلى بعض، فيكون ذلك تحذير للذين يعملون
في البحر .. حركة البحر هائج .. حالة البحر هادئ والموج فيه كذا،
على أي أساس هو في مكتبه من أجل الإخباريات من المراكز التي مرت
بها العاصفة وهي في طريقها إليه. فتأتي شركات التأمين إلى مصلحة
الأرصاد وتسأل ماذا عندكم في طريق الإبحار من هنا إلى السعودية،
فيعطونهم الأخبار، فإن وجدوا عواصف في هذا اليوم أو في ما بعده
لمدة وصولها إلى جدة أوقفوا الرحلة، وإن وجدوا هدوءاً وأماناً
أجازوا الرحلة، فتأتي الرحلة بسلامة الله وتأخذ شركة التأمين
أجرتها، وكما يقول من كتب في عقود التأمين: أسلم وأول عقود التأمين
هو التأمين البحري، كذلك تأمينها من القراصنة؟ هل هي سفينة محصنة
قوية أو ضعيفة يمكن للقراصنة أن يأخذوها. إذاً: كل هذا فيما يتعلق(3/417)
بركوب البحر. فإذا قال رجل الآن لا تضع مالي في البحر، قال: البحر
اليوم ليس مثل أمس مهلكة، البحر الآن أصبح مأموناً أكثر من البر؛
لأن قراصنة البحر تعجز عن السفينة الكبيرة، وقطاع الطريق في البر
لا يعجزون عن القافلة بالإبل. إذاً: لو قال: لا تضع مالي في البحر،
وقالها بناءً على ما سبق نقول: النظر يختلف، ونقول: واجب العلماء
أن ينظروا في الواقع الماضي والواقع الحاضر. [(أن لا تجعل مالي في
كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به في بطن مسيل، فإن فعلت
شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه الدارقطني ورجاله ثقات]. إن فعلت
شيئاً من ذلك فقد أصبحت ضامناً بفعلك هذا، فإن وقعت هناك خسارة
دفعتها، وإن لم تقع خسارة فأنت برضاك ضامن.
اقتسام الشركاء مال المضاربة
قال المصنف رحمه الله: [وقال مالك في الموطأ: عن العلاء بن عبد
الرحمن بن يعقوب ، عن أبيه، عن جده: (إنه عمل في مالٍ لعثمان على أن الربح بينهما)، وهو موقوف صحيح]. هذا الأثر موقوف صحيح على
عثمان ، وهو خبر واضح، وأوضح من هذا ما يذكره العلماء عن عبد
الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى
عنهم. أنهما كانا في الشام وكان أبو موسى الأشعري عامل هناك،
وكانا في الثغر، فرغبا العودة إلى المدينة، فمرا بأبي موسى ؛
ففي رواية أنه قال لهما: عندي مال أريد أن أبعثه إلى أمير المؤمنين
عمر -أي: لبيت المال- أعطيكم إياه تشترون به تجارة وتبيعونها
بالمدينة فتربحون وتسلموا رأس المال لعمر : ففعلا، فربحا
وجاءا إلى عمر ودفعا إليه المال بالقدر الذي أخذوه من أبي موسى ، فقال لهما: ما خبر هذا المال؟ فأخبراه بالخبر، فقال: ما الذي حمل
أبو موسى على ذلك، وهل كل الجند أعطاهم مثل ما أعطاكما؟ قالا:
لا. قال: إذاً: قال في نفسه أنكما ابنا أمير المؤمنين وصانعكما،(3/418)
ردا المال بربحه، فسكت عبد الله وكان حيياً، وقال عبيد الله : ليس لك ذلك يا أمير المؤمنين، قال: ولم؟ قال: أرأيت لو هلك المال
كنت ضمنتنا إياه أم لا؟ قال: بلى، قال: ما دمت كنت تضمننا إياه
فالغرم بالغنم. أي: ما دمنا سوف نضمنه لك عند التلف فلنا حق الربح
كاملاً. فقال أحد جلساء عمر رضي الله تعالى عنه: يا أمير
المؤمنين! اجعله بينك وبينهما قراضاً، يعني: مضاربة، ففعل وأخذ نصف
الربح ورد عليهم نصف الربح. فهذا إقرار من أمير المؤمنين عمر على المضاربة في المال، والمال مع من؟ مع أفراد لبيت مال المسلمين
-يعني: مع الدولة- فلو أن بيت مال المسلمين أو جانب وزارة المالية
أقرضت مؤسسة أو جماعة مبلغاً من المال يعملون فيه ولهم جزء من
الربح فلا مانع في ذلك. وكما أشرنا: إن مباحث شركة المضاربة فيها
نواحٍ وجزئيات عديدة، ولعل هذا القدر يكفينا فيما أوردناه وبالله
تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى
الله عليه وسلم. وأقول: إن فقه المعاملات يحتاج -في نظري- كل عشر
سنوات إلى ندوة علمية، لينظر في تطوراته وحاجة الناس إلى ما استجد
من أنواع التعامل، فمعاملات كثيرة عديدة موجودة في الأسواق لا تأخذ
طريقها السليم ولا ينبه عليها أحد، وبالله التوفيق.
( كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [1] )
عناصر الموضوع
1 أحكام الإجارة
2 أحكام إجارة الأراضي
كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [2]
جعل الله الناس بعضهم لبعض سخرياً، ينتفع بعضهم من بعض، فشرع الله عز
وجل المؤاجرة على الأعمال، وجعل لها شروطاً على اختلاف أنواعها، ومن
أنواع الإجارة إجارة الأراضي، وقد جاء الإسلام فنهى عما فيها من الغرر
الذي كان قائماً، وأجاز ما فيها من منفعة حفظاً لحقوق الطرفين، وصيانة
للود بين المسلمين.
أحكام الإجارة
[وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه قال: (سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس(3/419)
يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات،
وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا
ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء
معلوم مضمون فلا بأس به ) رواه مسلم . وفيه بيان لما أجمل
في المتفق عليه من إطلاق النهي عن كراء الأرض ].
تعريف الإجارة
انتقل المؤلف رحمه الله من بحث المساقاة والمزارعة إلى المؤاجرة،
وهو القسم الثاني من عنوان المصنف في هذا الباب، والمؤاجرة تأخذ
حيزاً كبيراً في كتب الفقه والموسوعات. يعرفون الإجارة بأنها: بيع
المنفعة، بخلاف البيع فهو: بيع العين، فأنت تشتري الدار وتصبح
ملكاً لك، تبيعها أو تهبها أو تؤاجرها أو تغلقها أو تهدمها أو
تبنيها أنت حر، أما في عقد استئجار عين الدار فأنت لا تملك العين
ولكن المنفعة، وما هي المنفعة التي تأتي من الدار؟ المنفعة التي
ترجى من الدار هو السكنى، ولذا يقولون: من استأجر عيناً لا يجوز له
استعمالها في غير ما وضعت له وإلا كان متعدياً مفرطاً، فلو استأجر
داراً للسكنى، ثم حوّلها مدرسة، فلصاحب الدار الحق في أن يلغي
العقد؛ لأن مضرة المدرسة بالأطفال أكثر من مضرة الساكن.. رجل هو
زوجته وولدان أو ثلاثة مضرتهم على البيت ليست كمائة طالب، هذا يكسر
النوافذ أو يخرب أو يستهلك ماءً أو... إلخ، وهكذا. فإذا استأجرها
للسكنى لا يحق له أن يستعملها مستودعات للتجارة؛ لأن المستودعات
يضع فيها بضائع ومنها المطعومات، فتنشأ فيها الفئران وتتربع وتسمن
وتحفر في الأرض وتخرب، أما إذا استأجرها لسكناه فله الحق في أن
يؤاجرها لمثله في استيفاء مثل المنفعة التي استأجر عليها.
أدلة مشروعية الإجارة
الإجارة أمر ضروري يقتضيه الشرع والعقل: أما الشرع؛ فقد جاءت
النصوص بذلك في قضية نبي الله موسى قَالَتْ
إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]،
ثم قال له: إِنِّي(3/420)
أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص:27]،
والسنة ليس فيها إلا حجة واحدة فَإِنْ
أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27]،
وقبل موسى وتم العقد فقال: أَيَّمَا
الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ [القصص:28]،
وكذلك الظئر تستأجر لترضع الطفل، وأم موسى استرجعت ولدها وصارت
ترضعه وتأخذ أجرتها، وهكذا يقول صلى الله عليه وسلم: (عملت في مكة
على قراريط )، وعمل لخديجة رضي الله تعالى عنها في مالها.
إنسان عنده أرض واسعة ولا يستطيع أن يزرعها، ماذا يفعل؟ يؤاجرها.
عنده مزرعة ولا يستطيع أن يقوم عليها؛ يساقي على شجرها، أو يؤاجرها
كلها وثمرها بينه وبين المستأجر.
أقسام الأجير عند الفقهاء
قسم الفقهاء الأجير الذي يعمل للغير إلى قسمين: أجير عام لكل
الناس، وأجير خاص لهذا الشخص فقط؛ فالأجير العام: هو الذي يعمل لك
ولغيرك على عين العمل دون دخل للزمن فيه، مثل الخيّاط تستأجره على
خياطة الثوب، والصائغ تستأجره على صياغة الحلي، والنجار تستأجره
على عمل الأبواب أو الدواليب، ويعمل لغيرك بجانبك. والأجير الخاص:
هو الذي تستأجره وتملك مدة الإجارة، استأجرته يوماً أو شهراً أو
سنة على حسب الاتفاق، فمدته الزمانية ملك لك، إن نومته نام، وإن
شغلته اشتغل، تستغل وقته في العقد الذي آجرته عليه. ثم يفصل
الفقهاء أحكام كل نوع من الأجراء، فالأجير العام ضامن، وأول من
ضَمَّن الأجراء هو علي رضي الله تعالى عنه، فإذا أعطيته قماشاً
ليخيط لك ثياباً فالأصل أن القماش عنده أمانة؛ لأنه أجير يعمل فيه
لحسابك، فإن تلف هذا القماش أو ضاع أو انحرق، أو... إلخ، فعلى حساب
من؟! وكانت تضيع السلع على الناس، فعلي ضمَّنهم ليحافظوا على
سلع الناس، ويؤدون الحقوق كما استلموها. والأجير الخاص ليس بضامن
لشيء إلا إذا تعدى؛ لأنه يعمل وأجرتك عليه لجهده اليومي -زمنه- فإن(3/421)
تعدى أو فرط فهو ضامن بتعديه أو تفريطه، لكن إذا تلف على يده شيء
بدون قصد فلا ضمان عليه. مثلاً: وضع الشاي في الكأس وهو حار فانكسر
الكأس، هو لا يعلم بأن الحرارة تسبب التمدد، والتمدد الداخلي يسبق
التمدد الخارجي، فلا يتجاوبان معاً، فتمدد الداخل يكسر الخارج،
وهذه نظرية في الزجاج: إذا كان الزجاج سميكاً -اثنين أو ثلاثة
مليمترات- وكان بارداً، وصببت الحار فيه، فإن الحار يسبب تمدداً في
الزجاج، فالقسم الداخلي يتمدد بسرعة، لكن الحرارة لم تنفذ إلى
القسم الخارجي، فهو بطيء التمدد، ومن هنا يكسر من الداخل ليتيح
فرصة التمدد، ومن هنا نجد أن ثلاجة الشاي إذا صببت فيها الحار قل
أن تنكسر، لماذا؟ لأن التمدد الذي يحدث في الداخل حالاً يحدث في
الخارج؛ لرقة سمك الزجاجة، فهي رقيقة كالورقة، فإذا بدأ التمدد في
الداخل تجاوب معه الخارج، فليس هناك مضايقة وليس هناك انكسار.
المهم عندنا: أن الأجير الخاص إذا لم يتعمد إتلاف الشيء فلا ضمان
عليه، وهنا وردت في إيجار الأرض فقط، ولكن سيأتي بعد ذلك ما يوحي
بعموم الأجير: (ثلاثة أنا خصمهم... ).
شرط الأجير والعين المؤجرة
في رأيي أن كل نساء كان في هذا الحديث، وكل اختلاف كان في هذا
الباب قد انقضى أثره، وذهب تأثيره، وانعقد الإجماع على ما عليه
الناس اليوم في الإجارة في الجملة، والمنع إنما يأتي لما فيه غرر
على الأجير أو المستأجر، وما سلم من الغرر في عقد الإجارة فهو
ماضٍ، وسيأتي التنبيه على من الذي يصح له أن يؤاجر نفسه، وفي أي
شيء يكون عقد الإجارة. ويشترطون في الأجير: أن يكون عاقلاً بالغاً،
يملك أمر نفسه، بخلاف العبد المملوك لسيده والصبي، فالعبد لا يملك
أن يؤاجر نفسه إلا بإذن السيد، والصغير ليس كامل الأهلية على أن
يؤاجر نفسه. ويشترطون لصحة العين المؤجرة: أن لا تكون المنفعة
محرمة، فإذا كانت المنفعة المستوفاة محرمة لا يصح هذا العقد، كمن(3/422)
أجر داره لتكون محلاً لشرب الخمر، أو محلاً لممنوع أو محرم شرعاً،
فلا يجوز ذلك، أو تستأجره على أن يعصر الخمر، هذا العمل محرم، ولا
يجوز له أن يعمله، ولو كان يعمله في بيته هو؛ لأن أصل العمل محرم،
فكيف يباح له أن يستأجر من يعمله؟!
أحكام إجارة الأراضي
وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه قال: سألت رافع بن خديج عن
كراء الأرض بالذهب والفضة فقال: لا بأس به ]. ورافع بن خديج فيما يخبر عن نفسه: كنا أكثر أهل المدينة حقلاً -أو زرعاً أو
نخلاً- فكانت لهم الأراضي الواسعة والبساتين المتعددة، وكانوا
يؤاجرون ويستأجرون، فهو أدرى من غيره بهذه الأحكام؛ لأنه يخالط
ويباشر ويعامل في ما يتعلق بالموضوع وهو الإجارة؛ ولهذا وجه السؤال
إليه، وما وجه لأبي هريرة ؛ لأن أبا هريرة ما كان عنده من
الأراضي والنخيل في بادئ الأمر ما يجعله يكون لصيقاً بأحكامها،
بخلاف ما كان فيما بعد من إمارته على البحرين، وكان له بستان مكانه
الآن على طريق الهجرة ما بين قباء ومسجد أبيار علي من جهة الجبل.
شرط تعيين الأجرة والمنفعة المطلوبة
قال: سألت رافع عن إجارة الأرض بالذهب والفضة -يعني: بالنقد-.
قال: لا بأس. وهنا يتحقق الشرط عند الفقهاء، وهو شرط لصحة عقد
الإجارة، وهو معرفة المنفعة المطلوبة، وقيمة الأجرة المطلوبة في
هذه المنفعة فتكون الأجرة معروفة محددة بدينار أو بعشرة دراهم، أو
بعشرين درهماً؛ فإذا كانت الأجرة معلومة والمنفعة المطلوب
استيفاؤها معلومة، فلا بأس بذلك. وهنا أيضاً يقال لمن منعوا
المساقاة: الذي يدفع الذهب والفضة في أرض بيضاء، هل يعلم كم سيحصل
له من زراعة الأرض؟ لا يعلم، فكيف صححتم عقد الإجارة والمستأجر
يدفع المال ولا يعلم ماذا سيحصل عليه؟ كما أن المساقاة عقد غرس
قائم، وبحكم العادة ومرور السنين نجد النخل كل سنة ينمو. إذاً: عقد
المساقاة أضمن من عقد الإجارة؛ لأن المساقاة في أقل الأحوال الأصول(3/423)
موجودة، والثمار فرع عنها، بخلاف الأرض فهي أرض بيضاء؛ ستحرث ويوضع
فيها الحب ويدفن ويسقى الماء ثم على بركة الله، فصاحب النخل أضمن
لأجرته من صاحب الأرض البيضاء. فأجاز رافع إجارة الأرض بالذهب
والفضة، يعني النقد. فلو جاء بسبيكة ذهب أو فضة لا ندري كم وزنها،
ولا قيمتها لم يصح العقد؛ لأنه ربما يطرأ على العقد ما يوجب فسخه،
وتصبح الأرض غير مستحقة أو يمنع منها، فيأتي المؤجر ويمنع المستأجر
من العمل ويفسخ العقد، مع أن الإجارة عقد لازم، فماذا يكون الحل،
نرجع للسبيكة فلا ندري كم وزنها، إذاً لابد من معرفة أجرة الأرض.
ومثله لو قال: استأجرها بحفنة من الدراهم، أو بكيس من الدنانير،
وهو لا يعلم كم فيه، لم تصح الإجارة.
النهي عن الإجارة على شيء من الزرع في أماكن معينة
[ سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة، فقال: لا
بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع ]. رافع يقول: لا بأس بالذهب والفضة؛ لأنه شيء معلوم، وكلا الطرفين يمكنه
أن يرجع إليه، وإنما كانت الإجارة أو المؤاجرة المنهي عنها على عهد
رسول الله على ما ينبت على الماذيانات وأقبال الجداول، وهي الحياض
وما يليها من الزرع الذي يكون على طرف الحوض بجوار الحد الترابي،
هذا متوافرة فيه كمية الغذاء والسماد للنبات، فإذا وجد كفايته من
الماء يكون الزرع في تلك الجوانب والأطراف أقوى وأكثر ثمرة مما هو
في داخل الأحواض؛ لأن الذي في داخل الأحواض يتزاحم بعضه مع بعض،
والذي على أطراف الجداول يمر عليه الماء مدة أطول مما هو في آخر
الحوض، وأقبال الجداول أيضاً ما كان مما يلي الربيع -على ما سيأتي-
يأخذ من الماء أكثر مما هو في آخر الحوض. فكانوا يكرون الأرض على
شيء من الزرع في أماكن معينة، وبقية الأحواض تكون للعامل، المستأجر
يأخذ الأرض وأجرتها، ما سيحصله من داخل الحوض أو مما سيحدده له(3/424)
المؤجر، فإذا كان الأمر كذلك يقول رافع : ربما صح هذا وهلك
ذاك، وربما هلك هذا وصح ذاك، فبعض النباتات لا تحتاج إلى كثرة في
الماء، وكثرة الماء قد تفسدها، ويكون داخل الحوض أحسن من خارجه أو
طرفه، المهم قد يصيب الزرع بعض الآفات. فعقد الإجارة من أوسع أبواب
الفقه، من حيث كيفية المؤاجرة، والعاقدان: المؤجر والمستأجر،
والعين المعقود عليها، والإجارة في الفقه: عقد على منفعة العين، أو
يقولون: بيع المنفعة أو منفعة الرقبة، فبيع المنفعة لا يتناول
الأصل أو العين، وتقدم بيان ذلك: بأن يوجد من يشتري الدار، وآخر
يستأجرها، فالذي اشتراها اشترى عينها: بناءها وأرضها وتخومها
وهواءها، يتصرف فيها تصرف الملاك، والذي استأجر المنفعة ليس له في
عين البناء ولا لبنة، وليس له في العين المؤجرة شيء قط، إنما
يستوفي منفعته في الغرض الذي استأجر من أجله. استأجر سيارة للحمل
والنقل، وبحسب أيضاً موضوعيتها، هناك سيارة لحمل الثقيل، وسيارة
لحمل الآدمي؛ فكل يستعمل أو يستوفى في منفعته التي جعل لها.
مشروعية مؤاجرة الإنسان نفسه
عارض بعض الناس في جواز إيجار الإنسان نفسه، مع أن الكتاب والسنة
جاءت بتقرير جواز تأجير الإنسان نفسه، كما جاء في قصة نبي الله
موسى عليه السلام مع والد زوجته: إِنِّي
أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص:27]،
وكما قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى؛ آجر نفسه على عفة
فرجه وإطعام فمه )، فهذه إجارة ثابتة في كتاب الله سبحانه
وتعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وقد رعى
الغنم. قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا رعيتها على قراريط
لأهل مكة -أو: قراريط بمكة- ) . والناس يختلفون في كلمة
(قراريط) وهي جمع قيراط، والعرف السائد في مجتمعات الناس: أن
القيراط جزء من مجموع، وبعضهم يجعل هذا المجموع هو الأربعة(3/425)
والعشرين؛ لأنه العدد الذي يمكن أن يؤخذ منه جميع الأسهم في
الفرائض الواردة في كتاب الله: ثمن وسدس وثلث ونصف وثلثين، كل هذه
الكسور الاعتيادية يمكن إخراجها من الأربعة والعشرين بدون كسر،
فاتفقوا على هذا حتى في الذهب وما يخلط معه من المعادن الأخرى، وهو
-كما يقولون- الشبه، وهو نوع من الصِفر يشبه الذهب، يقول: هذا عيار
أربعة وعشرين، عيار واحد وعشرين، فإذا كان عيار أربعة وعشرين يكون
ذهباً خالصاً ليس فيه خلط، وذهب أربعة وعشرين لا يصلح للصياغة؛ لأن
الذهب في أصله لين، ولابد أن يضاف إليه معدن آخر يعطيه نوع صلابة؛
ولهذا لصياغته يضاف إليه قيراطان من النحاس الصلب، فتجد من يقول:
عيار واحد وعشرين، يعني: الذهب الخالص في هذا الجرم من الحلي واحد
وعشرين قيراط، وباقي الأربعة والعشرين -ثلاثة قراريط- من النحاس،
أو عيار اثنين وعشرين، وهي أعلى نسبة في الصياغة. فهنا بعض العلماء
يقول: معنى (على قراريط) يعني: على نسبة معينة من الدنانير أو
الدراهم. والبعض يقول: لا هذا ولا ذاك، القراريط اسم مكان في مكة.
ويجاب عن هذا بأن أهل مكة لا يعرفون بقعة فيها تسمى (قراريط)،
وقائل هذا يقول: إن العرب لم تكن تعرف النسبة بالقيراط. وأعتقد أن
هذا القول فيه نظر. فقد جاء الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (أن
الله سبحانه قال: من يعمل لي من أول النهار إلى الظهر وله قيراط.
فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من الظهر إلى العصر وله قيراط.
فعملت النصارى، ثم قال لهذه الأمة: تعملون من بعد العصر إلى غروب
الشمس ولكم قيراطان. فغضبت اليهود والنصارى، قالوا: كيف يكون عملنا
أكثر وأجرنا أقل؟! قال: وهل أنقصتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا.
قال: هذا فضلي أوتيه من أشاء )، ولهذا قال العلماء: إن كل ما
يحصل عليه العبد من الأجر على عمل الطاعات هو فضل من الله ليس
بكسبه بذاته. وهذه حقيقة تحتاج إلى رجوع إلى الوراء والتأمل فيها(3/426)
قليلاً، أنت صمت. بم صمت وذاك مريض لا قدرة له على الصيام؟ وأنت
صليت. بم صليت وغيرك منصرف عن الصلاة أو كسلان عنها؟ أنت حججت. بم
حججت وغيرك يملك الملايين ولم يحج؟ إذاً: صومك بطاقة الصحة فضل من
الله، والله الذي أعطاك الطاقة في بدنك لكي تستطيع أن تصوم، والله
الذي منحك الهدى والتوفيق لتؤدي الصلاة والقدرة عليها، والله الذي
جعل لك استطاعة على الحج بالمال والبدن. فقوله هنا: (من يعمل لي)
يبوب عليه البخاري رحمه الله: باب الأجرة على نصف النهار، رداً
على من يقول: لا تصح إجارة الإنسان إلا يوماً كاملاً، ولكن هذا ليس
بلازم، فقد تستأجر الإنسان الساعة والساعتين، ويوجد في بعض نظم
العمل الأجر بالساعة، وكما يقولون في الأعمال العادية (OVER TIME)
يعني: ساعات زيادة على العمل الرسمي، ويحاسب عليها. وجاء أيضاً عنه
صلى الله عليه وسلم: (من صلى على الجنازة فله قيراط، ومن شيعها حتى
تدفن فله قيراطان، ومن اقتنى كلباً غير كلب صيد أو ماشية نقص من
أجره كل يوم قيراط ). إذاً: القيراط معروف كجزء من الأجر متداول
عند الناس، والرسول يخاطب الناس بما يعلمون، إذاً: (على قراريط)
جمع قيراط، وهو الجزء من عدد معين، وتختلف البلدان في هذا العدد من
حيث هو، وعند المسلمين والعرب في حساب الفرائض هو أربعة وعشرون.
وكما قالت ابنة شعيب: يَا
أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ
الأَمِينُ [القصص:26]،
إذاً: الأجرة قديمة، وهذا نبي من أنبياء الله يؤاجر نفسه. وعلي رضي الله تعالى عنه لما جاء المدينة مر على تراب ومعه تبن مخلوط،
ثم مر عليهم في الغد فإذا هو على ما هو عليه، ومر عليه في الغد
فإذا هو على ما هو عليه، فسأل: لمن هذا التراب المخلوط بالتبن؟
قالوا: لفلانة، لم تجد من يمتحُ لها الماء لتعجنه، فقال لها: أنا
أمتح لك، كم تعطيني؟ قالت: على الدلو تمرة. فمتح لها ستة دلاء وأخذ(3/427)
ست تمرات. إذاً: المؤاجرة على الأطيان والمساكن والحيوانات والآدمي
جائزة.
حكم استئجار غير المسلم
هنا مسألة يعقد لها البخاري باباً: استئجار المسلم لغير
المسلم. فهل يجوز للمسلم أن يستأجر مشركاً أو يهودياً أو نصرانياً؟
يذكر ابن حجر أن هناك من يمنع من هذا كلية، ولا يجوز التعامل
معهم، ويذكر للجمهور القول بالجواز، ويذكر عن مالك الجواز عند
الحاجة، وما هي الحاجة؟ إذا لم يجد عنه بديلاً مسلماً في عمل من
الأعمال -كما يقولون- الفنية، أو التخصصات النادرة فلا مانع، وساق
قصة ابن أريقط الذي استأجره أبو بكر رضي الله تعالى عنه
للدلالة على طريق الهجرة، قال: استأجراه -الرسول صلى الله عليه
وسلم وأبا بكر - وكان رجلاً خريتاً من بني دؤل مشركاً على دين
قومه، وهنا شرف الكلمة، وأمانة الأجير: إِنَّ
خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]،
فهذا مشرك على دين قومه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد
أن ينتقل خفية من قومه، ومع ذلك يأتمنه؛ لما عرف عنه من الأمانة،
فأعطاه أبو بكر راحلتين، وواعداه الغار بعد ثلاثة أيام، فجاء
على الموعد، فدلهم على الطريق، ويختلف الناس بعد ذلك: هل أسلم أو
لم يسلم؟ وابن حجر يرجح أنه أسلم بعد هذا. يهمنا أنه عند العقد
كان مشركاً، ولهذا يقول والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى
علينا وعليه- في تفسير قوله تعالى: أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]،
يقول: التدبر في آيات كتاب الله والعمل بها تقتضينا أن نأخذ
بالصناعات وبالفنون وبالعلوم ولو من غير المسلمين ما دام في ذلك
خدمة لديننا، ولا تتعارض مع الدين في شيء، وذكر الطبيب غير المسلم،
والفنيين أو أرباب الصناعات أو غير ذلك مما المسلمون بحاجة إليهم.
إذاً: الاستئجار يكون للعين من الجمادات: الدور والبساتين،
وللحيوانات وما استحدث الآن من السيارات والطيارات، والآن يوجد(3/428)
تاكسي طائرة في أوروبا لأصاحب الأعمال يستأجرونها للتنقل عليها،
البواخر... إلى غير ذلك من وسائل النقل الحديثة، وكذلك إجارة
الإنسان. والبحث عندنا الآن فيما كانت الإجارة عليه، وهو: الأراضي.
والمدينة كانت زراعية، وكانت الإجارة فيها إما مساقاة أو مزارعة أو
استئجار البستان بكامله، وكذلك الأرض البيضاء يستأجرها الإنسان
ليزرعها، كيف كنتم تصنعون في مزارعكم يا رافع ؟ قال: إما
استئجارها بقدر معلوم من ذهب وفضة فلا بأس: هذه قطعة أرض مائة في
مائة متر، خمسين في خمسين، ألف في ألف، أستأجرها منك بدينار، أو
بعشرة، أو بمائة، لا بأس في ذلك، وهو الذي يعنيه الفقهاء بقولهم:
لابد من تعيين الأجرة لئلا يكون هناك نزاع فيما لو حصل فسخ للعقد،
أو حصل ما يوقف الاستفادة من الأرض، فيكون المستأجر له حق الرجوع
على المؤجر بحصته من الأجرة التي دفعها. قال: أما بشيء معلوم ذهب
وفضة فلا بأس. إذاً: هذه قاعدة عامة عند جميع المسلمين، تستأجر
بيتاً، بستاناً، أرضاً بيضاء، آلة نقل أياً كانت بنقد معين فلا
بأس.
إسناد الصحابة الحكم للعهد النبوي
يقول رافع : (أما بالذهب والفضة فلا بأس، وإنما -أداة للحصر-
كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) فكلمة
(على عهد رسول الله)، كأنه يسند ذلك إلى رسول الله، وهل رسول الله
حضر العقود، والمزارع؟ لا، إنما رافع يذكر الصورة الواقعة،
ولماذا قال: (على عهد رسول الله)؟ لأن هناك قاعدة: ما كان الله
سبحانه وتعالى ليقر الناس على خطأ ورسول الله موجود، فكونه على عهد
رسول الله يعني: أقره رسول الله، أو أقره الله في حضرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ فيكون مسنداً إلى رسول الله، فإسنادهم الفعل
لعهد رسول الله إشعار بأن الرسول وافق عليه، وقد تكون هناك أيضاً
أشياء هو لم يطلع عليها لكن تسند إليه؛ لأنه لو كان منكراً لنُبه
عليه، كما جاء في موضوع من خواص البيوت، وأعمق ما يكون اختفاءً(3/429)
قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) والعزل شيء بين الرجل وامرأته، يعزل
عنها الماء حتى لا تحمل منه، فعملية العزل هذه من يحضرها؟ حتى
الرجل لا يرى هذا بعينه، وإنما هي عملية تلقائية بين الرجل
والمرأة، قال: (والقرآن ينزل، فلو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه
القرآن)، فعدم نهي القرآن لهم عن العزل اعتبروه تقريراً لهذا
الفعل. ويأتي بعض العلماء يناقش: وهل علم رسول الله أو لم يعلم؟
ليس بلازم أن يعلم مباشرة، المهم كونهم أقروا على ذلك والقرآن
ينزل، وما قال: يا محمد! نبهم ألا يفعلوا ذلك. فاستدلوا على هذا
العمل في هذا الوقت على جواز العزل، وأغفلوا النصوص الأخرى؛ لأنه
لما أخبر بأنهم يعزلون وكان هذا في بعض الغزوات، وذلك لما طالت
عليهم العزوبة، فقالوا: نطأ السبايا ونعزل، قال: (أو تفعلون! إنها
الموءودة الصغرى )، وهذا نهي عن العزل، فقوله: (نعزل والقرآن
ينزل) إنما هو بالمضمون والمفهوم وباللازم، ولكن هنا بصحيح العبارة
(أو تفعلون! إنها الموءودة الصغرى )، إذاً: أي الأمرين يقدم؟
احتمال أنه يعلم ولم ينههم عن ذلك، أو كون القرآن ينزل ولم يأتِ
نهي، أم التصريح منه صلى الله عليه وسلم مشافهة: (أو تفعلون! إنها
الموءودة الصغرى )، والموءودة الصغرى لا يقرون عليها؟ وَإِذَا
الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [التكوير:8]
سواء كبرى كانت أو صغرى.
منع الشرع من المؤاجرة على جزء معين من الأرض
ذكر رافع صور الإجارة التي كانت في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم، وتلك الصور العقل يأباها؛ لأنها غير عادلة وفيها غرر: كان
الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على
الماذيانات، وأقبال الجداول). يعني: يؤاجرون ويجعلون أجرة الأرض
التي تزرع ما ينبت على الماذيانات وأقبال الجداول، وما معنى هذا؟
قالوا: إذا طاب الزرع جاء المستأجر وحصد ما نبت على الماذيانات
وأقبال الجداول وجمعه وقدمه لصاحب الأرض أجرة على أرضه، ويبقى(3/430)
للمستأجر عموم ما داخل الحوض. إذاً الزراعة انقسمت إلى قسمين: قسم
لصاحب الأرض، وقسم للمستأجر. وهل القسمان متساويان في النبات؟ وهل
هما متساويان في الإنتاج والثمرة؟ لا، فيصح هذا ويهلك ذاك.. يصح ما
على الماذيانات وأقبال الجداول، ويهلك ما بداخل الحوض، لأنه يأته
ماء كافٍ، وقد يكون العكس: يصح ما بداخل الحوض، ويهلك ما على
الماذيانات وأقبال الجداول لكثرة الماء، فالزرع في بعض الأحيان لا
يقبل كثرة الماء، ويحتاج إلى ماء بمقدار، وأنواع الزراعات كالذرة
والشام مثلاً إذا زرع بعلياً وطلع لابد أن يشرب على عدد إحدى
وعشرين يوماً، أما إذا شرب على تسعة عشر أو على اثنين وعشرين ما
أفاد، بل لابد أن يشرب على إحدى وعشرين يوماً من يوم أن زرعته
ودفنته في التراب، ثم بعد ذلك على عدد معين يسمونها السقية
الثانية؟ إذاً: قد يصح هذا ويهلك ذاك، ويهلك هذا ويصح ذاك؛ فحينئذ
حينما يقع الهلاك على الماذيانات ورءوس الجداول ماذا استفاد صاحب
الأرض، تكون المصلحة كلها للمستأجر، وإذا صح ما على الماذيانات
وأقبال الجداول وهلك ما في داخل الأحواض فأين أجر الأجير المسكين؟
لا شيء. لكن حينما نقول: تزرع الأرض على جزء مما يخرج منها:
ماذياناتها مع جداولها مع حياضها، حصدنا الجميع دون استثناء
وصفيناه، وكان العقد على ربع الثمرة أو ثمن أو ثلث أو نصف الثمرة،
إن صح شيء صح للجميع، وإن هلك شيء هلك على حساب الجميع، وهكذا لا
يكون في ذلك غرر ولا غبن. [ (ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك
زجر عنه ) ]. ولهذا زجر عن هذا النوع من الإجارة، فزجر عن إجارة
الأرض على جزء معين محدد مما ينبت في أجزاء من الأرض، لا على نسبة
مشاعة في جميع الزرع، فلما فيه من الغرر نهى عنه.
فائدة رواية الحديث كاملاً
في بعض الروايات: (أن رافعاً أتى أهل قباء وقال: يا أهل قباء!
لقد جئتكم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر كانت لكم فيه(3/431)
مصلحة، ولكن طاعة رسول الله أولى، نهى عن المزارعة )، وذكر هذا
الأمر. وجاء عن زيد بن ثابت قال: (رحم الله رافعاً ، والله
إني لأعلم بالحديث منه، إنما جاء رجلان يختصمان في أرض استأجرها
أحدهما من الآخر-وذكر الصورة، فقال: أو تفعلون ذلك! فنهى عن
الإجارة حينئذ ) . وهنا يقول الصنعاني : رافع اقتصر هنا
على جزء من الحديث فأخل بالمقصود، لأنه قال: نهى. فهل نهى ابتداءً
أو نهى لسبب المنازعة والخصومة؟ نهى لسبب النزاع والخصومة في تلك
الصورة التي لم يكن لهم إجارة إلا هي ، وهنا التنبيه على أن طالب
العلم لا يأخذ جزءاً من الحديث ويترك الباقي، قد يكون في هذا الجزء
ارتباط وثيق قوي بأوله، وقد يكون أول الحديث علة لآخره، أو تمهيداً
له، أو سبباً فيه، فلابد من جمع أطراف الحديث كما قال علي رضي
الله تعالى عنه: (لا ينبغي للمحدث أن يحدث بالحديث حتى يجمع
أطرافه). ومن هنا كان التأليف في باب (أطراف الحديث)، والبخاري رحمه الله قد يقطع الحديث في مواطن متعددة، ولكن يأتي بالجملة من
الحديث على قدر معنى الباب، وقد يعيد الحديث بعينه ولفظه مراراً
لعدة معانٍ فيه، وفي كل مرة يورد الحديث لجزء منه، كما في حديث:
(من عمل لي إلى الظهر )، قال: باب من استأجر إلى نصف النهار.
وساق الحديث، ثم عقب عليه: باب من عمل إلى العصر. وساق عين الحديث
الأول؛ لأن الحديث يشتمل عليهما. يهمنا في هذا: أن طالب العلم
عندما يحدث بجزء من حديث يتعين عليه أن يقف على تمام الحديث؛ ليربط
آخره بأوله.
معنى قوله: (فأما شيء معلوم...)
[ فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به ]. فنهى عن ذلك لأن هذا يفسد
وهذا يصح، فهو غرر. (أما شيء معلوم)، وكلمة: (شيء) كما يقول علماء
اللغة والمنطق: أعم العمومات، لا يخرج منها شيء، حتى رب العزة،كما
قال الله: كُلُّ
شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]،
فكلمة (شيء) أعم العمومات في اللغة. (أما شيء معلوم) دينار ذهب ..(3/432)
درهم فضة .. فلوس نحاس .. طعام .. لباس... أي شيء من هذا كله داخل
في: (شيء معلوم)، فعندما يأتي إنسان ويقول: استأجرت منك الدار عشر
سنوات بنخلي. هذا شيء، فهو يملكه النخيل على أن يستأجر منه الدار
عشر سنوات، أو استأجرت منك الدار ببعير، بسيارة نوع كذا، تعال انظر
واكشف عليها، بشاة. إذاً: أقبال الجداول والماذيانات شيء ولكنه ليس
معلوماً، وهنا نهى صلى الله عليه وسلم عن الإجارة بالشيء غير
المعلوم، أما شيء معلوم بعينه ومقداره.. صاع من تمر أو بر، إلا عند
مالك : فإذا كانت العين تستأجر لنوع من الطعام، فلا يجوز
-عنده- أن تكون الأجرة من عين هذا الطعام. استأجرها ليزرعها ذرة،
لا يصح -عند مالك - أن تكون الأجرة ذرة؛ لأن المستأجر يكون قد
اشترى ثمرة الزرع الذرة بقدر الأجر الذرة الذي دفعه، فيكون ذرة
بذرة مع النسيئة والتفاضل، أما إذا كان سيزرعها قمحاً، والأجرة ذرة
أو أرزاً فلا مانع. إذاً: كلمة (شيء) من العمومات، فإذا وقعت
الإجارة وليست خاصة هنا بالأرض الزراعية فقط، بل كل عين مؤجرة إذا
كانت الأجرة شيئاً معلوماً معيناً فلا بأس، ولا يجوز أن يأتي
ويقول: آجرني بعيرك غداً. ويسكت عن الأجرة، بل لابد أن يعين. وكذلك
يزيد الفقهاء نوع العمل، وبعضهم يقول: تعيين العمل ليس بلازم
والعرف يحدد، فشعيب لما قال لموسى عليه السلام: إِنِّي
أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ
عِنْدِكَ [القصص:27]،
قال: موافق. هل عين له عين العمل الذي سيعمله؟ المدة عرفناها: ثمان
أو عشر، لكن ما نوع العمل؟ سيبني، سيحرث، سيرعى الغنم، سيتجر، ماذا
يفعل؟ لم يبين له؛ لكن عرف من الحال أنه لرعي الغنم، ويقوم بمهام
شعيب التي كانت تقوم بها بناته، فيكفيه المئونة في ما كانت تعمله
بنات شعيب، وبنات شعيب ماذا كن يعملن؟ كن يرعين الغنم: وَوَجَدَ(3/433)
مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا
قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ [القصص:23]،
فيأتي موسى يحل محلهما في رعي الغنم. وقدمنا بأن الأجير على قسمين:
أجير خاص لك زمنه، تشغله كيفما شئت في ما يستطيعه ويعرفه، مرة
جعلته يستقبل الطلبات من السوق، ينظف البيت، يساعد البنائين في
البنيان. ما يستطيع فعله فلك فعله ولك الزمن، بخلاف الأجير العام،
الآن يتعاقدون مع الشغالات في البيوت هل يكتبون لها ماذا تعمل؟
تنظيفات أو مطبخ أو كذا؟ أبداً، عمل البيت معروف بالجملة عرفاً،
لكنهم لا يكلفوها بأن تخيط؛ لأن الخياطة عمل مستقل، ولا أن تصير
ممرضة، فالتمريض عمل مستقل. إذاً: هناك من يقول: تعين للعامل الذي
استأجرته نوع العمل، كما تحدد له نوع الأجرة. وبعضهم يقول: تحديد
العمل ليس بلازم، إنما يحدده العرف. [ وفيه بيان لما أجمل في... ].
يقول المؤلف تعقيباً على الحديث: وفيه بيان لما أجمل من إطلاق
النهي عن كراء الأرض؛ لأن الأحاديث جاءت مطلقة تنهى عن كراء الأرض،
وجاء هذا الحديث، وهل نهى مطلقاً أو عن صورة معينة؟ عن صورة معينة،
وأباحها في صورة معينة، إذاً: الأحاديث الواردة المطلقة في النهي
عن كراء الأراضي يخصصها هذا الحديث، ويبين بأن عموم النهي ينصب على
عقد الإجارة الذي فيه غرر وجهالة، أما عقد الإجارة على شيء معلوم
مضمون فلا بأس، فقد بين هذا الحديث ما أجمل في الأحاديث التي جاءت
بالنهي.
صورة المزارعة التي نهى عنها الشارع
[ وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة )، رواه مسلم أيضاً ]. هذا تأييد لما تقدم من أن إجارة الأرض -على الشرط
المتقدم- بشيء معلوم مضمون لا بأس به. أما قوله: (نهى عن
المزارعة)، فهذا مما تقدم الكلام عليه، وحمل هذا على أنهم كانوا في
أول الأمر يزارعون ما لا يستطيعون القيام بزرعه، فيقولون؛ جمعاً(3/434)
بين المزارعة في خيبر والمساقاة: كان المراد بذاك النهي الإرفاق:
(من كانت عنده أرض فليَزرعها أو يُزرعها غيره )، لديك أرض زائدة
عنك، وعاجز عن زراعتها، أعطها لغيرك يزرعها، وكان ذلك في بادئ
الأمر عند مجيء المهاجرين إلى المدينة، فكان فيه حث على مشاركة
المهاجرين لمن عنده أرض عاجز عن زراعتها يقول له: أعطها له يزرعها،
من باب المواساة، ثم بعد ذلك لما وسع الله على المسلمين أصبحت
المزارعة والمؤاجرة والمساقاة سواء.
( كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [3] )
عناصر الموضوع
1 حكم أخذ الأجرة على القرآن ونحوه من القرب
2 حث الشرع على المبادرة بحقوق الأجراء
3 حكم الاستئجار بدون تحديد الأجرة أو العمل
كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [4]
كثيراً ما اختلف أهل العلم وخاضوا معترك مسائل إهداء القربات للموتى،
ولكنهم أجمعوا على وصول الأعمال المالية، واختلفوا اختلافاً شديداً في
وصول الأعمال البدنية خصوصاً إذا كانت بالأجرة، كما أنهم اختلفوا في
أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، وكاد أن يستقر رأيهم على جواز
ذلك. وفي جانب الإجارة أيضاً حث الشرع على سرعة تسليم الأجرة للأجير،
وأن يعلمه عن نوعية العمل المراد منه أن يقوم به، وأن يحدد له أجره
اللائق بمثله.
حكم أخذ الأجرة على القرآن ونحوه من القرب
[ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله )، أخرجه
البخاري ]. يعنون علماء الحديث والفقهاء على هذا الحديث بعنوان
(باب الأجرة على القُرَب) أي: الأعمال التي أساسها التقرب إلى
الله، ويبحثون تحت هذا الحديث الأجرة لتعليم القرآن، قراءة القرآن،
إمامة الصلاة، القضاء، الإفتاء، وكل ما الأصل فيه أنه قربة لله.
والبحث في هذا يتناول تلك الجوانب على أنها أعمال ينبغي أن يقوم
بها صاحبها قربة لله، فقارئ القرآن لنفسه يقرأ لله، ويقرئ غيره(3/435)
ويعلمه لله، الإمام يؤم الناس في الصلاة لله، المعلم يعلم الناس
لله، القاضي يقضي والمفتي يفتي لله.. إلى غير ذلك من الأعمال التي
فيها قربة إلى الله باحتسابه الأجر عند الله، فهل تجوز الأجرة على
هذه الأعمال التي يقصد صاحبها أجراً وثواباً من الله؟ أي: هل يأخذ
أجراً من الله ومن الناس؟ قيل: يأخذ أحد الأجرين: إن اختار الأجر
من الناس فلا أجر له عند الله، وإن اختار الأجر من الله فلا أجر له
عند الناس، هذا مبدأ البحث، ووجهة نظري الاختلاف في هذه القضية،
وأعظم مسألة فيها هو ما يتعلق بالقرآن. (إن أحق ما أخذتم عليه
أجراً كتاب الله) أجراً في أي شيء في كتاب الله؟ في قراءته، يستأجر
إنسان شخصاً يقرأ القرآن ويعطيه أجرة على قراءته كالذين يستأجرون
للقراءة على الموتى، أو: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)
في تعليمكم الناس كتاب الله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه )،
وهنا يأتي البحث.
حكم إهداء ثواب القراءة للميت
يمكن أن نقول: إن ما يتعلق بالأجرة على القرآن فيه جوانب جائزة
بالإجماع، وجوانب ممنوعة بالإجماع، وما بين ذلك وذلك محل البحث:
فقراءة القرآن بأجرة للغير من أجل موتاه. هذه لا أصل لها، وقالوا:
كيف يهب ثواباً لا يملكه أو لم يحصل عليه؛ لأنه استبدل به الأجرة
ممن استأجره، ومن قرأ القرآن على أجرة من أحد فليس له ثواب عند
الله، إذاً: ماذا سيهب لميت هذا المستأجر، وليس عنده شيء؟! أما كون
هذا الإنسان يقرأ بنفسه ويهب إلى موتاه، فهذا فيه الجمهور على
الجواز، وما خالف في ذلك إلا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها والشافعي رحمه الله، ودليلهم: (أو ولد صالح يدعو له )،
ومن الدعاء له قراءة القرآن، وقد بحث الإمام ابن تيمية هذه
المسألة في ما يقرب من عشرين صفحة، وأتى بدلائل شرعية وعقلية،
وقال: أنت حينما تصلي الصلاة لك وعد من الله بالأجر عليها، وأنت
عندما تدعو الله: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني. هذه المغفرة وهذه(3/436)
الرحمة حق لله أنت سألتها، فيعطيك إياها بدون عوض بمجرد ما سألته،
وكذلك لما تقرأ القرآن يكون لك على هذه القراءة أجر عند الله،
فتقول: يا رب! أنا قرأت، ووعدني رسولك الكريم بأن لي على كل حرف
عشر حسنات، وأنا أطلب منك أن تجعل حسناتي من قراءتي هذه لوالدي ..
لولدي .. لأخي .. لصاحبي فلان. فهنا يقول ابن تيمية رحمه الله:
إذا كان الله يعطيك ما لا تملك، كقولك: اللهم اغفر لفلان، اللهم
ارحم فلاناً، فمغفرة الله لفلان ليست ملكاً لك، فهو يستجيب لك
ويعطيها لفلان، فما بالك إذا كانت القراءة ولك بكل حرف عشر حسنات
تسجل لك في كتابك وصحيفتك، فتقول: يا رب! أنا أريد تجعلها في صحيفة
فلان، قال: فهذا من باب أولى.
حكم إهداء ثواب القربات المالية
ثم إذا نظرنا في ما يتعلق بعمل الغير، نجد إجماع المسلمين على أن
الميت يستفيد من عمل غيره المادي؛ فإذا مات وعليه دين وسددته
استفاد به، وإذا تصدقت عنه بشيء كان أجر الصدقة له، وقد جاء عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصوص خديجة رضي الله تعالى
عنها: كان صلى الله عليه وسلم يذبح الشاة على اسم خديجة ،
ويفرقها على صويحباتها، حتى غارت عائشة ، وقالت: (كل شيء خديجة خديجة !). وكذلك كانوا في أول الأمر: من مات وقدموه للنبي صلى
الله عليه وسلم ليصلي عليه سأل: أعليه دين؟ إن قالوا: نعم. قال:
صلوا عليه أنتم. وإن قالوا: لا، صلى عليه، حتى أُتي برجل، قالوا:
عليه ديناران، قال: صلوا عليه. فقام علي ، وقيل المقداد -أو هما قصتان متعددتان- وقال: يا رسول الله! صل عليه ودينه علي.
وفي رواية: أن علياً رضي الله تعالى عنه قال له النبي صلى الله
عليه وسلم: (أهما في ذمتك يا علي ، وبرئت منهما ذمة الميت؟
قال: بلى يا رسول الله. فصلى عليه )، فهنا سداد دين عن ميت من
الغير جائز ويصله الأجر، وأجمعوا على أن جميع الحقوق المالية لو
قام بها إنسان عن ميت أجزأه كما لو قام بها عن حي: إنسان مدين(3/437)
ومسجون في دينه، وذهبت ودفعت الدين الذي عليه؛ فإنه يطلق، ومثله
كذلك من يطالب بنفقة لأهله فأنفقت عليه. المهم: أن القربات المالية
يجوز إهداء ثوابها بالإجماع.
حكم إهداء ثواب القربات البدنية
الصوم والصلاة عبادة بدنية، والحج يجمع بين الأمرين، فجاء في
الصوم: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه )، وهذا متفق عليه إلا
عند المالكية، فهم يقدرون معنى (صام) يعني: أطعم؛ لأن الإطعام بدل
الصوم، وهذا بعيد عن صريح عبارة النص. نجد في حج البيت: (إن أمي
ماتت ولم تحج، أينفعها أن أحج عنها؟ قال: أرأيتِ لو أن على أمك دين
فقضيتيه أكان ينفعها؟ قالت: بلى . قال: كذلك دين الله أحق )،ومن
ضمن أعمال الحج ركعتي الطواف ، وهي صلاة. حينما تقدم الجنازة:
الصلاة على الرجل يرحمكم الله. فكل الموجودين يقومون ولا يعلمون من
الذي يصلون عليه، إنما دعوا للميت الحاضر، هذه الصلاة وهذه الأدعية
تنفعه أو لا تنفعه؟ قطعاً تنفعه؛ لأنها إذا لم تكن تنفعه كانت
عبثاً، ولماذا نصلي إذا كانت لا تنفعه؟ فشرعت صلاة الجنازة من
الأحياء للأموات. كذلك -بالإجماع- الدعاء للغير: اللهم اغفر له،
اللهم ارحمه، وكما يقولون في زيارة المقابر: من مر على مقبرة فدعا
للأموات قسمت عليهم الجوائز، فيقولون: ما هذا؟ فيقال لهم: مر بكم
فلان فدعا لكم. إذاً: من الأعمال البدنية الدعاء، صلاة الجنازة،
الصيام، الحج، وما اختلفوا في شيء من هذا كله إلا في قراءة القرآن.
حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن
قراءة القرآن للتعليم أو ليهبها إلى غيره: إن كان من نفسه فلا بأس.
أما أن يستأجر غيره ويعطيه أجراً من أجل أن يقرأ ويهب فلا يجوز.
وهذا الحديث سيق لبيان جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ولكن
القصة في غير التعليم، القصة: أن نفراً من الصحابة نزلوا ليلاً في
طريقهم بحي من أحياء العرب كانوا على شركهم، والعرب معروف أنهم
يقرون الضيف، فاستضافوهم فامتنعوا من الضيافة، فتنحوا عنهم جانباً(3/438)
ونزلوا، فسلط الله على سيد الحي عقرباً فلدغته، فأخذوا يطلبون له
العلاج بكل ما يعرفون فلم ينفعه شيء، فقال قائلهم: اذهبوا إلى
هؤلاء الرهط الذين جاءوا من عند هذا -وذكروا النبي صلى الله عليه
وسلم- لعلكم تجدون عندهم رقية، فأتوهم، فقالوا: هل فيكم من راقٍ؛
فإن سيد الحي قد لدغ؟ فقال رجل منهم: نعم، أنا راقٍ. قالوا: هلم
وارق سيد الحي. فقال: قد طلبناكم القرى فأبيتم، فلا أرقيه لكم حتى
تجعلوا لي جعلاً. والجعل: هو الأجر المقطوع، مثال ذلك: من نسخ لي
صحيفة كذا فله ريال، من بنى لي جداراً فله ألف ريال، أجر مقطوع على
هذا العمل. فقاطعوه على عشرين إلى ثلاثين رأساً من الغنم، قال:
فذهبت، فأخذت أقرأ وأنفث عليه، فقام وكأنه نشط من عقال، فجئت
بالغنم أسوقها لأصحابي، قالوا: هلم نقتسم. قال: لا، حتى نرجع إلى
المدينة ونسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تجوز لنا هذه
الأغنام أو لا؟ فأمسكوا عن القسمة، ولما رجعوا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم أقره على ذلك، وقال: (وما يدريك أنها رقية؟ قال: شيء نفث
في روعي )، وهذا -كما أشرنا إليه- نوع من الإحساس الصادق؛
(فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: اقتسموها واضربوا لي معكم بسهم )،
وهل كان حاضراً معهم؟ لا، هو له الحق في كل ما يكتسبه المسلم عن
طريق الدين؛ لأن الفاتحة أتتهم عن رسول الله؛ فالحق الأساسي فيها
لرسول الله، ولكن يقولون: هذا زيادة توثيق لهم وطمأنينة لأنفسهم؛
لأنهم تورعوا أن يقتسموها قبل أن يعلموا الحكم؛ فأراد أن يزيل آثار
هذا الشك بأن يشاركهم في قسمتها، فشاركوه. فهنا لما اقتسموا وقال
للرجل: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله )، يعني: الجعل
الذي أخذته أجراً على ما فعلت بالفاتحة أحق الأجر. وفي بعض
الروايات: (لئن أكل الناس برقى باطل فقد أكلتم برقيا حق )، هنا
القصة قصة رقيا من لدغة عقرب، وهي تدخل في باب الطب، وباب تعليم(3/439)
القراءة، وباب قراءة القرآن للأجر؛ فقوله: (أحق ما أخذتم عليه
أجراً) مطلق، لم يقل: في تعليمه.. قراءته.. في التطبب به، والمؤلف
اقتصر في الباب على رواية البخاري مع وجود نصوص عديدة في هذا
الموضوع؛ لأن البخاري يميل إلى جواز أخذ الأجرة على التعليم،
ونسبة ذلك عند البخاري لماذا؟ قال: هذا اللديغ استفاد من
الراقي أم لا؟ نعم، كأنه نشط من عقال، فيقول استنتاجاً من هذا:
حينما يتعلم إنسان القرآن يكون قد استفاد، فحصلت الفائدة للمتعلم
نظير ما حصلت الفائدة للديغ الذي تعافى من لدغة العقرب، فإن صحت
الأجرة على منفعة المريض بالشفاء فلا مانع من أن تصح الأجرة على من
استفاد بالتعليم. وأعتقد أن هذا قياس واضح وقوي جداً.
أدلة المانعين والمجيزين لإهداء ثواب قراءة القرآن
الناس تنقسم في هذه المسألة إلى قسمين: أم المؤمنين عائشة والشافعي يمنعون من ذلك، وهو قول لأبي حنيفة رحمه الله،
والجمهور يجيزونه، المانعون بماذا يستدلون؟ والمجيزون بماذا
يستدلون؟ أولاً: المجيزون من أقوى أدلتهم هذا الحديث؛ لأنه أقرهم
على إفادة الغير بالفاتحة، وأخذوا الجعل وشاركهم في قسمتها، وأيضاً
يستدلون بقضية المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وقالت: يا رسول الله! إني وهبت نفسي إليك. فشخص بصره وصوبه فيها،
ثم سكت، فجلست المرأة تنتظر، فقام رجل وفهم أن الرسول صلى الله
عليه وسلم لا توجد عنده تلك الرغبة ولا ذاك الحماس في هذه المرأة،
فقام وقال: يا رسول الله! زوجنيها إن لم تكن لك فيها رغبة، قال: ما
عندك من شيء تصدقها إياه؟ قال: ما عندي شيء. قال: لابد أن تأخذ
بالأسباب وتسعى، ذهب ورجع قال: ما وجدت شيئاً. قال: (التمس ولو
خاتماً من حديد )، اذهب واقطع سلكاً واثنيه واجعله في إصبعك،
فذهب ورجع فقال: ما وجدت شيئاً. انظر إلى أي مدى وصلت الحالة، وهو
يريد أن يتزوج! قال: هل معك شيء من القرآن؟ -هذه العملة الصعبة(3/440)
التي تمشي في كل مكان وزمان- قال: بلى. لسور سماها، وقبل هذا لما
سأله عن أي شيء يعطيها إياه، قال: أعطيها ردائي هذا. قال: إن
أعطيتها رداءك جلست ولا رداء لك، اذهب فالتمس، وأخيراً قال له:
(زوجتكها على ما معك من كتاب الله ) وفي الرواية الأخرى:
(زوجتكها؛ فاذهب فعلمها ما عندك من كتاب الله ) . ويرد المانعون
على قوله: (زوجتك على ما معك )، بأنه يعني بهذا: أنه إكراماً لك
لما معك من القرآن زوجتك، يعني: زوجتك إياها بدون صداق مكارمة لك
وجائزة على ما تحفظ من القرآن، وهي ماذا يكون لها؟ وأما الرواية
الأخرى: (فعلمها)، فهي رواية صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم جعل
صداقها تعليمها ما عنده من كتاب الله، فقالوا: هذا الرسول صلى الله
عليه وسلم أعطى التعليم صداقاً للمرأة، وتزوجها الرجل بما عنده من
كتاب الله أن يعلمه إياها. وفي بعض الروايات: (قم فعلمها ما معك من
كتاب الله ) . فالمجيزون استدلوا بحديث الرقية بجامع الانتفاع،
وبحديث المرأة بجعل التعليم صداقاً لها. أما المانعون فعارضوا في
حديث الرقية وقالوا: الجعل ليس على القراءة ولكن على العلاج، ومن
هنا جازت الرقية بكتاب الله أو بأحاديث رسول الله، أو بالأدعية
المأثورة، وهو ما يسمونه بالطب الروحاني، يعني: عن طريق الروح:
يقرأ، يدعو، يرقي بكتاب أو سنة أو دعاء مأثور، وهذا مجمع عليه.
ومالك في الموطأ أطال في هذا الباب، وذكر عدة نماذج في هذا
الموضوع. واستدلوا أيضاً بما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله تعالى
عليهم: (كنت أعلم رجلاً من أهل الصفة الكتاب والقرآن -الكتاب: يعني
الكتابة، الإملاء والخط والحروف، والقرآن: أحفظه إياه- فأعطاني
قوساً، فتقلدته وقلت: ليس مالاً أتموله، وإنما قوس أرمي به في سبيل
الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته فقال: إن شئت أن(3/441)
ترمي به في النار فخذه )، وهذا أقوى ما استدل به أبو حنيفة رحمه الله، والجمهور قالوا: هو قوس وليس مالاً، والرجل بحسن النية،
قال: أرمي به في سبيل الله، ومع هذا القصد الحسن ما أباح له رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذه، حتى قالوا: في الطعام، جاء رجل
إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له أن رجلاً كبر في سنه، قال:
وكنت أتردد عليه وآكل عنده من الطعام ما لم أجده في أهل المدينة
قاطبة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إن كانوا يصنعون الطعام
لأنفسهم وتأكل معهم فلا بأس، أما إن كانوا يصنعونه من أجلك فلا )؛
لأنهم كانوا يجعلونه أجراً له على تعليمهم، فقالوا: هذا منعه رسول
الله صلى الله عليه وسلم. والآخرون يردون على هذا أيضاً على رجل
يقول: عن عمي: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان راجعاً
-أي: إلى أهله- مر بقوم فيهم مجنون مربوط بالحديد، قالوا: سمعنا أن
صاحبكم جاء بخير -يعنون النبي صلى الله عليه وسلم- فهل عندك من هذا
الخير ما تعالج به هذا المجنون؟ قال: بلى. قال: فقرأت عليه الفاتحة
ثلاثة أيام، كل يوم مرتان، فقام من مرضه وانقلب معافى، فأعطوه
مائتي شاة - لا عشرين كسيد الحي- يقول: فرجعت وسقتها معي إلى النبي
صلى الله عليه وسلم وأخبرته، قال: (خذها، لئن أكل الناس برقى
الباطل؛ فقد أكلت برقيا حق ) ، وهي رقيا الفاتحة. نخلص من هذا
كله: أنه انقضى الخلاف سابقاً، وكاد أن ينعقد الإجماع على جواز أخذ
الأجرة على تعليم القرآن.
قول آخر في أخذ الأجرة على تعليم القرآن
هناك من يتوسط في المسألة ويقول: لا ينبغي لمعلم القرآن أن يشارط
على الأجر، أعلمك جزء عم وتعطيني كذا.. بل يعلمه، وما أتاه من غير
مسألة أخذه، ولكن نحن الآن نقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو
واجب، إذا كان عندنا أبناؤنا، وعندنا معلمو قرآن، وقلنا لمعلمي
القرآن: علموا أولادنا ولا أجر لكم.. أنتم تريدون أن تعلموا(3/442)
أولادكم، وأنا أريد أن أطعم أولادي، فأنا أريد أن أسعى وأعمل
لأولادي، وأولادكم ليسوا بأولى من أولادي. له حق في هذا أم أنه
ملزم أن يترك أولاده يضيعون ويذهب يعلم أولادهم؟! ليس بملزم: (كفى
بالمرء إثماً أن يضيع من يعول )، فإذا انقطع لأولادهم يعلمهم،
فله حق عليهم في إطعام أولاده، أنا أديت واجباً لأولادكم فعليكم أن
تؤدوا واجباً لأولادي، وما الواجب الذي سيؤدونه غير الأجرة التي
سيدفعونها؟ قالوا: إذاً هناك تبادل منفعة، وهناك تعليم الأولاد
واجب، وما لا يتم هذا الواجب إلا به فهو واجب. إذاً: إطعام أولاد
معلم القرآن واجب، فهو يؤدي الواجب من عنده لأولادكم، وأنتم تؤدون
الواجب من عندكم لأولاده. ثم قال العلماء: هذا كان في السابق لما
كان الناس يقدرون ويتعاونون، لكن الآن لو قلنا هذا لا ندري من الذي
سيدفع ومن الذي لن يدفع، فإذا جاءت الدولة وجعلت أجراً للمعلمين من
بيت مال المسلمين، أو من صندوق الدولة إذا لم يكن هناك بيت مال
منتظم، والدولة تأخذ ضرائب من الأفراد على المصالح العامة:
المستشفيات، المدارس، تعبيد الطرق، مد الجسور على الأنهار،
المحاكم، إذاً: الذي تعطيه الدولة لا لبس فيه، ويدخل في هذا بقية
المناصب كما قلنا: الإمام يلتزم للناس بخمس صلوات، القاضي يلتزم
للناس بوقت معين ينظر فيه في قضاياهم، المفتي كذلك ينظر في أمور
الناس ويفتيهم، وأصبحت جميع أعمال القرب مبنية على ذلك. وعلى هذا:
(خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، لا مانع أن يأخذ على تعليمه
الأجر، ولا يمنع أن يحتسب عمله لله، كما جاء في حق الحج: لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ
فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:198]،
يحج ويتاجر، وتجارته لا تمنع حجه، ولكن هناك فرق: بين من ذهب
ليتاجر والحج على الرف، ومن ذهب ليحج والتجارة وسيلة؛ فلا مانع في(3/443)
ذلك، كما قالوا في الذي يأخذ الأجر ليحج عن غيره، يحج بأجر أو لا؟
قالوا: إن أخذ ليحج فلا مانع، وإن حج ليأخذ فلا. ما الفرق بينهم؟
الأول: يريد أن يحج عن الغير، لكن ليست عنده استطاعة ليذهب ويحج،
فأخذ منك ما يوصله إلى الحج، فهذا جزاه الله خيراً، وله مثل أجره،
لكن من ليست عنده رغبة في الحج ولا نية فيه، ولكن سمع من يقول:
أريد من يحج بدلاً عني. قال: أنا أحج، ولكن أعطني. فهذا حج ليأخذ،
فهذا أخذه فيه نظر. والله تعالى أعلم.
حث الشرع على المبادرة بحقوق الأجراء
[ وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه )، رواه ابن
ماجه . وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي يعلى والبيهقي ، وجابر عند الطبراني ، وكلها ضعاف ]. كلها
ضعاف ولكن ضعيفان يغلبان قوياً، إذا تعددت روايات الحديث الضعيفة
يشد بعضها بعضاً، ويشهد بعضها لبعض، وهنا مشى الحديث على مقتضى
العقل، بمعنى: أنه ما خرج عن الأصل (أعطِ الأجير حقه قبل أن يجف
عرقه) والمراد من هذا: سرعة دفع الأجرة، وإلا فقد يجف عرقه وهو في
محل العمل ويأتيني إلى البيت ليأخذ حقه، أو يأتي من الغد، الغرض في
الإطار العام للحديث إنما هو الحث على المبادرة بدفع الأجرة
للعامل، والإشارة هنا: (قبل أن يجف عرقه)، إشعار بأن الأجير بذل
جهداً حتى عرق جبينه وجسمه، والعرق هذا يأتي عن مجهود؛ فلا ينبغي
أن تستفيد وتأخذ جهده الذي أضناه عرقاً، ثم تتركه.. الذي بذل هذا
الجهد يريد أن يتعشى، فقد ضيع ما عنده في معدته من طعام فيحتاج إلى
الأكل، وحقه عندك؛ فلا ينبغي أن يبيت طاوياً جوعاً وحقه في يدك،
ليس إنصافاً أن تستوفي حقك ولا توفه حقه، وهذه هي العدالة. أما
الذين يماطلون في أجور العمال، ومن يحتال على من استقدمه، ويؤخر
راتبه إلى أن يضطر إلى مد يده، أو يتركه في السوق وجد عملاً أو لم(3/444)
يجد، وقد يزيد الطين بلة بأن يفرض عليه إتاوة شهرية، وهل أنا وجدت
عملاً! أعطني عملاً لكي أعمل وخذ الذي تريد. يقول: هذا ليس من
شأني، اذهب أنت وابحث. هذا من الظلم بمكان، وهذا ينبغي أن ينظر
فيه، ويلزم كفيله الذي استقدمه بنفقته وأجرته، وقد بحث مجلس هيئة
كبار العلماء هذه المسألة، ونصوا على أن ما يأخذه الكفيل سحت،
لماذا يأكل من عرق الآخر؟ اتركه يعمل ويأخذ أجره على عمله، وإن كنت
تحتاجه دعه يعمل عندك. الذي يهمنا في هذا: أن بعض المؤسسات تستقدم
عمالاً لدوائر حكومية -لا حاجة إلى تسميتها- ثم يؤخرون أجورهم
الشهرين والثلاثة والستة أشهر، من أين سيأكل هذا العامل؟ ينبغي أن
يعلم الجميع أنه سيحتال في المؤسسة التي يعمل فيها ليحصل على طعامه
إما برشوة، أو باختلاس، أو بسرقة، أو بغش... بأي شيء، ما دام صاحب
المؤسسة منعه الأجر، وفمه ليس مغلقاً، والمعدة ليست مسدودة، لابد
أن يمضغ شيئاً، من أين يأتي به؟ يرجع إلى صاحب العمل في مؤسسته.
إذاً: ينبغي مراعاة هذا الموضوع، وهذا الحديث يقضي على كل من
استقدم إنساناً أو تعاقد مع إنسان أو آجر إنساناً في أي عمل كان
فاستوفى عمله أنه لابد أن يوفيه أجره. وهنا ناحية شرعية في باب
الفقه والعقود عند قوله: (أعط الأجير أجره -متى؟- قبل أن يجف
عرقه)، وعرقه يأتي قبل العمل أو بعده؟ إذاً: الأجير يستحق أجره بعد
أن يوفي العمل، استأجرته يبني لك بيتاً.. ينشر لك خشباً .. يفعل لك
ما تريد، ليس له الحق أن يقول: أعطني أجرتي أولاً. لا؛ لأني لم
أستوفِ العمل، وما يضمن لي أنك لا تهرب وتترك عملي، وتأخذ فلوسك
وتذهب؟ لكن تبقى الأجرة عند المستأجر، ويستحقها الأجير بعد إتمام
عمله، فإذا أتم عمله ووفاه هناك يستحق أن يقول: أعطني. وقدمنا قضية
النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، ومنهم واحد صاحب
أجير، قدم له أجره صاعاً من شعير فتنقصه وذهب مغضباً، ثم بعد مدة(3/445)
جاء يطلب أجره، فوجد صاع الشعير وادياً من الغنم والإبل والبقر،
قال: اذهب لذاك الوادي فما وجدته فخذه فهو أجرك. كان يحسب أنه كيس
شعير أو شيء من هذا، فإذا به يجده حقاً، فرجع وقال له: أتهزأ بي
لأني فقير! قال: لقد نميت لك أجرك من يوم أن ذهبت عنك فتناسل
وتكاثر، فهذا أجرك. فأخذه، وقال في الحديث: (فأخذه ولم يترك منه
شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه،
فانفرجت عنهم الصخرة )، كل واحد من الثلاثة يدعو وتنفرج عنهم
الصخرة قليلاً حتى استطاعوا أن يخرجوا. فهكذا حرصه على أجر الأجير
ولو غضب وترك أجره وذهب، لا أقول له: مع السلامة. ثم يقول له: ليس
لك عندي أي شيء، أعطيتك وما رضيت.. لا، ليست هذه مروءة، إنما عليه
أن يحتفظ بأجر الأجير ويدفعه إليه، وإن نماه إليه كان فضلاً منه؛
لأن هذا الذي نمَّى صاع الشعير حتى أصبح وادياً من النعم كان من
حقه أن يكون شريكاً له على سبيل المضاربة؛ لأنه أخذ مال الأجير
الذي هو أجره وعمل فيه ونماه، وشركة المضاربة هي: أن يأخذ إنسان
مالاً من إنسان وينميه على النصف من الربح، لكن هذا تعفف ولم يأخذ
منه شيئاً، ودفع إليه كامل الأجر بنمائه. والله تعالى أعلم.
حكم الاستئجار بدون تحديد الأجرة أو العمل
[ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (من استأجر أجيراً فليسمِ له أجرته )، رواه عبد
الرزاق ، وفيه انقطاع، ووصله البيهقي من طريق أبي حنيفة ]. هذا الحديث وإن كان فيه انقطاع فهو يصدق الواقع: (من استأجر
أجيراً فليسم له أجرته)، وهو معنى قول الفقهاء: لابد من معرفة
الأجر ونوع العمل. تعال اشتغل عندي اليوم. قد يظن أنه سينقل لبناً
أو يكسر خشباً، وتقول له: ارفع هذا الرمل إلى السطوح وانزل.
والصعود إلى السطوح مرة واحدة يقدر بعمل أربعة أضعاف على الآخر، أو
يحمله حجارة: انقل هذه الحجارة إلى المكان الفلاني، والحجر يحتاج(3/446)
إلى نفرين ليأخذوه، فيتكلف فيه، فيظن العمل سهلاً وإذا به صعب،
فكذلك الأجرة، كم الأجرة؟ لا عليك، اعمل الآن .. هذا لا ينبغي. وإن
كان بعض العلماء يقول: يجوز استئجار الأجير بدون تحديد الأجرة على
العمل، يقولون: فالأجرة يرجع فيها إلى العرف، كم عرف الناس أجرة
العامل في اليوم؟ في السابق كانت عشرة ريالات للمعلم وللصبي أو
العامل خمسة ريالات، المعلم البنا الذي يبني عشرة ريالات، وكانت
تصرف في البيت عشرة أيام، لها قيمة، وقيمة النقد في العالم ليس في
رصيده في البنك الدولي العام، ولكن في القيمة الشرائية في بلده،
وكان القرص الخبز بقرشين، الآن بكم؟ صار بسبعة قروش، الريال بعشرين
قرشاً، أين القرشين من سبعة؟! فقيمة الريال فيه.. كانت أُقة حمل
الجمل بريال واحد. ومن النكت مع بعض إخواننا الشناقطة: جزار ينادي
يقول: يا جملٌ بريالٌ. هل سمعتم بهذه الصيغة؟! المنادى ما يضم. قال
له: يا أخي! ما هذا اللحن، قل: بريالٍ، الباء تجر. قال: إليك عني.
قال: النحو كسرته. قال: لا شأن لي بنحوك، أنا أعمل بنحوي، أخشى أن
يظن الزبون لما أقول: بريالٍ أني أقول: بريالين! فإعطاء الأجير حقه
في وقته، وكما في الحديث: (قبل أن يجف عرقه )، ويتعين في الأجير
أن يبين له أجره، وكذلك عمله. والذين قالوا: ليس بشرط، قالوا: إن
عدم تعيين الأجرة يحددها العرف. وعدم تحديد العمل استدلوا له بقصة
موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: قَالَ
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى
أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص:27]،
أؤجرك على ماذا؟ ما بين له نوع العمل الذي يستأجره فيه، قال: وما
الذي سيكون عندي من عمل؟ المتبادر إلى الذهن هو رعي الغنم بدل
البنات ، فقالوا: العرف يحدد هذا. والله تعالى أعلم.
135064 ( كتاب البيوع - باب إحياء الموات )
( كتاب البيوع - باب إحياء الموات )
عناصر الموضوع(3/447)
1 شرح حديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله...)
2 شرح حديث: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها..)
3 شرح حديث: (بعث رسول الله عمر على الصدقة ...)
كتاب البيوع - باب الوقف
هذه الدنيا مزرعة للآخرة، وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من خصال
بينتها الشريعة؛ ليحرص الناس عليها، ومن ذلك الوقف، وفيه أحكام كثيرة،
ومسائل عديدة، ينبغي الإلمام بها.
شرح حديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله...)
فضل العلم والعلماء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [ عن أبي
هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم
ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ). رواه مسلم ]. أنبه الإخوان
إلى نماذج نعيش في كنفها وظلها، إذا نظرنا إلى السيوطي ،
والسخاوي وغيرهما من العلماء، نجد مؤلفاتهم بالمئات، فهم
انتقلوا إلى رحمة الله، والناس يستفيدون من علومهم إلى الآن، وهذا
النووي له شرح مسلم والمجموع وغيرهما، وكأنه يعيش معنا،
وابن حجر ألف هذا الكتاب، ونحن نعيش معه في تأليفه خطوة خطوة،
ووالدنا الشيخ الأمين له أضواء البيان، وأصبح يتداول عالمياً،
ويطبع عدة مرات شرعية وغير شريعة بغير إذن أولاده ومستحقيه، وهذا
يدل فعلاً على مكانة العلم وانتفاع صاحبه به إلى اليوم. مالك رحمه الله إمام دار الهجرة أتاه أبو جعفر المنصور الخليفة
العباسي، وقال: يا مالك ! لم يبق في الناس أعلم مني ومنك، أما
أنا فشغلتني الخلافة، وأما أنت فوطئ للناس كتاباً يسيرون عليه،
وتجنب عزائم ابن عمر ورخص ابن عباس ، قال: فعلمني التأليف
ذلك الوقت، فألف الموطأ ثم قرأه عليه، واستمعه منه، وقيل: إنه
هارون الرشيد ، فقال: يا مالك ! ائذن لي أن أعلق الموطأ
على الكعبة، وأنسخ منه نسخاً أبعثها إلى الأمصار ليأخذوا به،(3/448)
ويتركوا كل ما عداه، يعني: نوحد العالم الإسلامي على الموطأ. فقال:
لا تفعل يا أمير المؤمنين! قال: ولماذا؟! قال: إن أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في الأمصار، وأخذ كل قطر بما جاءه من
الصحابة الذين وفدوا إليه، فعملوا بما وصلهم عن أولئك الصحابة
الكرام، والصحابة قد يختلفون في روايات الحديث، فتحويل الناس عما
هم عليه صعب، أي: ما داموا قد أخذوا عن أصحاب رسول الله، وأصحاب
رسول الله أخذوا عن رسول الله، فهم على حق، وتغييرك مذهبهم ولو إلى
حق مثله صعب. ونحن نتساءل الآن: أين خلافة أبي جعفر ؟ ذهبت في
أدراج السياسة، أما مالك فموطأه يعمر العالم، ويتدارسه العالم،
ويستفيد منه العالم، فما أعظم العلم الذي ينتفع به من الموطأ،
وبالمقارنة بينه وبين خليفة المسلمين نجد الفارق عظيماً جداً،
الخلافة انتهت بموت الخليفة، وقد يقتل في سبيلها عند تغير الأحداث،
ولكن العالم علمه ينتشر، ويكون كالطائر الذي يحلق مدى الحياة،
وكمطلع الشمس ومغربها، فبقي الموطأ في أيدي المسلمين، يستفيدون
منه، ويسابقون إلى دراسته وتعلمه، ولا شك أن هذا الأثر من العلم
الذي ينتفع به، فيستمر ثوابه يصل إلى مالك إلى ما شاء الله.
معنى قوله: (ولد صالح يدعو له)
قوله: (أو ولد صالح يدعو له )، الولد في اللغة يشمل الذكر
والأنثى، والابن يختص بالذكر ويقابله البنت، قال الله سبحانه
وتعالى: يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]،
ثم بيّن الأولاد: لِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]،
فشمل الأولاد الذكور والإناث. إذاً: ابن صالح أو بنت صالحة يدعوان
له، وقالوا: الولد الصالح جزء من كسب الرجل، فالذين ينفون وصول عمل
الغير للميت يقولون: الولد امتداد لحياة أبيه؛ لأنه جزءٌ منه، ولكن
قوله: (ولد صالح) لتقرير الحال والأولوية، وإلا فكل مسلم يدعو لأي
مسلم فإن دعاءه نافع له، ويشرع أن نصلي على الجنائز وإن لم نعرف(3/449)
أصحابها، وأُمرنا أن ندعو لهم؛ لأن صلاة الجنازة إنما هي دعاء،
فقوله: (ولد صالح) هو لبيان الأقرب والأولى، ولكنه يشمل جميع
المسلمين، فيشرع أن يدعو بعضهم لبعض، ومن أفضل الأعمال دعاؤك لأخيك
بظهر الغيب.
صلاح الأولاد
صلاح الولد هبة من الله، وليس بحزم أو عزم الوالد، ولكن هذا سبب،
فهذا نوح عليه السلام مكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولم
يهتد ولده: يَا
بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ [هود:43]،
فما استطاع نوح أن يهدي ولده ليكون معه في السفينة، فلا والد يهدي
ولده، ولا ولد يهدي والده، هذا إبراهيم عليه السلام كم قال لأبيه:
(يَا أَبَتِ) (يَا أَبَتِ) ، (يَا أَبَتِ) فقال له: لَأَرْجُمَنَّكَ
وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم:46].
وهكذا امرأة نوح وامرأة لوط، زوجها نبي وما أغنى عن زوجته شيئاً.
فالصلاح هبة من الله، والإنسان مكلف بالتأديب والقيام بالواجب، أما
خلق الهدى والتوفيق في قلب الولد فهذا بيد الله، وقد قال الله في
سيد الخلق: إِنَّكَ
لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]،
وأما قوله: وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]،
فقالوا: إن إثبات الهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هو هداية البيان،
كقوله تعالى: وَأَمَّا
ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]،
يعني علمناهم وبينا لهم، ولكنهم تركوا ما بينا، وذهبوا إلى غيره.
والرسول صلى الله عليه وسلم أنذر أبا جهل وأنذر عمر بن الخطاب ، وكان يقول: (اللهم! أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك )
فهدى الله عمر إلى الهداية القلبية والاستقامة الحقيقية، ولم
يهد أبا جهل ، وكلاهما كان يسمع القرآن، والرسول كان يدعو
الجميع، وليس عمر بأعقل من أبي جهل ، وقد كان يقال له: أبو
الحكم ، فعقولهما متساوية، وأفهامهما متعادلة، ولكن التوفيق
بيد الله: وَلَكِنَّ(3/450)
اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272].. وَلَوْ
شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ
الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13]،
فالأمر بيد الله، ونحن لا نملك في صلاح الأولاد إلا التأديب
والرعاية إلى أن يبلغ سن التكليف، ثم ترفع يدك عنه، ولا تملك إلا
خالص الدعاء، فإن استجاب الله فالحمد لله، وإن لم يستجب فهذا حكمه، لا
يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
والولد هبة ونعمة، قال الله: يَهَبُ
لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا [الشورى:49-50]،
وكون الولد صالحاً هبة أخرى، ونجد أن الخضر عليه السلام قتل الولد
حفظاً على صلاح الأبوين، وَأَمَّا
الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ
يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ
يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ
رُحْمًا [الكهف:80-81].
إذاً: صلاح الأولاد هبة من الله، والأمور الظاهرية التي كلفنا بها
هي الرعاية والتأديب، ويشترك في تربية الأولاد والتأثير عليهم مع
الأبوين: المجتمع والمدرسة والمسجد ثم بعد ذلك السلطان؛ لأنه هو
الذي له الولاية على الولد إذا دخل في سن التكليف. فمن رزق بولد
فليحمد الله، وليسأل الله أن يجعله صالحاً، فإذا صلح الولد كان
نعمة في الدنيا والآخرة، قال الله سبحانه: وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21]،
وإلحاق الذرية بالآباء يوم القيامة هبة من الله، وهو مما يستدل به
على استفادة الميت بعمل غيره؛ لأن الذرية ما عملت شيئاً بعد الموت،
وألحقها الله بآبائهم لتقر عين الآباء، إكراماً للآباء، وليس من
أجل الأبناء، أَلْحَقْنَا(3/451)
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ [الطور:21]،
أي: ما أنقصنا عمل الآباء مقابل مجيء الأولاد عندهم، فإلحاق الذرية
بالآباء فضل من الله مع بقاء أجر الآباء كاملاً. نسأل الله أن يصلح
أولادنا وأولاد المسلمين! ونسأل الله أن يأخذ بنواصيهم إلى الحق!
ونسأل الله أن يوفقهم وأن يهديهم، وأن يصلحهم في أمر الدنيا
والآخرة! هذا، وإن من صلاح الولد أن يدعو لأبيه، فإذا لم يكن
صالحاً فإنه لا يدعو له، بل قد يدعو عليه!
الخلق الحسن سبب للدعاء لصاحبه بعد موته
الدعاء ينفع الميت من أخ صالح، أو من زوج صالح، أو من صديق صالح، و
من أي مسلم كان سواء كانت له صلة بالميت أو لا صلة له به إلا
بالإسلام، وفي الحديث: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من
كسبه )، فدعاء الولد لوالده من كسبه، فماذا عن الآخرين؟ إذا مات
شخص فإنه كان في الدنيا مع الناس على أحد رجلين: إما أنه كان
محسناً معه إليه، فإنه سيدعو له بعد موته لإحسانه إليه في الدنيا،
وما الموجب الذي سيجعله يدعو له؟ إحسانه إليه، وقد يموت إنسان
فيدعو عليه آخر، فما السبب؟ إساءة معاملته، كما أن الذي يدعو له
إنما هو بسبب حسن معاملته. إذاً: حسن معاملة الناس تستجلب دعاء
الناس له بالخير، فحسن المعاملة للناس هي من كسبه في حياته، وقد
ورّثت له دعوات صالحة ممن كان يحسن إليهم، فحسِّن معاملتك مع الناس
لتستجلب منهم دعوات الخير بعد وفاتك، ولا تعاملهم بالإساءة والسوء.
إذاً: هذا الحديث يضع لنا منهجاً في السلوك، وهو أن تعامل الناس
بالحسنى، وأقل ما يعود عليك من حسن معاملتك للناس أنهم يدعون لك
بعد موتك، وهذا يدخل في الصدقة الجارية، وكما تنتفع من الولد الذي
من صلبك وهو من كسبك، فكذلك تنتفع بدعاء الناس لك بعد موتك، وذلك
بسبب حسن معاملتك لهم، وهذا من كسبك أيضاً. إذاً: لينظر كل إنسان
في معاملاته مع الناس عامة، ومع الرؤساء والمدراء خاصة، فينبغي لمن(3/452)
تحتهم أن يعاملهم بالحسنى، وبالكلمة الطيبة، فإذا لم ينجز له عمله
فليسمعه كلمة طيبة، وليعده وعداً حسناً، لا أن يخاطبه بجفاء ويقول:
مالك عندنا شيء أو لا أعرف شيئاً! فالمسألة ليست شخصية، والله
سبحانه وتعالى أوصلك إلى هذا المكان لتخدم الناس، لا لتستخدمهم أو
لتحجب حقوقهم عنهم، وهذا العمل ليس من شأنك ولا من رأس مالك ولا من
كسبك، وإنما وليت عليه لتنفع الناس. وهذا الحديث شغل بالي فيه سبب
انتفاع الميت بدعاء عامة أفراد المسلمين، فظهر لي -والله تعالى
أعلم- أن دعوات عامة المسلمين للميت إنما هي من كسب الميت في
حياته، بسبب حسن التعامل مع الناس.
شرح حديث: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها..)
قال رحمه الله: [ وعن ابن عمر قال: (أصاب عمر رضي الله عنه
أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: يا
رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر، لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي
منه، قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، فتصدق بها في الفقراء وفي
القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على
من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقاً غير متمول مالاً ).
متفق عليه، واللفظ لمسلم ، وفي رواية للبخاري : (تصدق
بأصلها لا يباع ولا يوهب، ولكن ينفق ثمره ). ].
فضل عمر رضي الله عنه
قوله: عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه، عمر له عدة أبناء
ستة أو سبعة، لكن إذا أطلق هذا اللفظ انصرف إلى عبد الله ، وله
أخ اسمه عبيد الله ، وآخر اسمه عاصم وغيرهما، وعبد الله هو المشهور بالرواية. قال: (أصاب عمر )، ولماذا لم يقل: أصاب
أبي؟ ليبرز لنا صاحب الحديث لو قال: أصاب أبي، فمن يكون أبوه غير
عمر ؟ لكن قال: أصاب عمر ليُبرز شخصية عمر ، وهو من
الخلفاء الراشدين، وسنته متبعة، ومنزلته عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم هي هي، وكذلك عقليته وفقهه، قال عنه النبي عليه الصلاة(3/453)
والسلام: (كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم
أحد فإنه عمر ) وفي بعض الروايات الضعيفة: (لو لم أرسل
إليكم لأرسل عمر ). وفي الحديث: (ان الشيطان ليفرق منك يا
عمر ! )، وأنزل القرآن موافقاً لرأيه في ستة مواطن، ومع هذا
كله لما أصاب أرضاً بخيبر جاء يستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
في هذه الأرض، يعني: يطلب أمره، ويستأذنه، ويستشيره، وما عوّل على
ما عنده من خلال الخير والفطنة والمعرفة، وهذه -والله- هي السعادة
الكبرى، أن يكون صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، يسألونه في
الصغيرة والكبيرة، ويصدرون عن رأيه، ويستأمرونه فيما يخصهم، ملك
أرضاً وله أن يتصرف فيها كيفما يشاء، وفي المثل: من تحكّم في ماله
ما ظلم، ولكن ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم موجود فيذهب
يستشيره. وقوله: (أصاب أرضاً بخيبر)، هل خيبر فتحت عنوة أم صلحاً؟
عنوة، فلو كانت صلحاً لم يصب منها شيئاً، فهي فتحت عنوة، وقد فتحت
حصناً حصناً، ولما أظفر الله سبحانه وتعالى المسلمين بهم، عقد
الصلح على أن يعمل اليهود فيها، ويكون لهم نصف الثمرة والزرع،
وكانوا أشد خبرة بالغرس والزرع، وكان المسلمون مشغولين بالجهاد،
فأصبحت ملكاً للمسلمين؛ لأنها فتحت عنوة. والأرض التي تُفتح عنوة
تقسم على المجاهدين، فكانت حصة عمر من خيبر كما قال: (لم أصب
مالاً قط هو أنفس عندي منه)، أي: من هذا الجزء الذي أصبته من خيبر.
السخاء والكرم
هذه القصة تدعو إلى سخاء النفس، والحث على التطلع إلى ما عند الله،
والاستظلال بقوله سبحانه: لَنْ
تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل
عمران:92]، ليس مما تكرهون أو تكونون زاهدين فيه، وما له غرض
عندكم، أو ما له قيمة، بل تنفق الشيء النفيس الذي تحبه، كما قال
سبحانه: وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ [الإنسان:8]،
ويختلفون في ضمير (حبه) هل يرجع للطعام أم المعنى على حب الله؟(3/454)
يقول والدنا الشيخ الأمين : أحياناً يأتي في الآية ما يدل على
رجحان أحد القولين من أقوال العلماء، وهنا فيها قرينة تدل على أن
ضمير (حبه) راجع للطعام، لأن ذكر الله يأتي في الآية بعدها: وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان:8-9]،
فقوله: نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللَّهِ يدل على أن (حبه) يرجع للطعام، فمع حبهم للطعام يطعمونه. جاء ضيف
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل صلوات الله وسلامه عليه
إلى بيوت زوجاته التسع يطلبهن عشاءً للضيف فلم يجد، فقال: (من يضيف
هذا الليلة رحمه الله؟! )، فذهب صحابي به إلى أهله، وقال لها:
هذا ضيف رسول الله، فأكرمي ضيف رسول الله، فقالت: ما عندي إلا عشاء
الأولاد، فقال: علليهم حتى يناموا، واعمدي إلى السراج لتصلحيه
فأطفئيه، وأنا سأدلي بيدي وأرفعها خالية لأوهمه أني آكل معه؛ لأوفر
له الطعام الذي يشبعه. انظر الحيل! حيلة لوجه الله، فيقابل بالبشرى
العظيمة، فحينما غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصباح
قال له: (قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة! )، فعلاً حيلة
تضحك! وبعض الناس يحتال على المحرم ليصل إليه، وهذا يحتال على
الحلال ليصل إلى رضوان الله، وإرضاء رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا عمر يقول: (لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه)، وأبو طلحة لما نزلت الآية جاء إلى رسول الله وقال: (إن الله يأمرنا أن ننفق
مما نحب من المال، وإن أحب مالي إلي بيرحاء)، وبيرحاء كانت شمالي
المسجد، وكانت موجودة قبل هذه العمارة الأخيرة لخادم الحرمين،
وكانت بئرها موجودة، وحولها آثار بستان وبعض النخيل، ولا نقول: إنه
من ذاك الوقت، لكن البيئة بيئة مزرعة، قال: (فضعه حيث شئت يا رسول
الله!) فقال: (اجعله في الأقربين )، والشاهد عندنا قوله: (أحب
مالي إلي بيرحاء)، وهكذا عمر رضي الله تعالى عنه يقول: (إني(3/455)
أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه)، أي: هو أنفس
مال عنده، فنصحه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوقفها.
معنى قوله: (إن شئت حبست أصلها..)
(إن شئت )، يدل على أنه ليس بإلزام، بخلاف الزكاة فليس فيها
مشيئة المزكي، فهي حق للسائل والمحروم، أما هنا فتبرع وصدقة، فقال:
(إن شئت حبست أصلها )، وهذه من صيغة الوقف: حبَّستُ، أوقفتُ،
وقَّفتُ، سبَّلتُ، كل هذه صيغ يحصل بها الوقف، ويختلفون في كلمة
تصدقت؛ لأنها تصدق على الصدقة بتمرة، وعلى الصدقة لجهة ما، وتصدق
على الوقف؛ لأنه صدقة جارية، لكن إذا جاءت قرينة تدل على أنه أراد
بكلمة (تصدقت) معنى أوقفت؛ فلا إشكال. وقوله: (إن شئت حبست أصلها )،
يدل على أن الوقف لا يكون إلا لما له أصل يبقى، وتؤخذ منه منفعة،
فالطعام لا يكون وقفاً بل صدقة؛ لأنه ليس له أصل يوقف، وتؤخذ منه
منفعة كل سنة بل يذهب، والغرس المثمر يصح وقفه، والغرس غير المثمر
لا يصح وقفه؛ لأنه لا فائدة فيه للموقوف عليهم، إلا إذا قلنا:
ينتفع بها بأن يؤخذ منها حطب، ويباع وينبت غيره، كما كان الحال في
المدينة، يؤخذ الخشب من شجر الطرفاء، وكانت الطرفاء وجذوع النخل هي
أدوات البناء والسقف. إذاً: يؤخذ من قوله: (حبّست أصلها، وتصدقت
بها )، أن الذي يصح وقفه ما اشتمل على الأمرين: الأصل والثمرة،
فيحبِّس الأصل ويسبل الثمرة، فلا يباع ولا يورث ولا يوهب،
والتصرفات التي تنقل ملكية العين لا تجوز في الوقف، وألحق الفقهاء
بها الرهن؛ لأن الغرض من الرهن توثيق الدين، فإن وفّى المدين دينه
فالحمد لله، وإذا لم يوف دينه بيع الرهن، والحال أنه وقف، والوقف
لا يباع، إذاً: لا يرهن. فمعنى قوله: (حبّستَ): أن يبقى في محله
محبوساً عن التصرفات التي تعتري الأملاك، فلا ينتقل إلى أحد ببيع،
أو بهبة أو بميراث، وكذلك لا يرهن؛ لأن المرهون معرض للبيع وفاءً
للدين. وقوله: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا(3/456)
يوهب، رد الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر لعمر ليتصدق هو؛
لأنه المالك، فتصدق بها عمر على أن الأصول لا تباع ولا تورث
ولا توهب. (فتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل
الله وابن السبيل والضيف ). الوقف ينقسم إلى قسمين: وقف التبرر
لعمل البر، والوقف الأهلي الذي يوقفه على أشخاص معينين، فيقول: هذا
وقف على فلان، ويسميه باسمه، ومن بعده إلى أخيه فلان، ومن بعده إلى
عمه فلان، فهذا وقف أهلي. والوقف الخيري يجري لمن عين له بالوصف،
والوقف الأهلي إذا وصلت ثمرته إلى من هو موقوف عليه تعامل معها
معاملة المالك، فلو وقّف هذه النخيل على ثلاثة أشخاص، فلما جاءت
الثمرة قسمناها على الموقوف عليهم، وكانت حصة كل واحد منهم نصاب
زكاة (خمسة أوسق فأكثر) فعليه أن يزكيها، لكن وقف التبرر على
المساكين أو على ذوي القرابة أو على ابن السبيل، لو أن الصنف
الموجود ناله من الوقف بقدر نصاب زكاة؛ فلا زكاة عليه؛ لأنها صدقة
عليه، بخلاف الوقف الأهلي. ونسمع عن بعض الدول أنها غيّرت وبدلت في
الوقف، فألغت الوقف الخيري، وبعضها ألغى الوقف الأهلي، وكنا نسمع
أن حكومة بلد من البلاد الإسلامية العربية أرادت أن تلغي الوقف
الأهلي، ثم إن رئيس تلك الدولة أوقف عشرة أفدنة على ولده، فتوقف
المشروع؛ لأنهم لا يستطيعون أن يبطلوا وقف رئيس الدولة، وكانت بعض
الحكومات تحارب الوقف في الماضي، وكذلك في الوقت الحاضر بعض الدول
ألغت الوقف فعلاً، ولم يعد هناك ما يسمى وقف، فأعادوا الأوقاف إلى
أهلها، فإن كان الموقف حياً رجع إليه ملكه، وإن لم يكن موجوداً رجع
إلى الورثة بحسب الميراث الشرعي. وعمر رضي الله تعالى عنه وقّف
أرضه وقف تبرر وقفاً أهلياً، وسنشرح ذلك جملة جملة.
الوقف على الفقراء
قوله: (فتصدق بها في الفقراء )، الفقراء ليسوا مخصوصين
بأشخاصهم، ولكنهم طائفة يعرفون بصفاتهم، والفقير هو الذي لا يجد ما(3/457)
ينفقه، بخلاف المسكين فهو يجد أقل ما ينفق، فكسبه أقل مما يحتاجه
في النفقة، فكسبه لا يكفي حاجته، وقالوا: إن المسكين أحسن حالاً من
الفقير، وقالوا: إن الفقير مأخوذ من فقار الظهر، وبالعمود الفقري
يتحرك الإنسان، فإذا تعطلت فقرة من فقار العمود الفقري في الإنسان
فإنه لا يستطيع أن يحرك شيئاً من جسمه، ويكون ملازماً للأرض ساكناً
لا حركة عنده، بخلاف المسكين فهو ساكن، وفرق بين من أخلد إلى الأرض
كرهاً ومن سكن اختياراً؛ ولذا جاء في حق المساكين: أَمَّا
السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79]،
فهم مساكين ومعهم سفينة، والسفينة مال، فمن كان عنده سيارة كبيرة
يعمل عليها، وما عنده غيرها، قد يكون فقيراً، وأما الفقير فليس
عنده شيء، حتى ولا كرسي. فالصنف الأول للفقراء، وإذا وقف للفقراء،
وكان للموقف قرابة أو أبناء اتصفوا بالفقر، فإنهم يستحقون من الوقف
مع الفقراء؛ بوصفهم بالفقر لا بكونهم أبناء الموقف، ومن استغنى
منهم لا يعطى من الوقف.
الوقف على ذوي القربى وفي الرقاب
قوله: (فتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب )، القربى:
ذوو الرحم، وليسوا الورثة فقط، بل مثل خاله وخالته، وابن خاله وابن
خالته، وعمته، وابن عمته، فهؤلاء كلهم من ذوي الرحم، فجعل لهم
نصيباً، والرقاب جمع رقبة، وما المراد بالرقاب هنا؟ هناك عبدٌ
قِنٌ، أي: ليس فيه شائبة حرية، ومبعَّض، أي: بعضه حر، وبعضه مملوك،
وهو من أعتق بعضه، ومدبَّر، وهو الآن مملوك، ولكن حريته مدبرة بعد
وفاة مالكه، ففي اللحظة التي يموت فيها سيده يملك حريته، ومُكاتب،
وهو: الذي شارط سيده على مبلغ يؤديه إليه، فلو أن السيد أراد أن
يبيعه لشخص آخر، فيقول له: أنا أشتري نفسي، ويكاتبه على مبلغ
يتفقان عليه، وينجمه عليه تنجيماً، ويستحب له أن يسقط القسط الأخير
مساعدة له، وهذا إذا علم فيه خيراً، لا أن يكون مفسداً شريراً،(3/458)
فيملك نفسه، ويفسد في الأرض، لكن يكاتبه إذا آنس منه الصلاح
والاستقامة والقدرة على أداء مبلغ الكتابة، فإنه إذا تحرر نفع
الناس، وكان صالحاً في المجتمع. فأي نوع من أنواع الرقاب المراد
هنا؟ بعضهم يقول: الرقاب الذين يحتاجون إلى المال، وهم المكاتبون؛
لأن المكاتب عليه أن يسدد بخلاف القِن ما عليه شيء، والمبعّض ما
عليه شيء، والمدبَّر ينتظر موت سيده بفارغ الصبر؛ ولهذا كره تدبير
العبد كما كرهت الرُّقبى. فيعطى المكاتب ما يتحرر به، وبعضهم يقول:
(وفي الرقاب) أن تشتري المملوك القن وتعتقه. إذاً: هي دائرة في هذا
الصنف من الناس، سواءً اشتريته وأعتقته أو ساعدته على وفاء دين
كتابته. والإسلام يتشوف إلى تحرير الرقاب، وقد يكون العبد قريباً
لعمر ؛ لأن العبد هو من أُخذ أسيراً في المعركة وهو يقاتل
المسلمين، لا من خطف من الطريق. فلا يسترق مسلم أبداً إلا إذا أسلم
بعد أن أخذ أسيراً، وقسم على الغانمين، وبعد ذلك يسلم فهذا فضل
الله. وقال الله: وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا ،
المسلمون فيهم مساكين، وَيَتِيمًا ،
والمسلمون فيهم أيتام، (( وَأَسِيرًا ))[الإنسان:8]، لا يكون مسلم
بيد المسلمين أسيراً؛ لأنه لا يحق لمسلم أن يأسر أخاه ولو تقاتل
معه، والسلف عندما تقاتلوا لم يسترق بعضهم بعضاً، ولما قال القوم
لعلي : أقسم بيننا الأسارى، قال: لا يوجد أسارى في الإسلام،
أيكم يرضى أن تكون عائشة في سهمه؟! ولهذا لا يذفف على جريحهم،
ولا تسلب أموالهم؛ لأن القتال غالباً لا يكون بين طوائف المسلمين
إلا بسبب اختلاف وجهة نظر دينية.
ترغيب الشرع في تحرير الرقاب
في قوله: (وفي الرقاب )، ترغيب لتحرير الرقاب، وقد أشرنا مراراً
أن الرق في الإسلام يتميز عن جميع طوائف العالم، وأشرنا أن قانون
الرق في أوروبا كان ينص على منع السيد من عتق رقيقه إلا بإذن
الحاكم، وكان يستوجب أسر الأفراد لأوهى الأسباب، أما الإسلام فلم(3/459)
يجز استرقاق الإنسان إلا في أرض المعركة حينما يحاد الله ورسوله،
ويقف سداً منيعاً أمام زحف الإسلام إلى الناس فيؤخذ أسيراً، ثم باب
الأسر واحد، أو كما يقال: باب الورود واحد فقط، وهو أرض المعركة،
بينما أبواب الخروج متعددة، فإذا كان الورود من باب واحد والخروج
من أبواب متعددة فهل يبقى في البيت أحد؟ لا يبقى أحد بخلاف العكس،
لو كان أبواب الورود متعددة والخروج من باب واحد، فسيحصل زحام
وأزمة، أو كما يقولون: خطر سوء التفريغ، ولذا فمن أول حساب الهندسة
المعمارية عند بناء المسجد أو المعهد أو الكلية، أنه لابد أن يعمل
حساب الأبواب للخروج، حتى لو حصلت أزمة مفاجئة استطاع الموجودون
الخروج بسرعة، أما إذا كان هناك باب واحد، وهناك ألف نفر، فمتى
يخرجون؟ سيقتل بعضهم بعضاً في الزحام، لكن لو عمل خمسون باباً
فسيخلو المكان بسرعة. فنجد جميع الكفارات فيها عتق، مثل كفارة
اليمين، والظهار، والوطء في رمضان، وقتل الخطأ، وتبدأ الكفارة
-سواءً كانت على الترتيب أو التخيير- بعتق رقبة. ثم نجد الترغيب في
عتق نفسه من النار، فقال عليه الصلاة والسلام: (من أعتق رقبة مسلمة
أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار حتى فرجه بفرجه )، بل قد
يكون العتق إجبارياً على الإنسان، فقال عليه الصلاة والسلام: (من
أعتق شقصاً من عبد مملوك، فخلاصه عليه في ماله، فإن لم يكن له مال
قوم العبد قيمة عدل ثم استسعي العبد غير مشقوق عليه )، يعني:
قوم عليه الشقص الثاني، وقيل له: ادفعه لشريكك، ويصبح العبد حراً،
فإن قال: أنا أعتقت النصف فقط، فيقال له: مادام قد أعتقت النصف فقد
فتحت الباب، فأكمل، ويُجبر على عتقه كاملاً. ومن لطم عبده فكفارته
أن يعتقه، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: كانت لي
جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت عليها ذات يوم فإذا
الذئب قد ذهب بشاة منها، وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني(3/460)
صككتها صكة، فعظم ذاك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
أفلا أعتقها ؟ قال: (ائتني بها. قال: فجئته بها فقال: أين الله؟
قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله قال: اعتقها
فإنها مؤمنة ). فالشريعة تتلمس الأسباب للعتق، بخلاف القوانين
الأخرى، فإنه يشمئز الإنسان أن يوردها، كانوا يبيحون لأنفسهم إطلاق
السباع الجارحة المفترسة على العبد في ميدانٍ ليتفرجوا كيف يفترسه
الأسد! ولا أحد يمنعهم من ذلك، والقانون يبيح لهم ذلك! وهذا لطمها
في حالة غضب أسفاً على الشاة التي أكلها الذئب، فيتأسف ويسأل عن
عتقها، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (اعتقها ). وهذا عزير بن
عمير أخو مصعب بن عمير ، أخذ أسيراً يوم بدر، ولما قدموا
به إلى المدينة، مر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:
(استوصوا بالأسارى خيراً )، قال: فكانوا يقدمون إلي الخبز،
ويجتزئون هم بالتمر، حتى كنت أستحي منهم فأردها عليهم فيردونها
عليّ. فأي إكرام؟ وأي معاملة بالحسنى إلى هذا الحد؟ ومر عليه مصعب أخوه، فقال: شدوا وثاقه فإن أمه ذات مال لعلها تفديه منكم، فنظر
إليه وقال: هذه وصايتك بي يا أخي! قال: لست أخي، إنما إخوتي هؤلاء
المسلمون. والذي يهمنا أنهم كانوا يقدمون له الخبز، وهم يأكلون
التمر عملاً بوصية رسول الله: (استوصوا بالأسارى خيراً ). وعمر رضي الله تعالى عنه جعل حصة من وقفه للرقاب.
الوقف في سبيل الله
بعض الناس يقول: إذا أطلق سبيل الله انصرف إلى الجهاد، والبعض
يقول: كل عمل خير فهو في سبيل الله، ولكن الأول هو الأصح؛ لأنه لو
كان معنى (في سبيل الله) أعمال الخير كلها، فلا حاجة إلى أن أقول:
فقراء، رقاب، أيتام؛ لأنها كلها في سبيل الله، لكن العرف يعيِّن أن
في سبيل الله هو الجهاد. فما الذي يفعل في حصة (سبيل الله) التي
أوقفها عمر ؟ إذا كان هناك غاز ليس عنده جهاز ولا مئونة ولا
زاد، ووجد أن له حقاً في وقف عمر ، فإنه يأخذ منه، مثل إنسان(3/461)
يريد أن يغزو، وعنده طعامه لكن ما عنده سلاح، فيأخذ من الوقف ما
يشتري له به سلاحاً؛ لأنه في سبيل الله.
الوقف على ابن السبيل
وقوله: (وابن السبيل )، السبيل: هو الطريق، والغريب يطلق عليه
ابن السبيل، والشاب الغريب ابن كما يقولون: البنوة نسبة، فتقول:
ابني وابن فلان، فينسب إلى أبيه الذي جاء منه. فما علاقة السبيل
بآدمي يمشي على وجه الأرض؟ قالوا: لأننا لا نعلم عن هذا الغريب
شيئاً، ولكن السبيل هو الذي جاءنا به، فلولا السبيل أو الطريق لما
رأيناه، فنحن وجدناه على الطريق، فهو ابن الطريق، كما يجد إنسان
إنساناً في غابة فنقول عنه: ابن الغابة؛ لأنه وجد فيها، وهكذا.
فابن السبيل يراد به المسافر المنقطع الذي يريد ما يبلغه إلى بلده،
ويبحث العلماء فيما يأخذه ابن السبيل، وفيما يأخذه الغارم الذي سعى
بين الناس بالصلح، فهل ما يأخذاه تملك أو استحقاق لغاية؟ فإن كان
تملك، قدرنا له ما يوصله إلى غايته، فإن أعطيناه ألفاً ثم هو قتر
على نفسه، وأنفق نصف الألف فقط، فهل يرد الباقي أم يكون في ملكه؟
إن قلنا: يأخذ ما يبلغه فقط، فإنه يرد الباقي، وإن قلنا: يتملك ما
قدرناه له، وما وفّره فهو ملك له؛ لأنه وفره على حظ نفسه، وقد يكون
حرم نفسه من بعض الأشياء، ووفر بعض قيمتها فيكون ما أخذه ملكاً له.
الوقف على الضيف
وقوله: (والضيف )، المراد ضيف الوالي على الوقف، وهو الناظر،
مثلاً: الناظر مقيم في النخل، فورد عليه ضيف، فللضيف حق الأكل من
هذا الوقف؛ لأن الضيف مثل ابن السبيل، وقد يكون استضاف صديقه أو
قريبه. وقد حث الإسلام على إكرام الضيف والضيافة، لها أحكامها
الخاصة، قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليكرم ضيفه، ... فليقل خيراً، ... فليكرم جاره ). وإكرام الضيف
من مكارم الأخلاق، وهو من بقايا شيم العرب، وتعرفون أخبار حاتم في الكرم، وقصة الحطيئة لما أكرم ضيفه وقال له: يا أبت اذبحني(3/462)
وهيئ له طعماً والقصيدة طويلة، فكان العرب يعنون بإكرام الضيف،
وكانوا يتغنون بذلك، وكما قال الآخر: وبات على النار الندى والمحلق
والمحلق هذا كان عنده عدة بنات، وما جاءه خاطب لهن، فقدم بعض
الشعراء ونزل عنده، فما اهتم له كثيراً، فقيل له: هذا الشاعر فلان،
فحالاً أكرمه بزق من الخمر، وبشاة مشوية، فقام يمتدحه بقصيدة فيها:
وبات على النار الندى والمحلق والندى: يعني الكرم، فشاعت القصيدة
في العرب، وبعد مدة خطبت بناته كلهن. يهمنا الكرم وأثره، والضيف له
حق، كما في الحديث، وقال بعض المتأخرين: إن الضيف له حق ثلاثة
أيام، فاليوم الأول فرض، والثاني مندوب، والثالث كذا، وما عدا ذلك
فهو صدقة. وعمر رضي الله تعالى عنه لما فتح بيت المقدس شرط على
الرهبان، وعلى أصحاب الصوامع: أن يضيفوا من مر عليهم من أبناء
السبيل، وبعض المتأخرين يقول: انتهى أمر الضيافة؛ لأنها كانت عندما
كان الغريب لا يجد ما يأكل وما يشرب، وبعضهم يقول: لا، من كان
مقيماً في صحراء، وعنده سعة؛ فالضيافة عليه واجبة، وإن كان في
مدينة من المدن، وفيها الفنادق، وفيها المطاعم؛ فلا تجب الضيافة
على أحد؛ لأنه إن لم يستضفه أحد سيجد في الفندق والمطعم ما يسد به
حاجته، وفي ذاك الوقت لم يكن هناك فنادق ولا مطاعم ولا مخابز، ولا
غيرها مما يسد الغريب حاجته فيها بما في يده، وقد يكون معه الثمن
لكن لا يجد من يبيعه، فتجب حينئذ ضيافته، فالأماكن التي لا يجد
الغريب فيها حاجته بالثمن، فالضيافة واجبة على أهلها. ونعلم بقصة
الرهط الذين نزلوا عند حي، فأبوا أن يضيفوهم، وسلط الله العقرب على
سيد ذاك الحي، وقضية الخضر عندما أقام الجدار في القرية التي أبى
أهلها أن يضيفوهما، فهذا عيب عليهم من ذاك التاريخ، وهذا يدل على
أن الضيافة ثابتة في الأمم جميعاً. فإذا كان الغريب لا يجد ما
يطعمه وما يأويه تعينت الضيافة، وإذا كان يجد ذلك بالنقد أو(3/463)
بالمروءة ما يطعم ويأوي فلا حق في الضيافة بالفرض على أحد.
أجرة ناظر الوقف
قوله: (لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف )، (لا
جناح) أي: لا إثم ولا ذنب ولا مؤاخذة على من وليها، والذي يليها هم
النظار، فللناظر أن يأكل بالمعروف، وما هو المعروف؟ قيل: ما يسد
رمقه، والبعض يقول: بحسب متوسط المعيشة، والحنابلة يقول: له الأقل
من أجرة المثل ونفقته الشخصية، فمثلاً هذا العمل لو استأجرنا
إنساناً يقوم عليه فإنه يستحق في الشهر ألف ريال مثلاً، وهذا
العامل لو كان ينفق على نفسه فإنه يكفيه ستمائة ريال، فيستحق في
الوقف أقل الأمرين: نفقته الخاصة أو أجرة المثل. ولو كانت نفقته
ألف ريال، وأجرة مثله خمسمائة ريال، فإنا نعطيه أجرة المثل وهي
الأقل؛ لأن هذا حماية للوقف، وكذلك الأمر فيمن ولي مال اليتيم.
أمانة ناظر الوقف
وقوله: (ويطعم صديقاً غير متمول مالاً )، لو مر عليه صديق،
وقدّم له من الرطب أو قدم له شيئاً من الفاكهة، فلا بأس أن يطعمه،
ولكن بشرط (غير متمول مالاً). فهذا الذي يليها يأكل بالمعروف غير
متمول مالاً، وهذا الصديق يأكل بالمعروف، وهذا الضيف يضيفه
بالمعروف لا أن يتمول من هذا الوقف مالاً، بأن يقتطع جزءاً من
الوقف لنفسه، فهذا لا يجوز، ومرت علينا قضايا في المحكمة تضحك
وتبكي من أعمال نظار الوقف، وكذلك لا يتمول بأن يجمع من ثمار الوقف
ما يبيعه ويختزن ثمنه حتى يتمول مالاً من وراء الوقف. وقد ورد
الإذن لابن السبيل إذا مر على حائط، أن يسد جوعه غير متخذ خبنة،
فلا يحمل معه من الثمرة ويذهب، بل كل ما يشبعك في مكانك، ولا تحمل
معك شيئاً. قال رحمه الله: [وفي رواية للبخاري : (تصدَّقَ
بأصلها: لا يباع ولا يوهب، ولكن ينفق ثمره )] ينفق ثمره على من
تقدم من تلك الأصناف. وفي قضية عمر هذه، يقولون: إنه ولاها
ابنته حفصة ، وكانت هي ناظرة هذا الوقف تقوم عليه، وهل يشترط(3/464)
في الوقف قبض الموقوف عليه أو من يليه باعتبار معنوي أم لا؟ فالذين
يشترطون ذلك يقولون: عمر أخرجها من ذمته، وولى عليها حفصة ، وهي تولّت القبول باسم الفقراء وباسم ابن السبيل، لأن هؤلاء
الأصناف لا يتأتى منهم قبول لعدم إمكان حصرهم. والآخرون يقولون:
ليس بلازم، وهو مذهب الحنابلة. ومباحث الوقف عديدة ومتوسعة، وما
أكثر ما يكون فيها من مشاكل وإشكالات في الجهات الموقوف عليها، مثل
أن يقف ويقول: على أولادي وأولاد أولادي، أو على أولاد الظهور دون
أولاد البطون، وهذا من الخطأ الذي يرتكبه بعض الناس، أو أن يوقف
المال مضارّة للورثة، عنده مال، فيوقف نصف المال ليحرم الورثة
ميراثهم بهذا الوقف، فإذا فعل ذلك مضارّة بطل الوقف، وبعضهم يشترط
فيه شروطاً لا تصح، مثل أنه يحق له أن يرجع في وقفه، ويحق له البيع
والشراء، وأن يستبدل طائفة عن طائفة، والجمهور أن تلك الشروط
باطلة. ويشترط في الوقف اتصال البداية واتصال النهاية، اتصال
البداية مثل أن يقول: وقفت على بني فلان وهم موجودون، ولو قال:
وقفت على أولادهم وذرياتهم وأعقابهم، فلم تتصل النهاية، فيكون
باطلاً، لكن يقول: وقفت على كذا وعلى كذا وعلى كذا، فإذا انقرضوا
فعلى المساكين أو فعلى طلبة العلم، فطلبة العلم والمساكين لا
ينقطعون؛ لأنهم موجودون دائماً.
شرح حديث: (بعث رسول الله عمر على الصدقة ...)
قال رحمه الله: [ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة.. الحديث وفيه:
(فأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله ). متفق
عليه] يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث ليبين أن العتاد
والمحبّس في سبيل الله لا زكاة عليه، والحديث يورد في باب الزكاة؛
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ومعه آخر على
الصدقة، فلما رجع قال: يا رسول الله! منع الصدقة خالد وابن
جميل والعباس ، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ينقم ابن(3/465)
جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله، وأما خالد فإنكم
تظلمون خالداً قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما
العباس فهي عليّ ومثلها معها. ثم قال: يا عمر ! أما شعرت
أن عم الرجل صنوه أبيه ؟ ). هكذا الحديث مطولاً، ويورده العلماء
في باب الزكاة على هذا الأصل، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم
تظلمون خالداً )، أي: تنسبون إليه منع الزكاة والصدقة
وحاشاه من ذلك؛ لأنه يعلم أن الزكاة فرض، ولن يمنع خالد فرضاً،
وبعض العلماء يقول: إن هذه الصدقة كانت صدقة تطوع، ولكن جمهور
العلماء يرد ذلك؛ لأن صدقة التطوع ما كان صلى الله عليه وسلم يبعث
أحداً ليجمعها، وإنما كان يبعث لجمع الزكاة المفروضة.
معنى قوله: (فهي عليّ ومثلها معها)
تتمة للحديث: (أما العباس فهي عليّ ومثلها معها )، قالوا:
تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العباس زكاة ماله تلك
السنة، و(مثلها) أي: السنة التي بعدها. وبعضهم يقول: ليست هناك
حمالة، بل إن العباس رضي الله تعالى عنه كان قد دفع زكاة ماله
لعامين مستقبلين، قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت له حاجة
فطلب من العباس أن يعجل زكاة سنته، وكان ذلك قبل أن يتم الحول،
ومثلها معها. ومن هنا يذكر العلماء هذا الحديث بعينه في موضوع جواز
تقديم الزكاة قبل موعدها، أي: قبل ثبوت وجوبها ببلوغ الحول. وقوله:
(عم الرجل صنو أبيه) الصنو: معروف عند أصحاب النخيل، تكون نخلتان
أصلهما في الأرض واحد، فالأصل واحد، وتتشعب كل نخلة منهما إلى جهة
مقابل الأخرى، فيتفرع الأصل إلى فرعين، وهكذا العم بالنسبة إلى
الأب، فإن أصلهما واحد وهو الجد، فالجد لأب هو الأصل، ثم انفصل عنه
وتفرّع عنه أبو المتكلم وعمه؛ لاجتماعهما في أصل واحد وهو الجد،
ويعني: أن العم والأب يتساويان. والشاهد هنا: أن خالداً رضي
الله تعالى عنه احتبس أعتاده في سبيل الله، و(احتبس) يحتمل أن يكون
المعنى: أوقف، ويحتمل أن يكون أعد، أي: أعد أدراعه وأعتاده،(3/466)
والأعتاد أو العتاد: هي الخيل، والأدراع: نسج من الحديد يلبس وقت
القتال، قالوا: هذا يدل على صحة وقف العروض كالدروع وآلات الحرب من
سيوف ورماح وغير ذلك، وكذلك صحة وقف الحيوان؛ لأن الحيوان يدخل في
عموم قوله: (وأعتاده). فمن هنا أتى المؤلف رحمه الله تعالى بهذا
الحديث، وكأنه يشير إلى خلاف الفقهاء فيما يجوز وقفه وما لا يجوز؛
لأن البعض قد عارض في جواز وقف المنقولات، فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله عدم صحة وقف المنقولات؛ لأنها تتغير وتتلف ويعتريها
طوارئ الأحوال، بخلاف العقار الثابت، والوقف إنما يجعل على
التأبيد، والمنقول ليس فيه ضمان للتأبيد فهو معرض للتلف، ومعرض
للضياع؛ فلا يتم فيه الوقف.
هل يزكى مال الوقف؟
خالد رضي الله تعالى عنه أوقف ما يملك، ومن هنا قالوا: إن
الوقف ينقسم إلى قسمين: وقف أهلي، ووقف تبرر، فالوقف الأهلي هو: أن
يوقف العين على أهله، أو على أولاده وذويهم وذرياتهم، أي: على
أشخاص إما معينين بالشخص مثل: (ولدي فلان) أو معينين بوصف مثل:
(أولادي من صلبي)، فهؤلاء محصورون ومعينون، ثم قد ينقله إلى أولاد
أخيه أو إلى جيرانه أو إلى جماعة معينة، أو ينقله إلى عموم مثل:
إلى بني فلان وهم قبيلة عامة، وهذه لا يمكن حصر أفرادها ولكن
مجموعها، أو وقف على أهل وصف مثل طلبة العلم ثم إلى وصف آخر كذا
وكذا، فيكون حينئذٍ وقف على أعيان وأشخاص لهم صلاحية القبول
والتملك، فهذا الوقف بالنسبة للزكاة إنما هو هبة وصدقة، فلا يطالب
الموقوف عليه بالزكاة، ولكن الوقف على معيَّن ينظر: كم حصته من
الوقف هذا العام؟ ويعامل معاملة من وجبت عليهم زكاة الأموال، فإن
كان الوقف زرعاً أو ثمرة فجد، وكان نصيبه من الثمرة ما يجب في مثله
الزكاة؛ زكّاه حالاً، ونصاب الزكاة في التمر والحبوب خمسة أوسق،
فإذا أصاب أحد الموقوف عليهم خمسة أوسق فما فوق؛ زكاه عند استلامه،
كما قال الله: وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]،(3/467)
وإن نقص الفرد المستحق عن هذا المقدار فلا زكاة عليه، كما لو كان
المال من نخله وبستانه وملكه. أما إذا كان الوقف على خير وعلى بر،
كأن يقول: أوقفت هذا النخيل على طلبة العلم، فهو متصدق به على
أشخاص غير معيّنين، ولا يمكن حصرهم، فمن حضر منهم في بلده استحق
الوقف، فحينئذٍ يأخذه الطالب باسم الصدقة، وهو أوقفه وأخرجه عن
ملكه باسم الصدقة، فإذا كانت عين الثمرة بكاملها صدقة لا نطلب
الصدقة من صدقة على الآخرين، فهؤلاء الذين أخذوا بوصف العلم أو
بوصف الفقر والمسكنة لا زكاة عليهم فيما أخذوه. يقول صلى الله عليه
وسلم في حق خالد رضي الله تعالى عنه: (احتبس). وجاء في الخيل
حديث: (الخيل لثلاثة: فهي لرجل أجر، وهي لرجل ستر، وهي على رجل وزر )،
وفسرها صلى الله عليه وسلم بقوله: (فأما الذي هي له أجر فالذي
يحتبسها في سبيل الله )، أي: أعدها في سبيل الله ولم يخرجها عن
يده وقفاً إنما أعدها لتكون مهيأة وجاهزة للقتال في سبيل الله،
فالشخص الواحد يعد ويهيئ عتاده من سيف ورمح وخوذة على رأسه أو درع
يلبسه أو.. أو.. إلى آخره. وفرساً يعده للجهاد، فهذه لم تخرج عن
ماله، فإذا أراد الزكاة قومها وقدرها؛ لأنها ممتلكاته، وليست من
عروض التجارة، فهي للقنية، لكن يطلق عليه أنه أعدّها في سبيل الله،
فقالوا في قضية خالد : إنه حبس أدراعه، فحبس بمعنى: حبّس وأوقف
فلا زكاة فيها، أو حبس بمعنى أعد؛ ولذا ليس لكم طريق إلى مطالبته،
وهو يعرف ما يجب عليه من حق الله في الزكاة. لكن المؤلف يسوق هذا
الحديث هنا ليبين أمرين: الأمر الأول: صحة الوقف في المنقول. الأمر
الثاني: عدم وجوب الزكاة فيما أوقفه صاحبه تبرراً لوجه الله، والله
تعالى أعلم.
135077 ( كتاب البيوع - باب الهبة العمرى والرقبى [1] )
( كتاب البيوع - باب الهبة العمرى والرقبى [1] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه...)
2 شرح حديث: (تهادوا تحابوا)(3/468)
3 شرح حديث: (تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة...)
4 شرح حديث: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)
5 شرح حديث: (من وهب هبة فهو أحق بها...)
كتاب البيوع - باب الهبة العمرى والرقبى [2]
لقد نهى الشرع عن الرجوع في الهبة أو الهدية أو الصدقة؛ لأنها ليست من
الصفات المحمودة، ولما يترتب على إنفاذ الهدية أو الهبة من مصالح
محمودة، فهي تزرع المحبة والمودة وتسل السخيمة والبغضاء من النفوس.
شرح حديث: (حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه...)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد فيقول: المصنف
رحمه الله: [ وعن عمر قال : (حملت على فرس في سبيل الله،
فأضاعه صاحبه، فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم ) الحديث
متفق عليه ]. هذا الحديث أعتقد أنه كان ترتيبه الطبيعي مع أحاديث
الباب قبل قضية العمرى والرقبى، ولكن له علاقة بالعمرى والرقبى
التي كانت موجودة في استرجاعها، فعمر رضي الله عنه يقول:
(حملت على فرس في سبيل الله) بمعنى: أنه وجد إنساناً رغب في
الجهاد، ولم يجد ما يبلغه أو ما يركبه فيساعده على القتال، فأعطاه
فرساً من عنده يحمله عليه: وَلا
عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا
أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ
تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً [التوبة:92]
ما عندهم شيء يوصلهم، ونعلم قلة الظهر في السابق في غزوة بدر كان
الثلاثة والأربعة يتعاقبون على بعير واحد، فلو كانت متوفرة لكان كل
واحد ببعيره، فالمسافة ما يقارب مائة وخمسين كيلو، فعمر رضي
الله عنه فعل ذلك من باب الجهاد في سبيل الله بالنفس وبالمال، ثم
نظر إلى فرسه عند من كان حمله عليه، (فأضاعه)، وكلمة الضياع تطلق
على التلاشي، تقول: ضاع الكتاب .. ضاع القلم .. ضاع الدفتر ..
يعني: ليس عندك، فيكون في يدك وتقول: ضاع، يقولون: (ضاع) تصرف إلى(3/469)
معنى : أهمله كأنه ضيعه، أي : قلّت الاستفادة منه بسبب إهماله،
والفرس يضيّع ؟ نعم، مئونة الفرس للجهاد في سبيل الله مئونة شاقة،
كما قالت أسماء رضي الله عنها عندما لحقها رسول الله صلى الله
عليه وسلم ومعه جماعة من طريق الغابة، وهي تحمل النوى على رأسها،
فلما عرفها أشفق عليها وأناخ راحلته ليردفها خلفه، تقول : تذكرت
غيرة الزبير ، فاستحييت وامتنعت، فأخذ مني قفة النوى وحملها
عني، ثم قالت : والله ما أرهقني إلا فرس الزبير . خدمته وعلفه
وسقيه، والآن نجد بعض الهواة للخيل يجعلون له خادماً وسايساً
ومنظفاً. يعني: يمكن ثلاثة أشخاص يخدمون الفرس، وهذا للعناية به،
والفرس حساس نظيف، يحب النظافة والأناقة والطرب، فيحتاج إلى خدمة،
فإذا ما قصر صاحبه فيه أضاعه، والفرس لا يألف المكان غير النظيف،
ولا يألف على طول المدة دون أن يغتسل ويغسل، وهكذا كما يقولون:
أرقى النباتات النخلة، وأرقى الحيوانات الفرس، فهو أرقى الحيوانات
وأذكاها. نأتي إلى قول عمر : (فأضاعه) لا شك أن عمر لديه
الإمكانيات لعلف الفرس ولخدمته، ولما يتناسب مع مهمته، فلما حمل
عليه شخصاً الأصل أنه فقير لا يجد ما يركب عليه، إذا أعطي فرساً
أصيلة مخدومة ليس بإمكانياته أن يوفيها حقها. إذاً: ضاعت فعز على
عمر أن يرى فرسه المدلل، أو يرى فرسه المخدوم المعلوف المتميز
مهملاً مضيعاً ولا يؤدي مهمته، والعرب كانت تعنى بالخيل قبيل
المعارك بالتضمير. أي : يضمرها، كما عندنا في السباق : (سابق بين
الخيل المضمرة من ثنية الوداع إلى الحفياء، وبين الخيل غير المضمرة
من الثنية إلى مسجد بني زريق ) فالمضمرة شيء وغير المضمرة شيء
آخر، وتضمير الخيل: هو أن يعطى العلف متى ما شاء، دائماً يأكل حتى
يشبع ببطر، ثم قبل المعركة يؤخذ هذا الفرس ويجلل بالثياب المتينة
الصوف، ثم يوضع في غرفة قليلة التهوية؛ ليعرق بلباسه عليه وضيق(3/470)
الغرفة، فيخرج من ضخامة بدنه السيولة، كما يقولون: الماء من داخل
الجسم في العرق الذي يخرج ويفرزه، فيحتفظ بقوة عضلاته، ويتخلى عن
فضلات جسمه فيما يخرج من أملاح ومياه في العرق. فهذه خيل مضمرة.
يعني: صارت ضامرة بعدما كانت سمينة متينة. أي: صارت نحيفة مع
الاحتفاظ بقوتها، فأهل الخيل يعتنون بها إلى حد بعيد، حتى في بعض
ضواحي الشرقية، عندهم للفرس الحرة سجل تاريخ، كشهادة ميلاد
الإنسان، متى ولدت ؟ ومتى لقحت ؟ ومن الذي لقحها ؟ خيل من عند مِن
؟ وأمها من ؟ وهكذا يؤرخون للفرس تأريخهم للولد، بل الأولاد في
البادية ليس عندهم شهادة ميلاد، لكن يحفظون تاريخ ميلاد أولادهم،
أما الفرس فيكتبون؛ حتى إذا أرادوا بيعها ينتقل معها سجلها. وهكذا
عناية العرب بالخيل، فأراد عمر رضي الله تعالى عنه أن يتدارك
فرسه الذي يعرف أصالته، ولكن هذه الخصيصة التي أكرم بها أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وجعلهم مدرسة لنا ينقلون عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم الأحكام في الصغيرة والكبيرة، هذا عمر يريد
أن يشتري فرساً، وما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا؟ قال :
لا. لابد أن أذهب فأسأل الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أني كنت قد
حملت عليها في سبيل الله، هل في شرائي إياها بعد ذلك فيه شيء ؟
وهذه النعمة الكبرى التي امتن الله بها على أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، مثل قضية النعمان وأمه وأبيه بشير بن سعد في المنحة، قالت : لا. اذهب وأشهد عليه رسول الله، وهكذا كانوا
يدخلون رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشورة .. في الاستئذان
.. في الفتوى، وكان بين ظهرانيهم يجيبهم عن كل ما سألوه عنه، وتجمع
ذلك كله وانتقل إلينا تشريعاً للأمة، وأصبح كل من منح ولده دون
بقية الأولاد هو بعينه بشير ، وأصبح كل من تصدق بشيء ثم رآه
مضيعاً وأراد أن يشتريه هو عمر بن الخطاب في فرسه، وتصبح هذه(3/471)
قواعد عامة وتشريعات للأمة في تلك الأحداث الصغيرة . لما سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا قال له؟ قال: (لا. تبتعه )
وباع وابتاع وشرى واشترى، كلها ألفاظ تأتي بمعنى البيع والشراء.
(باع) بمعنى : أعطى السلعة، ابتاع بمعنى : أخذها، شرى كذلك،
واشترى، كلاهما بمعنى الإعطاء والأخذ : وَشَرَوْهُ
بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يوسف:20]
أي : باعوه. اشتراه: يعني : أخذه، (لا تأخذه .. لا تشتره .. لا
تسترده وإن أعطاكه بدرهم)، وما هذا يا رسول الله ؟ هل هناك من يبيع
فرساً بدرهم ؟ ممكن هذا ؟ عمر عظم في نفسه ضياع فرسه الذي يعرف
أصالته فنفسه متعلقة به. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن
أعطاكه بدرهم) أي: ولو باعك إياه بأقل الأثمان، ليحط من تعلق عمر به، فيقابل شدة تعلق عمر بفرسه بقلة الثمن الذي يمكن أن يبيعه
به صاحبه، وهذا أسلوب نبوي كريم يقابل المبالغة بنظيرها، (لا يفل
الحديد إلا الحديد). وهنا لعل إنساناً يكون عنده فضول ويتساءل: هو
ما قال له: أعطني الفرس الذي أعطيتك إياه فضيعته، وإنما قال:
أشتريه، وذاك الذي أعطي الفرس وضيعه من حقه أن يبيعه في السوق لأي
إنسان؛ لأنه ملكه، فإذا كان من حقه أن يبيعه، ومن حق أي إنسان أن
يشتريه، فما الذي يمنع عمر وهو صاحبه الأول بأن يكون هو
المشتري إذا جئنا إلى المعادلة العقلية؟ نجد أنه لا فرق بين عمر في كونه يشتريه ممن هو في يده وبين غيره؛ لأنه بيع وشراء، قالوا:
لا، هناك فرق؛ كون عمر هو الذي أعطى هذا الشخص وحمله عليه،
سيجد صاحب الفرس الجديد أن لعمر عليه فضل، فعندما يقول صاحب
الفرس الذي بيده: بمائة، فيقول عمر : لا، بخمسين، ماذا يقول
الذي بيده الفرس؟ يماكس مع عمر ، أما لسان حال عمر : أنا ما
برحت أعطيتك إياه، فيضطر عند البيع أن يجامل عمر ، وأن يتنازل
عن بعض حقه، وهذا ليس من الإنصاف، لكن لو جاء إنسان آخر وقال :
بتسعة وتسعين، قال : لا. فله الحق في ذلك ؛ لأن الذي يسوم ليس له(3/472)
علاقة في هذه العين التي تباع . الشيء الثاني وهو الأهم: أن هذا
الشخص لو باع الفرس لزيد، وأراد عمر أن يشتريه من زيد قيل له :
لا. لأن الأصل أنه منك، والمعنى الأساسي في هذا الموضوع: ما الذي
جعل عمر يتأسف على ضياع الفرس؟ ارتباطه به في الماضي. إذاً :
حينما حمل عليه، هل انقطعت علاقته حساً ومعنى ورغبة ورهبة عن الفرس
أم حمله وعينه تتطلع فيه؟ حمله وكل ما مر به نظر إليه، حمل عليه
وكلما تذكره تذكر ماضيه. إذاً: تعلق نفس عمر بالفرس، وهذا يشير
كونه تصدق به ؛ لأن المتصدق يتصدق لوجه الله، فينبغي أن يخرج
الصدقة من يده ومن قلبه وماله، ولا تكون لها أي علاقة بالمتصدق،
فيكون أخرجها من ملكه، وفكره، وحسبانه. فالرسول صلى الله عليه وسلم
يقطع على عمر خط الرجعة في أن يفكر أنه كان له فرس لتمضي الهبة
لوجه الله خالصة، ويجب أن تنقطع العلائق كلها من هذه الصدقة التي
تصدق بها لوجه الله، وبقية الحديث هو الذي جاء فيه : (لا تبتعه وإن
أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالكلب ) إلى آخر الحديث.
وهنا يسأل بعض العلماء يقول: (العائد) وهل عمر عاد في هبته أم
اشتراها؟ اشتراها، ونتيجة الشراء، فإنه لو اشترى الفرس سيكون عاد
إليه بأي وسيلة، حتى لو جاء يهديه إليك هدية لا تقبلها؛ لأنه خرج
من ذمتك ويدك، اللهم إلا الأمور التي ليست عن طلب ولا عن رغبة،
وجرت عادة الناس فيها، كما يذكرون في باب الزكاة والصدقات، جاء
رمضان وجاء وقت زكاة الفطرة وأخرجت زكاة فطرتك لجارك، ثم جئت يوم
العيد تزور جارك، فقدم لك حسب العادة وحسب ما يقدم للآخرين (الدلة)
والتمر، فجئت أنت وصب لك القهوة وقدم إليك التمر، فإذا به تمر
زكاتك الذي أعطيته بالأمس، هل تأكل منه بحكم الضيافة أو تقول : لا،
العائد في هبته؟ تأكل منه، وهل عندما تأكل منه يكون هذا عود في
صدقتك أم قبول إكرام جارك إليك، سواء كان بتمرك أم بتمر غيرك،
فحينئذ لا تكون عائداً في صدقتك.(3/473)
شرح حديث: (تهادوا تحابوا)
قال المصنف رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (تهادوا تحابوا ) رواه البخاري في
الأدب المفرد وأبو يعلى بإسناد حسن ]. الأدب المفرد هو للبخاري ،
وهو من أنفس الكتب في الآداب، يورد أحاديث بر الوالدين وحكم
الجوار، والرفق بالضعيف، وأشياء كثيرة في الآداب والأخلاق، كما فعل
مالك رحمه الله في الكتاب الجامع في آخر الموطأ، وهكذا بعض
العلماء إذا انتهى من تأليفه في باب الفقه والأحكام -حلال وحرام-
يأتي بمجموعة من الآداب والذكر، حتى في كتابنا هذا بلوغ المرام، في
آخره يأتي باب الذكر والدعاء، ليرقق النفس ويهذبها، ويربط الإنسان
بربه في دعائه وفي حاجته، وكذلك البخاري رحمه الله جعل هذا
الكتاب في مكارم الأخلاق والآداب، الذي هو الأدب المفرد.
الهدية سبب في زرع المودة
وفي هذا الحديث : (تهادوا تحابوا ) الهدية من حيث هي سلاح
المودة، ومراسيل التعاطف والتقارب والتآلف، وأعتقد أن كلنا يعلم ما
فعلت بلقيس مع نبينا سليمان: وَإِنِّي
مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ [النمل:35]
جماعتها يقولون : نَحْنُ
أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ
فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النمل:33]
فنحن مستعدون! قالت: لا، هذا السلاح للمعركة، في وقت الشدة، ولكن
الهدية سلاح الحرب الباردة، وسلاح التعاطف والمودة -نجس النبض-
وكانت الأمم قديماً في العادات والتقاليد، إذا أرادت أسرة أن تناسب
أسرة أخرى وتخطب منها قبل ما تتقدم بالخطبة ويعتذرون بالدراسة،
لكنها أعذار جحا كما يقال، ويتعللون بعلل! كانوا قبل ما يقدمون على
ذلك ويرسلون المراسيل لخطبة الفتاة يرسلون أولاً بهدية إليهم، يقول
الكاتب: ولو حزمة ثوم، فهي مجرد هدية، وهم يعلمون أنه ما في هدايا
فيما بينهم، فإن قبلوا هديتهم ولو على قلتها معناها تفضلوا أهلاً(3/474)
وسهلاً، فيتقدمون للخطبة، وإذا ردوها وقالوا : نحن عندنا ما نحتاج
معناه: كونوا بعيداً لا تقتربوا. فكانت الهدية هي عنوان التقارب.
الهدية إلى الكافر وقبولها منه
الرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل الرسل بالكتب، وجاء حاطب إلى المقوقس بالإسكندرية رحب به وحصل معه محادثة لطيفة، من ضمن
ما كلمه، قال : ألست تقول أن محمداً رسول الله وهو في عنايته وكذا
وكذا ؟ قال : بلى، قال: كيف يكون حبيب الله ورسول الله ويتركه لأهل
مكة يخرجونه هارباً ليلاً ؟ يعني: لماذا لم يحمه ولم يدافع عنه؟
قال له: أيها الملك! ألست تؤمن بالنصرانية؟ قال: بلى، قال: ألست
تقول بأن عيسى ابن الله؟ قال: بلى، قال: كيف أن أباه تركه لليهود
يصلبونه ولم يدافع عنه؟ فقال: حكيم جاء من عند حكيم، وهذه الأجوبة
المسكتة، والعامة يقولون: إذا أرسلت فأرسل حكيماً. فالمقوقس أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاريتين وحللٍ للبس، وخفاف،
وشيئاً من الطيب، وبغلة، وقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
ولهذا تجد الفقهاء يعتنون بمسألة: الإهداء إلى ومن الكافر: أتهدي
إلى الكافر ؟ نعم، أتقبل هدية الكافر ؟ نعم. وقد جاء في الإهداء
إلى الكافر : عمر رضي الله عنه لما رأى حلة تباع وأعجبته وجاء
بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : اشترها لتلبسها
للوفود، فنظر فيها وردها ثم قال : (إنما يلبس هذا من لا خلاق له )
يعني : قماشها فيه شيء من الحرير، ثم بعد فترة أرسل رسول الله إلى
عمر حلة من نفس ذلك القماش، فجاء عمر يجري، فيقول: قلت يا
رسول الله: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له ) وترسل لي بها!
معناه: أنا لا خلاق لي، قال : لا يا عمر ، أنت أخطأت في
المقدمات، ليس معنى إرسالي إياها إليك لتلبسها، ولكن لتتملكها،
وألبسها من شئت، فأرسل بها إلى أخيه بمكة وهو على دين قومه. وهكذا
في بعض سفراته صلى الله عليه وسلم، نزل منزلاً وجاء أعرابي يسوق(3/475)
غنماً، فقال له صلى الله عليه وسلم : هدية أم بيعاً ؟ قال : لا. بل
بيع، فاشترى منه شاة، وسأل أصحابه من عنده طعام، وكذا وكذا، وصنعوا
طعاماً وأكلوا جميعاً وبقي الباقي في القصعة. يهمنا قبول الهدية من
المشرك والإهداء إليه ما لم يكن حربياً ؛ لعموم قوله سبحانه : لا
يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]
وخاصة إذا كان ذا رحم فلا مانع. فالهدية من قديم موجودة متداولة
بين الملوك وبين الأشخاص العاديين، وهنا يبين لنا صلى الله عليه
وسلم مهمة الهدية بين الناس، وإذا تأملنا جميع التشريعات في
الإسلام كالعبادات والتبرعات نجد أن لكل عمل مهمة، مثل الفيتمينات،
كل فيتمين له غرض خاص , كذلك هنا الصلاة تنهى عن الفحشاء، والزكاة
تطهر وتزكي العبد والمال، والصيام يزيد من التقوى، والحج فيه منافع
لهم، وكل هذه العبادات فيها منافع للأمة، وكذلك الهدية. وعلمنا بأن
قانون الحياة معاوضة، والهدية عوضها إما أن ينتظر مصانعةً، والرسول
بين لنا فقال: (تهادوا تحابوا ) فالهدية تورث المحبة؛ وجبلت
النفوس على حب من يحسن إليها، والهدية من الإحسان، وهذا جزء من
حديث: (والله لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ) ثم بين صلى الله
عليه وسلم فقال: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا
السلام بينكم ). والهدية -كما يقولون- تكون بمناسبة وبغير
مناسبة، والعامة يقولون : الهدية على قدر مهديها، غترة تلبسها،
زميلك في الدراسة سافر في العطلة، وعندما أتى أهدى لك غترة، أو
مدير الجامعة سر بنشاطك، وأعجب باستقامتك ومثاليتك في الطلاب، فقدم
إليك غترة، فهل غترة زميلك التي جاء بها كغترة مدير الجامعة؟ هي
هي! نفس القيمة والمقاس! لكن هذه حق مدير الجامعة! هذه والله أنا(3/476)
ما اشتريتها، بل أهداها لي مدير الجامعة!! إذاً: على قدر مهديها ؛
لأنه عندما تذكرك في غيبتك وفكر في أن يهدي إليك. إذاً: أنت حاضر
في خاطره، ما غبت عنه، ذكرك بالخير في الغيبة. إذاً: هذا يورث
المحبة (تهادوا تحابو ).
شرح حديث: (تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة...)
قال المصنف رحمه الله: [ وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : (تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة )
رواه البزار بإسناد ضعيف]. الهدية تسل السخيمة، والضغينة كلها
وحر في الصدر، حقد.. حسد.. كراهية.. نفرة، موجودة بين إنسان
وإنسان، فإذا فوجئت بهدية من شخص تكرهه وفي صدرك منه شيء، فوجئت به
يقدم لك عود الأراك، ويقول: تفضل هذا سواك جديد، تجد أن هذا العود
اليابس الذي تنظف فيه فاك له أثر في نفسك، يخفف من غليان الصدر
وحقده، فإذا به غداً يعطيك قارورة عطر، والله هذه مسحت الماضي
وعطرت المكان، وهكذا كلما تداول الناس الهدايا فيما بينهم كانت
أدعى لسلامة الصدر، والبادئ هو الأكرم.
شرح حديث: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا
نساء المسلمات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة ) متفق عليه
]. : (يا نساء المؤمنات ! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة )
الفرسن: ما بين الظلفين، والبعض يقول: رجل الغنمة، والآن هي تباع
في السوق الواحدة بريالين أو بريال لكنها مستوية كاملة، فإذا كنت
تريدين الإهداء إلى جارتك وما عندك شيء إلا فرسن شاة فلا تحتقرينه،
وفي بعض الروايات : (ولو ظلفأً محرقاً ) الذي هو مقدم الشاة
تحرقه من أجل الصوف الذي فيه أو الظلف الغروي الموجود على الحافر
ينزل ويبقى اللحم، وهذه من محقرات الأمور، يبين صلى الله عليه وسلم
أن على الجارة أن لا تحتقر شيئاً تقدمه لجارتها. معناه: أنت أيها
الإنسان! إذا أردت أن تهدي لا تحتقر ما عندك، وقدم ما بيدك فإن(3/477)
الكل صغيراً كان أو كبيراً داخل في جنس الهدية. ونحن نعلم قصة
عائشة في حبة العنب، مرت امرأة مسكينة وهي تأكل حبات عنب،
فأعطتها حبة، فأخذتها وظلت تطالع فيها تتعجب من الموازين المادية،
فقالت: أتعجبين من هذا! كم فيها من ذرة، والله تعالى يقول : فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه [الزلزلة:7]
وكذلك التمرة التي شقتها الأم وأعطتها لطفلتيها، ويقول صلى الله
عليه وسلم : (اتقوا النار ولو بشق تمرة ) لا أحد يتصدق بتمرة
إلا إذا كان ما عنده شيء. إذاً: لا يحتقر الإنسان شيئاً يقدمه
لصديقه، وبالتالي لا يحتقرن الصديق شيئاً أهدي إليه من صديقه، طالت
غيبته ثم جاء على عود أراك، فلا تنظر إلى هذا العود، بل انظر إلى
الدوافع، حينما أتى إلى بائع الأراك واشترى باسمك أليست هذه
تكفيك؟! كونه عود صغير أو كبير، هذا شيء آخر . إذاً: لا تحقرن جارة
لجارتها، ولا جارة من جارتها، ولذا جاء في الحديث: (إذا طبخت مرقة
فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك ) تطبخين دجاجة أو وصلة لحم املئي
القدر ووزعي على الجيران مرقاً. على كل: كلما كانت الحياة مبسطة
كانت أمورها بسيطة، وكنا نحن من قبل نقدم صحناً أو صحنين ويأكل
الإنسان ويشبع والحمد لله، واليوم الحمد لله من أصناف الطعام لا
يعلمها إلا الله، نسأل الله أن يرزقنا شكر النعمة، وأن يحفظها
علينا، الموالح أصناف والحمضيات أصناف، والخضروات أصناف، وكل هذا،
أصبح الإنسان يقدم فخذاً من حيوان أو شاة أو غيرها، ويستقلها! ولكن
حينما كانوا يبحثون عن التمرة فلا يجدونها، لو أهدي لأحدهم فرسن
شاة لفرح به، وليس المقصود فرسن الشاة بعينه، ولكنه ضرب المثل فلا
تحتقر من المعروف شيئاً بأن تقدمه لأخيك. يقولون: إن بعض الأمراء
أرسل إلى بعض التجار لكي يستلف منه مبلغاً، فذهب إليه الرسول،
فقال: نعم، لنذهب إلى البيت فهذا التاجر المطلوب منه مشى ووجد جلدة(3/478)
شاة مرمية في الأرض على طريقه، فأخذها ونتف منها الصوف وهو ماشٍ ثم
أخذ الجلد في جيبه، فجعل يغزل هذا الصوف الذي نتفه حتى صنع منه
خيطاً طويلاً ووضعه في جيبه، والرسول يتعجب، هذا الذي بعثني إليه
الأمير بكذا كذا دينار وهو يلتقط هذه الأشياء في الطريق؟! فلما
وصلا البيت قال: أمعك كيس؟ قال: بلى، قال: هاته، فنظر فإذا الكيس
مخروق، فأخذ تلك الجلدة ووضعها على هذا الخرق، وأخذ ذلك الصوف الذي
غزله وأتى بالمسلة وخيطها، فعجبت حينئذ كيف جمع المال، استفاد
منها. فهكذا الإنسان لا يحتقر الشيء، والنبي صلى الله عليه وسلم
لما وجد شاة ميمونة يجرونها قال: (هلا انتفعتم بإهابها ) فلابد
من الاستفادة من كل ما يمكن الاستفادة منه. وفي خلافة عمر رضي
الله عنه أقام مأدبة للناس في المسجد بطعام من عنده، وأثناء
تناولهم للطعام، جاء مرسول من كردستان أو كذا، فجاء وقال : أين
أمير المؤمنين عمر ؟ قالوا: هذا هو، جاءه فسأله عن البلاد، قال
: أرضهم وعرة وليست بسهلة، ماؤها وشل، وعدوها بطل، قال : أنا أسألك
أم تسجع لي ؟ قال : أخبرني عنها، قال له بأن الله فتحها على
المسلمين وأرسلوني بصفاياها إليك - الصفي والمرباع يكون لرئيس
القبيلة أو لقائد الجيش، أو له أن يصطفي من عموم الغنيمة ما طاب له
دون القسمة، فأرسلوا له ببعض التحف من الغنائم، فقال: أمسكه معك،
وبعد العصر نلتقي، ثم قال له: اجلس كل مع الناس، قال: أكلت، ووالله
لطعامي الذي في مزودتي للسفر خير مما أمامهم، ثم قال: هلم إلى
البيت، فذهب ونادى زوجه أن تأتيه بغدائه، ما كان أكل مع الناس،
فجاءته بطعام، فقال له: اجلس فكل، فقال : والله لطعامي الذي في
مزودتي للسفر خير مما قدم إليك. ماذا نقول في هذا المستوى؟ إنسان
مسافر، والزاد الذي في المزودة للسفر أفضل من الطعام الذي يقدم في
بيت أمير المؤمنين، وهو صانع مأدبة للناس في المسجد. إذاً: تفاوت(3/479)
في الحياة في هذه الأمور، قد تجعل في النظرة للهدية فوارق، ولكن
ينبغي ألا يكون ذلك مدعاة لعدم تقدير الهدية، ولا يكون مدعاة لردها
لحقارتها، بل يجب أن تكون النفس عالية، والنظر إلى مهديها وظروف
الإهداء، وأن يكون لها وقع عند صاحبها. ويذكر مالك في الموطأ:
أنه كانت امرأة في ذي الحليفة، كل يوم أربعاء تأخذ السُلت وتطبخه
في قدر وتأتي بالشعير وتخبزه لطلبة العلم. يقول : كنا نعد لذلك
اليوم، تعد لماذا ؟ أهي وليمة الملك ؟ السُلت أقل من الشعير، وخبز
من الشعير، يوضع عليه قليل من هذا السلت، ويقول : كنا نعد لهذا
اليوم، ولكنهم كانوا راضين بحياتهم ومقتنعين. فهذه بعض نماذج
وأمثلة لما كان عليه بعض السلف، وفي بعض الحالات لعلنا نخفف من هذا
التغالي والتنافس في أنواع الموائد والأطعمة، ونسأل الله أن يرزقنا
شكر النعمة، وأن يحفظها علينا، وأن يديمها لنا، إنه سميع
مجيب!
شرح حديث: (من وهب هبة فهو أحق بها...)
قال المصنف رحمه الله: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : (من وهب هبة فهو أحق بها مالم يثب عليها )
رواه الحاكم وصححه، والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر قوله ].
الهدية المقرونة بالعوض والثواب
هذه هبة الثواب : (من وهب هبة) عامة في كل ما تقدم (ما لم يثب)
خصصت نوع الهبة (فهو أحق بها مالم يثب عليها). إذا قدمها لمن هو
أعلى منه وينتظر منه المثوبة عليها، فإذا خاب ظنه ما أعطاه شيئاً،
يقول : أرجعها وهو أحق بها ؛ لأنه قدمها كسلعة تثمن .. وكسلعة يعوض
عليها أكثر من قيمتها، وهذا هو مبدؤه، وعلى هذا دفعها برضاه، فإذا
لم يحصل على الثواب، تكون أخذت منه بغير طيب نفس، والإسلام حرم مال
الأخ على أخيه إلا بطيب نفس . (والمحفوظ من رواية ابن عمر عن
عمر قوله). إما من كلام عمر أو من قوله صلى الله عليه
وسلم، كل ذلك من باب التشريع، وعمر ممن أمرنا أن نأخذ عنهم
رضوان الله تعالى عليه. وبالله تعالى التوفيق.(3/480)
135089 ( كتاب البيوع - باب اللقطة ) : ( سالم
)
( كتاب البيوع - باب اللقطة )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها..)
2 أحكام الميراث بين المسلمين وغيرهم
3 قضاء النبي في البنت مع ابنة الابن والأخت
4 اختلاف العلماء في كون الكفر ملة واحدة
5 ميراث الجد مع الإخوة
كتاب البيوع - باب الفرائض [1]
قسم الله تعالى المواريث بين أقارب الميت قسمة عادلة تناسب الأعباء
التي يتحملها الوارث، وتتوقف على مقدار القرابة من الميت، وقد جاء عن
النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تبين بعض أحكام الفرائض والعصبات، وقد
شرحها العلماء شرحاً منهجياً يساعد المسلم على فهم أحكام الميراث.
شرح حديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها..)
قال المصنف رحمه الله: [ عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل
ذكر )، متفق عليه ]. هذا الحديث مبدأ أساسي في علم الفرائض
والمواريث، ولا يمكن أن يخلو باب من أبواب المواريث عن هذا الحديث؛
إذ هو القاعدة الأساسية، وهو مشتمل على ثلاث نقاط: الأولى:
(ألحقوا)، من الذي سيلحق: العامي أم المتعلم؟ المتعلم، فطالب العلم
هو الذي يلحق. الثانية: الملحوق، وهو (الفرائض). الثالثة: هذه
الفرائض التي نريد أن نلحقها هل يتعين معرفتها أو تلحق جزافاً؟
يتعين معرفتها. إذاً عندنا ملُحِق: وهو طالب العلم، وفرائض: يجب أن
يعرفها الملحق مع أهلها وأصحابها و(الفرائض)، وهي جمع فريضة،
(بأهلها) أي: بأصحابها المستحقين لها كل بحسبه.
أنواع الفروض وأقسامها
وهل الفرائض في الميراث محدودة ومحصورة أم مطلقة لكل جماعة؟
محصورة، وكما في متن الرحبية: واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض
وتعصيب على ما قسما فالفرض في نص الكتاب ستة لا فرض في الإرث سواها
البتة إذاً: الفرائض في علم الميراث ستة أنصبة لا سابع لها، ولا
أحد يستطيع أن ينقص واحداً، والفروض في كتاب الله هي حسب قاعدة(3/481)
تنازلية أو تصاعدية، إن أردت قاعدة تنازلية: تأخذ الثلثين ونصفهما
ونصف نصفهما، والنصف ونصفه ونصف نصفه، وإن أردت تصاعدياً قلت:
السدس، وضعفه، وضعف ضعفه. والثمن، وضعفه، وضعف ضعفه.. فالتنازلية
تكون: الثلثان، ونصف الثلثين ثلث، ونصف الثلث السدس. هذه ثلاثة
جاءت عن طريق الفرض، وتأتي إلى النصف، ونصف النصف ربع، ونصف الربع
ثمن، فصارت ستة فروض، وهي الفروض الموجودة في علم الميراث، ويتعين
على كل مسلم معرفتها؛ لأنه في وقت من الأوقات سيكون وارثاً أو
موروثاً، فإذا كان وارثاً يعلم ما له، وإذا كان موروثاً علم ما
عليه. إذاً: الفرائض في كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين ست،
وبعضهم يحاول أن يضيف ثلث الباقي. وثلث الباقي هذا تغطية أتوا بها
على الأم وضحكوا عليها ومشت، وما خرجت عن كلمة ثلث، سواء كان ثلث
الباقي أو ثلث رأس المال كله، لا يوجد مسمى سبع، ولا تسع، ولا
عشر.. هذه هي مسميات الفرائض. (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي
فلأولى رجل ذكر ) دع قوله: (رجل ذكر)، فلا يوجد رجل أنثى،
والحديث يعطينا قاعدة في تقسيم هذه الفرائض، فالفرائض تلحق بأهلها،
والباقي لأولى رجل؛ لكن على أي أساس؟ عرفنا بأن الفرائض أنصبة
محدودة، لا يوجد فيها زيادة ولا نقص فَرِيضَةً
مِنَ اللَّهِ [النساء:11]،
إذاً كما قال صاحب الرحبية: واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض وتعصيب
على ما قسما.
توريث العصبات مع أصحاب الفروض
إذاً: (ألحقوا الفرائض بأهلها) خاص بالفروض الستة، والتعصيب: (فما
بقي فلأولى رجل ذكر)، وعلى هذا يكون تقسيم الفرائض على قسمين؛ فإذا
جاء الورثة.. قيل لهم: أنتم من أي الأصناف؟ قالوا: نحن من أصحاب
الفروض. فيقال: فما هي فروضكم؟ فتحدد فروضهم ثم يقال: خذوا فروضكم،
فإن استغرق فروض الموجودين من الورثة تركة الميت أخرجنا العصبة.
وإن لم تستغرق الفروض كل التركة وبقي شيء، فإنا نعطي الباقي(3/482)
للعصبة. ومثال ذلك: إذا وجدت بنت وبنت ابن فقط، قلنا: للبنت النصف،
ولبنت الابن السدس لأنها ليست كابنة الصلب، فتعطى السدس تكملة
الثلثين، بقي من التركة الثلث فأين نذهب به؟ إن وجدت عصبة فذلك
الثلث لها، لقوله: (فما بقي فلأولى رجل ذكر).
توريث ذوي العصبات إذا اجتمعوا
قوله: (فما بقي فلأولى رجل ذكر)، فإذا وجد عدة أشخاص كلهم عصبة،
فهل ينفرد أحدهم أو تقسم عليهم، فالابن عصبة، وابن الابن عصبة،
والأب عصبة وصاحب فرض، والجد صاحب فرض وعصبة، والعم، وابن العم،
والأخ، وابن الأخ؛ كل هؤلاء عصبة، فلو وجد إخوة أشقاء ذكور في
المسألة السابقة، فالبنت مع بنت الابن أخذتا الثلثين، وبقي الثلث،
فإن كان هناك إخوة أشقاء أو لأب متساوين في الدرجة قسم عليهم، وإذا
وجد أخ شقيق وأخ لأب، فإننا ننظر: فهما في الأخوة سواء، ولكن في
القوة ليسا سواء، فالأخ الشقيق أقوى من الأخ لأب، فيأخذ الثلث
الباقي دون الأخ الأب. ويدخل أيضاً باب الحجب والتعصيب تحت هذا
الحديث. إذاً: هذا الحديث هو القاعدة الأساسية لعلم الفرائض، وما
وجد منه فألحقوه بأهلها الموجودين، وإذا لم يوجد صاحب فرض ووجد
العصبة فالعصبة لهم ما أبقت الفرائض، وإذا لم توجد فرائض فلهم جميع
المال. إذاً: هذا الحديث كما يشير العلماء بأنه الأصل والمبدأ في
علم الفرائض بقسميه: أصحاب الأنصبة المفروضة أو العصبة، والعصبة قد
تتساوى في الجهة وتتفاوت في القوة، فإذا كان إخوة أشقاء وإخوة لأب،
وأعمام أشقاء وأعمام لأب، فالجهة واحدة وهي الأخوة، لكن يختلفون في
القوة فالأشقاء أقوى. وقد تتفاوت الدرجة: كالأولاد وأولاد الأولاد،
فأولاد الأولاد عصبة، لكن الأولاد أقرب منهم، فيقدمون عليهم في
العصوبة لقربهم من الميت وإن اتحدت الجهة. والجهات كما يقولون بنوة
فأبوة فأخوة فعمومة، وعلى هذا فإن أقرب الجهات إلى الميت هي
البنوة، فإذا وجد ابن وعشرون أخ، فإن الابن يحجب الإخوة بكاملهم،(3/483)
وولد الولد تابع في جهة الولد، فابن ابن وعشرون أخ شقيق يحجبهم،
لأن الجهة الأقرب للميت هي جهة البنوه، إذاً: ابن الابن يطرد
العشرين الأخ الشقيق. إذاً: جهات العصبة إذا تفاوتت قرباً وبعداً
قدمنا الأقرب والأولى. أولاد الأولاد في حالة عدم وجود الأولاد
عصبة، وجهة البنوة تشملهم، وجهة البنوة تشمل الابن وابن الابن مهما
نزل، فابن عشرين بطن ابن، وإذا وجد فهو أولى من الأخ الشقيق؛ لأن
جهة البنوة مقدمة على جهة الأخوة، وكذا إن وجد أخ شقيق وعشرون عم،
أي الجهتين أقرب: الأخوة أو العمومة؟ الأخوة. إذاً: الأخ الواحد
يحجب الأعمام، فإذا وجد من كان من جهة قربى وآخر من بعدى كانت
القربى أحق. وقفنا عند الجهة: هل الجهة متعادلة في القوة من حيث
الصلة بالميت أو متفاوتة؟ جهة البنوة ليس فيها تفاوت، فكلهم
أبناؤه، لكن جهة الأخوة تتفاوت قوة وضعفاً، فمن يدلي بالأب والأم
معاً أقوى ممن يدلي بواحد منهما، أي: بالأب وحده أو يدلي بالأم
وحدها، ولضعف الأخ لأم جعل له فرض مقطوع، فإذا وجدت جهة الأخوة
نظرنا في هذه الجهة: هل كلهم متساوون في القوة بالإدلاء إلى الميت
أو متفاوتون، فإن كانوا متفاوتين في القوة قدمنا الأقوى. وإذا
اجتمع إخوة وأعمام، أي الجهتين أقرب؟ الإخوة.
معنى قوله: (فلأولى رجل ذكر)
قوله: (فلأولى رجل ذكر) يخرج أولى أنثى، فبنت الابن هي وارثة، ولكن
أنثى، لو أعطينا أصحاب الفروض فروضهم، هل ما بقي نعطيه لبنت الابن؟
لا؛ لأنها ليست برجل. وهكذا لو وجد أبناء الأخ مع بنات الأخ،
فالجهة واحدة وهي جهة الأخوة، وبنت الأخ تساوي ابن الأخ في الدرجة
مستوية، ولكنها ليست رجلاً ذكراً، فلا تدخل في الأولوية فيما بقي
بعد أصحاب الفرائض. والمناقشة الطويلة التي تجدونها في المطولات
وخاصة فتح الباري وغيره لقوله: (أولى رجل ذكر) يقولون: ما حاجة
كلمة: (ذكر)، مع (رجل)؟ لأنه إن كان (ذكر) نعتاً لرجل، فماذا(3/484)
زادتنا وماذا أعطتنا من فائدة؟ يقول صاحب سبل السلام: وقد تكلموا
فيها، وذكر بعض كلامهم، ولكن بفائدة قليلة، وابن حجر في فتح
الباري يورد آراءً عديدة، ثم يفند بعضها ويترك بعضها بلا تفنيد،
وأنا في نظري -والله تعالى أعلم- أنه لا حاجة لهذا كله، وليس هناك
إشكال في وصف الرجل بكونه ذكراً، فكلمة (الذكر) ليست نعتاً لرجل،
ولكنه وصف كاشف لعلة استحقاق الرجل لما بقي. ولو مات عن زوجة وولد،
فالزوجة لها الثمن والسبعة الأثمان للولد، فيأتي قائل ويقول: لماذا
يأخذ الولد سبعة أثمان، ولماذا لا يزاد في نصيب الزوجة قليلاً؟
فيقال له: لأنه ذكر. قال تعالى: يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]،
لِمَ لم يقل: للولد؟ السياق (في أولادكم) والمادة معنا ولد، ولماذا
لم يقل: (يوصيكم لله في أولادكم للولد مثل حظ البنتين)، لو تأملنا
أساليب اللغة العربية لوجدنا هذا الوصف مستعملاً في القرآن الكريم،
فهنا أبرز الرجل بصفة الذكورة لأنها مناط الحكم والمسئولية، وأبرز
البنت بوصف الأنثى: يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].
ومن حيث البلاغة والإعجاز والمعنى في غير كلام الله نقول: هما
متساويان، ولكن نحن في كلام الله لا نستطيع أن نتحكم أو نعترض، لكن
في أداء المعنى يوجد التساوي. إذاً: أبرز معنى الذكورة في الرجل؛
لأنه ميزه على البنت، ونقص البنت بوصف الأنوثة: لِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].
والأنثى نقصت هنا في ماذا؟ قال: لأن الذكر يبحث له عن أنثى،
والأنثى يأتيها ذكر يأخذها، فالذكر تحمل مسئولية أنثى تعيش بجانبه،
وعليه نفقتها وصداقها، والأنثى محجبة مكرمة معززة في بيت أبيها،
فيأتي الذكر ويدفع صداقها ويأخذها، فما غرمت درهماً واحداً، فنصيب
الذكر وزع على الإناث، ونصيب الأنثى توفر لها كاملاً. إذاً: وصف(3/485)
الرجل بكونه ذكراً نعت للرجل وبيان لحقيقته، فنصف العاقل وربع
المجنون يعرف بأن الرجل ذكر، ولكن لماذا تبرز وصف الذكورة؟ ونحن
نجد نظير ذلك في كتاب الله كَبُرَتْ
كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [الكهف:5]،
وهل ستخرج الكلمة من غير الفم؛ من العين أو من الأذن؟ لا، لكن أبرز
موطن خروجها لأنها كلمة جوفاء لا قيمة لها، وما تجاوزت في مدلولها
غير الفم، فهي ليست عن عقل أو عن تفكير، أو عن تردد الفكر
والاستذكار، أو تأمل حقائق الواقع، إنما هي كلمة طائشة، كما أنك
تأتي لغرسه على وجه الأرض فترفعها بإصبعيك فتقلعها، لكن الشجرة
المتمكنة عروقها من تخوم الأرض لا تستطيع أن تنتزعها. إذاً: كَبُرَتْ
كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [الكهف:5]،
ونحن نعرف بأن الكلمة لن تخرج إلا من الأفواه، فلماذا ذكر الأفواه
مع أن الكلمة ومدلولها ولازمها أنها من الأفواه؟ ليبين أنها لا أصل
لها تعتمد عليه. كذلك: وَلا
طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام:38]،
معلوم أن الطائر في الجو لن يطير بأرجله.. بل سيطير بجناحيه،
فلماذا أبرز جناحيه؟ ليبين -والله تعالى أعلم- أن هذا الطائر مهما
حلق في الجو فليس ذلك بقوة الجناحين أَوَلَمْ
يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ [الملك:19]،
والحدأة خاصة تمد جناحيها وتتقلب يميناً ويساراً وتحوم دون أن تحرك
جناحها مرة، وهل امتداد الجناح عنده القوة في أن يمسكها إلى هذا
الحد؟ لا، ولذلك قال: (ويقبضن) قد نقول: حينما تمد جناحيها تعلقت
بالجناحين في الهواء؛ لأن حركة الطيران قبض وانتشار، فحينما تقبض
جناحيها من الذي يمسكها؟ ولماذا لا تسقط؟ إنه يريد أن يبين أن
الجناحين عبارة عن وسيلة وأخذ بسبب، وحقيقة طيرانها بقدرة الله
سبحانه. وبعضهم يقول: وصف الرجل بالذكورة لبيان القوة، وهناك من
يقول: ذلك احتياط من أن يذهب الذهن إلى امرأة كما قالوا: (مزقتم(3/486)
ثياب فتاة الحي والرجلة). قد تطلق كلمة (الرجلة) على الأنثى، ولكن
هذا نادر وشاذ، والعرب لا تعتمد عليه. فجاء الوصف بالذكورية ليبين
موجب العلة والحكم، ومناط الحكم في هذه القضية كما جاء هناك لِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]،
فهو يبين موجب استحقاق تمييز الرجل عن المرأة بذكورته، وأنه
بذكوريته سيصبح أباً وجداً وينفق على عياله.
أحكام الميراث بين المسلمين وغيرهم
قال المصنف رحمه الله: [وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه: أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث
الكافر المسلم ) متفق عليه]. هذا مما يتفق عليه الجمهور، إلا في
صورة تستثنى، الكفار معروفون في ذلك الوقت، لكن هناك طوائف أخرى لم
تدخل في دين سماوي كالبوذية وأمثالهم. وهل هناك توارث بين الصابئة
واليهود والنصارى؟ وإذا قيل: لا يرث الكافر المسلم أو المسلم
الكافر. فما حكم الكفار فيما بينهم؟ فالحكم ظاهر بين المسلم وبين
كل من اليهود والنصارى والمشركين الوثنيين، ولكن اليهودي
والنصراني، كلاهما كافر، واختلفت ملتاهما: هذه يهودية وهذه
نصرانية، ولذا فحديث: (لا توارث بين أهل ملتين ) يجمع الجميع.
هناك ناحية ربما استثناها الحنابلة ومن وافقهم، وهي حينما يموت
الوالد وله أولاد، منهم المسلم ومنهم الكافر، على مقتضى هذا الحديث
أن الميراث كله لأولاده المسلمين، فلو أن الولد الكافر أسلم بعد
موت أبيه قبل قسمة التركة، استحق الميراث، مع أنه كان في لحظة موت
أبيه كافراً. قال الناظم: ويمنع الشخص من الميراث واحدة من علل
ثلاث رق وقتل واختلاف دين فافهم فليس الشك كاليقين فهو عند موت
مورثه لا يستحق الميراث. التركة موجودة ولم يقتسمها الأولاد
المسلمون، وهو قد أسلم؛ فهل نتجاوز عن الفترة التي سبقت ونورثه مع
إخوته أو نقول: أنت لم تكن عند موت المورث مستحقاً للميراث؟ من نظر
إلى تأليف القلوب، ومساعدة الآخرين على الإسلام في مثل هذه الحالة(3/487)
-أي: قبل أن تقسم التركة- قالوا: نشركه مع إخوانه بإسلامه، ونتجاوز
عن فترة ما بين موته وإسلامه، ونجعله كأنه أسلم في حياة أبيه. نحن
في باب الميراث نكتفي بهذا، وهذا الذي يهمنا في هذا العلم، ولكن لا
توجد زاوية من الزوايا نقف عليها: هذا ولده، وذاك ابن عمه، فلما
كان ولده كافراً لا يرثه، وابن ابن ابن ابن عم لأب لكنه مسلم يأتي
ويرث؛ لماذا؟ من الحكم الإلهية أن تقوم الأمة الإسلامية على مبدأ
غير الدم والعصب، والرحم والنسب، ولكن على الأخوة الإسلامية، ولهذا
كان أول عمل عمله النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس لما قدم
المدينة هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. ومن العجب! أنني قرأت
أنه كان هناك ثلاثة أبناء عمومة للنبي صلى الله عليه وسلم، أبناء
المطلب بن عبد مناف بن قصي ، ولما قدموا وهاجروا آخى الرسول
صلى الله عليه وسلم بين كل واحد منهم وواحد من الأنصار.. فهؤلاء
ثلاثة إخوة جاءوا جميعاً، فلماذا لا يؤاخي فيما بينهم؟ لأن أخوة
النسب موجودة، وستكون عبارة عن تحصيل حاصل، وهو يريد توثيق الروابط
بوصف الإيمان؛ ولنعلم أن رابطة الإيمان أقوى من رابطة النسب والدم.
ومن هنا كان المسلم أحق بالمسلم ولو كان بعيد النسب عنه، والكافر
بعيد عن نسبه الأساسي بسبب الكفر، ومثال ذلك أيضاً: مصعب بن عمير في عودته من بدر وجد أخاه أسيراً في أيدي بعض الأنصار، فقال لهم:
شدوا وثاقه؛ فإن أمه ذات مال لعلها تفديه منكم بمال. فنظر إليه
وقال: أهذه وصيتك بي يا أخي؟ قال: لست أخاً لي، هؤلاء إخواني أما
أنت فلا. هو أخوه من أم وأب، وهؤلاء من الأنصار بعيدون كل البعد
عنه، لكن الإسلام قرب البعيد، والكفر أبعد القريب، وعلى هذا كان لا
توارث بين المسلمين والكفار ليوجد العزلة لتتميز الأمة الإسلامية
عمن عداها؛ لتكون بذاتها ذات كيان خالص إسلامي، ولهذا نهى أن يساكن
المسلم غير المسلمين ويخالطهم إلا للضرورة، حتى قال: (لا يتراءى(3/488)
نار كل منهما للآخر ) . ولما سئل في حديث أبي ثعلبة الخشني : (إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم -وفي رواية: وهم
يطبخون الخنزير، ويشربون الخمر-؟ قال: لا، إلا ألا تجدوا غيرها،
فارحضوها غسلاً وكلوا فيها )، فقوله: (لا)، لئلا يكون هناك
تبادل الإعارة، يعقب ذلك التعاطف والتواد والهدايا فتخلط العادات
بالسنة. إذاً: لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، ويتبع ذلك
أنه لا توارث بين ملتين؛ فاليهودي لا يرث النصراني، والنصراني لا
يرث اليهودي، وكلاهما لا يرث البوذي وأمثاله. والله تعالى أعلم.
قضاء النبي في البنت مع ابنة الابن والأخت
قال المصنف رحمه الله: [ وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (في
بنت وبنت ابن وأخت، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم: للابنة النصف،
ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت )، رواه
البخاري ]. في هذه المسألة ثلاثة مناهج: منهج أهل الحديث، أو
منهاج الرحبية، أو منهج الفقهاء، وأيسرها وأوضحها عند طالب العلم
منهج الرحبية، وقد تقدم بحمد الله المرور عليها فيما قبل، ولكن نحن
الآن سنأخذ ما يورده المؤلف، والرحبية أشرطة مسجلة في مكتبة الحرم.
فمنهج الرحبية هو الإتيان بالفروض متتابعة: إذا قلنا بأن النصف هو
الفرض، فإننا ننظر من الذي يرث النصف؛ ثم نأتي بالورثة من الرجال،
والوارثات من النساء، ويحدد بحيث لا تستطيع أن تدخل واحداً أو تخرج
آخر، لأنهم عدد محصور محدود، والمؤلف هنا جاءنا بمسائل فردية وصورة
وقعت. هذه صورة يسوقها لنا بهذا الشكل، وتقدم بحثها في غير هذا
الموضع، ابن مسعود يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أُتي
بمسألة فرضية: بنت، وبنت ابن، وأخت. هنا لم يذكر لنا أي أنواع
الأخوات كانت، نحن نعرف جهة الأخوة، ولكن نعلم بأن جهة الأخوة
تتفاوت، هل هي أخت شقيقة، أو لأب، أو لأم؟ لكن التقسيم يدلنا على
أنها ليست لأم، إما شقيقة أو أخت لأب، فالرسول صلى الله عليه وسلم(3/489)
أعطى البنت نصف التركة، وأعطى بنت الابن السدس مع البنت، وإذا
ضممنا السدس إلى النصف كان الثلثين، والباقي أعطاه للأخت، إذاً هذه
الأخت ليست لأم؛ لأن الأخت لأم نصيبها السدس، وهذا ثلث، فهو ضعف ما
تستحقه التي لأم، إذاً: هي إما شقيقة وإما لأب. وكون بنت الابن
تأخذ السدس؛ لأن البنات إذا كانتا اثنتين فأكثر يكون لهن الثلثان،
فإذا وجد ثلاث بنات وبنت ابن سيكون البنات لهن الثلثان، وبنت الابن
لا شيء لها؛ لاستغراق البنات للثلثين. وهذا فيه تنصيص على أن الأخت
مع البنت عاصبة لها: والأخوات إن تكن بنات فهن معهن معصبات الأخوات
إن كن بنات، أي: إذا وجد بنات للميت وأخوات، فالبنات من أصحاب
الفروض، والأخوات ينتقلن من الفروض إلى التعصيب مع الغير -مع
البنات- فيأخذن ما بقي. لو كانت بنت صلبية وأخت شقيقة فللبنت
النصف، وبقي النصف للأخت الشقيقة تعصيباً؛ لأنها عصبة مع البنت،
فإذا وجد بنات وأخذن الثلثين فإن الباقي للشقائق، ولو وجد مع
البنات أم وزوجة، فالأم تأخذ السدس، والزوجة الثمن والبنات
الثلثين، وما بقي من التركة فهو للأخت. وأنصح الإخوة مرة أخرى أن
يرجعوا إلى كتب الفرائض التي اختصت بهذا الفن، والأصل في هذا
الرحبية وأمثالها، والشروح القديمة عليها ميسرة وسهلة، ويستطيع أن
يتعاون مع بعض إخوانه الذين درسوها سابقاً، أو الذين يستطيعون أن
يحللوا ألفاظ الكتاب ويستفيدون منه؛ لأن الفرائض في كتب الحديث لا
تكفي، إنما هي أصول كما أشرنا: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي
فلأولى رجل ذكر )، إذ كل مباحث الفرائض جاءت في هذا الحديث، لكن
ما كل العقول تستطيع أن تستوعبها أو تستنتجها، فيجد في كتب الفرائض
الشرح المبسط لهذا الباب.
اختلاف العلماء في كون الكفر ملة واحدة
قال المصنف رحمه الله: [ وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتوارث أهل ملتين )(3/490)
رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي ، وأخرجه الحاكم بلفظ
أسامة ، وروى النسائي حديث أسامة بهذا اللفظ ]. تقدم
في الحديث السابق: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم )،
وهذا فيه نوع من الإجمال، وكان حري بالمؤلف أن يأتي بهذا الحديث
بجواره، ولكنه جاءنا بحديث بيان ميراث البنت وبنت الابن والأخت
معهما، وهنا: (لا يتوارث أهل ملتين )، الملة: هي المعتقد
والدين، وإذا نظرنا إلى ملتين وجئنا إلى كلام العلماء: هل الكفر
كله ملة واحدة أو ملل شتى. إن كان الكفر كله ملة واحدة؛ فهذا بمعنى
الحديث الأول: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم )،
أياً كان نوع كفره، وإذا كان الكفر مللاً شتى فيكون هناك جانبان:
علاقة المسلم بغيره، وعلاقة أصحاب الملل بعضهم ببعض. وهنا نجد من
العلماء من يقول: الكفر كله ملة واحدة. وهناك من يقول: الكفر ملل.
ويستدل كل بما لديه. ومن أدلة كون الكفر مللاً شتى أن هناك اليهود
والنصارى، وكل منهما يحارب الأخرى: وَقَالَتِ
الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ
النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]،
فكل منهما يحارب الأخرى في ملتها وعقيدتها. مالك رحمه الله
يقول: الكفر ثلاث ملل: يهودية، ونصرانية بنص الكتاب (وقالت اليهود)
(وقالت النصارى) وما عدا اليهود والنصارى يجتمعون تحت مسمى ملة
واحدة، فالمجوس والصابئة وعبدة الأوثان... كل هؤلاء عند مالك ملة واحدة. وهناك من يقول: كل مسمى من هذه المسميات ملة مستقلة.
وهناك من يقول: كل هذه الأصناف ملة واحدة. وعلى هذا فالمسلم لا يرث
اليهودي ولا النصراني، ولا أجناس الملل الأخرى، وعند مالك :
اليهودي لا يرث النصراني، والنصراني لا يرث اليهودي، وكل منهما لا
يرث الملل الأخرى من الصابئة والمجوس وعبدة النجوم... إلخ. إذاً:
(لا يتوارث أهل ملتين)، أي: مختلفتين في المعتقد والمنهج، والبعض(3/491)
يقول: إن المجوس ملة مستقلة، وكان لها كتاب ثم نسخ، والذي يهمنا
الخلاف في ميراث المسلم من غيره، سواء كان غير الإسلام ملة واحدة
فلا ميراث أو مللاً شتى أيضاً فلا ميراث بينها وبين المسلمين، أما
هم فيما بينهم فسيرجع إلى التفصيل المتقدم، إن قلنا: بملل شتى فلا
يهودي يرث نصرانياً، ولا نصراني يرث يهودياً، ولا واحد منهما يرث
مجوسياً ولا بوذياً ولا وثنياً.
ميراث الجد مع الإخوة
قال المصنف رحمه الله: [ وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال:
(جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن ابني مات، فما
لي من ميراثه؟ فقال: لك السدس. فلما ولى دعاه، فقال: لك سدس آخر،
فلما ولى دعاه، فقال: إن السدس الآخر طعمة ) رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي ، وهو من رواية الحسن البصري عن
عمران ، وقيل: إنه لم يسمع منه ]. هذا شروع أو بيان لما جاء في
ميراث الجد، والجد -كما قال بعض السلف- لا حياه الله ولا بياه، أي:
اضطربت الروايات في حقه، فهناك من يجعله كالوالد سواء لقوله تعالى: مِلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78]،
وقوله: وَكَانَ
أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]،
فقالوا: الجد من جهة الأب كالأب، ويجمعون على أن الجد من جهة الأم
لا مدخل له في الميراث، وكل جد من أدلى إلى الميت بواسطة أنثى فلا
ميراث له، والجد الصحيح عندهم: هو الذي أدلى إلى الميت بمحض طريق
الذكورة.. أبوه، أبو أبيه، أبو أبي أبيه، أبو أبي أبي... أبيه،
فهؤلاء كلهم جدود للميت، وكلهم له حق في الميراث ما لم يكن هناك من
يحجبه، فهذا الجد الذي جاء وقال: (إن ابن ابني ..) هو جد لأب،
والجد لأم لا يخطر على بالنا، إلا إن كان من ذوي الأرحام، وذوو
الأرحام لهم منهج مستقل. قال: (إن ابن ابني مات، فماذا لي من
ميراثه)، هنا القضية الواقعية بالفعل أن الرسول صلى الله عليه وسلم
قال: (لك السدس. ثم ولى فدعاه، قال: لك سدس آخر. فلما أخذ السدس(3/492)
الآخر ولى فدعاه، قال: السدس الآخر طعمة) يعني: ليس بفرض، وهنا
الحكمة في التعليم وعدم اللبس؛ لأنه لو قال: لك الثلث -وهو مجموع
السدسين- لربما ظن الجد أن فرضه من ولد ولده الثلث، ولكن الحال ليس
كذلك، فالجد له السدس فرضاً، والباقي تعصيباً، فنجد من هذا حكمة
النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والإرشاد، وعدم إيجاد اللبس
على السائل، فأعطاه حقاً أولاً بالفريضة حتى ولى وانفصل بهذا الحق
وانقطعت علاقته، فدعاه، وقال: لك سدس آخر، فأخذه وذهب، ثم دعاه
وقال: السدس الثاني هذا ليس كالأول، الأول فريضة والثاني طعمة. على
هذا التفصيل يأتي الكلام في الجد، وكما قال الشوكاني :
وللعلماء في الجد أقوال كثيرة، من أراد التفصيل فيها رجع إلى كتب
المواريث. ومما ذكر عن ميراث الجد في عهد الصحابة ما يقال: إن عمر رضي الله تعالى عنه مر بعثمان وهو جالس في الطريق، فسلم عليه
فلم يرد عليه السلام، فأخذ في نفسه، وأتى أبا بكر رضي الله
تعالى عنه فقال: يا أبا بكر ! سل عثمان ما لي أسلم عليه
فلا يرد علي السلام؟! دخلنا في الخصومة، ودخلنا في الظنيات
والتقديرات، ونبني على الحبة قبة، فلم ينته عمر من كلامه إلا
ودخل عثمان فقال: السلام عليكم. فقال له أبو بكر : ما لك
يا عثمان لا ترد السلام على عمر ؟ وهذا هو الموقف الصحيح؛
أن نسأله ما عنده؟ قال: ومتى سلمت يا عمر ؟ قال: حينما كنت
جالساً في المكان الفلاني. قال: والله ما شعرت به ماراً ولا سمعته
حين سلم. إذاً: قد كان عنده عذر، هناك فتش عمر عما يشغل بال
أخيه عثمان عنه؛ لأن مثل هذه الحالة لا تكون إلا في إنسان لا
يشعر بمن حوله، وهذه قد تحدث. قال عمر : فيم كنت تفكر؟ قال:
كنت أفكر في ميراث الجد، وكنت أقول: ليتنا سألنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأعطانا فيه علماً شافياً، فقال عمر : والله ما
أخرجني من بيتي الآن إلا قضية الجد. إذاً عمر كان في بيته يفكر(3/493)
في الجد، وعثمان كان مشغول البال في الجد، إذاً: الجد شغلهم؛
لأنه لم يأت فيه نص صريح في حكمه في الميراث. هذا الحديث على ما في
سنده، إلا أنه لا بأس به، وهو يعطينا: أن الجد له حالتان -هذا
مبدئياً-: حالة يرث بالفرض فله السدس، فلو أن الفروض استغرقت جميع
التركة وعالت وفيها جد، فإننا نعطيه السدس ليأخذ حقه فرضاً، وتارة
يرث بالتعصيب، كهذا السدس الثاني الذي هو طعمة، فإذا أخذ أصحاب
الفروض فروضهم، وبقي شيء زيادة عن السدس أخذه تعصيباً. أي أنه إذا
بقي السدس أخذه فرضاً، وإذا بقي أقل من السدس يفرض له السدس ويكمل
له وتعول المسألة من أجله. والفقهاء رحمهم الله لما اختلفوا في
الجد منهم من قال: الجد أب. وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه
الله، والمعمول به حتى الآن، فيحجب الإخوة، وغير الأحناف يقولون:
الجد والإخوة يرثون جميعاً لكونهم معه سواء في مدى قرب الجد
والإخوة من الميت. كم بين الجد والميت من واسطة؟ واحد وهو الأب،
وكم بين الأخ لأب وبين الميت؟ واحد وهو الأب، إذاً قرب الجد من
الميت كقرب الأخ من الميت، فقالوا: الجد يقاسم الإخوة. وإذا لم تبق
الفروض شيئاً ماذا يفعل؟ قالوا: إذا لم تبق الفروض شيئاً للجد
فيفرض له السدس، وتعول له المسألة، ويسقط الإخوة. الخلاصة: الجد مع
غير الإخوة له ثلاث حالات، فيرث: إما فرضاً وإما تعصيباً، وإما
فرضاً وتعصيباً معاً كهذا الحديث. فإذا وجد الإخوة فهو بالأحظ من
ثلاث حالات؛ الحالة الأولى: يفرض له السدس إن لم تبق الفروض شيئاً،
فبدلاً من أن نقول: هو عاصب، والعاصب ليس له شيء. نقول: يدخل الجد
في خط أصحاب الفروض، فنفرض له السدس. وإذا كانت الفروض أخذت نصف
التركة، وبقي النصف، فهنا الباقي يقتسمه الجد مع الإخوة بحسب الأحض
من ثلاث حالات: إما أن يأخذ ثلث الباقي إذا كان ثلث الباقي أحظ له
من سدس الجميع، أو يقاسم الإخوة كواحد منهم، أو يأخذ سدس المال إذا(3/494)
كان أحظ له من المقاسمة وثلث الباقي. هذا مذهب الجمهور على أنه مع
الإخوة يخير، ويعامل بما هو الأحظ من أمور ثلاثة كما تقدم ولو
كانوا خمسة إخوة وهو السادس فأيهما أحسن: أن يأخذ ثلث الباقي أو
يقاسم ويأخذ سدس الباقي؟ إذا قاسم سيكون نصيبه واحداً من ستة مما
أبقت الفروض، وإذا قال: لا أريد مقاسمة وآخذ ثلث الباقي فهو أحسن
له، وإذا كان الباقي سدس المال، كأن تكون الفروض استغرقت التركة
وما بقي إلا السدس فهل يأتي الإخوة ويقاسمونه في هذا السدس؟ لا، بل
يقال: هذا السدس فرضه وليس للإخوة شيء. ونرجع ونقول كما قال
الشوكاني : وللعلماء في الجد أقوال كثيرة، من أراد الاستيعاب
والتوسع فليرجع إلى كتب الفن. وأحسن ما بين أيدينا من الكتب كتاب
العذب الفائض، وهو من الكتب القديمة، أما الكتب الجديدة فهي -كما
يقال- قطرة من بحر، لن يأتوا بشيء من صناديقهم، ولكن أخذوا من تلك
الموسوعات القديمة الموجودة عن سلف الأمة. وبالله تعالى التوفيق.
( كتاب البيوع - باب الفرائض [2] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي به...)
2 شرح حديث: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير...)
3 شرح حديث: (إن أمي افتلتت نفسها ولم توص...)
4 شرح حديث: (لا وصية لوارث)
5 شرح حديث: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم...)
كتاب البيوع - باب الوصايا
جعل الله عز وجل للإنسان قبل موته أموراً يستطيع أن يستدرك بها ما فرط
فيه وما فاته في حياته، ومن هذه الأمور: الوصية، والوصية تشملها
الأحكام الخمسة، ولهذا على المرء أن يوصي بما عليه من حقوق للآخرين،
وعليه أيضاً أن يوصي بصدقة في حدود ما أذن له الشرع حتى ينتفع بأجرها
بعد موته.
شرح حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي به...)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم(3/495)
بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن
عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما
حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته
مكتوبة عنده ) متفق عليه ]. (ما حق امرئ مسلم ) كذلك ولا
امرأة؛ لأن المرأة مثل الرجل في التكاليف، إلا ما اختص به الرجل
دونها، (ما حق) أي: لا يجوز، ولا يجب، (ما حق) ما نافيه، وحق اسمها
وخبرها يأتي فيما بعد، (امرئ) مذكر امرأة، وامرأة مؤنث امرئٍ. (له
شيء) أي: حق والحق هنا يكون مالي واعتباري: كحق في الشفعة، أو حق
في القصاص، أو حق في الدية، أو حق من حقوق الجوار، فكل تلك الحقوق
داخلة في عموم (له شيء).
الوصية وأحكامها
قوله: (يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ) أو حق
يريد أن يوصي، (حق يريد) رد كتابة الوصية لإرادة الموصي، ومن هنا
قال الجمهور: الوصية جائزة وليست واجبة؛ لأنه قال: (يريد أن يوصي)
وإذا لم يرد أن يوصي فلا شيء عليه. والبعض قال: الوصية واجبة، وهذا
المبحث هو مبحث حكم الوصية. الوصية تعتريها الأحكام الخمسة. وقوله:
(ما حق امرئ له شيء يريد أن يوصي فيه ويبيت ليلة أو ليلتين إلا
ووصيته مكتوبة عنده ) ما هو الحق الذي يريد أن يوصي به؟ قالوا:
يوصي بما كان عنده من حقوق للناس ولا يعلمها الناس، ولا يعلمها إلا
هو صاحب الحق فقط، كإنسان أتى إلى صديقه، أو إلى جاره وقال: يا
جاري! أو يا صديقي! هذا الكيس فيه ألف ريال أمانة عندك حتى أطلبه،
ولم يشهد على ذلك، فأخذ جاره أو صديقه الكيس ووضعه عنده، ولم يكتب
عليه ما يعرّفه وأصبح في صندوقه مع أكياس ماله، فلو مات غداً هذا
المال الذي في ذمته ما حكمه؟ ولو جاء صاحبه وطالب الأولاد فقالوا:
ما أخبرنا، وما قال لنا، فهل عندك بينه؟ فقال: لا، والله! ما عندي،
فأنا ائتمنه لأنه صديقي أو جاري؟ قالوا: مثل هذا تتعين الوصية في(3/496)
حقه؛ لأنه لا يدري هل يأتيه الموت بعد ليلة أو بعد ليلتين، أو
يأتيه الموت قبل الليلة أو الليلتين، فحيث أن ذمته قد تحملت بحقٍ
للآخرين وهو لا يضمن الموت فلا يحق له أن يبيت الليلة أو الليلتين
إلا ووصيته مكتوبة بهذا الحق. ومثل هذا لو كان هناك قضية بين اثنين
ولم يشهدها إلا هو، وحينما يتنازع هذان الشخصان لا إثبات لهما إلا
عنده، فهو لن يأتي بالشهادة قبل أن يستشهد، ولكن إذا مات وتنازعا
فمن الذي يثبت الحق لأحدهما؟ ليس هناك إلا هو، فيجب عليه أن يكتب:
(عندي شهادة في موضوع كذا وكذا) ويدعها ورثته. وقد تكون الوصية
تارةً واجبة، كما إذا كان مديناً بدين، أو اشترى سلعة وبقي في ذمته
من قيمتها شيء، ولم يعلم أولاده، وصاحب السلعة لم يوثق البيع
بكتابة، فإذا خشي أن يأتيه الموت ولم يخبر الورثة بالدين الذي في
ذمته، فيتعين عليه أن يوصي ويكتب ما عليه من دين، حتى إذا جاء
أصحاب هذا الدين أو ذاك دفعوا إليهم دينهم. إذاً: (ما حق امرئ مسلم
عنده شيء يريد ) هذه الإرادة قد تكون بحكم الوجوب وقد تكون بحكم
الندب، فإذا كان عنده مال وأولاده في غنى عنه، وأراد أن يجري على
نفسه صدقة بعد موته عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات
الإنسان انقطع.. )، فلا يسوّف حتى يفاجئه الموت وهو لم يوص فقد
تفوت عليه الصدقة ويحرم من هذا الخير. إذاً: تندب الوصية هنا؛ لأن
عمل الصدقة له بعد موته ليس للوجوب إنما هو للندب والاستحباب، كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم
عند وفاتكم زيادةً لكم في أجوركم ) . وإذا كان عنده مال محدود
وعنده عيال كثير وهم في حاجة إلى العشر من تركته، فذهب وأوصى بثلث
ماله، فهل الورثة في حاجة إلى هذا الثلث أو هم في غنى عنه؟ الجواب:
هم في حاجة إليه. فإذا كان ورثتك هم أولى من الآخرين، فلماذا توصي
بالثلث للفقراء والمساكين المشتتين في العالم، أو في بلدك، وعيالك(3/497)
وأولادك في حاجة إلى هذه الوصية؟! فإذا أنفقت على زوجك فلك أجر،
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى اللقمة تضعها في فيِّ
امرأتك فلك بها أجر ) وكذلك اللقمة التي تضعها في فيِّ ولدك أو
بنتك، كما سيأتي في حديث سعد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن تدع
ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس ) فدع الثلث
لعيالك، وهنا الوصية تكره، ولهذا كانت المضارة في الوصية من أكبر
الكبائر. وقد جاء حديث: (إن الرجل أو المرأة يعيش أحدهما ستين سنةً
يعمل الخير، فإذا جاء عند الموت ضار بوصيته -عياله في حاجة وأوصى
وصية مضارة لهم- فيختم له بعمله هذا فيكون من أهل النار، والرجل
والمرأة يعمل أحدهما بالشر ستين سنةً ويعدل عند الموت في وصيته
فيختم له بالخير فيدخل الجنة ) . إذاً: الوصية تعتريها الأحكام
الخمسة بحسب حالات الموصي وما يوصي به، ومن يُوصى إليه، والمضارة
في الوصية سيأتي الحديث عنها في محلها إن شاء الله. إذاً: (ما حق
امرئ مسلم عنده شيء يريد ) هذه الإرادة تحتمل الأحكام الخمسة:
(يريد) لأنها متعينة عليه في دين خفي، (يريد) لأنه يحب فعل الخير
من بعده. (يريد) لأنه يريد أن يفعل شيئاً مطلقاً. أي: في جانب
الخير، فتكون مباحة ومندوبة وواجبة.
فضل القراءة والكتابة وبيان لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمياً
قال: (إلا ووصيته مكتوبة عنده) فلو قيل: إن رسول الله صلى الله
عليك وسلم قد قال: (نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب ) فمن أين
جاءت الكتابة الآن؟ وهل في قوله: (إلا ووصيته مكتوبة) تقرير
للكتابة أو إهمال لها؟ الجواب: فيه تقرير لها. إذاً: ما كان لا
يقرأ ولا يكتب عجزاً ولا كراهية، ولا نقصاً في العلم والتعليم، فقد
افتتحت رسالته العظمى بقوله سبحانه: اقْرَأْ [العلق:1]،
سبحان الله! وقد جاءت الوصية بالكتابة في آية الدين: فيملي الذي
أخذ، وإذا كان عاجزاً يملي عنه وليه مع وجود شاهدين وكاتب. فإقرار(3/498)
الكتابة عند رسول الله أقوى من عند أي شخص آخر. إذاً: هو يكرم
ويقدر القراءة والكتابة، وكذلك الشعر، قال تعالى: وَمَا
عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69]
فلماذا منعه من الشعر، وقد كان النابهون عند العرب الشعراء؟ علماء
الأدب يذهبون في هذا مذاهب عديدة وقد سبق أن كتبت رسالة في الأدب
في الصدر الإسلامي، وكانت مقررة في الجامعة. وإنما منع الله رسوله
من الشعر تكريماً له، كما قال سبحانه: وَمَا
عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69]
أي: ليس هو من أهلة، ولماذا؟ قال سبحانه: إِنْ
هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس:69]،
فهذا هو شغله، وهذه هي ميزته، فهو لا يتميز على الرجال بالشعر
والنبوغ فيه وإنما بالنبوة: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ
مُبِينٌ [يس:69]،
ولو جئنا وقلنا: وما الذي يمنع من أن يكون شاعراً، وعنده ذكر
وقرآن؟ قلنا: يمنع من هذا أن العرب في الجاهلية عند أن دعاهم إلى
الإسلام قالوا عنه: شاعر، وكاهن، ومجنون. فإذا كانوا قد اتهموه
بالشعر وهو لم يقل شعراً ولم يعرف به فكيف لو اشتهر قبل الرسالة
بالشعر؟! فلو كان شاعراً وجاء بمثل قوله تعالى: اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1]،
فسيقولون عنه: هذا شعر من ضمن الشعر الذي كان يقوله، ولكن ليس
بشاعر. وكذلك لما قالوا: إِنَّمَا
يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103]،
قال الله رداً عليهم: لِسَانُ
الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ
عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103]
أي: فليس بينهما صلة. إذاً: في عدم تعليمه صلى الله عليه وسلم
القراءة والكتابة معجزة؛ لأنه أصبح معلماً للناس القراءة والكتابة،
وأول قضايا العناية بالتعليم هي تعليم الصبية الصغار بعد غزوة بدر،
فقد كان من لم يجد فداءً لنفسه من المشركين وهو يعرف القراءة
والكتابة، يفادي نفسه بتعليم عشرة من صبية الأنصار القراءة(3/499)
والكتابة، فكان الذين يفادون بالتعليم مثل الذين يفادون بأربعمائة
أوقية، أو بخمسمائة، أو بألف، أو بأكثر، أو بأقل. إذاً: (إلا
ووصيته مكتوبة): الكتابة لها اعتبار في الشرع، في المعاملات وفي
تحقيق المناط في الكتابة من حيث معرفة الخط، ولهذا يقول العلماء:
هذا مبدأ من مبادئ علم الحديث وهو الرواية بالوجادة؛ لأنهم يقولون:
إذا كان هناك طالب علم يقرأ على شيخ، ومات الشيخ ووجد في كتبه ما
لم يسمعه منه، فيجوز له أن يقول عن فلان بالوجادة؛ لأنه وجد بخطه
أحاديث بأسانيدها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه
أخذها بالسماع إلا أن السماع أعلى رتبةً؛ لأنه مواجهة ومشافهة،
فإذا وجدت الوصية بخط الموصي ولو لم يكن عليها إشهاد فخطه شاهد
عليها، ويعمل بها. واستدلوا أيضاً: بأن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يبعث بكتبه إلى الملوك ولم يشهد عليها، وبمجرد ما يصل الرسول
برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى من أرسل بها إليه يصدقها، فإن
كان متأدباً وأراد الله له الخير عظم هذه الرسالة واحترمها وتأدب
في الجواب عليها، كما فعل المقوقس مع حاطب فإنه لما رأى
الرسالة أكبرها وحفظها وتآنس معه، حتى روي أنه قال: ألستم تقولون:
إن محمداً حبيب الله، ورسوله، وأنه يدافع عنه ويحبه؟! قال: بلى،
قال: فلمَ تركه لأهل مكة يخرجونه ليلاً، ويختفي في الغار -هذه كما
يقولون: حجج قوية-؟ فقال له: وأنت أيها الملك! ألا تؤمن بأن عيسى
رسول الله؟ قال: بلى. قال: ألا تؤمن في اعتقادك أنه ابن الله؟ قال:
بلى، قال: فلمَ تركه أبوه لليهود يصلبونه؟! فقال: حكيم جاء من عند
حكيم، ولهذا العامة يقولون: إذا أرسلت فأرسل حكيماً ولا توصه.
يقولون في حكاية عن بعض أصحاب الملك ابن عبد العزيز : أنه
أرسله إلى جهة وقال له: قبل أن تذهب غداً ائتني، فلما جاء قدم له
رسالة فقرأها إلى آخرها ثم قال: ما هذا؟ قال: أن تعمل بما فيها،(3/500)
فقطعها ورماها أمامه!! فقال له: ما هذا؟! قال: الحاضر يرى مالا يرى
الغائب، فأنت هنا قاعد في محلك لا ترى ما يكون هناك، وأنا هناك
أشاهد ما يطرأ من الأمور وأنظر أشياء مستجدة أنت لا تدري عنها، فلن
أتقيد بكتابتك، ولكن سأعمل بما أرى، وهكذا. فقالوا: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يبعث الرسائل إلى الملوك ولم يوقع عليها أحد من
الصحابة.
حكم كتابة الوصية والإشهاد عليها
يقولون: لا يشترط في كتابة الوصية التي يبيت وهي مكتوبة تحت رأسه
إشهاد الشهود. وقوله:( إلا ووصيته مكتوبة تحت رأسه)، تحت رأسه، هل
يتركه للأولاد يلعبون بها؟ وهل يتركها تذهب وتجيء مع الفراش وتضيع؟
الجواب: لا. وإنما الغرض شدة الحرص على كتابة الوصية قبل أن يصبح،
وقالوا: ليس الغرض بالليلة أو الليلتين التحديد ولا مفهوم لها،
فتصح ولو بعد أسبوع ولكن الحديث جاء للحث والتأكيد على الإسراع
بالوصية. ويلحق العلماء هنا حكم الأمر بكتابة الوصية، فلو أنه أشهد
جماعة من الناس في مكان من العادة أنهم يجتمعون فيه، في ناديهم، أو
في مسجدهم، أو في مجلسهم الذي هو محل اجتماعهم فقال: أشهدكم أن
فلاناً له عندي دين قدره كذا، أو أشهدكم أن فلاناً له عندي أمانة
بكذا، أو أشهدكم أني أوصي بالنخل الفلاني صدقة جارية بعد موتي،
فيصح، يعني: أنه يجزئ عن الكتابة إعلانه بما يريد أن يكتبه على
جماعته أو على أحد من رهطه الذين في محلته، حتى إذا فاجأه الموت
وجاء صاحب الأمانة يطلبها وجد من يشهد له بها، أو جاء صاحب الدين
يطلبه جاء من سمعه المدين فشهد له بدينه وهكذا، والغرض من ذلك حفظ
الحقوق. وبهذا يبين لنا المصنف رحمه الله تعالى حكم الوصية في قول
النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرأ مسلم... ) الحديث، ويؤيد
هذا قوله تعالى: كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ [البقرة:180].(4/1)
وقد أشرنا إلى الأحكام التي تعتري الوصية من الوجوب إلى الندب إلى
الكراهية إلى الإباحة إلى التحريم، فلو أوصى لكنسية أو لكتب بدعة
فهي وصية محرمة ولا تنفذ.
حكم الرجوع عن الوصية أو تبديلها
ومن أحكام الوصية: أن له أن يرجع فيها قبل الموت، وله أن يغير فيها
ويبدل؛ لأن العبرة في نفاذها إنما هو بعد موته ولهذا يقال: ثلث
المال الذي تتعلق به الوصية هل يكون عند كتابتها ولو طال به الأجل
عشر سنوات، أم يكون عند موته؟ فلو كتبها وعنده مليون وعند الموت
كان عنده مائة ألف فقط، فهل العبرة بوقت الكتابة أم بوقت الموت؟
الجمهور على أنها بوقت الموت.
شرح حديث: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير...)
قال المصنف رحمه الله: [وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى
عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي
واحدة أفاتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بشطره قال: لا.
قلت: أفأتصدق بثلثه، قال: الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك
أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس )، متفق عليه]. حديث
سعد رضي الله تعالى عنه هذا هو أصل في مقدار الوصية. قوله:
(مرض سعد ) قيل في عام الفتح، وقيل في حجة الوداع، (فأتاه
النبي صلى الله عليه وسلم يعوده ) ، وهذا من مكارم أخلاقه صلوات
الله وسلامه عليه أنه كان يعود أصحابه إذا مرضوا، ويشيعهم إذا
ماتوا، (فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول
الله! قد بلغ بي من الوجع ما تراه، وعندي مال كثير وليس يرثني إلا
ابنة واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: بنصفه؟ قال: لا،
قال: بثلثه؟ قال: نعم، والثلث كثير )، وفي رواية عند مسلم :
(كبير ) ، (لأن تذر ) تذر -كما يقولون- فعل الأمر فيها ذر
(لأن تذر ورثتك ) وهو يقول: ما عندي ورثة إلا بنت، والنبي صلى
الله عليه وسلم يقول له: ورثتك، فهل ورثتك جمع أم فرد؟ الجواب:
جمع، وهو يقول: عندي بنت واحدة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (لأن(4/2)
تذر أو تدع ورثتك أغنياء -بمالك- خير من أن تدعهم يتكففون الناس
السؤال ). إذا أوصيت بثلثي المال وبقي الثلث، وبطريق الإيحاء
والإلهام سيكون لك ورثة ولهذا قال: (لأن تذر ورثتك أغنياء )،
ولم يقل: وريثتك هذه البنت، بل قال: ورثتك، وفي بعض الروايات:
(أخلف بعد أصحابي يا رسول الله! قال: ... ولعلك أن تخلف حتى ينتفع
بك أقوام ويضربك آخرون... ) إلى آخره. وقالوا: قد ولد له بعد
ذلك فمنهم من قال: أربعة، ومنهم من قال: ستة، ومنهم من قال: ثمانية
من الأولاد ذكوراً وإناثاً، ومنهم من قال: أقل، ومنهم من قال: أكثر
من ذلك، وهنا كون سعد يقول: أوصي بثلثي مالي، وجاءت رواية
أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه فقال: أوصيت؟ قال:
نعم، قال: بكم؟ قال: بجميع مالي فقال: (لأن تدع ورثتك... ) إلى
أخره، فقال: بكم أوصي؟ قال: بالعشر، ولا زال يقول وأقول: يعني هو
يزيد قليلاً وأنا أنقص قليلاً حتى قال: (الثلث والثلث كثير ).
والثلث كثير. يعني: انقص منه، والثلث كثير فيه الخير والبركة وفيه
الكثرة التي أنت تريدها، فيكون على هذا الثلث هو الحد الأقصى فيما
يمكن أن يوصى به. وقالوا: إن هذا الحديث من معجزاته صلى الله عليه
وسلم، وهو أنه أخبر سعداً وهو مريض بأنه سيعيش وسيأتي له
الأولاد ويكون له الورثة العديدون، وقد كان كما قال صلى الله عليه
وسلم. إذاً: الوصية لا تجوز أن تزيد عن الثلث، وابن عباس رضي
الله عنهما كان يقول: (لو غض الناس عن الثلث لكان خيراً)، وكان
يقول: (أحب إليَّ أن يكون الربع)، والربع فيه الخير.
حكم الوصية بأكثر من الثلث
من أوصى بأكثر من ثلث ماله نظرنا فإن كان لأجنبي سألنا الورثة:
أتجيزون الزائد عن الثلث أم تسترجعونه؟ فإن قالوا: أجزنا وصية
ميتنا، قلنا: على بركة الله، وإن قالوا: لا نجيزها، رد الزائد عن
الثلث، وإن قال البعض: نجيز والبعض قالوا: لا نجيز، رددناها في حق(4/3)
من لم يجز وأجزناها في حق من أجاز. وهنا قد يحصل فعل الخير؛ لأن
الإنسان عند موته يزهد في الدنيا بكاملها، حتى في أهله وأولاده،
وينظر إلى ما بعد الموت، ويريد أن يقدم كل ما يمكن أن يستطيعه
لآخرته، فهو تحت تأثير الرغبة والرهبة: الرهبة فيما هو مستقبل
أمامه، والرغبة فيما عند الله من الأجر، فهل نتركه تحت تأثير
الرغبة والرهبة أو ننصحه؟ الجواب: ننصحه، ونبين له الصواب، ونخرجه
من تحت وطأة هذا التأثر، وفي قضية الشخصين الذين اختصما في مواريث
بينهما قال لهما صلى الله عليه وسلم: (إنكما تحتكمان إليّ وأنا بشر
فأقضي لبعضكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما
أقتطع له قطعه من النار )، فكل منهما قال: حقي لصاحبي، لا أريد
شيئاً، فما الدافع الذي جعله يقول: حقي لصاحبي، وهو يتخاصم معه
ويقول: أريد حقي منه، والآن يقول حقي لصاحبي! ما الدافع لذلك؟
الجواب: الخوف من النار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقطع
له قطعة من النار ). إذاً: كل واحد منهما وقع تحت تأثير الخوف
من النار، فهل قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبوا وائتوا
بالمال نفرقه على المساكين؟ لم يقل لهما ذلك، وإنما قال: (أما وقد
قلتما ذلك فارجعا فاقتسما وتحريا في القسمة، واستهما وليبح كل
منكما صاحبه ). وماذا بعد هذا من الاحتياطات؟! قال: (اقتسما
وتحريا القسمة )، أي: لا تتساهلا، ولا تقولا: نحن متسامحان، بل
تحريا؛ لأن -كما يقولون- بعد السكر صحوة، فأنتما الآن تحت تأثير
الخوف من النار قد تتسامحان، وبعد هذه المدة تنسيان النار ويطالع
كل منكما في نصيبه مع الآخر، فإن كانا قد تحريا في القسمة قال: لا،
مالي شيء عنده، وإن كانا قد تساهلا، قال: نعم، والله! لقد تساهلت
معه، فالفرس الفلاني مقابل كذا هذا فيه غبن علي أو.. أو... إلخ.
فلم يتركهما صلى الله عليه وسلم تحت تأثير مخافة النار، وإنما(4/4)
وجههما لما ينبغي أن يكون بينهما، عملاً للمستقبل نفسياً، وهنا إذا
كان الإنسان يموت فإنه يريد أن يترك الدنيا، ولا يهمه من الذي
يريد، ولا من الذي يشحت، صلى الله عليه وسلم: (أن تدع ورثتك
أغنياء... ) الحديث، وهكذا تكون التربية النفسية، والأخلاقية،
والاجتماعية، ومصلحة الأولاد فيما بعد، ولئلا يضارهم في الوصية كما
سيأتي إن شاء الله. وهنا قال: (لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن
تدعهم عالة يتكففون -أي: يمدون أكفهم إلى الناس- الناس ) والله
سبحانه وتعالى أعلم. لهذا يا إخوان! أنبه على أنه ينبغي على القضاة
-كما هي السنة- أن القاضي يعظ كلاً من الخصمين بالحق، ويخوفهما من
قضاء يوم القيامة، فإذا وجد إنساناً وقد وقع تحت تأثير الموعظة فلا
يأخذه بذلك، بل يبين له حقيقة حقه وبيان أمره، فقد يقول: تنازلت،
أو تركت الدعوى، أو أصالحه؛ لأنه قد وقع تحت تأثير ما، فلا يأخذه
في تلك الحالة النفسية الاضطرارية، ولكن ينبهه على حقه ليكون على
بينة، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (إن أمي افتلتت نفسها ولم توص...)
قال المصنف رحمه الله: [ وعن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً
أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت
نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟
قال: نعم ) متفق عليه، واللفظ لمسلم ]. في حديث عائشة رضي الله عنها هذا عدة جوانب من المباحث الفقهية: قولها رضي الله
تعالى عنها: (أن رجلاً) ورجل: نكره لم يعرف من هذا الحديث من هو؟
ومعلوم عند علماء الحديث أن النكرة غير المعرفة، ولا يؤخذ بحديث
الرواي حتى يعرف من هو؟ وهل هو عدل، ثقة، ضابط أم لا؟ ولكن كون
الرجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله، دل على أنه صحابي،
والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة، لا يفتش عن أحد منهم، فسواء عرف
بشخصه وبذاته، أو جهلت شخصيته وذاته، فما دام أنه قد ثبتت صحبته(4/5)
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عرف هذا الرجل من روايات أخرى
أنه سعد بن أبي وقاص فقد جاء: (أنه خرج مع النبي صلى الله عليه
وسلم غازياً، ثم ماتت أمه في غيبته.. ) الحديث، وجاء في رواية:
(أنه قيل لها: أوصي؟ قالت: بمَ أوصي والمال مال سعد ؟ أي: ليس
لي ). وهنا يقول: (إن أمي افتلتت نفسها). أي: ماتت فجأة دون أن
تعطى فرصة للتصدق، وقال: (إنها لو تكلمت) أي: في آخر حياتها
لتصدقت. أي: لأوصت بالصدقة، وهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقره
على أنها لو أوصت لصحت وصيتها. ثم يتساءل (وأظنها) لما يعلم من
رغبتها في الخير في حياتها، (أنها لو تكلمت لتصدقت)، بمعنى: لأوصت
بالصدقة؛ لأنها في تلك الحالة ليست في حالة إخراج صدقة فعلاً؛
لأنها مريضة وقد افتلتت نفسها، فليس هناك إمكانية لإجراء الصدقة
بالفعل، فأقره صلى الله عليه وسلم على أن لها ذلك وأن الوصية عند
الموت جائزة، كما تقدم وكما سيأتي، وحدود ما شرع الله هو الثلث كما
تقدم في قضية سعد أنه قال: (يا رسول الله! أنا ذو مال كثير ولا
يرثني إلا ابنة واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، بشطر مالي؟
قال: لا، بثلث مالي، قال: نعم، والثلث كثير )، وجاء في الروايات
الأخرى: (تصدق بالعشر، فلا زال يتكلم وأتكلم حتى قلت الثلث؟ قال:
والثلث كثير ) وحدود وصية أو تصرف المريض مرض الموت في ماله
محصورة في الثلث. هذا جانب من جوانب الحديث.
انتفاع الميت بعمل الحي
الجانب الثاني من هذا الحديث: بعد صحة الوصية من المريض في مرض
موته، تأني قضية انتفاع الميت بعمل الحي؛ لأنه قال: (أينفعها إن
تصدقت عنها؟ قال: نعم )، فهذا إقرار من النبي صلى الله عليه
وسلم للولد أن يتصدق عن أمه، ويؤيد هذا الحديث؛ الحديث الآخر وهو
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من
ثلاث: .. -ومنهم- ولد صالح يدعو له )، وجاء في الحديث الآخر قال(4/6)
صلى الله عليه وسلم: (إن خير ما أكل الرجل من كسبه أو من عمله وإن
ولد الرجل من كسبه ) أي: أن كسب الولد ينسب لأبيه كما قال صلى
الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك )، وقد تقدمت الإشارة
والتنبيه إلى أن هناك بعض النصوص ظاهرها التعارض مع هذا مثل قوله
سبحانه: وَأَنْ
لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]،
وهذه التي افتلتت نفسها قد انتهت عند سعيها السابق قبل افتلات
النفس، وهنا السؤال هل ينفعها عمل ولدها بعد أن انتقلت إلى مولاها؟
فقال: نعم، ينفعها، وجاءت أحاديث أخرى منها: أن العاص بن وائل أوصى في الجاهلية أن يعتق عنه مائة بدنة، فقام أحد أبنائه وأعتق
خمسين في الجاهلية، وأسلم بعض أبنائه فسأل رسول الله: (أفأعتق عنه؟
فقال: لو كان مسلماً فأعتقت عنه لنفعه ذلك ) . إذاً: العمل من
الولد للوالد بإجماع المسلمين، وقد تقدم تقسيم العلماء الأعمال
الخيرة التي يرجوها الإنسان لغيره أو يعملها ويهبها لغيره وقالوا:
إن أعمال القرب تنقسم إلى قسمين: قسم بدني محض: كالصلاة، والصيام،
والدعاء، وتلاوة القرآن. وقسم مالي محض: كسداد الديون، والصدقة
عنه، وأداء الكفارات. وهناك قسم ثالث يجمع بين الأمرين: كالحج ففيه
نفقة، وفيه حركة البدن فهو حل وارتحال، فأجمعوا: على أن كل قربة
مالية من الولد لوالده أنها تصله وينتفع بها، ثم وسعوا الدائرة
وقالوا: كل صدقة مالية من أي مسلم لمسلم آخر تنفعه ولو لم يكن
ولده، كما جاء في قضية شبرمة ، عند أن قال رجل: لبيك اللهم! عن
شبرمة فقال له صلى الله عليه وسلم: (ومن يكون؟ قال: أخ لي، أو
صديق لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن
شبرمة ) ولم يقل له: لست بولد له، أو لا تنفعه حجتك عنه، بل
أقره على ذلك، وكذلك فعله صلى الله عليه وسلم عن خديجة فقد كان
يتصدق عنها بعد ما هاجر إلى المدينة، وكانت عائشة رضي الله
تعالى عنها ربما أثارتها الغيرة لكثرة ما وجدت رسول الله صلى الله(4/7)
عليه وسلم يتصدق عن خديجة . وأما القسم البدني المحض، فممن ذكر
هذا المبحث الإمام ابن تيمية رحمه الله وهذا المبحث موجود في
عدد من صفحات كتاب المجموع، وذكر: أن الصحيح أن عمل الإنسان البدني
للميت ينفعه وذكر فرداً فرداً عن الصلاة، واستدل بحديث الرجل الذي
جاء وقال: (كنت أبر أبي في حياته فكيف أبره بعد موته؟ فقال النبي
صلى الله عليه وسلم له: تصلي له مع صلاتك وتدعو له مع دعائك )
فقال: هذه صلاة من الولد للوالد، فله أن يصلي ركعتين ويقول: أجرها
وثوابها لوالدي. ومثل هذا أيضاً: ركعتي الطواف في الحج، وإن كانت
تبعاً لكنها صلاة أجزأت عن ميت، وكذلك الصوم قال صلى الله عليه
وسلم: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه )، ثم قال: بقي بعد ذلك
الدعاء وتلاوة القرآن قال: والدعاء هو كما جاء في الشرع تكليف
للأمة بكاملها، والدعاء للميت قد جاء في عمل من جحده فقد كفر وهو
الصلاة على الجنازة، فإننا في التكبيرة الثالثة ندعو للميت بما يسر
الله سبحانه وتعالى، فقال: هذا عمل مشروع وهو من حق الميت على
الحي، وهو فرض كفائي، ثم بعد ذلك له أن يدعو له بظهر الغيب، وكذلك
الاستغفار، ثم بحث المسألة من الجانب العقلي، وقرر ثبوت ذلك
وجوازه. وهنا قال: (وأظنها -أي: ظن يقين- لو تكلمت تصدقت أفينفعها
إن تصدقت عنها؟ قال: نعم ). والغرض من إيراد هذا الحديث هنا هو
بيان صحة الوصية في مرض الموت، هذا مع أن المريض مرض الموت لا يحق
له أن يتصرف في ماله؛ لأن المال أصبح مال الورثة، كما قال الصديق رضي الله تعالى عنه لأم المؤمنين عائشة : (والله! يا ابنتي! ما
أحد أحب إلي غناً منك، ولا أحد أعز علي فقراً منك، وقد كنت نحلتك
جذاد خمسين وسقاً، فلو كنت حزتيه لأخذتيه، ولكنه الآن مال وارث)؛
لأنه أحس في مرضه هذا الذي هو فيه أنه مرض الموت. فإذا وصل الإنسان
إلى مرض الموت وتأكد الأمر في ذلك فليس له حق التصرف في ماله،(4/8)
وكذلك في الحالات التي هي مظنة الوفاة كالمرأة في حالة النفاس، لا
يحق لها أن تتصرف في مالها، وكذلك الرجل إذا وقف بين الصفين في
القتال؛ لأن نفاس المرأة مظنة الوفاة، لما تجد من معاناة وشدة،
وكذلك الإنسان إذا كان في أرض المعركة أمام العدو فإنه يحتمل إحدى
الحسنيين، فهذه الأحوال أو تلك الحالات تمنع الإنسان من أن يتصرف
في ماله، إلا إذا كانت وصية وفي حدود الثلث على ما تقدم وعلى ما
سيأتي إن شاء الله.
شرح حديث: (لا وصية لوارث)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى
عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله قد
أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث )، رواه أحمد والأربعة
إلا النسائي وحسنة أحمد والترمذي وقواه ابن خزيمة وابن الجارود ، ورواه الدارقطني من حيث ابن عباس رضي
الله عنهما وزاد في آخره: (إلا أن يشاء الورثة )، وإسناده حسن
]. هذا الحديث تكلم عنه المؤلف، وتكلم عنه الشارح أيضاً، وذكر عن
الشافعي رحمه الله أنه قال: لقد وصل إلى حد التواتر، وإن الأمة
قاطبة تعمل به. إذاً: إذا وصل إلى هذا الحد فلا حاجة إلى البحث في
رواياته مادام أنه قد جاء عن مثل هذا الإمام الجليل رحمه الله ورضي
الله تعالى عنه القول بأنه قد وصل إلى حد التواتر، والمتواتر لا
يبحث في سنده، حتى لو كان فيه غير عدول لقبلت أقوالهم مع الآخرين
تأييداً للواقع. والمتواتر هو: ما جاء من طرق متعددة يرويه جمع عن
جمع يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب، ويكون نهاية استنادهم
الحس، وليس الظن والاجتهاد وإنما الرؤيا أو السماع، فمثلاً: لو
حدثت حادثة في الحج كأن نزل مطر وفيه برد، ويقولون: قد نزل البرد
في عرفات حتى تمزقت بعض الخيام و.. و.. و..، فالذي هو في المدينة
أو في مصر أو في الشام أو في المغرب إذا رجع الحجاج وكل على
انفراده أخبر بما وقع يوم عرفات فإن هذا العدد من الناس يستحيل أن(4/9)
يتواطئوا وأن يجتمعوا في مكان ويقولون: لنخبر أهل المدينة أنه وقع
برد، ولم يكن قد وقع، فإذا استحال اجتماعهم وتواطؤهم على الخبر
وكان مستند إخبارهم الحس، فقد رأوا، وشاهدوا، وجاءهم البرد على
رءوسهم، فكل هذه استنادها على شيء محسوس فيقبل، وأما مقدار هذا
العدد فالأصوليون يقولون: من ثلاثة إلى خمسة، وعلماء الحديث
يقولون: بعدد لا يمكن حصره، فإذا وصل الحديث إلى حد التواتر كان
العمل به لازماً ما لم يعارضه شيء آخر. وهنا في هذا الحديث: (إن
الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث )، لأن الوارث قد
أخذ حقه، فلو أعطيناه زيادة على حقه الذي أعطاه الله فإننا، نكون
قد غيرنا في أعطيات الله للناس في الميراث، ويكون في ذلك مضارة على
غيره من الورثة، وهنا قالوا: إن هذا الحديث نسخ آية الوصية، وهي
قوله تعالى: كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ [البقرة:180]
لمن؟ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180].
يقولون: قبل أن تنزل آيات المواريث، كان المال للولد، والوصية
للوالدين والأقربين. أي: وصية بما جادت به نفسه، والمال من حيث هو
كثر أو قل للولد، ثم أنزل الله الفرائض وجعل للذكر من الأولاد ضعف
الأنثى، كما قال تعالى: لِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]،
وكذلك الإخوة والأخوات، وجعل للأبوين مع وجود الولد لكل واحدٍ
منهما السدس، وجعل للزوجة ما بين الربع والثمن، وللزوج مابين النصف
والربع، فأعطى كل ذي حق حقه.
نسخ القرآن بالحديث
البعض يقول: إن الحديث مهما كان فرداً من الآحاد فهو لم يتحقق
قطعاً أنه متواتر، ولا ينسخ القرآن بالآحاد وهذا متفق عليه، وهل
ينسخ القرآن بالمتواتر؟ وقد بحث هذا والدنا الشيخ الأمين رحمة
الله تعالى علينا وعليه في مذكرته وقال: من نظر الخلاف الموجود عند
العلماء فإن الصحيح قول من يقول: المتواتر هو سنة -فعلية، أو(4/10)
قولية- جاءت عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، فهي وحي،
كما قال تعالى: إِنْ
هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4].
وإذا كان القرآن وحي وهذا المتواتر وحي فإن الوحي ينسخ بعضه بعضاً،
وقال قوم: مهما كان فإن كان السنة أنزل رتبةً؛ لأن القرآن قطعي
الثبوت، والسنة ظنية الثبوت ما لم تكن متواترة محققة، فلا ينسخ
قرآن بسنة ولو متواترة، والآخرون قالوا: النسخ جائز، فالشيخ رحمه
الله قال في ذلك: التحقيق في ذلك أنه جائز شرعاً ولم يقع فعلاً.
يقول: من حيث النظر الأصولي والتشريعي هو جائز. أي: من حيث العقل،
والقواعد العلمية، يجوز أن ينسخ الحديث المتواتر آية من كتاب الله،
ولكنه لم يقع بالفعل، فلم يقع نسخ في كتاب الله بحديث متواتر.
إذاً: عملياً النسخ بالمتواتر لم يقع وأصبحت المسألة نظرية علمية،
وقد أجمعوا على أن الحديث النبوي ولو كان آحاداً فإنه يخصص عموم
الكتاب، كما جاء في قوله سبحانه: حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3]،
فجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحلت لنا ميتتان
ودمان... ) الحديث، فخصص من عموم الميتة: الجراد والحوت، ومن
عموم الدم: الكبد والطحال، فهذا تخصيص لعموم آية في كتاب الله
بالحديث الآحاد. وكذلك قد تضيف السنة تشريعاً كاملاً مستقلاً إلى
كتاب الله كما جاء في قوله سبحانه: وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23]،
هذا نص في تحريم الجمع بين الأختين في النكاح، فجاءت السنة وألحقت
بهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا بنت
أخيها ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على بنت أختها )، فهذه
زيادة على تحريم الجمع بين الأختين، وهذا مما تلقي بالقبول
والإجماع أنه لا يجوز. إذاً: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا
وصية لوارث ) أي: أن الوصية كانت مشروعةً لمن كانوا ورثة قبل
مجيء آيات المواريث، وفي هذا الحديث بيان على أنه لا وصية لمن دخل(4/11)
في نطاق الورثة، وقد نبه أيضاً والدنا الشيخ الأمين رحمة الله
تعالى علينا وعليه وقال: القرآن في آيات الوصية نسخ بقرآن وهو ما
جاء في آيات الفرائض، وهذا الحديث إنما هو دال على موقع النسخ وليس
هو الناسخ، فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق
حقه )، أي: أعطاه في آيات المواريث. إذاً: أعطى أصحاب الوصية في
المواريث حقهم فلا وصية لهم، والحديث دليل على موضع النسخ والناسخ
هو آيات المواريث ضمناً، فقال رحمة الله تعالى علينا وعليه: إن
الحديث لم ينسخ القرآن، ولكنه دل على موضع الناسخ من القرآن
للقرآن.
حكم إجازة الورثة وصية المورث لبعض الورثة
وهنا ذكر المصنف بعض الروايات والطرق الكثيرة التي جاءت في هذا
الحديث ومنها: الزيادة التي اختلف فيها: (إلا أن يشاء الورثة )
اختلف في هذه الزيادة، ولكن أقرت عقلاً وشرعاً. شرعاً بهذه الزيادة
المقبولة الثابتة، وعقلاً بأن أصل الميراث هو حق للورثة، فإذا أوصى
الميت لبعض الورثة ببعض المال فجاء الورثة الذين يستحقون كل المال
وقالوا: لا مانع من أن ننفذ وصية مورثنا، ونحن نجيز هذا القدر
الزائد علينا، تنفيذاً لوصيته، فيقولون: أصحاب الحق قد تنازلوا عن
حقهم، وأقروا المورث في وصيته لواحد منهم. إذاً: الحق لا يعدوهم،
فإن أجازوا فقد أجازوا من حقهم، وإن منعوا فقد منعوا في حقهم؛ لأن
لهم أن يمنعوا. إذاً: لو أوصى الموصي لأحد الورثة بشيء زائد عن
حصته فلا بأس إن أجاز الورثة، وبعضهم يناقش في هذه المسألة ويقول:
ينظر لماذا نفل هذا الوارث دون بقية الورثة؟ وهل هناك موجب لذلك؟
وأكثرهم يتكلمون عما يكون من هذا بين الزوجين، فقد يوصي الزوج
لزوجته بحصة من المال أو بشيء من المتاع، كما جاء عن بعض السلف
أنهم كانوا يوصون: لا يكشف عما في غرفة فلانة من المال، أو لا
تفتش، أو ولا تكلف، أو ولا تطالب، أو ما في غرفتها فهو لها -أي:(4/12)
زيادة عن ميراثها-. والمالكية يقولون: ننظر كيف كانت المعاملة بين
هذين الزوجين، فإن كان يحبها في حياته وكان يقدمها على غيرها فهذه
وصية مضارة بغيرها، وتنفيل لها بدون موجب، وإن لم تكن له زوجة أخرى
وكانت الحياة متبادلة فيما بينهما فلعل بينهما حقوقاً أراد أن
يعوضها عن تلك الحقوق بهذا الزائد من مالها الفعلي في بيته. وكذلك
قالوا: إذا كان الوارث الذي وصي له بشيء زائد عن ميراثه في حالة
فاقة، وفي حالة احتياج إلى مساعدة من إخوانه وشركائه في الميراث
ولو لم يكن ميراث فإذا راعاه المورث وأوصى له بشيء، فلا مانع إذا
أقرت الورثة هذه الوصية. وهناك من يقول: لا وصية لوارث أجاز الورثة
أو لم يجيزوا، وهذا مذهب الظاهرية، فإنهم منعوا الميت أن يوصي
الوارث أياً كان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا وصية
لوارث )، ولم يجيزوا تلك الزيادة حتى ولو رضي بقية الورثة،
قالوا: لأن الشرع قد أنهى الموضوع: (فلا وصية لوارث )، فلا يحق
لأحد أن يوصي لوارث بشيء، ولكن مذهب الجمهور: أن الوارث إذا كان له
صفة قائمة به تستدعي التعاطف معه وأجاز ذلك الورثة فإن الوصية تصح
له. والله تعالى أعلم.
حكم رجوع بعض الورثة في إجازته لوصية مورثه لبعض الورثة
وفي هذا الموضوع يبحث العلماء مسألة دقيقة وهي: لو أن الميت عند
موته جمع الورثة وقال: أنا أريد أن أوصي لأخيكم، أو لأختكم، أو
لأمكم أو لزوجة أبيكم، بكذا وصية خاصة، فهل تجيزونها أو تمنعونها؟
إن قالوا جميعاً: نجيزها، أو قالوا جميعاً: لا نجيزها، فالعمل بما
قالوا وهذا بالإجماع متفق عليه، وإن قال البعض: نعم نجيز، وقال
البعض: لا نجيز أجيزت في حق من أجاز. فإذا أوصى بالثلث، فيؤخذ ثلث
الورثة الذين أجازوا ويعطى للموصى إليه بإجازتهم. ولكن النقطة
الحساسة في هذا هي: لو أنهم كلهم قالوا: نعم أجزنا، وبعد موت
المورث وعند التنفيذ قام البعض وقال: أنا رجعت عن إجازتي، أو أنا(4/13)
لا أجيز تلك الوصية، فهل له حق في هذا الرجوع أو ليس له حق؟ يرى
بعض المالكية أنه ليس له حق؛ لأن إجازته الأولى هي بمثابة الصدقة،
والهبة، والهدية، فكأنه وهب لهذا الوارث ما أوصى به المورث، فإذا
رجع في ذلك رجعنا إلى الكلام في العائد في هبته، وبعضهم قالوا: له
أن يرجع؛ لأنه قد يكون إنما أجاز تكريماً لمورثهم، وبعض المالكية
أيضاً قالوا: إذا كان هذا الذي رجع عن إجازته يعيش في كنف الموصي
في حياته وخشي إن هو قال: لا أوافق أن تحصل عليه ضيقة في معيشته في
كنف المورث، أو خشي أن يضيق عليه بسبب عدم موافقته، فوافق لتبقى
حياته في كنف مورثه إلى النهاية، ولما أمن الأمر وتوفي الموصي رجع
إلى حقه فقال: أنا لا أجيز، قالوا: يقبل رجوعه إن كان معللاً بهذه
العلة أو بما يشبهها، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم...)
قال المصنف رحمه الله: [وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال
النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند
وفاتكم زيادة في حسناتكم ) رواه الدارقطني ، وأخرجه أحمد والبزار من حديث أبي الدرداء ، وابن ماجة من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه وكلها ضعيفة، لكن قد يقوي بعضها بعضاً.
والله أعلم].
الحث على الوصية بالخير عند الموت
قوله: (إن الله تصدق عليكم، بثلث أموالكم، عند وفاتكم، زيادة في
حسناتكم، أو زيادة في أجوركم ) هذا الحديث على ما فيه من ضعف في
السند، يقول العلماء: في هذا تفضل من الله على العبد بأن أكرمه
الله بهذا في آخر حياته، ليُعمل به بعد وفاته فيكون فيه زيادة في
أجره وهو ميت. وقوله: (إن الله تصدق ) ما قال: أعطى، أو سمح،
وإنما قال: (تصدق). والصدقة في عرف اللغة والشرع هي: تمليك الغني
للفقير بدون عوض. فما وجه الشبه بين الصدقة وبين السماح للميت
بالوصية في حدود الثلث عند موته؟ الذي يظهر من الجو العام والسياق(4/14)
النبوي الكريم هو: أن محل الصدقة هنا أنها صدقة من الله، فهو
سبحانه تصدق عليكم بأموالكم التي في أيديكم، فإن قيل: كيف يتصدق
علينا بما في أيدينا؟ قلنا: نعم. من جهتين: الجهة الأولى: أن
المريض إذا وصل إلى مرض الموت منع من التصرف في ماله، وأصبح المال
مال وراث، فلما لم يصبح له ملك في المال، وجاءه ثلث ماله، كان هذا
الثلث بمثابة الصدقة؛ لأنه قد منع من التصرف فيه، وأصبح غير ملك
له، ومنع من أن يتصرف في أي جزئية منه، لكن الله سمح له بالثلث،
فكأنه تصدق عليه بالثلث بعد أن منع منه. الجانب الثاني: المال في
أيدي الناس حقيقة هو مال الله، يعطيه من يشاء، ويحرمه من يشاء، قال
سبحانه وتعالى: وَآتُوهُمْ
مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33].
إذاً: حقيقة الأموال التي في أيدي الناس سواء كانت نقداً أو متاعاً
أو طعاماً أو لباساً أو مساكن أو مزارع، كلها لله، فهو يؤتي الملك
من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وبيده الخير سبحانه. إذاً: هو
المالك لمالك الذي في يدك، وإنما أنت متصرف فيه بما شرع لك، فلما
كفت يدك وكان المال هو مال الله، قال: خذ ثلث مالك وتصدق به عن
نفسك زيادةً في أجرك الذي عملته قبل الموت. إذاً: الثلث هذا هل هو
عمل قبل الموت أم بعد الموت؟ الجواب: عمل بعد الموت؛ زيادة في
أجوركم، فمهما عملت في حياتك من أعمال الخير، البدنية والمالية،
والمشتركة بينهما وفعلت وفعلت فإن كل ذلك مسجل لك في صحيفتك،
وعندما يأتي الموت تختم الصحيفة فيقال لك: لا. افتح اعتماداً
جديداً صدقة عليك، فيكون تصريفك لهذا الثلث زيادة في أجرك -أجر
عملك الذي علمته قبل أن يأتيك الموت- ويستمر أجر هذا الثلث الذي
أنفقته بعد وفاتك. إذاً (زيادة لكم في أجوركم ) هذا كما في
الحديث الآخر (إذا مات الإنسان انقطع عمله... صدقة جارية ).
والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم(4/15)
وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
( كتاب البيوع - باب الوديعة )
شرح حديث: (من أودع وديعة فليس عليه ضمان)
كتاب البيوع - باب الوديعة
إن من أصول الإسلام التعاون على البر والتقوى، ومما يدخل في هذا الأصل العظيم: حفظ الودائع، وهو من الأخلاق العالية والقيم النبيلة، وقد كان هذا الخلق محموداً عند الناس في الجاهلية فكان من محاسنهم التي أقرها الإسلام واستحبها لمن كان قادراً على القيام بأمر الوديعة، ولو تلفت الوديعة في يد المودع عنده فإنه غير ضامن؛ لأنه مؤتمن، ما لم يفرط أو يتعد، وللوديعة مباحث كثيرة يذكرها العلماء في كتب الفقه، وغالبها مباحث اجتهادية.
شرح حديث: (من أودع وديعة فليس عليه ضمان)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أُودع وديعة فليس عليه ضمان) أخرجه ابن ماجة ، وفي إسناده ضعف]. ......
تعريف الوديعة لغة واصطلاحاً
نأتي إلى موضوع الوديعة. الوديعة في اللغة: من ودع الشيء. بمعنى: ترك، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3] أي: ما تركك، يقول: دع عنك كذا، أي: اتركه عنك، وقالوا: إن الودعية متروكة عند المودع، وقيل: من الوداعة، والوداعة: السكون، (فأتوها وعليكم السكينة والوداعة والوقار) فإما أن تكون من الاستقرار والسكون عن التقليد والحركة بإيداعها عند المودع، وإما أن تكون من الترك، بأن تركها صاحبها مستقرة عند المودع، ومهما يكن أصلها في اصطلاح أهل اللغة فإن أصل الوديعة في الشرع: أن يجعل إنسان مالاً له عند غيره يحفظه له، ويقولون: إن عقد الوديعة عقد جائز، ولكل من الطرفين إنهاؤه متى شاء.
الأدلة على مشروعية الوديعة(4/16)
وقالوا: إن الوديعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. أولاً: الكتاب: فقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] والوديعة أمانة. ثانياً: السنة: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ويدخل فيه الاستعارة والإجارة والوديعة: ثالثاً: والإجماع: أجمعت الأمة على ذلك. وهي مشهورة عبر التاريخ في الجاهلية والإسلام، فأما في الإسلام فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع إيداع أهل مكة. يقولون: ما كان لإنسان شيء يخاف عليه إلا وأودعه عند محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ لأمانته، ولما أراد الهجرة خلف علياً رضي الله تعالى عنه لأمرين: الأمر الأول: التعمية على العدو، بأن المسجى تحت البردة هو محمد صلى الله عليه وسلم عليه وسلم؛ فينتظرونه. الثاني: الأمانات، فلما أراد الهجرة صلى الله عليه وسلم أودع تلك الودائع عند أم أيمن ، وكلف علياً أن يردها لأصحابها بعد أن يخرج؛ لأنه لو ردها قبل الخروج للفت الأنظار إليه، وكان من أهم عوامل نجاح الهجرة الكتمان. وأما في الجاهلية: ففي قصة السموءل مع امرئ القيس ، حينما أتى امرؤ القيس إلى السموءل وأودعه سلاحه، وذهب يجمع رجالاً وسلاحاً لقتال أعدائه، فشعر أعداؤه بذلك، فجاءوا إلى السموءل لأخذ سلاح امرئ القيس فامتنع، وقال: إنها وديعة وأمانة ولا أخفر الأمانة والوديعة. وكان محصناً في حصنه، فعجزوا أن يصلوا إليه، فوجدوا ولده خارج الحصن، فهددوه بقتل ولده إن لم يسلم سلاح امرئ القيس فامتنع، وقتل ولده على نظره وعينه ولم يسلم الوديعة والأمانة!
حكم الوديعة(4/17)
لعظم مكانة الأمانة قالوا: إنها تستحب، وقد تجب إذا علم المودع أنه إذا لم يقبلها ضاعت، وهو أمين عليها، أما إذا وجد من يستقبلها غيره، أو رأى من نفسه الضعف، فخشي أن يفرط فيها إما بضياع، أو طمع فيها بأن تضعف نفسه أمامها؛ فلا يحق له أن يقبلها. إذاً: الوديعة أمانة، والوديعة: مال الغير يحفظه غيره، ويكون أميناً في ذلك. والحديث يتكلم عن جانب واحد من جوانب الوديعة: بأن المضمَّن لا يضمن؛ لأن يده عليها يد أمانة، والأمين لا يضمن، ولأنه أمسكها لحظ صاحبها لا لحظ نفسه، فهو غير متهم. وهناك جوانب أخرى متعددة في الوديعة، وابن قدامة رحمه الله أورد في المغني في مباحثها ما يقارب من خمس وثلاثين صفحة، كلها تدور حول تحقيق المناط في الضمانة، والضمان، وعدم الضمان، والأصل في ذلك: أن المودع لا يضمن ما لم يأتِ موجب الضمان: من تفريط أو تعدٍ، وسبق أن قلنا: إن موجبات الضمان في القوانين الوضعية وفي الأحكام الشرعية أحد الأمرين: التفريط أو التعدي، والفرق بين القتل الخطأ والعمد: أن الخطأ بسبب التفريط، والعمد بسبب التعدي العامد والعدوان، وهكذا كل من فرط في حق الغير ضمن، وكل من تعدى على حق الغير ضمن؛ لأنه فعل ما ليس له أن يفعله، فعلى الإنسان أن يحرص، وأن يأتي بالعمل على وجهه الكامل.
تعدد مباحث الوديعة(4/18)
مباحث الوديعة طال بحثها عند الفقهاء: من الذي يحق له أن يودع، ومن الذي يستحق أن يستودع ويقبل الوديعة، صفة حفظ الوديعة عند المودع بين حفظها ومستوى حرزها، وإذا كانت تحتاج إلى إنفاق والمودِع ليس موجوداً فماذا يفعل؟! وإذا أراد السفر وخشي عليها، ولم يجد صاحبها ولا وكيلها فماذا يفعل؟! أيحملها معه في السفر وهو مظنة الإتلاف؟! أم يودعها عند غيره؟! وهل يضمن بإيداعها عند غيره أم لا؟! وإذا خلطها بماله وكان من جنسها: دارهم مع دراهم، دنانير مع دنانير، تمر مع تمر، زيت مع زيت؟! وإذا خلطها مع غير جنسها: بر مع شعير، وهكذا أيضمن في هذه الحالات أو لا يضمن؟ وإذا كانت في حرز، مثل: كيس أو صندوق ونحوه ففك رباط الكيس أو الصندوق، ولو لم يخرج منها شيء أيضمن أم لا يضمن؟ وكل هذه المباحث موثقة أو مفصلة في كتب الفقه كما أشرنا ذلك عن الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى. وأهم ما ينبغي التنبيه عليه: أن الصناع سابقاً لم يكونوا يضمنوا؛ لأن الصنعة في أيديهم أمانة، ولكن في زمن علي رضي الله تعالى عنه لما كثر ادعاء الصناعة وتلف السلع ضمنهم، وقال: سداً للباب، وسداً للذريعة، فإذا علم الصانع أن موضوع الصنعة في ذهب أو نحاس أو خشب أو خياطه أو غير ذلك إذا تلف لا يضمن فرط، وإذا علم أنه يضمن بأي حال من الأحوال أتقن.
تلف الوديعة(4/19)
لو ادعى المودع أن الوديعة تلفت بحدث عام كغرق أو حرق أو سرقة أو نحو ذلك، وادعى بأن الوديعة تلفت في هذه الأحداث! فينظر هل لديه بينة على وجود هذا الحدث من حيث هو، بصرف النظر عما تلف فيه، فإن أقام البينة على وجود ذلك الحدث برئ، فإذا قال: إن بيته قد أحرق -عياذاً بالله- وأحرقت الوديعة مع متاعه وماله، فلا يكلف البينة على أن الوديعة أحرقت بعينها، ولكن يكلف البينة على وجود الحريق في بيته؛ لأن هذه الأمور العامة لا تكاد تخفى، فيشهدها الجيران وغيرهم، وكذلك ما كان بعيداً عن الجيران، ويشيع أمرها في القرية، فإذا ادعى تلفاً بحدث عام كلف البينة على إثبات ذلك الحدث. وإذا ادعى أن الوديعة سرقت وماله لم يسرق ضمن؛ لأنه أحد أمرين: إما لا سرقة أصلاً، أو تفريط في وضعها في غير حرزها، ولماذا لم يسرق ماله معها؟! أما إذا ادعى بأنه وضعها في حرز ماله هو، بأن كان لديه صندوق في البيت يؤمن فيه أمواله فوضعها معها، فادعى أن الصندوق قد سرق، أو كسر وأخذ ما فيه، فحينئذ يقبل قوله، ويكون لا ضمان عليه.
جحود الوديعة
عند رد الوديعة هل يشهد على الرد أو لا يشهد؟! وإذا جاء صاحب الوديعة يطلبها فقال: لا شيء لك عندي، ولم تودعني شيئاً، ولم آخذ منك شيئاً. فلما ضيق عليه قال: هاه! نعم.. صحيح، أنت أودعتني ورددتها عليك. ضُمِّن؛ لأنه بقوله: رددتها عليك كذب نفسه في قوله: لم تودعني شيئاً. فأصبح خائناً كذاباً، والمؤتمن ليس بكذاب. أما إذا قال: وديعتي عندك. فقال: ليس لك عندي شيء، ثم قال: أنا أودعتك. قال: نعم أودعتني ولكن ليس عندي لك شيء؛ لأني رددتها عليك في الوقت الفلاني. فكلمة (ليس لك عندي شيء) تحتمل عدم الوديعة بالكلية، وتحتمل ردها إليه بعد الإيداع، فإذا قال ابتداءً: ما أودعتني، ثم رجع واعترف يكون ضامناً. ولو أنه أخذ الوديعة وتصرف فيها، ثم بعد زمن ردها إلى محلها، فهو ضامن إن تلفت، وتبرأ ذمته بردها إن أعادها في موضعها أو إلى صاحبها.(4/20)
سفر المودَع عنده
إذا أراد السفر ووديعته عنده ماذا يفعل؟! عليه أن يبحث عن صاحبها أو وكيل له يسلمها إليه، سواء كان هذا السفر ضرورياً أو غير ضروري؛ لأنه له حق في ذلك، فإذا لم يجد صاحبها ولا وكيله جاء إلى الحاكم، وقال: عندي وديعة كذا، وأريد السفر، ولا آمن تركها في البيت، فيردها للحاكم، والحاكم مأمون على ذلك ويضعها حيث ما يحفظها. وإذا لم يجد الحاكم، أو كان الحاكم بعيداً عنه، فماذا يفعل؟! قالوا: إن نظر إلى أمين آخر يمكن أن يأمنه على ماله هو فأودعه إياها، فتلفت عند المودع الثاني، قالوا: لا ضمان عليه؛ لأنه في حالة ضرورة، وأودعها عند مؤتمن هو يأتمنه على ماله، فليس مفرطاً ولا متعدياً. أما إذا أودعها عند شخص عادي ليس معروفاً بالأمانة فتلفت، فهو ضامن؛ لأن صاحبها ارتضاه هو ولم يرتضِ هذا المودع الجديد؛ لأنه لا يعرف عنه شيئاً. إذاً: فالمباحث عديدة وواسعة في ما يتعلق بالوديعة.
غالب مباحث الوديعة اجتهادية
النصوص في أمر الوديعة قليلة، وكل أبحاثها اجتهادية، ومردها إلى هذا الحديث وإلى غيره من العمومات كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] وحديث: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فهذه نصوص جانبية يؤتى بها في مباحث الوديعة، في ضمانها وفي ردها إلى صاحبها.
من دقائق مباحث الوديعة(4/21)
ومن الدقائق في هذا الباب: ما يذكره الفقهاء: مِن أن مَنْ أودع وديعة فجاء صاحبها يطلبها، فقال: نعم، ولكني الآن جائع، وأريد أن آكل، فله المهلة، أو قال: نعم، ولكني الآن متعب وأريد أن أستريح؛ فله الراحة، أو قال: أنا الآن أكلت وامتلأت بطني، وأريد المهلة حتى ينهضم الطعام، وأستطيع أن أتحرك براحة، فيعطى المهلة.. وهكذا؛ لما له فيه مصلحة. أما إذا طلبها منه بعيداً عن موطنها، فمثلاً: أودعه بالمدينة ولقيه بمكة، وقال: ائتني بوديعتي، فليس له حق في تكلفته في هذا الوقت، وللمودَع عنده أن يقول: وديعتك حيث أودعتني بالمدينة. وإذا قال: إذا رجعت إلى المدينة فابعث بها إلي، فعليه أن يدفع مؤنة ردها وإرسالها؛ لأن مئونة إرسالها تابعة لها، وهي على صاحبها، ولا يكلف المودع بأجرة نقلها، قليلة كانت الأجرة أو كثيرة. وبهذا القدر نكتفي، ومن أراد الزيادة والتفصيل فليرجع إلى كتب الفقه، وهذا الذي نبهنا عليه وننبه عليه دائماً: أن على طالب العلم أن يجمع بين مراجع الفقه ومراجع الحديث، فالحديث أصل يرجع إليه في تطبيق القواعد، والفقه تفصيل الجزئيات فيما يطرأ على الموضوع أو يظن به. والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.(4/22)