يوماً، فيظل المسافر يقصر حتى يعود إلى بلده، وهذا كما يقولون في
شرح الحديث: مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وهو المنصوص عليه في
فتح القدير شرح الهداية قال: (قصر ولو سنين). والجمهور يقولون:
لابد من اعتبار الرخصة في أساسها، وإذا كان الأصل في الصلاة
إتمامها وجاء القصر رخصة: (تصدق الله عليكم بها فاقبلوا صدقته )،
والرخص إنما هي توقيفية فلا تتعدى محلها، ووجدنا من فعل النبي صلى
الله عليه وسلم في حالة الإقامة المعلومة المحدودة أنه يقصر
الأربعة الأيام فنحن كذلك نقصر، فإذا زدنا في مدة معلومة عن
الأربعة رجعنا إلى الأصل فأتممنا من أول يوم، فكذلك في الحالة التي
لا يعلم فيها متى تنتهي الإقامة نقف عند المدة التي وردت لنا من
فعله صلى الله عليه وسلم، وهي تسعة عشر يوماً. ويقول الشوكاني : نحن قد وقفنا على الرخصة من فعله صلى الله عليه وسلم في المدة
التي لا تحديد لها إلى تسعة عشر يوماً إلى عشرين، فإذا قصرنا في
مثل هذه الحالة نكون مقتدين آخذين وعاملين بالسنة التي وردت لنا من
فعله صلى الله عليه وسلم، فإذا أقمنا أكثر من عشرين يوماً كخمسة
وعشرين يوماً، فالعشرون يوماً أخذنا بها بسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم، والخمسة إذا قصرنا فيها لم تكن داخلة في الرخصة.
فالشوكاني رحمه الله يقول: ما زاد عن الأيام التي ثبتت عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست داخلة في الرخصة، ومن قصر أكثر
من تلك المدة يكون عاملاً بغير دليل ولا مستند، ثم يقول: لو قدر أن
إقامته صلى الله عليه وسلم طالت في مكة أو في تبوك فوق العشرين
يوماً فهل نعلم ماذا كان سيفعل بعد العشرين؟ هل يستمر على القصر أم
يرجع إلى الإتمام؟ فالأمر محتمل للاتمام والقصر، فإذا كان الأمر
محتملاً في التقدير العقلي فممكن أن يظل يقصر مستصحباً حكم السفر،
وممكن أن يرجع إلى الأصل مكتفياً بهذه المدة، فما دام الاحتمال
قائماً، على قدم المساواة، وليس عندنا ما يرجح واحداً منهما،(2/106)
فحينئذٍ إذا تعادل الاحتمالان نرجع إلى الأصل الذي لا احتمال فيه،
فنرجع إلى إكمال الصلاة ونصلي أربعاً، ونأخذ المدة التي ثبتت عنه
صلى الله عليه وسلم، ثم بعدها نرجع إلى الأصل؛ لأنه ليس عندنا نص
نعتمد عليه أكثر مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
134481 ( كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض [2] )
( كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض [2] )
عناصر الموضوع
1 الترجيح بين الأقوال المختلفة في جمع الصلاة في السفر
2 حديث: (لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد)
3 حديث: (خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا)
4 صلاة المريض
كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض [3]
لقد رخص لنا الشارع الحكيم بجمع الصلوات إلى بعضها في السفر وجاء هدي
النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا كيفية هذا الجمع ومدته وأسبابه،
وكذلك رخص الشارع للمريض في الصلاة أن يصليها على الهيئة التي يستطيعها
إما قائماً أو قاعداً أوعلى جنب.
الترجيح بين الأقوال المختلفة في جمع الصلاة في السفر
قال المصنف: [ولأبي نعيم في مستخرج مسلم : (كان إذا كان
في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل ) ] .
زادنا المصنف رحمه الله أيضاً رواية أخرى في المستخرج على مسلم مثل ما جاءنا به عن الحاكم ، والحمد لله. قال المصنف: [وعن
معاذ رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في
غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً )
رواه مسلم ]. هذه عجيبة! فبعدما أتى بحديث أنس في الصحيحين
ورواية الحاكم والمستخرج على مسلم ، جاءنا بحديث معاذ يروي: (أنه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك كان يصلي الظهر والعصر
جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً ) فقوله: (جميعاً) هل هي جمع
تقديم أم جمع تأخير؟! الجواب: يحتمل الاثنين! إذاً: إذا وجد احتمال
بطل الاستدلال. ولكنهم يقولون: ومع الاحتمال فإن قوله: (صلى الظهر(2/107)
والعصر جميعاً) يشعر بالتأخير، (وصلى المغرب والعشاء جميعاً) يشعر
بالتأخير، وبعضهم يقول: بل يُشعر بالتقديم. إذاً: حديث معاذ لم
يعين حقيقة الجمع ما بين تقديم أو تأخير، لكنه يثبت عموم الجمع
(جمع الظهر والعصر جميعاً) إن شئت قلت: تقديم أو تأخير، (والمغرب
والعشاء جميعاً) إن شئت قلت: تقديم أو تأخير. إذا: حديث معاذ يثبت وجود الجمع بين الصلاتين.
أدلة القائلين بمنع الجمع مطلقاً
وهنا يسوق المؤلف حديث معاذ رضي الله عنه رداً على الإمام أبي
حنيفة رحمه الله؛ لأنه يقول بمنع الجمع مطلقاً لا تقديم ولا
تأخير، فإن قيل له: وهذه النصوص ما تعمل بها؟ قال: إنما كان جمعاً
صورياً. معاذ رضي الله عنه لم يقل: أخر وقدم، أو: صلى في آخر
هذه وأول هذه بل قال: (صلى الظهر والعصر جميعاً) وجميعاً تدل على
أنهما مجموعتين في وقت إحداهما، وهذا هو الظاهر. وهنا يقال: بم
استدل الإمام أبو حنيفة رحمه الله على منع الجمع مطلقاً وحمل
الحديث على الجمع الصوري؟ يقول الأحناف: الأصل في الصلوات الخمس أن
تصلى في أوقاتها: (أفضل الأعمال إلى الله: إيمان بالله، والصلاة
على وقتها ) ، وقال تعالى: إِنَّ
الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103].
وجبريل عليه السلام نزل وعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات في
أوقاتها، والأعرابي الذي جاء وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن
أوقات الصلاة فقال له: (صل معنا اليوم وغداً ) ، وصلى، فأوقع
النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس في اليوم الأول على أول
وقتها، وأوقع الصلوات الخمس في اليوم الثاني على آخر وقتها، إلا
المغرب صلاه في اليوم الثاني في الوقت الذي صلاه في اليوم الأول،
ثم قال: أين السائل عن أوقات الصلاة؟ قال: هأنذا يا رسول الله،
قال: (ما بين هذين وقت ) يعني: جعل كل صلاة في وقتها، وبيَّن
المسافة بين أول الوقت وآخره. فقالوا: هذه أمور قطعية بإجماع(2/108)
الأمة، فالخروج عنها يحتاج إلى قطعي مثله، وهذه الأحاديث كحديث
معاذ وغيره أحاديث آحاد، ولا يمكن ترك القطعي إلى الآحاد.
واستدلوا بقول عبد الله بن مسعود وهو أكثر الناس تمسكاً بما
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً؛ فقد جاء عنه عند
بعض أصحاب الحديث: (والذي يحلف به ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم
صلاة لغير وقتها إلا الظهر والعصر في عرفات، والمغرب والعشاء في
جمع، والصبح صلاّه في أول وقته ) فأخذوا بهذا الحديث، وقالوا:
هذا يحلف أنه صلى الله عليه وسلم ما صلى صلاة في غير وقتها، وأنتم
تقولون: قدموا وأخروا.
الرد على أدلة المانعين من الجمع
والجمهور يقولون: صح من فعله صلى الله عليه وسلم بهذه النصوص
الصحيحة، أنه كان يجمع بين الصلاتين. وقالوا:إن أحاديث الجمع بين
الصلاتين تقيد المطلق من تلك النصوص القطعية التي جاءت في بيان
أوقات الصلوات الخمس، فهذه خصصتها. أي: أن تلك الأوقات في الصلوات
الخمس في الحالات العادية، وأن الجمع في خصوص السفر، وحالة السفر
خاصة من عموم حالات الصلاة العادية، وبهذا أخذ الجمهور بجواز الجمع
بين الصلاتين، ولكنهم يختلفون بين أن يكون جمع تقديم أو جمع تأخير.
فابن حزم قال بجمع التأخير فقط، وأحمد والشافعي قالا
بالجمع في الحالتين تقديماً وتأخيراً. وأبو حنيفة رحمه الله
ليس عنده جمع إلا في الحج، فقال: الجمع بعرفات والمزدلفة ثابت
وصحيح، وقال: إن الجمع في عرفات وفي مزدلفة من مناسك الحج وليس من
أجل السفر، واستدل بفعل أهل مكة معهم، فقال: أهل مكة ليسوا
بمسافرين، وقال: حتى من كان يسكن في أرض عرفات فله أن يجمع مع
المسلمين إن كان حاجّاً، فمن حج من أهل منى، ومن حج من أهل
المزدلفة، ومن حج من أهل عرفات فله أن يجمع مع الحجاج؛ لأن الجمع
نسك عند الأحناف. والجمهور يقولون: الجمع من أجل السفر وليس من أجل
الحج.
مذهب الإمام مالك في الجمع(2/109)
وهناك بقي علينا مذهب مالك ، فمالك رحمه الله جاءت عنه
روايات: أولاً: رواية كراهية الجمع، فقال: أن يصلي كل فرض في وقته
في سفره أولى. والرواية الثانية: الجمع بدون كراهية، ولكن قال: لا
يجمع إلا لحاجة، كخوف أن تفوته مصلحة. ورواية ثالثة: يجمع جمع
تأخير فقط، كما قال ابن حزم ورواية رابعة يجمع جمع تقديم
وتأخير بلا كراهية ولا حاجة. إذاً: مالك له روايتان في الجمع:
رواية المنع ورواية الجواز، ومع هذا تفصيل، وهذا التفصيل ذكره عنه
ابن عبد البر في التمهيد، فمن أراد أن يرجع إليه فهو في الجزء
الثاني عشر، وذكره أيضاً الخرشي على خليل في تفصيل مذهب
المالكية. إذاً: هناك من قال: هو جمع صوري ولا يوجد جمع تقديم ولا
تأخير. وهناك من قال بجمع التأخير فقط ولا يوجد جمع تقديم عنده.
وهناك من قال بالجمع مطلقاً تقديماً وتأخيراً. وهناك من جاء عنه
التفصيل فيما يتعلق بالكراهية وعدم الكراهية، كما هو عند مالك .
نقض ابن عبد البر على من قال بالجمع الصوري
نرجع إلى من يقول: إنه جمع صوري، يقول بعض العلماء رداً على ذلك،
وخاصة ابن عبد البر فقد ناقش المسألة نقاشاً دقيقاً وطويلاً،
قال: إن القول بجمع الصلاتين تخفيف، وإن تحري آخر وقت الأولى وأول
وقت الثانية فيه مشقة كبيرة. والآخرون يقولون: المسألة ليست مسألة
هندسية على الصفر والزاوية، بل المسألة تقريبية في الأوقات، فإذا
نزل في آخر وقت الأولى وصلاها وتحرى دخول الثانية وهو في مجلسه
ففيه تخفيف من كونه يتهيأ للصلاة مرة واحدة بوضوء واحد، ويأتي إلى
محل الصلاة، فإذا كانوا جماعة فإنهم يجتمعون للصلاة جماعة، ويكون
اجتماعهم واحداً، ففيه أيضاً إرفاق، كما جاء في المستحاضة حيث،
أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالجمع الصوري. وهنا يقول ابن عبد
البر -ولم أره لغيره أبداً- إن القول بالجمع الصوري يتبعه منع
الجمع الصوري في غير هذه الصور. فمثلاً: إذا قلتم: إن الجمع الصوري(2/110)
للتخفيف، وحقيقة الحال أن كل صلاة وقعت في وقتها، فيجوز أن يؤخر
العصر لآخر وقتها، ويقدم المغرب لأول وقتها، ويجمع بينهما جمعاً
صورياً، وسيوقع كل صلاة في وقتها، وأنتم تمنعون ذلك، فلم المنع؟
فإن قلتم: لأنها لا تشترك معها في الوقت؟ قلنا: نحن لم نجمع حتى
تقولوا ذلك، وطالما أنكم قلتم إن الجمع صوري فندعها على الصورية
هذه، وما دام أن كل صلاة وقعت في وقتها فلا جمع، والإنسان لو أخر
صلاة العصر إلى آخر وقتها، ولم يبق عن غروب الشمس إلا مقدار
ركعتين، فصلاته أداء، فإذا دخل وقت المغرب صلاه في أول وقته وأنتم
تقولون: إذا أخر صلاة العصر لشغل أو نسيان كما لو نام وقام قبل
الغروب بما يسع ركعة فإنها تعتبر أداء وليست قضاءً، فلماذا هنا لا
تتركونه يأتي بالمغرب في أول وقتها والعصر في آخر وقتها؟ قالوا:
هذه بعذر، ولماذا يأتي بها في أول الوقت بدون عذر؟ ونحن هنا لا
نناقش المسألة، لكن نورد كلام ابن عبد البر ، وهو كلام دقيق
جداً، فإذا كانت القضية ستدور على الجمع الصوري وكل صلاة ستقع في
وقتها، فما الذي يمنع أن يجمع جمعاً صورياً بين العصر والمغرب،
وأنتم تمنعون ذلك بالإجماع؟! إذاً: الجمع الصوري لا قيمة له، ولا
يتمشى مع هذه النصوص الموجودة، لأنه لو كان على الصورة فالصورة تقع
في غيرها، وأنتم لا تقولون بذلك. إذاً: الجمع الصوري لا وجود له في
الحالات العادية، أما المستحاضة فلمرضها، وسيأتي التنبيه على هذه
القضية؛ فالمرض أو الحاجة في حديث ابن عباس يأتي فيما بعد إن
شاء الله. إذاً: الجمع بين الصلاتين في السفر جائز أم ممنوع؟ جائز
جاءت به السنة، وله صور ثلاث: الأولى تقديم، والثانية تأخير،
والثالثة صوري، والذي قال بجمع التأخير فقط ابن حزم وشيخه داود ، وقال بجمع التقديم والتأخير معاً أحمد والشافعي ، والذي
منع من الجمع وقال بالجمع الصوري أبو حنيفة ، ومالك رحمه
الله جاءت الرواية عنه مختلفة.(2/111)
حكم الجمع للمسافر إذا أقام مدة معلومة أو مجهولة
قبل أن ننتقل من مسألة الجمع نقول: إلى متى يجمع، ومتى يُكف عن
الجمع؟ هناك من يقول: الجمع لا يكون إلا عند جد السير، أما إذا نزل
في طريقه يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أربعة على ما قلنا في قصر
الصلاة بنية إقامة محددة أربعة أيام، أو بإقامة غير معلومة إلى
عشرين يوماً، فهل يجمع في إقامته تلك مع قصر الصلاة أم يقصر فقط؟
هناك من يقول: لا يجمع إلا إذا جد به السير، وهذا القو لمالك ومن وافقه كالشافعي وغيره. وهناك من يقول: يجمع سواءً جد به
السير أو نزل نزولاً مؤقتاً. ومن رجع إلى موطأ مالك وجد حديث
معاذ بن جبل ، وفيه بعض الروايات في غزوة تبوك تدل على ما
يستدل به من يقول: يجمع ويقصر سواء جد به السير أو نزل نزولاً
مؤقتاً على ما تقدم في التوقيت بنية الإقامة، أو لانتظار قضاء
حاجته، فمدة وجود رخصة القصر تكون رخصة الجمع. والله تعالى أعلم.
والشافعية أيضاً يقولون: لا يحق لإنسان أن يجمع جمع تقديم إلا إذا
كان ذلك عند صلاة الأولى، ولا جمع تأخير إلا في وقت الثانية، وأن
ينوى تأخيرها إلى التي بعدها قبل أن يحل وقتها، فإذا أخرها وصلاها
كانت أداء ولا إثم عليه بالتأخير، وإذا لم ينو حتى خرج وقتها كان
آثماً بتأخيرها، ولكن صلاته صحيحة.
حديث: (لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد)
قال المصنف: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد من مكة
إلى عسفان ) رواه الدارقطني بإسناد ضعيف، والصحيح أنه
موقوف، كذا أخرجه ابن خزيمة . ]. عوداً على ما تقدم من المسافة
التي تقصر فيها الصلاة، ولعل المؤلف رحمه الله أتى بهذا النص هنا
عقب الجمع ليبين لنا أن السفر الذي تقصر فيه الصلاة هو السفر الذي
تجمع فيه الصلاة. وحديث: (لا تقصر الصلاة في أقل من أربعة برد)
يروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكن بسند ضعيف،(2/112)
والتحقيق عند علماء الحديث وفي موطأ مالك رحمه الله أن هذا من
قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وهل ابن عباس يشرع
للناس ويؤقت؟ يقول العلماء في مثل هذا -أي: ما يتعلق بالتشريع
والعبادات وبالصلاة أهم أمر الإسلام-: إنه لا يقال فيه بالرأي، ولا
يكون ابن عباس قال ذلك إلا عن سماع من النبي صلى الله عليه
وسلم، لكن ابن عباس لما قال ذلك لم يقل: سمعت رسول الله، ولم
يقل: قال رسول الله كما في الخبر الذي تكلم فيه ابن عباس ، ولم
يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باللفظ، فنأخذه عن
ابن عباس موقوفاً عليه، ويحكم له بالرفع إلى النبي صلى الله
عليه وسلم. وقد تقدم الكلام في الأربعة البرد.
حديث: (خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا)
[عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله لعيه
وسلم: (خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا، وإذا سافروا قصروا
فأفطروا ) أخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف، وهو في
مسند سعيد بن المسيب عند البيهقي مختصراً. ]. هذا الحديث
لا أدري كيف ساقه المؤلف على الضعف الذي فيه، ولكن بعضهم يقول يشهد
لهذا المعنى العام، فقوله: (خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا)
يشهد له قوله سبحانه: إِنَّ
الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]،
فهذا يتذكر إذا أصابه لمم من الشيطان، وقوله: (مبصرون) بمعنى:
استغفر وتاب. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا أساء العبد
أو أخطأ فاستغفر غفر الله له )، أو الحديث القدسي: (غفرت له على
ما كان منه ولا أبالي ) كمافي حديث أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه. أما قوله: (إذا سافروا قصروا وأفطروا) فهذا موضع
النزاع، وضعف الحديث يوجب ألا يعول عليه في الاستدلال على قضية
كهذه.
صلاة المريض
جواز القعود للمريض في الصلاة إن عجز عن القيام(2/113)
قال المصنف: [ وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (كانت بي
بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: صل
قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ) رواه
البخاري ]. بدأ المؤلف بالشطر الثاني من العنوان: (صلاة
المسافر والمريض) ونبهنا في الأول على أنه جمعهما لجامع رفع
المشقة، لأن قصر الصلاة وجمعها تخفيفاً على المسافر ورفعاً لمشقة
السفر، وكذلك التخفيف على المريض في أداء الصلاة. وفي الحديث أن
الرجل اشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أن عنده بواسير -عافانا
الله وإياكم- وهي قد تحول دون القيام أو الركوع، وهذا كمثال فقط،
وإلا فمراحل هذا المرض عياذاً بالله متفاوتة، فقد يكون في بدايته
لا يعيق الإنسان عن أي شيء، وقد يكون مشتداً، وقد يؤدي إلى نزيف.
وهنا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (صل قائماً) لاحظوا
في الجواب.. هو شكا إليه يطلب التخفيف أو الرخصة، فيأتيه صلى الله
عليه وسلم بالمبدأ ويبني عليه، فيقول: (صل قائماً) أي: هذا هو
الأصل، فإن لم تستطع القيام فصل قاعداً، فإن لم تستطع قائماً ولا
قاعداً فعلى جنبك. يقولون باتفاق: يصلي على جنبه الأيمن مستقبلاً
القبلة، فإن لم يستطع على جنبه فمستلقياً على ظهره، وإذا كان
مستلقياً على ظهره فقدماه إلى القبلة ورأسه إلى عكسها؛ لأنه إذا
كان القدمان إلى القبلة فاستطاع أن يجلس أثناء الصلاة سيستقبل
القبلة، والله تعالى أعلم.
زيارة النبي صلى الله عليه وسلم للمرضى
قال المصنف: [وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (عاد النبي صلى
الله عليه وسلم مريضاً فرآه يصلي على وسادة، فرمى بها وقال: صل على
الأرض إن استطعت، وإلا فأومئ إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك )
رواه البيهقي وصحح أبو حاتم وقفه ]. وهذا الحديث أيضاً في
صلاة المريض، فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضاً لم يسمه
الراوي لنا، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعود المرضى، ولم(2/114)
يقتصر ذلك على أصحابه رضوان الله عليهم، بل عاد خادماً له كان
يهودياً كما جاء في الخبر: أنه تأخر عنه غلامه اليهودي فسأل عنه،
فقالوا: إنه مريض، فقال: قوموا بنا نعوده، وذهب صلى الله عليه وسلم
ومن معه إلى هذا الغلام الخادم، فوجده في ساعته الأخيرة، فجلس إلى
جنبه وقال: (يا غلام! قل لا إله إلا الله محمد رسول الله، فنظر
الغلام إلى أبيه اليهودي عند رأسه، فقال اليهودي لولده، يا بني!
أطع أبا القاسم، فنطق بالشهادتين ومات في الحال، فقال صلى الله
عليه وسلم لأصحابه: تولوا أنتم أمر صاحبكم ). انظر إلى عظمة
الإسلام! في آخر لحظة من حياته، وفي آخر نفس من أنفاسه، ينطق
بالشهادتين، فتثبت له الصحبة لرسول الله صلى الله، والأخوة
للمسلمين، وانقطع ما بينه وبين أبيه. المانع عظيم جداً: (تولوا
أنتم أمر أخيكم) متى كان أخي وهو يهودي! ولكن: بـ(لا إله إلا الله
محمد رسول الله) صار أخاً لنا، وانظروا كم في هذه الزيارة من
البركة، حيث أنقذ الله بها إنساناً من النار ونقله إلى الجنة، ولم
يركع ركعة ولم يسجد سجدة لله. إذاً: كان صلى الله عليه وسلم يعود
المرضى، وهذا منه صلى الله عليه وسلم فيه تألف لغير المسلمين،
وبيان مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم. يذكر ابن شبة في تاريخ
المدينة: أنهم أول مجيء المهاجرين في الهجرة كانوا إذا مرض الواحد
من المسلمين واشتد به المرض واحتضر، آذنوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأتاه إلى بيته، وحضر تغسيله وصلى عليه، ثم يذهب معهم لدفنه،
فقالوا: لقد أكثرنا على رسول الله وشققنا عليه، لو أننا تركنا
إخباره وقمنا على ميتنا فجهزناه ونقلناه إلى رسول الله يصلي عليه
في بيته، فتركوا الإخبار، وكانوا يجهزون الموتى ويأتون بهم، ويضعون
الجنازة في الجهة الشرقية من المسجد -وتسمى إلى الآن: مصلى
الجنائز، ودرب الجنائز.. أي: الطريق الذي يأتي من قبلي المسجد-(2/115)
وتوضع في فرش الحجر، وهو السور الموجود الآن حالياً ما بين باب
جبريل وباب البقيع الجديد، فكانوا يأتون ويضعون الجنازة ويخبرون
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخرج ويصلي على ميتهم. إذاً: كان
صلى الله عليه وسلم يذهب إليهم في بيوتهم، وهذا فيه من جبر الخاطر
وتطييب النفس الشيء الكثير.
صفة جلوس المريض إذا صلى قاعداً
[وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (رأيت النبي صلى الله عليه
وسلم يصلي متربعاً ). رواه النسائي وصححه الحاكم ] أتى
المؤلف رحمه الله بحديث عمران بن حصين في صلاة المريض، وعرفنا
كيف يصلي قاعداً، وعلى جنبه، أو مستلقياً على ظهره. وقوله: (صل
قاعداً): القعود له عدة صور وحالات: قعود في الصلاة للتشهد، وبين
السجدتين، وقعود في غير الصلاة متربعاً متوركاً، فعلى أي الحالات
يصلي العاجز عن القيام قاعداً؟! يأتي المؤلف رحمه الله بحديث عائشة رضي الله عنها: (بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قاعداً متربعاً ).
متى صلى قاعداً؟ في النافلة خاصة، وفي مرضه، وتقول: كان يقوم ويقرأ
ما تيسير من القرآن، فإذا تعب جلس أو ركع ثم جلس، وسجد من جلوس،
المهم عندنا: أنه في حالة صلاته جالساً يكون متربعاً. والتربع: وضع
كل من الساقين تحت الأخرى. وهل يضم في الصلاة كما لو كان قائماً أم
يضع يديه على فخذيه؟ هناك من يقول: يضع يديه على صدره، قالوا: هذه
صورة القيام، وهناك من يقول: يضع يديه على فخذيه، وقالوا: هذه صورة
التشهد، قالوا: لكن هي الأقرب. وبعضهم يقول: إن المالكية أخذوا
السدل في الصلاة من صلاة الجالس وأنه لا يقبض ويضع يديه على فخذيه،
لكن الشأن في القياس أن يستوي الأصل والفرع في الحكم، وهذان لا
يستويان، فهذه نافلة وهو قاعد، وتلك فريضة وهو قائم. إذاً: القياس
هنا ليس له محل، لكن هذه الصورة اختارها كثير من العلماء. والبعض
قال: يجلس جلسة التشهد؛ لأنها جلسة من ضمن الصلاة، فإذا عجز عن(2/116)
القيام فإنه يصلي قاعداً على حالته التي يقعدها في الصلاة لجزء من
الصلاة وهو التشهد. وبعضهم قال: يجلس متوركاً كما في التشهد
الأخير، وباتفاق: أنه كيفما جلس وصلى قاعداً على الحالة التي
يستريح إليها فصلاته صحيحة؛ لأنه ما رخص له في الصلاة قاعداً إلا
لرفع المشقة عنه، وهي رخصة له، فإذا كان تربع وهو بدين ومتين
وساقاه ثقيلان، فذلك سيؤلم أعصابه، وإذا لم يستطع التربع ولا جلسة
الصلاة فليمد رجليه وهو جالس، ولا مانع من ذلك. إذاً: يأخذ بما هو
الأيسر له، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
حكم الجمع للمريض
وهناك حديث تركه المؤلف هنا أو لم يأت به بالكلية، وهو حديث ابن
عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة من غير خوف
ولا مطر ) ويقول ابن عبد البر : جاءت الرواية: (من خوف ولا
سفر ). وتتمة لهذه الفائدة أو لهذا الموضوع يذكر العلماء الشيء
الكثير في هذا. فبعضهم يقول: قد نسخ، ولا ينبغي الجمع في الحضر
أبداً، وبعضهم يقول: للمطر والبرد الشديد والطين والوحل. وبعضهم
يقول: هذا في المغرب والعشاء فقط كما قال مالك ؛ لأن فيها
المشقة. وبعضهم يقول: هذا خاص بالمسجد النبوي فقط؛ لأن الناس تحرص
على الصلاة فيه لفضله، ويأتون إليه من بعيد، وتلحقهم المشقة إذا
جاءوا لجميع الصلوات. وأحب أن أقول: إن هذا الجمع في الحضر يكون
للمريض الذي لا يجد من يوضئه في الأوقات كلها، وكذلك الآن من كان
مقدماً على إجراء عملية في وقت الأولى، وسيظل في البنج إلى الثانية
فله أن يقدم الصلاة الثانية حتى لا تضيع عليه. والحمد لله رب
العالمين.
134492 ( كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [1] )
( كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [1] )
عناصر الموضوع
1 من آداب يوم الجمعة
2 ما تدرك به الجمعة
3 آداب خطبة الجمعة وصفتها
كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [2](2/117)
مما يدل على أهمية صلاة يوم الجمعة أن لها آداباً وأحكاماً ينبغي
مراعاتها والالتزام بها، فمن الآداب: التطيب والاغتسال والتجمل
والتبكير ونحوها. ومن الأحكام: ما تدرك به صلاة الجمعة، وما ينبغي أن
يتصف ويلتزم به الخطيب من كيفية إلقاء الخطبة، وتناسب مقدمتها مع صلب
موضوعها، واشتمالها على معاني الترغيب والترهيب ونحوه.
من آداب يوم الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
الاغتسال ليوم الجمعة وحكمه
فإن مما يتفق عليه العلماء أن للجمعة آداباً، ومن ذلك الاغتسال
ليوم الجمعة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم : (غسل يوم الجمعة
واجب على كل محتلم )، يعني: بلغ سن الحلم؛ لأن المحتلم بالفعل
يجب عليه الغسل في أي يوم أو ليلٍ. وهنا بيان لمن بلغ سن الحلم أن
عليه أن يغتسل يوم الجمعة، وقد جاء في بعض الروايات أو بعض
الأحاديث: (حقٌ لله على كل مسلمٍ أن يغتسل يوماً في الأسبوع )،
وإذا كنا نحن المسلمين نقول: إن هذا الدين الحنيف يفرض النظافة
فرضاً، لأن لله حقاً على كل مسلم أن يغتسل يوماً في الأسبوع يغسل
رأسه وجسمه بهذا النص؛ فهذا إلزامٌ يلزم الدين به أبناءه، فلا يمضي
أسبوع إلا ويغتسل فيه نظافة لله سبحانه، وجاء سن الاغتسال في الشرع
لكل ما فيه تجمع، كما جاء للعيدين، وجاء لدخول مكة، وجاء للوقوف
بعرفات، إلى غير ذلك مما فيه تجمع المسلمين. وجاء أيضاً من رواية
مسلم : (أن الناس كانوا خدمة أنفسهم قبل أن تأتيهم العلوج -أي:
الأسارى في الفتوحات- فكان الواحد منهم يأتي بالعباءة فيصيبه
الغبار، فيعرقون فتكون منهم الروائح، فدخل رجل على النبي صلى الله
عليه وسلم فوجد منه هذا الريح -وفي رواية عائشة أن السقف كان
ضيقاً منخفضاً فيضيق بهم المسجد ويعرقون- فقال صلى الله عليه وسلم:
(حقٌ لله على كل مسلم أن يغتسل ). والحديث: (غسل يوم الجمعة(2/118)
واجب على كل محتلم ) تمسك به من قال بوجوب الغسل، وقال: لا تصح
الجمعة إلا بالغسل). وبعضهم قال: الفرض في الغسل يقع في هذا اليوم
قبل الجمعة أو بعدها، فالمهم هو الغسل، وأغفل الحكمة التي من أجلها
شرع الغسل، فإنه إنما شرع الغسل لمن يحضر اجتماع المسلمين، فإذا لم
يغتسل عند اجتماعه بهم وذهب واغتسل بعد العصر، فالأمر وإن كان
مشروعاً في ذاته لكن لم يؤد الغرض منه. تقول أم المؤمنين: (فلما
فتح الله عليهم وجاءتهم العلوج وكفتهم المئونة اكتفي بالوضوء)،
وجاء في الحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل
أفضل )، فمن آداب يوم الجمعة الاغتسال.
التجمل للجمعة ولبس أحسن الثياب
ومن آدابها أيضاً التهيؤ لها بحسن المظهر، قال تعالى: خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]
أي: التهيؤ بما هو أليق، وما فيه التجمل، وجاء عنه صلى الله عليه
وسلم : (ماذا على أحدكم لو اتخذ ثوبين للجمعة -أو ثوباً للجمعة-
سوى ثوبي مهنته ). فالفلاح يكون عنده ثوب يزرع ويسقي فيه،
والجزار يكون عنده ثوب يذبح ويقطع فيه، وهكذا الحداد والنجار، فكل
إنسان في مهنة تتعلق بالثياب يتخذ ثوباً خاصاً بالمهنة، أما إذا
جاء للجمعة، فيجب أن يكون عنده عناية بالجمعة خاصة في لباسه، وهذا
مما يتحتم على المسلمين، وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي
الله عنه أنه وجد حلةً عند باب المسجد تباع، فأتى بها إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! اشتر هذه لتتجمل
بها...) وكانت عنده البردة يخطب بها الجمع والعيدين. وكان أمير
المؤمنين رضي الله عنه يقول: (أحب لطالب العلم بياض الثياب)؛ لأن
فيها النقاء، وفيها الجمال، وفيه -كما يقال- الفطرة، وجاء عنه صلى
الله عليه وسلم : (من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومس من طيب أهله.. )،
والأهل دائماً يحتفظون بالطيب، وقد يحتفظ الإنسان بنوع من الطيب،(2/119)
فهذا زيادة في التجمل، وزيادة في الرفق والإمعان، وكما جاء في
الأدب المفرد للبخاري : (حسن السمت من الإيمان) أي: من علامات
إيمان الإنسان عنايته بسمته وبمظهره. وعلى هذا تكون العناية
بالمظهر يوم الجمعة في اللباس والبدن من آداب الإسلام.
التبكير لصلاة الجمعة
ومن الآداب التبكير إلى الجمعة في الساعة الأولى أو الثانية أو
الثالثة...، وعلى هذا تكون للجمعة آداب قبلها وآداب عند حضورها.
ما تدرك به الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من أدرك ركعةً من صلاة الجمعة أو
غيرها فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته ) رواه النسائي و ابن
ماجة و الدارقطني واللفظ له، وإسناده صحيح، لكن قوى أبو
حاتم الإرسال]. هذا الحديث حكمه بالنسبة للجمعة متوافق، ولكن
الإشكال في لفظة [أو غيرها]؛ لأن هذا مغاير للواقع، فإذا أدرك ركعة
من العصر وأضاف إليها أخرى لم تتم صلاته، وإنما يصدق هذا على
الجمعة فقط، ولفظة [غيرها] أعتقد أنها ليست في الروايات، أو أن
فيها مقالاً في زيادتها أو عدم زيادتها، والذي يهمنا هنا ما تدرك
به الجمعة؟ هذه هي المسألة الفقهية. وقد تقدم لنا أن من أدرك شيئاً
مع الإمام قبل أن يسلم فقد أدرك الجماعة، بل إنه جاء في شأن آخر
الوقت: (من أدرك من العصر ركعةً قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر )،
وجاءت رواية: (من أدرك تكبيرة الإحرام قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك
العصر )، فالجمهور على أن من أدرك الإمام في الجماعة قبل أن
يسلم فقد أدرك الجماعة، والمالكية لهم رأي في اشتراط الركعة كاملة،
ولكن الجمهور على خلاف ذلك. وأما الجمعة فالجمهور على أن من أدرك
من الجمعة ركعةً كاملة فقد أدركها وتدرك الركعة إذا أدرك الإمام في
الركوع، قبل أن يرفع رأسه من الركوع فيكون قد أدرك الركعة، وهذا
رأي الجمهور، بخلاف من يقول: قد فاتته القراءة، وعلى هذا الأئمة(2/120)
الثلاثة مالك و الشافعي و أحمد رحمهم الله، فرأيهم أن
من أدرك ركعةً من الجمعة فليضف إليها أخرى ويكتفي بالركعتين، وقد
سقط فرض يومه وهو الجمعة. والخطبة تكون قبل الصلاة، وهذا لم يدرك
الخطبة، فهل يكون مدركاً للجمعة أيضاً؟ والجواب: نعم؛ لأن الخطبة
انتهت قبل الصلاة وانتهى الأمر، ويستدلون بما جاء عن أمير المؤمنين
عمر في رواية مالك في الموطأ أنه كان يخطب، وفي أثناء
الخطبة دخل رجل، فقال: أي ساعة هذه؟ قال: والله يا أمير المؤمنين
ما لبثت أن سمعت النداء فتوضأت فجئت قال: والوضوء أيضاً! فقالوا:
لو كان سماع الخطبة واجباً لأفهمه، كما لو كان الغسل واجباً
لأفهمه، واكتفى منه بما أدرك من الخطبة، واكتفى منه بما أوقع من
وضوء. وسيأتي حكم الغسل والوضوء للجمعة فيما بعد، ويهمنا أنهم
مجمعون على أن من فاتته الخطبتان، وفاتته ركعة كاملة، وجاء وأدرك
الإمام في ركوعه وركع معه، واطمأن معه بقدر ما تحسب له الركعة فإنه
يقوم بعد سلام الإمام ويأتي بركعة، أي: يضيف إليها أخرى وقد تمت
جمعته، وهذا هو الحد الأدنى. ومع ذلك فقد جاء الحث على التبكير،
كما في الحديث: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة... )
إلخ. والحد الأدنى الذي ذكرناه في إدراك الجمعة قال به مالك والشافعي وأحمد ، وقال الأحناف: تدرك الجمعة بما تدرك به
الجماعة. فمن أدرك الإمام قبل أن يسلم ودخل معه في الصلاة فقد أدرك
الجمعة، فليقم وليصل ركعتين، بل هناك قولٌ عندهم بأنه لو قدر أن
الإمام سها في صلاته وسجد للسهو، وجاء المتأخر فأدرك الإمام في
إحدى سجدتي السهو قبل أن يسلم أدرك الجمعة، ولكن هذا الحديث الذي
صححه ابن خزيمة أو النسائي وغيره فيه: (من أدرك من الجمعة
ركعة فليضف إليها أخرى )، فهل الذي لم يدرك من الجمعة ركعة له
حكم من أدركها؟ فمفهوم المخالفة أن من لم يدرك ركعةً كاملة لا
يكفيه أن يضيف إليها أخرى؛ لأن الحديث يقول: (من أدرك من الجمعة(2/121)
ركعة)، فهذا الحديث دليل للجمهور، وهو خاص بموضوع الجمعة. فإذا لم
يدرك الركعة فالأئمة الثلاثة يقولون: إذا أتى والإمام قد رفع من
الركوع في الركعة الثانية فإنه يدخل معه، وإذا أتى في التشهد يدخل
معه، ولكن يقوم فيأتي بأربع ركعات. والمشكلة أنه إذا دخل مع الإمام
في صلاة الجمعة ونوى جمعة، فالجمعة لم تحسب له، وإن نوى ظهراً غاير
نية الإمام، وهذا إشكال، ولذا قال الأحناف: أنتم أتيتم بهذا
الإشكال، فدعوه يدركها بالتشهد أو بغيره. والجمهور يقولون: هي
عبادة توقيفية، فيدخل معه موافقة له في نية الجمعة، فإذا سلم
الإمام انفصل عنه وجدد نية الظهر. وهناك مسألة يثيرها بعض الناس،
ونسمع التساؤل عنها كثيراً، وهي: مسألة من لم يحضر الجمعة كمريض
ومسافر ونسوة في البيوت، ومن العجب أن نسمع بعض الناس يقولون: نصلي
ركعتين؛ لأنهما فريضة اليوم، فأخذوا بهذا وتركوا لوازم الجمعة
الأخرى كالجماعة والخطبة، ولهذا أجمع الأئمة الأربعة ومن وافقهم
على أن من لم يصل الجمعة مع الإمام في المسجد، فإن فريضته صلاة
أربع بنية الظهر. وأما هل الجمعة نيابة عن الظهر، أو الظهر نيابة
عن الجمعة؛ فقد قدمنا بأن الأئمة الأربعة يقولون: إن الجمعة هي فرض
يومها. فإن قيل: كيف يصلي هؤلاء الظهر على أنه فرض يومهم؟ فيقال:
من توفرت فيه شروط الجمعة صار فرضه الجمعة، ومن لم تتوفر فيه شروط
الجمعة بقي على الأصل، والأصل هو الظهر، ولا نزاع في ذلك ولا خلاف،
والله تعالى أعلم.
آداب خطبة الجمعة وصفتها
قيام الخطيب في خطبة الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب
قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب ) أخرجه مسلم ]. هنا بيان صحيح صريح في كيفية الخطبة أو الهيئة، وهو أنه صلى
الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم ويخطب، وهنا(2/122)
يقولون: هل خطبة الجمعة خطبتان، أم أنها خطبة واحدة مفصولة بجلسة
خفيفة؟ والصحيح أنهما خطبتان كل خطبة منها مستقلة، أي: يشترط في
الثانية استيفاء شروط الخطبة كما يشترط في الأولى. وقالوا: هذا
الخبر إنما هو إخبار عن فعله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا القائل
رأى بعض الخطباء -وكان خليفة من الخلفاء- يخطب قاعداً، فنظر إليه
وكلّمه وقال: كيف تخطب قاعداً؟ فمن أنبأك أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يخطب قاعداً فقد كذب على رسول الله وكذب عليك! وابن مسعود رضي الله عنه لما رأى خطيباً يخطب وهو جالس قرأ الآية: وَتَرَكُوكَ
قَائِماً [الجمعة:11]
وهذا استدلال بما وقع من القرآن الكريم يحكي حالة أداء النبي صلى
الله عليه وسلم للخطبة، وهو أنه كان قائماً. وهنا ناحية أخرى، وهي
أن المشهور عند الناس أن الخطبة تحتاج إلى شيء من إيقاظ الضمير أو
النفس، أو التأكيد على الموضوع الذي يتناوله الخطيب، فيحتاج إلى
أهبة، ومن هنا كان عندهم أن الخطيب يكون على نشز من الأرض مرتفع؛
لأن ذلك أدعى لانتشار الصوت، أو على راحلة، وأيضاً يعتمد إما على
عصا وإما على قوس. فالخطبة لا تتأتى مع الجلوس؛ لأن القاعد لا يملك
حماس القائم، ولا يعطي صورة الاهتمام بالموضوع كالذي يقوم يتكلم
وهو قائم. ومن العجائب أنه زارنا أخ مسئول في بعض دول أفريقيا،
فسألته عن طالب كان في الجامعة وذهب إلى هناك قائلاً: كيف حال
فلان؟ فنهض قائماً، فقلت: ما بالك؟ قال: لا يحق لي أن أتكلم عن
فلان وأنا جالس، بل أقوم قائماً لأتحدث عنه، فقلت في نفسي: هذه
مسألة على الفطرة، فالقيام في الخطبة دليلٌ على الاهتمام بالموضوع،
ولهذا نبه هذا الرائي من رآه من الخلفاء يخطب قاعداً. ويقولون
-والله تعالى أعلم-: أول من خطب قاعداً معاوية رضي الله عنه،
ويعتذرون له بثقل جسمه وكبر سنه، والله تعالى أعلم.
من صفات خطيب الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه(2/123)
قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا
صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقول:
أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر
الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ) رواه مسلم . وفي رواية
له: (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله
ويثني عليه، ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته )، وفي رواية له:
(من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له )، و للنسائي : (وكل ضلالة في النار ) ]. لقد كان صلوات الله وسلامه عليه
يخطب في مناسبات عديدة، فكان يخطب في الجمعة، وفي العيدين، وفي
الاستسقاء، وفي غير ذلك، ومنها ما هو للتوجيه والإرشاد، وإذا حدث
شيء جديد قال: (احضروا المنبر ) ، فيجتمعون عند المنبر فيخطبهم
فيما يريد أن يبين لهم. وهنا يبين لنا جابر رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يوم الجمعة احمرت عيناه،
وعلا صوته، واشتد غضبه. فهذه الصفات الثلاث مجموعة تدل على الحماس
وعلى الانفعال مع موضوع الخطبة، وبدونها يقل الحماس ويقل الانفعال،
وكما قالوا: كلما كان الخطيب متفاعلاً مع موضوعه كان ذلك أدعى
لانتباه السامع، فيتفاعل معه. وأضف إلى ذلك ما تقدم من أنه كان
يخطب على منبر، وكان يخطب قائماً، وكان يتكئ على عصا أو على قوس،
فإذا اجتمعت الهيئة من القيام فوق منبر، والاتكاء على عصا أو على
قوس، مع كونه تحمر عيناه ويعلو صوته ويشتد غضبه، فماذا يظن أن
ينتظر السامع؟ إنه يوقن بأن الأمر جد؛ لأن المتكلم أخذ الأهبة
بصعود المنبر، والاتكاء على ما يشعر بالقوة من عصا أو قوس، ثم
يتفاعل حتى تحمر عيناه، واحمرار العينين -كما يقولون- مرتبط بالقلب
وبالدماء، فإذا ما علا الدم في القلب ظهر أثره في العينين، ثم
نتيجة لذلك الغضب واحمرار العينين من شدة الغضب يرتفع الصوت، ولا
يمكن لإنسان أن يكون شديد الغضب يتكلم بصوت منخفض؛ فإنه يصطحب مع(2/124)
شدة الغضب ارتفاع الصوت. ولهذا لما تشاح رجلان عند النبي صلى الله
عليه وسلم وغضب أحدهما فاحمرت عيناه وانتفخت أوداجه وعلا صوته، قال
صلى الله عليه وسلم : (إني لأعلم كلمات لو قالهن لذهب عنه ذلك،
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )، فلما سمعها شخص أو صحابي ذهب
إليه وقال: قل كذا، قال: لست بمجنون، والذي حمله على هذا الرفض شدة
غضبه. ولا نقول لكل خطيب إن عليه أن يغضب وأن تحمر عيناه وأن يعلو
صوته، بل نقول: إن الخطيب مع موضوع الخطبة يجب أن يكون متفاعلاً،
أما إذا لم يكن متفاعلاً معه، بمعنى أن يخطب الناس في موضوع هو لا
يوقن به، أو لا يرغب فيه، أو لا يؤمن بنتائجه فهذه خطبة فاشلة، أما
إذا كان موقناً بها، ويسعى إلى تحصيلها، ويتمنى حصولها وتنفيذها
فإنه يتكلم من قلبه، وما كان من القلب وصل إلى القلب. ويبين لنا
جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الخطبة
كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ومنذر الجيش شخص يطلع على جيشٍ
قادم على قومه فيسبق الجيش، ويأتي إلى القوم، ولضيق الوقت يقول:
صبحكم ومساكم، أي: إما أن يصبح عندكم أو يمسي عليكم، وهذا من باب
الاختصار والإيجاز؛ لأن الوقت لا يتسع لأن يطيل الكلام فيخبرهم بأن
الجيش الفلاني عدده كذا، ويأتي من جهة كذا، ويصل في وقت كذا،
وسرعته كذا، فلا مجال لهذا، ولكن يكفي أن يقول: صبحكم الجيش، أو:
مساكم الجيش. فهذه الحالة يذكرها لنا جابر رضي الله عنه فيما
كان يظهر على النبي صلى الله عليه وسلم حال الخطبة. ثم يأتينا بما
سمع في بعض الخطب، أو ما كان يسمع مما يرد عنه صلى الله عليه وسلم
في افتتاح الخطبة. وكما يقول علماء البلاغة أو علماء الأدب: يجب أن
تكون للخطبة مقدمة تنبئ عن موضوعها، فإذا كان يريد أن يحث الناس
على عمارة مسجد فليأت بحمد الله والثناء عليه، ثم ببيان فضيلة
المساجد، فيقول: الحمد لله...إلخ، وأشهد أن لا إله إلا الله
القائل: إِنَّمَا(2/125)
يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التوبة:18]،
وأصلي وأسلم على النبي المختار الذي قال: (من بنى لله مسجداً... )،
ثم يدخل إلى الموضوع. وموضوع الخطبة أولاً وآخراً عماده الوصية
بتقوى الله والنصيحة، أما المواضيع الخاصة فتكون في غير خطبة
الجمعة، فإذا اعتمدها الخطيب ورأى أن يدعو الناس إليها لما فيها من
مصلحة عامة دينية وأخروية فذلك جائز، لا أن تكون دنيوية، فإذا كانت
دنيوية ولها اتصال بما تئول إليه من ثواب وعقاب فلا مانع من ذلك.
فإذا كانت الخطبة ذات مواضيع خاصة لا تكون في الجمعة، كما جاء عنه
صلى الله عليه وسلم في قضية بريرة لما جاءت وطلبت من عائشة أن تعينها، فقالت لها: (إن شئت دفعت لأهلك القيمة كلها وأعتقتك
ويكون ولاؤك لي! قالت: أشاور. فذهبت ورجعت وقالت: إنهم يأبون إلا
أن يكون الولاء لهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حضر،
فأخبرته عائشة رضي الله عنها تعالى عنها فقال: (اشتريها
وأعتقيها واشترطي لهم ما شاءوا، فكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل )،
ثم خطب الناس فقال: (ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا، كل شرط ليس في
كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط ). وبالمناسبة ليس المراد
بكل شرط ليس في كتاب الله عين هذا الشرط، فليس في كتاب الله اشتراط
أهل بريرة على أن يكون الولاء لهم، ولكن المعنى: كل شرط خالف
ما جاء في كتاب الله فهو باطل، وهو ليس في كتاب الله، ولكن الشرط
الذي جاء به كتاب الله مما فيه استيفاء الحقوق لا مانع منه، وجاء
في الحديث: (إن أحق ما استوفيتم من الشروط ما استحللتم به الفروج )،
و(كل شرط جائز إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً )، فكل شرط
أحل حراماً فليس في كتاب الله، وكل شرط حرم حلالاً فليس في كتاب
الله؛ فهو باطل. فالخطبة تستعمل للتوجيه العام وللتوجيه الخاص،
وخطبة الجمعة الهدف الأول منها الوصية بتقوى الله، والموعظة،(2/126)
وإحياء القلوب، وبيان ما هو أنفع للناس، وتذكيرهم بعد النسيان،
وهذا من خصائص الإسلام. فالإسلام بذاته يدعو ويذكر، ومن هذا
التذكير خطبة الجمعة، فإنها مفروضة على الأمة، فالدعوة والوعظ
والإرشاد من لوازم هذا الدين، وألزم ما يكون فريضة يوم الجمعة،
ويشترط لها الخطبتان، وبعضهم يقول: الخطبة الأولى إنما هي للموعظة
والوصية على ما سيأتي في بيان أركان الخطبة إن شاء الله، والخطبة
الثانية إما أن تكون تتمة وتفصيلاً لما أجمل في الأولى، وإما أن
تكون بالدعاء لعامة المسلمين، ودعاء الله سبحانه لولاة الأمور
بالصلاح والفلاح.
134501 ( كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [3] )
( كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [3] )
عناصر الموضوع
1 أهمية قصر الخطبة يوم الجمعة
2 قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سورة (ق) على المنبر يوم الجمعة
3 ما يجب على المستمعين حال الخطبة
كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [4]
حث النبي صلى الله عليه وسلم على قصر الخطبة يوم الجمعة، وجعل ذلك من
علامة فقه الخطيب، وكان يخطب صلى الله عليه وسلم بسورة (ق)، لكونها
مناسبة للموعظة. وقد حث الشرع المصلين على الإنصات للخطبة حتى يتحقق
الغرض المقصود بها من الاتعاظ والاعتبار.
أهمية قصر الخطبة يوم الجمعة
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر
خطبته مئنة من فقهه ) رواه مسلم ]. الجمعة -كما نعلم- من
شعائر الإسلام، وهي فرض عين، لا كما يظن بعض الناس أنها سنة مؤكدة،
وهي فريضة اليوم وليست نيابة عن الظهر، والعناية بيوم الجمعة
شديدة، وهي عيد من أعياد المسلمين يعود عليهم كل أسبوع، وفيه لهم
خيرٌ كثير، وقد جاء في كتاب الله من العناية بالجمعة وأدائها قوله
سبحانه: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ(2/127)
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *
فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ [الجمعة:9-10].
وعاتب الله أقواماً خرجوا وانفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو قائم يخطب يوم الجمعة، وجاءت فيها آثار عن النبي صلى الله عليه
وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات
أو ليختمن الله على قلوبهم )، وجاء أيضاً: (من ترك الجمعة ثلاث
مرات من غير عذر طبع الله على قلبه )، وذلك أن في يوم الجمعة
اجتماع المسلمين من أهل القرية أو المدينة، وفيها يتعرف أهل البلد
بعضهم على بعض، ويتفقد بعضهم أحوال بعض، فهو اجتماع إجباري ومؤاخاة
إلزامية. ثم مع ذلك تلقى المواعظ من على المنبر في هذه الشعيرة
العظيمة، وبهذا يتميز الإسلام عن غيره، فمن خصائص الإسلام باب
الإعلام، وهو إعلام إلزامي فرض في كل يوم جمعة، يعلم الخطيب
الحاضرين المصلين بما يراه من باب التوجيه والنصح والإرشاد، ويعالج
ما عساه أن يكون طارئاً موجوداً بين الناس. وهنا يسوق المؤلف رحمه
الله تعالى من مباحث يوم الجمعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
مقارناً بين الصلاة والخطبة : (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة
من فقهه ) ، والمئنة: العقل والحلم، من التأني، وهذا بيان منه
صلى الله عليه وسلم في المقارنة بين الصلاة والخطبة أنه لا ينبغي
تطويل الخطبة على وقت الصلاة، وينبغي إطالة القراءة؛ لأن فيها فرصة
إسماع المجتمعين آيات من كتاب الله، وفيه كل خير، وأما قصر الخطبة
فإنه علامة على بلاغة الخطيب وعلى قدرته على التحكم في الكلام؛
لأنه كما قيل: خير الكلام ما قل ودل. وقد جاء عن الصديق رضي
الله عنه أنه سمع شخصاً يخطب وأطال فقال: يا هذا لا تكثر فينسي آخر(2/128)
الكلام أوله، فإذا بدأت في موضوع ثم أطلت وتتبع المستمع معك ما
تورد عليه، فإنه بإطالة الخطبة يحتفظ بآخر الكلام ويكون قد نسي
أوله. وحقيقة الأمر في الخطبة أنها تشتمل على الموعظة وعلى آية من
كتاب الله وعلى الشهادتين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ثم الموضوع الذي يريد أن يتكلم فيه، فإذا ألم بالموضوع،
وجمع أطرافه في كلمات موجزة فقد أجاد، وقد قالوا: مقياس بلاغة
الخطبة مطلقاً، أي: سواء أكانت في الجمعة أم في غيرها، أنه إذا ما
خرج مستمع وسأله من لم يستمع فقال: فيمَ كانت الخطبة فإنه يستطيع
أن يوجزها في جمل، فإذا كانت الخطبة في إصلاح ذات البين، وذكر
الخطيب الأحاديث في ذلك، وحث على السعي في ذلك، وبين أجر الساعين
فيه، فهذا موضوع متكامل أمكن للسامع استيعابه. أما إذا أخذ الخطيب
موضوعاً، وانتقل منه إلى موضوع آخر، ولم يستوف الموضوع الأول، ثم
انتقل من الثاني إلى الثالث، وهكذا يتنقل بين عدة مواضيع، وهو لم
يستوف موضوعاً بعينه، فيكون قد شتت على السامع ذهنه في عدة مواضيع،
ولم يعطه موضوعاً متكاملاً، فلو أنه قسم تلك المواضيع على خطب
متعددة، ودار حول الموضوع في أسبابه ونتائجه وعلاجه خرج المستمع
بنتيجة مستوفاة، والذي يستطيع أن يفعل ذلك من كان قادراً على
التحكم في الكلام، حيث يجمل ذلك كله ويوجزه ويعطيه للمستمع. أما
إذا لم يكن مستطيعاً ولا قادراً على البيان فإنه يحاول كالذي يحاول
صعود جبل وينزل، ويصعد عدة مرات من أجل أن يصل، وهذا بيان من النبي
صلى الله عليه وسلم في عمل ما يشبه المقارنة، فأي الأمرين يكون
أطول من الآخر الخطبة أم الصلاة؟ ولكننا في هذه الآونة نجد المتفشي
خلاف ذلك، وكثيراً ما نجد أن زمن الخطبة أطول من زمن الصلاة، وكأن
الخطيب يراعي ما تعوده السامعون من إطالة الخطبة وكثرة الكلام، ولو
اختصر ربما اتهموه بالعيِّ واتهموه بالعجز وعدم استطاعة الخطبة،(2/129)
ومن أجل هذا ربما يراعي مشاعر أو اعتقادات الحاضرين، وهذا أعتقد
أنه خلاف الأولى، فالأولى أن يكون حسب السنة، وهو أن تكون الخطبة
موجزة ليستوعبها الناس، ويعمد إلى موضوع معين من أبرز ما يكون من
قضايا المجتمع، سواءٌ من مواضيع الأسرة أم كان غير ذلك، فيعالجه
بعبارات موجزة، ولا مانع أن يقسم علاج الموضوع إلى عدة مراحل في
عدة خطب في عدة أيام من أيام الجمعة.
قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سورة (ق) على المنبر يوم الجمعة
[ وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: (ما
أخذت ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]
إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على
المنبر إذا خطب الناس )، رواه مسلم . ] بعد أن ذكر المؤلف
قصر الخطبة وطول الصلاة، ذكر عن أم هشام أنها تقول: (ما أخذت
سورة ق إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يخطب من
على أعواد المنبر )، والكلام على هذا الحديث من جهتين:
لا معارضة بين حث النبي صلى الله عليه وسلم على قصر الخطبة وبين قراءته
سورة (ق)
الجهة الأولى: المقارنة بينه وبين حديث بلال المتقدم في قصر
الخطبة، فهل تكون الخطبة قصيرة وقد قرأ فيها رسول الله صلى الله
عليه وسلم سورة (ق)؟ الجهة الثانية: هل سورة (ق) لها مناسبة مع يوم
الجمعة؟ فهاتان الجهتان هما موضوع الحديث أو الكلام عن هذا الحديث
النبوي الشريف. أما قراءة السورة الكريمة مع الحث على قصر الخطبة
فلا تعارض بينهما؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة، وقد
جاء في بعض الروايات أنه كان يُؤذن لصلاة الظهر، ثم تقام الصلاة،
فيذهب الذاهب إلى البقيع ويتوضأ ويأتي ويدرك الركعة الأولى، فإذا
كان على هذا الحد وصلاة الظهر أربع ركعات، فمعناه أنها بالنسبة إلى
سورة (ق) تكون أطول، فهما ركعتان على هذه الحالة. ثم هل كان صلى
الله عليه وسلم يضيف مع سورة (ق) موعظة أخرى أو يكتفي بهذه السورة؟(2/130)
فبعضهم يقول: كان يكتفي بها بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول
الله والشهادتين، فيكتفي بسورة (ق) وهي كافية للموعظة. وهنا يقال:
إن الأساس في خطبة الجمعة والموعظة إحياء القلوب وجلاءها من صدئها،
وجلاءها عن عماها، وتنبيه الغافل، وتذكير الناس، والموعظة بما
يجعلهم يتابعون العمل، وكلما طال الزمن يأتي يوم الجمعة فيذكرهم،
كما قال تعالى: أَلَمْ
يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ
اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ [الحديد:16]، وَلا
يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ
عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16]،
فترك الموعظة يترك القلوب تكسل عن العمل فتقسو، ولكن مع تكرار
الموعظة كل أسبوع، في كل جمعة، تصير القلوب رطبة بذكر الله، ولذا
جاء بعد هذا السياق قوله تعالى: اعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:17]،
فكذلك يحيي القلوب التي ماتت بالموعظة، فإذا كان الأمر كذلك فإنه
يكون مع الموعظة التوجيه والإرشاد. وقد كانت الخطبة تستعمل لغير
الجمعة أيضاً، كما كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يبلغ أمراً
أو استجد أمر يقول: (احضروا المنبر)، فيحضرون ويجتمعون فيخطب،
فيقول: (ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا)، ويبين صلى الله عليه وسلم
ما يريد أن يبينه، ولم تكن الخطبة على المنبر خاصة بالجمعة، بل بكل
إعلام، وبكل توجيه وإرشاد، وما كانت معالجة القضايا خاصة بخطبة
الجمعة، بل تعالج في أي وقت، ولكن الناس الآن لم يألفوا ذلك،
وأصبحت معالجتها في النوادي والمؤتمرات وغيرها، فقراءة سورة (ق) من
حيث إطالة الصلاة وقصر الخطبة لا تعارض بينهما. وفي قولها: (ما
أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله..) نفهم منه أن أخذ القرآن
كله كان عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخذه رسول الله(2/131)
صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، وأخذه جبريل عن رب العزة
سبحانه، فسند القرآن الكريم سمعه أصحاب رسول الله من رسول الله
بدون واسطة، وسمعه رسول الله من جبريل بدون واسطة، وسمعه جبريل من
رب العزة بدون واسطة. وعلى هذا يكون سند القرآن بهذه المثابة من
الوضوح والجلاء والقوة لا يتطرق إليه شك، ونعلم أيضاً أن أخذ
القرآن لا يكون وجادة أبداً، أي: لا يكون أخذه من المصحف قراءة، بل
لا بد من تلقيه سماعاً بسند متصل من قارئ عالمٍ بأحكام القراءة،
لأن هناك ما يسمى بالرسم العثماني في المصحف الشريف، والرسم
العثماني يختلف عن رسم الإملاء الموجود عند الناس اليوم، والقرآن
تلاوة وسماع. وقد كتبوا الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإذا جاء إنسان ليقرأ من المصحف فقد يقرأ بعض الكلمات على
غير ما أنزلت، وعلى غير ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما وقع الخلاف في القراءات وجاء حذيفة إلى عثمان رضي الله
عنه قال: أدرك الناس قبل أن يختلفوا في كتاب الله كما اختلفت
اليهود والنصارى، قال: وما ذاك؟ قال: كنت بأذربيجان واجتمع الجند
من الشام ومن العراق، فأخذ بعضهم يعترض على قراءة بعض. فعمد عثمان رضي الله عنه وأخذ الصحف من عند حفصة رضي الله عنها التي كان
كتبها أبو بكر رضي الله عنه، وكانت عنده في خلافته، ثم انتقلت
إلى حفصة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقل عثمان تلك الصحف وجعلها في مصحف واحد، وكتب منها خمس نسخ أو ست نسخ،
وأرسل بكل نسخة إلى مصر من الأمصار، ومع كل مصحف قارئ يقرئ الناس
ليأخذوا القرآن سماعاً وتلقياً. وهكذا تخبر الصحابية الجليلة: أنها
ما أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما
كان يقرؤها كلها في الجمعة على أعواد المنبر، والمنبر إنما صنع في
السنة الثامنة من الهجرة، أي في أواخر حياة رسول الله صلى الله(2/132)
عليه وسلم. فهذا الجانب في أخذ الصحابية الجليلة رضي الله عنها
لهذه السورة الكريمة، وعلاقة قراءة سورة (ق) مع الحديث المتقدم.
حكم قراءة سورة (ق) في خطبة الجمعة وعلاقتها بيوم الجمعة
وبقي حكم قراءة هذه السورة في الخطبة، وعلاقة هذه السورة بيوم
الجمعة. أما حكمها فيتفق الجميع على أنه ليس بواجب، وأنه من شاء
قرأها ومن شاء قرأ غيرها. أما علاقتها فتقدم لنا في القراءة في فجر
يوم الجمعة أنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ - أي:
أحياناً - سورة السجدة وسورة (هل أتى على الإنسان)، وقالوا في ذلك:
إن يوم الجمعة هو يوم أبينا آدم، وهو أول وجود الخليقة؛ لأن آدم
عليه السلام إنما خلق يوم الجمعة، وأسكن الجنة يوم الجمعة، وسجد
الملائكة له يوم الجمعة، وهبط إلى الأرض، وتيب عليه يوم الجمعة.
فقالوا: يوم الجمعة يوم آدم، ويوم الإثنين للنبي صلى الله عليه
وسلم، ففيه ولد، وفيه أنزل عليه، وفيه دخل المدينة، وفيه توفي صلى
الله عليه وسلم، فقالوا: إن سورة السجدة و(هل أتى على الإنسان)
فيهما قصة خلق الإنسان، وفيهما ذكر المعاد والجزاء، فيذكر الإنسان
بمبدئه ومعاده ليعمل لذلك اليوم، فكذلك سورة (ق)، في علاقتها بيوم
الجمعة، وعلاقتها بيوم البعث، وقد ذكر فيها أكثر علامات أو دلائل
البعث على المنكرين.
سورة (ق) وما فيها من فوائد وعبر
وانظر إلى مستهل السورة حيث يقول تعالى: ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]،
والحروف المقطعة كـ(ق) و(ص) و(ن) و(طه) و(يس) و(ألم) سواءٌ كانت
حرفاً واحداً أم حرفين أم ثلاثة أم أكثر من ذلك، يعجز إنسان أن
يقول فيها قولاً قاطعاً؛ لأنها من أسرار ومعجزات الكتاب الكريم،
وغاية ما قال العلماء إنها حروف مقطعة بمثابة التحدي الرمزي، فلما
تحدى الله العرب بقوله تعالى: فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور:34]،
وعجزوا عن المماثلة بسورة منه أخبرهم تعالى: أن هذا الذي عجزتم عنه(2/133)
ليس بغريب ولا بعيد عنكم، إنما ألف من لغتكم العربية قرآناً عربياً
مبيناً، ومجموع حروفه من تلك الحروف التي تتكلمون بها، وتنظمون بها
أشعاركم وخطبكم، فهو من (ق) و(ص) و(ن) و(ألم) و(ألر) و(كهعيص)،
فكيف تعجزون عن هذه المادة الأساسية التي منها نظم؟ وقالوا: هذا
بمثابة من يأتي إلى أمة بجهاز ويقول: هذا جهاز يحفظ الكلام، فيقول
إنسان: ما الذي فيه؟ وهل يمكن أن نعمل مثله،؟ فقيل له: اعمل مثله
فعجز، فقيل له: لماذا تعجز فهذا الجهاز عبارة عن أسلاك، وقوى
مغناطيسية وشمعات، ثم أتي بالمواد الأساسية لجهاز مثله، وقيل له:
اصنع جهازاً مثله، فإذا به ينظر ويعجز أن يصنع مثله مع وجود المادة
الأساسية بين يديه. وقد استدل العلماء على ذلك الاستنباط بأن سور
القرآن التي تبدأ بالحروف المقطعة غالباً ما يأتي ذكر القرآن بعدها
كقوله تعالى: ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]،
وقوله تعالى: ص
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1]،
وقوله تعالى: ن
وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:1-2]
أي: القرآن، وقوله تعالى: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2]،
وقوله تعالى: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [طه:1-2]،
فقالوا: يعقب تلك الحروف المقطعة الحديث عن القرآن، فكأنه يقول في
مثل قوله تعالى: يس * وَالْقُرْآنِ [يس:1-2]:
إن القرآن جمع من هذه الحرف. والله أعلم بالحقيقة. وفي قوله تعالى: ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]
يقسم الله سبحانه وتعالى بالقرآن مع أن منكري البعث ينكرون القرآن،
فكيف يقسم لهم بما ينكرونه؟ والجواب: أن ذلك من باب أن إنكارهم
واهٍ وملغى لا قيمة له؛ لأنه عن جهالة. وقوله تعالى: بَلْ
عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ [ق:2]
يعني ما كذبوا بالقرآن، ولكن هذا إضراب بَلْ
عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ
هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق:2]،(2/134)
فعجبوا أن الوحي يأتي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى
عنهم: وَقَالُوا
لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ
رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ [الزخرف:31-32]،
فالله يخبرهم أن الأكل والشرب الذي نهايته إلى فناء قد قسمه بينهم،
ورحمة ربك أعظم من ذلك فلن يتركها لاختيارهم أَهُمْ
يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:32]
لا والله، فنحن قسمنا بينهم ما هو أدنى من ذلك مقداراً وهو المعيشة وَرَفَعْنَا
بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف:32].
قال تعالى: بَلْ
عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ
هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:2-3]،
فقالوا: عجيب أن ينذرنا بالبعث، ثم استنكروا فقالوا: ( أئذا متنا
وكنا تراباً ذلك رجع بعيد )، وقد أجاب الله تعالى عن استبعادهم
بقوله: قَدْ
عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ [ق:4]؛
لأنهم يقولون: بعد أن نغيب ونضل في التراب ما الذي يجمعنا؟ ومن ذلك
ما ذكره تعالى في آخر سورة يس وَضَرَبَ
لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ
وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]،
فقد جاء هذا الرجل بعظم بال قد رم من طول الزمن، ثم فتته بيديه، ثم
قال: يا محمد! من يحيي هذه العظام؟ في موقف المتحدي المستبعد إحياء
العظام وهي رميم، وقال تعالى عنه: وَضَرَبَ
لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78]
فنسي وجوده، ونسي كيف وجد، وبكل هدوء يجيء الجواب: قُلْ
يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ
خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79]،
ثم ذكر الأدلة على قدرته على ذلك، ثم قال تعالى: إِنَّمَا
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
وهنا يقول تعالى عنهم: أَئِذَا(2/135)
مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:3]
فهم يستعبدون هذا؟ لأنهم صاروا تراباً، واختلط العظم بالتراب، وذهب
اللحم والدم في حسبانهم فلم يبق شيء، قال تعالى: قَدْ
عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ
حَفِيظٌ [ق:4]،
فعلم الله سبحانه بكل أجزاء الإنسان، وما تنتقصه الأرض من تلك
الأجسام، وما يغيب فيها وما يضل في ثراها، فالله سبحانه لديه كتابٌ
حفيظ بذلك كله. فالله تعالى يقول: ( قد علمنا ) ولم يقل: (سنعلم)، قَدْ
عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ
حَفِيظٌ [ق:4].
قال تعالى: بَلْ
كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5]
أي: مختلط عليهم. ثم قال تعالى: أَفَلَمْ
يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا
وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]
أي: ألا ينظرون إلى هذا الخلق العظيم، فهذه السماء بنيت وزينت وليس
فيها من شقوق ولا فروج، فهذا الخلق متى رفع بغير عمدٍ ترونه؟ ومن
الذي خلقه ورفعه،؟ قال تعالى: لَخَلْقُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57].
قال تعالى: وَالأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ [ق:7]،
وهذه الجبال من نصبها؟ ومن جمع حجارتها؟ قال تعالى: وَأَنْبَتْنَا
فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق:7]
صنف بهيج متغاير، فالتربة واحدة والماء واحد ولكن النبات مختلف تَبْصِرَةً
وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق:8].
قال تعالى: وَنَزَّلْنَا
مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ
وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا
طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:9-10]
فأنبت بهذا الماء جنات وحب الحصيد ونخلاً وزيتوناً ورماناً،
فالتربة واحدة والماء واحد، فمن الذي غاير بين هذه النباتات في(2/136)
أشكالها وفي ثمارها وفي طعومها وفي أوضاعها؟ قال تعالى: رِزْقاً
لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ
الْخُرُوجُ [ق:11]
أي: كما أحيينا البلدة الميتتة بالماء، كذلك خروجكم، فأقام الأدلة
على البعث. وأدلة البعث في القرآن أربعة، وهنا جاء أكثرها وهي
ثلاثة: فمن أدلة البعث خلق السماوات والأرض، قال تعالى: لَخَلْقُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57].
ومن أدلة البعث خلق الإنسان، قال تعالى: وَضَرَبَ
لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْييِ الْعِظَامَ
وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا
أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79].
ومن أدلة البعث إحياء الأرض بعد موتها، قال تعالى: وَآيَةٌ
لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا [يس:33]،
والآية الأخرى: فَإِذَا
أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي
أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى [فصلت:39].
وهنا أيضاً قال تعالى: وَالنَّخْلَ
بَاسِقَاتٍ [ق:10]
إلى قوله تعالى: وَأَحْيَيْنَا
بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:11]
واسم الإشارة (ذلك) راجع إلى المصدر الموجود في (أحيا) أي: أحيينا
به بلدة ميتة، ومثل ذلك الإحياء للبلدة للميتة يكون إحياؤهم. وبقي
من أدلة البعث: إحياء الموتى بالفعل، وقد جاء ذلك في قتيل بني
إسرائيل في قصة البقرة التي أمروا بذبحها، والألوف الذين خرجوا من
ديارهم حذر الموت فقال لهم الله: مُوتُوا
ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]،
وطلب إبراهيم: رَبّ
أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]
فهي عملية مشاهدة في طيور متعددة. والعزير وحماره وطعامه الذي لم
يتسنه كذلك، وحوت موسى عليه السلام، الذي كان قد طبخ ليتغدى به،
فإذا به عند الماء يأخذ طريقاً في البحر سرباً. في مقدمة هذه
السورة الكريمة إقامة الأدلة على البعث من ثلاثة أوجه، وهي من(2/137)
مجموع أربعة أوجه في كتاب الله، فمن هنا كان صلى الله عليه وسلم
يقرأ سورة (ق). ثم تأخذ السورة بعد ذلك في بيان ذلك اليوم، وفي
جزاء المحسنين، إلى آخر ما في السورة الكريمة. وهل كان صلى الله
عليه وسلم يقرؤها دائماً؟ قال بعض العلماء: في غالب أحواله، ولم
يكن ذلك بصفة دائمة، وكما قدمنا فإنه لا يتعين على كل خطيب أن يقرأ
بها، فإن قرأ بها فلا مانع، وإن قرأ ببعضٍ منها فلا مانع، وإن قرأ
غيرها فلا مانع، وبالله تعالى التوفيق.
ما يجب على المستمعين حال الخطبة
[ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار
يحمل أسفاراً، والذي يقول له أنصت ليست له جمعة ) رواه أحمد بإسناد لا بأس به، وهو يفسر حديث أبي هريرة في الصحيحين
مرفوعاً ]. بعدما فرغ المؤلف رحمه الله مما يتعلق بالإمام والخطيب
فيما يتعلق بموضوع الخطبة والمقارنة بينها وبين الصلاة، وما يتخيره
الخطيب من المواضيع من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم جاء بما يتعلق بالمستمعين، ويذكر لنا ابن عباس رضي
الله عنهما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حق من يتكلم والإمام
يخطب يوم الجمعة، والتقييد بيوم الجمعة ربما يخرج غير الخطبة في
يوم الجمعة كالاستسقاء وكالعيدين، وكالخطب العادية التي هي لأمور
اجتماعية. وبعض العلماء يرى أن كلمة (يوم الجمعة) جاءت لقضية عينٍ،
وليس لها مفهوم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (والإمام يخطب)، معناه:
أن الكلام قبل بدء الإمام بالخطبة ليس ممنوعاً؛ لأن بعض الناس
يقول: إذا صعد الإمام المنبر امتنع الكلام، ومعلوم أنه حينما يصعد
لا يبدأ بالخطبة، وإنما يسلم على الحاضرين، ثم يقوم المؤذن فيؤذن
بين يدي الخطيب، ثم يشرع الخطيب بعد ذلك في خطبته، فبعض الناس كان
يقول: يمنع الكلام حينما يصعد الإمام المنبر، كما قالوا: إن مجيء(2/138)
الإمام يمنع الصلاة، وصعوده المنبر يمنع الكلام، والمعنى: أن مجيئه
يمنع الصلاة، كما في الحديث: (إذا أتى يوم الجمعة فليصل ما تيسر
له، فإذا صعد الإمام المنبر فلينصت )، فبعضهم يقول: مجيء الإمام
يمنع الصلاة، وكان الإمام في المسجد النبوي يخرج من باب ما بينه
وبين المنبر إلا خطوات، فمعناه أنه لم يعد هناك وقت لمن يريد أن
ينشئ صلاةً من جديد؛ لأنه سيتعارض في صلاته مع بدء الإمام في
الخطبة، فإذا كان الأمر كذلك فنعم، فمجيء الإمام يمنع الصلاة أي
النافلة. ومن هنا قال العلماء: على إمام الجمعة وخطيبها إن كان
بيته ملاصقاً للمسجد -كما يوجد في بعض المساجد- أن لا يخرج إلى
المسجد ولا إلى المصلين إلا بعد أن يؤذن على السطح أو على المنارة
الأذان الأول، فيخرج لوقته من أجل أن يصعد إلى المنبر، وإذا كان
بعيداً وأراد أن يبادر فإنه يجلس في مكان قريبٍ من المنبر، حتى إذا
قام من مكانه عرف المؤذن مكانه وجاء إلى المنبر. وهنا نص الحديث:
(والإمام يخطب)، فقبل الخطبة لا مانع، ويقول صلى الله عليه وسلم
هنا في الحديث: (من تكلم والإمام يخطب)، وهذا عام، ويستثنى من ذلك
من تكلم مع الخطيب، فإذا تكلم المتكلم مع الخطيب فليس داخلاً في
هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويقوم الرجل ويسأل
ويجيبه صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، قالوا: لأن الحث على الإصغاء
من أجل أن لا يفوت المتكلم شيء من الخطبة، وهذا إنصات إجباري، وإلا
فتلغى جمعته؛ لأنه لو تكلم كل إنسان بكلمة لحصل اللغط، ولما سمعوا
الخطبة، ولما كان للخطبة كبير فائدة، فألزم الجميع بالإصغاء، وكلٌ
يسكت نفسه، حتى إنك لا تقول لصاحبك: أنصت، فما يجوز لك هذا، فأنصت
أنت عن قولك لصحابك أنصت، فلو أن إنساناً قال للثاني: أنصت أنصت.
لقال غيره: أنصت، ويلزم من هذا التسلسل إلى النهاية، فكلٌ شخص عليه
أن يسكت نفسه، فإذا ما أنصت الجميع أمكن للخطيب أن يوصل صوته إلى(2/139)
أكثر عدد، وأمكن للجميع أن يستفيدوا من صوته. أما إذا كان المتحدث
مع الإمام فالإمام سيوقف الخطبة، ويتكلم مع من كلمه، فلا يفوته ولا
غيره شيء من كلام الخطيب؛ لأنه سيوقف الخطبة حتى يجيبه على سؤاله
أو كلامه، ثم يستأنف خطبته. ونعلم جميعاً قصة الأعرابي الذي جاء
ودخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: يا رسول الله
ادع الله لنا أن يسقينا، وشكا له تقطع السبل وجفاف الأراضي ونحو
ذلك، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو في الخطبة واستسقى وسقوا،
ثم جاء بعد ذلك وقال: ادع الله أن يرفعها عنا. فدعا الله وسأله،
وقد كانوا لم يروا الشمس أسبوعاً، فانقشع السحاب وخرجوا يمشون في
الشمس. وهكذا يأتي الرجل والرسول يخطب فيقول: يا محمد! علمني
الإسلام، فيترك الخطبة، وينزل إلى الرجل ويعلمه، ثم يصعد المنبر
ويكمل خطبته. فالكلام مع الخطيب ليس فيه شيء، وكذلك كلام الخطيب مع
الحاضرين، فحينما دخل رجل وجعل يتخطى الرقاب، ترك صلى الله عليه
وسلم الخطبة وقال: (اجلس فقد آنيت وآذيت ). وآخر جاء وجلس، فترك
الخطبة وسأله: (أصليت ركعتين -أي: التحية-؟ قال: لا. قال: قم
فاركعهما وتجوز فيهما ) . إذاً: فكلام الإمام مع المصلي أو أحد
المصلين مع الإمام خارجٌ عن هذا النهي؛ لأنه لا يفوت مصلحة، بل
يأتي بمصلحة جديدة. وتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم من تكلم
والإمام يخطب يوم الجمعة بما شبه به القرآن الكريم علماء بني
إسرائيل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، فحملوها بالقوة، ولكن
لم يحملوها بالفعل، كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والأسفار: جمع سفر،
وهي الكتب، كما أن الحمار يثقل ظهره ثقل الكتب، ولم يستفد منها
بشيء، وكما قيل: كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها
محمول فالإبل تحمل الماء فوق ظهرها وهي في الصحراء، وتموت من العطش
لأن صاحبها ما أعطاها الماء، فالماء على ظهرها ما نفعها، فكذلك(2/140)
علماء بني إسرائيل لما حملوا التوراة ولم يعملوا بها كانت عليهم
كمثل الأسفار على ظهر الحمار، وهو أشبه ما يكون من ضرب المثل
بالبلادة، فيثقل ظهره بحمله، ولا يستفيد منه شيئاً. فكذلك الإنسان
حمل أمانة المجيء إلى الجمعة وفضلها كما في الحديث: (الجمعة إلى
الجمعة كفارة لما بينهما )، ومع أنه يحمل هذا العبء وهذه
الأمانة ولم ينتفع بها؛ لأنه يتكلم مع صاحبه والإمام يخطب، فبين
يديه علم وهو إنما جاء لخيرٍ، فلم يستفد منه، وهذا التشبيه -كما
قال أحمد - مثل السوء. فقد وقع الخلاف في الرجل يهب الهبة ثم
يعود فيها، فتناظر أحمد مع الشافعي ، فالشافعي قال:
ليس في ذلك شيء، وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (العائد في
هبته كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه )، فإن الكلب لا تكليف عليه،
فلا حرمة في ذلك. فقال أحمد : ولكن ليس لنا مثل السوء، فالرسول
ضرب مثلاً بالكلب؟ لأنه مثل سوء وتشبيه سيئ، فهل ترضى لنفسك أن
تكون كالكلب؟ فاحتج أحمد على الشافعي بهذا. وكذلك هذا
المثال فيه بيان لتقبيح الفعل ونهي عنه. ثم جاء في تتمة هذا الحديث
قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام
يخطب فقد لغوت ). فالذي يتكلم كالحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول
له: اسكت، مرتكب لمنكر، فقوله: اسكت نهي عن منكر، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر في القمة من العبادات؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر من أوجب الواجبات، ولكن في هذا الوقت صار إنكاره منكراً؛
لأنه تلغى في حقه الجمعة، ويكلف بإعادة صلاة الظهر، فتلغى الجمعة
وينوب عنها الظهر، أو تلغى كونها جمعة بما فيها من أجر كما في
الحديث: (والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما )، ويبقى إجزاء
الفرض وهو حكم الظهر، فيكون كأنه صلى الظهر في يوم السبت أو
الخميس، أما فضيلة الجمعة فلا يحصل عليها. وبعضهم يقول: لا جمعة له
ولا صلاة له، وعليه أن يأتي ببديل عنها وهو صلاة الظهر. والموضع(2/141)
موضع خلاف طويل، ولكن يهمنا مجمل هذا الموضوع. ثم للعلماء مبحث
آخر، وهو إذا كان الإنسان في مؤخرة المسجد فلا يسمع الخطيب ولا
يدري ماذا يقول، وكذلك إذا وجد المكبر وتعطل الجهاز فلم يسمع
المصلي من الخطيب، أيجوز له أن يتكلم؟ بعضهم يقول: له ذلك إذا كان
بتلاوة القرآن، وإذا كان بالتسبيح، وإذا كان بالاستغفار، لأنه ذكر،
وقد قال تعالى : يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]
. والآخرون يقولون: ليس له ذلك؛ لأن البعيدين إذا اشتغلوا بالتلاوة
أو بالذكر ربما ارتفعت أصواتهم فيحصل اللغط على الذي يسمعون.
والصحيح أنه لا يجوز أن يقرأ أو يذكر الله، وأن عليه أن ينصت، وله
أجر المستمع في الخطبة إن شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.
134510 ( كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [5] )
( كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [5] )
عناصر الموضوع
1 قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورتي الأعلى والغاشية في صلاة
الجمعة
2 الرخصة لمن صلى العيد يوم الجمعة ألا يحضر الجمعة
3 السنن الواردة بعد صلاة الجمعة
كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [6]
من أحكام وسنن يوم الجمعة الترخيص لمن صلى العيد يوم الجمعة مع الإمام
في أن يتخلف عن صلاة الجمعة؛ لوقوع المقصود من صلاة ركعتي العيد
والاستماع إلى الخطبة، وأن يقرأ الإمام بسورتي الأعلى والغاشية كما فعل
صلى الله عليه وسلم.
قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورتي الأعلى والغاشية في صلاة الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: قال المصنف رحمه
الله: [ وله عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (كان يقرأ
في العيدين وفي الجمعة بـ(سبح اسم ربك الأعلى) و(هل أتاك حديث
الغاشية ) ]. يقول المصنف رحمه الله: وله، أي: لمسلم الذي(2/142)
روى ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في الجمعة
بسورتي الجمعة والمنافقون ). أنه كان يقرأ في الجمعة وفي
العيدين (سبح اسم ربك الأعلى)، و(هل أتاك حديث الغاشية). ولا حاجة
إلى تتبع السورتين في بيان المناسبة، فقد ذكرنا فيما يتعلق بسورة
الجمعة والمنافقون ما يكفي من بيان مناسبة اختيار هاتين السورتين
في يوم الجمعة، وكذلك هاتان السورتان، أي: الأعلى والغاشية.
والجمعة والمنافقون متتاليتان في المصحف، وكذلك سبح والغاشية
متتاليتان في المصحف، وكل من الثانية تكمل موضوع الأولى. ويهمنا
هنا زيادة [في الجمعة والعيدين]، وربط الجمعة بالعيدين هو لأن يوم
الجمعة عيد من أعياد المسلمين، والعيدان هما عيد الفطر وعيد
الأضحى، وسمي العيد عيداً لعوده، أي: لمجيئه وعودته في كل سنة.
وهنا لفتة بسيطة فيما يتعلق بالعيد في الإسلام. فقد قدم النبي صلى
الله عليه وسلم وللناس أعياد كثيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن
الله أبدلكم بأعياد الجاهلية عيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى )،
وبالتأمل في هذين العيدين نجدهما يتميزان، أو أن العيد في الإسلام
يتميز عن العيد في غير الإسلام بأمر عملي؛ لأن الأعياد في غير
الإسلام إنما هي ذكريات لا حقائق، بمعنى أن أعياد غير المسلمين
لأحداث قد وقعت ثم انتهت، فإذا جاء موعدها من السنة الثانية عيدوا
ذكرى لما تقدم، فمثلاً صوم يوم عاشورا لما سأل النبي صلى الله عليه
وسلم عن صومه قالوا: هو يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فصامه
موسى شكراً لله، وصامه اليهود، ويعيدون صومه كيوم عيدٍ عندهم، وذكر
الله سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل مع نبي الله عيسى قولهم: هَلْ
يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً [المائدة:112]
قال: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا: نُرِيدُ
أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا.. [المائدة:113]،(2/143)
فالمسألة مسألة أكل وشرب، فقال عيسى فيما حكى الله تعالى عنه: اللَّهُمَّ
رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ
لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا [المائدة:114].
فكانوا يجعلون يوم نزول المائدة عيداً، والمائدة نزلت مرة واحدة،
وكانوا يعيدون في يومها من كل سنة، فالأعياد التي جاءت بعد يوم
نزول المائدة ليس فيها مائدة، ولكن ذكرى المائدة، وكذلك الأعياد
والطقوس والعادات عند الناس. أما أعياد الإسلام فهي حقيقة، وليست
ذكريات؛ لأن كل سنة يأتي فيها العيد بموجبه ومسبباته، فعيد الفطر
سببه أنه لما أكرم الله المسلمين بأداء واجب صوم هذا الشهر
المبارك، جعل لهم ختام صيامهم عيدا، فعيد الفطر في كل سنة ذكرى
لحدث حاضر يتجدد في كل سنة بذاته، فكل عيد فطرٍ في الإسلام مستقل،
وليس لذكرى ماضية، وكذلك عيد الأضحى، فلما منّ الله على المسلمين
بالحج وجاءوا من كل فج عميق، وأمّن لهم السبيل، وأمّن لهم الطعام،
وأدوا مناسكهم قال: هلم إلى المائدة. ومائدة الإكرام ثلاثة أيام،
فالموائد يطعمون منها ويأكلون ويطمعون القانع والمعتر أيام منى.
ومن هنا كان الصائم يوم العيد معرضاً عن ضيافة الله. فالعيد في
الإسلام حقيقة، والأعياد في غير الإسلام من باب الذكرى. ومن هنا
شرفت الأعياد في الإسلام بشرف أسبابها ومسبباتها، وسن النبي صلى
الله عليه وسلم في صلاة العيدين أن يخرج جميع الناس حتى النساء
والحيض وربات الخدور، فاللواتي لا يخرجن من بيوتهن يخرجن، والحيض
يحضرن ويعتزلن المصلى، ويشهدن بركة ذلك الجمع بالدعاء بالخير
تكثيراً للمسلمين. ومن هنا كان التدرج في اجتماع المسلمين، فيجتمع
أهل الحي في خمس صلوات خمس مرات للجماعة، ويجتمع أهل القرية كل
أسبوع مرة للجمعة، ويجتمع أهل المصر والقطر وضواحي القرية والمدينة
في عيدٍ في صعيد واحد في الخلاء، ويجتمع العالم الإسلامي ممثلاً في(2/144)
أفراده الذين يأتون رجالاً وعلى كل ضامر من كل فج عميق، في الحج
الأكبر أو في يوم عرفة. فدين الإسلام دين اجتماعي، ودين جمع الأمة
وتوحيدها، فكان صلى الله عليه وسلم بمناسبة هذا الجمع في الجمعة
يقرأ هاتين السورتين (سبح والغاشية).
الرخصة لمن صلى العيد يوم الجمعة ألا يحضر الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه
قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد، ثم رخص في الجمعة، ثم
قال: من شاء أن يصلي فليصل )رواه الخمسة إلا الترمذي ،
وصححه ابن خزيمة ]. يأتي المصنف رحمه الله تعالى بعد بيان أنه
صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الخطبة سورة (ق) ويقرأ في الصلاة
تلك السور الأربع، ببيان ما إذا اجتمع عيد الأضحى أو الفطر ويوم
الجمعة، فالجمعة عيد مستقل، والأضحى والفطر عيد مستقل، وصلاة
الجمعة مرتبطة باليوم لا تنفك عنه، فلا تصلى الجمعة في السبت أو في
الخميس، فهي مرتبطة بيومها، ولكن عيد الفطر وعيد الأضحى إنما
يدوران في الزمن مع القمر، فالأيام تدور دورة شمسية، والأشهر تدور
دورة قمرية، فدورة الشمس في أربع وعشرين ساعة، فتأتي بالأيام
وبالصلوات الخمس، ودورة القمر في فلكه تأتي بالأشهر، ولذلك قال صلى
الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )، وقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189].
فهي أشهر قمرية وأيام شمسية، لا تتغير الأيام منذ خلقها الله،
فالعيدان مرتبطان بالقمر، فيأتي عيد الفطر في صيف أو في شتاء أو في
خريف في أي يوم من الأيام حسب الشهور، وكذلك عيد الأضحى. وما دام
العيدان متنقلين فيمكن أن يوافقا يوم الجمعة، فيجتمع عيدان: عيد
الجمعة ليومها، وعيد الفطر أو عيد الأضحى لمناسبته، وكل منهما
يحتاج إلى اجتماع وإلى خطبتين، وإلى صلاة ركعتين، فهل نصلي العيدين
معاً الجمعة والعيد الذي حضر، أو نكتفي بواحد منهما؟ فجاء المصنف(2/145)
بهذا الحديث ليبين ماذا يكون على الناس إذا اجتمعت الجمعة مع أحد
العيدين، فقال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد ثم رخص في
الجمعة ). و(ثم) للترتيب والتراخي، فصلى العيد في يوم العيد
ورخص في الجمعة بعد ذلك. قوله: (ثم رخص) الرخصة عند الأصوليين
مأخوذة من المعنى اللغوي، أي: الشيء اللين، كما قال الشاعر: ومخضب
رخص البنان .... ..... ومنه الثمن الرخيص؛ لأن العيشة فيه تكون
لينة، بخلاف الثمن الغالي حيث تكون شديدة، فرخص البنان: لينه، ورخص
السعر لين العيش، فرخص معناه: ليّن وخفف في الحكم، ولذا تكون
الرخصة مع الشدة، والشدة تقتضي الترخيص، ولذا حينما تقع مجاعة أو
يكون الإنسان في خلاء، ويشتد عليه الجوع، ولم يجد إلا الميتة
-والميتة محرمة- رُخص له أن يأكل الميتة تخفيفاً عليه من حكم المنع
الذي يؤدي إلى وفاته. فالرخصة: رفع حكم بحكم آخر مع بقاء الحكم
الأصلي، أو: إباحة ممنوع بنص متجدد بعد المنع مع بقاء حكم المنع،
كقوله تعالى: حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3]
مع قوله تعالى: فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173]،
فلما أباح الله ورخص للمضطر أكل الميتة أبقى الحكم على التحريم،
وأعطى المضطر رخصة الأكل منها حتى يجد كفاف العناء، فهي في الحال
محرمة، ولكن أبيح له، ولذا قالوا: الحدث يمنع الصلاة، وقد لا يجد
الإنسان ماء أو قد يجده ويعجز عن استعماله، فجاء التيمم بديلاً عن
الوضوء، فهل التيمم يرفع الحدث الذي كان يتطلب الماء، أو أنه أباح
له الصلاة مع وجود الحدث؟ فالجمهور على أنه أباح له الصلاة والدخول
فيها رخصةً، لكن المنع الأساسي موجود، والحدث باق، ومنهم من يقول:
التيمم يرفع الحدث. والصحيح أنه مبيح له مع بقاء الحدث، والدليل
على ذلك أن رجلاً كان في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل
الصبح، فمضى إليه رسول الله، فقال له: ألست مسلماً؟! قال: بلى يا(2/146)
رسول الله، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، ثم جاءت قضية التيمم فتيمم
وصلى، فلما جيء بالمرأة ومعها المزادتان قال: أين صاحب الجنابة؟
قال: أنا. قال: خذ فأفرغه على جسمك. أي: من حدث سابق، فهو تيمم
رخصة للصلاة، ولكن تيممه الذي صلى فيه لم يرفع عنه الحدث، بدليل:
(خذ فأفرغه على جسمك ). فالرخصة: إباحة الممنوع مع بقاء حكم
المنع. فحكم الجمعة باق، ولذا من أتى الجمعة مع صلاة العيد أجزأته.
وفي بعض الروايات: (وإنَّا لمجمِّعون ). وعند مالك في
الموطأ أن عثمان رضي الله تعالى عنه: اجتمع في عهده العيد ويوم
الجمعة، فصلى العيد، ثم رخص لأهل العالية، وأهل العوالي كانوا
يأتون يصلون الجمعة في المسجد النبوي في المدينة، فلما اجتمع العيد
ويوم الجمعة في عهد عثمان رضي الله عنه صلى العيد بمن حضر، ثم
رخص لأهل العوالي إذا رجعوا ألا يرجعوا مرةً أخرى؛ لأن فيه مشقة في
الذهاب والمجيء مرتين للعيد وللجمعة، وهنا رخص صلى الله عليه وسلم
في الجمعة. وجاء في بعض السنن أن في خلافة ابن الزبير -وكان في
مكة- اجتمع العيد والجمعة فصلى العيد بالناس، ثم جاء الناس للجمعة
فلم ينزل إليهم، وطلبوه للجمعة فلم يأت، وكان ابن عباس بالطائف، فلما جاء أخبروه بما فعل ابن الزبير ، فقال: أصاب
السنة.
خلاف العلماء في سقوط الجمعة يوم العيد
ويبحث العلماء في قوله: (رخص في الجمعة)، فإذا جاء وقت الجمعة ولا
جمعة فهل يصلون ظهراً أو أن الجمعة هي فرض اليوم وقد رخص رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيها؟ فمنهم من يقول: لما رخص في الجمة سقطت
وسقط فرض الظهر في ذلك اليوم؛ لأن الجمعة هي فرض يوم الجمعة، ويكون
الظهر لمن لم يدرك الجمعة، أو كان من أهل الأعذار كالمريض والنساء
والعبيد والصبيان والمسافر، فإذا سقطت الجمعة عن أهل الأعذار
لأعذارهم صلوا ظهراً، وهولاء رخص لهم في تركها. فمن نظر إلى أصل
الرخصة قال: رخص لهم وبقي الأصل، فيصلون الظهر، واستدلوا بما فعل(2/147)
أصحاب ابن الزبير ، فإنهم صلوا وحداناً، وقالوا: كيف يترك -وهو
إمام وصاحب بيعة- المجيئ إليهم؟ فقالوا: لعله صلى الظهر في بيته.
ولما لم يخرج إليهم وصلى الظهر جماعة يكون قد سن ظهراً يوم الجمعة،
وهذا ممنوع. وهل الرخصة في ترك الجمعة يوم العيد لمن كان من
الضواحي كأهل العالية كما فعل عثمان ، أو أنه على عمومه ويترك
الجميع حتى الإمام كما فعل ابن الزبير ؟ فهناك من يقول: يرخص
لعامة الناس، ما عدا من يحضر مع الإمام لإقامة شعار الجمعة، وهناك
من يقول: إنما يكون الترخيص لمن كان بمثابة أهل العالية، وهناك من
يقول: رخص ولكن نصوص الجمعة الواجبة والتحذير منها تعارض هذا
الترخيص، فعلى الناس أن يصلوا عيداً وجمعة، كما قال الشافعي رحمه الله. والراجع أن الترخيص في ترك الجمعة لمن كان يتكلف المجيئ
إلى الجمعة كتكلفه المجيئ إلى العيد، أما من لم يتكلف ذلك، فالله
تعالى أعلم. فالتعارض قائم، والأحوط المجيء، ولكن الذي عليه
الجمهور أن على الإمام أن يصلي الجمعة حضر معه من حضر، ومن لم يأتِ
الجمعة وقد حضر العيد فلا يعنف، ولا يقال له: لم تركت؟ فله من أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم مخرج، والله تعالى أعلم. [ ثم قال:
(من شاء أن يصلي فليصل ) ]. قوله: (من شاء)، أي: من شاء أن يصلي
الجمعة، فالتخيير قائم مع وجود الرخصة، فمن شاء استعمل الرخصة، ومن
شاء تركها ورجع إلى الأصل، وهذا هو أرجح الأقوال.
السنن الواردة بعد صلاة الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها
أربعاً ) رواه مسلم ]. هذا شروع في بيان السنة يوم الجمعة،
والسنة يوم الجمعة نجد فيها خلافاً، فهناك من يقول: ليست هناك سنة
راتبة. وفرق بين السنة الراتبة والسنة المطلقة، وقد جاء في السنن
الرواتب حديث ابن عمر أنه حفظ عن رسول الله عشر ركعات، وجاء(2/148)
حديث آخر فيه: اثنتا عشرة ركعة، قبل الصبح ركعتان، وقبل الظهر أربع
وبعده ركعتان أو أربع، وأربع قبل العصر، وبعد المغرب ركعتان
وركعتان بعد العشاء، فهذه سنن راتبة مترتبة مع الفريضة، لكن سنة
الضحى ليست مرتبة مع غيرها، ولكن قائمة بذاتها، وكذلك صلاة الليل
نافلة مطلقة. أما الجمعة فبعض العلماء -كالأحناف- يقولون: راتبة
الجمعة كراتبة الظهر، أقلها ركعتان قبلها، وركعتان بعدها، ولكن
الحديث فيه: (من بكر وابتكر، وغسل واغتسل، وصلى ما تيسر له... )،
فقال: (ما تيسر)، وليس فيه عدد معين. ولذا قال الآخرون: لا راتبة
للجمعة. قالوا: إذا جاء مبكراً فله أن يصلي ما تيسر له، سواءٌ أصلى
ركعتين أم صلى أربعاً، أم صلى ستاً، أم صلى أكثر من ذلك، فليس هناك
شيء محدود قبلها. ولكن جاء في الحديث هنا أنه يصلي بعدها أربعاً،
وجاء التفصيل بين أن يصلي في المسجد وأن يصلي في بيته، فإذا صلى
نافلة بعد الجمعة في المسجد فليصل أربعاً لهذا الحديث، وإن لم يصل
في المسجد وصلى في بيته صلى ركعتين. فالحديث عامٌ، ولكن يحمل على
ما جاء في الحديث الآخر، فمن تنفل للجمعة بعدها في المسجد صلى
أربعاً، ومن أخر تنفل الجمعة إلى البيت اجتزأ بركعتين، كما جاء عن
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وغيرها، وبهذا تكون الراتبة
أو النافلة بعد الجمعة بحسب ما سيصيلها فيه، فإن كان في المسجد
فأربعاً، وإن كان في البيت فركعتين، والله تعالى أعلم. فإن قيل:
كيف تجزئ ركعتان في البيت عن أربع في المسجد؟ ولماذا لا تكون
أربعاً في المسجد أو في البيت، أو ركعتين في البيت أو في المسجد؟
والجواب: أنه قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع من
باب الإيماء والتنبيه قوله: (خير صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة )،
فالتي في البيت معها الأفضلية، وما دام أن معها الأفضلية فإن
ركعتين تساويان الأربع. وقالوا أيضاً: صلاة المرء في بيته فيها(2/149)
فوائد جانبية: أولاً: التماس البركة بذكر الله والصلاة في المكان؛
لأن البيت الذي لا صلاة فيه ولا تلاوة فيه كالقبر المهجور. ثانياً:
أن في البيت أطفالاً ونسوة يعلمهم الصلاة، وفيه كذلك حث الأهل
الموجودين الذين لم يصلوا على الصلاة، وحث للنسوة اللواتي ما عليهن
جمعة أن يصلين الظهر، وذلك حينما يأتي ويصلي النافلة. فما دامت
الصلاة في البيت لها عدة فوائد عامة وخاصة فتكون لها الأولوية،
ويجزئ فيها الركعتان بدلاً عن الأربع في المسجد. وقوله صلى الله
عليه وسلم: [ (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً ) ] هل
معناه: فليصل بعدها فوراً، أم أن قوله: (بعدها) يصدق على التسويف.
والواقع أننا نجد أحاديث وآثاراً في أن الإنسان لا يصل النافلة
بالفريضة، وجاء عن بعض السلف: أن لا يتنفل حتى يتكلم، ويرى بعض
العلماء أنه يندب له أن يتحول من مكانه، أي أنه يُوجِد فاصلاً
حسياً بين الفريضة والنافلة، حتى لا يظن ظان أن هذه النافلة متممة
لتلك الفريضة. فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم الجمعة
فليصل بعدها أربعاً ) ليس معناه بعدها على الفورية والمتابعة
حتى تكون كجزء منها، بل يفصل بين النافلة والفريضة بفاصل محسوس،
إما بكلام، وإما بانتقال إلى مكان آخر.
134517 ( كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [7] )
( كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [7] )
عناصر الموضوع
1 وقت الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة
2 العدد المعتبر الذين تنعقد بهم الجمعة
3 من آداب الخطبة استغفار الخطيب للمؤمنين والمؤمنات
4 قراءة النبي صلى الله عليه وسلم الآيات في خطبة الجمعة
5 الأشخاص الذين لا تجب عليهم صلاة الجمعة
6 من آداب المستمعين مع الخطيب استقباله بوجوههم
7 اتكاء النبي صلى الله عليه وسلم على العصا والقوس وقت الخطبة
كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [8]
مما يتعلق بصلاة الجمعة اختلاف العلماء في عدد من تنعقد بهم الجمعة،(2/150)
وفي المعذورين ممن لم يحضرها، وهل تنعقد بهم إذا حضروها، وكذلك آداب
المستمعين في الجلوس وقت الخطبة، ومشروعية اتخاذ الخطيب عصا أو قوساً
يتكئ عليه حال الخطبة.
وقت الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو
قائم يصلي يسأل الله عز وجل شيئاً إلا أعطاه أياه، وأشار بيده
يقللها ) متفق عليه، وفي رواية لمسلم : (وهي ساعة خفيفة )
]. قوله: (خفيفة) كأنها تفسير (يقللها)، وذكروا أنه صلى الله عليه
وسلم وضع طرف الإبهام على الوسطى أو الخنصر، أي: أنه شيء قليل
جداً، فليست ساعة من الساعات الزمنية المعروفة التي ينقسم النهار
إلى اثنتي عشرة ساعة منها. [ وعن أبي بردة عن أبيه رضي الله
عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (هي ما بين أن
يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة ) رواه مسلم ، ورجح
الدارقطني أنه من قول أبي بردة . وفي حديث عبد الله بن
سلام رضي الله عنه عند ابن ماجة وعن جابر رضي الله عنه
عند أبي داود و النسائي : (أنها ما بين صلاة العصر وغروب
الشمس ) وقد اختلف فيها على أكثر من أربعين قولاً أمليتها في
شرح البخاري.]. هذان الحديثان يعتبران أصح الأقوال التي قيلت من
ثلاثة وأربعين وقتاً، و ابن عبد البر رحمه الله أورد تلك
الأقوال بأسانيدها، ومن يقول بها، وهذا شيء لا نستطيع أن نحفظه ولا
نستطيع أن نورده بكامله، ولكن نرشد طالب العلم إلى محله وهو في
الجزء الثالث والعشرين من التمهيد، لمن أراد أن يرجع إليه. ويهمنا
باتفاق العلماء بأن كل الأقوال التي جاءت بتحديد وقت قبل جلوس
الإمام أو قبل الأذان للجمعة كلها مردودة أو ضعيفة، ولكن الأحاديث
الصحيحة التي يعوّل على أسانيدها هو هذا الذي جاء ما بين أن يجلس
الإمام على المنبر إلى أن تتم الصلاة، وهناك من يقول: إلى أن تتم(2/151)
الخطبة، ولكن نقول: إن التمديد إلى الصلاة أشمل؛ لأنها تجمع الخطبة
معها. والقول الثاني: حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه: أن
وقتها ما بعد صلاة العصر، ثم ما بعد صلاة العصر فيه عدة أقوال، حتى
قيل: حينما يشرع القرص في الغروب، وقالوا: إن فاطمة رضي الله
عنها كانت تأخذ بهذا القول، وتوصي غلاماً لها ينظر لها قرص الشمس
إذا أخذ في الغروب أخبرها فقامت تدعو. وقالوا: كان أحد السلف إذا
صلى العصر جلس ولم يكلم أحداً إلى أن تغرب الشمس، يدعو الله سبحانه
وتعالى انتهازاً أو تحرياً لتلك الساعة إلى غروب الشمس. ثم إن
بعضهم يقول: حتى يكون الظل كذا .. حتى تصفر الشمس .. حتى يغرب
القرص، فكان ما بعد صلاة العصر يجلس في مكانه إلى أن تغرب الشمس،
والله تعالى أعلم.
العدد المعتبر الذين تنعقد بهم الجمعة
[ وعن جابر رضي الله عنه قال: (مضت السنة أن في كل أربعين
فصاعداً جمعة) رواه الدارقطني بإسناد ضعيف ]. هذا الحديث
موضوعه في عدد الذين تنعقد بهم الجمعة. وأعتقد أنه تقدم الكلام في
مثل هذا، ومن رجع إلى تتمة أضواء البيان عند الكلام على سورة
الجمعة يجد الأقوال هناك متفاوتة، ولم يصح نص عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم في عدد الجمعة. والمتأمل يجد أن هناك من يقول:
ثلاثة أشخاص مع الإمام، أو شخصان مع الإمام، وهناك الإمام والمؤذن
أخذاً من قوله سبحانه: إِذَا
نُودِيَ [الجمعة:9]
فهناك منادِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا [الجمعة:9]
وهناك من يسعى، إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]
وهناك من يذكر الله، فقالوا: إذاً هناك المنادي وهو المؤذن، وهناك
من يذكر الله وهو الإمام، وهناك من كلف بالسعي، وأقل الجمع ثلاثة.
فقوله: (فاسعوا) يصدق على الواحد والثلاثة، فإذا كانوا ثلاثة يسعون
وواحد يؤذن وواحد يذكر الله، فهؤلاء خمسة، فإذا وجد خمسة أشخاص
وجبت عليهم الجمعة. وهناك من قال: أقل عدد يكون اثني عشر أخذاً من(2/152)
قصة التجارة، لما كان صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة وكانت الخطبة
بعد الصلاة، ثم قام يخطب فجاءت التجارة، ودقت لها الطبول، فخرج
الناس إليها ولم يبق ممن كان عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا
اثنا عشر رجلاً. وقال صلى الله عليه وسلم: (لو خرجوا جميعاً لسال
الوادي عليهم ناراً )، فقالوا: هذا العدد حفظ الله به الصحابة
من أن يهلكوا، وسماع الخطبة جزء من الجمعة حتى أنهم قالوا: هي بدل
الركعتين الأخريين، ويأتي الخلاف في سماع الخطبة هل هو واجب أو
سنة، وهل تصح الصلاة بدونه أو لا تصح؟! وأجيب عن هذا وذاك: أن أول
جمعة أقيمت في المدينة المنورة كانوا نحواً من أربعين رجلاً،
فقالوا: كون الذين بقوا عند مجيء رسول الله وقت الخطبة عند مجيء
العير للتجارة اثني عشر، هذه خطيئة وقعت فجأة ويمكن كان أن يبقى
عشرون، ويمكن أن يبقى عشرة أو خمسة، فهذا ليس منضبطاً بعدد، إنما
صادف أن الذين بقوا اثنا عشر رجلاً، كذلك صادف الذين صلوا الجمعة
أول ما كانوا أبعين رجلاً، ثم جاء خبر جابر ، ولكن نبه المؤلف
رحمه الله على ضعف هذا الحديث. فالذي قال ثلاثة أبو حنيفة رحمه
الله، والذي قال اثنا عشر رجلاً أحمد ومن وافقه، والذي قال
أربعون الشافعي رحمه الله، والذي قاله مالك هو ما يمكن أن
يكون كقاعدة عامة ليست مرتبطة بعدد هندسي ولا حسابي، فقال: كل
جماعة أقامت في قرية واستقرت، وفيها أميرها وسوقها وجبت عليهم
الجمعة سواء كانوا كثيراً أو قليلاً؛ لأنها وحدة سكنية قائمة
بذاتها. وأشرنا سابقاً -أيها الإخوة- بأن هذا القول هو الذي يفيده
السياق في آخر السورة الكريمة؛ لأن الله سبحانه يقول: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]،
أي: اتركوا البيع، فلو كانوا اثنين أو ثلاثة لم يكن هناك بيع كثير(2/153)
حتى يحتاج أن نقول: اتركوه؛ لأنها صفة حصلت وأنت ماش ما تستغرق
شيئاً، لكن تدل على وجود سوق وأن البيع قائم، والناس يتبايعون
ويُشغلون عن الجمعة: فَاسْعَوْا
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]. فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا [الجمعة:10]
هل يقال لاثنين وثلاثة: انتشروا؟! الانتشار يكون للعدد الكثير.
إذاً: هل وجدتم سوقاً قائماً في الخلاء أو في الفلاة دون وجود قرية
لها رئاسة؟! لابد من وجود خادم ووجود ولي أمر وحاكم ليفض النزاعات
التي تقع في الغالب بين المتبايعين في الأسواق وإلا حلت الفوضى.
إذاً: هذه وحدة قروية كما يقال مستكملة وقائمة بذاتها، فهذه
المجموعة عليها أن تصلي الجمعة سواء كانت عشرين أو مائتين أو أكثر
أو أقل، وعلى هذا يضيف المالكية: ويمكن لهذه الجماعة أن تدافع عن
نفسها، بمعنى: لو داهمها حيوان أو وحش أو قطاع طرق لكانوا بمجموعهم
يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، ولذا قال: تجب الجمعة على قرية
يستقرون فيها احتياطاً من بيوت الشعر، وهم الذين يتبعون القطر
والغيث والمرعى فلن يستقروا في مكان، فهؤلاء ليست عليهم جمعة كما
يقول مالك رحمه الله. إذاً: قضية العدد ليس فيها نص، وإنما
كلها اجتهاديات، وأولى الأقوال في ذلك ما جاء عن مالك رحمه
الله؛ لأنه كلام من واقع الحياة ومن وجود القرى والمستوطنين فيها،
والله تعالى أعلم.
من آداب الخطبة استغفار الخطيب للمؤمنين والمؤمنات
[وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات في كل جمعة ) رواه البزار بإسناد لين. ] الغرض هنا الدعاء في الخطبة (للمؤمنين المؤمنات) أي:
على العموم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يستغفر لآحاد الناس، وهذه
سنة للخطيب أن يستغفر في خطبته للمؤمنين والمؤمنات، ونتناول موضوع
دعاء الخطيب لولي أمر المسلمين. فبعضهم يقول: لا مجال له، لأن هذه(2/154)
عبادة لله، ولا ينبغي تعظيم غير الله. وقال الآخرون: إن الدعاء
لإمام المسلمين بالصلاح والإصلاح والبطانة الصالحة، هو خير
للمسلمين جميعاً، كما قال أحمد رحمه الله: لو كانت لي دعوة
مستجابة لجعلتها إلى ولي أمر المسلمين؛ لأن في إصلاحه صلاح
المسلمين. إذاً: لا مانع أن يدعو الخطيب لما يصلح الإمام في الدين
والدنيا لا في مصالحه الخاصة والشخصية، ولكن لمصلحة عموم المسلمين،
فعندما يقول: اللهم وفقه لما فيه الخير، اللهم سدد خطاه، اللهم
انصر به الإسلام والمسلمين، اللهم اجعله عوناً على طاعتك، وأيد له
بطانة تدله على الخير وتعينه عليه، فهذه كلها دعوات ليست راجعة
لنفس ولي الأمر في ذاته، بل راجعة لعامة المسلمين. إذاً: لا مانع
في ذلك وهذا الحديث أصل في هذا وبالله التوفيق.
قراءة النبي صلى الله عليه وسلم الآيات في خطبة الجمعة
[عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان في الخطبة يقرأ آيات من القرآن؛ يذكر الناس ) رواه أبو داود وأصله في مسلم . ] تقدم معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يقرأ سورة (ق) على المنبر، وهنا أتى بهذا الحديث ليبين أن من شروط
الخطبة: أن يأتي بآيات من كتاب الله فيها موعظة وتوجيه وآداب،
فسورة (ق) طويلة وكلها مواعظ، وفيها إثبات البعث وفيها خلق
الإنسان.. وغير ذلك. ولا يستطيع كل إنسان في كل جمعة أن يقرأها،
فربما يطول الأمر على الناس، لكن لابد للخطيب أن يأتي بآية من كتاب
الله في الخطبة، وجعلوها ركناً من أركان الخطبة التي هي: حمد الله،
والشهادتان، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وآية من كتاب الله، ثم يأتي بالموضوع الذي يريده.
الأشخاص الذين لا تجب عليهم صلاة الجمعة
[وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: مملوك،(2/155)
وامرأة، وصبي، ومريض ) رواه أبو داود وقال: لم يسمع طارق من النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه الحاكم من رواية طارق المذكور عن أبي موسى ]. هذا الحديث يبين حكم الإتيان إلى
الجمعة وأهل الأعذار الذين تسقط عنهم؛ لأن هذين الأمرين متلازمين
وهنا: (الجمعة حق على كل مسلم)، ثم جاء الاستثناء لأربعة، وجيء
بخامس وهو المسافر، وكل هذه الأصناف لها بحثها إن شاء الله، لكن
يهمنا قوله: (حق على كل مسلم)؛ لأن الموجود في أذهان كثير من
الناس: أن إتيان الجمعة مندوب أو سنة مؤكدة، ولكن ليعلم الإخوان
بالتتبع، ومن أراد فليرجع إلى تتمة أضواء البيان عند هذا المبحث،
فسيجد نقول المذاهب الأربعة على أن الجمعة فرض عين على كل مكلف ممن
لم يستثن ولم تسقط عنه الجمعة من الأصناف الأربعة أو الخمسة. ويكفي
وعيداً في عدم المجيء إليها قوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك
الجمعة ثلاث مرات بغير عذر طبع الله على قلبه )، وهذا ما جاء
إلا في المنافقين والعياذ بالله، وكما قالوا رحمهم الله في
الاتفاق: هي فرض يومها، أما الذين سقطت عنهم أو لم يدركوها سواء
كان بعذرٍ قام بهم كالمملوك والمرأة والصغير والمريض والمسافر، أو
لشيء نقص عليه وهو مستكمل الشروط، كأن غلب عليه نوم أو شغل أو بعد
عليه السبب أو المسافة، فحينئذٍ يصلي الظهر، إذاً: القادر المستطيع
الذي يدخل تحت تكليف يوم الجمعة واجب عليه أن يأتيها. وقد كانوا في
زمن النبي صلى الله عليه وسلم يأتون إليها من العالية ومن قباء،
وكان يأمرهم صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا لصلاة الجمعة بالمسجد
النبوي الشريف، ثم بعد ذلك أذن لهم لما كثر الناس وشق عليهم
النزول، وصار الأمر على خلاف ما كان سابقاً، وتقام كل جمعة في نفس
القرية لا في قرية أخرى وهذا سيأتي عليه بحث آخر إنشاء الله. إذاً:
الجمعة حق على كل مسلم وفرض عين كالعصر والمغرب والعشاء والظهر في(2/156)
غير يومها. أما من تسقط عنهم الجمعة فمنه ما هو موضع اتفاق ومنه ما
هو موضع خلاف. [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (ليس على مسافر جمعة ) رواه الطبراني بإسناد ضعيف. ] تقدم الكلام على مقدمة هذا الحديث من حديث طارق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم )،
واستثنى الأربعة من عموم المسلمين: المملوك والمرأة والصبي
والمريض، وسمعنا المؤلف رحمه الله يقول: إن الحديث ضعيف، وقالوا:
إن طارقاً لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون الحديث
مرسلاً؛ لأن طارقاً تابعي، وبعضهم يقول: رأى النبي صلى الله
عليه وسلم ولكن لم يسمع منه فيكون حديثه مرسلاً، ولكن قالوا: جاء
الحديث برواية طارق عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث تلقى بالقبول وعليه العمل، ولكن الخلاف في بعض تلك الأصناف
وفيها تفصيل، أما قوله صلى الله عليه وسلم: (الجمعة حق واجب على كل
مسلم في جماعة )، فهذا تقدم الكلام عليه من أن الجمعة في يومها
فرض عين، وهي فريضة اليوم وقوله: (في جماعة) شرط في الجمعة، أي: لا
تصح فرادى، ومن فاتته لعذر أو غير ذلك فلا يصلي جمعة وإنما يصلي
ظهراً، والأصناف التي استثنيت هي كما يلي:
أولاً: المملوك
والمملوك يصدق على الذكر والأنثى الأمة والعبد، وهو المعبر عنه
بملك اليمين، وهذا أمر مفروغ منه، وفيه خلاف بين الجمهور
والظاهرية؛ لأن داود بن علي رحمه الله يقول: إنه عليه الجمعة
مستدلاً بعموم قوله سبحانه: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]،
وقال: إنه من عموم الذين آمنوا، وأخذ بذلك ابن حزم رحمه الله،
يقول ابن قدامة في المغني: هي رواية عن أحمد . ولكن
الجمهور والرواية الأخرى عن أحمد أن المملوك في حكم مالكه
ومنفعته لسيده فلا تجب عليه؛ لأنه مطالب بحق آخر، وإذا أذن له سيده(2/157)
فعليه أن يحضر، وإذا حضر أجزأت عنه وأغنت عن الفريضة يومها. إذاً:
الجمهور على أن المملوك لا جمعة عليه أساساً، وإذا إذن له سيده
بحضور الجمعة أجزأته، ولكن يرى الجمهور أن حضوره لا يمكن أن يعتبر
في تمام العدد عند من يشترط عدداً معيناً، فمن يشترط اثني عشر
رجلاً قال: لا يكون فيهم مملوك، ومن اشترط الأربعين قال: لا يكون
فيهم مملوك، بل يكون المملوك زائداً عن عدد الأربعين، وزائداً عن
عدد الاثني عشر أي: يجب أن يوجد ممن تجب عليهم الجمعة ابتداءً
العدد المطلوب.
ثانياً: المرأة
النوع الثاني: المرأة، وهذا بالإجماع، ولكن بعض العلماء يقول:
المرأة إذا أرادت أن تحضر الجمعة لسماع الموعظة أو لتتثقف في
دينها، فإنه ينظر: إن كانت امرأة كبيرة في السن فلا مانع، وإن كانت
شابة يخشى فتنتها فلا تحضر. والآخرون يقولون: مطلق امرأة إذا أذن
لها زوجها أو وليها، بالشروط المعتبرة في خروج المرأة كالتستر
الكامل الذي تصح به صلاة المرأة وهو أن تكون لابسة درعاً وخماراً
سابغاً، أي: أن الدرع يغطي ظهور القدمين، وكذلك عدم التعرض للطيب،
ولا لمواطن الزحام، فإذا أمنت من هذه الجوانب وحضرت الجمعة فإنها
تجزئها ولا تطالب بظهر.
ثالثاً: الصغير
والثالث: الصغير: وهذا بإجماع العلماء؛ لأن الصغير دون سن التكليف
ليس بواجب عليه أن يحضر الجمعة، وإذا حضرت المرأة أو حضر الصغير
أيضاً فلا يحسب في العدد الذي تصح به الجمعة. ويكون حضور المرأة أو
الصغير أو المملوك زائداً عن العدد الذي يشترطه من يشترط عدداً
معيناً.
رابعاً: المريض
الرابع: المريض: قالوا: والمريض على قسمين: - مريض يمكن أن يتحمل
ويأتي الجمعة، فإذا حضرها أجزأته، وعد من العدد المطلوب؛ لأن
سقوطها عنه ليس أصالة كالصبي أو كالمرأة، ولكن سقوطها عنه لمرضه
تخفيفاً عليه، فإذا تحمل وحضر يكون قد تحمل في سبيل حضورها وهو
أصلاً من أهلها، فحينئذٍ تصح منه وتنعقد به. - أما إذا كان المرض(2/158)
ثقيلاً يشق عليه الحضور سقطت عنه الجمعة.
خامساً: المسافر
ثم يأتي بالرواية الأخرى ويضيف إلى ذلك خامساً وهو: المسافر.
والمسافر في الجملة حصل الاتفاق على أنه لا جمعة عليه، وذلك أن
النبي صلى الله عليه وسلم سافر في غزوات عدة ولم ينقل عنه أنه صلى
الله عليه وسلم في أي غزوة ولا في أي سفرة صلى جمعة، بل بالإجماع
كان السفر للحج والوقوف بعرفة في حجة الوداع يوم الجمعة، ولم يثبت
أنه صلى الجمعة، بل صلى الظهر ركعتين قصراً والعصر ركعتين وجمع
بينهما. ولما جاء أبو يوسف ولقي مالكاً رحم الله الجميع
وتذاكرا هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات جمعة أم صلى
ظهراً؟ فقال مالك : صلى ظهراً. فقال أبو يوسف : ألم يصل
ركعتين ويخطب بالناس؟ قال مالك : بلى. قال: هذه هي الجمعة
ركعتان مع الخطبة. قال: أرأيت جهر بالقراءة أم أسر بها؟ قال: أسر
بها. قال: هذا الظهر، والجمعة يجهر فيها بالقرآن، وهكذا أيها
الإخوة أسلوب العلماء في المذاكرة دون مناكرة أو شقاق أو غضب أو
شيء من ذلك، فرجع كل إلى الأصل واقتنع أبو يوسف رحمه الله أن
صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة كانت ظهراً، وبهذا اتفقوا
في الجملة على أن المسافر لا جمعة عليه. ولماذا لا جمعة عليه؟
قالوا: لأن المسافر تلحقه مشقة، ومن عناء السفر قصرت عليه الصلوات
الرباعية فهو في حاجة ومشقة، فتكليفه بحضور الجمعة بما لها من شروط
قد يلحق به مشقة زائدة. ولهذه النظرة نجد بعض الفقهاء يفصل قالوا:
المسافر على حالتين: - مسافر عابر سبيل، نزل بقرية في يوم الجمعة
وهو على نية الرحيل في يومها، أي: أنه على ظهر طريق، فهذا يتفقون
على أنه لا جمعة عليه. - مسافر نزل في قرية قبل الجمعة بيوم أو
يومين وسيستمر بعد الجمعة بيوم أو يومين فقالوا: هذا مسافر، ولكن
نزل واستقر، فانتفت عنه مظنة التعب والمشقة، فهذا عليه أن يأتي،
والجمهور قالوا: مادام أن له حكم المسافر وله يقصر الصلاة على ما(2/159)
تقدم في مدة المقيم إقامة مؤقتة، فحينئذٍ حكم السفر مازال معه
واليوم كاليومين إلى الأربعة الأيام سواء. إذاً: المسافر والذي نزل
نزولاً مؤقتاً في طريقه فإنه لا جمعة عليه، وإذا حضر، قالوا: إذا
حضر تحتسب له وتجزئه عن يومها، ولكن لا يكون في عدد الجمعة لماذا؟
لأن الأصل سقوطها عنه. إذاً: هؤلاء الخمسة الأشخاص لا جمعة عليهم.
نجد أن هناك قولاً منفرداً، وهو يأتي عن أبي يوسف رحمه الله
صاحب أبي حنيفة رحمه الله؛ يقول: يلحق بهؤلاء الخمسة الأعمى؛
لأنه تلحقه المشقة في حضور الجمعة، ولكن كما قال ابن قدامة في
المغني: هذا قول شاذ؛ لأن الأعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم
يعتذر عن حضور الجماعة وقال: بيني وبين هذا المسجد هذا الوادي وليس
لي قائد، وفي الطريق كذا وكذا.. واسترخص بأن يصلي في بيته فأذن له،
وبعد أن أدبر دعاه فقال: أتسمع النداء؟ قال: بلى قال: أجب، فيقول
الجمهور: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص له في ترك
الجماعة في الصلوات الخمس، والجمعة آكد، فلأن لا يرخص له في الجمعة
من باب أولى. إذاً: الذي عليه الجمهور هو أن الجمعة تسقط عن خمسة
أصناف: المملوك والمرأة والصبي والمريض والمسافر على ما تقدم،
وبالله تعالى التوفيق.
من آداب المستمعين مع الخطيب استقباله بوجوههم
[ وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى
الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا ) رواه
الترمذي بإسناد ضعيف، وله شاهد من حديث البراء عند ابن
خزيمة . وعن الحكم بن حزن رضي الله عنه قال: (شهدنا الجمعة
مع النبي صلى الله عليه وسلم فقام متوكئاً على عصاً أو قوسٍ )
رواه أبو داود ]. بعد أن بين وجوب الجمعة على الأعيان وأنها
فرض عين، ومن استثنى من ذلك من تلك الأصناف الخمسة ذكر آداب
المصلين مع الخطيب فقال: إذا جلس صلى الله عليه وسلم على المنبر
-أي: للخطبة- استقبلناه بوجوهنا. العادة الطبيعية أن المصلين(2/160)
مستقبلون القبلة، والمنبر في قبلية المسجد، فإذا صعد الإمام اتجه
إلى الشمال والمصلون متجهون إلى القبلة، فهم مستقبلون بوجوههم،
ولكن هذا يصدق لمن هو باتجاه المنبر سواء، أما ميمنة الصف وميسرة
الصف فليسوا مستقبلين، إذاً: على من يكون في الميمنة أو في الميسرة
أن يستدير ويستقبل الخطيب بوجهه، وليس بلازم أن يستدير بجسمه
كاملاً بأن يكون واجهته إلى المنبر. ولو كان جالساً وأدار وجهه إلى
الخطيب مستقبلاً القبلة بصدره، ومديراً وجهه إلى الإمام على المنبر
مستقبلاً إياه بوجهه، فهذا من علامات الأدب والإصغاء، والنظر إلى
الخطيب وهو يخطب ومتابعته في هذه الحالة توكيد للسماع وتقوية
للمعنى؛ لأن حواسه كلها مع الخطيب يسمع بأذنه ويرى بعينه. وعلى هذا
تكون السنة ونحن بالمسجد النبوي فيها مشكلة؛ لأنه دون بقية
المساجد، فالمنبر يوجد في حد المسجد النبوي الأول في عهده صلى الله
عليه وسلم، ثم جاءت الزيادة التي في القبلة على سمت باب السلام إلى
الحجرة، وكانت تسمى الطُرقة (طُرقة باب السلام) طرقة المُسلّمين
على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والآن مكان المنبر لا يمكن أن
يغير؛ لأنه موضوع على ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف
المنبر إلى القبلة عدة صفوف أربعة.. خمسة.. ستة على حسب الزحام،
ماذا يفعل أولئك الذين في جلوسهم مستدبرين المنبر؟ السنة أن
يواجهوا الخطيب بوجوههم ولا يعطونه ظهورهم؛ لأن هذا من علامات
الإعراض، وبعضهم يقول: كيف نستدبر القبلة ونستقبل المنبر، ولكن لم
أجد من استثنى ذلك المكان، فاستقبال الخطيب بالوجه في عامة المساجد
هي السنة، ولا يوجد تساؤل إلا في هذا المسجد النبوي وبالنسبة لطرقه
فقط. كذلك الخطيب في مكة المصلون مستقبلون المنبر طبيعياً؛ لأنهم
يستقبلون الكعبة بشكل دائمٍ، والمنبر لاصق بالكعبة، فغاية ما هناك
أن الذين تقع الكعبة بينهم وبين المنبر لا يستطيعون أن يتطاولوا(2/161)
عليها ولا أن يزيلوها، لكنهم استقبلوا الخطيب بوجوههم، فسواء حصل
حاجز أو لم يحصل فذلك ليس بأيديهم. إذاً: السنة في المستمع أن
يستقبل الخطيب بوجهه. ولذا اتفق الجميع -ما عدا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله ولكن الصحيح عنه كقول الجمهور- أن السنة في السلام على
النبي صلى الله عليه وسلم أن تستقبله بوجهك وتستدبر القبلة؛ لأن
أدب الخطاب أن تواجه من تخاطب، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (ما
من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي فأرد عليه السلام )،
فهل تريد أن يرد عليك السلام وأنت مدبر عنه؟ وعند الإمام أبي حنيفة كما ينقلون عنه: إن الأدب أن يقف بجانب الحجرة فيجعلها عن يساره أو
عن يمينه، ويستقبل القبلة عند السلام؛ لأن السلام قربة وعبادة،
وقبلة القربة والعبادة الكعبة، فيستقبل الكعبة بوجهه ويسلم على
النبي من جانبه كما يحدث شخص إنساناً آخر عن جانبه، ولكن الذي
رأيناه في مسند أبي حنيفة رحمه الله -وهو مطبوع مع مسند
الشافعي رحمهما الله- رواية أبي حنيفة أن السنة والأدب أن
تستقبل النبي صلى الله عليه وسلم أي: الحجرة الشريفة عند السلام
عليه. فيكون قد وافق الجمهور في أن الأدب عند السلام على النبي صلى
الله عليه وسلم أن يستقبل الحجرة الشريفة فيستقبل وجه النبي صلى
الله عليه وسلم.
اتكاء النبي صلى الله عليه وسلم على العصا والقوس وقت الخطبة
[وعن الحكم بن حزن رضي الله عنه قال: (شهدنا الجمعة مع النبي
صلى الله عليه وسلم فقام متوكئاً على عصاً أو قوسٍ ) رواه أبو
داود ]. توكؤ الخطيب على شيء في يده مظهر من مظاهر الخطابة عند
العرب قبل وبعد الإسلام، فكانوا إذا كان الخطيب في قوم لابد أن
يكون على نشز مرتفع أو على ظهر ناقته أو جواده؛ لأنه بارتفاعه يشرف
على أكثر عدد ممكن، وبارتفاعه يبلغ صوته أكثر مما لو كان منخفضاً.
ومن هنا كانت الخطبة على المنبر، وإن كان أصل المنبر في المسجد(2/162)
النبوي الشريف شفقة بطول قيام رسول الله، كان صلى الله عليه وسلم
يقوم على قدميه في الروضة فيخطب متكئاً على جذع، فكان يتكئ عليه
ويخطب، فرأت امرأة من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف
ويطيل القيام، ويبادل بين قدميه لطول الوقوف، فقالت: يا رسول الله!
إن لي غلاماً نجاراً فهل تأذن له أن يصنع لك منبراً تجلس عليه حين
تقوم، فأذن له، فذهب الغلام وجاء بأعواد من الطرفة من الغابة عند
ملتقى الأسيال وراء بئر رومة وصنع المنبر من ثلاث درجات، درجة
أولى، والدرجة الثانية عليها القدمان، والدرجة الثالثة يجلس عليها،
فانتقل صلى الله عليه وسلم من موقفه واقفاً إلى موقع المنبر للجلوس
عليه. وكان من شأن الجذع أن حن لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
وسمع المصلون حنين الجذع لرسول الله ونزل إليه فالتزمه كما يهدئ
الأب ولده أو الأم طفلها وقال: (إن شئت أخذتك فغرزتك فأورقت وأثمرت
وأينعت، وإن شئت كنت من غرس الجنة؟ قال: أريد أن أكون من غرس
الجنة، فدفنه صلى الله عليه وسلم في الروضة في أصل المنبر ).
إذاً: صنع المنبر ابتداءً لراحة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكان من ثلاث درجات كما هو معلوم، فجاء الناس وصنعوا المنبر
واعتبروه من جهة راحةً للخطيب ومن جهة للإشراف عليهم ليكون أدعى
لانتشار الصوت وبعده. ولهذا كانت السنة أن الخطيب يكون على مكان
مرتفع فإلم يكن فعلى ظهر بعيره، وإلا فعلى ظهر فرسه، فجاء الإسلام
وجعل المنبر للخطيب، وكان الخطيب يعتمد على قوسٍ أو عصا، فالقوس من
أدوات القتال والعصا من أدوات التوكؤ فيقول الأدباء: إذا كان موضوع
الخطبة يتعلق بالقتال والجهاد من هذه الناحية كان الاتكاء على قوس
إشعاراً بجدية الموضوع، وإن كانت الخطبة مثلاً في أمور سلمية اتكأ
على عصا؛ لأن العصا تشعر بعدم الحرب، والقوس يشعر بالشدة والقتال.
فهنا كلمة (أو) تكون مشعرة بالشك، أو أنه أحياناً يتكئ على قوس(2/163)
وأحياناً على عصا، فأحياناً صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ويهيئ
الجيوش فيندبهم إلى القتال، والذي يناسب في هذه الحالة أن يكون
متكئاً على قوس. وأحياناً يخطبهم ويبين لهم بعض ما يرد عليه أو بعض
ما يعرض لهم من إشكالات وأحياناً يقول: أيها الناس! احضروا المنبر،
ويكون لأمر دنيوي أو تشريعي فيكون الاعتماد على عصاً، ولو كان على
المنبر، والاتكاء -أيها الإخوة- أثناء الخطابة يساعد الخطيب على
استرساله في موضوعه. ومن العجيب أنهم كانوا في أثناء القتال في
التاريخ الأول يأتي الخطيب وبيده السيف، فيصعد المنبر وهو مستل
سيفه يتكئ عليه، فيخطب وهو متكئ على السيف بدلاً عن القوس وإذا جئت
إلى بعض مساجد الأرياف خارج المملكة تجد السيف مصنوعاً من خشب على
المنبر يحاكي ما كان سابقاً فيأتي الخطيب ويصعد المنبر وبيده سيف
من خشب، لا حول ولا قوة إلا بالله! تقليد! والسيف الخشب سيشعر
بقتال. إذاً: انتقلت تلك العادة حتى أدت إلى هذا التقليد بهذه
الحالة، ولكن لابد إما أن يكون عصاً فعلاً وإما أن يكون قوساً،
فإذا لم تدع الحاجة لذلك ولا يوجد، ولا تعود الناس على ذلك صعد
وأمسك بيده جانب المنبر، وبعضهم يقول: يضع اليمنى على اليسرى،
وبعضهم يقول: اليدين على جانبي المنبر.. إلى آخره. ويذكر بعض
الأدباء في عادة الخطباء أنه لابد أن تكون يده في شيء محسوس. وبعض
النكت عن بعض الأدباء يقولون: مفتاح عقل الخطيب في شيء يتعوده،
وذكروا عن خطيب غير عربي كان بليغاً جداً، ولاحظ شخص أنه عند
الحديث يمسك زرار السترة، ويعبث به طيلة ما يتكلم، فجاء إنسان وعند
بدئه للصعود للخطبة قطع هذا الزرار، فوقف ليخطب فأخذ يحسس ويطلب
الزرار فلم يجده فضاع عليه المفتاح، فلعله من باب شيء في يده محسوس
على حسب ما تعود يساعده حتى يسترسل في موضوعه إلى غير ذلك، لكن
الأصل كما يقول الأدباء: أن يعتمد الخطيب على شيء إما عصا أو قوس(2/164)
وذلك بحسب مناسبة الخطبة، وكما يقال: لكل مقال مقال. وهنا يا إخوان
ينبه العلماء: أنه إن اعتمد على عصا أو قوس إنما يكون لمجرد
الاعتماد، لا أن يرفعها للتهديد أو يدق المنبر بها، إنما تكون في
يده يعتمد عليها، إذاً: عمل للعصا ولا للقوس، وإنما هي اتباع لسنة
النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يدق بها درج المنبر أو يشهرها على
الناس أو يهدد بها.
( كتاب الصلاة - باب صلاة الخوف )
عناصر الموضوع
1 ذكر بعض المظاهر والآداب في يوم العيد
2 مكان صلاة العيد والأفضل فيه
3 أحكام تختص بها الحائض
كتاب الصلاة - باب صلاة العيدين [1]
جعل الله يوم العيد يوم فرحة للمسلمين، وشرع لهم فيه الخروج إلى الصلاة
رجالاً ونساء، وشرع ليوم العيد آداباً وسنناً، وجعل للمسلم الحق في
التوسعة على أهله وعياله مع مراعاة حقوق إخوانه وجيرانه.
ذكر بعض المظاهر والآداب في يوم العيد
سنة خروج عموم نساء المسلمين إلى المصلى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن
والاه، وبعد: فيقول المؤلف: [وعن أم عطية رضي الله عنها قالت:
(أمرنا أن نخرج العواتق والحيض في العيدين يشهدن الخير ودعوة
المسلمين، ويعتزل الحيض المصلى ) متفق عليه]. حديث أم عطية هذا له عدة جوانب في باب التشريع للصلاة، وفي النواحي الاجتماعية
في الإسلام وفي المدينة آنذاك. وهذا الحديث فيه قولها: (أمرنا)،
والآمر هنا معروف؛ لأن الذي يملك سلطة الأمر في ذلك الوقت هو النبي
صلى الله عليه وسلم، وتذكر بعض المراجع أن الرسول صلى الله عليه
وسلم جمع النسوة في بيت، ثم بعث إليهن عمر رضي الله تعالى عنه،
فوقف في الباب، فسلم ثم قال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه
وسلم إليكن أن تخرجن إلى المصلى. فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر
النسوة أن يخرجن يوم العيد إلى المصلى كما يخرج الرجال، وأم عطية رضي الله تعالى عنها تبين لنا مدى عمق وشمول هذا الأمر لجميع(2/165)
النساء حتى العواتق. والعواتق من النسوة: اللاتي لا يخرجن، فهن
قاصرات في بيوتهن مخدومات مكفيات مئونة الخروج؛ لأن النسوة على
أقسام حسب مراتب الحياء، فهناك امرأة تخرج وتلقى الرجال، وربما
باعت واشترت في الأسواق، ومن النسوة من تخرج من بيتها لقضاء حاجتها
فقط وترجع، ومن النسوة من لا تخرج حتى من بيتها. وقد قال بعض
الشعراء يبين حالة امرأة تزور جارتها: كأن مشيتها من بيت جارتها
مور السحاب بلا ريث ولا عجل فعابت عليه امرأة فقالت: جعلتها خراجة
ولاجة، هلا قلت كما قال الآخر: تعتل عن جاراتها فيزرنها .... أي:
تعتل وتعتذر من أن تزور الجيران، وجيرانها يأتين لزيارتها، وهي
معتكفة في بيتها، فهذا الصنف من النساء خروجه قليل وثقيل عليه،
فالمرأة التي لم تعهد الخروج يكون الخروج ثقيلاً عليها، كما أن
المرأة المعتادة الخروج يكون جلوسها في البيت ثقيلاً عليها. فتبين
لنا أم عطية بأن الأمر شمل الحيّض، والنسوة غير الحيّض يمكن أن
يصلين، وأما خروج الحيض، فقد قالوا -كما في هذا الحديث-: ليشهدن
بركة ذلك اليوم، ويشهدن الدعوات بالخير. وناحية أخرى عند العلماء:
وهي أن الغرض من إخراج النسوة مع الرجال في ذلك اليوم إظهار كثرة
عدد المسلمين أمام العدو، فكأنه استعراض للعدد الموجود عند
المسلمين، وآنذاك كانت في المدينة اليهود بقبائلها المتعددة إلى أن
انتهى أمرهم في آخر الأمر مع غزوة الأحزاب في السنة الرابعة من
الهجرة.
التعاون الاجتماعي يوم العيد
هناك مسائل في هذه الحديث، منها ما ذكره البخاري رحمه الله حيث
أورد أن الحيض يعتزلن المصلى؛ فهذا جانب فقهي؛ لأنهن لا يصلين،
فإذا كانت صلاة العيد في المسجد هل يدخلن المسجد، أم يكن خارج
المسجد؟ ومن ذلك أن المرأة إذا أرادت أن تخرج امتثالاً لأمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم، قد لا يكون عندها ما تلبسه لتخرج به أمام
الناس، ولهذا بعض العلماء يقول: إذا أردتم أن يجلسن في البيوت فلا(2/166)
تلبسوهن ثياباً فاخرة؛ لأن المرأة إذا وجدت ثياباً فاخرة دعاها ذلك
للخروج لتفاخر بلباسها، فإذا لم تجد شيئاً فترت نفسها وقعدت. وقد
جاء في الأثر أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا
رسول الله: أمرت النساء يخرجن، وإحدانا لا يكون لها جلباب تخرج به!
والجلباب: هو الشيء الذي فوق الثوب العالي، مثل العباءة ونحوها.
فلم يعذرها صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: (لتلبسها أختها من
جلبابها ) فأتانا بتعاون اجتماعي، فمن لم يكن عندها ما تخرج به
وأختها عندها زائد من اللباس فعليها أن تعطيها؛ لتشاركها فرحة ذلك
اليوم. فمن الناحية الاجتماعية نقول: إن على كل إنسان أن يتفقد
جيرانه في العيد، فكما تذهب بصرتك وتأتي بثياب جديدة لأبنائك، وهم
سيلبسونها خارج البيت، فانظر إلى أبناء الجيران هل عندهم من ذلك
شيء، أم أنهم أيتام ليس هناك من يأتيهم بشيء فتنكسر قلوبهم. إن
ألزم ما يكون على الإنسان من باب البر والطاعة، ومن باب المراعاة
مراعاة حال هؤلاء في ذلك اليوم، وقد جاء ما هو أبعد من هذا، وهو أن
المرأة إذا طبخت وخرجت ريح قدرها فلتغرف لجيرانها، وإذا اشتريت
الفاكهة لأبنائك فمرهم أن يدخلوا بها داخل البيت، فإذا خرجوا بها
في الشارع فأطعم منها أولاد جيرانك؛ لأنهم رأوها، فإن تأخذها إلى
بيتك وتطعم أولادك ولا أحد ينظر فلا مانع، لكن أن يخرجوا بها في
الشارع، وينظر إليها أولاد الجيران، وليس عندهم منها شيء، ولا
استطاعة لهم على شرائها، فإنك تكون قد كسرت قلوبهم. ففي هذا الحديث
من التوجيه الاجتماعي الشيء العظيم، فالمرأة أشد ما تكون بخلاً حين
تملك الحلي وأدوات الزينة، وهنا يأمرها صلى الله عليه وسلم أن تعطي
أختها، وليست أختها بنت أمها وأبيها، لكن أختها في الإسلام،
كجارتها ونحوها.
حكم الضرب بالدف يوم العيد
جاء في شأن هذا اليوم ما ذكره البخاري رحمه الله عن أم
المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل علي النبي صلى الله(2/167)
عليه وسلم يوم عيد وعندي جاريتان للأنصار يغنين بغناء يوم بعاث،
ويضربن على الكربال ) والكِربال بالكاف المكسورة، وبعض الناس
يحرفها فيقول: (الغُربال)، والكربال: هو الدف الذي لا شناشين فيه،
فإذا وضعت فيه شناشين سمي المزهر. قالت: (فدخل أبو بكر علي،
فأخذ يلهزني ويعاتبني: أمزامير من مزامير الشيطان في بيت رسول
الله؟ ). والجواري هنا إما بمعنى مملوكات، أو بمعنى: بنات صغار،
فإذا بلغت الجارية تسعاً فهي امرأة، وتطلق الجارية على الفتاة
الصغيرة دون البلوغ. وقالت : (فدخل رسول الله فتمدد على فراشه،
وغطى وجهه، واستدار عنا )، وهنا يقال: أسمع ذلك من الجاريتين أم
لا؟ أسمع الكربال يضرب عليه أم لا؟ ولكنه سكت صلى الله عليه وسلم،
فدخل أبو بكر فعاتب عائشة ، فكشف وجهه وقال: (دعهما يا أبا
بكر ، إن هذا عيدنا ) تقول رضي الله تعالى عنها: فلما غفل
غمزت إليهما أن انصرفا. فهاتان جاريتان تدخلان على عائشة تغنيان عندها، وفي بعض الروايات: (وليستا بمغنيتين) أي: تحكيان
الغناء، وليستا محترفتين للغناء؛ وهذا مثلما يقع في البيوت، فالذي
عنده بنات أو حفيدات يوم العيد أو في مناسبة أخرى إذا لم يكن عندهم
هذا الكربال يأتون بغيره يدقون عليه ويغنون، وليس هذا من باب
احتراف الغناء، ولكن محاكاةً وفرحة وبهجة. فالجاريتان أتتا إلى بيت
رسول الله فاستقبلتهما عائشة ، وفسحت لهما، فيدخل رسول الله
ويشاهد هذا الحدث، وليس هو بالراغب في سماعه، وليس بالممانع من
وقوعه، فنام وغطى وجهه، فتغطيته لوجهه دليل على أنه مترفع عن مثل
هذا، وكونه على فراشه يسمع دليل على إقراره، أي: أقر ما يكره مما
لا يتناسب مع مقام النبوة، ولكنه بحاجة إلى هؤلاء الناس، فأباحه
لهذا ولم ينكر عليهم. فأنت -أيها الداعي- كن حكيماً فراعِ شعور
الناس، وراع المناسبات، وإذا كان هناك ما تكرهه وأنت مترفع عنه في(2/168)
درجة عالية، فانظر إلى الآخرين، وليكن ذلك بحكمة، فأبو بكر رضي الله تعالى عنه لم يراع ما راعاه رسول الله، فأنكر المنكر في
بيت رسول الله، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن له العلة:
(إنه يوم عيدنا . ) وفي رواية ساقها ابن حجر في فتح الباري
أنه قال: (يا أبا بكر ! دعهما؛ لتعلم يهود أن ديننا دين
السماحة )، فليس هناك تشدد وغلو إلى أقصى حد، وكذلك ليس هناك
انسياب وضياع، فهي مراعاة ليوم واحد في السنة، وليس هناك منكر،
وليستا مغنيتين محترفتي الغناء، وإنما هو لعب أطفال في بيت من
البيوت، وهذا أمر يغتفر ويسامح فيه. وزد على هذا ما ذكره البخاري رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل
الأحباش المسجد يلعبون بحرابهم. والأحباش: جمع حبشي، من أهل
الحبشة، وأهل الحبشة يحبون الطرب، وكل الأفارقة يحبون الطرب،
فأخذوا يلعبون في المسجد بحرابهم. تقول أم المؤمنين عائشة رضي
الله تعالى عنها: إما سألني وإما طلبته، وجاء في بعض الروايات قال:
(أتحبين أن تري يا عائشة ، فقامت وقام معها رسول الله، تقول:
وقف خدي على خده يسترني، وأنا أنظر، ثم يقول: دونكم يا بني أرفدة،
دونكم يا بني أرفدة ) وهذا لقبهم، ومعنى (دونكم) انتظروا
واصبروا. فإذاً: سمح لهم رسول الله، ثم سمح لزوجه أن تنظر إليهم،
وقد دعا هذا إلى استغراب شراح الحديث، إذ كيف تنظر إلى الأجانب،
وكيف يرضى لها بذلك صلى الله عليه وسلم، والجواب: أن عائشة في
ذلك الوقت لم تبلغ خمس عشرة سنة؛ لأنها عقد عليها صلى الله عليه
وسلم وعمرها سبع سنوات، ودخل عليها وعمرها تسع سنوات، في أول سنة
أو ثاني سنة من الهجرة، وهذا اللعب كان سنة خمس، فلم تكن قد بلغت.
وهذا كله لا يلزم ما دام أن الرسول معها وهو يسترها، وسمح لها أن
تنظر، فلا حاجة إلى ذلك، فما المانع -لو وجد مثل هذا- أن يسمح
الرجال للنساء ما دام هناك ستر وليس هناك اختلاط، فهي في بيتها وفي(2/169)
حجرتها، وهم في المسجد.
حال المسلم مع أهله وإخوانه من المسلمين يوم العيد
وقد تكلم العلماء -وخاصة الشافعية- على أن يوم العيد ينبغي أيضاً
أن تظهر فيه البهجة للصغار، وأباح بعضهم أن يلبس الصغار من الثياب
المصبغة بالألوان -أعني الأولاد الذكور- ولو حلُّوا بالذهب، ولو
ألبسوا الحرير؛ لأنهم ليس عليهم تكليف. والآخرون يقولون: التكيف
على وليهم، فكيف يلبسهم الحرير، والحرير ممنوع على الرجال؟ ولكن
ينبغي أن نعلم أن تحلية الأولاد بالذهب خطأ، ولا ينبغي لنا، سواء
أكان بنتاً أم ولداً إلا إذا كانوا داخل البيت لا يخرجون إلى
الشارع؛ لأن في تحلية الصبية بالذهب خطر على حياتهم، كما حصل في
قضية الجارية مع اليهودي كما سيأتي في الحديث، فقد وجدها في أطراف
المدينة في خربة، وعليها أوضاح من ذهب، فرضخ رأسها بين حجرين وأخذ
الذهب منها، فأُتيت وهي في الرمق الأخير، وأخذوا يقولون: من فعل بك
هذا؟ لكن لم تستطع أن تتكلم، ثم أخذوا يعرضون عليها الأسماء: فلان.
فلان. فلان، حتى ذكر اسم يهودي فأومأت برأسها أن نعم، فجيء به
فاعترف، فرض رأسه بين حجرين. فسبب قتلها هو الذهب، فبريق الذهب سلب
بصره وبصيرته، فقتلها من أجل هذه الأوضاح، ولو كثرت معنا الأموال
فعلينا أن نصونها، وإذا جعلنا للطفلة حلياً فليس هناك مانع، وبعض
الآباء عندهم عقل، فكل هدية تأتي للطفلة من الذهب يخزنونها إلى وقت
زواجها، لكن أن تلبس الذهب وتخرج تنظر يميناً ويساراً هذا خطر
عليها، فالعلماء -خاصة الشافعية كما ذكره النووي في المجموع-
يقولون: لا بأس أن يجمل الصبيان بالحرير، وبالثياب المصبغة
الملونة. ونحن نرى الطفل عمره ثمان سنوات أو سبع ونصف وعليه حلة
ضابط برتبة مقدم، وهو لا يستطيع أن يضبط نفسه، لكن من باب الزينة
ومن باب التجميل وتفريح الأولاد؛ لأن يوم العيد يجب أن تكون فيه
سعة، ويجب أن يكون فيه إدخال السرور على الجميع، ويجب أن يكون فيه(2/170)
توسعة على العيال. وكما قلنا: مع مراعاة حقوق الجوار، فلا توسع على
نفسك وأولادك وفي بيتك، وبجوارك أيتام جياع لا يجدون كسرة، ووالله
لو لم يأت دين ولم تأت سنة في ذلك، لكانت المروءة والإنسانية
توجبها. وقد روي أن عروة بن الزبير كان كريماً جداً، وكان في
سفر ومعه غلام، فانقطعا في ليلة وضلا عن الطريق، فرأيا ناراً
فقصداها، فإذا بعجوز وشيخ كبير وبيت من الشعر، فحياهما، ثم دخل
الشيخ على العجوز وقال لها: ما عندك لضيفنا؟ قالت: والله ليس عندي
إلا تلك الشاة التي تسقي حليبها ابنتك، ولا تأكل شيئاً إلا حليبها.
فقال: اذبحيها للضيف، قالت: أتقتل ابنتك؟ قال: لابد من ذبحها،
فذبحها وأطعم الضيوف! وفي الصباح قال عروة لغلامه: هل بقي معك
شيء؟ قال: نعم، معي ألف دينار، قال: ادفع خمسمائة للرجل، قال:
خمسمائة وشاته تساوي نصف دينار! قال: ويحك، إنه أكرم منا، قال:
كيف؟ قال: لقد أكرمنا بما فيه حياة ابنته، أما أنت فتكرمه بنصف ما
معك، فهو والله مع ذلك أكرم منا. وهذا يؤيد ويوضح لنا ما كنا
نستكثره في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: (سبق
درهم مائة ألف درهم قالوا: وكيف هذا يا رسول الله؟ قال: رجل عنده
درهمان فتصدق بأحدهما، ورجل عنده مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة
ألف وتصدق بها )، فصاحب الدرهمين أكرم؛ لأن صاحب الدرهين تصدق
بـ(50%) من رأس ماله، وصاحب المال الكثير تصدق بأقل من ذلك من رأس
ماله، وبقى له شيء كثير جداً، فدرهم أكرم وأجود وأعظم صدقة من مائة
ألف درهم. فمن التوسيع في يوم العيد أن تُلبس المسلمة أختها
جلبابها إذا كانت لا تملك ولا مانع، وقد ذكر لي أنه في زمان كان
الرجل يستر قريبته بكيس السكر أو الأرز من الفقر، وكان رجل عنده
ثوب، فكل امرأة لها حاجة تأتي وتستعير ثوبه، حتى أصبح مشهوراً،
فتذهب به إلى حاجتها وترجع، وهذا من التعاون، فيجب على الموسر أن(2/171)
يفيض على المعسر، والواجد يجب أن يفيض على من لم يجد، ولا ينبغي أن
ينسى الإنسان إخوانه، وقد قالوا: وما يدري الفقير متى غناه وما
يدري الغني متى يعيل فالغني لا يدري متى يعيل ويفتقر، والفقير لا
يدري متى يغنيه الله وقيل: وما تدري وإن زمرت ثقباً يكون لك أو
لغيرك الفصيل فإذا أنتجت الناقة عندك، ونظفت ولد نتاجها عند ولادته
واعتنيت به، فإنك لا تدري أيكون لك، أم تتركه ويكون لغيرك. فعلينا
أن نتفقد أحوالنا في أيام العيد، وليس في العيد فقط، فالعيد نموذج
ومظهر عام، فعلينا التفقد في جميع أحوالنا وفي جميع أوقاتنا،
والتوفيق من الله.
مكان صلاة العيد والأفضل فيه
وحديث أم عطية الذي بيْن أيدينا فيه أن الخروج كان إلى المصلى،
وقد جاء في فتح الباري عن زيد بن ثابت أنه سئل -وكذلك رواية
ابن عباس - : أتعرف العلم الذي كان في المصلى؟ قال: نعم، عند
دار فلان بن الصرد، والآن مسجد الغمامة يقال له -أيضاً-: مسجد
المصلى، فمصلى العيد كان هناك. فكان صلى الله عليه وسلم يخرج
بالناس إلى ذلك المكان لسعته، ويصلي العيد هناك، ووردت كلمة
العَلَم لكون أمية بن الصلت كان قد وضع منبراً، أو وضع علماً
هناك؛ لأن بيته كان قريباً منه. فوضع العلم لمكان مصلى رسول الله
فيه حفظاً للأثر، قالوا: لم يكن هناك منبر؛ لأن المنبر ما بني أو
صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا وضع في المسجد النبوي منبر
إلا في السنة الثامنة من الهجرة، وقبل ذلك كان يخطب متكئاً على
الجذع. قال بعضهم: ما بين باب المسجد إلى موضع منبر رسول الله من
مصلى العيد ألف ذراع. وبعد ذلك جاءت خلافة أبي بكر رضي الله
تعالى عنه، فما جعل منبره لصلاة العيد موضع منبر رسول الله تأدباً
مع رسول الله، فأخذ ميمنة، فمسجد أبي بكر على ميمنة مسجد
الغمامة، ثم جاء عمر رضي الله تعالى عنه، فما جعل منبره موضع
منبر رسول الله، ولا موضع منبر أبي بكر ، ولابد له أن يتحول،(2/172)
فإن ذهب وراء أبي بكر بعد كثيراً عن مصلى رسول الله، فجاء إلى
اليسار مقابل أبي بكر . ولذا يجد من ورد هذا المكان أن هناك هذه
المساجد، مسجد المصلى، ومسجد أبي بكر، ومسجد عمر، ولم يكن لأبي
بكر ولا لعمر رضي الله تعالى عنهما أن يتخذا لأنفسهما
مسجداً ويتركا مسجد رسول الله، ولكن بعد مائة سنة جاء عمر بن عبد
العزيز وكان أميراً على المدينة لبني أمية، فوضع مكان ذلك
المعلم، ومواقع مصلى أبي بكر وعمر ما يشبه المسجد حفاظاً
على المكان، ثم تطور بعد ذلك، فما يسمى الآن بمسجد أبي بكر ومسجد
عمر لا يصح أن يظن أحد أن أبا بكر وعمر يتخذان مصلى
ومسجداً ويتركان مسجد رسول الله. وبناءً على هذا فالأصل خروج الناس
إلى الخلاء لصلاة العيد؛ لأن الخلاء فيه سعة، فيسع الرجال والنساء
والصبيان، والمبحث في هذا سيأتي لمناسبة في نهاية الباب حيث كانوا
في حالة مطر فصلى بهم رسول الله في المسجد النبوي. ومن هنا يقول
العلماء: إذا كان المسجد يسع الرجال والنساء والصبيان، فالأفضل أن
تكون الصلاة في المسجد؛ لأن بقعة المسجد خير من بقعة المصلى، ولهذا
قالوا: أهل مكة وأهل المدينة يصلون في مسجديهم ولا يخرجون منهما.
وأما بقية المدن وبقية القرى فيكون لها مصلى يسع الرجال والنساء
حينما يخرج الجميع لصلاة العيد، فأم عطية رضي الله تعالى عنها
تبين لنا بأن ذلك بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما وراء
ذلك من الحكمة ما جاء النص عليه: (يشهدن بركة ذلك اليوم) فهؤلاء
العواتق يخرجن، يوماً في السنة، وكذلك الحيض يشاركن في دعوة الخير،
ويحصلن دعوة الخير ويرجعن إلى بيوتهن، والله سبحانه وتعالى أعلم.
أحكام تختص بها الحائض
وأما اعتزال الحيض فلأنهن لا يصلين، وكأن أم عطية تقول: الحائض
لا تدخل المسجد، وهذا واحد من عشرة أو اثني عشر حكماً تتعلق
بالحيض، فالحيض يمنع المرأة من عدة أشياء، فبعضهم ذكر أنها عشرة،(2/173)
وبعضهم ذكر أنها اثنا عشر، وبعضهم ذكر أنها خمسة عشر. أما المكث في
المسجد فممنوع؛ إذ قد أجمعوا على منع الحائض من المكث في المسجد.
وأما مرورها إن كانت لها حاجة، فقد استدلوا له بحديث عائشة رضي
الله عنها -وغيرها من أمهات المؤمنين- أن النبي صلى الله عليه وسلم
وهو في المسجد قال لها: (ناوليني الخمرة ) وهو في المسجد
-والخمرة: شيء يشبه السجادة من خوص النخل- فقالت: إني حائض، قال:
(حيضتك ليست بيدك ) وهذا بخلاف الأحناف القائلين: الحيضة حلت في
اليد فلا تمس المصحف. والذي يهمنا أنها جاءت بالخمرة ودخلت وناولت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا قالوا: مجرد العبور جائز إن
وجدت حاجة، فلو أن الحائض تمشي في الطريق ولحقها ما يؤذيها، ولم
تجد فراراً إلا إلى المسجد فدخلت المسجد، وخرجت من الباب الثاني
فلا مانع. وأما حديث: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب ) فقد
اتفق العلماء على أن الشخص إذا أجنب وكان الماء في المسجد كما هي
حالة الناس سابقاً، فله أن يدخل ليأخذ ماءً من بئر المسجد ليغتسل،
إذا لم يجد غيره. فمما يمنع منه الحيض ما سبق. وكذلك يمنع الوطء؛
لقوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا
النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]،
وكذلك يمنع الصلاة، وبعضهم يناقش هنا فيقول: هل يمنع الحيض فعل
الصلاة، أو يرفع وجوب الصلاة؟ وهذه ناحية أصولية ليس لنا شغل بها،
وأحسن من ناقشها الباجي لمن يريد أن يرجع إليه، فيمنع فعل
الصلاة ولا تصح منها، وهي آثمة إن تعمدت فعلها، وكذلك صحة الصوم،
والمباشرة فيما دون الفرج على خلاف، وحمل المصحف ومسه، وقراءة
القرآن -وهذه عند المالكية فيها نقاش- والطلاق، والاعتكاف، فكل ذلك
تمنع منه الحائض بسبب الحيضة، وأم عطية رضي الله تعالى عنها
هنا إنما نصت على اعتزال المصلى. فهذا الحديث فيه جوانب عديدة،
ولعل ما أوردناه فيه الكفاية، وبالله تعالى التوفيق. وكون الرسول(2/174)
صلى الله عليه وسلم يأمر بإخراج النسوة ومعهن الحيض، يشعر بمغايرة
معاملة الحائض في الإسلام عما كانت عليه من قبل، إذ الرسول صلى
الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود إذا حاضت فيهم المرأة لم
يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يعاشروها، ويخرجونها من محلها إلى محل
تنزوي فيه، حتى الإناء الذي تأكل فيه ما كانوا يأكلون فيه، والقدح
الذي تشرب منه لا يشربون منه، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بذلك فقال: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح )، حتى قال اليهود:
هذا الرجل ما ترك شيئاً إلا ويريد أن يخالفنا فيه. فهنا تخرج مع
الجميع، ولا تنعزل في بيتها، ولا تنعزل عن أهل بيتها ومخالطتهم، بل
تخرج مع عموم نسوة المسلمين إلى المصلى، وتشهد بركة ذلك اليوم،
وتشارك في الدعاء؛ لأن الحائض وإن منعت من قراءة القرآن لكنها لا
تمنع من الذكر والتحميد والتسبيح، والصلاة على الرسول صلى الله
عليه وسلم، والدعاء والاستغفار، فهي تشارك في هذا كله، كما قال
لعائشة : (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى
تطهري )، والحاج يلبي ويذكر ربه.
134533 ( كتاب الصلاة - باب صلاة العيدين [2] )
( كتاب الصلاة - باب صلاة العيدين [2] )
عناصر الموضوع
1 من آداب العيدين
كتاب الصلاة - باب صلاة العيدين [3]
في العيد يظهر فضل الله تعالى على عباده المؤمنين بما شرع لهم من أسباب
الترويح عن النفس والأهل، كما أن من فضله عليهم تلك الآداب الواردة في
كيفية الذهاب إلى المصلى والرجوع منه، حيث يشرع للمسلم الذهاب من طريق
والرجوع من آخر ليلقى أكثر إخوانه ويسلم عليهم ويدعو لهم، وكذلك الخروج
إلى المصلى، إذ فيه إظهار فضل الله على عباده المؤمنين بإعزاز دينه
وأهله، وإغاظة اليهود والنصارى وسائر الكافرين.
من آداب العيدين
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
حكمة المخالفة في الطريق يوم العيد(2/175)
فيقول المصنف: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد خالف الطريق ) أخرجه البخاري ،
ولأبي داود عن ابن عمر نحوه]. هذا من آداب يوم العيد، فقد
كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى المصلى وصلى العيد خالف بين
الطريق، وهذا عندما يكون للمصلى طرق متعددة بالنسبة للإمام وكذلك
المصلي، وقد اختلفوا في هذه المغايرة هل هي خاصة بالنبي صلى الله
عليه وسلم؛ لأن الذين في الطرقات أو في البيوت ينتظرون مرور رسول
الله صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم ويسلم عليهم وتنالهم بركات
سلامه عليهم ودعواته، أم أن ذلك عام لكل مصل؟ فبعضهم يقول: هذه
خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الناس ينتظرون عودته
ورواحه، وهنا يذكر ما يفعله بعض الناس من التهنئة بيوم العيد،
وربما نسمع بعض الناس يقول: هذه بدعة! وهي سنة عن رسول الله،
والسلف رضي الله تعالى عنهم ينقل العلماء عنهم أنه كان بعضهم يقول
لبعض: تقبل الله منا ومنك، وهذه هي التهنئة بيوم العيد. فالذهاب من
طريق والعودة من طريق قيل: إنها ليرى الإنسان من لم يره من قبل،
وقيل: هذا من جانب المقيمين، ليكون لهم حظ من سلام الإمام ودعوته
لهم في ذلك اليوم بالخير. فمغايرة الطريق قيل: هي خاصة برسول الله
صلى الله عليه وسلم، وقيل هي عامة لكل مصلٍ، والله تعالى أعلم.
العيد يوم راحة المسلم وسعادته مع إخوانه المسلمين
[وعن أنس رضي الله عنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: قد أبدلكم الله خيراً
منهما يوم الأضحى ويوم الفطر ) أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد جيد ]. في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم
المدينة مهاجراً صلوات الله وسلامه عليه، وجد لأهل المدينة يومين
يلعبون فيهما، وهذه من عادات الشعوب، فلها -حسب العادات والوقائع-
أيام يفرح فيها الناس ويلعبون فيها، كما هي العادة المشهورة عند(2/176)
كثير من الأمم، وسبب هذين اليومين لم أقف عليه حتى الآن. وهنا لم
يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أسباب اللعب في هذين اليومين،
ولكنه لما كان من عمل الجاهلية وقبل الإسلام، ولم يتضح لهما سبب
شرعي لم ينههم عن ذلك، وهذه مسألة ينبغي التنبيه عليها؛ لأنها
قاعدة إسلامية إصلاحية عظيمة جداً، فإذا رأيت إنساناً يرتكب أمراً
مخالفاً فقبل أن تنهاه عنه انظر إلى البديل الذي يصلح لتقدمه إليه
ليتخلى عن غير الصالح، إنسان كفيف له عصا يتوكأ عليها، لكن تلك
العصا متنجسة، أو فيها شوك، أو أنها على وشك الانكسار، أي أنها غير
صالحة لمهمتها في نظرك وأشفقت عليه، فلا تقل له: ارم العصا من يدك،
بل قبل ذلك، وقبل أن تقول له إن العصا غير صالحة ائت بعصا صالحة،
وقل له: خذ هذه فهي خير مما في يدك، وألق التي في يدك. فستجد أنه
عندما يحصل على شيء خير من الذي بيده سيلقي ما بيده قبل أن تقول
له: ألق ما في يدك؛ وهكذا لو وجدت شخصاً في طريقة مبتدعة وطريقة
منكرة لم تجد لها أصلاً في الدين. فلا تأت إلى إنسان لتنزع ما بيده
استنكاراً قبل أن تهيأ له البديل عن ذلك المنكر.
حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في معالجة الأمور
وهنا النبي صلى الله عليه وسلم وجد القوم يلعبون على حال من
الترفيه البريء، فما استنكر لعبهم، ولكن استنكر توقيت اللعب
باليومين، فقال: (قد أبدلكم الله خيراً من هذين اليومين يوم الفطر
والأضحى ). ولو جئت من باب الترفيه، ومن باب التسلية، ومن باب
إظهار السرور لا تجد يومين في حياة الأمة كيومي العيد، بخلاف
الأفراد؛ لأنه قد يكون للفرد في حياته يوم خير من العيد، كما وقع
لكعب بن مالك حين كان مع الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم في تبوك، فعندما تخلفوا عن تبوك وجاءوا يعتذرون قبل
عذرهم إلا ثلاثة، ومنهم كعب بن مالك ، حتى جاءت توبتهم من عند
الله، وليس المخلفون الذين تخلفوا عن الغزوة، فالذي تخلف عن الغزوة(2/177)
عدد كثير، لكن كلهم جاءوا فاعتذروا فعذرهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم في ظاهر الأمر، وترك حقيقتهم إلى الله إلا هؤلاء الثلاثة
الذين صدقوا وقالوا: والله ما كان عندنا عذر فخلفوا عن قبول توبتهم
وعذرهم، فيوم أن نزلت توبتهم وذهب إلى كعب رجل ونادى وقال:
أبشر يا كعب ، وركض إليه رجل بالفرس فكان صوت المنادي أسرع من
ركض الخيل، فلما جاء الذي صرخ له أعطاه ثوبه الذي عليه وقال: والله
ما عندي غيره، ثم استعار ثوباً من جماعته وذهب إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فاستقبله رسول الله بالبشر وقال له: (أبشر -يا كعب - بخير يوم طلعت عليك فيه الشمس من حين ولدتك أمك )، فأسعد يوم
مر عليك هذا اليوم، رغم أنه قد مرت عليه أعياد، وشارك في الجهاد،
لكن هذا اليوم الذي تاب الله عليه فيه كان أسعد يوم مر عليه.
فالأيام السعيدة ذات الذكرى الجميلة قد تكون للفرد، وكلنا له يوم
أو أيام حسب ظروفه ومشاغله، لكن لا يوجد للأمة يومان أفضل من يومي
العيدين، وتقدم لنا أن الأعياد عند الأمم لمناسبات سببها حدث في
يوم واحد تبقى ذكراه مع التكرار، لكن في الإسلام في كل سنة عيد
حقيقي؛ لأن عيد الفطر عيد بصيام رمضان، وهذه نعمة كبرى؛ لأن الله
وفق الناس وأعانهم على أنفسهم وعلى الشيطان والهوى، وحجزوا النفس
عن الأكل والشرب والشهوات حتى أكملوا الشهر، كذلك الحج جاءوا من كل
فج عميق، واجتمعوا في واد غير ذي زرع، وأدوا المناسك بحمد الله،
فكان عيد الأضحى. فهما يومان عظيمان مرتبطان بيومين متكررين
وعبادتين متكررتين في كل سنة، والرسول صلى الله عليه وسلم انتقد
اليومين ولم ينتقد اللعب، وأشعرهم أن الله قد أبدلهما خيراً منهما.
إباحة اللعب والترفه يوم العيد
فمن باب الإيماء والتنبيه يكون هذا الحديث: (إن الله قد أبدلكم
يومين خيراً منهما) فيه إباحة اللعب في العيد، ولا شك أنه لم ينكر
اللعب عليهم، ولكن أنكر التوقيت الزمني، فأخبرهم أن الله تعالى(2/178)
أبدلهم يومين بيومين، واللعب على ما هو عليه. والله أعلم. ولو أن
للناس عادة ويوجد نظير ذلك من السنة من الشرع فالأولى أن يأخذ
البديل من السنة، بل قد يتعين؛ لأن المسلمين أمروا باتباع ما جاء
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ [الأنفال:24]
والخير كل الخير فيما جاءنا به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كان
يخالف عادات وطباع الناس، وعلى الناس أن يتطبعوا على ما جاء به
النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن يخضع الرسول صلى الله عليه وسلم
وما جاء به لأهوائهم، قال صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن
أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ). دعا الرسول صلى الله
عليه وسلم وصنع له الطعام، وكان رجل بصحبة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فكان الطعام من الدباء، فالرجل يقول: (رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتتبع الدباء في القصعة، قال: فما زلت أحب الدباء
من ذلك اليوم )، فبسبب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم للدباء
صار الصحابي يحب الدباء، وهل هناك حب أكبر من هذا؟ فكأنه يقول:
اخترت ما اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت الحديث
الذي يدل على لعب الأحباش في المسجد النبوي وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (ربما سألني -أو سألته-: أتحبين أن
ترينهم؟ قلت: بلى. فقمت وهو يسترني من الناس وخدي على خده، وهو
يقول لهم: دونكم يا بني أرفدة، دونكم يا بني رفيدة ) وكان يقول
لعائشة : (هل اكتفيت) وهي تقول: لا. قالت: و الله ما بي
رؤيتهم، وإنما أردت أن يعلم زوجات رسول الله بقيام رسول الله معي
ليعرفن مكانتي عند رسول الله، فهل يمكن أن تتسع لإنسان أخلاقه مع
الزوجة في مثل هذا الباب إلى هذا الحد فيتحمل من أجلها ويصبر؟(2/179)
فانظروا إلى مكارم أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك. فلا
مانع من اللعب في يومي العيد، وفي القديم كان يوجد مكان للعب
الصبيان في المدينة، وكان أهلهم يجمعونهم ويحملونهم على العربات
التي تنزل من القرى محملة بالبرسيم أو الدباء، وهي التي كانت
تستعمل في التنقل في المدينة، فكانت هذه العربات التي تجرها
البهائم يوم العيد تزين، ويجعل لها صندوق، ويجمع الأطفال بلباسهم
يوم العيد والزينة، ويذهب بهم للتنزه واللعب، و تظهر ألعاب جديدة
منها الجائز ومنها المحرم، فكان أطفال المدينة يظلون ثلاثة أيام في
لعب ومرح وبهجة، ولا يعكر عليهم شيء. فلا مانع أن يسمح للكبار
والصغار، ولا مانع أن يسمح أيضاً للأطفال ذكوراً كانوا أو إناثاً،
ماداموا في السن الذي ليس فيه فتنة، وكان عندهم كبير يرعاهم حتى لا
يتأذون، فلا مانع أن نسمح لهم، ونجعل لهم أماكن للعب، بشرط أن تكون
تحت إشراف مسئولين، وبأنواع جائزة بعيداً عن المقامرات. ومما جاء
في هذا أيضاً أن أبا بكر رضي الله عنه دخل على عائشة ،
وأنكر عليها وجود الجاريتين تغنيان، فقال الرسول صلى الله عليه
وسلم (دعهن يا أبا بكر ؛ ليعلم اليهود أن ديننا دين سماحة )،
أي: ليعلموا أن في ديننا الترفيه البريء. فسعادة الإنسان إن يجد
شيئاً كان يفتقده، وهذا ما يحصل في يوم العيد، ومما يذكر عن بعض
الفلاسفة أن إنساناً جاء يشتكي إليه الضيق والقلق، فسأله: هل أنت
متزوج؟ قال: لا، قال: هل ينقصك من الدنيا شيء؟ قال: عندي أموال
كثيرة، قال: هل أحد ينغص عليك وظيفتك؟ قال: أنا أعمل عملاً حراً،
فأخذ يسأله عن كل الجوانب فرأى أن كل شيء متوفر عنده، فقال له:
اكتب لي أن تعمل ما آمرك به حتى تنال السعادة؟ قال: أعَملُ ما
أردت، فأخذه ودخل به على الطبيب وقال له: اثنِ رجله إلى فخذه وغطها
بالجبس، فخدره فنام، وجاء من المشرحة برجل مبتورة ووضعها بجانبه(2/180)
على السرير، فلما استيقظ إذا به يبحث عن رجله فلم يرها، ووجد رجلاً
مبتورة بجانبه، فظن أن رجله قد بترت، فقال: أنا ما قلت لك أن تفعل
هذا، قال: لقد كتبت لي أن أعمل ما أشاء حتى أوصلك إلى السعادة، ثم
قال له: إن أردت أن أرجع لك رجلك، فإني أريد مالاً، قال له: خذ ما
تريد، فخدره وفتح الجبس وأعاد تلك الرجل إلى المشرحة، فلما استيقظ
قال: أنا الآن أسعد مخلوق؛ لأنه افتقد شيئاً عزيزاً عليه ثم وجده
وظفر به. ورجل هرب عليه عبد، فقال: من يأتيني بعبدي فله عشرة آلاف.
فقيل له: العبد لا يساوي أكثر من ألف! قال لهم: ائتوني به، فلما
أتوا به دفع العشرة الآلاف، فعوتب على ذلك، فقال: إنكم لا تعرفون
لذة الظفر، فالعشرة الآلاف لم أدفعها لعودة العبد، ولكن لأظفر
بمطلوبي. وقد روي أن خالد بن الوليد رضي الله عنه قيل له:
شاركت في المعارك، ولك أموال وصحة، فما هي أمنيتك بعد هذا؟ فقال:
(أن تكون ليلة شديدة البرد عاصفة الرياح غزيرة الأمطار وأقوم
حارساً للجند تالياً لكتاب الله). فسعادة الإنسان في أن يجد شيئاً
كان مفقوداً، وإذا ما استكملت له كل أغراضه افتقد السعادة، فيوم
العيد يجد فيه الأطفال والكبار والصغار البهجة ودواعي السرور وما
يسمى الترفيه البريء، وليس غير البريء، والذين يذكرون بعض الحروب
المتأخرة يعرفون الترفيه البريء ماذا كانت نتائجه، سواءٌ على
إسرائيل أم على غيرها.
سنة المشي في الذهاب إلى المصلى
[وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: من السنة أن يخرج إلى العيد
ماشياً.]. هذا الأثر عن علي رضي الله عنه، وهذا اصطلاح علماء
الحديث، والسنة لغة: الطريقة، والسنة: نهج الحياة، كما قيل: من
معشر سنت لهم آباؤهم ولكل أمة سنة وإمام فالسنة: الطريقة التي
تعارف عليها الجماعة. والسنة في الشرع تطلق على معنيين، فتطلق على
النصوص التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بجانب القرآن،(2/181)
فتقول: الكتاب والسنة، فيكون الكتاب نصوصه وحي من الله والسنة وحي
لرسول الله، وكلاهما وحي كما قال السيوطي : الوحي وحيان: وحي
أمرنا بكتابته وتعبدنا بتلاوته، فقال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ
القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف،
ولام حرف، وميم حرف )، فهذا تعبدنا الله بتلاوته، قال: ووحي لم
نؤمر بكتابته ولم نتعبد بتلاوته، وهو السنة. وكان كلامه وحياً لنص
القرآن الكريم في حقه صلى الله عليه وسلم: وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3] إِنْ
هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]،
لكن اتفقوا على أن الحديث القدسي كلام الله، ولكن فرق في الاصطلاح
بين القرآن المأمور بكتابته المتعبد بتلاوته وبين الحديث القدسي،
وكذلك هناك فرق بين الوحي الثالث والسنة النبوية. وتطلق السنة على
منهج العمل، فالسنة في الأكل والشرب أن تأكل بيمينك، نسبة إلى
الحديث الذي يقول: (يا غلام! سم الله وكل بيمينك )، والسنة في
النوم أن تضطجع على شقك الأيمن، فالسنة: الطريق والمنهج الذي سنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة. فهنا علي يقول: (من
السنة) ولم يقل: من السنة قوله صلى الله عليه وسلم فتكون سنة
قولية، لكنه هنا ينقل لنا سنة فعلية، فقال: (أن تذهب إلى العيد
ماشياً) وتخرج من بيتك إلى مصلى العيد ماشياً، ولا يكلف كل إنسان
أن ينزل من ذاك المكان ماشياً، ويمكن أن نقول: في الزمن الأول لا
بأس بذلك، الرسول صلى الله عليه وسلم -وقد جاوز الخمسين- كان يخرج
إلى قباء تارة ماشياً وتارة راكباً، لكن قد تغير الناس في زماننا،
فقالوا: لو ركب يركب من منزله حتى يقارب مشارف مصلى العيد فينزل
ويمشي. وقالوا: المشي هنا لأنه ذاهب إلى عبادة، ويكون ممشاه له فيه
بكل خطوة أجر. وعند الرجوع لم يذكر لنا علي سنة، قالوا: العودة
على حسب العادة راكباً أو ماشياً، والفرق بين الذهاب والعودة أن(2/182)
الذهاب من البيت إلى المصلى بقصد العبادة، فهذا يتمحض فيه المشي
للطاعة والعبادة، لكن في العودة تكون العبادة قد انتهت. فالسنة في
الذهاب لمن كان يقدر على المشي أن يذهب ماشياً؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يذهب إلى المصلى ماشياً، وكان يغاير بين الطريقين،
فقالوا: ذلك سنة فعلية نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. قالوا:
لأن في المشي نوعاً من التواضع وإظهار الإخبات إلى الله، فيكون منذ
خروجه من بيته إلى مصلاه في إخبات وإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.
حكمة الخروج إلى المصلى، ومتى يصلى في المسجد
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه أصابهم مطر في يوم عيد،
فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد )
رواه أبو داود بإسناد جيد]. لما تقدم أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يخرج لصلاة العيدين إلى المصلى، وذلك لأمرين: لضيق
المسجد، ولإظهار الكثرة العددية، والكثرة العددية في ذلك التاريخ
كان لها أثر كبير؛ لأن مجتمع المدينة كان فيه المسلمون والوثنيون
واليهود والمنافقون، والوثنيون واليهود والمنافقون يتربصون
بالمسلمين، وكان في نواحي المدينة أعراب لا يعرفون شيئاً، ولا
يقدرون إلا القوة والمنفعة. فالأعداء في داخل المدينة وخارجها
كانوا لا يعرفون إلا منطق القوة، فعندما يخرج النبي صلى الله عليه
وسلم بالمسلمين بهذا العدد الكبير رجالاً ونساء وأطفالاً حتى الحيض
يخرجن مع المسلمين إلى صلاة العيد، يرى أعداء الإسلام الكثرة
فيعملون لذلك حساباً، ومن هنا كانت الكثرة قوة، ومن هنا كان النبي
صلى الله عليه وسلم يحث على التكاثر، فقال: (تناكحوا تناسلوا
تكاثروا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة )، بل يذكر في تاريخ
العصور الحديثة والدول الكبرى والصغرى أن جولدا مائير كانت كل
صباح تسأل مصلحة المواليد الإسرائيلية عن عدد المواليد
الإسرائيليين والمواليد العرب تنتظر العدد والكثرة،؛ لأن الكثرة(2/183)
قوة وغلبة. وقد ذكر أن محاضراً ذهب يحاضر في الصين عن خطورة
القنبلة الذرية ويحذرهم منها، فضحك الحاضرون، فسأل المحاضر: لم
يضحكون؟ قالوا: لأن الصين تفرح ولا تهتم إذا جاءت قنبلة وأخذت مائة
ألف أو أكثر من ذلك، فإنه سيبقى في الصين من يرث العالم كله
بالتعداد، فالعدد في الأمة إنما هو قوة. وحدث في مؤتمر ماليزيا عام
خمسة وثمانين وثلاثمائة وألف من الهجرة -وشاركنا فيه- أنهم قدموا
قراراً بتحديد النسل تتدخل فيه الدولة، فقلنا لهم: نحن قبل أن نأتي
إلى ماليزيا درسنا التعداد السكاني والوضع الاجتماعي.. حتى نكون
على بينة، فعرضنا على رئيس اللجنة عدد سكان ماليزيا، فالمسلمون
فيهم خمسة وخمسون في المائة، والصينيون خمسة وأربعون في المائة،
والصينيون لم يكونوا يحددون النسل عقيدة في ذلك الوقت، أما اليوم
فأصبحت القضية عامة، فإذا أصدرتم قراراً بتحديد النسل في ماليزيا
الذي سيعمل به المسلمون، فإذا عمل المسلمون بهذا القانون ولم يعمل
به الصينيون -وهم أعداؤكم- فبعد خمس سنوات سيقضي هذا القرار على
ماليزيا دون أن تشعروا، فألغي القرار وألغي الموضوع؛ بسبب ما سيئول
إليه التعداد من الكثرة أو القلة. وهنا كانوا يخرجون إلى مصلى
العيد لإظهار تلك الكثرة أمام الأعداء، وكان النبي صلى الله عليه
وسلم يحث الشباب على الزواج، ونهى عن تحديد النسل على الصحيح، فنهى
عن العزل أو كرهه، والله تعالى يقول: فَانكِحُوا
مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]
وأقل شيء أن كل واحدة تأتي بواحد. وسوداء ولود خير من حسناء لا
تلد. إذاً: كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين لمصلى
العيد لأمرين: الأول: التوسعة على المسلمين، فقد كان مسجده ضيقاً
لا يسع لجميع الناس، فخرج بهم إلى الصحراء، وقد كانت الصحراء واسعة
قبل أن يحدث البناء الموجود اليوم. ولما نزل المطر وعم الجميع،(2/184)
وأصبح المصلى ممطوراً صلى بهم في المسجد، وهنا يبحث الفقهاء مسألة
صلاة العيدين في المسجد. فالفقهاء يقولون: إن كان المسجد يسع
المصلين فهو أولى وأفضل؛ لأنه معد للعبادة طوال السنة فهو أولى من
الخروج إلى المصلى. والآخرون قالوا: ولو كان يسع فإن السنة الخروج.
ومن قال: إن تعذر الخروج، أو كان فيه مشقة على الناس، فإنهم يصلون
في المسجد، ولكن إذا ضاق المسجد بالناس فإنهم يصلون حوله؛ ولهذا
ينص المالكية على أن الجمعة تصح في تلك المحلات المحيطة بالمسجد
إذا كان يدخل إليها بدون استئذان، مثل المعارض المفتوحة، والدكاكين
التي بجوار المسجد، ففي هذه المحلات تصح الجمعة، فإذا امتدت الصفوف
من المسجد إلى الشارع إلى المعرض والدكان صحت الجمعة لمن صلى في
الدكان ما دام الصف متصلاً بالمسجد، فإذا كان الحال كذلك في الجمعة
-وهي آكد من العيد- وحصل مطر وتعذر الخروج إلى المصلى صلينا في
المسجد. وفي الحرمين من زمن بعيد يصلون صلاة العيدين في المسجد،
فلو جئت إلى مكة الآن، أو سألت أهل مكة: هل يوجد مكان يمكن أن يصل
الإنسان إليه بقدمه أوسع من المسجد الحرام وما حوله؟ يقال لك: لا.
وهل يوجد مكان بسعة المسجد النبوي يمكن أن يصل إليه إنسان برجله؟
خاصة بعد التوسعة الأخيرة والتخلية التي حولها، فالمدينة كلها دخلت
في التوسعة، ولم يبق بيت واحد مما كان داخل السور الرسمي للمدينة
إلا دخل في توسعة المسجد النبوي. فالمؤلف رحمه الله يختم البحث
بهذا الحديث ليبين لنا أنه إن كان المسجد ضيقاً، ويوجد مصلى للعيد،
وليس هناك عذر فالسنة الصلاة في المصلى، وإن كان هناك عذر مانع، أو
ما يشق على الناس معه الذهاب إلى المصلى صلوا العيد في المسجد،
سواءٌ أكان في المسجدين الشريفين أم المسجد الأقصى، أم أي مسجد كان
في أي قرية كانت، وبالله تعالى التوفيق.
( كتاب الصلاة - باب صلاة الكسوف )
عناصر الموضوع
1 أحكام صلاة الاستسقاء(2/185)
كتاب الصلاة - باب صلاة الاستسقاء [1]
إن دين الإسلام هو دين التوحيد، فما من مناسبة إلا ويربط الإسلام الناس
فيها بربهم سبحانه، ففي حالة الجدب وشحة الأمطار دلنا الإسلام على
الطريق الصحيح الذي يربطنا بالله سبحانه، فشرعت لنا صلاة الاستسقاء،
وبينت لنا كيفيتها وآدابها، وتعددت طرق الاستسقاء تيسيراً لنا، تارة
بالخروج إلى المصلى والصلاة والدعاء، وتارة بالدعاء في خطبة الجمعة
ورفع اليدين لذلك، وتارة بالدعاء المنفرد لمن أراد من المسلمين.
أحكام صلاة الاستسقاء
كيفية خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى للاستسقاء
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: يقول
المصنف رحمه الله:[عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج النبي
صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً .. ) رواه الخمسة،
وصححه الترمذي وأبو عوانة وابن حبان ]. مما ينبغي
التنبيه عليه أن بعض المؤلفين قدّم لهذا الباب أحاديث ترد الإنسان
في قوته وغناه وضعفه وفقره إلى الله، ومن ذلك ما جاء عن الرسول صلى
الله عليه وسلم: (لو لا شباب خشّع، وبهائم رتّع، وأطفال رضّع لصب
عليكم العذاب صباً ) . وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم ساوى
في السهام بين المجاهدين في غزوة بدر، فقال سعد : أتجعل من
أبلى كمن ليس كذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك! وهل
تنصرون إلا بضعفائكم )، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (وهل
ترزقون إلا بضعفائكم ودعواتهم )، وهكذا رواية أخرى: (لولا شيبان
ركّع، وأطفال رضّع، وبهائم في الخلاء رتّع لصب عليكم العذاب صباً )،
فقد يغيث الله الناس لا لذواتهم، ولكن لما حولهم، ولبعض من معهم من
المخبتين إلى الله، ومن الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة، ونحن
نعلم قصة هاجر وابنها إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام
كيف سقاها الله في ذلك المكان، وفي ذلك الوقت الحرج. ويذكرون أيضاً(2/186)
أن نبي الله سليمان خرج يستسقي، ثم رجع من الطريق، فقيل له: لم
رجعت؟ قال: قد سقيتم بدعوة غيركم، قالوا: ما رأينا أحداً! قال:
رأيت نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها تقول: اللهم إنا خلق من
خلقك لا غنى لنا عن فضلك ورحمتك فاسقنا. فرجع نبي الله سليمان
وقال: سقيتم بدعوة غيركم. فكيف رأى النملة وهو يمشي في الطريق؟
وكيف سمع نداءها؟ لقد قص لنا القرآن ذلك في قوله تعالى: حَتَّى
إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا
أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا .. [النمل:18]
خطبة طويلة عريضة بلسان المقال، أو بلسان الحال، فهذه معجزة خاصة
به عليه السلام لا نعلم كيفيتها ولا يعلم ذلك إلا الله. فقد يرحم
الله العباد بالحيوان، وقد يرحم الله العباد بالأطفال الرضع،
وبالشيوخ الركع، أي: بمن يظهر العبادة والضعف إلى الله، وقد تكون
رحمته لمخلوقاته الأخرى من بهائم وحشرات وغيرها. قوله: (خرج النبي
صلى الله عليه وسلم متواضعاً ). الخروج يكون من الداخل إلى
الخارج.. فمن أين خرج الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والى أين خرج؟
قالوا: خرج إلى المصلى، فخرج بالناس إلى الفضاء يستسقي ربه،
والحديث يبين لنا كيفية الحالة التي خرج بها صلى الله عليه وسلم في
طلب السقيا؛ لأن الهمزة والسين والتاء للطلب، فـ(استسقى) أي: طلب
السقيا، كما أن (استغفر) معناها: طلب المغفرة والغفران، وهكذا.
فنخرج إلى الله تعالى تاركين كل ما لدينا، مظهرين الفاقة والحاجة،
رافعين أكف الضراعة إلى الله، قائلين: ها نحن جئناك يا رب لا حول
لنا ولا قوة، ولا مال لنا ولا غنى إلا بك، نسألك الغيث والرحمة،
ولا نخرج في عروض الخيل وأبهة السلاح وزينة الثياب، بل نخرج
متواضعين منكسرين. وبعض المحتالين في السؤال قد يكون عنده مال
وفير، وهو معافى في بدنه، لكنه لما يخرج يتكفف الناس يبحث له عن
ثياب قديمة، أو يتصنع عاهة؛ ليخدع الناس بمنظره وعاهته، مدعياً(2/187)
الحاجة والفاقة. فنحن نخرج للاستسقاء في حالة الضراعة والذلة
والتواضع وإظهار الفاقة والحاجة للمولى عز وجل، فهذا هو هدي النبي
صلى الله عليه وسلم. وقوله: (متواضعاً) التواضع حساً ومعنىً ألا
يكون رافعاً رأسه، ولا مصعراً خده، ولا ضارباً للأرض بقدمه، وإنما
يمشي في سكينة وتواضع. قال: (متبذلاً). يوجد جناس بين التبذل
والبذلة، فالبذلة: الهيئة -أي: الثوب الخلق- وقوله: (متبذلاً)
معناه لابس لها، أي: خرج في ثياب ليست ثياب فخر، ولا ثياب إظهار
النعمة، بل ثياب إظهار الفاقة، ونحن نعلم أن النبي صلى الله عليه
وسلم كانت له حلة، وكان له لباس خاص يلبسه يوم العيد، كما جاء عن
عمر رضي الله تعالى عنه أنه وجد حلة جميلة تباع عند باب
المسجد، فجاء بها إلى رسول الله، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم:
اشتر هذه تلبسها يوم العيد، وتتجمل بها عند الوفود -لأن هذه أماكن
تحتاج إلى إظهار الغنى والسعة وشكر النعمة- فنظر فيها صلى الله
عليه وسلم وقال: (يلبس هذه -هذه الحلة التي جئتني بها- من لا خلاق
له، وبعد قليل أرسلها إلى عمر ، فجاء عمر يجري قائلاً: يا
رسول الله! أنت قلت فيها: (يلبسها من لا خلاق له) ثم تعطينيها!
فقال رسول الله: لا يا عمر ! ما أرسلتها إليك لتلبسها ) أي:
استنتاجك وتقسيمك -يا عمر - ناقص، فمن الممكن أن تلبسها، ومن
الممكن أن تلبسها غيرك، أو تهديها لإنسان آخر، أو تتخذها فراشاً،
فإن لاستعمالها أوجهاً متعددة. ووجه الدلالة أن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يعترض على تخصيص حلة للعيد والوفود، ولكنه اعترض على
نوع قدم إليه، وقد كانت له البردة، وكان يخطب فيها أيام العيد؛
لأنها أيام زينة، وأيام إظهار النعمة شكراً لله على عطائه، وكان
يلبسها عند مقابلة الوفود حتى يكون في مظهر الغني الموسع عليه، لا
في مظهر الفاقة فيطمع الناس فيه. والذي يهمنا أنه صلى الله عليه
وسلم خرج متواضعاً متبذلاً، ولهذا ينبغي على كل من شارك في صلاة(2/188)
الاستسقاء أن يخرج إليها في حالة تواضع في مشيته ومنطقه في الطريق
متبذلاً في ثيابه، ولا يخرج بثياب الفخر والعز، والتواضع صفة
خُلقية، والتخشع صفة خَلقية، فقوله: (متخشعاً) معناه أنه ليس
سريعاً في مشيته، وإنما يمشي مترسلاً، أي: في خطوات متقاربة، وليس
كمن يركض إلى غنيمة أو جهاد ويظهر القوة والنشاط وسرعة الحركة، بل
يمشي بهدوء ورفق وتؤدة. وقوله: (متضرعاً) : يستوي أن يكون بكلماته
أو بتلك الصفات؛ لأنها صفات المتضرع لا المتجبر. قال ابن عباس :
(فصلى ركعتين كما يصلي في العيد). وحديث ابن عباس هذا أصل من
أصول مباحث صلاة الاستسقاء. فحديث ابن عباس أول حديث جاء به
المؤلف في مشروعية صلاة الاستسقاء، وفيه أن صلاة الاستسقاء كصلاة
العيد، ويقولون في التشبيه: ليس من الضروري أن يشبه المشبهُ
المشبَهَ به في كل الصور، فقد يقال: فلان كالنخلة، والنخلة طويلة،
ولها جذع خشن، وعلى رأسها الجريد، وتثمر البلح ثم الرطب، فهل هو
كالنخلة بهذه الصفات كلها، أو أنه كالنخلة في بعض صفاتها؟! فحين
نقول: فلان كالنخلة. أي: في الطول. ولا يعني ذلك المشابهة في
الثمرة والجريد والجذع الخشن، بل يكفي أن يشبهها في صفة واحدة.
وقوله: (كما يصلي في العيد) صلاة العيد ركعتان، فيها تكبيرات
وخطبة، ففي أي صفة من تلك الصفات شابهت. منهم من قال: كصلاة العيد
في العدد، أي: ركعتان، ومنهم من قال بالتكبيرات، أي: بتكبيرات
كتكبيرات صلاة العيد، ومنهم من قال: في الخطبة، فلها خطبة كصلاة
العيد. والآخرون يقولون: كصلاة العيد في الركعات فقط، وحذفوا
الصفات الأخرى، وسيأتي إن شاء الله بيان أنواع الكيفية والخلاف
فيها، وبيان الجائز من ذلك كله إن شاء الله.
الخطبة في صلاة الاستسقاء
قال ابن عباس : [كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه]. شبه
ابن عباس صلاة الاستسقاء بصلاة العيد، وعلم أن العيد فيه
خطبتان، فقال: (ولم يخطب)؛ لأن الخطبتين داخلتان في التشبيه بصلاة(2/189)
العيد، فأخرجها بنص مستقل، ولكن هل قال: ولم يخطب. أم أنه نفى خطبة
معينة؟ نقول: نفى خطبة معينة، وذلك بقوله: (كخطبتكم)، كأنه يقول:
خطبتكم التي توقعونها في صلاة الاستسقاء مغايرة لخطبة النبي صلى
الله عليه وسلم، فهو يثبت خطبة، ولكنه ينفي عنها صفة خطبتهم. فنأخذ
من حديث ابن عباس : أن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، وفيها
خطبة، ولكن ليست (كخطبتكم) هذه، أي: من حيث عدم الإطالة، وعدم
الزجر ومن حيث إنكم تجعلونها خطبتين تجلسون بينهما، فكأنه يقول:
وكان يخطب فيها خطبة ليست كخطبتكم هذه. وسيأتي المؤلف -إن شاء
الله- بنصوص تدل على ما كان منه صلى الله عليه وسلم، سواء أعتبرنا
ذلك مجرد دعاء، أم اعتبرناه خطبة مع الصلاة، وأيدنا ذلك بتشبيهها
بصلاة العيد.
الخروج إلى المصلى للاستسقاء
قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (شكا
الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر ، فأمر بالمنبر
فموضع له بالمصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب
الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: إنكم شكوتم جدب
دياركم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، لا إله إلا
الله، يفعل ما يريد، اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني
ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت علينا قوةً وبلاغاً
إلى حين، ثم رفع يديه فلم يزل حتى رُئي بياض إبطيه، ثم حول إلى
الناس ظهره، وقلب رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل
فصلى ركعتين، فأنشأ الله تعالى سحابةً، فرعدت وبرقت ثم أمْطَرَت )
رواه أبو داود وقال: غريب وإسناده جيد. وقصة التحويل في الصحيح
من حديث عبد الله بن زيد وفيه: (فتوجه إلى القبلة يدعو، ثم صلى
ركعتين جهر فيهما بالقراءة ) وللدارقطني من مرسل أبي جعفر
الباقر : (وحول رداءه ليتحول القحط)]. حديث عائشة رضي الله(2/190)
تعالى عنها من أجمع الأحاديث فيما يتعلق بصلاة الاستسقاء وكيفية
فعله صلى الله عليه وسلم، وقولها رضي الله تعالى عنها: (شكا الناس
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر) أي: غياب المطر،
وتخلفه عن موعده، حتى قحط الناس. ويذكر العلماء أن تلك الشكوى سبق
نظيرها في مكة قبل الهجرة، حينما اشتد أمر المشركين على المسلمين،
فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: (اللهم اجعلها
عليهم سنين كسنين يوسف ) فاشتد الأمر بالقحط على أهل مكة، فجاء
أبو سفيان في ذلك الوقت وهو على دين قومه وقال: يا محمد! إنك
تدعو إلى صلة الرحم، وقد دعوت على قومك، وقد قحطوا، فادع الله أن
يسقيهم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فأمطروا. وقضية استشفاع
المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعت مرة ثانية بعد
الهجرة، وذلك في قصة ثمامة بن أثال ، وهو سيد بني حنيفة
باليمامة، خرج معتمراً وهو على دين قومه فأخذته خيل المسلمين، فجيء
به أسيراً، وربط في سارية المسجد، وكان يراح عليه بالحليب وهو
مربوط في السارية، وكان صلى الله عليه وسلم كلما خرج مر عليه وقال:
(كيف بك يا ثمامة ) فيقول: يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم،
وإن ترد مالاً أعطيتك ما يرضيك، وإن تمنن تمنن على كريم، وبعد
ثلاثة أيام، قال صلى الله عليه وسلم: (أطلقوا ثمامة )
فأطلقوه فأتى إلى بعض الصحابة وقال: ماذا يفعل من أراد أن يدخل في
دينكم؟ قالوا: يغتسل ويجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وينطق
بالشهادتين، فذهب إلى بيرُحاء -وكان بستاناً قريباً من المدينة إلى
عهد قريب- فذهب واغتسل، ثم رجع، وبعد صلاة الظهر جلس إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، ونطق بالشهادتين مسلماً، فقيل له: لم لم تشهد قبل
ذلك؟ قال: خشيت أن تقولوا: أسلم خشية السيف، ثم بعد ذلك قال: يا
رسول الله! والله لقد كنت أبغض الناس إليّ، ولأنت الآن أحب الناس(2/191)
إليّ، وإني قد كنت خرجت معتمراً، فماذا ترى، قال: (اذهب فأتم عمرتك )،
فلما أتى إلى مكة علموا بإسلامه، فنالوا منه، فأقسم بالله لن تصلكم
حبة بر من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورجع إلى بلده، ومنع الميرة أن تؤخذ إلى مكة من وادي اليمامة، وكان
وادياً خصباً يمول مكة، فاشتد الأمر على أهل مكة لعدم إرسال الميرة
إليهم، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن
ثمامة أسلم ومنع الميرة عن مكة، وأقسم أن لا يسمح بها حتى تأذن
له، وإن لك بمكة -يا محمد- الخالة والعمة -أي: الرحم- فمر ثمامة أن يسمح بالميرة إلى مكة، فكتب إليه أن مر بالميرة إلى أهل مكة؛
فأمر بها وسمح. المشركون استشفعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم
مرتين: مرة قبل الهجرة عندما قحطوا، ومرة بعد الهجرة في الميرة.
مسألة استسقاء أهل الذمة
وهنا يأتي بحث في الاستسقاء، فلو أن أهل الذمة طلبوا من المسلمين
أن يستسقوا من أجلهم، أو طلبوا أن يخرجوا معهم، أو طلبوا أن
يستسقوا لأنفسهم، فماذا يكون الحكم؟ يرى الجمهور: عدم الخروج معهم،
وألا يمكنوا من الاستسقاء بأنفسهم، وإن طلبوا من المسلمين أن
يستسقوا لهم فعلوا. وذلك لأنهم قالوا: لو خرجوا وحدهم، وصادف أن
سقاهم الله رحمة من عنده لا استجابة لدعائهم، ربما ظنوا أنهم على
حق، وأن الله استجاب لهم، وإذا خرجوا مع المسلمين وسقوا من أجل
المسلمين، ربما ادعوا بأنهم سقوا بوجودهم معهم، أما إذا طلبوا من
المسلمين أن يستسقوا لهم، فهذه هي السنة، فيخرج المسلمون، فإن
رحمهم الله فبفضل من عنده، وإن لم ينزل المطر، فهذا أمر خارج عن
نطاقهم وقدرتهم. ومن عجيب ما سمعت أنه في زمن مضى بعض الدول
الأوربية حدث فيها قحط فاستسقى المسلمون فسقوا، أو أن أهل البلاد
قحطوا فطلبوا من المسلمين أن يخرجوا ليسألوا الله نزول المطر(2/192)
فخرجوا فأمطروا. ومما يهمنا في هذا الخبر قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (شكا الناس إلى رسول الله)، وهكذا حال
المسلمين، فإذا نابهم أمر هرعوا إلى الرسل، وسألوهم أن يكونوا
شفعاء لهم عند الله، فيسألونه رفع الضر الذي نزل بهم.
خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء
تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (شكا الناس إلى رسول الله
قحط المطر، فأمر بمنبر ). ابن القيم رحمه الله يشكك في كلمة
المنبر، وابن حجر في فتح الباري يقول: كان ذلك سنة ستٍ من
الهجرة في رمضان، والمعروف في تاريخ المنبر أنه صنع سنة ثمان من
الهجرة، فالله تعالى أعلم، ولهذا يقول بعض العلماء: إن صح الحديث
وإلا ففي النفس منه شيء. فأمر بمنبر وخرج، أي: خرج من المدينة إلى
المصلى ليستسقي للناس هناك. قالت: (فقعد على المنبر( القعود على
المنبر ليس في حالة الخطبة؛ لأن الخطبة إنما يكون الخطيب فيها
قائماً، فبعضهم يقول: قعد ليدعو، وبعضهم يقول: خطب قاعداً وبعضهم
يقول: قعد ثم قام وخطب قائماً. ويهمنا أنه صلى الله عليه وسلم وعد
الناس يوماً يخرجون معه فيه، وفي ذلك اليوم، أمر بالمنبر فأخرج إلى
المصلى، وخرج الناس معه، فقعد على المنبر. قالت: (فكبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم وحمد الله). هناك من يقول: التكبر في صلاة
الاستسقاء كالتكبير في العيدين، سبع في الأولى، وخمس في الثانية
وبعضهم يقول: كبر مرة واحدة، ولم يأت هنا عدد، فيحمل الحديث على
حديث ابن عباس المتقدم: (كما يصلي في العيد). قولها: (وحمد
الله) يقولون: هذا افتتاح الخطبة بالحمد؛ لأن السنة في ابتداء
الكلام إما بـ(باسم الله)، وإما بحمد الله، أو بهما معاً ، فهنا
بدأ بحمد الله، وفي الحديث: (كل أمر ذي بال لم يبدأ بحمد الله -أو
لم يبدأ باسم الله- فهو أجذم، وفي رواية: أقطع، وفي رواية: أبتر )
يعني: ناقص. (ثم قال) يخاطب الناس: (إنكم شكوتم جدب دياركم، وقد(2/193)
أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم ). يبين ويذكّر
العباد بما جاء عنه سبحانه وتعالى من أمرهم بالدعاء ووعدهم
بالإجابة، كما قال تعالى: وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]
، وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: (والله إني
لا أهتم لإجابة الدعاء بقدر ما أهتم بإلهامي الدعاء). لأن الإجابة
وعد من الله، فقد قال سبحانه: ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ فبقي الدعاء منا، فنحن نهتم بأن يلهمنا الله الدعاء أكثر من
اهتمامنا بأن يستجيب الله لنا؛ لأنه وعد بذلك. قالت: (ثم قال:
الحمد لله رب العالمين) بعد أن أمرهم بأن يتوجهوا بالدعاء قال:
(الحمد لله رب العالمين)، وهذه فاتحة سورة الفاتحة، وقرأ صلى الله
عليه وسلم من سورة الفاتحة جملة: (الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين).
يقول بعض العلماء: في هذا الحديث ترجيح إحدى القراءتين؛ لأنه قرئ مَالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]،
وفي الأخرى: (ملك يوم الدين)، وهي قراءة مالك ، فقالوا: في هذا
الحديث قرأ صلى الله عليه وسلم (مَالِكِ) بمد الميم، من الملك. وقد
يقول المالكية: ومن الذي يحتم بأنه أراد القراءة، ربما أراد
الافتتاح أيضاً، والله تعالى أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا
إله إلا الله يفعل ما يريد). هذا التسليم والتفويض لله؛ لأنه الإله
الخالق الرازق المدبر: لا
يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]
يعني: أراد القحط فوقع القحط، ويريد الخصب فيأتي الخصب، فلا معقب
لحكمه، ولا راد لقضائه. ولهذا يقولون من باب التندر: إن عمرو بن
عبيد -وهو من رؤساء القدرية- جاءه أعرابي وقال: إن حماري قد
ضاع فادع الله لي أن يردها. فرفع يديه وقال: اللهم إن حماره سُرق
ولم ترد أن يُسرق، فقال: يا هذا! امسك عليك دعاءك، والله لئن كان
سرق ولم يرد أن يُسرق فقد يريد أن يرد ولا يُرد عليّ، أمسك عليك(2/194)
دعاءك. فقوله: (لا إله إلا الله يفعل ما يريد ) يدل على أنه إن
أراد خيراً فعل ولا أحد يرده، وإن أراد شراً فعل ولا أحد يدفعه،
فلا يسوق الخير إلا الله، ولا يرد الشر إلا الله. وقوله: (اللهم!
أنت الله لا إله إلا أنت ). (اللهم) بمعنى: يا الله. والميم في
الآخر بدل عن الياء في الأول، والياء ياء النداء. وقوله: (أنت الله
لا إله إلا أنت ) أي: أنت الفعال لما يريد، ولا إله إلا أنت،
ولا غالب لما أردت. وقوله: (أنت الغني ونحن الفقراء ) هذا هو
التضرع، فأنت الغني بيدك خزائن الملك وملكوت كل شيء، ونحن الفقراء
لا نملك شيئاً إلا ما أتانا من عندك، وهذه هي الضراعة، وهذا هو
الالتجاء إلى الله، كما تقدم أنه خرج متبذلاً متخشعاً متواضعاً،
وهنا يظهر الفاقة والحاجة لرب العالمين، ويعترف بأن الغنى المطلق
هو لله سبحانه وتعالى. قوله: (أنزل علينا الغيث ) أي: ما دمت
غنياً ونحن فقراء عاملنا بفقرنا، وأعطنا من غناك، وأنزل علينا
الغيث؛ لأنه من عندك. قال: (واجعل ما أنزلت)، ولم يكن الغيث نزل
عند كلامه، ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنزلت) لأنه صلى
الله عليه وسلم موقن بمجيء الغيث، وكأنه قد نزل بالفعل. قال:
(واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغاً ): قوله: (قوة وبلاغاً) أي:
لا بطراً ولا هلاكا،ً والبلاغ والبلاغة والبلوغ: الشيء الذي
يُبَلِّغُكَ الغاية التي تريدها. أي: اجعل ما أنزلت من الغيث قوة
لنا، وقد يقال: وهل الغيث فيه قوة؟ والجواب: الغيث مطر ينزل، ولكن
المراد: اجعله سبباً لما ينشأ عنه من إحياء الأرض وإنبات النبات
وإيجاد الثمار التي تكون قوة لنا. قال: (وبلاغاً إلى حين) أي: ليس
طغياناً نطغى به، كما قال تعالى: إِنَّ
الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]،
ولكن اجعل ما أنزلته علينا قوة لنا في ديننا ودنيانا نستعين به على
ما تحبه وترضى وقوله: (إلى حين) أي: إلى أجل.
رفع اليدين في الاستسقاء(2/195)
قالت رضي الله عنها: (ثم رفع يديه فلم يزل حتى رئي بياض إبطيه). في
هذا الحديث: (ثم رفع يديه ولم يزل حتى رئي بياض إبطيه ) يقال:
كيف هذا الترتيب؟ فهل كونه رفع ولم يزل حتى رئي بياض إبطيه هو قبل
الرفع أو بعد الرفع؟ هنا حذف خفي على بعض الناس، فادعى أنه لم يرفع
يده في دعاء إلا الاستسقاء، كما جاء في أثر أنس : (ثم رفع يديه
ولم يزل يرفع ويرفع حتى رئي بياض إبطيه )يعني: بالغ في رفع يديه
في دعائه في الاستسقاء حتى رئي بياض إبطيه، بخلاف المواقف الأخرى،
فيمكن أن يرفع يديه حذو منكبيه، أو حذو أذنيه ولا يرى بياض إبطيه،
لكن هنا في شدة الضراعة واللجوء إلى الله وإظهار الحاجة بالغ في
رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه. وهنا ينقل العلماء عن النووي رحمه الله، أنه أنكر على من ينكر رفع اليدين في الدعاء مطلقاً،
ويقول: لم يأتِ رفع اليدين إلا في الاستسقاء، كما في حديث أنس : (ما رفع يديه إلا في الاستسقاء ) وأجاب العلماء عن قوله: (ما
رفع يديه ) أي: على تلك الحالة التي رئي فيها بياض إبطيه إلا في
الاستسقاء. يقول النووي رحمه الله: ولقد جمعت في ذلك رسالة فوق
الثلاثين حديثاً في رفع اليدين، في عموم الدعاء، وذكر ذلك في كتاب
(المجموع) في نهاية باب الصلاة، وينقله العلماء عنه لنفاسته. وقال
بعد أن ذكر الأحاديث: ومن ظن أنه لا ترفع الأيدي إلا في هذه
المواطن فهو جاهل. أي: إن العبرة بعموم الأحاديث في رفع اليدين عند
كل دعاء، ومن أعم ما جاء في هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله
ليستحيي من عبده أن يمد إليه يديه فيردهما صفراً ) يعني: لابد
أن يجيبه، كما لو جاءك السائل فإنك تستحيي أن ترده بلا شيء، فتعطيه
ما تيسر، فكذلك الله تعالى يستحي من عبده إذا مد إليه يديه،لم يعين
ولم يحدد صلى الله عليه وسلم في أي شيء يمد يديه بل جعله على
العموم. وقولها: (رفع يديه ولم ينزل) أي: لم يزل يرفع ويرفع حتى
رئي بياض إبطيه صلى الله عليه وسلم.(2/196)
تحويل الرداء في الخطبة قبل الدعاء
قالت: (ثم حول إلى الناس ظهره) كان على المنبر يحمد الله بهذه
الكلمات الكريمات مواجهاً للناس. واجهة الخطيب للمصلين تكون بطبيعة
الحال معاكسة لجهة القبلة، فتكون القبلة وراءه، وليس معقولاً أن
يستدبر الناس ويخاطبهم، فليس هذا من الآداب، بل سنة الخطبة أن
يواجه الخطيب من يخاطبهم. قالت: (ثم حول إلى الناس ظهره) أي: لما
استقبل القبلة. قالت: (وقلب رداءه)، وجاء: (حول رداءه )، وجاء:
(كانت عليه طنفسة غليظة فأراد أن يحولها فثقلت عليه فقلبها )،
وجاءت عدة ألفاظ. والراجح من كل تلك الألفاظ أنه حول، وجاء التصريح
أنه جعل الطرف الأيمن على الكتف الأيسر، والطرف الأيسر على الكتف
الأيمن، والفرق بين (قلب) و(حول) أن القلب معناه أنه كان طرف
الرداء الأعلى على رأسه، فإذا كان (قلب) فسينزل هذا الطرف إلى
أسفل، ويأتي بالطرف الأسفل إلى أعلى، وتبقى أطراف اليمين في
اليمين، واليسار في اليسار، لكن التحول معناه أنه يأخذ الرداء كله
ويرفعه، فالأيمن يجعله أيسر، والأيسر يجعله أيمن. والمشهور أو
الراجح أنه حول، وبعض العلماء يقول: تارة قلب، وتارة حول وكل ذلك
تفاؤل واستشعار بتحويل الحال التي هم عليها إلى حال أحسن منها، أو
قلب الوضع من جدب إلى خصب، وكل ذلك لا بأس به. يقول ابن حجر :
وكان رداؤه صلى الله عليه وسلم ستة أذرع في ذراعين، وبعضهم يزيد:
وشبرين. فالمهم أنه حول الرداء، والآن لا أحد يلبس الرداء. فإذاً:
كان ما يلبس قابلاً للتحويل فيحول، فإن كان مشلحاً حوله، فيجعل كم
اليد اليمنى في اليسرى، وما كان في اليد اليسرى يجعله في اليد
اليمنى، وجعل المشلح بهذا الحال يقتضي القلب؛ لأنه ما كان في
الداخل سيكون في الخارج، وما كان خارجاً سيكون داخلاً. وعلى كل إذا
لم تكن هناك عباءة أو مشلح فهناك ما يضعه على الرأس فيحوله أو
يقلبه. وفي ذلك الاستشعار والتفاؤل بتغيير الحال الذي هم فيه إلى(2/197)
حال أخرى أحسن منها. قالت: (وقلب رداءه وهو رافع يديه). في حالة
رفع اليدين أمسك بالرداء وقلبه أو حوله. قالت: (ثم أقبل على الناس
ونزل فصلى ركعتين). بعدما أجرى حركة الرداء تحويلاً أو قلباً
استقبل الناس بوجهه، ونزل من على المنبر، أي: عاد إلى حالته
الأولى،:ثم قام فصلى ركعتين، ومن هنا بعض الناس يقول: خطبة
الاستسقاء تكون قبل الصلاة وقال آخرون: لا. فقد جاءت أحاديث أخرى
تفيد أن خطبة الاستسقاء بعدها. فما فعله رسول الله صلى الله عليه
وسلم هل كان دعاء، وليس خطبة؟! سيأتي البحث: هل يخطب لها أم لا،
وهل يخطب بعدها أم قبلها، وسيأتي تفصيل ذلك في الأحاديث الآتية إن
شاء الله.
استجابة الله لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم
قالت: (فأنشأ الله تعالى سحابة). أسندت عائشة رضي الله عنها
الإنشاء إلى الله، فهو الفعال لما يريد، وليس كقول الجغرافيين، ولا
كقول الفلكيين: بنوء، أو بتبخر ماء البحر، وإنما أنشأ الله سحابة،
وستأتي الرواية: (فوالله ما بيننا وبين سلع من سحابة ولا قزعة ).
والسحابة: السحاب المتواصل المتراكم، والقزعة: السحابة المتقطعة،
كما في الحديث: (نهى عن قزعة الشعر )، أي: أن الإنسان يحلق
جزءاً ويبقي جزءاً ، وهذا لا يجوز، وابن حجر يذكر رواية:
(والسماء كالمرآة صافية )، أي: ليس فيها شيء، فأنشأ الله سحابة
من وراء سلع -من جهة الغرب؛ لأن المدينة شمالها إلى أحد، وغربها
إلى وراء سلع- فأنشأ الله سحابة من وراء سلع، وبعضهم يقول: كرجل
الطير، وبعضهم يقول: كالترس والترس: هو الآلة التي يمسكها المقاتل
يتترس بها من ضربات العدو بالسيف أو الرمح. يعني: لا يزيد قطرها عن
خمسين أو مائة سنتيمتر. وفي الحديث: (فجاءت ريح فساقتها، حتى أقلت
سماء المدينة، فانتشرت فأمطرت )، وهذا الذي أشرنا إليه سابقاً
بأن سوق السحاب وإنشاء السحاب وإنزال المطر إنما هو من الفعال لما
يريد سبحانه وتعالى. قالت: (فرعدت وبرقت ثم أمطرت). الرعد والبرق(2/198)
يذكر بعض العلماء أنه من عوامل السحب، أو من تنقيحها. قالت: (ثم
أمطرت) أي: تلك السحابة التي نشأت، وجاءت وهم يرونها. قال المصنف:
[رواه أبو داود ، وقصة التحويل في الصحيح من حديث عبد الله بن
زيد وفيه: (فتوجه إلى القبلة يدعو ثم صلى ركعتين جهر فيهما
بالقراءة ) ]. الزيادة هنا أنه في صلاته جهر بالقراءة، وعائشة رضي الله تعالى عنها أخبرتنا أن خروجه كان حين بدا حاجب الشمس،
وصورة الشمس في أول خروجها تشبه استدارة الحاجب على العين، وذلك في
أول ظهور حافتها العليا، فتكون في صورة حاجب العين، أو في صورة
الهلال، فحينما بدا كان قبل أن يكتمل القرص في الظهور، ولما وصل
إلى هناك، أكتمل القرض بالظهور، وصحت الصلاة بعد شروق الشمس. قال
المصنف: [وللدارقطني من مرسل أبي جعفر الباقر : (وحول
رداءه ليتحول القحط ) ]. هناك (قلب)، وهنا (حول)، فالرواية
باللفظين، وأيهما فعل فلا مانع في ذلك، وزادنا هنا: (ليتحول
الحال)، أي: تفاؤلاً.
الاستسقاء في خطبة الجمعة
قال المصنف: [وعن أنس (أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة والنبي
صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال،
وانقطعت السبل، فادع الله عز وجل يغيثنا. فرفع يديه، ثم قال: اللهم
أغثنا. اللهم أغثنا ) وذكر الحديث، وفيه الدعاء بإمساكها، متفق
عليه]. الحديث الأول فيه أنه وضع له منبر وخرج، فتلك صورة من صور
الاستسقاء. والحديث الثاني حديث أنس أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان قائماً يخطب يوم الجمعة، فليست خطبة استسقاء، فدخل رجل
-يعني: بعد الشروع في خطبته- فالخطبة ليست لمجيء الرجل، وإنما
الخطبة للجمعة، فقد يقع الاستسقاء مستقلاً بخروج الإمام وخروج
الناس معه، وقد يقع ضمن خطبة الجمعة في المسجد. فهذا رجل دخل
-ويقال: من باب مقابل المنبر- (فقال الرجل: يا رسول الله! هلكت
الأموال.) أي: من القحط، فما بقي شجر، ولا بقيت دواب، ولا أنعام،(2/199)
وما بقي مرعى، فإذا لم يبق مرعى هلكت الأنعام. قال: (وانقطعت
السبل). السبل: جمع سبيل، وهي الطريق، والطريق ممدود في الأرض فكيف
تنقطع؟ والجواب: أن المراد أنقطع استعمالها، إما لأن الإبل وهي
سفينة الصحراء -كما يقال- لم يبق عندها ما تأكل، فلا تستطيع أن
تذهب أو أن تسافر، كما لو انعدم الآن البنزين، فالسيارات ستبقى في
محلها، كذلك هنا، فإذا المرعى للإبل انقطع لن تقوى الإبل على
السير، أو أن السبل كانت تستعمل لنقل المنتجات وغلات الزرع، ولم
يبق هناك زرع ولا ثمار، فلا يبقى هناك أسفار؛ لأن موجب الأسفار
تعطل. قوله: (فادع الله عز وجل يغيثنُا) روي: (يغيثنا) بالرفع،
و(يغيثَنا) بالنصب، فعلى رواية الرفع يكون التقدير: (فادع الله إن
دعوته). وعلى رواية النصب يكون التقدير: : (ادع الله عز وجل أن
يغيثَنا) فكلا الروايتين وارد وموجود، وله توجيه في الإعراب،
والغرض من ذلك: ادع الله لنا بالغيث. قال أنس : )فرفع يديه ثم
قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.) هذا الحديث -حديث أنس - فيه
زيادات: فقد ذكر فيه قضية السحابة ومجيئها ، حيث قال: فأمطرت،
فوالله ما رأينا الشمس سبتاً. أي: أسبوعاً. وفي بعض الأقطار يسمون
الأسبوع جمعة، فالجمعة الأولى والجمعة الثانية، والشهر عندهم أربع
جمع، أي: أربعة أسابيع، ويرمزون إلى الأسبوع بجزء منه وهو يوم
الجمعة. يقول بعض العلماء: هذا الصحابي قال: (ما رأينا الشمس
سبتاً) أي: أسبوعاً كاملاً من صلاة الجمعة إلى يوم السبت الآتي
بعدها. يقول بعض العلماء: إن كلمة (سبت) أخذها الأنصار من اليهود؛
لأن اليهود يعتبرون يوم أسبوعهم هو يوم السبت، والنصارى يعتبرون
أسبوعهم يوم الأحد، والمسلمون يعتبرون أسبوعهم يوم الجمعة، فكان
مستعملاً قبل ذلك وعرفاً سارياً، فاستعمل الكلمة على ما هي جارية
على ألسنتهم. والغرض من ذلك أنهم أمطروا، وما رأوا الشمس سبتاً،
أي: استمر المطر من حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن(2/200)
مر عليهم السبت الآتي بعد يومهم ذلك. وجاءت روايات: (فأمطرت
كالجبال )، وجاءت روايات: (وكان هم الرجل أن يصل إلى مكنة )يعني:
ما يكنه من المطر من شدة ما نزل من الماء.
جواز الدعاء بإمساك المطر إذا خشي الضرر
قال المؤلف رحمه الله: [وذكر الحديث وفيه الدعاء بإمساكها متفق
عليه ]. اختصر الحديث اختصاراً شديداً، وتتمة الحديث في يوم الجمعة
الثانية دخل رجل من نفس الباب، وفي بعض الروايات (دخل الرجل)
فاللام للعهد، أي: الرجل الأول، وبعضهم يقول: لا ندري أهو بعينه أم
غيره. فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادعو
الله أن يمسكها عنا. فضحك صلى الله عليه وسلم، وتبسم لشدة خلف ابن
آدم، فمن قبل تشتكون الجدب، والآن تشكون المطر! ثم أجابهم، وقد نقل
ابن حجر وغيره عن قتادة : أن فيه إظهار كرامة الله لنبيه
كما أشرنا سابقاً أن الاستسقاء فيه إثبات المعجزات للأنبياء،
والكرامات للأولياء وللصالحين، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو
في الخطبة، وقال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب
والآكام وبطون الأودية، ومنابت الشجر، ويشير بيده )، فيقول
الراوي: والله إنا لنرى السحاب يتفتق ويتقطع وينفلق، فطلعت الشمس
وخرجنا نمشي في الشمس. وبعضهم يقول: تحولت حول المدينة، وأصبحت
المدينة كأن عليها التاج أي: كان السحاب محيطاً حول المدينة، وعلى
سماء المدينة ما في سحاب ولا مطر، فسبحان الله، ولا إله إلا الله
يفعل ما يريد. وهنا جواز الدعاء بإمساكها، وهنا ينبه بعض العلماء
على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل أمسكها عنا ولكن طلب رفع
الضرر، وأنه قد اشتد أمر نزولها علينا فتضررنا، فحولها إلى ما لا
ضرر فيه، فإنها إذا نزلت على الآكام، -وهي المرتفعات- وعلى الجبال،
وعلى بطون الوديان جرت الوديان، وسقت الأرض، وشربت الدواب، فكان في
وجودها وجريانها في مجراها خير كثير، بخلاف ما إذا أمطرت على(2/201)
البيوت فإنها قد تهدمها، فلم يسأل صلى الله عليه وسلم ربه أن
يمسكها؛ لئلا يقع في طلب الإرسال أولاً، ثم طلب الإمساك، وإنما طلب
رفع ضررها بأن تتحول إلى الأماكن التي لا يحدث منها فيها ضرر.
( كتاب الطهارة - باب صلاة الاستسقاء [2] )
عناصر الموضوع
1 أحكام اللباس
2 أحكام الذهب بين الرجال والنساء
3 التحدث بنعم الله
كتاب الصلاة - باب اللباس [1]
من شروط الصلاة ستر العورة بلباس طاهر، وللباس أحكام وآداب بينتها
الشريعة، كما بينت الفرق بين لباس الرجل ولباس المرأة، والمتأمل في هذه
الأحكام يدرك حكمة الشريعة وكمالها.
أحكام اللباس
حرمة لبس الذكور للحرير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن
والاه. وبعد: يقول المصنف رحمه الله: [ عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من
أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير ) رواه أبو داود ، وأصله
في البخاري ]. أبو عامر هذا غير أبي موسى الأشعري ،
فهو رجل آخر. قوله: (يستحلون) استحل الشيء: جعله حلالاً، فهل هو
حلال في ذاته أو أنه محرم؟ لو كان حلالاً في ذاته لما قيل: استحله؛
لأنه حلال، وتحليل الحلال تحصيل حاصل، فهو حرام، ولكنهم يستحلونه،
وهل يستحلونه تكذيباً للتحريم الثابت عن رسول الله، أو يستحلون
استعماله مع اعتقادهم بتحريمه؟ إن من استحل شيئاً محرماً ورد به
دليل التحريم فإنه يكون قد رد حكم الله الوارد على لسان رسول الله،
ومن حرم ما هو حلال بالضرورة أو استحل ما هو محرم بالضرورة فهو
مرتد عن الدين، ولكن من اعتقد أنه حرام، واستعمله فهذه تكون معصية،
ولا يخرجه العصيان عن الإسلام. وهذا اللفظ استدل به الجمهور على أن
هذا الذي يستحله أقوام أصله محرم، فما هو موضوع الاستحلال؟ قال
هنا: (الحر) بالحاء والراء، والحر: هو الفرج، فالمعنى يستحلون
الفروج بالزنا، والحرير باللباس. وأكثر علماء الحديث يروونه بالحاء(2/202)
والراء المهملتين -أي: ليس فيها نقط-، وبعضهم يرويه معجماً بالنقط،
والحاء إذا كتب عليها نقطة صارت خاءً، والراء إذا صارت عليها نقطة
صارت زاياً، فروي (الحر) و(الخز)، والكتابة واحدة، ولكن الخلاف
بكون الحرفين منقوطين أو بدون نقط. والجمهور على أنه الخز؛ لأنه
متناسب مع ذكر الحرير، والآخرون يقولون: إذا حرم الحرير فالخز نوع
منه، فيكون تكراراً، فالأنسب أن يكون تحريماً لشيء آخر. وجاء في
بعض النصوص الأخرى: (يستحلون الحر والمعازف )، واستحلال الفروج
مع المعازف متجانس؛ لأنه من باب اللهو والاستمتاع المحرم، فعلى أنه
الحر لا يدخل معنا في البحث، وهذا راجع إلى باب حد الزنا، وإذا كان
(الخز) ، فما الفرق بين الخز وبين الحرير؟ وكيف ذكر معه؟ قالوا:
الحرير ما كان من دودة الحرير، فهو إنتاج دودة معروفة باسم الحرير
بصفة خاصة، والخزّ: هو وبر دابة يكون ناعماً كالحرير، وبعضهم قال:
الخز: ما كان فيه حرير مخلوط مع غيره. والزرقاني في شرح هذا
الحديث -على رواية الخز بالخاء والزاي- ذكر عن مالك أنه روى عن
خمسة وعشرين صحابياً أنهم كانوا يلبسون الخز، وكذا عن خمسة عشر من
التابعين، فيكون (الخز) موضع الخلاف، و(الحرير) موضع الاتفاق،
ويكون النهي عن الخز للكراهية، والنهي عن الحرير للتحريم، وتحقيق
المناط أنه إن كان الثوب مخلوطاً بالحرير فإنه يبقى فيه جزء من
المنهي عنه، فهو يحمل جزءاً من النهي، لكن لا يصل إلى حد التحريم؛
لأنه ليس خالصاً من الجنس الذي دخله التحريم والنهي عنه لذاته.
حكم استعمال الذهب والفضة ولبس الديباج والحرير وافتراشهما
قال المصنف رحمه الله: [ وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن
نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه ) رواه
البخاري ]. إذا وجدت صنفين مقرونين في الحديث بالطلب أو بالنهي(2/203)
فلابد أن بينهما علاقة، فالآنية واللباس كلاهما يستعمله الإنسان،
فهذه آنية لطعامه وشرابه، وهذا ثياب للباسه، فبينهما ارتباط، وهو
الاستعمال، ونحن بحاجة إلى بيان ما يجوز منهما وما لا يجوز، ونحو
هذا الحديث سبق في باب الآنية، وتقدم هناك، والنهي جاء بالوعيد،
وهو حديث: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار
جهنم ) ، وفاعل (يجرجر) هو النار، كأن الطعام والشراب الذي يدخل
إليه نار تجرجر، أو هو الفاعل للجرجرة، فيجرجر ناراً، ومهما يكن
فهو وعيد شديد. فنهى صلى الله عليه وسلم عن استعمال أواني الذهب
والفضة، وهذا مبحثه واسع تقدم في باب الآنية، وأهم ما يتطرق إليه
البحث هنا هو ما إذا كان الإناء الصيني والفخار والزجاج مطلياً
بالذهب، وفرق بين المطلي بالذهب والمموه بماء الذهب، فالمطلي: هو
أن يؤخذ الذهب مذاباً ويطلى عليه كما يُطلى الدهان على الخشب وعلى
البنيان، أما المموه بماء الذهب فهو أخف، ولا جرم للذهب فيه، إنما
هو اللون، وتمسحه بأي شيء، والفرق بين المطلي والمموه ما قاله
النووي رحمه الله في المجموع، وهو أنه إذا أخذت سكيناً وحككت
اللون الأصفر عن هذا الصيني الأبيض فإن حصلت باحتكاك السكين على
هذا اللون الأصفر على جرم مادي ملموس فهو مطلي، وإن لم تحصل على
شيء فهو مموه، وكذلك إذا أدخلته النار فذاب هذا الأصفر، وخرج منه
مادة سائلة ذابت بعد أن كانت مجمدة فهذا مطلي، وهذا عين الذهب. وإن
لم يذب ولم ينحل عنه شيء فهو المموه. وقد ذكروا عن عمر بن عبد
العزيز رضي الله تعالى عنه أنه جاء إلى المدينة فوجد في جدار
المسجد النبوي عهود الخلفاء، وهذه كانت عادة كل خليفة أموي، حيث
يكتب خطاب عهده، وهو خطاب العرش -أي: سياسة ملكه في الرعية-،
ويكتبه على جدار المسجد النبوي إعلاناً لسياسته في الأمة، فكانت
تكتب بماء الذهب، أو تكتب بالذهب، فرآها عمر وأراد أن يحتها،(2/204)
فقال له العلماء: إن كنت ستحصل من هذه الكتابة على مادة من الذهب
فافعل، وإن كنت ستفسدها ولن تحصل على شيء لأنها مموهة فقط فاتركها
فجرب فإذا به لا يحصل منها على شيء، بل كانت كتابة بمادة ذهبية لا
يحصل منها على جرم، فتركها. فما تجده على غلاف الكتاب، أو في بعض
الأواني وبعض الزخارف إن كان مطلياً بالذهب فهو محرم، وإن كان
مموهاً فلا شيء في ذلك. مسألة: إذا وجدنا إناء من الجواهر النفيسة
من الزمرد أو الياقوت أو غير ذلك فهل يحرم استعماله؟ الجواب: لا،
كما لا يحرم على الرجل أن يلبس ويتختم بالخاتم الذي فيه فص من
الفيروز، أو من الزمرد، أو من الألماس، ولو كانت قيمته أضعاف الذهب
والفضة، فيجوز أن يلبسه، لكن الذهب والفضة حرام، وبعضهم يقول:
لأنهما قيم الأعيان، والأثمان لا تكون للاستعمال، حتى لا تتعطل
مهمتها النقدية فتتعطل الأسواق. وقالوا: إن عامة الناس لا يميزون
بين خرز وبين عقيق، والفقراء لا تنكسر قلوبهم من تلك الأحجار
الكريمة كما تنكسر قلوبهم من الذهب والفضة؛ لأنهما معروفان للصغير
وللكبير. والله تعالى أعلم. قوله: [وعن لبس الحرير والديباج]
الحرير عرفناه، والديباج: هو عين الحرير، ولكن نسيجه متين، والحرير
شفاف، ويقولون: يمكن أن تأخذ خيط حرير بأدق ما يمكن. فالحرير إذا
نسج على رقته كان رقيقاً شفافاً، كما قيل: شف عنها رقرق جندي،
فـ(رقرق) أي: رقيق جداً، و(جندي): نسبة إلى جند، أو إلى بلد تسمى
بهذا الاسم، فإذا نسج غليظاً سمي ديباجاً، فنهى صلى الله عليه وسلم
عن لبس الحرير على طبيعته، أو أن يكون ديباجاً. أي: حريراً متيناً
مكثفاً في النسيج. وقوله: (وأن نجلس عليه) أي: على الحرير
والديباج. وقالوا: الجلوس على الثياب نوع من اللباس، فكأنه لبسه،
والكل ملبوس بحسب حالته، واستدلوا بحديث أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (أين تريدون أن أصلي لكم؟ ) فعمد الصحابي إلى حصير قد(2/205)
اسود من طول ما لبس -أي: لكثرة الاستعمال- فأخذ ماءً فنضحه، قال
العلماء: استعمال الحرير باللباس واستعمال الحرير في الجلوس سواء،
والنهي فيهما سواء، فلا ينبغي للرجل أن يتخذ مجلساً به حرير يجلس
عليه إذا كان مباشراً له. وقد يقول قائل: الحرير مباح للمرأة تلبسه
وتجلس عليه، فإذا اتخذت المرأة لنفسها ثياباً من حرير، واتخذت
فراشاً من حرير فهو جائز لها، فهل تبيحون للزوج هذا الفراش تبعاً
لها أو تمنعونه؟ والجواب: أعتقد أن المرأة إذا اتخذته لنفسها، ودعت
زوجها إليه فله ذلك؛ لأنه ليس مستقلاً به، وإنما كان تبعاً لها في
هذا الاستعمال، وهو مباح لها، ولا نفرق بين الزوجين، ولا نقول: كل
واحد يتخذ له فراشاً على حدة.
الترخيص في لبس قدر أربع أصابع من الحرير
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمر رضي الله عنه قال: (نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو
أربع )، متفق عليه، واللفظ لمسلم ]. تبين لنا من إيراد
المؤلف رحمه الله ما يجوز لبسه بالنسبة للرجال، وما لا يجوز لبسه
بالنسبة للرجال أيضاً، ومن ضمن اللباس الجلوس عليه، وجاء هنا بحديث
النهى عن الحرير عن لبسه، وعن الجلوس عليه، ولكن هناك حالات
استثنائية بمثابة الرخصة، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الحرير
إلا مقدار إصبعين، أو ثلاث، أو أربع، وموضع هذه الأربعة الأصابع
يكون في أطراف الثياب، مثل طرف الجبة، أو عند الرقبة عند الحاجة
إذا كانت عنده حكه، أو طرف الكم الذي يباشر الجلد، فإذا احتاج إلى
ملطف لحاجة في جسمه فلا مانع أن يتخذ من الداخل جزءاً على قدر
أربعة أصابع على دائرة الفتحة، وإذا كان للثوب فتحات فلا بأس أن
يتخذ من الحرير على تلك الفتحات -ويقال لها: الفروج- بقدر أربعة
أصابع.
الترخيص في لبس الحرير للعلاج
قال المصنف رحمه الله: [ وعن أنس رضي الله تعالى عنه: (أن(2/206)
النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص من حرير في سفر من حكة كانت بهما )، متفق عليه ].
الاستثناء الأول في أطراف الثياب أربعة أصابع، وهذا الحديث رخص في
الثوب كله. والرَخْص: الشيء الناعم، والرخيص الناعم من الثياب،
ورخص البنان. لين الأطراف، وسعر رخيص: لين هين كل إنسان يقدر عليه،
والرخصة: هي التهوين من شدة، فالصوم واجب لكن المريض المسافر يشق
عليه، فرخص له في الفطر، أي: لين له، وكذلك الميتة محرمة، لكن قد
يضطر الإنسان إليها للإبقاء على حياته، فرخص وهون له، فالرخصة تكون
من ممنوع ومن محرم؛ لأن الحرمة منع، والمنع شدة، فالرخصة تكون من
شيء محرم فكونه رخص يبقى الأصل عدم الترخيص، وهو العزم والمنع.
فرخص صلى الله عليه وسلم لابن عوف والزبير في قميص الحرير
في سفر من حكة، وحكة الجسم الآن تسمى (حساسية) أو (حرارة) أو
(التهاباً في الجلد)، وما هي خاصية الحرير؟ قالوا: طبيعة الحرير
حيوانية رطبة، وهو لين، ويعالج بالحرير الجلدُ، فهو ألطف ما يكون
استعمالاً بدون حائل لجلد الإنسان، فمن كان عنده حكة إذا لبس القطن
جاءته الحكة، وإذا لبس الصوف كانت الحكة أكثر وأكثر، فالذي يناسبه
الحرير، فمن أجل علة الحكة رخص له ما كان محرماً، وليست العلة كونه
في سفر، ولكن الترخيص في السفر أحوج منه في الحضر؛ لأن الذي في
الحضر يمكن أن يحصل على علاج، ويمكن أن يحصل على شيء يخفف عنه هذا،
ويمكن أن ينزع القميص ويقعد في بيته، لكن هذا في سفر وفي حركة، فهو
أحوج منه حينما يكون في غير سفر. فيرخص الممنوع، وهذا وجدناه في
جميع أبوب الفقه، ويقولون: المشقة تجلب التيسير. ففي العبادات
ينتقل إلى التيمم عند التضرر باستعمال الماء، والانتقال إلى الجلوس
في الصلاة عند عدم استطاعة القيام، والانتقال إلى صيام عدة أيام
أخر إذا كان في مرض أو سفر. وهكذا نجد الرخصة تأتي عند الشدة وعدم(2/207)
الاستطاعة، مع بقاء التحريم؛ لأن الحكم قائم، وإذا انتفى الحكم
يكون هذا نسخاً لما تقدم، وجاء هذا بديلاً عنه، ولكن الرخصة إباحة
الشيء بخطاب جديد مع بقاء الحكم الأول على ما هو عليه، وتكون
الرخصة مؤقتة بحالتها وبأسبابها وبدواعيها، فإذا انتفت الحكة انتفى
جواز لبس القميص الحرير، والله تعالى أعلم.
جواز إعطاء الرجل ثوب الحرير ليكسوه نساءه
قال المصنف رحمه الله: [ وعن علي رضي الله عنه قال: (كساني
النبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء، فخرجت فيها، فرأيت الغضب في
وجهه، فشققتها بين نسائي )، متفق عليه، وهذا لفظ مسلم ].
الحلة: هي إزار ورداء من جنس واحد، فهي قطعتان، أما الجبة فهي قطعة
واحدة، وهي مثل العباءة، لكنها طويلة حسب عادة الناس في اللباس،
وهي ثياب تلبس فوق اللباس العادي. يقول علي رضي الله تعالى
عنه: كساني النبي صلى الله عليه وسلم يعني: أعطاني كسوة، والكسوة:
اللباس. وتكون كسوة إذا كانت مكتملة. قوله: (سيراء) هي نوع من
الحرير الرقيق، وليست حريراً خالصاً، قال: فخرجت بالحلة فرأيت
الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. والوجه يعبر ولو لم
يتكلم، فالبشاشة والهش والبش والتكشير كلها صور معبرة، فعلي رضي الله تعالى عنه عرف من وجه رسول الله الغضب، كأنه يقول: لماذا
لبستها؟! ففهم علي ذلك بدون أن يتكلم، قال: (فشققتها بين
نسائي)، وفي بعض الروايات قال: (فقسمتها بين الفواطم)، وليس هنالك
اختلاف؛ لأن الفواطم جمع فاطمة، وهن نساء علي ، فمنهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي زوجته، ومنهن فاطمة بنت أسد ، وهي أمه، ومنهن فاطمة بنت فلان ، وهي قريبة له، فكلهن من بيت
علي رضي الله تعالى عنه، فقوله: (كسوتها نسائي) و(كسوتها
الفواطم) معناهما واحد. ونأخذ من هذا الحديث أن تغيير المنكر قد
يكون باليد، وقد يكون باللسان، وقد يكون بالنظرة، ولذا يقول
العلماء في باب التعزيرات: إذا ارتكب إنسان أمراً محظوراً واقتضى(2/208)
الأمر تعزيره فيعزر الأشخاص بحسب ذواتهم، فشخص لا ينفع فيه التعزير
إلا بالضرب والجلد، وشخص يكفي أن يقال له: يا فلان! والله ما كان
يليق بمثلك أن يفعل هذا. وشخص يعزر بأن تعرض عنه، فإذا أقبل عليك
أعرضت عنه، وهذا أثقل عليه من السب ومن الضرب، ويكفي هذا في
تعزيره. فالشخص الأبي الكريم تكفيه النظرة، والشخص الأقل منه كرماً
يحتاج إلى كلام وإلى إيقاف، والشخص فاقد الإحساس يعزر بالضرب، فهنا
أدرك علي رضي الله تعالى عنه إنكار رسول الله صلى الله عليه
وسلم عليه لبس هذا النوع، وحالاً قطعها وقسمها بين نسائه. وهذا
النوع لا يجوز للرجال ويجوز للنساء.
أحكام الذهب بين الرجال والنساء
جواز لبس الذهب للنساء خاصة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أحل الذهب لنساء أمتي، وحرم
على ذكورها )، رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه
]. هذه قاعدة الباب التي يدور عليها فقه هذا الباب كله، حيث يخبر
صلى الله عليه وسلم: أن الحرير والذهب حرام على ذكور أمته، حلال
على نسائها، وهل المراد أن لا يقتنيه؟ وهل الرجل لا يضع في بيته
ثوب حرير، ولا يضع في بيته ذهباً؟ لا. إن المراد انه حرام في
استعماله الشخصي، أما إذا اقتنى من الذهب قناطير مقنطرة لتجارة
وصناعة فلا مانع من ذلك؛ لأنه لم يلبسه، وإذا تاجر في الحرير وخزنه
في بيته، أو في مستودعاته، وباع واشترى فيه، ولم يلبسه فلا مانع من
ذلك. فحلال للنساء استعماله، وحرام على الرجال استعماله، أما
القنية فلا دخل لها في ذلك، والذهب حلال للنساء مادام أنه غير
مصنع، فإذا صنع نظرنا، فإن صنع أواني فلا يجوز للرجال ولا للنساء
استعمال أواني الذهب والفضة، لكن المرأة تستعمله زينةً وحلياً لها
فلا مانع، وإن صنعه الرجل بيده ليبيع ويشتري في صنعته حلياً للنساء
فلا مانع، لكن أن يصنع ملاعق وصحوناً ونحوها فلا يجوز؛ لأنه لا(2/209)
يجوز تصنيعه، ولا استعماله، ولا اقتناؤه في البيت للرجال ولا
للنساء. وهنا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحرير والذهب حرام
على الرجال بأي نوع من أنواع الاستعمال، وحلال للنساء على الوجه
الذي تقدم، فيجوز للمرأة الحرير استعمالاً ولبساً، ما لم يكن لباس
الحرير شفافاً يشف عن الجلد ويصف البشرة على ما سيأتي إن شاء الله؛
لأن المرأة مأمورة أن تستر نفسها، والذهب حلال لها أيضاً ما لم يكن
في صورة الممنوع، وهو الأواني والاستعمال المباشر، أما للزينة
وللحلي فلا مانع من هذا، وهذا الحديث هو القاعدة الأساسية.
خلاف العلماء في تحلية الأطفال بالذهب
بقي عندنا من فقه الحديث مسألة الأطفال الصغار، فالآباء يفرحون
بالمولود الصغير، فإذا جاءت مناسبة أو جاء العيد قد يأتون للطفلة
بأنواع من الحلي على قدرها، وأنواع من الحرير على قدرها، وإذا كان
المولود ذكراً وأرادوا أن يفرحوا به ويجملوه فهل يلبسونه الحرير
والذهب؛ لأنه صغير لا يجري عليه القلم، أم هم المكلفون والمسئولون
عن ذلك؟ فعند الشافعية جواز ذلك في الأعياد والمناسبات؛ لأنهم غير
مكلفين، وعند مالك رحمه الله عدم جواز ذلك؛ لأن النهي عام،
فالذكر وهو في بطن أمه ذكر، فإذا جاء إلى الدنيا ما تغيرت الذكورة،
فيشمله وصف الذكور، فلا يجوز مالك أن يلبس الصغير حريراً أو
ذهبا في عيد ولا في غيره، وغير مالك يقول: هذا طفل صغير، ولا
مانع أن نفرح به ونزينه، وفي نظري أن مما يؤيد مذهب مالك مبدأ
سد الذريعة، وهذا باب واسع جداً، وللأسف إلى الآن لم أجد من طلاب
العلم من خصه برسالة جامعية، فقد كتبوا في كثير من أبواب الفقه إلا
هذا الباب على حد علمي. وسد الذريعة: هو ترك المباح خشية الوقوع في
غير المباح، فالنهي عنه لغيره، وأصله في كتاب الله قوله تعالى: وَلا
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا
اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]،(2/210)
فسب الذين يدعون من دون الله جائز، فلك أن تسب الأصنام وتحطمها،
ولكن إذا كان سبك لأصنامهم يحملهم على أن يسبوا الله لأنك سببت
آلهتهم فلا يجوز لك ذلك، كما في الحديث: (لعن الله من لعن والديه )،
وهل أحد يلعن والديه؟ نعم، كما في الحديث الآخر: (يلعن أبوي الرجل
فيلعن الرجل أبويه ) ، فهو سبب في لعنهما فهذا هو سد الذرائع
وهو باب مهم جداً. وأجد كثيراً من العلماء يتحاملون على المالكية
لأنهم أكثروا من هذا الباب، ولا يوجد أحد من المذاهب الأربعة إلا
وقد أخذ منه ما قل أو كثر. وأقول: مما يمكن أن يستدل به لمالك ويستأنس به أن الطفل إذا عودته على حلوى معينه، أو على لعبة معينة،
أو على شيء معين فكبر وقد تعود على شيء أصله ممنوع فإنك تحتاج إلى
معاناة في أن ترده عن هذا الذي شب عليه وعودته إياه، أما إذا عرفته
من الصغر أن هذا ممنوع فقد استرحت واستراح. فالأولى ألا يلبس
الصغار الحرير، بل ينشأون على الجد وعلى الرجولة، ولا يحلى الصبي
بالذهب حتى لا يكون هو وأخته سواء، فالصبي الذي على الفطرة عندما
تلبسه هو وأخته بالحرير والذهب أعتقد أنه يغضب، ويقول: هذا للبنت.
ويرميه. فحينما يكون عند الطفل إحساس بما يخص البنات فإنها بادرة
خير. فمما يؤيد مذهب مالك رحمه الله سد الذريعة حتى لا ينشأ
الطفل ويتعود على الحرام. والآن تجد الطفلة عمرها ست سنوات تخرج مع
أمها، وقد تأتي بها إلى المسجد، وثيابها إلى الركبة، فهذه حينما
تنشأ على ذلك، وتبلغ الثانية عشر من عمرها، وتريد أمها أن تلبسها
ساتراً إلى الكعبين هل تستطيع ذلك؟ إنها -حينئذ- ٍتقول: أريد هذا
أريد القصير الذي تعودت عليه لكن لو كان في أول الأمر عرفتها بأن
هذا لباسها، وذاك لباس أخيها، حينئذ يسهل على الأم أن تأمر ابنتها،
وأن تستجيب البنت لها، والله تعالى أعلم.
التحدث بنعم الله
قال رحمه الله تعالى: [ وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه،(2/211)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب إذا أنعم على عبده
نعمة أن يرى أثر نعمته عليه )، رواه البيهقي ]. (أنعم)
(ونعمة): مأخوذان من النعومة، يقال: هذا حرير ناعم. أي: لا يؤثر
على اليد، ولا يؤذي، بخلاف الصوف الخشن أو الشعر، فالوسادة التي
تكون من الشعر تكون خشنة، حتى لو جلست عليها تتعب، والأرض الناعمة
تستطيع أن تتكئ وتجلس عليها، ولو كانت خشنة تقلق إذا جلست عليها،
وكذلك يقولون: حياة ناعمة، وفي عين النعيم، فالنعيم والنعمة من
النعومة، وهو لين الملمس، وهو يدل على الراحة والدعة والطمأنينة،
ويقابل هذا الخشونة، يقال: عيش خشن أو: عيشة خشنة، بمعنى: ضيق وعدم
سعة وتقتير، بخلاف النعمة والنعيم. قوله: (إذا أنعم الله) إنعام
الله سبحانه وتعالى على الخلق لا حصر له، قال تعالى وَإِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]،
وفي سورة الفاتحة صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]
أي: بالهداية والاستقامة. لأن النعم تكون دنيوية، ودينية بالهداية
والتوفيق والقبول، وأعظمها لطالب العلم أن يشرح الله سبحانه وتعالى
صدره، وينير بصيرته، وييسر له الفقه والفهم في الدين، ثم يكمل هذه
النعمة بالتوفيق للعمل بما علم، وهذه أعظم النعم عند الله. فإذا
أنعم الله على عبد نعمة، سواءٌ أكانت في البدن، أم كانت في العقل
والعلم، أم كانت في المال، أم كانت في الجاه، أم كانت في أي مجال
من مجالات النعم فإن الله يحب أن يرى أثر هذه النعمة على عبده، فلا
ينعم عليك ثم أنت تخفيها، فلو شاء لأعطاها لغيرك، فإذا أخفيتها
كأنك تخفي نعمة الله عليك، لكن بين أثرها؛ لأن من شكر النعمة أن
تظهرها اعترافاً منك بالمنعم عليك، فإذا أعطاك الله مالاً يجب أن
يظهر آثار المال عليك، بأن تكرم الجيران، وتعطي المحتاج، ويظهر هذا
العطاء بنعم الله على ما تنفقه، وكذلك على نفسك، وابدأ بنفسك(2/212)
أولاً. فأول ما ينبغي إظهار نعمة المال على صاحبه، ثم على من يليه
من أصحاب الحقوق علية، وفي الحديث: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من
يعول ). ثم وسع الدائرة حتى يظهر أثر هذه النعمة، وحتى يتحدث
الصالحون: فلان يشكر النعمة ويبذلها في طريقها وإذا أنعم الله عليك
بالجاه يحب أن تظهر أثر هذه النعمة عليك، بأن تسعى في مصالح
الآخرين، وترفع حوائجهم إلى من لم يصلوا إليهم، وإن أعطاك الله صحة
في البدن فكذلك، فإذا مشيت في الطريق ووجدت إنساناً مريضاً ساعدته،
أو حملته وحملت متاعه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وتعين الرجل
في دابته فتحمله عليها أو ترفع عليها متاعه صدقة )، والرسول صلى
الله عليه وسلم مر على رجل ذبح شاة ويريد أن يسلخها ولا يعرف
السلخ، والرسول يعرف، فشمر عن كمه، وأدخل يده صلى الله عليه وسلم
بين الجلد واللحم وسلخها، وقال: (هكذا فافعل )، فيعلم الصنعة،
ويرشد الضال، وكل هذا من إظهار النعم، فإذا رزق الإنسان مالاً
فيلزم على صاحب المال أن يظهر النعمة؛ لأنه إذا أخفاها كأنه يجحد
نعمة المنعم عليه، فيظن أنه مسكين ما عنده شيء، وقد أعطاه مالاً،
ولكنه يدفنه في التراب ويكنزه. ذكر ابن حجر في فتح الباري ( أن
النبي صلى الله عليه وسلم رأى على رجل ثياباً رثة قديمة، فقال: يا
فلان! إذا آتاك الله مالاً فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته عليك )،
وقد قال الله: وَأَمَّا
بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]،
والتحدث بالنعمة بأن تتحدث عنها، أو هي تتحدث عن نفسها. فكونك
تتحدث عنها أن تقول: الحمد لله. إن ربنا أنعم علي هذه السنة بكذا.
أو: جاءتني صنعة كذا. أو: المحصول هذه السنة كثير والحمد لله. أو:
التجارة -والحمد لله- ربحت كذا، لأشياء تتحدث بها إظهاراً للنعمة
وشكراً لله، أو أنك حينما تخرجها هي بنفسها تتكلم، كما يقال: أبت
الدراهم إلا أن تطل أعناقها. فهي بنفسها تتحدث عن نفسها. وإذا كان(2/213)
هذا في باب اللباس فليس معنى ذلك أن نظهر في أبهة وفي زهو وخيلاء،
والبخاري رحمه الله صدر باب اللباس في الجزء العاشر من فتح
الباري بحديث: (كل واشرب والبس ما شئت في غير مخيلة ولا إسراف )،
قال ابن حجر : مهما لبست من طيب الثياب وأغلاها ثمناً بلا
خيلاء ولا إسراف فلا مانع. وقد قال أحمد بن حنبل رحمه الله:
عجبت من الرجل يلبس الصوف والخشن من الثياب ويترك الناعم من
الكتان، ويأكل الخشن من العيش ويترك اللين من الخبز! فهذا التقشف
مع وجود النعمة يعتبر جحوداً لها وإخفاء لها، وهذا لا يليق،
فالمؤلف رحمه الله أتى بهذا الحديث لأن الإنسان إذا حرم عليه
الحرير لأنه ناعم ولين ومريح قد يظن أن بقية الثياب أيضاً كذلك،
فكأنه قال لك: لا. بل أظهر نعمة الله عليك في مطعمك، وفي ملبسك،
وفي مسكنك، وفي جميع حالاتك، من غير خيلاء، ومن غير إسراف، والله
تعالى أعلم.
( كتاب الصلاة - باب اللباس [2] )
عناصر الموضوع
1 كفى بالموت واعظاً
2 الأمة أمة وسط بين الأمم
3 زيارة المريض.. حكمها وآدابها
4 باب كراهة تمني الموت
5 باب صفة النزع للمؤمن
كتاب الجنائز [1]
خلق الله الإنسان في هذه الدنيا وجعلها دار ابتلاء واختبار، بعدها
ينتقل المرء إلى ربه، فعلى المسلم ألا يغتر بالدنيا، وأن يزهد فيها دون
رهبانية ولا تواكل. وعلى المرء أن يستعد للموت بتذكره، وبزيارة المرضى،
وزيارة القبور، وذلك يتطلب أن يتعرف الإنسان على آداب زيارة المريض،
وزيارة المقابر، وغير ذلك مما لا ينبغي أن يجهله المسلم.
كفى بالموت واعظاً
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم (أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت ) رواه الترمذي والنسائي ، وصححه ابن حبان . بدأ المؤلف رحمه الله تعالى
بهذا الحديث تنبيهاً للحي، كي يتعظ بالموت (أكثروا ذكر هاذم اللذات )
وهاذم اللذات كما تبين هو الموت؛ لأن كل إنسان مهما كانت حياته(2/214)
منعمة.. إذا كان في القمة في العالم كله.. أغنى أغنياء العالم..
أقوى أقوياء العالم.. أسعد سعداء العالم، حينما يتذكر الموت فإنه
تنهزم أمامه كل لذة، ولو ذكر العريس ليلة عرسه الموت لما دخل على
عروسه. فذكر هاذم اللذات الذي هو الموت هو أكبر واعظ، وأكبر زاجر،
وأكبر دافع لفعل الخير. وبعض العلماء يفتتح هذا الباب بغير هذا
الحديث، ولكن المؤلف من فقهه افتتح كتاب الجنائز بهذا الباب. وقد
جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بزيارة القبور أنه قال:
(كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تزهد في الدنيا
وتذكر بالآخرة ) وجاء في بعض الروايات: (أكثروا من ذكر هاذم
اللذات؛ فإنه ما ذُكر في قليل إلا كثره، ولا ذُكر في كثير إلا قلله )
بمعنى: إنسان يعيش عيشة كفاف، ولديه القليل القليل من متاع الدنيا،
فإذا ما تذكر الموت رأى أن الذي عنده كثير؛ لأنه لا يدري متى يأتيه
الموت، وإذا كانت عنده كنوز قارون ، وتذكر الموت؛ صارت قليلة في
نظره، ماذا يفعل بها؟! لا تنفعه في شيء، وليس هناك أنفع للإنسان من
دوام ذكر الموت، يهوّن عليه مصائب الدنيا وشدائدها. وكنت دائماً
أسمع من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يزهد
في الدنيا، ويبسط أمرها في قوله: الجوع يطرد بالرغيف اليابس فعلام
تكثر حسرتي ووساوسي كأن الدنيا ما لها قيمة. وكذلك الإنسان فيما
أعطاه الله، إن كان مريضاً مبتلىً متألماً وذكر الموت هان عليه
المرض والألم، وإن كان متعافياً وينظر إلى نفسه في حالته، فذكر
الموت قامن من رأسه وقامن من تطاوله. وهكذا أيها الإخوة: المؤمن
لابد أن يؤمن بما وراء الموت، فإن الدنيا مزرعة حصادها في الآخرة،
والإنسان ما بين أمرين: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي
كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بشر خاب مسكنه وإن بناها بخير طاب
بانيها وكما قال بعض الناس في الزهد وفي الترهيب: إن لله عباداً(2/215)
فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست
لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
الأمة أمة وسط بين الأمم
الدنيا دار ممر، ولكن ليست رهبانية كما عند النصارى ، فنترك الدنيا
دون أن نعمرها، وأن نسخرها، وأن نستسخر ما فيها، وليست مادية
وانهماكاً في موادها أو في مادياتها، بل هو الوسط والاعتدال، والله
سبحانه وتعالى قد جعل هذه الأمة أمة وسطاً، فقال: وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143]،
وسطاً بين أمتين: أمة غلبت عليها المادية، وأفلست في المعنوية،
وأمة غلبت عليها المعنوية، وأفلست في المادية، وفي سورة الفاتحة: اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا
الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]،
والمغضوب عليهم هم اليهود ، والضالون هم النصارى .. اليهود مغضوب
عليهم؛ لأنهم علموا ولم يعملوا، والنصارى عملوا بغير علم، فأولئك
استحقوا الغضب، وأولئك وصفوا بالضلال، وجاءت هذه الأمة فعلمت
وعملت. فالإنسان مكون من عنصرين اثنين: جسم وروح، والجسم مادي
منشؤه التراب.. إِنِّي
خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص:71]،
والعنصر الثاني الروح.. فَإِذَا
سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29]،
فبمجموع الأمرين كان هذا الإنسان، وكل عنصر فيه له مقوماته
ومتطلباته، فالعنصر المادي يرجع إلى المادة، وَاللَّهُ
أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً [نوح:17]،
ليست له حياة إلا من الأرض، وهو يخلد إليها، والعنصر الروحي عالم
ملكوت الملأ الأعلى، بالعبادات وبمعرفة الله يسمو إلى أعلى.
فاليهود أمعنوا في خدمة البدن بالماديات، وأهملوا جانب الروح في
العبادات، والنصارى عنوا بجانب الروح والعبادات والرهبانية، وفرطوا(2/216)
في جانب المادة، وتركوا الدنيا، وكانت هذه الأمة الوسط بين الطرفين
.. لا مادية لاهية، ولا رهبانية طاغية. فمثلاً: ونجد قوله سبحانه: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الجمعة:9]
هذه روحانية.. فَإِذَا
قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً [الجمعة:10]،
فالاستجابة إلى النداء لذكر الله غذاء للروح، والانتشار في الأرض
بعد الصلاة لمتطلبات البدن، وخدمة الحياة، ومع ذلك تطلب الرزق من
فضل الله.. وتذكر الله وأنت في عملك، تجمع ديناً ودنيا، ومن هنا
كانت هذه الأمة هي الوسط بين الأمتين، وكانوا شهداء على الناس، كل
المفسرين يقولون: شهداء يوم القيامة على إبلاغ رسلهم رسالة ربهم،
ويقولون أيضاً: لا مانع أن يكونوا شهداء على الأمم بأنهم استطاعوا
أن يطبقوا عملياً وفاء الإنسان والنفس في جانبي المادة والروح،
فاليهود عجزوا عن أن يجمعوا بين الأمرين فجنحوا، والنصارى عجزوا
عن أن يجمعوا بين الأمرين فجنحوا، كالطائر يتعطل أحد جناحيه فيجنح
ويميل. أما هذه الأمة فلم يتعطل جناحاها، كلاهما معتدل، فسارت
سيراً متوازياً منذ أن جاءها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم إلى أن
يرث الله الأرض ومن عليها، وهي مستقيمة مستقرة في مسيرتها، فهم
شهداء على الناس في تطبيق المنهج الإلهي الحق الذي يوفي الإنسان
حقه من الجانبين، ولا يطغى جانب على جانب، في الوقت الذي أفلست فيه
الأمم التي من قبلنا .. لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا، كما
تكونون شهداء على الناس في الآخرة. وعلى هذا لا يكون الإنسان
المسلم مستقيماً في حياته إلا إذا أيقن بأن الدنيا وراءها آخرة،
وأن ما يتصرف به في دنياه سيلقاه في آخرته، أما الذي لا يؤمن ببعث،(2/217)
ولا يؤمن بجزاء، غاية ما عنده دنياه، فهو يريد أن يحصل فيها على كل
ما يريد ولو على حساب الآخرين؛ لأنه ليس عنده رقيب ولا حسيب، ولا
ينتظر يوم الدين الذي فيه الجزاء وفيه الحساب. ولهذا نجد بعد قوله
تعالى: غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]
الرد إلى الإيمان بالغيب والبعث: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]
من هم؟ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3]
وهو كل ما غاب عنك، وما جاءت أخباره عن الله وعن رسوله صلى الله
عليه وسلم .. وَيُقِيمُونَ
الصَّلاة [البقرة:3]،
إيمان بالغيب وعمل في الحاضر .. وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى
مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:3-5]
.. اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].. أُوْلَئِكَ
عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:5]..
وهكذا القرآن يفسر بعضه بعضاً.
زيارة المريض.. حكمها وآدابها
المؤلف هنا بدأ الباب بهذا الحديث: (أكثروا)، وهناك من العلماء من
يبدأ هذا الباب بالحث على عيادة المريض، وعيادة المريض حق للمريض،
ولكن هنا حق للإنسان في نفسه، ثم بعد ذلك لما يأتي المرض نقول له:
اذهب فعده، ولذا المؤلف كان دقيقاً جداً في ترتيبه وإيراده هذا
الباب، وجمعاً بين المنهجين إذا مرض الإنسان كان حقاً على أخيه
المسلم أن يعوده، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قاله: (حق
المسلم على المسلم ست -وذكر منها-: وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه )
بدأ بالسلام، ثم بالإجابة إلى الوليمة، ثم بالنصح.. إلى آخره. وجاء
في عيادة المريض عدة أحاديث، كما يذكر البخاري في الأدب المفرد
(من زار مريضاً في المساء خرج ومعه سبعون ألف ملك إلى الصباح، ومن(2/218)
عاد مريضاً صباحاً خرج ومعه سبعون ألف ملك إلى المساء ) وجاء في
الحديث أيضاً (من عاد مريضاً فإنما يمشي في مخرفة من الجنة )
والمخرفة هي: الأشجار المثمرة تذهب فتخرفها، تمشي بين أشجار من
أشجار الجنة المثمرة، تخرف منها من الثمار ما شئت.
آداب زيارة المريض
ذكر العلماء في آداب عيادة المريض أن على الزائر أن يغلب عند
المريض جانب البشرى، وآمال العافية، وأن يرقيه، ويفسح له في الأجل.
وألا يتبع نظره أثاث البيت الذي هو فيه؛ فإنه ربما تكون الحال
متوسطة، أو دون ذلك، فيستضر صاحب البيت من أن تتأمل حالته بأنها
رديئة أو قليلة أو غير ذلك. وألا يطيل الجلوس عنده، فقد يكون في
حاجة إلى خدمة أهله فتحجبهم عنه، وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه
وسلم أنه كان يعود المريض بعد ثلاثة أيام؛ لأنه في أول يوم يمكن أن
تكون وعكة خفيفة وتذهب، فليس هناك حاجة في أن تثقل عليه، أو تعطل
نفسك، فتكون الزيارة بعد ثلاثة أيام. ويقول بعض العلماء: لا بأس أن
يزور المسلم المريض الكافر لعله يعرض عليه الإسلام في آخر لحظة
فينفعه الله بذلك فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان له خادم،
يهودي، فغاب الخادم فسأل عنه صلى الله عليه وسلم فقيل: مريض، قال:
قوموا بنا نعوده، فيذهب صلوات الله وسلامه عليه إلى خادم، ليس إلى
أمير أو رئيس أو نحوه، بل خادم ويهودي!! أي أنه جمع النقيصتين،
فلما أتاه وجلس عنده، وكان في لحظاته الأخيرة، قال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! قل: لا إله إلا الله، فنظر الغلام
إلى أبيه، وكان عند رأسه -كأنه يستشيره- فإذا بالأب يقول: أطع أبا
القاسم يا بني! ) الله أكبر! وأنت لماذا لا تطعه؟ لنعلم يا
إخوان أن قضاء الله، وقدر الله فوق كل شيء، الولد في حالة
الاحتضار، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرض عليه الإيمان، فيلتفت
إلى أبيه كالمستشير، فإذا بالأب يشير عليه أن يطيع الرسول، فلم يقل(2/219)
له الرسول: وأنت أيضاً أطعني، عملاً بسنة التدرج، فقالها الغلام،
وسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم والحاضرون من الصحابة، ثم
فاضت روحه، فقال صلى الله عليه وسلم لمن معه من المسلمين: (تولوا
أنتم أمر أخيكم ) انظر محاسن الإسلام! انظر فضل الله على عباده!
مجرد أن نطق بها صار أخاً من إخوانهم، صار صحابياً بين يدي رسول
الله، وهذا من بركة زيارته صلى الله عليه وسلم. وهذا باب كما
يقولون يأتي في الآداب والأخلاق وحقوق الجوار... إلى آخره.
زيارة القبور
نأتي إلى هذا الباب الذي معنا: (أكثروا) وهذا عام للرجال وللنساء،
حتى إن العلماء عندما اختلفوا في زيارة النساء للقبور لحديث: (لعن
الله زوارات القبور ) وجاء حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور،
ألا فزوروها ) واو الجماعة في قوله: (فزوروها) هل يشمل النسوة،
أو يبقى النسوة على المنع؟ فقالوا: إن في الحديث معنى يجمع بين
الرجال والنساء وهو قوله: (فإنها تزهد في الدنيا وتذكر بالآخرة )
فكما أن الرجل في حاجة إلى ذلك فكذلك المرأة في حاجة إلى ما يذكرها
بالآخرة، فتكون مشمولة بالإذن، والمعروف عند علماء اللغة أنه لو
وجد ألف امرأة ورجل واحد فإنهم يخاطبون جميعهم بواو الجماعة
تغليباً للمذكر. وكلمة: (أكثروا) تفيد الأمر بالتكرار، ولا تكون
للغفلة، لكن من الصعب أن يوضع شريط على أذن الإنسان ليظل يذكره:
اذكر الموت .. اذكر الموت.. ولكن لا تطل الغفلة، ومن هنا كلما
صلينا على جنازة، فتلك دقة جرس جديدة، وتنبيه جديد، إذاً: (أكثروا
من ذكر هاذم اللذات ) ألا وهو الموت. وإذا نظرنا -أيها الإخوة-
إلى إلزام الخلق بحق الخالق سبحانه، فلن نجد أقوى من الموت: فَلَوْلا
إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ
تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ
وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ
غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ
صَادِقِينَ [الواقعة:83-87](2/220)
ولن يستطيعوا إرجاعها: فَإِذَا
جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]
ويقصد المعنى اللغوي بالساعة ستين دقيقة.. بل تصدق على لحظة، فلا
يملكون حتى التأخير ولا التقدم، وأنت لو جلست وتأملت وتذكرت هذه
الآية الكريمة.. فَلَوْلا
إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ [الواقعة:83]
فهناك الحشرجة في الصدر؛ لأن الموت يبدأ من القدمين، ثم يسري إلى
الساقين.. إلى الفخذين.. إلى البطن.. إلى الصدر.. فتحشرج الروح أو
النفس في صدره وحلقه، ثم تفيض إلى باريها، في تلك الحالة وهم حوله
ينظرون، ولا يملكون له من قطمير، ولا نَفَساً واحداً يستطيعون أن
يزيدوه: فَلَوْلا
إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [الواقعة:86]
مدينين يعني: مغلوبين، مدانين، عاجزين، ومنه: مَالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]
يوم الحساب والجزاء.. إِنْ
كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [الواقعة:86]
غير ميتين ولا محاسبين، وَأَنْتُمْ
حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ
مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:84-85]
صحيح نحن لا نرى، وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]. فَلَوْلا
إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ
كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:86-87]
لا والله لا تستطيعون إرجاعها، فَأَمَّا
إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ [الواقعة:88]
ما مصيره؟ فَرَوْحٌ
وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ
مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ
أَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:89-91]
يقول المفسرون: منذ أن تفيض روح المؤمن ويرى النعيم، يسلم على رسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عن طريقه وصل إلى هذا الحد، وبعضهم
يقول: هذا سلام من الله باسم رسوله يأتي من الموتى، والأول أظهر
وأوضح، والله أعلم. وَأَمَّا(2/221)
إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ [الواقعة:92] عافانا الله وإياكم. إذاً: أكثروا من ذكر هادم
اللذات.
باب كراهة تمني الموت
حكم تمني الموت لنزول الضر
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد متمنياً، فليقل:
اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً
لي ) متفق عليه. (لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ نزل به ) لأن
تمني الموت لنزول الضر معناه عدم الرضا بالقضاء والقدر، ومعناه عدم
الاستسلام لأمر الله، ومعناه الجزع وعدم الصبر، وهذا لا يتناسب مع
الإيمان بالله، وإما إذا كان تمني الموت مخافة فتنة في الدين
فبعضهم يقول: لا مانع؛ فإن تمني الموت لميتةٍ كريمة كالشهادة في
سبيل الله لا مانع منه. وقد ورد أن عمر رضي الله تعالى عنه في
حجته الأخيرة جاء الأبطح واستلقى على ظهره فسمعه أحدهم يقول:
[اللهم كبرت سني، وضعف عظمي، واتسعت رعيتي؛ فاقبضني إليك غير
مفتون]. ما طلب لشيء نزل به، لا، إنما خاف من فتنة في الدين، أو
على المسلمين، وقد أصبح الأمر ثقيلاً عليه، فطلب لقاء ربه. فمثل
هذا ليس داخلاً في هذا الأمر، أما لضرٍ نزل به: فقر، مرض مزمن،
مضايقة من أي جهة من الجهات، فلا ينبغي أن يتمنى الموت بسبب ذلك،
بل يصبر ويحتسب. والعجيب أن الله سبحانه وتعالى جعل في رسله
النماذج للمثاليات الكاملة في كل شيء، فجعل -مثلاً- نأخذ من
إبراهيم عليه السلام صبره وصموده؛ حتى كان أمة، وشدة توكله على
الله عندما ألقي في المنجنيق ليلقى في النار، فيأتي جبريل يقول له:
ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، وإلى ربي بلى. مثال في أعلى ما
يمكن من اليقين بالله والتوكل عليه. تأتي إلى نوح في صبره، وعزمه،
وطول أجله, و... إلخ. تأتي إلى موسى .. تأتي إلى يوسف عليه السلام
مثالية نموذجية إلى أقصى ما يمكن أن يتصوره العقل البشري في العفة
والطهارة: وَغَلَّقَتْ(2/222)
الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23].
والرسول صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في كل الجوانب، ولا شك
في ذلك، كذلك نبي الله أيوب أصبح مثالاً عند الناس في الصبر، صبر
على الابتلاء، وعلى فقد أهله، وعلى فقد ماله، و... و... والملائكة
تقول: يا رب! ارحم عبدك، فيقول: إذا اشتكى لكم فأغيثوه، إن شكى لكم
فأجيبوه، وهو ما زال يقول: ما دام قلبي سليماً لا يفتر عن ذكر الله
وأخيراً: ارْكُضْ
بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42]
فكان المثل. فالمؤمن عندما يبتلى بمرض، أو أي شيء الصبر أفضل له،
وقد جاء في الحديث: (إن الله ليكتب للعبد المنزلة فلا يصلها بعمله،
فيصيب منه ليبلغ تلك المنزلة ) يكتب له الأجر مائة في المائة،
ولكن عمله خمسون في المائة فليس قادراً أن يصل إلى هناك، فيبتليه
بالمرض ليصبر، وليصعد الباقي بالصبر على مرضه. إذاً: ليس هناك شر
عليه، وإذا صبر وجد الخير، وفي بعض الروايات أيضاً أن المريض يئن
لمرضه، فالملائكة تقول: (يا رب! عبدك كان يقوم الليل، كان يصوم،
كان يفعل، كان يذكر وهو الآن عاجز، فيقول: أنينه -هذا العبد
الصالح- في مرضه خيرٌ من صوت الآخرين بالذكر والعبادة ) إذاً:
لا ييأس الإنسان ولا يجزع، وليعلم أن ربه أرحم به منه، وإذا كان
سيد الخلق: النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:6]
هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فما بالك برب النبي؟! إذاً العاقل
المؤمن يسلم أمره لله، ويحمل نفسه -عقلاً وإيماناً وعقيدة- بأن ما
أتاه الله به فهو الخير؛ لأنه أعرف بعبده من نفسه، ولهذا: لا
يتمنين أحدكم الموت لضرٍ نزل به, ولكن إذا ضجر وكان تنفيساً له،
فليقل مفوضاً الأمر لله الذي أنزل به الضر: (اللهم أحيني إن كانت
الحياة خيراً لي ) لم يقل: أحيني لأن الحياة خير لي، لا، أنت
الذي تعلم إن كانت الحياة خيراً لي، أي: يطول العمر، ويستقيم في(2/223)
العبادة، ويعمل صالحاً، فخيركم من طال عمره، وحسن عمله. فقد كان
هناك أخوان صالحان، فمات الأول قبل الآخر، وكان الأول أصلح من
الآخر، فبقي الآخر بعده، فذكروا ذلك لرسول الله، قالوا: (والله مات
الأخ الصالح، قال: والثاني، قالوا: ليس مثل الأول، قال: لعله يصلي
بعده، ويصوم بعده، ويذكر الله بعده فيلحقه ) إذاً: (اللهم أحيني
إن كانت الحياة خيراً لي ) أي: وأنت الذي يعلم ذلك، (وتوفني إن
كانت الوفاة خيراً لي ) حتى لا أفتن؛ لأن الذي يعلم ذلك هو
الله، فكأنه أيضاً رجع إلى الله سبحانه وتعالى.
باب صفة النزع للمؤمن
شرح حديث: (المؤمن يموت بعرق الجبين)
وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(المؤمن يموت بعرق الجبين ) رواه الثلاثة وصححه ابن حبان .
بعدما قدم المؤلف رحمه الله تعالى في أوائل كتاب الجنائز حديث:
(أكثروا من ذكر هاذم اللذات ) وحديث: (لا يتمنين أحدكم الموت
لضر نزل به وإن كان لابد متمنياً أو لا محالة فليقل: اللهم أحيني
إن كانت الحياة خيراً لي، وأمتني إن كان الممات خيراً لي ) وقد
تقدم الكلام على هذين الحديثين أعقب ذلك ببيان حالة موت المؤمن،
فأورد قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يموت بعرق الجبين ) هذه
حالة يبينها صلى الله عليه وسلم من غالب وأكثر حالات الموتى
المؤمنين، ثم نجد العلماء يذهبون في تفسير عرق الجبين إلى جانبين:
جانب لفظي في موضعه، ومعروفٌ الجبين، وعرق الجبين يكون في حالة
الشدة عند النزع. وقومٌ يفسرونه بجانب آخر وهو: الكد والكدح، أي أن
المؤمن يسعى ويكدح ويعمل حتى يعرق جبينه فيأتيه الموت وهو على هذه
الحال، سواءً كان هذا العمل لكسب الرزق، أو كان هذا العمل للعبادة،
ولكن هذا الوجه ضعيف، والصحيح الأول؛ لأن الموت له شدة، وقد جاء:
(اللهم هوّن علينا سكرات الموت ) ولما دخلت فاطمة رضي الله
تعالى عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في النزع قالت:(2/224)
(واكرباه عليك يا أبتي! فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم يا ابنتي )
وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان بين يدي
رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضب فيه ماء -إناء صغير- إذا اشتد
عليه أمر الموت غمس يده في الماء، ثم مسح بها جبينه ) وذلك لشدة
ما يعاني. وجاء عند الترمذي : (نفس المؤمن تخرج رشحاً )
والرشح وعرق الجبين سيان، فهذا مما يؤيد المعنى الأول، وهو عرق
الجبين كناية عن شدة المعاناة، وكذلك أيضاً عن سرعة النزع فلا يطيل
إطالةً شديدة حتى يتعذب في ذلك. ثم قال صلى الله عليه وسلم في حديث
الترمذي : (إن نفس المؤمن تخرج رشحاً، وأعوذ بالله من موتةٍ
كموت الحمار، قيل: وما موت الحمار يا رسول الله؟! قال: موت الفجأة )
فكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من ميتة المفاجأة. وقد بين العلماء
بأن مفاجأة الموت تفوت على الإنسان أشياء كثيرة؛ فقد يكون في حاجة
إلى أن يوصي، فتفوته الوصية، قد يكون يعمل في عمل دنيا بعيد عن ذكر
الآخرة أو الموت، فيفوت عليه أن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله،
وبعض الناس يرى موت الفجأة راحة من آلام النزع، وهذا خطأ؛ فإنه وإن
كان في النزع شدة ولكن كما قيل: تزول، فهي آلام مؤقتة، ولكن يكون
عند المؤمن فرصة في هذا الوقت الحرج بأن يوادع الدنيا بوصية صالحة،
ويستقبل الآخرة بشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقد جاء
عنه صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر قوله أو كلامه من الدنيا لا
إله إلا الله دخل الجنة ) وسيأتي الكلام عليها فيما بعد كما
سمعنا إن شاء الله. إذاً: المؤمن يموت بعرق الجبين، كناية عن الشدة
والحالة التي تعتري الإنسان في حالة النزع وخاصةً المؤمن، وقد جاء
في الحديث في الابتلاء: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل
فالأمثل ) وهكذا جاء في بعض الآثار (أنه صلى الله عليه وسلم كان
يعاني أشد ما يعاني أشد الرجال ) وكان صلوات الله وسلامه عليه(2/225)
يصبر على ذلك ويسأل الله سبحانه وتعالى التخفيف.
134558 ( كتاب الجنائز [2] )
( كتاب الجنائز [2] )
عناصر الموضوع
1 باب تسجية الميت
2 باب نفس المؤمن معلقة بدينه
3 الخلاف في النفس
كتاب الجنائز [3]
من أصابته مصيبة، أو مات له قريب، فليتذكر مصابه برسول الله صلى الله
عليه وسلم، فإنها مصيبة عظيمة، وفيها من العبر والعظات ما يذكر المرء
بحقارة الدنيا. وقد استنبط الفقهاء من حادثة موت رسول الله صلى الله
عليه وسلم كثيراً من الأحكام الشرعية في أبواب الجنازة. ومن الأمور
التي لابد للمسلم من الاهتمام بها، قضاء دينه قبل موته أو الوصية بذلك،
ودين الميت تتعلق به أحكام وضح الشيخ حفظه الله كثيراً منها في هذه
المادة.
باب تسجية الميت
شرح حديث استحباب تسجية الميت
عن عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم
حين توفي سجي ببرد حبرة ) متفق عليه. ننتقل إلى شرح هذا الحديث
وهو إخبار أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، بأن النبي
صلى الله عليه وسلم لما قبض سجي ببرد حبرة، والتسجية هي: التغطية،
بـ(برد حبرة): هو نوع من نسج اليمن فيه خطوط، وكانت -كما يقول بعض
العلماء- من أحب أنواع اللباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسنة في الميت أن يُسجى من قدمه إلى شعره، بحيث يُغطى جميعه؛
وذلك أستر له وأوقى وأحفظ، سواء سجي ببردٍ، أو سجي بقطن، أو سجي
بصوف أو بأي شيء موجود -ما لم يكن الحرير؛ فإنه محرم على الرجال.
شرح حديث: تقبيل أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته
وعن عائشة : أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قَبَّل النبي
صلى الله عليه وسلم بعد موته، رواه البخاري . هذا الأثر ساقه
المؤلف رحمه الله في باب الأحكام، وهو يدل على جواز تقبيل الميت
بعد موته، وهذا موقف تتحكم فيه العاطفة؛ لأنها أواخر لحظات الميت
من أهله، والعاطفة تدفع أهل الميت لتوديع صاحبهم؛ فلا مانع أن يقبل(2/226)
الإنسان الميت في الموضع الذي قبل فيه النبي أبو بكر رضي الله
تعالى عنه. بل في الموطن هذا -أيضاً- حديثٌ للنبي صلى الله عليه
وسلم: (أنه قبل عثمان بن مظعون وقال: أخي، وقال: رحمه الله )
... إلخ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وأبو بكر رضي
الله تعالى عنه فعل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت نصوص
في صفة ذلك بأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قبل بين عينيه
ثلاثاً، وقبل رأسه ثلاثاً، إلى غير ذلك. وهذا المشهد في الواقع لا
يكفي أن يمر عليه الإنسان، ولكن لابد أن يعرف دواعي هذا التقبيل:
إن النبي صلى الله عليه وسلم لما آنس الوجع، تقول عائشة (كان
صلى الله عليه وسلم يمر بي -أي: في غير نوبتها- فيقول كلمة ينفعني
الله بها -سواء مؤانسة في الدنيا، أو تنبيهاً للآخرة- فمر مرةً فلم
يقل شيئاً، ومر ثانية فلم يقل شيئاً، فأخذت في نفسي؛ فقلت: يا
جارية! قدمي الوسادة عند الباب، وشددت عصابة على رأسي -استدراراً
للعطف- فمر فرأيته؛ فقلت: وارأساه؛ فقال: يا عائشة ! وارأساه
أنا، وتكلم خيراً وذهب، ثم نزل به المرض، ثم استأذن أن يكون عند
عائشة رضي الله تعالى عنها ) ثم أمر أبا بكر أن يصلي
بالناس، وقال في أول الأمر: (مروا من حضر للصلاة، فأمروا عمر، ولم
يكن أبو بكر موجوداً، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت
عمر حينما كبر، فرفع الستار وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا
بكر -ثلاث مرات- ثم جاء بعد ذلك أبو بكر ، وأخذ يصلي
بالناس ) كم صلى أبو بكر رضي الله عنه؟ خلاف: فقيل: خمس
صلوات، وقيل: عشر صلوات، وقيل: عشرين صلاة، وفي يوم الإثنين في
اليوم الذي قُبض فيه صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر يصلي صلاة
الصبح، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الستار، وتبسم معجباً بما
يراه من انتظام المسلمين في الصلاة، نعم.. إنها بمثابة الثمرة
لجهاد ظل ثلاثاً وعشرين سنة، من أول البعثة إلى ذلك التاريخ، وإذا(2/227)
بالأمة قد تقبلت الإسلام، وإذا بأصحابه قد قاموا بواجبهم على أكمل
صورة.
نعي النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النصر
في حجة الوداع نزلت عليه: إِذَا
جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]،
وهنا لفتة بسيطة عن ترتيب السور، لو قرأ ... بـ قُلْ
يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]
ثم: إِذَا جَاءَ
نَصْرُ اللَّهِ [النصر:1]
لو تأملنا قوله تعالى: قُلْ
يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]
وجدناها تميز الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم، ففيهما: لا
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:2] وَلا
أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:3]
أي: كل في جانب، وبعد التميز ما كانت النتيجة يأتي نصر الله
والفتح. وتقدم مراراً ما قاله ابن عباس في تفسير سورة النصر
لما سأله عمر بحضرة الشيوخ الكبار من الصحابة؛ فقال: نعي لنا
فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا، قال: وكيف ذلك؟
قال: قد جاء بالرسالة، فبلغها، وأدى الأمانة، وانتشر الإسلام،
وأصبح الناس يدخلون في الدين أفواجاً، فلم يبق إلا أن يلقى ربه؛
فيجتهد في عبادته لله، ولذلك قال: فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3]،
قال عمر : وأنا أقول ذلك. تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى
عنها: لما رفع الستار تبسم ضاحكاً استحساناً لما يفعل المسلمون،
فسمع الناس ذلك، فكادوا أن تصيبهم فتنة؛ فرحاً بسماعهم صوت رسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ فأشار إليهم أن مكانكم، وأتموا صلاتهم،
وكان آخر عهد العامة به صلى الله عليه وسلم.
موت النبي صلى الله عليه وسلم كما روته عائشة رضي الله عنها
أما أبو بكر رضي الله تعالى عنه؛ فإنه لما صلى الصبح دخل بيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لعائشة رضي الله تعالى
عنها: (ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بارئاً، وقال: يا(2/228)
رسول الله! أراك بخير والحمد لله، إن هذا اليوم يوم بنت خارجة -زوجه التي تزوجها من الأنصار- أفأذهب إليها؟ قال: نعم ) وكانت
زوجته رضي الله عنه بالسنح، والسنح من العوالي، وهو في المثلث ما
بين ما يسمى اليوم بمستشفى الزهراء وبلاد السديري، وبلاد الخريجي
-في هذا المثلث تقع السنح- فذهب بإذن من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولكن في ضحى ذلك اليوم قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فجاء الخبر إلى أبي بكر فأسرع بالعودة. وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تحكي أحداث ذلك اليوم، فتقول: مات في يومي، في
بيتي، لم أظلم فيه أحداً، أي: لم يكن في نوبة واحدة أخرى وهو عندها
في بيتها، مع أنه صلى الله عليه وسلم من وفائه ومكارم أخلاقه لما
اشتد به الأمر، استأذن زوجاته أن يمرض عند عائشة فأذنّ له، وكن
يأتين لزيارته عندها. وتقول: قُبض في دولتي ما ظلمت فيه أحداً،
ومات بين سحري ونحري. وتذكر قضيتها مع السواك؛ فتقول (سمعته يقول:
في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، ويشخص بصره إلى السماء، وقلت:
والله لقد خير ولن يختارنا أبداً ، وذلك أنها سمعت منه صلى الله
عليه وسلم قبل ذلك يقول: ما قبض الله نبياً إلا بعد أن خيره وأراه
مصيره، فقالت: والله لقد خُير، ووالله لن يختارنا بعد ذلك أبداً؛
فعلمت أنه ميت ) وهكذا ذكرت وفاته صلى الله عليه وسلم، ومن أراد
زيادة التفصيل فليرجع إلى كتب السيرة في هذا الحدث، وأكثر من ذكر
الأخبار والصور والأحداث ابن كثير في التاريخ .
موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه من خبر وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم
من خبر أبي بكر رضي الله تعالى عنه -من شدة هول المصيبة على
المسلمين- أنه حينما جاء إلى المسجد، ليدخل إلى حجرة عائشة وطريقها من المسجد، وجد الناس مضطربين، وعمر قائم يقول: والله
ما مات رسول الله، وإنه غاب كما غاب موسى عن قومه وسيرجع، وسيقطع(2/229)
أيدي وأرجل رجالٍ قالوا إنه مات، ولن يموت حتى يقضي على المنافقين،
فلما سمع أبو بكر ذلك ورأى تلك الحالة، ترك الناس ودخل على
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات: وحوله نسوة،
فخمرن وجوههن، إلا ما كان من عائشة ؛ لأنها ابنته، وهذه الكلمة
يستفاد منها في مسألة كون الوجه عورة أو ليس بعورة- فكشف الحبرة
ونظر إليه، وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بين عينيه، ثلاث مرات
على الجبين .. والرأس.. إلى أن رق ورد الغطاء كما كان، وقال: بأبي
أنت وأمي يا رسول الله! أما الميتة التي قد كتبها الله عليك فقد
متها، ودعا بخير. ثم خرج، فوجد عمر على حاله والسيف بيده،
فقال: اجلس يا عمر ! فلم يجلس، ثلاث مرات، فوقف عند المنبر،
وقيل: صعد المنبر؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: [أيها الناس! من
كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي
لا يموت، وإنا والله لعلى ما كنا عليه مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فمن بغى أو حدَّثته نفسه شيئاً لنقاتلنه كما قاتلنا مع رسول
الله، ولسيوفنا بأيدينا -هذا موقف الثبات- ثم تلا قوله سبحانه: وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل
عمران:144] إلى آخر السياق، فيقول عمر : هي في كتاب الله؟ والله
لكأني لم أسمعها إلا اليوم، وعقرتني قدماي] أي: سقط من شدة ما سمع.
وفي هذا الموقف يقال: هل عمر ينكر الموت؟ الجواب: لا، ولكن عظم
عليه المصاب في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصيبة إذا عظمت
أذهلت، وقد يتوقف العقل -كما يقولون: انشل التفكير- وعمر له
نظرة بعيدة فيما يتعلق بنصرة الدين، ويرى في موت رسول الله صلى
الله عليه وسلم شدة المصاب، يقول بعض الصحابة -وأظنه أبو سعيد -
: [لقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأنارت واستنار(2/230)
فيها كل شيء، وقُبض فأظلمت وأظلم منها كل شيء، والله لقد أنكرنا
قلوبنا قبل أن نفيض التراب عليه]. فلا شك أن وجوده صلى الله عليه
وسلم في أصحابه له أثر عظيم، فقد كان مرجع أصحابه في جميع أحوالهم،
فهذا حنظلة يأتي ويقول (نافق حنظلة -لماذا؟- قال: يا رسول
الله نكون عندك فتذكرنا، فتخشع قلوبنا، وتذرف عيوننا، فإذا انقلبنا
إلى أهلينا، وعافسنا أموالنا ذهب عنا كل ذلك، قال: ساعة فساعة، لو
دمتم على ما كنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات،
ولزارتكم في بيوتكم ) فلا يمكن للإنسان أن يقوى على تلك الحال.
وهذا عمر لما سمع قوله تعالى: وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ ... [آل
عمران:144] قال: ما كنت أظن أنها آية من كتاب الله، وما كأني
سمعتها قبل ذلك. ذهل عنها. ثم بعد ذلك شرعوا في تجهيزه صلى الله
عليه وسلم، وقيل: قد بايع البعض أبا بكر في ذلك الوقت، ثم كانت
سقيفة بني ساعدة، ثم كان تجهيزه صلى الله عليه وسلم وتتمة البيعة،
وهذا خبر طويل، ويهمنا أن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن حاضراً
ساعة وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان قد ذهب لزوجه، واستأذن رسول
الله صلى الله عليه وسلم حينما رآه نشطاً، وفي حالة أحسن من ذي
قبل، ثم لما قدم كان منه ما ذكر لنا المؤلف رحمه الله أنه قبّل
رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه. وهنا يقول الفقهاء: إذا
مات الميت، وأراد أهله أن ينظروا إلى وجهه ويقبلوه فلا يمنعون من
ذلك، وخاصة من كان غائباً فحضر، فهذا مشروع من فعله صلى الله عليه
وسلم ومما فعله أبو بكر برسول الله صلى الله عليه وسلم.
باب نفس المؤمن معلقة بدينه
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ) رواه أحمد والترمذي وحسنه. بعد أن بين المؤلف رحمه الله تعالى حق الميت عند احتضاره من(2/231)
تلقينه لا إله إلا الله، وإغماض بصره، وجواز تقبيله، وقد يذكر بعض
الناس استقباله إلى القبلة، أي: جعل قدميه إلى القبلة، ومنهم من
ينكر ذلك، إلى آخر هذا مما ينبغي أن يعمل للميت في شخصه وذاته ..
انتقل المؤلف رحمه الله إلى حقوقه، وما ينبغي للأحياء بالنسبة
لميتهم، فجاء بهذا الحديث، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: (نفس
المؤمن معلقة في دينه )
الخلاف في النفس
فقوله: (نفس المؤمن) يحتار العلماء في مدلول النفس، فمثلاً: وَنَفْسٍ
وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7]
.. وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45].. كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل
عمران:185] أهو البدن أم البدن مع الروح؟ الله تعالى أعلم، وقوله: يَا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي
إِلَى رَبِّكِ [الفجر:27-28]
هل ترجع الروح والبدن أم الروح فقط؟ وكذلك السؤال، العذاب، النعيم
هل هي للروح فقط، أم للروح والبدن؟ تجدون الكلام في هذا كثير، ولكن
الذي يعنينا هنا أن المؤمن مرهون بدينه، والتعبير بالنفس ليشمل
الروح، وأما البدن فقد يفنى، ولكن الله سبحانه وتعالى يجمعه: قَدْ
عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ
حَفِيظٌ [ق:4].
والرجل الذي أوصى أهله إن هو مات أن يحرقوه، ثم يسحقوه، ثم يأتون
به في يوم شديد الريح، وعلى حافة البحر فيذرونه في الهواء، فجمع
الله جسده، وقال له: ما حملك على هذا؟ قال: يا رب! خوفاً من عذابك،
قال: قد غفرت لك، فمهما تنقص الأرض من أجسادهم يجمعها الله، نحن
نعلم شخص المؤمن بروحه وببدنه، ولكن النقاش قائم فيما يتعلق بعذاب
القبر وفي نعيمه إلى أن تقوم الساعة، أعني: هل هو للروح أم للبدن،
ما عدا الشهداء والأنبياء؛ لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
لا تأكل الأرض أجسادهم، وحياتهم في قبورهم فوق مستوى الإدراك، وقد(2/232)
جاء عنه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج أنه لقي جميع
الأنبياء، بل أكثر من هذا: مر على موسى وهو قائمٌ يصلي في القبر
الذي هو ذارع في ذراع! أي أنه وسع له في قبره! ثم إذا به يلقاه مع
الرسل في بيت المقدس ، ثم لقيه في السماء السادسة حينما عرج به،
فهل عنده براق آخر.. وبأي صفة.. بروحه فقط وبدنه؟! كان قائماً يصلي
ببدنه.. أمور لا دخل للعقول فيها، وهذا خصوصية المؤمن؛ أن لديه
علوماً كثيرة جداً لا يمكن أن يصل إليها غيره؛ لأنها تأتيه عن الله
بالوحي. في هذا المسجد، وفي هذه الروضة أيام وقعة الحرة سنة ستين
من الهجرة، خلت المدينة ، وتعطل الأذان والصلاة ثلاثة أيام في هذا
المسجد خوفاً من الجيش الغازي، إلا سعيد بن المسيب فإنه ما خرج
ولا هرب، ولا ترك المسجد، وكان يأتي وحده، ويجلس بجوار الحجرة
الشريفة في الروضة، فيسمع الأذان من الحجرة في الأوقات الخمسة، فمن
الذي كان يؤذن هناك.. بلال هاجر إلى الشام ، وأكرر وأقول: لا
تحاول أن تسمح للعقل أن يتحكم في هذا.. ويكفيك أن تؤمن وتسلم لذلك،
ولما انتهت الأزمة ورجع الناس، وأذن المؤذن في المسجد اختفى الصوت.
إذاً: هذه أمور لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فنفس المؤمن
مرهونة، وهذا عام لا يخرج منه أحد، حتى المجاهد في سبيل الله يكون
شهيداً لكنه محبوس.
الحث على قضاء الدين وعدم التهاون به
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً سأله عن الشهادة وما تكفر
من الذنوب فقال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ قال:
نعم، إن قتلت وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر. ثم قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله،
أتكفر عني خطاياي؟ فقال: نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا
الدين؛ فإن جبريل قال لي ذلك ) فلو تأملنا يا إخوان! لوجدنا أن
الدنيا بكاملها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فمؤمن يكون مديناً(2/233)
لمؤمن آخر بعشرة دراهم، أو درهمين، أو درهم، يحبس فيها؟! يا سبحان
الله! إذا كان الأمر كذلك فينبغي على المؤمن أن يتحرى، وأن يفك
نفسه قبل أن يحتاج إلى من يفكه، وإن كان عاجزاً أوصى. وتقدم لنا
أيضاً صلاته صلى الله عليه وسلم على الموتى في أول الأمر، وسؤاله
عن الميت فإن كان عليه دين، قال لأهله: (صلوا عليه ) حتى جيء
بميت وقالوا: عليه ديناران، فقال أبو قتادة : هما عليَّ، وتأكد
منه صلى الله عليه وسلم فلما تحملها أبو قتادة صلى عليه النبي
عليه الصلاة والسلام. الحقوق المتعلقة بتركة الميت خمسة، حق الميت
في تجهيز كفنه وما يلزم لذلك حتى يدفن.. حقوق دينية، وتنقسم إلى:
دين للعبد، ودين لله سبحانه وتعالى، وسواء كان دين العبد موثقاً
برهن أو غير موثق، فعند الشافعي رحمه الله يقدم على كل شيء
سداد دينه، حتى يقدم على تجهيزه، وتجهيزه يكون من بيت مال
المسلمين، وذلك لأنه لو كان في الحياة معدماً ليس معه ما يأكل،
فنفقته من بيت مال المسلمين. وقال أحمد : يقدم تجهيزه؛ لأنه
أحق بنفسه، كما لو كان مفلساً فللغرماء بيع ما عنده ولكن تترك له
ثيابه. إذاً: قضاء الدين أحق، قال به الشافعي ، ابدأ بنفسك قال
به أحمد ، إلى غير ذلك، ثم تأتي بقية الحقوق من وصية وميراث.
فيبادر بسداد دينه قبل تجهيزه عند الشافعي ، وإذا كان المال
موجوداً فباتفاق الجميع لا نجعله مرهوناً بدينه.. بل ينادى في
الناس: من كان له حق عند فلان فليتكلم، وهذا الذي ينبغي على أولياء
الميت أن يبادروا به ليفكوه. وقضاء الدين له شواهد كثيرة تؤكد
أهميته، فهذا ثابت بن قيس خرج في غزوة كان يقودها خالد بن
الوليد ، فجاء إلى رجل وأيقظه من النوم، قال: يا فلان! أنا
فلان فاسمع مني، إن فلاناً مر عليَّ وقد خلع عني درعي، فوضعه في
آخر المعسكر، ووضع عليه برمة، وعلى البرمة رحله، فمر خالداً فليأخذ درعي من عنده، وإذا جئت إلى المدينة فأخبر أبا بكر رضي(2/234)
الله تعالى عنه أن لفلان عندي عشرة دراهم في قرن، وعبدي فلان عتيق،
فجاء الرجل إلى خالد وأخبره، فدعا الرجل الذي سماه وقال: أين
رحلك؟ قال: في مكان كذا، فأرسل خالد رجلاً من الحاضرين وقال:
اذهب إلى رحل فلان وانظر ماذا تحته، فذهب فوجد الدرع، فجاء به،
فقال خالد : هذه قرينة، فكتب إلى أبي بكر رضي الله تعالى
عنه: لقد حدث كذا وكذا، فاستدعى أبو بكر رضي الله عنه الرجل
وسأله: ألك دين عند فلان؟ قال: بيني وبينه الله، وقد سامحته فيه،
قال: أخبرنا ما هو؟ فأخبره أنه عشرة دراهم، فأمر بسدادها حالاً، ثم
دعا العبد فأعتقه. يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح :
وهذا من فقه أبي بكر عنه؛ أن أنفذ وصية الميت لما رأى من
القرينة. وهكذا أيها الإخوة! ينبغي على الإنسان أن يعنى بنفسه وأن
يتخلص من دينه أولاً وقبل كل شيء، فإذا لم يكن عنده سداد وجب عليه
أن يكتب، وهذا من دواعي كون الوصية واجبة، فإنها تكون واجبة، وتكون
مندوبة، فحين تكون هناك ودائع، كديون ليس فيها سندات، ولا صكوك،
ولا شهود، فعليه أن يكتب ذلك ليتولى أهله إنفاذها.
134566 ( كتاب الجنائز [4] )
( كتاب الجنائز [4] )
عناصر الموضوع
1 كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض
2 باب تكفين الميت بغير قميصه
3 استحباب الكفن الأبيض
4 باب تحسين كفن الميت
كتاب الجنائز [5]
من الآداب الشرعية الواجبة على الأحياء للميت تكفينه في أثواب تستره،
على تفصيل فيما يكون للرجل وما يكون للمرأة، مع استحباب أن تكون بيضاء
واسعة بدون مغالاة ولا مباهاة.
كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض
صفة كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعن عائشة رضي الله عنها قالت (كفن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة )
متفق عليه.
الفرق بين الثوب والقميص
هذا شروع من المؤلف في بيان كيفية الكفن للميت، وبدأ ببيان كفن(2/235)
النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء بحديث أعرف الناس بذلك، وهي أم
المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت (كفن رسول الله صلى الله
عليه وسلم في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا
عمامة ) ثلاثة أثواب ثم بعد ذلك تقول: (ليس فيها قميص ) مما
يدل على أن المراد بالثوب هو اللفافة التي يلف فيها الميت، والقميص
هو ما كان مخيط الطرفين، أي: لو جئت بطرفٍ من القماش على ما هو
معروف الآن، القماش الأبيض عرضه -كما يقال: ياردة (تسعون
سنتيمتراً)، أو عرضه متر، وأخذت منه بقدر طول الإنسان مرتين، أي:
أخذت ثلاثة أمتار وثنيت طرفيها معاً ثم جئت في الوسط حيث ثنيت
وفتحت فتحة تُدخل الرأس، فأدخلت رأسك -وأنت إنسان على قيد الحياة-
وصار النصف أمامك والنصف وراءك، إذا خطت الطرفين من اليمين
والطرفين من اليسار، وتركت موضع اليدين سمي قميصاً، فإذا لم يكن
مخيطاً لا يسمى قميصاً، فالقميص هو ما كان مخيط الطرفين. والأثواب:
يمكن أن يقال في كل قطعة من لباس المحرم، -الإزار والرداء- أنه
ثوب، كما تقدم لنا في الحديث في الرجل الذي سقط عن راحلته فوقصته
فقال صلى الله عليه وسلم: (كفنوه في ثوبيه ) وثوباه وهو محرم
هما عبارة عن الإزار والرداء، أما ما يطلق الآن على الثوب الذي
يلبسه عموم الناس فهذا اصطلاح آخر. قميص طويل، وعند بعض الناس قميص
قصير.. قميص نصف كم.. قميص كم كامل، فالقميص لغة هو ما كان مخيط
الطرفين، وأصبح محيطاً بالجسم بالخياطة.
كيفية تكفين الميت
وهنا الثلاثة الأثواب التي تقول عنها أم المؤمنين رضي الله عنها
ليس فيها مخيط، لا قميص ولا سروال ولا شيء من ذلك، كيف تكون
الثلاثة الأثواب. يقول ابن قدامة في المغني : يؤتى بالثلاثة
الأثواب بعد أن ينتهى من تغسيل الميت، ومما ينبغي التنبيه عليه أن
يغسل الميت على شيء مرتفع، لا على الأرض مباشرة، فإذا ما غسل جفف
أو نشف، وكذلك يحسن ألا يغسل تحت السماء في الكشف مباشرة، بل يكون(2/236)
تحت سقف في غرفة أو في صالة، وإذا لم يكن ففي خيمة، وإذا لم يكن
ظلل بغطاء يحجب بينه وبين السماء، فلا يكون مكشوفاً إلى السماء
مباشرة، فإذا ما غُسِّل -على طريقة الغسل التي لها تفصيلات عديدة
لم نذكرها، وهي مدونة في كتب الفقه- وانتهوا من تغسيله، نشفوه،
فإذا ما انتهوا من تنشيفه، وكان المكان الذي هو عليه مبللاً بسبب
الغسل، فإنه يوضع في مكان آخر أو يفرش له فراش في الأرض، ويؤتى
بالثلاثة الأثواب، فإن كانت متفاضلة -أي: بعضها أفضل من بعض في
الجودة- يجعل الأفضل منها أولاً، ثم يؤتى بالثاني فوقه، ثم يؤتى
بالثالث فوقه، فتكون الأثواب الثلاثة قد رصَّت على المكان الذي
ينقل إليه، أو على فراش على الأرض، وكل واحد من الثلاثة يسمى
ثوباً. فينقل الميت من موضع غسله، إلى هذه الأثواب الثلاثة، فتؤخذ
اللفافة الأولى -أي: الثوب الأول الذي هو ثالث الأثواب من جهة
الأخذ- فيثنى عليه الطرفان، فما كان في جهة اليمين، يؤتى به إلى
اليسار، وما كان في اليسار يؤتى به إلى اليمين، ويصبح ملفوفاً في
الثوب الأول، ثم يجعل فوق هذا الثوب الأول حنوط وطيب وكافور، ثم
يؤخذ الثوب الثاني أي الوسط فيفعل به كذلك أيضاً، القسم الذي إلى
اليمين يجعل إلى اليسار، والقسم الذي على اليسار يجعل إلى اليمين،
وتكون تلك الأثواب الثلاثة زائدة عن طول الميت تتجاوز القدمين
وتتجاوز الرأس، ويكون الجزء المتجاوز للرأس أطول من الجزء المتجاوز
للقدمين، فلو جعلنا زيادة على القدمين عشرين سنتيمتراً، نجعل
أربعين سنتيمتراً من جهة الرأس، ونأتي أيضاً بالحنوط ونجعله على
اللفافة الثانية الذي هو الثوب الوسط، ثم يؤتى باللفافة الثالثة
وهي الأخيرة وتكون أفضلها وأحسنها أي موضع تجملٍ للكفن، وقد جاء
عنه صلى الله عليه وسلم (من كفن أخاه فليحسن تكفينه ) وجاء في
هذا (من كفن مسلماً كان كمن كساه إلى يوم القيامة ) وعلى هذا(2/237)
يؤخذ الثوب الثالث الذي هو الأخير، ويفعل به كذلك ويلف على الميت
الطرف الأيمن يرفع ويجعل إلى اليسار، والطرف الأيسر يرفع ويجعل إلى
جهة اليمين. إلى الآن أصبح الميت مندرجاً في ثلاثة أثواب، يؤتى بعد
ذلك إلى جهة القدمين فتجمع تلك الزوائد بعضها فوق بعض، وقيل: تربط،
وقيل: تلف، ثم توضع تحت القدمين، وكذلك من جهة الرأس، تجمع تلك
الزوائد بعضها فوق بعض، وتلف من عند الرأس، وتثنى تحت رأسه، أو
تربط حتى لا تنفك، حينما يحمل وحينما ينزل في القبر، وحينما يوضع
على شقه الأيمن في اللحد، هذه كيفية تكفين الميت في الأثواب
الثلاثة.
تفصيل الروايات في كفن الرسول صلى الله عليه وسلم
وهذا هو أصح الروايات في تكفينه صلى الله عليه وسلم، وهو أعدل
الأقوال وأفضلها عند الجمهور، وقد اتفقوا على أنه عند الحاجة إذا
اقتصر على لفافةٍ واحدة على هذا الوضع وسترته من رأسه إلى ظُفر
قدمه أجزأت، يعني: أقل المجزء في الكفن ما يستره، والثلاثة هي أقل
الكمال، وبعضهم قال هي نهاية الكمال، أي الأفضل. وكما يقول
العلماء، لا ينبغي لأحد أن يزيد في الكفن على كفن النبي صلى الله
عليه وسلم، وهناك روايات جاءت في كفنه صلى الله عليه وسلم سوى ذلك
ولم تسلم من مقالات. ستجدون في كتب الحديث وفي حديث عائشة هنا
(... ثلاثة أثواب سحولية من كرسف ) الكرسف: القطن، سحولية: نسبة
إلى قرية، وهي ثياب بيض، وهذا صفة الكفن أو أثواب الكفن وأنها من
القطن. قولها هنا: (ليس فيها قميص ولا عمامة ) يقولون ليس فيها:
يعني في العدد، فهي ثلاثة فقط من غير أن نحسب القميص والعمامة،
فيكون القميص والعمامة موجودين لكن ما عدتهم، أو ليس فيها: في
جنسها، ولم يتجاوز الكفن الثلاثة الأثواب، والجمهور على أن ظاهر
اللفظ ليس فيها -أي في الأثواب الثلاثة- قميص ولا عمامة، يعني ليس
قميص وعمامة يكملان العدد، لا. بل القميص والعمامة منفية الوجود(2/238)
بالفعل. وسيأتي في بعض الروايات: (كُفِّن في قميصه الذي مات فيه )
وفي روايات أخرى: (كفن في حلة حبرة ) وفي بعض الروايات: (كفن في
حلة لعبد الرحمن بن أبي بكر ) ولكن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تبين لنا تلك الروايات. أما موضوع القميص فقالوا:
إنه جرد عنه، أي بعد ما غسل وسجي، وبعضهم يقول: موجود، والبعض
الآخر يقول: أما الحلة فإن عائشة رضي الله عنها قالت (لقد جيء
بالحلة فردوها ) إذاً: عند الكفن جيء بالحلة لتجعل في كفنه،
ولكن الذين قاموا بتكفينه صلى الله عليه وسلم ردوها، ولم يجعلوها
في الكفن، وفي بعض الروايات: (فنشفوه بها، ثم ردوها ) إذاً أم
المؤمنين عائشة رضي الله عنها تبين قضية الحلة فيما يتعلق
بالكفن وأنها فعلاً جيء بها، ولكن لم تكن في الكفن؛ لأنهم ردوها
ولم يكفنوه فيها. وهناك من يقول أن النبي كفن في سبعة أثواب:
الثلاثة الأثواب التي في حديث عائشة ، والقميص الذي مات فيه،
والعمامة والحلة، والحلة من قطعتين، إذاً: مع هذه الروايات ومع
توضيح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في خبر الحلة نعلم بأنه
ما كان الكفن إلا ثلاثة أثواب. والذين يقولون بالقميص، يقولون:
تجعل اللفافات اثنتين، ويؤتى بدل الثالثة التي هي الأولى أي التي
تكون في الأعلى، والتي تكون كما وصفنا من القماش طول الإنسان
مرتين، ويجعل فتحة في وسطه عند الثنية، ويدخل فيها الرأس ويثنى
عليه طرفاها، كما يثنى الثوب على التفصيل المتقدم. ومن يضيف
السروال، يقول: يؤتى أيضاً بقطعتين من القماش، ولكن يفتح كما تلك
الفتحة ويدخل من الرجلين إلى الحقو، ويكون طرفا القماش واحدة تلف
على الساق اليمني والأخرى تلف على الساق اليسرى دون أن تجعل مثل
الكم للرجل، أي: لا يوجد خياطة، فعلى هذا الجمهور يقولون: (لا
ينبغي التعمق ولا التزيد في الكفن ولا المغالاة) وكما ثبت في أصح
الروايات في كفن النبي صلى الله عليه وسلم، الثلاثة الأثواب(2/239)
السحولية البيض التي ذكرتها أم المؤمنين رضي الله عنها.
كفن المرأة والصغير
بقي فيما يتعلق بالصغير والمرأة: قالوا: الصغير أي لفافة يلف فيها
تجزئه، والمرأة يزاد فيها القميص والمقنعة، والخمار وثالث يلف على
وسطها ويربط، فتكون في خمسة: الثلاثة الأثواب المذكورة، والخمار
على رأسها وشعرها ووجهها، والثالث في وسطها يشد ويلف عليها، حفظاً
لها وصيانة، هذا ما يتعلق بموضوع الكفن.
حكم المغالاة في الكفن
واتفقوا على أنه لا يجوز المغالاة في نوعية القماش، فلا نذهب إلى
القماش الفاخر الغالي الذي صفته كذا، ونقول إكراماً للميت
واعزازاً، لا. فكل ميت ليس أكرم من رسول الله على الله، ويكفي أنه
كفن في هذه الثلاثة الأثواب البيض السحولية كما قالت أم المؤمنين
عائشة . هناك اجتهادات للفقهاء رحمهم الله، في نوعية الثياب،
على ما سيأتي التنبيه عليه عند ذكر كفن أبي بكر رضي الله عنه.
التبرك بثياب العبادة واتخاذها كفناً
قالوا: لو أن إنساناً، تخير ثوباً يكون لكفنه من الثياب المعتادة،
سواء أكان إزاراً ورداء أو قميصاً يلبسه، ثم لبسه ليصلي فيه عدة
صلوات، ثم خلعه وركنه ليكون كفنه، وتكون صلاته فيه من باب التبرك
ويشهد له، سئل أحمد رحمه الله عن ذلك قال: (لا بأس) وكذلك ما
سيأتي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أعطى قميصه لعبد الله بن عبد
الله بن أبي من أجل أن يكفن فيه والده، هذا من سبيل التبرك أو
على ما سيأتي العلة مع ابن أبي بأنه كان قد كسى العباس قميصاً حينما جيء به أسيراً من بدر ، سيأتي الكلام عليه في محله.
لكن قالوا: لو أن الإنسان اختار ثوباً لكفنه وعمل فيه من القربات،
ثم كفن فيه لذلك فلا مانع. وقد كان كثير من الحجاج قديماً يأتي
بكفنه معه من بلده، وذلك لشدة الخوف وعدم الأمان فإذا مات في
الطريق كان كفنه معه، وبعضهم كان إذا كتب الله له السلامة يغسله
بماء زمزم، ويأخذه معه ويبقيه ليكفن فيه بعد أن غسل بماء زمزم،(2/240)
يفعلون ذلك للتبرك، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الحالات،
من ذلك ما ذكر عنه صلوات الله وسلامه عليه، أنه في يوم بارد شديد
البرد، أهديت إليه شملة، مثل الرداء على كتفيه، فقال رجل من
الحاضرين (اكسنيها يا رسول الله! فأخذها وأعطاها إياه، فقالوا له
بعد ما ذهب النبي: تطلبها من رسول الله وأنت تعلم أنه في حاجتها
وتعلم أنه لا يرد سائلاً؟ قال: والله ما طلبتها إلا لتكون كفني )
أي ليكفن فيها، وعلى هذا لا مانع أن يتخذ الإنسان الثوب في
العبادة. ونعلم أيضاً ما كان في معتقد الجاهلية بقياس العكس، قبل
الإسلام كانوا إذا أراد الإنسان أن يطوف وهو محرم، يعتقدون بأن
الثياب التي عليهم ، شاركت وحضرت ما ارتكبوا من الآثام من سفك
الدماء وأكل الحرام و.. و.. إلخ، فيعتقدون بأن من أراد أن يخرج من
ذنوبه، يجب أن يفارق هذا الثوب عند الطواف؛ لأن الثوب قد دُنس بتلك
الذنوب، فكانوا يطوفون عراة، إلا من كان عنده سعة، فيشتري ثوباً
جديداً لم يلبس ولم يدنس بمعصية، فيطوف به، فإذا انتهى من طوافه،
خلعه وجعله عند الكعبة، وكان لسدنة البيت، أو يأتي إلى شخص من سدنة
البيت ويستعير منه ثوباً يطوف فيه، بناءً على أن سدنة البيت لا
يرتكبون الذنوب فثيابهم طاهرة، إذاً كانوا يعتقدون بأن ملابسة الشر
في الثوب تؤثر عليه، وكانوا يعتقدون بأن الثوب الذي لم يشارك في
معصية، يكون أولى بطوافه، فما بالك إذا كان يشارك في الطاعة، نحن
نذكر ذلك من تأثير المعتقدات في أثر الثياب الذي يشهد الخير والذي
يشهد الشر. وعلى هذا ما ذكر عن أحمد رحمه الله تعالى حينما سئل
عن الرجل يلبس الثياب ليصلي فيه ثم يجعله كفناً له، قال: لا بأس،
لكن لا يطيل اللبس حتى يدنسه، أي يوسخه. لا؛ لأن السنة أن يكفن
الإنسان في ثوبين أبيضين جديدين أو نظيفين غسيلين، كما يتعلق
بالإحرام، فما ينبغي أن يبدأ إحرامه في ثياب مدنسة، إما أن تكون(2/241)
جديدة نقية، وإما أن يحتفظ به ويغسله ويحرم فيه كل سنة، فلا مانع
في ذلك، هذا ما يتعلق بنوعية الكفن، والسنة فيه الاقتداء بالنبي
صلى الله عليه وسلم فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. هذا
.. والله أعلم.
باب تكفين الميت بغير قميصه
.
حكم تكفين الميت في قميص غيره
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال (لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتني قميصك
أكفنه فيه، فأعطاه إياه ) متفق عليه.
تعريف موجز بعبد الله بن أبي بن سلول ومواقفه
قصة هذا القميص وعبد الله بن أبي بن سلول طويلة، ولكن أقول
بإيجاز: عبد الله بن أبي بن سلول هو رئيس المنافقين، وكان أشد
الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبين لنا خبره سعد بن
عبادة ، وعبد الله بن رواحة (ركب النبي صلى الله عليه وسلم
ومر على مجلس فيه عبد الله بن سلول ، وفيه جماعة من المسلمين،
وجماعة من المشركين، وجماعة من جماعة ابن أبي ، فلما مر من
هناك عرض عليهم القرآن، فقال ابن أبي : يا هذا! والله إنه
لكلام حسن لو كان حقاً، الزم رحلك، ومن أتاك فاقرأه عليه، فقال ابن
رواحة : لا يا رسول الله! بل اغشنا به في مجالسنا وائتنا
واقرأه علينا، فإنا والله نحبه، فتلاحى ابن رواحة ومن معه من
المسلمين، وابن أبي وجماعته والمشركون وغيرهم، حتى أخذ صلى
الله عليه وسلم يسكت في القوم ويهدئهم خشية الفتنة. ثم مضى صلى
الله عليه وسلم حتى جاء إلى سعد بن عبادة ، فقال: ألا ترى ما
فعل أبو الحباب ؟! -كناه- قال: ماذا فعل؟ فأخبره بما قال،
وقال: يا رسول الله! اعذره؛ -وتأمل معي هذا الكلام!- فإنك جئت بما
أعطاك الله من الحق، وكانوا قد اجتمعوا على أن يتوجوه عليهم ملكاً،
ففات عليه ما كان يريد بالحق الذي جئت به ) انظروا -يا إخواني-
كيف تكون مراعاة النواحي النفسية، فبعد أن أساء إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وإلى المسلمين، نجد هذا الصحابي الأنصاري الجليل(2/242)
يعتذر عنه. كان قبل أيام على وشك أن يُنصَّبُ ملكاً، فَسُلِبَ
ملكه، فهو بهذا لا يحتمل شيئاً بل هو قد فاته الملك بمجيء هذا
الدين. إذن: كان موقفه موقفاً حرجاً في ذاته وفي شخصه. ثم أسلم
إسلام النفاق وهو باقٍ على دينه، يكيد للإسلام والمسلمين. وهو صاحب
المقالة الشنيعة التي قيلت في عودتهم من غزوة بني المصطلق، حينما
نزل المسلمون عند ماء، وتلاحى غلام لعمر رضي الله تعالى عنه
وغلام للأنصار على الماء، فغلب غلام عمر غلام الأنصار، فقال
غلام الأنصار: يا للأنصار! وقال الآخر: يا للمهاجرين! فبلغت
المقالة ابن أبي فقال: أوفعلوها؟!! والله! ما نحن وإياهم إلا
كمثل القائل: سمِّن كلبك يأكلك، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن
الأعز منها الأذل، غلام الأنصار سمع هذه فذهب إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فأخبره، فقال (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم )
فشغل الناس بأنفسهم، وحان وقت القيلولة -الوقت الذي ينامون
ويرتاحون فيه- وواصل السير إلى الليل وإلى الغد، فقالوا: هذه حالة
من رسول الله غير عادية، ما الذي حمله على ذلك؟ فعلموا ما قاله ابن
أبي ، فذهبوا يعنفونه، فعلم أن الخبر وصل إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فجاء يعتذر: يا رسول الله! سمعت أنه بلغك أني قلت
كذا وكذا والله ما قلت، هذا كلام كذب، ما قلت، الغلام يكذب عليَّ،
يقول الغلام: والله كدت أن تنشق بي الأرض أن أكذَّب، فنزل القرآن
بذلك: يَقُولُونَ
لَئِنْ رَجَعْنَا ... [المنافقون:8]
إلى آخره. وهنا يقول الأصوليون: قضية القول بالموجب وهي قاعدة
أصولية يَقُولُونَ
لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ
مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]
لم يقولوا من هو الأعز ولم يقولوا من هو الأذل، لكن يزعمون العزة
لمن؟ لأنفسهم، بصفتهم أصحاب الأرض وأصحاب المال، فنزل القرآن:
(يقولون) ثم جاء القرآن وقلب عليهم القضية، وميز من هو الأعز ومن
هو الأذل حقيقة: وَلِلَّهِ(2/243)
الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]
يبقى من هو الذي سيخرج الثاني؟ بمقتضى مقالتهم جاء الحكم عليهم،
فجاء الوحي وصدق الخبر.
مواقف عبد الله بن عبد الله بن أبي المشرفة
عبد الله بن عبد الله صحابي جليل، وكان من أبر الأبناء بآبائهم
-على نفاق أبيه- وكان براً بأبويه، لما حصلت هذه المقالة -وهي ليست
بهينة- حينما وصلوا إلى المدينة جاء عبد الله ابن رئيس
المنافقين ووقف على باب المدينة ، واستلَّ السيف حتى وصل أبوه،
فمسك بزمام راحلته وقال: [والله لا تدخلنَّها حتى يأذن لك رسول
الله، وتعلم أنك أنت الأذل وأن العزة لله ولرسوله] من الذي وقف
لهذا المنافق؟ ولده. بلغ الخبر رسول الله أن عبد الله منع أباه
أن يدخل، قال (مروه فليأذن له فليدخل ) فدخل بإذن من رسول الله،
وهذه تكفي، ملك الأمس يرده ولده حتى يعلم أنه الأذل وأن العزة
لغيره، لمن؟ وَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
بعد فترة -وأنتم تعلمون أن مثل هذا ليس بسهل، ولا يمر بسلام، بل لا
بد أن تكون له بقايا- أشيع .. -والشائعات دائماً تزيد المسألة
قليلاً- أشيع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقتل ابن أبي لمقالته، هذه الإشاعة بلغت عبد الله ولده، ماذا يفعل، وهو أبر
الناس بأبيه، أبوه يقتل غداًَ .. أيمنع أمر رسول الله أم ماذا
يصنع؟ أمر محرج له جداً!! فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال (يا رسول الله! بلغني -أو علمت، أو سمعت- أنك قاتل ابن أبي -لم يقل: أبي، حتى لا يقول أنه جاء يستعطف، من هو ابن أبي ؟-
إن كنت فاعلاً لا محالة -يعني لست عافياً عنه- مرني أنا آتيك برأسه
-قتل أبيه مصيبة، وأن يكون بيده مصيبة أكبر، فماذا فعل رسول الله
إزاء هذه الشائعات- قال: لا يا عبد الله! دعه ) وتركه ولم
يقتله، هذا الولد مع أبيه في موقفه في منعه من دخول المدينة حتى(2/244)
يقر ويعرف، يعني: حطم التاج الموهوم الذي كان يتخيله في ذهنه،
وأوقفه على باب المدينة ، ثم بعد ذلك هاهو مستعد بأن ينفذ أمر
القتل لو صدر، أي مكافأة تكون لهذا الابن لو فعل ذلك؟ ماذا تقولون
أينصب ملكاً بدلاً عن أبيه؟ لم يعد هناك ملك، الأمر لله ولرسوله
صلى الله عليه وسلم، هنا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يراعي خاطر
عبد الله في أبيه، أما أبوه فهو الذي رجع بثلث الجيش في غزوة
أحد.
تكفين رئيس المنافقين في قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبب ذلك
إذاً: مواقف الأب لا نقول: إنها ليست مشرفة! لكنها مخزية، ولكن
مواقف ولده مشرفة، من هنا لما مات أبوه جاء وقال (يا رسول الله!
أعلم أن قميصك لن ينفعه إذ لم يكن مؤمناً، ولن يضرك إذا أعطيته
إياه -انظر العقيدة!!- ولكن أعطنيه حتى لا تكون سُبَّةً علينا مدى
الدهر ) انظروا السياسة!! ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ قال: لا هذا كان وكان، وهذا رجع بثلث الجيش، وهذا وهذا، هل
عدد له مفاسده، أو أخطاءه؟ لا أبداً، بل رحب بذلك الطلب وأعطاه
قميصه. وقيل: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان فقال
(أعطني القميص الذي هو شعارك -ليس الذي فوق بل الذي تحت- فخلعه صلى
الله عليه وسلم وأعطاه إياه، وذهب وكفنه فيه ) هنا بعض الناس
يقول: وهل بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفع المنافق؟ وبعض
الناس يقول: ما حابى عبد الله في أبيه المنافق، إنما كان يرد
جميلاً، كان ابن أبي حينما جيء بأسارى بدر وفيهم العباس عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان العباس وضيئاً وجسيماً،
وكذلك ابن أبي ، يقولون كان طويلاً وضخماً، يعني: هيئة الملك
موجودة فيه، فكسا العباس من ثيابه، فالرسول كافأ ابن أبي على ذلك القميص، يعني: ما كافأه إلا في ذلك الوقت؟! لو كانت مكافأة
كانت في وقتها، بعد الغنائم التي جاءت، وكان يرد الجميل في حينه،
ولكن نأخذ من هذا الرفق والرحمة، وإذا قلنا بمعنى المجاملة -وإن(2/245)
كان مجالها واسعاً لا نقدر أن نحدده- ولكن مراعاة وكرامة لهذا
الابن البار المؤمن، صاحب المواقف الفاضلة الكريمة، الذي وقف تلك
المواقف بجانب المسلمين ضد أبيه عدو الإسلام، ولا بأس بذلك، وكما
قال عبد الله بنفسه (أعلم أنه لن ينفعه لأنه لم يؤمن، ولن
يضرك، وإنما يرفع عنا سُبَّة الدهر ) وكان ذلك مصانعة لعبد
الله في أبيه. والله تعالى أعلم. يهمنا أن الرسول صلى الله
عليه وسلم أجاز لابن أبي أن يكفن في قميصه. إذاً: لا مانع أن
يكون في الكفن قميص، ولكن يمكن يقال: إن ابن أبي لا يقاس عليه
بقية المسلمين. والله أعلى وأعلم، والحمد لله رب العالمين.
استحباب الكفن الأبيض
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم )
رواه الخمسة إلا النسائي ، وصححه الترمذي . هذا توجيه
لنوعية ثياب الكفن ولباس الحي، وكما قالوا أيضاً: إن المحرم وهو في
حالة الإحرام يكون في أحسن حالاته؛ لأنه متلبس بأفضل العبادات
وخامس الأركان، فاستحب له أن يكون في إزار ورداءٍ أبيضين نظيفين
جديدين أو غسيلين.
استحباب الثياب البيض لطالب العلم
جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه: (أحبُ لطالب العلم بياض
الثياب) هذه خصوصية لطلبة العلم، وقد يكون الإنسان صاحب مهنة لا
ينفع معها لبس البياض، لكن -كما تقدم- تكون ثياب المهنة للمهنة،
وثياب المجتمعات والمناسبات خاصة بها، فلا مانع في ذلك.
ميزة الثياب البيض
إن البياض قليل الحمل للدنس، فلو جاءت ذبابة ونزلت على الغترة
البيضاء وتركت أثراً بسيطاً فإنه يظهر بوضوح عليها، لكن لو كانت
الغترة أو الشماغ ملوناً وجاء ذباب الدنيا ونزل وعشش فيها لا يظهر
فيها شيء. إن بياض الثياب قليل التحمل للأوساخ فأقل شيء يجيء عليه
يظهر، فيكون عاملاً مساعداً على نظافته بصفة دائمة، وهنا التوجيه
(البسوا من ثيابكم البياض ) بصرف النظر عن نوعيتها: (كرسف) أو(2/246)
(كتان) أو أي نوع آخر ما لم يكن حريراً ولا من الممنوع لبسه.
وقوله: (وكفنوا فيها موتاكم ) وعلى هذا يستحب في حالة السعة
وحالة التيسير أن يكون الكفن من الثياب البيض، أما في حالة
الاضطرار؛ فالضرورات لا حكم لها -كما قيل- ولها ظروفها، ولا يقاس
عليها حالات السعة واليسر.
باب تحسين كفن الميت
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ) رواه مسلم . إحسان الكفن
يكون في طريقة العمل، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر
بالبقيع فوجدهم يحفرون لجنازة، فوجد في القبر مَيلاً، فأمر
بتعديله، وقال: (إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يحسنه )
وجاء الحديث الآخر: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء ) ونعلم
حديث جبريل عليه السلام في الإسلام، والإيمان، والإحسان، فالإحسان
هو أعلى المراتب، والمراحل التي تنتاب العمل. ومن أجل الإحسان يقول
المولى سبحانه: تَبَارَكَ
الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:1-2]
لم يقل: أكثر أو أقل أو أنقص، بل قال: (أحسن عملاً). فكذلك قال
النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن .. ).
والإحسان هنا -في حالة السعة- أن تكون اللفائف واسعة، وأن يُحكم
لفها، حينما يأتي بالطرف الأيمن إلى اليسار، والطرف الأيسر إلى
اليمين بأن يحكمها على جسم الميت، لا أن يلقيها إلقاءً بدون إحكام،
لا، وكذلك إذا وضع الحنوط، وإذا أراد أن يلفها من عند رأسه، ومن
عند قدميه فيحسن ذلك، وكما جاء الأثر: (من كفن أخاه كان كمن كساه
إلى يوم القيامة). إذاً: ينبغي لمن كفن الميت أن يحسن عمل التكفين
بإتقان اللفائف عليه، ويحسن الحنوط، كذلك إذا كان هناك ثياب قديمة،
رثة، وثياب نظيفة جديدة، فمن الإحسان أن يختار له النظيف الجديد،
ولا يبخل عليه.(2/247)
134575 ( كتاب الجنائز [6] )
( كتاب الجنائز [6] )
عناصر الموضوع
1 باب كراهية النعي
2 من صلى عليه أربعون رجلاً موحداً يشفعون فيه
كتاب الجنائز [7]
مسألة نعي الميت لها حالات منتشرة بين الناس: فهو إما لتجهيزه والصلاة
عليه، وإما للصلاة عليه فقط، وإما للمباهاة والمفاخرة بهذا الميت، وإما
نوحاً عليه وتفجعاً وندبةً، وفي هذه المادة بيان هذه المسألة وما يتعلق
بها
باب كراهية النعي
حكم نعي الميت
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
(كان ينهى عن النعي ) رواه الترمذي وحسنه.
أنواع النعي والجمع بين النهي والفعل
يلاحظ في هذا دقة العلماء وأن فن التأليف ليس مجرد جمع نصوص! ففي
هذا الحديث كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي، وبعده مباشرة
يأتي المؤلف بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى، فقد نعى النبي
صلى الله عليه وسلم في يوم موت النجاشي ، فكيف ينهى عن النعي،
وكيف نعى؟! وهذا كما أشرنا سابقاً فيما يظهر ذلك بدقة أكثر في
الموطأ وصنيع الإمام مالك في الموطأ في إيراد الأبواب يفسر
بعضها بعضها، فهنا اتفق الجميع. ما هو النعي؟ قالوا النعي: خاص
بالإخبار عن الميت، مات فلان، ثم يقول ابن عبد البر : النعي
على ثلاثة أقسام: نعيٌ لمجرد إخبار أهل وأصدقاء الميت من أجل
القيام بواجبه من تجهيزه والصلاة عليه والدعاء له ودفنه، فهذا لا
بأس به. ونعي للمكاثرة والمفاخرة وأن يذهب أشخاص إلى الأسواق أو
إلى غير ذلك، ويعلنون موت فلان، فهذا للمكاثرة والشهرة والكثرة،
وهو لا يجوز. ونعي كنعي الجاهلية: يا سندنا يا سيدنا يا صفوتنا يا
كذا..، ويصفونه بصفات أكثرها زور وبهتان، فهذا من النعي المحرم
الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: النعي إخبارٌ بموت
الميت، هذا الإخبار إن كان لمجرد الإعلام بموته عند ذويه وأقاربه
وأصدقائه، ومحبيه ليشاركوا في مصالحه: من تجهيز ودفن وصلاةٍ عليه،(2/248)
ودعاء له، فهذه سنة، وما عدا ذلك فهو داخل في النهي؛ لأنه صلى الله
عليه وسلم مع نهيه عن النعي، نعى النجاشي لأصحابه. إذاً بهذين
النصين واقترانهما نجد أن هناك نعياً منهياً عنه، ونجد هناك نعياً
واقعاً بالفعل منه صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يجتمع النهي
والفعل، كما أن السلب والإيجاب لا يجتمعان؛ لأنهما نقيضان لا
يجتمعان. إذاً النعي المنهي عنه: ما كان فيه من صفات الجاهلية.
والنعي المثبت المشروع هنا: ما كان من حق الميت وفي مصلحته، ثم إن
العلماء ذكروا ناحية أخرى وهي أن الميت إذا نعي نعياً كنعي
الجاهلية، فإذا وضع في القبر أتاه الملكان يعذبانه ويقولان: أأنت
كذا؟ ويضربانه، فيقول: أنا ما قلت، كما جاء عن عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه: (أنه مرض فأغشي عليه، فأتاه النبي صلى الله
عليه وسلم وعاده وقال: اللهم إن كنت جعلت له بقية في العمر فعافه،
وإن كنت كتبت له كذا فسهل عليه، فتعافى وصح وقال: يا رسول الله!
أمي كانت تقول كذا أو أختي كانت تقول كذا، فكنت أعذب على ذلك. من
هنا قالوا: من نعي نعياً كنعي الجاهلية، فإنه يعذب بهذا النعي،
فقيل: وما ذنبه وإنما كان النعي من الآخرين، فأجابه: أنه إذا كان
يعلم من طبيعة أهله أنهم يفعلون ذلك، فوجب عليه أن يحذرهم، وأن
يمنعهم في حياته كما جاء عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال:
إذا مت فلا تنعوني أي كنعي الجاهلية، فإذا كان يعلم من حالهم أنهم
يفعلون شيئاً من ذلك، وأوصاهم أن لا يفعلوا وقال: أنا لا أقبل ذلك،
برئت ذمته، ومن فعل أقاربه شيئاً من ذلك بعد هذا فعلى أنفسهم،
ويكون هو قد خرج من العهدة.
نعي النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي وصلاته عليه
نأتي إلى الحديث الثاني وهو (أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى
النجاشي لأصحابه في اليوم الذي مات فيه ) وعرفنا بأن نعي(2/249)
النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو مجرد الإعلام ولا شك، والنجاشي كان في الحبشة وهم بالمدينة ، لا توجد هواتف ثابتة ولا جوالة ولا
وسائل إعلام حديثة، لم يكن إلا الوحي، ولم يكن إلا المعجزة، كما
وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما يقع لبعض صالحي الأمة، كما
وقع لعمر حين قال: (يا سارية الجبل) وإن كان بعض الناس،
يطعن في هذه القصة وفي الرواية ويرتب عليها أشياء لا طائل تحتها،
بل قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم كشف له ما بينه وبين الحبشة .
نقول: الرسالة والنبوة والأمور الغيبية، لا نتدخل فيها، ويكفي أن
نثبت الخبر، وقد جاء في غزوة مؤتة ، وكان ثالث الأمراء ابن رواحة وذلك لما أرسل صلى الله عليه وسلم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف، وأميرهم
زيد بن حارثة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن أصيب: فجعفر
بن أبي طالب ، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة ، فإن أصيب
فليختر المسلمون رجلاً منهم ) ثم كشف الله له عن سير المعركة في
يومها، فجلس على المنبر ثم قال (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم قال:
أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم قال: أخذ الراية عبد الله وصمت،
فلما صمت شك أو توهم الأنصار أنه وقع بابن رواحة ما يكرهون،
ثم أعاد وقال: أخذ الراية عبد الله بن رواحة فأصيب ) فكان
أشد إيلاماً على الأنصار في هذه الواقعة. فهنا أخبر النبي صلى الله
عليه وسلم بأن الذي أخذها أصيب ثم أخذها فلان، وجاء في ترجمة ابن
رواحة أيضاً، وفي قصة مؤتة أن رجلاً جاء بخبرهم، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (إن شئت أخبرتنا، وإن شئت أخبرتك بالواقع،
قال: أخبرنا يا رسول الله! فذكر له ما وقع بالفعل، فقال: والذي
بعثك بالحق: ما غيرت حرفاً واحداً مما وقع، ثم قال صلى الله عليه
وسلم: الآن أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله ألا وهو خالد بن الوليد يفتح الله عليه أو يفتح الله إليه ) يهمنا بأن الله سبحانه
وتعالى يفعل لرسوله ما يشاء، وقد يلهم إنسانٌ عن أمر بعيد عن(2/250)
الواقع، ويكون حقاً، هذه أمور بعيدة عن الحس، وليس للعقل فيها
تحكم، ولكن الأمر للواقع الفعلي. فهنا نقول: نعى النبي صلى الله
عليه وسلم النجاشي لأصحابه -أي أعلمهم بموته- والنجاشي كما
يقولون، لقب مُلك، وليس لقب شخص، فكل من حكم الحبشة يسمى (نجاشي).
وكان نجاشي الحبشة آنذاك اسمه أصحمة وقيل بالحبشية معناه:
عطية، وقيل: ألفاظٌ أخرى، وقيل: كل من ملك الروم قيصر، وكل من ملك
الفرس كسرى، وكل من ملك القبط في مصر فرعون، وكل من ملك مصر في غير
القبط يسمى العزيز وكل من ملك اليمن يسمى تبعاً، وهكذا ألقاب
للملوك وليس للشخص بذاته. فالنجاشي في ذلك الوقت كان لقب ملك
الحبشة ، فمن كان قبله يسمى نجاشياً، ومن كان بعده يسمى نجاشياً،
كما هو معروف عند الناس في كسرى وقيصر. بقي عندنا ما يتعلق بإخباره
صلى الله عليه وسلم عن هذا النجاشي في ذلك الوقت، تجدون في
منتقى الأخبار مع شرح نيل الأوطار تأتي روايات (مات اليوم رجلٌ
صالح بالحبشة ) وفي رواية أخرى (إن أخاكم النجاشي قد مات )
فوصفه بأنه كان رجلاً صالحاً، وسماه أخاهم. وكونه يخرج ويصلي عليه،
فهل النبي يصلي على مسلم أم على غير مسلم؟ هذا أكبر دليلٍ على أن
النجاشي رضي الله تعالى عنه أسلم وآمن برسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولقد نذكر ما كان من شأنه في السيرة النبوية، بأن النبي
صلى الله عليه وسلم في سنة تسع لما اشتد الأمر على المسلمين بموت
عمه وبموت زوجه خديجة رضي الله عنها، وكانت تسمى سنة الشدة، أو
عام الحزن، واشتد حزنه صلى الله عليه وسلم، وتجرأ عليه بعض من كان
لا يتجرأ في حياة عمه، وخرج إلى الطائف ثم رجع ثم قال لأصحابه (إن
بالحبشة ملكاً عادلاً، أرى أن تهاجروا إليه لا يضام أحد في جواره )
فقال: (ملكاً عادل) لأنه آنذاك، لم يبلغه خبر رسول الله، وفرقٌ بين
كلمة (عادل) وبين (عدل)؛ لأن العادل الذي يعدل في حكمه ويعادل بين(2/251)
المتساويين، وذلك مأخوذ من العِدْلة، والعِدْلة هي ما يكون في أحد
شقي البعير، عِدلة عن اليمين وعِدلة عن اليسار، فإن تعادلت
العدلتان في الوزن والثقل، وكان الحمل معتدلاً استراح البعير، وإن
كانت إحدى العدلتين ثقيلة مال وكان البعير تَعِباً في هذا الحمل.
فالعادل يصدق على كل من عدل في الحكم، وكما هي كلمة عمر رضي
الله تعالى عنه: لما بلغه أن عامله في مصر ، أخذ دار امرأةٍ حينما
أراد أن يبني الفسطاط ، وجاءت واشتكت إلى عمر ..إلخ، كتب إليه
كلمة ونصف فقال: (نحن أحق بالعدل من كسرى) المرأة تعجبت، هذا صاحب
الهيمنة وصاحب كذا، يعطي هذه الرقعة وفيها هذه الكلمة، ماذا عساها
أن تجدي؟!! وكانت تستثقل رحلتها من وإلى مصر ، فلما وصلت وأعطتها
إياه، وضعها على رأسه، وأمر العمال أن يهدموا كل ما بنوه على أرض
المرأة، وأمر أن يقيموا لها بيتها على أحسن ما كان، قالت: واعجباً
أميرهم هناك، وبهذه الرقعة يفعل كذا، والله هؤلاء الناس على حق!!
وأسلمت! فنحن يهمنا قوله: (نحن أحق بالعدل من كسرى). إذاً: العدل
صفة في الملك لمن أراد دوام ملكه، ويقول الإمام ابن تيمية رحمه
الله: (الملك يدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو
لمسلم). إذاً ملكٌ عادل: وهذا من عقلاء الملوك، فأشار النبي على
أصحابه بالهجرة، فهاجروا إليه، فلما هاجروا أرسل أهل مكة بعد بدر
للذين هاجروا إلى الحبشة ليثأروا لقتلى بدر ، وأرسلوا عمرو بن العاص وكان من دهاة العرب وصديقاً للنجاشي في
ذلك الوقت، أرسلوه بهدايا، فجاءه وسجد له على ما كان يتعامل معه،
وقال: يا أيها الملك! إن أُناساً منّاً فارقوا ديننا ودين آبائهم،
ولجئوا إلى بلادك وليسوا على دينك، وقد أرسلنا قومهم إليك لتردهم
إلى قومهم، فقال: ما كان لي أن أرد قوماً اختاروني على غيري حتى
أدعوهم وأسمع ما عندهم، وأعرف ما لديهم، فدعاهم، وكان جعفر رضي
الله تعالى عنه، هو خطيب القوم. وقال: لا يتكلم أحدٌ غيري، فلما(2/252)
دخلوا على النجاشي وعمرو بجانبه، لم يسجد للملك، فقال:
انظر! لم يسجدوا لك كما نسجد، -بأسلوب فيه إثارة- فقال النجاشي : ما لك لا تسجد كما يسجد القوم؟ قال: أيها الملك! نحن لا نسجد إلا
لله، قال: وما ذاك، قال: كنا في جاهليةٍ جهلاء يأكل قوينا ضعيفنا،
ونأكل كذا، ونفعل كذا -وعدد المنكرات- ثم قال: فبعث الله فينا
رجلاً منا نعرف نشأته ومولده ونسبه، وصدقه وأمانته، فأمرنا بعبادة
الله وحده وبالصدق، وبالأمانة وصلة الأرحام و... و...إلخ. وجد
النجاشي كلاماً حسناً، كما قال دريد بن الصمة لما أرسل
ولده من الطائف إلى مكة انزل وأتني بخبر هذا الرجل، فرجع إليه
وقال: والله إنه ليأمر بالصدق وبأداء الأمانة وصلة الأرحام وكذا
وكذا، قال: والله يا بني! إن لم يكن ديناً فهو مكارم الأخلاق. فهذا
قول رجل جاهلي، فكذلك النجاشي سمع كلاماً حسناً فغاظ عمرو بن العاص ، وقال: اسأله ماذا يقولون في مريم وابنها
عيسى . انظروا يا إخوان! الأعداء كيف يكيدون للمسلمين، وكيف يثيرون
الشبه، ليحرضوا عليهم أعداءهم، فسأله، فقال: أيها الملك! نقول ما
قال الله فيه، قال: وماذا يقول الله فيه؟ فقرأ عليه مطلع سورة مريم
ثم قال: نقول فيه: إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم
...إلخ. فما كان من النجاشي إلا أن أهوى إلى الأرض، وأخذ عوداً
ثم قال: والله ما زاد صاحبكم على عيسى ومريم مثل هذه القشة على ما
جاء في التوراة والإنجيل . ومن هناك دخل الإيمان في قلب النجاشي ، ثم قال لبطارقته: ردوا عليهم هداياهم، لا حاجة لي في هداياكم
-أي: هدايا كفار قريش-، فإن الله لم يأخذ مني الرشوة على أن رد لي
ملك أبي، وكانت له قصة مع أبيه ومع أخيه ..، ثم قال لجعفر وأصحابه: سبحوا في بلادي لا يؤذيكم أحد، من اعتدى عليكم كأنه اعتدى
عليّ، فصاروا آمنين. بعد فترة فإذا بعمرو يأتي إلى النجاشي مرةً أخرى، ويدخل رجل مُرسَل بكتاب من رسول الله إلى النجاشي ،(2/253)
يشكره على ما صنع بالمسلمين، فذهب عمرو مع أصحابه ودخل على
الملك، أو كانوا فروا من مكة لما سمعوا بالنصر في بدر ، ولما سمعوا
بظهور الإسلام، قالوا: نذهب عند النجاشي ليس لنا طريق إلا هو،
ضاقت بنا الأرض، واجتمع عدد من الصحابة فراراً بالإسلام عند
النجاشي يعيشون في ظل ملكه، فرأى عمرو هذا الرسول، فدخل
على النجاشي وقال في نفسه: (لئن طلبت هذا الرجل من النجاشي أضرب عنقه، لرأت قريش أني صنعت شيئاً)، فدخل على النجاشي ،
وقال: أيها الملك! أطلب منك أن تعطيني هذا الرجل أضرب عنقه، لترى
قريش أني فعلت لها شيئاً! يقول: فما كان منه إلا أن صكني على وجهي،
حتى سال الدم من أنفي ولطخ ثيابي، ثم كأنه أسف على ذلك، ثم قال:
أتطلب مني رسولَ رسول الله الذي يأتيه الناموس من السماء، قال:
أيها الملك! أتعلم بأنه رسول الله؟ قال: يا عمرو ! والله إنه
لرسول الله، ولينصرنه الله كما نصر موسى وعيسى قال: يا أيها الملك!
أتبايعني على الإسلام له، قال: نعم، فبسط النجاشي يده وب
صلاة الجنازة على الغائب
ومن فقه الحديث: هل لنا أن نصلي على الغائب أم لا؟ يقولون في
الصلاة على الجنازة: (اللهم اغفر له اللهم ارحمه) والجنازة أمامنا
وبين أيدينا، فإذا كان غائباً كيف نصلي عليه بالنية أو بالقصد؟!!
فهناك من قال: لا يصلى على غائب، وهناك من قال: يصلى؛ لصلاته صلى
الله عليه وسلم، وهناك من قال: هذه الصلاة خصوصية لماذا؟ قالوا:
لأن الله لما كشف لرسوله موت النجاشي ، كشف له عن جنازته،
فلكأن النجاشي بين يديه وهو يكبر ويدعو له. والآخرون يقولون:
والذين خرجوا معه، وصفوا خلفه، وكبروا وصلوا على النجاشي هل
كانوا يشاهدون الجنازة؟ ما كانوا يشاهدونها، وإنما صلوا تبعاً له،
ومن هنا يختلفون في الصلاة على الغائب. فبعض العلماء قال: إذا مات
إنسان في بلد، ويغلب على الظن أنه لا يوجد فيها من يصلي عليه، ودفن(2/254)
بغير صلاة، صلينا عليه، ولكن وجدنا ذلك كما يقول الآخرون مدفوعاً،
بأن لا تخلوا الحبشة من بعض المسلمين، وكذلك أيضاً ما دام قد فعل
صلى الله عليه وسلم، ولم يخصص ذلك وذكروا بأن الرسول صلى الله عليه
وسلم صلّى على معاذ بن مقرن أو فلان، وهو في تبوك ، والميت في
المدينة ، والحديث تكلم عنه ابن كثير بضعف؛ لأن جبريل أتاه
وقال (إن فلاناً قد مات، فأسف عليه، قال: هل لك أن تصلي عليه؟ قال:
بلى، فقال: بيده هكذا، وفرج له ما بينه وبين المدينة ، فصلى عليه
وهو يرى جنازته ) . فقالوا: هذا من خصوصياته صلى الله عليه
وسلم، والجمهور على جواز الصلاة على الغائب، وأخذاً من هذا الحديث
ومن فعله صلى الله عليه وسلم.
من صلى عليه أربعون رجلاً موحداً يشفعون فيه
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه
وسلم يقول (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا
يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه ) رواه مسلم . بدأ
المؤلف يتجه إلى الصلاة على الجنائز، وبدأ ببيان فضل العدد الذين
تتاح لهم الفرصة في الصلاة على الجنازة. أولاً: هذا الحديث (ما من
رجل يصلي عليه أربعون رجلاً... ) جاءت روايات متعددة في هذا
المعنى: (لا يشركون بالله شيئاً ) وجاء: (مائة رجل ) وجاء:
(صلى عليه أمة يبلغوا أن يكونوا ثلاثة صفوف ) ومن هنا استحب بعض
العلماء: إذا كان العدد قليلاً أن يقسمهم الإمام إلى صفوف ثلاثة،
ولو كان الصف شخصين فقط، لتعدد الصفوف على رواية ثلاثة صفوف، وجاء:
(وصلى عليه أربعة من جيرانه الأدنين ) وجاء: (صلى عليه أربعة،
فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أو ثلاثة؟ قال: أو ثلاثة، قال:
أو اثنان؟ قال: أو اثنان، يقول: وسكت أن أسأله عن الواحد ) فهذه
النصوص، جاءت أن من صلى عليه أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً
أو مائة رجل أو أربعة رجال؛ يشهدون له، أو يشفعون فيه، إلا شفعهم(2/255)
الله فيه، وشفاعتهم فيه قالوا: يخلصون له الدعاء، فيدعون له
بالمغفرة، وبحسن الجزاء ..إلخ، بنية خالصة، وبقصدٍ طيب بأن الله
سبحانه وتعالى يغفر له، وبعضهم يقول: يشفعون، أو يشهدون له بالثناء
عليه خيراً، وورد (بأن جنازةً مرت، فأثنوا خيراً، فقال صلى الله
عليه وسلم: وجبت، وقيل: قالها ثلاث مرات، وجبت، وجبت، وجبت ومرت
جنازة أخرى، فأثنوا عليها شراً فقال: وجبت، وجبت، وجبت، فقال عمر : ما وجبت يا رسول الله؟! قال: وجبت الجنة بالثناء عليه، ووجبت
النار بذمه، أنتم شهداء الله على خلقه ) وبعضهم يقول: هناك
رواية الله أعلم بصحتها: (إن لله ملائكة تنفث على ألسنة الخلق بما
تشهد به ) كل هذه الروايات متكلم فيها، ولا ينبغي تعمد قول:
ماذا تقولون؟ أو على ماذا تشهدون؟ لأن هذه أمور فيها إحراج، ولا
ينبغي ذلك، إنما يكون عفوياً إذا اجتمع جماعة، وصلوا على ميت،
وأخلصوا الدعاء له، هم بأنفسهم كانوا شفعاء له عند الله بدعواتهم
وصلاتهم عليه. فقال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع أو ما صلى
أربعون رجلاً على مسلم، أو على ميتٍ، لا يشركون بالله شيئاً إلا
شفعهم الله فيه ) وعلى ما تقدم من أن العدد ليس قاصراً على
الأربعين ولا على المائة، وبعض العلماء يقول: هذا عدد لا مفهوم له،
يعني: ليس له مفهوم مخالفة، فلو جاء عدد مائة ونقص واحد أو عشرة
وصاروا تسعين، لا نقول إن هذا يبطل العدد، لا. وبعضهم يقول: إن تلك
الحالات أجوبة عن أسئلة قد صدرت. بمعنى واحد يسأل: يقول: يا رسول
الله! رجل صلى عليه أربعون رجلاً، أيشفعون فيه؟ قال: نعم. ثم جاء
رجل آخر وقال: رجل صلى عليه مائة رجل يشفعون فيه؟ قال: نعم. يعني
لم يكن ذلك ابتداءً وتحديداً من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن
كانت أسئلة، والأسئلة مختلفة، تارةً يسأل عن أربعين، وتارةً يسأل
عن أربعة، وتارةً يسأل عن مائة، وفي كلٌ يجيب: بنعم يشفعون فيه.
والله تعالى أعلم.
134586 ( كتاب الجنائز [8] )(2/256)
( كتاب الجنائز [8] )
عناصر الموضوع
1 باب الدعاء للميت في صلاة الجنازة (إخلاص الدعاء للميت)
2 باب الدعاء للميت في صلاة الجنازة (اللهم اغفر لحينا وميتنا)
3 باب الإسراع بالجنائز
4 باب فضل اتباع الجنازة
كتاب الجنائز [9]
إن حق أخوة الإسلام بين المسلمين قائم في حياتهم، وبعد مماتهم، ومن
حقوقهم بعد الموت شهود جنائزهم، والصلاة عليهم والدعاء لهم، وفيما يلي
بيان لهذه المسألة، وما يجده القائم بحقوق إخوانه من الأجر في ذلك
باب الدعاء للميت في صلاة الجنازة (إخلاص الدعاء للميت)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ) رواه أبو داود وصححه ابن حبان . هذا حق الميت على من يصلي عليه، أن يخلص له
الدعاء ولو كان خصماً له؛ لأنه قد أفضى إلى ما قدم، وأنت وقفت مع
المصلين، فيجب أن يكون باطنك مطابقاً لظاهرك، وقفت تصلي مع المصلين
فيجب أن تخلص الدعاء له، فتؤجر على إخلاصك الدعاء له، وإذا كان
بينك وبينه شيء آخر، فهناك في القيامة تتحاسبون. (من صلى على ميت
فليخلص الدعاء له ) لأنه تقدم لنا فيمن صلوا عليه من المؤمنين
أو من أهل الخير، أو.. إلخ فشفعوا فيه شفعهم الله، فلا يشفعون إلا
إذا أخلصوا الدعاء، والصلاة على الجنازة عبادة، والعبادة يجب فيها
الإخلاص، ومن ضمن الإخلاص أن تخلص في الدعاء للميت. فمن الذي تسول
له نفسه أن يرى أخاه مسجى أمامه، ويعلم بأنه سيلحقه على هذا
الطريق، ووارد ذلك الحوض، ثم هو يصلي عليه غير مخلص، بأي ميزان؟
هذا لا يعقل أبداً إلا إذا كان خارجاً عن تصورات العقل.
باب الدعاء للميت في صلاة الجنازة (اللهم اغفر لحينا وميتنا)
.
مشروعية الدعاء لعامة المسلمين في صلاة الجنازة
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة يقول: اللهم اغفر لحينا
وميتنا... الحديث ) يلاحظ أن الدعاء الأول مخصص بمطالب معينة،(2/257)
و(له) قد يكون ضميراً لشخص معين يعرفه المصلي، ونحن عشرات المرات
ومئات المرات نقول: الصلاة على الرجل.. الصلاة على المرأة، ولا
نعرف من هو الرجل ولا من هي المرأة، فإذا كان معروفاً تسميه
وبضميرٍ راجع إليه، وإذا لم يكن معروفاً لديك فهذا هو الدعاء، أي
يكفي أن تقول: اللهم اغفر لحينا ومتينا، وشاهدنا وغائبنا، وذكرنا
وأنثانا..إلخ. ومعنى شاهدنا: الحاضر، وغائبنا: الذي مات وهو غائب
عنا، وفي بعض الروايات: (حاضرنا وغائبنا { وصغيرنا وكبيرنا )
صغيرنا: الطفل الذي يصلى عليه، وكبيرنا: إلى آخر ما يكون من العمر.
(وذكرنا وأنثانا ) إذا صليت على الجنازة ولا تعرف هل هو رجل أم
امرأة فهذا الدعاء يجزئ، وبالجملة ليس هناك توقيت في لفظ معين في
الدعاء عند الصلاة على الجنازة، فإن حفظت ما جاء عن النبي صلى الله
عليه وسلم (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله،
ووسع مدخله.. ) إلخ فالحمد لله هذا مأثور عن النبي صلى الله
عليه وسلم، وهو أشمل وأبرك. فإذا لم تكن تحفظ هذا، فأي دعاءٍ تدعو
به فإنه يصح، إذا كان يتضمن طلب المغفرة والرحمة بإخلاص، كما تقدم
قول النبي صلى الله عليه وسلم (شفعوا فيه إلا شفعهم الله ) فإن
كنت تعلم الشخص الميت، وتنويه بالضمير (له.. لها) فبها ونعمت، وإلا
فتأتي بالعموم: (حينا وميتنا، وذكرنا وأنثانا، وصغيرنا وكبيرنا)،
وبالمجموع: (ذكرنا أو أنثانا) ويكون على سبيل الإجمال فلا مانع.
(اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على
الإيمان ) لاحظ هذين اللفظين: (من أحييته منا فأحيه على
الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان) هل هما متغايران أم
شيء واحد؟ يقول علماء العقائد: الإسلام والإيمان إن افترقا اتحدا،
وإن اتحدا افترقا، فهنا ذكرا معاً، فتكون للمغايرة، يدعو للحي أن
يحيا على الإسلام؛ لأن الإسلام عملي ظاهري، وأركان الإسلام كلها(2/258)
ظاهرة، وإذا قام بأركان الإسلام كان مسلماً وأدى واجبه أمام
المسلمين. أما (توفه على الإيمان) فهو العقيدة: (من مات لا يشرك
بالله شيئا دخل الجنة ) لأن الخلاص من الشرك ليس إسلاماً بل
إيماناً، أعني أنه من عمل القلب ويتعلق بالعقيدة، وليس من عمل
الجوارح، فالإيمان يقين، والعمل تابع للإيمان، وهو يزيد وينقص
بالعمل. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم فرق ودعا للحي أن يحيا
على الإسلام، سامعاً مطيعاً مستسلماً لأوامر لله، ودعا للميت أن
يميته الله على الإيمان. (اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده )
رواه مسلم والأربعة. هذا هو الدعاء للمصلي بعد التكبيرة
الأخيرة، أي: اللهم لا تحرمنا أجره في صلاتنا ودعائنا له، ولا
تفتنا بعده، فهو قد خرج من الدنيا معافى، فلا تفتنا بفتنة تفتننا
عن ديننا بعده، هذا هو مجمل الأدعية التي تكون في صلاة الجنازة: في
التكبيرة الأولى: الفاتحة. في الثانية: الصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم. في الثالثة: الدعاء للميت بما تيسر لك. وفي الرابعة:
لنفسك. ثم يكون السلام.
باب الإسراع بالجنائز
.
مشروعية الإسراع بالجنازة
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله
عليه وسلم (أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن
تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ) متفق عليه. والإسراع هنا
يحتمل أمرين: سرعة التجهيز، فإذا كان هناك كفن عادي، فلا حاجة إلى
أن نؤخره، إلى أن نحضر كفناً فاخراً، وإذا وجد من المسلمين من يؤدي
الصلاة فلا حاجة إلى أن نؤخر إلى كثرة العدد، إلا أن يكون للميت من
ذوي أقاربه -كأبنائه، وإخوانه، ووالديه- من يريد أن يقدم وكان
غائباً ليراه ويشيعه، فلا مانع ما لم يتضرر الميت بالتأخير، أي:
يشرع الانتظار بالجنازة لحين قدوم الغائب من ذويه وذوي رحمه ما لم
يكن الوقت صيفاً كما هو الحال في الجزيرة ، أو يتوقع حصول ضرر على(2/259)
الجنازة، بأن تكون قد توفيت من أول الليل مثلاً، فإنه ينتظر به إلى
الصباح، على ما سيأتي في باب النهي عن الدفن ليلاً، لما قد يقع فيه
من تقصير. وهنا مسألة التقسيم الذي يقوله الأصوليون، يقول صلى الله
عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة ) كلمة (أسرعوا) تحتمل كما أسلفنا:
سرعة تجهيزه، ويحتمل الإسراع في المشي به عند حمله، ولكن المعنى
الثاني أرجح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (تقدمونها إليه ) هذه
مشتركة، وقوله (شرٌ تضعونه عن رقابكم ) والشر الذي نضعه عن
الرقاب هو ساعة الحمل حينما نحمله. إذاً: السنة في تشييع الجنائز
الإسراع بها، وكما يقولون: إكرام الميت دفنه وستره، كما أنهم
يقولون أيضاً: إذا مات نهاراً لا ينبغي أن يبيتوه؛ لأن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى أن يبيت الميت وسط أهله؛ لأنهم يستوحشونه، أو
كان ميتهم أخاهم أو أباهم أو ولدهم فإنهم يستأنسون بحضوره
ويؤانسهم، ولكن بعد الموت ترى طفله الصغير يخاف أن يدخل عنده، ترى
الشخص الكبير قد يخاف أن يدخل عليه، فما ينبغي أن يبيت الميت إلا
لحاجة أو لضرورة. ثم بيَّن صلى الله عليه وسلم حال الميت، إما أن
يكون صالحاً، فإنه يحب أن يتقدم للصالح، وإما أن يكون عكس ذلك، فلا
ينبغي أن نحمل على رقابنا غير الصالح، فلنضعه لنستريح منه. وكونه
صالحاً (خير تقدمونها إليه) مثل أن يوجد إنسان يريد أن يتزوج، وفي
ليلة زفافه نقول له: هيا نذهب معك فسحة، أو نقول له: تفضل أنت
ضيفنا الليلة، فالعريس عنده ما هو أهم من هذا كله، وكذلك الميت
الصالح: (فخير تقدمونها إليه)؛ لأنه أحب ما يكون إليه أن خرج من
ضيق الدنيا ونكدها وأثقالها، إلى فسيح الجنة ونعيمها. وجاء عن ابن
عباس رضي الله عنهما في قصة وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم،
أن العباس كان يعرف حالة بني هاشم عند الوفاة، فلما ثقل المرض(2/260)
برسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع من بني هاشم العباس وعلي رضي الله تعالى عنهما، ودخل العباس على رسول الله فوجده في
الصحوة التي صحاها يوم أن توفي، فإنه صحا بعد صلاة الصبح فقال أبو
بكر قال: (أراك اليوم بريئاً يا رسول الله! ائذن لي إلى بيت
زيد بن فلان) وذهب إلى العالية، فدخل عليه العباس وعلي فخرجوا، فقال العباس لعلي : يا علي ! ارجع فسله فيمن
يكون هذا الأمر بعدك، والله إن لم تؤته لتساقن سوق العبد بالعصا،
قال: والله لن أسأله؛ لأنه إن منعنا إياها لن نعطاها أبداً، ثم قال
العباس : إني أعرف الموت في وجوه بني هاشم فجلسوا عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لهم: (ائتوني بقسط وكتاب أكتب لكم،
ثم تلاحوا، فقال: قوموا عني فإن ما أنا فيه خيرٌ منكم ) وهذا
محل الشاهد، وفي آخر الأمر كشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
وأصبح ما له حاجة فيهم، ثم أوصاهم: (أوصيكم بكتاب الله وبالصلاة )
أوصاهم شفوياً، ولم يكتب لهم شيئاً. الذي يهمنا قوله: (قوموا عني،
فإن ما أنا فيه خيرٌ لي منكم ) وهكذا الميت إذا كان في اللحظات
الأخيرة، وأمسك اللسان عن النطق، فإنه يرى مصيره، فإن رأى خيراً
تجد على وجهه البشاشة والطلاقة، وصباحة الوجه، كأنه إنسان نائم
يحتلم في فرح شديد جداً، فيظهر على قسمات وجهه، وكذلك الميت عند
الاحتضار، حينما يمسك اللسان يكشف عن مستقبله، وعن حقيقة أمره،
فيظهر عليه آثار ما يرى بعينه، إن كان خيراً ظهر عليه فرح وسرور
وطلاقة وجه، وإن كان عكس ذلك -عياذاً بالله- ترى وجهاً عبوساً
واكفهراراً في الوجه..إلى آخره على ما في الحديث: (من أحب لقاء
الله، أحب الله لقاءه.. ) وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
الميت بين أحد أمرين لا ثالث لهما: فإن يكن صالحاً فخير تقدمونه
إليه، فلا تؤخروه، وإن كان غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم. وليس
معنى الإسراع أن نجري به، فقد جاء عن بعض السلف: أنهم مروا بجنازة(2/261)
على رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنها شنة، أي وعاء فيه ماء
قليل، أو القربة اليابسة الصغيرة فيها قليل من الماء يتراكض له
صوت، فكأن الجنازة بإسراعهم شنة فيها قليل من الماء، فقال صلى الله
عليه وسلم (ارفقوا بالميت ) إذاً: ليس بالإسراع الذي يؤذي الميت
لو كان حياً على هذه الخشبة، وأمرنا أن ننقله إلى مكانه بسرعة،
فكيفية الإسراع: ألا نسرع كالجري، ولا نتباطأ ونتكاسل ونتمهل في
المشي، وعلى هذا يكون الإسراع بينَ بين، ليس هو بالتواني البطيء،
وليس هو بالهرولة، ولا بشدة الركض، إنما يكون متوسطاً. الشيء
الثاني: لو أن الذين يحملون الجنازة أقوياء وأسرعوا، فذلك يشق على
المشيعين؛ لأن فيهم الكبير، وفيهم المريض، وفيهم العاجز، وفيهم..،
فيريد أن يتابع الجنازة في تشييعها. إذاً: (أسرعوا بالجنازة)
الإسراع هنا في حدود المعقول، ليس هو بالإسراع المخل بالمروءة،
والذي يؤذي الميت، وليس هو بالبطيء المتواني المتكاسل، والله تعالى
أعلم. فائدة أخرى: الحديث يعطي إشارة إلى معنى، وهو أنه منذ أن
يوضع في القبر سيجد خيراً أو شراً، ويمكن لإنسان أن يضيف هذا
الحديث إلى أدلة إثبات نعيم القبر وعذابه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم
يقول (إن تك صالحة فخيرٌ تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه
عن رقابكم ) إذاً: الشر موجود والخير موجود، وهذا الحديث يشير
بدلالة الإيماء والتنبيه على وجود نعيم القبر وعذابه.
باب فضل اتباع الجنازة
وعنه رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد
الجنازة حتى يصلى عليها؛ فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن؛ فله
قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين ) متفق
عليه، ولمسلم : (حتى توضع في اللحد ) . مراحل تجهيز
الجنازة ثلاث: الأولى: تجهيزها في مكانها بالغسل والحنوط والكفن.
المرحلة الثانية: الصلاة عليها، وتكون الصلاة إما في بيته في محله،(2/262)
أو ينقل إلى المسجد أو إلى المقبرة؛ فيصلى عليه إما في بيته أو في
المسجد أو في المقبرة، والصلاة في المسجد قد تقدم الكلام عليها،
والصلاة في المقبرة يشترط لها ألا يكون أمام المصلين قبور، حتى لا
يستقبلون القبور بالصلاة، وبعض العلماء قال: لا مانع حتى لو كانت
القبور أمامهم.
المواطن التي نهى النبي عن الصلاة فيها
نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المزبلة، والمقبرة، والمجزرة،
وفوق ظهر الحمام، وفوق ظهر بيت الله الحرام، وقارعة الطريق، ومعاطن
الإبل. هذه سبعة مواطن نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها،
وليست كلها للنجاسة كما يظن البعض، بل كل واحدة لها علتها، والنهي
عنها في المقابر ليس للنجاسة كما يذكر ذلك بعض المؤلفين في فقه
المذاهب كالحنابلة، يقولون: لأن التربة تنبش فتختلط بالنجاسة التي
هي بقايا الجسم، لكن يقال: لقد حصلت الاستحالة، والاستحالة تُذهِب
النجاسة، والتحقيق أن في النهي عن الصلاة في المقبرة حفاظاً على
العقيدة. وقال بعض الناس: لا يصلى على الجنازة في المقبرة للنهي عن
ذلك عموماً، وقال البعض: تجوز الصلاة على الجنازة في المقبرة، لأن
الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على قبر المرأة، قالوا: ولأن صلاة
الجنازة ليس فيها سجود، بخلاف ما إذا صلينا الصلوات المعهودة،
فإننا نحتاج أن نركع فيها ونسجد عند جدار القبر، فكأن المصلي يعبد
القبر، قالوا: فصلاة الجنائز ولو صليت عند المقابر ليس محظور؛
لأنها ليس فيها سجود، لكن الأولى الحفاظ على عموم النهي، وسلامة
العقائد؛ فيكون موضع الصلاة على الجنائز أمام المقبرة بحيث تكون
المقبرة خلف المصلين، أو عن يمينهم، أو عن يسارهم، وإذا لم يوجد
مكان للصلاة على الجنائز عند المقابر إلا أن تكون المقابر أمامهم،
فيرفع جدار صغير بين المصلى والقبور.
مراتب أجر اتباع الجنازة
فالرسول صلى الله عليه وسلم جعل الأجر على مرتبتين؛ لأن تجهيزه(2/263)
يقوم به أهله، ثم يبقى تشييعه وحمله ودفنه، فمن حضر الجنازة حتى
يصلى عليها، سواءٌ في المسجد أو عند المقبرة، فهذه مرحلة أولى.
والمرتبة الثانية: أن ينتظر عند القبر حتى يفرغ من دفنها، وإذا
استطاع أن يشارك في الدفن ولو بحفنة تراب فهو أفضل، كما جاء عنه
صلى الله عليه وسلم أنه حضر جنازة، وانتظر حتى انتهوا من الدفن،
وجمع التراب عليه، فأخذ قبضة من التراب ووضعها على القبر، كأنه
شارك في الدفن. ومكان القبر قد لا يسع كل المشيعين ليشاركوا، وكثير
من الناس يحبون المشاركة، فينبغي الرفق. والمرتبة الثالثة: أن
ينتظر المرء إلى الفراغ من الدفن. إذاً: المرحلة الأولى خاصة
بأهله، والمرحلتان الباقيتان في تشييعه حتى الصلاة، وفي تشييعه حتى
الدفن، فمن حضر المرحلة الثانية، وهي تشييعه إلى أن يصلى عليه، ثم
يتركه بعد ذلك ؛ سواءً تركه لعجزٍ فيه، أو لاشتغال بأمر أهم، أو
نحو ذلك، فله قيراط من الأجر، فإذا واصل حتى دفنت فله قيراطان.
بيان معنى القيراط
الواقع أن القيراط اصطلاح وزن، واصطلاح نسبة، تقول مثلاً: هذا
البيت أربعة وعشرون قيراطاً، الزوجة لها الثمن أي لها ثلاثة
قراريط، فهي نسبة حسابية. والأربعة والعشرون قيراطاً تأتي في
الذهب، وتأتي في الفضة، وفي غيرها؛ لأن الأربعة والعشرين عددٌ يمكن
أن تؤخذ منه جميع الكسور الموجودة في فروض الميراث (نصف، ربع،
ثلثين، ثلث، ثمن، سدس)، ولهذا اصطلحوا عليها، وكذلك الذهب، عند
كونه خالصاً يكون أربعة وعشرين قيراطاً، وعند كونه مضافاً إليه من
النحاس أو معدن آخر يقال: فيه قيراط أو قيراطان من النحاس، فإذا
قيل: ذهب عيار أربعة وعشرين، فمعناه أنه: خالص، مع أنه ليس هناك
ذهب خالص أبداً؛ لأن الذهب وحده لا يصلح للتصنيع إلا قدر اثنين
وعشرين قيراطاً، ولابد أن يكون فيه شيء من النحاس حتى يشده؛ لأنه
لين. فإذا قيل: عيار واحد وعشرين، فيبقى فيه ثلاثة قراريط، أي أن:(2/264)
الثمن من معدن آخر، وإذا قيل: عيار عشرين فمعناه أن فيه السدس من
معدن آخر ... وهكذا. وجاء القيراط في الأجور، ففي الحديث (من اقتنى
كلباً ليس بكلب صيد ولا حراسة، نقص من أجره كل يوم قيراط ) فلا
ندري ما القيراط هنا، لكن لو جعلناه من مجموع عمله، فمعناه أنه إذا
كان في اليوم ألف حسنة فإنه يسقط منها واحد من أربعة وعشرين، والله
تعالى أعلم. في هذا الحديث بيَّن لنا صلى الله عليه وسلم وزن هذا
القيراط، فليس هو بالجرام، لكن قالوا: (وما القيراطان؟ قال:
كالجبلين العظيمين ) والجبال تختلف: فهل هي جبال الألب أم جبال
الحبشة أم جبال الجزيرة، فإنها تختلف، فعين ذلك صلى الله عليه وسلم
بأنه كجبل أحد، ويمكننا أن نشاهده، وهذا من فضيلة الدراسة في
المدينة المنورة: أن ترى الشيء بعينك، ولا تحتاج أن يصفه لك جغرافي
أو جيولوجي، بل تذهب وتشاهده بعينك. وكذلك في بئر بضاعة، كان يتوضأ
من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها بكذا وكذا، أبو داود عندما
جاء إلى المدينة قال: قد ذرعته سبعة أذرع، أما نحن فلا نحتاج أن
تذرعه لنا سبعة ولا ثمانية، فبئر بضاعة قريب منا، يمكن أن نشاهده
بأعيننا ونعرف ما هو، وكان موجوداً إلى عهد قريب في مكانه وكان
الماء فيه إلى أن وضع عليه البستان... إذاً: هذا من فضائل دراسة
السنة النبوية في المدينة، وعلى سبيل المثال أذكر أنا كنا ندرس
الحديث على الشيخ عبد الرحمن لفيق غفر الله له، وحصل لي ظرف
سفر ورجعت، فسبقوني ببعض الأحاديث؛ فجئت إليه في بيته أتلقاها عنه،
وكان بيته يطل على بئر بضاعة، فعندما نقرأ عن بئر بضاعة أنها بئر
بجانب المدينة، قال: أغلق الكتاب، وانظر إلى البئر من النافذة.
فدراسة الحديث في المدينة المنورة لها ميزتها، ولذا يقول صلى الله
عليه وسلم (من راح إلى مسجدي لعلمٍ يُعلِّمه أو يتعلمه، كان كمن
غزا في سبيل الله ) بل زيادة على ذلك حصول البركة التي يلمسها(2/265)
طالب العلم، فيحصِّل الكثير في الزمن القليل، ويكون أثبت عنده مما
لو درسه في غيره. ثم كلمة القراريط جاءت في مواطن لا ندري ما
معناها، وجاءت هنا مبينة، فهل هذا البيان بجبل أحد هو بيان لجميع
القراريط في جميع الأعمال أم خاص بقيراط الجنائز؟ الله تعالى أعلم.
تشييع الجنازة من حق المسلم على المسلم
تشييع الجنازة حق للميت على المسلم، فتؤدي الحق الذي عليك وتأخذ
قيراطاً مثل أحد! هذا والله فضل عظيم. جاء في الحديث الصحيح: (حق
المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه.. ) أي: بلفظ:
السلام عليكم، ومن آداب السلام: أن يسلم الصغير على الكبير،
والراكب على الماشي، والماشي على الجالس. فإذا لم يسلم من عليه
الابتداء بالسلام، فمن حق الثاني أن يقول له: أعطني حقي! لأن عدم
السلام يدل على أن في النفس شيئاً، وقد جاء عن عمر رضي الله
تعالى عنه: أنه مر بعثمان وهو جالس فسلم عليه، فلم يرد عثمان عليه السلام، فذهب إلى أبي بكر واشتكى، ولما تأيمت حفصة بنت
عمر رضي الله تعالى عنها، كان عمر قد عرضها على عثمان ، فقال عثمان : ليس عندي نية الزواج الآن، وكان الأفضل أن
يقول: جزاك الله خيراً، دعني أفكر في الموضوع، لكن رد ذلك العرض،
فكانت هناك سابقة في النفس قليلة. ثم عرضها على أبي بكر فلم
يرد عليه بخير ولا بشر، فجاء واشتكاهما إلى رسول الله، فالرسول صلى
الله عليه وسلم طيب خاطره وقال (يتزوج حفصة من هو خيرٌ من
عثمان ، ويتزوج عثمان من هي خيرٌ من حفصة ) فقدر
الله أن تزوجت حفصة خيراً من عثمان وهو رسول الله، وتزوج
عثمان خيراً من حفصة ، وهي بنت رسول الله الثانية. الشاهد
أن عمر سلم على عثمان فلم يرد عليه السلام، فذهب واشتكاه
إلى أبي بكر ، ولو لم يكن له حق في هذا السلام لما اشتكاه؛(2/266)
لكنه حق الأخوة. وتمام القصة: أنه ما وصل عمر إلى أبي بكر إلا وعثمان وراءه يقول: السلام عليكم، فقال أبو بكر لعثمان : وماذا وراءك يا عثمان ؟! أخوك عمر يسلم عليك
فلم ترد عليه السلام، قال: والله ما سمعته ولا شعرت به! فقال أبو
بكر : فيم كنت تفكر؟ قال: أمور لو أننا سألنا رسول الله عنها،
وذكر غيرها، فقال أبو بكر والله لقد كنت أفكر فيها قبلك. نعود
إلى الحديث (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم، إذا استنصحك
فانصح له، إذا دعاك فأجبه، إذا عطس فحمد الله فشمته، إذا مرض فعده،
وإذا مات فاتبعه ) فهذه حقوق للمسلم على المسلم من أول ما
يلاقيه إلى أن يدفنه، وهي حقوق إسلامية عامة، بخلاف حقوق الجوار،
وبر الوالدين، وقضاء الدين الذي عليه، فهذه حقوق خاصة، ليس سببها
مجرد أخوة الإسلام. فهذه الحقوق التي لمطلق أخوة الإسلام، منها أن
المسلم إذا مات، فله حقٌ على إخوانه المسلمين أن يشيعوه، ومع هذا
فللمشيع إذا قام بهذا الحق قيراطان. (قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل
الجبلين العظيمين ) متفق عليه، ولمسلم : (حتى توضع في
اللحد ) فإذا شُقَّ له شقاً، فالحكم كذلك؛ لانتفاء الفارق بين
اللحد والشق، لأن المعنى: حتى يوضع في مكانه الأخير. وللبخاري أيضاً من حديث أبي هريرة : (من تبع جنازة مسلم إيماناً
واحتساباً، وكان معها حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها؛ فإنه يرجع
بقيراطين، كل قيراط مثل جبل أحد ) . هذا الحديث الثاني بيَّن
المجمل في الحديث الأول، حيث أطلق القيراطان عن تحديدها؛ فجاء
المؤلف -لفقهه- بالحديث الثاني، وبيَّن لنا الإجمال الموجود في
الحديث السابق، بأن الجبلين العظيمين كل منهما كجبل أحد، وهذا مثال
على بيان المجمل.
134599 ( كتاب الجنائز [10] )
( كتاب الجنائز [10] )
عناصر الموضوع
1 الحثو على القبر ثلاث حثيات
2 باب الاستغفار للميت بعد دفنه
3 التلقين بعد الدفن
4 باب حكم زيارة القبور(2/267)
5 باب النهي عن النوح (النهي عن النياحة)
6 باب كراهية الدفن ليلاً
كتاب الجنائز [11]
ن الحرص على اتباع جنائز المسلمين وحضور دفنهم لهو مما رتب عليه الشارع
أعظم الأجر والمثوبة، فمن حضر دفن أحد المسلمين فيشرع في حقه أمور
منها: أن يهيل التراب على الميت ولو بثلاث حثيات، ثم يدعو للميت بعد
دفنه ويستغفر له، كما يشرع في حق المسلمين عامة موالاة زيارة مقابر
المسلمين للدعاء لهم وأخذ العبرة والاتعاظ من حالهم الذي هم فيه
الحثو على القبر ثلاث حثيات
وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم
صلى على عثمان بن مظعون ، وأتى القبر فحثا عليه ثلاث حثيات، وهو
قائم ) رواه الدارقطني . هذا ما أشرنا إليه سابقاً من
المشاركة في الدفن، من أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى على عثمان
بن مظعون ، وأتى القبر ثم حثا عليه ثلاث حثيات، والحثية:
الغرفة بالكف، ولكن هنا بيديه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم شارك في
الدفن بأن أخذ ثلاث حثيات من تراب القبر ووضعها عليه، كأنه شارك
فيمن يهيل التراب عليه بالمسحاة ونحوها. ولكن هنا لفتة في التثليث،
يقولون: لما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: مِنْهَا
خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ
تَارَةً أُخْرَى [طه:55]؛
فيقول النووي : في كل حثوة يحثوها يقول كلمة من الثلاث:
الأولى: منها خلقناكم. الثانية: وفيها نعيدكم. الثالثة: ومنها
نخرجكم تارة أخرى. وهكذا الإنسان إن استطاع أن يشارك في إهالة
التراب، أو كان العدد قليلاً فيتراوحون فيما بينهم ويساعد في ذلك،
وإذا كان العدد كثيراً، وأراد أن يشارك، فقد جاء أن في كل ذرة منها
حسنة، فكم في الحثية هذه من ذرة رمل أو غير ذلك، فله أجر في هذه
المشاركة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الاستغفار للميت بعد دفنه
وعن عثمان رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه(2/268)
وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا
له التثبيت، فإنه الآن يسأل ) رواه أبو داود وصححه الحاكم . في هذا الحديث يبين لنا المؤلف رحمه الله حقَّ الميت علينا من
الاستغفار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك؛ لأن كلمة
(كان) تدل على التكرار والكثرة، لم يقل: (وقف) بل قال: (كان). فإذا
فرغ الناس من دفن الميت، وأهالوا عليه التراب، ولم يبق إلا أن
ينصرفوا؛ وقف وقال للحاضرين: (استغفروا لأخيكم). وهذا من أدلة
انتفاع الميت بعمل الحي؛ لأن استغفارهم هو طلب المغفرة من الله
للميت، وليس للميت في ذلك عمل، ثم يقول صلى الله عليه وسلم، مع طلب
المغفرة له (سلوا الله له التثبت ) يُثَبِّتُ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]
وهذه في الآخرة. فهنا: (واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل )
وهذا من أقوى أدلة وجود عذاب القبر ونعيمه، وسؤاله، وقد جاء تفصيل
هذه المسألة في حديث، وأنه إذا انصرف الناس عن ميتهم أتاه ملكان،
وذكر من صورتهما الشيء الكثير، يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير،
فيجلسانه فيسألانه: من ربك؟ ما دينك؟ من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟
فالمؤمن يلهمه الله سبحانه وتعالى الجواب، فلا يفزع منهم، ويجيب
على ما كان عليه، فإذا قالوا: من ربك؟ يقول: ربي الله رب السماوات
والأرض، ما دينك؟ يقول: ديني الإسلام، ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟
فيقول: هذا محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فيقولان: نم نومة العروس، ويرى منزله من الجنة ومن رياضها،
ونعيمها، ويفسح له في قبره، ثم يفتح له بابٌ أو نافذة على النار،
ويقال له: كان هذا مصيرك، لو لم تكن مؤمناً. أما غير المؤمن -نسأل
الله السلامة والعافية- فإذا سئل من ربك؟ يقول: هاه .. هاه لا
أدري! فيقول الملكان: لا دريت ولا تليت. ما دينك؟ فيقول: هاه ..(2/269)
هاه لا أدري! يقولان: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب ويعذب، نسأل الله
السلامة والعافية، ونسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة
الدنيا وفي الآخرة. وهذا الحديث يستدل به بعض العلماء على ما ينبغي
أن يقال ويذكَّر به الميت، وبعضهم يذكر صيغاً لذلك كما ذكرها
النووي في المجموع وذكرها ابن قدامة في المغني، وذكرها
غيرهما، منها: يا عبد الله، فإنه يسمع: يا فلان بن فلان فإنه يجلس،
أو إلى الثالثة يجلس، فيقول له: تذكر ما فارقتنا عليه من شهادة أن
لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعلى دين الإسلام، وملة
محمد صلى الله عليه وسلم...إلخ، ويذكرون ألفاظاً يذكرون بها الميت،
وجواب الملكين، حينما يسألانه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر
بأن موضوع السؤال: من ربك؟ ما دينك؟ ما نبيك؟ فهذه الثلاثة الأصول
التي يسأل عنها الإنسان أول ما يسأل في قبره. والله تعالى أعلم.
التلقين بعد الدفن
وعن ضمرة بن حبيب رضي الله عنه أحد التابعين قال: [كانوا
يستحبون إذا سوي على الميت قبره وانصرف الناس عنه، أن يقال عند
قبره: يا فلان! قل لا إله إلا الله.. ثلاث مرات، يا فلان! قل ربي
الله وديني الإسلام ونبيي محمد] رواه سعيد بن منصور موقوفاً.
بعض العلماء يجعل هذا الحديث من باب تلقين الميت بهذه الأصول
الثلاثة، وبعضهم يجعله من باب التذكير فقط والتلقين، وربما زاد
عليه بعض الألفاظ، وأعتقد أن هذه المسألة بطولها قد تعرضنا لها،
وجئنا فيها بأقوال الإمام ابن تيمية رحمه الله، وذكر الأثر
الوارد عن أبي أمامة ، وما كان يفعله السلف من تلقين الميت بعد
موته عند القبر كما في حديث: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله )
مما يغني عن إعادته هنا، والجمهور على تلقين الميت هذه الألفاظ،
وقد يضاف إليها غيرها، والله تعالى أعلم. وللطبراني نحوه من
حديث أبي أمامة مرفوعاً مطولاً.
باب حكم زيارة القبور
وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال (قال رسول(2/270)
الله صلى الله عليه وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها )
رواه مسلم ، زاد الترمذي : (فإنها تذكر الآخرة ) هذه
المسألة طويلة الذيل كما يقال، وهي قديمة تتجدد، ويكثر النزاع فيها
من آونة لأخرى، ألا وهي زيارة النسوة للقبور، فهل يجوز ذلك أم لا؟
ونجد في هذه المسألة فريقين، يقول: لا تزور، وفريقاً يقول: بل
تزور، فهي دائرة بين الجواز والمنع. وإذا زارت هل تكون الزيارة
مكروهة أم محرمة؟ فمنهم من يقول بالكراهية، ومنهم من يقول
بالتحريم، وأصل هذه المسألة كما سمعنا الإشارة إليها: (كنت نهيتكم )
كانت زيارة القبور ممنوعة على الرجال والنساء سواء، وما كان لأحد
حق أن يزور قبراً. قال المجيزون: كان ذلك في أول الأمر، إبعاداً عن
الإمعان في تعظيم الموتى؛ لأن تعظيم الموتى كان هو الخطوة الأولى
للمسيرة الطويلة في عبادة الأصنام، في مثل قضية يغوث ويعوق ونسر،
وكانوا رجالاً صالحين. كما هو معلوم في قصة هؤلاء الرجال في زمن
نوح عليه السلام.
أدلة القائلين بالمنع من زيارة النساء للقبور
نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين عن زيارة القبور سداً
للذريعة، من أن يقعوا في تعظيم الأموات، فيطول الزمن، فيئول الأمر
إلى عبادتهم. فلما استقرت العقيدة عند المسلمين، وكان في زيارة
القبور مصلحة، جاء الإذن، ولكن لمن كان ذلك الإذن؟ هنا وقع الخلاف
فقوله: (ألا فزوروها)الخطاب هنا لواو الجماعة الذكور، فهل يدخل
النسوة تبعاً للذكور في: (زوروها)، ويكون الإذن عاماً للطرفين، أم
أن الإذن هنا خاصٌ بواو الجماعة وبقي النسوة على المنع الأول؟
فقومٌ قالوا: إن الإذن هنا لواو الجماعة، ونون النسوة لم تأت،
واستدلوا لقولهم هذا بحديث آخر، وهو: (لعن الله زوّارات القبور )
وهذا الحديث جاء بلفظين، لفظ صيغة المبالغة: زوارات، ولفظ اسم
الفاعل: زائرات. فزائرات تدل على وجود الزيارة، ولا تدل على
الكثرة؛ لكن (زوارات) تدل على كثرة التردد للزيارة، فالمانعون(2/271)
قالوا: الإذن جاء للرجال دون النساء، والوعيد جاء للنسوة في
الزيارة.
أدلة القائلين بجواز زيارة النساء للقبور
وقال المجيزون: أما واو الجماعة، فإن القاعدة في اللغة العربية
تقول: إنه إذا وجدت مائة امرأة ورجلٌ واحد فإنه يخاطب المائة
والواحد بواو الجماعة للمذكر، ويدخلن النسوة معه تبعاً، وأيضاً
قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) فإن الواو هنا واو الجماعة، فيدخلن
النسوة قطعاً في إقامة الصلاة. ومثل ذلك مثل قوله تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ [البقرة:183]
فقوله: (آمنوا) دخلت مع واو الجماعة نون النسوة في الصيام، قالوا:
فلا دليل للمانعين في ذلك. ثم إن حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة
القبور فزوروها ) جاء فيه التعليل للإذن بالزيارة في قوله:
(فإنها -أي: الزيارة للموتى- تذكر الآخرة، وتزهد في الدنيا، أو
تذكر بالموت ) إذاً: الإذن بالزيارة معللٌ بعلة، وهي أن يتذكر
الزائر الموت، ويزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، وليست تلك العلة
خاصة بالرجال، بل إن النسوة أيضاً في حاجة إليها، والحكم إذا كان
معللاً بعلة، فإنه يدور معها وجوداً وعدماً، والعلة موجودة في
النساء، بل إن المرأة أحوج إلى هذا التذكير. أما قوله صلى الله
عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور ) فنقول: نعم، الحديث جاء
بصيغة المبالغة؛ لأن المرأة تكثر الزيارة، فيكون هناك بعض
المحظورات؛ لأنها قد لا تتحفظ في الذهاب، ولا تؤدي واجب بيتها، وقد
تهمل البيت بكثرة الخروج، وقد تتكلم بكلام لا يرضي الله. وجاء في
الحديث السابق: (ألا فزوروها، ولا تقولوا هجراً ) يعني: إذا زرت
المقابر فلا تقل: يا حبيبي، يا سندي، ونحو ذلك. فيكون النهي
لزوارات القبور لعدم صبرهن عند المجيء إلى القبر، وتكلمهن بأشياء
لا ترضي الله عز وجل. وجاء أيضاً في حديث آخر: (مر النبي صلى الله
عليه وسلم بالمقبرة، فوجد امرأةً تبكي عند قبرٍ، فقال: يا أمة(2/272)
الله! اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي،
فتركها وذهب، فأتيت فقيل لها: إنه رسول الله، فاعتراها ما يشبه
الموت، ثم أسرعت ولحقت به، تقول: فما وجدت على بابه بوابين، وقلت:
يا رسول الله! أتوب إلى الله وأصبر، قال: إنما الصبر عند الصدمة
الأولى ) قال المجيزون: كانت هذه المرأة في المقبرة عند القبر
تبكي، فلم يبدأ بنهيها، ولم يقل: أنت ملعونةٌ في زيارتكِ، ولم يقل
لها: أنت منهية عن الزيارة، ولكن أرشدها إلى ما هو الأفضل: (اتقي
الله واصبري ) فقد أقرها على زيارتها ومجيئها إلى القبر. قال
المانعون: وما يدرينا، لعلها ذهبت مع المشيعين وجلست هناك؟ وقد
أجاب المجيزون عن ذلك بحديث: (نُهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم
علينا ) وجاء حديث عن عائشة رضي الله عنها وفيه: (... ثم
انطلقتُ على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه
ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر
فأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال: مالكِ يا
عائش حشيا رابية؟ قالت: قلت: لا شيء، قال: لتخبرني أو ليخبرني
اللطيف الخبير، قالت: قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي. فأخبرته.
قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم. فلهدني في صدري لهدة
أوجعتني. ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قالت: مهما يكتم
الناس يعلمه الله؟ قال: نعم. فإن جبريل أتاني حين رأيتِ فناداني،
فأخفاه منك، فأجبته، فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت
ثيابك، وظننت أن قد رقدتِ، فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي،
فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم. قالت: قلت:
إذا زرت القبور فكيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: السلام على
أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا
والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ) فهنا أم المؤمنين(2/273)
تسأل: ماذا أقول إن أنا زرت؟ فلم يقل لها: لعن الله زوارات القبور
ولم يقل لها: أنتِ منهية عن زيارة القبور، بل أقرها على سؤالها،
وعلمها ماذا تقول إن هي زارت القبور، ولهذا يذكر النووي -وإن
كان مذهب الشافعي الكراهة- أن مذهب الجمهور الجواز بشرط الأمن
من محظورٍ شرعي: مثل أن تتكلم بكلمات لا ينبغي أن تتكلم بها، كأن
تقول: يا سندي .. يا حبيبي .. أو أنها تخرج من غير تحفظ بتزين أو
بغيره، أو تعطل مصالح بيتها من زوجها وأولادها .. إلى غير ذلك،
وكذلك حالة الإكثار. وعلى هذا استدل المانعون بما ذكرنا، واستدل
المجيزون بما ذكرنا، وكلٌ رد على الآخر في رأيه، والأخير ما ذكره
النووي : بأن الأكثر على جواز ذلك مع أمن المخالفة الشرعية، في
قولها، وفي صورة خروجها.
باب النهي عن النوح (النهي عن النياحة)
وعن أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (أخذ علينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ألا ننوح ) متفق عليه. هذا الخبر جزء من
حديث طويل، تقول أم عطية رضي الله تعالى عنها في أوله (لما قدم
النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، جمع النسوة في بيت،
ثم أرسل إليهن عمر رضي الله تعالى عنه؛ فأتاهن عمر فقال:
إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن، لقد بايعكن رسول
الله ) أي: فلا داعي لمجيئكن إليه. فالبيعة تكون من الرجال
بالمصافحة، أما النسوة فتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها: (ما صافح رسول الله امرأة قط ) حتى في البيعة لما بايع
النسوة في مكة، وقصة هند مشهورة، فقد كان عمر يتكلم عن
رسول الله للنسوة، ولم يصافح الرسول صلى الله عليه وسلم النسوة في
بيعة: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ
مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة:10]
إلى آخره. فهنا قال لهن عمر : (أنا رسول رسول الله إليكن، يقول
لكن رسول الله: قد بايعتكن ) أي: اقعدن في محلكن، ولا حاجة إلى(2/274)
أن تحضرن إلى رسول الله لتبايعنه، فأنا نيابة عنه أبلغكن بيعة رسول
الله إياكن على الإسلام. وأخذ العهد عليهن، بأن لا ينحن، وذكر
أشياء من صدق الحديث، وعدم السرقة، وألا يأتين ببهتان يفترينه ...
إلى آخره ما يقال في بيعة النساء. فهنا أم عطية تقول: وأن لا
ننوح، أي: على ميت، وكذلك: أن لا نتبع جنازة، وأشياء عديدة ذكرها
عمر رضي الله تعالى عنه. المهم عندنا قول أم عطية رضي الله
تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن العهد، أخذه
بواسطة عمر رضي الله تعالى عنه حينما أرسله إليهن بالبيعة،
وبأوامر بينها صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن لا ينحن على ميت.
باب النهي عن النوح (لعن النائحة والمستمعة)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال (لعن رسول الله
صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة ) أخرجه أبو داود .
النائحة: هي التي تنوح، أي: تبكي وتندب الميت، وجاء عنه صلى الله
عليه وسلم النهي عن النياحة على الميت، وعن شق الجيب، وعن لطم
الخد، وعن أشياء كثيرة كان العرب يصنعونها في الجاهلية، ولا زال
بعض الجهلة يفعلون ذلك، حتى كانت تذهب المرأة وتأتي بالطين وتجعله
على رأسها، وذلك زيادة في الاستساءة، والفزع بموت من مات من عزيز
عليها. وكل ذلك من عدم الرضا بالقضاء والقدر، وعدم التسليم لقضاء
الله سبحانه وتعالى، وفرق بعيد جداً بين هذا العمل، وبين فعل أم
سليم زوجة أبي طلحة رضي الله تعالى عنهما؛ حيث: (كان لأبي
طلحة ولد صغير، وكان عزيزاً عليه جداً؛ فمرض، فكان كلما أراد
الخروج ينظر إليه، وإذا جاء فأول ما يسأل عنه، فتوفي في غيبة أبي
طلحة ، فجاء أبو طلحة فسأل عن الولد، قالت: إنه اليوم أسكن
ما كان، وتركته مسجى، ثم قدمت له العشاء، ثم تهيأت له تهيؤ الزوجة
لزوجها؛ حتى جامعها. ثم بعد ذلك قالت له: يا أبا طلحة ! أرأيت
لو أن أحداً أودع أحداً وديعة، ثم جاء في وقت وطلبها منه، أكان(2/275)
يقدمها إليه أم يمتنع من رد الوديعة؟ قال: لا، بل إنه يرد الوديعة
لصاحبها، قالت: فإن الله قد استودعك الغلام، وقد أخذ وديعته، فقم
فواره؛ فغضب غضباً شديداً، وقال: تركتني حتى فعلت ما فعلت، ثم
أخبرتني بهذا. ثم لما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
واشتكى إليه ما فعلت المرأة، فقال: بارك الله لكما في ليلتكما )
فكانت ليلة مباركة، وحملت فكان حملاً مباركاً. فهذه امرأة ولدها
الصغير تعتريه الوفاة، ثم تتحمل وتستطيع أن تخفي آثار ذلك، لا تظهر
علاماته على قسمات وجهها، ولا فلتات لسانها، بل تعد الطعام للزوج،
ويتعشى، ثم تتهيأ في نفسها، وذلك لقوة الإيمان والقدرة على التحمل،
والتسليم لقضاء الله. ثم إذا بها تتلطف في إخبار الزوج بقضية
مسلّمة: (وديعة طلبها صاحبها)، ثم نقارن بينها وبين أولئك النسوة
اللاتي ينحن، ويلطمن الخد، ويشققن الجيب؛ فالفرق كبير جداً،
فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن النعي، وعن النياحة، وضرب الخد،
وشق الجيب، بل قال: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا
بدعوى الجاهلية ) والحديث الذي ذكره المؤلف يشمل النائحة
والمستمعة، أي: والمستمع أيضاً، ولكن خصص المستمعة بالذكر، لأنها
تأتي معها؛ لأنه كان من عادتهن أن يجتمعن في جانب، وينصبن مناحة
-كما يقولون- وبعض النسوة تتكلم بعض الكلمات، ومجموعة من النسوة
يرددن كلامها، فيكون عملاً مستقلاً خاصاً بالنساء، لا يشارك فيه
الرجال، فإذا جاءت النساء مع النائحة ليفعلن ذلك الفعل، فالنائحة
والمستمعة في هذا سواء. وكذلك يقال: لو أن رجلاً يتسمع لذلك؛ فهو
تابع في هذا، ما لم ينه عنه، أو يخرج من عهدة الإنكار لهذا المنكر.
عذاب الميت في قبره بما يناح عليه
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(الميت يعذب في قبره بما نيح عليه ) متفق عليه. هذا الحديث كثير
من علماء الحديث يجعله موضع إشكال، لأن الميت ما ناح، والذي ناح(2/276)
إنما هو غيره من الأحياء، فلماذا يعذب الميت، وقد قال الله تعالى: وَأَنْ
لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى [النجم:39]،
وقال: وَلا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]؟
قال بعضهم: إن الميت يعرف طبيعة أهله وذويه، فإذا كان من طبيعة
أهله النياحة على الميت، وقد حضرته الوفاة، فإن كان راضياً بما
يفعل أهله من النياحة ولم ينههنَّ، فيكون كأنه أمرهنَّ. أي: أن
الساكت عن المنكر مشارك، كما قيل: السامع للذم شريك لقائله، ومطعم
المأكول شريك للآكل، فقالوا: إما أن يوصي بأن يناح عليه كما فعل
طرفه إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يابنة معبد فأوصى
زوجته أن تندبه بعد موته، وهذا أمر جاهلي. فإذا كان الميت يعرف من
طبيعة أهله النياحة، فعليه -براءة لذمته وخروجاً من العهدة- أن
يمنعهن وينهاهن، ويوصي بعدم النياحة، فإن فعل ذلك زال عنه الحرج
والإثم ولو خالفن وصيته، وهن يتحملن إثمهن، ولا يصيبه من فعلهن
شيء، أما إذا سكت وهو يعلم أنه سيقع هذا المنكر؛ فإنه يكون
مشاركاً، ويعذب بذلك. وجاء في ترجمة عبد الله بن رواحة رضي
الله عنه، أنه مرض وأغمي عليه، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم
يعوده وقال: (اللهم إن كنت أبقيته من العمر فعافه ...، ثم أفاق
فقال: يا رسول الله! لقد عوتبت فيما تقوله أمي، كانت تقول:
واسنداه! قال: فكلما قالت شيئاً أتى ملك يقول: أأنت كذلك..؟ أأنت
كذلك.. ) إذاً: إن علم الإنسان من أهله تلك الحالة فعليه أن
يوصي بمنعها، فإن فعلن بعد الوصية وبعد النهي، فلا شيء عليه، وإن
عرف وسكت، فكأنه راض ومقر على ما يعلم، فيلحقه من ذلك شيء، والله
تعالى أعلم.
الحزن والبكاء على الميت ليس من النياحة
وعن أنس رضي الله عنه قال: (شهدت بنتاً لرسول الله صلى الله
عليه وسلم تدفن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند القبر،
فرأيت عينيه تدمعان ) رواه البخاري . من فقه المؤلف رحمه(2/277)
الله في ترتيب الأحاديث، أنه ذكر حديث: أن النبي صلى الله عليه
وسلم لعن النائحة والمستمعة، ثم أعقبه بحديث أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان على حافة قبر ابنته فدمعت عيناه. فكيف يلعن النائحة
وعينه تدمع؟ فكأن المؤلف يقول: دمعة العين وبكاء الإنسان على الميت
ليس من اليناحة، فإن النياحة قول باللسان. وبعض النسوة قد تأتي
مجاملة، لا هي حزينة ولا أصيبت بشيء، ولكن زوجة الميت صديقة لها أو
قريبة لها.. فتأتي لتنوح مع تلك المرأة مجاملة، أو لأجل أن تقضيها
تلك النياحة عند فقد قريب لها. هذه عادات، ولكن الإنسان من حيث هو
بشر يتأثر بالعاطفة، فهذا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وابنته
تدفن، وهو على حافة القبر، فتدمع عينه، وكذلك عن موت ولده إبراهيم
عليه السلام، لما بكى ودمعت عينه، قيل له: (أتبكي؟ قال: نعم. إن
العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا
على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ) هل هذا نعي؟ لا. ولكن
تعبير عن الوجدان النفسي، وعن الشعور الإنساني؛ فلا مانع في ذلك.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مثل هذا الموقف، قالوا:
أتبكي؟ قال: وَأَنَّهُ
هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43]
بمعنى: أن الضحك ليس باختيارك، فإنك إذا رأيت شيئاً يضحك وأردت أن
تكتم الضحك فإنك لا تستطيع، وكذلك البكاء، لو وجدت منظراً مؤلماً
حساساً، فتدمع العين، ويحزن القلب، فإذا أردت أن تدفع هذا عنك لم
تستطع؛ لأنها غريزة متمكنة في الإنسان. إذاً: ما كان بالجبلة
وبالغريزة من الحزن في القلب، ومن الدمعة في العين؛ فهذا لا يلام
الإنسان عليه؛ لأنه فوق طاقته، المهم فيما يتكلم به وكان يمكن أن
يمسك عنه ويتكلم بغيره. إذاً: المؤلف رحمه الله جاء بهذا الحديث
عقب الحديث الذي قبله، ليبين أن التوجع والألم والبكاء ليس من
النعي في شيء .. والله تعالى أعلم.
باب كراهية الدفن ليلاً
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا(2/278)
تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا ) أخرجه ابن ماجة وأصله
في مسلم ، لكن قال: (زجر أن يقبر الرجل في الليل حتى يصلى عليه )
هذا الحديث يمكن أن نضيفه إلى ما تقدم في بيان أوقات الصلاة
والأوقات المنهي عنها.
الأوقات المنهي عن الصلاة فيها ودفن الموتى
ونعلم أن الأوقات المنهي عن الصلاة فيها سبعة، منها ثلاثة منهي عن
الصلاة فيها، وأن نقبر فيهن موتانا: 1- عند طلوع الشمس بازغة حتى
ترتفع. 2- وعند قيام قائم الظهيرة حتى تتحول. 3- وعند أن تضيف
الشمس للمغيب حتى تغرب. هذه الأوقات الثلاثة نهى صلى الله عليه
وسلم عن الصلاة فيها مع بقية الأوقات السبعة، ونهى عن دفن الموتى
فيها.
الحكمة من النهي عن دفن الميت ليلاً
وهنا نُهي عن دفن الميت ليلاً حتى يصلى عليه. يقول العلماء في هذا
الحديث: النهي معلل؛ وذلك أن دفن الميت ليلاً كان من الصعوبة
بمكان، فلم يكن هناك وسائل إضاءة تمكن الذين يدفنون الميت من أداء
الواجب على الوجه المطلوب، وقد تقدم: (أن قوماً مروا على المقبرة
فوجدوا ناراً، فيمموها، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في
القبر يقول: ناولوني ميتكم... الحديث ) وكانوا يشعلون السعف،
فكانت وسائل الإضاءة كما هي اليوم في الأرياف والبوادي نار الحطب،
فربما يكون الدفن ليلاً مدعاة إلى التقصير في حق الميت. إذاً: لا
ينبغي التعجل بالدفن ليلاً، وإذا كان ممكناً بدون أن يلحق الميت
شيء؛ فإنه يؤجل إلى الصباح ليتمكن الناس من تجهيزه كاملاً، ومن
دفنه على ما ينبغي. ويجوز أيضاً تأخير دفنه لانتظار حضور من يعز
عليه من أقاربه أو من الصالحين الذين يحضرون ليصلوا عليه، ويدعوا
له ويشيعوه ويحضروا دفنه. هذا وقد دفن الصديق رضي الله تعالى
عنه ليلاً، ودفن عمر رضي الله تعالى عنه ليلاً. إذاً: إن تمت
إجراءات التجهيز كاملة، ولم يبق إلا مجرد ظرف الزمن من ليل أو
نهار، فليس هناك مانع من الدفن، ولكن قوله: (إلا أن تضطروا):(2/279)
الاضطرار يكون إما لخوف، وهذا يكون في الأحوال السياسية
الاضطرارية، حيث يكون الميت له أعداء، فيريد أهله أن يواروه قبل أن
يشعر به خصمه أو عدوه، أو أن يكون الوقت حاراً، ويكون الميت قد
توفي -مثلاً- في الظهيرة وتأخر تجهيزه، ولا يمكن أن ينتظر به إلى
النهار لحرارة الجو، وعدم احتمال الجثة الانتظار. فإن لم يكن هناك
اضطرار، ولم يفرغوا من تجهيز الميت تجهيزاً يليق به، فلا يدفن
ليلاً وينتظر به إلى النهار، وكذلك إذا كانت هناك عوامل أخرى
للتأخير، ولكن في حدود عدم مضرة الميت. ومن دواعي الانتظار كما
أشرنا إلى ذلك، حضور أقاربه، أبنائه، وأصدقائه الصالحين وغيرهم من
معارفه الذين: يحضرون فيكاثرون الصلاة عليه، ويدعون له، ويشيعونه
ويدفنونه...، والله تعالى أعلم.
134614 ( كتاب الجنائز [12] )
( كتاب الجنائز [12] )
عناصر الموضوع
1 فضل الزكاة في الإسلام
2 حكم الزكاة ومشروعيتها
3 جوانب الحكمة في الدعوة والتعامل من حديث معاذ
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [1]
لقد فرض الله سبحانه وتعالى الزكاة، وأظهر الحكمة من ذلك لأجل أن
يدفعها العباد طلباً لطاعة الله، وعن طيب نفس، ولذلك كان النبي صلى
الله عليه وسلم يعرض على القبائل الإسلام مبتدئاً بالشهادتين، ثم
الصلاة، ثم الزكاة، ثم بقية التشريعات.
فضل الزكاة في الإسلام
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول
المصنف رحمه الله: [ عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي
صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن -فذكر الحديث- وفيه:
إن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، فترد
في فقرائهم ) متفق عليه واللفظ للبخاري ].
الزكاة تطهير للمزكي والآخذ
إن مبحث الزكاة ونظامه بكل جوانبه لهو من أهم مباحث الأموال في
الإسلام، والمتأمل لنصوص الشرع في هذا العمل يجد الشمول والترتيب(2/280)
في أدق ما يكون، والزكاة ركن من أركان الإسلام، وكما قال الصديق رضي الله تعالى عنه: (الصلاة حق الله، وعبادة البدن، والزكاة حق
المال، وعبادة الأموال) وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الأموال
الزكوية، وبيّن صلوات الله وسلامه عليه الأنصبة فيها.. وما يخرج
منها.. وإلى من تؤدى. والبحث في الزكاة يكون في: مشروعيتها،
وحكمتها، وأنواع الأموال التي تزكى، والمقادير التي تخرج منها،
والجهات التي تعطاها، وحكم من امتنع عنها. والله سبحانه وتعالى فرض
الزكاة، وأشار القرآن الكريم إلى نوع من الحكمة الجامعة في
فرضيتها، فقال سبحانه مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم: خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103]
فجعل المولى سبحانه إخراج الزكاة مصلحة للطرفين: للدافع وللآخذ،
وفيها الحكمة المزدوجة: تطهير وتزكية. أما (تطهرهم) فيقول العلماء:
تطهر الفقراء من أمراض النفس الداخلية كالحقد والحسد؛ لأن المسكين
إذا وجد المال في يد الغني يستكثر به عليه، ولا يصيب منه شيئاً،
فإنه يشتد غيظه عليه، وحسده له على ما بين يديه، فإذا أعطي من هذا
المال حصته التي أشار إليها قوله سبحانه: وَالَّذِينَ
فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]
ذهب عنه ذاك الحقد وذاك الحسد. وكذلك الغني عندما يخرج من ماله
زكاته ينبغي أن يعلم بأن الزكاة لا تنقص المال ولكن تزكيه، والزكاة
بمعنى: النماء والزيادة. (ما نقص مال من صدقة )، بل الصدقة تنمي
المال وتزكيه: وَمَا
آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا
يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ
وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39]
أي: تتضاعف أموالهم وتتزايد بسبب الصدقة. وقد بيّن المولى سبحانه(2/281)
إلى أي حد تتضاعف الصدقات، وأجرها إلى سبعمائة ضعف وزيادة، قال
تعالى: مَثَلُ
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ
حَبَّةٍ [البقرة:261]
ومعلوم: أن (7×100 =700) وَاللَّهُ
يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261].
وبين صلى الله عليه وسلم موجب تلك المضاعفة عندما قال صلوات الله
وسلامه عليه: (سبق درهم مائة ألف درهم. قالوا: يا رسول الله! وكيف
يكون هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: رجل عنده درهمان فتصدق
بأحدهما، ورجل عنده مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة ألف وتصدق بها )،
وهذا في ميزان الحساب والعقل أن صاحب الدرهمين تصدق بنصف ما يملك،
وصاحب المال الكثير تصدق بطرف مما يملك، ثم الذي تصدق بمائة ألف
بقي في يده الشيء الكثير، والذي تصدق بدرهم لم يبق معه إلا درهم،
وهذا فرق بعيد.
ميزة الإسلام بالزكاة على نظام الضرائب
وبينت السنة النبوية المطهرة الفرق بين التعامل في المال مع الله
سبحانه وتعالى، والتعامل في المال مع الناس، وهذا نقوله للأمم التي
تعيش حسب قوانين الضريبة التي يفرضها الإنسان على الإنسان؛ ليروا
مدى صدق المسلم في تعامله مع الله في المال، وذلك عندما بعث النبي
صلى الله عليه وسلم عامل الصدقة إلى ضواحي المدينة، فمر بصاحب إبل
فوجد عليه فيها بنت مخاض لأنها خمس وعشرون بدنة، فقال صاحبها: بنت
مخاض! لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب، كيف أقدمها لله؟ ولكن هذه ناقة
كوماء -عليها اللحم والشحم مثل الكوم- خذها في سبيل الله. فقال
العامل: لا أستطيع؛ لأنها لم تجب عليك، والذي وجب عليك هو بنت
المخاض، فأصر الرجل، فقال: إن كنت لا محالة فاعلاً فدونك رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالمدينة، اذهب بها إليه، فإن قبلها أخذتُها،
فجاء مع العامل وعرض عليه ما كان بينه وبين صاحب الإبل، فقال صلى(2/282)
الله عليه وسلم: (أطيبة بها نفسك؟ قال: بلى يا رسول الله؛ لأن ابنة
مخاض لا تجزئ شيئاً، لا هي ظهر يركب في الجهاد في سبيل الله، ولا
عندها ضرع يحلب للفقراء والمساكين، أما الناقة فتنفع. فقال للعامل:
خذها، وقال لصاحبها: بارك الله لك في إبلك)، فعاش الرجل إلى زمن
معاوية رضي الله تعالى عنه، فكان يخرج العشرات من الإبل في
زكاة ماله. فهذه صورة من صور تعامل العبد مع ربه؛ لأنه يعلم بأن
الله هو الذي سيجزيه على ما قدم؛ ولهذا يقولون في نظام الضرائب: إن
بعض التجار الكبار يصطنع دفترين: دفتراً يقيد فيه مبيعاته ويقدمه
لمفتش الضرائب فيرى فيه أنه خاسر؛ ليخفض عليه الضريبة، ودفتراً
خاصاً به يبين حقيقة الربح فيما بينه وبين نفسه. أما المسلم فليس
عليه مفتش ضرائب، عليه معاملته مع الله؛ لأنه عندما يخرج شيئاً من
ماله يخرجه إيماناً وتصديقاً بوعد الله: مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245]
فالذي يتصدق صدقة تطوع، والذي يخرج زكاة ماله فهو متعامل مع الله.
الصدقة برهان الإيمان
وهناك قواعد عديدة في نظام المعاوضة؛ لأن الإنسان لا يخرج درهماً
من جيبه إلا من عوض يأخذ به سلعة، أو يستأجر به عاملاً، يشتري
منفعة أو طاقة، والمتصدق يخرج من ماله ولا ينتظر شيئاً، وليس ذلك
ضياعاً للصدقة؛ لأنها بدون عوض، بل عوضها عظيم ومضمون، وهو ما
للمتصدق عند الله من أجر؛ ولهذا تجد المؤمن الموقن بالوعد -أي: وعد
الله- يتصدق ويزكي بطيب نفس؛ لأنه موقن بأنه سيجد عوض ذلك يوم لا
ينفع مال ولا بنون. وعلى هذا كانت الصدقة برهاناً على صدق الإيمان
كما جاء في الحديث: (الطهور شطر الإيمان، وسبحان الله تملأ
الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء
والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء ) والبرهان:
الدليل، وهو في أصل اللغة: الدائرة البيضاء التي تكون حول قرص(2/283)
الشمس بعد المطر -وليس قوس قزح المعروف- تظهر بينة، والبرهان:
الدليل والحجة الذي يقيمه الإنسان على دعواه التي يناكر فيها.
فالصدقة برهان على صدق المتصدق؛ لأنه يوقن بأن عوضها عند الله؛
ولهذا كان المؤمنون يتصدقون بطيب أموالهم، أما المنافقون فكانوا
يعمدون إلى ما لا يقبلونه ولا يرتضونه إلا أن يغمضوا فيه. إذاً:
الزكاة عنصر حيوي في الإسلام، وتنظيمها وبيان مصرفها لله سبحانه،
كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن شاباً جلداً قوياً
وقف على رسول الله وسأله الصدقة، فقال: يا ابن أخي! إن الله لم يدع
قسم المال لأحد، لا لنبي مرسل ولا لملك مقرب، وتولى قسمتها بنفسه إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ [التوبة:60]
إلى آخره، فإن كنت من أهلها أعطيتك. فذهب الرجل، ثم جاء آخر وقال:
ليس عندي شيء. قال: ماذا عندك؟ قال: أنا وعجوز في البيت، عندنا حلس
نفترش نصفه ونلتحف بنصفه، وقعب نشرب ونأكل فيه. قال: علي بهما.
فباعهما صلى الله عليه وسلم بدرهمين، وقال: اذهب فاشتر بأحدهما
طعاماً لأهلك، واشتر بالآخر فأساً وحبلاً وائتني بهما، ثم وضع
عوداً في الفأس وقال: انطلق فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً.
فذهب واحتطب وباع، ثم وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في
ثياب نظيفة، وحرك ثوبه فإذا الدراهم في جيبه تتحدث، فتبسم رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقال: لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً فيحتطب
فيبيع، فيستغني؛ خير من أن يذهب يتكفف الناس أعطوه أو منعوه، ومن
يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأجزل من الصبر ).
وهكذا -أيها الإخوة- المال في الإسلام له حيز كبير، سواء كان في
الزكاة أو في صدقة التطوع، أو في الغنائم، أو في الأنفال، أو في
الميراث أو غير ذلك، وهنا يعقد المؤلف رحمه الله كتاب الزكاة، أي:
أحكامها وما جاء فيها من حكمها، وأموالها، ومن أنصبتها، والجهات
التي تصرف فيها.
حكم الزكاة ومشروعيتها(2/284)
أما حكم الزكاة: فهو معروف من الدين بالضرورة لأنه ثابت بالكتاب
وبالسنة وبالإجماع، ولا يعذر أحد بجهله أن الزكاة ركن في الإسلام.
وأما مباحثها فسيأتي المؤلف رحمه الله على جميع هذه الجوانب بما
يورده في هذا الباب من الأحاديث، وهي نحو العشرين حديثاً، وسنجد ما
أورده رحمه الله. بدأ المؤلف رحمه الله تعالى كتاب الزكاة بحديث
معاذ ، وحديث معاذ من أجمع الأحاديث -في الجملة- في
مشروعية الزكاة وتوابعها، أما الأنصبة فلها نصوص أخرى. وقد فرضت
الزكاة في السنة الثانية من الهجرة، وفيها أيضاً فرض الصوم،
والخلاف في أيهما كان الأسبق: هل الزكاة فرضت قبل الصوم، أو الصوم
قبل الزكاة؟ المهم أنهما فرضا في السنة الثانية من الهجرة؛ لأن بعد
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بدأ تشريع أركان الإسلام، ففي مدة
وجوده في مكة لم يشرع ركن إلا الصلاة عندما فرضت ليلة الإسراء
والمعراج، وكانت مدة مكة كلها إنما هي في إرساء العقيدة في توحيد
الله سبحانه وحده، وفي الإيمان بيوم القيامة أي: بالبعث، فلما جاء
إلى المدينة فرضت أركان الإسلام الأخرى من زكاة.. وصيام.. وحج،
وغيرها من التشريعات وأحكام البيوع والجنايات وما يتعلق بذلك كله.
وكان مبعث معاذ إلى اليمن سنة ثمان في فتح مكة، وقيل: سنة تسع
بعد تبوك، وقيل: سنة عشر بعد الحج، والذي يترجح -والله تعالى أعلم-
أنه بعد سنة ثمان؛ لأن معاذاً رضي الله تعالى عنه قد خصه الله
بفضيلة وتخصص علمي كما قال صلى الله عليه وسلم: (أعلمكم بالحلال
والحرام معاذ بن جبل )، وكما خص أبا عبيدة بأنه أمين
هذه الأمة، وكذلك بعض من خصهم رسول الله كقوله: (أفرضكم زيد )،
فزيد أعلمهم بالفرائض، ومعاذ أعلمهم بالحلال والحرام،
وابن عباس أعلمهم بتأويل القرآن الكريم.. وهكذا. والذي جاء في
ترجمة معاذ رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
عام فتح مكة خلفه في مكة يعلمهم أركان الإسلام، وأمور الدين، إذاً:(2/285)
القول أنه بعثه سنة ثمان في فتح مكة يعارضه تخلفه في مكة لتعليمهم،
أما بعد ذلك فممكن. ومعاذ رضي الله تعالى عنه -في نظري- يعتبر
بعثة تعليمية متنقلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره في مكة
بعد فتحها يعلمهم، وأرسله كذلك إلى اليمن وحضرموت، وكما أرسل أبا
موسى الأشعري مع ستة نفر إلى اليمن، وكان مردهم ومرجعهم في كل
الأحكام معاذ ، وكان كل له بلد يفتي فيه ويعلم، ويجمع الزكاة
ويوزعها، ومعاذاً يطوف عليهم جميعاً. وفي خلافة عمر أرسل
عامل الشام لعمر رسولاً: إن أهل الشام يحتاجون إلى من يعلمهم
الدين، فبعث إليهم معاذاً ، ومكث هناك حتى توفي بالشام رضي
الله تعالى عنه.
جوانب الحكمة في الدعوة والتعامل من حديث معاذ
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه، وجاء في سبب بعثه مع
الجانب العلمي قضية عجيبة! وهي أن معاذاً كان شاباً كريماً
جداً ، وقد لحقته الديون بسبب كرمه، وكان يستدين من اليهود حتى
تراكم الدين عليه، وأصبحت أملاكه لا تفي بديونه، فجاءوا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم وقالوا: مر معاذاً فليوفنا بديوننا. فصار
معاذ يتخفى منهم، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا
رسول الله! مالي في ديوني. فقال لهم: خذوا ماله في ديونكم من
النخيل أو البساتين أو غير ذلك. قالوا: لا تفي بشيء. قال: ضعوا
عنه. قالوا: لا نضع شيئاً، حتى قال الراوي: لو أن أحداً كان يضع
لأحد لوضع دائنوا معاذ عنه من أجل النبي صلى الله عليه وسلم،
قال: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك.
إجازة النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بأخذ الهدية
ثم قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ : أبعثك إلى اليمن لعلك تصيب
شيئاً. أي: بصفته عاملاً يصيب شيئاً يرد عليه بدل أمواله التي خرجت
من يده. والعجيب هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح له أخذ
الهدية، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (هدايا العمال غلول )؛(2/286)
لأنه لا يهدي للعامل إلا مخافةً منه أو طمعاً فيه، وكذلك العمال
يهدون إليهم ليخففوا عنهم فيما يجب عليهم من عمال الزكاة، ولما فتح
الله على المسلمين خيبر طلبوا من رسول الله أن يبقيهم فيها، قالوا:
نحن أعلم بأمور النخيل، دعها في أيدينا نخدمك فيها. قال: ندعكم إلى
ما شاء الله. وكان الاتفاق أن يعملوا فيها بالنصف: نصف الثمرة
لليهود، والنصف الآخر للمسلمين، والعادة في مثل ذلك بالنسبة للزكاة
أنه يخرج العامل ليخرص إذا بدأ نضج الثمرة وأمنت العاهة، أي: احمرت
واصفرت الثمرة، فيأتي العامل فيطوف في النخيل فيقدر: هذه فيها وسق،
وهذه فيها وسقين، وهذه فيها ثلاثة، وهذه فيها نصف. حتى يحصي ما في
البستان من مظنة الثمرة التي تأتي من مجموع هذا النخل، فإذا وجد
-مثلاً- أن مجموع ما في هذا البستان ألف وسق، فقد كان يوصيهم صلى
الله عليه وسلم أن يسقطوا الثلث أو الربع، لما يرد من ضيف، ولما
تأكل الطير، ولما تسقط الريح، وهذا كله لا يكلف صاحب المال بأن
يخرج زكاته وهو قد أتلف بعضه. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
عبد الله بن رواحة ليخرص على أهل خيبر، ليلتزموا في النهاية
بعد تجفيف التمر بما وجب عليهم، ويقدمونه لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فلما جاءهم ماذا فعلوا؟ جمع اليهود من حلي نسائهم مجموعة،
وقدموها لعبد الله وقالوا: خفف عنا -يعني: إن كان عندنا خمسة
آلاف اجعلها ثلاثة آلاف- فقال لهم كلمته المشهورة: (يا إخوة
الخنازير! والله لقد جئتكم من عند أحب خلق الله إلي، ولأنتم أبغض
الناس عندي، ووالله ما حبي لرسول الله ولا بغضي لكم بحاملي على أن
أجحف عليكم، وهذا المال رشوة وسحت، وهو محرم). فقالوا: يا عبد الله ! بهذا قامت السماوات والأرض. أي: بالأمانة ورفض الرشوة، وأقسم ألا
يحيف عليهم بسبب البغض، ولا أن يحابي رسول الله بسبب المحبة، وقال:
إني خارص وأنتم بالخيام، إما أن تلتزموا ما وجب عليكم، وإما أن(2/287)
ترفعوا أيديكم وأنا ملتزم لكم بما هو لكم من هذا الخرص، فقبلوا
وخرص والتزموا. الذي يهمنا: أن هدايا العمال رشوة وسحت، والرسول
أباح لمعاذ أن يقبل الهدية، وخص معاذاً لأنه صلى الله
عليه وسلم علم من معاذ أن نفسه ودينه وأمانته فوق مستوى
المحاباة والرشوة والسحت، فإذا ما جاءته هدية لم يقبلها في مقابل
حق يتنازل عنه أو في مقابل محاباة في دين الله، فأباحها له وكان
بينه وبين أبي بكر وعمر مقالات في هذا الموضوع.
مخاطبة كل قوم حسب ثقافتهم العلمية
وهنا التوجيه النبوي الكريم، الذي يمكن في العرف الحاضر أن نسميه
(التوجيه الدبلوماسي) بمعنى سياسة الناس ومخاطبتهم بما في نفوسهم،
وتنوع الأساليب مع أناس دون أناس، فقال له: (يا معاذ ! إنك
ستأتي قوماً أهل كتاب ) أهل الكتاب ليسوا هم وأهل البادية
الأمية سواء. فالبادية الأمية لا تعرف شيئاً من أحكام السماء، وليس
عندهم سوابق علم، أما أهل الكتاب فعندهم من العلم ما جاءهم في
كتابهم، وعندهم من التوحيد.ومن أخبار البعث الشيء الكثير الذي
أنزله الله في كتبه المتقدمة من التوراة والإنجيل، وكان في اليمن
يهود ونصارى. إذاً: خذ أهبتك في مقابلة هؤلاء الناس لتتعامل معهم
على مستوى علمي، والذي يتعامل مع أشخاص أهل علم يجب أن يكون على
مستوى علمي أكثر ممن يتعامل مع بادية أمية لا تعرف شيئاً، فيقودها
حيث شاء، أما أهل الكتاب فلن ينقادوا في كل شيء؛ لأن لديهم أصول
يتمسكون بها، بصرف النظر عن كونها حرفت أو بدلت.
التدرج في الدعوة إلى الله تعالى
(إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه -وفي رواية
البخاري رحمه الله وغيره: أن يعبدوا الله وحده لا شريك له-
عبادة الله وحده، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم بأن الله قد افترض
عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم بأن
الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتعطى إلى فقرائهم )(2/288)
. إلى هنا يقف طالب العلم والداعية إلى الله ليرى الأسلوب في
الدعوة إلى الله مع قوم أهل كتاب، وذوي عقل وفكر، فتكون الدعوة
معهم بالتدرج، فأول شيء يدعوهم إليه هو ما لا نزاع فيه؛ وهو عبادة
الله وحده. فالوثنيون قد يعارضون في ذلك أشد من أهل الكتاب؛ لأن
أهل الكتاب عندهم مبدأ في التوحيد، والشرك طارئ عليهم، فيدخل في
التدرج بعبادة الله وحده، ثم ينتقل إلى العبادة البدنية التي ليس
فيها درهم ولا دينار، وهي: الصلوات الخمس في اليوم والليلة، فإن هم
استجابوا لذلك فمعناه أنهم على طريق السمع والطاعة، فينتقل بهم إلى
عنصر المادة: (أعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة -وسمى الزكاة
المفروضة صدقة- تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم). وهنا أيضاً من
حسن التنبيه، ومن إعجاز التشريع، أنه افترض عليهم صدقة لا يدفعونها
لغيرهم من المسلمين، وإنما تخرج منهم وتوزع فيهم، فتؤخذ من
أغنيائهم وترد عليهم، أي: تؤخذ باليمين وتعطى بالشمال ولكن مع
اختلاف الجهة، فتؤخذ من أغنيائهم الذين أفاض الله عليهم من ماله،
والمال مال الله: وَآتُوهُمْ
مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33]
وترد على فقرائهم، وأيتامهم، ومساكينهم، من آبائهم، وإخوانهم،
وجيرانهم، فهي لن تخرج من أيديهم. فعندما يعلم أغنياء اليمن أن
الزكاة التي فرضها الإسلام ليست ضريبة تجبى منهم إلى غيرهم، بل
تؤخذ منهم وترد عليهم؛ حينئذ يسهل أمر دفع المال؛ لأن المال صنو
النفس، والنفس شحيحة عليه، وحريصة على تحصيله، وشحيحة في إنفاقه.
وهكذا كان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن،
فقالوا: إنه كان جابياً للزكاة والجزية، وكان أميراً، ومعلماً
ومفتياً وقاضياً، فكان يؤدي كل هذه المهام، وليس مجرد جامع للزكاة.
النبي صلى الله عليه وسلم يغرس الوازع الديني في قلب معاذ
والحديث قد قطعه البخاري فيما لا يقل عن خمسة أو ستة أبواب.(2/289)
فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له: (تؤخذ من أغنيائهم فترد
على فقرائهم ) أي: في الجملة، وقال له: (وإياك وكرائم أموالهم! )
أي: إذا أعطوا الزكاة فلا تعمد إلى أكرمها وتأخذها؛ لأن صاحبها
متعلق بها، وهذا ظلم، كما أنك لا تأخذ العجفاء ولا المريضة؛ لأن
هذا ظلم للمساكين، وإنما يكون الوسط: (وإياك -تحذير- وكرائم
أموالهم!) أي: احذر أن تعمد إلى أكرمها فتأخذه. وقد مرت غنم الصدقة
على عمر رضي الله تعالى عنه فوجد فيها شاة حافلة -ضرعها كبير-
فقال: (ما أظن أن أهل هذه دفعوها عن طيب نفس!) تأسفاً لأخذها، ولا
يستطيع أن يردها؛ لأنها جاءت من بعيد. وهنا تنبيه من النبي صلى
الله عليه وسلم على ما يجب على العمال من الرفق بالناس، وعدم
الإضرار بصاحب المال ولا بمستحقيه؛ ولهذا يقول العلماء: الزكاة
فرضت على الرفق بالطرفين: رفقاً بالأغنياء بأن أخذ منهم (2.5%)،
ولم يقاسم المالك في ماله على الثلث أو الثلثين، فأربعون شاة من
الغنم يأخذ منها شاة إلى مائة وعشرين، فهذه ليس فيها غرامة عليه،
ولا فيها ثقل عليه، بل فيها رفق به، وكذلك إرفاق بالمساكين أن
ينتفعوا بما يأتيهم من أموال الأغنياء. وهنا ينبه صلى الله عليه
وسلم جميع عمال الزكاة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أن يكونوا
رحماء، وألا يجحفوا بصاحب المال فيأخذوا كرائم الأموال، وألا
يجحفوا بالمساكين فيأخذوا لهم العجاف والمرضى. وعمر يقول
لعامله: (اعتد عليهم بالسخلة يأتي بها الراعي بين ذراعيه -يعني:
يحملها على صدره- ولا تأخذها منهم) أي: عند عد الرءوس عدها، ولكن
في الأخذ في زكاة الغنم لا تأخذها؛ لأنه ليس منها فائدة، وإنما
يأخذ الوسط. (وإياك وكرائم أموالهم). بدلاً من إرسال المفتشين على
مدراء الضرائب، وبدلاً من المحاسبة والنظر في الدفاتر، يقيم صلى
الله عليه وسلم الوازع الذي ينتزع قلب كل إنسان إذا خالف: (واتق
دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ) نعم ذهب يدعو(2/290)
إلى الله، لكنه سيأخذ الزكاة، والزكاة مال، وحذره من كرائم
الأموال، فإذا أخذ كريمة مال إنسان يكون قد ظلمه، والمظلوم لن يبيت
غافلاً، وسيدعو على الظالم، فيجب أن تتقي دعوة المظلوم؛ لأنه ليس
بينها وبين الله حجاب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله
يقول: إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً ) يقول العلماء: لأن
هذا الكافر عندما أحس بالظلم لم يجد من ينصفه، ولا بينة عنده، أو
أنه مضطهد لا يستطيع أن يأخذ حقه، ولن يجد من ينصره وينصفه ممن
ظلمه إلا الله، فتوجه إلى الله، فهو في تلك اللحظة مؤمن بالله، وإن
لم يقر له بالتوحيد، لكنه مقر بوجود الله وبقدرته على نصرته، وهنا
لا يخيبه الله. ويقولون في خبر موسى مع قارون : لما أدرك قارون الخسف أخذ ينادي: يا موسى! يا موسى! وموسى لم يلتفت إليه، ثم بعد
أن انتهى عاتب الله موسى : يا موسى! يناديك قارون عدة مرات فلم
تلتفت إليه، لو ناداني مرة واحدة لأجبته. إذاً (اتق) أي: احذر،
واجعل لك وقاية بينك وبين دعوة المظلوم، ألا وهي عدم ظلمه، (فإنه
ليس بينها وبين الله حجاب)، فلا تحجبها السماوات السبع، ولا الملأ
الأعلى، وتصعد إلى الله سبحانه، فيتلقاها وينصف المظلوم ولو كان
كافراً. ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الملك ليدوم مع
العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم. (والظلم ظلمات يوم
القيامة ). وهكذا نجد في بعث معاذ رضي الله تعالى عنه إلى
اليمن، فإن هذه التعليمات أسس قويمة فيما يكون عليه العمال، وفيما
ينبغي أن يلاحظوه في حق الرعية. وبالله تعالى التوفيق.
( كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [2] )
عناصر الموضوع
1 حكم الخلطة في الأنعام الزكوية
2 شروط الشاة المأخوذة في الزكاة
3 لا زكاة في الخيل والبراذين ونحوها
4 زكاة النقدين
5 التقايض بين المالك والمصدق إذا لم يوجد السن المطلوب إخراجه
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [3](2/291)
أنزل الله القرآن على نبيه صالحاً لكل زمان ومكان، وجاءت السنة مكملة
له، ومبينة وموضحة لمجمله، فكان مما بينته تفاصيل الزكاة ومنها
الأنعام، حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنصبة الإبل ومتى تجب
الزكاة فيها، وبين أنصبة الغنم ومتى تجب الزكاة فيها، فهذه معايير
وقياسات لا تتغير ولا تتبدل مدى الزمان. كما بين أحكام الخلطة، واختلاف
أسنان المخرج من الإبل عن المطلوب، وكذلك زكاة الفضة، وكل ذلك رحمة
بالمزكي والمسكين.
حكم الخلطة في الأنعام الزكوية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول أبو بكر :
(ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من
خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصدقة هرمة،
ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصَّدق، وفي الرقة في مائتي
درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا ن
يشاء ربها). فالصديق رضي الله تعالى عنه في هذا الخطاب، بعدما
بين أنصباء الإبل وما يدخل فيها، وأنصباء الغنم وما يؤخذ فيها، بقي
من بهيمة الأنعام البقر، والجاموس في بعض البلاد، أما البقر فجاء
فيه النص في غير هذا الخطاب، وهو: في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي
كل أربعين مسن أو مسنة، والبقر قليل في بلاد العرب، وكانوا يتهاجون
باقتنائها، والذي يكثر هو الإبل والغنم. والفقهاء قاسوا الجاموس
على البقر، وألحقوه به في هذا الباب، ولما بيّن الصديق رضي
الله تعالى عنه أنصباء الإبل والغنم جاء بالتنصيص على مسألة يكثر
وقوعها بين أصحاب بهيمة الأنعام، وهي: الخلطة، وتعريفها: هو أن
يأتي صاحب قطيع من الإبل أو قطيع من الغنم إلى شخص آخر له قطيع من
الإبل أو من الغنم فيجمعانهما معاً، فهذه خلطة.
أقسام الخطلة
والخلطة عند الفقهاء تنقسم إلى قسمين بحسب نوعية التملك: فهناك(2/292)
خلطة أعيان -وهي ما تسمى بشركة الأعيان- وخلطة أوصاف، فخلطة
الأعيان: هي الاشتراك بالتملك في أعيان بهيمة الأنعام، مثالها: رجل
عنده مائة من الغنم، فتوفي عن ابنين ورثا عنه المائة، فلكل واحد
منهما النصف مشاعاً. أما شركة الأوصاف، فمثالها: رجل هذا عنده
خمسون شاة مميزة كل شاة بعينها، فلو اختلطت مع غنم الآخرين استطاع
أن يميزها ويخرجها على حدة؛ لأنها معروفة بصفتها. فالشركة بمقتضى
الملك تكون بين جماعة ورثوا رءوساً من الغنم أو اشتروها معاً، أو
إنسان نزل إلى السوق بمائة رأس فاشتراها اثنان أو ثلاثة أو أربعة
بالشراكة، فصارت المائة من الغنم مملوكة للأربعة المشترين كل بحصته
من الثمن، ولو أن كل واحد من الأربعة دفع ربع الثمن فإنهم يكونون
شركاء كل واحد بالربع، وكيف يكون شريكاً بالربع؟ كل واحد له في كل
شاة ربعها؛ لأنها على المشاع، فإذا ما اقتسموا المائة وكل واحد أخذ
خمساً وعشرين شاة أصبحت الخمسة والعشرون في يد كل واحد ملكاً
خاصاً، فإذا خلطوها بعد ذلك، صارت شركة أوصاف مشاعة لا شركة أعيان،
لأن كل شخص يعرف حقه. إذاً: خلطة بهيمة الأنعام تنقسم إلى قسمين:
خلطة أعيان، كل واحد له نصيب في الجميع مشاعاً، وخلطة أوصاف، فخلطة
الأعيان هم شركاء فيها، والزكاة فيها عليهم جميعاً، لكن خلطة
الأوصاف هي محل البحث هنا، فعندما يكون أربعة أولاد ورثوا عن أبيهم
مائة شاة، وجاء المزكي فوجد المائة الشاة، فقال: لمن هذا؟ فقيل له:
لورثة فلان. فإنه سيأخذ الزكاة من المائة على الجميع، إن كانت
أربعين، أو مائة، أو أربعمائة فإنه سيأخذ زكاة الجميع على الجميع،
وهذه ليست موضوع بحثنا. فإذا جئنا إلى خلطة الأوصاف، وجاء اثنان كل
واحد منهما له عشرون شاة، والمجموع أربعون، فإنه إذا جاء المزكي
ووجد الأربعين، هنا يقول: لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع،
ولو جاء عامل ووجد زيداً عنده عشرون شاة، ووجد عمراً عنده عشرون(2/293)
شاة، كلها مفترقة، فلا يجمع بينها، فيها أخوان من منطقة واحدة، على
بئر ماء واحد، ويرعيان في مرعى واحد، كل واحد يرعى ملكه، وآخر
النهار يرجع بها إلى بيته، فكل واحد من الأخوين يملك عشرين منفردة،
فإذا جاء العامل ووجد الأربعين ترعى معاً فلا يقول: مجموع الأربعين
نأخذ فيها شاة. لأنها مفترقة فلا تجمعها، فكل واحد من الأخوين عنده
عشرون شاة، وصاحب العشرين لا زكاة عليه، فلا يجمع بين مفترق ليكمل
النصاب ويأخذ الشاة، بل يتركها على ما هي عليه، ليس فيها زكاة.
شروط الخلطة
فإذا جاء اتفق الأخوان على الخلطة، وصارت الأربعون مخلوطة، وشروط
الخلطة التي تؤثر في الزكاة هي تخفيف المئونة، وذلك باتحاد الراعي:
واحد يرعى الأربعين، واتحاد الفحل: كبش واحد للأربعين، واتفاق
المحلب: تحلب في محل واحد، وإن كان كل واحد يأخذ حليب غنمه في كيس،
واتحاد المراح الذي تبيت فيه يكون مراحاً واحداً، والمسرح الذي
تسرح إليه في جهة واحدة. إذاً: صارت الأربعون في حكم المال الواحد،
تذهب مع بعضها وتأتي مع بعضها، ولها راع واحد يرعاها، وكبش واحد
يلقحها، وتشرب من ماء واحد على حوض واحد، صارت هذه خلطة، واكتملت
فيها الشروط، فإذا جاء العامل ووجد الأربعين على هذه الصفة فإنه لا
يفرق بينهما فيقول: خذ عشرينك واذهب، وأنت خذ عشرينك واذهب.. بل
يأخذ منهما الزكاة. فخلطة بهيمة الأنعام تجعل المال المختلط كمال
رجل واحد، فإذاً في هذه الحالة يأخذ شاة من الأربعين ولا يفرق بين
مجتمع.. هذه هي الصورة.
آراء الأئمة رحمهم الله في الخلطة
نأتي إلى موقف الأئمة رحمهم الله في تأثير الخلطة في الزكاة فيما
تجب فيه الزكاة أو لا تجب: عند أحمد رحمه الله مال الخليطين أو
الخلطاء إذا كان مجموعه نصاباً، فإنه يزكى ولو لم يكن لكل واحد من
الخلطاء نصاب كامل، فلو وجد أربعون شخصاً، لكل واحد شاة، وخلط
الأربعون -على ما تقدم- وجاء العامل فوجد أربعين شاة عند راع واحد(2/294)
على بئر واحد وهي خلطة، فإنه يأخذ شاة من الأربعين، وإن كان لا
يوجد في الأربعين الخلطاء نصاب مستقل، بل ينص ابن قدامة في
المغني: لو أن الأربعين بين اثنين، واحد له تسعة وثلاثون، والآخر
له واحدة، أو أجر صاحب الأربعين أجيراً يرعاها على شاة من
الأربعين، وجاء العامل فهم خلطاء؛ لأن الراعي له واحدة أكملت
الأربعين، فهم خلطاء، فالعامل يأخذ شاة، ولا يجمع بين مفترق ولا
يفرق بين مجتمع خشية الصدقة. إذاً: الخلطة تجعل المال المختلط كمال
رجل واحد. وعند أحمد رحمه الله: حتى لو كان لكل واحد شاة، ولو
كان لأحدهما ثلاثون والثاني له عشر، فكذلك. أما مالك رحمه الله
فيقول: لا تأثير للخلطة إلا إذا كان لكل واحد نصاب. إذا كان ثلاثة
أشخاص كل واحد يملك أربعين شاة، ولكن كل يرعى غنمه على حدة، وكل
أربعين فيها فحلها، ولها راعيها، ومراحها ومسرحها، وبئرها أو حوضها
الذي تشرب منه، حتى وإن كانوا يردون بئراً واحدة، لكن لكل صاحب
أربعين حوض من الجلد يملؤه ويسقي غنمه، فإنهم يكونون مفترقين، فإذا
جاء العامل أخذ من كل واحد شاة؛ لأن كل واحد امتلك أربعين منفردة
عن الأخرى. وأما إذا جاء ووجد الثلاثة قد خلطوا الثلاث الأربعينات
مع بعض، وتمت صفة الخلطة: فالراعي واحد، والفحل واحد، والمحلب
واحد، والحوض الذي يشربن منه واحد، والمبيت في محل واحد، أي: أنه
تمت شروط الخلطة، فإن العامل على جمع الصدقة يأخذ شاة واحدة. إذاً:
في حالة الافتراق على كل واحد شاة، وفي حالة الاجتماع تخرج شاة عن
الجميع، لكن لو زادت واحدة ولو من أحد الثلاثة يكون فيها شاتان،
فالثلاث الأربعينات اجتمعت وفيها شاة واحدة، لأن خلطة المال جعلته
كأنه الشخص الواحد. وعندما جاء العامل وأخذ شاة فلابد أن تكون من
شياه واحد من الثلاثة، فهل يتحمل عنهم زكاة غنمهم؟ لا. (ولا يجمع
بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) أي: لا يأتي هؤلاء(2/295)
الثلاثة ويقولون: والله العام القادم سنخلط. بالأمس كان كل شخص
بمفرده، فيجمع بعضهم إلى بعض من أجل أن يأتي العامل ويجد مائة
وعشرين شاة فيقولون له: خذ شاة واذهب. ثم يرجعون إلى الانفراد، هذا
لا يجوز، ولا أن يأتي العامل ويقول: لمن الغنم هذه؟ فيقولون: لزيد
وعبيد وعمرو ولكنها هي خلطة، فيقول: فرقوها. من أجل أن يحصل على
ثلاث شياه، فهذا لا يجوز، لأنه إذا تمت الخلطة فلا يفرق بين مجتمع
ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة. وما كان من خليطين فأكثر فإنهما
يتراجعان أو يتراجعون بحسب ملكهم، فمثلاً: عندنا ثلاثة، وملكهم
متساوٍ، فكل واحد له أربعون شاة، فعلى كل واحد ثلث شاة، فإن كان
المأخوذ من مال زيد فله عند كل من الخليطين ثلث شاة، فنقدر قيمة
الشاة التي أخذها العامل، فإذا قدرت بثلاثين ريالاً، فكل واحد من
الخليطين يدفع له عشرة ريالات. لو قدر أن المائة والعشرين بين
اثنين، واحد له أربعون شاة، وآخر له ثمانون، وتمت الخلطة، وجاء
العامل، لا نفرقهم حتى يأخذ شاة من صاحب الأربعين وشاة من صاحب
الثمانين، وكذلك هم لا يجتمعون عندما يسمعون بمجيء العامل؛ لأنهم
اشترطوا في صحة تأثير الخلطة أن تكون الخلطة طيلة العام، أما إذا
كانوا منفردين وفي نهاية العام خلطوا، قالوا: لكي يأتي العامل ونحن
مجتمعون فلا يجوز، وإذا جاء العامل وهم على خلطتهم، وتمت شروط
الخلطة، فلا يفرق بينهم، بل يأخذ شاة واحدة، ويتراجعان فيما بينهما
بالسوية، إن كانت أخذت الشاة من صاحب الأربعين فعلى صاحب الثمانين
ثلثي الشاة، وإن كان أخذها من صاحب الثمانين فصاحب الثمانين له على
صاحب الأربعين ثلث الشاة. الإمام مالك يقول: إذا كانت الخلطة
بين أربعين وثمانين فهذا صحيح، لكن لو وجد واحد له ثلاثون وآخر له
عشر شياه، فهذه ليس لها تأثير؛ لأن كلاً منهما لا يملك النصاب، ولم
يعتبر مالك تأثير الخلطة إلا إذا كان فيها ملك نصاب من أحد(2/296)
الخلطاء. طيب! وجدناها خمسين شاة، أربعون منها لواحد وعشر لواحد
آخر، قال: هنا الشاة على صاحب الأربعين، وصاحب العشرة ليس عليه
منها شيء. والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: لا تأثير للخلطة
ألبتة، سواء امتلك كل واحد نصاباً كصاحب الأربعين والثمانين أو لم
يمتلك أحدهما نصاباً، فكل زكاته على حدة إلا شركة الأعيان، فهذه
شركة مشاعة.
تأخير الخلطة في غير بهيمة الأنعام
وهناك من يقول: الخلطة تؤثر في الزكاة في غير بهيمة الأنعام، كعروض
تجارة بين شخصين، أحدهما لديه سكر والآخر لديه شاي، فجمعا الشاي
والسكر، وأتيا بصبي لهما يبيع في المتجر، فالمتجر واحد، والميزان
واحد، والصبي واحد، والخلطة موجودة، ومرافق العمل كلها متحدة؛
فهناك من يقول: هذه الخلطة بهذه الصفة تؤثر، فلو كان مجموع الصنفين
قيمته نصاب زكيت على حسبها، وإن كانت قيمة الصنفين لم تصل إلى
النصاب فلا شيء فيها، ولو كانت قيمة أحد الصنفين نصاباً والأخرى لم
تبلغ النصاب فإنه يشارك في الزكاة؛ لأن عروض التجارة ليس فيها وقص،
وإنما إذا بلغ النصاب أخذت الزكاة في النصاب، وما زاد على النصاب
فبحسبه. نحن عندنا في الغنم من الأربعين إلى المائة والعشرين تسمى
وقصاً، وتلك الزيادة لا أثر لها، إنما هي شاة واحدة من بلوغ
الأربعين، بخلاف الذهب والفضة، فإنه إذا امتلك عشرين مثقالاً تم
النصاب، وفيه ربع العشر، فإذا امتلك خمسة وعشرين مثقالاً نقول له:
زك الجميع، فلابد أن يزكي الخمسة والعشرين بنسبة زكاة العشرين
اثنين ونصف في المائة، فإذا امتلك ثلاثين ديناراً أيضاً زكي
الثلاثين بنسبة اثنين ونصف في المائة، إذاً: لا وقص، وحيثما كان لا
وقص فالجميع سواء. وهذا المبحث في كتب الفقه له تفريعات، وله مسائل
فرعية عديدة جداً؛ لأن بهيمة الأنعام يشترط فيها الحول، والخلطة
يشترط فيها أن تكون حولاً كاملاً، وهي عندهم كالمال المتجدد، فلو(2/297)
ملك ثلاثين في نصف الحول، وعشرة في النصف الثاني، فهل عليه زكاة أو
حتى تتم العشرة الحول كاملاً، وكذلك في الخلطة. فلو أن الخليطين
اختلطا في أول الحول، وجاء ثالث وخلط في نصف الحول، فانتهى حول
الاثنين وحول الثالث لم يأت بعد، ماذا يكون الحال؟ وهذه تفريعات في
الواقع لا يتأتى تناولها بصفة عامة على هذه الحال، وإنما يهمنا
بيان الهيكل الأساسي في الخلطة. ومرة أخرى بالإجمال: الخلطة إما
شركة أعيان وإما شركة أوصاف، فشركة الأعيان مشاعة على ما هي عليه،
وشركة الأوصاف يكون ملك كل واحد متميزاً بعينه، لكن اختلطا عاماً
كاملاً وصحت الخلطة، فيعامل هذا المال المختلط معاملة مال الرجل
الواحد، ولو أن كل شخص من الخلطاء امتلك جزءاً من النصاب،
وبمجموعهم كمل النصاب أخذت الزكاة، أما لو فرقا وكل امتلك حقه فلا
زكاة على واحد منهم. إذاً: الخلطة قد تنفع الخلطاء وقد لا تنفعهم،
بحسب اكتمال النصاب أو زيادته أو النقص منه. هذا ما يتعلق بخلطة
بهيمة الأنعام، أما تأثير الخلطة في غيرها فهذا موضع خلاف فيما
يتعلق بعروض التجارة إذا اتحدا أيضاً في الدكان أو المكان، واتحد
البائع والميزان أو المكيال أو الذراع أو غير ذلك، ثم يرجع الخلطاء
كل على صاحبه بنسبة ملكه في الخلطة.
شروط الشاة المأخوذة في الزكاة
ثم بدأ يبين ماذا يأخذ العامل، قال: (ولا تؤخذ في الصدقة الهرمة)،
الهرمة بمعنى: العجوزة؛ لأنها غالباً تكون عجفاء ليس فيها شيء، وهي
على وشك الموت. (ولا ذات عوار) من عور العينين، (أو معيبة) لأن
العيب عوار في السلعة، فأي شاة بها عيب فإنها لا تؤخذ في الصدقة؛
لأنه نقص على المساكين، والعوار بمعنى العيب فهو يتفاوت، وبعضهم
يقول: العوراء هي الفاقدة إحدى عينيها. وهذه عند الأصوليين فيها
نزاع، فعندما يقال في الأضحية: يجب أن تكون الأضحية سليمة من العور
فمن الأصوليين من يقول: هذه معيبة لا تصلح أضحية، وكذلك لا تؤخذ في(2/298)
الزكاة، ومنهم من يقول: العوراء هي التي لا تسرح مع الغنم، ولكن
تبقى في البيت، وإذا انفردت في البيت عني بها، وجيء لها بعلف
يكفيها وزيادة؛ لأنها أصبحت محل عناية من مالكيها، فلربما تكون
أسمن من ذات العينين التي تسرح مع بقية الغنم، ولكن الجمهور على أن
العور عيب فلا تؤخذ صاحبة العوار في زكاة الغنم. ويقاس على ذات
العور وعلى الهرمة أي عيب في الشاة ينقص من قيمتها، سواء كان في
هيكلها أو في لحمها، فإذا كانت مريضة فلا ينبغي أن يأخذها، وإذا
كانت مكسورة لا يأخذها، وعلى هذا فكل شاة معيبة في الغنم لا تصح.
وكيف يأخذ؟ قد تقدم لنا ذلك في حديث معاذ : (وإياك وكرائم
أموالهم )، فالعامل لا يجوز له أن يصطفي كرائم الغنم ويأخذها،
ولا أن يقبل من صاحب الغنم أهونها، إنما يقولون: تقسم الغنم ثلاثة
أقسام: خيار، وعوار، ووسط، فيأخذ من الوسط، والعامل مؤتمن فلا يجوز
له أن يظلم صاحب الغنم بأخذ خيارها، ولا يجوز أن يغش المساكين
فيأخذ الضعيف فيها، إنما يأخذ الوسط. قوله: (ولا تيس إلا أن يشاء
المصدق). التيس في الغنم هو الذي يعلوها ويطرقها؛ لأن الغنم في
حاجة إليه، فيأتي المصدق ويأخذ التيس ويترك الغنم بلا تيس.. وهذه
مضرة، ولا يجوز إخراج التيس في الصدقة إلا أن يشاء المصدِّق، أي:
صاحب الغنم؛ لأنه قد يكون معه غيره، أو المصدق هو العامل الذي يأخذ
الصدقة؛ لأن التيس -أحياناً- لا يساوي الشاة، والعنز خير منه لأنها
تنتج، إلا إذا جاء العامل وجمع غنماً كثيراً وسيسوقها ويحتاج إلى
تيوس فيها، فيأخذه منه من أجل مصلحة ما بيده من الماعز.
لا زكاة في الخيل والبراذين ونحوها
الأموال الزكوية قلنا: إن المتفق عليها من بهيمة الأنعام: الإبل
والبقر والغنم، ومن المختلف فيه: الخيل وما تبعها، فيرجح الجمهور
على أن الخيل لا زكاة فيها، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله
أن الخيل إذا أفردت للنماء والزيادة ففيها الزكاة، أما إذا كانت(2/299)
لغير ذلك، ولا يتأتى نماؤها، وكما يقول الأحناف: لو كانت كلها
ذكوراً، فالذكور وحدها لا تنتج، ولو كانت كلها إناث فالإناث وحدها
لا تنتج، فعنصر النماء مفقود فلا زكاة فيها. ولو كان عنده خيل ذكور
وإناث يؤجرها أو يستعملها في جر العربات أو في الحرث فهذه ليست
للنماء فلا زكاة فيها. وعلى رأي الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن
في الخيل زكاة، فما نصابها وما يؤخذ منها؟ لم يأت في أي كتاب من
كتب الصدقة بيان أنصباء الخيل ولا بيان ما يؤخذ فيها، ومن هنا أخذ
الجمهور أن الخيل خارجة عن حدود الزكاة، واستدلوا أيضاً بحديث:
(ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده صدقة ) فقوله: (فرسه) وإن
كان مفرداً، لكنه نكرة مضاف فيشمل الجنس، فأخذ الجمهور بأن الفرس
أو الخيل لا زكاة فيه. أبو حنيفة رحمه الله يقول: الزكاة
مبناها على النماء، فإذا كانت ثلاثين فصارت خمسين، فهي نامية،
فتشترك مع الإبل والغنم في عموم النماء، ففيها زكاة. كم نصابها؟
قال: في كل فرس دينار. نحن لا نعهد زكاة مال من غير جنسه إلا عروض
التجارة وأوائل الإبل، في الخمس منها شاة، فأخذ غير جنسها في حد
معين، ثم من خمس وعشرين انتقلت إلى جنسها، وكذلك عروض التجارة؛ لأن
العروض هي عبارة عن دكان فيه سكر وشاي وصابون ونعناع أو حتى خضار،
فماذا سنعطي المسكين من هذا؟ فيقدر الجميع، وتعطى الزكاة من مجموع
القيمة؛ لأنها مصلحة للطرفين. فإذا قلتم: الخيل فيها زكاة فبينوا
نصابها منها، وما يؤخذ منها فيها. وقال قوم: ليس فيها زكاة،
واستدلوا بأن عمر رضي الله تعالى عنه أتاه قوم من أهل الشام،
وقالوا: إنا أصبنا خيلاً نريد أن تأخذ زكاتها طهرة لها. فقال: لم
يأخذها صاحباي من قبلي -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا
بكر رضي الله تعالى عنه- فكيف آخذها؟ فاستشار من عنده، فقالوا:
خذ منهم ما دام عن طيب نفس، فسأل علياً رضي الله تعالى عنه،
فقال علي : لا بأس إلا أن تصبح فيما بعد ضريبة لازمة عليهم،(2/300)
أي: هم الآن جاءوا طواعية ودفعوا، فإذا ذهب هذا الجيل الذي يدفع
طواعية، فسيأتي بعدهم أناس معهم خيل، فيقول من كان بعدك: عمر أخذ على الخيل فيأخذ عليهم، وتكون ضريبة لازمة بغير إلزام. فعلي قال: لا بأس إذا أخذت ما لم تصبح ضريبة لازمة عليهم. فقال عمر : نأخذها منهم ونردها على عبيدهم، بمعنى انه أخذ زكاة الخيل وفرض
لكل فرس ديناراً، وأعطى عبيدهم من بيت مال المسلمين، فالعبيد ليس
لهم شيء؛ لأن بيت مال المسلمين للأحرار، ورزق بيت المال للأحرار،
والعبيد تبع للأحرار، فعمر فرض لعبيد هؤلاء الناس من بيت
المال كأنه عوض عما يأخذ منهم في الخيل. والجمهور استدلوا بحديث
صحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب إبل لا يؤدي
زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها في قاع قرقر، ثم يؤتى بها
وافية فتطؤه بخفافها، وتعضه بأنيابها حتى يقضى بين الخلائق، فيرى
مصيره إما إلى جنة، وإما إلى نار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها
إلا جاءت تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، وما من صاحب ذهب أو فضة لم
يؤد زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، وكوي
بها جبينه وجنبه وظهره إلى أن يقضى بين الخلائق -فذكر صلى الله
عليه وسلم هنا الإبل والبقر والغنم والذهب والفضة- فقالوا: يا رسول
الله! والخيل ما شأن صاحبها؟ قال: الخيل ثلاثة: هي لرجل أجر، وعلى
رجل وزر، ولرجل ستر؛ أما التي هي له أجر: فخيل ارتبطها صاحبها في
سبيل الله، وأما التي هي وزر فخيل اقتناها صاحبها بطراً ورياءً ).
وقيل: سمي الخيل خيلاً لأن بها خيلاء، فانظر إلى الفرس عندما تشبع
فإنها تمشي على أطراف حوافرها وتتبختر، وأجود الحيوانات في الرقص
والرياضيات واللعب الخيل، وهي أشدها طرباً، فصاحبها كذلك. (والتي
هي له ستر رجل اقتناها تغنياً ) يعني: للنماء فيبيع ويستغني
بنسلها وبيعها عن الناس. فما ذكر فيها صدقة. قال: ( ولا ينسى حق(2/301)
الله فيها! قالوا: وما حق الله فيها؟ قال: ألا يمنع فحلها عن إناث
غيره، ألا يمنع منقطعاً أن يركبه إلى مكانه)، ولم يبين فيها صلى
الله عليه وسلم نصاباً ولا ما يؤخذ منها، فقال الجمهور: هذا دليل
على أن الخيل لا زكاة فيها. (قالوا: والحمر يا رسول الله! قال: لم
ينزل علي فيها شيء، إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] )
إذاً: رد ذلك إلى صاحبها، إن فعل فيها خيراً فله، وإن كان عكس ذلك
فالعكس. إذاً: الصديق رضي الله تعالى عنه ذكر أنصباء الإبل،
وذكر أنصباء الغنم، وجاءت أنصباء البقر في غير هذا الكتاب، ولم يأت
للخيل ولا للبرذون ولا للحمار ذكر في أنصاب الزكاة، وعلى هذا
فجمهور العلماء على أن الزكاة في بهيمة الأنعام مقصورة على تلك
الأصناف الثلاثة، وأن الأصناف الثلاثة الأخرى لا زكاة فيها: الخيل
والبراذين والحمار.
زكاة النقدين
ثم انتقل الكتاب إلى صنف آخر من أصناف الأموال الزكوية، وهي الرقة،
أي: الفضة قال تعالى: فَابْعَثُوا
أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ [الكهف:19]
فالورق بمعنى الفضة والذهب. قوله: (وفي الرقة في مائتي درهم ربع
العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء
ربها). هذا جزء من مبحث زكاة الذهب والفضة اقتصر فيه على الفضة،
وهي كجملة معترضة بين أحكام الإبل؛ لأنه بقي من أحكام زكاة الإبل
ما لو لم توجد العين المطلوبة في عدد الإبل عند صاحبها، فإنه يتقاص
هو والعامل على ما سيأتي إن شاء الله. وهنا يقول: في كل مائتي درهم
ربع العشر، فإذا كانت مائة وتسعين، فلا زكاة فيها، لأنها تنقص عن
النصاب عشرة، وإذا كانت تنقص واحداً أو اثنين فمالك يقول: هذا
شيء قليل فلا يؤثر، وفيها زكاة. والجمهور يقولون: الحد مائتان، فإن
لغة الأرقام ليس فيها تقريب، ومفهوم المخالفة أن ما دون المائتين(2/302)
ولو بواحد لا زكاة فيه. وبالمناسبة هنا: فالفضة توزن بالدرهم وتصك
عملة بالدرهم، فالدرهم في الفضة وحدة وزن ووحدة عد، فتقول: يملك
مائة درهم. يعني: نقوداً، أو يملك مائة درهم. يعني: سبيكة تزن
مائتي درهم. والذهب وحدة وزنه المثقال، والمثقال أيضاً وحدة وزن
ووحدة عد؛ فالدينار: اسم للنقد، والمثقال: اسم للوزن، والدينار
والمثقال شيء واحد. والمائتا درهم قد تكون دراهم على حدة، وقد تكون
دراهم تجمع في القطعة الواحدة، فمثلاً: الريال السعودي: كان ثلاثة
دراهم وثلاثة أرباع، الريال الفرنسي كان بريالين سعودي، وقد توجد
القطعة النقدية من الريال والروبية غير هذا على حسب اصطلاحات
البلاد كم في هذه القطعة من درهم شرعي، فإذا اجتمع عندهم من
الريالات ما يعادل المائتي درهم من الفضة، وهو بالريال السعودي ستة
وخمسون ريالاً فيكون قد وجد عنده نصاب، فتجب عليه فيه زكاتها، أي:
زكاة الفضة في هذا النصاب، فإذا حال عليه الحول أخرج ربع العشر،
أي: (2.5%).
التقايض بين المالك والمصدق إذا لم يوجد السن المطلوب إخراجه
قال: (ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده
حقة فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين
درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة،
فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطي المصدق عشرين درهماً أو شاتين). بين
هنا أوضاع الإبل وظروف المالك فيما إذا لم تتح الفرصة لوجود ما يجب
عليه من الزكاة، فإذا كان عنده من عدد الإبل ما تجب فيه الحقة، ولم
توجد عنده هذه الحقة وكانت عنده جذعة، والجذعة: أكبر منها بسنة،
فهي أكثر قيمة، وتؤخذ في العدد الأكثر. فإذا وجدت عند من وجبت عليه
الحقة جذعةٌ فإنها تؤخذ منه، ويعوض عن الزائد في الحقة شاتين أو
عشرين درهماً يدفعها إليه المصدق، أي: العامل الذي جاء ليأخذ
الصدقة. وكذلك العكس: إذا وجبت عليه في إبله جذعة، ولم توجد هذه(2/303)
الجذعة -والجذعة: هي التي جذعت سنَّيها الأماميين- ووجدت عنده حقة،
الحقة أقل قيمة من الجذعة، فيدفعها صاحب الإبل، ويدفع معها جبراً
للنقصان عن الجذعة شاتين أو عشرين درهماً. وهكذا في جميع ما يؤخذ
في زكاة الإبل كما بوب البخاري رحمه الله: من وجبت عليه بنت
مخاض ووجدت عنده بنت لبون فإنه يدفع بنت اللبون، ويأخذ فرقاً عن
بنت اللبون وبنت المخاض شاتين أو عشرين درهماً من العامل، أو
بالعكس: بأن وجدت عنده من الإبل ما فيها بنت لبون، لكنه لا يوجد في
إبله بنت لبون، وفيها بنت مخاض، فإنه يدفع بنت المخاض، ويدفع معها
جبراناً للنقص عن بنت اللبون شاتين أو عشرين درهماً. هكذا يقول
الجمهور بناء على منطوق هذا الحديث في هذا الكتاب. وبعض العلماء من
غير الأئمة الأربعة يقول: ليس هناك تقييد بالشاتين والدراهم، ولكن
ينظر بحسب كل وقت كم فرق ما بين بنت المخاض وبنت اللبون؟ فيقدر
ويدفع في الفرق بدلاً من الشاتين وبدلاً من العشرين درهماً؛ لأن
قيمة الشياه وتقدير الدراهم تختلف باختلاف الزمان والمكان. والله
تعالى أعلم.
( كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [4] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث بهز بن حكيم في عقوبة مانع الزكاة
2 زكاة الذهب والفضة
3 البقر العوامل لا زكاة فيها
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [5]
تجب الزكاة في النقدين الذهب والفضة إذا بلغا النصاب وحال عليهما
الحول، ومن منع الزكاة فقد سمح الشارع لولي أمر المسلمين أن يأخذها منه
قهراً وزيادة تأديباً على الامتناع، وإن كانوا كثيرين وذوو منعة قاتلهم
الإمام.
شرح حديث بهز بن حكيم في عقوبة مانع الزكاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المصنف رحمه
الله: [ وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في كل سائمة إبل في أربعين بنت(2/304)
لبون، لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجراً بها فله أجرها،
ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لآل
محمد منها شيء ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي ،
وصححه الحاكم ، وعلق الشافعي القول به على ثبوته ].
اشتراط السوم لوجوب الزكاة في بهيمة الأنعام
جاء المصنف رحمه الله بحديث بهز بن حكيم بن حزام ، بأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (في كل سائمة الإبل في كل أربعين بنت
لبون)، وقد تقدم لنا أن بنت اللبون تكون من ست وثلاثين إلى خمس
وأربعين، أي: أن الأربعين المذكورة هنا داخلة في نصاب بنت اللبون،
وعلى هذا يكون الحديث فيه فائدة جديدة، وهي: اشتراط وصف السوم في
الإبل. وهذا الشرط عام في جميع بهيمة الأنعام، فإذا كان يمتلك
أربعين من الغنم وهو نصاب، ولكنه يتكلف العلف إليها بأن يزرع لها
البرسيم، أو يشتري لها الشعير أو يزرعه، فهذه تسمى معلوفة،
والسائمة هي التي يسرح بها الراعي تسوم في أرض الله، تأكل من
النباتات والعشب الذي ينبته الله في الأرض عن طريق الأمطار، ولا
يتكلف لها علفاً. وهنا يبحث الفقهاء فيما لو كانت بهيمة الأنعام
سائمة نصف الحول؛ بأن جاءت الأمطار ونبت العشب، ورعت بهيمة الأنعام
من هذا العشب ستة أشهر، ثم انقضى العشب في الخلاء، واضطر إلى أن
يشتري لها العلف، فعلفها ستة أشهر، فيقول بعض الفقهاء: عليه نصف
الزكاة؛ لأنها استوفت شرط الزكاة وهو حولان الحول، ونصف الشرط
الآخر وهو السوم، فإذا كانت أربعين شاة فعليه نصف شاة، وإذا كانت
مائة وواحدة وعشرين شاة فيها شاتان فعليه شاة واحدة. وهكذا يجزأ
الواجب على بهيمة الأنعام بالنسبة إلى السوم والعلف، فإن كانت
سائمة طيلة العام فعليه الزكاة كاملة، وإن كانت معلوفة طيلة العام
فلا زكاة عليه، وإن كانت سائمة تارة ومعلوفة تارة فبحسب ذلك يؤخذ
منه الزكاة.
عقوبة مانعي الزكاة والفرق بين الجحد والمنع(2/305)
ثم في الحديث بيان عقوبة من منع الزكاة، فذكر في هذا الحديث: (من
أعطاها مؤتجراً) أي: طائعاً مختاراً، طالباً الأجر من الله لأداء
فريضة الزكاة عليه؛ لأن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وهي حق
المال؛ فإذا أدى ذلك ممتثلاً أمر الله، وطالباً الأجر من الله فبها
ونعمت. قوله: (ومن منعها): هناك فرق بين (من منعها) و(من جحدها)
فالجحود لما ثبت أنه من الدين بالضرورة كفر عياذاً بالله! الامتناع
من العطاء أو الامتثال معصية. ونذكر ما فعله الصديق رضي الله
تعالى عنه مع مانعي الزكاة، فبعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى
الرفيق الأعلى كان موقف الناس من الزكاة على عدة أقسام: منهم من
كان من قال: انتهى أمر الزكاة فلا زكاة، وجحد استمرار وجوبها،
ومنهم لا زال مقراً بالزكاة ولكن قال: أنا أخرجها بنفسي، ولا
أدفعها لأبي بكر ، هذه أموالنا ونحن مسئولون عنها، فنحن نقسم
زكاتها. وكان الأكثر قد جحدوا الزكاة، وصاحب ذلك ردة بعض القبائل.
فقام الصديق رضي الله تعالى عنه وأعلنها قائلاً: (والله
لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة). وهذا في حق (من جحدها)، وقال:
(والله لو منعوني عَقالاً -أو عِقالاً أو عَناقاً- كانوا يؤدونه
إلى رسول الله لقاتلتهم عليه). إذاً: قام بالأمر، وعمر رضي
الله تعالى عنه استوضح في الأمر، وقال: (أتقاتل قوماً يشهدون أن لا
إله إلا الله! -هذا في غير المرتدين- فقال: يا عمر ! أجبار في
الجاهلية وخوّار في الإسلام؟! ألم يقل: (إلا بحقها) أي: من قال لا
إله إلا الله بحقها، ومن حق لا إله إلا الله إيتاء الزكاة، فيقول
عمر : (فرأيت أن الحق مع أبي بكر ، فشرح الله صدري لما قال
أبو بكر ). فسموا قتال أبي بكر لمانعي الزكاة مع غيرهم:
قتال الردة أو حرب أهل الردة، وليس من منع الزكاة مرتداً كمن
قالوا: نحن نخرجها بأنفسنا، ولكنه افتيات على ولي الأمر؛ لأن الله
سبحانه أوجب على ولي الأمر أن يقوم فيها؛ لقوله سبحانه: خُذْ(2/306)
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]
وهذا فعل أمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، والخليفة من بعده
يقوم مقامه، وهكذا كل من ولي أمر المسلمين فإنه يقوم مقامه صلى
الله عليه وسلم فيما يجب على الإمام: الَّذِينَ
إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ [الحج:41]،
فالزكاة قرينة الصلاة في وجوبها، ومهمة أخذها وتوزيعها على من
يتولى أمر المسلمين. وتقدم لنا بأن صدقات المسلمين تؤخذ على
مياههم، يأخذها نواب ولي الأمر، فيذهبون إليهم ويحصون ما عندهم،
ويأخذون ما وجب عليهم. ومعنى (عناقاً): هو ولد الشاة الصغير، ومعنى
(عَقالاً) بالفتح: نصيب الزكاة في السنة، ومعنى (عِقالاً) بالكسر:
الحبل الذي يكون في عنق البعير يعقل به حتى لا ينهض قائماً، فلكأنه
يقول: لو أعطوني الإبل التي كانوا يعطونها لرسول الله صلى الله
عليه وسلم ونقصوا عقال واحدة منها لقاتلتهم عليه، فإذا كان
سيقاتلهم على الحبل الذي يعقل به البعير هل يتركهم فيما وجب من بنت
مخاض ولبون وحقة وجذعة ومسنة؟ ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (من
أعطاها مؤتجراً) طالباً الأجر (فبها ونعمت، ومن منعها) -أي: غير
جاحد (فإنا) بالتأكيد (آخذوها) أي: بالقوة (وشطر ماله) والشطر:
النصف، فلماذا يأخذ شطر ماله؟ قالوا: هذا من باب العقوبة بالمال،
والحديث فيه تتمة: (وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ). هذا
التدليل مهم جداً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: من منعها أخذناها
بالقوة، والقوة تحتاج إلى قتال، والقتال يحتاج إلى رجال، والمقاتلة
لابد فيها من ضحايا، فنضحي ببعض المسلمين من أجل دفع الزكاة! فما
حظه صلى الله عليه وسلم منها حتى يقاتل عليها؟ يقول: أنا كلفت
بأخذها: خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ [التوبة:103]،
ووجب علي القيام بهذا الواجب، مع أني لا حظ لي فيها، أي: فيقوم
فيها لمصلحتكم أنتم، فقيامه صلى الله عليه وسلم في الزكاة فمصلحة(2/307)
لمصلحة الأغنياء والفقراء، فمصلحة الأغنياء: إبراء ذمتهم، ومصلحة
الفقراء: إيصال حقهم إليهم.
فرض الزكاة حفظ لكرامة المساكين
ومن هنا -أيها الإخوة- نعلم أن فرض الزكاة للفقراء ليس معناه
إذلالهم ولا إراقة مياه وجوههم، بل يأخذونها مع حفظ كرامتهم، وقد
قال سبحانه: لا
تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]،
ثم بين أيضاً فقال: قَوْلٌ
مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]،
وكل ذلك حفاظاً على كرامة الإنسان؛ لأن الفقر والغناء ابتلاء من
الله، لو شاء لحوَّل المال من الغني إلى الفقير: وما يدري الفقير
متى غناه ما يدري الغني متى يعيل وما تدري وإن ضمرت صقباً لمن يكون
ذاك الفصيل فلو ولدت الناقة وأنت قمت على الفصيل الصغير ونظفته
وهذبته وفعلت كل شيء، فإنك لا تدري هو لك أو تذهب وتدعه لغيرك.
إذاً: الابتلاء بالمال في الغنى وفي الفقر امتحان من الله للعبد؛
أيشكر الغني على غناه؟! ويصبر الفقير على فقره؟! فمن هنا كان هذا
الحق مع كرامة المسكين، فإنه لم يقل له: اذهب وخذ حقك من الأغنياء؛
لأنهما ربما يعطونه وربما يماطلونه أو يعقدون الوجه في وجهه، ولذا
كلف الرسول الكريم -وهي لا تحل له- بأن يقوم عليها ويأخذها، ومن
امتنع قاتله وأخذها عنوة، وأخذ شطر ماله.
العقوبة المالية
وهنا يبحث العلماء في هذا الحديث: فهو من حيث السند متكلم فيه، ومن
حيث المعنى هل في الإسلام عقوبات مالية؟ قالوا: نعم، وهذا دليلها.
ثم قالوا: في الغاصب أيضاً إذا كان قد أنشأ فيما غصب زرعاً أو
بناءً هدم عليه؛ عقوبة له على غصبه. إذاً: العقوبة المالية موجودة،
ولكن بعض المتأخرين -وخاصة شارح هذا الكتاب- يقول: إننا إذا وسعنا
الأمر لولاة الأمر في العقوبات المالية فلربما تطلعت نفوس الضعفاء
منهم إلى أموال الرعية، فتذرعوا بأوهى الأسباب ليأخذوا الأموال(2/308)
قهراً، وليأخذوها بغير حق، وبادعاء أنها عقوبة مالية، ولذا نقول:
لا ينبغي أن يتعدى ولي أمر في عقوبة مالية إلا ما ورد به الشرع.
وهنا قال: (أخذناها وشطر ماله)، الشطر: النصف (عزمة من عزمات ربنا)
أي: ليس فيها هوادة ولا تساهل.
تعطل حق آل البيت من الخمس هل يبيح لهم الصدقة
وليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) أي: حتى آل البيت ليس لهم من
هذه الصدقات شيء. ولكن في الوقت الحاضر يوجد أناس من آل البيت،
وكان لهم في السابق سهم في الخمس، وكانوا يأخذون ما يكفيهم من خمس
الغنائم من سهم الله ورسوله وذوي القربى، وكانوا يستغنون بذلك،
فالآن لا خمس ولا سدس، فقد تعطل حقهم في المال. فإذا وجد من آل
البيت من يستحق الصدقة لو لم يكن من آل البيت؛ أنتركه يجوع لأنه من
آل البيت، أم أننا نعطيه بصفة الفاقة والحاجة ويكون قد أخذ لا لأنه
من آل البيت، بل لأنه فرد مسلم مستحق محتاج؟ والذي حرمها على آل
البيت ما قاله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصدقة أوساخ الناس )
ولا يليق بآل بيت رسول الله الذين يريد الله أن يطهرهم تطهيراً أن
يتناولوا أوساخ الناس، ولكن ما دام الحق الأساسي قد تعطل عليهم،
وأصبحوا بصفة الفقر أو الحاجة كغيرهم، فإذاً يعطون من الزكاة. وقد
وقع الخلاف في عامل الزكاة إذا كان من آل البيت: وَالْعَامِلِينَ
عَلَيْهَا [التوبة:60]؛
أيأخذ أجره من الزكاة؟ فبعض العلماء يقول: لا يكون العامل من آل
البيت حتى لا يأخذ أجره من الزكاة التي هي أوساخ الناس. وبعضهم
يقول: هو يأخذ بعمله لا بكونه من آل البيت. والآخرون قالوا: إذا
احتيج إليه فإنه يعمل ويأخذ أجره من بيت مال المسلمين الذي يمون
بالفيء والغنائم. والذي يهمنا هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا
تحل لمحمد ولا لآل محمد)، وهذا كان معمولاً به في السابق كما في
قصة بريرة مولاة عائشة رضي الله تعالى عنهما، حيث اشترتها
وأعتقتها، فتصدق بلحم على بريرة ؛ لأنها ليست من آل البيت، بل(2/309)
هي مولاة لهم، (مولى القوم من أنفسهم). فجاء صلى الله عليه وسلم
وطلب الغداء، فقدم إليه الخبز والملح والخل، فتساءل عن سبب تقديم
(الخبز والملح والخل وهو يرى البرمة تغط على النار؟ قالوا: إن ما
فيها لا يصلح لك؛ لأنه لحم تصدق به على بريرة ، فقال صلى الله
عليه وسلم: (هو عليها صدقة، ولنا منها هدية. وأكل منه ). وجاء
عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يمشي ومعه الحسن فوجد تمرة في
الأرض فالتقطها إلى فيه، فحالاً أدخل صلى الله عليه وسلم إصبعه في
فيِّ الصبي وأخرجها وقال: كخ! كخ! ثم قال: لولا أني أخشى أن تكون
من تمر الصدقة لتركته يأكلها )، فإلى هذا الحد كان يتحرز صلى
الله عليه وسلم من أكل الصدقة؛ لأنها من أوساخ الناس، فهي لا تحل
لمحمد ولا لآله، وأبناء فاطمة من آل محمد صلى الله عليه وسلم.
وهناك من يتكلم على هذه اللفظة (وشطر) فيقول: إن العقوبة بالمال لا
تأتي، وإن الرواية (وشُطِرَ ماله)، بمعنى: قسم ماله قسمين: قسم
خيار المال، وقسم رديء المال، ويأتي المصدق ويتخير من خيار المال،
يعني: هو كان يمتنع من تقديم الزكاة من وسط المال، فجاء عقوبة له
أن تؤخذ من خيار ماله رغماً عنه، ولكن الجمهور على اللفظ الأول:
(آخذوها وشطْر ماله ) أي: ونصف ماله معها عقوبة له على منعه
للزكاة.
زكاة الذهب والفضة
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت لك مائتا درهم، وحال
عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون
ديناراً وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك،
وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول ) رواه أبو داود ، وهو
حسن، وقد اختلف في رفعه ]. انتهى المؤلف رحمه الله من جميع ما
يتعلق ببهيمة الأنعام، وجاء إلى النقدين: الذهب والفضة، فذكر هذا
الأثر عن علي رضي الله تعالى عنه. ثم النقاش في هذا الأثر(2/310)
برمته أهو موقوف على علي من كلامه، أم هو مرفوع إلى النبي صلى
الله عليه وسلم وعلي ينقله عن رسول الله؟ على كلا الحالتين
علماء الحديث يقولون: سواء كان موقوفاً على علي أو كان مرفوعاً
إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن فله حكم الرفع، فهو مرفوع
بالفعل أو له حكم الرفع. قالوا: لأن فيه الكلام على تشريع في ركن
أساسي، وبيان أنصباء الأموال وما يجب فيها، وليس هذا محل اجتهاد،
فلا يتأتى لعلي ولا لغيره أن يتكلم في هذا المجال من عنده،
والحق في ذلك أنه بيان لمجمل في كتاب الله: وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]
وقال تعالى: وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]،
فمن الذي يبين لهم الزكاة حتى لا تكون كنزاً، ويسلمون من أن تكوى
بها جباههم وظهورهم؟ لا يكون ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه
وسلم. إذاً: لا حاجة إلى البحث في سند الحديث مادام أنه صح عن علي رضي الله تعالى عنه، فهو إن كان موقوفاً عليه فله حكم الرفع، وإن
كان قد رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهو المطلوب.
اشتراط النصاب في زكاة النقدين
قوله: (إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول) أي: مضى عليها
حول كامل، والحول: هو السنة؛ لأنه يحول ويعود. قوله: (ففيها خمسة
دراهم) فخمسة دراهم تخرج من (200درهم)، (200÷5=40)، أي ففي كل (40
درهم) درهم درهماً واحداً، فيكون المخرج (1.4) فننسبه مئوياً وعشر
الأربعين هو (1.10×40=4)، وربع الأربعة هو (1.4×4=1)، فهو ربع
العشر وهو (2.5%)، فهذه النسبة ثابتة في الذهب والفضة. والذي يهمنا
هنا: اشتراط بلوغ النصاب في الفضة مائتي درهم، واشتراط حولان
الحول، وعليه فلا زكاة في الفضة إلا بامتلاك نصاب كامل، ويبقى هذا
النصاب مخزوناً بلا حاجة تدعو إليه سنة كاملة. إذاً: ما دام أن(2/311)
لديه مائتي درهم، ومرت عليه سنة وما احتاج منها إلى شيء، فهو غني،
ولو كان فقيراً لأخذ منها، لكن هذه الدراهم نائمة مستريحة ما حرك
فيها ساكناً، فهو في غنى عنها، سواء كانت من صناعة أو تجارة أو
زراعة، فمن كان عنده رأس مال نائم لم يحركه لحاجة ولا ضرورة، فهذا
غني، وهذا من الإرفاق بالغني فلا تؤخذ زكاة ماله إلا إذا ثبت غناه،
وما الذي يثبت غناه؟ وجود النصاب سنة كاملة ما امتدت يده إليه. ومن
ناحية أخرى: عنده مائتان، أخذنا منه خمسة وهي:(2.5%)، فهي نسبة
ضئيلة جداً لا تؤثر عليه؛ فهذا إرفاق به مرة أخرى. ومن هنا نجد
الزكاة مبنية على الإرفاق بالغني، كما هي مشروعة للإرفاق بالفقير،
ومن الإرفاق بالغني اشتراط حولان الحول؛ لأنها علامة على غناه، ومن
الإرفاق به أن يكون الجزء المأخوذ ضئيلاً جداً لا يؤثر عليه، وما
يؤخذ من الغني كثير أو قليل فهو إرفاق بالفقير كما قيل: بث الجميل
ولا تمنعك خلته فكل ما سد فقراً فهو محمود وكما قال صلى الله عليه
وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة ) أي: رجل شاة محرقة
لا تحتقره المرأة في أن تهديه لجارتها، لتذهب فتشويه أو تسلقه حتى
تحصل منه شيئاً، وقد سمعنا في بعض القصص أنه مر على المدينة سنين
جوع، كانوا يتبعون جلود الحيوانات فينفضونها ويدقونها، ويصنعون
منها طعاماً. فإذاً: لا تحتقر شيئاً، وفي الحديث: (اتقوا النار ولو
بشق تمرة ) . امرأة مسكينة تأتي إلى بيت رسول الله فتجد أم
المؤمنين عائشة وبيدها قطف عنب فتسألها، فتعطيها حبة مما في
يدها، فتأخذها المرأة وتنظر فيها تستقلها، فقالت لها عائشة :
يا أمة الله! انظري كم فيها من ذرة، والله يقول: فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7]
تستكثرها. والمرأة التي شقت التمرة شقين، وأعطت كل شق لطفلة من
بناتها، ثم أخذت النواة تمصها، اجتزأت بهذا. إذاً: كل ما يؤخذ من(2/312)
الغني للفقير قليلاً كان أو كثيراً فهو كل ما سد فقراً، فهو محمود.
إذاً: يبين لنا علي رضي الله تعالى عنه بأنه لا تجب على
الإنسان في الفضة زكاة حتى يمتلك مائتي درهم، ولا زكاة عليه في
المائتي درهم حتى يحول عليها الحول. قوله: (وليس عليك شيء حتى يكون
لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد
فبحساب ذلك). جاء علي رضي الله تعالى عنه هنا ببيان نصاب الذهب
فقال: (لا شيء عليك في الذهب حتى تمتلك عشرين مثقالاً) ومسمى
المثقال والدينار واحد، فالدينار: اسم للوحدة النقدية، والمثقال:
اسم للوحدة الوزنية، وكما تقدم بأن نسبة الدرهم إلى الدينار هي: كل
عشرة دراهم تزن سبعة مثاقيل، أي: أن المثقال درهم وثلاثة أسباع.
قوله: (ولا زكاة عليك حتى يحول عليها الحول) أي: كشأن الفضة، فإذا
امتلكت عشرين مثقالاً وحال عليها الحول فعليك فيها نصف مثقال،
النصف في العشرين كم يعادل في المائة؟ واحد في الأربعين، والمائة
فيها أربعون وأربعون أخرى، ونصف الأربعين، فتكون هي 2.5%.
اشتراط الحول في زكاة النقدين
قوله: (وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول). هذه قضية عامة
يذكرها علي رضي الله تعالى عنه، وهذا بالإجماع في بهيمة
الأنعام، وفي النقدين (الذهب والفضة)، وفي عروض التجارة. أما المال
الذي يأتي عن طريق إنبات الأرض فليس فيه حول، قال تعالى: وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]
فيزكى عنه عند حصوله، فإذا استوى التمر وجذ وجفف وكان قد خرص قبل
أن يجذ، فيؤدي الزكاة يوم أن جف التمر، وكذلك الحبوب نصابها -على
ما سيأتي- خمسة أوسق، عندما يصفي الحب، تخرج زكاته. إذاً: (ولا
زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) هذا عام، ولكن يراد به مخصوص،
وهو بهيمة الأنعام، والذهب والفضة وعروض التجارة، وما عداها ففيه
التفصيل، أما الزروع والحبوب فيوم حصاده، وأما اللقطة أو الكنز أو(2/313)
ما وجد دفيناً -الركاز أو المعدن- أو غير ذلك فله تفصيل آخر يأتي
في محله إن شاء الله.
زكاة المال المستفاد أثناء الحول
قال المؤلف: [ وللترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (من
استفاد مالاً فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول) والراجح وقفه ].
هذا الأثر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: (من استفاد
مالاً) هذه المسألة يبحث فيها الفقهاء المال المتجدد أثناء الحول،
فمثلاً: عندك مال قدره مائتا درهم، وليكن هذا المال من التجارة،
فيزيد ويزيد إلى أن يأتي نهاية الحول وقد صارت المائتان ألفاً،
فعند تقدير العروض في نهاية الحول تزكي ما وجد عندك، ولا تقتصر على
زكاة أول ما ابتدأت به. فإذا كنت بدأت الكسب بالتجارة أو الموظف
يوفر من راتبه كل شهر شيئاً، إلى أن بلغ التوفير نصاباً، فيبدأ
حساب الحول، فإذا وصل إلى نهاية الحول من يوم ما تم عنده النصاب،
وفي أثناء ذلك كان يضم توفيراً مع توفير لشهر مع شهر، إلى النصاب،
فكل ذلك يتبع الأصل الأول، وفي نهاية الحول ينظر ماذا اجتمع عنده
حتى الراتب الأخير الذي هو قبل الحول مباشرة، ويزكي الجميع. فكذلك
التاجر: ينظر ماذا ربح، وماذا وجد عنده من أول ما بلغت تجارته
النصاب إلى أن يحول الحول، وفي نهاية الحول ينظر كم وجد عنده؟ خمسة
أنصبة أو ستة أو أكثر أو أقل، فيزكي تجارته بما فيها ما دخل عليه
قبل الحول بيوم واحد، ولا نقول: له حول جديد؛ لأن أصله واحد وهو
التجارة، وكذلك الموظف أصل ماله وهو الوظيفة. لكن هذا التاجر وذاك
الموظف إذا استفاد مالاً آخر أثناء الحول، سوء في منتصف الحول أو
قبل تمام الحول بشهرين أو ثلاثة بأن جاءه ميراث مثلاً، فهل المال
الذي جاءه من الميراث تابع للتجارة أم مستقل؟ مستقل. فعلى هذا يقول
ابن عمر : يجعل له حولاً جديداً، فحول التجارة وحده ويزكيها في
نهاية الحول، وحول الميراث يمضي في طريقه حتى إذا حال عليه الحول(2/314)
عنده زكاه، وبهذا القول يقول الشافعي رحمه الله: أعني أن من
استفاد مالاً أثناء الحول اعتبر له حولاً جديداً. أما الجمهور
فيقولون: المال واحد، سواء جاء بالتجارة، أو جاء بالميراث، أو جاء
بالهبة، أو جاء بغيره فكله دخل في ملكه وصندوقه، ينظر في نهاية
الحول ويزكي الجميع.
البقر العوامل لا زكاة فيها
قال المؤلف: [ وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: (ليس في البقر
العوامل صدقة) رواه أبو داود والدارقطني ، والراجح وقفه
أيضاً ]. تقدم الكلام على أنصباء البقر وأنه في كل ثلاثين تبيع،
وفي كل أربعين مسنة، وهذا مطلق في عموم البقر، فجاء المؤلف بأثر
علي رضي الله تعالى عنه ليقيد ذاك العموم وهو قوله: (ليس في
البقر العوامل صدقة)، أي: في كل أربعين تبيع إذا لم تكن عوامل.
والبقر العوامل جاء الأثر أنها التي تثير الأرض، أي: تستخدم في
الحرث للزراعة، وقد تستخدم في جر العربات أو في السواني -أي: في
نضح الماء- إلى غير ذلك، وذلك أن عمل البقر فيما يتعلق بالزراعة
سيترتب عليه ثمرة، وهي إما ثمرة الشجر كنخل وعنب وزيتون، وإما حب
ذرة وشعير وغيره على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله. وإذا كان ما
تعمله البقر ستؤخذ زكاته يوم حصاده فلا يتأتى أن تؤخذ زكاة الحبوب
أو الثمار الناشئ عن عمل البقر، ثم تؤخذ الزكاة من البقر الذي نشأ
عن عمله تلك الثمار أو الزروع، وهو ما يسمى يعبر عنه بعض المعاصرين
بقولهم: (لا ثنية في الزكاة) يعني: لا تؤخذ الزكاة من مال مرتين.
وكونه يقول: (موقوف على علي ). تقدم التنبيه على مثل ذلك
الموقوف أنه تشريع، والتشريع لا يكون بالاجتهاد ولا بالرأي، فله
حكم الرفع، وعليه يكون علياً رضي الله تعالى عنه قد سمع ذلك من
الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر ما سمعه دون أن يسند إلى النبي
صلى الله عليه وسلم، وتقدم هذا في عدة أحاديث في باب الزكاة. ونذكر
الإخوة بأن علياً رضي الله تعالى عنه كانت عنده صحيفة، فلما(2/315)
سئل: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم آل البيت بشيء من
العلم دون الناس؟ -هل أعطاكم علماً لم يعطه لأحد غيركم؟ قال: لا؛
إلا فهم أوتيه رجل في كتاب الله، وما في هذه الصحيفة. قالوا: وما
فيها؟ قال: أنصباء الزكاة، والعقل، وفكاك الأسير ) . إذاً: علي رضي الله تعالى عنه كانت عنده صحيفة كما كتب أبو بكر رضي الله
تعالى عنه لأنس الكتاب الذي بيَّن فيه أنصباء الزكاة، وما
كانت كتابة أبي بكر عن رأيه هو، ولكنه عن سماع سمعه من رسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن إيجاب الزكاة فريضة، وإسقاطها يكون
إسقاطاً للحق. فكون علي رضي الله تعالى عنه يقول: (ليس في
البقر العوامل زكاة) فيه إسقاط حق الفقراء في هذه الأبقار، وعلي لا يملك أن يسقط حقاً أوجبه الله في قوله سبحانه: وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19]
إذاً: علي لن يقول مثل ذلك إلا إذا كان عن سماع من رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث وإن كان في البقر فإنه يرد قول
المالكية بأن في الإبل العوامل زكاة، ووجهة نظر مالك رحمه الله
أن الإبل من حيث هي مال ينمو بالتناسل، فإذا ملك منه النصاب فعليه
الزكاة، وما كان منها من العمل فمالك يقول: هذا العمل من هذه
الإبل زيادة منفعة لصاحبها، فالتي لا تعمل ولا يستفيد منها إلا
زيادة النماء والنسل فيها زكاة، فمن باب أولى إذا كان فيها النماء
والنسل ومع ذلك تعمل، فعملها زيادة فائدة، ففيها الزكاة. ولكن
الجمهور -كما أشرنا- لم يأخذوا من الإبل ولا من البقر العوامل
زكاة؛ لأن عملها سيترتب عليه فائدة فتؤخذ الزكاة من تلك الفائدة،
فلا نعود عليها بأن نأخذ زكاتها مرة أخرى، اللهم إلا أن تكون عروض
تجارة، كأن يتاجر في الإبل ويشغلها، ويتاجر في البقر ويُعملها،
فخرجت عن زكاة بهيمة الأنعام بأنصبائها: ثلاثين وأربعين وغيرها،
وخرجت عما يخرج فيها من تبيع ومسنة، وعن بنت مخاض وبنت لبون، ودخلت(2/316)
في عروض التجارة، فتقدر قيمتها، ويخرج من مجموع القيمة قدر (2.5%)،
وليس فيها وقص كما في أصل بهيمة الأنعام، بل تعامل معاملة عروض
التجارة.
( كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [6] )
عناصر الموضوع
1 حديث جابر في أنصبة الزكويات
2 مقدار زكاة ما يخرج من الأرض
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [7]
من رحمة الله بعباده أنه لم يوجب عليهم الزكاة إلا فيما بلغ النصاب
الذي هو مقياس الغنى، وكان قد حال عليه الحول، وقد جاء الشرع بتقدير
نصاب الفضة بمائتي درهم، لكن الكثير من الناس يجهل مقدار ذلك خاصة بعد
ترك التعامل بالدراهم الفضية، وشيوع العملات الورقية، فجاء البيان هنا
للطريقة التي يعرف بها نصاب الفضة بالعملات الحديثة المتداولة اليوم.
حديث جابر في أنصبة الزكويات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه
الله: [ وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس
فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل
صدقة، وليس فيما دون خمس أوسق من التمر صدقة ) رواه مسلم ].
أتى المصنف رحمه الله تعالى إلى هذه المسألة، وقد أجمعوا على أن
الأموال المتفق على زكاتها أربعة وهي: بهيمة الأنعام، والذهب
والفضة، والزروع والثمار، وعروض التجارة. فهذه الأجناس من حيث هي
زكوية، ويختلف التفصيل فيها حسب نوعها وطريقة الحصول عليها. وفي
هذا الحديث يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الأموال الزكوية
لها أنصباء، بخلاف من شذ وقال: كل مال يزكى ولا عبرة بنصاب ولا
بحولان الحول! وهذا في الواقع فيه إجحاف على المالك؛ لأنه يحمله
الزكاة على كل ما يملكه ولو كانت له فيه حاجة. فاشتراط بلوغ المال
الزكوي نصاباً فلأنه يدل على وفرته في يد صاحبه، وكذلك اشتراط
الحول يدل على استغنائه عنه حولاً كاملاً، ومن كان في يده مال(2/317)
مستغن عنه لمدة سنة فلا شك أنه غني، أما الفقير فهو إما أنه لا
يملك شيئاً، أو إذا ملك شيئاً فإنه لا يستمر في يده إلى حول كامل.
ومن هنا قالوا: مشروعية الزكاة بنيت على الإرفاق والتعاون، فهي
إرفاق بالمالك فلا يكلف الزكاة إلا في حالة غنى، وحالة الغنى أن
يملك نصاباً من المال الزكوي يستغني عنه سنة كاملة، وحالة الإرفاق
بالفقير أن يأخذ جزءاً من مال الغني يستعين به، ومن الإرفاق بالغني
أيضاً قلة ما يؤخذ منه في النصاب الذي يملكه.
نصاب الفضة
وهنا في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس
فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)، إذاً الخمس الأواقي هي النصاب،
وما كان أقل منها فلا زكاة فيه؛ لأنها قليلة، والورق إنما هو الفضة
كما جاء في قوله سبحانه: فَابْعَثُوا
أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ [الكهف:19].
والخمس الأواقي: مائتا درهم، وقد جاء النص صريحاً في مائتي درهم،
وجاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها فيما يتعلق
بالصداق في الزواج بأن الأوقية أربعون درهماً، وخمس أواق في أربعين
بمائتين. وعلى هذا يتقرر عندنا أن الفضة من الأموال الزكوية، وهي
من النقدين، وأن لها نصاباً وهو خمس أواق، ثم الخمس الأواقي أو
النصاب لا زكاة فيها حتى يحول عليها الحول، وسيأتي النص على أنه
يخرج منها ربع العشر، وربع العشر مطرد في الذهب والفضة، والذي
يهمنا الأنواع المنصوص عليها في هذا الحديث.
شروط زكاة الفضة
إذاً: المبدأ الأساسي في التشريع: أنه لا زكاة في الفضة على من
يملكها إلا بشرطين. الشرط الأول: بلوغ النصاب، وهو خمس أواق، وليس
عندنا اليوم أواق، ولكن نحن نقول: هذا المبدأ التشريعي، والخمس
الأواقي مائتا درهم؛ هذا الشرط الأول. الشرط الثاني: حولان الحول
على هذا النصاب. ومعنى حولان الحول: أن يستمر المبلغ نصاباً لا
ينقص، وإذا زاد فبحسابه. وفي ابتداء الحول ننظر في الخمس الأواقي(2/318)
مثلاً، فإن كان اكتسبها مرة واحدة فيبدأ حساب الحول من يوم
اكتسبها، وإذا كان يكتسبها على دفعات كل شهر أوقية، كأن يوفر من
راتبه، أو يأتيه دخل ما فيوفر أوقية، فيتوفر عنده النصاب على خمسة
أشهر، فمن يوم أن اكتمل عنده خمس أواق يبدأ الحول، وإذا كان في
ازدياد، وبعد الخمسة الأشهر جاءت خمس أواق ثانية، فأصبح عنده عشر
أواق، وبعد شهرين جاءت أوقيتان، فمن أول ما بدأ الحول إلى نهايته
صار عنده اثنتا عشرة أوقية، فيزكي الجميع آخر الحول.
اشتراط بقاء النصاب طوال الحول دون نقص
إذا اجتمع عنده خمس أواق في شهر خمسة مثلاً، وبدأ الحول من شهر
خمسة، فإذا جاء شهر خمسة من السنة الثانية يكون قد اكتمل الحول
فيزكي، لكنه في شهر عشرة نقصت عليه أوقية، فهل النصاب باق أم نقص؟
نقص. وفي شهر أحد عشر جاءته أوقية، فعاد النصاب واكتمل، فهل نزكي
هذه الخمس الجديدة على حول الخمس الأولى، أم نبدأ حولاً جديداً من
يوم أن اكتملت بعد النقص؟ الجواب: إذا نقص النصاب في أثناء الحول
نستأنف الحول من يوم أن يكتمل؛ لأنه إذا استمر على هذا النقص وحال
الحول لم نأمره بالزكاة، لأنه لم يملك نصاباً حال عليه الحول، نعم.
كان قد امتلك نصاباً ولكن احتاج فنقص منه، ولهذا جعل الحول لأنه
مقياس الاستغناء. فإذا مرة عليك سنة وما احتجت منه شيئاً تبين أنك
مستغنٍ وأنه زيادة، لكن إذا كان ينقص ويزيد! وينقص ويزيد! فعند
نهاية الحول ننظر الخمسة موجودة، ولكن النقص الذي طرأ عليها،
والزيادة التي اكتملت بها خمس أواق كانت في الشهر الماضي مثلاً،
فيكون الشهر الماضي هو بداية الحول. هذا ما يتعلق بزكاة الفضة؛
لأنها يشترط لها شرطان: ملك النصاب، وأن يستمر هذا الملك تاماً حتى
يحول عليه الحول. فإن طرأت عليه زيادة تلحق بالأصل، فالأصل أن تضم،
ولكن الفقهاء لهم في هذا بحث وتفريع: فإن كانت الزيادة من جنس
الأصل الموجود عنده فإنها تلحق بالأصل وتزكى معه عند تمام حوله،(2/319)
وذلك مثل عروض التجارة، فهو كل يوم يربح أوقية.. نصف أوقية.. ربع
أوقية، فعندما اكتمل عنده خمس أواق استمر في الربح إلى نهاية
السنة، فصار عنده عشرون أوقية، فإذا حصل من العشرين أوقية على
واحدة في الأسبوع الماضي فهل نجعل لها حولاً مستقلاً أم هي تابعة
في نماء التجارة عنده؟ تابعة. إذاً: هذا هو المبدأ عندنا فيما
يتعلق بزيادة النصاب وما يتعلق بنقصان النصاب.
نصاب الإبل
قوله: (وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة): الذود: العدد الإبل.
والمعنى أن الذي عنده أربع أو ثلاث من الإبل أنه لا زكاة فيها.
وتقدم لنا في أنصباء الإبل أن في كل خمس شاة إلى عشرين، فإذا بلغت
خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض، فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت
لبون، إلى آخر الجدول المعروف الذي تقدم معنا. إذاً: هذا الحديث
يبين لنا أنصباء الأموال الزكوية: فنصاب الفضة خمس أواق، ونصاب
الإبل يبدأ بخمس من الإبل، وما كان أقل من ذلك فلا زكاة فيه.
أهمية معرفة المعايير والموازين وتوحيدها بين المسلمين
قوله: (وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة). تقدم معنا أن
الفضة لها نصاب، ونصابها خمس أواق، والأواقي قدرها مائتا درهم،
وليس المقصود الدرهم المغربي، فتلك عملة خاصة بالمغرب، كم تكون
المائتا درهم؟ ما أحد سأل ولا أحد فتش! نحن -يا إخوان- في هذه
الآونة الأخيرة تغيّرت كثير من اعتبارات الشرع عندنا، وخاصة
المكاييل والموازين، وكل أمة لها معاييرها الخاصة، وأذكر أن مسمى
الرطل كان في مصر يبلغ اثنتي عشرة أوقية، وكذلك في إسطنبول، والرطل
في القدس أقتان، مع أن الأقة الواحدة تساوي اثنين كيلوا، والرطل في
بغداد قريب من الرطل في مصر، فتختلف الموازين على حسب اصطلاح
الأمة؛ لأن لكل أمة أن تأخذ لنفسها وتضع لنفسها معاييرها الخاصة،
نحن نسمع الآن: (متر، وياردة، وإنش، وقدم، وفوت). فالمقاييس
الرسمية المتعامل بها اليوم هي المتر والياردة والإنش، فهذه(2/320)
مقاييس، وعند المساحات (فدان وهكتار، وقيراط) وكذلك المكاييل: (مد،
وصاع، وكيلو، وربع، وملوا، وقدح)، فهذه مكاييل وموازين ومقاييس قد
تصطلح كل أمة على ما يصلح عندها. وقد قال العز بن عبد السلام :
على الأمة أن تطيع ولي أمرها في أربعة: أولاً: نوع المكيال، ونوع
الميزان الذي يأمر بالتعامل به، فإذا قال: تعاملوا بالأقة، أو قال:
تعاملوا بالرطل، أو قال: تعاملوا بهذه الصنجة التي سأصنعها ثم صنع
صنجة وسماها، فيجب أن يكون الوزن بها وبأجزائها، ولا يحق لإنسان أن
يصنع صنجةً أخرى يزن بها للناس. ووحدة المكاييل والموازين ضرورية
في العالم؛ لئلا يأكل الناس أموال بعضهم بعضاً، فيأتي من يقول لك:
هذا وزن.. ، ويأتي آخر يقول لك: هذه أوزن.. هذه أنقص.. وأنا لا
أدري؟ لا. ولذا الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أنه من السنة
وحدة المكيال والميزان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (المكيال
مكيال المدينة ) وقال: (اللهم بارك لهم في صاعهم ومدهم ) ،
والصاع والمد مكيال، وجعل مكة وحدة الموازين فقال: (الميزان ميزان
مكة ). فالعالم الإسلامي عليه بحسب هذا الحديث أن يوحد مكاييله
على مكاييل المدينة، وموازينه على موازين مكة، مثل وحدة النقد، فهل
يمكن أن يكون في بلد واحد نقدان مختلفان لدولة واحدة؟ لا؛ بل لكل
دولة نقد مستقل، فكذلك لكل دولة مكيال وميزان مستقل. ثم قال العز
بن عبد السلام: في إعلان الحرب على عدو محارب، وعقد الهدنة مع
مقاتل، فإذا أعلن ولي أمر المسلمين حرباً على عدوه وجب على الأمة
أن تقوم معه، وإذا أعلن هدنة مع أمة وجب على المسلمين أن يلتزموا
بهذه الهدنة. فالمكيال والميزان من الأمور الاجتماعية التي يجب
توحيدها. وكان الدرهم أولاً ليس إسلامياً بل كان رومياً. وكذلك
المثقال ما كان موجوداً على عهده صلى الله عليه وسلم، ولكن المثقال
لم يختلف وزنه في جاهلية ولا إسلام، أما الدرهم فكان يتفاوت، وجاء(2/321)
في صدر الإسلام التعامل بالدراهم الأجنبية، وفي الدولة الأموية كان
الدرهم الصغير والدرهم الكبير، فجمع بعض ولاة بني أمية درهماً
صغيراً والآخر كبيراً، ثم قسمهما نصفين، واعتبر الدرهم نصف الكبير
ونصف الصغير، وتوحّد الدرهم، وصارت عشرة دراهم تزن سبعة مثاقيل.
والدرهم وحدة ميزان ووحدة نقد، تقول: الأوقية كذا ليرة، ونحن نقول:
الأوقية أربعون درهماً، والدينار يصرف بعشرة دراهم، وكان صرفه في
زمن عمر ما بين ثمانية إلى اثني عشر درهماً، واستقر الأمر على
أن الدينار يصرف بعشرة دراهم، وعشرون ديناراً هي نصاب الذهب،
ومائتا درهم هي نصاب الفضة. يبقى أن الدينار يعادل من الدراهم
عشرة؛ لأن عشرين ديناراً تعادل مائتي درهم، إذاً: الدينار وحدة وزن
ووحدة نقد، ولهذا ربما نجد في بعض كتب الفقه من يقول: كذا درهماً
وزناً، كذا درهماً عدّاً، فإذا قال لك: وزناً، فالمعنى أنه موزون
وزنه كذا، وإذا قال لك: عداً، فالمعنى أنه وحدة نقدية يعد كذا
درهماً.
تقدير نصاب الفضة بالعملات الحديثة
فكما قلنا: إن لكل أمة أن توجد لنفسها من المكاييل والموازين ما
ترتضيه، فمع طول الزمن تتغير الدرهم وتتنوع المكاييل، أنت عندك
المد في السوق ليس هو المد النبوي، فقد تغير، والمد الذي في السوق
يعادل ثلاثة أمداد، والصاع الذي في السوق يعادل ثلاثة صيعان من صاع
النبي صلى الله عليه وسلم، بينما المد النبوي يكون ربع الصاع
النبوي، والمد التجاري اثنا عشر مداً نبوياً، إذاً: اختلفت
المكاييل في المدينة. كان ريال الفضة السعودي موجوداً وكان وحدة
نقد، الآن انتهى عن كونه نقداً وأصبح حلياً وتحفاً وهدايا، ولم يعد
يتداول كعملة سائرة بين الناس بوحدة الريال، ووزنه بالدراهم
المعروفة عندنا ثلاثة دراهم وثلاثة أرباع الدرهم، بتحرير العلماء
بأن المائتي درهم الواردة في نصاب الفضة تعادل ستة وخمسين ريالاً
سعودياً، الذي يزن الريال الواحد منها أربعة دراهم إلا ربع، ونحن(2/322)
نأخذ هذا كمعيار موجود عملياً. يبقى نصاب الفضة بالنسبة للريال
السعودي الذي كان يتداول، وهو موجود الآن يصاغ ويستعمل على هيئته
ووزنه، لكن لا يتداول بين الناس، لأنه لما جاءت هذه الأوراق أصبحت
الفضة تعادل الآن عشرين ريالاً ورقاً، إذاً: لا عبرة بهذا؛ لكن كيف
نحدد نصاب الفضة التي نمتلكها على المائتي درهم التي جاء الشرع
بها؟ نقول: إن العملة هي وسيلة الشراء، وهي الوسيط في التعامل،
فننظر إلى الفضة السعودي التي كانت متداولة والتي تعادل المائتي
درهم، فنأتي بالستة والخمسين ريالاً السعودي فننظر كم قيمتها
الشرائية في الأسواق؟ فهي أبعدت عن السوق وبقيت سلعة تباع وتشترى،
فإذا كان نصاب المائتي درهم يعادل وزناً الستة وخمسين ريالاً
سعودياً، والريال السعودي أربعة دراهم إلا ربع .. وقد عمل حساب
الرصاص أو النحاس الموجود مع الفضة ليشدها حتى تصلح في سبكها
وصياغتها ريالات قابلة وصالحة للتداول دون أن يسري منها شيء. فنأتي
للعالم كله في أي بقعة فنسأل: كم قيمة الشراء لمائتي درهم فضة
عندكم؟ فإذا قالوا لنا: قيمتها خمسمائة ريال، مائتا روبية، عشرون
دولاراً، أو أربعون جنيهاً استرلينياً، أو أي عملة في العالم
تتداول كنقد، فالقيمة الشرائية لهذه العملة في بلدها ننظر كم منها
يعادل المائتي درهم ثمناً! فما يعادل المائتي درهم الأساسية من
الفضة بالقيمة الشرائية يكون هو النصاب، إذا جئت في مصر ففيها
الجنيه المصري، فتنظر بكم جنيهاً نشتري المائتي درهم؟ إذا جئنا إلى
الهند وباكستان نظرنا كم روبية نشتري بها المائتي درهم، وإذا جئنا
إلى أمريكا نظرنا كم دولاراً نشتري به المائتي درهم، إذا جئنا إلى
بريطانيا وإسكندنافيا نظرنا كم جنيهاً استرلينياً نشتري به المائتي
درهم، وهكذا في دول العالم. وهنا في السعودية نقدر كم ريالاً
سعودياً ورقياً يشترى به المائتا الدرهم؛ فيكون النصاب عن الفضة(2/323)
بالعملة الورقية التي هي بديل ما يساوي في القيمة الشرائية مائتي
درهم بغير هذا لا يمكن أن تصل إلى تقدير نصاب الزكاة, ولذا لما كثر
فيه الأخذ والعطاء في السابق، جاء عن ابن تيمية رحمه الله أنه
قال: كل بلد دراهمها بحسبها. لكن نحن لا نترك المسألة إلى هذا
الحد، وينبغي أن تكون هناك قاعدة عامة شاملة، وهي أن ننظر في كل
عملة تصدر في العالم: كم قيمتها الشرائية للفضة بمقدار وزن مائتي
درهم؟ فما بلغ قيمته الشرائية مائتي درهم للفضة نقول: هذا هو بداية
النصاب.
مقدار زكاة ما يخرج من الأرض
قال المؤلف: [ وعن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهما عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيما سقت السماء والعيون أو كان
عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر )، رواه البخاري ،
ولأبي داود : (إذا كان بعلاً العشر، وفيما سقي بالسواني أو
النضح نصف العشر ) ]. هذا تفصيل لما تقدم، فقد عرفنا بأن ما
تنبته الأرض وبلغ خمسة أوسق ففيه صدقة، وبصفة عامة: (ليس فيما دون
خمسة أوسق صدقة) وكلمة (صدقة) تشمل صدقة التطوع والزكاة المفروضة
وقد قال الله تعالى: خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]،
فسمى الفريضة التي يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة. وعلى
هذا: جاءنا التفصيل كم نأخذ مما سقت السماء، أو كم نأخذ مما تنبته
الأرض؛ فبين لنا أن ما خفَّت كلفته زادت نسبة صدقته، وما كثرت
كلفته نقصت نسبة صدقته، وهذا من الإرفاق، فما سقته السماء أو سقي
بالعيون التي تفيض من الأرض وتمشي في السواقي فتسقي الأرض، فزكاته
العشر. فإذاً: النبات إما أن يسقى بدون كلفة بالمطر أو بماء من
العيون يسيل، أو سيول تأتي وتسقي الأرض، وإما أن يتكلف لسقي الزرع
مئونة بالنضح، والنواضح هي الإبل تنضح الماء فتسحبه من البئر أو
الدولاب، وكذلك السواني، فكل ذلك بالآلة أو كما يقال: بالدولاب،
والآن أصبحت هناك آلات حديثة (مكاين)، والمكاين لها كلفة، حيث(2/324)
تحتاج إلى محروقات وقطع غيار. إذاً: ما كان سقيه بدون كلفة بأن جاء
المطر من السماء أو جاء الماء من العيون أو كان عثرياً، ولفظة
(العثري) إلى الآن مستعملة، تسمعونها من باعة الحبحب الذين يقولون:
حبحب عثري، والعثري: هو أحسن أنواع الحبحب؛ لأن الأصل فيه أن تكون
التربة خصبة، فيأتي السيل أو النهر فيغمرها، ويمكث فيها مدة ثم
ينحسر عنها، ويتسرب الماء إلى ثقوب بعيدة، فإلى وقت معين يأتون إلى
تلك التربة المشبعة بالماء ويضعون فيها الحبوب سواء كانت ذرة أو من
هذا الحبحب أو الخضروات؛ فهذا عثري. وقد شاهدت الذرة العثرية في
سامطة تحصد مرتين على مجيء السيل مرة واحدة، فيأتي السيل ويغمر
الأرض -والأرض تكون خصبة جداً- ثم بعد ما يمضي عنها الماء وتحتمل
مشي الأقدام، يضعون حب الذرة ويحصدونه أولاً، ثم ينبت من محله
فيأتي بثمرة ثانية على ذاك العثري. فالعثري: الأرض التي يغمرها
الماء من نهر أو سيل أو نحو ذلك، ثم يفيض عنها وقد تشبعت بالماء،
فيزرع الحب ولا تحتاج إلى سقي بعد ذلك حتى تحصد. إذاً: هذا هو
أيضاً مما سقته السماء أو العيون أي: بدون كلفة. إذاً: ما تخرجه
الأرض يشترط فيه أن يكون نصاباً ولا يشترط فيه الحول قال تعالى: وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141].
ولكن الحصة التي تؤخذ في الذهب والفضة وعروض التجارة متحدة، وهي
ربع العشر، لكن هنا إما العشر كاملاً وإما نصف العشر بحسب كلفة
السقي، أما مئونة الحرث والزرع فهذه أمر ضروري لا بد منه، ولا ينظر
إلى الكلفة إلا بعد عملية الزرع بالذات، فإن كان عثرياً أو سقته
السماء أو العيون أو السيول، ولم يتكلف صاحبه في سقيه شيئاً ففيه
العشر من خمسة أوسق فما فوقها، وما دون الخمسة أوسق ليس فيها زكاة.
( كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [8] )
عناصر الموضوع
1 أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص التمر
2 زكاة الحلي من الذهب والفضة(2/325)
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [9]
اختلف العلماء في زكاة الحلي الذي تتخذه المرأة للزينة، ويكاد الخلاف
أن يكون متكافئاً لتكافؤ الأدلة، وقد بين الشيخ أدلة الطرفين، وأجوبة
كل فريق على الآخر، ثم بين الأفضل للمرء في ذلك.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص التمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه
وآله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن
عتاب بن أسيد رضي الله عنه قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيباً ) رواه
الخمسة وفيه انقطاع ]. هذا الأثر وإن كان فيه انقطاع إلا أنه عليه
العمل، فيخرص العنب وتؤدى زكاته زبيباً، كما يخرص الرطب وتؤدى
زكاته تمراً، لكن يهمنا في هذا الأثر أن العنب يخرص كما يخرص
النخل. فمن كان يعارض في خرص العنب يقول: لا يتأتى انضباط خرص
العنب كانضباط خرص النخل، يقول: لأن النخلة مكشوفة أمام الخارص
وأمام الجميع، أما العنب فقد يكون مختفياً بين الأوراق وقد يخفى
على النظر، فلا يتمكن الخارص من رؤيته كما يتمكن في النخلة. ولكن
كما جاء في هذا الأثر، وإن كان منقطعاً فقد يكفينا رأي من رواه،
فالذين رووه على انقطاعه يقولون به؛ فيكفينا هذا فقهاً، وأنها
الطريقة التي يمكن أن يساوى فيها العنب بالرطب. فهذا النص في
العنب: أنه يخرص كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً، ولماذا لا
تؤخذ عنباً؟ لأنه لا يدخر، فلو أعطينا للفقير خمسة صناديق عنباً،
هل سيأكلها كلها؟ فلو أكثر من أكلها فإنه سيؤذيه، وهل إذا أكل
صندوق عنب يغنيه عن لقمة عيش؟ فربما لا يغنيه، فالعنب ليس قوتاً
ولا يدخر. وهذه الفكرة هي التي عارضنا بها اقتراح بعض الأعضاء في
مؤتمر ماليزيا بتنفيذ مذهب أبي حنيفة رحمه الله في الخضروات،
ولنسأل: ماذا سيصنع المسكين إذا أخذ قليلاً من الطماطم، أو قليلاً(2/326)
من الباميا، أو قليلاً من الفلفل، أو قليلاً من النعناع .. إلخ؟
فإذا قلنا: يضعها في الثلاجة، فالفقير ليس عنده ثلاجة، ولو وضعها
في الثلاجة فإلى متى؟ فسيأخذ منها كل يوم، فهل ستكون قوتاً أم
فاكهة؟ طبعاً ستكون فاكهة، والخضروات مهما كان فلها أجل، سواءً
كانت داخل الثلاجة أو خارجها. إذاً: لا ينتفع بها بقدر ما يمكن أن
يبيعها صاحبها، ويجمع القيمة ويأتي بصدقة القيمة للمسكين فيتصرف
فيها بما ينفعه. وقد أوقف القرار بعد ذلك. إذاً: انتهينا من موضوع
زكاة ما تخرج الأرض، وكيفية زكاتها وهو الخرص. ونحن قلنا بالزكاة
في الشعير والبر، فهل يخرص وهو في سنبله عندما يشتد الحب، أو يترك
لصاحبه حتى يحصد ويصفى ويكال؟ هناك من يقول بخرص الحب أيضاً، ولكن
لماذا نخرصه؟ هل الريح تطيح به في الأرض؟ ليس هناك شيء يضيع منه
أبداً. وهل يبيعه قبل أن يحصده؟ لا. بخلاف العنب والرطب. إذاً:
الخرص محصور على النخل والعنب، والحب الذي هو متفق عليه من الشعير
والبر وما ألحقناه به لا دخل للخرص فيه، وإنما يترك لصاحبه حتى
يحصده ويصفيه ويكيله، فهناك يجب عليه أن يزكي ما حصل عنده إن وصل
خمسة أوسق فما فوق. والله أعلم.
زكاة الحلي من الذهب والفضة
قال المصنف رحمه الله: [ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي
الله عنهما: (أن امرأةً أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة
لها، وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟
قالت: لا. قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من
نار؟ فألقتهما ) رواه الثلاثة وإسناده قوي، وصححه الحاكم من
حديث عائشة ]. لما أنهى المصنف رحمه الله الكلام على زكاة
بهيمة الأنعام، ثم ما يخرج من الأرض، جاء إلى زكاة الحلي، وتقدم
أيضاً زكاة النقدين: الذهب والفضة، وأنه ليس فيما دون خمس أواقٍ من
وَرِقٍ صدقة. وتقدم البحث في هذه الأصناف، وفي أنواع بهيمة الأنعام(2/327)
ما اتفق عليه وما اختلف فيه، ثم أنواع الزروع والثمار، وما اتفق
عليه أيضاً وما اختلف فيه، ثم زكاة النقدين: الذهب والفضة، وبقي
معنا عروض التجارة، وسيأتي في سياق هذا الحديث. فلما كان الذهب
والفضة مجمعاً على زكاتهما نقداً؛ لأن كلمة (أواق) جمع (أوقية)،
والأوقية وحدة وزنية، ووحدة نقدية أيضاً، فهذا يتعلق بالفضة،
والدرهم وحدة وزنية، ووحدة عددية؛ فكان الحلي من جنس الذهب والفضة،
ولكنه اختلف فيه كما اختلف في بعض أفراد الأجناس المتقدمة. فشرع
المصنف يُفصِّل أو يسوق ما عنده من أدلة أو من أقوال العلماء فيما
يتعلق بالذهب والفضة إن كان مصوغاً حلياً تلبسه النساء، فأتى
بالحديث: أن امرأةً يمانية أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي يد ابنتها مسكتان -والمسكة هي ما يسمى الآن بـ(الأسور) أو
بـ(بالخلخال) في الرِجِل من ذهب- فلما رآها النبي صلى الله عليه
وسلم، سألها: أتؤدين زكاة هذا؟، فـ(هذا) اسم إشارة راجع لما فيه
الحديث وهو المسكتان. وفي بعض الروايات: (غليظتان من ذهب، فقال
لها: أتؤدين زكاة هذا الذهب الذي في يد ابنتك؟ قالت: لا. فقال:
أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيام بسوارين من نار؟ ). أعتقد
أن هذا أسلوب إثارة، أي: أتحبين أن تلبسي سوارين من نار يوم
القيامة؟! ومن يحب هذا؟! ومن يسر بهذا؟! ففيه الإثارة إلى معرفة
الواقع وبراءة الذمة حالاً، ولهذا كان الجواب أنها خلعتهما من يد
ابنتها وألقت بهما، وفي تتمة الرواية: (قالت: هما لله ورسوله ).
هذا الحديث كما ساق المصنف تصحيحه هو الأصل في مبحث زكاة الحلي،
وهو الأصل للاستدلال على أن الحلي المستعمل بالفعل فيه الزكاة؛
لأنه ملبوس في يد البنت. ثم ساق له المصنف شاهداً من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (اتخذتُ فتخات من وَرِق -الفتخات
جمع فتخة وهي ما يسمى الآن بالخاتم- فنظر إليهما صلى الله عليه(2/328)
وسلم وقال: ما هذا يا عائشة ؟! قالت: صنعتهما أتزين لك بهما )؛
لأنه إذا كانت هذه الفتخات في الصندوق أو مرفوعة للحاجة لم تكن
زينة، إنما رأى بعينه وسأل وأجابت: (أتزين لك بهما، فقال: أتؤدين
زكاتهما؟ قالت: لا. قال: هما حَسبُكِ من النار ). وسيأتي لأم
سلمة رضي الله تعالى عنها أنها: (اتخذت أوضاحاً من ذهب )،
الأوضاح من الوضاحة والظهور، والذهب له بريق ووضوح، ولو كان حتى من
الفضة فلها أيضاً وضوحٌ وبريق، والأوضاح كانت في شعرها. تقول:
(فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدتُ في وجهه الأثر )
أي: أنه ليس براضٍ؛ فهي صنعتهما من أجله صلى الله عليه وسلم، لكن
لم يستقبل ذلك بابتسامة أو بشاشة، وإنما وجدت في وجهه الكراهية،
ففطنت فقالت: (أكنزٌ هو يا رسول الله؟! ) (هو) ضمير راجع إلى
الأوضاح التي في شعرها. فلم يقل لها صلى الله عليه وسلم لا، أو
نعم، وإنما قال: (إذا أديت زكاته فليس بكنز ) يعني: وما لم تؤد
زكاته فإنه كنز، والحكم على أنه كنز أو ليس بكنز إنما هو لمدلول
الآية الكريمة: وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ .... [التوبة:34].
إذاً: فلما رأت الكراهية في وجهه صلى الله عليه وسلم فطنت فسألت:
ولِمَ الكراهية وإنما هي زينة تتحلى بها لزوجها. إذاً: هذا القدر
ليس فيه كراهية، ولكن الخوف من كونه دخل في معنى الكنز، ويكون هناك
الوعيد. فلما سألت أجابها: (إن كنتِ تؤدين زكاتها فليس بكنز ).
هذه النصوص الثلاثة التي ساقها المصنف رحمه الله هي عمدة من يقول
بوجوب الزكاة في الذهب والفضة حلياً كان أو غير حلي، ويضاف إلى هذا
أيضاً ما تقدم في أول الباب من الحث على الصدقات والزكاة في جميع
الأموال. وتقدم لنا ذكر الحديث الطويل: (ما من صاحب إبلٍ لا يؤدي
زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قرقرٍ، تطؤه بخفافها(2/329)
وتعضه بأنيابها، فإذا انتهى أخراها أعيد عليه أولاها حتى يقضى بين
الخلائق، فيرى مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار )، وكذلك ذكر
صاحب البقر، ثم صاحب الغنم، ثم صاحب الذهب فقال: ( وما من صاحب ذهب
-أتى باسم الجنس، ولم يفصِّل بين مصنوع حلي أو آنية مستعمل أو غير
مستعمل لا يؤدي زكاته إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّح له صفائح من
نار، فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره حتى يفصل بين الخلائق، ويرى
مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار )، فأخذ البعض من هذا الحديث أن
زكاة الذهب واجبة مطلقاً، مع النصوص الأخرى المجمع عليها في غير ما
هو حليٌ مستعمل. والتفصيل في هذه المسألة يطول، وقد كتب والدنا
الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه عند هذه الآية
الكريمة: (َالَّذِينَ يَكْنِزُونَ..) فأطال البحث فيها على عادته
في أضواء البيان، فذكر أقوال الموجبين للزكاة، وأقوال المانعين من
الزكاة، وأخيراً قال: (والأولى الذي به براءة الذمة أن يزكى) ولم
يقل: يجب أو لا يجب. وصنيع ابن رشد في البداية الذي هو مقرر في
الجامعة ما تناول هذه المسألة إلا في سبعة أسطر -أي: نصف الصفحة
فقط- وذكر مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله،
ولم يذكر مذهب أحمد لا بقليل ولا بكثير، فاخترت هذه المسألة
بالذات لأجعل فيها مبحثاً نموذجياً لدراسة بداية المجتهد، واستوفيت
المذاهب الأربعة بما فيها أحمد ، وأخذت من كلام والدنا الشيخ
الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، وما تيسر من المراجع
الأخرى وجعلت فيه رسالة، وأخيراً طبعتها بعنوان: (زكاة الحلي).
خلاف العلماء في زكاة الحلي
وإذا جئنا من بداية التشريع فسيطول علينا المشوار، وإذا أخذنا
النتيجة والنهاية وما استقر عليه الأمر عند الأئمة الأربعة نكون قد
اختصرنا الطريق، ولكي نجمل المسألة، ويسهل استيعابها نقول وبالله
التوفيق: أجمع جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، والأئمة(2/330)
الأربعة وغيرهم ممن اندثرت مذاهبهم، وكل عالمٍ في صدر الإسلام
وفيما بعد إلى اليوم بأن الذهب والفضة غير الحلي الملبوس فيه زكاة.
ثم جاء الخلاف فيما هو حليٌ ملبوس بالفعل. إذاً: دخل في العموم
السابق غير حلي النساء كأن يكون هناك أوانٍ من ذهب أو فضة للزينة،
أما للاستعمال فمحرم: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر
في بطنه نار جهنم )، فإذا كان اتخذها للزينة واتخذها للعوز
ليبيعها عندما يحتاج، فهذه أوانٍ وليست حلياً، أو اتخذت ملاعق من
ذهب أو فناجين، كل هذه داخلة في جنس الذهب غير حلي النساء. فإذا
جئنا إلى الحلي الذي فيه البحث: فإذا كان الحلي مكسراً غير صالحٍ
للزينة، فأجمع أيضاً الأئمة الأربعة على وجوب زكاته، وذكر ابن عبد
البر في الاستذكار بدون خلاف حتى عن مالك ، كالتبر غير
المصنوع المصوغ، والحلي المكسر الذي لا يصلح للاستعمال، فيكون
خارجاً عن الحلي المستعمل، فإذا كان الذهب والفضة نقداً أو مصوغاً
مباحاً، أو مصوغاً غير مباح مثل الأواني للأكل، فبإجماع المسلمين
أن فيه الزكاة، مع حرمة استعماله. ولم يبق الخلاف إلا في الحلي
المصاغ للنساء خاصة، فلو أن رجلاً اتخذ أساور من ذهب ففيه الزكاة
بالإجماع، سواء وضعها في الصندوق لوقت الحاجة يريد بيعها، أو يريد
لبسها؛ وإن لبسها كان حراماً وعليه وفيها الزكاة، وإن وضعها في
الصندوق كان قُنية، مثل الجنيه، فيجب عليه فيها الزكاة. فلذلك ما
كان مباح الاستعمال، ومحرم الاستعمال، ما لم يكن حلياً للنساء فليس
فيه خلاف. وإذا كان صاحب الذهب قد رفعه على نية أن يصلحه ليُلبس،
فيكون هذا في نطاق الاستعمال، فهذا داخل في الحلي المستعمل.
ذكر مذهب الأئمة الأربعة في زكاة الحلي
وعلى هذا المبدأ والأساس نأتي إلى الأئمة الأربعة رحمهم الله، فنجد
الخلاف في هذه المسألة مستوي الطرفين، وعلى أشده نجد إماماً من
الأئمة رحمهم الله يقطع بالزكاة في الحلي المستعمل، لقوله: (في يد(2/331)
ابنتها مسكتان...) .. (أتؤدين زكاته؟) فهذا صريح. ونجد إماماً آخر
يقابله بقوله: لا زكاة فيما هو مستعمل. ونجد واحداً من الأربعة ورد
عنه روايتان: إحداهما أن فيه الزكاة، والأخرى ليس فيه الزكاة. ونجد
الإمام الرابع له وجهان أو قولان، والخلاف عند الفقهاء في الفرق
بينهما قديمٌ وحديث؛ فالقديم فيه زكاة والجديد ليس فيه. فهذا على
سبيل الإجمال حتى نحصي الأقوال. فالإمام أبو حنيفة رحمه الله
أوجب الزكاة في الذهب والفضة مطلقاً، نقداً، مصوغاً، تبراً،
مستعملاً، مكسراً، بأي حالة من الحالات. يقابله مالك رحمه الله
فقال: لا زكاة في الحلي المستعمل المباح. وهو ينصب على حلي المرأة
الذي تستعمله، ويخرج عن ذلك حلي المرأة الذي لا يستعمل؛ وحلي
المرأة غير المباح الذي يلبسه الرجل، وآنية الأكل والشرب، فهذا
حليٌ غير مباح، فالحلي الغير المباح مزكىً عند مالك ، والحلي
المباح والمستعمل بالفعل غير المعطل هو الذي يقول مالك : لا
زكاة فيه. وكلمة (حلي، مباح، مستعمل) منصبة على الذهب والفضة، أما
إذا كان هناك لؤلؤ، جواهر، ياقوت، فيروز، ماس، فهذه لا زكاة فيها
بالإجماع ، وإن تحلت بها المرأة أو اقتناها الرجل. أما الإمام
الشافعي رحمه الله فعنده قولان: قولٌ قديم أنه يزكى، فيكون هذا
القول موافقاً لقول أبي حنيفة ، وقولٌ جديد: أنه لا يزكى، وهذا
القول موافق لقول مالك . فيذكر ابن عبد البر عن الشافعي في هذه المسألة أنه فعلاً في القديم يقول بزكاته كما يقول أبو
حنيفة ، وينقل عنه: أنه لما ذهب إلى مصر قال: أستخير الله في
الحلي المستعمل، ثم اختار القول بعدم الزكاة، أي: أنه كان متردداً،
ولكن اختار عدم الزكاة. نأتي إلى الإمام أحمد رحمه الله، فيذكر
صاحب الإنصاف والمغني -وكل مراجع الحنابلة المتوسعة- عن أحمد رحمه الله روايتين: روايةً نُقل عنه فيها: أنه يزكى، وروايةً نُقل
عنه فيها: أنه لا يزكى. فنحن عندنا منهج: إذا وجدنا مسألة خلافية(2/332)
-وأعتقد أن هذا الخلاف معتدل أو متساوٍ- فيهما قولان، أو روايتان،
فخذ القول الذي يقول: تزكى مع من قال: تزكى، والرواية دعها مع
القول بالزكاة، فيكون عندنا: قولٌ ورواية وقولٌ في مذهب، قولٌ في
مذهب ورواية بعدم الوجوب، ومذهب وقولٌ ورواية في مذهبٍ على مذهب
الوجوب، فيكون الخلاف معتدل التوازن.
مناقشة أدلة العلماء في زكاة الحلي
نستطيع أن نعتبر المسألة طرفين؛ طرف يقول بالوجوب، وطرف يقول بعدم
الوجوب، فالذين يقولون بالوجوب -بصرف النظر عن مسميات الأئمة: أدل
وأوضح دليلٍ في المسألة حديث المرأة مع ابنتها، فسألوا الآخرين:
لماذا لم تقولوا بوجوب الزكاة مع أن هذا الحديث صريح (أتؤدين...
أيسرك)؟ قالوا: هذا ليس فيه دليل، إذاً بماذا تجيبون عليه؟ فنحن
هنا الآن نبدأ بهذا الدليل، وهو صريح صحيح لا لبس فيه، فسألنا
الذين قالوا: لا زكاة في الحلي، ما تقولون في هذا الحديث؟ قالوا:
كما نقل البيهقي رحمه الله: كان مجيء المرأة إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، وكلامه معها عندما كان الذهب محرماً بالكلية.
وقالوا: فعلاً قد كان الذهب في بادئ الأمر محرماً على الرجال
والنساء، حتى صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر في المدينة،
وأخذ الذهب والحرير وقال: (هذان حرامٌ على رجال أمتي، حلالٌ
لنسائها ). أقول وباستحياء: عندما كنتُ أدرس هذه المسألة في سبل
السلام في الرياض بكلية الشريعة كان والدنا الشيخ الأمين رحمة
الله تعالى علينا وعليه يكتب على هذه الآية في أضواء البيان،
وجاءته الملازم من مصر لتصحيح الخطأ فيها، وكان من عادته رحمه الله
إذا تغدينا وجلسنا لشرب الشاي أن يأخذ يصحح في الملازم، ولتلهفي أو
تطلعي إلى مبحثٍ في هذه المسألة أخذت الملازم وقرأت، فذكر جوابهم
على ذلك، فلما قرأتها أردت أن أسأله. والشيخ الله يغفر له كان يفتح
لي صدره قليلاً، وأنا كنت طويل اللسان قليلاً، فقلت: يا شيخ! هذه(2/333)
المسألة يحوك في صدري شيء منها لا أستطيع أن أعبر عنه، قال: ما هو؟
قلت: أتساءل لاستيضاح جواب هؤلاء: بأن ذلك كان وقت تحريم الذهب
مطلقاً. أترى يا شيخ! أن الرسول صلى الله عليه وسلم يرى استعمال
المحرم، ويترك الإنكار عليه ويذهب يسأل عن الزكاة، أم أن المتبادر
أن ينكر على استعمال المحرم أولاً، ثم يأتي إلى موضوع الزكاة؟
فقال: أعد عليَّ مقالتك، فأعدتها عليه. فقال: أتدري أن ما قلتَه
صحيح، ولكنني رأيت فلاناً وفلاناً وفلاناً.. وسلسل القول إلى
البيهقي ، فسرت معهم، ولئن أحياني الله -وهذه أمانة ألقيها-
إلى إعادة الطبع لأصححن ذلك، أما الآن فإن الكتاب قد طبع، وهذا
لوضع الصواب وتصحيح الخطأ فلا يمكن تصحيح عدة آلاف قد طبعت، وهذه
أمانة ألقيها للجميع. إذاً: استدلالهم أو ردهم الحديث بأن ذلك كان
حين حرم الذهب أو كان الذهب محرماً للاستعمال مطلقاً فيه نظر. نأتي
إلى حديث فتخات عائشة .. وأوضاح أم سلمة ، ماذا يقال فيها؟
قالوا: هذا لا يستقيم، لماذا؟ قالوا: الفتخات هي خواتم، وليس
معقولاً أنها ستلبس خواتم قدر مائتي درهم، فهذا ضعيف.. وأوضاح أم
سلمة كذلك، ليس معقولاً أن تلبس أوضاحاً قدر عشرين مثقالاً.
لكن أجاب عن ذلك ابن مسعود رضي الله عنه: بأن تلك الفتخات، أو
هذه الخواتيم أو الأوضاح تضم إلى جنسها فيكمل به النصاب، فإذا كان
عندها من الأوضاح ذهب وفضة وكل منهما ناقص النصاب فإنه يضم بعضه
إلى بعض ويزكى. إذاً: هي ليست زكاةً في عينها الموجودة بالفعل،
ولكن في جنسها وهو الحلي المستعمل. وهناك أثرٌ عن عائشة يغاير
ذلك -ساقه مالك في الموطأ- أنها كانت تلي أيتاماً ولهم حلي فلم
تؤد زكاته. وعن عبد الله بن عمر أيضاً في الموطأ أنه كان يحلي
بناته وجواريه ولم يخرج الزكاة عن حليهن، ويذكر ابن عبد البر -ولأول مرة أقرؤها-: كان ابن عمر يزوج بناته بأربعة آلاف
دينار، ولم يخرج الزكاة، ويحليهن بها، أي: بهذا المبلغ ولم يؤدِ(2/334)
زكاته. ونأتي إلى الرواية الأخرى عن ابن عمر أنه ممن يقول
بزكاة الحلي، فأجابوا عن ذلك: بأن عائشة رضي الله تعالى عنها
كانت تلي أيتاماً، فلعلها كانت تترك زكاة أموال اليتيم حتى يبلغ،
وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ولكن الرواية الأخرى في
قضية الفتخات فيها: (أتؤدين زكاته؟)، فيكون ورد عن عائشة روايتان: رواية في الفتخات، ورواية في الأيتام، فأي الروايتين أصرح
في القضية؟ الجواب: رواية فتخات يدها، فبعضهم يرجح تلك الرواية
وبعضهم يرجح هذه. نأتي أيضاً إلى قول جابر رضي الله تعالى عنه:
(ليس في الحلي زكاة) وهذا أخذ به مالك ، ولكن المذكور عن جابر رضي الله تعالى عنه في كتاب الأموال: أن جابراً سُئل عن حلية
السيف بالذهب؟ الحلية، (ال) هنا هل هي للعهد فيكون المراد حلية
السيف، أم (ال) للجنس فيكون المراد مطلق حلية على صفةٍ عامة؟ ونجد
البيهقي في أثر جابر هذا يقول: إنه منقطع أو إنه معضل، فمن
احتج به كان داخلاً فيمن يغرر بدينه، فلا يصح.
القول بزكاة الحلي أبرأ للذمة
وفي نهاية المطاف نجد هذه الآثار المتقاربة، والمتضادة،
والمتقابلة؛ تدور بين الجواز والمنع، ونأتي إلى كتب الحديث أو
علماء الحديث فنجد كل من بحث هذه المسألة يذكر الخلاف ويجبن أن
يحكم جازماً ويقول: الأولى أن تؤدى الزكاة براءةً للذمة، وهذا
أيضاً ما قاله والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا
وعليه. والعجيب أن ابن عبد البر في نهاية المطاف من بحث هذه
المسألة يقول: والخلاصة: أن من أوجب الزكاة في الحلي المستعمل، وفي
الإبل العوامل فقد صح قياسه، ومن أبطل الزكاة في الحلي المستعمل،
وأبطلها في الإبل العوامل اضطرب قياسه، ومن أوجب الزكاة في الإبل
العوامل، ومنع الزكاة في الحلي المستعمل فقد اضطرب قياسه، وهذا
القول لمالك رحمه الله. والمأثور عن مالك رحمه الله في
زكاة بهيمة الأنعام أنه لا يشترط السوم، ولا يشترط أن تكون غير(2/335)
عوامل، مع أن الأئمة الثلاثة رحمهم الله على أن الإبل العوامل لا
تزكى، وهو يقول: هي إبلٌ وله فيها زيادة نفعٍ وهو عملها. فمثلاً:
الإبل تستعمل للحرث، وتستعمل لنقل البضائع، وكانت تسمى الإبل:
القطار، وإلى الستينات كانت السيارات نادرة، حتى (الجاز) يحمل في
التنك من ينبع على ظهور الإبل، وكذلك الحبوب وكل البضائع، فيأتي
قطار الإبل فيه حوالي خمسين أو ستين بعيراً مربوطة ومقطورة بعضها
في بعض، فتدخل من باب العنبرية وتأتي إلى المناخة، ثم يأتي التجار
فيأخذون بضاعتهم. فهذه إبل عوامل، فهي عند مالك تزكى؛ وهنا ابن
عبد البر لم يقل: مالك أو عمر ، وإنما قال: (ومن أوجب
الزكاة في الإبل العوامل، ومنعها في الحلي المستعمل فقد اضطرب
قياسه). إذاً: هذا خلاصة ما يمكن أن يأتي به إنسان في عجالة مثل
هذا الوقت، ويلقي الضوء على الخلاف الموجود، وجوانب الاستدلال لكلا
الطرفين. وفي النهاية نقول بما قال السلف رضوان الله تعالى عليهم:
بأن الأحوط في ذلك إنما هو الزكاة.
كيفية إخراج زكاة الحلي والذهب المعروض للتجارة
مسألة: كيف نزكي الحلي؟ قالوا: إنها في تقدير نصابها تقدر بالوزن،
هل بلغت وزن العشرين مثقالاً أم لا؟ وفي زكاتها تقدر بالقيمة،
وكذلك ما أعد للتجارة من الذهب والفضة، فهي عند التاجر يقدر نصابها
بالوزن، وتخرج زكاتها بقيمتها في السوق؛ لأنها عروض تجارة، والنصاب
قدره مائة جرام، والتاجر عنده مئات الآلاف، فينظر كم قيمتها
تجارياً وكم تباع اليوم، ثم تزكى قيمتها على أنها عروض تجارة.
وأجمعوا على أن حلي الذهب والفضة إذا لابسه جواهر أخرى: فصوص من
الياقوت أو الفيروز أو الزمرد أو الماس، فتقدر الجواهر النفيسة على
حدة، ويقدر وزن الذهب على حدة؛ حتى إذا استكمل وزنه نصاباً زكي،
ويعمل في ذلك بالتحري؛ فإنه يزكى على أنه حلي مستعمل على قول من
يقول بزكاته. وبالله تعالى التوفيق.
( كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [10] )
عناصر الموضوع(2/336)
1 حديث زكاة الركاز
2 المعادن وحكم زكاتها في الشرع
3 زكاة مزارع الدواجن وشركات الأسماك ونحوها
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [11]
قد أودع الله في الأرض من الكنوز والمعادن شيئاً كثيراً يمكن الاستفادة
منه، والإنسان قد يجد ذلك كنزاً جاهزاً، وقد يحتاج في استخراجه وتصفيته
إلى عمل، وما حصل من ذلك فللزكاة منه نصيب بشرطه على ما بينه الشيخ
هنا.
حديث زكاة الركاز
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وفي الركاز الخمس ) متفق
عليه]. حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي ساقه المؤلف
هنا جزء من حديث يشتمل على زيادة، وإن كان موضوعها غير موضوع
الزكاة؛ لأن الحديث فيه: (العجماء جبار، والبئر جبار، وفي الركاز
الخمس ) .
جرح العجماء جبار
(والعجماء جُبار) في بعض رواياته كما يسوقه صاحب المنتقى: (جرح
العجماء جبار) والجبار: هو المجبور الذي لا دية ولا قيمة.
والعجماء: هي الدابة لكونها لا تعرب عما في نفسها، وقالوا: إن كون
العجماء جباراً فيه تفصيل؛ لأنها إما أن تكون مروضة كما يقال:
مؤدبة، أو لا زالت لم تدرب، وكذلك إما أن تجني بمقدمها أو بمؤخرها،
وإما أن تجني وعليها قائدها أو صاحبها، أو تجني وليس عليها أو معها
أحد. وكذلك قد تكون جنايتها بالليل أو بالنهار، وكل هذا مما تتطلبه
الحياة، وخاصة عندما كانت العجماء وسيلة النقل والحمل دون غيرها.
فقالوا: إذا كان إنسان يركب دابة أو يقودها فجنت بمقدمها فإن
راكبها أو قائدها مسئول عن جنايتها؛ لأن بيده مقودها، أما إذا جنت
بمؤخرها وهو لا يدري، فجرحها جبار، بمعنى: إذا رمحت إنساناً فجرحته
فليس على صاحبها شيء. وقالوا: إذا كانت مؤدبة وربطها في طريق عام
والطريق واسع، فجاء إنسان ونخزها فرمحته فهي جبار، وإذا كانت غير
مؤدبة وربطها في طريق عام ومر إنسان ولم ينخزها ولم يؤذها فرمحته(2/337)
فهو مسئول؛ لأنه يعلم منها أنها ليست مروضة ولا تألف الناس، وتؤذي
من يمر بها، فيكون قد عرض الناس لإيذائها فهو مسئول. وهكذا إذا جنت
ليلاً أو جنت نهاراً وليس عليها أحد أو لا يقودها أحد، فإن جنت
ليلاً فعلى صاحبها جنايتها، وإن جنت نهاراً فليس في جنياتها نهاراً
شيء، كما في ناقة البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، أكلت حرث
قوم فحكم صلى الله عليه وسلم أن على صاحب الناقة حفظها ليلاً، وعلى
صاحب الزرع حمايته نهاراً. وهكذا يذكرون ما يتعلق بجناية الدابة
مروضة أو غير مروضة، معها إنسان أو ليس معها إنسان، وكذلك إذا كان
يعلم منها أنها غير مروضة ومر بها داخل الأسواق والأسواق مزدحمة
فآذت أحداً فهو ضامن، أما إذا كانت مروضة ومتعودة دخول الأسواق فلا
تؤذي أحداً، ودخل بها سوقاً فآذت إنساناً، فإن كان بمقدمها فهو
ضامن، وإن كان بمؤخرها فليس بضامن. هذا ما يذكره العلماء رحمهم
الله في قوله صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار). ومن هنا -يا
إخوان- ننظر إلى مدى شمول السنة النبوية فيما يتعلق بالتعامل بين
الناس، سواء كان مباشراً أو عن طريق بهائمهم العجماوات.
البئر جبار
(والبئر جبار) أي: إذا استأجر إنساناً ليحفر له بئراً أو ليصلح له
خراباً في بئر، فإن كان هذا الأجير عاقلاً مكلفاً مميزاً فأصابه
شيء من عمله في البئر، بأن سقط منه عليه حجر أو انهار البئر عليه،
فهذا جبار ولا دية له، أما إذا استعمل مجنوناً أو صغيراً أو
معتوهاً أو من لا يتحمل المسئولية، فهو مسئول عنه؛ لأن ذاك -كما
يقولون- عديم الأهلية أو ناقص الأهلية، كما لو كلف الصغير أو
المجنون أن يطلع شجرة ليجني له منها ثمراً فسقط، فهو مسئول عنه،
أما إذا كلف عاقلاً بالغاً مميزاً رشيداً فطلع كالعادة فسقط، فليس
عليه في ذلك شيء.
تعريف الركاز في الشرع
قوله: (وفي الركاز الخمس) هذا محل الشاهد والعلاقة بباب الزكاة،
والخمس: هو الحصة التي تؤخذ مما لا عناء في تحصيله، وهو تابع(2/338)
للغنيمة؛ لأن قوله: وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41]
الخمس في الأموال التي تؤخذ بدون عناء، والركاز: مأخوذ من ركزت
الرمح إذا غرزته في الأرض، وتوجد مسميات: الكنز، والركاز، والمعدن،
هذه المسميات الثلاث قد يتداخل بعضها مع بعض، وخاصة الركاز،
فالركاز أعمها، يطلق على المعدن؛ لأنه مركوز في الأرض، وقد يتميز
المعدن بجنسه عن الركاز. والفرق عند المحققين: أن الركاز ما كان من
فعل الآدمي فركزه في الأرض، والمعدن ما كان من فعل الله سبحانه
وتعالى، وهو ما خلقه في الأرض يوم خلقها من أنواع المعادن أو
الأجناس المغايرة للتربة. فهنا الركاز والكنز والمعدن، فالركاز: هو
ما وجده الإنسان مركوزاً في الأرض، وشبيه به الكنز، وقد يتعاوران
ويطلق بعضهما على الآخر، والركاز أعم.
الأصل أن الركاز لمن وجده واستخرجه
إذا جاء إنسان وكان يعمل في أرض فوجد فيها مالاً مركوزاً، أي:
مدفوناً، سواء كان هذا المال ذهباً أو فضة، أو كان جوهراً، أو
شيئاً له قيمة، فيقولون باتفاق: إن وجده في ملكه فلا نزاع في شيء،
فإنه يؤخذ منه الخمس ويترك له الأربعة الأخماس ملكاً له. وإذا كان
يعمل في أرض بيضاء ليست ملكاً له ولا لغيره فوجده فكذلك؛ لأن الأرض
التي وجد فيها هذا الركاز ليست مملوكة لأحد. أما إذا عمل في أرض
مملوكة للغير فوجد فيها هذا الركاز، فهل يا ترى هذا الركاز للعامل
الذي وجده أو لصاحب الأرض؟ فالأكثرون على أنه للذي وجده، وصاحب
الأرض لا يعلم عنه شيئاً، فإذا وجد إنسان ركازاً في أي نوع من
أنواع الأراضي، فبعضهم يقول: هو لواجده، حتى قالوا: لو أن إنساناً
استأجر أجيراً يحفر له بئراً في أرضه فعثر الأجير على ركاز، فإن
هذا الركاز للأجير؛ لأنه هو الذي وجده. والآخرون يقولون: هو لصاحب
الأرض؛ لأنه يملك الأرض وما فيها. وبعضهم يقول: إن استأجره لحفر(2/339)
بئر فوجد ركازاً فهو للأجير، وإن استأجره للبحث عن ركاز فوجد
الركاز فهو لصاحب الأرض بلا خلاف؛ لأنه يكون قد استأجره لعمل مباح
له كما لو استأجره في أن يحتطب، فإنه يكون الحطب أو الماء لمن
استأجره، وليس للأجير إلا أجرة يده. إذاً: الركاز مأخوذ من ركزت
الرمح إذا غرزته في الأرض وهو يكون من المعدن ولا يحتاج إلى عمل
يستخرجه منه كما سيأتي في موضوع المعادن. فإذا وجد إنسان معدناً
ذهباً أو فضة أو ما له قيمة كجواهر ويواقيت مدفونة، فتسمى: مركوزة،
فما حكم هذا الذي وجده الإنسان؟ إن كان وجده في ملكه فلا نزاع في
ذلك، وعليه أن يؤدي الخمس، وإن كان وجده في مكان ليس ملكاً لأحد
فهو كذلك؛ لأنه ليس هناك من يدعيه ملكاً له في أرضه، فهو لواجده،
فعلى هذا: يعطيه الإمام الخمس ويرد عليه الأربعة الأخماس، وجاء في
ذلك آثار عن علي رضي الله تعالى عنه: عن رجل وجد ألف دينار
فأخذ منها مائتي دينار وأعطاه الباقي، وعن عمر أيضاً رضي الله
تعالى عنه أنه أخذ الخمس ورد إليه الباقي. وعلى هذا يتفق الجميع
على أن الركاز فيه الخمس. واختلفوا فيمن وجد هذا الركاز إذا كان
ذمياً، هل يملكه أم لا؟ فقالوا: إنه يمتلكه. وكذلك العبد إذا وجد
الركاز هل يمتلكه أو يكون لسيده (العبد وما ملكت يده لسيده ).
وعلى هذا فحكم الركاز الذي يجده الإنسان مدفوناً في الأرض من جواهر
ومعادن نفيسة كالذهب والفضة، فإن هذا لواجده ما لم يكن أجيراً
للحفر عن ركاز. ومما فيه خلاف: من وجده في أرض الغير، واحتفر فيها
حفراً مباحاً فوجد ذلك الكنز، فإنه أيضاً يملكه على خلاف فيما إذا
كان يملكه هذا الواجد؟ أو يعود ملكاً لصاحب الأرض. وكذلك يذكرون
فيما لو استأجر إنسان داراً ثم أخذ يصلح فيها فوجد ركازاً، هل يكون
هذا الركاز الذي وجده المستأجر للمستأجر الواجد أو يكون لصاحب
الدار؟ يذكرون عن أحمد روايتين، وكذلك عن الشافعي ،
ويختلفون لأن صاحب الدار لا يعلم عنه، وليس هو الذي ركزه.(2/340)
الفرق بين حكم ركاز الجاهلية وركاز الإسلام
ويختلفون أيضاً في موضوع الكنز -النقد- الذي وجده إنسان، إن كان من
ركاز الجاهلية أو من ركاز الإسلام، ويعلم ذلك بالأمارات التي توجد
على القطع النقدية، بأن كان عليه علامات الجاهلية من صور الأصنام،
ومن عبارات أسماء ملوكهم؛ فإن ذلك له فيه الخمس، فيعطي الخمس
ويتملك الباقي، وإذا وجد عليه علامات إسلامية بأن كان عليه (لا إله
إلا الله محمد رسول الله) أو كان عليه نقش آية من كتاب الله، أو ما
يدل على أنه لمسلم؛ فإنه يكون بمنزلة اللقطة، يعرفها سنة وبعد ذلك
هو وشأنه بها.
إذا وجد الركاز في قرية مسكونة أو خربة
قال المؤلف: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في كنز وجده رجل في خربة: (إن
وجدته في قرية مسكونة فعرفه، وإن وجدته في قرية غير مسكونة، ففيه
وفي الركاز الخمس ) أخرجه ابن ماجة بإسناد حسن ]. هنا يفرق
النبي صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي وجد فيه الكنز، أهو في قرية
مسكونة؟ فهذا مظنة أن يكون أهلها هم الذين دفنوه وركزوه، أو في
قرية مهجورة خربة قديمة لا ندري متى عمرت ومتى خربت؟ فإنه يكون
كدفن الجاهلية ففيه الخمس. وإذا عرفه السنة فإن وجد من تعرف عليه
وأتى بأماراته كما جاء في اللقطة: (احفظ عفاصها ووعاءها ثم عرفها
سنة )، فإذا وجد لقطة في كيس عرف الكيس أهو من صوف أو قطن أو
جلد، والرباط أهو من حرير أو من خيوط أو من جلد، فإذا جاء إنسان
وذكر الأوصاف المطابقة لهذه اللقطة فهي له، وإذا لم يأته أحد أو
جاء بوصف مغاير للحقيقة، فإنها تبقى عنده إلى تمام الحول. وبعد
تمام السنة مع تعريفها كما يقولون: في الأسبوع الأول كل يوم، وفي
الشهر الأول يوماً كل أسبوع، ثم بعد ذلك في كل شهر يوماً حتى ينقضي
الحول، فإذا لم يجد من يتعرف عليها فهي ملكه، ولكن كما يقولون: هو
ملك غير تام، بأن يتصدق بها، وإن شاء تملكها ديناً في ذمته، فلو(2/341)
جاء إنسان يطلبها وصدق في تعريفها وجب أن يردها إليه. أو إذا كان
بعد هذه المدة لا يريد أن يتحملها في ذمته، وإذا جاء صاحبها ربما
لا يجد ردها، تصدق بها على ذمة صاحبها، فإذا جاء صاحبها أخبره، أنه
قد عرفها لمدة سنة فلم يأت أحد، فتصدقت بها على ذمة صاحبها، إن
قبلت الصدقة على ذمتك فهي ماضية لك، وإن لم تقبلها فتكون الصدقة
على ذمتي وأنا أدفع لك بدلها. وهكذا إذا وجد في قرية مسكونة أو
طريق مطروق، أو وجد في قرية خربة غير مسكونة، أو طريق مهجور لا
يسلكه أحد، وكذلك الأرض إن كانت محياة لأحد أو ميتة لا يملكها أحد.
المعادن وحكم زكاتها في الشرع
[ وعن بلال بن الحارث رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أخذ من المعادن القبلية الصدقة ) رواه أبو داود ]. صاحب هذا الحديث بلال بن الحارث وفي بعض الروايات هلال بن
الحارث : أن النبي صلى الله عليه وسلم: أقطعه معدن القبلية،
والقبلية: مكان معين في جنوب المدينة من أعمال وادي الفرع، وبينه
وبين المدينة كذا ميل، فيقولون: هذا لعله المهد الموجود الآن، وفيه
المعدن، وفي هذا الحديث مبحث أو مباحث من عدة جهات: أولاً: ما هو
المعدن؟ ثم: ما يؤخذ من المعدن؟ وما هو حكمه من حيث المكان؟ ومن هو
مصرف ما يؤخذ منه؟
المفهوم الشرعي للمعدن
المعدن من مادة عَدَن، وعَدَنَ بمعنى: أقام، ومنه كما يقولون: (جنة
عدن) بمعنى: دار الإقامة، وهذه المعادن مقيمة في الأرض من يوم أن
خلقها الله حتى يكتشفها الإنسان. ولولي الأمر أن يقطع من شاء ما
شاء ما لم تتعلق به منفعة الجماعة. فإذا كان هناك ماء يسقي عدة
مزارع، فليس لولي الأمر أن يقطع هذا الماء لشخص وحده؛ لأنه يفوت
المنفعة على الآخرين، وفيه مضرة، فكذلك المعدن الذي فيه منفعة
عامة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه أقطع فلاناً ملحاً، أي:
معدن ملح، ثم قيل له: يا رسول الله! أتدري ما أقطعت فلاناً؟ قال:(2/342)
أرضاً، كان يعتقد صلى الله عليه وسلم أنه أقطعه الأرض ليزرعها
ويستثمرها، قالوا: إنك أقطعته الماء العدة، والعد أي: الذي يستخلف،
وكلما ذهب شيء جاء شيء آخر كالبئر الذي تأخذ الماء ويستخلف غيره،
فاسترجعه صلى الله عليه وسلم ممن أقطعه إياه؛ لكونه يستفيد منه
الجميع فلا يحصره على فرد؛ لأن الذي يستفيد منه الجميع هو ملك
للجميع. ولهذا قالوا: إن الإمام يقطع من المواد ما لا يتعلق به
مصلحة لفرد أو لجماعة، فإذا كان المعدن يستفيد منه الجماعة كالماء
والملح أو الكبريت أو الشيء يرجع على أهل الحي أو أهل المنطقة، فلا
ينبغي أن يقطعه الإمام لشخص معين، وإذا أقطعه وهو لا يدري عن
حقيقته استرجعه وتركه عاماً لجميع المسلمين، وهنا معدن القبلية.
والمعدن ما حكمه وما هو؟ يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
المعدن خاص بالذهب والفضة، وما عداه لا يعتبر معدناً ولا يطالب
صاحبه بشيء. وعند الحنابلة أن المعدن كل ما كان في الأرض من غير
جنسها وله قيمة، كما يقول ابن قدامة في المغني، فهو عندهم كل
ما كان في الأرض من غير جنسها، أي: من غير التراب. ويوجد فيها من
غير جنسها: الذهب، الفضة، النحاس، الكبريت، الزئبق، القصدير،
الكحل، وعدد أشياء كثيرة حتى من الجواهر الألماز يكون أيضاً من
الأرض، والأحجار الكريمة إذا كانت في باطن الأرض، حتى الأمور
السائلة ومثَّل بالقار وبالنفط والكبريت إذا كانت سائلة في بطن
الأرض، فكل ذلك يسمى عند الحنابلة معدناً؛ لأنه عدن في الأرض وهو
من غير جنسها وله قيمة. وعند الأحناف أن المعدن: ما كان صالحاً
للذوبان والطبع، كأن يطبع سبائك أو قوالب، فيخرج عن ذلك الكبريت
والزئبق والقار والنفط، ويخرج عن هذا ما ليس بمعادن؛ لأنها غير
قابلة للإذابة بالنار وطبعها سبائك أو قوالب، ويصدق هذا على الذهب
والفضة والرصاص والنحاس والقصدير، فهذه كلها تذاب وتصب في قوالب
وتكون سبائك أو أحجاماً.
خلاف العلماء فيمن يتملك المعدن(2/343)
المعادن التي توجد في الأرض لمن تكون؟ فهناك من يقول: هي كالركاز،
والفرق بين الركاز والمعدن: أن الركاز وجده على حالته دون عمل، أما
المعادن: فهي عروق في الأرض لا يحصل عليها إلا بتصنيع وعمل يجمعها
ويصهرها في النار، فيحترق التراب ويذوب المعدن، وتجتمع فلزاته
بعضها إلى بعض حتى يخرج منها كتلة، وهذه الطريقة معروفة في
الجاهلية ومعروفة في الإسلام، ومعروفة في البادية وفي الحضر، ففي
بعض بوادي أفريقيا تعرف بعض المعادن خاصة الحديد في بعض الأماكن،
فتجمع التربة وتوقد عليها نار قوية، فتجتمع فلزات الحديد بعضها إلى
بعض، ويخرجون بكتلة يصنعون منها الآلات التي ينتفع بها الإنسان.
وعلى هذا: فالمعدن من حيث هو هل يقطعه الإمام لأحد؟ الجمهور ما عدا
مالك يقولون: كل معدن وجده الإنسان على ذاك التعريف، سواء
قصرناه على مذهب الشافعي أو وسعناه على مذهب الأحناف، أو عممنا
كل ما تتضمنه الأرض حتى الكحل والكبريت أو الملح، فالجمهور يقولون:
إن هذا لواجده. وإن كان على وجه الأرض مثل الملح قالوا: كذلك هذا
لصاحبه الذي حصل عليه، وخاصة إذا كان في أرض موات، والآن مجريات
الملح، ما اجتمع في أرض سبخة فتجففه فيخرج منه الملح الصالح
للطعام، وهناك مواطن أو مياه يستخرجون منها ملح البوتاسيوم كالبحر
الميت، فإنه يستخرج منه أملاح البوتاسيوم، وتنوع إلى أنواع، وهناك
بحيرات صغيره تجمع فيها المياه وتترك للشمس لتبخرها، ويتجمع الملح
الموجود فيؤخذ، ويصنع منه عدة أنواع من الأملاح المعدنية، فهذه
يقولون: هي لواجدها ما دامت على وجه الأرض. أما المعادن التي تحتاج
إلى كلفة وعمل فبعض العلماء يقفل الباب، ويقول: هي لمن وجدها.
حكم زكاة المعادن
من وجد المعادن وعثر عليها فإنه يستطيع أن يصنعها ويستفيد منها،
قالوا: إن استطاع فله ذلك، وكيف يزكي ما يحصل عليه؟ قالوا: الركاز
فيه الخمس قليله أو كثيره، وفي المعادن كذلك الخمس، وبعضهم يقول:(2/344)
فيه العشر، بمعنى أنه يعامل معاملة الغنائم ومعاملة الركاز فيؤخذ
منه الخمس. وهناك من يقول: ربع العشر. أما الخمس فقياساً على
الركاز مع وجود الفارق؛ لأن هذا يحتاج إلى عمل، ومن يقول: العشر
فقياساً على ما تنبته الأرض من الحبوب والنبات والثمار: فإن فيه
العشر، ومن قال: فيه ربع العشر قياساً على زكاة الذهب والفضة، فإن
كان ذهباً وفضةً وأخذ منه ما يؤخذ من الذهب والفضة فيكون مالاً
زكوياً، والجمهور على أنه مال زكوي. ويقولون: لا يشترط للحصول عليه
وتزكيته حولان الحول ولا بلوغ النصاب. والآخرون كالحنابلة ومن
وافقهم والمالكية يقولون: يشترط فيه النصاب، وليس المراد بالنصاب
في كل دفعة يحصل عليها، كأن يكون اكتشفه اليوم وبدأ يعمل ويصفي
فوجد ربع نصاب، فاحتفظ به، ثم عمل غداً وأخذ ربع نصاب، ثم بعد
شهرين أو ثلاثة اكتمل عنده النصاب، فحينئذ يزكي في الحال ولا ينتظر
الحول. ثم بعد اكتمال النصاب يزكي كل ما حصل عليه يومياً، ولا
ينتظر نصاباً للجديد الذي جاء بعد اكتمال النصاب الأول، فإن استمر
العمل فعلى هذا الحال، وإن انقطع العمل أو انقطع النيل منه: فإن
كان الانقطاع لعذر ممن وجده كمرض أو سفر أو عجز عن النفقة، وطال
انقطاع العمل فإنه يستأنف من جديد، وإن تركه وجاء غيره فإنه يبتدئ
ويستأنف من جديد، وإن كان الانقطاع لعدم وجود المعدن لكونه ليس
متصلاً كبحيرة أو جبل، وإنما هو أجزاء في أماكن مختلفة، فإذا انقطع
نيل المعدن لعدم وجوده في منطقة العمل واستمر يفتش وكان انقطاعه
قريباً، فإن هذا الانقطاع لا يقطع حكم الزكاة على ما كان سابقاً،
وإن طال الانقطاع وأصبح كأنه وجد معدناً من جديد بعد زمن طويل وعمل
طويل، فحينئذ يستأنف النصاب ويبدأ يحسب من جديد كما لو كان قد وجده
الآن. الإمام مالك رحمه الله يقول: الأمور العامة التي ترجع
إلى الأمة لا يملكها واجدها ويمثل بالنفط وبالقار ويقول: إن(2/345)
استخراجها يحتاج إلى نفقات كبيرة، وإن عائداتها لترجع للأمة
بأجمعها، وللأمة فيها نصيب، وهنا يقول: إن ولي الأمر يضع يده
عليها، وهو الذي يستخرجها، ومصرفها هي المصارف العامة للدولة،
كمصرف الفيء الذي يغاير الغنيمة في مصرفه، فالفيء: مَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [الحشر:7]،
فهنا يكون مصرف هذا المعدن العام الذي تتعلق به مصالح الأمة لولي
الأمر ينفقه في المصالح العامة. والمصالح العامة في الدولة هي التي
توضع لها الميزانيات، فهناك من المصالح العامة: التعليم، وتموين
الجيش، والصحة، والطرق، والبريد وكل ما تلتزم الدولة بإقامته
لمصلحة العامة جميعاً، ولا يؤخذ عليه زكاة؛ لأن ولي الأمر أو
المسئولين يجمعون المال من الأفراد كزكوات أو ضرائب، يفرضونها في
حالة الحاجة أو غير ذلك، وتتكدس عندهم هذه الأموال، فلا يؤخذ عليهم
فيها زكاة؛ لأنهم امتلكوها للمصالح العامة. إذاً: لا نأخذ منهم
لنرد عليهم، فهذه الفكرة العامة عما يتعلق بأمور المعادن.
المعدن الذي تتعلق به الزكاة
ما هو المعدن الذي تتعلق به الزكاة؟ الشافعي رحمه الله قصره
على الذهب والفضة. وأبو حنيفة رحمه الله جعله كل ما يذاب ويطبع
ويكون سبائك، وكذلك المالكية والحنابلة عمموا كل معدن في الأرض من
غير جنسها وله قيمة، وأدخلوا في ذلك كل المعادن حتى الكحل،
والكبريت، والمضرة، والمضرة: تربة حمراء تكون في بعض الأماكن تؤخذ
ويصبغ بها الثياب، وشاهدناها إلى عهد قريب بالمدينة يطلى بها الخشب
في السقوف حتى لا تأتيها دودة الأرض التي تسمى الأرضة؛ لأن طعمها
مر فلا تعيش فيها الدودة التي تفسد الأخشاب، وعمر رضي الله
تعالى عنه لما رأى على عبد الرحمن بن عوف ثوباً أحمر، قال:
أتصبغ بالزعفران؟ قال: يا أمير المؤمنين هذا ليس بورس ولا زعفران
إنه المضرة، قال: إنكم رهط يقتدى بكم، أي: فيراه جاهل فيقول ابن(2/346)
عوف يصبغ بالزعفران؛ لأنه لا يفرق بين الزعفران وبين المضرة.
ومن هنا نعلم أن على السادة أو موضع القيادة والاقتداء أن يراعوا
ما يقلدهم فيه العامة، فيتحرزون مما فيه شبهة؛ مخافة أن يقع العامة
فيما هو محرم بناءً على ما يتقلده هؤلاء الناس. إذاً: يهمنا نوعية
ما يسمى معدناً عند الأئمة الأربعة رحمهم الله: وهذا مجمل ما يمكن
أن يقال في موضوع المعادن وما يزكى منها وما لا يزكى.
زكاة مزارع الدواجن وشركات الأسماك ونحوها
ونحب أن ننبه على بعض الأشياء وهي: في خصوص عروض التجارة، أنه قد
تجدون في بعض المؤلفات الحديثة: أنها لم تكن موجودة من قبل لا في
العصر النبوي الشريف ولا في عصر الخلفاء ولا فيما بعدهم، وإنما
استجدت في العصور المتأخرة. وأقول قبل أن نناقش أقوالهم: إن كل ما
يستجد أو كل ما استجد اليوم في عصر الحضارة والمدنية وما استجد من
أنواع الاستثمار ليس بجديد على الإسلام، بل يوجد له أصل ونظير،
والمتحفظ من المتأخرين لا يخرج عما كان قديما ويرد المستحدثات إلى
نظائرها التي كانت من قبل، والبعض الذي يريد أن يبرز ربما أغفل
ذلك، وحاول أن يجتهد فيلحقها بالزكاة. ومن ذلك نجد من يقول: إن
هنالك أموراً استثمارية لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم،
وهي تغل على أصحابها النماء والغلة الوفيرة، فيجب أن نجعل فيها
زكاة، ويمثلون مثلاً بمزارع الدواجن، يقولون: إنها تغل على أصحابها
من البيض ومن لحوم الدجاج والسماد ومن .. الشيء الكثير، وكذلك
شركات صيد الأسماك، لأنها تستثمر فتحصل الشيء الكثير بالآلاف
والملايين، خاصةً الآلات المستحدثة كالبواخر أو السفن. وهناك
أيضاً: ما يتعلق بمعادن البحر أو غير ذلك، وهناك العمارات الشاهقة
كناطحات السحاب تستثمر بالملايين، ويقولون: يجب أن نجعل في أعيانها
الزكاة. ونقول: أيها الإخوة! إن من يقول بذلك يفوته الأصل الأساسي
إذا قال: إننا نزكي البيض والدجاج والسمك، وهل هناك نصاب للبيض(2/347)
بالعدد أو بالكيل؟ هل هناك نصاب للدجاج بالوزن أم بالحبة؟ وكذلك
السمك. وإذا قلنا على قولهم بزكاتها فهل نعطي المسكين طبق بيض أو
طبقين؟ ماذا يصنع بها؟! إن ادخرها فسدت، وإن سلقها لم يقدر على أن
يأكلها! فسيضيع حقه فيها، وكذلك اللحوم والأسماك. فهذه الأنواع من
الأموال المستحدثة لها نظائرها في الخضروات، وكذلك فالأسماك موجودة
في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك اللؤلؤ يستخرج من البحر،
والعنبر يستخرج من البحر، كل ذلك كان معلوماً وما سن فيه رسول الله
زكاة. وإذا أرجعناه إلى القواعد الأساسية وقلنا: هذا الذي استخرج
اللؤلؤ واصطاد السمك وجاء بالعنبر وأقام مزرعة الدواجن، إنه يبيع
ويدخل عليه من ثمنها، فيكون ذلك (من طيبات ما كسبتم)، فأثمان هذه
المنتجات الحديثة على رأيه سيكون كسباً ونماءً يدخل في ملكه وفي
خزينته، فإذا حال عليه الحول زكاه، كما أنه لا تزكى الخضروات ولكن
تزكى قيمتها إذا حال عليها الحول، فنقول: كذلك، صاحب البيض والدجاج
وصاحب السمك وصاحب العنبر وصاحب اللؤلؤ، إذا اجتمع عنده بعد نفقته
نصاب وحال عليه الحول زكى، فيزكي قيمة ما حصل عليه من تلك الأشياء
التي لا أصل للزكاة في أعيانها. أما قيمتها فكما تقدم لنا: لو أنه
استثمر التراب لكان عليه من قيمته الزكاة، وبالله تعالى التوفيق.
( كتاب الزكاة - باب صدقة الفطر )
عناصر الموضوع
1 مقدمة باب صدقة التطوع
2 شرح حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله)
كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [1]
حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) من أعظم المواعظ
التي تحث على الخير، وقد شمل هذا الحديث الأمة من القاعدة الأساسية إلى
القمة العالية، فشمل مجموع طبقات الأمة، وقد بسطه العلماء بالشرح،
وبينوا فوائده وآثاره في صلاح الأمة والفرد.
مقدمة باب صدقة التطوع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى(2/348)
آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [باب صدقة
التطوع]. هذا الباب الجديد في صدقة التطوع، والذي قبله صدقة
الإلزام، أي: ليس فيها تطوع ولا اختيار، لكن هنا يتطوع بها. وقبل
الكلام على هذا الباب ننظر في معنى ومغزى هذا العنوان: فالإنسان من
حيث هو يرغب في المال، ويحرص على جمعه: وَتَأْكُلُونَ
التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا
جَمًّا [الفجر:19-20]
فالإنسان حريص شديد الحرص على الدأب في جمع المال، فإن كان يخاف
الله تحرى الحلال، وإلا فلا يبالي من أين أتى، فعلى أنه يتحرى
الحلال ويجمع المال (لو كان لابن آدم وادياً من ذهب لابتغى إليهما
ثالثاً )، فإذا ما حصل على المال وتوفر عنده يكون شحيحاً به،
يضن بإخراجه، فجاءت الفريضة في زكاة المال وصدقة الفطر، وألزمته
رغماً عن شحه، فإذا أدى الواجب عليه برئت ذمته وطهر ماله، ولكن هل
الإنسان يقف عند أدنى الحد؟ الواجب هو أدنى الحد في بذل المال، لكن
الإنسان يسمو ويتعاطف مع أوامر المولى سبحانه وتعالى: مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]؛
فهنا تأتي صدقة التطوع لأنها من دافع الإنسان نفسه، أي: من دافع
إيمانه ورغبته في الخير، وإيثاره الآخرة على الدنيا؛ لأنه يدفع هذه
الصدقة متطوعاً. فالأولى أخرجها فريضة عليه: (فإن أداها طيبة بها
نفسه فبها ونعمت! وإلا أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا )
يعني: يخرجها غصباً عنه، لكن في صدقة التطوع ليس هناك جبر عليه ولا
غصب له! هل هناك عقوبة على تركها وعدم فعلها؟ لا، لكن هناك الرغبة
في الأجر، وإيثار الآخرة على الدنيا، والتعامل مع الله سبحانه
وتعالى. وقدمنا مراراً بأن قانون الحياة يمشي على مبدأ المعاوضة:
خذ وهات، ثمن وسلعة، فتتبادل مع غيرك وتتعاون معه، أما الصدقة إذا
أخرجتها فأين العوض عنها؟ قد يبلغ الأمر بالإنسان السوي المؤمن(2/349)
بالله أنه يخفي صدقته على المسكين، بل يخفيها على نفسه كما سيأتي
في حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: وذكر منهم:
رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله )
وهناك الآية: إِنْ
تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271].
صدقة التطوع دليل على صدق الإيمان
إذاً: صدقة التطوع عنوان على أن المتصدق موقن بالأجر من الله،
وموقن بالعوض عند الله، وعلى قانون المعاوضة المادية كذلك؛ لأنه
يدفع التمر أو يدفع الأرز ويحتسب الأجر عند الله: يَوْمَ
لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى
اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]
فإنه يأخذ العوض هناك، فهو رصيد مضمون ينفعه يوم يفر المرء من
أخيه، وأمه أبيه، فيجده عند المولى سبحانه مضاعفاً كما قال صلى
الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليتصدق بالصدقة فتقع في كف الرحمن
فينميها له كما ينمي أحدكم فلوه -أي: ولد الفرس- حتى تكون مثل جبل
أحد ) . والصدقة والصدق مادتهما اللغوية واحدة: (صدقة، تصدق)،
وتاء الافتعال هذه زائدة، فالصدقة في التطوع دليل صدق المسلم في
إيمانه بالله؛ لأنه يدفع الثمن الآن ويترقب العوض فيما بعد، ولا
ينتظر ممن أعطاه معاوضة، ولا ينتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً: إِنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً ولا
شكورًا [الإنسان:9]
أي: ولو جازيتمونا فإلى أي حد يكون الجزاء منكم؟ عبد الرحمن بن عوف لما جاءت تجارته ودقت طبولها، فجاء التجار وقالوا: نعطيك (10%)
زيادة في الربح، فرفض! (50%) فرفض، (100%) فرفض وقال: أعطيت أكثر!!
قالوا: نعطيك الضعف ضعفين، قال: أعطيت أكثر!! قالوا: نحن تجار
المدينة، وليس في المدينة من يعطيك أكثر من ذلك، فمن الذي أعطاك
أكثر من ذلك؟ قال: الله أعطاني الحسنة بعشر أمثالها، أعطاني عشرة(2/350)
أمثال قيمتها، فالعير وما تحمل في سبيل الله!! إذاً لا
نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:9]
لأنكم لا تستطيعون أن تجازونا كما يجازي الله سبحانه.
شرح حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله)
قال المؤلف رحمه الله: [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا
ظله -فذكر الحديث وفيه-: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم
شماله ما تنفق يمينه ) متفق عليه ]. تقدم التنبيه على منزلة
الصدقة والتطوع بها، وأن ذلك من منطلق الإيمان واليقين بما عند
الله، وأن المتصدق ينتظر العوض من الله سبحانه، ولا يرجو ممن يتصدق
عليه جزاءً ولا شكوراً، كما نوه بذلك سبحانه بقوله: إِنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا
شُكُوراً [الإنسان:9]
؛ لأنه تصدق لوجه الله: مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245]،
وجاءت الأحاديث متعددة في أن الصدقة تعود على المتصدق بأشياء
عديدة: منها ما تقدم في زكاة الفطر أنها: (طهرة للصائم)، وكذلك ما
جاء في الأحاديث الأخرى أن (صدقة السر تطفئ غضب الرب ) . وجاءت
أيضاً أحاديث أخرى تحث على الصدقة منها: (المرء في ظل صدقته يوم
القيامة ) ، والآثار في هذا الباب كثيرة.
منزلة هذا الحديث عند العلماء
وهذا الحديث الذي بدأ به المصنف في هذا الباب يعتبر من جوامع
الكلم، ومن أمهات الأحاديث النبوية الشريفة، قال عنه ابن عبد البر : إنه أعظم حديث جاء في الحث على عمل الخير، والمتأمل لهذا الحديث
في أسلوبه، وفي موضوعه يجد أسلوبه مرتباً ترتيب النتائج على
أسبابها، ومن نظر في موضوعه يجده قد شمل الأمة من القاعدة الأساسية
إلى القمة العالية، فشمل مجموع طبقات الأمة. (سبعة يظلهم الله.. ):
هذا اللفظ المتفق عليه، أما بالنسبة إلى العدد فإنه مما قد أُلِّفَ(2/351)
فيه، وقد كتب فيه السخاوي والسيوطي رحمهما الله، واطلعنا
على رسالة بعنوان: مُنِيْلُ البَشِّ لمن يظلهم الله في ظل العرش،
مائل عينين وهو متأخر. ويقولون: إن السبعة هي نهاية
العدد، وما بعدها مكرر لها أو لأجزائها، وعني شراح هذا الحديث بكل
من جاء فيه نصٌ بأنه ممن يظلهم الله تحت ظله، حتى أوصلوها إلى
سبعين صنفاً، ولكن قال المناوي : الزائد عن السبعة المتفق
عليها إما داخلة تحت هذه الأصناف السبعة، وإما أن أسانيدها لا تنهض
للاحتجاج بها. أيها الإخوة! هذا الحديث شامل لطبقات المجتمع من
الشاب وبقية الأفراد إلى الإمام العادل، كما أشرنا: من القاعدة إلى
القمة، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم نجدها قسمين: فقسم مختص
بمادة وموضوع، وهذا غالباً في أحاديث التشريع في الحلال والحرام،
وفي الواجب والمندوب. وقسم يشمل عدة أصناف، وإذا وجدنا حديثاً يشمل
أكثر من معنىً واحد فبالتأمل نجد أن هناك روابط بين تلك الموضوعات
الذي انتظمت في سلك ذلك الحديث! فمن أحاديث الأحكام ما تقدم في
الزكاة: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )، فهذا حديث مستقل
بموضوع واحد، وهو تقدير النصاب في الحبوب، وحديث: (في كل أربعين
شاة شاة ). ولكن الأحاديث التي تشمل العديد من المواضيع غالباً
ما تكون للتوجيه والموعظة والإرشاد، ومن أهمها هذا الحديث، وإني قد
مكثت زمناً طويلاً أبحث مواضيع هذا الحديث، وأخيراً جمعت فيه
رسالة، وشدني إلى الكتابة فيه قول ابن عبد البر رحمه الله: لو
أن كل صنف من هذه الأصناف السبعة أفرد برسالة لكان حرياً بذلك،
فجمعت لكل موضوع بحثاً مستقلاً بقدر ما في وسع الإنسان في هذا
الموضوع، وحرصت أن يكون معيناً للطالب إذا أراد أن يعظ أو يذكر أو
يدعو إلى فضائل الأعمال الواردة في هذا الحديث النبوي الشريف،
وكذلك الإنسان الذي يريد أن يتزود، أو يتثقف، أو يوسع مداركه في
مدلول هذا الحديث. هذا الحديث يشتمل على المباحث الآتية: أولاً:(2/352)
لفظه. ثانياً: أسانيده. ثالثاً: ترتيبه. رابعاً: معاني أصنافه. أما
سنده: فقد رواه الشيخان وأصحاب السنن، وذكر المؤلف هنا أنه متفق
عليه، واكتفى بذلك، وهو موجودٌ أيضاً في موطأ مالك وعند أبي داود والنسائي وابن ماجة ، وكل هذه الصحاح قد أوردت هذا الحديث.
وبالمقارنة بين ألفاظه في هذه المراجع نجد مغايرات يسيرة، وكذلك في
ترتيبه تقديم أو تأخير، واللفظ الذي ساقه المؤلف هنا: هو لفظ
البخاري رحمه الله، ولفظ مسلم يتفق معه إلا أن مسلماً ذكر فيه الرجل الذي تصدق بيمينه فأخفاها بلفظ: (حتى لا تعلم يمينه
ما تنفق شماله ) ؛ وفي رواية أخرى: (رجل تصدق بشماله -أو رجل
تصدق بصدقة- فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله ) وأسند
الإنفاق للشمال بدلاً من اليمين، وأعتقد أن هذا يكون أدعى وأبلغ في
معنى الإخفاء، وقد نبهنا عليه مراراً.
من يظلهم الله في ظله غير السبعة المذكورين في الحديث
وموضوع الحديث هؤلاء السبعة، وقد نظمهم أبو شامة في بيت واحد
في قوله مشيراً إلى الحديث: قَاْلَ النَّبِيُّ المُصْطَفَىْ إِنَّ
سَبْعَةً يُظِلُّهُمُ المَوْلَىْ الكَرِيْمُ بِظِلِهِ مُحِبٌّ
عَفِيْفٌ نَاْشِئٌ مُتَصَدِّقٌ وَبَاْكٍ مُصَلٍ وَالإِمَاْمُ
بِعَدْلِهِ هذه السبعة الأصناف التي اشتمل عليها هذا الحديث النبوي
الشريف. وإذا جئنا إلى اللفظ الأول: (سبعة): يقولون: إن العدد لا
مفهوم له، ولهذا بحث العلماء فيمن يشملهم هذا المعنى ويظلهم الله
في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكروا منهم: رجلاً لحق القوم، وأدركهم
العدو، وكان في مؤخرتهم؛ فدافع عنهم، وذكروا امرأة تأيمت على
أيتامها حتى كبروا واعتمدوا على أنفسهم، وذكروا أشياء عديدة، حتى
أوصلوا السبعة إلى السبعين، وأقرب مرجعٍ لهذا العدد ما نقله
الزرقاني عمن تقدم نظماً ونثراً في شرحه على الموطأ عند هذا
الحديث. فإذا كان العدد ليس له مفهوم فهناك سبعات عديدة أوصلها(2/353)
العلماء إلى السبعين، وإن كان له مفهوم فيكون مقصوراً على هؤلاء
السبعة، وسواء كان له مفهوم أو ليس له مفهوم فيهمنا الآن هؤلاء
السبعة، إذ إن هذا الحديث جمع جميع طبقات المجتمع، وما ذكر فكما
قال النووي و المناوي : قد تكون مندرجة تحت صنف من هذه
الأصناف السبعة.
معنى (يظلهم الله في ظله)
(يظلهم الله) هذا اللفظ متفق عليه، وكل من خرَّج هذا الحديث رواه
بهذا اللفظ. (في ظله) أو (في ظل عرشه): تختلف الروايات، فتارة
تأتي: (في ظله)، وتارة تأتي: (في ظل عرشه). (يوم لا ظل إلا ظله) أو
(يوم لا ظل إلا ظل عرشه) على حسب الروايتين المتقدمتين، وليس هناك
إشكال أن العرش جرم محسوس يتصور أن يكون له ظل، ولكن الإشكال الذي
لم أجد له جواباً، هو أن الظل ناتج عن الشمس، ويوم القيامة تكور
الشمس، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات، وثمة حديث آخر، وهو عن
المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل
-قال سليم بن عامر : فوالله! ما أدري ما يعني بالميل: أمسافة
الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين؟! قال:- فيكون الناس على قدر
أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى
ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً،
قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه ) رواه
مسلم . إذاً: كيف تأتي تلك الشمس؟ وأي نوع هي؟ هذا الذي يقف
عنده الإنسان مستسلماً مصدقاً بما قال صلى الله عليه وسلم، ولم أجد
من تكلم على ذلك بما فيه الكفاية. وإذا كان الله يظلهم في ظله،
فهناك كلام كثير للعلماء، لكنه يدور بين الحقيقة والمجاز، ومعنى
الحقيقة: في ظله سبحانه، والله أعلم بكيفية تظليلهم في ظله، ولا
نستطيع أن نتصور للمولى جرماً وظلاً -حاشا لله- ولكن يقولون: في
ظله، أي: في عنايته، ورعايته، ورحمته، كما يقولون: فلان يعيش في ظل(2/354)
فلان وفي كنفه، وحملوا ذلك على المجاز بعداً عن التشبيه أو الوقوع
في محظور بالنسبة للمولى سبحانه. ونحن إذا أخذنا اللفظ على وضعه
نستشعر عاطفياً وعقلياً وعلمياً أن هؤلاء السبعة يخصهم الله سبحانه
وتعالى بتلك الفضيلة، وفي بعض الزيادات: (في ظله حتى يقضى بين
الخلائق )، وفي الحديث: (إن العبد في ظل صدقته يوم القيامة )،
ويمكن أن نقول: الصدقة تجسمت، أو تجسم ثوابها وتحول إلى مظلة تظل
صاحبها حتى يقضى بين الخلائق، ولا يناله ما ينال عامة الناس من
حرارة الشمس التي تدنو منهم فيعرقون. إذاً: الأولى لنا أن نترك
تعمق البحث في مدلول قوله: (في ظله)، ونفوض ذلك إلى ما يعلمه
المولى سبحانه، ويكفينا أن نقول: إن هذا أعظم موعظة وأعظم مرغب؛
لأنه يحاول الإنسان أن يكون واحداً من هؤلاء السبعة إن لم يجمع
أكثر من صنف.
هل يمكن أن تجتمع هذه السبع الخصال في رجل واحد؟
وهل يمكن للإنسان أن يجمعها؟ لا مانع من ذلك؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم ذكر أبواب الجنة الثمانية فقال: (من أنفق زوجين من شيء
من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب: يا عبد الله! هذا خير، فمن
كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي
من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان
من أهل الصيام دعي من باب الصيام -وهو باب الريان- فقال أبو بكر : ما على الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة. فهل يدعى أحد منها
كلها يا رسول الله؟! قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر ! ) والحديث متفق عليه عن أبي هريرة . وهناك حديث آخر: (إذا
توضأ المسلم فأسبغ الوضوء، ثم تشهد فتحت له أبواب الجنة الثمانية
يدخل من أيها شاء ). وفي الحديث المتقدم نجد الصديق يسأل:
هل يمكن أن تجتمع في فرد واحد موجبات عدة؟ قال: (نعم، وأرجو أن
تكون منهم يا أبا بكر !)، ولا شك أنه أولى الناس وأولهم سبقاًَ(2/355)
إلى الجنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الأصناف السبعة
المذكورة في الحديث اجتمعت في نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا
الصلاة والسلام؛ لأنه ذكر عنه أنه في شبابه نشأ في طاعة الله، وذكر
الله عنه أنه دعته امرأة ذات منصب وجمال: وَرَاوَدَتْهُ
الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ
وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي
أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]،
وذكر عنه أنه كان يتصدق، حتى قال بعض المفسرين في قوله تعالى: قَالُوا
إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف:77]:
كذبوا والله، بل كان يأخذ الطعام ويتصدق به سراً، وكان إماماً
عادلاً، وكان محباً للخلق، ملازماً للمساجد، ذاكراً لله، قالوا:
اجتمعت هذه في نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة السلام، ولم
يذكروا غيره، مع أنه ليس من أولي العزم من الرسل. ولم يذكر لنا
تاريخياً أن أحداً من الأنبياء الكرام امتحن بما امتحن به يوسف في
قضية امرأة العزيز، فلما اختص بهذه القضية كان أدعى لأن يصفوه بأنه
هو الذي اجتمعت فيه الخصال الواردة في هذا الحديث، ولا حرج فهذا
فضل الله، ولا نستبعد أن الله سبحانه يكرم بعض الشباب الذين أودعهم
الله هذا السر، فينشأ في عبادة الله مع إخوانه أو مع أهل بيته، ثم
يكون أيضاً عفيفاً، ويبادر أهله بزواجه مبكراً، ويكون محباً
للمساكين يتصدق ويخفي صدقته، ويكون قلبه معلقاً بالمساجد، ثم إذا
ولي أمراً كان عادلا ً فيه، لا حرج فهذا فضل الله.
اهتمام الإسلام بالشباب
أشرنا إلى أن هذا الحديث المبارك قد شمل طبقات المجتمع، فبدأ
بـ(شاب نشأ في عبادة الله)؛ لأن الشاب غداً يصير رجلاً، ويصير
متعلق القلب بالمساجد، وقد يكون إماماً. إذاً: البداية من الشباب،
ولذا وجب الاهتمام والعناية بشباب الأمة، والمتأمل في نصوص القرآن(2/356)
الكريم والسنة النبوية يجد العناية بشباب الأمة عجيباً جداً، وسبق
أن قدمنا محاضرة في ذلك، وقلنا: إن الإسلام قد عني بالشباب قبل
وجودهم إلى الدنيا؛ فمهد لوجودهم بالعناية الكاملة. و(الشباب): هو
النشيط من كل كائن حي، سواء كان من الحيوانات، أو الإنسان، أو
الطيور، ومنه قولهم: شبت النار، إذا ارتفعت وعلت بعد الضعف. ومن
عناية الإسلام بالشباب أنه بدأ بالحث على اختيار الزوجة التي
تنجبه، ففي الأثر: (تخيروا لنطفكم؛ فإن العرق دسَّاس )، ثم وضع
الإسلام منهج بناء الأسرة الإسلامية في قوله صلى الله عليه وسلم:
(إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه )، فبناها على أساس من
الدين والتقى والصلاح. وقال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها،
ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك ) متفق عليه عن
أبي هريرة ، فذكر من المرغبات حسب الجبلة: حسب، نسب، جمال، دين،
ثم قال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، والقرآن الكريم حث كذلك على
اشتراط الإيمان: وَلا
تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ
خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ
مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ
وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [البقرة:221]،
إذاً: عني الإسلام بالشاب قبل مجيئه بحسن بناء الأسرة، والتقاء
الأبوين على مبدأ الإيمان. ثم راعى أول لقاءٍ بين الأبوين بأن يبدأ
بذكر الله، فيضع الرجل يده على ناصيتها ويقول: (اللهم! إني أسألك
خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ماجبلتها عليه )،
ومع المباشرة يقول: (اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا )،(2/357)
فإذا ظهر الحمل؛ أعفيت من كثير من التكاليف حفظاً لهذا الحمل، فسمح
الشرع لها أن تفطر إن كان الصيام يضر بها أو بجنينها: فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
وأول ولادته يقابل بذكر الله: الأذان في اليمنى، والإقامة في
اليسرى، ثم يعق عنه يوم سابع الدورة الأولى من حياته؛ لأن الدورة
الزمنية للطفل عند الأطباء أسبوع، ولهذا يقدرون الحمل بكذا أسبوع
لا بالشهر، فإذا أكمل الدورة الزمنية الأولى وهي أسبوع كان له شأن
آخر: عق عنه، وأزيل عنه الأذى، واختير له الاسم الطيب، ثم بعد ذلك
يكون موضع العناية والرعاية حتى إكمال إرضاعه؛ سواء اتفق الأبوان
أو اختلفا، فلزم الأب بالإنفاق عليه فيما يحتاج إلى الفطام، ولا
يعجل عليه حتى يتم حولين كاملين. ثم ينشأ إلى حد التمييز فيعلم
الإسلام، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ({مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين،
واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع )
رواه أحمد وأبو داود . والشاب الذي نشأ في عبادة الله
قطعاً لا يكون على رأس جبل، ولا في وسط أمة كافرة، ولا في وسط أمة
مهملة، بل لابد أن تكون نشأته في موطن إسلامي، وكما قال صلى الله
عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه
أو ينصرانه )، ومن هنا إذا نشأ الشاب في مجموعة من الشباب
الخيرين فلابد أن يؤثر عليه محيطه، ومن هنا يتحتم على الأبوين
تعليمه صغيراً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم راعى ذلك، فعمرو بن
أبي سلمة لما جلس يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلت
يده تطيش في الصحفة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا
غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك )، ولم تخرج آداب
المائدة عن هذه الكلمات: (سم الله)، أي: اشكر الله على النعمة، وقل
باسم الله تنفعك ويبارك لك فيها، وتؤدي شكر المنعم عليك بهذه(2/358)
النعمة. (وكل بيمينك) وكما يقولون: اليمنى للمكرمات، والأخرى لبقية
الحاجات. (وكل مما يليك): ليس من هنا ومن هنا، إذ هي إساءة أدب.
فتعين على الأبوين أن ينشِّئا صغيرهما على تعاليم الإسلام، ولا
يكون إلا إذا كان الأبوان مسلمين متعلمين عالمين بحق هذا الطفل
الذي هو ضيف عليهما، أما إذا كانا هما في حاجة إلى من يعلمهما؛
ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن هنا كانت العناية بالتعليم بصفة عامة هي
سيما الإسلام، فالإسلام دين العلم والتعليم، ويكفي أن أول الوحي
على النبي الأمي قوله سبحانه: اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ
مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ
مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]،
نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وخوطب أول ما خوطب بالوحي
بالعلم والتعلم! إذاً: هذه الرسالة رسالة علم قبل كل شيء. (شاب نشأ
في عبادة الله): فالأبوان عليهما المسئولية الأولى، وهذا الشاب
الذي نشأ في عبادة الله إنما كان بأثر الأبوين أولاً ، ثم المجتمع.
نرجع إلى لفظ الحديث؛ لأن ترتيب أصناف الحديث -فعلاً- ترتيب مبني
على ارتباط النتائج بأسبابها.
أهمية الإمام العادل للأمة
أول هؤلاء السبعة: الإمام العادل، وفي بعض الروايات: (إمام عدلٌ)،
وفي روايات أخرى: (إمام عادل). العادل: هو الذي يسوي بين المتفقين:
كالزوجين، والخصمين، والشريكين، والصنفين، في القسمة بالوزن
والكيل؛ هذا عادل، وهذا الوصف من العدل أو من العدالة يتفق فيه
المسلم والكافر؛ لأننا نجد ولاة من غير المسلمين يحكمون بالعدالة
في شعوبهم، ونجد معاملات عديدة من غير المسلمين تتصف بالعدالة،
وقال صلى الله عليه وسلم حينما وجه أصحابه إلى الحبشة: (لو خرجتم
إلى الحبشة؛ فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى
يجعل الله لكم فرجاً )، وكان النجاشي على دين النصارى، لكنه(2/359)
عادل ذو مروءة، إذاً: تلك الأخلاق يتفق فيها الجميع. على رواية:
(إمام عدل)، فالعدل: هو من اكتملت فيه أمهات الأخلاق الفاضلة فهو
متصف بالصدق، بالأمانة، بالورع، بمخافة الله، بفعل الخير، لا يحابي
أحداً على الآخر، فهو عدل في ذاته، قال الله عز وجل: وَأَشْهِدُوا
ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]،
أي: ذوي صدق وأمانة ووفاء. وهذا الإمام العدل: أتظنون أن يكون
عادلاً أم غير عادل؟ أيكون عادلاً في حكمه أو يكون جائراً؟ لابد أن
يكون عادلاً، ولكن العادل في حكمه، هل يكون عدلاً في ذاته أم لا؟
لا يلزم ذلك؛ فقد يكون كافراً أو فاسقاً، ولكن يضطر إلى العدالة في
الحكم ليبقى ملكه، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: الملك يدوم
مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم، والظلم ظلمات
يوم القيامة. إذاً: هذا اللفظ جمع الصنفين: (إمام عادل) أي: في
حكمه، (إمام عدل) أي: في شخصه، وبالتالي سيكون عادلاً في حكمه،
وإذا كان الإمام عدلاً تقياً زاهداً فيما بأيدي الناس، ورعاً يخشى
الله، تقياً في أعماله، مصلياً صائماً مزكياً حاجًّا بيت الله،
يخاف الله في كل تصرفاته، هل سيقر ظلماً في ملكه؟ هل يقر فسقاً أو
أية أعمال مخلة بالدين؟ الجواب: لا، بل سيعمل على أن تكون الرعية
مثاليةً في حياتها، وفي أعمالها، ولن يقبل من أحد أن يخرج عن قانون
العدل. إذاً: سيعمل على إصلاح الجميع، وسيقيم شعيرة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وستكون الأمة في ظله أمة مثالية، ونحن وجدنا
مصداق ذلك في صدر الإسلام بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وذلك
فيما كان عليه الناس في خلافة أبي بكر وخلافة عمر استدعى
أبو بكر رضي الله تعالى عنه عمر فقال: يا أخي! أعني في بعض
المهام، قال: وما تريد؟ قال: تتولى القضاء بين الناس؛ لأن القضاء
من مهمة الإمام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قاضياً، وقال
لبعض الصحابة: (اكفني مئونة بيت المال )، فقام عمر وتولى(2/360)
القضاء، ومكث سنة كاملة أو أكثر، ثم جاء إلى أبي بكر ، وقال:
خذ عملك، قال: ولِمَ.. أتعبتَ؟ قال: ما تعبت، ولكن من يوم أن
وليتني القضاء ما جاءني أحد! أمة عرف كل واحد فيها ما له فأخذه،
وما عليه فأداه. فرد عمر القضاء على أبي بكر لعدم وجود
متخاصمين، فكانت الأمة بهذه المثابة؛ لأنها تخرجت من مدرسة المصطفى
صلى الله عليه وسلم، وتولاها أبو بكر رضي الله عنه من بعده،
وسارت على المنهج الأول. فإذا كان الإمام عدلاً عادلاً فإن الأمة
كلها على خير، وكما يقال: الناس على دين ملوكهم، وهذا من نتائج
عدالة الإمام في ذاته ، وعدله في رعيته، وإقراره للحق وإبطاله
للباطل، ونشره للفضيلة، وقضائه على الرذيلة. قال أحد الناس: كنا
نمشي بعد العشاء بمسافة قليلة عن باب المسجد، وثمة أشخاص جالسون
ممن انقطعوا لذكر الله، فقال لي أحد رفاقي: يا فلان! تعرف أهل
الجنة؟ قلت: ما رأيتهم حتى الآن! قال: هؤلاء ما بينهم وبين الجنة
إلا الموت؛ لا يظلمون أحداً، ولا يسرقون أحداً، ولا يعتدون على
أحد، مكتفين بذكر الله، وما يسر الله لهم من لقمة العيش، وهم كبار
في السن، فقد كان الناس في السابق بعيدين عن المشاكل وعن اقتراف
المظالم. ففي ظل الإمام العادل العدل لابد أن ينشأ الصغير على
عبادة الله، وكذلك يكون الكبير على الطاعة والامتثال وعبادة الله.
شمول الأمانة لكل عمل وتكليف
وقد بيَّن المولى سبحانه والرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه أن
هذا الإمام العادل تجب طاعته، فإذا خرج عن العدالة، وخرج عن منهج
القرآن والسنة النبوية؛ فلا طاعة له، كما قال الصديق :
(أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم). ومن
مبادئ المنهج الإلهي في الدولة الإسلامية قوله تعالى: إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ [النساء:58]،(2/361)
الأمانات: جمع أمانة، وليست مقصورة على الوديعة التي تودعها أمانة
لدى جارك أو صديقك أو أي إنسان ترتضيه، بل كل التكاليف أمانة، فمن
الأمانة العبادة بينك وبين الله، كما قال بعض المفسرين في قوله
سبحانه: وَحُصِّلَ
مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:10]،
قال: ما ائتمنوا عليه غيباً كصحة الوضوء من الحدث، والغسل من
الجنابة، فهي أمانة في عنق كل إنسان بينه وبين الله. والإمام مالك : في مسألة أكثر الطهر وأكثر الحيض وأقله قال: إن الله قد وكل أمر
النساء إليهن، يشير إلى قوله: وَلا
يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228]؛
لأن هذه أمانة بينها وبين الله. ومن الأمانة وضع الأستاذ الدرجات
للطلاب، فالأستاذ حاكم: يعطي هذا خمس درجات، وهذا ستاً، وهذا
سبعاً، وهذا كذا.. يحكم على هذا بالنجاح، ويحكم على هذا بالإعادة؛
فهذه أمانة، فتدريس الأستاذ في الفصل أمانة، فلا يعتني بجماعة
ويهمل جماعة، ولا يجيب سائلاً ويترك آخر، وتصحيحه للأوراق أمانة.
والإنسان في بيته مسئول كغيره: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته )؛
لأن الرعية أمانة، فالله يأمركم أن تؤدوا الأمانات، وهي عامة، وأهم
أمانة: (الحكم)؛ لأن الحاكم في الإسلام ليس فوقه إلا الله، وليس
لأحد في دولة مسلمة سلطان على القاضي المسلم إلا سلطة المولى
سبحانه، كما يسمى حاليًّا (حرية واستغلال القضاء). وقوله: وَإِذَا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58]،
أي: سواء بين اثنين أو حكم في أمة.
وجوب طاعة الإمام بالمعروف
ثم قال الله سبحانه وتعالى: أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]،
فيأمر الله الحكام والمسئولين بأداء الأمانة والحكم بالعدل، ويأمر
الرعية بالسمع والطاعة: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ(2/362)
وَأُولِي الْأَمْرِ)، وهنا جاء فعل الأمر بالطاعة مكرراً: (أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول) فأبرز فعل الطاعة مع لفظ الجلالة ولفظ رسول
الله صلى الله عليه وسلم، أما أولو الأمر فلم يقل: (وأطيعوا أولي
الأمر) بل قال: (وأولي الأمر)؟ وفي هذا إشارة إلى أن الطاعة أساساً
لله ولرسوله، أما أولو الأمر فطاعتهم تبع لذلك، أي: فإن أطاعوا
الله وأطاعوا الرسول فأطيعوهم، وإن لم يطيعوا الله ولم يطيعوا
الرسول فلا طاعة لهم. إذاً: قوله تعالى: إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ [النساء:58]
موجهٌ للحكام، وقوله تعالى: أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]
موجه للأمة لتوثيق ارتباطها بالحكام، فالإمام العادل له حق السمع
والطاعة، وغير العادل الذي خالف الكتاب وخالف السنة ليس له ذلك
الحق، لكن بشرط أن تكون المخالفة كما بينها صلى الله عليه وسلم:
(إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان ). فلو كان
الإمام عدلاً ونقص عن العدالة شيئاً ما، كارتكاب بعض الصغائر
والتقصير في بعض الواجبات التي لا تبلغ به حد الكفر فطاعته واجبة.
أما إذا ارتكب ما يعتبر ردة عن الإسلام؛ فلا طاعة له، ولا كرامة!
كأن يشرع ما يخالف الإسلام، وكذلك إذا عطل حكماً في الإسلام، فهذا
لا طاعة له: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )، وقد أشرنا أن
الصديق رضي الله عنه قال: (وُلِّيْتُ عليكم ولست بأفضلكم،
فأطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم)؛
لأن طاعته فرع عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا وجد
الإمام العادل في الأمة فالأمة كلها بخير؛ لأن عدله وعدالته ستأخذ
الأمة إلى الصراط السوي، وتمنع من يجنح يميناً أو يساراً، ولا يسمح(2/363)
لأحد بتجاوز حدود الله، ولا يعطل حداً من حدود الله، ولا يحكم بشيء
يخالف أوامر الله؛ ولذلك قالوا: الإمام العادل ظل الله في أرضه،
وقالوا: عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة، وإقامة حدٍ من حدود الله
في الأرض خيرٌ لأهلها من أن يمطروا أربعين يوماً. إذاً: إذا وجد
الإمام العادل كان هناك الخير كل الخير، وقد جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: لو علمت أن لي دعوة مجابة عند الله لجعلتها
للسلطان؛ لأن في صلاحه صلاح الأمة. وفي سير الملوك والأمراء وولاة
الأمر نجد القيام بالعدل وبالعدالة وإن لم يكن عادلاً في ذاته؛ كأن
يكون فيه جرح وتقصير، لكنه عادلٌ يقيم شرع الله، ولا يسمح بما
يخالف كتاب الله، فهذا فيه البركة. إذاً: (إمام عادل): هو المبدأ،
وفي مظلة عدالته ستنتشر الفضائل، وتختفي الرذائل، وفي هذا المجال
ستنشأ الناشئة على عبادة الله. وكلمة: (عبادة الله)، ليس معناها
مجرد المساجد، ولا مجرد الصلاة، ولا مجرد الصيام، وإنما العبادة:
اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، يقال: طريق معبد، أي: مذللٌ
مسهل، فالعابد هو المطيع الملتزم، والشاب الذي نشأ في عبادة الله،
ونشأ على السمع والطاعة وعلى مكارم الأخلاقخ؛ إنما هو أثر من آثار
عدالة الإمام.
نموذج للعدالة الإسلامية
في الواقع أن الحديث عن جوانب عدالة الإمام والأمثلة على ذلك مما
نقرؤه في التاريخ من بعد الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عليهم،
يضيق المقام عن أن نسرده في جلسة أو في ناحية، وقد أشرنا إلى ذلك
بقدر ما توصلنا إليه في تلك الرسالة التي جمعناها بعنوان: من يظلهم
الرحمن في ظل العرش. والعدالة التي قرأنا عنها في زمن الصحابة
-خاصة في باب القضاء- فيها نماذج عجيبة، ومما يذكر وكيع في
أخبار القضاة: أن شريحاً وكان قاضياً بالكوفة في خلافة علي رضي الله تعالى عنه؛ دخل عليه علي وهو الخليفة، ومعه يهودي
يخاصمه في درعه، فقال القاضي: ما تقول يا يهودي؟! قال: هو درعي،(2/364)
وفي يدي، فقال شريح لعلي : ما بينتك على أن هذا الدرع لك؟
قال: الحسن بن علي وقنبر ، قال: أما قنبر فنعم؛ لأنه
مولاه، وأما الحسن فلا نقبل شهادته لك، قال: ويحك يا شريح ! أما سمعت أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (سيدا شباب أهل
الجنة الحسن والحسين )؟ كيف ترفض شهادة سيد شباب أهل
الجنة؟ قال: لا أرفضها؛ لكنها تُرفض إذا كانت لك أنت؛ لأنه ولدك!
انظروا إلى هذه المواجهة! ثم قال: هل لك شاهدٌ آخر؟ قال: لا، قال:
إذاً: اذهب -يا يهودي- بدرعك، فخرج علي وحينما وصل إلى الباب
استوقفه اليهودي، وقال: قف يا علي ! والله إن الدرع لدرعك، كان
على راحلتك فسقط فأخذته، وأنا أنكرتك فيه لتذهب بي إلى القاضي؛
لأنظر كيف يفعل قاضي المسلمين مع يهودي، أما والحال كذلك فخذ درعك،
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ففرح بذلك علي ؛ لأن دعواه كانت غير ثابتة، أما الآن فصدقه في دعواه، فقال: الدرع
لك ومعه مائتا درهم! فأية عدالة بعد هذا؟! يوجد نماذج كثيرة -يا
إخوان- ويكفي التنويه، ونحيلكم على بعض النماذج في تلك الرسالة
التي أشرنا إليها، وبالله تعالى التوفيق. وصلى الله وسلم وبارك على
سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
134677 ( كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [2] )
( كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [2] )
عناصر الموضوع
1 اليد العليا خير من اليد السفلى
2 البداءة في الصدقة بالأقربين
3 خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى
4 الغنى غنى النفس
5 دفع التعارض بين حديث (أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى) وحديث (أفضل
الصدقة جهد المقل)
6 الأولوية في النفقة والصدقة
7 خطر البطالة
كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [3]
الشريعة الإسلامية تحث على الكسب الحلال، وتكره البطالة، ولذا فضلت
اليد العليا على اليد السفلى، ويشرع للمنفق آداب وأحكام بينتها
الشريعة، ومن ذلك أن يبدأ بنفسه ثم بالأقرب فالأقرب ممن تلزمه نفقتهم.(2/365)
اليد العليا خير من اليد السفلى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على
رسولنا محمد، وعلى آله وصحبه. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن
حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير
الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه
الله ) متفق عليه، واللفظ للبخاري ].
معنى اليد العليا واليد السفلى
حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه يرتبط مع الحديث الذي
بعده بعين الموضوع، وللعلماء فيه كلام، يقول رضي الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اليد العليا خيرٌ من اليد
السفلى). يقولون: اليد العليا عليا في الهيئة وفي الواقع؛ لأن
السائل يقول: أعطني، والثاني يقول: خذ، فاليد العليا هي المعطية،
والسفلى هي الآخذة، وهذا يطابق الواقع عملياً، ومن ناحية المعنى:
لا شك أن اليد ذات الغنى أعلى من اليد ذات الفاقة، فذات الفاقة
متدنية، وذات الغنى مستعلية. وبعضهم يقول: اليد العليا هي
المستعلية على الأغنياء بعفتها، فهو فقير، لكنه متعفف، فصارت يده
عليا مستعلية على من يعطيها بعفتها، كما قال الله: يَحْسَبُهُمُ
الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ
بِسِيمَاهُمْ [البقرة:273]،
ولكن المعنى العام على ظاهر الحديث هو الأول، وهو الواقع الحسي
المتداول المعروف، وهل هذا فيه مذمة لليد السفلى أو تفسير واقع
وحثٌ للفقراء والمساكين بأن يستعفوا، ويرفعوا أيديهم عن منزلة
السفلى؟ هذا حثٌ للفقير وحثٌ للمسكين بأن يستعف، وأن يعمل حتى يرفع
يده عن منزلة السفلى، وقد جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم تفسير
ذلك عملياً حينما جاءه شابٌ قويٌ جلدٌ يسأل الصدقة، فنظر إليه صلى
الله عليه وآله وسلم وقال له: (إن الصدقة لا تحل لقويٍ ذي مرة،(2/366)
قال: ماذا عندك؟ قال: حلسٌ نفترش نصفه، ونلتحف بنصفه، وقعبٌ نأكل
ونشرب فيه ). هذا هو أساس بيته، فليس له غرفة نوم، ولا غرفة
ضيوف، ولا صالة، أثاثه كله محصور في بطانية أو حنبل يفرش نصفه
ويتغطى بنصف، والقعب، هذا هو أدوات المطبخ. فقال: (علي بهما)،
فأخذهما صلى الله عليه وآله وسلم وقال: من يشتري مني هذا؟ فقال
رجل: بدرهم -ولعلها لا تبلغ قيمة الدرهم- فقال: من يزيد؟ -حتى لا
يكون هناك مماكسة في حقه- فقال رجل: بدرهمين -وأعتقد أن الذي يزيد
(100%) إنما هو مجاملة مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم- فقال:
خذ، ويعطي الشاب الدرهمين، ويقول: اشترِ بدرهمٍ طعاماً وضعه عند
أهلك، واشترِ بدرهمٍ فأساً وحبلاً. فإذا كان فأس بدرهم فمعناه أن
الدرهم كانت له قيمة؛ لأن القيمة الشرائية للنقد حينما يكون النقد
عزيزاً، أما إذا كان النقد هابطاً فلا قيمة له، فبعض الجهات عملتها
لا تساوي شيئاً، ونحن شاهدنا ارتفاع وانخفاض العملات في الأسواق.
المهم أنه ذهب واشترى الفأس والحبل، وجاء فأخذ الفأس، ووضع عوداً
فيه، وقال: اذهب فاحتطب، وبع واستغنِ، ولا أرينك خمسة عشر يوماً،
فيذهب، ثم يأتي، ويقف على رسول الله والدراهم في جيبه، فيتبسم صلى
الله عليه وآله وسلم ويقول: (لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً، فيذهب
فيحتطب فيبيع فيستغني، خير له من أن يتكفف الناس أعطوه أو منعوه )
. وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن يستغنِ يغنه الله، ومن يتعفف
يعفه الله)، أي: من يستغنِ بالله يغنه، ومن يستعفف في جانب الله
يعفه، ويرزقه القناعة والصبر، وهكذا.
دخول كل معروف في اليد العليا
قوله عليه الصلاة والسلام: (اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى)،
أعتقد أن هذا ليس قاصراً على الصدقة بالمال، والغني والفقير، بل
يؤجر كل من أسدى لإنسانٍ حاجة، فلو كانت لشخص حاجة في جهة من
الجهات، أو عند إنسان من الناس، فذهبت وقضيت له حاجته، فممكن أن(2/367)
يدخل ذلك في قوله: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، ويكون في ذلك
أجر وفضل لمن أسدى لأخيه معروفاً، وأصبح له يدٌ عنده. كما في قصة
المغيرة بن شعبة وهم تحت الشجرة في الحديبية الرضوان عندما
كتبت الصحيفة، ولما جاء أحد المشركين يفاوض، أخذ بيده لحية رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان المغيرة بن شعبة واقفاً
على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كف يدك عن لحية رسول
الله صلى الله عليه وسلم قبل ألاَّ ترجع إليك! وكان السيف في يده.
فقال: من هذا يا محمد؟! قال: هذا فلان. قال: يا غدر! ما غسلت غدرتك
إلا بالأمس، ثم قال الرجل: يا محمد! ما أظن أن هؤلاء يثبتون معك،
ما أظنهم إلا ينفضّون عنك، فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات!
أنحن ننفضُّ عن رسول الله؟ قال: من هذا يا محمد؟! فقال: هذا أبو
بكر قال: لولا يد لك عندي، لرددتها عليك، ولكن هذه بتلك، يعني:
أن أبا بكر سبق أن عمل له معروفاً، حتى صارت له يد عليه، أي:
منة ونعمة. وهكذا اليد العليا في كل شيء يحتاجه الإنسان، ويتقدم
إليه الآخر بقضائها، سواء منه شخصياً أو عن طريقه، فهي يدٌ عليا
على من أنعم عليه بذلك المعروف.
البداءة في الصدقة بالأقربين
وقوله: (وابدأ بمن تعول) قرينة تدل على أن اليد العليا هي المعطية.
والعيال هم من يلزم الإنفاق عليه، وساقها المؤلف في باب الصدقة
للمناسبة، فتكون لك يدٌ عُليا على الغَير، بمعنى أنك تتصدق من
مالك، وكيف تفعل ذلك؟ علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
الحديث السابق أن نبحث عن ذوي الحاجات، فنضع المعروف في محله، نضع
الكساء للعريان، ونعطي الطعام للجائع، ونعطي الماء للعطشان، وهكذا
نعطي الدلو لمن ليس عنده دلو، ونعطي الحبل لمن لا حبل له، ونعطي
البعير لمن يحتاج إلى ركوبه، ونعطي القلم لمن لا قلم عنده، فنضع
الشيء في موضعه. وهنا يعلمنا صلى الله عليه وآله وسلم الترتيب
والأولوية، كما قال الله: يَسْأَلونَكَ(2/368)
مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ
فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة:215]
فقال: (وابدأ بمن تعول)، وأولى ما يكون للإنسان نفسه، فأولاً: تكفي
نفسك، فلو كان عندك ثوب وأنت عريان، هل تعطيه لغيرك؟ لا، ومن أمثلة
العوام: مطابق وأخوه عريان؛ والمطابق هو الذي يأخذ ثوبين وأخوه
عريان، فهنا يعطي كل واحد منهما ثوباً. وأما من له الأولوية في
الإنفاق، بعد النفس، فبعض العلماء يقول: الزوجة، ولكن القرآن يقول: فَلِلْوَالِدَيْنِ [البقرة:215]،
ونفقة الوالدين هل تكون إجبارياً، أو تطوعاً؟ إذا كان الوالدان
مستغنيين فليس لهما حق النفقة على الولد، وكذا الولد، لكن الزوجة
مهما كان غناها، فنفقتها واجبة على زوجها على كل حال. إذاً: نفقة
الزوجة في الدرجة الأولى بعد النفس؛ لأنها واجبة في حال غناها
وفقرها، لكن الأبوين والأولاد، لا تجب النفقة عليهم إلا عند
الحاجة، إذاً: من كانت النفقة واجبة له على كل حال؛ فهو أولى ممن
كانت واجبة له في بعض الأحوال، فالنفقة على زوجك أولى. جاء أبو
طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله!
سمعت ما أنزل الله سبحانه وتعالى في قوله: لَنْ
تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل
عمران:92] ، وإن أحب مالي إلي بيرحاء ) ، والعامة تقول: بير
حاء، وكان هنا عند باب المجيدي، ودخل في توسعة المسجد، وكان فيه
ماء يستعذب، وكان بجوار المسجد، وكان أحسن أو أعز أو أحب ماله
إليه، فقال: يا رسول الله! هو صدقة؛ ضعه حيث شئت، فقال: (اجعله في
أهلك ). محل الشاهد قوله: (اجعله في أهلك)، وهكذا يكون الإنسان
صاحب خير؛ سواء كان فقيراً أو غنياً، فيسد من حوائج الناس،
والأقربون أولى بمعروفه، ثم بعد ذلك الأدنى فالأدنى.
خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى
لاحظوا يا إخوان: (ابدأ.. اليد العليا)، فاليد العليا تبدأ بمن(2/369)
تعول، فهناك عطاء، وهناك صدقة، ثم يأتي في الدرجة الثالثة التوجيه:
(وخير الصدقة) أي: الناشئة عن اليد العليا، التي تتوجه للأدنى
فالأدنى من الأقربين (ما كان عن ظهر غنى). فقوله: (ما كان عن ظهر
غنى) كناية عن المال الزائد المستغنى عنه، فهذا يشعرنا بأنه يبدأ
بنفسه هو؛ لأن خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وأول من يستغني
المتصدق؛ فإذا كان عندك ما يغنيك، فالزائد عن الحاجة تكون منه
الصدقة، وهذا حفاظ على حياة المتصدق وعلى نفسيته. و(خير) من صيغ
التفضيل حذفت منه الهمزة، وأصلها (أخير)، ونظيرها: (شرٌ)؛ وأصلها
(أشر)، لكن حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال. إذاً: خير الصدقة
ما كان حينما يتصدق بها المتصدق عن ظهر غنى، أي: وهو مستغنٍ في
نفسه، كما أن الزكاة لا تجب إلا عن ظهر غنى؛ لأنه لا تجب إلا على
من يملك النصاب، وهو مستغنٍ عنه طيلة العام، فهكذا تكون الزكاة،
وكذلك صدقة التطوع.
الغنى غنى النفس
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ
يغنه الله)، هذا موجهٌ لصاحب اليد السفلى، ونحن عندنا طرفان: معطٍ
وآخذ، ويدان: يدٌ عليا ويدٌ سفلى، فكان صدر الحديث مع (اليد
العليا)، وذلك في قوله: (ابدأ بمن تعول)، وهكذا (خير الصدقة ما كان
عن ظهر غنى) موجه للمتصدق صاحب اليد العليا. ويأتي الحديث للجانب
الثاني (ومن يستعفف يعفه الله)، هل قال: (يستعفف) أو قال: (ومن
يتعفف)؟ هذه الحروف الزائدة حروف استفعال، وكما يقول الزمخشري : زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وهذه قاعدة في فقه اللغة.
فقوله: (يستعفف) أبلغ من (يتعفف) فالمعنى: أنه يتكلف العفة ولو لم
يكن في شخصه عفيفاً، فهو يتصنع ذلك، ويفتعل ذلك، ويحمل نفسه على
العفة ولو كان محتاجاً، وهو متطلِّع إلى الصدقة وينتظرها ولكنه لا
يطاوع نفسه ويسير وراءها. فهنا (يستعف) على وزن (يستفعل) أي: أن
الفعل ليس موجوداً لكنه يستجلبه، فهو يستجلب العفة لنفسه، وليحمل(2/370)
نفسه عن منزلة (سفلى)، لتساوي يده الأخرى في علوها، (ومن يستعفف
يعفه الله). قوله: (ومن يستغنِ يغنه الله)، وهذا كما في الحديث:
(ليس الغنى بكثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس ) ، وكما يقول
القائل: علل النفس بالقناعة وإلا طلبت منك فوق ما يكفيها فالغنى
والفقر في نفس الإنسان، (فعلل النفس بالغنى) أي: احملها على الغنى،
(وإلاَّ) إن لم تحملها على الغنى (طلبت منك فوق ما يكفيها)، قال
عليه الصلاة والسلام: (لو أن لابن آدم وادياً من ذهب لتمنى ثانياً،
ولو أن له واديين من ذهب لتمنى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا
التراب ) . إذاً: النفس من طبيعتها التطلع، ومن جبلتها الجمع
والحرص، وَتُحِبُّونَ
الْمَالَ حُبّاً جَمّاً [الفجر:20]، زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ [آل
عمران:14] فهذه أمور جبلت عليها النفس. (ومن يستغنِ) أي: يستجلب
الغنى لنفسه (يغنه الله)، قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله
علينا وعليه في جلسة خاصة -جزاه الله عني أحسن الجزاء- قال: يا
فلان! إني متخوف خوفاً شديداً، قلت: علامَ؟ وكنا في الرياض، وكان
الملك عبد العزيز -الله يغفر له ويرحمه- يجتمع العلماء عنده كل
ليلة خميس كما هو الآن، وهذه كانت عادة من زمن الملك عبد العزيز ،
أنه في ليلة من الأسبوع يستقبل المشايخ، وكذلك كانت تأتي مناسبات
ويبعث إليهم بهدايا، فكان -الله يغفر له ويرحمه- إذا جاءه شيء ما
يمر عليه أربع وعشرون ساعة، ويقول لي: تعال يا فلان! اكتب..
ويحولها إلى بعض (العوائل) في مكة والمدينة. ومرة كنت عنده أكتب
أسماء العوائل، فقال: والله يا فلان! أنا خائف خوفاً شديداً، قلت
له: حصل خير، أنت في أمن، والحمد لله نحن في راحة وأمان، قال: عندي
شيء كبير جداً، أخاف أن يذهب عليَّ، قلت: عندك العلم؛ وأنت تبذل
منه ويزيد، وما عندك مال تخاف عليه. قال: لا.. لا، غير هذا، قلت:
أيش هو؟ قال: أنا جئت من البلاد بكنزٍ كبير جداً، قلت: يا شيخ!(2/371)
أعرف أمورك قبل أن تجيء إلى الرياض، فأين الكنز؟! قال: القناعة،
كنا قانعين بما كنا فيه، ومطمئنين، والدنيا لا تساوي شيئاً، وبدأت
الأموال تجري في أيدينا، فأخاف أن تمتد اليد، وتنقبض عليها، ونحرص
عليها، وتذهب عنا القناعة التي كنا نعتز بها، فقلت له: مثلك لا
يخاف عليه، مادام كلما جاءك شيء، قلت: تعال يا عطية ! اكتب،
وحول، ولا تترك عندك شيئاً، فاطمئن ولا تخف من شيء.
دفع التعارض بين حديث (أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى) وحديث (أفضل
الصدقة جهد المقل)
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
(قيل: يا رسول الله! أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن
تعول ) ، أخرجه أحمد وأبو داود ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ]. لاحظوا -يا إخوان- الحديث السابق:
(وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) وهنا: (أفضل الصدقة جهد المقل)
والمقل هو قليل المال، وجهده غاية وسعه واستطاعته، فهو مقل، ويجهد
فيما يخرج من القليل الذي عنده، فبين الحديثين تعارض، وليسا سواء
بل هما على طرفي نقيض. فعلى حديث: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى)
تعطي، وتبقي عندك ما يغنيك، وعلى حديث: (جهد المقل) يعطي من جهده،
أي: نهاية قدرته فيما هو قليل في يده. ومن هنا قال العلماء: هذان
الحديثان ظاهرهما التعارض، ولكن أجمع العلماء الذين يعنون بمختلف
الحديث أن الحديثين لا تعارض بينهما، وكلٌ يمشي في طريقه المهيأ
له، فحديث (ما كان عن ظهر غنى) للشخص الذي لا يستطيع أن يعيش عيشة
المقل، وحديث (جهد المقل) لمن كان يستطيع أن يعيش ولو بلا شيء. وقد
جاءت الأمثلة على ذلك في الصدر الأول حينما: (حث الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم المسلمين على الصدقة، فقال عمر : لأسبقن أبا بكر ، وكان أبو بكر سباقاً. فلما أصبحوا جاء عمر بنصف ماله،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لعيالك يا عمر ؟
قال: تركت لهم مثل ذلك، قال: بارك الله لك، ثم جاء أبو بكر بكل(2/372)
ماله!! فقال: ماذا تركت لعيالك يا أبا بكر ؟! قال: تركت لهم
الله ورسوله، فقال عمر : والله! لا أسابقك بعد ذلك يا أبا بكر ! ). فهنا هل كان أبو بكر (عن ظهر غنى) أو (جهد المقل)؟ لم يبقِ
شيئاً، وعمر أبقى نصف ماله، ومن هنا يقول العلماء: جهد المقل
لمن لا يندم على فعله، ولمن ليس عنده عيال يضيعهم ويعطي غيرهم،
ولمن ليس مطالباً بواجبات خاصة، ولكن (عن ظهر غنى) لمن كان ذا
عيال، ومن كان ذا التزامات، ومن كان عليه واجبات، ولا ينبغي أن
يخلي نفسه من المال، بل تلك الواجبات قد تكون أولى وأحق. إذاً:
يختلف الحال باختلاف الناس، ولذا وصل الحد بالأنصار رضي الله تعالى
عنهم إلى جهد المقل، وتصدقوا، فقال الله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
إذاً: الحديثان يبينان لنا منازل الناس في هذه الدنيا، وعفة النفس
وغناها، وقوة اليقين مع الله، فكل بحسب ميزانه، وبحسب طاقته وقوته
اليقينية بالله. وهذه أم المؤمنين عائشة تصوم، ويأتي سائل
فتقول لبريرة : أعطي السائل، فقالت: والله! ما عندنا إلا قرص
شعير تفطرين عليه، فقالت لها: أعطي السائل، وإذا جاء الإفطار يرزق
الله، فتمشي بريرة تقول: يرزق الله! سيأتي المغرب كيف يرزق
الله؟ مستبعدة! فلما أذَّن المغرب وجاء الإفطار ما رزق الله!!
فقامت عائشة تصلي، وقبل أن تفرغ من صلاتها التفتت؛ وإذا
بجانبها شاة مطبوخة! قالت: ما هذا يا بريرة ؟! قالت: رجل
أهداه، والله ما قد أهدى إلينا من قبل شيئاً، فقالت: كلي؛ هذا خيرٌ
من قرصكِ، والله! لا يكمل إيمان العبد بالله حتى يكون يقينه فيما
عند الله أقوى من يقينه بما في يده. وهكذا يختلف الناس، وتختلف
الدرجات، وتختلف النفوس؛ فكلٌ في طريقه، فإذا أراد الإنسان منا أن
يتصدق، فعليه أن ينظر: هل هناك التزامات؟ هل هناك حقوق؟ وعلى حسب
ذلك يتصدق، (وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول ) ، فلا تأخذه(2/373)
الحماسة ويخرج كل شيء، وبعد ذلك يبحث عمن يقرضه! إذاً: هذان
الحديثان مقياسان لنفوس الناس، وقدر استطاعتهم وقدرتهم وقوة
يقينهم، ومدى حقوق الآخرين عليهم، وبالله تعالى التوفيق.
الأولوية في النفقة والصدقة
قال المصنف رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تصدقوا. فقال رجل:
يا رسول الله! عندي دينار قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر،
قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على زوجك،
قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت
أبصر به ) رواه أبو داود والنسائي ، وصححه ابن حبان والحاكم ]. هذه مسألة جديدة وهي: بيان الأولوية في الصدقة: أمر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصدقة، وكثيراً ما كان يحث أصحابه
على ذلك، والصدقة بمعنى الصدق، وقد قدمنا الإشارة بأن فقه اللغة
يقول: إذا اشتركت مادتان في أكثر الحروف، واختلفتا في حرف واحد؛
كان بين المعنيين صلة قوية، وكان الفرق بينهما بقدر الفرق في الحرف
الذي اختلفتا فيه. ومثلوا لذلك بمثال واضح، فقالوا: مادة (خبن)،
ومادة (غبن)، خبن: الخاء والباء والنون، وغبن: الغين والباء
والنون؛ فاشتركتا في الباء والنون، واختلفتا في الخاء والغين،
فقالوا: بين الخبن والغبن قدر مشترك، وذلك أن الخبن هو تقصير ونقص
في الثوب الطويل، والغبن نقص في الثمن. فيكون غبن على البائع إذا
باع بأقل من الثمن، فيكون نقصاً عليه، ويكون الغبن في الثمن إذا
اشترى بأكثر من القيمة، فيكون نقصاً عليه، وقالوا: الخاء أظهر من
الغين في المخرج، وهم يقولون: إذا أردت أن تعرف مخرج الحرف، فائتِ
بالهمز، وسكن الحرف، وقف عليه، ففي الخاء تقول: أخْ، فهي من سقف
الحلق، والغين تقول: أغْ، كأنها داخلة إلى الحلق، فلما كانت الخاء
أظهر في الحروف جعلوها في المعنى الأظهر؛ لأن خبن الثوب تشاهده(2/374)
بعينك، وتخبنه بالخيط، وتعرف الزائد من الناقص، أما الغبن فهو أمر
خفي قد يخفى على بعض الناس، ولا يدرك مقدار هذا الغبن في هذه
السلعة. من هنا يقول العلماء: إن الصدقة والصدق اتفقتا في المادة
في الحروف الثلاثة، وزيدت التاء للتأنيث، فالصدق مادته: (الصاد،
والدال، والقاف)، والصدقة مادتها: (الصاد، والدال، والقاف)، إذاً:
كلاهما بمعنى: الصدق، بمعنى: التصديق، والتصديق في الصدقة هو: أن
الإنسان في حياته لا يبذل شيئاًَ إلا عن عوض، وقدمنا ذلك مراراً،
وقلنا: إن الحياة مبناها على قانون المعاوضة، والأمر الطبيعي بين
الناس أنك لا تدفع درهماً واحداً بغير عوض، وتدفع الملايين في عوض
يعادلها، وهنا حينما تدفع الصدقة فأنت لا تأخذ عوضاً عليها ممن
تتصدق عليه، إذاً: أين المبادلة؟ أين المعاوضة؟ بل إنه من كمال
الصدقة أن تخفي الصدقة حتى عن نفسك: (حتى لا تعلم شمالك ما تنفق
يمينك). إذاً: أين قانون المعاوضة هنا؟ قالوا: قانون المعاوضة هو
أن المعاملات المادية بين الناس معاوضة فيما بينهم: خذ وهات، ولكن
الصدقة معاوضة بين المتصدق وبين رب العالمين، فهو يتصدق ويدفع
مصدقاً بوعد الله، مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245]
، مَثَلُ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ... [البقرة:261]،
ومن هنا فالمؤمن مصدق بوعد الله؛ فهو يدفع الصدقة لمن يعرف ومن لا
يعرف، ولا ينتظر منه شيئاً: لا
نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان:9]
؛ لأنه يتعامل مع رب العالمين، ورب العالمين لا تخفى عليه خافية،
ولا يضيع عنده معروف. وفي الحديث: (والصدقة برهان )، أي: على
إيمانه وتصديقه بأن الله سيعوضه عن تلك الصدقة، فالحد الأدنى بعشرة
أمثالها، والحد الأعلى لا نهاية له، إلى سبعمائة ضعف، (وَاللَّهُ
يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]،(2/375)
فكان صلى الله عليه وآله وسلم يحثهم على الصدقة، ويحثهم على ألاَّ
يستقل إنسان شيئاً؛ لأن العبرة ليست بالكثرة؛ وخزائن الله ملأى،
وما عند الله أكثر مما عند البشر، ولكن العبرة بتعاطف المسلم مع
أخيه، والشفقة والرحمة وحب الخير والمساعدة، هذا هو الأصل الأساسي
في تبادل الصدقة بين الغني وبين الفقير.
البدء بالنفس في النفقة
وهنا حثهم النبي عليه الصلاة والسلام على الصدقة، فقال رجل: عندي
دينار، قال: (أنفقه على نفسك)، فأول ما يبدأ الإنسان بنفسه؛ لأنه
ألزم ما يكون عليه نفسه، فهل تتصدق بقرص خبز ليس معك غيره فيقتلك
الجوع؟! لا يجوز هذا، إنما تبدأ بنفسك، وما زاد عن حاجتك تفيض به
على غيرك الذي يليك في المرتبة. جاء في الحديث: (أنه مر رجل شاب
على قومٍ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أحدهم: لو كان
جلد هذا وشبابه هذا في سبيل الله! فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
إن كان خرج على نفسه يعفها، فهو في سبيل الله )؛ لأنك تعمل وتعف
نفسك عن سؤال الناس، فهذه صدقة على نفسك تصدقت بها. قال: (وإن كان
خرج يتكسب ليعف أهله أو زوجه، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج بطراً
ورئاءً فهو في سبيل الشيطان ). وأم المؤمنين عائشة رضي الله
تعالى عنها تقول: (من بات كالًّا من عمل يده) مثل إنسان يعمل في
النهار في البناء بحجر وطين، أو في حصاد حب، أو في تأبير نخل، أو
في أيّ عمل مثل: نجارة، حدادة، زراعة، صناعة، وبات كالاً من العمل
(بات مغفوراً له).
أيهما يقدم في النفقة: الزوجة أم الأولاد؟
قال: (تصدق به على نفسك. قال: عندي آخر) انظر التدرج في السؤال!
قال: (تصدق به على ولدك). الحديث هنا جاء بالزوجة في الترتيب
الثالث، وهناك روايات أخرى تفيد أن الزوجة في الترتيب الثاني، أي:
بعد نفسه تكون الزوجة، وهكذا حكم زكاة الفطر، فلو أن إنساناً عنده
زوجه ووالداه وولده، فهم خمسة أشخاص، وليس عنده إلا صاع واحد زائد(2/376)
عن قوت هؤلاء الخمسة، فيخرج الصاع عمن؟ هل يخرجه عن أبيه، أو عن
أمه، أو عن زوجه، أو عن ولده، أو عن نفسه؟ عن نفسه أولاً، فإذا رزق
صاعاً آخر فالجمهور يقولون: الزوجة قبل الوالدين؛ لأن الزوجة
نفقتها لازمة في الغنى والفقر، بخلاف الأبوين والولد، فنفقتهم في
حالة الغنى ليست بواجبة، وفي حالة الفقر تجب. إذاً: من وجبت نفقته
بصفة دائمة أولى ممن وجبت نفقته بصفة مؤقتة، وقد جاء في بعض
الروايات: (تصدق به على زوجك)، وهنا قال: (على ولدك)، والأمر سيان
تقدم أو تأخر فإن الإنفاق على الزوجة أولى، وهي كما في الحديث
الصحيح: (حتى اللقمة تضعها في في امرأتك صدقة ). قال بعض أدباء
الفقهاء: لو أنه أطعم الزوجة ممازحة فأخذ التمرة ووضعها بيده في
فيها -يمازحها- فإنها صدقة؛ لأن هذا من باب تقوية الصلة والرابطة،
وجبر الخاطر، وإذا وجدت الصلة القوية بين الزوجين طابت الحياة، أما
إذا لم يكن هناك ترابط بينهما، ولا مودة ولا محبة؛ فإن الحياة
بينهما لن تطيب، وتكون هناك الشكليات، فينفق عليها حتى لا تشتكيه
أو غير ذلك. والجمهور على أن اللقمة تضعها في في امرأتك من النفقة
على زوجتك، وسواء أعطيتها بيدك أو تناولتها هي بيدها. (قال: عندي
آخر، قال: تصدق به على ولدك) إذاً: الولد حينما تنفق عليه وهو في
حاجة إلى ذلك، تكتب لك صدقة، وهذا من أهم ما يلزم على الناس أن
تراعيه ففي الوقت الحاضر، في بعض البيوت يكون الولد ليس لديه مورد
في نفسه، مثلاً لم يتمم الدراسة، أو لم يجد مجالاً للعمل، فلا
تستكثر أن تنفق عليه، فإنها صدقة. وبعضهم أنهى دراسته، وطلب العمل،
ولا مجال للعمل -كما يقال: البطالة- ولا يوجد مجالات لوظائف
الحكومة، وما عنده القدرة على أن يشق طريقه في الأعمال الحرة، وهو
في حاجة إلى النفقة، وليست النفقة مجرد إشباع جوعه، وكسوة بدنه،
فقد يحتاج إلى غير ذلك، قد يحتاج إلى فاكهة، وإلى أشياء من(2/377)
المباحات. والولد يشمل الذكر والأنثى، وبالأخص الأنثى؛ لأنه ليس
لها خروج، وليس لها مجال، ونفقتها واجبة إجبارياً على وليها الذي
هو الأب أو الزوج، فإذا كان الولد في البيت، وليس له دخل من جهة
ما، أو كان عاجزاً عن الكسب؛ فتلزم نفقته. قد يكون الولد قاصراً
سواء كان قاصر الأهلية أو قاصر المسئولية، فلا يستطيع أن يدخل في
المشاريع والمقاولات ويلتزم للناس بأعمال، وقد يكون قاصراً خلقاً،
بأن يكون من ذوي العاهات. إذاً: النفقة على مثل هذا الصنف من
الأولاد إنما هي صدقة، فلا تتأفف من ذلك، ولا تقل: كيف أنفق عليه
وهو قوي جلد ولا يعمل؟! أوجد له سبيل العمل وساعده على إيجاد العمل
الذي يستغني به عنك، فإذا لم يجد، أو أنه يبحث ويطلب؛ فأنفق عليه
إلى أن يجد ذلك ويستغني بما وجد، فحينئذٍ تترك النفقة عليه.
خطر البطالة
والإنفاق على الأولاد واجب، لاسيما في الأوقات التي تكثر فيها
البطالة أو العطالة، وهذه البطالة من أشق ما يكون في الدول، وهي
أخطر حالة اجتماعية في الدول بصفة عامة، لا يقال: النامية أو
المتحضرة، بل كل الدول تشتكي وفرة العطالة في رجالها. وقدمنا أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى على البطالة بعمل فعليٍ سريع في
الشاب الذي جاء يطلبه الصدقة، ونظر إليه فوجد فيه قوة، فقال: (لا
تحل لك)، قال: ليس عندي شيء أي أن يده عاطلة، وليس هناك مجال
للعمل. وبالمناسبة يجب على ولاة الأمور في العالم كله دون استثناء
أن يوفروا فرص العمل للشباب في حدود إمكانات الدولة، سواء في
القطاع الخاص أو في القطاع العام، وتستطيع الدولة أن توجد مجالات
للعمل، ولتشغيل الأيدي الخالية الفارغة، وهذا مكسب للدولة، ومكسب
للأمة؛ لأن هذه طاقة معطلة، فإذا وجدت لها فرص العمل فالدولة
تستفيد من تلك الطاقة في الإنتاج. فلما قال: ليس عندي شيء ولا أجد
شيئاً، عذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يتركه، فقال:(2/378)
(ماذا عندك؟)، قال: عندي حلسٌ وقعب، فقال: (علي بهما)، وأمره أن
يذهب ويحتطب ويأتي ويبيع؛ لأن هذه الطاقة البدنية إذا عطلت فهو
خطر، خطر على نفسه وعلى المجتمع، لكنه يصرفها في صعود الجبال،
وتكسير الحطب، وحمله وبيعه في السوق وحصوله على المادة. حزمة الحطب
التي سيأتي بها ليبيعها ليست قيمتها في حمل الحطب وأعواده، ولكنها
في الطاقة التي ستحدثها في المدينة أو في القرية، ستأخذ العجوز
منها، وتغسل ثيابها بماءٍ حار، وتخبز عجينها، وتنضج طعامها، وكذلك
الرجل، وكذلك أهل البيوت الأغنياء والأثرياء يستدفئون منها،
ويخبزون عجينهم، كل هذه الطاقة تتوزع في البلد، وتدير إنتاجاً،
وتحصل فائدة عامة على الغني وعلى الفقير وعلى القوي وعلى الضعيف
بتلك الطاقة الحطبية! ونحن عندنا الآن الطاقة الكهربائية، إذا تعطل
التيار ساعة أو ساعتين صاح الناس: الثلاجة وقفت، الثلاجة فيها
خضار، فيها لحوم؛ ستفسد الأشياء الموجودة، عجلوا.. اتصلوا!! كل هذا
لأنها طاقة كانت تعمل وكانت تنتج ثم تعطلت، وهكذا الطاقة البشرية،
وهي أغلى ما يكون في العالم؛ لأنها هي الطاقة الإنتاجية، فمن الذي
يحرث الأرض؟ ومن الذي يغرس الشجر؟ ومن الذي يجني الثمر؟ ومن الذي
يدير المصانع؟ ومن الذي يدير المتاجر؟ ومن الذي يعلم الجاهل؟
ومن..؟ ومن..؟ كل ذلك بالطاقة البشرية. وكنت في مجلس الوزراء،
فسمعت كبيراً من الكبراء يقول: نحن نستورد حتى الطاقة البشرية؛
لأننا في حاجة إليها، فالطاقة البشرية هي أعزُّ وأغلى ما يكون،
فالطاقة الكهربائية والطاقة الاقتصادية الطاقة.. وجميع الطاقات
مدارها على اليد العاملة، وعلى استخدام الطاقة البشرية؛ لأنها هي
المنتجة. إذاً قوله: (على ولدك) يدل على الإنفاق عليه، فإذا وجد
الولد ما يعمل واستغنى فالحمد لله، وإذا لم يجد فواجب علينا أن
نكفيه، وإذا لم نكفِه وننفق عليه ماذا سيفعل؟ الجواب معروف للجميع،(2/379)
ويكون هذا دفع منا له إلى طريق الشر حتى يحصل على النفقة التي
يحتاجها، ولا يبالي من أين يأتي بها، فإذا أبطلنا اليد ولم نسخرها
ونيسر لها العمل النافع، والعمل المنتج، والعمل المشروع، فستنقلب
عكساً على الأمة وعلى المجتمع وعلى شخصه، فهو إذا انحرف في سلوكه
فأول من يضر نفسه، فيسلط على نفسه المسئولين والشرطة، ثم يضر
المجتمع في سلوكه. وإذا لم يكن عندي نفقة للولد فيمكن أن أيسر له
العمل بقدر المستطاع، ولهذا كان لابد من العناية بالأولاد،
والعناية بالإنفاق على العاطلين أو تشغيل اليد العاطلة، وتعتبر هذه
من أهم قضايا المجتمعات بدون استثناء. وفي بعض الإحصائيات: كذا
مليون في أمريكا يدٌ عاطلة، كذا مليون في كذا.. هذه مصائب! وترجع
بالعكس كما أشرنا على المجتمع، ونحن في غنى عن أن نذكر الأحداث
والإحصائيات التي تنشرها الجرائد أو تذيعها الإذاعات بسبب تلك
الأيدي العاطلة، وما تعكس من أضرار على مجتمعاتها، بل قد ينعكس على
بيته وأهله. إذاً قال: (على ولدك)، حتى لا يكون عالة، وحتى لا يكون
آلة إفساد، وحتى لا تنطلق تلك اليد بقوة إلى الشر، ويفسد في الأرض،
ويفسد نفسه، ويضر أباه بالذات، فقد يرجع وباله على أبيه وعلى بيته،
ومن هنا كان الإنفاق على هذا الولد صدقة: (تصدق به على ولدك).
وأعتقد أن هذا المجال واسع، ويكفي الإشارة والتنبيه إلى رءوس
المواضيع في هذا، والله تعالى أعلم.
134689 ( كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [4] )
( كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [4] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة)
2 الأغنياء المستثنون من تحريم الصدقة عليهم
3 تحريم الصدقة على الغني بمال أو تكسب
كتاب الزكاة - باب قسم الصدقات [1]
إن من حكمة الله عز وجل أن جعل الناس طبقات مختلفة ومتفاوتة في الرزق،
فجعل منهم الأغنياء والفقراء لينظر الشاكر من الكافر، وجعل للفقراء في(2/380)
مال الأغنياء نصيباً، ثم قسم هذا النصيب عليهم، وجعله محرماً على
الغني، فلا تحل الصدقة لغني إلا في خمسة أحوال، وقد وضح الشيخ وجه حلها
لهم وحكمة ذلك.
شرح حديث: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه
وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغنيٍ إلا لخمسة: لعاملٍ عليها، أو رجلٍ
اشتراها بماله، أو غارم، أو غازٍ في سبيل الله، أو مسكينٍ تُصدق
عليه منها، فأهدى منها لغني ) رواه أحمد ، وأبو داود ،
وابن ماجة وصححه الحاكم وأُعل بالإرسال ].
حسن ترتيب المصنف لأحاديث الكتاب
نلاحظ أن المصنف رحمه الله رتب هذا الكتاب ترتيباً عملياً، فذكر
أولاً كتاب الزكاة، ثم بيَّن لنا ما هي الأموال الزكوية، فبين أنها
من بهيمة الأنعام، ومن الذهب والفضة، ومن عروض التجارة، ومما تخرجه
الأرض، وبيَّن لنا أنصباء كل نوعٍ من الأموال الزكوية، سواء في
بهيمة الأنعام المختلفة، ففي الإبل أول نصابٍ خمس وفيها شاة، وفي
الغنم أول نصابٍ أربعون وفيها شاة، وفي البقر ثلاثون وفيها تبيع.
ثم بيَّن لنا أن نصاب الذهب عشرون مثقالاً وفيها ربع العشر، وأن
نصاب الفضة مائتا درهمٍ وفيها ربع العشر، ثم بيَّن لنا أيضاً عروض
التجارة، وأنها تُقوَّم بالأحظ للمساكين بالذهب أو بالفضة وفيها
ربع العشر، ثم بيَّن لنا نصاب الحبوب والثمار التي تزكى، وأن أول
نصابها خمسة أوسق، وأن ما سقي بماء السماء أو العيون بغير كلفة
ففيه العشر، وما سقي بالكلفة ففيه نصف العشر. ثم عقَّب على ذلك
بزكاة الفطر، وهي صاعٌ على كل إنسان سواء كان صغيراً أو كبيراً،
ذكراً أو أنثى، حراً أو عبداً من المسلمين.
تولي الله تعالى لقسمة الصدقات
وبعد أن بيَّن هذا كأنه يقول: لقد عرفنا الأموال الزكوية وعرفنا(2/381)
أنصباءها، فلمن تعطى تلك الزكوات التي جمعناها؟ فجاء بـ(باب قسم
الصدقات)، والأصل في هذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من أن
الله لم يكل قسم الصدقات إلى أحد، لا إلى صاحبها، ولا إلى نبيٍ
مرسل، ولا إلى عالم فاضل، إنما تولاها سبحانه بنفسه، وكذلك الأموال
المكتسبة بغير كدٍ ولا جهد، مثل الميراث، فقد تولى الله قسمته،
وبيَّن أنصباء الورثة من الأقارب، كالأبوين والزوجين والأولاد،
وبيَّن لكل صاحب فرض فرضه؛ لأن الميراث كسبٌ إجباري، ولا يملك
إنسان أن يقول: أنا لا أرث، أو لا أريد الميراث، فنقول له: بل
تمتلكه رغماً عنك، ثم بعد أن تمتلكه بالتوريث فتنازل عنه لمن شئت،
فهو يدخل في ملكك بالقوة. فإذا قالت الأم مثلاً: لا أريد، فاجعلوا
نصيبي وهو لأولادي، نقول: جزاكِ الله خيراً، نصيبك يدخل في ملككِ
ثم يتحول عنكِ إلى أولادك، وهكذا الزوج لو قال: لا أريد من زوجتي
ميراثاً، فنقول: جزاك الله خيراً، بعد أن يدخل في ملكك اعتباراً
يتحول إلى أولادها منك أو من غيرك. إذاً: الميراث ملكٌ إجباري،
ولهذا تولى الله قسمته. والصدقات كذلك، وقد بيَّن الله سبحانه
وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم المبادئ في قسمتها، فأما القرآن
الكريم فقوله سبحانه: إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ
عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60].
و(إنما) كما يقول علماء البلاغة: أداة حصر، فبين سبحانه القنوات
التي تسير فيها الصدقات، وهي ثمانية أصناف، وجاء في الصفة العامة
فيمن يستحق الزكاة عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث معاذ عندما بعثه إلى اليمن فقال له: (أخبرهم أن الله افترض عليهم زكاةً
في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ). إذا نظرنا إلى
الأصناف الثمانية في الآية الكريمة فسنجد أن عنصر الافتقار موجودٌ(2/382)
فيها كلها بدون استثناء. في الآية الكريمة: (إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ) قال: (الصدقات) ولم يقل: (صدقة)؛ لأنها بالنسبة
لتنوع الأموال الزكوية فهي صدقات: صدقة الإبل، صدقة الغنم، صدقة
البقر، صدقة الحبوب، صدقة النقدين، صدقة التجارة، فهي صدقات ولهذا
جمعت (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ)، وأداة الحصر تمنع دخول غير المحصور
عليهم، فالذي يلي (إنما) هو المحصور، والمحصور عليه يأتي بعد
المحصور. إذاً: (إنما) أداة حصرٍ بإجماع أهل اللغة، و(الصدقات)
محصورة على من يأتي بعدها من الأصناف الثمانية. ومن هنا يتبين أنه
لا صدقة على غنيٍ؛ لأنه خرج عن نطاق الفقر والحاجة، وهما عنصران
موجودان بقوة أو بضعفٍ في الأصناف الثمانية المذكورة في الآية
الكريمة.
الأغنياء المستثنون من تحريم الصدقة عليهم
هنا بدأ المصنف رحمه الله ببيان من لا تصح لهم الصدقة؛ لأن الذين
تصح لهم الصدقة أصناف ثمانية، وأما الذين لا تصح لهم الصدقة فهم
صنفٌ واحد وهم الأغنياء، وكما يقال: (درء المفاسد مقدم على جلب
المصالح)، والشيء الذي يمكن حصره في التعليم والبيان ذكره أولاً
أولى من الذي لا يمكن حصره، ومن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم
لما سئل: (ماذا يلبس المحرم يا رسول الله؟... ) فالسؤال كان عن
الذي يلبسه المحرم، فقال: (لا يلبس المحرم... )، فنحن نسأل عن
الملبوس، فأفادنا ما هو الذي لا يلبس؛ لأن ما يلبس لا حصر له، ولكن
المراد هو اجتناب ما لا يلبس، واجتناب ما لا يلبس معدود. إذاً: لا
يلبس القُمص ولا العمائم ولا البرانس، ولا السراويل ولا الخِفاف،
فهذه أشياء محدودة، أي: فاجتنبها والبس بعد ذلك ما شئت. فيكون ذكر
ما هو محصور أسهل وأيسر في التعليم من ذكر وتعداد ما لا حصر له،
ولهذا بدأ المصنف رحمه الله كتاب تقسيم الصدقات بذكر من لا تحل
لهم. قال: (لا تحل الصدقة لغنيٍ إلا لخمسة): (لا تحل) أي: تحرم ولا
تجوز. من هو الغني ومن هو الفقير؟ يختلف العلماء في حد الغني(2/383)
والفقير، فبعضهم يقول: الغني هو: من عنده قوت يومه وليلته؛ لأنه
ليس محتاجاً، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن الغني هو من
يملك نصاباً؛ لأنه يعطي، والناس أحد قسمين: إما غنيٌ يزكي، أو
فقيرٌ يأخذ، فالقسمة ثنائية، فالغني الذي تجب عليه الزكاة هو من
امتلك النصاب، والفقير الذي يحق له أن يأخذ الزكاة هو من لم يمتلك
نصاباً، ولهذا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله أن تعطي من الزكاة
شخصاً يملك مالاً أقل من النصاب قليلاً؛ لأنه بهذا الوصف فقير وليس
بغني.
الصنف الأول: العامل عليها
فهذه الزكاة أو الصدقة لا تحل لغنيٍ، ولكن هناك حالات اعتبارية
تستثنى ولا تكون أساساً في أخذ الصدقة، ولكنها أمور اعتبارية تكون
مع الأغنياء، فتحل لهم أخذ الصدقة وأكلها وهي: قال: (لعاملٍ عليها)
العامل عليها هو من الأصناف الثمانية، والعاملون عليها هم الذين
يكلفهم الإمام أن يخرجوا إلى البوادي ومواطن الأموال يحصون ويخرصون
الأموال على أصحابها، ويأخذون منهم الزكاة نيابةً عن الإمام؛ لأن
التكليف بجمع الزكاة من الأغنياء ابتداءً كان على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولكن الرسول صلوات الله وسلامه عليه ليس لديه من
الوقت والإمكانيات ما يكفيه لكي يذهب إلى المياه والبوادي وإلى
أصحاب الأموال حتى يجمع الزكاة، فكان ينيب عنه من يقوم بذلك؛ لقوله
سبحانه: خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103].
فـ(خذ) هنا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال صلى الله
عليه وسلم: (من أداها طيبةً بها نفسه فبها ونعمت، ومن منعها
أخذناها )، و(نا) هنا ضمير المتكلمين، والمراد النبي صلى الله
عليه وسلم ومعه غيره: (ومن منعها أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات
ربنا، لا يحل لمحمدٍ ولا لآل محمد منها شيء ). لو وقفنا هنا
لوجدنا كم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحمل من أجل الأمة!!
يقول: إن الذي يمتنع عن أداء الزكاة سنأخذها منه بالقوة، ونأخذ نصف(2/384)
ماله، وهل سيسلم نصف ماله أو سيقف دونه؟ الجواب: سيقف دونه، وإذا
وقف دونه قاتلناه حتى نأخذه بالقوة. هذا التكليف من الله في تحميل
الرسول صلى الله عليه وسلم مسئوليتها، من أجل ان يقوم بها من يأتي
بعده، ولهذا قام الصديق رضي الله تعالى عنه بهذا التكليف حينما
امتنع قومٌ من دفع الزكاة إليه، بحجة أنهم مسلمون يصلون ويصومون،
وسيزكون أموالهم بأنفسهم. فما الفرق بين أن كانوا يؤدونها إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يؤدوها إلى خليفته أبي بكر ؟
أجابوا وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يأخذها
منا، قد قال الله له: وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]،
وهنا أبو بكر لا يصلي علينا، ولو صلى فصلاته علينا ليست كصلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: فاتت صلاة رسول الله علينا
عند إعطائه الزكاة، فلا نعطيها غيره، فهم مقرون بها، فأقسم أبو بكر وقال: (والله! لو منعوني عَقَالاً أو عِقَالاً كانوا يؤدونه إلى
رسول الله لقاتلتهم عليه)، فهو لن يأخذها لنفسه وإنما سيأخذها
ويقسمها أيضاً على الأصناف الثمانية. وهكذا يُحفظ ماء وجه الفقير،
فلا يذهب إلى الغني ويقول: لي حقٌ في مالك فأعطنيه، قال تعالى: وَالَّذِينَ
فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]،
فقد يماطله ويقول: تعالى إلينا غداً.. أو نحن مشغولون الآن، فيبقى
المسكين يتردد عليه من أجل أن يحصل على حقه. فحفظ الله كرامة
المسكين في الإسلام ولم يعرضه لمذلة السؤال في حقٍ هو واجبٌ له،
وكلف رسوله صلى الله عليه وسلم بجمعها، وهكذا الخلفاء من بعده، ومن
بعدهم، فكل من قام بأمر المسلمين عليه أن يقوم ويجمعها بنفسه، أو
ينيب عنه من يجمعها ويأتي بها ليصرفها في مصارفها، كما فعل صلى
الله عليه وسلم. فالعاملون عليها هم الذين ينيبهم ولي الأمر بأن(2/385)
يذهبوا ويجمعوا الصدقات من الأغنياء ويعطوها الفقراء، فهذا الذي
قام وعمل لن يعمل مجاناً، وإنما هو عامل كالموظف، ومثل هذا يكون
غنياً في نفسه، وليس في حاجة إلى الصدقة، ولكن ولي الأمر هو الذي
كلفه بجمع الزكاة على أن يعطيه أجره، فيكون العامل على جمع الزكاة
أجيراً للفقراء والمساكين وليس لولي الأمر؛ لأن الأجير لم يجمع
الزكاة لولي الأمر ليأخذها لنفسه، بل ليوزعها على الفقراء
والمساكين، فيأخذ العاملون على جمع الزكاة أجرهم من حق الفقراء.
إذاً: العاملون على الزكاة هم أجراء وموظفون لحساب المساكين أصحاب
الزكاة ليجمعوا الزكاة ويحضروها، فيجب أن يقتطع من حق أصحاب الزكاة
أجر الأجراء، ولكن إن تحملت الدولة أجور العاملين على جمع الزكاة
من عندها فجزاها الله خيراً، وإن لم تتحملها واقتطعتها من حق
الفقراء فلها ذلك؛ لأنهم عملوا من أجلهم وجمعوها إليهم فلهم الحق
فيها، فهذا العامل لو كان غنياً يخرج الزكاة عن ماله ويخرج زكاة
أشياء عديدة، ولكن له حق من الزكاة؛ لأن ما يأخذه لا يأخذه لفقرٍ
ولكن لأجرة العمل، فهو مثل أي موظف، فأعلى موظفٍ في الدولة يأخذ
راتباً مقابل عمل، وهذا يأخذ أجراً مقابل عمل. ولهذا منع النبي صلى
الله عليه وسلم بني هاشم أن يكونوا من العاملين على جمع الزكاة؛
لأنهم سيأخذون أجرهم من حق الفقراء، من الصدقات، ولذا يقول بعض
الفقهاء: يجوز لبني هاشم أن يكونوا عاملين عليها إن أعطاهم ولي
الأمر أجراً من بيت المال، لا من الصدقات التي يجمعونها. إذاً: لا
تحل الصدقة لغنيٍ. هذه قاعدة عامة، يستثنى منها العاملون عليها؛
لأنهم يأخذونها أجراً على عملهم. فالعامل له أن يأخذ أجره مقاطعةً،
كأن يكون له في اليوم كذا، أو في الشهر كذا، أو يجعل له نسبة فيما
يجمعه، مثلاً: (1%)، أو (0.5%) يجمعه من الزكوات، وهذا يرجع إلى
نظر الإمام؛ لأنه يعمل لما فيه مصلحة الطرفين، (الغني والفقير)،(2/386)
والمصلحة مراعاة للجانبين ابتداءً: جانب الفقراء، إن وجد أن من
مصلحة الفقراء أن يجعل الإمام للعامل حصةً مقطوعة كنسبة مئوية، أو
أجراً معيناً في الشهر أو الشهرين أو في مدة جمع الزكاة، فله ذلك.
الصنف الثاني: رجل اشتراها بماله
قال: (أو رجلٍ اشتراها بماله) أي: أو رجل غنيٌ اشترى الزكاة بماله،
كأن يكون هناك إنسان فقير وجاءته زكوات وكثرت عن حاجته، وكان يحتاج
إلى شيءٍ آخر سوى ما جاءه من الزكوات، كأن جاءته عشر شياه وهو
يكفيه خمس أو ست يشرب حليبها، والباقي ليس عنده راعٍ يرعاها ولا
يريد أن يكلف نفسه الرعي، ويحتاج إلى ملابس لأولاده، ويحتاج إلى
الأرز والسكر والشاي، فيبيع من تلك الشياة التي جاءته صدقة؛ لأنها
زائدةٌ عن حاجته وقد اقتصر على حاجته ليوجهها في حوائج أخرى. فجاء
إلى جاره وقال له: جاءتني شياه وهذه زائدة عندي، فإن كان لك رغبة
في شاة أو شاتين أو ثلاث بعتها لك، وجاره الغني يعلم أنها جاءت
لجاره الفقير صدقة فاشتراها، فهو لم يأخذها على أنها صدقة وإنما
اشتراها بماله، ولا فرق عند دفع الثمن بين أن يشتريها من فقير
جاءته صدقة، وبين أن يذهب إلى السوق ويشتريها من التاجر. إذاً: هذا
الغني الذي اشتراها بماله لم يأكلها صدقة، ولم يُتصدق بها عليه،
وإنما هي بمقابل ماله ولو كان يعلم بأنها من الصدقات التي تُصدق
بها على جاره.
الصنف الثالث: الغارم
قال: (أو غارم). الغارم ينقسم إلى قسمين: غارمٌ لنفسه، وغارمٌ
لغيره. والغارم لنفسه تحته قسمان: غارمٌ في وجهٍ شرعي، وغارمٍ في
وجه غير شرعي. فالغارم في وجهٍ شرعي: مثل إنسان متزوج امرأتين أو
ثلاثاً أو أربعاً، وكل امرأة في كل سنة تلد توأمين، فأصبح في أربع
سنين أو خمس سنين عنده عدد كبير من الأولاد، وإمكانياته لا تفي
بحاجات هؤلاء، وهو مكلف بأن يسعى لسد حاجاتهم، فأخذ يستدين، والناس
يعرفون ظروفه فأقرضوه وداينوه، حتى كثرت عليه الديون وأصبح غارماً(2/387)
لأصحاب الديون، فهذه الديون لحقته بسبب شرعي؛ لأنها لإعالة نفسه
وأولاده. والغارم لنفسه في وجهٍ غير شرعي: مثل إنسان أخذ يبذر
بماله الذي في يده في أمور غير مشروعة، إما أنها من باب التبذير في
الحلال أو من باب الإنفاق في الحرام حتى فني ماله، ثم أخذ يستدين،
فإذا كان يستدين لينفق في وجوهٍ محرمة لحقته الديون وأصبح غارماً،
والديون التي لحقته وأصبح غارماً بسببها لأصحابها أنفقها في وجهٍ
محرم، فحينئذٍ ذاك غرم في وجهٍ شرعي لحظه وحظ عياله، وهذا غرم في
وجهٍ غير شرعي. فالغارم لنفسه غرماً شرعياً له حق أن يأخذ من
الزكاة من أجل أن يسدد دينه الذي ركبه بسبب الحاجة وبالوجه الشرعي،
وفي ذلك إعانة له على حياته، قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].
أما الغارم في وجهٍ غير شرعي فلا يعطى من الزكاة؛ لأنه يدفعها في
محرم، ويضعها في غير طريقها، ولو أعطيناه لكنا قد أعناه على الإثم
والعدوان، والله قد نهى عن ذلك. إذاً: الغارم لحظ نفسه تحته هذان
القسمان، أحدهما يأخذ والآخر لا يأخذ. والغارم لحظ غيره: مثل: رجل
من أهل المروءات والنجدة والإحسان والإصلاح بين الناس، وجد عائلتين
أو شخصين قد وقع بينهما نزاع وخصومة، والنزاع والخصومة في أموال،
والأموال ملتبسة مشتبهة، وكلا الفريقين يدعي على الآخر وأدلتهم غير
واضحة. فجاء يصلح بينهم بعد أن وقع بينهم النزاع والقتال والقطيعة
والخصومة، فقال: أنا أتحمل لكم المال الذي تختلفون فيه مقابل الكف
عن النزاع، فكفوا وتصالحوا وكونوا إخواناً، وهذا المال الذي هو سبب
النزاع أنا أضمنه، فطالبوه فقال: أنا أجمعه لكم؛ لأنه ليس عنده
مقدار المال الذي ضمنه للطرفين، فله الحق أن يأخذ من الزكاة ما
يسدد ما ضمنه في ذمته للمتخاصمين؛ لأن في ذلك إصلاحاً بين الناس،
حتى أن بعض العلماء قال: ولو كان غنياً فيعطى ولا نرهقه في ماله،(2/388)
حتى لا يتوقف بعد ذلك عن الإصلاح بين الناس. فإذا علم أنه سيسدد
عنه من مال الزكاة ما ضمنه للغرماء الذين أصلح بينهم، فلن يتأخر في
قضيةٍ أخرى أن يدخل فيها بالإصلاح. إذاً: الغارم لغيره يُسَاعد
ويعطى ولو كان غنياً، ولا نرهقه في ماله؛ لأنه فاعل خير، وما دام
فاعل خير فإنه يجب أن نعينه على فعل الخير. وأعتقد أن هذا كان
معروفاً في الجاهلية عند العرب، فقد كانوا إذا تقاتلت قبيلتان وطال
القتال بينهما يأتي شخص ذو نجدة ومروءة ويسعى بين الفريقين بالصلح
فيكفوا عن القتال ثم ينظر: ماذا لكل قبيلة عند الأخرى من الدية؟
فتكون هناك المقاصة وما زاد يتحمله هو، سواء من ماله إن كان ذا
مالٍ وفير أو يتعاون معه العرب ويجمعون له ما تحمل في ذمته، فيوفي
ما التزم به للغرماء.
الصنف الرابع: الغازي في سبيل الله
قال: (أو غازٍ في سبيل الله). كأن يدعو الإمام إلى النفير العام،
وأن كل من كان ذا قوةٍ على القتال فليتقدم. فإذا تقدم رجل غني،
وقال: أنا أريد سلاحاً، أعطوني سلاحاً وفرساً، ولوازم القتال، فله
أن يأخذ من الزكاة ما يجهزه، قيل: لأول غزوة؛ لأنه بعد ذلك إن
استشهد فإلى رحمة الله، وإن عاش فله من سهم الغنائم ما يغنيه. وإن
كان فقيراً لا مال عنده، فعلى ولي الأمر أن يزوده إن استطاع، وإن
لم يكن عند ولي الأمر ما يزوده فالكل معذور كما قال الله: تَوَلَّوا
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا
مَا يُنفِقُونَ [التوبة:92]،
فهو أدى ما عليه وتطوع بنفسه، ولكن لم يجد آلة القتال، ولا يمكن أن
يذهب أعزل ليقابل مسلحاً، فهذا تهور وليس بقتال ولا شجاعة. إذاً:
الغازي في سبيل الله إما فقير وإما غني، فإن كان فقيراً تعين على
ولي الأمر أن يزوده بما يحتاجه من نفقةٍ في السفر، ومن سلاح وملبس
ومركب وكل ما يحتاجه المقاتل، وإن كان غنياً فإن تبرع من عنده فهو
غازٍ بماله ونفسه، وإن لم يتبرع فهو غازٍ بنفسه دون ماله، وله أن(2/389)
يأخذ من الزكاة ما يجهزه. وهنا يقول بعض العلماء: لو أننا قدَّرنا
له في هذه الغزوة مسيرة شهر -الذهاب مع المعركة والعودة- ولكنه ذهب
وقاتل ورجع في مدة عشرين يوماً، فهل نسترجع من هذا الغازي ما يقابل
العشرة الأيام التي كنا قدَّرناها زيادة أم لا؟ ولو أننا قدَّرنا
له في اليوم عشرة ريالات، واستغرق الشهر المقدر له، لكنه بدل أن
يصرف عشرة ريالات في اليوم صرف خمسة ريالات، فرجع بنصف المبلغ الذي
أعطيناه إياه، فهل يستحق الباقي الذي وفرَّه مما قدرناه له
وأعطيناه إياه أم أنه لا يستحقه وعليه أن يرده إلى بيت مال
المسلمين؟ الجمهور على أنه إن كان قد قتر على نفسه وضيق عليها في
نفقته وما يلزمه حتى وفَّر شيئاً، فقد وفر من ملكه الذي أعطيناه
إياه وامتلكه بوجهٍ شرعي، فما زاد فعليه وما نقص فله ولا يطالب
بإعادة شيء؛ لأننا أعطيناه شيئاً مقطوعاً وقلنا: هذا مقابل ذاك.
فالغارم إذا كان الدين الذي ركبه غرمه لنفسه في الخير أو لغيره،
فإن كان لنفسه في نفقته ونفقة عياله، إن أعطي تطوعاً دونما حساب أو
تقدير فكل ما جاءه يملكه، وإن كان غارماً لدينٍ أصلح به بين فريقين
وتعين الدين الذي غرمه مائة ألف مثلاً وجاءه مائتا ألفٍ أو
ثلاثمائة ألف، فعليه أن يرد الباقي إلى بيت مال المسلمين؛ لأنه
غنيٌ في ذاته وقد أعطيناه ما لحقه للمتخاصمين، فهو لم يُعط لكي
يُتصدق عليه فهو غني، لكنه تصدى للإصلاح بين الفريقين، والإصلاح
احتاج إلى مائة ألف، وعلم الناس بذلك فأخذوا يعطونه من حساب الزكاة
حتى زاد على الدين الذي هو مطالبٌ به، فما زاد عن الدين الذي هو
مدينٌ به وملتزم به بين الفريقين يرده؛ لأنهم لم يعطوه ليتملك
ويستغني بمال الزكاة.
الصنف الخامس: الهدية للغني من الفقير المتصدق عليه
قال: (أو مسكينٌ تُصدق عليه منها فأهدى منها لغني). مثل أن تتصدق
على جارك بزكاة الفطر تمراً أو براً أو زبيباً أو غير ذلك، فجئت(2/390)
يوم العيد تزوره فقدم إليك القهوة مع التمر -كما هي العادة- فنظرت
وفطنت بأن التمر الذي قدمه إليك هو من تمرك الذي تصدقت به عليه،
فهو عنده تمر كثير، وتُصدق عليه بتمور متعددة، ولكن حينما جاء
بالقهوة وجاء معها بالتمر صادف أن جاء بالتمر الذي جاءه من عندك
أنت، فحينما يقدم لك التمر مع القهوة هل تنظر وتقول: أنا لا أكل
هذا؛ لأن هذا من صدقتي عليك، وأنا غني عن أكل الصدقة، أم أنك لا
تأكل صدقةً ترجع فيها، ولكن قرىً وضيافة؟ الجواب: أنك تأكل؛ لأنك
حينما تأكل من التمر لا تأكله على أنه منك، بل على أنه منه هو؛
لأنه قد امتلكه بوجهٍ شرعي وأصبح في ملكه يتصرف فيه تصرف الملاك،
إن شاء دفعه في صدقةٍ عنه وعن عياله، وإن شاء باع الزائد، وإن شاء
أطعمه فقراء آخرين، وإن شاء ضيفك به. إذاً: هذا غني، وهذه الصدقة
تصدق بها بالأمس وقُدمت إليه وهو غني، فلا مانع أن يأكلها، فهي تحل
له؛ لأنها قدمت إليه لا في إطار الصدقة، ولكن في إطار الضيافة
والقِرى. ومن هنا -كما يقولون- اختلف الاتجاه واختلف الاعتبار،
واختلفت اليد فاختلف الحكم كما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه:
(أنه أصبح ذات يوم وقال: ائتوني بغدائي -والغداء كان في الضحى-
فقدموا إليه خبزاً وخلاً وملحاً، فقال: لماذا الخل والملح وأنا أرى
البرمة تغط باللحم؟ فقالوا: يا رسول الله! إن ما في البرمة لا يحل
لك، قال: ولماذا؟ قالوا: إنه لحمٌ تصدق به على بريرة وأنت لا
تأكل الصدقة -فهذا كلام فقهي صحيح- فقال: هو عليها صدقة ولنا منها
هدية )، فيكون قد اختلف الاعتبار واختلفت اليد، مع أن اللحم
واحد، فهذه فخذ شاة، وضعت في يد بريرة ، فامتلكتها بريرة ،
ثم طبختها، فلها بعد ذلك أن تهدي منها لمن تشاء، فحينئذٍ أكل منها
رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار أنها هدية من بريرة ،
والمتصدق ذهب لحاله، والصدقة وصلت محلها وانتقلت من المتصدق عليه(2/391)
إلى الآخرين هديةً. وهكذا.. هذا غنيٌ تصدق على فقيرٍ بتمرٍ أو
بلحمٍ أو بخبزٍ أو بأي شيء، ثم جاء الغني يزوره فقدم إليه طعاماً
ومن ضمن الطعام ما كان تصدق به بالأمس عليه، فحينئذٍ تحل له تلك
الصدقة؛ لأنها قدمت إليه باسم الضيافة لا باسم الصدقة.
تحريم الصدقة على الغني بمال أو تكسب
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار رضي
الله عنه: (أن رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه
وسلم يسألانه من الصدقة، فقلَّب فيهما النظر فرآهما جلدين، فقال:
إن شئتما أعطيتكما؛ ولا حظ فيها لغني، ولا لقويٍ مكتسب )رواه
أحمد وقوّاه أبو داود والنسائي ]. بعدما بين المصنف
رحمه الله أن الصدقة لا تحل للغني الذي عنده من المال ومن الطعام
ما يغنيه عنها، جاءنا بنوعٍ آخر من الغنى، وهو غنى غير مباشر، فجاء
بحديث أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه الصدقة،
فنظر فيهما فوجدهما جَلِدين، -(الجَلِد) القوي- فنظر فيهما وصوب
النظر وتأمل، ثم قال لهما: (إن شئتما أعطيتكما)، ثم بيَّن لهما أن
الصدقة التي يطلبانها لا تحل لغنيٍ ولا لقوي مكتسب. يعني: إذا كان
قوياً في بدنه فهذه طاقة يستطيع أن يستعملها ويتكسب بمقتضاها، فهو
غنيٌ بطاقته، وبقوته، وباستطاعته أن يجد طريقاً للتكسب بهذه القوة،
فإذا كان قوياً جَلِداً لكنه طلب مجالاً يصرَّف فيه هذه القوة
ويتكسب عن طريقها ويستغني بما يتكسب فلم يجد؛ فالقوة وحدها لا
تكفي، فهو فقير. فالقوي المتكسب لا تحل له الصدقة؛ لأنه بتركه
التكسب مقصرٌ في حق نفسه، وكان عليه أن يُعمل تلك القوة في مجال
التكسب ويستغني بما يتكسبه، وهذا في حدود الطاقة البشرية للإنتاج،
فإذا كنت قادراً على العمل ولديك طاقة، فلا تهملها وتعطلها والناس
في حاجةٍ إليها! وكما جاء أن شاباً جاء إلى النبي صلى الله عليه
وسلم يسأله، فوجده جَلِداً قوياً، فسأله عما يملك، ثم أرشده إلى(2/392)
الاحتطاب والبيع. وقد نبهنا سابقاً على أن ما تعانيه كثيرٌ من
الدول الصناعية وليست النامية فقط؛ هي مشكلة البطالة، ففي بعض
الدول في أوروبا توجد ثلاثة ملايين يد عاطلة... فكيف تعطلت طاقة
ثلاثة ملايين؟ فلو اجتمعت هذه في جهاد، أو في حفر الأنهر، أو في
بناء الجسور، أو في رصف الطرق، فكم ستنتج قوة الثلاثة الملايين
هذه؟ إذاً: الطاقة البشرية هي أعز ما تكون في الأمة، فإذا تعطلت
تعطل كثير من رأس مالها، ولهذا لما قال الشاب: ليس عندي شيء، وليس
عندي عمل، وليس عندي مجال، وجهه صلى الله عليه وسلم إلى العمل
الحر، فقال: (من عندك في البيت؟ قال: أنا والعجوز، قال: ماذا عندك
من أثاث البيت؟ قال: حلسٌ نفترش نصفه ونلتحف بالنصف الآخر، وقعبٌ
نأكل ونشرب فيه، قال: عليَّ بهما ) فأخذهما وقال: (من يشتري مني
هذين؟ فباعهما بدرهمين، وأعطى الشاب الدرهمين، وقال: اذهب فاشتر
بدرهم طعاماً واتركه عند أهلك، واشتر بدرهمٍ فأساً وحبلاً وائتني
بهما، فذهب وأحضر الفأس والحبل، فأخذ صلى الله عليه وسلم عوداً
ووضعه في الفأس وقال: خذ واذهب واحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر
يوماً، فذهب واحتطب وباع - ثم أتى فقال صلى الله عليه وسلم: لأن
يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً فيحتطب فيبيع فيستغني، خيرٌ من أن يتكفف
الناس السؤال أعطوه أو منعوه، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن
يغنه الله ). وهكذا أيها الإخوة! الصحة والقوة والطاقة غنىً،
فعلى صاحبها أن يصرفها فيما يعود عليه بما يغنيه عن الناس، وجميع
أعمال الناس في هذه الحياة إنما هي بتصريف الطاقة البشرية،
فالموظفون في مكاتبهم وفي جميع دوائرهم يتقاضون مرتباً على الطاقة
البدنية أو الفكرية التي يبذلونها كل على حسب موقعه، ولهذا كانت
المعاوضة على قدر العطاء. فالذي لديه وسيلة التكسب وله مجالٌ في
إعمالها يعتبر غنياً بوجود هذه الطاقة، ووجود ما يوجهها فيه ويعود(2/393)
عليه ذلك بالكسب. أما إذا كانت الطاقة موجودة ولكن ليس لها مجال،
ولم يجد ما يوزعها أو يصرفها فيه، فهو فقيرٌ يحتاج إلى العطاء،
وبالله تعالى التوفيق.
134700 ( كتاب الزكاة - باب قسم الصدقات [2] )
( كتاب الزكاة - باب قسم الصدقات [2] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [1]
التنطع لا خير فيه، وقد زجرت عنه الشريعة وحرمته، ومن ذلك تقدم صوم
رمضان بيوم أو يومين احتياطاً، فهذا لا يجوز، والشريعة مبنية على
التيسير، والعبادات مبنية على التوقيف، وقد بين أهل العلم ذلك بياناً
شافياً.
شرح حديث: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن
والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [ عن أبي هريرة رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم
يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه ) متفق عليه. وعن
عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد
عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. ذكره البخاري تعليقاً،
ووصله الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان ]. كتاب الصيام
من أعظم كتب الفقه دراسة وتحصيلاً وعملاً وتطبيقاً، والمؤلف ابن
حجر رحمه الله ساق في هذا الكتاب نحواً من خمسين حديثاً،
اشتملت على كل ما يتعلق بالصيام فرضاً أو نفلاً أداءً أو قضاءً.
وبدأ هذا الكتاب بهذا المبحث، وهو: النهي عن أن يتقدم أحد رمضان
بصوم يوم أو يومين من شعبان. وعادة العلماء أن يعرفوا الباب لغة
واصطلاحاً، فقالوا: الصوم لغة: مطلق الإمساك: إمساك عن طعام، إمساك
عن كلام إِنِّي
نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ
إِنسِيًّا [مريم:26]
، خيل صيام وخيل غير صائمة، أي: صيام تمسك عن الجري، ويقول العرب
عن الثريا: كأنها علقت بمصام في مصامها، أي: في موقفها عن الحركة(2/394)
والسير. والصوم شرعاً: مأخوذ من معنى الصوم لغة، وهو: إمساك مخصوص
عن شهوتي الفرج والبطن في زمن مخصوص، ألا وهو نهار رمضان، أو غيره
إن كان نافلة. البخاري رحمه الله بدأ في كتاب الصيام بإثبات
المشروعية، ثم تكلم عن أحكام الصيام فيما بعد، وعقد فوق الستين
باباً لأحكام الصيام، وخمسة أحاديث في ليلة القدر، وتسعة أبواب في
الاعتكاف، ومجموعها حوالى ثمانين باباً، فما توسع أحد في باب الصوم
كتوسع البخاري رحمه الله.
متى شرع الصوم؟
متى بدأ الصوم؟ قالوا: أول ما شرع الصوم بعد الهجرة في يوم
عاشوراء، (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وجد اليهود
يصومون يوم عاشوراء، فسألهم: لم تصومونه؟ قالوا: هذا يوم نجى الله
فيه موسى من فرعون، فصامه شكراً لله، فنحن نصومه، فقال صلى الله
عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم -أي: لأنكم غيرتم وبدلتم ما جاءكم
به موسى، ونحن لا نغير ولا نبدل- فصامه وأمر الناس بصيامه ) ،
وفي بعض الروايات: (أنه صلى الله عليه وسلم لما نوى صيامه بعث إلى
مياه أهل المدينة منادياً: من كان ممسكاً فليبق على صيامه، ومن أكل
أو شرب فليمسك بقية يومه ) ، وكان ذلك في السنة الأولى، ثم في
السنة الثانية فرض رمضان، ونسخ فرضية يوم عاشوراء، وأصبح على
النافلة والندب والاستحباب. ولا يعني سؤال النبي صلى الله عليه
وسلم اليهود عن صوم يوم عاشوراء أنه صامه تبعاً لهم، لا ، فصوم يوم
عاشوراء كان معلوماً عند العرب قبل الإسلام، كانوا يصومونه ويجددون
فيه كسوة الكعبة، فكان معلوماً لديهم، ولكن سؤال النبي صلى الله
عليه وسلم لليهود -وهم أهل كتاب- ليعلم ما هو السبب عندهم، فذكروا
له نجاة موسى من فرعون، فبين لهم أنه أحق بموسى منهم فصامه. ويمكن
أن يقال من جانب آخر: كان النبي صلى الله عليه وسلم أول ما جاء
المدينة مهاجراً يحب أن يوافق اليهود من باب المسايرة، وليبين أنه
أتى بما جاء به الأنبياء قبله، فكان يصلي ستة عشر شهراً من أول(2/395)
مقدمه المدينة مستقبلاً لصخرة بيت المقدس، حتى أن اليهود استدلوا
بذلك على أنه تابع لهم، وكانوا يحتجون بصلاته صلى الله عليه وسلم
إلى قبلتهم، ويقولون: يصلي إلى قبلتنا ويعيب ديننا!! فكره ذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقلب وجهه في السماء يتطلع إلى
تغيير هذا الحال، ويحب أن يوجه في صلاته إلى الكعبة، فجاء قوله
سبحانه: قَدْ
نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144]
، وتم بذلك استقلالية الإسلام بكامله في معناه وفي شكله عما يتعلق
باليهود. أيضاً لما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يصومون يوم
عاشوراء صام، ولكن لم يكن صيامه متابعة لهم حاشا وكلا، بل كان
يُصام قبل ذلك، ويقولون: إن يوم عاشوراء رست فيه سفينة نوح على
الجودي، وهو اليوم الذي أخمدت نار النمرود التي رمى فيها الخليل
إبراهيم عليه السلام، وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى من فرعون،
وهو اليوم الذي أخرج الله فيه ذا النون من بطن الحوت، ويذكرون في
التاريخ أحداثاً عديدة، والله تعالى أعلم، والذي يهمنا ما جاء
ثابتاً، وهو سبب صوم اليهود إياه؛ لأنه يوم نجى الله فيه موسى من
فرعون. وهنا نقطة أرجو أن ننتبه لها، وأن نأخذها بعين الاعتبار،
فيوم نجى الله فيه موسى من فرعون يوم مبارك ومناسبة سعيدة ففيه
نصرة الحق على الباطل، فحينما تتجدد للمسلمين نعمة كهذه فإنها
تستحق الشكر، ويغبط الإنسان فيها، فمن شكرها أن تقدم للمولى سبحانه
طاعة، لا أن تجعلها يوم لهو ولعب، وتخرج عن الآداب الإسلامية. ذكر
ابن هشام في السيرة: أن النجاشي لما هاجر إليه أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم، وكان من أمرهم ما كان، وأعطاهم الأمان والحرية في
بلاده، فإذا في يوم من الأيام يستدعيهم، فخافوا ما الذي حصل؟! فلما
دخلوا الديوان أذن لهم في الدخول عليه في المجلس الخاص الذي هو
فيه، فلما دخل أصحاب رسول الله على النجاشي، وكانوا يظنونه في(2/396)
الهيئة والهيبة والسلطة والسلطان؛ فهو ملك، فإذا بهم يجدونه جالساً
على التراب، لابساً المسوح، والمسوح نوع من اللباس خشن يتخذه بعض
العباد للعبادة، ابتعاداً عن ترف القطن والكتان والحرير المحرم،
زيادة في الخشوع والخضوع بين يدي الله، ورءوه حاسراً رأسه، فلما
رءوا هذا المنظر ظنوا أن الملك قد وقعت به مصيبة، فقال: أتدرون لم
دعوتكم؟! قالوا: لا -والله- عجِّل، لماذا دعوتنا؟ قال: في هذا
اليوم أتاني خبر بأن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قد لقي عدوه
من المشركين في أرض يقال لها: بدر، كثيرة الأراك، ترعى فيها الإبل،
ونصره الله على عدوه، وقد جاء عن عيسى عليه السلام أنه قال: إن
الله يحب من عبده إذا أنعم عليه نعمة أن يظهر منه التواضع، فلهذا
تجدونني على ما أنا عليه على تراب بدون فراش، وفي مسوح لا في لباس
الملك، حاسر الرأس لا ألبس عمامة، فمظاهر الذلة والخضوع إلى الله
كلها تجمعت فيه. وهكذا: إذا تجددت للمسلمين نعمة فيها نصر الحق على
الباطل، كنعمة نجاة موسى من فرعون، وقد يقول إنسان: لقد تجددت
النعم في الإسلام زمن رسول الله، فهذا يوم بدر يوم الفرقان، جعله
الله فتحاً، وجعله الله فرقاناً بين الحق والباطل، فإذا كان الأمر
كذلك فهل الرسول صام يوم بدر؟ نقول: لا، هذه أمور يتوقف فيها على
الشرع، إثباتاً أو نفياً، فهو مقدم على كل رأي، وما لم يكن فيه نص،
ولم يكن فيه أمر أو نهي، وكان مجرد تجدد نعمة؛ فإن على الإنسان أن
يشكر الله على هذه النعمة بالقيام بطاعة لله، لا كما نجعل بعض
المناسبات أعياداً بلعب وبطرب وبلهو!! لا، ليس هذا من باب التعبير
عن شكر النعمة، بل التعبير الحقيقي عن شكر النعمة وشكر المنعم
سبحانه هو أن نذل إليه، ونخضع بنوع من أنواع العبادات التي يحبها،
والتي قد شرعها. إذاً: كان صوم يوم عاشوراء هو بداية الصيام، ثم
فرض صوم رمضان ونسخ فرضية عاشوراء، وبقي صيامه على الندب. وجاء عنه(2/397)
صلى الله عليه وسلم أنه أراد مخالفة اليهود في صوم هذا اليوم، فندب
إلى صوم اليوم التاسع مع اليوم العاشر؛ ليكون مغايراً في الصورة
والهيئة لما كان عليه اليهود في صومهم. ولما شرع الصوم في قوله
سبحانه: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]
بين أنه كتب على من قبلنا ثم بين عدده: أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]،
فبعض العلماء يقول: أياماً معدودات هي سوى رمضان، كما جاء في
الأحاديث: صوم الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر، أو صوم ثلاثة
أيام من كل شهر على ما في رواية أبي هريرة ، ومالك يقول:
ثلاثة أيام من كل شهر، من كل عشرة أيام يوم: يوم واحد، ويوم إحدى
عشر، ويوم إحدى وعشرين، والحسنة بعشر أمثالها. والبعض يقول:
(أياماً معدودات) هي بعينها شهر رمضان، ولكن جاء التكليف أولاً
بصورة التخفيف: (أياماً معدودات)، عليك الصيام، فتقول: سيكثر
الصيام؟ قال: لا، لا، بل أيام، فيستقبله المكلف في صورة التقليل؛
لأن الأيام جمع قلة، فتهون عليه، كما في قصة يوسف: وَشَرَوْهُ
بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ [يوسف:20]
، ثم لما اطمأنت النفوس، وأحبت الصوم جاءهم بكماله: (( شهر رمضان
))، وبين سبحانه أحكام هذا الشهر وفضله. إذاً: كانت بداية الصوم
بالتخفيف والتدريج، ثم أكمل الشهر وأكملت الفرائض، وانتهى الأمر
كما جاء في قوله سبحانه في ختام عمره صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع: الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3]
، ومن هنا يقول مالك رحمه الله: ما كمل لا يحتمل زيادة، ولا
يجوز فيه النقص؛ لأنك إذا زدت عليه كأنك تقول: الخبر بالإكمال غير
صحيح، فبقي عليه هذه حتى يكتمل اكتمالاً تاماً، فهذا خطأ، ولهذا
كان مالك يقول: من سن سنة وظن أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان(2/398)
الرسالة؛ لأن الله يقول: (( وأكملت ))، وهذا يأتي ويقول: بقي هذه،
فهذه الذي جئت بها أنت هل محمد صلى الله عليه وسلم يعرفها أو لا
يعرفها؟ إن كان يعرفها ولم يخبرنا بها فيكون قد كتم، وإذا كان لا
يعرفها، فشيء لم يعرفه محمد بن عبد الله هل تعرفه أنت؟! إذاً: شهر
رمضان لا يقبل نقصاً ولا يقبل زيادة، ومن هنا افتتح المؤلف مبحث
باب الصيام.
حرمة تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين احتياطاً
يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا -أو لا تتقدموا، المعنى واحد-
رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه )
مثلاً: كان لك أمر مهم جداً، ونذرت لله إن قضاه الله لك فثاني يوم
تصوم، ولا تدري متى يأتي، ولا متى يقضى، فقضي لك يوم السابع
والعشرين من شعبان، ففي الغد سيكون يوم ثمان وعشرين، وفي الحديث:
(لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين)، لكن يجوز لك الصيام بصفة خاصة؛
لأنك ستصوم قبل رمضان بيوم أو بيومين لا لرمضان، وإنما لنذرك الأول
الذي التزمت به، فلا دخل لصومك مع رمضان. إذاً: لا تقدموا رمضان
بصوم يوم أو يومين إذا كان نافلة في شعبان، فهذا ممنوع؛ لأنه إذا
فتح باب النوافل قبل رمضان بيوم أو يومين، واستمر الناس على ذلك؛
سيظن الناس بعد زمن طويل أن اليوم واليومين من رمضان، فيزيدون فيه،
والزيادة مرفوضة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا انتصف شعبان
فلا تصوموا ) ، لا يتطوع من نصف شعبان، من خمسة عشر شعبان إلى
رمضان لا يتطوع، إلا إذا كانت له نافلة ثابتة، كان يصوم الإثنين
والخميس، والإثنين والخميس ستأتي في الأسبوع الأخير من شعبان،
فيصوم؛ لأنه صامه على نافلة سابقة، أما إذا كان لا يصوم الإثنين
والخميس، ولا كان يصوم نوافل، ويوم أن انتصف شعبان قال: أريد أن
أصوم، نقول له: لا. وقد جاء التشديد كما سيأتي في الحديث الذي بعد
هذا: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم، ونبقى مع(2/399)
حديث: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين ) . جميع أركان
الإسلام محفوفة بزمن، فمثلاً: الصلاة قال الله عنها: لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78]
، كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]
فلا يصح أن تصلي قبل دخول الوقت، ولا يجوز لك أن تؤخرها حتى يخرج
الوقت، فإن خرج الوقت تكون قضاءً وليست أداءً، كذلك الحج قال الله: الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]
، وكذلك الزكاة وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]
، وفي الحديث: (إذا حال عليه الحول ) ، وبعض العلماء يقول: لا
يجوز إخراج الزكاة قبل حولان الحول؛ لأنها لم تجب، ومالك يقول:
يجوز تقديمها لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من
العباس زكاة سنة مقبلة، فأخذ منه زكاة السنة المقبلة لحاجة طرأت،
وهذه على غير العادة. فجميع الأركان محددة ومقيدة بزمنها، فرمضان
مقيد بالزمن، وقد حدث في الأمم الماضية أنهم صاموا اليوم واليومين
المنهي عنهما هنا، وقالوا: نصوم يوماً قبله احتياطاً له، ونصوم
يوماً بعده احتياطاً له، فكان الصوم الرسمي ثلاثين، وقالوا:
للاحتياط نصوم يومين: يوم في الأول، ويوم في الآخر، ومضى الزمن،
وطالت المدة، فدخل الاحتياطي في الأصل، وصار الصوم الرسمي اثنين
وثلاثين، ثم جاء من بعدهم وهم لا يعلمون بدخول الاحتياطي، وظنوه
أنه رسمي، فقالوا: نصوم قبله يوماً احتياطاً، ونصوم بعده يوماً
احتياطاً، فصاموا أربعة وثلاثين يوماً، اثنين وثلاثين رسمي، ويومين
احتياطاً، فطال الزمن حتى دخل الاحتياطي الثاني في الرسمي، وظن
الناس أن الصوم أربعة وثلاثون يوماً، فقالوا: فلنحتاط، فصاموا
يوماً قبله ويوماً بعده، وهكذا خمس مرات، حتى زادوا عشرة أيام.
والأهلة تدور مع فصول السنة، فرمضان تارة يأتي في الربيع، وتارة
يأتي في الشتاء في شدة المطر، وتارة يأتي في الصيف، وأذكر في هذه(2/400)
البلدة المباركة أن الناس مرة كانوا يصومون ستة عشر ساعة، كان
النهار طويلاً والليل قصيراً في شدة الحر. وبعض الأمم السابقة
زادوا في رمضان حتى صار أربعين يوماً، فجاءهم في شدة الحر، فعجزوا
عن الصيام، فقالوا: الحر شديد، ونحن لسنا قادرين على صيامه، فننقل
الصوم عن الأشهر القمرية إلى الأشهر الشمسية، ونزيد عشرة أيام،
فصار خمسين يوماً، وجعلوا الصيام عن أشياء معينة عن كل ما فيه
الروح: الغنم والدجاج والسمك، والأشياء النباتية يأكلونها، يعني:
صيام لعب، يأكل من النباتيات، ويأكل من الخبز، ويأكل من الفاكهة،
فكيف هذا الصيام؟! فعندما أخطئوا بالزيادة في رمضان، وعجزوا عنه،
تحيروا ماذا يفعلون؟ فانتقلوا إلى الأشهر الشمسية فضاع عليهم
الشهر، فخوفاً من أن تقع الأمة في مثل هذه الخطيئة وضع لرمضان
سياج؛ لا أقول: من حديد أو من فولاذ، بل أقوى من ذلك كله، في أوله
لا يمكن أن تتخطاه، ممتد إلى السماء، وآخره لا يمكن أن تزيد فيه،
فجعل اليوم الذي يشك فيه محرم صومه، فلا يصام المتردد بين شعبان
ورمضان، وجعل في نهايته يوم العيد، ويحرم بالإجماع صوم يوم العيد،
إذاً: سلم رمضان من الزيادة في أوله، وسلم من الزيادة في آخره،
ولهذا -أيها الإخوة- بفضل من الله ونعمة من الله أنه قد تكرر رمضان
أكثر من ألف وأربعمائة سنة، ويأتي وكأنه شرع، لا زيد فيه ساعة، ولا
نقص منه ساعة، وإنما حفظ بهذه السنة النبوية الكريمة فلا يتقدم
بصوم، وكذلك لا يتبع بصوم، ولابد أن يفصل بين رمضان وغيره كما جاء
في حديث: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال ) ، ليست متابعة
ملازمة، بل لابد أن يفصل بينهما، وأقل شيء بصوم يوم العيد، وإن زاد
الفصل فلا مانع، ويهمنا أن هذه السنة النبوية جاءت حفظاً لرمضان عن
أن يدخله زيادة في أوله، أو يتبعه زيادة في آخره، (لا تقدموا رمضان
بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان له صوم فليصمه ) ؛ لأنه إذا(2/401)
كان له صوم يصومه فهو في هذه الحالة سيصوم يوم ثمانية وعشرين أو
تسعة وعشرين من شعبان، ولا دخل له في رمضان، إنما يصومه لصومه الذي
التزم به، كالنذر يصادف هذا اليوم الثامن أو التاسع والعشرين من
شعبان، وبهذا حفظ رمضان، ونحن على هذا النعمة، ولله الحمد.
حرمة صوم يوم الشك
الحديث الثاني: (من صام اليوم الذي يشك )، يقول علماء المنطق:
التشكيك هو دوران المعنى على أمرين متساويين، انظر إلى توءمين
متشابهين، أقول: هذا علي، لا، هو أحمد، تساويا في الشكل، والذي لا
يعرفهما حقيقة كالأم والأب يتردد، لأن بين أحمد وعلي مائة في
المائة تشابه، لكن لو كانت هناك قرينة فلا إشكال، فإن ناداه: ما
اسمك؟ قال له: علي. زال الشك، وتميز، فإذا كان الشيء لا يحتمل إلا
أمراً واحداً فهذا علم، أي: أن المعلوم لا يحتمل إلا معنىً واحداً،
فحينما نظرنا إليه دون أن نسأله عن اسمه، كنا مترددين شاكين بين
علي وأحمد، فنميز بالتدريج، فإذا تكلم وكان الصوت بينهما متفاوتاً،
فلما سمعنا الصوت بدا لنا أنه علي، لوجود قرينة، فوجود القرينة في
أحد الجانبين المتساويين تجعل أحدهما ظناً، والثاني وهماً، لما
سمعنا صوته، وكنا نعرف صوت علي الذي نعرفه، لكن ما زالت الشبهة
قائمة، فكونه علياً هذا ظن، والظن قريب من العلم، وكونه يحتمل أن
يكون أحمد هذا وهم، فقوي جانب كونه علياً، إذاً: القرائن ترجح أحد
الطرفين، وترفع الشك، ويكون الراجح ظناً، والمرجوح وهماً. وإذا لم
يكن هناك اشتباه فلا إشكال: من هذا؟ هذا صبري، ليس له توءم، ولا
نختلف فيه، فصبري هو صبري، فهذا هو علم. وعلى هذا فاليوم الذي يشك
فيه هو اليوم الدائر باحتمالين متعادلين بين كونه نهاية شعبان أو
كونه بداية رمضان، ويوضح هذا أنه معلوم بالإجماع أن الشهر القمري
لا ينقص عن تسع وعشرين يوماً، ولا يزيد عن ثلاثين، فإذا تيقنا دخول
شعبان، ورأينا الهلال يوم واحد شعبان، ومشينا معه إلى أن أكملنا(2/402)
تسعة وعشرين من شعبان، فلما أكملنا تسعة وعشرين من شعبان فاليوم
الذي من غد، يمكن أن يكون ثلاثين شعبان، ويمكن أن يكون واحد رمضان،
فيكون عندنا شك، ولكن متى يقع الشك؟ هل كل يوم ثلاثين شعبان يحصل
فيه شك؟ لا، يكون الشك إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان فيها غيم،
ولم نر الهلال، فلو رأينا الهلال لكان يوم غد رمضان يقيناً، وارتفع
الشك، فإذا كان في ليلة الثلاثين من شعبان الجو صحو لا غيم فيه،
فنحن بين أحد أمرين: إما أن نرى الهلال ولا شيء يحجبه، وإما ألا
نراه، فإن رأيناه فلا شك عندنا، وإن لم نره فلا شك عندنا؛ لأن
السماء صحو، فإن قدر وجود الهلال رؤي، فلا يكون هناك شك، وإن لم
يظهر الهلال علمنا أن الغد تتمة شعبان، وليس عندنا شك. إذاً: إذا
كانت السماء صحواً ليلة الثلاثين من شعبان فلا شك؛ لأنه إما رمضان
بالرؤية، وإما شعبان لعدم الرؤية. إذاً: ليلة الثلاثين من شعبان
إذا كانت صحواً فلا شك، فإذا كانت ليلة الثلاثين من شعبان فيها غيم
يحجب السماء، فيمكن أن الهلال ظهر ولكن يحجبه السحاب، ويمكن أنه
لما يظهر، فالاحتمال متعادل، فهنا يكون الشك، فإن رئي زال الشك،
وإن لم ير بقي الشك على ما هو عليه، ففي هذه الحالة ماذا نفعل
غداً؟ هل نصوم أو نترك الصوم؟ إن صمنا غداً نكون قد صمنا يوم الشك،
ومن صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه
وسلم، يا سبحان الله! عبادة ويكون من يقوم بالعبادة عاصياً! نعم؛
لأنه لم يوقعها في محلها؛ لأنه أتى بها على غير ما شرعت، والعبادة
إذا لم تكن مشروعة فهي باطلة. فأعظم ذكر لله هو قراءة القرآن، وما
عبد الله بشيء أحب إليه مما خرج منه، فهو كلام الله، وأقرب ما يكون
العبد إلى الله وهو ساجد، فهل يجوز لك وأنت أقرب ما تكون إلى الله
أن تتعبد الله بالقرآن وأنت ساجد؟ أليس أحب شيء إلى الله كلامه؟
لكن نهيت عن قراءة القرآن في السجود، فإذا قرأت القرآن في السجود،(2/403)
فهل تقول: أنا أعبد الله بأحب شيء إليه؟! لا، أنت جئت بما يكره،
فيجب أن تكون العبادات على قاعدة التوقيف كما قال الفقهاء، يعني:
نتوقف فيها إلى أن يأتي النص: افعل، لا تفعل. فهنا: (من صام اليوم
الذي يشك فيه فقد عصى ) ، وهل عصى أميراً أو مأموراً أو ملكاً
أو وزيراً؟ عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: مَنْ
يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]
أي: ومن عصى الرسول فقد عصى الله، وطاعة الرسول من طاعة الله وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]
. إذاً: لماذا هذا التشديد، وجعل العبادة معصية؟ لئلا يدخل في
رمضان ما ليس منه، هذا تقرير المبدأ، ولكن نحن كطلبة علم، قد نرجع
إلى المكتبة ونجد أقوالاً أخرى، ونقرأ في الموسوعات فنجد أن البعض
يقول: يصام اليوم الذي يشك فيه احتياطاً لرمضان، وقال بعض السلف:
لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان، إذا
جئنا إلى الفلسفة العقلية يمكن أن نجد لها مجالاً، ولكن لا، حتى
العقل يردها، فأنت أتريد أن تجعل احتياطاً لرمضان؟ جزاك الله
خيراً، وبارك الله فيك، فهل أنت أشد حرصاً على رمضان من رسول الله؟
إذاً: العقل يقول لك: لا، أنت غلطان؛ لأن الرسول أشد احتياطاً منك،
والرسول أشد حرصاً على رمضان منك، وقد نهاك أن تصوم هذا اليوم
احتياطاً كما تقول، إذاً: لا نحتاط بصيامه.
( كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [2] )
عناصر الموضوع
1 أنواع العلوم
2 هل يثبت الشهر برؤية عدل؟
3 خلاف العلماء في اعتبار المطالع
4 شرح حديث: (تراءى الناس الهلال...)
5 شرح حديث: (فأذن في الناس أن يصوموا غداً)
6 شرح حديث: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [3]
شهر رمضان تتعلق به أحكام كثيرة، وهو أفضل شهور السنة، وفيه فضائل(2/404)
عديدة، ومن الأحكام المتعلقة بدخول رمضان: بيان كيفية ثبوته، واعتبار
اختلاف المطالع فيه، وحكم تبييت الصيام من الليل، بالإضافة إلى
الاكتفاء بنية واحدة لجميع أيام الشهر، وهذه المسائل اختلف العلماء
فيها، فينبغي فهمها لمعرفة الراجح من الأقوال فيها.
أنواع العلوم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال الغزالي رحمه الله:
العلوم أربعة: علوم عقلية، وعلوم تجريبية، وعلوم ظنية، وعلوم
توقيفية. أما التوقيفية: فهي كل ما يتعلق بالغيب من صفات المولى
سبحانه، وأحوال القبر، وأحوال القيامة، ونعيم الجنة، وعذاب النار
-عياذاً بالله-، فكل ذلك توقيفي لا نجزم بشيء منه إلا بخبر يقين عن
صادق، فلا نستطيع أن نحكم بشيء، بل نتوقف، مثل قول الرسول صلى الله
عليه وسلم: (مررت بأخي موسى في قبره قائماً يصلي، ولو كنت هناك
لأريتكم قبره بجانب الكثيب الأحمر ) ، بالتحديد، ثم إذا به يرى
موسى يستقبله مع الأنبياء في بيت المقدس، ثم إذا به يرى موسى في
السماء السادسة يستقبله، فهل العقل يستطيع أن يحكم بذلك؟ لا، بل هو
توقيف، ومثله قوله تعالى: مَثَلُ
الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ
مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ
طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15]،
هل نستطيع أن نحكم أن حقيقة الخمر واللبن والعسل في الجنة كما هو
عندنا؟ والميزان الذي يزن الأعمال، هل هو ميزان حرارة أو ميزان كذا
أو كذا؟ والبطاقة التي فيها "لا إله إلا الله" ترجح بسجلات مد
البصر، هذه أمور غيبية لا دخل للعقل فيها. العلوم التجريبية: مثل
علم الطب؛ لأن الصيدلة ومعرفة خواص الأشياء من نباتات أو معادن أو
كيماويات إنما هي بحسب التجربة، ويقال في علم الصيدلة: إن أكثر من(2/405)
خمسين في المائة من الأدوية المتداولة اكتشفت عن طريق الصدفة أثناء
التجارب! ينتقل الصيدلي أو الكيميائي في معمله من قصد إلى قصد آخر
لشيء فاجأه في بحثه. أما العلوم العقلية: مثل الرياضيات -الحساب
والهندسة- لا يمكن أن قضية رياضية تخطئ؛ لأن القواعد الرياضية لا
خطأ فيها، وإنما يأتي الخطأ من العقل الذي يعملها. مثلاً: (5×6=30
، 6-5=1، 1+5=6 ) فهذه لا تتغير، مهما حورت ومهما دورت في عمليات
الأرقام؛ ولذا جعلوا لها الآن قواعد جمادات، فالآلة الحاسبة نظموها
على تلك العقليات الرياضية فلم تخطئ، الإنسان يخطئ عشرين مرة،
والآلة الحاسبة لا تخطئ لماذا؟! لأنها لا تملك الخطأ، وتعجز عن
الخطأ؛ لأن الخطأ نتيجة اجتهاد، والآلة لا اجتهاد لها. أما العلوم
الظنية: مثل العلوم الفلكية، وإن كان الفلكيون الآن سيروا المراكب
في الفضاء، وأرسلوا الصواريخ، وفعلوا وفعلوا، لكن لا زالوا في
دائرة الظنيات. إذاً: إذا اعتمدنا في الصوم على الحساب فلن نخرج عن
نطاق الظنيات؛ ولهذا جاء الحديث صحيح: (صوموا لرؤيته، وأفطروا
لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ) ، إن كنا في أول رمضان
أكملنا عدة شعبان ثلاثين، وإن كنا في آخر رمضان وغم علينا أكملنا
عدة رمضان ثلاثين يوماً، وانتهت القضية، والحمد لله.
هل يثبت الشهر برؤية عدل؟
من الذي يعتمد عليه في الرؤية؟ إذا رآه مسلم عدل في أول دخوله
اكتفي به، وهناك من ينقل عن الشافعي أنه يقول: لابد من شاهدي
عدل. وهل الإخبار عن رؤية الهلال شهادة أم إخبار؟ والفرق بين الخبر
والشهادة دقيق جداً؛ لأن كلاً منهما يخبر عن مغيّب، والفرق بينهما:
إذا كان مضمون الكلام -أي: مضمون الخبر- له علاقة بشخص ثالث غير
المتكلم والسامع فهو شهادة؛ لأنه يشهد على إنسان ما، وإن كان موضوع
الكلام لا يتوقف على شخص ثالث فهو خبر، حينما يقول: طلعت الشمس.
يريد أن يخبر السامع بطلوعها، فهل هناك شخص آخر يعنيه ذلك في هذا(2/406)
الخبر؟ لا، وإذا قال: سمعت زيداً يقول عند طلوع الشمس: أعط فلاناً
كذا. فهل هذا خبر أو شهادة؟ شهادة؛ لأنه يتعلق بحق شخص ثالث، ومن
هنا: من اعتبر رؤية الهلال شهادة قال: لابد من اثنين وَأَشْهِدُوا
ذَوَي عَدْلٍ [الطلاق:2]
ومن اعتبر رؤية هلال رمضان خبر فيكتفي بواحد، حتى المرأة، فخبر
المرأة وخبر الرجل في باب الأخبار سواء، ونحن تأتينا الأحاديث
برواية النساء، فهل نقول: هذه امرأة لا نقبل شهادتها؟ لا، فهي
تقول: أنا لا أشهد، بل أخبرك بما سمعت؛ ولهذا ورد في الحديث: (جاء
أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم عشية وقال: أشهد بالله أني
رأيت الهلال. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن ينادي:
ألا فافطروا وامضوا إلى المصلى غداً ) ، وابن عمر قال:
(تراءى الناس الهلال، فرأيته فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم،
فأمر الناس بالصيام ) ، وكل هذا من باب الإخبار. ومذهب الجمهور
قبول خبر الواحد في دخول رمضان، ويتفقون على وجوب عدلين في خروج
رمضان إلا من شذ، والفرق عندهم هو ما قدمنا أن اليقين لا يرفع بشك،
كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي الذي شهد برؤية الهلال:
(أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أن محمداً رسول
الله؟ ) سبحان الله! لم يقل: أتشهد أني، بل قال: أتشهد أن
محمداً؛ لأن شخصية الرسالة ليست بالأنية، ولكنها المحمدية، قال
الله: آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285]،
ولم يقل: آمنت بما أنزل إليك من ربك، فقال: (نعم أشهد، فقبل منه
ذلك واكتفى بهذا، وأمر الناس بالصيام ) ففي دخول رمضان الأحوط
أن نقبل خبر الواحد؛ احتياطاً لرمضان، وأما الخروج فنحن على يقين
من صومنا، فلا يخرجنا خبر الواحد، ونحتاج إلى زيادة تأكيد، فإذا
شهد عدلان خرجنا عن الصيام، وكان الشهر تسعةً وعشرين يوماً.
خلاف العلماء في اعتبار المطالع
قوله: (صوموا لرؤيته ) خطاب لأهل المدينة في ذلك الوقت أو خطاب(2/407)
للأمة كلها؟ من قال: هو خطاب لمن كان موجوداً في ذلك الوقت، قال:
خاص بهم. ومن قال: هو عام للأمة كلها، قال: إذا رئي في بلد وجب على
جميع بلاد العالم الإسلامي أن يصوم. ولكن وجدنا الأخبار والعمل على
اعتبار كل قطر لمطلعه، كما في قضية ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما مع كريب ، فكريب أرسلته بعض أمهات المؤمنين إلى
معاوية رضي الله تعالى عنه وهو خليفة بالشام، فأدركه رمضان
بالشام، ورءوا الهلال ليلة الجمعة، وأصبحوا صائمين يوم الجمعة، ثم
جاء كريب إلى المدينة وهم في رمضان، فتحادث هو وابن عباس عن أهل الشام، وعن معاوية وعن رمضان، فقال كريب : أما
رمضان فقد رأينا الهلال ليلة الجمعة. قال: أنت رأيته؟ قال: نعم،
رأيته وصمنا وصام معاوية وأمر بالصوم. فقال ابن عباس : أما نحن
-وكان في المدينة- فلم نره إلا ليلة السبت. فقال: ألا تكتفي برؤية
معاوية وصومه؟ قال: لا، بهذا أمرنا رسول الله، فقوله: (صوموا )
خطاب لكل قطر على حدة. بقي الخلاف والنزاع في تباعد الأقطار
وتقاربها، وبعضهم يقول: السياسة تدير الأمر، فإذا تقاربت السياسة
صمنا برؤية البلد الفلاني، وإذا تباعدت السياسة، يقولون: لم يثبت
عندنا. يا سبحان الله! ونجد كثيراً من طلبة العلم يشغلون أنفسهم
بهذه المسألة، فالآن السعودية ثبت عندها رمضان يوم الثلاثاء، من
الذي يمنع العالم كله أن يأخذ بهذه الرؤية؟ هل هناك مانع؟ لا يوجد
مانع، هل هناك ملزم يجبرهم بالصيام معنا؟ لا، لا يوجد ملزم، فهي
أمور شخصية، فهم يقولون: لا نقبل، لا نثق، إذاً: سندخل معهم في
ملاحاة، فنقول: حينما يثبت عندكم رؤيته صوموا، وحينما يثبت عندكم
رؤيته أفطروا، ونصيحتي: أن هذه القضية بالذات لا ينبغي أن تكون
مجالاً للبحث وللنقاش، ولا نتهم الأمة بالفرقة من أجل هذا، أو ندعو
الأمة إلى الوحدة في هذا، فلا يوجد حاجة إلى هذا كله؛ لأنه لا تكون
هذه الوحدة أبداً، نحن الآن في هذا الوقت هنا، ولو سألت عن بلد يقع(2/408)
شرقاً عنا على بعد ألفين ميل لوجدتهم قد أفطروا من قبل ساعات،
وصلوا العشاء، ولو أنك أفطرت هنا وسألت عن بلد في الغرب: هل
أفطرتم؟ يقولون: لا، نحن لم نصل العصر بعد! فالتوقيت -مثلاً- بينك
وبين الدار البيضاء في المغرب ثلاث ساعات، فنحن نفطر، ونصلي
العشاء، ونصلي التراويح، ونرجع إلى بيوتنا، ثم هم يقولون: باسم
الله، اللهم! لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا. إذاً: لا يوجد وحدة في
هذا، وهل هذا يعيب العالم الإسلامي؟ لا، الوحدة تكون عملياً في غير
ذلك، الوحدة تكون على تحكيم كتاب الله، الوحدة تكون في نظام
الإسلام وفي تشريعه، الوحدة تكون في أعمال المسلمين بما فرض الله،
نوحد الزكاة، نوحد الأموال، هل استطاعوا أن يوحدوا العملة النقدية؟
ما استطاعوا؛ لأنها أمور تختص بالبلد، ولا حاجة لكثرة الكلام في
هذا، وإذا ما اتحدت قلوب المسلمين، فبنعمة من الله يستطيعون أن
يوجدوا الوحدة بأبسط من ذلك، الآن بدءوا يقولون: وحدة التعرفة
الجمركية، وحدة التعرفة البريدية، وحدة كذا، وهم الآن مضطرون إلى
أن يوحدوا وسائل المواصلات، وتتبادل الشركات تذاكر بعضها بعضاً
اضطراراً. إذاً: النزاع في كون رؤية الهلال رؤية للعالم كله أو
ليست رؤية للعالم كله، هذه أمور نظرية وليست عملية، وعلى هذا فكل
بلد له مطلعه، والذي يهمنا أن العالم الإسلامي ينبغي أن يرتبط في
دخول رمضان وخروجه بهذه الآية الكونية الكبيرة، ألا وهي: رؤية
الهلال، فإن غم عليكم فأكملوا العدة، أما أن نحسب مقدماً، ونعلن
الصوم قبل مجيئه بأيام، ونقول: سيكون يوم كذا، والعيد سيكون يوم
كذا، على أساس الحساب والتقدير، فالحساب والتقدير قطعاً لا يخلوان
من الخطأ، والله ما تعبدنا ولا كلفنا أن نتحمل هذه المشاق، وإذا
عرف الحساب بعض الأفراد فمن الذي يحسب لأهل البادية، وأهل الأرياف
الذين لا يعرفون حساباً؟ إن قلت: إن الدولة ستخبرهم. فكيف بالذين(2/409)
لم تصلهم مواصلات الأخبار؟ وكم يوجد من أهل البادية في الجبال وفي
الكهوف! كم يوجد من البوادي بعيدة عن المواصلات! فهؤلاء عندهم
توقيتهم، إذا رءوا الهلال لا يحتاجون إلى إخبار ولي أمر، فيصومون
لرؤيته، وإذا رءوا الهلال يفطرون لرؤيته، وهكذا. إذاً: قضية
الحساب، وقضية تعميم الرؤية، فيها نظر، والله أسأل أن يوفقنا
وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا ونواصي ولاة
أمورنا إلى الحق، وإلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث: (تراءى الناس الهلال...)
قال رحمه الله: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (تراءى
الناس الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام
وأمر الناس بصيامه ) رواه أبو داود ، وصححه الحاكم وابن
حبان ]. أتى المؤلف رحمه الله بحديث ابن عمر ؛ لأن فيه أن
الذي أخبر بالرؤية واحد، وهو ابن عمر ، (تراءى الناس)، أي: كل
يرى لعله يراه، لكن ما رآه أحد إلا ابن عمر ، وللأحناف هنا
مباحث: إن كانت السماء صحواً فلم لم يره إلا ابن عمر ؟ فهم لا
يقبلون واحداً، وإن كان في السماء غيم فلا مانع، وقد يخفى الهلال
على بعض أولي الأبصار القوية، ومن الضروري للتمكن من رؤية الهلال
أول ليلة أن يعلم الرائي أين يكون الهلال في أول ليلة؛ ولذا يتتبعه
بعض الناس في خط سير الشمس؛ لأنه يتبعها، فإذا كان يتتبع مجراها
فحري أن يرى الهلال، فهو لا يذهب إلى يمين أو إلى يسار مجرى الشمس
في غروبها، فإذا كان إنسان يعرف ذلك فلربما يراه، والآخرون لا
يرونه لوجود الغيم، وهذا الذي ساقه هنا عن ابن عمر يوافق عليه
الجميع. إذاً: حديث ابن عمر يثبت قبول خبر الواحد، ونبهنا على
الفرق بين أن يكون الأمر خبراً وبين أن يكون شهادة، مواطن الشهادة
كما قال تعالى: ذَوَي
عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]،
أما الإخبار فيكفي فيه الثقة، حتى لو أن امرأة أخبرتنا بخبر فلا
نرد ذلك الخبر، وكما قيل: وعند جهينة الخبر اليقين. ومن قصص(2/410)
الجاهلية أن امرأة أخبرتهم أن القاتل ظفر به ولي المقتول فقتله،
وكانوا يتشاورون: ماذا نصنع؟ وماذا نعمل؟ نقاتل أو لا نقاتل؟ ندفع
دية أو لا ندفع؟ وبينما هم على ذلك، قالت لهم: صاحب الدم قتل
صاحبه، فقالوا: قطعت جهيزة قول كل خطيب، فالخبر يكفي فيه الثقة، لا
مجنون ولا سفيه ولا غبي، فإذا أخبر واحد برؤية الهلال؛ قبل ذلك ولي
الأمر، وأمر بالصيام.
شرح حديث: (فأذن في الناس أن يصوموا غداً)
قال رحمه الله: [ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن أعرابياً
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال. فقال:
أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أن محمداً رسول
الله؟ قال: نعم. قال: فأذن في الناس -يا بلال - أن يصوموا غداً )
رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان ، ورجح النسائي إرساله ]. أتى المؤلف رحمه الله بهذا الخبر، وماذا فيه من زيادة
على حديث ابن عمر ؟ ابن عمر يقول: تراءى الناس، ورأيت،
وأخبرت، فصاموا، والأعرابي يقول: إني رأيت، فأخبره، فقال: (فأذن في
الناس -يا بلال - أن يصوموا غداً ) ، الناحية الموضوعية في
الحديثين واحدة، وليست هناك زيادة إلا أن ابن عمر صحابي جليل
ثقة، حريص على اتباع سنة رسول الله أكثر من غيره، لكن الأعرابي هذا
يسكن البادية، ولا نعرفه، وقد قال الله: الأَعْرَابُ
أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا [التوبة:97]
، وَمِنَ
الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ
بِكُمُ الدَّوَائِرَ [التوبة:98]
، فالأعراب فيهم وفيهم، فجاء المؤلف بحديث شهادة الأعرابي، وهل
تثبت شهادته؟ هل قال له: أحضر لي شهوداً، أحضر لي مزكين، أين شيخ
القبيلة حتى أسأله عنك؟ لا، بل قال: (أتشهد أن لا إله إلا الله؟
قال: نعم أشهد. قال: أتشهد أن محمداً -وهذا التجريد كما يقولون-
رسول الله ) ، ونبهنا على أن الرسالة ليست أنية، لم يقل: أتشهد(2/411)
أني رسول الله؟ لا، محمد بن عبد الله هو الذي أرسله الله قال الله: وَكَفَى
بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:28-29]
، لم يقل: وكفى بالله شهيداً أنك رسول الله، لا، مع أن هناك قوله: وَاللَّهُ
يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]
، لكن هنا في معرض التقرير قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال:
نعم أشهد. ويتفق العلماء على أن هذا وحده يكفي للعدالة، قالوا: لأن
الإسلام يجب ما قبله، فهذا الأعرابي مهما كانت درجته في سلوكه
وانحرافه فأسلم، فقد محا الله عنه كل آثار الماضي قبل ذلك، وهكذا
التوبة كما نعلم بقضية الرجل من بني إسرائيل الذي قتل تسعة وتسعين
نفساً، فتداركه الله بلطفه، وهداه إلى التوبة، فذهب إلى عابد من
العباد ليس فقيهاً، فقال: هل لي من توبة بعد التسعة والتسعين؟ قال:
أعوذ بالله! قتلت تسعة وتسعين وتريد توبة أيضاً؟! قال: يعني ما
هناك فائدة؟ قال: لا. قال: إذاً نكمل المائة، وقتله. فحدثته نفسه
بالتوبة مرة أخرى، فذهب إلى عالم من العلماء، فقال: يا سبحان الله!
ومن يحول بينك وبين الله؟ تب إلى الله يقبل توبتك، ولكن اخرج من
هذه القرية التي ارتكبت فيها هذه الجرائم إلى تلك القرية الفلانية
ففيها أناس صالحون، فتعبد الله معهم. فخرج فأدركه الموت في منتصف
الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة لأنه مقبل عليهم، وملائكة
العذاب لأنه مجرم من سابق، فبعث الله ملكاً يحكم بينهم: أن قيسوا
بين البلدين، وألحقوه بأقربهما منه، وفي بعض روايات الحديث
الصحيحة: (أن الله أوحى إلى هذه أن اقتربي -أي: التي خرج إليها-،
وأوحى إلى تلك أن تباعدي ) -ورواية أخرى (أن الله سبحانه قربه
بصدره - يعني: انقلب وهو ميت ليكون أقرب- فقاسوا فكان أقرب إلى
البلد التي خرج إليها قدر ذراع ) . والذي يهمنا: أن الصحابة(2/412)
مهما كانوا فكلهم عدول؛ لأن الله قد شهد لهم بالعدالة، ولذا يقول
بعض علماء الحديث: إن المرسل في الحديث يقبل، وهو الذي سقط منه
الصحابي، والتابعي يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مع
أن التابعي لم يلق رسول الله، ولو لقيه لكان صحابياً، فيقولون:
غاية ما في الأمر أن الصحابي غير مذكور وغير معلوم لنا، وعموم
الصحابة عدول، فعدم ذكره لا يضر في الحديث شيئاً. فهذا الأعرابي
مسلم، وثبتت له الصحبة بأنه رأى رسول الله وخاطبه، ولا يشترط في
الصحبة طول الملازمة كما يقول بعض العلماء، فاكتفى منه بالشهادتين
فقبل خبره، وأمر بلالاً أن يؤذن في الناس بأن يصوموا غداً، ولم
يكن عندهم مدافع، ولا برقيات، ولم يكن هناك إذاعة، والأذان كان
أكبر وسائل الإعلام.
شرح حديث: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)
قال رحمه الله: [ وعن حفصة أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له ) رواه
الخمسة، ومال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه، وصححه
مرفوعاً ابن خزيمة وابن حبان ، وللدارقطني : (لا صيام
لمن لم يفرضه من الليل ) ]. كأن المؤلف رحمه الله يذكر الأحاديث
بالتسلسل التشريعي، فذكر أولاً: (لا تصوموا قبل رمضان بيوم أو
يومين ) ، قبل أن يأتي الشهر، فإذاً: ما صمنا اليوم ولا
اليومين، ثم جاء اليوم الذي يشك فيه فقال: (لا تصوموا يوم الشك )
، ثم تعدى يوم الشك، قال: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته ) ،
فهذا تسلسل حدثي ماض، وبعد أن رأينا الهلال، وصمنا لرؤيته، بدأ في
بيان الصوم، فإذا كنت رأيت الهلال وثبت عندك وستصوم، فلابد أن تبيت
النية بليل. وهذا الحديث عن حفصة رضي الله تعالى عنها، وهي زوج
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمر يروي عن أخته هذا
الحديث، وبعضهم يقول: هذا موقوف عليها، أي: من قولها هي. والبعض
يقول: لا، لقد رفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذه(2/413)
الرواية. إذاً: حديث تبيت النية للصوم جاء عن حفصة تارة
مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة موقوفاً صناعة أو
شكلاً على حفصة ، ومهما يكن من شيء، فتصحيح الصوم بالنية، وعدم
تصحيحه بدونها هل هذا من حق أحد سوى الوحي المنزل؟ فكون الصوم
يشترط فيه تبييت النية أو لا يشترط هل من حق أحد أن يجتهد فيه؟ هل
من حق أحد أن يتدخل فيه؟ لا، إنما ذلك لا يكون إلا توقيفاً عن الله
أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً حفصة رضي الله تعالى
عنها حينما قالت: لا صيام لمن لم يبيته بليل. لم تأت به من
اجتهادها ولا تفكيرها، بل نجزم يقيناً أنها ما قالته إلا بعد أن
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤكد هذا أنها زوجه، ومن
أقرب الناس إليه، ولا يفوتها مثل هذا، وعلى هذا فهو وإن كان
موقوفاً شكلاً على حفصة ؛ لعدم ذكرها رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ فهو مرفوع حكماً؛ لأنه ليس مما يحتمل الاجتهاد. وعلى هذا
يكون صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يُجمع -من لم يزمع، من لم
يبيت... كل هذه ألفاظ جاءت في هذا الحديث وغيره- الصوم بليل فلا
صوم له ) ، وكلمة (ليل) هنا: ظرف لنية الصوم نهاراً، ومتى تكون
النية إذاً؟ قالوا: من بعد غروب الشمس أول الليل إلى قبيل أن يتبين
الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وهذا كله ليل، إذاً: من
غروب الشمس إلى طلوع الفجر ليل.
حكم النية في الصوم
وهنا يبحث العلماء عن حكم النية في الصوم، فيقسمون الصوم إلى صوم
رمضان وما في حكمه: صوم النذر، صوم الكفارة، والقسم الآخر صوم
التطوع، والجمهور على أن صوم رمضان وما يلحقه في الحكم لا يصح إلا
إذا بيت النية من الليل، ومن أي جزء من الليل؟ قالوا: من عند غروب
الشمس إلى طلوع الفجر، ففي أي لحظة من ذلك الوقت نوى الصوم فقد حصل
المطلوب. وقوله: (يبيت) هل يشترط أن يأتي بهذه الألفاظ والقوالب
لمعانيها، فيقول: نويت الصوم يوم غد الخامس عشر من رمضان سنة ألف(2/414)
وأربعمائة وخمسة عشر بالمدينة المنورة؟ هل يلزم هذا كله؟ لا أبداً،
ونويت الصوم غداً. هل تلزم هذه؟ أيضاً لا، وكونه بعد غروب الشمس
علم بثبوت رمضان، وحمد الله أنه أدركه، وغداً سيصوم الناس، وهو مع
الناس، فهذه نية، وهذا الإدراك في نفسه هو بنفسه نية، ولو كان
نائماً، ولا يدري عن مجيء رمضان، وأيقظه أهله وقالوا: قم! قال: ما
الأمر؟! قالوا: قم تسحر. قال: لماذا؟ قالوا: جاء رمضان. قال: الحمد
لله، وقام فتسحر معهم للصيام غداً، فهذه نية، فالنية في الصوم هو
ورود الصوم على خاطره بالجزم أنه صائم غداً. وهل يتعين كل ليلة نية
لصيام نهارها أم يكفي من أول ما ثبت رمضان أن ينوي أنه صائم الشهر
إن شاء الله، وتكون نية بالجملة تشمل الشهر كله؟ بعض العلماء
كالحنابلة يقولون: تجزئ. ويأتون بقاعدة: هل رمضان بأيامه الثلاثين
عبادة واحدة أو كل يوم عبادة مستقلة عن الآخر؟ فمن نظر إلى أن
رمضان فرضاً واحداً قال: تجزئه نية واحدة. ومن نظر إلى أن كل يوم
فرضاً مستقلاً بذاته قال: لابد لكل يوم من نية. والنية على ما تقدم
بيانها. وهل صيام رمضان عبادة واحدة أم أن كل يوم عبادة مستقلة؟
يترجح لي -والله تعالى أعلم- ما ذهب إليه المالكية من أن كل يوم
عبادة مستقلة بذاتها. ولماذا؟ يقول المالكية: من أفسد صوم يوم من
رمضان، -مثلاً- يوم تسع وعشرين من رمضان، فهل أفسد رمضان كله أو
هذا اليوم فقط؟ هذا اليوم فقط، إذاً: هذا اليوم عبادة مستقلة
بذاتها، فالأولى تبييت النية لكل يوم. وكما أشرنا أن مجرد خطور
الصوم على باله ليلاً يجزئ. وينبه العلماء على أنه من كان عازماً
على سفر، وحجز في الطائرة، والموعد غداً في التاسعة صباحاً، والحجز
مؤكد، والتذكرة في جيبه، والسيارة ستوصله إلى المطار، إذاً: السفر
بالنسبة لهذا (99.9%)، فهذا الشخص يتعين عليه ما دام في بلده أن
يبيت الصوم لذلك اليوم الذي هو غداً مسافر فيه، ولماذا؟ لهذا(2/415)
الواحد من عشرة من مائة، لاحتمال أن يتخلف السفر، -مثلاً-: ألغيت
الرحلة غصباً عنه، جاء الذي كان سيسافر من أجله، كأن يكون طلب
شيئاً من جدة أو من خارج البلاد وتأخر عليه، وعزم أن يسافر ليأتي
به، ففي الصباح الحجز الساعة التاسعة، وفي الساعة سبعة جاء الذي
يقول له: خذ حاجتك. فهل سيسافر أم يمتنع؟ سيمتنع لانتهاء المهمة.
إذاً: عليه أن يبيت النية، حتى إذا تعطل السفر يكون قد احتاط ومعه
شرط صحة صوم يوم غد، وإن حصل سفر فمع السلامة. وكذلك المرأة التي
تعلم من نفسها مجيء الدورة، ومتعودة أنه يوم كذا تأتي الدورة،
وتعلم أن غداً موعد الدورة بعد الظهر، فعليها أيضاً أن تبيت النية
للصوم؛ لأن الدورة ليست حركة ميكانيكية مثل الساعة، قد تتأخر إلى
ما بعد غروب الشمس، إذاً: تبيت النية للصوم، فإن جاءت الدورة خرجت
من الصوم، وإن لم تأت الدورة واصلت الصوم، وصح صومها لهذا اليوم.
عدم اشتراط تبييت النية في صوم التطوع
الصوم منه فرض ومنه نافلة، هل يشترط لصحة صوم النافلة أن يبيت
الصوم بليل أيضاً أو يصح للإنسان أن ينشئ نية الصوم للنافلة في
النهار بعد طلوع الفجر؟ الجمهور على أنه بالنسبة للنوافل له أن
يعقد الصوم في النهار ما لم يكن قد أكل. إذاً: تبييت الصوم بليل
عام، ويستثنى منه النوافل، وما الذي أخرج النوافل من عموم الصوم؟
قالوا: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل
النبي صلى الله عليه وسلم علينا فقال: هل عندكم من شيء؟ قلنا: لا.
قال: إني إذاً صائم ) (إني إذاً) أي: في هذا الوقت نويت الصوم،
فما دام لا يوجد أكل فسأصوم، وهذا بشرط ألا يكون أكل قبل ذلك.
وبعضهم يقول: لو أكل في يومٍ صومه واجب، وهو غافل عنه، فيمسك حينما
تبين له، ويقضي يوماً آخر، فمثلاً: الصبي يبلغ في نصف النهار،
احتلم وأصبح مكلفاً، فيمسك عن الطعام في ذلك اليوم، ولأنه قد أكل
فعليه قضاء يومه، وإذا لم يكن قد أكل فكثير من العلماء يقول:(2/416)
يجزئه؛ لأنه قبل البلوغ غير مكلف، واليوم سليم لم يقطعه بطعام.
والآخرون يقولون: لا، يقضي يوماً غيره؛ لأنه لم يبيت الصوم بليل،
ومثل ذلك الكافر إذا أسلم أثناء النهار. والحائض إذا طهرت أثناء
النهار، فإنها تمسك لحرمة رمضان، ولأنها أمسكت وصامت نصف نهار،
والنهار لا يتجزأ، فعليها أن تقضي هذا اليوم المجزأ. هذا ما يتعلق
بوجوب تبييت النية للصوم. بعض العلماء يقول: بالنسبة للنية
الإجمالية من أول الشهر، لو قدر أن هذا الذي نوى إجمالاً طرأ له
سفر يبيح الفطر، لكنه اختار الصوم، فهل تجزئه نية الإجمال الأولى
أو يتعين عليه لكل يوم نية؟ قالوا: المسافر عليه أن يبيت النية لكل
يوم، وما الذي أخرج المسافر على القول بأن الشهر كله تكفيه نية
واحدة؟ لأن المسلم مكلف أن يصوم الشهر كاملاً، لكن المسافر جاءته
رخصة، فله أن يصوم، وله أن يفطر، والمقيم ليست عنده رخصة، وليس
مخيراً، بل عليه الصوم، فتكفيه النية الأولى، أما إذا أنشأ سفراً،
فالسفر يعطيه حق الصوم وحق الفطر، فهذه الليلة لا ندري هل هو في
الغد صائم أم مفطر؟ فيتعين على المسافر عند الجميع أن يبيت النية
لكل يوم؛ لأنه دائر بين جواز الصوم وجواز الفطر، فلا بد أن يحدد.
هذا ما يتعلق بمبحث تبييت النية في الصوم ما بين فرض وما بين نفل،
وما بين سفر وحضر.
( كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [4] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (نهى عن الوصال)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [5]
إن الله عز وجل إنما يريد بعباده اليسر، وهذه الشريعة مبنية على
التيسير، ولن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، ولهذا حرمت الشريعة الوصال
في الصوم، ومن استشهد على ذلك بوصال النبي صلى الله عليه وسلم فيرد
عليه: بأن وصاله كان مما اختص به صلى الله عليه وسلم دون سائر الأمة.
شرح حديث: (نهى عن الوصال)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،(2/417)
وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الوصال. فقال رجل من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله! فقال:
وأيكم مثلي؟! إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فلما أبوا أن ينتهوا عن
الوصال، واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رءوا الهلال، فقال: لو تأخر
الهلال لزدتكم. كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا ) متفق عليه ].
بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله تعالى آداب الفطر والحث على السحور،
جاء بهذه المسألة المشهورة في الصيام، وهي: الوصال، والوصال: مأخوذ
من الوصل، وأصله: وصل الشيء بغيره كما تصل طرفي الحبل، وهو في
العرف الشرعي: أن يصل صوم النهار بالليل، ويصير صائماً نهاراً
وليلاً، وهذا يسمى وصلاً، ولأنه يتكرر مرة ومرتين سمي وصالاً. ساق
المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال ) أي: نهى الصائم أن
يصل النهار بالليل سواء مرة واحدة أو كرر ذلك، ولما نهى والحال أنه
صلى الله عليه وسلم يواصل، وجد المسلمون نهياً يغاير فعلاً! فقال
رجل من المسلمين: نهيتنا عن الوصال وأنت -يا رسول الله- تواصل!
ونحن إنما نستن بسنتك ونقتدي بهديك. وهذا فعلاً سؤال في محله، ولكن
بين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا مثله، فقال: (لست كهيئتكم
أو لستم مثلي ) . ومن هنا يقول الأصوليون: يشترط لصحة القياس أن
يستوي الطرفان، فكأنه قال: تقيسون أنفسكم بي، والحال أن هناك فرقاً
بيني وبينكم، وما هو الفرق في هذا الباب؟ قال: (إني أبيت يطعمني
ربي ويسقيني ) ، وفي بعض الروايات: (لستم مثلي؛ فإن لي طاعماً
يطعمني، وساقياً يسقيني ) .
الحكمة من تحريم الوصال
يبحث العلماء حكم الوصال، وقبل أن نذكر الحكم الفقهي -كما جرت
العادة- نذكر ما يستفاد من الحديث ومدلوله العام. الوصال هو زيادة(2/418)
عبادة، فبدلاً من أن يصوم النهار اثنتا عشرة ساعة، فسيصوم الليل
معه أيضاً اثنتا عشرة ساعة، ويكون قد صام أربعاً وعشرين ساعة مرة
واحدة، وهذه عبادة فيها زيادة حمل النفس على الصبر وتهذيبها و..
إلخ، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يرد هذا، والغاية البعيدة من
تحريم ذلك لها جهتان، وينضمان أو يصبان في غاية واحدة: الجهة
الأولى: لئلا يحمل المكلفون أنفسهم فوق طاقتهم تحت عاطفة حب
العبادة، فيأتي الإنسان يعمل عملاً بعاطفة وانفعال، وهو مندفع،
وبعد أن يمشي قليلاً يحس بالكلفة، فيريد أن يتراجع لكن بعد أن فات
الأوان، ولكن من هنا من البداية لا تواصل. الجهة الأخرى: لحفظ
الدين؛ لأن الذي يحمّل نفسه الوصال، تتكرر عليه السنوات والأيام،
ويتقدم في السن، ثم يحصل هناك عنده كراهية للعمل الذي شق عليه،
وبعد أن كان يعمله بسهوله صار يعمله بتكلف، وهذا من التشدد المنهي
عنه، كما في حديث النفر الثلاثة الذين ذهبوا إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ليسألوها عن أعمال رسول الله في البيت، قالوا:
أعماله في البيت لا نراها، نراه في الصلوات الخمس، وتعليم الناس،
وذكر الله، لكن ما العمل الخفي الذي يعمله في البيت حتى يتأسى به؟
فعندهم زيادة رغبة في الخير. فلما سألوها قالت: في الليل أحياناً
يقوم وينام، وفي النهار أحياناً يصوم ويفطر، وأحياناً يكون في شغل
أهله في البيت -يساعدهم: يحلب الشاة، يخصف نعله صلوات الله وسلامه
عليه-، فهؤلاء سمعوا هذا الشيء، ولما لم يكن هناك جديد قالوا: إنه
عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكن نحن في حاجة إلى الإكثار
من العبادة، فلنبحث، دعنا نبحث عن عمل نلتزم به ونجتهد فيه، فقال
أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام. والثاني قال: وأما أنا فأصوم
النهار ولا أفطر. والثالث قال: وأما أنا فلا آتي النساء، أي: أتبتل
إلى الله بأنواع العبادات. وكانت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها(2/419)
حكيمة، لما سمعت هذا لم تناقشهم من وراء الحجاب، فذهبوا، وجاء
الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما سألوا، وبما أجابتهم، وبما
قالوا فيما بينهم. ونستطيع أن نقول: نموذج جديد في الاجتهاد في
العبادة حصل في ذلك اليوم، وعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فهل فرح الرسول بوجود مثل هذه النوعية في الأمة، يحبون الاجتهاد في
العبادات، والرغبة في الخير، و.. إلخ؟ لا والله! بل غضب، هل يغضب
لزيادة الخير؟ نعم؛ لأن الزيادة إذا كانت ستأتي بنقص فهي ناقصة،
فيأتي المسجد ويصعد المنبر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان هناك
أمر أمر بالمنبر، فينبه بعضهم بعضاً ويجتمعون، فحمد الله وأثنى
عليه وقال: (ما بال رجال -وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم يكني
عن الرجال ولا يعرفهم بالذات، ولا يحب أن يسميهم ويحرجهم، والغرض
الفائدة- يقولون: كذا وكذا وكذا -وذكر للناس ما ذكر هؤلاء الثلاثة-
أما إني والله! لأعلمكم بالله، وأتقاكم لله -ولن تكونوا أحسن مني-
وإني والله! -مع أفعل التفضيل هذه- أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآتي
النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) صلوات الله وسلامه عليه.
خير الأمور أوسطها
هذه الأمة وسط كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]
بأقواله وأفعاله، ما زاد ولا نقص، وقلنا: إنها وسط بين ماذا؟
الوسط: الشيء المتوسط بين طرفين، يقول علماء التفسير: الأمم التي
سبقتنا عندهم إما تفريط وإما إفراط، وعلماء الأخلاق يقولون:
الفضيلة وسط بين طرفين، وبها جاء القرآن، فالبخل طرف مذموم،
والتبذير طرف مذموم، والوسط وهو الإنفاق باعتدال هو الكرم وَلا
تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [الإسراء:29]
بخيل شحيح إلى أقصى حد وَلا
تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29]
يعني: كن معتدلاً وَالَّذِينَ(2/420)
إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ
ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]
. وهكذا يقولون في الشجاعة، الجبن والخور طرف مذموم، والتهور وعدم
النظر في العواقب طرف مذموم -أيضاً- كما قال الشاعر: قدر لرجلك قبل
الخطو موضعها فمن علا زلقاً عن غرة زلج انظر في العواقب، فوسطية
هذه الأمة بين الأمم الماضية هي: أن الإنسان -كما يقول العلماء-
مركب من جسم وروح، يعني مادة ومعنى، فالجسم له متطلبات الحياة من
أكل وشرب ونساء وتوالد وتكاثر... إلخ، والروح لها الغذاء الروحي من
الذكر والتلاوة والتأمل والخوف من الله والرغبة في الله... إلخ.
والإفراط: هو أن يفرِط في إشباع أحد الجانبين الجسم أو الروح،
ويفرِّط في الجانب الآخر، وهذا الذي وقع من اليهود والنصارى،
فاليهود أفرطوا جداً في جانب المادة، واحتالوا للوصول إلى المادة
المحرمة بالحيل، لما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت احتالوا في
حصولهم على الحوت يوم الجمعة ويوم الأحد، ولما حرم عليهم الشحوم
إلا ما استثني احتالوا فجملوا الشحوم وباعوها وأكلوا الثمن،
وقالوا: ما صدنا يوم السبت، ولا أكلنا شحماً، وفرطوا كل التفريط في
جانب الروح، فجنحوا ومالت بهم السفينة. والنصارى بالعكس: فرطوا في
أمر الدنيا، وأفرطوا في جانب الروح، واتخذوا رهبانية، وابتدعوا
عبادات مَا
كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ
فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27]،
فجنحوا إلى الجانب الآخر. ومن هنا وقفت مسيرة الدعوة الإسلامية، ما
استطاع اليهود أن يواصلوا بها السير، ولا استطاع النصارى أن
يواصلوا بها السير، فجاء الإسلام ووضع الموازنة المعتدلة بين
الجانبين، ونقرأ قوله سبحانه: إِذَا
نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة:9]
هذا النداء روحي أم مادي؟ روحي فَاسْعَوْا
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9](2/421)
البيع هذا روحي أم مادي؟ مادي ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ [الجمعة:9-10]
هل قال بعدها: امكثوا في المصلى، امكثوا في الأديرة، اعتكفوا في
المساجد، اتركوا الدنيا؟ لا، فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]
، انتشروا وابتغوا من الدنيا مع ذكركم لله سبحانه وتعالى، يعني:
فاجمعوا بين الدين والدنيا. وقد شاهدنا هنا في المدينة في الستينات
صاحب الدكان والبقالة أو القماش في رمضان يفتح المصحف ويقرأ، وعنده
ريشة، وإذا جاء زبون يطلب شيئاً من البقالة أو القماش وضع الريشة
حيث انتهى من القراءة وأغلق المصحف وباع واشترى، فإذا ذهب الزبون
رجع إلى المصحف، دين ودنيا.
النهي عن الغلو
لما كان الاهتمام بأحد الجانبين مضر بالجانب الثاني كان الغلو في
الدين أضر من التقصير؛ ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن كل باب
يدخل الإنسان في الغلو في الدين. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، وتعرف إليه، وسلم عليه، وأسلم ورجع، وبعد سنة جاء فسلم على
النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه رداً عادياً، فقال: ألم تعرفني
يا رسول الله؟! قال: (لا، ما عرفتك. قال: أنا الذي جئتك العام
الماضي بكذا وكذا وكذا. قال: ما الذي غيرك بعدي؟ كنت نضر الوجه، غض
الجسم، ما الذي غيرك؟ قال: منذ فارقتك -يا رسول الله- ما أفطرت
يوماً -أسرد الصوم- قال: لا، أتعبت نفسك، أين أنت من الأشهر الحرم؟
صم من الأشهر الحرم وأفطر ) ، ما رضي له أن يظل صائماً، فإن
ضعفت من الذي سيحرث الأرض؟ من سيصنع في المصنع؟ من الذي سيقاتل
العدو؟ من الذي سيرعى الأولاد والزوجات والأبوين؟ لا، ولهذا نهى
صلى الله عليه وسلم عن الوصال. وكذلك عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقوم الليل كله، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء(2/422)
وقال: (بلغني عنك كذ وكذا، قال: نعم يا رسول الله! قال: إن لعينك
عليك حقاً، ولجسمك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً - وفي بعض
الروايات: ولزوجك- ) . وسلمان الفارسي لما جاء إلى أبي
الدرداء وجد أم الدرداء مبتذلة، كأن ما عندها رجل، فقال:
ما هذا يا أم الدرداء ؟! ما عندك رجل ينظر إليك؟! ما عندك واجب
تؤديه لزوجك؟! قالت: لا، أخوك أبو الدرداء لم يعد له حاجة في
النساء، ولما رأى هذه الحال لم يكن أبو الدرداء موجوداً،
فانتظر حتى جاء وبات عنده، فلما صلوا العشاء وتعشيا وأخذا في النوم
قام أبو الدرداء يصلي في البيت، فأمسكه وقال: نم. فلم يقدر على
مخالفته فنام قليلاً وقام، لا يستطيع أن يصبر، فأمسكه وقال: نم.
حتى ما بقي إلا ثلث الليل الأخير، فقام يصلي فقال له: قم فصل إذا
أردت. وقام هو أيضاً فتوضأ وصلى ما تيسر. وفي الغد أم الدرداء أتت بالفطور، فأبو الدرداء قال: كل أنت، أنا صائم. فأخذ سلمان يده في الإدام وقال: كل، فأكل. وقال له سلمان : إن لنفسك عليك
حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً... إلخ، فأعط كل ذي حق
حقه. فذهب أبو الدرداء في الظهر إلى رسول الله واشتكى وقال: يا
رسول الله! سلمان صنع معي كذا وكذا، وعطل علي كذا وكذا وكذا.
فقال: (صدق سلمان ) .
الإفراط في العبادة له آثار سيئة
الإفراط في جانب يؤثر على الجانب الثاني، جاءت امرأة إلى عمر رضي الله تعالى عنه، وقالت: يا أمير المؤمنين! إن زوجي نهاره صائم،
وليله قائم. فقال: مثلك يثني بخير. يعني: جزاك الله خيراً، مدحت
زوجك، وكان بجانبه كعب بن سور ، فالمرأة غطت وجهها وانصرفت،
فقال كعب لعمر : المرأة تستعديك على زوجها وتشتكي. قال:
هي تشتكي؟! بل هي تمدح زوجها. قال: لا، بل أتت تشتكي. فناداها:
تعالي، قال: هذا الرجل يقول: إنك جئت تشتكين زوجك، قالت: إي والله!
يا أمير المؤمنين! أنا امرأة شابة، وأنتظر ما تنتظر النسوة، وزوجي(2/423)
يصوم النهار ويقوم الليل، ولم يبق له حاجة فيَّ، فعرف أمير
المؤمنين. لكن أنا أسأل: هل عمر ما فهم دعواها؟! عمر بصفته
كخليفة وكحاكم وكأمير لا يقف ضد إنسان في غيبته، بل يأخذ الأمور
على ظواهرها، وفي فن الأدب يذكرون هذه الأبيات: قبيلة لا يخفرون
بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل وما سمي العدلان إلا لقولهم خذ
القعب أيها العبد واعجل تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من لحم
كعب بن نهشل فجاء رجل إلى عمر وقال: إن الشاعر هجانا. قال:
وماذا قال؟ قال: يقول: قبيلة لا يخفرون بذمة. قال: نعم الوفاء،
عندهم وفاء. قال: ولا يظلمون الناس حبة خردل. قال: إن الله حرم
الظلم. قال: وما سمي العدلان إلا لقولهم خذ القعب أيها العبد
واعجل. قال: خادم القوم سيدهم. قال: ويقول: تعاف الكلاب الضاريات
لحومهم -أي: لحومهم زفرة- وتأكل من لحم كعب بن نهشل . قال: كفى
بالأمة أن تأكل الكلاب لحومها، فصرف الهجاء إلى مدح، فعمر بليغ، وكان السفير لقريش في المناسبات، وكانت قريش إذا أرادت أن
تهنئ قبيلة بنبوغ شاعر أو فارس فيها تبعث عمر ، وإذا أرادت
قريش أن تعزي قبيلة في سيد مات فيها تبعث عمر ، وهو القائل:
إذا أتتك كلمة من صديقك لها خمسون معنىً سيئاً، وفيها معنى واحد
حسن، فاحملها على الواحد الحسن. إذاً: عمر ما خفي عليه شكوى
المرأة. ولما تكلم الرجل أصبح مسئولاً، فاستدعاها عمر رضي الله
عنه فأقرت، فقال: يا كعب ! أنت فهمت قضيتها فاحكم بينها وبين
زوجها. فأحضر الزوج، وجلسا، فقال: يا أمير المؤمنين! أقضي أمامك
وبين يديك؟ قال: نعم. القضاء مبناه على الفهم، أنت فهمت القضية
وأنت الذي تستطيع أن تحكم فيها، وهذا تفويض من ولي الأمر إلى أحد
الأفراد للقيام بالقضاء، وهذا عين تنصيب القاضي نائباً عن الخليفة.
سأل الرجل: لماذا أنت كذا؟ قال: والله! أنا أخاف من الله، وأخاف من
البعث وأخاف... وأخاف... إلخ. فقال: اسمع يا أمير المؤمنين! أنا(2/424)
أحكم بينهم بأن يكون لزوجها ثلاث ليال يتهجد فيها، ويتعبد فيها
كيفما شاء، وثلاثة أيام يصوم ويفطر كيفما شاء، والليلة الرابعة
واليوم الرابع لا يتهجد ولا يصوم ويكون من حقها هي. فقال له: ومن
أين أخذت هذا الحكم: ثلاثة وواحد؟! قال: الله أعطى للرجل حق التزوج
بأربع، فلو كان مستوفياً لحقه من أربع زوجات لكانت لها مع الزوجات
واحد من أربعة، فحق الزوجات الثلاث أعطيته إياه، ويوم من الأربعة
أعطيتها للمرأة، فقال عمر : والله! لا أدري هل أعجب من فهمك
لشكواها أو من حسن قضائك؟! كلاهما. وقد قال عمر في كتابه لأبي
موسى الأشعري : الفهم الفهم، وأول باب القضاء الفهم. إذاً فرط
إنسان في جانب المادة، واجتهد في جانب الروح أفسد الجانب الآخر،
ولهذا جنحت سفن الأمم الماضية، أما الإسلام فكالطائر يحلق بجناحيه
في الأفق، ولا زال بحمد الله يحلق بتشريعاته خمسة عشر قرناً، وكأنه
اليوم أنزل، بأي سبب؟ بالاعتدال، بالتوازن، بعدم طغيان جانب على
جانب.
حكم الوصال
نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال، هل هذا النهي يقتضي الفساد أم
الكراهية أم التحريم؟ ماذا يكون الحال فيه؟ نجد العلماء يبحثون
ذلك، فمنهم من يقول: النهي للكراهية. لماذا والأصل في النهي
التحريم؟ قالوا: لأن النهي لعلة ولحكمة يناط بها وهي: الإشفاق على
الناس؛ لأن الوصال فيه صعوبة، فنهاهم أن يشقوا على أنفسهم، كما
قالوا في صيام يوم عرفات لمن في عرفات، فبعضهم قال: هذا شفقة بهم.
بالأمس كانوا في منى واليوم في عرفات، وفي الليل في مزدلفة، ومن
الفجر في منى ورمي ونحر وحلق، ثم طواف إفاضة، فالصوم يشق عليه،
ويجعله يقصر في بعض هذه الواجبات التي هي أهم، فمن استطاع ووجد في
نفسه قوة صام، وهذا اجتهاد منهم، فكذلك هنا. والآخرون قالوا: لا،
النهي يقتضي التحريم، فلا يجوز أن يواصل. وجاءت بعض الأحاديث أنه
صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر )(2/425)
، لا يكمل إلى الليل، فوقت يأتي السحور يتسحر، يعني: يقطع صومه
بأكلة السحور، وهذه رخصة وإباحة، ومواصلة صوم الليل كله مع النهار
لا يجوز. وبعض السلف كابن الزبير وطلحة كانوا يواصلون،
وينقلون عن ابن الزبير عجائب : كان يواصل خمسة أيام وستة أيام
بلياليها! ولكن فعلاً كان يجد العنت، وإذا انتهت مدة وصاله لا
يستطيع أن يأكل ولا يشرب نظراً لحالة المعدة، فكانوا يذيبون له
التمر في السمن، ثم يلعق من مجموع التمر والسمن إلى أن يلين المعدة
ويرطبها، وتمتص هذا الخليط شيئاً فشيئاً، ثم بعد ذلك يأكل الطعام.
الوصال من خصوصيات النبي عليه الصلاة والسلام
لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال وهو يواصل تساءلوا
-وهم محقون في ذلك-: نهيتنا والأصل أننا نتبعك ونستن بسنتك، ونهتدي
بهديك وأنت تواصل! فمن حقنا من باب اتباعك أن نواصل لمن قدر عليه.
فبين لهم الفرق، فقال: (لا، لست مثلكم، إني أبيت -وأكثر الروايات
ليس فيها: عند ربي- يطعمني ربي ويسقيني ) ، (إن لي طاعماً
يطعمني، وساقياً يسقيني )، هذا اللفظ في هذا الحديث احتار
العلماء فيه وإلى الآن، ولم نجد جواباً شافياً في ذلك، إنما هي
معجزة لرسول الله، والمعجزة -كما يقال- فوق الطاقة الإدراكية، فوق
طاقة العقل؛ لأنها لو نزلت لمستوى إدراك العقل خرجت عن كونها
معجزة، جميع المعجزات لا يحيط بها العقل: نبع الماء بين أصابعه،
تسبيح الحصى في كفه، تفتيت الصخرة بضربات وهم قد عجزوا عنها، تكثير
الطعام القليل حتى يكفي ثمانين شخصاً أو ثلاثمائة شخص، هذه أشياء
لا تقاس بمقاييس العقول، هي معجزات. وهنا قال بعض العلماء: يطعمني
ويسقيني من طعام وشراب الجنة، فقيل: وهل طعام وشراب الجنة لا يفطر؟
قالوا: لا، لا يفطر؛ لأنه ليس من الدنيا، قيل: إذاً ما واصل، وكل
الناس ستواصل ويأتيها طعام من الجنة. فهل نحمل (يطعمني ويسقيني )
على حقيقة الطعام والشراب أو نحمل (يطعمني ويسقيني ) على أمر(2/426)
معنوي؟ القضية دائرة بين هذين، فإن حملناه على أكل وشرب حقيقة فليس
هناك وصال، ولماذا لست مثلنا؟ ما دام أنك تأكل وتشرب فليس هناك
وصال. وإن حملناه على الأمر المعنوي فما هو إذاً؟ أكثر من أطال في
هذا ابن القيم رحمه الله، ونقل عن العلماء، وتوسع في هذه
المسألة، وقال: إن العبد إذا اشتد حبه لله، وقويت صلته بالله، كان
دوام ذكره لله غذاء له، ولربما يكتفي بأبسط الأشياء من الطعام،
ويغذي الجانب الروحي، وإذا تغذت الروح ساعدت الجسم، بخلاف الجسم،
فإذا تقوى الجسم ضعفت الروح، وإذا تقوت الروح قوت معها الجسم، وقد
وجدنا نماذج ليست في نفس المستوى ولكن للتقريب: السرية التي كان
أميرها أبا عبيدة ، فقل طعامهم فقام بتموين إجباري، فجمع كل ما
في أيدي أصحابه من الزاد وجعله عنده، وصار تموين منظم، يعطي كل
واحد تمرتين أو ثلاث أو كذا.. حتى قل التمر فصار الواحد يأخذ تمرة
في اليوم، غزاة في سبيل الله وزادهم وتموينهم تمرة! والله! لو كان
واحد نائماً في الفراش وتقول له: هذا طعامك اليوم، لا يصبر على هذه
الحال، ولكنهم لما كانوا في سبيل الله، وأحسوا أن جوعهم قربة لله،
وأحسوا أنهم يتحملون في جانب الله؛ هانت عليهم الشدائد، وأحسوا
بالشبع والقوة. تقول القصة: وفي آخر يوم نقصت تمرة عن عددنا،
فوجدنا لها وجداً شديداً -حزنا عليها؛ لأن واحداً منا سيظل بدون
أكل، سبحان الله!- ثم ساق الله لهم حوت العنبر، وقعدوا عليه شهراً
كاملاً يأكلون من لحمه، ويدهنون من ودكه، ويتفكهون أربعة وعشرين
قيراطاً. فهذه الحالة عندما يقوي الإنسان صلته بالله، ويشفف
روحانيته، فإن هذه الشفافية، وهذا القرب من الله، غذاء له، أليس
بعض الناس تحصل لهم غيبوبة ولا يدركون ما حولهم استغراقاً في
التفكير في ذات الله؟ يحصل لبعض الناس هذا، ونقول: مغمى عليه، وليس
مغمى عليه، بل هو في غيبوبة القرب من الله سبحانه وتعالى، ولا يدرك(2/427)
ذلك إلا بعض الخواص. إذاً: قوله: (أبيت يطعمني طاعم، ولي طاعم
يطعمني ) نحاول أن نفهمها، ولكن نعترف بأننا لن نفهمها. الذي
يهمنا: أنهم يغايرونه، له طاعم وله ساق، وكيف يكون ذلك؟ نتركها لله
ثم لرسول الله. إذاً: في بادئ الأمر إذا أمر صلى الله عليه وسلم
أمراً أو نهى نهياً، وإن كان هو المتكلم فهو داخل تحت الأمر
والنهي؛ لأنهم قالوا: تنهانا عن الوصال: (لا تواصلوا ) ، وأنت
تواصل، فلولا أنه داخل تحت النهي لما حق لهذا السائل أن يقول: أنت
تواصل، وكان يمكن أن يقول لهم: أنا خارج عن هذا، لا، فهو المتكلم،
وهو داخل في النهي. وهكذا يقول الأصوليون: الآمر يدخل تحت الأمر،
والناهي يدخل تحت النهي إلا إذا جاء صارف. وعلى هذا، يذكر ابن عبد
البر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: الوصال مكروه لمن شق
عليه، ومن قدر فليواصل. ويقول ابن عبد البر : الجمهور أنه لا
يجوز لأحد الوصال، وما ذكر عن بعض الأفراد فهذا اجتهاد شخصي لا
يكون حجة على الآخرين، والله تعالى أعلم.
( كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [6] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (احتجم وهو صائم)
2 شرح حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم)
3 شرح حديث: (رخص النبي بعد في الحجامة للصائم)
4 شرح حديث: (اكتحل في رمضان وهو صائم)
5 شرح حديث: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [7]
اختلف أهل العلم في حكم الحجامة للصائم، ومعرفة أدلة كل قول، ووجه
الجمع بين أدلة المسألة؛ يفيد طالب العلم زيادة في العلم، وسعة في
الصدر. هذا وللحجامة فوائد كثيرة، وورد في الترغيب فيها أحاديث عديدة.
شرح حديث: (احتجم وهو صائم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
و على آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [ وعن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم
احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم ) رواه البخاري ]. انتقل(2/428)
المؤلف رحمه الله تعالى إلى مفطرات الصوم، ما يكون منه الفطر وما
لا يكون، أو ما يجوز فعله للصائم وما لا يجوز، وبدأ بالحديث عن
الحجامة، وقدم حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (احتجم
النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، واحتجم النبي صلى الله عليه
وسلم وهو صائم ) ، وعلى هذه الراوية يكون الحديث عن الحجامة
مرتين: مرة في الصيام، ومرة في الإحرام، وهناك رواية أخرى: (احتجم
وهو محرم صائم ) فتكون الحجامة مرة واحدة في حالة الإحرام ومعه
الصيام. والحجامة من المسائل التي يتناولها الباحث من جهتين: جهة
المعالجة، وجهة الفقه. ويتفقون في الجملة أن للمريض الصائم أن
يتداوى كيفما شاء ما لم يصل الدواء إلى الجوف، فإذا كان الدواء يصل
إلى الجوف من أي منفذ فلا يجوز للصائم إلا إذا كان يحتاجه ويفطر،
وكذلك قال البعض: دواء الشجاج -وهي الشجة في أم الدماغ من الداخل-
يبطل الصوم؛ لأن الرأس مجوف، والنووي ينص على أنه لا
يبطله.
معنى الحجامة
وقبل الكلام على الحجامة للصائم ينبغي أن نعلم ما هي الحجامة، ولعل
البعض لم ير حجاماً ولا محجوماً ولا آلة حجام، وكانت الحجامة
منتشرة بكثرة في المدينة، وكان لهم موطن معروف، والآن لا نجدها في
ذلك الموطن الذي كان معروفاً للناس، ولا في غيره، وكأنها لم تكن!
الحجامة: هي استخراج الدم من الجسم بواسطة شرطة موس، وشفط الدم
بالقرن أو ما يماثله، إذاً الحجامة: إخراج الدم من الجسم عن طريق
الجلد، وهناك إخراج الدم عن طريق العرق مباشرة، ويسمى الفصد، وهناك
إخراج الدم أيضاً عن طريق الجرح أو عن طريق الرعاف، وكل أنواع
إخراج الدم من الجسم ما عدا الحجامة يتفق العلماء أنه لا يفطر، ما
عدا الحجامة عند الحنابلة كما سيأتي بيانه عند الكلام على الحجامة
للصائم إن شاء الله.
فوائد الحجامة
الحجامة معروفة من القدم أنها من أنواع العلاج، وثبت عنه صلى الله
عليه وسلم الحث عليها، حتى جاء عند أبي داود أن جبريل أوصى(2/429)
النبي صلى الله عليه وسلم بالحجامة، وهناك: (لو أن دواء يصل الداء
لوصلته الحجامة ) ، وهناك: (احتجموا لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم )
. والحجامة من الناحية الطبية يتكلمون عنها من حيث الزمن، ومن حيث
الشخص الحاجم والمحجوم، أما من حيث الزمن فإنهم يستحبونها أن تكون
في ساعات النهار ما بين الثانية والثالثة بالتوقيت الغروبي -يعني:
عند الضحى-، وأما في أيام الأسبوع فيكرهونها يوم الأربعاء ويوم
السبت، وأما من حيث الشهر فإنهم يكرهونها في أول الشهر وفي آخره،
ويمتدحونها من منتصف الشهر فما بعده، وينصون على السابع عشر
والتاسع عشر والواحد والعشرين، ومن العجب أن الفقهاء فطنوا إلى
مسألة عجيبة جداً! وهي: أن الحجامة في السابع عشر والتاسع عشر تكون
عند هيجان الدم، وينص الفقهاء على أن هذا الوقت هو بتأثير اكتمال
ضوء القمر، وهو الذي يعبر عنه الآخرون بالمد والجزر؛ لأن المد
والجزر في البحار أشد ما يكون عند اكتمال ضوء القمر في ليلة الرابع
والخامس والسادس عشر، ومن هنا قال بعض العلماء الحكماء: إن من حكمة
صوم الثلاثة الأيام البيض من كل شهر: اليوم الثالث والرابع،
والخامس عشر؛ لأنها تصادف شدة مد الدم في الجسم، والصوم يخفف ويلطف
ذلك؛ لئلا يؤثر على الإنسان أكثر، وقالوا: إن الإنسان بحر دم، فكما
أن البحر يتأثر مداً وجزراً باكتمال ضوء القمر فكذلك الدم في
الإنسان في تلك الآونة تشتد حركته على صاحبه، فإذا صام خفف من هذه
الآثار ومن تلك الإثارة. إذاً: الحجامة من جهة الطب ومن جهة
المداواة يختار لها زمن، ثم من حيث المواضع في الجسم يحدده المختص
في ذلك، سواء في نقرة القفا، أو على الركبة، أو في الفخذ، أو...
إلخ، بحسب الحاجة التي دعت إلى استعمال الحجامة. وينبهون على أن من
لم يحتجم قبل الأربعين لا يحتجم بعدها؛ لأنه لا يتحمل ذلك، ويفرقون
بين الحجامة والفصد في العلاج بأن الحجامة علاج للدم في خارج الجسم(2/430)
-أي: الجلد وتحته-، والفصد علاج لداخل الجسم كما هو في الأعضاء
الداخلية كالكبد والمعدة والكليتين وغير ذلك. هذا ما يتعلق
بالحجامة، وكان استعمالها سابقاً بكثرة، وأما الآن فتكاد تكون قد
تلاشت بالكلية.
حكم الحجامة للصائم
في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم احتجم، وذكر لنا وقت حجامته: احتجم وهو محرم، واحتجم وهو
صائم، ويستدل العلماء به على جواز تداوي المحرم حالة إحرامه، سواء
كان إحرامه بالحج أو بالعمرة، فالتداوي جائز، والحجامة لا تضر
الإحرام بشيء. بقي الكلام على حكم الحجامة في الصوم، وسواء كانت
حجامة النبي صلى الله عليه وسلم في حال كونه محرماً، أو صائماً
بدون إحرام، ونجد العلماء يناقشون في ذلك ويقولون: ما صام صلى الله
عليه وسلم في سفر فيه إحرام قط؛ لأنه ما سافر محرماً إلا في حجة
الوداع وفي عمرة القضية، أما عمرة ذي الحليفة فما كانت في رمضان،
وعمرة حنين أيضاً لم تكن في رمضان، فإذا احتجم وكان قد خرج صائماً
محرماً فمتى ذلك؟ قالوا: لم يثبت أنه صام في حال إحرامه، سواء كان
إحرام حجة الفرض -وهي حجة الوداع- أو كان إحرامه في عمراته الثلاث
التي اعتمرها. وعلى هذا قالوا: لعله كان صائماً صوم تطوع، وهذا
ممكن في بعض أسفاره تلك، فيكون صائماً صوم تطوع، ثم يحتجم وهو
صائم، أما رواية: (احتجم وهو صائم ) ، لم تحدد المكان، فمن
الممكن أن يكون احتجم وهو صائم وهو مقيم، وحينئذ يحتمل أن يكون في
رمضان أو في غير رمضان. والمهم إثبات فعله صلى الله عليه وسلم
للحجامة وهو صائم، وبهذا أخذ جمهور العلماء، وقالوا: الحجامة لا
تبطل الصوم بصفة إجمالية، لكن جاء عن رافع وعن أوس بن شداد وعن غيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم
والمحجوم ) وقال أنس في حديثه: (أول ما كرهت الحجامة للصائم
أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجعفر وهو يحتجم فقال: أفطر(2/431)
هذان -أي: الحاجم والمحجوم- ) وفي الحديث الآخر: (أن النبي صلى
الله عليه وسلم مر بالبقيع فوجد رجلين يحتجمان، فقال: أفطر الحاجم
والمحجوم ) ، والكلام على (أفطر الحاجم والمحجوم) من جانبين:
الجانب الأول: معناه أساساً، والجانب الثاني: معارضته لحديث ابن
عباس . أما الكلام على نفس الحديث: (أفطر الحاجم )، الحاجم:
هو الشخص المداوي الذي يشرط الجلد ويضع القمع، ويشفط من منسم فيه
الدم، هذا هو الحاجم، والمحجوم هو الذي يشرط جلده، ويعالج
بالحجامة، ويخرج الدم من جلده، فقال العلماء: هل أفطر الحاجم
والمحجوم على الحقيقة أو على المجاز؟ ومعنى المجاز هنا: أن يكون
مآلهما إلى الفطر، يعني: أخذا بأسباب الفطر، أو تسببا بالفطر
وسيفطران، أما حمله على الحقيقة بأنهما أفطرا فعلاً فهذا فيه نظر؛
لأن الحاجم لم يخرج منه دم، هو شرط الجلد، وشفط بفيه الدم، فبم
يفطر؟ قالوا: (أفطر) يعني: كاد أن يفطر؛ لأنه لا يسلم أحياناً من
كونه يشفط الدم من الجلد إلى المحقن ثم يغلبه الدم ويدخل إلى فيه،
فيسبق إلى حلقه فيفطر، قالوا: إذاً: لم يفطر بنفس الحجامة؛ ولكن
يفطر بما يغلبه من الدم ويصل إلى جوفه، فإذا لم يصل إلى جوفه شيء
فلم يفطر على الحقيقة. أما المحجوم فإن فطره بخروج الدم. والحنابلة
يقولون: إذا شرط وشفط ولم يخرج دم فلا فطر؛ لأن الأصل في ذلك خروج
الدم. إذاً: الذين قالوا: إن الحجامة تفطر أخذوا بظاهر هذا النص،
وسواء كان الفطر على الحقيقة أو على المجاز.
خلاف الأئمة في الفطر بالحجامة
الأئمة الثلاثة رحمهم الله أبو حنيفة ومالك والشافعي يقولون: الحجامة لا تفطر، ولكن يخشى منها أن تئول إلى الفطر، ومن
هنا ينبغي أن يتجنبها الصائم سداً للذريعة؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد
يفطر، منعت القبلة لمن يخشى عليه منها مخافة أن يقع فيما هو أبعد
من ذلك، فيكون منعها سداً للذريعة. ومذهب أحمد رحمه الله وتبعه(2/432)
أكثر أصحابه -كما في المبدع والإنصاف- أن الحجامة تفطر، قال في
الإنصاف: وهو من مفردات المذهب، واختار بعض الحنابلة أنها لا تفطر،
وذكر الخلاف بين علماء الحنابلة في أن الحجامة تفطر أو لا تفطر،
ولكن الراجح عندهم في المذهب أنها تفطر. ثم ذكر الفصد، وذكر الخلاف
فيه، ورجح أنه لا يفطر، والفصد -كما أشرنا-: هو أن يقطع العرق، ولا
يجرح الجلد، يقطع العرق فيتقاطر الدم منه، كما في عملية نقل الدم
وأخذ الدم، فإن الطبيب يأتي إلى العرق مباشرة ويدخل فيه تلك
الإبرة، ويسحب الدم من العرق مباشرة. فهذا الفصد فيه خلاف عند
الحنابلة في كونه مفطراً أم لا، والصحيح عندهم أو المقدم عند
أكثرهم: أنه لا يفطر. وكذلك ينصون على أن من لم يرد أن يحتجم، ولكن
جرح نفسه بدلاً من الحجامة، وليس هناك شفط، وخرج الدم من الجرح
فإنه لا يفطر. واختلفوا فيمن أخرج الدم عن طريق الرعاف من الأنف
عامداً متعمداً، هل يفطر أو لا يفطر؟ وعلى هذا فالحجامة للصائم عند
الأئمة الثلاثة رحمهم الله أنها لا تفطر، وبالتالي الفصد، وبالتالي
الرعاف، وبالتالي الجرح، وأن للصائم أن يبط الدمل، ويقلع السن إذا
احتاج إلى ذلك، وليس فيه إبطال للصوم، وكذلك له أن يعطي الدم لغيره
إن كان يستطيع ذلك، فالذي يعطي الدم أو يأخذ الدم لا علاقة لصومه
بالدم الذي يعطيه أو يأخذه، هذا عند الأئمة الثلاثة رحمهم الله.
أما عند الحنابلة فالحجامة والفصد والرعاف والجرح موضع اختلاف
بينهم، وأما الحجامة فالراجح فيها عندهم، وهو المقدم عندهم في
المذهب أنها تفطر، وهذا القول من مفردات المذهب، واختلفوا في
الفصد، والراجح عندهم أنه لا يفطر، فإذا كانت العلة خروج الدم
فخروج الدم من العرق أكثر وأغزر من خروجه من الجلد، فلم تفطر
الحجامة ولا يفطر الفصد؟ وكذلك إذا لم تحصل الحجامة، ولم يأت
بحجام، ولكن جرح جلده وخرج الدم كما لو كان يخرج من الحجامة(2/433)
بمقداره أو أكثر أو أقل، فإذا كانت العلة خروج الدم فلم لم يفطر
بتعمده جرح يده؟ وهل الفطر يختص بشرط الجلد؟
الجمهور على أن أحاديث الفطر بالحجامة منسوخة
الحنابلة يعولون على هذا الحديث: (أفطر الحاجم والمحجوم ) ،
وهذا نص صريح، ويناقشون في الجمع بين الحديثين، والجمهور يقولون:
إن أحاديث الحجامة منسوخة بفعله صلى الله عليه وسلم. وابن القيم في زاد المعاد يقول: إن دعوى النسخ لا تثبت حتى نعلم تاريخ
الحديثين، وأيهما متأخر؟ هل فعله صلى الله عليه وسلم أم قوله
لجعفر أم قوله للرجلين عند البقيع؟ التاريخ غير معروف، ثم لا
نعلم في أي سفر كان، وهل هذا الصوم كان نافلة أو فريضة؟ ويذكر
نقاطاً، واستبعد أن حديث ابن عباس يكون ناسخاً لأحاديث
الحجامة، ويقول: دعوى النسخ لا يمكن أن نثبتها، وبقي الحديثان
متعارضان: حديث من فعله صلى الله عليه وسلم، وحديث من قوله، وإذا
تعارض القول والفعل قدم القول على الفعل. فالحنابلة يأبون دعوى
النسخ، ويقدمون أحاديث الحجامة على حديث ابن عباس ، وبعضهم
يقول: أفطر الحاجم والمحجوم لا لكونهما يحتجمان، ولكنه رآهما
يغتابان وهما يحتجمان، كانا يتكلمان وقت الحجامة، فكان حديثهما
غيبة للآخرين، فقال: (أفطرا). أي: بالغيبة. وكثير من العلماء يتندر
بهذه العلة، ويقول: وهل كل من اغتاب إنساناً يفطر؟! وأحمد رحمه
الله لما سمع هذا القول قال: لو أن العلة هي الغيبة لما سلم صوم
أحد أبداً. إذاً: كونهما يغتابان لا دخل له في هذا الموضوع. إذاً:
من الناحية الصناعية الحديثية يكون الحديثان أحدهما فعلي، والآخر
قولي، والقولي مقدم، فإذا لم نعرف التاريخ لا نستطيع أن ندعي
النسخ، وإذا وجد الفعل منه صلى الله عليه وسلم، ووجد أن الأئمة
الثلاثة على أنها لا تفطر، فلابد لترجيح مذهب الأئمة الثلاثة من
مرجح، قالوا: جاء عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه سئل: (أكنتم
تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، ولكن من أجل الإرفاق به أو(2/434)
الإبقاء عليه) ، وجاء عن أنس أيضاً قال: (ما نهى صلى الله عليه
وسلم عن الوصال في الصوم والحجامة للصائم إلا إرفاقاً بأصحابه )
، وجاء أيضاً: (ثلاث لا تبطل الصوم: القيء، والحجامة، والاحتلام )
، والقيء سيأتي فيه تفصيل، والاحتلام مفروغ منه، فبالإجماع أن من
نام في نهار رمضان فاحتلم فلا شيء عليه، بخلاف من تسبب في إخراج
المني، وهذا محله في بحث القبلة، ولكن أخرناه إلى حديث الأعرابي
الذي قال: واقعت أهلي، وستأتي تتمة البحث هناك إن شاء الله، ومن
هذه الثلاث التي لا تبطل الصوم الحجامة، وهذا محل الشاهد؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبرها مفسدة للصوم، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يحتجم في نهار رمضان، فلما تقدمت به السن
وكبر صار يؤخر حجامته إلى الليل، ومن هنا أخذ الأئمة الثلاثة -من
فعله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل أصحابه رضي الله تعالى عنهم- أن
الحجامة لا تبطل الصوم، ولكن -كما قال الشافعي رحمه الله-
يُنظر إلى الشخص في ذاته، إن كان ضعيف البنية، وإن احتجم زاد ضعفه،
واحتاج إلى أن يتناول ما يعوض ما خرج من دمه، ويلجئه ذلك إلى
الفطر؛ فهي محرمة عليه، وإن كان معتدل الصحة، لا تؤثر عليه
الحجامة، ولا تلجئه إلى الفطر فلا شيء في ذلك، وهذا أعدل الأقوال
في قضية الحجامة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
شرح حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم)
قال المصنف رحمه الله: [ وعن شداد بن أوس (أن النبي صلى الله
عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم في رمضان، فقال: أفطر
الحاجم والمحجوم ) رواه الخمسة إلا الترمذي ، وصححه أحمد وابن خزيمة وابن حبان ]. قوله عليه الصلاة والسلام: (أفطر
الحاجم والمحجوم ) ، حُمل على أنه فطر حقيقي، ومشى على هذا
الحنابلة، وحمله الجمهور على أنهما أوشكا أن يفطرا، أما الحاجم
فلإمكان سبق الدم إلى حلقه فجوفه، وهذا نظيره حديث لقيط بن صبرة حيث جاء في باب الوضوء: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )(2/435)
لماذا؟ لأن المبالغة في الاستنشاق قد تنزل الماء إلى داخل أنفه،
فيصل إلى الدماغ، فينزل إلى الحلق فيبطل صومه، فالنهي عن المبالغة
في الاستنشاق للصائم تحفظاً على صومه من أن يسبقه الماء إلى حلقه
فجوفه فيبطل صومه، وكذلك هنا منع الحاجم أن يحجم أحداً تحفظاً على
صومه من أن يسبقه الدم إلى حلقه فإلى جوفه فيفسد صومه. أما المحجوم
فهو تحفظ عليه؛ لأن في الحجامة إخراج الدم، والإنسان إنما يسير
بالدم، فالدم في الجسم هو حياة الإنسان، ويسمى الدم نفْساً كما في
قولهم: ( ما لا نفْس له سائلة إذا مات في السمن لا ينجسه) مثل:
الذباب إذا وقع في الشراب تغمسه في السائل ثم تشربه إن شئت؛ لأن
موته فيه لا ينجسه؛ لأنه لا نفس له سائلة، فالدم يطلق عليه النفْس،
وإذا خرج الدم من الإنسان اصفر وصار كالشن، أي: كالقربة الفارغة لا
قيمة له، وفارق الحياة، فإذا احتجم الإنسان يضعف قليلاً، وقد يحجمه
من لا يعرف قانون الحجامة، فيسحب كل الدم، فحينئذ ينهي دم صاحبه،
وقد يموت بين يديه! ولكن الخبراء في عمل الحجامة يعرفون المقدار
الذي يؤخذ، وفي أي موضع من المواضع، إما بتغير لون الدم، وإما
بتغير ريحه، ويعرفون الموضع الذي يحجم فيه كم يمكن أن يؤخذ منه،
ويراعون سن المحجوم، فهؤلاء لهم خبرة، فإذا لم يكن الحاجم ذا خبرة،
أو أخطأ في خبرته، وتجاوز حد ما يؤخذ من الدم، فحينئذ يكون المحجوم
على خطر. فـ(أفطر الحاجم والمحجوم) أي: أوشكا أن يفطرا.
شرح حديث: (رخص النبي بعد في الحجامة للصائم)
قال رحمه الله: [ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أول ما
كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر
به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبي صلى
الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو
صائم ) رواه الدارقطني وقواه ]. انظروا إلى فقه المؤلف رحمه
الله! ساق لنا الأحاديث التي بينها التعارض: ذكر أولاً حديث ابن(2/436)
عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم، ثم حديث: (أفطر
الحاجم والمحجوم ) ، ثم ختم البحث بحديث أنس ، ماذا في حديث
أنس ؟ أنس ممن روى الحجامة عن النبي صلى الله عليه وسلم،
وهو الذي سئل: (أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا إبقاءً
عليه) فحديث أنس هذا فصل الخطاب. [ قال: (أول ما كرهت الحجامة
للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم ) ]. انظروا إلى
عرض أنس رضي الله تعالى عنه! لم يقل: رخص النبي بالحجامة
للصائم.. لا، بل أتانا بتاريخ الحجامة شرعاً: (أول ما كرهت الحجامة )
يعني: هو مستوعب لفقه الحجامة من أولها، ما أولها؟ (أول ما كرهت)
يعني قبل قصة جعفر لم تكن مكروهة، كانت ماضية في سبيلها، وأول
ما كرهت لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جعفر يحتجم، فقال:
(أفطر الحاجم والمحجوم ) . قال: [ (فمر به النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في
الحجامة للصائم ) ]. لما أخبرنا أنس رضي الله تعالى عنه عن
بداية كراهية الحجامة بسبب احتجام جعفر رضي الله تعالى عنه،
ومرور النبي صلى الله عليه وسلم به وهو يحتجم بالفعل، وقوله لهما:
(أفطر هذان )؛ يأتي أنس بالحكم العملي والفقهي: (ثم رخص بعد
ذلك) ثم رخص بعد ذلك في الحجامة للصائم. إذاً: حديث أنس هذا
يدلنا على أن الحجامة أول كراهيتها عند قصة جعفر ، وبعد ذلك
رخص في الحجامة للصائم. إذاً: تكون الحجامة للصائم رخصة، والرخصة
تستعمل عند الحاجة، فإذا كان الصائم في حاجة إلى الحجامة نهاراً
فعنده رخصة باستعمالها، ولا قضاء عليه، أما إذا كان في غنىً عنها،
وعنده ما ينوب عنها، أو عنده سعة ويمكن أن يؤجلها إلى الليل فليست
له رخصة فيها، بل يتركها لغيرها أو يتركها لوقت آخر ليس هو فيه
صائم، وأعتقد أن حديث أنس هذا هو الفصل، وتقدم لنا عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ينظر في حالة الشخص الذي يريد أن يحتجم: إن كان(2/437)
يستطيع أن يتحمل أثر الحجامة من الضعف والفتور، ولا يلجأ إلى
الفطر؛ فلا مانع، وإن كان لا يستطيع ذلك فيمتنع من الحجامة. وهكذا
سماها أنس رضي الله تعالى عنه رخصة للصائم، يعني: لا تستعمل
إلا عند الحاجة الداعية إليها، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (اكتحل في رمضان وهو صائم)
قال رحمه الله: [ وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي
صلى الله عليه وسلم اكتحل في رمضان وهو صائم ) رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف، وقال الترمذي : لا يصح في هذا الباب شيء ]. هذا
مما يتعلق بما يكره للصائم وما يجوز، وقد تكلمنا عن الحجامة،
وذكرنا الخلاف الخفيف فيها، وقول أنس : إنها رخصة للصائم عند
الحاجة، ثم أتى المؤلف بموضوع الاكتحال، وأتى بحديث عائشة رضي
الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتحل )،
و(اكتحل): افتعل بوضع الكحل، والكحل محله العين، ومن هنا أخذ بعض
العلماء أن الاكتحال لا يضر الصائم، ولكن نص بعض العلماء أن الكحل
له حالتان: حالة يكون خفيفاً جداً لا يتعدى موضعه، وحالة يصل فيها
إلى الحلق، فإذا كان يصل إلى الحلق فقد أفطر الصائم؛ ولذا نص
الحنابلة على أن من المبطلات والمفسدات للصوم: إذا اكتحل بما يصل
إلى الجوف، وهناك أشياء تسري، وهناك أشياء لا تتعدى موضعها، ولكن
تمنع سداً للباب، وجاءت آثار فيها النهي عن الاكتحال بالإثمد
المطيب، أو الإثمد المروح. فمن أجاز الاكتحال للصائم قال: النهي عن
نوع خاص وهو الإثمد المروح -يعني: الذي فيه رائحة طيبة-؛ لأن
الصائم ممنوع من استعمال الروائح الطيبة، ولكن الإثمد مهما كان
مروحاً لا يصل إلى حد أن يمنع الصائم منه من أجل الرائحة، وكراهية
الروائح الطيبة للصائم إنما هي من قبيل باب القُبلة، قالوا: لأن
عرقا الخصيتين في الإنسان مرتبطة بالأنف، فإذا شم رائحة زكية تحرك
عليه العرقان؛ فمنعوا من الروائح الطيبة الصائم والحاج، فالحاج إذا(2/438)
أحرم لا يحق له أن يتطيب؛ لأنه مدعاة إلى الإثارة، إذاً: الطيب من
حيث هو ليس ممنوعاً، ولكن الممنوع موجب الإثارة، ومهما يكن في
الإثمد من رائحة لا تصل إلى الحد الذي يثير عند صاحبه شيئاً. إذاً:
النهي عن الاكتحال إنما هو لكونه في العين، والعين منفذ، فإذا وصل
إلى الحلق -كما قال الحنابلة- فإنه حينئذ يكون قد أدخل شيئاً إلى
الجوف عامداً، وحينئذ يمتنع عليه أن يكتحل. والذين يقولون بأن
الكحل يؤثر على الصوم يلحقون به كل معالجة للعين ما عدا الماء،
فيمنعون الَصِبر للعين، وكذا التوتياء أو الششم أو القطرة، أو أي
محلول فيه مادة كيماوية، ويجعلون كل نوع من أنواع المعالجات التي
تصل إلى الحلق تابعة للإثمد. أما علاج العين بالماء فهذا أمر جائز،
والإنسان يغسل وجه في الوضوء أكثر من مرة، ومن أنواع علاج العين
بالماء: إذا كانت هناك رجرجة أو كانت هناك حرارة، أن تأخذ كأساً من
الماء البارد العادي، وكما يقول بعض الأطباء: يبيته في الخلاء في
الليل، ثم يأخذه صباحاً، ويفتح العين فيه، ويكون الإناء مليئاً
بالماء، ويضعه على بؤبؤ العين، ويحرك حاجبيه أو رمشيه، فيدخل الماء
البارد تحت الحاجب هنا أو تحت الرمش -كما يقولون- ويصل إلى شحمة
العين، فيستخلص الحرارة منها، هذا نوع من العلاج، وينفع من ضعف
البصر في بعض الأحيان، لكن لا دخل له ولا سريان له إلى الدماغ.
إذاً: الكحل للصائم ممنوع، ويلحق به كل ما له نفوذ من العين إلى
الجوف، واعتبروا العين منفذ، والأنف منفذ، والأذن عند الحنابلة
أيضاً منفذ، وكل دواء لهذه الجهات أو عن طريقها يصل أثره إلى الحلق
فهو مبطل للصوم، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه)
قال رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم
صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه ) متفق عليه. وللحاكم (من(2/439)
أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة ) ، وهو صحيح ].
ذكر المؤلف رحمه الله من مبطلات الصيام الحجامة، والكحل، ثم جاءنا
بمن أفطر أو أكل ناسياً، وكذلك أيضاً إذا احتجم ناسياً أو اكتحل
ناسياً، فما حكم من تعاطى مبطلاً للصوم ناسياً بصفة عامة؟ يأتي
المؤلف رحمه الله بهذا الحديث: (من أكل أو شرب وهو صائم ناسياً
فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه ) . هذا الحديث يعتبر منة
من الله سبحانه وتعالى، ولطفاً من الله، فإنه لا يؤاخذ الإنسان في
نسيانه: رَبَّنَا
لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا
تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِنَا [البقرة:286]
إلخ، وقال صلى الله عليه وسلم: (رفع لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما
استكرهوا عليه ) . فإذا نسي الإنسان صومه، وتناول الماء
تلقائياً وشرب، أو تناول الأكل تلقائياً وأكل، ثم تنبه بأنه صائم،
ماذا يفعل؟ الحديث يقول: (فليتم )، تذكر أنه صائم فليمسك، ويتم
صومه بقية يومه، ولا يفطر بما أكله، قال الله: ثُمَّ
أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]
، والذي أكل أو شرب في نهار رمضان ما أتم الصوم، بل قطعه، لكن
الحديث صريح بأن الإنسان يتم صومه، وأنه فضل من الله، وقد أطعمه
الله وسقاه. وقوله: (أطعمه الله وسقاه ) هنا واضح، أكل وشرب حتى
ولو شبع، كما في بعض الآثار أن جارية دخلت على النبي صلى الله عليه
وسلم، وعنده ذو اليدين وهما يفطران، فقال: (هلم إلى الطعام )
، فجلست وأكلت، ولما انتهوا قالت: أوه! أنا كنت صائمة، نسيت. فقال
لها: أبعدما شبعتِ؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: (أتمي
صومك؛ فإنما أطعمك الله وسقاك ) . إذاً: تفسير: (أطعمه الله
وسقاه ) واضح، أطعمه ما أكل، وسقاه ما شرب، فالإطعام والسقيا
هنا حقيقة واقعية لا تحتاج إلى تأويل، بخلاف (لي طاعم يطعمني، وساق(2/440)
يسقيني ) ، فهناك فيه الإشكال، أما هنا فلا إشكال، أطعمه الله،
أي: ساق له الطعام، وعفا له عن أثره، وصحح له الصيام، فهذه منحة
جاءته من حيث لا يعلم. والأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله يقولون: من أكل أو شرب ناسياً فلا قضاء عليه،
ويتم صومه ولا شيء عليه. ومالك رحمه الله يقول: عليه قضاء يوم
مكانه. لماذا -يا مالك - فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
(أطعمه الله وسقاه ) ؟ قال: نعم، ولكن لم يقل: وليس عليه قضاء.
بل قال له: (يتم صومه )، وكونه يتم صومه فصومه ماض، لكن في بعض
الروايات: (ولا قضاء عليه ) قال: لا تصح، والله تعالى يقول: ثُمَّ
أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]،
وهذا لم يتم، (أطعمه الله وسقاه ) هذه نعمة من الله، وأنه لم
يؤاخذه على الأكل والشرب في رمضان؛ لأنه لو أكل أو شرب عامداً لكان
عليه القضاء، ومع القضاء كفارة؛ لأن مالكاً يوجب الكفارة
بالأكل والشرب، خلافاً لمن لا يوجبها إلا بالجماع. فمالك أخذ
الحديث على الرخصة أو على العفو، وطالب من أكل ناسياً بيوم مكان
اليوم، ولكن الصحيح الواضح أن من أكل أو شرب ناسياً فإنه يتم صومه،
وصومه كامل، ولا قضاء عليه، والله تعالى أعلم.
( كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [8] )
عناصر الموضوع
1 من أحكام الصيام
2 شرح حديث كفارة المجامع في رمضان
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [9]
حديث الرجل الذي جامع أهله في نهار رمضان، من الأحاديث التي استخرج
العلماء منها مئات الفوائد الفقهية، فحري بطالب العلم أن يهتم بدراسته،
ومعرفة ما يؤخذ منه من المسائل والأحكام المتنوعة.
من أحكام الصيام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: هناك مباحث تتعلق بالصوم والفطر
في السفر، وهي من متطلبات الوقت الحاضر، وفيها تتمة بيان أحكام
الصيام، تلك المباحث هي: ما المسافة التي يفطر فيها الصائم؟ ومن(2/441)
أين يفطر الصائم؟ وإذا نزل منزلاً مؤقتاً فهل يصوم أو يفطر؟ وإذا
عاد من سفره وعلم أنه سيدخل نهاراً، أيدخل مفطراً أم صائماً؟ وإذا
دخل مفطراً فهل يمسك أو له أن يأكل بقية يومه؟ وإذا وجد زوجته
مفطرة فهل له أن يأتي أهله؟ كل هذه النقاط من متطلبات بحث الفطر في
السفر.
السفر الذي يفطر فيه الصائم
أما مسافة السفر التي يفطر فيها الصائم فقد اتفق العلماء أنها هي
المسافة التي تقصر فيها الصلاة، وهذه قد حددت بالمكان والزمان،
والمكان أضبط كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه
قال: ما بين مكة وجدة، أو ما بين مكة والطائف، أو ما بين مكة
وعسفان، وحددت بالمسافة أيضاً ذرعاً أربعة برد، والبريد ثلاثة
فراسخ، والفرسخ أربعة أميال.. إلخ، وبالحساب المتعارف عليه اليوم
هي حوالى الخمس والسبعين كيلو متراً، فإذا كان الصائم يسافر مسافة
بهذا المقدار فإن هذه المسافة تعطيه حق الفطر، بصرف النظر عن نوعية
وسيلة السفر، سافرها على الأقدام في يوم أو في عشرة، سافرها على
الدواب في يوم أو في خمسة، سافرها على السيارة في يوم أو في ساعة،
مطلق قطع هذه المسافة في رمضان فإنه يعطيه حق الفطر، سواء كان في
السفر مشقة فعلاً أو لم يكن في السفر أدنى مشقة؛ لأن الأصوليين
قالوا: الرخصة من أجل التيسير رفعاً للمشقة، ولما كانت المشقة ليست
أمراً محدداً بعينه، ولكنها نسبية، فما كان مشقة في حق زيد قد لا
يكون مشقة في حق عبيد، بل ما كان مشقة على زيد اليوم قد لا يكون
مشقة عليه هو بنفسه غداً، فلاختلاف تحديد المشقة قالوا: إذاً: تناط
بالسفر الذي هو مظنة المشقة، كما جاء: (السفر قطعة من العذاب ).
فعلى هذا، فإن هذه المسافة إذا وجدت فللمسافر الحق في أن يفطر.
حكم من سافر في نهار رمضان
إذا أراد أن يفطر في سفره فمتى ينشئ الفطر؟ نجد -يا إخوان- أن
الأقوال متعددة، فهناك من يقول: من دخل عليه رمضان في بلده فلا يحق(2/442)
له أن يفطر إذا سافر؛ أخذاً بعموم قوله سبحانه: فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]،
وهذا -كما يقول ابن عبد البر وغيره- قول لم يلتفت إليه أحد؛
لأن السنة جاءت بغير ذلك. وإذا حضر الشهر، وأراد أن يسافر أثناء
الشهر، يوم ثلاثة أو يوم خمسة أو يوم عشرة، فمن حيث اليوم قالوا:
إن كان قد طلع عليه الفجر وهو في بلده، فكما قدمنا في باب تبييت
النية أن المسافر المتحقق السفر، والحائض المتحققة مجيء حيضتها
غداً على كل منهما تبييت النية، فهذا المسافر سيسافر غداً، وهو
حاجز، والتذكرة في جيبه، لكن عليه أن يبيت نية الصوم، فهو أصبح
مبيتاً لنية الصوم، فإذا أراد ضحى النهار أن يسافر، فالجمهور
-ومنهم المالكية والشافعية والأحناف- يقولون: هذا الشخص الذي أدرك
جزءاً من هذا النهار مقيماً لا يحق له أن يفطر في هذا اليوم؛ لأنه
بيّت النية، وصام جزءاً من النهار، فلا يبطل هذا الجزء، ويسافر ثم
إذا أراد الفطر فيكون من الأيام التالية المقبلة. وإذا لم يطلع
عليه الفجر في بلده، أراد أن يسافر، فتهيأ وجمع عدة السفر، وركب،
وهو في طريقه في سفره طلع الفجر وهو في أطراف البلد، فهل يفطر؟
قالوا: لا، لا يفطر حتى يغادر أطراف القرية ويخرج من حدودها،
فحينئذ له أن يفطر، كما قالوا في بداية قصر الصلاة: لا يجوز لإنسان
أن يبدأ قصر الصلاة من بيته، بل إنما يبدأ القصر بعد أن يغادر حدود
البلد، كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه خرج من الكوفة،
وواجهتهم صلاة العصر، فنزلوا في طرف البلد فصلوا أربع ركعات، فقيل
لعلي : ألسنا مسافرين؟! قال: بلى. قالوا: لماذا تتم ونحن قد
خرجنا؟! قال: لولا هذا الخصيِّص -والخصّ: مثل الحجرة من أغصان
الشجر وأعواده- لقصرت الصلاة. يعني: أن علياً رضي الله تعالى
عنه اعتبر الخصيِّص هذا من توابع القرية، وأنه لم يخرج عنها كلية.
إذاً: متى يبدأ المسافر فطره في سفره؟ القول الأول لم يلتفت إليه(2/443)
أحد من العلماء، والراجح أنه إذا سافر في أثناء النهار، وأدرك
جزءاً من النهار في بلده، فهذا اليوم الأول لا يفطره، بل يمسك ويتم
صومه، وينشئ الفطر بعد ذلك اليوم من أيام سفره، وإذا كان في البلد
وأراد أن يفطر في صومه، فلا يفطر حتى يغادر أطراف القرية ويخرج من
حدودها.
هل يفطر المسافر إذا أقام إقامة مؤقتة؟
ما حكم الفطر للمسافر إذا نزل في أثناء سفره منزلاً لحاجة؟ لنفرض
أن إنساناً سافر من المدينة إلى مكة لعمرة، أو سافر من المدينة إلى
الشام لتجارة، وهو في رمضان، وكان يفطر أثناء السير في الطريق،
فوصل البلد الذي يريده مؤقتاً، فهل يظل مفطراً بحكم السفر أو بمجرد
وصوله إلى البلد الذي نزل فيه انقطع عنه حكم السفر؟ الجمهور قاطبة
يقولون كما قالوا في قصر الصلاة: إن كانت إقامته في تلك البلدة
المؤقتة أربعة أيام فأقل فله الفطر، ولكن يكون سراً، ولا يظهر فطره
للناس، وإن كان أكثر من ذلك فليصم من أول يوم وصلها، وقالوا: إن
دليل ذلك من الحالة والعرف، واقتباساً من النص أو الفعل الذي جاء
عنه صلى الله عليه وسلم. وإن كانت إقامته في تلك البلدة مجهولة
النهاية عنده، فيختلف الحكم عن الحالة الأولى التي عرف أنها أربعة
أيام فأقل، وينقطع عنه حكم السفر، فإذا عرف أنها أربعة أيام فأكثر
محددة، عشرين، شهر، أو أكثر أو أقل؛ فإنه يرتفع عنه حكم السفر
ويصبح صائماً. وإذا لم تكن المدة معلومة، هل هي يوم أو أربعة أو
عشرة أو عشرين؟ ويشبهون ذلك بمن يسافر برفقة غيره، كأتباع التجار
وأتباع الأمراء وأتباع القادة، لا يعلمون متى تنتهي المهمة، وعندما
يرجع المسئول عنهم يرجعون معه، ولم يخبروهم متى سنرجع أو متى
سنرحل، فالمدة مجهولة عندهم، فإذا كان شخص كذلك ذهب إلى الشام
للتجارة، أو ذهب إلى مكة عمرة، وجاءت شواغل وهو لا يدري متى تنتهي،
العمرة معروف أمدها، لكن إذا كان في سفر آخر يريد أن يلقى فلاناً،(2/444)
يريد أن يصنع كذا، ولا يدري متى ينتهي التصنيع؛ فحينئذ له أن يفطر
ويقصر إلى عشرين يوماً، وما زاد عن ذلك وجب عليه الصوم، هكذا
يقولون فيمن أقام مدة لا يعلم مداها. والآخرون يقولون: ما دام قد
وصل فعليه الصوم؛ لأن مشقة السفر قد انتهت عنه، ولكن يقولون:
الثلاثة الأيام وما شابهها تتبع ما قبلها؛ لأنه لا يزال في عناء
السفر، وسيواصل السفر بعدها.
حكم من رجع من سفره وهو مفطر في نهار رمضان
إذا انتهى المسافر من حاجته، وقدم إلى بلده، وهو في العودة إلى
بلده، علم بحسب طبيعة السفر ووسيلة السفر أنه سيدخل بلده غداً في
النهار، فإذا علم ذلك، فعليه أن يدخل بيته صائماً، ويروى عن بعضهم
أنه أراد السفر في آخر الشهر -في خمسة وعشرين منه- فقال لأصحابه:
(أرى الشهر تشعشع -تششع بمعنى: تخلخل- وكاد أن ينتهي، فأرى أن نحفظ
شهرنا)، فصام وسافر صائماً ليكمل صيام الشهر، فهذا عند البداية،
وكذلك في العودة يقدم صائماً، يعني: يبيت الصوم من الليل ما دام
أنه يعلم أنه سيصل إلى بلده أو إلى بيته نهاراً؛ لأنه إذا وصل إلى
بيته مفطراً فسيمسك لحرمة الشهر، فما دام أنه سيمسك وتلحقه حرمة
شهر رمضان؛ فيبيت النية ويصوم، ويدخل صائماً، أما إذا وصل نهاراً
وكان مفطراً، فهل له أن يظل مفطراً بقية نهاره؟ الجمهور على أن
الأولى له أن يمسك لحرمة الشهر. ونجد الخلاف في قضية قد تكون
نادرة، ولكن الفقهاء رحمهم الله يذكرونها للتنبيه عليها: إذا قدم
من سفره مفطراً، ودخل البلد مفطراً، فوجد زوجه كانت مريضة مفطرة
وتعافت في نصف النهار، أو كانت فيها الدورة وارتفعت عنها ضحىً، فهي
تمسك من أجل حرمة الشهر وستقضي هذا اليوم، فلو وجدها مفطرة بعد
ارتفاع حيضتها وقبل مجيء الليل، فإذا واقع زوجه وهي على هذه
الحالة، فهو مفطر للسفر، وهي مفطرة للدورة، فهل يكون عليه كفارة في
ذلك أو ليس عليه شيء؟ المالكية والشافعية ينصون أنه لا شيء عليه،(2/445)
ونجد الخلاف عند غيرهم. إذاً: هذه مسائل من أراد الفطر في سفره في
بداية أمره، وفي أثناء طريقة، وفي حالة عودته.
شرح حديث كفارة المجامع في رمضان
قال المصنف رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول
الله! قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان. فقال: هل
تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين
متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا.
ثم جلس، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال: تصدق
بهذا. فقال: أعلى أفقر منا؟ ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا.
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب
فأطعمه أهلك ) رواه السبعة واللفظ لمسلم ]. هذا حديث من
أفسد صومه في رمضان بالجماع، والصوم يكون بالإمساك عن شهوتي البطن
والفرج، فإذا لم يمسك إحدى الشهوتين -شهوة البطن بأكل أو شرب، أو
شهوة الفرج بوطء- فماذا يكون حكمه؟ المالكية والأحناف يقولون: من
أفسد صومه بأكل أو شرب عامداً فإن عليه القضاء والكفارة، وعندهم
مبحث في نوعية الأكل -أي: للتغذي- وهذا لا حاجة للخوض فيه؛ لأنهم
انفردوا بذلك، كما لو ابتلع حصاة فإنها غير طعام، فعندهم خلاف في
المذهب، والمقدم عندهم أنه لا كفارة عليه، ويروى عن زفر ومحمد أنه إن فعل ذلك عامداً فإن عليه القضاء والكفارة، ونحن نبحث في
مسألة من أبطل صومه بأكل أو شرب عامداً، أما النسيان فقد تقدم
الأمر فيه: (فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه ) . وأما
الحنابلة والشافعية فعندهم أن من أبطل صومه بتعاطي الأكل أو الشرب
أو ما يلحق به عامداً فإن عليه القضاء فقط، ولا كفارة عليه؛ لأنهم
لا يجعلون الكفارة إلا في شهوة الفرج، وأن يكون بوطء حقيقي، وعلى
هذا فمن أفسد صومه بوطء فهو الذي عليه الكفارة، وسيأتي التعليق
أيضاً على ملحقات الأكل وملحقات الوطء.(2/446)
روايات حديث المجامع في نهار رمضان
روايات هذا الحديث وطرقه تختلف في الإيراد، ففي بعضها وصف حالة
مجيئه: (يضرب صدره، وينتف شعره، وينادي بالويل: هلكت وأهلكت يا
رسول الله! قال: وما أهلكك؟ قال: واقعت أهلي في رمضان -(واقعت
أهلي) كناية عن الجماع، وهو حقيقة في الوطء، بخلاف مقدماته- فقال
له صلى الله عليه وسلم: أتجد رقبة فتعتقها؟ فضرب على صفحة عنقه
وقال: لا أملك إلا هذه. قال: أتستطيع صوم شهرين متتابعين؟ قال:
والله! ما أهلكني إلا الصوم -أنا ما استطعت صيام رمضان فكيف أصوم
شهرين متتابعين؟!- قال: هل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا
-والله- ما عندي. قال: اجلس. فجلس الرجل، فأتي النبي صلى الله عليه
وسلم بعرق فيه تمر -تنطق هذه الكلمة بتسكين الراء أو فتحها (عرْق
أو عرَق)، وهو نوع من الأوعية المصنوعة من خوص النخل، ويسمى قفة أو
مقطف، ليس كبير الحجم- فناداه وقال: خذ هذا وتصدق به عن نفسك.فقال:
يا رسول الله! أتصدق به؟! أعلى أفقر منا؟! والله -يا رسول الله- ما
بين لابتيها أفقر مني )، واللابتان: هما الحجارة السوداء
المحيطة بالمدينة، ومعروفة بدايتها ونهايتها، فهي تأتي من الغرب من
جهة سلطانة، وتدور من وراء قباء إلى قربان إلى أن تأتي إلى قريبة،
وتقطع الخط إلى أن تنزل إلى المغرب مرة أخرى، وكما يقول بعض
المؤرخين: اللابتان محيطتان بالمدينة كالحدوة للحصان، وليس لها إلا
فتحة واحدة كالحدوة، وتلك الفتحة هي مجرى وادي العقيق، وهو المحل
الذي احتفر فيه صلى الله عليه وسلم الخندق؛ لأن اللابتين حصن طبيعي
للمدينة، لا تقوى الخيل ولا الإبل أن تقطعه، يعسر المشي عليه، فكان
مدخل المدينة الوحيد يأتي من أبيار علي، ومع وادي العقيق إلى
سلطانة، ويدخل من هناك من باب الشام، وهناك كان محل الخندق في طرف
الحرة من جهة عمائر أو فلل المدني، ويمتد إلى أطم الشيخين من الجهة
الأخرى. وعلى كل فقال: (ما بين لابتيها أحد أحوج إليه منا -هذا(2/447)
الذي تريدني أن أتصدق به لن أجد فقراء ولا محتاجين أشد حاجة إليه
منا- فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: قم فأطعمه
أهلك ) . إلى هنا انتهى عرض هذه القضية، فالشافعية والأحناف
أخذوا بهذا النص، وقالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي
أن يكفر للوقاع، ولم يأمر أحداً أن يكفر للأكل والشرب، ولكن مالك رحمه الله يروي في الموطأ عن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره صلى الله عليه
وسلم أن يُكَفِّر ) فهذا النص: (أفطر)، ولكن من صنيع مالك أنه ذكر حديث أبي هريرة في أول الباب: (رجل أفطر فأمره صلى
الله عليه وسلم أن يكفر )، وجاء بعده بهذا الحديث: (أعرابي جاء
وقال.... )، فبعض الناس يقول: حقيقة مذهب مالك أنه حمل عموم
الفطر على خصوص الوقاع؛ لأنه جاء بحديث الأعرابي ليبين نوعية الفطر
الذي أمر رسول الله بالكفارة فيه. والبعض الآخر يقول: لا، إنما ساق
الحديثين ليبين أن الكفارة لمن أفطر مطلقاً، سواء أفطر بأكل أو وطء
فعليه كفارة، ومن أفطر بوطء -كما هو المنصوص عليه- فعليه الكفارة،
والمالكية يروون عن مالك أنه يوجب الكفارة على من أكل أو شرب
متعمداً في نهار رمضان ولو لم يجامع.
حكم من أمنى في نهار رمضان بدون جماع أو أمذى
يناقش العلماء رحمهم الله مسألة: لو أن إنساناً باشر أهله ولكن لم
يواقع -بمعنى: لم يولج-، فهل عليه في تلك المباشرة من شيء؟ يختلفون
إن أمنى بالمباشرة دون الفرج، فمالك يقول: فيه كفارة، وغيره
كالحنابلة والشافعية يقولون: لا، بل عليه القضاء، ويستغفر الله،
ولا كفارة إلا بالإيلاج. وإذا باشر أهله ولم يمنِ، ولكنه أمذى، فما
حكمه؟ مالك يقول: عليه قضاء يومه، وغيره يقول: المذي لا شيء
فيه؛ لأن حكم المذي حكم البول. وإذا لم تكن مباشرة، ولكن كان هناك
مقدمات المباشرة كالقبلة، اللمس، دوام النظر، دوام التفكير، هل هذا(2/448)
يتعارض مع صومه؟ قالوا: هذه الأشياء القبلة.. اللمس.. المداعبة..
دوام النظر.. تكرار الفكر، إن أحدثت منياً فمالك يقول: عليه
القضاء والكفارة، والآخرون يقولون: إن أمنى بسببٍ كقبلة فعليه
القضاء.
دقة الإمام مالك في الأصول
سألت والدنا الشيخ الأمين عن صنيع مالك في الباب، حيث قرن
حديث أبي هريرة مع حديث قصة الأعرابي، ولم أخذ مالك الكفارة في غير الجماع مع أن النص فيه: (واقعت أهلي ) ؟ فقال:
مالك عنده دقة في الأصول؛ لأن حديث الأعرابي تناوله العلماء
بتنقيح المناط، وتنقيح المناط وتحقيق المناط مبحثان أصوليان، فمثال
تحقيق المناط: أن الله أوجب الكفارة على المحرم إن قتل صيداً فَجَزَاءٌ
مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]،
فهذا حكم موجود، ولكن بقي التطبيق العملي في حق كل صيد؛ لأن الحكم
عام، ففي كل الصيد جزاء مثل ما قتل، فلو قتل إنسان غزالاً، أو
أرنباً، أو بقراً وحشياً، فالحكم موجود فَجَزَاءٌ
مِثْلُ مَا قَتَلَ [المائدة:95]،
لكن تحقيق المناط في هذه القضية بغزال، أو في هذه القضية بأرنب ما
هو؟ يَحْكُمُ بِهِ
ذَوَا عَدْلٍ [المائدة:95]
فيحكم اثنان من ذوي المعرفة: ماذا تقولان في قتل الأرنب؟ ما هو
جزاؤه؟ ماذا تقولان في قتل الغزال؟ ما الذي يماثله؟ فتحقيق
المماثلة في كل صيد على حدة هو تحقيق المناط. لكن التنقيح: هو
كالرجل بعد حصد الغلة، أثناء دوسها يريد أن يصفي الحب من التبن،
فيعزل الحب عن التبن، فيأخذ الحب وفيه التبن، فيأخذه في غربال
وينقح، بحيث أنه يلقي الشوائب عن الحب حتى يبقى الحب صافياً، هذا
هو التنقيح -يعني: التصفية-، فيقول والدنا الشيخ الأمين رحمة
الله تعالى علينا وعليه: الجمهور نقحوا قضية الأعرابي عدة مرات،
ومالك زاد تنقيحه عليهم، والتنقيح هو إسقاط الوصف الذي لا يصلح
لتعلق الحكم به، وتعليق الحكم بالوصف المناسب له، فقوله: (جاء رجل(2/449)
-هذا محل الحكم؛ لأنه مكلف، بخلاف الصبي- يضرب صدره، ينتف شعره -هل
هذه الصفات قيد وشرط فيمن جامع حتى تكون عليه الكفارة أو كونه يضرب
الصدر وينتف الشعر لا علاقة له بالحكم؟ لا علاقة له، فهذه تنقيحة
تسقط هذه الصفات: ضرب الصدر، ونتف الشعر، يصيح ويقول: هلك وأهلكت )،
فهل من شرط وجوب الكفارة على من جامع أن يأتي يصيح يقول: هلكت
وأهلكت؟ لا، إذاً: نسقط هذه أيضاً، فلو جاء في غاية الهدوء، وفي
غاية البساطة، وأسر إلى رسول الله في أذنه، هل يتعلق به الحكم أو
لا؟ يتعلق به الحكم، إذاً: تلك الصفات قد نُقحت، نقحها الجمهور
وقالوا: يتعلق الحكم بالكفارة على الوصف المعتبر، وهو (واقعت)،
ومالك قال: صحيح، وأنا معكم إلى هنا، ولكن عندي زيادة، ما هي
الزيادة -يا مالك - على هذا؟ قال: انتهاك حرمة رمضان، وهذه
تستوي فيها (واقعت) و(أكلت). ومن هنا، بزيادة هذه التنقيحة الأخيرة
أخذ مالك من نفس هذا الحديث وهذه القضية: أن من انتهك حرمة
رمضان فعليه القضاء والكفارة.
حكم من جامع في نهار رمضان ناسياً أو مكرهاً
إذا واقع أهله ناسياً؟ تقدم في الأكل والشرب (إنما أطعمه الله
وسقاه )، فإذا جامع زوجته ناسياً وهي أيضاً ناسية أو متناسية،
فهل تلحقه الكفارة للفعل أو لا تلحقه للنسيان؟ نرجع إلى تحقيق
المناط: هل يمكن أن ينسى مثل هذا؟ يعني: هل يتصور أن إنساناً في
رمضان ينسى بأنه صائم ويواقع أهله؟ فمن قال: يمكن ذلك، فلا شيء
عليه بسبب النسيان. ومن نفى ذلك وقال: هذا مستحيل فوقائع الحال
تشهد أنه مستحيل على إنسان يكون في رمضان صائماً، ثم في ضحى النهار
ينسى أنه صائم ويواقع أهله! فإذا نسي هو وزوجته أو توطآ على
النسيان؟ قالوا: إن أمكن أن يقع بالنسيان فلا مانع، كما قالوا في
المكره: لو أكره على وقاع أهله، هل عليه كفارة؟ أو أكره الزوج
زوجته فهل عليها كفارة؟ فمن تصور إمكان وقوع ذلك بالإكراه قال: لا(2/450)
شيء عليه؛ لأنه مكره (وما استكرهوا عليه ) ، ومن استبعد أن يكون
الإكراه في هذا الفعل قال: عليه كفارة، كما قال ابن تيمية رحمه
الله وغيره: هذا الفعل لا يتأتى إلا بالاختيار، فإذا كان مكرهاً
فليست عنده الصلاحية لأن يباشر هذا العمل. وقالوا: من قال: يمكن أن
ينتصب ذكره ويباشر بإكراه السوط، أو إكراه القتل، أو إكراه كذا
وكذا؛ فلا شيء عليه، ومن قال: لا يتأتى الإكراه، وإنما أكره في
الأول ثم رغب في الحال، وباشر وهو راض راغب، فكان الإكراه في
البداية، وكان الرضا في أثناء العمل، فعليه الكفارة. إذاً: تحقيق
المناط في الإكراه والنسيان يتعلق به الكفارة وعدم الكفارة، وهذه
مسائل نادرة، ولكن الفقهاء -رحمهم الله وجزاهم الله عنا أحسن
الجزاء- بينوا هذه الوقائع، ولو كان وقوعها نادراً.
اختلاف العلماء في قدر الكفارة من الطعام
يبحث الفقهاء في قوله: (عرق من تمر)، كم كان فيه؟ الأقوال كثيرة:
عشرون صاعاً، خمسة وعشرون صاعاً، أكثر أو أقل، وإذا قلنا: إن عليه
أن يطعم ستين مسكيناً، فهل الكفارة في هذا العمل على الترتيب
المذكور أو هو بالخيار؟ الرسول صلى الله عليه وسلم سأل أولاً عن
إعتاق الرقبة، إذاً: أولاً: العتق، فإن لم يجد فصيام -كما يقول
الفقهاء ككفارة الظهار- إذاً: يبدأ الذي عليه الكفارة بعتق الرقبة،
فإن لم يجدها أو لم يجد قيمتها فالصيام، بعض الناس الآن يقولون: لا
يوجد رقاب، والمال موجود ولكن لا يوجد رقاب، وهل يوجد في بعض
البلدان الإسلامية أو لا يوجد؟ هذا شيء آخر. إذاً: بحسب الترتيب
يبدأ بالعتق، فإن لم يجدها أو وجدت ولم يجد قيمتها انتقل إلى صيام
شهرين متتابعين، والتتابع في الشهرين شرط، فلو قطع التتابع بغير
عذر استأنف من جديد، أما إذا قطع التتابع بعذر من مرض، أو امرأة
كانت تكفر وجاءتها الدورة، وقطعت من أجل الدورة فتستأنف عند رفع
المانع حالاً، فإنسان كان يصوم شهرين متتابعين وفاجأه المرض،(2/451)
وأعجزه عن الصوم، فأول ما يتعافى من مرضه ويستطيع الصوم يستأنف
حالاً.. وهكذا. ثم إن لم يستطع الصوم انتقل إلى الإطعام، والستون
مسكيناً كم إطعامهم؟ قدروا للمسكين نصف الصاع، يعني الصاع الذي
يخرج به زكاة الفطر يكفي عن نفرين، فيكون خمسة عشر صاعاً من
الطعام، سواء هيأ الطعام في بيته ودعاهم وأكلوا، أو أعطاهم إياه
ليهيئوه عندهم، فإن أخرج تمراً فالتمر طعام جاهز، وإن أخرج الأرز
-مثلاً- فهو طعام يصنع، وإن أخرج البر فيحتاج إلى طحن وغير ذلك،
فبعض العلماء يقول: يجعل مع البر أو مع الأرز ما يصلحه، والبعض
يقول: هو مقدار كافٍ. وعدد الستين هنا هل هو مقصود لذاته، فيطعم
ستين شخصاً أو هو مقدار ما يطعم الستين حتى ولو أعطاه لستة أشخاص؟
فهناك من يقول: المراد مقدار ما يطعم الستين؛ لأن الغرض المقدار،
ومالك يؤكد على أنه يجب أن يكون العدد ستين مسكيناً، ويقول:
حينما يأكل طعامك ستة أشخاص فأنت تستفيد من استغفار ودعاء ستة نفر
فقط، أما إذا جمعت العدد في الإطعام، ووزعت الكفارة على ستين
شخصاً؛ فكل واحد سيستغفر لك، وكل واحد سيدعو لك، وكل واحد سيصوم
بطعامك الذي قدمت له، ويكون لك زيادة وانفساح في الأجر.
هل على المرأة كفارة؟
الوقاع وقع من طرفين، فهل على المرأة كفارة أيضاً؟ وهل يتحملها
الزوج أو لا كفارة عليها؟ هناك من يقول: لا كفارة عليها، والكفارة
من الرجل تجزئ عن الوقاع، والمرأة لم تواقع، إنما هي محل العمل،
والعمل للرجل. وهناك من يقول: لا، إن كانت مكرهة فلا شيء عليها،
وكفارتها عليه، وإن كانت مطاوعة فعليها كما هو عليه أيضاً، ثم إن
قلنا بأنها مكرهة، وألزمنا الزوج بالكفارة، فقالوا: الرسول لم يسأل
الرجل: هل المرأة مطاوعة أو غير مطاوعة؟ والرسول لم يقل: اعتق
رقبتين عنك وعن زوجك، إنما أفتاه فيما يتعلق بنفسه فقط، وهو صلى
الله عليه وسلم يعلم بأن الوقاع لا يكون إلا من طرفين، فلما سكت عن(2/452)
المرأة سكتنا. والآخرون يقولون: على حسب قواعد الأصول أو قواعد
الفقه أو القياس أنه يلزمها الكفارة، فإذا قيل: إنها مكرهة، وقلنا:
كفارتها على من أكرهها وهو زوجها، ونلزمه الكفارة من أجلها، فهل
كفارتها مثل كفارته أم تختلف؟ إن كانت من ذوي الأموال فإن كفارتها
العتق، فعليه أن يعتق عنها، ولو عجز عن العتق لنفسه، لكن هو لم
يعتق عن نفسه فكيف يعتق عن غيره؟ وإن كانت كفارتها بالصوم فالصوم
لا يصوم أحد عن أحد، بل تصوم هي، وإن كانت كفارتها بالإطعام أطعم
عنها كما يطعم عن نفسه.
من عجز عن الكفارة فهل تبقى في ذمته؟
هذا الموطن من مباحث الصيام يتفرع عليه أشياء كثيرة، منها أنه صلى
الله عليه وسلم: (أُتي بعرق بتمر، فقال: قم فأطعمه أهلك )،
فأطعمه أهله، فهل هذا هو مقدار الكفارة؟ بعضهم يقول: الباقي دين في
عنقه، فهل الرسول قال له: كمل الباقي؟! الرسول ما قال له: أطعم
هذا، وكمل ما بقي عليك من إطعام ستين مسكيناً، بل أعطاه الطعام
وقال له: اذهب؛ ولذا هناك من يقول: المعدم يطعم قدر ما يستطيع،
ويسقط عنه الباقي. ولا نستطيع أن نستوعب كل جزئيات هذه المسألة،
ولعل في القدر الذي أوردناه الكفاية أو التنويه عن مسائل ومباحث
هذه المسألة، والله أسأل أن يوفقنا جميعاً وإياكم لما يحبه ويرضاه!
( كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [10] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [11]
مسألة انتفاع الميت بعمل الحي، من المسائل التي يكثر فيها الخلاف
والجدال، فينبغي لطالب العلم أن يعرف خلاف العلماء فيها، ودليل كل قول
فيها، ولعله بهذا يتضح له الصواب، وعليه ألا ينكر على من خالفه؛ لأن
مخالفته مبنية على أدلة، ومن عرف أقوال العلماء وأدلتهم اتسع صدره،
وكثر علمه.
شرح حديث: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،(2/453)
وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [ وعن
عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) متفق عليه ]. موضوع هذا
الحديث -وهو صيام الحي عن الميت- جزء من قضية كبرى، ألا وهي: مدى
انتفاع الميت بعمل الحي. وقوله في هذا الحديث: (من مات )، (من)
من صيغ العموم تشمل الرجل والمرأة. وقوله: (وعليه صيام ) الصيام
جنس، هناك صوم الفريضة، وصوم النافلة، أما صوم النافلة فليس بداخل
هنا؛ لأنه يقول صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه )، والنافلة
لا تكون ديناً على الميت؛ لأنها غير واجبة، والصوم الواجب ينقسم
إلى قسمين: واجب بتكليف من الله، وهو صوم شهر رمضان، وواجب بتكليف
الإنسان نفسه دون أن يكون واجباً عليه، وهذا في صوم النذر
والكفارات، فالنذر جائز، ولكن الإنسان هو الذي يلزم نفسه به. قوله:
(من مات وعليه صوم) صوم هنا نكرة، وتشمل الفرض بتكليف من الله،
والواجب بتكليف الإنسان نفسه به. وقوله: (صام عنه وليه ) وليه
أي: من أقاربه، وولي الإنسان أول من يدخل فيه عصبته، والولي هنا
ليس خاصاً بالرجال، بل يدخل فيه النسوة، فعلى القول بالصوم عن
الميت، لو أن أبناء الميت وبناته وزوجاته صاموا عنه بتقسيم الأيام
بينهم أجزأ، ولكن هذه المسألة لم يتفق عليها العلماء، هناك أحاديث
فيها عموم انتفاع الميت بعمل الحي، وهناك نص في خصوص الصلاة
والصوم، وهناك نص: (لا يصم أحد عن أحد، ولا يصلِ أحد عن أحد )،
ومن هنا وقع الخلاف فيمن مات وعليه صوم، هل يصوم عنه وليه أم لا؟
قيل: (يصوم عنه) بمعنى: يطعم؛ لأن الإطعام بدل عن الصيام. والذين
يجيزون عمل الحي عن الميت قالوا: هذا الحديث نص بأنه يصوم عنه.
والمانعون يقولون: من مات وعليه صوم المراد به: صوم النذر؛ لأنه هو
الذي ألزم نفسه به، بخلاف صوم رمضان، فالله كلفه، والله أماته؛ فلا
شيء عليه.
هل ينتفع الميت بعمل الحي؟(2/454)
ما مدى انتفاع الميت بعمل الحي؟ ينقسم العلماء إلى قسمين: قسم يبيح
ذلك مطلقاً، فيقولون: كل عمل للإنسان الحي ينفع الميت، وقسم يقابل
ذلك ويقول: لا ينتفع الميت بأي عمل من أعمال الحي، وفصل الجمهور
بين هذا وذاك، وقسموا أعمال الإنسان التكليفية من العبادات إلى
قسمين: عبادة مالية، وعبادة بدنية، فالعبادة البدنية هي ما ليس
فيها المال: كالصلاة، الصيام، الحج، الجهاد، كل هذه من أعمال
البدن، وكذلك الذكر والدعاء، وأعمال المال: كالصدقة، سداد الديون،
وكل ما يبذل فيه المال فهو عبادة مالية. نقل ابن عبد البر وابن
تيمية إجماع المسلمين على أن كل عبادة مالية فإن الميت ينتفع
بها من الحي، ومثلوا لذلك بسداد الديون، وبالصدقة عنه ابتداءً،
وبالتكفير عنه إذا كانت عليه كفارة، وكان التكفير بالمال كإطعام
ونحوه. وقالوا: جاءت النصوص الصحيحة في هذه الأصناف عن النبي صلى
الله عليه وسلم، أما تسديد الديون فمنها (أن امرأة -ومرة رجلاً-
أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وسألاه، هذا يقول: إن أبي، وتلك
تقول: إن أمي مات أو ماتت، وعليه الحج، أفينفعه أن أحج عنه؟ قال:
أرأيت -أو أرأيتِ- لو أن على أباك -أو أن على أمكِ- ديناً فقضيتيه،
أكان ينفعها ذلك؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء ).
فالرسول صلى الله عليه وسلم أحال السائل والسائلة في جواز وإجزاء
الحج عن الميت على سداد الدين، وسداد الدين بالفطرة أنه يجزئ عن
الميت، فقالوا: إذاً: من مات وهو مدين، وليس عنده ما يسدد الدين
-ولو كانت عنده تركة تسدد الدين؛ سدد من تركته، ولا حاجة إلى أحد-
فقام إنسان من ذويه أو أصدقائه أو أحد المسلمين فسدد الدين، فيسقط
عنه الطلب، وبرئت ذمته. وجاء في خصوص الدين بالذات أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان في بادئ الأمر في أول الهجرة وأول الإسلام (إذا
قدم إليه ميت ليصلي عليه يسأل: أعليه دين؟ فإن قالوا: نعم، عليه(2/455)
دين. قال: صلوا عليه أنتم. وإن قالوا: ليس عليه دين يصلي عليه.
فقدم مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ميت، وسأل وقيل: نعم، عليه
ديناران. فقال: صلوا عليه أنتم. فقام أبو قتادة رضي الله تعالى
عنه -وبعضهم يقول: علي رضي الله تعالى عنه- فقال: يا رسول
الله! صل عليه ودينه علي. قال: في ذمتك؟ قال: نعم. قال: برئت منها
ذمته؟ قال: نعم، فصلى عليه ). ثم لما جاءت الفتوحات، وجاءت
الغنائم، ووسع الله على المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (من مات
وعليه غرم فغرمه عليَّ، ومن مات وله غُنم فغنمه لذويه )، وصار
صلى الله عليه وسلم إذا أتاه ميت وعليه دين يسدد ذلك من مال
الصدقات. إذاً: الميت ينتفع من الحي بسداد دينه، وكذلك الصدقة سواء
تصدق عنه بنقد أو بطعام أو اشترى شاة وذبحها وتصدق بلحمها عنه، أو
نحو ذلك، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه بعد الهجرة كان يذبح
الشاة، ويقسم لحمها، ويقول: صدقة عن خديجة )، وخديجة أم
المؤمنين رضي الله تعالى عنها توفيت بمكة، فمن كثرة ما كان يفعل
ذلك كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تغار، والغيرة
تلحق النسوة: خديجة .. خديجة .. حتى بعد الممات خديجة ! نعم، ولم لا؟! وقد وقفت بجانبه صلى الله عليه وسلم وقفة لم يقفها
أحد معه في أشد الحالات، عندما رجع من الغار ترعد فرائصه، وقال:
(زملوني.. زملوني.. لقد خشيت على نفسي )، ما جلست بجواره تبكي،
ولكن بحصافة العقل قالت: أخبرني ماذا حصل؟ فأخبرها، فقالت له:
والله! لن يخزيك الله أبداً، إنك لتحمل الكل، وتعين على نوائب
الدهر، وتصدق الحديث، وتقري الضيف، وتفعل وتفعل... وأخذت تعدد من
مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، واستدلت بذلك على أن الذي ألمَّ
به ليس شيطاناً، وبينما هو في تلك الحالة يقول: (زملوني.. زملوني.. )
قالت: قم وانهض! -لم تغطه وتجلس بجانبه- ومضت به إلى ورقة بن نوفل -وكان قريبها- فقالت: اسمع من ابن أخيك ماذا يقول، فقص عليه، فقال:(2/456)
يا ابن أخي! هذا الناموس الذي أنزل على موسى وعيسى والنبيين من
قبلهم، ليتني كنت فيها جذعاً ليتني أكون حياً حينما يخرجك قومك
فأنصرك. فقال: (أوهم مخرجي يا عم؟! ) قال: نعم، ما جاء أحد
قوماً بمثل ما جئت به إلا عودي وأوذي. فهذه هي خديجة ! ولما
اشتد الأمر على المسلمين، وانحازوا إلى الشعب، وكتب الكفار صحيفة
المقاطعة، دخلت معه، ثم في يوم أحس وقال لها: (يا خديجة ! لقد
أكثرت عليك، وأسرفت في مالك على الضعفاء )، فشق عليها ذلك،
وجمعت سادة قريش، وجاءت بكل مالها وقالت: هذا مالي بين يدي محمد،
والله! لا أسأله عن شيء أنفقه، ولا عن شيء تركه. هذه هي خديجة رضي الله تعالى عنها! واختبرت جبريل، قالت للنبي عليه الصلاة
والسلام: هل تستطيع أن تخبرني حينما يأتيك؟ قال: (نعم، قالت: افعل.
فلما أن جاء جبريل قال لها: لقد أتى. قالت: قم فاجلس في حجري. فقام
فجلس في حجرها، قالت: اقعد على فخذي. فقعد على فخذها الأيمن، ثم
الأيسر، قالت: أتراه؟ قال: نعم أراه، نعم أراه، فحسرت عن رأسها
-كشفت رأسها- وقالت: أتراه؟ قال: لا، قالت: اثبت، إنه ليس شيطاناً،
إنه ملك، لم يرض أن ينظر إلى شعري ). ومن الغد تخرج خديجة بطعام لرسول الله وابن عمه علي رضي الله تعالى عنه إلى جبل
أجياد، وكانا يخرجان يتعبدان هناك بعيداً عن قريش، فلقيها جبريل في
صورة رجل فقال: أين تذهبين يا خديجة ؟! قالت: لي حاجة. قال:
أين محمد؟ قالت: لا أدري، خافت عليه منه، فلما جاء جبريل إلى رسول
الله قال: يا محمد! السلام يقرئك السلام، ويقرئ خديجة السلام،
ويبشرها بقصر من قصب، لا نصب فيه ولا صخب. فكان صلى الله عليه وسلم
يتصدق عنها، ولما قالت عائشة مقالتها، قال: (وما لي لا أفعل
ذلك ولي منها الولد، وآمنت بي أولاً، وآزرتني بنفسها ومالها؟! ).
والذي يهمنا: أنه صلى الله عليه وسلم كان بنفسه يتصدق عن خديجة . إذاً: الميت ينتفع من عمل الحي إذا كان العمل مالاً ينفق: سداد(2/457)
دين، أو أداء كفارة، أو صدقة مطلقة.
خلاف العلماء في جواز إهداء ثواب الأعمال البدنية للموتى
يقول ابن تيمية رحمه الله: العبادات البدنية هي التي فيها
النزاع. إذاً: العبادة المالية لا نزاع فيها، والخلاف في العبادة
البدنية: الصلاة، والصيام، والحج، يقول شارح الطحاوية رحمه الله
-والطحاوي من علماء القرن الثالث الهجري، وشارح كتابه من علماء
القرن السابع أو السادس-: إن الحج عبادة بدنية، والفقهاء يقولون:
هو جامع بين البدن والمال، وهو يقول: الحقيقة أنه بدني محض، والمال
مساعد له، بدليل أن القادر على المشي من أهل مكة يتعين عليه الحج
ماشياً، ولا حاجة له إلى المال، ولكن الآفاقي يحتاج إلى المال
للسفر وللسكنى... إلخ. وباتفاق علماء المسلمين أن الميت ينتفع بحج
غيره عنه، كما جاء في سؤال الرجل عن أبيه والمرأة عن أمها: إن أبي
مات وعليه حج، أينفعه أن أحج عنه؟ إن أمي ماتت وعليها حج، أينفعها
أن أحج عنها؟ والمرأة أو الرجل الذي قال: إن أبي شيخ كبير لا يقوى
على الثبات على الراحلة، وخشيت إن أنا ربطته عليها أن يهلك، أفحج
عنه؟ قال: (نعم )، فهذه الصور في الحج، وسمع الرسول صلى الله
عليه وسلم رجلاً يلبي حول البيت ويقول: لبيك اللهم عن شبرمة .
فقال: (ومن شبرمة هذا ؟ قال: أخ لي أو قريب. قال: أحججت عن
نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك أولاً ثم حج عن شبرمة ).
إذاً: بإجماع المسلمين أن الميت ينتفع بحج الحي عنه، وهناك خلاف
عند المالكية إذا مات الرجل وقد وجب عليه الحج ولم يحج ولم يوصِ،
قيل: لا يحج عنه، هو الذي قصر في نفسه. والآخرون يقولون -كما يقول
الشافعي -: من مات وقد وجب الحج عليه ولم يحج، وبقي في ذمته
فمات، فيتعين على الورثة أن يخرجوا من تركته ما يحجج غيره عنه من
بلده؛ لأنه حق في ذمته تعلق بالتركة. فهذا الشافعي يوجبه
وجوباً، ويقدمه على الوصايا الأخرى، ويقدمه على الوارث، ولا يقدم(2/458)
عليه إلا الدين. إذاً: باتفاق المذاهب الأربعة أن الحج -وهو عمل
بدني- يجزئ عن الميت، فمن مات ولم يحج، فيجوز أن يحج عنه غيره،
وينتفع به وإن لم يكن قد وجب عليه، فيكون له أجر حج النافلة،
وللحاج عنه مثل ذلك الأجر. بقي حكم إهداء ثواب الصلاة، والصيام،
وذكر اللسان من دعاء واستغفار وتلاوة القرآن للموتى. أما الصلاة:
فيحكون النزاع فيها لحديث: (لا يصلي أحد عن أحد )، وبعضهم ينازع
في ذلك؛ لأن في ضمن الحج صلاة ركعتي الطواف عن الميت، فهي ضمن عمل
الحج، وأجزأت عن الميت، وجاء في الحديث: (جاء رجل إلى النبي صلى
الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! كان لي أبوان أبرهما، فكيف لي
ببرهما بعد موتهما؟ فقال: أن تصلي لهما مع صلاتك، وتصوم لهما مع
صيامك، وتبر من كانا يبرانه ) يعني: تصل أصدقاءهما وأقاربهما،
فقال صلى الله عليه وسلم في إرشاد الذي طلب بر أبويه بعد موتهما:
(أن تصلي لهما مع صلاتك)، فقال في هذه الكلمة (تصلي لهما)، لكن نجد
المانعين يقولون: المعنى: تدعو لهما في صلاتك، ولكن الأصوليين
يقولون: لا يجوز حمل اللفظ الواحد على المعنيين المختلفين في وقت
واحد، فالصلاة لها معنى لغوي وهو الدعاء، ومعنى شرعي وهو الركوع
والسجود والتحية، فهؤلاء قالوا: (تصلي لهما مع صلاتك) فقوله:
(صلاتك) أي: ذات الركوع والسجود الشرعي، وقوله: (تصلي لهما) أي:
الدعاء! فإما أن تجعلوها الدعاء في الموطنين، وإما أن تجعلوها
الصلاة الشرعية في الموطنين، وأما أن تشكلوا بهذا وبهذا فالأصوليون
يمنعون ذلك. فهذا حديث يثبت أن من بر الوالدين بعد موتهما أن تصلي
لهما، وليس المراد: صلاة الفريضة، فالفريضة انقطعت (إذا مات ابن
آدم انقطع عمله )، ولكن ذلك في النافلة، أصلي ركعتين وأقول:
لأبوي، أو ركعتين لأبي، وركعتين لأمي. وقوله: (وتصوم لهما مع صومك )،
في النافلة أيضاً، فكما تصوم تطوعاً لنفسك تصوم أيضاً تطوعاً لهما.(2/459)
وهذا الحديث من ضمن أدلة القائلين انتفاع الميت بأعمال الحي، (من
مات وعليه صوم، صام عنه وليه)، فهو انتفع بصوم الولي، وانقضى الدين
عنه.
حكم الدعاء للميت وقراءة القرآن له
هل ينتفع الميت بالدعاء؟ يقول ابن تيمية رحمه الله: هذه
العبادة ينتفع بها الميت بإجماع المسلمين، ومن جحدها فقد كفر،
يقول: نصلي صلاة الجنازة إذا مات الميت ولا نعرفه، فتشرع الصلاة
عليه، وهي تشتمل على الفاتحة، والصلاة والتسليم على سيدنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم، والدعاء للميت، فإذا كان الميت لا يستفيد
ولا ينتفع من دعاء الأحياء لما كان للصلاة عليه فائدة، وفي القرآن
الكريم: وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]،
فهذا القرآن يسجل دعوات المسلمين الأحياء للمسلمين السابقين
بالإيمان، وهذا جائز بإجماع المسلمين. وقالوا: كذلك تلاوة القرآن؛
لأنها عبادة بدنية قولية، فإذا قرأ الإنسان قرآناً يبتغي به وجه
الله، ثم جعل هذا القرآن لميته وصله، يقول ابن تيمية رحمه
الله: هذا باتفاق العلماء، وإنما نازع في ذلك الشافعي رحمه
الله، وبعض أتباع المذاهب الأخرى، ويلحق بالقرآن الذكر والدعاء،
فإذا سبح الله كذا، استغفر الله كذا، كبر الله كذا، وقال: يا رب!
هذا لميتي. فإنه يصله، وأطال الكلام في ذلك، وروى ذلك عن كثير من
سلف الأمة، وذكر نزاع الناس في مسألة التردد إلى القبر لقراءة
القرآن، قال: أما في أول مرة عند دفنه فيجوز؛ لأن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أوصى أهله إذا دفنوه، أن يمكث الماكث عند
قبره، ويقرأ أوائل سورة البقرة وخواتيمها وخواتيم سورة الحشر، أما
أن يتردد ويتخذ ذلك عادة، فقال: هذا لم يفعله السلف، وليس بجائز.
ولو كان إنسان لا يقرأ، هل يجوز أن يستأجر من يقرأ؟ قال ابن تيمية : هذا عمل لم يعمله السلف قط. ولكن إن كان ولي الميت أعطى من يقرأ(2/460)
لميته نظرنا: هل هو فقير أو غني؟ فإن كان غنياً فليس له ولا لميته
شيء من ذلك؛ لأن من أخذ الأجرة من الخلق فليس له عند الخالق أجر؛
لأن الثواب مبني على الإخلاص وابتغاء وجه الله، وهو أخذ نقداً ممن
أعطاه، فتعجل الأجر مسبقاً فلا أجر له عند الله، إذاً: ليس عنده ما
يهديه للميت. وأما إن كان الآخذ فقيراً، وأخذ المال ليستعين به على
القراءة؛ فإن له ذلك، وأقل ما يكون أن ما دفعه ولي الميت لهذا
القارئ من سبيل الصدقة؛ لأنه فقير محتاج. نخلص من هذا كله -أيها
الإخوة- أن هذه النصوص في هذه القضية تثبت استفادة الميت من عمل
الحي.
أدلة من قالوا: لا ينتفع الميت بعمل الحي
نحن قدمنا سابقاً في قضية مروان بن الحكم في مسألة صيام الجنب،
أنه لابد أن نطلع على أدلة الفريق الآخر، وكيف نرد عليها، فالذين
منعوا استفادة الميت من عمل الحي قالوا: جاء في الحديث عنه صلى
الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث:
ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به، أو صدقة جارية )، وجاء في
القرآن الكريم: وَأَنْ
لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]
. ويجيب على ذلك شارح الطحاوية وابن تيمية رحمهما الله بأجوبة
متعددة، وخلاصة ذلك: أن في الحديث أنه انقطع عمله المباشر، أما
عمله بالواسطة الذي تسبب به في حياته، فلا نقطع، كالصدقة الجارية،
مثل أن يكون بنى مسجداً، أجرى نهراً، حفر بئراً، بنى مسكناً
للمساكين، فهذه صدقة جارية من بعده، وهي من عمله، فيقولان: هذا
الميت حينما كان حياً، وصلته بالمسلمين عموماً كانت حسنة، وكان
يتودد إليهم ويساعدهم ويتألفهم، فهو أوجد لنفسه عندهم تعاطفاً معه؛
فلما مات تصدقوا عليه، فلما مات صاموا عنه، فلما مات قرءوا له،
فهذه القراءة التي جاءت من الغير لهذا الميت هي من عمله، وما هو
عمله؟ هو حسن علاقته معهم في حياته، أليس عطف قلوبهم عليه، وصحبتهم(2/461)
له، وتذكرهم له بالدعاء والمغفرة؛ نتيجة لعمله معهم؟ بلى هو من
عمله. وأما قوله تعالى: وَأَنْ
لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]،
فسعيه وكسبه بالسعي انتهى، ولكن الآية لم تمنع أن ينتفع بسعي غيره،
نعم إن صلاة غيره لمن صلى، وصدقة غيره لمن تصدق، وليس للميت شيء،
فهذا الذي سعى بصلاة أو بصيام سعيه له، فبالقياس الصحيح أنه لما
أصبح سعيه له فهو حر فيه: إن شاء أمسكه لنفسه، وإن شاء قدمه للميت،
فإذا سعى إنسان حي لتحصيل الأجر من أي عبادة كانت، فأصبح الأجر
ملكاً لهذا الساعي وهو على قيد الحياة، ولما أصبح ملكاً له، فله أن
يضعه حيث شاء. وذكر شارح الطحاوية مثالاً: الأجير يعمل ويؤدي
الخدمة لمن استأجره ويأخذ الأجرة، وبعدما يأخذ الأجرة يضعها حيث
شاء، يستبقيها لنفسه، يعطيها لوالده، يعطيها لولده، وله أن يعطيها
للميت كما يعطي الآخرين. قالا: لا تعارض بين قوله: (تصوم لهما مع
صومك، وتصلي لهما مع صلاتك )، وقوله: (من مات وعليه صوم صام عنه
وليه )، وبين حديث: (انقطع عمله )، فهذا عمله الشخصي، ولم
يقل الحديث: ولم ينتفع بعمل الغير، بل قال: (انقطع عمله ) هو،
ولم ينفِ أن ينتفع بعمل الغير، إذاً: عمله انقطع، وجاءته المنفعة
من عمل الغير، والحديث لم يمنع ذلك، وكذلك الآية الكريمة. قالوا:
وقوله تعالى: وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]،
تدل على أن العقاب لا يتحمله إنسان عن ذنب إنسان آخر، وهذا لا دخل
له في ذلك. أيها الإخوة! نكون في الجملة قد عرجنا على الجانب
الأول، وهو: أن الميت ينتفع بعمل الحي، سواء كان الانتفاع مالياً
أو بدنياً، وذكرنا القول المخالف وما استدلوا به، وجواب العلماء
عنها، وبالله تعالى التوفيق. ونأتي لفقه الحديث: مذهب مالك والشافعي وقول عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه لا صيام عن
الميت، ولكن يطعم عن كل يوم مسكيناً، ومذهب أحمد رحمه الله(2/462)
وبعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب مالك أنه إن صام عنه أجزأ
عنه، وبرئت ذمته من ذلك، والله تعالى أعلم.
134748 ( كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [1] )
( كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [1] )
عناصر الموضوع
1 فضل الصيام في سبيل الله
2 فضل صيام أكثر شعبان
3 فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر
4 حكم صيام المرأة تطوعاً مع وجود زوجها
5 حكم صيام يوم الفطر ويوم النحر
كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [2]
الإنسان بطبيعته البشرية يقع في الذنوب والخطايا، وليس معصوماً منها
إلا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولكن من رحمة الله عز وجل أن
جعل للعبد أبواباً كثيرة يكفر بها خطاياه ويضاعف بها حسناته، ومن هذه
الأبواب باب صوم النوافل، فعلى العبد أن يستغل الفرصة ويكثر من صوم
النوافل ليكفر الله عنه سيئاته وخطاياه ويرفع درجاته.
فضل الصيام في سبيل الله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [ وعن أبي سعيد الخدري رضي
الله تعالى عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد
يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النار
سبعين خريفاً ). متفق عليه واللفظ لمسلم . يسوق المؤلف هذا
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله )،
و(في سبيل الله) يرى بعض العلماء أن ذلك في الجهاد، فإذا خرج
الإنسان للجهاد، وكان مرابطاً على الحدود لحفظ وصيانة حدود البلد
الإسلامي، وليس هناك كر ولا فر، وليست هناك معركة، ولكنه جالس على
حدود البلاد فصام يوماً فهذا اليوم في سبيل الله، ويرى آخرون أن
المعنى أعم، وأن من صام يوماً في سبيل الله أي: بدون دافع، وبدون
سبب معين، لا هو كعرفات يكفر سنتين، ولا هو كعاشوراء يكفر سنة، ولا(2/463)
هو كست من شوال يعادل مع رمضان صيام الدهر، ولا هو كثلاثة أيام من
كل شهر، بل بدون أي سبب ولم يرتبط بأي موجب، ولكن في يوم من الأيام
وجد نشاطاً فقال: أصوم غداً في سبيل الله، أو أصوم غداً لوجه الله،
فهذا يترتب عليه ما جاء في هذا الحديث: (باعد الله به -أي: بهذا
اليوم- عن وجهه النار سبعين خريفاً )، والخريف هو عبارة عن جزء
أو فصل في السنة، والسنة فيها فصل الخريف واحد، وفصل الربيع واحد،
وفصل الشتاء واحد، وفصل الصيف واحد، فإذا قيل: سبعون خريفاً، أو
سبعون ربيعاً، أو سبعون شتاءً فمعناه سبعون سنة؛ لأن الفصل المذكور
ليس مكرراً في السنة مرتين، حتى نقسم العدد على اثنين وإنما سبعون
خريفاً، أي: سبعون سنة، وهذا يدل على عظيم فضل الله سبحانه وتعالى
على عباده حيث يقبل القليل، ويجازي بالكثير، فهذا صوم يوم واحد
يباعد الله به بين وجهه وبين النار سبعين خريفاً، ولم يقل: سبعين
يوماً، أو سبعين ساعة، أو سبعين أسبوعاً، أو سبعين شهراً، ولكن
قال: سبعين خريفاً أي: سبعين سنة، وهذا من عظيم فضل الله سبحانه
وتعالى، ومما يتعلق بفضل الصوم ما جاء في الحديث القدسي وهو يشهد
لهذا: (كل عمل ابن آدم له والحسنة بعشر أمثلها إلا الصوم فإنه لي
وأنا أجزي به )، وكما قال تعالى: إِنَّمَا
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
ورمضان يسمى شهر الصبر، وعلى هذا يكون المؤلف رحمه الله أراد أن
يرغب في الصوم تطوعاً مطلقاً، ولو لم يكن في هذه الأيام نص وارد
فيها بعينها.
فضل صيام أكثر شعبان
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى
نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام
شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان )،
متفق عليه واللفظ لمسلم . في حديث أم المؤمنين عائشة رضي(2/464)
الله تعالى عنها عدة قضايا: القضية الأولى أنه صلى الله عليه وسلم
كان أحياناً يداوم الصوم حتى يقول أهل بيته: لا يفطر، وأحياناً
يداوم الفطر حتى يقول أهل بيته: لا يريد أن يصوم، أي: أنه ليس في
هذا العمل منهج مقعد مرتب منظم كالمشروع وهو رمضان كما قال تعالى: فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]
وما عداه فهو عمل اختياري، إن شاء صام وإن شاء أفطر، فليس فيه
التزام بزمن معين في صوم ولا زمن معين في فطر، وهذا هو عين التطوع
أنه إنما يكون باختياره، وهذه قاعدة هامة جداً لئلا يكون للإنسان
في النوافل منهج التزام كالفرائض، وأما حديث: (إن أحب العمل إلى
الله ما داوم عليه صاحبه )، فنقول: نعم، هذا إذا داوم عليه
رغبة، وإذا داوم عليه دون إلزام ودون التزام له حتى لا يوهم أنه
مفروض عليه. القضية الثانية في الحديث: (ما رأيته أكمل صيام شهرٍ
قط إلا رمضان ). والقضية الثالثة في الحديث: كثرة صيامه صلى
الله عليه وسلم في شعبان، ولذا قالت: (أكثر ما رأيته يصوم في شعبان )،
وجاء في روايات منها: (كان يصومه كله ) (كان يصومه إلا أقله )،
فأخذ العلماء من (كله) جواز صوم شهر شعبان كاملاً، ولكن قولها رضي
الله تعالى عنها: (وما رأيته أكمل صيام شهر قط إلا رمضان)، فيه أنه
كان يكثر الصوم في شعبان.
سبب إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم في شعبان
وهنا يعلل العلماء كونه صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم في شعبان مع
أنه ليس من الأشهر الحرم، وقد جاء في الحديث (جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم في المحرم فسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم
فرد عليه السلام، فقال: أما عرفتني يا رسول الله! قال: لا، قال:
أنا الذي جئت إليك العام الماضي في مثل هذا، قال: ما لي أرى جسمك
نحيلاً؟ -أي: نحل جسمك عن العام الماضي- قال: منذ فارقتك يا رسول
الله! ما طعمت طعاماً نهاراً قط، أديم الصوم، فقال صلى الله عليه(2/465)
وسلم: من أمرك أن تعذب نفسك؟! صم من الأشهر الحرم وأفطر ) وفي
بعض الروايات: (صم شهر الصبر -يعني: رمضان- ويوماً بعده، قال: إني
أقوى قال: صم شهر الصبر ويومين بعده ) إلى أن ذكر له خمسة أيام،
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهذا الرجل: صم من الأشهر
الحرم، فالصوم في الأشهر الحرم بمقتضى هذا أفضل منه في شعبان،
فلماذا كان يكثر الصوم في شعبان؟ يجيب العلماء عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: وهو جواب الجمهور قالوا: قد جاء عنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (هذا شهر يغفل الناس عنه ما بين رجب ورمضان )،
يعلق على هذا بعض العلماء ويقول: أي: أن الناس كانوا يهتمون بصوم
رجب، ويهملون شعبان، ويصومون رمضان، إذاً: صوم رجب مندوب إليه،
وكان معلوماً لديهم، وهناك من السلف من كان يصوم شهر رجب وشعبان
ورمضان، والبعض كان يكره ذلك؛ لأن فيه تشبيهاً لها برمضان، ويقول:
يستحب أن يفطر من كلٍ من رجب، ومن شعبان بعض الأيام حتى لا يحاكي
بهما رمضان، أما الجواب الثاني: فهو عن عائشة رضي الله تعالى
عنها، قالت: كان ربما يجتمع عليه صلى الله عليه وسلم صيام الثلاثة
الأيام من كل شهر؛ لأن صوم ثلاثة أيام من كل شهر من المندوبات، كما
في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أوصاني خليلي بثلاث:
صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وألا أنام حتى أوتر )،
فصوم ثلاثة أيام تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: ربما شغل
عنها بسفر، أو بمشاغل أخرى فتتراكم عليه هذه الأيام الثلاثيات فكان
يصومها في شعبان. وهناك جواب ثالث وهو: أن زوجاته أمهات المؤمنين
رضي الله تعالى عنهن كنَّ من أدركتها الدورة منهن في رمضان تفطر،
ثم تؤخر قضاء أيام رمضان إلى أن يأتي شعبان، فيصمن ويقضين ما عليهن
من رمضان في شعبان، فكان يصوم معهن إرفاقاً بهن، وقد جاء عن أم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: كنت يكون عليَّ(2/466)
القضاء من رمضان فلا أتمكن من قضائه إلا في شعبان لكثرة ما يصوم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعله كان يصوم أكثر شعبان حتى يعطي
الفرصة لزوجاته أن يصمن ويقضين ما عليهن من عدة أيام من رمضان،
والله تعالى أعلم.
فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال:
(أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام:
ثلاث عشر، وأربع عشر، وخمس عشر )، رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان . حديث صيام ثلاثة أيام من كل شهر، جاءت فيه
زيادة في حديث أبي هريرة بتعيين الأيام، وهي الثالث والرابع
والخامس عشر من كل شهر، يعني: الأيام التي يكون القمر مكتملاً ضوءه
فيها والناس مختلفون في ذلك، فمالك يرى أن الحسنة بعشر
أمثالها، واليوم عن عشرة فيقول: يجعل عن كل عشرة أيام من الشهر
يوماً، فيأخذ يوم واحد ويوم أحد عشر، ويوم واحد وعشرين، ففي كل
عشرة أيام يصوم يوماً، وغيره يقول: يصوم ثلاثة أيام بدون تحديد كما
في رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، لكن هنا جاء التحديد
بثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر، وأما حول التعيين في هذه
الأيام بالذات، فقد تقدم لنا في الحجامة أنهم يستحبونها بالنسبة
لجزء النهار في الظهر، وبالنسبة لأيام الأسبوع يوم الأربعاء،
وبالنسبة لأيام الشهر الخامس والسابع والتاسع عشر، وقالوا: إن
الحجامة يوم الخامس والسابع والتاسع عشر أحسن، ويكرهونها في الخمسة
الأوائل من الشهر والخمسة الأواخر منه، ويستحبونها من نصفه وما
بعد، هكذا يقولون، والأطباء وأهل الطب النبوي والطب العربي يعللون
استحباب الحجامة في منتصف الشهر فما بعد ويقولون: حينما يكتمل ضوء
القمر يكون في الدم هيجان، فإذا جاءت الحجامة أخذت هيجان الدم هذا،
وبعض المتأخرين يقولون: إن عملية المد والجزر في البحار مرتبطة
باكتمال ضوء القمر، ويقولون: إن جسم الإنسان -كالبحر- مليء بالدم(2/467)
فإذا اكتمل ضوء القمر هاج الدم كما يهيج البحر بالمد والجزر،
فيقولون: جاءت السنة بحكمة وهي: أن الصوم من طبيعته أن يكسر حدة
الشهوة، وأن يخفف من حركة الدم في الجسم، فإذا ما صام تلك الأيام
التي فيها هيجان الدم نقص الغذاء على الدم، وإذا نقص الغذاء على
الدم خفت حدته ولم يكن فيه إثارة على الإنسان كما لو اكتمل طعامه
وشرابه في تلك الأيام، والله تعالى أعلم.
حكم صيام المرأة تطوعاً مع وجود زوجها
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها
شاهد إلا بإذنه )، متفق عليه واللفظ للبخاري زاد أبو داود (غير رمضان ). لا يحل لامرأة مؤمنة ملتزمة بالكتاب والسنة
وملتزمة بحق الزوج عليها أن تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه إلا رمضان،
وصوم المرأة هو كصوم الرجل، فعندها رمضان وعندها عدة من أيام أخر،
وعندها كفارة، وعندها نوافل الصوم، مثل صيام ثلاثة أيام من كل شهر،
وعاشوراء، والإثنين والخميس، فإذا كان صوم المرأة فرضاً معيناً
فليس للزوج منعها، مثاله: نذرت أن تصوم يوم مجيء ولدها من السفر،
فجاء فصامت؛ لأنها تعين عليها الصوم يوم مجيئه، كأن جاء بالليل
وبيتت الصوم وأصبحت صائمة، فبمجيء ولدها أصبحت ملزمة بالنذر وهو
فرض عليها لا يحق للزوج أن يمنعها؛ لأنه فرض محدد بزمن، ولو منعها
فسيفوت النذر عليها، أما ما عدا ذلك، كقضاء رمضان فليس محدداً
بزمن؛ لأن هناك عدة من أيام أخر، وها هي أم المؤمنين عائشة رضي
الله تعالى عنها كانت يكون عليها قضاء من رمضان، وتأجله إلى أن
يأتي شعبان حينما يكثر صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا
قالت: لمكانة رسول الله مني؛ لأن الرسول له دورة على زوجاته، فإذا
جاء دورها وجدها غير صائمة. وكذلك رمضان لا يحق له منعها؛ لأن وقته
مجدود، وهو حق لله فرضه عليها وعليه، فلا يحق له أن يمنعها؛ لأن(2/468)
أذنها بيدها وأمرها من عند الله، إذاً: لا يحق لامرأة أن تصوم غير
رمضان، وغير ما يساوي رمضان من النذر المعين إلا بإذن زوجها، وأما
غير ذلك فالأولى أن يسمح لها؛ لأن الله تعالى يقول: وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]،
ولا ينبغي أن يضيق عليها ويمنعها. ومن هنا ينبغي أن نعلم بناتنا
وزوجاتنا حق الزوج على زوجته، فهذا الصوم وهو عبادة لله، ومن أعظم
القربات عند الله، ومع هذا يمنعها الشرع أن تصوم إلا بإذن زوجها،
يا سبحان الله! يشترط إذن الزوج على عبادة الله! نعم، لعظم حقه؛
لأن حق الزوج على زوجته ليس بالأمر الهين، وخاصة فيما يتعلق
بالزوجين مع بعضهما؛ لأنه لا عوض عنها، ولا بديل منها، فهي أحق
الناس بالوفاء بحقه. ولذا جعل المولى سبحانه القوامة في البيت
للرجال قال تعالى: الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا [النساء:34]،
بالفضل الذاتي للرجولة على النسوة، وبما أنفقوا، ولهذا جاءت النصوص
عديدة في هذا الباب ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأة
طلبها زوجها ولو كانت على ظهر قتب، فامتنعت إلا كان الذي في السماء
ساخطاً عليها ) وقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة باتت
وزوجها ساخط عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح ). فالرسول صلى
الله عليه وسلم عظَّم حق الزوج على الزوجة، ومن ذلك ما جاء في
الحديث العظيم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن
تسجد لزوجها ) ليس سجود عبادة وإنما سجود تحية، وكذلك الزوجة
لها حق على زوجها، وعليه أن يوفيها حقها، بل ينبغي أن يوفي الزوج
الحق الذي عليه أولاً، ثم يطالب بحقه ثانياً. إذاً: الحياة الزوجية
عشرة ومعاشرة، وازدواج وتبادل منافع، قال تعالى: وَلَهُنَّ
مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]،
وقال سبحانه: هُنَّ(2/469)
لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187]،
فلابد من المعادلة في هذه المسألة، ولكن يعظم حق الزوج على المرأة
فيما يكون له من حق الإذن أو الرفض في عبادة لله سبحانه.
حكم صيام يوم الفطر ويوم النحر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى
عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم
الفطر ويوم النحر ). متفق عليه ]. نحن نعلم جميعاً أن أيام
السنة إنما هي دورة فلكية للشمس.. سبتها.. وأحدها.. وخميسها..
وجمعتها؛ كلها دورة من شروق الشمس إلى غروبها، ولكن الله سبحانه
وتعالى قد يفضل بعض هذه الأيام على بعض لما تشهده من الأحداث، وقد
فضل شهر رمضان على بقية الشهور وهو أيضاً دورة زمنية وإن كان في
جملته دورة قمرية فأيامه دورة شمسية، ففضله على غيره من الشهور لما
شرفه به من إنزال القرآن الكريم فيه، بل أنزل فيه جميع الكتب
السماوية، وكذلك شرف وفضل من أيام الأسبوع يوم الجمعة، ومن أيام
السنة الفردية يوم عرفات، بل فضل من يوم الجمعة الذي هو فضيل ساعة
من الساعات فيه، وفضل ليلة من شهر رمضان المبارك على غيرها، وجعلها
خيراً من ألف شهر، كل ذلك لما تشهده تلك الأيام والليالي من
الأحداث. ويوما العيد في الإسلام كرمهما الله وشرفهما وجعلهما يومي
مكرمة لعباده، ولكأنهم في هذين اليومين في ضيافة المولى سبحانه
وتعالى، وما ذلك إلا لوفاء المسلمين بما عهد الله إليهم، وقيامهم
به خير قيام، فكان هذا جزاءً لحسن عملهم وإكراماً لطاعتهم ربهم،
ويوما العيدين هما: يوم الفطر ويوم الأضحى، أما يوم الفطر فكما
نعلم جميعاً أنه يأتي على رأس تمام صيام شهر كامل، فالأمة تصوم شهر
رمضان، وتراقب ربها فيه، وكما في الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه
لي )، وهذا جاء في بيان اختصاص الصوم بالمولى سبحانه مع أن كل
الأعمال لله، قال تعالى: قُلْ
إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ(2/470)
الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]
، ولكن خصوص الصوم يقول عنه المولى في الحديث القدسي: (يدع طعامه
وشرابه من أجلي )، فيكون في الخلوة بعيداً عن الناس، وأمامه شهي
الطعام وبارد الشراب، وهو جائع وعطشان، لا يرده في خلوته من الفطر
إلا مراقبة الله سبحانه، ومن هنا كان الصوم يعود ويورث التقوى؛ لأن
التقوى هي اتخاذ الوقاية مما يغضب الله سبحانه وتعالى، فدوام هذه
المشاهد يجعل عند الإنسان قوة مراقبة، ويقرب من المولى سبحانه
وتعالى أكثر وأكثر، ويزيل الحجب والحواجز التي تبعده عن الله
سبحانه وتعالى، فكأن المولى سبحانه يقول لعباده: أمرتكم فامتثلتم،
وكلفتكم فأطعتم، وها أنتم أتممتم صيام الشهر، فهلموا إلى ضيافتي،
ومن هنا نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر؛ لأن من صام يوم
الفطر كأنه يقول: يا رب! أنت جعلت هذا اليوم مأدبة لعبادك وأنا في
غنىً عنها، وإذا استغنى عن مأدبة المولى فإن هذا تكبر، وهذا تعالٍ
على الرب سبحانه وتعالى، ولذا لا يقبل الله صوم هذا اليوم. وكذلك
عيد الأضحى نادى الله في الناس بالحج فجاءوا من كل فج عميق، وأدوا
مناسكهم، وأدوا طاعة الله في تلك المواقف الكريمة، ثم أفاضوا من
عرفات والحج عرفة، وهو ذاك المشهد الكبير الذي يتجلى المولى سبحانه
فيه لأهل الموقف -كما أشرنا سابقاً- فيباهي بهم الملائكة ويقول:
ماذا يريد العباد، ولماذا جاءوا إليّ؟ فيقول الملائكة: ربنا! إنك
تعلم أنهم جاءوا إليك يرجون رحمتك ويخشون عذابك، فيقول متفضلاً:
(أشهدكم أني قد غفرت لهم )، وقد أشرنا مراراً إلى الحكمة في
سؤال المولى للملائكة في ذلك اليوم، وكما يقول البلاغيون: ليس
المراد مقتضى السؤال، ولكن المراد لازم الفائدة؛ لأن السؤال قد
يراد منه فائدة الخبر، كإخبار السائل عن مجهول بتعيينه، فإذا قلت:
هل جاء زيد؟ وأنت لا تعلم، فيكون الجواب: نعم جاء، وقد يكون السؤال
عن لازم الخبر وليس عن الخبر، كأن يكون السائل عارفاً أن زيداً(2/471)
جاء، لكن المسئول مدين للسائل، ووفاء الدين يحل عند مجيء زيد، فهو
يريد بسؤاله عن مجيء زيد وعدم مجيئه لازم الفائدة، ولازمها هنا أن
موعد الدين قد حل؛ لأن موعد قضاء الدين مشروط بمجيء زيد وقد جاء،
فالله سبحانه وتعالى في هذا السؤال لا يريد فائدة الخبر؛ لأنه يعلم
بحالهم. ويقولون: أنه كان في الأرض عوالم قبل آدم وقبل الإنس وهم
الحن والبِن والجن وأمم وقد وقع بينها قتال، وإبليس كان من جند
الله أولاً، فالمولى سبحانه وتعالى لما أراد أن يخلق آدم قال: إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا [البقرة:30]
أي: مستفسرين لا معترضين: أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]
أي: مثل الذين رأيناهم من أول؟ وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30] فإذا أردت أن تجعل فيها خليفة للذكر والتسبيح فنحن
نسبح، قَالَ
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]
وأظهر الله سبحانه وتعالى شرف هذا المخلوق الجديد، إذ علمه الأسماء
كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني؟ قالوا: سبحانك، فقال:
يا آدم! أنبئهم، فكان هناك عرض على الملائكة بجعل خلافة في الأرض،
والملائكة تخوفت لما شاهدت من قبل، وأشفقت على هذا المخلوق الجديد
أن يفسد فيها ويسفك الدماء، فطمأنهم الله وقال: إِنِّي
أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30].
فجاء آدم وهبط إلى الأرض وتكاثرت ذريته، وعمرت الأرض، وجاء بنو آدم
إلى عرفة شعثاً غبراً، وهنا كأن المولى يريد بهذا السؤال لازم
الفائدة أي: أنتم كنتم تظنون أنهم سيفسدون في الأرض ويسفكون
الدماء، فها هم جاءوا شعثاً غبراً مجردين، تركوا أوطانهم وأولادهم
وأموالهم وتحملوا في سبيل تلك الرحلة المشاق، ماذا يريدون؟ هل
يريدون الإفساد في الأرض، أو يريدون سفك الدماء؟ فهذا التساؤل كأنه
تنبيه للملائكة على ما كانوا تساءلوا عنه سابقاً ثم قال: (أشهدكم(2/472)
-والله خير الشاهدين- أني قد غفرت لهم، أفيضوا مغفوراً لكم)، وهذه
أعظم نعمة على الإنسان، فلقد كان طيلة حياته أسيراً للشيطان
يحتنكه، وقد أحاط حبلاً في حنكه يقوده كيف شاء، ليثقله ويحمله
ويكبله بكل الذنوب، وهاهو قد أصبح طليقاً خفيفاً، قد خرج من كل
ذنوبه، وتخفف من كل أثقاله وقيوده، فيأتي إلى منى وإلى الجمرات
ويعلن الحرب على الشيطان: بسم الله الله أكبر، رجماً للشيطان
وإرضاءً للرحمان، وقبل هذا لم يكن يقدر، لأنه واقع في الأسر، أما
الآن وقد تحرر وطلقت قيوده، ووضعت عنه أثقاله فقد أصبح نشيطاً يعلن
الحرب على عدوه، فأي نعمة أعظم من هذه، فيصبحون يوم العيد في ضيافة
الله، بل إن الضيافة في عيد الأضحى تمتد إلى ثلاثة أيام وهي أيام
منى، فهي أيام أكل وشرب وتبعل، فإذا جاء إنسان وقال: أنا أريد أن
أصوم في هذا العيد، فنقول له: أنت مدعو من عند المولى سبحانه فأجب
دعوة المولى سبحانه، فلو أن وزيراً من الوزراء جاءته دعوة من الملك
فإنه يشرف بهذه الدعوة، فإذا كان شخصاً عادياً جاءته دعوة خاصة
ببطاقة وفيها اسمه بتوقيع الملك، فكم سيكون فرحه بهذه الدعوة، وكم
سيكون شرفه بهذه البطاقة، بل إنه سيحتفظ بها، وسيعرضها على الناس
كل يوم، سبحان الله! فمن المجنون الذي يعرض عن مائدة الله، ومن هنا
نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي العيد، وقد اتفق العلماء بجميع
مذاهبهم على تحريم صوم يومي العيدين، حتى قالوا: لو أن إنساناً نذر
صوم يوم العيد فنذره لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يعينه فنذره
باطل، وإما أن يعين النذر بعمل، كأن يقول: يوم يجيء فلان من غيبته
سأصبح صائماً، فجاء فلان هذا يوم تسعة من ذي الحجة، فإذا جاء يوم
تسعة من ذي الحجة فسيصبح يوم العيد صائماً، وهو لم يعين يوم العيد،
وإنما عين وصفاً فصادف وفاء النذر في يوم العيد، فقالوا: أيضاً لا
ينعقد الصوم ولا يصح، فسواء عين يوم العيد باسمه، أو علقه على وصف(2/473)
فتحقق في يومه فلا يصح الصوم فيه، وهذا مذهب الجمهور، وعند الإمام
أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا عقد النذر وصادف يوم العيد، قال:
انعقد نذره وحرم تنفيذه ويصوم يوماً آخر مكانه؛ لأن النذر لازم،
ويوم العيد ممنوع صومه، فنأخذه باللازم وننقله إلى يومٍ آخر، وهذا
فقه المسألة في صوم يومي العيدين.
المقارنة بين عيدي الإسلام وبقية الأعياد
وبهذه المناسبة يا إخوان! في ذكر يومي العيدين، جاء أن النبي صلى
الله عليه وسلم حينما قدم المدينة وجد عند الأوس والخزرج أعياداً
يحتفلون بها، وهذه عادة الأمم أنهم يجعلون أيام الخير أو المناسبات
أعياداً، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (لقد أبدلكم الله بهذه
الأعياد يومين خيراً منها: يوم الفطر، ويوم الأضحى )، وأبطل
بقية الأعياد، وإن سميت اجتماعية أو شعبية أو غير ذلك، ولو تأملنا
أيها الإخوة! في جميع مسميات أعياد العالم عند جميع الأمم لوجدناها
تخيلاً وليست حقيقية، وسنجدها أعياداً في الذاكرة وليس في الواقع،
بخلاف عيدي الإسلام، ومن هذه الأعياد التي يختلفون بها: عيد رأس
السنة، وعيد الجلاء، وعيد الاستقلال، وهذه أعياد عند أهلها؛ لأنهم
نالوا فيها الحرية من سلطة المستعمر، ونالوا خلاء بلادهم ممن كان
جاثماً عليها، ولأمور أخرى سواء كانت دينية أو كانت دنيوية، ونقول:
إن هذا الحدث الذي وقع عند الأمم لا يتكرر، ولم يقع إلا مرة واحدة
يوم أن حدث، فمثلاً: عيد الاستقلال، الدولة التي نالت استقلالها
نالته مرة واحدة، فيوم أن استقلوا احتفلوا به وصار ذلك اليوم عيداً
عندهم، وموعده من السنة الآتية عيد الاستقلال مع أنه قد ذهب
وانتهى، إذاً: فهو عيد للذكرى الماضية، وهكذا جميع الأعياد، أما في
الإسلام فعيد الفطر يتكرر؛ لأنّا في كل سنة نصوم ونفطر، كل سنة
نصوم ونعيّد، فعيد الفطر على هذا واقع فعلي وليس مجرد ذكرى وخيال،
وكذلك عيد الأضحى، ففي كل سنة من الأمة من يحجون ويفيضون من عرفات(2/474)
مغفوراً لهم، فيكرمهم الله بعيد الأضحى. إذاً: لم يأتِ عيد الفطر
ولا عيد أضحى خيالاً أبداً، إنما هو واقع، فعيد المسلمين عملي،
يصومون ويعيدون، ويحجون ويعيدون، أما بقية أعياد العالم كله، لا
تتكرر على حقيقتها، ولكن على ذكرياتها، مناسبة العيد أنه هو اليوم
السعيد الذي عاد على الأمة بخير جديد. إذاً: الرسول صلى الله عليه
وسلم أبطل أعياداً متعددة متكررة لأنها باطلة وقد انتهى مفعولها،
وأصبحت على الذاكرة والخيال، وأبقى عيدي الإسلام لأنها عملية، يأتي
موجبهما في كل سنة فتتجدد النعمة بمجيئهما، إذاً: من الناحية
التشريعية إبطال الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك الأعياد التي كانت
عندهم أمر واقعي، والنهي عن صوم يومي العيدين أيضاً كذلك أمر واقعي
وعملي، ولا ينبغي لعبد أن يعرض عن ضيافة المولى وإكرامه لعباده في
هذين اليومين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
134759 ( كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [3] )
( كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [3] )
عناصر الموضوع
1 فضل قيام رمضان
2 فضل العشر الأواخر من رمضان
3 الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان
4 متى يبدأ وقت الاعتكاف؟ ومتى يدخل المعتكف معتكفه؟
كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [1]
فضل الله عز وجل بعض مخلوقاته على بعض، ففضل بعض الأنبياء على بعض،
وفضل بعض الأماكن على بعض، وفضل بعض الأزمان على بعض، ومن تفضيل
الأزمان تفضيل بعض الشهور على غيرها، وتفضيل بعض الأيام على غيرها
وكذلك بعض الليالي، ومن الأزمان التي فضلها الله عز وجل شهر رمضان،
فجعل صيامه واجباً على المسلمين، وأنزل فيه القرآن، وفيه العشر الأواخر
وهي من الأيام والليالي المفضلة، وفيها ليلة القدر التي هي خير من ألف
شهر، فمن وفقه الله لقيامها إيماناً واحتساباً نال بذلك الأجر العظيم
والثواب الجزيل.
فضل قيام رمضان(2/475)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه. أما بعد: قال المصنف رحمه
الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )
متفق عليه]. قال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً
واحتساباً ) هذا جزء من حديث طويل وفيه: (من صام رمضان إيماناً
واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً
واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )، فأما ما يتعلق بالصيام فقد
تقدم، وبقي ما يتعلق بالقيام، وفي بعض روايات حديث أبي هريرة :
(ولم يعزم علينا ). قوله: (من قام)، (من) هنا شرطية تفيد
العموم، والمراد بهذا القيام: القيام في الصلاة، والصلاة في رمضان
مختصة بالليل كما أن الصوم في رمضان مختص بالنهار، وقيام رمضان ليس
بفريضة ولا بواجب ولكنه سنة مؤكدة وهو آكد من سنة الاعتكاف؛ لأن
قيام رمضان أو ما يسمى التراويح في الآونة الأخيرة أصبح شعار الأمة
في صيامها، ولهذا لا ينبغي تعطيل المساجد من قيام الليل في رمضان،
سواء سمينا ذلك قياماً كما هو الاسم الشرعي الأساسي أو سميناه
تراويحاً؛ واسم التراويح طارئ عليه، وسببه: أنهم كانوا يصلون
ويطيلون القيام إلى الحد الذي يتعبون منه، فيجلسون بين كل تسليمتين
من أجل أن يستريحوا، فسمي هذا الجلوس ترويحاً بدل استراحات؛ أي:
أنه تراويح بين كل صلاة وصلاة، أو بين كل ركعتين وركعتين.
حكم قيام رمضان
وقيام رمضان من حيث هو جاء في عموم قيام الليل طيلة السنة كما في
قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف
الليل الأول، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام النصف الثاني )،
فأقل درجات قيام الليل القيام المطلق أن يصلي الإنسان العشاء في
جماعة، والفجر في جماعة، ثم ما زاد بعد ذلك فهو نافلة وزيادة، ثم(2/476)
أصبح القيام معروفاً باختصاصه برمضان، وأول من بدأ قيام رمضان هو
النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء: (أنه صلى ليلة ثلاثٍ وعشرين،
فشعر بعض الناس الذين في المسجد بصلاته فصلوا معه، وفي الليلة التي
بعدها علم بعض الناس فاجتمعوا، فصلى رسول الله فصلوا بصلاته أيضاً،
وفي الليلة الثالثة عم الخبر المدينة، ولما صلوا العشاء جلسوا
ينتظرون ولم يرجع أحد إلى بيته، فنظر صلى الله عليه وسلم يريد أن
يخرج ليصلي كالعادة فإذا بالمسجد مليء بالناس، فقال: يا عائشة ! ما بال الناس جلوس؟ ألم يصلوا العشاء؟! قالت: بلى، ولكنهم
تسامعوا بمن صلى خلفك فهم ينتظرون أن تخرج لتصلي فيصلون بصلاتك،
فقال: اطوي عنا حصيرك، ولم يخرج تلك الليلة، فانتظروا وحصبوا الباب
بحصباء المسجد فلم يخرج إليهم حتى الصباح، ولما خرج لصلاة الصبح،
قال: والله! ما خفي علي صنيعكم البارحة، وما بت بحمد الله غافلاً؛
ولكني كرهت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم فتعجزون )، وهذا من رحمته
صلى الله عليه وسلم بالأمة، كما جاء عنه في عدة مواضع: (لولا أن
أشق على أمتي لأمرتهم بكذا ).
عمر رضي الله عنه أول من جمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد
بعد أن انتهى عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم كان الناس كل واحد
يصلي لنفسه على ما جاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً : (من قام
رمضان... ) فكان كل واحد يقوم بقدر استطاعته، وليس هناك تحديد
عدد ولا نوعية ولا توحيد إمام، ومضى على ذلك عهد أبي بكر رضي
تعالى الله عنه، وكان مشغولاً بقتال أهل الردة، وبتثبيت الدعوة،
إلى غير ذلك، وكانت خلافته سنتين فقط، ولم يحدث جديداً، لكن ثبت في
عهده أنهم كانوا يصلون الليل في رمضان ويطيلون القيام لأنفسهم حتى
يتكئون على العصي، ويرجعون من المسجد إلى البيوت يحثون الخدم على
التعجيل بالسحور خشية الفلاح، يعني: الفجر. ثم جاء عهد عمر رضي
الله تعالى عنه فرأى الناس يصلون أوزاعاً -جماعات- يصلي كل مجموعة(2/477)
خلف من عنده قرآن، وكانوا يتتبعون حسن الصوت ويصلون خلفه، فلما
رآهم أوزاعاً متفرقين -وهذه ليست صفة المسلمين، فالإسلام جاء
ليجمّع الناس ويوحدهم، وهؤلاء تفرقوا فرقاً وأوزاعاً- قال: أرى أني
لو جمعتهم على إمام واحد لكان خيراً، فجمعهم على أبي بن كعب ،
وصاروا جماعةً واحدة، وجعل معه شخصاً آخر حتى يتناوبا، وجعل إماماً
خاصاً للنساء أعجل منهما؛ كي ترجع النسوة إلى بيوتهن بسرعة.
عدد الركعات في صلاة التراويح
جمع عمر القراء واستمع إليهم، فمن كان سريع القراءة أمره أن
يقرأ في الركعة بثلاثين آيةً، ومن كان بطيئاً أمره أن يقرأ بعشرين
آيةً، ومن كان متوسطاً أمره أن يقرأ بخمس وعشرين آيةً، وأمره أن
يصلي عشرين ركعةً ويوتر لهم بركعة فيكون الجميع إحدى وعشرين ركعةً،
واستمر الأمر على ذلك باتفاق الصحابة الموجودين بما فيهم عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، فهذه الصورة التي أوجدها عمر حصلت باتفاق الخلفاء الراشدين الثلاثة، عمر ، عثمان ، علي رضي الله تعالى عنهم، وبمشهد وإقرار وموافقة من بقية الصحابة
الموجودين بالمدينة. واستمر الأمر على ذلك إلى أن جاء زمن عمر بن
عبد العزيز ، فزيد فيها ستة عشر ركعة؛ لأن أهل مكة كانوا يصلون
عشرين ركعة، ولكنهم كانوا يطيلون الجلسة بين الركعتين فكان النشيط
منهم يقوم ويطوف بالكعبة سبعة أشواط، ويصلي سنة الطواف ركعتين،
فرأى أهل المدينة أنه ليس عندهم كعبة يطوفون بها، وأرادوا المنافسة
فاستبدلوا بدل الطواف ركعتين، وصلوا مكان كل ترويحة أربع ركعات،
وإذا كانت الصلاة عشرين ركعة وفي كل أربع ركعات ترويحة فسيكون
مجموع الترويحات خمس ترويحات، وستكون الفجوات والاستراحات بين
الخمس ترويحات أربع استراحات، فقالوا: إذاً: أهل مكة فازوا بالطواف
وركعتي الطواف، فنعادل الطواف بركعتين، وسنة الطواف بركعتين، فصارت
أربعاً في أربع ترويحات والمجموع ستة عشر ركعة، فأضافوها إلى(2/478)
العشرين وصارت ستاً وثلاثين ركعة، واستمرت على ذلك إلى القرن
الخامس الهجري. ولما كان في القرن السابع جاء الإمام أبو زهرة وهو من أئمة الحديث فتولى الإمامة في المسجد النبوي الشريف، وأراد
أن يلغي ما وضعه بعض الناس من أجل السياسة فألغى الست عشرة ركعة،
وقال: تبقى المدينة مثل مكة، فأراد أن يجعلها عشرين ولكن لوجود
المخالفة ومن أجل أن يبقى الاتفاق أيضاً جعل العشرين في أول الليل
مثل أهل مكة، وجعل الست عشرة في آخر الليل باسم القيام، وأصبحت
التراويح في أول الليل عشرين ركعة، والقيام في آخر الليل ست عشرة
ركعةً، إلى أن جاءت الحكومة السعودية، فألغت من الست عشرة ستاً،
وجعلتها عشراً تخفيفاً على الناس، وعممتها في عموم المملكة توحيداً
للعمل، واستمرت بحمد الله إلى الآن، عشرون ركعة في أول الليل وعشر
ركعات في آخره. وعمر رضي الله تعالى عنه لما جمعهم على إمام
واحد جاء إلى المسجد بعد ليلة أو ليلتين ونظر فإذا الناس في جماعة
واحدة، فقال: نعمت البدعة هذه والتي تنامون عنها خير منها، أي: أن
صلاة المرء في بيته في جوف الليل خير من حضور تلك الجماعة؛ لأنه
إذا صلى في بيته يؤنس أهله، ويجلب البركة لبيته، وتكون هناك رحمات
تتنزل في البيت، وتكون صلاته بعيدة عن الرياء وعن السمعة. ثم أجمع
العلماء على أن من قام رمضان بركعتين أو بأربع أو بست أو بعشر أو
بعشرين أو بأربعين فإنه يجوز له ذلك، فليس في ذلك حد محدود، ولكن
يكون عمله في شخصه فلا يعترض على غيره ولا يدعوا غيره إلى ما يراه
لنفسه؛ لأننا أخيراً وجدنا بعض الناس يلومون على هذا العمل
ويعيبونه ويقولون: هي ثمان ركعات لا يزاد عليها لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم
في رمضان ولا في غيره على ثمان ركعات )، ولكنها رضي الله تعالى
عنها تقول: (يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن ) فقد كان(2/479)
يقرأ في الركعة البقرة وآل عمران والنساء، ثم يركع نحواً من ذلك،
أما الذين يقولون: لا نزيد على الثمان ركعات، فلا يقرءون في الركعة
حتى سورة تبارك التي هي ثلاثون آيةً، كما أمر عمر القارئ
السريع أن يقرأ بها، فكيف نوفق بين ذلك؟ إن قلتم: لا يزيد على
الثمان، فاجعلوها كصلاة رسول الله في الطول، وإذا صليتم على تلك
الكيفية فيكفي أربع، وكذلك أيضاً لابد أن تداوموا على ذلك في رمضان
وفي غير رمضان، لا أن تتركوا كل ذلك طيلة العام ثم تأتون إلى رمضان
وتقولون: لا تصلي إلا ثمان ركعات، ثم تجعلونها ثمان ركعات شكلية لا
كالثمان التي تقدمت صفتها عن النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: عمر رضي الله تعالى عنه كان يعلم الثمان، ويعلم بأن الرسول صلى في بعض
الليالي ثمانياً، وفي بعضها زاد على ذلك؛ لأنه صلى في بعض الليالي
إلى ثلث الليل، وفي بعضها صلى إلى نصف الليل وفي بعضها صلى إلى
ثلثي الليل، حتى قيل له: (يا رسول الله! لو نفلتنا بقية ليلتنا
-أي: ما دام أننا صلينا إلى الثلثين- فقال: من قام مع الإمام حتى
ينصرف كتب له بقية ليلته ).
الرد على من يقول: إن التراويح بدعة عمرية
فهذه الصورة الموجودة الآن على ما هي عليه لا ينكر عليها، فإذا
قصرت بإنسان همته أو نشاطه أو طرأ عليه عذر ما فهذا أمر شخصي ولا
ينبغي أن يجعل مقياساً للآخرين ولا أن يعترض على الآخرين، ويقول:
هذه بدعة عمر -أعوذ بالله- هي بدعة لغوية وليست بدعةً شرعيةً؛
لأن البدعة في اللغة: هي الابتداع والابتكار على غير مثال سابق على
حد قوله سبحانه: بَدِيعُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:117]،
يعني: ابتدع خلقتها وهيئتها، فهذا الجرم العظيم الذي لا يحده النظر
والذي يحيط بالعالم كالقبة لم يكن له مثال قبل هذا. إذاً: لما قال:
نعمت، عرفنا بأنها ممدوحة، ولما قال: البدعة، عرفنا أنها اللغوية،
وكيف يقره علي وعثمان وجميع الصحابة على شيء مبتدع؟! أنا(2/480)
أقول: إن الذي يقول: هذا بدعة عمر يؤدب؛ لأنه ينسب إلى عمر رضي الله تعالى عنه ما هو منه براء، فعمر الذي كان الشيطان
يفر من طريقه، ووافق القرآن في عدة مواطن هو أبعد الناس عن
الابتداع في دين الله. إذاً: هذا العمل الذي أقره عليه سلف الأمة
من شاء أخذ به بحذافيره ومن شاء أخذ به بقدر طاقته، ولكن كما أشرنا
لا يدعو إلى قوله ولا يعيب على غيره، ولكن بقدر طاقته وما تيسر له.
أيهما أفضل صلاة التراويح في البيت أم جماعة في المسجد؟
إذاً: من قام رمضان، بما تيسر له، سواءً مع الإمام في المسجد، أو
مع نفسه في بيته، أو مع أهله كل ذلك سواء، وبعض المالكية يقول:
الذي يكون حافظاً ماهراً في القرآن وأراد أن يقوم رمضان في بيته
فهو أفضل ما لم تعطل المساجد من صلاة الجماعة في رمضان؛ لأن
النافلة الوحيدة في الصلوات التي تصلى جماعة هي التراويح.
شرط الإيمان والاحتساب في قيام رمضان
قوله: (من قام رمضان)، بهذا القيد: (إيماناً واحتساباً)، إيماناً
بالله، وإيماناً بثوابها، وإيماناً بسنيتها. قوله: (واحتساباً)،
الاحتساب والحساب هو: العد، أي: تحتسبها عند الله، وتعدها من أعمال
الخير التي استودعتها أمانة عند الله، لا أن تكون لنشاط ورياضة ولا
أن يكون الشخص شبعان ويريد أن يهضم، ولا عنده مصلحة وجاء إلى
المسجد من أجلها، ولا أن يكون قد اتفق مع جماعة للحضور ولا يريد أن
يتخلف عنهم، فمن عمل لذلك فليس محتسباً، ولكن عليه أن يقوم رمضان
إيماناً بوعد الله، وإيماناً بسنة رسول الله، واحتساب عملها وأجرها
عند الله.
الذنوب التي تغفر بقيام رمضان
وقوله: (غفر له ما تقدم من ذنبه ) نجد العلماء رحمهم الله يقفون
عند قوله: (غفر له ما)، و(ما) هنا هي للعموم سواءً كانت صيغة إجمال
أو كانت موصولة، غفر له الذي تقدم من ذنبه، وهذا الذي تقدم قد تكون
فيه كبيرة وقد تكون فيه صغيرة، وبعض العلماء يقول: غفر له ما تقدم(2/481)
من ذنبه من الصغائر، وأكثرهم يقولون: غفر له ما تقدم من صغائر
وكبائر؛ لأن الصغائر قد قال الله عنها: إِنْ
تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]،
فالصغائر تكفر باجتناب الكبائر وبدون أعمال أخرى، إذاً: الحديث
مطلق، وكما قال بعض العلماء: أحاديث الوعد والوعيد ينبغي ألا تفسر
بل تؤخذ على منطوقها، والله تعالى أعلم.
فضل العشر الأواخر من رمضان
قال المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر -إي العشر الأخيرة من
رمضان- شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله )، متفق عليه]. هذه
الصورة التي تصفها لنا عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان: (كان إذا دخل العشر
شد مئزره وأحيا ليله، وأيقظ أهله ) ما معنى هذا في العشر دون
العشرين الأول؟ قال العلماء: كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في
رمضان ولكن اجتهاده في العشر الأواخر من رمضان أكثر من اجتهاده في
بقية رمضان. ويعزون السبب في ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف
العشر الأوائل، ثم اعتكف العشر الوسطى، ثم اعتكف العشر الأخيرة،
وبين صلى الله عليه وسلم: (أنه أول ما اعتكف إنما كان يترقب ليلة
القدر أن توافيه وهو منقطع فيها إلى الله، فلما اعتكف العشر
الأوائل في سنة أتي فأخبر بأن الذي ترجوه أمامك -يعني: ليس في
العشر الأوائل- وفي السنة الثانية اعتكف العشر الوسطى، ثم أتي فقيل
له: إن الذي ترجوه أمامك، فنظر إلى الناس من خبائه وقال: من كان
اعتكف معي فليظل في معتكفه فإني معتكف العشر الأواخر )، واعتكف
العشر الأواخر وظل يعتكف في العشر الأواخر حتى قبضه الله. فكان
حينما تأتي العشر يجدد النشاط ويشتد فيه وأول شيء: (شد مئزره)،
والمئزر معروف وهو: ما يكون في وسط الرجل من السرة إلى أسفل.(2/482)
وقوله: (شد مئزره) هل معناه: أنه اعتزل النساء؟ أو أن معناه أنه شد
حزامه كناية عن النشاط كما تقول: يا فلان! شد حيلك وشد حزامك ؟
وكما قيل أيضاً: أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد! تورد الإبل
أي: أنه أورد الإبل والشملة على كتفه وهو غير مبال بها، وإيراد
الإبل يحتاج إلى شد الحزام وإلى النشاط وإلى التشمير، والمراد شمر
عن ساعديك يا سعد! فما هو المراد بشد المئزر؟ قال بعضهم قولها: (شد
مئزره)، هو كناية عن العزم وتجديد القوة في العشر الأواخر، وهناك
من يقول: (شد مئزره)، أي: أنه تجنب النساء، ويؤيد هذا المعنى
قولها: (وطوى فراشه)، يعني: ليس هناك نوم في الفراش. قولها: (وأيقظ
أهله)، إيقاظ الأهل رغبة في الخير، وكان صلى الله عليه وسلم في
بادئ الأمر يوقظ أهله ليلة سبع وعشرين ويأمرهن بالاغتسال تهيئاً
وتأهباً لليلة القدر على أنها في ليلة سبع وعشرين. إذاً: تبين لنا
أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لم يجتهده فيما قبلها. ونحن
نقول: هي عشر ليالٍ وتنتهي فهل يعجز الواحد منا أن يجتهد في هذه
العشر؟ السنة كلها (360) يوماً أيعجز فيها الإنسان عن عشرة أيام؟
لو قيل له: في كل ليلة من الليالي العشر لك عشرة آلاف ريال، فهل
سينام؟ لن ينام، بل سيقف على ثلاث أصابع ويمد يديه إلى الله.
المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل في غير رمضان حتى تتفطر
قدماه، فلما يأتي إلى العشر الأواخر في رمضان يجتهد أكثر مما كان
يجتهد في غيرها، فمن منا قد قام حتى تفطرت قدماه؟ من ومن منا يحيي
الليل كما كان يحييه صلى الله عليه وسلم؟ منا عمل بقوله تعالى: وَمِنَ
اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]؟
فهو صلى الله عليه وسلم مع ما وُعد به من المولى عز وجل؛ وقد غفر(2/483)
له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقوم الليل، ولما سئل قال: (أفلا أكون
عبداً شكوراً)، ثم يأتي إلى العشر الأواخر: (ويشد مئزره، ويطوي
فراشه، ويوقظ أهله)، ونحن طيلة السنة نحل الإزار ونمد الفراش وننام
نوماً عميقاً وبعض الناس في رمضان ليلهم نهار ونهارهم ليل، فإذا
جاءت هذه الفرصة في حياة الإنسان ولم ينتهزها، فإن هذا من التفريط،
ولكن أقول: التوفيق بيد الله، نحن لا نملك إلا أن نتوجه إلى المولى
العلي القدير أن يوفقنا وأن يعيننا وأن يسددنا وأن يرزقنا خير هذه
الأيام المباركة، وإلا فالعاجز والكسلان يضيع نفسه، وكما جاء في
الحديث: (من حرمها فقد حرم الخير كله ). نسأل الله سبحانه أن
يجنبنا الكسل وأن يعطينا القوة والعافية، وأن يوفقنا ويسدد خطانا،
فمهما كان عند الإنسان من عمل فهو يقدر أن يؤجله، ويقدر على أن
يرجع إليه مرة أخرى، ويقدر على أن يسنده إلى غيره، فلا يفوت على
نفسه هذه الفضيلة. إذاً: هذا من أم المؤمنين عائشة رضي الله
تعالى عنها بيان لحال النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي علينا وأخص
طلبة العلم أن ننقطع للعبادة في هذه العشر، فنحن بخلاف طلبة الدنيا
فقد يكون الواحد منهم مضطراً لأن يدير تجارته، ومضطراً لأن يوالي
بضاعته، أو أن هذا عنده موسم دنيا، ولكن نقول له: أيضاً لا ينبغي
أن يحرم نفسه، ولا أن يجعل كل همه في تجارته وصناعته وزراعته، بل
يعطي نفسه ولو عشرة أيام في السنة كلها.
الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان
قال المصنف رحمه الله: [وعنها رضي الله عنها أن النبي صلى الله
عليه وسلم: (كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز
وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده )، متفق عليه]. تخبر رضي الله
تعالى عنها في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم: (كان يعتكف
العشر الأواخر حتى توفاه الله ) وقد اعتكف صلى الله عليه وسلم
العشر الأول، ثم اعتكف العشر الوسطى ولكن لم يكررها، ثم اعتكف(2/484)
العشر الأخيرة وداوم عليها حتى توفاه الله، ثم تقول رضي الله تعالى
عنها: (ثم اعتكف أزواجه من بعده ) وسيأتي أن بعض زوجاته أردن أن
يعتكفن معه ولكنه منعهن من ذلك، ثم كن يعتكفن من بعده. إذاً: ليس
الاعتكاف خاصاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس خاصاً به
صلى الله عليه وسلم، بل له وللأمة كلها، ونقل عن مالك أنه قال:
تأملت في هذا الأمر فما وجدت كثيراً من الصحابة يعتكفون فنظرت فإذا
هو عندي كالوصال. ولكن الذي يهمنا هنا أن الاعتكاف مسنون، وسنيته
باقية ودائمة لم يعترها نسخ ولا تعطيل، واعتكاف أزاوجه رضي الله
تعالى عنهن من بعده هذا عمل خير لهن؛ ولأن المسجد ليس بعيداً عنهن،
وسيأتي بيان صحة اعتكاف المرأة في أي مسجد ولو في مسجد بيتها على
ما قاله الإمام أبو حنيفة رحمه الله.
متى يبدأ وقت الاعتكاف؟ ومتى يدخل المعتكف معتكفه؟
قال المصنف رحمه الله: [وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: (كان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل
معتكفه )، متفق عليه]. يسوق لنا المؤلف رحمه الله تعالى حديث أم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان إذا أراد أن يعتكف إذا صلى الغداة دخل معتكفه)، وهذا عند
العلماء فيه بيان لأول وقت يدخل فيه المعتكف محل اعتكافه. وهنا
تقول: أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: إنه صلى الله عليه وسلم
كان يدخل معتكفه إذا صلى الغداة، والغداة: الصبح، وفي هذا الحديث
نص على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الاعتكاف يوماً
فأكثر يبدأ زمن اعتكافه من بعد صلاة الصبح، وهذا قول سفيان الثوري وغيره. وأما الأئمة الأربعة رحمهم الله فإنهم يقولون: إذا كانت مدة
الاعتكاف يوماً فأكثر فينبغي أن يدخل معتكفه قبل أن تغرب شمس ليلة
اليوم الأول، فمثلاً: إذا أراد الإنسان أن يعتكف وأول اعتكافه يوم
السبت، فإنه يدخل معتكفه آخر النهار من يوم الجمعة قبل أن تغرب(2/485)
الشمس وتدخل ليلة السبت، هذا ما عليه الأئمة الأربعة، ويذكره علماء
الحديث والفقهاء وغيرهم. وكيف يجيبون على حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يدخل
معتكفه بعد صلاة الصبح)، وهناك فرق بين الدخول بعد صلاة الصبح وبين
الدخول قبل غروب الشمس؟ يجيب الأئمة رحمهم الله: بأن الليلة تابعة
لليوم، فإذا نوى أو أراد أو نذر الاعتكاف في يوم السبت فعليه أن
يضم الليل مع النهار، ولا يتأتى ضم الليل مع النهار إلا إذا دخل
المعتكف قبل أن تغرب الشمس بقليل، ويقولون: إن حديث عائشة رضي
الله تعالى عنها يفسر على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في
المسجد وليس في بيته، ودخوله معتكفه بعد أن يصلي الغداة تريد
المكان الذي حدده للاعتكاف فيه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يوضع
له سرير خلف اسطوانة التوبة ليعتكف ويستريح عليه، وربما ضربت له
خيمة على سريره ليستتر به عن الناس، فيكون مراد أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بدخوله معتكفه المكان المحدد المخصوص له صلى
الله عليه وسلم لا عموم المسجد. ونحن نعلم جميعاً أن الاعتكاف لا
يكون إلا في المسجد لقوله: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) على خلاف
سيأتي المؤلف ويشير إليه فيما بعد. إذاً: متى يدخل المعتكف معتكفه؟
الحديث الذي عندنا فيه أنه بعد صلاة الغداة، ورأي الأئمة الأربعة
باتفاقهم على: أنه قبل غروب الشمس، ولكون الأئمة رحمهم الله قد
اتفقوا على ذلك فلا يمكن أن نلغي اتفاقهم، ولكن ننظر ما هو تخريجهم
وتوجيههم للحديث؟ وجهوا الحديث وقالوا: إن المراد بقولها: (معتكفه)
أي: المكان المعد المخصص له دون عموم المسجد، والله تعالى أعلم.
أقل حد للاعتكاف وأكثره
وأما قول من يقول: إن الاعتكاف لا حد لأقله، ففي هذه المسألة خلاف:
فهناك من يقول: لا اعتكاف أقل من عشرة أيام، وهذا القول مروي عن
مالك رحمه الله. وهناك من يقول: لا اعتكاف أقل من يوم وليلة،(2/486)
وهذا القول منقول عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وهو رواية عن
أحمد . وهناك من يقول: لا حد لأقله فيصح ولو نصف ساعة ولو ربع
ساعة وهذا قول الشافعي رحمه الله، وإن كان الأفضل عنده: ألا
يقل عن يوم وليلة. وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: كنت أدخل المسجد
لا لصلاة ولا لشيء ولا لأجلس وإنما للاعتكاف، يعني: أنه كالمار،
وقالوا: إن ذلك يشبه الوقوف بعرفة؛ لأن الوقوف بعرفة مكث في مكان
معين، ويجزئ الحاج أن يقف بعرفة ولو ساعة، حتى بالغ البعض وقال:
ولو مروراً بها من شرقها إلى غربها، وهو يعلم أنها عرفة، والبعض
قال: ولو لم يعلم. فقالوا: إن الوقوف بعرفة هو عبارة عن مكث في
مكان معين في زمن محدود، فقالوا: وكذلك الاعتكاف هو عبارة عن مكث
في مكان معين لعبادة فلا يتقيد بزمن كما أن الوقوف بعرفة لا يتقيد
بزمن، مع أنهم يقولون في عرفة: من أمكنه الجمع بين ليل ونهار فترك
ذلك فعليه دم مع صحة حجه؛ لأنه ترك واجباً، ولو أن مريضاً
بالمستشفى كان محرماً بالحج فأخذوه في سيارة ووصلوا به إلى عرفات
ثم ردوه إلى المستشفى في وقته فإنه يكون قد أدرك الحج وأدرك الوقوف
بعرفة. إذاً: مدة الاعتكاف يختلفون في أقلها ولا يختلفون في
أكثرها، فله أن يعتكف شهراً أو شهرين أو أكثر، وسيأتي عند بحث
الصوم أن الذين قالوا: لا حد لأقله، يستدلون بقصة عمر رضي الله
تعالى عنه أنه قال: (كنت نذرت اعتكاف ليلة عند الكعبة في الجاهلية،
فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: أوفِ بنذرك )، قيل:
كان هذا السؤال في الجعرانة عند رجوعهم من الطائف. فكونه يعتكف
ليلة والليلة ليست يوماً كاملاً، وذكر ابن حجر في فتح الباري
أن هناك من يروي (يوماً) فيقول: عمر كان نذر يوماً، ومن روى
(ليلة) فأراد مع نهارها، ومن روى (يوماً) أراد النهار مع الليل،
ولكن رواية: (نذرت أن أعتكف يوماً) يقول: إنها شاذة، والمحفوظ:
(نذرت اعتكاف ليلة)، فقال الشافعي رحمه الله: الليلة ليست(2/487)
يوماً كاملاً، والليل ليس موضع صيام فليس الصوم شرطاً في الاعتكاف.
إذاً: نحن في مبحث متى يدخل المعتكف معتكفه؟ فإن كان زمن اعتكافه
يوماً فأكثر فعلى ما تقدم، فرأي الأئمة الأربعة رحمهم الله: أنه
يدخل معتكفه قبل غروب شمس اليوم الذي قبله، والحديث محمول على أن
المراد بمعتكفه المكان الذي كان صلى الله عليه وسلم يخصصه لجلوسه
ونومه واعتكافه. والله تعالى أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى
آله وصحبه وسلم تسليماً. والحمد لله رب العالمين.
134772 ( كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [2] )
( كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [2] )
عناصر الموضوع
1 تعيين ليلة القدر والخلاف في ذلك
2 العلامات التي تعرف بها ليلة القدر
3 سبب تسمية ليلة القدر بهذا الاسم
4 الأدعية الواردة في ليلة القدر
كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [3]
ليلة القدر هي أفضل ليالي السنة؛ لأنها هي الليلة التي أنزل الله عز
وجل فيها القرآن إلى السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك مجزأ على حسب
الحوادث، ولهذا جعلها الله عز وجل خيراً من ألف شهر، وجعل العبادة فيها
تعدل عبادة ألف شهر، وهو ما يساوي ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر.
تعيين ليلة القدر والخلاف في ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال
المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن
رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في
المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى
رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في
السبع الأواخر )، متفق عليه. وعن معاوية بن أبي سفيان رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: (ليلة
سبع وعشرين )، رواه أبو داود والراجح وقفه، وقد اختلف في(2/488)
تعيينها على أربعين قولاً أوردتها في فتح الباري. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (قلت يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي
ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم! إنك عفو تحب
العفو فاعف عني )، رواه الخمسة غير أبي داود وصححه الترمذي والحاكم ]. إن هذا المبحث وهو مبحث ليلة القدر متعدد الجوانب،
من ذلك تعريفها، ولماذا سميت ليلة القدر؟ ومن ذلك أيضاً تعيين
وقتها ومتى تكون، هل هي في عموم السنة أو في خصوص رمضان أو في
العشر الأواخر أو في الوتر منها؟ وهل هي ثابتة أو متنقلة؟ وهل هي
باقية أو رفعت وماذا يقول من صادفها؟ وهل لها علامات؟ وما هو
فضلها؟ كل ذلك يتناوله العلماء بتوسع. ومما توسعوا فيه موضوع
تعيينها، وهذا الموضوع يهم الجميع، وقد ذكر لنا المؤلف أنه أورد
أربعين قولاً في تعيينها في فتح الباري، ونقلها عنه الشوكاني وزاد عليها أربعة أقوال، فتحصل بذلك أربعة وأربعون قولاً في
تعيينها. وفي الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله: (بأن رجالاً أروا
في منامهم أن ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان -أي: السبع
الأخيرة من العشر الأواخر من رمضان- وأخبروا النبي صلى الله عليه
وسلم بذلك، فقال: أرى -أي: أظن- أن رؤياكم قد تواطأت )، التواطؤ
هو كما يقول العلماء: التطابق، كالوطي على الوطي تواطأت، تضع القدم
على القدم تتابعه، فتواطأت رؤياكم أي: اتفقت رؤياكم، على أنها في
السبع الأواخر من رمضان، فقال صلى الله عليه وسلم: (فالتمسوها في
السبع الأواخر من رمضان ). ففي رؤياهم إياها تقرير من النبي صلى
الله عليه وسلم لهم عليها، ثم أصدر التشريع من قوله لا من رؤياهم
فقال: (التمسوها) ورؤيا المؤمن قد جاء في الحديث عنها: (الرؤيا
الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، يراها الرجل الصالح
أو ترى له ) وقال العلماء: هذا العدد الذي هو جزء من ستة
وأربعين، ليس من خمسة وليس من أربعة ولا من سبعة قالوا: لأن رسالة(2/489)
محمد صلوات الله وسلامه عليه كانت مدتها ثلاثاً وعشرين سنة: منها
ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشر سنوات بالمدينة، وكانت مدة تحنثه في
الغار قبل أن يأتيه الوحي بالرسالة ستة أشهر، فقالوا: إذا قسمنا
الثلاث والعشرين سنة على نصف فسيكون فيها ستة وأربعون نصفاً؛ لأن
الستة الأشهر نصف السنة، إذاً: نسبة مدة تحنثه صلوات الله وسلامه
عليه من مدة الرسالة كاملة نسبة واحد من ستة وأربعين، وكان صلوات
الله وسلامه عليه في مدة تحنثه -أي: تعبده وانقطاعه- في غار حراء
يرى الرؤيا، فإذا رأى الرؤيا جاءت من الغد كفلق الصبح واقعية،
فكانت الرؤيا تصدق في تلك المدة، فقال صلى الله عليه وسلم مبيناً:
(إن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ). وكان
صلوات الله وسلامه عليه إذا صلى الصبح سأل أصحابه: (أيكم رأى رؤيا
البارحة؟ ) فيقصون عليه ما رأوا ويعبرها لهم.
أقسام الرؤيا
يقول العلماء: الرؤيا على ثلاث أقسام: القسم الأول: أن يرى الإنسان
ما يسره، فيحكيه لأحب الناس إليه؛ ليفسرها بأحب الوجوه فيها،
والقسم الثاني: أن يرى خلاف ذلك فليتفل عن يساره، ولينقلب على جنبه
الآخر فإنها لا تضره شيئاً، والقسم الثالث من الرؤى: إنما هو تصور
وتخيل أحداث عمل النهار، كما يقولون: المخيلة تختزن بعض الصور،
فيبيت يحلم بما كان فيه في النهار من بيع وشراء أو خصومة أو فرح...
إلخ، وهذه هي التي يقال فيها: إنها أضغاث أحلام. وهنا الصحابة رضي
الله تعالى عنهم أُروا في المنام ليلة القدر؛ وكلنا يعلم مدى صحة
الرؤيا في قضية مشروعية الأذان، لما تشاور النبي صلى الله عليه
وسلم مع الصحابة في أمر إعلامهم بالوقت من أجل أن يجتمعوا للصلاة،
فقد كان الواحد منهم يخرج من بيته ويمر على أخيه في بيته فينبهه:
الصلاة يا فلان! الصلاة يا فلان! وكل يُعْلِم الآخر حتى يجتمعوا
لصلاة الفريضة جماعةً، فتشاور صلى الله عليه وسلم معهم ليتخذوا(2/490)
وسيلة للإعلام، فمنهم من اقترح الناقوس -وهو الجرس- فقال: لا، هذا
للنصارى، ومنهم من اقترح الطبل، فقال: لا، هذا لكذا، ومنهم من
اقترح البوق، فقال: هذا لليهود، ومنهم من اقترح إشعال النار، فقال:
لا، هذا للمجوس.. وهكذا، وانصرفوا دون أن يتفقوا على شيء، فلما كان
الغد جاء عبد الله بن زيد وقال: (يا رسول الله! رأيت فيما يرى
النائم أنه طاف بي رجل، عليه حلة خضراء، يحمل ناقوساً على كتفه
-وفي رواية: خشبة على كتفه- فقلت: أتبيع الناقوس؟ فقال: وماذا
تفعلون به؟ قلت: ننقس به للصلاة، قال: ألا أدلك على ما هو خير من
ذلك؟ قلت: بلى. فوقف وأذن، وذكر ألفاظ الأذان الخمسة عشر، ثم تنحى
قليلاً وذكر الإقامة، وقال: هكذا تفعلون. فلما سمع ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: إنها لرؤيا حق، قم فألقه على بلال ،
فإنه أندى منك صوتاً -يعني: أليق وأبعد وألطف... إلخ- فلما قام
بلال وأذن، سمع ذلك عمر بن الخطاب ، فجاء من بيته يجري
ويجر الرداء، وقال: يا رسول الله! والله! لقد رأيت مثلما سمعتُ.
فقال: تواطأت رؤياكم ) وجعلها ألفاظ الأذان المشروعة. والذي
يهمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع رؤيا الصحابة، ووجدها
واضحة، أقرهم عليها. وأذكر هنا بالمناسبة أن علماء التعبير يقولون:
كل من حسن طعامه ولطف، وحسن لباسه ونظف، وتعود النظافة في جسمه
دائماً وغالباً تكون رؤياه صالحة صادقة، وهذا في الأول والآخر يرجع
إلى صلاح العمل، وإلى شفافية الروح وطهارة القلب؛ لأن الرؤيا رؤية
البصيرة وليست رؤية البصر، والذي يهمنا في هذا الحديث أنهم ذكروا
ليلة القدر في السبع الأواخر. والذي أورد على خاطرهم ترائي ليلة
القدر هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أراد أن يخبرهم بليلة
القدر.
التلاحي والتخاصم سبب في حرمان الخير والنعمة
وفي الحديث الصحيح: (خرجت لأخبركم عن ليلة القدر، فتلاحى فلان
وفلان فرفعت ) أي: رفع تعيينها، ولذا قال العلماء: شؤم التلاحي(2/491)
والخصومة حرمهم نعمة تعيينها. ولذا يقول ابن دقيق العيد وابن
عبد البر : من اشتغل من طلبة العلم باللجاج في العلم، وتتبع
الخلافات والخصومات في الشواذ حرم العلم؛ لأنه يشتغل بأشياء مختلف
فيها، فيفوت على نفسه الأهم. إذاً: في هذا الحديث النص على أن ليلة
القدر في السبع الأواخر، والسبع الأواخر هي العشر الأواخر ما عدا
الأولى، والثانية والثالثة من العشر، وبقي الرابعة والخامسة
والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة، إذاً: الثالثة من
أول العشر هي أول السبع، فيقولون: إن النصوص وردت في العشر الأواخر
آكد منها في غيرها، وكما قال المؤلف في آخر الحديث الثاني: لقد
أوردت أربعين قولاً في تعيينها، منها ما جاء عن ابن مسعود أنه
قال: من قام العام كله صادف ليلة القدر. ولما ذكر ذلك لأبي بن كعب قال: يرحم الله أبا عبد الرحمن ، والله! لقد علم أنها في العشر
الأواخر -أو في الوتر من العشر الأواخر-.
الحكمة من عدم تعيين ليلة القدر
ويقول العلماء: أخفاها الله على الأمة كما أخفى الساعة التي في يوم
الجمعة، ليجتهد الناس في عمل الخير في رمضان كله، وفي العشر كلها،
وفي يوم الجمعة بكامله؛ لأنه لو عين ليلة بذاتها لتقاصرت الهمم،
وتكاسل الناس، ونشطوا في تلك الليلة فقط وتركوا ما عداها.
أرجى الليالي التي يتوقع أن تكون فيها ليلة القدر
ونأتي إلى بعض النصوص الأخرى المتفق عليها، ونترك الأربعين قولاً
التي ذكرها المؤلف. وهنا: من الليالي التي هي أرجى ليالي القدر
ليلة واحد وعشرين، وذلك لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما
كان معتكفاً في العشر الوسطى، ثم خرج على الناس برأسه من خبائه
وقال: (من كان معتكفاً معي فليعتكف ) لأن راوي الحديث يقول:
فخرجنا في صبيحة عشرين بأمتعتنا، أي: انتهينا، فخرج عليهم فقال:
(من كان قد اعتكف معي فليعتكف، فقد أُتيت وأخبرت أن الذي أطلبه
أمامي -يعني في العشر الأواخر- وقد رأيتني -أي: فيما يرى النائم،(2/492)
أو رأيتني فيما يوحى إليَّ إلهاماً، أو نفث في روعي... كل ذلك يصدق
عليه- أني في صبيحتها أسجد في ماء وطين ) يقول راوي الحديث: وما
كان في السماء من سحاب ولا قزعة، فأمطرت السماء ليلاً، وكان المسجد
من العريش -أي: من الجريد والجذوع- وأرضه من التراب، فرأيت النبي
صلى الله عليه وسلم قد صلى الصبح في أثر الماء والطين، أي: فوكف
السقف ونزل الماء من المطر، وتبللت أرض المسجد، يقول: ولقد رأيت
الطين والماء على أرنبة أنف رسول الله وعلى جبهته، وكان ذلك صبيحة
يوم واحد وعشرين، فهذه رواية صحيحة أنه قال: (أريت أني أسجد في
صبيحتها في ماء وطين ) وجاء الماء والطين صبيحة يوم واحد
وعشرين، فهذا دليل على أنها في ليلة واحد وعشرين. وفي عموم
(التمسوها في الوتر من العشر الأواخر ) روى مالك رحمه الله
في الموطأ، وهو في صحيح البخاري وفي السنن: أن رجلاً من جهينة
كبيراً في السن كان يسكن أطراف المدينة، فأتى النبي صلى الله عليه
وسلم وقال: (يا رسول الله! إني رجل كبير السن، أسكن في البادية،
وإني -بحمد الله- أصلي بقومي، ولا أستطيع أن أنزل كل ليلة إلى هذا
المسجد، فمرني بليلة أنزل فيها إلى هذا المسجد رجاء ليلة القدر )
فهذا رجل كبير السن، ساكن في ضاحية المدينة، يصلي بقومه، سأل رسول
الله أن يعين له ليلة ينزل فيها إلى هذا المسجد بغية ورجاء ليلة
القدر، فماذا قال له؟ قال: (انزل ليلة ثلاث وعشرين ) . ونحن نقف
عند هذا الأثر، الرجل يقول: أنا رجل كبير، وأصلي -بحمد الله-
بقومي، ولا أستطيع النزول كل ليلة إلى هذا المسجد، يعني أنه يرغب
أن ينزل ولكن يشق عليه، ثم يقول: أريد أن أنزل ليلة، فمرني بليلة
وعين لي ليلة أنزل فيها تحرياً لليلة القدر، فلم يقل له صلى الله
عليه وسلم: أنت رجل كبير، وأنت تصلي بقومك، صل هناك وتحر ليلة ثلاث
وعشرين، ولكن أقره على الرغبة في النزول إلى هذا المسجد النبوي(2/493)
الشريف، وعين له الليلة التي ينزل فيها. إذاً: لا نعيب على الناس
حينما يأتون من حيث شاءوا إلى المسجد النبوي الشريف يتحرون ليلة
القدر فيه، وهم يتحرونها فيه؛ لأننا نعلم جميعاً أن الصلاة فيه
بألف صلاة، فإذا صادفت ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، إذاً:
فستكون ألف في ألف فهذا فضل عظيم! إذاً: هذا الحديث يبين لنا مدى
فضل الصلاة في المسجد النبوي في رمضان وفي العشر الأواخر تحرياً
لليلة القدر ولو كانت نافلة، ولا نقول: كلٌ يصلي في مكانه، فهذا
صحيح ولا مانع أن يصلي الرجل في بيته، أو يصلي في باديته، أو يصلي
في حاضرته حيثما كان؛ لأن هذا الرجل سأل، والرسول قرره على رغبته،
وعين له الليلة التي يتحرى أو هي أحرى أن يصادف فيها ليلة القدر.
تأتي أحاديث عموم الوتر فيدخل فيها ليلة خمس وعشرين، لكن ليس فيها
نصوص بذاتها كالحادية والعشرين، والثالثة والسابعة والتاسعة
والعشرين، ثم نأتي إلى ليلة سبع وعشرين وهي من الوتر، فنجد فيها
هذا الحديث الذي اختاره المؤلف وساقه هنا وهو قوله صلى الله عليه
وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت على ليلة سبع وعشرين، فمن كان متحرياً
فليتحرها أو تحروها ليلة سبع وعشرين ) وهنا نجد أن الجمهور
يرجحون أنها في ليلة سبع وعشرين؛ لأن عدداً من الصحابة رأوها في
منامهم، وتواطأت رؤياهم عليها، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم
على ذلك، ثم نجد بعض الاجتهادات في تأييد أنها في ليلة سبع وعشرين.
فمن تلك الاجتهادات قول بعض العلماء: إنها معينة في سورة القدر في
قوله تعالى: سَلامٌ
هِيَ [القدر:5]
يقولون: إذا عددت من أول قوله تعالى: إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]
إلى كلمة (هي) فستجد كلمة (هي) هي الكلمة السابعة والعشرون من
كلمات السورة، و(هي) ضمير مفرد مؤنث، فقالوا: إذاً: هي في ليلة سبع
وعشرين. وهذا -كما يقولون- ربما يكون من باب المصادفات، وقد ساق(2/494)
ابن كثير والقرطبي وكثير من المفسرين أن عمر رضي الله
تعالى عنه كان كثيراً ما يدخل ابن عباس في مجلسه وهو غلام،
ويرى من شيوخ الصحابة نوع استغراب أن يجالس غلام كبار الصحابة،
فأراد عمر أن يبين لهم أنه ما أجلسه معهم إلا لفضله وعلمه وإن
كان غلاماً، وفي بعض المجالس سأل عن سورة النصر: إِذَا
جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]
فتكلموا فيها وقالوا: هي بشرى بالفتح، وبشرى بالنصر، وبشرى بانتصار
الإسلام، وابن عباس ساكت، فسأله عمر : ماذا تقول يا ابن
عباس ؟! قال: والله! لقد نعت إلينا رسول الله وهو حي بين
أظهرنا؛ لأنه إذا جاء نصر الله، وإذا دخل الناس في دين الله
أفواجاً، فمهمة الرسالة قد تمت، ولم يبق هناك حاجة للبقاء،
فليتأهب، ويسبح بحمد ربه ويتزود ليلقى ربه. فقال عمر : وأنا
أقول ذلك. ومرة أخرى سألهم عن ليلة القدر، فخاضوا في بعض الأحاديث
وفي رؤى بعض الصحابة، فقال: ما تقول أنت يا ابن عباس ؟! قال:
إني لأعلم أي ليلة هي. قال: وما هي؟ قال: هي لسبع بقين أو لسبع
خلون، (لسبع بقين) يعني: ليلة ثلاث وعشرين؛ لأن الباقي بعدها سبع
ليال، أو (لسبع خلون) يعني: ليلة سبع وعشرين؛ لأنه قد خلت ومضت
قبلها سبع ليال، قال: وكيف عرفت ذلك؟ قال: لأن الله خلق السماوات
سبعاً، والأراضين سبعاً، وجعل الجمرات سبعاً، والطواف سبعاً،
والسعي سبعاً، والأسبوع سبعاً، والشهر يقوم على سبع، والإنسان خلق
من سبع، وغذي بسبع... وذكر أشياء من هذا كثيرة. قال: فهذا الطواف
والسعي والسماوات عرفناها، ولكن الإنسان كيف خلق وكيف غذي؟ قال:
يقول تعالى: فَلْيَنْظُرِ
الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا
الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:24-31](2/495)
والأبٌّ للدواب، وهذا رزق الإنسان مبني على هذا، وأطواره سبعة:
نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظام، ثم كسي العظام لحماً ثم أنشى
خلقاً آخر، قال: والله لقد غصت على ما لم نغص عليه، فاعترف له عمر رضي الله تعالى عنه بالفضل وبدقة الاستنتاج. يهمنا هنا قول ابن
عباس : لسبع بقين، أو لسبع مضين. وهذا يتعين إما ليلة ثلاثٍ
وعشرين وإما ليلة سبع وعشرين، هذا ما يتعلق بالتعيين.
الجمع بين الروايات المتباينة في تعيين ليلة القدر
وهنا يقف العلماء أمام هذه النصوص الصحيحة: ليلة واحد وعشرين وفيها
المطر، وليلة ثلاث وعشرين أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل
المسن بالنزول فيها، وليلة سبع وعشرين رؤياهم تواطأت فيها، فكيف
يكون هذا مع أن إحدى وعشرين تغاير ثلاثاً وعشرين وتغاير سبعاً
وعشرين، فهل هذا تناقض أو تعارض؟ قالوا: ليس فيه تناقض ولا تعارض
وإنما في السنة التي سألوا فيها أولاً كانت في ليلة واحد وعشرين،
وفي السنة التي رأوا فيها الرؤى كانت في ليلة سبع وعشرين، وفي
السنة التي سأل فيها الجهني وقد صارت معروفة عند أهل المدينة بليلة
الجهني؛ لأنه كان ينزل في العصر وينيخ دابته، فيصلي العصر، ويبقى
إلى أن يصلي الفجر، ودابته عند الباب فيركب ويرجع إلى مكانه، فعرفت
بليلة الجهني كانت في ليلة ثلاث وعشرين فقالوا: كل حادثة كانت ليلة
القدر في سنتها في ذلك التاريخ، فإذاً: هي ليست بثابتة، ومن هنا
قال الشافعي وغيره: إن ليلة القدر ليست مربوطة ومعينة بليلة
واحدة من الوتر من العشر الأواخر، بل هي تتنقل وتدور في الوتر من
العشر الأواخر، فمرةً تكون في ليلة واحد، ومرةً تكون في ليلة ثلاث،
ومرةً تكون في ليلة تسع وعشرين، ومرةً تكون في ليلة خمس، ومرةً
تكون في ليلة سبع، فهي ليست مرتبطة وثابتة في ليلة من الليالي،
ولكنها تتنقل في الوتر من العشر الأواخر. وهذا أحسن ما يجمع به بين
النصوص، وهو يساعد على المعنى الذي قالوه في الحكمة من إخفائها:(2/496)
ليجتهد الناس في كل العشر الأواخر.
بيان أن ليلة القدر باقية لم ترفع
ثم إن هناك من يقول: إن ليلة القدر قد رفعت كما جاء في الحديث:
(فتلاحى رجلان فرفعت ) وهذا يقوله بعض طوائف الشيعة، ولكن
الجمهور يقولون: إن معنى (رفعت) أي: رفع العلم بتعيينها؛ لأنه في
نفس الحديث قال: (فالتمسوها في العشر الأواخر أو في الوتر من العشر
الأواخر ) فكيف تكون قد رفعت وهو يقول: (التمسوها) إذاً: هي
موجودة، ولكن الذي رفع هو العلم بتعيينها بالذات في أي الليالي.
هل ليلة القدر خاصة بهذه الأمة أم أنها كانت موجودة في الأمم الماضية؟
ثم يأتي البحث أيضاً: هل هذه الليلة خاصة بهذه الأمة أو أنها كانت
موجودة في الأمم الماضية؟ فبعضهم يقول: هي خاصة بهذه الأمة،
ويذكرون في ذلك ما رواه مالك رحمه الله بلاغاً، وهو من
البلاغات الأربعة التي يقولون: لم يوجد لها سند، ولكن تتبعها أبو
زرعة رحمه الله فوجدها مسندة بأسانيد تدور بين الحسن والضعف
والصحة، هذا البلاغ الذي رواه مالك هو: أن النبي صلى الله عليه
وسلم أري أعمار أمته مع أعمار الأمم الماضية، فتقالها؛ لأنها ما
بين الستين والسبعين، والذين قبلهم كانوا يعمرون المائة والمائتين،
فلما تقالها عظم عليه أنهم لا يعملون زمناً بقدر زمن الأمم
الماضية، فلا يحصلون من الجنة بقدر ما يحصل غيرهم؛ لأن الشخص الذي
يعيش مائة سنةً في طاعة الله ليس كالذي يعيش ثلاثين سنةً أو أربعين
سنةً كما في الحديث: (خيركم من طال عمره وحسن عمله ) فأتي بليلة
القدر، وجعلت لأمته تلك الليلة التي قال فيها: (من قام ليلة القدر
إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) فكانت ليلة القدر
تعويضاً للأمة عما نقص من أعمارها، وفي الرواية الأخرى: أنه ذكر
لهذه الأمة أنه كان في من قبلنا رجل كان يقوم الليل ويجاهد في
النهار صائماً ثمانين سنةً أو مائة سنة، فتقال الصحابة أعمالهم
وقالوا: من يستطيع أن يظل ثمانين سنة يقوم الليل، وثمانين سنة(2/497)
يجاهد العدو وهو صائم؟! فلما قارنوا أنفسهم بالنسبة لهذا النوع من
البشر المتقدم عظم عليهم ذلك، فأنزل الله سورة القدر، وفيها: أن
تلك الليلة خير من الألف الشهر؛ لأن الرجل لبس السلاح ألف شهر،
والألف شهر في الحساب تساوي ثلاثة وثمانين سنة وكذا شهراً، يعني
فوق الثمانين سنة، فكانت ليلة القدر تعويضاً للأمة عما فاتها من
القدرة والاستطاعة على عمل الخير كذاك الرجل الذي عَبَدَ الله ألف
شهر قياماً لليل وجهاداً في النهار. ومن هنا قالوا: إنها خاصة بهذه
الأمة، والآخرون يقولون: بل هي موجودة في الأمم قبلنا؛ لما جاء في
حديث أبي هريرة : (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل ليلة
القدر كانت تكون في الأمم مع الأنبياء، فإذا مات النبي رفعت، أو هي
باقية وخاصة بهذه الأمة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل كانت مع
الأنبياء في الأمم الماضية ) وسواء كانت في الأمم الأوائل، أم
كانت جديدة في هذه الأمة فنحن يهمنا الاجتهاد فيها.
العلامات التي تعرف بها ليلة القدر
بقي هل هناك علامات لها في ليلتها؟ العلامات التي وردت إنما تظهر
في صبيحتها، وبعضهم يقول: من أكرمه الله فقد يرى بعض العلامات،
وليست علاماتها عامة كالشمس والقمر، ولكن ربما يجد إنسانٌ شيئاً ما
دون أن يراه الآخرون، ولكن العلامة العامة هي معنوية روحانية،
يذكرونها عند قوله سبحانه: تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ
أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ [القدر:4-5]
فقالوا: (سَلامٌ هِيَ) أي أن الملائكة تسلم على كل من في الأرض،
فيقولون: من صافحته الملائكة -وقد تصافح البعض- يشعر أن في قلبه
رقة، وكأنه يميل إلى البكاء فرحاً أو خوفاً من الله، وهذه الحالة
المعنوية قد تعتري بعض الناس إذا قرأ شيئاً من القرآن، فإن المولى
يتجلى عليه بروحانية كتابه، فيحس طمأنينة وارتياحاً نفسياً لم يكن
يحس به من قبل، وهي السكينة التي تنزل عند قراءة القرآن كما ذكر(2/498)
ذاك الصحابي لرسول الله أنه كان يقرأ القرآن بالليل والفرس في
مربطها فإذا بها تجول، وعندها طفل فخاف عليه، وترك القراءة وذهب
ليرى الطفل فوجد الفرس قد سكنت وهدأت فإذا عاد إلى صلاته وقرأ
تحركت الفرس، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (تلك
السكينة التي تنزل عند قراءة القرآن، فتراها الفرس فتتحرك ) .
وهكذا قد يرى أنواع وأشخاص وأفراد من الناس في تلك الليلة بعض تلك
العلامات التي من يحسها يحس بانشراح صدره، وبخفة روحه، وبرفعة
معنوياته، وبمحبته لذكر الله وما والاه. أما العلامات التي يشهدها
الجميع ففي صبيحتها تشرق الشمس وليس لها شعاع كشعاع الأمس، بل تكون
الشمس هادئة رائقة فيها شبه من ضوء القمر، يقولون في سبب ذلك: إن
الملائكة حينما تنزلوا ليلة القدر لم يبق شبر في الأرض إلا وفيه
ملك، فإذا صلى الناس الفجر بدأ الملائكة يصعدون إلى السماوات
السبع، وإلى سدرة المنتهى، فيصعدون من بعد الفجر إلى طلوع الشمس
وإلى الضحى فكثرة عددهم مع نورانيتهم -لأن الملائكة من نور- يختلط
نور الملائكة مع شعاع الشمس، فيختلط النور والشعاع، فيتغير لون
أشعة الشمس بسبب ذلك. ويقولون في علاماتها: إن ليلتها سلام، فلا
يقع فيها من الأحداث العظام التي تفزع الأمم، لا يقع فيها خسف، ولا
يقع فيها غرق، ولا يقع فيها إحراق، وكذلك نهارها يكون تابعاً
لليلتها بسلام: سَلامٌ
هِيَ [القدر:5]
والواجب على العالم في هذا الوقت الحاضر -لو كانوا عقلاء- أن
يجعلوا لهم فترة سلام يستريحون فيها ولو كانوا في حالة قتال
وشحناء، ويعطون أنفسهم فرصة للمفاهمة، وللتوصل إلى السلام الحقيقي،
وسابقاً جعلوا سويسرا بلداً بعيداً عن الحروب، يلتقي فيها
المتحاربان، يتقاتلان في الميدان، ويجلسان على طاولة واحدة وعلى
مائدة واحدة في سويسرا، وإذا خرجوا منها شهر كل منهما السلاح على
الآخر، فجعلوها بلداً بعيداً عن الحروب، حتى إنه كان في الأول ليس(2/499)
لها جيش؛ لأنها لا تحارِب ولا تحارَب؛ لتكون موطناً لالتقاء
الأعداء وفرصة للتفاهم، وقد سبق الإسلام ذلك قال تعالى: إِنَّ
عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي
كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36]
يحرم على الإنسان أن يعتدي على الآخر ولو كان له دم عنده، فيتواصل
الناس، وتسافر القبائل وتنتقل في مأمن أثناء هذه الأشهر الحرم.
وكذلك قال تعالى: وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]
فالمتقاتلان في غير مكة إذا التقيا في حرم مكة فهما أخوان، لا يهيج
أحدهما الآخر، ولا يعتدي أحدهما على الآخر؛ لأنهما في مظلة أمن
البيت الحرام كما قال تعالى: وَمَنْ
دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل
عمران:97] حتى الطير يأمن فيه، والوحش يأمن فيه فضلاً عن الإنسان،
فالإسلام جعل مكاناً وزماناً للسلم والأمن وجعل فرصة للمتخاصمين أن
يتصالحوا، وفرصة للمتخالفين أن يتفاهموا في ظل حرمة من حرمات الله
قال تعالى: وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
إذاً: نحن مقصرون في حق الإسلام، وكان علينا لزاماً أن نعلِّم
العالم بأن السلام عندنا، ومن عندنا انطلق، سواء كان في المكان
بمكة، أو في الزمان في الأشهر الحرم، والتشريع العام: لا
تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا
الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة:2]
يا سبحان الله! يقول: لا تحلوهم، ولا تستحلوهم، وابقوا لهم الحرمة،
من أمَّ البيت الحرام فهو آمن، وقد كانوا في الجاهلية من خرج من
أمن الحرم وخاف على نفسه في غير الأشهر الحرم يأخذ لحاء شجرة
ويجعله كالقلادة في عنقه، فإذا مر بأي قبيلة قالوا: تحرم بالحرم،
فهذه القلادة، والقشرة من لحا الشجرة تحميه من أعدائه؛ لأنها من(2/500)
جوار البيت. والآن صار المسلمون لا يرقبون في بعضهم إلاً ولا ذمة،
ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالقوة للقاهر، والسلطة للقادر، ورجعت
جاهلية من عز بز ومن غلب استلب، فلنرجع إلى الإسلام، إن لم نصدره
للآخرين فليكن لنا فيما بيننا، لا أن نأتي في رمضان ونحشد الجيوش
للقتال، الواجب على الجميع أن يكون رمضان أقل ما فيه هو السلم
والسلام، نعم لأخذ الاحتياط! ونعم لأخذ الأهبة! ونعم لإعداد القوة!
ولكن أن نقاتل! وأن يقاتل المسلمون بعضهم بعضاً في رمضان، وفيه
ليلة السلم والسلام التي قال الله فيها: سَلامٌ
هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:5]!
فنسأل الله السلامة والعافية! أين المسلمون من هذا؟! أين أجهزة
الإعلام من هذا التشريع الإلهي؟! إن الكلام على ليلة القدر لا يمكن
أن يستوفيه إنسان في جلسة.
سبب تسمية ليلة القدر بهذا الاسم
وإذا جئنا إلى تسميتها قالوا: القدر: هو الشرف والرفعة، فهي ليلة
رفيعة القدر، جليلة المكانة؛ لأنها شهدت عظيم القدر على عظيم الخلق
في عظيم الأمم، شهدت أعظم ما شهدت ألا وهو إنزال القرآن الكريم على
خير خلق الله في أمة هي خير الأمم، ومن هنا كانت ليلة القدر رفيعة
الشأن. وقيل القدر: هو التقدير؛ لأن الله سبحانه يقدر فيها أحوال
العالم الأرضي، وينزل ذلك التقدير إلى الملائكة ليطبقوا ذلك كما
قال تعالى: تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ
أَمْرٍ [القدر:4]
من كل أمر من أمور الخلائق: من رزق ومن شقاء ومن سعادة ومن مولد
ومن ممات ومن... إلخ، ولذا يؤكد العلماء على أن ليلة القدر هي في
رمضان، وأن ما جاء في سورة الدخان في قوله تعالى: فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ
عِنْدِنَا [الدخان:4-5]
إنما هو في ليلة القدر؛ لأنه قال: إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]
وكان إنزال القرآن قطعاً في رمضان. إذاً: الليلة التي تقدر فيها(3/1)
الأمور، وتقدر فيها شئون الحياة إنما هي ليلة القدر، يقدر الله أو
ينسخ من اللوح المحفوظ ما قدره طيلة العام، وينزّله إلى الملائكة
الكرام، ثم بعد ذلك ينزل ويطبق وينفذ في العام كله.
الأدعية الواردة في ليلة القدر
أما ماذا يقول من صادفها؟ فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي
الله تعالى عنها أنها قالت: (يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفت
ليلة القدر؟ قال: قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني )
وإذا تأملنا في هذه الألفاظ وجوها: السائل عائشة ، وسألت رسول
الله، ومن تكون عائشة من رسول الله؟ هي أحب الناس إليه بعد أبي
بكر ، فأتاها بأحب النصح، يعني: أن جوابه لها هو نهاية النصح
والمحبة، ولو أن هناك خيراً من ذلك لقاله لها. ويقول علماء اللغة:
الميم في (اللهم) بدل (يا) النداء في (يا ألله) فتحذف ياء النداء
في الأول، ويعوض عنها بميم في الأخير. قوله: (اللهم! إنك عفو) هذا
وصف للمولى سبحانه أنه عفو، وكم من عفو لله على الخلق! وكم من ذنب
يرتكبه الإنسان في خفاء أو علن والله يعفو عنه! إذاً: يمتدح الله
بصفته أولاً؛ لقوله تعالى: وَابْتَغُوا
إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35]
أي: عند الدعاء قدم وسيلة لاستجابة دعائك، وهذا مبدئياً، فإذا قلت:
(اللهم! إنك عفو) فقد أثنيت على الله، ومدحت الله بالصفة التي
تتناسب مع حاجتك وسؤالك، ولو كنت تريد الرزق: فقل: اللهم! يا رزاق!
يا رازق الطير! يا رازق النمل! يا رازق كذا في جحره ارزقني؛ لأنك
تطلب رزقاً فتسأله بصفة الرزاق، وهنا تريد أن تسأله العفو، فتمتدحه
سبحانه بصفة العفو. وقوله: (إنك عفو تحب العفو) قال تعالى: أَلا
تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22]
في قضية مسطح وغيره، وقوله: (إنك عفو تحب) أي: وأنا أسألك لأن
من صفتك العفو وأنت تحبه أن تعفو عني. وإذا تأمل الإنسان في قوله:
(فاعف عني ) العفو -كما يقولون-: هو الإزالة، نحو: عفت الريح(3/2)
الأثر، إذا مرت قافلة في الصحراء ورسمت أخفافها وأقدامها في
الطريق، فإذا جاءت ريح شديدة وحركت الرمل عفت أثر المسير في
الصحراء ولم يبق للمسير أثر، فكذلك العفو عن الزلة يمحو أثرها من
الصحيفة، فلا يبقى لها أثر مكتوب على الإنسان. قوله: (إنك عفو تحب
العفو فاعف عني) وإذا نظرنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (من عوفي
في بدنه، وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها )،
وقوله: (من عافاه الله في بدنه فهو سعيد )، وقوله: (من عافاه
الله في دينه وسلم من الشرك، وسلم من الرياء، وسلم من كبائر الذنوب
فهو سعيد )، وقوله: (من عافاه الله يوم القيامة من تلك المضايق
فهو السعيد الناجي )، وقوله تعالى: فَمَنْ
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل
عمران:185] علمنا أن أجمع دعاء يكون هو هذا الدعاء الموجز (فاعف
عني) مع المقدمة التي يقدمها الإنسان إليه. ونحن نتوجه إلى الله
العلي القدير بأنه عفو يحب العفو أن يعفو عنا، اللهم! إنا نسألك
العفو والعافية والمعافاة، اللهم! إنا نسألك أن تعافينا في
أبداننا، وفي ديننا، وفي جميع أعمالنا، اللهم! إنا نسألك يا سلام!
يا منزل السلام! أن تنزل السلام على الأمة الإسلامية، اللهم! خذ
بنواصي ولاة أمور المسلمين إلى الحق وإلى العدل، اللهم! أنزل رحمتك
علينا واجعلنا من عتقائك من النار، ومن المقبولين، اللهم! أوردنا
حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! وأسقنا منه وبيده
الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم! أكرمنا بفضلك
شفاعة نبيك صلى الله عليه وسلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله
وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
134781 ( كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [4] )
( كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [4] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)
2 معنى الحج المبرور والأجر المترتب على الإتيان به(3/3)
3 شرح حديث: (عليهن جهاد لا قتال فيه...)
4 حكم العمرة في الشرع
كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [1]
الحج والعمرة عبادتان عظيمتان، وموسمان عظيمان لتحصيل الأجور، وتكفير
الذنوب، وقد سماهما النبي صلى الله عليه وسلم (جهاداً لا قتال فيه)
وذلك لما فيهما من الصبر على المشقة والتعب، بل والتضحية بالمال
والنفس، فحري بالمسلم أن يحرص على أدائهما، وتكرارهما، والمتابعة
بينهما.
شرح حديث: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما
بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) متفق عليه ].
خلاف العلماء في المراد بالذنوب التي تكفر بالعمرة
بدأ المؤلف رحمه الله بهذا الحديث: (العمرة إلى العمرة كفارة لما
بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ). موضوع هذا
الحديث هو الترغيب في هذين النسكين العظيمين: (العمرة إلى العمرة)
أي: الزيارة إلى البيت، من أي قطر من أقطار الدنيا، فأداء عمرتين
يكفر ما بينهما من ذنوب، طال المدى أو قصر، ويأتي بحث للعلماء في
نوعية المكفَّر أهي الكبائر، أم الصغائر، أم هما معاً؟ وقد جاءت
أحاديث فيما يسمى بمكفرات الذنوب، جاء في القرآن الكريم: أن اجتناب
الكبائر يكفر الصغائر: إِنْ
تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيئاتِكُم [النساء:31]،
وجاء أيضاً: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، وزيادة ثلاثة
أيام ) ، وكذلك المشي إلى المساجد للصلوات الخمس، وكذلك يوم
عرفة، إلى غير ذلك من النصوص التي وردت في مكفرات الذنوب. ويرى بعض
العلماء أن هذا عام (العمرة إلى العمرة كفارة) لم يأت قيد لكبيرة
ولا لصغيرة، ولم يأت قيد لحق الله أو لحق العبد، والعلماء مختلفون(3/4)
في هذه المسألة: فهناك من يقول: تكفر حق الله وتكفر حق العباد على
الإطلاق. وهناك من يقول: تكفر حق الله فقط، أما حق العباد فمتوقف
على الأداء. وهناك من يقول: تكفر الصغائر فقط ولا تكفر الكبائر.
وأشد من تشدد في ذلك ابن عبد البر رحمه الله، والذين قالوا:
تكفر حتى حقوق العباد، مع أن حق العباد لا يسقطه حتى الجهاد وحتى
الشهادة في سبيل الله؛ لأن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (ماذا تكفر الشهادة.. -فأخبره بأنها تكفر كل شيء- ؟ ثم ولى،
فدعاه مرة أخرى، وقال: إلا الدين، فإن الميت مرهون في قبره بدينه )
وقالوا: إن حق العبد مبني على المشاحة، فهو يقف بين يدي الله
ويطالب بحقه. فالذين قالوا: إنها تكفر كل شيء حتى حقوق العباد،
قالوا: إن الله سبحانه قد وعد بذلك، فهو الذي يتولى إرضاء ذوي
الحقوق عن حقوقهم، وقد جاءت نصوص وفيها: (إذا كان الناس في عرصات
القيامة، ترفع غرف يراها أهل الموقف كما يرى أهل الأرض النجوم في
السماء، فيقولون: يا ربنا! لمن هذه الغرف؟ فيقول -سبحانه- : لمن
تنازل عن مظلمة له عند أخيه )، فكل ذي مظلمة يتنازل لينال من
تلك الغرف الرفيعة المنازل، كرفعة النجوم في الدنيا.. إلى غير ذلك.
ومهما يكن من شيء فهذا نص عام، إلا أن المسلم العاقل لا ينبغي أن
يتكل على ذلك كل الاتكال، فعليه أن يؤدي حقوق العباد، وأن لا يقصر
في حقوق الله.
آداب بنبغي على من أراد الحج مراعاتها
وقد جاء عند الفقهاء جميعاً: بعض آداب الحج، قبل البدء فيه، فمن
أراد أن يحج فليبدأ أولاً: بالتحلل من حقوق العباد، فإن كانت عنده
أمانات فليردها إلى أهلها، وإن كانت عليه ديون فليسدد ديونه، وإن
كانت عنده مظلمة لأحد فليتحلل منه، حتى قالوا: عليه عند عزمه على
السفر أن يزور صالحي أهل بلده، ويوادعهم، ويسألهم الدعاء له
بالسلامة والقبول.. إلى غير ذلك، ونحن أمام هذا النص نقول: هذا فضل
الله، وفضل الله عظيم.
العمرة ليس لها وقت محدد(3/5)
والمباحث الفقهية في هذا النص النبوي الكريم عديدة منها: إطلاق
الإتيان بالعمرة: (العمرة إلى العمرة) لم تقيد بيوم، ولا بشهر، ولا
بزمن محدد، بخلاف الحج فقد قال تعالى فيه: أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]
فقال الفقهاء رحمهم الله: كل وقت من السنة صالح لأداء العمرة،
ولكنهم استثنوا الأيام الخاصة بالحج، وهي: يوم عرفة، وأيام
التشريق، واختلفوا في أيام التشريق فيمن تعجل في يومين: هل له أن
يأتي بالعمرة في اليوم الثالث، أو أن هذا اليوم الثالث من خصائص
الحج؟ فإن هناك من الناس من تأخر ولم يتعجل، فهي أيام ثلاثة لرمي
الجمرات، فاختلفوا في اليوم الثالث فقط، وما عدا يوم عرفة وأيام
التشريق فجميع أيام السنة صالحة لأداء العمرة.
حكم تكرار العمرة
وكذلك من المباحث الفقهية في هذا الحديث الشريف: تكرار العمرة؛ لأن
قوله صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة ) دونما تقييد
بزمن، فأخذ الجمهور وأتباع الأئمة الأربعة ما عدا المالكية: بأن
العمرة يجوز تكرارها في الشهر وفي السنة. وبعضهم قال: لا تكرر في
الشهر الواحد. وبعضهم قال: لا تكرر قبل عشرة أيام. وحجة أولئك: بأن
من اعتمر يحلق شعره، وإذا أراد عمرة أخرى ينتظر حتى ينبت شعره
ليحلقه في العمرة الثانية، إلى غير ذلك من الاستنتاجات، ويرى
المالكية: بأن العمرة لا تتكرر في السنة، وإنما تكون في كل سنة مرة
لمن أراد ذلك. ووجه نظر المالكية في ذلك قالوا: إن النبي صلى الله
عليه وسلم اعتمر، وأتى مكة وحج واعتمر مع حجه، ولم يأت بعمرتين في
سنة واحدة، وقد جاء في فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وذهب إلى حنين،
وفي عودته اعتمر من الجعرانة، وكانت عمرة واحدة، ولم يكرر العمرة،
مع أنه كان لديه الوقت لذلك، وأجاب الجمهور: بأن فعله صلى الله
عليه وسلم سنة وأسوة، ولكن تركه الفعل ليس دليلاً على عدم الجواز،
فقد كان صلى الله عليه وسلم ربما يترك الفعل وهو يحب فعله؛ مخافة(3/6)
أن يفرض على الناس، أو أن يشق عليهم. ومن هنا ترك العمرة في فتح
مكة، وفي حجة الوداع، ويقال أيضاً: لقد كانت سنة ثمان سنة فتح
وجهاد، وما أن فرغ من فتح مكة حتى سمع بأن هوازن قد جمعت له، فما
كان إلا أن خرج إليهم، ولما انتهى منهم رجع بعمرة إلى مكة، وما كان
إلا قسم الغنائم ثم العودة إلى المدينة، ولو أنه صلى الله عليه
وسلم كرر العمرة في تلك السنة لشق على من كان معه، فإن معه جيشاً
لا يقل عن عشرة آلاف مقاتل، خرج بهم من المدينة، ومعه أيضاً عدة
آلاف من أهل مكة، انضموا إلى جيش المسلمين، فحينئذ لو أراد أن
يعتمر لكان في ذلك مشقة على هذا العدد، وتكرار العمرة سنة ونافلة،
وليس بواجب. وعلى كل يرى الجمهور: أن تركه صلى الله عليه وسلم ليس
دليلاً على عدم الجواز، فهو صلى الله عليه وسلم وإن ترك الفعل فقد
أتى بالقول، وجعله عاماً ولم يقل: إلا أنها في السنة مرة واحدة،
ولم يقل: في كل سنة، بل جاء إقرار منه صلى الله عليه وسلم لأم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، عندما حجت مع أزواجه
صلوات الله وسلامه عليه، ورضوان الله تعالى عليهن، فكانت قد حاضت
بسرف، وكانت مفردة، وخافت أن لا تطهر قبل أن تأتي بعمرتها، (فدخل
عليها صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك لعلك نفست؟
قالت: نعم، قال: لا عليكِ أمر كتبه الله على بنات حواء، قولي: عمرة
في حجة -فأدخلت العمرة على الحج وصارت قارنة- فلما انتهوا قالت:
أريد عمرة قال: يكفيكِ عمرتكِ مع حجك، قالت: لا، أيرجع صاحباتي
بعمرة وحج، وأرجع أنا بعمرة مع الحج -تريد عمرة مستقلة- فقال صلى
الله عليه وسلم لأخيها عبد الرحمن : اذهب بها فاعمرها من
التنعيم ) فذهب وأعمرها من التنعيم، وجاءت وقضت عمرتها ورحلوا،
وقد كانوا على أهبة الرحيل، والوقت ليل، ولولا صحة العمرة أكثر من
مرة -وقد أتت معهم بعمرة في تلك السنة مع حجها- لما قال له وهم على(3/7)
سفر: اذهب وأعمرها -أي: ويدركهم في موضع كذا- فلما أجاز لها،
وأعمرها وأتت بعمرتين في السنة؛ علم الجميع بأن العمرة يجوز
تكرارها. ويقول بعض العلماء: إن العمرة يجوز تكرارها إلا لأهل مكة؛
لأن بقاءهم عند البيت، وطوافهم بالبيت، أولى من أن يضيعوا وقتاً في
الذهاب والإياب إلى غير ذلك. إذاً: قوله: (العمرة إلى العمرة كفارة
لما بينهما) على عمومه دون تحديد وقت لأداء العمرة، خلافاً لما جاء
عن مالك رحمه الله.
معنى الحج المبرور والأجر المترتب على الإتيان به
والقسم الثاني من الحديث: (والحج المبرور) يرى بعض العلماء أن بر
الحج إنما هو: إيفاء أركانه وواجباته، أي: الإتيان به على الوجه
الأكمل. ويرى البعض أن الحج المبرور ما قام فيه الحاج بإطعام
الطعام، وإفشاء السلام، ولين الكلام مع رفقائه، وهو راجع إلى الوجه
الأول أيضاً؛ لأن من تمام الحج الرفق بالمسلمين، وكما جاء عنه صلى
الله عليه وسلم قوله : (أن تعين الرجل على دابته، تحمله عليها
وتدله على الطريق، كل ذلك صدقة ) وهكذا الحج، ولما كان هذا
الجمع من كل قطر على اختلاف العادات والبيئات، فتختلف طبائع
المجتمعات عن بعضها؛ جاءت آداب الحج في كتاب الله لتقضي على كل تلك
الفوارق، وتمنع كل أسباب النزاع، ليظل الحجيج متآلفين متآخين: الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا
رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]
لأن هذه الثلاثة تؤدي إلى الفرقة، وإلى النزاع والشقاق، وهم إنما
جاءوا ليشهدوا منافع لهم، ولا يتم شهود المنافع مع وجود النزاع
والخصومات، ومع وجود الرفث، فكيف يقول: لبيك، ثم تجده يرفث عند
النساء. إذاً: الحج المبرور هو: ما وُفِّي على خير ما يكون، من
إتمام واجباته، وسننه، ومندوباته، وأركانه. والبعض يقول الحج
المبرور: ما اجتنب فيه المآثم، وهذا راجع للأول؛ لأن من أدى الحج(3/8)
بكامل أركانه، وواجباته، وسننه؛ يكون بعيداً عن الأخطاء، والآثام
في هذه السفرة المباركة. وبعضهم قال: هناك ميزان، ننظر إلى الحاج
حينما خرج من بلده وجاء إلى الأراضي المقدسة، وأدى المناسك... إلخ،
ثم عاد إلى بلده، كيف صارت حالته؟! نزن الحالة الأولى مع الحالة
الثانية، هل هو أحسن حالاً في سلوكه.. في منهجه.. في أمانته.. في
معاملاته.. في محافظته على العبادات.. في وفائه للحقوق.. أهو خير
مما ذهب أو هو كما ذهب رجع؟ فإذا كان خيراً مما ذهب، فيكون قد
استفاد من رحلة الحج؛ لأن رحلة الحج فيها تهذيب للنفس، ويظهر ذلك
في محظورات الإحرام، على ما سيأتي إن شاء الله. ومهما يكن من شيء
فهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحج المبرور على ما
جاء فيه أن جزاءه الجنة، وجاء في بعض النصوص، لكنها بأسانيد ضعيفة:
(إطعام الطعام وإفشاء السلام ) ولكن نقول: كل ذلك من فعل الخير
في أداء الحج. قوله: (ليس له جزاء إلا الجنة)، أعظِم بهذا الجزاء!
يخرج في رحلة، أياماً وأسابيع أو أشهراً فيعود بهذا الجزاء وهو
الجنة، ومعنى ذلك: أنه يستحق عند الله -عطاءً منه- أن يدخله الجنة،
إذن: عليه أن يحافظ على تلك النعمة وعلى هذا العطاء، وأن لا يحرم
نفسه منه، أي: بما يضاد موجباتها، فإذا ما أنعم الله على إنسان
بأداء الحج، وليعلم كل مسلم أن الإتيان لأداء الحج إنما هو فضل من
الله عليه، لا بوفرة ماله، ولا بقوة بدنه، ولا بعزة جاهه، ولا
سلطانه، إنما هي نعمة من الله. ولذلك يقول العلماء: أول ما بنى
إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام البيت ورفع القواعد، أوحى
الله إليه: أن يا إبراهيم! أذن في الناس بالحج، فقال: يا رب! وأين
يذهب ندائي؟! وكيف يبلغهم صوتي؟! قال: عليك النداء وعلينا البلاغ،
فصعد إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس وقال: أيها الناس! إن
الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه، فلبى كل من كتب الله له الحج، حتى(3/9)
الذراري في أصلاب الآباء إلى يوم القيامة، ومن لبى مرة حج مرة، ومن
لبى مرتين حج مرتين.. إلى آخره، فمن لبى في ذاك الوقت وهو في عالم
الذر، قبل أن يوجد إلى الدنيا، فهو سيلبي حينما يوجد فيها. وهكذا
عندما يأتي الحاج ويشرع في نسكه يكون شعاره: لبيك اللهم لبيك،
و(لبى) في اللغة بمعنى: الإجابة، والإقامة على الطاعة، إذا ناداك
إنسان فقلت: لبيك، معنى ذلك: أنا هاهنا وتحت أمرك، أجبتك في دعائك،
وممتثل لأوامرك، فالحاج حينما يشرع في نسكه يعلن قائلاً: لبيك،
إنما هي إجابة لذاك النداء، الذي بلغه عن الخليل عليه وعلى نبينا
الصلاة السلام. إذاً: مجيء الحاج فضل من الله عليه، وكل إنسان يعلم
كم خلف في قومه ممن هو أغنى منه، وأقوى بدناً، وأعز سلطاناً، ولم
يقدر له الحج! فإذا لم يقدر له الحج فلن يحج، ومن أتى فبفضل من
الله، (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) والله سبحانه وتعالى
أعلم.
شرح حديث: (عليهن جهاد لا قتال فيه...)
[ وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (قلت: يا رسول الله!
على النساء جهاد؟ قال: نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة )
رواه أحمد وابن ماجة واللفظ له، وإسناده صحيح وأصله في
الصحيح ]. يقول هنا: إن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها
قالت: (يا رسول الله! أعلى النساء جهاد؟) قولها: (على النساء) خبر
يراد به الإنشاء أو الاستفهام؟ (على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد
لا قتال فيه الحج والعمرة)، وجاء بصيغة أخرى وفيها: (يا رسول الله!
أرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ ) تقول رضي الله تعالى
عنها: نرى الجهاد -معشر النسوة- أعظم الأعمال وأفضل الأعمال، أفلا
نشارك في هذا الفضل؟ (قال: نعم، ولكن جهادكن جهاد لا قتال فيه:
الحج والعمرة ).
أوجه الشبه بين الحج والجهاد
وهنا يتبين فضل الحج، وأنه يعدل في ثوابه ثواب الجهاد، والمجاهد في
سبيل الله ينال إحدى الحسنيين: إما الشهادة، وفيها حياة برزخية(3/10)
دائمة إلى يوم القيامة، ثم مأواه الجنة، وإما النصر والغنيمة.
والحج: جهاد لا قتال فيه، قالوا: هذا جهاد النساء، وقال آخرون: هو
جهاد للرجال أيضاً؛ لأن الحج: حل وارتحال وشظف في العيش، وتحمل
للمشاق، ولربما البعض لم يعش ساعة واحدة أثناء أدائه مناسك الحج
على الحالة التي كان عليها من قبل، وإن كان الآن قد تيسر الأمر
بحمد الله، وكل ما يجده الآن في بيته من وسائل الراحة قد يجدها
أيضاً في الحج، ولكن مهما يكن من شيء، فلابد في الحج من وعثاء
السفر؛ لأن السفر قطعة من العذاب، فلابد فيه من بعض الحرمان أو
المشقة، فإذا كان الأمر كذلك؛ فقد اشترك الحج مع الجهاد في الرحلة،
والحل والترحال، وبقي القتال والمسايفة. نجد في الحج جهاد النفس،
فالحاج يجاهد نفسه على تأدية الأعمال التي كلف بها، وقد نجد في
الحج جهاداً صعباً لا ينجح فيه إلا من شاء الله، فإذا جئنا إلى
محظورات الإحرام، فقد حُرّم عليه أثناء الإحرام الرفث إلى نسائه،
فتكون زوجته معه في خيمة واحدة، وفي هودج واحد، وسيارة واحدة، وهي
حلال له بكتاب الله، لكنها في وقت الإحرام محرمة عليه حتى يقضي
حجه، ونجد الحاج يرى الصيد بعينيه يقف بين يديه، فلا تمتد يده
إليه، وما أشد منازعة النفس للصيد؛ لأنه من الحلال، ولكن لإحرامه
يجاهد نفسه على أن لا تمتد يده إليه.. إلى غير ذلك. والجهاد كما
قيل: أنواع متعددة، فمنه: الجهاد بالكلمة، وَجَاهِدْهُمْ
بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52]،
وقد يكون بالقلم، وقد يكون بالمال، وقد يكون بالنفس.. إلى غير ذلك
من أنواع الجهاد، وهذا الحديث فيه بيان فضل الحج وأنه يعدل فضل
الجهاد. وقد جاءت في ذلك أحاديث أخرى منها، (أي الأعمال أفضل يا
رسول الله؟! قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في
سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور ) إذاً: الجهاد الذي لا
قتال فيه هو الحج المبرور، ويكون على سبيل التشبيه؛ لأن الحديث(3/11)
السابق جعل الحج مرتبة ثالثة بعد الجهاد: (أي الأعمال أفضل يا رسول
الله؟! قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل
الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور).
من فقه الفتوى مراعاة حال السائل
وبهذه المناسبة فقد نجد أحاديث في تفاضل الأعمال، تختلف الفتوى
فيها باختلاف الأحوال، كما سئل صلى الله عليه وسلم مرة: (أي العمل
أفضل؟ قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل
الله ) وسئل مرة أخرى: (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال:
إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الصلاة على أول وقتها )
ثم سئل (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله وبرسوله،
قيل: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين ) فنجد أن السؤال واحد، بينما
الجواب مختلف، ومن هنا قال العلماء: ليس هناك تناقض، وليس هناك
تعارض؛ لأن كل جواب ينزل منزلته بحسب حالته، والمسئول الحكيم يجب
أن يراعي حالة السائل، فقد يسأل اثنان في حكم مسألة واحدة، فيبيحها
لأحدهم، ويمنعها عن الآخر. كما جاء في موضوع القبلة للصائم، جاء
رجل وسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أيقبل الصائم يا رسول الله؟!
قال: نعم، -ثم بعد فترة وفي نفس المجلس- جاء رجل وقال: أيقبل
الصائم يا رسول الله؟! قال: لا، -ومضى هذا ومضى ذاك- ثم التفت صلى
الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: لعلكم تعجبون أني سمحت للأول
ومنعت الثاني، قالوا: إي والله يا رسول الله! قال: نظرت إلى الأول
فإذا به شيخ كبير، -لا خطر عليه- فأبحت له، ونظرت إلى الثاني فإذا
به شاب قد خشيت عليه، فمنعته منها ) وهكذا. جاء في بعض الأخبار:
أن الإمام محمد بن سيرين -وهو إمام في تأويل الرؤى- جاءه رجل
وقال: رأيتني أؤذن فما تعبير رؤياي؟ فنظر إليه وقال: تحج البيت إن
شاء الله، وذهب، وجاء آخر وقال: رأيتني أؤذن، فنظر إليه وقال: تسرق
وتقطع يدك، فعجب الحاضرون! الرؤيا واحدة، فكيف تختلف في التعبير،(3/12)
قال: نظرت إلى الأول فإذا به إنسان وديع مستقيم، فأخذتها من قوله
سبحانه: وَأَذِّنْ
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27]
ونظرت إلى الثاني، فإذا به على خلاف ذلك، فأخذتها من قوله: ثُمَّ
أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70]. إذاً: لابد من مراعاة الأحوال عند الفتوى ففي هذه
الأحاديث الثلاثة: بر الوالدين، الصلاة على أول وقتها، الجهاد في
سبيل الله، لاختلاف أحوال السائل: فقوي البنية الذي يقوى على
الجهاد أرشده للقتال، وضعيف البنية الذي لا يقوى على الجهاد أرشده
إلى الصلاة على أول وقتها، وذو الوالدين أرشده إلى برهما، وهكذا
كالطبيب يصف لكل ذي داء دواءً يناسبه. إذاً: النصوص التي جاءت في
بيان فضائل الحج كثيرة ويكفي ذكر بعضها، وهذا مراد المؤلف رحمه
الله في اقتصاره على ما ذكر، وبالله تعالى التوفيق.
حكم العمرة في الشرع
[ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (أتى النبي صلى
الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العمرة،
أواجبة هي؟ فقال: لا، وأن تعتمر خير لك ) رواه أحمد والترمذي والراجح وقفه، وأخرجه ابن عدي من وجه آخر ضعيف،
عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: (الحج والعمرة فريضتان ). ]
هذا ترتيب حسن من المؤلف رحمه الله، فبدأ كتاب الحج بحديثين
موضوعهما بيان فضل الحج والعمرة، والترغيب فيهما، وكأنه يدعو الناس
ويرغبهم في الحج والعمرة، ثم دخل في موضوع الأحكام. فقوله: (العمرة
إلى العمرة كفارة ) لكن هل هي واجبة أم سنة؟ وقوله: (الحج
المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) هل هو واجب أم ليس بواجب؟ مع
أن الحج مفروغ من أمر وجوبه، فوجوبه ثابت بالكتاب والسنة والإجماع،
أما الكتاب فقوله سبحانه: وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] (لله على) هذا آكد من قوله: (أوجبت)؛ لأنه أصبح
ديناً وحقاً لله على العباد، والفرض قد يسقط، والدين لا يسقط. وفي(3/13)
نهاية الآية الكريمة: مَنْ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل
عمران:97] ثم قال: وَمَنْ
كَفَرَ [آل
عمران:97] هذا وعيد شديد، فَإِنَّ
اللَّهَ غَنِيٌّ [آل
عمران:97] أي: ومن لم يحج، فإن الله غني عنه، ولكن ما جاء المقابل
من جنسه، فلم يقل: ومن لم يحج، بل جاء بديلاً عن من لم يحج (ومن
كفر) ليبقى كما يقول أهل المنطق الماصدقي (ومن كفر) تصدق على من لم
يحج، أو من لم يحج كفر. وقد جاء عن عمر أنه قال: (من استطاع
الحج ولم يحج، فليمت إن شاء نصرانياً، أو يهودياً) وجاء عنه كذلك:
(لقد هممت أن أبعث رجالاً للأعراب على مياههم، ينظرون من استطاع
الحج ولم يحج، فليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين! ما هم
بمسلمين!(. إذاً: بدأ المؤلف في بيان الأحكام، وبدأ بالعمرة؛ لأنها
محل الخلاف، أما الحج فلا خلاف في وجوبه بالشرط المذكور: (من
استطاع).
تحقيق الخلاف في حكم العمرة
وهنا يروي جابر لنا حديثين: الأول: (أن رجلاً أتى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العمرة؟ ) أخبرني
عن حكم العمرة أواجبة هي؟ هذا سؤال إنسان متثبت: أهي واجبة أم ليست
بواجبة؟ ماذا كان الجواب؟ الجواب: لا، وكما يقولون: الجواب يتضمن
إعادة السؤال، (لا) العمرة ليست واجبة، ولكن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لم يقتصر على ذلك؛ حتى لا يظن إنسان أنها مستوية
الطرفين: الفعل والترك، بل قال: (وأن تعتمر خير لك ) كأنه قال:
ليست واجبة، ولكن فعلها خير من تركها، وهذا الأسلوب يدل على عدم
وجوبها، وأنها مرغب فيها ومندوب إليها. ومن هنا بدأ خلاف العلماء،
فهناك من أخذ بقوله صلى الله عليه وسلم: لا، وقالوا: ليست بواجبة،
أخذاً بهذا النص، ولكن هل سلم سند هذا الحديث؟ العلماء متفقون على
أنه ضعيف. ثم يأتي المؤلف رحمه الله -من فقهه- بالأثر الثاني عن
جابر . [ (وعن جابر رضي الله عنه، مرفوعاً) ]. (مرفوعاً)
يعني: مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجابر : صحابي،(3/14)
ولو كان القول من عنده لاعتبره العلماء موقوفاً على الصحابي، لكن
إذا قال: (مرفوعاً) فإنه يرفعه درجة، وإذا رفع الصحابي الحديث درجة
عن طبقة الصحابة فإنه يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وعن
جابر أيضاً مرفوعاً) أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن
جابراً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (الحج والعمرة
فريضتان ). (الحج والعمرة فريضتان) ولكن هل هذا أيضاً صحيح قوي
أو ضعيف مثل الذي قبله؟ قال المؤلف: [ وأخرجه ابن عدي من وجه
آخر ضعيف ]. كلا الأثرين -عن جابر - ضعيف، فمن أخذ بالأول أخذ
بسند ضعيف، ومن احتج بالثاني احتج بسند ضعيف، إذن: كما قال الشافعي : حديث في عدم فرضيتها خير من حديث في فرضيتها. ويرجع الاستدلال
على وجوبها إلى مسائل أخرى: من ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما: (العمرة والحج مقترنان)، واستدل بقوله سبحانه: وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]
ولكن الذين يقولون بعدم الفرضية قالوا: الأمر هنا: (إتمام)
والإتمام يكون بعد البداية، لا ابتداءً، وبالإجماع: أن نافلة
العمرة، ونافلة الحج، إذا شرع فيها الإنسان وجب عليه أن يتمها، مع
أنها نافلة، ولو اعتمر عشر مرات، ثم شرع في عمرة جديدة فإنه وجب
عليه بعد الشروع فيها أن يتمها، فقالوا: الإتمام يكون بعد
الابتداء، أما الوجوب ابتداءً فليس فيه نص، والآخرون يقولون: هي
فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل الصحابة رضوان الله تعالى
عليهم، وفتواهم جميعاً. والجمهور ومنهم الأئمة الأربعة ما عدا
مالكاً يقولون: العمرة فرض كالحج. إذاً: ما هو الفرق بين حديث:
(فرض على كل مسلم )، وحديث: (لا. وأن تعتمر خير لك ) يقول
الأصوليون: إذا جاء نصان متعادلان في السند، أحدهما ينفي ويسقط
الوجوب، والآخر يثبت وينشئ الوجوب، قالوا: المثبت مقدم على النافي،
وقالوا: ما يخرج عن البراءة الأصلية مقدم على غيره؛ لأن الأصل عدم(3/15)
الوجوب، فلما جاء النص بالوجوب ولو كان ضعيفاً فإنه أقوى من النص
الأول الذي مؤداه كالعدم؛ لأن الأصل عدم الوجوب، وحديث: (لا)، ما
زاد عن الأصل بشيء، بخلاف الحديث الثاني الذي قال: (العمرة والحج
فرض على كل أحد ). إذاً: الناقل من البراءة الأصلية إلى التكليف
مقدم عما لا ينقل عن البراءة الأصلية؛ لأن فيه زيادة تكليف وزيادة
علم، ولهذا قال الجمهور: إن العمرة واجبة كوجوب الحج. وهناك نصوص
أخرى أصح سنداً، منها: (إن أبي شيخ كبير أدركته فريضة الحج أفأحج
عن أبي؟ قال: نعم، حج عن أبيك واعتمر ) فهو سأل عن الحج، فزاده
(واعتمر) كأنه يجهل أمر العمرة، أو كأنه أغفلها، فذكّره بها رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
134788 ( كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [2] )
( كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [2] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث ابن عباس في بيان حكم الحج عن الشيخ الكبير
2 شرح حديث ابن عباس في وجوب الوفاء بالنذر لمن نذر الحج
3 شرح حديث ابن عباس في حكم حج الصبي والمملوك
كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [3]
إن للحج أهمية عظيمة، وقد رتب الله على أدائه الأجر الجزيل، ولما كان
الإنسان لا يخلو من موانع تمنعه وتحول بينه وبين هذه العبادة العظيمة،
كالعجز والموت، فقد كان من تيسير الله على عباده أن أجاز حج الولد عن
والده، كما أجاز الحج عن الغير بشرط أن يكون الشخص قد حج عن نفسه. ويصح
الحج من الصبي والمملوك، إلا أن حجهما لا يسقط عنهما حجة الإسلام بعد
البلوغ والعتق.
شرح حديث ابن عباس في بيان حكم الحج عن الشيخ الكبير
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: قال المؤلف رحمه
الله: [ وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان الفضل بن عباس رضي الله عنهما رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من(3/16)
خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله
عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول
الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا
يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجة الوداع )
متفق عليه واللفظ للبخاري ]. بعدما بين المؤلف رحمه الله تعالى
حكم حج الصبي انتقل إلى بيان حكم الحج عن الغير، فجاء بهذا الحديث
وهو المعروف عند العلماء بحديث الخثعمية. أورد المؤلف رحمه الله
تعالى حديث ابن عباس وفيه: أن الفضل بن عباس ، أي: ابن عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم.
والرديف: هو الذي يركب خلف صاحب الدابة. (فجاءت امرأة من خثعم) هنا
تأتي عدة روايات يسوقها ابن حجر رحمه الله في الجزء الرابع من
فتح الباري: تارةً (جاء رجل فسأل عن أمه)، وأخرى: (جاء رجل فسأل عن
أبيه) وأخرى: (جاءت امرأة فسألت عن أمها) وكل ذلك وارد بأسانيد
صحاح، فقيل: بتعدد السؤال، وتعدد الجواب. وفي بعض الروايات لهذه
القصة: أن هذه الخثعمية معها أبوها، وجاء في بعض روايات الفضل : أن أباها أتى بها يعرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله
يتزوجها، أو أمرها بالسؤال ليسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
حديثها، وقد جاء في وصفها أنها حسناء.
نظر الفضل بن العباس إلى الخثعمية وكلام العلماء في ذلك
وكما جاء في الحديث هنا: كانت تنظر إلى الفضل ، وكان الفضل ينظر إليها، فكان صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل عنها إلى
الجهة الأخرى، وتكرر ذلك حتى قال العباس رضي الله تعالى عنه
-وكان حاضراً-: يا ابن أخي! قد أتعبت أو أوجعت عنق ابن أخيك. أي:
في تكرار صرف وجهه إلى الجهة الأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم:
(رأيت شابة وشاباً فخشيت أن يدخل الشيطان بينهما ). وهنا
للعلماء مباحث: كيف كان الفضل ينظر إليها، وقد فرض الحجاب من(3/17)
قبل؟ يقول بعض العلماء: إن المرأة في الحج تسفر عن وجهها؛ لأنها
نهيت عن لباس البرقع والنقاب، ولكن جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنا إذا لقينا الركبان أسدلنا على
وجوهنا، وإذا فارقونا كشفنا عن وجوهنا). ومن هنا تكلموا في تغطية
المرأة لوجهها أثناء الإحرام، والذين قالوا: إن المرأة تكشف وجهها
دائماً في إحرامها، أخذوا ذلك من هذا الحديث: أن الفضل ينظر
إليها، وهي حسناء، وقالوا: لا يتأتى ذلك إلا إذا كانت مسفرة عن
وجهها، ولكن فاتهم ما يوجد في الحديث: من أنه صلى الله عليه وسلم
قال: (رأيت فتاة وشاباً)، فإن الفتاة ولو كانت مخمرة وجهها، فإنها
لقرب الحجاب من عينيها ترى الطريق، وترى من تلقاه من الرجال، فكما
يخشى على الشاب من الفتاه، كذلك يخشى على الفتاة من الشاب. إذاً:
صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها لا يدل قطعاً على
أنها كانت مسفرة عن وجهها، بل يدل قطعاً بأنها لشبابها ولشباب
الفضل يمكن أن تفتتن به، ويتفق العلماء: على أن بني هاشم بصفة
عامة كانوا من أجمل الناس، رجالاً ونساء، وجاء في هذه القصة
-بالذات- أن الفضل كان وسيماً. إذاً: صرف النبي صلى الله عليه
وسلم وجه الفضل لا يقتضي أن تكون الفتاة مسفرةً وجهها، ولا
دليل فيه لمن يقول ذلك. وقد قدمنا بأن حجة النبي صلى الله عليه
وسلم تأتي على كل شيء في الإسلام، فهذه الحادثة وقف عندها العلماء
وبحثوا سفور المرأة في الحج وعدم سفورها. ثم ذكروا أن من الشفقة
ومن الرأفة بالإنسان أن تردفه على دابتك إذا كانت تحتمل اثنين، أما
إذا كانت لا تحتمل فلا يجوز، وهذا من باب الرفق بالحيوان. وقد جاء
في شأن الرفق بالحيوان ما هو أبعد من ذلك، جاء: أن امرأة دخلت
النار في هرة، وجاء: أن امرأة بغياً دخلت الجنة في كلب سقته، وجاء
عنه صلى الله عليه وسلم في قصة البعير الذي ندّ عن صاحبه، أن بيّن(3/18)
له وقال: (بعيرك يشتكي كثرة الكلف وقلة العلف )، فقد بيّن صلى
الله عليه وسلم أنه يجب أن يرفق بالحيوان ولا يكلف فوق طاقته.
الحج عن العاجز
وفي هذا الحديث: أن المرأة سألت، وفي رواية: جاء أبوها يعرضها، أو
يعرض بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأب موجود، فكيف
تسأل عن عجزه عن الحج؟ قالوا: لعل المراد: الأب الأعلى، وهو: جدها،
وقالوا: لعلها قضية أخرى، يهمنا صيغة السؤال وصيغة الجواب، قالت
هذه المرأة: (إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً
كبيراً، لا يثبت على الراحلة). فقولها: (لا يثبت). أي: لا يثبت
بنفسه على الراحلة، وجاء في بعض الروايات: (أن امرأة سألت، وقالت:
إني أخشى إن أنا شددته على الراحلة بالحبل أن أقتله) وجاء -أيضاً
مرةً أخرى- (أن رجلاً سأل عن أبيه وقد عجز، ولا يستطيع أن يربطه
ويثبته على الراحلة). وهذه الصور بمجموعها تعطينا أن هذا العاجز قد
بلغ به عجزه إلى حد لا يستطيع أن يثبت بنفسه على الراحلة. وهنا
ينظر العلماء في هذا العجز ما سببه؟ إن كان وخة فهو لا يرجى
عوده إلى الشباب والصبا، فهو ميئوس من ذهاب هذه العلة عنه، أما إذا
كان مريضاً مرضاً عارضاً ويظن أو يرجى له البرء فإن حكمه يختلف،
ومن هنا قال بعض العلماء: لا يجوز الحج عن الغير في حال الحياة إلا
إذا كان عاجزاً بهذه الصفة، أو بسبب لا يرجى برؤه ولا زواله،
فحينئذٍ يجوز أن يحج عنه، والكلام في حجة الفرض لا في النوافل؛
لأنهم متفقون على أن الحج نافلة عن الغير يصح، ولو كان الغير
سليماً معافى، اللهم إلا قولاً للمالكية يخالف في ذلك. إذاً: هذا
المبحث ونظيره إنما هو في حجة الفرض لا في حجة النفل. فقالت:
(أفأحج عنه؟) (قال: نعم) يعني: نعم حجي عنه، وهنا قد يأتي البعض
ويقول: هذا مجرد جواز الحج عنه، ولكن هل يسقط به الفرض أم لا؟ لا
حاجة إلى هذا التساؤل؛ لأنه كما يقال: الجواب يتضمن السؤال، فهي(3/19)
سألت عن أبيها، وقد أدركته فريضة الحج على العباد، فهل قوله: حجي
عنه، يكون حج فريضة أم حج نافلة؟ لا شك أنه حج فريضة، وسيأتي ما
يبين ذلك أكثر، وأن هذا واجب عليها، وكما سيأتي في قصة المرأة التي
سألت عن أمها التي نذرت حجاً وماتت ولم تحج، فقال لها: (أرأيت لو
كان على أمك دين؟ -إلى أن قال- دين الله أحق ). إذاً: ما دام قد
تعلق بذمته وجوب الحج، فسألت: هل تحج عنه أم لا؟ وأجابها: بنعم،
فيكون ذلك حج الفريضة.
صحة الحج عن الغير
وفي هذا الحديث -كما يقول الإمام ابن حجر وغيره- من المسائل
الفقهية: صحة حج الغير عن غيره، وهذه كما قالوا: مغايرة للأصول: وَأَنْ
لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]
وأنهم مجمعون على أنه لا يصلي إنسان عن إنسان، ولا يصوم إنسان عن
إنسان وهو على قيد الحياة، وقال الآخرون: هذه قضية فيها نص، فلا
حاجة إلى قياسها على غيرها. وقالوا أيضاً: إن العبادات تنقسم إلى
قسمين: عبادة بدنية مقصودة من الشخص بعينه. وعبادة مالية ليست
مقصودة من الشخص بعينه، ولكنها مقصودة من عين المال، فالعبادة
البدنية لا تتأتى من أحد عن أحد؛ لأن الصلاة فيها وقوف بين يدي
الله، وفيها الخشوع، وفيها الخضوع، وفيها الذكر والدعاء، وهذا أمر
شخصي يرجع إلى المصلي، فإذا صلى غيره عنه، فأين تلك المعاني لمن
صلى عنه؟! وكذلك الصوم: لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ [البقرة:183]
أي: بالصوم، فإذا صام إنسان عن إنسان، فات على من صيم عنه معاني
اكتساب التقوى. أما العبادات المالية: كالزكاة، والكفارات، ووفاء
النذور، فإنها تتعلق بالمال، والمال لا دخل له في الإنسان إلا من
ناحية الشح والسخاء ونحو ذلك، ويسقط الواجب بهذا الجزء من المال
سواءً كان من صاحبه أو من غيره، كما سيأتي في الحديث: (أرأيت لو
كان على أمك دينٌ فقضيته أكان ينفعها؟ ) أي: هل يسقط عنها
الدين، والمطالبة به أم لا؟ قالت: نعم، فأحالها على ما تعلم، لتعرف(3/20)
حكم ما لم تعلم. فإذا وجد إنسان مدين، وطولب بأداء الدين فلم يستطع
الأداء وأخذ إلى السجن، فجاء إنسان آخر ودفع عنه الدين شفقة ورحمة،
فهل يقال: لا، بل يبقى في السجن حتى يدفع هو! أو حتى يسقط عنه
الدين وتسقط المطالبة؟ حتى يسقط عنه الدين وتسقط المطالبة. وقالوا:
إن الحج يجمع بين القسمين، عبادة البدن: المتمثلة في الحل
والترحال، والطواف، والسعي، والوقوف، وعبادة المال: المتمثلة في
الزاد، والراحلة، ولذا يقول بعض العلماء: إذا غلب جانب البدن فلا
يحج أحد عن أحد في الحياة، وإذا غلب جانب المال فإنه يحج كل إنسان
عن أي إنسان في الحياة، وعلى هذا يكون الراجح: صحة نيابة الإنسان
في الحج عن غيره، وهذا هو مذهب الجمهور، وخالف في ذلك المالكية،
فقالوا: ما دام موجوداً حياً فلا حج عنه ولا نيابة، فغلبوا جانب
العبادة البدنية. ولا تشترط المماثلة فيجوز أن تحج امرأة عن رجل،
وكذلك رجل يحج عن امرأة، ولا مانع من ذلك، هذا من النواحي الفقهية.
من النواحي الأخرى: أن هذه امرأة نظرت إلى حال أبيها، وقد بلغ به
الكبر إلى هذا الحد، وهي تتطلع إلى بره والإحسان إليه؛ لتخرجه من
عهدة الواجب عليه، وهذا هو الواجب على كل ابن تجاه والديه. إذاً:
الحديث يتناول عدة جوانب سواء كان من جانب التشريع: الحلال
والحرام، والإجزاء وعدمه، أو كان من جانب الأمور الاجتماعية: من
الإحسان، والبر، ونحو ذلك. كذلك مسألة سفور المرأة، وإزالة ما يراه
الإنسان سداً للذرائع، كما هو الأصل في مذهب مالك ؛ لأن صرف
وجه الفضل عن الفتاة سدٌ لذريعة الفتنة بينهما، وهذا على قدر
سلطة الإنسان، إن كانت له سلطة باليد فباليد، وإن لم تكن له سلطة
باليد فبالقول، وإن لم يستطع بالقول فيكون بالوسيلة الثالثة، وهي
القلب، وذلك أضعف الإيمان. إذاً: موضوع هذا الحديث هو: بيان نيابة
حج الإنسان عن غيره لعذر، ألا وهو: العجز عن السفر إلى الحج لعذر
لا يرجى زواله ولا برؤه.(3/21)
حكم من أناب في الحج لعجزه ثم قوي بعد ذلك
بقيت مسألة واحدة وهي: إذا كان الإنسان لا يستطيع الحج لكبر سنه،
وأناب في الحج عنه، ولكن مع الزمن قوي بدنه، وتيسرت له الوسائل
التي بها يستطيع أن يحج، فهل نطالبه بحجة الإسلام؛ لأن الأولى كانت
لعلة وقد زالت، أو يكتفى منه بما مضى في وقته بوجه شرعي؟ اختلف
الأئمة في ذلك، فمالك لا يرى أن يحج عنه أصلاً مادام حياً،
وعلى هذا فيلزمه الحج، وأحمد يقول: لا يطالب بالحج؛ لأنه
أُدِّيَ عنه بوجه مشروع، وأبو حنيفة والشافعي رحمهما الله
يقولان: عليه أن يحج حجة أخرى، على ما سيأتي في حق الصبي والمملوك.
والله تعالى أعلم.
شرح حديث ابن عباس في وجوب الوفاء بالنذر لمن نذر الحج
قال المؤلف رحمه الله: [ وعنه رضي الله عنه: (أن امرأة من جهينة
جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم
تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم. حجي عنها، أرأيت لو كان على
أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء ) رواه
البخاري ]. الحديث الأول: امرأة من خثعم، والحديث الثاني:
امرأة من جهينة، وكونها من خثعم، أو من جهينة، أو من تميم، أو من
مضر، أو من باهلة، أو من أي جنس من الأجناس لا علاقة له بالحكم،
ولكن هذا من باب التوثيق في الخبر؛ لأنه متأكد أن المرأة معروفة
بعينها وقبيلتها، وهذا مما يعطي السند قوة، والخبر أصالة.
أحكام النذر وأقسامه
والمؤلف رحمه الله بعدما ذكر الحديث الدال على الحج عن العاجز الحي
لعذر المرض ذكر الحديث الدال على الحج عن الميت، فهذه المرأة
الأخرى تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: (إن أمي كانت قد
نذرت أن تحج ) إذا كان هذا النذر لحج الفريضة، فيكون واجباً
بأمرين: بالإيجاب الأول: وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل
عمران:97] وبالإيجاب الثاني: وهو النذر، وإذا كان نذراً لحج
النافلة، وكانت قد حجت الفريضة، ثم نذرت حجة أخرى نافلة، والنافلة(3/22)
بالنذر تصبح واجبة إيجاباً جديداً، ومهما يكن من شيء فأمها نذرت.
والنذر من حيث هو: إلزام الإنسان نفسه بشيء قربة لله، وقد يكون
مطلقاً، وقد يكون مشروطاً، فالمطلق مثاله: رجل كسلان عن الصيام،
فأراد أن يلزم نفسه بالصيام فقال: لله علي نذر أن أصوم يوم كذا،
ويوم كذا لله، فهذا يسمى: نذراً مطلقاً، والنذر المشروط مثاله: أن
يقول طالب: لله علي نذر إن نجحت في الامتحانات أن أذهب وأعتمر، هذا
النذر مشروط، ومعلق بما إذا نجح في الامتحانات. أما النذر المطلق
فلا مانع فيه، وبعضهم يكرهه؛ لأنه إلزام لنفسه بما لم يلزمه به
الشرع، وما يدريك لعلك تعجز، فهو غير واجب ابتداءً، ولكن عندما
ألزم الشخص نفسه به أصبح واجباً في حقه، والأفضل للإنسان أن يترك
النذر، وإذا أراد أن يتطوع بعمل ما فليأت به تطوعاً من غير نذر،
وهذا هو الأفضل، أما المشروط فكرهه العلماء؛ لأن فيه حديث: (إن
النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ) النذر لن يأتي
لك بالنجاح وإنما يكون النجاح بالمذاكرة، وبالتوفيقِ من الله، ولو
قال قائل: إن شفى الله مريضي حججت وتصدقت، هل الحج أو النذر هو
الذي سيشفي المريض؟ لا: وَإِذَا
مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80].
هذه مساومة مع الله ومبايعة، إن أعطيتني أعطيتك! ولكن يستخرج به من
البخلاء، لولا مرض الولد، ومجيء الشفاء، والتطلع إليه، ما حج ولا
اعتمر؛ لأنه بخيل. إذاً: (النذر لا يأتي بخير، ولكن يستخرج به من
البخيل)، يعني: لا يأتي به لذاته، وإنما الذي يأتي بالخير هو الله
سبحانه وتعالى. فهذه امرأة نذرت، وبسبب نذرها تورطت ابنتها، وجاءت
البنت تريد أن تفك أمها مما ألزمت به نفسها ولم تف به، فهي كانت في
عافية، ولكن لما نذرت صارت مدينة مسئولة، وهذا أيضاً من شفقة البنت
على أمها؛ لأنها علمت أنها مدينة مرتهنة بنذرها، فاغتنمت فرصة وجود
رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسأله، ولقد كان عصر الصحابة أحسن(3/23)
العصور لتمتعهم بهذه النعمة وهذا الفضل العظيم، (خير القرون قرني)
إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلما أشكل عليهم أمر بادروا
بالسؤال ويجدون الجواب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفأحج
عنها؟ قال: نعم، حجي). ثم لما استشكلت البنت الوفاء عن أمها؛ لأنه
عمل للغير، فالغير ألزم نفسه به تبرعاً، ولم يوجبه الله عليه، أراد
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لها ليزول هذا الإشكال، وهذا
رأفة بالسائل، وحكمة من المسئول، قال: (أرأيت) يعني: أخبريني بما
تفهمين أنت: لو أن على أمك ديناً لجارتها، وماتت وهي مطالبة
بالدين، فقضيت أنت عنها الدين، أكان ينفعها؟ قالت: نعم ينفعها،
قال: دين الله أحق، ما دمت تعلمين بأن سداد الدين عن الغير ينفعه،
ويرفع عنه المطالبة والمسئولية، وإذا كنت توفين دين المخلوق،
والنذر دين لله، ودين الله أحق بأن توفيه، وبهذا علمنا صحة الحج عن
الميت. والمالكية يقولون: من أوصى بالحج عنه، حججنا عنه، لكن من
نذر بالحج أنحج عنه أم لا؟ بعضهم يقول: نعم؛ لأنه أوجبه على نفسه،
بخلاف ما أوجبه الله على العبد، ومات العبد قبل تمكنه من أدائه،
فالله الذي أوجبه هو الذي أخذ العبد، ولم يمكنه من أن يحج، بخلاف
ما لو أوجب العبد على نفسه الحج فيكون هو الذي ورط نفسه، فيكون
الإلزام هنا من جانب الوفاء؛ لأن العبد هو الذي حمّل نفسه وألزمها.
ويهمنا في هذا أن الجمهور قالوا: أيما ميت مات وعليه حج، سواء كان
عليه بأصل الوجوب: وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ [آل
عمران:97] أو كان عليه بإيجابه على نفسه بالنذر، فإن وليه يحج عنه،
أو ينفعه حج الغير عنه. إذاً: الحج عن الحي بسبب علة عجزه، والحج
عن الميت، بسبب موته، واستقرار الحج دين في ذمته، وبهذا يتم عندنا
جواز الحج عن الغير حياً أو ميتاً، إلا أن الحي مشروط فيه أن يكون
عاجزاً عن أن يحج بنفسه، وهذا كله في حجة الفريضة.
نيابة الأجنبي في الحج(3/24)
وهنا يبحث العلماء في نيابة الأجنبي؛ لأن الوارد في السؤالين نيابة
البنت أو الابن، وإذا كان النائب أجنبياً فهل يجزئ أم لا؟ يقول
البعض: القياس لا يجزئ؛ لأن ولد الرجل من عمل أبيه، إذ الولد بضعة
من أبيه ويقول صلى الله عليه وسلم: (أو ولد صالحٌ يدعو له ) لأن
عمل الولد تابع للوالد، فإذا كان أجنبياً عنه فلا توجد بينهما
رابطة ولكن سيأتينا حديث شبرمة وفيه: (أخٌ لي، أو صاحب لي) أي:
ليس بأبي ولا بأمي، فيدل هذا على صحة حج الإنسان عن غيره، والأولى
أن يكون النائب من ولده، وإذا لم يكن من ولده ولا من أقربائه صح
ذلك، على ما سيأتي الشرط فيه.
شرح حديث ابن عباس في حكم حج الصبي والمملوك
قال المؤلف رحمه الله: [ وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (أيما صبي حج، ثم بلغ الحنث، فعليه أن يحج حجةً
أخرى، وأيما عبد حج، ثم أعتق، فعليه أن يحج حجةً أخرى ) روا ابن
أبي شيبة والبيهقي ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف في رفعه،
والمحفوظ أنه موقوف ]. هذا الخبر جاء موقوفاً على صحابي، وجاء
مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكن حكمه حكم الرفع؛ لأن حج
الصبي، وإجزاؤه وعدم إجزائه تشريع، ولا يتأتى لإنسان بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يُشرع ويصدر مثل هذا الحكم، إذن: سواء ثبت
في الصناعة الحديثية رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن
جاء فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لم يصح أنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت أنه موقوف على الصحابي،
فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم جميعاً لا يملكون أن يقولوا مثل
ذلك، والعلماء يقولون: الموقوف على الصحابي إذا لم يكن للرأي فيه
مجال فهو مرفوع حكماً؛ لأنه لا يتكلم فيه بالرأي ولا بالعقل، ولكنه
يكون قد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اعتبار الأهلية في التكليف
وموضوع هذا الحديث مرتبط بالحديث الذي تقدم في قصة المرأة التي(3/25)
رفعت صبياً بالروحاء وسألت: (ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر ).
فهذا الصبي قد حجت أمه عنه في صغره قبل أن يُكلف، فإذا بلغ هذا
الصبي سن التكليف، فهل يُكلف بالحج أم أن حجه الأول يسقط عنه فريضة
الحج؟ فهذا الحديث جواب على هذه المسألة. (أيما) أي: من صيغ
العموم، و(ما) كذلك وهما معاً كلمة واحدة (أيما صبي حج، ثم بلغ
الحنث، فعليه أن يحج حجةً أخرى) الصبي هذا كم عمره؟ تقدم أنه رفع
في المحف، وكانوا يحجون بالصبيان دون البلوغ، كما جاء في حديث ابن
عباس رضي الله عنهما، حيث قال عن نفسه: (كنت مع الضعفة ليلة
المزدلفة وكنت غلاماً)، وجاء عنه أيضاً أنه قال: (جئت على أتان وقد
ناهزت الاحتلام -يعني: قاربت أن أحتلم ولم أحتلم بعد- والنبي صلى
الله عليه وسلم يصلي الظهر بمنى، فمررت بالأتان بين الصفوف، حتى
وجدت مكاناً، فنزلت عنها وتركتها) أي: وقمت في الصلاة، فهذا غلام
ناهز الاحتلام وكان حاجاً معهم. إذاً: سواءً كان غلاماً أو صبياً
رضيعاً، أو فطيماً، أو ابن سبع سنوات، أو تسع، ما دام أنه حج دون
البلوغ، فعليه أن يؤدي حجة الإسلام بعد البلوغ.
حكم من بلغ أثناء أدائه للمناسك
وهنا يأتي الفقهاء رحمهم الله وجزاهم الله عنا أحسن الجزاء، ومما
يجب على طالب العلم أن لا يقف عند نصوص الحديث، بل لابد أن يرجع
إلى الموسوعات الفقهية؛ لأن للفقهاء تفريعات واستنتاجات نحن لم
نتوصل إليها. فيقولون: لو أن إنساناً أخذ صبياً ليحج به، ولما جاء
إلى مكة وهو محرم بالحج بلغ واحتلم، يقولون: متى كان احتلامه؟ هل
كان قبل الوقوف بعرفة أم بعده؟ إن صح احتلامه قبل الوقوف بعرفة، أو
وهو في أرض عرفات، قبل أن ينصرف منها، أجزأت عنه حجة الإسلام؛ لأنه
أداها وهو بالغ، وإن كان احتلامه بعد أن نزل من عرفات، فهو قد حج
دون البلوغ؛ لأن الحج عرفة، وما يأتي بعد عرفة فهو من مكملات الحج
فعليه حجةٌ مرةً أخرى، (فأيما صبي حج، ثم بلغ ) أي: بلغ سن(3/26)
التكليف، واستطاع الحج؛ لأنه في حال صغره قد يحججه وليه، فلما بلغ
أصبح كعامة الناس: (من استطاع إليه سبيلا ) يعني: أن الحجة
الأولى، التي أوقعها له وليه قبل البلوغ لا تجزئ عن حجة الإسلام.
حكم حج قاصر الأهلية
ثم يأتي بعد ذلك قاصر الأهلية وهو: المملوك، ومعنى قاصر الأهلية:
أنه لا يتصرف بأهلية كاملة في نفسه وفي ماله، والصغير قاصر
الأهلية، يحجر عليه في ماله، ولا يعطى المال في يده، وإنما يعطى
بقدر ما يمتحن به؛ حتى يجرب: فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا [النساء:6]
أي: بعد بلوغ سن الرشد، أو بعد البلوغ مع الرشد في التصرف، وهل
المراد الرشد في الدين أو الرشد في الدنيا؟ هذا بحث آخر. وفي حق
المملوك: (أيما مملوك) أيما عبد.. أيما جارية -فالمملوك يصدق على
العبد والجارية، وعلى الذكر والأنثى- كان قد حج مع مواليه وهو
مملوك، ثم بعد ذلك أعتق أو كاتب على نفسه وصار حراً، كذلك إن
استطاع سبيلاً للحج فعليه أن يحج حجة أخرى، وبهذا يستدل على أن
العبد المملوك قاصر الأهلية لأنه في حكم سيده، وهناك تفريعات عديدة
على هذا، في من سقطت عنه الجمعة، وسقطت عنه الزكاة في ماله، إلا
بإذن سيده، إلى أشياء أخرى والله تعالى أعلم. وأيضاً يضاف إلى هذين
الاثنين -كما تقدم- من المريض الذي لا يستطيع الحج، فحج عنه غيره،
ثم تعافى، فيكون أيضاً مضافاً إلى الصغير وإلى المملوك، وكذلك من
حج عنه لعجزه عن الركوب، ثم استطاع أن يركب بعد ذلك.
134795 ( كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [4] )
( كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [4] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث ابن عباس في مواقيت الحج
2 شرح حديث عائشة في ميقات أهل العراق
3 الميقات الزماني للحج والعمرة
كتاب الحج - باب المواقيت
إن لحج بيت الله الحرام مواقيت زمانية لا يصح الإتيان بالنسك إلا فيها
وهي: شوال وذو القعدة وأول ذي الحجة، كما أن له مواقيت مكانية محيطة من(3/27)
كل الجهات ببيت الله الحرام، لا يجوز للحاج أن يتجاوزها إلا بإحرام،
ومنها: ذو الحليفة، والجحفة، وقرن المنازل، ويلملم، وذات عرق، ولها
أحكام متعلقة بها ذكرها أهل العلم في المطولات.
شرح حديث ابن عباس في مواقيت الحج
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن
عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل
المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل،
ولأهل اليمن يلملم، هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد
الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة )
متفق عليه.]. المؤلف رحمه الله بعد أن بيّن لنا فضل الحج: (العمرة
إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )
ثم بيّن من يجب عليه الحج بالأصالة أو النيابة، ثم بيّن لنا شروط
النيابة، ثم بيّن لنا أنه واجب في العمر مرة، فلكأننا رغبنا في
الحج، ولكأننا اكتملت لنا الاستطاعة، ولكأننا عزمنا على الحج،
ونريد البداية، فجاءنا بباب المواقيت؛ لأن المواقيت هي أول أبواب
الدخول في الحج، ووقفنا على الأبواب فبين لنا مكان الميقات.
أحكام الحرم وحدوده
المواقيت على وزن: مفاعيل من الوقت، أصلها موقت، نأتي ونُبعد
الدائرة قليلاً، ونجد أن هذه المواقيت لمن أراد القدوم على البيت
في نُسك، ونجد هناك دائرة أضيق وهي: حدود الحرم، فإن المولى سبحانه
جعل للبيت حدوداً وهي داخل مكة للمقيم وللقادم، في نسك وفي غير
نسك، تلك الحدود لها أحكام الحرم: عموم الأمن: وَمَنْ
دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل
عمران:97] بلوغ الهدي: حَتَّى
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]..
(هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]
والكعبة لا أحد ينحر فيها الهدي، لكن المراد به إطلاق الحرم داخل(3/28)
مكة، تحريم الصيد وقطع الشجر، وتأمين الخائف: يأمن فيه الطير،
والوحش، والإنسان، والصيد، فهذه دائرة محدودة داخل مكة، للمحرم
ولغير المحرم، ثم نجد الدائرة الأوسع لمن أراد أن يقدم على البيت
بنسك، ونجد هذه المسافات مختلفة، وكذلك المسافات في حدود الحرم،
نجد حداً من حدود الحرم: سبعة كيلومترات، وهو: مسجد التنعيم، ونجد
حداً من حدود الحرم عشرين كيلومتراً، وهو: ما بين المزدلفة وعرفات،
ونجد أيضاً هناك الجعرانة. إذاً: اختلفت حدود الحرم، واختلفت
مواقيت المحرم، أما اختلاف حدود الحرم فالعلماء الذين كتبوا في
تاريخ الكعبة، وفي هذا الموضوع، يذكرون أسباباً عديدة، نلم بالقليل
منها، فمنهم من يقول: بأن الخليل عليه السلام لما أتمَّ بناء
البيت، جاءه جبريل حينما قال: وَأَرِنَا
مَنَاسِكَنَا [البقرة:128]
فعلمه المناسك، ثم بيّن له حدود الحرم على ما هي عليه الآن. وبعضهم
قال: لما نزل الحجر الأسود من الجنة كانت له إضاءة، وكان مشعاً
مضيئاً، ولكن إضاءة الحجر لم تأخذ دائرة الضوء المعروفة، بل كانت
متفاوتة الأطراف، وحيث ما انتهى الضوء من الجهات الأربع كان حد
الحرم منها، فكان اختلاف حدود الحرم باختلاف وصول الضوء من الحجر،
والله تعالى أعلم.
توقيت المواقيت علم من أعلام النبوة
أما المواقيت فإننا بالتأمل نجد هذه المواقيت وفيها مباحث عديدة من
جانب المعجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن باب بيان علاقة
الحرمين معاً، ومن باب الآداب التي يجب التزامها عند الدخول على
البيت، أما تلك المواقيت فوجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم حج سنة
عشر، وبيّن المواقيت، وانتقل إلى الرفيق الأعلى سنة عشر والإسلام
لم يخرج من جزيرة العرب، إنما وصل إلى اليمن، وكان حده إلى تبوك
ولم يتعد النهرين، ولم يعبر البحر الأحمر، ولكنا نجد رسول الله صلى
الله عليه وسلم يضع الحد في المواقيت لأهل الشام، وأهل العراق، ولم(3/29)
يكن هناك شام مسلم، ولا عراق مسلم، ولا مصر مسلم، فيكون ذلك من باب
المعجزة أن الله تعالى أعلمه بذلك، وهو مستفاد أيضاً من منطوق: لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33]
.. وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]
وأن الدين سينتشر، وكما قال في غزوة الأحزاب، لما استعصت عليهم
الكدية، وضربها بالمعول ثلاث ضربات، فأبرقت عند كل ضربة، وكبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثلاث تكبيرات، وقال في الأولى: (الله
أكبر! فتحت مدائن كسرى ) وكان بعض المنافقين يقول: نحن خائفون
على أنفسنا، وهو يقول لنا: فتحت مدائن كسرى! ولكن المؤمنين صدقوا
ذلك، وكان أبو هريرة يقول: (اغزوا ما شئتم، واغنموا ما شئتم،
فقد أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل). إذاًَ: هذه
المواقيت التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقتها
لأهلها قبل أن يأتي الإسلام إليهم فيه توطيد وتشريع مسبق للشمول.
المواقيت توقيفية لا يزاد عليها ولا ينقص منها
حين ننظر في هذه المواقيت، فسنجد أن أهل المدينة يهلون من: ذي
الحليفة. وقوله: (وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يعني:
المواقيت توقيفية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يملك أحدٌ
أن يغير أو يبدل فيها، ولا نقول: المسافة طالت على أهل المدينة،
دعونا نقدمها قليلاً، ولا نقول: المسافة قريبة على أهل اليمن،
دعونا نبعدها قليلاً، فما دام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقتها فتبقى على توقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا فكرنا
أو تخيلنا قليلاً بحثاً عن العلة فقد يقال: إن معزة المدينة على
رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلته يربطها بحرم مكة، فيخرج من
حدود حرم المدينة إلى حدود الإحرام بالحج؛ لأن حرم المدينة من:
ثور، وهو: الشمال الغربي من أحد إلى عير، وهو المحاذي لذي الحليفة،
فإذا كان حد الحرم ينتهي إلى عير عند ذي الحليفة، والمحرم من(3/30)
المدينة يحرم من ذي الحليفة، يعني: لا يخرج من حرم المدينة إلا
بإحرام إلى حرم مكة، فيكون على ارتباط واتصال، وأما الشام ومصر،
وأهل حوض البحر الأبيض المتوسط -والبحر الأبيض المتوسط كالبحيرة،
وهو كالحوض الكبير جداً- فيشمل كل من يأتي من الشمال من إيطاليا
وما حولها، إلى تركيا، وإلى سوريا، وإلى لبنان، وإلى .. وإلى ..
ويدخل على البحر الأحمر، ومن ذلك مصر، ومن يأتي أيضاً من المغرب إن
جاء عن طريق البحر الأبيض، فكل من جاء عن طريق البحر الأبيض إلى
البحر الأحمر فإن ميقاته الجحفة، والجحفة قرية كانت في محاذاة رابغ
على ساحل البحر، لكن البحر مع المد والجزر جحفها؛ فسميت الجحفة،
وأصبح الميقات الآن في محاذاتها، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله،
ووقّت لأهل اليمن: يلملم، وهو موضع معروف لأهلها على بعد مرحلتين،
والجحفة على بعد خمس مراحل، وذو الحليفة على بعد تسع مراحل، وقرن
المنازل وهو لأهل نجد على بعد مرحلتين، ووقّت لأهل العراق ذات عرق،
وقيل: الذي وقت هذا الميقات هو عمر . ويهمنا قوله رضي الله عنه
في الحديث المتفق عليه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل
المدينة ذا الحليفة ،ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل
نجد قرن المنازل ).
الميقات لمن أتى عليه ولو لم يكن من أهله
ولما سمى تلك المواقيت لتلك البلاد قال: (هن لهن -يعني: لأهلهن-
ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ) يعني: لو أن إنساناً تركياً أو
شامياً أو هندياً أو باكستانياً جاء إلى المدينة ولم يأت عن طريق
البحر الأحمر، ولا عن طريق حوض البحر الأبيض، فما دام وصل إلى
المدينة لا يكون ميقاته الجحفة بل ميقاته ميقات أهل المدينة لقوله:
(ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) وكل الحجاج الذين يجتمعون في
المدينة من جميع الأقطار، ويريدون الخروج إلى مكة للحج، فميقاتهم
ميقات أهل المدينة، وهكذا أهل المدينة إن جاءوا من الشام على(3/31)
الجحفة، أو جاءوا من اليمن على يلملم، أو جاءوا من نجد على قرن
المنازل، لا يقولون: ميقاتنا المدينة ولابد من الرجوع إليه، فما
دام أنه سيدخل من ذلك الميقات إلى مكة مباشرة فيحرم من هناك، وهذا
هو الشمول والعموم، فلا تخصيص ولا عنصرية -كما يقال اليوم-،
فالتوقيت عام لجميع الأجناس، والغرض أن من أراد النسك -حجاً أو
عمرة- فلا يجوز له أن يتجاوز الميقات الذي في طريقه إلا وهو محرم،
سواءً كان من أهل هذا الميقات أو كان وافداً وماراً عليه، ثم قال
صلى الله عليه وسلم: (ومن كان دون ذلك ) أي: داخل الدائرة،
كالناس الذين بين الجحفة ومكة، والذين بين يلملم ومكة، والذين بين
قرن المنازل ومكة ... إلخ، هل يرجعون إلى الميقات ليحرموا منه؟
قال: لا، ومن كان محله دون ذلك نحو مكة، فمن حيث أنشأ، فلو كان في
منتصف الطريق بين يلملم ومكة، أي: على بعد مرحلة، فيحرم من مكانه
ولا يرجع إلى الميقات. وهكذا كل من كان دون الميقات إلى مكة، فموقع
إحرامه وميقاته: مكانه الذي هو فيه، حتى قالوا: لو أراد أهل عرفات
العمرة أحرموا من عرفات، وجاءوا إلى البيت، ولو أرادوا الحج أحرموا
من عرفات، ووقفوا الموقف، وأتموا حجهم. وأهل مكة إذا أرادوا الحج
فمن مكة، وإن أرادوا العمرة فلابد من خروجهم إلى أدنى الحل ثم
يدخلون الحرم محرمين، لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعمرها من التنعيم ) لأن
العمرة زيارة، والنسك لابد فيه من الجمع بين الحل والحرم، فما وراء
التنعيم حل، فيحرم من الحل، ويدخل الحرم محرماً، أما القادم من
خارج الحدود فهو بطبيعة الحال يجمع بين الحل والحرم، أما أهل مكة
في الحج فإنهم بخروجهم إلى عرفات يكونون قد خرجوا من حدود الحرم،
فبعد وقوفهم يرجعون إلى البيت محرمين، وهكذا، والله تعالى أعلم.
شرح حديث عائشة في ميقات أهل العراق
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن(3/32)
النبي صلى الله عليه وسلم (وقّت لأهل العراق ذات عرق )رواه أبو
داود و النسائي ، وأصله عند مسلم من حديث جابر رضي
الله عنه، إلا أن راويه شك في رفعه. وفي صحيح البخاري: أن عمر هو الذي وقّت ذات عرق. وعند أحمد و أبي داود و الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (وقّت
لأهل المشرق العقيق ) ].
تحقيق الخلاف في توقيت ذات عرق
تقدم في الحديث الأول: (وقّت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل
المدينة ذا الحليفة ) وتقدمت المواقيت أن لأهل الشام الجحفة،
ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وهنا يأتي المؤلف رحمه
الله تعالى بهذا الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (وقّت لأهل العراق ذات عرق )
وكلٌ من: يلملم، وقرن المنازل، وذات عرق، تبعد عن مكة مرحلتين. ثم
ساق المؤلف رواية أخرى: (أن عمر رضي الله تعالى عنه هو الذي
وقت لأهل العراق ذات عرق) وهذا عند العلماء يسمى باختلاف الحديث؛
لأن الرواية الأولى تقول: الذي وقّت لأهل العراق هو رسول الله صلى
الله عليه وسلم، والرواية الثانية تقول: الذي وقّت لأهل العراق هو
عمر رضي الله تعالى عنه. ويجمع بعض العلماء بين الروايتين وأن
كلتيهما صحيحة، قالوا: وقّت النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً، ولكن
الخبر لم يبلغ عمر ، ولما كان في خلافته رضي الله تعالى عنه،
ودخلت العراق في الإسلام، فسألوا عمر أن يوقِّت لهم فوقت لهم
ذات عرق، وغاية ما هناك أن يكون توقيت عمر وافق توقيت النبي
صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بعيداً على عمر رضي الله تعالى
عنه، فقد وافق القرآن الكريم في ستة مواضع، فلا غرابة من أن يوافق
السنة في هذا الموضع، وبعضهم يقول بالترجيح؛ لأن خبر عائشة فيه
راوٍ ضعيف، وخبر عمر أصح سنداً، وعلى كل فقد انعقد الإجماع على
أن ميقات أهل العراق هو ذات عرق. ثم يأتي المؤلف بهذا الخبر الآخر:(3/33)
(وقّت لأهل المشرق العقيق)، وهو: من العقوق وهو أن يشق السيل
الأرض، أي: يعقها، والمعروف منه: وادي العقيق بالمدينة، وهو الذي
يمر بذي الحليفة وينزل إلى عروة.. إلى سلطانة.. إلى ملتقى
الأسيال.. إلى الغابة. ووادي العقيق بالطائف، وكلاهما بهذا الاسم،
ويقال: هناك ثالث باليمن، والله تعالى أعلم؛ فقالوا: رواية أهل
المشرق هم أهل العراق، والعقيق هو بنفسه يمر أو يقع بذات عرق، فإذا
كان ذات عرق بالعقيق؛ فلا منافاة بين التسمية؛ لأن كليهما يصدق على
مكان واحد، ويرى بعض العلماء أن هذا التوقيت من عمر قياساً،
أي: على تباعد ما سنه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من
مواقيت اليمن ونجد.
من لا يمر طريقه بميقات فيحرم عند محاذاة الميقات
ثم ذكر العلماء مسألة وهي: أن من أتى إلى مكة، ولم يكن طريقه على
ميقات من تلك المواقيت ماذا يفعل؟ هل يتعين عليه أن يقصد إليها حتى
ينشئ إحرامه منها؟ قالوا: لا، ولكن إذا حاذى الميقات يميناً أو
يساراً فهناك ميقاته ويحرم من تلك المحاذاة، ثم جاء بعد ذلك أيضاً
-كما يقولون الجهات الست- الوراء، والأمام، واليمين، واليسار،
والفوق، والتحت، هذه تسمى الجهات وهي نسبية، فقالوا: كل من مر
بمحاذاة ميقات، في البر.. في الجو.. في البحر.. فإن ميقاته
محاذاته، واليوم تأتي السفن وتمر بالبحر فتحاذي الجحفة، فيكون
ميقات من في البحر وهو في السفينة أن يُحرم من محاذاة الميقات،
وكذلك في الطائرات فمن جاء في طائرة، ومر بميقات بلده، عليه أن
يتأهب قبل أن تصل الطائرة إلى الميقات، ويحرم قبل مجاوزة الطائرة
محاذاة ميقاته؛ لأن الطائرة ليست كالسفينة فهي تقطع المسافة بسرعة،
وتخرجه عن حدود الميقات بسرعة، فعليه أن يبادر ولا يتأخر، فمثلاً:
ميقات أهل المدينة: ذو الحليفة، والذي يسافر على السيارة سيمر بها،
فإذا كان طريقه كما هو الحال الآن بما يسمى بخط الهجرة، فلا يمر(3/34)
بالمسجد ولا بالقرية إنما يجانب عنها إلى جهة الجنوب الشرقي، فلا
مانع أن يحرم في الطريق من محاذاة الميقات، ولا يأتي إلى المسجد.
كيفية الإحرام لمن أراد السفر بالطائرة
ومن لم يمر على الميقات له أن يحرم من أول حدود (الميقات) وكذلك له
أن يحرم من طرف الميقات، المهم أنه لا يتجاوز حدود الميقات إلا وقد
أحرم، فإذا كان سفره بالطائرة والطائرة تأخذ طريقها جنوباً، فتمر
بمحاذاة ذي الحليفة وقد تمر فوقها عمداً كما هو في خطوط الطيران،
فإذا خرج الحاج من المدينة، لا نقول: عليك أن تذهب بالسيارة إلى ذي
الحليفة فتحرم، ثم تأتي وتطلع إلى المطار وتسافر على الطائرة، لا،
ولكن تجهز في بيتك، والبس الإزار والرداء، واذهب إلى المطار،
وعندما تأتي الرحلة فلا تُلب، ولا تنو عقد الإحرام حتى تضمن
الرحلة، فإذا ما صعدت الطائرة، وشُدَّ الحزام، وأقفل الباب، وتحركت
محركاتها، واتجهت في طريقها في مدرج المطار، فعندما ترتفع عن مستوى
الأرض هناك تُحرم؛ لأنك إذا انتظرت حتى ترى ذا الحليفة تكون قد
اجتزتها، وخرجت قبل أن تحرم، وهكذا إذا جاء إنسان على الطائرة من
نجد أو من اليمن ومر في الجو بمحاذاة الميقات فإنه يحرم من محاذاة
ميقاته، سواءً كان في البر أو كان في البحر أو كان في الجو، فهذه
هي المواقيت وهذا ترتيبها لمن أراد إنشاء الإحرام منها.
الإحرام في الميقات إنما هو لمن أراد النسك
بقي ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن
ممن كان يريد الحج والعمرة ) مفهوم المخالفة: من أتى عليهن ولم
يكن يريد الحج ولا العمرة هل نلزمه بالإحرام؟ لا نلزمه بالإحرام؛
لأن التوقيت لمن أراد النسك، ومن أراد أن يدخل مكة لتجارة..
لزيارة.. لاعتكاف.. لشيء آخر من غير العمرة أو الحج فله أن يجتاز
المواقيت من غير إحرام، ولكن وجدنا الفقهاء رحمهم الله قالوا: من
أراد الدخول إلى مكة وكان قد مضى عليه من إتيان مكة زمن طويل لا(3/35)
ينبغي أن يدخل مكة غير محرم بعمرة توقيراً وتعظيماً للبيت، وبعضهم
حدد بعض الأشهر، وبعضهم قال: لا يزيد عن أربعين يوماً، واستثنوا من
ذلك صاحب التردد: كالحطاب، وصاحب البريد، والآن بعض الناس يعمل في
جدة وهو ساكن في مكة، ويومياً يسافر إلى جدة، والعكس رجل يعمل في
مكة وهو ساكن في جدة، فهؤلاء لا يدخلون في هذا الحكم، ولكن إن تيسر
له فالحمد لله، وإن لم يتيسر له فليس بواجب عليه، وقد أخذ الفقهاء
هذا الحكم من فعله صلى الله عليه وسلم في عام فتح مكة، حيث دخل مكة
وقد مر بذي الحليفة ولم يحرم، ودخل مكة وعلى رأسه المغفر، والمحرم
يكشف رأسه، وما أتى عنه أنه صلى الله عليه وسلم أول ما جاء مكة أنه
طاف؛ لأنه كان مشغولاً بأمر وبشئون فتح مكة، فاستدل العلماء بذلك
على أن من دخل مكة لغير نسك، بتجارة أو زيارة أو أي شيء آخر فليس
عليه أن يُحرم، وإنما يدخل دخولاً عادياً، هذا ما يتعلق بالمواقيت.
حكم من جاوز الميقات من غير إحرام ناسياً أو جاهلاً
ترد هنا مسألة فقهية: لو أن إنساناً جهل الميقات، مثال ذلك: إنسان
أتى من نجد، أو أتى من الشام، أو خرج من المدينة، ولا يعلم منطقة
ذي الحليفة أين هي، ويظنها أمامه، فجاوز الميقات، ولما وصل إلى
المركز هناك أخبروه، وقالوا له: كيف تذهب إلى الحج ولم تحرم؟! قال:
سأحرم من ذي الحليفة، قالوا له: ذو الحليفة وراءك! فكان جاهلاً
بها، أو كان يعرفها ولكنه نسي، وجاوز الميقات، ولم يحرم، فماذا
يفعل؟ يقول الجمهور: النسيان لا يعفيه من الفدية، ولكن هل يُحرم من
مكانه؟ أو يرجع إلى ميقاته، لأنه مر عليه جاهلاً ناسياً؟ وإذا رجع
إلى الميقات هل يسقط عنه دم التجاوز للميقات، أو لا يسقط عنه؟
فالبعض يقول: لا يسقط عنه؛ لأن المجاوزة حصلت، والبعض يقول: إن
رجع، وكان قد تجاوزه ناسياً أو جاهلاً سقط عنه الدم، أما إذا تعمد
وهو يعلم فجاوزه ولم يحرم فلا يسقط عنه الدم ولو رجع، هذا ما يتعلق
بقضية الميقات المكاني.(3/36)
الميقات الزماني للحج والعمرة
وللحج ميقات زماني، وقد تقدمت الإشارة إلى أن العمرة لا زمن لها
(العمرة إلى العمرة ) مطلقاً، وإنما تكلم الفقهاء في الأيام
التي لا يجوز له أن يأتي بعمرة فيها وهي: الأيام المختصة بالحج،
كيوم عرفة، ويوم العيد، وأيام التشريق، فمنهم من يقول: يومان،
ومنهم من يلحق اليوم الثالث بها، ومنهم من يفصل: إن كان قد تعجل في
يومين فله أن يأتي بالعمرة في اليوم الثالث، وإن لم يكن تعجل فليس
له أن يفعل ذلك، وبعضهم يقول: لا يجوز ولو تعجل؛ لأن اليوم الثالث
من أيام الحج؛ ولأن جماعة آخرين تأخروا في منى يرمون الجمرات، إذن:
جميع السنة وجميع الأيام وقت زمني للعمرة ما عدا يوم عرفة، ويوم
العيد، وأيام التشريق الثلاثة على الاحتياط. أما الميقات الزماني
للحج فكما بيّن سبحانه: الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]
وأجمعوا على أن الجمع هنا يطلق على الشهرين وبعض الثالث تغليباً،
وهي: شوال، وذو القعدة، وبعضٌ من ذي الحجة، فإذا أنشأ الإحرام في
الميقات الزماني وقع، وهل يجوز تقديم الإحرام عن الميقات المكاني،
وعن الميقات الزماني أو لا يجوز؟ وإذا فعل ما هو الحكم؟ فلو أن
إنساناً أحرم بالحج أو بالعمرة من المدينة، أو من المسجد النبوي أو
من بيته، فمالك رحمه الله أتاه شخص وقال: (أريد أن أحرم من
هذا المسجد، قال: لا تفعل، قال: لماذا؟ قال: أخشى عليك الفتنة،
قال: وأي فتنة تخشاها؟ قال: أخشى أن يخطر ببالك أنك أحرمت بخطوات
أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من مكان أفضل من المكان
الذي أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخطر ببالك أنك فعلت
خيراً مما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتهلك) والآخرون
يقولون: إن كان من غير المدينة -وهذا الاحتمال ليس وارداً- قالوا:
لا بأس، فيجوز أن يُقدم الإحرام عن المواقيت المسماة، واستدلوا
بأمرين: الأمر الأول: جاء حديث: (من أحرم بعمرة من بيت المقدس كان(3/37)
له من الأجر كذا.. ) فقالوا: يُحرم من بيت المقدس، وقوم قالوا:
هذا خاص ببيت المقدس؛ لأنه من حرم إلى حرم ولا يجوز ذلك من غيره،
وقال الآخرون: جاء عن علي رضي الله تعالى عنه، في قوله سبحانه: وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]
قال رضي الله تعالى عنه: (إتمامهما إحرامك بهما من دويرية أهلك)
فيجوز له أن يحرم من بلده من أي قطر من الأقطار، لكن العلماء كرهوا
هذا؛ لأنه قد يطول عليه الوقت فيضيق عليه الحال فيكون ذلك مدعاة
لأن يرتكب محظوراً من محظورات الإحرام لطول الزمن، فالأولى أن
يجعلها من المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم
يقولون: أقل الأدنى هي المواقيت، وما وراءها يصح، هذا في الميقات
المكاني. إذاًً: حكم الميقات الزماني قالوا: الميقات الزماني ليس
كالمكاني، فمن أحرم بالعمرة فلا زمان لها، ومن أحرم بالحج قبل
التوقيت فله ذلك، وهناك من يقول: لا إحرام له ولا نسك، والشافعي رحمه الله يقول: (إن أحرم قبل ميقات الحج بحج انعقد إحرامه، وانصرف
إلى ما يصح في ذلك الوقت)، فلو أحرم بالحج في رمضان على قول
الجمهور: لا حج له، و الشافعي يقول: (انعقد الإحرام وانقلب إلى
عمرة) لأن العمرة تصح في رمضان، وعليه أن يجدد الإحرام بالحج في
زمن الحج، والله تعالى أعلم.
134803 ( كتاب الحج - باب وجوه الإحرام وصفته )
( كتاب الحج - باب وجوه الإحرام وصفته )
عناصر الموضوع
1 الإهلال بالحج والعمرة وصفته
2 شرح حديث: (ما يلبس المحرم من الثياب)
كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [1]
إذا أراد المحرم أن يحرم بالحج أو العمرة فيشرع له أن يهل بالنسك،
والإهلال هو التلبية، ويشرع رفع الصوت بها، ولها معان عظيمة جليلة،
كإفراد الله تعالى بالتوحيد والعبودية، ونحو ذلك من المعاني، وعند
الإهلال يجب على الناسك أن يتجرد من ثيابه ويلبس ثياب الإحرام، ويسن له(3/38)
الاغتسال، وبعد الاغتسال يلبس ثياب الإحرام، وعليه أن يجتنب لبس القميص
والعمائم والسراويلات والبرانس والخفاف، ولا يلبس ثوباً مسه الزعفران
أو الورس.
الإهلال بالحج والعمرة وصفته
قال المؤلف رحمه الله: [ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ما
أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد ) متفق
عليه ]. بعدما بين المؤلف رحمه الله تعالى المواقيت للإهلال، وكأن
كل مريد للحج قد وصل إلى ميقاته، شرع في بيان ميقات أهل المدينة؛
وذلك لقرب المدينة من مكة، وأراد أن يبين لنا من أين أهل رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وقد خرج صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى الظهر
في هذا المسجد النبوي الشريف أربعاً، وسار إلى ذي الحليفة ووصلها
قبل العصر وصلى العصر قصراً ركعتين وبات ليلته هناك، ثم أهلّ
بنسكه.
تعدد الروايات في مكان إهلال النبي صلى الله عليه وسلم
ويأتينا المؤلف رحمه الله بهذه الرواية: (ما أهلّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلا من عند المسجد )، وهذا دليل على أن النبي
صلى الله عليه وسلم أوقع إهلاله في الميقات. وقد تقدمت الإشارة إلى
أنه أهل قبل الميقات المكاني وهو خاص، وهنا جاءت روايات أن النبي
صلى الله عليه وسلم أهلّ من عند المسجد، وهناك رواية: أنه أهلّ
حينما استوت به راحلته، وأخرى أنه أهلّ حينما كان بالبيداء. وقد
جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: يا ابن عباس ! لقد حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة واحدة ووقع في نفسي شيء
لكثرة ما سمعت في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وما
ذاك؟ قال: سمعت من يقول: أهلّ بالمسجد، وسمعت من يقول: أهلّ حينما
استوت به راحلته، وسمعت من يقول: أهلّ حينما استوى بالبيداء
-والبيداء: هي الأرض المرتفعة المطلة على ذي الحليفة وليست بعيدة
عنها- فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يا ابن أخي! أنا
أخبرك بذلك كله. ووضع لنا ابن عباس رضي الله عنهما منهجاً(3/39)
علمياً في مسألة: كيف نعمل مع الأحاديث إذا تعددت وكان فيها شبه
تعارض؟ قال: يا ابن أخي! أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب
الصلاة بالمسجد، فسمع ذلك أقوام فأخبروا بذلك، ثم لما نهضت به
راحلته أهلّ، فسمع بذلك أقوام آخرون ولم يكونوا قد سمعوا ما تقدم
فأخبروا بما سمعوا، ثم لما كان بالبيداء أهلّ، فسمع بذلك أقوام ولم
يكونوا قد سمعوا بما قبلها فأخبروا بما سمعوا، فكل صادق، وكل أخبر
بما سمع. إذاً: فقد تعددت الروايات في مكان إهلال رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ومن تلك الروايات: (ما أهلّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلا من عند المسجد ) ومعلوم أن السنة في الإهلال هي
اقتفاء آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقد قدمنا ما
جاء عن مالك رحمه الله تعالى أن رجلاً أتاه وقال: أريد أن أحرم
من هذا المسجد، فقال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي
فتنة وأنا أحرم من مسجد رسول الله، إنما هي خطوات أزيدها؟ قال: هذه
هي الفتنة، أخشى أن يقع في نفسك أنك زدت في إحرامك خطوات لم يأت
بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتهلك. وعلى هذا: فمن قدّم
الإهلال على الميقات المكاني فإن إهلاله صحيح، ولكن الأفضل أن يكون
من الميقات، مخافة أن يطول عليه الزمن أو المكان فيقع في بعض
المحظورات وقد كان في عافية من ذلك. وإذا لاحظنا ما جاء عنه صلى
الله عليه وسلم في قوله: (خذوا عني مناسككم )؛ علمنا أن اتباع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأعمال هو الأولى والأفضل.
معنى الإهلال بالنسك
وقوله: ( أهل ) أي: رفع صوته مهلاً بنسكه، والإهلال: مأخوذ من
التهليل وهو رفع الصوت، والتهليل مأخوذ من الهلال، يقول أهل اللغة:
إن أسماء المعاني مأخوذة ابتداءً من أسماء الذوات، أي: المحسوسات،
فالاسم يوضع أولاً للذات المحسوسة، ثم ينقل منها إلى المعنوي، كما
تقول: أذن الآذن بكذا، وفلان مأذون بكذا، فإن أصل مادة (أذن) هي(3/40)
الأذن؛ لأنها يلقى فيها الأمر الذي أُذن فيه للسامع بما أُذن،
فكذلك الإهلال، فقد كانوا إذا رأوا هلال الشهر رفعوا أصواتهم
بالتهليل، أي: إعلاناً برؤية الهلال لهذا الشهر، ثم انتقل
الاستعمال لكلمة الإهلال والتهليل لكل صوت مرتفع، ولهذا يقال للصبي
عند ولادته: أهلّ باكياً، إذا استهل صارخاً ثبتت حياته وثبت ميراثه
ولو مات بعدها بلحظة. وعلى هذا فقوله: (أهلّ النبي من عند المسجد)
أي: رفع صوته بالتهليل بالنسك الذي أراده، وهنا يقول العلماء: إن
عقد النية لجميع أعمال العبادات يكون سراً في القلب إلا في أحد
النسكين، فله الحق في أن يتلفظ به رافعاً صوته: لبيك اللهم عمرة،
أو لبيك اللهم حجاً، أو لبيك اللهم عمرة وحجاً، وما عدا ذلك من
صيام وصلاة وزكاة وغير ذلك فلا يرفع فيها صوته ولا يتكلم بالنية
إلا بقدر ما يسمع به نفسه توكيداً لما انعقد عليه القلب.
رفع الصوت بالإهلال
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن خلاد بن السائب عن أبيه رضي الله
عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فأمرني
أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال ) رواه الخمسة وصححه
الترمذي وابن حبان ]. الخبر الأول: في حق رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه أهل. والخبر الثاني: في حق أصحابه رضوان الله
تعالى عليهم، وهنا نجد جبريل عليه السلام مع رسول الله في هذه
الحجة، فنجده صلى الله عليه وسلم يقول: (أتاني جبريل)، فهو يأتيه
بكل ما أراد الله سبحانه وتعالى أن يوحيه إليه، فقد يأتيه بوحي من
كتاب الله قرآناً، وقد يأتيه بخبر آخر سوى ذلك. فهنا أتاه جبريل
وأمره، ولم يلقِ الأمر جزافاً، بل قال أمره لرسول الله صلى الله
عليه وسلم: مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال، وهناك رواية:
(بالتلبية)؛ لأن الإهلال هو التلبية، والتلبية هي الإهلال، ورفع
الصوت من شعار الحج، وهذا خاص بالرجال، أما النسوة فيسمعن أنفسهن
فقط.
من معاني التلبية(3/41)
وهذه التلبية وشعار الحج لو وقف الإنسان عندها لوجد -كما أسلفنا
سابقاً- أن الحج يشمل عموم أعمال الإسلام، وقد أسلفنا أيضاً أن
رحلة الحج لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي رحلة عامة للدين
والدنيا والآخرة، فهنا حينما يقول الحاج: لبيك اللهم لبيك، التلبية
في اللغة تأتي بمعنى: الإقامة، أي: إقامة على طاعة الله، وتأتي
بمعنى: إجابة النداء، كأن تنادي: يا زيد! فيقول: لبيك، أي: أنا
سامع مجيب مستعد لما تأمرني به. وهنا يقول العلماء: (لبيك) إجابة
لنداء، وأين هذا النداء الذي يلبيه الحاج عند إهلاله بالنسك؟
قالوا: هناك نداء سابق وهو ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى
لإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: وَأَذِّنْ
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27]،
ولما بنى إبراهيم البيت أمره الله أن ينادي في الناس: (إن الله قد
ابتنى لكم بيتاً فحجوه، فقال: يا رب! وأين سيبلغ ندائي؟ قال: عليك
النداء وعلينا البلاغ، فصعد أبا قبيس ونادى وقال: أيها الناس! إن
الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه )، فأبلغ الله سبحانه وتعالى
بقدرته هذا النداء لجميع الخليقة إلى يوم القيامة، فقد بلغ الصوت
للحاضرين آنذاك، وللأشخاص في الذراري في أصلاب الآباء قبل أن
يوجدوا، فشمل كل أجيال بني آدم، وقالوا: من لبى مرةً حج مرة، ومن
لبى أكثر حج أكثر. فمجيء الإنسان إلى الميقات وإعلانه: لبيك اللهم
لبيك، عبارة عن إجابة لذلك الدعاء الذي دعاهم به إبراهيم عليه
السلام لحج بيت الله الحرام، وفي قول الحاج أو المعتمر: لبيك اللهم
لبيك، تكرار للتأكيد. وقوله: (لا شريك لك لبيك)، هذه هي عقيدة
التوحيد التي خلق الله الخليقة من أجلها ليعبدوه ويوحدوه، (لا شريك
لك) رد على أهل الجاهلية، فقد كانوا يقولون في حجهم: لبيك اللهم
لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فهم
يعترفون بأنه شريك صغير، وأنه مملوك لله، ولكن ذلك لم ينفعهم،(3/42)
فجاءت التلبية تخلص العبادة لله وحده: (لبيك لا شريك لك) لا في هذا
الحج ولا في غيره. ثم يعقب ذلك بما يشبه التعليل لنفي الشراكة عن
الله، فيقول: (إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) فكأنه يقول:
موجب التوحيد وعدم الشريك هو أن الحمد والنعمة لك، والحمد يكون
لكمال الممدوح لذاته، قال الله تعالى: الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]،
و(رب العالمين) فيها التنصيص على أن جميع النعم في جميع العوالم هي
لله، وهنا: تحمد الله لكمال ذاته، والحمد يتضمن الشكر على نعمه؛
لأن جميع النعم لله، (إن الحمد) أي: الكمال الذاتي، (والنعمة):
التي نعيش بها ونرجوها في الدنيا أو في الآخرة هي لله. إذاً: ما
دام الكمال لله فلا نعبد غيره، وما دامت النعمة كلها لله فلا نطلب
من غير الله شيئاً؛ بل نتوجه إلى الله بكليتنا بدون شراكة في ذلك.
والملك كله لله، إذاً الخير والشر لا يكون إلا بقضاء الله وقدره،
فلا تخشى في دنياك أحداً؛ لأن النعمة التي ترجوها عند الله، والشر
الذي تتقيه وتخشاه لا يأتيك إلا بقضاء الله؛ فلا وجود لمن ترجوه أو
تخشاه إلا الله، وبهذا تكون بداية الناسك تجديد العهد بربه إيماناً
وتصديقاً ورضاً، ويظهر شعار الحج بهذا النشيد المبارك: (لبيك اللهم
لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك
لك)، أي: في ذلك كله، فهذا هو معنى الإهلال. ومن المعلوم أن الأذان
وهو شعار الإسلام في أعظم ركن وهو الصلاة يبدأ بالتكبير ثم
بالتهليل (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ثم نجد الدعوة إلى
الصلاة وإلى الفلاح، فنجد فيه أيضاً توحيد الله سبحانه، والتصديق
برسوله في النطق بالشهادتين، ونجد تكرار التكبير؛ لأنك في عملك
أياً كان نوعه، أو في جلوسك ومتعتك أياً كانت صفتها، حينما تسمع:
الله أكبر، توقن بأن الله أكبر مما أنت فيه مهما كان، فلا يمنعك
ولا يؤخرك عن إجابة المنادي (حي على الصلاة)؛ لأن الله أكبر مما(3/43)
أنت مشغول به، أو مما تسعى إليه. وهكذا يكون الإمعان في التلبية
بمعنى: الإمعان في أسس التوحيد والعودة إلى الله سبحانه وتعالى.
التجرد من الثياب والاغتسال عند الإهلال
قال المؤلف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن
النبي صلى الله عليه وسلم: تجرد لإهلاله واغتسل )، رواه الترمذي وحسنه]. التجرد: هو الخروج من هذا اللباس العادي، وإذا ما تجرد
فلابد أن يستتر فيلبس الإزار والرداء بعد التجرد، وقبل اللبس
يغتسل، ولذا اتفق الجميع على أن من شروط الإحرام: التجرد، ولكنه
ليس شرط صحة، فإذا أهل ولم يتجرد صح إهلاله وانعقد نسكه، ثم يجب
عليه أن ينزع ما هو لابس من ثيابه، فإن لم يفعل فتلزمه فدية. ويصح
أن يتجرد الإنسان قبل الميقات أو في الميقات، أما ما جاء عنه صلى
الله عليه وسلم فهو أنه تجرد في بيته في المدينة واغتسل ثم خرج إلى
ذي الحليفة بإزاره وردائه، وطيبته أم المؤمنين عائشة رضي الله
تعالى عنها. إذاً: السنة والواجب على المحرم أن يتجرد من ثيابه،
وإذا نظرنا إلى هذا العمل نجده من غرائب حكمة التشريع فحينما تأتي
وفود المسلمين من أقطار شتى ويجتمعون في المدينة، فتجد كل جنس في
كل قطر له لباس خاص به يميزه عن غيره، ولو رأيته بلباسه لعرفت من
أي الأجناس أو من أي الأقطار هو، فإذا ما أرادوا الحج فلا يجتازون
الميقات إلا وقد خرجوا من تلك الألبسة وتوحدوا بلباس واحد إزار
ورداء، وهناك تكون قد ذهبت الفوارق، وألغيت العادات، وظهر المسلمون
أمة واحدة في شكل واحد، توحدت أشكالهم كما توحد شعارهم: لبيك اللهم
لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. وفي هذا التجرد خروج من مظاهر الدنيا،
سواءً كانت مظاهر غنى أو فقر، مظاهر إقليمية أو جنسية أو غير ذلك،
والإسلام في ذاته لا يعترف بشيء من هذا إلا للتنظيم فقط: يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13](3/44)
، للتعارف والتنظيم فقط، والحقيقة: إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
فهنا حينما يريد الحاج أو المعتمر أن يهل فإن عليه قبل ذلك أن
يتجرد، فإذا تجرد اغتسل، وكما أسلفنا فإن التجرد شرط للإحرام، ولكن
إذا لم يفعله جبر بدم، وسيأتي أن البعض قد يعذر في تجرده من بعض ما
يحتاج إليه من لباس، فيترخص ويدفع قيمة ذلك الترخص. ويسن كذلك
الاغتسال، وقد سن الاغتسال للمحرم في عدة مواطن، وكلها -كما
أسلفنا- سنة حسب ما تيسر له، وهي: عند إرادته الإحرام بعد التجرد،
وعند دخول مكة، وعند الوقوف بعرفات، فقد اغتسل النبي صلى الله عليه
وسلم في هذه المواطن، فإذا لم يتيسر له أن يغتسل توضأ وأجزأه ذلك،
وإن كان معذوراً في استعمال الماء أو لم يجد الماء تيمم. ثم إن أهل
دون أن يغتسل ودون أن يتوضأ ودون أن يتيمم فإن إهلاله صحيح؛ بل إن
المرأة الحائض أو النفساء عند الإهلال تغتسل للإهلال وليس للحيضة،
فإذا جاءتها الحيضة مثلاً في الصباح فتهل في المساء ولا زالت
بحيضتها، والسنة أن تغتسل لا لحيضتها ولكن تطهراً واستقبالاً لهذا
النسك، كما جاء (أن أسماء بنت عميس -زوج الصديق رضي الله
تعالى عنهما- نفست -أي: ولدت- في ذي الحليفة ليلة مبيته صلى الله
عليه وسلم بها فجاء أبو بكر وأخبر رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال له: مرها فلتغتسل )، وبين له أنها تفعل ما يفعل الحاج
غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر من نفاسها، وكذلك مثلها صاحبة
الحيضة. إذاً: الإهلال ينعقد ويصح ولو لم يغتسل، ولو لم يتوضأ، ولو
لم يتيمم، ولكن الغسل هو السنة، وكذلك مس الطيب في البدن لا في
الثياب، على ما سيأتي إن شاء الله. إذاً: على المحرم أن يتجرد من
ثيابه، وأن يغتسل لإهلاله، وأن يلبس إزاراً ورداءً أو ما ينوب
عنهما، كما سيأتي إن شاء الله.
شرح حديث: (ما يلبس المحرم من الثياب)
قال المؤلف رحمه الله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول(3/45)
الله صلى الله عليه وسلم سُئل: (ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا
يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا
الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من
الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران ولا الورس )
متفق عليه، واللفظ لمسلم ]. بعدما قدم المؤلف رحمه الله
التجرد والاغتسال للإهلال وموقع الإهلال ومكانه، كأنه قيل: بعدما
تجرد واغتسل لابد أن يلبس شيئاً، فجاء بهذا الحديث الشامل العام في
سؤال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا يلبس المحرم؟ ) وهذا
الحديث من نماذج أسلوب الحكيم في الإجابة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم
سُئل: ماذا يلبس؟ فأجاب: (لا يلبس)، أي: سُئل عن بيان ما يجوز
للمحرم أن يلبسه فكان الجواب عكس السؤال: لا يلبس المحرم كذا وكذا.
وقد ذكر العلماء أن القاعدة الأساسية في الجواب أن يطابق السؤال،
ولكن المسئول إذا كان حكيماً راعى حالة السائل، فقد يزيده عما سأل،
وقد يغاير ويجيبه عن غير ما سأل؛ ليبين له أن الأهمية فيما تضمنه
الجواب، أو يختصر في الجواب ليسهل على السائل فهم الجواب. ومن
مغايرة الجواب للسؤال، ما جاء في كتاب الله عند قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ
مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ
فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:215]،
فهم يسألون عن ماذا ينفقون؟ وفي آية أخرى: قُلِ
الْعَفْوَ [البقرة:219]،
أي: الزائد عن حاجتكم، وهذا مطابق للسؤال، ولكن هنا قال: قُلْ
مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ [البقرة:215]،
فقد سألوا عن نوعية ما ينفقون فأجابهم بأن دلهم على جهة ما ينفقون
عليه؛ لأن معرفة ذلك أهم من معرفة ماذا ينفقون. وكذلك من الزيادة
في الجواب على السؤال حديث: (قالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر
ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء
البحر؟ ) فالسؤال محدود عن صحة الوضوء من ماء البحر، فكان جوابه(3/46)
صلى الله عليه وسلم: (هو -أي: البحر- الطهور ماؤه الحل ميتته )،
مع أنهم لم يسألوا عن ميتته أحلال هي أم حرام؟ ولكن نظر صلى الله
عليه وسلم إلى السائل عن صحة الطهور من ماء البحر ورأى أن تحريم
وتحليل ميتة البحر أشد إشكالاً عليهم، فإذا كانوا قد استشكلوا
الوضوء من ماء البحر لكونه مالحاً فلأن يستشكلوا حِل ميتته من باب
أولى، فزادهم فيما يرتبط بركوب البحر. وهنا سُئل صلى الله عليه
وسلم: ماذا يلبس المحرم؟ قال بعض العلماء: لقد أجابهم بما كان
ينبغي أن يتوجه السؤال إليه، وهو: ما الذي يمتنع علينا لبسه في
الإحرام؟ فكأنه يرشدهم إلى ما كان ينبغي أن يجعلوا السؤال عنه،
وهو: ما الذي نجتنبه إذا أحرمنا؟ وقد عللوا ذلك بأن الأصل جواز لبس
أي شيء، فالأصل في اللباس إباحة كل شيء حتى يأتي المانع، كما نهي
عن لبس الحرير والذهب للرجال، فالأصل في الأشياء الإباحة ما لم يأت
الدليل المانع، لكن اللباس في الإحرام من حيث هو خرج عن هذه
القاعدة؛ لأن تاريخ لبس المحرم في الجاهلية كان مغايراً، فقد كانوا
في الجاهلية يطوفون بالبيت عرايا لا يلبسون شيئاً رجالاً ونساء،
وهذا كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا
وعليه: من شدة مكيدة الشيطان للإنسان؛ لأنه ما وجد مصيدة أشد وأقوى
للرجال من النساء، ويقول: إن فتنة الرجل بالمرأة من أول ما وجد جنس
الإنسان، فقد كان آدم عليه السلام في الجنة منعماً مطمئناً في عيشة
رغيدة، فلما طرد الشيطان حسد آدم على بقائه، فأراد أن يكيد له
ليخرجه ليستويا في الحرمان، فجاءه عن طريق حواء وأغراه حتى أكل من
الشجرة التي نهي عنها، فخرجا معاً، قال تعالى: فَدَلَّاهُمَا
بِغُرُورٍ [الأعراف:22].
والعجيب أن الشيطان جاء لآدم بالطريق الذي يريده ليكون انقياده
أهون عليه، قال تعالى: قَالَ
يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ [طه:120]،
فكلمة (أدلك) تعني: أنه يريد أن ينصحه. (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى(3/47)
شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120]،
وهذا هو ما يريده آدم، وتخيل إنساناً في الجنة منعماً، فإن أخوف ما
يخافه هو الخروج منها، فقال له: أنا أدلك على الطريق الذي يؤمنك من
هذا الخوف، فدله على ما أراد، وجاء عن طريق حواء وحصل ما حصل، قال
تعالى: قُلْنَا
اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا [البقرة:38].
ثم بعد ما نزل آدم إلى الأرض وبدأ يكون مجتمعه جاءت فتنة المرأة،
فكان قتل أحد ولديه لأخيه بسبب المرأة، بسبب أخته، ثم واصل الطريق
معه عن طريق المرأة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي
فتنة أشد على الرجال من النساء )، وكما قال جرير : يصرعن ذا
اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا وهذا هارون الرشيد ينادي جارية صغيرة ويقول لها: تعالي، فتقول له: لا! خليفة المسلمين
الذي سمعت به الدنيا! ومع ذلك جارية صغيرة تقول له: لا! فتمثل بهذه
الأبيات: ما لي تطاوعني البرية كلها وأطيعهن وهن في عصياني ما ذاك
إلا أن سلطان الهوى وبه قوين أعز من سلطاني فسلطان الهوى أعز من
سلطان الملك، ومما يذكر أن جورج الخامس أو غيره نزل عن عرشه
لامرأة! يقولون: لم تكن بارعة في الجمال، ولكنها كانت بارعة في
الظرف والأدب والحديث، فأراد أن يتزوجها، فقيل له: لا يمكن؛ لأن
الملك في انجلترا لا يتزوج إلا من بيت الملك، فأنت مخيّر بين الملك
وامرأة، فقال: خذوا الملك كله. فتنازل عن عرش بريطانيا وتزوج
بالمرأة؛ لأن سلطانها أعز عليه، ولهذا يقول صريع الغواني :
وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز فدمه متحرز
حرام لكنها تقتله. فالمقصود: أن الشيطان اتخذ المرأة وسيلة لإغواء
الرجل، فما زال يغوي العرب إلى أن جعلهم في تلك الصورة التي
يستنكرها كل عاقل حتى صاروا يطوفون بالبيت رجالاً ونساءً عرايا،
حتى يذكرون عن بعض النسوة أنها قالت وهي تطوف: اليوم يبدو جله أو(3/48)
كله وما بدا منه فلا أحله وكيف وصل بهم إلى هذا الأمر الشنيع؟ وصل
إلى ذلك بحيلة، فقد جاءهم وقال: أنتم جئتم تحجون وتطوفون تريدون
المغفرة من الذنوب؟ فقالوا: هذا كلام صحيح. فقال: إن ثيابكم التي
تلبسونها في الطواف قد باشرت معكم وشهدت عليكم ارتكاب المعاصي،
فكيف تطوفون بالبيت وهذه الثياب عليكم شاهدة بمعاصيكم؟ فقالوا: وما
هو الحل إذاً؟ قال: اخلعوها، وطوفوا مجردين من كل شيء. فقالوا: لقد
أصبت. وأضلهم بهذه الحيلة، وكان الواحد منهم إذا استحى أن يطوف
عرياناً ولم يستطع وتأبى عليه مروءته ذلك، كان عليه أحد أمرين: إما
أن يستعير ثوباً من جيران البيت الحرام فيلبسه، على أن جيران البيت
لا ذنوب ولا معاصي لهم، أو لأنهم مكرمون عن هذا. وإما أن يشتري
ثوباً جديداً ما شهد معصية، فيلبسه ويطوف به، فإذا أنهى طوافه خلعه
ورماه عند البيت ويكون هدية لسدنة البيت. ثم جاء الإسلام وكرم
الإنسان، وقد كان المسلمون يعلمون بأن المشركين كانوا يطوفون
عرايا، ففي سنة تسع لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر يحج بالناس قال له: (ولا يحجنّ بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن
بالبيت عريان )، فما ألغي هذا الأمر إلا سنة تسع من الهجرة
بعدما فتحت مكة بسنة. إذاً: هم يعلمون أن الطواف في الجاهلية كان
يقع والناس عرايا، إذاً ماذا يلبسون؟ فالسؤال منهم عما يلبس المحرم
هو عين الصواب، والجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم المغاير
للسؤال الصحيح السليم إنما هو لبيان وحصر ما يمكن تجنبه، ومعلوم أن
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. أيضاً قالوا: إن ما يمنع المحرم
من لبسه محدود ومحصور، وما يجوز له أن يلبسه مطلق دون حد أو حصر،
فكأنه صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا هذه المذكورات وما عداها
فالبسوا ما شئتم. وسواء كان ذلك في عمرة أو كان ذلك في حج، وقوله
(لا تلبسوا) خطاب للرجال يخرج عنه النساء، وإن كان المؤلف لم يورد(3/49)
ما تجتنبه المرأة، لكنه معروف عند الجميع وفي غير هذا الموطن، وقد
ذكره المصنف في فتح الباري في شرح صحيح البخاري. وقوله: (لا تلبسوا
القمص) القمص: جمع قميص، وهو كناية عن الثوب، سواء كان القميص الذي
يلبس مع البدلة، أو مع السروال الطويل، أو كان نفس الثوب المعروف،
فإنه يسمى ثوباً ويسمى قميصاً، فما كان على هيئة البدن بكمين فهو
قميص. ويراد بالقميص كل مخيط على هيئة البدن وله كمان، وسواء كان
هذا القميص مخيطاً بيد أو بمكينة أو ملصقاً بلصقة أو مشغولاً
بالإبرة، أو نحو ذلك؛ لأن الغرض منع لبس المحيط بالجسم، فالنهي هو
عن المحيط لا المخيط، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
( كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [2] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (لا ينكح المحرم)
2 حكم الصيد للمحرم
3 من حكم تحريم النكاح والصيد على المحرم
كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [3]
إذا أحرم المحرم للحج أو للعمرة فلا يجوز له أن يَنكح ولا أن يُنكح،
وكذلك يحرم عليه أن يصيد صيداً، أو أن يأكل صيداً صيد لأجله، أما إذا
لم يصد لأجله فلا بأس أن يأكل منه، ولذلك حكم عظيمة من تربية النفس
وتهذيبها وتعويدها على اجتناب المحرمات، فما دام أن الإنسان قد امتنع
عن الحلال حال إحرامه، فمن باب أولى أن يجتنب الحرام حال إحلاله.
شرح حديث: (لا ينكح المحرم)
قال المصنف رحمه الله: [وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا
يخطب ) رواه مسلم ]. من محظورات الإحرام عقد النكاح والوطء،
فإذا أحرم الإنسان حرم عليه وطء زوجه، وحرم عليه أيضاً أن يعقد عقد
نكاح لابنته أو أخته أو مولاته.
مسألة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة في عمرة القضاء
وهنا وقع خلاف بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله وبين الجمهور في
قضية أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها، وذلك أن النبي صلى(3/50)
الله عليه وسلم في عمرة القضية -وتسمى عمرة القضية، وعمرة القضاء،
وهي العمرة الثانية بعد عمرة الحديبية لما خرج صلى الله عليه وسلم
معتمراً عام الحديبية، وما كان من قريش حين أن منعوه من دخول مكة،
وصالحهم على ما فيه مصلحة المسلمين، وتمت فيها بيعة الرضوان، وتحلل
المسلمون وحلقوا رءوسهم في الحديبية على مشارف حدود الحرم، ورجعوا
وحسبت لهم عمرة، وكان من شروط الاتفاق: أن يتحللوا مكانهم ويرجعوا
إلى بلدهم ثم يأتوا في العام القادم، على أن تخلي قريش مكة
للمسلمين حتى يقضوا عمرتهم ويقيموا فيها ثلاثة أيام. وسميت القضية
؛ لأنها العمرة التي كانت بمقتضى التقاضي بين الفريقين والاتفاق
عليها، وسميت عمرة القضاء كذلك، لكن بعض الناس يقول: إنها قضاء عن
العمرة الأولى، ولكن المحققين من العلماء يقولون: العمرة الأولى
انتهت، ولهذا لم يلزم النبي صلى الله عليه وسلم جميع الذين حضروا
معه عمرة الحديبية أن يرجعوا معه في العام الثاني ليقضوا ما فات،
فإن هذه عمرة مستقلة وتلك عمرة مستقلة. الشاهد: أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما كان في الطريق إلى مكة لأداء العمرة أرسل إلى ميمونة من يخبرها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخطبها للزاوج منها، فلما
أتوا إلى العمرة وانتهت الثلاثة الأيام، جاءت قريش وقالوا: يا
محمد! اخرج بمن معك فقد انتهت الموعدة، قال: أمهلونا، نحن نريد أن
نتزوج من عندكم، ونريد أن نحتفي ونريد أن نطعم سوية، قالوا: لا
حاجة لنا في زواجك ولا في طعامك، اخرج، فخرج صلى الله عليه وسلم
وتزوجها ودخل بها في سرف في عودتهم إلى المدينة، وسرف تبعد عن مكة
مرحلتين. وهنا اختلفوا: هل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو محرم حينما أرسل يخبرها، أم تزوجها بعد أن حل من عمرته وانتهى
وبنى بها في سرف؟ والعجيب أنهم يقولون: المكان الذي بنى لها فيه
خيمة وبنى بها هو المكان الذي توفيت ودفنت فيه. فقال بعضهم: تزوجها(3/51)
وهو محرم، وأخذ بذلك أبو حنيفة رحمه الله. وقد اختلفت الروايات
فرافع بن خديج كان السفير بين رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبين ميمونة وقد روى أنه تزوجها وهو حلال. وابن عباس هي
خالته، وقد روى أنه تزوجها وهو محرم، فلما اختلف الناس في ذلك
سألوا ميمونة رضي الله عنها، فقالت: تزوجني وهو حلال. فهنا
اختلفت الرواية في قضية واحدة، ولا يمكن أن يدعي أحد تكرار القضية
وتعددها -كما يقال في غير هذا الموضع- فتحمل بعض الأحاديث على نوع
وبعض الأحاديث على نوع آخر، لكن هذه قضية واحدة لم تتكرر. فقالوا:
في هذه الحالة يؤخذ بالترجيح، فيرجح بالقرائن التي تدل على صدق أحد
الفريقين، ومن القرائن: أن الذي يروي أنه تزوجها وهو حلال هو
الواسطة بين الطرفين، فرافع بن خديج هو الواسطة في تزويجهما،
فيكون أعلم من غيره: أتزوجها وهو حلال أم وهو محرم؟ وابن عباس يروي عن خالته، ومن روى عن خالته ليس مثل شخص آخر يسمع بواسطة، فلو
قارنا رواية ابن عباس عن خالته برواية غيره، فإن الذي يكون
أعلم بهذا الأمر هو ابن عباس بلاشك. إذاً: هنا اختلف رافع بن
خديج وابن عباس ، فالأول يروي أنه تزوجها وهو حلال،
والثاني يروي أنه تزوجها وهو محرم، وهنا رجعوا إلى ميمونة فسألوها عن ذلك فقالت: تزوجني وهو حلال. فاختلفت رواية ابن عباس عن رواية رافع وميمونة ، وابن عباس يروي عن خالته، فهو
يعادل حديث رافع ، ورافع هو الرسول بينهما، وابن عباس هو ابن أختها، فاختلفا، وكلاهما له صلة قوية بها، فقالوا: إذاً
نرجع إلى صاحبة القصة وهي ميمونة ، فسألوها فقالت: تزوجني وهو
حلال. وبهذا أخذ الجمهور أنه لا يَنكح المحرم ولا يُنكِح. ثم بعد
ذلك ذكروا مسائل أخرى، مثل هل يطلق؟ وهل يخالع ؟ هل يرد الزوجة في
طلاقها قبل تمام العدة؟ كل ذلك موضع بحث في هذا الحديث. والذي
يهمنا أن من محظورات الإحرام: النكاح، أي: أن يكون النكاح ابتداء(3/52)
لا دواماً، فالمحرم يكون متزوجاً ويبقى حكم الزواج بعد الإحرام،
ولكن لا يبتدئ ولا يستأنف النكاح، وإذا كان العقد ممنوعاً وهو مجرد
قبول وإيجاب ؛ فالوطء من باب أولى.
حكمة تحريم النكاح على المحرم
وهنا يقال: إن هذه المحظورات تعتبر من خصائص الإحرام، فإن الزوجة
حلال بكتاب الله، وحينما أحرم قيل له: لا تمس الزوجة فإنها محرمة
عليك مدة الإحرام، سبحان الله! الإحرام الذي هو قربة إلى الله يحرم
عليه الزوجة؟! والشخص الحلال الذي لم يحرم زوجته حلال له؟! قالوا:
لأن معطيات الإحرام تهذيب النفس وتربية المسلم تربية مثالية، فإذا
كانت الزوجة معه في هودجهما، والاثنان على بعير واحد متقابلان،
ويكونان معاً في خيمتهما، ومعاً في طعامهما وشرابهما ومنامهما،
ويمسك نفسه منها وهي كذلك مدة الإحرام، وكم من نوازع تأتي بينهما،
وكم تكون هناك من تفاعلات نفسية غريزية، لكنه يتذكر أنه محرم فيكف
عن ذلك ؛ بل ربما لا يفكر نهائياً في هذا الموضوع ؛ لأنه محرم. ولو
قدر أنه اختلى بأجنبية لظروف ما فإنه تكون عنده حصانة ومناعة، وقد
تعلم كيف يمتنع من زوجته التي هي حلال له في كتاب الله، فتكون
الأجنبية من باب أولى، فيأخذ هذا الدرس، ويتعود هذا التعود بالنسبة
للمحرمة عليه بناء على الحلال التي أحلها الله له، ولكن بالإحرام
كف وامتنع. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة -وهذا
قطعاً-في عمرة القضية، وبنى بها في سرف، لكن جاء عن ابن عباس أنه عقد عليها وهو محرم، وجاء عن رافع بن خديج أنه ما عقد
عليها إلا بعد أن تحلل، فتعارضت الروايتان عن صحابيين كل له صلة
بالقصة ؛ هذا يروي عن خالته، وهذا كان السفير بينهما، فجاء حديث
صاحبة الموضوع وفصل في النزاع وعرفنا أنه تزوجها وهو حلال.
حكم عقد المحرم للنكاح من حيث الصحة والبطلان
والحكم عند الأئمة الثلاثة: مالك و الشافعي و أحمد بن حنبل أن المحرم لا يحق له أن يعقد نكاحاً، وإن عقد فهو باطل ؛ فلا يزوج(3/53)
وليته ولا يتزوج، ولا يتوكل عن إنسان في الزواج، وعند الإمام أبي
حنيفة رحمه الله أن له أن يتزوج بناءً على وجود الخلاف في
الروايتين. وهنا نشير مرة أخرى إلى أن الخلاف إذا وقع بين الأئمة
رحمهم الله في قضية واحدة كهذه، لم يكن الخلاف عن دوافع شخصية، ولا
عن تعصب في الرأي، إنما يكون الخلاف في معنى الحديث، وفي الرواية
التي وصلتنا، فلا يستطيع إنسان أن يقول لأبي حنيفة : أنت
خالفت الحديث، ولكن يقال: إن الحديث الذي تمسكت به حديث صحيح وعن
إنسان له علاقة، ولكن الآخر أرجح. وأما رواية ابن عباس فقالوا:
هذا ثقة خالف الثقات، ويقال في علم الحديث: هذه رواية شاذة، والله
تعالى أعلم.
حكم الصيد للمحرم
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه
في قصة صيده الحمار الوحشي وهو غير محرم قال: فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لأصحابه وكانوا محرمين (هل منكم من أحد أمره أو
أشار إليه بشيء ؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمه ) متفق
عليه]. وعن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه أنه أهدى لرسول
الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بودان فرده
عليه وقال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ) متفق عليه].
ابتلاء الله تعالى للمؤمنين بمسألة الصيد
موضوع هذين الحديثين أن المحرم لا يقتل الصيد، ولا يأكل لحم صيد
صِيد لأجله، ولكن القضية في التشريع الإسلامي أوسع بكثير من هذه
الكلمة والنصف، فإن الله سبحانه وتعالى قد امتحن المسلمين بقضية
الصيد، وامتحن قبلهم بني إسرائيل بقضية الصيد، فكيف كان نوع
الامتحانين ؟ وكيف كانت النتيجة ؟ قال الله تعالى عن بني إسرائيل: وَاسْأَلْهُمْ
عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ
يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ
سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ(3/54)
كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163]
فذكر حال هذه القرية وما فعلت وما حل بها، وقال تعالى: وَلَقَدْ
عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا
لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65]،
فبنو إسرائيل قالوا: لا نعمل في يوم السبت، وكانوا يقولون بأن يوم
السبت هو اليوم الأسبوعي، وأنه خير من يوم الجمعة، وقد أخبر صلى
الله عليه وسلم أن الأمم اختلفت في يوم الجمعة، فاليهود أخذوا يوم
السبت، والنصارى أخذوا يوم الأحد، وهدى الله المسلمين ليوم الجمعة،
فقال بنو إسرائيل: إن يوم السبت فيه السبوت، قالوا: إن الله خلق
الكائنات فبدأ من يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة، وسبت في يوم السبت
فلم يخلق شيئاً، فقالوا: ففي يوم السبت لا نعمل شيئاً، فأخذهم الله
بادعائهم، وامتحنهم الله بالحيتان في يوم السبت الذي أخذوا على
أنفسهم أنهم لا يعملون فيه شيئاً، ففي يوم السبت كانت تأتيهم
الحيتان على سطح البحر، فما استطاعوا أن يصبروا، فأتوا بالشباك
وألقوها يوم الجمعة وربطوها وذهبوا وناموا في بيوتهم، ويوم الأحد
ذهبوا وسحبوا الشباك بما علق فيها من الحيتان يوم السبت، وقالوا:
نحن لم نفعل شيئاً، فقد كنا يوم السبت في بيوتنا وما فعلنا شيئاً،
فكان ما كان، قال تعالى: وَلَقَدْ
عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا
لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65].
ثم جاءت هذه الأمة وامتحنها الله بالصيد، قال تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ
مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ
اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ
فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:94]،
وقال تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ [المائدة:95]،(3/55)
فمنعهم من قتل الصيد ثم قال: سأبتليكم بالصيد وأنتم حرم، فجاء منع
الصيد، فخرجوا في عمرة القضية، فأرسل الله الطيور تقع على أسنة
الرماح، وتقع على أعواد الركاب أمام الإنسان، وجاءت الغزلان وصيد
البر تتخلل بين أرجل الخيل والإبل كأنها غنم تمشي معهم، وهذا شيء
يسيل له اللعاب وخاصة عند العرب، فإن الصيد من ألذ ما يكون لهم وإن
لم يأكلوه، فلم تمتد يد إنسان منهم لا على طائر فوق رمحه ولا على
غزال بين قدم فرسه، وكفوا أيديهم فعلاً ؛ بل إنه صلى الله عليه
وسلم مر على ظبي عاكف في ظل شجرة مصوب بسهم إنسان عادي كان قد رماه
فجاء ونام عند الشجرة، فأوقف عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم
واحداً من المسلمين يحرسه لئلا يهيجه أحد ؛ لأنه مصوب مجروح، ومروا
في هذا الامتحان بنجاح، فبنو إسرائيل امتحنوا بالصيد ففشلوا،
والأمة الإسلامية امتحنت بالصيد فنجحت، وهذا الابتلاء بالطعام أشد
ما يكون على الأمم. وكذلك طالوت لما فصل بالجنود قال تعالى: فَلَمَّا
فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ
بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي [البقرة:249]
فابتلاهم الله بالماء، يقول ابن كثير : كانوا في شدة الحر فَشَرِبُوا
مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ [البقرة:249]،
ولم يمنعهم من الشرب مرة واحدة، ولكن من يغترف بيده فلا بأس.
وحينما تبتلى الأمم وتمتحن بمن يحاربهم في أرزاقهم وفي حياتهم وفي
طعامهم، ويتحكم في موادهم الغذائية ويتاجر بها كيف شاء، فهي محاربة
وبلاء شديد، وأشد ما يكون ابتلاء على الأفراد، وكذلك يكون الابتلاء
بإخراجهم من ديارهم، قال تعالى: وَلَوْ
أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ
اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ [النساء:66]،
فجعل الإخراج كالقتل سواء، فقد ابتليت الأمم وامتحنت، ولتمام هذه
القضية بالذات امتحن بنو إسرائيل في مادة أخرى امتحنت فيها الأمة(3/56)
المحمدية، فسقطت تلك ونجحت هذه. كذلك قضية القتال لما قال لهم نبي
الله موسى: يَا
قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ
لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا
خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً
جَبَّارِينَ [المائدة:21-22]... قَالُوا
يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]،
قالوا كلمة يستحيا من التلفظ بها، ونفس المادة والدرس امتحنت به
هذه الأمة في غزوة بدر. فقد خرج صلى الله عليه وسلم ليأخذ عير أبي
سفيان ، وقال: (إن هذه عير قريش، نخرج إليها لعل الله ينفلكموها )
فأرادوا أن يجمعوا جيشاً يخرج معه فقال: من كان ظهره حاضراً
فليركب، وخرج في ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وحينما مشى وقبل أن
يصل إلى بدر جاءته عيونه بأن العير فاتتهم وأقبل النفير، وأصبحوا
بين أمرين: إما أن يرجعوا ولا يقابلون النفير، وأما أن يجازفوا
بلقاء النفير. وقد علم صلى الله عليه وسلم أن القوم ما بين
التسعمائة والألف، وذلك عن طريق الإحصاء لما أخذوا الغلام ليلاً
وسألوه عن عدد القوم، فقال: لا أدري، فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (كم ينحرون في اليوم ؟ قال: يوماً تسعة ويوماً عشرة من
الإبل، فقال صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة والألف )،
وهذه مهمة القائد اليقظ، يجب أن يعرف عدد عدوه وآلاته ومنهجه في
القتال، فعلم عدد المشركين وما معه صلى الله عليه وسلم إلا
ثلاثمائة وأربعة عشر، وهنا احتاج أن يشاور أصحابه، فإنه قد خرج
لأخذ العير، وجاء النفير، وقد كان العهد بينه وبين الأنصار -وهم
أكثر الموجودين- عند بيعة العقبة أن يحموه إذا خرج إليهم مما يحمون
منه نساءهم وأطفالهم، وهذه الحالة لم يكتمها عن القوم ؛ لأن الجهاد(3/57)
في الإسلام مشورة ومشاركة، والفرد في الجيش الإسلامي كالقائد يشعر
بمسئولية المعركة ؛ لأن الكل جند في سبيل الله، فشاورهم وقال: يا
أيها الناس! ذهبت العير وجاء النفير، فماذا نفعل؟ فقال البعض: يا
رسول الله! نحن ما خرجنا للنفير بل خرجنا للعير، ومعنى هذا: أن
نرجع، وقال آخرون: لعلك خرجت لأمر وأراد الله أمراً آخر، فلتمض إلى
ما أراد الله، وتكلم المقداد و عمر و أبو بكر ، فيثني
عليهم خيراً ويقول: (أشيروا علي أيها الناس ) حتى قال قائلهم:
يا رسول الله ! والله لو خضت بنا البحر لخضناه معك، وقال آخر:
والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ
أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]
لكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، وبعد هذا الكلام يقول
الرسول صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، فيقوم سعد بن
عبادة وقيل: سعد بن معاذ ، فكلاهما سيد الأوس والخزرج،
فقال: لكأنك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله؟! -لأن الذين
تكلموا من قبل هم من المهاجرين - فقال: نعم، أريدكم -أي: لأن العهد
بيني وبينكم في بيوتكم ولكنكم الآن خارج منازلكم، ولكم أن تقولوا:
ليست لك علينا نصرة لأننا خرجنا عن بيوتنا، ومنعتنا من أن نأتي
بالباقي من العوالي، ومنعت الآخرين أن يأتوا، فلهم أن يقولوا هذا،
وهذا لم يحصل تصريحاً ولكن يفهم من المقام، فقال: (والله يا رسول
الله! لقد تخلف عنك بعض أصحابنا، ووالله ما نحن لك أشد حباً منهم،
ووالله لو علموا أنك تلقى قتالاً ما تخلف واحد منهم، والله يا رسول
الله! لوددنا أن تلقى بنا عدونا، إنا لصبر عند اللقاء... ثم قال:
امض لما أمرك الله يا رسول الله!) فسر رسول الله صلى الله عليه
وسلم وتهلل وجهه وقال: (أبشروا، هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان )،
وأخذ يعدد مصارع صناديد قريش الذين سيصرعون غداً في يوم بدر.(3/58)
ويهمنا من هذه المقارنة أن بني إسرائيل قالوا: اذهب أنت وربك، وهذه
الأمة قالت: والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ؛ ولهذا جاء
القرآن الكريم بالشهادة الإلهية: كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل
عمران:110]، وليست مسألة عاطفية ولا مسألة ابتدائية، بل إنها مؤسسة
على سوابق، فقد نجحوا في امتحان الأكل والشرب في الصيد، ونجحوا في
امتحان القتال واتصفوا بما وصفهم الله به ونفاه عن بني إسرائيل،
قال تعالى: كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ [آل
عمران:110]، وقال عن بني إسرائيل: لُعِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ
دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ
فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79]،
فالأمور التي عرضت على بني إسرائيل فأخفقت فيها: الصيد والقتال
والأمر بالمعروف، وهذه الأمة نجحت في هذه الثلاث.
الحكمة من تحريم الصيد على المحرم
ولماذا حرم الصيد في الإحرام؟ شخص يقول على ظهر البعير: لبيك اللهم
لبيك، حرام عليه أن يصيد، وقائد البعير وليس بمحرم فيصيد ويأكل،
فهل الحلال غير المحرم أفضل على الله من المحرم الذي يقول: لبيك
اللهم لبيك؟ والصيد هو كرامة، ولو أتينا إلى العقل لكان المحرم
أولى من غيره، ولكن هذا من باب التربية، فإذا كان المحرم لا ينكح
ولا يمس زوجته وهي حلال له ؛ ليكون ذلك دربة وتمريناً له على العفة
عن الحرام، فكذلك الأمر هنا إنما هو دربة وتعليم وتهذيب وكف لليد
عن أن تريق دماً ولو كان لشيء حلال وهو الصيد، فإذا ما حل من
إحرامه وعاد إلى بلاده، فاليد التي لم تمتد إلى صيد حلال مباح ستكف
عن الدم الحرام، ولن يعتدي على أخيه المسلم فيريق دمه من غير ما(3/59)
ذنب. وهكذا تكون كل خطوة في الحج لها حكمة ولها مدلول ولها عطاء،
ويحتاج المسلمون أن يتعلموا هذه المواطن وما فيها من توجيهات، وما
يمكن أن يستخلصه الإنسان من تعاليم الإحرام، سواء مما كان جائزاً
فيه أو كان ممنوعاً عنه. وبالله تعالى التوفيق.
حكم أكل المحرم مما صيد لأجله ولغيره
وبقي الكلام على فقه الحديث وما يتعلق بالحمار الوحشي. كان أبو
قتادة رضي الله عنه في عمرة الحديبية غير محرم، قيل: لأنه كان
قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهمة فلم يخرج معهم في
تلك العمرة، وإنما التقى معهم في الطريق، وقيل: لأنه كان طليعة
للمسلمين عند قدومهم على مكة، والحاصل: أنه رضي الله تعالى عنه كان
مع أصحابه في المهمة التي بعثه إليها رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فكان بعضهم قد أحرم وبعضهم لم يحرم، فرأى حمار وحش فأراد أن
يشد عليه فسقط سوطه، فقال لبعض إخوانه المحرمين: ناولني السوط،
فقال: إنا حرم،فانطلق وأتى بحمار الوحش -ومعلوم أنه رجل غير محرم،
والصيد جائز لغير المحرم إذا صاده لنفسه أو لغير المحرم- فلما أتى
به إلى النبي صلى الله عليه وسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم
أصحابه: (هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال:
فكلوا ما بقي من لحمه ) والبعض يقول: إن النبي صلى الله عليه
وسلم أكل منه، والبعض الآخر يقول: لم يأكل ؛ لأنه جاء في بعض
الروايات أن أبا قتادة صاده لرسول الله صلى الله عليه وسلم
حينما يأتي، والمحرم لا يأكل الصيد الذي صاده بنفسه أو صاده غيره
من أجله، وينص النووي وغيره في مناسك الحج: لو أن قرية من
القرى يمر عليها الحجاج وهم محرمون، وفيها الذبائح واللحم، فقام
أرباب الصيد وذهبوا واصطادوا وجاءوا بلحم الصيد للبيع، وعلم المحرم
أنهم صادوه من أجله ولو للبيع عليه أو للهدية، فلا يجوز له أن يأكل
من ذلك ؛ لأنه صيد من أجله، أما إذا صاده ابتداء لنفسه أو لأهله،(3/60)
وحضر محرم هذا اللحم أو هذا الطعام ولم يشارك لا هو ولا جنسه من
المحرمين، فله أن يأكل من هذا اللحم.
حكم أكل المحرم من لحم الصيد إذا اضطر إليه
وهنا يبحث العلماء: إذا لم يجد المحرم طعاماً إلا الصيد، فهل يباح
له كما أبيحت الميتة لغير المحرم؟ وإذا وجد ميتة ووجد صيداً ووجد
غير صيد من بهيمة الأنعام مملوكة للغير، فهل يأكل الصيد؟ أم يأكل
الميتة للرخصة؟ أم يأكل من مال الغير؟ كثير من العلماء قالوا: لا
يأكل الصيد، وله أن يأكل من الميتة ؛ لأن الصيد محرم على كل حال
ولم يأت فيه استثناء في حالة الاضطرار كما جاء في الميتة؛ ولأن
الميتة جاءت فيها رخصة مستقلة، وقالوا: الصيد حرم على المحرم على
الإطلاق في كل زمان ومكان، والميتة محرمة إلا على المضطر، فقالوا:
يأكل من الميتة ولا يأكل من الصيد، فضلاً عن أن يقتل الصيد وهو حي،
وهذا يدل على التشديد في تحريم لحم الصيد للمحرم. ثم جاء الحديث
الآخر بأن الصعب أتى بحمار وحش أو بلحم حمار، أو حمار وحشي
-بأي لفظ كان من هذه الألفاظ- وفي بعض الروايات: يقطر دمه، فقدمه
للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، فرده عليه صلى الله عليه وسلم،
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تغير وجه الصحابي لأن الرسول رد
هديته، ولم يعلم الحكم، فجبراً لخاطره أزال عنه هذا الأثر وقال:
(إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ) أي: محرمون، والمحرم لا يأكل
الصيد الذي صيد من أجله، ففي حديث أبي قتادة رخص لهم أن يأكلوا
ما لم يشارك أحد منهم في صيده، وهنا لم يسأل، ولكن رده ابتداء،
وهنا قالوا: هل يمنع المحرم من أكل الصيد مطلقاً، أم لا يمتنع منه
إلا إذا شارك فيه؟ في حديث أبي قتادة لم يشارك فيه أحد، فأكلوا
منه، وهنا لم يسأل، قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرده
عليه إلا لأنه تيقن أو غلب عليه الظن أن هذا لم يأت بحمار الوحش
يقطر دمه إلا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كانت(3/61)
القرائن محتفة بأن هذا الآتي لم يأت بهذا الحمار إلا من أجل رسول
الله صلى الله عليه وسلم رده عليه ؛ لأن المحرم لا يأكل ما صيد من
أجله، وبهذا يجمع بين الحديثين ؛ فيقال: في الحديث الأول أباحه
لأنه لم يصده من أجلهم، ولا شارك أحد منهم في صيده، وفي الحديث
الثاني غلبة الظن أنه صاده من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛
ولهذا رده صلى الله عليه وسلم. وهنا ينبغي الاستفادة من جانبين:
جانب تحريم الصيد على المحرم، وجانب جواز أكل لحم حمار الوحش،
والفرق بينه وبين الحمار الأهلي، مع أن كليهما حمار، فالجنس واحد
والفصيلة واحدة.
من حكم تحريم النكاح والصيد على المحرم
يقول بعض العلماء الذين تكلموا في حكمة التشريع: لقد تبين لنا
بالتتبع أن كل خطوة في الحج وراءها حكمة وموعظة، وفيها توجيه
وتهذيب للنفس الإنسانية، فإذا نظرنا -كما تقدم- في قضية زواج النبي
صلى الله عليه وسلم من ميمونة ، وأن المحرم لا يتزوج ولا يزوج،
وبالتالي فَلا
رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة:197]،
والرفث: هو الحديث في شأن النساء عند النساء، فإذا كان الحديث
ممنوعاً ؛ فمن باب أولى الوطء، وقد أجمع العلماء على أن من وطئ بعد
الإحرام وقبل الوقوف بعرفة فقد فسد حجه، وعليه أن يمضي في فاسده
وأن يحج من عام آخر، وذكروا أن المحرم يقترن بحليلته قرابة العشرين
يوماً أو الشهر، فإنه يخرج من ذي الحليفة -مثلاً- ميقات المدينة،
وهو أبعد المواقيت، ويظل حتى يصل إلى مكة تسعة أو عشرة أيام، ثم
بعد ذلك إلى عرفات، ثم الرجوع إلى مزدلفة ومنى وحتى يطوف بالبيت
هذه تأخذ سبعة أيام، فيظل قرابة العشرين يوماً وهي قرينته في
ركوبهما على البعير وفي أكلهما وشرابهما، وفي كل لحظة وهما مختلطان
معاً، ومع ذلك يستطيع أن يمسك نفسه وأن يتعالى ويبتعد عنها مع موجب
الحليِّة وهي الزوجية، فقالوا: هذا تمرين وتعليم له، وتهذيب للنفس
وتربية لها على العزيمة على ترك الحلال حينما يطلب ذلك منه، فإذا(3/62)
رجع إلى بلده ولم يكن هناك إحرام ولكن هناك التحريم عن الأجنبيات
والخلوة مع الأجنبية ساعة أو ساعتين، ففي الحج استطاع أن يمسك نفسه
مع الخلطة الكاملة، وهذه الأجنبية لا تتاح له الفرصة بالخلوة معها
أكثر من نهار، فإذا كان قد استطاع أن يتماسك عن الحلال عدة أيام،
فمن باب أولى أن يستطيع أن يتماسك عن المحرم بضع ساعات، ففي هذا
تهذيب للنفس. وقالوا: كذلك في الصيد، فهو أحل الحلال ؛ لأن الشاة
التي تربيها وتذبحها أنت مسئول عن رعايتها: من أين جئت بالعلف؟ ومن
أين جئت بثمنها؟ لكن الصيد لست مسئولاً عن شيء فيه، وهو هدية لك من
الله سبحانه وتعالى، وكذلك النفس تنشرح وتنهض للظفر به، وهو من ملك
الله، ومع ذلك فإن الحلال يصطاد ويأكل والمحرم يلبي ولا يأكل.
قالوا: لأنه إذا استطاع أن يكف يده عن هذه الغزال في البر وهي ملك
لله، وهو أحق بها من غيره، فإذا رجع إلى بلده فلا يمكن أن تمتد يده
إلى مال أحد من المسلمين بغير حق ؛ لأنه درب وكف يده عن أحل الحلال
في الخلاء بوجود حرمة الإحرام، وهو الآن يكف يده عن حلال غيره
لحرمة التحريم. إذاً: تحريم الصيد على المحرم ليس تقتيراً عليه ولا
تهاوناً بشأنه، ولكن تدريباً لنفسه على أن يكف يده عن الحرام، فإن
هذا محرم بالإحرام، وهذا محرم بالتحريم.
( كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [4] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث حرمة مكة
كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [5]
لقد جعل الله سبحانه وتعالى لمكة مكانة عظيمة، ومنزلة رفيعة، فقد حبس
عنها الفيل وأصحابه، ولكنه سلط عليها رسوله والمؤمنين، وهذا خاص بالنبي
صلى الله عليه وسلم، فإنها لم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده، ومن
عظيم مكانتها أن الله تعالى حرمها من يوم خلق السماوات والأرض إلى يوم
القيامة، فلا يحل لأحد أن يسفك بها دماً، ولا أن ينفر صيدها، أو يختلي
شوكها، أو يقطع شجرها، ولا يجوز أن تؤخذ لقطتها إلا لمن أراد أن ينشدها
ويعرف بها.(3/63)
شرح حديث حرمة مكة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما
فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قام رسول الله
صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (إن
الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل
لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد
بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا
لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، فقال العباس : إلا
الإذخر يا رسول الله! فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال: إلا
الإذخر ) متفق عليه]. هذا الحديث وهو حديث حرمة مكة يتناول عدة
مسائل، ولنأخذ الحديث جملة جملة، ثم سنأخذ بعض الجوانب التي تحتاج
إلى تنبيه وييسر الله تعالى أمرها.
دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً
قوله: (لما فتح الله على رسوله مكة ) لم يقل: لما فتح رسول الله
مكة؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي فتحها عليه، وهل فتحت مكة
عنوة أو صلحاً؟ في ذلك خلاف بين العلماء، ويترتب على ذلك الخلاف في
رباع مكة، فمن قال: فتحت صلحاً فليست هناك غنائم، وليست هناك قسمة
غنيمة، وإن افتتحت عنوة فهي غنيمة وهي حق للمقاتلين، وكما قال
والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه: من قال: فتحت عنوة
فله وجه، ومن قال: فتحت صلحاً فله وجه؛ لأن الرسول صلى الله عليه
وسلم حينما دخل مكة دخل متواضعاً لله سبحانه وتعالى، حتى إن جبينه
ليمس قربوس راحلته تواضعاً لله على نعمة فتح مكة عليه. وإذا تأملنا
السيرة النبوية نجد أنها كعقد متراص كل حلقة تأخذ بعجز الأخرى، وكل
غزوة من غزواته صلى الله عليه وسلم أو سرية من السرايا نجد أنها
تجر ما بعدها، وهكذا تترتب الغزوات ترتب النتائج على أسبابها. لقد
خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعشرة آلاف، ودخل من أعلاها،
فحينما أراد الدخول قالوا: من أين تدخل يا رسول الله؟ لأن مكة لها(3/64)
مدخلان كَداء وكُداء، فقال: (انظروا ماذا قال حسان )، وهنا
تكريم للشاعر الإسلامي حسان بن ثابت رضي الله عنه؛ لأنه قال
هاجياً أبا سفيان ومدافعاً: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير
النقع موعدها كَداء فدخلوا من حيث قال حسان ، والفقهاء يرمزون
لهذا بقولهم: افتح وادخل، واخرج وضم، أي: افتح الباب، كناية عن فتح
الكاف في كَداء، واخرج وضم، أي: اخرج وأغلق الباب، كناية عن ضم
الكاف في كُداء. فدخل صلى الله عليه وسلم من كَداء، وأرسل خالد بن
الوليد رضي الله عنه وجماعة آخرين من الجهة الأخرى، فوجد خالد بعض الأشخاص المتحمسين من مكة، فتناوشوا، فيقول والدنا الشيخ
الأمين رحمة الله علينا وعليه: من قال: إنها فتحت عنوة، نظر
إلى قتال خالد مع من اعترضه، ومن قال: إنها فتحت صلحاً، نظر
إلى دخول النبي صلى الله عليه وسلم بدون قتال، وقال: (من دخل البيت
فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن )،
فدخل يؤمن الناس على دمائهم وأنفسهم. إذاً: فتح الله على رسوله
مكة، والناظر في تاريخ العالم لا يجد فيما يسمى بحركات الإصلاح
أسرع من حركة الإصلاح في الإسلام، فإن الفتح كان في السنة الثامنة
من الهجرة، وقبل ثمان سنوات خرج النبي صلى الله عليه وسلم ثاني
اثنين إذ هما في الغار، وخرج متخفياً عن قومه ولجأ إلى الغار ثلاثة
أيام، ثم خرج إلى الصحراء وكان يسير ليلاً ويقف نهاراً خشية الطلب،
ثم بعد ثمان سنوات يرجع إلى مكة فاتحاً ويدخلها بعشرة آلاف مقاتل،
هذا لم يحدث له في التاريخ نظائر أبداً.
عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة
قال رضي الله عنه: (قام صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله
وأثنى عليه ) لما فتح الله على رسوله مكة، لم يتجبر أو يتكبر،
ولم يسلب أو ينهب؛ بل إنه ضرب المثل الأعلى في الإحسان لمن أساء
إليه، حينما وقف بباب الكعبة وقال: (يا أهل مكة! ماذا تظنون أني(3/65)
فاعل بكم؟ ) في هذه الكلمة يعيد عجلة التاريخ السابقة حينما
كانوا يؤذونه، ويضعون عليه سلى الجزور وهو ساجد في ظل الكعبة،
ويؤذون أصحابه، وها هو اليوم يقول: ماذا تظنون أني فاعل بكم بعد أن
قدرت عليكم؟ وحينها تنازلوا عن ذلك الكبرياء والطغيان والإيذاء،
ولجئوا إلى صلة الرحم والعطف، فقالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم.
استجداء واستعطافاً بالأخوة.. آلآن أصبح أخاً كريماً، وبينما عند
إيذائهم له لم يكن كريماً؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا
فأنتم الطلقاء ). فقد كانوا في يده، وكان بإمكانه أن يحكم
بأخذهم أسارى، ولكن أطلقهم لله وصلة للرحم، ووفاء للموطن، ولأشياء
عديدة لا يمكن حصرها في هذا المقام.
حماية الله للكعبة من أصحاب الفيل
ومما قاله في ذلك الموقف رداً على تساؤلات في نفوسهم، وهذا فيه
توجيه إلى أنه ينبغي على ولاة الأمر أن ينتبهوا لمشاعر الناس وما
يدور في خلجاتهم بمقتضى القرائن، فالموقف الآن اقتحام مكة ودخولها
بالسلاح، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر،
أي: أنه ليس بمحرم بل مقاتل، فلما كانت الصورة صورة استباحة
واستحلال مكة، وهي محرمة، يعظمون حرمتها وقد كان الرجل قبل الإسلام
يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يمد يده عليه إعظاماً لحرمة الحرم، قال
الله تعالى: وَمَنْ
دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل
عمران:97]، أي: ومن دخله من إنس أو طير أو حيوان؛ بل حتى النبات
فهو آمن فيه؛ فلا يقطع شجره، ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده،
ولقطته محرمة، أين ذهبت هذه الحرمة؟ فهنا أزال عنهم كابوس هذا
التفكير فقال (إن الله حبس) فأتى بهذه المقدمة حتى نعلم جميعاً أن
مكة محرمة، وأن الله حبس عنها الفيل، قال الله تعالى: أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]،
فقد جاء أبرهة بجيش عرمرم، وأتى بالفيل من أجل أن يستعين به
على هدم الكعبة؛ لأنه كان قد بنى كنيسة وسماها (القليس) وزخرفها(3/66)
وزينها ليصرف عرب اليمن إليها بدلاً من الحج إلى الكعبة، وبالتالي
يصرف القبائل المجاورة لليمن، فجاء رجل أعرابي غار على الكعبة،
وأراد أن يكيد للملك، فدخل القليس وتبرز فيها، فبلغ الملك هذا
الفعل، فغضب وقال: لأهدمن بيتهم الذي يعتزون به انتقاماً للقليس.
فجمع الجيش وأخذ الفيل وتوجه إلى الحجاز، وعندما وصل الطائف كان
هناك الصنم الذي يعبدونه، فقالوا له: ليس هذا الذي تريد، مطلبك
أمامك، وأخذ دليلاً من الطائف يدله على البيت الحرام، فلما وصلوا
إلى وادي محسر ونزلوا، جاء الدليل الذي يدلهم على مكان البيت وهمس
في أذن الفيل وقال: يا محمود! أتدري إلى أين أنت ذاهب؟ إنهم
يريدونك لهدم بيت الله - يقولون: أذكى الحيوانات الفرس والفيل-
فلما أرادوا الذهاب أتوا إلى الفيل ليمشي فإذا به يرفض، فضربوه
ولكن دون فائدة، حتى جاءوا بمحاجم من نار وكووه في مناعمه فلم
ينهض، وتحمل كي النار، وكانوا إذا حولوه عن جهة الكعبة قام يهرول،
فإذا قام ومشى وحولوه إلى الكعبة برك؛ فسمي: وادي محسر؛ لأن الفيل
انحسر فيه. وأعتقد أن أبرهة كان غبياً مثل فرعون، أو أن
الطغيان يعمي، فإن فرعون لما رأى موسى وقومه عندما فتح الله لهم في
البحر طريقاً يبساً ومشوا فيه، فلم يفكر من الذي شق لهم البحر وجعل
لهم طريقاً يبساً، وجعل الماء كل فرق كالطود العظيم، فلم يعلم أنه
لا يقوى على ذلك إلا الله، وأن الذي فعل له ذلك لا يفعله لكل
إنسان، إذاً: فهو ليس كالناس العاديين، فاقبل رسالته، وسالمه،
وابتعد عنه، واتركه يمشي في سبيله وارجع، لكنه لج في طغيانه ودخل
البحر. وكذلك أبرهة ، فقد رأى أن الفيل رفض المشي، وعظم الجهة
التي هو ذاهب إليها، ولم تخضعه حرارة النار، ومع ذلك لم يفكر في
هذا الأمر؛ بل أصر على الذهاب، فعومل بنقيض قصده. والفيل هو أضخم
حيوان ثم يأتي بعده وحيد القرن، ثم الجمل، فهو عندما جاء بالفيل(3/67)
الكبير أهلكه الله بطير أبابيل تحمل الحجارة، كل طائر يحمل ثلاثة
أحجار، إذا أسقط الطائر هذا الحجر على رأس أحدهم وهو راكب على
دابته اخترقت رأسه واخترقت الدابة التي هو عليها حتى تصل إلى
الأرض، فيا ترى ما هي المادة التي كانت منها هذه الحجارة حتى تخترق
الفرس والفارس؟! إنها قوة عجيبة! والشيء بالشيء يذكر، يقولون: إن
معدن اليود يابس مثل الكحل لكن لونه بني، إذا وضع على الحديد
أحرقه، وإذا وضع على الخشب أشعل فيه النار، وإذا وضع على رصاص
أذابه، وإذا وضع على الزجاج فإن الزجاج لا يحتر ولا يتأثر، فهذا
معدن مستخلص من ماء البحر، ويكون له هذا الأثر مع تلك المواد ومع
ذلك لا يتأثر به الزجاج، ولذا يحفظ في أواني زجاجية، والغطاء يكون
زجاجاً أيضاً، وقدرة الله فوق كل شيء. فهنا قال صلى الله عليه وسلم
(إن الله حبس عن مكة الفيل)، وكذلك في صلح الحديبية لما قال: (هل
لنا من رجل يدلنا على الحرم ونتجنب طلائع قريش ) وقال القائل:
أنا، ومشوا إلى أن وصلوا إلى حدود الحل والحرم، فبركت الناقة، فقال
قائل: خلأت القصواء، أي: تعبت من السفر وبركت إعياء وتعباً، فقال
صلى الله عليه وسلم: (لا والله، ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن
حبسها حابس الفيل، والله لا يعرضون عليّ خطة يعظمون فيها محارم
الله إلا أجبتهم إليها )، ولهذا تنازل معهم في مواد الصلح، حتى
إن عمر غلبه الغضب وما استطاع أن يتحمل؛ لأنه كان من بنود
الصلح: من جاءنا منكم نرده، ومن جاءكم منا لا تردونه علينا. إذاً:
الحيوان الأعجم يلهمه الله عظمة حرمة البيت، وبعض الناس -نسأل الله
السلامة والعافية -تحجب بصائرهم وتتحجر قلوبهم ولا يرون لمكة حرمة،
الفيل يعظم حرمة مكة ويبرك مكانه ولا يتحرك من كي النار، والإنسان
الطاغية الجبار يخترق حرمة مكة وينتهكها ويقاتل أهلها، أرأيت
مقارنة مثل هذه؟! إذاً: الحيوانات لها إدراك، وقد جاء في موطأ مالك(3/68)
في فضل يوم الجمعة: (وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وتصيخ
بسمعها يوم الجمعة بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس شفقاً من الساعة )
فما أدرى الحيوانات بالجمعة أو السبت؟ وما أدراها بقيام الساعة؟
وما أدراها حتى تصيخ بسمعها لتسمع النفخة؟ إذاً: تلك الحيوانات لها
إدراك: وَمَا مِنْ
دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ
أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38]،
بل قد يكونون أحسن منكم، ولذلك لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم
قول الله تعالى من سورة الرحمن على وفد الجن: فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13]
ردوا وقالوا: ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب، وقرأها على الإنس فلم
يتكلم أحد، فقال: (والله للجن أحسن سماعاً منكم ). ولما ورد
كتاب من عبد الملك بن مروان إلى الحجاج ، فقرأه على أهل
العراق وفيه: من أمير المؤمنين إلى أهل العراق، السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته، فما رد عليه السلام أحد، فقال لقارئه: أمسك، واستل
سيفه وقال: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
ويحكم! الخليفة يسلم عليكم ولا تردون عليه السلام، إني لأرى رءوساً
قد أينعت وقد حان قطافها، ثم بعد ذلك قرأ الكتاب من أوله، فقالوا
كلهم: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته.
حرمة مكة إلى يوم القيامة
قال صلى الله عليه وسلم: (وسلط عليها رسوله والمؤمنين) أي: في
فتحها، (وإنها لم تحل لأحد كان قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار)
جاء في بعض الروايات ({وقد أحلها الله لي ساعة من نهار، ولم تحل
لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ). وقوله: (لم تحل لأحد قبلي) أي:
في الجاهلية وما قبلها، وتاريخ مكة طويل، لا يعلم مداه إلا الله،
وقد أشار المولى سبحانه بأولية الكعبة فقال: إِنَّ
أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل
عمران:96]، والكعبة موجودة قيل: من زمن آدم عليه السلام بنته(3/69)
الملائكة، وقيل: من زمن شيث عليه السلام، وقيل: بناه العمالقة،
وقيل غير ذلك، إلى أن جاء القرآن بتاريخ إسلامي قريب، قال تعالى: وَإِذْ
يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ [البقرة:127]
فقد كانت القواعد موجودة موضوعة، لكنها انطمست قيل: لما جاء
الطوفان وغمر الكعبة، وأخذ الحجر الأسود وأخفي في أبي قبيس، حتى
جاء الإسلام وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة
والسلام يقول: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم عليّ ) قيل: هو
الحجر الأسود، وقيل: هو غيره، ثم جاء إبراهيم عليه السلام والبيت
مندثر، قال تعالى: وَإِذْ
بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26]،
فاندثر البيت ولم يبق له أثر، وجاء جبريل عليه السلام وبين مكانه
لإبراهيم، كما جاء لعبد المطلب وبيّن له مكان زمزم، وقيل: إن
الله أرسل سحابة في وسط النهار وقال لإبراهيم: خط عليها ثم احفر،
فحفر حتى وصل إلى القواعد. وقد جاء في الحديث الآخر: (إن الله حرم
مكة يوم خلق السموات والأرض )، وسيأتي الحديث الآخر: (اللهم إن
إبراهيم حرم مكة، وأنا أحرم المدينة )، وجمعوا بين الحديثين:
بأن تحريم الله مكة حينما أمر القلم أن يكتب فكتب: إن مكة حرام؛
فهو تحريم من الله، ثم إن إبراهيم حرم مكة التحريم للناس وأعلنه
وبين حدود حرمها. إذاً: لم تحل مكة لقتال قبل رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وهذا من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه، ولن تحل لأحد
بعده، أي: لا يحلها الله لأحد بعده، فإذا استحلها إنسان فهو معتد؛
لأنها غير حلال له. قال: (وإن الله أحلها لي ساعة من نهار) المقصود
بالساعة هنا الساعة اللغوية، وليست الساعة الزمنية التي هي ستون
دقيقة، والمعنى وقتاً من نهار، سواء كان النهار كله أو أكثره أو
أقله، فقد أحلها الله له أن يدخلها بسلاحه عنوة مستعداً متهيئاً
للقتال، وقد وقع فعلاً بعض القتال في بعض جوانبها حينما دخل خالد(3/70)
بن الوليد ومن معه من الجهة التي تقابل جهة دخول النبي صلى
الله عليه وسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولن تحل لأحد بعدي)
يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا يدل على أن مكة ستظل
إسلامية إلى يوم القيامة؛ لأنها ستظل حراماً، والحرمة إنما هي أمر
شرعي، فلا يجوز لأحد أن يستحلها أبداً. وهنا يبحث الفقهاء فيما إذا
طرأ طارئ، يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وفي غيره: (فإن
ترخص أحد بقتالي فقولوا له: إن الله قد أحلها لرسوله ولم تحل لأحد
بعده )، وفي بعض الروايات: (وقد عادت إليها حرمتها إلى يوم
القيامة ). إذاً: حرمة مكة قديمة، سواء كانت بتحريم الله، أو
كانت بتحريم إبراهيم، وتحريم إبراهيم إنما هو تحريم عن الله، أي:
بلاغ عن الله سبحانه وتعالى بحرمتها.
حكم إقامة القصاص والحدود داخل مكة
وهنا يذكر الفقهاء ويفرعون على هذا من الأحكام: لو أن أحداً قاتل
في مكة فماذا يكون موقف المسلمين منه؟ هل يحرم عليهم استحلالها
لأنها محرمة إلى يوم القيامة، وهذا آثم عاصٍ بقتاله فيها، أم
يقاتلون من قاتل فيها؟ قالوا: إذا انتهك أحد حرمة الحرم فقد أسقط
عن نفسه حرمة الأمن فيُقاتل فيها. وقوله تعالى: وَمَنْ
دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل
عمران:97] أي: بدون اعتداء، وإذا قتل إنسان إنساناً بمكة فهل يقتل
أو يترك؟ الجمهور على أنه يقتص منه في مكة، ويقول الإمام أبو حنيفة : لا يقتل حتى القاتل قصاصاً بمكة، ولكن يضيق عليه حتى يُخرج أو
يخرج إلى الحل فيقتص منه هناك. وحينما أسر الصحابي الجليل خبيب بن
عدي وبيع في مكة واشتراه بعض من له ثأر ودم في بدر، فلما
أرادوا قتله خرجوا به من مكة إلى التنعيم وهي من الحل، وهناك صلب
وقتل، فلم يستبيحوا قتله في مكة لحرمتها، مع أنهم قد اشتروه أسيراً
من أجل أن يقتصوا منه لبعض قتلاهم في بدر، فتركوا قتله في مكة
لحرمتها. فهناك من يقول: إن حرمة مكة تحمي كل ذي دم وكل ذي نفس؛
لأن قوله تعالى: وَمَنْ(3/71)
دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل
عمران:97] عام في الإنسان والطير والحيوان حتى الشجر. وبعض العلماء
يقول: الذي ينتهك حرمة مكة؛ تزول عنه الحرمة والإيواء والأمن
فيقتل، وأيضاً من جاء معتدياً وقاتل أهل مكة من البغاة والخوارج
فإنهم يُقاتلون في مكة؛ لأن في ذلك دفاعاً عن النفس، ورفعاً
للطغيان والبغي، ولا يؤوى إلى الحرم من كان بهذه الصفة. وكذلك
قالوا في بقية الحدود سواء كان الحد رجماً أو قطعاً أو جلداً: هل
تقام في مكة أم يخرج إلى الحل وهناك يقام عليه الحد؟ قال بعضهم:
يقام عليه الحد ولو كان قتلاً، واستدلوا بقتل النبي صلى الله عليه
وسلم لابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة؛ وذلك لأنه غدر بالنبي
صلى الله عليه وسلم، فقد جاء فأسلم ثم ارتد وهجا النبي صلى الله
عليه وسلم، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، فعندما أتوا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له ({إن ابن خطل متعلق بأستار
الكعبة، قال: اقتلوه ). وأجاب الآخرون بقولهم: إنه قتل في
الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقتل بعد أن
عادت إليها حرمتها، والنقاش في ذلك نقاش فقهي. والذي يهمنا في هذا
الباب أن المحرم يحترم حرمة البيت ولا يعتدي -كما تقدم- لا على
صيد، ولا على شجر، ولا على إنسان، ولا على غير ذلك.
حكم تنفير صيد الحرم
قال صلى الله عليه وسلم: (فلا ينفر صيدها ). من حرمتها أن لا
ينفر صيدها، والتنفير: هو التخويف والإهاجة، وهنا كما يقولون: من
مفهوم المخالفة وفحوى الخطاب: إذا كان الصيد فيها آمناً فلا تزعجه
ولا تنفره من مكانه، فهل يجوز صيده وقتله؟ من باب قوله تعالى: فَلا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23]،
فهل يجوز له أن يفعل أكثر من ذلك؟ لا يجوز له ذلك. والصيد: هو كل
حيوان بري يحل أكله، أما إذا كان وحشياً كالسباع فقد تقدم: (يقتلن
في الحل والحرم ). ويضيف العلماء أيضاً: لو أن حلالاً اصطاد(3/72)
خارج الحرم ودخل به إلى الحرم فإنه يطلق من يده؛ لأنه منهي عن
إمساك الصيد أو قتله أو تنفيره في الحرم.
حكم قطع شوك الحرم وشجره
قال: (ولا يختلى شوكها ). الاختلاء: هو أخذ الحشيش من الخلاء
كالصحراء والوادي، ويذكر عن الشافعي رحمه الله: أنه أباح قطع
الشوك الذي في الأغصان، كما يقول الصنعاني شارح البلوغ، وقد
استدل بأن الشوك مؤذٍ، وإنما أبيح قتل الفواسق الخمس لأجل الأذى،
فلما كانت الفواسق تقتل في الحل والحرم لوجود الأذية، والشوك مؤذٍ،
فيقاس عليها ويجوز قطعه، لكن يقول الصنعاني أو غيره: إنما أباح
قطع الشوك من الأغصان. وأعتقد أن هذا مغاير لطبيعة الحرم؛ لأنه
يوجد في الحرم نبات قصير جداً ينبت على وجه الأرض وفيه الشوك، فهذا
هو الذي يؤذي؛ لأنه إذا أراد الإنسان أن يجلس أو أن ينصب خيمة أو
أن يفرش فراشه، فإن هذا الشوك سوف يؤذيه، فقد يضطر لقلعه من أجل أن
يمهد له مكاناً يجلس فيه، فإذا نقل عن الشافعي أنه أباح قلع
الشوك للإيذاء فيكون هذا النبت من باب أولى؛ لأن الشوك في الأغصان
فوق الدوحة ونحوها لا يؤذي أحداً بشيء، فيكون هذا أولى بحمله عليه.
وإذا كان الشوك المؤذي لا يختلى، فإن النباتات الأخرى من باب أولى.
قال صلى الله عليه وسلم (ولا يعضد شجره ) أي: لا يقطع شجره،
قيل: في الشوك النبات وفي الشجر ما لم ينبته الآدمي، فما كان من
نبات الآدمي فهو يزرع ويحصد، أما ما كان نبتاً طبيعياً من خلق الله
سبحانه دون أن يكون للإنسان فيه عمل كالنباتات الصحراوية، فهذه هي
التي لها حرمة ولا يعتدى عليها.
حكم لقطة الحرم
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ).
الساقطة: هي اللقطة التي سقطت من صاحبها، وقوله: (إلا لمنشد) أي:
لا يأخذها شخص من مكانها إلا على نية الإنشاد، أي: الإعلام بها،
فهي لا تملك بالالتقاط، بخلاف اللقطة في غير الحرم؛ فإن حكمها أن
ينشدها لمدة سنة، فإن ظفر بصاحبها سلمها إليه، والإنشاد لمدة سنة(3/73)
إنما هو إن كانت صالحة للبقاء سنة، وإلا باعها أو تصرف فيها بعد أن
يعرف قيمتها، وتكون ديناً عنده وأمانة، فإذا ظهر صاحبها أعطاه
إياها، فكل ضالة أو ساقطة للإنسان أن يأخذها بنية التعريف
والإنشاد، وينشدها على أبواب المساجد، أو مظنة وجود صاحبها، ولا
ينشدها في المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال:
(إذا سمعتم من ينشد ضالته في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك )؛
لأنه سوف يستغل المسجد في غير ما وجد له، كما جاء النهي عن البيع
والشراء في المسجد، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم من يبيع أو
يبتاع، فقولوا: لا أربح الله تجارتك )، وكما قال عمر رضي
الله عنه: (من أراد الثواب والأجر وسوق الآخرة فليأت إلى المسجد،
ومن أراد البيع أو الشراء أو الحديث فليخرج إلى أسواق الدنيا)، وقد
بنى رحبة في غربي المسجد، وقال: (فمن أراد حديث الدنيا فليخرج إلى
هذه الرحبة، ومن أراد حديث الآخرة فليبق في المسجد) فالذي يجد
ساقطة في الحرم في مكة فلا يحل له أن يأخذها إلا إذا كان على
استعداد أن ينشدها، ومهما أنشدها سنة أو سنوات فلا يتملكها، بخلاف
الساقطة في غير الحرم المكي، فإنه يتملكها بعد سنة، فإن جاء صاحبها
بعد ذلك فإن كان قد استفادها لنفسه واقتناها سلمه قيمتها، وإن كان
قد تصدق بقيمتها على نية صاحبها فيخبره ويقول له: لقد انتظرت وعرفت
فلم يأت أحد، فتصدقت بها على نية صاحبها، فإن قبلت الصدقة فأجرها
لك، وإن لم تقبل فأكون قد تصدقت بغير ما أملك، فهذه قيمتها والصدقة
لي. وهنا يأتي السؤال: لماذا تملك ساقطة غير الحرم بعد سنة وساقطة
الحرم لا تملك أبداً؟ قالوا: لأن حرم مكة يأتيه الحجاج في كل سنة
من كل مكان، ولا ندري ممن سقطت تلك اللقطة، ولا يلزم أن من سقطت له
ساقطة يعود في العام القادم من أجل أن ينشد ساقطته أو ضالته، ويمكن
أن لا يتأتى له المجيء إلا بعد خمس سنوات على أقل تقدير، أي: في(3/74)
التطوع؛ كما في الحديث القدسي: (من عافيته في بدنه وأغنيته في
ماله، فلا يحق له أن يهجر البيت فوق خمس ) أي: خمس سنوات، فيمكن
أن لا يأتي إلا بعد خمس سنوات، فنقول: هذا خاص بالحرم، فإذا سقطت
لقطة من حاج آفاقي، وأنشدها الملتقط سنة أو سنتين، ولم يأت صاحبها،
ولا يدري عنها أحد شيئاً، فتبقى أمانة في يد ملتقطها وينشدها إلى
أن يأتي صاحبها.
( كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [6] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [1]
حج النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة حجة واحدة، ولا
خلاف بين أهل العلم في ذلك، وهي التي سميت بـ(حجة الوداع) لأنه ودع
فيها الناس، وفي هذه الحجة بين النبي صلى الله عليه وسلم للأمة مناسك
الحج الذي هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فبين في حجته تلك أنواع
الحج، وأركانه، وشروطه، وواجباته، وسننه، وكذلك بين فيها مفسدات الحج،
ومحظوراته، ومكروهاته، وبهذا التبيين كمل دين الإسلام، وتمت نعمة الله
على العباد.
شرح حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
أشرف المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما:
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج فخرجنا معه، حتى إذا أتينا ذا
الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس ، فقال: اغتسلي واستثفري بثوب
وأحرمي، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب
القصواء، حتى إذا استوت به على البيداء أهلّ بالتوحيد: لبيك اللهم
لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك
لك ) ]. (صفة الحج ودخول مكة) يعنون العلماء في كتب الحديث لهذا
الحديث بقولهم: حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم،(3/75)
وحديث جابر الذي صدّر به المؤلف الباب هنا هو أوسع وأشمل رواية
لحج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يرويها من بداية خروجه صلى
الله عليه وسلم من المدينة إلى نهاية الحج والعودة إلى المدينة.
وقد عني كثير من العلماء بهذا الحديث، بل وكتب فيه بعض السلف رسائل
مستقلة، وقد ذكر النووي رحمه الله عن بعض السلف أنه استخرج منه
ما يفوق المائة والخمسين قاعدة فقهية فيما يتعلق بالحج وبغيره،
وجابر رضي الله تعالى عنه حدّث بذلك في الكوفة، حينما أتاه
جماعة من التابعين وسألوه عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (فعقد تسعاً) والعقد هو: نوع من الحساب بالأصابع، وهو هنا أن
يضم أصابعه العشر وينصب إبهام إحدى الكفين، أي: عشراً إلا واحدة،
قال: (مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تسعاً ) أي:
تسع سنوات، وفي العاشرة أعلم الناس أنه حاج، فاجتمع إلى المدينة
خلق كثير، كلٌ يريد أن يأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية
أعمال الحج، وسميت هذه صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، أي: في
الإسلام، وما حج صلى الله عليه وسلم بعد البعثة إلا تلك الحجة.
تسميات حجة النبي صلى الله عليه وسلم وأسبابها
وتسمى حجة الإسلام.. وحجة الوداع.. وحجة البلاغ. فسميت حجة
الإسلام؛ لأنها هي الوحيدة التي أدى بها الفرض، وسميت حجة الوداع؛
لأنه ودع الناس فيها وقال: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )،
وسميت حجة البلاغ؛ لأنه بلغ الناس في خطبه التي كانت في الحج وهي
ثلاث أو أربع، بلغهم أصول الدين كله، وحقوق الإنسان مع أخيه، وحق
الله سبحانه، وحق المرأة، وحق الملوك، وأشياء عديدة أوصاهم بها في
تلك الخطبة.
بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل البعثة
وقد حج صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكان في حجه ذلك مغايراً
لما كان عليه أهل الجاهلية، وذلك أن أهل مكة كانوا يقولون: نحن
الحمس، والحمس هم: خدَّام البيت، أو جيران البيت، أو سدنة البيت،(3/76)
فكانوا يقولون: نحن لا نخرج عن الحرم، وكانوا في يوم عرفة يقفون في
المزدلفة ويقولون: لا نخرج عن حدود الحرم، ويقفون عند المشعر
الحرام، وكان بقية العرب يذهبون إلى عرفات، فلما حج صلى الله عليه
وسلم قبل البعثة اجتاز المزدلفة ومضى ووقف مع الناس في عرفات، حتى
قالوا: ما بال هذا الرجل وهو من الحمس؟ أي: كيف نقف مع عامة الناس؟
فلم يقف صلى الله عليه وسلم مع قريش، وإنما ذهب ووقف مع عامة الناس
واستمرت قريش على هذا إلى أن جاء الإسلام ونزل قوله سبحانه: ثُمَّ
أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199]،
فتركت قريش موقفها بالمزدلفة وصارت تقف في عرفات حيث يقف الناس،
ويفيضون من حيث يفيض الناس.
عدد الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم
وفي هذه الحجة التي يصفها جابر رضي الله تعالى عنه اجتمع فيها
خلق كثير كما قال جابر : (كنت أنظر أمامي فلا يقطعهم البصر،
وخلفي فلا يقطعهم البصر، وعن يميني وعن شمالي كذلك) قدر بعضهم ذلك
بعشرة آلاف، وبعضهم بأربعين ألفاً وبعضهم أكثر، وبعضهم بأقل، ولكن
جابراً قدر ذلك بمدى النظر، قال: (ورسول الله صلى الله عليه
وسلم بين أظهرنا ينزل عليه الوحي، وهو أعلم به، ويفعل ما يوحى
إليه، ونحن نأخذ عنه).
سبب عناية العلماء بحديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم
وهكذا عني العلماء بهذا الحديث؛ لما فيه من التفصيل للجزئيات في
حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشرت سابقاً أن ابن كثير رحمه الله في كتابه التاريخ في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم
في أحداث السنة العاشرة من الهجرة اعتمد حديث جابر ، ثم أتى
بجزئيات من الأحاديث الأخرى، والروايات المتنوعة في أماكن أخرى
تتمم وتبين ما أجمل في حديث جابر ؛ لأنه هو الأصل عنده، ويعتبر
ما أورده جابر منسكاً كاملاً وافياً، ولهذا فنحن سنمشي مع
المصنف في حديث جابر ، وإن كان قد اختصره في بعض المواطن،(3/77)
واكتفى بما يلزم من الضروري منه، وأشمل سياق لحديث جابر هو ما
ورد في صحيح مسلم، حيث جاء بكل جزئياته وبما لم يأت به المصنف هنا.
وقوله: وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم حج فخرجنا معه ). يقول جابر رضي الله
تعالى عنه: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم حج فخرجنا معه) هذا موجز
لما تقدم من أنه أعلن للناس أنه حاج، بل أرسل إلى القبائل قبل
الحج: (إني حاج هذه السنة، فمن أراد أن يحج معي فليوافني )،
فوافاه أناس بالمدينة، ووافاه أناس بالطريق، ووافاه أناس بمكة، كلٌ
بما تيسر له بالنسبة لمقامه ومحل سكناه، فهو أعلمهم وبين لهم
وواعدهم وهم توافدوا إليه.
الأولى للحاج الذي طريقه قريب من المدينة أن يبدأ بالمدينة
وقول جابر : (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً فخرجنا
معه) هذه الصحبة الكريمة التي يقتفون فيها آثار النبي صلى الله
عليه وسلم، ولهذا كثير من العلماء يقول: إذا كان للإنسان في حجه
نية في الذهاب إلى المدينة وكان الطريق إلى المدينة أقرب فليبدأ
بالمدينة؛ ليكون إهلاله وطريق حجه من حيث أهلّ وسلك رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وإن كان طريقه أقرب إلى مكة فليقدم الواجب الذي هو
الركن وهو الحج، ثم بعد ذلك إن شاء ذهب إلى المدينة.
حكم تلبيد الشعر للمحرم
في حديث جابر وفي غيره: (خرج رسول الله)، (حج رسول الله) يبين
الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج تجرد
من ثيابه، واغتسل، وادهن، ولبد شعره، ولبس إزاره ورداءه، يقول
بعضهم: لبد شعره ببعض الزيت، ويقول بعضهم: لبد شعره بالعسل، أي:
ليجتمع الشعر ولا يتشعث مع الهواء، فيكون موضع الغبار والقذى ونحو
ذلك، ثم خرج صلى الله عليه وسلم ولم ينو ولم يلب.
قصر الصلاة للمسافر يبدأ بعد خروجه من أطراف بلده
بعد ذلك صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر في المسجد النبوي
الشريف أربعاً، أي: أنه لم يشرع في قصر الصلاة من مكانه وإن كان(3/78)
على سفر طويل؛ لأن السنة في قصر الصلاة للمسافر أن شروعه في القصر
يبدأ بعد أن يغادر أطراف القرية التي خرج منها، ويستدلون لذلك بكون
علي رضي الله تعالى عنه حينما كان خارجاً من الكوفة في سفر صلى
الظهر أو العصر أربعاً، فقيل له: ألسنا مسافرين، ألا نقصر الصلاة؟!
قال: (لولا هذا الخصيِّص لقصرت الصلاة). والخصيِّص تصغير الخص،
وهو: عبارة عن عشة أو غرفة من الأعشاب والجريد وأغصان الشجر، فجعله
علي رضي الله تعالى عنه تابعاً للقرية، ولا يقصر الإنسان
الصلاة إلا بعد أن يغادر معالم القرية وتوابعها، وهكذا فعل هنا صلى
الله عليه وسلم. وبهذه المناسبة يرى بعض الناس أن المسافر بالطائرة
إذا وصل إلى مطار المدينة النبوية مثلاً، فإنه يقصر، ويرى أنه خارج
عن حدود المدينة، والواقع أن المطار اليوم يعتبر جزءاً وضاحية من
المدينة النبوية؛ لاتصال البنيان أكثر المسافة، ولوجود الخدمات
التي تمتد إليه من المدينة، من ماء وكهرباء وطرق وغير ذلك، فالأولى
أن لا يقصر الإنسان في هذا المطار في أول سفره، والله تعالى أعلم.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تجرد واغتسل وادهن، ولبس
الإزار والرداء، وصلى الظهر بالمسجد النبوي أربعاً، فلما أتى ذا
الحليفة جاء وقت العصر فصلاها ركعتين، وذا الحليفة هي التي تسمى
عند العامة: آبار علي، والمسافة بينها وبين المدينة معروفة، وليس
هناك اتصال عمراني متشابك من المدينة إليها. وفيها صلى النبي صلى
الله عليه وسلم العصر ركعتين، وبات كذلك بذي الحليفة، وكان معه
نساؤه التسع، فطاف عليهن واغتسل عند كل واحدة منهن، ثم في ضحوة
النهار اغتسل لإحرامه.
متى يبدأ الإهلال والتلبية؟
ثم بعد ذلك صلى الظهر وأحرم ولبى قيل من مجلسه الذي صلى فيه، وقيل:
بعد أن انبعثت به راحلته، وقيل: حينما استوى على البيداء، كما في
حديث جابر هنا: (أتى إلى ذي الحليفة، فلما أتى البيداء أهلّ).(3/79)
والإهلال هو: رفع الصوت بالتلبية، وهو مأخوذ من الهلال، وهو القمر
في أول ظهوره، لأنهم كانوا إذا أهل الشهر وطلع الهلال ورأوه رفعوا
أصواتهم إعلاماً بوجود الهلال وبدخول الشهر الجديد، فصار الإهلال
مأخوذاً من رفع الصوت بالتلبية، ثم صار يطلق على كل من رفع صوته،
يقال: هلل أي: رفع صوته بما يتكلم به، فأهل بمعنى رفع صوته
بالتلبية. وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها الذي في صفة
الإحرام قالت: (منا من أهل بحج، ومنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل
بحج وعمرة معاً) وفي بعض روايات حديث جابر هنا: يقول صلى الله
عليه وسلم: (أتاني آت البارحة -يعني: في الليل- وقال: صل بهذا
الوادي المبارك ) ولذا يقال له: الوادي العتيق، والوادي
المبارك، وقد نزله كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فصلى وبات فيه كما تقدم، ثم أهل ووبيص المسك يظهر في مفرق رأسه،
كما جاء عن عائشة قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه
وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، قيل: بم كنت
تطيبينه؟ قالت: بأطيب الطيب )، وتقول: (وكنت أرى وبيص المسك في
مفرق رأسه صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام )، أي: بعد ثلاثة
أيام من إحرامه.
وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ووصوله إلى مكة
يتفق العلماء على أن خروجه كان لخمس بقين من ذي القعدة، يعني: يوم
خمسة وعشرين من ذي القعدة، وماذا يوافق من أيام الأسبوع؟ يقول
بعضهم: يوافق يوم الجمعة وهذا هو قول ابن حزم وقد ردوا عليه،
ومنهم من يقول: يوافق يوم الخميس، وأكثرهم يقول: إنه كان يوم
السبت، وأياً كان من الأيام، فالذي يهمنا من الناحية الزمنية أنه
خرج من المدينة في اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة، ووصل مكة
لأربع خلون، ويعبرون ببقين أو خلون، وبقين يعني: في آخره، وخلون
يعني: من أوله، ووصل مكة لأربع خلون -يعني: مضين- من ذي الحجة،
فكانت الفترة الزمنية التي قطع فيها المسافة من المدينة إلى مكة(3/80)
تسعة أيام، خمسة أيام من ذي القعدة، وأربعة أيام من ذي الحجة.
جواز الإهلال بأحد الأنساك الثلاثة
وفي قول عائشة رضي الله تعالى عنها: (خرجنا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم ولا نرى إلا الحج، فمنا من أهل ...)، وبينت أنواع
الأنساك الثلاثة.. فمن أراد أن يهل بالعمرة متمتعاً أهل، ومن أراد
أن يهل بالحج مفرداً أهل، ومن أراد أن يهل بهما معاً أهل، ولم يعب
بعضهم على بعض، وتركهم صلى الله عليه وسلم إلى أن أتى مكة وطاف
وسعى، وهناك كان أمر جديد.
ما يشرع للمرأة إذا حاضت أو نفست قبل أن تحرم وبعد أن تحرم
يقول جابر رضي الله تعالى عنه:(حتى إذا أتينا ذا الحليفة، ولدت
أسماء بنت عميس ) وهي زوج أبي بكر رضي الله تعالى عنه ولدت
له محمداً ، وهي في تلك الحالة مقبلة على الإحرام، فتساءلت:
ماذا تفعل؟ لأن المحرم يذكر الله ويصلي ويطوف، والحائض ممنوعة من
ذلك، والنفساء مثل الحائض، فماذا تفعل؟ وهل يصح منها الإحرام وهي
نفساء أو لا يصح منها؟ فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي
رواية في الموطأ: (فسأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قائلاً: إن أسماء نفست، فماذا تفعل؟ فقال: مرها فلتغتسل
ولتستثفر بثوب ولتهل ) وفي القاعدة الأصولية: (الآمر للآمر آمر
للمأمور) فهل يا ترى! تنطبق هذه القاعدة في قوله صلى الله عليه
وسلم: (مرها فلتغتسل) وهل يكون الأمر لأبي بكر أو لأسماء ؟! الصحيح عند الأصوليين أن الأمر لأسماء وإنما جاء من طريق
أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ومثل هذا ما جاء في قضية عبد الله
بن عمر لما طلق زوجته وهي حائض، فأخبر عمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم بذلك، فقال له: (مره فليراجعها ) فراجعها عبد
الله بن عمر إلى آخر الحديث. ومن هنا نعلم أن الحيض والنفاس لا
يمنعان المرأة من أن تهل بالحج أو بالعمرة، أي: من أن تهل بنسك،
ولها -كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها- أن تصنع كل ما(3/81)
يصنعه الحاج، غير أن لا تطوف بالبيت حتى تطهر، فتلبي مع الناس،
وتذكر الله مع الناس، وتحمد وتسبح وتهلل وتفعل كل ما يفعله الحاج،
إلا أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، وكذلك إذا وصلت إلى مكة لا تسعى
حتى تطهر؛ لأن السعي لا يكون إلا بعد طواف مشروع، والطواف المشروع
لا يكون في حالة الحيض أو النفاس، إذاً: لا تسعى؛ لأن السعي مرتب
على الطواف، والطواف مرتب على الطهر. وقوله: (مرها فلتغتسل
ولتستثفر) الثفر في الأصل هو: الحبل الذي يوضع تحت ذنب البعير
ليمسك الرحل من أن يتزحزح إلى الأمام، وكذلك صورة ما تفعله المرأة
فهي تشد على نفسها مثل الحزام، ثم تأخذ خرقة، فترم بها بين فخذيها
وتربطها من الخلف ومن الأمام، ليكون ذلك مانعاً من تساقط الدم
عليها أو على الأرض، خاصة في المسجد، وليبقى الدم في محله ولا
تتلوث به أو ينجس ثيابها أو بدنها، فأرشدها صلى الله عليه وسلم إلى
ما تعمله تحفظاً من دم النفاس. ودم النفاس كما يقول العلماء: لا حد
لأقله، وأما أكثره فيختلفون فيه ما بين الأربعين يوماً وبين
الخمسين يوماً، إذاً: المسافة طويلة، ولكن متى ارتفع الدم عنها ولو
بعد ساعة أو يوم أو أسبوع فعليها أن تغتسل؛ لأنها قد أصبحت طاهرة،
ولها كل ما هو للطاهر التي لا حدث عليها، وهنا مضت أسماء مع
الحجاج. وهكذا فقد أخذت قضية الحيض والنفاس حيزاً في حجة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وسبحان الله! من حكمة الله أن تقع تلك الأحداث
في صحبة رسول الله وفي بيته، فهذه أسماء زوج الصديق ،
والصديق مع رسول الله دائماً كما نعلم جميعاً، وبيتهما كأنه
بيت واحد، وحينما جاءوا إلى سرف في أثناء الطريق حاضت عائشة ،
فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فوجدها تبكي، فقال لها: (ما يبكيك
لعلك نفست؟! -لأن الحيض يسمى نفاساً أيضاً، للتنفيس بخروج الدم-
قالت: نعم، قال: لا عليك، هذا أمر كتبه الله على بنات حواء )(3/82)
وفي هذا رد على من يقول: إن الحيض لم يوجد إلا في بني إسرائيل
فنقول: لا، هو موجود في بنات حواء عموماً؛ لأن الخلقة للمرأة من
حيث هي أنها تحيض، وهذا كما يقال: دورة الرحم الشهرية، وأما دورة
الرحم السنوية فهي بالحمل. وقوله: (قولي: لبيك اللهم! حجة في عمرة )
لأنها كانت قد أهلت من ذي الحليفة بالعمرة، وبكت لأن الوقت قصير،
ومن سرف إلى مكة مرحلتان، والوقوف بعرفة قريب، وليس عندها مدة تطهر
فيها قبل الصعود إلى عرفات، فلا تتمكن من إتمام عمرتها، فبكت لهذا
السبب، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (لا عليك .... قولي: حجة في
عمرة) يعني: حتى تصيري قارنة، وهكذا الحيض الذي يطرأ على الإحرام
لا ينقضه ولا يتعارض معه، بل تمضي المرأة في إحرامها وإن طرأ عليها
حدث الحيض أو النفاس، كما أنه في بداية إحرامها لا يمنعها الحيض
ولا النفاس من عقد الإحرام. وفي نهاية الحج بعد النزول من عرفات،
وحينما أراد صلى الله عليه وسلم العودة إلى المدينة كانت نوبة صفية في ذلك اليوم، فسأل عنها، فقالت عائشة : إنها حائض، فقال:
(عقرى حلقى، أحابستنا هي )يعني: أننا سننتظر حتى تطهر لتطوف
بالبيت طواف الإفاضة، فقالوا له صلى الله عليه وسلم: إنها قد طافت،
يعني: طافت قبل أن تحيض، قال: (فانفروا إذاً) فبين صلى الله عليه
وسلم حكم حيض المرأة في بداية الإحرام عند الميقات، وفي أثناء
الطريق بين الميقات ومكة، وفي نهاية الحج قبل الطواف بالبيت طواف
الإفاضة، وبهذا اكتملت دورة معالم حيضة المرأة بالنسبة لإحرامها.
حكم التلبية ورفع الصوت بها وصفتها ووقتها
ولما صعد على البيداء أهل ولبى، وفي بعض الروايات: (أهل بالتوحيد)
لأن التلبية في الحج هي بمثابة الأذان في الصلاة، وكل منهما يرفع
فيه الصوت إلا المرأة لا ترفع صوتها، وقد جاء الحديث في رفع الصوت
قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن آمر(3/83)
أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ). وصيغة التلبية هي: (لبيك
اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا
شريك لك ) هذا لفظ حديث جابر في بيان تلبية رسول الله صلى
الله عليه وسلم. ويذكر بعض العلماء زيادة عن عبد الله بن عمر :
(لبيك وسعديك والخير كله بيديك، والرغباء إليك والعمل)، ويذكر بعض
العلماء أن الإنسان بعد التلبية يسأل الله المغفرة، ويسأله الجنة،
ويستعيذ به من النار.. إلى غير ذلك من المسائل التي يحرص عليها
المسلم عقب كل قربة إلى الله سبحانه. وأما حكم هذه التلبية فيقول
بعضهم: هي ركن في الحج ولو مرة، وبعضهم يقول: هي واجبة، ولا خلاف
في ذلك، فمن قال: إنها ركن نظر إلى النية؛ لأنه في التلبية قد أهلّ
بحج، يعني: نوى الحج، فإذا اعتبرنا أن التلبية في أول الأمر نية
للنسك فهي ركن ولا شك في هذا، وإن اعتبرنا أن النية محلها القلب
وإنما التلبية إظهار وبيان لنوع النسك الذي اختاره الملبي، فتكون
واجبة، ويقولون: للإنسان أن يلبي أو يسبح أو يكبر إلى أن يأتي
البيت ويرى الكعبة، فإذا رآها قطع التلبية؛ وذلك لأن معنى التلبية
السمع والطاعة والإقامة على طاعة الله، كما يقال: لبى بالمكان
بمعنى أقام فيه، وتكون جواباً للنداء، فإذا ناديت وقلت: يا زيد!
فإنه يقول: لبيك، أي سمعت وأطعت وأنا مقيم ومستديم على طاعتك، فإذا
كانت (لبيك) إجابة للداعي، والحاج إنما خرج مجيباً للداعي الذي
دعاه وهو في عالم الذر، والداعي هو إبراهيم كما قال تعالى: وَأَذِّنْ
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً [الحج:27]
فنادى إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس: (أيها الناس! إن الله
قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه) وقد سأل إبراهيم ربه فقال: (يا رب! أنا
إذا ناديت أين يبلغ صوتي؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ)، وأبلغ
الله سبحانه نداء إبراهيم إلى كل من أراد الله له الحج إلى يوم(3/84)
القيامة، فأجابوا وهم في عالم الذر في أصلاب الآباء، ومن لبى
النداء مرة حج مرة، ومن لبى أكثر حج بعدد ما لبى نداء إبراهيم عليه
السلام، فحينما تقول: (لبيك) فأنت تجيب الداعي، والداعي هنا هو
قوله تعالى: وَأَذِّنْ
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27]
فأنت الآن تجيب حينما جئت إلى عالم الوجود، وكلفت وأردت أن تؤدي ما
عليك من فريضة الحج. وقوله: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك)
هذا هو التوحيد وهو بمعنى: لا إله إلا الله، وقد كان العرب في
الجاهلية يقولون: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما
ملك) فإذا كان هو لله، والله يملكه وهو لا يملك شيئاً، فلماذا
تعبدونه؟ اتركوه وأخلصوا التلبية لله وحده، لكن هكذا كانوا يقولون،
وهكذا نقل إلينا. وقوله: (إن الحمد والنعمة) الحمد هو: الثناء على
المحمود لكمال ذاته، لا بشيء يصدر منه إلى الحامد، واللغة فيها
الحمد، وفيها الثناء، وفيها الشكر، وكلها ثناء على المحمود والمثنى
عليه والمشكور، إلا أن الحمد ثناء على المحمود لكمال ذاته ولو لم
يصلك منه شيء، وكمال الذات ليس إلا لله سبحانه وحده، وليس في الكون
ولا في المخلوقات من هو كامل لذاته، بل هو مكمَّل من غيره، ولابد
أن فيه جانب نقص، حتى الرسل أقل ما يقال فيهم: أنهم ماتوا، والموت
نقص، والمولى سبحانه وتعالى حياته دائمة باقية. والحمد هو: الثناء
على الله سبحانه وتعالى، ولهذا يقولون: (أل) في قولك: الحمد لله
للاستغراق، أي: تستغرق جميع المحامد التي يمكن أن يحمد الله تعالى
بها وتكون لله وحده، والثناء يكون على حسن فعال المثنى عليه، كأن
يصنع شيئاً ويبرز فيه، مثلاً: رأيت عمارة جيدة، وأعجبك التصميم
والتنسيق الذي فيها فأثنيت على المخطط لها أو المنفذ لها لحسن
فعاله لا لكماله في شخصه، ولكن لحسن فعله ولو لم يأتك منه شيء،
ومثله لو اخترع إنسان دواءً نافعاً، أو جهازاً صالحاً للناس، أو(3/85)
خدمة للناس، فتثني عليه لحسن فعاله ولو لم يأتك منه شيء. وأما
الشكر فهو يكون في مقابل ما يصل إليك ممن تشكره، ومن لم يشكر الناس
لم يشكر الله، فتشكر الله على نعمة العافية ونعمة الرزق ونعمة
العلم ونعمة التوفيق، وعلى كل ما جاءك من الله من النعم، وكذلك
تشكر زيداً؛ لأنه خدمك في كذا، أو ساعدك في كذا، فتشكره مقابل ما
أسدى إليك من النعم، فتشكر الشخص على ما أتاك منه من خير، وتثني
على الشخص على ما يفعله من حسن فعال، ولو لم يكن لك، وتحمد ولا
يكون الحمد إلا لكمال الذات، ولا يكون ذلك إلا لله. وقوله: (إن
الحمد والنعمة) النعمة هي: كل ما فيه نعومة: كالعيش والرخاء والصحة
والمال، كل ذلك فيه نعومة الحياة؛ لأن الشخص إذا توفرت له الأموال
توفر له الغذاء، واكتملت له الصحة، وكانت حياته ناعمة، بخلاف ما
إذا كان في شظف من العيش، أو كان في مرض، أو كان في شدة فحياته
تكون خشنة، فالنعمة من النعومة التي يطمئن إليها الإنسان، ويركن
إليها ويستريح بها، وكل ما في الوجود من نعمة فهي من الله كما قال
الله سبحانه وتعالى: وَمَا
بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]
وقال: وَإِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]
أي نعمةٍ؛ لأن النكرة إذا أضيفت إلى معرفة دلت على العموم وَمَا
بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]
و(من) هنا جاءت قبل النكرة للتعميم، وَإِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]،
فهي تفوق الحد وتفوق الحصر، والإحصاء مأخوذ من الحصر: كالعد من
واحد واثنين وثلاثة إلى ما لا نهاية، فإذا جاء الإنسان ونظر في
شخصه فقط، وفيما أنعم الله عليه في ذاته وفي تكوينه من بصر وسمع
وتذوق وحركة فلن يستطيع أن يحصي هذه الفضائل والنعم التي أنعم الله
تعالى بها عليه. وهنا قال: (إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك
لك) أي: إن كمال الذات لا يساويك يا رب! فيه أحد ولا شريك لك في(3/86)
ذلك، وكذلك في نعمك على خلقك ليس هناك من هو شريك لك في الإنعام،
فالحمد والنعمة لك، والملك لك تتصرف فيه كيف شئت لا شريك لك. وهنا
يقال: إذا أعلنت على ملأ العالم، وسمع وشهد الحجر والشجر والمدر
والجن والإنس أنك تقر بأن الحمد والكمال لله سبحانه، وأن كل نعمة
على منعم عليه بها فهي لله لا شريك له، فهل يليق بك أن تتوجه بعد
ذلك إلى غير الله بتزلف أو ثناء، أو بطلب أو باستعانة، أو برغبة
فيما عنده؟! هذا الذي تتوجه إليه هو من مخلوقات الله، وكل ما عند
المخلوق نعمة من الله، فلماذا تذهب إلى هذا المخلوق الذي أنعم الله
عليه، ولا تذهب إلى المنعم سبحانه؟ ولهذا فإن في التلبية تجديد
التوحيد لله سبحانه وتعالى. وقوله: (إن الحمد والنعمة لك والملك،
لا شريك لك) هكذا ذكر لنا جابر رضي الله تعالى عنه صيغة
التلبية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الطويل.
وقد أشرنا إلى أن ابن عمر كان يزيد: (لبيك وسعديك، والملك كله
بيديك، والرغباء إليك والعمل) (الملك كله بيديك) فلماذا تسأل
مخلوقاً هو نفسه من ملك الله؟! (والرغباء) أي: الرغبة إليك، لا
نرغب إلى غيرك؛ لأنك أنت بيديك الخير وغيرك محتاج إليك، (والعمل)
أي: نعمل العمل خالصاً لك وليس لغيرك. وبالنسبة للتلبية يقول
الفقهاء رحمهم الله: ليستمر الحاج في التلبية، كما نقول: مثل
الشريط المسجل: لبيك .. لبيك .. لبيك .. طول الوقت، ويقولون: لا
يتركها بالكلية، ولا يشغل جميع أوقاته بها فيشق على نفسه، وقالوا:
يحسن به أن يجدد التلبية عند كل تجدد حال له، فكلما تجدد له حال
جدد التلبية، فمثلاً: إذا كنت تمشي فأدركت ركباً فهذا حال جديد،
فأعلن التلبية، وإذا وجدت أمامك وادياً منحدراً فنزلت هذا الوادي
فهذا أمر جديد فعليك أن تجدد التلبية، وإذا صعدت من الوادي إلى
مرتفع فهذا حال جديد فعليك أن تجدد التلبية، وإذا نزلت منزلاً(3/87)
للمقيل أو للطعام أو لشيء من ذلك فهذا حال جديد فجدد التلبية، وإذا
أردت أن ترحل من هذا المكان فهذا حال جديد فجدد التلبية، وهكذا
تكون التلبية عند كل حال متجدد للحاج أو للمعتمر. وتستمر التلبية
كما أشرنا مع المعتمر إلى أن يرى الكعبة، ثم بعد ذلك حينما يحرم في
يوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) عليه أن يجدد التلبية لحجه
إلى أن ينزل من عرفات إلى المزدلفة وإلى أن يصل إلى منى، ويصل إلى
جمرة العقبة.
حكم المبيت والاغتسال بذي طوى قبل دخول مكة
قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن فرمل
ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم أتى مقام إبراهيم فصلى، ثم رجع إلى الركن
فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا ) ]. يقول جابر رضي
الله تعالى عنه: (حتى إذا أتينا البيت) وقبل إتيان البيت في حديث
جابر وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم في مجيئه من المدينة
إلى مكة حينما وصل مكة لم يأت إلى البيت مباشرة، بل بات بذي طوى،
وهو المكان المسمى الآن بأبيار الزاهر، وهو معروف إلى الآن
بـ(أبواب الزاهر أو بأبوار الزاهر)، وكان مسمى بذي طوى سابقاً،
فبات واغتسل لدخول مكة، ولما أصبح دخل إلى مكة نهاراً، وهنا يقول
العلماء: من تيسر له المبيت والغسل في هذا المكان فبها ونعمت، وإن
لم يتيسر له المبيت وتيسر له الغسل فبها ونعمت، وإن تيسر له المبيت
ولم يتيسر له الغسل فبها ونعمت، يعني: أيهما تيسر له من الأمرين
إما المبيت وإما الاغتسال فليفعله، والاغتسال يكون تكريماً لمكة،
ومن هنا قالوا: إن على المحرم أغسالا ًمسنونة وهي: الغسل لإحرامه،
والغسل لدخول مكة، والغسل للوقوف بعرفات، فهذه الاغتسالات مسنونة
في الإحرام، وهي للإحرام وليست للنظافة أو للرفاهية، ولكن من أجل
النسك ومن أجل المكان. فإن لم يتيسر للإنسان المبيت بذلك المكان،
ولأن الحال الآن قد تغير عن ذي قبل، فإذا لم يتيسر له فليعمد إلى(3/88)
مكة وإلى مقر سكناه، فإذا وصل واستقر في موطن سكناه إن تيسر له أن
يغتسل فبها ونعمت، وإن لم يتيسر له فعليه الوضوء حتى يأتي إلى
الكعبة للطواف وهو على طهارة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. والحمد لله رب العالمين.
( كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [2] )
عناصر الموضوع
1 مشروعية الإسراع في بطن الوادي الذي بين الصفا والمروة
2 أنواع النسك الثلاثة والخلاف فيها وفي أفضلها
3 بيان الأعمال التي يعملها الحاج يوم التروية
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [3]
الخلاف الذي يقع بين الفقهاء وأصحاب المذاهب هو من الخلاف الجائز، وهو
إما خلاف أفهام وإما خلاف تنوع، ومن هذا الخلاف ما حصل بينهم في تفضيل
أنواع الحج الثلاثة، فمن أخذ بهذا أو بهذا فلا ينبغي الإنكار عليه،
ولكن ينبغي على المسلم أن يتحرى الحق وأن ينظر الأقرب إلى الصواب.
مشروعية الإسراع في بطن الوادي الذي بين الصفا والمروة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قال المؤلف
رحمه الله: [ (ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن
الوادي سعى ) ]. أي: ذهب متجهاً إلى المروة (حتى إذا انصبت
قدماه في بطن الوادي سعى) أي: كان يمشي مشياً عادياً، ولكن لما وصل
إلى بطن الوادي سعى، أي: أسرع في المشي، وهنا أيضاً فقال: إن سبب
هذا السعي قد انتهى، ولكن المشروعية لا زالت باقية، وقد جاء عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اسعوا، فإن أمكم هاجر قد سعت ).
سبب مشروعية السعي بين الصفا والمروة
وما هو سبب هذا السعي؟ يتفق العلماء جميعاً أن سببه: هو سعي هاجر حينما جاء الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بها وبابنها
إسماعيل ووضعهما في مكة، والقصة معروفة وسببها أن سارة غارت من
هاجر ، وسارة هي زوج إبراهيم عليه السلام، ومن أكرم نساء(3/89)
العالمين في زمانها، وهاجر كانت جارية، وهبها لها حاكم مصر لما
عرضت عليه في قصتها الطويلة معه، فأخدمها هذه الجارية، فوهبتها
سارة لإبراهيم، فحملت هذه الجارية من إبراهيم، وسارة الزوجة الحرة لم تحمل فغارت منها، فأبعدها إبراهيم عليه السلام
منها، والحقيقة أن الأساس هو قدر الله سبحانه وتعالى؛ لينقل الدعوة
من موطن لم تعد صالحة فيه إلى موطن جديد؛ لأن الدعوة كانت -كما
يقال- في أرض الأنبياء؛ في فلسطين، والشام، ولكن طال المدى، ولم
تعد تلك المنطقة صالحة لحمل الرسالة العالمية. وعلم الله سبحانه
وتعالى أنه سيأتي في هذه البقعة من يصلح لحمل الرسالة إلى العالم
وتكون رسالته باقية إلى الأبد، فكان ذلك أولاً في نقل إسماعيل وهو
طفل عند أن جاء به إبراهيم مع أمه ووضعهما في مكة وهي وادٍ قفر كما
قال تعالى: بِوَادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37]
ولكن عِنْدَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37]،
وأحاطهما بأعظم وسائل التموين المتوفرة.. فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ
الثَّمَرَاتِ [إبراهيم:37]
وهذه الدعوة كفيلة بإيوائهما، وكفيلة بالإنفاق عليهما، وكفيلة
بالمعيشة الرغدة لهما، وبكل ما تتطلبه الحياة؛ لأن هذا مشوار طويل،
فلما جاء إبراهيم بهاجر وإسماعيل لم يكن معهما إلا جراب من
تمر وسقاء من ماء، فلما وضعهما في ذلك المكان رجع عائداً من حيث
جاء، فأمسكت هاجر بزمام راحلته وقالت: إلى أين تذهب وإلى من
تدعنا هاهنا؟ قال: لله. من منا يترك ولده أو زوجه أو رجلاً بكل
قواه في فلاة لا ماء فيها ولا نبات ولا أنيس ولا جليس؟! وقد كنا
قبل مدة إذا تعطلت علينا السيارة في الطريق في الليل نجتمع مع
بعضنا ونخاف ونحن في أمن، فإذا كان هذا واد غير ذي زرع، فمعنى هذا
أنه غير مسكون، وليس فيه ماء، وهذه امرأة معها طفل، ولو كانت وحدها
لكانت المسئولية أخف؛ لأنها مسئولية شخصيتها فقط، أما الآن فإنها(3/90)
تتحمل مسئولية شخصها ومسئولية الطفل الذي معها؛ لأن عاطفة الأمومة
تتحرك فيها فقالت: لمن تدعنا؟ قال: لله. إنه اليقين بالله فعلاً؛
لأن الله هو الذي وجهه ليأتي بهاجر وإسماعيل إلى هذا المكان: رَبَّنَا
إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ
عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37]
فهما ضيوف عليك يا رب! وفي جوارك ونعم الجوار. ونحن لو أودعنا أسرة
بكاملها في جوار أمير أو ملك لقام بإكرامهم، ولقام بمسئوليتهم فكيف
برب العالمين؟! وقد أتى بهما ووضعهما عند بيته، الله أكبر! والله!
إننا لنمر على هذه المواقف ونحن غافلون لا نعي منها إلا حروفها
وذكراها، فعلينا أن نتأمل وأن نحكم العواطف والشعور الجياشة في هذا
المقام، وفي هذه القصة قال تعالى: عِنْدَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:37].
مهما كان السقاء، ومهما كان جراب التمر فلابد أن ينتهي وينفد، فلما
انتهى وليس عندها مدد عطشت، وقل حليبها، وعطش الصبي وبكى، فأخذت
تبحث عن الماء، أين تجد الماء؟ فلم تر شيئاً، ولم تر رائحاً ولا
غادياً، فنظرت إلى الصفا وهو أقرب مكان مرتفع فصعدت عليه لتستطلع
ما وراءه لعلها تجد مغيثاً، أو ترى ماءً، أو ترى رائحاً أو غادياً
يسعفها بماء فلم تجد ولم تر شيئاً، فنظرت إلى الجهة الأخرى وأقرب
مكان مرتفع إليها هو المروة، فنزلت من الصفا وصعدت على المروة
لتستطلع ما وراء المروة كاستطلاعها إلى ما وراء الصفا، ولكن كان من
طبيعة الأرض وجغرافية المكان أن إسماعيل كان في مكان منخفض، وأوطى
مكان في مكة هو مكان الكعبة، وأوطى مكان في المدينة هو مكان المسجد
النبوي، وهذا باتفاق. فكان إسماعيل في مكان منخفض، ولما كانت هي في
المرتفع على الصفا كانت قريبة وتراه، ولما انصبت قدماها في بطن
الوادي صار مستوى نظرها دون مكان إسماعيل فلم تره، فانشغلت عليه(3/91)
فأسرعت حتى أتت إلى شاطئ الوادي من الجهة الأخرى فرأته فاستقرت،
فمشت مشياً عادياً، فنظرت وراء المروة فلم تجد شيئاً، فرجعت من
المروة إلى الصفا، وعادت من الصفا إلى المروة، وتركها الله تفعل
ذلك سبع مرات لكي تتقطع علائق قلبها، وينعدم عندها سبب الرجاء من
الخلق، فتوجهت إلى الخالق سبحانه بكليتها وبيقينها واضطرارها، فنظر
الله إلى قلبها وإلى حالها فأسعفها حالاً لا بدلاء ولا بسقاء ولكن
بجبريل الذي نزل فشق الصخر حتى نبع الماء، وأصبحت زمزم تفيض
للعالم، وأصبحت مكة هي السكن والأمن الغذائي -كما يقولون- وفيها
الاستيطان، كل ذلك متوفر فيها، ونحن الآن إذا سعينا بين الصفا
والمروة إذا انصبت أقدامنا في بطن الوادي نسرع مع أن السبب قد ذهب،
ولكن كما حصل الرمل لسبب قد انتهى وبقي الرمل، وكذلك حصل الإسراع
في السعي وقد انتهى السبب ولكن بقي التشريع، ومن الطرائف التي
سمعتها في المسعى: أن واحداً كان يسعى، وكان المطوف له طفل صغير،
فلما جاء عند أول مكان السعي قال له المطوف: هنا اجر اجر، قال له:
لماذا؟ قال: لأن سيدتنا هاجر كانت تسعى هنا وهي تطلب الماء
لولدها، فقال له: هذه كانت تطلب الماء لولدها وأنا ما الذي يعنيني؟
المسألة هنا ليست شكلية، وإنما المسألة مسألة تشريع، لتعيش أيها
الحاج! في مناسك الحج بروحك وإحساسك وشعورك لا بجسمك دون قلبك،
فممكن أن نذهب ونأتي دون شعور، ولكن كل خطوة في مناسك الحج فيها
دروس وفيها عبر، وهكذا سعى صلى الله عليه وسلم، ونحن نسعى كما سعى
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حكم الهرولة بين الصفا والمروة للنساء
ومن الناحية الفقهية الإسراع على الرجال، وليس على النساء إسراع؛
لأن الإسراع والهرولة فيها حركة لا تتناسب مع حالة المرأة؛ لأن
المرأة مبناها على الستر وعلى الوقار وعلى الحشمة، وعلى أمور تليق
بها، أما الرجل فلديه استعداد لأمور عديدة. قوله: [حتى إذا انصبت(3/92)
قدماه في بطن الوادي دعا، حتى إذا صعدتا مشى فأتى المروة، ففعل على
المروة كما فعل على الصفا]. وكان الوادي يا إخوان! موجوداً إلى عهد
قريب، أي: إلى السبعينات، وإذا جاء السيل يمر منه وكان المسعى
سوقاً وعلى جانبيه الدكاكين والمطاعم، وهذا كما كان عليه في
السابق، ولكن لما شيد المسعى على هذه الحالة عدِّل في أرضية
المسعى، وأصبح الوادي لا أثر له، ولكن المسئولين وضعوا علامات وهي
(اللمبات) ذات الضوء الأخضر، فوضعوا علامة في بداية الوادي وعلامة
في نهايته؛ لأن الذي يسعى يسعى في بطن الوادي في ذهابه ويسعى في
بطن الوادي في إيابه وعودته.
أنواع النسك الثلاثة والخلاف فيها وفي أفضلها
قوله: [ففعل على المروة كما فعل على الصفا وذكر الحديث]. أي: بأن
استقبل البيت، وهلل وكبر وقرأ الآية.. إلخ. وهنا المؤلف ترك جزءاً
هاماً من حديث جابر ، وهو محط الرحال عند طلبة العلم، وأكبر
معركة علمية تقام بينهم هي عند هذا الجزء الذي تركه المؤلف، وهذا
الجزء هو أن جابراً وغيره يذكرون عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه: لما أكمل السعي سبعة أشواط، وهو يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة،
لما أنهى صلى الله عليه وسلم سعيه وقف على المروة، وأمر من لم يسق
الهدي أن يجعلها عمرة، وهنا جاء النقاش في فسخ الحج إلى عمرة هل هو
خاص بهم في ذلك الحج أو هو عام لهم ولغيرهم؟ والنقاش في هذا طويل،
وفيه بحث، وعلى طلبة العلم أن يقرءوا هذا البحث في نيل الأوطار،
وفي فتح الباري، وإن كان البخاري لم يسق حديث جابر على ما
هو عليه، ولكن المسألة مبحوثة في فتح الباري، حتى يكون لديهم
الخلفية لهذه القضية؛ لأنها تحتاج إلى إمعان النظر، والله الهادي
والموفق. قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم نزل إلى المروة حتى إذا
انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة
ففعل على المروة كما فعل على الصفا، وذكر الحديث، وفيه: فلما كان(3/93)
يوم التروية توجهوا إلى منى، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى
بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت
الشمس ). ] ساق لنا جابر رضي الله تعالى عنه من صفة حج
النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم أتى البيت وطاف
سبعاً، وصلى خلف المقام ثم رجع فاستلم الركن، ثم خرج إلى الصفا
والمروة للسعي، فبدأ بالصفا فرقى على الصفا حتى رأى البيت، ودعا
بالدعاء المتقدم، ثم توجه إلى المروة، فلما انصبت قدماه في بطن
الوادي أسرع، فلما ارتفع عن بطن الوادي مشى، أي: مشياً عادياً، وقد
أشرنا إلى كل ما يؤخذ من هذا كله من الرمل في السعي، وأنه خاص
بالرجال دون النساء، وإن كان الأصل فيه هي المرأة، ولكن كان ذلك
سبب المشروعية، ثم رفع عنها الإسراع لما جاء في عموم التشريع من
الحفاظ على المرأة؛ لأن الإسراع قد يخرجها عن الوقار، وعما يليق
بها من عوامل الستر والحشمة. فلما صعد المروة صنع عليه كما صنع على
الصفا، قال: (وذكر الحديث) وهذا الذي لم يذكره هنا هو من أهم
النقاط التي تبحث في مناسك الحج، وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما
انتهى إلى المروة قال: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة ) وذكر
هنا أيضاً أن علياً رضي الله تعالى عنه قدم من اليمن مهلاً
بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو موسى الأشعري ،
وكانا مبعوثين إلى اليمن قضاة وأمراء، فلما سأله رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (بم أهللت يا علي؟! قال: أهللت بما أهل به رسول
الله، قال: هل معك هدي، قال: نعم، قال: ابق على إهلالك ) وسأل
أبا موسى رضي الله تعالى عنه: (بم أهللت؟ قال: أهللت بما أهل
به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أمعك هدي؟ قال: لا، قال:
فتحلل ) وكان مجموع ما جاء به علي رضي الله تعالى عنه من
اليمن وما ساقه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بلغ مائة
بدنة، وأشرك علياً رضي الله تعالى عنه معه. وفي الحديث أن(3/94)
علياً لما دخل على فاطمة رضي الله تعالى عنها وجدها قد
لبست واغتسلت واكتحلت، فتغيظ عليها وقال: هذا وقت الإحرام، فقالت:
أمرني أبي بذلك، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (ألا
ترى إلى فاطمة كيف فعلت، اغتسلت وتطيبت واكتحلت وقالت: إن أبي
أمرني بذلك؟! قال: صدقت يا علي ! ). وهنا لما قال صلى الله
عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) توانى الناس ولم
يسارعوا إلى التحلل، أي: كل من لم يسق الهدي، فقال صلى الله عليه
وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة )
وهنا يبحث العلماء في تحلل المفرد بالحج، أو القارن بالحج إذا سعى
بين الصفا والمروة: هل يتحلل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم
ويجعلها عمرة، أم يبقى على إحرامه بالحج مفرداً أو قارناً؟ جاء أن
أبا موسى الأشعري كان يفتي: من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة،
أي: كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان في خلافة عمر ، قيل له: على رسلك يا أبا موسى ! لقد أحدث أمير المؤمنين في
النسك، فقال: من كنا أفتيناه بشيء فليمسك، وإن أمير المؤمنين قادم
عليكم فاستفتوه، فلما قدم عمر رضي الله عنه سأله: ماذا أحدثت
في النسك يا أمير المؤمنين؟! قال: (إن نكمل فبكتاب الله، وإن نتحلل
فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: إن نكمل أي: إن نبقى
على الإفراد بالحج بدون سوق الهدي فبكتاب الله، يعني بذلك: قوله
سبحانه: وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]
لأن من فسخ الحج إلى عمرة لم يتمه، بل خرج عنه وقطعه (وإن نتحلل
فبسنة رسول الله) يعني قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي
فليجعلها عمرة ). وهنا النقاش في هذه المسألة طويل وحاد بين
العلماء، ولكن الشدة إنما كانت عند الخلف وليست عند السلف،
والمسألة هي: هل يجب فسخ الحج إلى العمرة كما أمر النبي صلى الله
عليه وسلم (من لم يسق الهدي) أم أن ذلك كان لظرف خاص في ذلك الوقت(3/95)
لبيان التشريع؟ الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأبو حنيفة يقولون: لا يجوز فسخ الحج إلى العمرة لمن جاء مفرداً، وعن أحمد رحمه الله روايتان: رواية تقول كما يقول الجمهور، ورواية تقول:
يجوز فسخ الحج، وقول الجمهور على أنه لا يفسخ حجه، ورواية أحمد وقول ابن حزم : يجب أن يفسخ، هذه الأقوال هي محل الإشكال عند
المتأخرين. ولكن للأسف أن بعض المتأخرين تشددوا في ذلك أكثر مما
كان عليه سلفهم من قبل، ودليل الذين يقولون: يجب الفسخ هو قوله صلى
الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) واللام هنا لام
الأمر، ثم قال: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة ) ثم تمنى، وقال:
(لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة).
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بيان السبب في أمر الذي
لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما:
إنهم كانوا قبل ذلك لا يرون جواز العمرة في أشهر الحج، وكانوا
يقولون: (إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن
اعتمر) ويعنون بصفر شهر محرم؛ لأنهم كانوا يقدمون صفر بدل محرم،
على خلاف ترتيب الأشهر ذو القعدة ثم ذو الحجة وتنتهي السنة ثم يبدأ
المحرم، وكانت الأشهر الحرم هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة
أشهر متوالية، ورجب وهو فرد بين جمادى وشعبان، وكانوا يحترمون هذه
الأشهر الحرم، فلا يقاتلون فيها ولا يثأرون، ولا ولا إلخ. فكانوا
يستطيلون هذه الأشهر الثلاثة لكونها متوالية، فيؤخرون المحرم
ويجعلونه بدل صفر، ويقدمون صفر ويجعلونه بدل محرم، وهو النسيء الذي
ذكره الله في القرآن الكريم بقوله: إِنَّمَا
النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37].
فكانوا يقولون: (إذا برأ الدبر) أي: دبر البعير من رحلة الحج
ذهاباً وإياباً، (وعفا الأثر) أي: أثر السير في الأرض، (وانسلخ
صفر) أي: الذي هو محل المحرم، حلت العمرة، ومعنى ذلك أنها قبل هذا(3/96)
لا تحل عندهم، فيذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا
يقولون بذلك. (فقدموا) والفاء هنا فاء التعقيب، فقدموا صبح رابعة،
وقد أشرنا سابقاً أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان لخمس
بقين من ذي القعدة، ووصلوا مكة لأربع خلون -يعني: خرجن- من ذي
الحجة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحللوا ويجعلوها عمرة
وسبب ذلك ما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أنهم كانوا
يعتقدون هذا الاعتقاد. (فأمرهم أن يتحللوا ويجعلوها عمرة )
الفاء هنا تفيد السببية والعلة، أي: أن سبب أمرهم بالتحلل هو ما
كانوا يعتقدونه من عدم جواز العمرة في أشهر الحج فأمرهم بالعمرة
ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج على خلاف ما كانوا يعتقدون،
ولهذا تأخر الكثيرون عن أن يتحللوا واستنكروا ذلك وقالوا: (أي حل
يا رسول الله؟! قال: الحل كله، قال قائل منهم: أنذهب إلى منى
ومذاكيرنا تقطر منياً؟! ) يعني: أنباشر النساء في مكة بعد
التحلل ثم نخرج في اليوم الثامن إلى منى ونحن حديثو عهد بالنساء،
فكانوا يستبعدون ذلك ويستكثرونه. ثم قال: (لو لم أسق الهدي لجعلتها
عمرة ) ثم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي
ولجعلتها عمرة ) يبين لهم صلى الله عليه وسلم أنه لولا الموانع
الموجودة لتحلل هو أيضاً ولجعلها عمرة؛ ليبين لهم عملياً أنه مثلهم
سيتحلل ويجعلها عمرة، ولكن فاته ما تمناه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم
بدأ إحرامه وإهلاله من ذي الحليفة مفرداً بالحج، ثم أتاه جبريل
عليه السلام وقال: (يا محمد! قل: عمرة في حجة ) فأمره جبريل
عليه السلام في بادئ الطريق أن يضم العمرة إلى الحج، وهو هنا قد
اعتمر في أشهر الحج، لكن كان يريد أن يتحلل نهائياً؛ لأن سوقه
الهدي وهو قارن يجعله في الإحلال كالمفرد، لا يحق له أن يتحلل. ومن
هنا تساءل أحد الصحابة كما جاء في حديث أبي ذر ، وقال: (يا(3/97)
رسول الله! ألعامنا هذا؟ -يعني: هذا التحلل، ودخول العمرة في أشهر
الحج- قال: بل للأبد وأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج هكذا وشبك
بين أصابعه ) وهل دخلت العمرة في الحج للقارن بأن يكفيه عمل
الحج عن عمل العمرة فيكون الطواف واحداً وا
ثبوت استمرارية الإفراد عن الخلفاء الراشدين
ثم وجدنا بعد ذلك هذا التطبيق العملي من الخلفاء الراشدين الأربعة؛
لأنه بعد تلك السنة التي كانت فيها حجة الوداع، والتي ودع النبي
صلى الله عليه وسلم فيها أصحابه، رجع إلى المدينة ولقي الرفيق
الأعلى، ولما استخلف أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحج بالناس،
جاء مفرداً الحج، ولم يتحلل بعد أن سعى بين الصفا والمروة كما نبه
صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم أن ذاك التحلل خاص بذاك الركب، وخاص
برسول الله ومن معه لبيان جواز العمرة في أشهر الحج، فهل يا ترى
كان أبو بكر غائباً عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت
من أمري ما استدبرت ..)؟ الجواب: لم يكن غائباً، بل كان مع رسول
الله، وكانت زاملتهما واحدة، بمعنى أن البعير الذي كان عليه الزاد
لأبي بكر ولرسول الله كان واحداً. إذاً: هما لم يفترقا قط، بل
كان حاضراً مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد سعى معه بين الصفا
والمروة، وهو أول من يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم تمنيه:
(لو استقبلت .....)، (لو لم أسق....)، كل ذلك قد سمعه ووعاه
وشاهده، وإذا به في خلافته يحج مفرداً، فهل كان على خلاف رسول
الله؟ حاشا وكلا، وهل نحن اليوم بعد أربعة عشر قرناً أشد حباً
واتباعاً لرسول الله من أبي بكر رضي الله تعالى عنه؟ حاشا
وكلا. ثم جاء بعد ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، وامتدت خلافته
عشر سنوات فكان يأتي في خلافته ويحج بالناس مفرداً، ولم يكن أيضاً
غائباً عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت ...) ولم يكن
غائباً أيضاً عن قوله: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ولكن علم أن(3/98)
ذلك كان لغرض وقد حصل ذلك الغرض في تلك السنة مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم. بل جاء عن أمير المؤمنين عمر ما هو أشد من
ذلك، فقد كان ينهى الناس أن يحجوا متمتعين بالعمرة، الذي يقول عنه
بعض الحنابلة: إنه أولى من الأنساك الأخرى: القران والإفراد، عمر يقول: لا يأت أحد متمتعاً بالعمرة فيتحلل ثم يحج من عامه، قالوا:
يا أمير المؤمنين! لماذا تنهى والرسول قد فعل؟ أي: فعله أصحابه معه
وهو الذي أمرهم أن يتحللوا؟ قال: أردت أن يكثر المجيء من الحجيج
إلى البيت، أي: يأتي الواحد بعمرة في سفرة ويأتي بحج في سفرة أخرى.
إذاً: عمر رضي الله تعالى عنه لم يفسخ الحج في عمرة فحسب، بل
نهى عن العمرة، وعن التمتع في أشهر الحج. وعثمان رضي الله
تعالى عنه لما ولي كان يحج بالناس أيضاً مفرداً، ثم بعد ذلك نهى عن
القران بين الحج والعمرة، فسمع بذلك علي رضي الله تعالى عنه،
وهو ينجع لبكرات له دقيقاً وحبقاً، والحبق هو ورق الشجر، وصاحب
الإبل إذا جاء إلى شجرة مورقة وأغصانها مرتفعة يأخذ عصا ويضرب بها
الأغصان، فيسقط الورق على الأرض، فإما أن تأكله الإبل بنفسها وإما
أن يجمعه ويخلطه مع الدقيق، ثم يعطيه لها، يقول راوي الحديث: فلا
أنسى أثر العجين على يديه، فذهب علي وهو بتلك الحالة، وعجين
الحبق على يديه لم يغسله، ودخل على عثمان رضي الله تعالى عنه،
وقال: أأنت تنهى عن القران.. -أي: بين العمرة والحج-؟ قال: نعم،
قال: كيف تنهى عن شيء فعلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: شيء رأيته وأردت أن يكثر مجيء الناس إلى البيت، مثل رأي عمر رضي الله تعالى عنه؛ لأن القارن بين الحج والعمرة سيأتي لهما مرة
واحدة، فإذا ما فرق بينهما على ما رآه عمر فسيأتي معتمراً
ويرجع ثم يأتي حاجاً ويرجع. فقال علي رضي الله تعالى عنه: لبيك
اللهم! حجاً وعمرة معاً، وكان علي مفرداً، لكنه أهل بالعمرة مع
الحج في ذلك الوقت بين يدي عثمان ، ليعلن جواز القران بين الحج(3/99)
والعمرة، كما كان ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال
عثمان لعلي : أردت مخالفتي يا علي؟! قال: لم أرد مخالفتك،
ولكنه عمل عملناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إفراد النبي صلى الله عليه وسلم الحج ابتداءً ثم إقرانه الحج مع العمرة
ومن هنا ننتقل إلى المسألة الثانية وهي: أن الرسول بدأ الحج
مفرداً، ثم أتاه جبريل وقال: (قل: عمرة في حج ) فيكون في بداية
الأمر قد اختار ما هو الأفضل، ولكنه أمر وكلف أن يدخل العمرة في
الحج، وعلى هذا قال مالك والشافعي : الإفراد أفضل؛ لأنه هو
الذي بدأ به رسول الله واختاره من الأنساك الثلاثة، وقال أبو حنيفة رحمه الله: القران أفضل؛ لأنه هو الذي أتم به صلى الله عليه وسلم
حجه وأمر به من الله، وقال أحمد رحمه الله: المتمتع أفضل؛ لأنه
صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر لما وصل عند المروة أمر من لم يسق
الهدي أن يتحلل، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ...) يعني:
لو حججت مرة أخرى، أو لو أنني الآن في الميقات لما سقت الهدي،
ولجئت بغير هدي وتحللت كما أمرتكم، إذاً: لو حج مرة أخرى لجاء
متمتعاً، ومعنى هذا: أن التمتع أفضل، وهكذا وقع الخلاف بين العلماء
في: ما هو الأفضل في الأنساك؟ ولكن كما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: الخلاف إنما هو في الأفضل، وكل
الأنساك جائزة بإجماع المسلمين، ومما قاله ابن القيم رحمه
الله: ثلاث لا ينبغي الخلاف فيهن: ألفاظ الأذان بتربيع التكبير
وبتثنية الإقامة، أو بإفرادهما والإقامة مثل الأذان سواء بسواء لا
ينبغي الخلاف في ذلك بل على أي صيغة أذن المؤذن وأقام فلا مانع،
وأنواع الأنساك الثلاثة لا ينبغي الخلاف فيها، فمن حج معتمراً أي:
متمتعاً، أو من حج مفرداً، أو من حج قارناً فالكل حجه صحيح وارد عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قالت أم المؤمنين: حججنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا المفرد ومنا القارن ومنا(3/100)
المتمتع، فلم يعب أحد على أحد، أي: فالكل جائز؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم أقرهم على ذلك. وقد شهدت موقفاً في منى بين والدنا الشيخ
الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وبين الشيخ محمد بن
إبراهيم المفتي آنذاك رحمة الله تعالى علينا وعليه، وهما هما،
وكان من عادة العلماء أن (يعيدوا) على الشيخ محمد ، وعلى
العلماء من آل الشيخ جميعاً في خيمة خلف القصر في صبيحة يوم العيد
بعد رمي جمرة العقبة، فدخل الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا
وعليه وسلم و(عايد) على المشايخ آل الشيخ جميعاً، وكان المكان
مملوءاً بكبار العلماء في ذلك الوقت، فسأل الشيخ محمد بن إبراهيم الشيخ الأمين وقال: بلغني يا شيخ! أنك حججت مفرداً؟ قال: نعم،
وقصداً فعلت، فقال الشيخ محمد : ألأنه أفضل في مذهب مالك ؟
قال: لا، ليس للأفضلية ولا لمالك فعلت ذلك، قال: فلماذا إذاً؟
قال: لأني سمعت أن أشخاصاً هنا لا يرون من الأنساك إلا التمتع،
وليتهم اقتصروا على أنفسهم فيما يرون، بل سمعت أنهم يقفون على
المروة ويحللون الناس إجبارياً من الحج إلى العمرة، ولما لم أكن
أملك سلطة أمنع بها هؤلاء، والعالم الإسلامي يحج من قديم الزمن كل
يحج بما يتيسر له من الأنساك الثلاثة فلا أملك إلا نفسي، فجئت
مفرداً الحج أبين بعملي في شخصي ما أراه صحيحاً. ثم قال -ويا نعم
ما قاله- كلاماً ومن ضمنه أنه ساق حديث ابن عباس ، والأحاديث
التي جاءت في أن ذلك كان من خصائص ذلك الوفد، وما يتعلق بهذا
الأمر، وأطال وأفاض في هذا الأمر، والكل مصغون منصتون له، إلى أن
فرغ رحمه الله، فما كان من الشيخ محمد بن إبراهيم رحم الله
الجميع إلا أن قال: أحسنت بارك الله فيك.
الفرق بين التقليد والاتباع لأهل العلم
أقول هذا يا إخوان! لأننا لا زلنا أيضاً نسمع هذا من بعض الشباب
ومن بعض الذين يرون أنهم مجتهدون وأنه لا حاجة إلى الأخذ بمذهب من
المذاهب، وأنهم يرون أن هذا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم(3/101)
للوجوب، ولا يصح إلا هو، وقد سبق لي في الجامعة الإسلامية تدريس
هذا الباب في كتاب بداية المجتهد لابن رشد ، وهو كتاب منهجي
في الفقه المقارن بين المذاهب الأربعة، وأطلت في هذه القضية وقد
كنا نأخذ في الحصة مسألة ونمضي عنها، فأخذت في هذه المسألة مع
الإخوان أربع حصص، وأخيراً قال لي بعض الإخوة -وهو موجود إلى
الآن-: أراك أطلت في هذه المسألة، فقلت له: اليوم انتهيت، ولكني
أريد منكم جميعاً إذا أوى أحدكم إلى فراشه وتوسد الوسادة أن يغمض
عينيه ويوقد قلبه وضميره، وليتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم
على المروة: (لو استقبلت من أمري ..) (لو لم أسق ....)، ويتصور أن
خلفاءه الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كانوا
حوله يسمعون هذا المقال، ثم بعد ذلك كل منهم في خلافته يأتي
مفرداً، ويتساءل: عن الذين سمعوا ذلك مشافهة من رسول الله، وعن
الذين وجدوا ذلك خطاً مكتوباً في صحف، أي الفريقين أجمع للمعنى،
الذي سمع من شفتي رسول الله بأذنيه ووعى ذلك وحضر وشاهد، أو الذي
أخذ ذلك من أوراق صامتة وجد ذلك مكتوباً فيها؟ لا شك أن الذين
شاهدوا رسول الله كانوا هم أوعب وأدعى للفهم والإدراك منا نحن
المتأخرين، ثم ليتساءل: أينا أسرع إجابة لرسول الله هل هم هؤلاء
الصحب الكرام، أو نحن معشر المتأخرين في القرن الخامس عشر؟ وأينا
أشد تمسكاً واتباعاً لرسول الله نحن أو هم؟ والله! إنه سيجد قطعاً
أنهم هم أولى وأنهم أشد إدراكاً، وأنهم أسرع متابعة لرسول الله،
فإذا ما تصور ذلك فليسأل نفسه وسيتلقى الجواب من داخله لا من الكتب
ولا من الخلاف ولا من المنازعات، ولما كان الغد إذا ببعض الإخوان
أذكر اسمه وأعرفه شخصياً يدخل ويقف عند الباب، ولم تكن عادة الطلاب
أن يستأذنوا، فقال: عندي كلمة أقولها، قلت: ادخل واجلس ثم تكلم،
قال: لا، بل أقولها من هنا، قلت: خلصنا، قال: سامحك الله يا أستاذ!
قلت: آمين، ولكن هذه كلمة يقال وراءها شيء، قال: البارحة ما خليتني(3/102)
أنوم، قلت: يا أخي! صحح الكلام وقل: أنام، ليس فيه نام ينوم، وإنما
نام ينام، قال: لا، هذه لغتنا، فقلت: بكيفك أنت ولغتك، لكن لماذا
لم تنم؟ قال: لأنني فعلت كما قلت، ومنذ أن استحضرت ذلك لم أستطع
النوم؛ لأنني تحيرت هل نحن أشد حباً لرسول الله؟ وهل نحن أكثر
فهماً من أصحاب رسول الله؟ وهل نحن أشد اتباعاً لرسول الله من
خلفائه الراشدين؟ لا والله! إذاً: الأمر فيه شيء، فقلت له: وما
الذي وصلت إليه؟ قال: وصلت إلى أن في عقولنا شيئاً، قلت له: نعم،
في عقولكم عدم الاتباع لسلف الأمة، والأخذ بما عليه العلماء.
ويهمني أيها الإخوة! في هذا الموقف ما قاله جابر رضي الله
تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من معه في هذا الحج
المبارك ممن لم يسق الهدي أن يتحلل، ويجعل إحرامه بعمرة، ثم بعد
ذلك يحرم في اليوم الثامن ويكمل حجه. وقد أطلت القول في هذه
المسألة بالذات لما نراه ونسمعه من بعض الإخوان الذين يجدون في
أنفسهم الاجتهاد والعمل بالحديث وعدم التقيد، ويقولون لغيرهم: هذا
مقلد، ونقول: لا، والله! إن من أخذ بأقوال الأئمة فهو متبع وليس
بمقلد، وفرق بين التقليد والاتباع، فالمقلد هو من أخذ كلام من
يقلده من غير أن يعلم ما هو دليله عليه، والمتبع هو من يختار قول
العالم مع علمه بدليله فيه. إذاً: في تلك الحجة من لم يسق الهدي
تحلل ولبس ثيابه، وعاد حلالاً كما لو كان في بلده قبل المجيء إلى
مكة، ومن كانت معه أهله حلت له.
بيان الأعمال التي يعملها الحاج يوم التروية
وفي يوم الثامن من ذي الحجة، ويسمى يوم التروية؛ لأنهم كانوا يروون
الدواب في ذلك اليوم، ويملئون قربهم وآنيتهم بالماء ويصعدون بها
إلى منى ثم إلى عرفات، خرج صلى الله عليه وسلم إلى منى، وجاء في
بعض الآثار أنه خطب الناس بمكة في اليوم السابع وبين لهم ما
يحتاجونه من الغد، أي: في اليوم الثامن، ثم خطب في عرفات، وبين(3/103)
البيان الوافي، فخرج صلى الله عليه وسلم يوم الثامن أي: يوم
التروية، وخرج معه الجميع.
من أين يحرم المتمتع للحج يوم الثامن من ذي الحجة؟
وهنا سؤال: من كان قد تحلل إذا جاء اليوم الثامن من أين يحرم
بالحج؟ الجواب: اتفق العلماء على أنه يحرم من منزله الذي هو فيه،
وليس بلازم عليه أن يذهب إلى المسجد الحرام ويعقد الإهلال للحج من
المسجد الحرام أو من عند الكعبة، بل يحرم من بيته أو من محل سكنه،
فيتجرد ويغتسل ويتطيب ويلبد شعره، ويلبس لباس الإحرام، ويهل بالحج
من مسكنه، ثم يذهب إلى منى.
الوقت الذي يحرم فيه أهل مكة بالحج
وطرأ على الناس أيضاً ما أتى به عمر رضي الله تعالى عنه أنه
قال لأهل مكة: (يا أهل مكة! ما لي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً
وأنتم منعّمون في بيوتكم ولا تهلون إلا في اليوم الثامن، أهلوا
بهلال الشهر) فأمر أهل مكة ألا يؤخروا الإهلال إلى يوم التروية،
وأن يبادروا بالإهلال من أول يوم في ذي الحجة، فقال بعض الناس:
لماذا يا عمر ! والرسول لم يأمرهم بذلك؟ قال: لأن الناس كلهم
يأتون شعثاً غبراً عليهم آثار السفر وهؤلاء يظلون جالسين في بيوتهم
منعمين إلى يوم التروية ثم يلبون، فلابد أن يلبوا من أول يوم من ذي
الحجة حتى يشاركوا الناس في أحوال الإحرام والتجرد، والتحمل.. إلى
غير ذلك، وهذا لاشك أنه اجتهاد من عمر رضي الله تعالى عنه،
ولنا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين ... ) ويهمنا في ذلك أن الأمر من حيث الإجزاء
أو الوجوب أو الندب سواء.
الوقت الذي يخرج فيه الحاج من مكة إلى منى وبيان الأعمال التي يعملها
في منى
خرج صلى الله عليه وسلم إلى منى يوم الثامن ضحىً، وهناك صلى الظهر
والعصر والمغرب والعشاء وبات في منى ثم صلى الصبح، وكانت صلاته
صلوات الله وسلامه عليه أنه كان يقصر الرباعية دون أن يجمع، فلم
يجمع بين صلاتي الظهر والعصر ولا المغرب والعشاء في منى عند ذهابه،(3/104)
بل كان يقصر الرباعية فقط، ويصلي كل صلاة في وقتها، ولما صلى الصبح
انتظر حتى أشرقت الشمس، وكما قيل: كانت على قمم الجبال كالعمائم
على الرءوس، وبعد أن أشرقت الشمس ذهب إلى عرفات. قوله: [ (فلما كان
يوم التروية توجهوا إلى منى، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى
بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت
الشمس ) ]. قوله: (وركب صلى الله عليه وسلم) هناك من يقول:
الذهاب إلى المناسك راكباً أفضل؛ لأن الرسول حج راكباً، وهناك من
يقول: الرسول إنما جاء مسافراً من المدينة، ومعه راحلته، فهو لن
يسوقها ويمشي على قدميه، وعلى هذا فالمشي أفضل؛ لأن فيه زيادة
تكلفة، ولكن نقول: إن الله سبحانه وتعالى غني عن أن يكلف الإنسان
نفسه في شيء في غير محله، والرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى
رجلاً يسوق بدنة ويمشي، قال له: (اركبها، قال: إنها بدنة، قال:
اركبها -أي: ولو كانت بدنة مساقة إلى البيت- إن الله غني عن أن
يعذب أحدكم نفسه ) والذين يقولون: إن المشي أفضل قالوا: يكون
المشي من المسجد الحرام إلى عرفات ثم العودة، أو من المسجد الحرام
إلى عرفات إلى منى أو إلى مكة إن كان سيطوف الطواف النهائي،
واستدلوا على أفضلية المشي برواية جاءت عن ابن عباس : (من حج
ماشياً كتبت له بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم) والحسنة من حسنات
الحرم بمائة ألف حسنة، فهناك من رغب في الحج ماشياً، وهناك من رغب
في الحج راكباً، فالذين قالوا: يحج راكباً قالوا: تأسياً برسول
الله صلى الله عليه وسلم، لأنه ركب، والذين قالوا: المشي أفضل
قالوا: لأن في كل خطوة حسنة من حسنات الحرم. ولو أن الرسول صلى
الله عليه وسلم حج ماشياً لشق ذلك على الناس، ولكان كل واحد يريد
أن يقتفي أثر رسول الله في ذلك، ولذا جاء في شأن زمزم أنه قال:
(اسقوني، لولا أن يغلبكم الناس على زمزم لمتحت معكم ) أي: لسحبت(3/105)
الحبل وأخرجت الدلو وشربت بنفسي، ولو فعل ذلك لكان كل إنسان يريد
أن يمتح لنفسه ويشرب بنفسه، وكذلك عمر رضي الله تعالى عنه لما
ذهب لاستلام مفاتيح بيت المقدس دخل كنيسة، فلما حضرت الصلاة خرج
منها فقال بعض النصارى: صل فيها، قال: لو صليت فيها لأخذها العرب
منكم، يقولون: نصلي كما صلى عمر ، فيحتلونها ويأخذونها منكم،
إذاً: ما منع عمر الصلاة في الكنيسة، ولكن خشي أن يغلبهم الناس
على حق من حقوقهم.
( كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [4] )
عناصر الموضوع
1 الأعمال التي يعملها الحاج يوم النحر
2 الأعمال التي يعملها الحاج في يوم النحر إذا وصل إلى منى
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [5]
يوم النحر يوم عظيم، فهو اليوم الذي لا يماثله يوم في كثرة الدماء التي
تراق فيه تقرباً إلى الله عز وجل، سواءً دماء الأضاحي أو دماء الهدي،
وهو اليوم الذي خطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم خطبته البليغة التي
تعد دستوراً للأمة، لما اشتملت عليه من أحكام عظيمة، وهو اليوم الذي
يبدأ فيه التحلل من الإحرام.
الأعمال التي يعملها الحاج يوم النحر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيد المرسلين. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [(ثم اضطجع حتى
طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب حتى
أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله، فلم يزل
واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس، حتى أتى بطن محسر
فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى
حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل
حصاة منها، كل حصاة مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف
إلى المنحر فنحر ) ]. وصل بنا الحديث في الكلام على حديث جابر رضي الله تعالى عنه في بيان صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم إلى
المزدلفة، إلى أن صلى المغرب والعشاء جمع تأخير بأذان وإقامتين،(3/106)
ولم يسبح بينهما، قال: (اضطجع حتى الفجر) فلما طلع الفجر صلى الصبح
بأذان وإقامة، وفي غير حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم
استيقظ وتبسم، فقيل له: (تبسمت يا رسول الله! في موطن لم تكن تتبسم
فيه؟ قال: كنت سألت ربي أن يغفر لأمتي ويرحمها، فأعطاني ذلك إلا
التبعات، فألححت على ربي -أي: في موقف عرفات- فلم يعطني، وقد
أعطانيها الليلة ) ، وفي بعض الروايات أنه قال له: (أما ما كان
من ذنوب أمتك فيما بيني وبينهم فقد غفرتها، ولكن التبعات )
والتعبات: هي تبعة كل إنسان على الآخر، أي: حقوق العباد فيما
بينهم، كأن يكون لإنسان مظلمة عند أخيه في مال، أو في دم، أو في
عرض، أو في أي شيء، فهذه تسمى حقوق العباد فيما بينهم، وأما ما كان
بين العبد وبين الله ولا تعلق لحق عبد فيه فهذه هي حقوق الله
سبحانه وتعالى، ويقولون: حق الله مبني على المسامحة، وحقوق العباد
مبنية على المشاحّة. وهنا ذكر صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه
وتعالى استجاب له، وجاء في بعض الروايات أنه قيل له: (إلا التبعات،
فقال: يا رب! إنك قادر أن ترضي صاحب الحاجة، أو صاحب المظلمة عن
حاجته أو عن مظلمته، وتغفر لصاحبه، فلم يعطه ) ، وفي تلك الليلة
استيقظ متبسماً؛ لأن الله سبحانه وتعالى استجاب له وغفر لأمته حتى
التبعات. وهذه التبعات تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا
كان عشية يوم عرفة ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل الموقف
ملائكة السماء، يقول: عبادي جاءوا شعثاً غبراً ماذا يريدون؟ فتقول
الملائكة: يا رب! أنت أعلم بما جاءوا إليه، جاءوا يرجون رحمتك
ويخشون عذابك، فيقول سبحانه: أشهدكم يا ملائكتي! أني قد غفرت لهم،
أفيضوا مغفوراً لكم ولمن شفعتم فيه ) والعشية في اللغة من بعد
العصر إلى غروب الشمس. وفي قوله: (فقد غفرت لكم ) اختلف العلماء
هل يغفر كل شيء أو تستثنى التبعات؟ أكثر العلماء يقولون: كل شيء؛(3/107)
لأنه لم يستثن شيئاً في هذا الحديث. وبعض العلماء يقول: إلا
التبعات، أي: التي لم يعطها صلى الله عليه وسلم، وقد أعطيها صلى
الله عليه وسلم في ليلة المزدلفة. وبالمناسبة ذكر العلماء سبب هذه
المباهاة فقالوا: لما أخبر الله الملائكة أنه سيخلق بشراً جديداً
كما في قوله تعالى: إِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ
سَاجِدِينَ [ص:71-72]
فتساءل الملائكة: أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا
لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:30-31]،
فقالوا: إن الملائكة تساءلوا لما سمعوا من المولى سبحانه قوله: إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا [البقرة:30]؛
لأنه كان في الأرض أجناس من الخلق قبل آدم، عمروها، ففسدوا فيها
وأفسدوا، وسفكوا الدماء، وكان إبليس ممن يقود الجيوش في سبيل الله،
ورفع إلى مكانة عليا، وكان مع ملائكة السماء الدنيا؛ لكثرة جهاده
وعبادته. ولما كان الملائكة قد رأوا السلوك الذي كان من عمّار
الأرض تساءلوا: (أتجعل فيها) يعني: مرة أخرى، فأعلمهم سبحانه
وتعالى وقال: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)، ثم بين فضل
آدم بتعليمه الأسماء، وعرضهم على الملائكة، فاعتذروا وقالوا: سُبْحَانَكَ
لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة:32]،
ثم أنبأهم آدم بها، ولما ظهر فضله أمرهم الله أن يسجدوا له سجود
تعظيم وتكريم، فإذا جاء يوم عرفة، واجتمع الخلائق من كل فج عميق
يباهي الله بأهل الموقف الملائكة، كأنه يقول لهم: كنتم تقولون:
أتجعل فيها من يفسد فيها؟ وهؤلاء هل هم مفسدون؟ ولم جاءوا؟ وماذا(3/108)
يريدون؟ فيقولون: (جاءوا شعثاً غبراً يريدون رحمتك، ويخشون عذابك)،
فهذه هي -كما يقولون- مناسبة أن الله سبحانه يباهي بأهل الموقف
ملائكة السماء. وقوله سبحانه: (أفيضوا مغفوراً لكم) يقولون: هل غفر
لهم كل شيء بدون استثناء، أو غفر لهم كل شيء إلا التبعات؟ قد تقدم
الكلام على هذا، وسواء كان هذا أو ذاك فإن الله سبحانه قد تكرم على
عباده، ومنحهم غفران التبعات أيضاً. فهو سبحانه وتعالى يغفرها لمن
ارتكبها، ويرضي أصحابها عنها. وجاء في حديث آخر: (إن الله سبحانه
وتعالى إذا كان يوم القيامة والناس في الموقف يرفع غرفاً يراها أهل
الموقف كما يرى أهل الأرض النجوم في السماء، فيقولون: يا رب! لمن
هذه الغرف؟ فيقول: لمن عفا عن مظلمة لأخيه، فكل من كانت له مظلمة
عند أخيه يقول: يا رب! عفوت عنها ) أي: لينال من تلك الغرف. وفي
الجملة: فإن الله سبحانه وتعالى تكرم على هذه الأمة بهذه المنح
العامة، وتكرم عليها بأن جعلها شاهدة على الأمم، وجعلها خير أمة
أخرجت للناس، إلى آخر خصائص هذه الأمة على غيرها.
مشروعية التغليس في صلاة الفجر يوم النحر
وهنا استيقظ صلى الله عليه وسلم متبسماً، ثم صلى الصبح في أول وقت
يمكن أن تصلى فيه، حتى قال بعض الناس: لقد صلى الصبح قبل وقتها أي:
قبل الوقت المعتاد في كل يوم، أي: أنه كان بعد أن يطلع الفجر،
ويستبين النهار، يؤذن المؤذن، ثم يقيم على مهل، أما هنا فأول ما
تبين الفجر وتبين النهار من الليل أذن المؤذن وأقام وصلى النبي صلى
الله عليه وسلم، يعني: أنه بادر بصلاة الصبح في ذلك اليوم دون بقية
أيام السنة.
الانتقال من المزدلفة إلى المشعر الحرام والدعاء عند المشعر
وقوله: (صلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب حتى أتى
المشعر الحرام). يبين بقوله: (ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام) أن
نزوله كان في غير المشعر الحرام؛ لأنه لما استيقظ وصلى لم تكن(3/109)
صلاته في المشعر الحرام، وإنما ركب وأتى إلى المشعر الحرام بعد
الصلاة. إذاً: المزدلفة كلها موقف، والمشعر الحرام جزء منه في طرف
منها، وهو كان عبارة عن جبيل صغير وبني بجانبه مسجد، ثم وسع المسجد
وهو المعروف الآن بمسجد المزدلفة. قوله: (فاستقبل القبلة فدعاه
وكبره وهلله). يقولون هنا: إنه صلى الله عليه وسلم وقف عند المشعر
الحرام ودعا الله طويلاً، ويقول بعض العلماء: إن في بعض الروايات:
أنه كان رافعاً يديه وضاماً لها إلى صدره في صورة المسكين الذي
يطلب إحساناً، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم لربه في سؤاله
وحاجته، وهل كان يسأل لنفسه أو كان يجتهد في سؤاله للأمة، كما كان
في عرفات يجتهد ويسأل الله تعالى للأمة أن يغفر لها، وأن لا يجعل
بأسها بينها، وأن لا يهلكها بكذا؟ الجواب: أن اجتهاده صلى الله
عليه وسلم كان أكثر ما يكون للأمة ولنفسه معهم. وبعض الناس ربما
يأتي إلى المزدلفة ويذهب عنها وهو لا يعلم أين المشعر الحرام ولم
يذهب إليه، فما حكم حجه هذا؟ الجواب: وقع الإجماع على أنه لا شيء
عليه، فإن تيسر له الذهاب إليه وعلم مكانه فأتاه ودعا عنده فهذا
أفضل؛ لأن الله سبحانه يقول: فَإِذَا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ [البقرة:198]،
وهذا مكان -كما يقولون- تستجاب فيه الدعوة، والرسول اجتهد بدعاء
ربه فيه، وإن لم يتيسر للإنسان الذهاب إليه، أو كان هناك زحام شديد
لم يستطع بسببه المكث فيه، فمر عليه ووقف بإزائه ودعا فلا مانع،
وإذا بقي في مكان نزوله بعيداً عن المشعر الحرام كما نزل رسول
الله، وصلى مكانه أو مع الإمام أو مع جماعة من جماعته فليرفع يديه
وليدع الله بقدر ما يتيسر له ويستطيع. قوله: (فلم يزل واقفاً حتى
أسفر جداً). لم يزل واقفاً عند المشعر الحرام يسأل ربه حتى أسفر،
والإسفار هو: من السفر وهو النور، ولذا سمي السفر سفراً؛ لأنه ينير(3/110)
ويكشف عن حقيقة الصاحب في السفر، فأنت إذا كان لك صاحب في الحضر
وفي الرخاء تجد منه العسل؛ لأنه ليس هناك مشقة، وليس هناك إيثار
على النفس، وليس هناك حاجة إلى أن يمده إليك، وأما عند الأسفار
فهناك التعب، وهناك الظنة بما في اليدين، وهناك الشح بما يملك
الإنسان، وهناك الكسل وعدم المبادرة إلى المساعدة، فتظهر حقائق
الرجال في السفر، ولهذا كان عمر رضي الله تعالى عنه إذا جاء
إنسان ليزكي إنساناً عنده، وتزكية الشهود لم تحصل إلا في زمن عمر ، وقبلها كان الشهود يُقبلون بدون تزكية. فجاء رجل إلى عمر ،
وقال: يا أمير المؤمنين! أدرك الناس، فإن شهادة الزور قد تفشت في
العراق، فأمر أن لا تقبل شهادة مجهول إلا بشاهدين يزكيان هذا
الشاهد أنه صدوق وعدل، فكان عمر إذا جاءه إنسان ليزكي إنساناً
يقول له: هل تعرفه؟ فيقول: نعم، فيقول له: هل بينك وبينه رحم؟
فيقول: لا، فيقول له: هل بينك وبينه معاملة في الدرهم والدينار؟
فيقول: لا، فيقول: هل سافرت معه؟ فيقول: لا، فيقول له: اذهب فأنت
لا تعرفه. لأن هذه هي الحالات التي تكون فيها المخالطة عن قرب،
وتكون فيها مشاحة النفس؛ لأن الحياة بين الأرحام يحصل فيها شدة
ويحصل فيها ضيق، ويحصل فيها غضب، ويحصل فيها رضا، كما هي شئون حياة
البشر، فتعرف حقيقة الإنسان عندها، ويعرف إن كان شحيح النفس أو
واسع الصدر. وكذلك المعاملة بالدهم والدينار، يعرف عندها الإنسان
هل هو يحرص على تحصيله من أي سبيل أو أنه يتعفف ويتورع عن الذي فيه
شبهة؟! وكذلك السفر يعرف عنده الإنسان هل هو يحافظ على الصلاة في
السفر؟ وهل يؤدي الأمانة في السفر؟ وهل يساعد رفيقه في مشاق السفر؟
وهل وهل... إلخ. قوله: (حتى أسفر) يعني: ظهر ضوء النهار من الليل
جداً، يعني: قبيل طلوع الشمس، وربما بدأت إشعاعاتها البعيدة تحت
الأفق في جهة الشرق.
مشروعية الدفع من المشعر الحرام والإسراع في بطن وادي محسر(3/111)
قوله: (فدفع قبل أن تطلع الشمس). دفع قبل أن تطلع الشمس، يعني:
قبيل طلوعها؛ لأننا إذا صلينا الفجر عند الأذان فقد صلينا قبل طلوع
الشمس، وإذا صلينا بعد طلوع الفجر بنصف ساعة فقد صلينا قبل طلوع
الشمس، وإذا صلينا قبل طلوع الشمس بعشر دقائق فقد صلينا قبل طلوع
الشمس، ولكن إذا قيل: قبل طلوع الشمس فمعناه: قرب طلوعها. قوله:
(حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً). دفع من المشعر الحرام حينما أسفر
جداً، وقبل أن تطلع الشمس، وذلك مغايرة لما كان قبل الإسلام، فقد
كانوا يقولون: (أشرق ثبير كيما نغير) ولم يكونوا يفيضون من
المزدلفة حتى تشرق الشمس على رأس جبل ثبير، فخالف النبي صلى الله
عليه وسلم أعمال الجاهلية ونزل من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس، ثم
دفع حتى أتى بطن وادي محسر بين مزدلفة ومنى، فحرك راحلته قليلاً،
وهنا من أعظم الدروس التي يأخذها الحجاج في حجهم في بطن هذا الوادي
موجب هذا الإسراع، وموجبه أن هذا الوادي أنزل الله سبحانه فيه
العذاب على قوم فأهلكهم، وجميع الأماكن التي هي مواطن المسخ أو
مواطن العذاب، لا ينبغي لإنسان أن يقيم فيها ولا أن يمر بها، ولا
أن يدخلها إلا للحاجة، ووادي محسر لابد للحاج أن يقطعه؛ لأنه بين
المزدلفة وبين منى، وليس هناك طريق غيره، فإذا دخله فعليه أن يسرع
الخطى حتى يخرج منه، وقالوا: إن الإنسان يسرع في هذا الوادي مقدار
رمية الحجر، بقدر المستطاع؛ لأن الأمور تقديرية، فإن كان راكباً
حرك الدابة، وإن كان ماشياً على قدميه أسرع خطاه، بقدر ما يتيسر له
دون إرهاق. والسبب في ذلك كما هو معلوم للجميع ما كان من قصة جيش
أبرهة حينما جاء ومعه الفيل قاصداً هدم الكعبة، فلما وصل إلى
الطائف رأى صنماً كبيراً فظنه الكعبة، فقالوا له: لا، إن مطلبك
أمامك، فقال لهم: أعطوني رجلاً يدلني على الطريق، فأعطوه رجلاً،
فمشى معه إلى أن نزلوا ببطن الوادي، وقد أصبحت مكة قريبة منهم،(3/112)
فجاء هذا الرجل إلى الفيل وهمس في أذنه وقال: أتدري يا محمود! إلى
أين تذهب، وماذا يراد منك؟ وكان محمود اسماً للفيل، والناس قد
يسمون بعض الحيوانات، فيسمون بعض الغنم سعدية وسعدة ونحو ذلك، فبقي
الفيل جالساً، فلما أرادوا أن ينهضوا به حينما أرادوا الرحيل لم
يقم، فضربوه وآذوه بمحاجم فلم يتحرك، فحولوه إلى حيث أتى فقام
يهرول راجعاً، فحولوه إلى جهة الكعبة فبرك مكانه. ودائماً ننبه في
مثل هذه الحالات على أن الإنسان إذا كان طاغياً، وفكرة الطغيان
مسيطرة عليه فإنه تغلق عليه الأبواب وتظلم بصيرته، ولا يرى الرشد،
ونظير هذا ما وقع لفرعون عند أن جاء ووجد البحر مفلوقاً لموسى عليه
وعلى نبينا الصلاة والسلام كل فرق كالطود العظيم، فأنت يا فرعون!
لو كان عندك عقل، وأنت ترى البحر الذي تعرفه قد أصبح الآن طرقاً،
والماء الرجراج قد أصبح مثل الجبل، فستعلم أن هذا شيء ليس بعادي،
وستعلم أن هذا وقع لنبي كان يدعوك من قبل، وقد أراك تسع آيات،
وأراك العصا والحية، ودعاك إلى الله وتعب معك في الدعوة، وأنت الآن
أمام أمر يفوق قضية العصا والحية أو يعادلها، وقد مشى فيه موسى،
فلماذا لم تقف وتتذكر وتعتبر بأن الذي فعل هذا لموسى ليس بقدرة
موسى، وإنما هو بقدرة رب موسى الذي كان يدعوك إليه؟ ولماذا لم تأخذ
العبرة والموعظة ما دام أن ربه قد عمل له هذا؟ إذاً: هو على الحق،
فكان المنطق السليم أن يرجع فرعون أمام هذه الآية، ولكن طغيانه
أنساه، وأظلم بصيرته، فلج ودخل في تلك الطرق وسط الأمواج، فأطبق
الله عليه البحر وأغرقه هو وجنوده. وكذلك نقول هنا لأبرهة :
أنت قد رأيت الفيل وهو كما يقولون: أغلظ الحيوانات طبعاً، ولكنه
ذكي، ويذكرون عن الفيل في تعليمه أنه من أذكى الحيوانات، ويفاضلون
بينه وبين الفرس في الذكاء؛ لأن الفرس ذكي جداً، فها أنت يا أبرهة !
قد رأيت أن الفيل ليس قادراً على أن يُقبل على ما أنت مقبل عليه،(3/113)
وقد جعل يرجع ويهرول إلى الموضع الذي أتى منه، أفلا ترجع؟! كان
عليك أن تتأسى بالفيل، وأن تحجم عن الذي جئت من أجله، وأن ترجع كما
رجع الفيل عنه، ولكنه أصر على المضي، فكان كما قال الله سبحانه: أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ
عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ [الفيل:1-3]
الإبيل والأبابيل جمع: تَرْمِيهِمْ
بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:4]
سبحان الله! يقولون: كان الطير يحمل ثلاثة أحجار: حجرين في مخلبيه
وحجراً في منقاره، وكان الحجر الذي يرميه على الفارس يخترق الفارس
والفرس حتى يسقط إلى الأرض، وقد ذكرت لكم سابقاً أن بعض الناس
يتساءلون ويقولون: إذا كان في الحجر قوة الاختراق هذه، وتخترق
إنساناً من رأسه إلى الفرس إلى الأرض فكيف استطاع الطير أن يمسكها
بمخالبه، وأن يمسكها بمنقاره؟ الجواب: قد ذكرت لكم أن هذا ممكن في
الموجودات الأخرى، فقد وجد مثل هذا في حجر اليود، وهو يستخرج من
ماء البحار المالحة، إذا وضعته على الحديد صهره، وإذا وضعته على
الخشب أشعل فيه النار حالاً، وإذا وضعته على الزجاج لا يؤثر فيه
شيئاً ولا يرفع الحرارة فيه حتى درجة واحدة، فالذي خصص الزجاج عن
الحديد وعن الخشب هو الذي جعل الطير تأخذ هذه الحجارة ولا تؤثر
فيها شيئاً، ويهمنا أن الله سبحانه أهلك ذاك الجيش بفيله في هذا
الوادي، فَجَعَلَهُمْ
كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:5].
فما كان موطن عذاب، فإن السنة فيه أن يسرع الإنسان ولا يقيم، ويقول
كثير من المؤرخين: إن الله سبحانه وتعالى فعل ذلك في السنة التي
ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا من الإرهاصات
لمجيء النبي صلى الله عليه وسلم، فهنا أسرع النبي صلى الله عليه
وسلم الخطى، وكما قال في مدائن صالح: (لا تدخلوها عليهم إلا أن
تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا ) أي: ولو من باب الشكليات؛(3/114)
لتظهروا الأسف، وهنا نقول: أبرهة قد انتهى هو وجيشه وفيله،
والذي نأخذه نحن في هذا الموطن من الموعظة والعبر أننا ننظر إلى
منهجية الفريقين: الفريق الأول: هو هذا الجيش الباغي المعتدي،
ودينه النصرانية، وهو على دين سماوي، حرف أو لم يحرف، والفريق
الثاني: هم القوم الذين ذهب إليهم أبرهة ليهدم البيت الذي
يعظمونه وهم وثنيون، ولا شك عند الجميع أن الكتابيين خير من
الوثنيين، ومهما غير الكتابيون في دينهم إلا أن عندهم مبدأ وأصل،
ولهذا جاز للمسلم أن يتزوج الكتابية، ولا يجوز له أن يتزوج المشركة
الوثنية، وإنما يستمتع بها بملك اليمين، وأما بعقد نكاح فلا، وكذلك
يترك أهل الكتاب على دينهم، ويُقبل منهم أن يدفعوا الجزية؛ لأنهم
سيتركون على بقايا كتاب عندهم، أما الوثنيون فلا يقبل منهم أن
يدفعوا الجزية، ولا يقبل منهم إلا الإيمان أو السيف؛ لأننا إذا
أخذنا منهم الجزية وتركناهم فسنتركهم على عبادة الأصنام، وهذا لا
يقبل منهم، فهناك فرق بين الفريقين، ومع ذلك فإن الله أهلك من هم
خير في العقائد وهم أهل الكتاب من أجل أولئك الوثنين الذين يعبدون
الأصنام، مع أن الأولى والأحق بالنصرة هو الكتابي؛ لأنه على عقيدة،
لها أصل وإن كانت محرفة، فلماذا؟ الجواب: إن الفارق الذي غلَّب
جانب هلكة الكتابي هو الظلم؛ لأنه جاء ظالماً باغياً طاغياً يريد
أن يهدم الكعبة، وماذا عملت به الكعبة؟ وإن أراد أن يؤذي قريشاً
فماذا صنعت به قريش؟ هو بنى كنيسة وزخرفها وأراد أن يحج الناس
إليها بدل الكعبة، فجاء رجل من عامة أهل البادية وتغوط داخلها،
فغضب وأراد أن ينتقم، فيقال له: انظر أين الرجل الذي تغوط وانتقم
منه هو، أما أن تأتي لتنتقم من جميع أهل مكة فهذا ليس فيه عقل ولا
عدالة. إذاً: أيها الحاج الكريم! إذا مررت بهذا الوادي وأسرعت
فعليك أن تتساءل: لماذا أسرع هنا دون جميع الأماكن في الحج؟ سيقال(3/115)
لك: لأن هذا المكان حصل فيه كذا وكذا، إذاً: فاحذر أن تطغى، واحذر
أن تظلم، واحذر أن تبغي على أحد، وتجنب الظلم، واذكر قوله سبحانه
في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته
بينكم محرماً ) وقوله سبحانه في الحديث الآخر: (إني لأنصر
المظلوم ولو كان كافراً )؛ لأن الكافر إذا ظُلم، وطلب من يرفع
الظلم عنه فلم يجد، فتوجه إلى الله، فهو عندما يتوجه إلى الله
موقناً بأنه وحده القادر على أن يأخذ حقه، فهو في هذه اللحظة مؤمن
بوجود الله، ومؤمن بقدرة الله، ومؤمن بعلم الله بظلمه وأنه سينصره،
وهذا القدر يكفي في إجابة دعوته، وكما قالوا في قصة فرعون مع موسى:
إن فرعون لما جاءه الغرق بدأ ينادي: يا موسى! يا موسى! عدة مرات،
وموسى لم يلتفت إليه حتى لا يجيبه، فلما انتهى أمر فرعون عاتب الله
موسى، فقال: يا موسى! فرعون يناديك عدة مرات، ولا تلتفت إليه.. لو
دعاني مرة واحدة لأجبته؛ لأنه حينما يدعوه في تلك اللحظة فهو قد
آمن، وهو يعلم أنه قادر على أن يعطيه دعوته. إذاً: حينما يمر بذلك
الحاج الموضع يتذكر ذلك التاريخ، وكما قلنا مثل ذلك في الرمل الذي
كان في عمرة القضية عند أن تآمر المشركون على المسلمين لما بلغهم
من ضعفهم، وفي موضوع السعي بين الصفا والمروة، في قصة طلب هاجر للماء، وكيف استطلعت من حولها فلم تجد أحداً، فاتجهت إلى الصفا ثم
إلى المروة، كل هذه خطوات يجب على الحاج أن يستفيد منها بإحياء
ذكراها، والتأسي بما تعطيه من مدلول.
الأعمال التي يعملها الحاج في يوم النحر إذا وصل إلى منى
وهنا أسرع صلى الله عليه وسلم في هذا الوادي، فلما انتهى منه وجاء
إلى العدوة الثانية صار في حيز منى، ولما جاء إلى منى، أول ما فعله
أنه أتى إلى الجمرة حالاً، ولم يذهب إلى منزله، ولهذا يقولون: إن
تحية منى: هو المبادرة إلى رمي جمرة العقبة، فرماها بسبع حصيات من(3/116)
بطن الوادي. وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس في المزدلفة: (التقط لي سبع حصيات ) فأخذ معه سبع حصيات من
المزدلفة، وهذا يدل على أن الحاج لابد أن يكون متأهباً للعمل الذي
أمامه وهو رمي جمرة العقبة، حتى إذا وصلها شرع في رميها، ولا يذهب
ينادي ويقول: ابحثوا لي عن حصى، بل عليه أن يكون متأهباً. وهنا
فكرة طرأت على ذهني في هذا الموقف وهي أن الله سبحانه وتعالى لما
امتن على المسلمين بالوقوف بعرفة، وغفر لهم وحط عنهم أثقالهم، وفك
عنهم قيودهم التي كبلهم بها الشيطان؛ لأن الشيطان قال: لأَحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ [الإسراء:62]
فالشيطان قد توعد الأمة بين يدي الله أنه سيأتي بحبل ويضعه في
حنكهم ويسحبهم كما يسحب الإنسان الدابة، وفعلاً كثير من الناس
ينقاد له كذلك، فكان الإنسان يقترف في حياته خطيئة مع أخرى حتى
صارت كالجبال فوق ظهره، وصار مثقلاً ومقيداً يقاد بمقود كالبعير،
ولما كان يوم عرفات غفر سبحانه وتعالى له خطاياه وأزال عنه قيوده،
فكيف سيكون حاله بعد هذا؟ سيكون على أمرين: الأول: الخفة، والثاني:
استشعار النصرة من الله على عدوه، ولهذا ما رؤي الشيطان أصغر ولا
أذل ولا أحقر منه من يوم عرفة؛ لما يرى من تنزل الرحمات، ولما يرى
من أن الله قد غفر للجميع فينادي بالويل والثبور؛ لأنه طول عمره
وهو يسعى وراء هؤلاء لإضلالهم، فإذا به في لحظة واحدة قد بطل
مسعاه، وضاع كل جهده مع هذه الملايين التي جاءت ووقفت في الموقف،
فيتأسف على ذلك، فإذا ما جاء الحاج إلى المزدلفة أخذ قسطاً من
الراحة، والاستحمام، ثم ذهب ليصفي حسابه مع الشيطان -كما يقولون-
لأن الشيطان كان معلناً عليه الحرب، وكان مستأسره، وكان مستضعفه،
وقد فعل به ما شاء، فهو الآن جاء ليصفي حسابه مع الشيطان، وكأنه
سيدخل معركة مع الشيطان، فيتزود من المزدلفة بالسلاح الذي سيعلن به
الحرب على الشيطان، والذي يذهب إلى المعركة لابد أن يتزود بالذخيرة(3/117)
قبل أن يأتيها، ولهذا حين أن يأتي ليرمي الجمرة، يقول: (باسم الله،
الله أكبر إرغاماً للشيطان وإرضاءً للرحمان)؛ لأنه بعد أن كان
أسيراً للشيطان قد أطلق من أسره، وأصبح في موقف القوة، يعلن الحرب
على عدوه، وهاهو يرمز -ورمي الجمرات ما هو إلا رمز، لا كما يظن
الجهال أن الشيطان أمامه- إلى أنه قد انتهى من عدوه وبدأ معه طوراً
جديداً، ومن أعلن الحرب على عدوه فلا يغفل عنه أو ينام، بل يكون
أشد حرصاً من ذي قبل. فهنا صلى الله عليه وسلم أخذ الحصى من
المزدلفة، ويقول العلماء: من شاء اكتفى بسبع حصيات من المزدلفة، ثم
يأخذ بقية الحصيات لبقية الأيام من منى، بشرط أن لا يلتقطها من
مسجد، ولا يلتقطها من المرمى؛ لأنه قد أدى بها الواجب إنسان قبل،
فأنت إذا أخذتها بعده فهو بمثابة الماء المستعمل في الوضوء لا
يتوضأ به مرة أخرى. إذاً: من شاء أخذ الحصى من مزدلفة، ومن شاء أخذ
سبعاً من مزدلفة والتقط الباقي من طريقه أو من منى، وقد بين صلى
الله عليه وسلم مقدار الحصاة كما جاء هنا: (كحصى الخذف) وحصى الخذف
هي: الحصاة التي مثل حبة الفولة تقريباً ويمكن أن تضعها بين أصبعين
وتخذف بها، مثل (النبّيلة) فتذهب إلى مسافة بعيدة، ولا ينبغي أن
تكون كبيرة مثل الليمونة، ولا أن تكون صغيرة مثل حبة القمح؛ لأن
هذه الصغيرة لا يعتبر الرمي بها، والكبيرة إذا أصابت إنساناً عند
الحوض فإنها تؤذية، وليست المسألة مسألة إيجاع ولا تحطيم، ولا
اعتداء، وإنما هي عبارة عن رمز.
حكم غسل حصيات الرمي والتوكيل في التقاطها
يبحث الفقهاء في هذه الحصى: هل يغسلها الحاج أو لا يغسلها؟ والقول
بغسلها جاء عن بعض الشافعية، والجمهور يقولون: غسلها بدعة؛ لأن
الرسول لم يغسلها، والأصل فيها الطهارة. ولك أن تلتقطها بنفسك، ولك
أن توكل إنساناً يلتقط لك، كما وكل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا
عباس ! التقط لي سبع حصيات ) فأتى منى وجاء من بطن الوادي،(3/118)
وجعل منى عن يمينه، ومكة عن يساره، ورمى الجمرة بسبع حصيات وهو على
راحلته، ولم يقف عندها، وإنما رمى وانصرف.
نحر الهدي يوم العاشر من ذي الحجة
قوله: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر). المنحر وهو اسم المكان الذي
ينحر فيه، كما يقولون: المذبح، إذاً: هناك تعيين، فما كل إنسان
يذبح في الطريق أو عند خيمته! ولكن عليه أن يأتي المنحر، وهذا من
أوائل تنظيم الأعمال التي بها تكون منى صالحة للسكنى، وقبل مجيء
المذابح الآلية الجديدة كنا إذا مشينا في أي مكان نرى الشياه
مرمَّية في الشارع، وسبحان الله! الله أمر بتطهير البيت ومكة من
هذه المظاهر في قوله سبحانه: وَلا
تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]،
وأين محله؟ قال: هَدْياً
بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]
وهل محله عند الكعبة بأن نذبح في مكة حول الكعبة؟ الجواب: لا، فقد
جعل الله منى منحراً، إذاً: منى منحر رسمي لمكة. وبهذا تكون جيف
الذبائح قد أبعدت عن المسجد الحرام؛ لتظل مكة طاهرة طيبة بعيدة عن
هذه القاذورات، والفضلات إلى غير ذلك.
عدد الهدي الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم والفرق بين النحر
والذبح
أتى صلى الله عليه وسلم المنحر وكان معه من الهدي مائة بدنة، بعضها
أخذها معه من المدينة، وبعضها أتى بها علي من اليمن، وشركه في
هديه، فنحر صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة،
ونحر علي الباقي. والنحر للإبل والذبح للغنم، وأما البقر
فمختلف فيه، والجمهور على أنها تذبح كما تذبح الشاة، والذبح هو:
قطع الحلقوم من عند الرأس، والنحر هو: الطعن في اللبة من عند
الصدر، والسبب في النحر أنه أسرع لإخراج الدم، فلو ذبح البعير
لكانت المسافة بين القلب وبين مكان الذبح طويلة، ولكن لما تنحر
الإبل تكون الفتحة التي يخرج منها الدم قريبة من القلب، فيستطيع
القلب في فترة ما بين الحياة والموت أن يتخلص من جميع الدم الموجود(3/119)
في جسم الناقة، ولكن لو ذبحت فإنها تحتاج إلى (ماطور) في الصدر حتى
يخرج الدم من مسافة رقبة البعير الطويلة، فيحتاج إخراج الدم يحتاج
إلى مجهود؛ لأن القلب في مكان منخفض وسيتوقف بالموت قبل أن يخرج
جميع الدم، فكان السر في نحر الإبل هو تيسير خروج الدم من جسم
الإبل؛ لأن الغرض من النحر أو الذبح هو تخليص اللحم من الدم؛ لأن
الدم فيه ثاني أكسيد الكربون، وفيه الأكسجين، فالأكسجين هو مادة
الحياة، وثاني أكسيد الكربون هو غاز سام، والدم في خروجه من القلب
إلى الجسم يحمل الأكسجين ليغذي به الجسم، وفي عودته من الجسم إلى
القلب يحمل ثاني أكسيد الكربون ويمر في عودته بالرئة، فتصفيه من
هذا الغاز السام عن طريق (الفلتر) الموجود في الرئة، فمواضع
الترشيح التي في الرئة، تستخلص منه الغاز السام وتعطيه الأكسجين
ويرجع في دورته إلى الجسم للتغذية مرة ثانية، وهكذا. ولهذا يقولون:
إن الحركة السريعة التي يأتي بها المذبوح من الطير أو الحيوان
كبيراً كان أو صغيراً تساعد على إخراج الدم من الجسم إلى الخارج
ليصفو اللحم، ومن هنا كانت الميتة فاسدة وضارة؛ لأنها تحتبس وتختزن
القسم الذي فيه السم وهو ثاني أكسيد الكربون فيؤذي، ولهذا إذا وجدت
شاة ميتة وذبحت شاة أخرى حية وسلختها وعلقت لحمها بجانب هذه الميتة
فإن الفساد يسرع إلى الميتة حالاً، ويظل اللحم الآخر الذي هو مذكى
ومذبوح صالحاً بعد ذلك لمدة يوم أو يومين لم يطرأ عليه الفساد؛
لأنه تخلص من عوامل الإفساد التي خرجت مع الدم.
نحر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة فيه إشارة إلى عمره
ويهمنا هنا أنه صلى الله عليه وسلم نحر بيده ثلاثاً وستين بدنة،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عن ثلاث وستين سنة، فما هي
العلاقة بين ثلاث وستين بدنة ينحرها وثلاث وستين سنة يعيشها وهو في
آخر سنة من سني حياته؟ الجواب: هذا كأنه رمز وإشعار منه صلى الله(3/120)
عليه وسلم للألباء أصحاب الفطن أن اعلموا أن عدد سنواتي ثلاث
وستون، وأن هذه السنة هي النهاية، ففي هذا إشعار بعدد سنوات عمره
صلى الله عليه وسلم. ثم أمر علياً أن ينحر بقية المائة، ولماذا
أكمل المائة ولم يكتف بالثلاث والستين؟ الجواب: أنه قد سبق لأبيه
قبل ذلك، أنه وقع عليه السهم في أن يذبحه أبوه في النذر الذي كان
عليه كما تقدم لنا أن عبد المطلب قال: (لئن رزقني الله عشرة
أولاد يقفون بجاني يحملون السيف ويدافعون عني لأنحرن واحداً منهم)،
فأقرع بينهم، فجاءت القرعة على عبد الله والد رسول الله، ولكن
عبد الله كان يحمل أمانة، وما كان الله ليتركه يذهب بها، فجاءت
مفاداته وفودي بمائة من الإبل، إذاً: كأنه صلى الله عليه وسلم
يقول: يا رب! معذرة، أبي فودي بمائة من الإبل في الجاهلية، وأنا
أقدم مائة من الإبل في الإسلام.
مشروعية أكل صاحب الهدي من هديه
ثم أمر علياً بأن يأتي بالجزارين ليسلخوها ويقطعوها، وأمره أن
يأخذ من كل بدنة قطعة، وأمر أن تطبخ تلك القطع كلها في قدر واحد،
فأكل من اللحم وشرب من المرق، وعلى هذا كانت السنة أن على من أهدى
أن يأكل من هديه؛ من أجل أنه إذا علم أنه سيأكل من هذا الذي
سيذبحه، فلن يذبح عجفاء عرجاء ويتركها في الشارع، بل سيتخير الشيء
الذي تطيب نفسه أن يأكل منه؛ لأن الواجب أن تحب لأخيك ما تحب
لنفسك، فإذا علم صاحب الهدي أنه سيأكل منها فإنه سيتخير، وهكذا
كانت السنة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
مزيداً إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.
( كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [6] )
عناصر الموضوع
1 مشروعية الدعاء عقب التلبية
2 التوسعة على المحرم في أداء المناسك
3 مداخل مكة التي دخل وخرج منها النبي صلى الله عليه وسلم
4 المبيت بذي طوى قبل دخول مكة
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [7]
دين الإسلام دين الرحمة واليسر، فليس في الإسلام حرج أو مشقة، وإن عرضت(3/121)
فقد رفعها الإسلام، ولهذا فإن من القواعد الكلية في الشريعة أن المشقة
تجلب التيسير، ومن ذلك التيسير ما جاء في مناسك الحج، فقد وسع الشرع
على المحرم في أداء المناسك، ورفع عنه المشقة كما جاء في القصر والجمع
بين الصلوات، والتوسعة في الوقوف في أي مكان من أرض عرفات، وكذلك في
المزدلفة، والإذن بالنحر في المكان الذي يكون فيه المحرم، والإذن لأهل
الأعمال بالمبيت خارج منى ليالي أيام التشريق، إلى غير ذلك.
مشروعية الدعاء عقب التلبية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [
وعن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة سأل الله رضوانه والجنة،
واستعاذ برحمته من النار ) رواه الشافعي بإسناد ضعيف ].
يذكر لنا المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث الذي رواه الشافعي رحمه الله وإن كان بسند ضعيف، إلا أنه من الأعمال التي هي من نوافل
العبادات، والتي ليست من الأحكام كالحلال والحرام، وكما يقولون:
أحاديث الترغيب والترهيب لا يشدد فيها كما يشدد فيما يتعلق
بالتكليف من حلال أو حرام ومن فعل أو ترك. يقول: (إن النبي صلى
الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة)، وقوله: (من
تلبيته) أي: التلبية المنسوبة إليه، والتي كان يأتي بها، وقد تقدم
لنا أن التلبية عند الفقهاء واجب من واجبات الحج، يعني: أن كل من
أتى بنسك حج أو عمرة فإنه يجب عليه أن يلبي ولو مرة واحدة، أي: أن
الواجب يؤدى بمرة واحدة، وما عدا ذلك فهو من باب الزيادة والفضل.
وكان صلى الله عليه وسلم يجدد التلبية كلما تجدد له حدث، بمعنى:
أنه إذا كان يمشي في أرض مستوية فهبط وادياً في طريقه جدد التلبية،
وإذا انتهى من هذا الوادي وقابل مرتفعاً جدد التلبية، وإذا لقي
ركباً في الطريق جدد التلبية، وإذا نزل منزلاً للراحة أو للطعام أو(3/122)
للشراب جدد التلبية، وإذا بدأ الرحيل كذلك جدد التلبية، وهكذا كما
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (تُجدد التلبية
عند كل حدث يواجه المحرم). وقد تقدمت صيغة التلبية عنه صلى الله
عليه وسلم وهي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد
والنعمة لك والملك، لا شريك لك ) إلى هنا كانت تلبية النبي صلى
الله عليه وسلم، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يزيد:
(لبيك وسعديك والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) ويقول العلماء:
إن هذه الزيادة من باب الذكر، ولا بأس بها؛ لأن ألفاظها تتناسب مع
التلبية، ومعناها الإقامة على الطاعة والامتثال. فكان إذا فرغ من
تلبيته صلى الله عليه وسلم يعقب ذلك أنه يسأل الله المغفرة
والرحمة، ويستعيذ بالله من العذاب.
استحباب الدعاء بعد كل عبادة
وهذا التذييل بالدعاء والإتباع يعتبر قاعدة عامة في التشريع، فإن
كل ذكر واجب تجد أن الدعاء مطلوب بعده، ففي الأذان قال صلى الله
عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي
الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تكون إلا لواحد أرجو أن أكون أنا
هو، فمن سأل لي الوسيلة كنت له شفيعاً يوم القيامة ) وكذلك يكون
الدعاء عقب الصلوات، وكذلك عند الإفطار من الصيام في آخر النهار،
وكذلك عند ختم القرآن، فمن ختم القرآن فإن له دعوة مستجابة، وهكذا
نجد أنه يستحب الدعاء عقب كل عبادة مشروعة؛ لأن الدعاء طلب ومسألة،
وأرجى ما تكون الإجابة للعبد في سؤاله أن يقرب بين يدي مسألته قربة
لله بحيث يكون حينما يدعو قريباً من الله، وفرق بين أن تكون قريباً
من الله وأن يكون الله قريباً منك؛ لأن الله أقرب للعبد من حبل
الوريد، فالله قريب من عبده، ولكن العبد هو الذي يتباعد أو يتقرب
إلى الله كما في الحديث القدسي: (من تقرب إلى شبراً تقربت إليه
ذراعاً ) إذاً: العبادة قربة يتقرب بها العبد إلى الله، فإذا(3/123)
اقترب إلى الله -وهذا الاقتراب في حق الله سبحانه وتعالى هو كما
يليق بجلاله وكماله، ليس قرب مسافة ولا زمان ولا مقياس بمتر ولا
كيلو- استجاب له دعاءه. وفي الآية الكريمة قال تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12]
كان هذا تكريماً للنبي صلى الله عليه وسلم وإقلالاً عليه من كثرة
الأسئلة التي لا طائل منها؛ لأنهم كانوا يشغلونه بأسئلة شخصية، وهو
ما جاء للشخصيات، وإنما جاء للعمومات، فلما فرضت عليهم الصدقة قبل
مناجاته خففوا من الأسئلة؛ لأنه ليس كل إنسان يستطيع أن يتصدق عند
كل سؤال، وكما يقول علماء التفسير: ما عمل بها إلا علي رضي
الله عنه، ثم نسخت بقوله تعالى: فَإِذْ
لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [المجادلة:13].
إذاً: كون الإنسان يدعو عقب التلبية، فيه كما يقال: جلب النفع ودفع
الضر، وفيه الجمع بين خيري الدنيا والآخرة فقوله: (إذا فرغ من
تلبيته سأل الله رضوانه والجنة) هذا فيه طلب منفعة، وقوله:
(واستعاذ برحمته من النار) هذا فيه دفع مضرة، فهو طلب واستعاذ، طلب
الجنة واستعاذ من النار، فلم يبق بعد هذا شيء؛ لأن طلب الجنة هو
طلب كل خير وسعادة في الآخرة، وهي السعادة الحقيقية، والاستعاذة من
النار هي السلامة من كل سوء، وكما جاء الأثر: أن رجلاً أعرابياً
سمع الرسول والصحابة يدعون ويجتهدون بالدعاء، فقال: (يا رسول الله!
قال: نعم، قال: علمني دعاء ولا تكثر، فإني لا أحسن دندنتكم هذه )
هذه الدندنة التي أنتم تدندنونها وترددونها وتأتون بها أنا لا
أعرفها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ماذا تقول إذا دعوت؟
قال: أنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، فقال
صلى الله عليه وسلم: ونحن حول هذا ندندن ). ولهذا جاء في حديث
عائشة حينما ذكر صلى الله عليه وسلم ليلة القدر وفضلها، قالت:(3/124)
(يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفتها؟ ) انظر الموقف!
السؤال عن أفضل ما يكون عن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر،
والسائلة هي أحب من يكون إلى رسول الله، والمجيب هو أحب من يكون
إليها، فالموقف كله محبة ووئام، إذاً: التعليم الذي يصدر في هذا
الجو وفي هذه البيئة، وفي هذه الأحاسيس هو من حبيب إلى حبيب في
محبوب فقال لها: (قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني )
يقول بعض العلماء: (والله! لقد نظرت في هذا الأثر فإذا به جمع خيري
الدنيا والآخرة)؛ لأن من عوفي في بدنه، ومن عوفي في دينه، ومن عوفي
في كل أحواله في الدنيا وعوفي يوم القيامة من الحساب لم يبق بعد
ذلك شيء يطلبه. وهكذا يتحرى الإنسان الدعاء بعد العبادات أياً كان
نوعها، حتى في العبادات المالية، قال الله سبحانه وتعالى لرسوله
الكريم صلى الله عليه وسلم: خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]
أي: بعد الصدقة ادع لهم؛ لأنه بعد قربة وبعد عمل صالح.
آداب السؤال تتجلى في سورة الفاتحة
وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول:
لقد علَّم الله سبحانه وتعالى عباده في سورة الفاتحة آداب السؤال،
وطلب الحاجة ممن لك حاجة عنده؛ لأن أعظم مسألة للعبد المؤمن هي
الهداية إلى الصراط المستقيم؛ لأن الهداية منحة من الله كما قال
تعالى: إِنَّكَ لا
تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
قال: فقد جعل الله في الفاتحة سؤال الهداية، ولكن لم يأت السؤال
لها مباشرة، بل على العبد أن يقدم قبلها أنواعاً من القرب والتعظيم
والإجلال للمولى كما في قوله سبحانه: الْحَمْدُ
لِلَّهِ [الفاتحة:2]
وبعد أن حمد الله على كمال ذاته وصفاته، يعترف لله بالربوبية
للعالمين جميعاً رَبِّ
الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].(3/125)
ثم يصفه بصفات الجلال والكمال: الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]
ويقولون في معنى هذين اللفظين الرحمان الرحيم: رحمان في ذاته، رحيم
في صفاته لعباده، فهو رحمان الدنيا رحيم الآخرة كما جاء في الحديث:
(إن لله مائة رحمة، أنزل منها واحدة إلى أهل الأرض بها يتراحمون،
حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها رحمة به ) أي: من هذه
الواحدة، واحد في المائة للعالم كله يتراحم بها قال: (وادخر تسعاً
وتسعين لعباده المؤمنين إلى يوم القيامة ). ثم يأتي بقوله
تعالى: مَالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]
ففي الدنيا هو رب العالمين، وهو رحمان رحيم، وفي الآخرة الملك كله
يعود إليه كما قال تعالى: لِمَنْ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16].
وقوله: إِيَّاكَ
نَعْبُدُ [الفاتحة:5]
أي: أنت رب العالمين، والدنيا الآخرة في ملكك تتصرف فيهما كيف شئت،
فنحن نعبدك وحدك؛ لأنك الرب المستحق للعبادة. وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]
لأننا ضعاف، ولولا قوة منك وتوفيق منك وهداية منك لنا ما عبدناك.
وبعد هذه المقدمات في التمجيد والتكريم والتعظيم والاعتراف تأتي
المسألة: اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]
فأتت المسألة بعد كل هذه الاعترافات والإجلال للمولى سبحانه، وكذلك
هنا في قوله: (لبيك اللهم لبيك) أي: أقمت على طاعتك، واستجبت
لندائك الذي قلت فيه لإبراهيم: وَأَذِّنْ
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27].
وقوله: (إن الحمد والنعمة لك والملك) هذا فيه اعتراف كما في قوله
تعالى: الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].
(لا شريك لك) إلى آخر هذه التلبية وهذه الألفاظ الكريمة، وبعد هذه
القربى إلى الله: (يسأل الله رضوانه والجنة، ويستعيذ بالله من
النار) وهكذا يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا يتحرى
الإنسان في مسألته أن يكون أقرب ما يكون إلى الله، ومن ذلك بعد(3/126)
العبادات وفيها، ومن ذلك ما جاء في السجود، قال النبي صلى الله
عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، فاجتهدوا في
الدعاء ).
التوسعة على المحرم في أداء المناسك
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في
رحالكم، ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف )
رواه مسلم . هذه الأخبار الثلاثة: النحر في منى، والوقوف في
عرفات، والوقوف في مزدلفة، أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
هذه الثلاثة في نطق واحد، وفي مجلس واحد، أو أن الراوي سمع من رسول
الله صلى الله عليه وسلم تلك الأخبار كل واحدة منها في مكانها،
فسمعه في عرفات يقول: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) لأن (هنا) اسم
إشارة للمكان، كما تقول: زيد هنا، ولا يتأتى هذا إلا عند وجوده.
فقوله: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) هل سيقول هذا وهو في منى؟
الجواب: لا، وإنما يصح منه أن يقول: (وقفت هاهنا) حينما يكون
واقفاً في الموقف الذي يتحدث عنه، إذاً: هذا من تصرف الراوي فهو
ذكر كل ما سمع في مجلس واحد، وهو قد سمعه في أماكن متعددة وفي
أوقات مختلفة، فسمعه في منى يقول: (نحرت هاهنا ومنىً كلها منحر
فانحروا في رحالكم) وهكذا والله أعلم. وفي بعض طرق الحديث: (وفجاج
مكة وطرقها فجاج ومنحر أو طريق ومنحر ) ولهذا يقول العلماء: إن
قوله سبحانه: وَلا
تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]
ومَحِلّه بالكسر لا مَحَلّه، (مَحِلّه) يعني: مكان إحلاله، وهو
الوقت الذي يحل نحره فيه، وقال الله تعالى في الآية الأخرى: هَدْياً
بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]
وفي هذه الآية يقول: حَتَّى
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]
وهل محلها يكون عند الكعبة؟ الجواب: لا؛ لأن الكعبة تطلق على عموم(3/127)
الحرم بكامل حدوده، ومنى داخلة في الحرم، ففي قوله تعالى: وَلا
تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]
بين النبي صلى الله عليه وسلم أين يكون محله، ومحله تصدق على اسم
الزمان والمكان، فتقول: محلها إلى البيت العتيق، ومحلها يوم العيد
يعني: زمن إحلالها، ومكان إحلالها على ما بينه صلى الله عليه وسلم.
وقد بين النبي متى يحل الهدي؟ وأين يكون موضع إحلاله، ويقولون: إن
الله جعل منى منحراً للهدي؛ لئلا تصبح مكة مجزرة لكل الحجاج فلا
يطاق الجلوس فيها، والآن العالم كله يجعل المجزرة نائية عن محل
السكن؛ لئلا تؤذي السكان. وقوله: (نحرت هاهنا) أي: في المكان الذي
نحر فيه، وقالوا: إنه معلوم إلى الآن، وكان جهة (منحر الكبش) وأهل
منى يعرفون ذلك، وعندهم منطقة معروفة تسمى: (منحر الكبش).
حكم نحر المحرم لهديه في محله
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومنى كلها منحر) فيه دليل على أن لكل
حاج أن ينحر محله، وقد جاء في بقية الحديث: (فانحروا في رحالكم)
ولكن هل ينطبق هذا الحديث علينا الآن؟ لأن صورة النحر في ذلك الوقت
لم تكن على ما عليه الناس الآن، فقبل وجود المذبح أو المسلخ الآلي،
كنت إذا مشيت في طرقات منى تطأ على أغنام قد أريق دمها وتركت، وهذه
الأغنام التي أريق دمها وتركت في الشارع مع الحرارة بعد ساعات
ستتغير، فكانت القلابات تمشي في الطرقات، وعمال البلديات يجمعون
ويرمون فيها المخلفات حتى يستطيع الناس أن يمشوا، وأما في السابق
فقد كان ينحر الهدي ولا يلقى منه مقدار درهم واحد في الأرض، بل
كانوا إما أن يأكلوا ويطعموا منه، وإما أن يشرقوه وينشروه على
الصخور والحبال، ولذلك سميت هذه الأيام أيام التشريق؛ لأنهم كانوا
ينحرون الهدي إبلاً أو بقراً أو غنماً فيأكلون ما يأكلون، ويطعمون
من يطعمون، والباقي يجزئونه ويشطرونه إلى أوصال، ويشرقونه على(3/128)
الحبال أو على الصخور، حتى إذا انتهت أيام منى كان هذا اللحم قد
جفت رطوبته وأصبح قديداً، فيجمعونه في أوعيتهم ويذهبون به إلى
بلادهم. إذاً: لم يكن النحر في منى في ذاك الوقت يؤذي الساكن أو
المار أو المقيم في منى، وإنما كانوا يحافظون على ذلك، حتى لا
يتأتى منه إيذاء للآخرين؛ لأن أنعام الهدي الأساس فيها أن تذبح
وتسلخ وتقطع وتعطى للمساكين، ولا يبقى منها شيء، حتى جلودها
وجلالها كما قال صلى الله عليه وسلم لعلي : (ادع الجزارين
وتصدق بجلودها وجلالها ) والجلال هي الأقمشة التي كانوا يزينون
بها الهدي، أي: يكسونها بها من باب التقرب إلى الله سبحانه وتعالى،
كانوا إذا خرجوا من المدينة غطوها بهذه الأقمشة من باب الزينة،
فإذا انسلخوا من المدينة وخرجوا من ضواحيها جمعوها وحفظوها حتى لا
تؤذى أو تشقق، فإذا ما أقدموا على مكة ألبسوها تلك الجلال، فإذا
جاءوا عند النحر أخذوها عنها حتى لا يلوثها الدم، ثم يتصدقون بها،
وكانوا في السابق يجمعون تلك الجلال، ويعملون منها كسوة للكعبة،
فإذا أتى من يقوم بكسوة الكعبة على حسابه، تكون هذه من باب الصدقات
التي يتصدق بها، فكانوا يتصدقون بكل شيء حتى الجلود. وكان اليوم
الثاني هو يوم الرءوس، أي أنهم كانوا يأخذون رءوس الأنعام التي لم
يأكلوها في أول يوم لأن اللحم كان متوفراً، فإذا انتهى اللحم رجعوا
إلى الرءوس التي كانوا قد تركوها. إذاً قوله:(نحرت هاهنا ومنى كلها
منحر) هذا فيما لو كان الأمر على ما كان عليه في زمن النبي صلى
الله عليه وسلم، أما الآن مع كثرة الناس ووفرة الهدايا والذبائح،
وعدم تحري الناس فيما ينبغي أن يكون عليه الهدي من سلامته من
العيوب، بأن لا يكون فيه عجفاء ولا معيبة ولا غير صالحة للأكل، فقد
جاءت هذه المذابح الجديدة على هذا النظام الموجود، فمن استطاع أن
يذبح بنفسه في تلك الأماكن فهو أولى، ومن لم يستطع وتركها(3/129)
للمسئولين أو أنابهم في الذبح عنه فلا مانع في هذا. وكذلك (وفجاج
مكة) لو أن إنساناً نزل بين مكة ومنى وسكن هناك، وكان إذا جاء
المبيت جاء إلى منى وإذا جاء وقت الرمي جاء إلى منى، ثم يرجع إلى
ذلك المكان، وفي وقت الذبح ذبح هديه في مكانه، فلا مانع، وإذا كان
يسكن في مكة ونزل به إلى بيته في مكة فلا مانع، إذا كان ما زال في
محله الزماني، أي: إذا كان في يوم العيد وأيام التشريق، والله
تعالى أعلم.
عرفة كلها موقف ولا يتعين الوقوف على جبل الرحمة
وقوله: (وقفت هاهنا) تقدم معنا أنه صلى الله عليه وسلم وقف عند
الصخرات، وهو الذي يسميه الناس: (جبل الرحمة) وهو الجبل الوحيد
المكون من مجموعة صخرات ضخمة وكبيرة، ويوجد في أعلاه علم مبني
لبيان مكانه، وقد اختار صلى الله عليه وسلم هذا المكان لأنه ليس في
عرفات علامة سوى هذا، ويقول العلماء: إذا خرجت من وادي نمرة، وكان
عن يمينك جبال إلى جهة الشرق، وأمامك جبال إلى الشمال وعن يسارك
جبال إلى الغرب فكل ما بين دائرة هذه الجبال فهو عرفة، فإذاً: على
هذه السعة لا يوجد في داخل تلك الدائرة في أرض عرفات مكان معلم إلا
هذا الجبل الصغير، ولذلك لو ذهبت إلى هناك في غير أيام الحج
والدنيا مكشوفة فلن ترى إلا هذا الجبل، واختار صلى الله عليه وسلم
وقوفه هناك؛ ليكون في مكان معلوم معلم، ولذا لو أن إنساناً كان في
آخر طرف من عرفات، وأراد لقاءه صلى الله عليه وسلم وسأل: أين رسول
الله؟ وقلت له: هناك عند ذاك الجبل فسيهتدي إليه، ويتأتى أيضاً لكل
من قدم حاجاً أن يراه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حينما أراد الحج
قبل أن يخرج أرسل رسلاً إلى العرب على مياههم وقال لهم: (إني حاج
هذا العام، فمن أراد أن يحج معي فليوافني ) فتوافد الناس إليه
فمنهم من جاء إلى المدينة وذهب معه، ومنهم من لقيه في الطريق،
ومنهم من أتى إلى مكة، ومنهم من أتى إلى عرفات، والكل يريد أن(3/130)
يراه، أي: لتثبت له الصحبة؛ لأن الصحابي هو: من رآه ولو لحظة وهو
مؤمن به ومات على الإسلام، فكل هؤلاء الحجاج يريدون شرف رؤية رسول
الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: اختار مكاناً يسهل على الجميع أن
يصلوا إليه فيه، وكان في ذلك اليوم على ظهر راحلته؛ ليكون علماً
على علم، ولما قال: (خذوا عني مناسككم ) فلعل كل إنسان يقول:
نأخذ عنه مناسكنا، إذاً: نأتي إلى الموقف الذي وقف فيه ونقف فيه،
فبين لهم أن الغرض من الموقف هو الوقوف بأرض عرفات، ولذا نبه الناس
أن عرفة كلها موقف، وحيثما وقف الإنسان في أي مكان من أرض عرفات
أجزأه، ولهذا قالوا: لو أن إنسانا ًحضر إلى أرض عرفات في زمن
الموقف ولو ساعة زمنية ولو ربع ساعة وهو يعلم أنه في عرفات أجزأه،
كمن كان مريضاً وهو في حالة إسعاف في المستشفى -عافانا الله
وإياكم- فذُهب به إلى عرفات أو مُكث به في عرفات، ثم أعيد إلى
المستشفى فإنه يكون قد أدرك الموقف ويجزئه ذلك، وكذلك لو أن
إنساناً جاء متأخراً ولم يدرك أرض عرفات إلا قبل فجر يوم العيد
بساعة أو نصف ساعة فإذا وقف في أي جزء من أرض عرفات فإنه يكون قد
أدرك الموقف.
مزدلفة كلها موقف ولا يتعين الوقوف في المشعر الحرام
وكذلك قوله في المزدلفة: (وقفت هاهنا وجمع) وجمع هو: اسم للمزدلفة،
ومن المزدلفة المشعر الحرام، قال تعالى: فَاذْكُرُوا
اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]
فهل نقول: يجب على الناس كلهم أن يتكدسوا عند المشعر الحرام؟
الجواب: لا؛ لأنه لن يسع الناس، ولكنه صلى الله عليه وسلم اختار
الموقف الذي يكون أيضاً علماً، وقد بين للناس أنه لا يتحتم أن يكون
المكوث في المزدلفة عند المشعر الحرام، ولكن لك أن تذكر الله عنده
إذا نزلت عنده، وحيثما كنت فصليت وذكرت الله ونمت ثم أصبحت وذهبت
وقد وقفت في أي مكان من المزدلفة التي هي جمع فإنه يجزئك ذلك،
والله تعالى أعلم.
مداخل مكة التي دخل وخرج منها النبي صلى الله عليه وسلم(3/131)
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن عائشة رضي الله عنها (أن النبي
صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها، وخرج من
أسفلها ) متفق عليه ]. هذا من مستحبات السفر، أو من مستحبات
العمل، ودخوله من أعلاها وخروجه من أسفلها قال بعضهم: كان من أجل
النسك، وبعضهم قال: إن هذا صادف موقعها، وهو لم يتحر أعلاها للدخول
ولا أسفلها للخروج، وهنا دخل من أعلاها وخرج من أسفلها، ولهذا
يقولون، كَداء وكُداء، كَداء هو أعلاها، وكُداء هو أسفلها،
والفقهاء يقولون: افتح وادخل واضمم واخرج، والمراد حركة الكاف
فقولهم: افتح أي: حركة الفتحة (كَ)، واضمم أي: بحركة الضمة (كُ)
فتقول: كَداء بفتح الكاف وتدخل أي: من أعلاها، وتقول: كُداء بضم
الكاف وتخرج أي: من أسفلها. ومن أي مكان تيسر للإنسان دخول مكة
فالحمد لله، وهنا يقول الأدباء: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كرم
شعر الدعوة في دخول مكة والخروج منها، وقالوا: لما جاء صلى الله
عليه وسلم لفتح مكة أو للحج قالوا: من أين ندخل أو من أين تدخل يا
رسول الله؟! أي: لأن مكة لها مدخلان، والمدينة لها مدخل واحد وهو
وادي العقيق على سلطانة على سلع على ثنية الوداع -الباب الشامي-
وهذا كان مدخل المدينة الوحيد، وأما مكة فلها مدخلان: كَداء من
أعلاها، وكُداء من أسفلها، قالوا: من أين ندخل أو من أين تدخل؟
قال: (انظروا ماذا قال حسان ؟ ) أي: في قصيدته التي يرد
فيها على أبي سفيان حينما هجا رسول الله وفيها: أتهجوه ولست له
بكفء فشركما لخيركما الفداء وفي هذا تنويع، وقد جاء التنويع في نص
القرآن قال تعالى: وَإِنَّا
أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24].
إلى أن قال حسان رضي الله تعالى عنه: عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كَداء أي: الموعد بيننا وبينكم أن ندخل عليكم(3/132)
مكة من كَداء فقال صلى الله عليه وسلم: (انظروا ماذا قال حسان ؟ قالوا: حسان يقول: كَداء، قال: إذاً: من هناك) وهذا مما
يستشعر المسلم أنه فيه إكرام الشعراء الذين سخروا شعرهم للدعوة،
ولفعل الخير، ولذا قال تعالى: وَالشُّعَرَاءُ
يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ [الشعراء:224]
إلى أن قال: إِلاَّ
الَّذِينَ آمَنُوا ... [الشعراء:227]
فالشعراء المؤمنون الذين يعملون للدعوة استثناهم الله، وقد كان
للرسول شعراء وخطباء في الدعوة وكانوا يمثلون وزارة الإعلام -كما
يقال اليوم- لأن وزارة الإعلام في كل دولة هي الناطقة بلسانها،
وكان حسان رضي الله تعالى عنه شاعر رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هجاه أبو
سفيان فقال: (يا رسول الله! أرد عنك وأهجوهم، قال: كيف تهجو
قريشاً وأنا منها؟ قال: أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين )
فأخذ يهجوهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (اهجهم وروح القدس يؤيدك،
والله! إن وقع كلامك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام )
وهكذا كان العرب إذا هجوا يلحقهم العار بهذا الهجاء وتلصق فيهم
السبة على لسان الشاعر الذي هجاهم، ولذا كانوا يتحاشون إغضاب
الشعراء، وكان صلى الله عليه وسلم ينصب لحسان كرسياً في
المسجد ويدعوه إلى نصرة الإسلام بشعره. وذات مرة مر عليه عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته وهو ينشد شعراً، فنظر إليه مستنكراً،
فنظر إليه حسان وقال: (والله! لقد أنشدت فيه وفيه من هو خير
منك) يعني: أنشدت الشعر في المسجد والمسجد فيه من هو خير منك وهو
الرسول صلى الله عليه وسلم. فدخل صلى الله عليه وسلم من كَداء،
والحديث عن الشاعر الإسلامي حسان رضي الله عنه مدعاة لتكريم كل
من سخر آلة إعلام في خدمة الدين، سواءً بقلمه أو بلسانه .. نثراً
أو شعراً، أو بأي وسيلة من وسائل الإعلام، ما دامت تخدم الدين.
المبيت بذي طوى قبل دخول مكة(3/133)
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان
لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ويذكر ذلك عن النبي
صلى الله عليه وسلم. متفق عليه ]. هذه أيضاً صورة من صور كيفية
دخول مكة، كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا يأتي إلى مكة،
أي: من المدينة إلا بات بذي طوى، وذو طوى هو المعروف الآن عند
الناس بالزاهر، وهو من أبواب مكة، للقادم من جدة، وكانت كل هذه
معلومة للناس بتناقلهم إياها، ولا زالت حتى الآن يقال لها:
الأبواب، أو باب مكة، والمنزل الذي نزل به ابن عمر يرجع إلى
الشرق من جهة التنعيم، ما بين التنعيم وما بين باب مكة، وهو معروف
إلى الآن بالزاهر، وكان بستاناً كبيراً جداً، وقد أخذت عدة مرافق
من نفس هذا البستان، وهو على طريق المدينة المؤدي إلى مكة، فكان
ابن عمر إذا جاء مكة نزل وبات على أبواب مكة، واغتسل ثم دخل
مكة نهاراً، فسئل فأسند ذلك إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا يقول العلماء: من صفة دخول مكة للمحرم لعمرة كان أو لحج إذا
أتى من ذاك المكان فعليه أن يبيت ويغتسل، وإذا أصبح يدخل مكة، وهل
مبيت الرسول بذي طوى كان نسكاً أو أنه وصل ليلاً فأحب أن يبيت خارج
البلد، ويدخل نهاراً حتى يتيسر له ولمن معه إدراك المنازل ومعرفة
الطرق، أو أنه أيسر لهم في النهار دون الليل، كما قيل في مبيته عند
عودته من الحج، لما نزل بخيف بني كنانة بالأبطح، فقالوا: هل نزوله
بالأبطح بعدما أنهى الحج تماماً كان للنسك أو أنه كان تيسيراً على
الناس في حال خروجهم إلى المدينة؟ كل هذه الاحتمالات واردة.
مشروعية الغسل لدخول مكة
وأما الغسل فهو سنة لدخول مكة، فمن أي جهة دخل الإنسان مكة فإن
السنة في حقه أن يغتسل، ولكن إذا كان الإنسان مع غيره أو في ظروف
لا يستطيع أن يبيت بذي طوى لعدم وجود مكان يبيت فيه، أو لو أنه
أراد أن يوقف سيارته في الطريق فسيأخذها المرور، فلا حرج عليه في(3/134)
عدم المبيت، فإن كان لك أيها المحرم! منزل هناك، أو كان لك صديق
تنزل عنده، أو تيسر لك بوجه من الوجوه نقول: الحمد لله، وعليك أن
تطبق السنة، وإذا لم يتيسر لك فلا تكلف نفسك المشاق وتقول: هنا بات
رسول الله فلابد أن أبيت، فنقول: إنما بات حينما تيسر له المبيت،
وأما الآن فقد لا يتيسر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فلا عليك
أن تمضي وتجتاز إلى محل سكناك، فإذا نزلت في عمارة أو نزلت في شقة
أو نزلت في خيمة، أو نزلت في فندق، فاغتسل؛ لأن الغسل سنة، وإن لم
يتيسر الغسل عند الدخول فقبل الطواف، حتى تأتي إلى البيت وتكمل
الواجب عليك بطواف القدوم إن كنت مفرداً أو قارناً، وإن كنت
معتمراً فيكون عليك طواف العمرة وهو يجزئ عن طواف القدوم. وهكذا
كان ابن عمر رضي الله عنهما يبيت ويغتسل بذي طوى.
حكم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الجبلية
والمشهور أن ابن عمر قد انفرد بهذا عن مجموع الصحابة، فإنه كان
يتتبع خطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج شبراً بشبر، حتى
في الأمور الجبلية التي كان يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد
جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين عرفات والمزدلفة في
الشعب فبال، فكان ابن عمر إذا جاء إلى ذلك المكان ينزل ويبول،
فقالوا له: يا ابن عمر ! هذه ليست عبادة؛ لأن الرسول ما فعل
هذا ليتأسى الناس به، فإذا كان إنسان ليس به بول وليس هناك حاجة
داعية لأن يأتي ويبول بالقوة! فقال: الرسول فعل هذا، أي: أنا
أتبعه، فنقول: هذا شدة رغبة في اتباع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولكن كما يقول الأصوليون: أعماله صلى الله عليه وسلم الجبلية
ليست موضع تشريع، كما قال الناظم: وفعله المركوز في الجبلة كالأكل
والشرب فليس ملة الأكل والشرب جبلة في الإنسان وفي كل كائن حي،
فالنصراني يأكل، والدرزي يأكل، والحيوان يأكل؛ لأن مطلب الحياة أن
يأكل وإلا فسيموت. إذاً: الأكل والشرب جبلة، من غير لمح الوصف، فلا(3/135)
تقل: أنا آكل لأن الرسول كان يأكل، نقول: لا، أنت ستأكل غصباً عنك
اتباعاً للرسول أو لغيره، وأما الوصف في كيفية الأكل، وهل يكون
باليمين أو بالشمال؟ فنقول: الوصف هنا هو المراعى، فقد كان الرسول
صلى الله عليه وسلم يأكل بيمينه ويأمر بذلك بقوله للغلام: (يا
غلام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ) إذاً: الوصف في الأمر
الجبلي هو المطلوب، أما في الأمور من حيث هي فلا تقل: أنا أنام لأن
الرسول نام، وأتزوج لأن الرسول تزوج، فنقول: لا، أنت في حاجة إلى
النوم والزواج من غير هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ينام
وكان يأكل ويتزوج، وقد تزوج حتى قبل الرسالة. والله تعالى أعلم،
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين.
( كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [8] )
عناصر الموضوع
1 وقت رمي الجمرات
2 الترتيب في رمي الجمرات والتبكير والدعاء عندها
3 الحلق في النسك أفضل من التقصير
4 الترتيب في أعمال يوم النحر
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [9]
اشتهر عند كثير من العامة عند رمي الجمرات أنهم يرمون الشيطان، وأن
الشيطان يتأثر ويتضرر بهذا الرمي، حتى صاروا يرمون الجمرات بحصى كبيرة،
بل قد يرمي بعضهم بالأحذية، هذا بالإضافة إلى تسمية الكثيرين للجمرات
باسم الشيطان فيقولون: الشيطان الكبير والشيطان الصغير، وكل ذلك إما من
الجهل وإما من الغلو الذي حرمه الشرع، وإنما يكون الرمي بحصى كحصى
الخذف مع التكبير والدعاء، فيلزم التقيد بما أمر به الشرع فلا إفراط
ولا تفريط.
وقت رمي الجمرات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال المؤلف
رحمه الله: [ وعن جابر رضي الله عنه قال: (رمى رسول الله صلى
الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحىً، وأما بعد ذلك فإذا زالت
الشمس ) رواه مسلم ].
بداية وقت رمي الجمرات ونهايته(3/136)
يبين لنا جابر في هذا الحديث متى ترمى الجمرات، وذكر بأن جمرة
العقبة رماها صلى الله عليه وسلم ضحىً؛ لأنه حينما أفاض من
المزدلفة قبل طلوع الشمس، والمسافة من المزدلفة إلى منى حوالي ستة
أو سبعة كيلو مترات، فلما جاء من المزدلفة على الراحلة، كان في
الطريق زحام بين الرواحل فكان ينادي: (السكينة السكينة. ) ولما
وصل إلى منى أخذ في طريقه إلى العقبة، ومعلوم أن أول عمل للحاج في
منى هو رمي جمرة العقبة، وكما يقولون: تحية منى يوم العيد هي رمي
جمرة العقبة، فوصلها ضحىً فرماها، إذاً: رمي جمرة العقبة ضحىً،
والضحى هو: قبل الزوال، وأما بقية الجمرات في أيام التشريق: الأول
والثاني والثالث فترمى بعد الزوال، ووقت جمرة العقبة فيه خلاف كما
تقدم، فمنهم من يقول: يبدأ بعد منتصف الليل، ومنهم من يقول: يبدأ
بعد طلوع الفجر، ومنهم من يقول: يبدأ بعد طلوع الشمس على الخلاف
المذكور في وقت الإفاضة من مزدلفة لأهل الأعذار وغيرهم. لكن متى
ينتهي وقت الرمي؟ الجواب: لا حد لانتهائه، والوقت الأفضل الذي رمى
فيه رسول الله هو الضحى، فلو أن إنساناً تأخر في عرفات وفي مزدلفة،
ولم يصل إلى منى إلا بعد العصر، فأول ما يصل إلى منى عليه أن يرمي
جمرة العقبة، ولا نقول: إن وقت الرمي هو في الضحى، وإنما وقت الضحى
هو الأفضل، فإذا تأخر إلى الزوال أو إلى العصر، أو إلى ما بعد
العصر فلا مانع من أن يرمي، وإنما الخلاف في جواز رمي الجمرات
ليلاً، فلو تأخر إنسان ووصل إلى منى ليلاً فهل يرمي الجمرات أو لا
يرميها؟ الجواب: الأئمة الثلاثة يقولون: يجوز أن يرمي في الليل عن
اليوم الماضي. والإمام أحمد يقول: إن غربت الشمس فلا رمي،
وعليه أن يؤخرها إلى غد؛ لأن الأيام الثلاثة كلها أيام رمي، والرمي
فيها أداء لا قضاء، ولا فدية على من تأخر في رمي يوم إلى اليوم
الثاني، ولكن عليه الترتيب، كما جاء في حديث الرعاة الذين رخص لهم(3/137)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهبوا ليرعوا الإبل، ثم بين أن
عليهم أن يأتوا ليرموا عن اليوم الثاني أولاً، ثم عن اليوم الثالث.
وعلى هذا فالسنة في رمي جمرة العقبة أنه يبدأ من الضحى، ويبدأ قبل
ذلك لأهل الأعذار، وأما بقية الجمرات الثلاث في غير يوم العيد فإن
جمرة العقبة قد خرجت عن كونها عقبة، وصارت من الجمرات الثلاث في
أيام التشريق الثلاثة، ووقتها هو وقت بقية الجمرات حيث يبدأ من
الزوال، ولا نقول: قد رميناها بالأمس ضحىً ولابد أن نرميها اليوم
ضحىً؛ لأنه إذا خرج يوم العيد لم يعد هناك وقت للرمي إلا من
الزوال، إلا قول يذكر عن عطاء وعن غيره في جواز الرمي قبل
الزوال، وهذا يذكره بعض العلماء من باب التخفيف، ولكن يقولون: إنما
رمى صلى الله عليه وسلم من بعد الزوال. ويستمر الرمي من بعد الزوال
إلى قبيل غروب الشمس وهذا باتفاق، فإذا دخل الليل ولم يكن قد رمى
فيرمي في تلك الليلة عن اليوم الماضي، والإجماع على أنه لا يرمي
ليلاً عن اليوم الآتي، ولكن يرمي ليلاً عما سبق أن فاته في نهار
تلك الليلة، إلا ما جاء عن أحمد رحمه الله فإنه قال: إذا دخل
الليل فلا رمي في الليل. والجمهور يقولون: الليل يستدرك فيه ما فات
في النهار، وعلى هذا يبدأ الرمي في أيام التشريق الثلاثة بعد
الزوال، الأولى فالوسطى فالكبرى، والآن نقول: الكبرى، ولا نقول:
العقبة؛ لأن العقبة تكون في يوم العيد. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الترتيب في رمي الجمرات والتبكير والدعاء عندها
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان
يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على أثر كل حصاة، ثم يتقدم،
ثم يسهل، فيقوم فيستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً،
ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، ويقوم فيستقبل القبلة،
ثم يدعو فيرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن(3/138)
الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يفعله ) رواه البخاري ]. يبين لنا عبد الله
بن عمر رضي الله تعالى عنهما في هذا الحديث كيف كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرات، فيذكر لنا أنه كان يرميها على
الترتيب، فيبدأ برمي الجمرة الدنيا، والدنيا تقابل القصوى، والدنيا
والقصوى أمر نسبي، فالمتوجه من منى تكون الجمرة الدنيا بالنسبة
إليه هي الأولى التي يقال لها: الصغرى، فيرمي الجمرة الدنيا بسبع
حصيات.
حكم رمي الجمرات بغير الحصى
وهنا نص على الحصى، ولذا يتفق العلماء على أن الجمار لا ترمى إلا
بالحصى، ولا يجوز الرمي بأي نوع آخر من أنواع الجمادات، فلو رمى
الحاج بسبعة دنانير ذهب بدل السبع الحصيات ما أجزأ ذلك عنه، وكذلك
لو رمى بسبع حبات فاكهة: تفاح أو رمان أو برتقال ما أجزأ ذلك عنه،
ولو رمى بحجر مطبوخ الذي هو الفخار ما أجزأ، أو بقطع من الصبة
(الخرسانة) ما أجزأ، أو بطوب من الطين وهو قاس يابس جامد ما أجزأ،
ولا يجزئ الرمي إلا بالحصى. ثم يزيد بعض الفقهاء على ذلك ويقول:
بشرط أن تكون على طبيعتها، فلا يأتي بحجر كبير ويكسره ليأخذ منه
أجزاء بمثابة الحصى، والحصى معروف وهو: حبات من الرمل كبيرة مستقلة
بذاتها مستديرة أو مستطيلة أو مضلعة كل ذلك حكمه سواء.
كيفية رمي الجمرات
إذاً: رمى بسبع حصيات، والرمي لابد فيه من رفع اليد، ومن حركة
الرمي والدفع، ولذا يقولون: لو أخذ الحاج الحصاة وهو عند الحوض
ووضعها فيه كما يضع الكأس على الطاولة فإنه لا يجزئ، بل لابد من
حركة الرمي، وأن تطير الحصاة في الهواء من يد الرامي إلى أن تسقط
في الحوض. والعبرة بالرمي إنما هو إلى دائرة الحوض (المرمى) وليس
المقصود أن تصيب البنيان الذي في وسط الحوض الذي يسمى (الشاخص)؛
لأن هذا الشاخص ما بني إلا مؤخراً، وكذلك الحوض ما بني إلا بعد
ثمانمائة سنة من الهجرة، بناه أهل مكة باجتهادهم، وإنما كانوا(3/139)
يقيسون موضع الرمي بثلاثة أذرع، أو بخمسة أذرع على حسب كثرة الرمي،
ثم بني هذا الحوض ليحفظ الحصى، وليحدد موضع الرمي، ولذا تجدون في
كتب الفقه في أحكام المناسك أنهم يقولون: من رمى وتدحرجت الحصاة
إلى أقصى الكوم فإنها لا تجزئ، ولكن إن استقرت في وسط المرمى الذي
هو خمسة أذرع من كل جهة أجزأت، يعني: أن دائرة قطر الحوض عشرة
أذرع؛ لأن مسافة الوتر من الدائرة أو من المحيط إلى المركز خمسة
أذرع، ثم بني هذا الشاخص في الوسط ليكون علامة على موضع الرمي،
وليتلقى الحصى من الجهات الأربع حتى لا تتعدى إلى المقابل فتؤذي،
فإذا رميت أيها الحاج! وصادفت الشاخص المبني القائم وسط الحوض
وارتدت الحصاة من الشاخص إلى الحوض أجزأت، أما إذا كانت الرمية
التي رميت بها الشاخص قوية فارتدت بقوة وسقطت خارج الحوض فلا تجزئ
ولا يعتد بها؛ لأن الغرض ليس هو الشاخص المبني القائم، ولكن الغرض
أن تستقر الحصاة في داخل المرمى. وقالو: لو أنك رميت الحصاة فصادفت
عنق بعير مقابل فتدحرجت ونزلت في المرمى أجزأت، ولو رميتها على
هودج مقابل وتدحرجت ونزلت في المرمى أجزأت، وعلى هذا فإنك إذا كنت
في الدور الثاني وأردت أن ترمي فإنك ترمي في حوض صغير أسطواني،
وتتدحرج الحصاة من المرمى حتى تنزل من الفتحة إلى المرمى الأصلي في
الأسفل وهكذا. وقالوا: في حكم الصغير الذي يحج به وليه ويريد أن
يرمي عنه، إن كان يحسن أن يلعب ويأخذ الحصى ويرمي فعل الرمي بنفسه،
وإن لم يكن يحسن فإنه يضع الحصاة في كفه، ثم يأخذها هو -أي: الولي-
من كف الصبي ويرمي بها نيابة عنه. إذاً: في قوله: (يرمي الجمرة
الدنيا بسبع حصيات، يكبر على أثر كل حصاة) فيه الترتيب، وطريقة
الرمي، والتكبير عقب كل حصاة، وأن يكون الرمي بالحصى لا بغيره.
الذكر الذي يقال عند رمي الجمرات
قوله: (يكبر عقب كل حصاة)، قد تقدمت الإشارة إلى هذا، فمن العلماء
من يرى أنه يقول: (باسم الله، الله أكبر؛ إرغاماً للشيطان وإرضاءً(3/140)
للرحمان)، (إرغاماً للشيطان) لأنه كان بالأمس بعرفات، وما رؤي
الشيطان أحقر ولا أذل ولا أصغر منه من يوم عرفة؛ لكثرة ما يرى من
تنزل الرحمات، وكما يقال: يحثوا على رأسه التراب ويقول: يا ويلتا!
لأنه قد اجتهد في إضلال الناس، فمنهم من بلغ عمره عشرين.. ثلاثين..
خمسين.. ستين.. سبعين.. ثمانين سنةً، وهو يجلب عليه بخيله ورجله،
ويحتنكه ويقوده، ويفعل ما شاء فيه، فإذا كان يوم عرفات تنزل الله
سبحانه وتعالى وتجلى لأهل الموقف وقال لهم: (أفيضوا مغفوراً لكم )،
إذاً: كل تعبه مع هذا الإنسان الذي بلغ عمره ثمانين أو تسعين سنةً
ذهب وانتهى في عصرية، أو في عشية، إذاً: سيكون في تلك الحالة أشد
ما يكون أسفاً على ما كان من عمله سابقاً، وحينما يأتي الحاج إلى
رمي الجمار يقول: (إرغاماً للشيطان)، أي: على ما أصابه في يوم عرفة
يكون الرمي، زيادة في إذلاله واحتقاره وإصغاره. (وإرضاءً للرحمان)
لأن الإنسان ما خرج من بلده وترك أهله وولده وماله وتحمل مشاق الحل
والترحال إلا ابتغاء وجه الله، كما جاء في حديث المباهاة: (إذا
كانت عشية يوم عرفة ينزل ربنا إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الموقف
ملائكة السماء، يقول: يا ملائكتي! هؤلاء عبادي جاءوا شعثاً غبراً
ماذا يريدون؟ فتقول الملائكة: يا رب! أنت أعلم بما جاءوا إليه،
جاءوا يرجون رحمتك ويخشون عذابك )، إذاً: يقول: (إرضاءً
للرحمان)؛ لأنه جاء يرجو رحمة الله، فمن هنا حينما يتخلص الحاج من
تلك الأثقال التي حملها عليه الشيطان، فإنه يطلق من قيوده، ويفك من
احتناكه، ويصبح طليقاً قوياً سوياً، فيأتي إلى الشيطان وكأنه يقول
له: هاه! قد جلبت علي تلك السنوات كلها وأنا عاجز أمامك، وأما الآن
فقد تقويت؛ لأن ما أثقلتني به قد ذهب عني، وما كبلتني به من القيود
قد انطلقت منها، وهأنذا أبدؤك بالحرب، (باسم الله، الله أكبر،
إرغاماً للشيطان وإرضاءً للرحمان). إذاً: رمي الجمار ليس الغرض منه(3/141)
ضرب الشيطان، كما يظن بعض الجهال أنه يضرب الشيطان أمامه، فالشيطان
لن يقعد له حتى يرميه! ولا حتى يضربه! ولذا ترى أحدهم يأتي بحجارة
أو يأتي بنعل أو يأتي بمظلة ويرمي بها، ولا يدري أن الشيطان يضحك
عليه بهذا العمل، إنما الرمي هو كما قال صلى الله عليه وسلم:
(بحصاة كحصى الخذف ) فيرمي على هذه الوجهة، وبهذا المقصد، وهو
يستشعر رحمة الله وفضله عليه، ونعمته عليه بهذا الموقف.
مشروعية الإكثار من الدعاء عقب رمي الجمرات
قوله: (ثم يسهل) لأن المكان هناك في حافة الوادي إلى جهة الميمنة
عال، وإلى جهة الميسرة مجرى الوادي، فيسهل ثم يتقدم، أي: بعيداً عن
الزحام وعن حلقة الرمي (ويستقبل القبلة، ويدعو طويلاً) يقول بعض
العلماء ومنهم شارح الكتاب: جاء عن ابن عمر أنه حدد المدة بين
رمي الجمرتين بمقدار ما تُقرأ سورة البقرة؛ لأنه يكثر من الدعاء في
هذا المقام.
مشروعية رفع اليدين في الدعاء بعد رمي الجمرات
قوله: (ويرفع يديه) وقضية رفع اليدين في الدعاء في الآونة الأخيرة
أثارت المشاكل بين العامة وطلاب العلم، ونرى بعض الناس يعيبون على
من يرفع يديه في الدعاء، ويقولون: رفع اليدين في الدعاء ما جاء إلا
في مواضع مستقلة، كالاستسقاء وعند رؤية البيت، وفي عرفات وما عدا
ذلك لا ترفع فيه اليدان، وبهذه المناسبة فإن النووي رحمه الله
ذكر بعض مواطن رفع اليدين في الدعاء، ثم قال: (ثبت عنه صلى الله
عليه وسلم أنه رفع يديه في الدعاء في أكثر من ثلاثين موضعاً، ومن
ظن أن رفع اليدين قاصر على هذه الثلاثين فهو أجهل من كذا). إذاً:
القاعدة العامة هي رفع اليدين في الدعاء، وقد استدل بعض العلماء
على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليستحي من عبده أن يمد
إليه يديه فيردهما صفراً ) يستحي الله من العبد أن يمد يديه
إليه يسأله حاجته أن يردهما صفراً أي: بدون شيء، وإنما يضع له
شيئاً فيها، وهذا عام في كل دعاء، وجاء في الحديث الآخر: (وذكر(3/142)
الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام
ومشربه حرام، فأنى يستجاب له ) فما ذكر صلى الله عليه وسلم
نوعاً من الدعاء، وإنما قال: (الرجل يطيل السفر) أي: أن الدعاء
يكون على أي حالة من الحالات. إذاً: القاعدة والأصل في الدعاء أن
يرفع الإنسان يديه إلى الله سبحانه وتعالى، وهنا في هذا الموضع نص
على أنه يرفع يديه في الدعاء عقب رمي الجمرة الأولى والوسطى، وأما
جمرة ذات العقبة فليس فيها دعاء ولا وقوف، وعلى هذا لا يكون فيها
رفع، إذاً: نستصحب الأصل في التشريع وهو أن كل دعاء يجوز رفع
اليدين فيه، وأما الذين يحددون الرفع بشيء معين فإنهم يحتاجون إلى
نص على إثبات ذلك، وإلى نص بالنفي لما سواها، والنووي يقول:
(رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في ثلاثين موضعاً، ومن ظن أن
رفع اليدين قاصر على هذه الثلاثين فهو أجهل من كذا). إذاً: ننصح
أنفسنا أولاً، والإخوة الذين يقولون: نتحرى الوارد في السنة أن لا
يشددوا على أنفسهم، ولا يشددوا على الناس، ولا يمنعوا الجائز؛ لأن
رفع اليدين في الدعاء هو الأصل. قوله: (ثم يأتي إلى الوسطى كذلك
فيرميها بسبع حصيات يكبر عقب كل حصاة، ثم يسهل، ثم يستقبل القبلة،
ثم يدعو طويلاً ويرفع يديه، ثم يأتي إلى ذات العقبة) ذات بمعنى
صاحبة، وجمرة العقبة مضاف ومضاف إليه، والإضافة تقتضي التمليك أو
التخصيص، والتمليك يكون فيمن يصح تمليكه، كما تقول: كتاب زيد،
والتخصيص يكون فيما لا يصح تمليكه، كما تقول: باب الدار، فالباب
مختص بالدار، وجمرة العقبة أي: ذات العقبة، فإن الحاج يرميها من
بطن الوادي ويذهب ولا يقف عندها. ولماذا لا يقف ولا يدعو؟ الجواب:
أشرنا فيما تقدم إلى أن المكان عندها كان ضيقاً، وأنها كانت ترمى
من جهة واحدة، وأن العقبة كانت تمنع الرمي من بقية الجهات. ثم قال
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (هكذا رأيت رسول الله صلى الله(3/143)
عليه وسلم يفعل) ومع كونه يقول: رأيته يفعل، نضيف إليها قوله صلى
الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم ) وبالله تعالى التوفيق.
مسألة في مشروعية رفع اليدين عند الدعاء على الإطلاق
ورفع اليدين كثر الكلام فيه، وحصل فيه النقاش والإساءة في المفاهمة
بين الإخوان، وقد سمعت أن بعض الإخوان المنتسبين إلى طلبة العلم
يقول: بعض الناس عند الدعاء يخشع ويبكي، وإذا سمع القرآن لا يتأثر،
فنقول: هذا ليس بصحيح، بل القرآن أشد تأثيراً، كما قال تعالى: اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ
تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23]،
لكن يا إخوان! لما قام الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر في
العريش، هل قام يقرأ: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ... [البقرة:1-2]،
وهل قام يقرأ: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2]..
هل قام يقرأ كتاب الله أو قام يلتجئ ويتضرع إلى الله بالدعاء
ويقول: (اللهم! أنجز لي ما وعدت، اللهم! إن تهلك هذه العصابة فلن
تعبد في الأرض بعد )؟ الجواب: كان اجتهاده في الدعاء، وكان
رافعاً يديه مبالغاً في رفعهما، حتى إن رداءه كان يسقط من على
كتفيه، فيقوم أبو بكر ويرد عليه الرداء ويقول: حنانيك يا رسول
الله! بعض ذلك يكفي، إن الله منجز لك ما وعد، فاستكثر أبو بكر هذا، وأشفق على الرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً: كل موطن له
حالته، ولكل مقام مقال، ونحن حينما نقرأ القرآن الكريم إذا جئنا
إلى قصة موسى عليه السلام مع فرعون ووو.... فما هو الذي سيخشِّع
ويبكِّي..؟! فهو سرد تاريخي لقصة رسول مع عدوه، وأمثال هذا، لكن
حينما تأتي الآيات التي فيها رقائق، والتي فيها وعد ووعيد، فهذا هو
الذي يحرك الشعور ويحرك العاطفة، وربما تذرف منه العين، فقد جاء أن
ابن مسعود قرأ على النبي من سورة النساء حتى بلغ: فَكَيْفَ(3/144)
إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى
هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41]،
فقال له: أمسك، وذرفت عيناه؛ لأنه تذكر ذلك الموقف، وتذكر تلك
الحالة، التي قال الله عنها: يَوْمَ
يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس:34-35]
وقال سبحانه: وَتَرَى
النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى [الحج:2]،
إذاً: البكاء يكون في مواطن، وليس في كل حالة. والدعاء عبادة، كما
قال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء مخ العبادة ) وقال: (الدعاء هو
العبادة ) قال تعالى: وَقَالَ
رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [غافر:60]
فقال: (عن عبادتي) ولم يقل: عن دعائي، مع أن المذكور في أول الآية
هو الدعاء، ولكن الله سبحانه وتعالى في هذا الأسلوب وضع العبادة
موضع الدعاء ليبين أن العبادة والدعاء متساويان. ومثل هذا قوله
سبحانه: وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً
وَمَنْ كَفَرَ [آل
عمران:97] ولم يقل: (ومن لم يحج) وإنما قال: (ومن كفر) إذاً: من لم
يحج وهو مستطيع تساوي: من كفر. وعلى هذا يا إخوان! فإن الواجب على
الإنسان أن يكون في حالة دعائه إلى ربه حاضر القلب، خاشعاً،
متذللاً، ضارعاً إلى الله كما فعل صلى الله عليه وسلم عند الملتزم،
فنظر إليه عمر فإذا به يبكي، فقال: (أتبكي يا رسول الله؟! قال:
نعم يا عمر ! هاهنا تسكب العبرات ) وهل كل مكان مثل الملتزم
الذي عند باب الكعبة؟ الجواب: لا، ليس كل مكان مثله. إذاً: الدعاء
له أوقاته،ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أقرب
ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء ) ولهذا
يحرم عليك أن تقرأ القرآن وأنت ساجد، وإنما تدعو وتجتهد في الدعاء.
والله تعالى أعلم.
الحلق في النسك أفضل من التقصير
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله(3/145)
عليه وسلم قال: (اللهم! ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول
الله! قال في الثالثة: والمقصرين ) متفق عليه ]. فهذا الدعاء من
النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة للمحلقين، والمحلقون هم: الذين
حلقوا شعور رءوسهم عند التحلل، والمقصرون هم: الذين قصروا بالمقص
أو بالمكينة التي حدثت الآن، ولم يحلقوا بالموسى، والله سبحانه
وتعالى ذكر الأمرين فقال: لَقَدْ
صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ
رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27]
فنص على الأمرين، إذاً: كلا الأمرين مجزئ، ولكن تقديم الحلق في
قوله تعالى: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) يدل على أن
الأفضل هو الحلق، وهنا كون المسألة فيها أفضلية يدل على أنها
متقاربة، ودل على الأفضلية أنه صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين
مرتين، وهم يسألونه: يا رسول الله! والمقصرين، يعني: وادع
للمقصرين، وهو يعرض عنهم ويقول: اللهم! ارحم المحلقين، وفي الثالثة
قال: والمقصرين. ومتى كان هذا الدعاء؟ الجواب: يختلف العلماء في
وقته، فمنهم من يقول: كان في صلح الحديبية، ومنهم من يقول: كان في
حجة الوداع، والنووي وغيره يرجح أنه كان في حجة الوداع، ولكن
الذي يظهر أنه كان في عمرة الحديبية، وذلك أنهم سألوا: ما بال
المحلقين يا رسول الله؟! -يعني: دعوت لهم ثلاث مرات أو مرتين- قال:
(لم يشكوا في أي شيء ) أي: عند أن أمرهم بالتحلل في عمرة
الحديبية، فإنه لما منع المشركون المسلمين من أن يأتوا إلى البيت،
وأن يطوفوا ويسعوا ويكملوا العمرة على وجهها، تم الصلح معهم وكتبت
الصحيفة، وكان في الصلح خير كثير جداً، وقد سمى الله عمرة الحديبية
فتحاً، وأنزل فيها سورة الفتح، فقال عمر : (أفتح هي يا رسول
الله؟! قال: نعم، هي فتح ) وقال صلى الله عليه وسلم فيها:(3/146)
(والله! ما يطلبون مني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم
إليها ) أي: مطلقاً، فانتزع الله -بفضله- من المشركين اعترافاً
بالكيان الإسلامي، بينما الرسول سبق له وأن خرج من مكة مختفياً في
الغار ليلاً، لكن وبعد ست سنوات يأتي إلى مكة بجيش، ويأتي معتمراً
ويدخل عليهم عنوة، فجلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على مائدة
المفاوضات، وهذه الجلسة على المفاوضة، وتوقيع المسلمين وتوقيع سهيل
بن عمرو على الصحيفة يساوي اعترافاً من المشركين بالكيان
الإسلامي الذي فاوضوه، يعني: أنهم اعترفوا بالأمة الإسلامية، وهذا
يعد فتحاً عظيماً. لما تم ذلك الصلح قال صلى الله عليه وسلم
لأصحابه: تحللوا، وانحروا الهدي، واحلقوا شعوركم: أي: أن العمرة قد
انتهت، ولكن بعضهم قال: كيف انتهت ونحن لم نر الكعبة؟!! وكيف انتهت
ونحن ما طفنا ولا سعينا؟!! لأن لهم مقاييس وللرسول صلى الله عليه
وسلم مقاييس أخرى، فتوانوا عن التحلل، فغضب صلى الله عليه وسلم،
ودخل على زوجه أم سلمة ، فقالت:ما لي أراك غاضباً، أغضب الله
من أغضبك؟ قال: وما لي لا أغضب وأنا آمر الأمر فلا يؤتمر به، قالت:
وما ذاك؟ قال: تصالحنا مع القوم، وانتهت العمرة، وأمرتهم أن ينحروا
ويتحللوا فلم يتحلل أحد قالت -انظر الحكمة والروية والعقل-: أتحب
أن يفعلوا ذلك؟ قال: نعم، قالت: لا عليك، خذ المدية، واخرج على
الناس ولا تكلمن أحداً، واعمد إلى هديك فانحره، ثم ادع الحلاق
واحلق شعرك، ثم الزم خيمتك، فإذا به صلى الله عليه وسلم قد وجد
حلاً عملياً يقطع على أولئك المتوانين مطامع الرجاء في حل آخر؛
لأنه إذا كان الرسول قد نحر وحلق، فما هو الذي بأيديهم بعد هذا،
فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر هديه بادروا إلى
نحر هديهم، ودعوا الحلاق وكادوا يقتتلون على الحلاقة، وانتهت
القضية، وفي هذا الظرف منهم من حلق، ومنهم من قصر، والذي حلق والذي(3/147)
قصر كلاهما امتثل، وكلاهما تحلل، ولكن الذي حلق شعره كان حلقه على
يقين بالأمر (مائة في المائة)، وأما الذي قصر فكأنه تحلل وهو يقدم
رجلاً ويؤخر أخرى، وليس هو على الثقة وعلى اليقين الذي عليه الذي
حلق شعره؛ لأن الذي حلق شعره متيقن وليس عنده شك. إذاً: الأولى
ترجيح أن ذلك الدعاء كان في عمرة الحديبية.
حلق النبي صلى الله عليه وسلم شعره في حجة الوداع وبعض ما يتعلق بذلك
والرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لما نحر بعض الهدي وأناب
علياً في نحر الباقي، ودعا الحلاق ناوله أولاً الشق الأيمن
فحلقه، ثم قال: خذ هذا الشعر وقسمه على الناس -على الحاضرين- ثم
ناوله الشق الأيسر فحلقه، فقال: خذه أنت، وهنا بعض الناس قد يفكر
ويسأل: لماذا يقسم الشعر عليهم؟ الجواب: لأن هناك مصلحتين: المصلحة
الأولى: إكرام شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقى على
الأرض؛ لأنه إذا ما حصل إنسان على شعرات منه فإنه سيطويها ويحتفظ
بها في أعز مكان عنده، وقد كان السلف رضوان الله عليهم من حصل على
شيء من شعرات رسول الله يحتفظ بها، فخالد بن الوليد كان في
قلنسوته التي يضعها على رأسه شعرات من شعر رسول الله، وأم سلمة كان عندها شعرات وضعتها في جلجل فضة، وكانت إذا جاء المحموم إليها
ماصتها في الماء وسقته إياه فيعافيه الله، هذه مصلحة أولى وهي
إكرام شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهان ويلقى على الأرض.
المصلحة الثانية: التبرك، فقد كانوا يتبركون ببصاقه ومخاطه صلى
الله عليه وسلم كما جاء في صلح الحديبية حينما قال عروة بن مسعود
الثقفي : (والله! لقد دخلت على كسرى في ملكه وقيصر في ملكه،
فما رأيت قوماً يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمد لمحمد، والله! ما
تفل تفالة ولا تنخم نخامة إلا سقطت في كف أحدهم يدلك بها وجهه، ولا
توضأ وضوءاً إلا اقتتلوا على مائه ليتمسحوا به) وأم أيمن لما
شربت بوله صلى الله عليه وسلم، قال لها: (لا توجعك بطنك أبداً )،(3/148)
وابن الزبير لما قال له صلى الله عليه وسلم: (خذ هذا -أي: دم
الحجامة- وغيبه عن الناس في مكان لا يراه أحد، فذهب بعيداً وشربه،
ولما رجع قال له: ماذا فعلت؟ قال: شربته، قال: ويل للناس منك، وويل
لك من الناس ) أي: لأثر دم رسول الله الذي في جوفه. وكانوا
يأتون بالأطفال إليه ليحنكهم تلمساً لبركة يده صلى الله عليه وسلم،
وأبو قتادة لما خرجت عينه في أحد ردها ومسح عليها بكفه فكانت
أحسن عينيه، وأشياء كثيرة في هذا الموضع عملها أصحابها التماساً
لبركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول: علم الله أننا لو
أدركنا التراب الذي وطئه لاكتحلنا به في أعيننا، ولكن هل يتعدى هذا
إلى غيره؟ الجواب: نقول: لا، بل هذا خاص برسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ لأننا لم نجد أصحابه فعلوا ذلك مع غيره، إذاً: هذه الأشياء
قاصرة عليه؛ لأنه هو الذي اختص بمثل هذه الأمور. وبهذا يتبين أن
قوله: (اللهم ارحم المحلقين ) أي: الدعاء للمحلقين كان في صلح
الحديبية.
القدر الذي يقصر من الشعر في النسك
وهنا يأتي بحث فقهي: الرسول صلى الله عليه وسلم حلق شعره كله، وبدأ
بالشق الأيمن ثم الشق الأيسر، وبإجماع المسلمين أن هذه الصفة هي
أكمل الصفات، لكن لو أن إنساناً لم يحلق شعره كله، وأراد أن يقصر
فكم يحلق من حجم رأسه، وكم يقصر من طول شعره؟ الجواب: أحمد ومالك يقولان: الواجب تقصير كامل الشعر، فإن حلق فليحلق
الجميع، وإن قصر فليقصر الجميع، وأما أبو حنيفة رحمه الله
فيقول: يجزئ ربع الرأس حلقاً أو تقصيراً، وهذه المسألة هي مثل
المسألة التي تبحث في مسح الرأس عند قوله تعالى: وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]
فكم يمسح من الرأس في الوضوء؟ فيها خلاف، وهذه المسألة مثلها،
والشافعية يقولون: كل ما صدق عليه حلق أو تقصير ولو ثلاث شعرات
فإنه يجزئ، والنووي رحمه الله يقول: وقد أفرط بعض منا -أي: من
الشافعية- فقال: ولو قصر بعض شعرة لأجزأه، ثم قال: وكيف يأخذ بعض(3/149)
الشعرة، فإنه إذا أخذ من شعره بالمقص فسيأخذ كثيراً، فكيف يتمكن من
قص شعرة دون غيرها؟ قالوا: إذا غطى الإنسان رأسه بالحناء، فطلعت
شعرة من تحت الحناء وبرزت من فوق فجاء بالمقص وأخذ هذا الجزء
البارز من الشعرة من فوق الحناء، فإنه يكون قد أخذ بعضها، قال:
وهذا إفراط، أي: أنه لا ينبغي مثل هذا في النسك. وعلى هذا نجد في
المسألة عدة أقوال: فمنهم من قال: يحلق أو يقصر كل الرأس، ومنهم من
قال: ربع الرأس، ومنهم من قال: ولو ثلاث شعرات، هذه أقوال الأئمة
رحمهم الله، ولا نملك أن نقول شيئاً في ذلك إلا أن السنة هي حلق أو
تقصير جميع الرأس. ثم إذا جئنا إلى حديث بيان فضل الحج: (جئنا
نسألك، قال: إن شئتما أخبرتكما... إلخ، وعن حلقك شعر رأسك فلك بكل
شعرة حسنة ووضع سيئة ورفع درجة ) إذاً: كتابة حسنة وإسقاط سيئة
ورفع درجة كل هذا بشعرة واحدة، ثم بعد هذا نذهب ونأخذ شعرة، أو
نأخذ ثلاث شعرات، أو نأخذ ربع الرأس! هذا فيه تفريط، بل لو استطعنا
أن نأتي برأس آخر جنب الرأس الأصلي حتى نحلق شعراً أكثر لفعلنا،
حتى يزداد الأجر.
كيفية حلق رأس الأصلع في النسك
وأما الأصلع فيقولون: الأصلع يمر الموسى على رأسه، وإذا وجد شعر
أزاله. وهنا مسألة عند العلماء: إذا كان المحرم متمتعاً وعنده
تحللان: تحلل للعمرة، وتحلل للحج، فهل الأفضل في حقه في تحلل
العمرة أن يحلق أو أن يقصر؟ الجواب: بعض الناس إذا كان متمتعاً
يحلق البعض ويترك الباقي إلى الحج، وهذا لا يجوز؛ لأن هذا يسمى
قزعة الشيطان؛ لأن الإنسان حتى في الأيام العادية إما أن يحلق شعر
رأسه كله أو يتركه كله، وأما أن يحلق بعضاً ويترك البعض فهذا يسمى
(قزعة الشيطان). ويقول بعض العلماء في هذه المسألة: إن كان هناك
وقت بين تحلل العمرة وتحلل الحج ينبت فيه الشعر بحيث يستطيع أن
يحلقه في الحج فله أن يحلق في العمرة؛ لأنه يمكن أن يوجد الحلق في(3/150)
النسكين، وإذا كان الوقت قريباً، فإذا حلق في العمرة لا يجد ما
يحلقه في الحج فيكتفي في العمرة بالتقصير، وإذا كان سيقصر من الشعر
فكم يقصر؟ الجواب: يقولون: لا يقل عن قدر أنملة، فإذا كان إنسان
عنده شعر طويل -خمسة سم مثلاً- فعليه أن يأخذ منه اثنين سم، ويشمل
جميع جوانب الرأس بالقص، كما تقدم. وأما المرأة فقد جاءت النصوص
بأنه لا حلق عليها، وإنما عليها التقصير، وكيف تقصر؟ قالوا: تجمع
شعر رأسها في كفها إلى أن يبقى قدر أنملتين أو أنملة وتقص من
أطرافه، وعليها أن تعمم بالتقصير جميع الشعر، وبعضهم يتندر ويقول:
إذا حلقت المرأة فهل يجزئها ذلك؟ الجواب: نقول: هذه مثلة، والمرأة
لا تحلق شعرها، وما كن يحلقن إلا في المصائب، عياذاً بالله! إذاً:
المرأة تقصر ولا تحلق.
الترتيب في أعمال يوم النحر
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن عبد الله بن عمر بن العاص رضي
الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع،
فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح
ولا حرج، وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا
حرج، فما سئل يومئذٍ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج )
متفق عليه ]. هذا الحديث من أجمع أحاديث الحج، وأيسرها على الحجاج،
وفيه أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم العيد فأخذوا يسألونه، هذا
يقول: يا رسول الله! ما شعرت، يعني: نسياناً وسهواً لا عمداً، حلقت
قبل أن أنحر، قال: انحر ولا حرج، والترتيب الطبيعي لأعمال هذا
اليوم هي كالآتي: أولها: رمي جمرة العقبة، وثانيها: نحر الهدي،
وثالثها: حلق الرأس، ورابعها: طواف الإفاضة. أما رمي جمرة العقبة
فإنها تحية منى، وهذا باتفاق، وأما النحر قبل الحلق فلقوله سبحانه: وَلا
تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]
ثم بعد الحلق النزول لطواف الإفاضة، هذا هو الترتيب الطبيعي، فإذا(3/151)
سها إنسان أو جهل وغيّر في هذا الترتيب فلا شيء عليه؛ لأن هذا
السائل قال: ما شعرت حلقت قبل أن أنحر -مع أن النحر كان أول- فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم: افعل ولا حرج، أي: ما دام أن هذا
الشيء قد وقع، ونلاحظ أن الأسئلة هنا هي عن أمور قد وقعت بالفعل،
وفرق بين كون الشيء وقع فعلاً وبين كونه سيقع، ولم يوجد أحد قال:
أنا أريد أن أحلق قبل أن أنحر، وإنما كل من سأل كان يسأل أسئلة
عملية واقعية، وما دام أن الأمر قد وقع فهل نرفع الواقع؟ الجواب:
لا نرفعه، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن أجاز هذا العمل؛
التماساً لقوله: لم أشعر أي: أنا ناسٍ أو جاهل، فماذا أفعل؟ قال:
(افعل ولا حرج)، إذاً: أجاز المغايرة بين الرمي والحلق فقال: (افعل
ولا حرج)، وكذلك قال آخر: نحرت قبل أن أرمي، فقال له: (ارم ولا
حرج)، ثم يأتي الراوي بقضية وقاعدة عامة فقال: فما سئل عن شيء ذلك
اليوم قدم أو أخر إلا قال: (افعل ولا حرج)، وما هو الذي سيقدم أو
يؤخر في ذلك اليوم؟ هو ما ذكرنا: الرمي والنحر والحلق والإفاضة،
أيها قدم سهواً أو جهلاً أو نسياناً، فلا حرج في ذلك ولا شيء على
من قدم أو أخر. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
( كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [10] )
عناصر الموضوع
1 فضل الصلاة في المساجد الثلاثة
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [11]
المساجد هي بيوت الله عز وجل، ولكنها ليست في المرتبة والفضيلة سواء،
فهي تتفاوت من حيث مكانها، ونوعها، ومن قام ببنائها، ولهذا فضل الله عز
وجل المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى؛ لأنها في أماكن
مقدسة، ولأن من بناها هم أنبياء، ولهذا أجاز الشرع شد الرحال إليها،
لفضيلتها ومضاعفة الأجر فيها.
فضل الصلاة في المساجد الثلاثة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام(3/152)
على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قال المؤلف
رحمه الله: [ وعن ابن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة
فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة
في مسجدي هذا بمائة صلاة ) رواه أحمد وصححه ابن حبان ].
مناسبة ذكر حديث شد الرحال إلى المساجد الثلاثة في باب صفة الحج ودخول
مكة
قدم المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب صفة حج النبي صلى الله
عليه وسلم من أول خروجه من المدينة إلى أن أنهى الحج، ونزل إلى
المحصب، وقد ذكرنا أقوال العلماء فيما يتعلق بذلك، وهل كان من
المناسك أو كان إرفاقاً بالمسلمين عند الخروج من مكة. والباب هنا:
باب صفة الحج ودخول مكة. هذا الحديث الذي يسوقه في نهاية هذا
الباب، وقبل أن يأتي بباب أحكام الإحصار بالحج، وماذا يعمل المحصر
وماذا عليه؟ والإحصار هو صورة نادرة من صور الحج والعمرة، يأتي
المؤلف بهذا الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (صلاة في
مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ) ونحن
الآن في صفة الحج، وفي صفة دخول مكة، وهذا الحديث موضوعه المسجد
النبوي، فما علاقة إيراد هذا الحديث في بيان فضل الصلاة في المسجد
النبوي بأعمال الحج المتعلقة بمكة؟ قد يتساءل الكثير في هذا، ولابد
للمؤلف من غرض وراء إتيانه بهذا الحديث الذي يتعلق بالمسجد النبوي
في نهاية بيان صفة الحج ودخول مكة، فبعض الناس يقول: إن الإتيان
بهذا الحديث هنا يتعلق بموضوع المقارنة بين مكة والمدينة -ولكن ليس
في هذا إشارة إلى مكة- وأن فيه تفضيل مكة على المدينة؛ لأن صلاة في
المسجد الحرام بمائة ألف، وفي المسجد النبوي بألف، وبعضهم يذكر مع
هذا الحديث حديث الروضة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:
(ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ) ويستدلون بهذا على أن(3/153)
المدينة أفضل من مكة؛ للحديث الآخر: (موضع سوط أحدكم في الجنة خير
من الدنيا وما فيها ) ، والشوكاني رحمه الله في (نيل
الأوطار على منتقى الأخبار) أتى بأحكام الزيارة للمدينة النبوية
عقب مباحث الحج، وقال: لم يذكرها المؤلف هنا، ولكن هذا محلها؛ لأنه
جرت عادة الناس أنهم إذا أتوا إلى الحج فإنهم يعرجون على المدينة
للزيارة. فذكر الشوكاني رحمه الله ما يتعلق بفضل الزيارة: من
شد الرحل إلى المدينة وإلى المساجد الثلاثة، وفضل الصلاة في مسجد
المدينة، وما يتعلق بالروضة وفضل الصلاة فيها إلى غير ذلك. والأولى
أن مظنة إيراد المؤلف هذا الحديث هنا هو كما أشار إليه الشوكاني ، وهو أن الناس في الآونة الأخيرة يجمعون بين الحج والزيارة في
رحلة واحدة، وهذا هو الذي نشاهده الآن، فقل من يأتي برحلة خاصة
للمدينة، ثم يأتي برحلة خاصة للحج أو للعمرة، حتى الذين يأتون
برحلة خاصة للمدينة يأتون بها مع العمرة، فيأتون للعمرة في رجب أو
في ربيع الأول أو في رمضان ويعتمرون ثم يذهبون إلى المدينة، إذاً:
لما كثر من الناس الجمع بين زيارة المدينة وبين الحج أو العمرة ساق
المؤلف هذا الحديث هنا ليرغب في الإتيان إلى المسجد النبوي الشريف؛
لما فيه من هذا الفضل في الصلاة. هذا ما ظهر بالنسبة لإيراد المؤلف
لهذا الحديث الشريف هنا والله تعالى أعلم.
هل مضاعفة الصلاة في المساجد الثلاثة تشمل النافلة أم أنها خاصة
بالفريضة؟
أما موضوع الحديث فيقول صلى الله عليه وسلم: (صلاة) وصلاة هنا
نكرة، والنكرة تعم الجنس، أي: جنس الصلاة، فريضةً كانت أو نافلةً،
وهذا هو الذي أخذ به الجمهور. ولكن نقل عن الطحاوي من الأحناف
أنه قال: (صلاة) هنا في هذا الموضع تنصرف إلى النوع الأهم، وهو
الفريضة، أما النافلة فهو يرى أن إيقاعها في البيت خير من إيقاعها
في المسجد النبوي، ولكن لا ينفي أنه إذا أوقعها في المسجد النبوي(3/154)
أن تكون بألف، لكنه يقول: (صلاة) تعم فرضاً ونفلاً في المسجد
النبوي بألف، ولكن تخصيص النافلة بالبيت خير منها بألف في المسجد
النبوي؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (خير صلاة المرء في بيته
إلا المكتوبة ) ويستدل على هذا القول بما صح عنه صلى الله عليه
وسلم من استمرار صلاته النافلة في بيته، مع قرب البيت من المسجد،
والمتوقع أنه لن يترك الأفضل ويأتي بالمفضول، فلو لم تكن النافلة
في البيت أفضل منها في المسجد لصلاها في المسجد فليس هناك كلفة؛
لأن بيته صلى الله عليه وسلم ملاصق للمسجد، ولكن الجمهور حملوا
اللفظ على عمومه فقالوا: (صلاة) أياً كان نوعها وأياً كانت صفتها:
فريضة.. رباعية.. ثنائية.. ثلاثية.. نافلة.. في ليل أو في نهار،
فإن صلاة في المسجد النبوي تعدل ألف صلاة أو تفضل ألف صلاة فيما
سواه، أي: من عامة المساجد.
المفاضلة بين المسجد الحرام والمسجد النبوي
ثم استثنى من عموم المساجد المسجد الحرام، فكأنه يقول: صلاة في
مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في عموم المساجد إلا المسجد الحرام
وقوله: (إلا المسجد الحرام) قال بعضهم: الصلاة في المسجد النبوي
تفضل ألف صلاة في عموم المساجد وتفضل أقل من الألف في المسجد
الحرام، وقال غيرهم: بل تفضل ألف صلاة في عموم المساجد، وتقصر عن
فضل الصلاة في المسجد الحرام، يعني: هي أفضل من المساجد كلها، وأقل
من الصلاة في المسجد الحرام؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام بمائة
ألف صلاة، وهذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور.
هل تفضيل الصلاة في المساجد الثلاثة تفضيل وصف أم تفضيل عدد؟
وقوله: (صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة) هل هذه الفضيلة عددية أو
وصفية؟ بمعنى هل الألف صلاة المعادلة بصلاة واحدة في المسجد النبوي
ممكن أن نوزعها: واحد.. اثنين.. إلى ألف، أو هي واحدة، لكنها في
النوعية والثواب وفي المعادلة وفي الفضل وفي الخير تساوي ألف صلاة،(3/155)
كما لو اشتريت قلماً بريال واشتريت قلماً بألف ريال، فهو واحد
ولكنه يفضل القلم الأول في قيمته وفي نوعيته، فهذا أبو ألف وهذا
أبو ريال، إذاً: لن يكتب به ألف كلمة في آن واحد، ولن يستعمل ألف
استعمال في وقت واحد؟ الجواب: إنما هو في الفضيلة والنوعية، وعلى
هذا لو أن إنساناً عليه خمس فوائت، وصلى في المسجد النبوي صلاة من
نوع تلك الفائتة فهي في ذاتها تعدل ألفاً، ولكن لا تسقط عنه شيئاً
مما عليه من الفوائت، ولو صلى واحدة من الخمس الفوائت عليه في
المسجد النبوي فإن صلاة تلك الفائتة تعدل ألفاً، ولكن لا تجزئ إلا
عن واحدة من الخمس، وتبقى الأربع في ذمته.
شمول الفضل المذكور في الحديث للتوسعة التي بنيت في المسجد النبوي
وقوله: (صلاة في مسجدي هذا) اختلف كلام العلماء في تحديد (مسجدي
هذا) فيرى بعض العلماء أن كلمة (هذا) للتخصيص والتعيين؛ لأنه كما
يقولون: (هذا) اسم إشارة يعين المسمى ويحدده، كما تقول: هذا الرجل
فلا يتعدى إلى غيره، وكما تقول: هذا الكتاب فلا يتعدى إلى كتاب
آخر، فهذا اسم يعين المسمى بالإشارة الحسية، فقالوا: الذي أشير
إليه عند التحدث بهذا الحديث هو المسجد الذي كان موجوداً بالفعل
عند التحدث بهذا الحديث، يعني: أن كلمة (هذا) أشارت إلى الحاضر،
فما تجدد بعد ذلك فهل تشمله كلمة (هذا) التي وقعت في السابق أو لا
تشمله؟ البعض كما تقدم يقول: لا تشمله، قال بذلك النووي وغيره،
وأخذ بذلك المالكية، وبعض من وافقهم وقالوا: إن قوله: صلاة في
مسجدي هذا) يراد به المسجد الذي كان موجوداً وأشير إليه بالإشارة
الحسية (هذا)، إذاً: ما طرأ من زيادات بعد كلمة (هذا) لا يدخل فيما
أشير إليه من قبل؛ لأنه لم يكن موجوداً في ذلك الوقت، والجمهور على
أن (مسجدي هذا) هو للتخصيص، ولا يمنع من دخول الزيادات؛ لأن
الزيادات مهما طرأت لن تخرجها زيادتها عن كونها من مسجد رسول الله،
ولكنه أراد بكلمة (هذا) تخصيص المسجد النبوي بالفضل دون بقية(3/156)
المساجد التي كانت موجودة في المدينة آنذاك، فكان هناك مسجد موضع
المصلى، وإن كان لم يبن مسجداً، وكانت هناك مساجد في أطراف
المدينة، فكان هناك مسجد بني سلمة الذي تحولت فيه القبلة، وكان
هناك مسجد قباء، وكانت هناك مساجد يميناً ويساراً، فأراد بكلمة
(هذا) يعني: دون بقية المساجد التي توجد في المدينة، وكلها مساجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: قوله (صلاة في مسجدي هذا) هذه
الفضيلة الجمهور على أنها عامة تشمل ما كان موجوداً عند الإشارة
إليه، وتشمل كل ما زيد فيه وضم إليه، ويستدل الجمهور على هذا
التعميم والاتساع ببعض الأحاديث وإن كان في أسانيدها مقال ومنها:
(إنه لمسجدي ولو امتد إلى صنعاء ) وقد جاء في الأثر الصحيح
الموقوف على عمر رضي الله عنه أنه بعد ما وسع المسجد النبوي من
الشمال ومن الغرب، رأى أن بعض الناس ربما تساءل أو توقف أو تردد في
إيقاع الصلاة في تلك الزيادة العمرية، ويحرص على أن يدخل إلى مسجد
النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان في حال حياته، فلما لاحظ هذا
منهم قال: (والله! إنه لمسجد رسول الله ولو امتد إلى ذي الحليفة)
يعني: كل ما تأتي من زيادة فهي من المسجد النبوي، وأكبر زيادة
شهدها المسجد النبوي هي في هذه الآونة، ويمكن أنه بعد مائة أو
مائتين أو ثلاثمائة سنة أو أكثر أو أقل تحصل زيادة على هذه
الزيادة، ولكن مهما بلغت الزيادة فيه فهي لن تبلغ إلى ذي الحليفة،
فقول عمر رضي الله عنه: (ولو امتد إلى ذي الحليفة) يعني:
إبعاداً للمدى وأنه مهما قدر اتساعه نظرياً فإنه مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وعلى كل فالمؤلف رحمه الله ساق هذا الحديث هنا
ليبين فضيلة الصلاة في المسجد النبوي للقادمين الذين يجمعون بين
الحج أو العمرة وبين الزيارة إلى المدينة، وهناك مباحث عديدة في
هذا الموضوع منها:
تفاوت أجزاء المسجد النبوي في الفضل
هل الصلاة في المسجد النبوي في جميع أجزائه سواء أو تتفاوت؟ كثير(3/157)
من المؤلفين يأتي بحديث الروضة بجانب هذا الحديث، وفعل هذا البخاري ففي باب التهجد والنوافل ذكر فضل المدينة وفضل الصلاة في المسجد
النبوي وذكر حديث الروضة، قال ابن حجر عند هذا: (لقد ساق
البخاري هذا الحديث: (بألف صلاة) في كتاب التهجد والنوافل
ليبين على أن (صلاة) تشمل النافلة والفريضة، وساق أيضاً في فضل
الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم حديث الروضة وهو قول
النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )
وهذه هي الرواية المشهورة، وقال ابن حجر : جاء عند ابن عساكر وحده )ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) وهو باطل، ثم ذكر
أنه عند البزار برجال ثقات ولفظه أيضاً: (ما بين قبري ومنبري)
قال: وجاء عند الطبراني أيضاً ولفظه: (ما بين قبري ومنبري)
قال: وهذا على سبيل التأويل، وعلى سبيل المقاربة؛ لأن بيته قد أصبح
قبره، ويقول ابن حجر عند قول المؤلف: فضل الصلاة بين القبر
والمنبر، وجاء بالحديث: (ما بين بيتي ومنبري) فقال ابن حجر بوب
باسم القبر وساق حديث البيت ليبين أن رواية القبر صحيحة، ولأن
القبر والبيت سواء، وسبق أن جرت مناقشة في هذا الموضوع وكانت
النتيجة أن هذا من باب الإشعار والإيماء والتنبيه لذوي الألباب
والنهى، قال ذلك في حياته؛ لأن بعض الناس يقول: كيف يقول: قبري وهو
على قيد الحياة فإن هذا لا يمكن أبداً، وهنا الكلام على صحة
الرواية، وإذا صحت الرواية في هذا الحديث فيكون قوله صلى الله عليه
وسلم: (ما بين قبري) وهو على قيد الحياة وقوله: (ما بين بيتي) يدل
على أن البيت والقبر سواء. إذاً: ينتبه بهذا من ينتبه إلى أن بيته
سيصبح قبره، وأنه سيدفن في بيته ويقبر فيه، ولهذا لما التبس على
الصحابة: أين يدفنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قائل منهم:
نرده إلى مكة، ومن قائل: ندفنه في مقابر المسلمين، ومن قائل: يدفن
في بيته، فدخل عليهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقال: سمعت(3/158)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نقل نبي عن المكان الذي
مات فيه، وما مات نبي إلا في المكان الذي يقبر فيه )، فأزاحوا
الفراش، وحفروا في المكان الذي مات فيه في حجرة عائشة رضي الله
تعالى عنها. وقد جاءت أخبار عديدة حول هذا، وفي جعله في بيت عائشة حماية له لقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! لا تجعل قبري وثناً
يعبد ) ولولا ذلك لأخرج قبره أي: خارج الحجرة، ولو أخرج لكان
هناك ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم، فاستجاب الله له، وعصم قبره
من أن يكون وثناً يعبد، وأصبح في بيت بعيد عن اللمس، بعيد عن أعمال
غير مشروعة، وقد جاء أن عائشة رضي الله تعالى عنها لما تمت
القبور الثلاثة كان الناس يأتون إليها في بيتها زيارة، ويأتون
ويسلمون على الثلاثة، ويأخذون من تربة المكان. فبنت جداراً على
القبور الثلاثة، واقتصرت على الباقي من الحجرة سكناً لها، والموضوع
ذو شعب، ويبقى قول: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة...) على
العموم، ويأتي النظر في الصلاة في الروضة على ما جاء في فضلها في
الرواية المشهورة: (ما بين بيتي ومنبري ) أو: على الرواية الضعيفة:
(ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) وإذا كانت روضة من رياض
الجنة فهل تتميز فيها الصلاة عن غيرها من المسجد أو لا تتميز؟ صنيع
البخاري يدل على أنها تتميز؛ لأنه ذكرها في عرض سياق فضل
المسجد النبوي والصلاة فيه، إذاً: الروضة يكون لها مزية على بقية
أجزاء المسجد، يضاف إلى ذلك كثرة صلاة وجلوس رسول الله صلى الله
عليه وسلم فيها، وكثرة اجتماع وجلوس أصحابه رضي الله تعالى عنهم
حوله فيها، وكثرة ما يكون من الأحاديث ومن الحكمة ومن الوحي الذي
كان يتنزل فيها... إلخ.
هل الأفضل الصلاة في الصف الأول من المسجد النبوي أم في الروضة؟
وهنا بحث آخر: حينما كان في العهد الأول كانت الروضة مع الصف الأول
على خط مستقيم، ولما حصلت الزيادة من جهة القبلة انتقل المحراب إلى(3/159)
القبلة، وأصبح هناك أربعة أو خمسة صفوف خارجة عن الروضة إلى
الجنوب، فهل نقدم الأحاديث الواردة في فضل الصف الأول كقوله صلى
الله عليه وسلم: (لو علم الناس ما في الصف الأول لاستهموا عليه )
(لتجالدوا عليه ) (لأتوه ولو حبواً ) وقوله: (ألا تصفون كما
تصف الملائكة عند ربها يتمون الصف الأول فالأول ) وقوله: (خير
صفوف الرجال أولها ) فهذه كلها آثار في فضل الصف الأول. وقد كان
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصف الأول مع
الروضة في ميسرة المسجد؛ لأن الروضة في الميسرة ما بين المنبر وما
بين الحجرة، فكان يمكن للإنسان أن يجمع بين الصف الأول وبين
الروضة، فهل يا ترى! يحرص الإنسان الآن على إيقاع الصلاة في الروضة
لفضيلتها أو يحرص على الصلاة في الصف الأول لفضيلته؟ ونجد أيضاً:
أن مع الأحاديث التي جاءت في فضل الصف الأول أحاديث أخرى جاءت في
فضل ميمنة الصف، ومنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف ) وقد حدث في
زمن النبي صلى الله عليه وسلم امتلاء ميامن الصفوف وخلو مياسرها
نظراً للحث على ميامن الصف، نقول: في العهد النبوي كان الصف الأول
والروضة يجتمعان في الميسرة، والصف الثاني والثالث والرابع والخامس
يجتمعان في الميسرة مع الروضة، ولكن ميامن الصفوف من الصف الأول
فما وراءه ليس فيها روضة، فننظر في ذلك الوقت أي الجانبين كانوا
يرجحون الروضة على الميمنة أم الميمنة على الروضة؟ قلنا: بأنه يمكن
أن يجمع الإنسان بين الصف الأول والروضة، ولكن لا يمكن أن يجمع بين
الميمنة والروضة، فإما أن يكون في الروضة وإما في الميمنة، فنجد
عند ابن ماجة : أنهم اشتكوا وقالوا: يا رسول الله! خلت ميسرة
المسجد، أي: صارت خالية؛ لأن الناس صاروا يتتبعون الميامن؛ لأن ما
في الميامن من الآثار لا تعادلها آثار الروضة، فقال صلى الله عليه
وسلم: (من أعمر ميسرة المسجد فله كفلان من الأجر ) إذاً:(3/160)
الصحابة رضي الله تعالى عنهم قارنوا بين الروضة وبين الصف الأول،
وبين الروضة والميمنة، فقدموا ورجحوا ميمنة الصف على ميسرته ولو في
الروضة، فإذا كان الأمر كذلك وقد انتقل الصف الأول عن مستوى الروضة
إلى الأمام، فهل نقدم الصف الأول أو نقدم الروضة؟ الصحابة قدموا
الميمنة على الروضة، والصف الأول أفضل من الميمنة في الثاني أو
الثالث، فإذا كانوا قد قدموا الميامن على الروضة، فمن باب أولى
تقديم الصف الأول على الروضة، ولهذا يقول النووي وغيره: إذا
كنت تصلي مأموماً تابعاً للإمام فصل حيث انتهى بك الصف، في الروضة
في الميمنة أو في الميسرة، في المؤخرة أو في المقدمة، فحيث انتهى
بك الصف فصل، وإن كنت تصلي منفرداً أو متنفلاً فتحر الروضة؛ لأن
النافلة ليس فيها لا صف أول ولا ميمنة، ولا شك أن موضع الروضة أولى
من غيره؛ لأنه قد جاءت فيه تلك الخصيصة. ثم جاء بحث الإمام ابن
تيمية رحمه الله بعد هذا كله، وبعد الزيادات المتكررة
والمتعددة من الأمويين والعباسيين وغيرهم، وقال: عثمان رضي
الله عنه تقدم وصلى في المحراب الذي في الزيادة الأمامية، حينما
وقعت الزيادة من جهة القبلة، وترك الروضة خلفه، وعلي رضي الله
تعالى عنه كذلك، وجماعة من الصحابة في عهد الخليفتين الراشدين
عثمان وعلي كانوا يتبعونهما في الصفوف الأول مما يلي
القبلة، ووراءهم الروضة بعدة صفوف، فيقول ابن تيمية رحمه الله:
ليس من المعقول أن الخلفاء الراشدين يتركون الأفضل ويذهبون إلى
المفضول، لولا أن الصلاة في الصف الأول على ما هو عليه خارج الروضة
أفضل لما داوموا على الصلاة فيه، ولرجعوا إلى الروضة محل مصلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: على هذا نقول كما قال النووي رحمه الله: الروضة لها فضيلة ذاتية مكانية، والصف الأول وصف ذاتي
للصلاة، والنووي عقد فصلاً في أيهما أفضل الفضيلة الذاتية أو
الفضيلة النسبية؟ والفضيلة الذاتية هي ما يكون في عين الفاضل،(3/161)
والفضيلة النسبية هي بالنسبة لشيء خارج عنه، ومثل لهذا: بالصلاة في
المسجد النبوي منفرداً وقال: إذا فاتتك الجماعة وصليتها منفرداً
بالمسجد النبوي فهي بألف، فإذا كنت في طريقك من مسكنك إلى المسجد
النبوي، ومررت بمسجد تقام فيه الجماعة لهذه الفريضة، فإن صليت معهم
أدركت الجماعة، وإن تركتهم ومضيت إلى المسجد النبوي فاتتك الجماعة
فيه، فأنت إن صليت مع الجماعة في مسجد الطريق صلاة عادية فهي بسبع
وعشرين درجة، وإن مضيت إلى المسجد النبوي وصليت فيه فهي بألف صلاة،
فأيهما أولى: فضيلة الألف من أجل المسجد، أو فضيلة السبع والعشرين
درجة من أجل الصلاة؟ ثم قال: إن فضيلة الجماعة فضيلة ذاتية؛ لأنها
تتعلق بهيئة الصلاة وكيفية أدائها، وأما مضاعفة الألف فهي للبقعة،
إذاً: فهي فضيلة إضافية، أي: أنك اكتسبت الفضيلة في صلاتك من أجل
المكان الذي صليت فيه لا من أجل الصلاة، فصلاتك في هذا المكان
الفاضل ناقصة عن صلاتك في ذاك المسجد العادي؛ لأن صلاتك هناك كاملة
لكونها جماعة. وكذلك قال في فضل الطواف بالبيت: إذا طفت قرب البيت
فسيكون الشوط مثلاً مائتي خطوة، وإذا ابتعدت عن المكان إلى وراء
زمزم فسيكون الشوط خمسمائة خطوة، وكل خطوة بحسناتها، فإذا كان
طوافك المتسع جداً فيه زيادة حسنات لكثرة الخطوات فإن طوافك بجوار
البيت سيكون أقل حسنات؛ لأنه أقل خطوات، وإذا نظرنا إلى أصل الطواف
سنجد أن الطواف مختص بالبيت، إذاً: هل الأولى في الطواف أن تقترب
من البيت الذي تطوف حوله أو أن تبتعد ولو كثرت الخطى؟ الجواب: كلما
اقتربت فهو أولى لأنك تطوف به، وما دمت تطوف به فالصق به، وأما
كونك تبعد الدائرة بعيداً وتأخذ الشوط عن سبعة فصحيح أنك تعبت وأن
خطواتك أكثر ولكن الذي يطوف بجوار الكعبة أفضل منك؛ لأن الطواف
بجوار الكعبة ذاتي في عين الطواف، والطواف من بعيد كثرة الحسنات
فيه إضافية لكثرة الخطى. إذاً: نرجع إلى تفضيل الصلاة بين الصف(3/162)
الأول وبين الروضة فنقول: الصف الأول ذاتي بالنسبة للصلاة؛ لأنه
جزء من الجماعة، والروضة نسبية للصلاة؛ لأنها بقعة، فيكون الوصف
الذاتي وهو صلاتك في الصفوف الأول أفضل من صلاتك في الروضة؛ لأن
الفضيلة في الروضة تدركها بالنسبة للمكان وليس لعين الصلاة، وعلى
هذا ينبغي على الإنسان فيما يتعلق بالجماعة أن يحاول الترتيب الذي
جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيتم الصف الأول فالأول، ويتم ميامن
الصفوف كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته
يصلون على ميامن الصفوف ) فيكون التحري للصف الأول أولى من
التحري للروضة. وهناك صور نشاهدها من بعض الجماعات منها: أن منهم
من يأتي متأخراً قبل أن تقام الصلاة بلحظات، فيتخطى رقاب الناس من
أجل أن يدرك المسجد الأول الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، والمسجد الذي كان في عهد رسول الله بني على مرحلتين: المسجد
الأول الذي كان من جذوع النخل والجريد، وهو الذي على السواري التي
فيه خطوط بالطول، وفي وسط الخطوط مثل الوردة، فهذه الأعمدة التي
فيها تلك الخطوط هي حدود المسجد النبوي الأول، يتعدى عن المنبر
بعمود واحد، ويرجع إلى الشمال حوالي سبعة أعمدة. والبناء الثاني
كان بعد العودة من خيبر، فعند أن ضاق المسجد الأول على الناس وسعه
صلى الله عليه وسلم وبناه بالحجر والطين، وجعل السقف من جذوع
النخل، ولما بنوه البناية العثمانية الموجودة حالياً كتبوا على
رءوس الأعمدة التي هي نهاية المسجد النبوي في السابق: هذا حد
المسجد النبوي، وكان في البناء الأول سبعين ذراعاً في سبعين، ثم
أصبح في التوسعة الثانية: مائة ذراع في مائة ذراع. فيأتي بعض الناس
من الباب إلى المسجد الأول هو حد مسجد النبي، يعني: مسافة مائتين
وخمسين متراً، وكم من صف يتخطى فيه رءوس الناس؟ وهذا عمل مؤذٍ كما
قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي جاء يوم الجمعة متأخراً، وأخذ(3/163)
يتخطى رقاب الناس ليدنو من المنبر، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم
وقال له: (اجلس فقد آنيت وآذيت ) آنيت: من الأين وهو الوقت أي:
تأخرت، وآذيت لتخطيك رقاب الناس؛ لأن هذا لا ينبغي، فلا ينبغي
للإخوان الذين لا يزالون يعتقدون أن الفضيلة مختصة بالمسجد الذي
أشار إليه صلى الله عليه وسلم في حياته أن يتأخروا ثم يحاولون
الوصول إليه على رقاب الناس، فنقول لمن يتخطى رقاب الناس: إذا كنت
تريد المسجد الأول وتريد الروضة فاحضر مبكراً، والأبواب مفتحة
أمامك، لا أن تتكئ في بيتك وتشتغل بما يهمك فإذا سمعت النداء جئت
مسرعاً وأتيت تتخطى الرقاب فإن هذا لا يجوز لك، وهذا من الذي ينبغي
مراعاته فيما يتعلق بآدب المسجد النبوي والصلاة فيه.
وجه تخصيص المساجد الثلاثة بهذه الفضائل
إذاً: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد
الحرام) وقد جاءت نصوص تؤكد صحة الاستثناء وتبين أن الصلاة في
المسجد الحرام أفضل من الصلاة في المسجد النبوي بمائة مرة، إذاً:
صلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف، وصلاة في المسجد الحرام
أفضل من الصلاة في مسجده بمائة، إذاً: الصلاة في المسجد الحرام
بمائة ألف صلاة فيما سواه، وصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، وجاء
في الحديث الذي جمع المساجد الثلاثة: (وفي المسجد الأقصى بخمسمائة
صلاة ). وهنا مبحث يرتبط بالحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة
مساجد ) خصت المساجد الثلاثة بجواز شد الرحل إليها، وخصت
المساجد الثلاثة بمضاعفة الأجر فيها، فلماذا؟ الأرض هي أرض الله،
والمساجد كلها بيوت الله، كما قال تعالى: (( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن:18]
وقال سبحانه: فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36]
وأي مسجد في أقصى الدنيا فهو بيت الله، ولكن كما أن الله سبحانه
وتعالى اختص جزءاً من المسجد النبوي بأن كان روضةً، وهذا جزء من(3/164)
الأرض بصرف النظر عن المعاني التي قيلت فيه، واختص الله سبحانه
وتعالى بقع المساجد الثلاثة دون غيرها، واختص الله مكة والمدينة
وفضلهما على بقية البلدان، وحتى في الزمان فإن الله قد اختص شهر
رمضان وجعل ليلة فيه خيراً من ألف شهر، واختص يوم الجمعة واختص فيه
ساعة، واختص يوم عرفة وهو خير يوم طلعت عليه الشمس، إذاً: هناك
اختيار من الله وتفضيل لبعض أجزاء الكل على بعضه، فاختار ساعةً من
أربع وعشرين ساعة، وليلةً من ليالي السنة، ويوماً من أيام السنة،
وشهراً من شهور السنة، وهكذا يختارها الله ويفضلها، كما اختار من
بعض البشر رسلاً وفضلهم على كثير من العالمين. فقالوا: إن سبب
مضاعفة الصلاة في هذه المساجد الثلاثة وجواز شد الرحل إليها لأنها
هي المساجد المقطوع بعينها، ولو جئت إلى أي مسجد في العالم؛ كمسجد
موسى أو مسجد هارون أو مسجد نوح فكلها خاضعة للنظر من حيث سبب
تسميتها ومن قام على بنائها، وأما الثلاثة فهي مقطوع بها؛ ولأن هذه
الثلاثة اشتركت في عناصر أساسية: اشتركت في كون اختيار مكانها من
الله، قال تعالى: وَإِذْ
بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26]
وقال صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها مأمورة ) وفي الأثر أن
الله قال لداود عليه السلام: (ابن لي بيتاً في بيت المقدس حيث ترى
الفارس المعلم شاهراً سيفه) فالله تعالى هو الذي عين أماكن المساجد
الثلاثة، ثم قام على بنائها أنبياء ثلاثة: وَإِذْ
يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127]
ومعه إسماعيل، والمسجد النبوي بناه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه
أصحابه، وكانوا يقولون عند البناء: لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا
العمل المضلل فكانوا يحملون الحجارة ويحمل معهم. إذاً: النبي صلى
الله عليه وسلم هو الذي خطط وبنى المسجد النبوي، وكذلك مسجد بيت
المقدس بناه نبي الله داود، فكون اختيار المكان، وإقامة البناء(3/165)
والإشراف عليه من رسل الله بتوجيه من الله جعل لهذه المساجد فضيلةً
على غيرها. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على
سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
134884 ( كتاب الحج - باب الفوات والإحصار )
( كتاب الحج - باب الفوات والإحصار )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (أيُّ الكسب أطيب..)
2 شرح حديث: (إن الله حرم بيع الخمر..)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [1]
خلق الله الناس وقسم أرزاقهم، ومعاشاتهم، وجعلها في أصول المكاسب
الثلاثة: التجارة، والزراعة، والصناعة، وللبيوع أحكام كثيرة، بينها أهل
العلم على ضوء الكتاب والسنة.
شرح حديث: (أيُّ الكسب أطيب..)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال المصنف رحمه الله:
[ وعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه
وسلم سئل: أيُّ الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور )
رواه البزار وصححه الحاكم ]. بدأ المؤلف رحمه الله كتاب
البيوع بهذا الحديث وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أطيب
الكسب، ما هو؟ وبعض العلماء يقول: إن جميع المكاسب راجعة إلى
الزراعة والتجارة والصناعة، يعني: هذه الثلاثة، التي فيها التنمية،
وفيها نمو المال، أو نمو المادة الخام وتطورها، فالزارع: حبة بذر
يجعلها المزارع في الأرض، فتنمو إلى سبع سنابل فِي
كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة:261]،
الحبة نمت إلى سبعمائة، فهذا نمو، كذلك التجارة: يأخذ السلعة بعشرة
ويبيعها باثني عشرة، هذا أيضاً نمو، ويجتمع له هذا النماء، كذلك
الصنعة يأخذ القطن فيغزله، ويأخذ الغزل فينسجه، ويأخذ النسيج
فيفصله.. وهكذا تتطور المادة الخام على أيدي الصناع كل بحسبه، وفي
كل مرحلة من هذا التصنيع تنتفع الأمة. إذاً: أصول المكاسب هذه
الثلاثة، ثم يختلفون أيها أفضل، أهي الزراعة، أم التجارة؟ فبعضهم(3/166)
يقول: الله سبحانه وتعالى جعل البركة مائة جزء، أنزل منها جزءاً
إلى الأرض، وادخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة، والجزء الذي نزل
إلى الأرض منه تسعة وتسعون في التجارة، والباقي في الصناعة، وفي
الزراعة، وفي الأمور الأخرى. والذي يرجحه العلماء: أن أفضل الكسب
الزراعة؛ لأن الزراعة يستفيد منها الإنسان، والحيوان، والطير، فكل
هؤلاء يستفيدون من عمل الفلاح. وبعضهم يقول: هناك كسب آخر، لكنه
راجع إلى عمل اليد، وهو الكسب من الغنائم في الجهاد في سبيل الله،
ويقول آخرون: الجهاد من عمل اليد، فلم يخرج عن هذه الثلاث.
الحرص على أطيب الكسب وفائدته
قوله: (أطيب الكسب ) ولماذا كانوا يسألون عن أطيبه؟ لأنهم
يعلمون بأن طيب الكسب صحة في البدن، وعون على الطاعة، لما سأل سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادعُ الله أن يجعلني مستجاب الدعوة
-ماذا قال له؟ هل قال له: أكثر من الصلاة في الليل، أكثر الصيام،
أكثر الصدقة؟ لا- ولكن قال: أطب مطعمك )، وفي الحديث الآخر:
(الرجل أشعث أغبر يطيل السفر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب!
أنّى يستجاب له؟! ومطعمه حرام، وملبسه حرام.. ) إذاً: حرمة
المطعم ومحرميته حالت دون استجابة دعائه، إذاً: من حقهم رضوان الله
تعالى عليهم أن يسألوا عن أطيب الكسب، ولم يسألوا عن أطيب الكسب
إلا ليتحروه ويعملوا به.. فماذا كان الجواب؟ قال: (عمل الرجل بيده )
. يقولون: لفظة (الرجل) وصف طردي لا مفهوم له؛ فالمرأة في بيتها قد
تغزل وتبيع الغزل، وتنسج، وتخيط الثياب، فإذا كان للمرأة عمل
فكذلك: أطيب كسبها عملها بيدها. وهنا إذا نظرنا إلى بعض الأشخاص
نجده لا عمل له، يقول عمر رضي الله تعالى عنه: كنت أرى الشاب
فيعجبني، فأسأل عن عمله؟ فيقال: لا عمل له، فيسقط من عيني. من هنا
فالمرابي لا يعمل بيده شيئاً، وإنما يرسل دراهمه تعمل على حساب
الناس وهو لا يعمل، فلا يتاجر، ولا يزرع.. وإنما يتابع الدراهم أين(3/167)
ذهبت؟ ومن أين جاءت؟ ونبي الله داود -عليه وعلى نبينا الصلاة
والسلام- ماذا كان يفعل؟ كان يأكل من كسب يده وَعَلَّمْنَاهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [الأنبياء:80]
، وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ [سبأ:10]
نبي ملك، ولكن ما كان يعوِّل على ما في ملكه وما في خزائنه، وإنما
كان يعمل بيده ويأكل من كسب يده. فالموظف في آخر الشهر، يذهب
ويستلم الراتب، فيحس بلذة ذلك، وهذا مجرب؛ لأنه من عرق جبينه، ومن
عمل يده، ولو أن إنساناً جاء وأعطاك عشرة ريالات وقال: هذه هدية،
هل تحس لهذا لذة كلذة عمل يدك؟ لا؛ لأنك لم تبذل جهداً مقابل
الهدية، وإن كانت حلالاً، فالشخص الذي لا يكسب من عمل يده، وإنما
ورث مالاً كثيراً، تجده يأكل ولا يشعر بما يأكل، ولا يستطعم نوع
طعامه، بخلاف الشخص الذي يكد ويعمل، مهما كان نوع العمل، كما قيل:
لا عيب في الكسب، العيب في مد اليد، وذكرنا لكم مراراً: كان في هذا
المسجد النبوي الشريف نجوم، فإذا كانوا في الصباح ذهبوا في سوق
الخضرة، وإذا كان بين المغرب والعشاء تراهم مثل الشموع المضيئة:
نظافة، أناقة، عزة نفس، حاضرين في الدرس... لا أستطيع أن أقول لك
أكثر من هذا، يعمل ويكسب بيده، ولا ينتظر حسنات الناس! إذاً: أطيب
الكسب عمل الرجل بيده، ولا يضير إنسان أنه يعمل بيده، وكان العرب
ينظرون إلى بعض الأعمال الدنيئة بازدراء، كالحجامة والحلاقة.. وكذا
وكذا، وهذه عادات، وربما ما كان قبيحاً في مجتمع يكون عادياً في
مجتمع آخر، فهذه بحسب العادة، وحسب العرف عند الناس، ولكن إذا كان
هذا العمل يعفه عن مد اليد فهو شريف، وإن كان وضيعاً عند الناس.
وهذا الحديث يرشد أن أطيب الكسب: عمل اليد، فهو يقضي على الفراغ؛
لأن كل إنسان يريد أطيب الكسب، فيذهب ويفتش ويعمل بقدر ما يستطيع
فتقل نسبة البطالة التي يشتكي منها العالم المتمدن والمتحضر الآن،
وكسب الرجل بيده يكون بأي صفة من صفات العمل، ولو بالكلام، فهو(3/168)
كسب، ولو بالتوجيه فهو كسب بيده، ولو بالحركة: يفلح الأرض، أو يصنع
الصناعة أو... إلخ فهو كسب باليد. إذاً: (سئل صلى الله عليه وسلم
عن أطيب كسب الرجل، فقال: عمل الرجل بيده ).
البيع المبرور
قوله: (وكل عمل مبرور ). وهذا ما أشرنا إليه: أي نوع من أنواع
الكسب، البيع هل هو في عمل الرجل بيده أم لا؟ فالبائع يأتي بالسلعة
ويذهب إلى الدكان ويوزن ويعطي هذا وهذا... إلخ، إذا انتهت البضاعة
ذهب إلى تاجر الجملة وأتى بها، فهو يعمل بيده ورجله، ولكن لكون
البيع المبرور من أميزها، والمبرور هنا: المفعول بالبر فهو: سالم
من الغش، سالم من التدليس، سالم من غبن الجهال، سالم من انتهاز
الفرص مع الحمقى، ومع الذين لا يعرفون الأسواق، فبعضهم إذا رأى
إنساناً جاهلاً لا يدري عن شيء انتهز الفرصة ورفع الأسعار، وإذا
رأى إنساناً حاذقاً ويعرف كل شيء تأدب معه.. فهذا ليس بيعاً
مبروراً، بل يجب عليه أن يبر بيعه، وينصح إذا سئل عن سلعة معينة..
والآن في الوقت الحاضر مثلاً: هناك ماركة معينة راجت عند الناس،
فيطلبها إنسان بالسماع، وهو لا يدري عنها، فجاء هذا البائع مستغلاً
الفرصة وقال: هذا جاهل لا يدري كوعه من بوعه، فأعطاه سلعة غير
الماركة المطلوبة، وقال له: هذه هي. وذاك لا يدري، فهذا البيع ليس
مبروراً، بل هو غش. فالبيع المبرور: أولاً يتحرى فيه نوع السلعة
وأنها حلال، ونوع السعر، فلا يستغل الضعاف في الزيادة والنقص،
وإنما يعامل الناس معاملة واحدة، وقد يتفاوت البيع بعض الشيء
فيتساهل مع هذا بواحد في المائة، ويزيد على هذا واحداً في المائة،
فهذا يعوض هذا، المهم إلاّ يكون الغبن فاحشاً. وأحياناً تكون
السلعة موجودة عند البائع، ولكنه يقول: ما عندي، ولكن أنا أقدر أن
آتي لك بها ولكن بزيادة قليلة!، وجد المشتري في حاجة إلى السلعة،
ومضطراً إليها، فلو قال له: هي عندي، خذ، فإن المشتري سيساومه على(3/169)
الثمن، ولكنه يقول له: هذه السلعة معدومة، ولكن يمكن أن أوفرها لك
من عند بعض التجار، ولكن بسعر فيه زيادة قليلة، ولماذا هذه اللفة
الطويلة؟! من أجل الاحتيال على المشتري والزيادة في السعر! وكذلك
من عدم البر في البيع: ترويج السلع بالأيمان فيحلف أيماناً بأنها
الممتازة، والجيدة، والجديدة... إلخ، وأن سعرها كذا وأنا تساهلت
معك.. لماذا هذا كله؟! وأنت ترى إذا عرف تاجر في بلد بصدق الكلمة،
وتوحيد السعر، كان موضع ثقة عند الجميع، وإذا عرف إنسان بعكس ذلك
تجد الناس يتواصون بالحذر منه: فلان احذر منه! إذا جئته فانتبه
منه! لماذا هذا؟! والتاجر الأمين مع النبيين والصديقين. الأجير في
عمله إذا عمل بيده فعليه أن يعمل عملاً مبروراً، فإن كان أجيراً
باليوم فلا يضيع اليوم والزمن في الذهاب والإياب والمراوغة، فإذا
أراد أن يصلي العصر تراه يذهب يتمشى، وبدلاً من أن يتوضأ يذهب
يستحم، لماذا هذا كله؟ والبر في البيع بجميع أنواعه: هو الإخلاص،
وعدم الغش، والنصح لله، ولعامة المسلمين، في تلك السلعة وفي غيرها،
كذلك المشتري يجب عليه أن ينصح في الثمن، فلا يأتي بنقد مغشوش،
ويقول: هذا البائع بدوي لا يدري المغشوش من الصحيح، ويقدمه له على
أنه نقد صحيح فلو كانت معه ورقة خمسمائة ريال مزورة، وأعطاها لواحد
بدوي لا يعرف الورق، ولا يعرف النقد، فهذا سينظر إلى الأصفار وسيرى
الخمسة فيأخذها، ولكنه لا يعرف المزيف من غير المزيف. إذاً: البر
مطلوب من الجانبين: جانب البائع، وجانب المشتري.
شرح حديث: (إن الله حرم بيع الخمر..)
قال رحمه الله: [ وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: إن
الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، فقيل: يا رسول
الله! أرأيت شحوم الميتة، فإنها تُطلى بها السفن، وتدهن بها
الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله(3/170)
صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله تعالى لما
حرم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه } متفق عليه ].
لاحظوا هذا الترتيب! بدأ المؤلف بالترغيب في أطيب الكسب: عمل اليد،
البيع المبرور، عمل اليد دخلت فيه الزراعة، ودخلت فيه الصناعة،
ودخلت فيه التجارة، لكن لاختصاصها جاء بهذا الوصف: البيع المبرور،
ورغب الناس في الكسب الحلال، ثم بدأ بما يتمشى مع العنوان: قال:
كتاب البيوع، ثم قال: شروطه -أي: شروط البيع- وما نهي عنه، وأين:
ما أمر به؟ لا يوجد.. لماذا؟ لأن القاعدة عند الفقهاء أن الأصل في
الأشياء الإباحة، فكل ما أنبتت الأرض، وأخرجت البحار، وأمطرت
السماء، وجاءت به الأشجار... كل ذلك الأصل فيه الإباحة ما لم يرد
الحظر، كما أن الأصل في العبادة الحظر ما لم يأت إذن، فهل تصلي
العشاء الآن؟ ممنوع، متى نصلي؟ حينما يأتي الإذن، العشاء نصليها
خمس ركعات؟ لا، ممنوع. كم نصليها؟ على ما جاء به الإذن: أربع، جاء
الإذن في الصبح باثنتين، وفي المغرب بثلاث، إذاً: الزيادة محظورة..
وهكذا فالأصل في الأعيان الإباحة، والأصل في العبادات الحظر. فلما
كان الأصل في الأعيان الإباحة؛ فكل شيء يجوز بيعه، إلا ما جاء النص
في تحريمه، إذاً: نحن الآن نحتاج إلى بيان ما يباح بيعه، أو نحتاج
إلى بيان ما لا يجوز بيعه؟ نحتاج إلى بيان ما لا يجوز بيعه، ولهذا
قال المؤلف: شروطه، وما نهي عنه. فبدأ بأشد الممنوعات، وذكر لنا
جابر رضي الله تعالى عنه تاريخ الرواية: في فتح مكة: حرّم الله
بيع الخمر.
تحريم الخمر شرباً وبيعاً واستعمالاً
الخمر من حيث هي اسم جنس يصدق على كل ما خامر العقل، والتخمير: من
الخمار وهو الغطاء على الوجه، (خمروا الإناء فإن البلاء ينزل في
ليلة من السنة ) ، (خمر -أي: ضع عليه الغطاء- فإن لم تجد فضع
عليه عوداً وقل: باسم الله ) فالخمر: اسم جنس لكل ما خامر(3/171)
العقل، سواء كان سائلاً، أوجافاً، بأي نوع من الأنواع، فهو خمر في
مسماه اللغوي، والشرع جعل كل ما أسكر خمراً، ولو كان لا يسكر منه
إلا الكثير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر منه ملء الفرق
فملء الكف منه حرام )، وليس المراد من هذا التحديد بملء الكف،
وأن خمسة كفوف، وعشرة كفوف، ليس بمسكر وليست حراماً، لا، ولكن
المراد: المقابلة بين الكثير والقليل، وأن الجميع محرم، فالقطرة
الواحدة حرام شرباً وبيعاً. كان أحد الناس يأتي إلى الرسول صلى
الله عليه وسلم بنبيذ وبخمر، قبل أن تحرم الخمر، وكان صلى الله
عليه وسلم من عادته أن يشرب النبيذ: نبيذ الزبيب، نبيذ التمر، نبيذ
كذا وكذا، من الأشياء التي تنبذ في الماء فتعطيه الحلاوة والطعم،
ما لم يتخمر أو تمضي عليه أربع وعشرون ساعة، فإذا تخمر قبل أربع
وعشرين ساعة لم يشربه، وإذا مضت عليه أربع وعشرون ساعة -ولو لم
يختمر- تركه لغيره ولم يشربه. فجاء ذلك الرجل بزق من الخمر، والنبي
صلى الله عليه وسلم في مكان يسمونه: مسجد الفضيخ، قال: يا رسول
الله! أهديت إليك هذا، قال: أما علمت أن الله قد حرمها؟ فجاء رجل
وهمس في أذن صاحب الخمر، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:
ماذا قال لك؟ قال: يقول: اذهب فبعها، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن
الله إذا حرم شيئاً حرم بيعه ) . وتحريم البيع يدل على المنع،
وسيأتي النقاش في منع البيع، أو منع الاستعمال. يخبرنا الرسول صلى
الله عليه وسلم بقوله: (إن الله حرّم.. ) لو قال: إن الله حرم،
فيكون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قال: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم حرم، فيكون بوحي من الله، فالتحريم من
الله ومن الرسول صلى الله عليه وسلم متلازمان، فإذا ذكر التحريم من
الله فقط لزم التحريم من رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا ذكر
التحريم من رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، لزم التحريم من الله(3/172)
أيضاً. (إن الله حرّم بيع الخمر )، يعني: إن الله ورسوله صلى
الله عليه وسلم حرما بيع الخمر. وعلى هذا تكون الخمر محرمة مطلقاً،
شرباً وبيعاً واستعمالاً، وقد ذكرت لكم مرة ما وقع من خالد بن
الوليد رضي الله تعالى عنه، أنه حينما انتهى من فتح الشام دخل
الحمام، وبعد أن دخل الحمام ادهن أو اطلى بالنورة في مواطن الشعر،
يعني استعمل النورة مزيلاً للشعر، وهذا معروف عندهم، لكن النورة
حارة تلهب الجلد، فأخذ العصفر، وعجنه بالخمر؛ لأن الخمر بارد، وطلى
به مواضع النورة، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى
عنه، فكتب إليه: يا خالد ! بلغني أنك استعملت الخمر في كذا
وكذا، وقد علمت أن الله حرمها. فكتب إليه: يا أمير المؤمنين! إني
لم أشربها، ولكنني استعملتها غسولاً -أغسل بها محل النورة-. فكتب
إليه مرة أخرى: لقد علمت أن الله حرم الخمر، وإذا حرم الله شيئاً
حرمه ظاهراً وباطناً، ولكنكم آل المغيرة فيكم جفوة، أرجو ألا
تموتوا على ذلك. فكتب إليه: قد انتهيت يا أمير المؤمنين! هذا في
البداية والنهاية لابن كثير ، لمن أراد أن يرجع إليه. فهنا
قول عمر : قد علمت أن الله حرمها، وإذا حرم شيئاً حرمه ظاهراً
وباطناً، يستعمل في الظاهر مثل الميكروكرم أو صيغة يود أو أي شيء
مطهر. (إن الله حرم بيع الخمر ) إذاً: نأخذ من لازم تحريم بيعها
تحريم الانتفاع منها؛ لأن الذي يريد أن يأخذها ماذا يصنع بها؟ لابد
أن ينتفع بها، ينتفع بماذا؟ لا يوجد إلا الشرب.
حكم بيع الميتة والانتفاع بها
قوله: (والميتة ). حرم بيع الميتة، الميتة جاء النص في تحريمها،
ويرى بعض العلماء أن النص مجمل: حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3]،
فقال: حرمت في ماذا؟ هل أكلها، بيعها، شراؤها؟ قالوا: هذا مجمل.
والآخرون قالوا: لا، ليس مجملاً؛ لأن الفائدة من الميتة كانت قبل(3/173)
الموت إذا ذكيت بالأكل، وليس هناك أي جانب انتفاع إلا الأكل، فلما
حرم بيع الميتة حرم أكلها، كما حرمت الخمر وحرم شربها. والنقاش في
نجاسة الميتة، ونجاسة الخمر، وبالتالي نجاسة الدم؛ لأن الرسول صلى
الله عليه وسلم نهى عن بيع الدم، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم
أخذوا حكم النجاسة في الميتة من حكم تحريمها، وذلك حينما مر صلى
الله عليه وسلم بشاة -لميمونة - ميتة يجرونها، فقال: (هلا
انتفعتم بإهابها ) -الإهاب لغة: الجلد قبل الدبغ- (فقالوا: إنها
ميتة يا رسول الله! ) والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنها
ميتة، فهو يراهم يجرونها، وهل خفي عليه أنها ميتة، أم أنه يراها؟!
هو يراهم يسحبونها، ويرى أنها ميتة، لكن قولهم: إنها ميتة، لا
لإخباره بموتها؛ لأنه مشاهد، ولكن للازم موتها وهو النجاسة، (إنها
ميتة)، بمعنى: إنها نجسة بالموت، وكان جوابه إياهم بمقتضى هذا،
فقال: (يطهره -أي: الإهاب- الماء والقرظ ) إذاً (إنها ميتة) لا
يعنون بذلك الإخبار، وإنما يعنون النجاسة، وهو يكلمهم عن الإهاب،
وخاطبهم في الطهارة والنجاسة، لا في الأكل والشرب، قال: يطهره.
إذاً: يطهره، رداً على استشكالهم النجاسة اللازمة للميتة، فقوله:
(يطهره) أي: نعم هي ميتة، ونعم هي نجسة كما قلتم وفهمتم، ولكن ليست
النجاسة لازمة لها، فإن جلدها يمكن تطهيره بالماء والقرظ. إذاً:
نهى عن بيع الخمر، ونهى عن بيع الميتة، والنهي يقتضي التحريم،
وهناك قاعدة: كل محرم لذاته فهو نجس العين.
العلة في النهي عن بيع وأكل لحم الخنزير
قوله: (والخنزير ). وكذلك نهى عن بيع الخنزير ولو كان حياً،
ولماذا لا يباع ولحمه يؤكل، وشهي عند أصحابه وأربابه؟ فلماذا نهى
عنه؟ لابد من علة، ما هي هذه العلة؟ هل لأنه ميتة؟ لا، لأنه نهى عن
بيع الخنزير وهو حي يمشي على أربع، والعلة في النهي عن بيع الخمر
هي النجاسة، والعلة في النهي عن بيع الميتة النجاسة، إذاً: الخنزير(3/174)
يشترك مع الخمر والميتة في النجاسة، ولذا ورد في النص الكريم: فَإِنَّهُ
رِجْسٌ [الأنعام:145]
والرجس: النجس. إذاً: هذه الثلاثة نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعها
لنجاستها. الشيء الثاني: هناك جوانب تدل على حكمة التشريع، فالخمر
ولو لم تكن نجسة فهي ضارة، والمضر لا يجوز استعماله؛ لأنه يضر
بالجسم، ويكفي في ضررها أنها تزيل العقل، وتسلب الإنسان أعز ما به
كان إنساناً، والميتة ضارة بعينها على جسم الإنسان، والإنسان ممنوع
من تعاطي ما فيه ضرر عليه، والخنزير كذلك، ويذكر أبو حيان رحمه
الله في تفسيره عند الكلام على لحم الخنزير، قال: إن الخنزير مفقود
الغيرة، لا يغار الذكر على أنثاه -يقول-: وقد شاهدنا من أكثر من
أكل لحم الخنزير أنه سلب الغيرة، فيرى زوجه تلاعب غيره على مرأى
منه ولا يتأثر، وأي مضرة ومصيبة في افتقاد الرجل الغيرة؟! وسبق أن
قلت: الغيرة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: غيرة جنونية، ويسميها علماء
الاجتماع: الغيرة السوداء وهي: التي تحجب عن صاحبها الرؤية؛ فيبطش،
ويفعل كل ما بدا له غيرة، والأمر لا يحتاج إلى هذا كله، وغيرة
حمراء، وهي: الغيرة التي تدفع صاحبها للذب عن محارمه، ويغار على
محارم الله، وهذه هي الغيرة المشكورة فإن زادت أفسدت، وإن ضعفت
أفسدت؛ لأنه لا يغار على محارمه، ولا يغار على محارم الله، وأصبح
لا غيرة له كما قال أبو حيان رحمه الله. ومن المضار الصحية في
لحم الخنزير: ما قرره الأطباء من أنه ينتج عنه دود العضل، والدود
معروف وغالباً يكون في المعدة، ويُعالج بالدواء وينتهى، حتى الدودة
الشريطية التي طولها اثنا عشر متراً، وتعيش في المعدة، ولكنها
تُعالج وتخرج بدواء خاص، أما الدود الذي في العضل، في الفخذ أو في
اليد أو في الزند فلابد من شق العضلة، ولقطه بالملقاط: واحدة
واحدة، وهذه أكبر مصيبة. إذاً: نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع
الخنزير؛ للعلة التي اشترك فيها مع الميتة والخمر، والمنصوص عليها(3/175)
في كتاب الله بأنه رجس.
حكم بيع الأصنام والانتفاع بها
قوله: (والأصنام ). الأصنام: كل ما كان مجسماً على صورة معبود
-أياً كان- نجم، قمر، حيوان، شجرة، فكل ما يعبد، وله جسم مجسم، له
ظل، فهو صنم، وهنا يقولون: هل تحريم بيع الأصنام لذاتها -لنجاستها-
أو للازمها؟ فاتفقوا على أن النهي عن بيع الأصنام إنما هو للازمها،
وهو: كونها تعبد من دون الله، أما إذا كسرتها وجعلتها وقوداً فلا
شيء في ذلك؛ لأنها ليست نجسة، أو كسرتها وصنعت منها كرسياً فلا شيء
في ذلك؛ لأنها ليست نجسة، وعلي رضي الله تعالى عنه لما وصل
مهاجراً ونزل في قباء، كان يرى رجلاً يطرق الباب ليلاً على امرأة
مغيبة، ويعطيها شيئاً، فجاءها علي في النهار وقال: يا أمة
الله! من هذا الرجل الذي أرى منه كذا وكذا! لقد رابني أمرك! قالت:
إنه سهل بن حنيف ، علم أني امرأة، وليس عندي أحد، فيغدو على
أصنام القوم فيأتيني بها ويقول: احتطبي بهذا. إذاً: الأصنام تسمى
بهذا الاسم إذا كانت على هيئتها الصنمية، فإذا ما كسرت لم تعد
أصناماً، وأصبحت خشباً مكسراً، أو حديداً أو نحاساً، أو أي مادة
صنعت منها. إذاً النهي عن بيع الأصنام لا لعينها ولكن للازمها.
والأصنام: كل ما عبد من دون الله وكان ذا جسم -أي: شاخص- له ظل،
مصنوع من خشب، أو حجر، أو معدن، ذهب أو فضة، أو نحاس، أو من
الأحجار الكريمة، ويوجد في بعض البلاد -في معابد غير اليهود
والنصارى والمسلمين- صور لأصنام من أحجار كريمة، ربما تعادل
الملايين من الدولارات، وبيع الأصنام محرم، لا لنجاستها كما هو
الحال في الخمر والميتة والخنزير، ولكن لعدم منفعتها، ولما يترتب
عليها من الضلال فإنها تعبد من دون الله. ويتفق العلماء على أن
الصنم إذا كسر وتغيرت حالته عن كونه صنماً مجسماً ذا صورة وهيئة،
وأصبح فُتاتاً وكسراً، ويمكن الانتفاع بتلك الأجزاء؛ فلا مانع من
بيعها، فإذا كان الصنم من أحجار كريمة: كالفيروز، والياقوت،(3/176)
والعقيق، أو نحو ذلك، وفتت وأخذ فتاته، وانتفع به حلية: كفصوص
للخواتم، وزينة لبعض المقتنيات فلا مانع، أو كان حجراً يمكن
الاستفادة منه في بناء شيء أو ارتكاز شيء، أو كان خشباً يمكن
الاستفادة منه باتخاذه حطباً، أو اتخاذه إناء، أو شيئاً مما ينتفع
به في غير العبادات أو الضلال، فلا مانع. وأشرنا إلى ما كان من علي رضي الله تعالى عنه حينما قدم مهاجراً، ونزل بقباء، وكانت هناك
امرأة مغيبة -أي: ليس لها زوج حاضر- فكان يأتي شخص بالليل ويطرق
عليها الباب، فتخرج فيناولها شيئاً ويذهب، فارتاب علي رضي الله
تعالى عنه في ذلك فسألها: من هذا الذي يطرق عليكِ الباب ليلاً
ويناولك شيئاً؟! وأنت امرأة وحيدة مغيبة! قالت: هذا فلان -وسمته:
سهل بن حنيف - علم أني وحيدة، فيعدو على أصنام القوم، فيأتيني
بها ويقول: احتطبي بهذه. أي: تتخذها حطباً توقدها وتستفيد من
وقودها، سواء كان في خبز عجينها، أو في طهي طعامها، أو تسخين
مائها، أو تدفئتها، أو أي منفعة من المنافع التي يحتاجها الناس في
البيوت.
يحرم بيع ما لا فائدة منه
ويلحق بهذا كل ما لا فائدة فيها شرعاً، ولا عرفاً، فإنه يحرم بيعه،
ومن ذلك آلات الملاهي، وتلك الأوراق التي يلعب بها كثير من الناس،
فإنها ليس فيها فائدة، وقد يذكر أهل هذه اللعب فوائد لبعضها كتعليم
الحساب، أو تعليم السياسة العسكرية، كما جعلوا ذلك في بعض أنواع
النرد، ويسمونها (لعبة الملوك) وفيها تسيير الجيوش وتدبيرها،
فالشطرنج مثلاً: بعضهم أجازها؛ لأن فيها التدريب على حسن قيادة
الجيوش، وبعضهم قال: هي من الملاهي، فإذا كانت اللعبة، أو الآلة
والأداة لا فائدة من ورائها -كأدوات الطرب جميعها بدون استثناء-
ديناً ولا دنيا، فلا يجوز بيعها؛ لعدم صحة الانتفاع بها، وعدم إذن
الشرع فيها، فكل ما نهى الشرع عنه من تلك النواحي أو كان لا فائدة
فيه فهو داخل في عموم النهي عن بيع الأصنام، لا لأنه صنم، ولكن(3/177)
لأنه لا نفع فيه. وأجمع العلماء على أن من شروط صحة المبيع أن يكون
مما ينتفع به، أما ما لا ينتفع به فلا يجوز بيعه، فلو أن إنساناً
يتاجر بالحيات والثعابين! فهذه لا ينتفع بها، اللهم إلا في المزارع
الخاصة بها، فينتفع منها باستخراج سمها؛ لإدخاله في بعض الأدوية،
وبعض المصالح، لأن سم الثعبان قد يعالج به، كما قال القائل: وداوني
بالتي كانت هي الداء، فإذا اقتني لاستخلاص السم منه وتصنيعه، فلا
بأس في ذلك، أما إذا كان للإيذاء، إذا كان للعب، أو كان لترويع
الناس، فهذا حرام ولا يجوز بيعه. وهكذا الحشرات التي لا تنفع، فكل
ما لا نفع فيه شرعاً، ولا نفع فيه عرفاً، لا يجوز بيعه، وهو داخل
تحت عنوان: النهي عن بيع الأصنام.
حكم بيع شحوم الميتة والانتفاع بها
وهكذا نهى صلى الله عليه وسلم عن هذه المسميات، ثم إن السامع لما
سمع النهي عن بيع الميتة، والميتة فيها ما ينتفع به عرفاً، وهو
شحوم الميتة، يؤخذ فيجمل فيذاب -كما ذكر- وتطلى به السفن، أي: من
الجانب الذي يلي الماء؛ لئلا يتخلل الماء في مسام الخشب؛ فيعدمه
ويفسده، أو فيما بين تركيب اللوح على اللوح، فقد تكون هناك فجوات،
أو مسام، فيحشونها بخيوط الصوف، أو الكتان، ويملئون فراغها، ثم
يأتون بالشحم، أو يأتون بالقار، أو يأتون بأي أنواع الشحوم التي لا
تذوب في الماء؛ لتسد المسام التي بين الألواح حتى لا يتسرب الماء
إلى داخلها، أو إلى داخل الخشب فيفسده. فاستثنوا (قالوا: يا رسول
الله! أرأيت -(أرأيت) تستعمل بمعنى: أخبرني، أي: أخبرنا يا رسول
الله!- شحوم الميتة، فإنه يستصبح بها، وتطلى بها السفن ) .
قوله: (يستصبح بها ) كان في السابق: يستصبح بمادة الدهن، قال
الله تعالى: مَثَلُ
نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ
الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ
مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ [النور:35]،(3/178)
كان زيت الزيتون أرقى أنواع الاستصباح؛ لأن ضوءه يأتي صافياً، وليس
فيه دخان، فكان يؤتى بالمصباح، وهو: عبارة عن وعاء مثل الكأس، يملأ
بالزيت، ويوضع في داخله فتيلاً غير مشدود البرم، خفيف البرم -سحيل،
كما يقال- ويجعل أحد طرفيه على حافة الكأس من الخارج، ويجعل الطرف
الآخر داخل الكأس، وعملية الجذب وكثافة النار تسحب الزيت، والزيت
يخرج من داخل الكأس بواسطة هذا الشريط -الخيط- فيصل إلى النار
فيضيء، وكان إلى عهد قريب في المسجد النبوي القناديل معلقة، وكان
يؤتى بالزيت بالبراميل، وهناك أحجار الزيت موجودة في التاريخ،
ومستودعات الزيت كانت قبل العمارة السعودية الموجودة، فيستصبح بها،
سواء كان في البيوت، أو كان في الطرقات، أو كان في المساجد. فهذه
مصلحة ومنفعة، فطلبوا استثناء شحوم الميتة، وقالوا: نستثني من ذلك
يا رسول الله! الشحوم يا رسول الله! فإنه وإن كانت الميتة محرمة،
ولا يجوز أكلها، ولا الانتفاع بها، ولكن في شحومها منفعة، فقال:
(لا، هو حرام ) . كلمة (هو) هذا الضمير المنفصل يعود على أي
شيء؟ هل هو عائد إلى النهى عن البيع، وبيع: لفظ مذكر، مصدر، يصدق
عليه (هو) يعني: بيعها حرام، ويصدق عود الضمير على الشحم (هو)
يعني: شحمها حرام، فكلمة (هو حرام) يتردد الضمير المنفصل في العود:
إلى البيع المعنون له في الأول مع الأصناف الأربعة، وإلى الشحم
المستجد الذكر، فقوله: (لا؛ هو حرام) يعني: بيعها، أم أن قوله:
(لا؛ هو حرام) يعني: الشحم حرام، فمن هنا وقع الخلاف بين العلماء
في الانتفاع بشحوم الميتة. فقيل: الضمير راجع إلى البيع فقوله: (هو
حرام ) يعني: البيع حرام، فلا يجوز بيعه، ولا أخذ ثمنه، أما
الانتفاع به لصاحبه في غير البيع فجائز؛ لأن التحريم عائد على
البيع، وليس هناك نهي عن الانتفاع. وإن كان الضمير راجعاً إلى
الشحم، فيكون النهي عن الانتفاع عموماً، ومنه البيع؛ لأن البيع(3/179)
انتفاع، ولذلك نجد بعض العلماء يقول: لا ينتفع من الميتة بشيء،
واستثنى منها: الشعر، والصوف، والوبر، فإنه يؤخذ من الميتة وينتفع
به، وهذا جائز باتفاق، والخلاف في العظم: كسن العاج، وسن الفيل،
وقد جاء: (ما أبين من حي فهو كميتته )، وسن الفيل عاج يؤخذ منه
وهو حي، فهل يكون كميتته حرام الانتفاع أو ليس كميتته، ولكنه
كالشعر، والوبر، والصوف، في الحيوانات ذات الشعور والأوبار
والأصواف؟ يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا: سن الفيل خارج مثل
الظفر، لأنه حينما يقص ليست فيه حياة، فهو كالجماد، إذاً: يجوز
بيعه، ويجوز استعماله، وإن كان قد أبين من حي. وقد جاء تحريم
الميتة عاماً، قال تعالى: حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3]
(ال) شملت جسمها من شعرها إلى ظلفها، وجاءت السنة واستثنت من ذلك
الشعر، وفي الآية الأخرى: وَمِنْ
أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا
إِلَى حِينٍ [النحل:80]،
فقد أباح القرآن: جز الصوف، والوبر، والشعر، من البهيمة وهي حية،
والانتفاع منه، إذاً: هذا تخصيص السنة للقرآن. وجاء أبعد من هذا:
(هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به ) ، وفي الحديث الآخر: (إذا ماتت
الميتة فلا تنتفعوا منها بشيء ) وهو عام في كل شيء، لكن جاء
الاستثناء في قوله: (هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به ) ولو كان
إهاب ميتة، ولو تنجس فإنه يطهره الماء: (أيما إهاب دبغ فقد طهر )،
حتى إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله عمم الإهاب وقال: ولو إهاب
خنزير، وقيل: إن الخنزير ليس لديه جلد. -أنا لا أدري حقيقة الأمر،
ولكن لا يوجد حيوان بدون جلد- وقيل: إن جلده يؤكل مع لحمه؛ ولهذا
لم يخصص الجلد عن بقية اللحم في قوله: فَإِنَّهُ
رِجْسٌ [الأنعام:145]،
فالضمير راجع إلى عموم الدائرة التي تحتوي الخنزير: شعره، جلده،
لحمه، شحمه، فكل ما فيه: رجس، ولهذا لا يطهر. فهنا استثني من(3/180)
الميتة الانتفاع بالجلد، ويطهر بالدباغة، سواء كانت بالتراب،
بالقرظ، بالخشب، بأي شيء، ما دام قد دبغ، وأخرجت الرطوبة التي كانت
فيه، وأصبح جرماً بلا رطوبة، فيجوز الانتفاع به، مع اختلاف الناس
في الانتفاع بالمائعات، أو في اليابسات... إلخ. فهنا لما طلبوا
استثناء شحوم الميتة من عموم النهي في البيع قال: (لا، هو... )
هو: هل الضمير عائد على البيع أو على الشحم؟ فمن قال: عائد على
البيع، قال: إن الشحم تابع للميتة، فإذا لم يجز بيعها؛ لم يجز
الانتفاع به بأي حالة من الحالات، بدليل ما ذكر صلى الله عليه وسلم
في حق اليهود: (لما حرم الله عليهم الشحوم جملوها فأذابوها فباعوها
فأكلوا ثمنها )، إذاً: انتفعوا بما حرم الله عليهم من الشحوم،
وليس بلازم أن يكون الانتفاع بالأكل مباشرة، ولكن باعوها وأكلوا
ثمنها، والثمن مادة سيالة تذهب في المطعوم وغير المطعوم، وحصل لهم
انتفاع بالمحرم بواسطة، وهذا تحيل على ما نهى الله عنه. فقوله: (هو
حرام ) أي: الشحم، فلا يجوز بيعه بأي حالة من الحالات، ولا يجوز
استخدامه في أي شيء؛ لأنه حرام.
الانتفاع بالزيت المتنجس
والذين قالوا: إن الضمير راجع إلى البيع، الذي هو أصل الحديث: (نهى
عن بيع ) قالوا: بما أن الضمير عائد على البيع، فإن المحرم:
بيعها، ويجوز الانتفاع بشحوم الميتة، وبالزيوت المتنجسة انتفاعاً
شخصياً، لا أن تباع ويؤخذ ثمنها ويؤكل، ولكن يستنفع بعينه، وقد سئل
صلى الله عليه وسلم عن السمن تقع فيه الفأرة، ونحن نعلم أن كل ذي
نفس سائلة -يعني: دم- إذا سقط في سائل ولا نقول: قلة ولا قلتين- في
إناء فمات فيه؛ فقد تنجس هذا السائل الذي فاضت نفسه فيه، وأما ما
ليس له نفس سائلة إذا مات في السائل فإنه لا ينجسه، واستدلوا بحديث
الذباب: (إذا سقط الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه ) قال
العلماء: غمس الذباب في الماء يضمن موتها فيه، وموتها فيه لا(3/181)
ينجسه؛ لأنها ليس لها نفس سائلة، وقاسوا على الذباب البعوضة وغيرها
مما ليس له دم. ومفهوم المخالفة: لو أن حشرة فيها دم يجري وماتت في
السائل فإنها تنجسه، فعندنا حديث الذباب: لم ينجس الماء الذي غمس
فيه، والفأرة نجست السمن الذي ماتت فيه؛ لأن الفأر فيه دورة دموية
كبقية الحيوانات الأخرى، فلما سئل صلى الله عليه وسلم عن السمن تقع
فيه الفأرة، قال: (إن كان جامداً فألقوها وما حولها ) ألقوا
الفأرة وما حولها من السمن الجامد، أما ما كان بعيداً عن مكان
وقوعها فلم يصله أثر موتها، ولم تصل النجاسة إلى ما كان بعيداً عن
موضع وقوعها وموتها، إذاً: الذي كان في موضع وقوعها وموتها تنجس
فنلقيه، وما كان بعيداً لم يتنجس، بدليل الأمر بإلقاء ما كان حولها
فقط، ومفهوم المخالفة: أن البعيد عنها لا نلقيه، وإذا كان مائعاً
فجاء في الحديث: (فاتركوه )، وجاء: (فانتفعوا به ) بم ننتفع؟
بهذا السمن الذي ماتت فيه الفأرة! وإذا كان مائعاً فالنجاسة تسري
إلى آخر الماعون الذي هو فيه، بخلاف الجامد فلا مجال لأن تسري فيه،
ولكن فيما حولها فقط، فقالوا: هذا سمن تنجس بموت الفأرة فيه وهو
مائع، والنجاسة قد سرت في كامل السمن الموجود في هذا الإناء، وأباح
لهم الانتفاع به، وفي بعض الروايات: (فاستصبحوا به ) إذاً: أباح
لهم الانتفاع بسمن متنجس، إذاً: هذا متنجس بموت الفأرة، وذاك الشحم
متنجس، أو نجس بموت الشاة؛ إذاً: يجوز أن نستفيد منه، ولا يجوز أن
نبيعه؛ لأننا إن استفدنا منه كان بعينه فيما فيه المصلحة، فندهن به
السفن، ونستصبح به في السرج، إلا المساجد كما هو منصوص عليه عند
الحنابلة، فلا نستصبح بزيت متنجس في المسجد.. لماذا؟ وما الفرق بين
المساجد والبيوت؟ قالوا: حفاظاً على المسجد من أن يسقط فيه من هذا
الزيت؛ لأنه مخالط له، فلا نضمن مائة بالمائة أننا نضع الزيت في
المصباح ولا يسقط منه شيء في أرض المسجد، إذاً: احتياطاً للمسجد،(3/182)
أما في الطرقات وفي البيوت فكيفما شئت. فمن هنا قال بعض العلماء:
يجوز الاستفادة من شحوم الميتة وما في حكمها بذاته، ولا يجوز بيعه،
وهذا الجمع بين النهي عن بيع الميتة، ولما سئل عن الشحم قال: (هو
حرام ). يعني: بيعه، وهنا في السمن المتنجس قال: (انتفعوا به )
إذاً هناك النهي عن البيع، وهنا الإذن في الاستفادة، وهذا هو الجمع
بين الأمرين، وهكذا كل المتنجسات إذا أمكن الانتفاع بها في ذاتها
فلا مانع. وقاسوا على هذا سماد الحيوانات غير مأكولة اللحم -وهي
نجسة- أما سماد مأكولة اللحم فروثها وبولها طاهر على المشهور، فإذا
كان هناك -كما يسمونه- سرجين نجس هل يجوز بيعه؟ قالوا: لا. فهل
يجوز أن نسمد به النبات؟ قالوا: نعم؛ لأنه انتفاع بعينه بدون بيع.
وبعضهم قال: يجوز للمشتري أن يدفع الثمن، ولا يجوز للبائع أن يأخذ
الثمن! فأين يذهب بالثمن إذا كان هذا سيدفع وهذا لا يأخذ؟! سيدفع
لمن؟! قالوا: هذا من باب التورع، كما قيل في بيوت مكة: يجوز
للمحتاج أن يستأجر، ولا يجوز للمالك أن يؤجر. إذاً: فماذا يصنع؟
قالوا: إذا طلبت منه أجرة دفعها، وإذا لم تطلب منه أجرة فليس عليه
شيء. إذاً: طلبهم استثناء شحوم الميتة كان للحاجة إليها، ويجوز
الانتفاع بها دون البيع، لحديث: (الفأرة تقع في السمن المائع
فينتفع به ) . والله تعالى أعلم.
( كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [2] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (أعتق رجل منا عبداً..)
2 شرح حديث: (أن فأرة وقعت في سمن..)
3 شرح حديث: (إذا وقعت الفأرة في السمن..)
4 شرح حديث: (سئل عن ثمن السنور والكلب..)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [3]
من الفواسق الفأرة، ولها أحكام في الفقه، مثل حكمها لو وقعت في سمن
جامد أو مائع، ويذكر هذا في باب البيوع للاختلاف في جواز بيع هذا السمن
الذي سقطت فيه. وكذا يذكرون في باب البيوع حكم بيع السنور والكلب، ومثل(3/183)
هذه المسائل إنما يدل على سعة هذا الدين وشموله، وتميزه في حل المشكلات
من المسائل العارضة.
شرح حديث: (أعتق رجل منا عبداً..)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد.. فقال المصنف رحمه
الله: [وعنه (أي: عن جابر) قال: (أعتق رجل منا عبداً له عن دبر،
ولم يكن له مال غيره، فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فباعه ).
متفق عليه]. شخص أعتق عبداً، والرسول صلى الله عليه وسلم أحضره
وباعه، وانتهى الأمر، ما علاقة هذا بهذا الباب؟! المؤلف عنوَن لهذا
الباب بقوله: باب شروطه وما نهي عنه، وهنا يسوق لنا حديث: (أعتق
رجل منا عبداً له عن دبر )، (أعتق عبداً ) هذه مفهومة، لكن
(عن دبر ) يعني: بعد موته، قال للعبد: أنت حر بعد موتي، فمات،
فإنه يُعتَق، فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بالعبد
وباعه، ولماذا باعه وأبطل إعتاقه؟ أممنوع أن الإنسان يعتق عن دبر؟!
ليس بممنوع، إذاً: فما العلة والموجب لإبطال إعتاقه؟! المؤلف هنا
اختصر الحديث، وهذا رجل أوصى بعتق عبده، جاء في هذه الرواية: (ولم
يكن له مال غيره )، وهناك رواية أخرى: (وهو مدين )، فكيف
تكون مديناً للناس، وتتبرع للعبد بالحرية! أولاً: اعتق نفسك أنت؛
لأن الإنسان الذي يموت مديناً يكون مرتهناً بدينه في قبره،
فالأولى: أن تعتق نفسك بسداد الدين قبل أن تعتق العبد.
ثلاث جدهن جد وهزلهن جد
يقولون: ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والعتاق، وهذا
أعتق، ولو أعتق وهو يمزح؛ قلنا: هذا جد، وكذا لو طلق وهو يضحك أو
يلعب، قلنا: انتهى الأمر، ليس فيها لعب، ولو قال: زوجتك وهو يلعب؛
انتهى الأمر زوّج. يذكر أن اثنين تواعدا للخروج للغزو، فتأخر
أحدهما عن الآخر، قال: ما أخرك يا أخي؟! قال: جئت أخرج فإذا المرأة
تنفس فانتظرت حتى وضعت، قال: فماذا رزقت؟ قال: رزقت بنتاً، قال:(3/184)
زوجنيها، فقال: زوجتك. الآن لم تُربط سرة البنت بعد! وهذا يقول:
زوجنيها! والأب يقول له: زوجتك، لكنه يقولها مزاحاً. فالثاني تربص
حتى عرف أنه قد حان قطافها، قال: يا أخي! زف لي عروستي، قال: ما
بيني وبينك شيء. قال: في يوم كذا، في ظرف كذا، في غزوة كذا، أما
زوجتني البنت ليلة ولادتها؟! قال: اذهب يا رجل! إنما كان مزحاً
ولعباً، فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله إن هذا امتنع أن يعطيني زوجتي، وأخبره القصة، فقال له: (دعها
لا خير لك فيها )، أقر الحق في نصابه، ثم وجّه النصح، هذا الذي
يجاهد ويذهب ليغزو في سبيل الله، يتزوج بنتاً لم تربط سرتها! كم
يكون الفرق بينهم من السنين؟ وأيضاً فهو سيأخذها غصباً عن أهلها؛
لأنهم قبلوا بتزويجها له في حالة مزح، والآن أصبح الأمر لا مزح
فيه، فكيف ستكون العلاقة بينهما؟ يعني: هذا الوضع ليس وضع زواج
وفرح، (لا خير لك فيها ). فهنا أعتق العبد، أو أوصى بعتقه، ومات
فاستحق العتق، فعُتِق العبد، ثم استدعاه صلى الله عليه وسلم وباعه.
لماذا باعه؟ وأين ذهب بثمنه؟! هل أعطاه للورثة؟ لا، بل دفع لأصحاب
الديون ديونهم. وإنما استرجعه من العتق وباعه من أجل تسديد الدين
الذي على سيد ذلك العبد. فهل يجوز للإنسان أن يعتق أو أن يتصدق وهو
مدين؟ هو مدين بمائة ألف، وعنده عشرة آلاف، وذهب يتصدق بها، ويقول:
هذا لوجه الله، وماذا عن حق الناس! العشرة آلاف التي وزعتها على
عشرة أشخاص، كل واحد أعطيته ألفاً، ستعيشه يوماً أو يومين، لكن كيف
تتصدق وأنت مدين؟! ما يجوز هذا. ومن هنا قال العلماء: لا يجوز
لإنسان أن يعتق -سواءً كان العتق في حال حياته أو عن دبر منه- وهو
مدين بقيمة العبد، أو بعضه، وعلى ولي الأمر أن يرد العتق، ويبيع
العبد، ويسدد الديون، والله سبحانه وتعالى أعلم.
شرح حديث: (أن فأرة وقعت في سمن..)
قال رحمه الله: [وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم (أن(3/185)
فأرة وقعت في سمن فماتت فيه، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها
فقال: القوها وما حولها وكلوه ). رواه البخاري وزاد أحمد والنسائي (في سمن جامد ). يذكر المؤلف رحمه الله تعالى حكم
المتنجسات، وحكم بيعها، أي: الأشياء التي أصلها طاهر ولكن طرأت
عليها نجاسة. وذلك بعد أن قدّم حكم نجس العين، في عين الخمر،
والميتة، والخنزير، فهذه الثلاث نجسة بذاتها، أما السمن فمن حيث هو
فطاهر، وإدام، ونعمة، لكن قد يطرأ عليه ما ينجسه، فما حكم ذلك؟
الحكم فيما إذا ماتت الفأرة في السمن الجامد
أخبرتنا ميمونة رضي الله تعالى عنها أن فأرة وقعت في سمن، وسئل
عنه صلى الله عليه وسلم فقال: (ألقوها -أي: الفأرة- وما حولها )،
ومفهوم كلمة (ما حولها) يشعر بأن السمن جامد؛ لأن السائل لا يتحدد
حولها بحد، أما الجامد فما قرب منها فهو حولها، ثم جاء التصريح (في
سمن جامد ). وما عدا منطقة سقوط الفأرة وموتها، فكلوه على
الأصل، وسيأتي البيان في الحديث الذي بعده حديث أبي هريرة ، وقد
جمعهما المؤلف ليبين حكم السمن الجامد والسمن المائع، وما يُلحق
بذلك.
تاريخ الفأرة، وفسقها
الفأرة لها تاريخ! يقول بعض العلماء إنها من الأمم التي مسخت من
قبل، ويذكر الشوكاني دلالة على مسخها، وليس معنى مسخها: أن كل
فأرة في العالم من ذاك الممسوخ، فهناك مخلوق أصلي، وهناك مخلوق
ممسوخ. يقول بعض العلماء: لو قرّبت إليها حليب الإبل، أو لحم
الإبل، ما أكلته وما شربته؛ لأن بني إسرائيل لا يشربون ألبان
الإبل، ولا يأكلون لحومها؛ لأن خفها ذو ظفر، وإن كانت من الفئران
الأصلية -قبل المسخ- فإنها تشرب وتأكل! وبعض العلماء يرد ذلك
ويقول: إن كل ما مُسخ من الأمم التي نص القرآن أن الله جعل منهم
قردة وخنازير لم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام، أي: بعد أن ثبتت الآية
في حقهم، والآخرون يقولون: إنهم لا زالوا يتناسلون، وموجودون حتى
الآن. والفأرة إن من طبيعتها الإفساد، فلا تعرف إصلاحاً أبداً،(3/186)
وسميت الفويسقة، وهي: تصغير فاسقة، لأن الفسق في اللغة: الخروج،
تقول العرب: فسقت النواة عن الرطب، يعني: خرجت منها، وفسقت الحبة
عن الرحى: أي طارت من تحتها ولم تُطحن، ومنه الفاسق من البشر: الذي
يخرج إلى طريق الإفساد. قالوا: إنها لا تخرج إلا للإفساد، ويقولون:
إن الفأر خبير بمواطن دفن الذهب، وينقب عنه ويخرجه، ولهم في ذلك
قصص. وجاء في الحديث: (غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، وأغلقوا الباب،
وأطفؤا السراج )، ثم بيّن صلى الله عليه وسلم وقال: (فإن
الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم )، كما نبهنا بأنهم في
السابق كانوا يستصبحون بالزيت، ويضعون الفتيل داخل السراج، وهو:
عبارة عن كأس فيه زيت، ويضعون طرف الفتيل على حافة السراج، ويشعلون
فيه النار، فيضيء مثل الشمعة، فإذا جاءت الفأرة، وأرادت أن تلعق
الزيت، تخاف من النار، فتنثني بذنبها، وتسحب الخيط الذي في السراج،
وتخرجه وتلقيه خارج السراج، وقد يكون مشتعلاً، فإذا سقط على فراش
أو على ثياب أو شيء قابل للاحتراق أشعله، (فإن الفويسقة تضرم )
أي: تحرق (على أهل البيت بيتهم ). وأما تخمير الإناء فهو:
تغطيته، فإذا كان الإناء فيه ولو ماء، فعليك أن تغطيه، وجاء في
الأثر: (فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عوداً، ويذكر اسم
الله فليفعل )، ضع عليه عوداً معترضاً، وسم الله فإنه يكفيه،
وذكر صلى الله عليه وسلم أن البلاء ينزل ليلة في السنة، فما وجد
إناءً مكشوفاً إلا نزل فيه، حتى قال بعض العلماء: لو كان الإناء
فارغاً فإما أن تكفيه، وإما أن تغطيه. وإيكاء السقاء، السقاء:
القربة، ومعلوم أنها كانت آلة الشرب، وتبريد الماء، وحمله، فإذا
تركت فم القربة مفتوحاً -وخاصة في المناطق الحارة- فإن الهوام تبحث
عن الأشياء الباردة، وتأتي وتلبد فيها طلباً للبرودة، فلربما هوام
الأرض جاءت إلى فم القربة فوجدته مفتوحاً فدخلت، ولهذا نهى صلى(3/187)
الله عليه وسلم عن الشرب من فم السقاء، ولو كان مربوطاً، فلا تذهب
وتفكه وتضعه على فمك وتشرب، ولكن يجب أن تصب الماء في إناء لترى
ماذا فيه؟ أهو صاف أم فيه شيء، فلو كان في السقاء شيء؟ وشربت بفيك
فلن تستطع تداركه، لكن إذا صببت الماء في الإناء رأيت الإناء بما
فيه. وقد سمعنا في هذا حكايات كثيرة: فهذا يرى العقرب الصغيرة على
فم القربة، وهذا رأى كذا وكذا، أشياء كثيرة، وهذا أمر طبيعي وخاصة
في المناطق الحارة. وهنا تذكر لنا ميمونة رضي الله تعالى عنها
أن فأراً وقع في السمن، وأظن أنه لا يوجد بيت من البيوت يسلم من
الفئران، إلا ما كان في الآونة الأخيرة من البيوت المسلحة التي ما
فيها بيوت للفئران، ولا تستطيع أن تتخذ لها فيها بيوتاً، ولكن يمكن
أن تدخل بين الأثاث، وخاصة في المخازن والمستودعات، فهناك تتكاثر
وتتوالد وهي -سبحان الله- أعطاها الله كثرة الإنتاج.
غمس الذباب في الإناء إن وقع فيه
الفأرة مخالطة للناس، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم كيف نتعامل
معها، كما بين لنا كيف نتعامل مع الذباب، (إذا وقع الذباب في شراب
أحدكم )، ولا أظن أحداً في الدنيا لم يسقط الذباب في كأس في
يده؛ لأنه مخالط للناس، وسبحان الله جربها في حياتك، خذ طعاماً
وشراباً واذهب إلى الربع الخالي -يمكن خالي حتى من الجن- وضع
الطعام واجلس خمس دقائق، تجد الذباب عندك، من أين جاء؟ أمسافر معك
أم خرج من الأرض أم نزل من السماء؟! لا ندري! قل أن تضع الطعام في
مكان إلا وجدت الذباب، ويقولون -والله أعلم-: إلا منى أيام التشريق
فقط، وبعد أيام التشريق لا تستطيع أن تجلس فيها من كثرة الذباب،
والبعوض، والحيوانات الأخرى. إذاً: علمنا صلى الله عليه وسلم إذا
سقط الذباب في الإناء ماذا نفعل؛ لأن هذا أمر وارد وبكثرة:
(فليغمسه ثم لينزعه )، وبعد هذا تشرب، ومن الخطأ عند بعض الناس
إذا وقع الذباب في الكأس رماه حالاً، وأفرغ ما فيه، وهذا غلط؛ لأن(3/188)
الحديث فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (فليغمسه، ثم لينزعه، فإن في
إحدى جناحيه داء، وفي الأخر شفاء )، وهذا قامت عليه أبحاث في
أوروبا عجيبة جداً، كيف يكون في حشرة صغيرة: أحد الجناحين داء،
والثاني دواء؟! وما الذي ميّز بين هذا وذاك؟ وكتبت كتابات طويلة ما
نحب أن نضيع الوقت في إيرادها، لكن يتفقون طبياً: أنهم وجدوا مبيد
البكتريا في الأنبوب في مؤخرها، وهو أقوى من أي مبيد على وجه
الأرض، أي: واحد على مائة ألف، وقالوا: أنها إذا غمست في الماء؛
ضغط الماء على الأنبوب فينفجر عما فيه فيطهر السائل. فالذي رأى
الذباب سقطت بالكأس فإنه يراه يدلي بالجناح الذي فيه الداء، ويرفع
الجناح الثاني الذي فيه الدواء، فحينما تغمسها بكاملها تكون قد
جمعت الجناحين، وكان الجناح الذي فيه الدواء يقابل الجناح الذي فيه
الداء، ويطهُر السائل من دائه، أما إذا صببته فإنه يتقي بجناحه
الذي فيه الداء، وقد فعل، وأصبح السائل ملوثاً؛ لأن الجناح الثاني
مرفوع فوق، فإذا أرقت هذا الماء فإن جدران الكأس تحمل من داء جناحه
ما يكفي للتلويث، ولو غسّلته بالصابون وبالتراب فلا ينقي كما لو
غمست الجناح الثاني، وهذه حكمة الله سبحانه وتعالى، وهو الأعلم
بمداها وكيف أوجدها. كنت مع طبيب مَعامِل تحليل، وذهبنا العمرة
معاً، ونزلنا في رابغ أيام ما كان الذباب فيها منتشراً بكثرة،
فجلسنا في القهوة، وتغدينا، وأتينا بالشاي، فانتظرت قليلاً فإذا
بذبابتين بقدر النحل يتضاربان، فسقطتا في الكأس أمامي. فقلت هذه
فرصة، ولاحظت نظرات الدكتور، وتغافلت عن الذباب، فقال: عطية !
عطية ! إلحق! إلحق! فغمزتهما إلى الداخل، ورميتهما، وأخذت أشرب،
أنا أريد أن أثير الدكتور؛ لأني أعرف أن هذا عند الدكاترة شيئاً
كبيراً، قال: هاه! ما هذا؟! ما هذا؟! قلت له: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم.. قال: هذه أيضاً فيها قال رسول الله صلى الله عليه(3/189)
وسلم؟! وكان كثيراً ما تأتي مناسبات وأقول له: سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقال مستغرباً: أهذه أيضاً من سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ قلت له: نعم، قال: ماذا قال؟ قلت له: كذا وكذا،
قال: عجباً! إن هذا الحديث صحيح، قلت: ما أدراك بالصحيح والضعيف،
وأنت في الطب وما إليه؟ ما أدراك بهذا؟ قال: كنت في ألمانيا أدرس،
فانقطعت علينا المصاريف بسبب الحرب العالمية الأخيرة، وذهبت للعمل
في مطعم أنا وثلاثة زملاء، فكنا ندرس الطب في الصباح، وفي الليل
نغسل الأواني؛ حتى نعيش ونواصل دراستنا، وهذه والله الرجولة
الصحيحة. يقول: وفي وقت من الأوقات إذا بلوحة في الكلية في الفانوس
الخاص بالإعلانات، فيها إعلان: اكتشاف بكتريوج -أي: مبيد البكتريا-
من الذباب، وتعجبت وتتبعنا هذا. أقول: إن الرسول صلى الله عليه
وسلم يعلمنا كيف نتعامل مع ما يخالطنا في بيوتنا وحياتنا، أما
الذباب فعلمنا كيف نتعامل معه، ويقول الأطباء القدامى: أعظم كحل
للعين هو الذباب، إذا جمعته في (ماصورة) صلب، وأحرقته على النار،
ثم سحقته واكتحلت به، لكن لا تذهبوا وتفعلوا ذلك وتقولوا: فلان قال
لنا.
شرب الفأرة من السائل
هذه الفأرة كيف نتعامل معها خاصة في السائل، لو رأيناها تأكل من
الدقيق، أو من الحب، وذهبت فلا شيء في هذا، وإذا شربت من السمن
وذهبت فلا شيء في هذا، إنما يهمنا إذا ماتت؛ لأنها بموتها تتنجس،
وتنجس ما حولها، فبيّن صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (ألقوها وما
حولها )، الحولية هذه كم مسافتها وكم قدرها؟ قد يختلف بعض الناس
من مسافة سانتيمتر أو نصف سانتيمتر أو عشرة سنتيمتر، وبعضهم يبالغ
ويقول عرض الكف، وهذا أظنه كثيراً. وبعضهم يقول: يرجع الأمر في
الحولية إلى نوع جمود السمن، فقد يكون جامداً جداً، وأصبعك لا تدخل
فيه، فهذا لا تتعدى النجاسة سانتيمتراً واحداً، وقد يكون جامداً
جموداً لم يتم، ولو حرّكته بقوة ربما تحرّك، فهذا يحتاج إلى توسيع(3/190)
ما حولها نوعاً ما. وفي الحديث الأول: حديث ميمونة : (ألقوها
وما حولها وكلوه )، فهذا حكم وقوع الفأرة في السمن الجامد. وهل
الموضوع يقتصر على السمن؟ وإذا وقعت في العسل؟ وإذا وقعت في الدبس؟
إذا وقعت في شيءٍ آخر، يعادل ذلك كالمربى وسقطت فيه وماتت؛ يكون
الحكم واحداً، إن كان العسل جامداً -وأحياناً العسل يجمد- فكما
هنا، وإن كان سائلاً مائعاً فالحكم كذلك، وعلى هذا يكون الأصل في
هذا الحكم هو: السمن.
شرح حديث: (إذا وقعت الفأرة في السمن..)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان
جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه )، رواه
أحمد وأبو داود ، وقد حكم عليه البخاري وأبو حاتم بالوهم ]. الحديث الأول ليس فيه إشكال، لا في السند ولا في المعنى،
والحديث الثاني جاء به المؤلف رحمه الله لما فيه من الخلاف،
والإشكال. والتفصيل: إذا وقعت الفأرة في سمن جامد فإنه يُلقى وما
حولها، ويؤكل الباقي، ولكن هنا تفصيل لواقع الحال، فإن وقعت في
جامد فالحكم قد تقدم، وإن وقعت في مائع فإنه يقول هنا: (فلا تقربوه )،
فلا تقربوه بماذا؟ أبأكل أم بادِّهان أم باستصباح أم بانتفاع؟!
تقدم في النهي عن بيع الميتة أنهم أرادوا استثناء شحومها، فقال:
(لا، هو حرام)، وهل الضمير عائد إلى البيع أو الانتفاع؟ تقدمت
الإشارة إلى الجمع، فقوله صلى الله عليه وسلم (فلا تقربوه )،
الجمهور على أن: (فلا تقربوه )، أي: بالأكل إجماعاً؛ لأنه تنجس
بموتها فيه وهو مائع، ولا نجد حداً محدوداً لوصول النجاسة إلى جزءٍ
منه، بل لكونه سائلاً فإنها تسري في الجميع. فقوله: (فلا تقربوه )،
الجمهور قالوا: لا تقربوه بالأكل، وبعض أهل الحديث، وأهل الظاهر
قالوا: لا تقربوه أبداً، لا بالأكل ولا بالبيع ولا بالانتفاع،
(مطلق أريقوه). والجمهور يقولون: هذا مال، وقبل أن يتنجس كانت له(3/191)
قيمة، ونهينا عن إضاعة المال، وهناك منفعة يمكن تحصيلها من هذا
الدهن، وهذا السمن، فيمكن أن نجعله طلاءً للسفن، أو نستفيد منه
بالاستصباح، أو نحو ذلك، فلا مانع، وذكر الجمهور حديث: (وإن كان
مائعاً فاستصبحوا به )، إذاً: أباح الانتفاع به، وحملوا على هذا
كل متنجس بغيره لا بذاته، فقالوا: يجوز الانتفاع به دون البيع،
والبعض زاد: النجس الأصلي (بذاته)، وقال: شحوم الميتة لا نبيعها،
وإذا انصب التحريم على البيع انصرف عن بقية الانتفاع كالاستصباح،
ودهن السفن وغير ذلك. الذي يهمنا في فقه الحديث الرواية التي ساقها
الطحاوي : (استصبحوا به )، والذي عليه الجمهور: أنه مال
يجوز الانتفاع به، ويبقى النهي والتحريم خاصاً بالأكل؛ لأنه تنجّس،
والإنسان لا يأكل النجس. إذاً: المؤلف رحمه الله جمع الحديثين
معاً؛ ليبين حكم ما إذا وقعت الفأرة في جامد أو مائع، ثم هل الأمر
يقتصر على الفأرة والسمن أو يقاس على الفأرة كل ما شاكلها، وعلى
السمن كل ما شاكله؟ هناك حيوانات تقارب الفأرة مثل ابن آوى وابن
عرس واليربوع أو الجربوع، هذه كلها حيوانات يعرفها أهل البر، منها
ما يأكلونه ومنه ما لا يأكلونه، فهذه كلها من فصيلة الجرذان
-الفئران-، فهل يقتصر الحكم على الفأرة أو يعم الجميع؟ قالوا: يعم
كل ذي نفس سائلة، لو أن قطة صغيرة سقطت في السمن، وبعض الفئران
الكبيرة التي في البساتين أكبر من القطة الصغيرة! فنقول: حكمها حكم
الفأرة تماماً، وكذلك أنواع الجرذان مثل: اليربوع أو الجربوع، وبنت
عرس، وابن آوى، كلها حيوانات صغيرة تعيش في البيوت وتعيش في
البساتين، فإذا سقطت في مائع فهذا حكمها. وتلك الحيوانات بما فيها
الفأرة والهرة الصغيرة إذا وقعت في ماء مستبحر -(بركة كبيرة) أو
كما يقول الفقهاء: فوق القلتين، على اختلاف في تقدير القلتين-
وماتت فيه واحدة من تلك الحيوانات، وكان الماء فوق القلتين، يأتي(3/192)
الحديث: (إذا كان الماء قلتين لا يحمل الخبث )، أي: لا يتنجس،
وقيل: لا يحمل، يعني: يضعف وينجس، والجمهور على أنه (لا يحمل
الخبث) يعني: الخبث لا يؤثر فيه، بل يتلاشى. إذاً: القضية أعم من
مجرد فأرة وسمن.
شرح حديث: (سئل عن ثمن السنور والكلب..)
قال رحمه الله: [وعن أبي الزبير قال: (سألت جابراً رضي
الله عنه عن ثمن السنور والكلب فقال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم
عن ذلك ). رواه مسلم والنسائي ، وزاد (إلا كلب صيد )].
انتقل المؤلف رحمه الله من ذكر حكم النجس والمتنجس -من المطعومات-
إلى هذين الصنفين، فجابر رضي الله تعالى عنه يروي لنا أن
النبي صلى الله عليه وسلم زجر، والزجر: النهي بشدة. قوله: (عن ثمن
الكلب والسنور ) السنور: هو الهرة أو البسة، أو القطة، ويطلق
على الذكر والأنثى، والكلب والسنور مخالطان للبيوت.
طهارة السنور
سُئل صلى الله عليه وسلم عن الهرة فقال: (إنها ليست بنجس )، أي:
في حياتها؛ لأن الموت ينجس كل حي طاهر، وكل ميت نجس، إلا الإنسان، وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70].
كانت بنت أبي كبش تصب الماء لزوجها وهو يتوضأ، فجاءت هرة،
فأصغى إليها الإناء حتى شربت، فنظرت تتعجب! قال: أتعجبين! -يا ابنة
عمي- من ذلك؟! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنها ليست
بنجس -يعني: ليست نجسة في حياتها- إنما هي من الطوافين عليكم
والطوافات ). وقالوا: إذا رأيتها تشرب من إناء فإن شربها لا
ينجسه، وهناك قول شاذ عن بعض التابعين أنه ألحقها بالكلب، يسبّع
سؤرها بالغسل ويترّب، ولكن هذا شاذ مردود. فكونها من الطوافين ومن
الطوافات فقد تشرب من هذا الإناء، وتلعق من هذا، وتذهب وتدخل،
وتمشي على الفراش، فهي ليست بنجس. قوله: (من الطوافين ): مَنْ
الذي يطوف علينا؟! هل هناك من يطوف علينا في الليل؟! أليس للبيوت
عماراً؟! أليس يطوفون بالبيوت، فمنهم من يظهر ونراه، ومنهم من(3/193)
يختفي، وخاصة في المدينة؟ وقد بيّن صلى الله عليه وسلم: أن مؤمني
الجن ليهاجرون إليها كما تهاجرون أنتم. والحكايات والوقائع الفعلية
أكثر من أن تحصى. إذاً: هناك طوافون: من ملائكة، أو جن، أو مما
يكون، وهي من ضمن أولئك الطوافين، وبتطوافها عرفنا أنها طاهرة،
ويقول العلماء: إذا رأيتها تشرب،أو تلعق إناء فسؤرها طاهر، إلا إذا
رأيت على فمها أثر نجاسة، فيمكن أن تكون لتوها أكلت فأراً، -لأن
العداوة بين الفأر والقطة عجيبة جداً!- فإذا رأيت على فمها أثر
النجاسة، فهذا شيء طارئ، ولكن سبحان الله! القطة عندها خصلتان،
تعتبر في القمة في النظافة، حتى أكثر من بعض الناس! فإذا أكلت
فريسة، حالاً بلسانها تنظف فمها، ولا يبقى على فمها أثر النجاسة
أبداً، وبعض الناس تبقى الدسومة على فمه ولا يغسلها! وإذا أرادت أن
تقضي حاجتها حفرت ودفنت، فهي مكافحة الأوبئة. لقد شاهدت هرة تذهب
إلى الكرسي في الحمام وتقضي حاجتها، وبعضها تقضي حاجتها على
الفراش. إذاً: الهرة من حيث هي في ذاتها ليست نجسة والحمار اختلفوا
في ذلك؛ قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يركبه عرياً -أي
بدون رحل- ومعلوم أن الحمار يعرق، ولو كان نجساً لتنجس بعرقه، ولكن
الحياة أصل الطهارة كما قال مالك رحمه الله تعالى؛ ولذا الحمار
يشرب من السطل، ويشرب من القدر، وسؤره ليس نجساً.
الكلاب وبعض أحكامها
موضوع الكلاب جاءت فيه أمور عجيبة. منها: أن الرسول صلى الله عليه
وسلم أمر بقتل الكلاب، ومنها: نهى عن قتل الكلاب، كانت في مرة من
المرات كثيرة ومؤذية، والمرة الأخرى نهى عن قتلها؛ لأنها أمة من
الأمم، اتركها تأكل من الخشاش. ومن الغريب! أنها في مرة من المرات
كثرت جداً في الرياض، فقاموا وجمعوها في مركبات، وأخذوها على
الدهناء، وتركوها هناك، والكثير منها مات من الجوع، فبعض المشايخ
قال: ما لكم حق في قتلها، اتركوها في البلد، ولو عندكم شيء أعطوها(3/194)
إياه، فقالوا: تتكاثر إذاً! قال: اعزلوا الذكور عن الإناث. نهى عن
قتل الكلاب، وأمر بقتل الكلاب! أي: الكلاب حينما تؤذي، لا مانع من
ذلك، أما إذا لم تكن تؤذي فلا حاجة إلى قتلها. ثم صنف النبي صلى
الله عليه وسلم الكلاب إلى صنفين: كلب يجوز اقتناؤه، وكلب لا يجوز
اقتناؤه، كما سيأتي وأشار هنا: (إلا كلب صيد )، وأيضاً كلب
الحراسة، والماشية، فكلب الماشية، وكلب الحراسة، وكلب الصيد ينتفع
به؛ فأبيح اقتناؤه، وسلم صاحبه من الزجر، وقد جاء: (من اقتنى كلباً
إلا كلب ماشية، أو ضارياً، نقص من عمله كل يوم قيراطان )، ثم
استثني هذه الثلاث، إذاً: من اقتنى كلباً للّعب، أو كلباً للمضاربة
بين الكلاب، والمسابقة بينها والمصارعة.. إلى غير ذلك فهذا منهي
عنه وينقص بسببه كل يوم قيراطان. وتقدير القيراطين مشكل، والأصل:
أن القيراط جزءٌ من واحد صحيح متعدد الأجزاء، فما هو العرف عند
الناس؟ الفرضيون يعتبرون المسألة: أربعة وعشرين قيراطاً، والصاغة
يعتبرون الذهب الخالص أربعة وعشرين قيراطاً، فما مقدار القراريط
التي جاءت: (من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط فإن تبعها فله
قيراطان )، بعضهم يقول: القيراط كجبل أحد، وبعضهم ككذا. ولكن
هنا في موضوع الكلب ممكن للإنسان أن يجتهد ويقول: نقص من أجره كل
يوم قيراط، لو قلنا كمثل جبل أحد هل كل إنسان عنده في كل يوم مثل
جبل أحد حسنات؟ ليس بشرط. فإذا لم يكن عنده قدر القيراط! فأقول
-والله تعالى أعلم-: النقص الذي يطرأ على مقتني الكلب الممنوع
اقتناؤه: يقسَّم عمله في يومه إلى أربعة وعشرين جزءاً، فمن الناس
من يكون الجزء الواحد في قراريطه يعادل أربعة وعشرين قيراطاً من
قراريط؛ لأنه إنسان مجتهد في العبادة، ويفعل الخير بكثرة، فقيراطه
من أربعة وعشرين ليس كقيراط إنسان نائم طول الليل، وفي النهار تجده
في الملاهي. إذاً: نقص القيراط هو: نقص جزء من أربعة وعشرين جزءاً(3/195)
من عمله اليومي، وقال بعض العلماء: قيراط من عمل النهار، وقيراط من
عمل الليل، حتى تكون هناك مساواة، لأن بعض الناس قد يكتسب في الليل
من الأجر أكثر مما يكتسب في النهار، والبعض بالعكس، فالذي يكون
نهاره صيام وليله قيام، ليس كالشخص الذي لا يصوم ولا يقوم. إذاً:
جاء أولاً الأمر بقتلها، وجاء ثانياً النهي عن قتلها، ثم أيضاً جاء
الزجر عن اقتنائها، وجعل في اقتنائها نقص القراريط، واستثنى منها
ما ينتفع به: من صيد، ومن حراثة، ومن ماشية. جاء الآن الكلام في
بيعه، فإذا جمع إنسان عدة كلاب، وعلمها الصيد، أو توالدت عنده،
وعلمها الحراسة، وعلمها حراسة الماشية، ونعرف أن كثيراً من الرعاة
يكون معه كلبان أو ثلاثة رعاة، فلو شذت شاة يلحقها الكلب ويردها،
هذا كلب ماشية، وشاهدنا بأعيننا الكلب يلحق البقرة الشاردة ويمسك
حبلها ويردها. إذاً: هذا فيه فائدة، وكذلك كلب الحراسة في الليل،
فصاحب المزرعة، أو البيت لا يحرس طوال الليل، وإنما يكفيه وجود
الكلب، وكذلك كلب الصيد، يغنم من ورائه من الصيد ما يصطاده عن
طريقه. إذاً: وجود المنفعة في هذا النوع أباح اقتناءه.
حكم بيع الكلب وأكل لحمه
جئنا إلى البيع، فالبعض يقول: زجر عن ثمن الكلب مطلقاً، سواءً كان
مأذوناً في اقتنائه -للصيد، والحراسة، والماشية- أو كان غير مأذون،
والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا كان من النوع المستفاد
منه جاز بيعه وأخذ ثمنه؛ لأنك تبيع المنفعة التي يحصلها المشتري من
ورائه، ونجد مالكاً رحمه الله يقول: يجوز شراؤه ولا يجوز بيعه.
كيف وإذا أردت أن أشتريه فلا أشتريه إلا من بائع، والبائع لن يبيعه
إلا على مشتر؟! قال: يجوز للمشتري أن يدفع الثمن لينتفع، ولا يجوز
للبائع أن يقبض الثمن! فأين يذهب به؟ لن يكون هناك بيع بل هبة،
قال: ومن أتلفه فعليه القيمة، فمن أباح بيعه أوجب قيمته على متلفه.
أما موضوع السنور فإن الشوكاني يحكي عن ابن عبد البر أنه(3/196)
قال: لم يثبت في ثمن السنور حديث، وتكلموا في رواية مسلم ، التي
جاء فيها، وقالوا: إن فيها راوٍ متكلّم فيه، ويتفق الجمهور على أن
النهي عن بيع السنور للكراهية والنزاهة، أما النهي عن ثمن الكلب
فهذا للتحريم إلا ما استثني، وهي الأصناف الثلاثة، وهذا الذي
يقتضيه المقام، ويتعادل مع الوصف المناسب؛ لأن فيه منفعة، فإذا
اشتراه الإنسان فلمنفعته. وهناك من يمنع بيع الكلب مطلقاً، وهناك
أثر: (إذا أتاكم من يطلب ثمن الكلب فضعوا في كفه التراب)، والتراب
ليس ثمناً، وقد جاء في حق المداحين (فاحثوا في وجوههم التراب )،
وهذا تصوير وتقبيح، فكأنه يقول: ليس لك إلا التراب ثمنا على كلبك،
وهل التراب ثمن؟ .... كَمَثَلِ
الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا [العنكبوت:41]،
وهل بيت العنكبوت يستر شيئاً أو يقي من شيء؟ لا. والعلماء على ما
تقدم من تفصيل فيما يتعلق بثمن الكلب والسنور، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: أيجوز أكل لحم الكلب أم لا؟ الجواب: الشوكاني له
أبيات جميلة في ذم التعصب المذهبي، يحسن مراجعتها، وقد اشتهر عند
الناس: أن مالكاً رحمه الله يقول بحلية أكل لحم الكلب، وهذا
غير صحيح، الصحيح عند مالك أن الكلب طاهر، وأن التتريب
والتسبيع في الغسل لا للنجاسة ولكن لأمر طبي، والآن ظهر مغزى الأمر
الطبي في الكلب، خشية داء الكلَب الموجود في الكلب حينما يصاب،
ويتفق الأطباء على أن داء الكلب لا يزيله إلا التراب، والتراب ليس
لذاته؛ بل لأن فيه مادة تسمى (فيلورين) أخت (الكلورين)، والكلورين
مادة تطهر الماء الذي في الغدران، فحينما تذهب بعثة وليس عندها
ماء، وتجد غدير ماء له زمن، وتخشى من مضرته لطول مكثه، تأخذ الماء
وتضع فيه مادة الكلورين، وكنا قديماً نشم هذه الريحة في المياه في
البيوت، كانوا يضعونها في خزانات المياه تطهيراً للماء. فمن
فصيلتها (فيلورين)، وهذه المادة هي التي تقضي على جرثومة الكلَب،(3/197)
وهي بكثرة في التراب، وأكثر ما تكون في أرض عرفات، تربة أرض عرفات
غنية بالفلورين أكثر من جميع الأراضي. ومالك له في هذا بحث
طويل، والمتأمل والمتحرر من التعصب يرى: أن مذهب مالك صحيح.
فلما قالوا بطهارة الكلب، قالوا: إذاً: هو يجوز أكله، وألزموهم
بمقتضى قوله، ولكن الأصوليين يقولون: لازم القول ليس بقول. أتلزمني
بما لم أقله؟ فإذا كان هذا لازماً، لكن أنا لا أقول به. إذاً: مالك -صحيح- يقول بطهارة الكلب ولا يقول بجواز أكله.
( كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [4] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث نهي عمر عن بيع أمهات الأولاد
2 شرح حديث: (كنا نبيع سرارينا..)
3 شرح حديث: (نهى عن بيع فضل الماء)
4 شرح حديث: (النهي عن بيع ضراب الجمل وعسب الفحل)
5 شرح حديث: (نهي عن بيع حبل الحبلة)
6 شرح حديث : (النهي عن بيع الولاء وهبته)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [5]
هناك بيوع حرمتها الشريعة الحكيمة لمفاسدها الكثيرة، ومن ذلك تحريم بيع
أمهات الأولاد وبيع فضل الماء وبيع ماء الفحل وبيع حبل الحبلة، وقد بين
أهل العلم أحكام هذه البيوع، وحكمة الشريعة من تحريمها.
شرح حديث نهي عمر عن بيع أمهات الأولاد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه. أما بعد. قال المصنف رحمه الله: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى عمر عن بيع أمهات الأولاد فقال: لا
تباع، ولا توهب، ولا تورث، يستمتع بها ما بدا له، فإذا مات فهي
حرة) رواه مالك والبيهقي ، وقال: رفعه بعض الرواة فوهم ].
يذكر المؤلف رحمه الله عن عبد الله بن عمر ، أن عمر رضي
الله تعالى عنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، أمهات الأولاد الأصل
أنهن إماء وجواري مملوكات، وللسيد أن يستمتع بمملوكاته بملك
اليمين، والاستمتاع بملك اليمين جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع: أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]
، وَالَّذِينَ(3/198)
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:5-6].
وعبر عن الإماء بـ(( ما ملكت أيمانهم ))؛ لأن الغلبة في مواطن
القوة تسند إلى اليد اليمنى؛ لأنها الأقوى لَأَخَذْنَا
مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة:45]
وقال بعضهم: إذا ما راية رفعت لمجد تلقاه عراضة باليمين ولما كان
الجهاد بذلاً للقوة، وبذلاً الطاقة؛ عبر عن الأسارى الذين يؤخذون
في الجهاد بملك اليمين التي هي شعار القوة، وتقدمت الإشارة إلى أن
الإسلام لم يبح استرقاق البشر إلا في ميدان القتال، وفي غير ميدان
القتال لا رق، وموجبه أن الكفار عارضوا مسيرة الإسلام، وأرادوا أن
يوقفوها، وأن يستبدلوا بالإسلام غيره، فلما قدر عليهم بالأسر
استرقوا وسلبوا الحرية.
سرُّ جواز الاستمتاع بملك اليمين من غير حد بعدد
وهنا يقول عمر : لا تباع ولا توهب، ولكن يستمتع منها ما شاء،
فإذا مات عتقت. ومن هنا نعلم السر في أن الله سبحانه أباح للحر أن
يستمتع من الحرائر بعقد النكاح بأربع، ولكن الاستمتاع بملك اليمين
بلا عدد ولا حد، فلو امتلك أربعين أمة، أو مائة أمة فله أن يستمتع
بجميعهن. وهذا موضع تكلم المستشرقون من خلاله على الإسلام، وقالوا:
إنه أعطى الرجل المجال لإشباع غريزته ورغباته فيمن شاء من النساء،
وغاب عنهم قول عمر : فإذا مات عتقت، وهو أن السيد إذا ما
استولد الأمة، أو مجرد أن حملت منه، ولو سقط الجنين وتبينت فيه
خلقة الإنسان، فإنها تصبح في عرف الشرع أم ولد، يعني: أم ولد
للسيد، فإذا مات عتقت من رأس ماله، لا من الثلث، فإذا لم يترك إلا
أم ولد فقط فإنها تعتق، وليس هذا كالذي تقدم: أن رجلاً أعتق عبداً
له عن دبر، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرجل كان
مديناً، فاسترجع العتق وباعه، وسدد الدين، أما أم الولد فلا تباع
في الدين؛ لأنها بمجرد موت سيدها اكتسبت الحرية، فنقطة الصفر التي(3/199)
فاضت فيها روح سيدها هي نقطة الصفر التي تحررت فيها؛ ولهذا لا ترث؛
لأنها لم تكتسب الحرية في حياته، ولكن بعد أن انتهت حياته بدأت
حريتها، فلم يلتقيا. وعلى هذا فمن حكمة الشرع أن أباح للرجل الحر
أن يستمتع من الإماء بقدر ما شاء؛ لأن استمتاعه من الإماء بمثابة
الطعم له في السنارة؛ لأنه بمجرد أن تحمل منه الأمة تصير أم ولد،
وبذلك تكون قد اقتربت من التحرر، والشرع يحث على تحرير الرقيق.
والمرأة التي تملك العبيد لا يحق لها أن تمكن نفسها من واحد منهم؛
لماذا؟ لأن ولدها سواءً كان من حر، أو من عبد، أو من ملك يمين؛
يكون حراً، إذاً: تمكينها العبد لا يأتي بجديد، بخلاف الأمة فإنها
بذلك تكتسب الحرية، وولدها يصير حراً، ونسلها كذلك يكونون أحراراً،
فاستمتاع السيد بالأمة لمصلحتها هي، وليس لمصلحته هو؛ لأنها تخرج
من ملكه إجبارياً دون اختياره.
النهي عن بيع أمهات الأولاد
الذي حصل في قصة عمر أنه كان جالساً فسمع صياحاً، فقال: يا
يرفأ ! -غلام له- انظر ما هذا الصياح! فذهب فوجد امرأة بيعت
دون ولدها، باعها سيدها ولم يبع ولدها؛ لأن ولدها حر، إذ أنه من
رجل حر، ولو حملت من غير سيدها فإن الولد يكون مملوكاً، أما إذا
حملت منه فولده يصير حراً، وأمه تتحرر بموت السيد، فقال: إن أم ولد
تباع، والصياح بين ولدها وبينها! فقال عمر رضي الله تعالى عنه:
ادع لي من كان هنا من قريش. فجمعهم وقال: هل ترون الإسلام جاء
بقطعية الرحم أم أنه جاء بوصلها؟! قالوا: جاء بوصلها، قال: أرأيتم
لو أن أحدكم من أم ولد وبيعت أمه وفُرّق بينهما أيقبل ذلك؟! قالوا:
لا، قال: إذاً: لا تباع أم ولد بعد اليوم، ونهى عن بيع أمهات
الأولاد. وإذا نظرنا إلى أمهات الأولاد فإننا نجد أن النهي عن
بيعهن؛ لأنهن اقتربن من الحرية، فمتى مات سيدها تحررت وصارت حرة،
لكن هناك شيء آخر: إذا اشترى الإنسان الأمة ومعها أولادها -من(3/200)
غيره- أو أنه زوجها لعبد، أو لحر، وأنجبت، فأولادها في الرق
يتبعونها في ذلك، فأراد أن يبيعها، فقد جاء النهي عنه صلى الله
عليه وسلم أن يفرق بين المرأة وولدها -أي: الأمة وولدها- أو بين
الأخ وأخيه، قال: إما أن يباعا معاً -الأمة والولد- وإما أن يبقيا
معاً؛ تجنباً لقطيعة الرحم، وقاس العلماء زيادة على ذلك: كل ذي رحم
لا يجوز أن يفرق بينهما. وقال الآخرون: النص موجود في الأمة
وولدها، والأخ مع أخيه فقط. وهل هذا النهي عام يتناول جميع مراحل
العمر أم أنه خاص بما دون البلوغ؟ قال البعض: إذا ما بلغ الولد
وأصبح مستقلاً، فلو بيعت أمه وحدها فلا مانع؛ أما دون البلوغ فلا
يجوز؛ لأنه ما زال صبياً، وهو في حاجة إلى أمه، وعطفها عليه.
من هي أم الولد؟
عمر رضي الله تعالى عنه أول من نهى عن بيع أمهات الأولاد،
وسواء كان لها ولد حاضر، أو مات ولدها، المهم أنها جاءت بولد من
السيد، فثبت أنها أم ولد بهذا الولد، فإذا عاش الولد سنة، أو سنتين
فمات، فإن ذلك لا يخرجها عن كونها أم ولد، وتصير حرة بموت سيدها،
وهل تباع؟ لا؛ لماذا؟ لأنها أمسكت بأول خيط للحرية؛ فلا تباع، ولا
توهب، ولا ترهن، فكل عقد يئول إلى نقل ملكيتها، لا يجوز، فلا تورث،
ولا توهب، ولا تباع، ولا ترهن؛ لأن كل ذلك ينقل الملكية، والسبب في
ذلك ما هو؟ أنها في طريق الحرية. هذا ما جاء عن عمر رضي الله
تعالى عنه. وبعضهم -كما قال المؤلف- يرفعه إلى النبي صلى الله عليه
وسلم أنه كان جالساً فسمع، فسأل، فمنعه، فإذا كان الأمر مرفوعاً
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو أصل في التشريع، وإذا كان
موقوفاً على عمر ، فعمر حينما قال ذلك قاله على ملأ من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافقوه، وإن كان قد حدث أن
علياً رضي الله تعالى عنه كان موافقاً على هذا، وبعد عمر رأى علي أن تباع، فقيل له: كنت مع عمر موافقاً! قال: والآن(3/201)
بدا لي ألا أوافق. قالوا: رأيك مع غيرك أحب إلينا من رأيك وحدك.
فقال علي وأنا لا أحب المخالفة، امضوا على ما كنتم عليه. إذاً:
المخالفة للجمهور ليست جيدة، وكما قال ابن مسعود للذي اشتكى
عثمان بأنه أتم في منى، وقد قصرنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وقصرنا مع أبي بكر ، وقصرنا مع عمر ، انظر ما فعل
الرجل! قال: يا ابن أخي! الخلاف شر، فإن صليت في رحالك فاقصر، وإن
صليت معه فوافقه. ومحل الشاهد عندنا قوله: (الخلاف كله شر)، وهنا
علي رضي الله تعالى عنه يقول: لا أحب الخلاف، امضوا على ما
كنتم عليه، ولو كان على غير رأيه الذي استجد له.
شرح حديث: (كنا نبيع سرارينا..)
قال رحمه الله: [ وعن جابر رضي الله عنه قال: (كنا نبيع
سرارينا أمهات الأولاد، والنبي صلى الله عليه وسلم حي، لا يرى بذلك
بأساً ) رواه النسائي وابن ماجة والدارقطني ، وصححه
ابن حبان ]. المؤلف يأتي بالحديث هذا -حديث جابر - (كنا
نبيع سرارينا -جمع سرية-: أمهات الأولاد ) يعني: الذي نهى عمر عن بيعهن كنا نبيعهن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (ولا يرى
بذلك بأساً ) فكيف عمر رأى به بأساً؟! إذاً: المسألة
متعارضة! قالوا: ليس عندنا من اليقين الذي يجعلنا نجزم بأن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يعلم ببيعهم سراريهم، ولم يثبت أن رجلاً
جاء وقال: يا رسول الله! بعت سريتي -أم ولد-، وكونه موجوداً وفي
عهده؛ مظنة لعلمه به، والمظنة غير اليقين، وكما قالوا: (كنا نعزل
والقرآن ينزل، ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهينا عنه ). مع أن
النهي قد جاء في صحيح مسلم والترمذي وغيره، وأنها الموءودة
الصغرى: (أو تفعلون؟! ما من نفس منفوسة إلا وهي آتية، شاء أحدكم أم
أبى )، (ولو أن أحدكم ألقى الماء على حجر، وأراد الله أن يأتي
بالولد لجاء ) والرجل الذي جاء واستفسر الرسول صلى الله عليه
وسلم: (إن لي جارية، وأريد منها ما يريد الرجل من المرأة، وأخشى أن(3/202)
تحمل، أفأعزل؟ قال: اعزل أو لا تعزل ما قدر لها سيأتيها، وبعد سنة
جاءه وقال: يا رسول الله! الجارية حملت، قال: الله أكبر! أنا عبد
الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لو أن أحدكم ألقى الماء على حجر
وأراد الله منه الولد لجاء )، والآن الطب يثبت هذا، فلو أراق
الرجل الماء على حجر، وتجمرت به امرأة لنفذ الماء إلى الداخل
وحملت، وهو شبيه بالتلقيح الصناعي، -الذي ملئوا به الدنيا صياحاً-
فيؤخذ الماء من الرجل، ويوضع في رحم المرأة، وتتلقح بدون علاج،
وبدون جماع، قالوا: كنا نعزل والوحي ينزل، فمن قال لكم: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم اطلع على هذا: فهذه أمور فرضية، وقد جاء
النهي عن ذلك، وهنا كذلك، يقول: والرسول حي. فالذين وافقوا عمر رضي الله تعالى عنه يقولون: ليس عندنا دليل قاطع بأن الرسول صلى
الله عليه وسلم علم، وأقر، وسكت، وإنما لوجوده بين أظهرهم فمظنة
ذلك أن يعلم بمثل هذه الصور. وبعضهم يقول: الحديث الأول مرفوع،
فيكون ناسخاً لهذا؛ لأن المنع مقدم، والمنع إنما يكون بعد الإباحة؛
لأن الإباحة على الأصل والبراءة الأصلية، فجاء المنع فنسخ البراءة
الأصلية، فيكون المنع هو المقدم.
شرح حديث: (نهى عن بيع فضل الماء)
قال رحمه الله تعالى: [ وعن جابر بن عبد الله قال: (نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء ) رواه مسلم ]. من
المنهي عن بيعه: بيع أم الولد، وكذلك التفريق بين ذوي الرحم، وجاء
في الحديث: (من فرق بين الأم وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم
القيامة )، ولا يدخل في هذا ما إذا كان يملك أمة، وزوجها
وأنجبت، فأصبح يملكها ويملك ما أنجبته، فإذا باع باع الجميع، وإذا
أبقى أبقى الجميع.
المراد بفضل الماء
وبعد ذلك جاء بالنهي عن بيع فضل الماء، والفضل هو: الزائد عن
الحاجة سواء كان الماء للشرب واستعمال الآدمي، أو كان للزرع وسقي
الحيوان؛ لأن هذه هي أنواع استعمال الماء، فهناك ماء لاستهلاك(3/203)
الشخص، وماء للزرع، وماء لسقي الحيوان، فهنا نهى عن بيع فضل
الماء، و(ال) هنا للجنس، وقد حملها كثير من العلماء على جنس
الماء، وفضل الماء: ما زاد عن حاجة صاحبه، فإذا حفر بئراً، وجاء
الماء، فله أن يستعملها استعماله الشخصي، وما زاد عن حاجته فهو
فضل، وإذا سقى زرعه، فما زاد عن حاجة زرعه فهو فضل، وإذا كانت عنده
ماشية، فسقى الماشية، وبقي فضل من الماء عن ماشيته، فكل ذلك داخل
في فضل الماء.
حكم بيع فضل الماء
اختلف العلماء: هل النهي هنا للتحريم أو للكراهة والتنزيه؟ ونفرق
بين الماء وموقع الماء، فسواء كان الماء في بئر أو في عين، أو في
غدير، أو حفرة امتلأت ماءً وزادت عن حاجة صاحبها، كذلك إذا كان في
الخلاء، ومعه ماء فائض عن حاجته، ووجد من يضطر إليه، فهذه مسألة
أخرى: ويتعين عليه أن يبذل الفائض من مائه للمضطر إليه، ولو منعه
الماء حتى مات فإن كان تعمد المنع لإماتته؛ اقتص منه، وإن لم يكن
تعمد فعليه ديته؛ لأنه تسبب في وفاته بشيء هو في غنى عنه. ويقول
بعض العلماء: إن النهي عن بيع فضل الماء قد نسخ، وبعضهم يقول: هذا
للكراهية والتنزيه؛ للإرفاق بين المسلمين، ويجوز بيعه، هذا كله إذا
كان الماء في موطنه: في بئره، في عينه، في مجرى السيل، في حفرته في
الخلاء، أما إذا حازه لنفسه: في وايت، في قربة، في إبريق، فلا يحق
لأحد أن يزاحمه عليه. ولا يدخل في فضل الماء ما إذا كان الشخص لديه
ماء في خزان البيت، ويكفيه لعدة أيام أو أسابيع، فهذا ليس فائضاً
عن حاجته، فإن كان فائضاً الآن فهو في حاجته غداً.
بيع الماء في زمن النبوة
بعضهم يقول: كان بيع الماء موجوداً في عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وكما في قصة بئر رومان -بئر عثمان - كان رومان -وهو رجل يهودي- يبيع الماء على أهل المدينة، فيأتون ويستسقون منه
القربة بكذا أو الإناء بكذا، فضيق على المسلمين، فقال صلى الله(3/204)
عليه وسلم: (من يشتري بئر رومان، يوسع به على المسلمين، وله الجنة )
فذهب عثمان رضي الله تعالى عنه إلى رومان وساومه على
البئر، فامتنع؛ لأنها مورد كسبه، فقال: لا أبيعها أبداً. فأعطاه
وساومه إلى أقصى حد، قال: هلاّ بعتني نصفه، وساومه على النصف بقريب
من ثمن الجميع، فرضي وفرح رومان ، وباعه نصف البئر، فلما امتلك
عثمان نصف البئر، اتفقا على تناصف البئر، على أن يكون يوم
لعثمان ، ويوم لرومان ، ولما اتفقا على ذلك، أعلن عثمان لأهل المدينة: اليوم الفلاني لعثمان ، واليوم الفلاني لرومان ففي يوم عثمان من أراد الماء مجاناً فليأخذه، فكان الناس
يأخذون الماء في يوم عثمان ، وكان رومان ينتظر في يومه فلا
يأتي إليه أحد؛ لأنهم اكتفوا بماء الأمس -ماء عثمان - فأتى
رومان وقال لعثمان : اشتر الباقي. قال: لست في حاجة إليه،
وهذه بصيرة المسلم! (اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله ) .
فكان رومان يبيع الماء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقالوا: يجوز ما دام في حوزته، وفي بئره، أو في ملكه، أو في عينه
التي تجري في أرضه، أما الأماكن والمواطن العامة، فلا يجوز بيعه
فيها، كالسيل الذي يجري تأتي وتبيعه! أنت لا تملكه، فكيف تبيعه.
فأجاب المانعون وقالوا: هذا ليس بدليل، رومان يهودي، واليهود
كانت لهم سلطة في المدينة، وقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم ولهم
نفوذ في المدينة، إلى أن كتبت الصحيفة بينهم، فما كان للرسول صلى
الله عليه وسلم أن يعارض أعمالهم وتصرفاتهم. ولكن هذه الحجة ليست
قائمة؛ لأن الصحيفة جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعاً لكل
ما اختلفوا فيه، فأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحاكم في
المدينة على كل الطبقات: اليهود، والمسلمين، والمشركين،
والمنافقين، الكل تحت إمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه.
حديث: (الناس شركاء في ثلاثة) وعلاقته بهذا الباب(3/205)
هذا الموضوع فتح على الناس أبواباً أخرى، فقالوا: لا يجوز أن يبيع
الحطب الزائد، ولا الكلأ الموجود في أرضه، فلا يمنع غيره من أن
يرعاه، إذا كان زائداً عن حاجته، واستدلوا بحديث: (الناس شركاء في
ثلاث )، وقامت فتنة الاقتصاد على هذا الحديث ممن جهله.
والتحقيق: أن الناس شركاء -صحيح- في الماء، والنار، والكلأ، والنار
يتبعها الحطب، لكن شركاء في ما هو عام، الآن في الوقت الحاضر، في
الشعاب، والوديان، لكل واحد منا أن يقول: الناس شركاء، من شاء
فليذهب فليحتطب، وما احتطبه فهو له، ولا يمنع أحد أحداً؛ لأنهم
شركاء فيه، ومن سبق إلى شيء أخذه، ولكن بعد أن يحتطب ويحوزه هل
تأتي وتقول: أحضر نصف الذي عندك، أنا شريكك؟! أنا قائم من الليل،
أجمع الحطب، وأكسر، وأحزم، وأحمل، وأمشي، وأنت قاعد في بيتك، فتأتي
وتقول: أنا شريك معك! لا يمكن هذا أبداً. والشاب الذي جاء يطلب
رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة، فوجده جلداً قوياً، فقال: يا
هذا! الصدقة لا تحل لك، قال: ما عندي شيء، أنا وعجوز في البيت لا
نمتلك إلا حلساً نفترش نصفه، ونلتحف بالنصف الثاني، وقعباً نأكل
ونشرب فيه، قال: عليَّ بهما. فباعهما صلى الله عليه وسلم بدرهمين
-في المسجد- وقال: خذ هذا الدرهم واشتر طعاماً واجعله عند أمك،
وهذا الدرهم اشتربه فأساً وحبلاً وائت، ثم جعل عوداً في الفأس
وقال: اذهب فاحتطب، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، احتطب وبع، هذا الذي
يحتطب ويأتي ويبيع، يبيع ما يملكه أو ما لا يملكه؟ هل لأحد أن
يقول: أنا لي نصف ما احتطبتَ؟ لا، أنت وهو شركاء في الحطب ما دام
في موقعه، لكن إذا حازه وجمعه وحزمه، فليس لك فيه حق، وهؤلاء الذين
كانوا ينادون بالإشتراكية، هل أحد منهم يسمح لإنسان أن يدخل بيته
ويأخذ كأساً من الماء؟! فقد كانوا يبيعون الماء والنار، فمصلحة
المياه، تضع العداد باللتر، والكهرباء -وهي نار- العداد يعد عليه(3/206)
بالفولت، والفحم كانوا يبيعونه، ولم يشركوا الناس ولا في واحد من
ذلك؛ لماذا؟ لأنه في حيازتهم. إذاً: قوله: (شركاء) إنما هو في ما
كان في موطنه وموقعه، أما بعد أن حازه، وأصبح في يده وملكه، فليس
لأحد فيه شراكة. فهنا النهي عن بيع فضل الماء، وأدخلوا معه: (الناس
شركاء في ثلاثة ) ولكن هذا ليس بصحيح، فإنما يراد بذلك الإرفاق،
مع اتفاق الجميع: بأن من باع البئر فإن البيع صحيح، والماء تبع
للبئر، فرومان لما باع نصف البئر كان له نصف الماء تبعاً،
إذاً: بيع مكان الماء، ومجرى الماء، ومحتوى الماء، جائز. إذاً: جرم
الماء السائل الشفاف هو الذي لا يباع، وإذا زاد عن حاجتك فأعطه
لغيرك، ولكن هذا من باب الإرفاق، وليس من باب الوجوب، فلو كان
الماء جارياً في الوادي، ويمر على بلدك، أو على مزرعتك، فخذ حاجتك،
ولا تبع الباقي، ولكن أرسله إلى من وراءك، وهكذا لو وجدت غديراً في
الأرض: حفرة بها ماء، وليست ملكاً لك، فلا تملك أن تبيعها، ولو
كانت في ملكك فلا تمنع أحداً يحتاج أن يأخذ الماء ما دام زائداً عن
حاجتك. ولابن القيم رحمه الله زيادة بحث في هذا الموضوع،
والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (النهي عن بيع ضراب الجمل وعسب الفحل)
قال رحمه الله تعالى: [ وزاد في رواية: (وعن بيع ضراب الجمل ).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن عسب الفحل ) رواه البخاري ].
علة النهي عن بيع ضراب الجمل
ضراب الجمل: هو ماؤه الملقِح، نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا
الماء -مني الجمل- ولماذا؟ قالوا: يرد عليه عدة محظورات، فهل تملك
أن تستخرج ماء الفحل منه؟ لا، وإذا بعت فكم الكمية؟! ومن يقدرها؟
وإذا تجاوزنا الكمية، فهل تضمن بأن هذا الضراب من هذه المرة سيلقح
وينتج أو أنه يمكن أن ينتج ويمكن ألا ينتج؟! إذاً: شروط استيفاء
البيع بالملك: القدرة على التسليم، معرفة السلعة، كل ذلك مجهول في
ضراب الفحل.(3/207)
جواز المكارمة في ضراب الفحل دون المشارطة
وجاء أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا نكارم -أو
نكرِم أو نُكرَم- على ضراب الفحل. قال: لا بأس ) إنسان عنده
فحل، فيأتيه صاحب الناقة فيطلق فحله عليها، ثم يكارمه بكيس شعير،
بشيء من العلف للجمل دون مشارطة بيع، فلا بأس بذلك، وهذا عام في
جميع الحيوانات ذات الذكور والإناث، فعسب الفحل هو ضراب الفحل، نهى
صلى الله عليه وسلم عن بيعه مشارطة، أو مساومة، أو مكاسرة، لكن أن
يكارم عليه فلا مانع من باب المجاملة، ومقابلة المعروف بالمعروف.
حكم استئجار الفحل للضراب
مالك رحمه الله يرى جواز استئجار الفحل ليوم أو يومين أو
ثلاثة، ليكون في إبله للضراب، يستأجر الجمل، لا أن يشتري الضراب،
وأيضاً نقول: المدة التي استأجره فيها، هل ندري كم سيكون منه ضراب؟
وما هو الذي سينتج وما الذي لا ينتج؟ قالوا: يتساهل في ذلك؛ لأن
الأجرة وقعت على وجود الجمل عند صاحب النوق مدة معينة، أما كونه
يحصل على ضراب كثير أو قليل، فهذا متروك، وغير منظور فيه، ومسامح
فيه، وكما يقولون: الآن خمسة أشخاص دخلوا الحمام، والحمام يستعمل
فيه الماء الحار، والمكث في الحمام له أجرة، واستهلاك الماء له
أجرة، والأجرة متساوية، على كل واحد خمسة ريالات، فهل كلهم يدخلون
في دقيقة واحدة، ويخرجون في دقيقة واحدة، أم يتفاوتون؟! فهناك شخص
يمكث أكثر من الثاني، فاستفاد من الحمام أكثر من غيره فتساهلنا،
وهل الخمسة يتفقون في مقدار الماء الذي يستنفدونه في الحمام؟! لا،
مع أن كل واحد دفع خمسة ريالات، وبعضهم قد يستهلك عشرين لتراً،
وبعضهم ثلاثة لترات. والآن إذا ذهبت إلى مكتب الطيران، فستجد
التذكرة من المدينة إلى جدة بمائة ريال، ثم راقب الناس في المطار،
تجد واحداً وزنه خمسين كيلو جرام، والآخر وزنه مائة وخمسين، وكل
منهما له نفس التذكرة، هل الخطوط تحاسب على الوزن وعلى الثقل؟ لا،(3/208)
ومثل هذه الفوارق متسامح فيها. فمالك أباح استئجار الفحل،
فيبقى عند المستأجر وقتاً معيناً ومدة معلومة، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (نهي عن بيع حبل الحبلة)
قال رحمه الله: [ وعنه (أي: ابن عمر ) (أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم نهى عن بيع حَبَل الحبلة، وكان بيعاً يبتاعه أهل
الجاهلية، وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج
التي في بطنها ) متفق عليه، واللفظ للبخاري ]. مما نهي عن
بيعه ما فيه غرر؛ لأنه غير معروف، وغير مضمون، مثل ما جاء في هذا
الحديث، وهو مثال عام لكل ما فيه غرر، أبيعك ما في جيبي! أبيعك ما
في الصندوق! وما الذي في الصندوق؟! لا أدري، إذاً: هذا غرر، أبيعك
هذا الثوب على طيه ولا تفكه؟! وهل أنا أدري ما بداخله؟! أبيعك ما
يأتيني به فلان! وهل أنا أدري ما الذي سيأتيك به؟! فكل ما فيه غرر
داخل في هذا الحديث: (نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة )
حَبَلها: الذي في جوفها، وهل النهي عن بيع الطبقة الأولى وهي:
الحمل الموجود أم أن النهي عن بيع الطبقة الثالثة، وهي: أن تنتج
الناقة أنثى، فيكبر هذا النتاج، ثم ينتج، فيكون جيلاً ثالثاً أو أن
النهي ليس منصباً على عين الحمل، وحمل الحمل، بل جعل الحمل موعداً
لوفاء الدين؟! (نهى عن بيع حبل الحبلة )، قالوا: يحمل على
أمرين: أن ينتظر وضع الحمل ثم يكبر هذا الحمل إلى أن يبلغ وينتج،
فحينئذ حل الدين، هذا واحد: أن يجعل حبل الحبلة موعداً لوفاء
الدين، وإذا وقفنا عند هذه: فلو اشتريت عبداً وقال: حلول ثمنه عند
حبل الحبلى التي عندك، أو حبل الحبلى التي عندي والتي تعرفها، ما
المانع في هذا؟ قالوا: لا ندري متى يأتي حبلها هذا الموجود،
والمعروف عند الناس: تسعة أشهر، أو سنة، طيب هذه التي جاءت، متى
تكبر؟ ومتى تحمل؟ ومتى تنتج؟ لا تجد شيئاً مضموناً يمنع النزاع،
فنهي أن يجعل هذا الوصف موعداً لوفاء الدين، وهذا أحد المعاني التي(3/209)