بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه ، أما بعد :
فهذا الكتاب عبارة عن جمع للتفريغ النصي للتسجيل الصوتي لدروس شرح بلوغ المرام للشيخ عطية محمد سالم - رحمه الله - والذي قام به الإخوة في موقع الشبكة الإسلامية جزاهم الله خيراً .
وآخر هذا الكتاب إلى باب الوديعة من كتاب البيوع حسب ما هو موجود بموقع الشبكة الإسلامية www.islamweb.net ، والله الموفق .
( كتاب الطهارة [المقدمة] )
عناصر الموضوع
1
مقدمة الإمام ابن حجر لبلوغ المرام 2
اصطلاحات ابن حجر في بلوغ المرام
3
ختم ابن حجر المقدمة بدعاء الله العمل بالعلم
كتاب الطهارة [المقدمة]
هذه المقدمة هي فاتحة كتاب المؤلف رحمه الله، ذكر فيها منهجه واصطلاحاته في تأليف الكتاب لأجل الاختصار وعدم التطويل في ذكر الرواة، وتكرارهم نهاية كل حديث.
مقدمة الإمام ابن حجر لبلوغ المرام(1/1)
بسم الله الرحم الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف الحافظ ابن حجر رحمه الله: [ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة قديماً وحديثاً، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد وآله وصحبه الذين ساروا في نصرة دينه سيراً حثيثاً، وعلى أتباعهم الذين ورثوا علمهم -والعلماء ورثة الأنبياء- أكرم بهم وارثاً وموروثاً. أما بعد: فهذا مختصر يشتمل على أصول الأدلة الحديثية للأحكام الشرعية، حررته تحريراً بالغاً، ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغاً، ويستعين به الطالب المبتدي، ولا يستغني عنه الراغب المنتهي، وقد بينت عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة لإرادة نصح الأمة ]. الشرح: تقدم طرف من الكلام على أوائل هذه المقدمة، وبيان أن المؤلف رحمه الله تعالى جمع هذا المختصر، وسيبين من أين اختصره، وقد حرره تحريراً بالغاً، وتحرى فيه الأحاديث التي تبنى عليها الأحكام، فليس في هذا الكتاب المبارك حديث موضوع ولا متهم راوية بكذب، وأقل درجات أحاديثه في الجملة أن يكون حسناً لغيره، أي: فيه بعض الضعف ولكنه يجبر بغيره، وقد يسوقه مع ضعفه؛ لأنه أراد أن يبين أدلة الأحكام في المسائل الفقهية من عبادات ومعاملات فيما ذهب إليه العلماء رحمهم الله. قال: (ليصبر من يحفظه بين أقرانه نابغاً) حفظ هذا الكتاب في الواقع يورث علماً جماً، ويعطي ملكة في الحديث والفقه، وقل أن يأتي من حفظه إلى باب من أبواب الفقه في أي كتاب من كتب الحديث إلا وكان له سبيل فيها. وهذا الكتاب بمثابة التمهيد -كما قال- للمبتدئ، ولا يستغني عنه المنتهي، أي: الذي درس مجاميع السنة مثل: كتب المسانيد والصحاح والسنن، فمهما كان قد قرأها فإنه لا يستغني عن هذا الكتاب؛ لأنه ملخص ومحرر، بخلاف المسانيد تحتاج إلى تحر في أسانيدها على ما(1/2)
ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله عند بيان ممن اختصر هذا الكتاب.......
اصطلاحات ابن حجر في بلوغ المرام
وقد جعل له اصطلاحاً خاصاً من باب الاختصار، فبدلاً من أن يقول: رواه البخاري ومسلم ، يقول: متفق عليه، وبدلاً من أن يقول: رواه البخاري ومسلم وأحمد يقول: رواه الثلاثة.. رواه الأربعة.. رواه الخمسة.. رواه الستة.. رواه السبعة.. ويكتفي بالعدد، وقد بين لنا معنى هذا كله وما هي هذه الأعداد التي يقصدها. فبين هذا المنهج كله في المقدمة ليسهل عليك، ويختصر لك الكلام في تسمية العلماء وأصحاب السنن عند كل حديث، وإذا ذكر زيادة عن كتب السنن فإنه يذكر عمن أخذها، فمثلاً: البيهقي لم يكن كتابه من كتب السنن التي اعتمد عليها، فإذا ذكر حديثاً عن البيهقي قال: رواه البيهقي، وسماه باسمهِ، وكذلك غيره من علماء الحديث، وسنمضي معه رحمه الله لنرى من هم العلماء وأصحاب السنن الذين اختصر هذا الكتاب وحرره عنهم تحريراً بليغاً. قال رحمه الله: [ وقد بينت عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة لإرادة نصح الأمة ]. بين لك -أيها الطالب- عقب كل حديث من أخرجه، حتى تقف على درجة الحديث من قوة الصحة أو ضعفها، وحتى يخفف عليك المئونة أن تذهب وتبحث عن هذا الحديث، ومن الذي أخرجه؟ وعن سنده ورجاله، فقد بين لك عند آخر كل حديث من الذي خرجه، وقد يشير إلى تحسين أو تضعيف. قال رحمه الله: [ فالمراد بالسبعة أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ] . هذا مما لا بد منه لمن يقرأ هذا الكتاب أن يحفظ هؤلاء السبعة، فالمراد بالسبعة أحمد ، وهو أحمد بن حنبل في مسنده، والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. وهنا بدأ بمسند أحمد ، وهناك مسانيد أخرى كمسند أبي داود الطيالسي وأبي عوانة ، وسنن الدارمي، وابن خزيمة، وموطأ مالك، فلماذا اقتصر في المسانيد على أحمد ولم يذكر هؤلاء؟ المسند: هو أن يأتي العالم ويجمع كل ما وقف عليه من مرويات(1/3)
الصحابي تحت باب واحد، فيجمع مثلاً ما روي عن أبي هريرة تحت عنوان: مسند أبي هريرة ، فمرة نجده يروي عن أبي هريرة في الطهارة، ويليه مباشرة حديث في الجهاد، وآخر في الصيام، فليس هناك ترتيب لمرويات الصحابي حسب أبواب الفقه، ومهمة (المسنِد) بالكسر، أن يسند وأن يجمع ما أسنده هذا الصحابي إلى رسول الله، فلم تصنف المسانيد حسب الأبواب والمسائل الفقهية، فقالوا: أصحاب المسانيد كانت غايتهم جمع الأحاديث حتى لا تضيع، ومن هنا فعنايتهم بالصحة والتدقيق في سند الحديث ليست كعناية أصحاب السنن، إلا أن مسند أحمد تميز عن بقية المسانيد بأنه لا يمكن أن يثبت فيه حديثاً اتفق الناس على تركه، ولهذا فإنه يؤخذ عنه، أما بقية الكتب الأخرى من السنن فيقولون: عندهم تساهل في الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف، وليس هناك التحري والدقة التي نجدها عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، فهؤلاء تحروا الصحة والدقة أكثر من غيرهم من أصحاب السنن. وأين موطأ مالك الذي يقول فيه الشافعي وينقلها عنه الذهبي : ( موطأ مالك أصح كتاب على وجه الأرض بعد كتاب الله)؟ قالوا: لم يذكره ابن حجر ولا أهل السنن لأن مالكاً في طبقة من نقل الحديث ورواه عن التابعين عن الصحابة، وليس ممن جمعوا مع أنه جمع الحديث. وبعضهم يقول: الموطأ لم يختص بالأحاديث المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل فيه مسند لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه موقوف على الصحابة، وفيه مقطوع عن التابعي، وفيه آراء العلماء، وفيه آراء مالك بنفسه. فقالوا: هذا كتاب على نمط مستقل خاص بالإمام مالك ، وليس معنى ذلك أنه أضعف؛ من الكتب السابقة بل إنه أعلى مرتبة من كل من سماهم؛ لأن مالكاً من الذين روى عنهم البخاري، أي أنه يروي الحديث بسنده حتى يصل إلى مالك ، فيكون مالك من رجال الحديث عند البخاري . وقد اختار المؤلف مسند أحمد على غيره من المسانيد لأن أصحاب المسانيد كانت مهمتهم جمع الحديث،(1/4)
وبعد أن جمعت المسانيد كان أحمد متقدماً على البخاري ومسلم؛ لأن البخاري ومسلماً رحمهما الله لما رأوا أن عمل أصحاب المسانيد الجمع، والجمع قد يأتي فيه خلل، نهضوا إلى جمع ما صح من الأحاديث على شرطهما، فالبخاري يشترط اللقيا، أي: أن يكون كل راوٍ قد لقي من روى عنه حتى لا تكون واسطة مجهولة، ومسلم نزل قليلاً وقال: إذا روى إنسان عمن يعاصره اكتفيت بذلك، والآخرون نزلوا أيضاً قليلاً، ولهذا يقول العلماء: أصح الروايات ما اتفق عليه البخاري ومسلم ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم تنزل الدرجة إلى أبي داود، ثم يليه الترمذي ، ثم يليه النسائي، ثم يليه ابن ماجة... وهكذا.......
تسمية ابن حجر للكتاب(1/5)
قال: [وسميته بلوغ المرام من أدلة الأحكام]. بلوغ الشيء: الوصول إليه، ومنه البلغة أي: الشيء الذي يوصلك إلى الغاية التي أنت مسافرٌ إليها، ومنه: البلاغة؛ لأن بلاغة البليغ هي: القدرة على أن ينقل لك ما في صدره أو في قلبه أو في علمه ويبلغه إليك، فإن كان فصيحاً ومتكلماً استطاع أن يعبر لك عما في نفسه، ويوصله إلى ذهنك، وإن لم يكن بليغاً فلن تستطيع أن تفهم منه شيئاً، ولن يستطيع أن يفهمك. والمرام: هو الذي يرومه الإنسان ويسعى إليه برغبةٍ عنده. وقوله: (من أدلة الأحكام) : لأن المرامات كثيرة، فهناك من يروم الدنيا، وهناك من يروم الآخرة، وهناك من يروم علم الميكانيك، وهناك من يروم علم الزراعة.. وهكذا، ولكنه بين القصد فقال: (سميته بلوغ المرام من أدلة الأحكام)، إذاً: لا تطلب فيه عقيدة ولا موضوع السيرة أو الغزوات؛ لأنه ليس موضوعها، ولا تطلب فيه مواضيع الزراعة أو الحث على أمور دنيوية، إنما موضوعه يدور في فلك الأحكام، والأحكام: إما عبادات حقٌ لله تعالى على العباد، وإما معاملات، ولم يتعرض للبعث والجزاء والجنة والنار وما فيها، والحوض وغير ذلك، فليس هذا من شأنه ولا من مقصده في هذا الكتاب، إنما مقصده هو أدلة الأحكام.
المراد بقوله: متفق عليه
قال: [وبالمتفق عليه: البخاري ومسلم ]. فبدلاً من أن يذكر الاثنين -البخاري ومسلماً- يقول: متفق عليه. قال:[ وقد لا أذكر معهما غيرهما ]. أي: إذا قال: متفق عليه، أي: رواه : البخاري ومسلم، اكتفى بذلك، ولم يذكر معهما غيرهما ممن روى ذلك الحديث. قال: [ وما عدا ذلك فهو مبين ]. أي: ما عدا هذه الاصطلاحات وهي: السبعة والستة والخمسة والأربعة والثلاثة والاثنان، فهو مذكور عقب كل حديث، فإذا خرج عن هذا النظام فإنه يبين ذلك في موضعه.
المراد بقوله: أخرجه الثلاثة(1/6)
قال: [ وبالثلاثة من عداهم وعدا الأخير ]. أي: من عدا الثلاثة الأول وهم : أحمد، والبخاري، ومسلم، والأخير وهو ابن ماجة ، فيخرج: أحمد والبخاري ومسلم وابن ماجة ، ويبقى : أبو داود ، والترمذي، والنسائي .
المراد بقوله: أخرجه الأربعة
قال: [ وبالأربعة من عدا الثلاثة الأول ]. أي: ما عدا البخاري ومسلماً وأحمد ؛ لأنه قال: ما عدا الثلاثة الأول، على الترتيب الذي ذكره، فإذا قال: (رواه الأربعة) خرج ثلاثة من السبعة وهم الثلاثة الأوائل: أحمد، والبخاري ، ومسلم، ويبقى : أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة، فهؤلاء هم الأربعة.
المراد بقوله: أخرجه الستة
قال رحمه الله: [ وبالستة من عدا أحمد ]. وإذا قال: رواه الستة من دون الإمام أحمد، وهم: : البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة .
المراد بقوله: أخرجه الخمسة
قال: [ وبالخمسة من عدا البخاري ومسلماً ]. وإذا قال: رواه الخمسة، أخرج البخاري ومسلماً، ويبقى أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي، وابن ماجة . قال: [ وقد أقول: الأربعة وأحمد ] . فحينما يقول: رواه الخمسة، إنما يريد كلهم ما عدا البخاري ومسلماً ، وقد يعبر عن الخمسة بالأربعة وأحمد .
ختم ابن حجر المقدمة بدعاء الله العمل بالعلم(1/7)
قال: [ والله أسال أن لا يجعل ما علمنا علينا وبالاً ..]. هذا دعاء خير نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن لا يجعل ما علمنا وبالاً علينا، وهذا عياذاً بالله من علم ولم يعمل، أو عمل بنقيض ما يعلم. والله سبحانه وتعالى قد بين أقسام الناس تجاه العلم والعمل في أعظم سورة في كتاب الله، وعند أعظم مسألة يسألها العبد ربه، وفي أعظم موقف يقفه الإنسان وهو في الصلاة بين يدي الله حينما يقرأ الفاتحة، ويقدم المقدمة العظيمة ويعلن فيها الحمد لله سبحانه، ويقر لله بربوبيته للعالمين، ثم يصفه بصفات الجلال والكمال: (الرحمن الرحيم) ثم يقر بالبعث والجزاء، وأن الملك في ذلك اليوم لله وحده، ثم يقر ويعترف ويذعن: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] بأنه لا يعبد غيره، ولا يستعين بسواه، وبعد هذا الثناء الجميل كله يسأل الله تعالى ويقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، فهي أعظم مسألة في أعظم موقف بعد أعظم مقدمة. ولهذا جاء في الحديث: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي... فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل). (إياك نعبد) هذه لله سبحانه، (وإياك نستعين) هذه للعبد، (ولعبدي ما سأل) وهو قوله: (اهدنا)، وقد بين سبحانه هذا الصراط بقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، والاستقامة ليست مجرد الاعتدال على خط معتدل كالسهم، فكل من سار على منهج معين لتحقيق غاية فهو المستقيم. ويقول علماء الأدب والاجتماع: الاستقامة وسطٌ بين طرفين، وسطٌ بين طرفي الإفراط والتفريط، فقالوا مثلاً: الشجاعة وسطٌ بين التهور وإلقاء النفس إلى التهلكة وبين الجبن(1/8)
وعدم الإقدام، فإذا كان يلقى من هو أقوى منه أو أكثر منه ولا يجد طريقاً للعودة، فهذا متهور وليس بشجاع، فلم ينظر إلى العواقب؛ لأن الحرب كر وفر، والذي لا يقدم ولا يقاتل هذا جبان، والشجاعة أن يقدم وقت الإقدام، ويحجم وقت الإحجام. وقالوا مثلاً: الكرم وسطٌ بين التبذير وإلقاء المال على غير وجهه، وبين التقتير وألا ينفق ولا درهماً، فإذا ما أنفق المال قليلاً كان أو كثيراً في أوجه الإنفاق كان كريماً. ولهذا يقول الله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، فلا إفراط ولا تفريط، والإفراط والتفريط هو الذي وقعت فيه الأمتان السابقتان: اليهود والنصارى، قال تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، فهاتان الأمتان مفرطتان، والأمة وسطٌ بينهما، فاليهود فرطوا في كتاب الله، علموا ولم يعملوا: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء:46]، وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:174]، ويحتالون على ما حرم الله، فلما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت ألقوا الشباك يوم الجمعة وسحبوها يوم الأحد وفيها الحيتان، وقالوا: ما عملنا يوم السبت شيئاً، ولما حرم الله عليهم شحوم الميتة جملوها ثم أذابوها وباعوها، وأخذوا الثمن وأكلوا به ما يريدون، فهذا يسمى تفريط في حق الله وفي أوامره. والإفراط الذي وقع فيه النصارى أنهم عملوا عن جهالة، ولهذا يقول العلماء: كل من ترك العمل بما علم ففيه شبه من اليهود، وكل من عمل على غير علم ففيه شبه من النصارى، أما هذه الأمة فإنها جاءت وسطاً، وقضية تحريم الصيد معلومة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة:94]، فحينما خرجوا في صلح الحديبية كان يأتي الصيد ويقع على ساق الفرس، وعلى سن الرمح،(1/9)
وتأتي الضباع وتتخلل بين أرجل الإبل، فما امتدت يد واحد إلى صيد شيء منها، أما اليهود فحينما قيل لهم: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]، قالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ [المائدة:22] وقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا [المائدة:24]، وتأتي هذه الأمة لا يساوون مع العدو أكثر من الثلث، قوم خرجوا إلى عير في بدر، وجاءهم النفير بكامل العَدد والعُدد، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه. فقالوا: والله لن نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون، نقول: بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك. إذاً: كانت هذه الأمة وسطاً بين تلك الأمتين اللتين وقعت إحداهما في الإفراط والأخرى وقعت في التفريط، ولهذا لم تكن أمة من تلك الأمتين صالحة لدوام الرسالة فيها، فنقل الله الرسالة من بني إسرائيل من الشام إلى الحجاز، وجاء بإسماعيل عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وسلام، وكان من دعوة إبراهيم عليه السلام: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129] الآية، وكانت نشأة الدين من جديد في الجزيرة العربية. إذاً: في هذا الكتاب المبارك يدعو المؤلف في النهاية أن يجعل الله سبحانه وتعالى ما علمناه حجة لنا، لا أن يكون حجة علينا. قال: [ وأن يرزقنا العمل بما يرضيه سبحانه وتعالى ]. آمين. والله أسأل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح المتقبل، وبالله تعالى التوفيق
( كتاب الطهارة [المقدمة] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)
2 شرح حديث بئر بضاعة
3 أقسام المياه وأحكامها
4 متى ينجس الماء؟
كتاب الطهارة - باب المياه [1]
الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه أو لونه بنجاسة تحدث(1/10)
فيه، وهذا من أحكام المياه التي بينها الفقهاء بأدلتها من الكتاب
والسنة، وهي أحكام تدل على كمال الشريعة، وشمولها، وحكمتها.
شرح حديث: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على
رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال المصنف رحمه
الله: [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم في البحر : (هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) أخرجه
الأربعة وابن أبي شيبة واللفظ له، وصححه ابن خزيمة و
الترمذي ، ورواه مالك و الشافعي و أحمد ] . قال
المؤلف: أخرجه الأربعة، والأربعة هم من عدا أحمد و البخاري و مسلماً ، وهم: أبو داود و الترمذي و النسائي و
ابن ماجة . قال: وابن أبي شيبة . ابن أبي شيبة ليس من
السبعة، لكنه قد يذكر من غير السبعة، فابن أبي شيبة أخرجه في
مصنفه. وقوله: واللفظ لابن أبي شيبة ، كأنه رآه أجمع من غيره،
مع أن رواية الموطأ واسعة ووافية في هذا. وقوله: وصححه ابن خزيمة ،
ليس هو من السبعة، ولكن حتى لا يقول أحد: اصطلح على ذكر السبعة
والآن ذكر لنا تسعة! لكن اختصاراً للأسماء اصطلح على السبعة، وإذا
لزم الأمر أن يذكر غيرهم سماه، فسمى هنا ابن أبي شيبة ، وقال:
صححه ابن خزيمة ، مع أنه لم يروه من السبعة غير المذكورين،
وكذا صححه الترمذي . ورواه مالك ، ومالك لم يذكر في
السبعة، ولكنه وجده في الموطأ فأراد أن يدعّم الحديث بمن صححه من
علماء الحديث، وذكر من رواه سوى الأربعة، ويكفي أنه موجود في موطأ
مالك . ورواه كذلك الشافعي ، وهل له كتاب في الحديث وهو
المسند، وكذلك أبو حنيفة رحمه الله له مسند، ولكنها مسانيد
مختصرة صغيرة. ورواه أحمد ، وقد ذكره لأن الأربعة هم من عدا
الثلاثة، فأخرج أحمد من السبعة ثم ذكره. إذاً: عرفنا تخريج
الحديث من اصطلاح المؤلف في الأربعة، وكذا من ذكرهم بأسمائهم(1/11)
وأعيانهم. وهذا الحديث يقول عنه الشافعي رحمه الله: هو أصل
أصيل في كتاب الطهارة.
حكم ميتة البرمائيات
الحيوان الذي يعيش في الماء، وتارة في البر، ما حكم ميتته؟ فيه
ثلاثة أقوال: قيل: يعتبر بحرياً، وقيل: يعتبر برياً، وقيل: العبرة
بمكان موته، فإن وجدناه في البحر فهو ميتة بحر، وإن وجدناه في البر
فهو ميتة بر.
الحكمة من التفريق بين ميتة البحر والبر
جاء في الحديث الآخر: (أحلت لنا مييتان: السمك والجراد)، يقول بعض
العلماء: لماذا كانت ميتة السمك حلال، ولا تحتاج إلى تذكية؛ بينما
الشاة والغزال والأرنب تحتاج إلى تذكية؟ ليعلم أن جميع الحيوانات
تعيش على الأكسجين الذي في الهواء، وتخرج ثاني أكسيد الكربون عند
التنفس، فإذا ما خنقت أو ماتت حتف أنفها واحتبس الدم فيها؛ فنصف
الدم مسمم بثاني أكسيد الكربون، والتذكية تخلص اللحم من هذا السم
الذي في الدم، أما السمك فيتنفس الأكسجين من الماء، وليس هناك ثاني
أكسيد الكربون، ولهذا إذا أخذت السمكة وهي حية وقطعت فسينزل منها
دم أحمر، وإذا جف دم السمك صار أبيض، وأما دم الحيوان البري فإنه
إذا جف صار أسود، فالسواد في دم حيوان البر هو بسبب ما فيه من ثاني
أكسيد الكربون، وهو سام، والبياض الموجود في دم السمك لخلوه من
هذا، ولهذا لو مات السمك ولم يخرج دمه، فدمه لا مضرة فيه على
الإنسان، اللهم إلا ما طفا على وجه الماء فيرى الإمام أبو حنيفة رحمه الله أنه لا يؤكل، حفاظاً على الإنسان، حتى لا تلحقه المضرة
من هذا الذي طفا على الماء، والله تعالى أعلم.
حكم ميتة البحر
ولما رأى صلى الله عليه وسلم التباس الأمر عليهم في طهورية ماء
البحر، أدرك أنه من باب أولى سيلتبس الأمر عليهم في ميتة البحر،
وهم المخالطون للبحر ولميتته ولمائه، فأضاف إلى الجواب ما يرفع
اللبس الذي أدركه في حقهم، فأضاف قوله: (الحل ميتته ) يقول بعض
العلماء: كل ميتة البحر حلال، والبعض يقول: ما عدا السمك الطافي،(1/12)
كما هو مذهب الأحناف، ولهم أدلة على ذلك، فمذهبهم المشهور عنهم عدم
جواز أكل السمك الطافي على وجه الماء، وليس هذا لمعارضة الحديث،
ولا لعدم العمل به؛ ولكن لأن السمك إذا مات، وأُخذ في أول موته؛ لم
يكن فيه مضرة؛ لأن جسمه لم يتغير ولم يتعفن، ولكن إذا طال الوقت
تعفن، ودخلت فيه البكتيرياء، ودخله الهواء، وصار جسمه خفيفاً فيطفو
على وجه الماء، فإذا أكله الإنسان كان مضنة المضرة لمكثه مدة بعد
موته، فقالوا: يكره أكل السمك الطافي على وجه الماء، وخالف الجمهور
الأحناف في استثنائهم السمك الطافي، وهذا فيما يظهر ليس متفقاً
عليه عندهم؛ لأنه جاء في كتاب (فتح القدير) أنهم لا يحلون للمحرم
من صيد البحر إلا السمك، ولكن الله أباح للمحرم كل صيد البحر،
واستدل الجمهور على ذلك بحديث العنبر، في قصة سرية أبي عبيدة بن
الجراح ، حينما نفد زادهم، وكان جراباً من تمر، حتى كانوا
يتقوتون على تمرة تمرة، وهم ستمائة رجل! قال الراوي: فرأينا كثيباً
عظيماً على الساحل، فلما دنونا منه إذا به حوت عظيم يقال له:
العنبر، فمكثنا عليه شهراً.. وأخذوا يأكلون من لحمه، ويصيبون من
ودكه، قال الراوي: ولقد رأيت ثلاثة عشر رجلاً يجلسون في عينه! ولقد
أخذنا ضلعين من أضلاعه ونصبناهما، ثم نظرنا إلى أطول رجل فركب أطول
بعير، ومر تحت الضلعين! فذكروا ذلك لرسول الله فقال: (هذا رزق ساقه
الله إليكم )، والأحناف يقولون: إنما أكلوا منه للضرورة؛ لأن
أبا عبيدة قال: إنه ميتة، ثم قال: نحن في سبيل الله، وأنتم
مضطرون إليه، فكان على سبيل الاضطرار، ولكن قال الجمهور: في القصة
أنهم لما رجعوا إلى المدينة ذكروا ذلك لرسول الله فقال: (هل بقي
معكم منه شيء؟ )، فالضرورة وهم على ساحل البحر لنفاد زادهم، لكن
ليس في المدينة ضرورة، فالراجح والصحيح هو قول الجمهور؛ لعموم قوله
صلى الله عليه وسلم: (الحل ميتته ). لكنهم يستثنون بعض الأشياء،(1/13)
فقد استثنى مالك خنزير البحر، فعندما سئُل عنه قال: أنتم
تسمونه الخنزير، والله قد حرم الخنزير، واستثنى كذلك كلب البحر،
والبعض يحرم التمساح، أما الضفدع فقد جاء النهي عنه؛ لأن طبيباً
استأذن رسول الله أن يجعله في الدواء فنهاه عن قتله، وعلى هذا
نقول: نبقى على عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (الحل ميتته )،
وبعض العلماء يستثني الحيوانات التي يظن أنها ضارة كالسرطان ونحوه.
وعلى هذا أضاف قوله: (الحل ميتته ) إلى قوله: (الطهور ماؤه )؛
لأن راكب البحر قد يحتاج إلى السمك الميت، فقد ينفد طعامه ويحتاج
إليه، والبعض يقول: ذكر ذلك ليعلم راكب البحر أن الميتة فيه لا
تنجسه، وهذا أمر بعيد؛ فإنه لو رميت نجاسة الدنيا كلها في البحر
فلن تؤثر فيه، والأرض بكاملها الربع منها يابس، وثلاثة أرباعها
ماء، فما الذي ينجسه؟ إذاً: العلة في ذلك ليرفع اللبس عن ركاب
البحر، ويعلمهم بأن الميتة في البحر حلال، وقد جاء عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (ما مات في البحر فقد ذكاه الله لكم)،
أي: ذبحه لكم، فلا داعي إلى التحرز عنه فهو حلال.
سبب حديث: (هو الطهور ماؤه...)
وهذا الحديث قد ذكره المؤلف مختصراً، وهذا من الإيجاز الذي عناه
المؤلف بالتحرير، وأصل الحديث هو ما ذكره مالك في الموطأ: أن
رجلاً يدعى عبد الله بن المدلجي كان يصيد في البحر، فسأل رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من
الماء، فإن توضأنا منه عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال صلى الله
عليه وسلم: هو -أي: البحر- الطهور ماؤه، الحل ميتته ).
من فوائد حديث: (هو الطهور ماؤه..)
تكلم ابن عبد البر رحمه الله وغيره في شرح هذا الحديث
ومدلولاته، وابن عبد البر تتبع رواياته التي أشار إليها
المؤلف، ثم ذكر فوائد الحديث، وقد أشرنا إلى بعضها، ومن فوائده: أن
قوله: (إنا نركب البحر) فيه إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/14)
على ركوب البحر، وفي هذا رد على من يقول: لا يجوز ركوب البحر إلا
للضرورة، وهو مروي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما،
وابن عمر يقول ذلك مخافةً من الهلاك؛ لأن البحر غول كما يقول
الناس، ولهذا لا ينبغي لإنسان أن يركب البحر عند الهيجان في شدة
المد والجزر، ومعلوم أن شركات التأمين التجاري لا تسمح لباخرة تحمل
بضاعة تحت تأمينها أن تبحر وقت هيجان البحر؛ لأنها إن غرقت السفينة
ضمنتها شركة التأمين، فهي لا تسمح لسفينة تحت ضمانها أن تبحر إلا
إذا أخبرتها هيئة الأرصاد الجوية أن البحر هادئ، ودائماً نسمعهم في
النشرات الجوية يقولون: الموج ما بين مترين ومترين ونصف إلى ثلاثة
أمتار أو أربعة أمتار، إلى غير ذلك من أحوال البحر، فإذا كان البحر
في وقت هيجانه فلا ينبغي للإنسان أن يركبه؛ لأن هذا قمة التهلكة،
أما وهو هادئ فلا بأس، وقد يفاجأ أهل السفينة بأمواج عاتية؛ فحينئذ
يكون الأمر بقضاء الله وقدره. وقوله: (إنا نركب البحر)، أي: نركب
السفن في البحر، وحذف ما يعلم جائز كما يقول ابن مالك . وقوله:
(ونحمل معنا القليل من الماء)، وفي بعض الروايات: (القربة من
الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟) فقال صلى الله
عليه وسلم : (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته )، يقول العلماء: من
كان معه ماء في سفر أو في فلاة من الأرض، والماء على قدر حاجته؛
فلا يتوضأ به، بل يتيمم؛ لأن الرسول أرشدهم إلى ماء البحر مع وجود
الماء العذب؛ لحاجتهم إليه في الشرب، وكذلك المسافر إذا احتاج إلى
الماء في الشرب وفي صنع الطعام، قال العلماء: حتى ولو كان معه
الدابة يركبها أو يسوقها، وهي في حاجة إلى هذا الماء لتشرب منه؛
فلا يجوز له أن يتوضأ، بل يوفر الماء للدابة كما يوفره لنفسه،
ويتيمم؛ لأن الوضوء له بديل، وليس لماء الشرب بديل، فإذا قل الماء
على مسافر أو على أحد في فلاة، واحتاج أن يوفر الماء لنفسه لشرابه(1/15)
أو طعامه، أو شراب ما معه من الحيوان المحترم الذي يصحبه معه؛
فليتيمم. قال: فإن توضأنا منه عطشنا؛ لأنه قليل، ولا يمكن أن نشرب
من ماء البحر، فكان الجواب منه صلى الله عليه وسلم من جانبين:
الجانب الأول: أنه أفتاهم بزيادة عما سألوا، فقال: (هو الطهور
ماؤه، الحل ميتته )، وهم لم يسألوا عن ميتة البحر. الجانب
الثاني: عدم الإجابة بنعم أو لا، ولما قال: (هو الطهور ) كأنه ألغى
صورة السؤال، وجعل الجواب مستقلاً، أي: سواء ركبتم ومعكم القليل من
الماء، أو الكثير من الماء، أو لم تحملوا ماءً بالكلية، وسواء كنتم
تحتاجون إلى ركوب البحر أو لا تحتاجون، فمن ركب البحر، واحتاج إلى
الوضوء؛ فالبحر ماؤه طهور وميتته حلال، فلو قال: نعم؛ لكان الجواب
محتملاً أن يكون مقصوراً على الذين يصطادون في البحر، أو حياتهم
ترتبط بالبحر، ولا يشمل من ينزلون للنزهة، أو للسفر لأمر آخر، بل
جاء بقضية مستقلة، بمبتدأ وخبره (هو -أي: البحر- الطهور ماؤه، الحل
ميتته ).
شرح حديث بئر بضاعة
قال رحمه الله: [ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء )
أخرجه الثلاثة، وصححه أحمد ]. كان الرسول صلى الله عليه وسلم
يؤتى له بالماء من بئر بضاعة ويتوضأ منه، وبئر بضاعة في الشمال
الشرقي من المدينة على مسامتة سقيفة بني ساعدة إلى الشمال، وكانت
هذه البئر موجودة إلى عهد قريب، وأقيمت على مزرعتها مدرسة تحفيظ
القرآن، وبعد ذلك كان النادي الأدبي، ثم أزيل الجميع. وبئر بضاعة
معلم من معالم السنة، ودراسة جغرافيتها نستفيد منها فوائد، وقد سبق
إلى ذلك أبو داود رحمه الله، فعندما جاء إلى المدينة ذهب إلى
هذا البئر، وقاس مساحتها. فكان صلى الله عليه وسلم يستقى له من هذه
البئر، ولم تكن كل آبار المدينة عذبة صالحة للشرب، وقصة بئر رومة
معلومة، وهي التي تسمى الآن: بئر عثمان ، كانت هذه البئر يستقي(1/16)
منها أهل المدينة، وكان رومة رجلاً يهودياً يبيع الماء، فقال
صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومة وله الجنة )، فذهب إليه
عثمان وثامنه، فأغلى الثمن جداً، فتكاثر عثمان الثمن،
فقال: أنت حريص على الماء، فبعني نصفه، فباعه نصف البئر، فقال
عثمان رضي الله تعالى عنه: نقسم البئر، فقال: كيف نقسمه؟ قال:
لك يوم، ولي يوم. وهذه قسمة عادلة. فأعلن عثمان رضي الله تعالى
عنه لأهل المدينة أن الماء في يوم عثمان مجاناً في سبيل الله،
وصار الذي يريد ماء يأخذ ليومين، فيأتي يوم رومة ولا يوجد أحد
يشتري منه الماء؛ لأن الناس يأخذون الماء في يوم عثمان ، المهم
أنه اشتراه منه، فكان الناس يستقون الماء من بئر عثمان في سوق
كان هناك. وفي ذات يوم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أبا بكر وعمر فقال لهما : (ما الذي أخرجكما في هذه الساعة؟ قالا:
أخرجنا الجوع، قال: وأنا والله ما أخرجني إلا الجوع، هلموا إلى
فلان )، وذهبوا إليه في بستانه، فوجدوا زوجته فقالت: إنه ذهب
يستعذب لنا الماء، ثم جاء الرجل، وأكرمهم بقنو من النخل فيه رطب
وبسر وتمر، وذبح لهم ... إلخ، والشاهد: أنه ذهب يستعذب ماء للشرب.
وكانت بئر بضاعة من الآبار التي يستعذب ماؤها، فسألوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم عنها، تنبيهاً على الواقع، ليعلم حقيقة الأمر،
وهذا أيضاً من حقه عليهم، كما في قصة الضب، عندما قدم في المائدة،
وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأكل منه فقيل له: إنه ضب،
فرفع يده، فقالوا: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: (لا، ولكنه لم يكن
بأرض قومي، فأجدني أعافه )، فاجتره خالد بن الوليد فأكله.
فهم قد أخبروا رسول الله بماذا سيأكل، وهذا كذلك هنا للتنبيه، فقد
أخبروه بما يستقى له من الماء فقالوا: أيستقى لك من بئر بضاعة، وهي
بئر يلقى فيها النتن؟ وفي بعض الروايات: الحِيَض -أي: قطع الخرق
التي تستعملها الحائض-، فكانت خرق الدم تلقى في هذه البئر، فكان(1/17)
الجواب بعد هذا البيان: (الماء طهور لا ينجسه شيء )، فانظر إلى
هذا السؤال وهذا الجواب، فالماء طهور لا ينجسه شيء؛ لأن الماء الذي
استقي له، وجيء به إليه؛ ليس به شيء من هذه الأشياء الموجودة في
البئر، فقوله: (الماء طهور لا ينجسه شيء ) يعتبر مطلقاً بدون
قيد، فالماء من حيث هو طهور؛ لكن المؤلف بين التقييد بالحديث
الثاني: (الماء طهور، إلا ما غلب على ريحه، أو لونه، أو طعمه
بنجاسة )، وكلمة (بنجاسة) لها مفهوم، فلو تغير أحد أوصافه بطاهر
فلا يضر. وهنا خلاف بين العلماء، فالجمهور حملوا المطلق على المقيد
وقالوا: نجمع بين الحديثين فنقول: إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا
ما غلب على أحد أوصافه الثلاثة، فنكون أعملنا القيد في المطلق،
والقاعدة عند الأصوليين: حمل المطلق على المقيد، وبهذا يتم الجمع.
وستأتينا أحاديث ليس فيها تغير الماء، ومع ذلك نهى صلى الله عليه
وسلم عن استعمالها، فمثلاً: قال عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ
أحدكم من نومه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات )،
قالوا: الإناء صغير، واليد ليس عليها شيء، وليس فيها ما يغير
الطعم، ولا اللون، لكن منع من ذلك، وهذا ماء قليل انغمست فيه اليد،
وكذا حديث: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله )، وفي قضية
بول الأعرابي الذي بال في المسجد فأتي بدلو كبير وأهريق على ذلك
البول، فاختلط البول بالماء القليل وتطهر البول بهذا الماء.
أقسام المياه وأحكامها
من مجموع الأحاديث نأتي إلى تقسيم الماء من حيث المجمع عليه
والمختلف فيه، فنجد طرفين ووسطاً: الطرف الأول: الماء الكثير وهو:
الطهور الذي لم يتغير بنجاسة، وهو طهور بالإجماع ولا نزاع فيه.
الطرف الثاني: الماء القليل أو الكثير إذا خالطته نجاسة فغيرت أحد
أوصافه، فهذا نجس لا يستعمل بالإجماع. إذاً: عندنا ماء كثير لم
تتغير أوصافه وهو باق على طبيعته، ولم يتغير منه شيء مع الكثرة،(1/18)
فهو طاهر، وماء آخر كثير أو قليل تغير بالنجاسة فهو نجس. بقي الوسط
وهو محل النزاع والخلاف عند الأئمة رحمهم الله، وهو الماء القليل
الذي لاقته النجاسة ولم تغيره؛ لأنها إذا غيرته التحق بالقسم
الثاني الذي هو نجس بالإجماع، لكنه قليل ولم تغيره النجاسة، بأن
كانت قليلة نادرة، مثل إناء من ماء وقعت فيه خمس عشرة قطرة من
البول، وهذه قطعاً نجاسة وقعت في هذا الماء ولم تغير أحد أوصافه،
فما حكمه؟ هذا هو محل الإشكال عند العلماء، وكل ما سيمر بنا من
خلاف في مباحث المياه فإنما هو في هذا القسم الوسط. إذاً: الماء
على ثلاثة أقسام من حيث الطهورية والنجاسة: إن كان كثيراً -وسنذكر
حد الكثرة من القلة- ولم تتغير أوصافه بنجاسة فهو طهور بالإجماع،
(هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، وإن تغيّر بنجاسة سواء كان قليلاً
أو كثيراً فهو نجس، حتى لو كانت عندنا بحيرة طولها كيلو في كيلو،
وعمقها كيلو، وتسلطت عليها مياه المجاري حتى غيّرت ماءها، فهو ماء
كثير تغير فهو نجس. إذاً: القسم الأول: طهور؛ وهو الكثير الذي لم
تؤثر فيه النجاسة بشيء. القسم الثاني: غيّرت النجاسة أحد أوصافه
الثلاثة، فمهما كانت كثرته ومهما كانت قلته؛ فهو نجس. والوسط وهو
القسم الثالث: ماء قليل لاقته النجاسة ولم تغيره. إذا جئنا إلى
الحديث الأول: (الماء طهور لا ينجسه شيء )، وحملناه على القليل
لوجدنا منطوق هذا الحديث أنه ما لم تتغير أوصافه فهو طهور على هذا
النص، إذاً: لم نحمله على الكثير؛ لأن النجاسة قليلة ولم تغيره،
وهو تغلب عليها، ومن هنا قال مالك رحمه الله: الماء إذا لم
تتغير أحد أوصافه بالنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً فهو طهور،
وقال الأئمة الثلاثة: إذا كان الماء قليلاً ولم تغيره النجاسة؛ فإن
النجاسة موجودة فيه، وقلته لا تحتمل النجاسة، لحديث: (إذا كان
الماء قلتين لا يحمل الخبث )، أي: فما دون القلتين يحمل الخبث.(1/19)
وقد مهدنا للأحاديث الآتية بهذا التقسيم الثلاثي حتى نطبق عليه
الأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله تباعاً؛ لأنها كلها تشكل
موضوعاً واحداً. نعيد مرة أخرى: الماء بالنسبة إلى الطهارة
والنجاسة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: طهور بالإجماع، وهو الكثير الذي
لم تتغير أحد أوصافه. ونجس بالإجماع، وهو المتغير أحد أوصافه
بنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً. والقسم الوسط وهو محل النظر
والاجتهاد والخلاف، وهو الماء القليل الذي لاقته نجاسة لم تغيّره،
فمذهب مالك ، ورواية عن أحمد وبعض آل البيت أن الأصل في
الماء الطهورية، وإنما النجاسة تؤثر فيه إذا تغير أحد أوصافه؛
لحديث (الماء طهور لا ينجسه شيء )، فأخذ مالك بالعموم،
وعنده ما دام أن الماء لم تتغير أوصافه فهو طهور ولو كان قليلاً،
لهذا الحديث. وقال الجمهور والأئمة الثلاثة: نحن نقيد المطلق
بالقيد الذي جاء بعده: بنجاسة تحدث فيه. قال رحمه الله: [ وعن أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) أخرجه الثلاثة، وصححه أحمد . ] . نحن لا نناقش الطرفين المجمع عليهما، فالطرف المجمع على أنه
طهور ليس لنا حاجة في نقاشه، والطرف المجمع على أنه نجس لا يوجد
مجال للمناقشة، والمناقشة كلها في الماء القليل الذي لاقته نجاسة
لم تغيّر أحد أوصافه، فالأصل فيه أنه طهور لا ينجسه شيء، وبهذا أخذ
مالك ، والأئمة الثلاثة لم يأخذوا بهذا، ولكن قيدوا هذا المطلق
بالقيد الآتي بعده.
متى ينجس الماء؟
قال رحمه الله: [ وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الماء لا ينجسه شيء، إلا ما غلب
على ريحه وطعمه ولونه ) أخرجه ابن ماجة ، وضعفه أبو حاتم ] . قوله: (ما غلب) أي: لو جاءته نجاسة قليلة، قطرة أو قطرتان، ولم
تغير أحد أوصافه، فيبقى على طهوريته، إلا ما غلب على ريحه وطعمه(1/20)
ولونه بنجاسة تحدث فيه، فهو طهور ما لم يتغير بما يغلب على أحد
الأوصاف الثلاثة، وما يغلب على أحد الأوصاف الثلاثة لا يخلو من أحد
أمرين: إما أن يكون نجساً أو طاهراً، فإن كان الغالب على أحد
أوصافه نجساً فالماء نجس، وإن كان الغالب على أحد أوصافه طاهراً
فماذا يكون حكمه؟
حكم إذا خالط الماء شيء طاهر فغيره
جمهور الفقهاء على أن الماء على ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس،
فالطهور: هو الذي يطهر غيره، كالماء الذي يتوضأ ويغتسل منه، وتغسل
به النجاسة، والطاهر: هو الذي يجوز استعماله فيما طابت به النفس،
ولكن لا يتطهر به محدث، ولا تطهر به نجاسة، وهو الماء الذي تغيّر
أحد أوصافه بطاهر، مثل ماء الورد، وهو ماء خالطه عطر الورد، فهل
هذا الماء طهور نتوضأ منه؟ لا. وهل هو نجس؟ لا. إذاً: هو طاهر،
يجوز أن تستعمله في ثيابك، وأن تضعه في شرابك، أو في طعامك، لكن لا
يدخل في العبادات؛ لأن الماء الطهور هو الباقي على خلقته التي خلقه
الله عليها، فإذا تغير بمضاف إليه خرج عن الحد الذي خلقه الله
عليه، ولهذا قالوا: كل ماء طهور تغيّر بأصل طاهر؛ سلبه الطهورية،
ولكن لم يسلبه كونه طاهراً، فلك أن تستعمله في العادات لا في
العبادات، فمثلاً: عندك طست من الماء، فسقطت فيه قطرة من الحبر،
والحبر أزرق أو أسود فظهر لونه في الماء، فهل هذا الماء طهور تتوضأ
منه؟ الجواب: لا ، لكن يمكن أن تستعمله فيما يمكن أن تستعمله فيه،
وفيما يصلح أن تضيفه إليه. إذاً: القيد -ما لم يتغير أحد أوصافه
الثلاثة- جاء بإطلاق، وجاء بنجاسة تحدث فيه، ولو تغير أحد أوصافه
بطاهر فيسلبه الطهورية عن الوضوء وعن غسل الجنابة وغسل النجاسة،
ويبقى حكم الطهارة فيه، فهو ماء طاهر، فإن شئت شربته، وإن شئت
اغتسلت به لغير الجنابة، وإن شئت غسلت به إناءً ما لم يكن نجساً،
إلى غير ذلك. وبعض العلماء يقول: إن تغير بنجس تنجس، وإن تغير(1/21)
بطاهر بقي على طهوريته؛ لأن هذا التغيير بطاهر فلا يسلبه طهوريته،
ولكن هذا شاذ، وهذا القائل يستدل بحديث صفية رضي الله تعالى
عنها قالت: (اغتسلت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من جفنة فيها
أثر العجين )، فالجفنة كانوا يعجنون فيها، فجاءوا وصبوا الماء
في الجفنة، واغتسلوا منها، ووجه الاستدلال: أن العجين اليابس في
الجفنة إذا وقع عليه الماء فإنه يتحلل في الماء، وهذا سيغير لون
الماء إلى بياض العجين، قالوا: فقد اغتسلوا من هذا الماء الذي تحلل
فيه العجين، وأجاب غيرهم على هذا: بأنهم اغتسلوا بسرعة قبل أن
يتحلل العجين. فمذهب الجمهور أن الماء الذي خالطه طاهر وغير أحد
أوصافه فهو طاهر غير طهور، مثل إناء فيه ماء فصب فيه ماء الورد،
فقد صار ماء ورد، أو سقط فيه زعفران، فيكون ماء زعفران، وهكذا لو
سكبت فيه شيئاً من البر أو اللوبيا أو غيرهما، ونظرت فيه وقد تغير،
فليس ماءً مطلقاً، ولهذا يقولون: الماء المطلق هو الطهور، فإذا ما
أضيف إليه شيء وغير بعض أوصافه؛ خرج عن مسمى الماء المطلق، وأصبح
ماء مقيداً، أما ماء ورد، أو ماء زعفران، أو ماء سكر، أو ماء ملح،
إذا وضع الملح في الماء يجعله مالحاً، وإذا وضع السكر فيه فإنه
يحليه، وكل هذا يسلب الماء الاسم المطلق، ويصير ماءً مضافاً إلى ما
أضيف إليه، ماء مسكر، أو ماء مملح.. وهكذا، حتى ولو كان الذي خالطه
طاهر، فإنه يسلبه اسم الماء الطلق، ولم يبق طهوراً، ومن هنا أخذ
الجمهور أن الماء طهور لا ينجسه شيء، وأضافوا إليه القيد الثاني:
إلا ما غير لونه، أو ريحه، أو طعمه، فإن تغير بطاهر فهناك من يقول:
هو باق على طهوريته، وأما إن تغير بنجس فقد خرج عن الطهورية إلى
النجاسة، لتغير أحد أوصافه، وهذا هو رأي الأئمة الثلاثة.
( كتاب الطهارة - باب المياه [2] )
عناصر الموضوع
1 خلاف العلماء في نجاسة سؤر الكلب وغسله
2 حكم سؤر الهرة
كتاب الطهارة - باب المياه [3](1/22)
اختلف العلماء في نجاسة الكلب، ونجاسة سؤره، ومن ثم اختلفوا في حكم غسل
الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات، وفي حكم تتريبه، وكل فريق استدل
بأدلة صحيحه، ومعرفة خلاف العلماء في هذه المسألة وأدلتهم فيها يدرب
طالب العلم على استنباط الأحكام الشرعية، ويعلمه احترام رأي المخالفين،
وتقدير وجهة نظرهم. أما سؤر الهرة فهو طاهر وليس بنجس؛ لأنها من
الطوافين علينا، ويلحق بها كل ما كان يعيش في البيوت بجامع أنها كلها
من الطوافين علينا.
خلاف العلماء في نجاسة سؤر الكلب وغسله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فالجمهور على نجاسة الكلب، وعلى
أنه يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب للنجاسة، ولكن هل يقاس عليه
غيره؟ فبعض الشافعية يلحق الخنزير بالكلب في نجاسته وفي التطهير
منه؛ لأن الخنزير أشد نجاسة من الكلب. وهناك من يحكي عن بعض
المالكية أن الأمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب وارد في الكلب
غير المأذون فيه، أما الكلب المأذون فيه، وهو ما كان للصيد أو
للحراسة أو للماشية؛ فإنه مخالط لصاحبه؛ فليس داخلاً في هذا الأمر،
وبقية المالكية على العموم، سواء كان الكلب مأذوناً فيه أو غير
مأذون فيه. قال صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم ) فإذا
كان الولوغ في غير الإناء، بأن جاء الكلب إلى بركة أو إلى حوض وشرب
منه ولعق، فهل يدخل في هذا الباب؟ قالوا: لا يدخل. وقد جاء أن عمر
بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص ، فوردوا حوضاً،
فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك
السباع؟ فقال عمر بن الخطاب : فإنا نرد على السباع وترد علينا.
وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي بين مكة
والمدينة وتردها السباع والكلاب ونحوها، هل يتطهر منها؟ فقال: (لها
ما حملت في بطونها ولنا ما غبر ) أي: ما بقي. فهنا ذكر النبي(1/23)
صلى الله عليه وسلم أن تلك المواطن لا يضرها ولوغ الكلاب فيها،
فالذين قالوا بنجاسة سؤر الكلب، قالوا: هذا ماء كثير فوق القلتين،
وسنرجع إلى موضوع نجاسة الماء القليل إذا لم تغيره النجاسة، ومن
أدلتهم على هذا: أن ولوغ الكلب في الإناء لا يغير أحد أوصافه من
لون أو طعم أو ريح. إذاً: هذا ماء قليل خالطته النجاسة فتنجس ولو
لم يتغير، فأمر بإراقته وغسل الإناء، وردوا على مالكاً بهذا؛
لكن مالك لم يسلم لهم بالنجاسة، إنما قال الغسل هنا تعبدي،
وسؤر الكلب طاهر.
خلاف العلماء في حكم التسبيع والتتريب
نأتي إلى مسألة التسبيع، الأحناف رحمهم الله يقولون: لا حاجة إلى
التسبيع، ويكفي ثلاث غسلات؛ لأن راوي الحديث أبا هريرة رضي
الله تعالى عنه سئل عن ذلك فقال: (يجزئ ثلاث غسلات)، فراوي الحديث
أدرى بحديثه، لكن لا ندري هل وجد له مخصصاً أو وجد له ناسخاً حتى
نأخذ بفتواه دون روايته، والقاعدة عند المحدثين والأصوليين: أنه
يأخذ برواية الصحابي لا بفتواه؛ لأن روايته نقل عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وفتواه اجتهاد منه، ولا يحق له أن يخالف نص رسول
الله صلى الله عليه وسلم باجتهاد منه، إذاً: التسبيع ثابت. وقال
الأحناف أيضاً: لا حاجة إلى التتريب؛ لاضطراب رواية التتريب؛ فقد
جاء: أولاهن، أخراهن، إحداهن، السابعة، الثامنة، قالوا: وهذا
اضطراب في الرواية فيسقط التتريب. وأجاب الجمهور بأن تعدد الروايات
لا يدل على نفي التتريب بالكلية، بل يؤكد وجوده؛ ولكن الخلاف في
الأولى أو في الأخيرة هذا شيء آخر، ولكن تلك الروايات تثبت
التتريب؛ فيتعين التتريب. إذاً: هذا عرض لهذا الحديث وجزئياته، ولن
نستطيع أن نستوفي كل ما يمكن أن يقال في ذلك، ولكن هذا تمهيد وبيان
وتدريب لطالب العلم على دراسة الحديث الذي تتفرع عنه المسائل
العديدة، ومعرفة وجهات النظر، وكان الأحرى أن يسوقه المؤلف في باب
إزالة النجاسة، ولكنه ساقه هنا تأييداً لرأي من يقول: إن الماء(1/24)
القليل -كالإناء الذي ولغ فيه الكلب- ينجس ولو لم يكن هناك تغير في
لون أو رائحة أو طعم؛ لأنه أمر بإراقة الماء وغسل الإناء مع عدم
ظهور التغير فيه.
الأمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب أمر تعبدي عند المالكية
وبعض المالكية يقول: إن الأمر بإراقة الماء وغسل الإناء، وتسبيعه
في التغسيل، وتتريبه بالتراب في إحداهن: أولاهن، أو أخراهن السابعة
أو الثامنة -كما قال الحسن البصري - أمر تعبدي، وليس من باب
تطهير النجاسات، وما هو الأمر التعبدي في ذلك؟ قالوا: سبب غسل
الإناء من سؤر الكلب وإراقة الماء وتطهير الإناء بعد إراقته أمر
طبي لصحة الإنسان؛ لأن الكلب يصاب بداء الكَلَب، وداء الكَلَب
ينتقل من الكلب إلى الإنسان إذا عض الإنسان، أو تناول إنسان بعده
من سؤره، فتنتقل جرثومة داء الكَلَب من الكلب إليه، ويصير مسعوراً
مثل الكلب، قالوا: فأمر بإراقة الماء حتى لا يشربه أحد، وبتطهير
الإناء حتى لا تبقى آثار الجرثومة في الإناء. ورد عليهم الجمهور
بأن الكلب الكلِب لا يشرب الماء، وإذا شرب الماء وولغ فيه فليس
مسعوراً، ورد عليهم المالكية وقالوا: إن الكلب قد يصاب بالداء ولا
تظهر عليه آثاره إلا بعد خمسة عشر يوماً، وعند ذلك تتكاثر فيه
الجرثومة، وتظهر آثارها عليه، وحينئذ لا يقرب الماء، والشرع المطهر
عمم الحكم فيما كان مصاباً ولم تظهر أثر الإصابة عليه ومالم يصب
بشيء، سداً للباب. ثم نأتي إلى مسألة التتريب، نجد في بعض الأبحاث
الطبية الحديثة أنه لا يمكن للمطهرات الكيميائية أن تقضي على داء
الكلب، ولا يقضي عليه غير مادة موجودة في التراب تسمى: (فلورين)،
وهذه المادة متوافرة في التراب، فإذا أضيف التراب إلى الإناء مع
الماء فإنها تقضي على هذه الجرثومة نهائياً، فوجدنا في الطب الحديث
أن هذه المادة (الفلورين) تقضي على داء الكلب، وقد جاء الأمر
بإراقة الماء الذي شرب منه الكلب وغسل الإناء سبعاً مع التتريب،(1/25)
ووجدنا أن الكلاب كانت تغدو وتروح في المسجد النبوي، ولم نجد الأمر
بغسل آثار الكلب في الصيد، وهذه أدلة المالكية في قولهم بأن سؤر
الكلب ليس نجساً؛ والغسل فيه تعبدي. وأضافوا إلى ذلك -من باب
التدعيم القولي بكل صغيرة وكبيرة- أن عدد السبعة يأتي في الطب
كثيراً، مثل حديث: (من تصبح بسبع تمرات .. )، وحديث: (أريقوا
عليه من سبع قرب من سبعة آبار )، أي: في دواء الحمى، فقالوا:
عدد السبعة داخل في الطب؛ ولهذا أمر بغسل الإناء سبع مرات وأضيف
إليه التراب. وبعض من يقول بالنجاسة قالوا: لا حاجة إلى التراب مع
الغسل سبع مرات، فلو غسل بالصابون والأشنان ونحو ذلك فإنه يجزئ،
وهذا قول عند الحنابلة، لكن رد عليهم بأن الحديث نص على التراب،
فقالوا: هذا نظيره في النظافة، والصابون والأشنان منظفان، قال ابن
دقيق العيد في إحكام الأحكام: يجاب على هذا بأنه فاسد
الاعتبار، وأي قياس يعارض النص فلا يعتبر؛ لأن النص في التراب،
وقالوا: إن التراب أحد الطهورين، فيجمع للإناء بين طهور الماء
وطهور التراب، وقال ابن دقيق العيد قاعدة: إذا عاد الفرع على
الأصل بالإبطال كان الفرع باطلاً، وذلك مثل قصة الخضر مع موسى
عليهما السلام لما قتل الخضر الغلام: قَالَ
أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74]،
ثم قال الخضر: وَأَمَّا
الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ
يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ
يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ
رُحْماً [الكهف:80-81]،
فهذا الولد فرع، وهذان الأبوان الصالحان أصل، فحفاظاً على صلاح
الأبوين أبقي على الأصل، وقدما على الفرع، وقتل الفرع حتى لا يفسد
الأصل؛ وهكذا إذا كان الفرع يعود على الأصل بالبطلان كان الفرع
باطلاً، ونحن نشاهد هذا حتى عند الفلاحين، فلو أن شجرة برتقال(1/26)
صغيرة أثمرت كثيراً، فيرى صاحب البستان أنه لو تركت ثمار البرتقال
على هذه الشجرة الصغيرة لكسرت أغصانها ولم تحتملها الشجرة، ولذلك
يخفف الثمار حتى لا تتحطم أغصان الشجرة، ويتلف بعض الفرع إبقاءً
للأصل، وهكذا هنا، فلو جعلنا الأشنان فرعاً عن التراب لأبطلنا
التراب، فيكون الفرع مقدم على الأصل، إذاً: هذا الفرع باطل، أما لو
قيل: نضيف الأشنان مع التراب فلا بأس؛ لأننا حافظنا على الأصل،
وأضفنا إليه غيره.
أدلة المالكية على طهارة سؤر الكلب
وقد استدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم)،
والطهور يكون من نجس أو من حدث، لكن مالكاً ناقشهم بالسبر
والتقسيم، وقال: هناك قسم ثالث، وهو الطهورية من القذر، ولكن هذا
استنتاج، فما هو الدليل عندك -يا مالك - على أن سؤر الكلب
طاهر؟ قال: إن الأصل في الحي الطهارة، فكل حي طاهر عند مالك ،
كما أن الأصل أن كل حيوان ميت فهو نجس، وهذه قاعدة في الحياة وفي
الموت. واستدل مالك بالنص القرآني الكريم، فإن المولى سبحانه
وتعالى لما سأل السائلون: ماذا أحل لهم؟ قال: قُلْ
أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ
مُكَلِّبِينَ [المائدة:4]،
قال مالك : فكلب الصيد يذهب ويمسك الصيد لصاحبه، ولم نجد الأمر
بغسل موضع عض الكلب للصيد، وليس هو مجرد ولوغ، بل هو عض بفمه كله
على الصيد، فلم يؤمر صاحب الكلب المعلم أن يغسل موضع عض الكلب
للصيد، لكن قال الجمهور: هذا الموضع يقطع ويرمى، ولو لم يرمَ
فسيشوى في النار، والنار تحيل النجاسة إلى طهارة، فقال مالك :
النار أذهبت المعنى التعبدي الذي أمر بالغسل من أجله، قالوا: وما
هو الأمر؟ قال: الأمر صحي، وسيأتي بيانه إن شاء الله. واستدل
المالكية بصنيع البخاري في صحيحه، وهو وإن لم يصرح بمذهبه،
فإنه يدل على ميوله إلى مذهب مالك في هذه المسألة؛ لأنه ساق
أربعة أحاديث يفهم من مجموعها عدم نجاسة سؤر الكلب، منها حديث كلب(1/27)
الصيد، ومنها: (كانت الكلاب تروح وتغدو في مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وما الفائدة من
هذا الحديث الذي يسوقه البخاري في كتاب الطهارة؟ قال السيوطي : إن البخاري فقيه، ودلالة الفقه في صحيحه أكثر من دلالتها في
غيره؛ وذلك لفقهه، ولذا يقول العلماء: فقه البخاري في تبويبه،
وقد يبوب الباب لمسألة فقهية ولا يورد فيها أي حديث؛ لأنه صح عنده
حديث في معنى الباب، ولكن ليس على شرطه في الصحة، فيأتي بالمعنى
تحت الباب ولا يسوق الحديث؛ لأنه دون ما اشترطه، وقد يترجم للمعنى
ويأتي بحديث في الظاهر أنه بعيد جداً، ولكن المعنى موجود فيه، فهنا
البخاري بوب: كانت الكلاب تروح وتغدو في مسجد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وذلك أنه في عام الوفود سنة تسع كان صلى الله عليه
وسلم ينزل الوفود في المسجد، ولما جاء وفد بني ثقيف في السنة
التاسعة أنزلهم في المسجد، ونصب خيامهم في المسجد، وكان يشرف على
خدمتهم، وكان ذلك في رمضان؛ ليروا حال المسلمين في صيامهم وفطورهم،
ويروا تلاحمهم وإخاءهم، ولذلك لم يخرج رمضان إلا وقد أسلموا
جميعاً، قال البخاري : كان هؤلاء القوم في المسجد، وكان يؤتى
لهم بالطعام، وحاسة الشم قوية عند الكلب، فهو يمشي ويتشمم في تربة
الأرض، ومعلوم أنه إذا تشمم الكلب تربة الأرض فإن لسانه يلهث
أيضاً، فلا بد أن يصيب لعابه التربة، ولم يأمر صلى الله عليه وسلم
بغسلها، ولا بصب الماء عليها كما أمر في قصة بول الأعرابي، ولا أمر
بمسح التراب عن مواضع تشمم الكلاب في المسجد، ولو كان سؤر الكلب
نجساً لمنعت الكلاب من ذلك، وتتبع مواطنها، وطهرت بما يمكن أن تطهر
به. وكذلك استدل المالكية بقضية كلب الصيد على أن سؤره ليس بنجس.
إذاً: الخلاف على هذا النحو: مالك يرى طهارة سؤر الكلب،
والجمهور يرون النجاسة، وكلٌ يستدل بما تقدم.
حكم سؤر الهرة(1/28)
قال المصنف رحمه الله: [ وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: (إنها ليست بنجس إنما هي من
الطوافين عليكم ) أخرجه الأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة ]. من فقه المؤلف رحمه الله تعالى أنه ساق حديث اغتسال الرجل
والمرأة من إناء واحد، ثم ما يتعلق بسؤر الكلب، ثم هنا ما يتعلق
بسؤر الهرة، وهذا يناسب باب إزالة النجاسات؛ ولكنه ساقه هنا في باب
المياه تتمةً لمسألة قليل الماء إذا لاقته نجاسة ولم تغيره،
فالإناء ماؤه قليل، وولوغ الكلب فيه -على نجاسة سؤره- لم يغير من
أوصافه شيئاً، وقد أمرنا بإراقة الماء وغسل الإناء، فعلى القول
بنجاسته يكون الماء القليل قد تنجس بالنجاسة وإن لم تغير أحد
أوصافه. ثم لملابسة الهرة للناس في بيوتهم أتبع خبر الكلب بخبر
الهرة؛ لجامع أن الكل يخالط الإنسان، ويستدعي الواقع بيان الحكمين،
فكما بين سؤر الكلب يريد أن يبين سؤر الهرة، فذكر حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه، وسبب هذا الحديث: أن زوجة ولده وضعت له ماءً
في إناء ليتوضأ، فجاءت هرة وأرادت أن تشرب من ذلك الماء، فأصغى أبو
قتادة الإناء للهرة، أي: أماله حتى تستطيع أن تشرب منه، فلما
رأت تلك المرأة فعل أبي قتادة تعجبت! وكأنها تستبعد أن يتساهل
حتى يسمح للهرة أن تشرب من ماء يتوضأ منه، فلما رأى ذلك قال:
أتعجبين يا ابنة أخي؟! قالت: نعم، أعجب من فعلك! وكأنه رأى في
قسمات وجهها علامات التعجب، وهذا من الفراسة أو من الذكاء حينما
تنظر لإنسان وتعرف أنه فرحان، أو غضبان، أو يتعجب، أو يستنكر،
فقسمات الوجه تدل على نفسية الإنسان، فقال لها: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول في الهرة: (إنها ليست بنجس )، يعني: وما
دام أنها ليست بنجس وهي تريد أن تشرب فاسقها، (إنما هي من الطوافين
عليكم والطوافات ). يقول العلماء في فقه هذا الحديث: سؤر الهرة
ليس بنجس، وبعضهم يقول: نجَس ونجِس هما بمعنى واحد، وبعضهم يقول:(1/29)
نجَس -بالفتح- في النجس المعنوي، ونجِس -بكسر الجيم- في نجس العين
كالعذرة ونحوها، والذي يهمنا أن أبا قتادة رضي الله تعالى عنه
أخبر زوجة ولده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن الهرة: (إنها
ليست بنجَس ). وهل هي ليست بنجَس بسبب أنها من الطوافين، أم
أنها في الأصل نجسة ولكن لما كانت من الطوافين خفف عنا وعفي عن
نجاستها لمخالطتها إيانا؟ هذه المسألة يبحثها العلماء. والطوّاف:
هو الذي يطوف في الحي، وقيل: الذي يطوف على صاحب البيت بالخدمة،
كما قال تعالى: يَطُوفُ
عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَاب
وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة:17-18]،
وقيل: الطوّاف: الذي يقوم بخدمة من في البيت، وشبهت الهرة بالخدم
الذين يطوفون على أهل البيت لأجل المخالطة، فلا يمكن أن تحترس من
الهرة في البيت. قال بعض العلماء: إنها ليست بنجس في ذاتها،
وزيادةً على ذلك فهي من الطوافين والطوافات. وقال بعضهم: أصلها
نجسة، ولكن خفف عنا بسبب أنها طوافة علينا، ولا يمكن الاحتراز
منها. ويفرعون على ذلك: لو أننا وجدنا الهرة أكلت فأراً، وبقايا
لحم الفأر ودمه على فمها، وشربت من الإناء، فهل نقول: إنها ليست
بنجس لأنها من الطوافين، أم نقول: إننا شاهدنا نجاسة خارجة من فم
الهرة وقعت في الإناء؟ نقول: هي ليست بنجس، ولكن جاءت بنجاسة،
والعبرة بما جاءت به.
الرفق بالحيوان
وفي الحديث موضوع اجتماعي أو جانب عاطفي، وهو ما يسمى بالرفق
بالحيوان، وينبغي أن يعلن للعالم كله أن الإسلام سبق أهل العالم
المحتضر! -وليس المتحضر بل المحتضر!- فيما يتعلق بالنواحي
الإنسانية، سواء حقوق الإنسان، أو الرفق بالحيوان، وقد جاء حديث
آخر أصرح من هذا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (دخلت امرأة النار
في هرة حبستها، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش
الأرض )، ويقابل هذا حديث: (كانت بغي من بني إسرائيل تسير في(1/30)
الطريق، فاشتد عليها العطش، فوجدت بئراً، فنزلت وشربت، فلما صعدت
وجدت كلباً يأكل الثرى من شدة العطش، فقالت: يا ويلتاه! لقد لحقه
من العطش مثل ما لحقني، فنزلت إلى البئر وأخذت خفها أو موقها
وملأته بالماء، وخرجت به وأصغته إلى الكلب فشرب، فشكر الله لها
فدخلت الجنة ) ، (شكر اللهَ لها) أي: أن الكلب شكر الله لها أن
سقته لوجه الله، أو (فشكر اللهُ): لفظ الجلالة فاعل الشكر، أي: شكر
الله لها صنيعها في الكلب والرفق به. إذاً: بين لنا الرسول صلى
الله عليه وسلم الرفق بالحيوان حتى في الهرة، فالإنسان من باب
أولى، فمن وجبت عليه مئونة إنسان ومنع عنه الطعام، أو قصر فيما يجب
عليه مع اليسار، فيخشى عليه من عذاب النار، ولهذا حث النبي صلى
الله عليه وسلم على الإحسان إلى الخدم، وإذا أتاك خادمك بالطعام
فإن لم تجلسه يأكل معك فأطعمه منه، فقد عالجه وتطلعت إليه نفسه،
فانظر إلى النواحي النفسية؛ فالطاهي الذي صنع لك الطعام وأتاك به
بكامله، لا تستأثر بالطعام وحدك، وتقول له: اذهب، وابحث لك عن شيء
آخر لتأكله! بل إما أن تجلسه معك، وهو أخوك، فلا تستأنف من ذلك،
ولا تخشى من تعويده، أو غير ذلك، بل أطعمه منه، وكما يقول العوام:
اتق عينه، فهذا الطعام قد تعلقت نفسه به، فخف على نفسك من النظرة.
إذاً: أبو قتادة رضي الله تعالى عنه أصغى الإناء للهرة، وهذا
فعل من أبي قتادة رضي الله تعالى عنه، ولم يرفع هذا الفعل إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعض الناس يقول: هذا موقوف وهو من
فعل الصحابي؛ ولكن أبو قتادة رفع قوله: ( إنها ليست بنجس )
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا يكون المؤلف رحمه الله
ساق هذا الحديث في باب المياه ليبين أن الهرة إذا طافت بالبيت
وشربت من الماء أو أكلت من الطعام فإنها ليست بنجس؛ لكن لو شاهدنا
على فمها أثر نجاسة، فيكون الحكم للنجس الذي شاهدناه.
حكم اقتناء الكلب قياساً على الهرة(1/31)
توسع بعض العلماء في هذا الحديث، كابن دقيق العيد في كتابه
المخطوط الذي أشرنا إليه، وذكر هل يقاس الكلب على الهرة بعلة
الطوافين والطوافات؟ يحكي بعضهم عن بعض المالكية أن كلب البادية
بالنسبة إلى أهل البوادي من الطوافين والطوافات، فيقيس هذا الكلب
على الهرة، ولكن النص جاء في عموم الكلاب، ولم يفرق بين كلب أعراب
وكلب حضر، ولا كلب بوادي وكلب حواضر. وبعض المالكية يخصص الكلب
المأذون في اقتنائه، وهو كلب الصيد والحراسة والماشية، ولكن
الجمهور لم يلتفتوا إلى ذلك، وقالوا: نحتاج إلى معرفة تاريخ
الترخيص في اقتناء الكلب، وتاريخ حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب،
ولا نجد دليلاً يبين المتقدم من المتأخر؛ حتى يكون التخصيص من
المتأخر للمتقدم، إذاً: نأخذ بعموم اللفظ: (طهور إناء أحدكم إذا
ولغ فيه الكلب )، و(أل) هنا للاستغراق، وليست عهدية، وعلى هذا
يكون حديث الهرة تابعاً لمباحث المياه؛ لأنه من الملابسات
الموجودة. وهنا مسألة: وهي أن البيوت في الأرياف يوجد فيها حيوانات
غير الهرة من الطوافين والطوافات، فحكمها حكم الهرة، ومأكول اللحم
لا يدخل في هذا الباب، فإنه طاهر حتى بوله، مثل الأرانب والغنم
والدجاج. فمن الحيوانات التي تلحق بالهرة: الفئران، وابن عرس، وبعض
الناس يسمونه: (العرس)، وهو حيوان أكبر من اليربوع ومن الفأر،
وأصغر من الهرة، ويقولون: ليس فيه عظام، ولو ضربته بحديدة فإنه لا
يموت، لكن لو ضربته بعرجون النخلة فإنه يموت، فهذه حيوانات تعيش في
بعض الأرياف أو في البيوت العادية، فإذا شربت من ماء في البيت
مكشوف، فهل سؤر تلك الحيوانات طاهر أو نجس؟ بعلة الطوافين
والطوافات يكون الماء طاهراً، وهذا مما يلحق بالهرة بالقياس؛ بجامع
علة الطواف، والله تعالى أعلم.
( كتاب الطهارة - باب المياه [4] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث الذباب
2 شرح حديث: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت)
كتاب الطهارة - باب المياه [5](1/32)
يعتبر حديث الذباب من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر فيه
أنه إذا سقط الذباب في الإناء فليغمس، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر
دواء، وهذا هو ما أثبته العلم الحديث، وفي هذا الحديث بيان أنه إذا وقع
الذباب في الماء أو الشراب ومات فيه فإنه لا ينجسه.
شرح حديث الذباب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع
الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داءً
وفي الآخر شفاءً ) أخرجه البخاري وأبو داود وزاد: (وإنه
يتقي بجناحه الذي فيه الداء ) ]. هذا الحديث مشهور عند العلماء
بحديث الذباب، ويرويه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم
فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاءً )،
وفي رواية: (وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء )، والمعنى العام
لهذا الحديث: أن الرسول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه يرشدنا إلى
حكم ما لو وقع الذباب في الشراب؛ لأن جبلة الإنسان تعافه؛ لقذارة
الذباب، فإنه بطبيعة حياته يعيش على القاذورات ثم يأتي ويسقط في
الشراب، كما قال القائل: إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي
تشتهيه وتجتنب الأسود ورود ماءٍ إذا رأت الكلاب ولغن فيه فالنفس
البشرية تعاف أن تتناول الشراب الذي وقع فيه الذباب، فإذا وقع
الذباب في الشراب فما مصيره؟ وكيف نتعامل معه؟ بين لنا النبي صلى
الله عليه وسلم أنه إذا حصل هذا، وأردنا الحفاظ على الشراب، فلنغمس
الذباب في الشراب، فهو قد سقط ولكنه لم ينغمس إلى الأسفل؛ لأنه
خفيف، فنحن نغمسه حتى يغمره السائل ثم ننزعه، وفي بعض الروايات:
(فليطرحه ) يعني: لا يأكله؛ لأنه مستقذر، ثم بين صلى الله عليه(1/33)
وسلم العلة في غمسه، والنفس تعاف الشراب بمجرد سقوطه، فما الحكمة
في هذا العمل؟ قال عليه الصلاة والسلام: (فإن في أحد جناحيه داءً
وفي الآخر شفاءً ).
الاهتمام بالإعجاز العلمي في السنة
إنه حينما يكشف العلم هذا الأمر، ويفتخر الكفار بهذه الاكتشافات،
ويعتبرونها من السبق العلمي، أليس جديراً بالمسلمين أن يسابقوا إلى
إعلان ذلك؟ ولا أقول: أن يسابقوا إلى السبق العلمي، فهو واجب، ولكن
إلى السبق الإعلامي، ويكون هذا من مهمة وزارات الإعلام، وكذا على
عوام الناس وخواصهم؛ لتكون هذه معجزة لرسول الله صلى الله عليه
وسلم بعد أربعة عشر قرناً، وهذا ينفع عامة الناس وخواصهم،
والمتعلمين منهم وغير المتعلمين، ويدفع المؤمن إلى التمسك بدينه،
ويعطيه قوة يقين أكثر بتصديقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه
قالها وهو في الصحراء، وما دخل معملاً ولا مختبراً ولا أخذ أنبوبة
اختبار، ولا شيئاً مما هو موجود في المعامل الآن. ومثل هذا قوله
عليه الصلاة والسلام: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع
مرات أولاهن بالتراب )، لماذا ذكر التراب مع الغسل سبع مرات؟
يأتي العلم ويكتشف أن داء الكلب لا يعقمه إلا مادة الفلورين
الموجودة في التراب! ومن ذلك أيضاً: تحريم لحم الخنزير، فيأتي الطب
متأخراً ويكتشف أن فيه داء، ففيه الدودة الشريطية، والدودة
الشريطية توجد في لحم البقر، وتوجد في لحم الخنزير، ولكن الدودة
الشريطية التي في لحم الخنزير تتميز عن الدودة الشريطية التي في
لحم البقر، فهي أخطر منها، فالدودة الشريطية التي تأتي من لحم
البقر قد يبلغ طولها اثني عشر متراً في معدة الإنسان، وهي مكونة من
فصوص، وكل فص قابل للنمو بذاته، مثل أعواد القصب، فإذا أخذت كل غصن
وغرسته فإنه ينبت بنفسه، فإذا شرب المريض دواء فإنه يقطعها، وتنزل
أوصالاً، أما دودة الخنزير فينبت لها قرنان في الرأس، فإذا شرب(1/34)
دواء ليقطعها غرزت قرنيها في جدار المعدة، فتتقطع أوصالها إلا
الوصلة الأخيرة التي فيها القرنان فتنبت من جديد. وأيضاً ذكر لي
طبيب في الجامعة الإسلامية أن في الخنزير دود العضل، وهو أخطر من
دود المعدة الذي يؤخذ له دواء فينزل، وقد ذكر علماء الطب القديم أن
بذر المشمش إذا أحرق حتى يصير فحماً، وأكل منه الإنسان كل خمس
سنوات حبة، وكان عنده دود البطن، وهو غير الإسكارس الصغير، فإنه
ينزلها ويقضي عليها، فمهما كان دود البطن فإنه ينزل بالدواء، ولكن
دود العضل ليس في بطن، ولا في جوف، بل في عضلة اليد، أو الفخذ، أو
الظهر، أو الكتف، فينبت فيه دود بسبب لحم الخنزير، ولا يخرج إلا
بمشقة. وقال أبو حيان في تفسيره: إن من طبيعة الخنزير عدم
الغيرة على أنثاه، ومن يكثر من أكله فإنه تنتقل إليه تلك الغريزة،
ويقول: وقد شاهدنا في بلادنا -وهو أندلسي- أن من يكثر من أكل
الخنزير فإنه يكون فاقد الغيرة على نسائه. وأي حياة لإنسان فاقد
الغيرة؟! ونجد أن الإسلام حرم الخنزير، وهكذا حرم الحمر الأهلية،
وأوجب الوضوء من أكل لحم الإبل، وغير ذلك. إن العالم الإسلامي
مطالب بإبراز تلك المعجزات المدخرة للأمة، وكل واحدة منها لا أقول:
يشهد لها الأعداء؛ بل يقرون بها بسبب ما توسعوا فيه من العلم،
وكذلك المستشرقون، والمستغربون من المشرق، فهم يؤمنون بالعلم
وتجارب المعمل ولا يؤمنون بالوحي، ويقولون: هذا أمر نظري، وهذا أمر
عملي.. يا سبحان الله! النظر إذا كان صادراً عن الوحي الصادق
المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى فهو حق، فكيف يطلبون عليه تجربة؟ لا
والله! إننا نقيس عقولنا عليه، ولا نقيسه على عقولنا. وحديث الذباب
مما ينبغي إبراز ما فيه من الإعجاز العلمي، فيخبرنا صلى الله عليه
وسلم أن الذباب يحمل شيئين متضادين، وعنده إدراك يميز به ما فيه من
الداء فيقدمه، وما فيه من الدواء فيؤخره، علمنا النبي صلى الله(1/35)
عليه وسلم كيف نتعامل معه، وبالله تعالى التوفيق.
طعن العقلانيين والمستغربين في حديث الذباب
وأذكر كلمة قالها الدكتور أحمد شاكر - غفر الله له- في تعليقه
على هذا الحديث في مسند أحمد ، فقد ذكر أنه ناقش بعض زملائه
الدكاترة، وحصلت بينهم مكاتبات في هذا الحديث، وكان زميله يتكلم
بناحية عقلانية، فقال له الشيخ أحمد شاكر : لسنا بهذا الحديث
ندعو إلى التعامل مع الذباب، ولكن الإسلام دين نقاء ودين طهارة
ونزاهة، وينبغي لنا أن نحترز من الذباب، ولكن الحديث علمنا الحكم
فيما لو وقع الذباب، وليس معنى هذا أننا نستجلب الذباب لطعامنا، أو
أننا نترك الأقذار على أبداننا، أو نترك الذباب يسقط على وجوهنا،
فالإسلام أرقى الأديان نظافة، ففيه الوضوء خمس مرات، والغسل عند
الجنابة، ويوم الجمعة، وغير ذلك. إذاً: ليس الدفاع عن هذا الحديث
معناه أننا نتلاءم ونتعاون مع الذباب في حياتنا، إنما هو دفاع عن
السنة النبوية؛ لأننا وجدنا في الوقت الحاضر أن بعض الأطباء ينكر
هذا، وأحدهم نشر ثلاث منشورات -وهي موجودة عندنا- يتهكم فيها بهذا
الأمر، ويستبعده جداً إلى حد بعيد، فإذا كان المثقف والمتعلم
والطبيب يصل إلى هذا الحد، ويضل بعض قاصري العقول، ويشككهم في
السنة، فهذا أمر مشكل. وكما يقول الشيخ أحمد شاكر : لقد تجرءوا
على الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فالحديث متفق عليه، ولم
يجرءوا أن يطعنوا في البخاري ومسلم ، ولكن قالوا: هذا
الحديث لعل أبا هريرة قد أخطأ في هذا الحديث! ثم لو جئنا إلى
هذا الحديث فإننا نجد أن أبا هريرة لم ينفرد به، فقد جاء عن
أبي سعيد الخدري ، وعن أنس بن مالك ، ورواه البيهقي ،
ورواه ابن خزيمة وغيرهم، فالحديث من حيث السند من أصح ما يكون،
والذين خصوا أبا هريرة بالكلام عليه حسابهم على الله، وأبو
هريرة أضبط الصحابة لحديث رسول الله، وفي ذلك معجزة لرسول
الله، فإنه اشتكى إلى رسول الله أنه ينسى بعض ما يسمع منه، فقال(1/36)
صلى الله عليه وسلم ذات ليلة: (من أراد أن يحفظ فلا ينسى فليبسط
رداءه، فبسط أبو هريرة رداءه أمامه، فلما فرغ رسول الله صلى
الله عليه وسلم من حديثه قال: ضم إليك رداءك، فضم إليه رداءه،
فقال: والله ما سمعت حديثاً ونسيته بعد ذلك أبداً )، إذاً: عنده
تأمين على أحاديثه من رسول الله، ليس من شركات التأمين الأوروبية،
بل تأمين من رسول الله، فهو إذا سمع الحديث حفظه فلا ينساه بضمان
من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكيف يأتي أشخاص متأخرون
يتطاولون على صحابي جليل كأبي هريرة رضي الله تعالى عنه؟!
وهذا الحديث قد أخذ مني وقتاً طويلاً، وسيطر على فكري زمناً
طويلاً، وكتبت عنه في مجلة راية الإسلام -التي كانت تصدر في
الرياض- في عام (1374 أو 1375) هجرية مقالتين: الأولى: في سند
الحديث، وصحة الرواية، والثانية: فيما توصلت إليه، وفيما جمعت من
نقول طبية عن المجلة الطبية البريطانية، ومجلة الأزهر، ومجلات
أخرى.
ظهور معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام في حديث الذباب
والقسم الثاني: من المعجزات: ما ادخرها الله سبحانه وتعالى للأمة
على مدى الزمن، فتكشفها الأيام.. تكشفها المعامل والمختبرات، وتظهر
للناس معجزات جديدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وها هي إحدى
تلك المعجزات تظهر في هذا القرن، فقد استنكر بعض الناس قديماً
وحديثاً هذا الأمر، وقالوا: كيف يحصل للذبابة أن تحمل عنصرين
متضادين داء ودواء؟! وكيف تميز الجناح الذي فيه الداء وتقدمه؟!
فاستبعدت عقولهم إمكان وجود هذا، وعقولهم قاصرة، أما رأوا النحلة
يخرج من فمها شفاء للناس، ومؤخرها فيه سم؟ فإن لدغة سبع نحلات
كلدغة العقرب، وهي حشرة واحدة، فالله خلقها، وألهمها التناسل،
وألهمها المبيت، وألهمها الطيران، وألهمها كل شيء، قال الله: وَالَّذِي
قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3]،
قدر الأشياء، وهدى المخلوقات إلى ما قدره لها، فالله أحسن كل شيء(1/37)
خلقه ثم هدى، وكل مخلوق أحسن خلقه ثم هداه لما خلقه إليه، والأمثلة
كثيرة جداً: فمن الذي علم النحلة أن تبني بيتها السداسي بما يعجز
عن مثله المهندسون؟ ومن علمها أن تستخلص من الزهور عسلاً؟ إنه الله
الحكيم القدير. وقد رد بعض الناس قديماً حديث الذباب؛ لأنه لا
يستوعب أن فيه داءً ودواءً، ثم استبعد عقلاً أن الذباب يميز بين
الجناح الذي فيه الداء فيقدمه وبين الذي فيه الداء فيؤخره، ولما
أدخلوا العقول غير العاقلة أفسدوا الحديث، ولو كانت عقولهم نيرة
كاملة لما استبعدت ولما استنكرت، وقد كذب الكفار بالإسراء والمعراج
وقالوا: كيف يروح ويجيء في ليلة ونحن نضرب إلى الشام أكباد الإبل
شهراً؟! فمقاييس العقل لا تدخل في المعجزات ولا في الآيات الكونية
التي خلقها الله سبحانه وتعالى. والآن لما تقدمت الأبحاث ووسائلها،
والاكتشافات وآلاتها، حصلت هناك دوافع لإجراء بحوثات حول هذا
الذباب، لا عن طريق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم لا
يعلمون به، ولكن على مناهجهم العلمية، وأقدم بحث عن الذباب اطلعت
عليه في سنة (1871م)، فقد بحث هذا الموضوع مجموعة من الأطباء،
اثنان من إيطاليا، واثنان من ألمانيا، وواحد من بلجيكا، ونشرت
بحثهم مجلات عديدة، منها: المجلة الطبية البريطانية، وغيرها،
ونقلته مجلة الأزهر، ومجلة التمدن الإسلامي، ومجلة حضارة الإسلام
السورية، ومجلات كثيرة جداً، وآخر ما وصل إلينا بحث طبي في جامعة
الملك سعود بالرياض، فقد أجريت تحاليل على هذه الحشرة عملياً،
واطلع عليها أخونا الشيخ عبد المجيد الزنداني ، ورأى بعينيه ما
فيه من داء، وما فيه من دواء، والصنعاني شارح هذا الكتاب يقول:
إن سمّية الذباب يذهبها الدواء الذي فيه، ويقول العلماء: إن لسعة
النحل والزنبور والعقرب إذا حكت بالذباب زال سمها، وهذا يدل على
وجود الدواء في الذباب، فلو أنك حككت محل لدغة الزنبور أو العقرب(1/38)
بمجموعة من الذباب لكنت قد عالجته بالدواء الذي فيه، وذهبت آثارها،
إذاً: هذه المسألة معروفة من قبل، وزاد من صحتها التجارب العملية.
وأذكر أن طبيباً مفتشاً في أعمال كيميائية في وزارة الأوقاف بمصر
جاء ليحج، وكنا معاً، وكنا نلتقي به مدة وجوده في المدينة، وكان
متطلعاً إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما قدمنا رابغ
جلسنا نشرب الشاي، والذباب هناك كثير، فإذا بذبابتين تسقطان في
الفنجان، فلما وقع نظره عليهما غمستهما ونزعتهما ورميتهما؛ فتساءل
في دهشة: ما هذا؟! فذكرت له حديث رسول الله، فقال: وهنا قال رسول
الله أيضاً؟! فقلت له: نعم، فضرب كفاً على كف، وقال: هذا الحديث
صحيح! قلت: أنت دكتور معامل وكيميائيات، وما يدريك أنه حديث صحيح؟!
فذكر لي ظروف دراسته أثناء الحرب العالمية الأخيرة، وكان مبتعثاً
للدراسة في ألمانيا، ولما قامت الحرب توقفت وسائل الاتصال، ويذكر
لي من عصاميته أنه انقطعت عنه المصاريف والمواصلات، فكان هو وثلاثة
من زملائه يعملون في المساء في المطابخ، يغسلون الصحون، هو طبيب
مبتعث يدرس كيمياء، فإذا به من أجل أن يكمل دراسته يعمل مساءً في
مطبخ لينال أجراً يعيش به ويكمل دراسته! وما انتهت الحرب إلا وقد
انتهى وأخذ شهادته. فيقول: لقد اطلع على بحث حول هذا الموضوع، وهو
أن معركة العلمين كثر فيها المصابون، فكان المسئولون يبادرون بحمل
الجرحى من الضباط إلى المستشفى، ويبقى الجرحى من الجنود بأرض
المعركة، حتى إذا فرغوا من نقل الضباط أخذوا الجنود، واجتمع الجميع
في المستشفيات، واتحد العلاج للجميع، فكانت جراح الأفراد أسرع
شفاءً من جراح الضباط، فلفت هذا النظر، وقالوا: لعل التربة التي
أصيبوا فيها وجاءهم من غبارها فيها مادة تساعد على سرعة برء
جراحهم؛ لأنهم مكثوا على التربة مدة أطول من الضباط، فحللوا تلك
التربة فلم يجدوا شيئاً، فقالوا: لعله الذباب الذي سقط عليهم مدة(1/39)
طويلة، فقالوا: الذباب يحمل الميكروبات، فكيف يؤثر عليهم؟! ومن باب
البحث العلمي أخذوا الذباب وحللوه، فوجدوا فيه هذه المادة، ثم
توالت الأبحاث. والآن يعرف طبياً في العالم -كما قال طبيب ألماني-
أن الذبابة تحمل في ثلثها الأخير أنبوباً مستطيلاً يمتلئ بمادة
(بكتريوج) أو (بكترياج)، وترجمته: (مبيد البكتيريا)، وهذا الأنبوب
المستطيل مثل حلمة الثدي، يمتلئ من هذه المادة في جسم الذبابة،
فإذا امتلأ وضغط عليها انفجرت فينتثر حولها، فيقيها من جراثيم
الميكروبات التي في القمائم، والقاذورات التي تسقط عليها، ولا
تضرها تلك الجراثيم، فلما بحثوا موضوع الغمس، قال الأطباء المسلمون
عن الغمس: هي إذا امتلأت بطبيعتها تنفجر، لكن إذا سقطت وانغمس
الأنبوب إلى نصفه لم يأت موجب لانفجارها، فإذا غمست في السائل فإن
السائل يحدث ضغطاً عليها فيفجرها، كما تضغط على جلدة قلم الحبر
فيخرج الحبر، فكذلك يضغط السائل على الأنبوب فينفجر، فيخرج ما فيها
من الدواء ليقتل ذلك الداء. وقال لي الطبيب في ذلك المجلس: إذا وقع
الذباب فيجب أن تغمسه، سواء أردت أن تشرب أو لم ترد أن تشرب، فقلت
له: إذا كنت لا أريد أن أشرب فلماذا أغمسه؟ قال: لأنه عندما سقط
قدم الجناح الذي فيه الداء، فأصبح السائل ملوثاً، فإذا أرقت السائل
قبل غمسه بقي الكأس ملوثاً من أثر السائل، أما إذا غمسته فإن
السائل يتطهر، فإذا أرقت السائل صار جرم الكأس معقماً، ثم لك أن
تشرب في ذلك الكأس.
فقه الحديث ومناسبته لباب المياه
وهذا الحديث قد أوقف العلماء والأطباء والباحثين مواقف عديدة، ونحن
نريد أن نأخذ الفقه من الحديث، ثم نتناول موضوعه من حيث هو. فإذا
وقع الذباب في أي شراب؛ سواء في الماء، أو في الشاي، أو في الحليب،
أو في المرق؛ فإنك تغمسه، هذه هي السنة، وهذا الإرشاد بين لنا
أمراً يتعلق بالصحة، وهو أن في أحد جناحي الذباب داء، وبين في(1/40)
الرواية الأخرى أن الذباب يتقي بالجناح الذي فيه الداء، فهو يضع
الداء في الشراب أولاً وقاية له، ومضرة لصاحبه، فبين لنا صلى الله
عليه وسلم أن هذا الداء الذي في أحد جناحي الذباب دواؤه في الجناح
الثاني، فهو يحمل الداء والدواء معاً، ثم يقول العلماء والأطباء:
بعد أن تغمسه أنت بالخيار: إن طابت نفسك أن تشرب الشراب فاشربه،
فإنه أصبح مطهراً معقماً، عقم بعضه بعضاً، وإن لم ترد شرابه فإما
أن تريقه أو تتركه، ولكن لا بد من الغمس ولو لم تشربه، وسنذكر سبب
ذلك. وقد أورد المؤلف هذا الحديث هنا لنقطة بسيطة، وهي أن الذباب
إذا سقط في الماء ومات فيه، فهل يسلبه الطهورية أم أنه ما زال
الماء طاهراً مطهراً؟ نقول: لو مات الذباب في الماء فإن الماء يبقى
على طهوريته، ونتوضأ منه، لكن الشرب شيء آخر، ومن أين أخذ هذا
الاستدلال؟ قالوا: الذباب ضعيف، فإذا غمس في الشراب فمن المحتمل أن
يكون الشراب حاراً، ومن المحتمل أن يغمس مدة فيموت في حال الغمس،
والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن غمس الذباب في الماء سيقضي
عليه، وسيموت في الماء، ومع ذلك أمر بنزع الذباب فقط، ويبقى السائل
على طهوريته، ولم يغير ذلك في حكمه، ولو كان الموت يغير في حكم
الماء لبينه لنا صلى الله عليه وسلم. هذا هو غرض المؤلف من إيراد
هذا الحديث في باب المياه.
معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
يبدو لي -والله تعالى أعلم- أن الله سبحانه وتعالى جعل للنبي صلى
الله عليه وسلم المعجزات على قسمين: قسم مشاهد في حال حياته، وقسم
مدخر لما بعد موته، يأتي على مدى تعاقب الأجيال والأزمان، وكلٌ
يؤدي عمله، فالمعجزات التي كانت في حياته صلوات الله وسلامه عليه
يشاهدها الصحابة بأعينهم فيزدادون إيماناً ويقيناً وتصديقاً برسول
الله، كما جاء عن العباس رضي الله تعالى عنه أنه لما أخذ
أسيراً في بدر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (افد نفسك وابن(1/41)
أخيك، فقال: ما عندي شيء يا محمد! فقال: أين المال الذي أعطيته أم
الفضل وقلت لها: إن سلمت في سفري فبها، وإلا فهذا لأولاد فلان؟ )
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، والله ما حضرنا
أحد، وما كنت إلا أنا وهي! فتلك النجوى جعلت العباس يشهد
الشهادة، ويزداد إيماناً، فإنه قد كان مسلماً، وكان يريد أن يهاجر،
فكتب إليه الرسول أن يبقى في مكة، وكان يراسله بأحوال المشركين في
مكة، وقال له: (كما ختم الله بي النبوة، يختم بك الهجرة )، فكان
العباس من آخر المهاجرين. وكان النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه قافلين من بعض الغزوات، فعرسوا ليلاً، وقال صلى الله عليه
وسلم: (من يكلأ لنا الفجر؟ ) فقال بلال : أنا، يقول بلال :
أنخت راحلتي، واستقبلت الشرق بوجهي، واستندت بظهري إلى الراحلة
أنتظر الفجر حتى يطلع، فما زلت أنتظر الفجر حتى جاء الشيطان، وأخذ
يهدهدني كما تهدهد الأم طفلها، حتى نمت، فما استيقظوا إلا بحر
الشمس، وجعل عمر يقول: الصلاة، ويصيح، والرسول نائم، وما كانوا
يجرءون أن يوقظوه من نومه، مخافة أن يكون، فلما سمع الأصوات
استيقظ، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي بكر : (كأني
ببلال وقد أتاه الشيطان، وأخذ يهدهده كما تهدهد الأم طفلها
حتى نام )، فجاء بلال فقال: أخذ بروحي الذي أخذ بأرواحكم،
أنا واحد مثلكم، يا رسول الله! أنخت راحلتي، وأخذت أنتظر الفجر
بوجهي، فما شعرت إلا والشيطان يهدهدني كما تهدهد الأم طفلها حتى
نمت، فقال أبو بكر الصديق : أشهد أنك رسول الله! وهو يشهد من
قبل، وهو الصديق ، لكن ظهور المعجزة تجدد اليقين. ولما كانوا
في الخندق في شدةٍ وجوع وبرد وخوف، فرأى جابر رضي الله عنه
الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ربط الحجر على بطنه من الجوع، فذهب
إلى أهله، فقال: والله لقد رأيت رسول الله وفي صوته ضعف، وهو عاصب
على بطنه الحجر، قالت: والله ما عندي إلا صاع من شعير، وعندنا(1/42)
العناق، فقال: سأذبح العناق، وتطحنين الشعير، وتصنعين طعاماً لرسول
الله، فذهب جابر وأسر في أذن رسول الله فقال: عندنا غُديٌّ
-ولم يقل: غداء- لك يا رسول الله! فإذا بالرسول يأمر رجلاً أن يصرخ
في الجيش: يا معشر المسلمين! جابر صنع لكم غداء، فخرج جابر واستحيا، ماذا يفعل؟! وبهت، فذهب الرسول صلى الله عليه وسلم
والمسلمون إلى بيت جابر ، فسبق إلى البيت وقال لامرأته:
انفضحنا! قالت: ماذا حدث؟! قال: صرخ في الجيش كله، وجاءك بالناس
كلهم! فقالت: الله ورسوله أعلم، لا عليك. وهذا من كمال عقلها، فهو
الذي دعاهم وسيدبر أمرهم، فأوقفهم على الباب، وأمرهم أن يدخلوا
عشرة عشرة، فشبع الجميع وبقت فضلة، فقال: (لم يبق إلا أنا وأنت،
كل، وائمر امرأتك أن تأكل، وأن تقسم على جيرانها، فإن بالناس حاجة ).
وهكذا قضية المزادة، ومعجزة حفنة التمر التي وضعها على الرداء
فتكاثر حتى تساقط من الرداء، وأكل منه الجيش كله، وهذه المعجزات
غالباً تكون في وقت الشدة، وفي عام الحديبية عندما نزلوا في أرض
الحديبية وجدوا بئرها جافة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً
بسهم من كنانته وقال: (انزل واغرسه في قاع البئر )، فجاش الماء
حتى إن الرجل أدرك نفسه حتى لا يغرق، فظلوا ومدة مقامهم وهم يشربون
ويتوضئون من هذه البئر، وفي تبوك قال صلى الله عليه وسلم: (لا
يقربن أحد العين قبل أن أصل إليها ) ، وكان من أمرها أن جرت
بالماء. ففي حالات الشدة تأتي المعجزة لتجدد للصحابة رضي الله
تعالى عنهم اليقين، فمثلاً: كان الصحابة في غزوة الخندق قد بلغت
قلوبهم الحناجر من شدة الخوف، فحينما تأتيهم معجزة مثل هذه
يطمئنوا، كأن يكثر التمر، أو يكثر الطعام، أو يكسر الكدية، وهي
صخرة عظيمة عجزوا عنها، فتوضأ صلى الله عليه وسلم ونضحها بماء
وضوئه، وضربها ثلاث ضربات حتى تفتتت، فكانوا في خوف وفي شدة فتأتي
المعجزة فتذهب أثر هذا الخوف، وتورث الطمأنينة.(1/43)
شرح حديث: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت)
قال رحمه الله: [ وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: قال
النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت )
أخرجه أبو داود والترمذي ]. هذا الحديث ختام هذا الباب
المبارك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما قطع من البهيمة وهي حية
فهو ميت ) ، وفي بعض الروايات: (ما قطع من حي فهو ميت )، وفي
رواية: (ما قطع من حي فهو كميتته )، وهذه أعم. قوله: (ما قطع)
أي: فصل، كفصل اليد، أو الرجل، أو الأذن، أو أي عضو انفصل من بهيمة
فحكمه حكم ميتته، فإن كانت ميتتها حراماً فهو حرام، وإن كانت
حلالاً فهو حلال، فمثلاً: صياد السمك إذا أمسك طرف الحوت وقطع منه
قطعة، ففلت، فهذا قطع من حي، لكنه حلال؛ لأن ميتة السمك
حلال.
سبب هذا الحديث ومناسبته لباب المياه
يقول العلماء: إن الحديث الذي له سبب، فصورة السبب قطعية الدخول،
ولكن العبرة بعموم اللفظ، وسبب ورود هذا الحديث: أنهم في الجاهلية
في وقت الشدة، كان يأتي أحدهم إلى سنام البعير، فيقطع الجلد ويأخذ
من تحت جلد السنام الشحم، أو يقطع إلية الضأن ويأخذ منها الشحم
ويرد عليها الجلد، والسنام يبرأ ويرجع الشحم فيه على ما كان عليه،
وكذلك شحم إلية الضأن، وكانوا يفصدون الدم من الحيوان ويشربونه،
وقد يضعونه في مصارين الشاة ويشوونه، أو يصبونه على الرماد الحار
فيجمد فيأكلونه، وفصد الدم باقٍ في أفريقيا إلى الآن عند الوثنيين.
فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن هذه الأعمال التي فيها تعذيب
للحيوان، وجعل هذا الذي أخذ من الحيوان وهو حي حكمه حكم الميتة،
والميتة محرمة. ومناسبة هذا الحديث لباب المياه: أنه لو سقط ذلك
المقطوع من الحيوان في الماء فكأنما سقط فيه نجس، سوا غيّره أو لم
يغيره، وسنرجع إلى قاعدة الماء القليل سواء تغير أو لم يتغير.
الحكمة من تحريم ما قطع من البهيمة
وهنا وقفة: البهيمة إذا ماتت حرمت، وسبب تحريم الميتة احتباس الدم(1/44)
فيها، وما فيه من ثاني أكسيد الكربون الذي لم يتخلص منه، فإذا قيل:
فكيف يحرم هذا العضو؟ فنقول: كل علة في التشريع لها سببان: سبب لحق
الله، وسبب لحق المخلوق، أي: سبب راجع لحق الله، وسبب راجع
لمصلحتنا، فهذه الميتة حرمت علينا، وعلة والقضية العامة في حكمة
التحريم تشمل جانبين: الجانب الأول: أن الله نهى عنها، فمن أكلها
فقد تعدى النهي، وانتهك حرمة أوامر الله ونواهيه؛ لأن الواجب
امتثال الأمر واجتناب النهي. الجانب الثاني: إذا وجدت الله ينهاك
عن شيء فثق وتأكد -وأنت مغمض العينين- بأن وراءه حكمة تنفعك وتعود
عليك في دينك وفي بدنك وفي أخلاقك، وفي أي جانب من الجوانب، سواء
أدركت ذلك أو لم تدركه، وبالتتبع والاستقصاء وجدنا أنها كلها
مدركة. فالله سبحانه وتعالى قد قال: وَلا
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121]،
فنهى أن نأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، فلو جاء رجل وثني بسيف
حاد ونحر الناقة أمامك، وخرج دمها كله، لكنه قال: باسم العزى، أو
باسم اللات، أو باسم الصنم، فإن ثاني أكسيد الكربون الموجود في
الدم قد انتهى، لكن بقي حق الله؛ لأن الذي خلق هذه الدابة هو الله،
وهو الذي أنزل إليها الماء وأنبت لها الأرض، وهو الذي كونها وجعلها
تنمو من هذا النبات، وهو الذي سخرها لنا، فإن البعير قوته تعادل
عشرين أو ثلاثين رجلاً، وإذا بطفل صغير يضربه بالعصا ويقوده، فمن
الذي سخر لنا هذه الدابة؟ إنه الله. وبعد هذا كله، وبكل وقاحة،
وبكل جرأة يقول: باسم اللات والعزى! فهل خلقه اللات أو العزى أو
رزقه أو أحياه أو سخره له؟! ليس له أي علاقة، فهذا ظلم وتعدي.
إذاً: علة التحريم هنا موجودة. فإذا قطع شيء من بهيمة فهو -أولاً-
اعتداء على البهيمة. والعلة الثانية: احتباس الدم في ذلك العضو،
فإنه لم يتخلص منه، وأنت تجد عند الذبح أن الدم يجري؛ لأن القلب(1/45)
يضخ الدم فيخرج من هذا المنفذ، أما الجزء الذي قطع فالدم قد جمد في
عروقه؛ لأنه ليس هناك ما يحركه، فيبقى الدم محبوساً بقسميه
الأوكسجين وثاني أكسيد الكربون، ويكونان في هذه القطعة التي قطعت،
ففيها مضرة عليك، ولهذا جاءت القاعدة عامة: ما قطع من بهيمة فهو
كميتته، أو ما قطع من حي فهو ميت.
حكم العظم والشعر والصوف المقطوع من البهيمة
يذكر الأصوليون أن قوله: (ما قطع) من صيغ العموم، وقالوا: إن
القرآن خصص عموم السنة، فالشعر والصوف والوبر قطع من حي، فهو ميت،
ويجوز استعماله، إذاً: ما أبين من حي فهو ميت ما عدا الشعر والصوف
والوبر، وهذا نص الله تعالى عليه في قوله: وَاللَّهُ
جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ
وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا
وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [النحل:80]،
فالقرآن خصص السنة. وهنا مبحث فقهي وأعتقد أنه من المضايق، وهو
مسألة: الأعضاء التي لا تسري فيها الحياة، قالوا: إن الشعر والصوف
والوبر لا تسري فيها الحياة؛ لأنك لو قصصته وقطعته فلا تتألم ولا
تحس؛ لأن عصب الإحساس مفقود، لكنه في الجلد موجود، وطرف السن من
أعلى لو وخزنة بالدبوس فلن تحس، لكن العصب داخل اللثة موجود، فما
لم تسر فيه الحياة هل يدخل تحت هذا الحديث. قال الجمهور: إنه لا
يأخذ حكم ما قطع؛ بدلالة أنه لم تسر فيه الحياة. لكن يرد عليهم أنه
ينمو ويزيد، فكيف قالوا هذا؟ قالوا: النمو يكون من حويصلة الشعر
داخل الجلد، وليس من طرف الشعر، فلو أخذت شعرة طولها (2سم) وعلّمت
في وسطها بلون أبيض، فإذا صار طولها (4سم) ستجد أن العلامة قد
ارتفعت إلى أعلى، وليس الجزء الأعلى هو الذي طال، فالنمو ليس من
الطرف، بل النمو من أسفل. إذاً: الإحساس في حويصلات الشعر يكون من(1/46)
أسفل، ولهذا لو قلعتها فإنك تحس بالألم، أما إذا قصصتها أو حرقتها
بالنار فلا تحس بشيء، وقاسوا على هذا كل عضو لا تسري فيه الحياة،
وقالوا: يجوز الانتفاع به ولو أبين من الحي، وذلك مثل ناب الفيل
(العاج) فإنه يتخذ منه أمشاط للنساء، ويتخذ منه أدوات زينة، ونحو
ذلك، وكذلك أظلاف الحيوانات يتخذون منها مادة الغراء للخشب، وهكذا
قرون الحيوانات يتخذون منها مقابض للسلاح أو للسكاكين أو غير ذلك،
فهل هذه العظام داخلة في قوله: (ما أبين من حي فهو كميتته) أم أنها
خارجة عنه؟ الجمهور على أنها خارجة عنه، وذهب الإمام ابن تيمية في المجموع إلى خطوة أوسع، فرجح أن العظام طاهرة حتى التي تكون في
الميتة، ونجاسة الميتة لا تؤثر في عظم جاف جامد لا تسري فيه
الحياة، فلا تتنجس العظام بالموت. ومسألة: سن الفيل -الذي هو العاج
المستعمل الآن- يختلف فيه الناس، والتحقيق: أنه يجوز استعماله؛
لأنه لا تسري فيه الحياة، فهو بمثابة الظفر والشعر، والله سبحانه
وتعالى أعلم.
( كتاب الطهارة - باب الآنية [1] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (يطهرها الماء والقرض)
2 خلاف العلماء في طهارة جلود الميتة بالدباغ
3 شرح حديث: (لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها)
4 شرح حديث: انكسار قدح النبي عليه الصلاة والسلام وتضبيبه
كتاب الطهارة - باب الآنية [2]
الشريعة تدعو إلى التكافل الاجتماعي، والانتفاع بكل شيء وإن صغر في
أعيننا كالانتفاع من الشاة الميتة بأخذ جلدها ودبغه، وإنما ميز هذه
الأمة على سائر الأمم تمسكها بتعاليم دينها الربانية، ويقينها بأن ما
شرعه الله هو خير لها، وأن ما عند غيرها هو شر لا ينبغي الإعجاب به،
والحرص عليه.
شرح حديث: (يطهرها الماء والقرض)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى(1/47)
آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال رحمه الله تعالى: [ وعن ميمونة رضي الله تعالى عنها قالت: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة
يجرونها، فقال: لو أخذتم إهابها؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: يطهرها
الماء والقرظ ) أخرجه أبو داود والنسائي ]. حديث شاة
ميمونة فيه مباحث متعددة: وجاءت الروايات: (أن شاة لميمونة )، (شاة لبعض زوجاته)، (شاةً ماتت)، (مر بشاة يجرونها).. إلخ،
والظاهر أنها لميمونة رضي الله تعالى عنها، وفي بعض النصوص أن
الشاة اسمها فلانة، وذكر لها اسماً، وهذا كان معهوداً عند أصحاب
المدينة حتى اليوم، قل أن تجد بيتاً إلا وفيه غنمة أو غنمتين، وكان
أهل البيوت يطلقون أسماءً على الأغنام، بحيث لو نادت صاحبة البيت
الغنمة وهي في الشارع، جاءتها فحلبتها أو أطعمتها وسقتها، بل أغرب
من هذا كنا نلاحظ أن المرأة في البيت تصفق، فإذا غنمتها تعرف
صفقتها فتأتي إليها، وكان هذا موجوداً. نشرح الحديث كلمة كلمة:
قوله: (شاةً) الشاة: هي أنثى الضأن، من: الغنم. (ماتت): أي: لم
تدرَك فتذكى، فهي ميتة، وهناك عموم: قوله تعالى: حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ.. [المائدة:3]،
فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رآهم يجرونها، فقال:
(هلا)، وهلا: تستعمل للحض، فتقول مثلاً: هلا فعلت كذا.. هلا قلت
كذا.. وهو حض على الفعل. (هلا أخذتم إهابها) الإهاب هو: الجلد قبل
الدبغ، وهو عام في كل جلد لم يدبغ، وادعى البعض بأن كلمة (إهاب)
خاصة بالجلد قبل الدبغ لمأكول اللحم، ولكن علماء اللغة يردون هذا
التخصيص ويقولون: بل هو عام في كل جلد قبل أن يدبغ، فإذا دبغ لا
يقال له: إهاب. (هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به)، أخذ بعض العلماء
-غير الأئمة الأربعة- من هذا جواز الانتفاع بجلود الميتة ولو لم
تدبغ؛ لأنه قال: (فانتفعتم به)، ولكن الرواية تؤخذ بكاملها، فكونهم(1/48)
أجابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: إنها ميتة، وقولهم
هذا يستدل منه أنهم رضي الله تعالى عنهم أخذوا حكم الميتة للمسك
-الجلد-، والميتة تنجس بالموت، فيحرم لحمها، وإذا وقعت في الماء
نجسته، فلحم الميتة نجس: مأكولة أو غير مأكولة، حتى غير المأكول لو
ذكي فهو نجس، فأخذوا من الحديث نجاسة الميتة، وسحبوا الحكم على
جلدها لأنه جزء منها، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على هذا
الاستنتاج، وأيضاً قولهم: إنها ميتة، يدل بدلالة الالتزام بأنه
نجس؛ لأن الميتة نجسة، وجلد الميتة جزء منها فهو نجس، وقد أقرهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل أنه أرشدهم إلى ما يطهر نجاسة
الجلد، فقال: (يطهره) ولم يقل: يبيحه أو يحله، وفي بعض الروايات:
(إنكم لم تأكلوا لحمها، ولم تأكلوا الجلد )، لكن تهمنا الرواية
المشهورة التي عندنا، وكونهم فهموا من الميتة نجاستها، وألحقوا
الجلد بالشاة، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على هذا الاستنتاج،
وأفتاهم بمقتضى ما فهموا، وكأنهم قالوا: ما الذي يطهر هذه النجاسة؟
فقال: (يطهره الماء والقرظ)، والماء والقرظ يحصل بهما الدباغ، ولو
حصل الدباغ بغير هذين فلا مانع، وليست الطهارة في الجلد -الإهاب-
مقصورة على الماء والقرظ، بل كل دباغ مطهر لقوله: (أيما إهاب دبغ )،
وقوله: (دباغ جلود الميتة طهورها )، لكنه هنا ذكر صنفاً من
أصناف المواد المستخدمة في الدباغ التي تطهر الجلد. وقوله: (يطهره)
أي: من النجاسة، (الماء والقرظ) وعلى هذا -من ناحية الفقه- أخذ بعض
العلماء: أن الشاة الأصل فيها أنها مأكولة اللحم، ولما كانت ميتة،
وتنجس الجلد بموتها، وجاء القرظ والماء يطهر الجلد، قالوا: صورة
السبب شاة، والشاة مأكولة، فيكون طهور جلد الميتة بالدباغ لكل
مأكولة اللحم كالشاة ونحوها؛ لأنها صورة السبب في مأكولة اللحم،
ولذا يقول البعض: أن الدباغ يطهر جلود الميتة مأكولة اللحم فقط.(1/49)
ويجاب عن هذا: بأن التخصيص بصورة السبب لا يتأتى؛ لأن العبرة -عند
الأصوليين- بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللفظ جاء بالعموم: (أيما
إهاب..)، وجاء: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر). إذاً: وجدت صيغ العموم
فشملت مأكول اللحم.
إرشاد الأمة إلى الانتفاع باليسير والحفاظ على المال
نقف في هذا الحديث من جهتين: الجهة الأولى: توجيه عام للأمة في أصل
من أصول الاقتصاد. الجهة الثانية: توجيه خاص لمتأخري طلبة العلم في
الوقت الحاضر. أما التوجيه العام فلو سألنا الحاضرين جميعاً: لو
ماتت عندك شاة؛ أتطيب نفسك أن تذهب وتسلخها لتحصل على الجلد؟ يقول
لك: لا، ما لي حاجة إليها، قد ماتت وعفنت، فأنت تترفع وتتقزز نفسك
أن تسلخ جلد الميتة لتنتفع به، ولسان حالك: ماذا يساوي هذا؟! وماذا
أصنع به؟! ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى ضرورة الحفاظ
على المال، والانتفاع بأدنى وأتفه شيء يمكن؛ لأن في ذلك حفاظاً على
اقتصاد الأمة، وفيه -أيضاً- ادخار، فإذا كان يحث على الانتفاع بجلد
الميتة بعد موتها، ومعالجته بالدباغ لينتفع به، فهل ترونه يتساهل
في الأمور الأخرى؟! لا، ونحن نترك الشاة المريضة أو نراها قد سقطت
فانكسرت، فنقول: اتركها حتى تموت، وكان ينبغي أن ندرك ذكاتها -ما
لم تكن مريضة مرضاً يضر بالإنسان-، ونجد الكثير من الأمم في العصر
الحاضر تتلف العديد من سلعها، وتتساهل فيما يقال له: القديم، ونجد
بعض الدول الأخرى تبحث عن المستهلكات لتجدد صناعتها، وهاهو الإسلام
يقول لنا: عليك ألاَّ تهمل شيئاً قط يمكن أن تنتفع به. وقد كتب بعض
الإخوان بحثاً منذ حوالى أكثر من (15) عاماً يقول فيه: إن العالم
في حاجة إلى الحديد، فالإنسان يخرجه من معادنه، ويصهر التراب حتى
يخرجه، ولدينا مئات الأطنان من الحديد ملقاة في الفلاة من تلك
السيارات التي على جوانب الطرقات، فلو أخذت وصهرت وأعيد تصنيعها
لوفرت على الدولة الشيء الكثير، فكيف نهمل الأشياء الأخرى؟!(1/50)
والرسول صلى الله عليه وسلم يمر على تمرة ملقاة على الأرض ويأخذها
ويقول: (لولا أنني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها )، ولا
يرضى أن يترك تمرة ساقطة على الأرض، ثم لو جئنا لبعض الأمور الأخرى
نجد بعض الأشخاص لديه السيارة الفارهة، ولديه المتاع الذي صفته
كذا، فإذا ما جاءت سيارات جديدة أو ما يسمى بالموديل الجديد عاف
هذه السيارة وذهب واشترى سيارة جديدة، لأي شيء؟ لأن الموديل هذا
جديد، وكذلك أنواع الفراش، وأنواع الأثاث فيقول: هذه صارت قديمة،
ولا ينتفع بها، مع أنه يمكن إصلاحها. وفي هذا الحديث توجيهٌ للأمة
بضرورة الحفاظ على أتفه الأشياء التي يمكن الاستفادة منها، وألاَّ
تترك -ضياعاً- للشيطان. إذاً: هذه لفتة إلى الانتفاع بالقليل
والكثير مما أعطانا الله سبحانه وتعالى، ولو كان جلد ميتة، ولو
كانت تمرة في الأرض، فضلاً عن الأشياء العديدة ذات الأثمان الغالية
والمرتفعة.
نجاسة الدم المسفوح
الجهة الثانية: نوجه الإخوة طلبة العلم في الوقت الحاضر الذين
يقولون بأن الدم المسفوح طاهر، ويقولون: لا دلالة على نجاسته،
ويقال لهم: إن إجماع الأمة مدة أربعة عشر قرناً على نجاسته،
فيقولون: الإجماع لا حجة فيه ولا يصح، فإذا كانوا ينكرون الإجماع،
فينبغي ألا يتكلم معهم في شيء، وعندما عرضت عليهم الآية الكريمة: حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3]،
قالوا: الدم كالميتة؛ حرم أكلها، وكذلك الدم حرم أكله، وليس بنجس
العين، يقال لهم: إن دلالة الاقتران -وهي دلالة اقتران الدم
بالميتة- يدل على نجاسة الدم مثل نجاسة الميتة، فإن قالوا: وأين
الدليل على نجاستها؟ قيل لهم: إجماع المسلمين، وهذا الحديث بالذات؛
فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم فهموا من كون الشاة ميتة أنها
نجسة، فأصبحت دلالة التزام، وهي دلالة الموت على النجاسة، فقال
النبي عليه الصلاة والسلام: إنما حرم أكلها ، فالرسول صلى الله(1/51)
عليه وسلم أقرهم على هذا الفهم بدليل أنه أجابهم بطهارة هذا النجس،
وما أجابهم بعدم الأكل، ولا أجابهم بشيء آخر، بل قال: (يطهره..).
إذاً: الميتة تنجست بموتها، ولما حرمت لنجاستها فالدم كذلك حرم
لنجاسته، وذكرنا لهم صنيع البخاري ومسلم في حديث فاطمة بنت
جحش -التي استحيضت- فهي: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم
الحيض يصيب الثوب. )، فقد ذكره مسلم في باب النجاسات، وفي
باب الحيض؛ ليدل على نجاسة الدم في باب النجاسات، ويدل على حكمه
هناك في باب الحيض أو الاستحاضة، وكذلك البخاري وجميع أصحاب
كتب السنة يذكرون حديثها في باب النجاسة للدلالة على نجاسة الدم،
قالوا: هذه نجاسة لدم الحيض وهي خاصة، ولا تتعدى إلى غيره، قلنا:
أخبرونا عن المستحاضة حينما قال لها صلى الله عليه وسلم: (تحيضين
ستة أيام، أو سبعة أيام، ثم اغسلي عنك الدم وصلي )، فقوله:
(اغسلي عنك الدم) هل هو دم الحيض أم دم الاستحاضة؟ إن كان الغسل
واقعاً على دم الحيض فهي لا زالت في حيضها، وإن كان الحيض قد
انتهى، فهي تغسل دم استحاضة، ودم الاستحاضة عبارة عن عرق ينزف، وقد
أمرت بغسله، فيكون نصاً في غسل الدم وإن كان غير دم الحيض. ونأتي
إلى كتاب المحلى لابن حزم وهو -كما نعلم- يأخذ بالظاهر، فقد
جاء بقاعدة من أعجب ما تكون! قال: إنه صلى الله عليه وسلم سئل عن
دم مخصوص وهو دم الحيض، فكان الجواب بالأعم فقال: (اغسلي عنك
الدم)، فعمم في الجواب ولم يخصص كما كان السؤال مخصوصاً، فإن: (ال)
هنا للجنس، فهي سألت عن نوع من أنواع الدماء، وأجابها عن عموم
الدماء، فتكون جميع الدماء نجسة حتى دم السمك -وهذه مبالغة منه-،
وإن كان بعض المالكية يقولون بشيء من هذا، ولكن العموم أنها سألت
عن دم الحيض، وكان من الممكن أن يقول لها: اغسليه، أو: حتّيْة،
فيكون الجواب بضمير يعود على المسئول عنه، ولكن -كما قال ابن حزم -
ألغى السؤال في خصوص دم الحيض، وأجاب بـ(ال) التي هي للعموم،(1/52)
فتستغرق جميع أنواع الدم. وأيضاً أتينا إلى المجموع لابن تيمية رحمه الله، فوجدناه يذكر نجاسة الدم في سبعة مواضع من المجموع،
منها عند حديث غمس الذباب، وذكر أن العلة في تحريم الميتة احتباس
الدم فيها، والدم نجس، ويضر بصحة الإنسان، وذكر نجاسة الدم في سبعة
مواطن من مجموع الفتاوى. إذاً: كان الأمر على نجاسة الدم المسفوح
إلى عهد ابن تيمية طيلة سبعة قرون، ومن بعده إلى اليوم، ولم
يقل أحد ممن يعتد برأيه في المذاهب الأربعة من أهل الاجتهاد: إن
الدم المسفوح طاهر، ونقول: إن هذا الحديث نص في الموضوع؛ لأنهم
فهموا أنها ميتة، وأنها قد تنجست لذلك، وأن النجاسة قد انتقلت في
جلدها، فقالوا: (إنها ميتة) أي: إلى جلدها نجس، والرسول صلى الله
عليه وسلم أقر ذلك منهم، وأجابهم على مقتضى ما فهموا، وأرشدهم إلى
ما يطهر هذا النجس من الماء والقرظ.
خلاف العلماء في طهارة جلود الميتة بالدباغ
نرجع إلى موضوعنا في فقه باب الآنية، وتقدم أن أبا يوسف صاحب
أبي حنيفة أخذ بالعموم، وأدخل جلد الكلب والخنزير، ووافقه
الظاهري، أما ، أبو حنيفة رحمه الله فأخرج من العموم جلد
الخنزير، وادعى أنه ليس للخنزير جلد، والشافعي رحمه الله أخذ
بالعموم وأخرج الخنزير، وقاس عليه الكلب؛ لأن الكلب عنده نجس كله،
ومالك وأحمد أخذوا بعموم: (أيما إهاب) ولكن قالوا: يستعمل
ظاهراً لا باطناً، وعلى هذا يكون الشافعي وأبو حنيفة وأحمد ومالك يقولون بطهارة جلود الميتة بعد دبغها على عموم: (أيما
إهاب)، ولم يستثنَ من ذلك إلا الخنزير والكلب عند الشافعي ،
وقال أحمد ومالك : يطهر ظاهراً لا باطناً، وعلى هذا يجوز
استعماله في اليابسات دون المائعات، إلا أن المالكية يقولون: جلد
الميتة يستعمل ظاهراً فقط في اليابسات فقط، ولا يستعمل في المائعات
إلا في الماء؛ لأن الماء قوي يدفع النجاسة عن نفسه. بعد هذا نرجع
إلى هذه الأقوال لنرى ما هو الراجح منها؟ أما الذين أخذوا بالعموم(1/53)
فإن ظاهر النصوص معهم إلا ما ذكره أبو حنيفة رحمه الله من أن
الآية الكريمة تنص على أن الخنزير رجس، وإذا كان نجساً في الحياة
فبالموت من باب أولى، وكذلك الشافعي ألحق بالخنزير الكلب
قياساً، وقد تطمئن النفس إلى الاستثناء، وقد تدعو الحاجة إلى
التعميم على ما سيأتي إن شاء الله. بقي عندنا رأي مالك والحنابلة: أنه يطهر ظاهراً لا باطناً، قالوا: الجلد إذا دبغ
فالوجه الذي لامس الدباغة قد طهر بهذا الدباغ، أما مسام الجلد في
الداخل فهذه لم ينفذ إليها الدباغ فلم تطهر، فيطهر ظاهراً لا
باطناً، بمعنى: لو أنك افترشت جلد الميتة المدبوغ، وصليت عليه،
تكون قد صليت مواجهاً للوجه الطاهر، لكن لو أنك حملته ولبسته وصليت
فيه، لا تصح الصلاة؛ لأن ما داخل الجلد من المسام لم يطهر، فتكون
مصلياً حاملاً لنجاسة داخل مسام هذا الجلد. والمناقشة في ذلك بأن
نقول: الإهاب يطهر ظاهراً وباطناً لما جاء في الحديث الأخير: (أن
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشركة ).
وهذا الحديث فيه تتمة البحث، والمزادة: هي القربة الكبيرة، قيل: من
جلد البقر أو الإبل، بخلاف القربة فإنها من جلد الشاة أو الماعز،
والقصة طويلة وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من إحدى
الغزوات ونفد الماء عليهم فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه
ورجلاً معه ليطلبا الماء، فمضيا من الصباح إلى قريب الزوال، فلم
يجدا ماءً، فلقيتهم ظعينة راكبة بين مزادتين -امرأة على بعير لها
يحمل مزادتيها- فسألاها: أين الماء؟ أي: من أين استقيت الماء؟
قالت: عهدي بالماء أمس الساعة -يعني: أمس هذا الوقت، وأنا أمشي من
عنده، أي: أربعة وعشرين ساعة- فتشاورا، فقال أحدهما: ما يمكن أن
نذهب هذا الوقت كله، ولكن نسوقها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بما معها من الماء، فقالا لها: هلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم!
قالت: ذاك الصابئ! قيل لها: ذاك الذي تعنين، فلما حضرت عند رسول(1/54)
الله صلى الله عليه وسلم أناخوا بعيرها وأنزلوها، وطلب إناءً فأفرغ
من مزادة جزءاً من الماء، ثم قال: (اشربوا وتزودوا)، فما بقي إنسان
مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا وأتى بما عنده من قرب وسقاء أو
إناء وملأه، وسقوا الخيل والإبل التي معهم، وما بقي إنسان إلا
توضأ، حتى أن رجلاً بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم نظر إليه،
فإذا به معتزلاً القوم، فقال: (مالك لم تصلِ؟ ألست مسلماً؟ قال:
بلى، يا رسول الله! ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، فأخذ النبي صلى
الله عليه وسلم ماءً في إناء، ونادى الرجل فقال: خذ هذا فأفرغه
عليك )، وكان قد تيمم وصلى فأعطاه الماء ليغتسل، المهم أنهم
أخذوا من المزادتين ما يملئ أوانيهم، ويشربوا في بطونهم ويتوضئون،
ويغتسل الجنب فيهم، وتشرب دوابهم، ثم قال: (اجمعوا لها، فجمعوا لها
من الطعام، ثم قال لها: انظري! لقد سقانا الله، وما نقصت مزادتاكِ
شيئاً) فأركبوها على بعيرها، وحملوا لها ما جمعوا، وذهبت إلى
قومها، فقالت: يا قوم! والله! لقد أتيتكم من عند رجل لئن كان
ساحراً لهو أسحر عباد الله، ولئن كان نبياً لهو حق مرسلٌ من عند
الله، وأخبرتهم بالخبر، وما أخذوا من الماء، وما أخبرها، ثم كان
الصحابة يحفظون لها ذلك المعروف، فيغيرون على الأحياء من جوانبها
ويتركون حيها التي هي منه، ثم قالت: يا قوم! والله! ما تنحى هؤلاء
عنكم لقوة فيكم، ولا لضعف منهم، وإنهم يحفظون ذلك المعروف، فأسلموا
تسلموا، ودعتهم إلى الإسلام فأسلموا. والذي يهمنا هنا، أن هذا
الماء الذي في المزادتين كان لامرأة مشركة، والمزادتان من أواني
المشركين، وصنعوهما من دوابهم، وهم يذبحون، ولكن ذبيحة المشرك
والوثني ميتة: وَلا
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ
لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ
لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]،(1/55)
يذبحون باسم الصنم، أو باسم الصليب أو غير ذلك، ومع أنها ميتة
شرعاً، وقد دبغت، وفيها الماء؛ استعمله صلى الله عليه وآله سلم،
فيرد بذلك على من يقول: إن الدباغ يطهر الإهاب ظاهراً لا باطناً؛
ولذا المالكية رووا هذه القصة فقالوا: يمكن أن يستعمل الجلد في
خصوص الماء فقط؛ لأن الماء قويٌ يدفع عن نفسه، وقيل لهم: إن قضية
شاة ميمونة في تتمته: (فأخذنا مسكها -يعني الإهاب- فدبغناه،
فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شناً )، (ننبذ فيه) أي: نطرح التمر
والزبيب مع الماء حتى يستحلب ويتحلى الماء بهذه الثمار ونشربه،
و(شناً) أي: قديماً، فقد تغير عن كونه مطلق ماء، وأصبح نبيذاً،
فضعف عن قوة الطرد الذاتية للماء، وبهذا يتم الاستدلال على طهارة
ما دبغ ظاهراً وباطناً. بقي مسألة: هل يقال بالعموم فيشمل مأكول
اللحم وغير مأكول اللحم أم لا؟ الذين قالوا: لا يشمل غير المأكول
قالوا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مياثر النمور )،
والمياثر جمع ميثرة، وهي: شيء من اللبد من جلد النمر يجعل على
السرج ويركبه الفارس، فنهى صلى الله عليه وسلم عن الركوب على جلود
النمور، وهي غير مأكولة، وهي جلود مدبوغة، ونهى صلى الله عليه وسلم
عن الركوب عليها، إذاً: هي لم تطهر. وأجاب الآخرون عن ذلك وقالوا:
إن النهي عن جلود النمور والمياثر ليس للنجاسة، ولكن لأن الركوب
على جلود النمور من أفعال العجم، وهو يورث الكبرياء والخيلاء، فنهى
صلى الله عليه وسلم عن ركوبها تجنباً لهذه الحالة، وامتناعاً من
مشابهة غير المسلمين، ولو كان نجساً ما سمح باستعماله مطلقاً لا في
سفر ولا في حضر. إذاً: يترجح عندنا العموم في كل ميتة، وإذا دبغ
جلدها فإنه يطهر، ويبقى عندنا: الكلب والخنزير فقط، وهما محل
النزاع؛ فمن قال بالعموم -كما يقول الشوكاني - فظاهر النصوص
معه، ومن استثناهما فهناك الشبهة، ومنذ عشر سنوات تقريباً جاءني
بعض الإخوان الذين يستوردون الأحذية من روسيا -أو من المعسكر(1/56)
الروسي- وقال: إن بعض الأحذية مصنوعة من جلود الخنازير، ماذا نفعل
بها؟ هل نردها؟ أو نمنع استعمالها؟ وصناعة الجلود قد توسعوا فيها،
فيصنعون منها حقائب ونعالاً وأدوات أخرى، بل ملبوسات كالفرو، ولما
توسعت الصناعات الجلدية فمن قال بالعموم تيسيراً على الناس فلا
مانع من ذلك، ولكن من عرف بذاته أن هذا من الخنزير فتركه لكان
أولى، ولكن لو استعمله غيره فلا ينبغي له الإنكار عليه، هذا ما
يتعلق بهذه الجلود. وقوله: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) هناك تساؤل عن
ماهية الدباغ، وأشرنا إلى أن الحديث يقول: يطهره الماء والقرظ)
والقرظ قيل: هو ورق السدر، والبعض الآخر يقول: هو ثمرة قوية لبعض
الشجر، أي: ذات حمضيات شديدة، وهذا القرظ إذا طحنته أو دققته
واستكت به؛ فإنه يشد اللثة المرتخية، ويخرج الرطوبة منها، فهو علاج
للثة؛ لشدته وقوته، وبعضهم يدبغ بدلاً من القرظ بقشر الرمان؛ لأن
فيه قوة، وفيه مادة تشد الجلد، وتسحب منه الرطوبة، وبعضهم يدبغ:
بالتراب والملح، ولكن كما يقول بعض العلماء: المسألة راجعة إلى ما
يطهر الجلد، وإلى ما يدبغه ويلينه، وهذا يرجع إلى نوع الصناعة،
فبعضهم يدخل الخل، وبعضهم يدخل الملح، وبعضهم يدخل الحناء ،وبعضهم
يكتفي بالتراب فأية مادةٍ تعارف عليها الناس، وجُرب أنها تدبغ
الجلد، فإنه دباغ يطهر جلد الميتة.
شرح حديث: (لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها)
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال:
قلت: يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب؛ أفنأكل في آنيتهم؟!
قال: (لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها، فاغسلوها، وكلوا فيها )
متفق عليه. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشرك ) متفق عليه
في حديث طويل]. ننتقل إلى حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله
تعالى عنه قال: (إنا نكون بأرض قوم أهل كتاب؛ أفنأكل في آنيتهم...)(1/57)
وأهل الكتاب: يصدق على اليهود وعلى النصارى، وكان اليهود يسكنون في
الجزيرة، وكذلك النصارى خاصة في الجهة الشمالية في دولة الغساسنة،
ونصارى بني تغلب كانوا موجودين في تلك المناطق، فكان جوابه صلى
الله عليه وسلم: (لا تأكلوا فيها إلاَّ ألا تجدوا غيرها، فارحضوها
غسلاً وكلوا فيها )، وفي بعض الروايات: (وهم يطبخون الخنزير،
ويشربون الخمر ) يعني: في تلك الأواني، فهل نستعير تلك الأواني
ونستعملها والحال أنهم يطبخون فيها الخنزير، ويشربون فيها الخمور
أم لا؟ قال: (لا، إلا ألا تجدوا غيرها، فارحضوها غسلاً) يعني:
اغسلوها بقوة، ثم بعد ذلك كلوا واشربوا فيها، وأخذ العلماء من هذه
الحديث عدم جواز استعمال أواني أهل الكتاب إلا بعد غسلها، ويقول
البعض: إذا لم نشاهد فيها شيئاً يستوجب الغسل فنأخذها ونستعملها،
فلو جاءنا إناء فيه آثار إدام أو شراب فنغسله، لكن إذا هم قد
غسلوها ووضعوها وهيئوها حتى استعمالها، فطلبناها منهم ولم نجد فيها
شيئاً يستوجب الغسل استعملناها، فهي في ذاتها ليست نجسة، وإنما
رحضها بالغسل لما عساه أن يطرأ عليها، واستدلوا بأن النبي صلى الله
عليه وسلم والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يأكلون من طعام
أهل الكتاب عند أهل الكتاب، وفي أوانيهم، ولم يسألوهم: هل غسلتموها
أم لا؟ فهم قد أكلوا في أواني أهل الكتاب حينما قدموا لهم الطعام
في أوانيهم فأكلوا، ولا ننسى الشاة المسمومة التي قدمتها المرأة في
خيبر، وورد: (أن يهودياً دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم له
إهالة سنخة فأكل منها )، وإهالة: عصيدة خفيفة مثل الشربة، فيها
سمن متغير ريحه، فأكل منها في أوانيهم.
وجوب الحفاظ على عادات وتقاليد ولغة الأمة الإسلامية
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استعمال آنية أهل الكتاب في قوله:
(..إلا ألا تجدوا غيرها)، يعني: عند الحاجة والضرورة فقط، وعند عدم
الضرورة تترك ولو كانت طاهرة، نرجع إلى مبدأ آخر وهو: في آخر حياته(1/58)
صلوات الله وسلامه عليه أوصى بقوله: (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب )،
وقال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ) بمعنى: يجب على
المسلمين أن يتميزوا، وألا يندمجوا مع أهل الكتاب؛ لأن تبادل
الأواني، وتبادل الزيارات، وتقارب الجوار، والاحتكاك والاختلاط
مدعاة إلى تبادل الأفكار والآراء والتقليد حتى في الأزياء والحياة،
ومن هنا حرص صلى الله عليه وسلم على إبعاد المسلمين عن أهل الكتاب
في التجاور والمخالطة، وفي التعاون والتبادل؛ ليبقى المسلم متميزاً
بذاته ومنهجه وشعائره، وعلى هذا لا ينبغي مخالطتهم حتى بتبادل
الأواني، ولذا قال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب )؛ فإن كل
أمة خالطت أمة أخرى لابد وأن تدخل تلك الأمة بعاداتها وتقاليدها
ولغاتها في الأمة الأخرى؛ فيحصل التجريح في اللغات، ويقع اللحن في
اللهجات، والتقليد في العادات، ويؤخذ من هذه إلى تلك، ومن تلك إلى
هذه؛ فيقع الاشتراك في المناهج في الحياة، وإذا طال الزمن بهذا
الاشتراك انماعت إحدى الأمتين في الأخرى، والذي يتتبع أخبار العالم
الإسلامي مع العالم الغربي منذ عهد الاستعمار وما فعله في العالم
الإسلامي، فإننا نجد حينما تدخل أمة مستعمرة بقوتها، فإنها تحارب
أولاً اللغة والدين والتقاليد والعادات، وأول ما تدعو إليه: انصهار
الأمة المستعمَرة صاحبة البلد الأساسي في بوتقة المستعمِرة
الغاصبة؛ فتصبغ عليها زيها، وتفرض عليها لغتها، وجميع أنواع
حياتها، ولقد وجدنا في الآونة الأخيرة أقطاراً ودولاً لغتها
الأصلية العربية، ثم إذا بها تنسلخ عنها، بل وتكتب لغتها المحلية
بالحروف اللاتينية ربطاً لها بلغة الدولة المستعمرِة؛ ليلغى من
أذهانهم العربية بالكلية، وإذا انسلخت الأمة المسلمة من اللغة
العربية فما الذي يربطها بكتاب الله الذي قال الله فيه: إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف:2]؟(1/59)
ما الذي يربطها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولقد لقينا
بعض الأشخاص من رؤساء بعض البعثات في عام (84) في رحلة إلى
أفريقيا، وكان يدعو إلى مؤتمر إفريقي في فرنسا لدراسة اللغة
المحلية التي يتعارف عليها الاتحاد الإفريقي، وقلنا له: يا فلان!
اتق الله! إنكم إن اخترتم لغة غير العربية؛ فمعنى ذلك أنكم عزلتم
أنفسكم عن العالم الإسلامي. وأقول لكم: إن اللغة العربية ليست
كبقية اللغات، واللغات في أصلها ما لم يكن لها ضمان تتشعب بسبب
اللهجات، وهذه اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية
هي متفرعة من لغة واحدة وهي اللغة اللاتينية، فتشعبت إلى لهجات، ثم
استقلت وصارت كل منها لغة مستقلة، والآن اللغة الإنجليزية في شمال
بريطانيا تغاير ما في جنوبها، وكذلك اللغة الفرنسية في شمالها
تغاير ما في جنوبها، واللغة العربية أوجد الله لها ضامناً من أن
تتشعب مهما وجد فيها من لهجات عامة، فإنك الآن تأتي إلى الموسم في
الحج فتجد البادي من الجزائر، والبادي من المغرب، والبادي من
الصعيد، ونجد، وتجد البادي من أقطار العالم، وكلهم يتكلم اللغة
العربية، وإذا تكلم بلهجته المحلية لا يفهم الآخر منه شيئاً؛ لأنها
لهجة محلية، أما إذا قرأ الإمام في صلاته: الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.. [الفاتحة:2]
فإن جميع هذه الأقطار تفهم ما يقول الإمام، لماذا؟ لأن القرآن
الكريم أصبح قطب رحى اللغة العربية، تدور حوله مهما تشعبت لهجاتها،
وتباعدت أقطارها؛ فإنها ترجع إلى المركز الأساسي ألا وهو: القرآن
الكريم، وقلت له: أيها الأخ! مهما اخترتم من لغة محلية فإن طول
الزمن سيجعلها تتشعب إلى لهجات، ويوجد في أفريقيا ما لا يقل عن
مائتي لغة محلية، فستعود المسألة في حافرتها، وأين للأجيال المقبلة
ما يربطهم بمعجمات اللغة وقواميسها، وموسوعات الفقه والحديث
والتفسير؟ ولا تستطيعون أن تترجموا هذه الموسوعات إلى اللغة التي(1/60)
سوف تختارونها، وإذا تشعبت إلى لغات لن تستطيعوا متابعة الترجمة
إلى كل ما يستجد من لهجة. إذاً: عودتكم إلى اللغة العربية عودة إلى
الأصل، وفيها الغناء لكم، ويقول الشافعي رحمه الله: فرض عين
على كل مسلم أن يتعلم من العربية ما يتعلق بعبادته لربه. أيها
الإخوة! نحن استطردنا في هذا الموضوع؛ لأنها قضية اليوم، وهذا
الحديث ليس الغرض فيه مجرد أحكام: طهارة، نجاسة، استعمال آنية كفار
أو عدم استعمالها، ولكن الحديث أوسع أفقاً في الدلالة، وفيما ينتفع
به المسلم، وهنا صلى الله عليه وسلم يوصي أنه لا ينبغي للمسلم أن
يستعمل آنية أهل الكتاب إلا عند الحاجة، وكما أشرت ليست القضية
قضية أوانٍ، إنما القضية قضية مبادئ؛ لأن الرسول صلى الله عليه
وسلم يريد من المسلم أن يكون متميزاً بذاته لا يندمج مع غيره
فينماع وتذوب شخصيته، ويبقى هو وغيره -من غير المسلمين- سواء،
وبالله التوفيق.
شرح حديث: انكسار قدح النبي عليه الصلاة والسلام وتضبيبه
قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه:
(أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر؛ فاتخذ مكان الشَّعْبِ
سلسلة من فضة ) ]. هذا الحديث تتمة لما تقدم، وله صلة بالنهي عن
أواني الذهب والفضة، وله صلة أيضاً بما أشرنا إليه -أيضاً- في شاة
ميمونة . وقدح النبي صلى الله عليه وسلم كان مربعاً -يعني: لم
يكن مستطيلاًً، ولكنه قصير وواسع- وكان يشرب فيه، ويقول أنس :
(سقيت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء والنبيذ واللبن ).
(انكسر): ما ألقى به وجاء بغيره، مع أنه كان يستطيع -لو أراد- أن
يتخذ قدحاً من زمرد، ولكن حفاظاً على ما يمكن أن يستفاد منه، جعل
محل الشعب سلسلة من فضة، أي: أنه صار مضبباً، والتضبيب: أن يخرز
الإناء من طرفيه، ويلمه ويملأ محل الخرم بالجبس، فيلتحم الإناء
الذي كان مكسوراً، ثم يستعمل، وكانت الصحون الصينية النفيسة عندما(1/61)
تنكسر -وقد تنكسر إلى ثلاثة أجزاء أو أربعة- لا يلقي بها أصحابها،
ولكن يؤتى بها إلى من يمارس هذه الصنعة فيخرز محل الكسر، ويجعل له
ضبة، فيلمها، ويصبح الصحن -نوعاً ما- كما كان قبل ذلك. إذاً: يجوز
استعمال الفضة عند الحاجة؛ لأن غيرها لا يجزئ عنها، وإذا كانت
الفضة تجزئ فلا حاجة إلى الذهب، ولكن يقول الفقهاء: عند الاستعمال
لا ينبغي أن يعمد إلى موضع الفضة: ويشرب منه ملامساً له، إنما جعل
التضبيب لحفظ الإناء حتى يمكن استعماله، فيشرب بعيداً عن مواطن
الفضة؛ حتى لا يلامسها عند الاستعمال، وبالله تعالى التوفيق.
134131 ( كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [1] )
( كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [1] )
عناصر الموضوع
1 أحكام الحمر
2 طهارة لعاب الحيوان والخلاف فيه
كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [2]
الحمر الأهلية من الحيوانات المعروفة، وقد كان المسلمون يأكلونها في
أول الإسلام، ثم حرمت يوم خيبر، وهي مع حرمة أكلها طاهرة أثناء حياتها،
فلعابها وعرقها طاهران، وأيضاً جلدها بعد موتها إذا دبغ، أما الحمر
الوحشية فهي حلال، وقد اختلف العلماء في سبب التفريق بين الحمر الأهلية
والوحشية، ومن أبرز ما قيل في ذلك أن الحمر الأهلية ذات طباع سيئة، فهي
مثلٌ للغباوة والمذلة، فإذا أكثر الإنسان من أكلها اتصف بطباعها، ولو
صح هذا التعليل فإن الأصل هو التسليم للحكم الشرعي.
أحكام الحمر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على رسوله الأمين، وآله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه
الله: [وعنه رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم أبا طلحة فنادى: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن
لحوم الحمر الأهلية، فإنها رجس )، متفق عليه]. انتقل المؤلف
رحمه الله تعالى إلى بيان نجاسة بعض الحيوانات -أي: لحومها- وتحريم(1/62)
أكلها. والتوقيت بذكر يوم خيبر يدل على أن ما قبله كان مغايراً لما
بعده، وأن هذا الحكم الطارئ الجديد يبدأ العمل به من تاريخ يوم
خيبر، ويوم خيبر كان في السنة السابعة من الهجرة، فالرسول صلى الله
عليه وسلم أمر أبا طلحة أن ينادي في الناس بتحريم لحوم الحمر
الأهلية. وقد يتساءل إنسان: لماذا خص أبا طلحة ، مع أن القاعدة
في التبليغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون المبلغ من ذويه
ومن أهله؟ كما جاء في قصة سورة براءة، فعندما أرسل النبي صلى الله
عليه وسلم أبا بكر سنة تسع يحج بالناس -ولم يحج صلى الله عليه
وسلم لعوارض كانت موجودة-، فنزلت سورة براءة، فبعث علياً رضي
الله تعالى عنه ليقرأ سورة براءة على المشركين، ويعلن انقطاع
المعاهدات بين المسلمين والمشركين، وأرسله على ناقته القصوى،
فقالوا: لا يبلغ عن الرسول إلا واحد من ذويه. وهنا في عام خيبر
يبلغ أو يكلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا طلحة ، مع وجود علي ، ومع وجود من هو أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي
طلحة ، كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان . والجواب أنا إذا
نظرنا في ترجمة أبي طلحة نجد منه ما يرشحه لهذا العمل، وهذا
يعطينا أنه ينبغي أن نقدم الأشخاص ذوي الاختصاص فيما يختصون فيه،
فقد كان أبو طلحة جهوري الصوت، حيث جاء في ترجمته: صوت أبي
طلحة في الجيش كفئة، وقيل: صوت أبي طلحة في الجيش كألف
رجل، فكان صوته جهورياً وقوياً، وكذلك كان العباس رضي الله
تعالى عنه، فقد كان العباس إذا كان بالمدينة، وله غلمان في
الغابة، وبينه وبينهم مسافة بعيدة يصعد على جبل وينادي غلمانه
فيسمعونه ويجيبونه. فهناك أشخاص أوتوا بعض الخصائص في القوة سواءٌ
البدنية أم الفكرية. فنادى في الناس: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن
لحوم الحمر الأهلية )، وكانوا قد ذبحوا منها في ذلك اليوم،
ولحومها في القدر على النار، فلما نادى منادي رسول الله صلى الله(1/63)
عليه وسلم أكفأوا القدور مباشرة، وامتنعوا عن الأكل منها.
طهارة الحمار
وبقيت مسألة في الحمر الأهلية، وهي: هل الحمار الأهلي -في حال
حياته- نجس أم طاهر؟ والجواب أنه طاهر؛ لأنه مستأهل، وطواف علينا
ومخالط لنا، ونستعمله، وأقوى ما استدل به من قال بطهارته في الحياة
أنه قال: نحن نركب الحمير، وكان للرسول صلى الله عليه وسلم حمار
يسمى عفيراً، وكان يرسله إذا أراد بعض الأشخاص، فيذهب ويطرق الباب
برأسه ثم يعود، أو يقول للرجل: اركبه وتوجه يدلك على الطريق. وأرشد
الحيوانات كلها بالطريق الحمار؛ فإنه يعرف الطريق أكثر من الإنسان،
فلو مشيت به في طريق ثم أردت أن تعود فإنك لو رجعت وحدك يمكن أن
تنسى الطريق، لكن لو ركبته يدلك، فلذا يقولون: أذكى الحيوانات في
معرفة الطرق الحمر. والناس يركبون الحمر، ومعروف أن الحمار يعرق،
والعرق ينضح من داخل جسمه، خاصة في المناطق الحارة مثل الحجاز
والمدينة، ولما كان أهلياً ويستعمل ويركبونه، ولم ينههم عنه صلى
الله عليه وسلم عرفنا أنه طاهر، وعرقه إذا خالط الثياب لا ينجسها،
بل إذا ركبه الإنسان وخالط جسمه وهو رطب أو مبلل فإنه لا يتنجس.
فعرق الحمار ولعابه طاهران، وهذا بإجماع المسلمين، ولكن الذي حرم
لحمه. وإذا مات الحمار فإنه إذا دبغ جلده طَهُرَ.
تأثير الغذاء في طبع الإنسان وخلقه
إذا نظرنا إلى وجود الخصال في الحيوان وجدناها تؤثر على الإنسان
إذا أكثر من أكل لحمها، ووجدنا للعلماء كلاماً كثيراً في ذلك،
ومنهم أبو حيان رحمه الله، حيث ذكر الحكمة في تحريم لحم
الخنزير، فقال: إن من طبيعة هذا الحيوان افتقاد الغيرة، فالذكر لا
يغار على أنثاه، فمن أكثر من أكل لحمه أثر لحمه على غريزة الغيرة
عنده، فتضعف حتى يصبح لا غيرة له على نسائه، فالمصيبة جاءته من لحم
الخنزير. فإذا كان الأمر كذلك كان تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية
لما كمن فيها من تلك الصفات الرذيلة التي لا يرضاها الله ولا رسوله(1/64)
صلى الله عليه وسلم ولا يرضاها أحد من الناس لنفسه. ويناسب هنا ذكر
الكلام على قضية الوضوء من لحم الإبل، وعدم الوضوء من لحم الغنم؛
لأن الطريق واحد، فقد سُئل صلى الله عليه وسلم: (أأتوضأُ من لحوم
الغنم؟ قال: إن شئت. قال: أأتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم )،
وأكل من الشاة في خيبر، ثم جيء له ببقيتها فأكل ولم يتوضأ. من هنا
قالوا: ما الفرق بين لحم الغنم، ولحم الإبل حتى يؤمر بالوضوء من
هذا دون ذاك، والكل لحم؟ نجد في كتب الفقه أن بعض الفقهاء يقول: إن
علة ذلك هي حرارة لحم الإبل. ونجد آخرين يردون ذلك ويقولون: لحم
الغزال أشد حرارة، ولم يؤمر بالوضوء منه، ولحم الحمام في الطيور
أشد حرارة من الاثنين، ولم يؤمر بالوضوء منه، ولكن لو ذهبنا إلى
أبعد من هذا لوجدنا الفرق في عموم النصوص، أي: النصوص التي لها صلة
بالإبل، كما فعل علي رضي الله تعالى عنه في استنباط أقل مدة
الحمل من عموم آيتين مختلفتين، الأولى قوله تعالى: وَحَمْلُهُ
وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]،
والثانية قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]،
والحولان أربعة وعشرون شهراً، فاستنبط علي من مجموع الآيتين أن
أقل مدة الحمل ستة أشهر. فإذا جئنا من خارج موضوع الوضوء، وجدنا
النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة في معاطن الإبل، فقال:
(صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في معاطن الإبل )، مع أن هذه
مرابض، وهذه معاطن، وهذه فيها أبوال وروث، وتلك فيها أبوال ورجيع،
فما الفرق بينهما؟! والفرق قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا في
معاطن الإبل؛ فإن الإبل معها شيطان ) قالوا: شيطانها أنها إذا
جاءت ووجدت نائماً، أو مصلياً، أو جالساً في مكانها طردته وآذته؛
لأن معها شيطاناً، أما الغنم فمعها السكينة، فإذا جاءت ووجدت
مصلياً، أو نائماً أو آكلاً في مكانها فإنها لا تؤذيه، ولا تنفره،(1/65)
وربما قعدت ونامت بجانبه. وفي الحديث الآخر: (مع أهل الإبل الكبر
والخيلاء، ومع أهل الغنم السكينة والوداعة )، فمن أين جاء الكبر
لأهل الإبل؟ يجيء من جهة أنه يرى نفسه يرعى قطيعاً من الإبل، وقد
قال الله تعالى عنها: أَفَلا
يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17]،
فهو خلق عجيب، وصاحب الإبل يأخذ في يده عصا صغيرة، أو يناديها
بالصفير فتجيء وتجتمع حواليه، أما الغنم فإنها معها الهدوء
والسكينة، ولهذا ما من نبي إلا وقد رعى الغنم -وليس الإبل-؛ لأنها
تكسبه الهدوء والسكينة والرفق، إذ لا يمكن أن يتجبّر على شاة
صغيرة، أما الجمل فإنه إذا هاج إن لم تتجبر عليه قضى عليك. وننتقل
إلى جانب آخر فنجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً غضبان
قد انتفخت أوداجه واحمرت عيناه، فقال: (إني لأعلم كلمات لو قالها
لذهب عنه ذلك )، وبين أصل الغضب بقوله: (الغضب من الشيطان،
والشيطان من النار، فأطفئوه بالماء ). فإذا جمعنا كل هذه
الأطراف وحدنا أن الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، والإبل
معها شيطان، أو خلقت من شيطان، فهي شياطين، فإذا ما أكل الإنسان
منها أفاضت عليه من آثر الشيطان، وهو الغضب، فحينما يأكل من لحم
الإبل يأتيه من حركة ذاك الشيطان الغضبية ولو شيء قليل، فتؤثر على
نفسيته، فحالاً نبادرها بالوضوء بالماء لنطفئ أثر ذلك. فبالتلمس
وجدنا فرقاً بين ما ظنوه متماثلاً، وأن لحم الإبل يختلف عن لحم
الغنم، فيما يتعلق بالوضوء، وموطن الإبل تختلف عن موطن الغنم فيما
يتعلق بالصلاة، وإلا فإن الكل طاهر عند من يقول بذلك. وهنا الحمر
الأهلية طبيعتها الذلة واللؤم والخسة، فلا يستبعد أن من أكثر من
أكل لحمها تنتقل إليه غريزتها، ويتصف بشيء من تلك الصفات، وهذه
ليست من صفات المؤمن. وهذا الذي قدمناه ليس من موضوعنا ولكن رداً
على هؤلاء الذين يقيسون التشريع الإسلامي بالمعقولات غير السليمة،(1/66)
ويدّعون أن الشريعة تتناقض؛ لأنها تفرق بين متماثلين، والتفريق بين
متماثلين مناقض للعقل السليم. فالحمار الأهلي ليس متساوياً مع
الحمار الوحشي، والفرق بينهما موجود، ومن هنا كان النهي عن أكل
الحمر الأهلية مع بقاء حلية الحمر الوحشية، والله تعالى أعلم.
توجيه كلام ابن عباس ومناقشته
بقي هنا إشكال، فقد جاء عن ابن عباس أنه كان يرى أن النهي عن
لحوم الحمر الأهلية، للكراهة، وليس للتحريم، ولما سُئل: قال: لا
أدري أنهى عنها؛ لأنها ظهر الناس، أو لأنها من جوال القرية! فقوله:
(لا أدري) لا يجوز أن نجعله حجة نرد بها حديثاً صحيحاً صريحاً. ثم
إن كلام ابن عباس في علة التحريم، فهو يقول: لا أدري لماذا نهى
عنها، هل إبقاءً على الظهر -أي أنهم لو أكثروا ذبح الحمر فعلى أي
شيء سيحملون متاعهم حتى يعودوا إلى المدينة، أو أنها من جوال
القرية، وجوال القرية هي التي تخرج في الطرقات وتلتقط كل ما
واجهها، حتى العذرة، فإذا كانت حيواناً مأكول اللحم -واتصف بأنه من
الجلالة- منع أكله حتى يحبس، ويطعم طعاماً طاهراً ثلاثة أيام على
الأقل، سواءٌ أكان ذلك من الدجاج الدواجن، أم كان من غيرها، وأكثر
ما يكون هذا داء في البقر. ويجاب عن هذا بأن جوال القرية هي الحمر
المسيبة، أما هذه -أي: التي نزل فيها التحريم- فهي مع أناسٍ غزاة
لا يتركونها في الخلاء، بل هي مستعملة عندهم ينتقلون عليها،
ويحملون متاعهم عليها. أما قوله: (إبقاءً على الظهر) فإنه رخص لهم
أن يأكلوا من لحوم الخيل، فإذا كانت القضية قضية ظهر فالخيل أولى
أن يُبقى عليها؛ لأنها أجلَّ في هذا الباب، وأنفع من الحمر في
الظهر للغزاة يقاتلون عليها، ويحملون عليها أكثر مما يحملون على
الحمر، وهي أصبر على السفر من غيرها. ومن هنا قالوا: إن رأي ابن
عباس مبني على اجتهاد شخصي خالف فيه غيره من الصحابة رضوان
الله تعالى عليهم، وهذا إن صح. والآخرون يقولون: الحديث مرفوض من
أوله.(1/67)
حكمة التفريق بين لحوم الحمر الأهلية والوحشية حلاً وحرمة
بقي عندنا تحريم لحوم الحمر الأهلية مع بقاء حلية قسيمها، وهي
الحمر الوحشية، فإن كان التحريم للجنس فالجنس في البر حلال، فما هي
العلة في تحريم الحمر الأهلية مع إباحة الحمر الوحشية؟ إننا لو
فتشنا من قريب فلن نجد شيئاً، والعلة هنا مستنبطة وليست منصوصة،
ولكن قبل البحث عن علة التشريع يجب علينا نحن المسلمين إذا سمعنا
عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً التصديق والعمل
امتثالاً لأمر الله، وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن
الله تعالى حكيم عليم لا يشرع إلا لحكمة، ثم إن مقتضى قول المسلم:
(لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) يلزمه
إلزاماً أن يقبل ما جاء عن الله، فلا يعبد إلا الله، بدلالة (لا
إله إلا الله)؛ لأنه إذا عبد غير الله نقض قوله: (لا إله إلا
الله)، وكذلك إذا لم يقبل تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو
رفض شيئاً منها يكون نقض قوله: (محمد رسول الله) صلى الله عليه
وسلم. وكنا نبسط المسألة ونقول: دلالة الالتزام في هاتين الشهادتين
مثالها كما يوجد عند الناس الآن في السلك الدبلوماسي، حينما تقوم
دولة، وتبرم معاهدة، أو صداقة، مع دولة أخرى تعترف بها، ثم تبعث
إحدى الدولتين، سفيراً لها عند الدولة الأخرى، وهذا السفير يقدم
أوراق اعتماده، ويعلن عنه سفيراً، في موكب رسمي، أو بمراسيم رسمية،
فكل ما جاء به هذا السفير من دولته، إنما هو باسم من يمثلهم، وقبول
ما جاء به مرتبط ببقاء الرابطة السياسية. فإذا ما رفضت تلك الدولة
بعض تعاليمه، أو بعض طلباته، يكون ذلك إساءة في العلاقات
الدبلوماسية، وقد يؤدي إلى انقطاعها، فكذلك المسلم فإنه أعلن أنه
لا يتأله إلا لله، فلا يعبد إلا الله، ومعنى أنه لا يعبد إلا الله:
أنه يأخذ كل ما جاءه عن الله، ولن يأتيه مباشرة، وإنما يأتيه عن(1/68)
طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قدم
أوراق اعتماده وهي تلك المعجزات، وخوارق العادات، وهذه المعجزة
الكبرى، التي تساير الأيام، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ألا
وهي كتاب الله تعالى. وهذا لأننا إذا تطلعنا إلى حكمة التشريع فإن
وجدناها وأصبناها فبها ونعمت، كما قال تعالى: وَقُلْ
رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]،
وقال تعالى لإبراهيم: أَوَلَمْ
تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]،
وإذا لم نجدها فعلى المبدأ، وهو التسليم والامتثال والتصديق، فنعمل
ولو لم تظهر لنا العلة. وبعض الناس قد يعيب على من يحاول أن يتتبع
حكمة التشريع، ويقول: ليس لكم دخل في هذا، فإذا أمر الله فعلى
الرأس والعين. ونقول: نعم، ولكن بعض الناس يتخذ خفاء العلة في
التشريع طريقاً لتشكيك العوام، على ما سيأتينا -إن شاء الله- في
أمر بول الصبي، فإنه في الشريعة يرش من بول الغلام، ويغسل من بول
الجارية، فالوا: فرقت الشريعة بين متماثلين، وهذا تناقض! وكذلك كون
المسلم يتوضأ من لحوم الإبل، ولا يتوضأ من لحوم الغنم، فإن هذا لحم
وهذا لحم، فقالوا: هذا تفريق بين متماثلين. فحينما تظهر الحكمة،
ويبين الفقهاء الفرق بين هذين الذين يظهران متماثلين، وأنهما على
خلاف ذلك، وأن هناك مغايرة تستوجب المغايرة في الحكم، حينئذٍ تسد
الباب على أولئك الذين يعمدون إلى التشكيك في التشريع من باب
التفريق بين المتماثلين. وفي مسألتنا هذه عندنا حمار وحمار، وهذا
أهلي وذاك وحشي، وهذا حرام وذاك حلال، فقالوا: هذا تفريق بين
متماثلين من جنس واحد، فلماذا؟! وأقول: إذا جئنا إلى كتب الفقه قد
لا نجد تصريحاً بذكر علة التفريق بين الطرفين، ولكن إذا رجعنا إلى
بقية العلوم سنجد فرقاً، وقد كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: العلم يخدم بعضه بعضاً، أو كان يقول:(1/69)
العلوم أقران، أي: يقترن بعضها ببعض، يعني: هذا العلم يبين هذا
العلم، وهذا العلم يستمد من ذاك العلم. وقد أشار علماء التغذية
وعلماء الوراثة إلى وجود فرق بين الحمر الأهلية والحمر الوحشية.
وجاء في القرآن الكريم ما يشير إلى بعض صفات الحمر الأهلية، عن
طريق ضرب المثل لمن يحمل علماً ولا ينتفع به قال تعالى: كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5]
أي: لا يستفيد منها شيئاً. وكما قيل: كالعيس في البيداء يقتلها
الظما والماء فوق ظهورها محمول أي أنها لا تستفيد منه. ولكن الفرق
بين الطرفين في هذا الجنس بالذات هو ما غلب على طبيعة الحمار
الأهلي -بسبب تأهيله مع الناس- من غباوة وبلادة ولؤم وذلة، كما
قيل: ولا يقيم على ذل يراد به الأذلان عير الحي والوتد فالعير يصبر
على الذل، والوتد يثبت حتى تكسر رأسه وهو صابر، وقالوا: فيه غريزة
اللؤم، والمزارعون يعرفون هذا، فالحمار إذا أتاه صبي صغير (استعصى)
عليه، وإذا رأى كبيراً عرف الجد، فهذا لؤم. أما المذلة فلأنه نشأ
مكفي المئونة، فلا يعمل على تحصيل قوته، فهو عالة على غيره، بخلاف
الحمار الوحشي، فهو مكلف بأن يحمي نفسه أولاً من الوحوش الكاسرة،
ومكلف بأن يسعى لتحصيل قوته، ولا ينتظر أن يأتيه غيره بقوته،
فانتفت عنه صفات الذلة والمهانة واللؤم، الموجودة في الحمار
الأهلي. ويذكر علماء الحيوان أن أنثى حمار الوحش حينما تلد ولدها
-ويسمى (التولب)- تعض ساق رجله اليمنى الأمامية لتكسرها، ويبقى في
كنّه إلى أن يجبر العظم في رجله، فيكون قد نمى وكبر، وتفعل هذا
حماية له من الوحوش، قالوا: تكسير رجله ليبقى في كنّه ولا يخرج؛
لأنه كسير، فإذا ما برأ الكسر واستطاع الجري، يكون قد شب وكبر، فلو
خرج وداهمه وحش يستطيع أن يفر منه، وهذه تربية عجيبة.
أقسام الحمر
الحمر: جمع حمار، وتنقسم إلى قسمين: قسم ورد في هذا الحديث بأنه(1/70)
الحمر الأهلية، أي: متأهلة مع الناس، ومفهوم ذلك أن هناك قسماً آخر
ليس متأهلاً، بل وحشي، ولذا يقال: الحمار الوحشي، والحمار الأهلي.
تحريم لحوم الحمر الأهلية ليس منسوخاً
قوله: (فإنها رجس )، أي: لحومها بالنسبة إلى أكلها بعد الذبح،
وبقي الكلام عن تحريمها بعد الذبح، وعن طهارتها وهي حية، فإنها
أهلية تخالط الناس في حياتهم، باستعمالهم إياها. أما كونها حرم
أكلها فالجمهور على ذلك، وقلل بعض العلماء: لقد نُسخ هذا التحريم
مع أن التقييد بالتاريخ يدل على أنه لا نصوص قبلها تحرم أكل الحمر
الأهلية، فهل جاءت نصوص بعد ذلك؟ والجواب أنهم ذكروا أن رجلاً جاء
في عام شدة، وقال: (يا رسول الله! أخذتنا شدة، وليس عندي ما أطعم
أهلي إلا سمين حمر، فقال: أطعم أهلك من سمين حمرك -أو من سمان
حمرك- )، قالوا: في هذا ترخيص لإطعام الرجل أهله من سمان حمره،
ولكن الجمهور قالوا: هذا الحديث لا يثبت سنده لو لم يعارض بغيره،
فكيف إذا عارضه ما هو أقوى منه من المتفق عليه، والناسخ يجب أن
يكون من حيث السند في قوة المنسوخ، فقالوا: لا تصح دعوى النسخ.
طهارة لعاب الحيوان والخلاف فيه
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمر بن خارجة رضي الله عنه قال:
(خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، وهو على راحلته، ولعابها
يسيل على كتفي )، أخرجه أحمد والترمذي وصححه]. انتقل
المؤلف إلى موضوع آخر، وهو: لعاب ما يؤكل لحمه، خطب النبي صلى الله
عليه وسلم بمنى، ولعاب راحلته يسيل على كتفه. ففي هذا الحديث: أن
لعاب راحلة النبي صلى الله عليه وسلم كان يسيل على كتف الذي كان
يمسك بزمامها، فالرجل كان يمسك زمام الراحلة والرسول صلى الله عليه
وسلم يخطب الناس عليها، فهل يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن لعاب راحلته يسقط على كتف من يمسك زمامها، أم أنه رآه: وأطلع
عليه؟ الغالب أنه رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الموقف(1/71)
يقتضي أنه رآه ولم ينهه عنه، ولم يأمره بغسله، فهذه سنة تقريرة،
فلعاب الحيوان مأكول اللحم طاهر، بل وغيره كذلك. فقد ورد في باب
المياه حديث: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء )، وورد فيه أن
الرسول صلى الله عليه وسلم مر ببعض الحياض بين مكة والمدينة، فلما
ورد حوضاً قال عمر : يا صاحب الحوض! أخبرنا: هل ترد السباع
ماءك؟ فبادره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لا تخبرنا يا صاحب
الحوض؛ إنا نرد على السباع، وترد السباع علينا، فلها ما أخذت في
بطونها شراباً، ولنا ما أبقت شراباً وطهوراً )، فسؤر جميع
الحيوانات طاهر، ما عدا الكلب، ونحن نستثني الكلب لما تقدم، وهل هو
لنجاسته، أو هو لما فيه من داء الكلب؟ فيه تفصيل تقدم. أما بقية
الحيوانات كالهرة فإن أبا قتادة قرَّب إليها الإناء، فكانت
زوجة ولده تتعجب، فقال: يا ابنة أخي: أتعجبين؟ فإن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: (إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم ).
134136 ( كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [3] )
( كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [3] )
عناصر الموضوع
1 بول الرضيع وحكمه
2 نجاسة الدم وكيفية تطهيره
كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [4]
إن للأطفال من المحبة ما يجعل المرء يتعلق بهم ويكثر من حملهم، فلا
يخلو عند ذلك من أن تصيبه النجاسة من بولهم، وقد فرق الشرع بين بول
الغلام الرضيع والجارية الرضيعة، فالغلام إنما يرش من بوله والجارية
يغسل من بولها، مع أن البول نجس في كل حال.
بول الرضيع وحكمه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول: المصنف رحمه الله: [وعن
أبي السمح رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام )، أخرجه أبو
داود والنسائي وصححه الحاكم ]. هذا موضوع جديد، وهو(1/72)
نجاسة البول بصفة عامة، وقد تقدم لنا ما يتعلق بنجاسة البول، وهو
متعلق بهذا الباب، وكثير من المؤلفين يذكره في هذا الموضع. وتقدمت
لنا قصة بول الأعرابي حينما بال في المسجد، وكانت طريقة تطهيره
مكاثرته بالماء، كما قال الشافعي رحمه الله: يكاثر بالماء
مقدار سبع مرات وهذه ناحية نسبية تعتبر بغلبة الظن. وهنا يأتي
المؤلف رحمه الله بهذا النص عن أبي السمح ، وكان خادم رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ومع أنه خادم رسول الله صلى الله عليه
وسلم لكن لا يُعلم له حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
هذا، فنقل لنا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغسل من بول
الجارية ويرش من بول الغلام ) فمن الجارية، ومن الغلام؟ الجارية
لغة: تطلق على الصغيرة الرضيعة، وتطلق على من هي دون البلوغ، وتطلق
على الأمة الكبيرة، كما تقول: جارية فلان والغلام يطلق على الطفل
الصغير الرضيع، وعلى من دون الأربعين سنة، كما قيل في الحجاج :
.. غلام إذا هز القناة سقاها وهو قائد الجيوش، ومع ذلك سمي غلاماً.
علة التفريق بين بول الغلام وبول الجارية
قد يقال: هل يمكن أن نتطلع إلى سبب في التفريق بين بول الغلام وبول
الجارية، أم أنه لا يوجد هناك فرق؟ قال بعض المتقدمين -وهو المتولي من أئمة الشافعية-: نعم هناك فرق؛ فإن بول الغلام أبيض رقيق خفيف،
وبول الجارية أصفر ثقيل كثيف، فالفقهاء نبهوا على أن هناك فرقاً في
الماهية، فبول الغلام رقيق خفيف يكفي فيه الرش، وأما بول الجارية
فأصفر كثيف ثقيل والنضح لا يكفيه، ويحتاج إلى الغسل. وبعض
المتأخرين الذين يتكلمون عن التشريح أو عن الخواص يقولون: بول
الجارية فيه من هرمون الأنوثة أكثر، فيحتاج إلى زيادة في الغسل،
وهرمون الأنوثة -كما يقولون- أثقل من هرمون الذكورة، والله تعالى
أعلم. وبعضهم يعلل ذلك بقوله: الغلام ذكر والجارية أنثى، وأصل
الخلقة -خلقة الإنسان- هو أبونا آدم، وآدم خلق من تراب وماء،(1/73)
والماء والتراب طهوران، فأصل التكوين في خلقة الذكر من طاهرين،
والأنثى جاءت من حواء، وحواء خلقت من ضلع آدم، وضلع آدم فيه دم
ولحم، والدم نجس، فالغلام يرجع إلى أصله، والجارية ترجع إلى أصلها،
وهذا امتداد طويل وبعيد الاعتبار، وذكرناه من باب الفائدة. وهناك
من يقول -وهي قضية والله ما أدري كيف ساغ لهم أن يقولوها- فيقول:
الرسول صلى الله عليه وسلم عامل الناس بحالة نفسية؛ إذ كان العرب
في أول أمرهم إذا جاءهم المولود أنثى فهم كما قال تعالى: وَإِذَا
بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ
كَظِيمٌ [النحل:58].
فكانوا إذا جاءت البنت لا يحبون حملها، أما الصبي فيحب، ودائماً
يحمل، فخفف في بوله، لكن هذه العادة غير حميدة، فهل يأتي الرسول
صلى الله عليه وسلم ويقر الناس عليها، ويخفف لهم ويرخص لهم بسببها،
أم يقضي عليها؟ لاشك أنه سيقضي عليها. فهذه وإن كانت ساقطة فهي
بعيدة بعد آدم وحواء، لكن تلك أقرب للتعليل من هذه. ومهما يكن من
شيء فإن المهم هو الحكم الفقهي، وهو أنه يكتفى بنضح بول الغلام
ويغسل بول الجارية، وبعض الذين قالوا بالغسل قالوا: النضح بمعنى
الغسل؛ لأنه جاءت رواية: (رشه: نضحه ) ، والنضح غسل. ولكن جاء
في رواية علي رضي الله تعالى عنه: (فنضحه ولم يغسله) فهل النضح
هو الغسل أم هو مغاير له؟ والجواب: مغاير له، ويكفينا في ذلك أن
أصل البول نجس، وذلك في الأصل عند الجارية، ولكن الغلام الرضيع
الذي لم يتناول الطعام خففت حالته، واكتفي فيه بالنضح، وما عدا
الغلام الرضيع -سواءٌ أكان غلاماً يأكل الطعام، أم جارية من أول
أمرها -فإنه يغسل، والله تعالى أعلم.
اختلاف العلماء في تطهير بول الغلام والجارية
موقف العلماء من بول الجارية وبول الغلام الرضيع يتلخص في ثلاثة
مذاهب، كما نقل ذلك: الصنعاني والشوكاني وابن حجر في
فتح الباري، وغيرهم. المذهب الأول: يغسل الجميع، بول الغلام وبول(1/74)
الجارية وهذا مروي عن الأحناف والمالكية. والمذهب الثاني: يرش من
الجميع بدون تفرقة، فالأول لا يفرق بين ذكر وأنثى، وقال: يغسل
الجميع. والثاني لم يفرق بين ذكر وأنثى، وقال: يرش الجميع. وهذا
قول الأوزاعي المذهب الثالث: وهو مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله -ويؤيده الحديث- أنه يغسل من بول الجارية، ويرش من بول
الغلام. ووجهة نظر من قال بغسل الجميع، قولهم: هناك عمومات أخرى،
منها: عموم غسل البول، ومنها: حديث القبرين: (وكان أحدهما لا
يستنزه من البول )، وهذا عام في البول، فيشمل الصغير والكبير،
ثم ألحق الغلام بالجارية، وهذا الإلحاق يسمى عند الأصوليين إلحاقاً
بنفي الفارق. أي: ننفي فارق الذكورة والأنوثة، ونرجع إلى أصل البول
فهو سواء عندهم، فنغسل الجميع، كما جاء في حديث: (من أعتق شقصاً له
في عبد )، فكلمة (عبد) تطلق على المملوك الذكر، فقالوا: كذلك من
اعتق شقصاً له في أمه، ولماذا الأمة والنص جاء خاصاً بالعبد؟
قالوا: بإلغاء الفارق بين الأمة والعبد، وهو الذكورة والأنوثة، فمن
أعتق شقصاً في مملوك له ذكراً كان أو أنثى قوم عليه ودفع الباقي
لشريكه ويعتق العبد، هذا ما يسمى عندهم بنفي الفارق. ولكن هذا
حينما يأتي النص في أحد المتماثلين أو المتقابلين، فيكون هنا
الإلحاق بنفي الفارق؛ لأن الأمة لم يأتِ في عتق شقصها نص ولكن هنا
جاء النص مستقلاً في الغلام بالرش، وجاء مستقلاً في الجارية
بالغسل، فنأخذ بالنص الموجود، أما القياس هذا فإنه يسمى عند
الأصوليين قياساً فاسد الاعتبار، أي: اعتباره فاسد؛ لأنه في مصادمة
النص؛ إذ يلحقون الغلام بالجارية، وهذا فيه نص صحيح صريح، وهو حديث
أم قيس الذي رواه الجماعة، وحديث عائشة الذي رواه البخاري ،
وعند مسلم زيادات. فالغلام فيه نص مستقل، والجارية فيها نص
مستقل، ولا يلحق أحدهما بالآخر؛ لأننا إذا ألحقنا أحدهما بالآخر
ألغينا النص الذي يختص به، وهذا لا يجوز، وهو كما -يقول الأصوليون-(1/75)
قياس فاسد الاعتبار.
أحاديث في التفريق بين بول الغلام والجارية
في هذا الباب جاءت نصوص أخرى مع حديث أبي السمح ، منها: أنَّ
أم قيس بنت محصن : أتت بابن لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم
يحنكه -والتحنيك: هو أن يأخذ الكبير تمرة فيلوكها في فِيه، ثم
يخرجها بعد المضغ وامتزاجها بلعابه، ويضعها بين فكي الطفل، فيبلغها
أو يتلمض بها- قالت: فبال على ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا
بماء ونضحه). وكذلك جاء عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: كانوا
يأتون بالصبية إلى النبي صلى الله عليه وسلم للتبريك، والتحنيك
-والتبريك: التماس البركة، ويحنكهم ليختلط ريقه صلوات الله وسلامه
عليه بالتمرة، ويبتلعه الطفل الصغير- (فبال غلام على ثوب النبي صلى
الله عليه وسلم، أو في حجره صلى الله عليه وسلم فأتبعه بالماء) .
وجاء عن أم قيس حديثان، أحدهما قالت فيه: (أتي بغلام فبال على
ثوبه صلى الله عليه وسلم فنضحه، وأتي بجارية فبالت على ثوبه فغسله )
. وعن أم الفضل : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بغلام
-الحسن ، أو الحسين- فصعد على بطن النبي صلى الله عليه وسلم فبال
على صدره، قالت: قلت: أعطني ثوبك -يا رسول الله- أغسله والبس غيره
قال: إنما ينضح من بول الغلام ) . وعن علي رضي الله تعالى
عنه: (أن غلاماً بال على ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يرش
من بول الغلام ويغسل من بول الجارية )، قال قتادة : وذلك
قبل الفطام، أو: وذلك للرضيع. وكل هذه الآثار جمعها وساقها صاحب
المنتقى، وتكلم عليها الشوكاني في نيل الأوطار، وغيره. والقول
الصريح بضم الفعل مع مجموع ذلك كله أن النبي صلى الله عليه وسلم
فرق بين بول الغلام الذكر، وبول الجارية الأنثى، وهذا التفريق محله
قبل أن يستغني بالطعام ما دام رضيعاً، فأمر بغسل بول الجارية،
واكتفى أو أرشد إلى نضح أو رش بول الغلام.
نجاسة الدم وكيفية تطهيره(1/76)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دم الحيض يصيب الثوب-: (تحته،
ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه ) متفق عليه]. انتقلنا
إلى مسألة أخرى، وهي حكم الدم في هذا الباب -باب النجاسة-، وقد
تقدم شيء من التنبيه على ما وجد في الآونة الأخيرة من القول
بطهارته. وقد أجمع على ذلك المسلمون إلى القرن الرابع عشر من
المحدثين وعلماء تفسير، وفقهاء المذاهب الأربعة وأئمتها. ومن أراد
الرجوع إلى ذلك بإيجاز فليرجع إلى كلام المفسرين عند قوله تعالى: أَوْ
دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]،
فقالوا: الدم المسفوح والميتة ولحم الخنزير كل ذلك نجس، والمسفوح:
هو الذي يخرج بغزارة وبقوة، وغير المسفوح هو الدم الذي يكون باقياً
في عروق الذبيحة بعد سلخها، وقد تظهر حمرة هذا الدم في المرق في
أوائل الطبخ، وهذا معفو عنه.
أدلة من قال بعدم نجاسة الدم والجواب عنها
الذين يقولون بطهارة الدم المسفوح قالوا: إنما حرم أكله ولم تحرم
ملامسته، ولا يدل ذلك على النجاسة. واستدلوا بقصة عمر رضي الله
تعالى عنه، حينما صلى وجرحه ينزف دماً. واستدلوا بقصة عمار والذي كان معه في الشعب، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يحرس ليلاً،
وكان العدو قد وقعت به حادثة فتبعهم ليلاً، فقام أحدهما يحرس ويصلي
ويقرأ، فسمع العدو صوت القارئ فسدد السهم في الليل على الصوت
فأصابه، فانتزع الحارس السهم ومضى في صلاته، إلى أن رماه بثلاثة
أسهم، فأيقظ صاحبه سقوط الدم على وجهه، فقال: ما هذا؟ فأخبره.
فقال: هلا أخبرتني؟ قال: كنت اقرأ سورة فكرهت أن أقطعها -قيل: سورة
الكهف-، فقالوا: خرج منه الدم فلم يقطع صلاته، ولو كان نجساً
لقطعها، وكذلك ما جاء في حق المستحاضة: (صلي ولو قطر الدم على
الحصير )، لأنها لم تستطع إيقافه. لكن لا تقاس حالة الاضطرار
على حالة السعة، أترى عمر يترك الصلاة لجرحه، وهو يقول: لاحظ(1/77)
في الإسلام لمن ترك الصلاة! وكذلك الذي كان يحرس في الجيش، ألا ترى
المجاهدين يجرحون ويصابون، بل تكون سيوفهم مليئة بالدماء، ويصلون
صلاة الخوف وهم يحملون السلاح، فلا تقاس حالة الاضطرار في القتال
على حالة السعة في السلم، والكلام في غير الضرورات، فلا مستند لهم
فيما يقولون، والله تعالى أعلم.
حكم نقل الدم
هنا مسألة، وهي حكم نقل الدم، ونقل الدم لا يكون إلا من إنسان إلى
إنسان، ودم الإنسان نجس كما تقدم في أنه يغسل، وكما تقدم في
الاستحاضة، ونصوص العلماء كثيرة في هذا. ومسألة نقل الدم وجدت في
الوقت الحاضر، ولم تكن موجودة في السابق. وقد اختلف العلماء في
حكمها. فقوم قالوا: لا يجوز استعماله أبداً؛ لأن الدم نجس، ولا
يجوز استعمال النجاسة في دواء ولا في غيره. والآن -والحمد لله-
كتبت رسائل، وألفت مؤلفات في هذا الموضوع، ولكن من الجانب الطبي،
أما من ناحية الإباحة والمنع فكان مما حدث في بعض نوادي الجامعة
الإسلامية أن سأل سائل: هذا الدم الذي ننقله لإنسان آخر حلال أم
حرام؟! فتكلم المشايخ -جزاهم الله خيراً- وكل تكلم بما قد حضره،
والشيخ الأمين -يغفر الله له- ساكت ما تكلم، ولا بشيء، فسأله
الشيخ ابن باز رحمه الله: أراك -يا شيخ- ساكتاً لا تتكلم! قال:
نعم -يا سماحة الشيخ- فماذا أقول، ليس عندنا آية من كتاب الله، ولا
حديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع الجديد؟
فقال: ولكن لابد من القول، ولابد للإنسان المسلم أن يعرف أقوال
العلماء في هذه الحالة، فلا نقول: الإسلام قاصر. بل ويجب أن نجتهد.
فقال: إن كان ولابد فإننا نجد القرآن الكريم قرن الميتة بالدم في
التحريم كما قال تعالى: ، حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3]،
ووجدنا القرآن الكريم يأتي بالرخصة في أحد المقترنين، وهي الميتة،
قال تعالى: فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173]،(1/78)
فإذا جاءت الرخصة في المحرم أو أحد المحرمين، -وهي الميتة- للضرورة
كما قال تعالى: فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173]،
فإذا جاءت نقول: قرين الشيء يأخذ حكمه، فنقول: الدم قرين الميتة،
فإذا وصلت بإنسان حالة شبيهة بحالة المخمصة التي يضطر فيها الجائع
لأكل الميتة إنقاذاً لحياته، ويأثم إن ترك الأكل فكذلك أيضاً في
نقل الدم؛ لأنها ضرورة تعادل تلك الضرورة، وإنقاذٌ لحياته، فيباح
نقل الدم. قال الشيخ ابن باز : ماذا نريد أكثر من هذا؟! ومهما
بحثنا فلن نجد أحسن من هذا، فهذا يكفي. وهناك قرار لهيئة كبار
العلماء جاءت فيه أبحاث عديدة في التشريح والدم ونحوهما. وهل
يتعاطى ثمناً للدم الذي أعطاه المعطي أم لا؟! قالوا: الجواب: لا.
لأن الدم لا يباع، ولا يؤخذ ثمنه، ولكن يمكن أن يُكْرَم المعطي
للدم من الطعام ومن الشراب ما يعوضه شيئاً من ذلك، فيشترى له ما
يطعمه، وما يشربه من العصير، أو من الأشياء المباحة التي تعوض جسمه
نشاطه، ونحو ذلك. وعلى هذا أصبح موضوع نقل الدم قضية -كما يقولون-
شائعة، وفتحت بنوك الدم، واتسع فيها بعض الناس، وأصبحت تجارة، ولكن
موقف الإسلام من هذه القضية أنه يباح للضرورة.
الطريقة الشرعية في تطهير دم الحيض
وقوله صلى الله عليه وسلم: (تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه ).
أي: تفرك اليابس، و(تقرصه) أي: بين يديها، و(تنضحه) أي: تغسله بعد
هذا فهذه ثلاث مراحل في كيفية تطهير الثوب من دم الحيض. ولا يوجد
أحد يخالف في نجاسة دم الحيض أبداً حتى اليوم، وإنما الخلاف في
الدم المسفوح. قال العلماء: هذا نص صحيح صريح في وجوب غسل دم الحيض
حين يصيب الثوب، والغسل يكون ببذل الجهد في إزالة النجاسة: فأولاً:
بالحت إن كان يابساً، وغالباً الدم يكون له جُرم. وثانياً: بالقرص،
أي: تدلكه بأصابعها مع الماء. وثالثاً: بالغسل، ثم بعد ذلك تصلي
فيه.
حكم أثر الدم الباقي في الثوب بعد تطهيره(1/79)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت
خولة : يا رسول الله! فإن لم يذهب الدم؟ قال: (يكفيكِ الماء،
ولا يضركِ أثره ) أخرجه الترمذي وسنده ضعيف]. هذا السؤال
تتمة للموضوع الأول، فإذا حتتنا وقرصنا وغسلنا وبقي اللون -خاصة
إذا كان الثوب أبيض؛ فإن البياض قليل الحمل للدنس- فماذا نفعل؟
قال: ( يكفيك الماء لا يضركِ أثره )، فافعلي هذه الأوامر، فالله
تعالى يقول: لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
ويذكرون عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت إذا حتّت
وقرصت ونضحت ولم يذهب اللون تأتي بالزعفران، وتبله في الماء، وتأخذ
ماء الزعفران وتصبه على محل الدم. قالوا: تريد أن تغير لون النجس
بلون الطاهر، ولكن هذا لمن أراد أن يصبغ ثوبه كله بالزعفران، وليس
هذا من باب التكليف، فهذا فعلها رضي الله تعالى عنها، والرسول صلى
الله عليه وسلم لم يأمر به. ويهمنا أنه صلى الله عليه وسلم أرشد
إلى الحت، ثم القرص، ثم غسل الماء، وقال الفقهاء: إذا كان يمكن
استعمال الحواد -والحواد: جمع حاد، وهو الشيء الكيماوي الحار الذي
يذهب اللون، مثل الصابون، ومثل النخالة، ومثل الدقيق، ومثل الأشنان
وغيرها، فكل هذه عوامل تنظيف يعرفها الناس- فإذا لم يذهب الأثر
وكان عندك صابون فهل يتعين استعماله تبعاً لهذا التشديد -أي الأمر
بالحت والقرص ثم النضح- وهل يعد استعمال الصابون من بذل الجهد, وقد
يكون فيه كلفة على المساكين؟ وهل نطالب باستعمال منظف مزيل لا يؤثر
على صبغ الثوب ولا على قماشه، أو ليس ذلك بلازم؟ والجواب: يجب أن
نستعمل ما يمكن استعماله بدون كلفة، وبدون مشقة، وبدون تأثير على
عين الثوب، والله تعالى أعلم. فجمهور العلماء من السلف والخلف
يقولون: إن جميع الدماء نجسة. وقد جاء عند البخاري وعند مسلم حديث فاطمة بنت قيس في الاستحاضة. والبخاري ومسلم ذكرا(1/80)
حديثها في كتاب الطهارة والنجاسة ليبينا أن دم الاستحاضة نجس كدم
الحيض، أو أن الدم نجس بصفة عامة، ثم أعادا نفس الحديث في باب
الحيض والاستحاضة ليستدلا بذلك على أن دم الاستحاضة ملحق بدم
الحيض، ودم الاستحاضة دم مسفوح؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم:
(إنما ذلكِ عرق )، واستدلوا بالآية الكريمة: إِلَّا
أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]،
فقالوا: جمع في هذه الآية بين تحريم الميتة والدم المسفوح، والميتة
نجسة كما تقدم التنبيه على ذلك في حديث ميمونة : (لو أخذتم
إهابها فانتفعتم به -أو: فدبغتموه فانتفعتم به؟!- فقالوا: إنها
ميتة. فقولهم: (إنها ميتة) ) يستلزم أن الميتة نجسة، فتنجس
الإهاب تبعاً للميتة، وأقرهم على هذا الفهم، وأجابهم عنه، وأخبرهم
أنه يطهرها الدباغ. وعلى هذا فالدم المسفوح نجس بدلالة اقترانه
بالميتة، ولذلك حرم أكله، وحرم بيعه، وحرمت الاستفادة منه في أي
شيء.
خلاف العلماء في تقدير الدم المعفو عنه
يبحث العلماء المتقدمون فيما يعفى عنه من النجاسات، ولم يعف عن شيء
إلا عن قليل الدم. وقليل الدم وكثيره اختلف العلماء في تقديره،
فمنهم من يقول: قليل الدم هو ما كان في حجم الدرهم البغلي. والدرهم
البغلي كان درهماً نقدياً، صكه رجل يهودي اسمه: (البغل)، وكان في
الدولة العباسية، وكان يصك الدراهم للخلفاء العباسيين، خاصة
للمناسبات. وبعضهم يقول: هو بقدر ما يرى في ذراع أو في ساق الحمار
أو البغل من الداخل على هيئة دائرة سوداء تعادل الريال السعودي
تقريباً، وهناك من أبعد في ذلك وقال: كربع الثوب ولكن هذه مجازفة
كما يقول أصحابه. وجاء في الموطأ عند مالك رحمه الله في باب
الرعاف أن ابن عمر رضي الله عنهما كان ربما رعف في الصلاة بدم
قليل، فيفتله بين أصابعه ويمضي في صلاته، وربما فقأ البثرة في وجهه
-أي حب الشباب- فتخرج القطرة والقطرتان، فيمسحها بأصابعه ولا(1/81)
يغسلها. وجاء عن سعيد بن المسيب أنه رعف في الصلاة فاستلقى على
ظهره لكثرته، ثم خرج فغسل عنه الدم. وجمهور علماء المسلمين يقولون:
إن الدم نجس، ويعفى عن قليله، ولكن لماذا لا يعفى عن قليل النجاسات
الأخرى؟! قالوا: لأن بقية النجاسات الأخرى يمكن الاحتراز عنها، وقد
جاء في حديث صاحبي القبرين: (كان لا يتنزه من البول )، أما الدم
فقالوا: الإنسان عبارة عن قربة دم، وفي كل موضع من جسمه يوجد دم،
فمن الصعب أن يتحفظ الإنسان من دمه، وقاسوا عليه دم غيره. ومجموع
هذه الأحاديث تابع للتدليل على نجاسة الدم، وبعد أن نمر عليها
سنعود إلى قول من يقول بطهارة الدم بعد أربعة عشر قرناً، ونبين
وجهة نظره والرد عليه. قوله: [وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله
عنهما] هي من أقارب بيت النبوة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن
دم الحيض. وقولها: (دم الحيض يصيب الثوب ) مثل الثوب الفراش،
وكل شيء يمسه.
( كتاب الطهارة - باب الوضوء [1] )
عناصر الموضوع
1 مشروعية الوضوء
2 المنهج العملي أنجح طريق في التعليم
3 من أحكام الوضوء
4 الترتيب في الوضوء
كتاب الطهارة - باب الوضوء [2]
لقد أمرنا الله في محكم كتابه بالوضوء إذا قمنا إلى الصلاة، وذكر لنا
أعضاء الوضوء جميعها على سبيل الإجمال، وجاءت السنة مبينة لكيفية هذا
الوضوء، وما هو حده في الأعضاء، وما هو الركن منها والواجب والمسنون،
وجاء حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه في صفة الوضوء جامعاً جل هذه
المسائل من خلال التطبيق العملي للوضوء أمام الصحابة والتابعين.
مشروعية الوضوء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف
رحم الله: [وعن حمران (أن عثمان دعا بوضوء، فغسل كفيه ثلاث
مرات، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل
يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم اليسرى مثل ذلك، ثم مسح(1/82)
برأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم اليسرى مثل
ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي
هذا ). متفق عليه]. أصل مشروعية الوضوء الكتاب والسنة والإجماع،
فجاء في الكتاب في قوله سبحانه: فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]،
وهكذا جاء القرآن بالأمر بغسل هذه الأعضاء الأربعة، ولكن سنجد في
صفة الوضوء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصور والكيفيات ما
هو زائد عن كتاب الله، فالزائد عن كتاب الله نسميه سنة، والسنة من
الوحي، كما جاء عن السيوطي أنه قال: الوحي وحيان: وحي أمرنا
بكتابته، وتعبدنا بتلاوته الحرف بعشر حسنات، ووحي لم نؤمر بكتابته،
ولم نتعبد بتلاوته، ألا وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم. واستدل
بقوله سبحانه: وَمَا
آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7].
فما يأتينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواءٌ في الوضوء أم في
الصلاة فإنه وحي، ويجب العمل به على مراتبه، ولا يحق لأحد أياً كان
أن يزيد أو أن ينقص، وليس لإنسان أن يرد سنة جاءت عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ويقول: لم نجد هذا في كتاب الله! بل كل ما جاء به
رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتت الرواية عنه به فهو في كتاب
الله، أو فهو من كتاب الله، كما جاء عن عبد الله بن مسعود أنه
كان في المسجد وحدث، فمما جاء في حديثه تلك الليلة قوله: (لعن الله
في كتابه الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة)، فمرت امرأة
ووقفت فسمعت هذا وذهبت، ثم جاءت ووقفت عليه في حلقته وقالت: لقد
قرأت القرآن من دفته إلى دفته فلم أجد ما قلت فيه! فاحتجت عليه
بالقرآن، فقال: لو كنت قرأتيه لوجدتيه، فلم ينف عنها القراءة، لكن
أخبرها أنها لو قرأته بإمعان وتأملت كل ما فيه لوجدت ذلك، ثم قال
لها: ألم تقرأي قوله تعالى: وَمَا(1/83)
آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]؟
قالت: بلى. قال: هذا مما أتانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقام الشافعي رحمه الله في مكة وقال: ايا أهل مكة! أنا من
الراسخين في العلم -وهذه دعوه كبيرة والله- سلوني عمَّا شئتم أجبكم
عنه من كتاب الله فقام رجل -وكما يقال: لا يفل الحديد إلا الحديد-
فقال: أخبرنا عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه في كتاب الله؟
-الزنبور: الدبور مثل النحلة، ويلسع أشد منها- فقال: نعم. يقول
الله سبحانه وتعالى: وَمَا
آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]،
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
المهديين من بعدي ) -فالقرآن أحاله على رسول الله والرسول أحاله
على سنة الخلفاء الراشدين- ثم قال: وحدثني فلان عن فلان -وذكر
السند- عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن المحرم
يقتل الزنبور ماذا عليه؟ قال: لا شيء. فلا شيء عليه في كتاب الله.
وإنما أتيت بهذه المقدمة لأن هناك أموراً تعبدية ليس لنا فيها طريق
إلا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم هي مراتب من الندب
إلى الإيجاب، فما جاءنا لا ينبغي لعاقل مسلم أن يتردد في مشروعيته
وإن اختلف الناس في مرتبته من الوجوب إلى الندب إلى الاستحباب
فنبدأ هنا بهذا الحديث، ولعله أجمع الأحاديث في فروض الوضوء.
المنهج العملي أنجح طريق في التعليم
قثال: [ وعن حمران أن عثمان دعا بوضوء.] عثمان هو:
عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين، والرسول صلى الله عليه
وسلم يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء... )، وابن تيمية رحمه الله لما سئل عن صلاة الركعتين قبل الجمعة التي يفعلها الناس
قال: ليس لها أصل من فعل رسول الله لأن بلالاً كان يؤذن
والرسول يخطب حالاً فليس هناك فرصة لأدائها، والآن يؤذن المؤذن
وبعد فترة قليلة يصعد الإمام على المنبر، ثم يؤذن بعد ذلك بين يدي(1/84)
الإمام قبل أن يخطب، وهذه الفترة القليلة يقوم الناس ليصلوا فيها
ركعتين، فسئل ابن تيمية عن هذه الصلاة، فقال: ليعلم طالب العلم
أنها لا أصل لها في سنة رسول الله؛ لأنه ما كان هناك وقت، ولكن
طالب العلم إذا رأى العوام يعملونها، ويرى أنه إن أنكر عليهم ساءت
العلاقة بينهم، ولن يعودوا يقبلون منه النصح والتوجيه، وسيقولون:
هذا سيعطل السنة فإنه في نفسه لا يفعلها؛ لأنه طالب علم، ويعلم
أنها لا أصل لها، وإذا رآهم التمس لهم عذراً -وهي الطريقة والحكمة
والسياسة في الدعوة- من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( بين كل
أذانين صلاة )، وفي وهذا الحديث المراد بالأذانين من باب
التغليب، كالعمرين والقمرين، يعني: الأذان والإقامة، فبين كل أذان
وإقامة في الصلوات الخمس صلاة مسنونة، فالأذان الثاني هو لوقت
الصلاة، والأذان الأول الذي يقوم الناس بعده أذان أنشأه خليفة
راشد، فأصبح له حكم المشروعية، بدليل: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين من بعدي )، فاعتبره رحمه الله من تشريع
الخلفاء، وعذر العامة في ذلك. بينما بعض تلامذته حينما سئل عن
هاتين الركعتين قال: لا يفعلمها إلا أجهل من حمار أهله، فانظر إلى
الفرق بين الجوابين، وانظر إلى منهج الدعوة، وأنا أسمي هذا سياسة
الدعوة بالرفق والتماس الأعذار للعامة. والذي يهمنا قوله صلى الله
عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي )، فـ
عثمان رضي الله تعالى عنه ما جمع الناس وقال: أيها الناس!
هلموا أعلمكم وضوء رسول الله كان إذا توضأ فعل وفعل وفعل فهذا
يحتاج إلى عشرات المرات حتى يرسخ في عقول الناس، ولكن لما أراد
الطريقة المثلى -وهي الطريقة العملية المشاهدة- دعا بوضوء، فقال:
انظروا وتوضأ لهم على النحو الذي ساقه المؤلف، ثم قال: (رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا). وهكذا كان السلف
يتبعون هذا المنهج العملي من سنة رسول الله، وكان بعض الصحابة يأتي(1/85)
إلى الحي ويقول: ألا تريدون أن أصلي لكم صلاة رسول الله؟ فيصلي
لهم، وهذا أبلغ من أن يخطب فيهم عشرات المرات في كيفية صلاته؛ لأن
الذاكرة -كما يقولون- تأخذ بالعين أو المشاهدة أكثر مما تأخذ
بالسمع؛ لأن هذا يشترك فيه الإنسان والحيوان فسنة رسول الله
التعليم العملي، فقد صعد المنبر صلى الله عليه وسلم ووقف على
الدرجة الثالثة، فاستقبل القبلة وكبر، ثم قرأ الفاتحة وركع ورفع
وهو على المنبر -وكان ثلاث ردجات-، ثم نزل القهقرى -وهو محافظ على
استقبال القبلة- حتى وصل إلى الأرض، وتأخر حتى أوجد فرجة، وسجد في
أصل المنبر السجدتين، ثم صعد المنبر وفعل في الركعة الثانية كما
فعل في الأولى، ثم نزل القهقرى وسجد، ثم سلم، ثم قال: (صلوا كما
رأيتموني أصلي ). وكذلك في الحج، فما جاء وخطب وقال: افعلوا
وإنما حج وقال: (خذوا عني مناسككم ) مع أنه أيضاً في الفتوى كان
كلما سئل أفتى، لكن الأخذ المباشر الفعلي عنه هو الأصل. وهكذا نجد
المنهج التعليمي العملي المشاهد هو الطريقة المثلى، ولذا استن
أصحابه رضوان الله تعالى عليهم به صلوات الله وسلامه عليه، فأخذوا
يعلمون الناس عملياً، وهكذا انتقل الإسلام إلى الآفاق اقتداءً
وتأسياً بالمسلمين التجار ليس العلماء ولا الخطباء- فما يفعلون
يفعلون مثلهم. وهكذا في هذا الحديث نجد عثمان رضي الله تعالى
عنه يشرع في تعليم هؤلاء القوم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم
تعليماً عملياً. ونحن نشاهد الطفل الصغير حينما يرى أحد أبويه يصلي
فإنه يأتي ويحاكيه في الفعل، فيقف ويركع ويسجد، وقد يستقبل أباه في
صلاته لا يعرف القبلة من شرق أو من غرب، ولكن يحاكي، فتلك
المحاكاة، فلو أردت أن تقول له: افعل كذا وكذا لا يدرك ولا يحسن،
ولكن عندما يشاهدك يفعل، وهذه الطريقة فطرية. وما دمنا بصدد هذا
الأمر، فهناك حادثتان لا بأس بذكرهما: كنت أدرّس في معهد الأحساء،(1/86)
وجئت إلى باب صلاة الخوف، وقد كنت أثناء الدراسة عاجزاً عن فهم هذه
الصور، فكيف تكون جماعة، وكيف تركع جماعة، وكيف تأتي جماعة، وكيف
تذهب وكيف تجيء، وبعد التي واللتيا أدركت، فعلمت أني مهما بذلت من
جهد مع الطلاب ستكون حالهم كحالي، فعمدت إلى المنهج النبوي وقلت:
الرسول صلى الله عليه وسلم علّم أصحابه الصلاة على المنبر ولم
يعدها مرة ثانية، فأخذت طالباً وجعلته إماماً، وأخذت بعضاً من
الطلاب وجعلتهم مصلين، فكانت صورة أنها أغنتني عن تكرار الكلام
وإعادته. وأضحكني أن الإمام التفت إلي وقال: أنا أركع وأسجد وأصلي
ولا أرى ماذا يفعل ورائي، فهم تعلموا وأنا ما تعلمت، فقلت: والله
لك حق، فقدمت واحداً من الذين صلوا خلفه وجعلته في أحد الصفوف،
وأعدنا الصلاة من أجله هو، فما رجعت إليها بعد ذلك طيلة العام
الدراسي. الحادثة الثانية: أدركت أن هذا المنهج فطري حتى عند
الطيور، فلي قصة لا أدري أأسمح لنفسي أن أورد هذه القصة، أو لا
أوردها، ولكن ما دام أنها في سبيل التعليم فلا بأس بذلك. كنت آلف
الدواجن، وأربي دجاجاً وأرانب في البيت، فباضت دجاجة، وتركت لها
بيضها حتى أخرجت الفراريخ الصغار، وجعلت لها حجرة خاصة، فلما بدأت
الفراخ تمشي صارت تدور بهم في الحجرة، وفي يوم من أيام الشتاء في
ضحوة النهار إذا بالدجاجة تخرج من الغرفة، وتنزل إلى فناء الدار،
وهو منخفض عن الغرفة حوالي عشرة سنتيمترات، فكانت تأتي وتقفز،
وأولادها يقفزون وراءها، ثم تمشي فيمشون خلفها كما تمشي ثلة من
الجنود خلف قائدها، على خط منتظم تماماً، وأخذت تدور على أرض
الفناء وهم معها، ثم توسطت الفناء ووقفت، وأخذت تحرك منقارها وهم
يحركون مثلها تماماً، فتحرك أرجلها ويفعلون مثلها، ثم لما أخذت
الدفء من حرارة الشمس رجعت، ولما جاءت راجعة -وأنا أتابعها- أتت
إلى عتبة الغرفة وضمت أرجلها وقفزت، وهي تستطيع أن ترفع رجلاً(1/87)
وتؤخر الأخرى، لكن فعلت هذا لأجل أن يأتي الفراخ الصغار فتفعل
مثلها، فتضم أرجلها وتقفز لتدخل. فوقفت عند عتبة الباب من الداخل
تنظر إلى الفراخ كأنها تستعرضهم عند الدخول، وبقي واحد حاول أن
يحاكي إخوانه أو أمه فلم يستطع، فالعتبة عالية قليلاً، فنزلت مرة
أخرى وقفزت ثانية من أجله، فحاول فعجز، إذ ارتفاع الأرض مختلف مع
العتبة، فذهبت إلى تلك الجهة التي الفارق فيها قليل ووقفت عندها،
ووراءها هذا الفرخ، ثم ضمت رجليها وقفزت، فجاء يحاول فعجز. وأنا
خظت هذا الأمر، وكان عندي وصلة إسمنت مثل البلاطة بسمك ثلاثة
سنتيمترات أو أقل، فأخذتها ووضعتها في تلك المنطقة وأصبحت مثل
الدرجة، فنقص قدر ارتفاع العتبة إلى سنتيمترين، تأتي الدجاجة وتنزل
وتقفز على هذه البلاطة الصغيرة وتقف قليلاً، ثم منها إلى الغرفة،
فيأتي فرخها بسلامته، ويصعد بقفزتين في درجتين ويدخل، ثم تذهب به
مع بقية الفراخ. فأخبروني -بالله- بأي عقلية أو بأي منهج أو بأي
صفة تعلمت هذه الأم أن تعلم أولادها كيف يخرجون؟! أليست هذه طريقة
عملية مشاهدة تغني عن أي تعليم؟ فالهرة تمسك ولدها وتأخذه وتنقله،
لكن الدجاجة لا تفعل ذلك. فهذا مما زادني ثقة بضرورة اللجوء إلى
طريقة التعليم العملي، وهكذا نشاهد أبناءنا الصغار حينما يقلدون
الكبار في الصلاة، فيحاكي الطفل ولا يدري ما هي الصلاة، فلا يستقبل
قبلة، ولا يعرف وضوءاً، ولا يعرف أي شيء. فهذا المنهج العملي يجمع
عليه جميع علماء التربية بأنه أنجح طريق إلى التعليم.
من أحكام الوضوء
غسل الرجلين إلى الكعبين
قال: (ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين) عندما غسل يده تيامن، وغسل
القدمين أيضاً فيه تيامن، وفي الحديث: (كان صلى الله عليه وسلم
يعجبه التيامن في كل شيء )، وقد جاء الفعل في غسل اليدين
والرجلين مجملاً في الكتاب، فقال تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ(1/88)
إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]،
وليس فيه يمين ولا يسار، فبمقتضى عموم النص في الآية يمكن أن تبدأ
باليمين أو اليسار كما تريد، لكن بمقتضى تطبيق السنة تقدم اليمنى.
وقوله: (إلى الكعبين) الكعب والتكعيب والمكعب والكعبة والكواعب
مأخوذة من مادة واحدة، فالشكل المكعب ما استوى طوله وعرضه وعمقه،
فالمكعب: الجرم المتكعب الناتئ الذي يستوي طوله وعرضه وعمقه، ومنه
سميت الكعبة؛ لأنها توجد على هذا التكعيب وسط الخلاء، ومنه أن
الفتاة إذا ند ثديها وبرز على صدرها سمي مكعباً، فهو تكعب على جرم
مصفح، فكواعب على وزن فواعل (جمع فاعل)، وهي التي ند ثديها -أو برز
ثديها- وظهر للعيان. فما هما العظمان الناتئان اللذان يصدق عليهما
اسم الكعب؟ قال بعض العلماء: لو نظرت في ظهر القدم تجد أن فيه
عظماً ناتئاً عند عقد شراك النعل، فكل رجل فيها كعب واحد، فتغسل
إليه، ويكون غسل القدمين إلى الكعبين، ففي كل قدم كعب واحد، وهذا
يذكرونه عن الأحناف. لكن الجمهور يقولون: كل قدم فيها كعبان، وكل
رجل تغسلها إلى كعبيها. والكعبان عندهم العظمان الناتئان على جانبي
القدم في المؤخرة عند التقاء الساق بالقدم، وهذا ما تشهد له السنة.
فقد جاء في الإحرام أنه إذا لم يجد المحرم نعلين يلبس الخفين،
ويفعل كما قال صلى الله عليه وسلم: (وليقطعهما أسفل من الكعبين )،
وفي تسوية الصوف ومساواتها قال الراوي: يلصق أحدنا كعبه بكعب جاره
فهل سيلصق الكعب الذي فوق القدم بكعب صاحبه، أم العظم الناتئ عن
اليمين وعن اليسار؟ فالكعبان هل هما العظم الناتئ على ظهر القدم
كما يقوله الأحناف، أم العظمان الناتئان على جانبي الساق؟ والجواب:
العظمان اللذان على جانبي الساق. والكعبان غاية داخلة في المغسول.
غسل اليد اليسرى ثلاثاً إلى المرافق
قال: (ثم اليسرى مثل ذلك). أي: ثلاث مرات إلى المرفق.
مسح الرأس
قال: (ثم مسح برأسه) لفظة (مسح) تتعدى بنفسها، فتقول مسحت الزجاج،(1/89)
فتتعدى كلمة (مسح) بدون زيادة حرف، فهنا الباء جاءت ودخلت على
الكلمة، فيقولون: ما دام أن مادة (مسح) تتعدى بذاتها فلا حاجة إلى
مجيء الحرف، فنقول: وامسحوا رءوسكم فيحصل المسح، لكن مجيء الباء
يدل على وجود مادة وقع المسح بها، كأنه قال: وامسحوا بالماء
رءوسكم. بقي عندنا كيفية المسح والمقدار المجزئ في ذلك، فنجد من
يقول: الباء للإلصاق، أي: لشمول وتعميم الرأس كل، وبعضهم يقول:
الباء للتبعيض، نحو: اكتفيت بتمرة من كامل التمر الموجود فهل الباء
هنا في الآية الكريمة: وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]
للتبعيض، أم للإلصاق، أم هي لضرورة وجود ممسوح به يعلم بالرأس؟
تقول: مسحت الدهن بالرأس فنجد من يقول: الباء للتبعيض ويقول: أي
جزء من الرأس مسحت أجزأك. ونفس القضية في حلق الرأس، ونجد الآخرين
يقولون: تحلق مقدار الربع، ونجد بعضهم الآخر يقول: تحلق الأغلب،
فمالك وأحمد رحمهما الله يقولان بالأغلبية، وأبو حنفية يقول بكامل الرأس، وأبو حنفية رحمه يقول بالأكثرية، والشافعي رحمه الله يقول ببعضه. ومن غريب نوادر الفقه ما ذكره النووي رحمه الله في المجموع، حيث يقول: وقد أغرب بعض أصحابنا فقال: لو
مسح ثلاث شعرات أجزأه؛ لأنه أقل العدد وأغرب منه من قال: ولو مسح
بعض شعرة أجزأه ثم يقول: وكيف يكون بعض شعرة؟ قال: إذا طلى الرأس
بالحناء، وبرزت شعرة من تحت الحناء، ومسح الجزء الذي برز منها
أجزأه، ثم يقول: هذا من أغرب الأقوال. وسيأتي في باب الوضوء كيفيات
مسح الرأس عنده صلى الله عليه وسلم، ففي رواية: (فأقبل بهما وأدبر)
أي: بدأ بمقدم رأسه وذهب بكفيه إلى قفاه، ثم رجع إلى المكان الذي
بدأ منه. وسنجد أنه مسح بناصيته وكان عليه العمامة، فأتم على
العمامة، والناصية هي مقدم الرأس، وكانت عليه صلى الله عليه وسلم
العمامة، فأدخل يده تحت العمامة ومسح بالناصية، ثم أكمل المسح على
العمامة. وهناك صورة ثالثة أنه مسح على العمامة بدون الناصية،(1/90)
فلهذا قال الشافعية: مسح بعض الرأس يجزئ وكذلك الأحناف قالوا: مسح
الأكثر يجزئ ولكن الجمهور يجيبون عن ذلك بأنه لم يقتصر على
الناصية، ولكنه أكمل على العمامة. وهنا عثمان رضي الله عنه قال
حمران عنه: (ثم مسح برأسه). وذلك بعدما مضمض واستنشق ثلاثاً،
وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، وفي مسح الرأس
لم يذكر (ثلاثاً)، وهنا يأتي السؤال: هل المسح على الرأس يكون
ثلاثاً كبقية أعضاء الوضوء، أم مرة واحدة؟ وهنا أطلق، لكن إذا وجد
عندنا ما يقتضي أن المسح ثلاثاً انتقلنا إليه، وهنا لم يذكر عدداً،
ولم ينس ولم يخطئ، فما دام أنه ذكر العدد في كل أعضاء الوضوء فإنا
نأتي بالعدد في موضع ما جاء به، وحيث ترك العدد في موضع منه
تركناه، إلا إذا جاءنا نص في حديث آخر يقول: (ثلاثاً) فننظر هذه
الزيادة، وننظر فيمن زادها، فإن كان ثقة فزيادة الثقة مقبولة. وبعض
الشافعية يرى أن تثليث المسح كتثليث الأعضاء في الغسل، والجمهور
على أن المسح لم يرد فيه نص صحيح صريح بأن يكون ثلاثاً، وقالوا: لا
ينبغي أن يكون المسح إلا مرة واحدة. فنحن نعلم بأن الشعر لا يغسل
بالماء، فإذا كانت اليد مبلولة ومسحت الرأس ترى أثر الماء على
الشعر، ولو مسحت على الثوب لا تراه، ولو جئت بالمسح مرة ثانية أو
مرة ثالثة انقلب المسح إلى ما يشبه الغسل، ولهذا قالوا: المسح لا
يكرر؛ لأنك لو كررت المسح أصبح في صورة الغسل، والله سبحانه وتعالى
أمر في حق الرأس بالمسح وليس بالغسل.
الاستنشاق
قال: (ثم تمضمض واستنشق واستنثر). قوله: (استنشق) أي: سحب الماء
بأنفه بالنفس إلى الداخل، و(استنثر) أي: نثر الماء الموجود في
الأنف بنفسه من أنفه.
غسل الوجه ثلاث مرات
(ثم غسل وجهه ثلاث مرات) وبعض الناس يحاول أن يعرِّف الوجه، وكما
يقولون: تعريف المعروف صعب، فيقول: ما هو الماء؟ وما هو العمود؟
ومن الذي يعرف العمود تعريفاً منطقياً جامعاً مانعاً؟ فهذا صعب(1/91)
جداً، لكن الشيء المجهول يمكن تعريفه من خلال صفاته. قالوا: الوجه
من المواجهة، ويقابله القفا من: (يقفو إثره) فحد الوجه: ما يرى من
الغير عند مواجهته، فعندما تواجه إنساناً هل ترى قفاه؟ فالقفا ليس
من الوجه، وبعض الشافعية وغيرهم قالوا: حده معلم ومعروف، فحده
طولاً من منبت الشعر -يعني: ما بين نهاية الجبهة وأول الرأس ولو
كان أصلع- إلى أسفل الذقن، فهذا هو حد الوجه في الطول، وفي العرض
قالوا: ما بين شحمتي الأذنين، فالأذن ليس بداخلة، ولكن إلى حد
أوائل الأذن هو حد الوجه عرضاً. وبعضهم قال: حده إلى الصدغين، وهما
العظمان الناتئان بين نهاية الوجه وأوائل الرأس. وهذا قريب. ويريد
الفقهاء بهذا عدم الزيادة، فإذا كان في غسل الوجه لا يذهب يغسل
رقبته من فوق ومن الخلف، والرأس، بل يغسل على حد العضو المسمى
شرعاً وعرفاً.
غسل اليد اليمنى ثلاثاً إلى المرفق
قال: (ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات) بعدما غسل الوجه
ثلاث مرات بثلاث غرفات غسل يده اليمنى إلى المرفق، والقيد في
المرفق ليحدد الجزء المفصول من اليد، وفي أول الوضوء غسل كفيه،
والكفان من اليد، وبعض الناس يطلق اليد على الكفين فيقول: مد يدك
وخذ، واليد عرفاً تطلق على العضو المعروف يميناً ويساراً من
الأظافر إلى المنكب، فهذه كلها يد، ولكن أجزائها تسمى: الكف،
والرسغ، والساعد، والعضد إلى المنكب. ووجدنا الشرع في ذكر اليد
تارة يطلقها عن أي قيد، فتأتي السنة وتقيد، وتارة يقيدها بقيد
معين، فجاء في الوضوء قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]،
فالرسغ هو وصلة الكف بالزند، فهذا الذي يسمى الرسغ، والمرفق: هو
المفصل الذي بين الزند والعضد، أو الذراع والعضد، وسمي مرفقاً لأنك
تتكئ وترتفق عليه إذا طالت بك الجلسة، وفيه الرفق بالإنسان، فيساعد
الإنسان على الاستراحة والاتكاء على أحد الجانبين للراحة والارتفاق(1/92)
في الجلوس. وهنا قال: (إلى المرفق) فيقولون: جاءت اليد مطلقة في
التيمم في قوله تعالى: فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]،
ولم تأت بلفظ (المرافق)، فهل نحمل اليد المطلقة في التيمم على اليد
المقيدة في الوضوء ونتيمم إلى المرفق، أم أن هذا عمل مستقل، وهذا
عمل مستقل، ولا يقاس أحدهما على الآخر؟ أي: لا يحمل مطلق هذا على
مقيد ذاك؟ فالشافعي رحمه الله حمل اليد المطلقة في التيمم على
اليد المقيدة في الوضوء، وجعل التيمم إلى المرفق كما هو في الوضوء
إلى المرفق، والجمهور اقتصروا في اليد على ما جاءت به السنة، فضرب
بكفيه الأرض فمسح بهما كفيه ووجهه، فعرفنا أن اليد المطلقة في
التيمم حدها الكفين، فهنا جاءت اليد مقيدة. وكذلك جاءت اليد في حد
السرقة وقوله تعالى: وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]
مطلقة وليس هناك نص في تقييدها من القرآن، فجاءت السنة وعينت، ومن
هنا قالوا: السنة تقيد المطلق في الكتاب، وتخصص العام في الكتاب،
وقال تعالى: حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ [المائدة:3]
فأطلق فجاء قوله صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان )، فخصص
عموم الميتة وعموم الدم بالطحال والكبد، وبالجراد والحوت. فكذلك
هنا قيدت اليد في التيمم وقطع السارق بأنها إلى الكفين. وعلى هذا
النص: (إلى المرافق) هل في غسل اليدين نغسل المرفق -وهو محل
التحرك-، أو إلى حده ولا نتجاوزه؟ يقولون: ما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب، ولذا قالوا في غسل الوجه: أنتم قلتم حده إلى منابت
الشعر، وليس هناك حد مضبوط، ومنابت الشعر تختلف، فلكي يتأكد
المتوضئ أنه استغرق كامل الوجه لا بد أن يزيد ولو بقدر يسير ليتأكد
أنه استغرق حد الوجه، كما قال تعالى في الصيام: حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ
الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى
اللَّيْلِ [البقرة:187]،(1/93)
فهل -يا ترى- يأكل إلى ملتقى الخيطين، أم يترك من الليل جزءاً
يتأكد به أنه لم يتعد إلى النهار؟ وكذلك عند غروب الشمس، فهل عند
غروبها يأكل، أم يتأخر -ولو قليلاً- حتى يتأكد أنه استغرق النهار
بكامله؟ فيقولون: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فاستغراق
الصوم في النهار واجب، ولا يتأكد عندنا هذا الواجب إلا بترك جزء من
أوله ولو دقيقة واحدة، وأيضاً إضافة جزء من آخره ولو دقيقة واحدة؛
لنتأكد يقيناً أننا قد صمنا النهار كاملاً، وكذلك الوجه، فلكي
نتأكد يجب أن نزيد -ولو شيئاً يسيراً- عن الحد المعروف، فكذلك غسل
اليد إلى المرفق. لكن الوجه له حكم بذاته، قال تعالى: فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]،
واليد هنا جزء من عضو، فلها بداية وغييت بغاية هي النهاية، فهل
الغاية في الحد داخلة في المحدود أم خارجة عنه؟ هنا قال تعالى: فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]،
فهل المرافق داخلة في المغسول، أم هي حد الغسل ولا تغسل؟ فهذا
معنى: هل الغاية تدخل في المغيا أم تخرج عنه؟ فإذا جئنا إلى حكم
اللغة وجدنا أن هناك قاعدة، وإذا جئنا إلى الناحية الشرعية لجأنا
إلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين لنا، وقد جاء النص: (أدار
الماء على مرفقيه )، فهل أدخلهما في المغسول أم لا؟ والجواب:
أدخلهما. ونأتي إلى عرف اللغة: فعندما يكون عندك بستان فيه صف
نخيل، ويليه صف رمان، فإن قلت لإنسان: بعتك من صف النخيل إلى
النخلة العاشرة -والصف فيه عشرون نخلة-، فهل الغاية في هذا المبيع
-أي: النخلة العاشرة- من جنس المبيع، أم خارجة عنه؟ فهل اشترى منك
تسعاً والعاشرة خارجة عنه، اشترى العاشرة كذلك؟ والجواب أنها
داخلة. فإذا كان عندك صف نخيل فيه عشر نخلات، وبعده صف ليمون فيه
عشر شجرات، فقلت لإنسان: أبيعك هذا النخل إلى الليمونة الأولى فهل
الليمونة الأولى داخلة في المبيع بكلمة (إلى) أم خارجة؟ والجواب:(1/94)
خارجة فالذي أخرجها هو مغايرة الجنس، فهم يقولون: إذا كانت الغاية
من جنس المغيا فهي داخلة، وإذا كانت الغاية خارجة عن جنس المغيا
فهي خارجة عنه، والمرفق جزء من اليد، لكن ما دام أنه وضعت حدود نجد
هناك الخلاف، وجاءت السنة ورفعت هذا الخلاف. فقوله: (ثم غسل يده
اليمنى إلى المرفق) الغاية هنا داخلة، فإنه يغسل المرفق، مع أن
النص: (وأدار الماء على مرفقيه).
غسل اليدين إلى الرسغين ثلاثاً
قال: (فغسل كفيه ثلاث مرات). الكف: هو ما كان من أطراف الأصابع إلى
الرسغ، يقولون: سميت الكف كفاً لأنها تكف الأصابع داخلها؛ لأن
الأصابع تأتي منفرجة، وكف الشيء: ثناه، ويكف بها عن نفسه، أي: يدفع
الغير عن نفسه، قالوا: وتكفيه في حمل الأشياء الأخرى، ومنه: كفة
الميزان تحفظ الشيء وتتعادل معه. وفي الحديث المشهور: (إذا استيقظ
أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا
يدري أين باتت يده )، فهنا عثمان غسل كفيه ثلاثاً، فهل غسل
الكفين للحديث: (إذا استيقظ أحدكم من نومه)، أم غسل كفيه لأنهما
جزءً من أجزاء الوضوء وذاك غسل مستقل لا دخل له بالوضوء؟ والصحيح
الأخير، وهو أن غسل المستيقظ من النوم كفيه قبل أن يدخلهما في
الإناء عمل مستقل لا يحسب من أعمال الوضوء، وهنا عثمان ليس
مستيقظاً من نوم، فعثمان جاء إلى قوم وقال: ألا أتوضأ لكم
وضوء رسول الله؟ فلم يكن مستيقظاً من نوم حتى يحتاج إلى غسل الكفين
لاستيقاظه، فهنا غسل كفيه ثلاث مرات.
المضمضة
قال: (ثم تمضمض). (ثم) للعطف وللترتيب، فالأول كان غسل الكفين قبل
المضمضة، فلو قال: غسل كفيه ومضمض، فـ(الواو) لمقتضى الجمع
والتشريك، لكن (ثم) تدل على الترتيب والتراخي، وهذا التراخي أمر
اعتباري. وقال هنا: (غسل كفيه ثلاثاً ثم تمضمض)، ولم يقل: (ثلاثاً)
ولكن سيأتينا في حديث علي رضي الله عنه أنه مضمض ثلاثاً، وهل
يمضمض ثلاثاً بثلاث غرفات، ويستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات، أم يتمضمض(1/95)
ويستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات، أم يمضمض ثلاث مرات بغرفة واحدة
ويستنشق ثلاث مرات بغرفة واحدة؟ التفصيل في الكيفية موجود في أخبار
أخرى. فحديث عثمان هو الأصل الكلي للوضوء، والتفاصيل في غيره
من الأحاديث. والمضمضة يقال: إنها تحريك الماء في الفم ثم مجه، لا
أن يبلع الماء، والاستنشاق يكون بجذب الماء بالأنف، ثم نثره إلى
الخارج، وفيه حديث لقيط بن صبرة : (وبالغ في الاستنشاق إلا أن
تكون صائماً ) احتياطاً للصوم، حتى لا يسبق الماء إليه. وهنا
غسل الكفين عمل مستقل، ثم المضمضة والاستنشاق، ثم يلي ذلك غسل
الوجه ثلاث مرات، وهل المضمضة والاستنشاق كل منهما عمل مستقل
بذاته، أو أن المضمضة والاستنشاق جزء من غسل الوجه؟ فمنهم من قال:
أن الفم والأنف عضوان داخلان، وهما جزء من الوجه، فالمضمضة
والاستنشاق مقدمة تتمة لغسل الوجه، فيكون غسل الوجه شاملاً لهما،
وهما داخلان في قوله تعالى: فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]،
ويكون من ضمن الوجه الفم والأنف، فتكون المضمضة والاستنشاق واجبان؛
لأنهما جزء من الوجه. ومنهم من قال: الفم والأنف عضوان مستقلان،
وليسا بداخلين في الوجه، ويكون الوجه على الفرضية بنص الآية، وتكون
المضمضة والاستنشاق على الندب؛ لأنهما خرجا عن محيط الوجه، ولكن
القول بأنهما عضو داخلي أو عضو خارجي يقال في الصوم؛ لأن الماء إذا
وصل إلى داخل الجوف أبطل الصيام، والصائم يتمضمض ويستنشق، فهما
عضوان خارجان بالنسبة إلى الصوم. والآية اقتصرت على غسل الوجه،
والسنة النبوية جاءت بالمضمضة والاستنشاق، فبعضهم يقول: غسلهما
واجب يبطل الوضوء بتعمد تركه، وبعضهم يقول: ليس بواجب؛ لأن الواجب
جاء في القرآن بغسل الوجه، وبعضهم يخالف في الوضوء وفي الغسل،
ويقول: هما واجبان في الغسل مندوبان في الوضوء. ولكن ما دامت السنة
لم تنقل لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة واحدة وترك(1/96)
المضمضة والاستنشاق فلا ينبغي لإنسان أن يتعمد تركها. ولذا يقول
بعض العلماء: إذا كان الأنف والفم من الوجه، فلماذا لا يقدم غسل
الوجه ثم يتمضمض ويستنشق؟ قالوا: لا تقديم غسل الكفين -وإن كانا
مستقلين- لغرض، وتقديم المضمضة بالفم والاستنشاق بالأنف لغرض، أما
الغرض في غسل الكفين فليعرف درجة حرارة الماء، أما إذا لم يعرفه
وأخذه فجأة فإنه يلسعه بحرارته الزائدة، لكن الكفان يتحملان؛ لذا
أول شيء لا بد أن يعرف حرارة الماء بغسل الكفين. وأما المضمضة
فلقولهم: حكم الماء الطهور أن يسلم من الأوصاف الثلاثة التي تغيره
وهي الطعم واللون والرائحة، أما اللون فيعرف برؤية العين، وأما
الطعم فيعرف بالمضمضة، وأما الرائحة فتعرف بالاستنشاق، فكأنه
بتقديم الكفين عرف حرارة الماء، وهذا أمر مهم لصحة الإنسان،
وبتقديم المضمضة والاستنشاق عرف صفات الماء أنه طهور صالح، وليس
يداخله ما يسلبه الطهورية، وقد عرف اللون بالرؤية. والله تعالى
أعلم.
الترتيب في الوضوء
قال: (ثم اليسرى مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم توضأ نحو وضوئي هذا). هنا مسألتان: الأولى تتمة لهذا الحديث
عند غير البخاري ، أو غير المتفق عليه، وبنظرة إلى سرد أعمال
الوضوء في هذا الحديث يقال: هل يتعين على الإنسان أن يأتي بوضوئه
كما فعل عثمان ، فلا يقدم ولا يؤخر، أم له أن يقدم ويؤخر، ويغسل
يديه، ثم وجهه، أو يغسل وجهه ثم يتمضمض، أو يغسل قدميه ثم يمسح
رأسه، فهل الترتيب واجب في الوضوء أم غير واجب؟ إن الآية جاءت فيها
الواو، والواو لا تقتضي الترتيب، والحديث جاء فيه (ثم)، وهي على
الأفضلية، وحديث (ابدءوا بما بدأ الله به ) على الندب
والاستحباب، وذلك لما قالوا: من أين نبدأ بالسعي؟ قال: (ابدأوا بما
بدأ الله به ). وانظر إلى فقه الأئمة وما فتح الله به عليهم،
فالشافعي رحمه الله قال: ترتيب أعضاء الوضوء واجب في كتاب(1/97)
الله بدلالة الإيماء والتنبيه، وليس بدلالة النص الصريح. قال: أول
ما يفعل من الوضوء غسل الوجه، فلتكريمه ولمواجهته ولشرفه كان موضع
البداية، وفيه سلاطين الحواس السمع والبصر والفم وغيره فقدم، ثم
بعد الوجه غسل اليدين، ثم بعد اليدين مسح الرأس، فهل الأقرب
والمشابه والمجانس لليدين الرجلان أم الرأس؟ والجواب: الرجلان،
فاليدان يبطش بهما، والرجلان يسعى بهما. فيقول: لو أن الترتيب غير
واجب لأتبع المجانس بمجانسه، فيكون غسل اليدين أولاً، ثم الرجلين،
ثم مسح الرأس، فلما جاء بممسوح بين مغسولين -وهذا حكم مغاير-،
وأدخل أجنبياً بين متجانسين عرفنا أن موضع الرأس هنا لا يجوز
تقديمه ولا تأخيره، وكذلك بقية أعضاء الوضوء، فانظر كيف أتى بها!!
فهل نستقل بعقولنا أم نرجع إلى عقول العلماء؟! وجاء في رواية تتمة
للحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم
صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه )،
فترتب على هذا الوضوء الكامل الإسباغ الوافي أنه إذا صلى ركعتين
ليستا من الفرائض ولا من النوافل الراتبة، وكان فيهما حاضر القلب
وليس مشغولاً بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه. ويقول ابن دقيق العيد أو غيره: ولو خطر على قلبه خاطر فدفعه فهو داخل في هذا المعنى،
فالمهم أنه لا يسترسل مع تلك الخواطر. وبالله تعالى التوفيق.
( كتاب الطهارة - باب الوضوء [3] )
عناصر الموضوع
1 أحكام متعلقة بالوضوء
كتاب الطهارة - باب الوضوء [4]
لقد حث رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام على ما يرفع الدرجات ويزيد
في الأجر، فكان مما أرشد إليه إسباغ الوضوء وتخليل الأصابع واللحية،
والمبالغة في الاستنشاق، وهذه الأفعال من أسباب كمال الوضوء وحسن
النظافة وزيادة الأجر.
أحكام متعلقة بالوضوء
إسباغ الوضوء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين
سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:(1/98)
فيقول المؤلف رحمه الله: [ وعن لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أسبغ الوضوء، وخلل بين
الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ) أخرجه
الأربعة، وصححه ابن خزيمة ] . وقوله: [وعن لقيط بن صبرة ]
يقال: (صبُرة) بالضم، وقيل : (صبِرة) بالكسر. قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وبالغ في الاستنشاق
إلا أن تكون صائماً ) هذا الحديث في جملته من أهم أحاديث
الوضوء؛ لما فيه من الحث على إسباغ الوضوء، والإسباغ: التعميم، كما
قال تعالى: أَنْ
اعْمَلْ سَابِغَاتٍ [سبأ:11]
أي : دروعاً سابغات تغطي مواطن الخطر على الإنسان عند القتال، ولما
سئل صلى الله عليه وسلم عن صلاة المرأة : (أتصلي المرأة في درع
وخمار يا رسول الله؟ قال: نعم، إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور
القدمين ) وإسباغ الوضوء : هو تعميم العضو بالماء، حتى لا يبقى
فيه جزء لم يمسه الماء. وجاء في المقابل في غزوة تبوك أنه صلى الله
عليه وسلم نظر إليهم وهم يتوضأون سراعاً، فرأى في عقب واحد منهم
لمعة -أي: لم يصلها الماء-، فقال : (أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من
النار ) والأعقاب : جمع عقب، وهو مؤخر القدم. فعرفنا أن الإسباغ
هو التعميم، ومن هنا قالوا -كما تشدد في ذلك المالكية- تدليك
الأعضاء شرط في الوضوء، وقال آخرون : إن التدليك ليس شرطاً، وإنما
هو عامل تأكيد لوصول الماء إلى البشرة كلها، وجاءت السنة مبينة بأن
يتوضأ الشخص ثلاثاً؛ فتثليث الغسل فيما عدا الرأس مظنة تعميم الماء
على الأعضاء، أو تحقيق لإسباغ الوضوء. فهذا الحديث نص صريح:
(أسبغوا الوضوء )، ومن هنا يقولون : من اطلع على لمعة في عضو من
أعضاء الوضوء بعد أن صلى بهذا الوضوء عليه أن يعيد الصلاة؛ لأن
وضوءه ناقص، والوضوء شرط في صحة الصلاة، ولهذا كانت أهمية هذا
الحديث، وكان على الإنسان إذا أخذ يتوضأ أن يتمهل ويدلك، ويتأكد من(1/99)
وصول الماء إلى جميع أجزاء كل عضو من أعضاء الوضوء . وقوله صلى
الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء) في هذا استعمال اللغة المعنى
المحسوس للمعنى المعنوي، فأصل الإسباغ للمحسوسات من الثوب والدرع
ونحوه، فنقل إلى الوضوء ؛ لأن الوضوء أمر حادث بعد إيجاد اللغة
ووضعها .
تخليل الأصابع في الوضوء
قال صلى الله عليه وسلم: (وخلل بين الأصابع) هذا مناسب لما قبله؛
لأن من عملية إسباغ الوضوء أن تخلل بين أصابع اليدين والرجلين ؛
لأن العادة أن الأصابع قد تنطبق على بعضها -لا سيما أصابع
القدمين-، فتكون فرصة دخول الماء بين الأصابع قليلة، والتخليل
مأخوذ أيضاً من معنى محسوس، وهو عود الخلال، وكان الناس سابقاً
-خاصة من لم توجد في أرضهم أعواد الأراك لاستعمال السواك بكثرة-
كانوا يستعملون أعواد الخلال، وهو نبات ينبت أحيانا مع القمح، وهو
عبارة عن أعواد كأعواد الكبريت، وهي أدق منها، ولها ثمرة البذور في
أطرافها يداوى بها الكلى والحالب ونحو ذلك، وتلك الأعواد ملساء
ودقيقة مثل إبرة الخياطة، فكانوا يدخلونها خلال الأسنان في تلك
الفجوات لتنظف الفم وتقوم مقام السواك، وكانوا يختارونها دون غيرها
لكونها ملساء، ولدقتها ورائحتها، فكانت تعطر الفم مع النظافة.
فتخليل الأصابع إدخال الأصبع بين الأصبعين، مأخوذ من تخليل
الأسنان، فالتخليل والخلة أخذا منها، فلم يبق بين الأسنان ما يسع
مع عود الخلال عوداً آخر، وكذلك تخليل الأصابع، فإذا أدخلت الأصبع
بين الأصبعين لم يترك مجالاً لأصبع آخر؛ لأن الأصبع وصل إلى
الفجوات بين الأصبعين. ومن هنا قيل: الخليل: هو الصديق الوحيد للذي
اتخذه خليلاً وحيداً لنفسه ؛ لأن الخلة لا تسمح لصداقة غيره معه،
كما أن عود التخليل بين الأسنان لا يسمح لعود آخر معه، ومنه الحديث
: (لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر ، ولكن
الله اتخذني خليلاً )، والأنبياء كثر، وسيدهم وخاتمهم نبينا صلى(1/100)
الله عليه وسلم، ولكن لما جاءت الخلة لإبراهيم لم يكن هناك خليل
آخر لخليل آخر، وهكذا العادة بين البشر، فإذا اتخذ الإنسان خليلا
لم يبق في قلبه مكان لخليل آخر، إنما هو واحد فقط. والتنبيه على
التخليل على ما بين الأصابع مع إسباغ الوضوء هو لأن نعومة الأصابع
-وهي تلك المناطق اللينة- ربما يتراكم فيها شيء من العرق، أو ما
يخرج من الجسم، أو الدهون، خاصة أصابع القدمين، وإذا تراكم شيء من
ذلك كانت فيه مضرة على الجسم بسد المسام في هذه المناطق، فكان من
فطرة الإسلام ومن عناية النبي صلى الله عليه وسلم أن ينبه على تلك
الأماكن، وأن يؤكد على أن نظافتها جزءٌ من الوضوء، وإسباغٌ وتكميل
للوضوء. وذكر الفقهاء في كيفية التخليل صوراً هندسية الله أعلم
بها. قالوا : يجب أن يكون تخليل أصابع القدمين بخنصر اليد اليسرى
لا باليمنى، أما أصابع اليدين فكيفما كان، ولو أن يدخل الأصابع
بعضها في بعض، وسواءٌ أكان ببطن الكف أم بظاهره، فعلى أي صورة كانت
فقد حصل التخليل، إلا أنه في القدمين الغالب والعادة -خاصة لمن
يلبس الحذاء الساتر للقدم، أو الشراب- أن يكون بين أصابع القدمين
روائح، فقالوا: نظافة القذارة أو ما يعلق في الجسم مختص باليد
اليسرى، وأما ما عدا ذلك فهو لليد اليمنى، ولهذا قالوا: يكون تخليل
أصابع القدمين باليد اليسرى، وبالخنصر؛ لأنه أرفع الأصابع وأدقها،
وأيسر أن يمر وأن يخلل بين أصابع القدمين لتقاربها وتناسقها.
المبالغة في الاستنشاق عند الوضوء
قال صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق). يضيف صلى الله عليه
وسلم ما يتعلق بمدخل من مداخل الجسم، وهو الاستنشاق، وضابطه: جذب
الماء بالأنف إلى داخله، والاستنثار :هو إخراج الماء من الأنف بعد
استنشاقه، أي : بالغ في نظافة الأنف. ومعلوم عند الناس أن الله
سبحانه جعل الأنف طريقاً للهواء، ويقولون : التنفس الصحي السليم أن
يتنفس الإنسان بأنفه لا بفمه، والفرق بين التنفس بالأنف وبين(1/101)
التنفس بالفم واضح عملياً؛ لأن المتنفس بفمه يأتي بالهواء من
الخارج عن طريق الفم إلى الرئة مباشرة، فإن كان في الحر فهو حاراً،
وإن كان في البرد فهو بارداً، وإن كان الجو فيه غبار فهو هواء
بغباره، ولكن الأنف نجد أنه مفتوح، وليس له مغلاق كالشفتين على
الفم، فالهواء داخل وخارج على مر الوقت، فجعل الله سبحانه -من
حكمته- في مداخل الأنف شعيرات، وهي عبارة عن مصفاة أولية لرد
الأجرام المحسوسة، ووراء الشعيرات المادة المخاطية ترد ما تجاور
منها ولو كان ضئيلاً فيلصق بتلك المادة، وما تعدى تلك المادة يأتي
إلى الخياشيم، والخياشيم لا تسمح لشيء يدخل إلا الهواء الصافي فقط.
ومن مهمة تلك المادة وتلك الشعيرات والخياشيم تكييف الهواء، فإذا
كان الهواء حاراً شديداً فإنه حين يمر بتلك المناطق يتكيف بالبرودة
بما يلائم داخل الصدر، وإذا كان الهواء بارداً شديداً مشبعاً
بالرطوبة والبرودة فعندما يمر بتلك المناطق فإنه يتكيف بالحرارة
التي تناسب الرئة. ومن هنا -ومن حكمة الله- لما كان طريق الهواء
-وهو الأنف- طريقاً مفتوحاً وفيه تلك العمليات من التصفية والتنقية
والتكييف كان لابد من العناية به في نظافته؛ لأننا إذا لم ننظف
الشعر والمادة والخياشيم انسدت تلك المسام، أو تعطلت فائدتها،
وأصبح الهواء يمر ولا يرده شيء . فعلى هذا كانت عناية الإسلام بهذا
المدخل الوحيد للهواء أشد ما تكون. ويقابل ذلك العناية بالمدخل
للطعام والشراب ألا وهو الفم فأمر صلى الله عليه وسلم بإسباغ
المضمضة، بل وشرع السواك، وقال : (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم
بالسواك عند كل صلاة )، ونحن ننبه على محاسن الإسلام وشموله،
ونقول :إن العالم الغربي كلما أمعن في الحضارة، وكلما ترقى في
المدنية فإنه يعتدل المسار به إلى الإسلام. أنا لنسمع بالأسبوع
الصحي، والعناية بالفم لأنه مدخل الطعام إلى الجسم، ومظهر صحة الفم(1/102)
مظهر من صحة الجسم وهذا بعد أربعة عشر قرناً، والرسول الكريم صلوات
الله وسلامه عليه يُعنى بذلك من أوائل البعثة، ويجعله جزءاً في
الوضوء، ومع كل وضوء، والإنسان يتوضأ خمس مرات أو أكثر في اليوم
والليلة . فعناية الإسلام بما انتبه إليه الغرب اليوم دليل شاهد
قوي على قدم وسبق وسمو حضارتنا الإسلامية على ما توصل إليه الغرب
بعد عشرات القرون، وعلى هذا يكون الحديث علما من أعلام السنة
النبوية، فمن المعجزات كون النبي صلى الله عليه وسلم يرشد إلى هذه
الجزئية الدقيقة في جسم الإنسان من باب الطب الوقائي قبل أن يقع
شيء من الأمراض بسبب الإهمال. ونجد هنا -من الناحية الأصولية-
الاحتراز في قوله صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستشناق إلا أن
تكون صائماً)، والمبالغة زيادة عن الحد المعتدل، كما يقولون :
الفضيلة وسط بين طرفين، فما نقص عن الوسط كان تقصيراً، وما زاد عنه
كان مبالغة. وهنا يحث صلى الله عليه وسلم على المبالغة، مع أنه لم
يحث على المبالغة في أي عمل من الأعمال، وجعل غسل الوجه ثلاثاً،
فليس هذا مبالغة بل هو تكرار، ويمكن أن يكون الاستنشاق ثلاثاً دون
مبالغة، والمبالغة هنا: أن يحاول أن يدخل الماء إلى داخل الأنف
ليستقصي نظافته، ولكن نجد الاحتراز، كما قيل : لكل مقام مقال،
والفتوى والعمل يجب أن تراعى فيهما أحوال الإنسان، فقوله: (وبالغ
في الاستنشاق) لأن هذا أدعى إلى النظافة أو استكمال الوضوء، كما
أنه جاء أن الشيطان يبيت على خيشومه. وقوله: (إلا أن تكون صائماً)،
أي: إن كنت صائماً لا تبالغ، ويكفيك الحد المعتدل بأن تستنشق الماء
بسهولة بدون مبالغة؛ لئلا يصل الماء إلى درجة لا تستطيع معها أن
تتحكم فيه، فيسبقك إلى الداخل وأنت صائم ممنوع من إدخال شيء إلى
جوفك . فالمبالغة مع الصوم تؤدي إلى إبطال ما هو أعم وأفضل وألزم .
وهذا الحديث أصل من أصول سد الذريعة، وهو أن تترك فعل الشيء الجائز(1/103)
مخافة أن تقع في فعل الشيء الذي ليس بجائز، أو تتسبب في حصول شيء
أكثر ضرراً من ذلك، كما جاء في الحديث أيضا: (من الكبائر أن يسب
الرجل أباه، قالوا: يا رسول الله! وهل يسب الرجل أباه؟! قال : نعم،
يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه )، فسبك لأبي غيرك ذريعة لأن يسب
أباك، فتكون كأنك سببت أباك. وجاء أيضاً في القرآن الكريم: وَلا
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا
اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]
أي : تكونون أنتم من سلطهم على سب الله عز وجل بسبكم لآلهتهم،
وأنتم غير مكلفين بهذا، ولكن تمنعونهم وتنصحونهم، ولا تسبوا آلهتهم
فتأخذهم الغيرة والحماس مما يجعلهم يسبون الله أيضاً. وهذا الحديث
أصل من أصول سد الذرائع في أصول الفقه،وهذا الذي ينبغي على الإنسان
أن يراعيه ولهذا قال العلماء فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر: إذا وجدت إنساناً على منكر، أو علمت بمنكر في مكان فتحمست
وقلت : يجب تغيير المنكر، ثم غفلت عما يجب مراعاته في قواعد الأمر
والنهي،فاقتحمت البيت بغير إذن - وليس لك حق في هذا؛ لقوله تعالى: لا
تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]،
وجئته بشدة وحماس وقلت له : يا جاهل يا فاعل فعند ذلك ينتصر لنفسه
ولو بالكذب، فيدخل حظ النفس هنا، فبدل أن كنت تريد نصحه لله في
إنكار المنكر سمعت سبه لك فأردت أن ترد عن نفسك، فأصبحت القضية
شخصية، وبعدت عن الأمر والنهي لله . وقال العلماء في هذا المعنى:
على الآمر أو الناهي أن ينظر في نتيجة ما يأمر به أو ينهى عنه، فهل
ستمنع هذا المنكر الموجود الذي يُنهى عنه، أو سيأتي بالفعل المأمور
المراد فعله بأمرك إياه؟ أو أن من تنهاه سيأتي ويعتبر ذلك إهانة
له؟ وخاصة إذا كانت أمام الناس، فتعتبر فضيحة وينتصر لنفسه، فيأتي(1/104)
بمنكر أكبر مما هو عليه، فيكون نصف من المنكر فجلب من المنكر أكثر
من ذلك، فالأولى أن تتكره على نصف المنكر. من هنا قالوا : على
الآمر الناهي المحتسب أن ينظر في عواقب الأمور، كما قال تعالى: قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]
فيدعو على بصيرة، وليس على البصر الذي يرى الأشياء المحسوسة
بالفعل، ولكن أصحاب البصائر النيرة هم الذين يرون ببصائرهم ما وراء
الواقع استنباطاً من الواقع، وليس علماً بالغيب، ولكن -كما قيل-
بصيرة، كما في الأثر: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه يرى بنور الله)،
فكذلك الداعي يجب أن يكون على بصيرة من أمره، فلو أنه ذهب إلى رجل
ينهاه فهل يتحمل أذاه؟ فإن قال: أنا أتحمل الأذى نقول : وإن كنت
تتحمل، فليس من اللازم أن تعرض نفسك لما تتحمله من غيرك. فهذا
الحديث أصل في سد الذرائع، سواءٌ أكان في الأعمال العادية، أم في
احتساب الأمر والنهي لوجه الله. والله سبحانه وتعالى أعلم.
المضمضة والاستنشاق وحكمها
قال رحمه الله تعالى: [ولأبي داود في رواية: (إذا توضأت فمضمض )].
حكم الاستنشاق في الوضوء في حديث لقيط ، حيث قال صلى الله عليه
وسلم : (أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وبالغ في الاستنشاق )
وأعتقد أنه قد علم بالضرورة أنه إذا لم يسبغ الوضوء فالوضوء ناقص،
وإذا كان الوضوء ناقصاً فالصلاة غير صحيحة، فإسباغ الوضوء واجب .
وأما تخليل الأصابع فإنه قد اتفق العلماء على أن تخليل الأصابع
سنة، فلو أنه توضأ ونسي -وقلنا: (نسي)؛ لأنه لا ينبغي لمسلم أن
يعلم سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ويتعمد تركها ؛ لأن هذا
تقصير وإهمال فإذا نسي أن يخلل أصابعه فالوضوء تام ومجزئ، لكن لا
ينبغي أن يترك ذلك عمداً. وأما الاستنشاق فبعض العلماء يقول بأنه
واجب؛ لأن الرسول أكد عليه بالمبالغة إلا في الصيام؛ لأن المحافظة
على الصيام أهم منه، وبعضهم يقول: إنه سنة من سنن الوضوء وهناك من(1/105)
نظر إلى الآية الكريمة فقال كما قال الإمام أبو حنيفة رحمه
الله : الآية الكريمة فيها قوله تعالى: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]،
قالوا: الوجه من المواجهة، والفم والأنف إن كانا من الوجه فالمضمضة
والاستنشاق واجبان؛ لأنهما من تتمة الغسل للوجه، وإن كانا مستقلين
فقد حصل غسل الوجه بدونهما. وقوم قالوا : هما من الوجه ولكن هل هما
عضوان ظاهران كالخد والجبهة، أو أنهما خفيان لأننا لا نرى ما
بداخلهما؟ فمن قال بوجوب الاستنشاق والمضمضة فلأنهما من تتمة
الوجه، كما في قوله تعالى : يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]،
ومن قال بأنهما عضوان مستقلان ولهما اسمان متميزان قال : الوجه
محدود بغيرهما . وعلى هذا يختلفون، ولكن الجمهور يتفقون على أن
المضمضة والاستنشاق واجبان في الغسل غير واجبين في الوضوء قالوا :
لأن هناك حديث علي رضي الله عنه: (تحت كل شعرة جنابة )، فكل
موضع يمكن أن يصل الماء إليه يجب أن يعمم بالماء عند الغسل من
الجنابة. ومن العلماء من فرق بين الغسل والوضوء، فجعل الاستنشاق
واجباً وجزءاً من الغسل، وليس واجباً في الوضوء . ويأتي المؤلف
رحمه الله بأثر بعد هذا، وهو: (إذا توضأت فمضمض)، فقوله: (بالغ في
الاستنشاق) أمر وزيادة، أمر بالاستنشاق وزيادة المبالغة، والمضمضة
ليس فيها مبالغة ؛ لأن حد المضمضة أن يأخذ الماء ويديره في فيه
بلسانه أو بالهواء، ثم يمجه، والفم له حدوده، وليس هناك زيادات،
ولكنه جاء بصيغة الأمر (إذا توضأت فمضمض)، فهذه صيغة أمر، ولهذا
فمن قال: إن المضمضة واجبة في الوضوء فلصيغة الأمر الوارد، ومن
قال: إنه لا تجب المضمضة قال: هذا الأمر للإرشاد والاستحباب. ولكن
لا ينبغي للإنسان أن يترك المضمضة والاستنشاق للوضوء من وضوئه،(1/106)
واستدلوا على تأكيد فعلهما في الوضوء بفعله صلى الله عليه وسلم؛
لأن كل من نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر المضمضة
والاستنشاق. والله تعالى أعلم.
حكم تخليل اللحية في الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [ وعن عثمان رضي الله تعالى عنه: (أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته في الوضوء ) أخرجه
الترمذي ، وصححه ابن خزيمة ]. بعد أن انتهى المؤلف رحمه
الله من الأمور كالخفية الأنف والفم جاء إلى الظواهر، فذكر أنه كان
صلى الله عليه وسلم -وهذا يدل على الدوام وعلى الاستمرار- يخلل
لحيته). والتخليل: هو إدخال شيء بين شيئين، وتخليل الأصابع: هو
إدخال الأصبع بين فجوات الأصابع الأخرى، وكذلك تخليل اللحية بأن
تدخل أصابعك خلال شعر الوجه، فقد كان صلى الله عليه وسلم كث
اللحية، وكان يخلل لحيته في الوضوء، وهذا الفعل منه صلى الله عليه
وسلم أقل ما يقال فيه قوله تعالى: لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ
يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
ولكن الفقهاء ناقشوا هذه المسألة، فعندما يكون الشخص أمرد لا لحية
له، وغسل الوجه، فإن الماء سيعم بشرة الوجه من منبت الشعر في
الجبهة إلى أسفل الذقن، ومن الأذن إلى الإذن، أي: أن الماء قد أسبغ
على الوجه كاملاً. عندما تكون اللحية موجودة وكثة فلاشك أن اللحية
ستحول دون ذلك، سواءٌ أكان الشعر جعداً، أم سبطاً، فإنه يحمل مادة
دهنية، فيمنع الماء أن يدخل من خلاله إلا إذا خللته أنت. وهنا يأتي
السؤال :مع وجود اللحية هل الفرض في غسل الوجه لا زال لبشرة الوجه،
أم ينتقل من بشرة الوجه إلى اللحية؟ وهذا كقوله تعالى: وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]،
فإذا كان الإنسان أصلع ومسح فإنه سيمسح جلدة رأسه، فإذا كان الشعر
كثيفاً ومسح فإنه سيمسح على شعره، والله تعالى يقول: وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]،(1/107)
فهو سيمسح شعر رأسه؛ لأن مسح جلدة الرأس أصبح متعذراً، يقول
الأصوليون: من قارب الشيء يعطى حكمه، ووجدنا جواز مسح الخفين بدلاً
عن غسل القدمين؛ لأنهما ساترين للقدمين، مع أن هذا مشروع مستقل،
لكن كان هذا تنظيرياً للمسألة . وهنا الواجب غسل الوجه، والوجه
أصبح مغطى بالشعر، فبعض العلماء يقول: يكفي مرور الماء على ظاهر
اللحية، كما يكفي مرور الماء على شعر الرأس، وهذه بتلك، وبعضهم قال
: لا، الوجه للغسل وهو آكد من المسح فعليك أن تعمل ما بوسعك،خلل
اللحية بمعنى: أن تدخل الأصابع خلال الشعر وهي مبللة؛ لأن الماء -
إن قلنا إن الشعر يجزئ عن بشرة الوجه -سيمر على الشعر الظاهر على
اللحية وباطن اللحية يأته شيء، فعندما تكون الأصابع مبللة وتدخلها
في خلال اللحية يتبلل من الشعر جزء أكبر، ولذا قالوا في تخليل
اللحية: أن يدخل الأصابع من أسفلها ؛ لأنه إذا أدخل الأصابع من
أسفلها تخلل الشعر، أما إذا أدخلها من أعلاها فيمكن أن ينثني الشعر
مع أصابع يده ولا تنفذ الأصابع بين الشعر كما تتمكن من النفوذ إذا
أدخلها من أسفلها. فيدخل الأصابع بين شعر اللحية من أعلى أو من
أسفل بيد واحدة، فهذا كاف في تخليل اللحية، وإذا كانت اللحية
شعيرات قليلة فليس هناك شيء يخلل، بل إن الماء سيصل إلى تحت اللحية
بطبيعته، والله تعالى أعلم.
دلك الأعضاء في الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [ وعن عبد الله بن زيد قال : (إن النبي
صلى الله عليه وسلم أتي بثلثي مد فجعل يدلك ذراعيه ) أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة ]. يروي لنا عبد الله بن زيد رضي الله
تعالى عنه مما رأى من وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بالماء
القليل، قال : (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بثلثي مد فأخذ يدلك
ذراعيه )، وثلثا المد يبينه العلماء بأن المد ربع الصاع، وتقدم
في الزكاة بأن الصاع خمسة أرطال وثلث على رأي الجمهور، وعند الإمام
أبي حنيفة رحمه الله ثمانية أرطال، وعلى قول الجمهور أنه خمسة(1/108)
أرطال وثلث فالصاع أربعة أمداد، فكم يكون مد الواحد؟ يكون المد
رطلاً وثلث رطل؛ فإن الرطل الباقي يقسم إلى ثلاثة أثلاث بالإضافة
إلى الثلث الآخر، فيبقى عندنا أربعة أثلاث، فتوزع على الأربعة
الأمداد، فيكون وزن المد رطل وثلث وأما المقدار الذي أتي به صلى
الله عليه وسلم فهو -تقريباً- نصف لتر. وقد جاء عنه أنه صلى الله
عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد)، وهنا :
(أتي بثلثي مد ) فمن كان من عادته الاقتصاد في الماء، فيتوضأ
بالمد ويغتسل بالصاع -والصاع: ثلاثة لترات -وهذا مبدأ في لزوم
الاقتصاد وترك التبذير، ولذا قال بعض الفقهاء: لا ينبغي للإنسان أن
يزيد في غسلات الوضوء على الثلاث التي جاءت بها السنة ؛ لأنه يكون
قد دخل في التبذير والمبالغة، والزيادة على ما جاء عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وكما قال رجل لأنس حين حدث بأنه صلى الله
عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، فقال: والله لا يكفيني!
فقال أنس : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفر منك شعراً )
وهذا يمكن أن يتأتى بالطريقة التي أشار إليها عبد الله بن زيد، حيث
قال: : (فأخذ يدلك )، والدلك أولاً يكون بقليل الماء ؛ لأن
البشرة إذا كانت جافة فإن الماء لا يتخللها، وربما كان هناك هواء
وفقاقيع، لكن حينما يمسحها ويدلكها بيده وهي مبللة فإنه إذا جاء
أدنى ماء جرى على اليد، وتعتبر تلك غسلة ولو بحفنة صغيرة، فالدلك
لأمرين: الأول: التأكد من غسل الذراع وشموله، وعدم وجود بياض ولمع
في عضو الوضوء . الثاني: الدلك ييسر عملية الوضوء بقليل من الماء .
والغرض من هذا الحديث أمران: الأمر الأول: الدلك في الوضوء، وبعض
العلماء شدد في الدلك في الغسل كالمالكية، حتى إن بعضهم قال: إذا
لم يستطع أن يعمم البدن بيديه يأخذ حبلاً. واليوم يوجد من أدوات
الغسل الشيء الكثير، فإذا أخذها وحركها من خلفه تأكد من وصول الماء(1/109)
إلى بشرته، فالمالكية يؤكدون الدلك في الغسل؛ لأنه تقدم حديث علي رضي الله عنه : (تحت كل شعرة جنابة )، أما في الوضوء فإنهم
يتساهلون في الدلك فيه. وهذا الحديث أصل في الدلك عند الوضوء، ولكن
ليست كل الأعضاء صالحة للدلك، فالوجه صالح للدلك، والرأس غير صالح
للدلك ولو بالغ في المسح لكان مكروهاً، ولذا قيل بأن المسح لا يكرر
ثلاثاً؛ لأنه إذا تكرر ثلاثاً ترك بللاً على الشعر يشبه الغسل،
والقدمان صالحتان للدلك، فقوله: (يدلك ذراعيه ) نقيس عليه فنتبع
الذراعين بالقدمين، وهذا أقل حد تبين من فعله صلى الله عليه وسلم
أنه توضأ به، فلو جاء إنسان -كما رأينا بعض الطوائف- وأخذ كأس
الماء الذي فيه ماء قليل، فجعل يتوضأ به يبل أصابعه في الكأس ويمسح
بهما على أعضاء الوضوء. فإن وضوءه لا يصح بهذا المسح، بل لابد من
الغسل، والغسل لا بد فيه من جريان الماء على العضو، أما المسح فقد
يجتزئ فيه بأن تكون الآلة التي يمسح بها مبللة، فيمرها على العضو
المراد مسحه، ولذا قال العلماء في الباء في قوله سبحانه : وَامْسَحُوا
بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]
قالوا: (مسح) تتعدى بنفسها وتتعدى بالحرف، فتقول: مسحت الزجاج،
ومسحت رأس اليتيم. فهي تعدت بنفسها فلا تحتاج إلى الحرف، لكن لما
جاء الحرف، فكما يقول الزمخشري : دلت الباء هنا على أن هناك
شيئاً يمسح به من دهن أو ماء أو نحوه فتكون اليد فيها شيء تمسحه
بالرأس وهو الماء، وعلى هذا: فالاقتصار في الوضوء على هذا المقدار
يخل بالوضوء، والزيادة، على المد الكامل وليس الثلثين يدخل في
الزيادة والتعدي أو التبذير. وجاء المؤلف رحمه الله بهذا الحديث
ليبين لنا أمرين: الأول : بيان أقل ما كان النبي صلى الله عليه
وسلم يتوضأ به. الثاني : بيان أن الدلك مشروع في الوضوء. وهذا
مناسب لما ذكر أولاً في حديث لقيط بن صبرة : (أسبغ الوضوء )
والإسباغ من ضرورياته الدلك، حتى لا تبقى لمعة أو محل يحول بين(1/110)
الماء وبين البشرة، والله أعلم.
مسح الأذنين وبم يكون
قال رحمه الله تعالى: [ وعنه رضي الله عنه (أنه رأى النبي صلى الله
عليه وسلم يأخذ لأذنيه ماءً غير الماء الذي أخذه لرأسه ) أخرجه
البيهقي ، وهو عند مسلم من هذا الوجه بلفظ : (ومسحهما بماء
غير قبض يديه )، وهو المحفوظ]. هذه صورة أخرى يسوقها عبد الله
بن زيد في صفة مسح النبي صلى الله عليه وسلم أذنيه، وفي هذا
الباب حديث عبد الله بن عمرو : (أن النبي صلى الله عليه وسلم
توضأ فمسح رأسه وأدخل السباحتين )، وسميتا بالسباحتين لأنهما
لتحركان عند التسبيح، وعند والتشهد، وعند لفظ (أشهد أن لا إله إلا
الله)، وإن كان الأحناف يعادون تحريكها في التشهد معاداة شديدة؛
لأنهم يدخلونها في أبواب التوحيد والجهة وغير ذلك. فأدخل السباحة
في أذنيه، وأدار الإبهام خلف الأذنين، وهذه الإدارة لأن خلف الأذن
أسرع ما يتراكم فيه العرق، حتى تجد أن بعض الحيوانات ما يظهر العرق
إلا حول أذنها وبعضهم يقول : خلف الأذن من الأسفل مقتل، فإذا أدار
الإبهام خلف الأذنين أزال ما تبقى من العرق، ومن مواد دهنية في تلك
المنطقة ؛ لأنها إذا تركت على ما هي عليه من العرق والمواد
الدهنية، وحصل جرح فإنه أبطأ ما يكون شفاءً؛ لأنها منطقة ناعمة لا
تتحمل، فالعلاج فيها بطيء، والجرح فيها سريع، وهذا من العناية.
فعني بالأنف كمجرى للهواء، وعني بالفم كمجرى للطعام، وكذلك عني
بتخليل نعومة الأصابع لليدين والرجلين، وكذلك عني بما وراء
الأذنين. وقوله: (مسح برأسه وأدخل السباحتين في أذنيه ) يفهم
منه أنه أدخل السباحتين بماء مسح الرأس، ولم يأخذ لهما ماء جديداً
ليدخلهما في الأذنين، فيكون مسح الأذنين مع الرأس عملية واحدة.
وهنا عبد الله بن زيد يخبر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أخذ ماء جديداً لمسح أذنيه، غير الماء الذي مسح به رأسه،
فالأذنان لهما ماء مستقل ومسحة مستقلة، وهنا يبحث الفقهاء في(1/111)
الحديثين، ويقولون: هل الأذنان من الرأس فيجزيهما مسحة واحدة، أو
أن الأذنين خارجتان عن حدود الرأس، ولهما مسحة مستقلة؟ والحديث
الأول يشعر بأنه مسح الأذنين بماء مسح الرأس، وهذا الحديث ينص على
أنه أخذ ماء جديداً، والعلماء رحمهم الله يجمعون بين الحديثين
فيقولون: إن كان الماء وافراً في يديه عند مسح الرأس فإنه يمسح
الأذنين بوفرة ماء الرأس، ولا يأخذ ماء جديداً، وإذا كان الماء ليس
وافراً عند مسح الرأس، وظن أن المسح على الرأس استنفد الماء الذي
في الأصابع أخذ ماء جديداً، وهذا هو الجمع بين الحديثين. والله
أعلم.
( كتاب الطهارة - باب الوضوء [5] )
عناصر الموضوع
1 مسائل في الوضوء
2 الاقتصاد بالماء عند الوضوء
3 بيان الذكر عند الانتهاء من الوضوء
كتاب الطهارة - باب الوضوء [6]
شملت أحكام الوضوء بعض الواجبات والسنن التي أوردها العلماء في باب
الوضوء، ومن هذه الواجبات والسنن: الاقتصاد في الماء، وترتيب أعضاء
الوضوء، وإسباغ الأعضاء بالماء، والذكر المسنون الذي يقوله العبد في
أول الوضوء وعند الانتهاء منه.
مسائل في الوضوء
ما يبدأ به من أعضاء الوضوء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله
وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن جابر بن عبد
الله رضي الله تعالى عنهما -في صفة حج النبي صلى الله عليه
وسلم-: قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا بما بدأ الله به )
أخرجه النسائي هكذا بلفظ الأمر، وهو عند مسلم بلفظ الخبر
]. يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث من صفة حج النبي صلى
الله عليه وسلم، ونحن في الوضوء، فما علاقة صفة الحج بأعمال
الوضوء؟ لقد أراد المؤلف رحمه الله تعالى الإتيان بعبارة جاءت في
صفة الحج صالحة لجميع الأعمال، فجاء بها إلى الوضوء، وهذا لأول
وهلة يعطينا فكرة عن المؤلف أنه يرى القياس؛ لأنه سيقيس أعمال
الوضوء على أعمال الحج بعموم القاعدة التي جاء بها من صفة أعمال حج(1/112)
النبي صلى الله عليه وسلم. والحديث فيه أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما حج قال: (ابدأوا) أو قال: (أبدأ) والفرق بين الروايتين هو
كسر الهمزة وإسناد الفعل إلى واو الجماعة، وفتح همزة القطع، فبكسر
الهمزة هو أمرٌ موجه للناس، وبفتح الهمزة هو إخبار عن فعله وإرادته
ورغبته فيما يفعل، وذلك في المتساويين: الصفا والمروة، فكلاهما
غاية في السعي، والمطلوب سبعة أشواط، فإن بدأت بالصفا وأتيت إلى
المروة كان شوطاً، وإن بدأت بالمروة وانتهيت إلى الصفا كان شوطاً،
فنحن نعد قطع المسافة بينهما شوطاً، ولكن النص هنا في البداية،
فإذا كان الصفا والمروة متساويين من حيث البداية إن بدأنا من هنا
أو بدأنا من هنا فهو شوط فمن أيهما نبدأ؟! فلما قال صلى الله عليه
وسلم: (ابدأوا بما بدأ الله به ) والله بدأ بالصفا كان المشروع
أن نبدأ بالصفا. فمن بدأ السعي بالمروة للشوط الأول وجاء إلى
الصفا، ثم رجع من الصفا إلى المروة يكون له شوط واحد، وهو رجوعه من
الصفا إلى المروة، والشوط الأول الذي بدأه من المروة إلى الصفا
يكون لاغياً؛ لأن المروة ليست محلاً لبداية السعي، فيكون فعله
الشوط الثاني في حسابه من الصفا إلى المروة هو الشوط الأول من
السبعة، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا)، سواءٌ أكان
أمراً والأمر يقتضي الوجوب، أم كان إخباراً، فقد أحال أيضاً على
فعله وقال: (خذوا عني مناسككم )، فهو بدأ بالصفا وقال: (ابدأوا
بما بدأ الله به ). وفي رواية (أبدأ) تكون قضية خاصة بالسعي؛
ولكن قوله: (بما بدأ الله به)، لفظة (ما) فيه موصولة، فيتعين إذا
كان هناك حكم والأعمال فيه متساوية، وتصح البداءة من أي واحد منها
أن نراعي البداية بِمَا بدأ الله به من هذه المتعددات، فيتعين أن
نبدأ منه؛ لأن العليم الخبير لا يقدم واحداً من المتساويات إلا
لحكمة، فنعمل بذلك، وقلتُ: وذلك ما لم يكن هناك مراعاة لجانب آخر،
كالترتيب الزمني. فمثلاً قوله تعالى: شَرَعَ(1/113)
لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى [الشورى:13]
فذِكْرُ نوح ثم ذِكْرُ إبراهيم وموسى وعيسى هو حسب الترتيب الزمني
أم لا؟ وإبراهيم هل هو حسب الترتيب الزمني أم لا؟ وهل هم متساوون
في الزمن أم مختلفون؟ والجواب: مختلفون. فترتيبهم الزمني كترتيبهم
في النص الذي جاء بإيرادهم، فروعي في ذلك الزمنُ. فأنت عندما تقول:
الله سبحانه شرع لنا من الأديان ما شرع للأنبياء من قبلنا عيسى
وموسى وإبراهيم لا مانع من ذلك؛ لأن التركيب جاء مراعياً للزمن،
وأنت لم ترد بيان التاريخ.
الآية وترتيبها لأعضاء الوضوء
أعضاء الوضوء المنصوص عليها في الآية الكريمة هي في قوله تعالى: إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ
إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]
وهذه الأربعة الأركان بالترتيب. فلو غسلتَ القدمين ثم مسحت الرأس
ثم غسلتَ اليدين ثم الوجه فإنك تكون أتيتَ بالأركان المذكورة في
الآية. وكما يقولون: (الواو) لا تقتضي الترتيب، ولكن تقتضي
التشريك. و(ثم) و(الفاء) هما اللتان تدلان على الترتيب والتعقيب،
أما (الواو) كمثل: (جاء زيد وعمرو)، و(زارني اليوم زيد وعمرو)، فلا
تعطي الأولية للذي جاء أولاً، ولا تفيد ترتيب مجيئهما إليك. فلما
كان الأمر كذلك أمكن البداءة باليدين ثم الرجلين ثم الوجه ثم مسح
الرأس، فكل هذا ممكن؛ لأنه لا يوجد نص فيما يتعلق بالترتيب. والآية
ذكرت الأعضاء الأربعة في نسق، فجاء الحديث لما سأله رجل: (من أين
نبدأ يا رسول الله؟ ) بياناً لما يبدأ به. بل كان هناك سؤال قبل
ذلك، فلما اقتربوا من مكة قالوا: يا رسول الله! من أين ستدخل مكة؟
ومكة لها مدخلان، كَداء وكُداء، وهما موقعان متقابلان، ولذا يقول(1/114)
بعضهم في هذا من باب الظرافة والدعابة: افتح وادخل، واضمم واخرج.
والمعنى: (افتح) تورية بفتح الباب، والمراد به (كَداء)، واضمم
واخرج أي: من (كُداء). فقالوا: من أين ستدخل يا رسول الله؟ وكان
أعلاها يسمى (كَداء)، وأسفلها يُسمى (كُداء)، وهي مداخل لمكة من
بين الجبال، فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يحيلهم على أمر أدبي،
وعلى نصرة الدعوة في الشعر الإسلامي، فقال: (انظروا ماذا قال حسان ! ). وذلك أنه هجا أهل مكة فقال: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير
النقع موعدها كَداءُ فحسان يتوعد أهل مكة بمجيء الخيول بكثرة،
وبكثرتها تثير النقع أي: الغبار، وموعدها؟ كَداء. فلما نطق الشاعر
المسلم الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه بأحد المتساويين أيده
رسول الله، وأيد شعره في نصرة الإسلام، وأمرهم أن يطبقوا قول حسان ، فدخلوا من (كَداء). ولما دخلوا مكة وطافوا بالبيت وأرادوا السعي
لقوله تعالى في الآية الكريمة: إِنَّ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ
الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ
بِهِمَا [البقرة:158]
سألوا رسول الله، فقال: (ابدأوا)، فهي جواب عن سؤال منهم رضي الله
تعالى عنهم لما رأوا الطرفين متساويين، وتصح البداءة من أيهما؛
ولكن كان الرسول موجوداً فسألوا: من أيهما تكون البداية؟ فقال:
(ابدأوا بما بدأ الله به ).
خلاف العلماء في الترتيب بين أعضاء الوضوء
ننتقل من السعي ووجوب البداية مما بدأ الله به -وهو الصفا- إلى
الوضوء. فلو قال قائل: كيف نتوضأ؟ وبم نبدأ؟ فالجواب: (ابدأوا بما
بدأ الله به)، والله بدأ في أعضاء الوضوء بالوجه. ومن هنا ذهب
جمهور العلماء إلى أن هذا النص يدل على ترتيب غسل أعضاء الوضوء كما
جاء في الآية. وإلى هنا تمَّ التشريع، وبقي الحكم، فهل هذا الترتيب
شرط في صحة الوضوء، أم أنه إذا غاير هذا الترتيب صح الوضوء؟(1/115)
فالأئمة الأربعة وجمهور العلماء يقولون: لا ينبغي مغايرة هذا
الترتيب. وبعضهم يحكي الإجماع بأنه لو غاير ذلك ناسياً وصلى فلا
إعادة عليه؛ لأنه أتى بالغسل المطلوب، و(الواو) في الآية لا تقتضي
الترتيب. ثم يذكرون عن علي رضي الله تعالى عنه في التيامن وفي
الترتيب أنه قال: (لا أبالي غسلتُ قدميَّ أولاً أو يديَّ أو وجهي،
إذا أكملتُ الوضوء). أما اليمين واليسار فيقولون: اليدان والرجلان
كالعضو الواحد، فأيهما غسلتَه قبل الآخر تَمَّ غسلهما إذا أوقعتهما
في مكانهما. وعلى هذا لم يقل أحد بأن مخالفة الترتيب الموجود في
الآية مبطل للوضوء قطعاً، إلا أنهم يجمعون على أنه السنة، ولا
ينبغي تعمُّد خلاف ذلك. وبعضهم -غير الأئمة الأربعة- يقول: إن تعمد
فلا وضوء له، وإن وقع منه نسيان فلا إعادة عليه. وإذا جئنا إلى
السنة النبوية -كما يقول الشوكاني و ابن القيم - فلم يؤثر
ولم يرِدْ عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن الخلفاء الراشدين -سوى
رواية علي ، وفيها ما فيها- أن أحداً توضأ عاكساً هذا الترتيب
الذي جاء في كتاب الله. فلا ينبغي عكسه، وإذا قسناه على بداية
الصفا والمروة فإننا نعتبر البداءة التي بدأ الله سبحانه وتعالى
بها. ثم من ناحية أخرى يقولون: لو نظرنا إلى أعضاء الوضوء الأربعة،
فأشرفها الوجه. فالوجه فيه خصائص تقدمه على غيره، فإذا بدأت بالوجه
نزلت بالترتيب إلى اليدين، لكنك تصعد إلى الرأس ثم تنزل إلى
القدمين. ومن هنا قال الشافعي : الترتيب واجب، فمن غير الترتيب
فإن وضوءه باطل. قال: لأن الله سبحانه غاير في تلك الأعضاء بين
المتشابهين أو بين القرينين، فاليدان والرجلان متناسقان، ففرَّق
بينهما، فأمر بغسل الوجه، ثم بغسل اليدين، وبإمكانه أن ينزل إلى
الرجلين؛ ولكنه أمر بمسح الرأس. فمجيء الرأس بين اليدين والرجلين
يدل على أن هذا محل مسح الرأس، فلا يقدَّم على اليدين، ولا يؤخَّر(1/116)
عن الرجلين. ثم قال من ناحية أخرى: اليدان مغسولتان، والقدمان
مغسولتان، والرأس ممسوح، فأدخل ممسوحاً بين مغسولين، فلِمَ لَمْ
يجعل المغسولات كلها في نسق وجاء بالممسوح وسطهما؟ فالشافعي رحمه الله لهذا الأمر قال: الترتيب واجب، ويستوي فيه العامد
والمخطئ، فمن نسي فأخلف الترتيب، أو تعمد فأخلف الترتيب فوضوءه
باطل. وبقية الأئمة رحمهم الله يقولون: إنما الترتيب هو الأكمل.
والشافعي هو الذي قال ببطلان الوضوء إذا اختل فيه الترتيب عن
نسقه في الآية الكريمة، مستدلاً بهذا على الترتيب الموجود في وضع
أعضاء الوضوء، ومستنداً أيضاً إلى قوله صلى الله عليه وسلم:
(ابدأوا بما بدأ الله به ). والله تعالى أعلم.
إدخال المرفق في غسل اليد
قال: [ وعنه رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا
توضأ أدار الماء على مرفقيه ). أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف
.. ]. هنا يأتي المؤلف رحمه الله ليبين لنا قضية لغوية وعملاً
شرعياً، فالآية الكريمة: فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة:6]
لم تطلق اليد عن القيد، بل قيدت غسل اليد بـ(إلى)، و(إلى) حرف
غاية، فجعلتا الغايةَ إلى المرفقين، والمرفق هو المفصل؛ لأنك ترتفق
به وتتكئ عليه، واللغة تقول: إذا كانت الغاية من جنس المُغَيَّا
فهي داخلة فيه، وإذا كانت الغاية من غير المُغَيَّا فليست داخلة.
كقوله سبحانه وتعالى: ثُمَّ
أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]
فهل الليل داخل في الصيام، أم هو خارج عنه؟ الليل مغاير للنهار،
وجُعل الصيام إلى الليل، فالليل خارجٌ عن منطقة الصيام، وإن كان
العلماء يقولون: يأخذ جزءاً من الليل تحقيقاً لكمال صوم يوم
النهار؛ لكن الليل من حيث هو ليس داخلاً في الصوم، ولذا يقول صلى
الله عليه وسلم: (إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا
فقد أفطر الصائم ). فلما كان الليل مغايراً للمُغَيَّا -وهو(1/117)
النهار، أو زمن الصوم- لم يكن الليل داخلاً. لكن هل المرفق داخل في
مسمى اليد أو أنه ليس بداخل؟ يقولون: إن كلمة (اليد) يدخل فيها
أطراف الأصابع إلى المنكب، وأجزاؤها مختلفة التسمية، فالأصابع
أولاً، ثم الكف، ثم الرسغ، فالزند، فالساعد، فالمرفق، فالعضد،
فالمنكب، فكل جزء في اليد أخذ اسماً مستقلاً، ولكن الجميع يدخل تحت
اسم اليد. فلما جاءت كلمة (اليد) وغييَ المطلوب غسله من اليد إلى
المرافق، كان المراد غسل اليد مع المرافق؛ لأنها جزء من الأيدي.
فجاء بهذا الحديث ليبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا
غسل يديه أدار الماء على مرفقيه، يعني: شمل المرفق بالغسل، فالمرفق
داخل في غسل اليد. والله تعالى أعلم.
التسمية عند الوضوء وخلاف العلماء فيها
قال رحمه الله تعالى: [ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله
عليه ). أخرجه أحمد و أبو داود و ابن ماجة بإسناد
ضعيف، و للترمذي عن سعيد بن زيد و أبي سعيد نحوه، قال
أحمد : لا يثبت فيه شيء ]. قوله: (لا وضوء) (لا) حرف نفي.
و(الوضوء): عمل محسوس بيِّن وهو غسل أعضاء معينة، والأعيان لا
يتوجه إليها النفي. فعمل الوضوء حاصل، فهو قد غسل وجهه ويديه إلى
المرفقين، ومسح رأسه، وغسل قدميه، فالوضوء حاصل. - فكيف نقول: (لا
وضوء) وهو متوضئ؟ قالوا: إن النفي يتوجه إلى أحكام الأعيان، أما
الأعيان بذواتها فلا تُنفَى. وعلى هذا قالوا: يجب أن يكون هناك حكم
مقدَّر يتوجه عليه النفي وهو: (لا وضوء معتبر)، أو (لا وضوء صحيح)
أو (لا وضوء كامل). وأي المعاني يقدر حتى يتوجه عليه النفي؟ بعضهم
قال: لا وضوء كامل. فالوضوء موجود، ولكن ليس بكامل، فإذا كان
موجوداً والمنفي الكمال، فتصح به الصلاة. وبعضهم قال: لا وضوء
معتبر. فيكون هنا المراد نفي الاعتبار، فلا تصح به الصلاة؛ لأنه(1/118)
أصبح كالعدم؛ لأن عدم اعتباره هو عبارة عن عدم وجوده، فلا يُعتد
به. ومن هنا عند اختلافهم في تقدير الوصف الذي يتوجه إليه النفي
وقع الخلاف. فإذا جئنا إلى الحديث فهو ضعيف، و أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: لم يثبت في هذا شيء، وكون الوضوء يُعتبر أو لا
يُعتبر، والصلاة يُعتد بها بهذا الوضوء أو لا يُعتد بها ليس بأمر
هين، بل يحتاج إلى أن يكون الحكم صادراً عن قاعدة ثابتة قوية. فلما
كان الحديث ضعيفاً فلا يمكن أن نبطل الصلاة بعدم ذكر اسم الله على
الوضوء إلا بحديث صحيح قوي يقاوم أهمية الوضوء وأهمية الصلاة، وما
وجدنا. ثم قالوا: هناك بعض النصوص، كقوله: (لا وضوء كامل ).
أورده الصنعاني . وبعضهم قالوا: هناك حديث: (من توضأ كما أمره
الله ... )، قالوا: لما أمرنا الله بالوضوء قال: (( فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ )) ولم يذكر تسمية. فأجيب عليهم: الأمر جاء مجملاً،
ولكن الرسول بيَّن! فقالوا: أثبتوا البيان ثم احتجوا به، فالذي
قلتم: إنه بيان هو ضعيف، ولا ينبغي أن نعول في أركان الإسلام
والأعمال على شيء ضعيف. ومن هنا لم يقل بوجوب التسمية على الوضوء
إلا الظاهرية. وبعض شُرَّاح الحديث ينسب لأحمد أنه قال: إذا
ترك التسمية عامداً بطل وضوؤه، وإن تركها ناسياً صح وضوءه ولا يعيد
الصلاة. وهذا القول يذكره ابن قدامة في المغني. فالرواية عن
أحمد ليست على العموم كالظاهرية، وإنما يفرق بين المتعمِّد
والناسي. والجميع -ما عدا الظاهرية وهذا التفصيل عند أحمد - على
صحة الوضوء ولو لم يذكر اسم الله عليه. وأهم ما في الموضوع هنا
-كما قال أحمد -: أنه لم يثبت فيه شيء، فلا نحكم على أحد ترك
التسمية ببطلان وضوئه، ولا ينبغي لأحد أيضاً أن يترك التسمية على
الوضوء ولو كان الحديث ضعيفاً؛ لأن غاية ما فيه أنه ذكرٌ لله على
هذا العمل، ويعتضد بصفةٍ عامة بحديث: (كل أمر ذي بال لم يُبدأ باسم
الله أو الحمد لله فهو أبتر )، فلا نجعل وضوءنا أبتر وأقطع، بل(1/119)
نذكر اسم الله عليه، ويتم لنا الأمر، والحمد لله.
الفصل بين المضمضة والاستنشاق
قال رحمه الله تعالى: [ وعن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده رضي
الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين
المضمضة والاستنشاق ) أخرجه أبو داود بإسناد ضعيف ]. إيراد
هذا الحديث في هذا المكان يورد عليه بعض العلماء شيئاً من وجهة
النظر في الترتيب؛ إذ كان ينبغي أن يذكر هذا مع المضمضة والاستنشاق
هناك. فقوله: (يفصل) الفصل: جعل كل شيء على حدة. والمضمضة
والاستنشاق جاء لهما صور عديدة: منها: أن يمضمض ويستنشق ويستنثر
بالكف التي أخذ بها الماء. ومنها: أن يمضمض ويستنشق بكف واحدة.
ومنها: أن يفعل ذلك ثلاث مرات بكف واحدة. ومنهاك أن يفصل بينهما.
فقوله: (يفصل بينهما) يحتمل أنه يأخذ كفاً واحدة فيتمضمض ثلاث
مرات، ثم يأخذ كفاً واحدة فيستنشق ثلاث مرات. فهذا فصل بين المضمضة
والاستنشاق. أو أنه يأخذ للمضمضة غرفة فيتمضمض، ثم يأخذ للاستنشاق
غرفة ويستنشق، ويفصل بينهما في أخذ الماء، فالمضمضة لها ماء مستقل،
والاستنشاق له ماء مستقل. فعلى كلتا الحالتين العمل صحيح، سواءٌ
أجمع المضمضة والاستنشاق من غَرفة واحدة بكف واحدة، أم أخذ لكل
واحدة غَرفة مستقلة، وسواءٌ أأخذ ثلاث غَرفات للمضمضة وثلاث غَرفات
للاستنشاق، أم ثلاث غَرفات لكل من المضمضة والاستنشاق يتمضمض
ويستنشق من كل غَرفة منهما معاً، وهذا نص في أنه يفصل بينهما. قال
رحمه الله تعالى: [ وعن علي رضي الله عنه في صفة الوضوء: (ثم
تمضمض صلى الله عليه وسلم واستنثر ثلاثاً، يمضمض ويستنثر من الكف
الذي يأخذ منه الماء ). أخرجه أبو داود والنسائي ]. هذه
الصورة الأخرى في رواية علي رضي الله تعالى عنه، وهي أنه يمضمض
ويستنشق ويستنثر ثلاثاً من الكف الذي أخذ به الماء)، يعني: من كف
واحدة يتمضمض بجزء من الماء، ثم يستنشق ببقية الماء في تلك الكف،(1/120)
ويستنثر بتلك الكف التي أخذ بها الماء، سواءٌ أكان أخذُه الماءَ
باليمنى، أم كان أخذُه الماءَ باليسرى، فيجمع المضمضة والاستنشاق
في غَرفة واحدة، ويستنثر الماء من الأنف بتلك الكف التي أخذ بها
الماء، ولم يعيِّن لنا أيَّ الكفين، أهي اليمنى أم اليسرى. والله
تعالى أعلم. قال رحمه الله تعالى: [ وعن عبد الله بن زيد في
صفة الوضوء: (ثم أدخل صلى الله عليه وسلم يده، فمضمض واستنشق من كف
واحد، يفعل ذلك ثلاثاً ). متفق عليه ]. يؤخذ من قوله: (فمضمض
واستنشق من كف واحد) أنه جمع بينهما، ففي حديث طلحة : (يفصل)،
وهنا: (يجمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحد). فسواءً جمعتَهما
أم فصلتَهما فلا حرج في ذلك.
وجوب إسباغ أعضاء الوضوء بالماء
قال رحمه الله تعالى: [ وعن أنس رضي الله عنه قال: رأى النبي
صلى الله عليه وسلم رجلاً وفي قدمه مثل الظفر لم يصبه الماء، فقال:
(ارجع فأحسن وضوءك ) . أخرجه أبو داود و النسائي ]. هذا
حديث (اللمعة) كما يقال، وهو متعلق بإسباغ الوضوء وترتيبه، فالنبي
صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً توضأ وعلى قدمه أو في عقبه لمعة مثل
الظفر -أي: قدر الظفر- وفي بعض الروايات: (قدر الدرهم)، أو يكون
معنى (مثل الظفر): لمعة كلمعة الظفر؛ لأن الظفر يلمع، والجلد إذا
غُسل وبقي جزء منه لم يُغسل صار أبيض يلمع؛ لأن الماء معدود في
الألوان السوداء، كما في باب التغليب، وفي الحديث: (الأسودان:
التمر، والماء )، فإذا غسل القدم أو اليد أو الوجه وتعدَّى
الماء عن جزء فلم يصبه كان كاللمعة وسط بقية العضو المغسول، فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع فأحسن وضوءك ). وفي بعض
الروايات: أعد وضوءك. وبعضها: أتمم وضوءك. فمعنى (أحسن) أن الوضوء
قبل ذلك كان ليس بحسن. وروي عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه
إذا كان شيئاً يسيراً فلا تأثير في الوضوء؛ لأن الحكم للأغلب. وعلى
رواية: (أتم) أو: (أعد) يكون ذلك نصاً في أن هذا الوضوء بهذه(1/121)
اللمعة غير تام، ولا تصح به الصلاة. ومن هنا أخذ العلماء وجوب
الموالاة بين غسل الأعضاء، لا أن يغسل وجهه، ثم يذهب ليشرب قهوة،
ثم يجيء ليغسل يديه، ثم يأخذ كتاباً ويقرأ فيه، ثم يمسح رأسه ويتكئ
حتى يستريح، ثم يقوم ويغسل قدميه. والموالاة مقياسها أن يغسل العضو
قبل أن يجف الماء عن العضو الذي قبله، فلو أنه غسل وجهه، ثم أراد
أن يغسل يديه، وكان البرد شديداً، فأخذ شيئاً يستر وجهه أو يمسح
بيده الماء عن وجهه ولم يجف، فغسل يديه، ثم مسح رأسه، ثم بعد أن
مسح رأسه لبس الطاقية أو العمامة، ثم ذهب وغسل قدميه. يعتبر ذلك
موالاة؛ لأنه لم يفرق بين العضو والذي قبله بزمن يجف فيه العضو
-كما يقولون- في الجو المعتدل مع الإنسان المعتدل، فهناك بعض الناس
عنده حرارة، فحالاً يجف الماء، وأحياناً في الشتاء يكون جفاف الماء
عن العضو ليس مثل الصيف، فقالوا: في الجو المعتدل. وموجب أخذهم
بالموالاة هنا أنه عندما غسل تلك الأعضاء، وبقيت لمعة في رجله أو
في يده أو في غير ذلك، فإنه لو غسل ذلك الجزء فقط فبقية الأعضاء
التي جاءت بعد هذا العضو جاءت على فساد؛ لأن العضو الذي قبلها لم
يتم غسله، وكذلك لو أن اللمعة كانت في القدمين وليس بعدها عضو آخر،
فإذا طال الزمن، وجف الماء عن الرأس واليدين، وأراد أن يكمل غسل
القدمين، أيكون غسل اللمعة موالياً للأعضاء التي قبلها، أم أنه مضى
عليه زمن؟ فإن كان مضى عليه زمن فإن الموالاة تكون قد فُقِدت،
فيكون قد غسل القدمين، أو أحسن غسل القدمين بعد فصل طويل عن
الأعضاء قبلها، فيبدأ الوضوء من جديد لتتحقق له الموالاة. ولذا
قدمنا أنه إذا انتبه للمعة وهو في مكان الوضوء أخذ نقطة ماء -ولو
من شعره- ومسح اللمعة وأجزأه ذلك، أما إذا كان قد بعُد عن مكان
الوضوء وجفت الأعضاء فإن القدمين ستصبحان مفصولتين عن الأعضاء
قبلهما، فلم تكن هناك موالاة، فعليه أن يبدأ الوضوء من جديد لتتم
له الموالاة. والله تعالى أعلم.(1/122)
الاقتصاد بالماء عند الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [ وعنه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتوضأ بالمُدِّ ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ).
متفق عليه ]. مقدار الماء في الوضوء والغسل موضوعه واحد، فكان من
حسن التنسيق أن يكونا معاً في مكان واحد. ولعله أخره من أجل أنه
فيه ذِكْر الغسل، فأخره إلى آخر أعمال الوضوء. قال: (كان صلى الله
عليه وسلم يتوضأ بالمُدِّ -والمُد: قدر لتر وثلث- ويغتسل بالصاع
إلى خمسة أمداد)، والصاع أربعة أمداد، فقوله: (إلى خمسة أمداد) أي:
صاع وربع. فهذا بيان لأقل المقدار، والذي ينبغي على الإنسان -كما
يقول العلماء- ألَّا يزيد على ذلك؛ لئلا يدخل في السَّرَف وتضييع
المال. وإذا كان النص جاء -في العبادات لله- بالمحافظة على الماء
وعدم الإسراف فيه مع وفرته وكثرته فما بالك بالمال الذي هو عصب
الحياة؟! فهو تعويد على الاقتصاد في استعمال الماء؛ ليكون خطوة إلى
التعوُّد على الاقتصاد في غير الماء. وفي هذا المعنى جاءت أحاديث،
منها أنه: (اغتسل من فَرَق ) و(الفَرَق): ثلاثة آصُع. ومنها
أنه: (اغتسل هو و ميمونة في جفنة فيها أثر العجين). فإذا كان
يغتسل بالصاع الذي هو أربعة أمداد فهذا يكفيه في الغسل، وهذا يأتي
مع الدلك والتحفظ في استعمال الماء. قوله: (ويتوضأ بالمُد)، وفي
رواية: (أتي بثلثي مد)، فهل هناك مغايرة؟ والجواب: لا توجد مغايرة،
فإذا كان الماء قليلاً دلك حتى يتمكن من إيصال الماء لجميع البشرة،
وإذا كان الماء متوافراً مرَّر يده ليتأكد، فالمهم التأكد من إسباغ
الوضوء، فإذا كان الماء قليلاً تعيَّن الدلك، وإذا كان الماء
كثيراًَ وتأكد بجريان الماء على العضو فالحمد لله، لكن لا ينبغي أن
يزيد -إن أمكن- في الوضوء على المُد، ولا في الغسل على الخمسة
أمداد، أي: صاع ومد. والله تعالى أعلم. فهذا ما يتعلق بالوضوء
والغسل في العبادة. ويُقاس عليه الوضوء والغسل للنظافة، أو المسنون(1/123)
في غسل الجمعة أو للإحرام أو لدخول مكة أو لعرفة، ولكن المهم هنا
أنه لو أن إنساناً في الغسل الاعتيادي يريد أن يغير ملابسه، ويريد
أن يزيل عنه العرق، ويريد أن ينظف نفسه، فتارةً يستعمل الصابون،
وتارةً يستعمل الماء بدون صابون، فهذا لا حد فيه، ما لم يصل إلى
الإسراف؛ فالتحديد هنا في رفع الحدثين، الأصغر بمُد، والأكبر بصاع
إلى خمسة أمداد.
بيان الذكر عند الانتهاء من الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [ وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم
يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله) إلا فُتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ).
أخرجه مسلم و الترمذي وزاد: (.. اللهم اجعلني من التوابين
واجعلني من المتطهرين ) ..]. لقد أحسن المؤلف ختم هذا الباب
بهذا الحديث، وبيان ما ينبغي أن يقوله المتوضئ، فهذا هو الدعاء
المسنون المشروع عقب الوضوء، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من
أحد يتوضأ فيسبغ -قيده بإسباغ الوضوء- ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا
الله، وأن محمداً رسول الله )، فهي أساس التوحيد وقاعدة
الإسلام، فأنه فعل ذلك امتثالاً لأمر الله، وطاعة لرسول الله؛ لأن
هذا العمل الذي جاء به أمر تعبُّدي، ولا دخل للعقل ولا للعلة فيه،
إنما يأتي به المسلم طاعة لله ورسوله، كما يقول ابن رشد في
بداية المجتهد: (عملٌ مُوجَبُه في غير موجِبِه). فالإنسان يخرج منه
الريح، فيتوضأ ولا يغسل موضع خروج الريح الذي هو سبب في الوضوء،
فلا نغسله ونغسل أعضاءً بعيدة كل البعد عن سبب هذا الوضوء، فأين
العلة هنا؟ فلا علة ولا سببية، إنما هي طاعة لله. ومن هنا يعلن
المسلم هذه الشهادة عقب هذا العمل التعبدي المحض الذي لا علاقة له
بعلة ولا سبب، كأنه يقول: يا رب! أشهد أنك أنت الله الواحد الأحد،(1/124)
أمرتني فامتثلتُ، وأشهد أن نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم بلَّغنا
عنك فسمعنا وأطعنا، فتحقيق الإيمان بالله والطاعة لله ولرسوله،
بسببه فتحت له أبواب الجنة الثمانية. وقال في الحديث: (فُتحت)، ولم
يقل: (تفتَح)، فقالوا: هذا يراد به أنها ستُفتح له يوم القيامة.
ونحن نقول: لماذا التكلف فيها؟ لنقل: فُتحت الآن، وما المانع أن
تُفتح الآن؟ وسيدخلها إن شاء الله من أيِّ أبوابها، فلا مانع. وزاد
بعض الروايات: (اللهم اجعلني من التوابين -أي: فيما أخطأتُ، وما
أسررت وما أعلنت- واجعلني من المتطهرين )، والتوبة هي طهارة
داخلية، والتطهر طهارة ظاهرية، ولأن الوضوء يحقق الطهارة والنظافة
فسأل الله التوبة بالمناسبة. ومن هذا قوله تعالى: كُلَّمَا
دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا
رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ [آل
عمران:37]، ثم قال تعالى: هُنَالِكَ
دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل
عمران:38]، فلما وجد الأرزاق تأتي من عند الله قال: يا رب! أعطني.
فكذلك هنا، فلما فعل الطهارة الحسية طلب من الله الطهارتين:
الطهارة الحسية من كل الأخطاء، والطهارة المعنوية بالتوبة، فيكون
من عباده التوابين والمتطهرين. وينبه العلماء على قضية شائعة عند
العوام، وهي أنهم يجعلون لكل عضو من أعضاء الوضوء دعاءً، ويقول
النووي رحمه الله: كل هذه الأدعية المخصوصة بكل عضو لا أصل لها
في السنة، وإنما يفعلها بعض الناس بالمناسبة. والله تعالى أعلم.
( كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين [1] )
عناصر الموضوع
1 مدة المسح على الخفين
2 ما يلحق بالمسح على الخفين
3 الرد على من لم يشترط المدة في المسح
4 مسائل في باب المسح على الخفين لم يتعرض لها المؤلف
كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين [2](1/125)
جعل الله المسح على الخفين رخصة عامة، ليست خاضعة للضرورة أو الحاجة،
إلا أن هذه الرخصة لها شروط يلزم صاحبها الإتيان بها، ومن هذه الشروط:
أن يلبس الخفين على طهارة قدميه طهارة بالماء من وضوء أو غسل، ومن
الشروط أيضاً أن يمسح خلال مدة يوم وليلة إن كان مقيماً، وثلاثة أيام
بلياليهن إن كان مسافراً، وتبدأ المرة من أول مسح يمسحه، وإذا انتهت
المدة وهو على وضوء انتقض وضوءه، ولا يصلي بوضوء مسح فيه إلا خلال
المدة المعتبرة.
مدة المسح على الخفين
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله:
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. قال: [ وعن صفوان بن عسّال قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً ألا ننزع
خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم )
أخرجه النسائي والترمذي واللفظ له، وابن خزيمة وصححاه
]. أنهى المؤلف رحمه الله موضوع المشروعية، في حديث المغيرة بن
شعبة رضي الله تعالى عنه، مع الشرط اللازم لصحة المسح على
الخفين، وهو: (أدخلتهما طاهرتين ) ، ثم قدم لنا كيفية المسح، ثم
جاء إلى المدة، فإلى متى يمسح الإنسان على خفيه؟ هل هناك توقيت، أم
ليس هناك توقيت؟ فبدأ بحديث التوقيت: (أمرنا النبي صلى الله عليه
وسلم إذا كنا سفراً -جمع مسافر- أن نمسح على الخفاف ثلاثة أيام
بلياليهن)، هذا إذا كنا مسافرين، فقال في الحديث: (ألاّ ننزع
خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة)، لا ننزعها إلا من
جنابة، ولو كان بعد ست ساعات، أو عشر ساعات، فالجنابة لا مسح فيها
على الخفين، بل يجب غسل الجسم كاملاً ومن ضمنه القدمين، ولا مسح من
جنابة. فنمضي في المسح ثلاثة أيام بلياليهن، ولا ننزع الخفين
لنغسلهما، بل نستمر في المسح عليهما ثلاثة أيام، إلا إذا حدثت
جنابة ولو بعد يوم واحد، وهذا في حالة السفر. قوله: (ولكن من غائط
وبول ونوم ) أي: لا ننزع الخفين إلا من جنابة، ونبقيهما من غائط(1/126)
وبول ونوم، أخذ العلماء القطع بأن الغائط والبول ناقضان للوضوء،
وأخذوا أن النوم ناقض للوضوء من هذا الحديث، أما الغائط والبول
فبالإجماع ولا نزاع في ذلك، ولكن النوم حقيقته عند العلماء أنه ليس
بناقض، ولكنه مظنة النقض، ومعنى مظنة النقض: أن النوم من حيث هو
غلبة النعاس على العين وعلى القلب ليس فيه حدث، ولكن حين ينام
الإنسان لا يدرك ما يحدث منه، فهو مظنة أن يقع منه حدث ينقض الوضوء
وهو لا يدري بسبب نومه، ولذا جاء في حديث ابن عباس : كنا ننتظر
الصلاة حتى تخفق رءوسنا. وجاء في الحديث: (إنما الوضوء على من نام
مضطجعاً ) ، ومن نام جالساً؟ قالوا من نام جالساً ليس عليه شيء؛
لأن الجالس ولو نعس لا يتمكن الريح أن يخرج منه؛ لأن موضع خروجه لا
مجال له، فإذا اضطجع سهل خروج الريح منه وهو نائم لا يدري. إذاً:
النوم بذاته ليس حدثاً، ولكنه مظنة الحدث وهو لا يدري، ولغلبة الظن
على وجود الحدث عند النوم فقد اعتبر النوم هو الناقض، ولذا من نام
مضطجعاً فعليه الوضوء. إذاً: المسح على الخفين لا يكون من الجنابة،
بل الجنابة يجب فيها نزع الخفين وغسل القدمين، وهذا الحديث أعطانا
التوقيت للمسافر بأن يمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن، لكن كيف
يمسح إذا كان السفر أطول من ذلك؟ بعد المدة المحددة ينزع الخفين،
ويتوضأ وضوءاً كاملاً، ويلبس الخفين من جديد، ويستأنف ثلاثة أيام
أخرى، وهكذا طيلة سفره له بعد كل وضوء كامل ولبس الخفين على طهارة
أن يستصحب الحكم إلى ثلاثة أيام، فهذا حكم للتوقيت في المسح في
السفر ثلاثة أيام، وبيان أن الجنابة ليس فيها مسح، فإنه ينزع
الخفين ولو بعد اللبس بساعات معدودة، وأعتقد أن هذا القدر في بيان
المسألة يكفي، وأنصح بمطالعة أضواء البيان عند آية المائدة، فالشيخ
الأمين رحمه الله ناقش قضية المسح، مع قضية غسل القدمين
ومسحهما، وأتى بتفريع وتعليقات ومسائل تكاد تكون قد أحاطت بموضوع(1/127)
الخفين من كل الجوانب، وقد أُفرِد المسح على الخفين ببعض الكتب،
وبالله تعالى التوفيق. [ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
(جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر,
ويوماً وليلة للمقيم، يعني في المسح على الخفين ) أخرجه مسلم ]. بدأ المؤلف رحمه الله في بيان التوقيت. إلى متى يمسح الإنسان
على الخفين إذا لبسهما طاهرتين؟ هل يمسح بصفة دائمة بدون توقيت
بزمن، أم أن هناك تحديداً للزمن، بحيث لو انقضى هذا الزمن نزع
الخفين وتوضأ وغسل القدمين، ثم إن شاء لبس الخفين مرة أخرى واستأنف
المسح، وهكذا دواليك، ولو كان طول السنة؟ العلماء يختلفون في
التوقيت، فالجمهور على أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث
علي هنا، وكما سيأتي في حديث ثوبان - وقّت في المسح على
الخفين للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن ما دام في سفره، وللمقيم مدة
يوم وليلة، أي خمس صلوات، ويتفق الجميع على أن المسح على الخفين
مطلق لا يتوقف على عذر، لا لمرض في القدمين، ولا لشدة بردٍ، ولا
لشيء من ذلك، فلو كان في أشد الصيف وأشد الحر، وكانت قدماه أصح ما
تكون، فإن له إذا لبس الخفين على طهارة أن يمسح، ولا يتوقف ذلك على
أي عذر كان. وقالوا: المرأة والرجل في ذلك سواء، فالمرأة إذا لبست
خفين على طهارة هي كالرجل؛ في الإقامة يوم وليلة، وفي السفر ثلاثة
أيام بلياليهن، ولا يتوقف ذلك على عذر أو على صفة أو على داعٍ سوى
مجرد اللبس. وعند مالك رحمه الله النزاع في المدة، فهناك من
يروي عن مالك رحمه الله بأنه لم يوقت، وجعل المسح على الخفين
بدون توقيت لا في حضر ولا في سفر، وسيأتي مأخذه في الأحاديث التي
سيسوقها المؤلف، من أنه صلى الله عليه وسلم سئل: (أمسح على الخف
يوماً يا رسول الله؟! قال: نعم. قال: ويومين؟ قال: نعم. قال:
وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت ) ، فقوله: (نعم، وما شئت) أخذ
منها مالك بأن هذا مطلق، أي: على مشيئته هو، والجمهور أخذوا(1/128)
بالتنصيص على التوقيت، وقد بحث والدنا الشيخ الأمين رحمة الله
تعالى علينا وعليه هذه المسألة في أضواء البيان عند آية الوضوء، ثم
قال: هذه النصوص الموجودة مختلفة، ولا يمكن الجمع بينها؛ لأن بعض
العلماء -كابن قدامة في المغني - قال: يجمع بين هذه النصوص،
فيقال: (نعم، وما شئت)، أي: إذا مضت الأيام الثلاثة،وأردت أن تمسح
فاخلع الخفين، ثم اغسل، ثم البس، ثم امسح ما شئت. وهذه طريقة من
طرق الجمع بين الأدلة. الشيخ الأمين رحمه الله يقول: هذا
تخريج، ولكن الجمع هو أن تحمل الموضوع بالنصّين وتجمع بينهما دون
مغايرة لهذا النص أو لذاك النص، كما لو جاء نص مطلق ونص مقيّد،
فيحمل المطلق على المقيّد، مثل عتق الرقبة؛ فقد جاء مرة مطلقاً
بدون قيد الإيمان، وجاء مرة (رقبة مؤمنة)، فحملنا المطلق على
المقيد، وهنا يقول: لا يتأتى الجمع؛ لأن أحاديث التوقيت في السفر
وفي الحضر تحدد مدة معينة، وحديث: (وما شئت) يقتضي الزيادة،
والمعارضة بين الزيادة وعدم الزيادة تناقض، والمتناقضان لا يُجمع
بينهما، والعلماء يقولون: إذا اختلف نصان؛ فإما أن يُعرف التاريخ
فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم، وإما أنه لا يعرف ويمكن الجمع
بينهما، كما جاء -مثلاً- في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في
الكعبة، فجاءت نصوص بأنه قد دخل وصلى، وجاءت نصوص بأنه دخل ولم
يصل، فجمعوا بين النصين، وقالوا: إنه دخل الكعبة مرتين؛ مرة في فتح
مكة، ومرة في حجة الوداع، فيكون الذي ذكر أنه صلى في إحدى
الدخلتين، والذي ذكر أنه لم يصل يكون في الدخلة الأخرى، وليس هناك
تعارض، وبهذا جمع بين النصين؛ لأن النافي والمثبت لم يذكر زمن
الصلاة أو زمن عدمها، ولصحة التعارض ينبغي أن يتفق التعارض في
الزمان وفي المكان وفي الفاعل، فإذاً: أمكن الجمع، فمن قال إنه لم
يصل كان صادقاً؛ لأنه في هذه المرة لم يصل، ومن قال: إنه صلى كان
صادقاً؛ لأنه صلى في المرة الأخرى، ولا تعارض بينهما. فإذا لم يمكن(1/129)
الجمع كان المصير إلى الترجيح، فأي النصوص أرجح، نصوص التوقيت، أم
نصوص الإطلاق؟ يقول شيخنا الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه:
والأرجح الذي تطمئن إليه النفس إنما هو ترجيح نصوص التوقيت؛ لأنه
أحوط في العبادة؛ ولأن رواته أوثق من رواة الإطلاق، ولأن رواته
أكثر عدداً من رواة الإطلاق. إذاً: تتعارض النصوص في توقيت مدة
المسح سفراً وحضراً، وفي عدم التوقيت، فمالك أخذ بعدم التوقيت
في رواية عنه، والجمهور أخذوا بأحاديث التوقيت، وقالوا: من لبس
الخفين ومسح عليهما فليلتزم بالتوقيت فإن كان مسافراً ثلاثة أيام
بلياليهن، وإن كان مقيماً يوماً وليلة، فإن أراد أن يمسح نزع وتوضأ
فغسل، ثم لبس واستمر في المسح ولو عشر سنين.
ما يلحق بالمسح على الخفين
قال: [ وعن ثوبان رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم سرية، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب -يعني: العمائم-
والتساخين -يعني: الخفاف- ) رواه أحمد وأبو داود ،
وصححه الحاكم ]. حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه يخبرنا أن
النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية، (بعث) مادة تتعدى بنفسها،
وتتعدى بالحرف، فنقول: بعث بهدية.. بعث بخطاب.. بعث زيداً. ويقول
علماء اللغة: إذا كان المبعوث يمكن أن يُبعث بنفسه فلا يُحتاج إلى
الحرف، بعثت مبعوثاً إلى موضع كذا.. أرسلت مرسولاً إلى كذا، فلا
يُحتاج أن تقول: بعثت بزيد إلى كذا، بل تقول: بعثت زيداً. أما إذا
كان المبعوث لا يصلح أن يبعث بنفسه -كالخطاب، أو الهدية، أو
الطعام- فتقول: بعثت لزيدٍ بالكتاب.. بعثت لزيدٍ بهدية. وهنا قال:
(بعث سرية)؛ لأن السرية تنبعث بنفسها، والسرية في الاصطلاح قالوا:
ما دون الأربعين، وقالوا: بل كل جمع خرج لقتال ليس فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم يسمى سرية، وكل جمع خرج فيه رسول الله يسمى
غزوة، ولو كان الرجال عشرة أشخاص ومعهم رسول الله تسمى غزوة، هذا
اصطلاح تاريخي في السيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث(1/130)
بالسرايا، وقبل أن يخرج إلى بدر بعث عدة سرايا إلى سيْف البحر،
وكان فيها حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله وعكاشة بن محصن وغيرهم، فكان يرسل السرايا في اتجاهات معينة
إما للاستطلاع، وإما لأنه يكون قد بلغه خبر عن جماعات يتأهبون لغزو
المدينة، فيرسل إليهم سرية تعاجلهم في مكانهم. تلك السرية لما رجعت
اشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البرد (فأمرهم أن يمسحوا
على العصائب)، والعصائب: جمع عصابة، وهو ما يعصب به الرأس، أو يعصب
به الأعواد.. أو نحو ذلك، لكن في الاصطلاح: هي ما يعصب بها الرأس،
ومنه سميت العصابة، فكل ما يوضع على الرأس لمصلحتها يسمى عصابة،
ومنه العمامة؛ لأنها تعصّب الرأس وتدور حولها، فقالوا: كل ما تعمم
به الإنسان وأداره على رأسه يصدق عليه اسم العمامة، (فأمرهم) وأصل
الأمر للوجوب، ولكن أمر هنا بمعنى رخّص وأجاز؛ لأن المسح على هذه
الأماكن ليس واجباً، كما سيأتي قوله: (رخّص) ، وقوله: (إن شئت).
قال: (والتساخين)، أي: وعلى التساخين، وقالوا: التساخين: هو كل ما
يسخن القدمين، أي من البرد، وقدمنا أن البرد ليس علة في الترخّص في
المسح، ولكن السرية اشتكت، وصادف ذلك الترخيص في المسح، ومن هنا
أخذ العلماء توسعة نطاق المسح على ملبوس القدمين، فقالوا: هناك
الخف، وهناك الموق، وهناك الجرموق، وهناك الجورب، والنعل؛ كل هذه
أسماء لملبوسات في القدم، أما النعل فلم يثبت أنه جاء المسح عليها،
وكل أثر جاء في المسح على النعلين فلا يثبت، اللهم إلا ما جاء في
المسح على النعلين والجوربين، فيكون مجموع النعلين مع الجوربين
كأنهما شيء واحد؛ لأن النعل لا يغطي موضع الوضوء في القدم، ويشترط
في الخف الذي يمسح عليه أن يكون مغطى وساتراً موضع الغسل من
القدمين في الوضوء، والرِّجل تكون مكشوفة في النعل. إذاً: ما كان
على هيئة الخف، والأصل في الخف أنه مصنوع من الجلد، فبعض الناس(1/131)
قالوا: لا يمسح إلا على الخف الذي هو من الجلد؛ لأنها رخصة،
والرخصة لا تتعدى محلها، فجاء هذا الحديث: (والتساخين)، وهو ما
يسخن القدمين، فإذا لبس الجرموق وهو أكبر من الخف، أو لبس الموق
وهو أكبر منه ويلبس عليه، فلا مانع أن يمسح عليه. ثم جاء موضوع
الجورب، فالشافعية يقولون: لا يمسح على الجورب إلا إذا كان صفيقاً
منعَّلاً، ومعنى منعَّل: مجعول له نعل من الجلد من الأسفل ليشابه
الخف في إمكان المشي عليه، وهم يتفقون ويقولون: كل ما أمكن تتابع
المشي عليه جاز المسح عليه، ولكن تتابع المشي أين يكون؟ في الصحراء
والخلاء، أم في البيوت؟ قالوا: في البيوت؛ لأن بعض الأماكن لا يصلح
المشي عليه حتى بالحذاء الحديث، إذاً: ما يمكن تتابع المشي عليه
بأن يمسك نفسه، بقينا الآن في الجورب غير المنعَّل، فعند الأحناف
نوع من التوسعة في هذا الموضوع، فكل جورب لبس على القدمين يمسح
عليه، والآخرون يقولون: لا. الأصل في ذلك الخف، فما كان من جورب
يأخذ صفات الخف -ولو من غير الجلد- يمسح عليه، سواء أكان من الصوف
أو من الشعر أو من القطن، بل حتى قال النووي في وصف الخف: ولا
يشترط فيه أن يكون ساتراً للبشرة، كما لو كان من زجاج مثلاً،
فالزجاج يكون متيناً ويكشف ما تحته، فإذا كان نوع الخف كما هو
الحال الآن من النايلون أو البلاستيك، وبعضهم قال: ولو كان من
الخشب، الخشب لا يكشف ما تحته، ولكن يقولون: في عموم ما يلبس ويأخذ
صفات الخف من أن صفاقته تمنع نشع الماء من خلاله إلى القدم؛ لأنه
إذا كان خفيفاً رقيقاً شفافاً يوصل الماء إلى ما تحته ماذا أنت
مسحت على الجورب، فعندها سيصل الماء إلى القدم، فتكون قد مسحت
القدم، فإذا كان جاء الحكم إلى القدم فالقدم حكمها الغسل، وأنت هنا
لم تغسل القدم وإنما مسحت الجورب، ولكن تعدى المسح إلى القدم،
والقدم من حكمها الغسل، ولهذا يقال: جميع أنواع الأحذية التي يرتفع(1/132)
ساقها إلى ما فوق الكعبين -وهو موضع غسل القدمين في الوضوء- وكان
صفيقاً متيناً جاز المسح عليه أياً كان نوعه، ولو قدِّر أن هناك
لفافات متينة من الورق على شكل طبقات بعضها فوق بعض فإنه يجوز
المسح عليها، أما إذا كان خفيفاً كبعض الجوارب الموجودة الآن،
والتي يلبسها الناس في الصيف، بعضها يكون مخرقاً كالشبكة، وبعضها
يكون رقيقاً جداً بحيث يكشف عما تحته، ولا يمنع من وصول الماء إلى
القدم، فهذا ينبغي إلا يعول عليه، ولا يمسح عليه، والله تعالى
أعلم.
الرد على من لم يشترط المدة في المسح
قال: [ وعن عمر رضي الله عنه موقوفاً، وعن أنس مرفوعاً:
(إذا توضأ أحدكم فلبس خفيه فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا
يخلعهما إن شاء إلا من جنابة ) أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه ]. هذا الحديث من أدلة مالك رحمه الله، عمر يقول
موقوفاً عليه، وأنس يرفع القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
فهذا الخبر جاء موقوفاً عن عمر ، وجاء مرفوعاً من طريق أنس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيه توقيتاً، (إذا تطهر
أحدكم ولبس خفيه فليمسح عليهما، ولا ينزعهما إلا من جنابة) إلى متى
شاء، فهذا الحديث موقوف على عمر رضي الله تعالى عنه، ومرفوع
إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدون ذكر التوقيت فيه، ويقال: إن
تصحيح الحاكم في هذا الحديث ملاحظ عليه، وأنه لم يثبت عن أنس ، كما يقال: إن عمر رجع عن هذا القول، وصار يقول بالتوقيت،
ولكن الذي يهمنا هو وجود هذا الأثر، سواء كان موقوفاً على عمر ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين من بعدي )، أو كان مرفوعاً إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، ولكن كما تقدم فقد رواه الدارقطني فقط، أما
هناك فقد رواه أبو داود والنسائي ، ورواه الأربعة، ورواه
فلان وفلان.. فتلك أحاديث متعددة، وبروايات متعددة، وبأسانيد أقوى
وأثبت من مجرد رواية الدارقطني ، وعلى هذا -كما قال والدنا(1/133)
الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه-: إذا لم يمكن الجمع
فيصار إلى الترجيح، وأحاديث التوقيت أرجح سنداً، وأكثر قائلاً،
وخروجاً من العهدة بالاحتياط في الدين. لأن من مسح بصفة دائمة ولم
يأخذ بالتوقيت، بينما الآخر آخذ بالتوقيت، فلو جئنا عند مناقشة
المسألة فهل أحد يختلف في صحة صلاة الذي أخذ بالتوقيت؟ لا. فالكل
مجمع على صحتها. لكن من أخذوا بالتوقيت هل يصححون صلاة من لم يأخذ
بالتوقيت؟ لا. إذاً: صلاته غير صحيحة ومختلف فيها عند الآخرين،
والواجب على الإنسان أن يترك المختلف فيه، وأقل ما فيه: (دع ما
يريبك إلى ما لا يريبك ). قال: [ وعن أبي بكرة رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام
ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما )
أخرجه الدارقطني ، وصححه ابن خزيمة ]. يروي هذا الحديث
أيضاً الدارقطني ، ولكن صححه ابن خزيمة مضافاً إلى
الدارقطني في أن أبا بكرة ينقل نفس الأثر، ولكن بالتوقيت،
(ثلاثة أيام ولياليهن) و(يوماً وليلة). بالمناسبة: (أبو بكرة )
بتسكين الكاف وبفتحها، فـ (البَكْرة) هي الناقة في أوائل شبابها،
و(البَكَرة) هي الآلة التي يوضع عليها حبل الدلو لسحب الماء،
واختلفوا في تسمية أبي بكرة ، هل الصحيح (بكْرة) أم (بكَرة)؟
وهذا الاختلاف حصل؛ لأنه كان من أهل الطائف، ولما حاصر النبي صلى
الله عليه وسلم الطائف تدلى من سورها على بكرة، قالوا: جاء ببكَرة
وحبل وربطها في السور ونزل بها إلى المسلمين، وقيل: نزل من على
السور على ظهر بكرة كانت واقفة عند السور من الخارج، فكان الاختلاف
في هذا اللفظ بسبب الاختلاف في صورة نزوله إلى الرسول صلى الله
عليه وسلم. قال: [ وعن أبيّ بن عمارة رضي الله عنه أنه قال:
(يا رسول الله! أمسح على الخفين؟ قال: نعم. قال: يوماً؟ قال: نعم.
قال: ويومين؟ قال: نعم. قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت )(1/134)
أخرجه أبو داود وقال: ليس بالقوي ]. وهنا مربط الناقة! قال:
(أمسح يوماً؟ قال: نعم. قال: ويومين؟ قال: نعم. قال: وثلاثة أيام؟
قال: نعم، وما شئت). من أخرج هذا الحديث؟ أبو داود ، وهو ناقد،
فماذا قال عنه؟ ليس بالقوي. فهل يا ترى نبني صلاتنا على ما ليس
بالقوي، وأن نمسح ما شئنا بدون تحديد، مع أن الأصل ليس بقوي، أم
نرجع للأصل القوي الذي صححه العلماء وهو التوقيت؟ بعض العلماء
يناقش المسألة بصورة عامة، فقوله: (نعم، وما شئت)، يقولون: هذا من
باب التأكيد على الترخيص، وكما قال ابن قدامة : وما شئت
بالتزام التوقيت، وهذا كلام لطيف، وقالوا: (نعم، وما شئت) نظيره:
(الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنوات ) ، فهل
هناك من يعيش بغير ماء عشر سنوات؟ ماذا سيشرب أو يأكل؟ قالوا: هذا
من باب تأكيد الترخيص؛ لأن التيمم طهارة ثابتة، ولو يستمر على ذلك
عشر سنوات. إذاً: قوله: (نعم، وما شئت) تأكيد للمسح بالأيام
العديدة، وفي نظري لا يخلو الأمر من أحد أمرين؛ إما الرجوع إلى
الترجيح كما قاله والدنا الشيخ الأمين : ووجدنا أحاديث التوقيت
أرجح سنداً، وأكثر قائلاً، وخروجاً من العهدة، واحتياطاً للصلاة،
وبراءة للذمة، بخلاف القول بعدم التوقيت. أو كما قال ابن قدامة رحمه الله، وقوله وجيه، (نعم، ما شئت)، سنة.. سنتين.. امسح، ولكن
هناك نقطة فهل نقول: (وما شئت) حتى لو كانت جنابة، أم أنه عند
الجنابة سيخلع الخف؟ نقول: يوم..يومان..ثلاثة.. عشرة.. فهل يأخذ
برخصة (نعم، وما شئت) على الإطلاق؟ يعني: إذا سافر ومسح على الخف
في الصباح وأجنب في الظهر، فهل نقول له: وما شئت، أم يخلع؟ نقول:
يخلع. إذاًَ: إذا كانت الجنابة ستجعله يخلع، فنقول: مضي التوقيت
أيضاً يجعله يخلع.
مسائل في باب المسح على الخفين لم يتعرض لها المؤلف
هناك مباحث عديدة في المسح على الخفين لم يتعرض لها المؤلف، ولابد
للإنسان أن يأخذ فكرة عنها:
حكم المسح على الخف الممزق(1/135)
أولاً: إذا كان الخف ممزقاً وفيه خروق، فهل يصح المسح عليه، أم
لابد من خياطة هذه الخروق أولاً؟ الجمهور على صحة المسح عليه، وعند
الإمام أبي حنيفة رحمه الله لو كانت تلك الشقوق أو الخروق في
مجموعها تزيد على ربع الخف فلا يصلح المسح، والآخرون يقولون بعدم
التحديد، وابن تيمية رحمه الله يقول من ناحية عقلية: هل كانت
خفاف الصحابة كلها جديدة وليس فيها خروق، أم حسب ما هو معتاد خاصة
بالنسبة للحالة الاقتصادية لكثير منهم؟ ويمكن أن يدعي إنسان أن
جميع خفافهم كانت جديدة، فنقول: كان عمر يرقع قميصه أربعين
رقعة، إذاً: الواقع الطبيعي لحياتهم يعطينا فكرة أنه لابد أن تكون
بعض خفافهم مخرقة، وكانوا يمسحون عليها، فما دام الخف متماسكاً على
القدم يجوز المسح عليه.
متى تبدأ مدة المسح؟
ثانياً: إنسان توضأ ومسح فله يوم وليلة، فمتى تبدأ مدة اليوم
والليلة، من لبسه عند وضوئه، أم من حدثه بعد الوضوء، أم من مسحه
بعد الحدث؟ فإذا توضأ للصبح ولبس الخف في الصبح، وصلى الصبح
بالوضوء الذي لبس به الخف، وبقي على وضوئه من صلاة الصبح إلى
الظهر، وصلى الظهر بوضوء الصبح، وأحدث قبل العصر، فهل يا ترى! يحسب
الوقت من وقت ما لبس فينتهي بصلاة الصبح من الغد أم من بعد الظهر
حينما أحدث؟ أم منذ توضأ بعد دخول العصر ومسح. فعندنا هنا ثلاثة
أوقات: من حين لبس في الصباح، ومن حين أحدث بعد الظهر، ومن حين مسح
بعد دخول وقت العصر، فمتى تبدأ مدة اليوم والليلة؟ المشهور أنه
يبدأ من أول مسحة، يعني: من بعد دخول وقت العصر، والمدة التي فاتت
هي على حساب الوضوء الأول؛ لأنه أمره أن يمسح يوماً وليلة، فلو
اعتبرنا ما قبل المسحة الأولى نكون قد أعطيناه أقل من يوم وليلة،
لا يوماً وليلة؛ لأن هناك من يقول: من حين أحدث وبطل الوضوء الأول،
والقول المشهور: من أول مسحة يمسحها.
مسألة: هل انتهاء مدة المسح ناقض للوضوء؟(1/136)
إذا اعتبرنا بداية اليوم والليلة من بعد العصر، له أن يمسح إلى أن
يأتي الظهر من اليوم التالي، أو إلى قبيل العصر للنوافل، فلو مسح
قبل العصر وقبل إتمام الأربع والعشرين ساعة، فبعد العصر يكون خرج
عن المدة أم لا؟ خرج. هو على وضوئه، فقد توضأ قبل العصر وبقي على
وضوئه لم ينتقض وجاء العصر، فهل يصلي العصر الواقع بعد اليوم
والليلة بهذا الوضوء الذي وقع بالمسح خلال اليوم والليلة، أم أنه
بانتهاء التوقيت يكون قد انتهى الوضوء؟ هناك من يقول: يصلي؛ لأنها
طهارة مكتملة ولم يأت ما ينقضها، وهو قول الحسن البصري ، فيصلي
إلى أن ينتقض وضوءه الأخير، أما الجمهور فيقولون: المسح رخصة، إلى
وقت محدد، فلما انتهى الوقت انتهت الرخصة. أنت حين تأخذ تأشيرة
للسفر إلى بلد -وانتهت مدة التأشيرة- وأنت على أهبة السفر، خرجت
-مثلاً- من بلدك متوجهاً إلى لندن ونزلت في عدة مطارات، فلما وصلت
إلى لندن كانت التأشيرة قد انتهت بالأمس، بينما أنت انتقلت من بلدك
منذ عدة أيام، فهل سيتغاضون عن الأيام السابقة، أم سيقولون لك:
انتهت التأشيرة، وعليك أن ترجع؛ لأنك تحتاج إلى تأشيرة جديدة؟
فالجمهور يقولون: إذا كان على وضوء قبل مضي المدة، ثم دخلت صلاة
بعد خروج المدة المحددة فلا يصليها بذاك الوضوء. فإن قيل: هو لم
ينتقض وضوءه. قالوا: لكن المدة انتهت، وأبطلت المسح الذي مسحه
أثناء المدة. ولتلخيص ما سبق نقول: بدأت المدة من أول المسح،
وتنتهي مدة المسح وصلاحيته بعد أربع وعشرين ساعة، فإذا توضأ ومسح
بعد ثلاث وعشرين ساعة، فهل يكون مَسَح في المدة أم لا؟ يكون مسح في
المدة، فجاء بعد سبع وعشرين ساعة ليصلي، ووضوءه الذي كان قبل بضع
ساعات لا زال باقياً لم يطرأ عليه ما ينقضه، أيصلي بعد خروج المدة
بثلاث ساعات بذاك الوضوء السابق في المدة، أم لا يصلح ذاك الوضوء
للصلاة؟ هناك من يقول - كالحسن البصري -: يصلي ما شاء ما دام(1/137)
وضوءه لم ينتقض؛ لأنه وضوء صحيح بمسح صحيح في وقته. والجمهور
يقولون: لما انتهت المدة انتهت الرخصة. وهذا يشمل المسح سواء كان
في مدة السفر أو في مدة الحضر، ولو توضأ ولبس الخف -وقد أشرنا إلى
ذلك فيما سبق- وقبل أن يحدث خلع الخفين، ثم لبسهما مرة أخرى قبل أن
يحدث، فهل يمسح عليهما أم لا؟ يمسح؛ لأنه أدخلهما طاهرتين، فلو
توضأ لصلاة المغرب وصلى بوضوء المغرب العشاء وغسل القدمين عند
وضوئه للمغرب، وذهب إلى المسجد وصلى العشاء، فلما دخل البيت لبس
الخفين -خوفاً من البرد عند صلاة الصبح- وهو على طهره من المغرب،
فلبس الخفين بعد صلاة العشاء، فهل هذا اللبس صحيح أم باطل؟ صحيح؛
لأنه أدخلهما طاهرتين، فإذا جاء الصباح وانتقض الوضوء بالنوم أو
بغيره يمسح على الخفين؛ لأنه أدخلهما طاهرتين، إذاً: ليس بشرط أن
يكون لبس الخفين عقب غسل القدمين في الحال، فما دام على طهره الأول
ولو طال الزمن ولبس الخفين وأدخلهما طاهرتين، فله أن يمسح عليهما.
وإذا لبس الخفين على طهارة وطال الزمن، ثم انتقض وضوءه، ولم يكن قد
مسح على الخفين قبل ذلك، فخلع الخفين، هل يلبسهما على ما كان عليه،
أم يستأنف وضوءاً جديداً؟ يستأنف وضوءاً جديداً. فإذا كان قد توضأ
ثم انتقض وضوءه ومسح على الخفين ثم خلعهما بعد أن مسح عليهما مسحة،
حينما خلعهما أيعود للبسهما، أم يجدد الوضوء؟ يجدد الوضوء؛ لأن
الوضوء قد انتقض، والوضوء الموجود الآن بمسحة، والمسحة يشترط فيها
طهارة القدمين دائماً، فلما خلعهما انتفت رخصة المسح وعليه أن
يستأنف وضوءاً جديداً. وهناك من يقول: يغسل قدميه فقط، ولكن
الجمهور على أن الطهارة لا تتجزأ، فعليه أن يستأنف وضوءاً من جديد.
( كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [1] )
عناصر الموضوع
1 الاختلاف في نقض الوضوء بملامسة النساء
كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [2]
مس المرأة وتقبيلها وأثر ذلك على الوضوء والصيام من المسائل المهمة(1/138)
التي ينبغي على المسلم معرفتها، حتى يبني عبادته على علم ويقين، وحتى
لا يشك أو يشكك في أدائه لهذه العبادات.
الاختلاف في نقض الوضوء بملامسة النساء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف المرسلين. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [ وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه، ثم
خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ) أخرجه أحمد وضعفه البخاري ]. حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه
وسلم قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ) . قولها:
(بعض نسائه) جاء في بعض الروايات أنها هي المعنية ببعض نسائه، كما
جاء في بعض الروايات أن الذي أخبرته قال: (ومن هي إلا أنت؟ فضحكت)
فهذا يدل على أنها المعنية، فتكون قد أخبرت عن نفسها، وهذا مما
يزيد الخبر قوة ثبوت لعدم وجود الواسطة. وجاء عنها رضي الله تعالى
عنها في تقبيل الرجل امرأته: (أنه صلى الله عليه وسلم قبلها وهو
صائم ) فتعددت الروايات عنها في تقبيله صلى الله عليه وسلم
إياها تارة في الصيام، وتارة من أجل الوضوء، فصلى ولم يتوضأ.
حكم تقبيل الصائم لزوجته وما يترتب عليه
أما قبلة الرجل لزوجه وهو صائم فيتفقون على أن القبلة من حيث هي لا
تبطل الصوم، ولكن يخاف أن يتطور الأمر إلى ما يبطله؛ ولذا فقد رخص
النبي صلى الله عليه وسلم في تقبيل زوجه وهو صائم، ومنع
الشاب من التقبيل وهو صائم، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله
تعالى عنها حينما تخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلها وهو
صائم تقول: (وأيكم أملك لإربه من رسول الله؟) أي: أنه كان
باستطاعته أن يملك نفسه فلا يتطور أمر التقبيل إلى ما وراءه
باختياره أو باضطرار عليه.
الخلاف في انتقاض الوضوء بمس الرجل للمرأة
والذي يهمنا في هذه الرواية: أنه صلى الله عليه وسلم قبلها وهو
خارج إلى المسجد، ولم يتوضأ، وصلى بالوضوء الذي كان عليه قبل أن(1/139)
يقبلها، وهذا الحديث هو أصل الأحاديث النبوية في قضية الوضوء من
لمس المرأة أو عدم الوضوء منه. وهناك أحاديث أخرى نرى المؤلف قد
أعرض عنها، وإذا نظرنا إلى الأصل: فإنه إذا توضأ الإنسان وثبت
الوضوء فهو يستصحب الأصل، وما كان ناقضاً فهو خلاف الأصل؛ إذاً:
الأصل في المتوضئ أن يبقى على وضوئه حتى يأتي ما يبطل هذا الوضوء،
ولكن المؤلف ساق هذا الحديث من أجل أن يبين أن من قال: في تقبيل
المرأة الوضوء، مستنده على هذا الحديث، والقضية من حيث هي من
المسائل التي يمكن أن يعتبرها طالب العلم نموذجاً لخلاف الأئمة
الأربعة، وهذه المسألة لها أصل في كتاب الله وذلك في قوله سبحانه: أَوْ
جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]
فهذه الآية الكريمة ربطت مجيء الأحد من الغائط بملامسة النساء،
والغائط في اللغة هو: المكان المنخفض، وسمي قضاء الحاجة باسم
المكان؛ لأن الغالب في حق من أرد قضاء حاجته في الخلاء أنه لا يطلب
مكاناً بارزاً يكون كالنار على علم، بل يطلب مكاناً منخفضاً حتى لا
يراه أحد، فسمي الآتي من الغائط كناية عن أنه قضاء حاجته هناك،
فأصبح الغائط حقيقة عرفية لا لغوية في من يقضي حاجته بغائط أو بول،
حتى الخارج من أحد السبيلين يسمى غائطاً، باسم المكان الذي يُقضى
فيه . وقوله تعالى: أَوْ
جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]
قالوا: ملامسة النساء مقترنة بالمجيء من الغائط، والمجيء من الغائط
كناية عن قضاء حاجة الإنسان، وقضاء حاجة الإنسان فيها الوضوء
بالإجماع، فيكون (( لامستم النساء )) فيها الوضوء كالغائط. وهنا
يقع الخلاف في المراد بـ(لامستم) فمن قائل: هو مجرد التقاء البشرة
بالبشرة، ومن قائل: إن الملامسة هي: كناية عن الجماع، وكما كني عن(1/140)
الخارج من الجسم بمكانه كني عن الجماع بالملامسة، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إن الله حيي كريم يكني ولا يسمي). وقد جاء
في الآية: أُحِلَّ
لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ [البقرة:187]
، وفي الآية الأخرى: فَمَنْ
فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ [البقرة:197]
والرفث في الحج: كلام باللسان ويتناول أيضاً الجماع ويفسد الحج،
ومثله في قوله تعالى: أُحِلَّ
لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ [البقرة:187]
فهو أي: الرفث المداعبة والملامسة وكذلك يراد به الوطء الذي كان
ممنوعاً. إذاً: (لامس) هناك من يقول: إن لامس (فاعل) من طرفين، كما
تقول: قابل زيد عمراً، وزاحم زيد عمراً، فتكون هذه المادة مفاعلة
من طرفين لا من طرف واحد، فيكون المراد بها الجماع، وتكون الآية
شملت المريض والمسافر والذي جاء من الغائط والذي كان به جنابة ولم
يجد ماءً أن يتيمم. والآخرون قالوا: إن (لامس) بمعنى اللمس.
والملامسة هنا تكون بمجرد لمس البشرة لوجود قراءة أخرى سبعية: أَوْ
جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لمَسْتُمُ [النساء:43]
فقالوا: القراءتان سبعيتان صحيحتان، وتفسر إحداهما الأخرى،
فـ(لامستم) التي تدل على المشاركة تفسرها (لمستم) التي ليس فيها
مشاركة، كما يقال: لمست الجدار، أو لمست الدابة، أو لمست الكتاب،
ويكون هذا من جانب واحد. إذاً: المسألة مبناها من الكتاب على
الاختلاف في مدلول (لامس) أو (لمس)، وعندنا في كتاب "رفع الملام عن
الأئمة الأعلام" لابن تيمية رحمه الله؛ كتاب لا أعتقد أنه وجد
في موضوعه ولا في بابه نظيره أبداً، ذكر أسباب الخلاف بين الأئمة،
والخلاف الذي لا ينبغي أبداً الاعتراض عليه لوجود أسبابه شرعاً
وذكر عشرة أسباب منها: الاختلاف في فهم النص، أو بلوغ النص لمن لم
يبلغه، أو صحة النص عند شخص وعدم صحته عند غيره، أو سلامته من
معارضة أو عدم معارضته... إلخ، وهنا وقع الاختلاف في فهم (لامستم)،(1/141)
وقد بحث هذه المسألة ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار
وأطال فيها، ونقل الآثار عنه صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة وعن
التابعين وعمن قال بذلك. ونأتي إلى المسألة كتطبيق علمي شرعي
لمسألة اختلف فيها الأئمة لنرى المنهج السليم في تحقيق مسائل
الخلاف، والنتيجة بترجيح ما صح ترجيحه. فنأخذ المسألة من جهة
الأئمة رحمهم الله، ونتتبع في ذلك (أقوالهم): نجد الشافعي رحمه
الله يقول: (لامستم) بمعنى لمس، كما في قوله تعالى: وَأَنَّا
لَمَسْنَا السَّمَاءَ [الجن:8]
، وفي قوله تعالى: مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237]
جاءت (مس) بمعنى الجماع، وجاءت (لمس) بمعنى المقاربة أو الملاقاة،
فهنا جاءت (لمس) و(لامس) وكل منهما في مكانها، فيقول الشافعي رحمه الله: مجرد التقاء بشرة رجل بامرأة بأي حالة أو على أي كيفية
ذاكراً أو ناسياً أو قصداً أو بدون قصد، حدثت شهوة أو لم تحدث،
والمراد بملامسة البشرة للبشرة سواء بكف اليد أو بظهرها، بالذراع
أو بالفخذ أو بالقدم، أي مطلق لمس الرجل للمرأة يكون ناقضاً، هذا
قول الشافعي . نجد في مقابل هذا القول: ما جاء عن الإمام أبي
حنيفة رحمه الله أنه قال: إذا وقع لمس الفرج بالفرج وليس هناك
إيلاج كان فيه الوضوء، وما عدا ذلك من قبلة أو لمس أو جس بشهوة أو
بغير شهوة فلا وضوء فيه. إذاً نستطيع أن نقول: الإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: كل لمس بأي صفة لا وضوء فيه، وهذا القول مقابل
لقول الشافعي رحمهما الله، فهذا يقول: مطلق اللمس ناقض، وهذا
يقول: كل اللمس ليس بناقض، وأعتقد أنه خلاف قوي. وأما مالك وأحمد رحمهما الله: فاتخذا طريقاً وسطاً وقالا: اللمس الذي
يكون ناقضاً هو اللمس بشهوة، واللمس العادي العابر عمداً أو سهواً
هذا ليس فيه شيء وليس بناقض. إذاً: هذا القول وسط بين قول من ذهب
في طرف الإيجاب ومن ذهب في طرف المنع. والخلاصة: أن عندنا في(1/142)
المسألة ثلاثة أقوال: قول بالإيجاب مطلقاً، وقول بالمنع مطلقاً،
وقول بالوسط، والقول الوسط تحقيقه عند المالكية والحنابلة: إن قصد
اللذة ولو لم يجدها، أو لم يقصد اللذة ولكن وجدها، فهذا هو الناقض
عندهم. بم استدل الشافعي رحمه الله؟ وبم استدل أبو حنيفة رحمه الله؟ وبم يجيب كل منهما على دليل الآخر لأنه مناقض لقوله؟
وما هو موقف الإمامين مالك و أحمد بين الطرفين؟
كيفية الترجيح في المسائل الخلافية
ونحن سبق أن قررنا بأن المسائل الخلافية لا يتأتى تحقيق الأمر فيها
إلا بأربع خطوات: الخطوة الأولى: إدراك الخلاف على ما هو عليه
الآن: فالشافعي يقول: المس ينقض الوضوء. وأبو حنيفة يقول:
لا ينقض، ومالك وأحمد يفصلان. الخطوة الثانية: معرفة دليل
كل قائل، فنعرف الدليل الذي استدل به، ثم نعرف دليل أبي حنيفة ، ثم نعرف دليل مالك و أحمد ، ونترك دليل كل قول عند
صاحبه. الخطوة الثالثة: نأتي ونتساءل: الشافعي حينما يرد على
أبي حنيفة في استدلاله بعدم النقض، هل لديه شيء يرد به عليه؟
وأبو حنيفة هل عنده شيء يرد به على الشافعي على ما استدل
به من عموم النقض؟ إن وجدنا رداً ونقداً من الشافعي لأبي
حنيفة وكان مقبولاً قبلناه، وإن وجدنا رداً من أبي حنيفة لأدلة الشافعي ، وكان مقبولاً قبلناه، وكذلك نقول لمالك و
أحمد : ما دليلكما على أدلة الشافعي و أبي حنيفة ؟ فإن
وجدنا عندهما أدلة تكفي أخذنا بها، وإذا لم نجد في أقوال بعضهما في
أدلة البعض الآخر ما يمكن أن يؤخذ به تركناه. فإذا تعادلت جهات
الخلاف باعتدال وتوازي أدلتها تركناها معلقة، وذهبنا نطلب الترجيح
من خارج تلك الأدلة إن وجدنا. وطرق الترجيح كثيرة كما يقول والدنا
الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: الترجيح بحر لا
ساحل له. ولهذا يقول الشافعي : لا ينبغي لأحد أن يعترض على أحد
رجح عنده حكم لم يرجح عنده هو؛ لأن لديه من المرجحات ما ليست عندك،(1/143)
ولو فرضت رأيك وكانت المسألة إلزامية ليس رأيك بأولى أن نفرضه من
رأي الآخر، فمثلما تود أن تفرض رأيك فالآخر يود أن يفرض رأيه،
والمسألة بالأدلة. إذاً: نخطو تلك الخطوات لتصور الخلاف، وهذه
المسألة قد اخترناها فعلاً في كتاب: (موقف الأمة من اختلاف
الأئمة)، لأنها مسألة عملية، فالناس في بيوتهم الرجال مع النساء،
يصلون، ويطوفون بالبيت، ويذهبون ويجيئون، كل ذلك -كما يسميه
العلماء- مما عمت به البلوى، فلا يمكن أن نعزل الرجال عن النساء
خاصة في بيوتهم، إذاً: نحتاج إلى إمعان النظر في هذه المسألة، وإلى
التأني والتمهل فيها. فنأتي أولاً إلى من يقول بأنه ناقض لأنه ناقل
عن الأصل، فنقول: بم استدل الإمام الشافعي رحمه الله على أن
مطلق اللمس ينقض الوضوء؟ استدل رحمه الله بقوله سبحانه: أَوْ
جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]
فهذان متساويان في وجوب التيمم إذا لم تجدوا الماء، ومنها (أَوْ
لامَسْتُمُ النِّسَاءَ). فقلنا له: إن (لامس) يرد عنها أبو حنيفة بأن المراد به الجماع. يرد الشافعي ويقول: جاءت القراءة
الأخرى: (( لمستم )) فأنا أتمسك بنص الكتاب في (لمستم) وهي تبين
القراءة الثانية: (( لامستم )). هذا قول الشافعي رحمه الله. ثم
نأتي إلى الإمام أبي حنيفة ونقول: بم استدل على أن اللمس لا
ينقض الوضوء؟ قال أبو حنيفة رحمه الله: الأصل عدم وجوب الوضوء،
فمن أوجبه فليقم الدليل، ومن أدلتي: أن (لامس) بمعنى: جامع، وقد
فسرها بذلك ابن عباس ، ومن أدلتي أن الرسول قبّل عائشة ولم
يتوضأ. قال له الشافعي : قد جاء عن ابن عمر أنه قال: قبلة
الرجل امرأته من الملامسة، وفيها الوضوء. أجاب أبو حنيفة وقال:
هذا كلام ابن عمر ، وكلام ابن عمر لا يقضي على فعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم. واستدل أبو حنيفة رحمه الله أيضاً
بما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (بأن النبي صلى الله(1/144)
عليه وسلم كان يقوم من الليل، تقول: وأنا نائمة معترضة بين يديه،
فإذا أراد أن يسجد لمسني بيده أو غمزني بقدمه فكففت قدمي عنه ليسجد )
فهذا غمز ولمز ولم يكن هناك وضوء، وهو في الصلاة وليس لقصد، فماذا
يقول الشافعي ؟ قال: نعم، لكن لم تمس البشرة البشرة، بل كانت
نائمة متغطية بملحفتها فغمزها من فوق الحائل. فماذا يقول أبو حنيفة ؟ قال: إذا قلتم ذلك، فماذا تقولون في قولها: (قمت ذات ليلة فلم
أجد رسول الله عندي، والحجرات آنذاك ليس فيها سرج، فقمت أبحث عنه
بيدي، فوقعت بطن كفي على قدمه وهو ساجد في المسجد، وهو يقول: سبوح
قدوس رب الملائكة والروح )، ففي هذا الحديث وقعت بطن كفها على
بطن قدمه، فماذا تقولون؟ قالوا: نعم، الإنسان قد يكون ساجداً
والإزار ساتر على قدميه فبينهما حائل. فقال أبو حنيفة : قد جاء
عنها رضي الله تعالى عنها: أنها انتظرته حتى قام من الركعة الأولى،
وظنت أنه ذهب إلى جاريته مارية ، فقضى حاجته واغتسل وجاء يصلي،
قالت: فقمت فأدخلت أصابعي في شعر رأسه أنظر هل هو مغتسل أو لا؟
فماذا تقولون في ذلك يا شافعية؟! قالوا: ليس فيه شيء؛ لأنها لامست
الشعر، والشعر ليس فيه حرارة. إلى هنا تكون الكفة بين الشافعي و أبو حنيفة راجحة لأبي حنيفة ، على ما فيها. وأما الذين
قالوا بالتوسط فماذا يقولون في أدلة أبي حنيفة ؟ قالوا: إنما
استدل بأمور عادية، ولكنا نقول بالقول الوسط الذي لم يقله الشافعي ولا أبو حنيفة ، ودليلنا مستقل عنهما. وهو: الحديث الذي جاء
فيه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله!
أنا أبيع التمر، وجاءتني امرأة تطلب تمراً، فأغواني الشيطان، فقلت
لها: عندي في البيت خير من هذا، فذهبت معي لأعطيها تمراً من البيت،
ولكن حدث أن كل ما يفعله الرجل مع امرأته قد فعلته معها غير أني لم
أجامعها، فطهرني. قال: هل صليت معنا العصر؟ قال: لا. قال: توضأ(1/145)
وصلِ ). فقال المالكية والحنابلة: هذا الرجل قد لمس ولامس وفعل
ما يقصد به اللمس فعلاً، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء،
بينما لم يتوضأ من مجرد القبلة، فقد تكون قبلة عاطفية كما يقبل
الإنسان زوجه وهي مريضة، أو يقبل ابنته الصغيرة، أو يقبل أمه عاطفة
وبراً، فالقبلة ليس فيها دعوى الشهوة، وكذلك الملامسات الأخرى،
كقول عائشة : غمزني أو لمسني بيده... فكل هذه أمور عادية،
فتركنا الوضوء من الأمور العادية، وأوجبنا الوضوء من الأمور غير
العادية؛ لأنه قال للرجل: توضأ، وموجب وضوء الرجل هنا هو ما كان
منه مع المرأة؛ لأنه لامسها بقصد الشهوة، ولذا شعر بالإثم فجاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وقال: طهرني!. قالوا:
لا، من قال لكم: إن الرجل قبل أن يلقى المرأة كان متوضئاً حتى
انتقض وضوءه بهذه الحالة. فلماذا قال له: توضأ؟ قال له: توضأ. لأن
الوضوء مكفر للذنوب (إذا غسل وجهه خرجت خطاياه ... إذا غسل يديه...
إذا فعل... إذا فعل... ) . قالوا: لا، الرسول صلى الله عليه
وسلم ترك الاستفصال من الرجل قبل أن تأتي تلك المرأة، فلم يقل له:
كنت متوضئاً أم غير متوضئ؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة المقال في
الحال، فكأن الرسول لم يعتبر وضوءاً قبل ذلك، وأمره بوضوء جديد
لتلك الحالة. فقلنا: بأن مطلق اللمس لا ينقض، ولم نقل: كل لمس لا
ينقض، وقلنا: اللمس بشهوة هو الذي ينقض. فما رأيكم الآن ما بين
أحمد و مالك و أبي حنيفة ؟ أي الكفتين ترجح؟ مالك و أحمد . وعلى هذا -أيها الإخوة- نحن لا نطمع أن نزيل الخلاف
في مسألة خلافية اختلف فيها الأئمة رحمهم الله؛ لأن لديهم من
النصوص، ما يؤيد ما ذهبوا إليه، وهناك نصوص عديدة لا أستطيع أن
أسردها كلها أو أحفظها كلها، ولكن هذه هي خلاصة البحث في هذا
الموضوع، وهذا القدر يكفينا، فإذا كنت شافعياً أو حنفياً أو
مالكياً أو حنبلياً أياً كان، وكنت من أهل النظر والترجيح ما الذي(1/146)
تطمئن نفسك إليه بصرف النظر عن المذهب الذي تأخذ به؟ كما يقال:
الحال الوسط والذي يجمع بين الأدلة هو ما ذهب إليه مالك و أحمد ، ولو قال قائل: الأحوط ما قال الشافعي . ويكون أحوط للعبادة
وأصح، ولكن الأحوط فيه تكليف وإفساد، فيه إبطال الوضوء السابق،
وفيه تكليف بالوضوء من جديد، وهذا فيه أيضاً إحراج. إذاً: من حيث
المنهج العلمي ومن حيث البحث في الأدلة على هذه الطريقة يكون قد
ترجح عندنا ما ذهب إليه مالك و أحمد . عندنا جزئية يضطر
إليها الشافعية فيقلدون فيها مالكاً و أحمد ، وهي أنه في
حالة الطواف وشدة الزحام تجد بعض الإندونيسيات يلبسن القفازات،
والمحرمة ممنوعة من لبس القفاز، فتأتي المحرمة وتلبس القفازين حتى
لا ينتقض وضوءها، حتى إن من الرجال من يلبسهما حتى لا يلمس المرأة،
ولبس القفازين ممنوع على المحرم، ومن هنا نجد الشافعية يقولون: من
أراد أن يطوف بالبيت فيقلد مذهب مالك و أحمد أو مذهب أبي
حنيفة في الطواف؛ حتى لا يبطل وضوءه، ويكون على اعتقاد بأخذ
قول إمام معتبر ينجيه من الورطة، وإلا لو بقي شافعياً فليس بمكمل
طوافه طوال عمره! فإذا قيل: إذا حصل اللمس يكون فلمن النقض: للامس
أم للملموس؟ هناك من يقول: النقض للامس؛ ولهذا بعض الشفاعية ما
قالوا بوجود حجاب وغطاء في قصة عائشة، وإنما قالوا: هي التي لمست،
الرسول ما لمس، وإذا كانت هي متوضئة ينتقض وضوءها أما الرسول فلا،
بل يستمر في صلاته؛ لأن النقض للامس وليس للملموس. وإن قيل: باللمس
حصلت شهوة عند الاثنين،
( كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [3] )
عناصر الموضوع
1 حكم الوضوء من القيء والرعاف والقلس والمذي
2 حكم الوضوء من أكل لحوم الإبل
3 حكم الغسل على من غسّل ميتاً والوضوء على من حمله
كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [4]
يجب على المرء المسلم أن يسلم لجميع أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله
عليه وسلم، ولا يعترض على شيء من ذلك، ولا يسأل: ما هو السبب وما هي(1/147)
الحكمة في كذا؟ فإن الشرع كله حكم، ولكن قد تظهر له الحكمة فيزداد
يقيناً، وقد لا تظهر له، فما على المسلم إلا التسليم والطاعة، وألا
يجهد نفسه في معرفة ما خفي عليه من الحكمة والعلة، فإن ذلك قد يورده
إلى الشك والحيرة والتكذيب، والعياذ بالله!
حكم الوضوء من القيء والرعاف والقلس والمذي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله:
[ وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فليتوضأ، ثم ليبن على
صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم ) ] أخرجه ابن ماجة وضعفه أحمد وغيره. هذا الحديث من الأحاديث المشكلات، تقول فيه أم المؤمنين
عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي ) وتشديد الياء في المذي
غير سليم.
تعريف القيء والقلس
فجاء في الحديث ذكر هذه الأربعة: القيء، والرعاف، والقلس، والمذي،
أما المذي فقد تقدم الكلام عليه، وبقي ما هو القيء وما هو القلس؟
القيء: هو رجوع الطعام من داخل المعدة دهفاً، والقلس: هو رجوع بعض
الماء أو السائل من أول المعدة، وليس من داخلها، ولذا القلس ليس
فيه تغير الطعام، والقيء يتغير معه الطعام؛ لأنه جاء من داخل
المعدة، وقد مر بعملية الهضم، وكما يقولون: هل عملية الهضم
ميكانيكية أو كيميائية؟ بمعنى: هل المعدة تطحن الطعام كالرحى عندما
تطحن الحب -فهذه ميكانيكية-؟ أو أن هناك مادة يفرزها الجسم إلى
المعدة تذيب الطعام مثل حمض الكبريت أو الأسيت الذي إذا وضع على
نبات يحرقه ويذيبه؟ قالوا يحصل الأمران معاً، فالمعدة فيها غدد
تفرز مواداً تساعد على الهضم، والمعدة تتحرك فتهضم الطعام. فقالوا:
إذا جاء الطعام من المعدة فقد نالته حركة المعدة الميكانيكية،(1/148)
واختلط بإفراز المعدة الكيميائي، فأصبح خارجاً عن حالة الطعام. هذا
هو القيء، أما القلس فلا يصل إلى داخل المعدة، بل يرجع من أولها،
وغالباً ما يكون من كثرة المياه عند الإنسان في نهاية الأكل، فإذا
أكل وشرب ماء بكثرة لم يبق هناك محل للنفس، فإذا أراد أن يتنفس
يطرد النفس السوائل التي في أول المعدة، فهذا هو القلس. فالحكم هنا
هو: هو أن من أصابه القيء يتوضأ، ومن أصابه القلس يتوضأ.
تعريف الرعاف
الرعاف هو: خروج الدم من الأنف خاصة، وهذا كما يقولون: قلّ من يسلم
منه، خاصة في الحر وفورة الشباب ووفرة الدم، فيكون الرعاف كثيراً
عند بعض الأشخاص خاصة في سن المراهقة لوفرة الدم، يقول الأطباء: إن
منطقة الأنف يلتقي فيها اثنا عشر عرقاً مع الأعصاب لحساسية الدم،
فأدنى احتقان في الأنف يأتي بالرعاف، ولذا من أنواع علاجه الكي،
فتكوى تلك العروق لتنشف وتجف. وبالمناسبة فإن من أصيب بالرعاف فأخذ
ماء الليمون واستنشقه، أو ماء البصل واستنشقه فإنه يوقف عنه
الرعاف. فهذا الدم إذا خرج من الأنف فعلى من خرج منه أن يتوضأ،
فإذا خرج الدم من اليد أو من الرِجْل فهل على من خرج منه أن يتوضأ
أو هو خاص بالأنف؟ الجواب: من نظر إلى هذه المسميات قال: مجموعها
نجس، فالدم نجس في الرعاف، والقيء نجس بتغيره في المعدة، واختلفوا
في القلس هل هو نجس لخروجه من داخل أو ليس بنجس؛ لأنه لم يتغير بعد
بل هو على ما هو عليه؟ فمن قال بالوضوء من هذه قال: كل نجس خرج من
الجسم من أي موضع فهو ناقض، وهذه قاعدة يقول بها الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وهي رواية عن أحمد : (الخارج الفاحش النجس من البدن
ناقض). فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يرى العمل بهذا الحديث،
ولكن روى مالك رحمه الله في الموطأ قال: باب الرعاف. وذكر فيه
أربعة أو خمسة آثار عن ابن عمر وعن ابن عباس وعن غيرهما،
أثر ابن عمر : أنه كانت تصيبه البثرة في وجهه فيفقؤها بإصبعه(1/149)
ويخرج منها القليل من الدم فيفتله بين أصابعه وهو يصلي، وكان يخرج
منه الرعاف قليلاً فيتلقاه بأصابعه ويفتله بين أصابعه ويصلي. وجاء
عن سعيد بن المسيب في الرعاف أنه قال: (إذا كثر فاستلق على
ظهرك) فاستلقى على ظهره ثم قام فذهب فغسل عنه الدم ثم رجع فصلى ولم
يبطل وضوءه، وفي بعض الروايات: فذهب فتوضأ، فحمله من لم ير الوضوء
من هذه الأشياء على أن (توضأ) المراد به الوضوء اللغوي، وأنه كما
جاء في بعض الروايات: (غسل الدم ورجع). الإمام أبو حنيفة رحمه
الله يرى الوضوء من القيء ومن القلس ومن الدم الخارج، بشرط أن يكون
فاحشاً لا أن يكون قليلاً، والفاحش: هو ما جاوز مكانه. وبعضهم
يقول: هو بقدر الدرهم البغلي، والدرهم البغلي نسبة إلى رجل اسمه
البغل كان يسك الدراهم لجعفر البرمكي أو لدولة العباسيين،
وقيل: هو أقل من الكف ... وأشياء عديدة، أو ما فحش في عين الناظر
فإنه يكون حينئذ ناقضاً للوضوء. أما بقية الأئمة الثلاثة فلم
يقولوا بالوضوء من هذه الأمور إلا من الرعاف إذا كثر فيغسله،
واستدلوا على عدم الوضوء بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه
احتجم، وغسل موضع المحاجم وصلى ولم يتوضأ ) والحجامة تخرج دماً
كثيراً أكثر من الرعاف، فكونه صلى الله عليه وسلم غسل موضع الحجامة
الذي هو موضع خروج الدم ولم يتوضأ معناه أن خروج الدم من الجسم ليس
بناقض. والمشكل في هذا: أنه يذهب يتوضأ ويرجع ويبني على صلاته أي:
بعد أن يذهب ويستدبر القبلة، ويأتي بهذه الحركات والخطوات، وقد
تكون المسافة إلى المغسل، مقدار ربع كيلو متر، وهو لا يتكلم يرجع
ويبني على صلاته، فقال بعضهم: إن هذا عمل كثير يخرجه عن هيئة
الصلاة فيقطعها، ولكن إذا صح الحديث فلا قول لأحد معه؛ لأن الحديث
قد جاء في أن المصلي يقتل الحية والعقرب وهي تزور عنه يميناً
وشمالاً ومع ذلك لا يزال في الصلاة. إذاً: بعد هذا العرض نرجع مرة(1/150)
أخرى إلى سند الحديث: الحديث أخرجه ابن ماجة وضعفه أحمد وغيره. فإذا كان الحديث سنده ضعيف فهل ينبني عليه حكم؟ نحن قلنا:
بأن اليقين لا يرفع بشك، وهذا حديث ضعيف وأقل ما فيه أنه سيورث
شكاً، إذاً: نبقى على الأصل وعلى هذا يكون غير ناقض. والله تعالى
أعلم.
حكم الوضوء من أكل لحوم الإبل
قال المؤلف رحمه الله: [ عن جابر بن سمرة رضي الله عنه : (أن
رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال:
إن شئت. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم ) أخرجه مسلم ]. في نهاية باب نواقض الوضوء، وقبل أن يتكلم المؤلف على أحكام
أخرى غير أحكام الوضوء جاء بهذه المسألة، وهي من أشد المسائل
خلافاً في نواقض الوضوء، وللناس فيها آراء متعددة، ألا وهي: الوضوء
من لحوم الإبل. قوله: عن جابر رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً
سأل النبي صلى الله عليه وسلم). قوله: (رجلاً) نكرة، غير مسمى،
وهذا لا يضر في الإسناد؛ لأن هذا النكرة سأل رسول الله، يعني: أنه
مسلم رأى رسول الله، فهو صحابي، والصحابي لا يفتش عنه؛ لأن الصحابة
رضي الله تعالى عنهم كلهم عدول؛ ولذا فإن المرسل إذا كان الذي لم
يُسم فيه صحابياً فقط فإنه صحيح ويعمل به. قوله: (أن رجلاً سأل
النبي صلى الله عليه وسلم) ومقتضى هذا السؤال ما حاك عنده: هل هناك
فارق بين لحم الإبل ولحم الغنم أو لا؟ أأتوضأ من لحوم الإبل؟
أأتوضأ من لحوم الغنم؟ فلما سأل عن لحوم الغنم قال له صلى الله
عليه وسلم: (إن شئت ) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن شئت) بدل
(نعم) أو (لا) أخذ منه العلماء جواز الوضوء للمتوضئ؛ لأنه إذا لم
يكن متوضئاً فليس أمر الوضوء متروكاً إلى مشيئته، بل يتعين عليه أن
يتوضأ؛ لأنه غير متوضئ، ولكن معنى السؤال: المتوضئ الذي يأكل لحم
الغنم هل يتوضأ بسبب ذلك أو لا؟ فكان الجواب في حق لحوم الغنم: (إن
شئت) يعني: إن شئت توضأت، وإن شئت اكتفيت بالوضوء الذي كان قبل(1/151)
أكلك لحم الغنم، وبالتالي يكون أكل لحم الغنم ليس ناقضاً للوضوء.
قوله: (أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم ) هناك فرقٌ بين (نعم)
وبين الجواب الذي يتضمن صيغة السؤال، وقوله (نعم) أي: توضأ من أكل
لحوم الإبل. وهنا وجدنا فرقاً بين لحوم الغنم ولحوم الإبل في أن
الأولى لا توجب الوضوء، والثانية توجب الوضوء، وجاء حديث آخر عام
بلفظ: (توضئوا -بصيغة الأمر- من لحوم الإبل ) وجاء أيضاً: (صلوا
في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل ) في هذا الحديث وذاك
أمر منه صلى الله عليه وسلم بعدم المقارنة، فهذه بهيمة أنعام وتلك
بهيمة أنعام، وكلاهما حلال الأكل، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم
بالوضوء من لحوم الإبل، ويخير الإنسان في الوضوء من لحوم الغنم،
والنتيجة: أن لحوم الغنم ليست ناقضة، ولحوم الإبل ناقضة.
مشروعية الوضوء من أكل لحوم الإبل دون غيرها
قبل الدخول في التفصيل في أقوال الأئمة رحمهم الله نقول: هناك
أشخاص دخلهم الشك، وأرادوا أن يشككوا غيرهم في التشريع الإسلامي،
وأعداء الإسلام يتتبعون الشبه، يقولون: كيف يفرق الدين الإسلامي
بين متماثلين، فهذا لحم وهذا لحم، وهذا ينقض وهذا لا ينقض؟! وهذا
في حسبانهم تناقض، وكذلك قالوا في الحديث الآخر -حديث أبي السمح -: (يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام ) قالوا: كيف فرقتم
بين بول البنت وبول الولد وهما متماثلان أي: قبل أن يأكلا الطعام؟!
فنقول لهؤلاء: نحن أولاً وقبل كل شيء التزمنا باتباع رسول الله كما
التزمنا بوحدانية الله، ولا يتم إسلام إنسان إلا بهذا الالتزام،
ولا يدخل الإنسان في الإسلام إلا إذا أعلن أن "لا إله إلا الله"
فإذا ما اعتقد ألوهية غير الله نقض "لا إله إلا الله"، وكذلك "محمد
رسول الله" فإذا ما اتبع غير محمد نقض أن محمداً رسول الله، وإذا
التزم بأن محمداً رسول الله الذي اعترف برسالته لزمه أن يأخذ كل ما(1/152)
جاءه به محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا ردّ شيئاً يكون قد نقض
قوله: "محمد رسول الله". ونحن هنا نقول: لو أن إنساناً بين يدي
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرق له بين المتماثلين، هل يملك أن
يقول: لماذا يا رسول الله! فعلت ذلك؟ ولو أن رسول الله جاء إلى
إنسان عنده، وأخذ رطبتين من طبق، وقال: هذه حلال لك فكلها، وهذه
حرام عليك لا تأكلها. هل من حقه أن يقول: لماذا لا آكلها يا رسول
الله؟! أو يتعين عليه ألا يأكلها؟ الجواب: يتعين عليه أن لا يأكلها
ولو أكلها مع كونها رطباً جنياً لكان عاصياً، ولذا أجمع الأصوليون
على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور المباحة العادية،
لو توجه إلى إنسان بعينه يصير فرضاً عينياً عليه، ولا يجزئ عنه إلا
هو. وقالوا: لو ركب صلى الله عليه وسلم ناقته، وسقط السوط من يده،
وعنده عشرة أشخاص، وقال لواحد منهم: يا فلان! ناولني السوط. فهذا
المسمى تعين عليه فرضاً عينياً كفرض الصلاة أن يناول السوط لرسول
الله، ولا يحق له أن يقول: يا فلان! ناول رسول الله، أو أنت قريب
من الناقة ناول رسول الله؛ لأن الأمر توجه إليه بشخصه. إذاً: لا
يمكن أبداً لإنسان مسلم أن يحكِّم العقل في ما صدر عن النبي صلى
الله عليه وسلم، ولكن إذا ثبت الأمر من رسول الله فالعبرة حينئذ
بالثبوت، ونحن نقول أيضاً: لو جاءك رسول الله بكأسين من الماء،
وقال: اشرب هذا، ولا تشرب هذا. فهل تملك أنت أن تشرب الذي قال لك:
لا تشربه؟ الجواب: لا تملك ذلك. فأقول: بهذه المناسبة، أنا أريد أن
أطيل في هذه المسألة بالذات، لما فيها من الشبه، ولما فيها من توقف
العقل: فهذا حدث وقع بين يدي أحد الملوك العرب في الجزيرة العربية:
وهو أنه كان له وزير، وكان يتحرز منه، وكان الملك له أخت دونه في
السن ذات عقل، وكانت تجالسه، ولما كبر وبلغ الستين كان يحضرها معه
إلى المجلس؛ مخافة أن يكون منه خطأ أو زلل أو شيء هذا من ناحية،(1/153)
ومن ناحية أخرى كنوع حراسة له من كيد الوزير. وحدث ذات مرة أن جاء
الساقي بعدة كئوس للحاضرين -قد تكون عشرة- فيها شراب، وجاء بكأس
واحد فارغ فوضعه أمام الملك، وجاء بزجاجة الشراب -وكانت مختومة-
ففكها أمامهم وصب في الكأس الخالي وقدمه للملك، فإذا بأخته الفطنة
حينما مد الملك يده إلى الكأس أمسكتها وقالت: لا تأخذها، فشرب
الحاضرون من كئوسهم، ثم استدعت الطبيب وقالت له: انظر إلى هذا
الشراب في هذا الكأس. فأخذه فبهت! لأن فيه سماً زعافاً، فقالت له:
انظر إلى هذه الزجاجة التي صب منها، فأخذها وقال: لا شيء فيها.
وهنا يأتي دور العقل! الزجاجة ليس فيها شيء، وفتحت وصب منها في كأس
خال، وصار الشراب في الكأس سماً، فمن أين جاء السم؟ وهنا إما أن
يقول: الزجاجة كانت خالية من السم، والكأس كانت خالية فلا سم فيحكم
العقل ويكذب الطبيب فيشرب فيموت، وهذا بسبب تحكيم العقل، وإما أن
يصدق الطبيب فيسلم. وهنا تعجب الحاضرون! فسألها أخوها: كيف عرفت
فيه السم؟ وكيف فطنتِ لذلك؟ قالت: لأن الساقي كان في السابق يأتي
بالكئوس كلها مصبوبة ويبدأ باليمين، ويأتي إلى الملك فيأخذ إحدى
الكئوس، وفي هذه المرة عين الكأس الذي سيشربه الملك، والكأس قد طلي
بمادة سامة لا يظهر لونها، وهي شديدة الفاعلية، وفي النظر أنه زجاج
صاف رائق لا شيء فيه، ولما صب الشراب على السم الذي صبغ ودهن في
الكأس تحلل مع الشراب، وأصبح قاتلاً. وهذه واقعة وقعت فعلاً، ولا
أريد أن أسمي البلد ولا الملك وهو معروف، فالعقل هنا يقول: الكأس
أبيض صقيل نظيف، والزجاجة التي صب منها الشراب ليس فيها سم، إذاً:
الإنسان بين أحد أمرين: إما أن يحكم العقل ويقول: الزجاجة سليمة،
والكأس نظيف، فلا سم فيشرب، وإما أن يصدق الطبيب فيسلم. وهكذا أيها
الإخوة! فإن المسلم إذا سمع عن رسول الله خبراً ثابتاً -وهنا
الحديث رواه مسلم ، ولا مطعن فيه لأي مخلوق- فهو بين أحد(1/154)
أمرين: إما أن يقول: سمعاً وطاعة فيمتثل الأمر ولو لم يعلم ما وراء
ذلك، وإما أن يحكم العقل وقد يورده المهالك، وقد وجدنا في الشرع
الحكيم في نص القرآن الكريم أن الشيء الواحد قد يختلف حكمه باختلاف
الحالات ابتلاءً وامتحاناً، يقول سبحانه وتعالى: لا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]
ويقول: وَإِذَا
حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]
يعني: الصيد حين الإحرام حرام، وبعد الانتهاء من الإحرام الصيد
حلال، فهل تغير الصيد؟ وهل تغير الإنسان؟ الجواب: لا، فكيف حرم
الصيد وهو أحل الحلال على المحرم الذي توجه إلى الله يلبي، وهو
حلال للبدوي الذي يسوق البعير، أو للسائق الذي هو غير محرم، يغني
في الهواء ويقتل الصيد ويأكل؟! بين سبحانه الحكمة من ذلك فقال: لَيَبْلُوَنَّكُمُ
اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ
وَرِمَاحُكُمْ [المائدة:94]
لماذا؟ لِيَعْلَمَ
اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة:94]
إذاً: تحريم الصيد ليس شحاً بالصيد ولا امتهاناً للمحرم، ولكن
ابتلاء، ليرى هل المحرم صادق في إحرامه، وصادق في إيمانه أو لا؟
وقد وجد هذا الامتحان في غير ذلك، ومن أمثلة ذلك قصة طالوت وجنوده
الذين معه قال تعالى حاكياً قوله لجنوده: إِنَّ
اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [البقرة:249]
أي: نهر يجري، وقال: الذي يشرب منه فليس مني إلا من اغترف غرفة
بيده لماذا؟ الجواب: لأنه يريد أن يمتحن هؤلاء؛ لأنهم اعترضوا على
تنصيبه ملكاً عليهم كما قال الله عنهم: أَنَّى
يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ
مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247]
لأن عندهم مقاييس متغايرة فقال الله: إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ
وَالْجِسْمِ [البقرة:247]
وزاده مكونات الملك: العلم والجسم، العلم في العقل والتفكير(1/155)
والتدبير، والقوة في الجسم للتنفيذ، وهذه هي مقومات الملك. إذاً:
الشرع يأتي بأمور معقولة قد يدرك العقل الحكمة من ورائها، وقد يأتي
بما لا يدركه العقل -أي: أنه يتقاصر في قواه وإدراكه عما وراء ذلك-
فإن كان الإنسان مؤمناً صادقاً فسيقول: سمعاً وطاعة. وهذه أيها
الإخوة! مقدمة بين يدي هذا الحديث وهذه المسألة التي هي في قوله
صلى الله عليه وسلم: (توضئوا من لحوم الإبل ) والتخيير في
الوضوء من لحوم الغنم، فلا يقف العقل ويتطاول ويتساءل: لماذا فرق
بين هذا وبين ذاك؟ بل نقول: إن لم تظهر لنا حكمة سكتنا وسلمنا ونحن
على حق، وإن ظهرت لنا ازددنا إيماناً ويقيناً كما قال الله: وَلَكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].
اختلاف العلماء في حكم الوضوء من أكل لحوم الإبل
جميع علماء الحديث من أصحاب السنن الست وغيرهم متفقون على أن من
أكل لحم الجزور يتوضأ، وأما الأئمة الأربعة رحمهم الله: فمالك والشافعي وأبو حنيفة رحمهم الله يقولون: لا يتوضأ؛ لأنه
نسخ الوضوء من أكل لحم الإبل، ولم يقولوا: ليس بثابت، بل قالوا:
نسخ. وأما أحمد رحمه الله فيقول بالوضوء من لحم الإبل، وهذا هو
مشهور المذهب، وإن كان هناك عن أحمد رواية أخرى توافق الأئمة
الثلاثة، ورواية ثالثة: أن من أكله عالماً بالنهي توضأ، ومن أكله
جاهلاً بالنهي لا يتوضأ. وهذه مردودة عند متأخري أهل المذهب؛ لأن
عندهم أن نواقض الوضوء لا تتوقف على العلم والجهل. إذاً: من
الناحية الفقهية فالأئمة رحمهم الله: أبو حنيفة ومالك والشافعي يقولون بعدم الوضوء، وأحمد رحمه الله المشهور في
مذهبه الوضوء. إذا كان الأمر كذلك فهناك تفريعات في هذه المسألة:
السائل سأل عن اللحوم، فيأتي عند من يقول بالوضوء من اللحوم، هل
الحكم مناط باللحم فقط في مسماه، وفي حقيقته العرفية، أو أنه يتبع
اللحم غير اللحم عرفاً؟ وهل اللبن -لبن الإبل- يتبع اللحم؟ وهل(1/156)
المرق الذي طبخ فيه اللحم يتبع اللحم؟ وهكذا هل يتبع اللحم الكرش،
والكبد، والدماغ، واللسان، ولحم الرأس؟ يقولون: كل هذه أصبحت في
العرف متميزة، بدليل أنك لو أمرت خادماً لك أو إنساناً أن يأتيك
بكيلو جرام لحم إبل، وذهب وأتى لك بكرش كامل، فستقول له: يا أخي!
أنا ما قلت لك: كرش، أنا قلت لك: أريد لحماً. فإن قال: هذا لحم!
فستقول له: لا هذا ليس بلحم؛ لأنه قد أصبح العرف عند الناس أن
اللحم في البعير غير الكرش، والكرش له اسم مستقل. ولو قال لك قائل:
اذهب وائتني بلحم رأس. فذهبت وأتيت له بلحم فخذ، أو أتيت له
بالسنام. فهذا كله لحم! لكنه لا يرضى بذلك، لما كانت أجزاء الحيوان
لها أسماء عرفية عند الناس فهل يقتصر النقض على مسمى اللحم العرفي
عند الناس أو يشمل جميع أجزاء الإبل؟ هناك من يقول: يشمل جميع
أجزاء الإبل؛ لأن الله لما حرم لحم الخنزير شمل جميع أجزاء
الخنزير. وهناك من يفرق ويقصر الحكم على مسمى اللحم فقط.
بيان الحكمة من الأمر بالوضوء من أكل لحوم الإبل
وننتقل إلى القضية من حيث هي، ولا نقول: ما حقيقة الأمر؟ وما
الحكمة والغرض من وراء ذلك؟ لا نقول ذلك؛ لأن هذا تحكم على الشارع،
فقد تكون هناك حكمة غابت عنا لا ندركها ابتلاءً وامتحاناً؛ لأن
التشريع كله ابتلاء كما قال تعالى: تَبَارَكَ
الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:1-2]
إذاً: قد يكون الحكم ابتلاءً، وهنا لا نقول: الحكمة كذا، ولا نقول:
الغرض وراء ذلك كذا، ولا السبب في هذا هو كذا؛ وإن كان بعض الفقهاء
قد قال: الوضوء من لحوم الإبل إنما هو لشدة زهومته وزفره؛ لأنه أشد
زهومة من لحم الغنم. فأجاب الآخرون وقالوا: لحوم الظباء ولحوم
الحمام أشد زهومة وحرارة، وليس فيها وضوء. والذي يمكن لإنسان(1/157)
متتبع، متطلع، يرجو الكشف عن شيء خفي عليه هو أننا إذا نظرنا إلى
خصوص الإبل من حيث هي نجد أنها قد جاءت فيها دون بقية الأنعام
أوصاف انفردت بها، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا في مرابض
الغنم، ولا تصلوا في معاطن الإبل ) وهل النهي عن الصلاة في
معاطن الإبل لأنها نجسة؟ قالوا: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
لما جاءه العرنيون واجتووا المدينة أمرهم أن يذهبوا إلى إبل الصدقة
ليشربوا من ألبانها وأبوالها، فأبوالها على هذا طاهرة، ولو كانت
نجسة لم يأمرهم بالشرب منها، إذن: النهي عن الصلاة في معاطن الإبل
إنما هو لشيء آخر، فما هو؟ قالوا: كشف عنه الحديث: (ولا تصلوا في
معاطن الإبل؛ فإنها خلقت من الشيطان أو فإن معها شيطان ) يقول
العلماء في معنى شيطانها: معناه: أنها إذا جاءت إلى إنسان وهو يصلي
في محلها بركت عليه؛ لأن البعير لا يحيد عن موطنه الذي يألفه،
بخلاف الغنم فقد تكون قطيعاً يبلغ مائة رأس، وإذا أتت إلى إنسان
يصلي تبقى حوله ولا تؤذيه ولا تنطحه ولا تقف عليه؛ لأنها موادعة
ومسالمة، ليس عندها من الشر شيء. وفي بعض الروايات: (ولا تصلوا في
معاطن الإبل؛ فإنها خلقت من الشيطان ) فخلقت من الشيطان، أو
معها شيطان أي: أن هناك ارتباطاً بينها وبين الشيطان. وإذا جئنا
إلى جانب آخر نجد أيضاً في قضية الشيطان: أن الرسول صلى الله عليه
وسلم لما رأى رجلاً شديد الغضب، قال: (انظروا إلى هذا -وقد انتفخت
أوداجه واحمرت عيناه- لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لذهب
عنه ذلك ) وقال: (إن الغضب من الشيطان فاطفئوه بالماء ) فإذا
كان الغضب من الشيطان، فدواؤه أن نطفئه بالماء، وأرشد الإنسان أنه
إذا كان قائماً حال غضبه فليجلس، وإذا كان جالساً فليتكئ، فإذا لم
يذهب عنه بهذا كله توضأ؛ ليطفئ أثر الشيطان بالماء. إذاً: هناك
ارتباط بين الوضوء وأكل لحم الإبل. وننتقل إلى الأكل: يجمع علماء(1/158)
التغذية والأطباء بأن كل طعام له خصائصه في الغذاء وله تأثير على
الآكل، فهناك -كما تعلمون- الألبانيون، وهناك النباتيون، وهناك غير
ذلك، فالنباتيون لا يأكلون اللحوم، ويرون أن اللحوم تؤثر على القلب
وعلى الروح، وأن النبات أخف غذاءً، ويتفقون -أي: علماء التغذية
والأطباء- أيضاً على أن تناول الحليب أو الألبان ومشتقاتها تهدئ
الأعصاب، وأن أنواعاً من اللحوم توتر الأعصاب وتثيرها، وأن...
وأن... إلخ. ومن هنا نجد أن الشريعة المطهرة نهت عن أنواع من
اللحوم لغرائز في أصولها، فنهى صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم
الحمر الأهلية، بينما الحمر الوحشية تصاد وتؤكل، وكان الجميع يؤكل
إلى عام خيبر، فنهى صلى الله عليه وسلم في عام خيبر عن أكل لحوم
الحمر الأهلية، فقالوا: سبحان الله! هذه أهلية لا تؤكل، وقد كانت
تؤكل من قبل، وتلك برية وحشية تؤكل.. لماذا؟! فأجابوا وقالوا: إن
الحمار من طبيعته اللؤم والخسة، بمعنى: أنه يخاف من القوي، ويتلاعب
بالضعيف، فإذا وجد غلاماً صغيراً تلاعب به، وإذا وجد شخصاً قوياً
انقاد إليه، ولذا قيل: ألأم من حمار، وهو أيضاً يصبر على الذلة
ولذا قيل: ولا يقيم على ذل يراد به إلا الأذلان: عير الحي والوتد
العير: هو الحمار، يضرب ويمتهن فيصبر على الذل ولا يحرك ساكناً،
أما الحمار الوحشي فليس فيه ذلك؛ لأنه يعتمد على نفسه في حياته،
وفي دفاعه عن نفسه من بقية الوحوش، ويسعى على أكله وطعامه، ولذا
يقول أصحاب علوم الحيوان: إن التولبة -وهي أنثى الحمار الوحشي- إذا
ولدت تولباً صغيراً كسرت رجله؛ ليبقى في جحره إلى أن يجبر الكسر،
فيكون قد كبر وقوي، فيستطيع أن يسرع وأن يسابق الوحوش فيسلم منها،
أما لو تركته قد يدب وهو صغير فيخرج من جحره فتأكله الوحوش. إذاً:
فهو يعتمد على نفسه في حياته وفي طعامه، بعيداً عن خصلة الذلة
والإهانة. وإذا جئنا إلى تحريم لحم الخنزير، يقول أبو حيان : إن(1/159)
كل الحيوانات لديها الغيرة على أنثاها إلا الخنزير؛ فإنه لا غيرة
له على أنثاه، فمن أكثر من لحم الخنزير سلب الغيرة على حريمه -يقول
في تفسيره-: وقد شاهدنا ذلك في بلادنا ممن يكثرون من أكل لحم
الخنزير، أنه لا غيرة لديهم على نسائهم. إذاً: نرجع ونقول: اللحوم
وأنواع الغذاء تؤثر على الآكل، ولما كانت الإبل من الشيطان فإنها
تؤثر على الآكل بالشيطنة، وهذا يثير فيه الغضب كما يثير الشيطان
الغضب، ويؤيد هذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن مع
الإبل الكبر والخيلاء، ومع الغنم الوديعة والسكينة ) فصاحب
الإبل الذي يسوق عشرين إلى خمسين بعيراً يشعر أن رأسه أعلى من سنام
البعير، والذي يسوق الشويهة ويرفق بها ويصبر عليها يكون متواضعاً
مع الناس، ولا تجد فيه كبرياء ولا شدة، ومن هنا يقول صلى الله عليه
وسلم: (ما من نبي إلا وقد رعى الغنم ) ولم يقل: الإبل؛ لأن راعي
الغنم يراعي ضعفها، فيتتبع لها الماء والمرعى، ويرفق بها، ولذا تجد
في يده عصا صغيرة، بخلاف صاحب الإبل فإن معه عصا كبيرة. إذاً: هناك
فرق في طبيعة الحيوانات، فالإبل تميزت بما يجرها إلى عنصر الشيطنة
-لا أقول إلى الشيطان- ولحمها فيه هذه الغريزة، وكما يقول عمر : للحم خرمة. أي: تأثير على عقلية الإنسان، فإذا أكثر الإنسان من
أكل لحومها انتقلت إليه عادتها، ومن هنا لما كان أثر الغضب من
الشيطان كان إطفاؤه بالماء. وبهذا يجد العقل -ولو التماساً- فرقاً
بين لحوم الغنم ولحوم الإبل. وبالله تعالى التوفيق.
حكم الغسل على من غسّل ميتاً والوضوء على من حمله
قال المؤلف رحمه الله: [ قال: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من غسَّل ميتاً فليغتسل، ومن حمله
فليتوضأ ) أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه،
وقال أحمد : لا يصح في هذا الباب شيء ]. هذه المسألة من
المسائل الخلافية بين العلماء، والأئمة الأربعة لا يرون وجوب الغسل(1/160)
على من غسل ميتاً، ولا الوضوء على من حمله، وأما الحديث: (من غسَّل
ميتاً فليغتسل ) فقالوا: على فرض صحته يكون هذا الغسل لا عن
حدث، ولكن عما يمكن أن يكون قد وصل إليه من رذاذ الماء الذي يغسل
به الميت، وعادة الميت في تلك الحالة أنه ربما كان فيه ما ينبغي
تغسيله، فقالوا: يغتسل احتياطاً للنظافة والطهارة لا عن حدث تغسيل
الميت. والقسم الثاني من الحديث: قوله: (ومن حمل ميتاً فليتوضأ )
( من حمل) معناه: بأنه بعدما يحمل الميت يتوضأ، والجمهور قالوا:
(من حمل) أي: من أراد أن يحمل، كما في حديث أنس : (كان صلى
الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال... ) فقوله: (إذا دخل) أي:
إذا أراد الدخول؛ لأنه بعد دخوله لا يحق له أن يأتي بشيء فيه ذكر
الله، وكما في قوله تعالى: فَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ [النحل:98]
والمراد أن يستعيذ عند إرادته القراءة لا عند فراغه منها، فقالوا:
وهنا أيضاً (من حمل) أي: من أراد أن يحمل ميتاً فليتوضأ، ولماذا
يتوضأ؟ قالوا: لأن من يحمله سيذهب به إلى المصلى فينبغي أن يكون
متوضئاً، حتى إذا قدموا الميت للصلاة عليه يكون حامله أولى الناس
بأن يصلي عليه، وإذا كان سيصلي عليه يجب أن يتهيأ للصلاة عليه
بالوضوء من قبل. وجاء في تغسيل الميت في موطأ مالك رحمه الله:
أن أسماء زوج الصديق رضي الله عنهما في وفاة أبي بكر كانت هي التي غسلته، ثم خرجت على الناس وقالت: لقد غسلت أبا بكر ، واليوم شديد البرد، فهل ترون عليَّ من غسل؟ فقالوا: لا. فهذا
اتفاق من جميع الحاضرين بأنها لا غسل عليها من تغسيله، وعلى هذا
-كما قال أحمد رحمه الله-: لا يصح في هذا الباب شيء. إذاً:
يكفينا عدم صحة الحديث، وهذا هو توجيه الحديث على افتراض أنه صحيح.
وبالله تعالى التوفيق. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
( كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [5] )
عناصر الموضوع(1/161)
1 حديث أنس بن مالك في آداب دخول الخلاء
2 الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول الخلاء
3 حديث أنس بن مالك في حمل الماء والعنزة للنبي صلى الله عليه وسلم
كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [1]
يعلم الإسلام أبناءه مكارم الأخلاق، والتنزه عن النجاسات، وتنزيه ما
يستحق التعظيم عن ذلك ومما أرشد إليه هذا الدين الحنيف كيفية قضاء
الحاجة والأماكن التي تقضى فيها.
حديث أنس بن مالك في آداب دخول الخلاء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين،
سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فعن
أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه ) أخرجه الأربعة، وهو معلول ].
أنس رضي الله تعالى عنه يروي هذا الحديث لأنه كان خادم رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وخادمه ملازمه في بيته، فهو أدرى بتلك
الأمور الداخلية، فليس كل الناس سيحضرون دخوله صلى الله عليه وسلم
الخلاء، وهنا لما كان أنس هو الذي يرويه -وأنس خادمه في
بيته- يكون ذلك قرينة على أن هذا خلاء البيت. وتذكر كتب السيرة أن
الرسول صلى الله عليه وسلم كان عنده بيت خلاء فيما بين حجرة عائشة وحجرة فاطمة ، وكان يقضي حاجته فيه، وقيل: فوق السطوح.. إلى
غير ذلك، والصحيح أنه كان أسفل ما بين حجرة عائشة وفاطمة داخل الحاجز الحديدي الأخضر الموجود الآن، وكان يقضي فيه حاجته.
وكانوا العرب قبل ذلك تأنف أن تبني مراحيض أو تقضي الحاجة محل
السكنى، وكانت تأخذ المناصع -كما يقال- وهو الخلاء البعيد عن
البيوت، وإلى الآن ربما يوجد في بعض القرى في بعض البلاد الإسلامية
أنهم يستقذرون أو يستبعدون أو يتحرجون أن يجعلوا بيوت خلاء في داخل
البيوت، ويذهبون ويخرجون فيقضون حوائجهم في الخلاء، ثم اتخذت بيوت
الخلاء في البيوت حفاظاً على القعود والتكشف وغير ذلك.
نزع كل ما فيه ذكر الله عند دخول الخلاء(1/162)
فأنس يروي لنا من صور آداب الخلاء أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه، ولفظه (كان) تدل على التكرار.
(وإذا دخل) المراد بـ(دخل): أراد الدخول؛ لا أنه إذا دخل بالفعل،
والمراد أن ينزع الخاتم، وسبب نزع الخاتم أنه منقوش عليه "محمد
رسول الله" ثلاث كلمات في ثلاثة أسطر، فلو حملنا (إذا دخل نزع) على
ظاهر لاقتضى إدخال هذا الذكر الذي فيه لفظ الجلالة بيت الخلاء،
ولهذا قلنا: إن معنى (كان إذا دخل) أي: إذا أراد أن يدخل، وكما
يقول المالكية: ما قارب الشيء فإنه يعطى حكمه، وفي القرآن الكريم فَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ [النحل:98]
والمعنى: إذا أردت القراءة، فكذلك هنا: إذا أراد خول الخلاء. قال:
(نزع خاتمه). أول ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الخاتم
كان يلبس خاتم الفضة، وكان له فص من العقيق، فلما أراد أن يراسل
الملوك والأمراء ويدعوهم إلى الإسلام، قالوا له: يا رسول الله! إن
الملوك لا تقبل خطاباً إلا إذا كان مختوماً بختم المرسل، أي: حتى
يكون رسمياً كختم الدائرة أو ختم الدولة، فترك الخواتيم التي هي
مزينة بفص العقيق -وهو فص من الأحجار الكريمة- والناس يتخذون الآن
العقيق والفيروز والزمرد وغيرها من باب الحلية ومن باب الزينة،
ويذكرون خواص في هذه الأشياء الله أعلم بحقائقها. فترك الخاتم الذي
فيه فص العقيق، واتخذ خاتماً من فضة ونقش على فصه محل الحجر، فجعله
مربعاً أو مستديراً أملس، وحفر فيه نقش "محمد رسول الله". قالوا:
كان صفة النقش أن لفظ الجلالة في الوسط، ولفظ "محمد" ولفظ "رسول"
في الطرفين، ومهما يكن من شيء ففيه لفظ "محمد" رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وفيه الرسالة، وفيه لفظ الجلالة. وهنا أخذ العلماء
ضرورة تنزيه ما فيه ذكر الله عن مواطن الخبث: فإذا دخل ونسي الخاتم
أن ينزعه فماذا يفعل؟ قالوا: إن أمكن نزعه وإخراجه وهو قريب من(1/163)
الباب بعيد عن الأقذار فعل، فينزعه ويجعله في فيه ويطبق شفتيه
عليه، حتى يكون في حجاب عن مواجهة الأقذار، ولا مانع من ذلك. وإن
لم يمكن أن ينزعه، وصعب عليه أن يخلع الخاتم، كأن تطول مدة الخاتم
في يده ويصبح الخاتم ضيقاً فيحتاج في نزعه إلى مجهود أو آلام،
قالوا: يدير الفص إلى داخل الكف ويطبق الكف عليه، فيصبح اسم الله
أو ذكر الله محفوظاً بداخل الكف لا معرضاً لمواجهة الأقذار؛ لأنه
لا يؤمن أن يكون في محله عارياً عن ستر، ربما مع استعمال الماء أو
مع أي شيء يحصل هناك رذاذ من تلك المياه الموجودة، فتصل النجاسة
إلى ما فيه ذكر الله، فيقع المحظور. وقياساً على الذكر الموجود في
الخاتم يشمل الحكم كل ما فيه ذكر الله، سواء كان خاتماً، أو كان
حلية، أو كان قرطاساً، أو كان جهازاً أو آلة، فمهما يكن من شيء
يشتمل على ذكر الله فإنه يجب تنزيهه عن بيت الخلاء، فإن تذكر قبل
الدخول فبها ونعمت، وإن لم يتذكر فعليه أن يحتاط، فإن استطاع أن
يبعده وهو على جلسته فعل، وإن لم يحتط فعليه بإخفائه عن مواجهة
النجاسات، قالوا: حتى لو يضعه في عمامته، وذلك عندما كان الناس
يلبسون العمائم. وعلى هذا فالأمور تختلف من حيث هي، فمالك رحمه الله يكره إدخال شيء مكتوب بالعربية ولو لم يكن فيه ذكر الله،
لو أن هناك كتاب هندسة -زوايا وأضلاع ومقاييس موجودة- أو أشكال
هندسية يعبر عنها بكلام عربي قال: لا ينبغي إدخالها ولا التمسح بها
ولو لم يكن فيها ذكر الله؛ لأن تلك الكلمات والحروف عربية، والقرآن
الكريم إنما هو بلسان عربي نطقاً وكتابة، فتحترم الحروف التي بها
كتب القرآن الكريم عن تلك الأماكن. أما اللغات غير العربية فإنه إن
وجد فيها ما تعرف ترجمته بذكر الله فهي تأخذ حكم العربية؛ للمعنى
الذي تحمله، كما قيل: الألفاظ قوالب المعاني، أما إذا كان بلغة غير
عربية، وليس فيها ذكر الله فهذه لا قيمة لها، كنقوش ليس لها حرمة.
حرمة دخول الخلاء بالمصحف(1/164)
من هنا نعلم يقيناً بأن أشد ما يكون في هذا الباب التجرؤ في الدخول
بالمصحف الشريف إلى بيت الخلاء، ولو تطور وأصبح معطراً ومرخماً و..
و.. إلخ كما يتصور بعض الناس، وسبق أن نبهت على ذلك. وقد سأل بعض
الطلاب في الفصل وقال: شريط (كاسيت) مسجل وليس فيه حروف، هل يكون
له حرمة القرآن المكتوب بالأحرف في أوراق؟ فقلت: نعم؛ لأنه يحمل في
طياته القرآن الكريم، وكما قيل: (النار كامنة في الحجر) فإذا قدحت
به الزند خرجت النار، وكذلك هنا المعنى والصوت موجود في هذا
الشريط، وملصق على المادة المغناطيسية على هذا الحديد بأمور فنية
لا ندركها، وهي تمسك هذا القول على الشريط كما يمسك على القالب
الشمعي الذي يسمى الأسطوانات.. إلى غير ذلك، فمعناه أن القرآن
موجود، وإن كنا بحواسنا العادية لا نستطيع أن ندركه لا بالسماع ولا
بالرؤية، لكن إذا وضع في جهازه أخرج لنا هذا الصوت وسمعناه طبق ما
قرأه القارئ وسجل عليه. كذلك الرؤية: إذا أدخل شريط فيه صور، فعرض
على جهاز يخرجه ويبرزه، فرأينا الصورة وسمعنا القول، فإنه يأخذ حكم
المصحف. فإذا بإنسان -ما أدري هو يتمدح بهذا أو يتطاول أو يتجاهل-
يخرج مصحفاً في جيبه على سحَّاب ويقول: أنا أدخل بهذا الخلاء! فقلت
له: ماذا أفعل إذا حرمك الله توقير كتاب الله..؟! وهذا من المؤسف!
فإذا به يتمادى ويقول: بيت الخلاء اليوم ليس كبيت الخلاء في
القديم، أصبح الآن مرخماً ومعطراً ونظيفاً وكذا.. قلت: مرحباً..
حياك الله، لو وضع لك الغداء اليوم في بيت خلاء منظف من أحسن ما
تحب، رخامه أبيض، وهو مطيب، وكل الخبز مثلما تشاء، وتفضل هناك
الغداء. قال: كيف يصير هذا؟! قلت: عجيب.. أنت لست أفضل من كتاب
الله. فيا إخوان: يؤسفني أن أورد مثل هذا، لكن حيث وجد بالفعل شباب
مسلم ينتمي لكل معاني الإسلام، ويخرج المصحف من جيبه، مما يدل على
أنه حريص ومكثر من التلاوة، والله أعلم بأمره، لكنه يقول: أنا أدخل(1/165)
بهذا بيت الخلاء.. فحذارِ يا إخوة..! أما من الناحية الفقهية فنجد
المسائل إذا استجد لها صور عن الماضي ربما تدخل العقل والفكر، نجد
بعض العلماء يذكر ما إذا كان يخشى ضياع المصحف قبل الدخول؛ ولذا
تجدون أنتم في سبل السلام: أنه لا يجوز الدخول إلا عند الضرورة،
وذلك بأن يخشى ضياعه. يا سبحان الله! والله لأن يضيع ألف مرة، أو
يأخذه كافر ليس مسلماً ولا أدخل به بيت الخلاء! إذا أخذه إنسان
مسلم أقل ما يفعله أنه سيقرأ فيه.. أو سيحطه في الرف، أو سيبيعه
ويأكل ثمنه، وهذا أولى من أن ندخل بكلام رب العالمين بيت الخلاء.
قال تعالى: : فَلا
أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ
لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة:75-80]
إذاً: نتساهل نحن وندخل المصحف أو ما في معنى المصحف ولو أوراقاً
صغيرة وفيها ألفاظ من القرآن أو نحو ذلك..! لا ينبغي أبداً. ثم ما
وجدنا بيت خلاء خالياً من الناس؛ لأنه لا يكون الخلاء إلا في
العمران، فأودعه عند إنسان خارج عن دورة المياه، فهناك دكان! أو
إنسان جالس! أو شخص في الخارج ينتظرك! فتقول له: خذ هذا معك حتى
أخرج، فإذا خرجت أخذته منه ودخل هو، إذاً: الإنسان يحتاط. أما ما
نجده من بعض الأوجه والاجتهادات والآراء، ويقولون: حفظ المال واجب،
وضياع الأموال ممنوع ومحرم، كل ذلك قد يقال في غير القرآن الكريم.
والله تعالى أعلم.
الحمامات العامة حكمها حكم بيوت الخلاء
كذلك يلحق ببيت الخلاء الحمامات العامة؛ لأن الرسول صلى الله عليه
وسلم أخبر بأنها تحضرها الشياطين، وهي من المحلات التي لا ينبغي
دخولها إلا لضرورة العلاج أو عدم وجود أماكن أخرى يستطيع أن يغتسل
فيها، فلا ينبغي أن يدخل أيضاً المصحف في الحمام، اللهم إلا إذا(1/166)
كان للحمام إدارة -مكتب- فتضع ثيابك وتضع المصحف هناك، فلا بأس في
ذلك. لكن في مواجهة المغاسل أو المغطس أو الأماكن التي تكشف فيه
العورات هذا منهي عنه، فإذا كان منهياً عن كشف العورات في
الحمامات، وبسببها جاء النهي عنها إلا للضرورة، فلا ينبغي أن يعرض
إليها أيضاً المصحف الشريف أو الأحاديث النبوية الشريفة. وكما نبعد
وننزه ما فيه ذكر الله عن تلك الأماكن، فإن الإنسان كذلك لا ينبغي
أن يدخلها إلا وقت الاضطرار، ولا يأتي إليها -كما قيل- إلا للحاجة
التي دفعته إليها، ولولا الحاجة ما دخل هناك.
الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول الخلاء
[ وعنه رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل
الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ) أخرجه
السبعة ]. الأدب الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل
الخلاء، أي: أراد الدخول أيضاً، قال: (اللهم إني أعوذ بك من
الخبْث) بالتسكين أو (من الخُبُث) بضم الباء، فالخبْث: بالتسكين
جمع خبيث، ويشمل الجمادات كخبائث الطعام، وخبائث الماديات،
والأشغال النتنة والقبيحة، والخبُث: جميع خبيث، وهم شياطين ومردة
الجن، والخبائث: جمع خبيثة، فذكران الشياطين الخبُث، وإناث
الشياطين خبائث. وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم) يقول علماء
العربية: (الميم) في (اللهم) عوضاً عن الياء في أول الكلمة، أصلها:
يا ألله، فالأصل أن يؤتى بحرف النداء في الأول، فإذا لم يأت حرف
النداء جاءت الميم في الآخر (اللهم). (إني أعوذ) قالوا: أعوذ وألوذ
بمعنى أحتمي، والاستعاذة: هي الاستجارة والحماية والاحتماء بمن
تستعيذ به، وعندنا صيغة: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان
الرجيم، وهنا يستعيذ صلى الله عليه وسلم بالله من هذا الصنف من
خبائث الجن ذكوراً وإناثاً؛ لأنه لا يعيذ الإنسان منها إلا الله،
وبالاستعاذة بالله تكفي شرها؛ ولهذا كنا نسمع من والدنا الشيخ(1/167)
الأمين رحمة الله علينا و عليه يقول: علمنا الله كيف نصانع
أعداء الإنس ونتحفظ من أعداء الجن في الآية الكريمة: وَلا
تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ [فصلت:34]
السيئة ستأتي من العدو: ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]
فيقول: إذا كنت تريد أن تكتفي شر عدو الإنس فقابل إساءته بالإحسان.
وأظن أنه قيل لواحد واسمه شكسبير: نراك تصانع أعداءك، أهذا ضعف
منك؟ قال: لا، أترونني حينما أصانعهم أكتفي شرهم أم لا؟ قالوا:
بلى. قال: هذا خير من أن أجاهدهم وأواجههم. والقرآن الكريم يبين
لنا بأنه لا تستوي الحسنة منك ولا السيئة من عدوك، فادفع سيئة
العدو بالتي هي أحسن منك تكتفي شره، فإذا هذا العدو المعادي لك
كأنه ولي حميم. ولكن لا ينالها كل أحد ينالها: وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]
فهذا الجانب هو الاكتفاء من شر عدو الإنس. والجانب الثاني:
الاكتفاء من عدو الجن، وهو يأتي بعد ذلك مباشرة: وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [فصلت:36]
فهنا عدو الجن لا تستطيع أن تصانعه، ولا أن تدفع سيئته بأن تحسن
إليه، ولا تراه ولا تستطيع أن تعامله معاملة الإنسي، فليس لك مفر
ولا مهرب منه ولا سلامة من كيده وشره إلا أن تستعيذ بالله منه؛
لأنه الأقدر عليه والأعلم بحاله. وهنا: (اللهم إني أعوذ بك): أي:
ألوذ بك، وأحتمي بك. (من الخبُث والخبائث)، أي: من ذكران الشياطين
المتمردة ومن إناثهم. إذاً: الشياطين فيهم ذكور وإناث، وفيهم تزاوج
وتناسل، وفيهم تكاتف، وهذا كما جاءت الأخبار في ذلك مستفيضة. وعلى
هذا: لماذا يقول ذلك عند دخول الخلاء ولم يقل ذلك حينما يأوي إلى
فراشه لينام، ولم يقل ذلك حينما يريد أن يأكل أو يلبس ثيابه؟(1/168)
قالوا: لأن بيوت الخلاء هي مسكن هؤلاء الأشرار (الخبث والخبائث)
أما الصالحون الذين لا يتمردون فلا يسكنون بيوت الخلاء، ولا يأوون
إلى محلات النجاسات، ولكن: إما أن يسكنوا في البيوت الخربة، أو في
بعض الآبار وخاصة المهجورة، أو حتى الآبار المستعملة.
قصص واقعية للجن مع الإنس
ومن غريب ما سمعت من أحد الأشخاص، سمى لي بيتاً -وأنا أعرفه وهو
موجود- كان هذا البيت موجوداً إلى عهد قريب بجوار مبنى البريد
الآلي الموجود، وأنتم تعرفون أن المدينة ليلة العيد يكون فيها
حركة، فالنساء تغسل البيوت وتهيئ الفراش، والرجال في الأسواق
يشترون، وفي حركة دائمة، فيذكر لي أناس من نفس هذا البيت، أنهم
طوال الليل، وهم يسحبون الماء من البئر ويغسلون الحجر والبيت، فإذا
هم يسمعون صوتاً من داخل البئر: يا جماعة! ألا تنامون! طلع الفجر
ونحن نريد أن ننام، فالبنت قالت: نطلع دلوين فقط ونغلق. وقالت: نحن
متعودون على ذلك من زمان يكلمونا ونكلمهم! ثم يحدثني رجل أنه كانت
هناك زمالة وصداقة بين عمه وبين الجن وذهاب وإياب، فيقول: قال لي
عمي: اجلس عند النافذة -وكان عمه يعمل في جمع المصاحف وتوزيعها في
الروضة، ويعطيها الناس ليقرءوا فيها يوم الجمعة، وبعد أن يذهب
الناس يجمعها ويرتبها في مكانها- حتى إذا دق الباب فتحت، يقول: كنت
صغيراً ولم أكن كبيراً جداً، قال: وبينما أنا جالس أسمع الأذان
فقبل أن ينتهي المؤذن من الأذان سمعت حركة في البئر، فقلت: ربما
أنا أتخيل أو أن هذه حركة عند الجيران، وبينما أنا جالس عند
النافذة إذ بي أسمع خفق نعال على الدرج كأن إنساناً لابس (قبقاباً)
ويمشي في الحجر. قال: فتجمدت في مكاني! ثم نظرت فإذا بالباب ينفتح
ثم يغلق! وبعد أن انتهى الإمام من خطبته وصلاته وقال: السلام
عليكم، فما هي إلا لحظات وإذا بالباب ينفتح ثم يغلق، يقول: ثم جاء
عمي فدق الباب، يقول: خذ المفتاح وافتح. لماذا لا تنزل؟ قلت: أنا(1/169)
لن أنزل، افتح أنت واصعد، فلما فتح الباب وصعد أراد أن يضربني، قلت
له: اصبر.. اصبر.. فذكرت له القصة فضحك، يقول: أنا أحترق في نفسي
وهو يضحك. ثم قلت: يا عم! لماذا تضحك؟ يقول: هؤلاء من زمان قديم
وهم يسكنون عندنا، يذهبون ليصلوا الفجر، ويذهبون ليصلوا الجمعة،
ونحن وهم مصطلحون وليس بيننا شيء. إذاً: الجن غير الخبائث
والخبيثات، فإنهم لا يسكنون في مواطن النجاسات كالمراحيض، ولكن
يسكنون في المحلات البعيدة عن النجاسة، وقد جاء عنه صلى الله عليه
وسلم: (إن مؤمني الجن ليهاجرون إليها كما تهاجرون أنتم ) وجاء
ذلك في قصة وقعت أيام في غزوة الخندق، عندما جاء الصحابي الذي
استأذن رسول الله أن يدخل بأهله، لأنه كان حديث عهد بعرس، فقال:
(خذ سلاحك إني أخشى عليك يهود بني قريظة )، فلما وصل إلى باب
البيت فإذا زوجه واقفة على باب البيت بدون حجاب وستر، فأراد أن
يهوي إليها برمحه، قالت: لا تعجل! ادخل بيتك، وانظر فراشك ما فيه!
فدخل فإذا حية على طول الفراش، فانتظمها بالرمح ولم يسم الله، تقول
الزوجة: والله لا أدري أيهما كان أسرع موتاً الحية أم الرجل! فذكر
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (هذا من الجن، قتله ولم
يسم الله فانتقم له أصحابه فقتلوه، إذا رأى أحدكم شيئاً من هذه
الحيات في البيوت فليؤذنها ثلاث مرات، فإن رآها بعد ذلك فليقتلها ).
ومن هذا يتبين أن الجن المؤمنين يهاجرون إلى المدينة كما يهاجر
الإنس ويسكنونها، ويأتون إلى المسجد، ولكن: إِنَّهُ
يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27].
وسمعت من الشيخ ابن عثيمين -الله يغفر له ويرحمه- في مسجده في
مدينة المجمعة يقول: أخبرني الشيخ بأنه كان في صلاة الضحى في بيته،
فإذا بجماعة يسلمون عليه ولم ير أحداً، قال: من أنتم؟ قالوا: يا
شيخ! نحن تلاميذك في المسجد، وجئنا ولم نستأذن منك، فنريد أن يكون(1/170)
حضورنا دروس الفقه بإذن منك، دروس الفقه. قال: لا بأس؛ بشرط: أن
تظهروا للطلاب، فربما آذوكم أو تأذوا منكم. قالوا: نعم. إذاً: في
هذا الحديث يبين لنا صلى الله عليه وسلم أن خبائث الجن تسكن في
الأماكن القذرة ولهذا أيضاً فأعمال الشر من السحرة والفسقة لا تتم
إلا في تلك الأماكن، ولا تتم أبداً في أماكن متنزهة كبستان، أو
مجرى نهر، إنما تصلح معهم في تلك الأماكن حيث يسكنها خبائث الجن
وخبيثاتهم، وهم اللذين يعينونهم على الشر. والله تعالى أعلم.
حديث أنس بن مالك في حمل الماء والعنزة للنبي صلى الله عليه وسلم
[ وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة،
فيستنجي بالماء ) متفق عليه ].
العنزة وفائدة استصحابها
ويأتي لنا أنس مرة أخرى فيروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
كان وغلام نحوه يحملان للنبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء
إداوة من ماء وعنزة. ذكر العنزة وكونه يحمل إداوة من ماء وغلام
نحوه كأنها قرينة على إرادة الخلاء الحقيقي وهو الفسيح من الأرض؛
لأنه في بيت الخلاء لا يحتاج إلى عنزة، وفي الفلاة يحتاج إلى
العنزة حتى يركزها ويضع عليها رداءه، وتكون ستراً له من أعين
الناس. وحقيقة العنزة: هي عود من الخشب من نوع قوي، في طرفها زج من
الحديد، والعرب كانت تصحبها في أسفارهم، وكان إذا أراد الإنسان أن
يبول والأرض قاسية يحرك الأرض برأسها الحديدي حتى تصبح رخوة، حتى
لا يرتد البول عليه فيصيب ثوبه من رذاذه، فإذا كانت الأرض رملية
فإنها تتقبل البول ولا يرتد منه شيئاً، بخلاف الأرض الصلبة فإنها
ترد وتعكس البول على ما يقابلها، والعنزة كانوا يستعملونها في
أشياء كثيرة، وكما قال موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: وَأَهُشُّ
بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:18].
وهناك سيرة أو قصة لعنزة، وهي: كان الزبير رضي الله تعالى عنه(1/171)
في غزوة بدر، وكان هناك رجل من المشركين يقال له: أبو ذات الكرش ، لديه بنت كرشها كبير، وكان يحملها فلقب بهذا، وكان في صفوف
المشركين مجللاً بالحديد من أوله إلى آخره، ولم ير منه إلا فتحة
العين، وكان مع الزبير عنزة، قال: فصوبتها على فتحة العين
فأصابته وصرع منها، قال: فجئت لآخذ العنزة فما استطعت سحبها حتى
وطئت على رأسه بقدمي، ثم انتزعت العنزة بالقوة حتى انثنى طرفاها.
على كلٍ حكاية التصويب والإصابة وقوة الضربة هذا كله شيء معروف من
فروسية المسلمين، فلما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم خبرها قال:
أعطنيها، فأعطاها للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول القصة فيها:
فكان صلى الله عليه وسلم يصحبها في السفر، فإذا أراد الصلاة في
الخلاء ركزها أمامه -كما يقال- سترة للمصلي، وإذا أراد الخلاء
ركزها ووضع عليها رداءه تستره من الناس. ولما انتقل صلى الله عليه
وسلم إلى الرفيق الأعلى أخذها أبو بكر فكانت عنده، ولما توفي
أبو بكر رضي الله تعالى عنه أخذها عمر فكانت عنده، وبعد
وفاة عمر استرجعها صاحبها الأول. قوله: (كان صلى الله عليه
وسلم إذا دخل الخلاء). الخلاء حقيقة وابتداءً: الأرض الواسعة
الخالية من الأشجار، والخلاء يطلق على المرحاض الذي بني لقضاء
الحاجة بدلاً من الخلاء في الأرض الواسعة، فـ(دخل الخلاء) تصدق على
المرحاض، وتصدق على الأرض الواسعة، لكن ذكره للعنزة هنا، وأنه يحمل
هو وغلام نحوه الماء يمنع أن يكون الخلاء هو المرحاض. ابن عباس لما كان عند ميمونة رضي الله تعالى عنها، ورأى النبي صلى الله
عليه وسلم دخل بيت الخلاء ذهب وأتى بإبريق وملأه ماء وطرحه عند باب
المرحاض، فلما خرج صلى الله عليه وسلم ووجد الماء قال: (من وضع
هذا؟ قالت له: ابن عباس . قال: لم وضعه؟ قال: علمت أنك حينما
تدخل الخلاء تحتاج إلى الماء. قال: اللهم فقهه في الدين ) وهذا
هو الفقه -أي: الفهم- استنتج من دخول الخلاء الحاجة إلى الماء،(1/172)
فجهزها قبل أن يطلب منه. والإداوة: إناء من الجلد على هيئة الإبريق
تماماً، وقد رأيتها مع جماعة يمنيين في منى، وهي عبارة عن جلد سخلة
صغيرة مربوط من آخر النصف الأسفل، والرقبة هي فتحة الإبريق، وإحدى
اليدين هي (البزبوز) الذي يخرج منه الماء واليد الثانية هي الأذن
أو اليد التي يمسكون الإداوة بها كشكل الإبريق سواء بسواء، الرجلان
الأماميتان واحدة بدلاً عن (البزبوز) والثانية محل اليد، والرقبة
هي عنق الإبريق، ومن الوسط إلى تحت جعل له قاعدة من نفس الجلد على
شكل مستدير كقاعدة توضع على الأرض، يعني: محيط قاعدة نحو (20سم).
ولما رأيته تعجبت، وقلت له: ماذا تسمون هذا؟! قال: هذه الإداوة.
قلت: جزاك الله خيراً، الحمد لله أننا رأيناها، كانوا يصفونها لنا
في الكتاب وفي الدرس، والآن رأيناها بأعيننا طبق الأصل. فالإداوة:
إناء من جلد بقدر الإبريق البلاستيك، وكانت في القديم تصنع من
التنك -ما يسمى بالزنك- فكان إناء لحمل الماء.
استحباب البعد عند إرادة الخلاء
قوله: (أحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة) كل شخص منهما يحمل
شيئاً، وكلمة (غلام) تدل على أنه صغير، معنى ذلك أنه لا بأس
باستخدام الصغار للمساعدة في مثل هذه الحالة. وقد كان من شأنه صلى
الله عليه وسلم -كما سيأتي في حديث المغيرة - إذا لم يكن هناك
بيت للخلاء، وأراد الخلاء أن يبعد حتى لا يراه أحد، ولابد من
الاستتار، ولو بكوم من رماد. وجاء في بعض خواصه ومعجزاته صلى الله
عليه وسلم أنه كان في أرض صلبة وما وجد شيئاً يستتر به، وكان هناك
شجرتان متباعدتان، فناداهما وأشار لكل واحدة منهما أن تنضم إلى
الأخرى، فشقتا الأرض والتقيتا حتى جلس وقضى حاجته، ثم أشار إليهما
أن يرجعا، فرجعتا إلى ما كانا عليه. وهذه الحادثة حدثت مرة أخرى
لما كان صلى الله عليه وسلم في مكة، ولقي ركانة يرعى غنماً،
وكان ركانة -كما يقولون- بطل المصارعة، فما كان أحد يصارعه إلا(1/173)
صرعه ركانة ، فجاء الرسول وقال له: (يا ركانة ! أما آن لك
أن تسلم؟ قال: يا محمد! تصارعني؟ قال: نعم أصارعك. قال: إن غلبتني
أعطيتك مائة شاة، فصارعه فغلبه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم )
يقول الصحابة: (كنا نحدث بأنه أوتي قوة أربعين رجلاً). وكانوا
يحتمون به صلى الله عليه وسلم إذا اشتدت المعركة، وفي حنين لما
فوجئوا برمي النبل من هوازن نفروا، فثبت مكانه وقال: (أنا النبي لا
كذب، أنا ابن عبد المطلب )، وما بقي معه إلا العباس ،
فقال: (نادِ : يا أهل بيعة الرضوان! ) فرجعوا إليه وكروا على
العدو ونصرهم الله، فكان صلى الله عليه وسلم -لا نقول مصارعاً- بل
كان يصرع الصرعة، فهنا صرعه صلى الله عليه وسلم فغلبه، قال:
واويلتاه! ما أحد قط وضع جنبي إلى الأرض قبلك، تعيدها؟ قال: نعم.
فأعادها معه المرة الثانية، فقال: والله يا محمد هذا أمر! لابد من
الثالثة، قال: الثالثة، فصرعه، فوقف يضرب يداً بيد: يا ويلتاه!
ماذا أقول لأهلي في ثلاثمائة شاة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والله
لا أجمع عليك غبنين: غبن في الغلبة وغبن في الشياة، ثم قال: أتعجب
من ذلك يا ركانة ؟! قال: إي -والله- يا محمد! قال: انظر إلى
تلك الشجرة، فنظر إليها، فقال لها صلى الله عليه وسلم: إلي.. إلي..
فجاءت إليه تخط الأرض حتى وقفت بين يديه، ثم قال: عودي حيث كنت،
فرجعت حيث كانت. ويقولون: كان صلى الله عليه وسلم يبعد جداً ويستتر
لجهتين: جهة شخصيته كمروءة، وجهة الناس؛ لأنه لو قدر أن إنساناً
رآه فقد بصره، هكذا يقولون والله تعالى أعلم، وكانت عائشة رضي
الله تعالى عنها زوجة، ومع ذلك تقول: (والله ما رأى مني ولا رأيت
منه ) وهذه أخلاق عالية، فهما زوجان في فراشٍ واحد، ويغتسلان في
مكان واحد، ثم لا يرى أحدهما من الآخر، فهذه مثالية عليا في آداب
الحياة والمعاشرة. كان صلى الله عليه وسلم يبعد حتى يقضي حاجته، ثم(1/174)
يدنو من الناس ويطلب الماء ليستنجي، ويكون قد استعمل الحجارة هناك،
وبعد أن قضى حاجته يطلب الماء ويستنجي بالماء، وهذا فيه إثبات
استعمال الماء مبدئياً، وهو الأصل، وسيأتي استعمال الحجارة وأيهما
أفضل، وسيأتي خبر أهل قباء: (إن الله أثنى عليكم في الطهارة ماذا
تفعلون؟( ولكن يهمنا في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان
يدخل الخلاء ويستنجي بالماء. والاستنجاء: هو إزالة النجو، والنجو:
هو الباقي بعد الاستجمار؛ لأن الاستجمار لا ينقي، ولابد أن يترك
أثراً مكانه، فمهما استعملت عدداً من الحجارة أو نحوها فلابد أن
يبقى في مكانه أثر، ويتفق الفقهاء على أن هذا الأثر الباقي بعد
الاستجمار مادام في محله فهو معفو عنه، ولو وجد مثل ذلك أو أقل منه
في غير محله على اليد أو على الفخذ لما صحت الصلاة به، ولوجب غسله؛
لأنه في غير محله. والله تعالى أعلم.
134193 ( كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [2] )
( كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [2] )
عناصر الموضوع
1 حديث أبي قتادة والمسائل الواردة فيه
2 حديث سلمان في آداب الخلاف
3 حديث أبي أيوب في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها
4 وجوب الاستتار عند الغائط
5 الذكر عند الخروج من الخلاء
كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [3]
من آداب وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الخلاء ألا يتمسح الإنسان من
الخلاء بيمينه، ولا يمس ذكره بيمينه حال البول، ولا يستقبل القبلة ولا
يستدبرها، ولا يستجمر برجيع أو عظم.
حديث أبي قتادة والمسائل الواردة فيه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين،
سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ وعن أبي قتادة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمسَّنَّ أحدكم ذكره
بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء )(1/175)
متفق عليه، واللفظ لمسلم ]. هنا في الحديث ثلاث مسائل:
النهي عن مس الذكر باليمين حال البول
المسألة الأولى: (لا يمس أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول). هل هناك
حاجة لأن يمسك الإنسان ذكره وهو يبول؟ نعم، قد تكون الحاجة لذلك
كأن تكون الأرض التي هو عليها صلبة وأمامه مكان رخو، فيحتاج إلى أن
يمسك ذكره ليرفع مجرى البول عن المكان الصلب إلى مكان آخر، وقد
يكون لحاجة أخرى، فإذا احتاج أن يمسك ذكره وهو يبول فلا يكون
باليمنى، وهذا أمر واضح. (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه). إذا تكررت
مسائل في حديث واحد؛ فإن اتفقت فبها ونعمت، وإن اختلفت طلبنا
الرابط بين المسألتين المختلفتين في الحديث الواحد؛ لأن عقلاء
الناس لا يجمعون بين متناقضين أو متنافرين في سلسلة حديث واحد،
فإذا ذكر إنسان عندك أموراً فلابد أن يكون هناك رابط يربط تلك
الأمور، ولو على الأقل رابطة التعليم أو حاجة المستمع إلى ذلك.
فهنا: (لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) نهى عن أن يمسكه
بيمينه، فيكون مفهوم المخالفة له أن يمسكه بشماله، إذاً: اختصت
اليمين بالامتناع عن هذا المحل.
النهي عن التمسح من الخلاء باليمين
المسألة الثانية: (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه). التمسح من الخلاء
إن كان يستعمل الماء فيده ستباشر المحل مع الماء، وكان بعض السلف
يمتنع أن يستنجي بالماء، ويقول: لا تزال يدي منتنة لأنها باشرت
النجوى، والآخرون كانوا لا يستنجون بالماء إلا بعد استعمال
الحجارة، فهي تزيل النجوى ويبقى الأثر، فيغسل بالماء ويباشره بيده،
فحينئذ إذا استنجى بيمينه فاليمين ستباشر النجوى الخارجة منه، فإذا
نهي عن ذلك بخصوص اليمين فمعناه أنه سيستعمل اليسار. إذاً: تميزت
اليمنى بإبعادها عن هذين الموطنين، وأبيح استعمال اليسرى فيهما،
حينئذ نستطيع أن نقول: النهي عن استعمال اليمنى في هذين المحلين
تكريماً لليمنى؛ لأنه سيتناول بها الطعام، ويصافح بها الآخرين،(1/176)
فتكون اليمنى للمكرمات -كما قيل- واليسرى لغيرها.
النهي عن التنفس في الإناء حال الشرب
إلى هنا المسألتان بينهما مناسبة ولكن قوله: (ولا يتنفس في الإناء)
-وهي المسألة الثالثة- فيه النهي عن التنفس في الإناء عند الشرب،
فما علاقة التنفس في الإناء مع هاتين المسألتين المتقدمتين؟ وموضوع
التنفس في الإناء جاء إيضاحه أكثر عندما نهى صلى الله عليه وسلم
الشارب عن أن يتنفس في الإناء -أي: الإناء الموجود- قال قائل: (يا
رسول الله! إنني لا أروى من النفس الواحد، فقال: أدر القدح عن فيك
وتنفس، ثم أعد القدح واشرب. قال: إني أجد فيه القذاة -القشة أو شيء
تستقذره النفس، فيريد أن يبعد بنفخة- قال: أبنه عنك ) أي: لا
تبعده بالنفس. ونحن نبين الحكمة من النهي عن التنفس في الإناء،
قالوا: إن الحكمة من النهي عن التنفس في الإناء وأنت تشرب أن الحلق
ينتهي بطريقين: طريق دخول الهواء للرئة، وطريق دخول الطعام والشراب
للمعدة، وعند افتراقهما كيف يميز الهواء عن الطعام والماء؟ قالوا:
يوجد صمام على شكل عضلة، إذا أراد أن يبلع طعاماً أو شراباً
فالعضلة في الحلق تنقبض فتسد طريق الهواء، وإذا أراد أن يتنفس
انفتحت هذه الفتحة وذهب الهواء إلى الرئة؛ لأنه لو قدر أن قطرة ماء
وصلت أو جاءت خطأً أو بسرعة إلى طريق الهواء فإنها تضر الرئة. ومن
حكمة الله أن القصبة الهوائية التي تتفرع من الزور إلى الرئة يوجد
فيها شعيرات تمتد إلى أعلى وليس إلى أسفل، أي: تنبت كما ينبت الخوص
في الجريدة إلى أعلى، فإذا جاءت قطرة وسبقت لسان المزمار من أن يسد
طريق الهواء، فإن تلك الشعيرات التي في القصبة الهوائية تطرد ما
أتى ودخل عليها من ماء أو طعام، ولو نصف حبة سمسم، ولا تزال كل
طبقة تطردها إلى أعلى وتتلقاها عنها التي أعلى منها، وتتلقاها ما
بعدها إلى أن تردها إلى الحلق فتنزل عن طريق المعدة؛ لأنها لو وصلت
إلى الرئة أفسدت فيها شيئاً كثيراً. وعملية بلع الطعام والشراب(1/177)
ليست مجرد انزلاق من أعلى إلى أسفل، بل إنها عملية امتصاص ودفع،
وكما يقول بعض الأطباء في هذا: لو علق إنسان من قدميه وتدلى رأسه
إلى أسفل وأعطي الماء فإنه بتلك الحالة يستطيع أن يشرب الماء
ويبلعه وهو منكوس الرأس، ويستطيع أن يمضغ التمرة والطعام ويبلعه
ويصل إلى معدته وهو منكوس الرأس، لأن هناك عملية امتصاص ودفع.
إذاً: عندما يشرب الإنسان وينتهي نفسه في الشرب ويريد أن يزيد ماء
فإنه سيأخذ نفساً، وعندما يأخذ نفساً والإناء على فيه فلربما سبق
الماء إلى الرئة عند أخذ الهواء فيكون خطراً عليه، وهذه يسمونها
الشرقة، والشرقة بالماء من أصعب ما يكون؛ لأن رد الشعيرات للماء
أصعب من ردها لقطعة من الخبز أو التمر أو غير ذلك. وهنا تظهر
الحكمة النبوية في كونه صلى الله عليه وسلم ينهى عن التنفس في
الإناء عند الشرب، والفقهاء يقولون: نهى عنه لأنه ربما خرج مع
الهواء الخارج من أنفه ما يقذر الماء. ما هي الرابطة بين (لا يتنفس
في الإناء) وبين (لا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يمس ذكره
بيمينه)؟ يمكن أن نقول: بجامع الاستقذار؛ لأن من تنفس في الإناء
كان عرضة لتقذيره أو كان عرضة لإيذائه بوصول شيء من الطعام أو
الشراب إلى القصبة الهوائية فيؤذيه، وهذا كذلك قد يؤذيه باستعمال
اليمنى في ذلك. والله تعالى أعلم.
حديث سلمان في آداب الخلاف
[ وعن سلمان رضي الله عنه قال: (لقد نهانا رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو
أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم )
رواه مسلم ].
الحكمة في النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة
في حديث سلمان جملة من آداب قضاء الحاجة، ووالله -يا إخوان- لو
أخذتم جميع كتب الأدب، سواء الشعر الجاهلي أو الأدب الحديث في أرقى
دول العالم في الحضارة، فلن تجدوا شيئاً من هذه الآداب مدونة
عندهم، وهذا من سمو الإسلام، ومن تربية الفرد على أعلى ما يمكن من(1/178)
علو الهمة وعلى التجنب لما لا يليق. يقول سلمان رضي الله تعالى
عنه: (نهانا) والنهي يقتضي التحريم إن لم توجد قرينة صارفة عن
التحريم إلى الكراهية، وهنا لا يوجد قرينة حتى الآن. (نهانا أن
نستقبل القبلة بغائط أو بول): والقبلة هي: جهة الكعبة. وماذا سيضر
القبلة إذا استقبلنا أو استدبرناها؟ والجواب أن الحكمة من ذلك
العمل كأنه تهوين من شأن القبلة، والقبلة من أعظم مقدسات المسلم؛
لأنه تستقبل في اليوم خمس مرات استقبال تكريم وتشريف وتعظيم،
والمحرم إذا جاء ووصل إلى مكة ووقف على باب المسجد ورأى الكعبة
قال: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً ورفعةً
وأمناً، وزد يا رب من شرفه وكرمه... إلخ الدعاء. وقد ذكرنا سابقاً
وقلنا: هناك جانب عاطفي وجانب عقلي، الجانب العقلي يقول: شرق أو
غرب كما تشاء، ولكن العاطفة تقول: تلك القبلة التي تجعلها وجهتك في
وقوفك بين يدي الله يجب أن تكرمها، فلا تستقبلها بغائط أو بول.
مسألة استدبار القبلة عند قضاء الحاجة
في حديث سلمان هنا قال: (لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين ).
حديث سلمان اقتصر على النهي عن الاستقبال، وجاءت نصوص أخرى
تنهى عن الاستدبار، في المدينة المنورة وما حاذاها من البلاد أن من
استقبل القبلة فقد استدبر بيت المقدس، وبيت المقدس هو القبلة
القديمة، فيجب أيضاً أن نكرمها؛ لأنها كانت قبلتنا في وقت من
الأوقات، فنهى أن نستقبل القبلة أو نستدبرها؛ لأننا إن استقبلناها
استقبلنا بيت المقدس، وبيت المقدس والمدينة على خط مستقيم واحد،
وهكذا المساجد الثلاثة: بيت المقدس، المدينة، البيت الحرام على خط
مستقيم واحد، وأنتم ترون مسجد القبلتين، القبلة الأولى كانت مقابلة
للقبلة الموجودة حالياً، وكذلك هنا في هذا المسجد كانت القبلة إلى
الشمال، ولما تحولت صارت إلى الجنوب فهما متقابلتان سواء، فموضوع(1/179)
استقبال القبلة واستدبارها سيأتي له نصوص أخرى في هذا الباب، وعند
كل حديث منها نوفيه شرحه إن شاء الله.
حكم استقبال القبلة واستدبارها في المراحيض
(نهانا أن نستقبل) هل هذا النهي شامل لمن قضى حاجته في الخلاء وفي
المراحيض في البيوت أم أنه خاص بواحد منهما؟ الشوكاني رحمه
الله ذكر حوالي عشرة أقوال، وهذا أنسب ما يرجع إليه طالب العلم
ليقف على تلك الأقوال بأدلتها والراجح منها، فهناك من يقول: إن هذا
النهي خاص بالأرض الفلاة التي ليس فيها بين الإنسان وبين القبلة
حاجز، فإذا وجد حاجز في الخلاء خرج عن النهي، واستدل قائل هذا
القول بما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه
كان في سفر، ثم أناخ راحلته واستتر بها متجهاً إلى القبلة وقضى
بوله، فقيل له: (يا أبا عبد الرحمن ! ألم ينه النبي صلى الله
عليه وسلم عن استقبال القبلة بغائط أو بول؟ فقال: إذا كان بينك
وبين القبلة حاجز فلا بأس ) إذاً: يكون النهي خاصاً بالخلاء إذا
لم يوجد ساتر. المراحيض في البيوت هل يشملها هذا النهي؟ الجمهور
على أنه من باب الأفضلية أن يتجنب استقبالها واستدبارها، عملاً
بعموم حديث سلمان ، والبعض يقول: ما دام في البنيان وفيه
السترة فلا مانع، وهناك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها
قالت: (قيل لرسول الله: إن أناساً يمتنعون -أو يتأبون أو يكرهون-
أن يواجهوا القبلة بفروجهم! فقال: أو فعلوا ذلك؟ حولوا مقعدتي إلى
القبلة ) والمضاف والمضاف إليه لا يكون إلا في مكان مخصوص
كالمراحيض في البيوت التي فيها بنيان. قوله: (حولوا... الحديث) في
هذا الحديث شيء من الكلام، لكن قد قدمنا أن هناك من قال: إذا كان
في البنيان فلا مانع، وإذا كان في الخلاء وهناك حاجز فلا مانع،
إنما ينصب النهي على من كان في الخلاء ولا ساتر عنده، فهذا لا
يستقبل ولا يستدبر إذا كان على سمت المدينة من مكة، أما إذا كان(1/180)
شرقيها أو كان غربيها فإنه إن يستقبل أو يستدبر فلا شيء عليه؛ لأنه
لا يسامت الكعبة باستقباله القبلة -أي: الجنوب- من حيث هو؛ لأنه
جاء في هذا الحديث: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط أو
بول، ولكن شرقوا أو غربوا )؛ لأن الذي يتوجه إلى الشرق لا يكون
أمامه البيت الحرام، ولا خلفه المسجد الأقصى، وكذلك الذي يغرب ليس
أمامه من القبلتين شيء. وعلى هذا قالوا: إن هذا الحديث يتوجه إلى
أهل الحجاز أو أهل المدينة ومن في حكمهم؛ لأن استقبال القبلة يكون
فيه استدبار بيت المقدس، واستقبال بيت المقدس يكون فيه استدبار
القبلة. وهناك أقوال أخرى كمن يجوز الاستقبال ولا يجوز الاستدبار،
وسيأتي زيادة بيان في هذا الموضوع عند النصوص الأخرى إن شاء الله.
النهي عن الاستنجاء باليمين
(أو نستنجي باليمين) يستنجي: الهمز والتاء والنون، وماذا عن السين
والتاء؟ إنما هي لطلب الفعل، وهي طلب إزالة النجو باليمين كما
تقدم؛ لأن استعمال اليمين ومباشرتها لإزالة النجو فيه استقذار
لليمين، فإذا نهانا أن نستنجي باليمين معناها أننا سنستنجي
باليسار، اللهم إلا إذا كان إنسان يساره معطلة لشيء ما فحينئذ
(الضرورات تبيح المحظورات).
النهي عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار
قال: (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار). أي: نهى عن إزالة النجو
بأقل من ثلاثة أحجار، وهل العدد مطلوب من حيث هو أم أن المراد
الصورة التي تنقي المحل؟ الظاهرية يقولون: ثلاث مسحات بثلاثة
أحجار، والجمهور يقولون: لو أن عنده حجراً كبيراً وله ثلاثة أضلاع
وتمسح بكل ضلع من الحجر الواحد فقد حصلت ثلاث مسحات وأجزأه ذلك؛
لأن الغرض ليس العدد من حيث هو، ولكن التكرار للتأكد من إنقاء
المحل، وكما قالوا أيضاً في إطعام المساكين في الكفارة. فمثلاً
إطعام عشرة مساكين في كفارة اليمين، فهل المراد عشرة بالعدد، أم
أننا لو أعطينا إطعام العشرة لثلاثة أو خمسة فإنه يجزئ، وأن المراد(1/181)
بالعشرة بيان المقدار التي تقع به الكفارة؟ نقول: سواء وصل عدد
الإطعام إلى العشرة أو أن إطعام العشرة أعطي لخمسة، فيكون المراد
في عدد العشرة المقدار الذي تصح به الكفارة، فكذلك هنا قوله: (أو
أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) فلو وجد حجران يتأتى بهما ثلاث
مسحات أو حجر واحد يتأتى به ثلاث مسحات أجزأ ذلك، ما عدا الظاهرية
فإنهم يقولون: لابد من ثلاثة أحجار معدودة.
النهي عن الاستنجاء برجيع أو عظم
قال: (أو أن نستنجي برجيع أو عظم) الرجيع: هو روث الدواب، والعظم
معروف، والسبب في هذا ما جاء في حديث ابن مسعود : (أن النبي
صلى الله عليه وسلم قضى حاجته ثم قال: ائتني -أو ابغني- ثلاثة
أحجار. يقول: فما وجدت إلا حجرين وروثة، فجئت بالحجرين والروثة،
فأخذ الحجرين وألقى الروثة -ويزيد بعض الرواة- وقال: ائتني بغيرها
-وفي بعض الروايات- فإنها ركس ) أي: إنها نجسة، ولا تزال
النجاسة بنجس. إذاً: الذي لا يجوز الاستجمار به ما كان نجساً أو
عظماً، وقاسوا على العظم كل مطعوم، لأن العظم مطعوم، وجاء في بعض
الروايات أن العظم إذا ألقاه المسلم وسمى الله عليه فإنه يكسوه
الله لحماً للجن. وفي ليلة نصيبين سأل الجن رسول الله صلى الله
عليه وسلم الزاد فقال لهم: (لكم روث كل دواب المسلمين يعود على ما
كان عليه قبل أن تأكله دوابهم ) أي: فإن كان روث البرسيم فإنه
يرجع برسيماً، وإن كان روث الشعير فإنه يعود شعيراً ويكون علفاً
لدوابهم، وقال: وما ألقاه المسلم من عظم وسمى الله عليه يكسوه الله
لحماً طعاماً لكم . فبعضهم يقول: النهي عن الاستجمار بالعظم
لأنه طعام مؤمني الجن، وبعضهم يقول: العظم من حيث هو حاد يجرح ولا
ينقي، وإذا استنجى بمستطيل العظمة -بجرمها- فالعظم أملس، والأملس
لا ينقي، وعليه: لا يصح الاستجمار بكل ما كان مثل العظم في ملاسته،
فلو أخذ قارورة صغيرة من الزجاج واستنجى بها لم يصح لأنه أملس لا(1/182)
ينقي، أو أخذ مثلها من الأجرام الأخرى من العاج أو من الأحجار
الناعمة فهذا لا يجزئ. وبالتالي فإن كل ما كان يشاكل الحجارة في
اليبوسة والخشونة فإنه يجزئ، ولو كان هناك قماش متين كالصوف مثلاً
فإنه يجزئ، أما الحرير الناعم لا يجزئ؛ لأنه لا ينقي، وإذا كان
هناك ورق خشن كما يوجد في بعض المحلات ورق خاص لبيوت الخلاء فهذا
يجزئ. وهكذا النهي عن الاستجمار بكل محترم طعاماً كان للإنس أو
الجن، وما كان طعاماً للإنس تلك نعمة ويجب أن تكرم وتحفظ لا أن
تضيع وتتلف وتخالط النجاسة، فلا يجوز أن يستجمر بالتمر أو الرمان
أو التفاح؛ لأنه لا يجوز تقذيره، ويحرم عليه أن يستعمله في هذه
الحالة.
حديث أبي أيوب في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها
قال المؤلف: [ وللسبعة عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه:
(ولا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط أو بول ولكن شرقوا أو
غربوا ) ]. أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه يذكر هذا
الحديث: (لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول ولا تستدبروها )،
فزاد النهي عن الاستدبار على حديث سلمان . وأبو أيوب سافر
إلى الشام، وجاء في آخر الحديث: (فقدمنا الشام، فوجدنا بيوت الخلاء
قد بنيت إلى القبلة، فكنا ننصرف أو ننحرف -الرواية المشهورة:
ننحرف- ونستغفر الله)، أي: المقعدة موجهة إلى القبلة، وهو مضطر
إليها، وحينما يجلس على تلك المقعدة ينحرف ويجعل اتجاهه شرقاً أو
غرباً، وهذه يستطيع أن يتصرف فيها الإنسان وإن كان ليس على كمال
الصورة من تجنب القبلة تماماً لكن ينحرف عن القبلة قدر استطاعته،
وبعضهم يرويها: (ننصرف) أي: ننصرف عن تلك المحلات ولا نقضي الحاجة
فيها لكونها متجهة إلى القبلة. ولكن قوله: (ونستغفر الله) أنسب
لـ(ننصرف)منها لـ(ننحرف). والجمهور يقولون: إنها أنسب لـ(ننحرف)
لأن انحرافه ليس انصرافاً كاملاً، فهو يجلس والمقعدة متجهة إلى
القبلة، وقدماه عليها إلى القبلة، لكنه ينحرف بصدره أو بجسمه عنها،(1/183)
فيستغفر الله لعدم تمام الاتجاه إلى الشرق أو الغرب، وفيه نوع
اتجاه إلى القبلة، وإن كان أقل ممن لو كان مستقيماً إليها. وبعضهم
يقول: ونستغفر الله لمن بناها على تلك الحال، سواء ننصرف ونستغفر
الله لأصحابها، أو ننحرف ونستغفر الله لأنفسنا لقضاء الحاجة على
تلك الصورة التي ليست كاملة في الابتعاد عن الاستقبال أو
الاستدبار. والله تعالى أعلم. وهنا مما يذكر أن بعض العلماء -ومنهم
أبو أيوب رضي الله تعالى عنه- يمنع الاستقبال والاستدبار سواء
في الفلاة أو في بيوت الخلاء، ولكن جاء عن جابر أنه قال : (
نهينا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، ولكني رأيت رسول الله قبل
وفاته بسنة يستقبل القبلة بالبول ) فقالوا: هذا ناسخ لما قبله،
والآراء والأقوال في ذلك متعددة، ولكن مجمل ذلك أن النهي منصب على
الخلاء ما لم يكن هناك ساتر، وأن الأولى في بيوت الخلاء ألا تكون
متوجهة إلى القبلة، فينبغي على الإخوة الذين ببنون بيوتهم أن
يراعوا هذه الحال، ولا يجعلوا بيوت الخلاء -في الجلسة عليها-
مستقبلة للقبلة أو مستدبرة لها، ولكن يجعلها متجهة إلى الشرق أو
إلى الغرب، وهذا أسلم وأدعى لأن يكون بعيداً عن الخلاف الموجود،
سواء قلنا بحديث جابر هذا أو بحديث سلمان أو بغيره، فيكون
هذا أدعى لطمأنينة النفس. والله تعالى أعلم.
وجوب الاستتار عند الغائط
[ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (من أتى الغائط فليستتر ) رواه أبو داود ]. هذا من
آداب قضاء الحاجة، ومعناه: ألا يجلس للبول حيث يراه المارة أو يراه
الناس، وجاء في بعض الحديث (ولو يجمع كثيباً من الرمل ). وكان
صلى الله عليه وسلم من عادته أن يستتر إما في مكان مطمئن وهو
الغائط، أو يستتر ولو بحائش من نخل أو بشجر أو بأي شيء، وبعض الناس
يقول: قد يكفي الاستتار بطرف الثوب من الوراء، ولكن قد لا يتمكن
الإنسان من ذلك أو يكون ثوبه ضيقاً لا يسع هذا، فلابد أن يتخذ له(1/184)
سترة من الناس.
الذكر عند الخروج من الخلاء
[ وعنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الغائط
قال: غفرانك ) أخرجه الخمسة، وصححه أبو حاتم والحاكم ].
انتهينا من الكيفيات والهيئات والحالات التي يكون عليها الإنسان في
قضاء الحاجة، جاء هنا في هذا الحديث ما يقول إذا خرج من الخلاء.
قولها: (كان) يدل على الدوام والاستمرار. (كان صلى الله عليه وسلم
إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك): تقدم لنا أنه إذا دخل الخلاء قال:
(اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث، وإذا خرج قال: غفرانك ).
(غفرانك) منصوب على حذف العامل، بمعنى: أسألك غفرانك، أو على أنه
مفعول مطلق والتقدير: اغفر غفرانك، فلأي معنى من المعاني طلب
المغفرة، فإن طلب المغفرة أنما يكون عن ذنب قال تعالى: وَالَّذِينَ
إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا
اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل
عمران:135]، فأي ذنب فعله هنا حتى يقول:(غفرانك). يذهب العلماء إلى
البحث عن الموجب لطلب الغفران في هذه الحالة، فبعضهم يقول: ربما
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على جميع أحيانه، وما
كان يغفل عن ذكر الله أبداً، وإذا كان عامة المؤمنين يذكرون الله
قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون... إلخ، فالنبي صلى الله عليه
وسلم من باب أولى، وقد جاء في حقه: (تنام عيناي ولا ينام قلبي )
فقالوا: وقت نزوله لقضاء حاجته لا يستطيع أن يذكر الله، فهو يتعطل
عن ذكر الله مدة وجوده في بيت الخلاء، فإذا ما انتهى اعتبر امتناعه
عن ذكر الله تلك الفترة كأنه ذنب وتقصير، فيطلب من الله الغفران عن
هذا التقصير، فكأن المعنى: أننا أكلنا كثيراً واحتجنا إلى بيت
الخلاء، فانشغلنا بالطعام والشراب، وتسببنا في ما يبعدنا عن ذكر
الله. وبعضهم يقول: إنما يقول: (غفرانك) لأنه كل إنسان حينما أنعم
الله عليه بنعمة العافية، ورزقه الطعام والطيبات من الرزق، وأكل(1/185)
واستمتع وانتفع في بدنه، ثم إن هذا الخارج عبارة عن فاضل هذه
النعمة بعد أن أخذ منها فائدتها واستفاد الجسم منها، ويسر الله
خروج المؤذي منها، فإذاً: هذه نعم متوالية: نعمة العافية، ونعمة
الطيب من الرزق، ونعمة الاستمتاع بالطيب الحلال، ثم نعمة وإخراج
المؤذي من تلك النعمة وفضلاتها نعمة أخرى. ولذا يقولون: إن بعض
الملوك دخل عليه شخص من زهاد الدنيا وقال: ماذا تطلب؟ قال: وما
الذي لديك؟ قال: ما تريده. قال: كل ما عندك لا يساوي بولة ولا كأس
ماء. قال: كيف هذا؟ قال: إذا كنت في فلاة ونفد ماؤك وأشرفت على
الموت وتطلب كأس ماء، أتشتريه بالملك أو لا؟ قال: نعم. قال: إذاً:
ملكك لا يساوي إلا كأس ماء، وإذا شربتها واحتبس عليك البول، وطلبت
إخراجه، أتدفع ملكك في إخراج هذا البول أو لا؟ قال: نعم. قال:
إذاً: ملكك لا يساوي كأس ماء تشربها ولا بوله تخرجها. ومن هنا
-أيها الإخوة- كان من نعم الله على الإنسان أن متعه بالصحة وأنعم
عليه بطيبات الرزق، واستمتع بطعمها، واستفاد بما أودعت من فوائد في
جسمه، ثم أنعم الله عليه بإخراجها. والله -يا إخوان- لقد رأيت
إنساناً في حوالي سن الأربعين منذ أكثر من أربعين سنة يدور في
الشوارع ويصيح بسبب إمساك عنده، وعجز الناس عن أن يسعفوه بشيء،
فإذا حبس في الإنسان فضلات الطعام فهذه مصيبة. قال العلماء: فالنبي
صلى الله عليه وسلم استشعر نعمة الله عليه بالصحة، وبالرزق الطيب،
وبالاستفادة من هذا الرزق، ثم يسر عليه خروج هذا المؤذي، فكأنه
يقول: لا يستطيع الإنسان أن يشكرها لله سبحانه وتعالى، فيستغفر على
التقصير من أنه لم يقدم لله من العبادات ومن الذكر ما يعادل تلك
النعم المتعددة. إذاً (غفرانك) إما لأنه منع من ذكر الله في تلك
الفترة، أو لأنه استشعر نعم الله عليه، واستشعر التقصير في شكره
عليها، فيطلب الغفران لذلك. وهذا تنبيه لنا على أن نستشعر نعم الله(1/186)
علينا، وأن نسأل الله دائماً وأبداً أن يوزعنا شكر النعمة ولو كانت
شربة ماء، ولو كانت خروج فضلات من جسمه؛ لأن هذا سواء كان في
الإدخال أو في الإخراج فهي نعمة من الله سبحانه وتعالى.
الحكمة في النهي عن الاستنجاء بالروثة والعظم
[ وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه
وسلم الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين ولم أجد
ثالثاً، فأتيته بروثة فأخذهما وألقى الروثة، وقال: هذا رجس -أو
ركس- ) أخرجه البخاري ، وزاد أحمد والدارقطني :
(ائتني بغيرها ) ]. يأتي المؤلف رحمه الله بحديث ابن مسعود هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الغائط وقضى حاجته، قال:
فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فأتيته بحجرين ولم أجد الثالث،
فأتيته بروثة؛ والروثة تكون غالباً للحمار أو للبغل أو للفرس،
والبعرة تكون للبعير، والخثل يكون للبقر. وروث ما لا يؤكل لحمه
نجس، وفضلات ما يؤكل لحمه طاهر عند كثير من العلماء ما عدا الشافعي . فهنا ابن مسعود ذهب ليأتي بثلاثة أحجار ما وجد إلا حجرين،
فألغى وصف الحجرية وجاء بالروثة اجتهاداً منه بأن يأتي بثلاثة
أحجار. فلما أخذها النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الحجرين ورد
الروثة، وقال: (ائتني بغيرها، ثم قال له في سبب ردها: إنها (رجس)
بالجيم أو (ركس) بالكاف). الرجس والركس هو: النجس؛ فأخذ العلماء
بأنه لا يجوز الاستنجاء بشيء نجس؛ لأن النجاسة لا تزال بنجس. ولذا
قال بعض العلماء: لم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين، بل
طلب الثالث، وقال ابن حزم : لابد من الأحجار الثلاثة لثلاث
مسحات. والله تعالى أعلم. [ وزاد أحمد والدارقطني : (ائتني
بغيرها ) ]. يعني: لم يكتف بالحجرين، بل طلب حجراً ثالثاً. [
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (نهى أن يستنجى بعظم أو روث، وقال: إنهما لا يطهران )
رواه الدارقطني وصححه]. أما العظم فلأنه أملس، وأما الروث(1/187)
فلأنه نجس، فلا يصح واحد منهما أن يستعمل في الاستنجاء، وهما لا
يطهران، وعلى هذا لا يجوز الاستجمار بالعظم ولا بالروث، ويزاد على
ذلك أيضاً العلة التي ذكرها العلماء في أنها طعام للجن ودوابهم.
والله تعالى أعلم.
134205 ( كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [4] )
( كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [4] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (الماء من الماء)
2 شرح حديث: (المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل)
3 شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع...)
4 شرح حديث: (أمر ثمامة أن يغتسل عندما أسلم)
5 شرح حديث: (غسل يوم الجمعة واجب...)
كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [1]
ينبغي معرفة مدى اهتمام الإسلام بالمظهر العام للمسلمين، فقد شرع
أنواعاً من الأعمال، منها ما هو واجب ومنها ما هو سنة، والرجال والنساء
فيها على ااسواء، ومن تلك الأعمال الغسل لمن جامع، سواء أنزل أم لم
ينزل، والغسل لمن أسلم، والغسل يوم الجمعة، وغيرها.
شرح حديث: (الماء من الماء)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن
والاه. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى:- [عن أبي سعيد
الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (الماء من الماء ) رواه مسلم ، وأصله في البخاري ].
ذكر المؤلف رحمه الله باب الغسل، وأورد فيه عدة أحاديث، وبدأها
بقوله عليه الصلاة والسلام: (الماء من الماء )، فما المقصود
بالحديث؟ قالوا : هذا من حسن الجناس في اللغة؛ لأن الماء الأول غير
الماء الثاني، فالماء الأول هو: الماء المعهود للشرب والغسل، وأما
الماء الثاني فالمقصود به المني. والمعنى: أن استعمال الماء
-للغسل- يكون من الماء الذي يخرج من الرجل، ومفهوم المخالفة: إذا
لم ينزل المني فلا يجب الغسل، وسيأتي الجمع بين هذا الحديث وبين
حديث: (إذا جلس بين شعبها.. )، فلو أن إنساناً أتى أهله فأكسل(1/188)
-لم ينزل- فهل يجب عليه الغسل؟ إذا نظرنا إلى رواية أبي سعيد :
(الماء من الماء )، فهذا النص بهذا اللفظ لا يمنع أن يكون الماء
من شيء آخر، لكن جاء الحديث بالحصر: (إنما الماء من الماء )،
والحصر كما يقولون: يحصر المبتدأ في خبره، فإذا قيل: إنما الماء من
الماء، فلا غسل إلا لنزول المني فقط، لكن: (الماء من الماء )
بدون حصر معناه: أن الغسل قد يكون من غير النزول كالجماع بدون
إنزال مثلاً، وهناك من يقول: من أتى أهله فأكسل -لم ينزل المني-
فلا غسل عليه. وسبب هذا الحديث: أن أحد الصحابة كان على بطن زوجه،
فناداه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعجل وقام ولحق برسول الله صلى
الله عليه وسلم بعد أن اغتسل، فاعتذر لرسول الله صلى الله عليه
وسلم بسبب تأخره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عليك،
إنما الماء من الماء )، ما دمت أعجلت عليها ولم تنزل، فلا غسل
عليك، لأن الغسل لا يجب إلا مع النزول، وإنما عليك أن تغسل فرجك،
فأخذ بعض العلماء من هذا أن من جامع ولم ينزل فلا غسل عليه. ثم جاء
الحديث الآخر: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل )،
قال بعضهم: الشعب كناية عن اليدين والرجلين، وذلك كناية عن الجماع،
وأكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم جهدها ) والجهد من
الجهد، وهو: الطاقة؛ لأن المرأة تبذل جهداً، أو أن الرجل يحملها
جهداً في هذه العملية، وذكر ابن دقيق العيد أن من معاني الجهد
لغة: النكاح، فقوله: (ثم جهدها ) بمعنى: وطئها. وجاء في حديث
آخر: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل ).
وجاء أيضاًَ: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم -قبل الحجاب-
و عائشة جالسة فقال: إني لآتي أهلي وأكسل -لا أنزل المني- أعلي
غسل؟ فقال: إني أفعله أنا وهذه ونغتسل ).
الراجح في مسألة حكم الغسل لمن جامع ولم ينزل
والتحقيق عند العلماء أن من جامع ولم ينزل فعليه غسل. وجاء أن بعض(1/189)
الصحابة كان يقول: من جامع ولم ينزل فلا غسل عليه،. وقال آخرون:
عليه الغسل، فاختلفوا بين يدي عمر ، فجاء علي رضي الله
تعالى عنه فسأله عمر : ما تقول أنت؟ قال: وعلام تسألني وبجوارك
أمهات المؤمنين؟! فأرسل إليهن فسلهن فإنهن أعلم بذلك منا. وهذا من
ضمن ما يذكره العلماء من حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه
وسلم؛ لأنهن ينقلن عنه بعض تصرفاته الخاصة مما يستفاد منها في
التشريع، فأرسل عمر لأم سلمة رضي الله تعالى عنها فقالت:
سلوا عائشة فإنها أعلم بذلك مني، فذهبوا وسألوا عائشة رضي
الله عنها فقالت: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل )، وفي
بعض الروايات أن بعض أقاربها سألها وكان غلاماً: الرجل يجامع أهله
ولم ينزل؟ قالت: مثله كمثل الفروج؛ سمع الديكة تصيح فصاح، يا ابن
أختي! إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل . فلما جاء رسول عمر رضي الله تعالى عنه ونقل له حديث أم المؤمنين عائشة : (أنه إذا
جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ) ومعناه: ولو لم يحصل إنزال،
فقال عمر : لا أسمع بأحد يقول: لا غسل إلا من إنزال، إلا جعلته
مثلة لغيره، فجاء أبي بن كعب فقال: لا تعجل يا أمير المؤمنين:
كان في بادئ الأمر رخصة لنا، ولا غسل إلا لمن أنزل، ومن جامع ولم
ينزل فلا غسل عليه، ثم عزم علينا. وكذلك في الخبر الذي جاء عن
النبي صلى الله عليه وسلم وذكره في بعض الروايات: (أفعله أنا وهذه
ولا نغتسل، قال الراوي: ثم عزم علينا بعد ذلك ) ، وجاء: (أفعله
أنا وهذه ونغتسل ). ومن هنا نعلم: أن بعض المسائل قد تخفى على
بعض الصحابة، مما تعم بها البلوى كما يقال؛ لأنها قضية بين
الزوجين، وتحدث في كل ليلة، وفي كل ظهيرة، وفي كل وقت، ليس فيها
تحديد زمان، ومع ذلك حكمها يخفى على بعض الصحابة رضي الله تعالى
عنهم. إذاً: مع طول الوقت ووجود الخلاف ووجود التساؤل تبلورت
المسائل، وما كان مختلفاً فيه أو متجاهلاً أمره على البعض تمت(1/190)
معرفته؛ ولذا نجد هذه المسائل التي تسمى: بالمذهب ما جاءت عفواً،
ولا قام بها الإمام في المذهب وأملاها على الناس، ولكن جزئيات
وأحداث ووقائع تقع وينظر فيها الإمام على مقتضى النصوص السابقة
التي وصلته، ويصدر رأيه وفتواه فيها، فتجمع ثم يأتي أصحابه وأتباعه
من بعده، وتأتي أحداث وتأتي وقائع فينظرون فيها على مقتضى قواعد
إمامهم وما تقدم له، وعلى أسس فتواه في نظائرها، فيضمون الأشباه
والنظائر إلى أن اكتمل المذهب؛ وهو من عمل الإمام ومن عمل أتباعه
وأصحابه، وتكون من المجموع مذهب فلان، من فعله وفعل تلاميذه
وأتباعه. فهل قضية مثل هذه يختلفون فيها؟ نعم، ولا مانع، وعمر يتوقف ويسأل علياً ، ويسأل أمهات المؤمنين، فيخبره أبي بأن
ذلك الأمر كان في بادئ الأمر رخصة ثم عزم علينا. إذاً: انتهى
الخلاف في هذه القضية بذلك المجلس العلمي الذي ترأسه أمير المؤمنين
عمر رضي الله تعالى عنه، وبنوا رأيهم وحكمهم على ما أتاهم من
أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وانتهى الأمر بوجوب
الغسل.
حجة القائلين بعدم نسخ حديث: (الماء من الماء)
حديث: (الماء من الماء)، هناك من يقول: قد نسخ بحديث: (إذا جلس بين
شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل ). ، والصحيح أنه ليس
منسوخاً؛ والمؤلف أدرك ذلك؛ ولذا جاء بحديث المرأة التي سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (هل على المرأة غسل إن هي احتلمت؟ فقال:
نعم، إذا رأت الماء ). إذاً: للمرأة ماء، وللرجل ماء، وكانت أم
سلمة موجودة فغطت وجهها وقالت: فضحت النساء، وهل المرأة
تحتلم؟! استنكرت ذلك؛ لأنها ما احتلمت ولم تسمع بأن المرأة تحتلم،
ولكن وجد ذلك من عدد من الصحابيات رضوان الله تعالى عليهن، وفي بعض
الروايات: (النساء شقائق الرجال ) ، يعني: يجري على النساء في
المنام ما يجري على الرجال، فقال: (نعم، تغتسل إن هي رأت الماء )
، لا لمجرد الاحتلام بل لرؤية الماء. وهل قوله: (رأت) رؤية علم إذا(1/191)
أحست بخروج الماء؟ قالوا: رؤية المرأة للماء لا يتعين خروجه؛ لأن
ماءها يجد مكاناً يكمن فيه ولا يبرز إلى الخارج، فإذا أدركت أنه
خرج ماؤها وانفصل عن مكانه ولو لم يبرز إلى الخارج فعليها غسل،
بخلاف الرجل فإذا جاوز ماء الرجل مكانه فليس عنده مكان في الداخل
يكمن فيه، بل يخرج إلى الخارج حالاً . وهكذا حديث : (إذا رأت
المرأة ما يرى الرجل .. ) ليس هناك جلوس بين الشعب، وليس هناك
جهد، وليس هناك مجاوزة ختان لختان، ولكن شيء في المنام رأته تسبب
في خروج الماء، فعليها غسل، وسيأتي تتمة الحديث. إذاً: قوله صلى
الله عليه وسلم : (الماء من الماء ) شمل المرأة؛ فالمرأة إذا
رأت ماءها باحتلام أوبغيره فعليها الغسل مثل الرجل في ذلك. إذاً:
حديث : (إنما الماء من الماء ) لا يصح ادعاء نسخه؛ لأنه يبقى
معمول به في غير الجماع؛ وهو الاحتلام، سواء كان للرجل أو كان
للمرأة. وبالمناسبة يقولون: إذا رأى الرجل المني في ثوبه ولم يذكر
احتلاماً، فيغتسل لقوله: (الماء من الماء )، وقد وقع لأمير
المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه بعد أن صلى الصبح ذهب إلى
الجرف، وبعد أن طلعت الشمس وجد في إزاره المني، فقال: ما أراني
صليت الصبح إلا وأنا جنب. وفي بعض الروايات قال: لما أصبنا الودك
لانت العروق وجرى الماء؛ لأنه في عام الرمادة آلى على نفسه ألا
يأكل دهناً ولا يأكل لحماً حتى يأكل ذلك كل المسلمين؛ فلما أخصبت
الأرض وعادت الأمور إلى مجاريها وأكل، قال: فلما أصبنا الودك-
والودك هو: الشحم المذاب- لا نت العروق - كانت يابسة - فجرى الماء،
فغسل إزاره وأعاد صلاته، ولم يأمر الناس الذين صلى بهم أن يعيدوا
صلاتهم. ومن هذا أخذ العلماء: أن الصلاة إذا وقع فيها شيء من جانب
الطهارة والنجاسة فخرج وقتها فلا إعادة.
هل صلاة الإمام مرتبطة بصلاة المأموم أم أن كلاً منهما صلاته مستقلة؟
ابن عبد البر يتساءل في التمهيد: هل صلاة المأموم مرتبطة بصلاة(1/192)
الإمام صحة وبطلاناً، أم أن كلاً منهما صلاته مستقلة عن الآخر؟ رجح
أن كلاً منهما صلاته مستقلة عن الآخر؛ بدليل: أن الإمام لو نابه
شيء في الإمامة، وخرج من الصلاة فالمأمومون لا شيء عليهم، وقد جاء
أن النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه: (كبر في صلاة من الصلوات، ثم
أشار إليهم بيده أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى رأسه أثر الماء ).
أي: اغتسل- فعندما كبر كأنه كان قد وجب عليه غسل ونسي، وتذكر وكان
الناس قد كبروا وراءه، فلما تبين أن تكبيرته التي وقعت واقتدى به
الناس فيها غير صحيحة؛ ما بطلت تكبيرات المأمومين، وقال: مكانكم.
وبقوا على تكبيرة الإحرام السابقة قياماً حتى دخل فاغتسل فجاء وكبر
لنفسه وأتم الصلاة. إذاً: صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام في
الطهارة صحة وبطلاناً. وهذا لا يخلو من خلاف عند العلماء كما نعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم : (الماء من الماء ) وفي رواية أخرى:
(إنما الماء من الماء )، وبعضهم يقول: من أدوات الحصر تعريف
الطرفين بأداة التعريف أل، وتعريف الطرفين يدل على الحصر، تقول:
الشاعر زيد، فالمبتدأ المحلى بأل معرف، والخبر علم معرف، ومن أدوات
الحصر، تقديم ما حقه التأخير، مثل قوله تعالى: إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]
أصلها: نعبدك ونستعينك، فكاف الخطاب قدم وجيء معه (بإيا) لينطق
بالكاف معه؛ لأنه لا ينطق به وحده، فلما قدم ما حقه التأخير بعد
الفعل دل على الحصر : إِيَّاكَ
نَعْبُدُ [الفاتحة:5]لا
نعبد سواك، وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]
لا نستعين بغيرك.. وهكذا، فيتفق الأسلوب الأول مع الثاني إلا أنهم
يقولون: أشد أدوات الحصر ( إنما ) لأنها بذاتها أداة مستقلة، وكذلك
النفي والإثبات مثل: لا شاعر إلا زيد. (لا) هذا نفي، و(إلا) إثبات،
وهي أقوى من (إنما) لأنها جاءت في ( لا إله إلا الله ) فلا إله:
نفي لجميع الآلهة، و إلا الله: إثبات للمولى سبحانه وتعالى. إذاً:(1/193)
{ الماء من الماء } ، كان في أول الزمن رخصة، والمعنى: لا ماء
-غسل- من جماع دون إنزال، ثم عزم عليهم وأصبح الحديث خاصاً
بالاحتلام إذا خرج الماء، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل)
قال رحمه الله: [ وعن أنس رضي الله عنه قال: (قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم -في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل- قال:
تغتسل ) متفق عليه. زاد مسلم : (فقالت أم سلمة : وهل يكون
هذا؟ قال: نعم. فمن أين يكون الشبه؟ )] أنس رضي الله تعالى
عنه اختصر الحديث، ومن هي المرأة ؟ أم سليم بنت أبي
طلحة ، وكانت أم سليم وأبو طلحة بالنسبة لرسول الله صلى
الله عليه وسلم كالأهل، وكان كثيراً ما يرتاد بيتها، وقال في بعض
مجيئه: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟ ) وأبو عمير أخو أنس ،
فكان الرسول يغشاهم بكثرة، ولهم أخبار مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وكانت أم سليم تصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في
غزواته، وفي حنين جاء أبو طلحة وقال: (يا رسول الله! أم سليم معها خنجر! قال: (ما تفعلين به يا أم سليم ؟! قالت: إذا جاءني
كافر أبعج به بطنه ) ، فكانت لها صلة بالرسول صلى الله عليه
وسلم، وأقول: لعله لتلك الصلة تجرأت وسألت مثل هذا السؤال، ولكن في
روايات الحديث مقدمة لطيفة، وهي: أن أم سليم أتت النبي صلى
الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق،
-كأنها تعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسأل في أمر يستوجب
الحياء، ولكن الله لا يستحي من الحق، والله يبين كثيراً من الحقوق
من هذا القبيل بالكناية اللطيفة- هل على المرأة من غسل إن هي رأت
ما يرى الرجل في منامها؟ فقال: نعم، إذا رأت الماء )، وكانت أم
سلمة رضي الله تعالى عنها حاضرة، فقيل: إنها غطت وجهها وقالت:
فضحت النساء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل أنها قالت:
أوتحتلم المرأة يا رسول الله؟! تستنكر سؤال أم سليم ، والإنسان(1/194)
إذا لم يجرب الشيء أو لم يسمع به أو ما مر عليه يستنكره، كما جاء
عن موسى عليه السلام كليم الله مع الخضر : وَكَيْفَ
تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الكهف:68]
، شيء يجهله الإنسان قد لا يصبر عليه، فهي تعجبت وسألت، فبين لها
صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم، فمن أين يكون الشبه؟ ) أي شبه؟
شبه المولود من أبويه؛ لأن المولود لا يخرج عن دائرة الأبوين قرب
أم بعد، ويقولون في علم الوراثة: إن الجنين إما أن يحمل خصائص
الأبوين القريبين أو الأبوين البعيدين، وفي حديث صاحب الإبل لما
رأى مغايرة في ولده، دخله الشك فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم
فقال له (ألك إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها ؟ قال: حمر، قال: هل
فيها جمل أورق؟ قال: نعم. قال: من أين جاء؟ قال: لعله نزعه عرق،
فقال صلى الله عليه وسلم -في ولده الذي اشتبه عليه-: لعله أيضاً
نزعه عرق ) أي: من أجداده أو أعمامه أو أخواله. وعلى هذا يقولون
في علم الأجنة: إن الحيوان المنوي على هيئة الدبوس، ويحمل جينات في
مذنبه - يعني: مثل الجيوب - ، وكل جينة فيها خصائص الوراثة من أبوي
الطفل: من لونه ومن طبعه، ومن شجاعته أو جبنه، ومن كرمه أو بخله،
إلى آخره ... فينشأ الإنسان من هذه الجينات فيشابه أحد الأبوين .
ومتى يكون شبهاً لأبيه أو لأمه؟ في الحديث: إذا غلب ماء الرجل ماء
المرأة أشبه الولد الأب، يعني: حسب كثرة ماء الأبوين، والواقع: أن
هذا كما يقولون من علم التشريح وعلم الأجنة، وهذه مجالات علمية
حديثة لم تكتشف إلا متأخرة، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما تكلم
في ذلك لم يدخل مختبراً ولم يدخل معملاً، ولم يجر تجارب، وإنما كان
ذلك وحي من الله، لا كما يقول بعض المتأخرين: إنها اجتهاديات منه
صلى الله عليه وسلم لا تصدق. نقول: لا، الاجتهاديات في أمور
الدنيا، أما الإخبار فهذا وحي، وقد جاء مما يكون فيه الاجتهاد لما(1/195)
قال لهم: (علام تؤبرون النخل؟ قالوا: إذا لم نؤبره يشيص، فقال: إن
كان الله كاتب لكم شيئاً من الرزق يأتي، فتركوه فجاء شيصاً،
فقالوا: تركنا فحصرتنا، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم مني ) ؛ لأن
الدنيا مبناها على التجارب، وكما قال الغزالي رحمه الله :
العلوم أربعة: علوم عقلية، وعلوم تجريبية، وعلوم إلهية، وعلوم
ظنية. فالعلوم التجريبية: هي الطب، ولهذا كل أسبوع بل كل يوم
يأتينا في الطب جديد، نتيجة للتجارب، وتسمعون وتقرءون: اكتشف كذا
بسبب إجراء العلماء تجربة كذا، ولهذا يكون الطبيب الذي يقتصر على
حمل شهادته مجمداً، والطبيب الحقيقي هو الذي يتابع الدورات، ونتائج
المؤتمرات، ونتائج الأبحاث؛ لأنها تتجدد بتجدد التجارب. والأمور
العقلية: مثل الرياضيات، فإنها لا تختلف أبداً! (1+1=2، 6-5=1)
ولكن إذا حصل خطأ فمن العقل الذي يجريها. وأما الظنيات: فما يقال
عن مواقع النجوم وعن سيرها وعن أفلاكها هذه مبنية على الظنيات، وقد
تكون الظنيات تبلغ إلى حد العلم -كما هو موجود الآن- لوجود
الاكتشافات الحديثة. وأما الإلهيات: فطريقها التوقف والنقل الصحيح
عن المعصوم، وكل ما يتعلق بالإلهيات من الأمور المغيبة؛ عَالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [التوبة:94]، وَبِالآخرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4]
فما كان غيباً فلا يمكن معرفته لا بالتجربة ولا بالظن ولا بالعقل،
ولكن بالنص الإلهي من الوحي، سواء كان من كتاب أو من سنة. إذاً:
الغيبيات مرجعها إلى الوحي المنزل الصادق المصدوق، وقد أخبر صلى
الله عليه وسلم أن الشبه يكون من ماء أحد الأبوين؛ إما الأم وإما
الأب، وأما التذكير والتأنيث فله الآن مباحث عديدة، والله سبحانه
وتعالى جعل في ماء الرجل خصائص التذكير والتأنيث، ولا دخل للمرأة
في ذلك أبداً، جاء في آية النجم: وَأَنَّهُ
خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ
نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [النجم:46](1/196)
فالزوجان الذكر والأنثى من نطفة الرجل، وماء الرجل هو الذي يحدد
الذكورة والأنوثة، والأم صالحة للجانبين كالأرض: نِسَاؤُكُمْ
حَرْثٌ ... [البقرة:223]
والحرث: الأرض التي تزرع، ونوعية الزرع من الزارع؛ إن أراد قمحاً
بذر قمحاً، وإن أراد فولاً بذر فولاً، فنوعية الزرع من الزارع وكل
ذلك بإذن الله تعالى، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع...)
قال رحمها لله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ({كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم
الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت ) رواه أبو داود وصححه
ابن خزيمة .]. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان صلى
الله عليه وسلم يغتسل من أربع ... ) هل لهذا العدد مفهوم
مخالفة؟ يعني: هل هذا حصر لاغتسالاته صلى الله عليه وسلم أم أنه
مجرد إخبار؟ جاء في هذا الحديث أنه كان يغتسل من أربع، وفي حديث أم
سلمة أنه كان يغتسل من خمس ...، وفي حديث صفية أنه كان
يغتسل من عشر، وهل هناك معارضة؟ لا توجد معارضة، كل تخبر بشيء مما
كان يغتسل منه، فهنا: (كان يغتسل من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن
الحجامة، ومن غسل الميت ) ونحن نعلم أنه كان يغتسل للعيدين،
وكان يغتسل لإحرامه، وكان يغتسل لدخول مكة، وكان يغتسل لوقوفه في
عرفات. إذاً: هناك مواطن للاغتسال عديدة، وعلى هذا: إخبار أم
المؤمنين عائشة لا يدل على حصر موجبات الغسل في هذه الأربعة،
ثم هي جمعت لنا كما يقال: كشكولاً، وهل كل هذه الأربعة سواء في
الحكم؟ فهل غسل الجمعة كغسل الجنابة؟ وهل غسل الجنابة كالغسل من
الحجامة؟ وهل غسل الميت كغسل الجمعة؟ كل هذه مختلف في حكمها إلا
غسل الجنابة فهو متفق عليه. إذاً: كان يغتسل من أربع، مبدئياً لا
مفهوم لهذا العدد، من أربع.. من خمس.. من عشر.. على حسب ما جاء
النص وثبت. فالموضع الأول هو غسل الجمعة: وسيأتي المؤلف إلى تفصيل(1/197)
هذه الأربعة، فكأنه قدم حديث عائشة بهذه الأربعة مجملة ثم يشرع
في تفصيلها، فإذا كان المؤلف سيشرع في تفصيل هذه الأربعة، فنترك
الكلام على تفصيلها إلى ما سيأتي به المؤلف؛ لأنه سيذكر الخلاف،
سواء في غسل الجمعة، أو في غسل الحجامة، أو غسل الميت، أما الغسل
من الجنابة فقد انتهينا منه، وهذا موضع إجماع. إذاً: بقي علينا
بيان الكلام التفصيلي في هذه الأمور الأربعة.
شرح حديث: (أمر ثمامة أن يغتسل عندما أسلم)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (في قصة ثمامة بن
أثال عندما أسلم وأمره النبي صلى الله عليه وسلم: أن يغتسل )
رواه عبد الرزاق ، وأصله متفق عليه.] تجاوز المؤلف تلك الأربعة
وجاء بقضية أخرى ليلحقها بالأربعة، ثم يأتي إلى التفصيل. يقول: (إن
النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ثمامة بن أثال أمره أن يغتسل )
. ثمامة سيد بني حنيفة، وكان في طريقه إلى مكة معتمراً، فأخذته
خيل المسلمين وجاءوا به أسيراً، فربط في سارية المسجد، وكان يؤتى
بحلب سبع شياه فيشربها، وكان صلى الله عليه وسلم يمر عليه ويقول:
(كيف بك يا ثمامة ؟ ) فيقول: يا محمد! إن تمنن تمنن على كريم،
وإن ترد فداءً أعطيتك ما يرضيك، وإن تقتل تقتل ذا دم، يعني: دمي لا
يصير هدراً، فأهلي سيطالبون به، فما زال على ذلك ثلاثة أيام،
والرسول يسأله ويجيب بهذه الإجابة، وفي اليوم الثالث قال: (اتركوا
ثمامة ) فأطلقوه، فلما أطلقوه أتى إلى الصحابة وقال: ماذا يفعل
من أراد أن يدخل دينكم؟ قالوا: يغتسل، فذهب فاغتسل، فجاء فنطق
بالشهادتين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: لِمَ
لَمْ تفعل ذلك من أول يوم؟ قال: لا، خشيت أن تقولوا: أسلم خشية
السيف، فلما أطلق سراحي جئت بحريتي. إذاً: الرواية هنا في قصة
ثمامة أنه سأل وأخبره الصحابة فذهب إلى بيرحاء، وكانت عند
مقدمة المسجد في الجهة الشمالية، -وكانت موجودةً إلى وقت قريب قبل(1/198)
هذه التوسعة الأخيرة- فاغتسل هناك وجاء إلى صلاة الظهر وجلس بين
يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم . هنا يقول (إن الرسول
أمره أن يغتسل )، وهل كل من أسلم جديداً نأمره بالاغتسال أم لا؟
نعم على قول الجمهور ما عدا أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: لا
غسل عليه؛ لأن الإسلام يجب ما قبله. وبعضهم يقول: إن كان قد وقعت
عليه جنابة ولم يغتسل أمرناه بالغسل. وبعضهم يقول: يغتسل، أجنب أو
لم يجنب. والجمهور على أن غسل من أراد الإسلام ليس بفرض؛ لأنهم في
غزاتهم وفي إسلامهم وفي دخول الناس في الدين أفواجاً ما ثبت أن
الرسول أمر إنساناً أسلم أن يغتسل،كما يفعل بعض المتأخرين؛ يلزم من
يريد الإسلام أن يختتن، فلربما ترك الإسلام من أجل ذلك. الذي يهمنا
في هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يغتسل، وهل
هذا الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ قالوا: ليس للوجوب؛ لأننا وجدنا
صوراً عديدة ممن دخل في الإسلام ولم يأمرهم قادة الجيوش وأمراؤهم
أن يغتسلوا، وجاءت الوفود وأسلموا في المدينة -وفد ثقيف، ووفد
تميم- وما أمروا أن يغتسلوا قبل أن يسلموا. إذاً: الأولى أن يغتسل،
ولكن ليس بشرط في صحة إسلامه، فيصح الإسلام ويقبل منه ولو لم
يغتسل. ثم كان من شأن ثمامة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه
وسلم: (إني كنت معتمراً فأخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة،
قال: امض فاعتمر - أو: أتمم عمرتك ) ولما جاء مكة وعلم أهل مكة
أنه أسلم آذوه هناك، فتوعدهم ورجع إلى بلاده ومنع الميرة -الطعام-
أن تأتي إلى مكة، وكان وادي حنيفة يمول مكة بالحنطة، فجاء أهل مكة
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه: أن يأمر ثمامة أن
يسمح للميرة أن تأتي إلى مكة، فإن فيها الخالات والعمات، وذوي
الأرحام وقد منعها، فكتب إليه بذلك ففعل. إذاً: الموضوع هنا زائد
عن الأربعة، وهو أمر من أراد أن يدخل في الإسلام أن يغتسل، وهذا(1/199)
بصرف النظر عن الوجوب أو عن الندب، فيغتسل من أربع، وهذه زيادة على
الأربع، فصار إلى الآن خمس اغتسالات، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (غسل يوم الجمعة واجب...)
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم )
أخرجه السبعة.] نعلم جميعاً أن يوم الجمعة من خصائص هذه الأمة، وقد
جاء أن اليهود ما حسدوا المسلمين على شيء كما حسدوهم على يوم
الجمعة، وقول: آمين. ويوم الجمعة اختصت به هذه الأمة وضيعته اليهود
والنصارى، فاليهود أخذوا يوم السبت، والنصارى أخذوا يوم الأحد،
وهدى الله هذه الأمة ليوم الجمعة. ويوم الجمعة كان يسمى في
الجاهلية بيوم العروبة، وقد صلى بعض الصحابة يوم الجمعة قبل أن
يأتي النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً من مكة إلى المدينة؛ وسبب
ذلك أن اليهود كانوا يجتمعون يوم السبت لعبادتهم ولأذكارهم، فيخصون
ذلك اليوم بالعبادة وينقطعون عن العمل، فرأى بعض الأنصار الأولين
أن يتخذوا يوماً يجتمعون فيه، ويذكرون الله كما يفعل اليهود،
فدعاهم شخص فذبح لهم شاة وصنع لهم طعاماً، وصلوا الجمعة - أي:
ركعتين- في المدينة قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم. وأحكام
هذا اليوم كثيرة جداً، وسبق أن نبهت عليها، ومن أراد استقصاء أحكام
يوم الجمعة فإنه يطول عليه، والكلام عن يوم الجمعة أشبه ما يكون
بالكلام عن الحج، وأشرنا إلى أكثرها في تتمة أضواء البيان عند قوله
سبحانه: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]
مع قوله: فَإِذَا
قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].(1/200)
ومن أحكامها التي تعرض لها المؤلف هنا: الغسل ليوم الجمعة، فعنأبي
سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة واجب
على كل محتلم ) . مما نلاحظه في هذا الحديث مدى عناية الإسلام
بالمظهر والنظافة، وخاصة في أيام الأعياد والمجتمعات، وقد جاء عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماذا على أحدكم إذا اتخذ ثوباً
لجمعته سوى ثوب مهنته؟ ) وهذا تنظيم عجيب! أعمال المهنة سواء
كانت زراعة للمزارع، أو نجارة للنجار، أو حدادة للحداد، أو.. أو..،
كل إنسان له مهنة يحتاج إلى لباس يناسبها يتحمل ما يجري عليه أثناء
العمل، فإن أتى الجمعة فمن باب حسن المظهر، ومن باب حسن السمت أن
يلبس من أحسن ما يملك، وقد ذكر البخاري في الأدب المفرد : (حسن
السمت من الإيمان )، ومشهور عن كثير من العلماء أنهم يعنون
بسمتهم، وكما جاء عن ابن عمر في التجمل للزوجات قوله: إنهن
يردن منا ما نريد منهن. وجاء عن مالك رحمه الله أنه ما كان
يجلس للحديث إلا بعد أن يغتسل ليكون في أحسن هيئة، وذكرنا في قصته
مع هارون الرشيد ، حينما أتاه هارون الرشيد فلم يفتح له
حالاً ولكن ذهب واغتسل، وأبدل ثيابه وتطيب ثم أذن له، فقال له
هارون الرشيد ما شأنك؟! طلبناك فامتنعت علينا، وجئناك فحبستنا
على بابك، فقال له: علمت أنك لم تأت لدنيا ولكن للحديث، فكرهت أن
أجلس للحديث وأنا على غير هيئة مكتملة. والله تعالى يقول: خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31].
وعمر رضي الله تعالى عنه رأى حلة تباع عند باب المسجد، فأخذها
لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اشتر هذه، لتلبسها في
الأعياد، وتتجمل بها عند الوفود . وجاء في بعض الآثار: إذا اجتمعتم
فتجملوا. إذاً: عناية الإسلام بالمظهر أو بالهيئة أو بحسن السمت
عناية فطرية وطبيعية، وتدل على الذوق والرقي في الإسلام.
( كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [2] )
عناصر الموضوع(1/201)
1 شرح حديث: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود...)
2 شرح حديث: (صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة)
كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [3]
مما يهم المسلم في حياته الزوجية معرفة أحكام الجنب، كالوضوء عند إرادة
العود مرة أخرى، والوضوء عند الأكل والشرب، والوضوء عند إرادة النوم،
وكيفية غسل الجنابة، وحكم استعمال المناشف بعد الغسل.
شرح حديث: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود...)
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله
وصحبه ومن والاه. ثم أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [ وعن أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءاً )
رواه مسلم ، زاد الحاكم : (فإنه أنشط للعود ) ]. لا زلنا
فيما يتعلق بالجنب من الأحكام، ومنها إذا أتى الرجل أهله -وهذا
كناية عن الجماع- ثم أراد أن يعود في تلك الليلة إلى أهله، وهذه
أمور شخصية تعود إلى ذات الإنسان نفسه وإمكانياته، فهل له أن يعود
دون أن يحدث غسلاً أو وضوءاً مكانه؟ هنا الحديث يقول: (إذا أتى
أحدكم أهله وأراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءاً )، وهذا النص
أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أتى أهله، ثم وجد في نفسه رغبة
للعودة مرة أخرى، ألا يعود مباشرة بل يتوضأ ثم يعود، وقوله صلى
الله عليه وسلم: (فليتوضأ بينهما ) إلى هنا كان يكفي في
التشريع، ولكن قال: (وضوءاً )، وعلة ذلك كما يقول العلماء:
تأكيد بالمصدر لينفي المجاز، ويدل على حقيقة الماهية، كما جاء في
قوله سبحانه: وَكَلَّمَ
اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164]
أي: ليبين أن الله كلم موسى كلاماً حقيقياً، وليس من باب المجاز،
كأن يكون نفث في روعه، فقوله: (فليتوضأ بينهما وضوءاً ) يؤكد أن
المقصود هو الوضوء الشرعي المعروف، وجاء في بعض الألفاظ: (وضوءه(1/202)
للصلاة )، فيكون هذا التصريح صارفاً المعنى اللغوي وهو غسل
اليدين والوجه إلى المعنى الشرعي الذي يبدأ بغسل اليدين وينتهي
بغسل القدمين وقبل ذلك غسل الفرج. وقد نبه كثير من الأطباء على
ضرورة غسل الفرج بعد المباشرة؛ لأن في الفرج رطوبة، ويخرج من الرجل
ماء، فإذا ترك ذلك وجف على المحل فإنه قد يؤلم ويضر، وأقل شيء يبقى
في الجلد فيسبب حساسية أو حرارة أو شيئاً من هذا، فإذا أتى أهله
ولو لم يرد أن يعود فليغسل فرجه، ثم جاءت الزيادة على هذا الحديث
مبينة الحكمة من وراء هذا الوضوء والثمرة منه، لأن هذا الوضوء لا
يرفع حدثاً ولا يبيح صلاة؛ ولذا من ألغاز الفقهاء: ما هو الوضوء
الذي لا ينقضه إلا الجنابة؟ هو هذا الوضوء إذا أراد أن يعود، فإذا
عاد وأراد أن يعود مرة ثالثة فليتوضأ أيضاً بينهما وضوءاً،
والجنابة في العود الثاني قد نقضت ذلك الوضوء، فهذا الوضوء لا يرفع
حدثاً ولا يبيح صلاة، ولكنه لأي شيء؟ قالوا: أولاً: للنظافة،
وثانياً: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه أنشط للعود )
يا سبحان الله ! إلى هذا الحد يرشد النبي صلى الله عليه وسلم في
الأمور الشخصية، وهذه -يا إخوان- أخطر ما يكون في الحياة الزوجية؛
لأن من أتى أهله وليس عنده نشاط، فلربما تتراخى قوى الرابطة
الزوجية، وكم من مشاكل تحصل بسبب ذلك؛ ولذا في مسألة العنين ذكر
العلماء أنه يمهل سنة، حتى تمر عليه فصول السنة الأربعة، فإن كان
متأثراً من الحرارة، تأتي البرودة في الشتاء، وإن كان متأثرا من
البرودة تأتي الحرارة في الصيف، وهكذا، فإذا مرت عليه السنة
بفصولها الأربعة وعجز في الوصول إلى أهله فحينئذ يعتبر عنيناً،
وللزوجة حق المطالبة بالفراق، والمهلة بعد أن ترفع أمرها للقضاء،
والقاضي هو الذي يمهله تلك المهلة، وقد تختلف الأمور، ويكون للقاضي
وجهة نظر، فيجعل المدة أقل أو أكثر.
حكم الوضوء للجنب إذا أراد العود(1/203)
نأتي إلى الحكم الفقهي في هذا الوضوء: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد
أن يعود فليتوضأ )، اللام هنا: لام الأمر؛ لأنه عند الأصوليين:
لام الأمر مع المضارع من صيغ الأمر الذي يقتضي الوجوب، وأكده
بالمصدر ليدل على أن المطلوب هو الوضوء الكامل، وليس مجرد غسل
الفرج فقط؛ لأن الوضوء لغة يطلق على النظافة، وغسل الفرج يكون من
النظافة، فجاء بالمصدر (وضوءاً) ليؤكد على أن الوضوء الشرعي هو
المقصود. وهل معنى (فليتوضأ) وجوب الوضوء أم له أن يأتي أهله ولو
لم يتوضأ؟ يقولون: إن هذا الوضوء ما قال بوجوبه إلا داود الظاهري ومن تبعه، والجمهور على أنه سنة؛ لأنه من باب الإرشاد، وبين الحكمة
والنتيجة منه وهو أنه أنشط للعود، فكأن قائلاً يقول: وإذا كان
نشيطاً فهو ليس بحاجة إلى منشط، ولكن يستثنى من ذلك غسل الفرج،
ويتحتم غسل الفرج إذا أتى جاريته ثم أراد أن يأتي الزوجة، فإنه
يتعين عليه أن يغسل ذكره، وهذا من حق الزوجة عليه؛ لأن إتيانها بعد
إتيان غيرها من غير غسل الفرج فيه إيذاء لها، وقد يكون فيه مضرة
عليها. يأتي هنا بحث آخر، لو كان عنده عدة زوجات، وأراد أن يطوف
عليهن في ليلة واحدة، قالوا: (جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مرة
طاف على نسائه ولم يغتسل إلا عند الأخيرة )، ولم يذكر عنه أنه
غسل فرجه، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه طاف على نسائه واغتسل
عند كل واحدة منهن، ثم قيل له: ألا تجعل هذا في الآخر؟ قال: (هذا
أطيب وأطهر ) أي: الاغتسال بعد كل واحدة على حدة، ومن هنا
قالوا: إن الوضوء هنا إنما هو للندب والاستحباب، وليس للوجوب؛ لأن
حكمته أنه أنشط للعود مرة أخرى، والله أعلم.
شرح حديث: (كان رسول الله ينام وهو جنب...)
قال رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء، وهو معلول )].
من أحكام الجنابة: إذا أجنب الرجل فهل ينام وهو جنب؟ وهل يأكل وهو(1/204)
جنب؟ وهل يشرب وهو جنب؟ كل هذه الأمور جاءت فيها النصوص، وبدأ
المؤلف بموضوع النوم الذي ورد في حديث عائشة رضي الله عنها
قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن
يمس ماء )، وجاءت أحاديث أخرى كحديث عبد الله بن عمر أنه
صلى الله عليه وسلم سئل: (أينام الجنب قبل أن يغتسل يا رسول الله؟!
قال: نعم، إذا توضأ )، وهنا: (من غير أن يمس ماء )، قال بعض
العلماء: ماءً هنا عام؛ ماء الغسل أم ماء الوضوء؟ فالجمهور على
إطلاق الماء لا لوضوء ولا لغسل، والآخرون قالوا: لا، لو لم تأت
الأحاديث الأخرى لكان الحمل على الإطلاق واقع، ولكن جاءت أحاديث
أخرى (نعم إن هو توضأ )، وجاء في حديث عائشة : (وكان جنباً
يتوضأ وينام.. يتوضأ ويأكل )، فإذا أثبتت الوضوء، والوضوء مس
ماء، ثم نفت الماء؛ فيكون الماء المنفي هو ماء الغسل، ويكون ماء
الوضوء ثابتاً بحديث عائشة نفسها، وبحديث ابن عمر وغيره
أنه صلى الله عليه وسلم أباح للجنب أن ينام قبل أن يغتسل إذا هو
توضأ. وجاء عند ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا
يذكره السيوطي في تعليقه على موطأ مالك - سئل: (أينام الجنب
يا رسول الله؟! قال : نعم إن هو توضأ، فإني أخشى أن يموت في تلك
الليلة وهو جنب فلا يحضره جبريل )، فبين صلى الله عليه وسلم
العلة في وضوئه عند نومه، وهنا قالوا: ما الغرض من الوضوء، فالوضوء
لا يرفع حدثاً ولا جنابة؟ قالوا: أولاً: مع الوضوء غسل الفرج، وهذه
النقطة الأساسية الحساسة. ثانياً: إذا توضأ فهو بين أحد أمرين: إما
أنه بوضوئه خفف حكم الجنابة، أو إنه إذا لامس الماء وباشر الماء
وتوضأ، فلعل ذلك يدفعه إلى الغسل، فيكون الوضوء مقدمة وتنشيطا لما
هو المطلوب من أن يغتسل. يهمنا في هذه الجزئية: أن الجنب ممنوع من
تلاوة القرآن، ومن حمل القرآن، ومن الطواف, وهنا هل تمنعه الجنابة
من النوم؟ بين صلى الله عليه وسلم أنها لا تمنعه، ولكن قال: (إن(1/205)
توضأ ). وهل الوضوء من الجنابة واجب كالوجوب للصلاة أم أنه من
باب الإرشاد والتوجيه؟ رواية ابن ماجة : (أخشى أن يموت فلا
يحضره جبريل ) تدل أن الأمر هنا من باب الإرشاد وبيان الأفضلية،
ومن الذي لا يريد أن يحضره جبريل عند الوفاة؟ كل إنسان يرجو ذلك.
إذاً: الأولى أن ينام الجنب بعد أن يتوضأ، فإذا توضأ فلعله يخطو
خطوة أخرى وينشط ويغتسل وينتهي الأمر.
حكم الأكل والشرب حال الجنابة
بقي التساؤل عن الأكل والشرب للجنب، وقد وسع هذا البحث صاحب
المنتقى، وفصل فيه الشوكاني تفصيلاً طيباً جداً، وهو موجز من
فتح الباري في شرح صحيح البخاري، وقد جاءت النصوص أيضاً في الأكل
والشرب، فقالوا: (هل يأكل الجنب يا رسول الله؟! قال: نعم إن هو
توضأ )، فجمهور العلماء حمل الوضوء هنا على الغسل نظافة؛ لأنه
لم يأت تأكيده بالمصدر كما جاء في النوم، وقالوا: إن الأكل يحتاج
إلى نظافة في يديه، فقد يكون مس فرجه، وقال بعضهم: إن الوضوء هنا
هو الوضوء الشرعي المعروف. وروى عند البيهقي رحمه الله تعالى
عن عائشة رضي الله عنها أن أبا موسى -أو شخصاً آخر- سألها
قال: يا أم المؤمنين! إني أستحي، -أي: إنه يجول بخاطري أمور وأستحي
أن أواجهك بها- هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب؟
قالت: نعم، كان أحياناً يغتسل وينام، وأحياناً ينام ويغتسل. قال:
هل كان يغتسل في أول الليل أو في أوسطه أو في آخره؟ قالت: كان
أحياناً يغتسل في أول الليل، وأحياناً يغتسل في أوسطه، وأحياناً في
آخره، قال: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، وهل كان يأكل معك
وأنت حائض؟ قالت: نعم، كنت آكل معه فآخذ العظم فأتعرقه ثم أناوله
إياه فيتعرقه بفمه بعد فمي، وكنت آخذ القدح فأشرب ثم أناوله إياه
فيضع فاه موضع فيَّ فيشرب، وكان في كل مرة يقول: الحمد لله الذي
جعل في الأمر سعة، ثم سألها هل كان يوتر عليه الصلاة والسلام قبل(1/206)
أن ينام؟ فقالت: أحياناً وأحياناً. ففي هذا الحديث رد على اليهود،
فقد جاء في الحديث: (قدمنا المدينة فإذا اليهود إذا حاضت المرأة لا
يؤاكلونها ولا يشاربونها، فقال صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء
غير الجماع )، وعلى هذا فمن أراد العود بعد الإتيان، فيستحب له
الوضوء قبل العود، وكذا الوضوء للأكل، وكل ذلك مندوب إليه وهو
أولى، ولكن لم يقل بالوجوب إلا داود الظاهري ومن وافقه، وبالله
تعالى التوفيق. المؤلف ذكر أن كثيراً من أحكام الجنب، وهو ألا يقرأ
القرآن، وكذا حمل المصحف، كما جاء في الحائض في رواية مالك أن
ابن عمر قال لجارية: (ناوليني المصحف، قالت: إني حائض، قال:
حيضتك ليست في يدك، ناوليني من العلاقة) وعلاقة الكيس هو الذي فيه
المصحف، أما أن تباشره فلا.
شرح حديث: (صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، يبدأ فيغسل يديه، ثم
يفرغ بيده على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ ، ثم يأخذ الماء ، ثم
يدخل أصابعه في أصول الشعر ، ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض
على سائر جسده ، ثم غسل رجليه )متفق عليه واللفظ لمسلم .
ولهما من حديث ميمونة : (ثم أفرغ على فرجه فغسله بشماله ثم ضرب
بها الأرض )، وفي رواية: (فمسح بها التراب، وفي آخره: ثم أتيته
بالمنديل فرده ، وفيه : فجعل ينفض الماء بيده ).] هذا شروع في
كيفية الغسل من الجنابة: كيف يغتسل من الجنابة؟ أما الوضوء فقد جاء
القرآن الكريم ببيان كيفيته: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]،
وجاءت السنة النبوية وبينت هذه الأعضاء، فأضافت إلى غسل الوجه
المضمضة والاستنشاق، وأضافت إلى مسح الرأس مسح الأذنين، وأضافت(1/207)
تخليل الأصابع، وهذا تأكيد في الغسل، أما غسل الجنابة فلم يأت فيه
تفصيل وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]،
فهنا تأتي السنة فتفصل ما أجْمل القرآن في أمر الغسل. جاء حديث
عائشة رضي الله عنها، وحديث ميمونة ، وحديث حفصة ، وكل
هذه الأحاديث بمجموعها تبين لنا كيفية الغسل من الجنابة.
غسل الكفين
بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بحديث عائشة رضي الله عنها، لأنه
أشمل وأجمع، ولا شك أن أمهات المؤمنين هن أعرف الناس بغسل رسول
الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهن يشاركنه في هذا العمل، ماذا قالت
عائشة ؟ قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من
الجنابة يبدأ فيغسل يديه ) والمراد باليدين: الكفان وليس
الذراع، وجاء في بعض الروايات أنه يأخذ الحلاب - وهو الإناء الذي
يحلب فيه - فيصب على يديه ويغسلهما، كما جاء في غسل اليدين في
الوضوء لمن كان نائماً، (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في
الإناء حتى يغسلهما ثلاثاً ) فكان أيضاً صلى الله عليه وسلم
يأخذ هذا الإناء الذي كان يحلب فيه، ويغترف من الإناء الذي فيه ماء
الغسل، ويصب على يديه ويغسلهما ثلاثاً، هذا أول الأمر.
غسل الفرج
(ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ). يفرغ من الحلاب أو
يقترب فيأخذ بيديه من الإناء بعد غسلهما. ولكن هنا تقول: (يفرغ
بيمينه على شماله فيغسل فرجه )، لأنه ورد حديث: (لا يمسن أحدكم
فرجه بيمينه )، فاليمين لا تباشر هذه الأماكن، بل يفرغ باليمين
على الشمال فيغسل فرجه، ويقدم الوضوء على الغسل؛ لأنه ألزم لنظافة
المحل قبل أن تجف رطوبته، وليكون احترازاً لئلا يعود إلى مس هذا
المحل فينتقض وضوءه بمس فرجه، فيغسل فرجه قبل أن يتوضأ وقبل أن
يفيض الماء على جسده؛ لتبقى الطهارة بلا ناقض. نأتي إلى حديث
ميمونة ، وفيه زيادة أنه بعد غسل فرجه عليه الصلاة والسلام يضرب
يديه بالتراب، وفي بعض الروايات: بالجدار، قالت ميمونة : (ولو(1/208)
شئتم لأريتكم أثر يده في الجدار من ذلك الغسل )، وأخذ العلماء
من هذا أن التراب يزيل ما يمكن أن يكون قد علق باليد من لزوجة آثار
الوطء، أو أنه فعل ذلك ليزيل ما بقي من الرائحة.
الوضوء
في البداية غسل كفيه، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه، ثم
يتوضأ. وهل المقصود الوضوء اللغوي -غسل الكفين مع الوجه- أم الوضوء
الشرعي -غسل أعضاء الوضوء كاملة-؟ الجمهور على أن المقصود هو
الوضوء الشرعي، لأنه جاءت التفصيلات بأن يتمضمض ويستنشق ويغسل
وجهه..، فقوله: (ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم
يؤخر غسل رجليه بعد أن يفرغ الماء )، المقصود من ذلك الوضوء
الشرعي لا اللغوي. وهنا مسألة: عندما يتوضأ هل يغسل القدمين في هذا
الوضوء أم يؤخر غسل القدمين حتى يفيض الماء على سائر جسده؟ سيأتي
تفصيل ذلك إن شاء الله.
تخليل الشعر
وقولها: (ثم يتوضأ ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر )،
بعد أن يتوضأ يأخذ الماء ويصبه على رأسه، ويدخل أصابعه إلى أصول
الشعر، ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له جمة
تضرب إلى منكبيه إن أطالها أو إلى شحمة أذنه إن قَصَّرها، ويدلكها
ثلاثاً حتى يغلب على ظنه أن الماء قد وصل إلى أصول منابت الشعر.
صب ثلاث حفنات من الماء على الرأس
وقولها: (ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات )، الحفنة: هل هي بكف واحد
أو بكفين؟ اللغة الدارجة: الحفنة بالكف، والحفان بالكفين، تقول:
هذا من الإحفان، فقال: حفن بكفه ثلاث حفنات، وجاء في بعض الروايات:
(بكفه )، على الإفراد، وجاءت بعض الروايات: (بكفيه )، على
التثنية.
إفاضة الماء على سائر البدن
وقولها: (ثم أفاض على سائر جسده ) أي: بعد أن غسل يديه غسل
فرجه، ثم دلك يديه بالتراب، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم بدأ بالرأس
فأدخل الماء إلى أصول الشعر، حتى ظن أنه أرواه -كما في بعض
الروايات- ثم أخذ ثلاث حفنات فأفرغها على رأسه. وهل يثلث الغسل كما(1/209)
يثلث الوضوء أم أن هذا من باب تأكيد غسل الرأس فقط؟ الجمهور أنه
يستحب أن يثلث كما في الوضوء، فأخذ ثلاث حفنات للحيطة والتأكيد
وأفاضها على رأسه. إذاً: الرأس بدأ بتخليله حتى يصل إلى أصول منابت
شعره، وإذا كانت لديه لحية كثة فهل يخللها أم لا؟ قالوا: نعم
يخللها إلحاقاً لها بشعر الرأس، خاصة إذا كانت كثة، فإذا أفاض على
رأسه ثلاث حفنات فماذا بعد ذلك؟ قالت: (ثم أفاض على سائر جسده ).
الإفاضة: تعميم الجسد بالماء، وقولها: (على سائر ) أي: الباقي
بعدما تقدم؛ لأن سائر ليست بمعنى الجميع، بل بمعنى الباقي، فكأن
سائر جسده بقية الأعضاء التي لم يمسها الماء، وقال بعضهم: الإفاضة
على سائر الجسد تشمل الرأس وأعضاء الوضوء، ويكون غسلها أولاً بصيغة
الوضوء تكريماً لأعضاء الوضوء ثم يشملها الغسل مع سائر البدن.
وجاءت بعض الروايات بأنه يبدأ بشقه الأيمن، يفيض الماء على شقه
الأيمن، ثم يفيض الماء على شقه الأيسر، ثم يتأخر ويغسل قدميه تتمة
للوضوء الذي أوقعه قبل غسل رأسه وإفاضة الماء على جسده. وهنا
مسألة: هل الدلك واجب في هذا الغسل؟ الجمهور لا يقولون بوجوب
الدلك، بل يقولون: إنه إذا جرى الماء على الجلد، وتأكد الإنسان من
أن الماء قد وصل إلى أصل كل شعرة؛ فإن ذلك يكفي، و مالك يقول:
لا بد من الدلك، ويتعين على المغتسل من الجنابة أن يدلك جلده بقدر
ما تطول يداه، قالوا: لماذا تشترط هذا؟ قال: لنتأكد من تعميم الماء
على سائر الجسد، وفي أثر موقوف على علي : (تحت كل شعرة جنابة)
فإذا كان كذلك فلا بد من التأكد من إيصال الماء إلى جميع البشرة.
وبعض الروايات تقول: (ثم غسل رجليه )، وبعض العلماء يقول: إن
قلنا: إن الوضوء السابق للغسل كالوضوء للصلاة فيتعين غسل القدمين
أولاً، وقال بعضهم: حتى وإن قلنا: إنه كالوضوء للصلاة فيمكن تأخير
بعض الأعضاء، وفصلها بجزء من الزمن، وقال مالك رحمه الله: إن(1/210)
كان المكان الذي وقف ليغتسل فيه نظيفاً فإنه يغسل قدميه مع الوضوء
أولاً، وإن كان غير ذلك بأن كان تراباً أو كان طيناً وسيعلق فيهما
من أثر الغسل فيؤخرهما، ثم بعد أن ينتهي من الغسل ينتقل إلى مكان
آخر جاف فيغسلهما فيه. وهكذا يتم من مجموع حديث عائشة مع حديث
ميمونة كيفية غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة، وتبقى
بعض الجوانب في اغتسال الرجل مع المرأة في وقت واحد وقد تقدم قوله
عليه الصلاة والسلام: (لا يغتسل الرجل بفضل المرأة، أو المرأة بفضل
الرجل ).
حكم استعمال المناشف بعد الوضوء
وفي حديث ميمونة رضي الله عنها: (ثم أتيته بالمنديل )
المنديل: (المنشفة)، يقول علماء اللغة: سمي هذا النوع من القماش
باستعماله منديلاً (مفعيل) من الندل، والندل: الخسيس -عافانا الله
وإياكم- لأن المنديل دائماً يستعمل للتنظيف، ولا يستعمل في أشياء
مشرفة، بل يستعمل في الأشياء الدنية؛ ولذلك سمي منديلاً، قالت:
(فأتيته بالمنديل )، وفي رواية: (وأتيته بالخرقة فردها وجعل
ينفض الماء بيده )، وهنا يقول العلماء: ما حكم استعمال المناشف
بعد الغسل؟ قال بعض العلماء: هذا عائد لاختلاف الجو، ففي الشتاء
ينبغي ذلك؛ مخافة التعرض للمرض، بخلاف الصيف، وقد جاء في بعض
الروايات أنه عليه الصلاة والسلام استعمل المنديل كما في رواية أم
سلمة . والخلاصة: أن استعمال المناشف -المناديل- بعد الغسل
راجع للمصلحة، والله أعلم.
( كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [4] )
عناصر الموضوع
1 مشروعية التيمم
2 من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم
كتاب الطهارة - باب التيمم [1]
لقد خص الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بخصائص جمة، وهذه
الخصائص لا يشركه فيها أحد من الأنبياء، ومنها: أنه نصر بالرعب مسيرة
شهر، وأحل له أخذ الغنائم، وأعطي الشفاعة، وبعث إلى الناس كافة، ومنها:
أنه جعلت له الأرض ولأمته مسجداً وطهوراً، فإذا لم يجد أحد من أمته(1/211)
الماء ليتوضأ أو ليغتسل فليتيمم وليصلِّ حيث شاء.
مشروعية التيمم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين،
سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فيقول المؤلف رحمه الله: [باب التيمم: عن جابر بن عبد الله رضي
الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم
يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً
وطهوراًً، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل .. ) ، وذكر الحديث.
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عند مسلم : (وجعلت تربتها لنا
طهوراً إذا لم نجد الماء ) ، وعن علي رضي الله عنه عند أحمد : (وجعل التراب لي طهوراً ) ]. انتقل المصنف رحمه الله إلى
الطهارة الترابية وهي التيمم، والتيمم لغة: القصد، يقال: يممت جهة
كذا أي: قصدتها، أو تيممت إلى جهة كذا قصدتها. وشرعاً: القصد إلى
الصعيد الطيب عند عدم وجود الماء، لمسح الأعضاء على صفة مخصوصة.
وهذا الباب مما يدل على مدى سماحة الإسلام، ومجيء البدائل من الأصل
المفروض، وهذا أولها. فالأصل في الطهارة أن تكون بالماء، ولكن إذا
عدم الماء أو تعذر استعماله فلا يتعطل التشريع، ولا تتوقف العبادة،
بل يأتي البديل وهو التيمم، سواء كان التيمم رخصة أو عزيمة، فإنه
نيابة مؤقتة، أو دائماً على حسب الظروف في استعمال الماء. ونجد
البدائل في الإسلام عندما تأتي الشدائد أو المضايقات والعجز، وفي
بعض الأحيان تسمى رخصة، وأحياناً تكون عزيمة. فإذا انتهينا من
الطهارة وجئنا إلى الصلاة فإن الأصل فيها: وَقُومُوا
لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]
، فإذا عجز الإنسان عن القيام جاءته الرخصة في أن يصلي جالساً،
وإذا عجز عن الجلوس صلى وهو على جنبه، أو مستلقياً على ظهره. وإذا
جئنا إلى الصيام فإن الأصل: فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]،
فإذا كان عاجزاً عن الصوم أو تلحقه به مشقة من مرض أو سفر أو ما(1/212)
يلحق بالمرض والسفر، فإنه تأتي الرخصة في الفطر والقضاء في أيام
أخر: فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185].
وتأتي الزكاة ولا تجب إلا على الغني الذي يملك نصاباً، ويبقى عنده
مال وهو مستغنٍ مستغنياً عنه حتى يحول عليه الحول في يده، فحينئذٍ
يثبت غناه فتفرض عليه الزكاة. ونأتي إلى الحج فنجد من أول
مشروعيته: مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل
عمران:97]. ونأتي إلى الجهاد فنجد: لَيْسَ
عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى
الْمَرِيضِ .. [الفتح:17]
..وهكذا. ومن هنا لم يكن في التشريع الإسلامي ما يسمى طريقاً
مسدوداً، بل كلما عجز الإنسان جاءته الرخصة، والتيمم يختلفون فيه
على ما سيأتي إن شاء الله: هل هو عزيمة أو رخصة؟ كما اختلفوا في
إباحة الميتة، إذا نفد الطعام ولم يجد ما يسد رمقه ووجد الميتة،
وهي محرمة في الأصل، فإنه أبيح للمضطر: غَيْرَ
بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173]
فإباحة الميتة عزيمة أم رخصة؟ قالوا: إنها رخصة، ولكن قد تكون
عزيمة إذا خاف على نفسه الموت ولم يجد غيرها. وهنا في التيمم مباحث
كثيرة من حيث العزيمة والرخصة، ومن حيث أنه مبيح للصلاة أو رافع
للحدث، وهذه كلها جوانب فقهية تتعلق بموضوع التيمم، وسيذكر المؤلف
بعض النصوص الموجودة في هذا الباب، وسنشرحها إن شاء الله تعالى.
من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم
والتيمم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، فلا حاجة إلى بحث جوازه أو
مشروعيته، وقد بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بشيء من بيان المشروعية
مع خصوصيات المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومنها: حديث جابر رضي
الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم
يعطهن أحد قبلي )، قوله: (أعطيت) فعل مبني للمجهول، أو لنائب
الفاعل، ومعلوم أن الذي أعطاه هو الله سبحانه وتعالى، بدليل قوله:
(لم يعطهن أحد قبلي ) ، وقد اعتبروا هذه الخمس من خصائصه صلى(1/213)
الله عليه وسلم. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحصر ما أعطيه
دون الأنبياء في الخمس، وإنما قال: (أعطيت خمساً)، ويمكن أن يعطي
خمساً أخرى أو عشراً، ولهذا ذكر السيوطي أنه عد ما اختص به
النبي صلى الله عليه وسلم فوصل إلى مائتي صفة، وذكر ابن حجر في
فتح الباري ثمانية بنصوصها. وهناك أمور تمر على الإنسان وقد لا
يعلم أنها من خصائصه صلى الله عليه وسلم، والقاعدة في بيان خصائصه:
إما أن يأتي النص عليها، كما جاء في الواهبة نفسها للرسول صلى الله
عليه وسلم، فقد جاء القرآن بالتنصيص: خَالِصَةً
لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]،
فهذا نص قرآني على أن هذه الصورة من صور الزواج خالصة للنبي صلى
الله عليه وسلم، وهي أن المرأة إذا رغبت في زواجها من رسول الله،
فجاءت ووهبت نفسها لرسول الله، فإنه يحق له أن يتزوجها بدون صداق
ولا ولي ولا شهود، وهذا من خصائصه، قيل: لأن الولي لا حاجه إليه؛
لأنه صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، أما غيره فلا
يحق له أن يتزوج امرأة بالهبة كما هو معلوم. ونرجع إلى الخمس
المذكورة في هذا الحديث، فنجد أنه صلى الله عليه وسلم استهل حديثه
بقوله: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي )، وفي رواية: (أحد من
الأنبياء قبلي )، وإذا كان لم يعطهن أحد قبله فهل يعطى أحد بعده
شيئاً منها؟ الجواب: لا؛ لأن الرسالة انتهت، والعطاء والإكرام من
الله سبحانه وتعالى بتخصيص فرد من الأفراد بشيء لم يكن لغيره قد
انتهى أمره، اللهم إلا أمور ليست في التشريع، كما قالوا عن بعض
الصحابة رضي الله تعالى عنهم: أنه كانت تمر به الملائكة فتسلم عليه
وكان يراها، فحدث، أن اكتوى، فامتنعت الملائكة عن التسليم عليه،
وعن رؤيته، فلما ترك الكي عادت إليه، وقال: قد عاد إليَّ ما كان
أولاً. وكذلك العباس رضي الله تعالى عنه لما جاء إلى بيت رسول
الله، واستأذن على رسول الله فلم يأذن له، والباب مفتوح، وهو يراه(1/214)
في داخل البيت، فغضب العباس ، وكان في بني هاشم نوع حدة، فجاء
راجعاً إلى بيته، فقال له عبد الله : لا تغضب يا أبي! لعله
مشغول عنك بالرجل الذي كان يتحدث معه، فقال: وهل معه رجل؟ قال:
بلى، قال: ما رأيته، فرجع العباس مرة أخرى، فاستأذن على رسول
الله فأذن له، فدخل وقال: (ما شأنك يا ابن أخي استأذنتك أولاً ثلاث
مرات فلم تأذن لي، وقال لي الغلام: إنه كان عندك رجل تحادثه؟
فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى ابن عباس وقال: أرأيته يا غلام؟
قال: بلى، قال: ذاك جبريل كان عندي آنفاً )، فهذا قد يكون من
خصوصياته، ولكن وجدنا في مجلس عام في حديث عمر : (بينما نحن
جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل .. )، وذكر
من صفاته، فهذا في مجمع عام، وفي النهاية قال لهم صلى الله عليه
وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ). فقد يخص الله بعض
العباد ببعض الخصائص التي ليست للآخرين، كإجابة الدعوة، فليس كل
إنسان مجاب الدعوة، ولكن يوجد من بعض عباد الله الصالحين كما قال
صلى الله عليه وسلم: (لو أقسم على الله لأبره ).
قذف الرعب في قلوب الأعداء
قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر ). والرعب: هو
الخوف، والمسيرة نسبة إلى موضع السير، والمعنى: مسافة ما يسير
الإنسان شهراً بالسير العادي على الأقدام أو على الإبل، قالوا:
مسيرة شهر أمامه، ومسيرة شهرٍ وراءه، ومسيرة شهر عن يمينه، ومسيرة
شهر عن يساره، فكل من سمع به على بعد شهر فإنه يخاف منه، وجاء في
بعض الروايات: (نصرت بسيفي ) أي: بالسمعة، ومن المعلوم أنه صلى
الله عليه وسلم رءوف رحيم، والرءوف الرحيم لا يخاف الناس منه، إنما
يخافون الناس من البطاش والجبار والظالم، ولكنه رءوف رحيم ومع ذلك
يخافون منه! وقوله: (نصرت)، هذه النصرة كما يقولون: لو كان وحده
وليس معه من الجيش أحد فإنه بمجرد وجوده في مكان ويسمع به أي إنسان(1/215)
ولو على بعد مسيرة الشهر فلابد أن يرتجف قلبه خوفاً من رسول الله؛
لما أعطاه الله من النصر على أعدائه. وقد جاء عنه صلى الله عليه
وسلم في بعض الغزوات كما يقول الراوي: نزلنا منزلاً وكان الظل
شحيحاً، فكنا نترك الشجرة المظلة لرسول الله ونتجنب عنه -أي: ليقيل
وينام- فجاء إلى ظل شجرة وعلق سيفه بغصنها ونام، فجاء أعرابي وأخذ
السيف واستله من جرابه، وأيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا
محمد! من يعصمك مني؟ -السيف في يده، وهذا أعزل وجالس في الأرض وهو
متمكن بقيامه- قال: الله، فسقط السيف من يد الأعرابي فتناوله صلى
الله عليه وسلم وقال: يا أعرابي! من يعصمك مني؟ فقال: العفو يا
محمد. فهذا من نصرة الله، فإنه لم يأتِ أصحابه حوله، ولم يستصرخ
أحداً، ولا استنجد بأحد، ولا نادى أحداً، ولكنه استعان بالله. ومن
المعلوم أن نصرة الأنبياء في مثل تلك الوقائع ليست بدعاً من الأمر،
فالقرآن الكريم قد ذكر عدة وقائع، فهذا الخليل عليه السلام عندما
وضعوه في المنجنيق وأرادوا إلقاءه في النار وهي ملتهبة مستعرة،
ويأتي جبريل ويقول: ألك حاجة؟ فيقول له: أما منك فلا، وأما من الله
فنعم، قال: أفلا تدعوه؟ قال: علمه بحالي يغني عن سؤاله، فكانت نصرة
الله له أقرب من كل شيء، وقد جاء في الحديث: (ضجت الملائكة لما
رأته في المنجنيق وقالوا: إن سألكم عوناً فأعينوه إن استطعتم )،
ولم يسأل أحداً شيئاً، وكانت نصرة الله له بقوله: يَا
نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا [الأنبياء:69].
وموسى عليه السلام لما وقف على حافة البحر، ونظر من معه فإذا فرعون
وجنوده وراءهم، فقالوا: إِنَّا
لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]
البحر أمامنا، والعدو وراءنا، فقال موسى: كَلَّا
إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]،
وكلمة (معي) نجدها في الغار عندما وصل الطلب من قريش لرسول الله
إلى فم الغار وقال الصديق : (يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم(1/216)
تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ما بالك باثنين الله ثالثهما )، قال
تعالى: إِذْ
يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
وهكذا نجد نصرة الله للرسل عامة، ولكن أن يكون النصر على مسيرة
شهر، فهذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق الله: إِنَّا
لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا [غافر:51].
جعل الأرض كلها مسجداً وطهوراً
قال صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً .. ). والجعل:
التصيير، تقول: جعلت الطين خزفاً، وجعلت الخشب باباً، وجعلت الطحين
خبزاً، والأرض موجودة من قبل، ولكن الجعل منصب على الوصف الطارئ،
و(الأرض) جنس -كما يقولون- الكوكب الذي نعيش عليه، و(أل) هنا
للاستغراق، فتشمل جميع أجزاء الأرض مشارقها ومغاربها، شمالها
وجنوبها، أعلاها وأسفلها، وكلمة (لي) مفهومها أنها لم تجعل لغيره،
وقوله: (مسجداً وطهوراً) هل المسجد والطهور خصلة واحدة؟ التحقيق في
العدد أنها خصلة واحدة؛ لأننا لو عددناهما خصلتين لكان المذكور في
الحديث ست خصال، والمذكور في الحديث في الجملة خمس، وهذا من
الأساليب النبوية، وهو الأبلغ، أن تذكر القضية مجملة ثم يفصل في
أجزائها. و(مسجِد) على وزن مفعِل، من سجد يسجد فهو مسجد، على خلاف
القياس، وهو موضع السجود، كمجلس، يقال: هذا مجلس زيد أي: مكان
جلوسه، وهذا مسجد زيد أي: مكان سجوده، وهل المراد بالمسجد هنا
المعنى اللغوي أم المعنى الشرعي؟ بمعنى هل المراد أن يجوز أن يبنى
المسجد في أي جزء من الأرض، أم المراد أن جميع أجزاء الأرض مسجد
بمعنى موضع للسجود، ولو لم يكن هناك مسجد مبني؟ المعنى الثاني أعم،
وكأن الأرض كلها مسجد كبير جداً في جميع أجزاء الأرض. وقوله:
(وطهوراً)، والأرض تكون طهوراً، وكلمة (الأرض) تشمل جميع طبقاتها،
والأرض أنواع كما بين صلى الله عليه وسلم في قوله: (مثلي ومثل ما
بعثني الله به من الحق كمثل أرض خصبة شربت الماء وأنبتت، وأرض(1/217)
قيعان لم تمسك ماءً ولم تنبت كلأ، وأرض أمسكت الماء ولم تنبت
واستفاد بها غيرها )، فقوله: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )،
يعم كل أرض، وسيأتي بيان هذا الطهور وكيف نتطهر بالأرض. إذاً:
التعميم هنا والمجيء بـ(أل) وهي لجنس الأرض، أخذ العلماء من ذلك أن
طهور الأرض يصلح بكل أنواع أجزائها، سواء كانت رملاً، أو حصى، أو
صخرة ملساء، أو أرضاً طيبةً منبتة، أو غير ذلك؛ لعموم قوله صلى
الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، كما تصح
الصلاة في جميع أجزاء الأرض، سواء كانت صخرة ملساء، أو رملاً
بيضاء، أو حصوة، أو حجارة، أو حتى على رأس جبل فإنه تصح الصلاة
فيه، وكذلك تصح الطهارة منه، وهذا هو ما أخذ به من يقول بأن التيمم
يصح أن يكون على جميع أجزاء الأرض. وقوله: (فأيما رجل أدركته
الصلاة فليصل )، (أي) من صيغ العموم، و(ما) هنا موصولة وهي من
صيغ العموم، فتعم كل رجل وكل امرأة (أدركته الصلاة) في أي بقعة من
بقاع الأرض، (فعنده مسجده وطهوره) مسجده أي: الذي يصلي فيه، وطهوره
الذي يتطهر للصلاة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل) أي: من
أمته، فالأمم الماضية ما كانت تصح لهم الصلاة في عموم الأرض؛ لأن
هذا مما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم في شخصه ولأمته معه،
وكان الأنبياء والأمم من قبل لا تصح صلاتهم إلا في أماكن العبادة،
سواء كانت البيع، أو الكنائس، أو مواطن العبادة التي تختص بهم، أما
عموم الأرض فلم يرخص لهم فيها، وجاءت هذه الأمة فكانت صلاتها تصح
في المساجد التي بنيت للصلاة، وتصح في أي جزء من أجزاء الأرض،
فأيما رجل أدركته الصلاة في سفر أو في حضر، وليس عنده مسجد فعنده
مسجده، أي: وجه الأرض، وإذا لم يجد الماء فعنده الأرض يتطهر بها
ويصلي عليها، أي: أنه لا يعفى أي رجل من أداء الصلاة، فلا يقول: لا
يوجد مسجد، فعنده مسجده، ولا يقول: ليس عندي ماء أتوضأ، فعنده(1/218)
طهوره. إذاً: لا عذر لأي رجل كان في أي بقعة كانت أن يترك الصلاة
لعدم وجود مسجد مقام، أو لعدم وجود ماء يتطهر به، فعنده في أي مكان
كان مسجده وهو وجه الأرض، وعنده طهوره الذي هو جزء الأرض المكشوف
لنا. وقوله: (فأيما رجل) تلحق به المرأة أيضاً، فلو أن عائلة
بكاملها رجالاً ونساءً، أو قبيلة في رحلة، أدركتهم الصلاة ولم
يجدوا الماء، فإن الجميع رجالاً ونساءً يتيممون ويصلون.
حكم التيمم بغير التراب مما هو من صعيد الأرض
[وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عند مسلم : (وجعلت تربتها
لنا طهوراً إذا لم نجد الماء ) ]. من فقه المؤلف رحمه الله أنه
جاء باللفظ الأول: (وجعلت لي الأرض )، والأرض عامة، ثم جاء
باللفظ الآخر: (وجعلت تربتها ) يقولون: إن التربة والأرض سواء،
وتربة كل جزء من الأرض بحسبها، يقال: هذه الأرض تربتها خصبة، وهذه
الأرض تربتها رمل، وهذه الأرض تربتها حصى، وهذه الأرض تربتها صخر،
فتربة كل مكان بحسبه. إلا أن البعض قال: (تربتها) نوع خاص منها هو
الذي يمكن أن يكون منه التيمم، وهنا سنبدأ في تخصيص عموم الأرض،
ويبين ذلك الأثر الذي يأتي بعد هذا، وهو عن علي عند أحمد :
(وجعل التراب لي طهوراً )]، وهذا نص صريح، والتراب متميز عن
أجزاء الأرض من غيره؛ لأن الأرض ليست كلها تراباً، وكذلك الطين،
والرمل الأبيض الناصع، والحصا والصخرة الملساء، فالتراب: ما كان من
الأرض صالحاً للزرع والإنبات، وكان له غبار. فمن هنا لوجود هذه
الروايات هناك من أخذ بالعموم وقال: يصح التيمم على جميع أجزاء
الأرض، كمالك وأبي حنيفة رحمهم الله. وقال الشافعي :
لابد من وجود تراب، وإذا وجد التراب ولو في غير الأرض صح التيمم،
كما يقول النووي رحمه الله: لو جاء إلى كيس من الحب معرض
للهواء والغبار والتراب، أو إلى مفرشة مليئة بالغبار، فضرب عليها،
وتصاعد غبار التراب من هذا الكيس أو من هذه المفرشة؛ صح التيمم(1/219)
عليه؛ لأن الغرض هو التراب. والجمهور يقولون: إن الله يقول: فَتَيَمَّمُوا
صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]،
فلا بد من القصد للصعيد، وهو وجه الأرض. إذاً: العلماء مجمعون على
مشروعية التيمم، ولكنهم اختلفوا في هل عموم الأرض على النص الأول
العام أم على التربة؟ وهل التربة تتميز عن عموم الأرض؟ وإذا كان
التراب على جدار أو على كيس أو على مفرشة أو نحو ذلك فهل يصح
التيمم؟ فالشافعي رحمه الله أخذ بأثر علي ، وجعل التراب
حيثما كان ولو لم يكن مباشراً للأرض؛ لأن التراب عوض عن الماء.
والآخرون قالوا: الذي يصح منه التيمم هو وجه الأرض؛ لقوله: فَتَيَمَّمُوا
صَعِيدًا [النساء:43]،
والصعيد: ما تصاعد وارتفع عن وجه الأرض، حتى قال المالكية: صعيد
الأرض ولو كان حجراً أملساً، فلو أن صخرة بالوادي كانت مليئة
بالتراب وجاء السيل وغسلها، ثم جاء إنسان في وقت من الأوقات ولم
يجد ماء، ووجد تلك الصخرة الملساء، فإنه يصح التيمم عليها ولو لم
يكن بها ذرة غبار ولا تراب. إذاً: إلى هنا بيان اختلاف العلماء
رحمهم الله في نوعية ما يصح منه التيمم من الأرض، وهم مجمعون على
أن جميع أجزاء الأرض تصح الصلاة عليه، فلو كان هناك إنسان في قمة
جبل، ثم حان وقت الصلاة، فلا نلزمه أن ينزل إلى بطن الوادي ليصلي،
بل يصح أن يصلي في قمة الجبل ولو كان أملساً مثل الرخام المنعم.
وقالوا: كما تصح الصلاة وتكون الأرض مسجداً بعمومها وجميع أنواع
أجناسها، سواء في رملة، أو في حصوة، أو في صخرة، أو في تراب، أو في
غير ذلك، فكذلك الطهور قرين المسجد، فعنده مسجده وطهوره، فإذا كان
عنده مسجده والأرض صخرة ملساء وقلنا: لا يصح التيمم، صار عنده
مسجده فقط، وعليه أن يبحث عن طهوره، وهذا ينافي الحديث. وعلى هذا
يكون الراجح من هذه الأقوال: أن أي جزء من أجزاء الأرض بطبيعته
فإنه يصح التيمم عليه كما تصح الصلاة فوقه. والمؤلف لم يذكر من(1/220)
الخصائص الخمس إلا اثنتين، ثم قال: (وذكر الحديث)، أي: أن جابر بن
عبد الله رضي الله تعالى عنه ذكر بقية الحديث، ولكن المؤلف
اقتصر من الحديث على ما هو محل الشاهد هنا، وهو قوله: (وجعلت لي
الأرض مسجداً وطهوراً )، وما دام أن المؤلف قد ذكر قوله عليه
الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر ) فلا بأس أن نقف على
بقية الخصال الخمس التي اختص بها خاتم الرسل صلوات الله وسلامه
عليه.
إباحة الغنائم
قال صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم -وفي لفظ: المغانم- ولم
تحل لأحد قبلي ). الغنائم والمغانم: هي ما يناله الجيش المنتصر
من ممتلكات الجيش المنهزم، من أموال وحيوانات وسلاح وغيرها، فيقول
صلى الله عليه وسلم: أنا أول من أحلت له الغنائم، أما الأمم
الماضية فلن تكن حلالاً لهم، والأنبياء قبل النبي صلى الله عليه
وسلم كانوا على قسمين: قسم أمر بالقتال ووعده الله بالنصر: إِنَّا
لَنَنصُرُ رُسُلَنَا [غافر:51].
وقسم لم يؤمر بقتال فليست عنده مغانم، فالذين أمروا بالقتال وكانوا
يغنمون من العدو، كانوا يجمعون المغانم والغنائم في مكان واحد، فإن
كان عملهم خالصاً وسلم من الغلول -أي: لا يوجد شخص من الجيش أخفى
شيئاً لنفسه- نزلت عليه نار وأحرقته، كما حدث في قضية قابيل وهابيل
لما قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، وهو أن نزلت
نار فأحرقت القربان الذي قبل عند الله. فكانت تنزل نار فتحرق تلك
الغنائم، ولا يمتلك الجيش المقاتل منها شيئاً، ويُذكر عن نبي من
الأنبياء أنه قاتل وجنده فغنموا مغانم ووضعوها، فلم تنزل نار
لتحرقها، فقال لرؤساء القوم: فيكم غلول منع من نزول النار
لإحراقها، فكان كل واحد يقول: لا يوجد عندنا الغلول، فدعا رؤساء
الجند وقال: ليبايعني كل واحد على قومه، فبايعوه، إلا واحد لصقت
كفه بكف نبي الله، فقال: في قومك الغلول، ائتني بهم ليبايعوا
واحداً واحداً، فجاءوا وبايعوه، فلصقت كف الغال بكف النبي عليه(1/221)
السلام، فقال: أنت عندك الغلول، فأخرج رأس ثور من ذهب وألقاه،
فنزلت النار وأحرقته. فكانت الأمم الماضية والرسل المتقدمون إذا
غنموا لا يقتسمون الغنائم، ولكن هذه الأمة أحلت لهم الغنائم، وكلمة
(أحلت) تشعر بأنها لم تكن حلالاً من قبل، كما في آية الصيام: أُحِلَّ
لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187]،
وقبل نزول الآية لم يكن الرفث -وهو الجماع- حلالاً. وبعض العلماء
يقول: المراد بالمغانم هنا بعضها وهو الخمس، فيتصرف فيه صلى الله
عليه وسلم كيفما شاء، كما جاء في الآية: فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [الحشر:7]
الآية. وبعضهم يقول: بل المراد جميع الغنائم، كما جاء في سورة
الأنفال: يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال:1]،
فما أعطى للآخرين شيئاً وهو الذي يعطي المقاتلين حصتهم، ثم جاء
التقسيم: وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41]،
والأربعة الأخماس تكون للمقاتلين، وهذا مما اختص به رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
الشفاعة العظمى
قال صلى الله عليه وسلم: (وأعطيت الشفاعة )، الشفاعة هنا جنس
عام، وأصل الشفاعة: من الشفع، والشفيع يأتي مع الشخص المفرد فيجعله
شفعاً، فإن الشخص وحده وتر فرد، فإذا ضم إليه من له حاجة إليه فإن
هذا الذي جاء معه يشفعه، فصار هو والذي جاء شفعاً وليس وتراً،
والشفيع: هو الذي يأتي مع المشفوع فيه فيكون شفعاً معه. وعرفاً: هو
الذي يسأل من عنده الحاجة للمشفوع له، وغالباً يكون الشفيع أو
الشافع ذا منزلة عند المشفوع عنده؛ لأن الشخص بذاته قد لا يعنى به
من عنده الحاجة، وإذا أتاه قد لا ينظر إليه أو لا يقضيها له، فإذا
أتاه من له مكانة عنده ربما قضى حاجة المشفوع له بموجب وجود الشافع
الذي أتى معه. والشفاعة يوم القيامة: هي أن يشفع الشافع في غيره،(1/222)
إما بعدم دخول النار وقد استحقها، وإما بدخول الجنة وهو لم
يستحقها، وإما بإخراجه من النار وقد دخلها. والشفاعة من حيث هي
بهذه الصفات يشارك فيها الكثيرون، فالعالم يشفع في جيرانه وفي
أهله، والطفل يشفع في أبويه، والشهيد يشفع في سبعين من أهله، فهناك
من الأشخاص من يعطيهم الله حق الشفاعة في الأفراد. ولكن الشفاعة
هنا للجنس، وإذا أطلق الجنس انصرف إلى أكمل أفراده، يقال: جاء
الرجل، والرجل هو إنسان في مقابل المرأة، لكن إذا أطلق وقيل: جاء
الرجل، فالمعنى: الأمثل في الرجال الذي ينصرف إليه الاسم كعلم عليه
لتميزه، وقد يكون نسبياً، فيقال: جاء الرجل الشجاع، جاء الرجل
الكريم، جاء الرجل العاقل، وذلك إذا كنا في قضية حول الشجاعة
والجبن، وحول الكرم والشح، وحول الحلم والغضب، فيقال: جاء الرجل،
أي: الرجل الذي هو أحق بهذه الصفة عند الناس. واسم الجنس قد يكون
علماً للغلبة على فرد، مثل كلمة (المدينة)، فإذا أطلقت المدينة
التي هي في أصل اللغة نكرة ودخلتها (أل) التعريف، فيراد بها
المدينة المنورة، مع أنها تصدق على كل مدينة من مدن العالم، ولكن
أصبحت علماً على المدينة المنورة. وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم:
(أعطيت الشفاعة)، تصرف الشفاعة عند الإطلاق على أعلى فرد من أفراد
الشفاعة، وهي الشفاعة العظمى. والشفاعة المذكورة هنا هي الشفاعة
التي اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم دون بقية الرسل
والأنبياء وجميع الخلق، وهي ما يسمى عند العلماء: بالشفاعة العظمى،
وهي المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس حفاة عراة،
وتدنو الشمس من الرءوس بقدر الميل، ويشتد الأمر بالناس، حتى يقول
بعضهم لبعض: ألا تطلبون مجيء الرب لفصل القضاء؟ ألا تجدون من يشفع
لنا؟ فيذهبون إلى أبي البشر آدم عليه السلام ويقولون: يا آدم! أنت
أبو البشر، خلقك الله بيديه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك الجنة، ألا(1/223)
ترى ما نحن فيه؟ اذهب فاشفع لنا عند ربك ليأتي لفصل القضاء، فيقول:
إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولقد نُهيت عن الأكل
من الشجرة فأكلت منها؛ فإني أستحي أن أسأل ربي، نفسي نفسي، اذهبوا
إلى إبراهيم، فيأتون إلى إبراهيم عليه السلام فيقولون: يا إبراهيم!
أنت خليل الرحمن، وأنت وأنت وأنت ... فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى
موسى كليم الله، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى! أنت كليم الله،
فيقول: إني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى
عيسى، فيأتون إلى عيسى، فيعتذر ويقول: اذهبوا إلى محمد، فيأتون إلى
محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه فيقول: أنا لها أنا لها )
. وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن لكل نبي دعوة مستجابة، وقد
تعجل كل بني بدعوته على قومه في الدنيا، -قال: (وأنا ادخرت دعوتي
إلى يوم القيامة )، فاخرها لذلك اليوم، يقول: (فأذهب فأسجد تحت
العرش، فيلهمني الله بمحامد لم أكن أعلمها ) ، ونحن نذكر في
الدعاء: (اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته
في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب
عندك.. )، فهناك يعطي الله رسوله في ذلك المقام مما استأثر به
في علم الغيب عنده، فيحمد الله بتلك الأسماء في ذلك المقام، وهي
المناسبة لذلك لهذا الموقف الحرج الشديد، إلى أن يقبل الله منه
فيقول: (يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط )، فيسأل
المولى سبحانه المجيء لفصل القضاء، أو أن يعجل فصل القضاء. وهذه
الشفاعة هي المقام المحمود الذي وعده الله، والذي أمرنا النبي صلى
الله عليه وسلم أن نسألها من الله له عندما قال: (إذا سمعتم المؤذن
فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة لا تنبغي
إلا لعبد من عباده، وأرجو أن أكون أنا هو )، فهذا هو المقام
المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، وهي الشفاعة العظمى؛(1/224)
لأنها تشمل جميع الأمم وجميع من في الموقف. إذاً: الشفاعة في قوله:
(وأعطيت الشفاعة ) وإن كانت اسم جنس عام إلا أنها تصرف لأعلى
أفراد الجنس، وبقية الشفاعات يذكرون أنها سبعة أنواع؛ لأنه صلى
الله عليه وسلم يشفع فيمن استحق دخول النار أن لا يدخلها، ويشفع
فيمن لا يستحق الجنة فيدخلها، ويشفع ثلاث أو أربع مرات لمن دخل
النار بالفعل أن يخرجه الله منها، كما في الحديث: (يا رب! أمتي،
فيقول: اذهب فأخرج من تعرف من أمتك من النار ) ، وفي بعض
الروايات: (فيحد لي حداً في النار ويقول: اذهب فأخرج من وجدت من
أمتك في النار ) أي: في هذا الحد، ثم يرجع مرة ثانية وثالثة ..
وهكذا.
بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة
قال صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى
الناس كافة ). هذه هي الخامسة، وهي عموم وشمول الرسالة، فقد كان
النبي يبعث في قومه خاصة، فلوط بعث في قومه، وإبراهيم بعث في قومه،
ونوح بعث في قومه، وإن كان نوح عليه السلام بعد الطوفان أصبح لجميع
من على وجه الأرض؛ لكن هذا العموم طرأ بعد أن غرق كل من عدا من آمن
معه؛ ولكن أصل بعثته لقومه خاصة: يَا
قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [نوح:2]
.. إِنَّا
أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ [نوح:1]،
فبعد أن وقع الطوفان، وغرق سوى من لم يؤمن، أصبح لا يوجد على الأرض
إلا من تبعه، فلا نقول: إن رسالته عامة للناس؛ لأن هذا العموم طارئ
بعد فناء من لم يؤمن، فأصل رسالته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام
خاصة لقومه. وهكذا صالح أرسل إلى ثمود، وهود أرسل إلى عاد، وهكذا
كل واحد من الأنبياء أرسل لقومه، إلا بعثة النبي صلى الله عليه
وسلم: وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]،
فرسالته عامة للأسود والأبيض والأحمر، والعربي والعجمي، وكل بشر
على وجه الأرض شملته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال:(1/225)
(ما من أحد سمع ببعثتي ولم يؤمن بي إلا دخل النار )، (سمع) من
أي الأجناس، في أي بقعة على وجه الأرض، وأعتقد أنه لا يوجد على وجه
الأرض بشر إلا وقد سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا -في
نظري- أولئك البشر الذين يعيشون في بعض الغابات في آسيا، ولم
يتعرفوا على البشر، ويعيشون عراة تحت الأشجار، وبعض الدول هناك
تذهب وتأخذهم كما يؤخذ الصيد، وتأتي بهم إلى المدن وتحاول أن
تلبسهم فيمزقون اللباس، فجعلت لهم بيئة كبيئة الغابة بالفعل، وجعلت
أنهاراً في وسط الأشجار، فتأتي أول ما تأتي بهم وتطلقهم في هذه
الغابة المصنوعة، وبعد فترات تجعل لهم أكواخاً صغيرة، وتضع أطعمة
في بعض الصحون، فيأكلون الأطعمة ويكسرون الصحون، وعندما يتآلف
الشخص منهم يأتون إليه بنوع من القماش، ويفتحون فيه فتحة من الوسط
ويدخلون رأسه، ويتركونها عليه جزء منها من الأمام، وجزء منهما من
الوراء، فإذا بهم يخلعونها ويرمونها، ويعودون إلى العراء، وبعد
فترة يألفون هذا اللباس، ثم بعد ذلك يعطون قميصاً واسعاً، ثم بعد
ذلك يخاط القميص والسراويل ويألفون عليها.. وهكذا. ويحكون عنهم أنه
إذا برز واحد من طرف الغابة التي يعيشون فيها ورأى بشراً من بعيد
هرب ودخل إلى الغابة، فهؤلاء لا أدري هل بلغتهم الدعوة أو لم
تبلغهم؟! الله أعلم، ولكن الذي يهمنا أن دعوة رسول الله عامة حتى
لهؤلاء، وعلى ولاة المسلمين أن يعملوا على إبلاغها لهؤلاء ما
استطاعوا لذلك سبيلاً. وهذه الخصيصة تعتبر من الخصائص المتميزة
التي ذكرت، ومن أراد الوقوف على أكثر من ذلك فليرجع إلى فتح
الباري، أو إلى الخصائص للسيوطي ، أو إلى الخصائص النبوية
للبيهقي ، فهناك أشياء عديدة في شخصه صلى الله عليه وسلم، وفي
قوته وشجاعته وكرمه، وفي بيته مع نسائه، وأشياء عديدة يمكن أن تمر
بالإنسان في بعض الأحاديث فيدرك خصوصيتها. أما ما لم يأت التنصيص
على خصوصيتها لرسول الله فإن العلماء يقولون: كل ما أمر به ولم(1/226)
يفعله فعدم الفعل له من خصائصه، وكل ما نهى عنه وفعله فهو من
خصائصه ولا يقتدى به في ذلك، وبالله تعالى التوفيق. وصلى الله وسلم
وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه.
( كتاب الطهارة - باب التيمم [2] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين)
2 حديث أبي سعيد في الرجلين اللذين تيمما وصليا ثم وجدا الماء
3 حكم التيمم لمن يخشى على نفسه الهلاك من استعمال الماء
كتاب الطهارة - باب التيمم [3]
من المسائل المتعلقة بالتيمم: جواز التيمم لمن لم يجد الماء ولو كانت
المدة طويلة، ومنها: لو تيمم رجل وصلى، ثم وجد الماء، فإنه لا يعيد
الصلاة، وإن وجد الماء أثناء الصلاة فإنه يقطعها ويتوضأ ويصلي، ومن تلك
المسائل: جواز التيمم لمن خاف على نفسه الهلاك من استعمال الماء، لمرض
ونحوه، كأن يكون الماء شديد البرودة، ولم يستطع استعماله، ونحو ذلك من
الاعذار.
شرح حديث: (الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين،
سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد
الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتقِ الله وليمسه بشرته )
رواه البزار ، وصححه ابن القطان ، لكن صوّب الدارقطني إرساله، وللترمذي عن أبي ذر نحوه وصححه]. بعد ذكر المؤلف
بيان مشروعية التيمم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً )،
وبيان نوعية ما يتيمم به في قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت
تربتها لنا طهوراً )، وبيان الكيفية وهي ضربة أو ضربتان إلى
الكفين أو المرفقين، أتى هنا إلى التوقيت في التيمم، وهل التيمم
مؤقت بوقت، أو أنه مطلق الزمان؟ فقد وجدنا توقيت المسح على الخفين(1/227)
بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، فجاء المؤلف رحمه
الله بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن الرسول صلى الله
عليه وسلم قال: (الصعيد)، ولم: يقل التراب ولا التربة على عموم ما
تقدم. (طهور المسلم)، كلمة (طهور) جاءت في قوله تعالى: مَاءً
طَهُورًا [الفرقان:48]،
وهي وصف للماء الذي يتطهر به، فالصعيد طهور المسلم، ولذلك قالوا:
إن التيمم طهور كطهور الماء، ولفظ (المسلم) هنا للأغلبية، فإذا
كانت أسرة أو عائلة أو جماعة ولم يجدوا الماء فالتيمم للمرأة
وللرجل سواء. وأصل الحديث أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه جاء
إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هلك أبو ذر يا رسول الله!
قال: وما أهلكك؟! قال: كنت أكون في الخلاء ومعي أهلي وتصيبنا
الجنابة وليس عندي ماء، فقال له صلى الله عليه وسلم: الصعيد طهور
المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين )، وهنا إلى أسلوب المبالغة،
فهل سيعيش الإنسان في فلاة لا يجد الماء عشر سنين؟! وإذاً كيف تكون
حالته وحياته؟! لابد أنه سيقيم في مكان لا ماء فيه عشر سنين ويتيمم
للجنابة وللحدث، أو يكون الماء قليلاً لا يكفي إلا لطعامه وشرابه؛
لأنه من المتفق عليه أنه إذا كان الإنسان في الخلاء وليس معه من
الماء ما يكفي إلا لشرابه، وطهي طعامه، ولدابته التي يركبها
ليسقيها، ولم يزد على ذلك؛ وفّر الماء لشرابه، ولإنضاج طعامه،
ولعجينه ولدابته وتيمم، ويعتبر فاقد الماء؛ لأنه ليس عنده ماء زائد
عن حاجته، فإذا كان عنده ماء زائد عن حاجته، وحاجة كل حيوان محترم
معه، فله أن يوفر الماء للحيوان؛ لأنه سوف يموت إذا لم يشرب،
ولنفسه من باب أولى في مصالحه: في الشراب، والقهوة، والطعام،
والعجين، وإذا لم يزد عن ذلك شيء تيمم ووفر الماء للضروريات تلك.
فهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (الصعيد طهور المسلم ولو لم يجد
الماء عشر سنين ) (لو) هنا حرف امتناع لامتناع (لم يجد الماء(1/228)
عشر سنين) هذا هو أقصى ما يمكن أن يتصوره إنسان أنه لن يجد الماء
في تلك المدة، فإذا كان لأسبوع أو لشهر أو لشهرين فمن باب أولى أنه
لا مانع في ذلك. إذاً: لا توقيت في استعمال التيمم ما دام أنه على
ما وصف الله: فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]،
وكما أجمع العلماء: أن من كان مريضاً لا يستطيع استعمال الماء فإنه
له أن يتيمم. إذاً: إن عدم الماء أو عدمت الاستطاعة على استعمال
الماء وكان موجوداً؛ فإنه حينئذٍ يعمد إلى التيمم، وإلى متى؟ لا
تحديد في ذلك ما دام مريضاً لا يستطيع استعمال الماء، وما دام على
غير ماء لم يجده، فإنه يستعمل التيمم دون تحديد بزمن، لا يوم
وليلة، ولا ثلاثة أيام، ولا شهر ولا شهران، ولا غير ذلك.
هل التيمم مبيح للصلاة أم رافع للحدث؟
ثم قال (فإذا وجد الماء) أي: بعد العشر سنوات، (فليتقِ الله وليمسه
بشرته)، يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا
وعليه: هذا الحديث من المشكلات. فقوله: (فإذا وجد الماء فليتقِ
الله وليمسه بشرته)، هل يمسه بشرته لما مضى وتيمم من أجله، أو يمسه
بشرته لما يستقبل من الصلوات الجديدة ويصليها بطهارة مائية؟ ومن
هنا ينشأ السؤال: رجل أجنب وتيمم وصلى، ثم بعد يوم أو يومين وجد
الماء، فهل يمسه بشرته لتلك الجنابة الماضية، أو لما يستقبل من
الجنابة أو الحدث؟ وهل التيمم رافع للحدث أو مبيح للصلاة؟ والإشكال
في ذلك يقول رحمه الله: إذا كان قد صلى بالتيمم فمن قال: إنه رافعٌ
للحدث فإن الصلاة صحيحة، والحدث ارتفع وإلا لما صحت الصلاة،
والآخرون يقولون: لو لم يكن الحدث باقياً لما أمره أن يغتسل بعد أن
وجد الماء. إذاً: إن قلنا: يغتسل فمعناه: أن الحدث موجود، وإن
قلنا: يصلي، فمعناه: أن الحدث ارتفع، فالأمران متعاكسان في هذا
الحديث, ولذلك من قال: إن التيمم ليس رافعاً للحدث، ولكن الحدث ليس
موجوداً وقت الصلاة, قال: إنما التيمم رافع للحدث وقت الصلاة. ولكن(1/229)
يقال: التيمم مبيح للصلاة وليس رافعاً للحدث، فهو مبيح للصلاة مع
وجود الحدث، وذلك نظير الرخصة في أكل الميتة، فإن النص بتحريم
الميتة موجود وهي محرمة، لكن أبيحت مع التحريم للضرورة والاضطرار,
إذاً فحكم نجاسة الميتة عندما يأكلها المضطر موجود، ولكنها أبيحت
له إبقاءً على حياته، قال تعالى: حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ [المائدة:3]
فهي محرمة ولكن: فَمَنْ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173] (فلا إثم) للحرمة الموجودة، وكذلك هنا حينما لم يجد
الماء، فتيمم مع وجود الحدث، لكنه أبيح له أن يصلي بهذا التيمم.
وقوله: (فليتقِ الله وليمسه بشرته)، يقول العلماء: يمسه بشرته
للجنابة الماضية، ويكون الحدث باقياً، ويترفع بعد أن وجد الماء
لعدة سنوات أو أيام، وهل يمسه للمستقبل؟ نقول: أما للمستقبل فلا
يحتاج؛ لأن الله يقول: وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]،
فالأمر بالغسل للجنابة مع وجود الماء موجود ولا يحتاج إلى التنبيه
عليه هنا. إذاً: قوله: (فليمسه بشرته)، إنما هو للحدث المتقدم الذي
تيمم بسببه وصلى، ويؤيد هذا قضية المرأة ذات المزادتين، فقد كان
النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، وعند رجوعهم انتهى الماء عليهم،
فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ومعه شخص آخر ليطلبا الماء،
فذهبا يطلبان الماء، ومشيا مدة طويلة فلم يجدوا ماءً، ثم وجدا
ضعينةً راكبة على بعير بين مزادتين، وهي امرأة من المشركين كانت
على بعير لها، وعلى البعير مزادتان، أي: قربتان كبيرتان مليئتان
بالماء، فسألاها: أين الماء؟ فقالت: الماء عهدي به أمس الساعة -أي:
من أمس مثل هذا الوقت وأنا أمشي من عند الماء- ففكر: هل يذهبان
ويبحثان عن الماء بعد أربعة وعشرين ساعة؟ فتشاورا فاقتاداها إلى
رسول الله بما معها، قالا لها: إذاً اذهبي معنا إلى رسول الله،
فقالت: من رسول الله؟ ذاك الصابئ؟ قالا: الذي تعنين، فأتيا بها إلى(1/230)
النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بإنزال المزادتين، ثم أخذ من كل
واحدة من المزادتين جزءاً في إناء، وقرأ ودعا وبرك في ذلك، وأعاد
الماء الذي قرأ فيه ودعا في المزادتين، ثم نادى في الجيش: من أراد
الماء ليشرب؟ من أراد ليسقي دابته؟ من أراد ليملأ وعاءه؟ فامتلأت
أوعية الجيش, وشرب الناس وسقوا دوابهم، واكتفوا في كل حاجتهم من
الماء. وقد كان صلى الله عليه وسلم في صبيحة ذلك اليوم رأى رجلاً
معتزلاً الناس لم يصل، فقال: (ما بالك لم تصل مع الناس, ألست
بمسلم؟! قال: بلى يا رسول الله! ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال:
الصعيد وضوء المسلم )، فتيمم الرجل وصلى، فلما جيء بالمزادتين
وأفاض الله على الجميع بالماء، أخذ ماءً في إناء وقال: أين الرجل؟
يقصد الذي أجنب، قال: هأنا, قال: (خذ هذا فأفرغه على جسمك )،
وهنا يقال: الرجل تيمم وصلى، ثم دعاه الرسول وأعطاه الماء، وأمره
أن يغتسل الجنابة التي تيمم لها؛ لأنه لم يجنب جنابة جديدة، ولم
نعلم ذلك، وحتى لو أجنب ما علمنا بذلك، نحن نعلم الجنابة المتقدمة
فقط. وفي تتمة هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال
للمرأة: (انظري ما انتقصنا من مائك شيئاً، ولكن الله الذي سقانا،
وقال: اجمعوا لها، فجمعوا لها ما معهم من الطعام وحملوه على
المزادتين )، وذهبت إلى قومها فقالت: يا قوم! رأيت عجباً، رجلاً
إن كان ساحراً لهو أعظم السحرة، وإن كان نبياً لهو نبي حقاً، وقصت
لهم القصة, فكان الصحابة إذا أغاروا على الأحياء يتجنبون حيها
إكراماً لها؛ فقالت: يا قوم! والله ما ترككم القوم عجزاً عنكم،
ولكن إكراماً لكم، فأسلموا خيراً لكم, فأسلموا. والذي يهمنا في هذه
القضية من الفقه أن الرجل تيمم وصلى، وهذه الجنابة باقية عليه،
بدليل أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه الماء لما علم من الجنابة
السابقة، وأمره أن يغتسل، ولكن هل أمره أن يعيد الصلاة؟ لا؛ لأن
الوقت قد خرج.(1/231)
حديث أبي سعيد في الرجلين اللذين تيمما وصليا ثم وجدا الماء
[وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (خرج رجلان في سفر
فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً فصليا، ثم وجدا
الماء في الوقت، فأعاد أحدهم الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم
أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له, فقال للذي لم
يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للآخر: لك الأجر مرتين )
رواه أبو داود والنسائي ]. يسوق المؤلف رحمه الله تعالى
هذا الحديث عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: (خرج رجلان)
فكونه لم يسم الرجلين لا يضر في الحديث؛ لأن الرجلين ليسا موضع
تشريع خاص بهما، ولكنه يحكي ما وقع منهما، وما بينه صلى الله عليه
وسلم من فعلهما، وهذا من أهم أحاديث التيمم. هذان الرجلان خرجا في
سفر وليس عندهما ماء، وأدركتهما الصلاة، فتيمما وصليا، وإلى هنا
فعلا شيئاً عادياً, صليا بطهارة مشروعة وهو التيمم عند انعدام
الماء، ثم مضيا في طريقهما فوجدا الماء الذي كان مفقوداً عند
التيمم، والوقت باقٍ لم يخرج، وهنا اجتهد الرجلان، وكما يقول
العلماء: يجوز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في
غيبته لا في حضوره، أما في حال حضوره فلا اجتهاد لأحد، ولا يقدم
أحد شيئاً بين يدي رسول الله. ولنفرض أنهما سافرا ودخل وقت العصر
وليس عندهما ماء، فتيمما وصليا في أول الوقت، وفي أثناء المسير عند
اصفرار الشمس وجدا الماء، فهم الآن في وقت العصر التي صلياها،
فحينئذ اجتهد الرجلان، أما أحدهما فرأى أن الوقت باقٍ, وهو مطالب
بالصلاة بطهارة مائية: إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]،
فتوضأ وأعاد الصلاة بهذا الوضوء، ليوقع الصلاة بطهارة مائية كما
أُمر, والآخر نظر إلى شيء آخر وقال: لقد صليت بطهارة مشروعة، تيممت
كما أمرني الله: فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]،(1/232)
وقد أديت الصلاة بوجهها المشروع وانتهيت من أدائها ومضت، فكوني أجد
الماء بعد ذلك لست مطالباً بإعادة الصلاة؛ لأنني صليتها بطهارة
مشروعة جائزة لي، إذاً أنا عملت عملاً صحيحاً شرعياً, أما أن أوجب
على نفسي إعادة الصلاة بطهارة الماء فأنا لا أرى ذلك ولم أفعل.
إذاً: اختلاف وجهات النظر فيما لا نص فيه أمر وارد, ولم يعب الذي
توضأ وصلى على من لم يتوضأ ولم يصلِّ, ولم يقل له: أنت مقصر، وإنما
قال: هذا اجتهادي أنا في نفسي, والثاني لم يقل له: أنت مبتدع أو
مخالف، ولم يعب عليه؛ لأن كلاً منهما عمل باجتهاده الخاص، وليس عند
أحدهما نص يوقف الآخر عنده, وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي
الله تعالى عنه أنه مر عليه رجلان فقال: من أين جئتما؟ قالا: من
عند فلان, قال: ماذا تصنعان عنده؟ قالا: كنا نحتكم إليه في قضية
كذا, قال: بم حكم لكما؟ قالا: حكم بكذا, قال: لو كنت أنا لحكمت
بغير ما حكم به, فقالا: وما الذي يمنعك أن تحكم بيننا وأنت أمير
المؤمنين بما تراه؟ فقال لهما: -وهذا محل الشاهد, وينبغي على طالب
العلم الحرص كل الحرص على هذا المنهج؛ لأنه هو الذي يبقي المودة
والأخوة، وصفاء النفس، وطهارة القلب بين طلبة العلم- قال: لو كنت
أردكما إلى نص رسول الله أو كتاب الله لفعلت، ولكني سأردكم إلى
رأيي، وليس الرأي بأولى من الرأي. مع أنه أمير المؤمنين، وهو خليفة
راشد، والرسول يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين
من بعدي )، فلما لم يكن عنده نص من كتاب ولا سنة توقف، وقال:
ولكني سأردكم إلى رأيي. وقد بين لنا القرآن الكريم في قضية داود
وسليمان: إِذْ
يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء:78]،
فداود عليه السلام حكم لأهل الحرث بالغنم عوضاً عن الحرث الذي
أتلفته, وسليمان قال: أنا سأحكم بغير هذا، وعندي وجهة نظر أخرى،
قال: تكون الغنم عاريةً عند أهل الحرث ينتفعون منها، وأصحاب الغنم(1/233)
يقومون على الحرث حتى يصلح على ما كان عليه من قبل، فمثلاً: إذا
أكلت الغنم القمح في صغره، فهو يمكن أن ينبت ويطلع، فالشجر الصغير
يمكن أن يورق وتطلع أغصانه، ويأتي بالثمار، فإذا ما استوى الحرث
على ما كان عليه رد الحرث لأصحابه، وردت الغنم لأصحابها، وقال الله
سبحانه وتعالى: فَفَهَّمْنَاهَا
سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79]،
ثم قال: وَكُلاًّ
آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79].
فكما قال الفقهاء: صوب الله حكم الاثنين؛ فحكم داود صحيح، وحكم
سليمان صحيح، ولكن حكم سليمان أكثر فهماً وأجمع للمصلحتين، ونحن لو
نظرنا في قضائنا اليوم: (على اليد ما أخذت، وعلى العين ضمان ما
أتلفت)، فداود حكم بهذه القاعدة، وسليمان عليه السلام رأى إلى ضمان
مصلحة الطرفين. وهنا عمر رضي الله تعالى عنه الملهم المحدث
يقول: لو كنت أردكما إلى نص من كتاب أو من سنة فعلت ونفذت؛ لأنه لا
اجتهاد مع النص، ولكن رأيي، وليس الرأي أولى من الرأي)، ولهذا في
نظام القضاء لو أن قضية عرضت على قاض، وهي مسألة اجتهادية لا نص
فيها، وحكم فيها، فإن حكمه يمضي، ولا يحق لحاكم يأتي بعده -ولو كان
أعلى منه رتبة- أن ينقض ذلك الحكم؛ لأنه سوف ينقضه لرأيه الخاص،
وليس رأياً بأولى من رأي، أما إذا كان مخالفاً نصاً فينقض لمخالفة
النص. فهذان رجلان مستويان في الدرجة، أدركتهما الصلاة ولا ماء
عندهما، وهما يعلمان الحكم بأن الصعيد طهور المسلم، فتيمما وصليا،
ثم طرأ عليهما ما جدد الفكر، واستوجب النظر، وهو أنهما وجدا الماء
في الوقت، فحينئذٍ لو لم يكونا صليا بالتيمم فسوف يكون الواجب
عليهما الوضوء والصلاة، لكنهما صليا وأديا ما عليهما، فأعاد أحدهما
الصلاة بوضوء، والثاني لم يعد، وإلى هنا عمل كل منهما مغاير للآخر،
والمرجع في هذا إلى الله ورسوله، فالرسول صلى الله عليه وسلم فصل
في القضية، وهذا مما يبين منزلة صدر الإسلام وسلف الأمة، وأصحاب(1/234)
رسول الله الذين يتلقون العلم مبدئياً حياً طرياً من رسول الله
مباشرة، فإذا جاءنا حكم عن صحابي عن رسول الله وجب أن نرفع به
رأساً، ويجب أن نسترعيه الانتباه، ونعلم بأن هذا أحق ما يمكن أن
يؤخذ فيه الأحكام. فأجابهما صلى الله عليه وسلم على ما كان منهما،
وقال للذي لم يتوضاً والصلاة لم يعد: أصبت السنة، والسنة هي
الطريقة، وقد تستعمل السنة في مقابل الفرض في ذلك الوقت، وهو أمر
اصطلاحي، كما جاء في حق رمضان: (إن الله افترض عليكم صيامه، وسننت
لكم قيامه )، وليس قيام الليل يعدل صيام النهار، فالصوم فرض: كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]،
ولكن القيام من النوافل والسنن، فهنا نص صلى الله عليه وسلم على
الفرق بين العملين، العمل الذي هو فرض وعين على كل مكلف، والعمل
الذي هو سنة مندوب إليه، فقال للذي لم يعد واكتفى بالعمل الأول:
(أصبت السنة)، والسنة: هي الطريقة، كما قيل: من معشر سنت لهم
آباؤهم ولكل قوم سنة وإمام أي: لكل معشر طريقة وإمام يقتدون به،
وقوله: (سنت لهم آباؤهم) أي: رسمت لهم الطريقة والمنهج في حياتهم.
وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اكتفى بالعمل الأول: (أصبت السنة)،
يدل على أن صلاته صحيحة؛ ولهذا أخذ العلماء أن من تيمم في أول
الوقت لانعدام الماء، ثم وجده في الوقت، فإن صلاته صحيحة؛ لأن
إصابة السنة معناها إصابة الصواب، فهو نص على أن الصلاة صحيحة
مجزئة، وأنه أصاب السنة بعمله ذلك. وقال للآخر: (لك الأجر مرتين).
وذلك لأنه فعل الصلاة مرتين، مرة بالتيمم، ومرة بالوضوء، وبعضهم
يقول: (لك الأجر مرتين) أي: لاجتهادك، ولكن الأول كذلك اجتهد في
اكتفائه بالتيمم وصلاته التي مضت، فالتحقيق كما يقوله الكثيرون:
(لك الأجر مرتين)، لأنه أعاد الصلاة مرتين، مرة بالتيمم، ومرة
بالطهارة المائية.
المفاضلة بين الذي أصاب السنة والذي حصل على الأجر مرتين
وهنا يأتي نقاش العلماء النقاش الطريف: أيهما أفضل: الذي أصاب(1/235)
السنة أو الذي حصل على الأجر مرتين؟ نقول: الذي حصل على الأجر
مرتين، وهذا هو الذي تميل إليه النفس؛ لأنه قال للذي لم يعد:
(وأجزأتك صلاتك )، ولفظ الإجزاء هو أقل ما يمكن أن يحصل عليه،
وليس بعد الإجزاء من نقص فيكون ذلك قد أجزأته صلاته، ولكن الذي
أصاب الأجر مرتين أجزأته وزيادة.
مسألة: إذا وجد المتيمم الماء بعد أن تيمم وقبل أن يصلي
وهذه مسألة يبحث الفقهاء فيها وهي: إدراك المتيمم الماء بعد أن
تيمم وقبل أن يصلي، فيقولون بالتقسيم العقلي: تيمم وقبل أن يصلي
وجد الماء، فهل يصلي بتيممه، أم أن الماء موجود وهو ما شرع في
الصلاة فيتوضأ؟ نقول: يتوضأ، وهذا باتفاق العلماء، إلا قول لداود
الظاهري . فإذا تيمم ووجد الماء قبل الشروع في الصلاة،
فالجمهور على أنه يبطل التيمم بوجود الماء؛ لقوله تعالى: فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]
وقد وجده.
مسألة: إذا وجد المتيمم الماء أثناء الصلاة
مسألة: تيمم وشرع في الصلاة، ثم وجد الماء أثناء صلاته، فهل يخرج
من الصلاة ليتوضأ ويأتي بالصلاة بوضوئها أو يستمر في صلاته؟ يبطل
التيمم بوجود الماء؛ لأن التيمم مشروط فيه: فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً [النساء:43]
وقد وجد فألغي التيمم. والشافعي رحمه الله ومن وافقه يقولون:
الله تعالى يقول: وَلا
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]،
فهو قد دخل في الصلاة بوجه شرعي معلوم، وأصبح مطالباً أن لا يبطل
صلاته بالخروج منها. ولكن الجمهور يقولون: الطهارة المائية شرط
أساسي، والتيمم ما جاء إلا نيابة عن الماء عند فقده، فإذا وجد
الماء في أثناء الصلاة لم يبق للتيمم سبب. وفي بعض المذاهب يقولون:
إذا نهق الحمار بطلت صلاة المتيمم، وما هو الذي أبطل الصلاة بنهيق
الحمار؟ قالوا: كأن طلب الماء فلم يجده، فأرسل شخصاً بحمار ليأتي
بالماء، فاستبطأه فتيمم، ثم دخل في الصلاة، فإذا هو بالحمار ينهق(1/236)
من ورائه، فعلم أن الماء قد حضر، فحينئذ تبطل صلاته بالتيمم لحضور
الماء، وهذا من نواقض التيمم زيادة على نواقض الوضوء. إذاً: إن
أدرك الماء وهو في أثناء الصلاة بطلت صلاته، وعليه أن يخرج من تلك
الصلاة؛ لأنها لم تعد صلاة؛ لعدم استيفائها الطهارة المائية، وقد
وجد الماء. وإن وجد الماء في الوقت بعد أن تيمم وصلى، فهذه قضية
هذا الحديث الموجود عندنا، وباتفاق الأئمة الأربعة أنه قد أجزأته
صلاته؛ لأنه صلاها وأداها، وخرج من عهدتها، فبقاء الوقت مع وجود
الماء أمر جديد يكون لما يستقبل من الصلوات الأخرى. وإذا تيمم وصلى
وخرج الوقت ثم وجد الماء، فلا إشكال أن الصلاة التي صلاها مضت
لطريقها، وعليه أن يستعمل الماء لما يستقبل من الصلوات الآتية.
حكم التيمم لمن يخشى على نفسه الهلاك من استعمال الماء
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: وَإِنْ
كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [النساء:43]
قال: (إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله والقروح فيجنب، فيخاف
أن يموت إن اغتسل، تيمم) رواه الدارقطني موقوفاً، ورفعه البزار ، وصححه ابن خزيمة والحاكم ]. هذه قضية من العقد في باب
التيمم، يقول تعالى: وَإِنْ
كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ.. [النساء:43]
الآية، فبين أن الإنسان إذا كان على سفر ولم يجد ماء فإنه يتيمم،
لكن إن كان واجداً للماء ولم يقدر على استعماله، فابن عباس يقول: إذا كانت بالرجل الجراحة، فيجنب، ويخشى على نفسه إن هو اغتسل
الهلاك -أي: الموت- بسبب الجراح؛ فإنه يتيمم. ولكن إذا كانت الجراح
مع استعمال الماء ليس فيها موت، ولكن فيها إيلام، وتأخير برؤ
جراحه، وإذا لم يكن به جراح بالكلية، ولكن الماء شديد البرودة،
والجو بارد لا يقوى على برودة الماء مع برودة الجو، فهل يتيمم أم
عليه أن يغتسل من جنابته في شدة البرد مع برودة الماء؟ تحمل برودة
الماء في برودة الجو تختلف فيه أجساد الناس، فبعض الناس قد يزيح(1/237)
الثلج عن وجه الماء ويغتسل، وبعضهم لا يستطيع حتى أن يغسل وجهه،
وقد كان هناك أعرابي مسافر، فنزل في بعض منازل سفره فوجد غديراً
فيه ماء، ومن شدة البرد تكونت طبقة من الثلج على وجه الماء، فجاء
هذا الأعرابي وخلع ثوبه، وأزاح الثلج عن الماء ونزل فاغتسل، وخرج
ولبس ثيابه، وكان معاوية بن أبي سفيان يرى هذا الرجل، فأُعجب
بقوته وتحمله، فاستصحبه معه، وكان شاعراً، فمدح معاوية بمدائح
وحي الطبيعة: أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب
فقالوا: ويلك كيف تمدح أمير المؤمنين بهذا المدح؟ فقال: اتركوه،
هذا خير ما يعلم؛ لأن الكلب عنده وفي، والتيس في قراع الخطوب أقوى
من الحيوانات، فهذا ما يشاهد من بيئته، فلما أخذه معه وعاش عيشة
الترف وتثقف بالمجتمع والحياة المتحضرة تغيّر، فهو القائل: عيون
المها بين الرصافة والجسر قتلنني من حيث أدري ولا أدري ففرق بين
التيوس والكلاب، وبين عيون المها وقتلنني، فلما رجع معاوية من
رحلته إلى الحج مرة أخرى ومعه هذا الرجل ونزلوا في ذاك المنزل وفي
شدة البرد، ناداه معاوية وقال: هلم! تذكر وقت كذا عندما اغتسلت
هنا، قال: نعم، قال: فافعل الآن! وقال: لا إن البرودة تقتلني، قال:
لماذا فعلت ذلك في العام الماضي؟ قال: العام الماضي كنت في
البادية، أما الآن فقد عشت معك في الرفاهية والنعيم، وفي الدفء،
فلا أقوى عليه الآن. إذاً: التحمل لشدة برودة الماء أمر نسبي، وليس
كل إنسان يقدر عليه، لكن إن عرف من نفسه أن ذلك يضره فلا بأس
بالتيمم. ونأتي إلى قصة عمرو بن العاص عندما أمّره رسول الله
صلى الله عليه وسلم على سرية، فلما في طريقه وقد دنا من العدو
احتلم، فلما أصبح ذكر ذلك لأصحابه، ثم تيمم وصلى بهم، وهم مأمورون
باتباعه لأنه أميرهم، فقالوا: كيف تصلي وأنت جنب؟ قال: أنا أميركم
وأنا المسئول، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا(1/238)
رسول الله! عمرو صلى بنا وهو جنب، تيمم ولم يغتسل، فقال له صلى
الله عليه وسلم: (أصليت بأصحابك جنباً يا عمرو ؟ قال: بلى،
قال: ولماذا؟ قال: يا رسول الله! إن الليل شديد البرد، والماء شديد
البرودة، وأخشى إن اغتسلت به هلكت، والله يقول: وَلا
تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]
والعدو قريب منا، فخشيت إن أنا أوقدت ناراً لأدفئ الماء أن يشعر
بنا العدو، فتيممت، فتبسم صلى الله عليه وسلم وأقر فعله، ولم يأمره
بإعادة تلك الصلاة ). إذاً: قول ابن عباس رضي الله تعالى
عنه: إذا كان الرجل به الجراحة في سبيل الله، فأجنب، فخشي إن هو
استعمل الماء -سواء كان لبرد أو لغيره؛ لأن الجراح قد تتأذى بالماء
ولو لم يكن بارداً- أن يهلك، فإن له أن يتيمم، يقاس على ذلك بعض
الأمراض الجلدية التي لا تقبل الماء، كأنواع الجدري -عافانا الله
منه- أو ما يسمى (بالعنقز) عند بعض الناس، وهي حبوب صغيرة تظهر على
الجلد فيها ماء قليل، وتغيّر الجلد، ولا يستطيع صاحبه أن يستعمل
الماء؛ لأنه ينشر الداء على الجلد. إذاً: من أجنب وخاف على نفسه
الهلاك باستعمال الماء، سواء بسبب جراح، أو بسبب شدة البرد وبرودة
الماء وهو لا يقوى على ذلك، ولا يستطيع أن يدفئ الماء، فحينئذ يكون
له حق التيمم. لكن هل هذا في جميع الحالات أم أنه في السفر فقط؟
لأن بعض العلماء يمنع التيمم للجنابة في الحضر، لكن إذا كان لمرض
فهذا يستوي فيه الحضر والسفر، أما إذا كان لعدم الماء فيقل ويندر
أن يعدم الماء في الحضر، قد يعدم في البادية والصحراء، لكن في
الحضر هو محل إقامة الناس، والناس لا يقيمون إلا على الماء، والله
تعالى أعلم.
( كتاب الطهارة - باب التيمم [4] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (إن دم الحيض دم أسود يعرف)
2 الاستحاضة
3 شرح حديث: (إنما هي ركضة من الشيطان)
كتاب الطهارة - باب الحيض [1]
كتب الله الحيض على بنات آدم، وفي الحيض أحكام كثيرة، ومسائل عديدة،(1/239)
والمرأة قد تحتار فيما خرج منها: هل هو دم حيض أو استحاضة؟! وقد جاء في
السنة ما يزيل هذا الإشكال، وما يرفع هذه الحيرة، وهذا من كمال
الشريعة.
شرح حديث: (إن دم الحيض دم أسود يعرف)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين،
وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فقال لها
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن دم الحيض دم أسود يعرف، فإذا كان
ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي ) رواه أبو
داود والنسائي ، وصححه ابن حبان والحاكم ،
واستنكره أبو حاتم ]. الحيض فيه مشاكل عديدة، وتفريعات لا نهاية
لها، ويقولون: ليس هناك تفريعات أكثر من مسائل المسح على الجبيرة
والحيض. والحيض قد يتبعه استحاضة، وليست هناك نصوص قاطعة فيما
يتعلق بأمر حيض النساء، والحيض من شئون النساء كما قال صلى الله
عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة : (إنه أمر كتبه الله على بنات
آدم )، ونحن ندرس باب الحيض؛ لكي نكون مرجعاً لنسائنا، فكل واحد
منا عنده زوجة أو أم أو بنت أو أخت، وهن يحتجن إلى معرفة أحكام
الحيض، وأولى من يبين لهن ذلك هو وليهن من ابن أو أخ أو أب أو زوج.
والمؤلف رحمه الله تعالى اختصر هذا الباب، وأتى بأربعة أحاديث أصول
تجمع باب الحيض والاستحاضة.
معنى الحيض
الحيض في أصل اللغة: السيلان، تقول العرب: حاض الوادي، أي: سال،
وبعضهم يقول: الحيض هو: التجمع، ومن فقه اللغة أنك إذا وجدت مادتين
متحدتين في أكثر الحروف واختلفتا في حرف واحد فاعلم أن بين
المادتين صلة، وإذا نظرنا إلى كلمتي: حيض وحوض، فالفرق بينهما:
الياء والواو، والحوض لاجتماع الماء، والحيض دم يتجمع في الرحم،
ولا تناقض بين أصل الاشتقاق؛ لأن الدم الذي يتجمع في الرحم سيسيل
ويخرج إلى الخارج. وهناك معنى آخر للحيض، تقول العرب: حاضت البيضة،(1/240)
إذا فسدت، وصارت لا تصلح لإنتاج فروخ، ولا للأكل؛ لأنه امتزج
بياضها بصفارها، فتتعفن إذا مكثت طويلاً، والحيض يجمع هذه المعاني
الثلاثة، يقول الأطباء: إن للرحم دورتين: دورة شهرية، ودورة سنوية،
أما الدورة الشهرية فهي دورة الحيض في كل شهر، وليس المراد بالشهر:
الشهر القمري أو الشمسي، ولكن شهر الدورة هو: ما بين أول الحيضة
الحاضرة وأول الحيضة المقبلة، وغالباً يكون ثمانية وعشرين يوماً،
فهذه هي الدورة الشهرية، وهذا هو شهر المرأة في حيضتها.
سبب الحيض
وسبب الحيض أن المرأة تفرز البويضة التي يلقحها الحيوان المنوي،
فتخرج من المبيض إلى طريق البوق أو إلى فم الرحم، فتنتظر المني من
الرجل ليلقحها، فإذا تلقحت علقت بجدار الرحم، وهي العلقة عند
الأطباء، ثم بعدما تمضي عليها الأربعينات المعروفة تنفصل عن جدار
الرحم بخيوط دموية رفيعة، وتكثر بعد ذلك وتصير حبل السرة الذي يغذي
الجنين داخل الرحم، وتأخذ دورتها السنوية في فترة الحمل، لكن إذا
لم تلقح البويضة، أو جاءها مني لا يصلح للتلقيح، ومضت مدة التلقيح؛
فإن الرحم يلفظها، وقد كان الرحم مهيئاً ينتظر الحمل المقبل،
ولمَّا لم يأت الحمل نكث ما بداخله، فيخرج هذا الدم ومعه مواد أخرى
من الرحم؛ لتنظيفه واستقبال بويضة جديدة. إذاً: الدورة الشهرية عند
المرأة هي: الحيض المعروف لغة وشرعاً، وهو نتيجة لدورة طبيعية في
الرحم، فإن أتى الحمل توقف الحيض، وإن لم يأت الحمل خرج دم الحيض،
إلا إذا كانت هناك موانع أخرى كحالة الرضاع، وحالة المرض، وغير
ذلك. وتكلم الفقهاء عن أقل الحيض وأكثره، وأقل الطهر وأكثره، فما
كان زيادة عن أكثر مدة الحيض فهو استحاضة، وما كان أقل من مدة
الطهر بين الحيضتين فهو استحاضة، وهذا سيأتي التنبيه عليه إن شاء
الله في نهاية هذا الباب. وهذه النصوص الأربعة التي ذكرها المؤلف
رحمه الله تعالى في هذا الباب تشتمل على حالات الاستحاضة،(1/241)
والاستحاضة إما أن تكون مؤقتة أو تكون دائمة، ومعنى مؤقتة: أن يزيد
دم الاستحاضة عن مدة الحيض، فإذا زاد عنها اعتبر الزائد استحاضة،
والدائمة أن ترى الدم دائماً، ولا ترى طهراً، ولا ينقطع عنها الدم.
الاستحاضة
لقد بدأ المؤلف رحمه الله بأحاديث الاستحاضة ليبين: ماذا تفعل
المستحاضة في صلاتها وصيامها عند وجود الاستحاضة؟ عن عائشة رضي
الله عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض. وهناك عدة نسوة
كن يستحضن، مثل بنات جحش الثلاث، وهذه كانت تستحاض، فقال لها
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دم الحيض دم أسود يعرف ).
رجوع المستحاضة إلى التمييز
المستحاضة عند الفقهاء إما أن تكون ذات عادة شهرية سابقة، فهي تعرف
مدة حيضتها، فيطبق عليها الدم فلا تعرف حيضاً من استحاضة، وإما أن
تكون مبتدئة بالحيض، وتأتي حيضتها طويلة، ولا تعرف مدة حيضتها، ولا
ما زاد عليها من استحاضة، فهنا ردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى
اللون، فقال: (إن دم الحيض دم أسود يُعرَف )، وفي رواية:
(يعرُف) فيعرف من المعرفة، ويعرُف من العرف وهو: الرائحة، فهو
يُعرَف تعرفه النسوة بسواده، ودم الاستحاضة ليس أسوداً، بل هو نزيف
كما في الحديث: (إن ذلك عرق )، وقال: (إنما هي ركضة شيطان )،
فالاستحاضة نزيف دم طبيعي يخرج من العرق كالدم الذي يخرج من جرح في
اليد أو غيرها، أما دم الحيضة فليس دماً خالصاً، بل فيه من فضلات
الرحم، وفيه من المواد الأخرى التي يفرزها جدار الرحم مما كان
مبطناً فيه، فيجتمع مع الدم سوائل أخرى؛ ولهذا فإن دم الحيض لا
يتخثر، أي: لا يتجمد، بخلاف الدم الذي يخرج من العرق فإنه لصفائه
ولخلوصه من السوائل الأخرى؛ إذا مكث قليلاً تجمد مثل الدم المسفوح
من الذبيحة فإنه بعد فترة يتجلط ويتجمد. معنى الحديث: أنه ما دام
قد التبس عليك أمر الحيضة من الاستحاضة؛ فاعلمي أن دم الحيض متميز
بلونه ورائحته، فدم الحيض رائحته كريهة منتنة؛ لما يحمله من المواد(1/242)
المخاطية من الرحم، أما دم الاستحاضة فليست له رائحة كريهة؛ لأنه
دم طبيعي يخرج من العرق كدم الفصد والجرح ونحوه. فأرشدها أن تنظر
إلى الدم الذي يخرج منها، فإذا كان الدم الخارج منها أسوداً له
رائحة فهو دم حيض، وسيستمر معها خمسة أيام أو ثلاثة أيام أو أربعة
أيام، فتعتبر الأيام التي يكون فيها الدم أسوداً منتناً أيام حيض،
وما بعد ذلك تعتبرها استحاضة، فتتطهر بعد مضي حالة الدم المعروف،
وتغتسل ثم تصلي وتصوم مع وجود الدم الآخر الذي ليس أسوداً، وليست
له رائحة. وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا كان ذلك فأمسكي ).
أي: فإذا كان ذلك الدم الأسود فأمسكي عن الصلاة؛ لأنك في حالة حيض،
والمعروف عند أطباء أمراض النساء أن متوسط عادة النساء خمسة أيام،
وأن من تحيض أقل من يومين أو تزيد عليها الحيضة عن ثمانية أيام
فلتراجع الطبيب، فعند الأطباء أن الحيضة لا تقل عن يومين ولا تزيد
عن ثمانية أيام، ولكن أقل مدة الحيض يوم وليلة عند الجمهور، وثلاثة
أيام عند أبي حنيفة رحمه الله، ولحظة عند مالك فيما يتعلق
بالصلاة والصيام، وثلاثة أيام فيما يتعلق بعدة الطلاق ونحوها.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا ذهبت أيامها -أي: أيام الدم
الأسود- فاغتسلي ) أي: اعتبري نفسك خرجت من الحيضة، ودخلت في
الاستحاضة، فاغتسلي للطهر من الحيض.
كيف تتوضأ المستحاضة
وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي ). أي:
فإذا كان الآخر يعني: غير الأسود، وهو دم الاستحاضة، فليس هناك إلا
قسمان فقط: أسود وآخر لونه أحمر قاني، فهنا قال: (توضئي وصلي )،
وهل تتوضأ وتصلي فقط أم تغتسل عند نهاية الدم الأسود من الحيض؟
تغتسل كما بين الله سبحانه في قوله: وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222]،
فطهر الحائض هو: انقطاع الدم عنها، وتطهرها هو اغتسالها،
فالمستحاضة تعرف طهرها بذهاب الدم الأسود، وحينئذٍ تعتبر نفسها قد(1/243)
طهرت من الحيضة، فتغتسل، ثم تتوضأ لكل صلاة بعد ذلك.
جلوس المستحاضة في مركن
قال رحمه الله: [وفي حديث أسماء بنت عميس عند أبي داود :
(ولتجلس في مركن )]. هذه رواية أبي داود عن أسماء رضي
الله عنها، فإنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني
أستحيض حيضة كبيرة، فقال: (فلتجس في مركن )، والمركن هو: حوض
كبير أو إناء كبير مثل البانيو الآن أو الأحواض النايلون، فتملأه
بماء وتجلس فيه، فإذا رأت الصفرة على وجه الماء فهذا علامة على أن
تلك الصفرة من دم الاستحاضة، وليست من دم الحيض؛ لأن دم الحيض لا
صفرة فيه، فهو أسود، فإذا رأت الصفرة فهي مستحاضة.
غسل المستحاضة غسلاً واحداً عند انقطاع حيضتها
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر
والعصر غسلاً واحداً ). بين صلى الله عليه وسلم أن المستحاضة
تتوضأ لكل صلاة مع الاغتسال عن الحيضة في نهاية مدتها، وبعد ذلك
تتوضأ لكل صلاة، فتغتسل غسلاً واحداً -كما في رواية عائشة - في
نهاية الحيضة عند انقطاع اللون الأسود، وبعد ذلك تتوضأ لكل صلاة
ولو لم تحدث حدثاً آخر، ولو لم يخرج من السبيلين شيء، لا ريح ولا
بول، فلا موجب للوضوء غير دم الاستحاضة، فأرشدها صلى الله عليه
وسلم أن تتوضأ لكل صلاة، وهل هذا الوضوء يقطع الدم؟ لا، لكن هذا
الوضوء للضرورة؛ لأن الخارج من السبيلين ينقض الوضوء، فهي تتوضأ،
وبعد أن تتوضأ يخرج الدم، وقد أمرها صلى الله عليه وسلم -كما
سيأتي- أن تستثفر وتضع الكرسف، أي: القطن، حتى لا ينزل الدم على
ثيابها، وعلى جسمها، وعلى الأرض التي تصلي عليها، فعندما تستثفر
سيخرج الدم، وسينتهي إلى ما تجعله من قطن أو قماش، ولا يسقط على
الأرض، فلما كان الدم سيخرج، فالأصل عدم بقاء الطهارة مع خروج الدم
كخروج البول والريح، ولكن تتوضأ للضرورة، فما دامت الطهارة ضرورية
فلا ينبغي أن تتوضأ قبل دخول الوقت، وإذا توضأت فتصلي الصلاة التي(1/244)
توضأت لها، وتصلي كذلك النوافل، وتفعل ما يفعله غير الحائض؛ لأنها
طهرت بانقطاع الدم الأسود، وبعد الغسل الأول تتوضأ لكل صلاة، ولو
لم ينتقض الوضوء بناقض آخر. قال عليه الصلاة والسلام: (ولتجلس في
مركن، فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر، غسلاً واحداً ).
إذا رأت الصفرة أي: انتهت الحيضة وجاءت الاستحاضة، وعلامتها: رؤية
صفرة فوق الماء الذي في المركن الذي جلست فيه، وهذا نوع من العلاج
يساعد على عدم تركز الدم في المهبل أو في محله، ويساعد على إخراجه
إلى الخارج. قال عليه الصلاة والسلام: (فلتغتسل للظهر والعصر
جميعاً، وتغتسل للمغرب والعشاء جميعاً، ولتغتسل للصبح غسلاً آخر )،
بينما في حديث عائشة ذكر بعد اغتسالها من الحيضة أنها تتوضأ
لكل صلاة، وفي حديث أسماء أنها تجمع بين كل صلاتين بغسل، وهل
تقدم المتأخرة مع المتقدمة أم تأخر المتقدمة مع المتأخرة؟ أي: هل
تجمع جمع تقديم أم جمع تأخير؟ لم يبين لنا في هذا الحديث كيف تجمع
بين الصلاتين بهذا الغسل، فهل تغتسل للظهر والعصر، وتغتسل للمغرب
والعشاء؛ في وقت إحداهما على اختيارها، كالمسافر إن شاء جمع جمع
تأخير، وإن شاء جمع جمع تقديم؟ لا، فسيأتي لنا النص بأن هذا الجمع
جمع صوري، بأن تؤخر الظهر إلى آخر وقتها، فتصلي الظهر في آخر
الوقت، فيدخل وقت العصر فتصليه في أول الوقت، فتكون اغتسلت
للصلاتين، وصلت كل صلاة في وقتها، إلا أن الصلاة الأولى كانت في
آخر وقتها، والصلاة الثانية في أول وقتها، فتكون جمعت بين الصلاتين
في الصورة، ولكن في الحقيقة فإن كل صلاة وقعت في وقتها. إذاً:
تغتسل للظهر والعصر معاً، وتغتسل للمغرب والعشاء معاً، وتغتسل
للصبح، ولم يبين هنا كيفية اغتسالها للصلاتين، وسيأتي النص في بيان
ذلك. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وتتوضأ فيما بين ذلك ). أي:
تتوضأ فيما بين ذلك لتلاوة القرآن، وللطواف، ولصلاة نوافل، ولما
يحتاجه العمل الديني من طهارة.(1/245)
شرح حديث: (إنما هي ركضة من الشيطان)
قال رحمه الله: [وعن حمنة بنت جحش قالت: (كنت أستحاض حيضة
كثيرة شديدة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفتيه، فقال: إنما
هي ركضة من الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام ثم اغتسلي ).
حمنة بنت جحش ثالث ثلاث من بنات جحش كن يستحضن، ويقول بعض
أطباء أمراض النساء: إن الحيض والاستحاضة لهما تعلق كبير بالوراثة،
في مدتها وغزارة دمها، فقالت حمنة : كنت أستحاض حيضة كثيرة،
وقالت: إنما أثج ثجاً، فقال: (افعلي كذا وصلي ولو قطر الدم على
الحصير )، كما في رواية، فهي كانت تستحاض استحاضة كبيرة شديدة
فجاءت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: (إنما هي
ركضة من الشيطان )، أي: هذه الحيضة الطويلة الكثيرة الزائدة
إنما هي ركضة من الشيطان، والفقهاء يقولون: هي ركضة على الحقيقة،
فالشيطان ركضها في رحمها حتى فجر العروق، فخرج الدم من الرحم؛ كي
يشكل عليها أمر طهارتها، ويختل عليها أمر صلاتها، فهو يريد أن يفسد
عليها أمر دينها، وهل هذا حقيقة أو مجاز؟ نحن نقول كما قال صلى
الله عليه وسلم: (إنما هي ركضة من الشيطان )، والأطباء يعبرون
عنها بالنزيف الرحمي، والنزيف الرحمي عندهم له أسباب عديدة، ولا
يعرفون كلمة: ركضة شيطان، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن زيادة
الدم عن الحيضة الطبيعية التي يعرفها سائر النساء؛ ليست بسبب مرض،
ولا حرج على المرأة فيها؛ لأنها لا تملكها ولا تستطيع دفعها، إنما
هي ركضة من الشيطان. وقال عليه الصلاة والسلام: (فتحيضي ستة أيام
أو سبعة أيام )، وقد أشرنا إلى أن أكثر الحيض عند الأطباء
ثمانية أيام، والرسول صلى الله عليه وسلم قصرها على ستة أو سبعة،
وقد يختلف حيض النساء من يوم إلى يومين إلى ثلاثة إلى أربعة إلى
سبعة، ولكن هذا متوسط حالات النساء، وقد يكون الحيض عشرة أيام؛
ويكون حيضاً طبيعياً، ويهمنا هنا التعليم النبوي لحمنة رضي(1/246)
الله تعالى عنها لما اختلط عليها الدم وتواصل، ولم تعلم مدة حيضها
من حيضتها، ولا يوجد لون أسود يفرق بين الحيضة والاستحاضة، فلو كان
عندها علامة تفرق بها بين الحيضة والاستحاضة مثل اللون لردها إلى
صفة الدم كما رد من قبلها، ولكن قال: (تحيضي) أي: في علم الله،
فامكثي حائضاً، واعتبري حيضتك من كل شهر ستة أو سبعة أيام، وهذا
متوسط عادة غالب النساء، وهناك من تحيض يوماً واحداً، وهناك من
تحيض يومين فقط، وتنتظم حيضتها على ذلك، وهناك من لا تزيد على
ثلاثة أيام، وهناك من تصل إلى عشرة أيام، لكن متوسط الحيضة عند
غالب النساء ستة أو سبعة أيام. فالمستحاضة لها حالتان: حالة يكون
الدم المتواصل عندها يتميز بعضه عن بعض باللون والرائحة، فما تميز
بلون ورائحة فهو حيضة، وما لم يتميز بشيء من ذلك فهو استحاضة، وهذه
حمنة دمها ليس فيه تمييز، فكله على لون واحد، كله أسود أو أحمر
أو بين بين، ودم الحيض أسود يميل إلى اللون البني، ودم الاستحاضة
لونه بعيد عن هذه الألوان، فإذا لم تميز المستحاضة أيام حيضها، ولم
يوجد في الدم الخارج منها ما يميز بعضه عن بعض فماذا تفعل؟! تتحيض
على غالب حيض النساء، ومتى تجلسها؟ تتخير، فتعتبر أول الشهر مثلاً
حيضها، فتجلس ستة أيام أو سبعة أيام وتعتبرها حيضة، فتغتسل وتأخذ
حكم الطاهرة، وهكذا أول كل شهر تجلس من واحد في الشهر إلى ستة أو
سبعة، وهكذا تعتبر الشهر دورة كاملة، وتتحيض فيه ستة أو سبعة أيام
من أول الشهر إلى سابع يوم، وتكون هذه حيضتها المعتبرة، وتمتنع
فيها عن الصلاة وعن الصيام وعن الوطء، ثم بعد نهاية الأيام
المذكورة تعتبر نفسها قد طهرت فتغتسل، ثم بعد ذلك تتوضأ لكل صلاة،
وهل تغتسل وتجمع بين الصلاتين؟ قال عليه الصلاة والسلام: (فتحيضي
ستة أيام أو سبعة ثم اغتسلي، فإذا استنقأتي فصلي أربعاً وعشرين أو
ثلاثة وعشرين وصومي وصلي، فإن ذلك يجزئك ). قوله: (فإذا(1/247)
استنقأتي) يعني: اعتبرتي نفسك قد استنقأتي من دم الحيضة بعدد
الأيام، أما النقاء حقيقة فليس بحاصل؛ لأن الدم موجود، لكن المعنى:
اعتبرتي نفسك قد استنقأت من الحيضة بعدد الأيام التي اعتبرتيها
حيضاً، وقد تعتبر الأيام من نصف الشهر، وقد تعتبر الأيام من أوله
أو آخره، فإذا حددت لنفسها وقتاً من الشهر تعتبره حيضاً؛ فإذا
انقضت تلك الأيام فتغتسل، ويكون حكمها حكم الطاهرة، فتصلي أربعة
وعشرين يوماً، وهذا الحديث لم ينظر إلى أن الدورة الشهرية عند
المرأة -كما يقول الأطباء- ثمانية وعشرين يوماً، ولكن نظر إلى
الشهر بهلاله، فإذا تحيضت ستة أيام فقد بقي من الثلاثين أربعة
وعشرون يوماً، وإذا تحيضت سبعة أيام فقد بقي ثلاثة وعشرون يوماً،
فتصلي بقية الشهر بعد الستة أو السبعة الأيام التي اعتبرتها حيضة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (وصومي وصلي فإن ذلك يجزئك ). أي:
بعد الستة أو السبعة أيام؛ اغتسلي للحيضة، واعتبري نفسك كالطاهر،
وصومي بقية الشهر وصلي كذلك، ولزوجها أن يأتيها، ولكن الأولى
الابتعاد عن وطئها من ناحية صحية، وليس من الناحية الشرعية. ثم قال
عليه الصلاة والسلام: (وكذلك فافعلي كل شهر كما تحيض النساء ).
أي: وكذلك فافعلي كل شهر: تتحيضين ستة أو سبعة أيام، وتعتبرين نفسك
بقية الشهر طاهرة، فتغتسلين عند نهاية أيام الحيض، ثم تصومين
وتصلين إلى نهاية الشهر، وهكذا دواليك كل شهر.
جواز الجمع الصوري للمستحاضة
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي
العصر ثم تغتسلي حين تطهرين ). هنا بين كيفية اغتسالها للظهر
والعصر معاً، بأن تؤخر الأولى إلى آخر وقتها، وتقدم الثانية إلى
أول وقتها، وتغتسل غسلاً واحداً لهما، وفي الحديث الأول: الوضوء
لكل صلاة، وهنا قال: (فإن قويت)، أي: إذا كان لا يشق عليك، لا يوجد
شدة برد، أو قلة ماء، أو عدم تحمل الماء. إذاً: المبدأ الأساسي مع(1/248)
حمنة أن تتوضأ لكل صلاة بعد الغسل عن الحيضة، لكن الأكمل
والأطيب إن قويت أن تؤخر الظهر، وتقدم العصر، ثم تغتسل لهما، وتؤخر
المغرب، وتقدم العشاء، وتغتسل لهما، ثم تغتسل للصبح في وقتها، كما
قال عليه الصلاة والسلام: (ثم تغتسلي حين تطهرين، وتصلي الظهر
والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين
وتجمعين بين الصلاتين؛ فافعلي ). وهل قوله: (تجمعين بين
الصلاتين) جمع حقيقي فتصلي إحداهما في وقت الأخرى أم هو جمع صوري
بأن تصلي كل صلاة في طرف وقتها؛ فهذه في آخر وقتها، وتلك في أول
وقتها؟ هو جمع صوري، وليس بجمع حقيقي؛ لأن كل صلاة وقعت في وقتها.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وتغتسلين مع الصبح وتصلين ) قال:
وهو أعجب الأمرين إلي. قوله: (وهو أعجب الأمرين إلي)، اختلف
العلماء في هذه الجملة، هل هي من قوله صلى الله عليه وسلم أو من
قولها هي؟ والأمران هما: الوضوء لكل صلاة، والغسل للصلاتين، فأيهما
أعجب في الحكم؟ الأعجب في الحكم الاغتسال والجمع بين الصلاتين، لكن
من قال: أعجب إلي؟ جل العلماء أن هذه الجملة راجعة إلى حمنة ،
فهي قالت: هو أحب الأمرين إلي، أي: أن أغتسل للصلاتين معاً، وأؤخر
الظهر وأقدم العصر. وقد كانت بعض المستحاضات تغتسل لكل صلاة، قال
الجمهور: هذا من عندها هي، ولا موجب لإعادة الغسل بعد انتهاء فترة
الحيض، سواء كان بالأيام أو كان باللون، فالغسل للحيض واحد، سواء
اعتبرناه بلونه أو اعتبرناه بأيامه، فما الموجب للغسل بعد ذلك؟
والدم الخارج بعد الحيض دم نزيف، وهو لا يستوجب غسلاً، ولكن كان
ذلك أحب إليها احتياطاً وتورعاً وإنقاءً لنفسها، فكانت تغتسل وتجمع
بين الصلاتين. إذاً: الحديث الأول موضوعه: تمييز الحيضة من
الاستحاضة باللون، وأن تغتسل للحيضة ثم تتوضأ لكل صلاة، أو تغتسل
للظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، والحديث الثاني بين(1/249)
أن اغتسالها للظهر والعصر وجمعها بينهما يكون جمعاً صورياً، وهذا
أحب الأمرين للرسول صلى الله عليه وسلم أو للمرأة، على الخلاف،
والجمهور أنه للمرأة.
رجوع المستحاضة إلى عادتها السابقة
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة بنت جحش شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم، فقال: (امكثي قدر ما
كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي، فكانت تغتسل لكل صلاة ). رواه
مسلم . وفي رواية للبخاري : (وتوضئي لكل صلاة ) وهي
لأبي داود وغيره من وجه آخر]. أم حبيبة هي أخت حمنة ،
وأختهما أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنهن. وانظروا إلى
حسن ترتيب المؤلف لهذه الأحاديث الثلاثة، أم حبيبة رضي الله
تعالى عنها جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم استحاضتها،
فماذا قال لها؟ لم يقل لها: دم الحيض أسود، ولم يقل لها: تحيضي في
علم الله ستة أو سبعة، بل قال لها: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك )،
فهذا قسم ثالث، كانت لها حيضة منتظمة، تعرف أيامها، وتمكث مدتها،
ثم اختلط الأمر عليها بعد أن كانت لها عادة معروفة تمسك فيها عن
الصلاة والصيام، فردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما كانت عليه
قبل الاستحاضة، فقال: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ) أي:
تمسك عن الصلاة والصوم، يعني: كم كنت تحيضين قبل هذا الحال الجديد؟
لو كانت ثلاثة أيام، فامكثي ثلاثة أيام، أو خمسة أيام فامكثي خمسة،
وهكذا ستة أيام أو تسعة أيام، فقدر ما كانت تحبسك حيضتك قبل
الاستحاضة فهي مدة حيضتك الآن مع اختلاط الأمر عليك. إذاً:
المستحاضة قد تكون ذات دم يعرف، وقد تكون لا تميز الدم، وليست لها
حيضة من قبل، فتمكث ستة أو سبعة أيام، وقد تكون لها حيضة منتظمة
قبل الاستحاضة فترجع إلى مدة حيضتها قبل ذلك. وقوله هنا: (امكثي
قدر ما كانت تحبسك حيضتك )، فيه ردها إلى العادة القديمة، فليس
هنا حكم زائد، ولا حكم جديد، إنما ردها إلى ما كانت عليه؛ ولهذا(1/250)
يقول مالك رحمه الله في مسائل الحيض: لقد وكل الله أمر النساء
إليهن، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن: من الولد،
ومن دم الحيض، ومن الاستحاضة، فهي ترجع إلى مدة حيضتها، والنبي
عليه الصلاة والسلام ما قال: كم كانت تحبسك؟ ثم ألزمها بشيء، لا،
بل ردها إلى ما كانت عليه، وهي المسئولة عن ذلك، وهي أمانة بينها
وبين الله. وقوله: (ثم اغتسلي) أي: اغتسلي بعد مضي مدة حيضتك
الأولى، واعتبري نفسك قد طهرتي، وما زاد عن مدة حيضتك الأولى بعد
الاغتسال يكون استحاضة، فإذا اغتسلتي للحيضة فما عليك إلا الوضوء
لكل صلاة، ولا تغتسل لكل صلاة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام ما
قال لها: اغتسلي لكل صلاة بل اغتسلي بعد الحيضة، فأمرها أن تغتسل
من حيضتها الاعتبارية، ولكن هي من أجل الصلاة كانت تغتسل لكل صلاة،
قالوا: هذا من فعلها هي، ولا يكون حكماً سارياً على بقية النساء،
وقد جاءت الروايات موضحة لذلك. وفي رواية للبخاري : (وتوضئي
لكل صلاة ). هذا هو ما أمرها النبي عليه الصلاة والسلام به:
اغتسلي بعد مدة حيضتك الأولى، ثم بعد ذلك توضئي لكل صلاة، وقد تقدم
قوله: (توضئي لكل صلاة ) في رواية عائشة أول الباب، ثم في
رواية أسماء : أنها تجمع بين الصلاتين بغسل، وجاء الحديث الآخر
أنها تؤخر وتقدم وتغتسل للصلاتين، وجاء هنا في رواية البخاري أنها تغتسل بعد حيضتها المعتبرة، ثم تتوضأ لكل صلاة، وهذا الذي
استقر عليه الأمر عند العلماء، أن المستحاضة تغتسل في نهاية حيضتها
الاعتبارية، وتتوضأ لكل صلاة عند وجود دم الاستحاضة. فإذا اغتسلت
مستحاضة لكل صلاة من نفسها فلها ذلك، وإن قويت أن تغتسل وتجمع بين
الوقتين، فتصلي في أول هذا، وآخر ذاك فلا مانع، وإن توضأت لكل
صلاة، وصلت كل صلاة في وقتها فلا مانع. الخلاصة أن المستحاضة لها
ثلاث حالات: أن تميز بين دم الحيضة ودم الاستحاضة، إما باللون وهو(1/251)
السواد، وإما بالرائحة وهو النتن، وإما بالكثرة والغزارة، فدم
الحيض أكثر عند خروجه من دم الاستحاضة، فتعمل بالتمييز. وإذا التبس
الأمر عليها، ولم يتميز الدم، فترد المستحاضة إلى غالب حيضات أغلب
النسوة ستة أو سبعة أيام. وإذا كانت لها حيضة سابقة، فإنها ترد إلى
حيضتها التي كانت قبل الاستحاضة، وتغتسل وتطهر لمضي الحيضة
الاعتبارية عند الجميع. بعد ذلك ماذا تفعل؟ جاء أنها تغتسل
للوقتين، وجاء أنها تغتسل لكل صلاة، وجاء أنها تتوضأ لكل صلاة بعد
الغسل الأول، وهذا هو الواجب على المستحاضة.
المستحاضة المبتدئة
حالات المستحاضة أربع، وقد ذكرنا ثلاث حالات، والرابعة هي:
المبتدئة التي بدأها الحيض، ثم استمر عليها الدم ولم تعرف حيضها من
استحاضتها، وليس هناك لون ولا رائحة تميز به، وليست عندها حيضة
سابقة، ولا تعرف لها عادة حتى ترد إليها، ولا ترد إلى غالب عادات
النساء لأن الكلام على أول ما يأتيها الدم وآخره، فمن العلماء من
يقول: إنها تنتظر إلى أقصى مدة الحيض، وأقصى مدة الحيض عند الإمام
أبي حنيفة رحمه الله عشرة أيام، وعند الأئمة الثلاثة خمسة عشر
يوماً، فالإمام أبو حنيفة يرى أن أقل مدة الحيض ثلاثة أيام،
وأكثره عشرة، والأئمة الثلاثة يرون أن أقل مدة الحيض يوماً وليلة،
وأقصاه خمسة عشر يوماً، ومالك يفرق بين الحيض بالنسبة للصلاة
والصوم، والحيض بالنسبة للعدة في الطلاق، فيعتبر الحيض بالنسبة
للصلاة أو الصوم ولو ساعة من النهار، فلو حاضت المرأة في نهار
رمضان ساعة من النهار فقط أفطرت ذلك اليوم، واعتبرت تلك الساعة
حيضة، أما إذا كانت في عدة الطلاق فلا تعتبر تلك الساعة حيضة، ولا
تعتد إلا إذا كانت الحيضة يوماً وليلة مثل الأئمة الآخرين. هذه
المبتدئة بعضهم يقول: تجلس إلى آخر انقضاء مدة الحيض، فإذا استمر
بعد ذلك اعتبرت نفسها مستحاضة بعد مضي الخمسة عشر يوماً، وبعضهم(1/252)
يقول: المبتدئة تقعد عن الصلاة والصوم يوماً واحداً -وهو أقل مدة
الحيض- احتياطاً، ثم تصلي وتصوم، وتعمل ذلك ثلاثة أشهر، فإن استمر
الدم إلى ما بعد نهاية مدة الحيض في الثلاثة الأشهر، فإنها تنتقل
إلى التمييز إن حصل، أو إلى غالب ما تحيضه النساء ستة أو سبعة
أيام. إذاً: هذه المبتدئة التي لم تعلم لها عادة سابقة، ولم تجد في
الدم مميزاً، فإنها تجلس عند البعض أقل مدة الحيض، ثم تغتسل وتعتبر
الباقي استحاضة، وتصلي وتصوم إلى ثلاثة أشهر، فإن استقرت على هذا
رجعت إلى غالب عادة النساء. ومنهم من يقول: من أول ما ترى الدم
تجلس إلى أقصى مدة الحيض، وهذا هو اليقين، وبعد الخمسة عشر يوماً
تغتسل، فإن استمر معها بعد الخمسة عشر يوماً فهو استحاضة، وإن كانت
صامت قبل ذلك فإنها تقضي صومها؛ لأنها صامته في حالة الحيض.
( كتاب الطهارة - باب الحيض [2] )
عناصر الموضوع
1 مقدمات أصولية تتعلق بالمواقيت
2 بيان النبي صلى الله عليه وسلم لأوقات الصلاة
3 أفضل أوقات العصر والعشاء
4 وجوب القضاء على من ترك الصلاة عمداً
كتاب الصلاة - باب المواقيت [1]
جعل الله للصلوات الخمس مواقيت محددة الأول والآخر، وقد بين الله
ورسوله هذه المواقيت، وشرحها العلماء، وأطالوا في ذلك؛ لأنها متعلقة
بأفضل العبادات، وأعظم القربات، فالصلاة لا تقبل إلا بعد دخول وقتها،
فوجب معرفة المواقيت للقيام بالصلاة في وقتها المحدد شرعاً.
مقدمات أصولية تتعلق بالمواقيت
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [ كتاب
الصلاة، باب المواقيت ]. المواقيت: جمع موقت، والموقت هو الوقت
المؤقت لشيء ما، وبدأ المؤلف رحمه الله تعالى قائلاً: كتاب الصلاة،
ثم قال: باب المواقيت ليبين لنا أن مواقيت الصلاة من ضمن مباحث
الصلاة. وهذا الباب جعله الإمام مالك رحمه الله أول أبواب(1/253)
الموطأ، وقال: باب الوقوت (جمع كثرة لوقت) وقالوا: إنه راعى
الأوقات المختلفة في أداء الصلاة من أفضلية الوقت إلى آخر ما يجزئ
في الوقت من الوقت الضروري، ووقت القضاء لمن نام أو نسي، وهناك
أوقات الصلوات الخمس، ووقت الجمعة، وغير ذلك. والتوقيت للصلاة واجب
كما قال سبحانه وتعالى: إِنَّ
الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]،
أي: موقتاً بزمن.
تقسيم أوقات العبادة إلى مضيقة وموسعة
العبادات المؤقتة ينقسم وقتها بالنسبة إليها إلى قسمين: القسم
الأول: وقت موسع. القسم الثاني: وقت مضيق. فالوقت الموسع كأوقات
الصلوات، فمثلاً: وقت صلاة الظهر من زوال الشمس إلى مجيء وقت
العصر، ووقت العصر من أول وقتها إلى غروب الشمس، ومعنى موسع: أن
يستطيع الإنسان أن يأتي بالفريضة في وقتها ثم يأتي بمثلها معها في
وقتها. والوقت المضيق كصوم رمضان، فشهر رمضان هو وقت الصوم، وهو
مضيق بمعنى: أنك لا تستطيع أن تأتي في يوم من رمضان بفريضتين:
فريضة شهرك الحاضر وقضاءً عما عليك من الماضي، بخلاف وقت الصلاة،
فإنك تستطيع أن تُصلي الحاضرة، وتُصلي النافلة، وتُصلي ما كان عليك
من قضاء في الوقت الواحد، وفي الصلوات قد يصبح الوقت الموسع مضيقاً
إذا لم يبق من الوقت إلا ما تدرك به صلاة الوقت الحاضر.
تقسيم خطاب الشرع إلى خطاب تكليف وخطاب وضع
والله سبحانه وتعالى بين توقيت العبادات من باب خطاب الوضع؛ لأن
خطاب الشرع ينقسم إلى قسمين: خطاب التكليف، وخطاب الوضع. فخطاب
التكليف هو: الذي فيه الأمر والنهي بالتشريع أو التحريم. وخطاب
الوضع هو: العلامة أو الشرط أو المانع المتعلق بهذا العمل الذي
كُلف به المسلم. فقوله سبحانه وتعالى: وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]
هذا خطاب تكليف، كلف فيه المسلم أن يقيم الصلاة وأن يؤتي الزكاة،
وقوله سبحانه: كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ(1/254)
قَبْلِكُمْ [البقرة:183]
خطاب تكليف؛ كلف فيه المسلم بالصوم. ولكن تحديد متى نصوم ومتى نصلي
يجيء بيانه بخطاب الوضع، فقال سبحانه: شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]،
فعين لنا زمن الصوم الذي فرض علينا، وكذلك قال: أَقِمِ
الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ
الْفَجْرِ [الإسراء:78]،
فهذا خطاب وضع من جهة بيان وقت الصلاة، فنصلي لدلوك الشمس، وهو
تحركها بعد الاستواء عن كبد السماء إلى جهة الغرب، إِلَى
غَسَقِ اللَّيْلِ أي: ظلمة الليل. فدلوك الشمس شمل الوقت المشترك لصلاتي: الظهر
والعصر، وغسق الليل شمل الصلاتين المشتركتين في ذلك الوقت وهما:
المغرب والعشاء، ثم قال: وَقُرْآنَ
الْفَجْرِ وهو: مشتمل على صلاة الصبح، فهذا الخطاب الذي بين أوقات الصلوات
يسمى: خطاب وضع، والخطاب الذي جاء بتكليف المكلف بالواجب عليه في
العبادات هو خطاب تكليف. كذلك الحج، قال الله: وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل
عمران:97] فهذا خطاب تكليف، فعلى كل مستطيع أن يحج، ولكن متى نحج؟
جاء خطاب الوضع في قوله: الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]،
فبين لنا وقت الحج، والسنة بينت أنه من أول شوال، فيجوز الإحرام في
شوال، وذي القعدة، وجزء من ذي الحجة، وهذا ببيان النبي صلى الله
عليه وسلم.
دخول الوقت شرط لصحة الصلاة
إذاً: مالك رحمه الله راعى في كتابه الموطأ أن أول ما يكلف به
العبد فعلاً الصلاة، ولكن الصلاة تبدأ من الميقات أي: من التوقيت،
أي: بدخول الوقت، والطهارة شرط لصحة الصلاة، ودخول الوقت شرط لصحة
الصلاة، فمن صلى صلاة قبل وقتها فلا يعتد بها، ومن صلى صلاة دون أن
يتوضأ فلا يعتد بها، فراعى أن أول ما يكون هو دخول الوقت، فإذا دخل
الوقت وجب عليه أن يتوضأ ليصلي، لقوله تعالى: إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا... [المائدة:6]،(1/255)
ولا يكون القيام إلى الصلاة إلا بعد دخول وقتها، ولكن كتب الحديث
المرتبة على أبواب الفقه قد يختلفون في البداية، فبدأ البخاري صحيحه بباب الإيمان والعلم، وكذلك فعل مسلم فبدأ بباب الإيمان،
وجاء أبو داود فبدأ بكتاب الصلاة، وبدأ كتاب الصلاة بالطهارة؛
لأنها شرط في صحتها، ثم جاء بعد ذلك بستر العورة وهو باب اللباس،
ثم أتى بالمساجد ومواضع الصلاة، وكذلك فعل غيره. والذي يهمنا أن
الناس يختلفون في ترتيب كتب الفقه، ولكنهم مجمعون في الجملة بأنهم
يبدءون بالعبادات، ثم بالمعاملات، ثم بالأحوال الشخصية، ثم
بالجنايات، ثم بأحكام القضاء؛ لأن العبادات فرض عين على كل شخص،
فهي أهم، وهي حق الله على العباد، والمعاملات هي لمصلحة الناس فيما
بينهم من بيع وشراء وكفالة وضمان وحوالة إلى غير ذلك، وكذلك
الأحوال الشخصية من الأنكحة والعشرة الزوجية وحق الزوجات والأولاد
والنفقات والطلاق والعدد ونحو ذلك. ويؤخرون بعد هذا باب القضاء؛
لأن الإنسان في الغالب بعد أن يبيع ويشتري ويتكسب ويتزوج يصير له
الأولاد، فتقع المشاكل مع الجيران، فيأتي باب القضاء، فكتب الفقه
تتفق على هذا الترتيب في الجملة، وبعضهم قد يقدم باباً على باب،
ولكن من حيث الجملة فالترتيب عبادات، معاملات، أحوال شخصية،
جنايات، قضاء. انتهى المؤلف رحمه الله من كتاب الطهارة من وضوء،
ومن غسل، وبيان حكم الجنب، والتيمم، والإنسان يتطهر استعداداً
للصلاة؛ لأن الطهارة سواء بالوضوء أو بالغسل تصح قبل دخول الوقت،
فهو قد يتهيأ للصلاة قبل دخول وقتها.
(يريد الله بكم اليسر) قاعدة عامة في التكاليف
انتهى المؤلف رحمه الله من مقدمة الصلاة، وشرطها الأساسي وهو
الطهارة، ثم جاء بعد ذلك بكتاب الصلاة، وبدأ كتاب الصلاة بالوقت؛
لأنها لا تؤدى إلا في وقتها المحدد لها، ومن ناحية أخرى نجد كل
خطاب الوضع مرتبطاً بعلامات كونية أو أمور وضعية متعارف عليها،(1/256)
ويستوي في معرفتها أعلم الناس هندسة وعلوماً عامة وأجهل الناس بتلك
العلوم، فيستوي فيها العامي والمتعلم. فمثلاً أوقات الصلوات الخمس
رُبطت بأمور بأمور يستوي في معرفتها العامة والخاصة، بل قد يكون
العامي صاحب البادية أعرف بها من الحاضر، حيث جعل الله مواقيت
الصلاة مرتبطة بحركة الشمس، فالفجر من انفجار النهار عن ظلام
الليل، وهي نتيجة اقتراب الشمس من الظهور، وتقدم أشعتها، فيظهر بعض
الضوء، ويتميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، والظهر
حينما تزول الشمس عن كبد السماء ونرى الفيء. فالشمس حينما تشرق،
تأخذ في نصف الدائرة، فإذا توسطت نصف الدائرة وهو الربع الأول من
الدائرة الكاملة، يمتد ظل كل شيء إلى الغرب، فلما تزحزحت عن نقطة
الصفر في متوسط الدائرة، وانحازت إلى الربع الثاني إلى جهة الغرب؛
تحول الفيء إلى الشرق، فنحن وإن كان بيننا وبين الشمس مئات الآلاف
من الأميال فإننا ندرك حركتها عندنا في الأرض؛ بتحول الظل من الغرب
إلى الشرق، ثم يأتي وقت العصر عندما يصير ظل كل شيء مثله، ثم يأتي
وقت المغرب عندما تغرب الشمس، وما بين الظهر والمغرب وقت للعصر.
الذي في البادية أدرى بالأوقات من الذي في الحاضرة؛ لأن الحضري
ساكن في شقة أو في بيت وربما لا يراقب الشمس، وخاصة طلوع الشمس،
وأهل البادية أعرف بذلك من الآخرين. والمغرب وقته من غياب الشمس
إلى أن يغيب الشفق الأحمر، وهو الحمرة التي في الأفق، ومن غيبوبة
الشفق إلى طلوع الفجر وقت للعشاء. فهذه معالم وأمارات وتوقيت يتفق
في معرفتها الجميع؛ لأن التشريع للجميع، ولا يكلف الله الناس معرفة
علم الفلك، ولا يجب أن نعرف أوقات الصلاة بتوقيت فلكي، وإنما جاءت
الساعة تسهيلاً وتقريباً لذلك، ولهذا لو رأينا ساعة الفلك مغايرة
لساعة الجيب؛ لألغينا ساعة الجيب، فلو أن الساعة في جيبك تشير أنه
بقي على المغرب نصف ساعة، ورأيت الشمس تغرب بعينك، فبأي الساعتين(1/257)
تعمل؟ هل بساعة الشمس التي تنظر إليها بعينك أو الساعة التي في
يدك؟ تلغي الساعة التي في يدك وتعدلها، وكذلك صوم شهر رمضان،
والعالم كله يعرف متى يدخل رمضان ومتى يخرج رمضان، وهل نعرف ذلك
بالحساب كما يقولون؟ لا، لحديث: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته )،
ورؤية الهلال أيسر في البادية من الحاضرة، فالحاضرة فيها دخان،
وكهرباء، و.. و.. إلى آخره، وأضواء الكهرباء تضعف من البصر، بخلاف
أهل البادية فهم حديدو الأبصار، يرون الهلال في أول يوم، ويعرفون
منازله، ويطلبونه فيه، وكذلك الحج. والزكاة جُعِل قدرها (2.5%)
وهذا المقدار لا يغلط فيه الإنسان عند الحساب، وقال الله في زكاة
الزروع: وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]
فهذا تكليف، وقال: وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]
وهذا خطاب وضع، وكم قدر الزكاة؟ بينت السنة أنه إما العشر وإما نصف
العشر، وهذه أمور عامة يعلمها العامة والخاصة، وهذا دليل على أن
الإسلام هو الدين الباقي، والدين الشامل، وهو دين الفطرة؛ لأنه
يستوي فيه جميع الخلق: من عرب، ومن عجم، ومن حضر، ومن بدو، ومن
متعلم، ومن عامي. فبدأ المؤلف كتاب الصلاة بالمواقيت، وجاء
بالأحاديث المتعلقة بالباب، وفيها الكفاية إن شاء الله.
بيان النبي صلى الله عليه وسلم لأوقات الصلاة
قال المؤلف رحمه الله: [ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان
ظل الرجل كطوله مالم يحضر وقت العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس،
ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل
الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس ) رواه
مسلم ].
معنى زوال الشمس
قوله: (إذا زالت الشمس )، معنى زالت: ذهبت عن كبد السماء؛ لأنها
تشرق في أول الأمر من المشرق، وتأخذ في حركتها في نصف الدائرة،(1/258)
ويقولون: قدر ثماني عشر، والدائرة الكاملة قدرها ست وثلاثون درجة،
فهي تأخذ ثماني عشرة درجة في هذا الوجه، وثماني عشرة درجة في الوجه
الثاني من جهة الأرض، فتكون ثماني عشرة درجة مضيئة بطلوع الشمس،
وثماني عشرة درجة ليل؛ لعدم وجود الشمس هناك، فإذا أخذت نصف
الثماني عشرة درجة، فهي تسعة، وهذا هو وسط وكبد السماء، وفيء
الزوال يختلف صيفاً وشتاء، بل ويختلف على درجات الأرض، فهو على
مستوى خط الاستواء يختلف على مدار السرطان أو على الجهة الشمالية
أو الجهة القطبية، حتى إنه في منتهى تكوير الأرض في السويد
والنرويج من جهة القطب المتجمد الشمالي قد يختفي الظل، وقد يبقى
النهار عدة أشهر، والليل عدة أشهر، وقال لي إنسان: جلسنا هناك على
قمة ونحن ننظر الشمس، ففي حوالى دقيقة واحدة اختفت الشمس من جهة،
وظهرت من الجهة الثانية حالاً، ولم يوجد هناك فترة طويلة!! إذاً:
تختلف مواقيت زوال الشمس عن كبد السماء بالنسبة لسقوط ظل أشعتها
إلى الأرض، فعند الزوال في وقت اعتدال الليل والنهار تكون الأشعة
متعامدة من السماء إلى الأرض على زاوية قائمة، وفي بعض الفصول في
الشتاء أو في الربيع أو في الخريف، يكون ظل الزوال قدماً أو قدمين
إلى ستة أقدام بقدم الإنسان. ونحن لا نستطيع أن نحدد مكان الشمس في
كبد السماء في نقطة الصفر، ولا نعلم أول زوالها وتحولها إلى الغرب؛
لأن المسافة بعيدة جداً، ولكن يكفي أن ننظر إلى ظل الأشياء في
الأرض، فما دام الظل إلى جهة الغرب فهي لا زالت في الربع الذي من
جهة المشرق، وإذا تحول الظل إلى المشرق فقد زالت الشمس، ويسمى الظل
بعد الزوال فيء؛ لأنه رجع، فنعرف بذلك أن الشمس زالت عن كبد
السماء. وقوله: (إذا زالت الشمس)؛ لأن نقطة الزوال بالذات لا تصح
فيها الصلاة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت قيام الشمس
في قائم الظهيرة، وهو وقت الاستواء قبيل الزوال، وجاء في الحديث:(1/259)
(ثلاث ساعات، نهينا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حينما
تطلع الشمس من المشرق حتى يكتمل طلوعها وترتفع، وحينما يقوم قائم
الظهيرة -أي: تكون الشمس في كبد السماء بالذات- وحينما تضيَّف
الشمس للغروب، حتى يكتمل غياب قرص الشمس )، فهذه الأوقات
الثلاثة نهي عن الصلاة فيها، وعن قبر الموتى فيها، لكن يجوز قضاء
الفائتة فيها. وقد جاء في الحديث: (من أدرك من العصر ركعة فقد أدرك
العصر )، يعني: أدرك الوقت، وإلا فإنه سيصلي الركعات الثلاث
الباقية بعد غياب القرص، فسيغيب القرص وهو يصلي، وهذا مستثنى من
النهي عن الصلاة عند غروب الشمس أو عند شروقها، فقد جاء في الحديث:
(من أدرك من الصبح ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الصبح )، وهذه
هي الأوقات الاضطرارية. والأوقات الاضطرارية تكون لإنسان نسي
الصلاة، أو نام عن الصلاة، أو لصبي بلغ، أو كافر أسلم، أو مجنون
أفاق، أو امرأة كانت حائضاً فطهرت، فهؤلاء من صلى منهم حينذاك وكان
الوقت مثلاً قبل شروق الشمس بما يسع ركعة، فتوضأ واستعد للصلاة،
ولم يبق على طلوع الشمس إلا ما يسع ركعة، فيصلي تلك الركعة ويكون
قد أدرك الصبح في وقتها، وكذلك الحائض إذا طهرت قبل أن تشرق الشمس
بما يسع ركعة، فعليها أن تصلي الصبح، وكذلك الصبي إذا بلغ في هذا
الوقت، والمجنون إذا أفاق في هذا الوقت، والكافر إذا أسلم في هذا
الوقت؛ فإننا نكلفه بالصلاة؛ لأنه أدرك جزءاً من الوقت، وهو الجزء
الضروري لأصحاب الأعذار. والمؤلف هنا ذكر أحاديث المواقيت العامة
لعامة الناس، أما أحاديث أهل الأعذار فسيأتي الإشارة إليها كما في
الحديث: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر،
ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تشرق الشمس فقد أدرك الظهر ).
وكذلك يستثنى من كراهة الصلاة في وقت الاستواء قضاء الفائتة،
وسيأتي التنبيه على الأوقات المنهي عن الصلاة فيها إن شاء الله.
وقت صلاة الظهر(1/260)
قوله رحمه الله: (وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله،
ما لم يحضر وقت العصر). أي: فإذا زالت الشمس عن كبد السماء دخل وقت
الظهر، وقوله: (وكان ظل الرجل كطوله): الرجل مجرد مثل، والمراد أن
يكون ظل كل شيء مثله، فإذا غرست عوداً أو غرست عصاً أو كان هناك
بيت، وكان الظل بمقدارها؛ فحينئذ دخل وقت الظهر. وبهذه المناسبة
يقولون في بعض الرياضيات: هذه المنارة كيف تعرف طولها؟ يقولون:
تستطيع أن تعرف طولها بعصا طولها متر واحد، فإذا جئت بين الظهر
والعصر وغرست العصا، وأخذت مقياسها من الأرض إلى أعلاها، وتأخذ
امتداد ظلها وطولها مثلاً متر، وطول ظلها على الأرض مترين مثلاً،
فتكون نسبة الظل إلى الشاخص اثنين إلى واحد، فتعرف بذلك طول
المنارة أو عمود الكهرباء أو النخلة الطويلة أو أي جرم ممتد، فتأخذ
ظله، فلو كان مثلاً مائة متر، وأنت عندك العصا وقد عرفت مقدار
ارتفاعها، وكان ظلها ضعفها، فإذا كان ظل العصا ضعفها فكذلك النخلة
أو المنارة يكون ظلها ضعفها، فإذا وجدت الظل مائتي متر فيكون
ارتفاعها مائة متر، أو وجدت ظلها مائة متر فيكون ارتفاعها خمسين
متراً فقط، وهكذا.
وقت صلاة العصر
قوله: (ووقت العصر ما لم تصفر الشمس). أي: وقت العصر بعد أن يصير
ظل الإنسان مثله ما لم تصفر الشمس، وهذا الوقت الاختياري، وهو وقت
الفضيلة، مع أن وقت العصر يمتد إلى ما قبل غروب الشمس بما يسع
ركعة، وهو الوقت الاضطراري. فالعصر له وقت فضيلة، ووقت اختيار،
ووقت اضطرار، فالوقت الاختياري بعد أن يصير ظل كل شيء مثله بعد ظل
الزوال. ومعنى قول الفقهاء (بعد ظل الزوال): أن للشيء ظل وقت
الاستواء، ويكون قدره قدماً أو قدمين، وهذا حينما تكون الشمس في
كبد السماء؛ لأن أشعة الشمس في فصل الشتاء لا تنزل متعامدة على
الأرض، بل تنزل بزاوية منحرفة، وهذا الانحراف يجعل للشيء ظلاً
عندما تكون الشمس في كبد السماء، ولكن في شدة الصيف، وعندما يستوي(1/261)
الليل والنهار؛ تكون أشعة الشمس متعامدة، فتنزل على رأس الشاخص فلا
يكون له ظل عند الاستواء. فهناك ظل للزوال يختلف باختلاف الفصول
وباختلاف مواقع الأرض من العالم، فننظر قدر ظل الزوال حينما زالت
الشمس، فنحسب الظل الموجود وقت الزوال، ثم نضيفه إلى الظل الموجود
وقت قياس الظل، فإذا صار ظل كل شيء مثله عدا ظل الزوال، فيكون هذا
آخر وقت الظهر. إذاً: حينما تكون الشمس في كبد السماء فإما أن يكون
للشيء ظل في الأرض موجود بالفعل، وذلك لعدم تعامد أشعة الشمس على
الأرض، وإما ألا يكون له ظل، وآخر وقت الظهر عندما يصير ظل كل شيء
مثله، فإن كان يوجد ظل للزوال أضيف إلى ظل الشاخص، وإن لم يكن له
ظل عند الاستواء فنحسب ظله فقط. يقول: (ما لم تصفر الشمس) فهذا آخر
وقت العصر الفضيل، ولماذا تكون الشمس مصفرة عند الشروق، وعند
الغروب تكون محمرة؟ يقولون: في أول خروجها تختلط أشعتها بالرطوبة
التي كانت في الليل، فتكوِّن هذه الرطوبة مع أشعة الشمس البيضاء
هذه الإضاءة، هكذا يعللون، ولا ندري بحقيقة ذلك، فإذا أخذت الشمس
ترتفع ذهبت رطوبة الجو، واكتمل ضوء الشمس وشعاعها، فصارت بيضاء
نقية. إذاً: وقت العصر من نهاية وقت الظهر ما لم تصفر الشمس، وهذا
هو الوقت الفضيل الذي ينبغي ألا تؤخر العصر عنه إلا لضرورة، وبعد
اصفرارها يدخل وقت الاضطرار، والذي يصلي العصر بعد اصفرارها يصليها
أداء باتفاق الجميع، فوقت العصر يمتد إلى ما قبل غروب الشمس بما
يسع ركعة، ولكن الأفضل أن تصلي في الوقت الفضيل، وهو ما لم تصفر
الشمس وتتغير، وقد جاء في الحديث: (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما
وتر ماله وأهله )، فالرجل يصلي العصر، ويدرك وقتها، ولما فاته
من وقتها الفضيل أفضل من أهله وماله. إذاً: وقت الفضيلة للعصر، من
بعد خروج وقت الظهر إلى أن تبدأ أشعة الشمس بالاصفرار، وما بعد
الاصفرار فهو وقت ضروري.
وقت صلاة المغرب(1/262)
قوله: (ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق): العصر ينتهي وقته بغروب
الشمس، ويقولون: كل صلاة يبدأ وقتها بنهاية ما قبلها إلا الظهر؛
لأن ما قبلها وهو الفجر ينتهي بطلوع الشمس، وما بين طلوع الشمس إلى
زوال الشمس ليس من وقت الصبح ولا من وقت الظهر، ولهذا يقولون: إن
أول الأوقات وقت الظهر، وأول ما نزل جبريل عليه السلام ليبين للنبي
صلى الله عليه وسلم أوقات الصلاة إنما كان في صلاة الظهر، ويقولون:
إن آدم أول ما نزل إلى الأرض صلى صلاة الظهر، فيقولون: إن الظهر هي
أول التوقيت، فأول الأوقات الظهر، يليها العصر، ثم في نهياتها
يليها المغرب، ثم في نهايتها يليها العشاء، ثم في نهايته يليه
الصبح، وما بين الصبح والظهر فترة طويلة بين الوقتين. ونذكر حديث
جبريل عليه السلام عندما بيَّن للرسول صلى الله عليه وسلم أوقات
الصلوات، وذلك بعد ليلة الإسراء والمعراج إذ فرضت الصلاة، وفرضها
الله على رسوله كفاحاً، ونعلم بالقصة عندما خففها من خمسين إلى
خمس، فلما نزل صلى الله عليه وسلم، لم يأته جبريل لصلاة الصبح،
ولكن جاءه لصلاة الظهر، وجاءه في يومين متواليين، فصلى به في اليوم
الأول الصلوات الخمس في أول وقتها، ثم من الغد صلى به الصلوات
الخمس في آخر وقتها إلا المغرب فإنه صلاها في اليومين في وقت واحد،
ولذا كان وقتها ضيقاً عند المالكية كما سيأتي في بيان وقتها. وثبت
أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة عن وقت
الصلاة، فقال: (صل معنا، فصلى من الغد الصلوات الخمس في أول
أوقاتها، ومن بعد الغد صلى الصلوات الخمس في آخر وقتها، ثم قال:
أين السائل عن أوقات الصلاة؟ فقال: هأنذا يا رسول الله! فقال: ما
بين هذين وقت ). وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الصلاة كتاب
موقوت، وأشار القرآن إلى أوقات الصلاة كما في قوله تعالى: أًقِمِ
الصَلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ
الْفَجْرِ [الإسراء:78]،(1/263)
وجاءت السنة وبيّنت وفصلت الأوقات، وبيّن صلى الله عليه وسلم أول
الوقت وآخره، وأخبر أن أفضل الأعمال إيمان بالله ثم الصلاة في أول
وقتها. فالمغرب يمتد وقته ما لم يغب الشفق، ولكن الأفضل في المغرب
أن يبادر به، وعند المالكية أن وقت المغرب لا يمتد إلى الشفق إلا
عند الضرورة، وعندهم أن وقتها يخرج بالأذان والإقامة وصلاة ركعتين
وصلاة الفريضة وصلاة ركعتين، وبهذا ينتهي وقت المغرب الاختياري؛
لأن جبريل صلى برسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب في اليومين في
وقت واحد، والرسول صلى الله عليه وسلم لما بيّن للأعرابي الأوقات
صلى المغرب أيضاً في وقت واحد، وفي بعض الروايات أنه أخره إلى غياب
الشفق وقال: (ما بين هذين وقت ). إذاً: السنة بينت أوقات
الصلاة، وفي هذا الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (والمغرب ما لم
يغب الشفق)، والشفق عند الجمهور أنه الحمرة التي تكون عند غروب
الشمس، وهي كالصفرة التي تكون قبيل طلوع الشمس، وكلها من آثار أشعة
الشمس، فالاصفرار قبل طلوع الشمس، فأشعة الشمس تسبق إلينا قبل أن
تبرز الشمس، والشفق هو: بقايا أشعة الشمس بعد أن غربت الشمس. إذاً:
الشفق الحمرة، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن الشفق هو:
البياض، والبياض يأتي بعد الحمرة، وبعض المفسرين والعلماء قال: لقد
رقبت الشفق الأبيض، فإذا به قد يبقى إلى نصف الليل. إذاً: الشفق هو
الحمرة، وسيأتي بيان دليله.
وقت صلاة العشاء
قوله: (ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط): وقت صلاة العشاء
يبتدئ من غياب الشفق، ولكن الأفضل تأخيرها مثل الظهر في شدة الحر،
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن
شدة الحر من فيح جهنم ). وأفضل الأعمال بعد الإيمان بالله
الصلاة في أول وقتها، كما جاء في السنة إلا الظهر في شدة الحر فإنه
يبرد بها، وإلا العشاء فالأفضل في وقتها التأخير، ودليله حديث أنه(1/264)
أخرها ذات ليلة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام أخر العشاء يوماً
ثم خرج وقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي)، فكان عليه الصلاة
والسلام إذا رآهم اجتمعوا عجل بالعشاء، وإذا رآهم تأخروا أخرها،
لينتظر المتأخرين ليدركوا الصلاة معه. إذاً: وقت العشاء يبدأ من
ذهاب الشفق الأحمر، ولكن الأفضل تأخيرها كما جاء في الحديث: (إلى
نصف الليل الأوسط ). وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم أخّر
العشاء يوماً، وأعتم بها، حتى كانت تخفق رءوسهم من النعاس، ثم
خرجوا صلوا معه ولم يتوضئوا كما في حديث ابن عباس ، وتقدم
إيراده في نواقض الوضوء، في مسألة النوم هل هو ناقض أو مظنة للنقض.
فهم كانوا يجلسون في المسجد بعد المغرب، وينتظرون العشاء، وكان
يطول الوقت بهم حتى تخفق رءوسهم من النعاس، وفرق بين النعاس وبين
النوم، فخرج عليهم وهم في مجالسهم فقال: (ليس على وجه الأرض غيركم
يعبد الله، وإنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي )، فهو عليه
الصلاة والسلام أخر العشاء أحياناً لبيان الأفضلية، وهديه عدم
التأخير الكثير للعشاء، وهذا هو الحكم العام.
وقت صلاة الصبح
قوله: (ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر مالم تطلع الشمس). وقت صلاة
الصبح من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، والفجر فجران كما قال صلى
الله علي وسلم: (الفجر فجران: فجر يلوح في الأفق كذنب السرحان -أي:
مرتفع عمودي مثل ذنب الذئب- وفجر ينتشر -كجناحي الطير- يمتد في
الأفق )، فالفجر الأول لا يُحل الصلاة، ولا يُحرم الطعام، وهو
لحظات ويختفي، والفجر الثاني هو الذي يحل الصلاة، ويحرم الطعام على
الصائم. قال الفخر الرازي رحمه الله في تفسيره: الفجر الأول
فيه آية من أعظم آيات القدرة الإلهية، وذلك أن الفجر الثاني مسبب
عن اقتراب الشمس، فسبقت أشعتها حتى انفجر ضوء الفجر من ظلام الليل،
فطلوع الفجر الصادق هو نهاية الليل، وهو أثر من آثار حركة الشمس
وقربها منا، والشفق هو: بقايا حركة الشمس وذهابها عنا، فالفجر(1/265)
الثاني والشفق أثران من آثار الشمس، وهذا معقول في السببية، لكن
الفجر الأول نور يمتد في الأفق، ومن أين يأتي هذا النور؟ هل هناك
كوكب أضاء تلك اللحظة حتى ظهر هذا الفجر، ثم ذهب ذلك الكوكب؟ لا
يوجد! وهل هو من القمر؟ لا يوجد قمر! وهل هو أثر من الشمس؟ لكن
الشمس ما زالت بعيدة! قال: وهذا دليل على قدرة المولى سبحانه بأن
يوجد المسبب بدون سبب، وليس السبب إلا أمراً معقولاً بالنسبة
إلينا، والله سبحانه قادر على أن يوجد الشيء بلا أسباب، بل بمحض
الإرادة والقدرة الإلهية، فليس هناك شمس، وهذا أثرها! ونحن نقرأ في
أحوال الجنة إِنَّا
أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ
أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:35-37]،
فالحور العين اللاتي في الجنة خلقهن الله من غير أبوين، فهن لسن من
ذرية آدم وحواء، وإنما أنشأهن الله إنشاء من غير أب ولا أم. البشر
من ذرية أبينا آدم وأمنا حواء كما قال الله: وَبَثَّ
مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]،
وخلق الله عيسى من مريم من غير أب، فهناك أسباب ومسببات، لكن الحور
العين في الجنة خلقت بلا أب ولا أم، والطيور التي في الجنة ليست من
نسل طيور، وكذلك اللحوم الموجودة، والفواكه الموجودة، لا نقول: إن
الفواكه من غرس في الجنة، وإن الطيور الموجودة هناك يكون لها بيض
وعشش ثم تفقس البيض عن طيور، بل ينشئها الله سبحانه وتعالى بدون أن
يتوقف وجودها على سبب مادي. فكذلك الفجر الأول هو دليل على قدرة
المولى سبحانه، ودليل على أنه قادر أن يوجد الشيء بدون مسببات
مادية، وأما الفجر الصادق الذي به تحل الصلاة، وبه يحرم الأكل
والشرب على الصائم. فيكون عند انتشار الضوء في آخر الليل، وذلك حين
يتبين الخيط الأبيض وهو الفجر، من الخيط الأسود وهو الليل. قال
المؤلف: [وله من حديث بريدة في العصر: (والشمس بيضاء نقية )].
في الحديث الأول قال: (ما لم تصفر الشمس)، وهنا ذكر مفهومه وهو:(1/266)
(والشمس بيضاء نقية )، أي: ما دخلتها الصفرة ولا الحمرة. قال
المؤلف: [ومن حديث أبي موسى : والشمس مرتفعة]. أي: لم تتضيف
للغروب، وقد ذكرنا أن دائرة الشمس من شروقها إلى غروبها ثماني عشرة
درجة، ووقت الزوال عند الدرجة التاسعة من الثماني عشرة، وما بين
كبد السماء إلى الغروب تسع درجات، فحينما تزول الشمس من كبد السماء
إلى جهة الغروب تكون أمامها تسع درجات، وبعد أربع درجات ونصف تكون
الشمس في نصف ربع الدائرة العلوي، فوقت العصر حين تكون الشمس في
نصف الربع الأعلى، وحينئذ تكون الشمس بيضاء نقية؛ لأنها لم تقترب
جداً من جهة الغروب، وعندما تقترب من جهة الغروب تحمر أو تصفر.
أفضل أوقات العصر والعشاء
صلاة العصر في أول وقتها
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى
عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، ثم يرجع
أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية )]. قال الراوي: كنا
نصلي العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم، أي: بالمدينة، فينقلب
أحدنا إلى رحله، وبعضهم كان رحله في العوالي، مثل أهل قباء، ومن
عتبة مسجد قباء إلى باب السلام ثلاثة كيلو كما هو معروف، فيمشي هذه
المسافة والشمس حية، بمعنى: لم يبدأ عليها التغير؛ لأن التغير
بداية موتها أي: بداية غروبها، فمعنى قوله: والشمس حية، أي: على
حقيقتها وسلامتها من التغير، قياساً أو تشبيهاً بالتغير الذي يطرأ
على الإنسان بالمرض، ويؤدي به إلى الموت، والشمس حية أي: نقية قوية
في ضوئها وحرارتها.
استحباب تأخير العشاء
قال: [ (وكان يستحب أن يؤخر من العشاء ) ]. أي: وكان صلى الله
عليه وسلم يستحب -وليس بواجب- أن يؤخر من العشاء، ولكن إذا كان
المسجد له جماعة من المصلين ينتابونه من أماكن مختلفة، فينبغي على
الإمام ألا يشق عليهم، إلا إذا كانوا أهل حي معين، وكانوا أفراداً
مخصوصين، مثل أن يكونوا في بادية أو في منطقة أهلها قد اتفقوا فيما(1/267)
بينهم وتراضوا على أن يؤخروا العشاء؛ فلا مانع من ذلك؛ لأنه من
حقهم، وقد رضوا بأن تؤخر العشاء. ولكن المساجد العامة مثل مسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن، فإنه ينتابه الناس من الآفاق،
وربما تأتيه النسوة وقد تركن الأطفال في البيوت، ووراءهن أعمال
كثيرة من تحضير العشاء وغير ذلك، فلا ينبغي تأخيرها حينئذٍ، إنما
يستحب تأخيرها لمن كان وحده ولا يتعلق به حق الآخر، أو لمن كانوا
جماعة وتواطئوا على ذلك، فلا مانع من أن يؤخروها، إذا حصل الاتفاق
بينهم. أما المساجد العامة التي يأتيها عامة الناس وخواصهم،
ويأتيها النساء والرجال، فلا ينبغي تأخيرها، بل تقديمها أول الوقت
أنسب وأرفق لمصلحة العباد.
كراهة النوم قبل العشاء والحديث بعدها
قال: [(وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها )]. كان يكره النوم
قبلها؛ أي: ما بين المغرب والعشاء، ويقولون: الصلاة في هذا الوقت
هي صلاة الأوابين، وبعضهم يقول: صلاة الأوابين هي صلاة الضحى حين
ترمض الفصال، أي: يشتد حر الرمل على الفصيل الصغير، فلا يستطيع أن
يتحملها فيبرك. فيكره النوم قبل العشاء؛ لأنه قد يمتد به النوم إلى
أن يطلع الفجر فتفوته العشاء، أو ينتبه في ثلث الليل الأخير، وهذا
تأخير عن وقتها الفضيل، فيصليها في وقت الضرورة. وكان يكره الحديث
بعدها؛ لأن الحديث بعدها يطيل السهر، وإطالة السهر تقلل النوم،
وإذا حصل ذلك استمر به النوم حتى طلوع الفجر أو طلوع الشمس، فدفعاً
للمضرة كره النوم قبلها حفاظاً على العشاء، والحديث بعدها حفاظاً
على الصبح حتى لا يغلبه النوم. وعلى أن يرتب وقته بالليل، ليضمن
حفظ صلاته، فلو كان الإنسان متعباً مرهقاً ولم يجد فرصة للنوم إلا
بعد المغرب، وأراد أن يغفو غفوة أو يستلقي أو يستريح، فعليه أن
ينبه أهله أن يوقظوه عند أذان العشاء، وبالنسبة للكلام بعد العشاء،
يقولون إنه لا ينبغي الكلام بعد العشاء إلا مع الضيف، والزوج مع(1/268)
زوجه، وطالب العلم في مدارسته، وأشياء معينة محدودة، وما عدا ذلك
فيكره حفاظاً على الفجر.
مشروعية اتخاذ منبه ونحوه للإيقاظ للصلاة
يجب أن ننتبه إلى ما نحن عليه اليوم، خصوصاً مع هذه الأجهزة
المخترعة الجديدة التي لم تكن من قبل، وتستغرق منا أكثر من نصف
الليل، أو إلى ثلث الليل، والناس حولها وهي تشغلهم وتلهيهم، فإذا
ذهب أحدهم لينام لا يوقظه إلا حر الشمس، فهذا تفريط منه، لكن إذا
اضطر الإنسان للسهر كأن جاءت مناسبة أو كان عنده مشكلة سهر لها، أو
عنده ضيوف أو كان عنده مريض سهر عليه؛ فينبغي أن يعمل الاحتياط من
أجل صلاة الصبح، مثل الساعات المنبهة التي فيها الجرس أو ساعة
التلفون أو أي وسيلة من الوسائل التي توقظه لصلاة الصبح. وعمل هذه
الاحتياطات من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رجع مرة من بعض
الغزوات، وعرس بآخر الليل في بعض الأودية، وقال: (من يكلأ لنا
الصبح؟ ) فقال بلال : أنا يا رسول الله! والمعنى: من يحرسه
ويوقظنا حينما يرى الفجر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علم بأنهم في
عودة من غزوة بعد سفر طويل، والتعب موجود، فيخشى أن يغلب عليهم
النوم ولا يستيقظون من شدة التعب حتى يطلع الفجر ويخرج الوقت،
فاتخذ وسيلة لحفظ الوقت بحسب ظروفهم. (فجلس بلال وقام يصلي ما
شاء الله، ثم أناخ راحلته، وأسند ظهره عليها ووجهه إلى المشرق ليرى
الفجر، فما كان منه إلا أن نام، وناموا جميعاً، وما أيقظهم إلا حر
الشمس، ففزعوا وكانوا يتحاشون أن يوقظوا رسول الله عليه الصلاة
والسلام إذا كان نائماً، مخافة أن يكون في حالة من تلقي الوحي، لكن
عمر رضي الله تعالى عنه أخذ يكبر بصوت مرتفع حتى استيقظ رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى أن الشمس قد ارتفعت قال:
اركبوا، حتى خرجوا من ذلك الوادي، ثم نزلوا فتوضئو وأمر بلالاً فنادى للصلاة ثم أقام فصلى بهم، ولما رأى استياء الناس قال: إن(1/269)
بهذا الوادي شيطاناً، فمن نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها حين
يذكرها، ثم قال لأبي بكر : يا أبا بكر ! إن بلالاً قام يصلي من الليل ما شاء الله ثم جاءه الشيطان يهدهده كما تهدهد
الأم طفلها حتى نام، ثم قال لبلال : أين الصبح يا بلال ؟!
قال: أخذ بروحي الذي أخذ بأرواحكم -أي: أنا واحد مثلكم- ثم قال:
ماذا جرى عليك؟ فذكر له مثل ما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام
لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال أبو بكر : أشهد أنك
رسول الله ). الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما علم أنهم
مظنة أن يغلبهم النوم، لما لحقهم من مشقة السفر وعودتهم من الغزو
وتأخرهم في النوم؛ أوكل من يوقظهم لصلاة الفجر، ولكن الله أراد
شيئاً آخر؛ أراد أن يوقع ذلك بهم في حضرة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليبين لنا ماذا نفعل إن وقع لنا مثل ذلك، فهل نصليها بعد
وقتها؟ وهل نجتاز ذلك المكان لكونه فيه شيطان؟ إذاً: الشياطين في
بيوت الناس كلهم. قال ابن عبد البر : الإخبار بأن الوادي فيه
شيطان أمر خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله أخبره بذلك،
أما نحن فقد يكون الشيطان معنا ولا ندري، وليس بلازم على من وقع
عليه مثل ذلك في مكان أن يخرج منه، بل يصلي الصلاة حينما ذكرها أو
قام عنها.
وجوب القضاء على من ترك الصلاة عمداً
هذا، وقد أطال ابن عبد البر البحث في الاستذكار في حوالى عشر
صفحات في إقامة الدليل على أنه من كان في ذمته صلوات فائتة عليه،
فيجب عليه إلزام أن يؤديها، وشنّع على ابن حزم في مخالفته في
هذا، وقال: قد خالف مذهبه ومذهب شيخه داود ، فإن من علماء
الظاهرية من ذكر أن من اشتغل بأمر ففاتته الصلاة فعليه قضاؤها،
وكذلك الحائض في بعض الحالات، وذكر حالات أوجب على أصحابها أن
يقضوا ما فاتهم. قال: وهؤلاء تركوها عمداً، فعليهم القضاء، فقول
ابن حزم : لا قضاء على من تركها عمداً مخالف لإجماع المسلمين،(1/270)
وقد خالف حتى مذهب شيخه بالذات، فلم يوافقه أي أحد، ثم قال: وادعى
أن بعض السلف يوافقه على رأيه، وهذا خطأ، ولا يصح عن أحد من
المسلمين ذلك، لا من الصحابة ولا من التابعين، فلا نعلم أحداً منهم
قال: إن من ترك الصلاة عمداً لا يقضيها. وقد ذكر غير ابن عبد البر عن ابن عباس أنه سئل عمن ترك صلوات هل يقضيها أم لا؟ فقال:
سبحان الله! النائم والناسي -وهما معذوران- يطالبان بقضائها، وهذا
العاصي الآثم لا يطالب بالقضاء! أي: فالعقل لا يستسيغ ذلك. والله
تعالى أعلم.
134264 ( كتاب الصلاة - باب المواقيت [2] )
( كتاب الصلاة - باب المواقيت [2] )
عناصر الموضوع
1 الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
2 تعارض حديث النهي عن الصلاة بعد العصر وحديث الأمر بتحية المسجد
كتاب الصلاة - باب المواقيت [3]
نهى النبي صلى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في سبعة أوقات، وكان
النهي في بعض هذه الأوقات أشد من البعض الآخر، ومع ذلك فقد أمر عليه
الصلاة والسلام بصلاة تحية المسجد عموماً، فتعارض الأمر والنهي في حق
من دخل المسجد في وقت من أوقات الكراهة، واختلف العلماء في الجمع بين
الحديثين اختلافاً كبيراً.
الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
قال المؤلف: [ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بعد الصبح حتى
تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس ) متفق عليه،
ولفظ مسلم : (لا صلاة بعد صلاة الفجر ) ]. هذان الوقتان من
عدة أوقات نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها، وهي سبعة
أوقات: الوقت الأول: ما بين الأذان والإقامة في صلاة الفجر، فلا
يجوز للإنسان أن ينشئ صلاة من ذلك الوقت إلا ركعتي سنة الفجر، فلو
أن إنساناً دخل المسجد بعد أذان الفجر، فإنه يصلي ركعتين سنة
الصبح، ولا يحق له بعد صلاة هاتين الركعتين أن ينشئ تطوعاً حتى لو
كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي الصلاة فيه بألف(1/271)
صلاة، حتى ولو كان الإمام سيؤخر الإقامة مدة طويلة، فلا يقل أحد:
أصلي ركعتين ركعتين إلى أن تقام الصلاة، فإن ذلك لا يجوز. إذاً:
الوقت الأول من أوقات النهي: ما بين الأذان والإقامة في الفجر إلا
ركعتي الفجر أي: سنة الصبح. الوقت الثاني: بعد الفراغ من صلاة
الصبح إلى أول طلوع الشمس، فلا يصلي في هذا الوقت نافلة، إلا من
فاتته سنة الفجر؛ فمن دخل المسجد والإمام يصلي الفجر، فإنه يدخل مع
الإمام في الصلاة، ولا يفعل كما يفعل بعض الناس، فإن البعض إذا دخل
والإمام يصلي أخذ وصلى سنة الصبح، ثم يدرك الإمام في الفريضة، وهذا
هو ما يقول به بعض المذاهب، ويقولون: يجوز ذلك حتى لو فاتته ركعة
أو جزء من الركعة الثانية، وهذا مخالف للسنة، فإذا دخل والإمام في
الصلاة فإنه يدخل معه في الفريضة، وبعد أن يسلم الإمام يصلي السنة
قبل أن تطلع الشمس. فمن لم يصل سنة الصبح صلاها إن شاء بعد الصلاة
قبل طلوع الشمس، وإن شاء أخرها إلى بعد طلوع الشمس. إذاً: الوقت
الثاني بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس إلا سنة الفجر لمن لم يدركها
قبل الصلاة. الوقت الثالث: حينما يبدو طرف الشمس الأعلى عند
الشروق، فيمسك عن الصلاة حتى يكتمل القرص ويرتفع قدر رمح. بمعنى:
أنك ترى قرص الشمس مرتفعاً عن وجه الأرض بمقدار رمح، فيكون بين قرص
الشمس والأرض قدر الرمح، وهو بمقدار قامة إنسان تقريباً، فإذا طلعت
الشمس وارتفعت عن وجه الأرض قدر رمح فقد زالت الكراهة. الوقت
الرابع: حينما تستوي الشمس في كبد السماء حتى تزول، وبعضهم يقول:
إلا يوم الجمعة، فإنه تجوز الصلاة في هذا الوقت، سواء كانت الفريضة
أو النافلة، والفريضة على رأي الجمهور لا تصح إلا بعد تحقق الزوال،
وقد حقق الإمام مالك رحمه الله ذلك في الموطأ بما لا مزيد
عليه، ولكنهم أجازوا صلاة تحية المسجد للقادم يوم الجمعة سواء قبل
أن يصعد الإمام أو بعد أن يصعد على المنبر ليخطب، فإذا دخل المسجد(1/272)
فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، فإذا دخل عند استواء الشمس في كبد
السماء يوم الجمعة فله أن يصلي، وأما عدا يوم الجمعة فلا. الوقت
الخامس: بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس. الوقت السادس: عند تضيف
الشمس للغروب، ونزول قرنها الأدنى عن النظر، فينتظر حتى يتكامل
غروب قرص الشمس. الوقت السابع: لمن كان جالساً في المسجد يوم
الجمعة، وجاء الإمام وصعد المنبر، فتمنع الصلاة حينئذٍ على من كان
جالساً قبل صعود الإمام، أما القادم من الخارج بعد صعود الإمام
أثناء الخطبة؛ فإن الأئمة الثلاثة يجيزون له الصلاة ومالك رحمه
الله يكره له ذلك. والأمر دائر بين ترجيح الإصغاء والإنصات للخطيب
أو الاشتغال بصلاة تحية المسجد، وقد جاء في النص أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يخطب فرأى رجلاً دخل فجلس، فقطع الخطبة وقال له:
(أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم، فاركعهما، وتجوز فيهما ) أي:
اركعهما أداء لحق المسجد، وتجوز فيهما حتى لا تفوتك الخطبة. فهذه
هي الأوقات السبعة المنهي عن الصلاة فيها، ولكن أشدها نهياً
وأوضحها هو ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وعند الغروب، وما
بعد صلاة الصبح إلى شروق الشمس وأثناء الشروق، وكذلك حينما تكون
الشمس في كبد السماء.
حكم صلاة تحية المسجد في أوقات النهي
وهنا يبحث عامة علماء الحديث قضية من أشد القضايا إشكالاً، وهي
تعارض حديثين، هما حديث: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس )،
وحديث: (إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )،
فتعارض النصان في الظاهر. ففي الحديث الأول قال: (لا) وهي نافية،
(صلاة) وهي نكرة عامة تشمل جميع الصلوات (بعد العصر) وهذا خاص في
الزمن، فهذا الحديث عام في الصلوات، وخاص في الزمن أي: فيما بين
العصر إلى الغروب. وفي الحديث الثاني -وكلاهما صحيح ثابت كالجبل-
قال: (إذا أتى أحدكم المسجد) وقوله: (أتى) عام في الزمن، (فلا يجلس
حتى يصلي ركعتين)، وهذا خاص في الصلاة، ولذا يقول العلماء: بين(1/273)
الحديثين عموم وخصوص من وجه، فما كان عاماً في الحديث الأول كان
خاصاً في الثاني، وما كان عاماً في الثاني كان خاصاً في الأول،
وهذه من أدق المواضيع، وأرجو أن ييسرها الله سبحانه وتعالى.
والقاعدة عند علماء الحديث: لو جاء حديث عام من وجه، وجاء حديث
خاص؛ حملنا الخاص على العام، وخصصناه بهذا الحديث المخصص له، كما
جاء قوله: (أن في أربعين شاة شاة) مطلق، وجاء أن في سائمة الغنم
الزكاة، وسائمة وصف خاص، فنقيد الإطلاق في قوله: (في أربعين شاة
شاة) بالسوم الموجود في الحديث الثاني، فأصبح المعنى: في أربعين
شاة سائمة زكاة، فهنا حديث عام وحديث خاص، فحملنا العام على الخاص،
وخصصناه بما جاء في الحديث الثاني، وبهذا تجتمع النصوص. وهنا حديث:
(لا صلاة بعد العصر)، الصلاة عامة، والوقت خاص، وإذا جئنا إلى حديث
تحية المسجد فالوقت عام، فهل نخصص عموم الوقت في الإتيان إلى
المسجد بخصوصه بعد الصلاة؟ فنقول: إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس
حتى يصلي ركعتين إلا بعد العصر، فنكون قد خصصنا عموم الإتيان في
الزمن بخصوص الوقت في الحديث الآخر، ويكون هذا جمعاً صحيحاً. لكن
من العلماء من يقول: (لا صلاة بعد العصر) إلا تحية المسجد، ويأتي
بالخصوص في تحية المسجد، ويخصص به عموم النكرة في قوله: (لا صلاة).
إذاًَ: كل من الحديثين مخصص للثاني، وكل منهما قابل عمومه للتخصيص
بالمخصص الذي في الآخر، ولكن أي الحديثين نخصص به الآخر؟ هذا هو
محل النزاع. يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: إذا لم يمكن تخصيص
عموم أحدهما بخصوص الآخر، فليس أحدهما أولى من الآخر، فينبغي أن
نطلب مخصصاً من الخارج، قال: فرجح الجمهور تخصيص الصلاة وأنها
ممنوعة بعد العصر بحديث آخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء
فاجتنبوه )، قالوا: فجانب النهي أقوى وألزم في الالتزام به من(1/274)
جانب الأمر، فقوله: (لا صلاة بعد العصر) نهي، وقوله: (إذا أتى
أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )، مضمونه الأمر
بالصلاة، فإذا تعارض الأمر والنهي قدم النهي، والأمر بتحية المسجد
سنة بالإجماع، والنهي أقل ما يكون فيه الكراهية إن لم يكن التحريم،
فلأن نجتنب مكروهاً خير من أن نفعل مندوباً. ومن هنا رجح ابن دقيق
العيد أن حديث: (لا صلاة بعد العصر) عام في الصلوات كلها حتى
تحية المسجد، ولا يخص من الصلوات إلا إذا جاء مخصص بصلاة معينة،
كحديث: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها )، فلو
أن رجلاً صلى العصر، وقبل أن تغرب الشمس تذكر أنه لم يصل الظهر،
فعليه أن يصليها حين ذكرها، ويخص من النهي أيضاً الصلاة على
الجنازة وصلاة ركعتي الطواف، وقد جاء في الحديث: (يا بني عبد مناف!
لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار )،
فقوله صلى الله عليه وسلم: (أية ساعة) مراعاة للنهي عن الصلاة بعد
العصر، فكأنه يقول: في أية ساعة ولو من الساعات المنهي عن الصلاة
فيها. فحديث: (لا صلاة بعد العصر) يعم كل صلاة بعد العصر، فأخذ
الجمهور بعمومه إلا ما خصه الدليل. والشافعي رحمه الله خصص
النهي بالصلاة المطلقة التي ليس لها سبب شرعي، أما الجمهور فعمموا
قوله: (لا صلاة بعد العصر) مطلقاً، وعمر رضي الله تعالى عنه
ثبت عنه أنه رأى رجلاً يصلي بعد العصر في المسجد النبوي، فضربه
وقال: أتصلي بعد العصر؟! وهناك من يقول: تجوز الصلاة ذات السبب بعد
العصر إذا لم يتحر اصفرار الشمس، لحديث ابن عمر : (لا تحروا
اصفرار الشمس بالصلاة )، فإذا صلى بعد العصر في أول الوقت صلاة
ذات سبب فذلك جائز؛ لأن الشمس ما زالت حية بيضاء نقية. ومعنى
الصلاة ذات السبب: أي: سبب موافق في الزمن، أو سبب سابق، أو سبب
لاحق، فالسبب السابق هو دخول المسجد، فهو سابق عن الصلاة، والسبب(1/275)
اللاحق هو الصلاة قبل الإحرام بالعمرة أو الحج؛ لأنك تصلي ثم تحرم،
والسبب الملازم الموافق هو صلاة الكسوف؛ لأن صلاة الكسوف تكون وقت
كسوفها، لا يتقدمها ولا يتأخرها، وعند الشافعية: أن صلاة ذوات
الأسباب المقارنة والسابقة تجوز وقت النهي، أما ذات السبب اللاحق
فلا تؤدى وقت النهي، ولهذا لا يصلون سنة الإحرام وقت النهي؛ لأن
الإحرام يأتي بعدها، والله تعالى أعلم.
الثلاثة الأوقات المنهي عن الصلاة ودفن الموتى فيها
قال المؤلف: [ وله عن عقبة بن عامر : ثلاث ساعات كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا:
حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول
الشمس، وحين تتضيف الشمس للغروب ]. هذا الحديث مع أحاديث الباب
تعتبر من باب تعارض الحديث، وللعلماء فيها مذاهب شتى، والنصان
اللذان سمعناهما نستفيد منهما أن الأوقات المنهي عنها متفاوته في
الكراهية. وقوله: (ثلاث ساعات كان صلى الله عليه وسلم ينهانا أن
نصلي فيهن، وأن نقبر موتانا) أول ساعة من هذه الساعات الثلاث هي:
حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، ثم: حين يقوم قائم الظهيرة. وقيام
قائم الظهيرة هو عند استواء الشمس في كبد السماء، وكما يقول علماء
الهندسة: تكون في زاوية قائمة، أي: ليست حادة ولا منفرجة، وقد جاء
في بعض النصوص أنه حينما تكون الشمس متعامدة على رأسك كالرمح، أي
تنزل أشعة الشمس مستقيمة من السماء إلى الأرض. وقوله: (حتى تزول عن
كبد السماء): معرفة زوالها لا نستطيع تحديده بالنظر إلى الشمس
بذاتها، ولكن بالنظر إلى الظل؛ لأن الظل معاكس لوجود الشمس، فحينما
تكون الشمس في المشرق يكون الظل إلى المغرب، وحينما تتحول الشمس من
كبد السماء من نقطة الصفر إلى الغرب يتحول الظل إلى الشرق، فنحن
نعرف متى تزول الشمس عن كبد السماء ومتى لا تزول بالنظر إلى الظل
في الأرض. وقوله: (وحين تتضيف الشمس للغروب) أي: حتى تغرب. هذه(1/276)
الأوقات الثلاثة هي من الأوقات السبعة المنهي عن الصلاة فيها؛
ولكنها تميزت عن بقية الأوقات بالنهي عن الصلاة مع إضافة النهي عن
قبر الموتى، ولهذا كانت هذه الأوقات الثلاثة أخص وأشد من غيرها.
أما وقت ابتداء ظهور حاجب الشمس، أي: قرص الشمس الأعلى، إلى أن
يكتمل ظهور قرص الشمس على وجه الأرض، ويرتفع عن سطح الأرض قدر رمح،
وهو قدر قامة الإنسان تقريباً؛ فهذا الوقت يتفق الجميع بدون
استثناء أنه لا تصح الصلاة فيه إلا وقت الضرورة الذي تقدم في حديث:
(من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح )،
فهو سيصلي الركعة الثانية أثناء طلوع قرص الشمس حتى ترتفع، وهذا هو
الوقت الذي نهينا عن الصلاة فيه؛ لكن الصلاة في هذه الحالة ليست
ابتداء ولا مستقلة، وإنما هي تابعة لدخوله في الصلاة قبل أن يبدأ
قرص الشمس بالظهور. وذكر ابن عبد البر عن بعض الفقهاء أنه يمنع
من صلاة الصبح في ذلك الوقت، لكن يحمل هذا المنع على ما إذا بدأ
الصلاة عند ظهور قرص الشمس، أما إذا بدأ الصلاة قبل أن يظهر قرص
الشمس فإنه يكمل صلاته، ولا يضره أن تطلع عليه الشمس وهو في
الصلاة. أما الصلاة المطلقة عند بزوغ الشمس أو تضيفها للغروب، فلا
يجوز باتفاق الجميع أن ينشئ صلاة في تلك الحالة إلا إذا كان سيصلي
الصبح الفائتة أو العصر الفائتة.
حكم التنفل وقت الزوال يوم الجمعة وغيرها
أما الصلاة عند الزوال فالجمهور على أنه ممنوع من الصلاة فيه حتى
تزول، ويروي بعض المالكية عن مالك أنه لا يمنع من الصلاة في
ذلك الوقت ولا يحبها، أي: لا يمنع من صلى في ذلك، ولا يحب أن يصلي
الإنسان في ذلك الوقت. إذاً: مالك رحمه الله يوافق الجمهور في
عدم استحبابها، ولكنه يخالفهم في عدم منعه منها، ويستدل المالكية
لقول مالك بحديث التبكير إلى الجمعة، وفيه قوله صلى الله عليه
وسلم: (وصلى ما تيسر له حتى يخرج الإمام )، قالوا: والإمام لا(1/277)
يصعد المنبر إلا بعد دخول وقت الجمعة، ووقت الجمعة لا يكون إلا بعد
زوال الشمس، فالقادم سيصلي حينما تكون الشمس في كبد السماء.
والجمهور يقولون: نعم، في يوم الجمعة نوافق المالكية، فننهى عن
الصلاة عندما يقوم قائم الظهيرة ما عدا يوم الجمعة؛ لأنه جاء عنه
صلى الله عليه وسلم أن القادم يقدم فيصلي يوم الجمعة حتى يخرج
الإمام، ودليله حديث: (وصلى ما تيسر له )، قالوا: فيوم الجمعة
مخصوص من بقية الأيام، ومالك يقول: ما دمتم خصصتم يوم الجمعة
فبقية الأيام سواء. إذاً: الأوقات الثلاثة فيها وقتان يتفق الجمهور
على أنه لا صلاة فيهما إلا في تلك الحالة الضرورية لمن أدرك من
الصبح ركعة وسيتم الصلاة عند ظهور الشمس، أو من أدرك من العصر ركعة
وسيتم العصر عند غروب الشمس، وما عدا ذلك فلا. بقي حينما تكون
الشمس في كبد السماء، فمالك لا يمنع ولا يحب، والجمهور
يوافقون مالكاً في يوم الجمعة خاصة؛ ويخالفونه فيما عداها.
ويروى عن مالك أنه قال: لم أزل أرى أهل العلم في بلادنا يصلون
وقت الزوال، ويحمل هذا على ما جاءت به النصوص الأخرى بأنه في يوم
الجمعة فقط.
حكم التنفل في المسجد الحرام في أوقات النهي
ويستثنى من النهي الصلاة بعد العصر في مكة، لعموم الحديث: (يا بني
عبد مناف! لا تمنعن أحداً طاف بهذا البيت وصلى في أية ساعة شاء من
ليل أو نهار )، والجمهور قالوا: يجوز الطواف في كل لحظة، وتجوز
ركعتا الطواف في كل لحظة، وقوله: (في أية ساعة شاء)، هذه الساعة
تشمل وقت الغروب، ووقت الشروق، ووقت قيام قائم الظهيرة. ولكن
مالكاً رحمه الله يرى أنه من طاف بعد صلاة الصبح فلا يصلي
ركعتي الطواف حتى تطلع الشمس، ومن طاف بعد العصر فيؤخر ركعتي
الطواف إلى ما بعد غروب الشمس، والجمهور يجوزون ركعتي الطواف بعد
الصبح وبعد العصر وعند الشروق وعند الغروب وعند قيام قائم الظهيرة،
وبعض هذه الأوقات قصيرة وضيقة، لكن الإشكال في الأوقات الطويلة
الواسعة.(1/278)
تعارض حديث النهي عن الصلاة بعد العصر وحديث الأمر بتحية المسجد
حديث: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى
تطلع الشمس )، يعارضه في الظاهر حديث: (إذا دخل أحدكم المسجد
فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ). فلو افترضنا أن إنساناً دخل المسجد
فوجد لوحتين مكتوب في إحداهما: لا تجلس حتى تصلي، وفي الأخرى: لا
صلاة بعد العصر، فإذا جاء في الضحى فإنه يعمل باللوحة الأولى التي
فيها: لا تجلس حتى تصلي ركعتين، وهل اللوحة الثانية تعترضه؟ لا
تعترضه؛ لأنه دخل وقت الضحى، والنهي إنما هو عن الصلاة بعد العصر،
لا عن الصلاة وقت الضحى، فوجد الطلب يتوجه إليه بألا تجلس حتى تصلي
ركعتين، فالطلب متوجه إليه بدون معارض، وكذلك الأمر لو دخل بعد
الظهر قبل صلاة العصر، أو دخل بعد المغرب، أو دخل بعد العشاء،
فسيجد طلب تحية المسجد قائماً، ولا يجد ما يعارضه. لكن لو دخل بعد
العصر، فسيجد اللوحة الأولى تطالبه بألا يجلس حتى يصلي؛ لأن قوله:
(إذا أتى أحدكم..) مطلق في كل وقت، فيشمل بعد الظهر وبعد المغرب
وبعد العصر، وسيجد اللوحة الثانية: (لا صلاة بعد العصر)، أي: حتى
تغرب الشمس، وقوله: (لا صلاة)، يشمل كل صلاة حتى تحية المسجد،
فماذا يفعل؟ هل يأخذ بحديث: (إذا أتى أحدكم..)؛ لأنه يشمل صلاة
تحية المسجد في كل الأوقات حتى بعد العصر، أو يعمل باللوحة الثانية
التي فيها: (لا صلاة بعد العصر)، أي: حتى صلاة تحية المسجد.
اختلاف الفقهاء في الجمع بين الحديثين
اختلف الأئمة رحمهم الله، فالشافعي رحمه الله يقول: قوله: (لا
صلاة) عام شامل لكل الصلوات، ولكنه يصرف إلى الصلوات التي لا سبب
لها، أما إذا كانت الصلاة لها سبب يقتضي إتيانها فليست داخلة في
النهي، وتكون مستثناة من عموم الصلاة، فهو رحمه الله خصص عموم
حديث: (لا صلاة)، واستثنى من هذا العموم ذوات الأسباب، فكأنه يقول:
لا نصلي بعد العصر إلا ذات السبب فنصليها لسببها. والجمهور يقولون:(1/279)
لا نصلي بعد العصر أي صلاة سواء كانت بسبب أو بغير سبب. لعلنا الآن
نستطيع أن نفهم وجه تعارض الحديثين، فحديث: (لا صلاة بعد العصر)
يشمل جميع الصلوات، فلا تصلى تحية المسجد بعد العصر، وهذا على رأي
الجمهور أن جميع الصلوات لا تصلى بعد العصر؛ لأن قوله: (لا صلاة
بعد العصر) نكرة عامة تشمل جميع الصلوات، فقالوا: جميع الصلوات
منهي عنها بعد العصر. و الشافعي قال: لا، فقوله: (لا صلاة)
يستثنى منه ذوات الأسباب مثل تحية المسجد، لقوله: (إذا أتى أحدكم
المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )، فالشافعي يقول:
الركعتان مستثنيتان من عموم النهي عن الصلاة بعد العصر، والجمهور
يقولون: عموم النهي عن الصلاة بعد العصر لا يستثنى منه تحية
المسجد. فمذهب الشافعي أن تحية المسجد تصلى بعد العصر؛ لأنها
ذات سبب، فيكون خصص عموم النهي بتحية المسجد، فقال: أستثني وأخص
تحية المسجد من عموم قوله: (لا صلاة) والجمهور قالوا: لا، نحن نخصص
عموم قوله: (إذا أتى )، فإن الإتيان عام في جميع الأوقات، لكن
نخصص من ذلك صلاة تحية المسجد بعد العصر، فتصلى في كل وقت إلا بعد
العصر. نكرر ذلك فنقول: الشافعي يقول: أنا أخصص عموم الصلاة
بتحية المسجد، فأصليها بعد العصر، وأنتم تقولون: لا صلاة بعد
العصر، فأقول لكم: استثنوا تحية المسجد بعد العصر، والجمهور يقولون
للشافعي : لا، نحن لا نستثني تحية المسجد من عموم النهي عن
الصلاة بعد العصر، فننهى عن تحية المسجد بعد العصر، وإذا كان الأمر
كذلك ودخل رجلان المسجد بعد العصر، فأحدهما مثلاً أخذ بمذهب
الشافعي ، فصلى تحية المسجد، والثاني على مذهب الجمهور فترك
صلاة تحية المسجد، فسيقول له الذي صلى: لماذا لم تصل؟ والذي لم يصل
سيقول له: وأنت لم صليت؟ فكل منهما عنده حديث فيه عموم وخصوص، فمن
تابع الجمهور سيقول: أنا أخصص عموم الوقت ببعد العصر، فحديث: (إذا
أتى أحدكم) عام في كل وقت، ولكن نخرج منه بعد العصر؛ للنهي عن(1/280)
الصلاة بعد العصر، والثاني سيقول له: يا أخي! قوله: (لا صلاة) عام
في كل الصلوات، لكن أنا أخصص عموم الصلاة بذوات الأسباب، فكل منهما
له وجه، ولا نستطيع أن نحكم على واحد منهما أنه صاحب الحق؛ لأن هذا
يقول: أنا أخصص الوقت، وهذا يقول: أنا أخصص عموم الصلاة، فكل منهما
له وجه، ولا يحق لهما أن يتخاصما؛ لأنهما متساويان في الحجة، فكل
منهما يخصص عموم ما عند الآخر بخصوص ما عنده، وليس أحدهما بأولى من
الآخر، فماذا نفعل؟
قول ابن دقيق العيد في طريقة الجمع بينهما
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ما دام كل من الطرفين عنده نص
يعمل به، ويخصص به عموم الآخر، وكل منهما له حق أن يخصص عموم
الآخر؛ لأن الحديثين صحيحان، فينبغي أن نطلب مرجحاً لأحد الحديثين
من الخارج، أي: اتركوا الحديثين في مكانهما، واتركوا اللوحتين
المعلقتين، وابحثوا عن مرجح لأحد الجانبين. فالشافعية قالوا: حديث:
(لا صلاة بعد العصر) لم يبق على عمومه، فقد خرجت منه بعض الأشياء،
فمن نام عن الصلاة أو نسيها، ثم تذكر الصلاة الفائتة بعد العصر
فإنه يصليها بعد العصر، فحديث: (لا صلاة بعد العصر) يستثنى منه
صلاة قضاء الفائتة عند الجميع، فهذا العموم بعد أن كان مائة في
المائة أصبح تسعين في المائة، وإذا طاف بالبيت بعد العصر ثم أراد
أن يصلي، فالجمهور يسمحون له أن يصلي ركعتي الطواف، وهذا أيضاً
يضعف العموم، فكأن العموم حزمة تراخت قليلاً. فقال الشافعية: إذا
كان عمومكم أخذ يخرج منه بعض الأفراد، فنحن أيضاً نخرج ذات السبب،
فيكون النهي متوجهاً للصلاة التي لا سبب لها، فلو أن إنساناً صلى
العصر وجلس في مصلاه، وبعد أن صلى العصر قام ليصلي فنقول له: لا
تصل؛ لأنها صلاة لا سبب لها، ونوافقكم في النهي عن تلك الصلاة؛
لأنها لا سبب لها، لكن التي لها سبب، والإنسان يطالب بأدائها، فنحن
نخرجها من عموم الوقت المنهي عن الصلاة فيه، كما أخرجتم أنتم بعض(1/281)
الصلوات الداخلة في عموم قوله: (لا صلاة) قال الجمهور: تلك الصلوات
التي خرجت من العموم خرجت بنص مستقل، وما خرج بنص مستقل لا يعترض
به على العموم؛ لأن قضاء الصلاة لمن نام عنها أو نسيها قد جاءت
مشروعيته في حديث: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها )،
فهذا النص أخرجها من العموم، وكذلك سنة ركعتي الطواف خرجت بنص
مستقل. وقد قال الشوكاني في بحث هذه القضية: إذا خرج بعض أفراد
العام من عمومه فإنه لا يقدح عمومه، فهذا عام، ولكن أخرّجنا منه
البعض بنص، فيبقى الباقي على عمومه، فلو قلت لشخص: هؤلاء عشرة
أشخاص، فأعط كل واحد منهم درهماً يوم السبت، ثم جئته يوم الجمعة
وقلت: لا تعط فلاناً وفلاناً، فمن العموم المتقدم تعطي كل واحد من
الثمانية الباقين درهماً درهماً، فهل بقي لهم حق في الدرهم أو
خرجوا من العموم؟ بقي لهم حق، ولفظ العموم باق عليهم، فهم داخلون
في العموم المتقدم، ولذا يقول الشوكاني : خروج بعض أفراد العام
لا يقدح في عمومه؛ لأن حكم العموم يبقى لمن بقي بعد الخاص الذي
أخرج. الشافعي رحمه الله يقول: إن ذوات الأسباب ليست داخلة في
النهي، والآخرون يقولون: إنها داخلة مع غيرها، ولا نخرج من هذا
العموم إلا ما أخرجه نص مستقل. ثم لا يزال التعارض قائماً؛ لأنه لو
خرج بعض الأفراد وبقي العام على عمومه، فالباقي من العموم متعارض
مع عموم الأمر بتحية المسجد، فنطلب دليلاً خارجياً لا من عند
الشافعية، ولا من عند الجمهور، وهو القاعدة المشهورة عند
الأصوليين: إذا تعارض أمر ونهي فإنه يقدم النهي. وابن عبد البر أتى بدليل عجيب قوى به حجة الجمهور، وهو قوله تعالى في صوم رمضان: فَمَنْ
كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]
فالأيام الأخر هذه هي ثلاثمائة وثلاثون يوماً، وهي ما عدا شهر
رمضان، لكن جاء النهي عن صوم يومي العيدين، فهل يجوز لإنسان أن(1/282)
يصوم يوم العيد لقضاء رمضان؟ لا يجوز، فإن قيل: أليس يوم العيد
داخلاً في الأيام الأخر؟ نقول: يوما العيدين هما من ضمن الأيام
الأخر، لكن جاء النهي عن صومهما خاصة، فهنا قدم النهي على الأمر؛
لأن الأمر هنا هو القضاء في عدة من أيام أخر، ولكن ثبت النهي عن
صوم يومي العيد، وهما من ضمن الأيام الأخر، فنقدم جانب النهي، ولا
نقول: العيدان من الأيام الأخر، فيصح فيهما القضاء! ولكن نقول:
الأيام الأخر عامة، والعيدان من ضمنها، ولكنهما خرجا بنص خاص يحرم
صومهما. قالوا: إذا كان الأمر دائراً بين جانب يطلب فعلاً وجانب
ينهى عن فعل، فأي الجانبين نقدم؟ وأيهما أقوى في الطاعة والامتثال؟
القاعدة العامة عند العقلاء أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح،
وكذلك المنهي عنه شرعاً مقدم على المأمور به شرعاً، خاصة إذا كان
المأمور به ليس فرضاً واجباً، ولا فرضاً كفائياً كصلاة الجنازة،
وقد جاء في الحديث الصحيح: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم،
وما نهيتكم عنه فاجتنبوه ) ولم يقل: فاجتنبوه ما استطعتم؛ لأن
الترك ليس فيه استطاعة أو عدم استطاعة، فهو أمر سلبي، بل اتركوه
كله. إذاً: جانب النهي أقوى في المعادلة من جانب الطلب، خاصة إذا
لم يكن فرضاً عينياً ولا كفائياً، وتحية المسجد هل هي فرض أو
نافلة؟ نافلة بإجماع المسلمين، حتى ابن حزم نص على ذلك، ومن
قال بوجوبها فقد أوجب ست صلوات! والرسول عليه الصلاة والسلام يقول:
(خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة ).
مذهب الجمهور في الجمع بينهما
إذاً: عندنا تعارض بين طلب مسنون وبين نهي بالكلية، وأقل درجات
النهي عند الأصوليين الكراهية، فإذا تعارضت اللوحتان لمن دخل
المسجد بعد العصر، فإحداهما تقول: افعل سنة، والأخرى تقول: لا تفعل
شيئاً، فأيهما أقوى في طلب الامتثال؟ هل يرتكب مكروهاً لفعل سنة؟
لا، ومن هنا رجح الجمهور أن النهي عن الصلاة بعد العصر يشمل جميع(1/283)
الصلوات، فلا تجوز صلاة ذات سبب أو غير ذات سبب في وقت الكراهة. ثم
إننا نجد في السنة حديثاً فيه: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب )،
وفي نص آخر: (لا تحروا غروب الشمس بالصلاة )، ولا تحروا أصلها:
لا تتحروا، فإذا أخذنا هذا النص؛ وربطناه بحديث: (ثلاث ساعات كان
ينهانا عن الصلاة فيهن)، فالوقتان عند غروب الشمس وشروقها داخلان
في عموم النهي، وهما أخص الأوقات الثلاثة لقوله: (لا تحروا)، فهل
يكون النهي لخصوص بعد العصر أو لخصوص غروب الشمس وشروقها؟ لخصوص
الغروب والشروق؛ لأنه جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر
الساعات الفاضلة للصلاة، والأوقات الممنوع من الصلاة فيها فقال:
(إذا كان ثلث الليل الآخر فصل، فإن الصلاة مشهودة حتى تصلي الصبح،
ثم أمسك عن الصلاة حتى تشرق الشمس، ثم صل فإن الصلاة مشهودة حتى
تستوي الشمس في كبد السماء، ثم أمسك حتى تزول، ثم صل فإن الصلاة
مشهودة إلى بعد العصر )، وفي رواية: (إلى أن تتضيف الشمس إلى
الغروب )... إلى آخر الحديث. وكان عبد الله بن عمر رضي الله
تعالى عنه إذا سئل عن الصلاة بعد العصر يقول: أنا لا أنهى عن
الصلاة مخافة من قوله سبحانه: أَرَأَيْتَ
الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى [العلق:9-10]،
ويقول: أنا لا أنهى أحداً صلى في أية ساعة، ولكن لا تحروا بالصلاة
طلوع الشمس أو غروبها. وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى
عنه القول الفصل في ذلك، فإنه رأى زيد بن خالد يصلي بعد العصر،
فضربه بالمقرعة وهو في الصلاة، فلما أنهى صلاته قال: لماذا تضربني
يا أمير المؤمنين؟! فقال: أتصلي بعد العصر؟ فقال: نعم، أصلي
ركعتين، ولن أتركهما، فاضرب كما تريد! فقال: يا زيد ! إني لم
أضرب عليهما إلا أني خشيت أن يتمادى الناس بالصلاة بعد العصر إلى
أن تغرب الشمس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحروا بالصلاة
غروب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان )، وبين علة أخرى للنهي(1/284)
بقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن قوماً يسجدون لها في ذلك الوقت )،
وكره أن يشابه المسلم الكافرين بالصلاة في ذلك الوقت، ومن مقاصد
الشرع مخالفتهم. إذاًَ: عمر كان يضرب عن الصلاة بعد العصر سداً
للذريعة، حتى لا يصلي أحد عند الغروب.
تجويز بعض العلماء للصلاة بعد العصر والشمس بيضاء نقية
إذاً: من لم يتحر غروبها، وصلى بعد العصر والشمس بيضاء نقية، فإنه
لم يتحر الصلاة عند غروبها، ولم تحصل منه المشابهة للكافرين، وقد
أخذ بهذا المذهب الوسط ابن عمر و عائشة أم المؤمنين رضي
الله تعالى عنهما وغيرهما من الصحابة، فجوزوا الصلاة بعد العصر في
أول الوقت قبل أن تتغير الشمس، وجوزوا الصلاة بعد الصبح في أول
الوقت قبل بزوغ الشمس. واستدلوا بما أسلفنا، وبصلاة النبي عليه
الصلاة والسلام بعد العصر ركعتين، وكان قد شغل عن ركعتي سنة الظهر
بسبب وفد عبد القيس، ثم داوم عليهما، فكانتا قضاءً في أول الأمر،
وبعد ذلك لم يصلهما قضاء. وقد قيل: إن هذا خاص برسول الله؛ لأنه
كان صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلاً داوم عليه، فهذا من
خصوصياته، وقد قالت له أم سلمة : (أفنقضيهما إن فاتتا؟ فقال:
لا )، وهو إذا فعل شيئاً ثم نهى عنه فإنه من خصوصياته، كما جاء
في الوصال في الصوم، فإنه نهاهم عن الوصال فقالوا: إنك تواصل،
فقال: (لست كهيئتكم )، ثم واصل بهم إلى يومين، وفي اليوم الثالث
رءوا الهلال وقال: (لو لم نر الهلال لزدتكم )، قال الراوي:
كالمنكل بهم؛ لأنهم ما امتثلوا في أول الأمر. وعلى هذا قالوا: صلى
النبي عليه الصلاة والسلام الركعتين قضاء، ثم داوم عليهما بعد ذلك،
وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، فكان إذا بدأ عبادة داوم
عليها، فنقول للشافعية: ليس لكم حق في قياس ذوات الأسباب في الوقت
المنهي عنه بصلاة النبي عليه الصلاة والسلام بعد العصر؛ لأن صلاته
في ذلك الوقت من خصوصياته. واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه(1/285)
وسلم رأى رجلاً يصلي بعد الصبح، فقال له: (ألم تصل الصبح معنا؟
قال: بلى يا رسول الله! ولكني لم أكن صليت ركعتي سنة الصبح
فصليتهما الآن، فسكت عنه )، والنبي عليه الصلاة والسلام إذا سكت
عن فعل فقد رضيه، فأجاز قضاء سنة الفجر، وهما ذاتا سبب، قالوا:
فنحن كذلك نصلي ذات السبب بعد الصبح، فأجاب الجمهور بقولهم: هذه
قضية عين ونخصها بعينها، ونقول: كل من فاتته سنة الصبح فهو
بالخيار: إن شاء صلاها بعد الصبح، وإن شاء أخرها إلى ما بعد طلوع
الشمس، ولا نقيس عليها غيرها كتحية المسجد وما شاكلها. أيها
الإخوة: هذه المسألة طويلة الذيل، وكثيرة التفريع، وابن عبد البر في الاستذكار أطال النقل والكلام فيها إلى حد بعيد، ثم جاء أخيراً
بقضية الصوم ويوم العيد في خاتمة البحث، ورجح ما ذهب إليه الجمهور
أنه لا صلاة شاملة عامة في جميع أنواع الصلوات إلا ما أخرجه
الدليل، والدليل أخرج ما يلي: ركعتا الطواف في مكة، وقضاء الفوائت،
وكذلك صلاة الجنازة بلا خلاف، وقالوا: تجوز صلاة الجنازة عند قيام
قائم الظهيرة، وعند الغروب، وعند الشروق إذا خيف على الجنازة أن
تتغير، فحينئذٍ يجوز الدفن في ذلك الوقت، مراعاة لكرامة الإنسان،
والله سبحانه وتعالى أعلم. وأرجو من الله أن تكون هذه المسألة قد
ظهرت لكم ولو بقدر خمسين في المائة، ونحن راضون فيها بهذا، وغيرها
من المسائل نريد ظهورها لكم تسعين في المائة، لكن هذه المسألة
يكفينا منكم خمسين في المائة. [ والحكم الثاني عند الشافعي من
حديث أبي هريرة بسند ضعيف وزاد: (إلا يوم الجمعة )، و كذا
لأبي داود عن أبي قتادة نحوه ]. يوم الجمعة استثناه
الجمهور من عموم النهي عن الصلاة عند قائم الظهيرة، لا عند الشروق
ولا عند الغروب، وأما مالك فإنه عمم جواز الصلاة عند قائم
الظهيرة في غير الجمعة مع أنه يكره ذلك فقال: لا أمنع ولا أكره.
134273 ( كتاب الصلاة - باب المواقيت [4] )
( كتاب الصلاة - باب المواقيت [4] )(1/286)
عناصر الموضوع
1 مشروعية الأذان
2 حكم الأذان قبل دخول الوقت
3 مشروعية القول مثل ما يقول المؤذن
4 مشروعية اتخاذ المؤذن
كتاب الصلاة - باب الأذان [1]
الأذان من شعائر الإسلام العظام، فقد تضمن إعلان أصول الإسلام، ففيه
تكبير الله وتعظيمه، والشهادة له بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة، وفيه
الدعوة إلى عمود الإسلام وهو الصلاة، والترغيب فيها، وهذه الشعيرة
العظيمة لها أحكام وآداب ينبغي العلم بها.
مشروعية الأذان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [ باب
الأذان: عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال: (طاف بي وأنا نائم
رجل فقال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، فذكر الأذان -بتربيع
التكبير من غير ترجيع، والإقامة فرادى، إلا قد قامت الصلاة- قال:
فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنها لرؤيا حق
... ) الحديث، أخرجه أحمد و أبو داود ، وصححه الترمذي وابن خزيمة ]. لاحظوا ترتيب المصنف في التبويب، فإنه بعدما
أنهى أحاديث توقيت الصلوات الخمس، جاء بباب الأذان، فكأنه يقول:
إذا دخل الوقت جاء الأذان، وإذا أذن جاءت الإقامة، وإذا أقام جاءت
الصلاة، وهذه صفتها وكيفيتها. والأذان لغة: الإعلام، وكل كلمة وجدت
فيها: الهمزة والذال والنون فاعلم أنها من مادة الأُذن، وفقه اللغة
يقول: إن أصل وضع اللغة للمحسوس ثم يتفرع عنه إلى المعنوي، فالأُذن
هي مادة أذن، وكلما سمعت بكلمة مركبة من هذه الحروف فاعلم بأن فيها
إعلام. تقول: الآذن والمأذون، الآذن هو الذي يُلقي في أذن المستأذن
الإذن بالدخول، وتقول: هذا مأذون وهذا آذن، أذنت لك في كذا، آذني
في كذا، وقال الشاعر: (آذنتنا ببينها أسماء). يعني: أعلمتنا
وأنذرتنا، وهكذا أصل مادة الأذان من الأُذن؛ لأن المتكلم يلقي في
أذن السامع ما يريد أن يلقيه، فكان الأذان إعلاماً، وهو في الشرع:(1/287)
إعلامٌ مخصوص بلفظ معين في وقت معين. وشرع الأذان بعد مجيء النبي
صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكانوا في بادئ ذي بدء يعلم بعضهم
بعضاً بالوقت، فإذا مر إنسان على بيت آخر قال له: جاء الوقت، وهكذا
يمر بعضهم على بعض، فيُعلم بعضهم بعضاً بدخول الوقت حتى يجتمعوا
إلى المسجد، فإذا دخل الوقت يصلون. ثم اجتمعوا وتشاوروا ليروا
وسيلة مناسبة ليعلموا بها دخول الوقت، فقال بعضهم: (نتخذ ناقوساً،
فقال صلى الله عليه وسلم: الناقوس للنصارى، وقال بعضهم: ننفخ
بوقاً، فقال صلى الله عليه وسلم: البوق لليهود، وقال بعضهم: نوقد
ناراً، فقال صلى الله عليه وسلم: النار للمجوس )، وإيقاد النار
إعلام سريع، فهو مثل البريد أو المواصلات، وكان يمكن أن يصل الخبر
من الحجاز إلى العراق عن طريق النار في ربع ساعة، وقد كان الناس في
الحالات الخطيرة الهامة، إذا كانوا ينتظرون جيشاً مغيراً أو
ينتظرون قدوم أمر خطير؛ يجعلون المنارات على رءوس الجبال، وفيها
موضع يوقد فيه النار، وتعلمون مدى سرعة الضوء، فسرعة الضوء أسرع من
سرعة الصوت، فإذا وصل الخبر المدينة أشعل صاحب المدينة النار في
منارته، وهكذا الذي يليه، وليكن بينهما -مثلاً- مائتا كيلو، فإذا
رأى النار فإنه حالاً حينما يرى ضوء النار من المدينة يشعل النار
عنده، وحينما يشعل النار عنده يرى الآخر ضوءها ولو من بعد مائتا
كيلو أو أكثر من ذلك فيشعلها، وهكذا حتى يصل الخبر بإشعال النار
إلى بغداد مثلاً، وذلك قد يكون في نصف ساعة، وهذا أسرع من الطائرة،
وأسرع من الصاروخ. المهم أنهم عرضوا وسائل الإعلام، وكلها أعرض
عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها مشهورة عند كافرين، ونحن
قد أُمرنا أن نخالفهم، لا أن نسير في ركابهم، بل لا نشابههم في
شيء، فانصرفوا ولم يتفقوا على شيء، فجاء عبد الله بن زيد إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! رأيت فيما يرى(1/288)
النائم، ولم أكن بنائم ) أي: هو في حالة بين كونه نائماً وغير
نائم، وهذه حالة قد تعرض لبعض الأشخاص، فيرى بعض الأشياء وهو في
أوائل النوم، ولم يتمكن النوم منه، ولم يكن مستقيظاً تمام
الاستيقاظ، بل يكون في حالة بين بين، قال: (رأيت فيما يرى النائم،
ولست بنائم، رجلاً عليه بردين أخضرين يحمل ناقوساً، فقلت: هل تبيع
لنا هذا الناقوس؟ قال: وماذا تفعلون به؟ قلت: نعلم به للصلاة قال:
ألا أدلك على غير ذلك؟ قال: بلى، فألقى عليه الأذان -كما هو معروف
الآن- ثم تنحى قليلاً وقال: ثم تقولون -وألقى عليه ألفاظ الإقامة-،
فجاء عبد الله بن زيد إلى الرسول فأخبره بذلك، فلما سمع ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها لرؤيا حق، قم فألقه على
بلال فإنه أندى صوتاً منك )، فالذي رأى الرؤيا، وشرع الأذان
على يده لم يباشره، ولكن باشره من هو أولى منه. ومن هنا نأخذ أن
تعيين المسئوليات يكون بحسب من يصلح لها، لا بحسب مراعاة شخص أو
مناسبة أخرى، فهذا الذي رأى الرؤيا بالأذان ألقاه على بلال ،
وقام بلال ورفع الصوت به، فلما سمع عمر رضي الله تعالى عنه
تلك الألفاظ جاء يجر رداءه وقال: (يا رسول الله! والذي بعثك بالحق!
لقد رأيت مثل ما أسمع الآن فيما يرى النائم )، وهكذا شرع الأذان
برؤيا منام، وجاء على يدي بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا نجعل الفقه في جانب، وننظر إلى هذا الواقع، رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتلقى وحي الله في كل صغيرة وكبيرة، وهذا الأذان
-وهو أعظم شعار في العالم الإسلامي- يشرع بهذه الطريقة، فلم يوح به
على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأته جبريل عليه السلام ويعلمه
الأذان مباشرة أمام الناس كما جاءه وقال: أخبرني عن الإسلام؟
أخبرني عن الإيمان؟ أخبرني عن الإحسان؟ أخبرني عن الساعة؟ وكل ذلك
يجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما عدا أمر الساعة، ثم ولى،(1/289)
فقال: (أعيدوه، فلم يدركوه، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور
دينكم )، ونظير ذلك عند مقدمه صلى الله عليه وسلم من الهجرة،
عندما هاجر من مكة إلى المدينة، فكان رسول الله يأتيه الوحي، لكن
عندما تلقاه الناس وشيعوه من قباء إلى المدينة، كل منهم يقول: هلم
عندنا يا رسول الله! كان يقول: (دعوها فإنها مأمورة ) -أي:
الناقة التي يركبها- فكان يوحى إليه في الصغيرة والكبيرة ولكن هنا
يقول عن ناقة عجماء: (إنها مأمورة ) ولماذا هذا؟ لاشك أنه لحكمة
عظيمة، أما موضوع الأذان فنقول -والله تعالى أعلم-: لقد جاء الأذان
بإكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث جعلت الشهادة برسالته
قرينة بشهادة لا إله إلا الله، حيث يقول المؤذن: أشهد أن لا إله
إلا الله، مرتين، ثم يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، مرتين، فلما
كان في الأذان تعظيم وتكريم للرسول صلى الله عليه وسلم باقتران
اسمه مع اسم رب العالمين، وكان ذلك حظ لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإذا شرع بواسطة أحد الناس وأفرادهم، فإنه يكون قاطعاً
لألسنة أولئك المتربصين الذين يرمون سهام التشكيك في ضعاف الناس،
فلو شرع على لسان النبي لقالوا: إن محمداً هو الذي جاء باسمه مع
اسم الله، ولكن لما جاء بواسطة شخصين غير رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ فلا يستطيع إنسان -مهما بلغ به التشكيك، ومهما بلغ به الحقد
على الإسلام- أن يطعن في رسول الله بذلك، بل أتى به من أتى، ثم هو
قرر أنها رؤيا حق، فتشريع الأذان ليس برؤيا من حيث هي، ولكن
بتقريره صلى الله عليه وسلم أن تلك الرؤيا حق، أي: أن ألفاظ الأذان
حق. فيكون مشروعاً، والسبب تلك الرؤيا، ثم التثبيت والتقرير منه
صلى الله عليه وسلم.
حكم الأذان قبل دخول الوقت
قال المصنف رحمه الله [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن
بلالاً أذن قبل الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع
فينادي: ألا إن العبد نام ) رواه أبو داود وضعفه ]. هذا(1/290)
الحديث مما احتج به الإمام أبو حنيفة على أنه لا يجوز أذانٌ
قبل الوقت، و بلال رضي الله تعالى عنه أذن، وكان هو المؤذن
للصلاة، فإذا بأذانه وقع قبل تحقق طلوع الفجر، فأمره النبي صلى
الله عليه وسلم أن يرجع إلى حيث أذن وينادي بصوت مرتفع: (ألا إن
العبد قد نام)، وهذه صفة العبودية لله سبحانه وتعالى وحده؛ لأن
بلالاً قد أعتق؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه اشتراه وهو في
مكة وأعتقه، فهو عتيق لأبي بكر رضي الله عنه قبل أن يهاجر
رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. (ألا إن العبد قد نام )، وإذا
كان قد نام فيكون قد غفل عن تعيين الوقت، والأذان في الوقت بدقة،
فرجع ليعلم الناس بهذا؛ لأن أذانه سيغر من يصلي في البيوت، ومن
يريد الصيام عن الطعام، فلما يعلموا بأنه قد نام، وأن الأذان الأول
جاء في غير وقته؛ يستطيع الصائم أن يأكل، ويعيد الذي صلى صلاته؛
لأنها وقعت قبل الوقت. فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: هذا
بلال أذن قبل الوقت، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلم
عن نفسه بأنه قد نام. إذاً: بلال ما كان يؤذن إلا في الوقت،
ولكن السنة أثبتت أن بلالاً كان يؤذن قبل الوقت، والذي يؤذن في
الوقت إنما هو ابن أم مكتوم .
اختلاف العلماء في الأذان للجمعة قبل الزوال
أخذ الجمهور من هذا الحديث: أنه لا يجوز الأذان للصلاة إعلاماً
بدخول الوقت قبل أن يدخل الوقت، وهذا في جميع الأوقات الخمسة ما
عدا الجمعة، فإنهم اختلفوا في جواز الأذان لها قبل دخول الوقت،
فالأئمة الثلاثة يقولون: لا يؤذن للجمعة إلا بعد دخول وقت صلاة
الظهر، وهو: زوال الشمس عن كبد السماء، و مالك رحمه الله يذكر
في الموطأ: أن جعفراً كان له طنفسة عند جدار المسجد الغربي،
فإذا غطاه الظل أذّن المؤذن وبدأ في صلاة الجمعة، ومعلوم أن الظل
أو الفيء لا يكون إلى جهة المشرق إلا بعد زوال الشمس عن كبد السماء
إلى جهة الغرب؛ لأن الظل عكس الشمس، إذا كانت الشمس في المشرق(1/291)
فالظل يكون إلى المغرب، وإذا كانت في المغرب فالظل يكون إلى
المشرق، فنص مالك رحمه الله: أنه لا يجوز النداء للجمعة إلا
كما يجوز للظهر، وهذا ما عليه المذاهب الثلاثة. أما الإمام أحمد رحمه الله فإنه يجوّز صلاة الجمعة قبل الزوال، ولهذا يجيز الأذان
لها قبل ذلك، ويقول: الجمعة عيد، وتصح صلاة العيد إذا ارتفعت الشمس
وقت الضحى إلى قبل الزوال، فالأمر عند أحمد متسع، ولكن المنصوص
عن أحمد : أن المستحب ألا تكون الجمعة إلا بعد الزوال. إذاً:
مذهب أحمد جواز إيقاع صلاة الجمعة قبل الزوال، ولكن المستحب
عنده ألا تكون إلا بعد الزوال، وبهذا يتفق مع الجمهور، والله تعالى
أعلم.
مشروعية القول مثل ما يقول المؤذن
قال المصنف رحمه الله: [ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم النداء فقولوا
مثل ما يقول المؤذن ) متفق عليه ]. هذا الحديث -يا إخوان-
يستوجب وقفة طويلاً؛ وذلك لهذه السنة النبوية الشريفة: (إذا سمعتم
المؤذن فقولوا مثل ما يقول )، والمثلية هنا ليست في الهيئة
والكيف، ولكن في اللفظ فقط؛ لأن المؤذن يقول بصوت مرتفع ليسمع
الآخرين، ولكن نحن إذا كنا في المسجد أو في الطريق أو في البيت أو
في أي مكان إنما نحكي قول المؤذن لأنفسنا لا للغير؛ لأننا لا ننادي
أحداً يأتي إلينا، وهذا ملفت للنظر! أنا أسمع المؤذن وأعي ما قال،
فإذا قال: الله أكبر، أدركت معنى ذلك، وإذا قال: أشهد أن لا إله
إلا الله، أدركت كذلك، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة،
كل هذه معانٍ أنا أدركها، فلماذا أقول بلساني وأسمع نفسي أو من
بجواري هذا القول؟ نتأمل ذلك من جانبين: الجانب الأول: معاني
الأذان، نجد الأذان قد جمع قواعد التوحيد وأصوله، ونظير ذلك
التلبية في الحج، فالتلبية إعلان برفع الصوت، وهي شعار الحج،
والأذان نداء برفع الصوت وهو شعار الإسلام، وإذا أخذت اللفظ الأول:(1/292)
( الله أكبر الله أكبر ) فإنك تستشعر عظمة الله، وأنه أكبر من كل
كبير، ما قال: الله كبير، بل أكبر -أفعل التفضيل- كل ما كبر في
نظرك أو في اعتقادك أو في حسبانك فالله أكبر من ذلك. وتأتي
بالشهادتين تجدد العهد مع الله أنك تشهد أن لا إله إلا الله، وتجدد
العهد بأنك تشهد أن محمداً رسول الله، وهما شهادتان يجزئ التلفظ
بهما في العمر مرة واحدة، فيدخل الإنسان بهما الإسلام، ولكن
تجديدهما أفضل الذكر وأقرب القربات إلى الله سبحانه وتعالى. فإذا
سمعت ( حي على الصلاة ) فهو نداء يناديك باسم الله الأكبر، و(حي)
بمعنى: أقبل على الصلاة التي هي عماد دينك، وهي حصن لك، تنهى عن
الفحشاء والمنكر، وتعين على نوائب الحياة وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45].
و(حي على الفلاح) تشعرك بفلاحك في الدنيا والآخرة، و(الله أكبر)
حتى لا يشغلك عنها شيء، (لا إله إلا الله). فإذا تأملنا معاني هذه
الألفاظ تحتم على السامع أن يقولها بلسانه ويسمع نفسه، لتكون
عملياً تطرق القلب، وتملأ السمع، فيكون في حالة الأذان متوجهاً إلى
الله سبحانه. الجانب الثاني: المؤذن يؤذن وأنت في شغل، ففي الفجر
وأنت في نوم، وفي الظهر وأنت في القيلولة، وفي العصر وأنت في
العمل، وفي المغرب وأنت في عملٍ أو على طعام، وكذا في العشاء، فكل
أوقات النداء أوقات شغلٍ، فإذا سمعت ( الله أكبر ) وكنت في نومك أو
في عملك عرفت أن الله أكبر، ويجب أن تقوم وتنهض وتجيب حي على
الصلاة، حي على الفلاح، فإذا كنت في عملك في النهار مشتغل في
متجرك، أو مشتغل في مصنعك، أو مشتغل في عمل بيتك، مهما عظم هذا
العمل، وتسمع (الله أكبر)؛ علمت بأن الله أكبر مما في يدك، ومما
يشغلك عن أداء الصلاة، فمن أجاب هذا النداء تهيأ له. وتوقيت
الصلوات مرتبط مع تلك الحركة الكونية للشمس، وهذا الضوء الذي ينفجر
من ظلام الليل آية من آيات الله، ثم إذا بالشمس تدور حتى تصل إلى(1/293)
كبد السماء، ثم تتحول إلى الغروب، ثم تتضيف إلى الغروب، ثم هي تغرب
من هذا الكون عن هذا الجهة وتمضي في سبيلها، حركات يتغير من أجلها
الكون بأسره! وإذا تأمل الإنسان هذا، وكان خالي الذهن، وجلس في
عراء من الأرض، وعند نهاية الليل وعند إقبال النهار، يتأمل في هذا
الكون ليل يمضي، وفجر يأتي، وحركة لا يقدر عليها إلا القوي
المتعال، فيستدل بتفكره في هذه الحركة الكونية على عظمة الله وقدرة
الله، فإذا سمع المؤذن يقول: الله أكبر، فكأنه يقول له: إن الذي
يأتي بهذه الحركة، ويغير مجرى الزمن، ويغير أوضاع الكون هو الله،
فيمتلأ قلبه إيماناً بالله. وهكذا تتعلق أوقات الصلوات الخمس بتغير
أحوال الزمن وبمسيرة الشمس، وكل حركة في ذلك تنادي بأن الله أكبر.
إذاً: الأذان ليس مجرد كلمات تطرق السمع، ولكنها معانٍ جليلة،
تعلقت بأحداث كونية عجيبة، ولهذا جاءت السنة النبوية بأن تصغي
إليه، وتردده، فإذا كنت تعمل بيدك وأذنك مع المؤذن ولسانك يحكي
قوله فما يفرغ المؤذن من أذانه حتى تكون قد استخلصت نفسك مما أنت
فيه، وجمعت شعورك وإحساسك إلى معاني هذا النداء، فتنفض يدك مما أنت
فيه، وتذهب وتتوضأ وتأتي إلى بيت الله لأداء الصلاة. فقوله: (إذا
سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول )، ليست المسألة بالعبارات،
وليست المسألة ذكر كلمات، ولكن لتعيش بوجدانك وروحانيتك وإحساسك
وشعورك مع هذا النشيد الأعلى: الله أكبر، لا إله إلا الله.
ترديد الأذان لمن سمع مؤذنين في وقت واحد
وهنا مباحث فقهية: إذا كنت تسمع أذاناً واحداً فإنك تقول مثل ما
يقول وتخرج من العهدة، وإذا كان هناك أذانان، سواءً في مسجد واحد
يأذنان معاً أو متواليين أو في عدة مساجد وتسمع أذان كل مسجد عقب
الأخر.. هل تكتفي بإجابة المؤذن الأول فقط أو تردد مع كل مؤذن
الأذان كل ما سمعت ذلك؟ يوجد قاعدة أصولية: إذا تعدد السبب هل يأتي
المسبب أم لا؟ هناك حالتان: - حالة يتعين فيها الإتيان بالمسبب في(1/294)
كل مرة. - وحالة يجزئ فيها مرةً واحده. فمثلاً: قوله صلى الله عليه
وسلم: (آمين، آمين، آمين ) حينما صعد المنبر، فقالها ثلاث مرات
في ثلاث درجات، وسئل عن ذلك فكان مما قال: (أتاني جبريل عليه
السلام فقال: رغم أنف امرئ ذكرت عنده ولم يصل عليك، قل: آمين )،
فقالوا: إن تكرار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع
ذكره متعين، فهذا متعدد السبب، ويتعين إيجاد المسبب عند وجوده،
فكلما سمعت ذكره صلوات الله وسلامه عليه تعين عليك أن تصلي وتسلم
عليه. وهناك من الأمور ما يتعدد ويتكرر ويجزئ عنها شيء واحد مرة
واحدة، كما في نواقض الوضوء، لو أن إنساناً كان على وضوء ثم أحدث
ما ينقض الوضوء ثم أحدث حدثاً آخر ثم أحدث حدثاً آخر، فإنه يجزئ عن
ذلك كله وضوء واحد؛ لأن الأحداث لا تجدد الحدث عند الإنسان، الحدث
هو واحد وإن تعددت أسبابه، فيكفي لرفعه وضوء واحد، وكذلك الغسل إذا
لم يغتسل للحدث الأول ولا للثاني فإنه يجزئ عنه غسل واحد. فهل
الأمر يقتضي تكرار المأمور به أم لا؟ فهنا قال: (إذا سمعتم فقولوا )،
قد سمعنا الأول وقلنا مثله، فهل نقول مثل المؤذن الثاني بالأمر
الأول؟ أكثر العلماء أنه كلما سمعت مؤذناً يؤذن فعليك أن تقول كما
يقول، وهناك من يقول: تكفي المرة الأولى، ولكن الأول أصح.
حكم ترديد الأذان أثناء الصلاة
وهل تقول كما يقول المؤذن وأنت في صلاة؟ بعض العلماء يقول: نعم؛
لأن الأذان كله ذكر لله، وأنت في الصلاة تذكر الله سبحانه وتعالى،
وعند (حي على الصلاة) تقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وهناك من
يعارض إذا كنت في صلاة وسمعت المؤذن. والبعض يقول: إن في الصلاة
لشغل، فلا تجبه وأنت في الصلاة، وبعضهم يقول: يجوز ذلك في النافلة
ولا يجوز في الفريضة؛ لأنه يتسامح في النوافل مالا يتسامح في
الفرائض، والله تعالى أعلم. واختلف الفقهاء في مسألة: هل تقول كما
يقول مقيم الصلاة حين يشرع في إقامتها أو أن ذلك خاص في الأذان
فقط؟(1/295)
ما يقول السامع للأذان عند الحيعلتين؟
[ و لمسلم عن عمر رضي الله عنه في فضل القول كما يقول
المؤذن كلمةً كلمةً سوى الحيعلتين فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله
]. هذا استثناء في ترديد الأذان، فحينما يقول المؤذن: ( الله أكبر،
الله أكبر ) تحكي ما يقول، وإذا جاء إلى الحيعلة وقال: ( حي على
الصلاة، حي على الفلاح ) فهل تحكي هذه العبارة بلفظها؟ هناك من
يقول: لا تحكيها، ولكن تقول محلهما: ( لا حول ولا قوة إلا بالله )،
ولماذا؟ قالوا: لأن قولك: حي على الصلاة نداء لغيرك ليحضر إلى
الصلاة وأنت ما ناديت أحداً، و(حي على الفلاح) معنى خارج عن معنى
الأذان المتعلق بالصلاة، فيقولون: في هذه الحالة تقول: لا حول ولا
قوة إلا بالله، وتشعر نفسك بأنه لا حول ولا قوة لك على إجابة نداء
المؤذن إلا بالله، هو يناديك وأنت تقول: نعم أستعين بالله على
إجابتك، لا حول لي ولا قدرة لي ولا قول لي على أن أجيبك إلا بالله
سبحانه وتعالى. وهذا إشعار بالضعف والعجز، واستكانة بين يدي الله
حتى يعينك على إجابة المنادي: (حي على الصلاة). وبعض العلماء يقول:
تقول الحيعلتين، وتعقبهما بقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله. يعني:
تجمع بين اللفظين فتقول: (حي على الصلاة حي على الصلاة) لا حول ولا
قوة إلا بالله. والعلماء يقولون في معنى الحوقلة: لا حول عن معصية،
ولا قدرة على طاعة إلا بالله، وهذا عين التوحيد؛ لأن الإنسان ضعيف
بالنسبة للمعصية، فالنفس والهوى والشيطان وميول الرغبات كل ذلك
عوامل تدعوه إلى المعصية، فكيف يصد هذه العوامل المجتمعة إلا بالله
سبحانه وتعالى، وكذلك فعل الطاعة لا تقدر عليها إلا بالله. قال
الله: وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ [البقرة:45]
أي: ليست بهينة، وهذه الكبيرة كيف تؤديها؟ بقوة من الله سبحانه إِلاَّ
عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]
هم خاشعون لله، ومن كان خاشعاً لله كان له عون من الله سبحانه(1/296)
وتعالى. إذاً: عند الأذان تحكي ألفاظه، وعند الحيعلتين هناك من
يقول: لا حاجة أن تذكرهما؛ لأن معناهما لا يتحقق عندك، وتقول
محلهما: (لا حول ولا قوة إلا بالله) وهذه الكلمة أعطيها الرسول صلى
الله عليه وسلم من كنز تحت العرش ليلة الإسراء، كما أعطي فاتحة
الكتاب وخواتيم سورة البقرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان سراً
هذا الحديث من أعظم الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم، (إذا سمعتم
المؤذن فقولوا مثل ما يقول )، إلى هنا أكتفى المؤلف وتتمة
الحديث: (ثم صلوا عليّ وسلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة لا
تنبغي إلا لعبدٍ واحد، أرجو الله أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي
الوسيلة كنت له شفيعاً يوم القيامة ). السنة بعد أن ينتهي سامع
الأذان من حكاية المؤذن أن يصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه
وسلم سراً كما حكى ألفاظ المؤذن، وكذلك المؤذن حينما يفرغ من
الأذان بصوته العالي الذي ينادي به الناس، يصلي على النبي صلى الله
عليه وسلم سراً ليكون ممتثلاً، وكما يقول السامع للأذان ذلك، كذلك
أيضاً المؤذن، ويقول -ما علمنا صلى الله عليه وسلم- مثل السامع:
(آت محمداً الوسيلة والفضيلة ). وفي هذا الحديث ما ينبغي
التنبيه على أن بعض الجهات أخذ من هذا الحديث الصلاة والسلام على
رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب كل أذان بصوت مرتفع كألفاظ
الأذان! وأدخلوا الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم في
الأذان بناءً على ذلك! قالوا: فالمؤذن يصلي عليه كما كان يؤذن
لقوله: (فصلوا علي)، فنقول: التشريع صحيح، ولكن الكيف خطأ، ما كان
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كان الخلفاء الراشدون، ولا
المؤذنون لهم يصلون على النبي عقب الأذان بارتفاع الصوت، وهذا جعل
بعض الجهال يظنون إلى اليوم أنها ضمن الأذان وضمن ألفاظه. وهذا لا
ينبغي. قال ابن الحاج في المدخل: لا شك أن الصلاة والسلام على(1/297)
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفضل القربات، ويكفي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : (من صلى عليّ مرة واحدة صلى الله عليه
بها عشر مرات )، واحدة منك يا عبد يا مسكين تقابل بعشر مرات من
رب العالمين! أي فضل أعظم من هذا؟ فإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي
أن تأتي بها إلا في المواضع التي شرعت فيه، وما شرعت الصلاة
والسلام على رسول الله عقب الأذان بصوت مرتفع كالأذان، فقال رحمه
الله -وهو الحق-: نعلم أن هناك مواطن لا يجوز الدعاء فيها، حتى
أعظم القربات، فالقرآن هو أعظم القربات فبكل حرف منه عشر حسنات،
ومع ذلك نهينا عن قراءة القرآن في الركوع وفي السجود، مع أن
الإنسان أقرب ما يكون من الله وهو ساجد، ومنعت هذه في تلك، فكل شيء
مكانه، ولا ينبغي الابتداع، ولا ينبغي إيجاد ما لم يوجد من قبل،
وكما قال مالك رحمه الله : (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح
أولها). والله تعالى أعلم.
مشروعية الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان بالوسيلة
وقوله: (ثم سلوا لي الوسيلة )، بين النبي صلى الله عليه وسلم
أنها منزلة في الجنة رفيعة لا تنبغي إلا لعبد واحد بلا مشاركة،
ويقول صلى الله عليه وسلم (أرجو أن أكون أنا هو ). يا سبحان
الله! ومن يتقدم عليه إليها؟ ومن هو أحق بها منه؟ لا أحد، ولكن هذا
تواضع منه مع رب العزة، ولم يأتل على الله بأنه صاحبها، ولكنه حسن
الظن بالله، والتواضع بين يدي الله، وإن كان يعلم أنه أفضل الخلق
صلوات الله وسلامه عليه، وأنها لا تنبغي لغيره، ولكن تأدباً مع
الله واحتراماً لقدرة الله وعطائه وحكم إرادته المطلقة، قال:
(أرجو)، وهذا الرجاء حقيقة، ولن تكون إلا له. والمقام الرفيع الذي
وعده هو الشفاعة العظمى حينما يحشر الناس جميعاً في صعيد واحد،
وتدنو الشمس من الرءوس، ويلجم الناس العرق، ولم يكن بين الشمس وبين
رءوسهم إلا قدر ميل. قيل: ميل المرود الذي للمكحلة، وقيل: ميل(1/298)
المسافة، ومهما يكن من شيء فالشمس الآن في الصيف بيننا وبينها
بلايين الأميال ومع ذلك يتضرر الإنسان من حرارتها، فإذا كانت يوم
القيامة بقدر ميل واحد. أي: كيلو ونصف فكيف يكون الحال؟ (فيضج
الناس، ويقولون: ألا ترون ما نحن فيه، ألا تطلبون من يشفع لنا عند
ربنا، ليأتي لفصل القضاء، فيقولون: ومن يشفع لنا؟ قالوا: اذهبوا
إلى نوح أبي البشر فيذهبون إلى نوح فيقول: إن ربي قد غضب اليوم
غضباً لم يغضب قبله مثله قط، وإني قد دعوتي على قومي دعوةً
أغرقتهم، اذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمان، فيأتون إلى إبراهيم
ويعتذر لهم أيضاً، ويقول: أذهبوا إلى موسى كليم الله، فيذهبون إلى
موسى ويعتذر، ويقول: اذهبوا إلى عيسى روح الله، فيأتون إليه ويعتذر
ويقول: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيذهبون إليه فيقول
صلى الله عليه وسلم: أنا لها، أنا لها، ويذهب حتى يسجد تحت العرش،
ويلهمه الله بمحامد وتسابيح لم يكن يعلمها من قبل )، وهذا مثل
الحديث: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك،
أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك )،
فما استأثر سبحانه به في علم الغيب عنده يلهمه رسوله في ذلك الوقت،
(فيسبح الله ساجداً إلى ما شاء الله حتى يقول له المولى سبحانه: يا
محمد! ارفع رأسك، وشفع تشفع، فيقول: يا رب! فصل القضاء )، وهذه
الشفاعة العظمى التي شملت الأمم جميعها بما فيهم من الرسل صلوات
الله وسلامه عليهم أجمعين، وهو المقام المحمود الذي يغبطه عليه
الأولون والآخرون. ثم تتوالى الشفاعات بعد ذلك، وهي سبعة أنواع،
يشفع في قوم استحقوا النار ولم يدخولها، ويشفع في قوم لترتفع
درجاتهم في الجنة، ويشفع في أناس دخلوا النار فعلاً فيخرجون منها،
إلى غير ذلك من أنواع الشفاعات. في هذا الحديث يبين صلى الله عليه
وسلم أن مستمع المؤذن يقول كما يقول المؤذن، ثم يصلي على النبي صلى(1/299)
الله عليه وسلم، ثم يسأل الله له الوسيلة والمقام المحمود، فمن فعل
ذلك كان له وعد عند رسول الله بالشفاعة ووعده صادق، والله سبحانه
وتعالى أعلم.
مشروعية اتخاذ المؤذن
قال المصنف رحمه الله: [ وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه
قال : (يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم، واقتد
بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً ) أخرجه الخمسة،
وحسنه الترمذي ، وصححه الحاكم . ] هذا الصحابي كان في وفد،
وكان أصغرهم سناً، وكان بالغاً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم، ويقولون: إنه كان يمر
عليه الوفود فيتلقاهم في الطريق فيسمع منهم القرآن، ويحفظ منهم ما
سمعوا من رسول الله، فكان قد جمع بعض السور الصغار من القرآن
الكريم، وهذا لا يتنافى مع حديث: (يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله )،
فهذا إذا تعدد القراء نظرنا من هو أقرأ وأحسن تلاوة، في تجويده
وإخراج الحروف من مخارجها، وإعطاء الحروف حقها، والمد والإدغام
ونحو ذلك، ويكون أحفظ من الآخرين، فإذا تساووا في ذلك نظرنا من هو
أقرؤهم، وقدمناه للإمامة، مع توافر الشروط الأخرى، وهي: أن يكون
تقياً ورعاً يعرف حق هذا المقام العظيم بين يدي الله، كما جاء في
الحديث -وهو مكتوب عندكم في المحراب هناك-: (تخيروا أئمتكم فإنهم
وافدوكم إلى الله )، فالإمام يتقدم القوم ويسأل الله: اهدنا
الصراط المستقيم، يسأل لنفسه ولمن معه، فينبغي تخير الإمام، قال
ابن الحاجب : كان في المغرب لا يقدم للإمامة إلا من شهد له أهل
القرية بصلاحه وأفضليته على الجميع، أما في بعض البلدان الأخرى
-وقد سماها ولا أريد أن أسميها- فإن الإمامة عندهم مرهونة بالنقود،
وقد يتولاها من هو كذا وكذا! وهنا قوله: (اجعلني إمام قومي)، كيف
يطلب الإمامة وهي ولاية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من طلب
ولايةً أو إمارةً لا نعطيه إياها )؟ قالوا: إذا علم الإنسان من(1/300)
نفسه الاستطاعة بالقيام بحق الولاية، وإنها ستضيع إذا أسندت إلى
غيره لعدم وجود الأكفاء، فيتعين عليه أن يتقدم لحفظها لا لحظ نفسه،
واستدلوا بقصة نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإنه
عندما عبر الرؤيا للملك، وذكر له الأمر قال : اجْعَلْنِي
عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ [يوسف:55]،
وهذه ولاية على الأرزاق إِنِّي
حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]
أي: عندي الأهلية، ولو تركت لغيره لضاعت، فكان من حقه أن يتقدم
لطلب الولاية لحفظها، وهكذا القضاء والإفتاء والأذان والإمامة وكل
عمل ديني محض. وقوله هنا: (واقتد بأضعفهم )، كيف يقتدي بأضعفهم
والمأمومون يقتدون به هو؟ المعنى: أنك ستكون إماماً، فلا تجعل
السلطة والاختيار لك في أن تفعل ما شئت، وتطيل عليهم، بل اقتد
بأضعف من يصلي وراءك، فليكن أضعف المأمومين هو القدوة لك، فلا تثقل
عليه ولا تؤذيه بالإطالة، إنما عليك أن تراعي حال المأمومين. وقد
عرفنا قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقد جاء في حقه أنه:
(أعرفكم بالحلال والحرام )، فكان يصلي مع النبي صلى الله عليه
وسلم العشاء في المسجد الشريف، ثم يذهب ليصلي بأهل قباء العشاء،
فدخل ذات ليلة في صلاة العشاء، وكان رجل يعمل طيلة نهاره في بستانه
فدخل في الصلاة معه فإذا بمعاذ بعد أن قرأ: وَلا
الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]
آمين يقرأ: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]،
وشرع في أول البقرة، فقال الرجل في نفسه: والله! لن يقف حتى
يختمها، فانعزل عنه، وصلى منفرداً، ورجع إلى بيته، وفي بعض
الروايات أنه حينما أتى إلى المسجد أرسل نواضحه وتركها تمضي إلى
البيت، ودخل في الصلاة وهو لا يدري: هل ستذهب إلى البيت أو لا؟ وهو
طول النهار يعمل، فهو متعب، فإذا قام وراء الإمام الذي يشرع في
الأولى بالبقرة، فربما الركعة الثانية يقرأ فيها بآل عمران! ومتى(1/301)
ينتهي؟! فاختصر الطريق من قريب، وصلى وذهب إلى بيته، وعلم معاذ بذلك، فقال: إنه رجل منافق، ما صبر على الصلاة! والمنافقون يأتون
الصلاة وهم كسالى، فبلغ الرجل مقالة معاذ في حقه، فأتى إلى
النبي صلى الله عليه وسلم واشتكى من معاذ ؛ لأنه رماه بالنفاق،
وقد فعل كذا وكذا، فاستدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :
(أفتان أنت يا معاذ ؟! )، سبحان الله! رجل يقرأ بالبقرة في
ركعة ويقول له: أنت فتان! إنه اجتهد، وغلب جهة العاطفة، وهو كان
حديث عهد بالصلاة خلف رسول الله، وحديث عهد بسماع تلاوة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وحديث عهد بصلاة أمهم فيها رسول الله، وتلك
حالة روحية تجعل عندهم انفتاح وانفساح وقدرة على إطالة القيام ولو
الليل كله، ولكن غيره ليس مثله، فقال له: (أفتان أنت؟ )،
ولماذا؟ وأين الفتنة؟ تطويلك هذا يؤدي إلى ترك الجماعة وتفرق
الناس، وستكره الناس للصلاة، وهذه أعظم فتنة، أين أنت من سَبِّحْ
اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا [الشمس:1]
وذكر له سوراً قصاراً من المفصل. فقوله: (واقتد بأضعفهم )،
سواءً كان لكبر سن أو كان لمرض أو لاشتغال، فيجب أن تراعي المصلين
الذين خلفك، وتقتدي بأضعفهم، وتراعي ما يستطيعه من الإطالة والقيام
والقراءة. وقوله: (واتخذ مؤذناً )، فيه أدب التعيين، ما كل
إنسان يأتي يؤذن، إنما يكون المؤذن مرتب من المسئول؛ لأن الأذان
إعلام لأداء الصلاة لله، وهذا عمل رسمي، فلا ينبغي لكل من هب ودب
أن يأتي ويؤذن، هل ندري من يحسن الأذان أم لا؟ هل ندري أمانته
واستقامته أم لا؟ لا ينبغي لأي إنسان أن يقدم على الأذان إلا بإذن
مأذون من الإمام أو من ولي الأمر، اللهم إلا المساجد العامة التي
على الطرقات، وليس لها مؤذن خاص، ولا إمام خاص، وبينت على الطريق
لمن تحضره الصلاة فيصلي؛ فلا مانع لمن حضر الوقت وهو حاضر أن يؤذن،(1/302)
وكذلك من حضر الصلاة أم بالناس، ولو تعددت الجماعات في هذه المساجد
فلا مانع. أما المساجد المقيمة عند أحياء عامة، وثابت أهلها
وسكانها؛ فلا ينبغي أن يؤذن مؤذن إلا مأذون له، ولا يؤم الناس إلا
معين فيها، ولا يجوز إعادة الجماعات في تلك المساجد مرتين أبداً.
جواز إعطاء المؤذن أجراً على سبيل الهبة والعطاء لتفرغه
وقوله: (لا يأخذ على أذانه أجراً )، هذا هو الأكمل والأفضل فمن
يعمل القربة، ويجب عليه أن يحسن النية، ويحتسب الأجر عند الله
سبحانه وتعالى، لكن إذا اتخذ بمعنى: كلف، والاتخاذ تكليف، والتكليف
فيه التزام، والالتزام فيه شغل عن واجبه وواجب أهله، فماذا يفعل؟
قالوا: لا يعطى أجراً بعقد إجارة، ولكن يعطى بنية الهبة، ومن باب
العطاء، ولا مانع من ذلك، وعلى هذا أجاز العلماء إعطاء المؤذن
والإمام وكل من كان عمله قربة في الإسلام، فيأخذ لا على عقد
المؤاجرة، ولكن على سبيل الهبة والعطاء، وعلى سبيل الرزق من بيت
مال المسلمين، والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين.
( كتاب الصلاة - باب الأذان [2] )
عناصر الموضوع
1 مسائل في الصلاة
كتاب الصلاة - باب شروط الصلاة [1]
من شروط الصلاة: طهارة البدن واللباس والمكان الذي تصلي فيه، ويجوز
الصلاة بالنعلين الطاهرتين إذا لم يكن هناك مانع مثل أن يكون المسجد
مفروشاً ويخشى تضرر الفراش بالنعال، أو إذا كانت الصلاة بالنعال ستسبب
فتنة وخلافاً.
مسائل في الصلاة
طهارة النعلين من الأذى والمراد به
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن
والاه. وبعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وطئ أحدكم
الأذى بخفيه فطهورهما التراب ) أخرجه أبو داود ، وصححه ابن
حبان ]. تقدم شيء من الكلام على الصلاة في النعلين، وجاء المؤلف
رحمه الله تعالى تبعاً لذلك بهذا الحديث، وهو أن الرسول صلى الله(1/303)
عليه وسلم قال: (إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه فطهورهما التراب )،
والحديث المتقدم هو: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر أسفل نعليه،
فإذا رأى أذى أو قذراً فليمسحهما في التراب وليصل فيهما )، وهما
دليلان على طهارة النعل بالمسح بالتراب. والأذى والقذر حمله بعض
العلماء على النجاسة، والتحقيق أنهما أعم من كونهما نجسين، قال
البيهقي : يحتمل أن يكون الأذى من الطاهر المستقذر، كما يقولون
عن الطين الذي في الطريق: هو أذى مع أنه طاهر. وقال الشافعي رحمه الله: اليابس من القذى أو الأذى أو ما هو أخص كالنجاسة يطهر
إذا ذهبت منه العين، وذهب اللون، وذهبت الرائحة. أما إذا كان النعل
به أذى أو قذى -على المعنى الأعم أو المعنى الأخص- رطباً فيقول
الشافعي رحمه الله: لا يطهره إلا الماء. وجاء عن مالك رحمه
الله تعالى أن الحديث محمول على ما يستقذر في اليابسات، فإذا مر
على يابس مستقذر وعلق شيء منه، فإنه إذا مر على يابس آخر طهره،كما
جاء في إطالة ذيل ثوب المرأة، فإن اليابس الآخر الطاهر سيستخلص ما
علق بذيل المرأة من الأذى أو القذى اليابس، ولن يبقى شيء هناك. وقد
حكى مالك رحمه الله الإجماع على أن النجاسة لا تطهر إلا
بالماء، خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمه الله الذي يقول: إن كل
مائع طاهر يزيل النجاسة لأن النجاسة عنده حكم ظاهر المراد إزالة
عينها، والجمهور أنه تعبدي، ولا يستعمل في إزالة النجاسة إلا
الماء، ومن هنا قال البيهقي : يحتمل أن يكون الأذى أو القذى هو
كل طاهر مستقذر. ويقول الآخرون: لو أن إنساناً لم يلبس النعل، ومشى
حافياً، ووطئ الأذى أو القذى، وكان في هذا الأذى أو في هذا القذى
نجاسة، فهل تطهر قدمه بدلكها في التراب، أم يتعين عليه غسلها؟
قالوا: إن النجاسة في الثوب والبدن لا يزيلها إلا غسلها بالماء،
وكذلك النجاسة إذا كانت معروفة بالحواس، فإما أن تعرف بالرؤية
بلونها، أو بالشم برائحتها، أو بالجرم بالعين، فلا بد من إزالة(1/304)
عينها وإزالة رائحتها وإزالة لونها، وإلا فلا يصح أن يصلي بهذه
النعل.
حكم الصلاة في النعلين
هذا الموضوع يهم في الدرجة الأولى طلبة العلم؛ لأن العامة لا يصلون
في النعلين تحرجاً، والذي يفعل ذلك -خاصة في هذه الآونة- هم بعض
الإخوة طلبة العلم؛ لحديث: (خالفوا اليهود وصلوا في النعال )،
وحديث: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر أسفل نعليه ) ، وفيها أمر
بالصلاة في النعلين. وأنبه إلى الرجوع في هذا إلى معالم السنن،
وإلى شرح السنة، أو إلى سنن أبي داود، أو إلى سنن الترمذي، أو إلى
فتح الباري، أو إلى شرح ابن دقيق العيد للعمدة فسنجد حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنه سئل: هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم في
نعليه؟ فقال: نعم. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من
شاء فليصل في نعليه، ومن شاء فليخلعهما ) ، وعلقوا على ذلك لأن
هذا ناسخ للأمر الذي جاء في حديث: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر
أسفل نعليه.. )، قالوا: (فليصل) هنا أمر، نسخه عن الوجوب قوله:
(إن شاء). قال ابن دقيق العيد في مبحث دقيق نقله عنه ابن حجر في فتح الباري: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم
المسجد )، وكذلك ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في
الصلاة، حيث كان في فتح مكة -وقيل: بالمدينة- فقرأ بأول سورة
المؤمنون، وأخذته كحة فاختصر القراءة، وقد أمره جبريل أن يخلع
نعليه فخلعهما، فخلعوا نعالهم، فلما سلم قال: (ما حملكم على خلع
نعلكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا. قال: أما إنه أتاني جبريل عليه
السلام فأخبرني أن في نعلي أذى فخلعتهما ) ، ثم قال صلى الله
عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر ...إلخ)، فهذا تتمة لحديث
جبريل عليه السلام. قال بعض العلماء: جبريل عليه السلام أخبر النبي
صلى الله عليه وسلم بذلك بعد أن دخل في الصلاة، وفي رواية من هذا
الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه جعلهما عن يساره، ثم(1/305)
قال: (إذا خلع أحدكم نعليه وصلى فلا يجعلهما عن يمينه، ولا عن
يساره فيؤذي بهما جاره ) ، وفي بعض الروايات: (لا يجعلهما عن
يمينه ولا عن يساره فتقع عن يمين جاره ) ، وعلّق على ذلك
الخطابي بأن هذا من باب احترام الجوار، واحترام الصلاة. لذا
ينبغي أن يجعل الإنسان في الجانب الأيمن أفضل النعلين. قال صلى
الله عليه وسلم: (وليجعلهما بين قدميه )، فهذه هي السنة في وضع
النعلين، فإذا كان يريد ابتداءً أن يصلي، ويريد أن يضع النعلين فلا
يضعهما عن يمينه؛ لأن هذا -كما يقال- ليس من الاحترام الكامل، ولا
عن يساره فيأتي أحد فيصلي بجواره فتكون نعليه عن يمين هذا المصلي
فيؤذيه بها، ولا تلقاء وجهه؛ لأنه إذا سجد ستكون أمامه، فيكون هذا
المنظر غير لائق بالصلاة، ولكن ليجعلهما بين قدميه. قالوا: هناك
جزء مضى من الصلاة قبل أن يخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ثم جاء جبريل وأخبره بالأذى، فلو قدرنا أن الأذى كناية عن
النجاسة فكيف يُقَرُّ النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوقع جزءاً من
صلاته وهو متلبس بنجاسة، وكان الأولى أو الأنسب أو المتوقع أن
يبادر جبريل عليه السلام فيخبره قبل أن يدخل في الصلاة بتلك
النجاسة؛ لأن الأكمل في حقه صلى الله عليه وسلم أن يكون أطهر وأبعد
من هذا كله؟ قالوا: كلمة (أذى) لا تحمل على النجاسة؛ لأنها لو كانت
نجاسة لكان النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر صلى بنجاسة،
وهذا لا يليق، ولا تصح الصلاة به، وكذا قال البيهقي في السنن:
يحتمل قوله: (قذى أو أذى) أنه طاهر يستقذره الناس، أو طاهر مستقذر.
قال ابن دقيق العيد : قوله في الحديث: (فليحتهما، وليصل فيهما )
ليس دليلاً على استحباب الصلاة في النعلين، وإنما هو إباحة بمعنى
الرخصة، وقال: أما كونه مستحباً فليس بوارد؛ لأنه ليس من الزينة
التي أمرنا بأخذها عند المساجد في قوله تعالى: خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]،(1/306)
فإن كان داخلاً في معنى الزينة فهو مطلوب ومستحب، ولكن النعل يلامس
الأرض، ويخالط الأذى والقذى، فيضعفه ذلك عن منزلة الاستحباب، ولا
يدخل في الآية. وقال: إن إزالة النجاسة هي المرتبة الأولى في
التشريع؛ لأنها من درء المفاسد، ودرء المفاسد إنما هو في الضروريات
كما يقال، وأخذ الزينة هو الدرجة الثانية، والتشريع يدور حول درء
المفاسد وجلب المصالح من التحسينيات والكماليات إلى كل ركن في
الإسلام. والاستحسان يدخل في جميع العبادات، وهو الترقي بتلك
العبادة، فمن باب الاستحسان أخذ الزينة، وكمال اللباس، والعناية
بالنظافة، وطهارة الثياب والمكان طهارة كاملة، وقد جاء في الحديث:
(ما على أحدكم أن يتخذ ثوبين للجمعة سوى ثوبي مهنته)، وكذلك أن
يغتسل، وأن يتطيب، فهذا استحباب، والأصل هو صلاة الجمعة. فدرء
المفاسد بتجنب النجاسات هو درجة أعلى، وأشد طلباً من درجة
الاستحسان والكمال، فالحفاظ على ترك النجاسة أولى في التشريع وأهم
من الحفاظ على الزينة في اللباس. قال: فليس هناك داعٍ إلى الصلاة
في النعلين، إلا إذا كان داخلاً في عموم قوله تعالى: خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]،
وهذه هي الدرجة الثانية في التشريع، وتجنب النجاسة هي الدرجة
الأولى في التشريع. قال: وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على
استحباب الصلاة في النعلين، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل
قال: (إن شئت فاخلعها، وإن شئت فصل فيهما ). ونحن في هذه
المسألة بحاجة إلى التوسع والاستقصاء؛ لما يحدث فيها من أخذ وعطاء
مع بعض الإخوة الغيورين على السنة، وهم يقولون: إن التعليل هو قوله
عليه الصلاة والسلام: (خالفوا اليهود وصلوا في النعال؛ فإنهم لا
يصلون في نعالهم ولا في خفافهم ). فما دام ان ابن دقيق العيد يقول: الصلاة في النعلين ليست مستحبة، وغيره يقول: هي مسنونة -كما
قال الشوكاني الذي جمع كل هذه الأقوال التي أشرت إلى مراجعها،(1/307)
وانتهى إلى أن الأصل المشروعية- فنقول: الأصل جواز الصلاة في
النعلين، وهي مشروعة، ولكن مع التحفظ من وجود أذى أو قذى، ولو كان
لابس الخفين وفوق الخفين نعلان يباشر بهما الأرض فإنه يصلي بالخفين
ولا غبار على ذلك، ولا أحد ينكر عليه. أما النعلان اللذان يباشر
بهما الطريق، ويدخل بهما بيت الخلاء فإنه قد يتساهل في نظافتهما،
ولا يكفي أن ينظر فيهما ويحتهما في التراب، فهل هو بهذا الحت قد
طهرهما؟ فالأئمة رحمهم الله اختلفوا في تحقيق المناط في تطهير
النعلين بالحت حتى ذهاب عينها وذهاب لونها وذهاب رائحتها، وهناك من
يقول: هذا في اليابسات وهناك من يقول: يحتمل أن يكون هذا في الطاهر
المستقذر. فالأحوط أنه لا حاجة إلى الإصرار على الصلاة في النعلين،
مادام أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى منتعلاً وصلى حافياً، أي:
صلى على كلتا الحالتين. ولو أن إنساناً في سفر نزل في أرض فلاة وهو
بنعليه، فنظر فيهما فلم يجد فيهما أذى ولا قذى، ولا يستطيع أن يصلي
على الحصباء؛ لأنه يتأذى من ذلك فنقول: يصلي في نعليه لهذه الحاجة،
ولا مانع من ذلك، فإذا لم يكن هناك حاجة فليخلعهما. فالصلاة في
النعلين رخصة يباح فعلها، والرخصة معللة بقوله: (خالفوا اليهود.. )،
فهل نقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟ أشرنا أنها لا تدخل
تحت هذه القاعدة؛ لأنه ليس هناك الأمر المطلق بالصلاة في الخف،
وإنما لعلة بذاتها، والذي يهمنا الآن هو تنبيه الإخوة ألا يجعلوا
هذه المسألة مثار خلاف ونزاع بينهم. ومن الحكمة النبوية الكريمة
أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يترك الأمر الذي يحبه ويتقرب بفعله
لما يترتب عليه من مفاسد أخرى، ومن ذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعلى عنها عندما سألته أن يدخلها الكعبة لتصلي فيها، فأخذ
بيدها وقال: (صلي في الحجر ؛ فإنه من البيت ) ، وذكر أن قومها
قصرت بهم النفقة عن إقامة الكعبة على قواعد إبراهيم، فتركوا من(1/308)
البيت جزءاً حجروا عليه حتى لا يضيع في المسح، ثم قالت: ما بال
الباب مرتفعاً؟ قال: (ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا
حداثة قومك بكفر لهدمت الكعبة، ولأقمتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت
لها بابين: باب للداخل، وباب للخارج، وسويتهما بالأرض )، فهو
رغب أن يجعل الكعبة على تلك الحالة، ولكن ترك ذلك مراعياً ما يترتب
عليه من رد الفعل في نفوس قريش؛ لأنهم كانوا حدثاء عهد بشرك. وكذلك
لما شرب من بئر زمزم قال للسقاة: (انزعوا يا بني عبد المطلب؛ فلولا
أن يغلبكم الناس لنزعت معكم )، فرغب أن يأخذ الدلو ويسقي نفسه،
ولكن خاف أن يأتي كل مسلم فيقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد
نزع بالدلو فأنا أنزع مثله، فإذا أراد جميع الحجاج أن ينزعوا
بالأدل فيسغلبون السقاة على زمزم. فكان صلى الله عليه وسلم يترك
الشيء الذي يرغب فيه خوفاً مما يترتب عليه، وهذا يسميه علماء
الأصول سد الذرائع، وهو ترك الجائز مخافة الوقوع في الحرام، والأصل
فيه من كتاب الله قوله تعالى: وَلا
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا
اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]،
فلو أنكم سببتم أصنامهم فهذا ليس فيه مانع، وهي تستحق ذلك، ولكن إن
فعلتم ذلك فنتيجة ذلك أن يسبوا الله، فلو أنكم سببتم آلهتهم سبوا
إلهكم. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من الكبائر شتم
الرجل والديه، قالوا: وهل يسب الرجل أباه؟ قال: نعم. يسب أبا الرجل
فيسب أباه )، فهو السبب في سب أبيه. وأذكر قصة لشخص أشهد الله
أني أراه على الفطرة، وهو إنسان فيه خير كثير، وكانت مخالطته للناس
قليلة، وكان يحافظ على الصلوات جماعة، وكان يلبس نعلين كبيرتين
ويصلي بهما، وكان معه عصا منحنية يتوكأ عليها، ففي يوم من الأيام
في صلاة العصر صلى بجانبي، وعكس ا
حكم الكلام في الصلاة
قال رحمه الله تعالى:[ وعن معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال:(1/309)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها
شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن )
رواه مسلم ]. هذا من بيان شروط الصلاة، فلا تصح الصلاة إذا وقع
فيها كلام الناس، ويراد بكلام الناس الكلام الذي منشأه من الناس،
وإلا فالناس يتكلمون بالتسبيح والتكبير وغير ذلك مما أصله من
التشريع، بأن يكون نصاً قرآنياً، أو حديثاً نبوياً، فإذا قرأ
الإنسان القرآن فهذا كلامه، والأصل فيه أنه كلام المولى سبحانه،
وهذه قضية عقدية لها مكانها. ونعلم جميعاً أنه إذا قال إنسان:
(اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم)
فهذا ليس من كلام الناس؛ لأن الله أمر بأن تصلي على النبي صلى الله
عليه وسلم وإن اختلفت الصيغ فالأولى أن يتحرى الإنسان الصيغ
الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أنواع الصلاة
الإبراهيمية في تشهد الصلاة. فكلام الناس هو ما أنشأه الناس من
عندهم، وإذا جئنا إلى بعض المواطن نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم
أرشد المصلي في سجوده أن يجتهد في الدعاء، فقال: ( أما الركوع
فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء )، فالدعاء
قد يكون من كتاب أو سنة، وقد يكون من كلام الإنسان يسأل الله حاجة
له خاصة، فيقول: اللهم! اشف ولدي اللهم! نجح ولدي، اللهم! رد علي
غائبي بخير. فهذا كلام الإنسان في مصلحته الشخصية، وعموم الدعاء
مطلوب ومشروع، قال الله تعالى: وَقَالَ
رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]،
والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى ورغب الإنسان أن يدعو الله في
السجود. قال بعض العلماء: يجوز أن تدعو الله بما ورد في الكتاب على
تأويل الدعاء، لا على تأويل التلاوة، فتقول -مثلاً-: (ربنا آتنا في
الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.)، (رب أوزعني أن
أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحاً ترضاه،(1/310)
وأصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك وإني من المسلمين). فهذه ألفاظ
دعوات يأخذها الإنسان من الكتاب، ويتكلم بها لا على أنها تلاوة،
ولكن على أنها دعاء وطلب. ولهذا فإن الجنب والحائض إذا أتيا بهذه
الألفاظ من الأدعية من الكتاب وهما لا يريدان تلاوة، وإنما يريدان
التعبد بالدعاء بهذه الألفاظ فلا مانع، وإن كان الجنب والحائض
يمنعان من تلاوة القرآن، كما قال علي رضي الله تعالى عنه: (لا،
ولا حرفاً واحداً). فكلام الناس المراد به ما عدا ما شرعه النبي
عليه صلى الله عليه وسلم من التسبيح والتحميد والتكبير؛ لأن المصلي
يحمد الله، سواءٌ كان في الفاتحة، أم عند الرفع من الركوع،
والتسبيح يكون في الركوع وفي السجود، وهذا من كلامه، فيسبح الله
ويحمد الله. والمنهي عنه في الصلاة هو ما يبينه الحديث الذي يأتي
بعده: (يكلم أحدنا صاحبه في حاجته )، كأن يقول: أين كنت أمس؟!
وكيف حال المريض الذي كان عندكم؟! وما هو السعر اليوم في السوق؟
وهل فلان أتى أم لم يأت؟ فكلام الناس هذا الذي في مصلحة الناس لا
دخل له في العبادة، ولا يجوز في الصلاة. وقد كانوا يتكلمون في
الصلاة فنهوا، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن هذه الصلاة لا يصلح
فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير ... ) إلخ.
الدعاء بما لم يرد
مسألة: هل للمصلي أن يسأل الله في قنوته أو في سجوده بما أراد، أو
يتقيد بما هو وارد؟ بعض المالكية يقول: ما هو مشروع في العبادة
يتقيد به، كالقنوت في الصلاة، والقنوت في النوازل، فينبغي أن يتقيد
القانت بما ورد من الدعاء في تلك المناسبة عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولا يدخل من كلام الناس شيئاً؛ لأن القنوت عبادة. وهناك
من يقول: ما دام الباب باب دعاء فله أن يدعو بالمناسب، والرسول صلى
الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على رعل وذكوان، وقد سماهم بأعيانهم
كما في قصة أصحاب الرجيع، وهم القراء الذين استشهدوا. مسألة: إذا(1/311)
كان في الصلاة فهل له أن يتكلم بالقرآن مخاطباً لإنسان سأله عن
شيء، أو استفسر عن شيء، أو رأى شيئاً ويريد أن ينبه عليه فتلا آية
من كتاب الله ليدل على المطلوب؟ الجمهور يقولون: لا. لأن هذا يخرج
القرآن إلى كلام الناس فيجيب به الآخرين. وسيأتي أنه صلى الله عليه
وسلم كان في صلاة النافلة يأذن بالتنحنح، أو يرد السلام بإشارة
اليد. فقوله صلى الله عليه وسلم: (أن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء
من كلام الناس ) يدل على أنه لا ينبغي لإنسان وهو في الصلاة أن
يتكلم بكلام الناس، ولو فعل بطلت صلاته، ولو كان حرفاً واحداً يؤدي
معنى. فلو أن إنساناً وقف بجوارك وقال: أجاء زيد؟ فقلت: (لا) فهذا
حرف، لكن هذا الحرف يتضمن نفي جملة، أي: لم يأت. لأن النفي هنا
راجع إلى جملة المجيء، وأنت تقول: (لا)، فـ (لا) وحدها ليست كلمة،
كما قال ابن مالك في الألفية: كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم
وفعل ثم حرف الكلم فكلمة (استقم) هي كلمة واحدة، وهو يقول: كلامنا
لفظ مفيد. ويقول النحاة: لفظ مركب. والإفادة حصلت بكلمة (استقم)؛
لأن المعنى: (استقم أنت)، فهي كلمة متضمنة جملة كاملة. وكذلك
الحروف المستعملة في المعاني، نحو: يا زيد فـ(يا) تقوم مقام الفعل:
(أناديك)، فكذلك إذا حصل كلام ولو بحرف واحد يؤدي معنى يحسن السكوت
عليه فحينئذٍ تبطل الصلاة.
نسخ جواز الكلام في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [ وعن زيد بن أرقم أنه قال: (إن كنا
لنتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكلم
أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزلت: حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ [البقرة:238]
فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام )، متفق عليه، واللفظ لمسلم ]. هذا الحديث يشعر بأن الصلاة مرت بأطوار، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره أن الصلاة مرت بثلاث حالات، منها الإعلام بها،(1/312)
فكان يعلم أحدهم صاحبه بالصلاة، فهذا الطور الأول، ثم جاء الأذان
بعد ذلك. وكان الرجل المسبوق يأتي فيسأل من في الصف: كم صليتم؟
فيشير بأصابعه ولا يتكلم: صلينا ركعة أو صلينا اثنتين، فيصلي
المسبوق ما فاته بسرعة، ثم يلحق الإمام في الركعة التي هو فيها،
ويتساوى معه في عدد الركعات، فإذا أتم الإمام صلاته يكون هو أيضاً
قد أتم؛ لأنه أتى بما سبق به أول ما جاء، فإذا سلم الإمام سلم معه؛
لأنه أتى بما نقص عليه قبل أن يتابع الإمام. فجاء معاذ بن جبل وقال: والله لا أجد النبي صلى الله عليه وسلم على حالة في الصلاة
إلا تابعته عليها. فجاء ذات مرة وقد فاته من الصلاة شيء، فدخل مع
الرسول صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، ولم يأت بشيء قبل، ولم
يسأل أحداً، ولما سلم النبي صلى الله عليه وسلم علم ما الذي فاته
من صلاته، فقام يقضي ما فاته، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا
العمل من معاذ فقال لهم: (إن معاذاً قد سن لكم في الصلاة
سنة فاقضوها ). فكان الواحد منهم يكلم صاحبه في الصلاة بحاجته،
حتى نزل قوله سبحانه: حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238].
ونص الآية الكريمة فيه عطف الخاص على العام، وهذا يستدعي الاهتمام
بهذا الخاص على أفراد عمومه، ومثله قوله تعالى: مَنْ
كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة:98]،
فجبريل داخل في عموم (ملائكته)، ولكن عطف جبريل على عموم الملائكة
يدل على خصوصية جبريل عليه السلام؛ لأن اليهود لما سألوا: من الذي
يأتيك بالوحي يا محمد؟! قال: (جبريل). قالوا: هذا عدونا من
الملائكة؛ لأنه يأتي بالعذاب، وأما ميكائيل فهو صديقنا؛ لأنه يأتي
بالأرزاق. فهم أبدوا عداوة لجبريل بخصوصه، فجاءت الآية الكريمة ترد
عليهم: مَنْ كَانَ
عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة:98]،
وخص جبريل الذي يتخذونه عدواً، فيكون عطف جبريل عليه الصلاة(1/313)
والسلام على عموم الملائكة لأمر أثاره اليهود بخصوصه هو. وهنا كذلك
قال الله: حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ [البقرة:238]،
والصلوات خمس صلوات، والوسطى منها بلا شك، فخص الوسطى من تلك
الصلوات بالحث عليها بذاتها، فتكون موضع عناية ورعاية أكثر من عموم
الصلوات الداخلة في اللفظ العام: حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ [البقرة:238].
اختلاف العلماء في تعيين الصلاة الوسطى
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تحديد الصلاة الوسطى، فمالك رحمه الله يقول: هي صلاة الصبح. وقال بعضهم: كل الصلوات الخمس
صالحة لأن تكون الوسطى؛ لأن الوسطية في الصلوات نسبية. ولكن لو
قلنا: الصلوات الخمس صالحة لأن تكون الوسطى فمعناه أن الصلوات
الخمس كلها صلوات وسطى، ونحن عندنا الوسطى واحدة فقط كما في هذه
الآية؛ لأنه تعالى قال: حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ [البقرة:238]،
ثم خص واحدة من تلك الصلوات وجعلها الوسطى. فمالك رحمه الله
قال: إنها صلاة الصبح. والجمهور يقولون: الصلاة الوسطى هي صلاة
العصر. فما موجب تخصيص مالك لصلاة الصبح؟ وما موجب تخصيص
الجمهور لصلاة العصر؟ أما مالك رحمه الله فإنه نظر إلى شدة
اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الصبح، وقوله: (لقد هممت أن
آمر رجلاً يؤم الناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب، فأحرق على
أناس بيوتهم )، وهم: الذين لم يشهدوا صلاة الصبح. وأي اهتمام
أكثر من هذا، فهو قد هم أن يحرق البيوت على من فيها لأنهم لم يصلوا
الصبح، ولكن البيوت فيها النساء، وليست الجماعة واجبة عليهن،
والبيوت فيها الصبيان وليست عليهم الفريضة، فكونه يقول: (لقد هممت)
والرسول صلى الله عليه وسلم ما يهم بأمر إلا وهو مهتم بشأنه يدل
على عظم قدر صلاة الصبح. قال مالك : هذا الاهتمام أشد ما سمع؛
لأنه في سبيل أن يحرق على الناس بيوتهم، وفيهم من ليس مكلفاً
بالصلاة. وقال أيضاً: صلاة الصبح هي وقت نوم وغفلة، وكثير من الناس(1/314)
قد يغلبه النوم فيها، ويضيع صلاة الصبح، فيكون هذا الحث عليها. أما
الجمهور فقالوا: صلاة العصر وقد جاءت نصوص كثرة تبين ذلك منها:
حديث غزوة الأحزاب لما شغلوا بالعدو -ولم تكن قد شرعت صلاة الخوف-
حتى دخل الليل، فعمر رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقال: والله -يا رسول الله- ما صليت العصر حتى كادت
الشمس أن تغرب! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله! ما صليتها )،
ثم دعا على المشركين فقال: (ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما
شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر )، فالصلاة الوسطى التي
شغلوهم عنها هي صلاة العصر، وبعد ذلك صلى المغرب والعشاء، وهما
تشتركان في الوقت، فالتي فاتهم وقتها هي صلاة العصر، فسماها صلى
الله عليه وسلم بأنها صلاة العصر. وجاء بسند صحيح عن أم المؤمنين
عائشة رضي الله تعالى عنها أنها طلبت من زيد أن يكتب لها
مصحفاً، فقالت: إذا وصلت إلى هذه الآية الكريمة: حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]
فآذني -تعني: أعلمني وأخبرني أنك وصلت- فلما وصل أخبرها، فقالت:
اكتب: (والصلاة الوسطى صلاة العصر)، وهذا تفسير منها للآية، وأم
المؤمنين رضي الله تعالى عنها حاشاها أن تزيد كلمة في كتاب الله،
ولكن كان السلف رضوان الله تعالى عليهم يجعلون بعض الألفاظ شارحة
أو مفسرة لمعنى غامض أو هامٍّ على هامش المصحف، فكتب على هامش
المصحف: (الصلاة الوسطى)؛ لأن الصلاة الوسطى ما جاءت في القراءة،
ولا ثبتت قراءة في كتاب الله، لكنها أملتها عليه كأنه من باب
الشرح، وتكون في حافة المصحف. ولهذا أمير المؤمنين عثمان رضي
الله عنه لما أتاه من يشتكو إليه اختلاف القراء في القراءات جمع
القراء، وجمع الكتاب، وكتب المصحف الإمام، فطلب الصحف التي كانت
عند أم المؤمنين حفصة رضي الله تعالى عنها، وهي التي جمع فيها
القرآن في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ثم انتقلت من أبي(1/315)
بكر إلى عمر ، ثم كانت عند حفصة ابنة عمر رضي الله
تعالى عن الجميع، فاستعارها منها لينقل المصحف على رسم واحد، وأمر
كل من كان عنده مصحف كتبه لنفسه أن يحرقه، حتى لا يطول الزمن ويدخل
ما كان في الهوامش في صلب القرآن، فأحرق الجميع ما كان بأيديهم،
واكتفوا بالمصحف الإمام الذي قرئ على عثمان رضي الله تعالى
عنه، وأصبح المصحف الذي يرجع إليه العالم الإسلامي، وجعله خمس نسخ،
وأرسل كل نسخة إلى مصر من الأمصار ومعها قارئ يقرئ الناس، فأخذوا
القرآن سماعاً ووجادة. فأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها
أملت على الكاتب أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، ولم ينكر الكاتب،
ولم ينكر عليها من سمع بذلك. فالجمهور على أن الصلاة الوسطى هي
صلاة العصر؛ لما قاله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، ولقول
أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عند إرادتها كتابة مصحف
لها. وقال الجمهور: إن جميع أوقات الصلاة تأتي عند فراغ الناس إلا
العصر، فصلاة الصبح يكون الناس فيها فارغين من الأعمال، وما على
الإنسان إلا أن يصلي ثم يرجع لينام كما شاء، وصلاة الظهر تأتي عند
القيلولة والناس قد ملوا من العمل وجاؤوا إلى بيوتهم للقيلولة
وللغداء والراحة، فهم في فراغ، والمغرب يكون عند انتهاء النهار
وأول الليل، فيأوي الناس إلى بيوتهم وهم فارغون، وكذلك في العشاء
يكونون في بيوتهم فارغين، فجميع الصلوات الخمس تأتي أوقاتها عند
فراغ الناس من العمل إلا العصر، فهي في وقت شدة العمل، أو هي في
أوسط أوقات العمل. وقد جاء عن بعض الصحابة أنه قال: كنا نصلي العصر
مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيذهب الذاهب إلى بني عوف فيجدهم
يصلون العصر. قال الشراح: كانوا يؤخرون العصر في المدينة؛ لأنهم
أصحاب فلاحة وأعمال، فكانوا يقيلون، فإذا قاموا من القيلولة
استأنفوا العمل، فيأتي وقت العصر وهم في وسط عملهم، فإن تركوا
العمل في أول وقت الصلاة وصلوا تكون العودة إلى العمل ثقيلة،(1/316)
ولكنهم يتمادون في العمل شيئاً ما حتى يذهب شيء من أول الوقت، ثم
يصلون العصر ولا يعودون إلى العمل. فكان يأتي وقت العصر والناس في
شدة عملهم، ولهذا كانوا يشغلون عنها، وكانوا يؤخرونها، وكانت
أعمالهم تعوقهم عنها، فجاء التنبيه عليها؛ لأنها في حاجة إلى
العناية والرعاية؛ لأن أشغال الناس تكون في وقتها أشد ما تكون.
والله تعالى أعلم.
134295 ( كتاب الصلاة - باب شروط الصلاة [2] )
( كتاب الصلاة - باب شروط الصلاة [2] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه...)
2 شرح حديث: (قدر السترة مثل مؤخرة الرحل)
3 شرح حديث: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم)
4 شرح حديث: (يقطع صلاة الرجل المسلم...)
5 شرح حديث: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس...)
6 شرح حديث: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً...)
7 شرح حديث: (لا يقطع الصلاة شيء)
كتاب الصلاة - باب سترة المصلي
من سنن الصلاة وآدابها اتخاذ السترة للمصلي إذا كان إماماً أو منفرداً،
وهي من أسباب الخشوع في الصلاة، وبها يصون المصلي صلاته من أن تقطع
بمرور أحد بين يديه، وفي السترة أحكام كثيرة في صفتها، ومقدار ما يكون
بين المصلي وسترته، وحكم من مر بين يديه، وغير ذلك، وقد بين العلماء
رحمهم الله ذلك، وشرحوا الأحاديث الواردة فيها، واختلفوا في بعض
مسائلها.
شرح حديث: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه...)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [ عن أبي
جهيم بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم لكان أن
يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه ) متفق عليه، واللفظ
للبخاري ، ووقع في البزار من وجه آخر: (أربعين خريفاً ) ].(1/317)
هذا باب: سترة المصلي، والسترة ما يستر الإنسان أو الشيء ويغيبه عن
النظر، والاستتار هو: اتخاذ السترة بينه وبين من يريد أن يختفي
عنه، وقد يكون هذا الساتر مستوراً من باب المعجزة كما في قوله
سبحانه مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [الإسراء:45]،
وفي كتاب: البلاغة الواضحة أن هذا مفعول بمعنى فاعل، أي: مستوراً
بمعنى ساتر، وهذا خطأ، بل هو على الحقيقة؛ لأن من شأن الحجاب أن
يستر، والمعجزة في أن هذا الحجاب الذي يحجب ما وراءه هو بنفسه
مستور، فإن أم جميل زوجة أبي لهب لما نزلت السورة الكريمة: تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]؛
جاءت وفي يدها فهر، وهي تولول غيظاً، وكان صلى الله عليه وسلم
جالساً بجوار أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال: يا رسول الله!
لقد جاءت فلانة وفي يدها فهر -يعني: حجر مستطيل- وإني أخشى عليك
منها، قال: (لا عليك، سأقرأ قرآناً يحجبني الله عنها )، فقرأ
قرآناً فجاءت هذه المرأة ووقفت على أبي بكر وقالت: أين صاحبك؟!
وهو جالس بجانبه، لكن حجبه الله بحجاب، وهذا الحجاب مستور عنها،
ولو كان الحجاب بائناً لكشفت ما وراء الحجاب وتطلعت، لكنه مستور
عنها، فهو ساتر مستور، وهو حجاب مستور على الحقيقة، وهو وجه
الإعجاز، فقال: ما شأنك؟! قالت: لقد هجاني؛ لأنها اعتبرت سورة: تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]،
وقوله فيها: وَامْرَأَتُهُ
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4]
هجاء، أي: مذمة، فقال لها: أما إن صاحبي ليس بهجاء، فقالت: أنت
مصدق، ومضت في سبيلها. قالوا: وكذلك ليلة الهجرة قرأ قوله تعالى: وَجَعَلْنَا
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9]
فحجبه الله عن الفتية. وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها (أنها(1/318)
اتخذت سترة فيها تصاوير، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ورأى
التصاوير في تلك السترة لم يدخل بيتها، ورأت في وجهه الغضب،
فأماطتها، وقطعتها ذيولاً للوسائد ) . فأصل السترة في اللغة هو:
ما يستر غيره، لكن السترة لا تغطي المصلي هنا، ولكن هي: ما يتخذه
المصلي بين يديه في صلاته. وبعض العلماء يقول: معنى السترة في
اللغة موجود في سترة المصلي؛ لأن الغرض من وضعها ستر النظر أثناء
القيام عن التعدي إلى بعيد فينشغل المصلي، فشرعت السترة ليكون نظره
وهو قائم عند سترته، وقالوا: إذا ركع كان نظره عند أطراف قدميه،
وإذا سجد كان نظره إلى أرنبة أنفه، وإذا جلس في التشهد كان نظره ما
بين سترته وركبتيه، ويقولون: حُدَّ النظر من أجل ألا يتطلع يميناً
ويساراً؛ لأن هذا مخل بالخشوع والخضوع في الصلاة. وقد جاء أن الذي
يتخذه المصلي أمامه بين يديه يحتجر به المكان الذي يصلي فيه، ويصبح
من حقه هو، وسموا هذه العلامة أو هذا الحد الفاصل سترة؛ لأنها تمنع
المار أن يقتحم على المصلي حماه، وهل العلة من اتخاذها هو منع
التشويش على المصلي، أو هو فصله عن القبلة مؤقتاً، أو غير ذلك؟
الله تعالى أعلم. والمؤلف رحمه الله أورد هذه الأحاديث في هذا
الباب، ورتبها ترتيباً حسناً، وهذا يدل على فقه المؤلف رحمه الله،
فبعد أن ذكر أحكامها، والأمر بها، والنهي عن المرور بين يدي
المصلي، وما يقطع الصلاة، ذكر في الأخير حديث: (لا يقطع الصلاة
شيء، وادرءوا ما استطعتم )، فكأنه أورد تلك النصوص ليبين كراهية
الصلاة بدون سترة، والمنع من المرور بين يدي المصلي، وبين أخيراً
علاقة المرور بصحة الصلاة. والمتأمل في عموم النصوص الواردة في
سترة المصلي يجدها تدور على: السترة، وعلى المار بين يدي المصلي،
وعلى المصلي، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم إلى شيء
يستره من الناس فلا يترك أحداً يمر بين يديه )، فهذا خطاب(1/319)
للمصلي، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم المار... ) خطاب
للمار، فجاءت النصوص تارة للمصلي، وتارة للمار، وجاءت أيضاً في صفة
السترة، وفي مقدارها، فهي مثل مؤخرة الرحل، وبين الفقهاء رحمهم
الله كم يكون بين المصلي وسترته، وإذا لم يجد مثل مؤخرة الرحل
فماذا يفعل؟ قالوا: يخط خطاً، وكيف يكون الخط؟ هل يكون مستقيماً
معترضاً، أو مستطيلاً إلى جهة القبلة، أو منثنياً كالمحراب؟ كل ذلك
بينه الفقهاء رحمهم الله على خلاف عندهم في بعض المسائل مثل
مشروعية الخط. هذه هي جوانب مبحث السترة للمصلي، ولم يقل أحد من
العلماء باشتراط السترة لصحة الصلاة، قال ابن عبد البر :
اتفقوا أنه ينبغي للمصلي أن يتخذ سترة، ولم يقل أحد ببطلان الصلاة
بدون سترة إلا أقوالاً شاذة خارجة وبعيدة عن مذاهب الأئمة الأربعة،
وعلماء الحديث قاطبة.
التشديد في المرور بين يدي المصلي
مالك رحمه الله عقد في الموطأ باباً بعنوان: التشديد في المرور
بين يدي المصلي، فكان عنواناً مطابقاً للحديث فعلاً، ثم جاء بباب:
الرخصة في المرور بين يدي المصلي؛ لأنه ما من عزيمة إلا ومعها رخصة
غالباً لبعض الظروف، مثل أن يكون المصلي مفرطاً ويكون الإثم عليه،
كأن يصلي في ممر المشاة، فيكون عرض نفسه للمرور بين يديه بدون سبب،
فهو المتسبب، وقد يكون الإثم من جهة المار، وذلك إذا كانت له سعة
للابتعاد عن يدي المصلي، فتعمد المرور فهو آثم، وعلى هذا فكل من
المصلي والمار مخاطب ومحذر من أن يفرط في أمر السترة. والنصوص
المذكورة في الباب تدور على: حكم اتخاذ السترة، وعلاقة ذلك
بالمصلي، وعلاقة ذلك بالمار، ونوعية وكيفية السترة. نرجع إلى
الحديث الأول: (لو يعلم المار )، قوله: (لو يعلم): كأنه لا يعلم
قبل ذلك، فهو أمر غيب، والمراد: لو يعلم الإثم، وقوله: (بين يديه):
عبارة عن الاقتراب منه، فلو كنا في مكاننا هذا نصلي، وجاء إنسان(1/320)
عند الأروقة الموجودة بعيداً، وبيننا وبينه حوالى خمسين أو ستين
متراً، ومر من هناك، فهل نقول: إنه مر بين أيدينا؟! العرف ينفي
ذلك، لكن إذا كنت أصلي هنا، ومر إنسان بيني وبين القارئ فنقول: مر
بين أيدينا، فنرجع إلى العرف لمعرفة حد بين يديه، وقال البعض:
ثلاثة أذرع، وقيل: خمسة أذرع، وبعضهم قال: رمية الحجر، لكن رمية
الحجر هذه بعيدة! والمار بين يدي المصلي لا يخلو من أحد أمرين: إما
أن يكون للمصلي سترة؛ فيتحقق مروره بين يديه إذا مر ما بين السترة
والمصلي، أما إذا مر من وراء السترة فلم يمر بين يدي المصلي؛ لأن
السترة حددت موقع المصلي وحمى مكانه، وحمى مكانه أصبح من اختصاصه
إلى أن يفرغ من صلاته، وعند ذلك يرتفع الاختصاص إلى غيره. وقوله:
(ماذا عليه )، يقول بعض العلماء: أي: من الإثم، وابن حجر قال متعقباً صاحب عمدة الأحكام: لفظة: (من الإثم) لم تذكر في كل
نسخ البخاري ، فهي ليست فيه، ولكن لابد من تقدير الإثم، لكون
الحديث زاجراً عن المرور. وقوله: (لكان -أي: الحال والشأن- أن يقف
-أي: ولا يمشي تلك الخطوة- أربعين... ) أربعين ماذا؟ يقولون: لم
يأت تمييز العدد هنا في الصحيحين، وجاء في رواية أن الراوي قال: لا
أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً، أو أربعين خريفاً، والخريف هو
أحد فصول السنة الأربعة، وهي: صيف وشتاء وخريف وربيع، قالوا:
فالخريف كناية عن سنة كاملة، وهل يمكن أن يقف سنة فضلاً عن شهر أو
يوم؟! مدة الصلاة لا تتجاوز سبع دقائق أو ست دقائق، وصلاة الجماعة
من تكبير الإمام إلى أن ينتهي من الصلاة لا تزيد عن عشر دقائق.
إذاً: هذا من باب -كما قال مالك -: التشديد والتغليظ في النهي،
وكل إنسان حينما يقارن بين وقوفه أربعين يوماً -على أقل تقدير-
وبين الإثم الذي يلحقه يستهين بأربعين يوماً حتى لا يلحقه إثم أكبر
من ذلك، فما بالك إذا لم يستغرق الوقت أربعين دقيقة؟! فلأن يقف(1/321)
أحسن له بكثير، وهذا يهون عليه الوقوف حتى يفرغ المصلي من صلاته.
وقوله: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه )، وإذا كان لا
يعلم هل يعذر بالجهل؟ قالوا: نعم، ولكن على المصلي أن يدفعه كدفع
الصائل، يبدأ بالأسهل فالأسهل، قال البعض: حتى لو حرك عينه، ولو
حرك رأسه، بأي شيء ينبهه، فإذا لم ينتبه مد يده، وإلى أي مدى؟
قالوا: مقدار ما تصل اليد، لا أن يكون بينه وبين المار متران، أو
قدر مكان سجوده عدة مرات، فيخطو إليه ليرده!! فهذا ليس له حق فيه؛
لأنه لم يحتجر تلك المسافة، وإنما احتجر بالسترة لو كانت موجودة
نحو ثلاثة أذرع فقط، ولذا قالوا: لو أن المار سبق وغلب وأدركه لا
يحق له أن يرده مرة أخرى من حيث أتى؛ لأن هذا سيكون مروراً ثانياً،
فإذا مر المرة الأولى ولم يدركه ولم يحجزه عن المرور؛ فيتركه يمضي
ولا يرده. وجاء عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أن عمراً مر بين يدي رسول الله وهو يصلي فرده فرجع، فجاءت ابنتها زينب تمر بين يديه فمنعها فلم تمتنع، فمنعها فلم تمتنع، ثم غلبته
وتعدته، فلما صلى قال: (هن الأغلب )، ففرق بين الجارية وبين
الغلام، فهو استحى ورجع، وهذه تعدته. وقد جاء في الحديث: (إذا صلى
أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يمر بين يديه فليمنعه )،
وهذا يشمل الإنسان وغيره، فالمصلي يمنع حتى الحيوان من المرور بين
يديه كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يصلي فجاءت عنز -أو
عناق- وأرادت أن تمر بين يديه، فأخذ يضايقها حتى ألصق منكبه
بالجدار ومشت من ورائه، ولم تمر بين يديه ) فكان لا يدع أحداً
يمر بين يديه. وقوله في الحديث: (لو يعلم المار بين يدي المصلي )،
هل هذا لكل مصل مطلقاً أم من اتخذ سترة فقط؟ قالوا: هو للمصلي الذي
اتخذ سترة، فلا يمر بين السترة وبين المصلي، أما مصل لم يتخذ سترة،
فقد فرط في حق نفسه، والمار إذا كان يعلم النهي فتعمد المرور بين(1/322)
يديه في أقل من الثلاثة الأذرع؛ فكلاهما آثم، المصلي آثم لتقصيره
في عدم اتخاذ السترة، والمار آثم لتعمده المرور بين يديه وعنده
مندوحة أخرى، بخلاف ما إذا كانت ليست له مندوحة فيجوز له المرور.
وقوله: (لكان أن يقف ) أي: لكان الحال والشأن أنه لو وقف أربعين
يوماً، أو شهراً، أو خريفاً -كما في بعض الروايات-؛ أهون له وأخف
عليه من إثم مروره، فلو انتظر أربعين دقيقة لانتهت المسألة، وانتهى
المصلي من صلاته، وخرج من تلك المسئولية. وهذا عام في كل مصل، وفي
كل مكان، وفي كل زمان، لكنهم يقولون: يستثنى من ذلك المار بين يدي
المصلي في المسجد الحرام، وبعضهم يقول: في مكة كلها، وبعضهم يقول:
في حدود الحرم كله، ولكن النص قد جاء في المسجد الحرام فقط، فجاء
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد الحرام، والناس يمرون
بين يديه، ولم يمنع أحداً، وعلل الفقهاء ذلك بأن المساجد غير
المسجد الحرام الصفوف فيها منتظمة معتدلة، فيمكن للإنسان أن يذهب
من طرف بعيد عن تجاه المصلي ويمشي، لكن في المسجد الحرام الصف حلقة
مستديرة، فإذا كان المصلي داخل الحلقة فمن أين يخرج؟ لن يخرج إلا
إذا مر بين يدي بعض المصلين فلا يتأتى المنع، ويتعذر المنع، فأبيح
وخفف في ذلك.
شرح حديث: (قدر السترة مثل مؤخرة الرحل)
قال رحمه الله: [وعن عائشة قالت: (سئل النبي صلى الله عليه
وسلم في غزوة تبوك عن سترة المصلي، فقال: مثل مؤخرة الرحل )
أخرجه مسلم ]. هذا الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله
تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم: سئل عن سترة المصلي )،
لم يبين في الرواية صيغة السؤال عن السترة، هل هو عن حكمها، أو
بعدها، أو شرطها، أو شكلها؟ لم يبين في الرواية شيء من ذلك، ولكن
الجواب يوحي بنوعية السؤال، فإنه سئل عن سترة المصلي، ولم يقل:
تكون بعيدة أو قريبة، ولم يقل: هي واجبة أو مندوبة، ولكن قال: (مثل(1/323)
مؤخرة الرحل )، والرحل له خشبتان: خشبة من الأمام، وخشبة من
الخلف، وليست متينة كثيراً، وليست طويلة، يقول العلماء: مؤخرة
الرحل قريبة من عظم الذراع، والذراع من المرفق إلى طرف الأنامل،
وعظم الذراع من الكوع إلى المرفق، فالسترة تكون واضحة بارزة للمار
مثل مؤخرة الرحل، فالسؤال كان عن حجمها، وقد كان من عادته صلى الله
عليه وسلم أن تحمل العنزة بين يديه، فكان إذا خرج إلى المصلى في
العيد، أو كان في السفر وحضرت الصلاة؛ غرزت العنزة في الأرض، فيصلي
إليها، والعنزة: نوع من العصي في طرفها قطعة من الحديد، ولذلك يمكن
أن تخترق الأرض، فكانت تغرس في الأرض، وتكون قائمة بين يدي الرسول
صلى الله عليه وسلم. فأقل ما يكون في السترة مثل مؤخرة الرحل، فإن
وجد مثل هذا القدر في المتن وفي الطول فهذا المطلوب، فإن لم يجد
مثل ذلك فسيأتي بيان ما الذي ينوب عن مؤخرة الرحل. تنبيه: لا ينبغي
للمصلي أن يصمد إلى السترة ويجعلها بين عينيه ويسجد إليها، ولكن
يجعلها مائلة إلى أحد الجانبين يميناً أو يساراً، لحديث: (إذا صلى
أحدكم إلى شيء يستره فلا يعمد إليه عمداً، ولكن يجعله عن يساره أو
عن يمينه )، ولفظ الحديث قدم اليسار على اليمين، مع أن اليمين
أفضل، وكان ومن حقه التقديم، ولكن السترة بالنسبة للمصلي كأنها
إمام له، والواحد إذا صلى مع الإمام يكون موقفه عن يمينه، والإمام
عن يساره، فيجعل السترة موقع الإمام. واعلم أن الإمام في الجماعة
سترة للمأمومين وراءه. فينبغي للمصلي ألا يعمد إلى السترة فيكون في
صورة من يسجد لغير الله، ومن هنا كره العلماء أن يتخذ المصلي سترة
من إنسان جالس أو حيوان؛ لأنه إذا سجد والإنسان بين يديه فكأنه
يسجد لمخلوق، وكذلك الحيوان، اللهم إلا إذا كان في السفر، فقد جاء
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان ينيخ راحلته، ويصلي
إليها، ويجعلها سترة له من الناس، والله تعالى أعلم. وهذا الحديث(1/324)
الذي فيه سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السترة كان في غزوة
تبوك، وكانت سنة تسع، يعني في آخر الأمر، ولم يأت ما ينسخ ذلك،
فمشروعية السترة باقية، وما سمعنا بحديث ينسخها.
شرح حديث: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم)
قال رحمه الله: [ وعن سبرة بن معبد الجهني قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم ) أخرجه
الحاكم ]. قوله: (ليستتر أحدكم في الصلاة ) ليس معناه: أن
يتخفى عن الأنظار؛ لأنه قال: ولو بسهم، والسهم لا يخفي الإنسان عن
الأنظار، فالمعنى أن يتخذ سترة، (ولو بسهم )، والسهم ليس
كبيراً، وليس متيناً كمؤخرة الرحل، فالغرض من ذلك ما يشعر المار
بحرمة المصلي ولو بسهم يغرسه أمامه، وكانت تغرس الحربة أو العنزة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والحربة والعنزة متقاربان، إلا أن
الحربة هي أداة قتال وهي أَحَدّ، والعنزة أداة اتكاء يتوكأ عليها.
وقوله: (ليستتر) من صيغ الأوامر، فإن الفعل المضارع مع لام الأمر
صيغة من صيغ الأوامر، ومن هنا أخذ من أخذ أن السترة للمصلي واجبة،
ويتعين على كل مصل أن يصلي إلى سترة، فإذا خالف هذا الأمر فكأنه
خالف في الطهارة، أو خالف في ستر العورة، أو خالف في استقبال
القبلة، ويحكم على صلاته بالبطلان، ولكن من فقه المؤلف رحمه الله
أن أعقب ذلك بحديث: (لا يقطع صلاة المرء شيء )، وهذا يدل على أن
السترة ليست بشرط.
شرح حديث: (يقطع صلاة الرجل المسلم...)
قال رحمه الله: [ وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقطع صلاة الرجل المسلم -إذا لم يكن
بين يديه مثل مؤخرة الرحل- المرأة والحمار والكلب الأسود...
الحديث، وفيه: الكلب الأسود شيطان ) أخرجه مسلم ]. قطع
الصلاة بمعنى إبطالها؛ ولذا قال بعض العلماء: لا يقطع الصلاة إلا
الحدث، فمن اعتبر السترة واجبة، قال: من لم يتخذ سترة ومر بين يديه(1/325)
أحد هذه الثلاث، بطلت صلاته، فإذا كان مرور هذه الثلاث بين يدي
المصلي الذي لم يتخذ سترة تبطل صلاته، فهل مرور غيرها يقطع الصلاة؟
فلو مر رجل، أو ذئب، فهل تبطل الصلاة؟ التنصيص على هذه الثلاث
يخصها، ويرفع الحكم عما عداها، وقد تكلموا على هذا الحديث، وأول من
تكلم عليه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها. فقالت: رحم
الله فلاناً -تعني: الراوي- ما فتئ أن جعلنا مع الكلاب والحمير!!
وذلك لأنه روى حديث: (يقطع صلاة المرء المسلم: المرأة والكلب
والحمار )، فقالت: رحمه الله! ما فتئ أن جعلنا مع الكلاب
والحمير، لقد رأيتني أنام معترضة بين يدي رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو يصلي، وكان يطيل القراءة، فأمد قدمي -أي: بين يديه- فإذا
أراد أن يسجد غمزني، فكففتهما ليسجد، قالوا: فهي امرأة بين يدي
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تقطع صلاته صلى الله عليه وسلم.
أجاب الآخرون وقالوا: النص جاء في المرور وليس في النوم، فقال
الأولون: أخبرونا ما علة تخصيص المرأة عن الرجل؟ قالوا: الفتنة،
قالوا: وأي فتنة أشد: امرأة تمر في لحظة أم امرأة نائمة مستلقية
أمامه؟ أيهما أدخل في باب الفتنة؟ النائمة، فقد تتقلب يميناً
وشمالاً، قالوا: لا، هذه زوجة، قال الأولون: فالرجل يشغل بزوجته
أكثر من الأجنبية، وهو قد يطمع في الأجنبية، لكن نظره وفكره دائماً
متجه للزوجة، وقال بعضهم: هذه خصوصية لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، لكن قالوا: أين التخصيص؟ فخرجت المرأة بنفسها، وخرج معها
سائر النساء. كذلك قطع الصلاة بالحمار، جاء عن ابن عباس رضي
الله عنهما قال: (كنت على حمار أتان -الحمار اسم الجنس، والأتان هي
أنثى الحمير- والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى الظهر
أو العصر؛ فمررت بالأتان بين يدي بعض الصف، ثم نزلت فصففت معهم،(1/326)
وتركت الأتان ترعى، فلم ينكر علي أحد )، وكان سن ابن عباس في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة؛ لأنه قال: وقد ناهزت الاحتلام، قالوا:
وهذا السن سن إدراك وتمييز، ولو كان هناك إنكار لأنكر عليه؛ لأنه
يدرك ذلك، فمروره بالحمار بين يدي بعض الصف ولم يقطع صلاتهم؛ دليل
على أن الحمار لا يقطع الصلاة، لكن قالوا: إن مروره بين الصفوف ليس
مروراً بين يدي المصلين بدون السترة؛ لأن المصلين سترتهم سترة
الإمام، أو الإمام بنفسه سترة لهم، ومن هنا قال مالك رحمه
الله: إذا احتاج الإنسان أن يمر بين يدي الصفوف في صلاة الجماعة
فلا مانع، وأكره ذلك لغير حاجة. إذاً: من كان يريد أن يذهب لحاجته
وقت صلاة الجماعة فيتجنب المرور بين الصفوف، وإذا لم يجد مكاناً
إلا بين الصفوف فلا مانع؛ لأن كل من وراء الإمام سترته سترة الإمام
أو الإمام بنفسه سترة لهم. الشاهد أن من العلماء من أجاب عن قطع
الحمار للصلاة بحديث ابن عباس ، وأجاب الآخرون عنهم بما ذكرنا.
أما الكلب فلم يأت ما يعارضه كما جاء في المرأة وفي الحمار، فيبقى
على الخبر، لكنه وصف بالأسود، وجاءت الروايات بأن الكلب الأسود
شيطان، ومن العجيب أن بعضهم يفرق بين الكلب المأذون في اقتنائه
وغير المأذون في اقتنائه! والصواب أن الكلب الأسود يقطع الصلاة،
كما في النص، ولم يأت ما يخرجه مثل المرأة والحمار. فهذا ما يتعلق
بإبطال الصلاة وقطعها بمرور هذه الثلاث، ولا ينبغي للمصلي أن يفرط
في اتخاذ السترة، ولا ينبغي للمار أن يتعدى على حرمة المصلي. ثم
قال المؤلف رحمه الله: [ وله عن أبي هريرة نحوه دون الكلب،
ولأبي داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه
دون آخره، وقيد المرأة بالحائض ]. (قيد المرأة) أي: في حديث: (يقطع
صلاة الرجل المسلم: المرأة والحمار والكلب )، وهذه الزيادة قيدت
المرأة بكونها حائضاً، ويقول الأصوليون: هذا وصف مناسب، فإذا(1/327)
اعتبرت الحيضة بالنسبة للمرأة كان اعتباراً مناسباً، ولكن سيأتي ما
يهدم هذا كله.
شرح حديث: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس...)
قال رحمه الله: [ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من
الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله،
فإنما هو شيطان ) متفق عليه، وفي رواية (فإن معه القرين ) ].
حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه موجه للمصلي. وفي هذا الحديث
إشكالات، فلو اتخذ المصلي سترة، وأراد إنسان أن يمر بين يديه، فقال
في الحديث: (فليدفعه ) أي: فليمنعه، وبأي صفة؟ رأينا في هذا
المسجد النبوي الشريف بعض الأشخاص يصلي وكأنه يحمل وعاء غيظ وحقد،
فإذا مر إنسان بين يديه فإذا به بكل قواه يدفعه! وهذا خطأ، يقول
العلماء: دفع المار كدفع الصائل من إنسان أو حيوان ضعيف يدفع
بالأسهل، فإن لم يندفع اشتد دفعه، فمثلاً: طفل صغير قام وهجم عليك،
فتستطيع أن تدفعه بيدك برفق، فإذا أخذت عصاً غليظة وضربته لأنه
صائل عليك فأصيب فأنت ضامن، فيجب عليك أن تتدرج في الدفع، فتشير
إليه أو تدفعه برفق، فإن امتنع من هذا الدفع أو الإشارة زدت، فإن
امتنع بعد هذا فيجوز أن تصل إلى حد المقاتلة. وفي الحديث قال:
(فليمنعه)، وفي رواية: (فلا يتركه)، وفي أخرى: (فلا يدعه) كما في
الموطأ. وقوله: (فإن أبى ) أي: أشرت إليه فلم يبال، مددت يدك
فنفضها، مسكت بثوبه فنفض يدك، وأصبح معانداً، يقول النبي صلى الله
عليه وسلم: (فإن أبى فليقاتله )، والمقاتلة قد تطلق على مجرد
الخصومة، فلو رأيت اثنين يتنازعان كلاماً بينهما، تقول: هما
يتقاتلان، وليس معنى (يقاتله) أن يحمل السلاح والترس والدرع
ويقاتله من أجل المرور!! لا، بل (يقاتله) بمعنى: يدفعه بطريقة
شديدة أكثر فأكثر؛ ولذا يقولون: لو اقتضى درأ المار إلى عمل كثير،(1/328)
كأن يمشي خطوات، ونحو ذلك مما يخرجه عن الصلاة، فإن هذا الفعل أشد
خطراً من مجرد المرور، فقد يؤدي هذا إلى بطلان صلاته هو، وهناك من
قال: يقاتله ولو أدى إلى موته!! فلو قاتله وقتله! فما الحكم؟ يقول
الشافعي رحمه الله تعالى: عليه الدية في ماله، وبعض الشافعية
يقولون: الدية على العاقلة؛ لأنه فعل فعلاً مأذوناً له فيه،
والجمهور يقولون: لا يجوز أن يصل الحال إلى قتل المار، فإن أصيب
بتلف فهناك من يقول: دمه هدر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال:
يقاتله، وهناك من يقول: ما أراد بالمقاتلة أن تقتله أو تصل به إلى
حد الإتلاف، إنما أراد المنع بدليل ما سيأتي: (ادرءوا ما استطعتم )،
فإذا لم تستطع أن ترده تركته، وقد أديت ما عليك، وكان الإثم عليه
هو. وقوله: (إنما هو شيطان ) قالوا: مادة (شطن) بمعنى: بعد، أي:
فهو بعد عن الاستجابة إليك، وبعد عن الاتباع للسنة، وبعد عن احترام
المصلي في صلاته، فشيطنته عصيانه للأوامر، ورواية: (فإن معه القرين )
تبين أنه ليس شيطاناً حقيقياً. يروى (أنه صلى الله عليه وسلم رأى
شاباً يتبع حمامة، فقال: شيطان يتبع شيطانة )؛ لأن كلاً منهما
متعص على الثاني، هي متعصية أن تقر له، وهو متعص عليها إلا أن
يأخذها. إذاً: كلمة (شيطان) قد تطلق على الشيطان حقيقة، وقد تطلق
على شيء آخر، ومن الإنس شياطين كما قال: شَيَاطِينَ
الإِنسِ وَالْجِنِّ [الأنعام:112]،
فقوله: (إنما هو شيطان ) بيان أنه مخالف، وفعله في ظاهره فعل
الشياطين، وقد يكون معه يؤزه ويدفعه ويغريه، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً...)
قال رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن
لم يجد فلينصب عصاً، فإن لم يكن فليخط خطاً، ثم لا يضره من مر بين
يديه ) أخرجه أحمد وابن ماجة ، وصححه ابن حبان ،(1/329)
ولم يصب من زعم أنه مضطرب، بل هو حسن ]. يبين هنا صلى الله عليه
وسلم أن على المصلي أن يتخذ شيئاً أمامه، فإن لم يجد شيئاً، لا
عصاً ولا سهماً، فليخط خطاً، وأكثر الأئمة لم يقر الخط؛ لأنه لم
يثبت عنده، ولم يصح الحديث فيه، لكن أحمد رحمه الله صحح الحديث
وقال: من لم يجد شيئاً يستره من الناس فإنه يخط خطاً أمامه. ثم
اختلفوا في الخط هل يكون بالطول كالعصا التي يضعها بطولها أمامه أو
يكون الخط معترضاً؟ أما العصا فتكون معترضة يميناً ويساراً؛ لأنه
إذا جعلها بالطول ستأخذ حيزاً كبيراً تشغل الناس، وكذلك الخط، كما
لو كانت عصاً يلقيها بين يديه، وقيل: يخطه من موضع سجوده إلى
الأمام بطول ذراع، وقيل: يخطه مستديراً كهيئة المحراب. وقالوا: إذا
كان في أرض رمل جمع شيئاً من التراب أمامه، أو جعل أي شيء يشعر
المار، والنووي رحمه الله في المجموع يقول: لو صلى على خمرة
-وهي: السجادة المعروفة الآن- فإن نهايتها بمثابة السترة له؛ لأنها
موضع صلاته وموضع سجوده، وما عداها مما وراءها ليس ملكاً له، وهو
لم يقصد أن يحجر ما وراء مساحة السجادة، والسجادة من القدمين إلى
السجود. هذا الحديث بيان لنوعية السترة، فهي إما عنزة، وإما مؤخرة
الرحل، وإما سهم، وإما عصا، وإما أن يخط خطاً، وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يستتر براحلته في السفر خاصة. وقوله:
(ثم لا يضره من مر بين يديه ) أي: إذا استتر بعنزة، أو بعصا، أو
بمؤخرة الرحل، أو بالخط؛ فلا يضره من مر بعد السترة، ولا يتعرض له
بالمنع.
شرح حديث: (لا يقطع الصلاة شيء)
قال رحمه الله: [ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما
استطعتم ) أخرجه أبو داود ، وفي سنده ضعف ]. وإن كان الحديث
ضعيفاً فعليه عمل الجميع، وهذا من حسن ترتيب المؤلف وتنسيقه، فإنه
ساق لنا أحكام السترة، والتشديد في المرور، والتأكيد على اتخاذها،(1/330)
ثم بين أنه لا يقطع صلاة المرء شيء، لا امرأة ولا كلب ولا حمار ولا
شيء، ولكن (وادرءوا ما استطعتم )، فإذا كنت تصلي وأنت متخذ
سترة، أو لم تتخذ سترة، أو اتخذت سترة وبعدت عنها -وهذه مخالفة منك
أنت-؛ فأراد إنسان أن يمر في موضع لا يجوز له المرور فيه، فادفعه
ما استطعت، فإذا غلبك ومر فلا عليك، فالإثم عليه هو، أما أنت فقد
اتخذت السترة، ودرأت ما استطعت. والناس يختلفون في ذلك، يقول
الزهري : لو مر بين يدي مسكين تساهلت وتركته، ولو مر بين يدي
جبار متعنت لمنعته، أي: ينظر إلى حالة الناس، فالغافل يتساهل معه،
أما المتعمد للعصيان فلا يتساهل معه، لكن لا تصل إلى حد القتال
بحيث تخرج عن حدود الصلاة، وبالله تعالى التوفيق.
134305 ( كتاب الصلاة - باب الحث على الخشوع في الصلاة [1] )
( كتاب الصلاة - باب الحث على الخشوع في الصلاة [1] )
عناصر الموضوع
1 أحكام متعلقة بالصلاة
كتاب الصلاة - باب الحث على الخشوع في الصلاة [2]
إن للصلاة مكانة عظيمة في دين الإسلام، ولذلك عظمها الشرع، وأحاطها
بسور منيع من الأوامر والنواهي التي تحافظ عليها وتزيل كل ما يشوش على
المسلم صلاته أثناء وقبل أدائها، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر
عائشة بتمزيق القرام الذي كانت علقته في الجدار؛ لأنه شغل النبي صلى
الله عليه وسلم في صلاته، واستبدل بخميصته المهداة إليه غيرها؛ لأن
فيها تصاوير شغلته عن الصلاة، وأيضاً نهى صلى الله عليه وسلم المصلي أن
يرفع بصره إلى السماء أثناء الصلاة؛ لأن ذلك ينافي الخشوع، والمسلم
مطالب بالخشوع في صلاته.
أحكام متعلقة بالصلاة
احترام القبلة واليمين في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين
اصطفى. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه -أي: أنس -
قال: (كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي
صلى الله عليه وسلم: أميطي عنا قرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويره(1/331)
تعرض لي في صلاتي ) رواه البخاري ]. تقدم ما يتعلق باحترام
القبلة واليمين، وتقدم كيف يكون وضع النعلين، حيث نهى صلى الله
عليه وسلم المصلي إذا خلع نعليه أن يجعلهما قبالة وجهه، أو أن
يجعلهما عن يمينه، وأما لماذا لا يجعلهما قبالة وجهه، ولا عن يمينه
فقد قالوا: إذا جعلهما قبالة وجهه وسجد فكأنه ساجد للنعلين. مع
أنهما ليستاً صنماً، ولا معبوداً من دون الله! ولكن الصورة والهيئة
لابد أن يكون فيها ذوق وعاطفة وأدب مع الله سبحانه وتعالى. وأما
النهي عن جعلهما عن يمينه فلقوله: (ولا عن يمينه فيؤذي بهما جاره )؛
لأن موقفه في الصف من جهة اليمين بجوار من هو على يمينه، وإذا كان
هو في الصف الثاني من جهة أخرى وجاء من جهة اليمين فيكون جاره في
الصف عن يساره. فلا يجعلها عن يساره أيضاً؛ لاحتمال أن يأتي إنسان
ويقف بجواره، فتكون عن يمينه فيؤذيه بها. قال صلى الله عليه وسلم:
(ولكن بين قدميه )، فحينما يقف يجعلها بين قدميه، فلو سجد فبين
قدميه، ولو جلس للتشهد فبين ساقيه، فلن يؤذي بها أحداً. فلا يجعلها
تجاه وجه، ولا يجعلها عن يمينه، ولا يجعلها عن يساره إن توقع مجيء
أحد يصلي بجواره، وكل ذلك لئلا يؤذي بها غيره. وكذلك البصاق، فلا
يؤذ به غيره، ولا يجعله تجاه القبلة؛ فإن ذلك من الجفاء، بل جاء
عنه صلى الله عليه وسلم أنه عزل إمام قوم بسبب بصاقه إلى القبلة،
فقد دخل مسجد قوم فرأى بصاقاً في جدار المسجد، فأخذ حجراً -وفي
رواية: بيده- فحتها، وفي رواية: (أنه رأى الإمام يبصق تجاه وجهه،
فلما أنهى الصلاة قال: لا يؤمنكم هذا بعد اليوم )، فعزله عن
الإمامة لأنه ما عنده أدب، وفعل ما لا يليق، فإحساسه ووجدانه
بالأمور المعنوية مفقود، فنهى عن الصلاة وراءه وعزله لكونه بصق في
الصلاة تجاه القبلة، ويكفي أنه صلى الله عليه وسلم حتها بيده
الشريفة. فقوله في الرواية الأخرى: (حتها بيده ) قال بعض(1/332)
الشراح: أي: بدون حجر. والصواب أنه حتها بحجر في يده، وهي صورة
واحدة على الروايتين، فتولى صلى الله عليه وسلم حتها بيده وفيها
الحجر، ولم يوكل ذلك لأحدٍ ممن معه، وكان يمكن أن يقول: يا فلان!
حتها. ويكون هو الآمر بحتها، ولكن لعظمة أمرها وتولى هو صلى الله
عليه وسلم حتها بنفسه تأكيداً على ذلك.
إزالة كل ما يشغل عن الصلاة
وأما حديث عائشة الذي بين أيدينا ففيه أنه ينبغي على المصلي أن
يزيل أو يمنع ما يشغله في صلاته، سواءٌ أكان قبل الدخول فيها، أو
بعد أن دخل فيها، فعائشة رضي الله تعالى عنها أنها سترت سهوة
بيتها بقرام والقرام: نوع من القماش مثل الستارة فيه تصاوير، فلما
صلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقع بصره على هذا القرام بعد
الدخول في الصلاة نظر إلى تصاويره فشغلته، فلما انتهى صلى الله
عليه وسلم من صلاته قال: (أميطي عنا قرامك )، وفي بعض الروايات:
(أن عائشة رضي الله تعالى عنها أدركت عدم رضا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بهذا القرام في مكانه، فأخذته )، والرواية
الأخرى تُصرَّح بأمره صلى الله عليه وسلم: (أميطي عنا قرامك؛ فإنه
لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي )، ومن هنا قالوا: لا ينبغي
أن يكون أمام المصلي ما يشغله إذا نظر فيه. وجاء مثل هذا في بعض
الأحاديث الأخرى، كما في صحيح البخاري في أنبجانية أبي جهم ،
والأنبجانية مثل الجبة، أهداها أبو جهم إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وأبو جهم هو الذي استشارت المرأة فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال: (أما أبو جهم فضرابٌ للنساء )، أو:
(لا يضع عصاه عن عاتقه )، فأهدى هذه الأنبجانية إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وكلنا يعلم أنه صلوات الله وسلامه عليه يقبل
الهدية، وهذه من العلامات التي حرص عليها سلمان الفارسي ،
ليعرف من خلالها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قرأ في كتبهم:
(لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة)، وقصته(1/333)
طويلة، فقد بُيع واشتُري، وخلّص نفسه، حتى وصل إلى المدينة في ملك
رجل يهودي، وسمع بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم وخروج الأوس
والخزرج لاستقباله، فقال: الآن أتأكد، فأخذ شيئاً من الرطب وقال:
يا محمد! هذه صدقة مني عليك وعلى أصحابك، فأزاحها إلى إخوانه وقال:
(كلوا أنتم، أما أنا فلا تحل لي الصدقة )، فعقد سلمان بيده
واحدة، وكان هذا في قباء، ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة. جاء سلمان بطبق آخر وقال: يا رسول الله! هذا شيء من
الرطب ادخرته أقدمه هدية لك. فأخذ وأكل، وأطعم أصحابه، فقال: هذه
الثانية، فلما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هذه
الثانية، كشف عن كتفيه الشريفين وقال: (يا سلمان ! انظر
الثالثة )، فاستدار سلمان ونظر فوجد خاتم النبوة فأهوى عليه
وقبله. وبالمناسبة، فقد كان أحد اليهود يعرف حقيقة النبي صلى الله
عليه وسلم ووصفه، ولما جاء عرفه بكل الأوصاف، وقال: إلا واحدة ما
استطعت أن أتحققها، فعرض عليه قرضاً -ديناً- فأخذه صلى الله عليه
وسلم إلى أجل، فجاء قبل حلول الأجل وقال: يا محمد! أعطني ديني.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم معسراً، فقال: أما إنكم يا بني عبد
مناف قوم مطل، وأخذ يجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه التي
في عنقه ويردد كلامه، فسلَّ عمر السيف وقال: يا عدو الله!
تخاطب رسول الله بهذه الصفة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لا يا عمر ! كنت أحوج إلى أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن
الطلب؛ لأنه صاحب حق )، فلما سمع ذلك أخذ الرجل عمر وقال:
والله ما أردت إهانة محمد، ولكني عرفت صفاته كلها -التي عندنا- إلا
هذه، وهي عفوه عمن أساء إليه، ولقد أسأت إليه فإذا به كما سمعت،
أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فأبو جهم أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنبجانية فلبسها، وقام يصلي
فإذا فيها تصاوير، فلما أنهى صلاته خلعها وقال: (اذهبوا بخميصتي(1/334)
هذه إلى أبي جهم ، وائتوني بخميصة أبي جهم )، فما معنى
قوله: اذهبوا بخميصة أبي جهم هذه التي أهداها إليّ، وائتوني
بخميصته التي يلبسها؟ ولماذا يستبدل؟ ولماذا لم يرد الهدية إذا لم
تكن أعجبته؟! قالوا: لأن أبا جهم ما أهدى إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلا محبة له، فإذا رد هديته عليه، فكيف يكون الحال؟
وماذا سيقول أبو جهم ؟! فلعله يقول: ردها لسخطة عليّ، أو
لإساءة مني، أو لتقصير في حقه. فلكي يرفع عن أبي جهم تلك
الظنون. قال: (ائتوني بخميصته)، فيكون طلب الخميصة الخاصة بأبي
جهم مقابل رد الخميصة التي أهداها إليه وردها عليه، أي: لئلا
يقال: لم يقبل هديتك يا أبا جهم ! . ولذلك يقول العلماء: لا
ينبغي للإنسان أن ينصب أمام وجهه -وهو في الصلاة- ما يشغله، وكذلك
لا يصلي على شيء فيه ما يشغله، وأكدوا على التصاوير، وعلى الصليب،
وعلى الأشياء الأخرى اللافتة للنظر. وذكروا في ذلك أنه لو أن في
البساط الذي تصلي عليه صورة أتصح الصلاة عليها أم لا؟ فذكر النووي رحمه الله أنه تصح الصلاة عليها؛ لأن الصورة في البساط ممتهنة؛
لأنها توطأ بالقدمين، ولكن لا يتعمد وضع الجبهة في السجود على
الصورة، وكذلك الصليب، فقد توجد الصلبان في بعض الصناعات، ولكن
يصلى؛ لأن الصليب ممتهن، لكن لا يتعمد أن يجعل جبهته في السجود على
صليب من الصلبان التي في الفراش. وأما موضوع الصور فإن عائشة رضي الله تعالى عنها لما جاء لعن المصورين، وكان القرام فيه صور
قالت: (فأخذته فشققته فجعلته وسائد ) أي: (مخدات)، قالوا في
ذلك: لأن القرام إذا كان طوله مترين أو ثلاثة ربما تكون فيه الصورة
كاملة، فإذا ما قُطِّع تقطعت أشكال الصور، ولم يبق إلا أجزاء
مختلفة، وتكون في الوسائد ممتهنة، بخلاف المعلقة؛ إذ إنها تكون
للجمال، وتكون للزينة، وتكون للتكريم، وتكون لغير ذلك، فإذا ما
قطعت تقطعت الصورة إلى أجزاء، وخرجت عن محظور قوله: (من صور صورة(1/335)
أمر يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ )، فإذا قطعت
لم تُعد صورة، فقطعة فيها رأس، وقطعة فيها أرجل، وقطعة فيها صدر،
فالرأس وحده لا ينفخ فيه روح، والأرجل وحدها لا ينفخ فيها الروح،
والصدر وحده لا ينفخ فيه الروح، ومن هنا قال العلماء: جزء الصورة
للحاجة لا بأس به. ونحن الآن وجدنا الاضطرار إلى جزء الصورة في
البطاقة الشخصية حفاظاً على الأمن، والبطاقة الشخصية لها أصل في
تاريخ الإسلام؛ لأننا وجدنا في غزوة الأحزاب أنه أرسل النبي صلى
الله عليه وسلم حذيفة فقال: اذهب فأتني بخبر القوم فذهب ودخل
في القوم، فإذا بأبي سفيان ينادي في عسكره: ليعرف كلٌ منكم
جليسه، أي: حتى لا يدخل فيكم من ليس منكم فيكتشف أسراركم يقول
حذيفة : فبادرت من بجانبي وقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان. وسكت
ولم يسألني. فقوله: (فمن أنت) هو التعريف بالبطاقة الشخصية التي
فيها اسمه، واسم أبويه، وميلاده، ومكان الميلاد، ورقمه الخاص الذي
تحمله البطاقة، فـ(من أنت) تتضمن هذا كله. فأساس البحث في الصورة
هل هو في ذات الجسم الذي له ظل، كالتماثيل المشخصة، أو ما كان
بالريشة؟ ومن أراد التفصيل الوافي في هذه المسألة فليرجع إلى نيل
الأوطار يجد ما يتعلق باللباس، والصور ونوعها، والتحريم والرخصة في
ذلك، ويهمنا في بابنا هذا الحث على الخشوع في الصلاة، فلا ينبغي
للإنسان أن يصلي في ثوب يكون فيه من الألوان أو الرسوم ما يشغل
باله، ويلفت نظره عن خشوعه في الصلاة، والله تعالى أعلم.
النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال:
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم
إلى السماء في الصلاة، أو لا ترجع إليهم )، رواه مسلم ].
يذكر المصنف رحمه الله تعالى في (باب الحث على الخشوع في الصلاة)
هذا الحديث، وفيه النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة.(1/336)
قوله(لينتهين أقوام) (ينتهين)، أي: يمتنعن. (أقوام): جمع قوم، وهو
خاص بجماعة الرجال وضعاً، ويدخل فيه النسوة تبعاً، ويستشهدون لذلك
بقول الشاعر: أقوم آل حصن أم نساء فجعل النساء قسيمات للقوم،
وقوله: (لينتهين أقوم) يشمل الأفراد كذلك، فإذا كان النهي للجماعة
فهو يشمل أفراد الجماعة واحداً واحداً، كما تقول: لينتهين بنو فلان
عن أذية فلان فـ(بنو فلان) تشمل مجموعهم، وأفرادهم ضمناً. قوله:
(لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم إلى السماء )، جاء هنا بلفظ:
(في الصلاة )، والحديث جاء تارة مطلقاً وفيه: (عن رفعهم أبصارهم
إلى السماء )، وجاء هنا مقيداً بكونه في الصلاة، وهذه الرواية:
(في الصلاة ) هي المناسبة لإيراد هذا الحديث في باب الحث على
الخشوع في الصلاة. والنظر بالبصر إلى السماء يكون فيه -غالباً-
الانصراف عن معنى الصلاة؛ لأنه لا يخرج عن أحد أمرين: فإما أن يكون
عبثاً فهو عين المقصود في النهي عنه، وإما أن يكون للتأمل، كمن كان
في الليل يتأمل زينة السماء بهذه الكواكب، ويفكر في قدرة الله وفي
مصنوعاته، فهذا باب والصلاة باب آخر، فيكون قد خرج عن مناجاة ربه
إلى موضوع آخر وهو العظة والاعتبار بقدرة ربه، وفرق بين المناجي
-وهو مستحضر لمن يناجيه رغبةً ورهبة- وبين من يفكر في مصنوعات الله
وفي قدرته سبحانه وتعالى. وقد قال الله تعالى: الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، فهذا ذكر مستقل، ثم قال في التفكر: وَيَتَفَكَّرُونَ
فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل
عمران:191]، فجعله قسيماً للذكر. فرفع البصر إلى السماء يتنافى مع
الخشوع في الصلاة، ولو كان للتدبر في الآيات والقدرة الكائنة في
هذا الخلق العظيم، وقالوا: من أدب الصلاة ألا يتعدى بصر المصلي
سترته التي بين يديه؛ لأن ذلك أدعى لاجتماع حسه وحواسه لتتجاوب مع(1/337)
لسانه ومع قلبه فيما يتلو، وفيما يناجي به ربه سبحانه وتعالى. وفي
رفع البصر إلى السماء جاء هذا الوعيد الشديد: (أو لا ترجع إليهم )،
يعني تخطف أبصارهم، وهذا وعيد شديد بعقوبة عظيمة على الإنسان، ومن
هنا قال من قال: إن نظر المصلي إلى السماء في الصلاة يبطلها؛ لأنه
عمل خارج عن موضعها، وجاء الوعيد الشديد في حقه. فلا يجوز لإنسان
أن يفعل ذلك، وبعض العلماء حمل ذلك على العموم في الصلاة وفي غير
الصلاة، وقالوا: فعله في الصلاة يتنافى مع الخشوع، وفي غير الصلاة،
لا يفعله حياءً من الله، وكما أن المصلي لا يبصق أمامه حياء من
الله وتعظيماً لوجه الله فلذلك هنا. ولكن قوله تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ
فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل
عمران:191] يدل على أن ذلك غير ممنوع؛ إذ لا يكون التفكر إلا
بالرؤية التي يعملها الإنسان في ذهنه لنقل الصورة التي يراها
بعينيه، والقرآن الكريم يسجل لنا قوله تعالى عن نبيه صلى الله عليه
وسلم: قَدْ نَرَى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً
تَرْضَاهَا [البقرة:144]، فكان صلى الله عليه وسلم يتطلع وينتظر أن الله
سبحانه وتعالى يوليه إلى استقباله الكعبة، ليستقل عن اليهود، كما
قال تعالى: سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ
الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]،
وكانوا يقولون: عجباً له يعيب ديننا ويستقبل قبلتنا! فكان يتطلع
صلى الله عليه وسلم إلى الاستقلال الكلي. ولهذا جاءت النصوص في أن
المسلم لا يحق له التشبه باليهود والنصارى في عباداتهم ومعاملاتهم،
أي: الخاصة بهم، بخلاف التعامل المشترك كالبيع والشراء وتبادل
المنافع، فهذا أمر تقتضيه الحياة، وليس من التشبه المحرم، ومما يدل
على جواز التعامل مع اليهود والنصارى أنه صلى الله عليه وسلم خرج
من الدنيا ودرعه مرهونة عند يهودي، في آصع من طعام، فهل كان(1/338)
المهاجرون والأنصار عاجزين عن أن يقدموا لرسول الله آصعاً من طعام؟
لا والله، لقد حكّموه في أموالهم وفي أنفسهم، حتى في حقوقهم
الأدبية، ولما جاء إلى قباء قال: (مالي لا أرى فلان بن فلان؟
قالوا: بينه وبين القوم ثأر لا يستطيع أن يأتي )، وبعد فترة في
منتصف الليل إذا به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا
أبا فلان! كيف جئت وبينك وبين القوم كذا وكذا؟ قال: يا رسول الله!
ما كان لي أن أسمع بمجيئك وأقعد عنك، فقال لبني عوف: أجيروه )،
فإذا أجاروه أصبح آمناً يأتي في كل وقت، (قالوا: أجره أنت يا رسول
الله! )، فهذه حقوقهم الخاصة يحكمونه فيها، ويتنازلون عنها
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل -يا ترى- كانوا عاجزين عن أن
يقدموا آصعاً من طعامٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدون رهن؟
ولكن أعتقد -والله تعالى أعلم- أنه لما جاء النهي، وجاء التحذير من
اليهود، وقال صلى الله عليه وسلم : (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب )
فهم من ذلك المقاطعة الكلية، حتى في الأمور الدنيوية، فتأتي هذه
الحادثة لتدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعامل معهم في البيع
والشراء، وهكذا الدنيا اليوم، فيها أسواق عالمية، أوروبية
وأمريكية، وأسواق الشرق الأوسط، والشرق الأقصى، والشرق الأدنى،
وأسواق عالمية تتبادل فيها السلع بين الدول، فهذه أمور تعامل أو
معاملات لا غبار عليها، وتقتضيها الحياة، كما قيل: الناس للناس من
بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم فالتعاون من هذا القبيل لا
شيء فيه. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقلب وجهه في السماء
ابتغاء تحويله إلى قبلة مستقلة للمسلمين، وكان تحوله إلى الكعبة
بعد قوله تعالى: قَدْ
نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ [البقرة:144].
فالنهي هنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام) جاء(1/339)
مطلقاً بلا قيد، وجاء مقيداً بالصلاة، والقاعدة عند الأصوليين أنه
إذا جاء حديث في قضية مطلقاً، وجاء حديث في عين القضية مقيداً حُمل
المطلق على المقيد. كما يمثّل الأصوليون بالكفارة في القتل
والكفارة في الظهار، فإن عتق الرقبة في الطهارة جاء غير مقيد
بالإيمان، وجاء هناك مقيداً بالإيمان، فحُمل عتق الرقبة في جميع
الكفارات على قيد الإيمان، ولا تجزئ رقبة في كفارة إلا بقيد
الإيمان، وهنا كذلك، ففي هذا الحديث: (في الصلاة)، فيحمل عموم
النهي بغير القيد على ما جاء في هذا القيد، ومن رفع بصره إلى
السماء في غير الصلاة لا يكون داخلاً في هذا النهي، والله تعالى
أعلم.
134310 ( كتاب الصلاة - باب الحث على الخشوع في الصلاة [3] )
( كتاب الصلاة - باب الحث على الخشوع في الصلاة [3] )
عناصر الموضوع
1 المساجد وأحكامها
2 جوانب مهمة في قضية المساجد
كتاب الصلاة - باب المساجد [1]
إن للمساجد في الإسلام أهمية عظيمة، فلذلك حث الإسلام على بنائها
وتكريمها وتنظيفها، ومن نظر في المصادر التاريخية فسيجد أن للمساجد
تاريخاً عظيماً، فأول بيت وضع للناس هو الكعبة المشرفة، وقد قام بتجديد
بنائها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأُمرا بتطهيرها، وكذلك جدد
بناء بيت المقدس داود عليه السلام بأمر من الله، وهكذا بنى رسول الله
صلى الله عليه وسلم مسجده، فهذا حال الأنبياء مع المساجد، ولقد كانت
المساجد في بداية الإسلام مركزاً للقيادة والعلم، ومنها انطلقت الدعوة،
وعن طريقها عُرف الإسلام وانتشر.
المساجد وأحكامها
الأمر ببناء المساجد في الدور
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه. أما
بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت:
(أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن
تنظف وتطيب ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، وصحح
إرساله]. والمساجد: جمع مسجد، والمسجد لغة: هو موضع السجود، بوزن(1/340)
(مفعِل) بكسر العين، أي: الجيم من الكلمة، واصطلح العلماء على
تقسيم المساجد إلى قسمين: مسجد، وجامع، فالجامع ما تقام فيه الجمعة
لتجمع المسلمين، والمسجد ما تقام فيه الصلوات الخمس، لعموم قوله
صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، وهذا
لغة وشرعاً. والمساجد عند الفقهاء إنما يقصد بها ما أقيم بناؤها
للصلوات الخمس، وللمساجد تاريخ طويل عريق يجب على المسلمين العناية
به، وهذا الحديث الأول منطلق للتحدث عن المسجد، ثم عن رسالة
المسجد. تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (أمر -والأمر
للوجوب- رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور ).
الدور: جمع دار والدار قد تطلق على محل سكنى الإنسان بأهله، وتطلق
على الضواحي والناحية، فتقول: هذه ديار بني فلان. أي: محل سكناهم،
ويقول العلماء: إن المراد ببناء المساجد في الدور يحتمل الأمرين،
فيحتمل أن الإنسان يجعل له مسجداً في بيته في داره يصلي فيه
النافلة، ويصلي أهله فيه الفرائض ويستدلون بما جاء عن أم ورقة وغيرها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاها، ثم قال: أين تريدين
أن أصلي لكم؟ )، وكذلك عتبان بن مالك حين اعتذر إلى النبي
صلى الله عليه وسلم لأن بينه وبين المسجد وادياً، وقد يتعذر عليه
المشي ليلاً، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه ويصلي له
في بيته ليتخذ ذلك المكان مسجداً. وفي هذين الأثرين دلالات واسعة،
ومنها اتخاذ المسجد لأهل البيت، وقد يقال: لماذا هذا مع أن البيت
كله يكون صالحاً للصلاة، ما عدا الأماكن الممنوعة الصلاة فيها؟
يقول العلماء: إن وجود الإنسان في المسجد العام يجعل عنده إحساساً
بأنه يقوم في مكان مخصص للعبادة، فيكون أجمع لحسه وشعوره في أداء
صلاته، ونحن نحس من أنفسنا ذلك حينما نكون في البيت ونصلي -مثلاً-
النافلة، وحينما نأتي إلى المسجد ونصلي فيه، فإن إحساسنا بصلاتنا(1/341)
في المسجد غير إحساسنا بصلاتنا في بيوتنا، وهكذا لو دخلت غرفة
النوم للصلاة فليس الحال كما لو صليت في فناء البيت، بخلاف ما لو
صليت في المجلس العام لاستقبال الضيوف؛ لأن لكل مكان إيحاءاته، ومن
هنا قالوا: ينبغي أن يخصص الإنسان في بيته مكاناً لصلاته حتى يجد
شعوراً بأداء الواجب وإحساساً بوقوفه بين يدي ربه. ويحتمل أن
المراد أن تبنى المساجد في الدور -أي: في الضواحي والناحية من
البلد-، لكي يتجمع أهل كل ضاحية في مسجدهم للصلوات الخمس، بخلاف
الجمعة، وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه
لما مُصِّرتْ الأمصار كتب إلى أبي موسى الأشعري في البصرة،
وكتب إلى عمرو بن العاص في مصر، وكتب إلى عماله أن: ابن مساجد
للقبائل. أي: ابن لكل قبيلة في منزلها مسجداً يصلون فيه الصلوات
الخمس، وابن مسجداً في المدينة، فإذا كان يوم الجمعة اجتمع الجميع
في هذا المسجد -أي: مسجد المدينة-، ولا تتفرقوا.
تنظيف المساجد وتطييبها
جاء عنه صلى الله عليه وسلم من الأمر ببناء المساجد، وذلك لأهمية
المسجد، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله، ثم جعل لهذه المساجد
حقوقاً، منها أن تنظف من كل القاذورات، فقد جاء عنه صلى الله عليه
وسلم: (تعرض علي أعمال أمتي، حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد )،
فلو رأيت قذاةً في المسجد، كريش طائر، أو نواة، أو شيئاً مما
يستقذر وأخرجته من المسجد كتب لك بذلك أجر، وهذا من حق المسجد
علينا؛ لأننا لا نرضى بالقذاة في بيوتنا، فلا ترضى بقذاةً في
مجلسك، ولا في غرفة نومك، ولا وفي مطبخك، ولا في غير ذلك، فلابد أن
تنظف المساجد من كل قذاة. قولها: (وأن تطيب ) التطييب: هو تفعيل
من الطيب، سواءٌ أكان دهناً، أم كان دخاناً من الأخشاب ذات الروائح
العطرية، كالعود ونحو ذلك. وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم رجل اسمه: نعيم المجمر ، كما ساق ذلك مالك رحمه الله(1/342)
في الموطأ، وكانت مهمة هذا الرجل أن يأتي بالمجمرة وبالطيب ليطيب
المسجد، وكانت هذه سنة وعادة في المسجد النبوي إلى عهد قريب، بل
وإلى الآن أحياناً، وكانت هناك مخصصات من العود للمسجد في السنة،
ففي يوم الجمعة وليلة الإثنين يؤتى بالمجامر وبالعود، وتطيب نواحي
وأروقة المسجد، وكان هذا في عهد قريب في أوائل قيام الدولة
السعودية، فكان يأتي الأمير في رمضان، ويصلي التراويح مع الناس،
ويأتي معه بالمجامر وبالعود، وبالقهوة للمصلين، وكانوا يطيلون
الجلوس بين كل أربع ترويحات. وتقدم لنا أن النبي صلى الله عليه
وسلم رأى نخامة في جدار القبلة فحتها بحجر، أو بيده صلى الله عليه
وسلم، وعزل إمامهم أن يصلي بهم مرة ثانية لأنه لم يحترم طهارة
المسجد ونظافته وتطييبه. فمن حقوق المساجد أن تنظف وتطيب، وجاءت
الآثار بأنه منع أن يبول إنسان على جدار المسجد من الخارج تكريماً
لجدار المسجد، مع أنه لن يصل أثر البول إلى الداخل. وينبغي أن
يعتنى بإقامة دورات المياه على أبواب المساجد ليكون ذلك أيسر على
المصلين، خاصة الغرباء، ويمكن أن يستدل لذلك -أيضاً- بما جاء عنه
صلى الله عليه وسلم حين حانت صلاة العصر فطلب الناس ماءً فلم
يجدوا، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم ماء فأتي بشن -وقيل: بقدح
وقيل: بغير ذلك- فيه ماء قليل، فوضع كفه صلى الله عليه وسلم فيه
ودعا الله، يقول أنس : فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه،
فتوضأوا عن آخرهم. وقد تكررت -أي: في ذلك اليوم- هذه الحادثة -أي:
الوضوء عند المسجد- بتكرار العدد الذي كان موجوداً، فبعض الروايات
أن العدد: سبعون، وبعضها ثمانون، وبعضها ثلاثمائة، وبعضهم يقول:
ولو كنا ألفاً لكفانا. فطلب الماء عند المسجد ييسر للمصلين مهمة
الطهارة، ومهمة أداء الصلاة في المساجد. ولا يبعد إذا قلنا: إن من
التهيئة أن يوفر لرواد المساجد كل ما يمكن أن يوفر لهم الراحة،(1/343)
وييسر لهم الطمأنينة -كما هو الحال الآن بحمد الله- من التبريد، أو
التدفئة إذا أمكن ذلك، وكذلك الفرش الميسرة، والمصاحف، والماء الذي
يشرب منه العطشان، ولو أمكن أيضاً أن يكون في جوانب المسجد
المكتبات أو الكتب، فلو أراد طالب العلم كتاباً أو مصحفاً يكون كل
ذلك ممكناً ميسراً.
جوانب مهمة في قضية المساجد
العناية بالمساجد
والبحث في المساجد يتناولها من عدة جوانب: الجانب الأول: في
تاريخها، والجانب الثاني: في مهمتها ورسالتها وآثارها، والجانب
الثالث: في فضل بنائها والعناية بها. أما العناية بها فقد كانت
امرأة تقم المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فمرضت، فانقطعت
عن عملها، فسأل عنها صلى الله عليه وسلم فقيل: إنها مريضة أو:
محتضرة. قال: إذا ماتت فآذنوني. فتوفيت ليلاً، فكرهوا أن يشقوا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، فجهزوها ودفنوها، فلما أصبح
سأل عنها: ما شأنها؟ قالوا: توفيت البارحة ودفناها. قال: ألم آمركم
أن تؤاذنوني؟ قالوا: يا رسول الله! توفيت بالليل، وكرهنا أن نشق
عليك. قال: دلوني على قبرها فذهب إلى البقيع ووقف على قبرها وصلى
عليها، فلماذا كانت تلك الصلاة؟! ولماذا كانت تلك العناية؟! إنها
لعنايتها بالمسجد بنظافته، فإنها كانت تقمه، أي: تجمع القمامة منه.
تاريخ المساجد العريق
أما تاريخ المسجد فهو تاريخ عريق، وكل من كتب عن المساجد فإنه يبدأ
بمساجد بلده، فأهل القاهرة يذكرون مساجد: عمرو بن العاص ،
وأحمد بن طولون ، الشافعي ، والليث وغيرهم، وأهل
المغرب يذكرون جامع قرطبة، وجامع الزيتونة وغيرها.. وهكذا، ولكن
المنصفين منهم إنما يكتبون عن المساجد الثلاثة أولاً، كما فعل
الزركشي في كتابه (إعلام الساجد بأحكام المساجد)، فذكر المشهور
منها، وأفرد المساجد الثلاثة بأبوب مستقلة، أي: المسجد الحرام،
والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي الشريف. والمتأمل في تاريخ المساجد(1/344)
-كما أشرت- يجد أن المسجد هو أول حركة عمرانية على وجه الأرض، وبعض
الناس يقول: أول مسجد. ونقول: أول عمران؛ لقوله سبحانه: إِنَّ
أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل
عمران:96]، وهو البيت الحرام كما نعلم، وأما الذي وضعه فقيل:
الملائكة وضعته لآدم، وقيل غير ذلك، والذي بأيدينا من كتاب الله هو
التاريخ الإبراهيمي -إن صحت هذه التسمية-، كما بين سبحانه بقوله: وَإِذْ
يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127]،
فإبراهيم وإسماعيل رفعا قواعد البيت، فهي موجودة قبل أن يرفعاها،
ومهمتهما تجديد البناء ورفعه، كما جاء في قوله تعالى: رَبَّنَا
إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ
عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37]،
فكان وادياً غير ذي زرع، وغير ذي ماء، وليس فيه ساكن، ولم يكن
البيت موجوداً في ذلك الوقت، ولكنه كان أكمة، ثم تولى الله سبحانه
وتعالى تعيين مكانه لإبراهيم، كما قال تعالى: وَإِذْ
بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26].
وكذلك في الإسلام كان المسجد هو أول ما يكون في المدن، وإذا أريد
إنشاء مدينة جديدة كان المسجد هو قصبتها، وهو نقطة مركزها، كما هو
الحال في المسجد النبوي الشريف، وفي غيره في التاريخ الإسلامي.
وامتازت المساجد الثلاثة بأن الله سبحانه هو الذي اختار أماكنها،
وكذلك بالذين قاموا ببنائها ابتداءً؛ فإنهم رسل الله، ومن أجل ذلك
كانت الصلاة فيها مضاعفة، ما بين خمسمائة وألف ومائة ألف، باختلاف
المساجد الثلاثة.
تجديد إبراهيم لبناء الكعبة
قلنا: إن الله هو الذي أرى إبراهيم مكان البيت وبوأه له، ولما أراد
الله بناء البيت -أي: الكعبة- وأمر إبراهيم بذلك قال: يا رب! وأين
أبني؟ قال: حيث ترى السحاب فخط عليها فجاءت سحابة وقت الزوال على
سمك الكعبة طولاً وعرضاً، فخط على ظلها، ثم بدأ بالحفر حتى وصل إلى(1/345)
القواعد، وهناك رفع القواعد، وفي تحديد شخص الذي وضع تلك القواعد
ابتداءً تذكر كتب التاريخ أخباراً عديدة، ويهمنا الخبر القرآني في
هذا التاريخ الإبراهيمي. وهنا لمحة قرآنية فيما يتعلق بإقامة
المسجد وبنائه، وما يتعلق بتنظيفه وتطييبه، وأن العناية بالصيانة
أشد من العناية بالبناية، فنجد في البناية قوله سبحانه: وَإِذْ
يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلَُ [البقرة:127]،
فأسند رفع القواعد إلى إبراهيم، وجاء ذكر إسماعيل كالمساعد
لإبراهيم، وأما في العناية والصيانة فنجد قوله تعالى: وَعَهِدْنَا
إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ [البقرة:125]،
فإسناد البناية ابتداءً كان إلى إبراهيم، فكأن إبراهيم مكلفاً بها،
وتكليف إسماعيل يأتي بعد تكليف إبراهيم، أما في الصيانة والتطهير
والعناية فتسند ابتداءً لإبراهيم وإسماعيل، فقال تعالى: أَنْ
طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ [البقرة:125].
وهكذا قام إبراهيم عليه السلام بما أمره الله ومعه إسماعيل، ونعلم
جميعاً المعجزة الأبدية فيما كان من شأن إبراهيم وإسماعيل، فهما
رجلان -فقط- يقومان ببناء بيت ارتفاعه نحو عشرين ذراعاً، فيأتي
الحجر ويكون بمثابة المصعد الذي يضع عليه إسماعيل الحجر، ويرتفع
الحجر بحجر البناء إلى أن تم هذا البناء، ويبقى في مقام إبراهيم
آية. يقول الفخر الرازي : إن الآية في مقام إبراهيم الذي كان
يقوم عليه في البناء معجزة أبدية؛ لأن قدماه عليه الصلاة والسلام
-حينما كان يقوم عليه- غاصتا في الحجر فيا للعجب! حجر أصم صلب تغوص
فيه قدمان من دم ولحم فسمى ذلك آية؛ لأن الحجر فيه آيات، وليست آية
واحدة، كما قال تعالى: فِيهِ
آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل
عمران:97]، فما هي الآيات؟ قال: الحجر الأصم؛ لأن منه جزءاً -وهو
موضع القدمين- غاصت القدمان فيه، وبقية أجزاء الحجر ما زالت على(1/346)
صلابتها وقوتها، فليونة الجزء الذي تحت قدمه آية، وبقاء الجزء
الآخر على صلابته آية، وفي عمله في رفع حجارة البناء آية. فبناه
إبراهيم وأسماعيل وعناية الله معهما بما أوحى إلى هذا الحجر، وبما
سخر وأعطى من قوة حركة لا يعلمها إلا الله، ولا يهبها إلا هو
سبحانه، وهكذا كان بناء البيت وأول تاريخه، فهو أول عمران في
الأرض، ثم جدده إبراهيم عليه السلام.
تاريخ بيت المقدس وتجديد بنائه
ويلي المسجد الحرام في الوجود التاريخي بيت المقدس، فقد سئل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن أول المساجد فذكر أمر البيت، قيل: ثم
ماذا؟ قال: بيت المقدس؟ قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً. فبعضهم
يأتي بالتاريخ، ويقول: إن سليمان وداود كانا بعد إبراهيم عليهم
السلام بزمن طويل أكثر من أربعين عاماً! ويهمنا أنه كان بعد البيت
الحرام بأربعين عاماً كما أخبر صلى الله عليه وسلم، أما داود
وسليمان فهما مجددان أيضاً، وقد حدد الله مكان بيت المقدس لنبي
الله داود حينما أوحى إليه أن ابنِ لي بيتاً. قال: وأين -يا رب-
أبنيه؟ قال: حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه فرأى فارساً على
فرسه شاهراً سيفه، في مكان لرجل من بني إسرائيل، فاستدعاه وطلب منه
أن يبيعه المكان، فقدم إليه مائة ألف، فقال: بعتك. ثم قال الرجل:
يا نبي الله! أستنصحك -والدين النصيحة-: الثمن خير أم الأرض؟ قال:
الأرض خير من الثمن. قال: أقلني بيعي. قال: اشتري من جديد. قال:
مائتي ألف. قال: بعتك. ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك: الثمن خير أم
الأرض؟ قال: بل الأرض. قال: أقلني وتكرر ذلك خمس مرات، ووصلت
المساومة إلى خمسمائة ألف، وبعد الخامسة استنصحه أيضاً، واستقاله
فأقاله، ثم قال له نبي الله داود: اختر أنت ما تريد، وسمِّ ما شئت
أدفعه إليك. قال: أو تفعل؟ قال: نعم. قال: تملأه لي نعماً إبلاً
وبقراً وغنماً. قال: أفعل. ونادى في بني إسرائيل أن يملأوه له كما(1/347)
قال، فعدوا على الرجل ليلاً وأرادوا أن يقتلوه ويأخذوا الأرض،
فأصبح الرجل وذهب إلى نبي الله داود، فقال: يا رسول الله! غصباً أم
شراء ورضىً؟ قال: بل شراءً ورضىً. قال: إن بني إسرائيل أرادوا قتلي
وأخذي. قال: لا. فعرف مكان المسجد الذي أراده الله، وبنى بيت
المقدس حيث رأى الفارس المعلم شاهراً سيفه. فكان تحديد بيت المقدس
من الله، وكان بناؤه على يد نبي من أنبياء الله.
بناء المسجد النبوي واختيار موقعه
وأما ثالث المساجد فحين قدم صلى الله عليه وسلم مهاجراً نزل بقباء،
وليست قباء هي محل النزول، وإنما كانت بمثابة المهلة، أو
الاستقبال، أو التروي والتأني، ثم أخذ في طريقه إلى المدينة، وكان
الطريق من بطن الوادي، وليس الطريق الموجود حالياً؛ لأن هذا أنشئ
قريباً، وكانت قبائل المدينة من الأوس والخزرج تمتد من قباء إلى
جهة الغابة، إلى رومة -بئر عثمان رضي الله تعالى عنه، فما مر
بحي من الأحياء بين قباء والمدينة إلا كان أهل ذلك الحي في أهبة
الاستعداد على الطريق، فيأخذون بزمام راحلته ويقولون: هلم إلينا يا
رسول الله، هلم انزل عندنا، هلم إلى العدد والمنعة، والعدد والمنعة
هما سر بيعة العقبة الثانية، وفيها أنه يأتي إليهم في المدينة
فيحمونه ويمنعونه مما يحمون ويمنعون منه نساءهم وأبناءهم،فقولهم:
هلم إلى العدد والمنعة أي: إلى البيعة التي بايعناك عليها، فما كان
منه صلى الله عليه وسلم إلا أن يجيبهم برفق ويقول: خلوا سبيلها؛
فإنها مأمورة. وكانت كل قبيلة تقف هذا الموقف الشريف الكريم،
ويجيبها بهذا الجواب اللين الرحيم، إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه
في مكان المسجد أو بجواره، وبركت، فلم ينزل عنها أول الأمر، ثم
قامت -وهو عليها- فدارت واستدارت والتفتت، ثم رجعت إلى المكان
الأول وأناخت فيه، ومدت عنقها وحركت صدرها بمعنى أنها لن تقوم، وأن
هذا هو المكان المعين، فقال صلى الله عليه وسلم: (هو المنزل إن شاء(1/348)
الله )، ونزل عنها، وكان هناك بيت أبي أيوب فنزل فيه.
والكلام عن هذا الذي فعله صلى الله عليه وسلم في طريقة نزوله، حيث
أخبر أن الناقة مأمورة، فإنه نبي يوحى إليه، وجاء بدين إلى وطن
جديد، وإلى أمة كانت مختلفة فيما بينها، فترك أمره إلى ناقة عجماء
وقال: إنها مأمورة، فكيف يفعل هذا؟ والجواب: أن هذا هو الحكمة
النبوية؛ فإنه قدم المدينة وكان الأوس والخزرج في المدينة كفرسي
رهان، وقد استمرت الحرب بينهما مائة سنة، وما وضعت أوزارها إلا قبل
مجيئه صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات فقط، كما تقول أم المؤمنين
عائشة رضي الله تعالى عنها: كان الحيان متنافسين على الخير،
وكانا متنافسين -قبل ذلك- على الشر في القتال. فهداهم الله إلى
الإسلام، واتحدوا على دين واحد، فجاء صلى الله عليه وسلم إليهم
بناء على بيعتهم وعلى ما تعاهدوا عليه، فلو أن الأمر كان له
والاختيار من عنده وجاء ونزل عليهم فإما أن يكون نزوله على الأوس
فهو على حساب الخزرج، أو أن يكون نزوله على الخزرج فيكون على حساب
الأوس، ومن نزل عندهم سيعتزون بذلك ويفتخرون به على غيرهم، وتكون
الحزازة في نفوس الآخرين والحسرة على ما فاتهم، وناله غيرهم، وهم
في المنافسة سواء، وحينئذ تكون النفوس غير راضية أو غير طيبة، فيجد
الشيطان مدخلاً لمنافسات أخرى، فإذا ما ترك أمره لغيره، لاسيما
لناقة عجماء، وقال: إنها مأمورة فقد سد على الشيطان باب شر؛ لأن
الذي يأمر الحيوان هو الخالق سبحانه، فمضت حيث أراد الله، ونزلت
حيث أمرها الله. فإذا نزلت عند هذا الحي من العرب أو ذاك، سواءٌ
أكانوا أوساً أم خزرجاً فهل يعترض أحد أو يجد في نفسه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم شيئاً؟! والجواب: لأنه لم يختر طريقاً على
طريق، وإنما الناقة المأمورة، والآمر لها هو الله. فبهذه الطريقة
قضي على المنافسة، وقضي على المشاحة، وخرج صلى الله عليه وسلم من(1/349)
ذلك الموقف بحكمة. وأما الحي الذي نزل فيه، فقد اجتمعوا عليه، وكل
أهل بيت يقولون: عندنا يا رسول الله! وكل يقول: هذا بيتي، هذا
بيتي. فعند من ينزل؟ وعلى حساب من؟ والواقع أنه هنا أيضاً لم يكن
له اختيار، فقد نظر إلى ناقته فوجد الناقة عارية عن الرحل، فسأل:
أين رحلي؟ قالوا: احتمله أبو أيوب إلى بيته. فقال: المرء مع
رحله فانتهت أيضاً مشكلة البيوت في الحي الواحد. ونزل صلى الله
عليه وسلم في بيت أبي أيوب ، وكانت أمام البيت ساحة ونخيل
وماء، فقال: لمن هذا النخيل؟ قالوا: لسعد وسهيل يتيمان
عند أبي عتبان أو عند غيره، فاستدعاه فقال: ثامنيِّ على هذه
الأرض. قال: يا رسول الله! إنها لأيتام في حجري، وهي لك بلا ثمن،
وأنا أعوضهم عنها أرضاً خيراً منها ثمناً. قال: لابد أن تثامنني
عليها. وتمت المثامنة بعشرين ديناراً، ودفعها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فشرع صلى الله عليه وسلم -حالاً في قطع- النخيل،
وتسوية الأرض، وإقامة المسجد، فأقيم لأول مرة على جذوع من نخل،
ويمكن أن يُعرف حد المسجد الأول بالحد الموجود الآن، فسعى خلف
الروضة أعمدة فيها خطوط مستطيلة مذهبة، وفي وسطها مثل الورد أو
الزهرة، وتمتد بعد المنبر إلى الغرب سارية واحدة إلى الحجرة
الشريفة، فهذا هو حد المسجد النبوي الأول. ثم بعد ذلك -بعد العودة
من خيبر، في السنة السابعة- جدد النبي صلى الله عليه وسلم المسجد
بزيادة أخرى، ثم في عهد عمر رضي الله تعالى عنه، ثم عثمان ،
وهكذا إلى أن وصل المسجد إلى ما هو عليه الآن. وأردنا بهذه المقدمة
أن نبين أن الله سبحانه وتعالى أولى المساجد عناية، وأن أول بيت
وضع للناس هو البيت الحرام أو الكعبة المشرفة، وبتحديد وبيان من
الله لإبراهيم، وبناه الخليل عليه السلام مع ابنه إسماعيل، ثم بيت
المقدس أيضاً بعناية من الله، وبناه نبي الله داود، ثم المسجد
النبوي الشريف، وبناه وشارك في بنائه صلى الله عليه وسلم، ثم تسابق(1/350)
الملوك والسلاطين في أن ينال الواحد منهم شرف عمارة أو تجهيز أو
إصلاح أو غير ذلك في المسجد النبوي. أما مهمة المساجد في الإسلام
فهي عظيمة، ويتضح لنا ذلك من مهمة أهم المساجد في الإسلام، أو أول
مسجد بناه الرسول صلى الله عليه وسلم، والأولية هنا هي الأحقية،
أما الأولوية الزمنية فقطعاً كانت لمسجد قباء، والأولية الأحقية
لهذا المسجد النبوي الشريف، وقد ورد في فضل مسجد قباء: (من تطهر في
بيته، وأتى مسجد قباء وصلى صلاة -أو: وصلى ركعتين- كانت له كأجر
عمرة )، وخص المسجد النبوي بحديث: (صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف
صلاة -أو خير من ألف صلاة- إلا في المسجد الحرام )، فهو المعبد
الذي تتضاعف فيه الصلاة إلى ألف صلاة، والألف صلاة تعدل صلاة عدة
شهور، وإن شئت فاقسم الألف على خمسة، ثم اقسمها على ثلاثين، لتعرف
كم تعدل الصلاة الواحدة من شهور. والذي يهمنا أن المضاعفة ذاتية
وليست عددية، بمعنى أنه لو أن إنساناً عليه صلاتان فائتتان، وصلى
صلاة الفريضة في المسجد النبوي لصلاة يومه، وكانت تعدل ألف صلاة
فإنها لا تسقط الفريضتين اللتين في ذمته لله؛ لأن الصلاة التي وصلت
إلى الألف إنما هو في ذاتها، وفي ثوابها، وفي نورها، وفي بركتها،
أما إجزاؤها عن صلوات أخرى فلا.
توسعة المسجد النبوي ومضاعفة الأجر فيها كبقية المسجد
هنا بحث للمتقدمين والمتأخرين في مسألة مهمة جداً، وهي قديمة
متجددة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف
صلاة ) كان قبل الزيادات التي زادها غيره صلى الله عليه وسلم من
بعده، وأول الزيادات زيادة عمر ، ولها قصة طويلة. فإنه لما
أراد عمر أن يزيد في المسجد ندب الناس، وقال: لقد ضاق المسجد
بالمصلين، ونريد أن نوسع في المسجد للناس، فجاء إلى العباس ،
وكانت بيوت العباس في جهة الغرب، وكذلك خالد بن الوليد ،
وكانت ديار آل عمر في القبلة، وبقايا حجرة حفصة رضي الله(1/351)
تعالى عنها مقابلة لحجرة عائشة ، وكانتا تتبادلان الحديث من
كوة -أي: من طاقة- في الجدار، وتتناولان الحاجة بأيديهما لقرب ما
بينهما. ولما توفي عمر رضي الله عنه اشترى أمير المدينة الأول
لبني أمية دار عمر ، وجعلها سكناً له، ثم رأى المؤذن ينظر إلى
بيته فترك السكنى، وجعلها دار الإمارة، ثم جعلها دار القضاء، وكانت
في محل المحكمة الأولى بجانب مكتبة المدينة، وهي المكتبة التي كانت
في القبلة. فأول من زاد في المسجد عمر رضي الله تعالى عنه،
فزاد من القبلة ومن الغرب، ولما أراد الزيادة من الغرب كانت هناك
دور للعباس ، فأتاه وقال: نريد بيتك نوسع به المسجد. قال: لا.
وقال: لابد؛ لأن المسجد فيه الحجرات، ولا يمكن أن نمسها، ولابد أن
نتوسع إلى الغرب. فامتنع عليه، وقال: ألأنك أمير المؤمنين تغصبني؟!
قال: لا أغصبك، واختر من نحتكم إليه. فاختار أُبي بن كعب ،
فذهبا إليه، فقال: هلم يا أمير المؤمنين. قال: ما جئتك أميراً
للمؤمنين، جئتك متقاضياً مع العباس ، فقال: ما أمرك؟ قال: كذا
وكذا وكذا. وذكر له أنه قال للعباس : أعطني بيتك، أقطعك أرضاً
أو أبني لك بيتاً، أو أعطيك من بيت المال ما يرضيك. فامتنع العباس عن كل ذلك، فقال له أُبي : ألا أخبرك؟ وذكر له قصة داود عليه
السلام في بناء بيت المقدس ومساومته للرجل، فقال عمر : والله
ما أردته لنفسي، وإنما أردته للمسلمين، ولولا أني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يذكر التوسعة ما فكرت في توسعته. فلما خرجوا
قال له العباس : يا عمر ! أنتهيت؟ قال: نعم. قال: ألك عندي
شيء؟ قال: ليس لي عندك شيء. قال: البيت لوجه الله، وأدخله عمر ووسع فيه. وحينما وسع عمر المسجد وأدخل فيه دار العباس ،
وجزءاً من جهة القبلة في حدود بيت عمر ، رأى عمر بعض الناس
يتجنب الصلاة في تلك الزيادة، فوقف خطيباً وقال: إني لأرى كذا وكذا
وكذا، ووالله إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: الشامل(1/352)
لتلك الزيادة-، وهي ضمن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي
قال فيه: (صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة )، إنه لمسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولو امتد إلى ذي الحليفة -وفي بعض
الروايات: إلى صنعاء-، وليس بمعقول أن المسجد سيمتد إلى صنعاء،
ولكن من باب المبالغة والتأكيد. ومن هنا علمنا أن كل زيادة أضيفت
إلى المسجد النبوي في أي زمان كان فإن المسجد النبوي يتناولها،
وفضيلة المسجد من أول ما بني تشملها، وهي الأجر بألف صلاة.
حال المساجد في صدر الإسلام
المسجد معبد تتضاعف فيه الصلاة، والمضاعفة شاملة لكل الزيادات،
وكان المعهد الأول والجامعة الأولى في كل علوم الدين والدنيا، وكان
-كما يقول بعض الكتاب- المدرس الأول هو جبريل عليه السلام، فالآن
في نظم الجامعات، كل مادة لها مدرس أول صاحب كرسي، وهو المسئول عن
تلك المادة، فمادة الفقه أو مادة الحديث التوحيد أو الأصول يكون
لها عدة أشخاص يدرسون المادة لكثرة الفصول والطلاب، ولابد في كل
مادة من مدرس أول، مسئول عنها، فإذا اختلف مدرسوها في جزئية يكون
هو المرجع فيها. فيقول بعض الكتاب: كان المدرس الأول في الجامعة
المحمدية جبريل عليه السلام، وكان صلى الله عليه وسلم يتلقى عن
جبريل، وجبريل يتلقى عن رب العالمين، وكان أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تلقى
عنهم التابعون، وانتشر الصحابة في العالم، فانتشر العلم من المسجد
النبوي الشريف، وفي مكة كانت مدرسة ابن عباس ، و بعده تلاميذه
كعطاء وغيره، وكان في الشام الأوزاعي وغيره، وفي مصر
الليث بن سعد ، وفي البصرة الحسن البصري ، وفي العالم كله
انتشر العلم الإسلامي والديني بما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ومبدأ انتشاره من هذه الجامعة الأولى. وكان المسجد
-أيضاً- داراً للقضاء، يقضي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/353)
وخلفاؤه من بعده، وكان كذلك بيت مال المسلمين، فحينما جاء مال
البحرين وضع في المسجد، وقام عليه أبو هريرة حارساً، وحصلت له
قصته مع الجني الذي كان يأتي بالليل ليسرق منه، وأخذه مرتين
وأمسكه، واعتذر إليه، فأطلقه، وفي المرة الثالثة أقسم ليذهبن به
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم أنه جني، فقال: دعني
فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. ثم قال له: إذا أويت إلى فراشك
فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك
شيطان حتى تصبح. فتركه، فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد المرة الثالثة قال: ( ما فعل أسيرك البارحة؟ فأخبره أبو هريرة فقال: صدقك وهو كذوب، ثم قال: أتدري من تخاطب منذ ثلاث يا أبا
هريرة ؟ فقال: لا. قال: ذاك شيطان ). والكاذب قد يصدق، ثم
بدأ صلى الله عليه وسلم يقسم ذلك المال. ويقول بعض الكتاب أيضاً:
لقد تولى المسجد مهمة المستشفى العسكري، وذلك أن سعداً رضي
الله عنه لما أصيب بسهم في الخندق نصبت له خيمة في هذا المسجد
ليكون قريباً فيعوده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سأل ربه:
(إن كنت أبقيت حرباً لقريش فأبقني إليها، وإن لم يكن ذلك فاجعل
إصابتي شهادة، وأن تقر عيني في بني قريظة)، فلما نقض بنو قريظة
العهد في الخندق، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا:
ننزل على حكم سعد ، فلما جاء سعد حملوه من المسجد إلى محلهم
هناك، فقال: حكمي على من كان هاهنا؟ قالوا: نعم، وحكمي على من كان
هنا؟ قالوا: نعم. والرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الجهتين،
قال: كلكم رضيتم بما أحكم به؟ قال الجميع: نعم. قال: حكمت فيهم.
بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى نساؤهم، وذراريهم، فقال صلى الله عليه
وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع طباق، -أي: السماوات
السبع- )، ثم رجع فانتقض عليه جرحه فمات رضي الله تعالى عنه.
وكان المسجد -أيضاً- موضعاً للفتوى، وكان فيه عدة مهام يؤديها،(1/354)
وكذلك المساجد التي أنشئت فيما بعد، وأولى تلك المساجد الكبيرة أو
الجوامع كانت في مصر، فكان مسجد عمرو بن العاص ، جامعة ترتب فيه
الدروس والعلوم، وانتشر العلم من تلك الجوامع، وكذلك في قرطبة،
وكذلك في تونس، وكانت تبنى المساجد على أنها مدارس، ولطلاب العلم
فيها حظ كبير. إن للمسجد في الإسلام دوراً عظيماً، ورسالته عظيمة،
فإمامه يكون صاحب علم، ويكون مفتياً للحي، ويمكن أن ينظم شئون
المنطقة، ويمكن أن يصلح بين من تخاصم فيها، ويصلح ذات البين، ويمكن
أن يرجعوا إليه فيما نابهم، وكذلك يعلم الجاهل... إلخ. وكانت
المساجد -أيضاً- تشتمل على الكتاتيب لتحفيظ الصغار القرآن الكريم.
ولعل هذا القدر يعطينا أهمية المسجد في الإسلام، وما ينبغي علينا
من العناية برسالته، سواءٌ أكان للجمعة، أم كان للقاءات أخرى، أم
كان للتعليم، أم كان للإصلاح بين الناس، أم كان لتلاقي أفراد
المجتمع، وذلك بتلاقي أفراد كل حي في مسجدهم، فيتعرف بعضهم على
أحوال بعض. ومن هنا نعلم أهمية هذا الحديث: (أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم -وهذا أمر إلزام- أن تبنى المساجد في الدور، وأن
تنظف وتطيب )، وذلك لأهميتها ولعظم رسالتها
فضل طلب العلم في المساجد، وفضله في المسجد النبوي
ليعلم الجميع أن طلب العلم في المساجد محاط بالبركة؛ لأن الإنسان
إذا جلس في بيت من بيوت الله، وتذكر عظمة المكان، وسمع الشيخ يقول:
قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم. كان على استعداد أكثر
لاستقبال المعلومات، وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم المسجد
النبوي الشريف بطلب العلم، فقال فيه: (من راح إلى مسجدي هذا لعلم
يُعلِّمُه أو يتعلمه كان كمن غزا في سبيل الله ) فخص المسجد
النبوي الشريف؛ لأن المسجد النبوي كان مقراً لقيادة الإسلام، فكانت
تعقد فيه الألوية للسرايا، وكانت تعقد فيه ألوية الجيوش، وكان يعقد
فيه عهد الصلح. وقد نص القرآن الكريم على أن طلب العلم قسيم للجهاد(1/355)
في سبيل الله، فقال تعالى: وَمَا
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ
كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ [التوبة:122]،
فالذين ينفرون يجب أن ينقسموا قسمين: قسم في سبيل الله للقتال،
وقسم لحلق العلم والتعلم لينذروا قومهم، وليعلموا قومهم، ومن هنا
أخبر صلى الله عليه وسلم عن مسجده -حيث كان مقراً للقيادة وتوجيه
الجيوش وعقد الصلح- بأن طلب العلم فيه كالجهاد في سبيل الله، ولقد
جربنا ولمسنا مدى البركة في هذا المسجد، سواءٌ أكان في الطلب أم في
غيره، والله أسأل أن يعيد المساجد إلى رسالتها، وأن يعيد المسلمين
إلى بيوت ربهم. وبالله تعالى التوفيق
( كتاب الصلاة - باب المساجد [2] )
عناصر الموضوع
1 تابع أحكام المساجد
كتاب الصلاة - باب المساجد [3]
إن المساجد معظمة ومحترمة عند المسلمين، فلا يجوز للمشركين دخولها إلا
لحاجة وبإذن من المسلمين، وهذا على رأي بعض العلماء، وأما المسجد
الحرام فلا يجوز لغير المسلمين دخوله أبداً، وما ذلك إلا لعظمته عند
الله، وهناك آداب خاصة بالمساجد منها: أن لا يُنشد فيها الشعر إلا ما
كان مباحاً ولغرض شرعي، وأنه لا يجوز إنشاد الضالة في المساجد، فإن
المساجد لم تجعل لذلك.
تابع أحكام المساجد
حكم دخول الكافر إلى المسجد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم
خيلاً فجاءت برجل، فربطوه بسارية من سواري المسجد... الحديث )
متفق عليه ]. هذا الحديث -كما يقول الشراح- له قصة، وهي أن الرسول
صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل، -وسمي في غير
هذا الحديث- وهو ثمامة بن أثال ، وكان سيداً من سادات وادي بني(1/356)
حنيفة في نجد، فأخذ أسيراً، فجيء به فربط في سارية المسجد، وهذا هو
موضع الدلالة، حيث أن ثمامة رجل مشرك أخذ أسيراً وأدخل المسجد
وربط فيه، وهذا حكم من أحكام المساجد. فلما ربط في سارية من سواري
المسجد كان صلى الله عليه وسلم يأمر له بحلب سبع شياه فيشربه، ويمر
عليه كل غداة ويقول: كيف بك يا ثمامة ؟ فيقول -وهو في الأسر-:
يا محمد! إن شئت مالاً أرضيتك، وإن مننت مننت على كريم، وإن قتلت
قتلت ذا دم لأن الله قد قال في حق الأسير فَإِمَّا
مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4]،
فالأسير إما أن يفادى بالمال، وإما أن يمنَّ عليه ويطلق سراحه بلا
فداء، وإما أن يقتل، وكونه يسترق شيء آخر. فكان يقول: إن ترد مالاً
-يعني: فداءً- أرضيتك، أي: أعطيتك الذي ترضى. وإن تمنن -أي: تطلق
سراحي بدون فداء- مننت على كريم -والكريم لا تضيع عنده الصنيعة-،
وإن قتلت قتلت ذا دم. أي: فدمي لن يذهب سدى، بل ستجد من يطالب به،
فهو يهدد وهو في الأسر؛ لأنه سيد من سادات قومه، فتركه على هذه
الحالة ثلاثة أيام. ثم مر عليه في اليوم الرابع فقال: أطلقوا ثمامة . فأطلقوه، فجاء إلى بعض الحاضرين في المسجد وقال: ماذا يفعل من
يريد أن يدخل في دينكم؟ قالوا: تذهب فتغتسل، وتأتي إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فتشهد بشهادة الحق. فذهب إلى بيرحاء -وبيرحاء كان
شمالي المسجد، وكان يبعد عن باب المجيدي حوالى ثلاثين أو أربعين أو
خمسين متراً، وكان بستاناً قريباً- فاغتسل في الضحى، وفي صلاة
الظهر استقبل النبي صلى الله عليه وسلم وشهد شهادة الحق. ثم قال:
يا رسول الله! أخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة، فما ترى علي؟
قال: امض وأكمل عمرتك. فمضى إلى مكة، فبلغ مكة خبر إسلامه، وهناك
ضيقوا عليه وآذوه لأنه أسلم، فلما رجع إلى وادي بني حنيفة منع
الميرة أن تأتي من هناك إلى مكة، وكان وادي بني حنيفة في ذلك
التاريخ يمول الحجاز، فقد كان مخصباً ومنتجاً وذا زرع، فمنع الميرة(1/357)
أن تصل إلى مكة، فأحس أهل مكة بالحاجة والجوع، فأرسلوا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد! مر ثمامة أن يسمح
بالميرة لمكة؛ فإن لك فيها الخالات والعمات. فكتب إليه أن: اسمح
بالميرة لمكة. فسمح بها. ولما غدا صلى الله عليه وسلم وقال: أطلقوا
ثمامة أتي في الليلة التي أسلم في نهارها بحلب شاة -مع أنه قبل
إسلامه كان يشرب حلب سبع شياة- فشرب فشبع، فقال صلى الله عليه
وسلم: (إن الكافر ليشرب في سبعة أمعاء، والمسلم -أو المؤمن- يشرب
في معى واحد )، وقالوا: لأنه لما أسلم قال: (باسم الله)، وببركة
(باسم الله) جعل الله في حلب الشاة الواحدة ما أشبعه نيابة عن
السبع الشياه. ويؤخذ من ذلك مواقف النبل في الرجال، أو مواقف عظماء
الناس، فقد قيل له: يا ثمامة ! ما دمت فكرت في الإسلام فلماذا
لم تسلم من أول يوم، ومكثت في الأسر مربوطاً ثلاثة أيام؟! قال:
لئلا تقولوا: أسلم خشية السيف. أي: فلما أطلقت وصرت حراً طليقاً
حينئذ أسلمت. ونظير هذا الموقف أيضاً موقف زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو العاص بن الربيع فقد أخذ أسيراً في
بدر وافتدي هو وأخوه، ثم بعد الفداء سافر بتجارة إلى الشام، وهو
عائد أخذ هو وتجارته، فلما أخذ هو وتجارته استطاع أن يفلت منهم،
ودخل على زينب رضي الله تعالى عنها واستجار بها فأجارته، فأطلت على
الناس في صلاة الفجر وقالت: أيها الناس! إن عندي فلاناً -أي:
زوجها- وقد أجرته. فقال صلى الله عليه وسلم: أو تسمعون ما أسمع
-وما كان يعلم بذلك-؟ قالوا: نعم. قال: والله ما علمت بذلك إلا كما
علمتم أنتم الآن، وإنا قد أجرنا من أجرت لأنه قد جاء في الحديث:
(يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أحدهم ) . ثم قال صلى الله
عليه وسلم: إن رأيتم أن تعيدوا عليه تجارته وتطلقوا سراحه فأعيدوا
وأطلقوا سراحه، فأعادوا إليه تجارته وأطلقوا سراحه، فذهب إلى مكة(1/358)
-والتجارة التي كانت معه عبارة عن مضاربة لأهل مكة، فأعطيت له
الأموال ليتاجر بها- فلما وصل ووزع الأموال على أصحابها وبرئت ذمته
قال: يا أهل مكة! أشهدكم أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً
رسول الله، فقالوا له: ولماذا لم تعلن ذلك وأنت في المدينة؟ قال:
أخشى أنكم إن سمعتم بإسلامي تقولون: أسلم ليذهب بأموالنا، ولما جئت
بأموالكم وأعطيت الحقوق لأهلها، ولم يبق لأحد عندي شيء أسلمت بدون
أي دافع آخر.
حكم دخول غير المسلمين إلى المسجد
والناحية الفقهية في هذا الباب -باب المساجد- ظاهرة في قوله: فجاءت
-أي الخيل- برجل أي: جاءت به أسيراً، فهو ليس مسلماً، ودخل المسجد،
فما حكم دخول غير المسلمين المساجد؟ هذه مسألة -كما يقولون- فيها
قليل من التطويل، وأخونا الشيخ عبد الله ولد والدنا الشيخ
الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه -في الآونة الأخيرة- جمع
رسالة صغيرة في هذه المسألة. ووالدنا الشيخ الأمين رحمة الله
تعالى علينا وعليه في أضواء البيان تكلم عنها عند قوله سبحانه: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]،
والمسألة تتلخص في الآتي: يقول تعالى: إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]،
والمشركون جنس معين، وهم أهل الأوثان، بخلاف أهل الكتاب. وقال
تعالى: فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [التوبة:28]،
فجعل مالك رحمه الله أصل المسألة في المشركين، وقاس عليها أهل
الكتاب: يهوداً ونصارى، وأخذ المسجد الحرام كأصل، وقاس عليه جميع
مساجد العالم، فقال مالك : لا يدخل كافر مطلقاً -سواءٌ أكان
مشركاً، أم وثنياً، أم كتابياً يهوياً أو نصرانياً، أم بوذياً- أي
مسجد من المساجد نصاً وقياساً. والإمام أبو حنيفة رحمه الله
جعل المسألة خاصة بالمشركين وبالمسجد الحرام فقط على نص الآية.(1/359)
والشافعي وأحمد رحمهما الله جعلاها في عموم الكفار، وبخصوص
المسجد الحرام. فهذا خلاصة خلاف الأئمة رحمهم الله، وإذا جئنا إلى
قصة ثمامة نجد أنه رجل مشرك أدخل المسجد، وربط في السارية،
فهذا ينقض على مالك اعتبار عموم المساجد بالمسجد الحرام؛ لأنه
قال: جميع المساجد يمنع منها جميع الكفار والمشركين فهذا مشرك دخل
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتعميم في المساجد ينقضه
دخول ثمامة . وهنا أيضاً دليل آخر، وذلك لما جاء وفد ثقيف،
ووفد ثقيف من الطائف وكانوا مشركين، جاءوا في السنة التاسعة من
الهجرة -عام الوفود-، ونحن نعلم ما فعلت ثقيف برسول الله صلى الله
عليه وسلم حينما جاءهم إلى الطائف سنة تسع من البعثة، فأساءوا إليه
صلوات الله وسلامه عليه، ولما جاءوا سنة تسع من الهجرة -عام
الوفود- أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وبنى لهم
خياماً في المسجد، وكان ذلك في رمضان، وكانوا يرون الناس يصلون،
وكان صلى الله عليه وسلم هو الذي يشرف على خدماتهم، وكانوا من شدة
خوفهم لا يأكلون طعاماً جيء به إليهم حتى يأكل الذي جاء به منه
أمامهم، وكان صلى الله عليه وسلم -من مكارم أخلاقه وحسن ضيافته-
يأتيهم بعد العشاء، ويقف على خيمتهم، ويتحدث معهم في أيام العرب
وفي أحاديثهم، ويراوح بين قدميه، فمرة يقف على اليمين، فلما يطول
القيام قليلاً يريحها، ويقف على اليسار من طول ما يقف عند خيمتهم
متحدثاً معهم. فهذا وفد من المشركين نزل في المسجد النبوي. وأما
غير المشركين فأهل نجران، وليسوا وثنيين، ولما جاءوا المدينة جاءوا
إلى المسجد، ولما جاءوا وطلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم
المباهلة قالوا: أمهلنا إلى الغد. فكان فيهم السيد العاقب، فقال
لهم: والله ما باهلت أمة نبياً إلا أخذوا عن آخرهم، ولو باهلتموه
والله لن يبقى حتى الطير يطير في بلادكم، فأصبحوا وقالوا: يا محمد!(1/360)
نعتذر عن المباهلة، ونحن على السمع والطاعة لك، واتركنا على ما نحن
عليه، وابعث معنا رجلاً أميناً يحكم بيننا في أموالنا إذا اختلفنا
فيها. قال: نعم. لأبعثن معكم رجلاً أميناً. يقول عمر رضي الله
تعالى عنه: فبت أتطلع. أي: لينال شرف هذا الوصف ويبعث معهم، ولكن
دعا بأمين هذه الأمة أبي عبيدة ، فهؤلاء نزلوا في المسجد. وعلى
هذا يكون القول الراجح أنه لا يسمح لغير مسلم، أو لا يحق لغير مسلم
أن يدخل المسجد بسلطة، وبنوع من التحكم، أما أن يدخل بأمان من
المسلمين، وبعهد من ولي أمر المسلمين لحاجة نحن نحتاجه فيها، أو هو
يحتاج إلينا فيها، كما كان اليهود يدخلون المسجد ويتحاكمون إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يستفتونه فلا مانع. فغير المسلم
يدخل المسجد للحاجة، فحاجته في التقاضي والقاضي في المسجد، أو
الاستفتاء والمفتي في المسجد، أو للماء والماء في المسجد، أو لحاجة
المسجد إليه لعمارة، أو لتدارك أمر ما، فحينئذ يسمح له بالدخول.
والقضية تدور حول قوله تعالى: إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]،
وبعض علماء اللغة يفرق بين (نَجَس) و(نَجِس) فيقول: نجَس (بالفتح):
نجاسة اعتقاد، ونجِس (بالكسر): نجاسة مادية، كالبول والعذرة، فهنا
نجس المشركين في اعتقادهم، وكان بعض السلف -كالحسن - يقول: من
صافح مشركاً فليتوضأ؛ لأنهم نجس. ولكن يستدل الجمهور على أن نجس
المشركين نجس اعتقاد بأنه لو أخذت سبية من العرب، وكانت تلك السبية
على دين قومها. فإذا لامسها السيد فهل لامس نجاسة؟ وقد كانوا
يضاجعونهن، وكانوا يستمتعون منهن بملك اليمين، ولم يُؤمر أحد منهم
أن يغسل ما لامس النجس، فهو على التحقيق نجَس اعتقاد. وبعضهم يقول:
(نجَس) باعتبار الشرع؛ لأنهم كانوا يصيبون الجنابة ولا يغتسلون،
فالنجاسة نجاسة معنوية، أو نجاسة حكمية، وليست حقيقة مادية. والذي
يهمنا في هذا أنه لا يُمكَّن غير المسلم من دخول المسجد لغير حاجة.(1/361)
وهنا قضية محزنة مؤسفة، ففي بعض البلاد أصبحت بعض المساجد متاحف
أثرية، فهجرت الصلاة فيها، وأصبح السُّواح يرتادونها على أنها
آثار، فهل تدخل في هذا المعنى أم لا؟ الله تعالى أعلم، والواقع أن
هذا تقصير من المسلمين.
صحة صلاة المسلم في الكنيسة والبيعة دون بيت النار
وهناك مسألة في المقابل تهمنا في الفقه، وهي أنه إذا كان غير
المسلم لا يدخل المسجد إلا لحاجة، فهل يدخل المسلم الكنيسة ويصلي
فيها أم لا؟ يتفق العلماء على أن المسلم إذا دخل كنيسة أو بيعة
-بخلاف بيت النار؛ لأن بيت النار يعبدون النار فيه- وحانت الصلاة،
وأراد أن يصلي فله أن يصلي في تلك الكنيسة ما لم ير نجاسة؛ لأن
الأصل في الأشياء الطهارة ما لم تتحقق النجاسة، وهذه قاعدة
إسلامية، وعند أهل الكتاب الأصل النجاسة ما لم تتحقق الطهارة. ولكن
إذا كان في الكنيسة تماثيل وصور، كالتي ذكرتها أم سلمة رضي
الله تعالى عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تصح الصلاة
هناك، لا لكونها كنيسة، ولكن لكونها فيها التماثيل والصور. ويذكر
البخاري رحمه الله في قصة عمر لما ذهب إلى الشام أنه حينما
حوصر أهل الشام واشتد الحصار عليهم أرادوا أن ينزلوا على الصلح
-وقيل: كان نصفها صلحاً، ونصفها عنوة. وقيل: كلها عنوة. وقيل: كلها
صلح- فكتبوا إلى أمير المؤمنين عمر إنا نريد أن ننزل على
الصلح، ولكن تكون أنت طرفاً فيه. فخرج عمر رضي الله تعالى عنه،
هو وغلام معه فقط، وكان يتعاقب الركوب مع الغلام، فمرحلة يركب هو
ويمشي الغلام، ومرحلة يمشي هو ويركب الغلام، إلى أن اقتربا من
دمشق، وكان قميصه مرقعاً، فقالوا: لا يليق بك أن تدخل على الروم
بهذا القميص فيقولون: هذا أميركم بهذه الثياب! وهذا قميص تلبسه.
فنظر فيه فلم يقبله، وقال: ردوا علي فميصي، قالوا له: تمهل. دعنا
نغسله. فغسلوه وردوه عليه، ولما جاء ودخل على الروم عرفوه بشكله(1/362)
وبوضعه فقالوا: والله هو هذا الذي نجده في كتبنا. وتمت المفاوضة
على الصلح، فجاء رجل من ذوي القسطنطين، وقال لعمر رضي الله
تعالى عنه: صنعت لك طعاماً وأريد أن تحضره فحضر، ثم دخل الكنيسة،
ثم قال: أريد أن أصلي. فقال: صل مكانك. قال: لو صليت في الكنيسة
لانتزعها منكم المسلمون وكان في عهد الصلح ألا تنقض لهم كنيسة، ولا
تؤخذ أموالها، ولا يتعرض لصلبانهم، وأحوالهم تبقى على ما هي عليه،
واشترط عليهم شروطاً وحقوقاً للمسلمين. فقال: لو صليت هنا لجاء
المسلمون من بعدي وقالوا: هذا مصلى عمر فينتزعونه منكم،
فينقضون الصلح، وجاء عند العتبة وصلى. ثم جاء ابن عمر ، وجاء
عمر بن عبد العزيز وغيرهما وقالوا: إذا كان فيها التماثيل أو
الصور فلا تجوز الصلاة فيها، وإذا كانت خالية من تلك الموانع فلا
مانع ما لم توجد فيها نجاسة أو موانع وعوارض أخرى. وكما ربط ثمامة وهو مشرك ربط أبو لبابة نفسه وهو مسلم، فحين ذهب إلى بني قريظة
سألوه عما سيفعل بهم، فأشار بيده إلى حلقه، أي: الذبح، ثم قال
لنفسه: والله لقد علمت أني خنت الله ورسوله، فرجع وربط نفسه في
سارية المسجد. فالمسجد: معتقل للأسارى وسجن للمخطئين، فأدى رسالة
بجانب المعبد، وبجانب المعهد؛ لأنه على رءوس الأشهاد وتحت أنظارهم،
فاتسع نطاق رسالة المسجد إلى خطوة أخرى.
الشعر وإنشاده في المسجد
قال المؤلف رحمه الله: [ وعنه رضي الله عنه: (أن عمر رضي الله
عنه مرّ بحسان ينشد في المسجد، فلحظ إليه، فقال: قد كنت
أُنشِدُ فيه، وفيه من هو خير منك ) متفق عليه]. يقول: إن عمر رضي الله عنه مر بالمسجد، وعمر دائماً كان دقيق الملاحظة، فوجد
حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه -وهو شاعر رسول الله صلى الله
عليه وسلم وشاعر الإسلام- ينشد شعراً، فلحظ إليه، واللحظة من عمر ليست بالهينة، ففهم حسان فواجهه: بأن عليك ألا تلحظ ولا تهتم،
وما علي منك، فقد كنت أنشد الشعر فيه -أي: في المسجد- وفيه من هو(1/363)
خير منك. والذي هو خير من عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلم يكن لعمر جواب، والحقُ يسكت. وما هو الإنشاد الذي كان
ينشده حسان في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن
المؤلف ساق هذا ليبين لنا أن المسجد لا يصلح لإنشاد الشعر، ولكن
سيأتي التفصيل في الإنشاد الذي كان ينشده حسان في عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فهل هو الوصف والغزل والتشبيب والهجاء،
أو هو شعر معين؟! لقد جاء الأثر بأن حسان رضي الله تعالى عنه
قال: ائذن لي -يا رسول الله- بهجوهم -يعني: المشركين-، قال: كيف
تهجوهم وأنا منهم؟! قال: أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين، ولا
يلحقك من ذلك شيء. قال: اهجهم. فهجاهم، فنصب له كرسياً أو منبراً
وقال له: اهجهم، فوالله لوقع كلامك عليهم أشد من وقع السهام في غلس
الظلام. فالسهم لما يأتي في النهار معلوم من أين أتى، أما في الليل
فلا يعلم مصدر إتيانه، أمن يمين أو يسار، ولذلك لما تكلم أبو سفيان وهجا الرسول صلى الله عليه وسلم، رد عليه حسان قائلاً: ألا
أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء أتهجوه ولست له بكفء فشركما
لخيركما الفداء فمن هو شر الفريقين ومن هو أخيرهم؟ لا شك أن المشرك
شر الفريقين، وأن المسلم خير الفريقين، قال حسان : أتهجوه ولست
له بكفء فشركما لخيركما الفداء لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا
تكدره الدلاء في أبيات عديدة امتدح فيها المسلمين وهجا المشركين،
وخرج صلى الله عليه وسلم بقوله: شركما لخيركما الفداء. وهذا -كما
يقول نقاد الأدب- مأخوذ من القرآن، ولهذا القرآن عدّل في شعر
الإسلاميين، فقوله: فخيركما لشركما الفداء، مأخوذٌ من قوله تعالى: وَإِنَّا
أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]،
وعلى هذا فحسان رضي الله تعالى عنه كان ينشد الشعر في المسجد
النبوي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه(1/364)
وسلم يؤيده ويقول: (اهجهم وروح القدس يؤيدك)، وكان هجاء حسان على المشركين أشد من السهام في ليلة ظلماء. إذاً فلا نقول: كل شعر
ممنوع، ولا نقول: كل شعر جائز، فإذا كان الشعر لخدمة الإسلام
والمسلمين -كهذا-، أو أنشد إنسان أبياتاً يظهر فيها ظلامته، أو
أنشد شيئاً يمتدح فيه إنساناً فعل خيراً فذلك لا بأس به. وربما
يأتينا إنسان ويقول: ماذا تقولون في قول كعب بن زهير : بانت
سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة
البين إذ رحلت إلا أغن غضيض الطرف مكحول أليس هذا غزل في سعاد؟!
يقول نقاد الأدب الإسلاميون: إن افتتاح الشاعر قصيدته بالغزل
الرفيع المستوى في غير معين يعتبر من باب التشويق وتوجيه الأذهان
إلى الموضوع الأساسي؛ لأن الشاعر انتقل من ذكر سعاد إلى قوله: نبئت
أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول وذكر صفات الناقة،
وذكر غير ذلك، وانتهى إلى موضوعه بأنه يلتمس العفو من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هناك الغزل، وهناك النسيب، وهناك
التشبيب، فهذه أنواع من أنواع الشعر الغزلي بصفة عامة، أو ما يتعلق
بالنساء، فإذا كان الغزل في امرأة غير معينة كسعاد فكلمة (سعاد)
عند الشعراء رمز لمجهول، كما يقولون في العصر الحاضر: الجندي
المجهول، فهم يأتون بها كوصف لتهييج السامع إلى ما وراءه، فيسهل
الانتقال إلى الموضوع المقصود والذهن قد تهيأ لتلقيه، وهو هنا
الاعتذار عن تأخره في الإسلام، وأنه مخافة أن يهدر دمه، وجاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، وقبل منه رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فهذا في الغزل، أما النسيب فهو في امرأة معينة
بذاتها بأبيها وجدها، وأما التشبيب: فهو مأخوذ من شب يشب شبوباً
وشباباً، تقول: شبت النار: أي: ارتفعت. وتقول: الشباب قوة غريزة
وفتوة، فكذلك التشبيب هو إثارة الغرائز بأوصاف خاصة بالنسوة، خاصة
في ما تحت الثياب، فهذا محرم وممنوع، وكعب بن الأشرف ما قتل(1/365)
إلا لذهابه إلى مكة يستعدي قريشاً على المسلمين، وتشبيبه ببعض نساء
المسلمين. فالغزل من حيث هو إذا كان لغرض ينتقل منه إلى غرض مباح
إسلامي شرعي، وليس فيه النسيب ولا التشبيب فلا غبار عليه، وعلى هذا
فإنشاد الشعر في المسجد إن كان لغرض ديني فلا مانع، وإن كان لهوى
نفس فممنوع، فعمر رضي الله تعالى عنه لما وسع المسجد بنى رحبة
في الجهة الغربية، وقال: أيها الناس! من أراد الدين والآخرة فعليه
بالمسجد لذكر الله، ومن أراد حديث الدنيا فليخرج إلى تلك الرحبة.
وبعض الروايات فيها: من أراد سوق الآخرة فليجلس، ومن أراد سوق
الدنيا فليذهب إلى الرحبة. وهذا في الكلام العادي فضلاً عن كونه
شعراً. والشعر من حيث هو جاء فيه الحديث: (لأن يمتلئ جوف أحدكم
قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً )، وسئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها -وهي التي يذكرها ابن رشيق العزي في عدة
الأدب- عن الشعر؟ فقالت: الشعر كلام موزون حسنه حسن، وقبيحه قبيح.
والوزن لا يغير ولا يبدل في المعنى، إنما هو في الصناعة وجرس
السمع، فإذا كان الشعر كلاماً حسناً فهو حسن، وهناك شعر الحكمة
والمواعظ والتعليم ونظم العلوم، وإن كان نظم العلم ليس بشعر؛ لأنه
لا يخاطب الشعور، بل يخاطب العقل، كألفية ابن مالك، والرحبية،
والبيقونية، وغيرها، فهذا يسمى نظماً وليس شعراً. وبالله تعالى
التوفيق.
حكم إنشاد الضالة في المسجد
قال رحمه الله تعالى: [وعنه -أي: عن أبي هريرة رضي الله عنه-
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع رجلاً ينشد الضالة
في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك؛ فإن المساجد لم تُبن لهذا )
رواه مسلم ]. هذا العمل مما ينبغي أن تصان المساجد عنه، فإذا
من ينشد دابة -أو حاجته بصفة عامة- في المسجد فقل له: لا ردّها
الله عليك. والله هذا رد عجيب، ولم يقل: أسكتوه. ولم يقل: امنعوه.
ولم يقل: أفهموه بأنه لا ينبغي هذا هنا، ولكن: (يدعن عليه: (لا(1/366)
ردّها الله عليك)، فيعامل بنقيض قصده، هو ينشد: من رأى لي دابة،
صفتها كذا وكذا، يريد بذلك الحصول عليها، وأن ترد إليه، فيعامل
بنقيض قصده، والذي يعلم أنه إذا أنشد ضالته في المسجد ردّ عليه
المسلمون بقولهم: (لا ردها الله عليك) هل سيأتي وينشدها في المسجد
ليسمع هذا الجواب؟ لا والله وقاس العلماء على الدابة كل ضائعة. ثم
قالوا: وإذا ضاعت الضائعة في المسجد، كإنسان جاء بما يسجد عليه
فضاع منه، فبحثت عنه فلم يجده، أو سقطت منه محفظة ماله، أو سقطت
ساعته من يده، أو سقط منه شيء كان يحمله، فليس له أن ينشده في
المسجد، فأي ضائعة ضلت عليه في المسجد، أو في غير المسجد فهي كذلك،
إلا أن بعضهم قال: إن كانت الضالة ضلت عليه في المسجد فلا مانع من
إنشادها في المسجد. والآخرون قالوا: لا؛ فإن الحديث لم يخصص: (إذا
سمعتم من ينشد ضالةً في المسجد ) والضالة: الضائعة؛ لأن الضلال:
الضياع والتلاشي وعلى هذا فإن قوله: (ضالته) يشمل كل ضالة، سواء
كانت دابة، أم متاعاً، أم سلعة، أم أي شيء قليل أو كثير ضل على
صاحبه في المسجد أو في غيره، فلا يجوز له أن ينشده في المسجد. ثم
قالوا: فأين ينشدها والمسجد موضع التجمع؟! قالوا: يقف على باب
المسجد، وعند خروج الناس من الصلاة ينشد ضالته، فيقول: من رأى لي
ضالتي أو: ضل علي كذا. فمن رآه؟ فيكون إنشاده للضالة خارج المسجد.
ثم التعليل في الحديث: (فإن المساجد لم تبن لذلك ) أي: لم تبن
للبحث عن الضوال؛ لأن هذه أمور دنيوية. ونظير ذلك ما فعله
الأعرابي، فقد جاء أعرابي إلى المسجد فأناخ راحلته ودخل المسجد، ثم
تنحى جانباً وجلس يبول، فقام الحاضرون ليخرجوه، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (اتركوه، ولا تزرموه) وأي: لا تحملوه على قطع
البول؛ لأنه يؤذيه، وسيعدد مواضع البول؛ لأنه إذا أراق البول وهو
جالس في مكانه انحصر البول في مكان محدود، لكن إذا أزرموه، وقام(1/367)
وهو يبول ستتسع المسافة إلى مقدار كبير، فنهاهم عن ذلك، فلما قضى
بوله دعاه، وأمر بذنوب من ماء فأُهريق عليه، والذنوب: الدلو
الكبير، وهذا تقدم في مبحث تطهير الأرض من البول بمكاثرة النجاسةَ
بالماء. فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أخا العرب! إن
هذه المساجد لم تبن لذلك -كما قال في الأول-، وإنما بنيت لذكر الله
وما والاه )، فذكر الله كقول: (لا إله إلا الله)، (أستغفر
الله)، (الحمد لله)، قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]،
وكل ما كان فيه ذكر الله، وما والاه حلق العلم، من المدارسة، ومن
المذاكرة، ومن الموعظة، فكل ذلك داخل في ذكر الله وما والاه، كما
قال تعالى: فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36].
فالأعرابي لما رأى الفارق الكبير بين جماعة يريدون أن يضربوه
ويهيجوه ومن يقول: يا أخا العرب ! إنها لم تبن لذلك، إنها لكذا
وكذا قام في الحال، ورفع يديه وقال: اللهم ارحمني وارحم محمداً،
ولا ترحم معنا أحداً. فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً )،
فالله تعالى يقول: وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]،
وأنت تريد أن تحصرها عليّ وعليك! والأمة هذه كلها ما مصيرها؟!
ويهمنا قوله: (إن هذه المساجد لم تبن لذلك، إنما هي لذكر الله وما
والاه ) .
حكم مذاكرة العلوم الدنيوية في المساجد
وفي واقع الحياة عندنا نشاهد في أواخر السنوات الدراسية أن الطلاب
يكثرون في المساجد، ويعمرونها مع الصلوات، فكل معه دفاتره، وكل معه
كتبه جماعات جماعات، فلا نقول: هذه أمور الدنيا، ولا ينبغي أن
يشغلوا المساجد بذلك: لا والله؛ فكل العلوم -أياً كانت- إذا كانت
في يد المسلمين فهي تخدم الإسلام. فعلم الذرة والطاقة النووية،
وعلم الفضاء، والغوص في المحيطات، والجيولوجيا في بطن الأرض، وكل
ذلك حين يكون في يد المسلم، إنما هو خدمة للإسلام؛ لقوله سبحانه: وَأَعِدُّوا(1/368)
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ [الأنفال:60].
ونقول أيضاً: تلك القوى الفتاكة إذا كانت في يد المسلم فهي كالسيف
في يد العاقل، أما إذا كانت في يد الكافر فهي كالسيف في يد الأحمق.
ففي قضية كوبا حصل أنه نصبت روسيا فيها صواريخ، وكان كنيدي هو
رئيس الولايات المتحدة، فأنذر إن لم تفكك هذه الصواريخ في ست ساعات
فإن الولايات المتحدة على أهبة الاستعداد لاستعمال السلاح بقدر ما
في طاقتها لتدميرها، فماذا قال خروشوف -؟ قال: إن هذا شاب
متهور قد يفعلها. وبادر بتفكيك تلك الصواريخ من كوبا . والذي يهمنا
قول هذا العسكري في حق الآخر: شاب متهور. فالقوة مهما كانت في أي
علم إذا كانت في يد المسلم فهي كالسيف في يد العاقل لا يستعمله إلا
في موضعه، وتلك القوة في يد الكافر كالسيف في يد الأحمق لا نأمن
فيمن يستعملها. وهكذا إذا كان أبناؤنا الطلاب في أي حالة من
الحالات يدرسون، وفي المساجد أياً كانت، فقد يجدون من الرفقة في
المسجد ما لا يجدونه في البيت، وقد تكون في البيت مشاكل وأصوات
ومشاغل، لكن في المسجد يوجد الهدوء وتوجد الراحة، وربما كانت
مكيفة، وربما كان فيها الماء مبرداً، وقد لا يجد ذلك في بيته. وقد
لاحظنا في عهد قديم قبل تعميم الكهرباء في المدينة أن سبعين إلى
تسعين في المائة من العمال في المدينة وفي رمضان يأتون للنوم في
المسجد؛ لأنه كان مكيفاً بالمراوح، وكان ألطف مما يوجد في بيوتهم.
فالمساجد تكون مأوى الجميع، وتكون مرفقاً عاماً، فإذا كانت
مذاكرتهم لا تشويش فيها ولا تضييق على المصلين، وإذا أقيمت الصلاة
قاموا في صفوفهم وصلوا، لا أنهم عند الإقامة يتسربون من الأبواب
إلى بيوتهم، وكأنهم لا يعرفون الصلاة، فإذا أتوا إلى المساجد لأداء
الصلوات، وجلسوا لمذاكرة دروسهم في هندسة أو رياضيات أو جغرافيا،
أو أي شيء فهم كمن يذاكر الفقه والحديث والتوحيد؛ لأن الكل يلتقي
على خدمة هذا الدين، وخدمة الإنسان المسلم. إذاً فإنشاد الضالة في(1/369)
المسجد لا ينبغي؛ لأنها مصلحة خاصة بصاحبها، وفيه تشويش على
المسلمين، ولم تبن المساجد لذلك. والله تعالى أعلم.
( كتاب الصلاة - باب المساجد [4] )
عناصر الموضوع
1 تابع أحكام المساجد
كتاب الصلاة - باب المساجد [5]
إن المساجد شعار المسلمين، وما من مسلم إلا ويتردد عليها أو يكثر المكث
فيها، لذلك فقد شرعت آداب وأحكام للمساجد حتى يُحافظ على نظافتها
وتكريمها، ومن ذلك: أنه يجوز للمرأة أن تتخذ بناءً في المسجد فتأوي
إليه وذلك عند الحاجة، ومن أحكام المساجد أيضاً: أن تصان عن الأقذار
لاسيما البصاق، وبخاصة إذا كانت أرضية المساجد كما هو الحال اليوم
(مفروشة) فلا يشرع للمسلم أن يبصق إلا في طرف رداءه أو في منديل.
تابع أحكام المساجد
حكم مكث المرأة في المسجد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة : (أن وليدة سوداء كان لها خباء في المسجد، وكانت تأتيني تتحدث
عندي... الحديث ) متفق عليه ]. هذه المرأة -سواء أكانت هي التي
تقم المسجد، أم كانت امرأة غيرها- جعل لها خباء في المسجد تأوي
إليه، ويقال أيضاً: هذا في حالة الضرورة، وقد وجدنا بعض زوجات
النبي صلى الله عليه وسلم ضربن لأنفسهن الخيمة في المسجد ليعتكفن،
وذلك لما استأذنت بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتكف
معه، وضربت لها خيمة، فقام بعض الزوجات الأخريات، ونصبن خيمة، فلما
غدا صلى الله عليه وسلم إلى معتكفه رأى ثلاث خيام منصوبة، فقال: ما
هذا؟! قالوا: فلانة وفلانة وفلانة ضربن خياماً ليعتكفن قال: (آلبر
ترون بهن؟ ) -يعني: الذي حملهن على هذا هو البر وفعل الخير، أم
المنافسة فيما بينهن؟ ثم قال: (قوضوا خيمتي) فقوضوا خيمته، ولم
يعتكف تلك السنة، وقضى اعتكافه بعد ذلك في شوال، وهل كان بصوم أو
بغير صوم؟ لم يثبت في ذلك شيء، ولم يعلم العلماء كيف كان اعتكافه(1/370)
بعد ذلك. وعلى هذا يجوز عند الحاجة إقامة خباء لامرأة في جانب من
المسجد بعيداً عن الرجال، ولا مانع من ذلك، وهذا الذي ساقه المؤلف
من أجله. والله سبحانه وتعالى أعلم.
حكم البصاق في المسجد
قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها )
متفق عليه]. من آداب المسجد ما تقدم في أول حديث من هذا الباب:
(أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف
وتطيب )، وجاء في حديث سمرة -وهو من أحاديث (المنتقى) الذي
شرحه الإمام الشوكاني في كتابه (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار-):
(أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبني المساجد في ديارنا )،
وهذا يوضح معنى الدور؛ لأنهم قالوا: الدور قد تكون جمع دار، وقد
يكون المراد بها الديار. فحديث سمرة فيه : (أمرنا صلى الله
عليه وسلم أن نبني المساجد في ديارنا، وأن نحسن صنعتها ) يعني
:تكون في حالة حسنة، وليست في حالة رديئة أو حالة ليس فيها اعتناء،
بل علينا أن نحسن صنعتها، فإذا أمر بحسن صنعة المسجد ففي هذا تعظيم
للمسجد، واحترام للمسجد، وهو داخل ضمن قوله سبحانه: ذَلِكَ
وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى
الْقُلُوبِ [الحج:32]،
فالمساجد بيوت الله وشعائره، وسيأتي الكلام على تشييد المساجد،
وعلى زخرفتها، والحديث فيه مقال. قوله: (البصاق في المسجد خطيئة،
وكفارتها دفنها ). يقف العلماء أمام هذا الحديث من جانبين، فما
دام أن البصاق خطيئة فلماذا تتعمد ارتكاب الخطيئة؟ بل اتركها، فإذا
وقعت اضطراراً فليكفر عما ارتكبه اضطراراً، بأن يدفنها في التراب
إذا كان المسجد تراباً، وقد جاء الحديث أيضاً: (إذا كان أحدكم في
الصلاة فلا يبصق تلقاء وجهه؛ فإن الله تلقاء وجهه، ولا عن يمينه
فيؤذي جاره، ولكن عن يساره وتحت قدمه )؛ لأنه يستطيع بقدمه أن(1/371)
يدفنها. وجاء في الحديث الآخر: (إذا كان أحدكم في الصلاة فلا يبصق
كذا وكذا، ولكن يفعل كذا، وأخذ صلى الله عليه وسلم طرف ردائه وبصق
فيه، ثم دلك جانبيه )؛ وذلك ليتشرب الرداء رطوبة البُصاق، وهذا
في حالة ما إذا كان المسجد تراباً، وقد كان المسجد تراباً، كما جاء
في خبر ليلة القدر: (... وأريت أني أسجد صبيحتها في ماء وطين )،
قال الراوي: فأمطرت السماء ليلة كذا، ووكف المسجد، وكان السقف من
الجريد، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في ماء وطين
-يعني: أثره-، ولقد رأيت أثر الطين على أرنبة أنفه، فكانت أرضية
المسجد من تراب، وبعد ذلك أتى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم
بالحصباء -وهي: الرمل الخشن- بأطراف أرديتهم، ويأتي كل واحد منهم
إلى مكانه في موقفه من الصف، ويفردها ويقعد عليها، حتى تم فرش
المسجد بالحصباء، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم هذا ).
وكان صلى الله عليه وسلم يتخذ الخمرة ليصلي عليها في المسجد،
ويختلفون في معنى الخمرة، فبعضهم يقول: هي القطعة من سعف النخل
التي تكون على قدر صلاة الإنسان. وبعضهم يقول: بل هي على قدر ما
يسجد عليه بكفيه وجبهته وأرنبة أنفه، فيكون بعض جسمه على التراب،
أو على شيء آخر. والخمر ما يخمّر الوجه، أي: يغطيه. ويذكر مالك في الموطأ عن وقت يوم الجمعة أنه كان لجعفر بن عقيل أو غيره
طنفسة عند الجدار الغربي، فإذا علاها الفيء أذن المؤذن، أو جاء
الإمام للخطبة، فكان توقيت الجمعة بعد الزوال؛ لأن ظل الجدار
الغربي قبل الزوال يكون إلى الغرب؛ لأن الشمس ما تزال في الشرق،
فإذا ما زالت عن كبد السماء إلى الغرب، انتقل الظل أو الفيء إلى
الشرق، فإذا امتد الظل عند الجدار الغربي إلى الشرق حتى يغطي طنفسة
-وهي سجادة صغيرة- دخل وقت الجمعة. فكانوا يتخذون الفرش والخمر
والطنافس ويصلون عليها، وكان بقية المسجد في تراب. والأولى(1/372)
بالإنسان ألا يبصق في المسجد، لا في الصلاة ولا في غيرها تطهيراً
للمسجد، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي أعمال أمتي حتى
القذاة يخرجها الرجل من المسجد )، وسيأتي إن شاء الله، والقذاة:
القشرة الصغيرة يخرجها من المسجد تطييباً وتنظيفاً للمسجد، والمرأة
التي كانت تقم المسجد قد تقدمت قصتها مراراً. فالبصاق في المسجد
خطيئة، ومن هذا نعلم أنه لا ينبغي التعمد؛ لأنه لا يحق لإنسان أن
يأتي الخطيئة عن عمد ولو كانت صغيرة، فإن إصراره عليها يحولها إلى
كبيرة؛ لأن فيها امتهاناً للمسجد، إلا إن اضطر، خاصة إذا كان في
الصلاة، ولا يستطيع أن يذهب يميناً ولا يساراً، ومن هنا نعلم ضرورة
حمل المنديل مع الإنسان؛ لأنه بدلاً من أن يجعلها في ردائه ويبقى
برداء فيه البصاق فالأولى أن يكون المنديل في جيبه فيبصق فيه، ثم
بعد ذلك يغسله، وغسله أيسر من غسل الرداء. والآن تطورت الأمور،
فبعد أن كانوا يسمونه منديل اليد أو منديل الجيب، ويغالون في جنسه
من حرير أو من خز، ويشتغلون فيه النقوش أصبحت مناديل الورق تجزئ عن
هذا كله. ففي هذا الحديث تأكيد لما تقدم في أول الباب أن من حق
المساجد أن تنظف، وأن تطيب، فإن وقع من إنسان بغير اختياره أن بصق،
وكانت الأرض تراباً فإنه يدفنها حتى لا تؤذي غيره؛ لأنها إذا بقيت
على وجه التراب، وجاء إنسان وجلس، أو وطئها بقدميه سيتأذى، فدفنها
يجنب الآخرين إيذاءها، وهذا -كما أشرنا- تتمة وتأكيد، لأول حديث
ورد في هذا الباب، وتقدمت الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم
رأى نخامة في جدار القبلة في بعض المساجد فحتها بيده، أو حتها
بحجر، ولا نزاع، فهو أخذ الحجر بيده وحتها، فلا مانع، ثم قال: (لا
يصلين بكم هذا الإمام بعد اليوم )، فكانت هذه النخامة في جدار
القبلة موجبة لعزله عن الإمامة؛ لأنه ما عظم حرمة القبلة، وانتهك
حرمة المسجد وهو القدوة، فينبغي أن يكون على أمثل ما يكون في
احترام المسجد وتوقيره.(1/373)
المباهاة في المساجد وحكمها
قال رحمه الله: [ وعنه -أي: عن أنس - رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس
بالمساجد ) أخرجه الخمسة إلا الترمذي ، وصححه ابن خزيمة ]. هذا الحديث يعده العلماء من علامات الساعة السابقة، أو الصغرى،
فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل أن تقوم الساعة يتباهى
الناس بالمساجد بكثرتها وفي صنعتها. ويقول بعض العلماء: ما ضيع
الناس دينهم إلا تباهوا بالمساجد وزخرفوا المصاحف. وجاء عن بعض
السلف: يقيمون المساجد ولا يصلون فيها، ويزخرون المصاحف ولا يقرءون
فيها. ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله : يتخذ أحدهم السجاد
والسبحة والمصحف قنية وزينة، فالسجادة لا يصلي عليها، والسبحة لا
يسبح الله بها، والمصحف لا يقرأ فيه، إنما هذه -كما يقال- عادة.
ويذكر علماء الأدب أن في بعض البلاد كانت هناك المنافسة في العلم،
وفعلاً كانت تلك البلد -كما يقال- مهبط علم، وتخرج منها كبار
العلماء، فكان عوام الناس يتشبهون بالعلماء، ويريدون أن يحاكوا
حالة العلماء؛ لأن العلماء كانت لهم عزة وكرامة، فكان الأغنياء
يتشبهون بالعلماء، فلربما لبس الواحد منهم لبس العلماء، ثم يقتني
مكتبة في بيته، ويعنى بها في شكلها وتجليدها، وتصبح كالتحفة، وهو
لا يعرف شيئاً مما فيها، وهمه أن يقال: فلان عنده مكتبة صفتها كذا.
لأن هذا من شأن العلماء، فهذه مباهاة في المكتبات، وزي العلماء،
وكذلك التباهي بالمساجد. فقد يكون هناك مسجد في حي، فتأتي جماعة
جديدة، وتبني لها مسجداً، ويقولون: كما أن لهم مسجداً فنحن أيضاً
صار لنا مسجد، وتأتي جماعة أخرى غير الذين تقدموا وتقيم لها مسجداً
مع عدم الحاجة لذلك، فليست بينهما مسافة كبيرة، وليست هناك مشقة،
والمسجد الأول يسع الجميعفهذه مباهاة، والفضيلة في هذا للأقدم، أي:
في حالة المنافسة. وهكذا تصبح المساجد في معرض المنافسة في شكلها،(1/374)
ولكن الله سبحانه وتعالى ما جعل المساجد ليتفاخر بها الناس، وإنما
جعل إعمار المساجد لذكر الله، قال تعالى: فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ *
رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ
وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:36-37].
وعلى هذا إذا وجدنا من يتباهى بالمسجد، وزاد فيه سعة أو رفعة أو
تشييداً منافسة لغيره، فقد دخل في هذا الحديث، وهو المباهاة
بالمساجد. ويذكرون عن بعض المذاهب -وهو معروف- أن إمام المذهب يجيز
ذلك، ويقول: إنه من باب تكريم المسجد والعناية به، وكما يحتفي
الإنسان ببيته يحتفي ببيت الله. لكن بيت الإنسان لمعيشته ولنومه
وجلوسه وأمور دنيوية، وبيوت الله ليست من هذا القبيل. وبعضهم أيضاً
يستدل بعموم الحديث: (من بنى لله مسجداً بنى الله له مثله في الجنة )
إلا أن المثلية نحن لا نعرفها على حقيقتها؛ لأن الجنة فيها ما لا
عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وبناية الجنة غير
بناية الدنيا، كما في حديث خديجة رضي الله تعالى عنها لما جاء
جبريل وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقرئ خديجة السلام، وبشرها يبيت في الجنة من قصب -أي: من لؤلؤ- لا تعب فيه ولا
نصب )، فقصب من لؤلؤة واحدة، وأين بناء الجنة من بناء الدنيا؟!
وقد جاء في بعض الروايات: (ولو كمفحص قطاة )، والقطا طائر معروف
أقل من الحمامة، وأكبر من العصفور، إذا أرادت أن تبيض تفحص الرمل
حتى تجد مكاناً تجعل بيضها فيه، ومفحص القطاة لا يسع القطاة نفسها،
فكيف يكون محلاً للصلاة؟! فالمثلية يعلمها الله سبحانه وتعالى.
فقالوا في حديث: (بنى الله له مثله في الجنة ) لا مانع أن يزخرف
ويحسن، حتى يكون البيت الذي يبنيه الله له في الجنة مثله. فهل الله
يكون خسراناً إذا كان البيت الذي سيبنيه الله له في الجنة مثل(1/375)
المسجد الذي بناه هو في الدنيا؟ فنعيم الجنة فوق التصور، أتنزل به
إلى مثلية الدنيا! لقد ضيعت على نفسك الشيء الكثير، دعه لكرم الله.
والحديث هنا : (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد -أو في
المساجد- ) فتكون المباهاة في أي شكل من أشكاله، في سعته، وفي
ارتفاعه، ونوع بنائه، وزخرفته، فكل هذه الأشياء هي موضع المباهاة،
أما إذا كانت المباهاة في كثرة صلاتهم فيه وإعماره بذكر الله، فهذه
منافسة حميدة، فلو أن أهل كل ديار نافسوا الآخرين فقالوا: نحن
مسجدنا يصلي به عشرون صفاً، ويصلي به ألف مصل، ومسجدكم لا أحد يصلي
فيه، فهذه تكون منافسة في الخير، وليست مباهاة. فهذا الحديث
بمنطوقه يحذر من المباهاة في المساجد، وبمفهومه النهي عن ذلك، فلا
ينبغي أن تُجعل المساجد موضع مباهاة، كما يتباهى الناس في بناء
الفلل والعمائر، ونوع السيارة الفاخرة؛ لأنه ينقل المساجد عن موضوع
رسالتها لذكر الله وما والاه إلى أمور أخرى لأغراض شخصية. والله
تعالى أعلم.
134323 ( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [1] )
( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [1] )
عناصر الموضوع
1 شرح روايات حديث المسيء صلاته
2 شرح حديث أبي حميد في صفة صلاة النبي
3 شرح حديث: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً..)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [2]
ورد في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، ومن أجمعها
وأشملها حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، فقد ذكر فيه دقائق صفة
صلاته عليه الصلاة والسلام، سواء في القيام أو الركوع أو السجود أو حتى
الجلوس للتشهد الأخير. ثم أتى المصنف رحمه الله بحديث علي في دعاء
الاستفتاح للصلاة، وهو حديث عظيم يحمل معالم الاستسلام والتوحيد لله عز
وجل.
شرح روايات حديث المسيء صلاته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه. المؤلف رحمه الله أتى بروايات أخرى(1/376)
لحديث المسيء صلاته، فقال: [ ولابن ماجة بإسناد مسلم :
(حتى تطمئن قائماً ). ومثله في حديث رفاعة بن رافع عند أحمد وابن حبان : (حتى تطمئن قائماً ). ولأحمد : (فأقم صلبك
حتى ترجع العظام ) ]. أي: حتى ترجع العظام إلى مواقعها، فقد كان
راكعاً والظهر معتدلاً، فإذا ما تحرك للرفع تحركت العظام؛ فيجب أن
يظل قائماً حتى ترجع العظام إلى أماكنها مستقرة، لأنها مفاصل
والمفاصل قابلة للحركة عدة درجات، فإذا اعتدل يجب أن يظل قائماً أو
معتدلاً -على حسب الروايات- حتى ترجع العظام في أماكنها وفقراتها.
قال: [ وللنسائي وأبي داود من حديث رفاعة بن رافع :
(إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى )
]. في الحديث المتقدم قضية وهي : أن رجلاً رآه النبي صلى الله عليه
وسلم يصلي على حالة لا تجزئ، ويحكى في بعض الروايات: (لو مت على
ذلك لم ترح رائحة الجنة )، وفي بعضها: (دخلت النار )؛ ولهذا
يقول العلماء: إن هذا الحديث أشد ما يكون تحذيراً من التراخي
والتهاون في أداء الصلاة، والصلاة التي لا يتم ركوعها وسجودها تلف
كما يلف الثوب الخرق ويرمى بها في وجه صاحبها، ولا تفتح لها أبواب
السماء. إذاً: يلزم كل إنسان في أداء صلاته أن يطبق هذا الحديث،
وكله يدور على الطمأنينة، وقراءة ما تيسر من القرآن. وفي رواية
النسائي توجيه الخطاب للعموم: (إنها لا تتم صلاة أحدكم )،
وقوله: (أحدكم)، تشمل الجميع بسبيل البدلية من الأحدية، أحد، أحد،
أحد.. أحدكم: كل واحد منكم. وقال: (حتى يسبغ الوضوء)؛ لأن الوضوء
هو مفتاح الصلاة، وعليه تنبني، فإذا كان الوضوء غير سليم بأن كان
الماء متنجساً، أو مغصوباً -كما عند الحنابلة- أو كان الغسل غير
سابغ للأعضاء -كما عند الجمهور- فليس هناك فائدة من صلاته حتى يسبغ
الوضوء. وقوله: (حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى)، بم أمره
الله؟ إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ(1/377)
إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ
إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]،
وهذا الحديث نص صريح في قضية يتنازع فيها العلماء: هل الترتيب شرط
في صحة الوضوء أم لا؟ الشافعي يرى أن الترتيب واجب، وأخذ ذلك
من إدخال الممسوح بين مغسولين في الآية إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة:6]،
فالشافعي قال: إذا كانت المسألة ليس فيها ترتيب كان سيجعل
الممسوح على حدة بعد أن يكمل المغسولات؛ وذكر غسل الرجلين أنسب مع
اليدين، ثم يذكر مسح الرأس، أو يقدم مسح الرأس مع الوجه؛ لأنه أقرب
إلى الوجه، ثم يأتي باليدين وينزل إلى الرجلين، فلما أدخل مسح
الرأس بين اليدين والقدمين وهما مغسولان وجب أن نضع المسح في
مكانه، ومن هنا وجب الترتيب. وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
(يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى)، وبماذا أمر الله؟ وجوهكم،
وأيديكم، ورءوسكم وأقدامكم، إذاً: من غير هذا الترتيب لم يتوضأ كما
أمره الله، ولا حاجة إلى ذكر ما روي عن علي على خلاف: (لا
أبالي إن غسلت قدمي قبل أو وجهي قبل)، ولو صح هذا ونقل فيكون
شاذاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم طيلة حياته ما توضأ إلا كما
أمره الله، يبدأ بالوجه ويختم بالقدمين. (ثم يكبر الله تعالى
ويحمده ويثني عليه )، ثم يكبر الله تعالى ويحمده بقوله: الحمد
لله، ويثني عليه، والثناء هو مدح المثنى عليه، ويقولون: هناك فرق
بين الحمد والثناء، وبعض العلماء يفسر الحمد لغة بالثناء، لكن
الحمد شيء، والثناء شيء آخر، فالحمد هو: ثناء على المحمود لكمال
ذاته وصفاته، أما الثناء على المحمود أو على المثنى عليه فلحسن
صنيع صدر منه، ولو لم يصل إليك، والشكر: ثناء عليه في مقابل نعمة
أسداها إليك، فتحمد وثني وتشكر. فالحمد لا يكون مطلقاً إلا لله،(1/378)
ولذا يقولون: (ال) في قوله سبحانه: الْحَمْدُ
لِلَّهِ [الفاتحة:2]
للاستغراق، فقد استغرقت جميع المحامد لله؛ لكمال ذاته وصفاته، ولو
لم يصل إلى الخلق منه شيء، فهو في ذاته كامل الذات والصفات، فكان
الحمد كله إليه. أما الثناء في اللغة فهو لحسن صنيع ممن يثنى عليه
ولو كان غير مسلم، مثلاً: سمعت بطبيب ماهر عالج المرض الفلاني، أو
اخترع الدواء الفلاني، ونفع الله به الخلق، وهو غير مسلم، هل تثني
عليه أم تسبه؟ لاشك أنك تثني عليه؛ لأنه صنع صنيعاً حسناً، سواء
كان مسلماً أم كافراً. إنسان صنع لك معروفاً وأوصله إليك فعلاً،
ضاع ولدك مثلاً وأتاك به، سقط منك شيء مهم وجاء إليك به، دفع عنك
ضراً، ولو كان غير مسلم تشكره على هذا الصنيع أم تجحده؟ تشكره.
طبيب يهودي أو نصراني، وعندك مرض خطير، وليس في العالم أحد يعالج
هذا النوع من المرض إلا هذا الطبيب، وهو على دينه الذي هو عليه،
فعالجك، وأجرى الله لك الشفاء في علاجك على يديه، هل تذكره بالخير
أم بالسوء؟ تذكره بالخير، وتدعو الله له بالإسلام. إذاً: الحمد
والثناء والشكر كلها أعمال في مقابل، فالحمد المقابل لكمال الذات
والصفات، والثناء لإحسان وإجادة فعل، والشكر لمن أسدى إليك معروفاً
وصل إليك عنه، فاحمد الله واثن عليه، وهل المراد بهذا في الفاتحة؟
الفاتحة فيها حمد وثناء لأنك تقول: الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]،
وكل هذا ثناء على الله. وقوله : (وإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا
فاحمد الله وكبره )، هذا التفسير في رواية النسائي : (إن
كان معك قرآن )، وقرآن يشمل ما بين دفة المصحف الأولى إلى دفته
الأخيرة، من فاتحة الكتاب إلى سورة الناس، معك شيء من هذا القرآن
ولو آية اقرأ بها، ولو لم يكن معك شيء من القرآن؛ فيجزئك أن تقول:
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول(1/379)
ولا قوة إلا بالله، وتذكر الله بالتسبيح والتحميد إلى أن تحفظ
الفاتحة. ولأبي داود : (ثم اقرأ بأم الكتاب وبما شاء الله )،
اقرأ بأم الكتاب إن كنت تحفظها، وإن كانت معك، وليس هناك معارضة مع
ما قبلها: (إن كان معك من القرآن )، والفاتحة إن كان يحفظها فهي
من القرآن. ولابن حبان : (ثم بما شئت )، ثم بما شئت بعد
الفاتحة من آية أو سورة صغيرة.
شرح حديث أبي حميد في صفة صلاة النبي
قال رحمه الله: [ وعن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه
قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر جعل يديه حذو
منكبيه ) ]. حديث أبي حميد الساعدي هذا يكاد يكون أجمع
الأحاديث في بيان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ساقه ابن
القيم رحمه الله تحت قوله: صفة صلاة رسول الله من أول استقباله
القبلة إلى أن يسلم كأنك تراها. وساقه بزيادة على بعض الألفاظ
الموجودة هنا نوعاً ما، لكن بروايات أخرى.
رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام
يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر)، وتقدم التنبيه
على أن هناك كلمات منحوتة من أكثر من لفظ، كبر: أي قال: الله أكبر،
وسبح قال: سبحان الله، وهلل: قال: لا إله إلا الله. وأخذ العلماء
فيه أن افتتاحية الصلاة إنما هي بقول: الله أكبر، وأشرنا إلى مذهب
أبي حنيفة رحمه الله في ذلك، وأنه يرى صحة افتتاح الصلاة بأي
لفظ فيه تعظيم لله؛ ونظر في ذلك إلى معنى التكبير، لكن الجمهور
يقولون: الصلاة تعبدية، والرسول صلى الله عليه وسلم علم المسيء في
صلاته أن يكبر، وهنا كان صلى الله عليه وسلم إذا كبر رفع يديه حذو
منكبيه، ويبين الغزالي رحمه الله في هذه الحالة: أن رفع اليدين
حذو المنكبين بجعل بطون كفيه إلى القبلة، وظهورهما إلى الوراء،
ويقول: فيه الإشارة إلى أن المصلي حينما يقف بين يدي الله ويرفع
يديه على هذه الحالة كأنه يشير إلى إقباله على الله، ورفض الدنيا(1/380)
وراء ظهره؛ لأنه يجعل ظهور كفيه إلى الوراء، فكأنه يقول: أنا تركت
أمور الدنيا، وأقبلت على الله. وتقدم أيضاً التنبيه على كلمة: (حذو
منكبيه)، وفي الرواية الأخرى: (شحمتي أذنه )، والجمع بين ذلك:
أن حذو منكبيه لأول الكفين، وشحمتي أذنه لأطراف الأنامل، وبعض
العلماء يقول: المرأة كالرجل في ذلك، ولكن الأولى لها ألا تتجاوز
حذو منكبيها، لئلا يكون هناك مبالغة في رفع اليدين.
هيئة الركوع
قال: (وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره )، ولم يذكر
لنا القراءة؛ لأنها معروفة، وغيره يذكر قراءة رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الفريضة، والاقتصار على المفصل، سواء من طوال المفصل
أو قصاره أو أوسطه، وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها
تذكر لنا قراءته في قيام الليل، وأنه ربما خفف القراءة، وربما أطال
فيها، وربما قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة واحدة. إذاً:
أبو حميد يذكر لنا الهيئة والكيفية العملية، فإذا ركع ماذا فعل
بركبتيه؟ (أمكن يديه من ركبتيه)، ولم يستند على الركبتين ولكن
أمكن، وكيفية الإمكان كما يقول العلماء: ألقم كفيه ركبتيه، ويفرج
الأصابع ويقوسهما بحسب حالة الركبتين، وكأنه يمسك على الركبتين
بأصابعه، فيصير متمكناً من إمساكه الركبتين بكفيه، لا مجرد استناد
أو وضع، ولكن بالتمكين؛ وذلك بتفريج الأصابع وقبضها على الركبتين.
(ثم هصر ظهره)، هصر بمعنى: مداً معتدلاً، ليس فيه تقويس، ولا
ارتفاع، قالوا: لو أن إنساناً أتى بقدح من ماء ووضعه على ظهره صلى
الله عليه وسلم وهو راكع لم يتدفق القدح، لاستواء الظهر تحت هذا
القدح. (فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه )، فإذا
رفع رأسه من الركوع اعتدل، بمعنى: استوى قائماً معتدلاً لا منخفضاً
إلى الركوع، ولا هوياً أكثر من ذلك بل اعتدل، وفي حالة هذا
الاعتدال تأتي الطمأنينة، وعبر عنها بقوله: (حتى يعود كل فقار(1/381)
مكانه) أو يعود كل عظم مكانه، وأشرنا إلى أنهم يقولون: إن ظهر
الإنسان فيه ما يسمى العمود الفقري، وهو مركب من عدة فقرات، ومن
الممكن فصل بعضها عن بعض، وترى ذلك بوضوح في الهيكل العظمي، سواء
كان في الإنسان أو الحيوان، والنخاع الشوكي يمر في هذه الفقرات،
فمراده بقوله: (حتى يعود كل فقار إلى مكانه)، أن يستوي ويستقر في
موضعه.
هيئة السجود
قال: (فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما )، في عرض أبي
حميد رضي الله عنه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا من
الحركات: رفع اليدين حذو المنكبين، وتمكين يديه من ركبتيه، وهصر
ظهره، ورفعه من الركوع، وبعد الرفع من الركوع سجد! إذاً: ليست هناك
حركة بعد الرفع من الركوع ورجوع كل فقار مكانه وبين السجدة، رفع
وانتظر حتى يرجع كل عظم مكانه، ولم يذكر وضع اليمين على اليسار بعد
الرفع من الركوع، وممكن أن نقول: لم يذكره أيضاً عند قيامه
للقراءة، قال: إذا كبر رفع، وإذا ركع أمكن، فلم يذكر وضع اليمنى
على اليسرى عند القراءة، مع أن ذلك من السنة. فإذا سجد وضع يديه
غير مفترش ولا قابض، والافتراش منهي عنه كما في الحديث: (نهى أن
يفترش المصلي ذراعيه افتراش السبع )، والافتراش هو: أن تجعل
الذراع كاملاً على الأرض، والصحيح أن ترفع مؤخر الذراع، فالمرفق لا
يكون ملاصقاً للأرض، وتضع اليدين فقط، أي: الكفين، وبقية الذراع لا
تلصقه بالأرض؛ لأن التصاق الذراع بالأرض هي صفة السبع حينما يكون
باركاً، فيقول العلماء: جاء النهي عن أن يتشبه الإنسان في صلاته
بكثير من الحيوانات، فنهي عن افتراش السبع، وإقعاء الكلب، ونقر
الديك، والتفات الثعلب، وأن يقف وقوف الفرس الشموس، وهو: أن يبادل
بين قدميه؛ فمرة يعتمد على هذه ويرفع الأخرى، ثم يعتمد على الأخرى
ويرفع تلك، أو ربما رفع إحدى قدميه عن الأرض، فكل ذلك جاء النهي
عنه للمصلي، فلا يتشبه في صلاته بتلك الحيوانات. (غير مفترش) أي:(1/382)
غير ممكن ذراعيه من الأرض، بل يكون مرتفعاً من الخلف، (ولا قابض)
أي: لا يكون قابضاً لهما إلى جنبه، ويسجد بين يديه، وليس مفترشاً
كالسبع، ولا ماددها طويلاً، ولا قابضها إلى جنبه. وبعض الناس قد
يغالي في وضع اليدين وعدم افتراشهما، وعدم قبضهما، ويجافي بيديه عن
ضبعيه، ويكون ما بين منكبه وشاكلته قدر الذراع، وهذا إذا زاد عن
الوضع الطبيعي يكون فيه شذوذ، لكن يكون معتدلاً، بخلاف المرأة
فإنها تضم نفسها؛ لأنه أستر لها، ونقول لهذا الذي يفعل هكذا:
المجافاة لها حد، فإذا كنت في الجماعة تفعل هكذا، والذي بجانبك
يفعل هكذا، فأين يذهب الناس؟! إن كنت منفرداً فنعم، ولكن بغير صورة
خارجة عن المألوف؛ لأن هذا يستدعي الانتباه، ويلفت النظر، وكل شيء
جاوز حده فليس مطلوباً، لا إفراطاً ولا تفريطاً، لا تضمها إلى
جسمك، ولا تجافي بها إلى حد النشوز والشذوذ، فكان صلى الله عليه
وسلم إذا سجد وضع يديه لا ذراعيه، ولا يفترش افتراش السبع. قال:
(واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة )، أي: عند السجود يستقبل
بأطراف أصابع قدميه القبلة، فينصب القدمين، ولا يضع رءوس أصابع
القدمين على الأرض، فتكون الأظفار هي المرتكزة على الأرض، ولكن
تنحني أصابع القدمين معها، هذه هيئة صلاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
هيئة الجلوس بين السجدتين والتشهد
قال: (وإذا جلس في الركعتين: جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى )،
وإذا جلس بين السجدتين جلس على رجله اليسرى، أي: على بطن قدم رجله
اليسرى، ونصب اليمنى على أطراف أصابعها إلى القبلة، وهذه الجلسة
بين السجدتين، وعند التشهد الأوسط. (وإذا جلس في الركعة الأخيرة:
قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته )، في الجلسة
الأخيرة التي فيها نهاية الصلاة والسلام لا يجلس على قدمه اليسرى
كما جلس بين السجدتين، ولا كما جلس في التشهد الأول، ولكن يقدم
رجله اليسرى، وينصب اليمنى كما نصبها في الجلسات الأول، وإذا قدم(1/383)
رجله اليسرى عن مستوى جلوسه الأول، فسوف يجلس على إليته مباشراً
للأرض، والرجل اليسرى التي كان يجلس عليها خرجت من تحت اليمنى،
واليمنى على ما كانت عليه، وهذه يسمونها جلسة التورك، والعلماء
يستنتجون من هذه الهيئة أنه كيفما فعلت في هيئتك في الصلاة لا
يستطيع إنسان أن يقول: إن صلاتك باطلة، فمن لم يمكن يديه من ركبتيه
ووضعهما على ركبتيه فقط، أو لم يجلس على اليسرى، وينصب اليمنى، أو
نصب ثنتين ولم يجلس على إليته في التشهد الأخير، وجلس كما يجلس في
التشهد الأول، فباتفاق العلماء أن الصلاة صحيحة، لكن لا ينبغي أن
يتعمد ترك السنة وهو يستطيع فعلها. لماذا فرق بين الجلسة في التشهد
الأوسط والجلسة في التشهد الأخير؟ قالوا لأمرين: الأمر الأول: أن
الجلسة في التشهد الأول خفيفة، ويمكنه أن يجلس على قدمه اليسرى ولا
يتألم لذلك ولا يحصل عليه ثقل، بخلاف الجلسة في التشهد الأخير
فإنها أطول، فيحتاج إلى جلسة أكثر راحة، والتورك لو أطال بهيئته
الجلوس لا يشق عليه، هذا من جهة المصلي. الأمر الثاني: إذا جاء
المسبوق ورأى الإمام جالساً، فهو لا يدري: أهو في الجلوس الأوسط أم
الجلوس الأخير؟ فإذا رأى هيئة الجلسة ميز بينهما، فإذا كان على
رجله اليسرى فهو في الأوسط، وإذا تورك وجلس على الأرض فهو في
الأخير، فهذه الهيئة تعطي المتأخر المسبوق إشارة في أي أنواع
الجلسات، وفي أي فترة من فترات الصلاة، والله أعلم.
قدر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة
يقول أهل العلم: إن حديث أبي حميد هو أوفى وأوسع حديث في بيان
صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن العلماء يجمعون في ذلك
أطراف الأحاديث، وابن القيم رحمه الله في كتاب الصلاة -وهو
كتيب صغير- يقول: وإليك صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من
أول استقباله القبلة إلى أن يسلم، وما ترك جزئية ترد في الصلاة إلا
وذكرها، وذكر سندها، واعتمد في عرضه على حديث أبي حميد هذا،(1/384)
وعند كل حركة يأتي بما أتى فيه، فيأتي عند استقبال القبلة،
والتكبير ورفع اليدين، ثم ينتقل إلى الأذكار، ودعاء الافتتاح ...
إلخ. ومعلوم أن أي صيغة افتتحت بها الصلاة أجزأت، والمؤلف هنا لم
يذكر لنا في حديث أبي حميد صيغة من صيغ افتتاح الصلاة، وإنما
أتى في ذلك براوية عن علي وعمر رضي الله تعالى عنهما، ثم
بعد التكبير وفي حالة الافتتاح يأتي ابن القيم أيضاً وغيره بما
ورد عنه، وقد ألفت كتب في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ومن أدعية الافتتاح حديث أبي هريرة أنه سأل رسول الله: ما هذه
السكتة بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة؟ لأنه إذا كانت الصلاة
جهرية فكبر لم يباشر القراءة بعد التكبير بل هنا سكتة، فيقول: سألت
رسول الله عن هذه السكتة، فقال: أقول...، وذكر دعاء الافتتاح بعد
تكبيرة الإحرام، وقبل أن يبدأ بالقراءة، ثم يذكر الركوع، وأنواع
القراءة، وينبه على أنه صلى الله عليه وسلم في غالب أحيانه لا يأتي
بآية من نصف السورة ويركع، ولكن إما أن يقسم السورة بين الركعتين،
وإما أن يبتدأ بأول السورة، ويقول: لم يأت عنه أنه أخذ آيات من آخر
أي سورة، إما من أولها وينتقل إلى أخرى من أولها، أو يقسم السورة
بين الركعتين، أو يأخذ سورة من سور المفصل بكاملها في الركعة، وهذا
عند مالك هو الأحب: ألا يجتزئ ببعض الآيات، ويقول: الأولى أن
يأخذ سورة كاملة. وهذه في الواقع نظرة دقيقة جداً؛ لأن السور
الصغار تجدها موضوعية في ذاتها، وانظر مثلاً إلى (لإيلاف قريش)،
موضوعها مطالبتهم بعبادة رب البيت في مقابل أنه أطعمهم وآمنهم،
يعني قضية مستقلة بأدلتها، وكذلك: أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]،
قضية في قصة مكتملة في هذه السورة، وخذ مثلاً: قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]،
موضوعها توحيد الباري سبحانه وتعالى، خذ (الفلق) ، (الناس)،
(الكوثر)، (التكاثر)، (القدر)، كل سورة من السور الصغيرة تجدها(1/385)
تشتمل على موضوع مستقل مكتمل، ولكن لما تأتي وتأخذ من سورة الرحمن
ستأخذ وصفاً جزئياً، وتأتي إلى سورة الواقعة ستأخذ مثله أيضاً،
وتأتي إلى سورة البقرة وتأخذ أيضاً قضية جزئية؛ ولذلك مالك رحمه الله استحب أن المصلي يقرأ مع الفاتحة سورة كاملة، فكونه وحده
يأخذ سورة طويلة أو إمام يأخذ سورة صغيرة، فهذا أولى عنده من أن
يأخذ بعض آيات من بعض السور. ويذكر ابن القيم رحمه الله وغيره
أن قراءته صلى الله عليه وسلم لم تكن على وتيرة واحدة، ولم يلتزم
سورة معينة في صلواته الخمس، ولكن ربما أخذ شكلاً معيناً في صلاة
الصبح يوم الجمعة: (السجدة، وهل أتى)، ويقولون: المناسبة أن يوم
الجمعة هو اليوم الذي فيه خلق آدم، وأسكن فيه الجنة، وأنزل إلى
الأرض، وتاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وسورة السجدة فيها تذكير
بيوم القيامة، وكذلك سورة هل أتى على الإنسان فيها تذكير بحياة
الإنسان ابتداءً ومنتهاه في يوم القيامة، فتناسب الزمان مع موضوع
القراءة، وكذلك يمكن في الجمعة قراءة سورة ق وغيرها، وفي العيدين
سبح والغاشية، وهذا كان يتكرر منه صلى الله عليه وسلم. أما في
الصلوات الخمس فلم يكن يعتاد قراءة سورة بعينها ويكثر من إيرادها
في الصلاة، وسورة (ق) كان يقرؤها صلى الله عليه وسلم في الخطبة يوم
الجمعة، وبعض الصحابيات تقول: ما أخذت (ق) إلا من رسول الله على
المنبر، تعني يوم الجمعة، وكان كثيراً ما يقرأ بالطور في المغرب،
لكن لا يلزمها في كل الصلوات. إذاً: ما كان النبي صلى الله عليه
وسلم يقرأ على وتيرة واحدة، بل جاء عنه قوله: (كنت أدخل في الصلاة
بنية الإطالة فأسمع بكاء الأطفال فأخفف شفقة بالأمهات )؛ لأن
الأم إذا سمعت طفلها يبكي لم يعد يبق في الصلاة. إذاً: مما يذكرونه
في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: موضوع القراءة. ثم يركع،
والذكر الوارد في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي(1/386)
الأعلى، وإذا رفع من الركوع قال: سمع الله لمن حمده. ربنا لك أو
ربنا ولك. ويناقش بعض العلماء: هل هما سواء، أم أن زيادة الواو تدل
على زيادة معنى؟ فبعضهم يقول: الواو عاطفة على جملة محذوفة: (سمع
الله لمن حمده) ربنا اغفر لي ولك الحمد، ما دام يسمع من حَمِده
فنحمده ويسمعنا، وهناك من يزيد بعض الألفاظ الأخرى، وكل هذا مدون
ومذكور في كتب الحديث والأدعية: (حمداً طيباً طاهراً مباركاً فيه،
ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء
والمجد، أحق ما قال العبد ...) مما يشعر بأن الرفع من الركوع
يستغرق زمناً لمثل هذا الدعاء، وفي هذا رد على من يقول: إنه ركن
خفيف بمجرد الاعتدال منه يمكن أن يهوي للسجود.
شرح حديث: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً..)
قال رحمه الله: [ وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم : (أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: وجهت
وجهي للذي فطر السماوات والأرض، إلى قوله: من المسلمين ) ]. هذا
يذكره علي رضي الله تعالى عنه إذا قام إلى الصلاة، وهل يقوله
في الصلاة أم خارجها؟ يقوله: في الصلاة بعد أن يكبر تكبيرة
الإحرام. و(فطر) أو (خلق) كلاهما ورد في الشرع، وفطر بمعنى: أوجد
على غير مثال: فَاطِرِ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:14]،
وكذلك: بَدِيعُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:117]،
بأن أوجد الشيء على غير مثال يحاكيه، فطر السماوات والأرض، وفي هذا
تعظيم لله واعتراف بربوبيته وقدرته سبحانه وتعالى.. وجهت وجهي لمن
يستحق أن أتوجه إليه بسبب عظمته وقدرته. حنيفاً: أي: مائلاً عن
الشرك مسلماً لله، (وما أنا من المشركين) يتبرئ من الشرك في هذا
المقام: قُلْ
إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]،
والنسك كل العبادات، ومحياي، أي: مدة حياتي وما أتصرف به في الحياة(1/387)
... إن بعت، أو اشتريت، أو كافأت، أو عاملت.. يكون كل تعاملي لله،
بمعنى: أن أراعي فيه ما شرع الله، وأقصد فيه رضا الله، وأتبع فيه
ما شرع الله.. حياتي لله، العالم كله لله رب العالمين، فهذا
الإنسان يجدد الإقرار والشكر لله. (محياي) مصدر ميمي أو اسم زمان
أيضاً، وحياة الإنسان كلها لله، إن نام لله، وينوي بذلك شكر الله
على نعمة الصحة والعافية، والاستعانة على ما سيأتي من عمل آخر، وإن
قام وسعى لله، وإن اكتسب لله؛ لأنه يصرفه في سبيل الله. ورد أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه، فمر شاب فتى قوي،
فقال أحد الحضور: لو كان هذا النشاط في سبيل الله؟! يعني: بقوته
ينكأ في العدو، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن كان خرج يسعى على
نفسه يعفها فهو في سبيل الله -أي: خير من أن يتكفف الناس السؤال-
وإن كان خرج يسعى على أبويه فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى
على زوجه وعياله فهو في سبيل الله ). إذاً: معنى محياي: أنني ما
تحركت حركة ولا اكتسبت مكسباً إلا لله، ولأجل أن يصرف في سبيل الله
سبحانه وتعالى، وكذلك مماتي مرده لله رب العالمين لا شريك له. وَبِذَلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163]
.. وَلا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل
عمران:102]، وبذلك أمرت بأن تكون حياتي كلها لله، كما في الحديث:
(حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر
به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها )، هل الله سبحانه
وتعالى سيحل في الإنسان، ويكون عينه وسمعه وبصره ويده ورجله؟! حاشا
لله! لكن المعنى: أنه لا يسمع إلا ما يرضيني، فلا يتصنت إلى ما لا
يجوز له، ولا يستمع إلى ما حرم الله، ولا يشارك في غيبة ولا نميمة،
وبصره لا ينظر به إلى الحرام، بل ينظر نظرة اعتبار وتأمل في خلق
الله: وَيَتَفَكَّرُونَ
فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا
بَاطِلًا [آل(1/388)
عمران:191]، فإذا عرض له محرم غض بصره، وكذلك يده لا تمتد إلى ما
حرم الله، ولكن تعمل وتسعى فيما هو لله، وكذلك محياي ومماتي لله رب
العالمين لا شريك، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين أو وأنا أول
المسلمين، إن قال: أول المسلمين فلا بأس تبعاً للنص، وإن قال من
المسلمين على العموم فلا مانع من ذلك، والله تعالى أعلم. هذا من
صيغ الافتتاح ولك أن تأخذ بهذه الصيغة، أو أن تكتفي في افتتاح
صلاتك بما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه. وفي رواية: (إن ذلك
في صلاة الليل)، وسواء في صلاة الليل، أو النهار أو أي حالة من
الحالات فإن هذا نوعاً من الدعاء الذي يأتي به الإنسان في افتتاح
صلاته. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبيه وحبيبه محمد وعلى آله
وصحبه وسلم.
134330 ( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [3] )
( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [3] )
عناصر الموضوع
1 تتمة وصف عائشة لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم
2 شرح حديث: كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة...)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [4]
نقل لنا الصحابة رضوان الله عليهم صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام،
وبتعدد روايات هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم يتبين لنا صفة صلاته
وكأننا نراها؛ ولهذا اهتم العلماء بتدوين الأحاديث الواردة في ذلك.
تتمة وصف عائشة لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: عائشة رضي الله
عنها، وقولها: (كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين). وهل
الأولى حملها على القراءة العامة أو القراءة الخاصة؟ العامة، وهذا
أصح، وهذا يجنبنا مشاكل كثيرة، ويقرب الطريق عندنا، فإذا قرأ سورة
الحمد لله وما تيسر معها، فبعد القراءة سيكون الركوع، وكيف كان
ركوع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قالت: (فإذا ركع لم يشخص رأسه(1/389)
ولم يصوبه )، تقول: هذا الشاخص، والعمود هذا يسمى شاخصاً، ويشخص
بمعنى: يرفع، ويخفض بمعنى: ينزل، إذاً لا هذا، ولا ذاك، ولكن بين
الأمرين، يستوي رأسه صلى الله عليه وسلم مع ظهره، حتى قالوا: لو
وضعت قدحاً على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو راكع لم يتدفق القدح
لاعتداله. (فإذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه؛ ولكن بين ذلك )،
بين أن يشخص وبين أن يصوب، ومعناه: الاعتدال، لا زاوية منحرفة، ولا
زاوية حادة، بل زاوية قائمة. (وكان إذا رفع من الركوع لم يسجد حتى
يستوي قائماً )، وهكذا بعد الركوع لا يهوي إلى السجود حتى يستوي
-والاستواء الاعتدال- قائماً، وهذا نص على الذين يقولون: ما بين
الركوع والسجود ركن خفيف، ويكفي فيه مجرد إشارة اللفظ، فيكون
راكعاً ثم يهوي إلى السجود، والحركة لم تنقطع بعد، وعند نقطة الصفر
من الاعتدال يبدأ بالنزول، لكن قول أم المؤمنين عائشة رضي الله
تعالى عنها: (إذا كان راكعاً لم يسجد حتى يستوي -أي: يعتدل-
قائماً) يعني بعد الركوع. إذاً: الاعتدال بعد الركوع ركن، وتأتي
موضوع الطمأنينة، فليست مجرد اعتدال إلى نقطة الصفر، بل طمأنينة مع
هذا الاعتدال. (وكان إذا رفع رأسه من السجدة؛ لم يسجد حتى يستوي
جالساً )، كذلك بين السجدتين، وهو مثل الاعتدال ما بين الركوع
والسجود؛ لأن البعض أيضاً يقول: الجلسة بين السجدتين ركن خفيف، فلو
سجدت ثم رفعت رأسك وقبل أن تعتدل رجعت وسجدت فلا بأس، والبعض ما
يرفع يديه من الأرض بعد حتى يعود، وهذا خطأ في الصلاة؛ إذ لابد أن
يعتدل قاعداً بين السجدتين، ولابد أن يظهر منه هيئة الجالس بين
السجدتين. (وكان يقول في كل ركعتين التحية )، وهذا وصف عام، في
كل ركعتين سواء كانت الصلاة كلها ركعتين، أو كانت الصلاة ركعتين
وزيادة، فكل ركعتين فيها تحية، الصبح ركعتان وفيها تحية، والظهر
أربع، وفي كل ركعتين تحية، تحية بعد الركعتين الأوليين، وتحية بعد(1/390)
الركعتين الأخريين، والمغرب ثلاث، فيها تحية بعد الركعتين
الأوليين، وتحية عند الأخيرة ويسلم. انظروا إلى هذا الإجمال في
الصلاة! يقرأ التحية، وما هي التحية؟ لم تذكر، ولها نص مستقل، كذلك
يركع ويسجد، وماذا يقول في ركوعه وسجوده؟ لها نصوص مستقلة، وإنما
هي تصف الحركات الظاهرة من أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الافتراش والتورك في الصلاة
قالت: (وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى )، معنى يفرش: أي:
يجعل ظهر القدم على الأرض، ويجلس على بطن القدم اليسرى، ورجله
اليمنى ينصب قدمها، ويلاحظ في نصب القدم اليمنى: أن تكون أطراف
أصابع القدم اليمنى متجهة إلى القبلة، لا أن يجعلها مدبرة إلى
الخلف، ما لم يكن هناك صعوبة أو مشقة، فبعض الناس يكون الله معطيه
بسطة في الجسم، وإذا أراد أن يجلس هذه الجلسة تصعب عليه، فيجلس
كيفما تيسر له، لكن الهيئة الأساسية من سنة النبي صلى الله عليه
وسلم هي هذه الحالة. وهل هذا الصنيع في التشهدين معاً أم في التشهد
الأول؟ هذا يكون في التشهد الأول باتفاق، ويقولون: السنة في التشهد
الثاني الذي يعقبه السلام والخروج من الصلاة أن يتورك، بمعنى: أنه
يدخل قدمه تحته ويفضي بإليته إلى الأرض، ولماذا يغير في الجلسة؟
هكذا فعل صلى الله عليه وسلم، لكن الفقهاء بحثوا عن العلة والسبب
والحكمة من وراء ذلك. نقول: أولاً: أيهما أطول في الجلوس؟ التشهد
الثاني؛ فهل نظل في التشهد الثاني الطويل ناصبين للقدم وعاكسين
الأصابع وننتظر متى يسلم أم نجلس مرتاحين؟ الجلسة في التشهد الأخير
تعطي فرصة راحة وطمأنينة، ويستطيع الإنسان أن يدعو في التشهد بما
يسر الله له. هذه ناحية. الناحية الثانية: لو أنك جئت والإمام في
التشهد، فإنك لا تدري هل الإمام في التشهد الأخير أم في الأوسط؟
قالوا: تنظر إلى هيئة الجلسة، فتعرف إن كان هذا التشهد هو الأول أو
الأخير، فإن كان متحفزاً للقيام ومستعداً لأن يقوم علمت أنه في(1/391)
التشهد الأول، ولو رأيته جالساً على هدوء وهون علمت أنه ما بقي إلا
أن يسلم، وما هي الفائدة من هذه؟ وهل ندخل معه في الصلاة أو ننشئ
جماعة جديدة؟ الصحيح أننا ندخل معه.
أحكام عقبة الشيطان والافتراش كالسبع
في آخر هذا الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن عقبة
الشيطان، وأن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وفي لفظ: افتراش
الكلب. أما صفة عقبة الشيطان كما يفسرها علماء الحديث فهي أن ينصب
ساقيه ويثني ركبتيه، ويجلس على الأرض على إليتيه، كالذي يعقد
الحبوة، وعقد الحبوة هو: أن يأخذ الإنسان حزاماً أو نوعاً من
الخيوط ويجعله خلف ظهره ثم يديره على ساقيه ويعتمد عليه، وكان هذا
المنظر كثيراً ما يرى في المسجد النبوي، ويفعله الشيوخ وكبار السن
خاصة بعد صلاة الصبح حينما ينتظرون في مجلسهم يذكرون الله حتى تطلع
الشمس، وأحياناً بعد المغرب والعشاء، وحينما يفعل مثل هذا ويجعل
يديه إلى الأرض، وركبتيه إلى الأعلى؛ فهذه عقبة الشيطان، وليس فيها
حبل ولا حبوة، وبعضهم يصف عقبة الشيطان بأن ينصب القدمين، ويجلس
على العقبين، ولكن هذه مردودة لأنها هيئة رواها ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما. وفي قول أم المؤمنين: (كان ينهى عن عقبة
الشيطان)، ما خصصت رجلاً ولا امرأة، فالنهي في هذه الهيئة في
الجلوس ممنوع بصفة عامة، وافتراش الرجل ذراعيه افتراش السبع يظهر
هذا، ويتبين أكثر ما يكون في الكلب -أعزكم الله-، والسبع يطلق على
كل حيوان مفترس، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في دعائه على رجل:
(اللهم سلط عليه كلباً من كلابك )، فقالوا: الكلب يطلق على
السبع، والسبع يطلق على الكلب، وقالوا: الكلب سبع؛ لأنه يفترس
بنابه ويأكل اللحوم، وافتراش الذراعين كافتراش السبع هو: أن يمكن
ذراعيه مع المرفق على الأرض؛ فطبيعة السجود أن يسجد بباطن الكفين
على الأرض، والمرفق مرتفع عنها، ولا يكون ملامساً لها، والسنة أن(1/392)
يرفع المرفقين عن الأرض، ويكون معتمداً على الكفين فقط. وإذا كان
معتمداً على الكفين فأين يكون المرفقان؟ يرفعهما، ويجافي بينهما
وبين ضبعيه، ولا يلصقهما بجانبيه، وتنصيص أم المؤمنين رضي الله
تعالى عنها على الرجل يدل بمفهومه على أن المرأة بخلاف ذلك، وهو
مفهوم المخالفة وليس مفهوم صفة، والفرق بينه وبين مفهوم الصفة أن
مفهوم الصفة لا حكم له في التشريع، ومفهوم الصفة إنما يتعلق باسم
الجنس، فعندما تقول: أكلت تفاحاً لا يمنع أن تكون أكلت معه موزاً،
وهل الإخبار بأكل التفاح يمنع أن تكون أكلت غيره معه؟ لا، ولكن لم
آكل إلا التفاح! هنا جاء الحصر، ومنع أن تكون أكلت مع التفاح غيره.
لكن عندما تقول: بنى هذا البيت رجل، فمفهوم المخالفة: ليس امرأة،
وإذا قيل: من يوجد في هذا البيت؟ توجد فيه امرأة، ومفهوم المخالفة:
أنه لا يوجد فيه رجل، فإذا قلت: فيه امرأة، قالوا: هنا مفهوم
الصفة، ومفهوم الصفة له عكسه، وينفى عنه الحكم، تقول: الصغير لا
تكليف عليه، إذاً: الكبير عليه تكليف؛ لأن مفهوم صفة الصغير عكسها
الكبير، فيكون له عكس الحكم. وأنصح الإخوة طلبة العلم أن يرجعوا في
هذه النقطة -وهي موضع خلاف عند الأصوليين- لأضواء البيان لوالدنا
الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في قوله سبحانه: فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ *
رِجَالٌ [النور:36-37]،
بعض الناس يقول: هذا مفهومه مفهوم اللقب، ولا يمنع أن يسبح له فيها
نساء، والشيخ يقول: التحقيق: أن المفهوم هنا مفهوم صفة لا مفهوم
لقب؛ لأن حضور الجماعات وإقامة الصلاة في المساجد إنما هو من خصائص
الرجال، فكون المرأة تحضر لا بأس وتصح صلاتها، ولكن صلاتها في
بيتها خير من حضورها المسجد، إذاً: هي ليست مرادة أصالة في هذه
الآية الكريمة، لمجيء امرأة من بني سليم إلى النبي صلى الله عليه(1/393)
وسلم تقول: (يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك، قال: قد علمت ولكن
صلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك معي )؛ لأن فيه تقريب المشوار،
واختصار الطريق (وصلاتك في عقر دارك خير من صلاتك في مسجد قومك )،
فإذا كان هذا شأن المرأة فهل يناط بها الحكم فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ؟،
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله بيوت
الله )، وجعل لها شروطاً. وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها
تنبه هنا: أنه نهى عن عقبة الشيطان، لكن نهى من؟ لم تعين المنهي
المتوجه إليه النهي، فيكون عاماً في الرجال والنساء، ولكن في
افتراش السبع قالت: (نهى الرجل)، إذاً: المرأة لها حكم آخر، وما
دامت المرأة لها حكم آخر، فذكر الرجل مفهوم صفة له عكس الحكم؛ ولذا
اتفق العلماء على أن المرأة لا تفعل كما يفعل الرجل في الصلاة،
الرجل يجافي بين عضديه، وبين منكبيه وعضديه، ويكون هناك فجوة، وإن
كان بعض الإخوة ربما بالغ في ذلك، إذا صلى في الجماعة تمدد بيديه
ونزل على كفيه، وجنح بيديه يميناً ويساراً فيضايق من بجواره، وليس
الأمر كذلك؛ إن كنت منفرداً فلا بأس وافعل ما شئت، لكن مع عدم
الخروج عن اللياقة، وإن كنت في الجماعة فيجب أن تحافظ على الجماعة
الذين يصلون عن يمينك ويسارك، فالسنة في الرجل مهما كان ألا يلصق
منكبه بجانبه، بخلاف المرأة فإنها تضم نفسها وتفرش ذراعها، فالمرأة
حكمها: أن تفترش الذراعين وتضمها إلى ضبعيها؛ لأن في تفريجها شيئاً
من إظهار جسدها، أما ضمها نفسها ففي ذلك زيادة في تسترها. إذاً:
نهي الرجل خاص به، بخلاف المرأة فلها أن تفترش افتراش السبع، ويكون
ذلك نوع من سترها في صلاتها، وكما يقال: كل له حكمه.
كيفية التسليم
قالت: (وكان صلى الله عليه وسلم يختتم الصلاة بالتسليم ) وهنا
مبحث من جهتين: كيفية التسليم، ونوعيته. تسلم بعد التشهد والدعاء
الذي يسره الله لك، أو ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الدعاء(1/394)
بعد التشهد، مثل التعوذ بالكلمات الأربع: (اللهم إني أعوذ بك من
عذاب القبر، وعذاب النار، وفتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح
الدجال ) وقد قال ابن حزم : إنها فريضة؛ لأن الرسول صلى
الله عليه وسلم أمر بهذه الكلمات الأربع، وبعضهم يقول: إنها من
التوجيهات والتعليمات لما يقال من الأدعية في الصلاة، وبعضهم يقول:
إذا انتهيت من التشهد وذكرت الدعاء الوارد تمت صلاتك، وتخرج كيف
شئت، والجمهور على أن المصلي لا يعتبر خرج من صلاته وأتمها إلا
بالتسليم، وهذا نص الحديث: (كان يفتتح الصلاة بالتكبير ويختتمها
بالتسليم )، وهنا كيف يسلم؟ هناك من يقول: يكتفي بسلام واحد،
فيجلس مستقبلاً القبلة ويقول: السلام عليكم ورحمة الله، وبعضهم
يقول: لابد أن يسلم عن اليمين وعن اليسار، فإن كان في الجماعة فعن
يمينه أخ مسلم، وعن يساره أخ مسلم، فيسلم على من بجانبيه، وإذا كان
منفرداً أو في الخلاء وليس عنده أحد فإنه يسلم على الملائكة؛ لأن
الملائكة تحضر صلاته، وقالوا: الكيفية أن يبدأ بالسلام: السلام
عليكم -ويبدأ بالالتفات يميناً- ورحمة الله، ويعود إلى ما كان
عليه، ويبدأ بالسلام عن اليسار أيضاً مستقبلاً القبلة، ثم يلتفت
يساراً ويكمل الصيغة في السلام. وأما عن حكم السلامين معاً:
فكلاهما واجب؛ لأنهما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، حتى قيل: (كان
يلتفت حتى نرى بياض خديه)، إذا التفت يميناً رءوا بياض الخد
اليمين، وإذا التفت يساراً رءوا بياض الخد اليسار، إذاً: هناك
التفاتة وصورة واقعية، وكانوا يجعلون السلامين معاً. وهناك من
يقول: الأول فرض وبها يخرج من الصلاة، والثاني سنة، وعلى كل سيأتي
تفصيل السلام في آخر الباب، إلا أنه كما تقدم في هذا الحديث عن أم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها أوردت لنا صفة صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم إجمالية: يفتتح الصلاة بالتكبير، وما(1/395)
قالت ما هي صيغة التكبير. وكان يفتتح القراءة بالحمد، ولم تفصل لنا
ما هي القراءة. وإذا ركع، وإذا رفع، وجلس بين السجدتين، ثم نهى عن
كذا وعن كذا، ويختتم الصلاة بالتسليم، ما هو نوع التسليم؟ لم تفصل،
وأشرنا إلى أن هذا الأسلوب من الإجمال؛ ثم يأتي بعد ذلك التفصيل،
وهو من أرقى أنواع الأساليب البيانية؛ لأن في الإجمال إيجازاً
واختصاراً؛ فيقع هذا المجمل في ذهن السامع، ثم يأتي بعد ذلك
التفصيل، ونستطيع أن نقول: هذا منهج الفقهاء، فهم يكتبون المتن
مجملاً، ثم يأتي بعد ذلك الشرح مفصلاً، وبعض يزيد بالحواشي. إذاً:
يهمنا الأسلوب العلمي الناجح القريب السهل، وهو أن يؤتى بالموضوع
مجملاً ثم يؤتى به بعد ذلك مفصلاً، وهذا ما سلكته أم المؤمنين
عائشة رضي الله تعالى عنها، وكل جزئية من تلك الجزئيات إما أن
تقدم بيان لها، وإما أن يأتي لها تفصيل وتحقيق وزيادة روايات في
بيانها تفصيلياً.
شرح حديث: كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة...)
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا
كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع )، متفق عليه. وفي حديث
أبي حميد عند أبي داود : (يرفع يديه حتى يحاذي بهما
منكبيه، ثم يكبر )]. هذه التكبيرات في حديث ابن عمر رضي
الله عنهما يقولون عنها: تكبيرات الانتقال، ورفع اليدين عندها سنة،
والتكبيرات واردة عند الانتقال من كل ركن في الصلاة ما عدا الرفع
من الركوع، فإن الذكر فيه: (سمع الله لمن حمده)، (ربنا لك) أو
(ربنا ولك الحمد)؛ على كلا الصيغتين. عن ابن عمر رضي الله
تعالى عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع يديه حذو
منكبيه)، والمحاذاة: المقابلة، والمنكبان هما: الكتفان عن اليمين
واليسار، فيرفع يديه حذوهما، ولا يرفعهما عند رأسه، ولا ينزلهما
عند صدره، وذلك في ثلاثة مواضع: عندما يفتتح الصلاة، وتقدم أيضاً(1/396)
في الصلاة، وسيأتي زيادة إيضاح في رواية: (حذو منكبيه)، ورواية:
(أوائل أذنيه)، وأوائل الأذنين في الرأس، وأعلى الأذنين أي
أواخرهما في الأعلى عند الرأس، ولا خلاف بين رواية: (حذو
المنكبين)، وبين رواية: (أوائل الأذنين)؛ لأن من لاحظ الكف نظر
لمحاذاة الكف إلى المنكب، ومن نظر إلى أطراف الأصابع فلن تذهب
الأصابع إلا إلى أوائل الأذنين، فقيل: الروايتان تصدق كل منهما
الأخرى، فهذا نظر إلى أدنى الكف، وهذا نظر إلى أعلى الأصابع،
فأدناه منكبي الإنسان وأعلاه أدنى الأذنين، هذا في الموطن الأول.
(كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة )، وإذا افتتح
الصلاة يقول: الله أكبر، وتقدم شيء من التنبيه على ما يقوله
العلماء في افتتاح الصلاة، يقول: الله أكبر، فلدينا نطق باللسان:
تكبير، وحركة باليدين: رفع، وهل هما متلازمان أم أن أحدهما يسبق
الآخر؟ تقدم بأنهما معاً سواء؛ فيبدأ بلفظ الجلالة عند بداية
الحركة، ويشغل زمن الحركة بالتكبير. الموطن الثاني: إذا كبر
للركوع، فإذا أراد أن يركع رفع يديه، ويكبر إذا أراد أن يركع، وهذه
تكبيرة الانتقال، والأولى تكبيرة افتتاح، ونلاحظ في كتب الفقه
التدقيق، فلو أن إنساناً كان متأخراً وأدرك الإمام ليركع وركع معه،
فكبر، هل نوى بتكبيرته تلك افتتاح الصلاة أو الانتقال والهوي إلى
الركوع؟ إن نوى بتكبيرته افتتاح الصلاة فقد افتتح الصلاة وجاء
بالتكبيرة التي هي افتتاحية الصلاة وواجبة، وإن نوى الدخول في
الركوع وتكبيرة الانتقال فلا تجزئه، وإن نوى الأولى اندمجت معها
تكبيرة الانتقال، وسيأتي هذا في الذي يدرك الإمام راكعاً ماذا يكون
حاله؟ إذاً: يرفع يديه حذو منكبيه مع التكبير عند افتتاح الصلاة،
ويكبر عند الهوي إلى الركوع. (وإذا رفع رأسه من الركوع )،
الوارد في الرفع من الركوع: (سمع الله لمن حمده)، وهنا ابن عمر يريد رفع اليدين لا التكبير، فالمراد أن رفع اليدين ورد في ثلاثة(1/397)
مواطن: عند تكبيرة الافتتاح، والتكبير للركوع، ورفع الرأس من
الركوع. إذاً: في الافتتاح: الله أكبر، ويقرأ، وعند الركوع: الله
أكبر، ويرفع يديه ويركع، وكذلك عند الرفع من الركوع، وليس معنى ذلك
أنه يكبر ويرفع، لا، المراد أن هذا هو الموطن الثالث الذي ترفع فيه
اليدان عند الانتقال، وهو الرفع من الركوع، لكن هل يكبر عند الرفع؟
لا. والوارد في ذلك: (سمع الله لمن حمده)، يقولها المنفرد، ويقولها
الإمام، أما المأموم فله أن يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك
الحمد، وله أن يكتفي بقول الإمام: سمع الله لمن حمده، ويجيب على
ذلك: ربنا ولك الحمد. والواو مجيئها وعدم مجيئها نقطة بلاغية،
ويتفقون على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فالذي يقوله
الإمام: سمع الله لمن حمده، ويقول من خلفه: ربنا لك الحمد، إجابة
على قول الإمام: سمع الله لمن حمده، فأنا حمدته وسمع، والذي يقول:
ربنا ولك الحمد، الواو عاطفة على تقدير معنى جديد، ربنا استجب لنا
ولك الحمد على استجابتك لدعائنا أو لتحميدنا. وبعد حركة الرفع من
الركوع يأتي الهوي إلى السجود، هل يرفع يديه للهوي إلى السجود؟
الحديث لم ينص عليها، ولم يصفها ولم يقل فيها شيئاً. فإذا سجد
وأراد أن يجلس بين السجدتين هل يرفع يديه كما رفع عند الرفع من
الركوع؟ ما ثبت شيء من هذا في هذا الحديث، وهل في تلك الحركات رفع
لليدين؟ لا. ولكن وردت حركة أخرى غير تلك الثلاث ألا وهي: حينما
يقوم من تشهده الأوسط، وهي قاعدة يذكرها الفقهاء: عند قيامه لركعة
وتر في صلاته، وركعة الوتر في صلاته هي الثالثة من الرباعية أو
الثلاثية، فإذا أنهى التشهد الأول وأراد أن يقوم للركعة الثالثة؛
سواء كانت هي الأخيرة في المغرب أو الثالثة في الرباعية، فحينئذٍ
يستوي قائماً للركعة الثالثة ويرفع يديه حذو منكبيه؛ لأنها في
منزلة الصلاة الجديدة، لأن الصلاة أول ما فرضت ركعتين ركعتين،(1/398)
فأقرت في السفر وأتمت في الحضر، وعلى هذا جاءت السنة، والقول برفع
اليدين عند هذه المحلات الثلاث هو قول الجمهور، وهناك من يعارض
فيها، وصاحب سبل السلام يعزو ذلك للهادوية، ويرد عليهم رداً
شديداً، ويعرض بمن يقول بعدم رفعها، أو من يقول: إنها حركات زائدة
تبطل الصلاة، ولا عبرة لشيء من هذا كله ما دام أن النص قد ثبت عن
الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمل به الصحابة رضوان الله تعالى
عليهم. قال: [ وفي حديث أبي حميد عند أبي داود : (يرفع
يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يكبر ). ولمسلم عن مالك بن
الحويرث نحو حديث ابن عمر لكن قال: (حتى يحاذي بهما فروع
أذنيه )]. المؤلف رحمه الله يعدد هذه الروايات ليستكمل صورة رفع
اليدين إلى حذو المنكبين، وفروع الأذنين، وكل ذلك في منطقة واحدة،
وكل الروايات يؤيد بعضها بعضاً ولا خلاف بينها.
134338 ( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [5] )
( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [5] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم
2 شرح حديث: (قل: سبحان الله...)
3 شرح حديث: (كان رسول الله يقرأ في الظهر والعصر...)
4 شرح حديث: (كنا نحزر قيام رسول الله في الظهر والعصر...)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [6]
قراءة سورة الفاتحة هي العمل الثالث في الصلاة بعد التكبير ودعاء
الاستفتاح، وهي ركن بدونه لا تجزئ الصلاة، يضاف إلى ذلك استحباباً ما
ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قراءة سور زيادة عليها؛ فقد كان
يطيل بحسب الصلاة سرية أو جهرية وبحسب من خلفه من الناس، ورغم كل ما
تحمله هذه السورة من معان عظيمة إلا أن الشرع قد رخص لمن أسلم ولم يتسع
الوقت له لحفظها ودهمه وقت الصلاة أن يأتي بدلاً منها بأذكار تتضمن ما
فيها من حمد وثناء ودعاء لله عز وجل.
شرح حديث: (إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،(1/399)
وعلى آله وصحبه ومن واله وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [ وعن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: (إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله
الرحمن الرحيم؛ فإنها إحدى آياتها )، رواه الدارقطني وصوب
وقفه ]. نعلم جميعاً أن ابن حجر من أئمة الشافعية، وهم من أشد
الناس في إثبات الجهر بالبسملة؛ ولهذا يورد نصوصاً عديدة ليثبت
مذهبه، فهذا الحديث: أن أبا هريرة يقول -ورفعه إلى رسول الله-:
(إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم؛ فإنها إحدى
آياتها )، ثم بين ابن حجر بأمانة العالم من روى هذا الأثر،
وبين بأن الصحيح وقفه على أبي هريرة ، وفي المصطلح: أن الحديث
المرفوع هو ما أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم صادراً عنه،
والموقوف هو ما قاله الصحابي وليس معزواً إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، إلا أن هذا الموقوف عند العلماء قد يأخذ حكم المرفوع؛ وذلك
حينما لا يكون للرأي والاجتهاد فيه مجال، ولا يتأتى الإتيان به من
عند نفسه، كما لو كان من أخبار يوم القيامة، أو من أخبار الماضين
وبعيداً عن الإسرائيليات، أو عملاً يترتب عليه جزاء وثواب معلوم؛
فلذا قالوا: لن يتأتى لإنسان أن يخبر به من عنده، ولابد أن يكون
سمعه من النبي، ولو لم يقل فيه: قال رسول الله! وأما هذا الحديث
فقد صح عند علماء الحديث أنه موقوف على أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه، وإذا كنا في معرض خلاف بين قراءة البسملة في الفاتحة
وعدم قراءتها، وجاءنا عن أبي هريرة حديث موقوف فما موقفنا؟ كما
لو جاءنا أبو هريرة اليوم ووقف على المنبر وقال: يا مسلمون!
إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها آية منها،
هل هناك شخص يستطيع أن يقول له: من أين أتيت بهذا يا أبا هريرة ؟ لا يستطيع، وليس له حق في ذلك؛ لأنه صلى خلف النبي صلى الله عليه
وسلم، وأخبرنا أنه قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولما انتهى من
صلاته قال: (والذي نفسي بيده! إني لأشبهكم بصلاة رسول الله)، فذاك(1/400)
الحديث يقوي هذا. وإن لم يكن سمعه من رسول الله فقد سمع ما يؤيده،
فلما ذكر صلى الله عليه وسلم أعظم سورة قال: (هي السبع المثاني
والقرآن العظيم )، والفاتحة لا تكمل السبع إلا بالبسملة، فسواء
قاله استنتاجاً من هذا الحديث أو سماعاً من رسول الله، ولم يذكر
رسول الله في الرواية، أو أنه مرفوع لكن كما قال المؤلف: الصحيح
أنه موقوف على أبي هريرة ، وهذا مما يؤيد ما قال به المؤلف
والجمهور من أن البسملة آية من سورة الفاتحة.
شرح حديث: (قل: سبحان الله...)
قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال:
(جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ
من القرآن شيئاً، فعلمني ما يجزئني منه، فقال: قل: سبحان الله،
والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم )، الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي ، وصححه ابن حبان والدارقطني والحاكم ].
المؤلف رحمه الله بعد مبحث قراءة الفاتحة بما معها من البسملة
والتأمين يأتي بهذا الحديث الذي فيه أن رجلاً أتى النبي صلى الله
عليه وسلم وقال: أنا لا أحفظ شيئاً من القرآن، وكأن الرجل علم بأن
الصلاة لابد فيها من قراءة قرآن، فقال: أنا لا أحسن ماذا أفعل؟
ولعله سمع خبر المسيء في صلاته: (فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من
القرآن )، المهم أنه علم، ووجد في نفسه العجز عن هذا، فهل قال
له رسول الله: لا صلاة إلا بعد أن تحفظ؟ لا، فسماحة الدين ويسر
الإسلام، ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم في تعليم الجاهل لا
تتناسب مع هذا الموقف، وهل سيظل طوال عمره عاجزاً أن يحفظ الفاتحة؟
ليس بمعقول، فهذا عربي وذكي ويحفظ، فهو يحفظ: سبحان الله، والحمد
لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم، والفاتحة سبع آيات، وهذه خمس جمل، ويمكنه أن يحفظها،
لكن في الوقت الحاضر هل يترك الصلاة حتى يحفظ؟ لا، وهكذا التيسير(1/401)
في التعليم، والتدرج مع الجاهل، فالذي يجزئ في الصلاة نيابة عن
الفاتحة هو هذا. الفاتحة كلام الله، والرسول صلى الله عليه وسلم
نظر إلى حال الرجل، ونستطيع أن نقول: الفاتحة كتاب الله، وهي سبع
من المثاني والقرآن العظيم، وفي حديث أُبي : (لن تخرج من هذا
المسجد حتى أخبرك بأفضل سورة نزلت في التوراة والإنجيل والقرآن )،
فتباطأ في المشي خوفاً من أن تفوته، (قال: فاتحة الكتاب )، أي:
أنها أفضل ما نزل في الكتب السماوية. إذاً: البديل عن هذا ماذا
يكون؟ أعلى ما يكون في المنزلة من الذكر والدعاء، وهذا شيء بديهي،
يعني: لو أن إنساناً مطالب بجنيه ذهب فعجز عنه فهل يأتي بحصاة؟ لا،
لكن بفضة، أو بحديد أو نحاس ... بالتدريج، قال علمني ما يجزئ، أي:
ما يقارب الإجزاء بدلاً عن الفاتحة، قال: (قل: سبحان الله، والحمد
لله... إلخ).
معنى التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير
هل تعلمون مكانة سبحان الله والحمد لله؟ ورد في نصوص خاصة بها:
(كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى
الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم )، وقدمنا مراراً
بأن العبرة ليست بمجرد خفة اللسان، فالببغاء يقولها، ولكن يجب أن
تربط اللفظ بمحتواه، كما يقول علماء العربية: الألفاظ قوالب
المعاني، فالمعاني جواهر توضع في ألفاظ تصونها، فإذا كانت لديك
جوهرة نفيسة أو حجر كريم غالي من زمرد أو ياقوت هل تضعه في علبة
كبريت وتضعه في جيبك؟ لا، بل تنظر له علبة مطعمة منظمة، بل يمكن أن
تأتي له بعلبة ذهبية تتناسب مع علو مكانة هذا الجوهر، فتخير
الألفاظ للمعاني من أسرار العربية. وأما معنى (سبحان)؛ فيقول علماء
فقه اللغة: الأصل في وضع الألفاظ للمعاني الأشياء المحسوسة
الملموسة، ثم ينتقل بها إلى المعنويات، نعلم أن سبحان الله هو
تنزيه الله عما لا يليق بجلاله، ومادة (سبحان) أصلها من سبح، وسبح
المحسوس الذي يسبح في الماء، ولماذا يسبح الإنسان في الماء؟ لئلا(1/402)
يغرق، فكذلك المسبح لله؛ لئلا يغرق في بحار الشرك، ولينزه الله
ويبعده عما لا يليق بجلاله كما يبعد نفسه عن مهالك الغرق. والحمد
لله: الحمد ثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، ولا ينبغي هذا
أبداً ولا يجمع إلا للمولى سبحانه؛ لأنه كامل الذات والصفات، فإذا
قلت: (سبحان الله) نزهته عن كل ما لا يليق بجلاله، وإذا قلت:
(الحمد لله) أثبت لله جميع صفات المحامد والكمال، وهذا أقصى منتهى
التوحيد. و(لا إله إلا الله): في حديث البطاقة في الرجل الذي يأتي
يوم القيامة ولديه سجلات من الذنوب والخطايا قد ملأت الميزان وليس
عنده شيء؛ فيظن أنه هالك إلى النار، فيقال: لك عندنا أمانة، فيؤتى
ببطاقة فيها (لا إله إلا الله)، فتوضع في كفة الحسنات فيقول: ماذا
تفعل هذه بتلك السجلات التي كالجبال؟ فيقول: اصبر، فتوضع تلك
البطاقة التي في عينه ولا شيء في كفة الحسنات فترجح لا إله إلا
الله. (والله أكبر)؛ أكبر من كل كبير. (ولا حول ولا قوة إلا
بالله)، وزاد المؤلف كلمة (العلي العظيم)، ورواية الصحيحين ليس
فيها ذلك، وإنما توجد في بعض السنن.
صلاة من أسلم حديثاً
هل يظل الرجل على هذا الذكر طيلة حياته أم أن هذا أمر مؤقت إلى أن
يتعلم سورة الفاتحة؟ يأتينا بعض الناس إلى المحكمة ليسلم من جنسيات
متعددة، وبالكاد ينطق بالشهادتين، ولم يحفظ الفاتحة بعد، فنقول له:
اذهب مع الناس الذين معك وصلِّ معهم ولو حتى تركع وتسجد بدون ذكر؛
ليرتبط مع جماعة المسلمين، واليوم يحفظ كلمة وغداً ثانية إلى أن
يحفظ الفاتحة، ولو قال: لا إله إلا الله ومات في حينه يحكم له
بالإسلام. إذاً: لو أسلم إنسان ولم يحفظ شيئاً من كتاب الله نقول
له: انطق بالشهادتين، ويجب أن ينطق بهما باللفظ العربي ولو لم يفهم
المعنى، ثم بعد ذلك يذكر الله بما شاء بلسانه وبلغته إلى أن يتعلم
الفاتحة، ومن هنا يقول الشافعي رحمه الله: تعلم العربية فرض(1/403)
عين على كل مسلم بما يصحح به صلاته: (الله أكبر، سمع الله لمن
حمده، السلام عليكم، سورة الفاتحة) ومن نعم الله وآلائه ومن خصائص
القرآن: تيسيره على الجميع، ولعلكم تجدون هذا جلياً في مسابقات حفظ
القرآن عندما يأتي أفراد من العالم كله إلى مسابقات حفظ القرآن
الكريم في مكة؛ فنجد أشخاصاً إذا قال: أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ من أي سورة من القرآن أحسن
قراءة من بعضنا، وإذا سألته عن كلمة واحدة مما قرأ لا يفهم معناها،
سبحان الله!! إذاً: حفظ القرآن ميسر: وَلَقَدْ
يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر:17]،
والفهم من الله! إذاً: هذا من باب الإرفاق والتيسير في التعليم،
وأخذ الجاهل بقدر ما يستطيع، وتدرج وبديل عما يمكن فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
وهل يقول ذلك مرة واحدة في صلاته كلها أو في كل ركعة بدلاً من
الفاتحة؟ بل في كل ركعة بدلاً من الفاتحة؛ لأنه تقدم لنا في حديث
المسيء في صلاته في قراءة الفاتحة: أن كل ركعة صلاة بذاتها، أي:
محسوبة صلاة، وفي الحديث: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ). وقوله:
(إني لا أحسن شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزئني) الحديث، كلمة
(الحديث)، تعني: إلى تمام الحديث، كما تجد في بعض العبارات: كذا
وكذا... إلخ، يعني إلى آخره، فكلمة (الحديث) يعني هذا الخبر في
حديثه بقية، ما هي تلك البقية؟ موجودة في الشرح.
حظ المصلي من الدعاء في الصلاة
الرجل لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قل: سبحان الله،
والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا
بالله -وعلى الروايةالأخرى-: العلي العظيم)، قال: يا رسول الله!
هذا لله، فماذا لي؟ هذا لله: سبحان الله، تسبيح لله، الحمد لله،
حمد لله، لا إله إلا الله، والله أكبر كذلك، لا حول ولا قوة إلا
بالله تذهب أيضاً لله، كلها تذهب لله؛ فما حظي؟ وهذا مما يدل على(1/404)
أن الرجل عاقل وفاهم، فمثل هذا هل يعجز عن حفظ الفاتحة؟ لا، ولكن
الوقت ضيق، فبم أجابه صلى الله عليه وسلم؟ قال: (قل: اللهم ارحمني
وارزقني وعافني واهدني )، الرجل لما تأمل في هذا الذكر الذي
علمه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقهه، وعلم أنه ليس مجرد
لفظ فقط، فهو يعلم أن هذا من حق الله سبحانه، وماذا يعود علي؟ وهذا
طمع. ألا يكفيك أنك أديت حق الله عز وجل؟ أنت تقول: إنك عاجز وتريد
ما يجزئ، ولكن انظر إلى السماح! فقد جعل الرجل ينفسح أمله عند الله
أكثر، علمه كيف يصلي، وأعطاه ما يجزئ، فلم يقل: جزاك الله خيراً،
ولكن أريد زيادة، هذا هو التعليم وفضل الله. قال: (إذا انتهيت من
هذا قل: اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني)، وهذه له هو، الرحمة،
والرزق، والمغفرة، (وعافني واهدني)، لما سأل الرجل: ما هو حظه من
هذا الذكر؟ وجهه إلى جماع أبواب الخير: ارحمني، اغفر لي، وهل هذا
من أمر الدنيا أم الآخرة؟ وماذا بقي إذا غفر له ورحمه؟ والرزق
مضمون في الدنيا لكنه زيادة طلب، وإذا هداه إلى ما يرضاه فيكون مع
الذين أنعم الله عليهم، (وعافني) أما هذه فقد جمعت كل الخير، أم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أحب الناس إلى رسول الله
من النساء، في أشرف ليلة -في ليلة القدر- تقول: (يا رسول الله!
ماذا أقول إن أنا صادفتها؟ ) فالسؤال من أحب إنسان لأحب إنسان
في أفضل الليالي، فإذا به صلى الله عليه وسلم يقول: (قولي: اللهم
إنك عفو تحب العفو فاعف عني ). المسألة في ليلة القدر أعظم
مسألة وما عداها مقدمة وسيلة وقربة إلى الله عز وجل، وهذا الواجب
عندما يكون لك حاجة عند عظيم: هل تمسك به فتقول: أعطني؟! لا، ولكن:
اعمل معروفاً، انظر إلى حالتي، أنت كريم، أنت لا ترد أحداً، قد لا
يكون كذلك لكن أنت تأتي بها من أجل أن تغريه أن يعطيك (ولا أحد أحب
إليه المدح من الله ) تأتي بالأول: (اللهم)، يعني: يا الله،(1/405)
(إنك عفو)، الأصل أنك عفو لا تعاقب، (تحب العفو)، قد يعفو الإنسان
برغم عنه، إذاً: ما دمت أنك عفو وتحب العفو فأنا أسألك العفو،
سألتك ما تحب وهو من فعلك وصفتك. يقول بعض العلماء: كنت أعجب من
هذا اللفظ، فلما تأملته فإذا به جماع الخير كله، من عوفي في بدنه
ماذا يريد؟ ومثله من عوفي في دينه من الآفات والبدع، من عوفي في
ولده وماله، من عوفي يوم الحساب، ماذا يبحث بعد ذلك؟ قال: فتأملته
فوجدته جامعاً لكل خير. ربما نجد شاهداً لفهم هذا الرجل من الحديث
القدسي، وفي خصوص الصلاة وفي عين الفاتحة؛ لأنه ثبت في الصحيح: أن
الله سبحانه وتعالى قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، إذا
قال العبد: الحمد لله، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن
الرحيم، قال الله: مدحني عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال
الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله:
هذه بيني وبين عبدي وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله:
هذا لعبدي ولعبدي ما سأل )، العبد يسأل فماذا يقول: اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]؛
فكأن الفاتحة تشتمل على حق لله وحق للعبد المصلي. هذا الرجل وإن
كان لم يحسن الفاتحة لكنه فقيه رشيد، أنار الله بصيرته؛ لما سمع من
رسول الله المجزئ والبديل عن الفاتحة، وتأمّل ذلك، وجد أن كله لله
فطلب حظه، فأرشده صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه حظه من الدنيا
والآخرة، والله المستعان.
شرح حديث: (كان رسول الله يقرأ في الظهر والعصر...)
قال رحمه الله: [ عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا؛ فيقرأ في الظهر والعصر -في
الركعتين الأوليين- بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحياناً
ويطول الركعة الأولى، ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب ) متفق
عليه ]. رغم تنوع الصلاة إلا أن لكل منها نصوصها، فبدأنا بالظهر(1/406)
والعصر؛ لأن أول صلاة جماعة في الإسلام هي الظهر؛ لأن النبي صلى
الله عليه وسلم لما أسري به ليلاً، وفرضت الصلوات الخمس بليل، نزل
الصبح، وجاءه جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الظهر وصلى به،
فكانت أول صلاة جماعة بعد فرضية الصلاة ليلة الإسراء هي الظهر،
فيقول أبو قتادة : (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر
والعصر) فماذا قرأ؟ (بفاتحة الكتاب وسورتين)؟ يقرأ أين؟ أجملها، ما
دام بفاتحة الكتاب وسورتين، أي: مع كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة،
هذا في الأوليين؛ لأن الظهر والعصر أربع ركعات، فالفاتحة في كل
ركعة مع سورة، الفاتحة مكررة ومعها سورتان في كل ركعة؛ مع أنه
سيأتي أنه يجوز أن يجمع السورتين في الركعة الواحدة، ولكن ذلك ليس
مراداً هنا. (ويسمعنا الآية أحياناً) مع أن الظهر والعصر سرية، وهل
الجهر من الفاتحة أم من السورتين؟ من السورتين، ومن هنا علموا أنه
كان يقرأ مع الفاتحة سورة أخرى. (وكان يسمعنا الآية أحياناً)، يقول
العلماء رحمهم الله: هذا منه صلى الله عليه وسلم ليس على سبيل
الصدفة، ولكن على سبيل التعليم، كأنه يعلمهم بأنه يقرأ مع الفاتحة
سورة وها هو يسمعهم الآية منها، ويقول: (أحياناً) يعني: ليس بصفة
دائمة؛ لأن التعليم يحصل بمرة أو بمرتين، ويذكرهم في بعض الحالات.
(ويطول الركعة الأولى، ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب)، مفهوم
ذلك: أنه لا يطيل في الثانية ولا الثالثة ولا الرابعة، وجاء
التعليل عند بعض العلماء: بأنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل في
الأولى قالوا: (كنا نظن أنه يفعل ذلك ليدرك المتأخر الركعة الأولى )
حتى جاء في بعض الروايات عند مسلم : (كانت تقام الصلاة فيذهب
الرجل إلى البقيع فيقضي حاجته، ويتوضأ، ويأتي فيدرك الركعة الأولى ).
(ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب)، وهما الثالثة والرابعة، كان
يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب، ثم سكت الراوي، وفهم من هذا: أنه يقرأ(1/407)
في الأوليين مع الفاتحة سورة، وسكوت أبي قتادة عن ذكر قراءة
سورة أو آية أو شيء سوى الفاتحة في الأخريين أخذ بعض الناس منه بأن
الركعتين الأخريين يقتصر فيهما على الفاتحة وكفى. إذاً: من يقول:
لا يقرأ في الركعتين الأخريين سوى فاتحة الكتاب هذا دليله، ولكن
إذا جاءتنا نصوص أخرى تدل على أن في الركعتين الأخريين قراءة، فبأي
ا لحديثين نعمل؟ القاعدة عند الأصوليين والمحدثين: إذا تعارض ناف
ومثبت فإننا نعمل بقول المثبت، وهذا لم ينف ولم يقل: لم يقرأ فيها،
ولكن سكت، والسكوت عن العلم ليس بعلم، فإذا جاء غيره وأثبت لنا
قراءة في الركعتين الأخريين عن النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب
أن نعمل بقول من أثبت قراءته في الركعتين الأخريين، لكن المؤلف
رحمه الله إنما ألف الكتاب لا ليناقش ولكن ليبين أدلة الأحكام عند
الفقهاء، ولذا سماه: بلوغ المرام من أدلة الأحكام، فيأتي بالأحاديث
التي استدل بها كل إمام في مذهبه، أو كل عالم فيما ذهب إليه، وكأنه
يقول لك: من قال: لا يقرأ في الركعتين الأخريين إلا بفاتحة الكتاب
فقط؛ فهذا دليله، ثم يأتيك بالأحاديث الأخرى ليبين أدلة الأقوال
الأخرى.
شرح حديث: (كنا نحزر قيام رسول الله في الظهر والعصر...)
قال رحمه الله: [ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا
نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر؛ فحزرنا
قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر: الم * تَنزِيلُ [السجدة:1-2] ).
أبو قتادة يقول: (ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب)، وأبو سعيد
الخدري يقول: (كنا نحزر) أي: نقدر، والحزر أو الحرز أو الخرص:
التقدير، فنحزر أي: نقدر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل
قيامه في نافلة خاصة به أم في صلاته بهم؟ النافلة ليس لنا دخل
فيها؛ لأنه بإجماع المسلمين لا حظر عليك فيما تقرأ فيها، فإن شئت
قرأت القرآن كله في ركعتين، وإن شئت قرأت الفاتحة والإخلاص؛ لأن(1/408)
المتطوع أمير نفسه، اللهم إلا في تطوع الجماعة مثل التراويح،
فيراعى فيها ظروف الناس، فإذا كان متطوعاً لنفسه فليصلي ما شاء.
والمقصود بصلاة رسول الله هنا الفريضة؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم
يصلي صلاة الليل في بيته، قال أبو قتادة : (صلينا مع رسول
الله)، وهنا أبو سعيد رضي الله تعالى عنه كأنه يقول: صلينا مع
رسول الله وحزرنا قراءته في الظهر والعصر، فالقضية لا زالت في
الظهر والعصر، فأبو سعيد يقول: قدرنا ما يقرأه في الركعتين
الأوليين بـ الم * تَنزِيلُ [السجدة:1-2]،
هذا في الركعتين الأوليين، (وفي الأخريين قدر النصف من ذلك )،
والنصف من قراءة (الم تَنزِيلُ) هل سيكون النصف فقط أم الفاتحة
ومعها غيرها؟ قطعاً: الفاتحة ومعها غيرها، وهذا الحديث يدل على أن
المصلي في الفريضة يقرأ في الركعتين الأخريين بالفاتحة ومعها شيئ
آخر، مع تطويل الأولى على الثانية، فيقرأ في الركعة الأولى بقدر،
وفي الثانية بقدر النصف من ذلك، وسيأتي قدر القراءة في العصر.
فأبو سعيد يبين لنا مدى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم،
ويفسر التطويل الذي جاء في حديث أبي قتادة ؛ فهو يطيل في
الأولى إلى حد أن الثانية بقدر النصف من الأولى، وسيأتي أنه يقارن
بين الأولى والثانية من الظهر، والأولى والثانية من العصر كما في
نهاية حديثه. وإذا جئنا إلى سورة السجدة فعددها (30) آية، وفي بعض
الأحاديث: (سورة ثلاثون آية شفعت لصاحبها يوم القيامة )، فهل هي
السجدة أم أنها تبارك؟ كلاهما ثلاثون آية. إذاً: حديث أبي سعيد يبين لنا قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأوليين قدر
السجدة، وفي الأخريين قدر النصف، إذاً: الأخريان هل فيهما قراءة مع
الفاتحة أم ليس فيها كما قال أبو قتادة ؟ فيها، ولكن مع
التفاوت، فالأوليان بقدر (السجدة)، والأخريان بقدر النصف. قال:
(وفي الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، والأخريين على(1/409)
قدر النصف من ذلك ) رواه مسلم ، ففي العصر الأوليان منه
بقدر الأخريين من الظهر، قال: (والأخريين على قدر النصف من ذلك،
والأخريين من العصر على قدر النصف من ذلك) أي: نصف السجدة، وهو
الربع.
134346 ( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [7] )
( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [7] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم..)
2 شرح حديث: (كان إذا صلى وسجد فرج بين يديه..)
3 شرح حديث: (إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [8]
في كل هيئة من هيئات الصلاة لابد أن تكون الأعضاء بشكل يناسب تلك
الهيئة، ما لم فلن تتم هذه الهيئة، ففي السجود لابد من تمكين الأعضاء
السبعة من الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم في السجود يفرج بين عضديه
وجنبيه حتى يرى بياض إبطيه، بينما المشروع للمرأة في السجود عكس ذلك.
شرح حديث: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم..)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي
الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد
على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- واليدين،
والركبتين، وأطراف القدمين ) متفق عليه]. بيّن المؤلف كيفية
الصلاة، وبدأ بتكبيرة الإحرام، ثم جاء بقراءة الفاتحة، ثم الخلاف
في البسملة، ثم التكبيرات: تكبيرة الإحرام، وتكبيرة الانتقال، وما
يقول حال رفعه من الركوع، وما يقول وهو قائم بعد الرفع، ثم سيهوي
إلى السجود، فكيف يكون السجود؟ هناك حديث في كيفية الهوي إلى
السجود، ولكن الحديث هنا في كيفية السجود. قال: (أمرت)، وهذا
الحديث ورد بصيغ ثلاث: (أمرت)، (أمرني ربي)، (أمرنا)، كل هذه من
صيغ هذا الحديث، وأصحها هذه الرواية: (أمرت)، وهذه عند علماء اللغة
من صيغ المبني للمجهول أو ما لم يسم فاعله، (أمر) من الأفعال(1/410)
المتعدية، تقول: أمر زيد عمراً بفعل كذا، فهنا الفعل يحتاج إلى
فاعل، ويحتاج إلى مفعول به، وما هو مأمور به، أمر علي زيداً: فهنا
الفاعل علي، والمأمور زيد، والمأمور به موضوع الأمر. وهنا: (أمرت
أن)، ومعلوم أن ما بني للمفعول يكون قد حذف فعله، وأغراض حذف
الفاعل تدرس في علم البلاغة، إما لمعرفته أو لا يذكر اختصاراً، كما
جاء: حَتَّى
تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص:32]^،
لم يذكر الفاعل، وليس هناك مبني للمجهول ولا للمعلوم، ولكن حذف
الفاعل لبيان السياق للمطلوب، بدليل الحجاب، توارت يعني الشمس.
وهنا: (أمرت)، إما أن يكون لمعرفته ولا يحتاج إلى تنصيص عليه، وإما
لعدم إرادة ذكره، وحذف الفاعل: لعدم إرادة ذكره، أو عدم معرفته؛
حفاظاً عليه، أو خوفاً منه، وقد يكون لحقارته، وقد يكون لإعظامه
وعدم تسميته باسمه، كل ذلك من أغراض حذف الفاعل، وإقامة المفعول به
مقامه، وهنا من باب حذف الفاعل للعلم به، لما المصطفى صلى الله
عليه وسلم يقول: (أمرت)، من في الدنيا له أن يأمر رسول الله؟ أظن
ليس هناك حاجة إلى سؤال؛ لأن الذي يأمره هو المولى سبحانه، إذاً:
أمرت، معناها: أمرني ربي. (أن أسجد)، السجود هو: وضع الجبهة على
الأرض، وقد يسمى الركوع سجوداً، وقد يسمى السجود ركوعاً، وَارْكَعِي
مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل
عمران:43]^. قال: (على سبعة أعظم) وأعظم جمع عظم، والعظم واحد
العظام في الجسم، ثم ذكر وفسر، وهذا من الأساليب البليغة، وهي
كثيرة في أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يأتي بالمجمل ثم
يفصل، (أمرت أن أسجد على سبعة) فتعد السبعة على يدك ثم تنتظر
تفصيلها، فتحفظ السبعة لأنها سهلة، ثم تبدأ بالجزئيات التفصيلية.
ذكر الخلاف في السجود على الجبهة والأنف
(الجبهة) أعضاء الجسم كلها معروفة ومحددة ومسماة حتى موضع الشعرة،
والجبهة من المجابهة، والوجه من المواجهة، والقفى من التقفية، كل(1/411)
هذه عرفت من واقع الحال، والجبهة والجبين سواء، والجبهة مقدم
الرأس، أو العضو الفاصل ما بين الوجه والرأس. (وأشار بيده إلى
أنفه)، هنا البيان اشتمل على أسلوبين: أسلوب قول، وأسلوب فعل
إشارة، والجبهة فوق والإشارة إلى الأنف، وكأنه في هذه المغايرة
يقول: السجود على الجبهة والأنف، ولكن هل هما يستويان في الأمر
بهما؟ أي: هل الجبهة والأنف مستويان في حكم السجود سواء أم هناك
مغايرة بينهما؟ ولو كان هناك مغايرة فأيهما مائة بالمائة؟ الجبهة؛
لأنه نص صريح في العضو، وأشار إلى الأنف لأنها تتبع الجبهة في
السجود، لكن هل هي تساويها في كل شيء؟ لا، لأنها لو كانت تساويها
لقال: على الجبهة وعلى الأنف؛ فيكون هناك عضو ثامن؛ وقوله: (سبعة)،
تمنع وجود عضو ثامن، وكذلك يمنع من نقص عضو فيصير ستة، فالتنصيص
على سبعة يمنع من أن يكونوا ستة أو ثمانية. إذاً: الأنف ليس عضواً
مستقلاً، وليس مساوياً للجبهة، ومن هنا وقع الخلاف؛ فنجد من
العلماء من يقول: يجزئ أحد العضوين؛ لأنه ذكر الجبهة وأشار إلى
الأنف؛ فهما سواء، وعلى أيهما سجد أجزأ. وقال الآخرون: لا؛ لأنه لم
يكتف بواحد منهما، ولم تأت (أو) التي هي للتخيير، فما قال: على
الجبهة أو الأنف، وإنما قال: (الجبهة) بلفظ صريح، وأشار إلى الأنف
على أنها معها، وهناك من أوجب السجود عليهما معاً، فلو اقتصر على
الجبهة فقط ما صح سجوده. القول بإجزاء الجبهة فقط يروى عن الشافعي رحمه الله، والقول بأنه يجزئ على الأنف يروى عن أبي حنيفة ،
ويناقش هذا القول بأن: أبا حنيفة رحمه الله ما قال: إنه يجزئ
عن الأنف وحده، وإنما قال هو مخير بينهما، ولكنا وجدنا فعل النبي
صلى الله عليه وسلم أنه يسجد على الجبهة والأنف ويلامس الأرض،
وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي ). وجاءت الأحاديث عن أبي هريرة وعن ابن عباس : (أنهما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم يسجد على
أنفه وجبهته ) ولما ذكر صلى الله عليه وسلم ليلة القدر قال:(1/412)
(أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين )، وجاء في الحديث:
(ورأيت الطين على أرنبة أنفه)، والأنف من أول الجبهة إلى الشفة،
والأرنبة في المحل المرتفع من الأنف، فلابد من السجود عليها حتى في
وقت الطين. فإذاً: ليس هناك حاجة للخلاف الطويل، والقول بأن الأنف
تجزئ وحدها قول مطروح، لكن هل تجزئ الجبهة وحدها؟ هذا هو الخلاف
الصحيح، والصحيح أنه يجمع بين الجبهة والأنف. ولو جئنا إلى معنى
جانبي الجبهة هي الناصية، والناصية هي موضع الشرف والرفعة من
الإنسان؛ ولذا قال الله في تبكيت الكفار: نَاصِيَةٍ
كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [العلق:16]،
فوصف الناصية وأراد صاحبها، فالسجود على الناصية فيه كمال الخضوع
للمولى سبحانه، وهو أن تعفر الجبهة -وهي أعظم وأشرف عضو عندك-
بالتراب؛ تواضعاً لله، وكذلك الأنف كما يقال: (رغم أنف فلان) فرغم
من الرغام، والرغام هو التراب الحار، فإذا أرادوا مذلتك قالوا: رغم
أنفك تفعل كذا، يعني: تفعل وإلا وضعنا أنفك في التراب الحار، وليس
بعد هذا إهانة، فالمصلي يفعل ذلك طواعية؛ وخضوعاً لله سبحانه
وتعالى، فكأنه يقول: يا رب أضع جبيني وأغبر أنفي في التراب تواضعاً
لك، وشكراً على نعمائك، ولا يوفي بذلك. إذاً: جيء بالأنف مع الجبهة
لأنهما العضوان اللذان بهما يشرف الإنسان أو عليهما تقع الإهانة،
فبدل ما يرغم على ذلك من خصم أو عدو، فهو يفعلها طواعية لوجه الله
تعالى. النجاشي لما انتهت غزوة بدر، دعا المهاجرين الذين عنده
فاشتد عليهم الأمر: ماذا يريد منا؟ فلما دخلوا عليه وجدوه جالساً
على التراب حاسر الرأس لابساً حلساً قديماً واضعاً يديه إلى الأرض،
في حالة في غاية من التذلل والتواضع، فقال له جعفر : أيها
الملك! دعوتنا وجئنا ووجدناك على هذه الحالة، ما الذي حدث؟ يريد:
هل حدث مصيبة أم ماذا؟ قال: دعوتكم لأبشركم بأن النبي صلى الله
عليه وسلم التقى مع قريش في واد يقال له: بدر، ونصره الله على(1/413)
أعدائه، ومما جاء عن عيسى عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب من
عبده إذا أحدث له النعمة أن يحدث له تواضعاً)، ونحن بفضل الله في
كل لحظة نعم المولى تتوالى علينا، فجلوسك فقط معافى نعمة كبيرة،
ولذا تأتي الصلوات الخمس في أوقات متفاوتة تجديداً للصلة بين العبد
وبين ربه، وتجديداً للعلاقة بينهما. وعلى هذا يشرع ضم الأنف إلى
الجبهة وما نقول من جهة العقل معقولة، لكن حكمة التشريع فيها
واضحة.
كيفية تمكين الجبهة من الأرض
بقي عند الفقهاء تحقيق المناط وهو: كيف يتم السجود حقيقة على
الجبهة؟ إذا كانت الغترة، أو عمامة، أو قلنسوة أو أي شيء على
الحواجب، وسجدت على الأرض، فهل الجبهة باشرت الأرض أم أن بينهما
حائل؟ الفقهاء يبحثون عن أثر وجود عازل أو حاجز بين الجبهة وموضع
السجود على السجادة أو التراب أو الحصى، هل هو سجود على الجبهة أم
سجود على الحائل دون الأرض؟ فنجد النزاع أو الخلاف يرجع إلى تحقيق
المناط في حقيقة السجود، فنجد بعض العلماء وخاصة الشافعية يشددون
في هذا ويقولون: لا يصح السجود إلا على الجبهة، ولا يصح على خارج
عن الجبهة أو شيء يتحرك بحركة المصلي، هل تتحرك معك الغترة أم لا؟
نعم، إذاً: لا يصح أن تسجد على طرف الغترة، لابس درّاعة كبيرة
واسعة أو برنس أو ثوب البادية وكمه يُدخل اثنين معك، أو أي شيء
يتحرك بحركتك في قيامك وقعودك؛ لا يحق لك أن تسجد عليه عند الشافعي . وغيره يقول: الأمر أوسع من هذا؛ لأن السجود يتحقق بالانحناء ووضع
الجبهة إلى الأرض، وكونه يوجد حائل أو لا يوجد حائل فإن ذلك لا
يمنع من كونه سجد، لكن يذكر الصنعاني في شرح هذا الحديث، وابن
حجر في شرحه في الفتح روايات -وإن كان يضعفها البيهقي رحمه
الله-: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يسجد على كور العمامة )،
والكور: هو التكوير، والعمامة تلف مثل عمامة الرجل السوداني
وأمثالها، فالاستدارة التي توجد على الرأس إذا كانت إلى الجبهة(1/414)
وسجد، فهل سجد على الأرض أم على كور العمامة؟ يقولون: هذا سجد على
كور العمامة، وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً
سجد على كور العمامة فأشار إليه أن يرفع ) ولكن كما قلنا:
البيهقي ضعف كل هذه الروايات.
حكم كشف أعضاء السجود في الصلاة
بقية الأعضاء السبعة التي جاء ذكرها هل يجب كشفها حتى تباشر الأرض
كما تقولون في الجبهة: لا يصح السجود عليها مع وجود حائل؟ قالوا:
لا، فيستحيل كشف الركبتين للسجود؛ لأن فيه كشفاً للعورة وإبطالاً
للصلاة، ولا تنسوا القاعدة التي يقولها ابن دقيق العيد : الفرع
إذا عاد على الأصل بالإبطال كان باطلاً. إذاً: هذا الفرع باطل لأنه
سيبطل الأصل. إذا قلتم بأن الركبتين كشفها عورة؛ فإذا كان لابساً
الخف ومسح عليه، وله يوم وليلة أو ثلاثة أيام، ومعلوم أنه سيصلي في
اليوم والليلة خمس صلوات؛ فهل يصح أن ينزع الخفين ليباشر بقدميه
الأرض؟ لا؛ لأن من نواقض الوضوء لماسحٍ على الخفين نزع الخفين، هذا
عند الجمهور بصرف النظر عن المخالف، فهل تقولون لمن لبس خفين:
انزعهما لتباشر بالقدمين الأرض؟ لا. إذاً: تسامحتم مع صاحب الشراب،
ولو توضأ وغسل القدمين، لا تقولون: اخلع الشراب حتى تصح الصلاة.
فإذاً: يجوز ستر الركبتين والقدمين، وهل يمكن لإنسان يهذي ويقول:
إذا لبس قفازات ما جاء النص أن يخلعها حتى تباشر بيديه الأرض، ولكن
جاء حديث آخر يذكره ابن حجر ، ويذكره في نيل الأوطار بأن
الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون وأيديهم في ثيابهم، وكون اليد
من داخل الثياب وهو ساجد، فالثياب حائلة بين يده وبين محل السجود،
وهذا نص مختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أصح، وسواء كان مرفوعاً أو
موقوفاً على الصحابة؛ فإذا فعل ذلك أصحاب رسول الله، فليس من
المعقول أن يفعلوا ما يبطل الصلاة. والرد على من يقول: لا يصح
السجود على متحرك بحركة المصلي يذكره مالك في الموطأ قالوا:(1/415)
(شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الحر فلم يشكنا)، أي:
لم يسمع شكوانا، بمعنى: كان المسجد تأتيه الشمس فتكون أرضه حارة،
فإذا سجدوا كانت حرارة الحصوة على الجبهة لا تحتمل، (فكان أحدنا
يسجد على طرف ثوبه -أي: على كمه- وكان بعضنا يأخذ القبضة من
الحصباء)، أي: إذا سجد وقام للركعة التالية ملأ يده حصباء وأبقاها
في كفه حتى يقرأ ويرفع ويركع (فإذا أراد السجود بسطها وسجد عليها)
وهذه متحركة بحركته وهي أيضاً حركة زائدة، فالثوب لعله بضرورة
الحال، لكن هذه قصداً يحملها معه في كفه، ثم يطرحها ويسجد عليها؛
لأنها تكون بعامل وجودها في كفه قد بردت من تلك الحرارة الشديدة.
وخروجاً من هذا الخلاف، وتحقيقاً للمعنى، وإبعاداً لشبهة احتمال
الكبر كما في قصة الغرانيق، فالمشركون كلهم سجدوا مع رسول الله إلا
واحداً رفع قبضة من الأرض ووضع جبهته عليها، فكان ذلك كبراً منه عن
السجود؛ فنقول: إن كشف الجبهة أولى، خروجاً من هذا الخلاف،
وتحقيقاً لمعنى الخضوع والخشوع بين يدي المولى سبحانه، وإبعاداً عن
احتمال الكبر، وحتى لا يتذرع البعض بأن فلاناً يفعل كذا، وفلان
يفعل كذا، وهذا جائز، وهو لا يفعلها على سبيل الجواز، ولكن يفعلها
كبراً، خروجاً من هذا كله، فإنه يبتعد عن تغطية جبهته عند السجود.
معنى قوله: (أعظم)
قوله: (أسجد على سبعة أعظم)، صريح كلمة: (أعظم)، وإن كان العظم ليس
بظاهر فالمراد به: الجلد واللحم، ولكن حقيقة العضو العظم: فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا [المؤمنون:14]،
فالأصل في خلقة الإنسان الهيكل العظمي، وليس هناك هيكل لحمي؛
فحقيقة هيكل الإنسان وتكوينه الهيكل العظمي، مثلما يقولون على
المسلح غير المشطب: عظم، وليس فيه ولا حتى قد درهم واحد من عظم،
ولكنه حديد وأسمنت، لكن لشبهه بالهيكل العظمي في الإنسان شبهوه به
ثم يأتي الجسم ويكسى لحماً. إذاً: الحديث ممكن نقول: فيه نوع تجوز.(1/416)
وهل في اليدين عظم واحد؟ كل إصبع فيها ثلاثة مفاصل، وأكثر سلامى
الجسم في القدمين والكفين، وسمى اليدين عظمين، وفيهما عشرات
العظام، إذاً: الحديث فيه مجال للتجوز والتوسع. ونص على العظم
الأول بأنه الجبهة، فالأولى أن يحاول الإنسان أن تكون الجبهة
مكشوفة ما أمكن كشفها، ولا محذور فيها كالركبتين، وكالقدمين عند
لبس الخفين، والله تعالى أعلم.
كيفية السجود على الكفين
قال: (واليدين)، نعرف بأن جسم الإنسان فيه تسمية مجملة ومفصلة،
فاليد من المنكب إلى الظفر، والرجل من الفخذ أو المفصل الذي بين
الحوض والفخذ إلى أصابع القدمين، وكل جزء من اليد له اسم مستقل،
فلدينا العضد، ثم الساعد، ثم الكف، وفيه عدة عظام تتحرك، ثم
الأصابع، ولكل إصبع عظام، وكذلك الأصابع كل إصبع له اسم، حتى
الإصبع الواحدة أجزاؤها لها أسماء: الأنملة والوسطى. إذاً: لفظ
اليدين هنا مجمل كما جاء الحد في قطع يد السارق، والتيمم، وجاءت
مفصلة في الوضوء، قال في الوضوء: وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]،
لكن في التيمم قال: فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]
.. فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]،
ثم تأتي السنة وتبين إلى أين؟ وما المراد بمسمى اليد؟ هل هي
بكاملها نبطحها ونمدها على الأرض؟ لا قال صلى الله عليه وسلم:
(صلوا كما رأيتموني أصلي )، ووجدنا أن المقصود بالعضوين هنا
الكفين فقط، وستأتي نصوص تمنع أن يلامس الزند الأرض، وأن يفترش
ذراعيه. وهنا أيضاً مباحث للفقهاء في الكفين: كيف تسجد على الكفين:
أتطبق يديك؟ لا، بل تبسط أصابعك، مفرجة أم مضمومة؟ مضمومة؛ لأن في
تفريجها انحراف لبعض منها عن القبلة؛ لأن زاوية الأصابع زاوية
حادة، وهذه الزاوية الحادة لو قسناها يمكن أن تكون ثمان درجات أو
سبع، وستكون المسألة سهلة إذا كان الفارق عشرة سم، الآن الإصبع
يتجه ربما إلى ركن المسجد هذا، وسيذهب إلى الشرق عن نقطة تلاقي(1/417)
الإصبع من هنا، إذاً: لو أن الإصبع الوسطى تلقاء الكعبة فعلاً كما
هو محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فستكون التي تليها منحرفة
عنها فعلى ذلك قالوا: ببعد المسافة يكون الانحراف بعيد جداً، يمكن
أن تذهب أصبع إلى بلاد المغرب والأخرى إلى الهند. فإذا كان مضموم
الأصابع وسجد بسط كفيه وضم أصابعه، بخلاف وقت الركوع: فإن الأصابع
تفرج وتقبض على الركبة، كما جاء: (كأنه قابض على الركبة ).
إذاً: وضع الأصابع بين الضم والتفريج يختلف بوضعهما في مكانهما.
وهنا أيضاً بحث آخر: أين تكون الكفان من الجبهة؟ هل بعدها أم
قبلها، أم على مساواتها؟ تكون الكفان مضمومتا الأصابع مقاربة
للصدغين، لا تتقدم على الجبهة، ولا تتأخر بعيداً عنها؛ لأن هذه
هيئة تنافي طبيعة الإنسان في سجوده العادي، وفيه تكلف أو تقصير.
هيئة الركبتين وأطراف القدمين في السجود
قوله: (والركبتين)، تقدمت الإشارة بأنه لا يشترط أن تكون مكشوفة أو
مباشرة للأرض في حالة السجود، فلو نزل على اليدين وأطراف القدمين
ورفع ركبتيه كحركة رياضية ما تم السجود، فلابد من وضع الجبهة
والكفين والركبتين. قال: (وأطراف القدمين)، لم يقل: والقدمين؛ لأنه
لو قال: (القدمين) فحيثما كانت القدمان أجزأا، وأطراف القدم هي
الأصابع، وأحياناً ترى -وخاصة في مواسم الحج والعمرة- بعض الناس لم
يتمرن كثيراً على الصلاة، وربما أنه بدأ يصلي لما عزم على الحج،
فتجده يسجد ويرفع قدميه من الخلف، فهذا ما أكمل السجود؛ لأن عضوين
من أعضاء السجود لم تستخدم في السجود. وأطراف القدمين في السجود
لها ثلاث حالات: إما أن يسجد على الأصابع، وإما أن يثنيها متجهة
إلى القبلة ناصباً القدمين، وإما أن يثنيها إلى الخلف، وأي الأوضاع
مطلوب؟ أن تكون الأصابع مثنية إلى الأمام متجهة إلى القبلة، ولو
جعلها واقفة على أطراف الأصابع على الأظافر فقد سجد لكنه ترك
الأولى، كما لو ثناها إلى الوراء، وما دام أنه معتمد في السجود على(1/418)
الأصابع، فالسجود وافي، لكن الهيئة الأكمل أن تكون الأصابع متجهة
إلى القبلة.
شرح حديث: (كان إذا صلى وسجد فرج بين يديه..)
قال رحمه الله: [وعن ابن بحينة : (أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان إذا صلى وسجد فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه )،
متفق عليه]. إذا عرفنا أن المراد بالكفين اليدين، وأن نص الفقهاء
على أن تكون منضمة الأصابع، وجئنا إلى القدمين؛ وعرفنا بأن موضع
السجود هو أطراف الأصابع وهناك حركة وهيئة تتعلق باليدين مرة أخرى
جاءت هنا: يقول ابن بحينة : (كان إذا صلى وسجد فرج بين يديه
حتى يبدو بياض إبطيه)، ما المراد باليدين؟ انظر إلى قوله: (حتى
يبدو بياض إبطيه)، أي جزء من اليد الذي يغطي الإبطين؟ إنه العضد،
فإذا سجد الإنسان وضم عضديه على الكتاب أو العصا أو أي شيء، تضم
العضدين على الجانبين فتلصقهما، ولا يمكن أن تسجد هكذا، لكن فرج
بينهما حتى يبدو بياض الإبطين، وبعض الإخوة -أكرمنا الله وإياهم-
يأتي فيصلي فإذا بهذا المرفق هناك، وهذا الآخر هنا، وآخذ نصف متر
عن اليمين، ونصف متر عن الشمال، تعود هذا منفرداً، وإذا كنت
منفرداً لك حرية، ويجب أن يكون المظهر بصفة عامة مظهر لائقاً، ولا
يكون فيه تكلف، فتجد البعض قد يشدد على نفسه أكثر من اللازم في
سجوده؛ حتى يكون الوركان منفرجان، واليدان ممدودتان، ويكون على
سبيل الفطرة غير لائق، فإذا صلى في جماعة يظن أن السنة أن يفرج
ليرى بياض إبطيه؛ فيؤذي هذا، ويؤذي هذا، وإذا كنت منفرداً أو
إماماً فبقدر المستطاع، فالغاية القصوى من تفريج اليد عن الجنب حتى
يُرى بياض الإبط، ولو فعل أقل من ذلك لأمكن، والمحظور هو أن تسجد
ملصوق العضدين بالجانبين؛ لأنه لما تأتي تسجد وأنت هكذا تكون هيئتك
هيئة هرة، دعك من الهرة لكن أنت تحكم عليه في شخصيته كأنه كسلان
يصلي وهو عاجز، كأنه يقول: دعني أنتهي منها، لكن يفرج العضدين،(1/419)
والفقهاء يقولون: ليتميز كل عضو بسجوده لله سبحانه، وأحسن من هذا
ما ذكره صاحب سبل السلام الصنعاني : لئلا يكون في مظهر
الكسلان، فالغرض من هذا ألا تكون في صورة العجز والكسل، وليس الغرض
من هذا كما يقولون: فتل الأعضاء والعضلات، لا، الصلاة خشوع،
والصلاة خضوع، ومراعاة اللائق. والحديث يشير: (حتى يُرى) رؤية
الإبطين كانت سهلة؛ فلم يكن هناك ثوب وفنيلة كم، بل كان هناك
الإزار والرداء والقميص، وكم القميص كان قصير وواسع، وأقل لفتة
تبين الإبطين، والإبط ليس بعورة، ونحن الآن لا يستطيع أحد أن يرى
إبط الثاني وهو ساجد، وأصبحت الثياب على وضع آخر بحسب ظروف الحياة،
فلو كان رأساً إزاراً ورداءً أو محرماً فسوف يرى بياض إبطيه،
وسيكون من السهل جداً أن يراه، وأدنى تفريج ولو سنتيمتر واحد سيرى
بياض الإبط. إذاً: ليست المسألة مغالاة ولا تفريطاً، وإنما المراد
هو الخروج عن هيئة الكسلان الذي يأتي الصلاة بدون نشاط، وهذا خاص
بالرجال، بخلاف المرأة فهي تضم نفسها، لما جاء عنه صلى الله عليه
وسلم أنه رأى امرأتين تصليان فقال: (ضما اللحم إلى اللحم )؛ لأن
ذلك أستر للمرأة.
شرح حديث: (إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك)
قال رحمه الله: [وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك )
رواه مسلم ] . معنى الحديث: أن يبقى الكفان مرفوعين ولا يضعهما
على الأرض؛ لأنه تقدم أن أعضاء السجود سبعة كما في قوله صلى الله
عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم )، فذكر الجبهة وأشار
بإصبعه إلى الأنف، وذكر الكفين واليدين والركبتين والقدمين، (ضع
كفيك)، أي: على الأرض، (وارفع مرفقيك)، المرفق: هو المفصل الذي
يفصل بين العضد والزند، وهو المنصوص عليه: وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]،
وسمي هذا العضو مرفقاً؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يستريح ارتفق على(1/420)
هذا العضو، وجعله على وسادة أو الأرض أو غير ذلك، فهو من الارتفاق
والمساعدة في راحة الإنسان، ورفع المرفقين، أي: لا تكون اليد
بكاملها مسطحة على الأرض، ويكون المرفق واصلاً إلى الأرض كما تصل
الكف، هذه الصورة منهي عنها، بل يضع الكفين، ويرفع المرفقين بحيث
لا يكونان ملامسين للأرض، وهذه الصورة جاء النهي عنها بصريح
العبارة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن افتراش كافتراش السبع،
والسبع إذا ربض بسط يديه من المرفق إلى المخالب على الأرض، وفي
الحديث: أنه إذا رفع المرفقين لا يلصقهما بعضديه، ولكن يجافي
بينهما، كما تقدم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجافي بين
العضدين حتى يرى بياض إبطيه. إذاً: من هيئة السجود: أن الساجد يضع
كفيه على ما يسجد عليه سواء كان في الأرض أو على فراش أو نحو ذلك،
وأن يرفع المرفق من أعلى لا أن يجعله مساوياً للكف على الأرض،
فيسجد يضع الكفين ويرفع المرفقين، وأن يجافي بين العضدين لا أن
يضمهما. وتقدمت الإشارة إلى أن مجافاة العضدين على سبيل الاعتدال،
وأن من سجد ضاماً عضدية يكون كالمنكمش في نفسه، ويكون في هيئة
الكسلان؛ لأن هذه الحالة لا تصلح لمن أتى الصلاة عن رغبة ونشاط،
كما بين صلى الله عليه وسلم وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي ).
ونبهنا على أن هذا بالنسبة للرجال دون النساء؛ لأن الرسول صلى الله
عليه وسلم رأى امرأتين تصليان، فأمرهما أن يضما العضدين إلى
الجنبين، وقال: (ضمَّا اللحم إلى اللحم )، فكلما كانت تضم بعضها
إلى بعض كان ذلك أدعى إلى سترها، ولو كانت مغطاة. وأشرنا إلى أن
الإنسان إذا كان منفرداً أو كان إماماً فإنه يجافي العضدين مع
رفعهما في هيئة معتدلة، لا إفراط ولا تفريط، وإذا كان في صف
الجماعة فإنه يراعي من على جانبيه؛ فلا يجافي بين العضدين مجافاة
تؤذي الجار، وتجعل الفجوة بين الأفراد، ولا يضمهما كما تفعل
النسوة، والله تعالى أعلم.(1/421)
134355 ( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [9] )
( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [9] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير..)
2 شرح حديث: (كان إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى..)
3 شرح حديث تشهد ابن مسعود
4 شرح حديث: (عجل هذا؛ إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه..)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [10]
التشهد في الصلاة ركن من أركانها أو واجب من واجباتها على خلاف بين
العلماء، وقد اشتمل على معان عظيمة ينبغي للمسلم تأملها وتدبرها.
شرح حديث: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير..)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد
أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه )،
أخرجه الثلاثة، وهو أقوى من حديث وائل بن حجر : (رأيت النبي
صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه )، أخرجه
الأربعة ، فإن للأول شاهداً من حديث ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما، وصححه ابن خزيمة ، وذكره البخاري معلقاً موقوفاً ].
هذا الحديث وما يأتي بعده يتناول هيئة من هيئات الصلاة ألا وهي:
حالة الهوي إلى السجود، وقدم المؤلف رحمه الله تعالى حديث أبي
هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير)، إلى هنا نص الحديث،
وإلى هنا أداء المعنى المطلوب في هذا التشبيه، تأتي الزيادة:
(وليضع يديه قبل ركبتيه)، هذه الزيادة أوجدت عند العلماء الخلاف،
حتى قال ابن القيم : إن في الحديث قلباً، ودعوى القلب أو الغلط
في الحديث تشوش، وإذا انقلب اللفظ في هذه الرواية فقد ينقلب في
غيرها، ونأتي إن شاء الله بشيء من التفصيل في هذه المسألة. ونقدم
قبل كل شيء: بأن هوي المصلي بعد رفعه من الركوع إلى السجدة بأية(1/422)
حالة من الحالات لا يتعارض مع صحة الصلاة في شيء، إن نزل على
ركبتيه أو كفيه فالصلاة صحيحة، ولا يمكن أن ينزل على رأسه أو
مرفقيه؛ إما أن ينزل على كفيه أو ركبتيه، ولا تخرج حالة المصلي من
هذه، والحالات الأخرى التي للرياضيين غير داخلة في الصلاة. قوله
صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير)، لو
جئنا إلى هذه الصورة فقط: كيف يبرك البعير؟ في هذه الصورة التشبيه
العملي بصورة البعير، وكل إنسان قد رأى بعيراً يبرك، وكل حيوان من
ذوات الأربع عنده أربعة أرجل، لكن نحن نسمي المقدمتين اليدين،
والمؤخرتين الرجلين، ويقولون في الزرافة: طويلة اليدين قصيرة
الرجلين، وكلهن أرجل. فإذا كان البعير بصورته العملية عند بروكه لا
ينزل بالخلفيتين ولكن ينزل بالمقدمة، نسميها رجلين، فبروك البعير:
أن يقدم المقدمتين اللتين نسميها في غيره اليدين، إذاً: هو لا يبرك
كما يبرك البعير، فمن نزل إلى السجدة على يديه يكون برك بروك
البعير وخالف الحديث؛ فإذا نزل إلى السجدة بركبتيه وبدأ
بالخلفيتين، -أي: القدمين المقابلة في البعير بالخلفيتين- فإذا نزل
على ركبتيه من قدميه خالف البعير وصادق الحديث. إذا اكتفينا إلى
هذا القدر نكون قد انتهينا من المشكلة وتم الحديث، ولكن جاءت
عبارة: (وليضع)، وكأنها تفصيل للمنهي عنه، (وليضع يديه قبل ركبتيه)
فإذا وضع يديه قبل ركبتيه يكون شابه البعير وكأن الحديث يناقض آخره
أوله، (لا يبرك كما يبرك البعير وليقدم يديه )؛ لأن البعير يقدم
يديه. ولهذا التعارض يرى بعض الناس أن قوله: (وليضع) سائلة فيحاول
أن يلغيها؛ لأنها ستأتينا بإشكال فتتعارض مع المتفق عليه عندهم
وتنقض الصورة المتقدمة، وبعضهم أعلّ الحديث بها، وهو ظاهر البخاري رحمه الله في صنيعه كما أشار إليه المؤلف بأن حديث وائل بن حجر له شاهد، وحديث وائل يتعارض مع حديث أبي هريرة في:
(وليضع)، ولكن البخاري قال: وابن عمر كان يضع يديه قبل(1/423)
ركبتيه، إذاً: هناك مناقشة، وإيرادات على كلمة: (وليضع)، فمنهم من
يلغيها، ويقول: إنها مدرجة في الحديث، ومنهم من يُعل بها الحديث،
وذكروا ذلك ونسبوه للبخاري ، وهو لم يذكر الحديث ولكن نسب إلى
ابن عمر الفعل موقوفاً عليه، وسنأتي له على الكلام على حديث
وائل لاحقاً. فنحن الآن نأخذ الجزء الأول من الحديث وندع لفظه:
(وليضع)، مع حديث وائل ، مع ما نسب إلى ابن عمر موقوفاً
عليه، ونص الحديث: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ):
يقتضي أن الإنسان لا يقدم يديه، وبهذا النص يأتي حديث وائل بن حجر : (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه )،
ووضع الركبتين مخالف البروك البعير. إذاً: حديث وائل يتفق مع
حديث أبي هريرة في أن الإنسان لا يقدم اليدين، قبل: (وليضع).
فإذا جئنا إلى كلام المؤلف قال: وإن الأول -يعني: حديث أبي هريرة - له شاهد مما ساقه البخاري تعليقاً بدون سند: وكان ابن عمر يضع يديه، أعتقد أننا كطلبة علم فعلاً نتساءل، هل هذا فعل عموم
الصحابة أم خاص من ابن عمر ؟ النص هنا: (وكان ابن عمر )
أين بقية الصحابة؟ إذاً ممكن أن نقول: إن هذا الصنيع من البخاري يشعر بأن فعل ابن عمر إما أنه مقصور عليه أو أنه قليل جداً،
وأنه تخير ابن عمر من ضمن من يرى ذلك، ويكون بقية الصحابة على
خلاف هذا، وإلا لو كانوا يفعلون مثله ما خصينا ابن عمر بالذكر،
ويقال: (وكانوا يضعون) كما هو الحال في كثير من العبارات عندما
يكون العمل عاماً، وعلى هذا يكون فعل ابن عمر في جانب، وحديث
أبي هريرة دون (وليضع) مع حديث وائل بن حجر معاً في جانب،
وبقي كلمة: (وليضع) فإن قلنا: إنها مدرجة، ولما سببت هذا الاضطراب
نلغيها، وإن قلنا: واردة لا يمكن أن نلغيها، ولا نملك أن نلغي
شيئاً ثابتاً ولو عن الصحابي، واضطروا إلى أن يقولوا -كما يذكرون
عن ابن القيم في الهدي- وقع في الحديث قلب والأصل فيه (وليضع(1/424)
ركبتيه قبل يديه )، لكن نحن عندنا النص: (وليضع كفيه )، فنحن
نأتي بالقلب حتى يتفق معنى الحديث آخره مع أوله، ويتفق حديث أبي
هريرة مع حديث وائل ، وعندها لن يبقى أي مخالفة إلا فعل
ابن عمر ، ويمكن أن نقول: هذا رأي ابن عمر ، ورأي بقية
الصحابة مع الحديثين، والقضية منتهية على هذا الحد، وتكون المسألة
قريبة، ولا خلاف فيها بعيد. وإذا قفزنا قفزة إلى الأمام وجئنا إلى
المذاهب الأربعة: وجدنا الأئمة الثلاثة أبا حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله على حديث أبي هريرة وحديث وائل ،
والرواية عن مالك مختلفة، فأصحاب مذهبه -كما ينص في الشرح
الصغير- على أن من مندوبات الصلاة: أن يضع كفيه قبل ركبتيه، فلنجعل
هذا الرأي مع ابن عمر ونجعل المذاهب الثلاثة مع الحديثين.
ونعلم جميعاً كما قدمنا: أنها هيئة من هيئات الصلاة، ولكن هل كل
الناس في هويهم إلى السجود سواء، وهل الإنسان في ذاته وفي جميع
حالاته سواء، ولذا يقول العلماء: إن هذه الحالة ينظر فيها إلى ما
يناسب المصلي، ولو أن إنساناً بدين الجسم كبير السن وحركة النزول
على أعصابه صعبة، ويشد أرجله حتى ينزل على ركبتيه، وأراد أن يقدم
كفيه ليستريح في النزول، وهل نقول له: لا، قدم ركبتيك؟ لا، إنسان
نشيط وبحركة عادية يمكن أن يفعل هذا ويفعل هذا، نقول له: ماذا ترجح
عندك؟ عندك حديث أبي هريرة بدون (وليضع) وحديث وائل ،
وعندك انفراد ابن عمر فقط بأنه كان يضع كفيه قبل ركبتيه، ماذا
تختار؟ لو أن المسألة بالمكيال أو بالميزان نجد كفة أوفى في الكيل
وأرجح في الوزن. إذاً: على هذا لا ينبغي أن نطيل النقاش في هذه
المسألة، ولا حاجة إلى أن نكثر ونقول: حصل في الحديث قلب أو انقلب
على الراوي، وأهون عندي أن نقول: إن الرواية مضطربة من أن ندعي بأن
هناك انقلاباً في الرواية من حديث رسول الله يقلبه الصحابي علينا؛
لأنه يفتح باب شر في تغيير الروايات عن رسول الله صلى الله عليه(1/425)
وسلم، وأول الحديث يغني عنها، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (كان إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى..)
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته
اليسرى، واليمنى على اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بإصبعه
السبابة ) رواه مسلم ، وفي رواية له: (وقبض أصابعه كلها
وأشار بالتي تلي الإبهام ) ]. هذه هيئة الجلوس في التشهد (وضع
يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على اليمنى)، ولم يجلس على
فخذه لا قابضاً ولا مرسلاً ولا بين فخذيه. (وعقد) العقد في الحساب
عند المتقدمين، هو علم قد اندثر، وكان لهم في الحساب من بُعد
بالإشارة رموز لم يبق عندنا منها إلا ما حفظه لنا هذا الحديث،
والأصابع الخمسة كل واحد عقد فهو عشرة، عشرين، ثلاثين، أربعين،
خمسين، (ثلاثاً وخمسين)، والثلاث دون العقد كانوا يرمزون إليها،
كما جاء في الحديث، والإبهام مع الوسطى تلي السبابة، والوسطى
بالنسبة للأصابع هي الثالثة، فلما جاء العقد بالإبهام وهو الخامس
كان العقد خمسين، فيأتي بالإصبع الذي هو العقد على المفردات، ويضع
الإبهام على الوسطى وينصب السبابة، وفي بعض الروايات: (حلّق بين
الإبهام والوسطى )، حلّق، أي: عمل حلقة، والأولى أن تكون بطن
الإبهام على جانب الوسطى أو تحتها، والمشهور فوقها، فالإبهام مع
الوسطى تشكل العدد، والسبابة يشير بها، بقي عندنا الخنصر والبنصر،
كيف يكون وضعهما؟ بعضهم يقول: مقبوضتان على الركبة، وبعضهم يقول:
أصل اليد اليمنى على الركبة مفرجة الأصابع، فإذا عقد يبقى الإصبعان
الأول والثاني منفردين ويقبض الإبهام والوسطى ويشير بالسبابة، ولكن
قبض الإصبعين مع هذا العقد والإشارة بالسبابة قد يكون أيسر. ويأتي
خلاف عند الفقهاء هو: متى يعقد وإلى متى؟ والسبابة هل تتحرك أم
أنها ساكنة؟ ونجد للأسف أن هناك في بعض الجهات من يرى في إشارة(1/426)
السبابة جناية، وقد يسيئون إلى من يفعل ذلك، وقد يدعون بطلان
الصلاة، ولكن الآخرون يقولون: هذا العمل للسبابة لأنها في اتصال
خلقتها بعروقها وأعصابها لها علاقة في التكوين بنياط القلب، فإذا
ما تحركت نبهت القلب حتى لا يقع في غفلة ولا نسيان وهذا داخل في
علم التشريح، والله تعالى أعلم. إن لم يكن هناك نص صحيح صريح مرفوع
إلى الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فهي قابلة للنقاش، والبعض
الآخر يقول: هي حركة لئلا يغفل أو ينام؛ لأنه ما دام يحرك أصبعه
فإنه ليس بنائم؛ لأن النوم يغطي الأعصاب، ولكن لا نقول هذا ولا
ذاك، نقول: السنة جاءت بهذه الصورة وبهذه الهيئة: أن الإنسان في
التشهد إذا جلس فيده اليسرى على ركبته اليسرى، ويده اليمنى على
ركبته اليمنى عاقداً (ثلاثاً وخمسين)، وأخذها لاحق عن سابق بأن وضع
الإبهام ببطنها على جانب الوسطى، وإصبع يقولون فيها أكثر من عشر
لغات: أُصبع، وإِصبع، وأُصباع، وأصبوع ... إلخ. وبعضهم يقول: يضع
يده إلى أن يقرأ في التشهد أشهد أن لا إله إلا الله، وعندها يرفع
إصبعه كأنه يشير بالإصبع الواحدة إلى حقيقة الوحدانية، وإذا كان
الأمر كذلك فلعل هذا التعليل يكون أقرب ومناسب للفظ، أما كونه
متعلق بنياط القلب أو كونه لا يغفل أو لا ينعس فهذه أشياء الله
أعلم بها، فهو يشير إلى الوحدانية، كما أشارت الجارية لما سألها
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ أشارت إلى السماء )،
فتكون الإشارة رمز وبيان للاعتراف عملياً بالنطق مع الفعل: أشهد أن
لا إله إلا الله. وإلى متى يظل هذا الإصبع هكذا؟ قالوا: حتى إذا
انتهى من التشهد، وبعضهم يقول: ينتهي من الشهادتين يرد الإصبع إلى
ما كانت عليه، والبعض يقول: إلى أن يسلم، ومهما يكن من شيء أيها
الإخوة -كما أشرنا- فإنها هيئة من هيئات الصلاة لا يتوقف عليها صحة
ولا بطلان، ولكنها السنة وينبغي على المسلم أن يتحرى في صلاته فعل(1/427)
السنة لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي ).
شرح حديث تشهد ابن مسعود
قال رحمه الله: [ وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
(التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إذا صلى أحدكم
فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك -أيها النبي-
ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد
أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم يتخير من
الدعاء أعجبه إليه فيدعو ) متفق عليه، واللفظ للبخاري .
وللنسائي : (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد ). ولأحمد : (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد وأمره أن يعلم الناس )
]. التشهد جاءت فيه أحاديث تعليمية، منها حديث ابن مسعود رضي
الله تعالى عنه، بعض روايته: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن )، وجاءت ألفاظ
عديدة في التشهد، ومن الروايات المتعددة أيضاً صيغة الصلاة
والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي زيادة إيضاح
فيما يتعلق بلفظي الصلاة والتسليم، كما جاء عن كعب بن عجرة :
أنه أتى أهل قباء فقال: (يا أهل قباء! ألا أهدي لكم هدية؟ قالوا:
بلى، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله رجل: يا
رسول الله! عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ )، وكانوا في
السابق يقولون: السلام على الله، السلام على عباد الله الصالحين،
فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا السلام على الله؛ فإن الله هو
السلام، قولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقالوا:
عرفنا كيف نسلم، فعلمنا كيف نصلي -وفي بعض الروايات: كيف نصلي
عليك- إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا فقال: قولوا )وعلمهم الصلاة
الإبراهيمية، فهنا فضيلة العلم والتناوب فيه، فهذا رجل من أهل قباء
حضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع فيه علمه، فذهب به(1/428)
وأهداه إلى أهله وقومه، وأي هدية أعظم من التعليم في الدين. إذاً:
التحيات أو التشهد أخذ حيزاً في النصوص.
معنى (التحيات) ولزوم صرفها لله خاصة
التحيات: جمع تحية، والتحية التكريم قولاً وفعلاً، وهو في الصلاة
قول، وتشمل كل عبارات التحية من الحمد والثناء والعرفان بالجميل
والتكريم.. كل أنواع التحيات لله وحده، والتحية لله موقعها موقع
الحمد لله؛ فهو لا يكون إلا لكامل الذات والصفات، وليس ذلك إلا لله
سبحانه؛ لكمال ذاته وصفاته، وكذلك التحيات لله، وموجب ذلك موجود؛
لأن الله سبحانه وتعالى صاحب الإنعام، الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]
والإنس فرد من أفراد العوالم، والجن فرد من أفراد العوالم،
والنباتات، والحيوانات، فربوبية الله للمخلوقين كلها لله، فاستحق
الحمد، وكل ما جاء للإنسان من إنعام ابتداء من إيجاده من العدم ثم
هدايته أو إنعامه عليه بالإسلام والتوفيق إلى تلك الصلاة التي هو
يصليها، وكل ما كان من إنعام في الدنيا وفي الآخرة من الله وَمَا
بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]،
وكما أنك في الفاتحة تقول: الْحَمْدُ [الفاتحة:2]،
أي: كل الحمد مجموع لله رب العالمين؛ فأنت في التحيات تقول:
التحيات لله.
معنى قوله: (والصلوات الطيبات)
قوله: [والصلوات والطيبات]. الصلوات: جمع صلاة، كما قال الله: إِنَّ
اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الأحزاب:56]،
وأصل الصلاة في اللغة الدعاء، كما قال ذاك: وقابلها الريح في دنها
وصلى على دنها وارتسم يعني: دعا عليه ألا يفسد، وكذلك وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]،
يعني: وادع لهم، فالصلاة من العبد دعاء، فتدعو الله لمن تصلي عليه،
(اللهم صلِّ على آل أبي أوفى )، يعني: ارحمهم وأكرمهم، والصلاة
من الله على العبد رحمة وإكرام، (من صلى عليّ مرة صلى الله عليه(1/429)
بها عشراً ). وجاء معها الطيبات، وهي كل الأفعال الطيبات من
عبادة بدنية، أو مالية، أو كلمة طيبة.. كل الطيبات ترجع إلى الله،
والله هو الذي يثيب عليها، وهي أيضاً لله يمنحها من شاء والطيبات
لله.
السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ومعانيه
قوله: [السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته]. هذه الجملة
تكلم بها الرسول أمام ابن مسعود ، ولماذا لم يقل بدلاً عنها:
(السلام عليّ)، عليك راجعة لمن؟ وعليّ راجعة لمن؟ لأن عليك كاف
خطاب من المتكلم إلى المخاطب، وعليّ من المتكلم إلى نفسه، وهنا
يعلمهم ماذا يقولون، فلو قال: السلام علي، فلو أن إنساناً قال:
السلام عليّ، يكون بهذا سلم على نفسه، ولكن الرسول صلى الله عليه
وسلم هنا ما قال: (ثم صلوا عليّ)، فهو يعلمنا أنه جرد من نفسه
شخصية التعليم، بالنسبة لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، فقال:
قولوا: (السلام عليك أيها النبي)، صحيح أنا النبي، ولكن واجب عليكم
أنتم أن تسلموا على النبي عليه الصلاة والسلام. إذاً: علمهم عندما
كانوا موجودين أن يخاطبوه، سواء كان موجوداً عنده أو من غاب عنه،
وكيف يخاطب من انتقل إلى الرفيق الأعلى، والخطاب لكل موجود؟ قال
بعضهم: نقول: (السلام على النبي ورحمة الله وبركاته) ولا تقل:
(السلام عليك)؛ لأن هذه كاف الخطاب، وتكون للحاضر الموجود. لا
والله؛ لأنك حينما تقول: السلام عليك أيها النبي، ذهنك وشعورك
وقلبك وروحك وإحساسك يتصور شخصية رسول الله وكأنك تخاطبه، وتجدد
العهد بإيمانك، وتقوي الصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو
وإن لم يكن حاضراً عندك في مجلسك فهو حاضر في قلبك وإيمانك حيثما
كنت في الدنيا كلها، فأنت تخاطب من آمنت به: السلام عليك أيها
النبي ورحمة الله وبركاته، ولا تصح عبارة أخرى قطعاً. ثم نجد أن
بعض العقلانيين يقولون: أنتم في القرآن في السور الثلاث تقرءون: قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:1-2](1/430)
.. قُلْ أَعُوذُ
بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]
.. قُلْ أَعُوذُ
بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]
، وليس هناك داعٍ لكلمة: (قل)، ابدأ بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ
برب الفلق .. ((أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) لأنها تحصيل حاصل وأنت
قائلها. هل هذا العقل سليم؟ لو قلت: بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ
بالله، إذاً: (أعوذ بالله). جاءت منك أنت أو من وحي سبق؟ عندما
نقول: بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ، كأنه منك أنت، لماذا تتعوذ؟!
قال: لأني أريد أن أعوذ، لكن لو قلت: بسم الله الرحمن الرحيم. قل.
فهذا أمر من الخالق سبحانه الموحي، فلكأنك تقول: أنا أقول ما أمرت
أن أقوله. إذاً: الرسول ما أتى بشيء من عنده، بل هو مأمور بأن
نقول: هو الله أحد، فكلمة (قل) جاءت بالوحي نصاً عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ليكون في موقف المنفذ لما قيل له، قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]
ويكون القائل هو الله سبحانه، وأنت تقول ما قال الله سبحانه
وتعالى. وهكذا هنا: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته).
ونحن نقول لهؤلاء العلمانيين: في حياة رسول الله وهو إمامهم في
الصلاة ويصلي خلفه آلاف الرجال كما في فتح مكة، إذا صلى النبي صلى
الله عليه وسلم، من في آخر الصفوف يقول سراً: السلام عليك أيها
النبي، هل أسمع رسول الله؟ وهل خاطبه بذاته؟ لا والله، إنما يقول
ما أمر أن يقوله، وحتى في المسجد الأول كما ترونه من خلف المنبر
بسارية واحدة إلى الحجرة، كان سبعين ذراعاً في سبعين ذراعاً، وفي
الصف الأخير النسوة اللاتي خلف صفوف رجال لما يقلن: السلام عليك،
هل كان يسمع أصواتهن؟ والذي في الصف الأول في طرفه من هناك هل
الرسول يسمع صوته حينما يقول: السلام عليك أيها النبي؟ لم يسمع
منه، إذاً: هذه ألفاظ تعبدية يجب أن يقولها الإنسان ويلتزم بها ولا
تتعارض مع العقل الصحيح.
من معاني السلام بين المسلمين(1/431)
قوله: [السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين]. كان يقول الصحابة:
السلام على الله، السلام على رسول الله، السلام على فلان فعلمهم أن
يقولوا: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام
علينا)، والسلام: هو الدعاء بالأمان، وهو تحية الإسلام، وتحية أهل
الجنة في الجنة، وهو شعار المسلم، مع المسلم بأن يعلن له أنه آمن،
السلام عليك: أي أنت سالم مني، وكأنه أعطاه عهد بالأمان والسلامة
فلا يخاف شراً. وهذا أعظم ما يكون بين المتلاقيين ولو لم يعرفه،
ولذا معلوم في الفطرة والجبلة: لو أن إنساناً لقي آخر ولم يسلم
عليه عرف أن عنده نية شر؛ لأنه ما بدأ بالسلام. والسلام في التحية
له آدابه، وقد عقد له البخاري باباً في الأدب المفرد، وجاءت
النصوص في السلام العادي والتحية بين الناس بـ (السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته)، وهي أكملها، جاء أن رجلاً مر بالنبي صلى الله عليه
وسلم وهم جلوس فقال: (السلام عليكم، وجلس، فردوا عليه، وقال
الرسول: عشر -أي: عشر حسنات-، وجاء الثاني وقال: السلام عليكم
ورحمة الله، فردوا عليه، فقال الرسول: عشرون -أي: عشرون حسنة- وجاء
الثالث وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردوا عليه التحية،
فقال صلى الله عليه وسلم: ثلاثون، قالوا: ما عشرة وعشرون وثلاثون
يا رسول الله؟! قال: الأول قال كلمة واحدة: السلام عليكم، والحسنة
بعشر أمثالها، والثاني قال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال كلمتين،
والحسنة بعشر أمثالها، والثالث قال: السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته فهي ثلاث كلمات بثلاث حسنات، والحسنة بعشر أمثالها ).
أو كما قال رسول الله. ودائماً يا إخوان! إذا وجدت في الحديث
النبوي متفرقات فاعلم بأن هناك رابطة، كحديث: (آمين آمين آمين) على
درجات المنبر الثلاث، وهنا: (السلام عليك أيها النبي، السلام علينا
وعلى ...)، موجود الارتباط القوي، بل هو أقوى ما يكون، وظاهر وواضح(1/432)
جداً. وبدأ بالنبي؛ لأن الفضل كله من الله على يديه، وجلوسنا في
التشهد وتلفظنا بالتحية وسلامنا المبدأ الأول فيه من الله على يدي
رسول الله فهو الذي علمنا ذلك. يلي هذا (علينا)، وفي الحديث لما
جاء رجل وقال: (عندي دينار، قال: أنفقه على أهلك، على زوجك، على ..
على .. وقال: أولاً: ابدأ بنفسك )، وهنا الحديث بدأ بالرسول،
ولِم لم يقل: السلام علينا، والسلام على النبي، والسلام على عباد
الله؟ كما هو الترتيب الطبيعي، لا، النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6]
.. (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ) ، فهو
مقدم على النفس.
شرح حديث: (عجل هذا؛ إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه..)
قال رحمه الله: [ وعن فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه قال:
(سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته، ولم يحمد
الله؛ ولم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عجل هذا! ثم
دعاه فقال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم يصلي
على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء )، رواه أحمد والثلاثة، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم ]. كيف
تكون الصلاة؟ وما الصيغة التي يلتزمها الإنسان فيها؟ النبي صلى
الله عليه وسلم سمع رجلاً يصلي، وهذه الصلاة إما أن تكون نافلة وهو
الأغلب، وإما أن تكون فريضة فاتته، المهم: أن هذا الرجل دعا الله
في صلاته دون أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء،
فقال صلى الله عليه وسلم: (عجل هذا)، أي: تعجل في الدعاء ليحصل على
الإجابة المطلوبة، ثم دعاه فقال له: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بالثناء
على الله، وليصل على النبي) انظروا الصيغة هنا ما هي؟ (وليصل على
النبي)، ولم يقل يصل عليّ؟ لأن الغرض ليست الصفة الشخصية الذاتية
لمحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، ولكن الغرض الصفة
المندمجة من شخصيته الذاتية وصفته النبوية. انظروا يا إخوان هنا!(1/433)
لتنظروا المغايرة، وما يسمى في البلاغة بالتجريد في قضية الحفاظ
على الحدود وإقامتها لما قال: (أتشفع في حد من حدود الله، لو أن
فاطمة بنت محمد ) لم يقل بنت النبي؛ لأن النبوة بعيدة عن
هذا، ولأنها ستكون حالة شخصية، ومن محمد يا رسول الله؟ أليس أنت؟
لا، هنا الحدود ليس فيها نبوة ولا رسالة ولا شيء، النبوة رسالة
معصومة من ذلك، ولكن محمد الذي تعرفون نسبه وشرفه ومنزلته بغض
النظر عن جانب النبوة. قال: [إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه].
يبدأ بتحميد ربه سواء أراد البداءة في الفاتحة أو التحيات؛ لأنه
حمد لله، وهذه مقام: (التحيات لله). قوله: [والثناء عليه] هذه
مقام: (الطيبات المباركات). [ثم يصلي على النبي صلى الله عليه
وسلم]. هنا الحديث: (إذا صلى أحدكم ): تعليم متعلق بالدعاء في
الصلاة: بأن يحمد الله ويثني عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله
عليه وسلم، ثم يسأل الله حاجته، وجاء هذا التعليم أيضاً خارج
الصلاة مطلقاً، مثلاً: مشيت في الطريق ولك حاجة، وتريد أن تسأل
الله إياها: ابدأ فاحمد الله واثن عليه، وصل على النبي صلى الله
عليه وسلم، ثم سل الله حاجتك، واختم الدعاء بالصلاة على النبي،
وهذا . (قمنٌ أن يستجاب له ) أي: حري بالإجابة، ويقول العلماء:
لأن الحمد لله والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
من أعظم القربات إلى الله، ويكفينا قوله: إِنَّ
اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيُِّ [الأحزاب:56]،
ويكفينا بأن الله يصلي عليه بالمرة عشر مرات، فهي من أعظم القربات
إلى الله، وورد حديث في الصلاة، (أجعل نصف صلاتي لك، أجعل كل
صلاتي..، فقال: كفيت أمرك )، وهذا باب واسع مستقل لا يحتاج إلى
إيضاح، فإذا قدّم بين يدي حاجته هذه القربات لله سبحانه بالحمد
والثناء عليه، والصلاة على رسوله، ودعا وختم بالصلاة قالوا: هذا
الثناء في أول الدعاء والصلاة في أولها وآخره كالجناحين يرتفع بهما(1/434)
السؤال إلى الله، فإذاً عنده آلة رفع ترفعه إلى المولى سبحانه،
فإذا قُدم السؤال في باقة من الزهور والورود بين دعاء وثناء على
الله سبحانه معطر ومطيب بهذه الطيبات حري أن يستجاب، لكن جئت ورفعت
يدك وقلت: اللهم اغفر لي، حسناً، دق الباب واستأذن، تلطف قليلاً،
استعطف، أظهر الحاجة والفاقة. مثاله: (اللهم إنك عفو تحب العفو )
. فهنا قدمت مقدمة لحاجتك وسؤالك، وهي قولك: (اللهم)، وتريد عافني
واعف عني، ولكن أيها ألطف؟ يا رب! أنت عفو وتحب العفو، وبعفوك
ومحبتك للعفو اعف عني، يكون السؤال ملطفاً ومقدماً له بمقدمة، وحري
بإجابته هكذا. إذاًَ: المقام هنا يتعلق بالصلاة، وجاء المقام عاماً
خارج الصلاة، فإذا كان الأمر كذلك تكون قاعدة مطردة في الصلاة وفي
غير الصلاة: إذا سأل الله أحد من الناس فليقدم بين المسألة ما
يقربه إلى الله، وبيّنه صلى الله عليه وسلم بالحمد والثناء والصلاة
على النبي، هذا عام وإذا كان في الصلاة كذلك، وبيّن صلى الله عليه
وسلم أنه لا يعجل، بل يحمد الله ويثني عليه، ثم يصلي على النبي، ثم
يتخير المسألة. وبعد أن قدم المؤلف رحمه الله هذا الأمر كأنه يشعر
بفعل النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل، هو سمعه في الصلاة أو
خارج الصلاة؟ أين سمعه؟ الرجل يصلي، قال: (عجل هذا ثم دعاه فأخبره )
هل رده ليعيد الصلاة لعدم صلاته على النبي أو أقره على صلاته؟
إذاً: الصلاة على النبي التي تركها في تلك الصلاة مندوب إليها، ومن
هنا قدم المؤلف هذا الحديث ليعطي مقدمة فقهية، وهي: أن الصلاة ليست
واجبة مع الخلاف الموجود عند العلماء. إذاً: أخذنا من هذا الحديث
ما ينبغي على الإنسان أن يُقدم على الدعاء من الصلاة على النبي
والثناء على الله. (ثم يدعوا بما شاء ). وتقدم في حديث ابن
مسعود : (وليتخير من المسألة أعجبه )، وتقدم أيضاً التنبيه
على قوله: (يتخير) وهنا: (بما شاء)، ولكن هل المشيئة مطلقة أو(1/435)
مقيدة بأقل شيء بالأدب الشرعي؟ المشيئة مقيدة، وفي الحديث: (والله
لا يؤمن أحدكم حتى أكون هواه -مشيئته، إرادته، رغبته- تبعاً لما
جئت به ).
134370 ( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [11] )
( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [11] )
عناصر الموضوع
1 عذاب القبر حق
2 الاستعاذة من فتنة المحيا والممات
3 الاستعاذة من فتنة المسيح الدجال
4 شرح حديث: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً...)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [12]
شرع النبي صلى الله عليه وسلم أن يختم المصلي الصلاة بدعاء مهم فيه
الاستعاذة من أربعة أشياء من الغيبيات، ولا يقدر دفعها عن الإنسان إلا
الله عز وجل، ويشرع بعده أن يسأل العبد ربه من خيري الدنيا والآخرة،
ولا يشترط في ذلك التقيد بالألفاظ الواردة.
عذاب القبر حق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول
الله.. وبعد: من الغرائب ما يذكره بعض المتوسعين في السيرة في غزوة
بدر: أن ابن عمر كان مر ببدر بعد الوقعة، فرأى رجلاً يخرج من
الحفرة ويقول: يا عبد الله ! وخلفه رجل يضربه بسوط ويجره
بسلسلة، ويقول: يا عبد الله ! لا تسقه إنه كافر، فيقول ابن عمر : فوالله لا أدري أعرفني أني عبد الله بن عمر أو ناداني بنداء
العرب، يا عبد الله! وكل الناس عبيد الله، فذكر ابن عمر ذلك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أنت رأيته؟ قال: نعم، أنت
سمعته؟ قال: نعم، قال: ذلك أبو جهل يعذب بذلك إلى يوم القيامة )،
وأخبار القبر من أراد أن يتوسع فيها فليراجع فيها كتاب ابن أبي
الدنيا ، وكتاب الروح لابن القيم ، وأحوال أهل القبور فيها
أشياء مسطرة كثيرة جداً، منها ما صح سنداً، وما ضعف فيه السند،
أشياء فوق العقل، وليس لنا إلا أن نسلم لكل ما صح سنده، وقد جاءت
النصوص الصريحة عنه صلى الله عليه وسلم في أن القبر أحد أمرين: إما
روضة من رياض الجنة، وإما -عياذاً بالله- حفرة من حفر النار، وفي(1/436)
الحديث: (إذا وضع المؤمن، جاءه الملكان وسألاه -في باب طويل جداً-
فإن كان مؤمناً وأجاب، فتحت له فتحة من النار، ويقال: ذاك مقعدك لو
لم تكن آمنت، ثم يقفل عنه ويفتح له باب من الجنة، ويقال: ذاك مقعدك
يوم القيامة، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة )، وإن كان
العكس بالعكس. وما أنكر عذاب القبر إلا بعض من يُلغي الغيبيات غير
معقولة المعنى، وهذا خطأ، وبعضهم ينسب ذلك إلى عموم المعتزلة،
وبعضهم يقول: إنه رأي للبعض منهم وليس للجميع، ومما يوردون من
الشبه: كيف يكون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار
والقبور متقاربة متلاصقة؟ وفي بعض الروايات: (يمد له مد البصر )،
كيف يمد مد البصر والمقبرة مائة متر في مائة متر؟ واحد فقط لو مد
له مد البصر أخذ المقبرة كلها، ثم أين يذهب البقية؟ ولكن ما دام
الأمر غيباً والله لا نستطيع أن نقول: كيف يمد؟ ويستحي الإنسان
الآن أن يقول هذا، نحن في الوقت الحاضر ربما نجلس أمام الشاشة،
ونجد منظر بواخر في المحيطات، وطائرات تطير، وغواصات في باطن
الماء، ونجد ونجد .. والشاشة كلها أربعة وعشرون بوصة، فهل نقول:
كيف جاءت هذه؟ لا والله ما نقول، وهذا تقريب للواقع، وقد توجد شاشة
ثانية بجوارها فيها خلاف ذلك، ونحن لسنا في حاجة إلى هذا كله، ولكن
نقول: يجب على المسلم إذا سمع خبراً من رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يقول: سمعاً وطاعة، كيف نؤمن بالجنة والنار؟ جَنَّةٍ
عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل
عمران:133]، الروم تساءلوا: إذا كان عرضها السماء والأرض فأين تكون
النار؟ فجاءهم الجواب. إذاً: كل ما كان غيباً لا يمكن للعقل أن
يدركه؛ لأنه إذا أدركه لم يعد غيباً، وكل المغيبات فوق قانون
التصور العقلي، وهنا فرق بين المسلم وغير المسلم، فالمسلم بإيمانه
ويقينه وتصديقه بالوحي عن الله يقول: سمعاً وطاعة، وكما نقل عن كعب
الأحبار عندما سأله عمر : ما هذا العلم الذي تعرفون به(1/437)
محمداً أكثر من أبنائكم؟ كما قال الله: يَعْرِفُونَهُ
كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]،
قال: والله! إن لمعرفتي بمحمد أشد من معرفتي بولدي، قال: كيف ذلك؟
قال: لأن نعت محمد وتعريفه جاء بالوحي، والوحي صادق، أما ولدي فإن
النسوة يُحدثن -انظر إلى أي مدى- فيخطئن، وأنا لا أحرس امرأتي
وآخذها معي، فهي تغيب عني ولا أدري ما يكون، ولكن الوحي لا يعتريه
شك، فأنا أعرف بمحمد لصفاته عندنا بالوحي، وأشد اطمئناناً إليه من
اطمئنان نسبة ولدي إليّ. إذاً: نحن نستيعذ بالله من عذاب القبر،
وأشرنا لما قاله والدنا الشيخ الأمين : إن العلماء يقولون: عذاب
القبر ثابت بنص القرآن، كما جاء في حق آل فرعون: النَّارُ
يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ أَدْخِلُوا [غافر:46]،
وهذا العرض غدواً وعشياً قبل أن تقوم الساعة، ولا يكون ذلك في
الحياة وهم أحياء، إذاً: لم يبق إلا فترة البرزخ، ونسأل الله
جميعاً أن يعيذنا من جهنم ومن عذاب القبر، ونسأل الله السلامة
والعافية، والعالم مهما اجتمع وأوتي من قوة وإمكانيات ومستحدثات لا
يمكن أن يدفعوا عذاب القبر عن صاحب القبر وأرادوا مرة أن يقفوا على
سؤال منكر ونكير، وفي بعض البلاد لا يوضع لحد ولا قبر إنما توجد
غرف يضعون فيها الموتى، وهذا موجود في البقيع في حالة -عافانا الله
وإياكم- الطوارئ، عندما يحدث موت بالجملة، ولا يستطيع الناس أن
يحفروا حالاً لكل شخص قبراً، فيجعلون مكاناً واسعاً ويرصون فيه
الموتى، وكل مقبرة كبيرة فيها شيء للطوارئ من هذا، فبعض البلدان
يجعلون هذا للأسر، وقد تكون هناك بعض البلاد فيها تكليف، المهم
جاءوا بجهاز تسجيل ووضعوه في تلك الغرفة وسحبوا السماعة إلى
الخارج، وجلسوا ينتظرون ما يسمع بعدما دفنوا ميتهم، والمسجل يسجل،
لكن لا يوجد أي شيء، إلى أن مضت أربعة وعشرون ساعة، ورجعوا فوجدوا(1/438)
المسجل على ما هو عليه، والشريط انتهى ولم يلتقط أي شيء. إذاً: شيء
فوق تصور العقل، والميت يسمع ويعقل، والأحاديث في سؤال القبر شبه
المتواترة، ومن ينفي عذاب القبر يلزمه أن ينفي عذاب جهنم؛ لأن
الحديث جاء بالاستعاذة منهما معاً، فإذا كان يؤمن بعذاب النار،
ويستعيذ بالله من عذاب جهنم؛ فما الذي يجعله يمتنع من أن يثبت عذاب
القبر، ويستعيذ بالله من عذاب القبر؟ إن أثبت هذا فليثبت هذا معه،
وإن نفى هذا يلزمه أن ينفي الثاني معه، ولا أحد ينفيهما حتى أهل
الكتاب.
الاستعاذة من فتنة المحيا والممات
قال: (ومن فتنة المحيا والممات ). هناك عذاب وهو شيء واقع، وهنا
فتنة، ويقول علماء اللغة: أصل الفتنة: إدخال الذهب في النار
لتخليصه من الشوائب العالقة به؛ لأن الذهب لا تحرقه النار، وإنما
تحرق ما علق به؛ ولهذا حينما يريدون معرفة عيار الذهب في المصاغ
يأخذون جزءاً من المصاغ وليكن سنتي من مائة سنتي من الجراب، ويدخل
هذا الجزء إلى نار حرارتها فوق المائتين لكي تذيب كل المعادن
الموجودة مع الذهب، وقد يكون معه نحاس أو قصدير أو النحاس الأحمر
وأشياء كثيرة، فتذوب ويبقى الذهب خالصاً بعد إدخاله في تلك الدرجة
العالية من الحرارة؛ فيعيدون وزنه بعد ذلك. وبقدر ما نقص بعد الوزن
الأول وقبل الإحراق فيقولون: عيار كذا، فتكون السبيكة أو الجرم
الذي أخذ منه العينة فيها من المعدن غير الذهب بقدر ما أحرقته
النار وبقي الصافي، وعلى هذا قالوا: استعملت الفتنة ونقلت من الاسم
المادي؛ على قواعد فقه اللغة، فأصل المادة اللغوية توضع للمحسوس
أولاً، ثم تنتقل من المحسوس إلى المعقول المقارب لها، كما قالوا في
الصلاة والصيام والزكاة: كل هذه وضعت للأمر اللغوي أولاً. فالصلاة
مأخوذة من الصلوين، أو من المصلي وهو الفرس الثاني، الأول مجلي
والثاني مصلي؛ لأن عنقه عند صلوي الفرس، وهما مؤخر الفرس، وصلو
الإنسان عند حقوه؛ لأنه يثني ظهره إلى حقوه في الركوع، ثم جاء(1/439)
أصلها الدعاء ونقلت إلى الصلاة. وكذا الأُذن، أصل مادة الأذان
والآذن والمأذون والإذن راجع إلى حاسة الأذن؛ لأن الخبر يلقى فيها،
إلى غير ذلك من علم أصل الاشتقاق، فهنا الفتنة الأصل فيها لأمر
محسوس وهو إحراق الذهب لمعرفة خالصه من شائبه، ثم انتقلت بعموم
الاختبار، وأصبحت الفتنة الامتحان والاختبار، ولذا جاء في قوله
سبحانه: إِنَّ
الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [البروج:10]،
قيل: أحرقوهم؛ لأن أصل الفتنة الإحراق بالنار، وقيل: فتنوهم عن
دينهم بهذا التعذيب، والعامل المشترك بين معاني الفتنة: الشدة
والعجز عن التحمل.
حقيقة فتنة الدنيا
يستعيذ الإنسان بالله من فتنة الدنيا، وهل في فتنة الدنيا إحراق أو
شدة؟ قالوا: لا، لكن بجامع الشدة في التحمل، والفتنة في الدنيا،
انتقل استعمالها مرة ثالثة فيما يختبر به الإنسان ويُمتحن من
التكاليف أو مما يعرض له من ظروف الحياة من شدة ورخاء، قد يفتن
بالمال: إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]،
وقد يفتن بالغنى: كَلاَّ
إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]،
وبعض العلماء يقول: الصبر على العافية أشق على النفس من الصبر على
المرض والضعف؛ لأن المريض خامد ليس عنده شيء، لكن المتعافي يتحرك
بالقوة وقد يعتدي بأدنى مناسبة، وهكذا زيادة المال تُطغي. يقول ابن
دقيق العيد : كل ما يرد على الإنسان من خير أو شر لامتحانه،
وهنا يأتي مبحث بعض المربين: أيهما أفضل: الغني الشاكر الذي يصبر
على النعمة التي افتتن بها لكنه يحفظها ويشكر الله عليها فلم يفتن
أو الفقير الصابر الذي اختبر وامتحن بقلة المال فصبر؟ يُرجح الغني
الشاكر؛ لأن الغني الشاكر شكره لغناه يجعله يعدي تلك النعمة إلى
الآخرين، ويحسن إليهم بصدقة وبفعل الخير، لكن الفقير الصابر هو
صابر، والناس ما نالهم من صبره شيء، وكما قالوا: الخير المتعدي(1/440)
أولى من الخير اللازم على صاحبه، وعلى هذا قالوا: فتنة المحيا كل
ما يعطاه الإنسان من خير أو شر؛ فإن كان خيراً امتحن فيه، هل يؤدي
شكر النعمة؟ وإن كان شراً؛ هل يصبر عليه؟ كما جاء في حديث عيادة
المريض: (انظروا ماذا يقول لعواده؟ هل يشتكيني عليهم: أمرضني
وأسقمني وسوى وسوى معي؟ أم يحمد الله على ما أعطاه، فإذا سمعوا منه
أنه يشتكي الله عليه قال: دعوه مع الذي اشتكى لهم، وإذا سمعوا منه
أنه يحمد الله على ما أصابه، وأنه رضي بقضاء الله وقدره فيقول:
أمهلوه) فالله قد يحب أنين العبد الصالح في ابتلائه فيتركه على
حاله ليصعد هذا الأنين الصادر من القلب إلى الله وحده. يهمنا هنا
أن فتنة المحيا تشمل كل شيء، وكما قدمنا في المال والولد: أنه قد
يكون فتنة ولا يدري الإنسان ما هو الخير.
فتنة الممات وما تطلق عليه
فتنة الممات تحتمل أمرين: إما فتنة ما يقع فيه الإنسان عند آخر
حياته، وبما يُختم له به، ونسبت إلى الممات؛ لأنها قريبة في مماته،
وما قارب الشيء أعطي حكمه، وفي الحديث: (منكم من يعمل بعمل أهل
الجنة حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل
بعمل أهل النار فيدخلها، ومنكم من يعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق
بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة
فيدخلها )؛ ولذا قالوا: الافتتان هنا عند آخر حياته، هل يكون
آخر كلامه لا إله إلا الله؛ أم أنه يعجز عنها وينصرف ويشغل بأمور
أخرى؟ فبعضهم يقول: وفتنة الممات تحتمل أن تكون عند لحظة النزع
والاحتضار فهناك يفتن، وقد يأتيه الشيطان ويسول له أشياء كثيرة،
وإما الفتنة بعد الموت فهي السؤال في القبر، لما ورد من الأحاديث
الصحيحة في ذلك: (إذا وضع العبد في قبره أتاه ملكان فأجلساه )،
وجاء أن الملكين يسألانه: عن ربه ودينه ونبيه؛ فإذا كان مؤمناً
صالحاً وفق للجواب، وقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم (حضر(1/441)
جنازة وبعد أن انتهوا من دفنها قال: سلوا الله لأخيكم التثبيت فإنه
الآن يسأل )؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يحضر دفن
الجنازة بعد أن يفرغوا من دفنه وتسوية التراب عليه أن يسألوا الله
له الثبات في الجواب عن السؤال. عمرو بن العاص أوصى عند موته
فقال: (إذا أنتم دفنتموني، فأقيموا عند قبري بقدر ما تنحر الجزور،
-يعني: تذبح وتسلخ وتقسم- فإني أستأنس بوجودكم عند سؤال الملكين).
إذاً: عند السؤال الله أعلم بمن كان مخلصاً في دينه، صادقاً في
إيمانه، فيلهمه الله الجواب الصحيح، ومن كان منافقاً -عياذاً
بالله- أو كان أو كان، قال: هاه هاه لا أدري، هاه هاه سمعت الناس
يقولون فقلت، وهنا الفتنة حقاً. ويقول بعض العلماء: هل هذا السؤال
وتلك الفتنة عامة في جميع البشر من آدم إلى الآن وفي جميع الأمم؟
قالوا: لا، هذا خاص بهذه الأمة فقط، وما كان أحد من الأمم يسأل عن
هذه الأمور في قبره، ولماذا امتحنت هذه الأمة مع أنها خير الأمم؟
ولماذا فتنت في قبرها؟ قالوا: لأن الأمم السابقة كانت إما أن
تستجيب لنبيها فتسلم، وإما أن تعاند فيعاجلها العذاب، وكم من أمة
جاءها العذاب واستأصلها لأنهم كذّبوا، أما هذه الأمة فقد رفع الله
عنها العذاب إلى يوم القيامة، فهم يمضون في طريقهم.. الصادق على
صدقه، والكاذب على كذبه، والمنافق على نفاقه، ومن هنا تأتي الفتنة
والسؤال والفرز الأول في القبر، نسأل الله السلامة والعافية. في
القبر من يمكن أن يساعد الإنسان هناك؟ لا أحد، وكما قيل: ثلاثة
تصحب الميت، اثنان يرجعان، ويبقى واحد، ماله وأهله وعمله، ماله
يذهب في فخر الناس ومجاملاتهم، وأهله يحزنون عليه، وعمله هو الذي
يصحبه ويلازمه في قبره، فلا يملك أحد له شيء إلا الله. كان صلى
الله عليه وسلم يستعيذ من هذه الأربع في كل صلاة، وعلمنا ذلك؛ لئلا
تغيب عن البال، دائماً وأبداً إذا استعذنا بالله من عذاب النار(1/442)
تجنبنا موجبه، إذا سألنا الله الاستعاذة من عذاب القبر أيضاً تجنب
سببه، وقد جاءت بعض الأحاديث تؤكد على بعض أسباب عذاب القبر، مر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما
يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول )؛
يعني: ليس بكبير لأنه يستطيع أن يتحرز منه، (بلى إنه كبير)؛ لأن
عليه تتوقف صحة الصلاة، والصلاة عماد الدين، (وأما الثاني فكان
يمشي بالنميمة بين الناس )، ليس بكبير، يستطيع أن يمسك لسانه
ويكفه عن الغيبة، ولكنه كبير؛ لأن الغيبة تفسد ما بين كل اثنين أو
جماعة أو الجميع، والحديث هنا صحيح الإسناد، وهناك زيادة فيها
مباحث (فأخذ جريدة فشقها نصفين، فوضع على كل قبر شقاً، وقال: لعله
يخفف عنهما ما لم ييبسا )، ويأتي بحث العلماء: هل لنا أن نفعل
ذلك اقتداء به صلى الله عليه وسلم، الكثير يقولون: نعم، والبعض
يقول: لا، لأننا لم نطلع كما اطلع صلى الله عليه وسلم على أهل
القبر، ولا ندري أنه يعذب أو ينعم، لذا لا نضع احتياطاً، قالوا:
وهل وضعنا نحن بأيدينا كوضع رسول الله؟ قالوا: لا، والمسألة تدور
بين جواز فعل مثل ذلك عند القبور ومنعه، والذي عليه الاتفاق: أن
ندعو له، وعند الدفن نسأل الله له التثبيت، وهذا ما يتعلق بفتنة
الممات على إحدى المعنيين: إما أن يكون عند احتضاره مخافة سوء
الخاتمة -عياذاً بالله- وإما ما يتعلق بسؤال القبر وهو فتنة عظيمة،
نسأل الله السلامة والعافية.
الاستعاذة من فتنة المسيح الدجال
قال: (ومن فتنة المسيح الدجال ). مسيح على وزن: فعيل، من المسح،
ويقول بعض العلماء: لقد جمعت له وجه في الاشتقاق ولم نقف على ذلك،
ولكن كلمة المسيح من حيث اللغة يقول بعضهم: المسِّيح بتشديد السين
تكون للدجال، والمسيح بدون أي وصف آخر هو عيسى بن مريم عليه
السلام، قال الله: مَا
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ [المائدة:75](1/443)
وكيف نسبة الاسمين لهذين مع بعد ما بينهما؟ قالوا: المسيح تطلق
بالتخفيف على الجانبين، ولكن إذا أُريد به عيسى بن مريم عليه وعلى
نبينا الصلاة والسلام جاءت مجردة وإذا أُريد الدجال لابد من القيد،
كقولنا: جاء بأن المسيح الدجال يفعل كذا، فقالوا: سبب التسمية من
أصل مادة المسح. أما الدجال: فلأنه يمسح الأرض كلها، ويأتي على
جميع أماكن الأرض، ويطوف الكرة الأرضية ما عدا مكة والمدينة فلا
يدخلهما، وقد جاء في رواية الموطأ في حق المدينة أن بها ملائكة لا
يدخلها الدجال ولا الطاعون؛ فالله سبحانه وتعالى حفظ المدينة من أن
يدخلها الدجال، ولكن فتنته تصلها، بمعنى يأتي فينزل بملتقى الأسيال
وراء بئر رومة -كما جاء في نص الحديث- فينصب خيامه ويدق طبوله،
ويخرج له من المدينة كل منافق .. يخرجون إليه والمدينة معصومة منه
وهي حرام عليه، وكذلك مكة المكرمة. إذاً: سمي المسيح لأنه يطوف في
العالم بالمساحة السطحية ويجوبها كلها ما عدا الحرمين الشريفين.
أما عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقالوا: مسيح
بمعنى فعيل، ومسيح بمعنى فاعل، فقالوا: بمعنى فعيل ممسوح؛ لأنه نزل
ممسوحاً، وما معنى ممسوح؟ قالوا: لأن النصارى من مبادئهم: أنهم
يمسحون الطفل بما يسمى المعمدانية، فعيسى نزل ممسوحاً من عند ربه
ولا يحتاج إلى مسحهم، وقيل: مسحه وعمده زكريا، وقيل: مسيح بمعنى
فاعل أي: ماسح؛ لأنه كان يمسح المعتل فيبرأ. واللفظ هنا جاء مقيداً
بالدجال، واللفظ يطلق فيشمل عيسى عليه السلام ويشمل الدجال، ولكن
إذا أريد بالاستعمال المسيح الدجال لابد أن يأتي بهذا القيد.
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة الدجال
شدد النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من فتنة المسيح الدجال
وقال: (إن ظهر فيكم وأنا بينكم فأنا حجيجه، وإن يظهر وأنا لست
فيكم؛ فامرؤ حجيج نفسه ) وبيّن صلى الله عليه وسلم أنه: (مكتوب(1/444)
بين عينيه: كافر، يقرؤها كل مؤمن )، وبأي لغة أو بأي حروف أو
بأي مداد تكتب؟ الغ العقل هنا، وصدق الخبر، فسوف تراها في جبينه،
وكيف كتبت وكيف رضي بذلك؟ هذا رغماً عنه. إذاً: فتنته بينها صلى
الله عليه وسلم، وقضية تميم الداري مشهورة، حينما نزل بالسفينة
وانكسرت بهم وجاء إلى جزيرة ورأى.. ورأى.. إلى آخره، وكتب الحديث
والفتن والملاحم مليئة بأخباره، وفتنته: أن يأتي والناس في محل
وشدة فيقول: يا سماء! أمطري فتمطر، يا أرض! أنبتي فتنبت، يا زرع!
استوي فيستوي.. اطحنوا كلوا، في موقف واحد: تمطر السماء وتنبت
الأرض ويطحنون ويأكلون، ويقول: أنا إلاهكم، أنا ربكم ها قد فعلت،
أما المؤمن فيقول: لا، إنك كافر، قد أخبرنا بذلك رسول الله، وأما
الكافر فلا يدري، ويقول: نعم، إنك كذلك؛ لأنك فعلت وفعلت، ثم يأتي
بمسلم ويشقه نصفين بالسيف، ويمشي بين شقيه، ثم يقول له: قم، فيقوم
ملتحم الشقين إنساناً سوياً، ويقول: أنا ربكم أُحيي وأميت، فالكافر
يفتن به -عياذاً بالله- والمؤمن يقول: لا، قد أخبرنا بذلك رسول
الله ولا يفتن به، ولأن المسألة تتعلق بلقمة العيش وبالحياة والموت
كانت الفتنة به خطيرة، وتخشى على كثير من الناس، ومن هنا من يستطيع
أن يدفع تلك الفتنة؟ إنه الله، فكانت الاستعاذة من المسيح الدجال
بالله سبحانه وتعالى؛ لأنها فوق مستوى العقل، وفوق قدرة البشر،
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا جميعاً من عذاب النار، ومن
عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن
كل فتنة تقع بالناس، والله تعالى أعلم. قال رحمه الله: [وفي رواية
لمسلم : (إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير )]. تقدمت فائدة
هذه الزيادة، وبأن موضع الاستعاذة يكون بعد الفراغ من التشهد
الأخير، وقبل سؤال الله ما أعجبه. ومن الناحية الفقهية: يرى بعض
العلماء كالظاهرية: بأن الاستعاذة من هذه الأربع واجبة، لقوله صلى(1/445)
الله عليه وسلم: (إذا فرغ فليقل أو فليستعذ )، وهذه صيغة أمر،
وصيغة الأمر تقتضي الوجوب، ولكن الجمهور على أنها ليست على الوجوب،
ولكنها للتعليم والإرشاد؛ فهي للندب، وأعتقد أن العاقل لا ينبغي له
أن يتركها إذا علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إليها،
وبيّن لنا صلى الله عليه وسلم أنسب وقت لها، وهو: إذا فرغ من
التشهد؛ فكيف يتركها الإنسان؟ وهل أمن على نفسه؟ لا والله، إذاً:
لا ينبغي له أن يتركها.
شرح حديث: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً...)
قال رحمه الله: [وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال
لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (علمني دعاءً أدعو به في صلاتي،
قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا
أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم )،
متفق عليه]. كأنه يقول: كل ما أعلمه لا يساوي ما يعلمنيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وهذه من خصائص الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع
رسول الله، فقد كانوا يتلقون الأمر عنه مباشرة ما استطاعوا إلى ذلك
سبيلاً. ويقول العلماء: الإنسان مهما كانت منزلته، ومهما بلغ فضله؛
فليس في غنى عن التعليم، فها هو أبو بكر الصديق رضوان الله
تعالى عليه، وقد شهد له الله في كتابه، وأخبر عنه صلى الله عليه
وسلم: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح بها ) .. ها
هو في حاجة إلى من يعلمه، ولكن من؟ رسول الله؛ لأنه لا يوجد أحد
أعلم منه إلا رسول الله، فأدرك الحاجة إلى التعليم، وأدرك أنه ليس
هناك أحد يعلمه إلا رسول الله، فقال: (علمني كلمات أقولهن في
الصلاة)، والرسول صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك؛ لأنه طلب وجيه.
وكلمة: (به في صلاتي) تدل أن الدعاء في الصلاة عقب التشهد ليس
مقيداً بالأربع، وليس مانعاً من غيرها، وكلمة في الصلاة مطلقة.
(قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي). هل حدد له موطناً في الصلاة؟ لم(1/446)
يحدد، يكون في سجوده، بعد الفراغ بعد التشهد، ضمن: (تخير من
المسألة ما تشاء )، الرسول صلى الله عليه وسلم أخبره بعموم. أبو
بكر الصديق ظلم نفسه، وعلي وحسين وعطية ومحمد وحسن عملوا ماذا؟
ظلموا أنفسهم وظلموا الناس معهم، من أحق وأولى بهذا الدعاء أبو بكر
الصديق الذي قال الله فيه: ثَانِيَ
اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40]
أو كل الحثالات الذين جاءوا من بعده؟ ولذا يقول العلماء: لا يسلم
مخلوق مهما كان على وجه الأرض بعد الرسل من ظلم النفس، الرسول يقول
له: (قل يا أبا بكر : (اللهم إني ظلمت نفسي)، وكيف يقع الظلم من
الإنسان لنفسه؟ قالوا: أصل الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فهنا
العبد مكلف، ضع العبادة هذه هنا، ابتعد عن المعصية هذه هناك، فإذا
لم يضع العبادة في موضعها فقد وضع الشيء في غير موضعه؛ وبذلك ظلم
نفسه؛ لأنه قصر في حق نفسه، وإذا لم يتباعد عن المعصية ظلم نفسه؛
لأنه وضع نفسه في غير ما ينبغي أن يوضع فيه، ولهذا قالوا: ظلم
النفس إما بتقصير فيما يجب أن يفعله، أو في اعتداء بفعل ما لا يجوز
أن يفعله، فهذا ظلم نفسه بحرمانها من فعل ما أمر به، وهذا ظلم نفسه
بفعل ما نهي عنه، فحملها ما لا تطيق، ولهذا يأتي إنسان ساعة
الاحتضار وهو حزين أسف، لماذا؟ إن كان محسناً حزن على التقصير في
الإحسان، وإن كان مسيئاً حزن على التفريط في الإساءة. ولكن الظلم
يتفاوت إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؛
فأعلاه الشرك، وأدناه اللمم. (ظلماً كثيراً) ليس مرة أو مرتين، بل
ظلم متوالي، قد يرى العبد الصالح التفريط في المندوبات، أو الإفراط
في المباحات؛ ظلماً، كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين،
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدخل الخلاء لقضاء الحاجة وهو أمر
جبلي، فيخرج فيقول: (غفرانك )، وما موجب طلب المغفرة هنا؟ وما
الذنب الذي يحتاج إلى مغفرة؟ قالوا: لامتناعه من ذكر الله أثناء(1/447)
وجوده في الخلاء، فكأنه يرى جزءاً من عمره خلا عن ذكر الله، فيطلب
مغفرة من الله لذلك، سامحني في هذه اللحظة؛ لأنها كانت لحظ نفس،
وبعضهم يقول: لأن ما يحصل للإنسان في ذاك المكان تتوقف عليه حياته،
ولا يقوى على شكر نعمة الإخراج، كما لا يقوى على شكر نعمة الإدخال؛
لأنه لو حبس فيه مات، فكأنه يقول: هذه أيضاً نعمة أعجز عن شكرها
فغفرانك، ولكن الأول أولى، والله تعالى أعلم. وفي بعض الروايات:
(ظلمت نفسي ظلماً كبيراً )، فنجد بعض العلماء يقول: نجمع
بينهما: (ظلماً كثيراً كبيراً)، والبعض يقول: تارة تقول: كبيراً،
ولا تأتي بكثيراً، وتارة تقول: كثيراً، ولا تأتي بكبيراً؛ لأن
الرسول لم ينطق بهما معاً في وقت واحد، وإنما جاء تعليمه مرة ظلماً
كثيراً وحدها، أو جاء تعليمه ظلماً كبيراً وحدها، فأنت لا تجمعهما؛
لأنه لم يجمعهما، فتأتي بهذا تارة، وتأتي بذاك تارة أخرى، والله
أعلم. (ولا يغفر الذنوب إلا أنت)، أنا رجعت إليك؛ لأن ظلمي لنفسي
هو بحق التشريع الذي أمرتني أو نهيتني، فالمرجع إليك أنت. (فاغفر
لي مغفرة من عندك). لا بعملي، ولا باجتهادي، ولا بعباداتي، سبحان
الله! أبو بكر الذي يخرج من الدنيا بكاملها لله ولرسوله، ويأتي
بكل ما يملك من ماله، يخرج به مهاجراً إلى الله ورسوله، يأخذ كل ما
يملك في مكة -أربعمائة درهم- ولم يترك لعياله شيئاً، ثم يأتي إلى
المدينة، وبعد أن يأتي ويجتمع عنده المال، ويحض النبي صلى الله
عليه وسلم على الصدقة، يأتي بكل ماله فيقال له: (ماذا تركت لعيالك
يا أبا بكر ؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله )، هذا أبو بكر مع عمله هذا كله .. الشخصية الصادقة في الرسالة، وفي صحبته له في
مكة، وعرضه على القبائل، وتهيئته للهجرة، وخروجه معه إلى الغار،
ومجيئه إلى المدينة، ومؤازرته، وشراء أرض المسجد الذي بني فيه،
ومرافقته في كل غزواته، ولم يتخلف عنه قط ولا في غزوة من غزواته،(1/448)
ومع هذا كله: (واغفر لي مغفرة من عندك) ثم هذا الذي قدمته ما هو؟
قال: لا، كله من عند الله، هدايته، وتوفيقه لصحبة رسول الله، وجوده
بنفسه وبماله، كل ما فعله الأصل فيه أنه من الله. (لن يدخل أحدكم
الجنة بعمله قيل: ولا أنت، قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله
برحمته )، قال عبد الرحمن بن عوف : (رأيت كأني مت، وكأن
القيامة قامت، وقد جئت ونوقشت الحساب؛ حتى ظننت أني هالك، وما
أنجاني إلا صحبتي لرسول الله)، ابن عوف الذي يأتي يتصدق بالعير
وبما تحمل في سبيل الله، ويأتيه التُجار لشرائها بربح عشرة في
المائة، وهو يرفض ويقول: هناك من أعطاني ألف في المائة، قالوا: ليس
هناك تاجر في المدينة حاضر يعطيك هذا، قال: الله أعطاني، ،الحسنة
بعشرة أمثالها، هي بما فيها في سبيل الله، ومع ذلك يقول: (نوقشت
الحساب حتى ظننت أنني هالك، وما أنجاني الله إلا صحبتي لرسول
الله)، هذا فضل من الله. ولهذا لا ينبغي أبداً أن يرى الإنسان
لعمله قدراً، ويعقد رجاءه وأمله وحسن ظنه بالله، ويذكرون عن شخص
كان مسرفاً على نفسه، فحضرته الوفاة فبكى الحاضرون عنده، فقال: ما
يبكيكم؟ قالوا: والله! نخشى عليك لأنك كنت وكنت، قال: أرأيتم لو
عدت ورجعت إلى والدتي أكانت تحرقني بالنار، قالوا: لا والله، قال:
الله أرحم بي من أمي، انظر الرجاء! والصديق بنفسه يقول:
(والله! لو أن إحدى قدمي في الجنة، والأخرى خارجها ما أمنت مكر
الله). إذاً: في هذه الكلمات التي علمه رسول الله إياها وهي تعليم
لنا: بيان وتوجيه فيما ينبغي أن يعقد العبد مع الله من قوة الرجاء،
ويجتهد بقدر ما استطاع لطلب المغفرة من الله. (وارحمني إنك أنت
الغفور الرحيم) متفق عليه. انظروا الترتيب والمقابلة، (اغفر لي
مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)، وهكذا في الدعاء:
الإنسان يسأل الله من أسمائه الحسنى بما يتناسب مع حاجته؛ لأن
الصديق طلب المغفرة والرحمة فقال: اغفر لي وارحمني إنك أنت(1/449)
غفور رحيم، ولم يقل: رزاق كريم، ولا قادر علي عظيم؛ لأن حاجته
المغفرة، وكأن كل اسم من أسماء الله باب مفتوح للخير، فتطرق ذلك
الباب بتلك الصفة وبهذا الاسم. وبالله تعالى التوفيق.
134378 ( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [13] )
( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [13] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث : (اللهم أعني على ذكرك ...)
2 شرح حديث: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة ..)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [14]
رغم أن الصلاة هي من أعظم الذكر إلا أنها أتبعت بأذكار أخرى عظيمة،
منها: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وأعلى منه شأناً
وجلالاً: آية الكرسي بما تحمله من صفات وأسماء لله جل وعلا، وكلها تشعر
بعظمة وكبرياء المولى سبحانه وتعالى.
شرح حديث : (اللهم أعني على ذكرك ...)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة على رسول الله، وعلى
آله وصحبه وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن معاذ بن جبل رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (أوصيك -يا معاذ -:
لا تدعن دُبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن
عبادتك )، رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند قوي].
حديث معاذ رضي الله تعالى عنه من النصوص الواردة في الذكر بعد
الصلوات الخمس.
ترجمة معاذ بن جبل
ومع أننا لم نتعرض لأحد من الرواة ولكن معاذاً له شأن خاص به،
وفي مقدمة هذا السياق: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (يا
معاذ ! إني أحبك، وأريد أن أوصيك، فقال معاذ رضي الله
تعالى عنه: وأنا والله أحبك -يا رسول الله- فأوصني )، فقول
الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ : (أحبك) ، تعطيه خصوصية،
وقد أفرده النبي صلى الله عليه وسلم بصفة كما أفرد غيره، فقال
صلوات الله وسلامه عليه: (أعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل )،
ومعاذ كان يُعتبر بعثة تعليمية متنقلة، ولقد أقامه النبي صلى
الله عليه وسلم لأهل اليمن يعلمهم الإسلام، وفي خلافة عمر رضي(1/450)
الله تعالى عنه كتب زيد من الشام إلى أمير المؤمنين عمر :
إن أهل الشام في حاجة إلى من يعلمهم دين الإسلام، فأرسل إليه معاذ
بن جبل . وتجدون ذلك في الموطأ في باب المتحابين في الله، فيروي
مالك عن شاب يقول: دخلت مسجد دمشق، فوجدت شاباً براق الثنايا
يجتمع الناس عليه، ويصدرون عن رأيه، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا معاذ
بن جبل ، فبكرت من الغد إلى المسجد فوجدته قد سبقني إليه وهو
قائم يصلي، فجلست حتى صلى فسلمت عليه وقلت: إني أحبك في الله، فجذب
بردائي وقال: اجلس، آلله ما أحببتني إلا في الله؟ -يعني: والله ما
أحببتني إلا في الله- قلت: آلله أحببتك في الله، قال: أبشر، سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر بالجنة للمتحابين في الله).
فمعاذ رضي الله تعالى عنه أحبه رسول الله، ومع ذلك أدركته
فاقة ولحقته ديون؛ فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله
يصيب من أجر العمالة ما يُسدد دينه. يهمنا في هذا الحديث: قول
الرسول صلى الله عليه وسلم له: (إني أحبك) ويكفي ذلك فضلاً لمعاذ أن الرسول يحبه، وكما جاء في مثل هذا المعنى في غزوة خيبر لما
استعصى حصن مرحب ، ورجعوا متأثرين، فقال صلى الله عليه وسلم:
(لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله،
يقول عمر : فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، ويقول عمر وهو محل الشاهد: والله! ما تطلعت نفسي لرئاسة ولا لإمارة إلا تلك
الليلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ويحبه الله ورسوله )؛ لأن
هذا ليس بالأمر الهين، ومع هذه المحبة يقول له: (أريد أن أوصيك)،
فهو أعلن من جانبه أيضاً: (وأنا والله يا رسول الله أحبك )،
وكون معاذ يحب رسول الله هذا أمر واجب، (والله لا يؤمن أحدكم
حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين ) .. قُلْ
إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ
وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا(1/451)
وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا
أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي
سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا [التوبة:24]،
ولا ينبغي أبداً أن يقدم محبة مخلوق عرضاً كان أو أصلاً، إنساناً
أو مالاً؛ على محبة رسول الله؛ لأن محبة رسول الله هي معيار
الإيمان.
طلب العون من الله للعبد في العبادة
قال: (أوصني، قال: أوصيك إن استطعت -يعني بقدر ما تستطيع- ألا تدع
-بمعنى: لا تترك- أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني) تطلب العون من
الله على ماذا؟ (أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). المتأمل في
أكثر الأدعية والأذكار الواردة عقب الصلوات يجدها مرتبطة بجزئيات
في صلاته، فالتسبيح والتحميد والتكبير، والاستعاذة من النار ومن
عذاب القبر ومن فتنة.. ومن.. ومن..، وكذلك افتتاحية صلاتك
بالفاتحة، ففي سورة الفاتحة: إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]،
(أعني على) أعني: بمعنى الاستعانة، استعن بالله على ذكره، إياك
نعبد، فهي جزء من الصلاة في الفاتحة إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ،
وما لم يكن هناك عون من الله للإنسان على طاعته وعبادته فليست هناك
فائدة، فلا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول عن معصية، ولا قوة على
طاعة إلا بالله سبحانه. (أعني على ذكرك) والصلاة من الذكر، أي:
استعن بالله على الحفاظ على الصلاة، والصلاة عون هي بذاتها، قال
الله: وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45].
(وعلى شكرك) شكر النعم بحسبها: تكون بالقول، وبالفعل، وبالقلب،
وكما يقال: شكر النعمة عامل دوامها وحفظها، وبشكرها تدوم.
الوسطية في العبادة
وقوله: (وحسن عبادتك) ولم يقل: وكثرة؛ لأن الكثرة قد تكون كغثاء
السيل، وكما في الحديث: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وقيامكم مع
قيامهم، لم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية )،
والمولى سبحانه يقول: الَّذِي(1/452)
خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً [الملك:2]،
ليس أكثر، فالنتيجة ليست بالكثرة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم
كره الكثرة؛ لأنها قد تؤدي إلى الملل ثم العجز. كما في قصة النفر
الثلاثة الذين تساءلوا فيما بينهم: نحن مقصرون، فلنذهب ونسأل أم
المؤمنين عن عبادة رسول الله في بيته؟ فسألوها، فقالت: في الليل
يقوم وينام، وفي النهار يصوم ويفطر، ويأتي زوجاته، قالوا: هذه حالة
عادية، لا، إنه عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأخذوا
يتفاوضون، فشخص منهم قال: أنا أتخصص في الصوم، وشخص قال: أقوم فلا
أنام، وشخص قال: أنا أعتزل النساء، هذا وأم المؤمنين تسمع، ولما
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بما وقع، فغضب وأسرع إلى
المسجد يخطب: (ما بال أقوام يقولون ويقولون، أما والله! إني
لأتقاكم لله، وأخشاكم لله، وإني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآتي
النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) لماذا؟ لأنه يعجز، وإذا عجز
ترك الجميع، لا (إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى ).
والرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه ورد عليه
السلام وسكت، وكأن الرجل وجد شيئاً ما كان متوقعه، قال: (ألم
تعرفني؟ قال: لا، قال: أنا الذي جئتك العام الماضي في كذا وكذا،
قال: لقد تغيرت عما رأيتك من قبل، قال: مذ فارقتك لم أفطر يوماً!
قال: أجهدت نفسك، صم وأفطر )، وقال لآخر: (صم من الشهر ثلاثة
أيام، قال: أطيق أكثر، قال: صم كذا، صم كذا، إلى أن جاء إلى صيام
نبي الله داود )، أخذه وبعد ذلك عندما كبر ثقل عليه، وقال:
ليتني قبلت رخصة رسول الله من كل شهر ثلاثة أيام، إذاً: الكثرة غير
مطلوبة، كما أن النقص غير مطلوب، والمطلوب الوسط: (أحب الأعمال إلى
الله أدومها وإن قل )؛ لأن القليل مع الدوام خير من الكثير مع
الانقطاع؛ ولذا كان المدار في الأعمال على الإحسان، ولذا نجد(1/453)
الترتيب والتدرج في تعليم جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام
للدين (أخبرني -يا محمد- ما الإسلام؟ خمسة أركان: شهادة وصلاة
وصيام وزكاة وحج، ثم سأله عن الإيمان؟ ستة، وكلها أمور غيبية
واعتقادية، الإيمان بالله وباليوم الآخر والكتب والرسل والقدر..
إلى آخره، أخبرني عن الإحسان؟ ركن واحد: أن تعبد الله كأنك تراه،
فإن لم تكن تراه -لعدم إمكانيتك لذلك- فهو يراك )، فكان الإحسان
هو الخاتمة.
شروط صلاح العمل وإحسانه
وقوله في هذا الحديث: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)،
متى يكون العمل حسناً؟ هذا الذي ينبغي الحرص عليه، ويكون ذلك
بثلاثة أمور: الشرط الأول: أن يكون مشروعاً مطابقاً لما جاء عن
الله وعن رسول الله، فلا تأتي بعبادة لله من غير ما شرع الله،
فيقول لك: أنا ما شرعت هذا، ولما تعبد الله بغير ما شرعه رسول الله
يقول: أنا ما جئتك بهذا، إذاً: المبدأ الأول في صلاح العمل
وإحسانه: أن يكون مطابقاً لما جاء عن الله وعن رسول الله؛ لأنها
عبادة لله، فالله الذي تعبدنا هو الذي بيّن لنا كيف نعبده، وهل
ندري ما يرضيه وما لا يرضيه؟ لا نعلم؛ فلما بيّن لنا وشرع لنا
وأمرنا ووجهنا يجب أن نلزم ذلك، ومن هنا نعلم: أن كل من تعبد الله
بغير ما شرع الله أو بغير ما سن رسول الله فهو خارج عن هذا الباب،
ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ليس من أمرنا فهو رد )،
أي: مردود على صاحبه. وإمام دار الهجرة رضي الله تعالى عنه يقول:
(لن يصلح أمر آخر الأمة إلا ما أصلح أولها)، فما كان عليه السلف
الصالح من منهج في العبادة واقتصاد في العمل فهو المبدأ الأساسي.
الشرط الثاني: أن الإنسان يأتي بهذا العمل خالصاً لوجه الله، وَمَا
أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
حُنَفَاءَ [البينة:5]؛
ولذا شرع أن يقول المصلي عقب الصلاة: (لا إله إلا الله وحده لا(1/454)
شريك له). الشرط الثالث: أن يكون العمل صادراً من مؤمن لا منافق أو
كافر؛ لأن الكافر قد يطعم المسكين، ويكسو العريان، ويبني الطرق
والمدارس والمستشفيات، ولكن هل يُعد له عملاً صالحاً كما يعد
للمؤمن؟ لا، وهل يضيع عمله؟ لا، فالله سبحانه وتعالى حكيم عليم،
عادل لا يضيع أجر من أحسن عملاً؛ فإذا عمل الكافر عملاً قال له: لك
عملك، ويعطيه ويعوضه في الدنيا بقدر ما أحسن فيها، أما في الآخرة وَقَدِمْنَا
إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23]؛
لأنه لم يكن على قاعدة، ولم يعمله إيماناً بالله، وإنما عمله
مجاراة للناس أو لجلب مصالح، أو لأمر آخر؛ فيأخذ أجره عاجلاً. فإذا
اجتمعت هذه الشروط الثلاث كان العمل صالحاً حسناً.
ملازمة العبد للذكر في كل حال
قوله: (اللهم أعني على ذكرك) الذكر يكون باللسان وبالعمل، والذكر
في العمل يفسره قوله سبحانه في سورة الجمعة: إِذَا
نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]،
ذكر الله النداء إلى الصلاة حي على الصلاة، وذكر الله الإمام الذي
يصلي ويخطب، هذا كله ذكر الله، سعينا إليه، فَإِذَا
قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً [الجمعة:10].
وقد أشرنا فيما مضى بأن أشمل وأعم العبادات في الكون هو الذكر؛
لأنه العبادة التي لم تقتصر لا على ملائكة السماء، ولا على مؤمني
الإنس والجن، بل اشترك فيها الجماد والنبات والحيوان، كما جاء
العموم: وَإِنْ
مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]؛
فهي تسبح بحمده سبحانه، وإذا جئنا إلى كل العبادات أَقِمْ
الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]،
سواء كان لتذكري أو كان لتذكرني فيها، فكلها من أولها من النداء
إليها إلى الافتتاحية: (الله أكبر)، إلى قوله: (السلام عليكم) ذكر(1/455)
لله، والصائم طول وقته يكون ذاكراً لله، وإن كان أبكم أو أصم؛ لأنه
إذا صام في شدة الحر، والماء البارد عنده، ويده تمتد في الماء
يتبرد، ويشتهي قطرة واحدة؛ فما الذي يمنعه وليس عنده أحد، ما الذي
يمنعه؟ لأنه يذكر قول الله: (يترك طعامه وشرابه من أجلي )، كذلك
في الزكاة: يخرج المال بدون عوض، لماذا؟ لأنه يذكر الله، وينتظر
العوض بسبعمائة، ومضاعفة إلى ما يشاء الله سبحانه، الحج من أوله:
(لبيك اللهم لبيك) ذكر لله إلى أن تنتهي من طواف الوداع وأنت في
ذكر لله: فَإِذَا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ [البقرة:198]
.. (أفضل ما قلته أنا والنبيون في يوم عرفة: لا إله إلا الله ... )
إلى آخره، في السعي تذكر الله، في الطواف ذكر لله، حتى بعد رمي
الجمرات: باسم الله، الله أكبر، إرضاءً للرحمن، وإرغاماً للشيطان،
ليس هناك خطوة قدم واحدة في الحج إلا وفيها ذكر الله، إذاً: ذكر
الله في جميع العبادات. ولهذا كانت وصية الرسول الله صلى الله عليه
وسلم لبعض أصحابه: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله ) لا تجعل
اللسان يفتر عن ذكر الله، وهذا لا يمنعك لو كنت صانعاً أن يبقى
لسانك في فمك يذكر الله، وإذا لم تستطع بلسانك فبقلبك وهو مراقبة
الله: فَانتَشِرُوا
فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الجمعة:10]،
إما باللسان: اجعل لسانك رطباً بذكر الله. وإما في العمل: أنت ذهبت
تسعى في طلب الرزق، وعملك فلاح تحرث الأرض، تضع البذرة باسم الله،
وتدفنها، وتنتظر إنباتها من أين؟ تقول: يا رب أنبتها، طلع النبات.
يا رب تثمرها، طلعت الثمرة. يا رب تحفظها، جاءت الثمرة. يا رب
تبارك فيها، فأنت دائماً على ذكر لله، وأشد الناس ذكراً لله
الفلاح، ولو لم يكن متعلماً يضع الحبة ويرميها وهو لا يعرف على
جنبها أو ظهرها أو بطنها، ثم تجد الحبة في بطن الأرض نبتت عودين ..(1/456)
عود إنبات وعود جذر، من الذي وجه الإنبات إلى سطح الأرض حتى يظهر،
والجذر إلى بطن الأرض حتى يغوص فيها ويمتص لها الغذاء، كنت أنت
تعدلها في الليل أو النهار؟ لا والله، فإذا أنبت النبات فَلْيَنْظُرْ
الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا
الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ
وَلأَنْعَامِكُمْ [عبس:24-32]،
من الذي فعل هذا؟ فهو دائماً مع الله سبحانه وتعالى، إن كنت صانعاً
كانت لك صناعة مضبوطة، إن ذكرت الله تركت الغش: (من غشنا ليس منا )،
وإن غفلت عن ذكر الله جعلت الحابل مع النابل، إن كنت تاجراً تبيع
وتشتري فأمامك المكيال والميزان.. كل عمل للإنسان فيه طلب للرزق
يذكر الله فيه، إما بلسانه، وإما بفعله يراقب الله فيما يعمل،
وهكذا. (أعني على ذكرك) باللسان بالمراقبة، (وعلى شكرك) بالقول
وبالفعل، وببذل النعمة وشكرها (وحسن عبادتك) وأحسن ما يكون من
الإنسان في العبادة: أن يكون مطابقاً لما شرع الله، ولما سَنَّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم خالصاً لوجه الله سبحانه، والله
تعالى أعلم.
شرح حديث: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة ..)
قال رحمه الله: [وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة
لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت )، رواه النسائي ، وصححه
ابن حبان ، وزاد فيه الطبراني و قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]].
هذا مما يدل على فضل هذه الآية الكريمة، وقد جاء أن النبي صلى الله
عليه وسلم سأل أُبي بن كعب : (أي آية أعظم في كتاب الله؟ قال:
آية الكرسي، قال: ليهنهك العلم)، وقالوا: آية الكرسي أعظم آية في
كتاب الله؛ لأنها اشتملت على صفات المولى سبحانه وتعالى، فموضوعها(1/457)
ذات المولى عز وجل، كما أن سورة: قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ موضوعها ذات الله سبحانه وتعالى، وهي تعدل ثلث القرآن تقرأ: اللَّهُ
لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ،
هذا أول التوحيد الْحَيُّ
الْقَيُّومُ ،
أي: القائم على كل شيء، لا
تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ،
السِنة: النعاس، والنوم الاستغراق؛ فسبحانه لا ينام، وفي الأثر: أن
نبي الله موسى قال: (يا رب! أنت لا تنام؟ قال: لا أنام يا موسى!
ولا ينبغي لي أن أنام، أتريد أن تُدرك ذلك يا موسى؟ قال: نعم، قال:
خذ قدحاً من الماء وأمسكه في يدك، فأخذ قدحاً من الماء وأمسكه
بيده، فأرسل الله عليه النعاس فسقط القدح من يده ثم أيقظه، قال: يا
موسى! أين القدح؟ قال: سقط عندما نمت؟ قال: وهكذا الكون )،
سبحان الله العظيم! عظمة المولى سبحانه في كل صفة وفي كل آية، وهذا
كما يقال: تقريب للمعنى، فالكون بيده سبحانه فَسُبْحَانَ
الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [يس:83]،
لم يقل: ملك، قال: ملكوت، يعني في الأمور الحسية والمعنوية، ولو
نظرت لرأيت شيئاً فوق الإدراك، أنت بنفسك لو وكلت إلى ذاتك ما
استطعت أن تعيش، كما يقولون: الإنسان فيه عدة عوالم. إذا جئت إلى
حواسك: اليد تنام وتهمد، والعين تنام وتغمض، الأذن لا تنام؛ لأنها
على استعداد لتلقي السمع في أي لحظة، ولكن هل الكبد ينام؟ لا ينام؛
لأنه يفرز دائماً ويغذي هذا الجسم النائم، هل الكلى تنام؟ لو نامت
تعطل الجسم، فشل كلوي كما يقولون -نسأل الله السلامة- أو تليف
كبدي؛ هل القلب ينام؟ من الذي يُنظم دقات قلب المرء في صدره؟ لو
وكل إليك أنت لكي تراقب قلبك ... شغلته وأنت صاحي، وبعد ذلك جاءك
النوم، هل تقول له: نم حتى أصحو؟ إذا نام نمت النومة الأخيرة،
إذاً: كل حيوان لا يستطيع أن يؤمن حياته لو وكلت إليه. هذا القلب
الذي ينبض منذ مائة أو تسعين أو ثمانين سنة، وفي كل دقيقة ستين مرة(1/458)
في الوضع العادي، الله أكبر! وهو قلب واحد أو عالم واحد، البعوضة
عندها قلب ينبض، حتى أصغر الحيوانات إلا الجراثيم، الله أعلم
بتكوينها لا نعلم عنها، ولكن نجد العصفور الصغير ينبض قلبه في
الدقيقة مائتي نبضة، الفيل ينبض قلبه في الدقيقة عشرين مرة، وكلما
كبر الجسم وتضخم كلما قلّت الدقات؛ لأن القلب يصبح كبيراً، ومثال
ذلك تجربة في يدك: انظر إلى الساعة، الساعة الصغيرة التي قطرها (1
سم)، والساعة الكبيرة التي قطرها (50 سم)، هل توجد واحدة تزيد في
الأربعة والعشرين ساعة أو تنقص أم أن كلها سواء؟ كلها سواء، خذ
واحدة صغيرة في يدك وأخرى كبيرة على الجدار، تجد الصغيرة سريعة
الضربات، وأما الكبيرة على مهلها، لماذا؟ لأن الواحدة بالتأني تقطع
مسافة مثل هذه. إذاً: الفيل له دقات، والعصفور الصغير له دقات،
والحيتان كذلك في البحر، من الذي يُنظم كل هذا؟ المولى سبحانه
فضلاً عن أمور أخرى. انظر إلى عالم النبات: طلعت الشجرة.. جاءت
الزهرة، من أين جاءت الثمرة وتنوعت؟ بستان واحد وحوض واحد وجدول
ماء واحد من بئر واحد أو من سماء واحدة، هذه تثمر أصفر، وهذه أحمر،
وهذه أزهار خضراء وصفراء وحمراء. إذا جئت إلى الإناث في العالم:
كيف تحمل الأنثى من كل نوع؟ الإنسان الحيوان الطيور الـ.. الـ..
إلى آخره، وكيف ينشأ ويتطور هذا الحمل الجنين في داخل ظلمات بعضها
فوق بعض، ظلمات ثلاث، من الذي شق العينين والأنف والفم؟ سبحان
الله، من الذي أنبت هذا كله في تلك الظلمة؟ أصله من تراب، ثم جاءت
النطفة وصارت علقة ثم مضغة ثم عظاماً، ثم كسيت العظام لحماً،
والتخطيط هذا والتنظيم هذا، والشبه الذي يعطى كل فرد ولا يوجد له
شبه يطابقه مائة في المائة في العالم، حتى التوأمين اللذين جاءا من
بطن واحدة مختلفين، ولابد من الاختلاف، بصمات الأصابع مئات
الملايين في العالم ليس هناك بصمة تعادل بصمة ثانية، من الذي غير(1/459)
في هذا؟ وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه
يقول في هذا: إذا أردت أن تدرك عظمة الخالق سبحانه: قف عند جمرة
العقبة وانظر إلى الوجوه أمامك؛ لن تجد وجهين متطابقين في الصورة
قط، وهكذا العالم كله. اللَّهُ
لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ ،
هو في ذاته قيوم على العالمين، لا
تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ،
القيومة له سبحانه وحده لَهُ
مَا فِي السَّمَوَاتِ [البقرة:255]،
وماذا الذي في السماوات؟ يعجز البشر كله أن يُدرك ما في السماء
الأولى فقط، بل ما دونها من أبراج وأفلاك، والمجرة يقولون: فيها
ملايين النجوم، والله لا نستطيع أن نقول: لا، لو قلنا: لا، يقولون:
اذهبوا عدوا، ولكن يتفق الفريقان على كثرة النجوم فيها، وعلى
أضوائها، وأنه يصل ضوء بعض النجوم في كذا سنة ضوئية، الإنسان فقط
يترك التفكير في هذا، له ما في السماوات عوالم لا نعلمها ولا
ندركها إلا ما جاءنا فيها الخبر، ولولا أن الرسول صلى الله عليه
وسلم جاءنا بالكتاب وبالسنة، وذهب بنفسه ونظر وأتى وأخبرنا،
فيخبرنا عن مشاهدته، السماء الدنيا، ويطرق الباب الثانية و.. و..
إلى آخره، إلى سدرة المنتهى. إذاً: له ما في السماوات من تكوين
وأوامر ... إلى آخره. وَمَا
فِي الأَرْضِ [البقرة:255]،
وإن كنا قريبين منها، وهي أقرب لنا من السماء لكننا نعجز أن نُكيف
ما في الأرض، فماذا في الأرض؟ عوالم الحيوانات والنباتات والجبال
والطيور والزواحف و.. و.. إلى آخره، كل ذلك خاضع لسلطانه سبحانه،
فإذا كان الأمر كذلك فـ: مَنْ
ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255]،
الشفاعة هي: أن تتقدم وتطلب من المشفوع إليه مصلحة للمشفوع فيه،
وهل أحد له سلطان أو له ملك أو أي شيء في السماوات أو في الأرض؟ لا
شيء إلا بإذن الله سبحانه. لَهُ
مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي انظر مَنْ ذَا(1/460)
الَّذِي لم يقل: من الذي، من الذي يرفع رأسه؟ من يقول: أنا؟ من يدعي شيئاً
في هذا العالم؟ لا أحد، مَنْ
ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ ،
قد تشفع عند أخيك أو زميلك أو قريبك أو أميرك أو.. أو..، لك حق في
أن تشفع، وله حق في أن يقبل أو يرد، وقد يضطر إلى قبول شفاعتك
اضطراراً؛ لأنه يخشى إن رد شفاعتك حجبت مصلحته أو دبّرت مكيدة له،
ولكن المولى له ما في السماوات وما في الأرض، ولا يُقاس عليه،
وإمعاناً بعد ذلك قال: يَعْلَمُ
مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255].
القدرة الإلهية للعلم يَعْلَمُ
مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ
مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ [البقرة:255]؛
فهو يحيط بهم علماً وهم لا يحيطون، ولكن قد يدركون البعض، وفرق بين
الإحاطة والإدراك، فمن الإحاطة الحائط المبني حول البستان، فإنه
يشمله جميعاً، فالإحاطة بالشيء إدراكه كاملاً كإحاطة الجدار
بالبستان، فالعالم لا يحيطون بشيء من علم الله، ولكن الله سبحانه
يُحيط بعلمهم. وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ [البقرة:255]،
الكرسي جاءت فيه أخبار عديدة، منهم من يقول: الكرسي العلم، وهذا
روي عن ابن عباس ، ولكن الجمهور على ما في الحديث الصحيح: أن
الكرسي بين يدي العرش، وجاء الحديث: (ما السماوات السبع والأرضون
في الكرسي إلا كدراهم في ترس، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في
فلاة )؛ فالكرسي مخلوق مادي له سعته، ولو أن السماوات السبع
والأرضون السبع وضعت في الكرسي ما كانت إلا كأن تأخذ حلقة وتلقي
بها في الربع الخالي، ما تكون نسبة هذه في الربع الخالي؟ إذاً: لا
يعلم قدره إلا الله، وما الكرسي هذا بهذه السعة في العرش إلا
كدراهم (وما العرش في كف الرحمن إلا كحبة خردل في كف أحدكم ).
أقول يا إخوان: إن هذه النصوص بهذه المضاعفات لا ولن توجد قوة على
وجه الأرض حسابية الآن تعطينا النتيجة ولا الجواب عن سعتها، ولا(1/461)
ينبغي للإنسان مهما أوتي من ذكاء حرص على العقيدة وسلامتها أن يخوض
خوضاً بعيداً، ويكفي أن يسمع هذا الحديث من رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ويتصور التصور الإجمالي، ويكف عما وراء ذلك. وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وسعها على أي حجم وأي مقدار؟ جاء في الحديث بأن السماوات السبع
سمكها مسيرة خمسمائة عام هي والأرض، سبحان الله! سبع سماوات، من
الذي يتصور هذا الجرم؟! أما الأرض فهي مثل البيضة تحت القبة، فكم
يكون مساحة هذا الكرسي؟ لا نستطيع أن نقول شيئاً، ولكن يكفينا النص
القرآني الكريم: وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ ،
وهناك ناحية بيانية لطيفة، لم يقل: (وسع الكرسي) ولكن جاء بالإضافة
إلى الله وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ ،
مجرد نسبة وإضافة الكرسي إلى الله تُعطيه عظمة أكثر. وَلا
يَئُودُهُ [البقرة:255]
ولا يثقله، ولا يشق عليه، حِفْظُهُمَا [البقرة:255]
(ما) ألف تثنية راجعة فيها لـ: لَهُ
مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255]،
ولا يثقله ولا يشغله حف
134385 ( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [15] )
( كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [15] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (أنه عليه الصلاة والسلام صلى الظهر فقام في الركعتين
الأوليين ولم يجلس...)
2 شرح حديث: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي
ركعتين..)
كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [1]
إن الكمال المطلق لله عز وجل، وقد خلق الله عز وجل الإنسان وفيه الكثير
من صفات النقص، ومن تلك الصفات صفة النسيان، وقد نسي آدم فنسيت ذريته،
ومن المواضع التي يهمنا فيها أمر النسيان باب العبادات، وقد جاء بيان
ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث: (أنه عليه الصلاة والسلام صلى الظهر فقام في الركعتين
الأوليين ولم يجلس...)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال(1/462)
المصنف رحمه الله: [ وعن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه: (أن
النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين
الأوليين، ولم يجلس فقام الناس معه .. ) ] . بدأ المؤلف رحمه
الله بحديث ابن بحينة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى
الظهر ) . والمؤلف هنا يجزم أنها صلاة الظهر، وتجدون في بعض
المراجع: (إحدى صلاتي العشي) والعشي: ما بين الزوال إلى غروب
الشمس، والصلاتان الواقعتان في هذا الوقت هما الظهر والعصر، ولذلك
تجدون خلافاً طويلاً في تحقيق ما هي الصلاة التي ذكرها ابن بحينة .. ولكن المصنف هنا صرح وجزم بأنها الظهر، فاسترحنا والحمد لله،
وسواء كانت الظهر أو العصر فالصورة واحدة؛ وهي أنه صلى الله عليه
وسلم دخل في صلاة رباعية، والمعروف من قوله صلى الله عليه وسلم:
(صلوا كما رأيتموني أصلي ) أن نجلس للتشهد الأوسط في الركعة
الثانية من الرباعية أو الثلاثية وبعد جلسة التشهد نقوم إلى الركعة
الثالثة، وهنا صلى الله عليه وسلم في موضع الجلوس للتشهد الأوسط لم
يجلس بل قام، فيكون ترك من الصلاة: التشهد الأوسط والجلوس له،
وسيأتي: هل سجود السهو لترك الجلوس أو لترك التشهد، أو لتركهما
معاً؟
متابعة المأموم للإمام
قوله: ( فقام الناس معه .. ) : لماذا قام الناس معه وهم يعلمون بأن
هذا موطن جلسة؟ عند هذا يبحث العلماء مسألة: إذا كان المأمومون
يعلمون نسيان الإمام عند هذا الموطن: فهل يتابعونه مباشرة أو
ينبهونه؟ قالوا: يتعين على المأمومين أن ينبهوه. وقد جاء في بعض
روايات هذا الحديث أنهم نبهوه وسبحوا، لكنه صلى الله عليه وسلم لم
يرجع، وفي بعض الروايات : (أشار إليهم أن قوموا، فقاموا ).
لماذا لم يرجع الإمام؟ قالوا: هناك مقياس للإمام وللمنفرد، إذا كان
الإمام قد نسي الجلوس ونهض للقيام فينبه، فإن كان أقرب إلى الأرض
رجع، وإن كان أقرب إلى الانتصاب استمر. إذاً: لم يرجع صلى الله(1/463)
عليه وسلم حينما نبهوه؛ لأنه كان أقرب إلى الانتصاب والقيام،
فحينئذ من حقه عليهم أن يتابعوه، فهو قام نسياناً، وهم قاموا
متابعة. قوله : (فقام الناس معه .. ). هل قام الناس معه ابتداء ؟
الجواب: لا، وإنما بعد أن نبهوه، وبعد أن قارب القيام، وأصبح من
حقه أن ينهض، ومن حقه عليهم أن يتبعوه ويتابعوه، لقوله صلى الله
عليه وسلم : (إنما جعل الإمام ليؤتم به ) . وفي سجود السهو
حينما سجد وسجدوا معه، هو سجد لنسيانه، وهم ما نسوا، ولكنهم تركوا
الجلوس والتشهد فسجدوا معه، فإذا كان السهو من الإمام فقط ولم يكن
من المأمومين، فسجد الإمام لسهوه، فيسجد المأمومون معه، وسيأتي في
بعض الصور: لو قام الإمام في الخامسة والمأمومون يعلمون أنها
الخامسة، فنبهوه فلم يسمع لهم؛ لأنه لم يثق بكلامهم، وكان يقينه في
نفسه أنها الرابعة، فمن قام من المأمومين مع الإمام مع علمه ويقينه
أنها الخامسة بطلت صلاته، وعلى أولئك الموقنين بأنهم أتموا الأربع،
وأن هذه ركعة زائدة عليهم؛ أن يبقوا في مكانهم حتى يأتي الإمام
بيقينه، ويتشهد ويسلم، وإذا علم أو تأكد أو ثبت عنده بعد أن جاء
بالخامسة أنها زائدة، فيتعين عليه أن يسجد للسهو، وأولئك الجلوس
الذين لم ينهضوا معه ولم يأتوا بزيادة سهواً ولا عمداً عليهم أن
يسجدوا معه تبعاً له، ثم يسلموا مع تسليمه . إذاً : قام الناس معه
اتباعاً وأداءً لحق : (إنما جعل الإمام ليؤتم به ).
صفة سجود السهو
قوله: (حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه.. ) . (قضى) تأتي
بمعنى انتهى، قال تعالى : فَإِذَا
قُضِيَتْ الصَّلاةُ [الجمعة:10]
يعني: انتهى وسُلم منها، وقوله هنا: (حتى إذا قضى ..) أي: أتى
ببقية الركعات بقرينة قوله: (وانتظر الناس أن يسلم)، فكلمة (قضى)
كما يقول الأصوليون: ما قارب الشيء يعطى حكمه؛ لأنه أتى بالأعمال
وأصبح قريب التسليم، فانتظر الناس السلام، فعبر الراوي بقوله: (لما(1/464)
قضى الصلاة ..) وإن كان ليس قضاء كاملاً؛ لأنه لم يسلم بعد، ولا
تعتبر الصلاة قضيت إلا بعد إكمالها ولم تبق لها أي جزئية، كما في
النص الكريم : فَإِذَا
قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا [الجمعة:10]
ومعلوم أن ذلك بعد التسليم، لكنه هنا قال: ( فلما قضى الصلاة )
يعني: جاء بالباقي . قوله : (وانتظر الناس تسليمه) يعني: أنه تشهد
بعد أن أتى بالركعتين الباقيتين، وعلم أنه ترك الجلوس، بل قد أشار
إليهم : ( أن قوموا) ، والآن جلس يتشهد على حسب نظام الصلاة،
والناس معه يظنون أن ترك الجلوس قد مضى لسبيله وتمت الصلاة . قوله:
(كبر وهو جالس). أي: وهو جالس للتشهد كبر تكبيرة الانتقال للسجدة،
ولهذا يقولون: سجدتا السهو هما كأي سجدتين في صلب الصلاة: تكبر
،وتسجد ،وتسبح، وتطمئن، ثم ترفع من السجود وتجلس وتدعو الدعاء
الوارد، ثم تكبر وتسجد، ثم تكبر وترفع. إذاً: سجدتا السهو في
الهيئة والصورة والعمل كسجدتي الصلاة سواء بسواء، فكما نفعل في
السجدتين في صلب الصلاة نفعله في سجود السهو، سواء كان السهو في
فريضة أو نافلة، على ما سيأتي إن شاء الله . قال: (وسجد سجدتين قبل
أن يسلم). سجد سجدتين مرتبتين؛ سجد ثم رفع من السجود، أي: مكبراً
أيضاً، وجلس حتى اطمأن، ثم كبر وسجد الثانية حتى اطمأن وسبح أيضاً
ثم كبر ورفع. قال: (ثم سلم). وهذا سجود السهو كان قبل السلام، فلما
أكمله سلم. وسبب سجود السهو لا يخرج عن أحد أمرين: إما الزيادة في
الصلاة كمن صلى خمساً أو جلس جلسة زائدة، وإما النقصان، والذي حدث
في هذه الصلاة في حديث عبد الله بن بحينة هو نقصان التشهد،
ونقصان الجلوس، والفرق بينهما: أن الإنسان لو كان منفرداً وجلس تلك
الجلسة بعد الركعة الثانية، وفي مدة قراءة التشهد لم يقرأ التشهد
وقام، فيكون قد ترك التشهد فقط والجلسة قد حصلت.. فهل يسجد للسهو
لأنه ترك التشهد؟ الجواب: إن قيل بأن السهو للتشهد فيتعين على(1/465)
المنفرد إن جلس جلسة تكفي للتشهد ثم نسيه وقام؛ أن يسجد للسهو، وإن
قيل: بأن السهو هو للجلسة، فجلس جلسة التشهد ولم ينسها ونسي التشهد
فعلى هذا القول لا سهو عليه. إذاً: هذا الفرق بين اعتبار السهو
للتشهد أو للجلوس أو لهما معاً . والصورة التي عندنا حصل فيها نقص،
سواء قلنا: في التشهد أو في الجلسة للتشهد، فما كان عن نقص يأتي
سجود السهو جبراناً للنقص، وجبران الشيء يكون منه، وهذه قاعدة عند
أحمد : (كل سهو عن نقص يكون قبل السلام). وأما موضع السجود
للسهو عند الأئمة الأربعة : فهناك من يقول: كل سجود للسهو يكون قبل
السلام؛ حملاً على هذا . وهناك من يقول: كل سجود للسهو يكون بعد
السلام. فأما الأول فهو قول الشافعي ، وأما الثاني فهو قول
الأحناف. ومالك رحمه الله يقول: (ما كان عن نقص فقبل السلام،
وما كان عن زيادة فبعد). وأحمد يقول: ننظر الخمس الصور التي
وردت عنه صلى الله عليه وسلم أين أوقع السجود فيها، فنطبقها فيما
لو وقع من إنسان واحدة منها، فكل سجود عن نقص فهو قبل السلام، وكل
سجود عن زيادة فهو بعد السلام، وإذا كان عن شك أو تحير، أو عدم
يقين فيكون قبل السلام كما سيأتي إن شاء الله، لكن لو جاء سهو في
مواطن خلاف المواطن الخمسة التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فالإمام أحمد يقول: نجعلها قبل السلام. إذاً: كل ما جاءت
صورته عن النبي صلى الله عليه وسلم بالذات نجعل سهوها كما جاء عنه
صلى الله عليه وسلم في تلك الصورة، وما كان في غيرها فنجعله قبل
السلام، فيكون القول بجعل السجود قبل السلام أكثر قائلاً، وأكثر
اعتباراً، وهذه مجمل أقوال العلماء في ذلك، وسيأتي لها زيادة إيضاح
إن شاء الله . يهمنا في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم
قام من الثانية وترك الجلوس، وترك الجلوس يستلزم ترك التشهد،
فنبهوه فلم يرجع وقام الناس معه، وعرفنا متى يقوم الناس؟ ومتى لا(1/466)
يقومون؟ ومتى يستتم ناهضاً؟ ومتى يحق له أن يرجع؟ ثم بعد ذلك انتظر
الناس تسليمه فلم يسلم، فسجد سجدتين وسلم بعدها، وأتى في سجود
السهو بما يأتي به في صلاته العادية؛ بأن كبر للانتقال وسبح ودعا
بين السجدتين، والله تعالى أعلم. ينقل ابن عبد البر ، وابن
قدامة ، والنووي ، وعلماء الحديث الإجماع على أنه مهما كان
سبب السهو - وقلنا بأن السبب لا يخرج عن الزيادة أو النقصان - فسجد
الساهي قبل أو بعد السلام فصلاته صحيحة، وأما تعيين السجود للسهو
هل هو قبل السلام أو بعد السلام إنما هو للأفضلية، أما إذا سجد قبل
السلام في موضع يكون بعد السلام أو سجد بعد السلام في موضع يكون
قبل السلام، فإن الصلاة قد تمت، ولكنه ترك الأفضل في موضع السجود.
إذاً: التحديد بقبل أو بعد أو بأي صورة من الصور المذكورة هو بحث
كبير، ونحن إذا كنا حصلنا على الأساس والأصل وصحت الصلاة فالحمد
لله، فهذا القول من العلماء في هذه المسألة أو الجزئية يهون علينا
مسألة السجود للسهو. قال المصنف: [ وفي رواية لمسلم : (يكبر
في كل سجدة وهو جالس، ويسجد ويسجد الناس معه مكان ما نسي من الجلوس )
]. نقل الراوي : ( ويسجد الناس معه ) ليبين أن الناس لم يقع منهم
سهو، بل هم متذكرون ونبهوا الإمام من أجل أن يرجع ولكنه لم يرجع،
فسجودهم معه إنما هو متابعة للإمام.
شرح حديث: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي ركعتين..)
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (صلى
النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي ركعتين ثم سلم، ثم قام
إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليها، وفي القوم أبو بكر و
عمر ، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس فقالوا: قصرت الصلاة!
وفي القوم رجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين فقال:
يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، فقال:
بلى، قد نسيت، فصلى ركعتين ثم سلم، ثم كبر، ثم سجد مثل سجوده أو(1/467)
أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم وضع رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده أو
أطول، ثم رفع رأسه وكبر ) متفق عليه، واللفظ للبخاري ، وفي
رواية مسلم : صلاة العصر ]. هذا الحديث من أهم الأحاديث
النبوية، وكلها مهمة، ولكنه لموضوعه اهتم به العلماء كثيراً، حتى
إن بعض العلماء أفرده بتأليف خاص وإن كان لم يصلنا، لكنهم نقلوا
عنه الشيء الكثير، وبعضهم ينقل عمن كتب في هذا الحديث أنه استخرج
من هذا الحديث مائة وخمسين مسألة، وابن دقيق العيد رحمه الله
لدقة أسلوبه يقول: إن الكلام على هذا الحديث من ثلاث جهات: الجهة
الأولى: جهة أصل الدين والعقيدة . الجهة الثانية: جهة علم الكلام .
الجهة الثالثة: جهة حكم الحديث فقهياً . ثم أخذ يتكلم عن كل قسم
منها في كتابه: (إحكام الأحكام في شرح كتاب عمدة الأحكام)، وللإمام
الصنعاني صاحب سبل السلام حاشية تسمى: (العدة على شرح العمدة)،
تعقب ما جاء به ابن دقيق العيد بزيادة التفصيل، والتنبيه على
ما يلزم التنبيه عليه . أما موضوع علم الكلام: فإنه في هذه
المحاورة والتي تعتبر عند المنطقيين قاعدة في الفرق بين الكل
والكلية، وهي قوله صلى الله عليه وسلم لذي اليدين : (لم تقصر
ولم أنس )، وفي بعض الروايات : (كل ذلك لم يكن )، وهذا هو
المبحث المنطقي. ثم في أصول الفقه بحث فيما يتعلق بخبر الواحد،
ويذكرون أن ذا اليدين أخبر رسول الله، فلم يكتف بإخباره
وسؤاله، بل استوثق من الحاضرين فقال : (أصدق ؟ ) فيبحث
الأصوليون مدى قوة خبر الواحد والاستدلال به. ثم يأتي فقه المسألة:
أنه صلى الله عليه وسلم بعدما سلم سجد ثم سلم. وهذا هو فقه
المسألة، وهو ما يتعلق بسجود السهو. وأرجو من الإخوة طلاب العلم أن
يرجعوا إلى هذا الحديث سواء في الموطأ، أو في إحكام الأحكام لابن
دقيق العيد ، أو في العدة للصنعاني ، أو في فتح الباري، أو
في جميع موسوعات الحديث التي تكلمت على هذا الموضوع بإسهاب، وبالله(1/468)
تعالى التوفيق. وصلى الله على نبيه وآله وسلم تسليماً.
( كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [2] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (سجدنا مع رسول الله..)
2 شرح حديث: (ص ليست من عزائم السجود)
3 شرح حديث: (سجد النبي عليه الصلاة والسلام بالنجم)
4 شرح حديث: (قرأت على النبي عليه الصلاة والسلام النجم فلم يسجد
فيها)
5 شرح حديث: (فضلت سورة الحج بسجدتين)
6 شرح حديث: (فمن لم يسجدها فلا يقرأها)
7 شرح أثر عمر: (إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا
إثم عليه)
8 شرح حديث: (كان يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد)
كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [3]
فضل الله عز وجل بعض مخلوقاته على بعض، والأنبياء صلوات الله و سلامه
عليهم هم صفوة الخليقة، فلا يجوز أن يساء إليهم، ولا أن يُقدح فيهم،
ويجب الدفاع عنهم، والتحري والتثبت في القصص والأخبار التي تنقل عنهم،
ورد القصص التي تتضمن الطعن والنقيصة فيهم صلوات الله وسلامه عليهم.
شرح حديث: (سجدنا مع رسول الله..)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقال المصنف
رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سجدنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم في إِذَا
السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1]و اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] )
رواه مسلم ]. هاتان السجدتان لم يقل بهما مالك ، ويرى أنه
لا سجود في المفصل، والمفصل بعضهم يقول: إن أوله الحجرات، فيدخل
تحته سورة النجم، والانشقاق، والعلق، فمالك يرى أنه لا سجود
فيها. وإتيان المؤلف بحديث أبي هريرة يدل على أن السجود فيهما
ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الإمام مالك يقول هذا القول، فإنا نجد في المذهب المالكي ثلاث روايات: رواية
تقول كما قال مالك . وراوية تقول: جميع الآيات الخمسة عشر كلها(1/469)
فيها سجدة، ما عدا الثانية من الحج. والراوية الثالثة تقول: جميع
الآيات كلها بما فيها الثانية من الحج. إذاً: جاء عن مالك في
الموطأ عدم السجود في المفصل، وأما عند العلماء المالكية فإنهم
يذكرون في المذهب خلاف ما في الموطأ، وهي روايات عن مالك في
غير الموطأ. فيكون مالك يثبت السجود في المفصل على بعض
الروايات عنه.
شرح حديث: (ص ليست من عزائم السجود)
قال المصنف رحمه الله: [ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
((ص) ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يسجد فيها ) رواه البخاري ] إذا أطلقت كلمة: عزيمة،
فمعناها: واجبة؛ لأن العزيمة في الاصطلاح تقابلها الرخصة، ولكن
المراد هنا: أنها ليست من السجدات التي جاء فيها الحرص، وجاء فيها
التنويه والطلب كبقية آيات السجدات التي في غير (ص). يقول
الأصوليون: سجدات التلاوة جميعها سنة مندوب إليها، ولكن المندوب
يتفاوت بعضه عن بعض؛ فسورة (ص) فيها سجدة، ولكن الطلب فيها
والتحريض عليها والحث عليها أقل من الطلب والتحريض والحث في غيرها،
وسيأتينا أن سورة الحج تميزت بسجدتين (فمن لم يسجدهما فلا يقرأها )
يعني: السورة، أو (فلا يقرأهما ) يعني: الآيتين اللتين فيهما
السجدة، فهذا حث على السجود فيهما، ومن لم يسجد فيهما يتركهما،
فالطلب هنا أشد منه في (ص). قالوا: من أين أخذ ابن عباس السجود، في (ص)؟ جاء عنه أنه قال: سجدها داود عليه السلام توبة،
وسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم شكراً، فسجدنا تبعاً لرسول
الله. وقالوا: قال تعالى: أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]،
وداود سجدها فاقتدى به رسول الله فسجد، أو مع اختلاف الاعتبارين: وَظَنَّ
دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ
رَاكِعاً وَأَنَابَ [ص:24]
فكانت استغفاراً، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه ما(1/470)
يستوجب الاستغفار عند هذا المقام، ولكن سجدها اتباعاً واقتداء
بالرسل المتقدمين صلوات الله وسلامه عليهم. إذاً: سجدة (ص) تجمع
بين كونها سجدة تلاوة؛ لأن النص يقتضي السجود، وبين كونها سجدة
شكر، وهذا بالنسبة لنا دون من كان قبلنا، وعلى هذا الخلاف هي سجدة،
ولكن هل باعتبار التلاوة أو باعتبار الشكر؟ ما دام صلى الله عليه
وسلم سجدها فنحن نسجدها، سواء كانت شكراً أو كانت تلاوة، والله
تعالى أعلم.
شرح حديث: (سجد النبي عليه الصلاة والسلام بالنجم)
قال المصنف رحمه الله: [ وعنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سجد
بالنجم ) رواه البخاري ] . يأتي المؤلف بهذا النص أيضاً في
سجدة النجم بياناً للخلاف الذي وقع، فمالك رحمه الله لم يأخذ
به. سجدة النجم قد جاء في خبرها قصة الغرانيق، وبعض الناس يطعن في
قصة الغرانيق، ولكن أصل القصة موجود، وهو السجود، فسجود النبي صلى
الله عليه وسلم فيها عند قوله تعالى: فَاسْجُدُوا
لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:62]
إنما كان للتلاوة، وكان يقرؤها في مكة، فلما قرأ بها وكان المشركون
حضوراً، فكل من كان حاضراً في المجلس يسمع سجد ، سواء كان مسلماً
أو مشركاً، وكان سبب سجود المسلمين اتباعاً لرسول الله صلى الله
عليه وسلم، وأما سبب سجود المشركين فاختلق له بعض الناس قصة
الغرانيق، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ
اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ
الأُخْرَى * أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ.. [النجم:19-22]
إلى آخره، فالشيطان عند تلاوة ذلك قال: (تلك الغرانيق العلى، وإن
شفاعتهن لترتجى)، فلما سجد صلى الله عليه وسلم، قال المشركون: محمد
ذكر آلهتنا بخير اليوم، ولم يذكرها بخير قط قبل ذلك، فسجدوا معه
ظناً منهم أنه سجد لها في هذه الحالة، ولكن هذه القصة باطلة، وإذا
جئنا إلى كتب التفسير نجد أن أغلبها قد ذكر هذه القصة، لكن يجب على(1/471)
الإنسان أن يحذر ويتحرى، كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله:
كنت أقرأ للآية مائة تفسير وأقول: يا معلم داود! علمني، ويا مفهم
سليمان! فهمني، يقرأ مائة تفسير للآية! مع أن الله أعطاه من أداة
العلم من أصول، ومن فقه، ومن لغة ومن .. إلى آخره الشيء الكثير.
بيان بطلان القصة الإسرائيلية المروية عن نبي الله داود
نحن بين أيدينا عدة تفاسير، وهناك قضايا من المشكلات في بعض
التفاسير، وإن كانت مشهورة، وإن كان أصحابها أئمة؛ لكننا نجدهم
يسوقون بعض تلك القضايا على علاتها، وبعضها إسرائيليات، ومن تلك
القضايا التي ذكروها بعلاتها قضية الغرانيق، ومنها قضية سجود نبي
الله داود، ففي قوله تعالى: إِنَّ
هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ
وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص:23]
، قالوا: النعجة كناية عن الزوجة وعن المرأة، وداود عنده تسع
وتسعون زوجة، وهذا الرجل عنده زوجة واحدة، فأرسل داود زوجها إلى
القتال ليقتل فيتزوجها بعده! وهذا والله هراء، بل إن أنصاف
المجانيين ليستبعدوا ذلك عن أنبياء الله ورسله، وقد نبهنا مراراً
أن من يقرأ السورة من أولها يجد القرآن الكريم ناصعاً بيناً،
ومقدمات السجدة تنزه نبي الله داود عن ما هو أبعد وأبعد من ذلك
كله؛ لأن في أول السياق يقول سبحانه: وَاذْكُرْ
عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]
، فهذا الوصف من الله لداود: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا) على سبيل
التأسي والاتباع؛ لأنه قال: (عَبْدَنَا) وقال: (ذَا الأَيْدِ)
وقال: (إِنَّهُ أَوَّابٌ) يعني: اذكره وتأسى به في تلك الصفات،
فيكفي أن يقول الله فيه: (عَبْدَنَا)، والله لا يصطفي للعبودية
الخاصة شخصاً بهذه الصفة، حاشا وكلا. إِنَّا
سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ
وَالإِشْرَاقِ * والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ
أَوَّابٌ [ص:18-19](1/472)
سبحان الله! ، إنسان تسخر معه الجمادات والجبال والطير، وتسبح لله
معه، ثم ينظر إلى امرأة غيره، وعنده تسع وتسعون امرأة، والله! لو
كان أعزب لا زوجة له لما فعل هذا. وَشَدَدْنَا
مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20]
، وهل من الحكمة أن يقع في مثل ذلك؟! وَآتَيْنَاهُ
الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ تعتبر مؤهل علمي لأداء الرسالة: وَآتَيْنَاهُ
الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ لأي شيء؟ ليفصل خصام المتنازعين بالحكمة: وَهَلْ
أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ .. [ص:21]
... يَا دَاوُودُ
إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ [ص:26]
، بعدما بيّن القضية ما هي؟ خَصْمَانِ
بَغَى [ص:22]
- وإلى أين جاء الخصمان؟ تَسَوَّرُوا
الْمِحْرَابَ [ص:21]،
دخلوا عليه وهو في معتكفه في عبادته لله وحده، وليس في لهوه ولعبه.
وكان عليه السلام قد قسم زمنه إلى ثلاثة أيام: يوم يدخل فيه
المحراب يتعبد، ويوم لأهله يقضي شئونهم، ويوم للقضاء بين الناس،
فإذا باليوم الذي جعله للقضاء لا يكفي، فـ(تسوروا المحراب)، وهل
الخصوم الحقيقيون يستطيعون أن يتسوروا المحراب على الملك؟ لا وكلا،
إذاً: ليسوا على حقيقتهم، وهل وجدنا في علم القضاء أن خصمين
يختصمان وبينهما كما بين الثرى والثريا، فهذا معه تسع وتسعون نعجة
ثم يغتصب نعجة لهذا الواحد؟ هل هناك ظلم أكثر من هذا؟! وهل هذه
تحتاج إلى قاض يحكم فيها؟ وهل وجدنا ظالماً عاتياً يمشي مع
المظلوم: خَصْمَانِ
بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ [ص:22]
؟! وهل هذه تحتاج إلى حكم؟! فلو جئنا إلى عجوز عمياء مخرفة لحكمت
فيها، وقالت: أنت ظالم بطلبك النعجة وعندك تسع وتسعون نعجة، فكيف
يأتي الخصم الظالم مع الخصم المظلوم طواعية من غير جنود أو قوة،
ومن غير إرسال إليهم، وهل رأيت خصمين يأتيان إلى المحكمة طواعية؟!(1/473)
قد تجد الآن قضية في عشرة آلاف أو خمسة آلاف لا يأتي الخصم إلا بعد
أن تتعدد الجلسات، وبعد أن ترسل إليه الجندي، ويأتي به بالقوة،
فكيف بهذا؟! ثم: فَاحْكُمْ
بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ
الصِّرَاطِ [ص:22]
، وهل سواء الصراط خفي عليكم حتى تطلبوا الهداية إليه؟! فالقضية
بينة من غير شيء. ثم ينطق سليمان عليه بالواقع: لَقَدْ
ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً
مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ص:24]
أي: الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، وأنت تتعبد في المحراب، ونحن لم
نعطك مؤهلات العبادة بقدر ما أعطيناك مؤهلات القضاء؛ وهي الحكمة
وفصل الخطاب. لما أن علم ونطق بـ: وَإِنَّ
كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ هنا تنبه وَظَنَّ [ص:24]
يعني: علم: أَنَّمَا
فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ [ص:24]
.. يَا دَاوُودُ
إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]
، وقوله: وَظَنَّ
دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فتناه في ماذا؟ في العبادة، وأنه اشتغل بالعبادة عن المهمة
الأساسية التي نصبه الله لها. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول
لمعاذ عند أن ذهب وصلى بأهل قباء العشاء وبدأ بـ (الم)، وصلى
خلفه رجل مسكين يعمل كل النهار في مزرعته، فقال: هذا لا يركع حتى
يتم السورة، وأنا لا أستطيع أن أتابعه فانفرد وأكمل صلاته وذهب
فنام، فبلغ معاذاً خبر هذا الرجل فقال: هذا الرجل منافق، فبلغت
الكلمة إلى الرجل، فجاء إلى الرسول وقال: معاذ يرميني بالنفاق،
وقال: كذا وكذا، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (أفتان
أنت يا معاذ ! ) . فمعاذ فتن الناس عن دينهم، فهو كان(1/474)
يصلي العشاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويسمع تلاوة رسول الله،
فيتشبع روحياً ومعنوياً، ولو قرأ القرآن كله لا يشق عليه، فهو بتلك
اللذة وتلك النشوة وبتلك المعنويات مع رسول الله دخل في الصلاة مع
أهل قباء، فطول وشق على المأمومين. إذاً: وَظَنَّ
دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ كانت فتنة داود عليه السلام أنه خص نفسه بالعبادة، وكثير من
الخلطاء يبغي بعضهم على بعض خلف الأسوار. أي الأمرين أولى: أن
ينقطع للعبادة داخل المحراب أو أن يجلس يقضي بين الخصوم؟ الأولى أن
يقضي بين الخصوم؛ لأن مهمته هي الخلافة، وقد أعطي الحكمة وفصل
الخطاب. إذاً سجدة (ص) من داود عليه السلام إنما هي توبة مما كان
عليه، ولذا ترك المحراب وجلس للناس يفصل الخصومات التي بينهم. وتجد
بعض كتب التفسير التي تعد لأئمة التفسير تذكر المرأة، وتذكر كل
الذي ذكر فيها، وتجد منهم من يحسن الأسلوب ويقول: إنما داود خطبها
على خطبة غيره، امرأة خطبها إنسان، وعلم بها داود فذهب وخطب على
خطبة غيره، ونحن منهيون عن ذلك: (ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه )
. وتجد آخرين يقولون: وما أداركم أن الخطبة كانت ممنوعة عندهم كما
هي ممنوعة عندنا. وأحسن ما قرأت فيها في تفسير أبي السعود قال:
(وقد سوّد كثير من المفسرين -أو قال بعض- في هذه القضية صحائف
بمدادهم، أنزه القلم أن يجري بشيء منها)، وسكت! فأقول: جزاه الله
خيراً، نزه قلمه أن يسوق أو يورد ما قيل فيها؛ لأنها لا تليق بنبي
من أنبياء الله. ومن العجب أيها الإخوة! أني وجدت في كتاب: تأويل
التنزيل للسبكي ؛ وهو كتيب صغير جداً، أنه قال: لا دخل لعنصر
المرأة في هذه القضية، وأتمم لكم مرحلتي مع هذه القضية: لما كنت
أدرس كان من المقرر علينا هذه السورة، فلما وجدت في أمهات كتب
التفسير تلك الروايات الإسرائيلية، أخذت القلم وكتبت على هامش
الكتاب الذي أقرأ فيه: لا وجود لعنصر المرأة؛ نظراً لسياق السورة(1/475)
لداود عليه السلام، وامتداح الله إياه في هذه الصفات كلها، ولما
جئت عند الاختبار واجهت الأستاذ المدرس، وكانت مقررة علينا في كلية
اللغة، وليست في الشريعة؛ لأن فيها أبحاثاً لغوية شهيرة جداً،
فسألته: ما رأيك في كذا وكذا؟ قال: نعم هذه ذكرها شيخ المفسرين،
فقلت: والله هذه مصيبة، إذا كان الأستاذ الموكل بالتدريس يقرر
القصة على الطلاب ويقول: ذكرها شيخ المفسرين، فبدأت أذكر له سياق
السورة فإذا به يتجهم، وإذا به ينهر، ويقول: أنت تأتي بأشياء
جديدة، فقلت: لا، لا جديدة ولا قديمة، الذي تراه أنت إن شاء الله
فيه خير، وعزمت على أنها لو جاءت في السؤال فسأعطيه رأيه الذي هو
عليه، حتى لا أكون ضده، وأحتفظ بهذا لنفسي. ومن العجب يا إخوان! أن
تأتي المناسبات، ويأتي إمام جامعة إسلامية كبرى في الشرق الأوسط،
وتأتي المناسبة، وأورد عليه الرأي في هذه القضية، فإذا به يعجب به
إلى أقصى حد، ويطلب مني تسطيره فسطرته وأعطيته إياه، فأخذه معه إلى
بلده، ونشره في مجلة تلك المؤسسة الإسلامية الكبرى. يهمنا في هذا
يا إخوان! أنكم ستجدون في بعض كتب التفسير أنهم يذكرون قضية
الغرانيق، وبعضهم يسكت عليها، ولكن بحمد الله والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه قد صفى هذه القضية في أضواء البيان.
وأنا أريد أن أقول: إن سجود المشركين لا يستبعد، وأقول: إن
المشركين عرب، وفصحاؤهم فرسان البلاغة، فلما استمعوا لقراءة رسول
الله لسورة من كتاب الله، وقد اجتمع كلام المولى سبحانه مع قراءة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن معجز، والرسول سيد البلغاء،
فلما قرأ القرآن على الحاضرين، كان ذلك حقيقاً أن يسجد المؤمن
إيماناً، ويسجد المشرك أخذاً بسحر القرآن وبعذوبة تلاوة رسول الله.
ولقد وجدنا في التاريخ في إعجاز القرآن أن أعرابياً سمع القرآن أول
مرة فسجد، فقيل له: لماذا تسجد؟ قال: لعظمة هذا الكلام الذي أسمع،(1/476)
وهو لم يعلم أنه قرآن أو غير قرآن. إذاً: للقرآن تأثير على القلوب،
وقد سمعت الشيخ م
شرح حديث: (قرأت على النبي عليه الصلاة والسلام النجم فلم يسجد فيها)
قال المصنف رحمه الله: [ وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:
(قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم (النجم) فلم يسجد فيها )
متفق عليه ]. هذا الأثر الثاني: (قرأت على النبي صلى الله عليه
وسلم (النجم) فلم يسجد فيها ) ، في الحديث المتقدم أنه سجد، وفي
هذا الحديث يقول: لم يسجد، ومن هنا قال مالك بعدم السجود فيها،
وبعض المالكية يقول: إنما سجد في مكة ولما هاجر إلى المدينة لم
يسجد فيها، لأن راوي هذا الحديث زيد ، هو مدني، والأول مهاجر
من مكة. إذاً: الأخير ينسخ الأول، ولكن علماء الحديث يقولون:
السجود ليس واجباً حتى يقال: المتأخر ينسخ المتقدم، وما دام أن
الحكم هو الجواز فليس بلازم أن يسجد كلما قرأ، فيكون قرأ وسجد
تارة، وقرأ وترك السجود تارة أخرى، والمثبت مقدم على النافي، ويأتي
عمر رضي الله تعالى عنه ويفصل الموضوع فيقول: (إن الله لم يفرض
علينا سجود التلاوة، ولكن من سجد فقد أصاب - أي: أصاب السنة - ومن
لم يسجد فلا إثم عليه) ، وسبب ذلك أن عمر قرأ آية السجدة على
المنبر، فنزل وسجد وسجد الناس معه، ثم لما كان في الخطبة الثانية
في الأسبوع الآخر، قرأ آية سجدة فتهيأ الناس للسجدة فلم ينزل وقال:
(يا أيها الناس! إن الله لم يفرض علينا سجود التلاوة، فمن سجد فقد
أصاب، ومن لم يسجد فلا شيء عليه). إذاً: عمر بنفسه سجد وترك،
فهل نقول: ترك عمر نسخ للفعل الأول؟ لا، ليس نسخاً؛ لأنه قد
بين أنه لم يفرض علينا، وإنما السجود دائر بين الفعل والترك على
سبيل الجواز. إذاً: هذا الحديث لا ينسخ ما قبله، ولكن كما قدمنا
مراراً أن من غايات المؤلف رحمه الله في تأليف هذا الكتاب بيان
أدلة الأحكام عند الأئمة الأربعة، فمن قال: النجم فيها سجدة عنده(1/477)
الحديث الأول، ومن قال: النجم لا سجدة فيها عنده هذا الحديث
الثاني، ومن جمع بين النصوص وأحكم فيها العمل، وأخضعها للقواعد عند
المحدثين والأصوليين فسيخرج بنتيجة الجمع بين الأحاديث المختلفة،
والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (فضلت سورة الحج بسجدتين)
قال المصنف رحمه الله: [ وعن خالد بن معدان رضي الله عنه قال:
(فضلت سورة الحج بسجدتين) رواه أبو داود في المراسيل ] . يأتي
المؤلف بهذا الحديث أيضاً، وفيه أن سورة الحج فضلت بوجود سجدتين
فيها، وهنا مسألة: هل يقال في سور القرآن وآياته: هذه السورة أفضل
من تلك؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، فبعضهم يقول: لا نفضل؛ لأن
كله كلام الله. وبعضهم يقول: قد تختص هذه السورة بما لا تختص به
تلك، وهذا كلام معقول، فمثلاً: آية الكرسي قالوا: هي أفضل آية في
كتاب الله، لأنها تختص بصفات الله كما تقدم في الذكر بعد الصلاة،
وكذلك قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]
تختص بخصائص؛ لأنها محض صفات لله سبحانه، وهكذا الفاتحة تختص بأنها
أم الكتاب؛ لأنها جمعت علوم القرآن كله، والقرآن جمع علوم الكتب
قبله، فالفاتحة جمعت كل كتاب منزل من السماء. ويقول بعضهم: لا مانع
أن يقال: الكل فاضل، وهناك أفضل، فليس هناك ناقص بل الكل فاضل،
فكما تفاضلت الرسل كذلك تتفاضل السور، وكذلك تتفاضل الآيات، ومما
فضلت به -أي: خصت به- سورة الحج أن فيها سجدتين، فلا يوجد سورة
تجمع سجدتين إلا سورة الحج، وقد أتى بهذا المؤلف؛ لأن هناك خلافاً
في السجدة الثانية من سجدتي سورة الحج، فإن أبا حنيفة رحمه
الله لا يعتبرها إلا إذا قرأ بها في الصلاة، أما خارج الصلاة فلا
يعتبرها سجدة. إذاً: المؤلف رحمه الله يسوق لنا مواضع الاختلاف في
سجود التلاوة.
شرح حديث: (فمن لم يسجدها فلا يقرأها)
قال المصنف رحمة الله: [ ورواه أحمد والترمذي موصولاً من
حديث عقبة بن عامر ، وزاد: (فمن لم يسجدهما فلا يقرأها ) ،(1/478)
وسنده ضعيف ]. في هذه الزيادة تنبيه وهو: أن من لم يسجد السجدتين
في سورة الحج فلا يقرأها، يعني: لا يقرأ السورة، والرواية الأخرى:
(فلا يقرأهما ) يعني: آيتي السجدة. وهنا بعض الأحكام الفقهية
المتعلقة بهذا النص،هل يجوز للإمام أن يقرأ في الصلاة ما شاء من
آيات السجدة على غير عادة منه مع الناس؟ مالك رحمه الله يقول:
لا يجوز للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة في الصلاة الجهرية ولا في
السرية ليسجد بنفسه؛ لأنه إن قرأ سراً بآية سجدة فسجد، فالناس لا
يعلمون لماذا سجد، وإن قرأ في الجهرية سورة فيها سجدة، فقد يسمع
البعض ويعلم حكم السجدة في تلك السورة فيسجد، والبعض قد لا يعلم
حكم السجدة فيها أو لا يسمع فلا يسجد، فيكون هناك اضطراب، وقد يقرأ
الإمام السورة التي فيها السجدة ولا يسجد؛ لأنه غير ملزم، ولكن
المأموم يعلم أنها موضع سجدة فيسجد ظناً منه أن الإمام قد سجد،
إذاً: فيحصل الاضطراب، ولهذا قالوا: لا ينبغي للإمام أن يقرأ سورة
فيها سجدة على غير وفاق من المجموعين، والآن يعلم الناس مشروعيتها.
ولا ينبغي أن يقرأ بها الإمام، والكل يعلم أن فيها سجدة، ويمر دون
أن يسجد؛ مخافة أن يسجد المأموم لسماع آية السجدة ويكون الإمام لم
يسجد، فإن كان يريد أن يسجد فيها فليقرأ وليسجد، وإن كان لا يريد
أن يسجد فيها فلا يقرأها؛ لئلا يوقع ارتباكاً عند الناس.
حكم تخصيص قراءة سورة السجدة في صلاة فجر يوم الجمعة
يأتي هنا سؤال: لماذا خصت سورة السجدة بصلاة الفجر يوم الجمعة؟ ينص
ابن تيمية رحمه الله وغيره من الأئمة؛ أن يوم الجمعة هو يوم
آدم عليه السلام، ويوم الإثنين هو يوم محمد صلى الله عليه وسلم،
بمعنى: أنه جاء في النصوص أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم يوم
الجمعة، وأسجد الملائكة يوم الجمعة، وأسكنه الجنة يوم الجمعة،
وأهبط إلى الأرض يوم الجمعة، وتلقى الكلمات من ربه فتاب عليه يوم(1/479)
الجمعة، ثم جاءت الأحاديث بأن (في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد
قائم يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها ) ، ويوم الإثنين جاء
عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم الإثنين والخميس، فسئل فقال:
(أما يوم الإثنين فيوم ولدت فيه وأنزل علي فيه ) ، وسورة اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ.. [العلق:1]
نزلت في يوم الإثنين، وهجرته ودخوله المدينة في الهجرة كان يوم
الإثنين، ووفاته صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين؛ فقالوا: يوم
الإثنين يوم محمد ويوم الجمعة يوم آدم، فتأتي سورة السجدة،
والإنسان معها وفيها قصة الإنسان، ويوم البعث، وكذلك فيما ذكر
الدهر: هَلْ أَتَى
عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً
مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ
نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان:1-2]
، ويأتي فيها بيان الموعد ويوم القيامة والمصير؛ فقالوا: هذا يوم
خلق آدم فتُقرأ السورتان تذكيراً للمأموم بيوم القيامة وببدء وجود
الإنسان؛ ليعمل لذلك اليوم، فكانت هناك المناسبة لقراءة سورة
السجدة؛ لأن فيها خلق الإنسان، والبعث والمعاد والجزاء، وكذلك سورة
الإنسان؛ لأن البعث والمعاد يوم الجمعة وهذه صبيحة الجمعة، هكذا
يقولون. إذاً: من لم يسجدهما فلا يقرأها، وعليه أن يتجنبهما
ويتركهما. ومما ينبه عليه العلماء أيضاً: أنه لا ينبغي للإنسان أن
يعمد إلى نص السجدة ويقرأها، مثل: فَاسْجُدُوا
لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:62]
، ويسجد، بل يجب عليه أن يأتي بما قبلها.
حكم السجدة إذا كانت في آخر السورة
ومن الأحكام: لو أن السجدة كانت في آخر السورة وقرأها في الركعة
فسجد، فسيكون السجود عند التلاوة قبل الركوع، فكيف يأتي بالركوع:
أينهض من سجوده راكعاً، أو أنه يقف معتدلاً بعد السجدة ثم يركع؟
قالوا: إن صادف في قراءته آية سجدة في نهاية السورة فسجد لها نهض
واستوى قائماً؛ لأن الركوع لا يكون إلا من قيام لا من هبوط في(1/480)
الأرض، فإذا استوى قائماً يقرأ من السورة التي بعد السجدة بعض
الآيات ويركع عن قراءة وقيام، والله تعالى أعلم.
شرح أثر عمر: (إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم
عليه)
قال رحمه الله: [ وعن عمر رضي الله عنه قال: (يا أيها الناس!
إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه )
رواه البخاري ] . بإجماع العلماء أن سجود التلاوة ليس بواجب؛
ولكن كما أشار عمر رضي الله تعالى عنه: أن من سجد فقد أصاب،
إذاً: الصواب هو مطلب كل إنسان، وأيضاً لو تتبعتم -يصعب علي تتبعه
الآن- مواضع السجود الخمسة عشرة في كتاب الله تجدون أنها إما عند
إعظام المولى سبحانه، أو إعظام كتابه الكريم، أو تنويهاً بمكانة
النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذت ما قبل آية السجدة في الخمسة
عشرة موضعاً فستجد ما يوجب السجود ولو لم يأت الأمر به. أي: ستجد
إعظاماً لله، أو إكراماً وتعظيماً لكتاب الله، أو تكريماً لرسول
الله وللدعوة في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى أعلم. ونذكر بعض
النماذج على ذلك، ففي أول سجدة في سورة الأعراف، تجد أن السجود
هناك يتعلق بسجود الملائكة، قال تعالى: إِنَّ
الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:206]
، والآية التي قبلها قوله تعالى: وَاذْكُرْ
رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ
الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205]
، وقبلها: وَإِذَا
قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الأعراف:204]
، فهناك الأمر باستماع القرآن، وهناك الأمر بذكر الله: إِنَّ
الَّذِينَ يعني: هناك قوم تشبه بهم: إِنَّ
الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وهم الملائكة لا يفترون عن ذكر الله، ولا يستكبرون عن السجود، وقد
استكبر من استكبر، وطرد بسبب استكباره، فلا تستكبر أنت وبادر إلى(1/481)
السجود. وهكذا -أيها الإخوة- لو تتبعنا كل مواطن السجود الخمسة
عشرة في كتاب الله لوجدنا المعنى والسياق يدعوك لأن تسجد طواعية
وإعظاماً لله سبحانه، والله تعالى أعلم. قوله: [ وفيه: (إن الله
تعالى لم يفرض السجود إلا أن نشأ) وهو في الموطأ ] . وهذا الأثر هو
سبب كتابتي رسالة: (سجود التلاوة)؛ لأنا لما مررنا على هذا الأثر
في الموطأ ونحن طلبة متأخرون، حاولت أن أجد رسالة مجموعة في سجود
التلاوة فلم أجد، لا للمتقدمين ولا للمتأخرين، ولكنهم ينبهون عليها
منثورة في سور القرآن كاملة، ولكن مباحثها، والخلاف فيها، والراجح
في ذلك، وأحكامها الفقهية؛ لم أجد شيئاً من ذلك، فحاولت بقدر
المستطاع تقريباً لنفسي ولإخواني أن أجمع فيها رسالة فجمعتها
بعنوان: (سجود التلاوة)، وإن شاء الله من يحصل عليها سيجد كل ما
يخطر بباله من مباحث سجود التلاوة من مواضعها المتفق عليه والمختلف
فيه، وقد يكون الخلاف في السجدة في موضعها: هل هو في هذه الآية أو
التي قبلها، وقد يكون الخلاف في أحكامها الفقهية: هل تكون بطهارة
أو بغير طهارة، وهل تكون بسلام أو بغير سلام، وسيأتي هذا وننبه أن
الرسول كبر فسجد.
شرح حديث: (كان يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد)
قال المصنف رحمه الله: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان
النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر
وسجد وسجدنا معه ) رواه أبو داود بسند فيه لين ] . هنا جاء
المصنف بجزئية من الأحكام الفقهية المتعلقة بالسجدة، وهي في قوله:
(كبر وسجد)، هو يقرأ وليس في صلاة، فلماذا كبر؟ بعضهم يقول: هي
تكبيرة للانتقال؛ لأنه انتقل من القراءة إلى السجدة. وبعضهم يقول:
هي تكبيرة إحرام، فيكبر للسجدة كما يكبر لدخوله في الصلاة. ومن هنا
قالوا: هل يسلم أو لا يسلم؟ وهل هي صلاة أو ليست بصلاة؟ والجمهور
بصفة عامة يقولون: إن سجدة التلاوة صلاة، بمعنى: أنك تكون على(1/482)
طهارة، وتستقبل القبلة، مع ستر العورة، وأن تكون في غير أوقات
النهي، ومن عجب! ما ينقل عن ابن حزم -وقد نقلناه في الرسالة-
أنه يقول: إن سجدة التلاوة لا يشترط لها شيء، ويقول: أنتم تقولون:
فيها تكبير، والتكبير في كل وقت، فإذا قلتم: فيها تكبير كتكبير
الصلاة، فالصلاة فيها قيام وقعود، فهل تقولون بالسجود أو بالتكبير
أو بالسلام لكل قيام وقعود؟ وأنا أستعجب من عقلية هذا الإمام
الكبير أن يجعل القيام والقعود كالتكبير للسجدة، فالسجدة خاصة
بالصلاة، ولا توجد سجدة في غير صلاة، أما التكبير فنجده في كثير من
العبادات: نجده في الذكر بعد الصلاة، نجده عند رمي الجمار، نجده
عند أيام العيد، فسبحان الله! بل حتى إذا شب الحريق نكبر، وإذا
لقينا العدو نكبر، فالتكبير ليس خاصاً بالصلاة، وكذلك القيام
والقعود ليس خاصاً بالصلاة، بل يأتي القيام والقعود للأكل والنوم
والمشي والروحة والمجيء. إذاً: هذه التي ذكرها ليست من خصائص
الصلاة فلا تعطى أحكامها، وأما السجود فلا يوجد سجود إلا في
الصلاة، فسجدة التلاوة تشابه سجدة الصلاة، وقد تجمع السجدة بين
الأمرين: بين الصلاة وبين التلاوة، كما لو تلا سورة فيها سجدة،
فسجد وهو في الصلاة، فتكون جزءاً من الصلاة للتلاوة. إذاً: قياس
غير السجدة عليها ليس موافقاً، وبالله تعالى التوفيق.
( كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [4] )
عناصر الموضوع
1 فضل كثرة السجود لله تعالى
2 النوافل التي حفظها ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم
3 هدي النبي صلى الله عليه وسلم في سنن الظهر
4 فضل ركعتي الفجر الراتبة
5 فضل من صلى اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة
6 فضل من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها
7 فضل من صلى قبل العصر أربع ركعات
كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [1]
فرض الله سبحانه وتعالى الصلوات الخمس، وجعل لها من النوافل والسنن ما(1/483)
يجبر نقصها، ويكمل خشوعها، ومن هذه السنن: ركعتا الفجر وأربع قبل الظهر
وبعده، وأربع قبل العصر وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، فمن
حافظ على هذه النوافل بنى الله له بيتاً في الجنة، وحرمه على النار،
فيا فوز الفائزين! ويا نجاح المفلحين!
فضل كثرة السجود لله تعالى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن ربيعة بن مالك
الأسلمي رضي الله عنه قال (قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:
سل. فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك؟ فقلت: هو ذاك،
قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود ) رواه مسلم . هذا
الصحابي الجليل في بعض أخباره كما سمعنا من المشايخ رحمهم الله خدم
النبي صلى الله عليه وسلم، أو أدى له أمراً فأراد النبي صلى الله
عليه وسلم أن يكافئه، تقديراً لعمله، قال: ستعطيني إياه؟ قال: نعم،
قال: أمهلني، فرجع إلى زوجه وأخبرها أن الرسول صلى الله عليه وسلم
قد طلب منه أن يسأله أي شيء مكافأة له على عمل ما، قالت: أويفعل؟
قال: سألته فقال: نعم، قالت: سله مرافقته في الجنة. لم تقل: سله
عملاً أو منصباً أو مالاً، وهي ما هو الذي يخصها من مرافقة زوجها
للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة؟ لو سأل مالاً أو منصباً يمكن
أن تحصل على شيء منه، لكن نقول: فعلت ذلك لأحد أمرين: إما من باب:
النصح لله ولرسوله ولعامة الناس، وهذا من صلاح الزوجة وبركتها
ووفائها لزوجها، أنها تحب له أقصى ما يمكن، فآثرت مصلحته على
نفسها، ووجهته التوجيه العالي، فكم من امرأة أعقل من عشرات الرجال!
وإما من جانب آخر: وذلك أنها ستدخل في قوله تعالى: وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21](1/484)
إذاً: تكون الزوجة ملحقة بالزوج إذا رفع إلى أعلى مراتب الجنة،
وإذا دخل الجميع الجنة مع تفاوت مراتبهم، فيلحق الله الزوجة إلى
مرتبة الزوج لتقر أعين الآباء بالأبناء والأزواج بالزوجات. يهمنا
في هذا التوجيه: أن الرجل أخذ بهذا الرأي فأتى النبي صلى الله عليه
وسلم، فقال له: طلبتني أن أسألك؟ قال: نعم، قال: ووعدتني أن
تعطيني؟ قال: نعم، قال: أسألك مرافقتك في الجنة. لم يطلب مجرد دخول
الجنة، بل طلب مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وهذه مسألة
غير عادية، فمراتب النبيين وعباد الله المكرمين شيء عال، قال له:
أوغير ذلك؟ اسأل مالاً أعطيك، اسأل منصباً أوليك، قال: هو ذاك،
فتمسك الرجل بوعد رسول الله. انظروا إلى سماحة وسعة هذا الدين، هل
قال له: أنا أضمن لك هذا؟ بل وجهه إلى ما يفعله هو، قال: (أعني على
نفسك بكثرة السجود ) فهو يقول له: يمكن أن يكون لك ما أردت
بمساعدة من عندي، بما له صلى الله عليه وسلم من حق الشفاعة، وبما
له عند الله من جاه وطلب وبر، ومن استجابة دعوة، ولكن أرشده إلى
أمر فقال: (أعني على نفسك بكثرة السجود) كثرة السجود توحي بزيادة
سجود مطلقة سواء كانت راتبة مع الفريضة، أو كانت غير راتبة كسنة
مطلقة غير مقيدة لا بزمان ولا بمكان، وهل السجود مراد لوحده فقط؟
السجود هنا بمعنى الصلاة. إذاً: يفتتح المؤلف رحمه الله هذا الباب
بهذا الحديث ليبين أن كثرة التطوع تؤهل إلى مرافقة النبي صلى الله
عليه وسلم، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيمن يكون قريباً منه
في الجنة، أنه قال: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة )، وقال:
(أقربكم مني منزلاً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً )، (أكثروا من
الصلاة عليَّ يوم الجمعة ... ) إلى آخره، فهناك مميزات وأعمال
تدني من تلك الدرجة، ولكن يهمنا في هذا الباب -باب التطوع في
الصلاة- قوله: (أعني على نفسك بكثرة السجود).
النوافل التي حفظها ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم(1/485)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (حفظت
من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين
بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته،
وركعتين قبل الصبح ) متفق عليه. وفي رواية لهما: (وركعتين بعد
الجمعة في بيته ). ولمسلم : (كان إذا طلع الفجر لا يصلي إلا
ركعتين خفيفتين ) ]. بدأ المؤلف رحمه الله يفصل في أنواع
التطوع، وبدأ بالأهم أي: بالسنة الراتبة مع الفريضة ؛ لأن هذه
السنن كان صلى الله عليه وسلم يداوم عليها ولا يتركها، حتى إنه
فاته بعض منها فقضاها في غير وقتها، وفاته بعضها حين اجتمع ببعض
الوفود فقضاها بعد خروج وقتها، كما حدث في فوات الركعتين بعد
الظهر، عندما جاء وفد عبد القيس فشغلوه عنهما حتى صلى العصر، فلما
دخل بيته ذكرهما فصلاهما، فسئل في ذلك: كنت تنهى عن الصلاة في هذا
الوقت، وأنت الآن تصلي؟ فقال: (ركعتان بعد الظهر شغلت عنهما مع وفد
عبد القيس فأنا أقضيهما ). وكذلك ركعتي ما قبل الفجر، في عودتهم
إلى المدينة لما عرسوا في الوادي، فقال: (يا بلال ! اكلأ لنا
الفجر ) فما أيقظهم إلا حر الشمس، فعذره رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ثم قال: (ارتحلوا من هذا الوادي؛ فإن فيه شيطاناً )
فخرجوا من الوادي، وأمر بلالاً بأن يؤذن، فأذن، ثم صلوا سنة
الصبح مع فريضتها، فما تركها حتى وهو في سفر، وكذلك صلاة الوتر.
إذاً: هذه السنن تسمى الرواتب، أي: راتبة مرتبة منتظمة مع الصلوات
الخمس، وابن عمر رضي الله عنه له عدة روايات بعدة صلوات، وابن
عباس وغيره. فبدأ المؤلف بابن عمر فقال: (حفظت من النبي
صلى الله عليه وسلم عشر ركعات) وأخذ يفصلها، وهذا في أسلوب البيان
من باب التفصيل بعد الإجمال، وهذا مما يعطي الإنسان انتباهاً،
ويسهل على الإنسان ضبطه، قال: (حفظت.. عشر ركعات)، ثم أنت الآن
تنتظر التفصيل، هل يأتي بعشر أم بثمان؟ فعندما يأخذ الإنسان(1/486)
الجملة، ثم يبدأ يأخذ التفصيل فإن ذلك يكون أدعى للمتابعة، وللضبط
عند السامع، وهذا أسلوب بياني رفيع يأتينا به ابن عمر رضي الله
عنه، قال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين
قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين
بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح ) وجاءت روايات بزيادة
ركعتين سواء كان مع الظهر أو مع العصر، لكن يهمنا في عدد العشر
ركعات، فحديث ابن عمر : (ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، ثم
ذكر ركعتين بعد المغرب)، أين العصر؟ لم يذكر له شيئاً لا قبله ولا
بعده، وسيأتي له بيان آخر، قال: (وركعتين بعد المغرب في بيته)، أين
بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ في مسجده، ولكن كان متحيزاً عن
المسجد، وهل كل إنسان يصلي ركعتين بعد المغرب في بيته أم أنه إذا
ذهب إلى البيت شغل فذهب الوقت، أم يصليها في المسجد؟ ومن كان بيته
بمنزلة بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد كأبي بكر مثلاً حيث كان بيته بجوار المسجد، والعباس كذلك ومروان ،
فمن كان بيته بمنزلة أو مقارباً لبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
من المسجد، إن كان سيجلس في المسجد ولن يخرج إلى بيته فهل يذهب
ويصلي في بيته ويعود إلى المسجد، أم يصليها في المسجد حيث هو؟
يصليها في المسجد، لكن إن كان صلى المغرب وسيخرج، إن كان بيته
بمثابة بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قريباً من المسجد،
وسيخرج فليصلها في بيته، ولكن لماذا الصلاة في البيت؟ هل البيت
مسجد؟ المسجد هذا يختص بـ (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة )
فلماذا لم يصلها في المسجد لكي يظفر بألف صلاة وذهب وصلاها في
بيته؟ قالوا: البيوت ينبغي أن يكون لها حظ من الصلاة سواء صلاة
النساء اللاتي تسقط عنهن الجماعة، أو صلاة الرجال من السنن
والنوافل، وجاء في الحديث: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )
والمكتوبة تؤدى في المسجد مع الجماعة، والسنن في البيت، فبعضهم(1/487)
يقول: خير صلاة المرء في بيته ويدخل فيها الراتبة، وبعضهم يقول:
لا، لا يدخل فيها إلا الصلاة المطلقة فقط كقيام الليل والضحى؛
بعداً عن الرياء والسمعة، أما الراتبة فالكل يؤديها، ولكن عندما
يصلي الفريضة في المسجد ويخرج إلى البيت يصلي، هل البيت خال أم أن
فيه أناساً؟ لا شك أن البيت فيه أناس، وأقل ما يكون فيه الزوجة
والأولاد، فتكون صلاة النافلة في البيت بمثابة التعليم، ويأخذ
البيت حظه من بركة الصلاة: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً )؛ لأن
البيت الذي لا يصلى فيه كالقبر المهجور، لكن الذي تكون فيه صلاة،
ويسمع فيه القرآن وذكر الله سبحانه وتعالى، هذا تحصل فيه البركة.
إذاً: ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يذكر لنا من النافلة مما
حفظه هو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ركعتين قبل الظهر،
وركعتين بعدها) ثم تخطى العصر، وجاء إلى المغرب فقال: (ركعتين بعد
المغرب في بيته)، وذهب إلى العشاء فقال: (وركعتين بعد العشاء في
بيته) رغم أن هناك نوافل مطلقة بعد المغرب، وكذلك نوافل بعد العشاء
وهي الوتر، ثم ذهب إلى صلاة الصبح. وقد يقول قائل: لماذا لم يذكر
ابن عمر النوافل من أول النهار؟ ولماذا لم يبدأ بالصبح؟ لعل
ابن عمر نظر إلى أول صلاة فريضة من الصلوات الخمس، ونعلم أن
الصلوات الخمس فرضت ليلة الإسراء في الليل والرسول صلى الله عليه
وسلم نزل قبل الفجر وما صلى الصبح، ونزل جبريل ليعلم النبي صلى
الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وكان أول نزوله لتعليم النبي صلى
الله عليه وسلم في صلاة الظهر، فكانت من جهة الفرضية كلها فرضت خمس
صلوات كما في حديث موسى عليه السلام، ولكن التطبيق العملي كانت
بدايته من الظهر. فأقول: لعل ابن عمر رضي الله عنه راعى هذه
الناحية والله أعلم. إذاً: هذه عشر ركعات نسميها: (عشر ابن عمر ) وهي: ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعد الظهر،
وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء. والمؤلف سيأتي بزيادة عن(1/488)
ذلك، سيأتي بأربع قبل الظهر وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، فلماذا
قدم بعشر لابن عمر ؟ لعل المؤلف رحمه الله -وهذا استنتاج
فقهي- ذكر العموم في التطوع في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعني على
نفسك بكثرة السجود ) ثم جاء يبين أقل الرواتب، وأقل صلاة راتبة
هي ما جاءت في حديث ابن عمر ، وما جاء بعد ذلك لا ينهض في القوة
بأن يساوي حديث ابن عمر ، لأنه سيأتي ويذكر لنا أربعاً قبل
الظهر، وهي ليست في التوكيد كالركعتين، وأربعاً بعد الظهر وهي ليست
في التوكيد كالركعتين، وأيضاً سيذكر أربعاً قبل العصر، وليست في
التوكيد كالركعتين كذلك. إذاً: المؤلف بدأ بالعشر وعلى هذا الترتيب
الموجود ليبين أقل الراتبة في اليوم والليلة. قال: [وفي رواية:
(وركعتين بعد الجمعة في بيته )]. عندما قال: وفي رواية:
(وركعتين بعد الجمعة في بيته) فكم زاد على العشرة؟ لا توجد زيادة
في عدد الركعات، لكن هي زيادة تفصيل، أي: كأنه يقول: إذا كان ظهره
جمعة، وصلى الجمعة محل الظهر تكون النافلة ركعتين في بيته، وأما
قبل الجمعة فقد جاء الحديث مطلقاً: (من بكر وابتكر، وصلى ما تيسر
له ) فلم يحدد لا ركعتين ولا أكثر ولا أقل. إذاً: نقول: إن
المؤلف رحمه الله من فقهه وإتقانه قدم حديث ابن عمر في الصلوات
الخمس في بيان أقل الراتبة، والجمعة لها صلاة قبلية وبعدية، ولكن
يختلفون فيها، فمنهم من يقول: نافلة الجمعة كالظهر تؤدى قبل وبعد،
وبعضهم يقول: لا، نافلة الجمعة قبلها ليس لها حد، وبعدها ركعتان،
وبعضهم يقول: أربع ركعات بعدها في المسجد وركعتان في البيت؛ لأن
خير صلاة المرء في بيته.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في سنن الظهر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر، وركعتين قبل
الغداة )رواه البخاري ]. هذا نوع من التفصيل والزيادة، تقول
أم المؤمنين رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم لا يدع)(1/489)
بمعنى: لا يترك، (أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة)، والغداة:
الصبح. فهي تخبر بصورة شاهدتها، وسكتت عن بقية الأوقات الأخرى،
كبعد الظهر وقبل العصر وبعد المغرب وبعد العشاء، ففي هذه الرواية
تقول: (ما كان يدعهما)، لكن نستفيد من هذه الرواية أنه صلى الله
عليه وسلم كان حريصاً ومداوماً عليها، وابن عمر يقول: (حفظت
عشراً.. وذكر ركعتين قبل الظهر)، وعائشة تقول: (ما كان يدع
أربعاً)، كيف نوفق بين هذين الحديثين؟ يقول الفقهاء رحمهم الله:
رواية عائشة جاءت بزيادة أربع، وزيادة الثقة مقبولة، فقالوا:
لعلها تذكر أحياناً أنها رأت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي
أربعاً، و ابن عمر يذكر أحياناً أنه رأى من رسول الله صلى الله
عليه وسلم صلاة ركعتين ولا معارضة في ذلك، أو أنه كان يصلي ركعتين
في المسجد وركعتين في البيت، فابن عمر يرى ركعتي المسجد، ولا
يرى ركعتي البيت، فيكون المجموع الذي كان يصليه النبي أربع ركعات.
والذي يهمنا في هذه الرواية هو المواظبة والتأكيد عليها، أما ما
يتعلق بالصبح فقد جاءت روايات وأحاديث عديدة تبين أنه صلى الله
عليه وسلم ما كان يترك ركعتي الفجر والوتر لا في سفر ولا في حضر؛
ولذا قال الشافعية: إن سنة الصبح سنة مؤكدة، وقال الأحناف: إن
الوتر واجب لا كوجوب الفرض في الصلوات الخمس، بل واجب على اصطلاح
الأحناف، ومعنى ذلك: ما ثبت بنص قطعي من كتاب الله أو سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم متواتراً فهو الفرض، وما ثبت بأخبار
الآحاد فهو الواجب، فيرون أن الوتر قد أتت فيه أحاديث عديدة، وجاء
التحذير من تركه كحديث: (من لم يوتر فليس منا ) قالوا: هذا أمر
خطير، فهو أمر واجب، والواجب على هذا الاصطلاح منزلة بين الفريضة
في الصلوات الخمس وبين النافلة مع الظهر و المغرب أو العشاء،
والجمهور على أن الوتر ليس بفرض وله مبحث سيأتي فيه كيفية وعدد(1/490)
ركعاته إن شاء الله. وقدمنا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان
بعد رجوعه من غزوة خيبر عرسوا ليلة، فناموا حتى طلعت عليهم الشمس،
وفارقوا ذلك الوادي، ثم أمر بلالاً فأذن، فصلوا سنة الصبح وما
تركوها، وإن كان قد خرج وقتها، وإن كانوا في سفر والسفر تقصر فيه
الفريضة، ومع ذلك لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر،
وفي رواية: (صلوها ولو طاردتكم الخيل ) ومع ذلك ليست فريضة؛
لأنه جاء في الحديث: (خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم
والليلة ) إذاً: لا يمكن لإنسان أن يأتي بصلاة يدعي أنها مفروضة
مع الصلوات الخمس لهذا الحديث، فالوتر وسنة الفجر والضحى كل ذلك
خارج عن الفرضية، بمعنى: الواجب عند الجمهور.
فضل ركعتي الفجر الراتبة
قال المؤلف رحمه الله: [وعنها رضي الله عنها قالت: (لم يكن النبي
صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي
الفجر ) متفق عليه]. هذا تأكيد لما تقدم، فلم يكن صلى الله عليه
وسلم أشد تعاهداً -يتعهده ويداوم عليه- من تعاهده لركعتي الفجر،
وهذا يدل على أن ركعتي الفجر من المؤكدات في النوافل، وهي آكد من
غيرها، وقد أشرنا سابقاً بأن كلمة (نافلة) عامة، ويدخل تحتها السنة
والمندوب والتطوع، وأشرنا بأن بعضها يتفاضل عن بعض. [ولمسلم :
(ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها )]. (ركعتا الفجر) يعني:
سنة الفجر، (خير من الدنيا) سبحان الله! ما أقل الدنيا فيما يتعلق
بالعبادة عند الله! وبعض العلماء ينبه تنبيهاً لطيفاً، فيقول:
الدنيا فيها فضائل كثيرة: كالنبوة، والرسالة، والعبادة، وكل أنواع
الخير، ولكن المراد بهذا: ما فيها من الزخارف الملهية كالأشجار
والأنهار والبيوت والقصور والأموال.. إلخ، قال تعالى: زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ(1/491)
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ
مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل
عمران:14] إذاً: (خير من الدنيا وما فيها) أي: من الأمور الدنيوية،
أما العبادات فلا تدخل في ذلك.
فضل من صلى اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله
تعالى عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من
صلى اثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته بني له بهن بيت في الجنة )
رواه مسلم . وفي رواية: (تطوعاً ) ]. نحن حفظنا عن ابن عمر عشر ركعات، وأم حبيبة رضي الله تعالى عنها تقول: (اثنتي عشرة
ركعة). فجاءت هنا زيادة، وكما أشرنا أن الزيادة إذا كانت من ثقة
فهي مقبولة؛ لأنها تتضمن ما كان أقل منها وتزيد عليه، فالاثنتا
عشرة ركعة تتضمن العشر، فهي تشتمل على العشر وتأتي بالزيادة، لكن
لو أنها قالت: ثماني ركعات، فإن في ذلك معارضة لحديث العشر، فإذا
قالت: اثنتا عشرة أو أربع عشرة لا مانع؛ لأن العشر المحفوظة داخلة
ضمن الزيادة، وهو أيضاً على سبيل الإجمال ثم التفصيل. قالت: (اثنتي
عشرة ركعة)، وسيأتي تفصيلها في رواية عند غير مسلم ، الحديث
الأول فيه: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)، وهنا (اثنتي
عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة)، يا سبحان الله! هل نقول:
ما أهون بيوت الجنة أم نقول: ما أعظم أجر الصلاة؟ الجنة ليست
رخيصة، ولكن الثمن يقابل المثمن، والمثمن هنا بيت في الجنة، لو
قيل: لك بيت في المدينة، أو في الحرة من اللِّبن، أو من الحجر أو
عمارة على أن تصلي ألف ركعة.. المسألة صلاة ما فيها مال ولا دينار،
ولكن الصلاة رأس الإسلام وعموده وهي الحق المفروض لله سبحانه
وتعالى ؛ ولأن الصلاة هي أكبر عون للعبد في دينه ودنياه، ولأنها
أكبر حرز للمسلم من الخطايا: وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45](1/492)
ومما يلاحظ أنه قد أتى قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]
مرتين في حق بني إسرائيل، فجاء في حق بني إسرائيل: أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى
الْخَاشِعِينَ [البقرة:44-45]
إذاً: الصلاة كبيرة على بني إسرائيل هذا في الأول، ثم تأتي في حق
هذه الأمة: يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]
فرق بين هذه الآية وبين الآية الأخرى، كأنها ليست ثقيلة، وإن كانت
هي في ذاتها لا شك أنها عبء وتكليف، ولا أقول: ثقيلة في قوله
سبحانه: إِنَّا
سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ
اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل:5-6]
الوحي تكليف ثقيل، ولكن ناشئة الليل تقاوم وتعادل ذلك، فيكون هناك
استعداد، وإمداد بأن يتهيأ لناشئة الليل التي هي أشد وطئاً وأقوم
قيلاً، فيتحمل ما سيلقى إليه من قول ثقيل، لكن المغايرة تعطينا
نوعاً من المفاضلة، ففي حق بني إسرائيل ثقيلة إلا على الذي اتصف
بالخشوع بين يدي الله فإنه لا يستثقل شيئاً، وجاء في بعض أخبار
الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان يصلي، فسقط ركن من
المسجد، فلما انتهى من صلاته وجد غباراً، فقال: ما هذا الغبار؟
قالوا: أولم تسمع ركن المسجد عندما سقط؟ قال: والله ما دريت عنه،
كنت في الصلاة. وجاء عنه أنه كان إذا جلس يتوضأ يصفر وجهه، فقيل:
لماذا يصفر وجهك عندما تتوضأ؟ قال: ألا تدرون بين يدي من أريد أن
أقوم؟ فيهمنا بأن الصلاة لأهميتها إذا حافظ الإنسان على نافلة فيها
يؤجر عليها كما في الرواية الأخرى: (بنى الله له بيتاً في الجنة)
وبيت الجنة لا يستطيع أن يعلم أحد بمواصفاته إلا الله، وجاءت(1/493)
أحاديث أن بعض بيوت الجنة من لؤلؤة واحدة يرى داخلها من خارجها،
كما جاء في حديث زيد بن ثابت مع رسول الله، وجاء في خبر عمر رضي الله عنه إلى غير ذلك. إذاً: الصلوات هي عماد الدين، وتعود على
المصلي بكل خير، وكما أشرنا أنها أكبر حرز له من الخطايا: إِنَّ
الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]
هذا إذا أديت بواجباتها، ورزق الله العبد حسن التلذذ وارتياح
النفس، وطمأنينة القلب بالمناجاة بين يدي الله. إذاً: اثنتا عشرة
ركعة ثمنها بيت في الجنة، ومثل هذا لا يستكثر على المولى، لأن
عطاءه كلام: إِنَّمَا
قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ [النحل:40].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وللترمذي نحوه وزاد: (أربعاً قبل
الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء،
وركعتين قبل صلاة الفجر ) ]. وماذا زادت أم حبيبة على حديث
ابن عمر ؟ ابن عمر قال: (ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها)،
وأم حبيبة اتفقت مع ابن عمر في كل الأوقات ما عدا قبل
الظهر، فزادت ركعتين فيما قبل الظهر، فاتفقت مع ابن عمر في
العشر الركعات، وزادت ركعتين، واتفقت مع عائشة في أربع قبل
الظهر، وبهذا تكون مجموع السنة أو النافلة على ما سيأتي إجماله
اثنتا عشرة ركعة. ويهمنا أن أم حبيبة زادتنا بما تتفق فيه مع
عائشة و ابن عمر ركعتين، وهما في الأربع التي قبل الظهر.
وهذا سؤال: كيف تكون كيفية هذه الركعات؟ أهي أربع ركعات بتكبيرة
واحدة وسلام واحد أم أنها مفصولة ركعتين ركعتين؟ نجد الخلاف في هذا
بسيطاً، فقال البعض: يصلي أربعاً مجموعة، وقال البعض الآخر: لا،
هذه صورة الفريضة، فيجب أن تكون الأربع مفرقة ركعتين ركعتين،
وسيأتي المؤلف بحديث: (صلاة الليل مثنى مثنى)، وفي بعض الروايات
زيادة: (صلاة الليل والنهار), لكن زيادة (والنهار) يردها علماء(1/494)
الحديث بأن سندها غير ثابت، ويرى الجمهور أن الأربع قبل الظهر
ركعتين ركعتين لحديث: (صلاة الليل مثنى مثنى) وهذا حديث صحيح ثابت،
وإذا كانت صلاة الليل مثنى مثنى قالوا: قياساً على صلاة الليل تكون
أيضاً مثنى مثنى، وقالوا أيضاً: لعدم تشبيه النافلة بالفريضة،
وقالوا أيضاً: إن في تفريقها زيادة عبادة، فلو جمعناها لم يكن فيها
إلا تكبيرة إحرام واحدة، ولو فرقناها كان فيها تكبيرتان، ولو
جمعناها ما كان فيها إلا تسليم واحد، ولو فرقناها كان فيها
تسليمان، وكذلك التشهد في الجمع يكون تشهداً أوسطاً، وفي التفرقة
يكون تشهداً كاملاً، وإضافة إلى ذلك يؤتى بالدعاء المأثور بعد
التشهد الأخير. إذاً: تفرقتها أكثر أجراً من جمعها لأنه أكثر
عملاً، وهذا ما يرجح أن صلاة النهار لتلك الأربع تصلى مفرقة.
فضل من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها
قال المؤلف رحمه الله: [وللخمسة عنها: (من حافظ على أربع قبل الظهر
وأربع بعدها حرمه الله تعالى على النار ) ]. هذه خطوة ثانية،
جاءنا حديث ابن عمر وحديث عائشة في جزئية، وحديث أم حبيبة في المجموع، ثم في خصوص الظهر جاء حديث: (من حافظ على أربع قبل
الظهر وأربع بعدها حرمه الله تعالى على النار ) هذا دعاء أم
إخبار؟ بعض العلماء يقول: هذا إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم
عن الله، وهو الصادق في خبره المصدوق فيما أخبر به، وبعضهم يقول:
هذا دعاء، كأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم حرمه على
النار، وسواء كان إخباراً فخبره صدق، أو دعاءً فدعاؤه مقبول عند
الله. إذاً: من وفقه الله وأعانه وحافظ على أربع قبل الظهر وأربع
بعدها فهذا سبيل خير أوسع من الذي قبله، وإذا اقتصر على اثنتين
واثنتين فقد أتى بأقل التطوع، وإذا زاد إلى أربع، نقول: أتى بأكثر
ما جاء به النص.
فضل من صلى قبل العصر أربع ركعات
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال(1/495)
رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله امرءاً صلى أربعاً قبل
العصر ) رواه أحمد و أبو داود و الترمذي وحسنه،
وابن خزيمة وصححه]. خص الظهر بأربع قبلها وأربع بعدها، وجاء في
العصر فقال: (رحم الله امرأً) فهل هذا إخبار أم دعاء؟ إن كان خبراً
فهو خبر صدق، وإن كان دعاءً فهو مقبول؛ ولذا يقول العلماء: ينبغي
للإنسان أن يتعرض لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله
امرأً صلى قبل العصر) أما ما بعدها فيأتي المنع من النافلة. إذاً:
جاء في فريضة العصر أنه يصلي أربعاً قبلها، وكأنه عندما يقول: (رحم
الله امرأً صلى) كأنه يقول: الأمر أهون من غيره، ولكن إن شئت
الرحمة والفضل فصل أربعاً قبل العصر، ولابد أن يعلم أنها في قوة
الطلب ليست كركعتي الفجر، وليست كركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها؛
لأن الطلب هنا فيه ترجيح وترغيب من جهة التعرض لرحمة الله سبحانه
وتعالى.
134422 ( كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [2] )
( كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [2] )
عناصر الموضوع
1 مشروعية الاضطجاع بعد صلاة ركعتي الفجر
2 تقسيم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبلية وتشريعية
3 صفة صلاة الليل
كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [3]
من النوافل التي حث الشارع على المداومة عليها صلاة الليل التي هي أفضل
الصلوات بعد الفريضة، ولا يداوم عليها إلا المجاهدون الصابرون،
الطامعون بما عند الله سبحانه من الرضا والنعيم المقيم، وما من عبد
داوم على قيام الليل إلا أظهر الله ذلك في جوارحه وعلى صفحة وجهه، وكان
ممن يناديه الله في كل ليلة ليتوب عليه ويغفر له.
مشروعية الاضطجاع بعد صلاة ركعتي الفجر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي
الله عنها قالت : (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي(1/496)
الفجر اضطجع على شقه الأيمن ) رواه البخاري . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا
صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن )
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه]. هذه المسألة لها
عند الأئمة رحمهم الله منزلة من حيث المنهج في البحث فيها ، فقول
أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أنه صلى الله عليه
وسلم، كان إذا صلى ركعتي الفجر -أي : قبل الفريضة- اضطجع على شقه
الأيمن) وهذا حديث صحيح متفق عليه. بعدما ساق المؤلف رحمه الله
تعالى هذا الحديث من فعله صلى الله عليه وسلم -والفعل قد يكون
خاصاً به- جاء بالحديث الذي يعم الأمة بصيغة الأمر: (إذا صلى أحدكم
ركعتي الفجر فليضطجع ) هذه صيغة من صيغ الأمر، والأمر يقتضي
الوجوب. ومن خلال هذين الحديثين نجد الخلاف عند العلماء ، ونجد
منهج البحث: أولاً : من حيث الفكرة نجد من السلف من يقول بذلك
ويفعله، ومنهم -وهم الأكثر- من لا يقول بذلك وينكره ، وجاء عن ابن
مسعود أنه قال: (ما بال أحدكم إذا صلى ركعتين تمعك كما
يتمعك..) وذكر حيواناً من الحيوانات يضرب به مثل الخسة، ولا حاجة
لذكره ، وهذا مبالغة في الإنكار.
تقسيم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبلية وتشريعية
ونجد الأئمة رحمهم الله تتبلور عندهم المسائل الخلافية؛ لأنهم
رحمهم الله يأخذون النصوص ويمحصونها ويجمعون أطرافها، وينظرون ما
هي النتيجة، فما وصل إلى الأئمة الأربعة يكون هو خلاصة ما وجد وقيل
من خلاف أو وفاق قبلهم. فنجد عند الشافعي أنه يستحب فعل ذلك،
ونجد عند الحنابلة كذلك الاستحباب، ونجد عند غيرهم من ينكرها
بالكلية كالأحناف، ومنهم من يفصل وهم المالكية فيقولون: إن فعلها
استناناً كره، وإن فعلها جبلة فلا بأس، وسنرجع إليها إن شاء الله.
وقد أبعد ابن حزم رحمه الله فأوجبها، قال: يجب ويتعين على(1/497)
الإنسان ما لم يكن به عذر أن يضطجع على شقه الأيمن، وإذا لم يضطجع
فصلاته باطلة، ثم قال: إذا كان مريضاً لا يستطيع أن يضطجع على
الأيمن لا يضطجع على الأيسر؛ لأنه لا يجزئه، ولكن ويومئ
إيماء.
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم الجبلية
قول مالك : من فعلها جبلة، ما معنى الجبلة؟ الجبلة: الفطرة،
وهي طبيعة خلق الإنسان، فمثلاً: الإنسان من جبلته وتكوينه ومن
فطرته التي فطره الله عليها أن يأكل إذا جاع ويشرب إذا عطش، وينام
إذا تعب، فهنا قالوا: إن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى
قسمين: جبلي وتشريعي. والتشريعي ينقسم إلى خمسة أقسام، والجبلي
كونه يأكل.. يشرب.. ينام.. يأتي النساء؛ لأنه كان يفعل هذه الأشياء
بالجبلة والفطرة قبل أن يوحى إليه، ولأن هذه الأفعال يفعلها المسلم
وغير المسلم لا بتشريع ووحي ولكن بطلب الحاجة إلى الحياة، هذه هي
الجبلة، فأعماله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين أساسيين، وقسم
ثالث يدور بين الجبلة والتشريع.
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التشريعية
أما التشريع: فبيانه صلى الله عليه وسلم لما أجمل من كتاب الله،
وحكم البيان حكم المبين، جاء قوله سبحانه: وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]
لا ندري كيف نصلي! ولا كم نزكي! فلما صعد المنبر، واستقبل القبلة،
وكبر وقرأ وركع، ورفع من الركوع، ونزل القهقرى بظهره حتى وصل إلى
الأرض، وسجد في أصل المنبر، وسجد السجدتين، ثم صعد المنبر وفعل
كذلك حتى تشهد، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي ) فهذا بيان
منه لركن من أركان الإسلام، فيكون هذا البيان حكمه كحكم هذا الركن.
وكذلك الزكاة، بيّن صلى الله عليه وسلم أن من ملك عشرين مثقالاً
وحال عليها الحول ففيها الزكاة وهي ربع العشر، ومن ملك مائتي درهم
من الفضة وحال عليها الحول ففيها العشر، وبين لأصحاب الأنعام أن من
ملك أربعين شاة سائمة طوال العام ففيها شاة، إلى مائة وعشرين ففيها(1/498)
شاتان، ثم بعد ذلك في كل مائة شاة، وبين لأهل الإبل أن في كل خمس
من الإبل شاة إلى عشرين، فإذا وصلت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض
إلى ست وثلاثين، وأنصبة الإبل مسلسلة، وأصحاب البقر في كل ثلاثين
تبيع أو تبيعة. إذاً: بيانه صلى الله عليه وسلم للواجب في كتاب
الله حكمه حكم المبين، فمثلاً: من الأعمال التي تدور بين الجبلة
والتشريع في يوم عرفة، قال: (خذوا عني مناسككم ) فطفنا كما طاف،
وسعينا كما سعى، ووقفنا كما وقف من حيث الزمان والمكان، وأفضنا من
عرفات إلى المشعر الحرام، ونزلنا إلى وادي محسر وأسرعنا، وجئنا إلى
منى فرمينا ونحرنا وطفنا الإفاضة، ورجعنا فمكثنا في منى الأيام
الثلاثة، وأخذنا عنه النسك، ولكن لما كان يوم عرفات: (والحج عرفة )
رأيناه صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن ظهر راحلته، جاء إلى عرفة
قبل الزوال فنزل بالوادي تحت شجرة أراك، فلما زالت الشمس اغتسل
وجاء إلى المسجد فخطب وصلى، ثم جاء إلى الموقف ووقف عند الصخرات،
وظل على راحلته حتى غربت الشمس. وهنا يقال: هل السنة أن نقف في
عرفات على الراحلة؛ لأنه قال: (خذوا عني) أم أنه وقف على الراحلة
لأمر جبلي لا للتشريع؟ وما هي الجبلة؟ أنه أرفق به وأريح له.
فبعضهم يقولون: وقوفه على الراحلة أمر خارج عن حدود الحج. وهو: لما
أراد الحج بعث إلى القبائل: (إني حاج، فمن أراد أن يوافيني،
فليوافني وليحج معي )، فتوافدت القبائل إما إلى المدينة
ورافقوه، وربما تلاقوا في مكة أو في الطريق، فهؤلاء الذين قدموا
ليروا رسول الله أين يطلبونه في عرفات؟ اختار مكاناً معلماً وهو
عند الصخرات، حتى إذا أتى آت يبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يشار إليه من بعيد أنه ذاك الذي عند الصخرات واقف على راحلته.
إذاً: فعله هذا دائر بين هذا وهذا، وليس واجباً على كل إنسان أن
يقف على راحلته أو على سيارته.
تحقيق الخلاف في حكم الاضطجاع بعد ركعتي الفجر(1/499)
عندما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وبعدها اضطجع،
هل هذه الضجعة تابعة للسنة فنتأسى به فيها، أم أنه فعلها لمطلب
الجبلة عنده صلى الله عليه وسلم؟ يقول الشوكاني : فيها خمسة
أقوال: من الأقوال التي جاءت فيها: أنه صلى الله عليه وسلم كان
يقوم الليل، وإلى متى يمتد قيامه؟ كما تبين أنه قال: (صلاة الليل
مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليصل ركعة توتر له ما قد صلى )،
وكان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، ثم يوتر، ثم يضطجع حتى يأتيه
المؤذن، ثم يقوم يصلي كما جاء في حديث أم المؤمنين: (كان ينام حتى
ينفخ، ثم يقوم فيصلي، فأقول له: أتصلي وقد نمت ولم تتوضأ؟ فيقول:
يا عائشة ! تنام عيناي ولا ينام قلبي ) أي: أنه صلى الله
عليه وسلم جعل النوم مظنة انتقاض الوضوء؛ لأنه قال: (العين وكاء
السه ) والسه: حلقة الدبر، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء،
فالنائم يخرج منه الريح وهو لا يدري، لكن إذا كان القلب مستيقظاً
فإنه إذا حدث منه حادث أدركه، ومن هنا كان لا يتوضأ لنومه. وكان
أبو موسى الأشعري عندما كان في الكوفة أميراً عليها يقيل في
المسجد بعد صلاة الظهر، وكان عنده إخوانه، فإذا جاء وقت العصر
أيقظوه، فيقول لهم: أسمعتم شيئاً أو شممتم شيئاً؟ فيقولون: لا،
فيقوم يصلي. أي: أنه لم يخرج منه شيء. والفقهاء يقولون: من قعد
متمكناً ثم نعس وهو على تلك الحال فلا وضوء عليه، وجاء في الحديث:
(إنما الوضوء على من نام مضطجعاً )، والمالكية يقولون: إذا نام
وهو راكع فلا وضوء عليه، وإذا نام وهو ساجد فعليه وضوء؛ لأنه وهو
راكع متوازن، وحافظ لتوازنه، فإذا خرج منه شيء أدركه، أما الساجد
فإنه ينام ولا يدرك شيئاً. فهنا تقول عائشة رضي الله تعالى
عنها عنه إنه كان يقوم الليل، فإذا كانت نهاية الليل في طول القيام
فإنه يحتاج إلى راحة، فقالوا: تلك الضجعة للارتياح بعد قيام الليل،(1/500)
من قال: إن كل من قام الليل فتعب فاضطجع فلا مانع، لكن هل اضطجاعه
سنة أو اضطجاعه جبلة؟ والله لا تقدر أن تحكم بشيء، أقول للإخوة:
ارجعوا في هذه المسألة إلى كلام الشوكاني في نيل الأوطار، فقد
روى هناك حديثاً عن أم المؤمنين عائشة - أعتقد أنه الفيصل في
القضية - تقول: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر، فإن كنت
مستيقظة جلس يحدثني، وإن كنت نائمة اضطجع )، ومن هنا أجمع
العلماء -ما عدا ابن حزم فيما انفرد به -على أن هذا الاضطجاع
ليس بواجب، ويختلفون هل هو مباح أو مكروه أو سنة أو جبلة. ولكن
وجدنا من ينقل عن الخلفاء الراشدين الأربعة النهي عن فعلها، ومن
ينقل عن بعض السلف كابن عمر أنه كان يفعلها، ومنهم من يروي
أنه كان لا يفعلها. والخلاف موجود على هذا النحو المتقدم، فمن
فعلها جبلة فلا بأس، لكن لا يكون ذلك في المسجد فيؤذي الناس، ويأخذ
مكان ثلاثة أو أكثر، لأنه لا ضرر ولا ضرار، فإذا في بيته، وكان
البيت قريباً من المسجد فكيفما شاء، أما في المسجد فإن فعلها يكون
فيه تضييق على الناس، والله سبحانه وتعالى أعلم. فعله صلى الله
عليه وسلم على منهج البحث العلمي دائر بين الجبلة والتشريع، ووجدنا
ترجيح جانب الجبلة في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أنه
تارة يحدثها، وتارة يضطجع. أما حديث الأمر الموجه للأمة: (فليضطجع)
وجدنا أن هذه صيغة أمر، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب مالم تجد صارفاً،
ووجدنا حديث عائشة رضي الله عنها فيه الصارف عن الوجوب، بأنه
صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليه، وإنما كان يفعله تارة ويتركه
أخرى، فانتفى الوجوب بصيغة الأمر الموجه للأمة. والله تعالى أعلم.
صفة صلاة الليل
قال المؤلف: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح
صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى ) متفق عليه. وللخمسة -وصححه(2/1)
ابن حبان - بلفظ: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ) وقال
النسائي : هذا خطأ]. في سياق هذا الحديث الأول: (صلاة الليل
مثنى مثنى ) معروف في اللغة أن (مثنى مثنى) معدول عن اثنين
اثنين، مثنى وثلاث ورباع وخماس وسداس معدول بها عن الأصل، ولذا
يقولون: إنها ممنوعة من الصرف للوصفية والعدل. والمراد هنا:( مثنى
مثنى )أي: كل ركعتين معاً، ويتفق العلماء على هذا الحديث، وربما
وقع خلاف في الزيادة، ونريد أن نجعل البحث في مطلق صلاة الليل دون
التعرض للوتر؛ لأن الوتر له بحث مستقل. البحث الآن في مطلق قيام
الليل وهو التهجد، لنعرف كيف يقوم الليل من وفقه الله سبحانه لذلك!
ثم ننتقل من صلاة الليل إلى صلاة النهار، فقيل: الحديث المذكور كان
جواباً لسؤال، سأله رجل: كيف أصلي الليل يا رسول الله؟! قال: (صلاة
الليل مثنى مثنى ) أي: ركعتين ركعتين، ولهذا قالوا: لا ينبغي
لأحد أن يزيد في صلاة الليل عن ركعتين دون أن يسلم.
قياس صلاة النهار على صلاة الليل
ولنأت إلى صلاة النهار، وقد جاءت الزيادة فيه هنا (صلاة الليل
والنهار) جاء ابن خزيمة والنسائي وقالا: هذا غير صحيح، أي:
إضافة (والنهار)، على أن هذه الإضافة غير صحيحة، فبعض العلماء جاء
وقال: (صلاة الليل)، مفهوم ذلك كيف تكون صلاة النهار؟ هذا الجواب
وارد، فقالوا: إن لم تصح زيادة: (والنهار)، ونقتصر على قوله صلى
الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى ) وقفنا عند الصحيح، فما
حكم صلاة النهار؟ فقوم قالوا: مفهوم المخالفة صلاة الليل خلاف صلاة
النهار، وصلاة النهار خلاف صلاة الليل، يعني: صلاة النهار أربعاً
أربعاً، أو ركعتان أنت مخير فيها، فيقولون: مفهوم المخالفة: أنه
ترك صلاة النهار ولم يتعرض لها، وإنما نص الحديث على صلاة الليل،
فنحن نعمل الحديث نصاً في صلاة الليل، ونذهب نجتهد في مفهوم
المخالفة في صلاة النهار؛ فإن شئنا جعلناها مثنى، وإن شئنا جعلناها(2/2)
أربعاً أربعاً، وقد جاءت النصوص: (من صلى أربعاً قبل الظهر وأربعاً
بعدها...الحديث ).. (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً )
فهل هي مفرقة أم مجموعة؟ بل هي مطلقة لم يأت نص يبين حالها، فقوم
قالوا: نقيسها على صلاة الليل، ونجعلها مثنى مثنى، وتكون كل صلاة
النهار مثنى مثنى لا بالنص الزائد: (والنهار)، ولكن قياساً على
صلاة الليل. إذاً: منهج البحث العلمي هنا: قوم قالوا بالقياس دون
الاعتماد على الزيادة:(والنهار ) والقياس معتمد. وآخرون قالوا: لا،
هذا نص خاص بصلاة الليل، فهي مقيدة بمثنى مثنى، والنهار نحن غير
ملزمين لا بأربع ولا بركعتين ركعتين. ولنأت إلى التفصيل عند الأئمة
رحمهم الله، فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله، لك أن تصلي
الأربع ركعات مجموعة، والأئمة الثلاثة يقولون: الأولى أن تفرقها
كما فرقت صلاة الليل؛ لمرجحات كثيرة؛ لأن القاعدة في المسائل
الخلافية إذا لم يوجد نص يرفع الخلاف، ولم يوجد ما يرجح أحد
الجانبين من النصين بحثنا عما يرجح الخلاف من بعيد، قالوا: إذا
صليتها أربعاً بدأت بتكبيرة الإحرام، وجلست في الثانية وقرأت
التشهد الأول وقمت، وفي الرابعة تشهدت ودعوت وسلمت، فحصلت الأربع
الركعات بتكبيرة واحدة، وسلام واحد، وتشهد كامل واحد، فإذا صليتها
مفرقة كانت كل ركعتين بتكبيرة إحرام وتشهد كامل، وتسليم ودعاء مع
التشهد، ويمكن دعاء الاستفتاح أيضاً، وإذا كانت مفرقة فهي أكثر
لذكر الله، فمن هنا قالوا: الأولى والأرجح أن تصلى مفرقة. وجماعة
وسعوا قليلاً وقالوا: ما دام أنها مثنى مثنى، وجاء في النهار صلاة
أربع مجملة، فنحافظ على مثنى مثنى في الليل، وأما في النهار فيكون
ممنوعاً صلاة ركعة وتسليمة، أو ثلاث ركعات وتسليمة، أو ست ركعات
وتسليمة، لأن غاية ما جاء به النص أربعاً، والنص الآخر: (مثنى
مثنى) ويقاس عليه، فليس عندنا نص يفيد أن نتطوع بست ركعات في(2/3)
تسليمة واحدة، فإذا تجنبنا الركعة الواحدة المفردة في النهار
والثلاث والست بسلام واحد كان كل صورة بعد ذلك إما أربع كما جاء في
سنة الظهر والعصر، وإما اثنتان كما جاء في صلاة الليل، هذا خلاصة
ما يقال في صلاة الليل والنهار.
فضل صلاة الليل
قال المؤلف: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد الفريضة: صلاة الليل )
أخرجه مسلم ]. هذا فيه بيان المفاضلة في النوافل، ونحن نعلم
بأن صلاة الليل نافلة، والنص الكريم يقول: وَمِنْ
اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79]
نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (لك) وبقية المسلمين هل
تكون لهم نافلة أم تطوعاً منهم؟ يقول علماء التفسير في التدقيق في
هذه المسألة: إن قيام الليل بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم
نافلة، والنافلة بمعنى: الزيادة، لماذا كانت صلاة الليل زيادة
بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لأنه صلوات الله وسلامه
عليه قد غفر ما تقدم له من ذنبه وما تأخر، وصلاة الفريضة قد تنقص
في حق الأمة، فجاء قوله: (انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فاجبروا بها
فريضته )، فريضة الأمة كأفراد من حيث هم محتملة للنقص، فإذا وقع
نقص في فريضة جبر من النافلة، وقد تستغرقها، ولكن بالنسبة للنبي
صلى الله عليه وسلم هل يحتمل في فريضته نقص يحتاج إلى جبران؟ لا،
إذاً: صلاته كاملة، فالتطوع الذي سيكون منه سيتوفر له كاملاً، وهل
هذا يكون لغيره؟ لا، إذاً: التنصيص القرآني: وَمِنْ
اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79]
لأنه صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى تلك النافلة في جبران
فريضته، بينما آحاد الأمة يحتاجونها، فقد لا تسلم تلك النافلة.
وهنا يرشدنا صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصلاة بعد الفريضة هي
صلاة الليل، وصلاة الليل تجمع عدة مسائل أو صفات تؤهلها وتجعلها(2/4)
فعلاً أفضل صلوات بعد الفريضة: أولاً: ما يلحق الإنسان فيها من
مشقة؛ لأن صلاة الليل يرى كثير من العلماء أنها لا تعتبر تهجداً
إلا إذا كانت بعد نوم، أما إذا كان سهران وما جاءه نوم حتى الساعة
الثالثة أو الثانية والنصف بعد نصف الليل وقال: أصلي، فهو لم يتهجد
بعد نوم، وما كلفته، لكن إذا كان نائماً مستغرقاً في النوم، وفي
حاجة إلى هذا النوم، ويقهر نفسه ويغالب غريزته، ويجتذب نفسه من
فراشه، ويتوضأ ويصلي، كان هذا عملاً فيه جهاد كبير، وهنا يصادف
قيام الليل الثلث الأخير من الليل، وفيه الحديث النبوي: (إذا كان
ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فينادي: هل من سائل
فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من داع فأجيبه؟ )، في هذه
اللحظات المولى سبحانه وتعالى يتودد إلى عباده، فالذي يصلي من
الليل يصادف تلك اللحظات التي فيها النداء من الله سبحانه، إذاً:
تصادفه من حيث الزمن والملابسات من تجلي المولى سبحانه لعباده،
وتدل على شدة الرغبة في الخير، وكذلك أيضاً الناس نيام، فهذا قام
من ليله، بينما الآخرون مستغرقون في نومهم، وفرق بين من ينعم في
نومه وبين من ينعم بمناجاة ربه. كان ابن عمر رضي الله عنه
ينتهز نوم الناس في القيلولة فيقوم ويصلي، ويقال عنه: يحيي
القيلولة؛ وإن كان قد جاء الحديث أن نومة القيلولة تعين على قيام
الليل، وابن عمر رضي الله تعالى عنه له قصة ودافع في ذلك، قال
صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل )،
فقد جاء أنه رأى رؤيا، حيث رأى نفسه على حافة النار، فسمع منادياً
يقول: (لن تراع! لن تراع) أي: لا تخف، فنجا منها، وقبلها كان يقول
في نفسه كما يعبر هو: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى
الصبح التفت لأصحابه وقال: هل رأى أحد منكم من رؤيا؟ )، فمن كان
يرى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعبرها له، وقال(2/5)
صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من
النبوة، يراها الرجل الصالح أو ترى له ) وهذه النسبة جاءت كما
يأتي: واحد من ستة وأربعين، قالوا: إن مدة الوحي كانت قسمين: وحي
بالرؤى، ووحي بالملك، فالوحي الذي كان بالرؤى مدة وجوده صلى الله
عليه وسلم يتعبد في غار حراء، كان يرى الرؤيا ليلاً فتأتي صباحاً
كفلق الصبح، كأنه يقرؤها من كتاب، ثم جاءه الوحي: اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]
قالوا: كم كانت مدة الوحي بالملك؟ ثلاث وعشرون سنة، ثلاث عشر سنة
في مكة وعشر سنوات في المدينة، وستة أشهر بالنسبة للسنة كم؟ النصف،
اضربها في اثنين، كل سنة نصفين، فهنا الوحي المباشر ثلاثة وعشرون
في اثنين فتكون ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فمدة الرؤيا بالنسبة
لمدة الوحي نصف سنة من ثلاث وعشرين سنة، فتكون النسبة صحيحة. وهكذا
الرؤيا الصادقة أو الرؤيا الصالحة كثير من الناس يرى الرؤيا فيصبح
يراها موجودة في الفعل، أو من الغد أو قريب من هذا الباب فيقول ابن
عمر : (كنت أقول: إن من يرى رؤيا صالحة يكون عنده شفافية في
روحه، ويكون عنده نور في بصيرته، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرأيت أني على حافة النار أو
جب فيه النار، فجاء ملك أو قال شخص: لن تراع لن تراع، فقصصتها على
حفصة ، فقصتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله
عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل )، فأخذ
العلماء من هذا أن قيام الليل ينتج عنه النجاة من النار؛ لأنه رأى
أنه على حافة النار، والرسول أرشده إلى ما ينجيه منها، فما كان
يترك قيام الليل بعد ذلك حتى زاد قليلاً فكان يحيي القيلولة زيادة
في الخير وحرصاً عليه.
المفاضلة بين ركعتي الفجر وصلاة الليل
إذاً: أفضل الصلاة بعد الفريضة -يعني: أفضل النوافل- صلاة الليل،
وعندنا حديث أنه ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد تحرياً(2/6)
لصلاة بعد الفريضة من سنة الفجر والوتر، فهل تكون صلاة ركعتي الفجر
آكد من صلاة الليل؟ الآكد شيء، والفرضية شيء، والفضيلة شيء، فكما
قالوا: الخصوصية لا تقتضي التفضيل، فمثلاً: زيد بن ثابت قال
فيه رسول الله عليه وسلم: (أفرضكم زيد ) ومعاذ بن جبل أعلمهم بالحلال والحرام، أبو عبيدة أمين هذه الأمة، هذه خصائص
لأشخاص وأفراد، فهل تخصيصهم بهذه الخصائص فضلهم على أبي بكر وعمر ؟ ما فضلوا عليهم. فهنا خصيصة صلاة الليل تبعد عن صلاة
النهار، وليس معنى ذلك أنها أفضل مما أكد عليه صلى الله عليه وسلم،
أو يقال: هذه سنة راتبة مرتبطة بفريضة فهي تدعو إليها، أما قيام
الليل فليس براتب، وليس مربوطاً بفريضة، إنما هو عبادة مستقلة؛
ولهذا عظم شأنها، وفضلت في الأجر على غيرها، والله تعالى أعلم.
134430 ( كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [4] )
( كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [4] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث عائشة في بيان عدد ركعات صلاة الليل
2 لمحة تاريخية لصلاة التراويح منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى
العصر الحاضر
3 هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل
4 هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الوتر
كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [5]
لقد سن النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل لهذه الأمة، وما منعه من
جمع الناس في المسجد إلا خشية أن يفرض عليهم، ولذا فإنه لما جاء عمر بن
الخطاب رضي الله عنه بعد انقطاع الوحي، قام بجمع الناس على إمام واحد
في المسجد، فصارت صلاة القيام سنة تؤدى جماعة في المسجد إلى يومنا هذا،
وصارت شعاراً للمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
شرح حديث عائشة في بيان عدد ركعات صلاة الليل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي
الله عنها قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في(2/7)
رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً، فلا تسأل عن
حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي
ثلاثاً، قالت عائشة : قلت: يا رسول الله! أتنام قبل أن توتر؟
قال: يا عائشة ! إن عيني تنامان ولا ينام قلبي ) متفق عليه،
وفي رواية لهما عنها: (كان يصلي من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة،
ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة ركعة ) ]. هذا الحديث قد
تميز بموضوع مستقل، بمعنى: أنه يدخله العلماء في مباحث صلاة
التراويح، وذلك لقولها رضي الله تعالى عنها: (في رمضان ولا في
غيره) ومعلوم صلاة رمضان أنها صلاة التراويح. والحديث حول هذا النص
الصحيح يتناول الكيفية والكمية، فإذا وقفنا على تلك الكيفية
والكمية انتقلنا إلى ما عليه التراويح، وما أخذته من مراحل وتطور
في هذا المسجد النبوي الشريف إلى نهاية عهد التشريع والتطبيق
العملي من الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عليهم.
أهمية اتباع النبي في كيفية صلاة التراويح
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما زاد -(ما)
هنا نافية- رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على
إحدى عشرة ركعة، وإلى هذا الحد كأنه يقال: لا زيادة في التطوع
ليلاً في رمضان ولا شعبان ولا شوال على ثمان ركعات، هذا هو النص في
الكمية، ولكن هل بقي الأمر على ذلك؟ نأتي إلى الكيفية: (يصلي
أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن
وطولهن)، لماذا لا أسأل؟ لأنه فوق ما تتصور من الإجابة، ومما تتوقع
أن يصليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه ثمان ركعات: أربع
وأربع؛ (ثم يصلي ثلاثاً) فيكون المجموع إحدى عشرة ركعة، (ثم يصلي
ركعتي الفجر) فيكون ذلك ثلاث عشرة ركعة. الثلاث لم تبين لنا
كيفيتها، ولكن في الثمان ذكرت التطويل والحسن. يأتي في حديث أنس وغيره عنها رضي الله تعالى عنها أنه كان يقرأ قائماً في الركعة(2/8)
الأولى البقرة والنساء وآل عمران، أو يقرأ البقرة أو آل عمران، ثم
يركع نحواً من ذلك، ثم يرفع نحواً من ذلك، ثم يسجد ويقول: سبحان
ربي الأعلى نحواً من قيامه، ثم يجلس ويحمد الله، ويسأله نحواً من
قيامه، ثم يسجد ويقول: سبحان ربي الأعلى نحواً من اعتداله. وتقول
في قراءته: (ما مر بآية مغفرة إلا سأل، وما مر بآية عذاب إلا
استعاذ) وهكذا تبين القراءة ترتيلاً وسؤالاً وتأملاً واستعاذة.
يقول ابن حجر : إن هذه الكيفية لتعطي الركعة ما يعادل ساعتين،
ولعله يقضي الليل كله في هذه الثمان ركعات. نحن نأتي إلى قولها:
(ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره)، فبعض الإخوة يأخذون الحديث
يقسمونه قسمين: قسم يأخذون به، وقسم يهملونه، ويقولون: لا تراويح
إلا ثماني ركعات؛ لحديث عائشة : (ما كان يزيد في رمضان ولا في
غيره..) لكن لفظ: (عن حسنهن وطولهن) أين ذهبت؟ قال: هذه ذهبت مع
رسول الله .. فيقال: سبحان الله! أنتم تأخذون ذلك سنة، وتمنعون
الزيادة، لماذا؟ فإذا كنتم تريدون تطبيق السنة وفعلتم ذلك، فكان
يكفي منكم أربع ركعات بدلاً عن ثمان، وهي خير من عشرين.. وثلاثين..
وأربعين ركعة على النحو الموجود الآن، لكن تعجزون عن ذلك، والسلف
رضوان الله تعالى عليهم لهم مع التراويح مشوار طويل، لكن يهمنا في
هذا النص أن نبين للإخوة خطأ التمسك بجزء من ظاهر هذا النص، وترك
الجزء الثاني مع أنه نص لا يتجزأ؛ لأن الكيفية تابعة للأصل، وكما
يقال: (الحال يأتي لبيان صاحبه)، فيقال: صلوا ثمان ركعات لكن على
الحال التي فعلها صلى الله عليه وسلم، لا تأخذ ثمانية وتجعلها
تقليداً وليست كالأصل، والسلعة الأصيلة لا يمكن أن تجارى بسلعة
تقليدية لها. إذاً: لا حجة لمن تمسك بثمان ركعات في رمضان، ثم نقول
مرة أخرى: هل يا ترى عندما اقتصرتم على الثمان ركعات في رمضان، هل
داومتم عليها بقية السنة؟ لا أدري ما الجواب .. فالجواب عندهم!(2/9)
لأنها تقول رضي الله عنها: (في رمضان ولا في غيره) وقيام الليل
يقول بعض العلماء: كان فرضاً عليه .. نَافِلَةً
لَكَ [الإسراء:79]
وقد عرفنا معنى (نافلة لك)، فكان يداوم على ذلك. إذاً: من أخذ
بالثمان على تلك الكيفية وداوم عليها في رمضان وغيره فجزاه الله
خيراً، لكن يترك الصلاة طوال السنة، ويأتي إلى رمضان فيأخذ العدد
فقط ويترك الكيفية، فهذا أخذ بالنقيضين. إذاً: هذا الحديث لا مستند
لأحد فيه.
الدليل على أن ا لنبي لم يكن يقتصر في الليل على ثمان ركعات
ثم نأتي مرة أخرى لحديث عائشة بنفسها، وهو عندكم في منتقى
الأخبار، وشرحه الشوكاني رحمه الله؛ تقول أم المؤمنين عائشة : (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط، وما دخل بيتي
إلا وصلى أربعاً أو ستاً ). كلمة: (ما صلى.. وما دخل) تدل على
الاستمرار، أي أنه كان يصلي أربع ركعات أو ست ركعات عندما يدخل
بيتها بعد صلاة العشاء، ثم بعد ذلك من منتصف الليل أو ما يقاربه،
يقوم فيصلي الركعات الثمان، فإذا جئنا وجمعنا مجموع ذلك وجدنا أنها
أكثر من ثمان. ولها حديث آخر قالت فيه: (كان يفتتح قيام الليل أو
صلاة الليل بركعتين خفيفتين )، كأنها تمرين، ثم يدخل في
الإطالة، وفي بعض رواياتها: (ثلاث عشرة ركعة) وست بعد صلاة العشاء
مباشرة، إذاً: كم تكون؟ تسع عشرة ركعة، ثم ركعتان خفيفتان كم تكون؟
إحدى وعشرين ركعة، فجمع عمر الناس على إحدى وعشرين ركعة!
فالذين يعيبون على عمر يقولون: ابتدعها عمر ، لا والله،
عمر لم يبتدعها، ولكن استنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لمحة تاريخية لصلاة التراويح منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى
العصر الحاضر
وإذا تركنا هذا جانباً وجئنا إلى المنهج أو السيرة التاريخية وسبق
أن كتبنا في ذلك من عشرات السنين، رسالة التراويح أكثر من ألف عام
في مسجد النبي عليه السلام؛ رداً على أولئك الذين يقتصرون على(2/10)
الثمان في رمضان، ويدعون الناس إليها، ولا تكون في أنفسهم، والذي
يتبين من دارسة هذا الموضوع تاريخياً نعلم جميعاً أن مبدأ التشريع
ومصدره من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ماذا كان موقفه وعمله صلى
الله عليه وسلم في التراويح؟ وماذا كان عمل خلفائه الراشدين رضوان
الله تعالى عليهم؟ وإلى متى استقر الأمر عند علماء الأمة؟ نجد
ابتداء حديث أبي هريرة الذي تقدم التنويه عنه: (إن الله قد فرض
عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه ) وجاء الحديث: (من صام رمضان
إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً
واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) قام رمضان.. لم يحدد ولم
يعين، ثم عموم صلاة رسول الله، نجد القرآن الكريم يقول: قُمْ
اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ
مِنْهُ قَلِيلاً [المزمل:2-3]..
سبحان الله! إِنَّا
سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5]
إلى آخره، فالقرآن في قيام رسول الله، وتكليفه بقيام الليل لم يحدد
له عدد الركعات، وترك الأمر إليه (نصفه أو ثلثه أو زد عليه) سبحان
الله العظيم! إذاً: لا يوجد تحديد في الآيات. وحديث أبي هريرة يبين لنا أن الأمر في بدايته كان للترغيب، ولرغبة أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم في الخير بادروا، فكانوا يقومون رمضان فرادى،
ثم بعد ذلك وجد قراء يقرءون، وفي المسجد جماعات، وكان العامة أو
الناس يصلون أوزاعاً وراء من يقرأ القرآن، وكانوا يتبعون حسن الصوت
فيصلون وراءه، إذاً: كانت التراويح في الطور الثاني تقام جماعة مع
من يقرءون القرآن، ويتبع الناس من كان أحسن الناس صوتاً، استمر
الأمر كذلك، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فعله.
صلاة التراويح في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
ويروي المروزي ، وهو أوسع من جمع في قيام الليل، عن النبي صلى
الله عليه وسلم عدة صور: منها: أنه خرج على أناس يصلون خلف أناس(2/11)
يقرءون، فقال: ما بال هؤلاء؟ قالوا: قوم ليس معهم قرآن يصلون خلف
من معه قرآن، وذلك في رمضان، وهناك رواية تقول: (فسكت وترك )،
ورواية تقول: (أحسنوا )، وفي رواية: (ونعم )! ونأتي مرة أخرى
أنه صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة قال: انصبي لي حصيراً يا
عائشة على باب الحجرة، فنصبت حصيراً على باب حجرته، فصلى
العشاء ودخل البيت، ثم قام من نصف الليل فصلى وصلى وراءه من كان في
المسجد، ثم كذلك من الليلة الثانية، فتسامع الناس وجاءوا وصلوا
وراءه أكثر مما كانوا بالأمس، وتختلف الرواية في أنه حدث ذلك في
ليلتين أو ثلاث، أو ليلة واحدة، وأخيراً صلى العشاء وخرج ثم نظر
إلى المسجد وهو غاص بالناس. تقول عائشة : كاد المسجد أن لا
يحمل أهله، فقال: ما بال الناس يا عائشة ؟ قالت: ينتظرون
خروجك، لقد تسامعوا بصلاتك وصلاة أقوام خلفك البارحة، فجاءوا
ينتظرون ليصلوا بصلاتك كما صلى أولئك، فقال: اطوي عنا حصيرك. ثم
أصبح وقال لهم (والله ما بت بحمد الله غافلاً ليلتي هذه، وما خفي
علي صنيعكم، ولكني خشيت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم ). إذاً: ما
منعه من الخروج إليهم إلا خشية أن تفرض، وهذا يتضمن تقرير الصلاة
جماعة. ثم يأتي حديث أنس مرة أخرى، يقول أنس : (صمنا مع
النبي صلى الله عليه وسلم فما قام بنا نصف الشهر، ثم لما كان ليلة
ثلاث وعشرين قام بنا، وصلى بنا إلى ثلث الليل، ولم يقم أربعاً
وعشرين، فلما كان ليلة خمس وعشرين صلى بنا، ولم يقم ليلة ست
وعشرين، فلما كان ليلة سبع وعشرين قام بنا وأيقظ أهله، وصلى إلى
ثلثي الليل. فقلنا يا رسول الله! هلا نفلتنا بقية ليليتنا؟ قال
صلوات الله وسلامه عليه: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية
ليلته ). وهنا في الليلة الأولى قام إلى ثلث الليل، وفي الثانية
إلى نصفه، وفي الثالثة إلى ثلثيه، ولم يرد لنا عدد ركعات الصلاة،
ولكن عرفنا زيادة الزمن، فهل يا ترى كانت تلك الزيادة هي عدد ركعات(2/12)
أم أنها تطويل في القراءة؟ الله تعالى أعلم، إنه اجتهاد زائد عما
قبله. وجاء أيضاً: (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر شد
المئزر، وطوى فراشه، وأيقظ أهله ) أي: يجتهد في العشر الأواخر
أكثر مما كان يجتهد في العشرين قبلها، وبأي نوع يكون الاجتهاد هل
بزيادة الركعات أم بتطويل القراءة؟ الله أعلم، لكن هناك زيادة في
العبادة في العشر الأواخر. وهنا لما كان منه صلى الله عليه وسلم
أنه صلى بمن خلفه دون أن يشعر بهم، وفي بعض الروايات: (فشعر بنا
فخفف الصلاة، فقلنا: أشعرت بنا؟ قال: نعم، وهذا الذي حملني على ما
صنعت )، وفي بعض الروايات جاء: (وهو لا يشعر بنا )، وهو لا
يقر على باطل، فلو أن صلاة التراويح جماعة في المسجد باطلة لا تجوز
ما أقره الله على ذلك، ثم باختياره قام ليلة ثلاث وخمس.. وسبع..
وأيقظ أهله، هذا في عهده صلى الله عليه وسلم.
صلاة التراويح في عهد أبي بكر رضي الله عنه
ثم بعد ذلك جاء عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ولم يأت تجديد
لصلاة القيام. وكلنا يعلم أن خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه
كانت خلافة كفاح وجهاد في تثبيت الدعوة؛ لأن كثيراً من الأعراب قد
نكثوا العهد، وهناك من ادعى النبوة، فقام الصديق رضي الله
تعالى عنه لقتال المرتدين حتى يثبتوا على دين الله، فما كان عنده
متسع فيما يسمى بتشريع جديد. ولكن في خصوص التراويح يروي لنا ابنه
عنه قوله: (كنا نقوم رمضان ونتكئ على العصي من طول القيام، ثم
ننقلب ونتعجل الخدم خشية الفلاح) يعني: خشية السحور، فكان هنا
تطويل! فكانوا يقومون الليل حتى يعتمدوا على العصي، ويرجعون إلى
البيوت يتعجلون السحور مخافة الفجر، إذاً: هل نقدر هذا التطويل أنه
عدد ركعات زائدة أم أنه تطويل في القراءة؟ إن الاتكاء على العصي
ليوحي بتطويل القراءة لا بعدد الركعات، فهذا طور قد مضى.
صلاة التراويح في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه(2/13)
ثم جاء عهد عمر رضي الله تعالى عنه، فخرج ذات ليلة ووجد الناس
يصلون أوزاعاً، فقال: لو جمعت الناس على إمام واحد لكان خيراً، ثم
استدعى القراء، واستقرأهم، فكان منهم البطيء ومنهم السريع، فأمر
البطيء بأن يقرأ بخمس وعشرين آية في الركعة، والسريع أن يقرأ
ثلاثين آية في الركعة، وأمرهم بصلاة عشرين ركعة. فكان في عهد أبي
بكر تطويل في القيام حتى وصل إلا الاتكاء على العصي، وفي عهد
عمر يشق على الناس الاستمرار في ذلك، وهو الذي يقول في صلاة
الفريضة: (لا تبغضوا الله إلى خلقه، يقوم أحدكم في الصلاة فيطول؛
فيمل الناس؛ فيكرهون)، هكذا يقول رضي الله تعالى عنه. إذاً: ليس من
هديه إطالة القراءة وطول القيام حتى يمل الناس، فعوض طول القراءة
بأن جعل القراءة ثلاثين أو خمساً وعشرين آية في الركعة الواحدة،
وأمرهم أن يصلوا عشرين ركعة. وهناك نصوص جاءت عن أبي بن كعب وغيره أنها: ثمان ركعات.. عشر ركعات بدون تحديد، وهذا قد انقضى
أمره، فلما جاء عمر وجمعهم على إمام واحد، جعل إمامين للرجال
يتناوبان، وإماماً للنساء، وفي عهد أبي بكر تقول عائشة رضي
الله تعالى عنها: (كنا نأخذ الصبية من الكتاب يصلون بنا قيام
رمضان، ونصنع لهم القلية)، وهي نوع من الطعام. إذاً: كان هناك
تغيير، ومعلوم أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لم
تأخذ الصبيان وتجعلهم أئمة للنسوة في المسجد، فبيتها أولى بهذا،
ولأن في زمن عمر جعل إماماً للنساء يعجل بهن الصلاة؛ ليرجعن
إلى بيوتهن، وإماماً للرجال يتناوب مع زميله للرجال على نحو ما
تقدم من قراءة ثلاثين أو خمس وعشرين آية.
صلاة التراويح في عهد عمر بن عبد العزيز
واستمر الأمر على ذلك إلى أن جاء عهد عمر بن عبد العزيز رضي
الله عنه، وهو على رأس المائة، فماذا كان الحال؟ بلغت التراويح في
هذا المسجد إلى ست وثلاثين ركعة، وما الذي أوصلها؟ أوصلها ما يأتي:
بعض الناس يكتب أشياء لا تدخل العقل منها: كان الأمير له أربعة(2/14)
أبناء، وكان كل ولد يصلي بكذا وكذا.. كلام لا دخل له أبداً.
والصلاة سميت: تراويح؛ لأنهم كانوا يستريحون بعد كل أربع ركعات،
وكان عند أهل مكة فرصة في تلك الترويحة، فيقوم النشيط منهم ويطوف
بالبيت سبعاً، ويصلي ركعتين سنة الطواف، ثم تبدأ الترويحة الثانية،
فأهل المدينة لم يكن عندهم طواف، فما كانت عندهم فرصة يساوون بها
أهل مكة في هذه المنافسة، فنظروا فجعلوا الطواف مقام ركعتين، وسنة
الطواف ركعتين، فهذه أربع ركعات بين كل ترويحة من التراويح،
والعشرون فيها أربع ترويحات. فجاء أهل المدينة وقالوا: عوضاً عن
الطواف نزيد ركعتين، وعوضاً عن ركعتي الطواف نزيد ركعتين، فأربع
ركعات ما بين الترويحات أصبحت ست عشرة ركعة، تضم مع العشرين
الأساسية فتصير ستاً وثلاثين ركعة، ولذا يقول المالكية: لا ينبغي
لأهل قطر من الأقطار أن يفعلوا ذلك؛ إنها خصوصية لأهل المدينة، لأن
أهل المدينة وحدهم هم الذين لهم الحق في أن ينافسوا أو يتسابقوا مع
أهل مكة. فعلى هذا عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه جعل
التراويح ستاً وثلاثين ركعة.
صلاة التراويح في عهد الدولة الفاطمية
واستمر الأمر إلى أن جاء الفاطميون وأزالوا هذه الزيادة، وبقوا على
عشرين ركعة في مكة، وألغوا الزيادة في المدينة، وبقيت العشرون على
ما هي عليه، إلى أن جاء القرن السادس الهجري، وجاء أبو زرعة -وهو الإمام المحدث المشهور، وكان قد تولى إمامة المسجد النبوي
الشريف- وعرف ما كانت عليه التراويح سابقاً، فلم يرد أن يزيد فيما
لم يكن سابقاً، ولم يرد أن يميت ما كان موجوداً من قبل، فأتى بالست
عشرة ركعة مع العشرين، ولكن جعلها في آخر الليل طيلة رمضان.
صلاة التراويح في عهد الدولة العثمانية إلى وقتنا الحاضر
واستمر الحال إلى عهد الدولة العثمانية، ويحدثنا من أدركها يقول:
كانوا ينادون على المنارة الست عشرية، وبعضهم يرسل أشخاصاً بالسعف(2/15)
في الطرقات يطوفون في المدينة يعلمون الناس بوقت الست عشرة ركعة.
ثم جاء العهد الحاضر، فنقصت الست عشرة ركعة إلى عشر ركعات، وجعلت
في العشر الأخيرةمن رمضان فقط، وهو القيام الموجود حتى اليوم. وعلى
هذا أخذت التراويح في هذا المسجد النبوي تتدرج من مطلق قيام:
(وسننت لكم قيامه ).. (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له
ما تقدم من ذنبه ) ثم جاء بعد ذلك: ثمان ركعات، ثم جاء بعد ذلك:
عشرون ركعة، ثم جاء بعد ذلك: ست وثلاثون ركعة، ثم رجعت إلى عشرين
ركعة وست عشرة ركعة مفصولة، ثم رجعت الست عشرة ركعة إلى عشر ركعات،
والله سبحانه وتعالى أعلم.
التحذير من جعل عدد ركعات التراويح موضعاً للخلاف والنزاع
والذي يهمنا في هذا أيها الإخوة: أنه لا ينبغي لإنسان أياً كان هو
بما تبادر عنده أن يجعل عدد ركعات التراويح موضع خلاف ونزاع بين
المسلمين، فإن كنت تريد أن تصلي ثماني ركعات فكما تريد، أو تريد أن
تصلي أربعاً فكما تريد، ولا اعتراض على أحد في ذلك، لأنه تطوع.
تريد أن تصلي مائة ركعة فلا مانع، وكان عثمان رضي الله عنه
أحياناً يقوم الليلة كاملة بركعة واحدة، فلا مانع، ولا حصر لعدده،
اللهم إلا الجماعة للإمام الراتب بأن ذلك أصبح شعاراً خاصاً
برمضان، وللإمام الذي عينه الإمام أي: أن يصلي ويحافظ على هذه
السنة التي تناقلها الناس أربعة عشر قرناً، وما دب الخلاف إلا في
هذا القرن الأخير، والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
أما حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما زاد رسول الله صلى
الله عليه وسلم لا في رمضان ولا في غيره على ثمان ركعات )، فهل
من المعقول أو الإنصاف أو المنهج العلمي، أو الأمانة العلمية، أن
نقتصر على حديث عدد ثمان ركعات ونترك كل ما عداه من الصفات، أو
نترك كل الآثار أو النصوص التي وردت في الموضوع؟ ليس هذا بإنصاف،
وليس هذا بأمانة، والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.(2/16)
قالت عائشة : (قلت: يا رسول الله! تنام قبل أن توتر؟). وكان من
حقه وقد تورمت قدماه، قالت: (فنام، ثم قام فأوتر، فصلى ثلاثاً).
عائشة تعلم بأن من نام مضطجعاً عليه أن يتوضأ، فلما نام قالت:
(تنام قبل أن توتر؟) أي: والوقت قريب، وسترجع مرة أخرى تتوضأ، قال:
(يا عائشة ! إن عيني تنامان وقلبي لا ينام ) يعني: لو نمت
لم ينتقض وضوئي، ولو انتقض لعلمت ذلك، وهذا من خصائص الأنبياء
صلوات الله عليهم، وفي بعض رواية ابن عباس : (وكذلك الأنبياء ).
وهنا صلى ثلاثاً.. على أي كيفية.. صلى ركعتين ثم واحدة منفردة، أم
أنه صلى ثلاث ركعات مجموعة بسلام واحد؟ الأحناف أخذوا بكلمة (ثلاث)
فجعلوها شبيهة بالمغرب، والجمهور فرقوا فجعلوها ركعتين ثم ركعة،
وأخذوا بحديث: (لا تشبهوا الوتر بالمغرب )، وحديث أم المؤمنين
هنا مجمل، وجاء تفصيله في غيره وعليه أخذ الجمهور. (صلى ثلاثاً)،
فهنا ثلاث مع ثمان كان المجموع إحدى عشرة ركعة، وركعتان يفتتح بهما
صلاة الليل أو ركعتي الفجر كان المجموع ثلاث عشرة ركعة، وكما قلنا:
كان يصلي ست ركعات في أول الليل، وثلاث عشرة ركعة في آخره يكون
المجموع تسع عشرة ركعة، وركعتان خفيفتان، فيكون المجموع إحدى
وعشرين ركعة. ولما ذكرت ذلك ابن باز رحمه الله قال: هذا
تلفيق في العدد، قلت: يا شيخ! تلفيق خير من تبديع، عندما نقول: إن
عمر لفق العدد.. التلفيق هذا هو مجموعة أحاديث موجودة، فنعم
الحل، بدلاً من أن نقول: إنه ابتدع ما لم يفعله رسول الله صلى الله
عليه وسلم، إذاً: له أصل من السنة وعن أم المؤمنين عائشة رضي
الله تعالى عنها، فهل أصحاب الثمان أخذوا بهذه الست والأربع أيضاً؟
لا أعتقد أنهم يأخذون بها.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل
قال المؤلف: [ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر في ذلك(2/17)
بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخرها )، وعنها رضي الله عنها
قالت: (في كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى
وتره إلى السحر ) متفق عليهما. ] وهنا تبين لنا أم المؤمنين رضي
الله عنها عن كيفية صلاة الوتر إذا كان أكثر من ركعة، فتقول: إنه
صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر بخمس،
إذاً: كان قيامه ثماني ركعات، أضف إليها الخامسة تكون ثلاث عشرة
ركعة، ثم بينت لنا كيفية وتره، أنه ما كان يجلس في الخمس ركعات إلا
في الركعة الأخيرة، وتقدم لنا في بيان كيفية الوتر بأكثر من ركعة
أن له فيها حالتين أو ثلاث حالات: إن شاء سلم من كل ركعتين، على أن
قيام الليل والوتر شيء واحد، صلاة الليل والوتر من (صلاة الليل
مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة أوترت له ما قد صلى ).
الحالة الثانية: أن يفصل بين قيام الليل في التهجد وبين الوتر، فإن
أوتر بواحدة عقب صلاته فلا إشكال، وإن أوتر بأكثر من واحدة بثلاث
أو بخمس أو بسبع، فإن الثلاث عند الجمهور ليس لها إلا صورة واحدة
إذا جمع الثلاث معاً، وهي: أن يكبر ويصلي الركعات الثلاث، ولا يجلس
في الثانية، ويجلس في الأخيرة ويتشهد ويسلم، ما عدا ما أخذ به
الأحناف من أنه إذا أوتر بثلاث يجلس في الثانية ولا يسلم، ثم يقوم
ويأتي بالركعة الثالثة فيتشهد ويسلم. وعند الفقهاء اصطلاح: الثلاث
مفرقة أو مجموعة؟ فالأحناف يجمعونها بسلام واحد، والجمهور يفرقونها
أو يجمعونها بتشهد واحد. إذاً: الأحناف يصلون الثلاث بتشهدين
وسلام، ولا يفصلون ركعة الوتر عن الشفع قبله، والجمهور إن صلوا
ثلاثاً صلوا بدون تشهد بعد الثانية، وجمعوها نسقاً واحداً، وتشهدوا
في الثالثة وسلموا. هنا أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تبين لنا
صلاة الوتر الخامسة، وقد ميزت صلاة الوتر عن قيام الليل (يصلي من
الليل: ثلاث عشرة ركعة، يوتر منهن) أي: من الثلاث عشرة ركعة يوتر(2/18)
بخمس، إذاً: ليس الكل وتراً، وليس الكل تهجداً، فجعلت التهجد
ثمانياًً، وقد تقدم حديثها: (ما زاد في رمضان ولا غيره عن ثمان
ركعات، يصلي ركعتين لا تسل عن حسنهن وطولهن... ) وذكرت الثمان
مستقلة. ثم هي تذكر لنا الوتر بخمس قالت: (لا يجلس فيهن) أي: فهن
خمس ركعات متواليات، يقرأ ويركع ويرفع، ويسجد سجدتين، ثم يقوم
للركعة الثانية، يقرأ ويركع ويرفع ويسجد سجدتين، ثم يقوم للثالثة
ولا يجلس للتشهد، وهكذا الرابعة، وفي الخامسة يجلس فيتشهد ويسلم.
هذه هي الصورة التي ساقتها أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى
عنها. ويتفق العلماء على أنه يجوز لنا إذا أوترنا بخمس أن نجلس في
الرابعة، نأتي بالأولى ثم الثانية ثم الثالثة بدون جلوس، ونجلس في
الرابعة نتشهد التشهد الأوسط ولا نسلم، ثم نقوم للخامسة ونتشهد
ونسلم، فإذا كان في السبع ركعات جاء أيضاً بست ركعات متوالية، إن
شاء جلس في السادسة وتشهد وقام، ثم أتى بالسابعة وتشهد وسلم، وإن
شاء لم يجلس في السادسة، بل يأتي بالسبع ركعات متوالية حتى يأتي
إلى السابعة فيتشهد ويسلم، وهكذا يذكرون في التسع ركعات، إن شاء
جلس في الثامنة، ثم قام ولم يسلم، ثم جاء بالتاسعة وتشهد وسلم. هذه
الصور التي جاءت، وعلى هذا تكون صلاة الوتر فوق ثلاث لك فيها ثلاث
حالات: الحالة الأولى: أن تصلي ركعتين ركعتين وتسلم في كل ركعتين،
ثم توتر بواحدة. الحالة الثانية: أن تجمع الخمس أو السبع أو التسع
بتشهد واحد في الأخير وتسلم. الحالة الثالثة: أن تجلس في الشفع
الذي قبل الوتر، فإن كان الوتر خمساً جلست في الرابعة وقمت، وإن
كان الوتر سبعاً جلست في السادسة وقمت، وإن كان الوتر تسعاً جلست
في الثامنة وقمت، ثم جئت بكامل العدد من خامسة أو سابعة أو تاسعة
وتشهدت وسلمت. هذه صور صلاة الوتر إذا زادت عن ثلاث، وهذا باتفاق.
ولكن الخلاف فقط فيما إذا كان يوتر بثلاث، والجمهور على أنها(2/19)
صورتان فقط، يفصل الركعة عن الركعتين، أو يجمعهما بتشهد واحد، ولكن
الأحناف ليس عندهم فصل وصلاة ركعة واحدة، بل يصليها مجموعة، ويتشهد
في الثانية، ويقوم ويأتي بالثالثة ويتشهد ويسلم، وهذه الصورة ورد
فيها النهي عن تشبيه الوتر بصلاة المغرب.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الوتر
قال المؤلف: [وعنها رضي الله عنها قالت: (من كل الليل قد أوتر رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر ) متفق عليه. ]
لاحظوا -يا إخوان- هنا الفسحة والرخصة والتخفيف، تقدم في أول الباب
(صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة)، أي: بعد
قيامه الليل، وتقدم: (إن الله قد زادكم صلاة هي خير لكم من حمر
النعم.. ما بين العشاء وطلوع الفجر ) فبين صلى الله عليه وسلم
وقت الوتر من بعد صلاة العشاء مباشرة إلى أن يطلع الفجر، فجعل
الليل بكامله وقتاً للوتر، وهنا ربما يتساءل إنسان: أي الأوقات أو
أي أجزاء هذا الوقت أفضل؟ تقدم البيان مما جاء عنه صلى الله عليه
وسلم من مجموع الأحاديث وفي وصية أبي هريرة رضي الله تعالى
عنه: (أوصاني خليلي بثلاث -وذكر منها-: أن أوتر قبل أن أنام )
إذاً: هذا وتر أبي هريرة في أول الليل. وجاء الخلاف بين عمر وبين أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، فكان أبو بكر لا ينام
حتى يوتر، وكان عمر يؤخر الوتر إلى آخر الليل، فقالوا: من خشي
فوات الوتر في آخر الليل فليوتر في أوله، ويأخذ بالعزيمة، ومن أيقن
من نفسه أو غلب على ظنه أنه سيستيقظ في آخر الليل فليجعل الوتر في
آخر ليله. فهنا تبين لنا أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنه من
كل الليل أوتر رسول الله، من أوله.. من أوسطه.. من ثلثه.. من
ثلثيه.. من آخره، ثم انتهى وتره إلى السحر، يعني: فعل الوتر في
أجزاء من الليل مختلفة للبيان، ثم استقر وتره إلى السحر، وعلى هذا
يجوز إيقاع الإنسان الوتر بأي جزء من الليل حسب ما تيسر له، من(2/20)
أوله.. من أوسطه.. من آخره. وتقدم لنا السائل الذي سأل أم المؤمنين
عائشة رضي الله تعالى عنها في ثلاث مسائل منها: (متى كان وتر
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: من كل الليل أوتر رسول
الله.. من أوله.. من أوسطه.. من آخره، فقال: الله أكبر! الحمد لله
الذي جعل في الأمر سعة) وعلى هذا لا تحديد في جزئية الزمن لصلاة
الوتر، وإنما الإنسان هو الذي يحدد لنفسه بحسب ما يتيسر له. أما
إذا تساءلنا عن الأفضل، وكانت كل الأجزاء عندنا سواء، كإنسان
يستطيع أن يوتر أول الليل، أو نصف الليل، أو آخر الليل، فالكل عنده
سواء، فهذا نقول له: الأولى أن يكون وترك سحراً؛ لأنها تذكر أنه
كان آخر أمره صلى الله عليه وسلم في الوتر وقت السحر، ولماذا خص
وقت السحر؟ لأننا جميعاً نعلم بأن تلك الساعة هي ساعة المناجاة،
وساعة الزلفى والإنابة، وساعة القرب إلى الله سبحانه وتعالى، كما
جاء في الحديث: (إذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى سماء
الدنيا فينادي فيقول: هل من سائل فأعطيه؟! هل من مستغفر فأغفر له؟
هل من تائب فأتوب عليه؟ ) إذاً: تلك اللحظات هي أقرب وأرجى
للاستجابة، وقبول العبادة، والتوفيق إلى ما يحبه الله سبحانه
وتعالى. لكن إذا خاف الإنسان أن تفوته تلك الساعة فليؤمن نفسه
بالصلاة في أول الليل، وسيأتي البحث بعد هذا فيما لو أوتر أول
الليل عزيمة وحزماً، ثم وفقه الله وأعانه وقام بعد ذلك ماذا يفعل؟
وهو البحث بين قوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم من
الليل وتراً ) وبين قوله: (لا وتران في ليلة ) وسيأتي بهما
المؤلف رحمه الله. يهمنا أولاً: تحديد وقت الوتر، ومتى يكون هو
الأفضل؟
134441 ( كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [6] )
( كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [6] )
عناصر الموضوع
1 شرح حديث: (كان رسول الله يوتر بسبح اسم ربك الأعلى..)
2 شرح حديث: (كل سورة في ركعة، وفي الأخيرة قل هو الله أحد
والمعوذتين)(2/21)
3 شرح حديث: (أوتروا قبل أن تصبحوا)
4 شرح حديث: (من نام عن الوتر أو نسيه..)
5 شرح حديث: (من خاف ألا يقوم من آخر الليل..)
6 شرح حديث: (إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر..)
كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [7]
صلاة الوتر أفضل الرواتب مطلقاً، ولها أحكام كثيرة، وسنن متعددة، ينبغي
معرفتها، ومن ذلك وقتها، وحكم من نسيها، وما يقرأ فيها، وغير ذلك.
شرح حديث: (كان رسول الله يوتر بسبح اسم ربك الأعلى..)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، و(قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ)، و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي . ]. أرجو من الإخوة جميعاً أن يرجعوا
إلى تفسير سورة الأعلى في كتاب أو كتابين، بل كل ما تناولته أيديهم
من كتب التفسير، ويقرءوا تفسير هذه السورة الكريمة، وأول ما أنصح
به التفسير الكبير للفخر الرازي ؛ لأنه في الواقع له توجيهات
كونية عجيبة جداً، فإذا لم تتيسر ليلة من الليالي إيراد ما فيها من
نقاط وتوجيهات، فلتكن هناك القراءة الفردية والرجوع إليها، وهي
-كما يقال- جولة في سورة من كتاب الله، وسيجد القارئ الشيء العظيم
جداً، وقد لا يخطر بباله ما يراه حول هذه السورة الكريمة. يقول أبي : إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بهذه السور
الثلاث، وقد تقدم عندنا: من شاء أن يوتر بواحدة .. بثلاث .. بخمس
.. بسبع .. بتسع، وهنا ذكر أنه يوتر بثلاث، فإذا كان أوتر بخمس..
أو بسبع.. أو بتسع.. ماذا يقرأ فيها؟ يقرأ ما تيسر له، وليس هناك
تعيين بسورة معينة إلا في الثلاث ركعات فقط؛ لأن أكثر وتر الناس
بالثلاث، يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعة ثالثة، وسواء جمع الثلاث(2/22)
أو فرق؛ ولهذا أبي رضي الله عنه إنما بيّن قراءة النبي صلى
الله عليه وسلم في الثلاث الأواخر من الوتر، سواء اقتصر عليها
الإنسان، أو أنه أوتر بأكثر منها، فيقرأ في كل ركعة ما تيسر له،
ولكن يقرأ في الركعات الثلاث الأخيرة بهذه السور الثلاث الكريمة.
قال: [ وزاد: (ولا يسلم إلا في آخرهن ) ] . هذا مما أوقف البعض
عند صورة الثلاث ركعات: (لا يسلم إلا في آخرهن)، وأنتم إذا فرقتم
الركعة عن الركعتين سلمتم قبل الثالثة، وهنا: (لا يسلم إلا في
آخرهن)، معناه: أنه صلى الثلاث مجموعة، وهذا الذي يفعله الأحناف،
فماذا توردون عليهم؟ قال الجمهور: نعم، نحن نقول: إنه لا يسلم إلا
في آخرهن، أي: بسلام واحد، ولكن الذي نورده على الأحناف هو أنهم
يتشهدون في الثانية ولا يسلمون، فلو أنهم تركوا التشهد في الثانية،
ولم يسلموا إلا في الأخيرة فلا مانع، وهذا يدل عليه ظاهر هذا
الحديث فإنه يتفق مع هذه الصورة؛ لأن الحديث مفهومه: أنه لم يكن
يتشهد قبل الأخيرة، إذاً: الصورة التي ينطبق عليها هذا الحديث هو:
أنك تسلم في آخرهن دون أن تجلس للتشهد في الثانية، فلا تتعارض
الصورة مع هذا الحديث، ويسلم من معارضته النهي عن تشبيه الوتر
بالمغرب. إذاً: قوله: (ولا يسلم إلا في آخرهن) أي: يصلي ثلاث ركعات
وتراً بتشهد واحد وسلام واحد، والأحناف حملوا قوله: (لا يسلم إلا
في آخرهن)، أنها موصولة، وقالوا: إن صفة صلاة ثلاث ركعات يصلي مثنى
مثنى، وإذا صلى ركعتين تشهد ولم يسلم إلا في آخرهن. وبهذه المناسبة
لا ينبغي لإنسان أن يجعل من صورة الخلاف بين الأحناف والجمهور موقع
إشكال، أو مورد نزاع وخلاف؛ لأن أصل الوتر من حيث هو سنة ومندوب،
فإذا ما اختلف في صورته فلا ينبغي التعارض فيه، ولكن ينبغي على
الإنسان في شخصه وذاته أن يتطلب ما يترجح عنده؛ لأنه يفعل مندوباً،
وفاعل المندوب يطلب الخير، وطالب الخير يطلب الأفضل، فعليه أن(2/23)
يبحث، وما ترجح عنده يعمل به لشخصه، لكن أن ينكر على غيره ما ترجح
عنده فلا ينبغي ذلك، ولا سيما إذا وجدنا أن بعض النصوص فيها ما
يوهم إلى ما ذهب إليه الغير؛ لأنهم يقولون: هؤلاء القوم قد مضوا
إلى ما اقتنعوا به من الأدلة، وهؤلاء القوم قد مضوا إلى ما اقتنعوا
به من الأدلة، إذاً: كل من الفريقين أخذ بما اقتنع به من الأدلة،
فإذا كنت تعترض على ما اقتنع به الفريق الثاني فمن حق الفريق
الثاني أن يعترض عليك فيما اقتنعت أنت به، وما دامت المسألة قابلة
للاجتهاد والنصوص متقاربة فلا مانع أن يذهب كل بما اقتنع به، ولا
ينبغي اعتراض أحد الطرفين على الآخر، والله تعالى أعلم. مع العلم
بأن الأحناف ينصون في كتبهم على أن الحنفي لو أوتر خلف غير الحنفي
فله أن يوافقه على وتره، وقدمنا بالأمس قول الإمام أحمد رحمه
الله فيما يتعلق بالقنوت في الوتر، أو فيما يتعلق بالقنوت بالصبح
قال: لا أفعله، وإن صليت خلف إمام يقنت قنت متابعة للإمام، إذاً:
الإمام الجليل أحمد بن حنبل رحمه الله وغيره إذا صلى خلف من
يرى مخالفته في شكل من الأشكال لا يخالفه، ويتابعه وفاقاً للمسألة،
ولما سئل أحمد بن حنبل : أتصلي خلف من لا يرى الوضوء من لحم
الجزور؟ أحمد عنده أن من أكل لحم الجزور انتقض وضوءه، فقيل له:
لو رأيت إنساناً أكل لحم الجزور ولم يتوضأ أتصلي خلفه؟ قال: وكيف
لا أصلي خلف مالك وخلف فلان وفلان؟ أي: وهم لا يرون الوضوء من
لحم الإبل، فهو يصلي خلف من يخالفه فيما يتعلق بالوضوء وهو أمر
أساسي في صحة الصلاة؛ لأن المسألة اجتهادية، وهذا له رأيه، وهذا له
رأيه، فما دام أنه ائتم به يوافقه، وهذا كله يعطينا صورة في تجنب
السلف الخلاف والمنازعات. والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (كل سورة في ركعة، وفي الأخيرة قل هو الله أحد والمعوذتين)
قال رحمه الله: [ولأبي داود والترمذي نحوه عن عائشة رضي الله عنها: وفيه: (كل سورة في ركعة وفي الأخيرة: (قل هو الله(2/24)
أحد) والمعوذتين ). ] عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت
(أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل مثنى مثنى، ثم يوتر
بثلاث ) وهذا اللفظ من عائشة رضي الله عنها لم يرد فيه
تفصيل في كيفية هذه الثلاث، ومن هنا أخذ الأحناف صورة الثلاث
المعهودة وجمعوها، وآخرون يقولون: ثلاث لم يجلس في الثانية منهما،
وبينت لنا رضي الله تعالى عنها أن هذه السور الثلاث مقسمة على
الركعات الثلاث. قال: [ وفيه: (كل سورة في ركعة، وفي الأخيرة (قل
هو الله أحد) والمعوذتين )]. المشهور (قل هو الله أحد)، فإذا
أتى بالمعوذتين مع (قل هو الله أحد) في الركعة الأخيرة فلا مانع،
والمنصوص عليها أنه يأتي بهما، والمشهور عند العلماء إفراد (قل هو
الله أحد)، بما أنا أشرنا إلى السور الثلاث: (سبح اسم ربك الأعلى)
وما فيها من إثبات الصفات الكريمة للمولى سبحانه، والقدرة الإلهية
والربوبية إلى آخره، وكذلك في سورتي الإخلاص، إذا جئنا إلى
المعوذتين نجد أن الوقوف عند هاتين السورتين الكريمتين يجعل المسلم
فعلاً يقف إجلالاً لكتاب الله، ويقف متلمساً فضل الله أن يفتح عليه
في نسق القرآن في هذا المصحف الشريف، إذا جئنا إلى (قل هو الله
أحد) وإفراد الله سبحانه وتعالى وتوحيده في ذاته وأسمائه وصفاته.
سورة الفلق
ونأتي إلى سورة الفلق، ثم نأتي إلى سورة الناس، ثم نأتي إليهما
معاً، تجد السورة الأولى: قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]،
وقد عارض بعض المتفلسفة -ليس الفلاسفة- على إيراد كلمة: (قل)،
وقال: لماذا لا يقرأ الإنسان: (أعوذ برب الفلق من شر ما خلق)؟
فكلمة (قل) مقول القول، وتحصيل حاصل، ولكن لا، قُلْ
أَعُوذُ [الفلق:1]
ليعلم السامع والقارئ بأن هذا المقول يجب أن يقوله بأمر الله
سبحانه الذي قال له: (قل)، أما إذا بدأ وقال: (أعوذ برب الفلق) قد
يكون من عنده هو، قد تكون استعاذة شخصية، ولكن عندما يضمم: (قل)(2/25)
أي: أنك أمرت وكلفت من الله سبحانه وتعالى أن تقول، ولذا الذين
نادوا بحذفها ما فقهوا كلام الله، وأن هذا تكليف من المولى لعبده. قُلْ
أَعُوذُ [الفلق:1]
بمعنى: ألوذ وألجأ وأحتمي، بِرَبِّ
الْفَلَقِ [الفلق:1]
الرب الخالق المدبر، وكلمة (رب) لها في اللغة نحو من عشرين معنى،
وصفة الربوبية نجدها في أول سطر من كتاب الله، بسم الله الرحمن
الرحيم الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]،
ونجدها هنا في آخر المصحف، وفي آخر سورة من كتاب الله، قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]،
فنجد هنا: قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [
الفلق:1]، الفلق: كل ما انفلق عن غيره، فإذا جئت إلى السماء
وأبراجها وما انفلقت عنه من كواكب وشموس وأقمار إلى غير ذلك، إذا
جئت إلى البحار وما انفلقت عنه من جواهر وأصداف وكنوز وحيوانات
وغير ذلك، وإذا جئت إلى الأرحام وما انفلقت عنه من نتاج في حيوان
وطير وإنسان، وإذا جئت إلى الأرض وما انفلقت عنه من أنواع النبات
والأشجار وما خلق الله فيها لوجدت الشيء العظيم، وكل الكائنات
تندرج تحت هذه الكلمة أَعُوذُ
بِرَبِّ الْفَلَقِ [
الفلق:1]. كيف فلقها؟ كيف أنشأها؟ تسبح في عالم بعيد جداً. مِنْ
شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2]؛
لأن كل مخلوق فرد من أفراد الفلق الذي انفلق عن قدرة الله سبحانه،
فالشر الذي سيأتي من المخلوقات هي أفراد ما خلق، والذي فلقه هو
الذي يدرأ عنك شره، قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا [الفلق:1-2]،
(ما) من الأسماء الموصولة التي تدل على العموم، فمدلولها عام، مَا
خَلَقَ [الفلق:2]
حتى قال ابن عباس : المعصية مما خلق الله، فإذا استعذت بالله
من شر ما خلق استعذت بالله من كل شر تخشاه حساً كان أو معنى. إذاً:
دخلت في حماية الله من شرور خلق الله، التي انفلقت عن قدرة الله،
ثم يأتي تفصيل بعد إجمال: وَمِنْ
شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3]،(2/26)
قالوا: القمر في آخر الشهر؛ لأن ذلك الوقت من الشهر هو وقت عمل
المفسدين من سحرة وغيرهم. وَمِنْ
شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]،
وهم السحرة يعقدون العقد وينفثون فيها بسمومهم، قال: وَمِنْ
شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]،
ولم يقل: إذا نفثن في عقدهن، ولكن في العقد: وَمِنْ
شَرِّ حَاسِدٍ [الفلق:5]
ليس على إطلاقه، بل إِذَا
حَسَدَ [الفلق:5]
إن وقع منه الحسد، ومن هنا جاءت السورة الكريمة بالاستعاذة بصفة
واحدة لله: قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [
الفلق:1] هذه الصفة المستعاذ بها، من أي شيء؟ عموم ما خلق، (غاسق
إذا وقب، نفاثات في العقد، حاسد إذا حسد) المستعاذ به صفة واحدة من
صفات الرب سبحانه، والمستعاذ منه أربع شرور على الإجمال ثم
التفصيل، وقبل ذلك: التفريق بين النفاثات على الإطلاق، وبين الحاسد
بشرط: إذا حسد؛ لأن النفاثات في العقد لا ينفثن إلا عملياً عند
السحر، وقبل أن يتناولن الخيط، ويعقدن العقد وينفثن فيها؛ لسن
بساحرات، فلا يتحقق ولا يوجد سحرهن إلا بالعقد والنفث في الحال،
إذاً: عندما يعقدن، وينفثن في تلك العقد هن ساحرات، وقبل ذلك لم
يكن ساحرات، أما الحاسد فهو حاسد ولو لم يتوجه إلى الإنسان بالحسد،
فيستعاذ من شره إذا توجه إلى المحسود، والحسد يوجد عند الإنسان
الذي ابتلي بهذا الداء عافانا الله وإياكم، لكن شر حسده لا يظهر
ولا يخرج ولا يقع تأثيره إلا إذا توجه بعينه للمحسود. وكيف يقع
الحسد؟ وكيف يتأثر المعيون من عين العائن؟ ذكرنا في الموطأ قضية
سهل بن حنيف ، لما رآه أحد الصحابة وقد تجرد واغتسل، فقال: ما
رأيت مثل جلدك اليوم ولا كالعذراء في خدرها؛ فسقط في الحال، فذهبوا
إلى رسول الله، وقالوا: يا رسول الله! إن كان لك حاجة في سهل فلا يستطيع أن يذهب معك، كانوا في سفرة ما بين المدينة ومكة، قال:
(وما ذاك؟ قالوا: خلع لباسه، ونظر إليه فلان فقال: كذا وكذا، فتغيظ(2/27)
صلى الله عليه وسلم وقال: علام يقتل بعضكم أخاه؟ هلا بركت إذا وجدت
ما يعجبك، من رأى ما يعجبه فليبرك، ثم أمر أن يغسل له ) وهذه
قضية طويلة. وإلى الآن يجمع المسلمون على وقوع أثر الحاسد في
المحسود كسهم صائد، ولكن كيف ينفذ هذا السهم؟ ومن أين ينطلق؟ وكيف
يؤثر؟! عجز العالم إلى اليوم، لا الأطباء القدامى ولا الأطباء
الجدد، إنما كل ما قالوه: إن القلب يتغير، وإن العين تنظر، فيخرج
إشعاع من القلب إلى العين ثم تخرج إلى المعين، فيتأثر بذلك،
ويستدلون بأشياء عديدة، ولكن حقيقة ذلك الله تعالى أعلم بها.
سورة الناس
في هذه السورة يستعيذ المسلم بالله بصفة من صفاته، من كل الشرور
مجموعة ومفرقة، بينما نجد السورة الأخيرة: قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]
المستعاذ منه ماذا؟ قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ [الناس:1-3]
كم صفة من صفات الله جندت للاستعاذة بها؟ ثلاث.. وهذه صفات الجلال
والعظمة: (رب.. ملك.. إله)، فهي صفات الكمال والجلال لله، فهي
جوامع صفات العظمة لله، هناك: قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]
صفة من صفات الله، وهي صفة الخلق، ولكن هنا جوامع الصفات: (رب)
و(ملك) و(إله). المستعاذ منه من هو؟ مِنْ
شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:4]
إذاً: في السورة الأولى اكتفى المستعاذ به بصفة واحدة، يستعاذ بها
من جميع شرور ما خلق، وانفلقت عنه الكائنات، وفي السورة الثانية
ثلاث صفات تجمع ويستعاذ بها كلها من شر واحد ألا وهو الوسواس
الخناس، فماذا نستفيد من هذا؟ نستفيد من هذا -والله تعالى أعلم-
بأن الشر كل الشر، والخطر كل الخطر على الإنسان المسلم هو ذاك الشر
الذي اجتمعت له صفات العظمة، وبالمناسبة كنا نسمع من والدنا الشيخ
الأمين في قضية زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ
تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ(2/28)
وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]
يعني: ما بقي إلا الجن، يجمع الله سبحانه وتعالى في مناصرة رسوله
أمام امرأتين كل هذا، (الله وجبريل، وملائكته، وصالح المؤمنين) كل
ذلك يناصرونه عليكما! ولذلك قال الشاعر: ما استعظم الإله كيدهن إلا
لأنهن هن هن فهنا الشيء بالشيء يذكر، ثلاث صفات من صفات الجلال
والكمال تجند وتجمع، ويلجأ الإنسان إليها من خطر واحد؛ لأن أخطر ما
يكون على الإنسان في حياته وآخرته الشك.. الوسواس، الخناس!
فالإنسان في دنياه لو وقف موقف الشك من أي عمل ما تقدم خطوة،
فبالشك يقدم خطوة ويؤخر خطوة؛ لأنه متردد شاك لا ينتقل من مكانه
ولا يمضي، فأمور الدنيا يفسدها الشك، والتردد، ويفسدها الوسوسة في
الذهن، وأمور الآخرة من باب أولى، والشيطان لا يفسد على الإنسان
دينه إلا بالوسوسة، يأتيه ويوسوس إليه ويشككه في أمره إلى حد بعيد.
إذاً: لكأن القرآن الكريم في سياقه يفتتح بالفاتحة ثم البقرة، ثم
ما بعدها بكل التشريعات في أصول وفروع ودنيا وأخرى إلى أن يأتي إلى
آخر المصحف الشريف ثم يقول: قف! أنت بين أعداء كثيرين من
المخلوقات، استعذ برب الفلق من جميع ما خلق، وأمامك العدو الخطير،
استعذ بالله وبصفات جلاله وكماله من شره، لأنك إذ لم تلجأ إلى الله
فلن تنجو منه.. وَإِمَّا
يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200].
إذاً: تأتي هاتان السورتان وتبين لنا ما يحتاج إليه الإنسان في
حياته. ومرة أخرى ما يسميه علماء الأدب والبلاغة: عود على بدء، أول
سورة الفاتحة: الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ *
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]
الربوبية والألوهية والملك تجدها في سورة الناس مجتمعة، فكأن
القرآن في آخره يردك إلى أوله لتكون كالكار الفار، وهكذا يرتبط آخر(2/29)
القرآن بأوله في تمجيد المولى سبحانه وتقديسه، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (أوتروا قبل أن تصبحوا)
قال رحمه الله: [ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (أوتروا قبل أن تصبحوا ) ]. هذا أمر
توجيه (أوتروا قبل أن تصبحوا) وقول: (تصبحون.. تمسون.. تظهرون) كما
يقولون -فعل الدخول في الوقت، يقال: أصبح فلان.. دخل في الصباح،
أمسى.. دخل في المساء، أضحى.. دخل في الضحى، فيقول صلى الله عليه
وسلم: (أوتروا قبل أن تصبحوا ) أي: قبل أن يدخل الصبح عليكم،
وتدخلوا في الصباح، ومعنى ذلك: أن الصباح ليس وقت الوتر، أو أن
الوتر إلى قبل أن تصبح، وتقدم الكلام عند قوله صلى الله عليه وسلم:
(ما بين العشاء وصلاة الصبح ). قال رحمه الله: [ولابن حبان : (من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له ) ] جاء في هذا تقييد، من
أدرك الصبح ولم يوتر أو أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له، أي: لم
يبق هناك وقت للمدرك، وإذا خرج وقته ذهب، ولا تستطيع أن تستدركه،
ولكن لم يقتصر الأمر في الأحاديث على مثل هذا، وإنما جاءت نصوص
أخرى فيما يتعلق بانفتاح وقت الوتر إلى ما بعد الصبح، ويجمع
العلماء في هذه المسألة على أن كل هذه الأحاديث التي في التوقيت
إنما هي لوقت الفضيلة والأداء، وما كان بعد الصبح على ما سيأتي
للمؤلف وغيره فيكون تداركاً لما فات من أدائه، وهل هو قضاء أم
أداء؟ بعضهم يعتبر ذلك قضاء، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (من نام عن الوتر أو نسيه..)
قال رحمه الله: [ وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من
نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر ) رواه الخمسة إلا
النسائي ]. انظروا إلى فقه المؤلف أتى بقوله: (أوتروا قبل أن
تصبحوا ) وقوله: (إذا طلع الفجر فلا وتر ) ثم يعقب ذلك
بالحديث: (من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر )
إذاً: التوقيت الأول للمستيقظ أفضل، أما إذا كان هناك عذر وفات عنه(2/30)
الوقت المحدد فإنه يصليه إذا مضى وارتفع ذلك العذر، وإذا كان هذا
في الفريضة: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها )
فيقولون: أيضاً في النافلة من باب أولى، ولا سيما إذا كان الإنسان
مداوماً على عمل من أعمال الفضيلة، فلا ينبغي تركه، وخروج الوقت لا
يسقطه، فهناك تدارك له، وقد جاء عن أم المؤمنين رضي الله عنها
عائشة أنه صلى الله عليه وسلم إذا نام عن صلاة الليل بأن كان
متعباً، أو شغل عن ذلك فإنه يصلي من النهار اثنتي عشرة ركعة؛ لماذا
يصلي اثنتي عشرة ركعة؟ عوضاً عما كان يقومه بالليل، والله تعالى
أعلم. مسألة: إذا قام أو ذكر إلى متى يكون وقت القضاء؟ فبعضهم
يقول: إلى طلوع الشمس؛ لأن جزء ما بين الفجر وطلوع الشمس تابع
لليل، وبعضهم يقول: لا، هذا تابع للنهار، بدليل أن الصائم لا يأكل
في ذلك الوقت، وهناك من قال: إلى طلوع الشمس ينتهي قضاء الوتر،
وهناك من قال: إلى وقت الضحى؛ لأنه وقت نافلة أيضاً، وهناك من مد
إلى الزوال، قالوا: لأن أول صلاة بعد الصبح التي هي حد الوتر،
الصلاة التي تعقبها وهي الظهر، أما بعد الظهر فلا دخل له بذلك، وهو
من بداية اليوم الجديد، والله تعالى أعلم.
شرح حديث: (من خاف ألا يقوم من آخر الليل..)
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن
طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة،
وذلك أفضل ) ]. تقدم حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
(من كل الليل أوتر رسول الله )، وعلى هذا الليل كله يكون للوتر،
ولكن إذا أردنا أن نتخير الأفضل، وتساوى عندنا الأمران، له القدرة
بأن يستيقظ آخر الليل، ويستطيع صلاة الوتر الآن، فهما متساويان
عنده، فإن كانا متساويين فإن الأفضل أن يؤخره، أما إذا كان لديه
مظنة الكسل، أو مظنة النوم أو هو مرهق، أو لا يطمع في القيام، وليس(2/31)
عنده عزم أو غير متأكد بأنه سيقوم قبل الفجر، لا، يوتر من أول
الليل؛ لأن الوتر أول الليل على اليقين وفيه تدارك للأمر، والأخذ
بالأحوط أحوط، وعلى هذا يبين صلى الله عليه وسلم أنه: من استطاع،
أو من لم يوتر في آخر الليل فليوتر في أوله، ومن أيقن أو غلب على
ظنه أنه سيقوم آخر الليل فليوتر في آخره؛ لماذا؟ لأفضلية الوقت،
الوتر هو الوتر، ثلاث ركعات أو خمس أو سبع، والقراءة هي القراءة،
ولكن الأفضلية جاءت للوقت، وأفضلية الوقت تضاف إلى أفضلية العمل،
ويزداد الوتر فضيلة بأفضلية الوقت.
شرح حديث: (إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر..)
قال رحمه الله: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل
والوتر، فأوتروا قبل طلوع الفجر ) رواه الترمذي ]. أيها
الإخوة! لعله إلى هذا الحد يكون المؤلف رحمه الله قد أنهى مباحث
الوتر، وسيبدأ في موضوع مستقل وهو الضحى، وقد أورد لنا مشاكل فيه،
ولكن يهمنا بأن هناك مباحث أخرى في الوتر لم يتعرض لها المؤلف،
وربما يتعرض لها في قيام الليل في رمضان أو التراويح، أو في صلاة
الصبح، ألا وهو القنوت في الوتر، والقنوت في الوتر جاءت به النصوص،
أو بصفة عامة مجملة، القنوت هو الدعاء في الصلاة، قال تعالى: وَقُومُوا
لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]
أي: داعين مخبتين خاشعين.. إلخ. والقنوت من حيث هو أمر طارئ جديد
على الصلاة، لم تكن مشروعيته من قبل، ولكن طرأ وبدأ القنوت في
النوازل، قنت صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على رعل وذكوان في قصة
قتل القراء في بئر معونة، ثم بعد ذلك جاءت أحاديث بأن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، والنوازل لم تكن
دائماً، وهنا وقع الخلاف والنزاع والبحث: هل الوتر دائم أم الوتر
مؤقت؟ فمن قال: إنه مؤقت، قال: وقت النوازل فقط، حروب.. زلالزل..(2/32)
محن.. شدائد، يقنت الأئمة في الصلوات، ومنهم من قال: يقنت في
الصلوات الخمس، ومنهم من قال: يقتصر على البعض من الصلوات فقط. ففي
حالة النوازل، المشهور القنوت في الصلوات الخمس، وفي غير النوازل
الخلاف في القنوت في الفجر أو في الوتر، والأئمة الأربعة رحمهم
الله يقولون بالقنوت في غير النوازل، ولكن منهم من يقنت في صلاة
الصبح، ومنهم من يقنت في صلاة الوتر. ثم بعد هذا التقسيم: منهم من
يجعل القنوت قبل الركوع في الركعة الأخيرة بعد ما ينتهي من القراءة
يكبر وهو قائم ثم يقنت، ومنهم من يجعل القنوت بعد الرفع من الركوع،
ثم منهم من يجهر، ومنهم من يسر. إذاً: بحث القنوت مستقل من حيث هو
في موقعه وسببه وتوقيته. وعلى كل حال: استقر الأمر عند الأئمة
الأربعة رحمهم الله بأن القنوت طيلة السنة موجود، اللهم إلا بعض
العلماء يستثني النصف الأول من رمضان لا يقنت فيه، ويقنت في النصف
الأخير كما جاء عن بعض المالكية، ولكن المتبع والمشهور عند الجميع
أن القنوت موجود طيلة العام، فهناك من جعله في الوتر كالحنابلة
والأحناف، ومنهم من جعله في الصبح كالمالكية والشافعية، ومنهم من
يجعله قبل الركوع، ومنهم من يجعله بعده. ومهما يكن من شيء فإن تلك
الصور كونه في الصبح.. كونه في الوتر.. كونه قبل الركوع.. كونه بعد
الركوع.. كل ذلك ورد فيه نصوص، ولا ينبغي للإنسان أن يعترض على آخر
إذا رآه أوقع الوتر في أي صفة من تلك الصفات، أما دعاء القنوت فقد
جاء عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه الحديث: (اللهم اهدني
فيمن هديت... إلخ )، وبالله تعالى التوفيق.
134453 ( كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [8] )
( كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [8] )
عناصر الموضوع
1 أحكام صلاة الجماعة
كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [1]
إن للصلاة أهمية عظيمة في دين الإسلام، فهي الركن الثاني من أركانه،
ولما لها من أهمية فقد حث الشارع على تأديتها بأكمل وجه وأحسن هيئة،(2/33)
وإن أكمل وجه وأحسن هيئة لأداء الصلاة تتمثل في صلاة الجماعة؛ فلذا ترى
الترغيب والحث على تأدية الصلاة في جماعة، وترى أيضاً الترهيب والتهديد
في ترك الجماعة، حتى إن بعض العلماء قال بشرطية الجماعة للصلاة، فلا
تصح الصلاة عنده إلا بجماعة، وبعضهم قال: من ترك الجماعة صحت صلاته
منفرداً، ولكنه يأثم بتركه للجماعة وبعضهم قال: هي سنة مؤكدة. والله
تعالى أعلم.
أحكام صلاة الجماعة
أهمية صلاة الجماعة وفضلها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة )
متفق عليه]. قدم المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب المبارك
أبواب الصلاة، وما يلزم لمقدماتها من الطهارة واللباس، وبيان
الأوقات، والأذان والإقامة، ثم صفة الصلاة من حيث هي، وأتبع ذلك
بتوابعها من النوافل الراتبة معها، وأتبع تلك الرواتب التابعة
للفرائض بالرواتب المطلقة، كما جاء في الوتر وفي الضحى. وهنا يأتي
إلى باب من أهم أبواب الصلاة، وهو ما يتعلق بأداء الصلوات الخمس في
جماعة، والجماعة مشروعة للصلوات الخمس، ولبعض الصلوات الأخرى
كالجنازة والاستسقاء والكسوف وقيام الليل في التراويح خاصة في
رمضان، وما عدا ذلك تكون فرادى. فهنا بدأ المؤلف رحمه الله بهذا
الحديث، وهو نص عند العلماء في فضل صلاة الجماعة، ويريد أن يبين
كما بين غيره أن صلاة الجماعة لها فضيلة على صلاة الفذ، والفذ
المنفرد. فالإنسان قد يصلي وحده لعذر، أو لضرورة، كمن هو في سفر
وليس عنده أحد، أو لمرض في البيت، إلى غير ذلك. وكذلك بعض النوافل،
خاصة نوافل البيت يصليها وحده. ولكن الجماعة قد شرعت، فما مدى
مشروعية هذه الجماعة للصلوات الخمس؟
تعدد الروايات المعيِّنة لفضل صلاة الجماعة(2/34)
المؤلف كغيره يسوق هذا الحديث: (فضل صلاة الجماعة) أو (تفضل)، أو:
(تزيد)، أو (تضاعف) -كل هذه ألفاظ قد وردت بها الروايات- على صلاة
الفذ سبعاً وعشرين درجة، وفي رواية: خمساً وعشرين درجة. وابن عمر رضي الله تعالى عنهما انفرد برواية (سبع وعشرين)، وأبو هريرة وأنس وغيرهما يروونه بلفظ: (بخمس وعشرين) والجمهور: على صحة
حديث ابن عمر : (بسبع وعشرين)، فقوم يقولون: الزيادة من الثقة
مقبولة، والسبع والعشرون تتضمن الخمس والعشرين وزيادة، والبعض
الآخر يقول: هذه زيادة من ثقة خالف فيها الثقات، فتعتبر في عرف
علماء الحديث من الروايات التي تسمى شاذة، وهو ما خالف الثقة به
الثقات. والخمس والعشرون متفق عليها، وهي ضمن السبع والعشرين. أما
فقه الحديث ففي قوله: (صلاة الجماعة) والجماعة تصح باثنين إمام
ومأموم، حتى قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إن الجمعة تصح
بثلاثة أشخاص؛ لأن الله تعالى قال: إِذَا
نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ.. [الجمعة:9]،
فالنداء لا بد له من منادٍ، وذكر الله الذي نسعى إليه لابد له من
شخص يذكر الله، وهو الإمام، والساعي إلى ذكر الله هو المأموم، فتم
العدد: بمنادٍ للصلاة، وإمام يؤم، ومأموم يأتم. فقالوا: تنعقد
الجماعة في الصلوات الخمس بإمام ومأموم ولكنهم يختلفون في حقيقة
المأموم، فإذا كان المأموم صبياً ليس ببالغ، وهو مميز يدرك معنى
الصلاة، وقد أُمر بواسطة وليه بقوله عليه الصلاة والسلام: (مروا
أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر ) فهل تصح هذه
الجماعة وتنعقد؟ وكذلك إذا كان المأموم امرأة، والمرأة لا تجب
عليها الجماعة، ولكن إذا حضرتها صحت منها، وقالوا في المملوك
والمرأة والمسافر: ليست عليهم جمعة. وهو قول الجمهور، فإذا حضرها
أحدهم اعتبرت منه وصحت. هل يكمَّل به العدد عند من يقول بعدد معين
أم لا؟
فضل صلاة الجماعة وصحة صلاة المنفرد(2/35)
يقول ابن دقيق العيد : هذا الحديث ابتداءً يدل على عدم فرضية
الجماعة، وذلك أن (أفعل) التفضيل تقتضي المشاركة في شيء وزيادة أحد
المشتركين في هذا الأصل الذي يجتمعان فيه، وقال: إن الحديث فيه
إثبات الفضل للفذ والأفضلية للجماعة، فلو لم تكن صلاة الفذ صحيحة
لما كان لها فضل؛ لأن الباطل لا فضل فيه، وإذا لم يكن فيها فضل فلا
تصح المفاضلة بينها وبين غيرها؛ لأن ما لا فضل فيه لا يقارن بغيره.
فهذا الحديث يثبت أن صلاة الفذ لها فضيلة، وبالتالي تصح، وصلاة
الجماعة لها فضيلة، ولكن صلاة الجماعة تزيد فضيلتها عن صلاة الفذ،
ثم ناقش في الأفضلية مباحث أخرى طويلة. وبقي عندنا ألفاظ الحديث
المختلفة: (سبع وعشرين درجة)، (بخمس وعشرين جزءاً)، (بخمس وعشرين
ضعفاً). أما الضعف فلا يتعارض مع الدرجة ولا الجزء؛ لأن ضعف الشيء
ما يساويه ويتكرر ضعفين، أو ثلاثة أضعاف، أو أضعافاً كثيرة. وبقي
التفريق بين الدرجة والجزاء، قالوا: الدرجة أعلى من الجزء وقالوا:
الدرجة في الجهرية والجزء في السرية. وقالوا في (سبعٌ وعشرون)
و(خمس وعشرون): سبع وعشرون في الليلية، وخمس وعشرون في النهارية،
ويزيد الفضل في كثرة الجماعة، وفي أفضلية المكان، وغير ذلك. فإن
فضل الجماعة يختلف، فكلما كثر العدد زاد الفضل؛ لأن كل مصلٍ يدعو
ويُشرك غيره في دعائه، وذلك بقوله: اللهم اغفر لنا، اللهم ارحمنا،
اللهم عافنا، وكذلك الإمام يدعو للجميع، فكلما كثر العدد زاد
الفضل، وقالوا: المسجد القديم، والمسجد الذي فيه إمام راتب من ولي
الأمر يزيد الفضل فيه عن غيره. وقال العلماء: هذا الحديث -حديث ابن
عمر - لا يستدل به على وجوب الجماعة، ولكن يستدل به على
فضيلتها، والأفضلية لا تقتضي الوجوب، فما هي الفضيلة؟ إنها تفضل
صلاة الفذ سبعاً وعشرين أو خمساً وعشرين درجة، أو جزءاً، أو ضعفاً.
فلا ينبغي للإنسان أن يحرم نفسه من هذا الفضل بأن يقصر في تحصيله،(2/36)
وحكم صلاة الجماعة سيأتي الحديث عنه في الحديث الذي يلي هذا. فنأخذ
من هذا الحديث أفضلية صلاة الجماعة، ونأخذ بما قاله ابن دقيق العيد ،
ففيه تنبيه وإيماء إلى صحة صلاة المنفرد، مع أنها تنقص عن فضيلة
الجماعة، وهذا حدنا في هذا الحديث، وتتمة الكلام عن صلاة الجماعة
إنما هي مستوفاة عند الحديث الآتي إن شاء الله. قال: [ولهما عن أبي
هريرة رضي الله تعالى عنه: (بخمسة وعشرين جزءاً)، وكذلك
للبخاري عن أبي سعيد وقال: (درجة)]. أبو هريرة وأبو
سعيد الوارد عنهما في الصحيحين: (بخمس)، (جزءاً)، و(درجة)، كل
ذلك لا بأس به، لكن يهمنا أن المؤلف يسوق في رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري (بخمس)، ولذا قالوا: لم يرو السبع والعشرين
إلا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، إلا أن الاختلاف في خمس
وسبع أمر يُتجاوز فيه، ولا يتعارض في الفضيلة.
التهديد في ترك صلاة الجماعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر
بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً، فيؤم الناس،
ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم، والذي
نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سميناً، أو مرماتين حسنتين
لشهد العشاء ) متفق عليه، واللفظ للبخاري ].
اختلاف العلماء في حكم صلاة الجماعة
هذا الحديث -حديث أبي هريرة - اختلف فيه العلماء، فمنهم من قال
بوجوب الجماعة، ومنهم من قال بعدم وجوبها. ثم اختلف القائلون
بوجوبها، فمنهم من قال: هي شرط في صحة الصلاة، بحيث لو صلى منفرداً
بطلت صلاته ومنهم من قال: هي واجبة، ولكن ليست شرطاً في الصحة، بل
هي واجبة بذاتها. بمعنى أنه: لو صلى منفرداً يكون قد ترك واجباً
آخر وهو الجماعة، فتكون الصلاة صحيحة مسقطة للفرض، وهو آثم بترك
واجب. فمن العلماء من يقول: هي واجبة وجوباً عينياً ومنهم من يقول:(2/37)
هي واجبة وجوباً كفائياً ومنهم من يقول: ليست بواجبة، ولكنها سنة.
والذين قالوا: هي واجبة وجوباً عينياً انقسموا إلى قسمين: قسم قال:
واجبة وجوباً عينياً وهي شرط في الصحة، فلو صلى بغير الجماعة بدون
عذر، فصلاته باطلة؛ لفقدانها شرطاً من شروط الصلاة. والقسم الثاني
يقولون: هي واجبة بذاتها، فإن صلاها منفرداً صحت، ولكنه ترك واجباً
فهو آثم بتركه. والجمهور على أنها سنة. والحديث لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه يقول فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(والذي نفسي بيده لقد هممت ). وغير المؤلف يذكر مقدمة للحديث،
منهم صاحب عمدة الأحكام في المتفق عليه بين الشيخين، وتلك المقدمة
التي تركها المؤلف ينبني عليها معرفة الحكم، أو لها دخل في تحقيق
المسألة، وذلك أن أول الحديث فيه: قال صلى الله عليه وسلم: (إن
أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، والذي نفسي بيده
لقد هممت أن آمر بالصلاة فينادى لها، ثم آمر برجل يصلي بالناس، ثم
أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم )، أو (إلى رجال لا يشهدون
الصلاة )، أو (إلى رجال يتخلفون عن الجماعة بلا عذر )، وبعض
الروايات: (لولا ما في البيوت من النساء والصبيان.. ). فيقول
بعض العلماء: أصل السياق في المنافقين (أثقل صلاة على المنافقين
صلاة العشاء وصلاة الفجر ). ويقول ابن دقيق العيد رحمه
الله: خصت العشاء والفجر لأحد أمرين: إما لأنهما في الظلام
والمنافق إنما يرائي الناس في الصلاة، كما قال تعالى: وَإِذَا
قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ [النساء:142]،
فالعشاء والصبح تكونان في ظلام لا يرى أحد أحداً، فما دام لا أحد
يراه فلن يذهب للصلاة، لكن الظهر تؤدى في النهار، وكذلك في العصر
والمغرب الناس موجودون، فسيرائي في صلاته. والأمر الآخر أنه إذا
كان الوقت صيفاً، وجاءت صلاة العشاء كان ذلك بداية برودة الجو بعد(2/38)
عناء في نهار الصيف؛ فيكون أدعى إلى الراحة والخلود، وفي الفجر
يقصر وقت الليل، ثم مع قصر الليل يكون ليل الصيف في آخره أبرد، فهو
أدعى إلى الخلود والراحة في الفجر. وإذا كان الشتاء فإن وقت العشاء
مع قصر النهار وظلمة الليل وشدة البرد يخلّد إلى السكون، ومع طول
الليل يشتد البرد، وهذه دواعي الجلوس والترك، ومن هنا كان الوعيد
على الفجر والعشاء أشد؛ لأنهما يكتنفان بعوامل القعود والترك، ولذا
جاء التحريض على هاتين الصلاتين بقوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى
العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة
فكأنما صلى الليل كله ). وإن كان النص قد جاء في صلاة العصر: حَافِظُوا
عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسطى [البقرة:238].
وفي رواية الموطأ أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها
عندما طلبت من الكاتب أن يكتب لها مصحفاً قالت: إذا وصلت إلى هذه
الآية فآذني فآذنها فأملت عليه: (والصلاة الوسطى صلاة العصر). فهذه
يعتبرها علماء التفسير من الروايات المفسرة للمعنى، وليست زيادة في
القرآن، ولهذا لا تكتب عندهم في صلب المصحف، وإنما على الهامش على
أنها مفسِّرة لماهية الصلاة الوسطى؛ لأننا وجدنا خمسة أقوال في
الصلاة الوسطى، منهم من يقول: هي الصبح لأهميتها وثقلها ومنهم من
يقول: هي العشاء لأهميتها وثقلها ومنهم من يقول: هي المغرب لأنها
وتر النهار ومنهم من يقول: هي العصر، كما جاء في الرواية. ومنهم من
يقول: هي الظهر لأنها وقت القيلولة فالأقوال متعددة.
معنى هم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة
فمقدمة الحديث قوله: (أثقل الصلاة على المنافقين الصبح والعشاء)،
وهذا السياق وهذا الوعيد قالوا فيه: لقد توعد وهمَّ، فقال: (والذي
نفسي بيده لقد هممت )، والهمَّ -كما يقال-: العزم المؤكِّد،
والهمُّ قد يكون حديث النفس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن هم(2/39)
بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، ومن هم بسيئة فلم
يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة )، فهنا الهم العزم
والرغبة، لكن هذا الهم بالحسنة أو بالسيئة والرجوع عنها ليس بالعزم
القاطع، بخلاف ما جاء في الهم القاطع الذي لا يمنعه عنه إلا ما هو
فوق قدرته. يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما
فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال
المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه ) أي: عنده هم وعزم
مؤكد. وهنا يتكلم المفسرون رحمهم الله في قصة يوسف عليه وعلى نبينا
الصلاة والسلام مع امرأة العزيز، حيث قال تعالى عنه: وَلَقَدْ
هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24]
فقالوا: همها هي من النوع المؤكد القاضي، ولذا لم يمنعها من تنفيذ
ما أرادت إلا أن: أَلْفَيَا
سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [يوسف:25]،
ولحقته وشقت قميصه، وهمّه هو بها ليس من هذا، وإنما من خطرات
النفس؛ لأنه رجل مكتمل الرجولة، وليس عنيناً أو لا إرب له، وإلا
لما كان له فضل في ذلك، فنوازع النفس الفطرية خطرت في باله، لكنه
راجع نفسه، أو لم يقدم، أو لم يعزم، أو لم يصل الفكر النفسي معه
إلى ما وصلت إليه هي؛ لأنه رأى برهان ربه. وإذا كان الأمر كذلك
فالهم همان: همٌ هو عزم قاطع، وهمٌ هو خطرة على بال، كالواحد يكون
في رمضان وفي شدة الحر يرى الماء البارد أمامه، فإن العين تنظر،
والخواطر تخطر، لكن مهما خطر على البال، فإنه يضع يده في الماء
البارد، ويتمنى لو جاء المغرب، ولكن يعلم بأن هناك مانعاً، فهو
يعلم بأن الله سبحانه وتعالى هو المطلع عليه، فيرى برهان ربه، فلا
يتناول ذلك الماء. وعلى هذا فقوله: (لقد هممت)، من أي أنواع الهم؟
أهو خطرة البال أم العزم المصمِّم؟ إنه العزم المصمِّم؛ لأنه لم
يقتصر على هم النفس، إذ كانت هذه خطة مرسومة، ولذا قال: (يُنادى(2/40)
للصلاة) وقال: (آمر رجلاً فيؤم الناس)، وقال: (أخالف برجال معي
بحزم من حطب فأحرق..)، فهذا هم مؤكد وعزم، لكنه رأى موانع ذلك
فقال: (لولا ما في البيوت من النساء..)، وهؤلاء لا ذنب عليهم؛
لأنهم لا جماعة عليهم. فالهم مصمِّم مؤكد، ولكن هناك موانع منعت من
فعله.
تحقيق الخلاف في حكم صلاة الجماعة
الذين قالوا: الصلاة فرض عين، قالوا: وهل يهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم بتحريق أناس على ترك سنة؟ إذ لا يجوز هذا. ويقول
الآخرون: نعم هم ولكن لم يحرق. وهو مثل قوله: (لولا أن أشق على
أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )، وما أمرهم، فالسواك سنة.
وقوله: (إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي ) فما كلفهم به.
فالقائلون بأنها واجبة على الأعيان قالوا: هم رسول الله بأن يحرق
أقواماً، وهذا تعذيب شديد، ولا يتأتى أن يهم بفعل هذا على أمر
مسنون. ومنهم من يقول: هي فرض كفائي، والفرض الكفائي لو قام به
البعض سقط عن الباقين. ويقول المالكية: لو أن أهل قرية تركوا
الأذان لقاتلهم الإمام عليه، ولو أن قوماً تركوا الجماعة في
المساجد لقاتلهم الإمام عليها، فإذا قام به بعضهم كأن يكون شخص
يؤذن في القرية كلها سقط عن الجميع. فقالوا: إذا قالوا: هي فرض
كفائي فالفرض الكفائي حاصل برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يصلي
معه، ولا يتوقف على المتخلفين في بيوتهم! فالقول بأنها فرض كفائي
لا دليل له. وكونكم تقولون سنة فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يحرق
بالنار على ترك سنة. فهؤلاء يستدلون بنفس الحديث على أنها فرض عيني
لهمه صلى الله عليه وسلم الصادق بأن يوقع هذه العقوبة الشديدة،
ويتبعون البحث بالتأديب بالمال، حيث يحرق البيوت وما فيها. ففي
غزوة تبوك النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجلاً اسمه سويلم من المنافقين، له بيت في قباء كان يجمع الناس هناك، ويبث الدعاية
للتثبيط عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فعلم(2/41)
بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه ثلاثة أن: أحرقوا
عليهم الدار فذهب الثلاثة ومنهم رجل من جيران هذا الرجل، فدخل بيته
وأخرج شعلة من النار ودخل بها إلى البيت وأشعل فيه النار، حتى إن
بعضهم فر وسقط من فوق السطح وانكسرت رجله. فيمكن أن توقع العقوبة
بقدر الخطر الذي يرتكب، وأيضاً لا مانع من جمع العقوبة المالية مع
البدنية. ولذلك قال الذين قالوا: هي سنة: السياق في المنافقين،
فيكون تحريق البيوت على نفاقهم، لا على تركهم الجماعة. وأجاب
الآخرون وقالوا: لا، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم
بأمر المنافقين؛ لأنه أمر فرغ منه. ولذا قال له عمرو -في بعض
المواقف: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فيقول صلى الله عليه وسلم:
(دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ). فقالوا: لا
يقتلهم على النفاق لأنه عرف أمرهم، ولم يعاتبهم ولم يعاقبهم عليه،
بل ترك أمرهم إلى الله. لكن يقال من جانب آخر: هم التزموا بالإسلام
ظاهراً، وبه عصموا دماءهم وأموالهم، واستحقوا المواريث من المسلمين
ومصاهرتهم، واستحقوا السهم في الغنيمة إذا قاتلوا معهم، فيلزمون
بحق الإسلام، فإذا حرق عليهم البيوت فليس على النفاق، ولكن على
ظواهر أعمال الإسلام. وقال الذين قالوا هي سنة: كيف يذهب صلى الله
عليه وسلم ومعه غلمان --وقيل: هم عشرون- ويترك الجماعة لرجل يصلي
بالناس؟ فبما أن الجماعة فرض عين فكيف يجوز لهؤلاء ترك الجماعة؟!
فلماذا لا يصلون أولاً، ثم بعد أن يصلوا يذهبون لإحراق البيوت على
أولئك الناس؟ فقال أولئك الآخرون: وما الذي يمنع؟ فوقت الصلاة
موسَّع، فهؤلاء يصلون بالناس المجتمعين، وهؤلاء يذهبون لتنفيذ
مهمتهم، وبعد أن ينتهوا يصلون جماعة، وهم جماعة بأنفسهم، ولا مانع
من صلاة الجماعة مرة ثانية لتنفيذ المهمة. فكل فريق يحتج بجانب،
ويجيب عليه الفريق الآخر بجانب آخر. ثم قالوا: أرأيتم أهل الأعذار!(2/42)
هل الجماعة في حقهم فرض عين؟ قالوا: لا، لأن العذر يسقطها، وما كل
عذر يسقط الجماعة، فالرجل الأعمى الذي جاء إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أنا بعيد الدار، وأخشى الهوام، وليس
لي قائد فائذن لي أن أصلي في بيتي فأذن له، فلما ولى دعاه وقال:
(هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب ). قالوا: ما هي
الأعذار بعد هذا؟! أعمى لا يجد من يقوده في ظلام الليل! قالوا: هذا
رجل يعرف الطريق متردد عليه لا يحتاج إلى قائد، بدليل أنه كان يأتي
إلى المسجد قبل ذلك، وبعض العميان قد يدل على الطريق، ولذا يقول
الشاعر: أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه
فقالوا هذا الأعمى لا دليل فيه، ثم لما رخّص له ابتداءً عرفنا أنها
ليست بواجبة، ولما أمره بعد الرخصة كان الأمر للندب، وليس للوجوب..
وأما قوله: (والذي نفسي بيده) فهو قَسَم كان يقسم به صلى الله عليه
وسلم عند الاهتمام بالأمر، وعرفنا أن للحديث مقدمة، ولها دخل في
معنى الحديث، والذين قالوا إنها سنة، قالوا: سيق الحديث في أمر
المنافقين، ولأن نهاية الحديث: (لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً
سميناً أو مرماتين.. ) والمرماة: اللحم اللين الرقيق بين
الضلعين، فالغشاء الذي يربط بين الضلوع يسمى (مرماة)، فكما تقول:
يُرمم البنيان. والعرق: وصلة اللحم التي بين ظلفي الشاة، يعني: لو
كان يعلم أنه يجد شيئاً ضئيلاً لخرج إليه. فهل من صفات المؤمن أنه
يفضل مرماة على صلاة الجماعة، أم أن ذلك من صفات المنافق؟! إن
المؤمن لا يعادل بالجماعة شيئاً، حتى كنوز الدنيا، ولا يفاضل بين
الجماعة ومرماة اللحم إلا منافق. فالحديث سيق في أي شيء؟ قالوا:
الحديث سيق في الوعيد والتهديد، وللحاكم أن يهدد بما لا يفعل.
وقالوا: القاعدة أنه إذا وُجِد خطر لا تأتي بأقوى أنواع رده، بل
تتدرج، فلو صال عليك صائل من حيوان أو إنسان، وأتى من بعيد يهدد(2/43)
ويسخط ويسب ومعه العصا، أتأخذ بندقية وترميه، وتقول أدافع عن نفسي؟
فعندما يأتيك إنسان معه عصا أو سوط يقود بها دابة لا تقابله بعصا
غليظة تقتل وتهشم العظم، وتقول أدافع عن نفسي، بل تدفعه عنك
بالتدرج، فتعده وتتوعده، وتهدده بيدك، أو بعصاً مثل عصاه. فالتدرج
في الوعيد مطلوب، وللإمام أن يهدد بما لم يفعل زجراً وتخويفاً، كما
يقال: (علِّق سوطك حيث يراه أهلك). وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم
حين أعلن هذا الوعيد الشديد فإن إعلانه سيصل إلى أولئك في بيوتهم.
قالوا: لقد انزجروا بالوعيد أو قال ذلك ولم يفعل لينتظر أثر الوعيد
والتهديد بالقول، فأثمر فانتهوا وتركوا، فلم تكن هناك حاجة للتحريق
بعد هذا. ثم حديث التحريق وحديث المفاضلة أيهما أسبق؟ لقد ادعى من
قال: إن الجماعة سنة أنه كان الأمر الأسبق بالوجوب، ثم نسخ
بالمفاضلة.. (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة )،
وانتهى أمر التحريق. وبعد هذه المقدمة -وهي خلاصة لما يقال في هذا
الموضوع- نرجع إلى كلام الأئمة رحمهم الله. فنجد المالكية والأحناف
يرون أنها سنة مؤكدة، ونجد عن أحمد رحمه الله ثلاث روايات،
يذكرها صاحب الإنصاف، والأولى بطالب العلم أن يقف عليها، فرواية
أنها واجبة، أي: الجماعة الواجبة، لكنها ليست شرطاً في صحة الصلاة،
ويقول صاحب الإنصاف: إن هذا من مفردات المذهب. والرواية الثانية:
أنها فرض كفائي؛ لأنها شعار للمسلمين في إظهار الجماعة. والرواية
الثالثة: عن أحمد : أنها سنة، كقول الجمهور. والمشهور عند
الشافعية أنها سنة، ويذكرون عن الشافعي رواية في الأم أنها فرض
كفائي، فلم يقل: إنها واجبة وجوب عين واحد من الأئمة الأربعة، ولكن
قال بذلك داود الظاهري وطاوس ، وبعض أهل البيت وغيرهم، وهو
قول خارج عن نطاق المذاهب الأربعة. ولكن جاء عن ابن مسعود قوله: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات(2/44)
الخمس حيث ينادى بهن، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا الرجل
المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم).
وجاء حديث -وقد تكلموا في سنده-: (لا صلاة لجار المسجد إلا في
المسجد ) ولكن نرجع إلى العمومات، وهي حاجة المسلمين إلى
الاجتماع والوحدة، بل إن معاذاً في أثره يقول: (ولا يقولن
أحدكم: إني أصلي في بيتي! إنكم إن فعلتم ذلك تكونون قد تركتم هدي
نبيكم).
الأعذار المبيحة لترك صلاة الجماعة
من ظلمه ظالم، أو كان من طلب ظالم، أو مديناً في دين ولا يستطيع
مواجهة الدائنين فإنهم، قالوا: هذا معذور فقد ارتكب أخف الضررين،
والله يعفو عنه أو كان مريضاً لا يستطيع الذهاب إلى المسجد، وقد
جاء عن ابن مسعود : (كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى
يقام في الصف)، والمصطفى صلوات الله وسلامه عليه في آخر الأمر جاء
يهادى بين علي والعباس تخط قدماه في الأرض، حتى استوى إلى
الصف وجلس. ومن آكد ما سمعت في ذلك قول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في معرض الكلام على صلاة الخوف، قال:
لو أن الصلاة -وهي وفرض- تسقط بشيء لسقطت في القتال، ومع ذلك
والرءوس تتطاير تؤدى، فإن كانوا مقيمين ولا قتال، ولا فر ولا كر في
أرض المعركة قسم الإمام الجماعة قسمين: قسم لحراسة العدو، وقسم
يصلي معه، وهذا مما يدل على وجوب الصلاة، وأنها لا تسقط بحال من
الأحوال، وقالوا: إنها لا تسقط مادام العقل موجوداً وعنده إدراك.
وتقدم في صفتها: (صل قائماً، فإن لم تستطع فجالساً...) فكل ذلك يدل
على وجوب الصلاة. ونحن نقول: صلاة الخوف نجد فيها الجماعة بقدر
المستطاع، ولا تسقط الجماعة في صلاة الخوف إلا إذا دخل وقت الصلاة
وهم في حال الكر والفر، ولا يمكن أن يقع اجتماع ولا إمامة، فكلٌ
يصلي لنفسه على حالته مستقبلاً الشرق أو الغرب أو الشمال أو
الجنوب، ولا مانع في ذلك. وعلى هذا فأقل ما يقال: في ذلك العناية(2/45)
بالجماعة. قال داود الظاهري وطاوس وغيرهما: إنها واجب
عيني، وشرط في صحة الصلاة، ومن صلى منفرداً بغير عذر فلا تسقط
فريضته. يليهما أحمد في رواية عنه أنها: هي واجب عيني، وليست
شرطاً في صحة الصلاة، فتصح صلاة المنفرد دون الجماعة، وهو آثم بترك
الواجب، كما قال أبو حنيفة رحمه الله في الطواف، قال: الطهارة
شرط، لكن ليست شرطاً في صحة الطواف، فيصح طوافه، وعليه دم لتركه
واجباً وهو الطهارة، فللصلاة نظير أيضاً عند غير أحمد . فعند
أحمد أنها فرض عين، ولكن ليست بشرط صحة، ورواية أنها فرض
كفائي، ورواية أنها سنة كما يقول الجمهور. وعند الشافعي : هي
فرض كفائي، وجمهور الشافعية على أنها سنة مؤكدة. ومالك وأبو
حنيفة -رحم الله الجميع- على أن الجماعة سنة، وليست بواجب.
علة المضاعفة إلى خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين ضعفاً
يقول الشوكاني في نيل الأوطار: إن عدد السبع والعشرين سر من أسرار
النبوة وقد بحث ابن حجر في فتح الباري أوجه كون هذا العدد خمسة
وعشرين أو سبعة وعشرين وسبب ذلك، فمن أراد فليرجع إليه، وفي فتح
الباري ذكر أقوالاً عديدة، والواجب على طالب العلم أن لا يقول: هذا
ترف علمي، ولكن يقول: هذا منهج علمي، وننظر إلى أي مدى بذل العلماء
الجهد في توطيد المسائل بين يدي طالب العلم. وفي الحديث: (صلاة
الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه بخمسة وعشرين
ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا
يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها
خطيئة، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة ). فأراد بعض
العلماء معرفة موجب التضعيف إلى الخمسة والعشرين. ثم ذكر عشرة أو
اثني عشر وجهاً، ومنها أنه قال: عزمه عندما سمع النداء بأن يجيبه
طاعة، والعزم على إجابة المؤذن طاعة، فأجاب المؤذن فيما قال، وأسبغ
الوضوء. ومشى إلى المسجد، ثم دخل المسجد وصلى تحية المسجد، ثم وقف(2/46)
ينتظر الإمام حتى يقيم، ثم ائتم بالإمام وأمَّن وراءه، أو اشترك في
تأمينه، وسمع القراءة في الجهرية، واشترك مع الإمام في هذا الجمع،
ثم تعرف على إخوانه، وتآلف مع الآخرين، ورجع من المسجد إلى البيت
ماشياً، فهذه حسنات، وكل واحدة تساوي درجة من صلاة الفذ؛ لأن الفذ
ليس عنده شيءٌ من ذلك. وبعضهم يقول: إن أقل الجماعة ثلاثة، وكل
واحد من الثلاثة نوى الجماعة بغيره، وغيره نيته الجماعة بغيره،
فيكون هنا ثلاثة أشخاص لهم نية جماعة، والحسنة بعشر أمثالها، فتصير
ثلاثين حسنة. وأحسن ما يقال في هذا الحديث أنه يتهيأ إلى الصلاة،
ولأنه منذ أن يسمع النداء أو يعلم دخول الوقت يتوجه بفكره إلى أداء
الواجب، ثم يسبغ الوضوء، وإن كان الإسباغ مشتركاً في كل الصلوات،
ثم يخطو الخطوات إلى المسجد، وجاء في الحديث الآخر أن له بكل خطوة
حسنة أو درجة، وتمحى عنه سيئة، فلا يأتي المسجد إلا وقد محيت
خطاياه، وتكون الصلاة نافلة له. وهناك أيضاً حديث الوضوء، وإن كان
أعم من ذلك: (إذا توضأ العبد المسلم -أو المؤمن- فغسل وجهه خرج من
وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء،
فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء.. )
فجاء الحديث في تكفير الذنوب المقترفة بهذه الحواس. ولعلنا بهذا
ندرك أن كون الوضوء في هذه الأعضاء لأنها الحواس والجوارح
المكتسِبة، فالظهر لم يكتسب شيئاً، والرأس لم يكتسب شيئاً، لكن
العين والأنف والفم واليد والرجل كلها تكتسب، فيكون غسلها بماء
الوضوء غسلاً لآثار ما اكتسبت واجترحت من سيئات. فهذه ناحية لمن
أراد من طلبة العلم أن يقف عليها، ولا أقول: الوصول إلى تحقيق
الغاية، أو تحقيق المناط في تضاعف صلاة الجماعة سبعة وعشرين، ولكن
إلى ما حاول الفقهاء رحمهم الله أن يستنتجوه أو يرسموه؛ ليكون(2/47)
نوعاً من أنواع استنتاج الأحكام أو تعليلها. ونعلم قصة الشافعي رحمه الله في حديث: (يا أبا عمير ! ما فعل النغير؟ )، فقد
بات ليلة كاملة صلى فيها الفجر بوضوء العشاء يفكر في هذا الحديث،
ويقول: لقد استخرجت منه أربعين مسألة فقهية. فعلينا أن نطرق أبواب
العلماء فيما بوبوه في كتبهم لننظر فيما ادخروا لنا في تلك الخزائن
النفيسة. قال صلى الله عليه وسلم: [وعنه رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة
العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً )].
هذا النص صريح بأن الثقل: على المنافقين، والهم: بالتحريق كان
أيضاً موجهاً على المنافقين. ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى
لنا ولكم الهداية والتوفيق.
134461 ( كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [2] )
( كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [2] )
عناصر الموضوع
1 تابع أحكام صلاة الجماعة
2 الصفوف في صلاة الجماعة
3 مسائل في النوافل
كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [3]
الاقتداء بالإمام في الصلاة واجب، ويكون ذلك في الأفعال الظاهرة
المنصوص عليها، وفي حالة عدم سماع الإمام وعدم رؤيته فإن السنة أن
يقتدي كل صف بالذي قبله، وفي الأحوال التي يكثر فيها المصلون يجوز
للإمام أن يتخذ مبلغاً، ويجب على المصلين أن يسووا صفوفهم، وأن تقترب
الصفوف من الإمام ومن بعضها، ويجوز أداء النافلة في المسجد جماعة، مع
أن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.
تابع أحكام صلاة الجماعة
وجوب الاقتداء بالإمام في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين
اصطفى. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام
ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع
فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده،(2/48)
فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى
يسجد، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً
أجمعين ) رواه أبو داود وهذا لفظه، وأصله في الصحيحين] .
وقد وجدنا من المؤلف في هذا الموضع المغايرة في أسلوبه، فساق حديث
أبي هريرة رضي الله تعالى عنه -وهو جزء من حديث طويل- أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به )، وذكر
التفصيل في حالات الائتمام، إلى أن جاء إلى اقتداء الصحيح قائماً
بالمريض قاعداً فقال في حديثه: (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً
أجمعين )]. ثم ذكر حديثين بعيدين عن هذا الموضوع، وجاء إلى حديث
عائشة ، وهو جزءٌ من تفصيل هذه المسألة التي هي من كبريات
المسائل، ألا وهي اقتداء المأموم الصحيح القادر على القيام بالإمام
المريض الذي يصلي قاعداً، وكان من الأنسب أن يضم حديث عائشة رضي الله تعالى عنها إلى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
ولكن حيث رتب هذا الترتيب نمر على تلك الأحاديث على ما وضعها عليه،
ونستعين الله تعالى في بيان ما هو الحق أو الراجح في هذه المسألة؛
لأنها أهم المسائل في هذين الحديثين. الحديث الأول يقول فيه أبو
هريرة رضي الله تعالى عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إنما جعل الإمام ليؤتم به )، وهذا الحديث جزءٌ من حديث طويل
روته أيضاً عائشة وأنس وغيرهم، وهو: (أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم سقط عن فرسه فجحشت ساقه أو كتفه -وفي بعض الروايات:
فصلى خلفه قوم، وبعضها: في بيته فصلى جالساً، فصلوا بصلاته قياماً،
فأشار إليهم أن اجلسوا، فجلسوا ). ثم بين هذه التفصيلات التكبير
أولاً، تكبيرة الإحرام.. ثم الركوع فالرفع.. فالسجود.. فالرفع..
فالسلام.. إلى آخره. فبداية الحديث من حيث السبب: أنه صلى الله
عليه وسلم سقط عن فرس فجُحِش، ونحن نقول: خُدش، والجحش هو: إذا
احتك جسم الإنسان في أي موضع منه مع الحركة بجسم صلب، فإن الجلدة(2/49)
تتقشر ويبدأ بزاز الدم، وهو لم يُجرح، ولكن كشطت الجلدة العليا
ويكون الدم الخارج منها خفيفاً، فجحش فخذه؛ لأن الذي يسقط عن متحرك
وسريع ينسحب معه، ولا ينزل إلى الأرض ثابتاً كالحجر. وهنا يتكلم
ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد في الجزء السادس، وهو أحسن
من تكلم على هذه الجزئية في هذا الحديث، يقول: في بداية هذا الحديث
بيان جواز ركوب الخيل، ويقول رداً على كلام عمر ونهيه عن ركوب
الخيل لأن فيها خيلاء، ولكن نقول مع ابن عبد البر : لا نزاع
ولا خلاف بين نهي عمر ، وبين ركوبه صلى الله عليه وسلم؛ لأن
نهي عمر إنما يكون في حالات عادية كالنزهة، والتمشية، في
المتعة، قد يكون ذلك إذا ركب الخيل وهي مطهمة أو غير ذلك. كما جاء
في بعض الأحاديث: (الخيل ثلاثة هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي
لرجل أجر، فأما الذي هي له وزر: فرجل ربطها رياء، وفخراً، ونواءً
على أهل الإسلام، فهي له وزر، وأما الذي هي له ستر: فرجل ربطها في
سبيل الله، ثم لم ينس حق الله في ظهورها، ولا رقابها، فهي له ستر،
وأما الذي هي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج
وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما
أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات ). فيكون كلام
عمر محمولاً على من يتبختر بالخيل، أو يتكبر بها، أو يتباهى،
والرسول صلى الله عليه وسلم لا أعرف أنه ركب خيلاً في سفر عادي،
إنما ركبها في القتال والجهاد فقط، وأما الأسفار فعنده البغلة
الشهباء، وعنده الناقة القصواء. وعمر بنفسه لما سافر في فتح
بيت المقدس، وطلبوا منه أن يقدم عليهم رحل على بعير، ومعه رفيق في
الطريق، كانا يتعاقبان البعير في الطريق إلى الشام، كل واحد منهما
يركب مرحلة والثاني يقود البعير، فلما لقيه أمراء الأجناد قبل أن
يصل إلى بيت المقدس قالوا: يا أمير المؤمنين إنك تقدم على أناس،(2/50)
وأنت على هذه الحالة قميص مرقع، وعلى بعير مرحل، هذا برذون تركبه،
والبرذون ما بين الفرس والبغل، وله تبختر في المشي، وهذا قميص جديد
تلبسه، فلما جيء بالقميص وكان من الكتان قال: ردوا علي قميصي
واغسلوه فغسلوا القميص المرقع، وجيء به ولبسه، فلما قدموا إليه
البرذون فإذا به يتبختر، فقال: ما كنت أظن أن أحداً يركب شيطاناً،
ردوا إلي بعيري، وكان رحاله من الليف. فدخل إلى بيت المقدس والدور
لصاحبه، فكان يقود البعير وصاحبه راكب، فلما قدم على دهاقنتهم،
وقساوستهم وأهل دينهم الذين عرفوا نعته عندهم قالوا: هذا الوصف
الذي نجده عندنا في كتبنا، وسلموا إليه مفاتيح بيت المقدس. وجاء عن
عمر رضي الله تعالى عنه أنه في سفره إلى الشام أيام الجاهلية
قبل أن يسلم قال: فكنت أسير في السوق فإذا دهقان من دهاقينهم وجدني
متخلفاً عن قومي، فأخذ بردائي ولببني في عنقي وأدخلني داره، وأتاني
بمسحاة وقال: انقل هذا التراب إلى ذاك المكان. فنظرت إلى نفسي
وقلت: ويلك يا عمر ! أهكذا يتحكم فيك هذا الرومي؟ قال: فأخذت
المسحاة وضربته على رأسه، فقتلته، ودفنته في ذاك التراب وهربت.
قال: خرجت هارباً ولا أعرف الطريق؛ لأني تركت رفاقي قال: فمررت على
دير فنزلت فيه وذلك في ظلام الليل، فلما أصبحت أطل عليَّ صاحب هذا
الدير فقال: والله إنه هو إنه هو فما كنت أدري ماذا يقول؟ فنزل
إليَّ وأخذ بيدي وأدخلني الدير، وأمنني وكساني وأطعمني، ثم قال:
والله إنك هو قلت: من هو ويلك؟ قال: أنت الذي يملك هذا الدير،
ويملك بيت المقدس. قلت: لقد جننت أين أنا من هذا؟ قال: لا عليك
فاكتب لي كتاباً بتأمين ديري هذا إذا آل الأمر إليك يقول عمر :
عجبت فقلت: وماذا عليَّ لو كتبت له فكتبت له، ثم قلت: أريد من
يدلني على الطريق، فقال: هذه حمار تركبها وعليها زادك توصلك إلى
مكان، فإذا وصلت هناك، فانزل عنها واثن رأسها ووجهها إليَّ، فإنها(2/51)
تعرف الطريق وتعود. يقول علماء التاريخ: لما آل الأمر إلى عمر جاءه ذاك الدهقان بكتابه، فقال: هذا كتاب بيني وبينك يا عمر قال: نعم، اليوم يوم وفاء، ولكن بشرط أن للمسلمين عليك إذا مروا
بديرك أن تدلهم على الطريق، وأن تؤويهم للمبيت، وأن تزودهم بطعام
يومهم وليلهم. قال: لك عليَّ ذلك. فعن هذا الحديث يقول ابن عبد
البر : فيه جواز ركوب الخيل. ثم يقول: لقد كان النبي صلى الله
عليه وسلم من أفره الناس ركوباً للخيل، وأشدهم حركة عليها، وهذه هي
الفروسية، لا أن يركب على الفرس ويمكن نفسه في الركاب، ويمد اللجام
في يده، ويمرح به الفرس، لا، بل الفروسية أن يتحرك على الفرس بطناً
وظهراً كما يشاء؛ لأن الفارس قد يتقي الطعنة بانحرافه إلى تحت بطن
الفرس، وقد حدثنا من شاهد ذلك في الصحراء بأن الفارس يربط قدميه
على ظهر الفرس ويتدلى تحت بطنها ويرمي الرصاص من بين فخذي الفرس.
فيقول: ما سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرس إلا لشدة
حركته عليه لا لمجرد ركوبه، وكان أشجع الناس، وكان أقدرهم على
الحركة على الخيل، وأكرم الناس، وذكر صفاته صلى الله عليه وسلم.
واستدل لذلك بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في بعض الليالي أنه
سُمعت صيحة، فاستعار صلى الله عليه وسلم فرساً لطلحة عرياً
-أي: لا سرج عليه- وانطلق وسبق الناس جميعاً فطرد المهاجمين، ورجع
ولقي الناس مقدمين وهو راجع، فقال: (يا أيها الناس! لن تراعوا )،
فسئل عن الفرس فقال: (إنه لبحر )، أي: لا نهاية لجريه فهو سريع
الجري. وما كان يعرف البحر ولا النهر ولا الخليج في الخيل إلا أنه
خيال متقن إذا ركب الفرس وأسرع به وتحرك عليه كحركة الفروسية، وإني
استحيي أن أقول: إن ما يُعنى به الناس اليوم من سباق الخيل ليس على
الغرض الذي أراده الإسلام؛ لأن سباق الخيل إنما هو سباق للفرسان
وللفروسية، لا لأطفال يجرون عليها، ولا لخيول فارهة سريعة الجري،(2/52)
إن حقيقة الفروسية هي ما يأتي به الفارس من فروسية على ظهر جواده،
وهذا أمر يعرفه الخيالة، وقد يفعل مثل ذلك على الإبل من يتعود ذلك.
إذاً: فالغرض من ركوب الخيل وجريها إنما هو فروسية الفارس الذي
يركبها، وليست جودة الجواد في سرعة جريه. فكان صلى الله عليه وسلم
من خيار الناس فيما يتعلق بأمور الدنيا، وهو سيد الرسل صلوات الله
وسلامه عليه فيما يتعلق بأمر الآخرة وأمر الرسالة. قوله: (جُحِش)
قال ابن عبد البر : فأصيبت قدمه ولم يستطع القيام عليها، فصلى
قاعداً. يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله، ويقول علماء الحديث:
إن معرفة سبب الحديث يعين على فهمه، كمعرفة سبب النزول للآية. هكذا
هنا. فحديث أبي هريرة في حادثة متقدمة، وفي بعض الروايات: (جاء
أناس يعودونه) أي: في البيت، فأرادوا أن يصلوا، ولذا في بعض
الروايات: (فصلى أقوام) وليس المعنى أنه صلى معه جميع الناس.
ويهمنا في هذا الحديث أنه صلى قاعداً، فقاموا يصلون بصلاته قياماً،
فأومأ إليهم: أن اجلسوا ولما سلموا قال: (كدتم أن تفعلوا فعل فارس
والروم بعظمائهم )، أي يقومون على رءوس ملوكهم إعظاماً وخضوعاً
بين يدي ملوكهم، أو تكبيراً أو تكريماً لهم بهذه الحالة. فنهاهم عن
ذلك. ثم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به )، و(إنما) أداة حصر
تحصر ارتباط المأموم بال
الأفعال التي يجب على المأموم متابعة الإمام فيها
الإمام والقائد كل منهم له حق المقدمة. فالإمام يصلي، وتبدأ صلاته
بالنية، ثم تكبيرة الإحرام، ثم بعد ذلك الدعاء قبل القراءة، ثم بعد
ذلك الفاتحة، فإن كانت جهرية جهر بها، ومع الفاتحة ما تيسر من كتاب
الله يجهر به، ثم يركع ويسبح، ثم يرفع، وهناك أشياء منصوص عليها،
وهناك أشياء لا نص عليها، فهل المأموم يأتم بالإمام في كل شيء، أو
فيما هو ظاهر من الأعمال؟! هناك من أخذ الحديث على عمومه باعتبار
(إنما) للحصر، فقالوا: من الصلاة النية، فيؤتم بالإمام في النية في(2/53)
الصلاة فلو كان الإمام مفترضاً والمأموم متنفلاً أو العكس، فهل يصح
ذلك مع أنه لم يقتد به؟ وإذا كان الإمام في نية عصر والمأموم في
نية ظهر فهل ائتم به في نية وهي من الصلاة؟ فمن قال الإمام يؤتم به
في كل شيء وأدخل النية في ذلك لم يصحح صلاة مأموم بإمام تختلف
النية بينهما، وهذا واقع، ولكن وجدنا أحاديث أخرى تسمح في مغايرة
النية. أما الأحاديث التي فيها مغايرة النية فمنها ما سيأتي في
حديث معاذ ، حيث كان يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم
في مسجده، ثم يذهب إلى قباء فيصلي بهم العشاء نافلة له وفريضة لهم
، فاختلفت النية ما بين فرض ونافلة. وكذلك ما جاء في حق الرجلين
الذين رآهما صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح جالسين لم يصليا
معه، فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا
فقال: لاتفعلوا إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل
فليصل معه فإنها له نافلة ). ومن هنا قالوا لو أن إنساناً نام
عن الظهر وجاء والإمام في صلاة العصر فهنا يقع الخلاف. فمَن قال
يؤتم به حتى في النية لا يُجوِّز لصاحب الظهر أن يأتم بصاحب العصر.
والذين قالوا: النية خارجة عن ذلك، أو أخذوا بالنصوص الأخرى،
قالوا: لا مانع، وهذا رأي الشافعية، حيث يقولون بصحة صلاة المأموم
المقتدي بالإمام مع اختلاف النية.
متى يشرع المأموم في تكبيرة الإحرام؟
وقد بدأ بيان الاقتداء بقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر )،
فلم ينص على النية، فبعضهم قال: إنها خارجة عن محل الائتمام.
وبعضهم قال: هي مبدأ الصلاة، على عموم: (يؤتم به)، ولكن التفصيل
النبوي أسقط الكلام في النية، فأخذوا دليلها من العموم. قوله:
(فإذا كبر) هي عبارة عن جملة، أي: إذا قال: الله أكبر، كما يقال:
هلل إذا قال: لا إله إلا الله، وحوقل إذا قال: لا حول ولا قوة إلا
بالله. وهذه التكبيرة من الألفاظ التي لا يجزئ افتتاح الصلاة(2/54)
بغيرها. وقوله: (فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر)، تأكيد بعد
التأسيس، و(إذا) ظرف، والتكبير له بداية وله نهاية، وبدايته
الهمزة، ونهايته الراء من (أكبر)، فالمراد بقوله: (إذا كبر) إذا
بدأ في التكبير فابدأ، أي: وتشاركونه في بعضها، فيبدأ قبلكم
وتشاركون في بعضها، وينهي تكبيره قبل تكبيركم، أو إذا كبر وفرغ من
التكبير كله تبدأون أنتم، فعندما يفرغ من الراء في (أكبر) تبدأون
أنتم بالهمز، من (الله). وأصل هذا مسألة (هل العبرة بأوائل الأسماء
أو بأواخرها؟) وهذه مسألة تدخل في كثير من الأحكام، فلو جاء القاضي
سندٌ بألف ريال، وفيه: يُدفع في رمضان. فهل المراد أول يوم يدخل من
رمضان، أم بعد أن ينتهي رمضان، أو قبل انتهائه بيوم؟ إن قلنا:
العبرة بأوائل الأسماء فلصاحب الحق أن يطالب أول ما ظهر هلال
رمضان، وإن قلنا: العبرة بأواخر الأسماء فعليه أن ينتظر حتى ينقضي
رمضان. وهنا (إذا كبر) يعني: إذا بدأ وشرع في التكبير، فهل نتبعه
ونشرع معه، أم حتى ينتهي من التكبير؟ الجمهور على أنه إذا بدأ وشرع
فلنا أن نبدأ معه، وإن كنا نصاحبه في بعضها، وهذه دون غيرها مما
ذكر في أركان الصلاة، ولو تقدم المأموم إمامه وكبر قبل أن يكبر
الإمام -سواءٌ أبدأ بعده وأسرع قبل أن يفرغ الإمام، أم بدأ
بالتكبير قبل أن يبدأ الإمام فلا ارتباط للمأموم بالإمام؛ لأن
تكبيرة الإحرام هي افتتاح الصلاة. فإذا تعجّل وكبّر قبله كأنه لم
يرتبط بإمامه، وكذلك السلام.
متى يشرع المأموم في بقية أفعال الصلاة؟
قوله: (فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا
ولا تركعوا حتى يركع)، التفصيل في الركوع والرفع والسجود كالتفصيل
في التكبير، فإذا كان قائماً، وأهوى إلى الركوع فهل نبدأ بالهوي
ونشاركه، ويسبقنا وينتهي من ركوعه قبلنا، أم ننتنظر حتى يكمل ركوعه
فنشرع نحن في الركوع؟ الكلام في هذا كالكلام في التكبير. قوله:(2/55)
(وإذا رفع فارفعوا) يقول العلماء: لوحصل التسابق فيما دون تكبيرة
الإحرام، فركع قبل إمامه أو رفع قبله لاتبطل الصلاة، ولكنه مخالف،
وهو متوعدٌ بوعيد شديد، وقوله قوله صلى الله عليه وسلم: (أما يخاف
الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول رأسه رأس حمار )، ويعلق عليه
العلماء مع هذا الوعيد بتغيير الوجه، فلم يقل صلى الله عليه وسلم:
وليعد الصلاة، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: بطلت صلاته. ولكن ذكر
هذا الوعيد وسكت. ولكن تكبيرة الإحرام تختلف؛ فإن من سبق الإمام
فيها لم يدخل معه في الصلاة، وكذلك السلام، فلو سبق الإمام في
السلام كأنه تعجل عن الإمام وخرج عن إمامته.
حكم جمع الإمام والمأموم بين التسميع والتحميد
قوله: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد)
هذه المسألة تقدمت في صفة الصلاة، وهل الإمام والمأموم سواء
فيجمعون بين التسميع والتحميد، أم أن الإمام يكتفي بقوله: (سمع
الله لمن حمده)، والمأموم يُكمل (ربنا لك الحمد)؟ الأرجح في
المسألة أن كلاً من الإمام والمأموم له أن يقول الذكرين معاً (سمع
الله لمن حمده)، (ربنا لك الحمد). ويأتي الخلاف أو النقاش في
اللفظ: (ربنا لك)، و(اللهم ربنا) بزيادة (اللهم)، والصنعاني يقول: الأفضل أن يأتي بقوله: (اللهم)، وبالواو في: (اللهم ربنا ولك
الحمد)، قال لأن زيادة هذه الحروف فيها زيادة معنى. أما زيادة
(اللهم) فهي عنده باتفاق، ومعناها: اللهم ربنا استجب لنا، ولك
الحمد على إجابتك لنا. فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. ومن
العلماء من يرى أن يقتصر المأموم على التحميد نصاً، لهذا الحديث.
وبعض المذاهب الأخرى تقول: المنفرد والإمام سواءٌ؛ لأن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يقول الذكرين معاً التسميع والتحميد، وفي
تعليمه أيضاً علم الشخص بأن يقول الذكرين معاً التسميع والتحميد.
والأنسب في ذلك أن كلاً منهما جائز، فإن اقتصر الإمام على التسميع(2/56)
وكمل المأموم بالتحميد، أو جاء كل منهما بالذكرين معاً فلا بأس في
ذلك. وإن جاء المأموم بلفظ (اللهم)، وبالواو في (ولك الحمد) فلا
مانع، وإن اقتصر على نص هذا الحديث فلا مانع. ثم قال صلى الله عليه
وسلم: (وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد ).
مسألة: إذا صلى الإمام قاعداً
قوله: (وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا
قعوداً أجمعين). قال: في بداية الحديث: (إنما جُعل الإمام ليؤتم به )
والائتمام شامل لأن تأتي بكل ما يأتي به الإمام، ولكن في التفصيل
والبيان لم يذكر لنا صلى الله عليه وسلم إلا الأعمال الظاهرة،
كتكبيرة الإحرام (الله أكبر)، والركوع، والرفعُ والتسميع، والسجود.
ولم يذكر لنا الدعاء أو الذكر حال كونه راكعاً، ولم يذكر لنا
التسبيح أو الذكر حال كونه ساجداً، ولم يذكر لنا الدعاء بين
السجدتين، فالمأموم معفيٌّ عن اقتدائه وائتمامه بالإمام في مثل هذه
الحالات؛ لأنها خفية، وتُرِك لكل واحد منهما أن يأتي بما تيسر له،
وليس في هذا ائتمام، ولكن الائتمام يكون في الفعل الظاهر. ثم ختم
هذا البيان في الائتمام: (فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً )، وهذا
لا غبار عليه إلا من كان معذوراً، فمن كان له عذر لا يستطيع القيام
فهو خارج عن هذا الأمر، فيُصلى الإمام قائماً، والمأمومون القادرون
يصلون قياماً، والمأموم العاجز عن القيام يصلي جالساً. (وإذا صلى
قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين ). من طبيعة الائتمام أن تصلي
قاعداً إذا كان الإمام يصلي قاعداً؛ لأنك أُمرت أن تأتم به، بقوله:
(وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين )، وقد روي: (أجمعين)،
و(أجمعون)، وكلاهما من حيث الإعراب صحيح، فـ(أجمعين) على أنها حال،
والحال منصوب، وهذا جمع مذكر سالم منصوب علامة نصبه الياء
و(أجمعون): على أنه توكيد لضمير تقديره: صلوا خلفه قعوداً، وهنا
الضمير في محل رفع فاعل لـ(صلوا)، وهنا تكون (أجمعون): توكيداً(2/57)
مرفوعاً تبعاً للمؤكَّد. ويهمنا أمره صلى الله عليه وسلم للمأمومين
إذا أمهم إمامهم قاعداً من مرض فإنهم يصلون خلفه قعودً. لو أن
الإمام كان عاجزاً عن قعوده، وصلى مضطجعاً -ومن حق الإنسان إذا لم
يستطع أن يصلي قاعداً أن يصلى على جنبه- فهل يأتمون به ويصلون على
جنوبهم؟ والجواب: لا. فإذا نزلت قدرة الإمام عن الصلاة قاعداً فلا
ائتمام به.
الصفوف في صلاة الجماعة
الأمر بتسوية الصوف
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً، فقال: تقدموا
فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم ). رواه مسلم ]. هذا الحديث
يبين لنا تنظيم الصفوف، ويبين لنا فضائل أوائل الصفوف، فالنبي صلى
الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً فقال: (تقدموا فائتموا بي)
-أي: الصف الأول- وليأتم بكم من بعدكم، أي من الصفوف الأخرى الثاني
والثالث، وما بعدهما. فقوله: (رأى في أصحابه تأخراً) هل هو قبل أن
يدخل في الصلاة، أم بعد أن دخل فيها نبههم؟ جاء أنه صلى الله عليه
وسلم قال: (أقيموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهري ). فيمكن أن يكون
رأى هذا التأخر بعد أن دخل في الصلاة، ثم نبه على ذلك، أو أنه رأى
ذلك قبل أن يدخل في الصلاة وهو الأغلب؛ لأن على الإمام أن ينظر في
صفوف المصلين قبل أن يدخل في الصلاة، وقد كان صلى الله عليه وسلم
ينظر في الصفوف ويسويها، وكما جاء في بعض الروايات: (كأنه يسوي
القداح ) أي: على صف معتدل. وإذا رأى من شخص بروزاً رده، وإذا
رأى من شخص تأخراً حثه على التقدم، وهكذا.
حدُّ المسافة التي تكون بين الصفين
ما حد التأخر وما حد التقدم؟ وما هي المساحة التي تكون بين الصف
الأول والإمام، وبين الصف الأول والذي يليه؟ معلوم أن أقل ما يمكن
هو ما يتسع لسجود المصلين في الصف من غير تضييق. ولذا قال العلماء
فيما يتعلق بسترة المصلي: إن موقعها بينه وبين موقفه ثلاثة أذرع،(2/58)
أي: من قدمه إلى موضع سجوده؛ لأن هذه المسافة هي التي يتأتى للمصلي
أن يتحرك فيها بيسر. وعليه قالوا: السنة فيما يكون بين الصفوف من
الفراغ هو قدر ما تكون السترة من المنفرد، أي أن عليه أن يجعل بينه
وبين الصف الذي أمامه قدر ما يجعل المنفرد بينه وبين سترته، أي:
ثلاثة أذرع. ولو أن الصفوف قد ازدحمت فماذا يفعل؟ لقد بوّب الفقهاء
باباً فيمن زُحِم يوم الجمعة، فعمر رضي الله تعالى عنه أمرهم
أن يركعوا ويسجدوا على ظهور بعضهم، فيمكن أن يكون بين الصف والصف
طول الفخذ فقط، وهو ذراع، ويسجد على ظهر الذي أمامه، وهكذا في شدة
الزحام. ثم ذكر الفقهاء أيضاً أنه إذا لم يستطع أن يصل إلى الأرض
ليسجد فإنه ينتظر حتى يقوم الصف الذي أمامه ويسجد، ثم ينهض فيدرك
الإمام. فهذه مسائل في صلاة الأعذار، ولكن الذي يهمنا الآن في
تنظيم الصفوف، فالواجب على المأمومين أن يتراصوا مع إمامهم، ولا
تكون هناك الفجوات الطويلة بين الصف والإمام. وربما تجد في بعض
المساجد من يصف دون الصف الذي أمامه بمسافات ومراحل تزيد على عشرة
وعشرين وخمسين متراً، وهذا لا يجوز، لقوله صلى الله عليه وسلم:
(تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم)، أي: تقدموا فاقتدوا بي،
وليقتدِ بكم من وراءكم. وتجد بعض الأحيان الإمام في المحراب
والصفوف وراءه، ثم تجد صفاً بينه وبين الصف الذي يليه عشرات
الأمتار، فلا يجوز ذلك ولا ينبغي، وليس من سنة الجماعة هذا العمل.
فتسوية الصف أولاً، ومراعاة الإمام للمأمومين، وقد كان صلى الله
عليه وسلم يرسل بلالاً يمر بين الصفوف يعدلها، وكان بلال يقول: (لا تسبقني بآمين)، حيث يكبر صلى الله عليه وسلم ويقرأ،
وبلال يتخلل الصفوف لينظر المتخلف أو المتقدم أو المتأخر
ليعدله، فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبقني بآمين) أي:
إن فضل آمين فضل عظيم، ولا أريد أن أسبق به وأنا أؤدي المهمة.
ائتمام كل صف بالذي قبله واتخاذ المبلغين(2/59)
بقي هنا قوله: (فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم). فقبل وجود هذه
الأجهزة التي تقوم بنقل الصوت وإبلاغه كان صوت الإنسان محدوداً،
فمن كان في الصفوف المتأخرة عن الإمام لا يرى الإمام ولا يسمع
صوته، ولكنه يرى الصف الذي أمامه، وكذلك كل صف -وإن تأخر- يرى
أمامه الصف الذي أمامه، فكل صف يقتدي بالصف الذي أمامه في الحركة،
في الركوع والرفع، والسجود والجلوس. وفي كون المتأخرين يقتدون
بالذين أمامهم يقول الشارح: لو أن متأخراً مسبوقاً جاء ووجد الصف
الذي يليه راكعاً فأدرك الركوع معه فإنه يكون قد أدرك الركعة، ولو
أن الإمام قد رفع رأسه؛ لأن حكمه أن يقتدي بالذي يليه، وهو لا يدري
عن الإمام رفع أم لم يرفع. ويدل لهذا قصة أبي بكرة حينما جاء
مسبوقاً، ووجد الرسول صلى الله عليه وسلم راكعاً والناس ركوعاً،
فكبر للصلاة قبل أن يصل إلى الصف ليدرك تكبيرة الإحرام، وركع حيثما
كبر، ودب راكعاً حتى وقف في الصف، فقال له صلى الله عليه وسلم:
(زادك الله حرصاً ولا تعُد ) وروي (تعِد) و(تعْدُ)، وكل هذه
الألفاظ جاءت وهي في الكتابة سواء. فـ(لا تعُدْ) من العود، والفعل
الأجوف معتل العين إذا سكنت لامه سقطت عينه. و(لا تعِد) من أعاد
يعيد. و(لا تعْدُ)، واوي اللام من العَدْو، وواوي اللام أو معتل
اللام إذا جُزم تكون علامة الجزم حذف حرف العلة، أو حذف لام فعله.
ويهمنا في هذا اقتداء الصف المتأخر بالصف الذي أمامه. وهنا نرجع
إلى موقف أبي بكر رضي الله تعالى عنه بجوار رسول الله صلى الله
عليه وسلم كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها،
حيث كان يُسمِع الناس تكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول
صلى الله عليه وسلم مريض، ويكبر للركوع، ويسمِّع، ويحمَد في الرفع،
ويكبر للسجود وغيره، والناس وراءه صفوف، لم يُسمعهم ولم يروه، فكان
أبو بكر رضي الله تعالى عنه يُسمع من وراءه من المصلين التكبير(2/60)
في الانتقال، ومن هنا أخذوا أن للإمام إذا كان عاجزاً عن إبلاغ
الناس بصوته أن يتخذ مبلِّغاً. ولذا قال مالك في الرواية
الأخرى عنه فيما لو صلى الإمام الأعظم أو الراتب قاعداً، وصلى
المأمومون خلفه قياماً، يقول: أحب إلي أن يقوم بجانبه واحد منهم
يبلغهم تكبيراته، أي: يطبق الصورة التي جاءت في صلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم. واتخاذ المبلِّغ في الصلاة له أصل من السنة، ولا
نقول: إنه بدعة. ولا نقول: إنه خلاف الواقع، فإذا دعت الحاجة إليه
فلا مانع، أما أن يكون إمام يصلي ومعه عشرة مأمومين، أو خمسون، أو
صف واحد، أو صفان فيتخذ مبلغاً يبلغهم صوته فلا حاجة لذلك، أما إذا
كانو صفوفاً متعددة فهناك يحتاج الأمر إلى من يبلغ، ثم إن التبليغ
ليس خاصاً بالصلاة، بل كان العلماء رحمهم الله تعالى في بادئ الأمر
يتخذون مبلغين عنهم، يبلغون من في الحلقة ما يروون من الأحاديث.
وقيل لمالك رحمه الله لما اتسعت حلقة درسه في المسجد النبوي:
اتخذ مبلغين يبلغون عنك. قال: لا، أخشى أن أكون ممن يرفع صوته فوق
صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتخذ مبلغين. فالتبليغ تدعو
إليه الحاجة، وقد وجدنا نظير ذلك، ألا وهو تعداد الأذان في المسجد
الواحد، فإذا كبرت القرية وكان المؤذن الواحد لا يُسمعها فيجوز أن
يتعدد المؤذنون، فيقفون كلٌ يؤذن إلى جهة من الجهات، ويكون عددهم
بقدر الحاجة اثنان أو ثلاثة أو أربعة، وهل يؤذنون متتالين واحداً
بعد الآخر، أو مجتمعين في مكان واحد وفي وقت واحد؟ جاء عن أحمد وعن مالك جواز في اجتماعهم في وقت واحد ما لم يكن هناك تشويش.
وقد يقول قائل: الآن أصبحت الأجهزة والمكبرات تبلغ أكثر من المبلغ،
فما حاجتنا إلى مبلغين الآن؟ والجواب: يمكن أن يقال: هذا وجه له
نظر، ولكن هناك أيضاً احتمال آخر، فالأصل المشروعية، سواءٌ أجاء
هذا الجهاز يبلغ عن المبلِّغ، أم يبلغ عن الإمام؛ لأن هذا جهاز(2/61)
يعمل بطاقة وآلة فهو معرض للتوقف والتلف، وفي بعض الحالات تتعطل
الكهرباء في الضوء وفي الصوت، وكم يحصل من اضطراب واختلال. فمادام
أن الأصل المشروعية، وجاء هذا الجهاز لزيادة بيان وزيادة خير فلا
مانع، ولا نجعل مثل ذلك موضع تشكيك، أو موضع تبديع للناس. وقوله:
(تقدموا فائتموا بي) هذا خاص بالرجال، أما النسوة فلا تقدم لهن،
وقد جاء ما يخصهن: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها )، ولا
يوجد شر في الصلاة، ولكن هذا شر نسبي، أي: بالنسبة لفضيلة الصف
الأول، فإن الصف الأخير لم يحصل على فضيلة الصف الأول. قال: (وشر
صفوف النساء أولها )؛ لأنها تلي الرجال، والمرأة كلما بعدت عن
الرجال كان أصون لها، وسيأتي التنبيه على صلاة المرأة في المسجد في
الحديث الذي يأتي بعد ذلك إن شاء الله.
مسائل في النوافل
صلاة النافلة في المسجد والبيت
قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:
(احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة مخصفة فصلى فيها، فتتبع
إليه رجال، وجاءوا يصلون بصلاته.. ) الحديث، وفيه: (أفضل صلاة
المرء في بيته إلا المكتوبة ) متفق عليه ]. هذا الحديث له علاقة
بأكثر من موضع، ساقه المؤلف رحمه الله هنا لبيان اقتداء الناس
بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في النافلة جماعة. والحديث
يتناول اتخاذ الحجرة، و(احتجر) من التحجير، والتحجير: المنع، ومنه
حجر إسماعيل؛ لأنه منع الجزء الذي أخلي من البناء من البيت من أن
ينساب في بقية المسجد، ومنه حِجر المرأة الذي يحفظ الطفل، ومنه
الحجر على السفيه لحفظ ماله، وأصل المادة -كما يقول علماء فقه
اللغة- من الحجر اليابس القوي، فهو يحجر ويمنع نفسه من غيره، ولا
يستطيع إنسان أن يدقه برجله لأنه يؤذيه، فهو لحجريته مانع نفسه من
أن يعتدي عليه غيره. والحُجرة تمنع أجزاء الغرفة من الخروج إلى
جارها، وتمنع جارها من أن يدخل إليها، فهي تحجر الجزء المملوك.(2/62)
قال: (احتجر حجرة مخصفة)، وجاء في بعض الروايات: (احتجز) من
الاحتجاز، وهو أخذ جزءٍ من المسجد؛ والخصف هو شيء من الحصير من
الخوص، وإلى الآن يسمى عند الناس بالخصفة، والخصف هو نسج الخوص،
فقد تكون الخصفة للطعام، وقد تكون الخصفة للفراش والجلوس، وقد تكون
هناك خصفة لتحجير الحجرة، إلى غير ذلك. وأصل هذا: أنه صلى الله
عليه وسلم في شهر رمضان صلى العشاء ودخل، ثم قال لعائشة رضي
الله تعالى عنها: انصبي لنا حصيرك فنصبت حصيرها أمام باب الحجرة في
المسجد، فخرج إلى هذه الحجرة أو هذا الحاجز وصلى فيه، فشعر أناس
بصلاته، وكانوا موجودين فاقتدوا به وهو لا يدري بهم، وفي اليوم
التالي سمع أشخاص بما حدث في الأمس فتجمعوا وصلوا بعدد أكثر من ذي
قبل، وفي الليلة الثالثة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء
وصلى الناس معه، فدخل بيته، ثم نظر فإذا المسجد مليء بالناس، فقال:
(يا عائشة ! ما بال الناس؟! قالت: ينتظرون خروجك لتصلي، فيصلون
بصلاتك كما صلى غيرهم بالأمس. فقال: ارفعي عنا حصيرك )،
فانتظروا وطال الانتظار ولم يخرج، فأخذوا الحصباء وحصبوا باب
الحجرة، ولم يسمع لهم ولم يخرج إلى أن خرج يصلي صلاة الصبح وقال
لهم: (أما بعد: فإنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم
فتعجزوا عنها )، وهذا مصداق قوله سبحانه: بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
ثم قال في هذا الحديث: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )،
أي: إذا أردتم الأجر والفضيلة فصلوا في بيوتكم، فخير صلاة المرء في
بيته ما عدا الفريضة فهي في المسجد مع الجماعة. وهنا يأتي مبحث
للعلماء فيما يتعلق بعموم: (خير صلاة المرء..)، فـ(صلاة): نكرة،
و(المرء): مضاف إليه، والنكرة إذا أضيفت إلى معرفة تكون عامة،
فصلاة المرء تشمل فريضته ونافلته، بدليل أن الرسول صلى الله عليه
وسلم استثنى منها الفريضة، فيتمحض الأمر على النافلة، فخير صلاة(2/63)
المرء النافلة في بيته، ويستثنى من ذلك عند العلماء السنن الرواتب،
كسنة الصبح، وسنة الظهر بعدها وقبلها، والمغرب، فأكثر العلماء يرى
أنها تصلى مع الفريضة في المسجد، ويكون الحديث في النوافل المطلقة
كقيام الليل، والضحى، مع أن صلاة الضحى جاء فيها أنه حدث أن غزا
قوم غزوة ورجعوا سريعاً وغنموا غنائم كثيرة، فقال الناس: ما أسرع
ما غزت وأكثر ما غنمت! فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على
أقرب منه مغزى، وأكثر غنيمة، وأوشك رجعة؟ مَنْ توضأ ثم غدا إلى
المسجد لسبحة الضحى، فهو أقرب مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة )
لكن يقولون: النوافل المطلقة كالضحى وقيام الليل هي في البيت أفضل.
خلاف العلماء في أفضلية صلاة النافلة بين المسجد النبوي والبيت
وبعض العلماء يربط ويقارن بين قوله صلى الله عليه وسلم: (خير صلاة
المرء في بيته إلا المكتوبة )، وبين هذا الحديث: (صلاة في مسجدي
هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ). لأن (صلاة)
نكرة تعم الفريضة والنافلة، فإذا صليت الفريضة فهي صلاة في مسجده،
وإن صليت النافلة فهي صلاة في مسجده، فنجد الجمهور يعممون ذلك، ما
عدا الإمام أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: قوله: (صلاة في
مسجدي هذا خير من ألف صلاة ) خاص بالفريضة؛ لأن النافلة لها
مكان آخر وهو البيت لحديث: (خير صلاة المرء في بيته ) قال: إذا
صلاها في المسجد فهي بألف، وإذا صلاها في بيته فهي خير من هذه التي
هي بألف، فما خالف الجمهور. والآخرون قالوا: كل صلاة فهي بألف
صلاة. فاتفقوا على أن الصلاة مطلقاً في المسجد النبوي بألف صلاة،
وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه مع ثبوت الألف للنافلة في
المسجد النبوي فإيقاعها في البيت أفضل من ذات الألف.
أيهما أفضل صلاة المرأة في بيتها أم في المسجد النبوي؟
وهنا قضية جانبية في قوله: (خير صلاة المرء في بيته ) ومؤنث
(المرء) امرأة، فهل صلاة المرأة أيضاً في بيتها خير، وهل صلاتها في(2/64)
المسجد النبوي أيضاً بألف صلاة؟ الجمهور يقولون: صلاة المرأة في
المسجد النبوي بألف صلاة، فريضة كانت أو نافلة، ولكن صلاتها في
بيتها خير من صلاتها في المسجد النبوي، كما قال أبو حنيفة رحمه
الله في النافلة، وذلك لأمر آخر، وهو أن امرأة من بني سليم أتت
النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة
معك، وانظر إلى التعبير، فلم تقل: أحب الصلاة في مسجدك. لكن: أحب
الصلاة معك؛ لأنها إذا صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت
القراءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتركت في دعاء رسول
الله صلى الله عليه وسلم للمصلين معه، فمن هنا أحبت الصلاة مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وكل إنسان يحب ذلك، فقال صلى الله عليه
وسلم: (قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك
في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير -من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك
خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك )، خير من
صلاتك في مسجدي. فصلاتها في عقر دارها خير من صلاتها في المسجد
النبوي بثلاثة أضعاف. وعلى هذا فخير صلاة المرء في بيته إلا
المكتوبة، ويبين المؤلف رحمه الله بهذا أن النوافل يجوز أن تصلى
جماعة؛ لأن أناساً صلوا بصلاته صلى الله عليه وسلم.
الاحتجار في المسجد وحكمه
وهل يجوز لكل إنسان أن يحتجر في المسجد ويضيق على الناس؟ قالوا:
لا، ما لم يكن في الأمر سعة. والآخرون قالوا: إنها كانت توضع في
الليل عندما لم يكن هناك نداء لصلاة الفريضة، وترفع في النهار فلم
تضيق. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في رمضان يوضع له سرير
عند باب الحجرة، وإذا جئت إلى الروضة تجد بعض الأسطوانات مكتوباً
عليها: أسطوانة السرير. كان إذا اعتكف صلى الله عليه وسلم يوضع له
سرير ينام عليه في حالة اعتكافه. وقد جاء عن عائشة أنها قالت:
(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ).(2/65)
التحجير في المسجد إذا كان يضايق المصلين فحق المصلين مقدّم ولا
يجوز ذلك، وإذا كان هناك سعة ولا تضييق على أحد فلا مانع في ذلك،
وصلاة النافلة وهي قيام الليل تصلى جماعة، وعليه فالتراويح تصلى
جماعة كما هو واقع الآن. قوله: (خير صلاة المرء في بيته إلا
المكتوبة) هذا منصب على النافلة المطلقة، والنوافل الرواتب تجوز
صلاتها في المسجد، وتقدم لنا أنه كان يصلي سنة المغرب والعشاء
ركعتين في بيته، ولم ينص على النوافل الأخرى في بيته، فبقية
النوافل تكون في المسجد، وقلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم
يكن بيته إلا المسجد؛ لأن بابه مُشرع على المسجد، والله تعالى
أعلم. فلا ينبغي للإنسان أن يترك الصلاة في البيت، بل يجعل لبيته
حظاً من صلاته لبركة الصلاة، ولطرد الشيطان، ولتعليم النسوة
والأطفال، وقد جاء الحديث: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر )، وقال صلى
الله عليه وسلم: (صلوا في بيوتكم )، وقد جاء عن عتبان بن مالك أنه كان رجلاً يؤم قومه في بني سلمة، وكان قد أنكر بصره نسأل النبي
صلى الله عليه وسلم أن يأتيه ليصلي له في بيته ليتخذ ذلك المكان
مصلىً له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أين تريد أن
أصلي؟ )، فأشار إلى مكان فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فكان يصلي في ذلك المكان تبركاً بموضع صلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
تفاضل الصلاة في المسجد النبوي
وبهذه المناسبة أيضاً أقول: المسجد النبوي من جميع أطراف وحدود
جدرانه الصلاة فيه بألف، ولكن هل كل المسجد سواء؟ يتفق الجمهور على
المفاضلة، ولا شك أن الصف الأول أولى من الصف الثاني ولوكان الكل
في المقدمة. وهنا بحث مطول في أيهمما الأفضل، الصلاة في الروضة في
صف رابع أو خامس، أو الصلاة في الصف الأول في المسجد. يقول النووي رحمه الله: إذا كانت الصلاة جماعة فالصف الأول أفضل؛ لفعله صلى
الله عليه وسلم، ولفعل الخلفاء من بعده بعدما جاءت التوسعة التي(2/66)
خرجت عن الروضة. وعلى كلٍ فذاك مبحث مستقل، ويوجد هناك بعض الأشخاص
الذين يتتبعون بعض المواطن في المسجد النبوي رجاء بركة صلاة رسول
الله صلى الله عليه وسلم فيها، فيقولون: لعلنا نصادف كذا. وهذه
أمور عاطفية، فإن علم مكاناً فلا بأس بذلك، ما لم يحصل زحام، وما
لم يعتقد عدم جواز الصلاة في غيره، والله ولي التوفيق.
134467 ( كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [4] )
( كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [4] )
عناصر الموضوع
1 تابع أحكام صلاة الجماعة
2 من لا تصح إمامته
كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [5]
إمامة المسلمين في الصلاة منزلة رفيعة وشرف عظيم، وقد جعل الشارع لذلك
شروطاً وأوصافاً، فمن تحققت فيه فهو الأولى بالتقديم، فيقدم الأكثر
قرآناً -أي: الأكثر حفظاً والأحسن تجويداً- ثم الأعلم بالسنة، ثم
الأقدم هجرة، ثم الأقدم سلماً، ثم الأكبر سناً. ولا يجوز لرجل أن يؤم
آخر في سلطانه إلا بإذنه، فإن حق ذي السلطان مقدم على الحقوق المتقدمة.
ولا يجوز لامرأة أن تؤم الرجل، ولا لأعرابي أن يؤم المهاجر والحاضر،
ولا يجوز أن يؤم فاجر مؤمناً.
تابع أحكام صلاة الجماعة
الاعتبارات الشرعية في اختيار الإمام للصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن
أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة
سواءً فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة، سواء فأقدمهم هجرة، فإن
كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً -وفي رواية: سناً-، ولا يؤمن
الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه )
رواه مسلم ]. حديث أبي مسعود هذا فيه تفصيل ما أجمل في(2/67)
حديث عمرو . فنا (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، وحديث عمرو : (أكثركم قرآناً )، فالمراد الأكثر مع أجود وأحسن قراءة، فإن
وجد كثير القرآن لا يعرب القراءة، وقليل القرآن يعرب فنقدم الذي
يعرب ولو كان أقل حفظاً. قال: (فإن كانوا في القراءة سواء)، أي:
كلاهما يعرف التجويد، ويحسن التطبيق، وليس المراد مجرد القراءة؛
لأن العبرة في التجويد التطبيق، فإنه أخذ عن النبي صلى الله عليه
وسلم تلقيناً وسماعاً، فإن كان في ذلك سواء فمن الذي يقدم؟ وقبل
هذا قال: (يؤم القوم)، ولم يقل: سيدهم، ولا أشرفهم، ولا أميرهم،
ولا أفضلهم، إنما جاء إلى وصف في الإسلام، وهو الربط بالأصل الذي
هو كتاب الله، وفي هذا توجيه الأمة بأكملها أن تتجه إلى إجادة
قراءة القرآن؛ لأن هذه الصفة تؤهلهم إلى إمامة القوم، ونعلم من
الناحية الأخرى أن في الخلافة الكبرى، أو في أمور الرئاسة والسياسة
والإدارة يتولى خلافة الأمة وسياسة أمرها أفضلها، كما جاء في تولية
أبي بكر الصلاة بالناس، وسيأتي التنبيه عليه. فإن كانوا في
القراءة سواءً، ونريد أن نقدم أحد الشخصين أو الأشخاص ننتقل إلى
مرجح آخر وهو: (أعلمهم بالسنة)، يعني: أفقههم بالسنة، ولماذا لم
يقل: أفقههم بالكتاب، وقال: أقرؤهم لكتاب الله؟ (من يرد الله به
خيراً يفقهه في الدين )، يقول العلماء: لأن فقه السنة أعم من
فقه القرآن، فالسنة هي المبينة والمفصلة لجميع آيات الأحكام في
كتاب الله، وما من آية في فريضة ولا في حد إلا والسنة تبين مجملها،
أو تقيد مطلقها، أو تخصص عمومها، فكما قيل: الكتاب يحتاج إلى السنة
أكثر مما تحتاج السنة إلى الكتاب، ومن هنا تجب العناية بفقه السنة.
وإذا جاء بعد (أقرؤهم) (أفقههم للسنة) فأقرؤهم تُحمل على معنى
الفقه أم على تجويد القراءة؟ تحمل على تجويد القراءة؛ لأن الفقه
جاء منصوصاً عليه في قوله: (أفقههم بالسنة). وهنا يأتي العلماء(2/68)
بقضية، ويقولون إن الأقرأ لابد أن يكون الأفقه، قالوا: لأننا وجدنا
النبي صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة بالناس مع أنه
قال: (أقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب )، وقال: (خذوا القرآن
من أربعة من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبي
بن كعب )، فذكر أربعة أشخاص ليس فيهم أبو بكر وعمر ، وقال: (أقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب )، فكيف يقدم أبا
بكر وقد شهد بأن أقرأهم أبي بن كعب ؟ أجابوا عن ذلك
بقولهم: إن تقديم الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر لا
لمجرد الصلاة، ولكنه إرهاص وتنبيه وإرشاد وتعليم للأمة بأن الذي
سيخلفه في مقامه هو أبو بكر ، بدلالة تقديمه له في الصلاة،
وعند أبي بكر من القراءة والفقه ما يصلح الصلاة. وإنما قدِّم
الأفقه؛ لأن الإمام قد يطرأ عليه في صلاته ما يبطلها أو يخل بها،
فلابد أن يكون فقيهاً عالماً، يتجنب ما يبطل الصلاة أو يخل بها.
ولكن أمور فهم الصلاة وإبطالها أمر ضروري، وقل من يجهل ذلك، فأبو
بكر رضي الله تعالى عنه لديه من القراءة والفقه ما يقتضي ذلك
وزيادة، ولذا كانوا يقولون: أبو بكر أفقه الناس، أو أفقه الأمة
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في شهادة عمر وعثمان وغيرهما. قال: (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة). قال تعالى: لا
يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ
أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ
بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]،
فالذين سبقوا إلى الهجرة لهم خصوصية عمن لم يهاجر إلا بعد الفتح،
ولا هجرة بعد الفتح، ثم يبحث العلماء، في أقدمهم هجرة هل خاص
بالسلف الأول المهاجرين من مكة إلى المدينة، أم أن الهجرة لم
تنقطع؟ قالوا: لو قدر في بلد من البلاد أنه تضايق المسلمون واضطروا
إلى الهجرة إلى بلد إسلامي، فإن اعتبار التقدم في الهجرة هناك(2/69)
يعتبر هنا الآن. وبعضهم قال: إن أبناء المهاجرين السابقين يعطون
حقوق الآباء، فابن السابق هجرة مقدم على ابن المتأخر هجرة، وكل ذلك
اعتبارات للترجيح. فأحياناً كان يأتي النفر الواحد مهاجراً،
وأحياناً يأتي الرجل ومعه الرجلان والثلاثة والعشرة والأربعون
مهاجرين معه، فإن كان أحد سبق ولو بيوم فهو مقدم، وإن هاجروا في
وقت واحد فلا ترجيح. قال: (فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم
سلماً). إن كانوا في الهجرة سواء فيقدم أقدمهم في الإسلام قبل أن
يهاجروا؛ لأنهم -كما يقولون- كانوا يعدون المسلمين عداً، كما يقول
بعضهم: (كنت سابع سبعة)، فعمر (لم يتقدم عليه ثلاثون رجلاً)،
وحمزة كان قبله بثلاثة أيام. وقد أحصى المؤرخون تاريخ السابقين
الأولين في الإسلام، ومتى أسلموا، فمن أسلم قبل دخوله صلى الله
عليه وسلم دار الندوة، ومن أسلم بعد أن خرج منها كل هذه التواريخ
مقيدة. فإذا كانوا في الهجرة سواءً فالذي تقدم إسلامه هو الإمام،
وكل ذلك مفاضلة فيما بينهم لمن يستحق الإمامة، وكل هذا مع اجتماع
أقرئهم وأعلمهم وأسبقهم هجرة. أي: إذا استووا في كل ما تقدم. ثم
(أكبرهم سناً)؛ لأن الإمام كلما كان كبير السن كان موضع توقير عند
الناس.
السلطان أحق بالإمامة في سلطانه
ننتقل إلى القسم الثاني من الحديث: (ولا يَؤُمَّنَ الرجلُ الرجلَ
في سلطانه). فكما أنه لا يؤم القوم أجهلهم، ولا عديم المعرفة
بالقراءة وفيهم من هو أولى منه، كذلك لا يؤم الرجل الرجل في
سلطانه. والسلطان كلمة عامة، وهي في كل شيءٍ بحسبه، فهناك السلطان
الأعظم -كما يقولون-، وهو ولي أمر المسلمين، وحاكم الدولة، أو حاكم
الأمة، وهناك أمير المقاطعة، وهو سلطانها. وحاكم القرية هو
سلطانها، فكل من كانت له ولاية على جماعة فهو سلطانها، قالوا:
ويتبع ذلك إمام المسجد الراتب ورب البيت؛ لأنه سلطان البيت، كما في
الحديث: (والرجل راع في أهل بيته ). وهنا قوله: (لا يؤمن الرجل(2/70)
الرجل في سلطانه) فيه احترام السلطة، واحترام الحق المعنوي؛ لأن
السلطنة أو السلطان أمر معنوي، فقد يختار ولي أمر المسلمين شخصاً
اليوم، ثم يُتوفى ويأتي غيره، أو يعزله ويأتي بغيره، فهو أمر نسبي
لشخص لأمر معنوي، فيُحترم هذ الحق؛ لأن من حقه في سلطانه أن يأمر
وينهى، وأن يكون المقدم على غيره؛ لأن رعيته في سلطنته لا تتقدم
عليه، ولا تفتئت عليه في أوامره، ولا في تعليماته، وكذلك إمامة
الصلاة ولاية، فلا ينبغي أن يتقدم شخص أجنبي على شخص في سلطانه
يؤمه، حتى إنهم قالوا: لو كان هذا السلطان المطلق على الأمة
والدولة، أو السلطان المحدود السلطة في إقليم أو قرية، بالنسبة لمن
معه أقلهم قراءة، فمادام يصحح الصلاة، ولا يلحن لحناً يخل بالمعنى،
ولا يخطئ في أدائها، -أي: يحسن الصلاة- فيكون حينئذٍ مقدماً على من
هو أفضل منه قراءة ونسباً وسبقاً للإسلام... إلى آخره. وغاية ما
فيه أنها: صلاة الفاضل خلف المفضول، وصلاة الفاضل خلف المفضول
صحيحة بإجماع المسلمين، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلف عبد
الرحمن بن عوف ، واختلف في أنه صلى خلف أبي بكر أو لم يصل
خلفه، ويكفينا أنه صلى خلف ابن عوف . فصلاة الفاضل خلف المفضول
صحيحة، وهنا لو كان صاحب السلطان أقل رتبة في مراتب الإمامة، وخلفه
أو معه من هو أعلى رتبة في مقام الإمامة فلا يحق له أن يتقدم على
صاحب السلطان، ولكن إن أذن له السلطان فلا بأس، ويكون قد تنازل عن
حقه في سلطانه، وسمح لغيره أن يتقدم بالإمامة. فقوله: (لا يؤمن
الرجل الرجل في سلطانه) كلمة (سلطان) هنا عامة، سواءٌ أكان السلطان
العام كولي أمر المسلمين عموماً ملكاً أو رئيساً أو غير ذلك، أم
كان في مقاطعة أو في إقليم أو في قرية أو هجرة أو نحو ذلك.
الإمام المولّى من قبل السلطان أحق بالإمامة من غيره
وقاسوا على هذا أيضاً إمامة المسجد إذا كان الإمام راتباً؛ لأن(2/71)
الإمام الراتب مولَّى من قبل السلطان، فهو أحق بالإمامة من غيره،
حتى قالوا: إذا تأخر الإمام الراتب ينتظرونه ما لم تكن مضرة، فإن
كان مكانه قريباً أرسلوا إليه، فإن اعتذر أو لم يوجد وخيف الضرر
فعلى الحاضرين أن يقدموا ويختاروا لأنفسهم من يصلي بهم. وقالوا: لو
قدر أنه تأخر لعذر، وأرسلوا إليه فلم يجدوه، واختاروا وقدموا من
يصلي بهم، فجاء أثناء الصلاة فمن حقه أن يتقدم للإمامة، وعلى الذي
اختاروه للإمامة أن يرجع إلى الصف مؤتماً. وماذا يفعلون فيما سُبِق
به، كأن جاء بعد أن صلوا ركعتين؟ قالوا: يصلي بهم الركعتين
الباقيتين، ثم يقوم لاتمام صلاته، والمأمومون يبقون جالسين، فإذا
أتى بالركعتين اللتين فاتتاه وأتم لنفسه الصلاة -وهم قد تمت
صلاتهم- سلّم وسلموا معه، وإن ترك الإمام الذي اختاروه يتم الصلاة
وائتم به فلا مانع في ذلك. فعدم إمامة الرجل الرجل في سلطانه أولاً
وقبل كل شيء فيه احترام للسلطة واحترام للحقوق، وألا يفتئت أحد على
أحد في مركز سلطته وسلطانه مهما كان مستواه، ومهما بلغ من أمره.
وكذلك لا يؤم الرجل الرجل في بيته؛ لأنه سلطان بيته إن كان له أن
يصلي جماعة في البيت، فقد تكون هناك أعذار له، كأن يكون المسجد
بعيداً، أو كان هناك مرضى، وخيف من التفرق، واحتاجوا إلى أن يصلوا
في البيت فحينئذٍ الأحق بالإمامة صاحب البيت، ولو كان أيضاً أقل
رتبة في الإمامة من بعض الحاضرين؛ لأن حقه مقدم، إلا إذا أذن وقدم
فلاناً ليصلي، فقال له: الحق لك لأنك صاحب البيت، فيقول: قد أذنت
لك فحينئذٍ يتقدم من هو أولى بمرتبة الإمامة فيصلي؛ لأن صاحب البيت
تنازل عن حقه وأذن له، فالصلاة في محلها. قال صلى الله عليه وسلم:
(ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه). نأتي إلى ناحية أخرى
اجتماعية، وهي: احترام حرمة البيوت، فإذا دخلت بيتاً ورأيت مجلساً
خاصاً متميزاً لصاحب البيت سواءٌ أكان كرسياً، أم كان فراشاً، أو(2/72)
دخلت مجلساً عاماً، وتعرف من واقع الحال أن هذا صدر المجلس وهو
لصاحب البيت، فلا ينبغي لك أن تجلس في مجلس صاحب البيت إلا بإذنه؛
لأن هذا حقه، والجلوس مكانه افتئات عليه. فقوله: (تكرمته) هي
الموضع الذي يُكرم به صاحب البيت، وهو مكان مميز كما تقدم، فإذا
عرفت أن هذا المكان متميز عن بقية المجلس، وعرفت أن هذا لصاحب
البيت، سواءٌ أكان صاحب البيت من أرباب المنازل العليا والمراكز
العليا، أم كان من عامة الناس فهذا حق له لا يحق لك أن تجلس عليه
إلا بإذنه، وكذلك إذا دخل إنسان في غيبة الرجل، وكان من محارم
أهله، فلا يحق للمرأة أن تجلس شخصاً ما على فراش رجل إلا بإذنه،
فإن كان قد أذن لها فبها وإلا منعته. وهذا من باب احترام فراش
الرجل. فقد جاء أبو سفيان رضي الله تعالى عنه قبل أن يسلم قبل
فتح مكة وبعد صلح الحديبية، وقد نقضت قريش العهد، فجاءت خزاعة
تستنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش التي نقضت العهد،
فعلم أبو سفيان فسبق وجاء يطلب تمديد الهدنة وتوثيقها، فجاء
إلى أبي بكر ليشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
والله ما أنا بالذي يشفع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء
إلى عمر ، فقال عمر : أنا أشفع لكم! والله لو لم أجد إلا
الذر أقاتلكم به لقاتلتكم. وجاء إلى علي ، قال: والله لا
أستطيع أن أشفع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء إلى
فاطمة ، قالت: أنا امرأة لا أجير على الرجال، قال: مري ابنيك
هذين الحسن والحسين ، قالت: إنهما غلامان لا يملكان أن
يجيرا أحداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته أم
حبيبة وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخل عليها
كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فراش فطوته، ومنعته أن يجلس
عليه، وهو فراش من ليف، قال: والله يا ابنتي لا أعلم، أطويتي هذا
الفراش ظناً به عليَّ، أو ظناً بي عليه، يعني: إما لأنه لا يليق بي(2/73)
أنا، أو لأني لا أليق به، قالت: لا، إنه فراش رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، لا يحق لك أن تجلس على فراش رسول
الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله لقد أصابك يا ابنتي بعدي شرٌ،
ما كنت هكذا، فهي كرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم على
أبيها؛ لأن أباها ما زال كافراً، فلا يليق أن تجلسه على فراش رسول
الله صلى الله عليه وسلم. وبناءً على ذلك: فإذا كان للرجل فراش
خاص، سواءً كان فراش نومه أو غيره، لا ينام أحد في مكانه حتى
أولاده، ولا يليق للولد أن ينام في فراش أبيه، ولا يحق للأم أن
تأذن للولد في ذلك. وكذلك البنت لا تنام في فراش أمها، وهكذا لا
ينبغي لإنسان دخل بيتاً أن يبيح لنفسه ما لصاحب البيت من مكانة
مختصة به: فراش ينام عليه، أو محل يجلس فيه.
الأحق بالمكان في المسجد
وقد بحث العلماء مسألة قريبة من هذا، فمثلاً: المحلات العامة
كالمساجد، إذا كان للإنسان مكاناً في المسجد، واعتاد الإتيان إليه،
وهو ممن يحضر الصلوات الخمس، وتعود أن يأتي مبكراً، ويجلس في مكان
معين، فلو أن إنساناً آخر سبق إليه، أيحق له أن يجلس فيه؟ وإذا جاء
صاحب هذا المكان، أيحق له أن يقيمه منه ليجلس مكانه؟ بعض العلماء
يقول: لا يقيمه؛ لأنه جاءت بعض الآثار في النهي عن أن يتوطن إنسان
موقعاً في المسجد توطن البعير، لأن البعير إذا وطنته في مكان، لا
يمكن أن يتحول عن ذاك المكان، يألف ذاك المكان، ولا يمكن أن يبرك
إلا فيه، فنهى عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعض العلماء
قال: ما دام هذا شخص متعود وله عادة في السبق ومحافظ على الجماعة،
يجب أن نحترم محافظته ومبادرته، ونكرمه بترك المكان له. وبعضهم قال
بالتفصيل: فهذا الشخص الذي اعتاد مكاناً بعينه، وعرفه الناس به،
ننظر أللناس مصلحة عنده، فيبقى في المكان الذي عرف به، حتى لو جاء
صاحب حاجة، يريده فيما فيه المصلحة عرف مكانه، دون أن يبحث في(2/74)
المسجد عنه، أم أنه شخص عادي من عامة المسلمين؟! فإن كان شخصاً
للناس عنده مصلحة، لم يفتي الناس، وعرف الناس مكانه، وإذا وقعت
بإنسان نازلة فيعلم أن فلاناً في المسجد في المحل الفلاني، فيأتي
السائل ويقال له: فلان -مثلاً- أمام باب الرحمة، أو فلان أمام كذا،
فإن اشتهر بهذا المكان، وكان للناس عنده حاجة يقصدونه فيها فالأولى
أن يترك له مكانه لخدمة الناس؛ لأن من يدخل ويأتي إلى مكانه سيجده
هناك. لكن لو أننا أخذنا مكانه عليه فتارة يجلس في اليمين، وتارة
يجلس في اليسار، وتارة هنا، وتارة هناك، كان في ذلك تفويت المصلحة
على الناس. فإذا سبق إنسان وجاء ذلك الشخص الذي اعتاد هذا المكان
فمن حقه أن يقيم من جلس فيه، وأن يجلس في مكانه، والله تعالى أعلم.
من لا تصح إمامته
الخنثى المشكل
قال المصنف رحمه الله: [ ولابن ماجة من حديث جابر رضي
الله عنه: (ولا تَؤُمَّنَّ امرأةٌ رجلاً، ولا أعرابيٌ مهاجراً، ولا
فاجرٌ مؤمناً )، وإسناده واه]. بعد أن بين المؤلف رحمه الله
تعالى الممنوع من الإمامة في أمور مخصوصة، كالرجل في سلطانه،
والرجل في بيته جاء بمن لا تصح إمامته بصفة عامة، لا بمن هو مخصوص
بوصف معين، فقال: (ولا تؤمن امرأة رجلاً)، وأي امرأة؟ لقد أطلقت،
وأي الرجال؟ لقد أطلق، كأنه يقول: لا تصح إمامة المرأة للرجال،
وقيد (رجلاً) يخرج النساء، فما قال: ولا تؤمن امرأة في الصلاة فإذا
أمت المرأة امرأة، أو أمت المرأة صبياً فكل ذلك جائز. والخنثى
المشكل هو إنسان اجتمعت له آلتا الذكورة والأنوثة معاً، ولكن قد
تكون فيه علامات الذكورة أوضح، بأن يبلغ بالاحتلام كما يبلغ
الرجال، فتنبت له لحية، أو تكون فيه علامات الأنوثة أوضح، بأن يحيض
كما تحيض المرأة، ولا يمني كما يمني الرجل، فإذا التبس وحصل هذا
وهذا فبابه طويل ومشكل كما يقال. فإذا وجد خنثى مشكل قالوا: إذا
كان مشكلاً فلا تؤمنه المرأة مخافة أن يكون رجلاً. فالمرأة تؤم(2/75)
النسوة، ونجد الشارح لهذا الكتاب يذكر عن الطبري وعن غيره أن
المرأة لها أن تؤم الرجال في التراويح إذا لم يوجد قارئ إلا هي،
وهذا مخالف لعمومات الشرع. فهل ستقرأ سراً أم جهراً؟ فإن قرأت
جهراً فمشكل، وإن قرأت سراً تركت السنة، فالأولى كما قال الآخرون:
أخروهن حيث أخرهن الله. وعلى هذا لا تؤم المرأة رجلاً، وإذا كان
زوجها، وهي متعلمة وقارئة، وهو غير قارئ فإنها لا تؤمه؛ تؤمنه،
فركوعها وسجودها في الصلاة أمامه ربما شغله وأفسد عليه صلاته.
المرأة لا تؤم الرجل، وما قيل من جواز ذلك فهو خارج عن نطاق مذاهب
الأئمة الأربعة، ويكفينا ما عليه أئمة المذاهب رحمهم الله.
إمامة الأعرابي بالمهاجر
قال: (ولا أعرابي مهاجراً) الأعرابي: واحد الأعراب، و(الأعراب)
مرادف البادية والبوادي، والبدوي: هو من تبدى في الخلاء، والأعراب
يقابلهم الحضر، فإذا كان شخص أعرابياً -أي: يعيش مع الأعراب في
الخلاء بعيداً عن المدن- وحياته حياة الأعراب مع الإبل والغنم في
المرعى، وعلى تلك الحياة المعروفة. فإذا كان هناك حضري وأعرابي فهل
يؤم الأعرابي الحضري؟ الحديث هنا -وإن كان سنده ضعيف جداً معناه
العام يؤخذ منه أن الغالب على حالة الأعراب أنهم غير فقهاء في
الدين، قال تعالى: الأَعْرَابُ
أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ
مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97]،
فالغالب على الأعراب عدم الفقه في الدين، وعدم معرفة أحكام الصلاة،
والغالب على المدني الذي يعيش في المدن أن يفهم ويحفظ، وإن لم يفهم
ويحفظ فسيرى وينظر ويأخذ من الناس. فالحضري أسرع إلى فقه الإسلام،
وأسرع إلى معرفة أحكام الصلاة من الأعرابي. وهناك قصة تعطي صورة عن
بعض الأعراب، وتحمل طلبة العلم ثقل مسئولية تعليم الناس، خاصة
الأعراب والبوادي، وأعجب كل العجب -ولا ينتهي العجب- من أولئك
الأشخاص الذين يتبعون بعض الجماعات، ويسافرون خارج بلادهم،(2/76)
ويسافرون مئات الأميال، ويقولون: ندعو الناس إلى الله وبجوارهم
أهلهم وبنوا جلدتهم -وقد يكونون من أقرب الناس إليهم نسباً- في
البادية يجهلون أحكام الصلاة. فكيف نذهب إلى الأقطار النائية
ونتغرب ونترك أبناءنا وأهلينا وأموالنا، ونذهب باسم الدعوة إلى
الله، ونترك من خلفنا أناساً من بني جلدتنا يجهلون أحكام دينهم؟!
وفي مرة كنا في الرياض في أحد النوادي، وكان هناك برنامج سؤال
وجواب، وكان هناك تحفز لتعلم اللغة الإنجليزية في المعهد الديني،
فقال صاحب البرنامج: إن هذا التعلم له مجال آخر، وإذا فرض في
الدراسة في المعاهد الدينية سيقوم على حساب الدين؛ لأن اللغة
الإنجليزية لا تكفيها حصة ولا حصتان ولا أربع في الأسبوع، فنحن
ندرس اللغة العربية في أربع حصص في الأسبوع، -مع أننا ننطق بها-
ولا نجيدها، فإذا ما أخذنا الإنجليزية بجانب الفقه والتوحيد
والحديث والتفسير ستزاحمها في الوقت، وتزاحمها في المذاكرة، ويضعف
الطالب في تحصيل العلوم الدينية، وليكن ذلك في العطلة، ويكون
الطالب مخيراً، فقالوا: نريد أن نتعلم اللغة لندعو بها غير
المسلمين. وكان الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله تعالى علينا
وعليه حاضراً، فقدم توجيهات رحمة الله تعالى علينا وعليه. ومن أحسن
ما قدم تعليماً للأساتذة لا للطلاب أن قال: وقد ألقى شخص قصيدة
يهجو فيها حالقي اللحى -ليس هذا بأسلوب حسن في الدعوة إلى الله،
هذا تشهير وليس دعوة، إنما الدعوة تكون سراً، وتكون بالمعروف، لا
جهراً، فكان عليه أن يأتي إلى الأشخاص المعنيين، وأن يخاطبهم فيما
بينه وبينهم. فتعلم الأساتذة كيف يدعون إلى الله غيرهم، ثم قال:
سمعنا بأن بعض الطلاب يريدون أن يتعلموا الإنجليزية من أجل الدعوة
إلى الله بهذه اللغة خارج البلاد، وهذا أمر عجيب، فهل اكتفينا
بتعليم أنفسنا ومن ينطق بلغتنا؟ وقال: هذه البوادي، وهؤلاء
الأعراب، وهذه الدويلات من حولنا هل عممنا الدعوة فيها وانتهينا من(2/77)
تعليم أهلها دين الإسلام والعقيدة والفقه، حتى ننتقل إلى من لم
ينطق باللغة العربية لنعلمه؟! ونحن الآن نقول: إن من الأعراب من هو
في حاجة إلى تعليم سورة الفاتحة، وقد حدث أن كنا في الأحساء،
فدعانا إبراهيم المهنا -رحمة الله تعالى علينا وعليه- لشرب
الشاي بعد العصر في بستانه، ثم صلينا المغرب في مسجده، وكان المسجد
على الطريق، فصلى بنا مدرس التجويد وهو قارئ متقن، وانتهينا من
الصلاة، والمستعجل صلى النافلة ومضى إلى محل الضيافة، ولفت نظري
مجيء أربعة من البادية، يحمل كل واحد حاجته على كتفه، فجاءوا بسرعة
وبحركة سريعة، فألقوا أمتعتهم في مؤخرة المسجد، وتقدم واحد منهم
يصلي بهم، ففرحت لحرص هؤلاء الأعراب على أداء الصلاة جماعة في
المسجد، فقد قدموا واحداً منهم يصلي بهم، وهذا شيء حسن، فجعلت
أنظر، فقرأ الفاتحة وأخل فيها إخلالاً شديداً، وبعد الفاتحة قرأ
بهذا اللفظ: (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم
عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون والله
عابد، والله غفور رحيم). فهذا شيء يبكي، فأخذتني الحسرة في نفسي،
وقلت: منذ كم يصلي هذا بهذه القراءة؟ وهذا إمامهم فكيف بغيره؟!
فلما انتظرت فطن، وكان فطناً ذكياً جداً، ثم قام في الركعة
الثانية، وقرأ الفاتحة و(قل هو الله أحد)، أحسن من الأولى، فلما
سلّم -وكان بيني وبينه حوالي عشرة أمتار- قال: أعلمني هل رأيت
شيئاً مريباً؟ قلت له: إي والله لقد رأيت شيئاً مريباً. قال: وما
هو؟ قلت: اقرأ. فجاء هو وأصحابه وجلسوا، فقلت: ماذا قرأت في
الصلاة؟ قال: الحمد، قلت: اقرأها، فقرأها فعدلت له بعضاً منها.
قلت: والتي بعدها، قال: الكافرون. قلت: اقرأها، فقرأها كما قرأها
في الصلاة. قلت: على رسلك هات يدك، وعقد بأصابعه فقرأ: لا أعبد ما
تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ثم قال:(2/78)
والله غفور. قلت له: قف. ليست هذه فيها، فهذه في سورة ثانية وليست
في هذه، وهذه فيها: لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6]،
قال: (والله غفور رحيم) أين؟ قلت له: في سورة أخرى. قال: أعطنيها.
فقرأت عليه سورة الكافرون. قال: أعدها فرددتها عليه مرة أخرى فقال:
خذها. فقرأها كما سمعها، قال: أعطنا سورة أخرى. فقرأت عليه: (قل هو
الله أحد)، فقال: هي عندي قلت: اقرأها. فقرأها، فقلت له: خذها،
فأعدتها عليه، وأعادها هو مرة أخرى، قال: أعطني سورة أخرى ثم
فأعطيته من قصار السور، فقال: أعدها. فأعدتها عليه، فأخذها كما
سمعها، فقلت: واحدة. قال: لا يكفيني قلت: صدقت، إذا رجعت إلى بلدكم
فابحث عن إمامكم أو قارئكم، واجعله يقرأ عليك وتسمع منه ويعلمك.
فإذا كان هذا يوجد في أطراف المدن فما بالك بمن لا يأتي المدن! وقد
سمعنا في (جبل رضوة) ما هو أكثر من ذلك. فالأعراب في حاجة إلى من
يعلمهم الدين، فإذا كان في الناس شباب متحمس، وعنده استطاعة،
ومستعد أن يذهب ليعلم ويدعو إلى الله فهذا أمر طيب، وليبدأ بأولئك
الذين هم أولى بهذه الدعوة من غيرهم؛ لأن جارك أولى بك. فقوله: (لا
يؤمن أعرابي مهاجراً -أو حضرياً كما في بعض الروايات-)؛ لأن الغالب
على المهاجر -وقد هاجر إلى لله ورسوله- الفقه في دينه، وهكذا
الحضري الغالب عليه أنه يفقه دينه أكثر من الأعرابي. قال: (ولا
فاجر مؤمناً)، أي: يؤم فاجر مؤمناً وقابل الفاجر بالمؤمن، ولم
يقابله بالمسلم؛ لأن الفاجر مسلم من عموم المسلمين استسلم لأمر
الله، ولكنه التزم بالأعمال الظاهرة، وتكاليف الإسلام كلها أعمال
ظاهرة، فالنطق بالشهادتين وإقامة الصلاة وإخراج الزكاة والصوم،
ورحلة الحج، كل هذه أعمال ظاهرة يراها الناس، أما الإيمان فهو بين
العبد وربه؛ لأنه اعتقاد في القلب. فالحديث يقابل بين الفاجر
والمؤمن، وبإجماع المسلمين أن الإيمان أعلى درجة من الإسلام،(2/79)
والمراتب ثلاث، كما في الحديث: (أخبرني عن الإسلام -أخبرني عن
الإيمان- أخبرني عن الإحسان)، فالإيمان درجة وسط بين الإسلام الذي
هو أعمال ظاهرة، وبين الإحسان الذي هو إتقان العمل فيما بين العبد
وربه في جميع حالاته، كما في الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل
شيء ).
الصلاة خلف السلطان الفاجر ومن نصبه إماماً وهو فاجر
إذا جئنا لمعنى (الفاجر)، فنقول: سمي الصبح فجراً لأن ضوء النهار
ينفجر من بين ظلمة الليل، وقال تعالى: وَفَجَّرْنَا
الأَرْضَ عُيُونًا [القمر:12]،
فكذلك الفاجر، كأنه يخرج من خفي الأمر إلى ما لا يرضي الله سبحانه
وتعالى، وقالوا: هو المصر، أو الملازم، أو المجاهر بالكبائر
والعصيان وعدم التوبة. فإذا كان الشخص بهذه المثابة فهل نقدمه
وافداً لنا بين يدي الله فإذا رده ردنا معه؟ فلا ينبغي لمثل هذا أن
يؤم غيره من المؤمنين، ولو كان أقرأهم وأفقههم، فلا يؤمّن مؤمناً
أي: سليماً من هذه الصفة، ولكن لو كان إماماً راتباً، أو كان
سلطاناً والياً، وله حق السلطة، وله حق الإمامة وبالقوة، ماذا يفعل
الناس؟ أيصلون خلفه سمعاً وطاعة، أم يتركون الصلاة خلفه ليقع
العصيان وشق العصا؟ والجواب: يصلون خلفه، وقد جاء عنه صلى الله
عليه وسلم أنه قال: (يا أبا ذر ! إنه سيكون عليكم أئمة يميتون
الصلاة -وفي بعض الروايات: يؤخرون الصلاة- فإن أدركتموهم فصلوا
الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة ). فإذا كان هناك
سلطان جائر -عياذاً بالله- وألزم الناس بالصلاة خلفه، أو ألزم
الناس بإمام، وإن امتنعوا عن الصلاة خلفه قد تقع فتن فإنه يصلي
خلفه، وقد عاصرنا ذلك في بعض دول أفريقيا حينما امتنعت السلطة عن
إقامة إمام فقيه عالم حر الكلمة والاتجاه، وجاءوا بشخص إمعة، كلما
طلب منه شيء نسبي، وهذا أحب إليهم، وألزموا الناس بصلاة الجماعة
والجمعة خلفه، وقد حوصر المسجد بالمصفحات والدبابات لإقامة الصلاة(2/80)
بالقوة، مع أنه لا يجوز أن تصل الأمور إلى هذا الحد. وقد قال بعض
العامة: نعطيهم صلاتهم، ونعطي ربنا صلاته في أول الوقت. فإذا ابتلي
الناس بمثل هذا ولا يمكن تغييره، وكان الخيار بين أحد أمرين: إما
أن يصلى خلفه طاعة، وإما أن تقع الفتنة، وما أضر على المسلمين من
الحروب الداخلية، والفتنة بين الراعي والرعية، أو بين بعض الطوائف،
وهذا كله بعيد عن تعاليم الإسلام. قالوا: قال صلى الله عليه وسلم:
(صلوا الصلاة لوقتها )، لأنكم أمرتم بذلك، فإذا جاء إمامكم
وصلى، وحضرتم فصلوا معه، وقد جاء في الأثر: (صلوا خلف كل بر وفاجر،
وصلوا على كل بر وفاجر )، فإذا مات فاجر أنقول هذا فاجر لا نصلي
عليه ولا نجهزه؟ بل نجهزه ونصلي عليه؛ لأنه له حقاً علينا في ذلك،
وكذلك إذا أمّ فيجوز أن نصلي وراءه. ويقول بعض العلماء: لقد ثبت عن
العديد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتهم خلف أمراء
السوء أو أمراء الظلم، ولا حاجة لتسمية أحد في هذا المقام. فلا
يؤمَّنَّ فاجر مؤمناً، والنصوص العامة تؤيد هذا، ولكن بشرط ألا
يكون إماماً راتباً ولاه ولي المسلمين، وألا يكون هو بنفسه الوالي
والسلطان، لئلا تكون فتنة.
134472 ( كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [6] )
( كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [6] )
عناصر الموضوع
1 تابع أحكام صلاة الجماعة
كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [7]
إن للصلاة آداباً كثيرة، منها ما يتعلق بكيفيه أدائها، ومنها ما يتعلق
بحال الذاهب لتأديتها وهيئته، وما يجب عليه أن يتصف به، ومن ذلك أن
الواجب على الذاهب لتأدية الصلاة أن يتصف بالسكينة والوقار، حتى يدخل
في الصلاة وهو مطمئن حاضر القلب يعي صلاته، فما أدركه من الصلاة فليصل،
وما فاته فليتم، ولا يشرع له أن يركع دون الصف، فقد قال صلى الله عليه
وسلم لمن فعل ذلك: (زادك الله حرصاً ولا تعد).
تابع أحكام صلاة الجماعة
حكم الركوع قبل الدخول في الصف(2/81)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين
اصطفى. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن أبي بكرة رضي
الله عنه أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع
قبل أن يصل إلى الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (زادك
الله حرصاً ولا تعد ) رواه البخاري ، وزاد أبو ذر فيه:
(فركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف ) ]. أبو بكرة رضي الله
تعالى عنه له قصة في تسميته بهذا الاسم، فلما حاصر النبي صلى الله
عليه وسلم ثقيفاً في الطائف وطال الحصار تدلى هذا الصحابي الجليل
-واسمه نفيع بن الحارث- من على سور الطائف على بكَرة، وهي: ناقة
الإبل، أو التي يُسحب عليها الحبل، فإما أنه كانت ناقة عند السور
فتدلى ونزل على ظهرها ثم نزل إلى الأرض، وإما جاء ببكرة وأدخل
الحبل في البكرة وتدلى حتى نزل. فأياً كان سبب التسمية فيهمنا فيما
فعل وموقف النبي صلى الله عليه وسلم منه. يقول أبو بكرة رضي
الله تعالى عنه انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أتيت
المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكعاً، فخشيت أن يرفع رأسه
فتفوتني الركعة، فركعت قبل أن أصل إلى الصف، ثم دببت حتى دخلت فيه.
فصورة ما حدث أنه لما دخل المسجد ورأى النبي صلى الله عليه وسلم
راكعاً خاف أن يرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من الركوع،
وفتفوته الركعة، فركع ودب ماشياً حتى دخل في الصف. فالذي فات أبا
بكرة من الركعة تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة. أما تكبيرة
الإحرام فعلى المسبوق في مثل صورة أبي بكرة أن يأتي بتكبيرة
الإحرام قبل أن يهوي راكعاً، ويتعين عليه ذلك، وإذا كان قد ضاق
الوقت عليه فهي تكفيه عن تكبيرة الانتقال من القيام إلى الركوع.
فحين يكون الإنسان قائماً ويريد أن يركع يكبر تكبيرة ثانية بعد
تكبيرة الإحرام، فإذا جاء والوقت ضيق، وكبر تكبيرة الإحرام وركع
فإن تكبيرة الإحرام تجزئه عن تكبيرة الانتقال، لكن إذا كبر ونوى(2/82)
بها تكبيرة الركوع لم تنعقد صلاته. فعلى المسبوق في مثل ذلك أن
يأتي بتكبيرة الإحرام وهو قائم وصدره إلى القبلة، أو -كما يقال-
ووجهه إلى القبلة. وبعد أن يأتي بالتكبيرة يكون قد أدرك تكبيرة
الإحرام، ثم بعد تكبيرة الإحرام وقبل الركوع قراءة الفاتحة، وهذا
ركع ولم يقرأ، فتدارك تكبيرة الإحرام قبل أن يدخل في الصلاة، وهذا
فعله واجتهاده. وبعدما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (زادك
الله حرصاً ولا تعد ). والنبي صلى الله عليه وسلم أحس بالدبيب،
فسأل: من الذي فعل ذلك؟ قال أبو بكرة : أنا يا رسول الله، فكان
جواب النبي صلى الله عليه وسلم عليه: (زادك الله حرصاً )،
فالحامل له على هذا الحرص على إدراك الركعة، فمن الممكن أن تكون
ركعة ثانية أو ثالثة أو رابعة في الصلاة، لكنه حريص على أن يدرك
هذه الركعة. فأقره على حرصه، لكن سيأتي في المجيء إلى الصلاة قوله:
(... وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما
فاتكم فأتموا ).
خلاف العلماء في قوله: (ولا تعُد)
وقوله: (تَعُد): نبهنا سابقاً أنها يمكن أن تكون (تَعُد) من العودة
لمثل ذلك، ويمكن أن تكون (تُعِد)، والفرق الفتحة والضمة، و(تُعِد)
من الإعادة. فيكون المعنى: زادك الله حرصاً ولا تُعِد الصلاة..
أوزادك الله حرصاً ولا تعد لمثل تلك الصورة. ويمكن أن يكون المعنى:
زادك الله حرصاً ولا تَعْدُ، من العَدْو والجري. والكلمة في
التصريح صالحة لهذا كله؛ لأن: (عاد، يعود) من العود، فهو أجوف معتل
العين بالواو، (عَوَد)، والمعتل الأجوف إذا دخل عليه الجازم سقطت
عينه، كقال. يقول. لم تقل، وباع. يبيع. لم يبع، فسقطت العين،
ولسكون الحرف الأخير، فتكون: (زادك الله حرصاً ولا تَعُد). (ولا
تُعِد) من أعاد يعيد، فهو أيضاً أجوف معتل بالياء، فتسقط عين
الكلمة بالجزم، ويكون صالحاً لمعنى الإعادة. وأما (لا تَعْدُ) من(2/83)
(عَدَوَ) وحرف العلة هنا اللام؛ لأن فاء الكلمة هي العين، والدال
هي عين الكلمة، والواو هي لام الكلمة، فهو معتل الآخر بالواو ناقص
واوي كما يقولون، والقاعدة أن الناقص الواوي إذا دخل عليه جازم
كانت علامة جزمه حذف حرف العلة، مثال ذلك: (لم يسع)، (لم يدع)،
فتحذف (الألف) من (سعى)، و(الواو) من (يدعو). وهنا كذلك: يعدو،
فلام الكلمة حرف علة، والقاعدة النحوية أن الفعل المعتل الآخر يجزم
وعلامة جزمه حرف العلة. فالكلمة من حيث هي في رسمها تُرسم بالياء،
أو بالتاء، فما الذي سقط منها، هو الواو أو الياء الذان هما عين
الكلمة من العود والإعادة، أم أن الذي سقط هو الواو لام الكلمة؟ كل
ذلك محتمل. ونرجع إلى هذه الاحتمالات، فلو أخذناها على قوله صلى
الله عليه وسلم: (ولا تَعُد) أي: لمثل ذلك قالوا: نهاه أن يعود
لمثل هذا الفعل، فوقف عند هذا النهي قوم، وقالوا: نهاه أن يعود
لمثل ذلك؛ لأنه بنى على إدراك الركعة، وقد فاتته الفاتحة، وهذا
باطل. والآخرون قالوا: نهاه أن يعود لأن صورة الإنسان حين يدب وهو
راكع تشبه صورة الحيوان وهو يمشي، وهذه صورة لا ينبغي للإنسان أن
يفعلها. وآخرون قالوا: (ولا تَعْدُ) أي: من العدو؛ لأن هذا يتنافى
مع الخشوع في الصلاة. والذين قالوا: (ولا تُعِد) معناه أن صلاتك
اكتملت ولا تحتاج إلى إعادة قالوا للآخرين: إن كان قوله: (ولا
تَعْدُ) (ولا تَعُدْ) كما قلتم لصورة مشي الحيوان أو لغيرها، فهل
الصلاة صحيحة أم لا؟ إن قلتم: صحيحة فهذا الذي نريد، وإن قلتم: غير
صحيحة. فهل أعادها أبو بكرة ؟ والجواب: لم يعدها، وبعض
الاحتمالات (ولا تُعِد) أي: لا تعد الصلاة لأنها كاملة. ومن هنا
أخذوا أن المسبوق إذا جاء وأدرك الإمام راكعاً فقد أدرك الركعة،
وسقطت عنه قراءة الفاتحة. ففي المساجد يأتي الإنسان مسبوقاً ويريد
أن يتقدم إلى الصفوف الأُول، فإذا ركع الإمام هل يركع ويدب إلى(2/84)
الصف، أم أنه يمشي إلى أن يصل إلى الصف ويقوم فيه؟ الأولى أن يمشي
سوياً إلى أن يصل إلى الصف ويركع، لا أن يركع دون الصف ويكون في صف
منقطع عن الصفوف، ولا أن يركض من أجل أن يلحق ويدرك الإمام قبل أن
يرفع، إلا في حالة واحدة يمكن أن يسرع فيها، وهي إذا خاف أن يسلم
الإمام وتفوته الجماعة كلها، ففي هذا العاطفة تتحرك قليلاً، والبعض
يقول: ولو فاتت الجماعة؛ لأن له أجر الجماعة ولو وجد الناس قد
صلوا، وفيه ورد حديث صحيح. لكن إذا كان الأمر أوسع من ذلك فلا
ينبغي الركض في المسجد، ولا الركوع قبل الصف وبينهما فرجة بعيدة،
ولكن بقدر المستطاع يمشي سوياً إلى أن يأتي إلى الصف ويصلي.
حكم صلاة المنفرد خلف الصف وخلاف العلماء فيه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن وابصة بن معبد رضي الله عنه:
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده
فأمره أن يعيد الصلاة ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي ،
وصححه ابن حبان ، وله عن طلق بن علي رضي الله عنه: (لا صلاة
لمنفرد خلف الصف )، وزاد الطبراني في حديث وابصة : (ألا
دخلت معهم أو اجتررت رجلاً )]. هذا الحديث يعتبر في نظري من
المشكلات، فيروي لنا وابصة بن معبد رضي الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف فأمره أن يعيد
الصلاة. وفي بعض الروايات رآه يصلي فانتظره حتى فرغ من صلاته فقال:
(استقبل صلاتك؛ فلا صلاة لمنفرد خلف الصف ). فهذه نصوص صريحة
أنه لا صلاة لإنسان ينفرد وحده خلف الصف، وتحت هذا تفريعات عديدة،
فنأخذ أولاً الأصل في المسألة، ونأتيها من أعلى كما يقال. يرى
الإمام أحمد رحمه الله أن الحديث على ظاهره، فمن صلى صلاة أوقع
فيها ركعة كاملة خلف الصف فصلاته باطلة، ومعنى (ركعة كاملة) أنه لو
جاء منفرداً وكبر والإمام يقرأ، وظل مع الإمام حتى سجد الإمام،
وقام للركعة الثانية، يكون أكمل ركعة منفرداً، ثم جاء من يقف معه،(2/85)
فعند أحمد الركعة باطلة، أما إذا وقف منفرداً وقبل أن يركع
الإمام جاء آخر وصف معه، فقد خرج عن كونه منفرداً. وغير أحمد -رحم الله الجميع- يقول: إن النهي هنا إنما هو للكراهة، وتصح
الصلاة منفرداً خلف الصف. وكيف تفعلون في هذا النهي؟ قالوا: هذا
للكراهة، والأولى أن يكون مع غيره، ثم جاؤوا بأمور عقلية
واستنتاجية. أما الأمور العقلية فالنووي يقول في المجموع: إن
صحة الصلاة ثابتة عقلاً، قال: إذا جاء اثنان وموقفهما خلف الإمام،
فكبر أحدهما والآخر لا زال يعدل في موقفه، فقد سبق أحدهما الآخر في
تكبيرة الإحرام، ففي تلك اللحظة عقد تكبيرة الإحرام -وهي جزء من
الصلاة- منفرداً والذي معه لم يكبر بعد، فيعتبر منفرداً، ولا يقول
أحد بأن صلاة أحدهما باطلة. ويقولون أيضاً: قصة ابن عباس لما
صلى عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم أداره من خلفه. فعند مروره
خلف النبي صلى الله عليه وسلم كان وحده، في جزء من الصلاة، وما
بطلت لكونه خلف الإمام وحده. وهل هذا يرد على أحمد أم لا يرد
عليه؟ الجواب: لا يرد عليه؛ لأن أحمد اشترط أن يقع الانفراد في
ركعة كاملة، وهذه ليست بركعة. وابن عباس لما أداره رسول الله
صلى الله عليه وسلم، هل كان قبل الخطوة التي أداره عندها خلف الصف
وحده؟ ولهذا أقول: إنه من الإشكالات، فالنص صريح، ولكن الأئمة
الثلاثة يقولون: الصلاة صحيحة، ونحن نقول: النص صريح مع أحمد ،
والكثرة واضحة مع الجمهور. ويأتي بعد ذلك علاج الموقف، فإذا جاء
والصفوف مكتملة، وما عنده أحد يصلي معه، فإنه يأخذ من الصف رجلاً
معه، ويترتب على هذا تكليف آخر. فإذا جاء وحده والناس جلوس في
التشهد فالحنابلة يقولون: لو جاء والناس في التشهد وليس من السهل
أن يرجع إنسان وهو في جلسة التشهد فإنه يجلس في طرف الصف، أو في
وسطه ملصقاً ركبتيه إلى ظهر الذي يليه.
المشروع في هيئة الإتيان إلى الصلاة
قال المؤلف رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال(2/86)
النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة
وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم
فأتموا ) متفق عليه واللفظ للبخاري ]. هذا الحديث يشتمل على
مسألتين: المسألة الأولى: كيفية الإتيان إلى صلاة الجماعة،
والمسألة الثانية: ماذا يفعل المسبوق فيما سُبِق به. ويقولون: إن
سبب هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الصلاة فسمع
جلبة (حركة)، فلما سلم سأل ما هذه الحركة؟ قالوا: تعجلنا للصلاة.
أي: استعجلنا لندرك الصلاة. ولعله كان في الركوع ليدركوا الركعة،
أو كان في التشهد ليدركوا الصلاة قبل أن يسلم. فالمهم أنه حملهم
على ذلك الحرص على إدراك الصلاة، بقصد الخير وفعل الخير، ولكن هذا
اجتهاد منهم، فنبههم صلى الله عليه وسلم قائلاً: (إذا سمعتم
الإقامة )، والتنصيص هنا على: (سمعتم الإقامة)، وفي بعض
الروايات: (ثوب للصلاة )، أي: قال المقيم: حي على الصلاة حي على
الفلاح. قد قامت الصلاة، قال: (فامشوا إلى الصلاة )، والمشي: هو
الانتقال بحركة طبيعية، والسعي والإسراع أشد من ذلك، قال: (وعليكم
السكينة ). وفي حق الجمعة يقول تعالى: إِذَا
نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]،
فهل هي المقصودة بالمنهي عنه بقوله هنا: (لا تسعوا)، (لا تسرعوا)؟
قالوا: لا. فقوله تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) بمعنى
قولك: سعيت في قضاء حاجة فلان. وسعيت في تحقيق الأمر الفلاني،
يعني: أخذت بأسبابه. (فَاسْعَوْا) يعني: فخذوا بالأسباب التي كلفتم
بها للحضور إلى الجمعة، فإذا سمعتَ الأذان فقم واغتسل حالاً،
والبس، وأت إلى المسجد، ولا تسرع. وهنا يبين صلى الله عليه وسلم
بقوله: (فامشوا )، يعني: لا تجروا، ولا تسرعوا. فالسعي هناك هو
الأخذ بالأسباب، وليس سرعة الخُطا. قال: (وعليكم السكينة والوقار )،(2/87)
انظر إلى هذا السمت في حركة من حركات الإنسان في أداء حق لله، فأنت
آت إلى الصلاة، وهي صلة بينك وبين الله، وكيف تكون الصلة؟! وكيف
تصل نفسك بالله؟ تصل نفسك بالله وأنت في أكمل حالة من خشوع وخضوع
وتذلل بين يدي رب العالمين. ومتى يتم لك ذلك؟ هل عندما تأتي إلى
الصف وقد حفزك النفس فتلهث ولا تدري ما تقول، أو تأتي إلى الصف
وأنت تعمل عملية حساب ربح وخسارة، وعمل ما كنت تعمل فيه؟ لا. قوله:
(فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة) قالوا: السكينة: المشي بهدوء
في خطوات مرتبة، وقالوا: الوقار: هو مرادف للسكينة، وجاء تأكيداً
لها، وعلماء اللغة المحققون يقولون: السكينة لها معنى والوقار له
معنى مستقل، وكلاهما مطلوب في هذا الموضع. أما السكينة فتتعلق
بالحركة، فتمشي على مهل كأنك ساكن، وأما الوقار فأصله مادة
(وَقَرَ)، وهي: الثِّقَل، ومنه قوله تعالى: وَفِي
آذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام:25]
فـ(وَقْر) يعني ثِقَل، والشخص المتأني الوقور يمشي كأنه الجمل
الموقر، ليس من باب الكبر، ولا من باب العجز، ولكن من باب التواضع.
فهناك الحركة والتؤدة، وليست هناك الخفة والرعونة، وهناك الحالة
والهيئة، وهي الوقار وحسن السمت، وقد جاء عند البخاري رحمه
الله: (حسن السمت من الإيمان)، ولذا قالوا: المؤمن في سمته، وفي
مظهره، وفي لباسه، وفي مشيته، وفي حركاته ينبغي أن يكون على أحسن
ما يكون. ولذا كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول:
(أحب لطالب العلم بياض الثياب ووقاره).
الأمر بالسكينة والوقار فيه الحث على التبكير إلى الصلاة
فعلى هذا ينبغي أن يكون المجيء إلى الصلاة حينما تسمع المؤذن على
المنارة يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح. أما إذا تأخرت إلى أن
جاء الأذان الثاني وهو الإقامة وما بعدها فقد قصرت وتأخرت، وقد
عاتب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه عثمان رضي الله
تعالى عنه لما جاء متأخراً. وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال(2/88)
للرجل الذي تخطى رقاب الناس: (اجلس؛ فقد آذيت وآنيت )، و(آنيت):
تأخرت في المجيء بعد الأوان، و(آذيت): تخطيت رقاب الناس، وحرمة
الناس عظيمة، فكذلك هذا المسبوق هذا الذي تأخر يضطر إلى أن يدرك
بعض ما فات بالجري. ففي هذا الحديث أدب من آداب الإسلام، وهو حسن
السمت والوقار للمسلم، ولذا جاء في بعض النصوص: (إياكم وهيشات
الأسواق! )، أي: المرج والحركة والذهاب والمجيء بدون نظام هذا
في أسواق الدنيا، أما أسواق الآخرة -وهي المساجد- فيجب أن يكون
فيها الهدوء والسكينة والطمأنينة. وبعض العلماء يقول في قوله صلى
الله عليه وسلم: (وعليكم السكينة والوقار ): إن الذي يأتي إلى
الصلاة من خروجه من بيته إلى أن يقف في الصف هو في صلاة. قالوا:
إذن ينبغي عليه مادام حكمه حكم الذي في الصلاة أن يتأدب بآداب
المصلي، ومنها السكينة والوقار، وجاءت الأحاديث أيضاً وفيها أنه
إذا تطهر في بيته وخرج إلى المسجد لا يرفع رجله اليمنى إلا بحسنة،
ولا يضع رجله اليسرى إلا بتكفير خطيئة ، إلى أن يأتي إلى الصلاة،
ويكون قد حطت عنه ذنوبه، وتكون الصلاة له نافلة. وجاءت النصوص
أيضاً أن من فاته شيء من الصلاة فأتمها فله أجر الجماعة كاملاً،
ومن جاء ووجد الناس قد صلوا وصلى وحده أو ومعه غيره فقد أدرك ثواب
الجماعة بنية مجيئه وبقدر اجتهاده، ولكن لا يستوي مع من جاء قبل أن
تقام الصلاة وقام مع الإمام من أولها. فالحديث فيه من آداب
الإسلام، ففيه حث المسلم على الوقار، وتعويده على حسن السمت في
هيئته ومشيته، وفيه أيضاً الحث على المبادرة إلى الصلاة أو إلى
المسجد قبل أن تقام الصلاة، وفيه أيضاً الحرص على إدراك الجماعة من
أول وقتها، وفيه أيضاً أن حسن السمت يساعده على أداء الصلاة بحضور
القلب واجتماع الحس والشعور، والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى
بكليته، ومن هنا أيضاً نأخذ الحكمة في أنه صلى الله عليه وسلم(2/89)
يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من
صلى علي؛ صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛
فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن
أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة )، ومعلوم أنه
إذا كانت درجة واحدة فلا تكون إلا لواحد، ولن تكون إلا لسيد الخلق
وأحب الخلق إلى الله، وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
فالمؤذن ينادي ويقول: (الله أكبر) بأعلى صوته ليصل الصوت إلى أكبر
عدد من المسلمين، ونحن حين نسمع المؤذن نقول مثلما يقول، وذلك
لنستشعر عظمة الله فتسيطر على قلوبنا وحواسنا، وفي هذا تهيئة عظيمة
لأداء الصلاة على أتم وجه في جماعة، وبحضور قلب وسكون. يقول الله
تعالى: إِذَا
نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]
فالمؤذن ينادي البائع في سوقه، وينادي الصانع في مصنعه، وينادي
النائم في بيته، وينادي الزارع في مزرعته، وكل يعمل في أمر دنياه،
حتى يسمع داعي الله، فإذا ما سمع لأول وهلة (الله أكبر) أربع مرات
فإن كان في مزرعة يرجو ثمارها فالله أكبر، وإن كان في مصنع يرجو
إنتاجه وربحه فالله أكبر، وإن كان في بيع وشراء ويرجو ربح تجارته
فالله أكبر، وإن كان نائماً مستغرقاً في نومه فالله أكبر. وهكذا
يستجمع كل حواسه وشعوره، ويكون مسيطراً عليه جلال (الله أكبر). فهل
يتأخر هذا عن النداء؟ لا، وهل يأتي غافلاً؟ لا. ثم يأتي قوله:
(أشهد أن لا إله إلا الله) فيقول: وأنا أيضاً أشهد. فما دمت تشهد
فحي على الصلاة وهلم؛ لأن الصلاة لمن يشهد الشهادتين، ثم يقول: (حي
على الفلاح)، و(الله أكبر) في آخره تأكيد لما مضى، ثم (لا إله إلا
الله). فإذا كان الحال كذلك، ونفضت يدك مما كنت فيه، وتوضأت وتوجهت
إلى المسجد، فإذا أقيمت الصلاة فإذا بك غير الشخص الذي كان في محل(2/90)
عمله، وإذا بك في صف الصلاة لست ذاك الصانع الذي يعمل، ولا ذاك
التاجر الذي يطفف الكيل أو الوزن، وقمت وتركت ونفضت يدك عن كل ما
كنت فيه وقلت: الله أكبر. ولذا يقول الغزالي في الإحياء: ورفع
اليدين حذو المنكبين لينفض بظهر كفيه دنياه وراء ظهره، ويُقبِل
بكليته إلى ربه. فهذا الحديث يجرنا الكلام فيه إلى المبادرة، وإلى
السكينة، وإلى الوقار، وإلى ما تفيضه الصلاة على المصلي. ونقرأ في
قصص بعض الأشخاص أنه إذا دخل في الصلاة لا يعي ما حوله، وأحد السلف
كان في المسجد فسقط ركن المسجد ولم يشعر به، ولما سلَّم وفرغ وجد
غبرة، فقال: ما هذه؟ قالوا: أما دريت؟ سقط ركن المسجد. فأتوها
وعليكم السكينة والوقار. ومن المبادرة إلى الجماعة ما جاء في ترجمة
سعيد بن المسيب أنه لم تفته تكبيرة الإحرام في المسجد النبوي
أربعين عاماً. وبعضهم يقول: ما صلى في غير الصف الأول أربعين
عاماً. وبعضهم يقول: ما أذن المؤذن إلا وهو في مكانه في المسجد
عشرين عاماً. ومن هنا تتفق كتب التاريخ على أنه في وقعة الحرة لما
خلت المدينة، وتعطلت الصلاة في المسجد النبوي ثلاثة أيام للفتنة
كان سعيد بن المسيب يأتي وحده إلى جوار الحجرة، ويسمع الأذان
من داخل الحجرة في جميع وقته في الصلوات الخمس. وأما كيف يسمع ومن
يؤذن فهذا أمر غيبي، وهو معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وكرامة لهذا التابعي الجليل. والذي يهمنا المبادرة إلى المساجد،
وجاء في الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله منهم: ورجل قلبه معلق
بالمساجد ). فعندما نشاهد حالة بعض الناس إذا كبر الإمام وركع،
يركضون كأنهم في سباق، فلا حاجة إلى هذا كله، ففي الحديث: (ما
أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ). ولذا في بعض روايات أبي بكرة : (زادك الله حرصا ولا تَعُد ) أي: لمثل هذه الصورة، أو (ولا
تُعِد ) صلاتك؛ لأنك قد أدركت الركعة وأدركت الصلاة. فإذا سمعتم(2/91)
الإقامة فامشوا، أي لا تركضوا ولا تسرعوا ولا تسعوا، وامشوا إليها
مشياً. قال: (فما أدركتم فصلوا)، (ما) هنا عامة، فالذي أدركتموه من
الصلاة صلوه، فإذا أدركت الإمام راكعاً فاركع، وإن أدركته ساجداً
فاسجد، وإن أدركته في التشهد فاجلس، وسيأتي التنصيص على هذه
الحالة. فهذا الجزء الأول وهو كيفية الإتيان إلى الصلاة، فينبغي أن
يكون على حالة السكينة والوقار؛ لأن الإسراع قد يخل بالمروءة،
فيخرج الإنسان عن سمته ووقاره، وأعتقد أن الناس طبقات، فهناك من
يجري أو يقفز على عصا، ولا يعيبه أحد، وهناك من لو أسرع قليلاً لفت
الأنظار إليه. فالناس طبقات، وكل بحسبه عند الناس، ولكن عند الشرع
الكل سواء، فينبغي للشاب أو الشخص العجل أن يتأدب بأدب الإسلام،
ويحترم مجيئه إلى الصلاة، ولا يجعل حرصه يحمله على الإخلال بآداب
الإسلام. فإذا دخل من الباب وكبر الإمام راكعاً فلا يجري ولا يركض
من أجل أن يدرك الركعة؛ لأنه يكون قد أخل بشيء من آداب الصلاة،
وضيع أكثر مما كان يفوته ما لو مشى على سكينة ووقار.
القضاء والإتمام معناهما والفرق بينهما
قال: (وما فاتكم فأتموا)، وجاءت رواية أخرى بلفظ: (فاقضوا)، فبعض
العلماء يقول: دلالة اللفظين لغة سواء، لأن القضاء قد يكون بمعنى
التمام والإنهاء والفراغ، (فإذا قضيت الصلاة) معناه: تمت وانتهت.
يقول الشاعر: قضى كل ذي دين فوفى غريمه وقضاء الدين بمعنى: دفْعُهُ
وأداؤه. وقضى فلان ما عليه، أي: أداه ودفعه. وقضى فلان بحقي بمعنى:
حكم، فتأتي كلمة (قضى) وما تصرف منها لمعان عديدة، ومن معانيها
الإتمام، فتقول: فلان قضى الأمر الذي كان قد بدأ به. وبعض العلماء
قال: هذا اصطلاح شرعي، ومعناه: أتموا ما بقي من نقص، واقضوا ما فات
عليكم من قبل. وجميع شراح الحديث يقولون: المشهور والأكثر عند
الجمهور لفظ (فأتموا)، وجاءت بعض الروايات عن أحمد والنسائي -وبعضهم يعزوها لمسلم - بلفظ: (فاقضوا). فاللفظان صحيحان، ولكن(2/92)
أحد اللفظين أشهر وأكثر من الآخر، والكثرة لها الترجيح، فإذا قلنا
باللفظين، فمن أخذ برواية (أتموا) -وهي المشهورة عند الجمهور- له
ترتيب في الماضي، ومن أخذ برواية (فاقضوا) له ترتيب آخر يخالف
الأول، فما الفرق بين اللفظين؟ إذا جئنا إلى صلاة رباعية جهرية أو
ثلاثية ولتكن المغرب، وجاء إنسان قد فاتته الركعة الأولى، وصلى مع
الإمام ركعتين وبقي من الثلاث ركعة، فهل الركعة التي سيصليها بعد
السلام -التي هي الثالثة- هي الأولى التي فاتته، أم هي الثالثة
الباقية عليه آخر صلاته؟! هو صلى مع الإمام ركعتين، وبقي عليه ركعة
واحدة، فهل الركعة الواحدة الباقية عليه هي التي فاتته ولم يدركها
مع الإمام فيقضيها، أم هي الثالثة التي لم يصلها فيتمها؟ هذا هو
التصوير العقلي للواقعة، وهو مطالب بركعة بلا شك، لكن بقي علينا أن
نتصور الركعة التي سيقوم لأدائها بعد سلام الإمام، فهل هي الفائتة
التي لم يدركها، وهي الأولى بالنسبة للإمام، أم هي الركعة الثالثة
الباقية تتمة للثلاث؟ ولما كان الأمر محتملاً فمن أخذ برواية
(فأتموا) فالركعة التي سيقوم لأدائها تكون هي الركعة الثالثة
الباقية؛ لأنه صلى الركعة الأولى والثانية، وبقي عليه أن يكمل
الثالثة، ويكون قد أتم الثالثة بالركعة التي أداها بعد سلام
الإمام. وإن قلنا: هي الماضية التي فاتته فيكون قد صلى ركعتين،
وفاتته واحدة، فيقوم لأداء الأولى التي فاتته مع الإمام قضاءً. وقد
يقول قائل: في الحالتين تبقى واحدة وستكمل الثلاث. قالوا: لا؛ لأن
القضاء يختلف عن الأداء، فإذا قلنا يتم ستكون بالنسبة له الركعة
الثالثة، والثالثة في المغرب سرية، فحين يقوم بعد الإمام ليأتي
بالثالثة يأتي بالقراءة سراً؛ لأنه يتم الثالثة الباقية عليه. وإذا
رجعنا إلى رواية (فاقضوا )، وسيكون قيامه لصلاة الركعة الأولى
التي فاتته، والأولى جهرية فيجهر بالقراءة. فهذا الذي يترتب على(2/93)
(أتموا) و(اقضوا). وإذا فعل الإنسان أحد الأمرين فهل صلاته صحيحة
أم باطلة؟ إن أخذ بلفظ (أتموا) وأتى بها سرية فالحمد لله، وإن
اعتبرها الماضية وأخذ بلفظ (واقضوا)، وأتى بها جهرية فلا مانع
والحمد لله. فالصلاة صحيحة على كلتا الروايتين، وكل له مستند. لكن
أيهما أرجح؟ هل هي (أتموا)؛ لأنها أرجح من جهة قوة الرواية ولأنها
مشهورة؟ إذا أخذنا المسألة من جهة النظر فعلى رواية: (اقضوا) يكون
قد أوقع تكبيرة الإحرام في الركعة الثانية؛ حيث أدرك مع الإمام
الثانية والثالثة، وقد اعتبرنا ما أدرك مع الإمام ثانية وثالثة،
وعليه أن يأتي بالأولى قضاءً، فيكون قد أوقع تكبيرة الإحرام في
الثانية، ولكن لما كبر تكبيرة الإحرام، أول ما دخل مع الإمام
-وتكبيرة الإحرام لا تكون إلا في الأولى- ظهر أن الركعة التي دخل
بها مع الإمام هي الأولى في حقه، وإن كانت الثانية أو الثالثة في
حق الإمام. ولو أدرك الإمام في الركعة الأخيرة فسيتم ويقضي ركعتين،
فعلى رواية (أتموا) يجهر في واحدة، ويسر في الأخيرة، وهكذا يكون
التفريع على الفرق بين (أتموا)، و(اقضوا)، والله سبحانه وتعالى
أعلم.
134476 ( كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [8] )
( كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [8] )
عناصر الموضوع
1 حكم القصر في الصلاة
2 متى يقصر المسافر
كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض [1]
إن الدين يسر، ومن يسره تخفيف الصلاة على المسافر بالجمع والقصر، وهذه
المسألة قد تكلم فيها العلماء ودققوا في فروعها، وناقشوا أدلتها مناقشة
دقيقة.
حكم القصر في الصلاة
باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
حديث: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ...)
فيقول المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أول
ما فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر )
متفق عليه، وللبخاري : (ثم هاجر، ففرضت أربعاً، وأقرت صلاة(2/94)
السفر على الأول )]. هذا الحديث من أقوى أدلة من يقول: إن القصر
في السفر واجب. فقولها في الحديث: (ثم) للتأخير والتسويف. إذاً:
حينما نسافر نرجع إلى الأصل، والأصل ركعتين، وهذا قول قوي. لكن
الآخرون يجيبون عن ذلك: بأن الله سبحانه وتعالى يقول: فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا [النساء:101]
، فالقصر يكون من تمام الكمال. إذاً: قول عائشة رضي الله تعالى
عنها ليس فيه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهي لم تقل: قال
النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، بل قالت: (أول ما فرضت
الصلاة)، فقالوا: هذا قول واجتهاد منها رضي الله تعالى عنها، ولم
تسند ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأت عن غيرها من
الصحابة، ولو كان الأمر كذلك لاستفاض ونُقل عن غيرها معها، فقالوا:
هذا يجعل الأخذ به فيه ضعف. فهنا: أول ما فرضت الصلاة ركعتين، ثم
حصل تغيير .. فأتمت صلاة الحضر أربعاً، وبقيت صلاة السفر على ما هي
عليه. ورد القائلون بأن القصر رخصة وليس بواجب فقالوا: أخبرونا عن
هذا المسافر الذي تفرضون عليه ركعتين فقط: إذا ائتم بمقيم فهل: يتم
أربعاً تبعاً لإمامه، أو يقتصر على ركعتين؟ وإجماع الفقهاء على أن
المسافر إذا ائتم بمقيم في الرباعية فعليه أن يتم، فلو أدرك مع
الإمام المقيم الركعتين الأخيرتين فلا يحق له أن يسلم معه، بل يقوم
ويأتي بالركعتين اللتين فاتتاه، فلو أن صلاة السفر تجب ركعتين لكان
أحد أمرين: إما أن يمتنع المسافر من الائتمام بالمقيم حتى لا يلزم
بالأربع، وإما أن يسلم من ركعتين التي هي فرضه، فلما لم نجد شيئاً
من ذلك، ووجدنا أن المسافر يأتم بالمقيم فيتم، تبين لنا أن صلاة
السفر يمكن إتمامها.
حديث: (ثم هاجر ففرضت أربعاً ...)
قال المصنف: [وللبخاري : (ثم هاجر ففرضت أربعاً، وأقرت صلاة
السفر على الأول )، وزاد أحمد : (إلا المغرب فإنها وتر
النهار، وإلا الصبح؛ فإنها تُطَّول فيها القراءة ) ] . لما ذكرت(2/95)
رضي الله تعالى عنها أن صلاة السفر فرضت ركعتين، وقصرت الرباعية،
جاء المؤلف رحمه الله بخبر أحمد ليبين أن القصر لا يشمل الصبح
فيصبح ركعة واحدة، ولا يشمل المغرب؛ لأنه ليس هناك صلاة ركعة ونصف،
ولا أن يسقط النصف وتكون ركعتين، وبيّن العلة؛ لأن المغرب وتر
النهار، فلما كانت صلاة النهار كلها شفع، الصبح اثنتين، الظهر
والعصر أربعاً أربعاً، وكان المغرب ثلاثاً فكان وتراً لصلاة
النهار، وأما الصبح فتطول فيه القراءة: وَقُرْآنَ
الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء:78].
حديث: (كان يقصر في السفر ويتم)
قال المصنف: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم، ويصوم ويفطر ) رواه
الدارقطني ، ورواته ثقات إلا أنه معلول، والمحفوظ عن عائشة من فعلها ]. الذين يقولون بأن القصر رخصة يستدلون أيضاً بهذا
الحديث الذي رواه الدارقطني ورواته ثقات، ويقولون: إنه جاء عنه
صلى الله عليه وسلم أنه: صام وأفطر في السفر، وأتم وقصر في السفر.
إذاً: الإتمام والقصر جائز جوازاً مستوي الطرفين، ولكن أجيب عن
ذلك: بأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتم صلاة في
السفر قط. إذاً: هذا معارض بفعله صلى الله عليه وسلم، أما أنه كان
يصوم ويفطر فهذا ثابت، فقد صام في فتح مكة حتى بلغ كراع الغميم ثم
أفطر بعد ذلك وأفطر الناس معه. [ورواته ثقات، إلا أنه معلول،
والمحفوظ عن عائشة من فعلها]. يقول المصنف: إن رواية الدارقطني رواتها ثقات ولكنها معلولة، وذكر العلة في الشرح بأن فيه رجلاً
سماه وهو مجهول، أو أنه يروي عن غير الثقات، أو أنه غير ثقة، وإذا
كان الحديث معلولاً ومخالفاً لما هو المشهور، فلا حاجة إلى
الاحتجاج به، وزاد تأكيداً على رده أن هذا الذي يقولون فيه عن
عائشة كان صلى الله عليه وسلم يتم ويقصر، فهي التي قالت: شرعت
صلاة السفر ركعتين، فكيف تقول لنا: إن أصل صلاة السفر ركعتين ثم(2/96)
تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يتم، وهذا مغاير لروايتها
الأخرى! فاجتمع فيه: أولاً: مغايرة عائشة رضي الله عنه
لروايتها الأخرى: (أقل ما فرضت الصلاة ركعتين). ثانياً: لم يثبت
عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتم في سفر أبداً. ثالثاً: أنه معلول.
إذاً: لا يتحج به. ولكن المؤلف كما قدمنا إنما يورد النصوص التي
يحتج بها من يحتج ويترك الترجيح والنظر للناظر فيها. قال المصنف:
[والمحفوظ عن عائشة من فعلها]. يعني أن : عائشة كانت تتم
وتقصر، وليس ذلك إسناداً إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلها
لا يستوي مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أن ابن عمر لما سئل عن فعلها قال: (لقد تأولت كما تأول عثمان )، وجاء عنها
أيضاً: أنها كانت تصوم وتفطر في السفر وتقول: (لا يشق عليّ)،
وسيأتي لها رواية، ويناقش العلماء في ألفاظها وفي سندها. فهنا: فعل
عائشة رضي الله تعالى عنها من تمام القصر في السفر، والصوم
والفطر في السفر اجتهاد منها، وكما قال ابن عمر : (تأولت كما
تأول عثمان ) فعثمان رضي الله تعالى عنه كان يقصر الصلاة
في السفر ست سنوات من خلافته، وقال البعض: بل طيلة خلافته، ولم يتم
إلا بمنى في أخريات خلافته، -أي: كان يقصر بمنى وفي غير منى- فقيل
له في ذلك؟ فقال أحد جوابين: لقد تزوجت بمنى، وسمعت النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: (إذا تزوج المسافر في بلد فليتم صلاته ).
وبعضهم يقول: قال: لقد وجدت الأعراب فأردت أن أعلمهم أن الصلاة
رباعية، لأنهم إذا جاءوا إلى الحج ووجدوا الخليفة يصلي ركعتين
ركعتين رجعوا إلى ديارهم وربما اعتقدوا أن الصلاة كلها ركعتين
ركعتين، فقال: أتممت لأعلم. هذا هو تأويله: إما أنه تأول إتمام
الصلاة ليعلم الأعراب، أو أنه أخذ بالنص: (من سافر فنزل في بلدة
فتزوج بها فليتم الصلاة )، فجاءت عنه الروايتان. وأم المؤمنين
رضي الله تعالى عنها تأولت بأن الرخصة للمشقة، فقالت: (وأنا لا يشق(2/97)
عليّ) والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فتأولت أنه إذا انتفت
المشقة انتفت الرخصة، ولا حاجة للأخذ بها.
حديث: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه)
قال المصنف: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما
يكره أن تؤتى معصيته ) رواه أحمد وصححه ابن خزيمة وابن
حبان ، وفي رواية: (كما يحب أن تؤتى عزائمه ). ] جاء المؤلف
رحمه الله أولاً بما يشعر بالوجوب فذكر حديث عائشة (أول ما
فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر )
أي: بقيت صلاة السفر على الأصل، وهذا من أدلة الوجوب، وجاء بعد ذلك
بهذا الحديث: (إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه) وهذا الحديث قاعدة
عامة. ما هي الرخصة؟ يقولون في فقه اللغة: إذا نظرت إلى المادة
(الراء، والخاء، والصاد) بمعنى الرُّخص والرَّخص، رخص الأسعار يدل
على على الرخاء والهدوء، وشيء رخص أي: لين رطب، واستدلوا بقول
الشاعر: (ومخضب رخص البنان كأنه) (رخص البنان) يعني: لين الأصابع،
وهذا وصف الفتيات والنسوة، فالرخص هو اللين، وكذلك الرخصة؛ لأن
ألفاظ الشارع تنقل ألفاظ اللغة إلى ما يناسبها من التشريع، كما
نقلت كلمة الصلاة من الدعاء إلى الصلاة ذات الركوع والسجود، وكما
نقل الصوم وهو الامتناع عن الكلام إلى الصيام في الإسلام، وهكذا
الحج وهو القصد، والعمرة: الزيارة. فقالوا: الرخصة: هي جلب الإرفاق
أو دفع المشقة، أو إباحة ما جاءت الرخصة به مع بقاء الحكم الأصلي.
أو هو حكم لاحق فيه إرفاق بالمسلمين، أو بالمكلف مع بقاء الحكم
الأصلي الذي جاءت به الرخصة. مثال ذلك: قوله تعالى: حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3]
ثم أباح الله تبارك وتعالى للإنسان في حالة المخمصة أن يتناول
الميتة، فقال: فَمَنْ
اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ [المائدة:3]
أي: عند الاضطرار يباح أكل الميتة. هل حينما أبيحت الميتة للمضطر(2/98)
رفع عنها حكم التحريم السابق أم هو باق؟ بل هو باق؛ بدليل أنه
حينما ترفع عنه المخمصة أو يجد غير الميتة لا يحل له أكلها. إذاً:
الحكم الأصلي باق، ولكن الرخصة جاءت مؤقتاً لإيقاف العمل بالنص في
التحريم، والنص قائم والحكم موجود. إذاً: إن قلنا بأن القصر رخصة
يبقى الحكم الأساسي هو الإتمام؛ لأن القصر جاء تخفيفاً، مع بقاء
حكم الأصل وهو الإتمام. وكذا الفطر في رمضان، ينتهي صيام الواجب،
فيقول: يا عبادي! يوم العيد أنتم في ضيافتي ومكرمتي، فمن صام يوم
العيد كأنه معرض عن ضيافة الله، ولو أن شخصاً آخر دعاك إلى مكرمة
وقلت: أنا في غنى عنها لا أريدها، لم يكن هذا من الأدب. فهذا
الحديث وإن كان يشعر بأن القصر رخصة لكن الله يحب أن يؤتى بها، ومن
هنا قال مالك رحمه الله: القصر رخصة والأفضل العمل بها تمشياً
مع هذا النص المحكم: (يحب أن تؤتى رخصة).. (صدقة تصدق بها عليكم)،
إذا كنت تعرف إنساناً فقيراً، وجئت بصدقة مالك إليه، وقال: أنا لا
أريدها، وأنت تعرف أنه محتاج ويقبل من غيرك، فإذا كان يقبل من غيرك
صدقة ماله ويرفض أن يأخذ صدقتك فإنك تستغرب وتفتش عن السبب، فإذا
كان الأمر من المولى سبحانه وتصدق علينا، ورخص لنا، فالواجب علينا
أن نقبل صدقة الله ورخصته، وهذا أحسن ما قيل في ذلك، ولهذا تجدون
الشارح الإمام الصنعاني يقول في العدة تعليقاً على العمدة
لابن دقيق العيد : وقد كتبت رسالة في ذلك، وحققت أن الصحيح
والراجح في المسألة أنها رخصة، والأفضل الأخذ بها، وهذا أحسن ما
يقال في هذا الباب، والله تعالى أعلم. قال المصنف وفي رواية: : [
(كما يكره أن تؤتى معصيته ). ] معناه: أن الله يحب أن تؤتى
الرخص بقدر ما يكره أن تؤتى المعصية، وإذا نظرنا إلى المقابلة:
بقدر ما يكره المولى إتيان المعصية بقدر ما يؤخذ بالرخصة، وكأن
الذي يرفض الأخذ بالرخصة يقدم على فعل المعصية، والعكس بالعكس،(2/99)
والقياس العكسي يؤدي إلى هذا. إذاً: أحسن ما قيل في هذه المسألة هو
ما ذهب إليه مالك رحمه الله، ونبه عليه الشارح الإمام الصنعاني هنا بأنه كتب رسالة في ذلك، وبين أن الراجح هو أنها رخصة، و الأفضل
الأخذ بها. قال المصنف: [وفي رواية: (كما يحب أن تؤتى عزائمه )
]. هذه الرواية مقابلة لتلك (كما يكره أن تؤتى معصيته ) لأن كره
المعصية يقابلها: حب العزيمة، فيحب الأخذ بالرخصة كما يحب الأخذ
بالعزيمة، وكلاهما مطلوب.
متى يقصر المسافر
قال المصنف: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين ).
رواه مسلم . كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة
أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين: هناك من أخذ هذا النص وجعل ثلاثة
أميال أو ثلاثة فراسخ هي مدة السفر التي تقصر فيه الصلاة، وهذا
خطأ، والصحيح في ذلك يؤخذ من قوله: (إذا خرج..) فلم يقل: إذا سافر،
ولاحظوا الدقة في التعبير، وكأن السفر غير الخروج. فيقول: إذا خرج
في سفر طويل، وقطع من السفر الطويل ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ -شك
من الرواي- صلى ركعتين، يعني أنه يشرع في قصر الصلاة في السفر
الطويل بعد أن يقطع ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ -على الشك- ولا
يشرع في قصر الصلاة من بيته؛ هذا حاصل هذا الحديث. قال المصنف:
[وعنه رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول لله صلى الله عليه وسلم من
المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة ).
متفق عليه، واللفظ للبخاري . ]. قبل الشروع في شرح الحديث أحب
أن أنبه بأن أهم المراجع التي يمكن أن يرجع إليها طالب العلم في
هذه المسألة: أضواء البيان لوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله
تعالى علينا وعليه، فقد ذكر كل ما تقدم من خلاف، وله رأي في
الترجيح، وأنا لا أقول شيئاً في ذلك، ولكن أحب أن أقول أيضاً بأنه
عرض إلى ما عرض إليه الفخر الرازي في التفسير في نوعية القصر،(2/100)
ما هو القصر.. هل القصر في الكيفية أم في الكمية؟ ومعنى القصر في
الكيفية: هو إتيان الصلاة على ما هي عليه أربعاً، ولكن مع التخفيف
في الأركان. يعني: تقرأ الفاتحة فقط، وتسبح مرتين أو ثلاثاً فقط،
وهناك من يقول بذلك، وقالوا: صلاة السفر تقصر ركعتين، وصلاة الخوف
تكون ركعة واحدة، وبعضهم يقول: قصر الصلاة مع الخوف ركعة، ومع
الأمن ركعتين، ولكن لم يأخذ بهذا التفصيل أحد من الأئمة الأربعة،
فإذا مر عليها الطالب فلا يقف عندها طويلاً، اللهم إلا إذا كان
استيعاباً للخلاف الموجود في المسألة، أما إذا أراد فقه المسألة
وتحقيقها فليتجاوز هذه المرحلة في أول بحث الشيخ رحمه الله، ثم
يأتي إلى الفروع التي أوردها في المسألة، وأقوال الأئمة رحمهم الله
في تلك المسألة التي يتعلق بها الحكم. والله تعالى أعلم.
المسافة التي يجوز فيها القصر
حديث أنس رضي الله عنه يشير إلى مدة نهاية القصر، ومسافة القصر
التي قدرت -وسيأتي التنصيص عليها بأربعة برد، والعبرة فيها
بالمسافة البينية، أي: ما بين مسيره ومنتهاه، فإذا كانت الأربعة
برد للذهاب والإياب بأن كان سفره مثلاً إلى بريدين وسيرجع بريدين،
والمجموع أربعة برد فلا قصر؛ لأن العبرة فيما بين بلده وبين غايته
من السفر، فإذا كانت المسافة بين بلده وبين الغاية من سفره أربعة
برد قصر، وإذا كان الذهاب والإياب أربعة برد فلا قصر.
إذا أقام المسافر أربعة أيام أو أقل فله القصر
وهنا يقول أنس رضي الله تعالى عنه: (سافرنا مع النبي صلى الله
عليه وسلم إلى مكة، فلا زال صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة أو
يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة). إذاً: المسافر الذي استوفى شروط
السفر يقصر، ومما يذكر في جواز القصر في السفر أن يكون السفر
مباحاً أو سفر طاعة، وهناك من يقول: بل مطلق سفر ولو حتى في غير
طاعة ولا مباح، وإن كان سفر معصية فمعصيته على نفسه، وله رخصة(2/101)
السفر في هذا، والجمهور يقولون: إن الله سبحانه يقول: وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ [المائدة:2]
فإذا كان سفره سفر معصية فلا يأخذ بالرخصة، ولا يفتي بذلك لأنه
يساعده على معصيته. إذا استوفى المسافر الشروط وكانت المسافة
مكتملة، والسفر مباحاً فلا يزال يقصر حتى يرجع إلى بلده. ولكن قد
تطرأ في أثناء السفر إقامة، فما حكم تلك الإقامة التي تخللت سفره
حتى يرجع؟ من هنا: جاء المؤلف رحمه الله بعد هذا بحديث ابن عباس رضي الله عنه. والسفر الذي ذكره أنس رضي الله عنه إلى مكة مع
إقامته صلى الله عليه وسلم هناك فيه عدة أحكام في عدة مواقف، وكان
سفره صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الفتح وعام الحج، وكل منهما
يختلف حاله؛ لأن عام الفتح له ظروف، وعام الحج له ظروف، وسنتناول
حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بروايته، مع الإلمام
الخفيف عن الفرق بين سفرة الحج وسفرة الفتح. ففي سفرة الفتح خرج
صلى الله عليه وسلم في رمضان، وبدأ سفره صائماً حتى بلغ كُرَاعَ
الغميم، وهناك أفطر وندب الناس إلى الفطر وموضوع الصوم لا يخصنا
-وكان يقصر الصلاة من ذي الحليفة إلى أن رجع إلى المدينة، ولما وصل
مكة وفتح الله له مكة انتظر هناك تسعة عشر، أو عشرين، أو ثمانية
عشر يوماً -أكثر أو أقل- وهو يقصر الصلاة ويقول لأهل مكة: (أتموا
صلاتكم فإنا قوم سفر ). فقوله: (مكث ثمانية عشر، تسعة عشر،
عشرين -أكثر أو أقل- وهو يقصر، ما الذي أجلسه صلى الله عليه وسلم
تلك المدة وقد أنعم الله عليه بالفتح؟ نعلم جميعاً أن بعد الفتح
كانت غزوة حنين، فلما بلغه صلى الله عليه وسلم أن هوازن تجمع له،
علم أن فتح مكة لم ينته، وبقي في مهمة الفتح أو الغزو تلك اللحظات،
فخرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى هوازن. إذاً: كانت مدة إقامته
صلى الله عليه وسلم عام الفتح مدة جهاد، ولا نقول: إنه مقيم، ولا
تمت له إقامة، ولا نوى إقامة واستيطاناً. إذاً: ما دام الأمر كذلك(2/102)
فهو على سفر، وكان صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة حتى رجع من
هوازن ورجع إلى المدينة. أما سفرة الحج فيتخللها إقامة محددة، كما
جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (قدموا صبح رابعة)
أي: وصل النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة يوم الرابع من ذي الحجة،
وإذا كان وصل يوم أربعة في ذي الحجة، فالوقوف بعرفة يكون يوم تسعة،
فيضطر أن ينتظر في مكة إلى يوم عرفات خمسة أيام، وفي هذه المدة
قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه نووا الإقامة حتى يأتي
يوم الثامن فيرحلون إلى منى ثم عرفات، فهذه المدة التي حصلت فيها
الإقامة، كان صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة فيها ولا يتمها؟ كم
مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل عرفة؟! الجواب: ارتحل صلى
الله عليه وسلم إلى منى ضحى، وصلى الظهر يوم الثامن في منى، ومكث
إلى صلاة الصبح في منى، فلما أشرقت الشمس ذهب إلى عرفات، فكانت
إقامته صلى الله عليه وسلم خمسة أيام بحساب يوم الدخول ويوم الطلوع
إلى منى، والإمام أحمد رحمه الله قال: من أقام أثناء سفره لمدة
عشرين صلاة، أي: عشرين فرضاً على اعتبار أن كل يوم فيه خمسة فروض؛
فإن حكم السفر يظل مصحوباً معه فيقصر، أما إذا نوى الإقامة أكثر من
ذلك كأن ينوي الإقامة عشرة أيام محددة معلومة، أو ستة أيام محددة
معلومة؛ فحينئذٍ يتم من أول يوم يصل، لماذا؟ قال الإمام أحمد :
الأربعة الأيام قصيرة، وتعب السفر لازال موجوداً، وهو يتهيأ لسفر
لاحق، ولا يزال مصطحباً حكم السفر معه في هذه المدة المحدودة.
وكذلك فإن أصل القصر رخصة، والرخصة لا اجتهاد فيها، إنما الرخص
جميعها توقيفية، ولا تتعدى محلها، فقالوا: ما دمنا وجدنا النبي صلى
الله عليه وسلم في أثناء سفره أقام بنية معينة، فكذلك نحن إذا
أقمنا أثناء السفر مدة معينة نظرنا: إن كانت المدة مثل المدة التي
نزلها وأقامها صلى الله عليه وسلم فنقصر كما قصر، وإن كانت أقل فمن(2/103)
باب أولى، أي: لو أردنا الإقامة يومين أو ثلاثة فإنا نقصر من باب
أولى. يقولون: السنة جاءت بأربعة، ولا نزيد على ذلك، ولهذا يتفقون
بأن من نوى الإقامة أربعة أيام فإنه له أن يقصر، وهناك أقوال أخرى
كما عند الأحناف أنها خمسة عشر يوماً، ويقولون: هذه مدة الطهر بين
القرئين، وهذه المدة جاءت بها الأخبار والآثار، على ما سيأتي في
حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه. إذاً: المسافر إذا نزل
نزولاً مؤقتاً، سواء في نهاية غايته أو في أثناء طريقه، وكان نزوله
وإقامته محددة بأربعة أيام فأقل فله أن يديم القصر حتى يرحل، وإن
كانت إقامته محددة معلومة أكثر من أربعة أيام فعليه أن يتم أول ما
يصل.
إذا أقام المسافر متردداً فإلى أي مدة يقصر؟
إذا كانت إقامته غير محدودة ولا يعلم متى سيرحل، فما حكمه في تلك
المدة؟ سيأتي بيان ذلك في روايات ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما سواء كانت في مكة أو في تبوك. قال المصنف: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر
يوماً يقصر )، وفي لفظ: (بمكة تسعة عشر يوماً ). ] كم كانت
إقامته صلى الله عليه وسلم في الحج؟ أربعة أيام، ثم بعدها سفر
متواصل إلى منى، فعرفات، فمزدلفة، فمنى ثلاثة أيام، فالعودة إلى
المدينة، فأطول مدة أقامها صلى الله عليه وسلم في سفر الحج هي ما
بين وصوله إلى يوم التروية، وهو اليوم الثامن، والباقي كله سفر
متواصل، وهنا أقام في مكة تسعة عشر يوماً. فيكون قطعاً ليس في
الحج، إنما هو في الفتح. هل ظل صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة
تسعة عشر يوماً، ولماذا؟ نعم. ظل يقصر خلال هذه المدة. قالوا: لأنه
لم ينو إقامة ولم يحدد مدة، ولم يكن يعلم متى سيرجع. إذاً: لم يكن
هناك تحديد للمدة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم متى ينتهي
الموقف، ولكنه صلى الله عليه وسلم انتهى من فتحها -مكة- في يومها
والحمد لله وتم الأمر، ولكنه لم يعلم متى ينتهي من الذين جمعوا له(2/104)
من هوازن، ومن هنا انتظر يعبئ الجيش ويهيئه للقتال وخرج معه عشرة
آلاف مقاتل، وهناك من مكة خرج معه ألفان من مسلمة الفتح ومن غير
المسلمين، حتى أن من المشركين من خرج مع المسلمين حمية ودفاعاً عن
مكة. ولما انتهى من أمر هوازن ونصره الله عليهم وغنم غنائم حنين،
ورجع إلى مكة توجه إلى المدينة حالاً. إذاً: هذه المدة -التسعة عشر
يوماً- لم تكن مقررة من قبل، إنما قررها الواقع، ولما انتهت المهمة
ولم يبق للإقامة حاجة عاد صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة.
وهنا نجد الروايات: (تسعة عشر، سبعة عشر، ثمانية عشر، خمسة عشر) كل
هذه الروايات جاءت فيما يتعلق بالمدة التي أقامها صلى الله عليه
وسلم في مكة، وجاءت أيضاً في تبوك عشرين يوماً، أما روايات ابن
عباس في مكة -تسعة عشر.. سبعة عشر.. خمسة عشر.. ثمانية عشر..
فيقولون: إن البيهقي رحمه الله جمع بين تلك الروايات وقال: لا
تعارض بينها، فمن قال: تسعة عشر يوماً حسب يوم الدخول وحسب يوم
الخروج، ومن قال: سبعة عشر يوماً أسقط يوم الدخول ويوم الخروج، فلا
تعارض حينئذٍ، ومن حسب ثمانية عشر يوماً أسقط يوم الدخول يوم
الخروج أو العكس، والذي قال: خمسة عشر؟ قالوا: هي الرواية صحيحة،
ولكنها في علم الحديث شاذة، لأنه لا يمكن الجمع بينها وبين سبعة
عشر، وتسعة عشر). وعلى هذا: وجد عندنا إقامة بدون تحديد مدة وفيها
القصر إلى تسعة عشر يوماً، فهناك من العلماء من قال: إذا أقمنا في
أثناء السفر إقامة غير محدودة ولا معلومة النهاية قصرنا تسعة عشر،
والآخر يقول: قصرنا خمسة عشر يوماً احتياطاً، وعدنا إلى إتمام
الصلاة، ولكن أكثر العلماء على تسعة عشر، وربما نجد من يروي عن بعض
العلماء غير الأئمة الأربعة شهراً، على ما جاء في رواية عن علي رضي الله تعالى عنه، وربما وجدنا من يقول: إذا كانت الإقامة غير
معلومة ولا محددة فظلت أطول من تسعة عشر أو عشرين، أو ثلاثين(2/105)