في ذلك فقد أخرج الطبراني بسند حسن عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل كيف أصبحت يا فلان فقال أحمد الله إليك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم ذلك الذي أردت منك
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أن الطفيل ) بضم الطاء وفتح الفاء ( ابن أبي ابن كعب ) الأنصاري الخزرجي ثقة يقال ولد في العهد النبوي ( أخبره أنه كان يأتي عبد الله بن عمر ) بن الخطاب ( فيغدو ) بغين معجمة ( معه إلى السوق قال فإذا غدونا إلى السوق لم يمرر ) بالفك وفي نسخة يمر بالإدغام ( عبد الله بن عمر على سقاط ) بفتح السين والقاف بائع رديء المتاع ويقال له أيضا سقطي والمتاع الرديء سقط ويجمع على أسقاط ( ولا صاحب بيعة ) بكسر الموحدة وإسكان التحتية قال الهروي من البيع كالركبة والشربة والقعدة والسقاط بياع السقط ( ولا مسكين ولا أحد ) عام قدم عليه الخاص اهتماما به ( إلا سلم عليه قال الطفيل فجئت عبد الله بن عمر يوما ) أي في يوم ( فاستتبعني ) طلب مني أن أتبعه ( إلى السوق فقلت له وما تصنع في السوق وأنت لا تقف على البيع ) بفتح الموحدة وشد التحتية مكسورة مثل بائع ( ولا تسأل عن السلع ) جمع سلعة ( ولا تسوم بها ولا تجلس في ) مجالس ( السوق وقال الطفيل وأقول له اجلس بنا ههنا نتحدث ) ولا نذهب إلى السوق لعدم الحاجة له ( قال فقال لي عبد الله بن عمر يا أبا بطن وكان الطفيل ذا بطن ) عظيم فكأنه يقال له أبو بطن لعظم بطنه ( إنما نغدو من أجل السلام نسلم على من لقينا ) فإنه صلى الله عليه وسلم قال افشوا السلام فإنه لله رضى
رواه الطبراني وابن عدي عن ابن عمر بن الخطاب
وفي حديث البراء عند الشيخين الأمر بإفشاء السلام
ولقوله لمن سأله أي خصال الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف كما في الصحيحين
وعن ابن مسعود السلام اسم من أسماء الله وضعه في الأرض فأفشوه بينكم فإن الرجل إذا سلم على القوم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنه ذكرهم فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب أسنده أبو عمر
____________________
(4/462)
( مالك عن يحيى بن سعيد أن رجلا سلم على عبد الله بن عمر فقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته والغاديات والرائحات ) قال عيسى بن دينار معناه التي تغدو وتروح
قال الباجي ويحتمل عندي أن يريد به الملائكة الحفظة الغادية الرائحة لتكتب أعمال بني آدم
( فقال عبد الله بن عمر وعليك ألفا ) ما قلت ( ثم كأنه كره ذلك ) لأنه استظهار على الشرع
وقد روى الطبراني وغيره عن سلمان قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك فقال وعليك ورحمة الله ثم أتى آخر فقال السلام عليك ورحمة الله فقال عليك السلام ورحمة الله وبركاته ثم جاء آخر فقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال له وعليك فقال الرجل أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي فقال إنك لم تدع لنا شيئا قال الله تعالى { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } سورة النساء الآية 86 فرددنا عليك
( مالك أنه بلغه إذا دخل البيت غير المسكون يقال السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين )
52 باب الاستئذان أي طلب الإذن بالدخول المأمور به في قوله تعالى { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } سورة النور الآية 27 وقد أجمعوا على مشروعيته وتظاهرت به دلائل القرآن والسنة
( مالك عن صفوان بن سليم ) بضم السين ( عن عطاء بن يسار ) قال أبو عمر مرسل صحيح لا أعلمه يستند من وجه صحيح ولا صالح ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال يا رسول الله أستأذن على أمي فقال نعم فقال الرجل إني معها في البيت ) يريد أنهما ساكنان في بيت واحد والله يقول { غير بيوتكم } سورة النور الآية 27 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن عليها لعدم اختصاصك بسكنى البيت
( فقال الرجل إني خادمها ) زيادة على كوني معها في البيت وكونها أمي
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن عليها ) ثم لما رآه مجادلا نبهه على ما غفل عنه مما يقطع حجته فقال ( أتحب أن تراها
____________________
(4/463)
عريانة ) بضم فسكون ( قال لا ) أحب ذلك ( قال فاستأذن عليها ) لأنك إن دخلت بدونه قد تكون عريانة فتراها
( مالك عن الثقة عنده ) قال أبو عمر يقال أنه مخرمة بن بكير وقد رواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير يعني فيحتمل أنه عمرو ( عن بكير ) بضم الموحدة ( ابن عبد الله بن الأشج ) بمعجمة وجيم المخزومي مولاهم المدني نزيل مصر من الثقات ( عن بسر ) بضم الموحدة وسكون السين المهملة ( ابن سعيد ) بكسر العين المدني العابد الثقة الحافظ ( عن أبي سعيد ) سعد بن مالك بن سنان ( الخدري ) الصحابي ابن الصحابي ( عن أبي موسى ) عبد الله بن قيس ( الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستئذان ) للدخول وهو استدعاء الإذن أي طلبه ( ثلاث ) من المرات ( فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع ) لأنه سبحانه وتعالى قال { فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم } سورة النور الآية 28 قال المازري صورة الاستئذان أن يقول السلام عليكم أدخل ثم هو مخير بين أن يسمي نفسه أو لا
وقال ابن العربي لا يتعين هذا اللفظ وبين حكمة الثلاث في حديث أبي هريرة عند الدارقطني في الأفراد بإسناد ضعيف مرفوعا الاستئذان ثلاث فالأولى تسمعون والثانية يستصلحون والثالثة يأذنون أو يردون قال ابن عبد البر قال أكثر العلماء لا تجوز الزيادة على الثلاث في الاستئذان
وقال بعضهم إذا لم يسمع فلا بأس أن يزيدوا
وروى سحنون عن ابن وهب عن مالك لا أحب أن يزيد على ثلاث إلا من علم أنه لم يسمع
وقيل تجوز الزيادة مطلقا بناء على أن الأمر بالرجوع بعد الثلاث للإباحة والتخفيف عن المستأذن فمن استأذن أكثر فلا حرج عليه انتهى
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ) فروخ المدني ( عن غير ) أي أكثر من ( واحد من علمائهم ) وصله الشيخان من طريق عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير ( أن أبا موسى الأشعري جاء يستأذن على عمر بن الخطاب ) وفي الصحيحين من طريق يزيد بن خصيفة عن بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري قال كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور ولمسلم كنا في مجلس عند أبي بن كعب فأتى أبو موسى مغضبا ولأبي داود فجاء أبو موسى فزعا فقلنا له ما
____________________
(4/464)
أفزعك قال أمرني عمر أن آتيه فأتيته ( فاستأذن ثلاثا ثم رجع ) وفي رواية للبخاري ففرغ عمر أي مما كان مشغولا به فقال ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ائذنوا له قيل إنه رجع
( فأرسل عمر بن الخطاب في أثره ) بفتحتين وبكسر فسكون أي قرب رجوعه ( فقال مالك لم تدخل ) وفي رواية ما منعك أن تأتيني وقد دعوتك فقال ( أبو موسى ) زاد في رواية استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الاستئذان ثلاث ) من المرات ( فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع ) قيل لأن الكلام إذا كرر ثلاثا سمع وفهم غالبا
ولمسلم من طريق بردة جاء أبو موسى إلى عمر فقال السلام عليكم هذا عبد الله بن قيس فلم يؤذن له فقال السلام عليكم هذا أبو موسى فلم يؤذن له فقال السلام عليكم هذا الأشعري ثم انصرف قال الحافظ يؤخذ من صنيع أبي موسى حيث ذكر اسمه أولا وكنيته ثانيا ونسبته ثالثا أن الأولى هي الأصل والثانية إذا جوز أن يكون التبس على من استأذن عليه والثالثة إذا غلب على ظنه أنه عرفه
وقال القرطبي ما فعله أبو موسى أولى لأنه إن كان توقيفا فهو المطلوب وإن لم يكن توقيفا فقول راوي الحديث أولى من قول غيره انتهى
وعند أبي داود فقال يستأذن أبو موسى ثم قال ثانيا يستأذن الأشعري ثم ثالثا يستأذن عبد الله بن قيس وهذا مخالف لرواية مسلم وجمع بينهما باحتمال أنه جمع بين الاسم والكنية في المرة الأولى وفي الثانية جمع بين الكنية والنسبة وفي الثالثة جمع بين النسبة والاسم والتقصير عن ذلك من اختلاف الرواة إما لعدم تحققه المتروك فروى ما تحقق أو لأن أبا موسى حدث تارة بكذا وأخرى بكذا باعتبار ما يراه أهم وقت التحديث فروى عنه كل راو ما حدث به
( فقال عمر ومن يعلم هذا ) معك ( لئن لن تأتني بمن يعلم ذلك ) غيرك ( لأفعلن بك كذا وكذا ) في مسلم لتقيمن عليه بينة وإلا أوجعتك وله أيضا فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا وفي رواية لأجعلنك عظة ( فخرج أبو موسى حتى جاء مجلسا في المسجد يقال له مجلس الأنصار ) لجلوسهم فيه ( فقال إني أخبرت عمر بن الخطاب أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الاستئذان ثلاث فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع فقال لئن لم تأتني بمن يعلم هذا لأفعلن بك كذا وكذا ) يتوعده ( فإن كان سمع ذلك أحد منكم فليقم معي فقالوا ) وفي رواية للشيخين فقال أبي بن
____________________
(4/465)
كعب والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم ولمسلم فقال أبي والله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا قم يا أبا سعيد فكأن أبيا ابتدأ ذلك ووافقوا عليه فنسب للجميع فقالوا ( لأبي سعيد الخدري قم معه وكان أبو سعيد أصغرهم ) فأراد بذلك أن هذا الحديث مشهور لكبارهم وصغارهم حتى أن أصغرهم يحفظه وسمعه من المصطفى ( فقام معه فأخبر بذلك عمر بن الخطاب ) وفي رواية للشيخين فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك فقال عمر أخفي هذا علي من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني الصفق بالأسواق يعني الخروج إلى التجارة لأنه كان يحتاج إليها لأجل الكسب لعياله والتعفف عن الناس ففيه أن العلم الخاص قد يخفى عن الأكابر فيعلمه من دونهم
قال ابن دقيق العيد وذلك يصدق في وجه من يطلق من المقلدين إذا استدل عليه بحديث فيقول لو كان صحيحا لعلمه فلان فإذا أخفي ذلك على أكابر الصحابة فغيرهم أولى
قال الحافظ وقد تعلق بذلك من زعم أن عمره كان لا يقبل خبرا لواحد ولا حجة فيه لأنه قبل خبر أبي سعيد المطابق لخبر أبي موسى ولا يخرج بذلك عن كونه خبر واحد وإنما أراد عمر أن يتثبت وهذا معلوم من مذهبه
وفي رواية أبي بردة فقال أبي بن كعب لعمر يا ابن الخطاب عند مسلم وعند غيره يا عمر لا تكن عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر سبحان الله إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت ( فقال عمر لأبي موسى أما أني لا أتهمك ) بما قلته لك مما سبق من الألفاظ ( ولكني خشيت أن يتقول ) يكذب ( الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يحتمل أنه كان عنده من قرب عهده بالإسلام فخشي أن أحدهم يختلق الحديث عليه صلى الله عليه وسلم عند الرغبة والرهبة طلبا للخروج مما دخل فيه فأراد بذلك إعلامهم أن كل من فعل شيئا من ذلك ينكر عليه حتى يأتي بالمخرج أشار إليه ابن عبد البر
زاد غيره فأراد عمر سد هذا الباب وردع غير أبي موسى لا شكا في روايته فإن من دونه إذا بلغته قصته وكان في قلبه مرض أو أراد وضع حديث خاف من مثل قضية أبي موسى فالمراد غيره
وفي القصة دليل على ما كان الصحابة عليه من القوة في دين الله وقول الحق والرجوع إليه وقبوله فإن أبيا أنكر على عمر تهديد أبي موسى وخاطبه مع أنه الخليفة بيا ابن الخطاب أو يا عمر لأن المقام مقام إنكار
53 التشميت في العطاس ( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) محمد بن عمرو بن حزم ( عن أبيه ) أبي بكر اسمه وكنيته واحد مرسلا ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن عطس ) بفتح الطاء ومضارعه بكسرها والاسم العطاس بضم العين
____________________
(4/466)
( فشمته ) بمعجمة ومهملة لغتان معروفتان قال ثعلب معناه بالمعجمة أبعد الله عنك الشماتة وجنبك ما يشمت به عليك وبالمهملة جعلك الله على سمت حسن قاله ابن عبد البر وقال غيره بمعجمة من الشوامت وهي القوائم هذا هو الأشهر الذي عليه الأكثر
وروي بمهملة من السمت وهو قصد الشيء وصفته أي أدع الله له بأن يرد شوامته أي قوائمه أو سمته على حاله لأن العطاس يحل مرابط البدن ويفصل معاقده فمعنى رحمك الله أعطاك رحمة ترجع بها إلى حالك الأولى ويرجع بها كل عضو إلى سمته
( ثم إن عطس فشمته ثم إن عطس فشمته ) إذا حمد ( ثم إن عطس فقل إنك مضنوك ) بضاد معجم أي مزكوم والضناك بالضم الزكام يقال أضنكه الله وأزكمه قال ابن الأثير والقياس مضنك ومزكم لكنه جاء على ضنك وزكم
( قال عبد الله بن بكر لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة ) ولأبي داود وأبي يعلى وابن السني عن أبي هريرة مرفوعا إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه فإن زاد على ثلاث فهو مزكوم ولا يشمت بعد ثلاث وفي إسناده ضعف وفيه تنبيه على الدعاء له بالعافية لأن الزكمة علة وإشارة إلى الحث على تدارك هذه العلة ولا يهملها فيعظم أمرها وكلامه صلى الله عليه وسلم كله حكمة ورحمة
وروى أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن أبي موسى رفعه إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه وإذا لم يحمد الله فلا تشتموه
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا عطس فقيل له يرحمك الله قال يرحمنا الله وإياكم ويغفر لنا ولكم ) وللطبراني عن ابن مسعود رفعه إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله رب العالمين
وليقل له يرحمك الله
وليقل هو يغفر الله لنا ولكم وللبخاري في الأدب المفرد مرفوعا إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله وليقل له أخوه وصاحبه يرحمك الله فإذا قال له يرحمك الله فليقل يهديكم الله ويصلح بالكم وللطبراني عن ابن عباس رفعه إذا عطس أحدكم فقال الحمد لله قالت الملائكة رب العالمين فإذا قال رب العالمين قالت الملائكة يرحمك الله وقد رجح الجمع بين الدعاء بالرحمة ويهديكم الله الخ
واعترض بأن الدعاء بالهداية للمسلم تحصيل الحاصل وهو محال ومنع بأنه ليس المراد الدعاء بالهداية للإيمان المتلبس به بل معرفة تفاصيل أجزائه وإعانته على أعماله وكل مؤمن يحتاج ذلك في كل طرفة عين ومن ثم أمره الله سبحانه وتعالى أن يسأل الهداية في كل ركعة من الصلاة إهدنا الصراط المستقيم
____________________
(4/467)
54 ما جاء في الصور ( بضم الصاد وفتح الواو ) جمع صورة وهي ما يصنع على مثل الحيوان
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) زيد الخزرجي ( أن رافع ) بالراء ( ابن إسحاق ) المدني التابعي الثقة ( مولى الشفاء ) بكسر المعجمة والمد والقصر بنت عبد الله ابن عبد شمس الصحابية ويقال مولى أبي طلحة ويقال مولى أبي أيوب ( أخبره قال دخلت أنا وعبد الله بن أبي طلحة ) زيد بن سهل الأنصاري والد إسحاق ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة حنين وفي الصحيح أن أمه أم سليم لما ولدته قالت يا أنس اذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فليحنكه فكان أول شيء دخل جوفه ريقه صلى الله عليه وسلم وحنكه بتمرة فجعل يتملظ فقال صلى الله عليه وسلم حب الأنصار التمر
قال ابن سعد ثقة جليل
الحديث روي عن أبيه وأخيه لأمه أنس وعنه ابناه إسحاق وعبد الله وابن ابنه يحيى بن إسحاق وغيرهم قال أبو نعيم واستشهد بفارس وقال غيره مات بالمدينة سنة أربع وثمانين ( على ابن أبي سعيد الخدري يعود ) من مرض به ( فقال لنا أبو سعيد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة ) قيل هو عام في كل ملك وقيل المراد ملائكة الوحي قاله أبو عمر ( لا تدخل بيتا ) أي مكانا يستقر إليه الشخص سواء كان بيتا أو خيمة أو غيرهما ( فيه تماثيل ) أي تصاوير جمع تمثال وهو الصورة مما يشبه صورة الحيوان التام التصور ولم تقطع رأسه ويمتهن أو عام في كل الصور وسبب امتناعهم كونها معصية فاحشة إذ فيها مضاهاة لخلق الله وبعضها في صورة ما يعبد من دون الله
( أو تصاوير شك إسحاق لا يدري أيتهما ) أي اللفظين ( قال أبو سعيد ) وإن اتحد المعنى ولولا جزم الراوي بأنه شك لأمكن جعل أو للتنويع وتفسير التماثيل بالأصنام والتصاوير بالحيوان قال ابن عبد البر هذا أصح حديث في هذا الباب وأحسنه إسنادا انتهى أي من أصحه وأحسنه
( مالك عن أبي النضر ) بضاد معجمة سالم بن أبي أمية ( عن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( ابن عتبة ) بضمها وإسكان الفوقية ( ابن مسعود ) أحد الفقهاء ( أنه دخل على أبي طلحة ) زيد بن
____________________
(4/468)
سهل ( الأنصاري ) الخزرجي ( يعوده ) لمرض ( قال فوجد عنده سهل بن حنيف ) بضم المهملة وفتح النون الأنصاري البدري ( فدعا أبو طلحة إنسانا فنزع نمطا ) بفتح النون والميم وطاء مهملة ضرب من البسط له خمل رقيق ( من تحته فقال له سهل بن حنيف لم تنزعه قال كان فيه تصاوير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما قد علمت ) يا سهل أن البيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة ( قال سهل ألم يقل إلا ما كان رقما ) بفتح الراء وسكون القاف أي نقشا ووشيا ( في ثوب قال بلى ) أي قد قال ذلك ( ولكنه أطيب لنفسي ) للبعد عن الصور من حيث هي
قال ابن العربي حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم إجماعا وإن كانت رقما فأربعة أقوال الجواز مطلقا لظاهر هذا الحديث والمنع مطلقا حتى الرقم والتفصيل فإن كانت الصورة ثابتة الهيئة قائمة الشكل حرم وإن قطعت الرأس وتفرقت الأجزاء جاز وهذا هو الأصح والرابع إن كان مما يمتهن جاز وإن كان معلقا فلا انتهى
وهذا الإجماع محله في غير لعب البنات
وكذا رجح ابن عبد البر القول الثالث وقال إنه أعدل المذاهب وعليه أكثر العلماء ومن حمل عليه الآثار لم تتعارض وهذا أولى ما اعتقد فيه
قال ولم يختلف رواة الموطأ في إسناد هذا الحديث ومتنه وزعم بعض العلماء أن عبيد الله لم يلق أبا طلحة وما أدري كيف قال ذلك وهو يروي حديث مالك هذا وأظنه لقول بعض أهل السير مات أبو طلحة سنة أربع وثلاث وعبيد الله حينئذ لم يكن ممن يصح له السماع وهذا ضعيف والأصح أن وفاة أبي طلحة بعد الخمسين لما صح عن أنس سرد أبو طلحة الصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة ومات سهل بن حنيف سنة ثمان وثلاثين فسماع عبيد منهما ممكن وقد ثبت هنا صحيحا فكيف ينكر وإن كان سبب إنكاره رواية ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن عبيد الله عن ابن عباس عن أبي طلحة مرفوعا لا تدخل الملائكة بيتا فيه تصاوير فقال خالف الأوزاعي ابن أبي ذئب فرواه عن الزهري عن عبيد الله عن أبي طلحة لم يذكر ابن عباس وهذا موافق لرواية مالك عن أبي النضر على أنه يجوز أنهما حديثان لأن حديث أبي النضر استثنى ما كان رقما في ثوب
وجمع سهل بن حنيف مع أبي طلحة وليس هذان في حديث ابن شهاب فهو غير حديث أبي النضر وإن كان شيخهما واحدا وهو عبيد الله انتهى ملخصا
وحديث ابن شهاب في الصحيحين
ورجح الدارقطني رواية ابن أبي ذئب بإثبات ابن عباس ورجح ابن الصلاح رواية الأوزاعي بإسقاطه ويؤيده رواية أبي النضر إن كان واحدا
____________________
(4/469)
( مالك عن نافع ) مولى ابن عمر ( عن القاسم بن محمد ) ابن أبي بكر الصديق ( عن ) عمته ( عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها اشترت نمرقة ) بضم النون والراء وبكسرهما روايتان بينهما ميم ساكنة وقاف مفتوحة وحكي تثليث النون وسادة صغيرة ( فيها تصاوير ) أي تماثيل حيوان ( فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل ) الحجرة زاد في رواية للبخاري وجعل يتغير وجهه ( فعرفت ) عائشة ( في وجهه ) الوجيه ( الكراهية ) بكسر الهاء وخفة الياء وفي رواية بفتح الهاء وإسقاط الياء ( وقالت يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله ) فيه التوبة من جميع الذنوب إجمالا ولو لم يستحضر التائب خصوص الذنب الذي حصلت به مؤاخذاته
قال الطيبي فيه حسن أدب من الصديقة حيث قدمت التوبة على اطلاعها على الذنب ومن ثم قالت ماذا أذنبت أي ما اطلعت على الذنب ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال هذه النمرقة ) ما شأنها فيها تماثيل ( قالت اشتريتها لك تقعد عليها وتوسدها ) بحذف إحدى التاءين للتخفيف والأصل وتتوسدها
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أصحاب هذه الصورة ) الحيوانية الذين يصنعونها يضاهئون بها خلق الله ( يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ) بهمزة قطع مفتوحة وضم الياء ( ما خلقتم ) صورتم كصورة الحيوان والأمر للاستهزاء والتعجيز لأنهم لا يقدرون على نفخ الروح في الصورة التي صوروها فيدوم تعذيبهم
وفي الصحيحين عن ابن عباس من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ أي أبدا فهو معذب دائما لأنه جعل غاية عذابه إلى أن ينفخ فيها الروح وأخبر أنه ليس بنافخ وهذا يقتضي تخليده في النار لكنه في حق من كفر بالتصوير أما غيره وهو العاصي يفعل ذلك غير مستحل له ولا قاصدا أن يعبد فيعذب إن لم يعف عنه عذابا يستحقه ثم يخلص منه أو المراد به الزجر الشديد بالوعيد بعقاب الكافر ليكون أبلغ في الارتداع وظاهره غير مراد إلا أن حمله على الأول أولى ثم أمره بالإحياء وقوله كلف لا ينافي أن الآخرة ليست دار تكليف لأن المنفي تكليف عمل يترتب عليه ثواب أو عقاب فأما مثل هذا التكليف فلا يمتنع لأنه نفسه عذاب
( ثم قال إن البيت الذي فيه الصورة ) الحيوانية فلا بأس بصورة الأشجار والجبال ونحو ذلك لقول ابن عباس لرجل إن كنت ولا بد فاعلا فاصنع الشجرة وما لا نفس له سائلة رواه مسلم
( لا تدخله
____________________
(4/470)
الملائكة ) الحفظة وغيرهم على ظاهره أو ملائكة الوحي كجبريل وإسرافيل لكن يلزم منه قصر النفي على زمنه صلى الله عليه وسلم لانقطاع الوحي بعده وبانقطاعه ينقطع نزولهم
وقيل المراد بهم الذين ينزلون بالرحمة والمستغفرين للمؤمنين فيعاقب متخذها بحرمان دخولهم بيته واستغفارهم له أما الحفظة فلا يفارقون المكلف في كل حال وبهذا جزم الخطابي وغيره إلا عند الجماع والخلاء كما رواه ابن عدي وضعفه وأجاب الأول بجواز أن لا يدخلوا بأن يكونوا على باب البيت مثلا ويطلعهم الله على عمل العبد ويسمعهم قوله وقد زاد بعض طرق الحديث عند مسلم قالت عائشة فأخذته فجعلته مرفقين فكان يرتفق بهما في البيت وهذا الحديث رواه البخاري في البيع عن عبد الله بن يوسف وفي النكاح عن إسماعيل وفي اللباس عن القعنبي ومسلم في اللباس عن يحيى الأربعة عن مالك به وتابعه جويرية بن أسماء وإسماعيل بن أمية عند البخاري وعبد الوهاب الثقفي والليث بن سعد وأسامة بن زيد وعبيد الله بن عمر عند مسلم الستة عن نافع نحوه
ما جاء في أكل الضب بفتح الضاد المعجمة وشد الموحدة حيوان بري كبير القد قيل إنه لا يشرب الماء وإن لحمه يذهب العطش وأنه يعيش سبعمائة سنة فأزيد ولا يسقط له سن ويبول في كل أربعين يوما قطرة
( مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ) الأنصاري المازني من الثقات ( عن سليمان بن يسار ) بتحتية ومهملة خفيفة أحد الفقهاء التابعي ( أنه قال ) مرسلا وقد رواه بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار عن ميمونة ( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة بنت الحارث ) الهلالية أم المؤمنين ( فإذا ضباب ) بالكسر جمع ضب ( فيها بيض ومعه عبد الله بن عباس ) ابن أخت ميمونة لبابة الصغرى
( فقال ) صلى الله عليه وسلم ( من أين لكم هذا فقالت ) ميمونة ( أهدته لي أختي هزيلة ) بضم الهاء وفتح الزاي فتحتية فلام ( بنت الحارث ) الهلالية صحابية تكنى أم حفيد بضم الحاء المهملة وفتح الفاء تزوجت في الأعراب
وفي الصحيحين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أهدت خالتي أم حفيد بنت الحارث إلى النبي صلى الله عليه وسلم سمنا وأقطا وضبابا فأكل النبي صلى الله عليه وسلم من السمن والأقط وترك الضب تقذرا قال ابن عباس فأكلنا من الضب على مائدته صلى الله عليه وسلم ولو كان حراما ما أكل على مائدته
وفي لفظ فدعا بهن صلى الله عليه وسلم فأكلن على مائدته
____________________
(4/471)
( فقال لعبد الله بن عباس وخالد بن الوليد كلا فقالا أو لا تأكل أنت يا رسول الله فقال إني تحضرني من الله حاضرة ) قال ابن العربي يحتمل أن يكون مع الضباب والبيض رائحة متكرهة فيكون من باب أكل البصل والثوم وإما أن يريد أن الملك ينزل عليه بالوحي ولا يصلح لمن كان في هذه المرتبة ارتكاب المشتبهات
وقال ابن عبد البر معناه إن صحت هذه اللفظة لأنها لا توجد في غير هذا الحديث قوله في الحديث الآتي لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه كذا قال وبعده لا يخفى
( قالت ميمونة أنسقيك يا رسول الله من لبن عندنا فقال نعم فلما شرب قال من أين لكم هذا ) اللبن ( قالت أهدته لي أختي هزيلة ) بضم الهاء وفتح الزاي ( فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أرأيتك ) بكسر التاء والكاف أي أخبريني عن شأن ( جاريتك ) وكانت سوداء كما عند النسائي قال الحافظ ولم أقف على اسمها ( التي كنت استأمرتني ) بدون ياء للتخفيف كقوله فلو أنك في يوم الرخا سألتني
وفي نسخة سألتيني استأمرتيني بالياء على الأصل ( في عتقها أعطيها أختك ) هزيلة المذكورة ( وصلي بها رحمك ترعى عليها مواشيها فإنه خير لك ) من عتقها لتعدي النفع ففيه أن الهبة لذوي الرحم أفضل من العتق كما قال ابن بطال لكن ليس على إطلاقه بل يختلف باختلاف الأحوال وقد بين وجه الأفضلية هنا بقوله ترعى عليها
وفي رواية النسائي أفلا فديت بها بنت أختك من رعاية الغنم على أنه ليس في حديث الباب نص على أن صلة الرحم أفضل من العتق لأنها واقعة عين ثم لا تعارض بين هذا الحديث وبين حديث الصحيحين عن ميمونة أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان يومها قالت أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي قال أو فعلت لو أعطيتها أخواتك كان أعظم لأجرك لأنه يجمع بينهما بأنها استأمرته فلم يرجع إليها بشيء فأعتقها بدون استئذان ظنا أن سكوته رضا فلما كان يومها وقدمت له الهدية وشرب من اللبن وسألها وأخبرته أنه هدية من أختها أمرها بأن تعطيها الجارية لأنه لم يعلم بأنها أعتقتها فأخبرته فقال لو أعطيتها أخواتك الخ وهو بالفوقية جمع أخت وفي رواية باللام جمع خال ورجح عياض الفوقية بدليل رواية الموطأ أختك وجمع باحتمال أنه عليه السلام قال ذلك
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن أبي أمامة ) أسعد ( بن سهل بن حنيف ) الأنصاري له رواية وأبوه صحابي بدري ( عن عبد الله بن عباس ) الحبر الترجمان ( عن خالد بن
____________________
(4/472)
الوليد بن المغيرة ) المخزومي سيف الله قال ابن عبد البر هكذا رواه يحيى القعنبي وابن القاسم وجماعة ورواه ابن بكير عن ابن عباس وخالد أنهما دخلا مع رسول الله بيت ميمونة وتابعه قوم وكذا رواه معمر عن الزهري انتهى
ومن القوم يحيى التميمي عند مسلم ورواه مثل الأولين عند الشيخين يونس عن الزهري أخبرني أبو أمامة أن ابن عباس أخبره أن خالد بن الوليد الذي يقال له سيف الله أخبره ( أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأتي ) بضم الهمزة ( بضب محنوذ ) بفتح الميم وإسكان الحاء المهملة وضم النون فواو فذال معجمة مشوي بالحجارة المحماة يقال حنيئذ ومحنوذ كقتيل ومقتول وفي رواية يونس عن ابن شهاب عند البخاري ومسلم أنه دخل مع رسول الله على ميمونة فوجد عندها ضبا محنوذا قد قدمت به أختها أم حفيدة بنت الحارث من نجد فقدمت الضب لرسول الله وكان قلما يقدم يده لطعام حتى يحدث به ويسمى له ( فأهوى ) بإسكان الهاء وفتح الواو أي مد ( إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ) ليأخذه ( فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة ) لم يسم النسوة والقائل هي ميمونة كما في مسلم وغيره ( أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل منه فقيل هو ضب يا رسول الله ) ولفظ مسلم من طريق ابن الأصم عن ابن عباس فقالت ميمونة يا رسول الله إنه لحم ضب ( فرفع يده ) عن الضب قال خالد ( فقلت أحرام هو يا رسول الله فقال لا ولكنه لم يكن بأرض قومي ) مكة أصلا أو لم يكن مشهورا كثيرا فيها فلم يأكلوه
وفي رواية يزيد بن الأصم هذا لحم لم آكله قط ( فأجدني أعافه ) بعين مهملة وفاء مضارع عفت الشيء أي أجد نفسي تكرهه ومعنى الاستدراك هنا تأكيد الخبر كأنه لما قال ليس بحرام قيل ولم لا تأكله أنت قال لأنه لم يكن بأرض قومي والفاء للسببية في أجدني
( وقال خالد فاجتررته ) بجيم ساكنة ففوقية فراء مكررة أي جررته ( فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ) إلي فأكله حلال بنصه وإقراره على أكله عنده وعليه الجمهور والأئمة الأربعة بلا كراهة كما رجحه الطحاوي خلافا لقول صاحب الهداية من الحنفية يكرهه لنفيه صلى الله عليه وسلم عائشة لما سألته عن أكله لكنه ضعيف فلا يحتج به
وحكى عياض تحريمه عن قوم قال النووي ما أظنه يصح عن أحد
قال أبو عمر فيه أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب وإنما يعلم منه ما يظهره الله عليه
وأما النفوس تعاف ما لم تعهد وحل الضب وإن من الحلال ما تعافه النفس وأن الحرمة والحل ليسا مردودين إلى الطباع وإنما الحرام ما
____________________
(4/473)
حرمه الكتاب والسنة أو كان في معنى ما حرمه أحدهما قال ودخول خالد وابن عباس البيت وفيه النسوة كان قبل نزول الحجاب انتهى
وليس بلازم إذ يجوز أنه بعده وهن مستورات
وأما ميمونة فخالطتهما
وأخرجه البخاري عن القعنبي ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( عن عبد الله بن دينار ) المدني مولى ابن عمر ورواه ابن بكير عن مالك عن نافع قال ابن عبد البر وهو صحيح محفوظ عنهما جميعا
( عن عبد الله بن عمر أن رجلا ) في الترمذي وابن ماجه بإسناد ضعيف عن خزيمة بن جزء بفتح الجيم وإسكان الزاي قلت يا رسول الله ما ترى في الضب الحديث ( نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما ترى في الضب ) هل يؤكل أم لا ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لست بآكله ) بمد الهمزة ( ولا بمحرمه ) لأنه حلال
وفي رواية لمسلم كلوه فإنه حلال ولكنه ليس من طعامي زاد خزيمة بن جزء فقلت إني آكل ما لم تحرمه
وأما رواية من روى لست بمحله ولا بمحرمه فقال ابن عبد البر إنه خطأ ليس بشيء وقد رده ابن عباس وقال لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا آمرا أو ناهيا ومحلا أو محرما ولو كان حراما لم يؤكل على مائدته انتهى
وأما حديث أبي سعيد عند مسلم والنسائي قال رجل يا رسول الله إنا بأرض مضبة فما تأمرنا قال ذكر لي أن أمة من بني إسرائيل مسخت فلم يأمر ولم ينه فأجيب بأن ذلك كان قبل أن يعلم أن الله لم يجعل لممسوخ نسلا
وهذا الحديث رواه الترمذي عن قتيبة عن مالك عن ابن دينار وتابعه إسماعيل بن جعفر عن دينار وتابعه في روايته عن نافع الليث وعبيد الله وأيوب وموسى بن عقبة وأسامة الليثي كلهم عن نافع أخرج ذلك كله مسلم ولذا قال أبو عمر إنه صحيح محفوظ عنهما جميعا
56 ما جاء في أمر الكلاب ( مالك عن يزيد ) بتحتية فزاي ( ابن خصيفة ) بضم المعجمة وفتح المهملة مصغر نسبه لجده واسم أبيه عبد الله الكندي ابن أخي السائب بن يزيد قال أبو عمر كان ثقة مأمونا محدثا محسنا لم أقف له على وفاة
روى عنه جماعة من أهل الحجاز ( أن السائب بن يزيد ) الكندي صحابي صغير وحج به في حجة الوداع وهو ابن تسع سنين وولاه عمر سوق المدينة وهو آخر من مات بها من الصحابة سنة إحدى وتسعين وقيل قبلها
( أخبره أنه سمع سفيان بن أبي زهير ) بضم الزاي قال ابن
____________________
(4/474)
المديني وخليفة اسم أبيه الفرد وقيل نمير بن عبد الله بن مالك ويقال له النميري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن نصر بن زهران نزل المدينة ( وهو رجل من أزد ) بفتح الهمزة وسكون الزاي فدال مهملة ( شنوءة ) بفتح الشين المعجمة وضم النون بعدها همزة مفتوحة ابن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ( من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يعد في أهل المدينة ( وهو يحدث ناسا معه عند باب المسجد ) النبوي ( فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من اقتنى ) بالقاف افتعال من القنية بالكسر وهي الاتخاذ أي من اتخذ ( كلبا لا يغني عنه ) أي لا يحفظ له ( زرعا ولا ضرعا ) بفتح فسكون كناية عن المواشي وفي القاموس الضرع معروف للظلف والخف أو للشاة والبقر ونحوها قال عياض المراد بكلب الزرع الذي يحفظه من الوحش بالليل والنهار لا الذي يحفظه من السارق وكلب الماشية لا الذي يسرح معها لا الذي يحفظها من السارق وقد أجاز مالك اتخاذها للحفظ من السارق انتهى
يعني إلحاقا لما في معنى المنصوص عليه به كما أشار ابن عبد البر واتفقوا على أن المأذون في اتخاذه هو ما لم ينفق على قتله وهو الكلب العقور واستدل به على طهارة الكلب الجائز اتخاذه لأن في ملابسته مع الاحتراز عنه مشقة شديدة فالإذن في اتخاذه إذن في مكملات مقصوده كما أن المنع من لوازمه مناسب للمنع منه واستدلال قوي لا يعارضه إلا عموم الخبر الوارد في الأمر بغسل ما ولغ فيه الكلب من غير تفصيل وتخصيص العموم غير مستنكر إذا سوغه الدليل قاله في الفتح يعني تخصيص عموم حديث الولوغ المقتضي لنجاسته عنده بغير ما أذن في اتخاذه لأحاديث الإذن المسوغة لتخصيصه فليس مراد الجواب عن الاستدلال كما توهم بل تقويته ثم لا نسلم أن حديث الولوغ يقتضي النجاسة لأنه تعبدي أو لغير ذلك مما هو معلوم ( نقص من أجر عمله كل يوم قيراط ) قدر لا يعلمه إلا الله قاله الباجي
( قال ) السائب لسفيان يتثبت منه الحديث ( أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إي ) بكسر الهمزة وسكون الياء حرف جواب بمعنى نعم فيكون لتصديق الخبر وإعلام المستخبر ولو عد الطالب ويوصل باليمين كما هنا أي نعم سمعته ( ورب هذا المسجد ) أقسم تأكيدا وفي رواية سليمان بن بلال ورب هذه القبلة قال أبوعمر احتج بهذا الحديث ومثله من أجاز بيع الكلب المتخذ لزرع وماشية وصيد لأنه ينتفع به وكل ما انتفع به جاز شراؤه وبيعه ولزم قاتله القيمة لأنه أتلف منفعة أخيه اه
وأخرجه البخاري في المزارعة عن عبد الله بن يوسف ومسلم في البيع عن يحيى كلاهما عن
____________________
(4/475)
مالك به وتابعه سليمان بن بلال عند البخاري وإسماعيل بن جعفر عند مسلم
( مالك عن نافع ) زاد القعنبي وابن وهب وعبد الله بن دينار كلاهما ( عن عبد الله بن عمر ) رضي الله عنهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اقتنى ) أي اتخذ ( إلا كلبا ) كذا ليحيى وقال غيره من اقتنى كلبا إلا كلبا ( ضاريا ) بضاد معجمة وبالياء والنصب أي معلما للصيد معتادا له
وروى ضار على لغة من يحذف الألف من المنقوص حالة النصب فيجوز اتخاذه حتى لمن لا يصيد لظاهر الحديث أو معناه لصائد به فينهى عنه من لا يصيد به ويؤيده رواية إلا كلب قولان قاله عياض
( أو كلب ماشية ) أو للتنويع لا للترديد قال عياض المراد به الذي يسرح معها لا الذي يحفظها من السارق ( نقص من أجر ) عمله ( كل يوم ) من الأيام التي اقتناه فيها ( قيراطان ) أي قدرا معلوما عند الله ولا يخالفه قوله في الحديث قبله قيراط لأن الحكم للزائد لكون راويه حفظ ما لم يحفظ الآخر وأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أولا بنقص قيراط واحد فسمعه الراوي الأول ثم أخبر ثانيا بنقص قيراطين زيادة في التأكيد في التنفير من ذلك فسمعه الراوي الثاني أو ينزل على حالين فنقص القيراطين باعتبار كثرة الإضرار باتخاذه والقيراط باعتبار قلته أو القيراطان لمن اتخذه بالمدينة الشريفة خاصة والقيراط بما عداها أو يلحق بالمدينة سائر المدن والقرى ويختص القيراط بأهل البوادي وهو ملتفت إلى معنى كثرة التأذي وقلته وكذا من قال يحتمل أنه في نوعين من الكلاب ففي ما لابسه أو نحوه قيراطان وفيما دونه قيراط وجوز ابن عبد البر أن القيراط الذي ينقص أجر إحسانه إليه لأنه من جملة ذوات الأكباد الرطبة أو الحرة ولا يخفى بعده والمراد بالنقص أن الإثم الحاصل باتخاذه يوازن قدر قيراط أو قيراطين من أجر عمله فينقص من ثواب عمل المتخذ قدر ما يترتب عليه من الإثم باتخاذه وهو قيراط أو قيراطان وقيل سبب النقص امتناع الملائكة من دخول بيته أو ما يلحق المارين من الأذى أو لأن بعضها شياطين أو عقوبة لمخالفة النهي أو ولوغها في الأواني عند غفلة صاحبها فربما ينجس الطاهر منها إذا استعمله في العبادة لم يقع موقع الطاهر عند من قال بنجاستها أو طهارتها لأنه ربما يكون في أفواهها نجاسة
وقال ابن التين المراد أنه لو لم يتخذه لكان عمله كاملا فإذا اقتناه نقص من ذلك العمل ولا يجوز أن ينقص من عمل مضى وإنما أراد أنه ليس عمله في الكمال عمل من لم يتخذ ونوزع فيما ادعاه من عدم الجواز بأن الروياني في البحر حكى الخلاف هل ينقص من العمل الماضي أو المستقبل وفي محل نقصان القيراطين فقيل من عمل النهار قيراط ومن عمل الليل قيراط وقيل من الفرض قيراط ومن النفل آخر واختلف في القيراطين هل هما كقيراطي صلاة الجنازة واتباعها أو دونهما لأن الجنازة من باب الفضل وهذا من باب العقوبة وباب الفضل أوسع من غيره لأن عادة
____________________
(4/476)
الشارع تعظيم الحسنات وتخفيف مقابلها كرما منه ولو تعددت الكلاب هل تعدد القراريط كصلاة الجنازة أو لا تتعدد كما في غسلات الولوغ تردد في ذلك الأبي وقال السبكي يظهر عدم التعدد بكل كلب لكن يتعدد الإثم فإن اقتناء كل واحد منهي عنه
قال ابن العماد تتعدد القراريط
هذا وقد زاد مسلم في حديث الباب من طريق سالم عن أبيه وكان أبو هريرة يقول أو كلب حرث كان صاحب حرث
وفي الصحيح عن أبي هريرة مرفوعا من أمسك كلبا فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراط إلا كلب حرث أو ماشية واستشكل الجمع بين حصري الحديثين إذ مقتضاهما التضاد من حيث أن حديث ابن عمر الحصر في الماشية والصيد ويلزم منه إخراج كلب الزرع وحديث أبي هريرة الحصر في الحرث والماشية ويلزم منه إخراج كلب الصيد وأجاب في الكواكب بأن مدار أمر الحصر على المقامات واعتقاد السامعين لا على ما في الواقع فالمقام الأول اقتضى استثناء كلب الصيد والثاني اقتضى استثناء كلب الزرع فصارا مستثنيين ولا منافاة في ذلك
ولمسلم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية وقد أنكر ابن عمر زيادة الزرع ففي مسلم عن عمرو بن دينار عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب غنم فقيل لابن عمر إن أبا هريرة يقول أو كلب زرع فقال ابن عمر إن لأبي هريرة زرعا
لكن قال عياض لم يقل ابن عمر ذلك توهينا لرواية أبي هريرة بل تصحيحا لها لأنه لما كان صاحب زرع اعتنى بحفظ هذه الزيادة دونه ومن اشتغل بشيء احتاج إلى تعرف أحواله قال ويدل على صحتها رواية غير أبي هريرة وفي مسلم كابن عمر من رواية الحكم عنه ولعله لما سمعها من أبي هريرة وتحققها عن النبي صلى الله عليه وسلم زادها في حديثه
قال ابن عبد البر في الحديث إباحة اتخاذ الكلاب للصيد والماشية وكذلك الزرع لأنها زيادة من حافظ وكراهة اتخاذها لغير ذلك إلا أن يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر كاتخاذها لجلب المنافع ودفع المضار قياسا فتمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة لما فيه من ترويع الناس وامتناع الملائكة من دخول بيته وفي قوله نقص من عمله أي من أجر عمله إشارة إلى أن اتخاذها ليس حراما لأن الحرام يمنع اتخاذه سواء نقص من الأجر أم لا فدل على أنه مكروه لا حرام
قال ووجه الحديث عندي أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعا لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك
ويروى أن المنصور سأل عمر بن عبيد عن سبب الحديث فلم يعرفه فقال إنما ذلك لأنه لا ينج الضيف ويروع السائل انتهى
وتعقب بأن ما ادعاه من عدم التحريم واستدل له بما ذكره ليس بلازم بل يحتمل أن العقوبة تقع بعدم التوفيق للعمل بمقدار قيراط أو قيراطين مما كان يعمله من الخير لو لم يتخذ الكلب ويحتمل أن الاتخاذ حرام والمراد بالنقص أن الإثم الحاصل باتخاذه يوازن قدر قيراط أو قيراطين من أجره فينقص من ثواب عمله قدر ما يترتب عليه من الإثم باتخاذه وهو قيراط أو قيراطان كما تقدم
وفي الحديث الحث على تكثير الأعمال الصالحة والتحذير من العمل بما ينقصها والتنبيه
____________________
(4/477)
على أسباب الزيادة فيها وللنقص منها ليجتنب أو ترتكب وبيان لطف الله بخلقه في إباحة ولهم فيه نفع وتبليغ نبيهم صلى الله عليه وسلم لهم أمور معاشهم ومعادهم وترجيح المصلحة الراجحة على المفسدة لاستثناء ما ينتفع به مما حرم اتخاذه
وأخرجه البخاري في الصيد عن عبيد الله بن يوسف ومسلم في البيوع عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ) زاد مسلم من رواية عمرو بن دينار عن ابن عمر إلا كلب صيد أو ماشية وزاد أيضا من حديث عبد الله بن مغفل ثم قال ما بالهم وبال الكلاب ثم رخص في كلب الصيد والضرع والزرع وله أيضا عن جابر عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان قال عياض أخذ مالك وأصحابه وجماعة بالحديث في قتلها إلا ما استثني وذهب آخرون إلى جواز اتخاذه ونسخ القتل والنهي عن الاقتناء إلا في الأسود والذي عندي في تنزيل هذه الأحاديث أن ظواهرها أو لا تقتضي عموم القتل والنهي عن الاقتناء ثم نسخ هذا العموم بقصر القتل على الأسود البهيم ومنع الاقتناء إلا في الثلاثة
وقال المازري واختلف في عدم قتلها هل هو منسوخ من العام الأول أو كان مخصصا على ما جاء في بعض الأحاديث قال الأبي والظاهر أنه تخصيص وأن القتل لم يقع في الثلاث لأن الأمر بالقتل بلا استثناء هو حديث ابن عمر المذكور من رواية نافع
وقال عمرو بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو ماشية فهذه الرواية مقيدة والأولى مطلقة والمخرج متحد فيجب رد المطلق إلى المقيد باستثناء المتصل فلم يتناول الثلاثة فإخراجها إنما هو لتخصيص متصل والتخصيص متصل ومنفصل فالمتصل كالتخصيص بالاستثناء والشرط والغاية والمنفصل ما سوى ذلك نحو اقتلوا المشركين ثم بعد ذلك نهى عن قتل النساء والصبيان انتهى
واتفق على قتل الكلب العقور وأما غيره ففي جواز قتله مطلقا أو لا مطلقا قولان وهذا الحديث رواه البخاري في بدء الخلق عن عبد الله بن يوسف ومسلم في البيع عن يحيى كلاهما عن مالك
57 ما جاء في أمر الغنم ( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال رأس الكفر ) أي منشؤه وابتداؤه أو معظمه وشدته ( نحو
____________________
(4/478)
المشرق ) بالنصب لأنه ظرف مستقر في محل رفع خبر المبتدأ
قال الباجي يحتمل أن يريد فارس وأن يريد أهل نجد
وقال غيره المراد كفر النعمة لأن أكثر فتن الإسلام ظهرت من جهته كفتنة الجمل وصفين والنهروان وقتل الحسين وقتل مصعب بن الزبير وفتنة الجماجم يقال قتل فيها خمسمائة من كبار التابعين وإثارة الفتن وإراقة الدماء كفران نعمة الإسلام ويحتمل أن يريد كفر الجحود ويكون إشارة إلى وقعة التتار التي اتفق على أنه لم يقع لها نظير في الإسلام وخروج الدجال ففي خبر أنه يخرج من المشرق
وقال ابن العربي إنما ذم المشرق لأنه كان مأوى الكفر في ذلك الزمن ومحل الفتن ثم عمه الإيمان وأيما كان فالحديث من أعلام النبوة لأنه إخبار عن غيب وقد وقع
قال الحافظ وفيه إشارة إلى شدة كفر المجوس لأن مملكة الفرس ومن أطاعهم كانت من جهة المشرق بالنسبة إلى المدينة فكانوا في غاية العزة والتكبر والتجبر حتى مزق ملكهم كتاب النبي إليه واستمرت الفتن من قبل المشرق
( والفخر ) بفتح الفاء وإسكان المعجمة ادعاء العظمة والكبر والشرف كما في النهاية ومنه الإعجاب بالنفس
( والخيلاء ) بضم المعجمة وفتح التحتية والمد والكبر واحتقار الغير
( في أهل الخيل وابل والفدادين ) بدل من أهل بفتح الفاء والدال مشددة عند الأكثر
وقال القرطبي إنه الرواية وهو الصحيح على ما قاله الأصمعي وغيره جمع فداد وهو من يعلو صوته في إبله وخيله وحرثه ونحو ذلك
وقيل الفدادين الإبل الكبيرة من مائتين إلى ألف وقيل من سكن الفدافد جمع فدفد وهي البراري والصحارى وهو بعيد وحكى تخفيف الدال جمع فدان والمراد البقر التي يحرث عليها قاله أبو عمر والنسائي وقال الخطابي آلة الحرث والسكة فالمراد أصحاب الفدادين على حذف مضاف ويؤيدالأول رواية وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل
وقال الخطابي إنما ذم هؤلاء لاشتغالهم بمعالجة ما هم فيه عن أمور دينهم وذلك يفضي إلى قساوة القلب
وقال ابن فارس في الحديث الجفاء والقسوة في الفدادين أصحاب الحروث والمواشي
( أهل الوبر ) بفتح الواو والموحدة أي ليسوا من أهل المدر لأن العرب تعبر عن الحضر بأهل المدر وعن أهل البادية بأهل الوبر فلا يشكل ذكر الوبر بعد الخيل ولا وبر لها لأن المراد بينته زاد في حديث عقبة بن عمرو عند الشيخين في ربيعة ومضر أي في الفدادين منهم
( والسكينة ) فعيلة دون أهل الإبل في التوسع والكثرة من السكون أي الطمأنينة والوقار والتواضع قال ابن خالويه لا نظير لها أي في وزنها إلا قولهم على فلان قريبة أي خراج معلوم ( في أهل الغنم ) لأنهم غالبا وهما سبب الفخر والخيلاء
وقيل أراد بهم أهل اليمن لأن غالب مواشيهم الغنم بخلاف ربيعة ومضر فإنهم أصحاب إبل
وروى ابن ماجه عن أم هانىء أن النبي قال لها اتخذي الغنم فإن فيها بركة وهذا الحديث رواه البخاري في بدء الخلق عن عبد الله بن يوسف ومسلم في الإيمان عن يحيى كلاهما عن مالك به
____________________
(4/479)
( مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ) واسمه عمرو بن زيد ابن عوف الأنصاري ثم المازني هلك في الجاهلية ( عن أبيه ) عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي صعصعة من ثقات تابعي الحجاز قال الحافظ فسقط الحارث من الرواية والحارث صحابي شهد أحدا واستشهد باليمامة ( عن أبي سعيد ) اسمه سعد على الصحيح وقيل سنان بن مالك بن سنان استشهد أبوه بأحد ( الخدري ) بضم الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة من المكثرين ( أنه قال قال يوشك ) بكسر الشين المعجمة وتفتح في لغة ردية أي يقرب ( أن يكون خير مال المسلم غنم ) نكرة موصوفة مرفوع على الأشهر في الرواية اسم يكون مؤخرا وخير مال خبرها مقدما وفائدة تقديمه الاهتمام إذ المطلوب حينئذ الاعتزال وليس الكلام في الغنم فلذا أخرها وفي رواية برفع خير اسم ونصب غنما خبر قال ابن مالك ويجوز رفعهما على الابتداء والخبر ويقدر في يكون ضمير الشأن قال الحافظ لكن لم تجىء به الرواية
( يتبع بها ) بتشديد التاء الفوقية افتعال من اتبع اتباعا ويجوز إسكانها من تبع بالكسر يتبع بالفتح أي بالغنم ( شعف ) بالشين المعجمة فعين مهملة مفتوحتين ففاء أي رؤوس ( الجبال ) بالجيم ووقع في رواية يحيى شعب بموحدة بدل الفاء قال ابن عبد البر وهو غلط وإنما يرويه الناس شعف بفتح المعجمة والمهملة وفاء جمع شعفة كأكم وأكمة وهي رؤوس الجبال
( ومواقع القطر ) أي المطر بالنصب على شعف أي بطون الأودية والصحارى إذ هما مواضع الرعي حال كونه ( يفر بدينه ) أي بسببه من الناس أو مع دينه ( من الفتن ) طلب للسلامة لا لقصد دنيوي وفيه فضل العزلة للخائف على دينه إلا أن يقدر على إزالتها فتجب الخلطة عينا أو كفاية بحسب الحال والإمكان فإن لم تكن فتنة فالجمهور على أن الاختلاط أولى لاكتساب الفضائل الدينية والجمعة والجماعة وغيرها كإعانة وإغاثة وعبادة وفضل قوم العزلة لتحقق السلامة بشرط معرفة ما يتعين وليعمل بما علم ويأنس بدوام الذكر
نعم تجب العزلة لعفيه لا يسلم دينه بالصحبة وتجب الصحبة لمن عرف الحق فاتبعه والباطل فاجتنبه ويجب على من جهل ذلك ليعمله وهذا الحديث رواه البخاري في الإيمان عن القعنبي وفي بدء الخلق عن إسماعيل وفي الفتن عن عبد الله ابن يوسف الثلاثة عن مالك به وتابعه الماجشون وهو عبد العزيز بن عبد الله عنده في الأدب قال الحافظ وهو من أفراده عن مسلم نعم أخرجا من وجه آخر عن أبي سعيد حديث الأعرابي الذي سأل أي الناس خير قال مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله قال ثم من قال مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره وليس فيه ذكر الفتن وهي زيادة من حافظ فيقيد بها
____________________
(4/480)
المطلق ولها شاهد من حديث أبي هريرة عند الحاكم ومن حديث أم مالك البهزية عند الترمذي ويؤيده ما ورد من النهي عن سكنى البوادي والسياحة والعزلة اه
وأخرجه أبو داود والنسائي
( مالك عن نافع ) في موطأ محمد بن الحسن مالك أخبرنا نافع ( عن ابن عمر أن رسول الله ) وفي رواية يزيد بن الهاد عن مالك عن الموطآت للدارقطني أنه سمع من رسول الله ( قال لا يحتلبن ) بفوقية فلام مكسورة قال الحافظ وفي أكثر الموطآت لا يحلبن بدون تاء وضم اللام ( أحد ماشية أحد ) ذكر أو أنثى قال في النهاية الماشية تقع على الإبل والبقر والغنم ولكنه في الغنم أكثر رواه جماعة من رواة الموطأ ماشية رجل وهو كالمثال فلا اختصاص لذلك بالرجل وذكره بعض الشراح بلفظ ماشية أخيه وقال هو للغالب إذ لا فرق في هذا الحكم بين المسلم والذمي وتعقب بأنه لا وجود لذلك في الموطأ وبإثبات الفرق بينهما عند كثير من العلماء وقد رواه أحمد من طريق عبيد الله عن نافع بلفظ نهى أن يحتلب مواشي الناس ( بغير إذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته ) بضم الراء وقد تفتح أي غرفته ( فتنكسر ) بضم التاء وفتح السين والنصب عطف على تؤتى ( خزانته ) بكسر الخاء والرفع نائب الفاعل مكانه أو وعاؤه الذي يخزن فيه ما يريد حفظه وفي رواية أيوب عند أحمد فيكسر بابها ( فينتقل ) بالنصب ( طعامه ) بضم الياء ونون وقاف من النقل أي يحول من مكان إلى آخر كذا في أكثر الموطآت ورواه بعضهم كما قال أبو عمر وأخرجه الإسماعيلي عن روح بن عبادة وغيره عن مالك بلفظ فينتثل بمثلثة بدل القاف والنثل الأخذ مرة واحدة بسرعة وقيل الاستخراج وهو أخص من النقل
وكذا رواه مسلم عن أيوب وموسى بن عقبة وغيرهما عن نافع ورواه الليث عن نافع بالقاف ( وإنما تخزن ) بفتح الفوقية وسكون المعجمة وضم الزاي ( ضروع ) جمع ضرع للبهيمة كالثدي للمرأة ( مواشيهم أطعماتهم ) نصب بالكسرة مفعول لضروع وهو جمع أطعمة وهي جمع طعام والمراد هنا اللبن كما قال أبو عمر فشبه ضروع المواشي في ضبطها الألبان على أربابها بالخزانة التي تحفظ ما أودعته من متاع وغيره ( فلا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ) أعاده بعد ضرب المثال زيادة في التنفير عنه وفيه النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئا إلا بإذنه الخاص أو العام وإنما خص اللبن بالذكر لتساهل الناس فيه فنبه به على ما هو أولى منه وبهذا أخذ الجمهور واستثنى كثير من السلف ما إذا علم بطيب نفس صاحبه وإن لم يقع منه إذن خاص ولا عام وذهب كثير منهم إلى الجواز مطلقا في الأكل والشرب سواء علم طيب نفسه أم لم يعلم والحجة لهم ما أخرجه أبو داود والترمذي وصححه من رواية الحسن
____________________
(4/481)
عن سمرة مرفوعا إذا أتى أحدكم ماشية فإن لم يكن صاحبها فيها فيصوت ثلاثا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحلب وليشرب ولا يحمل إسناده صحيح إلى الحسن
فمن صحح سماعه من سمرة صححه ومن لا أعله بالانقطاع لكن له شواهد من أقواها حديث أبي سعيد مرفوعا إذا أتيت على راع فنادى ثلاثا فإن أجابك وإلا فاشرب من غير أن تفسد وإذا أتيت على حائط بستان فذكر مثله أخرجه ابن ماجه والطحاوي وصححه حبان والحاكم وأجيب عنه بأن حديث النهي أصح فهو أولى أن يعمل به وبأنه معارض للقواعد القطعية في تحريم مال المسلم بغير إذنه فلا يلتفت إليه ومنهم من جمع بين الحديثين بوجوه منها حمل الإذن على ما إذا علم طيب نفس صاحبه والنهي على ما إذا لم يعلم
ومنها تخصيص الإذن بابن السبيل دون غيره أو بالمضطر أو بحال المجاعة مطلقا وهي متقاربة وحكى ابن بطال عن بعض شيوخه أن حديث الإذن كان في زمنه وحديث النهي أشار إلى ما سيتكون بعده من التشاح وترك المواساة
ومنهم من حمل حديث النهي على ما إذا كان المالك أحوج من المار لحديث أبي هريرة بينما نحن مع رسول الله في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة فثبنا إليها فقال لنا رسول الله إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم أيسركم لو رجعتم إلى منازلكم فوجدتم ما فيها قد ذهب قلنا لا قال فإن ذلك كذلك أخرجه أحمد وابن ماجه واللفظ له ولفظ أحمد فابتدرها القوم ليحلبوها قالوا فيحمل حديثا الإذن على ما إذا كانت غير مصرورة والنهي على ما إذا كانت مصرورة لهذا الحديث لكن وقع عند أحمد في آخره فإن كنتم لا بد فاعلين فاشربوا ولا تحملوا فدل على عموم الإذن في المصرورة وغيرها لكن بقيد عدم الحمل ولا بد منه واختار ابن العربي الحمل على العادة قال وكانت عادة أهل الحجاز والشام وغيرهم المسامحة في ذلك بخلاف بلدنا قال ورأى بعضهم أن مهما كان على الطريق لا يعدل إليه ولا يقصد جاز للمار الأخذ منه وفيه إشارة إلى قصر ذلك على المجتاز
وأشار أبو داود في السنن إلى قصر ذلك على المسافر في الغزو وآخرون إلى قصر الإذن على ما كان لأهل الذمة والنهي على ما إذا كان للمسلمين واستؤنس بما شرطه الصحابة على أهل الذمة من ضيافة المسلمين وصح ذلك عن عمر
وذكر ابن وهب عن مالك في المسافر ينزل بالذمي قال لا يؤخذ منه شيئا إلا بإذنه قيل له فالضيافة التي جعلت عليهم قال كانوا يومئذ فخفف عنهم بسببها وأما الآن فلا
وجنح بعضهم إلى نسخ الإذن وحمله على أنه كان قبل وجوب الزكاة قالوا وكانت الضيافة حينئذ واجبة ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة
وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للأفهام وتمثيل ما قد يخفى بما هو أوضح منه واستعمال القياس في النظائر وذكر الحكم بعلته بعد ذكر العلة تأكيدا أو تقريرا وأن القياس لا يشترط في صحته مساواة الأصل للفرع بكل اعتبار بل ربما كانت للأصل مزية لا يتميز سقوطها في الفرع إذا شارك في أصل الصفة لأن الضرع لا يساوي الخزانة في الخزن كما أن الضرع لا يساوي الفعل فيه ومع ذلك فقد ألحق الشارع المصرور في الحكم بالخزانة المقفلة في تحريم تناول كل منهما بغير إذن صاحبه أشار إليه ابن المنير وفيه إباحة خزن الطعام
____________________
(4/482)
واحتكاره إلى وقت الحاجة إليه خلافا لغلاة المتزهدة المانعين من الادخار مطلقا قاله القرطبي وأن اللبن يسمى طعاما وفيه غير ذلك ذكره الحافظ وأخرجه البخاري في اللقطة عن عبد الله بن يوسف ومسلم في القضاء عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه جماعة عن نافع في الصحيحين وغيرهما
( مالك أنه بلغه ) مما صح موصولا عن عبد الرحمن بن عوف وجابر وأبي هريرة ( أن رسول الله قال ما من نبي إلا قد رعى غنما ) اسم جنس يشمل الذكر والأنثى قال العلماء الحكمة في إلهامهم رعيها قبل النبوة ليحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفون به من القيام بأمر أمتهم ولأن في مخالطتها زيادة الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على مشقة الرعي ودفعوا عنها السباع الضارية والأيدي الخاطفة وعلموا اختلاف طباعها وتفاوت إدراكها وعرفوا ضعفها واحتياجها إلى النقل من مرعى إلى مرعى ومن مسرح إلى مراح رفقوا بضعيفها وأحسنوا تعاهدها فهو توطئة لتعريفهم سياسة أممهم ولما جبلوا عليه من التواضع وخص الغنم لأنها أضعف من غيرها
( قيل وأنت يا رسول الله قال وأنا ) رعينها
وحديث أبي هريرة رواه البخاري عن النبي قال ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم فقال أصحابه وأنت فقال وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ورواه ابن ماجه بلفظ كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط قال سويد شيخ ابن ماجه يعني كل شاة بقيراط يعني القيراط الذي هو جزء من الدنيا والدرهم
وقال أبو إسحاق الحربي قراريط اسم موضع بمكة وصححه ابن الجوزي وابن ناصر وأيده مغلطاي بأن العرب لم تكن تعرف القيراط قال الحافظ لكن الأول أرجح لأن أهل مكة لا تعرف بها مكانا يقال له القراريط وقال غيره لم تكن العرب تعرف القراريط الذي هو من النقد ولذا قال كما في الصحيح تفتحون أرضا يذكر فيها القيراط لكن لا يلزم من عدم معرفتهم لها أن يكون لا يعرف ذلك وفي ذكره لذلك بعد أن علم أنه أشرف خلق الله ما فيه من التواضع والتصريح بمنة الله عليه
58 ما جاء في الفأرة تقع في السمن والبدء بالأكل قبل الصلاة ( مالك عن نافع أن ابن عمر كان يقرب إليه عشاؤه فيسمع قراءة الإمام وهو في بيته فلا يعجل ) بفتح الياء والجيم ( عن طعامه حتى يقضي حاجته منه ) عملا بروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء ولا تعجل حتى تفرغ منه أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود
____________________
(4/483)
( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( ابن عتبة ) بضمها وسكون الفوقية ( ابن مسعود ) الفقيه ( عن عبد الله بن عباس عن ) خالته ( ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ) هكذا رواه يحيى فجود إسناده وأتقنه وتابعه جماعة كابن مهدي والشافعي وابن نافع وإسماعيل ورواه القعنبي وغيره بإسقاط ميمونة وأشهب وغيره بترك ابن عباس وأبو مصعب ويحيى بن بكير بإسقاطهما قال ابن عبد البر والصواب رواية يحيى ومن تابعه وكذا اختلف فيه أصحاب ابن شهاب فرواه ابن عيينة ومعمر عنه على الصواب والأوزاعي عنه فأسقط ميمونة وعقيل عنه مرسلا بإسقاطهما انتهى
وفي البخاري حدثنا علي بن عبد الله حدثنا معن حدثنا مالك ما لا أحصيه يقول عن ابن عباس عن ميمونة قال الحافظ أشار البخاري إلى أن هذا الاختلاف لا يضر لأن مالكا كان يصله تارة ويرسله تارة ورواية الوصل عنه مقدمة إذ قد سمعها عنه معن بن عيسى مرارا وتابعه غيره من الحفاظ فهو من أسانيد ميمونة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة ) بهمزة ساكنة والسائل ميمونة كما رواه الدارقطني وغيره من طريق يحيى القطان وجويرية كلاهما عن مالك بإسناده أن ميمونة استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفأرة ( تقع في السمن ) الجامد كما في رواية ابن مهدي عن مالك وكذا ذكرها أبو داود الطيالسي في مسنده عن سفيان بن عيينة عن ابن شهاب ورواه الحميدي والحفاظ من أصحاب ابن عيينة بدونها وزاد البخاري عن ابن عيينة عن ابن شهاب فماتت ( فقال انزعوها ) وفي رواية إسماعيل ألقوها ومعن بن عيسى خذوها أي الفأرة ( وما حولها ) من السمن ( فاطرحوه ) زاد إسماعيل وكلوا سمنكم أي الباقي
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة سئل صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع في السمن قال إذا كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه أخرجه أبو داود وغيره
وفي البخاري عن ابن عيينة إنكاره على معمر إسناده وقال سمعته مرارا من الزهري ما قال إلا عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة
ونقل الترمذي عن البخاري أن رواية معمر هذه خطأ وقال أبو حاتم إنها وهم وقال الزهري في الزهريات الطريقان عندنا محفوظان لكن طريق ابن عباس عن ميمونة أشهر وقد أخذ الجمهور بحديث معمر الدال على التفرقة بين الجامد والمائع
ونقل ابن عبد الله الاتفاق على أن الجامد إذا وقعت فيه ميتة طرحت وما حولها إذا تحقق أن شيئا من أجزائها لم يصل إلي غير ذلك منه
وأما المائع فالجمهور أنه ينجس كله بملاقاة النجاسة وخالف فريق منهم الزهري والأوزاعي وهذا الحديث رواه البخاري في الطهارة عن إسماعيل ومن طريق معن وفي الذبائح عن عبد العزيز بن عبد الله الثلاثة عن مالك به وتابعه سفيان بن عيينة عنده أيضا ولم يخرجه مسلم ورواه أبو داود والترمذي
____________________
(4/484)
59 ما يتقى من الشؤم ( مالك عن أبي حازم ) سلمة ( بن دينار عن سهل بن سعد ) بفتح فسكون فيهما ( الساعدي ) نسبة إلى ساعدة بن كعب بن الخزرج ( أن رسول الله قال إن كان ففي الفرس والمرأة والمسكن يعني الشؤم ) بضم المعجمة وسكون الهمزة وقد تسهل فتصير واوا هكذا في أكثر الموطآت ورواه القعنبي والتنيسي إن كان في شيء ورواه إسماعيل بن عمر ومحمد بن سليمان الحراني عن مالك إن كان الشؤم في شيء أخرجها الدارقطني لكن لم يقل إسماعيل في شيء وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة والطبراني عن هشام بن سعد عن أبي حازم قال ذكروا الشؤم عند سهل بن سعد فقال إن رسول الله قال فذكره
وأخرجه مسلم عن أبي بكر لكن لم يسق لفظه
قال ابن العربي معناه إن كان الله خلق الشؤم في شيء مما جرى من بعض العادة فإنما يخلقه في هذه الأشياء
المازري محمله إذا كان الشؤم حقا فهذه الثلاثة أحق به بمعنى أن النفوس يقع فيها التشاؤم بهذه أكثر مما يقع بغيرها
وقال عياض يعني إن كان له وجود في شيء لكان في هذه الثلاثة لأنها أقبل الأشياء لها لكن لا وجود له فيها فلا وجود له أصلا انتهى
أي إن كان شيء يكره ويخاف عاقبته ففي هذه الثلاث
قال الطيبي وعليه فالشؤم محمل على الكراهة التي سببها ما في الأشياء من مخالفة الشرع والطبع كما قيل شؤم الدار ضيقها وسوى جيرانها وشؤم المرأة عقمها وسلاطة لسانها وشؤم الفرس أن لا يغزو عليها فالشؤم فيها عدم موافقتها له طبعا وشرعا
وقيل هذا إرشاد منه لمن له دار يسكنها أو امرأة يكره عشرتها أو فرس لا يوافقه أن يفارقها بنقله وطلاق ودواء ما لا تشتهيه النفس تعجيل الفراق والبيع فلا يكون بالحقيقة من الطيرة
وقال القرطبي وجه تخصيص الثلاثة بالذكر مع جري هذا في كل متطير له بملازمتها للإنسان وأنها أكثر ما يتشاءم به
قال ومقتضى سياق هذا الحديث أنه لم يكن متحققا لوجود الشؤم في الثلاث لما تكلم بهذا ثم علمه بعد ذلك فقال الشؤم في ثلاث في الحديث التالي وهذا الحديث رواه البخاري في الجهاد ومسلم عن القعنبي والبخاري أيضا في النكاح عن التنيسي كلاهما عن مالك به وتابعه هشام بن سعد
( مالك عن ابن شهاب عن حمزة ) العمري المدني شقيق سالم تابعي ثقة من رجال الجميع
( وسالم بن عبد الله بن عمر ) واقتصر شعيب ويونس من رواية عثمان بن عمر عنه كلاهما عند البخاري وابن جريج عند أبي عوانة عن الزهري عن سالم ونقل الترمذي أن ابن عيينة قال لم يرو
____________________
(4/485)
الزهري هذا الحديث إلا عن سالم قال الحافظ وهو حصر مردود فقد حدث به مالك عنه عن حمزة وسالم وهو من كبار الحفاظ ولا سيما في الزهري وتابعه يونس من رواية ابن وهب عنه عند البخاري وصالح بن كيسان عند مسلم وأبو أويس عند أحمد ويحيى بن سعيد وابن أبي عتيق وموسى بن عقبة ثلاثتهم عند النسائي الستة عن الزهري عنهما
وقد رواه ابن أبي عمر عن سفيان نفسه عن الزهري عنهما عند مسلم والترمذي وهو يقتضي رجوع سفيان عن ذلك الحصر ورواه إسحاق بن راشد عند النسائي وأحمد عن معمر خمستهم عن الزهري عن حمزة وحده والظاهر أن الزهري كان يجمعهما تارة ويفرد أحدهما أخرى وله أصل عن حمزة من غير رواية الزهري أخرجه مسلم من طريق عتبة بن مسلم عن حمزة ( عن ) أبيهما ( عبد الله بن عمر أن رسول الله قال الشؤم ) الذي هو ضد اليمن يقال تشاءمت بكذا وتيمنت بكذا قال الطيبي واوه همزة خففت فصارت واوا ثم غلب عليها التخفيف حتى لم ينطق بها مهمزوة انتهى
ومقتضى كلام الحافظ خلافه فإنه قال بضم المعجمة وسكون الهمزة وقد تسهل فتصير واوا
( في الدار والمرأة والفرس ) أي كائن فيها وقد يكون في غيرها فالحصر فيها كما قال ابن العربي بالنسبة إلى العادة لا بالنسبة إلى الخلقة وقال غيره خصها بالذكر لطول ملازمتها
وقال الخطابي اليمن والشؤم علامتان لما يصيب الإنسان من الخير والشر ولا يكون شيء من ذلك إلا بقضاء الله وهذه الأشياء الثلاثة ظروف جعلت مواقع لأقضية ليس لها بأنفسها وطبائعها فعل ولا تأثير في شيء إلا أنها لما كانت أعم الأشياء التي يقتنيها الإنسان وكان في غالب أحواله لا يستغني عن دار يسكنها وزوجة يعاشرها وفرس مرتبطة ولا يخلو عن عارض مكروه في زمانه أضيف اليمن والشؤم إليها إضافة مكان وهما صادران عن مشيئة الله عز وجل انتهى
واتفقت طرق الحديث على الثلاثة المذكورة
وروى جويرية بن أسماء وسعيد بن داود عن مالك عن الزهري عن بعض أهل أم سلمة عنها والسيف أخرجه الدارقطني والبعض المبهم بين في ابن ماجه عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن أبي عبيد بن عبد الله بن زمعة عن أمه زينب ابنة أم سلمة عن أمها أنها حدثت بهذه الثلاثة وزادت والسيف ثم اختلف في معنى الحديث فقيل هو على ظاهره ولا يمتنع أن يجري الله العادة بذلك في هؤلاء كما أجرى العادة بأن من شرب السم مات ومن قطع رأسه مات وقد روى أبو داود عن ابن القاسم عن مالك أنه سئل عنه فقال كم من دار سكنها ناس فهلكوا
قال المازري فحمله مالك على ظاهره والمعنى أن قدر الله ربما وافق ما يكره عند سكنى الدار فيصير ذلك كالسبب فيتشاءم في إضافة الشؤم إليه اتساعا
وقال ابن العربي لم يرد مالك إضافة الشؤم إلى الدار وإنما هو عبارة عن جري العادة فأشار إلى أنه ينبغي الخروج عنها صيانة لاعتقاده عن التعلق بالباطل وكذا حمله ابن قتيبة وغيره على ظاهره
قال القرطبي ولا يظن بمن حمله على الظاهر أنه يحمله على معتقد الجاهلية أن ذلك يضر وينفع بذاتهم
____________________
(4/486)
وأن ذلك خطأ وإنما عنى أن هذه الثلاثة هي أكثر ما يتطير به فمن وقع في نفسه شيء منها أبيح له تركه ويستبدل به غيره وقيل معنى الحديث أن هذه الأشياء يطول تعذيب القلب بها مع كراهية أمرها لملازمتها بالسكنى والصحبة ولو لم يعتقد الإنسان الشؤم فيها فأشار الحديث إلى الأمر بفراقها ليزول التعذيب قال الحافظ والأولى ما أشار إليه ابن العربي في تأويل كلام مالك وهو نظير الأمر بالفرار من المجذوم مع صحة نفي العدوى والمراد بذلك حسم المادة وسد الذريعة لئلا يوافق شيء من ذلك القدر فيعتقد من وقع له أن ذلك من العدوى أو من الطيرة فيقع في اعتقاد ما نهى عن اعتقاده فأشير إلى اجتناب مثل ذلك والطريق فيمن وقع له ذلك في الدار مثلا أن يبادر إلى التحول منها لأنه متى بقي فيها ربما حمله اعتقاد صحة الطيرة والتشاؤم وقيل شؤم الدار ضيقها وسوى جوارها وبعدها من المسجد لا يسمع فيها الأذان والمرأة أن لا تلد وسوء خلقها أو غلاء مهرها أو عدم قنعها أو بسط لسانها والفرس أن لا يغزو عليها أو حرونها
وروى الدمياطي بإسناد ضعيف إذا كان الفرس حرونا فهو مشؤوم وإذا حنت المرأة إلى بعلها الأول فهي مشؤومة وإذا كانت الدار بعيدة من المسجد لا يسمع منها الأذان فهي مشؤومة وللطبراني من حديث أسماء أن من شقاء المرء في الدنيا وسوى الدار والمرأة والدابة وفيه سوء الدار ضيق ساحتها وخبث جيرانها وسوء الدابة منع ظهرها وسوى طبعها وسوء المرأة عقم رحمها وسوء خلقها وروى أحمد وصححه ابن حبان والحاكم عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا من سعادة ابن آدم ثلاثة المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الصالح ومن شقاء ابن آدم ثلاثة المرأة السوء والمسكن السوء والمركب السوء وفي رواية لابن حبان المركب الهني والمسكن الواسع وفي رواية للحاكم وثلاثة من الشقاوة المرأة تراها تسوءك وتحمل لسانها عليك والدابة تكون قطوفا فإذا ضربتها تعبت وإن تركتها لم تلحق أصحابك والدار تكون ضيقة قليلة المرافق وهذا تخصيص ببعض أنواع الأجناس المذكورة دون بعض وبه صرح ابن عبد البر فقال يكون لقوم دون قوم وذلك كله بقدر الله
وقال المهلب ما حاصله المخاطب بقوله الشؤم من التزم التطير ولم يستطع صرفه عن نفسه فقال لهم إنما يقع ذلك في هذه الثلاثة التي تلازم في غالب الأحوال فإذا كان كذلك فانزعوها عنكم ولا تعذبوا أنفسكم بها ويدل على ذلك تصديره في بعض طرق الحديث بنفي الطيرة واستدل لذلك بما رواه ابن حبان بإسناد فيه مقال عن أنس رفعه لا طيرة والطيرة على من تطير وقيل الحديث سيق لبيان اعتقاد الناس في ذلك لا أنه إخبار من النبي بثبوت ذلك وسياق الأحاديث الصحيحة ببعده بل قال ابن العربي إنه ساقط لأنه لم يبعث ليخبر الناس عن معتقداتهم الماضية أو الحاصلة وإنما بعث ليعلمهم ما يلزمهم أن يعتقدوه وما رواه الترمذي عن حكيم بن معاوية سمعت رسول الله يقول لا شؤم وقد يكون اليمن في المرأة والدابة والفرس ففي إسناده ضعف مع مخالفته للأحاديث الصحيحة
وروى أبو داود الطياليسي عن مكحول أنه قيل لعائشة إن أبا هريرة قال قال الشؤم في ثلاثة
فقالت لم يحفظ أنه دخل وهو يقول قاتل الله اليهود يقولون الشؤم في ثلاثة فسمع آخر الحديث ولم
____________________
(4/487)
يسمع أوله وهو منقطع فمكحول لم يسمع عائشة لكن روى أحمد وابن خزيمة والحاكم عن أبي حسان أن رجلين دخلا على عائشة فقالا إن أبا هريرة قال إن رسول الله قال الشؤم في الفرس والمرأة والدابة فغضبت غضبا شديدا وقالت ما قاله وإنما قال إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك
قال الحافظ ولا معنى لإنكار ذلك على أبي هريرة مع موافقة جمع من الصحابة له على رواية ذلك عن النبي كابن عمر وسعد بن أبي وقاص وغيرهما وقيل كان قوله ذلك في أول الأمر ثم نسخ بقوله تعالى { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم } سورة الحديد الآية 22 الآية حكاه ابن عبد البر والنسخ لا يثبت بالاحتمال لا سيما مع إمكان الجمع خصوصا وقد ورد في نفس هذا الحديث نفي التطير ثم إثباته في الثلاثة المذكورة في بعض طرقه عند الشيخين لا عدوى ولا طيرة وإنما الشؤم في ثلاثة فذكرها
ولأبي داود عن سعد بن أبي وقاص لا هامة ولا عدوى ولا طيرة وإن تكن الطيرة في شيء ففي الدار والفرس والمرأة والطيرة والشؤم بمعنى واحد انتهى نج
وقال التقي السبكي في هذا الحديث وسابقه مع قوله تعالى { إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم } سورة التغابن الآية 14 إشارة إلى تخصيص الشؤم بالمرأة التي تحصل منها العداوة والفتنة لا كما يفهمه بعض الناس من التشاؤم بكعبها وإن لها تأثيرا في ذلك وهو شيء لا يقول به أحد من العلماء ومن قال ذلك فهو جاهل وقد أطلق الشارع على من نسب المطر إلى النوء الكفر فكيف من نسب ما يقع من الشر إلى المرأة مما ليس لها فيه مدخل وإنما يتفق موافق قضاء وقدر فتنفر النفس من ذلك فمن وقع له ذلك فلا يضره أن يتركها من غير اعتقاد نسبة الفعل إليها انتهى
ثم لا يشكل هذا مع الحديث السابق في الجهاد الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة لاحتمال أن الشؤم في غير التي ربطت للجهاد والتي أعدت له هي المخصوصة بالخير والبركة أو يقال الخير والشر يمكن اجتماعهما في ذات واحدة فإنه فسر الخير بالأجر والمغنم ولا يمنع ذلك أن يكون الفرس مما يتشاءم به أو المراد جنس الخير أي أنها بصدد أن فيها الخير فلا ينافي حصول غيره عارض قاله عياض
وسأل بعضهم ما الفرق بين الدار يباح الانتقال منها وبين موضع الوباء ينهى عن الانتقال عنه وأجاب النووي بقول بعض العلماء الأمور بالنسبة إلى هذا المعنى ثلاثة أقسام قسم لم يقع به ضرر ولا اطردت به العادة كصريخ يوم على دار ونعيق غراب في سفر فهذا لا يصغى إليه وهو الذي أنكر الشرع الالتفات إليه وهو الذي كانت العرب تتطير به
وثانيها ما يقع به الطيرة ولكنه لا يعم كالدار والمرأة والفرس فيباح لصاحب ذلك أن يفارق ولما مر من وجه استثنائها
الثالث ما يقع ويعم ولا يخص ويندر ولا يتكرر كالوباء هذا لا يقدم عليه احتياطا ولا ينتقل عنه لأنه لا يفيد
قال فهذا التفسير الذي ذكره يشير إلى الفرق والحديث رواه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن القعنبي ويحيى الثلاثة عن مالك به وتابعه جماعة في الصحيحين وغيرهما
____________________
(4/488)
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال ) منقطعا قال ابن عبد البر إنه محفوظ عن أنس وغيره لكن الذي رواه أبو داود وصححه الحاكم عن أنس أن السائل رجل
وعنده عن فروة بن مسيك بمهملة مصغر يدل على أنه هو السائل وهنا قال ( جاءت امرأة إلى رسول الله ) فيجمع بينهما بأن كلا من الرجل والمرأة سأل عن ذلك ( فقالت يا رسول الله دار سكناها ) قال ابن العربي هي دار مكمل بضم الميم وسكون الكاف وكسر الميم بعدها لام وهو ابن عوف أخو عبد الرحمن بن عوف ( والعدد كثير والمال وافر ) زائد ( فقل العدد وذهب المال ) رأسا ( فقال دعوها ذميمة ) قال ابن عبد البر أي مذمومة يقول دعوها وأنتم لها ذامون وكارهون لما وقع في نفوسكم من شؤمها قال وعندي أنه إنما قاله خشية عليهم التزام الطيرة
وقال ابن العربي إنما أمرهم بالخروج منها لاعتقادهم أن ذلك منها وليس كما ظنوا لكن الخالق جعل ذلك وقتا لظهور قضائه وأمرهم بالخروج منها لئلا يقع لهم بعد ذلك شيء فيستمر اعتقادهم وأفاد وصفها بقوله ذميمة جواز ذلك وإن ذكرها بقبيح ما وقع فيها سائغ من غير اعتقاد أن ذلك منها ولا يمنع ذم المحل المكروه وإن كان ليس منه شرعا كما يذم العاصي على معصيته وإن كان ذلك بقضاء الله تعالى
60 ما يكره من الأسماء ( مالك عن يحيى بن سعيد ) مرسل أو معضل وصله ابن عبد البر من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن عبد الرحمن بن جبير عن يعيش العفاري ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للقحة ) بكسر اللام وتفتح ناقة ذات لبن ( تحلب من يحلب ) بضم اللام ( هذه فقام رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اسمك فقال الرجل مرة ) بضم الميم وشد الراء صحابي غير منسوب ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اجلس ) لا تحبلها ( ثم قال من يحلب هذه فقام رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اسمك فقال ) اسمي ( حرب ) بمهملة فراء فموحدة صحابي غير منسوب وفي رواية ابن عبد البر وابن سعد جمرة بجيم وميم فكأن أحدهما اسم والآخر لقب ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اجلس ثم قال من يحلب هذه ) اللقحة ( فقام
____________________
(4/489)
رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اسمك فقال يعيش ) بلفظ مضارع عاش ابن طخفة الغفاري قال ابن سعد شامي مخرج حديثه عن أهل مصر ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم احلب ) بضم اللام قال أبو عمر ليس هذا من باب الطيرة لأنه محال أن ينهى عن شيء ويفعله إنما هو من باب طلب الفال الحسن وقد كان أخبرهم عن سيء الأسماء أنه حرب ومرة وأكد ذلك حتى لا يتسمى بهما أحد
( مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب ) منقطع وصله أبو القاسم بن بشر أن في فوائده من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر ( قال ) عمر ( لرجل ما اسمك قال جمرة ) بالجيم والراء ( فقال ابن من قال ابن شهاب ) ابن طرم بن مالك الجهني نسبه ابن الكلبي مخضرم ( قال ممن قال من الحرقة ) بضم الحاء المهملة وفتح الراء وقاف بطن من جهينة ( قال أين مسكنك قال بحرة ) بفتح المهملة والراء ( النار قال بأيها قال بذات لظى قال عمر أدرك أهلك فقد احترقوا فكان كما قال عمر بن الخطاب ) وفي رواية ابن بشران فرجع فوجد أهله قد احترقوا
قال الباجي كانت هذه حال هذا الرجل قبل ذلك فما احترق أهله ولكن شيء يلقيه الله في قلب المتفائل عند سماع الفأل ويلقيه الله على لسانه فيوافق ما قدر الله
61 ما جاء في الحجامة وأجرة الحجام ( مالك عن حميد الطويل ) الخزاعي البصري ( عن أنس بن مالك أنه قال احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ) من وجع كان به ولأحمد عن بريدة أنه صلى الله عليه وسلم ربما أخذته الشقيقة فيمكث اليوم واليومين لا يخرج وكان يحتجم في مواضع مختلفة لاختلاف أسباب الحاجة إليها
ولابن عدي بسند ضعيف جدا عن ابن عباس رفعه الحجامة في الرأس تنفع من الجنون والجذام والبرص والنعاس والصداع ووجع الضرس والعين وقد زاد ابن المبارك عن حميد عن أنس في هذا الحديث وقال صلى الله عليه وسلم إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط ولأبي نعيم عن علي رفعه خير الدواء الحجامة والفصد لكن في
____________________
(4/490)
سنده حسين بن عبد الله بن ضميرة كذبه مالك وغيره
وللطبراني بسند صحيح عن ابن سيرين لا يبلغ الرجل أربعين سنة ثم يحتجم قال الطبري وذلك أنه يصير حينئذ في انتقاص من عمره وانحلال من قواه فلا ينبغي أن يزيده وهنا بإخراج الدم
قال الحافظ وهو محمول على من لم يتعين حاجته إليه وعلى من لم يعتده أي لاحتجامه صلى الله عليه وسلم في أواخر عمره لأنه اعتاده واحتاج إليه
( حجمه أبو طيبة ) بفتح الطاء المهملة والموحدة بينهما تحتية ساكنة واسمه نافع على الصحيح فعند أحمد والطبراني وابن السكن عن محيصة بن مسعود أنه كان له غلام حجام يقال له نافع أبو طيبة فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن خراجه الحديث
وحكى ابن عبد البر أن اسمه دينار ووهموه في ذلك لأن دينار الحجام تابعي يروي عن أبي طيبة لا أنه أبو طيبة نفسه كما جزم به الحاكم أبو أحمد وأخرج ابن منده من طريق سالم الحجام عن أبي طيبة قال حجمت النبي صلى الله عليه وسلم الحديث
وذكر البغوي في الصحابة بإسناد ضعيف أن اسم أبي طيبة ميسرة وقال العسكري الصحيح أنه لا يعرف اسمه
وأخرج ابن أبي خيثمة بسند ضعيف عن جابر قال خرج علينا أبو طيبة لثمان عشرة خلون من رمضان فقلنا له أين كنت قال حجمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر ) ولابن السكن بسند ضعيف عن ابن عباس قال كنا جلوسا بباب رسول الله فخرج علينا أبو طيبة بشيء يحمله في ثوبه فقلنا له ما هذا معك قال حجمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني أجري ( وأمر أهله ) أي سيده محيصة بن مسعود
وفي رواية وأمر مواليه بالجمع مجازا ( أن يخففوا عنه من خراجه ) بفتح الخاء المعجمة ما يقرره السيد على عبده أن يؤديه إليه كل يوم أو شهر أو نحو ذلك وكان خراجه ثلاثة آصع فوضع عنه صاعا كما رواه الطحاوي وغيره وفيه جواز الحجامة وأخذ الأجر عليها وحديث النهي عن كسب الحجام محمول على التنزيه وفي الصحيح عن ابن عباس
احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الذي حجمه ولو كان حراما لم يعطه والكراهة إنما هي للحجام لا للمستعمل لضرورته إلى الحجامة وعدم ضرورة الحجام ولو تواطأ الناس على تركه لأضر بهم وفيه استعمال الأجير من غير تسمية أجرة وإعطاء قدرها وأكثر ويحتمل أن قدرها كان معلوما فوقع العمل على العادة
وأخرجه البخاري في البيع عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه سفيان بن عيينة وشعبة بن الحجاج عنده في الإجارة وعبد الله بن المبارك عنده في الطب الثلاثة عن حميد نحوه وفي رواية ابن المبارك زيادة قد علمت
( مالك أنه بلغه ) مما صح بمعناه عن أبي هريرة وأنس وسمرة بن جندب ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
____________________
(4/491)
إن كان دواء ) مفرد أدوية ما يتداوى به ( يبلغ الداء ) المرض ( فإن الحجامة تبلغه ) تصل إليه أورده بصيغة الشرط المؤذن بعدم تحقق الخبر إيذانا بتحقيقه للسامعين أي إن كنتم تحققتم أن من الدواء ما يبلغ الداء فتحققوا أن الحجامة تبلغه ويؤيد ذلك حديث البخاري عن ابن عباس مرفوعا الشفاء في ثلاث شربة عسل وشرطة محجم وكية نار وما أحب أن أكتوي وأنهى أمتي عن الكي فجزم بأن في الحجم الشفاء أو الشرط على حقيقته قبل أن يعلم فلما علم جزم نظير ما مر
( مالك عن ابن شهاب عن ابن محيصة ) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وشد التحتية وقد تسكن ( أحد بني حارثة ) بمهملة ومثلثة من الخزرج ( أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال ابن عبد البر كذا رواه يحيى وابن القاسم وهو غلط لا إشكال فيه على أحد من العلماء وليس لسعد بن محيصة صحبة فكيف لابنه حرام ولا خلاف أن الذي روى عنه الزهري هذا الحديث هو حرام بن سعد بن محيصة ورواه ابن وهب ومطرف وابن نافع والقعنبي والأكثر عن مالك عن ابن شهاب عن ابن محيصة عن أبيه وهو مع ذلك يرسل وتابعه في قوله عن أبيه يونس ومعمر وابن أبي ذئب وابن عيينة ولم يتصل عن الزهري إلا من رواية محمد بن إسحاق عنه عن حرام بن سعد بن محيصة عن أبيه عن جده أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم ( في إجارة الحجام ) لأن غلامه أبا طيبة كان حجاما وكان جعل عليه خراجا كما مر ( فنهاه عنها ) تنزيها ( فلم يزل يستأذنه حتى قال أعلفه نضاحك ) بضاد معجمة جمع ناضح وللقعنبي ناضحك بالإفراد وهو الجمل الذي يستقي عليه الماء ( رقيقك ) كذا رواه يحيى القعنبي بلا واو ورواه ابن بكير بالواو وبهذا تمسك أحمد وموافقوه فمنعوا الحر من الإنفاق على نفسه من الحجامة وأباحوا له إنفاقها على عبده ودوابه وأباحوها للعبد مطلقا لهذا الحديث الصحيح
62 ما جاء في المشرق بكسر الراء في الأكثر وبفتحها وهو القياس لكنه قليل الاستعمال جهة شروق الشمس والنسبة إليه مشرقي بكسر الراء وفتحها
( مالك عن عبد الله بن دينار ) العدوي مولاهم المدني ( عن عبد الله بن عمر أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى المشرق ) وللبخاري عن سالم عن أبيه ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قام إلى جنب المنبر وفي الترمذي قام على المنبر وفي مسلم عن عبيد الله بن عمر عن نافع قام عند باب حفصة وفي لفظ
____________________
(4/492)
عند باب عائشة ويمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم خرج من باب إحدى زوجتيه وباباهما متقاربان فأشار وهو واقف بينهما فعبر عنه تارة بباب حفصة وأخرى بباب عائشة ثم مشى إلى جنب المنبر فأشار ثم قام عليه فأشار فإن ساغ هذا وإلا فيطلب جمع غيره ولا يجمع بتعدد القصة لاتحاد المخرج وهو ابن عمر
( ويقول ) زاد في رواية نافع في الصحيحين وهو مستقبل المشرق ( ها ) بالقصر من غير همز حرف تنبيه ( إن الفتنة ) بكسر الفاء المحنة والعقاب والشدة وكل مكروه وآيل إليه كالكفر والإثم والفضيحة والفجور والمصيبة وغيرها من المكروهات فإن كانت من الله فهن على وجه الحكمة وإن كانت من الإنسان بغير أمر الله فمذمومة فقد ذم الله الإنسان بإيقاع الفتنة كقوله { والفتنة أشد من القتل } سورة البقرة الآية 191 { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } سورالبروج الآية 10 الآية
( هاهنا إن الفتنة ) زاد القعنبي هاهنا وكذا في رواية سالم بالتكرار مرتين وكذا في رواية نافع عند مسلم
وفي روايته عند البخاري إن الفتنة هاهنا مرة واحدة
( من حيث يطلع ) بضم اللام ( قرن الشيطان ) بالإفراد أي حزبه وأهل وقته وزمانه وأعوانه ونسب الطلوع لقرنه مع أن الطلوع للشمس لكونه مقارنا لها وكذا في رواية نافع وكذا سالم عند البخاري لكن بالشك قرن الشيطان أو قال قرن الشمس ولمسلم من طريق فضيل بن غزوان عن سالم من حيث يطلع قرنا الشيطان بالتثنية وبدون شك وقد قيل إن له قرنين حقيقة وقيل هما جانبا رأسه أنه يقرن رأسه بالشمس عند طلوعها ليقع سجدة عبدتها له وقيل هو مثل أي حينئذ يتحرك الشيطان ويتسلط أو قرنه أهل حزبه وإنما أشار صلى الله عليه وسلم إلى المشرق لأن أهله يومئذ أهل كفر فأخبر أن الفتنة تكون من تلك الناحية وكذا وقع فكانت وقعة الجمل وصفين ثم ظهور الحجاج في نجد والعراق وما وراءها من المشرق وهذا من أعلام النبوة
وأخرجه البخاري في بدء الخلق عن القعنبي عن مالك به وتابعه في شيخه ابن دينار نافع وسالم عند الشيخين نحوه
( مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب أراد الخروج إلى العراق ) بكسر العين قال المجر بلاد معروفة من عبادان إلى الموصل طولا ومن القادسية إلى حلوان عرضا وتؤنث وتذكر وسميت بها لتواشج عراق النخل والشجر فيها أو لأنه استكف أرض العرب أو سمي بعراق المزادة لجلدة تجعل على ملتقى طرفي الجلد إذا خرز في أسلفها لأن العراق بين الريف والبر أو لأنه على عراق دجلة والفرات أي شاطئهما أو معربة إيران شهر ومعناه كثيرة النخل والشجر
( فقال له كعب الأحبار لا تخرج إليها يا أمير المؤمنين فإن بها تسعة أعشار السحر ) وبابل من جملة بلادها ( وبها فسقة الجن وبها الداء العضال )
____________________
(4/493)
بضم العين وضاد معجمة هو الذي يعني الأطباء أمره وكان هذا من الكتب القديمة لأن كعبا حبرها
63 ما جاء في قتل الحيات وما يقال في ذلك جمع حية تقع على الذكر والأنثى وإنما دخلتها الهاء لأنها واحد من جنس كبطة على أنه سمع من العرب رأيت حيا على حية أي ذكرا على أنثى والحيوت ذكر الحيات أنشد الأصمعي ويأكل الحية والحيوتا
وعن ابن عباس الثعبان الكبير الحية الذكر
وعن غيره الثعبان من الحيات ذكرا كان أو أنثى
( مالك عن نافع ) مولى ابن عمر الثقة الثبت الفقيه المتوفى سنة سبع عشرة ومائة أو بعدها ( عن أبي لبابة ) بضم اللام وبموحدتين خفيفتين صحابي مشهور اسمه بشير بفتح الموحدة وكسر المعجمة وقيل مصغر وقيل بتحتية ومهملة مصغر وقيل اسمه رفاعة وقيل اسمه كنيته ورفاعة وبشير أخواه واسم جده زنبر بزاي ونون وموحدة وزن جعفر وهو أوسي من بني أمية بن زيد وشذ من قال اسمه مروان وكان أحد النقباء وشهد أحدا ويقال شهد بدرا واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة وكانت معه راية قومه يوم الفتح ومات في أول خلافة عثمان على الصحيح كذا في الفتح
وفي الإصابة مات في خلافة علي
وقال خليفة مات بعد قتل عثمان ويقال عاش إلى بعد الخمسين
روى عنه ابن عمر وابنه سالم ومولاه نافع وغيرهم ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الحيات التي في البيوت ) يعني دون إنذار لأن الجن تتمثل بها
قال الحافظ وظاهره تعميم جميع البيوت
وعن مالك تخصيصه ببيوت المدينة وقيل تختص ببيوت المدينة دون غيرها وهو على كل قول فتقتل في البراري والصحاري من غير إنذار
وروى الترمذي عن ابن المبارك أنها الحية التي تكون كأنها فضة ولا تلتوي في مشيتها انتهى
وفي الأبي أن مالكا نهى عن قتل حيات بيوت غير المدينة أيضا بلا إنذار ولكنه عنده في بيوت المدينة آكد
وقصره ابن نافع على بيوت المدينة ورأى أن حيات غيرها بخلافها لحديث اقتلوا الحيات وإنها إحدى الخمس التي يقتلها المحرم والحلال في الحل والحرام ولم يذكر إنذار فحديث المدينة مخصص لهذا العموم
( مالك عن نافع ) مولى ابن عمر ( عن سائبة مولاة لعائشة ) مرسل وهو موصول في الصحيحين بنحوه من حديث ابن عمر وعائشة وأبي لبابة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الجنان ) بكسر الجيم وفتح النون الثقيلة جمع جان وهي الحية الصغيرة وقيل الرفيعة الخفيفة وقيل الرقيقة البيضاء وقيل ما لا يتعرض لإذاية الناس
وعن ابن عباس الجنان مسخ الجن كما مسخت القردة من بني إسرائيل
وقال ابن وهب هي عوامر البيوت فتمثل في صفة حية رقيقة بالمدينة وغيرها وهي التي نهى عن قتلها حتى تنذر
وذكر الترمذي عن ابن المبارك إنما يقتل من الحيات التي تكون رقيقة كأنها فضة ولا تلتوي في مشيها
____________________
(4/494)
قاله عياض
قال الأبي لولا تفسير من فسر الجنان بالحيات عموما لتوهم أنه لا ينذر من جنان البيوت إلا الصغير على من فسر الجنان بالصغير ( التي في البيوت ) عموما أو بيوت خاصة على ما مر حتى تنذر ويقتل ما وجد في الصحارى بلا إنذار
قال مالك ويقتل ما وجد منها في المساجد ( إلا ذا الطفيتين ) بضم الطاء المهملة وسكون الفاء تثنية طفية وهو خوصة المقل شبه به الخطين الذين على ظهر الحية قاله المازري وغيره
وقال ابن عبد البر يقال إن ذا الطفيين جنس من الحيات يكون على ظهره خطان أبيضان
( والأبتر ) مقطوع الذنب أو الحية الصغيرة الذنب
وقال الداودي هو الأفعى التي قدر شبر أو أكثر قليلا والعطف يقتضي التغاير بينهما
وفي بعض طرق الحديث في الصحيح لا تقتلوا الجنان إلا كل أبتر ذي طفيتين وظاهره اتحادهما لكنه لا ينفي المغايرة
وقال الكرماني الواو للجمع بين الوصفين لا بين الذاتين فالمعنى اقتلوا الحية الجامعة بين الأبترية وكونها ذات طفيتين كقولهم مررت بالرجل الكريم والنسمة المباركة ولا منافاة أيضا بين الأمر بقتل ما اتصف بإحدى الصفتين وبقتل ما اتصف بهما معا لأن الصفتين قد يجتمعان فيها وقد يفترقان
( فإنهما يخطفان ) بفتح الطاء البصر وفي رواية يطمسان ( البصر ) أي يمحوان نوره ( ويطرحان ما في بطون النساء ) من الحمل وفي رواية ويسقطان الحبل بفتح الموحدة الجنين قال الأبي إما للفزع أو لخاصية فيهما وقد تكون الخاصية قول ابن شهاب نرى ذلك من سمهما
قال الحافظ زعم الداودي أنه أذن في قتلهما لأن الجان لا يتمثل بهما وإنما يتم إن جعل الاستثناء منقطعا فإن كان متصلا ففيه رد عليه انتهى
وبه علم قول السيوطي إنما استثنيا لأن مؤمني الجن لا يتصورون في صورهما لأذيتهما بنفس رؤيتهما وإنما يتصور مؤمنوا الجن بصورة من لا تضر رؤيته فإن هذا كلام الداودي وقد علم ما فيه وأيضا تعليله بهذا خلاف ظاهر تعليله صلى الله عليه وسلم
( مالك عن صيفي ) بن زياد الأنصاري مولاهم المدني من الثقات ( مولى ابن أفلح ) بالفاء والمهملة ( عن ابن السائب ) الأنصاري المدني يقال اسمه عبد الله بن السائب تابعي ثقة ( مولى هشام بن زهرة ) بضم الزاي ( أنه قال دخلت على أبي سعيد الخدري ) بيته ( فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى قضى ) أي أتم ( صلاته فسمعت تحريكا تحت سرير في بيته فإذا حية فقمت لأقتلها فأشار
____________________
(4/495)
أبو سعيد أن اجلس ) ولا تقتلها ( فلما انصرف ) من الصلاة ( أشار إلى بيت في الدار قال أترى هذا البيت فقلت نعم ) أراه ( قال إنه قد كان فيه فتى حديث عهد بعرس فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق ) في غزوة الأحزاب ( فبينما هو به إذ أتاه يستأذنه ) لقوله تعالى { وإذا كانوا معه على أمر جامع } سورة النور الآية 62 الآية ( فقال يا رسول الله ائذن لي أحدث بأهلي ) أي امرأتي ( عهدا فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ) في الذهاب إلى أهله ( وقال خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك بني قريظة ) يقتضي أن بين المدينة والخندق خلاء يخشى عليه منهم قاله الأبي وزاد في رواية ابن وهب عن مالك وكان الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنصاف النهار فيرجع إلى أهله فاستأذنه يوما فقال خذ عليك سلاحك الخ
قال عياض روينا أنصاف بفتح الهمزة أي بنصفي النهار وهو آخر نصفه الأول وأول الثاني وجمع مع الإضافة إلى النهار كما قال ظهور الترسين وقد يكون أنصاف مصدر نصف النهار إذا بلغ نصفه قال بعضهم إنما يقال نصف النهار إذا بلغ نصفه ولا يقال أنصف رباعيا ( فانطلق ) ولابن وهب فأخذ سلاحه ثم رجع ( الفتى إلى أهله فوجد امرأته قائمة بين البابين ) خوفا من الحية فظن هو سيئا ( فأهوى ) مد يده ( إليها بالرمح ليطعنها ) بضم العين ( وأدركته غيرة ) بفتح المعجمة عطف علة على معلول ( فقالت لا تعجل حتى تدخل وتنظر ما في بيتك ) وفي رواية ابن وهب فقالت اكفف عليك رمحك وادخل حتى تنظر ما الذي أخرجني ( فدخل فإذا هو بحية منطوية عى فراشه فركز فيها رمحه ) ولابن وهب فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ( ثم خرج بها فنصبه ) أي الرمح ( في الدار فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر ) سقط ( الفتى ميتا فما يدرى أيهما كان أسرع موتا الفتى أم الحية فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) ولابن وهب فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له وقلنا ادع الله أن يحييه لنا فقال استغفروا لصاحبكم قال القرطبي قالوا ذلك لما شاهدوه من إجابة دعوته وعموم بركته
( فقال إن بالمدينة جنا قد أسلموا ) قال القرطبي وكذا أسلم بغيرها فيلزم المساواة في منع القتل
____________________
(4/496)
إلا بإذن
ولا يفهم من الحديث أن الذي قتله الفتى مسلم وأن الجن قتلته قصاصا لأن القصاص وإن شرع بين الإنس والجن لكن شرطه العمد والفتى لم يتعمد قتل نفس مسلمة وإنما قتل مؤذيا يسوغ له قتل نوعه شرعا فهو من القتل خطأ فالأولى أن يقال إن فسقة الجن قتلته بصاحبهم عدوانا وإنما قال صلى الله عليه وسلم إن بالمدينة جنا قد أسلموا ليبين طريقا يحصل بها التحرز عن قتل المسلم منهم ويسلط به على قتل الكافر منهم
( فإذا رأيتم منهم شيئا فأذنوه ثلاثة أيام ) قال عياض هذا تفسير قوله في الرواية الأخرى وبه أخذ مالك أن الإنذار ثلاثة أيام وإن ظهر في يوم ثلاث مرار لم يكف حتى ينذر ثلاثة أيام انتهى
وصفة الإنذار روى الترمذي وحسنه عن أبي ليلى قال قال صلى الله عليه وسلم إذا ظهرت الحية في المسكن فقولوا لها نسألك بعهد نوح وبعهد سليمان بن داود لا تؤذينا فإن عادت فاقتلوها ولأبي داود من حديثه أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن جنان البيوت فقال إذا رأيتم منهن شيئا في مساكنكم فقولوا أنشدكم العهد الذي أخذ عليكم نوح أنشدكم العهد الذي أخذ عليكم سليمان أن لا تؤذونا فإن عدن فاقتلوهن وقال مالك يكفي أن يقال أحرج عليكم بالله واليوم الآخر أن لا تبدوا لنا ولا تؤذونا
قال عياض أظنه أخذه من رواية لمسلم عن أبي سعيد فقال إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليها ثلاثا
وقال في الفتح معناه أن يقال لهن أنتن في ضيق وحرج إن لبثت عندنا أو ظهرت لنا أو عدت إلينا
( فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان ) وفي الطريق الثانية عند مسلم فإنه كافر وقال لهم اذهبوا فادفنوا صاحبكم قال عياض لأنه إذا لم يذهب بالإنذار بان أنه ليس من عمار البيوت ولا ممن أسلم وأنه شيطان فقتله مباح وأن الله سبحانه لم يجعل له سبيلا إلى الاقتصاص ممن قتله كما فعل بجنان البيت ومن أسلم لم ينذر
قال القرطبي والأمر في ذلك للإرشاد إلا يحقق الضرر فيجب رفعه
قال الأبي هل الموجب للاستئذان الإسلام أو خوف مثل ما وقع للفتى فإن كان الثاني فخوف وقوعه ممن لا يسلم أقوى إلا أن يقال يحتمل أن الله لم يقدر ذلك إلا على من يسلم دون الكافر ويدل عليه قوله فإنه كافر فإنه شيطان
انتهى وبه جزم عياض كما رأيت وهو مدلول الحديث فالموجب للاستئذان الإسلام فلا معنى للتوقف والعجب أنه بعد أسطر نقل كلام عياض وهذا الحديث رواه مسلم من طريق ابن وهب عن مالك به بعض زيادة علمتها وتابعه في ذلك شيخه صيفي بن أسماء بن عبيد عن أبي السائب عند مسلم قائلا نحو حديث مالك عن صيفي وقال فيه فقال صلى الله عليه وسلم إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فخرجوا عليها ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر وقال لهم اذهبوا فادفنوا صاحبكم وتابعه أيضا في الحديث بدون القصة ابن عجلان عن صيفي في مسلم أيضا نحوه
____________________
(4/497)
64 ما يؤمر به من الكلام في السفر ( مالك أنه بلغه ) مما صح عن عبد الله بن سرجس وابن عمر وأبي هريرة وغيرهم ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع رجله في الغرز ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء ثم زاي منقوطة أي الركاب ( وهو يريد السفر يقول بسم الله ) أسافر ( اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ) قال الباجي يعني أنه لا يخلو مكان من أمره وحكمه فيصحب المسافر في سفره بأن يسلمه ويرزقه ويعينه ويوفقه ويخلفه في أهله بأن يرزقهم ويعصمهم فلا حكم لأحد في الأرض ولا في السماء غيره
( اللهم ازو ) بالزاي منقوطة أي أطو ( لنا الأرض ) الطريق وقربه وسهله ( وهون ) يسر وخفف ( علينا السفر ) فلا ننال فيه مزيد مشقة
( اللهم إني أعوذ بك ) الباء للإلصاق المعنوي التخصيصي كأنه خص الرب بالاستعاذة وقد جاء في الكتاب والسنة أعوذ بالله ولم يسمع بالله أعوذ لأن تقديم المعمول تفنن وانبساط والاستعاذة حال خوف وقبض بخلاف الحمد لله ولله الحمد لأنه حال شكر وتذكر إحسان ونعم قاله الطيبي
( من وعثاء ) بعين مهملة ساكنة ومثلثة والمد أي شدة ( السفر ) وخشونته ( ومن كآبة ) بفتح الكاف والهمزة والمد أي حزن ( المنقلب ) وذلك بأن ينقلب الرجل وينصرف من سفره إلى أمر وزنه ويكتئب منه
( ومن سوء المنظر ) بفتح الظاء المعجمة ( في المال والأهل ) وهو كل ما يسوء النظر إليه وسماعه فيهما
( مالك عن الثقة عنده عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج ) أبي يوسف المدني مولى قريش ثقة مات سنة اثنين وعشرين ومائة وهذا قد رواه مسلم بلفظ الموطأ من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن الحارث بن يعقوب عن يعقوب المذكور ( عن بسر ) بضم الموحدة وسكون المهملة ( ابن سعيد ) بكسر العين ( عن سعد بن أبي وقاص ) مالك الزهري أحد العشرة ( عن خولة ) بفتح الخاء المعجمة ( بنت حكيم ) بن أمية السلمية يقال لها أم شريك ويقال لها أيضا خويلة بالتصغير صحابية مشهورة يقال إنها التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من نزل منزلا ) مظنة للهوام والحشرات ونحوها مما يؤذي ولو في غير
____________________
(4/498)
سفر ( فليقل ) ندبا لدفع شرها ( أعوذ ) أعتصم ( بكلمات الله ) أي صفاته القائمة بذاته التي بها ظهر الوجود بعد العدم وبها يقول للشيء كن فيكون وقيل هي العلم لأنه أعم الصفات وقيل هي القرآن وقال البيضاوي هي جميع ما أنزله على أنبيائه لأن الجمع المضاف إلى المعارف يقتضي العموم ووصفها بقوله ( التامات ) أي التي لا يعتريها نقص ولا خلل تنبيها على عظم شرفها وخلوها على كل نقص إذ لا شيء إلا وهو تابع لها يعرف بها فالوجود كله بها ظهر وعنها وجد انتهى
وقال عياض قيل التامات الكاملة التي لا يدخلها عيب ولا نقص كما يدخل كلام الناس وقيل هي النافعة الشافية
وقال التوربشتي الكلمة لغة تقع على جزء من الكلام اسما أو فعلا أو حرفا وعلى الألفاظ المنطوقة وعلى المعاني المجموعة والكلمات هنا محمولة على أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة لأن المستفاد من الكلمات إنما يصح ويستقيم أن يكون منها ووصفها بالتمام لخلوها عن العوائق والعوارض فإن الناس متفاوتون في كلامهم واللهجة وأساليب القول فما منهم من أحد إلا وقابله آخر في معناه أو في معان كثيرة ثم إن أحدهم قلما يسلم من معارضة أو خطأ أو سهو أو عجز عن المعنى المراد وأعظم النقائص المقترنة بها أنها كلمات مخلوقة تكلم بها مخلوق مفتقر إلى أدوات ومخارج وهذه نقيصة لا ينفك عنها كلام مخلوق وكلمات الله متعالية عن هذه القوادح فهي التي لا يتبعها نقص ولا يعتريها اختلال ( من شر ما خلق ) عبر بما للتعميم ( فإن لن يضره شيء ) من المخلوقات ( حتى يرتحل ) عنه وشرط نفع ذلك الحضور والنية وهي استحضار أنه صلى الله عليه وسلم أرشده إلى التحصن به وأنه الصادق المصدوق فلو قاله أحد واتفق أنه ضره شيء فلأنه لم يقله بنية وقوة يقين وليس ذلك خاصا بمنازل السفر بل عام في كل موضع جلس فيه أو نام وكذلك لو قالها عند خروجه للسفر أو عند نزوله للقتال الجائزة قاله الأبي
وللحديث طريق ثان عند مسلم من رواية ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن يزيد بن أبي حبيب والحارث بن يعقوب حدثاه عن يعقوب عن بسر عن سعد عن خولة مرفوعا بلفظ إذا نزل أحدكم منزلا فليقل فذكره
وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد أنه يقرأ مع الحديث المذكور { رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين } سورة المؤمنون الآية 29 و { رب أدخلني مدخل صدق } سورة الإسراء الآية 80 الآية وأن ذلك حسن عند الإشراف على المنزل وأن الله قاله لنوح حين نزل من السفينة
65 ما جاء في الوحدة في السفر للرجال والنساء الوحدة بفتح الواو وتكسر وأنكره بعضهم
( مالك عن عبد الرحمن بن حرملة ) بن عمرو الأسلمي المدني صالح الحديث لا بأس به مات
____________________
(4/499)
سنة خمس وأربعين ومائة ولأبيه صحبة ورواية
( عن عمرو ) بفتح العين ( ابن شعيب ) القرشي صدوق مات سنة ثمان عشرة ومائة ( عن أبيه ) شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي صدوق ثبت سماعه من جده فالضمير في قوله ( عن جده ) عبد الله بن عمر ولشعيب وإن كان لعمر وحمل على الجد الأعلى عبد الله الصحابي هذا الأكثر وهو الصحيح أي لا احتجاج بهذه الترجمة
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الراكب ) الواحد قال ابن عبد البر وفي معناه الراجل الواحد ( شيطان ) أي بعيد عن الخير في الأنس والرفق وهذا أصل الكلمة لغة يقال بئر شطون أي بعيدة انتهى
وقال ابن قتيبة بمعنى أن الشيطان يطمع في الواحد كما يطمع فيه اللص والسبع فإذا خرج وحده فقد تعرض للبلاء به فكان شيطانا
( والراكبان شيطانان ) لأن كلا منهما متعرض لذلك سميا بذلك لأن كل واحد من القبيلين يسلك سبيل الشيطان في اختياره الوحدة في السفر
وقال المنذري شيطان أي عاص كقوله تعالى { شياطين الإنس والجن } سورة الأنعام الآية 112 فإن معناه عصاتهم
وقال البيضاوي سمي الواحد والإثنين شيطانا لمخالفة النهي عن التوحد في السفر والتعرض للآفات التي لا تندفع إلا بالكثرة ولأن المسافر تنبو عنه الجماعة وتعسر عليه المعيشة ولعل الموت يدركه فلا يجد من يوصي إليه بإيفاء ديون الناس وأماناتهم وسائر ما يجب أو يسن على المحتضر أن يوصي به ولم يكن ثم من يقوم بتجهيزه ودفنه
وقال الطبري هذا زجر أدب وإرشاد لما يخاف على الواحد من الوحشة وليس بحرام فالسائر وحده بفلاة والبايث في بيت وحده لا يأمن الاستيحاش ولا سيما إن كان ذا فكرة ردية وقلب ضعيف والحق أن الناس يتفاوتون في ذلك فوقع الزجر لحسم المادة فيكره الانفراد سدا للباب والكراهة في الاثنين أخف منها في الواحد
وعن مالك أن ذلك في سفر القصر فأما من قصر عنه فلا بأس أن ينفرد الواحد فيه
وقال أبو عمر لم تختلف الآثار في كراهة السفر للواحد واختلف في الاثنين ووجه الكراهة أن الواحد إن مرض لم يجد من يمرضه ولا يقوم عليه ولا يخبر عنه ونحو هذا
( والثلاثة ركب ) لزوال الوحشة وحصول الأنس وانقطاع الأطماع عنهم وخروجه صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر مهاجرين لضرورة الخوف على أنفسهما من المشركين أو لأن من خصائصه صلى الله عليه وسلم عدم كراهة الانفراد في السفر وحده لأمنه من الشيطان بخلاف غيره كما ذكره الحافظ العراقي
وأنكر مجاهد رفع الحديث وقال لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث ابن مسعود وخباب بن الأرت سرية وبعث دحية سرية وحده ولكن قال عمر يحتاط للمسلمين كونوا في أسفاركم ثلاثة إن مات واحد وليه اثنان الواحد شيطان والاثنان شيطانان أخرجه ابن عبد البر وقال لا معنى لإنكاره لأن الثقات نقلوه مرفوعا انتهى
وأجيب بأنه إنما أرسل البريد وحده لضرورة طلب السرعة في إبلاغ ما أرسل به على أنه كان يأمره أن ينضم في الطريق بالرفقاء والحديث أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من طريق مالك وغير وصححه وابن خزيمة والحاكم وغيرهما
____________________
(4/500)
( مالك عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول ) قال أبو عمر مرسل باتفاق رواة الموطأ ووصله قاسم بن أصبغ من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيطان ) إبليس أو أعم ( يهم ) بضم الهاء ( بالواحد والاثنين ) أي باغتياله والتسلط عليه أو بغيه وصرفه عن الحق وإغوائه بالباطل
احتمالان للباجي
( فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم ) لأنهم ركب وصحب
وروى البخاري وأصحاب السنن عن ابن عمر مرفوعا لو يعلم الناس من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده قال أبو عمر يتصل معنى الحديث من وجوه حسان وأورد منها جملة
ثم أخرج له سببا عن ابن عمر أنه سافر مرة فمر بقبر جاهلي فخرج منه رجل يتأجج نارا في عنقه سلسلة ومعي إداوة من ماء فقال يا عبد الله اسقني فقلت عرفني أول كلمة تقولها العرب فخرج على أثره رجل من القبر فقال يا عبد الله لا تسقه فإنه كافر ثم أخذ السلسلة فاجتذبه فأدخله القبر ثم أضافني الليل إلى بيت عجوز إلى جانبها قبر فسمعت منه صوتا يقول بول وما بول شن وما شن فقلت للعجوز ما هذا قالت كانت زوجا لي وكان لا يتقي البول وأقول له ويحك إن الجمل إذا بال تفاج فيأبى فهو ينادي من يوم مات بول وما بول قلت فما الشن قال جاء رجل عطشان فقال اسقني فقال دونك الشن فإذا ليس فيه شيء فخر الرجل ميتا فهو ينادي شن وما شن فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته فنهى أن يسافر الرجل وحده قال أبو عمر رواته مجهولون لم أورده للاحتجاج ولكن للاعتبار وما لا حكم فيه يسامح في روايته عن الضعفاء
( مالك عن سعيد بن أبي سعيد ) كيسان ( المقبري ) بضم الباء وفتحها ( عن أبي هريرة ) كذا لمعظم رواة الموطأ وهو المشهور عن مالك ورواه بشر بن عمر الزهراني عند أبي داود والترمذي وغيرهما وإسحاق بن محمد القروي عند الدارقطني والوليد بن مسلم عند الإسماعيلي الثلاثة عن مالك عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة وكذا اختلف على ابن أبي ذئب فرواه الشيخان من طريق يحيى القطان عنه عن سعيد عن أبيه ورواه ابن ماجه من طريق شبابة عنه عن سعيد عن أبي هريرة ورواه مسلم وأبو داود من رواية الليث بن سعد عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة ورواه أحمد عن يحيى بن أبي كثير وأبو داود وابن خزيمة والحاكم وابن حبان عن سهيل بن أبي صالح كلاهما عن سعيد عن أبي هريرة وصوب الدارقطني رواية إسقاط عن أبيه لاتفاق مالك وابن كثير وسهيل على إسقاطه وانتقد على الشيخين إخراجهما رواية ابن أبي ذئب وعلى مسلم إخراجه رواية الليث بإثبات عن أبيه وأجيب بأن هذا اختلاف لا يقدح فإن سماع سعيد من أبي هريرة صحيح معروف فلعله سمعه من أبي هريرة نفسه
____________________
(4/501)
فحدث به عن الوجهين وبهذا جزم ابن حبان فقال سمع هذا الخبر سعيد المقبري عن أبي هريرة وسمعه من أبيه عن أبي هريرة فالطريقان جميعا محفوظان اه
ويؤيده أن سعيدا ليس بمدلس فالحديث صحيح متصل على كل حال ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ) يوم القيامة وقيد بذلك لأن الإيمان هو الذي يستمر للمتصف به خطاب الشرع فينتفع به وينقاد له أو أن الوصف ذكر لتأكيد التحريم لأنه تعريض بأنها إذا سافرت بلا محرم خالفت شرط الإيمان بالله واليوم الآخر المقتضي الموقوف عندما نهيت عنه أو خرج مخرج الغالب ولم يقصد به إخراج الكافرة كتابية أو حربية كما قال به بعض العلماء تمسكا بالمفهوم
( تسافر ) هكذا الرواية بدون أن نظير قولهم تسمع بالمعيدي خير من أن تراه فتسمع موضعه رفع على الابتداء وتسافر موضعه رفع على الفاعلية فيجوز رفعه ونصبه بإضمار أن قاله الولي العراقي ( مسيرة ) مصدر ميمي بمعنى السير بمعيشة بمعنى العيش وليست التاء فيه للمرة
( يوم وليلة إلا مع ذي محرم ) بفتح الميم أي حرام ( منها ) بنسب أو صهر أو رضاع إلا أن مالكا كره تنزيها سفرها مع ابن زوجها لفساد الزمان وحداثة الحرمة ولأن الداعي إلى النفرة عن امرأة الأب ليس كالداعي إلى النفرة عن سائر المحارم والمرأة فتنة إلا فيما جبلت عليه النفوس من النفرة عن محارم النسب وعلله الباجي بعداوة المرأة لربيبها وعدم شفقته عليها وصوب غيره التعليل الأول زاد الشيخان من حديث أبي سعيد أو زوج وفي معناه السيد ولو لم يرد ذكر الزوج لقيس على المحرم قياسا جليا ولفظ امرأة عام في جميع النساء
ونقل عياض عن بعضهم لا عن الباجي كما زعم أنه في الشابة أما الكبيرة التي لا تشتهي فتسافر في كل الأسفار بلا زوج ولا محرم قال ابن دقيق العيد وهو تخصيص للعموم بالنظر إلى المعنى وقال القرطبي فيه بعد لأن الخلوة بها حرام وما لا يطلع عليه من جسدها غالبا عورة فالمظنة موجودة فيها والعموم صالح لها فينبغي أن لا تخرج منه
وقال النووي المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ولو كبيرة وقد قالوا لكل ساقطة لاقطة ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من لا يترفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته وقلة دينه ومروءته وحيائه ونحو ذلك اه
وفي حديث أبي سعيد عند الشيخين وغيرهما أن تسافر فوق ثلاثة أيام فصاعدا وفي حديث ابن عمر في الصحيحين وأبي داود لا تسافر المرأة ثلاثا إلا ومعها ذو محرم وفي رواية الليث المذكورة لحديث أبي هريرة تسافر مسيرة ليلة وفي رواية أحمد يوم وفي أبي داود بريد بدل يوم وفي رواية يومين وفي أخرى إطلاق السفر من غير تقييد فجمع ابن عبد البر والبيهقي وعياض وغيرهم وعزاه النووي للعلماء بأن هذا الاختلاف بحسب اختلاف السائلين فسئل مرة عن سفرها ليلة فقال لا وأخرى عن
____________________
(4/502)
سفرها يوما فقال لا وهكذا في جميعها وليس فيه تحديد قال الأبي والمراد أنها إذا كانت جوابا لسائلين فلا مفهوم لأحدها وبالجملة فالفقه جمع أحاديث الباب فحق الناظر أن يستحضر جميعها وينظر أخصها فينيط الحكم به وأخصها باعتبار ترتب الحكم عليه يوم لأنه إذا امتنع فيه امتنع فيما هو أكثر ثم أخص من يوم وصف السفر المذكور في جميعها فيمنع في أقل ما يصدق عليه اسم السفر ثم أخص من اسم السفر الخلوة بها فلا تعرض المرأة نفسها بالخلوة مع أحد وإن قل الزمن لعدم الأمن لا سيما مع فساد الزمن والمرأة فتنة إلا فيما جبلت عليه النفوس من النفرة من محارم النسب وقد اتقى بعض السلف الخلوة بالبهيمة وقال شيطان مغوى وأنثى حاضرة اه
وقال القاضي عياض يمكن الجمع بينها بأن اليوم المذكور بمعنى اليوم والليلة المجموعين لأن اليوم من الليل والليل من اليوم ويكون ذكره يومين مدة مغيبها في هذا السفر في السير والرجوع فأشار مرة لمسافة السفر ومرة لمدة المغيب وهكذا في ذكر الثلاث فقد يكون اليوم الوسط بين السير والرجوع الذي تقضي فيه حاجتها حيث سافرت له فتنفق الأحاديث وقد يكون هذا كله تمثيلا بأقل الأعداد إذ الواحد أول العدد والاثنان أول الكثير وأقله والثلاثة أقل الجمع فكأنه أشار أن مثل هذا في قلة الزمان لا يحل لها السفر فيه مع غير ذي محرم فكيف بما زاد وبهذا قال في الحديث الآخر ثلاثة أيام فصاعدا اه
واستدل بالحديث لأبي حنيفة وأحمد ومن وافقهما على أن المحرم أو الزوج شرط في استطاعة المرأة للحج فإنه حرم عليها السفر إلا مع أحدهما والحج من جملة الأسفار فيكون حراما عليها فلا يجب
وقال مالك والشافعي في المشهور عنهما وطائفة لا يشترط المحرم قال في المدونة
من لا ولي لها تحج مع من تثق به من رجال ونساء واختلف هل مراده مجموع الصنفين أو مع جماعة من أحدهما وأكثر ما نقل عنه اشتراط النساء
وقال الشافعي تحج مع امرأة حرة مسلمة ثقة واعترضه الخطابي بأنها لا تكون ذا محرم منها فإباحة الخروج معها في سفر الحج خلاف السنة ومحل الخلاف في حج الفرض فأما التطوع فلا تخرج إلا مع محرم أو زوج وأجابوا عن الحديث بحمله على حج التطوع لا الفرض قياسا على الإجماع في الكافرة إذا أسلمت بدار الحرب فيجب عليها الهجرة منها وإن بلا محرم والجامع بينهما وجوب الحج والهجرة
وتعقبه المازري وغيره بأن إقامتها في دار الكفر حرام لأنها تخشى على دينها ونفسها ولا كذلك تأخير الحج للخلاف في فوريته وتراخيه قال القرطبي وسبب هذا الخلاف مخالفة ظواهر الأحاديث لظاهر قوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } سورة آل عمران الآية 97 لأن ظاهره الاستطاعة بالبدن فيجب على كل قادر عليه ببدنه ومن لم تجد محرما قادرة ببدنها فيجب عليها فلما تعارضت هذه الظواهر اختلف العلماء في تأويل ذلك فجمع أبو حنيفة ومن وافقه بأن جعل الحديث مبينا للاستطاعة في حق المرأة ورأى مالك وموافقوه أن الاستطاعة الأمنية بنفسها في حق الرجال والنساء وأن الأحاديث المذكورة لم تتعرض
____________________
(4/503)
للأسفار الواجبة وقد أجيب أيضا بحمل الأخبار على ما إذا لم تكن الطريق أمنا
قال القرطبي يمكن أن المنع إنما خرج لما يؤدي إليه من الخلوة وانكشاف عوراتهن غالبا فإذا أمن ذلك بحيث يكون في الرفقة نساء تنحاش إليهن كما قال مالك والشافعي قال الباجي وهذا عندي في الانفراد والعدد اليسير فأما في القوافل العظيمة فهي كالبلاد يصح فيها سفرها دون نساء ودون محرم انتهى
ولم يذكر الجمهور هذا القيد عملا بإطلاق الحديث وهو الراجح ومحل هذا كله ما لم تدع ضرورة كوجود امرأة أجنبية منقطعة مثلا فله أن يصحبها بل يجب عليه إذا خاف عليها لو تركها قال النووي وهذا مما لا خلاف فيه ويدل عليه حديث عائشة في قصة الإفك وفي الحديث فوائد أخر لا نطيل بذكرها
وأخرجه مسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي والنفيلي الثلاثة عن مالك به يدون عن أبيه قال المازري على الأصح وكذا ذكره ابن مسعود الدمشقي وكذا رواه معظم رواة الموطأ انتهى وفي كثير من نسخ مسلم من طريق مالك المذكورة عن أبيه واقتصر عليه خلف الواسطي في الأطراف وللحديث طرق كثيرة
66 ما يؤمر به من العمل في السفر ( مالك عن أبي عبيد ) بضم العين المذحجي ( مولى سليمان بن عبد الملك ) بن مروان الأموي وحاجبه قيل اسمه عبد الملك وقيل حي أو حيي أو حوي ثقة مات بعد المائة ( عن خالد بن معدان ) الكلاعي الحمصي أبي عبد الله ثقة عابد يرسل كثيرا مات سنة ثلاث ومائة وقيل بعدها ( يرفعه ) لفظه يستعملها المحدثون بدل قال صلى الله عليه وسلم ( إن الله رفيق ) أي لطيف بعباده يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر فيكلفهم فوق طاقتهم بل يسامحهم ويلطف بهم قيل لا يجوز إطلاق الرفيق على الله تعالى اسما لأن أسماءه إنما تثبت بالتواتر ولم يستعمل هنا على قصد التسمية وإنما أخبر به عنه تمهيدا للحكم الذي بعده لكن قال النووي الأصح جواز تسميته تعالى رفيقا وغيره مما يثبت بخبر الواحد ( يحب الرفق ) بالكسر لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بأيسر الوجوه وأحسنها أي يحب أن يرفق بعضكم ببعض وقال الباجي يريد ما يحاوله الإنسان من أمر دينه ودنياه وزعم أن المراد يحب أن يرفق بعباده لا يلايم قوله ( ويرضى به ) يثبت فاعله ( ويعين عليه ) بتسهيله على قاصده ( ما لا يعين ) وفي رواية ويعطى عليه ما لا يعطى ( على العنف ) بضم العين وسكون النون الشدة المشقة نبه به على وطاءة الأخلاق وحسن المعاملة وكمال المجاملة وفيه إيذان بأن الرفق أنجح الأسباب وأنفعها بأسرارها وهذا قد رواه مسلم عن عائشة مرفوعا إن الله رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف ولا ما يعطى على ما سواه ورواه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود من حديث عبد الله بن
____________________
(4/504)
مغفل وابن ماجه عن أبي هريرة وأحمد عن علي والطبراني عن أبي أمامة والبزار عن أنس والرفق مطلوب مع العاقل وغيره كما قال
( فإذا ركبتم هذه الدواب العجم ) بضم فسكون جمع عجماء وهي البهيمة سميت بذلك لأنها لا تتكلم ( فأنزلوها منازلها ) جمع منزل وهي المواضع التي اعتيد النزول فيها أي أريحوها فيها لتقوى على السير وللدارقطني من حديث أبي هريرة فاعطوها حظها من المنازل ولا تكونوا عليها شياطين أي لا تركبوها ركوبهم ولا تستعملوها استعمالهم في عدم مراعاة الشفقة على خلق الله
( فإذا كانت الأرض ) التي تسيرون فيها ( جدبة ) بفتح الجيم وإسكان الدال المهملة ( فانجوا عليها ) بنون وجيم أي اسرعوا والنجا بالمد والقصر والسرعة أي اطلبوا النجا من تلك الأرض بسرعة السير عليها ما دامت ( بنفيها ) بكسر النون وسكون القاف شحمها فإنكم إن أبطأتم عليها في أرض جدبة ضعفت وهزلت
( وعليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار ) ببنائه للمفعول فيهما للعلم بالفاعل سبحانه شبه سهولة السير ليلا بثوب مطوي يسهل حمله
وللطبراني برجال ثقات عن عبد الله بن مغفل مرفوعا إذا ركبتم هذه الدواب العجم فانجوا عليها فإذا كانت سنة فانجوا وعليكم بالدلجة فإنما يطويها الله أي لا يطوى الأرض للمسافر فيها ليلا إلا الله إكراما للمسافر حيث أتى بهذا الأدب الشرعي
( وإياكم والتعريس ) أي النزول أحر الليل لنحو نوم ( على الطريق ) ولابن ماجه عن جابر على جواد الطريق والصلاة عليها بشد الدال جمع جادة أي معظم الطريق والمراد نفسها ( فإنها طريق الدواب ومأوى الحيات ) وغيرها كما في رواية أخرى ومأوى الهوام بالليل أي محل ترددها بالليل لتأكل ما فيها من رمة وتلتقط ما يسقط من المارة من نحو مأكول
زاد ابن ماجة وقضاء الحاجة عليها فإنها اللاعن وظاهر سياقه أنه حديث وأخذ مشتمل على ما ذكر
وقال ابن عبد البر هذا الحديث مسند من وجوه كثيرة وهي أحاديث شتى محفوظة انتهى
وفي مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة مرفوعا إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض وإذا سافرتم في الجدب فأسرعوا عليها السير وبادروا بها نفيها وإذا عرستم فاجتنبوا الطريق فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل
( مالك عن سمي ) بضم المهملة وفتح الميم وشد التحتية ( مولى أبي بكر ) بن عبد الرحمن
____________________
(4/505)
القرشي المخزومي قال ابن عبد البر انفرد به مالك وسمي فلا يصح لغيره عنه وانفرد به سمي أيضا فلا يحفظ عن غيره وليس له غير هذا الإسناد من وجه يصح
وقال الحافظ كذا هو في الموطأ
وصرح يحيى النيسابوري عن مالك بتحديث سمي له وشذ خالد بن مخلد فقال مالك عن سهيل بدل سمي أخرجه ابن عدي وذكر الدارقطني أن ابن الماجشون رواه عن مالك عن سهيل وأنه وهم فيه رواية عن ابن الماجشون وقد خالفه غيره عنه فقال عن سمي وهو المحفوظ عن مالك قاله ابن عدي والدارقطني وغيرهما ولم يروه عن سمي غير مالك قال ابن عبد البر ثم أسند عن عبد الملك بن الماجشون قال قال مالك ما لأهل العراق يسألوني عن حديث السفر قطعة من العذاب فقيل له لم يروه عن سمي أحد غيرك فقال لو عرفت ما حدثت به وكان مالك ربما أرسله انتهى
وفي التمهيد رواه ابن مهدي وبسر بن معمر عن مالك مرسلا وهذا إنما هو من نشاط المحدث وكسله أحيانا ينشط فيسند وأحيانا يكسل فيرسل على حسب المذاكرة والحديث مسند صحيح ثابت احتاج الناس فيه إلى مالك انتهى
ورواه عتيق بن يعقوب عن مالك عن أبي النضر أخرجه الدارقطني والطبراني ووهم فيه أيضا على مالك ورواه رواد بن الجراح عن مالك عن ربيعة عن القاسم عن عائشة وعن سمي الخ فزاد فيه إسادا آخر قال الدارقطني أخطأ فيه رواد قال ابن عبد البر وليس رواد ممن يحتج به ولا يعول عليه وأخرجه ابن عبد البر من طريق أبي مصعب عن عبد العزيز الدراوردي عن سهيل عن أبيه وهذا يدل على أن له في حديث سهيل أصلا وأن سميا لم ينفرد به ( عن أبي صالح ) ذكوان الزيات ورواه حمد عن سعيد المقبري وابن عدي عن جهمان كلاهما عن أبي هريرة فلم ينفرد به أبو صالح ( عن أبي هريرة ) ولم ينفرد به أيضا فرواه الدارقطني والحاكم بإسناد جيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بل في الباب عن ابن عباس وابن عمر وأبي سعيد وجابر عند ابن عدي بأسانيد ضعيفة
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال السفر قطعة ) أي جزء ( من العذاب ) أي الألم الناشىء عن المشقة لما يحصل في الركوب والمشي من ترك المألوف كالحر والبرد والخوف وخشونة العيش والفراق للأحباب سئل إمام الحرمين حين جلس موضع أبيه لم كان السفر قطعة من العذاب فأجاب على الفور لأن فيه فراق الأحباب ( يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه ) بنصب الثلاثة بنزع الخافض أو على أنه مفعول ثان ليمنع لأنه يطلب مفعولين كأعطى وفصله عما قبله استئنافا كالجواب لمن قال لم كان ذلك فقال يمنع أي وجه التشبيه الاشتمال على المشقة
وقد جاء التعليل في رواية سعيد المقبري ولفظه السفر قطعة من العذاب لأن الرجل يشغل فيه عن صلاته وصيامه فذكر الحديث والمراد منع الكمال لا الأصل
وللطبراني بلفظ لا يهن أحدكم نومه ولا طعامه ولا شرابه
ولابن عدي في حديث ابن عمر وإنه ليس له دواء إلا سرعة السير والمراد منعه مما ذكر في الوقت الذي يريده لاشتغاله بمسيره
( فإذا قضى أحدكم نهمته ) بفتح النون وسكون الهاء قال ابن التين وضبطناه أيضا بكسر النون
____________________
(4/506)
أي حاجته بأن بلغ همته ( من وجهه ) أي من مقصده
ولابن عدي في حديث ابن عباس فإذا قضى أحدكم وطره من سفره وفي رواية رواه فإذا فرغ أحدكم من حاجته ( فليعجل ) بضم التحتية وكسر الجيم مشددة الرجوع ( إلى أهله ) فحذف المفعول وفي رواية عتيق فليعجل الرجوع إلى أهله وفي رواية أبي مصعب فليعجل الكرة إلى أهله وفي حديث عائشة فليعجل الرحلة إلى أهله فإنه أعظم لأجره قال ابن عبد البر زاد فيه بعض الضعفاء عن مالك وليتخذ لأهله هدية وإن لم يجد إلا حجرا فلينقله في مخلاته والحجارة يومئذ يضرب بها القداح يعني حجر الزناد قال وهي زيادة منكرة لا تصح
وفي الحديث كراهة التغرب عن الأهل بلا حاجة وندب استعجال الرجوع لا سيما من يخشى عليهم الضيعة ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا وتحصيل الجماعات والقوة على العبادات
قال ابن بطال ولا تعارض بين الحديث وحديث ابن عمر مرفوعا سافروا تصحوا لأنه لا يلزم من الصحة بالسفر لما فيه من الرياضة أن لا يكون قطعة من العذاب لما فيه من المشقة فصار كالدواء المر المعقب للصحة وإن كان في تناوله كراهة واستنبط منه الخطابي تغريب الزاني لأنه قد أمر بتعذيبه والسفر من جملة العذاب ولا يخفى ما فيه وأخرجه البخاري في الحج عن القعنبي وفي الجهاد عن التنيسي وفي الأطعمة عن أبي نعيم الفضل بن دكين ومسلم في المغازي عن يحيى النيسابوري والقعنبي وإسماعيل بن أبي أويس وأبي مصعب الزبيري ومنصور بن أبي مزاحم وقتيبة بن سعيد الثمانية عن مالك به وورد على سؤال من الشام هل ورد السفر قطعة من سقر كما هو دارج على الألسنة وإذا قلتم لم يرد هل تجوز روايته بمعنى الحديث الصحيح السفر قطعة من العذاب فأجيب لم أقف على هذا اللفظ الدارج على الألسنة ولم يذكره الحافظان السخاوي والسيوطي في الأحاديث المشهورة على الألسنة مع ذكرهما الحديث الصحيح المذكور فلعل هذا اللفظ مما حدث بعدهما ولا تجوز روايته بمعنى الحديث الوارد إذ من شرط الرواية بالمعنى على قول الأكثر بجوازها أن يقطع بأنه أدى بمعنى اللفظ الواردة وقطعة من سقر لا يؤدي معنى قطعة من العذاب بمعنى التألم من المشقة لأن لفظ سقر كونه تشبيها بليغا أو استعارة يقتضي قوة المشقة جدا ففي التنزيل { ولعذاب الآخرة أشق } سورة الرعد الآية 34 فلا يؤدي على طريق القطع معنى العذاب المجهول على مشقات الدنيا والله أعلم
67 الأمر بالرفق بالمملوك ( مالك أنه بلغه أن أبا هريرة ) أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة ( قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمملوك ) الرقيق
____________________
(4/507)
ذكرا كان أو أنثى ( طعامه وكسوته ) اللام للملك أي طعام المملوك وكسوته حق له على سيده فقدم الخبر لأنه أهم إذ المقام بصدد تمليكه ما ذكر ( بالمعروف ) أي بلا إسراف ولا تقتير على اللائق بأمثاله قال الحافظ مقتضاه الرد في ذلك إلى العرف فمن زاد عليه كان متطوعا فالواجب مطلق المواساة لا المواساة من كل جهة ومن أخذ بالأكمل فعل الأفضل من عدم استئثاره على عياله وإن جاز
( ولا يكلف ) بالبناء للمفعول ( من العمل إلا ما يطيق ) الدوام عليه أي لا يكلفه إلا جنس ما يقدر عليه والنفي بمعنى النهي وفيه الحث على الإحسان إلى المماليك والرفق بهم وألحق بهم من في معناهم من أجير ونحوه والمحافظة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
( مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب كان يذهب إلى العوالي ) القرى المجتمعة حول المدينة من جهة نجدها ومن جملتها قبا ( كل يوم سبت ) اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان يذهب إلى قباء كل سبت راكبا وماشيا ( فإذا وجد عبدا في عمل لا يطيقه ) على الدوام أو إلا بمزيد مشقة ( وضع عنه منه ) أي نقصه وليس المراد ما لا يطاق أصلا لعدم إمكانه
( مالك عن عمه أبي سهيل ) بضم السين نافع ( بن مالك عن أبيه ) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( أنه سمع عثمان بن عفان ) أمير المؤمنين ( وهو يخطب وهو يقول لا تكلفوا الأمة غير ذات الصنعة الكسب فإنكم متى كلفتموها ذلك كسبت بفرجها ) أي زنت فتدخلوا في آية { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } سورة النور الآية 33 ولا تكلفوا الصغير الكسب فإنه إذا لم يجد سرق لعجزه عن الكسب وقد كلفتموه به ( وعفوا ) بكسر العين وشد الفاء المضمومة أمر من عف يعف كضرب يضرب أي تنزهوا واستغنوا عن تكليف الأمة والصغير المذكورين ( إذ ) تعليل ( أعفكم الله ) أغناكم عن ذلك بما فتحه عليكم ووسعه في الرزق ( وعليكم من المطاعم بما طاب منها ) أي حل لأن الله أمر بذلك المرسلين والمؤمنين
____________________
(4/508)
68 ما جاء في المملوك وهبته ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ) رضي الله عنهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العبد ) أي الرقيق ( إذا نصح لسيده ) بزيادة اللام للمبالغة قاله الطيبي أي قام بمصالحه على وجه الخلوص وأمتثل أمره وتجنب نهيه
وفي الصحيح من حديث أبي موسى العبد الذي يحسن عبادة ربه ويؤدي إلى سيده الذي له عليه من الحق والنصيحة والطاعة له أجران قال الكرماني النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له وهو إرادة صلاح حاله وتخليصه من الخلل وتصفيته من الغش
( وأحسن عبادة الله ) المتوجهة عليه بأن أقامها بشروطها وواجباتها وما يمكنه من مندوباتها بأن لم يفوت حق سيده ( فله أجره مرتين ) لقيامه بالحقين وانكساره بالرق قال الكرماني وليس الأجران متساويين لأن طاعة الله أوجب من طاعة المخلوق ورده الولي العراقي بأن طاعة المخلوق هنا من طاعة الله انتهى
ويشير إليه قول الباجي أي له أجر أجر عاملين لأنه عامل بطاعة الله وعامل بطاعة سيده وهو مأمور بذلك
وقال ابن عبد البر معنى الحديث عندي أن العبد لما اجتمع عليه واجبان طاعة ربه في العبادة وطاعة سيده في المعروف فقام بهما جميعا كان له ضعفا أجر المطيع بطاعته لأنه ساواه في طاعة الله وفضل عليه بطاعة من أمر الله بطاعته
قال ومن هنا أقول إن من اجتمع عليه فرضان فأداهما أفضل ممن ليس عليه إلا فرض واحد فأداه كمن وجبت عليه صلاة وزكاة فقام بهما فهو أفضل ممن وجبت عليه صلاة فقط وبمقتضاه أن من اجتمعت عليه فروض فلم يؤد منها شيئا كان عصيانه أكبر من عصيان من لم يجب عليه إلا بعضها انتهى ملخصا
قال الحافظ والذي يظهر أن مزيد الفضل للعبد الموصوف بالصفتين لما يدخل عليه من مشقة الرق وإلا فلو كان التضعيف بسبب اختلاف جهة العبد لم يختص العبد بذلك
وقال ابن التين المراد أن كل عمل يعمله يضاعف له وقيل سبب التضعيف أنه ازداد لسيده نصحا وفي عبادة الله إحسانا فكان له أجر الواجبين وأجر الزيادة عليهما قال والظاهر خلاف هذا وأنه بين ذلك لئلا يظن ظان أنه غير مأجور على العبودية وما ادعى أنه الظاهر لا ينافي ما نقله قبله فإن قيل يلزم أن أجر المماليك ضعف أجر السادات أجاب الكرماني بأنه لا محذور في ذلك أو يكون أجره مضاعفا من هذه الجهة وقد يكون للسيد جهات أخر يستحق بها أضعاف أجر العبد أو المراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأحدهما قال الحافظ ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر مختصا بالعمل الذي يتحد فيه طاعة الله وطاعة السيد فيعمل عملا واحدا ويؤجر عليه أجرين بالاعتبارين
وأما العمل المختلف الجهة فلا اختصاص
____________________
(4/509)
له بتضعيف الأجر فيه على غيره من الأحرار واستدل به على أن العبد لا جهاد عليه ولا حج في حال العبودية وإن صح ذلك منه وفيه إطلاق السيد على غير الله نحو الحديث الآخر قوموا إلى سيدكم وحديث سيدكم عمرو بن الجموح وفي أبي داود والنسائي النهي عن إطلاق السيد على المخلوقين وجمع بينهما بحمله على غير المالك والإذن عليه وقد كان بعض العلماء يأخذ بهذا ويكره أن يخاطبه أحد أو يكتب لفظ سيد ويتأكد إذا كان المخاطب غير تقي لقوله صلى الله عليه وسلم لا تقولوا للمنافق سيد رواه أبو داود وغيره ورواه البخاري عن القعنبي ومسلم في الأيمان والنذور عن يحيى كلاهما عن مالك به وقد وردت أحاديث كثيرة في من يؤتى أجره مرتين جمع منها الحافظ السيوطي سبعا وثلاثين نظمها في قوله وجمع أتى فيما رويناه أنهم يثنى لهم أجر حووه محققا فأزواج خير الخلق أو لهم ومن على زوجها أو للقريب تصدقا وقار بجهد واجتهاد أصاب وال وضوء اثنتين والكتابي صدقا وعبد أتى حق الإله وسيد وعابر يسر مع غنى له تقى ومن أمة يشرى فأدب محسنا وينكحها من بعده حين أعتقا ومن سن خيرا أو أعاد صلاته كذاك جبان إذ يجاهد ذا شقا كذاك شهيد في البحار ومن أتى له القتل من أهل الكتاب فألحقا وطالب علم مدرك ثم مسبغ وضوء لدى البرد الشديد محققا ومستمع في خطبة قد دنا ومن بتأخير صف أول مسلم وقا وحافظ عصر مع إمام مؤذن ومن كان في وقت الفساد موفقا وعامل خير مخفيا ثم إن بدا يرى فرحا مستبشرا بالذي ارتقى ومغتسل في جمعة عن جنابة ومن فيه حقا قد غدا متصدقا وماش يصلي جمعة ثم من أتى بذا اليوم خيرا ما فضعفه مطلقا ومن حتفه قد جاء من سلاحه ونازع نعل إن لخير تسبقا وماش لدى تشييع ميت وغاسل بدا بعدا كل والمجاهد حققا ومتبع ميتا حياء من أهله ومستمع القرآن فيما روى الثقا وفي مصحف يقرأ وقاريه معربا بتفهيم معناه الشريف محققا وذيله بعضهم بثلاثة إمام مطيع يا لها من سعادة وحجة حاج من عمان فألحقا ومن أمة تشترى أو يشرط لها فلا هبة لا بيع لا مهر مطلقا وهي حرة إن مت صلى إلهنا على المصطفى المبعوث بالحق والتقى
____________________
(4/510)
( مالك أنه بلغه أن أمة كانت لعبد الله بن عمر بن الخطاب رآها عمر بن الخطاب وقد تهيأت بهيئة الحرائر فدخل على ابنته حفصة ) أم المؤمنين ( فقال ألم أر جارية أخيك تجوس الناس ) بالجيم وبالحاء المهملة أي تتخطاهم وتختلف عليهم قال أبو عبيد كل موضع خالطته ووطأته فقد جسته وحسته بالحاء والجيم ( وأنها قد تهيأت ) تمثلت وتصورت ( بهيئة الحرائر وأنكر ذلك عمر ) رضي الله عنه للفرق بينها وبين الحرة
69 ما جاء في البيعة ( مالك عن عبد الله بن دينار ) العدوي مولاهم المدني ( أن ) مولاه ( عبد الله بن عمر قال كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع ) للأوامر والنواهي ( والطاعة ) لله تعالى ورسوله ولولاة الأمور ( يقول لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما استطعتم ) من كمال شفقته ورحمته وهذا رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك وتابعه إسماعيل بن جعفر عن ابن دينار به عند مسلم
( مالك عن محمد بن المنكدر ) بن عبد الله التيمي المدني الفاضل الثقة ( عن أميمة ) بضم الهمزة وفتح الميم وتحتية ساكنة وميم وهاء تأنيث ( بنت رقيقة ) بقافين مصغر بنت خويلد بن أسد أخت خديجة أم المؤمنين فهي خالة أميمة بنت بجاه بموحدة وجيم وهاء بنت نجاد بن عبد الله بن عمير ويقال بنت عبد الله بن نجاد القرشية التميمية ( قالت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ) جملة ( نسوة بايعنه على الإسلام فقلت يا رسول الله نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئا ) عام لأنه نكرة في سياق النهي كالنفي وقدم على ما بعده لأنه الأصل ( ولا نسرق ) حذف المفعول دلالة على العموم كان فيه قطع أم لا ( ولا تزني ) كان فيه الرجم أو الجلد ( ولا نقتل أولادنا ) خصهم بالذكر لأنهم كانوا غالبا يقتلونهم خشية إملاق ولأنه قتل وقطيعة رحم فصرف العناية إليه أكثر
( ولا نأتي ببهتان ) أي بكذب يبهت سامعه أي يدهشه
____________________
(4/511)
لفظاعته كالرمي بالزنى والفضيحة والعار ( نفتريه ) نختلقه ( بين أيدينا وأرجلنا ) أي من قبل أنفسنا فكنى بالأيدي والأرجل عن الذات لأن معظم الأفعال بهما أو أن البهتان ناشيء عما يختلقه القلب الذي هو بين الأيدي والأرجل ثم يبرزه بلسانه أو المعنى لا نبهت الناس بالمعايب كفاحا مواجهة ( ولا نعصيك في معروف ) كما أمر الله به والتقييد به تطييبا لقلوبهن إذ لا يأمر إلا به أو تنبيها على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق وقيل المعروف هنا أن لا ينحن على موتاهن ولا يخلون بالرجال في البيوت قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما أسنده أبو عمر
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما استطعتن وأطقتن ) لا في غيره لأن الله لم يحمل هذه الأمة ما لا طاقة لها به ( قالت ) أميمة ( فقلن ) أي النسوة ( الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا هلم نبايعك يا رسول الله ) مصافحة باليد كما يصافح الرجال عند البيعة وفي النسائي من طريق ابن عيينة عن ابن المنكدر عن أميمة فقلن ابسط يدك نصافحك ( فقال رسول صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم إني لا أصافح النساء ) لا أضع يدي في أيديهن قال الحافظ وجاءت أخبار أخرى أنهن كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوبه أخرجه يحيى بن سلام في تفسيره عن الشعبي انتهى
وأخرجه ابن عبد البر عن عطاء وعن قيس بن أبي حازم أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم إذا بايع لم يصافح النساء إلا وعلى يده ثوب وفي البخاري عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية لا يشركن وما مست يده يد امرأة إلا امرأة يملكها ( إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة أو ) قال ( مثل قولي لامرأة واحدة ) شك الراوي وهذا غاية في التحري للمسموع إذ المعنى واحد فلما شك لم يقنع بأحد اللفظين والحديث في الترمذي والنسائي من طريق مالك وغيره وصححه ابن حبان وفي مسلم من طريق ابن وهب حدثني مالك عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته عن بيعة النساء قالت ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط إلا أن يأخذ عليها فإذا أخذ عليها فأعطته قال إذهبي فقد بايعتك
( مالك عن عبد الله بن دينار أن عبد الله بن عمر كتب إلى عبد الملك بن مروان يبايعه ) وفي رواية سفيان الثوري عن ابن دينار عند البخاري شهدت ابن عمر حين اجتمع الناس على عبد الملك يعني بعد قتل ابن الزبير وانتظام الملك له ومبايعه الناس له ( فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم ) زاد الإسماعيلي من طريق الثوري وكان إذا كتب يكتبها ( أما بعد لعبد الله بن عبد الملك ) لعله قدم الوصف بعبد الله إشارة إلى أنه لا
____________________
(4/512)
يغتر بالملك ولا يتجبر فإنه من جملة عبيد الله وإن ولي الملك فهو من جملة النصيحة لأئمة المسلمين ثم عظمه بالوصف بقوله ( أمير المؤمنين سلام عليك فإني أحمد الله إليك ) أي أنهى إليك حمد الله ( الذي لا إله إلا هو وأقر ) بضم الهمزة وكسر القاف وشد الراء اعترف ( لك بالسمع ) في الأمر والنهي ( والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت ) أي قدر استطاعتي زاد في رواية الثوري وإن بني قد أقروا بمثل ذلك والسلام
70 ما يكره من الكلام ( مالك عن عبد الله بن دينار ) ولابن وهب مالك عن نافع قال ابن عبد البر هو صحيح لمالك عنهما ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قال لأخيه ) في الإسلام ( كافر ) بالتنوين ( فقد باء ) بموحدة ممدود رجع ( بها ) أي بكلمة الكفر ( أحدهما ) لأنه إن كان القائل صادقا في نفس الأمر فالمرمي كافر وإن كان كاذبا فقد جعل الرامي الإيمان كفرا فقد كفر كذا حمله البخاري على تحقيق الكفر على أحدهما وحمله غيره على الزجر والتغليظ فظاهره غير مراد
وقال الباجي أي إن المقول له كافر فهو كما قال وإلا خيف على القائل أن يصير كافرا
وقال ابن عبد البر أي احتمل الذنب في ذلك القول أحدهما
وقال أشهب سئل مالك عن هذا الحديث فقال أرى ذلك في الحرورية قيل أتراهم بذلك كفارا قال ما أدري ما هذا
والحديث رواه البخاري في الأدب عن إسماعيل عن مالك به
( مالك عن سهيل ) بضم السين ( ابن أبي صالح عن أبيه ) ذكوان الزيات ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعت الرجل ) جرى على الغالب والمراد الإنسان ولو أنثى ( يقول ) وليحيى النيسابوري إذا قال الرجل ( هلك الناس ) إعجابا بنفسه وتيها بعلمه أو عبادته واحتقارا للناس ( فهو أهلكهم ) بضم الكاف على الأشهر في الرواية أي أشدهم هلاكا لما يلحقه من الإثم في ذلك القول أو أقربهم إلى الهلاك لذمه للناس وذكر عيوبهم وتكبره وروى بفتحها فعل ماض أي أنه هو نسبهم إلى الهلاك لا أنهم هلكوا حقيقة أو لأنه أقنطهم على رحمة الله تعالى وآيسهم من غفرانه وأيد الرفع برواية
____________________
(4/513)
أبي نعيم فهو من أهلكهم
قال النووي اتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس واحتقارهم
وتفضيل نفسه عليهم وتقبيح أحوالهم لأنه لا يعلم سر الله في خلقه فأما من قاله تحزنا لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه كما قال أنس لا أعرف من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا أنهم يصلون جميعا هكذا فسره الإمام مالك وتابعه الناس عليه
وقال الخطابي معناه لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم أي أسوأ حالا منهم بما يلحقه من الإثم والوقيعة فيهم وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم
وقال ابن رسلان وقد يكون ذلك على جهة الوعظ والتذكير ليقتدي اللاحق بالسابق فيجتهد المقصر ويتدارك المفرط كما قال الحسن أدركت أقواما لو رأوكم لقالوا لا يؤمنون بيوم الحساب
وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه حماد بن سلمة وسليمان بن بلال عن سهيل عن مسلم أيضا
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقل ) بالجزم على النهي وفي رواية لا يقولن بنون التوكيد الثقيلة ( أحدكم يا خيبة الدهر ) بمعجمة وموحدة مفتوحتين بينهما تحتية ساكنة وهي الحرمان والخسران
( فإن الله هو الدهر ) أي المدبر للأمور الفاعل ما تنسبونه إلى الدهر من جلب الحوادث ودفعها كان شأن الجاهلية ذم الدهر عند الحوادث أو عدم حصول المطلوب فقال ذلك ردا لاعتقادهم
وفي رواية فإن الدهر هو الله أي فإن جالب الحوادث ومتوليها هو الله لا غيره
وقيل إنه على حذف مضاف أي صاحب الدهر أي الخالق له وقيل تقديره مقلب الدهر ولذا عقبه بقوله في رواية بيدي الله الليل والنهار فمعنى النهي عن سبه أن من اعتقد أنه فاعل للمكروه فسبه أخطأ فإن الله هو الفاعل فإذا سبه رجع إلى الله
كما رواه الشيخان من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر وفي رواية يؤذيني ابن آدم يسب الدهر قال القرطبي معناه يخاطبني من القول بما يتأذى به من يجوز في حقه التأذي والله منزه عن أن يصل إليه الأذى وإنما هذا من التوسع في الكلام والمعنى أن من وقع ذلك منه تعرض لسخط الله
وقال عياض زعم بعض من لا تحقيق عنده أن الدهر من أسماء الله وهو غلط فإن الدهر مدة زمان الدنيا وعرفه بعضهم بأنه أمد مفعولات لله في الدنيا أو فعله لما قبل الموت قال وقد تمسك الجهلة من الدهرية والمعطلة بظاهر هذا الحديث واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم وهو بنفسه حجة عليهم لأن الدهر عندهم حركات الفلك وأمد العالم ولا شيء عندهم ولا صانع سواه وكفى في الرد عليهم قوله في بقية الحديث أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فكيف يقلب الشيء نفسه تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا
____________________
(4/514)
قال المحققون من نسب شيئا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر ومن جرى على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر لكن يكره له ذلك لتشبهه بأهل الكفر في الإطلاق
وقال ابن أبي جمرة لا يخفى أن من سب الصنعة فقد سب صانعها فمن سب الليل والنهار أقدم على مر عظيم بغير معنى ومن سب ما يجري فيها من الحوادث وذلك هو أغلب ما يقع من الناس وهو الذي يعطيه سياق الحديث حيث نفى عنهما التأثير فكأنه قال لا ذنب لهما في ذلك
وأما الحوادث فمنها ما يجري بواسطة العاقل المكلف فهذا يضاف شرعا ولغة إلى الذي أجرى على يديه ويضاف إلى الله لكونه بتقديره فأفعال العباد من اكتسابهم ولذا يترتب عليها الأحكام وهي في الابتداء خلق الله ومنها ما يجري بلا واسطة فهو منسوب إلى قدرة القادر وليس لليل والنهار فعل ولا تأثير لا لغة ولا شرعا ولا عقلا وهو المعنى في هذا الحديث ويستحق به ما يجري من الحيوان غير العاقل ثم النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى على الأدنى فلا يسب شيئا مطلقا إلا ما أذن الشرع فيه لأن العلة واحدة واستنبط منه أيضا منع الحيلة في البيع مثل العينة لأنه نهى عن سب الدهر لما يؤول إليه من حيث المعنى وجعله سبا لخالقه انتهى
وتابع مالكا في هذا الحديث المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد به عند مسلم وهو في الصحيحين من طريق الزهري عن أبي سلمة وابن المسيب كلاهما عن أبي هريرة بنحوه
( مالك عن يحيى بن سعيد عن عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم نبينا وعليه لقي خنزيرا بالطريق فقال له انفذ ) بضم الفاء وذال معجمة امض واذهب ( بسلام ) سلامة مني فلا أوذيك ( فقيل له تقول هذا لخنزير فقال عيسى إني أخاف أن أعود لساني النطق بالسوء ) لو قلت له غير هذا وهذا من حسن الأدب ولا يدع فهو صادر ممن تولى الله تأديبه
71 ما يؤمر به من التحفظ في الكلام ( مالك عن محمد بن عمرو ) بفتح العين ( بن علقمة ) بن وقاص الليثي المدني صدوق من رجال الجميع مقبول روى له في السنن قال ابن عبد البر تابع مالكا على ذلك الليث بن سعد وابن لهيعة لم يقولوا عن جده رواه ابن عيينة وآخرون عن محمد بن عمرو عن أبيه عن جده عن بلال قال وهو الصواب وإليه مال الدارقطني وكذا رواه أبو سفيان عبد الرحمن بن عبد ربه السكري عن مالك فقال عن جده ( عن بلال بن الحارث ) المزني أبي عبد الرحمن المدني صحابي أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم العقيق
____________________
(4/515)
وكان يسكن وراء المدينة ثم تحول إلى البصرة مات سنة ستين وله ثمانون سنة
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة ) الواحدة واللام للجنس فالمراد الكلام المشتمل على ما يفهم الخير أو الشر طال أو قصر كما يقال كلمة الشهادة وكما يقال للقصيدة كلمة فلان حال كونها ( من رضوان الله ) أي كلام فيه رضاه تعالى كلمة يدفع بها مظلمة
( ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت ) لقلتها ( يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه ) يوم القيامة والغاية به عبارة عن كونه لا يسخط عليه أبدا ( وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ) مصدر بمعنى اسم الفاعل أي من الكلام المسخط أي المغضب لله الموجب عقابه وهو حال من الكلمة أو صفة لأن اللام جنسية فلك اعتبار المعنى واعتبار اللفظ والجملة الفعلية إما حال من ضمير الرجل المستكن في ليتكلم أو صفة لها بالاعتبار المذكورين ( ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت ) من المؤاخذة بها ( يكتب بها سخطه إلى يوم القيامة ) ثم إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه
قال ابن عيينة هي الكلمة عند السلطان فالأولى ليرده بها عن ظلم والثانية ليجره بها إلى ظلم قال أبو عمر لا أعلم خلافا في تفسيره بذلك وإن كان لا يتعين قصره عليه فقد روى الحاكم كان رجل يدخل على الأمراء فيضحكهم فقال له علقمة ويحك لم تدخل على هؤلاء فتضحكهم سمعت بلال بن الحارث فذكره قال مالك قال بلال بن الحارث لقد منعني هذا الحديث من كلام كثير
( مالك عن عبد الله بن دينار ) مولى ابن عمر ( عن أبي صالح ) ذكوان ( السمان ) بائع السمن ( أنه أخبره أن أبا هريرة قال ) موقوفا وقد رواه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا أخرجه البخاري في الرقاق وأحمد والبزار ورواه ابن عبد البر من طريق الحسين المروزي عن عبد الله بن المبارك عن مالك عن ابن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن الرجل ) وفي رواية البخاري إن العبد فالمراد الإنسان حرا أو قنا ( ليتكلم بالكلمة ) عند ذي سلطان جائر مريدا بها هلاك مسلم أو المراد يتكلم بكلمة غير حسناء ويعرض بمسلم بكبيرة أو بمجون أو استخفاف بشريعة وإن كان غير معتقدا وغير ذلك ( ما يلقي ) بضم الياء وكسر القاف في جميع الروايات ( لها بالا ) أي لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر في عاقبتها ولا يظن أنها تؤثر شيئا وهو من نحو قوله تعالى { وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم } سورة النور الآية 15 يهوي بفتح الياء وسكون الهاء وكسر الواو ( في نار جهنم ) قال عياض أي ينزل فيها ساقطا وجاء بلفظ ينزل بها في النار لأن دركات النار إلى
____________________
(4/516)
أسفل فهو نزول سقوط وقيل أهوى من قريب وهوى من بعيد
( وإن الرجل ليتكلم بالكلمة ) بالكلام المفيد رضوان الله ما يرضى الله تعالى ( ما يلقي لها بالا يرفعه الله بها في الجنة ) زاد في رواية البخاري درجات
قال ابن عبد البر الكلمة الأولى هي التي يقولها عند سلطان جائر زاد ابن بطال بالبغي أو بالسعي على المسلم فتكون سببا لهلاكه وإن لم يرد القائل ذلك لكنها ربما أدت إليه فيكتب على القائل إثمها والكلمة التي يرفع بها الدرجات ويكتب بها الرضوان هي التي يدفع بها عن مسلم مظلمة أو يفرج بها عنه كربة أو ينصر بها مظلوما
وقال غيره الأولى هي الكلمة عند ذي سلطان يرضيه بها فيما يسخط الله قال ابن التين هذا هو الغالب وربما كانت عند غير السلطان ممن يتأتى منه ذلك
ونقل عن ابن وهب أن المراد بها التلفظ بالسوء والفحش ما لم يرد بذلك الحجة لأمر الله في الدين
وقال عياض يحتمل أن تكون الكلمة من الخنا والرفث وأن يكون في التعريض بالمسلم بكبيرة أو مجون أو استخفاف بحق النبوة والشريعة وإن لم يعتق ذلك
وقال العز بن عبد السلام هي الكلمة التي لا يعرف قائلها حسنها من قبحها قال فيحرم على الإنسان أن يتكلم بما لا يعرف حسنه من قبحه وقال النووي فيه حفظ اللسان فينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق فإن ظهرت فيه مصلحة تكلم وإلا أمسك
وقال الغزالي عليك بالتأمل والتدبر في كل قول وفعل فقد يكون في جزع وتسخط فتظنه تضرعا وابتهالا ويكون في رياء محض وتحسبه حمدا وشكرا أو دعوة للناس إلى الخير فتعد المعاصي طاعات وتحسب الثواب العظيم في موضع العقوبات فتكون في غرور شنيع وغفلة قبيحة مغضبة للجبار موقعة في النار وبئس القرار
72 ما يكره من الكلام بغير ذكر الله ( مالك عن زيد بن أسلم ) الفقيه العمري ( عن عبد الله بن عمر ) وأسقطه يحيى قال أبو عمر ما أظنه أرسله غيره وقد وصله القعنبي وابن وهب وابن القاسم وابن بكير وابن نافع والتنيسي وغيرهم وهو الصواب ( أنه قال قدم رجلان من ) جهة ( المشرق ) وكان سكنى بني تميم في جهة العراق وهي في شرق المدينة قال ابن عبد البر هما الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم باتفاق العلماء كذا في التمهيد ونقله السيوطي عنه بلفظ يقال إنهما الزبرقان وعمرو وفي فتح الباري لم أقف على تسمية الرجلين صريحا وزعم جماعة أنهما الزبرقان بكسر الزاي والراء بينهما موحدة ساكنة وعمرو بن الأهتم لما رواه البيهقي وغيره عن ابن عباس قال جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم
____________________
(4/517)
ففخر الزبرقان فقال يا رسول الله أنا سيد بني تميم والمطاع فيهم والمجاب لديهم أمنعهم من الظلم وآخذ لهم حقوقهم وهذا أي عمرو يعلم ذلك فقال عمرو إنه لشديد العارضة مانع لجانبه مطاع في أدنيه فقال الزبرقان والله لقد علم مني أكثر مما قال وما منعه إلا الحسد فقال عمرو أنا أحسدك والله إنك لئيم الخال حديث المال أحمق الوالد مضيع في العشيرة والله يا رسول الله لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الأخرى لكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت ولقد صدقت في الأولى والأخرى جميعا فقال صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحرا وأخرجه الطبراني عن أبي بكرة قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقدم عليه وفد تميم فذكر نحوه وهذا لا يلزم منه أن يكونا هما المراد بحديث ابن عمر فإن المتكلم إنما هوعمرو وحده وكان كلامه في مراجعة الزبرقان فلا يصح نسبة الخطبة إليهما إلا على طريق التجوز
( فخطبا فعجب الناس ) منهما لبيانهما ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحرا ) يعني أن منه لنوعا يحل من العقول والقلوب في التمويه محل السحر فإن الساحر بسحره يزين الباطل في عين المسحور حتى يراه حقا فكذا المتكلم بمهارته في البيان وتقلبه في البلاغة وترصيف النظم يسلب عقل السامع ويشغله عن التفكر فيه والتدبر حتى يخيل إليه الباطل حقا والحق باطلا فتستمال به القلوب كما تستمال بالسحر فشبه به تشبها بليغا بحذف الأداة
قال التوربشتي أصله إن بعض البيان كالسحر لكنه جعل الخبر مبتدأ مبالغة في جعل الأصل فرعا والفرع أصلا
( أو قال إن بعض البيان لسحر ) شك الراوي في اللفظ المروي وإن اتحد المعنى فإن من للتبعيض قال الباجي وابن عبد البر قال قوم هذا خرج مخرج الذم لأنه أطلق عليه سحر أو هو مذموم وإلى هذا ذهبت طائفة من أصحاب مالك محتجين بأنه أدخله فيما يكره من الكلام وقال قوم خرج مخرج المدح لأن الله امتن به على عبادة خلق الإنسان علمه البيان وكان صلى الله عليه وسلم أبلغ الناس وأفضلهم بيانا قال هؤلاء وإنما جعله سحرا لتعلقه بالنفس وميلها إليه
وقال ابن العربي وغيره حمله على الأول صحيح لكن لا يمنع حمله على المعنى الثاني إذا كان في تزيين الحق
وقال ابن بطال أكثر ما يقال ليس ذما للبيان كله ولا مدحا لأنه أتى بمد التي للتبعيض قال وكيف نذمه وقد امتن الله به فقال { خلق الإنسان علمه البيان } سورة الرحمن الآية 4 قال الحافظ والذي يظهر أن المراد به في الآية ما يقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان لا خصوص ما نحن فيه وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز والإتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة وعلى مدح الإطناب في مقام الخطاب بحسب المقام وهذا كله من البيان بالمعنى الثاني نعم الإفراط في كل شيء مذموم وخير الأمور أوساطها
قال الخطابي وابن التين البيان نوعان أحدهما ما يقع
____________________
(4/518)
به الإبانة عن المراد بأي وجه كان والآخر ما دخلته صنعة تحسين اللفظ بحيث يروق للسامعين ويستميل قلوبهم وهذا الذي يشبه بالسحر لأنه صرف الشيء عن حقيقته روى أن رجلا طلب إلى عمر بن عبد العزيز حاجة كان يتعذر عليه إسعافه بها فاستمال قلبه بالكلام فأنجزها له ثم قال هذا هو السحر الحلال
قال ابن عبد البر وقد سار هذا الحديث سير المثل في الناس إذا سمعوا كلاما يعجبهم قالوا إن من البيان لسحرا وربما قالوا السحر الحلال ومنهم أخذ القائل وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجر قتل المسلم المتحرز إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجز شرك العقول ونزهة ما مثلها السامعين وغفلة المستوفز رواه البخاري في الطب عن عبد الله بن يوسف عن مالك به موصولا وتابعه سفيان بن عيينة عن زيد عن ابن عمر عنده في النكاح ورواه أبو داود في الأدب والترمذي في البر
( مالك أنه بلغه أن عيسى ابن مريم عليه السلام كان يقول لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو ) بالنصب ( قلوبكم ) فلا ينفعها عظة ولا يثبت فيها حكمة ( فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون ) ذلك وهذا قد جاء مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي رواه الترمذي عن ابن عمر
( ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب ) جمع رب ( و ) لكن ( انظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد ) يخافون اطلاع ساداتهم على ذنوبهم فيحذرون منها ( فإنما الناس مبتلى ) بالذنوب ( ومعافى ) منها ( فارحموا أهل البلاء ) بنحو الدعاء برفعه عنهم وعدم النظر إلى ذنوبهم وهتكهم بها عظوهم بلين ورفق ( واحمدوا الله على العافية ) ليديم ذلك عليكم
( مالك أنه بلغه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت مرسل إلى أهلها بعد العتمة ) بفتح المهملة والفوقية العشاء ( فتقول ألا تريحون الكتاب ) الملائكة الكرام من كتب الكلام الذي لا ثواب فيه قال أبو عبد الملك أرادت بذلك والله أعلم أصحاب الشمال لأنها كارهة لأعمال ابن آدم السيئة فإذا تركها
____________________
(4/519)
فقد أراحها من كراهتها وأما الملائكة الذين عن اليمين فهم يسرون بعمل ابن آدم الصالح فلا تعود الإراحة عليهم
73 ما جاء في الغيبة ( مالك عن الوليد بن عبد الله بن صياد ) المدني أخي عمارة لم يذكره البخاري في تاريخه ولا ابن أبي حاتم ولا ترجم له ابن عبد البر لكن ذكره ابن حبان في الثقات وكفى برواية مالك عنه توثيقا ( أن المطلب بن عبد الله ) بن المطلب ( بن حنطب ) بفتح المهملتين بينهما نون ساكنة آخره موحدة ابن الحارث ( المخزومي ) صدوق هكذا قال ابن وهب وابن القاسم وابن بكير والقعنبي وغيرهم حنطب ووقع ليحيى حويطب والصواب الأول كما قال أبو عمر ( أخبره ) مرسلا وقد وصله العلاء بن عبد الرحمن ابن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة أخرجه مسلم والترمذي قال الحافظ والمطلب كثير الإرسال ولم يصح سماعه من أبي هريرة فلعله أخذه عن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبي هريرة ( أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الغيبة ) أي ما حقيقتها التي نهينا عنها بقوله { ولا يغتب بعضكم بعضا } سورة الحجرات الآية 12 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تذكر بلفظ أو كتابة أو رمز أو إشارة أو محاكاة ( من المرء ) في غيبته ( ما يكره أن يسمع ) لو بلغه في دينه أو دنياه أو خلقه أو أهله أو خادمه أو ماله أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به ( قال يا رسول الله وإن كان حقا ) بأن كان فيه ما ذكرته به ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قلت باطلا فذلك البهتان ) أي الكذب وهو أولى ما فسر به قوله في رواية مسلم أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته قال القرطبي وغيره بفتح الهاء حقيقة وشد التاء لإدغام تاء الخطاب في تاء لام الكلمة يقال بهت فلانا كذب عليه فبهت أي تحير وبهت الذي كفر قطعت حجته فتحير والبهتان الباطل الذي يتحير فيه
قال عياض والأولى في تفسيره أنه من البهتان لقوله في الحديث الآخر فذلك البهتان إلا أن يكون ذلك على طريق الوعظ والنصح فيجوز ويندب فيما كانت منه زلة التعريض دون التصريح لأنه يهتك حجاب الهيبة ثم ظاهر قوله من المرء ولو كافرا وظاهر قوله أخاك تخصيص الغيبة بالمسلم إذ المراد الأخ في الدين وصرح عياض بأنه لا غيبة في كافر ويوافق
____________________
(4/520)
الأول قوله صلى الله عليه وسلم نصرانيين لولا الغيبة أخبرتكم أيهما طب
قال الأبي ويمكن الجمع بأن أخاك خرج مخرج الغالب أو يخرج به الكافر لأنه لا غيبة فيه بكفره بل بغيره واستثنى مسائل تجوز فيها الغيبة معلومة
قال ابن عبد البر ليس هذا الحديث عند القعنبي في الموطأ وهو عنده في الزيادات وهو آخر حديث في كتاب الجامع في موطأ ابن بكير وهو يدخل في التفسير المسند
74 ما جاء فيما يخاف من اللسان ( مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ) مرسلا بلا خلاف أعلمه عن مالك قاله أبو عمر ورواه البخاري والترمذي موصولا عن سهل بن سعد والعسكري وابن عبد البر وغيرهما عن جابر والترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة والبيهقي وابن عبد البر والديلمي عن أنس وجاء أيضا عن أبي موسى كلهم بمعناه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من وقاه الله شر اثنين ولج ) أي دخل ( الجنة ) مع السابقين أو بغير عذاب ( فقال رجل يا رسول الله لا تخبرنا ) كذا ليحيى وابن القاسم وغيرهما بلفظ النهي قال الباجي عن ابن حبيب خشي إذا أخبرهم أن يثقل عليهم الاحتراس منها وقال القعنبي ألا تخيرنا بلفظ العرض ( فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مثل مقالته الأولى ) من وقاه الله إلى آخره
( فقال له الرجل ) المذكور ( لا تخبرنا ) بالجزم نهيا والقعنبي ألا تخبرنا ( يا رسول الله فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أيضا فقال الرجل لا تخبرنا ) نهيا أو عرضا ( يا رسول الله ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أيضا ثم ذهب الرجل يقول مثل مقالته الأولى ) قال ابن عبد البر هكذا قال يحيى لا تخبرنا على لفظ النهي ثلاث مرات وأعاد الكلام أربع مرات وتابعه ابن القاسم وغيره على لفظ لا تخبرنا على النهي إلا أن إعادة الكلام عنده ثلاث مرات
وقال القعنبي ألا تخبرنا على لفظ العرض والقصة معادة عنده ثلاث مرات أيضا وكلهم قال ما بين لحييه وما بين رجليه ثلاث مرات ( فأسكته رجل إلى جنبه ) تفويضا له صلى الله عليه وسلم فيما يريد من الإخبار وتركه
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقاه الله شر اثنين ولج ) أي دخل ( الجنة ما بين لحييه ) بفتح اللام
____________________
(4/521)
وسكون المهملة مثنى هما العظمان في جانب الفم وما بينهما هو اللسان ( وما بين رجليه ) فرجه لم يصرح به استهجانا له واستحياء لأنه كان أشد حياء من البكر في خدرها ( ما بين لحييه وما بين رجليه ما بين لحييه وما بين رجليه ) ذكره ثلاث مرات باتفاق الرواة للتأكيد قال الداودي المراد بما بين لحييه الفم بتمامه فتناول الأقوال كلها والأكل والشرب وسائر ما يتأتى بالفم أي من النطق والفعل كتقبيل وعض وشتم قال ومن يحفظ من ذلك أمن من الشر كله لأنه لم يبق إلا السمع والبصر
قال الحافظ وخفى عليه أنه بقي البطش باليدين وإنما محمل الحديث على أن النطق باللسان أصل في حصول كل مطلوب فإن لم ينطق به إلا في خير سلم
وقال ابن بطال دل الحديث على أن أعظم البلايا على المرء في الدنيا لسانه وفرجه فمن وقي شرهما وقي أعظم الشر انتهى
فخصهما بالذكر لذلك والحديث معدود من جوامع الكلم
( مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب دخل على أبي بكر الصديق وهو يجبذ ) بكسر الموحدة وذال معجمة ( لسانه ) بيده ( فقال له عمر مه ) اكفف ( غفر الله لك ) دعاء له ( فقال أبو بكر إن هذا ) اللسان ( أوردني الموارد ) التي يخشى عاقبتها
75 ما جاء في مناجاة اثنين دون واحد المناجاة المسارة تناجى القوم وانتجوا أي سار بعضهم بعضا
( مالك عن عبد الله بن دينار ) مولى ابن عمر ( قال كنت أنا وعبد الله بن عمر عند دار خالد بن عقبة ) بالقاف ابن أبي معيط القرشي الأموي صحابي من مسلمة الفتح زعم ابن الحذاء أنه لم يشهد جنازة الحسن بن علي من بني أمية غيره ورد بما جاء أن سعيد بن العاصي الأموي صلى عليه قدمه الحسين لكونه أمير المدينة يومئذ ( التي بالسوق ) أي سوق المدينة النبوية ( فجاء رجل يريد أن يناجيه ) يسارره ( وليس مع عبد الله أحد غيري وغير الرجل الذي يريد أن يناجيه فدعا عبد الله بن عمر رجلا
____________________
(4/522)
آخر حتى كنا ) أي صرنا ( أربعة فقال لي وللرجل الذي دعاه استأخرا شيئا ) قليلا بحيث لا يسمعان التناجي ( فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يتناجى ) بألف لفظا مقصورة ثابتة في الكتابة تحتية ساقطة في الدرج لالتقاء الساكنين بلفظ الخبر ومعناه النهي ( اثنان دون واحد ) لأنه يوقع الرعب في قلبه وفيه مخالفة لما توجبه الصحبة من الألفة والأنس وعدم التنافر ولذا قيل إذا سررت في مجلس فإنك في أهله متهم وتخصيص النهي بصدر الإسلام حين كان المنافقون يتناجون دون المؤمنين رد بأن النهي لا يثبت بالاحتمال وبأنه لو كان كذلك لم يكن للتقييد بالعدد معنى وخصه عياض بالسفر لأنه مظنة الخوف ورده القرطبي بأنه تحكم وتخصيص لا دليل عليه وقد قال ابن العربي الخبر عام اللفظ والمعنى والعلة الحزن وهو موجود في الحضر والسفر فوجب أن يعمهما والنهي للتحريم عند الجمهور لكن محله عند المالكية إذا خشيا أن صاحبهما يظن أن تناجيهما في غدره وإلا كره حضرا وسفرا في القسمين وفي معنى التناجي ما لو تحدثا بلسان لا يفهم
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ) رضي الله عنهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا كان ) أي وجد ( ثلاثة ) بالرفع فاعل كان التامة وفي رواية إذا كانوا ثلاثة روى بنصبه خبر كان واسمها المتصاحبون وبرفعه على لغة أكلوني البراغيث وتمام كان ( فلا يتناجى اثنان دون واحد ) أي لا يتسارا ويتركاه زاد في رواية لمسلم إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه أي لأنه قد يتوهم أن نجواهما هي لسوء رأيهما فيه واحتقاره عن أن يدخلاه في نحواهم أو إنما يتفقان على غائلة تحصل له منهما
قال الحافظ وأرشد هذا التعليل إلى أن المناجى إذا كان ممن إذا خص أحدا بمناجاته أحزن الباقين امتناع ذلك إلا إذا كان في أمر مهم لا يقدح في الدين
وقد نقل ابن بطال عن أشهب قال لا يتناجى ثلاثة دون واحد ولا عشرة لأنه قد نهى أن يترك واحد قال وهذا مستنبط من الحديث لأن المعنى في ترك الجماعة للواحد كترك الاثنين للواحد قال وهذا من حسن الأدب لئلا يتباغضوا ويتقاطعوا وقال المازري ومن تبعه فلا فرق في المعنى بين الواحد والجماعة لوجود المعنى في حق الواحد
وقال النووي أما إذا كانوا أربعة فتناجى اثنين دون اثنين فلا بأس بالإجماع انتهى واختلف إذا انفرد جماعة بالتناجي دون جماعة قال ابن التين وحديث عائشة في قصة فاطمة دال على الجواز وحديث ابن مسعود فأتيته وهو في ملإ فساررته فيه دلالة على أن المنع يرتفع إذا بقي جماعة لا يتأذون بالسرار ويستثنى من أصل الحكم كما مر ما إذا أذن من
____________________
(4/523)
يبقى سواء كان واحدا أم أكثر للاثنين في التناجي دونه أو دونهم فإن المنع يرتفع لأنه حق من يبقى وأما إذا تناجيا ابتداء وثم ثالث بحيث لا يسمع كلامهما لو تكلما جهرا فأتى ليستمع عليهما فلا يجوز كما لو لم يكن حاضرا معهما أصلا قال ابن عبد البر لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما
قال غيره ولا ينبغي للداخل القعود عندهما ولو تباعد عنهما إلا بإذنهما لأنهما لما افتتحا حديثهما سرا وليس عندهما أحد دل على أن مرادهما أن لا يطلع أحد على كلامهما ويتأكد ذلك إذا كان أحدهما جهور بألا يتأتى له إخفاء كلامه ممن حضره وقد يكون لبعض الناس قوة فهم بحيث إذا سمع بعض الكلام استدل على باقيه فالمحافظة على ترك ما يؤذي المؤمن مطلوبة وإن تفاوتت المراتب والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به وتابعه عبيد الله والليث بن سعد وأيوب بن موسى كلهم عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث مالك كما في مسلم
76 ما جاء في الصدق والكذب ( مالك عن صفوان بن سليم ) بضم السين المدني ثقة عابد تابعي صغير فهو مرسل قال أبو عمر لا أحفظه مسندا بوجه من الوجوه وقد رواه ابن عيينة عن صفوان عن عطاء بن يسار مرسلا ( أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكذب ) بحذف همزة الاستفهام استغناء بهمزة الوصل ( امرأتي يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خير في الكذب ) بل هو شر كله ( فقال الرجل يا رسول الله أعدها ) بتقدير همزة الاستفهام ( وأقول لها ) أفعل لك كذا وكذا ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا جناح ) لا حرج ( عليك ) قال الباجي للفرق بين الكذب والوعد لأن ذلك ماض وهذا مستقبل قد يمكنه تصديق خبره فيه
( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول ) وصله البخاري ومسلم من طريق الأعمش عن شقيق عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ( عليكم بالصدق ) أي الزموه وداوموا عليه أي القول الحق وهو ضد الكذب وقد يستعمل في أفعال الجوارح نحو صدق فلان في القتال إذا أوفاه حقه ( فإن الصدق يهدي ) بفتح أوله أي يوصل صاحبه ( إلى البر ) أي إلى العمل الصالح الخالص والبر اسم جامع للخير وقيل اكتساب الحسنات
( والبر يهدي ) بفتح أوله يوصل صاحبه ( إلى الجنة ) يعني أن الصدق الذي هو بر
____________________
(4/524)
يدعو إلى ما يكون برا مثله وذلك يدعو إلى دخول الجنة فهو سبب لدخولها ومصداقه { إن الأبرار لفي نعيم } سورة الانفطار الآية 13 قال ابن العربي بين صلى الله عليه وسلم أن الصدق هو الأصل الذي يهدي إلى البر كله لأن الإنسان إذا تحراه لم يعص أبدا لأنه إذا أراد أن يسرق أو يزني أو يؤذي أحدا خاف أن يقال له زنيت أو سرقت فإن سكت جر الريبة إليه وإن قال لا كذب وإن قال نعم فسق وسقطت منزلته وذهبت حرمته
زاد في رواية الصحيحين وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صادقا
( وإياكم والكذب ) أي احذروا الإخبار بخلاف الواقع ( فإن الكذب يهدي إلى الفجور ) أي يوصل إلى الميل عن الاستقامة
والانبعاث في المعاصي وهو اسم جامع لكل شر
( والفجور يهدي إلى النار ) أي يوصل إلى ما يكون سببا لدخولها وذلك داع لدخولها زاد في رواية الصحيحين ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ( ألا ترى أنه يقال صدق وبر وكذب وفجر ) استظهار لأن الصدق يهدي إلى البر والكذب يهدي إلى الفجور ولم يقع هذا في المرفوع عند الشيخين فهو موقوف على ابن مسعود لأن الإمام ذكره موقوفا وفيه الحث على تحري الصدق والاعتناء به وهو أشد الأشياء نفعا ولذا علت رتبته على رتبة الإيمان لأنه إيمان وزيادة { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } سورة التوبة الآية 119 وفيه تحذير من الكذب والتساهل فيه وهو أشد الأشياء ضررا فإنه إذا تساهل فيه أكثر منه وعرف به فلا يعتمد نطقه ولا ينتفع به فينسلخ من الإنسانية لخصوصية الإنسان بالنطق إلى البهيمية فيصير هو والبهيمة سواء بل هو شر منها لأنها وإن لم ينفع نطقها لا يضر والكاذب يضر ولا ينفع
( مالك أنه بلغه أنه قيل للقمان ) قيل إنه حبشي وقيل نوبي والأكثر أنه كان صالحا أوتي الحكم ولم يكن نبيا
ولابن أبي حاتم عن قتادة إن لقمان خير بين الحكمة والنبوة فاختار الحكمة فسئل عن ذلك فقال خفت أن أضعف عن حمل أعباء النبوة
قال السهيلي واسم والده عنقاء بن شروان وقال غيره هو لقمان بن باعورا بن ناصر بن آزر فهو ابن أخي إبراهيم
وذكر وهب في المبتدأ أنه ابن أخت أيوب وقيل ابن خالته والصحيح أنه كان في عصر داود وقيل كان يفتي قبل بعثه وقيل عاصر إبراهيم وقيل كان بين عيسى والمصطفى وغلط من قال عاش ألف سنة التبس عليه بلقمان بن عاد
( ما بلغ بك ما ترى ) يريدون الفضل الذي يشاهدونه منه ( فقال لقمان صدق الحديث ) إذ هو أصل المحمودات وركن النبوات ونتيجة التقوى ولولاه لبطلت أحكام الشرائع ( وأداء الأمانة ) إلى أهلها ( وترك ما لا يعنيني ) بفتح أوله
____________________
(4/525)
( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول ) موقوفا وحكمة الرفع لأنه لا مدخل فيه للرأي ( لا يزال العبد يكذب وتنكت ) بفتح أوله أو تحتية ضبط بهما ( في قلبه نكتة ) أي أثر صغير ( سوداء حتى يسود قلبه كله ) لتعدد النكتة بتعدد الكذب ( فيكتب عند الله من الكاذبين ) أي يحكم له بذلك ويستحق الوصف به والعقاب عليه فالمراد إظهاره لخلقه بالكتابة ليشتهر في الملأ الأعلى ويلقي في قلوب أهل الأرض ويوضع على ألسنتهم كما يوضع القبول والبغضاء في الأرض كما أفاده الحافظ وغيره وكفاه ذلك إهانة
وقد روى الديلمي عن أبي هريرة مرفوعا لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه عليه
( مالك عن صفوان بن سليم أنه قال ) مرسل أو معضل قال أبو عمر لا أحفظه مسندا من وجه ثابت وهو حديث حسن مرسل ( قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيكون المؤمن جبانا ) أي ضعيف القلب ( فقال نعم ) لأن ذلك لا ينافي الإيمان ( فقيل أيكون المؤمن بخيلا ) بخلا لغويا وهو منع السائل ما يغفل عنه ( فقال نعم ) لعدم منافاته الإيمان وليس المراد البخل الشرعي وهو منع الواجب لمنافاته الإيمان الكامل ( فقيل له أيكون المؤمن كذابا ) بالتشديد صيغة مبالغة أي كثير الكذب ( فقال لا ) يكون المؤمن كذابا أي المؤمن الكامل إيمانه
وروي عن أبي بكر مرفوعا إياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان أخرجه ابن عدي وصوب الدارقطني وقفه كما رواه أحمد وابن أبي شيبة وغيرهما عن الصديق موقوفا ورواه ابن عبد البر عن عبد الله بن أبي شيبة وغيرهما عن الصديق موقوفا وروى ابن عبد البر عن عبد الله بن جراد أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يزني المؤمن قال قد يكون ذلك قال هل يكذب قال لا وللبزار وأبي يعلى عن سعيد بن أبي وقاص رفعه يطبع المؤمن على كل خلقه غير الخيانة والكذب وضعف البيهقي رفعه وقال الدارقطني الموقوف أشبه بالصواب قال غيره ومع ذلك فحكمه الرفع على الصحيح لأنه مما لا مجال للرأي فيه انتهى
77 ما جاء في إضاعة المال وذي الوجهين ( مالك عن سهيل ) بضم السين ( ابن أبي صالح ) ذكوان ( عن أبيه ) قال ابن عبد البر كذا أرسله
____________________
(4/526)
يحيى وابن وهب والقعنبي وابن القاسم ومعن ومحمد بن المبارك الصوري فلم يقولوا عن أبي هريرة وأسنده يحيى بن بكير وأبو مصعب وعبد الله بن يوسف ومصعب الزبيري وسعيد بن عفير وأكثر الرواة عن مالك عن سهيل عن أبيه ( عن أبي هريرة ) وهو محفوظ لمالك وغيره مسندا هكذا ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله يرضى لكم ثلاثا ) من الخصال ( ويسخط لكم ثلاثا ) يعني يأمركم بثلاث وينهاكم عن ثلاث إذ الرضا عن الشيء يستلزم الأمر به والأمر به يستلزم الرضا فهو كناية وكذا الكلام في السخط وأتى باللام في الموضعين ولم يقل يرضى عنكم بثلاث ويسخط منكم رمزا إلى أن فائدة كل من الأمرين عائدة إلى عباده ( يرضى ) فصله جوابا لسؤال مقدر اقتضاه الكلام كأنه قيل ما الثلاث وفي رواية لمسلم فيرضى بفاء التفسير ( لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ) لأن من أشرك بعبادته أحدا لم يعبده فهذه واحدة وقول النووي ثنتان متعقب
( و ) الثانية ( أن تعتصموا ) تتمسكوا ( بحبل الله جميعا ) زاد في رواية ولا تفرقوا أي لا تختلفوا في ذلك الاعتصام كما اختلف أهل الكتاب فهو نفي عطف على تعتصموا أو هو نهي على أن الخبر قبله بمعنى الأمر أي اعتصموا ولا تفرقوا
واختلف في المراد بحبل الله فقال ابن مسعود وقتادة وغيرهما هو القرآن ورجح لقوله صلى الله عليه وسلم إن هذا القرآن هو حبل الله وفي لفظ القرآن حبل الله المتين حتى زعم بعضهم أن تفسيره بخلافه غفلة إذ لا عطر بعد عروس
وعن قتادة أيضا وغيره هو عهد الله وأمره
وعن ابن مسعود أنه الجماعة قال ابن عبد البر وهو الظاهر في الحديث والأشبه بسياقه
وأما القرآن فمأمور بالاعتصام به في غير ما آية وغير ما حديث غير أن المراد هنا الجماعة على إمام يسمع له ويطاع فيكون ولي من لا ولي له في نكاح وتقديم قضائه للعقد على أيتام وسائر الأحكام ويقيم الجمعة والعيد ويأمن به السبل وينتصف به المظلوم ويجاهد عن الأمة عدوها ويقسم بينهما فيهما لأن الاختلاف والفرقة هلكة والجماعة نجاة قال وهو عندي معنى متداخل متقارب لأن القرآن يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة
( و ) الثالثة ( أن تناصحوا من لاه الله أمركم ) وهو الإمام ونوابه بمعاونتهم على الحق وطاعته فيه وأمرهم به وتذكيرهم برفق ولطف وإعلامهم بما غفلوا عنه من حقوق المسلمين وترك الخروج عليهم والدعاء عليهم وبتألف قلوب الناس لطاعتهم والصلاة خلفهم والجهاد معهم وأداء الصدقات لهم وأن لا يطروا بالثناء الكاذب وأن يدعى لهم بالصلاح وقيل هم العلماء فنصيحتهم قبول ما رووه وتقليدهم في الأحكام وإحسان الظن بهم
( ويسخط ) وفي رواية ويكره ( لكم قيل وقال ) قال مالك هو الإكثار من الكلام نحو قول الناس قال فلان وفعل فلان والخوض فيما لا ينبغي فهما مصدران أريد بهما المقاولة والخوض في أخبار الناس وقيل فعلان ماضيان
( وإضاعة المال ) بصرفه في
____________________
(4/527)
غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف لأن ذلك إفساد والله لا يحب الفساد لأنه إذا ضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس
وحكى أبو عمر في معناه ثلاثة أقوال أحدها أنه الحيوان يحسن إليه ولا يضيعه مالكه فيهلك وحجته أن عامة الوصية والنبوية الصلاة وما ملكت أيمانكم
والثاني ترك إصلاحه والنظر فيه وكسبه
والثالث إنفاقه في غير حقه من الباطل والسرف انتهى باختصار
( وكثرة السؤال ) قال أبو عمر معناه عند أكثر العلماء التكثير من المسائل النوازل والأغلوطات وتشقيق المولودات وقيل سؤال المال والإلحاح فيه على المخلوقين لعطفه على إضاعة المال وقال مالك لا أدري أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل أم هو مسألة الناس أموالهم إلا أن الظاهر في الحديث كراهة السؤال عن المسائل إذا كان ذلك الإكثار لا على الحاجة عند نزول النازلة بين كثيرة وقليلة وكان أصل هذا أنهم كانوا يسألون عن أشياء ويلحون فيها فينزل تحريمها قال تعالى { لا تسألوا عن أشياء } سورة المائدة الآية 101 الآية والسؤال اليوم لا يخاف منه نزول تحريم ولا تحليل فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه باحثا عن معنى يجب الوقوف عليه فلا بأس فشفاء العي السؤال ما لم يبلغ الجدال المنهي عنه ومن سأل متعنتا لم يحل له قليل السؤال ولا كثيره انتهى ملخصا
وقيل المراد كثرة سؤال الإنسان عن حاله وتفاصيل أمره فيدخل في سؤاله عما لا يعنيه ويتضمن حصول الحرج في حق المسؤول فإنه قد لا يحب إخباره بأحواله فإن أخبر شق عليه وإن كذب في الإخبار أو تكلف التعريض لحقته المشقة وإن أهمل جوابه ارتكب سؤال الأدب والحديث رواه مسلم من طريق جرير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة موصولا به وهو يقوي رواية الأكثر عن مالك موصولا ولعله حدث بالوجهين الوصل والإرسال
( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من شر الناس ) كلهم وحمله على ذلك أبلغ في الذم من حمله على من ذكر من الطائفتين المتضادتين خاصة وفي رواية للإسماعيلي من شر خلق الله
وللبخاري عن أبي صالح عن أبي هريرة يوم القيامة عند الله تعالى
( ذو الوجهين ) مجاز عن الجهتين مثل المدحة والمذمة لا حقيقة وفسره بقوله ( الذي يأتي هؤلاء ) القوم ( بوجه وهؤلاء ) القوم ( بوجه ) فيظهر عند كل أنه منهم ومخالف للآخر مبغض لهم
وعند الإسماعيلي الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء وهؤلاء بحديث هؤلاء قال القرطبي إنما كان من شر الناس لأن حاله حال المنافقين إذ هو يتملق بالباطل وبالكذب مدخل للفساد بين الناس
وقال النووي لأنه يأتي كل طائفة بما يرضيها فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها وصنيعة نفاق محض وكذب وخداع وتحيل على الاطلاع على أسرار الطائفتين وهي مداهنة محرمة
قال القاضي عياض وغيرها فأما من قصد بذلك الإصلاح المرغب فيه فيأتي لكل بكلام فيه
____________________
(4/528)
صلاح واعتذار لكل واحد عن الآخر وينقل له الجميل فمحمود مرغب فيه
قال القرطبي ذو الوجهين في الإصلاح محمود وإن كان كاذبا لقوله صلى الله عليه وسلم ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس يقول خيرا وينمى خيرا وبين تعبيره بمن أن قوله في رواية للشيخين عن عراك بن مالك عن أبي هريرة إن شر الناس ذو الوجهين محمولة على رواية من والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وهو في الصحيحين من طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة عن أبي صالح ومسلم عن سعيد بن المسيب وأبي زرعة الثلاثة عن أبي هريرة نحوه
78 ما جاء في عذاب العامة بعمل الخاصة ( مالك أنه بلغه أن أم سلمة ) هند بنت أبي أمية ( زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ) مع قوله تعالى { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } سورة الأنفال الآية 33 اعتقدت عامة كل قوم فيهم صالح وإنما كان لنبينا صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيره من الأنبياء فضلا عمن سواهم كذا قال الباجي
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم إذا كثر الخبث ) بفتح المعجمة والموحدة فمثلثة الفسوق والشر وقيل أولاد الزنى ورجح الحافظ الأول لأنه قابله بالصلاح قال ابن عبد البر هذا الحديث لا يعرف لأم سلمة إلا من وجه ليس بالقوي يروي عن محمد بن سوقة عن نافع بن جبير بن مطعم عن أم سلمة وإنما هو معروف لزينب بنت جحش وهو مشهور محفوظ انتهى
وهو كما قال من حيث أن الذي في الصحيحين والترمذي والنسائي وابن ماجه عن زينب بنت جحش أنه صلى الله عليه وسلم استيقظ من النوم محمرا وهو يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم بأجوج ومأجوج مثل هذه قالت زينب فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث لكن لا يمتنع أن أم سلمة سألت عن ذلك أيضا وإن كان في إسناد حديثها مقال لأنه اعتضد ببلاغ مالك لما علم أن بلاغه صحيح كله
( مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم ) القرشي مولاهم المدني ( أنه سمع عمر بن عبد العزيز ) ختام الخلفاء الراشدين ( يقول كان يقال إن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامة ) أي عموم الناس ( بذنب الخاصة ) إذ لا تزر وازرة وزر أخرى ( ولكن إذا عمل المكر جهارا استحقوا العقوبة كلهم ) وشاهده الحديث قبله وقوله تعالى { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } سورة المائدة الآية 79 انتهى
____________________
(4/529)
79 ما جاء في التقى ( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) زيد الأنصاري ( عن أنس بن مالك قال سمعت عمر بن الخطاب ) أمير المؤمنين ( وخرجت معه حتى دخل حائطا ) أي بستانا ( فسمعته وهو يقول وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط ) أي داخل البستان ( عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ ) أي عظم الأمر وفخم الأول منون والثاني مسكن وتسكينهما وتشديدهما ويقال مفردة ساكنة ومكسورة ومنونة ومضمومة منونة كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء أو الفخر والمدح قاله المجد الشيرازي
( والله لتتقين الله ) تخافه وتحذر عقابه ( أو ليعذبنك ) فلا تغتر بالخلافة
( مالك بلغي أن القاسم بن محمد كان يقول أدركت الناس ) أي الصحابة ( وما يعجبون ) يرضون ( بالقول قال مالك يريد بذلك العمل ) أي إنه إنما ينظر إلى عمله ( ولا ينظر إلى قوله ) إذ العبرة إنما هي بالأعمال لا الأقوال
80 القول إذا سمعت الرعد ( مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير ) بن العوام الأسدي المدني الثقة العابد ( أنه كان إذا سمع الرعد ) الملك الموكل بسوق السحاب ( ترك الحديث ) الذي كان فيه ( ويقول سبحان الذي يسبح الرعد بحمده ) أو يقول سبحان الله وبحمده ( و ) يسبح ( الملائكة من خيفته ) أي الله تعالى ( ثم يقول إن هذا لوعيد لأهل الأرض شديد ) روى أحمد والترمذي وصححه والنسائي والضياء وغيرهم عن ابن عباس أقبلت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت أخبرنا ما هذا الرعد قال ملك من الملائكة موكل
____________________
(4/530)
بالسحاب بيديه مخراق من نار يزجر به السحاب ليسوقه حيث أمر الله قالوا فما هذا الصوت الذي يسمع قال صوته قال صدقت انتهى
81 ما جاء في تركة النبي صلى الله عليه وسلم تركة بفتح التاء وكسر الراء وتخفف بكسر الأول وسكون الراء مثل كلمة وكلمة ما خلفه الميت والجمع تركات
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين ) وهل يقال لهن أيضا أم المؤمنات أم لا قولان مرجحان ( أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ) اللاتي مات عنهن ( حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر الصديق فيسألنه ميراثهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وهو الثمن عملا بعموم آية المواريث
( فقالت لهن عائشة أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وفي رواية البخاري عن شعيب عن الزهري عن عروة عن عائشة فقلت لهن ألا تتقين الله ألم تعلمن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ( لا نورث ) بضم النون وفتح الراء مخففة وعند النسائي عن الزهري مرفوعا إنا معاشر الأنبياء لا نورث ( ما تركنا فهو صدقة ) بالرفع قطعا خبر لقوله فهو والجملة خبر ما تركنا وهذا يؤيد الرواية في حديث أبي بكر الصديق ما تركنا صدقة بإسقاط فهو برفع صدقة كما توارد عليه أهل الحديث في القديم والحديث خبر المبتدأ الذي هو ما تركنا الكلام جملتان الأولى فعلية والثانية إسمية وادعى بعض الرافضة أن الصواب قراءة لا يورث بتحتية أوله ونصب صدقة على الحال وهو خلاف الرواية وقد احتج بعض المحدثين على بعض الإمامية بأن أبا بكر احتج به على فاطمة وهما من أفصح الفصحاء وأعلم بمدلولات الألفاظ فلو كان الأمر كما يقول الروافض لم يكن فيما احتج به أبو بكر حجة ولا كان جوابه مطابقا لسؤالها وهذا واضح لمن أنصف كما في فتح الباري وقال في تخريجه لأحاديث مختصرة ابن الحاجب إن الحديث لم يوجد بلفظ نحن معاشر الأنبياء ووجد بلفظ إنا ومفادهما واحد فلعل من ذكره بلفظ نحن ذكره بالمعنى وهو في الصحيحين والسنن الثلاثة عن الصديق بلفظ لا نورث ما تركناه صدقة انتهى
وذهب النحاس إلى صحة نصب صدقة على الحال وأنكره عياض لتأييده مذهب الإمامية لكن قدره ابن مالك ما تركنا متروك صدقة فحذف الخبر وبقي
____________________
(4/531)
الحال كالعوض منه ونظيره قراءة بعضهم ونحن عصبة بالنصب انتهى وفيه نظر لأنه لم يرو بالنصب حتى يتعسف له هذا التوجيه ولأنه لم يتعين حذف الخبر بل يحتمل ما قاله الإمامية ولذا أنكره عياض وإن صح في نفسه والحكمة في أنهم عليهم الصلاة السلام لا يورثون أنهم لو ورثوا لظن أن لهم رغبة في الدنيا لوارثهم فيهلك الظان أو لأنهم أحياء أو لئلا يتمنى ورثتهم موتهم فيهلكون أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم كالأب لأمته فيكون ميراثه للجميع وهو معنى الصدقة العامة
وأما قوله تعالى { وورث سليمان داود } سورة النمل الآية 16 وقوله عن زكريا { فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب } سورة مريم الآية 6 فالمراد بذلك وراثة العلم والنبوة
وزعم بعضهم أن خوف زكريا من مواليه كان على ماله لأنه لا يخاف على النبوة لأنها فضل من الله تعالى يعطيها من شاء فلزم أنه يورث متعقب بأن خوفه منهم لاحتمال سرعتهم من جهة تغيير أحكام شرعه فطلب ولدا يرث نبوته ليحفظها
قال الباجي أجمع أهل السنة على أن هذا حكم جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
وقال ابن علية إن ذلك لنبينا خاصة
وقالت الإمامية جميع الأنبياء يورثون وتعلقوا في ذلك بأنواع من التخليط لا شبهة فيها مع ورود هذا النص وهذا الحديث أخرجه البخاري في الفرائض عن القعنبي ومسلم في المغازي عن يحيى كلاهما عن مالك به وأبو داود في الخراج والنسائي في الفرائض
( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقسم ) بفوقية أوله وتحتية روايتان وفي رواية بتاء بعد القاف وأخرى بحذفها ( ورثني ) قال ابن عبد البر الرواية برفع الميم على الخبر يعني الرواية المشهورة ففي فتح الباري بإسكان الميم على النهي وبضمها على النفي وهو الأشهر وبه يستقيم المعنى حتى لا يعارض ما تقدم عن عائشة وغيرها أنه صلى الله عليه وسلم لم يترك ما لا يورث عنه وتوجيه رواية النهي أنه لم يقطع بأنه لا يخلف شيئا بل كان ذلك محتملا فنهاهم عن قسمة ما يخلف إن اتفق أنه خلف وسماهم ورثة باعتبار أنهم كذلك بالقوة لكن منعهم من الميراث الدليل الشرعي وهو قوله لا نورث ما تركنا صدقة انتهى يعني لو كنت ممن يورث زاد التقي السبكي أو المراد لا يقسم مال تركته لجهة الإرث فأتى بلفظ ورثتي ليكون الحكم معللا بما به الاشتقاق وهو الإرث فالمنفي قسمهم بالإرث عنه ( دنانير ) كذا ليحيى بالجمع ولسائر الرواة دينارا بالإفراد قال ابن عبد البر وهو الصواب انتهى
قيل وهو تنبيه بالأدنى على الأعلى
ولمسلم من رواية ابن عيينة عن أبي الزناد ولا درهما وهي زيادة حسنة تابعه عليها سفيان الثوري عند الترمذي في الشمايل قال بعضهم ويحتمل أن يكون الخبر بمعنى النهي فيتحد معنى الروايتين ويستفاد من رواية الرفع أنه أخبر أنه لا يخلف شيئا مما جرت العادة بقسمه كالذهب والفضة وأن الذي يخلفه من غيرهما لا يقسم أيضا بطريق الإرث بل يقسم منافعه لمن ذكر في قوله ( ما تركت بعد نفقة نسائي ) ويدخل فيه كسوتهن وسائر اللوازم كالمساكين لأنهن
____________________
(4/532)
محبوسات عن الزواج بسببه أو لعظم حقوقهن لفضلهن وقدم هجرتهن وكونهن أمهات المؤمنين ولأنهن كما قال ابن عيينة في معنى المعتدات لأنهن لا يجوز لهن أن ينكحن أبدا فجرت لهن النفقة وتركت حجرهن لهن يسكنها
( ومؤنة عاملي ) قيل هو الخليفة بعده وهذا هو المعتمد والموافق لما في حديث عمر في الصحيح وقيل العامل على النخل وبه جزم الطبراني وابن بطال وأبعد من قال هو حافر قبره وقيل خادمه وقيل عامل الصدقة وقيل العامل فيها كالأجير واستدل به على أجرة القاسم قاله الحافظ
وقال الباجي المراد كل عامل يعمل للمسلمين من خليفة أو غيره قام بأمر من أمور المسلمين وبشريعته فهو عامل له صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يكفي مؤنته وإلا ضاع
( فهو ) أي المتروك بعدما ذكر ( صدقة ) معنى لأني لا أورث أو لا أخلف مالا فإن قيل ما وجه تخصيص النساء بالنفقة والمؤنة للعامل وهل بينهما فرق أجاب التقي السبكي كما في الفتح بأن المؤنة في اللغة القيام بالكفاية والإنفاق بدل القوت وهذا يقتضي أن النفقة دون المؤنة والسر في التخصيص المذكور الإشارة إلى أن أزواجه صلى الله عليه وسلم لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة كان لا بد لهن من القوت فاقتصر على ما يدل عليه والعامل لما كان في صورة الأجير فيحتاج إلى ما يكفيه اقتصر على ما يدل عليه
وفي الصحيح عن عروة فكانت هذه الصدقة بيد علي منعها على عباسا فغلبه عليها أي بالتصرف فيها وتحصيل غلاتها لا بتخصيص الحاصل لنفسه قال ثم بيد حسن بن علي ثم بيد حسين ثم بيد علي بن حسين وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولانها ثم بيد زيد بن حسن وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا
زاد عبد الرزاق عن معمر ثم كانت بيد عبد الله بن حسن حتى ولى هؤلاء يعني بني العباس فقبضوها
وزاد إسماعيل القاضي أن إعراض العباس عنها كان في خلافة عثمان قال عمر بن شعبة سمعت محمد بن يحيى المدني أن الصدقة المذكورة مكثت في عهده يولى عليها من قبله من يقبضها ويفرقها في أهل الحاجة من أهل المدينة قال الحافظ كان ذلك على رأس المائتين ثم تغيرت الأمور وهذا الحديث رواه البخاري في الوصايا والخمس عن عبد الله بن يوسف وفي الفرائض عن إسماعيل ومسلم في المغازي عن يحيى الثلاثة عن مالك به وأبو داود في الخراج
____________________
(4/533)
82 ما جاء في صفة جهنم هي والجنة مخلوقتان الآن كما دلت عليه أحاديث كثيرة من أصرحها قوله صلى الله عليه وسلم لما خلق الله الجنة قال لجبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ثم حفها بالمكاره ثم قال يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد فلما خلق الله النار قال يا جبريل اذهب فانظر إليها ثم جاء فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فحفها بالشهوات ثم قال يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وصححه الحاكم عن أبي هريرة
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نار بني آدم التي يوقدون ) في الدنيا فينتفعون بها فيها وفي رواية إسماعيل ناركم هذه ( جزء ) زاد في رواية مسلم واحد ( من سبعين جزءا من نار جهنم ) وفي رواية لأحمد من مائة جزء وجمع الحافظ بأن المراد المبالغة في الكثرة لا العدد الخاص أو الحكم للزائد ( فقالوا ) أي الحاضرون ولم يعرف أسماؤهم ( يا رسول الله إن ) مخففة من الثقيلة أي أنها ( كانت ) نار بني آدم ( لكافية ) مجزية في إحراق الكفار وتعذيب الفجار فهلا اكتفى بها ( قال إنها فضلت ) بضم الفاء وشد الضاد المعجمة ( عليها ) على نار بني آدم ( بتسعة وستين جزءا ) قال الطيبي ما حاصله أعاد حكاية تفضيل نار جهنم على نار الدنيا إشارة إلى المنع من دعوى الأجزاء أي لا بد من الزيادة ليتميز عذاب الله على المخلوق
وقال الغزالي نار الدنيا لا تناسب نار جهنم لكن لما كان أشد عذاب في الدنيا عذاب هذه النار عرف عذاب جهنم بها وهيهات لو وجد أهل الجحيم مثل هذه النار لخاضوها هربا مما هم فيه
زاد إسماعيل عن مالك بسنده كلهن مثل حرها أي حرارة كل جزء من نار جهنم مثل حرارة ناركم ونكايتها وسرعة اشتعالها
قال البيضاوي ولذا تنقد فيما لا تنقد فيه نار الدنيا كالناس والحجارة
وزاد أحمد وابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة وضربت بالبحر مرتين ولولا ذلك ما انتفع بها أحد
ونحوه لابن ماجه والحاكم عن أنس وزاد فإنها لتدعو الله أن لا يعيدها فيها
وفي رواية ابن عيينة عن ابن عباس هذه النار ضربت بماء البحر سبع مرات ولولا ذلك ما انتفع بها أحد وهذا الحديث رواه البخاري في بدء الخلق عن إسماعيل ابن أبي أويس
____________________
(4/534)
عن سماك به وتابعه المغيرة بن عبد الرحمن الخزامي عن أبي الزناد عند مسلم كلاهما بالزيادة المذكورة
( مالك عن عمه أبي سهيل ) بضم السين نافع ( بن مالك عن أبيه ) مالك بن أبي عامر ( عن أبي هريرة أنه قال أترونها ) بضم التاء أتظنونها نار جهنم ( حمراء كناركم هذه لهي أسود من القار والقار ) بالقاف ( الزفت ) قال الباجي مثل هذا لا يعلمه أبو هريرة إلا بتوقيف يعني لأنه إخبار عن مغيب فحكمه الرفع
83 الترغيب في الصدقة ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن أبي الحباب ) بضم الحاء المهملة وموحدتين مخففا ( سعد بن يسار ) بتحتية ومهملة خفيفة مرسلا عند يحيى وأكثر الرواة وأسنده معن وابن بكير عن مالك عن يحيى عن أبي الحباب ( أن رسول الله قال من تصدق بصدقة من كسب طيب ) أي مكسوب والمراد ما هو أعم من تعاطي التكسب أو حصول المكسوب بغير تعاطي كالميراث وكأنه ذكر الكسب لأنه الغالب في تحصيل المال والمراد بالطيب الحلال لأنه صفة كسب قال القرطبي أصل الطيب المستلذ بالطبع ثم أطلق على المطلوب بالشرع وهو الحلال قال ابن عبد البر المحض أو المتشابه به لأنه في حيز الحلال على أشبه الأقوال للأدلة
( ولا يقبل الله إلا طيبا ) جملة معترضة بين الشرط والجزاء التقدير ما قبله
وفي رواية للبخاري ولا يصعد إلى الله إلا الطيب أي الحلال أو المتشابه لا الحرام
قال القرطبي لأنه غير مملوك للمتصدق وهو ممنوع من التصرف فيه وهو قد تصرف فيه فلو قبله لزم أن يكون الشيء مأمورا منهيا من وجه واحد وهو محال
وقال الأبي القبول حصول الثواب على الفعل إذ المعنى لا يثيب الله من تصدق بحرام وإنما يصح الحج بالمال الحرام لأن القبول أخص من الصحة لأنها عبارة عن كون الفعل مسقطا للفرض ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم فالحج بالحرام صحيح إذ يسقط به الفرض وهو غير متقبل أي لا ثواب فيه ولا يتعقب هذا بأنه لا واجب إلا وفيه ثواب لأن رد الشيء المغصوب واجب ولا ثواب فيه ولا يشكل صحة الحج بالحرام بقول مالك في النكاح بالمال الحرام أخاف أن يضارع الزنا لأن ذلك مبالغة في التنفير عنه وإلا فالنكاح صحيح
( فإنه إنما يضعها في كف الرحمن ) ولمسلم عن سعيد المقبري عن سعيد بن يسار عن أبي
____________________
(4/535)
هريرة أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت ثميرة فتربو في كف الرحمن قال المازري هذا الحديث وشبهه إنما عبر به على ما اعتادوه في خطابهم ليفهموا عنه فكنى عن قبول الصدقة باليمين وبالكف وعن تضعيف أجرها بالتربية وقال عياض لما كان الشيء الذي يرتضي يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا واستعير للقبول كقول الشاعر إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين لما استعار للمجد الراية استعار للمبادرة إلى فعلها التلقي باليمين وليس المراد الجارحة وقيل اليمين كناية عن الرضا والقبول إذ الشمال تستعمل في ضد ذلك وقد فرق الله بين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وقيل المراد بكف الرحمن ويمينه كف المتصدق عليه ويمينه وإضافتها إلى الله إضافة ملك واختصاص لوضع هذه الصدقة في كف الآخذ ويمينه لوجه الله وقيل المراد سرعة القبول وقيل حسنه ولعله يصح أن المراد بالكف كفة الميزان وكف كل شيء كفه وكفته
وقال الزين بن المنير الكناية عن الرضا والقبول بالتلقي باليمين والكف لتثبيت المعاني المعقولة في الأذهان وتحقيقها في النفوس تحقيق المحسوسات أي لا يتشكك في القبول كما لا يتشكك من عاين التلقي للشيء بيمينه لا إن التناول كالتناول المعهود ولا أن التناول بجارحة
وقال الترمذي في جامعه قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة نؤمن بهذه الأحاديث ولا نتوهم فيها تشبيها ولا نقول كيف هي هكذا روي عن مالك وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم وأنكرت الجهمية هذه الروايات انتهى
وقد رد عليهم بما هو معلوم ( يربيها ) أي ينميها لصاحبها بمضاعفة الأجر أو الزيادة في الكمية قاله عياض وقد يصح أن التربية على وجهها وأن ذاتها تعظم يبارك الله فيها ويزيدها من فضله لتعظم في الميزان وتثقله ( كما يربي أحدكم فلوه ) بفتح الفاء وضم اللام وشد الواو مهره لأنه يفلي أي يفطم وقيل هو كل فطيم من حافر والجمع أفلاء كعدو وأعداء وحكى كسر الفاء وسكون اللام وأنكره ابن دريد وقال أبو زيد إذا فتحت الفاء شددت الواو وإذا كسرتها سكنت اللام وضرب به المثل لأنه يزيد زيادة بينة ولأن الصدقة نتاج العمل وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيما فإذا أحسن العناية انتهى إلى حد الكمال وكذلك عمل ابن آدم لاسيما الصدقة فإن العبد إذا تصدق بكسب طيب لا يزال ينظر الله إليها بكسبها نعت الكمال حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع المناسبة بينه وبين ما تقدم نسبة ما بين التمرة إلى الجبل
( أو فصيله ) وهو ولد الناقة لأنه فصل عن رضاع أمه وفي رواية لمسلم أو قلوصه وهي الناقة المسنة وعند البزار مهره أو وصيفه أو فصيله ولابن خزيمة من طريق سعيد بن يسار عن أبي هريرة فلوه أو قال فصيله وهذا يشعر بأن أو للشك من الراوي
( حتى تكون مثل الجبل ) لتثقل في ميزانه وفي مسلم عن المقبري عن سعيد بن يسار حتى تكون أعظم من الجبل وله عن سهيل عن أبيه حتى تكون مثل
____________________
(4/536)
الجبل أو أعظم ولابن جرير من وجه آخر حتى يوافي بها يوم القيامة وهي أعظم من أحد قال أبو هريرة وتصديق ذلك في كتاب الله { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } سورة البقرة الآية 276 وللترمذي حتى أن اللقمة لتصير مثل جبل أحد قال الحافظ فالظاهر أن عينها تعظم لتثقل في الميزان ويحتمل أنه عبارة عن ثوابها وفي التمهيد قيل لبعض العلماء إن الله قال يمحق الله الربا وإنا نرى أصحاب الربا تنمى أموالهم فقال إنما يمحق الله الربا حيث يربى الصدقات ويضعفها يوم القيامة فإذا نظر العبد إلى أعماله نظرها ممحوقة أو مضاعفة وهذا الحديث مجمع على صحته انتهى
وهو في الصحيحين وغيرهما من طريق عبيدة
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول كان أبو طلحة ) زيد بن سهل الخزرجي ( أكثر أنصاري ) أي أكثر كل واحد من الأنصار ولذا لم يقل أكثر الأنصار فهو من التفضيل على التفضيل قاله الكرماني ( بالمدينة مالا ) تمييز أي من حيث المال ( من نخل ) بيان لمال ( وكان أحب أمواله ) هي حوائط قال ابن عبد البر كانت دار أبي جعفر والدار التي تليها حوائط لأبي طلحة وكان قصر بني حديلة حائطا له يقال لها بئر حاء قال الحافظ ومراده بدار أبي جعفر التي صارت إليه بعد ذلك وعرفت به وهو أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي وقصر بني حديلة بحاء مهملة مصغر ووهم من قال بجيم بطن من الأنصار فنسب إليه بسبب المجاورة وإلا فالذي بناه معاوية لما اشترى حصة حسان بمائة ألف درهم ليكون له حصنا وجعل له بابين أحدهما شارع على خط بني حديلة والآخر في الزواية الشرقية والذي بناه لمعاوية الطفيل بن أبي بن كعب كما ذكره ابن شبة وغيره ( بئر حاء ) قال الباجي قرأناه على أبي ذر بفتح الراء في موضع الرفع والنصب والخفض والجمع واللفظان اسم لموضع وليست مضافة إلى موضع وقال الحافظ أبو عبد الله الصوري إنما هي بفتح الباء والراء واتفق هو وأبو ذر وغيرهما من الحفاظ على أن من رفع الراء حال الرفع فقد غلط وعلى ذلك كنا نقرؤه على شيوخ بلدنا وعلى الأول أدركت أهل العلم بالمشرق وهذا الموضع بقصر بني حديلة قبلي مسجد المدينة
وفي فتح الباري بيرحاء بفتح الموحدة وسكون التحتية وبفتح الراء وبالمهملة والمد وجاء في ضبطها أوجه جمعها في النهاية فقال يروى بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها وبالمد والقصر فهذه ثمانية
وفي رواية حماد بن سلمة يعني في مسلم بريحا بفتح وكسر الراء مقدمة على التحتية
وفي أبي داود بأريحاء مثله لكن بزيادة ألف وقال الباجي أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصور وكذا جزم به الصغاني وقال إنه فعيلا من البراح قال ومن ذكره بكسر الموحدة فظن أنها بئر من آبار المدينة فقد صحف انتهى
وتعقب فيما نسبه للنهاية بأن
____________________
(4/537)
الذي فيها إنما هو خمس فقط فنصبها بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها والمد فيها وبفتحهما والقصر
وقال عياض روينا بفتح الباء والراء وبكسر الباء مع فتح الراء وضمها يسمى به وليس اسم بئر وجزم التيمي بأن المراد البستان قال لأن بساتين المدينة تدعى بآبارها أي البستان الذي فيه بيرحاء وجزم الصغاني بأنها اسم أرض لا بئر قال في اللامع ولا تنافي بين ذلك فإن الأرض أو البستان تسمى باسم البئر التي فيه وصوب الصغاني والزمخشري والمجد الشيرازي من هذا كله فتح الموحدة والراء وقال الباجي إنها المسموعة على أبي ذر وغيره
قال في الفتح واختلف في حاء هل هي اسم رجل أو امرأة أو مكان أضيفت إليه البئر أو هي كلمة زجر للإبل فكأن الإبل كانت ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة فأضيفت البئر إلى اللفظة المذكورة
( وكانت مستقبلة المسجد ) النبوي أي مقابلته قريبة منه ( وكان رسول الله يدخلها ) زاد في رواية للبخاري ويستظل فيها ( ويشرب من ماء فيها ) أي في بيرحاء ( طيب ) بالجر صفة ماء وفيه إباحة استعذاب الماء وتفضيل بعضه على بعض وإباحة الشرب من دار الصديق ولو لم يكن حاضرا إذا علم طيب نفسه واتخاذ الحوائط والبساتين ودخول أهل العلم والفضل فيها والاستظلال بظلها والراحة والتنزه فيها وقد يكون ذلك مستحبا يثاب عليه إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة وتنشيطها في الطاعة
( قال أنس فلما أنزلت هذه الآية لن تنالوا البر ) أي لا تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضا والجنة ( حتى تنفقوا مما تحبون ) أي بعض ما تحبون من المال أو ما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الناس والبدن في طاعة الله والمهجة في سبيل الله
( قام أبو طلحة إلى رسول الله ) زاد في رواية عند ابن عبد البر ورسول الله على المنبر ( فقال يا رسول الله إن الله تعالى يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحب أموالي إلي ) بشد الياء ( بيرحاء ) خبر إن ( وإنها صدقة لله أرجو برها ) أي خيرها ( وذخرها ) بضم الذال وإسكان الخاء المعجمتين أي أقدمها فأدخرها لأجدها ( عند الله ) تعالى
ولمسلم عن ثابت عن أنس لما أنزلت الآية قال أبو طلحة أرى ربنا يسألنا من أموالنا فاستشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي بيرحاء لله ( فضعها يا رسول الله حيث شئت ) وللتنيسي والقعنبي حيث أراك الله فوض أبو طلحة
____________________
(4/538)
تعيين مصرفها له صلى الله عليه وسلم لكن لا تصريح فيه بأنه جعلها وقفا ولذا قيل لا ينهض الاستدلال بهذه القصة لشيء من مسائل الوقف (1) *
( قال ) أنس ( فقال رسول الله فبخ ) بفتح الموحدة وسكون المعجمة وقد تنون مع التثقيل والتخفيف بالكسر وبالرفع والسكون ويجوز التنوين لغات ولو كررت فالمختار تنوين الأولى وتسكين الثانية ومعناه تفخيم الأمر والإعجاب به قاله الحافظ ( ذلك مال رابح ذلك مال رابح ) مرتين قال الباجي رواه يحيى وجماعة بتحتية وجيم أي يروح ثوابه في الآخرة انتهى
وهو مخالف لقول ابن عبد البر رواه يحيى وجماعة رابح من الربح أي رابح صاحبه ومعطيه
ورواه ابن وهب وغيره بتحتية أي يروح على صاحبه بالأجر العظيم والأول أولى عندي انتهى
ونحوه قول أبي العباس الداني في أطراف الموطأ رواه يحيى الأندلسي بالموحدة والحاء المهملة وتابعه جماعة ورواه يحيى النيسابوري بالتحتية والحاء المهملة وتابعه إسماعيل وابن وهب ورواه القعنبي بالشك انتهى
ومعنى رابح بموحدة ذو ربح كلابن وتارم أي يربح صاحبه في الآخرة وقيل فاعل بمعنى مفعول أي مال مربوح فيه ومعناه بتحتية اسم فاعل من الرواح نقيض الغد وأنه قريب الفائدة يصل نفعه إلى صاحبه كل رواح لا يحتاج أن يتكلف فيه إلى مشقة وسير أو يروح بالأجر ويغدو به واكتفى بالرواح عن الغدو لعلم السامع أو من شأنه الرواح وهو الذهاب والفوات فإذا ذهب في الخير فهو أولى وادعى الإسماعيلي أن رواية التحتية تصحيف
( وقد سمعت ) أنا ( ما قلت ) أنت ( فيه وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ) وفي رواية للبخاري قبلناه منك ورددناه عليك فاجعله في الأقربين ( فقال أبو طلحة أفعل ) بضم اللام مضارع ( يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه ) عطف خاص على عام
وفي البخاري من وجه آخر عن أنس فجعلها لحسان وأبي وأنا أقرب إليه ولم يجعل لي منها فباع حسان فقيل له أتبيع صدقة أبي طلحة فقال ألا أبيع صاعا من تمر بصاع من دراهم وفي مرسل أبي بكر بن حزم فرده على أقاربه أبي بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه أو ابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر فتقاوموه فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم أي بعد ذلك في خلافة معاوية
قال ابن عبد البر روى إسماعيل القاضي عن القعنبي عن مالك بلفظ فقسمها في أقاربه وبني عمه أي أقارب أبي طلحة وإضافة القسم إلى المصطفى على أنه الآمر به وإن شاع في لسان العرب لكن أكثر الرواة لم يقولوا ذلك والصواب على ابن عبد العزيز عن القعنبي فقسمها أبو طلحة كرواية الجماعة وفيه التمسك بالعموم لأن أبا طلحة فهم من الآية
____________________
1*
(4/539)
تناول ذلك الجمع أفراده فلم يقف حتى يرد عليه البيان عن شيء بعينه بل بادر إلى إنفاق ما يحبه وأقره وفيه فضيلة لأبي طلحة لأن الآية تضمنت الحث على الإنفاق من المحبوب فترقى هو إلى إنفاق أحب المحبوب فصوبه وشكر فعله ثم أمره أن يخص بها أهله وكنى عن رضاه بذلك بقوله بخ وزيادة صدقة التطوع على نصاب الزكاة خلافا لمن قيدها به وصدقة الصحيح بأكثر من ثلثه لأنه لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به وقال لسعد بن أبي وقاص الثلث والثلث كثير وفيه جواز حب المال للرجل الفاضل العالم وأنه لا نقص عليه من ذلك وقد أخبر الله عن الإنسان بقوله { وإنه لحب الخير لشديد } سورة العاديات الآية 8 والخير المال اتفاقا وفيه غير ذلك
وأخرجه البخاري في الزكاة عن عبد الله بن يوسف وفي الوكالة عن يحيى النيسابوري وفي الوقف وفي الأشربة عن القعنبي وفي التفسير عن إسماعيل بن أبي أويس ومسلم في الزكاة عن يحيى النيسابوري أربعتهم عن مالك به وتابعه عبد العزيز الماجشون عن إسحاق عند البخاري
( مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله قال أعطوا السائل ) الذي يسأل التصدق عليه ( وإن جاء على فرس ) يعني لا تردوه وإن جاء على حالة تدل على غناه كركوب فرس فإنه لولا حاجته للسؤال ما بذل وجهه بل هذا وشبهه من المستورين الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف
وقد حكي أن عمر بن عبد العزيز بعث مالا يفرق بالرقة فقال له الذي بعث معه يا أمير المؤمنين تبعثني إلى قوم لا أعرفهم وفيهم غني وفقير فقال كل من مد يده إليك فأعطه
وزعم أن المراد وإن جاء على فرس يطلب علفه وطعامه تعسف ركيك
قال الحراني ولو في مثله تجيء منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها جاء نصا على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها فكونه على فرس يؤذن بغناه فلا يليق إعطاؤه دفعا للتوهم
وقال أبو حيان هذه الواو لعطف حال على حال محذوفة تضمنها السابق والمعنى أعطوه كائنا من كان ولا تجىء هذه الحال إلا منبهة على ما يتوهم أنه لا يندرج تحت عموم الحال المحذوفة فأدرج تحته ألا ترى أنه لا يحسن أعط السائل ولو كان غنيا أو فقيرا انتهى
ومقصود الحديث الحث على إعطاء السائل وإن جل ولو ما قل كما يفيده حذف المتعلق لكن إذا وجده ولم يعارضه ما هو أهم وإلا فلا ضير في رده كما يفيده أحاديث أخر
قال ابن عبد البر لا أعلم في إرسال هذا الحديث خلافا عن مالك وليس فيه مسند يحتج به فيما أعلم انتهى
وقد وصله ابن عدي من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة ولكن عبد الله ضعيف نعم له شاهد أخرجه أحمد وأبو داود وقاسم بن أصبغ عن الحسين بن علي مرفوعا للسائل حق وإن جاء على فرس وسنده جيد قاله العراقي وغيره
ولكن قال ابن عبد البر سنده ليس بالقوي
وجاء بلفظ
____________________
(4/540)
الموطأ وجه آخر عن أبي هريرة عند ابن عدي وضعفه ومن وجه آخر عند الدارقطني والحاصل أن المرسل صحيح وتتقوى رواية الوصل بتعدد الطرق واعتضادها بالمرسل
( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي ( عن عمرو ) بفتح العين ( ابن معاذ ) بن سعد بن معاذ ( الأشهلي الأنصاري ) الأوسي أبي محمد المدني ( عن جدته ) يقال اسمها حواء بنت يزيد بن السكن صحابية مدنية ( أنها قالت قال رسول الله يا نساء المؤمنات ) روي بضم الهمزة منادى مفرد المؤمنات صفة له فيرفع على اللفظ وينصب بالكسرة على المحل وروي بفتح الهمزة منادى مفرد مضاف والمؤمنات صفة لموصوف محذوف أي نساء النفوس أو الطائفة المؤمنات فخرج عن إضافة الموصوف إلى صفته ويجوز أنها منها بتأويل نساء بفاضلات أي فاضلات المؤمنات وأنكر ابن عبد البر رواية الإضافة ورده ابن السيد بأنها قد صحت نقلا وساعدتها اللغة فلا معنى للإنكار
ورواه الطبراني من حديث عائشة بلفظ يا نساء المؤمنين ( لا تحقرن إحداكن أن تهدي لجارتها ) شيئا ( ولو ) كان ( كراع شاة ) بضم الكاف ما دون العقب وخص النساء لأنهن مواد المودة والبغضاء ولأنهن أسرع انتقالا في كل منهما ( محرق ) نعت لقراع وهو مؤنث فحقه محرقة لكن وردت الرواية هكذا في الموطآت وغيرها وقل أن تعرض العرب بذكره فلعل الرواية على هذه اللغة والأظهر أنه نهي للمهدى إليها قاله الباجي ومر هذا الحديث سنده ومتنه في جامع ما جاء في الطعام والشراب إشارة إلى أن الطعام اسم لكل ما يطعم وإن قل وأعاده هنا إلى الترغيب في الصدقة وإن قلت والنهي عن احتقارها فلا تكرار قال أبو عمر في ذكر القليل تنبيه على فضل الكثير لمن فهم معنى الخطاب وقد أحسن القائل افعل الخير ما استطعت وإن كان قليلا فلن تطيق لكله ومتى تفعل الكثير من الخير إذا كنت تاركا لأقله وأحسن منه قول محمد الوراق لو قد رأيت الصغير من عمل الخير ثوابا عجبت من كبره أو قد رأيت الحقير من عمل الشر جزاء شفقت من شره ( مالك أنه بلغه عن عائشة زوج النبي أن مسكينا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا
____________________
(4/541)
رغيف ) واحد ( فقالت لمولاة لها ) لم تسم ( أعطيه إياه فقالت ليس لك ما تفطرين عليه فقالت أعطيه إياه قالت ) المولاة ( ففعلت ) أعطيته الرغيف ( قالت فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ) شكت ( ما كان يهدي لنا ) شيئا قبل ذلك ( شاة ) مفعول أهدى ( وكفنها ) أي مطبوخة للأكل ( فدعتني عائشة فقالت كلي من هذا ) أي لحم الشاة ( هذا خير من قرصك ) الرغيف الذي أردت منعي عن إعطائه للسائل
( مالك قال بلغني أن مسكينا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب فقالت لإنسان خذ حبة فأعطه إياها فجعل ) ذلك الإنسان ( ينظر إليها ويتعجب ) إذ لا تقع حبة عنب موقعا من المستطعم ( فقالت عائشة أتعجب كم ترى في هذه الحبة من مثقال ) أي زنة ( ذرة ) وقد قال الله تعالى { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } سورة الأنبياء الآية 47 أي من نقص حسنة أو زيادة سيئة وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها
84 ما جاء في التعفف عن المسألة أي في كل شيء غير المصالح الدينية
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم ( عن عطاء بن يزيد ) بتحتية فزاي ( الليثي ) بمثلثة من أنفسهم وقيل مولاهم ( المدني ) نزيل الشام من الثقات مات بالمدينة سنة خمس أو سبع ومائة وقد جاوز الثمانين ( عن أبي سعيد الخدري أن أناسا ) بضم الهمزة ( من الأنصار ) قال الحافظ لم يتعين لي أسماؤهم إلا أن في النسائي ما يدل على أن أبا سعيد الراوي منهم وللطبراني عن حكيم بن حزام أنه خوطب ببعض ذلك لكنه ليس أنصاريا إلا بالمعنى الأعم ( سألوا رسول الله فأعطاهم ثم سألوه ) ثانيا ( فأعطاهم حتى نفد ) بكسر الفاء ودال مهملة أي فرغ ( ما عنده ثم قال ما يكون عندي من خير ) ما
____________________
(4/542)
موصولة متضمنة معنى الشرط وجوابه ( فلن أدخره عنكم ) بتشديد المهملة أي لن أجعله دخيرة لغيركم أو لن أحبسه وأخبأه وأمنعه إياه ( ومن يستعفف ) بفاءين أي يطلب العفة عن السؤال ( يعفه الله ) بنصب الفاء أي يصونه عن ذلك أو يرزقه العفة أي الكف عن الحرام ( ومن يستغن ) يظهر الغنى بما عنده من اليسير عن المسألة ( يغنه الله ) أي يمده بالغنى من فضله
( ومن يتصبر ) يعالج الصبر ويتكلفه على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا ( يصبره الله ) يرزقه الله الصبر ويعينه عليه ويوفقه له ( وما أعطي ) بضم الهمزة مبني للمفعول ( أحد ) نائبه ( عطاء ) نصب مفعول ثان لأعطى ( هو خير وأوسع من الصبر ) لجمعه مكارم الأخلاق ولأنه كما قال الباجي أمر يدوم له الغنى به لا يفنى ومع عدمه لا يدوم له الغنى وإن كثر وربما يغنى ويمتد الأمل إلى أكثر منه مع عدم الصبر
وقال الطيبي يريد أن من طلب من نفسه العفة عن السؤال ولم يظهر الاستغناء يعفه الله أي يصيره عفيفا ومن ترقى عن هذه المرتبة إلى ما هو أعلى من إظهار الاستغناء عن الخلق لكن إن أعطى شيئا لم يرده يملأ الله قلبه غنى ومن فاز بالقدح المعلى وتصبر ولم يسأل وإن أعدى لم يقبل فهذا هو الصبر الجامع لمكارم الأخلاق انتهى
وفيه ما كان عليه من السخاء وإنفاذ أمر الله وإعطاء السائل مرتين والاعتذار إلى السائل والحض على التعفف وجواز السؤال للحاجة وإن كان الأولى تركه والصبر حتى يأتيه رزقه بلا مسألة
وأخرجه الشيخان في الزكاة والبخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال وهو على المنبر ) جملة إسمية وقعت حالا ( وهو يذكر الصدقة ) أي يحض عليها الأغنياء جملة حالية إسمية أيضا وللقعنبي وذكر الصدقة بالجملة الفعلية الحالية ( و ) يذكر ( التعفف ) بفاءين ( عن المسألة ) أي يحض الفقير على التعفف عنها أو يحضه على التعفف ويذم المسألة ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) قال الباجي أي أكثر ثوابا سميت يد المعطى العليا لأنه أرفع درجة ومحلا في الدنيا والآخرة
( واليد العليا هي المنفقة ) اسم فاعل من أنفق هكذا رواه مالك قال أبو داود وكذا قال الأكثر عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع وقال واحد عنه المتعففة وكذا قال عبد الوارث عن أيوب قال الحافظ الواحد القائل المتعففة بعين وفاءين هو مسدد في مسنده
____________________
(4/543)
وأخرجه ابن عبد البر من طريقه وتابعه أبو الربيع الزهراني عند أبي يوسف القاضي في كتاب الزكاة وأما رواية عبد الوارث فلم أقف عليها موصولة وقد رواه أبو نعيم في المستخرج من طريق سليمان بن حرب عن حماد بلفظ واليد العليا يد المعطى وهذا يدل على أن من رواه عن نافع بلفظ المتعففة فقد صحف انتهى
ورجح الخطابي الثانية بأن السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها قال الطيبي وتجويز ترجيحه أن قوله وهو يذكر الصدقة الخ كلام مجمل في معنى العفة عن السؤال وقوله اليد العليا بيان له وهو أيضا مبهم فينبغي تفسيره بالعفة ليناسب المجمل وتفسيره بالمنفقة لا يناسب المجمل لكن إنما يتم هذا لو اقتصر على قوله اليد العليا هي المنفقة ولم يعقبه بقوله ( و ) اليد ( السفلى هي السائلة ) لدلالتها على علو المنفقة وسفالة السائلة ورذالتها وهي ما يستنكف منها فظهر بهذا أن رواية المنفقة أرجح نقلا ودراية انتهى
قال ابن عبد البر رواية مالك أولى وأشبه بالأصول ويؤيده حديث طارق المحاربي عند النسائي قال قدمنا المدينة فإذا النبي قائم على المنبر يخطب وهو يقول يد المعطي العليا قال الحافظ ولأبي داود وابن خزيمة عن عوف بن مالك عن أبيه مرفوعا الأيدي ثلاثة فيد الله العليا ويد المعطي التي تليها ويد السائل السفلى وللطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن حزام مرفوعا يد الله فوق يد المعطي ويد المعطي فوق يد المعطى ويد المعطى أسفل الأيدي ولأحمد والبزار عن عطية السعدي اليد المعطية هي العليا والسائلة هي السفلى فهذه الأحاديث متظافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية وأن السفلى هي السائلة وهذا هو المعتمد وقول الجمهور قال القرطبي أي تبعا لابن عبد البر هذا التفسير نص من الشارع يدفع الخلاف في نوائله وادعى أبو العباس الداني في أطراف الموطأ أنه مدرج ولم يذكر له مستندا نعم في الصحابة للعسكري بإسناد فيه انقطاع عن ابن عمر أنه كتب إلى بشر بن مروان إني سمعت النبي يقول اليد العليا خير من اليد السفلى ولا أحسب اليد السفلى إلا السائلة ولا العليا إلا المعطية فهذا يشعر بأن التفسير من ابن عمر ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال كنا نتحدث أن اليد العليا هي المنفقة لكن يؤيد لرفع الأحاديث السابقة وقيل اليد السفلى الآخذة سواء كان بسؤال وبلا سؤال وقواه قوم بأن الصدقة تقع في يد الله قبل يد المتصدق عليه
قال ابن العربي التحقيق أن السفلى يد السائل وأما يد الآخذ فلا لأن يد الله هي المعطية وهي الآخذة وكلتاهما يمين وفيه نظر لأن البحث إنما هو في أيدي الآدميين أما يد الله فباعتبار كونه مالك كل شيء نسبت يده إلى الإعطاء وباعتبار قبوله للصدقة ورضاه بها نسبت إلى الأخذ ويده العليا على كل حال وأما يد الآدمي فأربعة يد المعطي وقد تظافرت الأخبار بأنها عليا ويد السائل وقد تظافرت الأحاديث بأنها السفلى سواء أخذت أم لا وهذا موافق بكيفية الإعطاء والأخذ غالبا
ثالثها يد المتعفف عن الأخذ ولو بعد مد يد المعطى مثلا وهذه توصف بأنها عليا علوا اعتباريا رابعها يد الآخذ بلا سؤال واختلف فيها فذهب جمع إلى أنها سفلى نظرا إلى المحسوس وأما المعنوي فلا يطرد فقد تكون عليا
____________________
(4/544)
في بعض الصور وعليه يحمل كلام من أطلق أنها عليا
وعن الحسن البصري العليا المعطية والسفلى المانعة ولم يوافق عليه وأطلق آخرون من المتصوفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقا قال ابن قتيبة وما أرى هؤلاء إلا قوما استطابوا السؤال فهم يحتجون للدناءة ولو جاز هذا لكان المولى من فوق هو الذي كان رقيقا فأعتق والمولى من أسفل هو السيد الذي أعتق وفي مطلع الفوائد للعلامة جمال الدين بن نباتة في تأويل الحديث معنى آخر أن اليد هنا النعمة فكان المعنى العطية الجزيلة خير من العطية القليلة فهذا حث على مكارم الأخلاق بأوجز لفظ ويشهد له أحد التأويلين في قوله ما أبقت غني أي ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله كمن أراد أن يتصدق بألف فلو أعطاها لمائة إنسان لم يظهر عليهم الغنى بخلاف ما لو أعطاها لرجل واحد قال وهو أولى من حمل اليد على الجارحة لأن ذلك لا يستمر إذ قد يأخذ من هو خير عند الله ممن يعطي
قلت التفاضل هنا يرجع إلى الإعطاء والأخذ ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على الإطلاق وقد روى إسحاق في مسنده عن حكيم بن حزام أنه قال يا رسول الله ما اليد العليا قال التي تعطي ولا تأخذ فهذا صريح في أن الآخذة ليست بعليا وكل هذه التأويلات المتعسفة تضمحل عند الأحاديث المتقدمة المصرحة بالمراد فأولى ما فسر الحديث بالحديث ومحصل ما في الأحاديث المتقدمة أن أعلى الأيدي المنفقة ثم المتعففة عن الأخذ ثم الآخذة بغير سؤال وأسفل الأيدي السائلة والمانعة
قال ابن عبد البر في الحديث إباحة الكلام للخطيب بل كل ما يصلح من موعظة وعلم وقربة والحث على الإنفاق في وجوه الطاعة وتفضيل الغني مع القيام بحقوقه على الفقر لأن العطاء إنما يكون من الغنى وفيه كراهة السؤال والتنفير عنه ومحله إذا لم تدع إليه ضرورة من خوف هلاك ونحوه
وقد روى الطبراني بإسناد فيه مقال عن ابن عمر مرفوعا ما المعطي من سعة بالأفضل من الآخذ إذا كان محتاجا انتهى
والحديث رواه البخاري عن القعنبي ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به
( مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ) مرسلا قال أبو عمر باتفاق الرواة يتصل من وجوه عن عمر منها ما أخرجه قاسم بن أصبغ من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر ( أن رسول الله أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطاء ) بالمد أي بسبب العمالة كما في مسلم لا من الصدقة فليس العطاء المذكور من جهة الفقر وقد نقل عياض عن الطحاوي أن العطاء ما يفرقه الإمام بين الأغنياء والفقراء من غير مال الزكاة ( فرده عمر ) زهدا وعدم حرص على التكثير من المال وإيثارا للغير ففي الصحيحين عن عمر رضي الله تعالى عنه كان يعطيني العطاء فأقول أعطه من هو أفقر إليه متى ( فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم لم رددته فقال
____________________
(4/545)
يا رسول الله أليس أخبرتنا أن خيرا ) أفضل ( لأحدنا أن لا يأخذ من أحد شيئا فقال له رسول الله إنما ذلك عن المسألة ) السؤال للناس ( فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق يرزقكه الله ) زاد في رواية الصحيحين فخذه فتموله أو تصدق به أي اقبله وأدخله في ملكك ومالك
( فقال عمر بن الخطاب أما ) بالفتح وخفة الميم ( والذي نفسي بيده لا أسأل أحدا شيئا ولا يأتيني شيء من غير مسألة إلا أخذته ) اتباعا للأمر النبوي في الوجهين وفيه أن رد عطية الإمام ليس من الأدب ولا سيما منه لعموم قوله تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه } سورة الحشر الآية 7 وإنما ردها عمر للشبهة التي أزالها عنه قال ابن جرير أجمعوا على أن الأخذ من النبي مستحب واختلف في إعطاء غيره دون مسألة والمعطى من يجوز إعطاؤه فقيل باستحبابه أيضا كان المعطى سلطانا أو غيره وهذا هو الراجح يعني بالشرطين المذكورين في قوله لعمر إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مسرف ولا سائل فخذه وقيل هو مخصوص بالسلطان ويؤيده حديث سمرة في السنن إلا أن تسأله ذا سلطان قال وقيل يستحب من غير السلطان لا منه فحرام وقيل مكروه وكان بعضهم يقبل عطية السلطان وبعضهم يكره وهذا محمول على عطية السلطان الجائر والكراهة محمولة على الورع وهو المشهور من تصرف السلف قال الحافظ والتحقيق في المسألة أن من علم حل ماله لا يرد عطيته أو حرمته فيحرم عطيته ومن شك فيها فالاحتياط رده وهو الورع ومن أباحه أخذ بالأصل قال ابن المنذر احتج من رخص فيه بقول الله تعالى في اليهود { سماعون للكذب أكالون للسحت } سورة المائدة الآية 42 وقد رهن الشارع درعه عند يهودي مع علمه بذلك وكذلك أخذ الجزية مع العلم بأن أكثر أموالهم ثمن الخمر والخنزير والمعاملات الفاسدة
( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة ) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر قولان مرجحان ( أن رسول الله قال والذي نفسي بيده ) فيه الحلف على الشيء المقطوع بصدقه لتأكيده في نفس السامع ( ليأخذ ) قال ابن عبد البر كذا في جل الموطآت وفي رواية معن وابن نافع لأن يأخذ ( أحدكم حبله ) بالإفراد وفي رواية أحبله بالجمع ( فيحتطب ) بكسر الطاء أي يجمع الحطب ( على ظهره ) وفي حديث
____________________
(4/546)
الزبير بن العوام عند البخاري فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه وذلك مراد في حديث أبي هريرة وحذف لدلالة السياق عليه قاله الحافظ على أن في مسلم من طريق أبي عبيد الله عن أبي هريرة فيجعلها على ظهره فيبيعها وله عن قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة فيحطب على ظهره فيتصدق ويستغنى به عن الناس ( خير له من أن يأتي رجلا ) وفي حديث الزبير من أن يسأل الناس والمعنى واحد ( أعطاه الله من فضله ) صفة رجل ( فيسأله أعطاه ) لحمله ثقل المنة مع ذل السؤال ( أو منعه ) فاكتسب الذل والخيبة والحرمان وخير ليست بمعنى أفعل التفضيل بل هي هنا كقوله تعالى { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا } سورة الفرقان الآية 24 إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب ويحتمل أنه بحسب اعتقاد السائل تسمية ما يعطاه خيرا وهو في الحقيقة شر وفيه الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك
وعند ابن عبد البر عن عمر مكسبة فيها بعض الدناءة خير من مسألة الناس قال العلماء ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن الرد إذا لم يعط ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل وفيه فضل الاكتساب بعمل اليد وقد قيل إنه أفضل المكاسب رواه البخاري عن عبد الله بن يوسد عن مالك به وهو في مسلم من وجوه أخر عن أبي هريرة
( مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد ) وإبهام الصحابي لا يضر لعدالة جميعهم فالحديث صحيح وقد نص على ذلك أحمد وغيره ( أنه قال نزلت أنا وأهلي ببقيع ) بباء موحدة ( الغرقد ) بغين معجمة وقاف مقبرة المدينة سميت بذلك لشجر غرقد كان هناك وهو شجر عظيم ويقال إنه العوسج ( فقال لي أهلي اذهب إلى رسول الله فاسأله لنا شيئا نأكله وجعلوا يذكرون من حاجتهم ) ما يأكلون ( فذهبت إلى رسول الله ) لأسأله ( فوجدت عنده رجلا يسأله ورسول الله يقول لا أجد ما أعطيك فتولى الرجل عنه وهو مغضب ) لعدم العطاء ( وهو يقول لعمري ) أي حياتي ( إنك لتعطي من شئت ) ولعل هذا الرجل كان من أجلاف العرب حديث عهد بالإسلام أو كان منافقا على أنه كان لا ينتقم لنفسه ( فقال رسول الله إنه لمغضب علي أن لا أجد ما أعطيه ) مع أن هذا لا يقتضي الغضب بوجه ( من سأل منكم وله أوقية ) بضم الهمزة وشد الياء وتخفيفها ( أو عدلها ) بفتح العين ما يبلغ قيمتها من غير الفضة ( فقد سأل إلحافا ) أي إلحاحا وهو أن يلازم المسؤول حتى يعطيه يقال لحفني من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده فخالف ثناء الله بقوله { لا يسألون الناس إلحافا } سورة البقرة الآية 273 ومعناه أنهم لا يسألون وإن سألوا
____________________
(4/547)
عن ضرورة لم يلحوا وقيل هو نفي السؤال والإلحاح معا كقوله علي لا حب لا يهتدي لمناره
فمراده نفي المنار والاهتداء به ولا ريب أن نفي السؤال والإلحاح أدخل في التعفف
( قال الأسدي فقلت ) عند سماع ذلك ( للقحة ) بفتح اللام الأولى ابتدائية أو جواب قسم مقدر وكسر اللام الثانية وقد تفتح وسكون القاف أي ناقة ( لنا خير من أوقية ) بالألف قال ( والأوقية أربعون درهما ) سميت بذلك من الوقاية لأن المال مخزون مصون أو لأنه يبقى الشخص من الضرورة قال الباجي هذا إنما هو في السؤال دون الأخذ فتحل لمن له خمس أواق وإن كان تجب عليه زكاتها إذا كان ذا عيال
وفي الترمذي وغيره عن ابن مسعود مرفوعا من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش قيل يا رسول الله وما يغنيه قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب وفي إسناده حكيم بن جبير وهو ضعيف
ولأبي داود وصححه ابن حبان عن سهل بن الحنظلية رفعه من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار فقالوا وما يغنيه قال قدر ما يغديه ويعشيه ( قال ) الأسدي ( فرجعت ولم أسأله ) يدل على قوة فهمه لأنه اتعظ بغيره
( فقدم ) بضم القاف وكسر الدال ( على رسول الله بعد ذلك بشعير وزبيب فقسم لنا منه ) صريح في أنه قسمه كله وأعطاهم بعضه ( حتى أغنانا الله ) لأن من يستغني يغنيه الله وقد وقع نحو هذه القصة لأبي سعيد الخدري قال أسرحتنى أمي إلى النبي يعني لأسأله من حاجة شديدة فأتيته وقعدت فاستقبلني فقال من استغنى أغناه الله ومن استعف أعفه الله ومن استكفى كفاه الله ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف فقلت ناقتي خير من أوقية فرجعت ولم أسأله رواه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان والضياء
( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن ) ابن يعقوب المدني ثقة صدوق ( أنه سمعه يقول ما نقصت صدقة من مال ) بل يزيد الله فيه ما نقص منه ويحتمل أنه وإن نقص فله في الآخرة من الأجر ما يجبر ذلك النقص ويحتمل أن يجمع له الأمران قاله عياض
وقال الطيبي يحتمل أن من زائدة أي ما نقصت صدقة مالا ويحتمل أنها صلة لنقصت والمفعول الأول محذوف أي ما نقصت شيئا من مال بل
____________________
(4/548)
يزيد في الدنيا بالبركة فيه ودفع المفاسد عنه والإخلاف عليه بما هو أجدى وأنفع وأكثر وأطيب وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه أو في الآخرة بإجزال الأجر وتضعيفه أو فيهما وذلك جائز لإضعاف ذلك النقص بل وقع لبعض العلماء أنه تصدق من ماله فلم يجد فيه نقصا قال الفاكهاني أخبرني من أثق به أنه تصدق من عشرين درهما بدرهم فوزنها فلم تنقص قال وأنا وقع لي ذلك
وقول الكلاباذي يراد بالصدقة الفرض وبإخراجها ما لم ينقص ماله لكونها دينا فيه بعد لا يخفى
( وما زاد الله عبدا بعفو ) أي تجاوز عن الانتصار ( إلا عزا ) أي رفعة في الدنيا فمن عرف بالصفح ساد وعظم في القلوب فيزيد عزة في الدنيا والآخرة بأن يعظم ثوابه أو فيهما قاله عياض
( وما تواضع عبد ) من المؤمنين رقا عبودية لله في الائتمار بأمره والانتهاء عن نهيه ومشاهدته لحقارة نفسه ونفي العجب عنها ففي لفظ عبد إشعار بأن ذلك شأنه ولمسلم وغيره وما تواضع أحد لله ( إلا رفعه الله ) في الدنيا بأن يثبت له في القلوب المحبة والمكانة أو في الآخرة بأن ينيله الرفعة فيها لتواضعه في الدنيا أو فيهما وقد ظهر صدق الحديث فإن هذه الوجوه كلها موجودة في الدنيا وفي هذا كله رد قول من يقول الصبر والحلم الذل ومن قاله من الأجلة فإنما أراد أنه يشبهه في الاحتمال وعدم الانتصار قاله عياض
وقال القرطبي التواضع انكسار والتذلل ضد التكبر فالتواضع إن كان لله أو لرسوله أو للحاكم أو للعالم فهذا واجب يرفع الله به في الدارين وأما لسائر الخلق فإن قصد به وجه الله فإن الله يرفع قدر صاحبه في القلوب ويطيب ذكره في الأفواه ويرفع قدره في الآخرة وإن فعل ذلك لأجل الدنيا فلا عز معه
وقال غيره من تواضع لله في تحمل مؤنة خلقه كفاه الله مؤنة ما يرفعه إلى هذا المقام ومن تواضع في قبول الحق ممن دونه قبل الله منه مدحور طاعته ونفعه بقليل حسناته وزاد في رفع درجاته وحفظه بمعقبات رحمته من بين يديه ومن خلفه
واعلم أن من جبلة الإنسان الشح بالمال ومشايعة السبعية من إيثار الغضب والانتقام والاسترسال في الكبر الذي هو من نتائج الشيطنة فأراد أن يقلعها فحث أولا على الصدقة ليتحلى بالسخاء والكرم وثانيا على العفو ليتعزز بعز الحكم والوقار وثالثا على التواضع ليرفع درجاته في الدارين
( قال ) مالك ( لا أدري أيرفع ) العلاء ( هذا الحديث عن النبي أم لا ) شك في رفعه ومثله لا يكون رأيا وأسنده عنه جماعة وهو محفوظ مسند قاله ابن عبد البر وأخرجه مسلم والترمذي من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي وتابعه محمد بن جعفر بن أبي كثير وحفص بن ميسرة وشعبة وعبد العزيز بن محمد كلهم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا أسند ذلك كله في التمهيد
____________________
(4/549)
85 ما يكره من الصدقة ( مالك أنه بلغه ) رواه مسلم من طريق جويرية بن أسماء وقاسم بن أصبغ من طريق سعيد بن أبي داود كلاهما عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث حدثه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تحل الصدقة لآل محمد ) بني هاشم فقط عند مالك رضي الله عنه وأكثر أصحابه وأبي حنيفة إلا أنه استثنى آل أبي لهب وعند الشافعي رضي الله عنه وبعض المالكية بنو هاشم وبنو المطلب وعند أحمد القولان ( إنما هي أوساخ الناس ) وهم منزهون عن ذلك صيانة لمنصبه لأنها تنبىء عن ذل الآخذ وعز المأخوذ منه لحديث اليد العليا خير من اليد السفلى وأبدلوا بالفيء المأخوذ على سبيل القهر والغلبة المنبىء عن عز الآخذ وذل المأخوذ منه
وتعقب ابن المنير هذا التعليل بأنها مذلة بأن مقتضاه تحريم الهبة لهم ولا قائل به ولأن الواهب له أيضا اليد العليا وقد جاء في بعض الطرق اليد العليا هي المعطية وهي المتصدقة فيدخل الهبات انتهى
وقال الباجي لأنها تطهر أموالهم وتكفر ذنوبهم والأصح عند المالكية والشافعية أن المحرم عليهم صدقة الفرض دون التطوع لقول جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة فقيل له أتشرب من الصدقة فقال إنما حرم علينا الصدقة المفروضة رواه الشافعي والبيهقي
قال الباجي محل حرمة الفرض ما لم يكونوا بموضع يستباح فيه أكل الميتة
وفي الحديث قصة لا بأس بذكرها لأنها من مسند مالك خارج الموطأ قال مسلم حدثنا عبد الله بن محمد بن أسما الضبعي قال حدثنا جويرة بن أسما عن مالك عن الزهري أن عبد الله بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حدثه أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث حدثه قال اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا والله لو بعثنا هذين الغلامين قال لي وللفضل بن عباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه وأمرهما على هذه الصدقات فأديا ما يؤدي الناس وأصابا مما يصيب الناس قال فبينهما على ذلك جاء علي بن أبي طالب فوقف عليهما فذكرا له ذلك قال علي لا تفعلا فوالله ما هو بفاعل فانتحاه ربيعة بن الحارث فقال والله ما تصنع هذه إلا نفاسة منك علينا فوالله لقد نلت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نفسناه عليك قال أرسلوهما واضطجع علي قال فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سبقناه إلى الحجرة فقمنا عندها حتى جاء فأخذ بآذاننا ثم قال اخرجا ما تصررا ثم دخل ودخلنا عليه وهو يومئذ عند زينب بنت جحش قال فتواكلنا الكلام ثم تكلم أحدنا فقال يا رسول الله أنت أبر الناس وأوصل الناس وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات
____________________
(4/550)
فنؤدي إليك كما تؤدي الناس ونصيب كما يصيبون قال فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه وجعلت زينب تلمع إلينا من وراء الحجاب أن لا تكلماه ثم قال إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ادعو إلى محمية وكان على الخمس ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب فجاء فقال لمحمية أنكح هذا الغلام ابنتك للفضل بن عباس فأنكحه وقال لنوفل بن الحارث أنكح هذا الغلام ابنتك لي فأنكح لي وقال لمحمية أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا قال الزهري ولم يسمه
ورواه أيضا من طريق يونس عن ابن شهاب بنحو حديث مالك وقال في الحديث إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد قال النسائي لا أعلم من ذكر هذا الحديث عن مالك عن جويرية وتعقب بأنه رواه الحافظ قاسم بن أصبغ عن سعيد بن داود بن أبي زنبر بفتح الزاي والموحدة بينهما نون ساكنة صدوق له عن مالك مناكير لكنه هنا متابع لجويرية فلم ينفرد به جويرية كما ادعاه النسائي
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه ) أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري مرسلا ورواه أحمد بن منصور البلخي عن مالك عن عبد الله عن أبيه عن أنس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من بني عبد الأشهل ) بفتح الهمزة وسكون المعجمة بطن من الأوس ( في الصدقة ) أي عليها وفي نسخة على الصدقة ( فلما قدم سأله إبلا من الصدقة ) يعطيها له قال الباجي زيادة على أجرة عمله ( فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه ) الوجيه ( وكان مما يعرف به الغضب في وجهه أن تحمر عيناه ) لشدة الغضب وكان يكظمه ( ثم قال إن الرجل ليسألني ) أن أعطيه ( ما لا يصلح لي ولا له فإن منعته كرهت المنع ) لأنه مجبول على الجواد وعدم المنع ( وإن أعطيته أعطيته ما لا يصلح لي ولا له ) لعدم حله
( فقال الرجل يا رسول الله لا أسألك منها شيئا أبدا ) وفقه الله لقبول الموعظة الحسنة ببركته صلى الله عليه وسلم
( مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال قال عبد الله بن الأرقم ) بن عبد يغوث بن وهب ابن عبد مناف بن زهرة القرشي الزهري صحابي معروف ولاه عمر بيت المال ومات في خلافة عثمان
____________________
(4/551)
( ادللني على بعير من المطايا ) جمع مطية الإبل التي تركب ( أستحمل عليه أمير المؤمنين ) عمر أي أطلب منه أن يحملني عليه ( فقلت نعم جملا من الصدقة فقال عبد الله بن الأرقم أتحب أن رجلا بادنا ) بنون أي سمين وفي نسخة بالتحتية أي من أهل البادية والغالب عليهم عدم النظافة ( في يوم حار غسل لك ما تحت إزاره ورفغيه ) بضم الراء وإسكان الفاء وغين معجمة تثنية رفغ بضم الراء في لغة العالية والحجاز والجمع أرفاغ مثل قفل وأقفال وبفتح الراء في لغة تميم والجمع رفوغ وأرفغ كفلس وفلوس وأفلس قال ابن السكيت هو أصل الفخذ وقال ابن فارس أصل الفخذ وسائر المغابن وكل موضع اجتمع فيه الوسخ فهو رفغ
( ثم أعطاكه فشربته قال ) أسلم ( فغضبت وقلت يغفر الله لك أتقول لي مثل هذا ) الكلام الفظيع ( فقال عبد الله بن الأرقم إنما الصدقات أوساخ الناس ) كما قال صلى الله عليه وسلم ( يغسلونها عنهم ) فلا يجوز تناولها لغير من هو من أهلها وقد جاء مرفوعا إنها داء في البطن وصداع في الرأس وكان مراد ابن الأرقم أن أسلم يدله على بعير من غير إبل الصدقة يطلبه من عمر فلما دله على حمله من الصدقة ضرب له هذا المثال لينبهه على ما غفل عنه انتهى
86 ما جاء في طلب العلم قد جاء في طلبه والحث عليه والترغيب فيه أحاديث كثيرة مرفوعة وفي القرآن آيات لم يذكر الإمام شيئا منها فتبعته وحسبك قوله صلى الله عليه وسلم من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة رواه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء مرفوعا من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر
( مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم ) الحبشي أو النوبي العبد الصالح كان في عصر داود على الصحيح مر بعض ترجمته قريبا ( أوصى ابنه ) قال السهيلي اسمه بار بموحدة وراء مهملة وقيل فيه بالدال في أوله وقيل اسمه أنعم وقيل شكور وقيل أسلم كما في الفتح
____________________
(4/552)
( قال يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ) عبارة عن مزيد القرب منهم
( فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة ) هي تحقيق العلم وإتقان العمل وروي عن قتادة في قوله تعالى { ولقد آتينا لقمان الحكمة } سورة لقمان الآية 12 قال التفقه في الدين قال النووي فيها أقوال كثيرة صفا لها منها أنها العلم المشتمل على المعرفة بالله مع نفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق للعمل والكف عن ضده والحكيم ما حاز ذلك انتهى ملخصا
( كما يحيي ) بضم أوله ( الله ) تعالى ( الأرض الميتة ) بالنصب والتخفيف ويثقل ( بوابل السماء ) بالموحدة أي المطر الخفيف وهذا البلاغ رواه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة قال قال صلى الله عليه وسلم إن لقمان قال لابنه يا بني عليك بمجالسة العلماء واسمع كلام الحكماء فإن الله ليحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر قال المنذري سنده حسن به الترمذي غير هذا الحديث ولعله موقوف انتهى
وعند الطبراني والعسكري عن أبي جحيفة رفعه جالسوا العلماء وسائلوا الكبراء وخالطوا الحكماء وعن ابن عباس قيل يا رسول الله من نجالس أو قال أي جلسائنا خير قال من ذكركم الله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم الآخرة عمله وعن ابن عيينة قيل لعيسى يا روح الله من نجالس فقال من يزيد في علمكم منطقه ويذكركم الله رؤيته ويرغبكم في الآخرة عمله رواهما العسكري
87 ما يتقى من دعوة المظلوم جاء في ذلك أحاديث كثيرة مرفوعة كحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ يعني لما بعثه إلى اليمن إنك ستأتي قوما أهل كتاب الحديث وفيه واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب رواه الشيخان
وللطبراني وصححه الضياء عن ابن ثابت رفعه اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين وللحاكم عن ابن عمر مرفوعا اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة ولأحمد وأبي يعلى وصححه الضياء عن أنس مرفوعا اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا فإنه ليس دونه حجاب
( مالك عن زين بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب ) في خلافته ( استعمل مولى له يدعى ) يسمى ( هنيا ) بضم الهاء وفتح النون وشد التحتية وقد تهمز قال في الفتح لم أر من ذكره في الصحابة مع إدراكه ووجدت له رواية عن أبي بكر وعمرو عمرو بن العاصي روى عنه ابنه عمير وشيخ من
____________________
(4/553)
الأنصار وغيرهما وشهد صفين مع معاوية ثم تحمل إلى علي لما قتل عمار وفي كتاب مكة لعمر ابن شبة أن آل هني ينسبون في همدان وهم موالي آل عمر ولولا أنه كان من الفضلاء النبلاء الموثق بهم لما استعمله عمر ( على الحمى ) بكسر الحاء المهملة وفتح الميم مقصور موضع يعينه الإمام لنحو نعم الصدقة ممنوعا من الغير ولابن سعد عن عمر بن هني عن أبيه أنه كان على حمى الربذة ( فقال ) عمر ( له يا هني اضمم جناحك عن الناس ) أي اكفف يدك عن ظلمهم
وللأويسي عن مالك في غرائب الدارقطني اضمم جناحك للناس وعلى هذا فمعناه استرهم بجناحك وهو كناية عن الرحمة والشفقة
( واتق دعوة المظلوم ) أي اجتنب الظلم لئلا يدعو عليك من تظلمه وذلك مستلزم لتجنب جميع أنواع الظلم على أبلغ درجة وأوجز إشارة وأفصح عبارة كأنه إذا اتقى دعاء المظلوم لم يظلم فهو أبلغ من أن لو قال لا تظلم ( فإن دعوة المظلوم مجابة ) أي مقبولة وإن كان عاصيا كما في حديث أبي هريرة وعند أحمد مرفوعا دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه وإسناده حسن وإن كان كافرا كما مر في خبر أنس
وأما قوله تعالى { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } سورة غافر الآية فذاك في دعائهم للنجاة من نار الآخرة أما دعاؤهم لطلب الانتصاف ممن ظلمهم في الدنيا كما في الحديث فلا تنافيه الآية
( وأدخل ) بفتح الهمزة وسكون المهملة وكسر الخاء المعجمة حذف متعلقه أي في الرعي ( رب ) أي صاحب ( الصريمة ) بضم الصاد المهملة وفتح الراء القطعة القليلة من الإبل نحو الثلاثين وقيل من عشرين إلى أربعين
( والغنيمة ) بضم المعجمة وفتح النون تصغير غم قيل إنها أربعون والمراد القليل منها كما دل عليه التصغير ( وإياي ونعم ) عثمان ( بن عفان و ) نعم عبد الرحمن ( بن عوف ) وفيه تحذير المتكلم نفسه وهو شاذ عند النحاة كذا قيل والذي يظهر أن الشذوذ في لفظه وإلا فالمراد في التحقيق إنما هو تحذير المخاطب وكأنه بتحذير نفسه حذره بطريق الأولى فيكون أبلغ ونحوه نهي المرء نفسه ومراده نهي من يخاطبه قاله الحافظ قال وخصهما بالذكر على طريق المثال لكثرة نعمهما لأنهما كانا من مياسير الصحابة ولم يرد منعهما البتة وإنما أراد أنه إذا لم يسمح لرعي نعم أحد الفريقين فنعم المقلين أولى فنهى عن إيثارهما على غيرهما أو تقديمهما قبل غيرهما وبين حكمة ذلك بقوله ( فإنهما إن يهلك ) بكسر اللام ( ماشيتهما يرجعان إلى المدينة إلى ) غير ذلك من أموالهما من ( زرع ونخل ) وغيرهما ( وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيته يأتني ) مجزوم بحذف الياء ( ببنيه ) بنون فتحتية جمع ابن وفي رواية بتحتية ففوقية مفرد بيوت قال الحافظ والمعنى متقارب ( فيقول يا أمير المؤمنين يا
____________________
(4/554)
أمير المؤمنين ) مرتين وحذف المقول لدلالة السياق عليه ولأنه لا يتعين في لفظ أي أنا فقير أنا أحق ونحو ذلك
( أفتاركهم أنا ) استفهام إنكار معناه لا أتركهم محتاجين ولا أجوز ذلك فلا بد لي من إعطاء الذهب والفضة لهم بدل الماء والكلأ من بيت المال ( لا أبالك ) بفتح الهمزة والموحدة بلا تنوين لأنه صار شبيها بالمضاف وأصله لا أب لك وظاهره الدعاء عليه لكنه على مجازه لا حقيقته
( فالماء والكلأ أيسر ) أهون ( علي من الذهب والورق ) الفضة أي من إنفاقهما لهم لأنه قد يعارضه عارض في مهم آخر قال ابن عبد البر وفيه ما كان عليه عمر من التقى وأنه لا يخاف في الله لومة لائم لأنه لم يداهن عثمان ولا عبد الرحمن ولا آثر الضعفاء والمساكين وبين وجه ذلك وامتثل قوله صلى الله عليه وسلم لا حمى إلا لله ورسوله يعني إبل الصدقة
( وأيم الله إنهم ) أي أرباب المواشي القليلة من أهل المدينة وقرأها ( ليرون ) بضم التحتية أي يظنون وبفتحها أي يعتقدون ( أن قد ظلمتهم ) قال ابن التين يريد أرباب المواشي الكثيرة قال الحافظ والذي يظهر لي أنه يريد أرباب المواشي القليلة لأنهم المعظم والأكثر وهم أهل تلك البلاد من بوادي المدينة ويدل عليه قول عمر ( إنها لبلادهم ومياههم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام ) فكانت لهم وإنما ساغ لعمر ذلك لأنه كان مواتا فحماه لنعم الصدقة ولمصلحة عموم المسلمين وقد أخرج ابن سعد في الطبقات عن معن بن عيسى عن مالك عن زيد بن أسلم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن عمر أتاه رجل من أهل البادية فقال يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام بم تحمى علينا فجعل عمر ينفخ ويفتل شاربه
وأخرجه الدارقطني في الغرائب من طريق ابن وهب عن مالك بنحوه وزاد فلما رأى الرجل ذلك الخ فلما أكثر عليه قال المال مال الله والعباد عباد الله ما أنا بفاعل
وقال ابن التين لم يدخل ابن عفان ولا ابن عوف في قوله فاتلوا عليها في الجاهلية فالكلام عائد على عموم أهل المدينة لا عليهما
وقال المهلب إنما قال عمر ذلك لأن أهل المدينة أسلموا عفوا فكانت أموالهم لهم ولذا ساوم صلى الله عليه وسلم بني النجار بمكان مسجده قال فاتفق العلماء على أن من أسلم من أهل الصلح فهو أحق بأرضه ومن أسلم من أهل العنوة فأرضه للمسلمين لأن أهل العنوة غلبوا على بلادهم كما غلبوا على أموالهم بخلاف أهل الصلح في ذلك
وفي نقل الاتفاق نظر لأن الحنفية يقولون إذا أسلم الحربي في دار الحرب وأقام بها حتى غلب المسلمون عليها فهو أحق بجميع أمواله إلا أرضه وعقاره ففيء للمسلمين وخالفهم أبو يوسف فوافق الجمهور والمهلب ومن بعده حملوا الأرض على أرض أهل المدينة التي أسلم أهلها وهي في
____________________
(4/555)
ملكها وليس المراد ذلك هنا وإن حمى عمر بعض الموات مما فيه نبات من غير معالجة أحد وخص إبل الصدقة وخيول المجاهدين وأذن لمن كان مقلا أن يرعى فيه مواشيه رفقا به فلا حجة فيه للمخالف
وأما قوله يرون أن قد ظلمتهم فإشارة إلى أنهم يدعون أنهم أولى بها لا أنهم منعوا حقهم الواجب لهم انتهى
( والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه ) أي الإبل والخيل التي كان يحمل عليها من لا يجد ما يركب ( في سبيل الله ) الجهاد ( ما حميت عليهم من بلادهم شبرا ) وجاء عن مالك أن عدة ما كان في الحمى في عهد عمر بلغ أربعين ألفا من إبل وخيل وغيرهما
وفي الحديث ما كان عليه عمر من القوة وجودة النظرو الشفقة على المسلمين
وأخرجه البخاري في الجهاد عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك به ووقع في فتح الباري وهذا الحديث ليس في الموطأ قال الدارقطني هو حديث غريب صحيح انتهى
وإن هذا لشيء عجاب نفى كونه في الموطأ لكن الجواد قد يكبو والكمال لله والله أعلم
88 أسماء النبي أي المختصة به التي لم يتسم بها أحد قبله جمع اسم وهو اللفظ الموضوع على الجوهر والعرض للتمييز كما في القاموس قال ابن القيم وأسماؤه كما سماه الله تعالى أعلام دالة على معان هي أوصاف مدح فلا يضاد فيها العلمية الوصفية فمحمد علم وصفة في حقه وإن كان علما محضا في حق غيره انتهى وحكى الغزالي الاتفاق وأقره غيره على منع تسميته باسم لم يسمه به أبوه ولا سمى به نفسه يعني ولو دل على صفة كمال ولا يرد على الاتفاق وجود الخلاف في أسماء الله تعالى لأن صفات الكمال ثابة لله عز وجل والنبي إنما يطلق عليه صفات الكمال اللائقة به بالبشر فلو جازت تسميته بما لم يرده لربما وصف بأوصاف لا تليق إلا بالله تعالى دونه على سبيل الغفلة فيقع الواصف في محظور وهو لا يشعر هذا ولعل الإمام رحمه الله تعالى ختم الكتاب بالأسماء النبوية بعد ما ابتدأه بالبسملة محفوظا بأسمائه عز وجل وأسماء رسول الله رجاء قبوله
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم ابن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة القرشي الزهري ( عن محمد بن جبير بن مطعم ) القرشي النوفلي الثقة العالم بالأنساب مات على رأس المائة قال ابن عبد البر كذا أرسله يحيى وأكثر الرواة وأسنده معن ابن عيسى وأبو مصعب ومحمد بن المبارك الصوري ومحمد بن عبد الرحمن وابن شروس
____________________
(4/556)
الصنعاني وإبراهيم بن طهمان وعبد الله بن نافع وآخرون كلهم عن مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير عن أبيه جبير بجيم وموحدة مصغر ابن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف الصحابي العالم بالأنساب أسلم بين الحديبية وفتح مكة وقيل أسلم في الفتح ومات سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين ورواية الإرسال لا تضر في رواية الوصل لأن الكل حفاظ ثقات فيحمل على أن مالكا كان يحدث به على الوجهين وهو معلوم الاتصال عند أصحاب ابن شهاب وشعيب عند الشيخين ومعمر وعقيل وسفيان بن عيينة عند مسلم والترمذي خمستهم عن الزهري موصولا
ورواه عن جبير ولده الآخر نافع عند أحمد والبخاري في التاريخ وابن سعد وصححه الحاكم ( أن النبي قال لي خمسة أسماء ) يعني اختص بها لم يتسم بها أحد قبله أو معظمة أو مشهورة في الأمم الماضية والكتب المتقدمة كما قاله عياض والقرطبي وجزم به النووي وحكاه عن العلماء وتعقب بأن أسماءه في الأمم الماضية والكتب المنزلة أكثر من خمسة ويدفع بقوله مشهورة لأنها وإن كانت أكثر لكن المشهور منها خمسة فقط ما يقال المقرر في علم البيان أن تقديم الجار يفيد الحصر وقد جاءت أحاديث بأكثر من ذلك حتى قال ابن العربي عن بعض الصوفية لله سبحانه وتعالى ألف اسم وله ألف اسم بعضها في القرآن والحديث وبعضها في الكتب القديمة فمجيء الروايات بأكثر يدل على أنه ليس حصرا مطلقا بل حصر تقييد بما ذكر وأجاب أبو العباس العزفي بفتح المهملة والزاي المعجمة وبالفاء بأنه قبل أن يطلعه الله على بقية أسمائه
وقال العسكري خصت لعلم السامع بما سواها أو لغير ذلك ثم لفظ خمسة لم ينفرد بها مالك بل تابعه عليها محمد بن ميسرة عن الزهري أخرجه البيهقي فهي زيادة ثقة حافظ غير منافية فيجب قبولها وما وقع في حديث نافع بن جبير عن أبيه هي ستة فزاد الخاتم فوهم من بعض رواته لأنه إنما جاء تفسير العاقب كما عند البيهقي عن ابن أبي حفصة عن الزهري عن محمد عن أبيه لا اسما برأسه كما أشار إليه الحافظ ويأتي بسطه
وأما قول ابن عساكر يحتمل أن العدد ليس من قول النبي وإنما ذكره الراوي بالمعنى ويحتمل أنه من لفظه ولا يقتضي الحصر يعني المطلق فتعقب ابن دحية والحافظ احتماله الأول بأن تصريحه في الحديث بها بقوله لي ونصه على عدتها قبل ذكرها صريح في أنه من لفظه فالظاهر أنه أراد لي خمسة أختص بها لم يتسم بها أحد قبلي أو معظمة أو مشهورة في الأمم الماضية لا أنه أراد الحصر فيها يعني كما قاله العلماء كما مر ( أنا محمد ) منقول من صفة الحمد وهو محمود وفيه المبالغة لأن المحمد لغة هو الذي حمد مرة بعد مرة إلى غير نهاية كالممدح أو الذي تكاملت فيه الخصال المحمودة قال الأعشى إليك أبيت اللعن كان وجيفها إلى الماجد القرم الجواد المحمد وأخرج البخاري في التاريخ الصغير عن علي بن زيد قال كان أبو طالب يقول وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
____________________
(4/557)
وهذا البيت في قصيدة لحسان فإما أنه توارد مع أبي طالب عليه أو ضمنه شعره سمى به بإلهام من الله تعالى لجده عبد المطلب ورؤيا رآها أن سلسلة فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض وطرف في المشرق وطرف في المغرب ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور قال وما رأيت نورا أزهر منها أعظم من نور الشمس بسبعين ضعفا وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا ورأيت العرب والعجم لها ساجدين وناسا من قريش تعلقوا بها وقوما منهم يريدون قطعها فإذا دنوا سنها أخذهم شاب لم أر أحسن منه وجها ولا أطيب ريحا فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم فرفعت يدي لأتناول منها فلم أنل وقيل لي النصيب للذين تعلقوا بها فقصصتها على كاهنة قريش فعبرت بمولود من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السموات والأرض رواه أبو نعيم وغيره مع ما حدثته به أمه آمنة حين قيل لها إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وضعتيه فسميه محمدا
وأخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب عن ابن عباس قال لما ولد النبي عق عنه عبد المطلب وسماه محمدا فقيل له يا أبا الحارث ما حملك على أن سميته محمدا ولم تسمه باسم آبائه قال أردت أن يحمده الله في السماء ويحمده الناس في الأرض ( وأنا أحمد ) علم منقول من صفة أفعل التفضيل المنبئة عن الانتهاء إلى غاية ليس وراءها منتهى ومعناه أحمد الحامدين لما في الصحيح أنه يفتح عليه في المقام المحمود بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله وقيل الأنبياء حامدون وهو أحمدهم أي أكثرهم حمدا وأعظمهم في صفة الحمد فهو بمعنى فاعل وقيل بمعنى مفعول أي أحق الناس وأولاهم أن يحمد فيكون كمحمد في المعنى لكن الفرق بينهما أن محمدا هو الكثير الخصال التي يحمد عليها وأحمد هو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره فمحمد في الكثرة والكمية وأحمد في الصفة والكيفية فيستحق من الحمد أكثر مما يستحقه غيره أي أفضل حمد حمده البشر فالاسمان واقعان على المفعول
قال عياض كان أحمد قبل أن يكون محمدا كما وقع في الوجود لأن تسمية أحمد وقعت في الكتب السالفة وتسميته محمدا وقعت في القرآن العظيم وذلك أنه حمد ربه قبل أن يحمد الناس وكذلك في الآخرة يحمد ربه فيشفعه فيحمده الناس وقد خص بصورة الحمد وبلواء الحمد وبالمقام المحمود وشرع له الحمد بعد الأكل وبعد الشرب وبعد الدعاء وبعد القدوم من السفر وسميت أمته الحامدين فجمعت له معاني الحمد وأنواعه انتهى
وهذا موافق لقول السهيلي لم يكن محمدا حتى كان أحمد لأنه حمد ربه فنبأه وشرفه فلذا يقدم أحمد على محمد وكلاهما صريح في سبقية أحمد وعليه اقتصر في فتح الباري وزعم ابن القيم سبقية محمد ونسب القائل بسبقية أحمد إلى الغلط واحتج بأن في التوراة تسميته ماذمان وصرح بعض شراحها من مؤمني أهل الكتاب بأن معناه محمد وإنما سماه عيسى أحمد لأن تسميته به وقعت متأخرة عن تسميته بمحمد في التوراة ومتقدمة على تسميته في القرآن فوقعت بين التسميتين محفوفة بهما وأيده بعضهم بحديث أنس عند أبي نعيم إن
____________________
(4/558)
الله تعالى سماه محمدا قبل الخلق بألف عام وبغير ذلك
وروى أحمد عن علي رفعه أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد الحديث
( وأنا الماحي الذي يمحو الله به ) في رواية ابن بكير ومعن وغيرهما بي ( الكفر ) يزيله لأنه بعث والدنيا مظلمة بغياهب الكفر فأتى بالنور الساطع حتى محاه قال عياض أي من مكة وبلاد العرب وما زوى له من الأرض ووعد أنه يبلغه ملك أمته قال أو يكون المحو عاما بمعنى الظهور والغلبة ليظهره على الدين كله
وفي فتح الباري استشكل بأنه ما يمحى من جميع البلاد وأجيب بحمله على الأغلب أو على جزيرة العرب أو أنه يمحى بسببه أولا فأولا إلى أن يضمحل في زمن عيسى فإنه يرفع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام وتعقب بأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس ويجاب بجواز أن يرتد بعضهم بعد موت عيسى وترسل الرياح فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة وحينئذ لا يبقى إلا الشرار
وفي رواية نافع بن جبير وأنا الماحي فإن الله يمحي به سيئات من اتبعه وهذا يشبه أن يكون من قول الراوي انتهى أي بمغفرتها له بلا سبب أو بإلهام التوبة النصوح لمن صدرت منه وقبولها { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات } سورة الشورى الآية 25 ولا يخالف هذا تفسيره بمحو الكفر لأن محو أحدهما لا يمنع محو الآخر فليس تفسيرا للماحي بخلاف ما فسره به الشارع لأنه لا ينافيه وكأنه خص الكفر لظهور محوه برسالته
( وأنا الحاشر ) اسم فاعل من الحشر وهو الجمع ( الذي يحشر الناس على قدمي ) بكسر الميم وخفة الياء بالإفراد وبشد الياء مع فتح الميم مثنى روايتان قال ابن عبد البر أي قدامي وأمامي أنهم يجتمعون إليه وينضمون حوله ويكونون أمامه يوم القيامة ووراءه
قال الخليل حشرت الناس إذا ضممتهم من البوادي
وقال الباجي وعياض اختلف في معنى على قدمي فقيل على زماني وعهدي أي ليس بعدي نبي وقيل لمشاهدتي كما قال { ويكون الرسول عليكم شهيدا } سورة البقرة الآية 143 وقال الخطابي معناه على أثري أي أنه يقدمهم وهم خلفه لأنه أول من تنشق عنه الأرض فيتبعونه قال ويؤيد هذا المعنى رواية على عقبي وقيل على أثري بمعنى أن الساعة على أثره أي قريبة من مبعثه كما قال بعثت أنا والساعة كهاتين وفي فتح الباري أي على أثري أي أنه يحشر قبل الناس وهو موافق لقوله في الرواية الأخرى يحشر الناس على عقبي بكسر الموحدة مخففا على الإفراد ولبعضهم بالتشديد وفتح الموحدة على التثنية ويحتمل أن المراد بالقدم الزمان أي وقت قيامي على قدمي بظهور علامات الحشر إشارة إلى أنه ليس بعده نبي ولا شريعة واستشكل هذا التفسير بأنه يقتضي أنه محشور فكيف يفسر به حاشر اسم فاعل وأجيب بأن إسناد الفعل إلى الفاعل إضافة والإضافة تصح بأدنى ملابسة فلما كان لا أمة بعد أمته لأنه لا نبي بعده نسب الحشر إليه لأنه يقع عقبه ويحتمل أن معناه أنه أول من يحشر كما جاء في الحديث الآخر أنا أول من تنشق عنه الأرض وقيل معنى القدم السبب وقيل المراد على مشاهدتي
____________________
(4/559)
قائما لله شاهدا على الأمم
وفي رواية نافع بن جبير وأنا حاشر بعثت مع الساعة وهو يرجح الأول
( وأنا العاقب ) أي آخر الأنبياء قال أبو عبيد كل شيء خلف بعد شيء فهو عاقب ولذا قيل لولد الرجل بعده هو عقبه وكذا آخر كل شيء
وروى ابن وهب عن مالك قال أي معنى العاقب ختم الله به الأنبياء وختم بمسجده هذا المساجد يعني مساجد الأنبياء وقد زاد يونس عن الزهري عند مسلم وغيره الذي ليس بعده نبي وقد سماه الله رؤوفا رحيما
قال البيهقي وقد سماه مدرج من قول الزهري قال الحافظ وهو كما قال وكأنه أشار إلى آخر ما في سورة براءة
وأما قوله الذي ليس بعده نبي فظاهره الإدراج أيضا لكن في رواية ابن عيينة عند الترمذي وغيره بلفظ الذي ليس بعدي نبي
وفي رواية نافع بن جبير فإنه عقب الأنبياء وهو محتمل للرفع والوقف انتهى
وجزم السيوطي بأنه مدرج من تفسير الزهري لرواية الطبراني الحديث من طريق معمر عن الزهري إلى قوله وأنا العاقب قال معمر قلت للزهري ما العاقب قال الذي ليس بعده نبي
قال أبو عبيد قال سفيان العاقب آخر الأنبياء انتهى
ولا ينافيه رواية بعدي بياء المتكلم لأنها قد ترد على لسان الراوي حكاية عن لسان من فسر كلامه إذا قوي تفسيره عنده حتى كأنه نطق به
وعند البخاري في تاريخه الأوسط والصغير والحاكم وصححه وأبي نعيم وابن سعد والبيهقي من طريق عقبة بن مسلم عن نافع بن جبير بن مطعم أنه دخل على عبد الملك بن مروان فقال له أتحصي أسماء رسول الله التي كان جبير بن مطعم يعدها قال نعم هي ستة محمد وأحمد وخاتم وحاشر وعاقب وماحي
قال الحافظ لكن روى البيهقي في الدلائل من طريق ابن أبي حفصة وفي حديث محمد بن جبير وأنا العاقب قال يعني الخاتم انتهى
وكأنه أراد زيادة الخاتم وهم من بعض الرواة في حديث جبير لأنه إنما جاء تفسيرا للعاقب لا اسما برأسه فلا ينافي قوله لي خمسة أسماء وليس النزاع في أنه من أسمائه فلا نزاع فيه وخاتم النبيين بل في وروده في حديث جبير وفي مسلم وأحمد وغيرهما عن أبي موسى قال سمى لنا رسول الله أسماء منها ما حفظنا ومنها ما لم نحفظ فقال أنا محمد وأحمد والمقتفى والحاشر ( ونبي الرحمة ) ونبي التوبة ونبي الملحمة
ولابن عدي عن جابر وغيره مرفوعا إن لي عند ربي عشرة أسماء فذكر الخمسة المذكورة في هذا الباب وأنا رسول الرحمة ورسول التوبة ورسول الملاحم وأنا المقتفى قفيت النبيين عامة وأنا قيم والقيم الكامل الجامع
ولأبي نعيم وابن مردويه عن أبي الطفيل مرفوعا لي عشرة أسماء عند ربي أنا محمد وأحمد والفاتح والخاتم وأبو القاسم والحاشر والعاقب والماحي ويس وطه قال الحافظ ومن أسمائه في القرآن باتفاق الشاهد المبشر النذير المبين الداعي إلى الله السراج المنير والمذكر والرحمة والنعمة والهادي والشهيد والأمين والمزمل والمدثر
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي المتوكل
ومن أسمائه المشهورة المختار والمصطفى والشفيع والصادق المصدوق وغير ذلك وقد بلغها ابن دحية ثلاثمائة اسم وغالبها صفات وصف بها انتهى
قال ابن عبد البر الأسماء والصفات هنا سواء يعني لأن كثيرا ما يطلق الاسم على الصفات
____________________
(4/560)
للتغليب أو لاشتراكهما في تعريف الذات وتمييزها عن غيرها وقد أوصلها بعضهم خمسمائة قال مع أن في كثير منها نظر قال عياض حمى الله هذه الأسماء الخمسة أي المذكورة في حديث الباب أن يتسمى بها أحد قبله وإنما سمى بعض العرب محمدا قرب ميلاده لما سمعوا من الكهان والأحبار أن نبيا يبعث في ذلك الزمان يسمى محمدا رجوا أن يكون هو فسموا أبناءهم بذلك قال ثم حمى الله كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها له أحدا ويظهر عليه سبب يشكك أحدا في أمره حتى تحققت السمتان له قال وهم ستة لا سابع لهم
وقال السهيلي تبعا لابن خالويه ثلاثة قال الحافظ وفيه نظر فقد جمعتهم في جزء مفرد فبلغوا نحو عشرين لكن مع تكرار في بعضهم ووهم في بعض فخلص خمسة عشر
روى البغوي وابن سعد وابن شاهين وابن السكن وغيرهم عن خليفة بن عبدة قال سألت محمد بن ربيعة كيف سماك أبوك في الجاهلية محمدا قال سألت أبي عما سألتني عنه فقال خرجت رابع أربعة من تميم أنا أحدهم وسفيان بن مجاشع ويزيد بن عمرو بن ربيعة وأسامة بن مالك نريد الشام فنزلنا على غدير عند دير فقال لنا الديراني إنه يبعث فيكم وشيكا نبي فسارعوا إليه فقلنا ما اسمه قال محمد فلما انصرفنا ولد لكل منا ولد فسماه محمدا لذلك فهؤلاء أربعة ليس في السياق ما يشعر بأن منهم من له صحبة إلا محمد بن عدي قال سعد لما ذكرنا في الصحابة عداده في أهل الكوفة وذكر عبدان المروزي أن أول من سمى محمدا في الجاهلية محمد بن أحيحة بن الجلال وذكر البلاذري محمد بن عقبة بن أحيحة فلا أدري أهما واحد نسب إلى جده أم هما اثنان ومحمد بن البر البكري ذكره ابن حبيب وضبط البلاذري أناء البر بشد الراء ليس بعدها ألف من طريق ابن عتوارة وغفل ابن دحية فعد محمد بن عتوارة وهو ونسب إلى جده الأعلى ومحمد بن اليحمدي الأزدي ذكره المفجع البصري ومحمد بن خولي الهمداني ذكره ابن دريد ومحمد بن حرماز بن مالك اليعمري ذكره أبو موسى الديلي ومحمد بن حمران واسمه ربيعة بن مالك الجعفي المعروف بالشويعر ذكره المرزباني ومحمد ابن خزاعي بن علقمة السلمي من بني ذكوان ذكره ابن سعد ومحمد بن عمرو بن مغفل بضم أوله وسكون المعجمة وكسر الفاء ثم لام مات في الجاهلية وولده حبيب بموحدتين مصغر صحابي ومحمد ابن الحارث بن خديج ذكره أبو حاتم السجستاني ومحمد القعنبي ومحمد الأسدي ذكرهما ابن سعد ولم ينسبهما بأكثر من ذلك وذكر عياض محمد بن مسلمة وهو غلط فإنه ولد بعد ميلاد النبي بمدة ففضل له خمسة عشر وقد خلص لنا خمسة عشر وهذا الحديث أخرجه البخاري في الصفة النبوية من طريق معن بن عيسى القزاز والإسماعيلي من طريق جويرية بن أسماء وأبو عوانة من طريق محمد بن المبارك وعبد الله بن نافع أربعتهم عن مالك به موصولا وتابعه جماعة عند الشيخين وغيرهما عن الزهري موصولا كما مر
هذا وقد أنعم الله الجواد الكريم الرؤوف الرحيم بتمام هذا الشرح المبارك على الموطأ لجامعه العبد الفقير الحقير محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن شهاب الدين بن محمد الزرقاني
____________________
(4/561)
المالكي فلله الحمد والمنة لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك وأسألك من فضلك متوسلا إليك بأشرف رسلك أن تجعله خالصا لوجهك وأن تنفع به وأن تجعله سببا للفوز برضاك ولقائك ولقاء حبيبك محمد ما شاء الله لا قوة إلا بالله العلي العظيم
ووافق الفراغ من تسويده وقت أذان العصر في يوم الاثنين المبارك حادي عشر ذي الحجة الحرام سنة ثنتي عشرة بعد مائة وألف مضت من الهجرة النبوية هجرة من له الشرف الأعظم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والصحابة والآل التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
ثم إنه لم يكن في خلدي قط أن أتعرض لذلك لعلمي بالعجز عن الخوض في هذه المسالك ولكن الله من فضله قد شاء ويسر لي ذلك فلله الحمد والشكر على ما هنالك وعسى أن ينفع به نفعا جما ويفتح به قلوبا غلفا وأعينا عميا وآذانا صما فرحم الله من نظر بعين الإنصاف إليه ووقف فيه على خطأ فأطلعني عليه وإني لجدير بأن أنشد قول القائل حمدت الله حين هدى فؤادي لما أبديت مع عجزي وضعفي فمن لي بالخطأ فأرد عنه ومن لي بالقبول ولو بحرف وأعوذ برب الفلق من شر ما خلق إلى تمام السورتين فإني الحقيق بأن أنشد قول من قال من أهل الكمال إني لأرحم حاسدي لفرط ما ضاقت صدورهم من الأوغار نظروا صنيع الله بي فعيونهم في جنة وقلوبهم في نار لا ذنب لي قد رمت كتم فضائلي فكأنما علقتها بمنار لكن من يكن الله معينا له وتوكله عليه لا يضره حسد الحاسدين وسلام على المرسلين والحمد الله رب العالمين ما شاء الله ولا قوة إلا بالله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
____________________
(4/562)