مخرجها ولبعضهم لا خنابة بالنون وهو تصحيف وفي بعض روايات مسلم لا خذابة بالذال المعجمة اه
وفي رواية أبي عمر من طريق نافع قال ابن عمر فسمعته يقول إذا باع لاخذابة لاخذابة
وعند الدارقطني والبيهقي بإسناد حسن ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال فإن رضيت فأمسك وإن سخطت فاردد فبقي حتى أدرك زمن عثمان وهو ابن مائة وثمانين سنة فكثر الناس في زمان عثمان فكان إذا اشترى شيئا فقيل له إنك غبنت فيه رجع به فيشهد له من الصحابة بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله بالخيار ثلاثا فيرد له دراهمه
وروى الترمذي عن أنس أن رجلا كان في عقله ضعف وكان يبايع وأن أهله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا أحجر عليه فدعاه فنهاه فقال يا رسول الله إني لأصبر على البيع فقال إذا بايعت فقل لا خلابة وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال قال ابن عبد البر قال بعضهم هذا خاص بهذا الرجل وحده جعل له الخيار ثلاثة أيام اشترطه أو لم يشترطه لما كان فيه من الحرص على المبايعة مع ضعف عقله ولسانه وقيل إنما جعل له أن يشترط الخيار لنفسه ثلاثا مع قوله لا خلابة فيكون عاما كسائر مشترطي الخيار اه
وقد استدل أحمد والبغداديون من المالكية على القيام بالغبن غير المعتاد وحدوه بالثلث لا أقل لأنه غبن يسير انتصب له النجار فهو كالمدخول عليه وأبى ذلك الجمهور والأئمة الثلاثة وقالوا لا رد بالغبن لو خالف العادة وتجاذب الطريقان قوله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } سورة البقرة الآية 188 فقال الأقل الغبن المخالف للعادة من ذلك
وقال الجمهور قد استثنى منه التجارة عن تراض وهذا عن تراض وكذلك تجاذبوا فهم الحديث فقال البغداديون وأحمد فيه الخيار للمغبون وقال الجمهور هي واقعة عين وحكاية حال لا يصح دعوى العموم فيها على أنه لم يجعل الخيار إلا بشرط فالحديث حجة لعدم القيام بالغبن إذ لو كان ثابتا لم يأمره بالشرط بأن يقول لا خلابة فلو قيلت هذه اللفظة اليوم في العقد ثم ظهر الغبن فقال الأكثر لا يوجب قولها قياما بالغبن ثم اختلفوا فقال بعضهم لأنها كانت خاصة بذلك الرجل وله صلى الله عليه وسلم أن يخص من شاء بما شاء وقيل إنما أمره أن يشترط ويصدره بهذه الكلمة حضا لمن عامله على النصيحة والتحرز من الخلابة فقد روي أنه قال له قل لا خلابة واشترط الخيار ثلاثة أيام وليعلم صاحبه أنه ليس من ذوي البصيرة في البيع فينظر له كما ينظر لنفسه وقال أحمد توجب القيام بالغبن لقائلها إذ كأنه شرط أن لا يزيد الثمن عن ثمن المثل ولا أن تنقص السلعة عنه وإن قالها البائع صار بمنزلة من شرط وصفا في المبيع فبان خلافه
وفي الحديث حجة لإمضاء بيع من لا يحسن النظر لنفسه وشرائه قبل الحجر عليه
وأخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وفي ترك الحيل عن إسماعيل كلاهما عن مالك به
وأخرجه أبو داود والنسائي من طريق مالك وتابعه إسماعيل بن جعفر وسفيان وشعبة الثلاثة عن ابن دينار عند مسلم
____________________
(3/433)
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول إذا جئت أرضا يوفون المكيال والميزان فأطل المقام ) بضم الميم الإقامة ( بها وإذا جئت أرضا ينقصون المكيال والميزان فأقلل المقام بها ) لأن ظهور المنكر وعمومه مما يحذر تعجيل عقوبته
قالت أم سلمة يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث فكيف مع قلة الصالحين أو عدمهم قاله الباجي
وفي الاستذكار هذا يقتضي أنه لا ينبغي المقام بأرض يظهر فيها المنكر ظهورا لا يطاق والمقام بموضع يظهر فيه الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأغلب إذا وجد مرغوب فيه وأما بخس المكيال والميزان فحرام قال تعالى { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } سورة الأعراف الآية 85 وقال تعالى { ويل للمطففين } سورة المطففين الآية 1 الآيات
قال قتادة في هذه ابن آدم أوف كما تحب أن يوفى لك واعدل كما تحب أن يعدل عليك
ومر ابن عمر على رجل يكيل كيلا يعتدي فيه فقال له ويلك ما هذا فقال أمرنا الله بالوفاء فقال ابن عمر ونهى عن العدوان
وقال الفضيل بن عياض بخس المكيال والميزان سواد الوجه غدا في القيامة
وقال صلى الله عليه وسلم يا معشر التجار إن التجار يحشرون يوم القيامة فجارا إلا من بر وصدق
وقال صلى الله عليه وسلم التجار هم الفجار قالوا أليس قد أحل الله البيع قال بلى ولكنهم يحلفون فيأثمون ويخونون فيكذبون
وقال صلى الله عليه وسلم الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة
وفي رواية اليمين الكاذبة
وقال صلى الله عليه وسلم يا معشر التجار إن الشيطان والإثم يحضران معكم فشوبوه بالصدقة روى الأربعة قاسم بن أصبغ بأسانيده
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع محمد بن المنكدر ) بن عبد الله التميمي المدني الفاضل التابعي الثقة ( يقول ) أخرجه البخاري وابن ماجه من طريق أبي غسان محمد بن المنكدر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أحب الله ) بفتح الهمزة والموحدة الثقيلة دعاء أو خبر ولفظ البخاري وابن ماجه رحم الله لكن رواه البيهقي من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ أحب الله ( عبدا ) أي إنسانا ( سمحا ) بفتح فسكون من السماحة وهي الجود صفة مشبهة تدل على الثبوت ( إن باع ) بأن يرضى بقليل الربح ( سمحا إن ابتاع سمحا إن قضى ) أي أدى ما عليه طيبة به نفسه ويقضي أفضل ما يجد ويعجل القضاء ( سمحا إن اقتضى ) أي طلب قضاء حقه برفق ولين قال الطيبي رتب المحبة عليه ليدل على السهولة والتسامح في التعامل سبب لاستحقاق المحبة ولكونه أهلا للرحمة وفيه فضل المسامحة وعدم احتقار
____________________
(3/434)
شيء من أعمال الخير فلعلها تكون سببا لمحبة الله التي هي سبب للسعادة الأبدية ثم لفظ البخاري رحم الله عبدا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا قضى وإذا اقتضى وبمثل لفظ الموطأ رواه ابن ماجه لكن بلفظ رحم بدل أحب وبلفظ إذا بدل إن في الكل وهو يحتمل الدعاء والخبر كما مر
ويؤيد الخبر قوله في رواية الترمذي من طريق عطاء بن السائب عن ابن المنكدر في هذا الحديث غفر الله لرجل ممن كان قبلكم كان سهلا إذا باع لكن قال الكرماني وغيره قرينة الاستقبال المستفادة من إذا تجعله دعاء وتقديره يكون رجلا سمحا وقد يستفاد العموم من تقييده بالشرط
وفي الصحيحين عن حذيفة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم فقالوا أعملت من الخير شيئا فقال ما أعلم قيل انظر قال كنت آمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجاوزوا عن الموسر قال فتجاوزوا عنه
وفي رواية لمسلم فقال الله أنا أحق بذلك منك تجاوزوا عن عبدي
ولهما أيضا فأدخله الله الجنة
قال ابن حبيب في الواضحة تستحب المسامحة في البيع والشراء وليس هي ترك المكايسة فيه إنما هي ترك الموازنة والمضاجرة والكزازة والرضا بيسير الربح وحسن الطلب قال ويكره المدح والذم في التبايع ولا يفسخ به ويأثم فاعله لشبهه بالخديعة
( قال مالك في الرجل يشتري الإبل أو الغنم أو البز ) بالموحدة والزاي ( أو الرقيق أو شيئا من العروض جزافا أنه لا يكون الجزاف في شيء مما يعد عدا ) وفي نسخة عددا
قال الباجي يريد ما الغالب أن يسهل عدده لقلته ولا يتقدر بكيل ولا وزن
وقال المازري إن حمل على ظاهره فرق بينه وبين المكيل والموزون بتعذر آلتهما في بعض الأوقات ولكن قيده حذاق المتأخرين بالمعدود المقصود آحاده كالرقيق والأنعام وما تقارب جاز الجزاف في كثيره لمشقة عدده دون يسيره
( قال مالك في الرجل يعطي الرجل السلعة يبيعها له و ) الحال أنه ( قد قومها صاحبها قيمة فقال إن بعتها بهذا الثمن الذي أمرتك به فلك دينار أو شيء يسميه يتراضيان عليه وإن لم تبعها فليس لك شيء إنه لا بأس بذلك ) أي يجوز
وقوله ( إذا سمى ثمنا يبيعها به وسمى أجرا معلوما إذا باع أخذه وإن لم يبع فلا شيء له ) زيادة إيضاح لما قبله
( ومثل ذلك أن يقول الرجل للرجل إن قدرت على غلامي الآبق أو جئت بجملي الشارد فلك كذا وكذا ) لشيء يسميه ( فهذا من باب الجعل ) الذي قال الجمهور
____________________
(3/435)
بجوازه في الإباق والضوال والأصل فيه قوله تعالى { ولمن جاء به حمل بعير } سورة يوسف الآية 72 وليس من باب الإجارة ولو كان من باب الإجارة لم يصلح بل يفسد لأن من شرطها علم الثمن وأوضح ذلك فقال ( فأما الرجل يعطي السلعة فيقال له بعها ولك كذا وكذا في كل دينار لشيء يسميه ) كأن يقول لك في كل دينار درهمان ( فإن ذلك لا يصلح لأنه كلما نقص دينار من ثمن السلعة نقص من حقه الذي سمي له ) وفي نسخة سماه ( فهذا غرر ) لأنه ( لا يدري كم جعل له ) والإجارة بيع منافع فلا يجوز أن يكون البدل فيها إلا معلوما عند الجمهور
وقال الظاهرية وبعض السلف يجوز جهل البدل فيها كمن يعطي حماره لمن يسقي عليه أو يعمل به بنصف ما يرزق بسقيه على ظهره كل يوم قياسا على القراض والمساقاة قالوا وقد جاء القرآن بجواز الرضاع وما يأخذه الصبي في اليوم والليلة من لبنها غير معلوم لاختلاف أحوال الصبيان واختلاف ألبان النساء قاله أبو عمر
( مالك عن ابن شهاب أنه سأله عن الرجل يتكارى الدابة ثم يكريها بأكثر مما تكاراها به فقال لا بأس بذلك ) لأن المكتري مالك منافع الأصل فله التصرف فيها كيف شاء
____________________
(3/436)
50 1 كتاب القراض هكذا في نسخ صحيحة مقروءة تقديمه على المساقاة وفي نسخ تأخيره عنها وعن كراء الأرض والخطب سهل
47 ما جاء في القراض أهل الحجاز يسمونه القراض وأهل العراق يسمونه المضاربة ولا يقولون قراضا البتة وأخذوا ذلك من قوله تعالى { وإذا ضربتم في الأرض } سورة النساء الآية 101 وقوله تعالى { وآخرون يضربون في الأرض } المزمل 20 وقوله في الخبر لو جعلته قراضا يقتضي أنه لغة الحجاز والمعروف عندهم وكان في الجاهلية فأقر في الإسلام وعمل به صلى الله عليه وسلم لخديجة قبل البعثة ونقلته الكافة عن الكافة كما نقلت الدية ولا خلاف في جوازه
( مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه ) أسلم العدوي مولى عمر ثقة مخضرم مات سنة ثمانين وقيل بعد سنة ستين وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة ( أنه خرج عبد الله ) بفتح العين الصحابي المشهور أحد العبادلة ( وعبيد الله ) بضم العين ( ابنا عمر بن الخطاب ) قال في الإصابة ولد مضموم العين في عهده صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أنه غزا في خلافة أبيه كما قال ( في جيش إلى العراق ) للغزو وكان من شجعان قريش وفرسانهم وقتل مع معاوية بصفين في ربيع الأول سنة ست وثلاثين ( فلما قفلا ) رجعا من الغزو ( مرا على أبي موسى ) عبد الله بن قيس ( الأشعري وهو أمير البصرة ) من جهة عمر ( فرحب بهما ) قال
____________________
(3/437)
مرحبا ( وسهل ثم قال لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به ) لو للتمني فلا جواب لها وفي نسخة لفعلت فهي الجواب ( ثم قال بلى ههنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين ) عمر رضي الله عنه ( فأسلفكماه ) بضم الهمزة أقرضكماه ( فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما الربح ) قال الباجي لم يرد بإسلافهما إحراز المال في ذمتهما وإنما أراد نفعهما ومن مقتضاه ضمانهما لأنه إنما يجوز السلف لمنفعة المتسلف فإن قصد المسلف نفع نفسه معه لم يجز ( فقالا وددنا ) أحببنا ( ذلك ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن تأخذ منهما المال فلما قدما باعا فأربحا فلما دفعا ذلك إلى عمر ) وأخبراه أو بلغه من غيرهما ( قال أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما قالا لا فقال عمر بن الخطاب ) أنتما ( ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما ) محاباة له ( أديا المال وربحه ) احتياطا للمسلمين لأنه مالهم قاله أبو عمر
( فأما عبد الله ) المكبر ( فسكت ) أدبا ولشدة ورعه
( وأما عبيد الله فقال ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا ) الفعل ( لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه ) لأنه سلف ( فقال عمر أدياه ) قال عيسى كراهة لتفضيل أبي موسى لولديه ولم يكن يلزمهما ذلك وهذا على قولنا إن أبا موسى تسلف المال وكان بيده على معنى الوديعة وأسلفهما إياه وإن قلنا كان بيده للتنمية والإصلاح فلعمر تعقب ذلك كالمبضع يشتري لنفسه فللذي أبضعه تعقبه ولو تلف المال ولم يكن عندهما وفاء لضمنه أبو موسى قاله الباجي
( فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله ) أعاد عليه قوله المذكور وفيه احتجاج الابن على الأب وأنه ليس بعقوق ولا هضم من حق الأبوة ولا حق الخلافة وجواز الاحتجاج حيث لا نص
( فقال رجل من جلساء عمر ) يقال إنه عبد الرحمن بن عوف ( يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا ) إشارة إلى عرض ما رآه من المصلحة وإن لم يسأله عمر وكذا المفتي يجوز أن يبتدىء الحكم بالفتوى إذا عرف من حالته استشارته قاله الباجي
( فقال عمر قد جعلته قراضا ) أي أعطيته حكمه ( فأخذ عمر رأس المال ونصف
____________________
(3/438)
ربحه ) جعله في مال المسلمين ( وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر نصف ربح المال ) وكأنه جعل كذلك قطعا للنزاع إذ ليس من القراض في شىء وإنما ساق مالك هذا الحديث إعلاما بأن القراض كان معمولا به من عهد عمر وقيل هو أول قراض في الإسلام وقيل أوله أن عمر أخرج من السوق من لا يعلم البيع وكان فيهم يعقوب مولى الحرقة فأعطاء عثمان مالا قراضا وأجلسه في السوق فإن كان محفوظا فمعناه أن عثمان كان يعلمه ويراعي أحواله ولا ينبغي أن يظن بعثمان في فضله وورعه إلا ذلك ولا أصل للقراض في كتاب ولا سنة إلا أنه كان في الجاهلية فأقر في الإسلام وأجمع على جوازه بالدنانير والدراهم قاله أبو عبد الملك
( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن ) الحرقي بضم المهملة وفتح الراء وقاف المدني الصدوق ( عن أبيه ) عبد الرحمن بن يعقوب الجهني التابعي الثقة ( عن جده ) يعقوب المدني مولى الحرقة مقبول تابعي كبير ( أن عثمان بن عفان أعطاه ) أي يعقوب ( مالا قراضا يعمل فيه على أن الربح بينهما ) قال أبو عمر أجمع العلماء على القراض سنة معمول بها وقال عمر وابنه وعائشة وابن مسعود اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة وكانوا يضاربون بأموال اليتامى وروي ذلك مرفوعا وهو حديث مرسل وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال ألا من ولى مال يتيم فليتجر له فيه ولا يتركه فتأكله الزكاة
48 ما يجوز في القراض ( قال مالك وجه القراض المعروف الجائز أن يأخذ الرجل المال من صاحبه على أن يعمل فيه ولا ضمان عليه ) لأنه أمين ( ونفقة العامل في المال في سفره من طعامه وكسوته وما يصلحه بالمعروف بقدر المال إذا شخص ) بفتح الشين والخاء المعجمتين والصاد المهملة أي سافر ( في المال إذا كان المال يحمل ذلك ) لا إن قل ( فإن كان مقيما في أهله فلا نفقة له من المال ولا كسوة ) وإن كان يتعب
____________________
(3/439)
في الشراء والبيع نظرا لأنه مقيم ( ولا بأس أن يعين المتقارضان ) رب المال والعامل ( كل واحد منهما صاحبه على وجه المعروف إذا صح ذلك منهما ) بأن كان بلا شرط ولم يكن لإبقاء المال بيده ( ولا بأس بأن يشتري رب المال ممن قارضه بعض ما يشتري من السلع إذا كان ذلك صحيحا على غير شرط ) بأن لا يتوصل به إلى أخذ شيء من الربح قبل المقاسمة أو لغير ذلك سواء اشترى بنقد أو لأجل
( قال مالك فيمن دفع إلى رجل وإلى غلام له مالا قراضا يعملان فيه جميعا أن ذلك جائز لا بأس به لأن الربح مال لغلامه ) لأن العبد يملك ( لا يكون ) الربح ( للسيد حتى ينزعه منه وهو بمنزلة غيره من كسبه ) يكون له حتى ينزعه
49 ما لا يجوز في القراض ( قال مالك إذا كان لرجل على رجل دين فيسأله أن يقره ) بضم أوله وكسر القاف يبقيه ( عنده قراضا إن ذلك يكره ) كراهة منع ( حتى يقبض ماله ثم يقارضه بعد ) بالضم ( أو يمسك وإنما ذلك مخافة أن يكون أعسر بماله فهو يريد أن يؤخر ذلك على أن يزيده فيه ) فيكون ذريعة للربا ووافقه الشافعي على الحكم وعلله بأن ما في الذمة لا يعود أمانة حتى يقبض
( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فهلك بعضه قبل أن يعمل فيه ثم عمل فيه فربح فأراد أن يجعل رأس المال بقية المال بعد الذي هلك منه قبل أن يعمل فيه قال لا يقبل قوله ويجبر رأس المال من ربحه ) ومفهومه لو صح التلف قبل الشروع في العمل لم يكن رأس المال إلا ما بقي وهو ما نقله ابن حبيب عن أصحاب مالك كلهم
____________________
(3/440)
وقال عيسى هو أحب إلي
ابن عبد البر وعليه جمهور الفقهاء وهو أولى بالصواب
وفي المدونة عن ابن القاسم لا يكون كذلك حتى يقبض منه المال ثم يرده قراضا ثانيا وإلا فهو على الأول يجبر التلف بالربح ( ثم يقتسمان ما بقي بعد رأس المال على شرطهما من القراض ) من نصف وغيره
( ولا يصلح القراض إلا في العين من الذهب والورق ) لأنها قيم المتلفات وأصول الأثمان ولا يدخل أسواقها تغير وما يدخله تغير الأسواق لا يجوز القراض به
( و ) لذا ( لا يكون في شيء من العروض والسلع ومن البيوع ) الممنوعة ( ما يجوز ) أي يمضي ( إذا تفاوت أمره وتفاحش رده ) كبيع حب أفرك قبل يبسه وبيع ثمر بعد أن أزهي يؤخذ كيلا بعد أن يثمر قال ابن مزين وإنما خرج مالك من ذكر القراض إلى ذكر البيوع تمثيلا أن للقراض مكروها كالبيوع فمكروه القراض إذا فات بالعمل رد إلى قراض مثله كالقراض بالعروض أو الضمان أو إلى أجل
وحرام القراض إذا فات بالعمل رد إلى أجر مثله
( فأما الربا فإنه لا يكون فيه إلا الرد أبدا ولا يجوز منه ) وفي نسخة فيه ( قليل ولا كثير ولا يجوز فيه ما يجوز في غيره لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه وإن تبتم ) رجعتم عن الربا ( فلكم رؤوس ) أصول ( أموالكم لا تظلمون ) بزيادة ( ولا تظلمون ) بنقص فلم يبح فيه شيئا قال أبو عمر هذه مسألة وقعت هنا من رواية يحيى وهو قول صحيح
ما يجوز من الشرط في القراض ( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا وشرط عليه أن لا تشتري بمالي إلا سلعة كذا وكذا ) لسلعة يسميها ( أو ينهاه أن يشتري سلعة باسمها قال مالك من اشترط على من قارض أن لا يشتري حيوانا أو سلعة باسمها فلا بأس بذلك ) لأنه قد أبقى كثيرا مما يتجر فيه
( ومن اشترط على من
____________________
(3/441)
قارض أن لا يشتري إلا سلعة كذا وكذا فإن ذلك مكروه ) للتحجير ( إلا أن تكون السلعة التي أمره أن لا يشتري غيرها ) وقوله ( كثيرة ) ثابت لابن وضاح عن يحيى ساقط لابنه ( موجودة لا تخلف في شتاء ولا صيف فلا بأس بذلك ) فإن تعذرت لقلتها منع وإن نزل فسخ وبه قال الشافعي وأجازه أبو حنيفة
( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا واشترط عليه فيه شيئا من الربح خالصا دون صاحبه فإن ذلك لا يصلح وإن كان درهما واحدا ) إذ لعل ذلك العدد يستغرق الربح ولأنه يدخله الجهالة في الأجزاء المشترطة ولا يجوز ( إلا أن يشترط نصف الربح ) للعامل ( ونصفه لصاحبه أو ثلثه أو ربعه أو أقل من ذلك أو أكثر فإذا سمى شيئا من ذلك قليلا أو كثيرا فإن كل شيء سمي من ذلك حلال وهو قراض المسلمين ) الجاري بينهم ( ولكن إن اشترط أن له من الربح درهما واحدا فما فوقه خالصا له دون صاحبه وما بقي من الربح فهو بينهما نصفين فإن ذلك لا يصلح وليس على ذلك قراض المسلمين ) يشبه التعليل لعدم الصلوح أي لمخالفة سنة القراض
51 ما لا يجوز من الشرط في القراض ( قال مالك لا ينبغي لصاحب المال أن يشترط لنفسه شيئا من الربح خالصا دون العامل ولا ينبغي للعامل أن يشترط لنفسه شيئا من الربح خالصا دون صاحبه ) فإن وقع ذلك فقال مالك وأصحابه في الموازية إن ترك ذلك مشترطه قبل العمل جاز وأما بعده فروى يحيى عن ابن القاسم إن أسقطه
____________________
(3/442)
مشترطه صح وتماديا عليه وأنكره يحيى بعد العمل ( ولا يكون مع القراض بيع ولا كراء ولا عمل ولا سلف ولا مرفق ) بفتح الميم وكسر الفاء وعكسه ما يرتفق به ( يشترط أحدهما لنفسه دون صاحبه إلا أن يعين أحدهما صاحبه على غير شرط على وجه المعروف إذا صح ذلك منهما ولا ينبغي للمتقارضين أن يشترط أحدهما على صاحبه زيادة من ذهب ولا فضة ولا شيء من الأشياء يزداده أحدهما على صاحبه فإن دخل القراض شيء من ذلك صار إجارة ولا تصلح الإجارة إلا بشيء ثابت معلوم ) لأنها بيع منافع فيشترط لها شروط البيع ( ولا ينبغي ) أي يحرم ( للذي أخذ المال ) أي العامل ( أن يشترط مع أخذه المال أن يكافىء ) من أسدى إليه معروفا يختص به فلو كافأ لمعروف أسدي إليه في مال القراض على وجه التجارة وللنظر جاز
( ولا يولي من سلعته ) أي القراض المشتراة بماله ( أحدا ) غيره بمثل ما اشتراها به إذا كان يرجو فيها النماء لتعلق حق رب المال بالربح فيها وقيد بما لم يخف الوضيعة وإلا جاز
( ولا يتولى شيئا منها لنفسه ) يستقل به ( فإذا وفر ) بفتح الفاء أي زاد ( وحصل عزل رأس المال ثم اقتسما المال ) أي ربحه ( على شرطهما ) إن كان ربح ( فإن لم يكن للمال ربح أو دخلته وضيعة ) نقص ( لم يلحق العامل من ذلك شيء لا مما أنفق على نفسه ولا من الوضيعة ) لأنه ليس بمضمون عليه ( وذلك على رب المال في ماله ) دون العامل ولا شيء للعامل أيضا
( والقراض جائز على ما تراضى عليه رب المال والعامل من نصف الربح أو ثلثه أو أقل من ذلك أو أكثر ) أعاده لأنه قدمه غير مقصود
( ولا يجوز للذي يأخذ المال قراضا أن يشترط أن يعمل فيه سنين لا ينزع منه و ) كذلك ( لا يصلح
____________________
(3/443)
لصاحب المال أن يشترط أنك ) يا عامل ( لا ترده إلى سنين لأجل يسميانه لأن القراض لا يكون إلى أجل ) لا يكون لأحدهما فسخه قبله ووافقه الشافعي وأجازه أبو حنيفة في أحد قوليه وأصحابه
( ولكن يدفع رب المال ماله إلى الذي يعمل له فيه فإن بدا لأحدهما أن يترك ذلك والمال ناض لم يشتر به شيئا تركه ) لأن عقده غير لازم بإجماع ( وأخذ صاحب المال ماله وإن بدا لرب المال أن يقبضه بعد أن يشتري به سلعة فليس ذلك له حتى يباع ويصير عينا ) لتعلق حق العامل بالربح ( فإن بدا للعامل أن يرده وهو عرض لم يكن له حتى يبيعه فيرده عينا كما أخذه ) لتعلق حق ربه بذلك وحاصله أن لكل فسخه قبل العمل لا بعده حتى يعود عينا كما أخذه
( ولا يصلح لمن دفع إلى رجل مالا قراضا أن يشترط عليه الزكاة في حصته من الربح خاصة لأن رب المال إذا اشترط ذلك لنفسه فضلا ) زيادة ( من الربح ثابتا فيما سقط عنه من حصة الزكاة التي تصيبه ) تلزمه ( من حصته ) ولأنه لا يدري كم يكون المال حين وجوب الزكاة وربما هلك كله أو بعضه
( ولا يجوز لرجل أن يشترط على من قارضه أن لا يشتري إلا من فلان لرجل يسميه فذلك غير جائز لأنه يصير له أجيرا ) وفي نسخة رسولا ( بأجر ليس بمعروف ) وسواء كان ذلك بالرجل موسرا لا تعدم عنده السلع أو معسرا فإن وقع فسخ فإن فات صح به القراض الفاسد قاله ابن نافع وأجازه أبو حنيفة
( قال مالك في الرجل يدفع إلى رجل مالا قراضا ويشترط على الذي دفع إليه المال الضمان قال لا يجوز لصاحب المال أن يشترط في ماله غير ما وضع القراض عليه وما مضى من سنة المسلمين فيه ) ولا خلاف بينهم أن القراض على الأمانة لا على الضمان
( فإن نما المال على شرط
____________________
(3/444)
الضمان كان قد زاد في حقه من الربح من أجل موضع الضمان ) وذلك لا يجوز ( وإنما يقتسمان الربح على ما لو أعطاه على غير ضمان وإن تلف لم أر على الذي أخذه ضمانا لأن شرط الضمان في القراض باطل ) فإن دفع على الضمان فسخ ما لم يعمل فإن عمل بطل الشرط ورد إلى قراض مثله عند مالك وعنه إلى أجرة مثله وقاله الشافعي
وقال أبو حنيفة القراض جائز والشرط باطل
( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا واشترط عليه أن لا يبتاع به إلا نخلا أو دواب لأجل أنه يطلب ثمر النخل أو نسل الدواب ويحبس رقابها قال مالك لا يجوز هذا وليس هذا من سنة المسلمين في القراض ) وبه قال سائر الفقهاء فإن وقع لم يصح وله أجر مثله فيما اشتراه والدواب والنخل لرب المال قاله أبو عمر ولا يجوز ( إلا أن يشتري ذلك ثم يبيعه كما يباع غيره من السلع ) لأن الذي يعامل عليه في القراض هو التجارة دون السقي والقيام على الدواب لأنها تنمو بلا عمل ولأن العامل قد يربح ببيع الرقاب فيكون ممنوعا منه وهو المقصود بالقراض قاله الباجي
( ولا بأس أن يشترط المقارض على رب المال غلاما يعينه به على أن يقوم معه الغلام في المال إذا لم يعد ) بفتح فسكون ( أن يعينه في المال لا يعينه في غيره )
52 القراض في العروض ( قال مالك لا ينبغي لأحد أن يقارض أحدا إلا في العين لأنه لا تنبغي المقارضة في العروض لأن المقارضة في العروض إنما تكون على أحد وجهين ) كل منهما ممنوع ( إما أن يقول له صاحب
____________________
(3/445)
العرض خذ هذا العرض فبعه فما خرج من ثمنه فاشتر به وبع على وجه القراض فقد اشترط صاحب المال فضلا لنفسه من بيع سلعته وما يكفيه من مؤنتها ) ووافقه الشافعي وأجازه أبو حنيفة
( أو ) يجعل العرض نفسه رأس المال وهو الوجه الثاني بأن ( يقول اشتر بهذه السلعة وبع فإذا فرغت فابتع لي مثل عرضي الذي دفعت إليك فإن فضل شيء فهو بيني وبينك ) فلا يجوز وأجازه ابن أبي ليلى
( و ) وجه المنع أنه ( لعل صاحب العرض أن يدفعه إلى العامل في زمان هو فيه نافق ) رائج ( كثير الثمن ثم يرده العامل حين يرده وقد رخص ) بضم الخاء ( فيشتريه بثلث ثمنه أو أقل من ذلك فيكون العامل قد ربح نصف ما نقص من ثمن العرض في حصته من الربح أو يأخذ العرض في زمان ثمنه فيه قليل فيعمل فيه حتى يكثر المال في يديه ثم يغلو ذلك العرض ويرتفع ثمنه حين يرده فيشتريه بكل ما في يديه فيذهب عمله وعلاجه ) عطف تفسير ( باطلا ) بلا شيء ( فهذا غرر لا يصلح ) فيفسخ قبل العمل ( فإن جهل ذلك ) واستمر ( حتى يمضي ) ينقضي العمل ( نظر إلى قدر أجر الذي دفع إليه القراض في بيعه إياه وعلاجه فيعطاه ثم يكون المال قراضا من يوم نض المال واجتمع عينا ) تفسير لنض ( ويرد إلى قراض مثله ) وهذا بيان شاف لكراهة القراض بالعروض لا يشكل على من له أدنى تأمل قاله أبو عمر
53 الكراء في القراض ( قال مالك في رجل دفع إليه مالا قراضا فاشترى به متاعا فحمله إلى بلد التجارة فبار ) كسد
____________________
(3/446)
( عليه وخاف النقصان إن باعه فتكارى عليه ) أكرى على حمله ( إلى بلد آخر فباع بنقصان فاغترق الكراء أصل المال كله قال مالك إن كان فيما باع وفاء للكراء فسبيل ذلك ) أي طريقه ( وإن بقي من الكراء شيء بعد أصل المال كان على العامل ولم يكن على رب المال منه شيء يتبع به و ) بيان ( ذلك أن رب المال إنما أمره بالتجارة في ماله ) الذي دفعه إليه ( فليس للمقارض ) بفتح الراء أي العامل ( أن يتبعه بما سوى ذلك من المال ) أي ماله الذي لم يقارض به ( ولو كان ذلك يتبع به رب المال لكان ذلك دينا عليه من غير المال الذي قارضه فيه فليس للمقارض أن يحمل ) بكسر الميم أي يجعل ( ذلك على رب المال ) لأنه إنما أطلق يده على رأس مال القراض دون غيره
54 التعدي في القراض ( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فعمل فيه فربح ثم اشترى من ربح المال أو من جملته ) أصله وربحه ( جارية ) للقراض أو على وجه السلف منه فوطئها ( فحملت منه ثم نقص المال قال إن كان له ) أي العامل ( مال أخذت قيمة الجارية من ماله فيجبر به المال ) أي نقصانه
( فإن كان فضل بعد وفاء ) رأس ( المال ) لربه ( فهو بينهما على القراض الأول ) من نصف أو غيره
( وإن لم يكن له وفاء بيعت الجارية حتى ) للتعليل أي لأجل أن ( يجبر المال من ثمنها ) الذي بيعت به
( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فتعدى فاشترى به سلعة وزاد في ثمنها من عنده قال مالك صاحب المال بالخيار إن بيعت السلعة بربح أو وضيعة ) نقص ( أو لم تبع ) أصلا ( إن شاء
____________________
(3/447)
أن يأخذ السلعة أخذها وقضاه ما أسلفه فيها ) أي زاد من عنده ( وإن أبى ) امتنع من أخذها بذلك ( كان المقارض شريكا له بحصته من الثمن في النماء ) أي الزيادة ( والنقصان بحسب ما زاد العامل فيها من عنده ) متعلق بشريكا
( قال مالك في رجل أخذ من رجل مالا قراضا ثم دفعه إلى رجل آخر فعمل فيه قراضا بغير إذن صاحبه إنه ضامن للمال إن نقص فعليه النقصان ) لأنه متعد إذ ليس له دفعه لغيره قراضا
( وإن ربح فلصاحب المال شرطه من الربح ثم يكون للذي عمل شرطه مما بقي من المال ) بعد أخذ ربه رأسه وما شرطه من الربح قال أبو عمر لا أعلم خلافا في هذا إلا أن المزني قال ليس للثاني إلا أجر مثله لأنه عمل على فساد مال القراض وهو أصل الشافعي في الجديد وقوله في القديم كمالك
( قال مالك في رجل تعدى فتسلف مما بيده مال القراض مالا فابتاع به سلعة لنفسه إن ربح فالربح على شرطهما في القراض وإن نقص فهو ضامن للنقصان ) لتعديه
( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فاستسلف منه المدفوع إليه المال ) أي العامل ( مالا واشترى به سلعة لنفسه إن صاحب المال بالخيار إن شاء أشركه في السلعة على قراضها وإن شاء خلى بينه وبينها وأخذ منه رأس ماله وكذلك يفعل بكل من تعدى ) بلا خلاف أعلمه سواء اشتراه للتجارة أو القنية ومعنى المسألتين متقارب بل واحد قاله أبو عمر غايته أن الثانية أوضح
____________________
(3/448)
ما يجوز من النفقة في القراض ( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا إذا كان المال كثيرا يحمل النفقة فإذا شخص ) بفتحات سافر ( فيه العامل فإن له أن يأكل منه ويكتسي بالمعروف من قدره ) وفي نسخة ابن وضاح من قدر المال ( ويستأجر من المال إذا كان كثيرا لا يقوى عليه ) وحده ( بعض ) مفعول يستأجر ( من يكفيه بعض مؤنته ) مفعول يكفي ( ومن الأعمال أعمال لا يعملها الذي يأخذ المال ) أي العامل ( وليس مثله يعملها من ذلك تقاضي الدين ) طلبه ممن هو عليه ( ونقل المتاع وشده وأشباه ذلك فله أن يستأجر من المال من يكفيه ذلك وليس للمقارض ) بالفتح ( أن يستنفق ) بسين الطلب أي يطلب أن ينفق ( من المال ولا يكتسي منه ) ومنعه من طلب ذلك أبلغ من منعه من فعله نحو قوله تعالى { ولا تقربوا الزنى } سورة الإسراء الآية 17 فإنه أبلغ من لا تزنوا وقول الشاعر يا عاذلاني لا تردن ملامتي إن العواذل لسن لي بأمير أبلغ من لا تلمني
( ما كان ) أي مدة كونه ( مقيما في أهله إنما تجوز له النفقة إذا شخص ) سافر ( في المال وكان المال يحمل النفقة فإن كان إنما يتجر في البلد الذي هو به مقيم فلا نفقة له من المال ولا كسوة ) وكذا إذا كان المال قليلا فلا كسوة ولا نفقة قرب السفر أو بعد قاله مالك أيضا نقله الباجي
( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فخرج به وبمال لنفسه قال يجعل النفقة من مال القراض ومن ماله على قدر حصص المال ) واختلف في مطلق عقد القراض هل يقتضي السفر بالمال فمشهور المذهب أنه مباح لقوله تعالى { وآخرون يضربون في الأرض } سورة
____________________
(3/449)
المزمل الآية 20 ) أي يسافرون فلا ينافيه مطلق عقد القراض وبه قال الشافعي وقال ابن حبيب لا يسافر إلا بإذن رب المال
وعن أبي حنيفة القولان والمشهور أن ذلك سواء في قليل المال وكثيره
وقال سحنون لا يسافر بالقليل سفرا بعيدا إلا بإذن ربه قاله الباجي
56 ما لا يجوز من النفقة في القراض ( قال مالك في رجل معه مال قراض فهو يستنفق ) بسين التأكيد ( منه ويكتسي إنه لا يحب منه شيئا ) لأنه لا يتعدى النفقة إلى التفضل على الناس ( ولا يعطي منه سائلا ) الدراهم أو الثياب وأما الكسوة والقطعة للسائل المتكفف فيجوز
( ولا ) يعطي ( غيره ) شيئا ( ولا يكافىء فيه أحدا ) أسدى إليه معروفا يختص به فلو كافأ على معروف أسدي إليه في مال القراض على وجه النظر والتجارة جاز وهذا فعله بغير شرط ومر أنه لا يجوز له اشتراط ذلك في عقد القراض فلا يظن أنه هو
( فأما إن اجتمع هو وقوم فجاؤوا بطعام وجاء هو بطعام ) على عادة الرفقاء في السفر ( فأرجو أن يكون ذلك واسعا ) أي جائزا وإن كان بعضه أكثر من بعض ( إذا لم يتعمد أن يتفضل عليهم فإن تعمد ذلك ) بأن أتى بأمر مستنكر ( أو ما يشبهه بغير إذن صاحب المال فعليه ) أي يجب ( أن يتحلل ذلك من صاحب المال فإن حلله ذلك فلا بأس به وإن أبى أن يحلله ) يسامحه ( فعليه أن يكافئه بمثل ذلك إن كان ذلك شيئا له مكافأة ) وهو ما قصد به التفضل لا إن قل كالعدة
57 الدين في القراض ( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فاشترى به سلعة ثم
____________________
(3/450)
باع السلعة بدين ) بإذن رب المال ( فربح في المال ثم هلك الذي أخذ المال قبل أن يقبض المال قال إن أراد ورثته ) أي العامل ( أن يقبضوا ذلك المال وهم على شرط أبيهم من الربح فذلك لهم ) إلى تمام العمل ( إذا كانوا أمناء على ذلك ) عالمين بالعمل ( فإذا كرهوا أن يقتضوه وخلوا بين صاحب المال وبينه لم يكلفوا أن يقتضوه ) وإن كانوا أمناء ( ولا شيء عليهم ولا شيء لهم إذا أسلموه إلى رب المال ) لأن القراض إنما انعقد في منافعه وأمانته لا في ذمته فإذا مات لم يلزم ذلك ماله
( فإن اقتضوه فلهم فيه من الشرط ) على جزء الربح ( والنفقة مثل ما كان لأبيهم في ذلك هم فيه بمنزلة أبيهم ) وإنما خيروا لأنه ثبت لمورثهم حق في الربح ومن مات عن حق فلوارثه
( فإن لم يكونوا أمناء على ذلك ) أي لم يعلموا بالعمل ( فإن لهم أن يأتوا بأمين ) عالم بالعمل ( فيقتضي ذلك المال فإذا اقتضى جميع المال وجميع الربح كانوا بمنزلة أبيهم ) فلهم جزء الربح الذي كان شرطه
( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا على أن يعمل فيه فما باع به من دين فهو ضامن له إن ذلك لازم له إن باع بدين فقد ضمنه ) إذ ليس له أن يبيع بدين إلا بإذن رب المال وقال أبو حنيفة له ذلك بمطلق العقد إلا أن ينهاه صاحب المال
58 البضاعة في القراض ( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا واستسلف من صاحب المال سلفا أو استسلف منه ) أي العامل ( صاحب المال سلفا أو أبضع معه صاحب المال بضاعة يبيعها له أو بدنانير يشتري له
____________________
(3/451)
بها سلعة
قال مالك إن كان صاحب المال إنما أبضع معه وهو يعلم أنه لو لم يكن ماله عنده ثم سأله مثل ذلك فعله لإخاء ) بالمد صداقة ومودة بينهما ( أو ليسارة ) سهولة ( مؤنة ذلك عليه ولو أبى ذلك عليه لم ينزع ماله ) المجعول قراضا ( منه أو كان العامل إنما استسلف من صاحب المال أو حمل له بضاعته وهو يعلم أنه لو لم يكن عنده ماله فعل له مثل ذلك ولو أبى ذلك عليه لم يردد عليه ماله فإذا صح ذلك منهما جميعا وكان ذلك منهما على وجه المعروف ولم يكن ذلك شرطا في أصل ) عقد ( القراض فذلك جائز لا بأس به ) كأنه أراد لا كراهة فيه أو تأكيد الجواز
( وإن دخل ذلك شرط أو خيف أن يكون إنما صنع ذلك العامل لصاحب المال ليقر ) بضم أوله يبقى ( ماله في يديه وإنما يضع ذلك رب المال لأن يمسك العامل ماله ولا يرده عليه فإن ذلك لا يجوز في القراض وهو مما ينهى عنه أهل العلم ) لأن شرط ذلك زيادة على المعلوم فيعود مجهولا لأن العمل في البضاعة له أجرة يستحقها العامل فيها
59 السلف في القراض ( قال مالك في رجل أسلف رجلا مالا ثم سأله الذي تسلف المال أن يقره عنده قراضا قال مالك لا أحب ذلك حتى يقبض ماله منه ثم يدفعه إليه قراضا ) إن شاء ( أو يمسكه ) وقدم ذلك معللا في ترجمة ما لا يجوز في القراض
( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فأخبره أنه قد
____________________
(3/452)
اجتمع عنده وسأله أن يكتبه عليه سلفا فقال لا أحب ذلك حتى يقبض منه ماله ثم يسلفه إياه إن شاء أو يمسكه وإنما ذلك ) أي عدم محبته ( مخافة أن يكون قد نقص فيه فهو يحب أن يؤخره عنه إلى أن يزيده فيه ما نقص منه فذلك مكروه ولا يجوز ولا يصلح ) قال الباجي علله بأنه سلف جر نفعا ويدخله أيضا فسخ الدين في الدين لأن القراض بعض التعلق بذمته إذ لو ادعى الخسارة ولم يبين وجهها فقال بعض أصحابنا يضمن ولو ادعى التبرئة لم يضمن فإذا أسلفه إياه تعلق بذمته على غير الوجه الذي كان متعلقا به فهو من فسخ الدين في الدين
60 المحاسبة في القراض ( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فعمل فيه فربح فأراد أن يأخذ حصته من الربح وصاحب المال غائب قال لا ينبغي له أن يأخذ شيئا إلا بحضرة صاحب المال وإن أخذ شيئا فهو ضامن له حتى يحسب مع المال إذا اقتسماه ) لأنه لا يجوز اتفاقا أن يكون أحد مقاسما لنفسه عن نفسه ولا آخذا لها ومعطيا لها
( قال مالك لا يجوز للمتقارضين أن يتحاسبا ويتفاصلا والمال غائب عنهما حتى يحضر المال فيستوفي صاحب المال رأس ماله ) عينا أو سلعة إن اتفقا على ذلك حكاه ابن حبيب عن مالك يريد سلعة يجوز سلم رأس المال فيها ( ثم يقتسمان الربح على شرطهما ) فيه
( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فاشترى به سلعة وقد كان عليه دين فطلبه غرماؤه فأدركوه ببلد غائب عن صاحب المال وفي يده عرض مربح بين ) ظاهر ( فضله ) زيادته ( فأرادوا أن يباع
____________________
(3/453)
لهم العرض فيأخذوا حصته من الربح فقال لا يؤخذ من ربح القراض شيء حتى يحضر صاحب المال فيأخذ ماله ثم يقتسمان الربح على شرطهما ) لأن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بعد المقاسمة
( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فتجر فيه فربح ثم عزل رأس المال وقسم الربح فأخذ حصته وطرح ) ألقى ( حصة صاحب المال في المال بحضرة شهود ) وفي نسخة شهداء ( أشهدهم على ذلك قال لا يجوز قسمة الربح إلا بحضرة صاحب المال وإن كان أخذ شيئا رده حتى يستوفي صاحب المال رأس ماله ثم يقسمان ما بقي بينهما من الربح على شرطهما ) ولا ينفعه الإشهاد لأنه أشهد على ما لا يجوز له فعله فإن تجر فيه فحصة رب المال في ذلك الربح وهو قطعة من مال القراض
( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فعمل فيه فجاءه فقال هذه حصتك من الربح وقد أخذت لنفسي مثله ورأس مالك وافر عندي قال لا أحب ذلك حتى يحضر المال كله فيحاسبه حتى يحصل رأس المال ويعلم أنه وافر ) أي كامل ( ويصل إليه ثم يقتسمان الربح بينهما ثم يرد إليه المال ) إن شاء ( أو يحبسه ) يمنعه عنه
( وإنما يجب حضور المال مخافة أن يكون العامل قد نقص فيه فهو يحب أن لا ينزع منه وأن يقره في يده ) يبقيه عنده لئلا يشاع عنه أنه نقص مال القراض فينفر من معاملته
____________________
(3/454)
61 جامع ما جاء في القراض ( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فابتاع به سلعة فقال له صاحب المال بعها وقال الذي أخذ المال لا أرى وجه بيع ) للكساد في تلك السلعة ( فاختلفا في ذلك قال لا ينظر إلى قول واحد منهما ويسأل عن ذلك أهل المعرفة والبصر ) بفتحتين الخبرة ( بتلك السلعة فإن رأوا وجه بيع بيعت عليهما وإن رأوا وجه انتظار انتظر بها ) لأن القراض قد لزم بالشراء والعمل فليس لهما الانفكاك منه إلا على الوجه المعهود ولذا لو كان المال دينا داين به العامل بإذن رب المال ثم أراد أحدهما تعجيل بيعه فالقول قول الآبي منهما لأنه المعهود من التجارة وقال الكوفيون والشافعي تباع السلعة في الوقت لأن لكل واحد منهما عنده نقض القراض عند العمل وبعده لأنه عقد غير لازم
( قال مالك في رجل أخذ من رجل مالا قراضا فعمل فيه ثم سأله صاحب المال عن ماله فقال هو عندي وافر ) أي كامل ( فلما أخذه به قال قد هلك عندي منه كذا وكذا لمال يسميه وإنما قلت ذلك لكي تتركه عندي قال لا ينتفع بإنكاره بعد إقراره أنه عنده ويؤخذ بإقراره على نفسه ) ولا خلاف في هذا وقد أجمعوا على أن الرجوع في حقوق الناس بعد الإقرار لا ينفع الراجع ( إلا أن يأتي في هلاك ذلك المال بأمر يعرف به قوله ) فيصدق في دعوى الهلاك ( فإن لم يأت بأمر معروف أخذ بإقراره ولم ينفعه إنكاره ) بل سيكون ندما
( وكذلك أيضا لو قال ربحت في المال كذا وكذا فسأله رب المال أن يدفع إليه ماله وربحه فقال ما ربحت فيه شيئا وما قلت ذلك إلا لأن تقرره في يدي فذلك لا ينفعه
____________________
(3/455)
ويؤخذ بما أقر به إلا أن يأتي بأمر يعرف به قوله وصدقه ) كاشتهار بوار ما اتجر فيه بين الناس ( فلا يلزمه ذلك ) لظهور صدقه
( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فربح فيه ربحا فقال العامل قارضتك على أن لي الثلثين وقال صاحب المال
قارضتك على أن لك الثلث
قال مالك القول قول العامل وعليه في ذلك اليمين إذا كان ما قال يشبه القراض مثله وكان ذلك نحوا مما يتقارض عليه الناس ) بيان للشبه وكذا إن أشبه قول كل واحد منهما القول للعامل بيمينه وإن أشبه صاحب المال وحده فالقول قوله بيمينه
( وإن ) لم يشبه العامل بأن ( جاء بأمر يستنكر ليس على مثله يتقارض الناس لم يصدق ورد إلى قراض مثله ) وكذا إن لم يشبه أحدا منهما يردان إلى قراض المثل بعد إيمانهما
( قال مالك في رجل أعطى رجلا مائة دينار قراضا فاشترى بها سلعة ثم ذهب ليدفع إلى رب السلعة المائة دينار فوجدها قد سرقت فقال رب المال بع السلعة فإن كان فيها فضل كان لي وإن كان فيها نقصان كان عليك لأنك أنت ضيعت وقال المقارض ) بالفتح ( بل عليك وفاء حق هذا ) لأني ( إنما اشتريتها بمالك الذي أعطيتني قال مالك يلزم العامل المشتري أداء ثمنها إلى البائع ) لأنه الذي تولى الشراء منه
( ويقال لصاحب المال القراض ) بالخفض بدل ( إن شئت فأد المائة الدينار إلى المقارض ) بالفتح ( والسلعة بينكما أو تكون قراضا على ما كانت عليه المائة الأولى وإن شئت فابرأ من السلعة ) وتكون خسارة المائة عليك ( فإن دفع المائة الدينار إلى العامل كانت قراضا على سنة القراض
____________________
(3/456)
الأول ) أي طريقته على ما شرطا من الربح
( وإن أبى ) امتنع ( كانت السلعة للعامل وكان عليه ثمنها ) وتمت خسارة المائة على رب المال
( قال مالك في المتقارضين إذا تفاضلا فبقي بيد العامل من المتاع الذي يعمل فيه خلق ) بفتح المعجمة واللام أي بالي ( القربة أو خلق الثوب أو ما أشبه ذلك ) كالغرارة والإداوة
( قال مالك كل شيء من ذلك كان تافها ) بالفوقية والفاء أي قليلا ( لا خطر ) لا شأن ( له فهو للعامل ولم أسمع أحدا أفتى برد ذلك ) لأنه مما لا يلتفت إليه غالبا خصوصا من رب المال لا سيما إذا ربح ( وإنما يرد من ذلك الشيء الذي له ثمن وإن كان شيئا له اسم مثل الدابة أو الجمل أو الشاذكونة ) بشين وذال معجمتين مفتوحتين وضم الكاف ثياب غلاظ مضربة تعمل باليمن ( أشباه ذلك مما له ثمن فإني أرى أن يرد ما بقي عنده من هذه إلا أن يتحلل صاحبه من ذلك ) ووافقه الليث وقال أبو حنيفة والشافعي يرد قليل ذلك وكثيره واحتج بعضهم بقوله صلى الله عليه وسلم يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا ولا حجة فيه كما لا يخفى والله تعالى أعلم
____________________
(3/457)
16 كتاب المساقاة مفاعلة من السقي لأنه معظم عملها وأصل منفعتها وأكثرها مؤنة والبعل يجوز مساقاته ولا سقي فيه لأن ما فيه من المؤن يقوم مقام السقي والمفاعلة إما للواحد نحو عافاك الله أو لوحظ العقد وهو منهما فيكون من التعبير بالمتعلق عن المتعلق وهي مستثناة من المخابرة وهي كراء الأرض بما يخرج منها ومن بيع الثمرة والإجارة بها قبل طيبها وقبل وجودها ومن الإجارة المجهولة ومن بيع الغرر إلى غير ذلك قاله عياض
وبحث في الأول بأن الأرض غير مكتراة في المساقاة إنما المكترى العامل ولذا قالوا في حدها إنها إجارة على العمل في حائط وشبهه بجزء من ربحه وأجيب بأن البياض الذي يدخل في المساقاة فيه كراء الأرض بما يخرج منها وذلك كاف في الاستثناء
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب ) قال ابن عبد البر أرسله جميع رواة الموطأ وأكثر أصحاب ابن شهاب ووصله منهم طائفة منهم صالح بن أبي الأخضر أي وهو ضعيف فزاد أبو هريرة ( أن رسول الله قال ليهود خيبر ) بوزن جعفر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع ونخل كثير على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام ( يوم افتتح خيبر ) في صفر سنة سبع عند الجمهور بعدما حاصرها بضع عشرة ليلة ومن قال سنة ست بناه على أن ابتداء التاريخ من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع الأول
وفي الصحيحين عن ابن عمر كان لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها فسألته أن يقرهم بها على أن يكفوه العمل ولهم نصف الثمر فقال ( أقركم فيها ما أقركم الله ) عز وجل لا دلالة فيه
____________________
(3/458)
لمن قال بجواز المساقاة مدة مجهولة لأنه محمول على مدة العهد لأنه كان عازما على إخراج الكفار من جزيرة العرب كمحبته استقبال الكعبة فإنه كان لا يتقدم في شيء إلا بوحي فذكر ذلك لليهود منتظرا للقضاء فيهم إلى أن حضرته الوفاة فأتاه الوحي فقال لا يبقين دينان بأرض العرب فلما بلغ عمر ذلك فحص عنه حتى أتاه الثبت فأجلاهم أو لأن ذلك كان خاصا به ينتظر قضاء الله وقيل لأنهم كانوا عبيدا له كما قال ابن شهاب ويجوز بين السيد وعبده مالا يجوز بين الأجنبيين إذ للسيد أخذ ما بيده عند الجميع قاله ابن عبد البر
وقال الباجي لعله بين لهم ولم يبينه الراوي لأن ظاهره المساقاة أو لعله كان بعد وصف العمل والاتفاق منه على معلوم بعادة أو غيرها
قال عياض وقيل ليس القصد بهذا الكلام عقد المساقاة وإنما المقصود به أنها ليست مؤبدة وأن لنا إخراجكم
قال القرطبي ويحتمل أنه حد الأجل فلم يسمعه الراوي فلم ينقله اه
وفيه بعد مع الاستغناء عنه بغيره
( على أن الثمر ) بمثلثة ( بيننا وبينكم ) نصفين كما في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرعقال عياض وهو مفسر للإبهام في حديث الموطأ فإن المساقاة لا تجوز مبهمة والجزء فيها ما يتفقان عليه قل أو كثر
( قال فكان رسول الله يبعث عبد الله بن رواحة ) بفتح الراء بن ثعلبة بن امرىء القيس الأنصاري الخزرجي الشاعر أحد السابقين شهد بدرا واستشهد بمؤتة وكان ثالث الأمراء بها في جمادى الأولى سنة ثمان وفيه أن كان لا تقتضي التكرار لأنه إنما بعثه عاما واحدا وقتل بعده بأشهر كما رأيت
( فيخرص بينه وبينهم ثم يقول إن شئتم فلكم ) وتضمنون نصيب المسلمين ( وإن شئتم فلي ) وأضمن نصيبكم ( فكانوا يأخذونه ) وعن جابر خرص ابن رواحة أربعين ألف وسق ولما خيرهم أخذوا الثمرة وأدوا عشرين ألف وسق
قال ابن مزين سألت عيسى عن فعل ابن رواحة أيجوز للمتساقيين أو الشريكين فقال لا ولا يصلح قسمه إلا كيلا إلا أن تختلف حاجتهما إليه فيقتسمانه بالخرص فتأول خرص ابن رواحة للقسمة خاصة
وقال الباجي يحتمل أنه خرصها بتمييز حق الزكاة لأن مصرفها غير مصرف أرض العنوة لأنه يعطيها الإمام للمستحق من غني وفقير فيسلم مما خافه عيسى وأنكره
وقوله إن شئتم الخ حمله عيسى على أنه أسلم إليهم جميع الثمرة بعد الخرص ليضمنوا حصة المسلمين ولو كان هذا معناه لم يجز لأنه بيع الثمر بالثمر بالخرص في غير العرية وإنما معناه خرص الزكاة فكأنه قال إن شئتم أن تأخذوا الثمرة على أن تؤدوا زكاتها على ما خرصته وإلا فأنا أشتريها من الفيء بما يشتري به فيخرج بهذا الخرص وذلك معروف لمعرفتهم بسعر الثمر إن حمل على خرص القسمة لاختلاف الحاجة فمعناه إن شئتم هذا النصيب فلكم وإن شئتم فلي يبين ذلك أن الثمرة ما دامت في رؤوس النخل ليس بوقت قسمة ثمر المساقاة لأن على العامل جذها والقيام عليها حتى
____________________
(3/459)
يجري فيها الكيل أو الوزن فثبت بهذا أن الخرص قبل ذلك لم يكن للقسمة إلا بمعنى اختلاف الأغراض
وقال ابن عبد البر الخرص في المساقاة لا يجوز عند جميع العلماء لأن المساقيين شريكان لا يقتسمان إلا بما يجوز به بيع الثمار بعضها ببعض وإلا دخلته المزابنة قالوا وإنما بعث من يخرص على اليهود لإحصاء الزكاة لأن المساكين ليسوا شركاء معينين فلو ترك اليهود وأكلها رطبا وتصرف فيها أضر ذلك سهم المسلمين قالت عائشة إنما أمر بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق وفيه جواز المساقاة وبه قال الجمهور والأئمة الثلاثة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن ومنعها أبو حنيفة مستدلا بوجوه أولها نهيه عن المخابرة وهي مشتقة من خيبر أي نهى عن الفعل الذي وقع في خيبر من المساقاة فحديث الجواز منسوخ وتعقب بأن العرب كانت تعرف المخابرة قبل الإسلام وهي عندهم كراء الأرض بما يخرج منها مأخوذة من الخبرة التي هي العلم بالخفيات وقيل الخبر الحرث والمخابرة مشتقة منه ومنه سمي الزارع خيبرا وبأن في الصحيحين عن ابن عمر عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر ثم أجلاهم عمر إلى تيما وأريحا وكذا عمل بها عثمان والخلفاء بعدهم
أفتراهم كانوا يجهلون حديث النهي عن المخابرة أو يدعي نسخ الحديث وقد عمل به الصحابة والعمل بالمنسوخ حرام إجماعا
ثانيها أن يهود خيبر كانوا عبيدا للمسلمين ويجوز مع العبد ما يمتنع مع الأجنبي والذي قدره لهم من شطر الثمر والزرع هو قوت لهم لأن نفقة العبد على المالك وتعقب بأنهم لو كانوا عبيدا امتنع ضرب الجزية عليهم وإخراجهم إلى الشام ونفيهم في أقطار الأرض لأنه إضاعة لمال المسلمين وبأن ابن رواحة قال لهم إن شئتم فلكم وتضمنون نصيب المسلمين وإن شئتم فلي وأضمن نصيبكم والسيد على قوله لا يصح ضمانه عن عبده لأنه لا يملك عندهم إذ ماله للسيد فهذا يدل على أنهم كانوا مالكين
ثالثها نهيه عن بيع الغرر والأجرة هنا فيها غرر إذ لا يدري هل تسلم الثمرة أم لا وعلى سلامتها لا يدرى كيف تكون وما مقدارها
وأجيب بأن حديث الجواز خاص والنهي عن الغرر عام والخاص يقدم على العام
رابعها أن الخبر إذا ورد على خلاف القواعد رد إليها وحديث الجواز على خلاف ثلاث قواعد بيع الغرر والإجارة بمجهول وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها والكل حرام إجماعا
وأجيب بأن الخبر إنما يجب رده إلى القواعد إذا لم يعمل به أما إذا عمل به قطعنا بإرادة معناه فيعتقد ولا يلزم الشارع إذا شرع حكما أن يشرعه مثل غيره بل له أن يشرع ما له نظير وما لا نظير له فدل ذلك على أنها مستثناة من تلك الأصول للضرورة إذ لا يقدر كل أحد على القيام بشجره ولا زرعه
خامسها أن ذلك لا يجوز قياسا على تنمية الماشية ببعض نمائها
وأجيب بأن الماشية لا يتعذر بيعها عند العجز عن القيام بها بخلاف الزرع الصغير والثمرة
____________________
(3/460)
( مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار ) مرسل في جميع الموطآت وجاء عن ابن عباس وسماع سليمان منه صحيح قاله أبو عمر وقد وصله أبو داود وابن ماجه من حديث ميمون بن مهران عن مقسم عن ابن عباس وأبو داود من طريق إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر ( أن رسول الله كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرص بينه وبين يهود خيبر ) لتمييز حق الزكاة من غيرها لاختلاف المصرفين أو للقسمة لاختلاف الحاجة كما مر وفيه جواز التخريص لذلك وبه قال الأكثر ولم يجزه سفيان الثوري بحال وقال إنما على رب الحائط إخراج عشر ما يصير بيده
وقال الشعبي الخرص اليوم بدعة كأنه يرى نسخه بالنهي عن المزابنة
وأجازه داود في النخل خاصة
ودفع حديث ابن المسيب عن عتاب بن أسيد أن رسول الله بعثه وأمره أن يخرص العنب ويؤدي زكاته زبيبا كما يؤدي زكاة النخل تمرا بأنه مرسل لأن عتابا مات قبل مولد ابن المسيب وبأنه انفرد به عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد وليس بالقوي قاله ابن عبد البر ودعوى الإرسال بمعنى الانقطاع مبني على قول الواقدي إن عتابا مات يوم مات أبو بكر الصديق لكن ذكر ابن جرير الطبري أنه كان عاملا لعمر على مكة سنة إحدى وعشرين وقد ولد سعيد لسنتين مضتا من خلافة عمر على الأصح فسماعه من عتاب ممكن فلا انقطاع
وأما عبد الرحمن بن إسحاق فصدوق احتج به مسلم وأصحاب السنن
( قال فجمعوا له حليا ) ضبط بفتح فسكون على أنه مفرد وبضم فكسر وشد الياء على الجمع ( من حلي نسائهم فقالوا هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم ) أجمله وأغمض فيه
قال الباجي راموا به أن يستنزلوه كما قال تعالى { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا } سورة البقرة الآية 109 وقال تعالى { ودوا لو تكفرون كما كفروا } سورة النساء الآية 89 ولم يعاقبهم وامتثالا لقوله تعالى { فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره } البقرة 109 فقال عبد الله بن رواحة يا معشر يهود والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي قتلتم أنبياء الله وكذبتم على الله كما زاده في حديث جابر ( وما ذاك ) أي البغض ( بحاملي على أن أحيف ) بفتح الهمزة وكسر الحاء أجور ( عليكم ) لأنه يكون ظلما
وفي الحديث الظلم ظلمات يوم القيامة وفيه إن المؤمن وإن أبغض في الله لا يحمله البغض على ظلم من أبغض ( فأما ما عرضتم من الرشوة ) بتثليث الراء ( فإنها سحت ) أي حرام ( وإنا لا نأكلها ) لحرمتها بلا خلاف بين المسلمين
قال جماعة من المفسرين في قوله في اليهود { سماعون للكذب أكالون للسحت } سورة المائدة الآية 42 إنه الرشوة في الحكم وقيل كل ما لا يحل كسبه ( فقالوا بهذا ) العدل ( قامت السموات ) فوق الرؤوس بغير عمد ( والأرض ) استقرت على الماء تحت الأقدام
قال أبو عمر فيه دليل على أن الرشوة عند اليهود حرام لقولهم بهذا ولولا حرمته في كتابهم ما عيرهم الله بقوله { أكالون للسحت } وهو
____________________
(3/461)
حرام عند جميع أهل الكتاب
وفيه أن ما يأخذه الحاكم أو الشاهد على الحكم بالحق أو الشهادة به رشوة وكل رشوة سحت وكل سحت حرام لا يحل للمسلم أكله بلا خلاف بين المسلمين والعمل بخبر الواحد إذ لو لم يجب به الحكم ما بعث ابن رواحة وحده
( قال مالك إذا ساقى الرجل النخل وفيها البياض فما ازدرع ) أي زرع ( الرجل الداخل ) أي عامل المساقاة ( في البياض فهو له ) لقوله على أن الثمر بيننا وبينكم فلم يشترط إلا نصف الثمر وذلك وقت تبيين الحقوق فظاهره أن ذلك جميع ما يكون له وأيضا فالأرض بيد العاملين وإنما لربها ما شرطه دون سائر ما بأيديهم ولذا انفردوا بمساكنها ومزارعها وغير ذلك وما جاء أنه أعطاها على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها يحتمل أن يكون في عقدين قاله الباجي
( فإن اشترط صاحب الأرض أنه يزرع في البياض لنفسه فذلك لا يصلح لأن الرجل الداخل في المال يسقي لرب الأرض فذلك زيادة زادها عليه ) والزيادة ممنوعة
( وإن اشترط الزرع بينهما فلا بأس بذلك إذا كانت المؤنة كلها على الداخل في المال البذر والسقي والعلاج كله ) بيان للمؤنة لما جاء أنه عاملهم في البياض والسواد على النصف
( فإن اشترط الداخل في المال على رب المال أن البذر عليك فذلك غير جائز لأنه قد اشترط على رب المال زيادة ازدادها عليه ) وهي ممنوعة ( وإنما تكون المساقاة على أن الداخل في المال المؤونة كلها والنفقة ولا يكون على رب المال منها شيء فهذا وجه المساقاة المعروف ) الذي لا يجوز غيره
____________________
(3/462)
( قال مالك في العين تكون بين الرجلين فينقطع ماؤها فيريد أحدهما أن يعمل في العين ويقول الآخر لا أجد ما أعمل به إنه يقال للذي يريد أن يعمل في العين اعمل وأنفق ويكون لك الماء كله تسقي به حتى يأتي صاحبك بنصف ما أنفقت فإذا جاء بنصف ما أنفقت أخذ حصته من الماء وإنما أعطى الأول الماء كله لأنه أنفق ولو لم يدرك شيئا يعمله لم يعلق ) بفتح اللام أي لم يلزم ( الآخر من النفقة شيء ) لأن إنفاقه لم يفد شيئا
( وإذا كانت النفقة كلها والمؤونة على رب الحائط ولم يكن على الداخل في المال شيء إلا أنه يعمل بيديه إنما هو أجير ببعض الثمرة فإن ذلك لا يصلح لأنه لا يدري كم إجارته إذا لم يسم له شيئا يعرفه ويعمل عليه لا يدري أيقل ذلك أم يكثر ) فهي إجارة فاسدة
( قال مالك وكل مقارض ) بكسر الراء ( أو مساق فلا ينبغي له أن يستثني من المال ولا من النخل شيئا دون صاحبه وذلك أنه يصير أجيرا بذلك يقول أساقيك على أن تعمل لي في كذا وكذا نخلة تسقيها وتأبرها ) بضم الموحدة وكسرها تلقحها وتصلحها ( وأقارضك في كذا وكذا من المال على أن تعمل لي بعشرة دنانير ليست مما أقارضك عليه فإن ذلك لا ينبغي ولا يصلح ) لخلاف سنة المساقاة والقراض كما أفاده بقوله ( وذلك الأمر عندنا ) بالمدينة ( والسنة في المساقاة التي يجوز لرب الحائط أن يشترطها على المساقي ) بفتح القاف ( شد الحظار ) بالشين المنقوطة وهو الأكثر عن مالك أي تحصين الزروب ويروى عنه بالسين المهملة يعني سد الثلمة قاله أبو عمر
ونقل في المشارق عن يحيى الأندلسي أن ما حظر بزرب فبالمعجمة وما كان بجدار فبالمهملة والحظائر بالظاء
____________________
(3/463)
المعجمة جمع حظيرة هي العيدان التي بأعلى الحائط لتمنع من التسور عليه وقال ابن قتيبة هو حائط البستان الباجي مثل أن يسترخي رباط لحظيرة فيشترط على العامل شده
( وخم العين ) بالخاء المعجمة وشد الميم تنقيتها والمخموم النقي ورجل مخموم القلب أي نقيه من الغل والحسد
( وسرو ) بفتح المهملة وسكون الراء ثم واو أي كنس ( الشرب ) بفتح المعجمة والراء وموحدة جمع شربة وهي حياض يستنقع فيها الماء حول الشجر
وقال ابن حبيب تنقية الحياض التي تكون حول الشجر وتحصين حروفها ومجيء الماء إليها
الباجي وروي سوق الشرب وهو جلب الماء الذي يسقى به
( وإبار ) بكسر الهمزة وشد الموحدة ( النخل ) أي تذكيرها ( وقطع الجريد ) من النخل إذا كسرت وقد يفعل مثله بالشجر لقطع قضبان الكرم
( وجذ الثمر ) أي قطعه ( هذا وأشباهه ) كرم القف وهو الحوض الذي فيه الدلو ويجري منه إلى الضفيرة ( على أن للمساقي شطر ) أي نصف ( الثمر أو أقل من ذلك أو أكثر إذا تراضيا عليه غير أن صاحب الأصل لا يشترط ابتداء عمل جديد ) بالجيم ( يحدثه العامل فيها من بئر يحتفرها أو عين يرفع رأسها أو غراس يغرسه فيها يأتي بأصل ذلك من عنده أو ضفيرة ) بالضاد المعجمة موضع يجتمع فيه الماء كالصهريج وقال الباجي هي عيدان تنسج وتضفر وتطين ويجتمع فيها الماء كالصهريج ( يبنيها تعظم فيها نفقته ) فيمنع اشتراط هذا ( وإنما ذلك بمنزلة أن يقول رب الحائط لرجل من الناس ابن لي هاهنا بيتا أو احفر لي بئرا أو أجر لي عينا أو اعمل لي عملا بنصف ثمر حائطي هذا قبل أن تطيب ثمر الحائط ويحل بيعه فهذا بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه وقد نهى رسول الله عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ) فيمنع كذلك لدخوله في النهي
( فأما إذا طاب الثمر وبدا صلاحه ) تفسير لطيبه ( وحل بيعه ثم قال رجل لرجل اعمل لي بعض هذه الأعمال لعمل يسميه له بنصف ثمر حائطي هذا فلا بأس بذلك ) أي يجوز ( و ) وجهه أنه ( إنما
____________________
(3/464)
استأجره بشيء معروف معلوم قد رآه ورضيه ) فهي إجارة صحيحة
( فأما المساقاة فإنه إن لم يكن للحائط ) أي البستان ( ثمر أو قل ثمره أو فسد فليس له إلا ذلك وأن الأجير لا يستأجر إلا بشيء مسمى لا تجوز الإجارة إلا بذلك وإنما الإجارة بيع من البيوع ) لأنها بيع منافع ( إنما يشتري منه عمله ولا يصلح ذلك إذا دخله الغرر لأن رسول الله نهى عن بيع الغرر ) وقد علم أن الإجارة بيع
قال ابن عبد البر أراد مالك الفرق بين المساقاة والإجارة وأن المساقاة أصل في نفسها كالقراض لا يقاس عليها شيء من الإجارات والإجارة عنده وعند جمهور الفقهاء بيع وقالت الظاهرية ليست من البيوع لأنها منافع لم تخلق وقد نهى عن بيع ما لم يخلق وأنها ليست عينا وليست البيوع إلا في الأعيان قالوا فالإجارة بيع منفرد بسنة كالمساقاة والقراض
( قال مالك السنة في المساقاة عندنا أنها تكون في أصل كل نخل أو كرم ) شجر العنب ( أو زيتون أو رمان أو فرسك ) بكسر الفاء وإسكان الراء وكسر المهملة وكاف الخوخ أو ضرب منه أحمر أجرد أو ما ينفلق عن نواه ( أو ما أشبه ذلك من الأصول جائز لا بأس به على أن لرب المال نصف الثمر أو ثلثه أو ربعه أو أكثر من ذلك أو أقل ) فالشرط علم قدر الجزء قل أو كثر ( والمساقاة أيضا تجوز في الزرع إذا خرج ) من الأرض ( واستقل فعجز صاحبه عن سقيه وعمله وعلاجه فالمساقاة في ذلك أيضا جائزة ) ومنعها الشافعي إلا في النخل الكرم لأن ثمرهما بائن من شجره يحيط النظر به
قال ابن عبد البر وهذا ليس ببين لأن الكمثري والتين وحب الملوك والرمان والأترج وشبه ذلك يحيط النظر بها وإنما العلة له أن المساقاة إنما تجوز فيما يخرص والخرص لا يجوز إلا فيما وردت به السنة فأخرجته عن المزابنة كما أخرجت العرايا عنها النخل والعنب خاصة
( ولا تصلح المساقاة في شيء من الأصول مما تحل فيه المساقاة إذا كان فيه ثمر قد طاب وبدا
____________________
(3/465)
صلاحه وحل بيعه ) لعدم الضرورة الداعية لجواز البيع حينئذ ( وإنما ينبغي أن يساقى من العام المقبل وأما مساقاة ما حل بيعه من الثمار وإجارة لأنه إنما ساقى صاحب الأصل تمرا قد بدا صلاحه على أن يكفيه إياه ويجذه له ) يقطعه ( بمنزلة الدنانير والدراهم يعطيه إياها وليس ذلك بالمساقاة وإنما المساقاة ما بين أن يجذ النخل إلى أن يطيب التمر ويحل بيعه ) وليس ذلك أيضا بالإجارة
قال مالك إن وقعت فسخ العقد ما لم يفت ولا تكون إجارة لأن المساقاة تتضمن أن على العامل النفقة على رقيق الحائط وجميع المؤن وإن لم يكن ذلك معلوما ولا يجوز ذلك في الإجارة
( ومن ساقى ثمرا في أصل قبل أن يبدو صلاحه ويحل بيعه فتلك المساقاة بعينها جائزة ) قال أبو عمر كل من أجاز المساقاة إنما أجازها فيما لم يخلق أو فيما لم يبد صلاحه والمساقاة والقراض أصلان مخالفان للبيوع وكل أصل في نفسه يجب تسليمه وأجازها سحنون لأنها إجارة
( ولا ينبغي أن تساقى الأرض البيضاء وذلك أنه يحل لصاحبها كراؤها بالدنانير والدراهم وما أشبه ذلك من الأثمان المعلومة ) يريد إلا الطعام أو ما يثبته فإن مذهبه منعهما ( فأما الذي يعطي أرضه البيضاء بالثلث أو الربع مما يخرج منها فذلك مما يدخله الغرر لأن الزرع يقل مرة ويكثر مرة وربما هلك رأسا فيكون صاحب الأرض قد ترك كراء معلوما يصلح أن يكري أرضه به وأخذ أمرا غررا لا يدري أيتم أم لا فهذا مكروه ) أي حرام وقد نهى عن المخابرة وهي كراء الأرض بجزء مما يخرج منها
( وإنما مثل ذلك مثل رجل استأجر أجيرا لسفر بشيء معلوم ثم قال الذي استأجر الأجير هل لك أن أعطيك عشر ما أربح في سفري هذا إجارة لك فهذا لا يحل ولا ينبغي ) لأنه ترك العقد الصحيح إلى عقد فاسد
( ولا
____________________
(3/466)
ينبغي لرجل أن يؤجر نفسه ولا أرضه ولا سفينته إلا بشيء معلوم لا يزول ) ينتقل ( إلى غيره ) وبه قال الجمهور وأجاز طائفة من التابعين ومن بعدهم أن يعطي سفينته ودابته وأرضه بجزء مما يرزقه الله قياسا على القراض
( وإنما فرق ) بالتشديد أي الشرع ( بين المساقاة في النخل ) فيجوز ( والأرض البيضاء ) فيمنع ( أن صاحب النخل لا يقدر على أن يبيع ثمرها حتى يبدو صلاحه ) للنهي عنه ( وصاحب الأرض يكريها وهي أرض بيضاء لا شيء فيها ) لعدم النهي
( والأمر عندنا في النخل أيضا أنها للساقي السنين الثلاث والأربع وأقل من ذلك وأكثر وذلك الذي سمعت ) فيجوز سنين معلومة عند الجمهور لا مدة مجهولة خلافا للظاهرية وطائفة تعلقا بظاهر قوله أقركم ما أقركم الله ومرت الأجوبة عنه
( وكل شيء مثل ذلك من الأصول بمنزلة النخل يجوز فيه لمن ساقى من السنين مثل ما يجوز في النخل ) من المدة المعلومة قلت أو كثرت ما لم تكثر جدا
( قال مالك في المساقي ) بكسر القاف ( إنه لا يأخذ من صاحبه الذي سقاه شيئا من ذهب ولا ورق يزداده ولا طعام ولا شيئا من الأشياء لا يصلح ذلك ) لا يجوز ( و ) كذلك ( لا ينبغي أن يأخذ المساقى ) بفتح القاف ( من رب الحائط شيئا يزيده إياه من ذهب ولا ورق ولا طعام ولا شيء من الأشياء والزيادة فيما بينهما ) على جزئه المعلوم ( لا تصلح ) لأنه يعود الجزء مجهولا ولا خلاف في ذلك
( والمقارض أيضا بهذه المنزلة لا يصلح ) لأنه ( إذا دخلت الزيادة في المساقاة أو المقارضة صارت إجارة وما دخلته الإجارة فإنه لا يصلح ولا ينبغي أن تقع إجارة بأمر غرر لا يدري أيكون أم لا
____________________
(3/467)
أو يقل أو يكثر ) فتفسد الإجارة
( وفي الرجل يساقي الرجل الأرض فيها النخل أو الكرم أو ما أشبه ذلك من الأصول فتكون فيها الأرض البيضاء
قال مالك إذا كان البياض تبعا للأصل وكان الأصل أعظم ذلك وأكثره فلا بأس بمساقاته وذلك أن الأصل أعظم ذلك وأكثره فلا بأس بمساقاته وذلك أن يكون النخل الثلثين أو أكثر ويكون البياض الثلث أو أقل من ذلك وذلك أن البياض حينئذ تبع للأصل ) وعلى هذا تأويل الحديث في المدونة فقال مالك وكان البياض في خيبر يسيرا بين أضعاف السواد والمشهور ما قال هنا الثلث يسير وعليه فيجوز دخوله في عقد المساقاة وإلغاؤه للعامل سواء كان بين أضعاف السواد أو انفرد بناحية من الحائط فيهما
وفيها لمالك إلغاؤه للعامل وهو أحب إلي واعترض بأنه لم يلغه للعامل وهو إنما يفعل الراجح
وأجاب عبد الحق بأن في حديث آخر إلغاؤه الباجي وحكم ما تمنع مساقاته حكم البياض مع الشجرة
( وإذا كانت الأرض البيضاء فيها نخل أو كرم أو ما يشبه ذلك من الأصول فكان الأصل الثلث أو أقل والبياض الثلثين أو أكثر جاز في ذلك الكراء وحرمت فيه المساقاة ) قال الباجي يريد إذا جمعا أما إذا أفردت النخل بالمساقاة فيجوز
( وذلك أن من أمر الناس أن يساقوا الأصل وفيه البياض وتكرى الأرض وفيها الشيء اليسير من الأصل أو يباع المصحف أو السيف وفيهما الحلية من الورق بالورق ) متعلق بيباع
( أو القلادة ) ما يعلق في العنق
( أو الخاتم وفيهما الفصوص ) جمع مثلث الفاء
( و ) فيها ( الذهب ) تباع ( بالدنانير ولم تزل هذه البيوع جائزة يتبايعها الناس ويبتاعونها ولم يأت في ذلك شيء ) نص من سنة ولا كتاب ( موصوف موقوف عليه إذ لو بلغه كان حراما أو قصر عنه كان حلالا ) وحينئذ فيرجع إلى عمل المدينة كما قال ( والأمر في ذلك عندنا الذي عمل به الناس وأجازوه فيما بينهم أنه إذا كان الشيء من ذلك الورق أو الذهب تبعا لما هو فيه ) من الجوهر ونحوه ( جاز بيعه
____________________
(3/468)
وذلك أن يكون النصل أو المصحف أو الفصوص قيمته الثلثان أو أكثر والحلية قيمتها الثلث أو أقل ) فتبين أن التبعية بالثلث فأقل
1 الشرط في الرقيق في المساقاة ( مالك إن أحسن ما سمع في عمال الرقيق في المساقاة يشترطهم المساقى ) بفتح القاف ( على صاحب الأصل إنه لا بأس بذلك ) قال الباجي يريد الذين كانوا عماله وقت المساقاة وقد قال مالك في المدونة لا يجوز لصاحب الحائط أن يشترط إخراجهم إلا أن يكون قد أخرجهم قبل ذلك فعلى هذا يكون اشتراط العامل لهم على وجه رفع الإلباس ويحتمل أن يكون على وجه إقرار رب الحائط أنهم في حائطه عند عقد المساقاة ( لأنهم عمال المال فهم بمنزلة المال لا منفعة فيهم للداخل ) يريد أن ظهور المال وقوته بعلمهم ولهم فيه تأثير فكانوا بمنزلة المال الذي فيه صلاح الحائط اه
( إلا أنه يخف عنهم المؤونة وإن لم يكونوا في المال اشتدت ) قويت ( مؤونته ) لعدم المساعد
( وإنما ذلك بمنزلة المساقاة في العين والنضح ) بالضاد المعجمة أي الماء الذي يحمله الناضح وهو الجمل
( ولن تجد أحدا يساقى في أرضين ) بالتثنية ( سواء ) بالجر صفة أي مستويين ( في الأصل والمنفعة إحداهما بعين واثنة ) بواو فألف فمثلثة فنون فهاء دائمة لا تنقطع ( غزيرة ) كثيرة الماء
( والأخرى ) تسقى ( بنضح على شيء واحد ) كبعير ( لخفة مؤونة العين وشدة مؤونة النضح قال وعلى هذا الأمر عندنا والواثنة الثابت ) أي الدائم ( ماؤها التي لا تغور ولا تنقطع ) قال الباجي الرواية المشهورة عن يحيى وغيره واتنة بتاء بنقطتين وهو خلاف ما قال أبو عبيد في الغريبين وصاحب العين أنه بالمثلثة بمعنى الدائم ولم يذكروه بفوقية اه
وفي البارع استوثن من الماء إذا استكثر بثاء مثلثة
( وليس للمساقى ) بالفتح ( أن يعمل
____________________
(3/469)
بعمال المال في غيره ) الباجي يريد من وجده في الحائط من رقيق وعمال فإن كان للعامل استعملهم فيما شاء
( ولا أن يشترط ذلك على الذي ساقاه ) فإن استعملهم في غيره بلا شرط منع ولم تفسد وبشرط فسدت لأنها زيادة فإن فاتت بالعمل رد إلى أجر مثله
( ولا يجوز للذي ساقى ) أي العامل ( أن يشترط على رب المال رقيقا يعمل بهم في الحائط ليسوا فيه حين ساقاه إياه ) لأنه زيادة ( و ) كذا ( لا ينبغي لرب المال أن يشترط على الذي دخل في ماله بمساقاة ) أي العامل ( أن يأخذ من رقيق المال أحدا يخرجه من المال وإنما مساقاة المال على حاله الذي هو عليه ) لأن المساقاة مبنية على منافاة ازدياد أحدهما على ما عقد إلا أن مالكا جوز للعامل شرط اليسير كعبد ودابة في الحائط الكبير لا الصغير لأن فيه شرط جميع العمل حينئذ
( فإن كان صاحب المال يريد أن يخرج من رقيق المال أحدا فليخرجه قبل المساقاة أو يريد أن يدخل فيه أحدا فليفعل ذلك قبل المساقاة ثم ليساقي بعد ذلك إن شاء ) ليخرج من الخطر
( ومن مات من الرقيق أو غاب أو مرض فعلى رب المال أن يخلفه ) يأتي ببدله لأن ذلك من جنس ما يلزم العامل الإتيان به لأنه إنما ساقى ليسقي الحائط على صفته التي كان عليها ثم على العامل ما زاد فإذا لم يكونوا معه لم يمكنه عمل ما زاد على عملهم
____________________
(3/470)
17 كتاب كراء الأرض
1 ما جاء في كراء الأرض ( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ) فروخ المدني المعروف بربيعة الرأي ( عن حنظلة ابن قيس ) بن عمرو بن حصن ( الزرقي ) الأنصاري التابعي الكبير قيل وله رؤية ( عن رافع بن خديج ) بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة وإسكان التحتية وجيم ابن رافع بن عدي الأنصاري الأوسي أول مشاهده أحد ثم الخندق مات سنة ثلاث أو أربع وسبعين وقيل قبل ذلك
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع ) جمع مزرعة وهي مكان الزرع وظاهره منع كرائها مطلقا وإليه ذهب الحسن وطاوس وأبو بكر الأصم قال لأنها إذا استؤجرت وخربت لعلها يحترق زرعها فيردها وقد زادت وانتفع ربها بها ولم ينتفع المستأجر ومن حجتهم حديث الصحيحين وغيرهما مرفوعا من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤجرها فإن لم يفعل فليمسك أرضه ( قال حنظلة فسألت رافع بن خديج ) أنهى عن كرائها ( بالذهب والورق ) الفضة ( فقال ) وفي رواية للشيخين قال لا إنما نهى عنه ببعض ما يخرج منها
( أما بالذهب والورق فلا بأس به ) يحتمل أنه قال ذلك اجتهادا أو علم ذلك بالنص على جوازه
وقد روى أبو داود والنسائي بإسناد صحيح عن ابن المسيب عن رافع قال نهى صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة وقال إنما يزرع ثلاثة رجل له أرض
____________________
(3/471)
ورجل منح أرضا ورجل أكرى أرضا بذهب أو فضة وهذا يرجح أن ما قاله رافع مرفوع ولكن بين النسائي من وجه آخر أن المرفوع منه النهي عن المحاقلة والمزابنة وأن بقيته مدرج من كلام ابن المسيب وقد تأول مالك وأكثر أصحابه أحاديث المنع على كرائها بالطعام أو بما تنبته كقطن وكتان إلا الخشب والحطب وأجازوا كراءها بما سوى ذلك لحديث أحمد وأبي داود وابن ماجه عن رافع مرفوعا من كانت له أرض فيلزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمى وتأولوا النهي عن المحاقلة بأنها كراء الأرض بالطعام وجعلوه من باب الطعام بالطعام نسيئة لأن الثاني يقدر أنه باق على ملك رب الأرض كأنه باعه بطعام فصار بيع طعام بطعام لأجل وأجاز الشافعي وأبو حنيفة كراءها بكل معلوم من طعام وغيره لما في الصحيح عن رافع بعد قوله أما بالذهب والورق فلا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات وأقيال الجداول فيهلك هذا ويسلم هذا فلذلك زجر عنه صلى الله عليه وسلم وأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس فبين أن علة النهي الغرر وأما بذهب أو ورق فلم ينه عنه فمثلهما ما في معناهما من الأثمان المعلومة والماذيانات بكسر الذال وفتحها معربة لا عربية مسايل الماء الكبار سمى بذلك ما ينبت على الحافتين مجاز للمجاورة وأجاز أحمد كراءها بجزء مما يزرع فيها لحديث المساقاة وقال إنه أصح من حديث رافع لاضطراب ألفاظه وبأنه يرويه مرة عن عمومته ومرة بلا واسطة ورد بأنه يمكن أنه سمعه من عمومته ومن المصطفى فكان يرويه بالوجهين
وأما اختلاف ألفاظه فمن الرواة وليس فيها ما يتدافع بحديث لا يمكن الجمع وشرط الاضطراب أن يتعذر الجمع وقد جمع بينهما بما يطول ذكره وأخرجها البخاري ومسلم وغيرهما وحديث الباب رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه الأوزاعي عن ربيعة وتابعه يحيى بن سعيد عن حنظلة في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن ابن شهاب أنه قال سألت سعيد بن المسيب عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال لا بأس به ) كما في حديث رافع لأنه إن كان مرفوعا فهو نص في محل النزاع وإن كان موقوفا فهو أعلم بما سمع لأنه روى حديث النهي عن كراء المزارع أشار إليه الباجي فقال لم ينقل رافع لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أخبر عنه وهو الذي أخبر بجوازه بالذهب والورق
( مالك عن ابن شهاب أنه سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن كراء المزارع فقال لا بأس بها بالذهب والورق قال ابن شهاب فقلت له أرأيت ) أخبرني ( الحديث الذي يذكر عن رافع بن
____________________
(3/472)
خديج ) أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع كأنه فهمه على العموم حتى بالذهب والورق ( فقال ) سالم ( أكثر رافع ) أي أتى بكثير موهم لغير المراد وكأنه لم يبلغه إخبار رافع بجوازه بالذهب والورق ( ولو كانت لي مزرعة ) أرض تزرع ( أكريتها ) بالذهب والورق
وفي البخاري في المغازي عن جويرية عن مالك عن الزهري أن سالم بن عبد الله أخبره قال أخبر رافع بن خديج عبد الله بن عمر أن عميه وكانا شهدا بدرا أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع قلت لسالم فتكريها قال نعم إن رافعا أكثر على نفسه وفي مسلم وأبي داود والنسائي من طريق ابن شهاب أخبرني سالم أن عبد الله كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج نهى عن كراء الأرض فلقيه فقال ما هذا قال سمعت عمي وكانا قد شهدا بدرا يحدثان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض فقال عبد الله قد كنت أعلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تكرى حتى خشي عبد الله أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أحدث في ذلك شيئا لم يكن علمه فترك كراء الأرض وفي الصحيحين عن نافع أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من إمارة معاوية ثم حدث عن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع فذهب إلى رافع فذهبت معه فسأله فقال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع فقال ابن عمر قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا بما على الأربعاء وبشيء من التبن والأربعاء بالمد جمع ربيع وهو النهر الصغير وحاصله أنه أنكر على رافع إطلاق النهي لأن المنهي عنه هو الكراء الفاسد الذي كانوا يكرهونه بما ينبت على الأربعاء وبعض التبن وهو مجهول مع أنه مخابرة لا بالذهب والورق ونحوهما وترك ابن عمر الكراء تورعا كما يدل على ذلك قوله حتى خشي الخ
وقد اختلف هل علة النهي لاشتراطهم ناحية منها أو لاشتراطهم ما زرع على الجداول والسواقي أو لأنهم كانوا يكرونها على الجزاء أو بالطعام والأوسق من التمر وهذا كله من الغرر والخطر أو لقطع الخصومة والنزاع كما جاء عن زيد بن ثابت أنه قال يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله كنت أعلم منه بالحديث إنما جاء رجلان من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اقتتلا فقال إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع فسمع قوله لا تكروا المزارع أخرجه الطحاوي فكأن نهيه تأديب أو للرفق والمواساة كما قال ابن عباس في الصحيحين إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه
وفي الترمذي لم يحرم المزارعة ولكن قال أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئا معلوما
( مالك أنه بلغه أن عبد الرحمن بن عوف تكارى أرضا فلم تزل في يديه بكراء حتى مات قال ابنه ) أبو سلمة أو حميد ( فما كنت أراها ) بضم الهمزة أظنها ( إلا ) مملوكة ( لنا من طوال ما مكثت في
____________________
(3/473)
يديه حتى ذكرها لنا عند موته فأمر بقضاء شيء كان عليه من كرائها ذهب أو ورق ) بالشك من الراوي
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يكري أرضه بالذهب والورق ) والقصد بهذا وما قبله أن العمل على تخصيص حديث النهي
( سئل مالك عن رجل أكرى مزرعته بمائة صاع من تمر أو مما يخرج منها من الحنطة أو من غير ما يخرج منها ) وهو مما تنبته أو من الطعام كلبن وعسل ( فكره ذلك ) كراهة منع حملا لأحاديث المنع على ذلك إلا أنه استثنى ما يطول مقامه فيها قال ابن سحنون لأبيه لممجاز كراؤها بالخشب والحطب والعود والصندل والجذوع وكل هذه الأشياء مما تنبته الأرض فقال هذه الأشياء مما يطول مكثها ووقتها فلذا سهل فيها
____________________
(3/474)
1
18 كتاب الشفعة بضم المعجمة وسكون الفاء وحكى ضمها وقال بعضهم لا يجوز غير السكون وهي لغة الضم على الأشهر من شفعت الشيء ضممته فهو ضم نصيب إلى نصيب ومنه شفع الأذان وقيل من الشفع ضد الوتر لأنه ضم نصيب شريكه إلى نصيبه وهذا قريب مما قبله وقيل من الزيادة لأنه يزيد ما يأخذه منه إلى ماله وقيل في قوله تعالى { من يشفع شفاعة حسنة } سورة النساء الآية 85 أن معناه من يزد عملا صالحا إلى عمله وقيل من الشفاعة لأنه يتشفع بنصيبه إلى نصيب صاحبه وقيل لأنهم كانوا في الجاهلية إذا باع الشريك حصته أتى المجاور شافعا إلى المشتري ليوليه ما اشتراه وهذا أظهر وشرعا استحقاق شريك أخذ مبيع شريكه بثمن
1 ما يقع فيه الشفعة تقدم غير ما مرة أن الإمام تارة يقدم البسملة على كتاب وتارة يؤخرها عنه تفننا
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب ) بن حزن المخزومي ( وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن ) بن عوف الزهري قال ابن عبد البر مرسل عن مالك لأكثر رواة الموطأ وغيرهم ووصله عنه عبد الملك بن الماجشون وأبو عاصم النبيل ويحيى بن أبي قتيلة وابن وهب بخلف عنه فقالوا عن أبي هريرة وذكرالطحاوي أن قتيبة وصله أيضا عن مالك فالله أعلم
وكذا اختلف فيه رواة ابن شهاب فرواه ابن إسحاق عنه عن سعيد وحده عن أبي هريرة ويونس عنه عن سعيد وحده مرسلا ورواه معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال أحمد رواية معمر حسنة وقال ابن معين رواية مالك
____________________
(3/475)
أحب إلي وأصح يعني مرسلا عن سعيد وأبي سلمة وأسند هذه الروايات كلها في التمهيد ثم قال كان ابن شهاب أكثر الناس بحثا عن هذا الشأن فربما احتج له في الحديث جماعة فحدث به مرة عنهم ومرة عن أحدهم بقدر نشاطه حين تحديثه وربما أدخل حديث بعضهم في بعض كما صنع في حديث الإفك وغيره وربما كسل فأرسل وربما انشرح فوصل فلذا اختلف أصحابه عليه اختلافا كثيرا اه
ومثله يقال في مالك ورواية معمر في الصحيحين
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة ) بين الشركاء ( فيما ) أي في كل مشترك مشاع قابل للقسمة ( لم يقسم ) بالفعل ( بين الشركاء فإذا وقعت الحدود ) جمع حد وهو هنا ما تتميز به الأملاك بعد القسمة وأصل الحد المنع فتحديد الشيء بمنع خروج شيء منه ويمنع دخوله فيه زاد في حديث جابر عند البخاري وصرفت الطرق بضم الصاد المهملة وكسر الراء مخففة ومثقلة أي بينت مصارفها وشوارعها ( بينهم ) أي الشركاء ( فلا شفعة فيه ) لأنه لا محل لها بعد تمييز الحقوق بالقسمة فصارت غير مشاعة وهذا الحديث نص في ثبوت الشفعة في المشاع وصدره يشعر بثبوتها في المنقولات وسياقه يشعر باختصاصها بالعقار وهو مشهور مذهب مالك والشافعي وأحمد لأنه أكثر الأنواع ضررا والمراد العقار المحتمل للقسمة فما لا يحتملها لا شفعة فيه لأن بقسمه تبطل منفعته
وعن مالك رواية بالشفعة احتمل القسمة أم لا
وللبيهقي عن ابن عباس مرفوعا الشفعة في كل شيء ورجاله ثقات لكن أعل بالإرسال إلا أن له شاهدا من حديث جابر بإسناد لا بأس به وشذ عطاء فأخذ بظاهره فقال بالشفعة في كل شيء حتى الثوب ونقله بعض الشافعي عن مالك ورد بأنه لا يعرف عند أصحابه وحمله الجمهور على العقار لحديث الباب ونحوه وهو أصل في ثبوت الشفعة
وأخرجه مسلم عن أبي الزبير عن جابر بلفظ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك لم يقسم ربعة أو حائط ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به والربعة بفتح الراء تأنيث الربع وهو المنزل والحائط والبستان وفيه أنه لا شفعة للجار لأنه حصر الشفعة فيما لا يقسم فما قسم لا شفعة فيه وقد صار جارا وبه قال الجمهور وأثبتها أبو حنيفة والكوفيون للجار ولو اقتصر على قوله فإذا وقعت الحدود لكان قويا في الرد عليهم لكن ضم إليه قوله وصرفت الطرق فقال الجمهور المراد بها التي كانت قبل القسم وقال الحنفية المراد صرف الطرق التي يشترك فيها الجار ويبقى النظر في أي التأويلين أظهر واحتجوا أيضا بحديث الجار أحق بصقبه رواه البخاري وأبو داود والنسائي مرفوعا ولا حجة فيه لاحتمال أن المراد أنه أحق بتحويزه وصلته وهو أولى إذ حمله على الشفعة يستلزم أن الجار أحق من الشريك ولا قائل به والصقب بفتحتين وصاد أو سين أي بسبب قربه من غيره واحتجوا أيضا بحديث أبي داود والترمذي مرفوعا جار الدار أحق بدار الجار وأجيب بأنه لم يبين ما هو أحق هل بالشفعة أو غيرها من وجوه
____________________
(3/476)
الرفق والمعروف فلا حجة فيه ولاحتمال أن يريد بالجار الشريك والمخالط كما قال الأعشى يخاطب زوجته أجارتنا بيني فإنك طالق
فسماها جارة لأنها مخالطة وأقوى حججهم حديث أصحاب السنن عن جابر مرفوعا الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا فإنه بين بما يكون أحق ونبه على الاشتراك في الطريق لكنه حديث ضعيف كما قال أحمد وابن معين والبخاري والترمذي وابن عبد البر وغيرهم وبالجملة فأحاديث الشفعة ليس فيها ما يعارض حديث الباب لأنه ظاهر أو نص في نفي الشفعة للجار بخلاف تلك فيتطرق إليها الاحتمالات وزعم بعضهم أن قوله فإذا وقعت الحدود الخ مدرج لأن الأول كلام تام والثاني مستقل ولو كان الثاني مرفوعا لقيل وقال وإذا وقعت الخ وتعقب بأن الأدراج لا يثبت بالاحتمال العقلي والتشهي والأصل أن كل ما ذكر في الحديث فهو منه حتى يثبت الأدراج بدليل كمجيء رواية مبنية للقدر المدرج أو استحالة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقوله وقد قوى حديثنا إجماع أهل المدينة عليه ( كما قال مالك وعلى ذلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا ) وقال أحمد إذا اختلفت الأحاديث فالحجة فيما عمل به أهل المدينة
( مالك أنه بلغه أن سعيد ابن المسيب سئل عن الشفعة هل فيها من سنة فقال نعم الشفعة ) ثابتة ( في الدور والأرضين ولا تكون إلا بين الشركاء ) لا بالجوار بالسنة الصحيحة لأنه إذا لم تثبت الشفعة للشريك إذا قسم وضرب الحدود فالجار الملاصق الذي لم يقسم ولا ضرب الحدود أبعد من ذلك
( مالك أنه بلغه عن سليمان بن يسار مثل ذلك ) الذي قاله ابن المسيب
( قال مالك رجل اشترى شقصا ) بكسر المعجمة وإسكان القاف وصاد مهملة قطعة ( مع قوم في أرض بحيوان ) متعلق باشترى ( عبد أو وليدة ) أي أمة بدل من حيوان ( أو ما أشبه ذلك من العروض فجاء الشريك يأخذ بشفعته بعد ذلك فوجد العبد أو الوليدة قد هلكا ولا يعلم أحد قدر قيمتهما فيقول المشتري قيمة العبد أو الوليدة مائة دينار ويقول صاحب الشفعة الشريك قيمتها خمسون دينارا قال مالك يحلف
____________________
(3/477)
المشتري أن قيمة ما اشترى به مائة دينار ثم ) بعد حلفه ( إن شاء أن يأخذ صاحب الشفعة ) بما حلف عليه المشتري ( أخذ أو يترك إلا أن يأتي الشفيع ببينة أن قيمة العبد أو الوليدة دون ما قال المشتري ) فيأخذه بما شهدت به البينة وبهذا قال الجمهور والشافعي والكوفيون لأن الشفيع طالب آخذ والمشتري مطلوب مأخوذ فوجب أن القول قوله بيمينه لأنه مدعى عليه والشفيع مدع حيث لا بينة وإلا عمل بها قاله أبو عمر
( ومن وهب شقصا في دار أو أرض مشتركة فأثابه الموهوب له بها نقدا أو عرضا فإن الشركاء يأخذونها بالشفعة إن شاؤوا ويدفعون إلى الموهوب له قيمة مثوبته ) أي ما أثاب به ( دنانير أو دراهم ) وإن شاؤوا سلموا لأنه حق لهم
( ومن وهب هبة في دار أو أرض مشتركة فلم يثب ) بضم أوله ( منها ) أي بدلها ( ولم يطلبها فأراد شريكه أن يأخذها بقيمتها فليس ذلك له ما ) أي مدة كونه ( لم يثب عليها فإن أثيب فهو للشفيع بقيمة الثواب ) الذي حصل إن علم ببينة أو حلف كما فوقه
( وفي رجل اشترى شقصا في أرض مشتركة بثمن إلى أجل فأراد الشريك أن يأخذها بالشفعة قال مالك إن كان مليا فله الشفعة بذلك الثمن إلى ذلك الأجل وإن كان مخوفا أن لا يؤدي الثمن إلى ذلك الأجل ) لأنه عديم
( فإن جاءهم بحميل ) ضامن ( مليء ) غني ( ثقة مثل الذي اشترى منه الشقص في الأرض المشتركة فذلك له ) وإلا فلا شفعة
( ولا تقطع شفعة الغائب غيبته ) بالرفع فاعل ( وإن طالت غيبته وليس لذلك عندنا حد تقطع ) إذا انتهى ( إليه الشفعة ) لعذره بالغيبة فحقه باق فأما إن كان حاضرا فهل حقه باق مطلقا حتى يصرح بالإسقاط وهو قول لمالك قال الأبهري وهو القياس لأنه حق ثبت له فلا يبطله سكوته أو لا شفعة له بعد سنة رواه أشهب عن مالك وبالغ فيه حتى قال إذا غربت الشمس من آخر أيام السنة فلا شفعة لكن المعتمد مذهب المدونة أن ما قاربها له حكمها وفيه أنه الشهر والشهران أو ثلاثة أشهر أو أربع خلاف
____________________
(3/478)
( قال مالك في الرجل يورث الأرض نفرا من ولده ثم يولد لأحد النفر ) أولاد ( ثم يهلك الأب ) الذي ولد ( فيبيع أحد ولد الميت حقه في تلك الأرض فإن أخا البائع ) الذي هو ولد الميت ( أحق بشفعته من عمومته شركاء أبيه ) لأنه شريك لأخيه دون عمومته ( وهذا الأمر عندنا ) بالمدينة
( والشفعة بين الشركاء على قدر حصصهم يأخذ كل إنسان منهم بقدر نصيبه وإن كان قليلا فقليلا وإن كان كثيرا فبقدره وذلك إذا تشاحوا فيها ) فإذا كانت دار بين ثلاثة لأحدهم النصف وآخر الثلث وآخر السدس فباع صاحب النصف فإن لصاحب الثلث ثلثي النصف ولصاحب السدس ثلثه فيصير له ثلث الدار ولذلك ثلثاها وهذا هو المشهور وقيل على عدد الرؤوس
( فأما أن يشتري رجل من رجل من شركائه حقه ) نصيبه في المكان ( فيكون أحد الشركاء أنا آخذ من الشفعة بقدر حصتي ويقول المشتري إن شئت أن تأخذ الشفعة كلها أسلمتها إليك وإن شئت أن تدع ) تترك ( فدع فإن المشتري إذا خيره في هذا وأسلمه إليه فليس للشفيع إلا أن يأخذ الشفعة كلها أو يسلمها إليه فإن أخذها فهو أحق بها وإلا فلا شيء له ) لتضرر المشتري بتبعيض ما اشترى
( قال مالك في الرجل يشتري الأرض فيعمرها ) بضم الميم ( بالأصل يضعه فيها أو البئر يحفرها ) بكسر الفاء ( ثم يأتي رجل فيدرك فيها حقا فيريد أن يأخذها بالشفعة إنه لا شفعة له فيها إلا أن يعطيه قيمة ما عمر فإن أعطاه قيمة ما عمر ) قائمة ( كان أحق بشفعته وإلا فلا حق له فيها ) بل للمشتري لأنه فعل بوجه جائز في ملك صحيح
( ومن باع حصته من أرض أو دار مشتركة فلما علم أن صاحب
____________________
(3/479)
الشفعة يأخذ بالشفعة استقال المشتري ) طلب منه الإقالة ( فأقاله قال ليس ذلك له والشفيع أحق بها بالثمن الذي كان باعها به ) إن شاء ( ومن اشترى شقصا في دار أو أرض وحيوانا وعروضا في صفقة واحدة فطلب الشفيع شفعته في الأرض أو الدار ) أو فيهما ( فقال المشتري خذ ما اشتريت جميعا فإني إنما اشتريته جميعا ) فليس له ذلك
( قال مالك بل يأخذ الشفيع شفعته في الأرض أو الدار ) أو فيهما ( بحصتها من ذلك الثمن ) وبيان ذلك أنه ( يقام ) أي يقوم ( كل شيء اشتراه على حدته ) بكسر الحاء أي متميز عن غيره ( على الثمن الذي اشتراه به ثم يأخذ الشفيع شفعته بالذي يصيبها من القيمة من رأس الثمن ولا يأخذ من الحيوان والعروض شيئا ) إذ لا شفعة فيها ( إلا أن يشاء ذلك ) فيأخذ لا بالشفعة إذ لا شفعة في حيوان وعرض بل لأن المشتري أراد ذلك فإن لم يشأ لزم المشتري الحيوان والعروض
( ومن باع شقصا من أرض مشتركة فسلم بعض من له فيها الشفعة للبائع وأبى بعضهم إلا أن يأخذ بشفعته إن من أبى أن يسلم أخذ بالشفعة كلها وليس له أن يأخذ بقدر حقه ويترك ما بقي ) لضرر المشتري بذلك
( وفي نفر شركاء في دار واحدة فباع أحدهم حصته وشركاؤه غيب ) جمع غائب ( كلهم إلا رجلا فعرض على الحاضر أن يأخذ بالشفعة أو يترك فقال أنا آخذ بحصتي وأترك حصص شركائي حتى يقدموا فإن أخذوا فذلك وإن تركوا أخذت جميع الشفعة قال مالك ليس له إلا أن يأخذ ذلك كله أو يترك فإن جاء شركاؤه أخذوا منه أو تركوا ) إن شاؤوا ( فإذا عرض هذا ) التخيير ( عليه ) أي الرجل
____________________
(3/480)
الحاضر ( فلم يقبله فلا أرى له شفعة ) فإن قبله فله الشفعة
2 ما لا يقع فيه الشفعة ( مالك عن محمد بن عمارة ) بضم العين ابن عمرو بن حزم الأنصاري المدني صدوق ( عن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو ( بن حزم ) فنسبه إلى جده الأعلى لشهرته به ( أن عثمان بن عفان ) ذو النورين ( قال إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها ) بنص النبي صلى الله عليه وسلم ( ولا شفعة في بئر ولا في فحل النخل ) كما أفاده الحديث السابق
( قال مالك وعلى هذا الأمر عندنا ) بالمدينة ( ولا شفعة في طريق صلح القسم فيها ) أي الطريق لأنه يذكر ويؤنث ( أو لم يصلح ) لأنه تبع لما قد قسم ( والأمر عندنا أنه لا شفعة في عرصة ) بفتح فسكون أي ساحة ( دار ) قسمت بيوتها ( صلح لقسم فيها أو لم يصلح ) لأنها تبع
( قال مالك في رجل اشترى شقصا ) قطعة ( من أرض مشتركة على أنه فيها بالخيار فأراد شركاء البائع أن يأخذوا ما باع شريكهم بالشفعة قبل أن يختار المشتري إن ذلك لا يكون حتى يأخذ المشتري ويثبت له البيع فإذا وجب ) أي ثبت ( له البيع فلهم الشفعة ) لأن بيع الخيار منحل فلا تثبت شفعة حتى يلزم
( وقال مالك في الرجل يشتري أرضا فتمكث في يديه حينا ) زمانا ( ثم يأتي رجل فيدرك فيها حقا بميراث إن له الشفعة إن ثبت حقه وإن ما أغلت الأرض من غلة فهي للمشتري الأول إلى يوم
____________________
(3/481)
يثبت حق الآخر لأنه قد كان ضمنها لو هلك ما كان فيها من غراس أو ذهب به سيل ) مطر شديد ومن عليه الضمان له الغلة ( فإن طال الزمان أو هلك ) مات ( الشهود أو مات البائع أو المشتري أو هما حيان فنسي أصل البيع والاشتراء لطول الزمان فإن الشفعة تنقطع ويأخذ حقه الذي ثبت له وإن كان أمره على غير هذا الوجه في حدائة ) قرب ( العهد وقربه ) عطف تفسير لحداثة ( وأنه يرى أن البائع غيب ) بالتثقيل ( الثمن وأخفاه ) عطف تفسير ( ليقطع بذلك حق صاحب الشفعة قومت الأرض على قدر ما يرى أنه ثمنها فيصير ثمنها إلى ذلك ) أي ما قومت به ( ثم ينظر إلى ما زاد في الأرض من بناء أو غراس ) بالكسر فعال بمعنى مفعول مثل كتاب وبساط ومهاد بمعنى مبسوط ومكتوب وممهود ( أو عمارة فتكون على ما يكون عليه من ابتاع ) اشترى الأرض بثمن معلوم ثم بنى فيها وغرس ثم أخذها صاحب الشفعة بعد ذلك أي يكون له حكمه
( والشفعة ثابتة في مال الميت كما هي ) ثابتة ( في مال الحي فإن خشي أهل الميت أن ينكسر مال الميت قسموه وباعوه فليس عليهم فيه شفعة
ولا شفعة عندنا في عبد ولا وليدة ولا بعير ولا بقرة ولا شاة ولا في شيء من الحيوان ) كفرس وبغل وحمار ( ولا ثوب ولا بئر ليس لها بياض ) لأن أصول الكتاب والسنة تشهد أن لا يحل إخراج ملك من يد مالكه ملكا صحيحا إلا بحجة لا معارض لها والمشتري ذلك شراء صحيحا قد ملكه فكيف يؤخذ عنه بغير طيب نفس ( إنما الشفعة فيما يصلح أن ينقسم ) بأن يقبل القسمة ( وتقع فيه الحدود من الأرض فأما ما لا يصلح فيه القسم فلا شفعة فيه ) اتباعا للحديث فلا يتعدى إلى غيره
( ومن اشترى أرضا فيها شفعة لناس حضور فليرفعهم إلى السلطان فإما
____________________
(3/482)
أن يستحقوا ) أن يأخذوا باستحقاقهم الشفعة ( وإما أن ) يتركوا فحينئذ ( يسلم له السلطان ) ما اشترى
( فإن تركهم فلم يرفع أمرهم إلى السلطان وقد علموا باشترائه فتركوا ذلك حتى طال زمانه ثم جاؤوا يطلبون شفعتهم فلا أرى ذلك لهم ) والطول بسنة وما قاربها كما في المدونة وفي أنه الشهر والشهران أو ثلاثة أشهر أو أربع خلاف والله سبحانه وتعالى أعلم
____________________
(3/483)
1 الترغيب في القضاء بالحق ( مالك عن هشام بن عروة ) بن الزبير بن العوام ( عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة ) عبد الله بن عبد الأسد المخزومي الصحابي ( عن ) أمها ( أم سلمة ) هند بنت أبي أمية ( زوج النبي صلى الله عليه وسلم ) قال أبو عمر هذا حديث لم يختلف في إسناده ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) وفي رواية في الصحيح أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم
وفي أخرى جلبة خصام بفتح الجيم واللام والموحدة اختلاط الأصوات
وفي أبي داود عن عبد الله بن نافع مولى أم سلمة عنها قالت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما فلم يكن لهما بينة إلا دعواهما فقال صلى الله عليه وسلم ( إنما أنا بشر ) بفتحتين الخلق يطلق على الواحد والجماعة بمعنى أنه منهم والمراد أنه مشارك لهم في أصل الخلقة ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختص بها في ذاته والحصر مجازي لأنه حصر خاص أي باعتبار علم البواطن ويسمى عند علماء البيان قصر قلب لأنه أتى به للرد على من زعم أن من كان رسولا يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم ونحو ذلك فأشار إلى أن الوضع البشري يقتضي أن لا يدرك من الأمور إلا ظواهرها فإنه خلق خلقا لا يسلم من قضايا تحجبه عن حقائق الأشياء فإذا ترك على ما جبل عليه من القضايا البشرية ولم يؤيد بالوحي السماوي طرأ عليه ما يطرأ على سائر البشر زاد في رواية في الصحيح مثلكم ( وأنكم تختصمون إلي ) فيما بينكم لأنه الإمام فلا يصلح أن يحكم إلا هو أو من قدمه لذلك قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون } سورة النساء الآية 65 الآية وقال { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } سورة المائدة الآية 49 الآية
وقال { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق } النساء 105 الآية قاله الباجي
____________________
(3/484)
ثم تردونه إلي ولا أعلم باطن الأمر ( فلعل بعضكم أن يكون ألحن ) بالحاء المهملة أي أبلغ وأعلم ( بحجته ) وفي رواية للبخاري أبلغ وهو بمعناه لأنه من اللحن بفتح الحاء الفطنة أي أبلغ وأفصح وأعلم أن تقرير مقصوده وأعلم ببيان دليله وأقدر على البرهنة على دفع دعوى خصمه بحيث يظن أن الحق معه وهو كاذب هذا ما عليه أكثر الشراح وجوز بعضهم أنه من اللحن بسكون الحاء وهو الصرف عن الصواب أي يكون أعجز عن الإعراب بالحجة وضعفه لا يخفى وجملة أن يكون خبر لعل من قبيل رجل عدل أي كائن أو أن زائدة أو المضاف محذوف أي لعل وصف بعضكم أن يكون ألحن بحجته ( من بعض ) فيغلب خصمه وهو كاذب
وفي رواية البخاري فأحسب أنه صدق ( فأقضي ) فأحكم ( له ) أي للذي غلب بحجته على خصمه فلا حاجة إلى قوله في الاستذكار فأقضي له أي عليه وإن كان الواقع أن الحق لخصمه لكنه لم يفطن لحجته ولم يقدر على معارضته
( وإنما أقضي على نحو ما أسمع ) لبناء أحكام الشريعة على الظاهر
وفي رواية على نحو بالتنوين مما أسمع ( منه ) ومن في مما بمعنى لأجل أو بمعنى على أي أقضي على الظاهر من كلامه وتمسك به أحمد ومالك في المشهور عنه أن الحاكم لا يقضي بعلمه لإخباره صلى الله عليه وسلم بأنه لا يحكم إلا بما سمع في مجلس حكمه ولم يقل على نحو ما علمت وقد قيل في قوله وفصل الخطاب إنه البينة أو الإقرار والعلة في منع القضاء بالعلم التهمة وقد روت عائشة أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم على صدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع بينهم شجاج فأتوه صلى الله عليه وسلم فأخبروه فأعطاهم الأرش ثم قال إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم رضيتم أرضيتم قالوا نعم فصعد المنبر فخطب وذكر القصة وقال أرضيتم قالوا لا فهم بهم المهاجرون فنزل صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم صعد فقال أرضيتم قالوا نعم فهذا بين أنه لم يأخذهم بما علم من رضاهم الأول
وقال الشافعي وجماعة يقضي بعلمه مطلقا لأنه قاطع بصحة ما يقضى به إذا حقق علمه وليست الشهادة عنده كذلك إذ لعلها كاذبة أو واهمة وقال أبو حنيفة في المال فقط دون الحدود وغيرها وأجمعوا على أنه يجرح ويعدل بعلمه
( فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ) بحسب الظاهر وليس كذلك في الباطن
وفي رواية بحق مسلم وذكره ليكون أهول على المحكوم له لأن وعيد غيره معلوم عند كل أحد فذكر المسلم تنبيها على أنه في حقه أشد وإن كان الذمي والمعاهد كذلك
( فلا يأخذن منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار ) أي مآله إلى النار فأطلق عليه ذلك لأنه سبب في حصول النار له فهو من مجاز التشبيه كقوله تعالى { إنما يأكلون في بطونهم نارا } النساء 10 قال السبكي هذه قضية شرطية لا تستدعي وجودها بل معناها بيان أن ذلك جائزا لوقوع قال ولم يثبت لنا قط أنه صلى الله عليه وسلم حكم بحكم ثم بان خلافه لا بسبب تبين حجة ولا بغيرها وقد صان الله أحكام نبيه عن ذلك مع أنه لو وقع لم يكن فيه محذور
وفي رواية في الصحيحين فليأخذها أو ليتركها وليس الأمر للتخير بل للتهديد كقوله { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } سورة الكهف الآية
____________________
(3/485)
29 ) وقال ابن التين هو خطاب للمقضي له ومعناه أنه أعلم بنفسه هل هو محق أو مبطل فإن كان محقا فليأخذ وإن كان مبطلا فليترك لأن الحكم لا ينقل الأصل عما كان عليه وفيه دلالة قوية لمذهب الأئمة الثلاثة والجمهور أن الحكم في ما باطن الأمر فيه بخلاف الظاهر لا يحل الحرام ولا عكسه فإذا شهد شاهدا زور لإنسان بمال فحكم به القاضي لظاهر العدالة لم يحل له ذلك المال وإن شهدا بقتل لم يحل للولي قتله مع علمه بكذبهما وإن شهدا عليه أنه طلق امرأته لم يحل لمن علم كذبهما أن يتزوجها بعد الحكم بالطلاق
وقال أبو حنيفة يحل الحرام في العقود كنكاح وطلاق وبيع وشراء فإذا ادعت امرأة على رجل أنه تزوجها وأقامت شاهدي زور حل له وطؤها وادعاه الرجل وهي تجحد أو تعمد رجلان شهادة الزور أنه طلق زوجته فيحل لأحدهما بعد العدة تزوجها مع علمه بكذبه وأن زوجها لم يطلقها لأن حكم الحاكم لما أحلها للأزواج إجماعا كان الشهود وغيرهم سواء وهذا بخلاف الأموال وتعقب بأن هذا خلاف الحديث في الصحيح فمن حق الرجل عصمة زوجته التي لم يطلقها وخلاف الإجماع من قبله ومخالف لقاعدة اتفق هو وغيره عليها وهي أن الإبضاع أولى بالاحتياط من الأموال
هذا وقال النووي رحمه الله ملخصا لكلام من تقدمه كابن عبد البر والباجي وعياض وغيرهم معنى الحديث التنبيه على حالة البشرية وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمر شيئا إلا أن يطلعهم الله على شيء من ذلك وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز عليهم وأنه إنما يحكم بين الناس في الظاهر مع إمكان أنه في الباطن بخلافه ولكنه إنما كلف بالحكم بالظاهر ولو شاء الله لأطلعه على باطن أمر الخصمين فحكم فيه بيقين نفسه من غير حاجة إلى شهادة أو يمين ولكن لما أمر الله أمنه باتباعه والاقتداء بأقواله وأحكامه أجرى له حكمهم في عدم الاطلاع على باطن الأمور ليكون حكم الأمة في ذلك حكمه فأجرى الله أحكامه على الظاهر الذي يستوي فيه هو وغيره ليصح الاقتداء به وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن فإن قيل هذا الحديث ظاهره أنه قد يقع منه صلى الله عليه وسلم حكم في الظاهر مخالف للباطن وقد أنفق الأصوليون على أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ في الأحكام
فالجواب أنه لا تعارض بين الحديث وقاعدة الأصوليين لأن مرادهم فيما حكم فيه باجتهاده أما إذا حكم فيما خالف ظاهره باطنه فإنه لا يسمى الحكم خطأ بل الحكم صحيح بناء على ما استقر به التكليف وهو وجوب العمل بشاهدين مثلا فإن كانا شاهدي زور ونحو ذلك فالتقصير منهما وممن ساعدهما وأما الحاكم فلا حيلة له في ذلك ولا عتب عليه بسببه بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد فإن هذا الذي حكم به ليس هو حكم الشرع اه
وقال القرطبي في المفهم قد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة على بواطن كل من يتخاصم إليه فيحكم بخفي ذلك لكن لما كان ذلك من جملة معجزاته لم يجعل الله ذلك طريقا عاما ولا قاعدة كلية
____________________
(3/486)
للأنبياء ولا غيرهم لاستمرار العادة بأن ذلك لا يقع لهم وإن وقع فنادر وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا
فمن خصائصه أن يحكم بالباطن أيضا وأن يقتل بعلمه وأجمعت الأمة على أنه ليس لأحد أن يقتل بعلمه إلا النبي صلى الله عليه وسلم قال وقد شاهدت بعض المخرفين وسمعت منهم أنهم يعرضون علي القواعد الشرعية ويحكمون بالخواطر القلبية ويقولون الشاهد المتصل بي أعدل من الشاهد المنفصل عني وهذه مخرقة أبرزتها زندقة يقتل صاحبها قطعا وهذا خير البشر يقول في مثل هذه المواطن إنما أنا بشر معترفا بالقصور عن إدراك المغيبات وعاملا بما نصبه الله تعالى له من اعتبار الإيمان والبينات اه
وقد زاد في أبي داود عن عبد الله بن نافع مولى أم سلمة عنها فبكى الرجلان وقال كل منهما لصاحبه حقي لك فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم أما إذا فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق ثم أستهما ثم تحاللا وتوخيا أي اقصدا الحق في القسمة ثم استهما أي اقترعا ليظهر سهم كل واحد منكما
وفي الحديث فوائد كثيرة غير ما سبق
وأخرجه البخاري في الشهادات وفي الأحكام عن القعنبي عن مالك به وتابعه سفيان عند البخاري ووكيع وأبو معاوية وعبدة بن سليمان عند مسلم أربعتهم عن هشام وتابعه الزهري عن عروة في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب ) بن حزن القرشي المخزومي التابعي ابن الصحابي حفيد الصحابي ( أن عمر بن الخطاب ) أمير المؤمنين رضي الله عنه ( اختصم إليه مسلم ويهودي ) لم يسميا ( فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضى له ) لوجوب ذلك عليه ( فقال له اليهودي والله لقد قضيت بالحق فضربه عمر بن الخطاب ) لأنه كره مدحه له في وجهه ( بالدرة ) بكسر الدال المهملة آلة يضرب بها ( ثم قال وما يدريك فقال اليهودي إنا نجد ) في الكتب ( أنه ليس قاض يقضي بالحق إلا كان عن يمينه ملك وعن شماله ملك ) وهما جبريل وميكائيل ( يسددانه ) بسين ودالين مهملات ( ويوفقانه للحق ما دام مع الحق فإذا ترك الحق عرجا ) إلى السماء ( وتركاه ) قال أبو عمر ليس هذا عندي بجواب لقوله وما يدريك ولكن لما علم أن عمر كره مدحه له أخبره أنه يجد في كتبه ما ذكر
وفي رواية فقال اليهودي والله إن الملكين جبريل وميكائيل ليتكلمان
____________________
(3/487)
بلسانك وإنهما عن يمينك وشمالك فضربه عمر بالدرة وقال لا أم لك وما يدريك قال لأنهما مع كل قاض يقضي بالحق ما دام مع الحق فإذا ترك الحق عرجا وتركاه فقال عمر والله ما أراك إلا أبعدت وفيه كراهة المدح في الوجه وأنه لا حرج في تأديب فاعله وأن الراضي به ضعيف الرأي وسمع صلى الله عليه وسلم رجلا يمدح رجلا فقال أما لو أسمعته لقطعت ظهره وقال صلى الله عليه وسلم المدح في الوجه هو الذبح وصح قوله صلى الله عليه وسلم أحثوا في وجوه المداحين التراب وهذا عندهم في المواجهة
وروى ابن أبي شيبة مرفوعا من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن يجبر عليه نزل عليه ملك يسدده
2 الشهادات جمع شهادة وهي مصدر شهد يشهد قال الجوهري الشهادة خبر قاطع والمشاهدة المعاينة مأخوذة من الشهود أي الحضور لأن الشاهد مشاهد لما غاب عن غيره وقيل مأخوذة من الإعلام
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ) بفتح العين ( ابن حزم ) بمهملة وزاي ساكنة الأنصاري ( عن أبيه ) أبي بكر اسمه وكنيته واحد وقيل كنيته أبو محمد ثقة عابد ( عن عبد الله بن عمرو ) بفتح العين ( ابن عثمان ) الأموي يلقب المطراف بسكون الطاء المهملة وفتح الراء ثقة شريف تابعي مات بمصر سنة ست وتسعين
( عن أبي عمرة الأنصاري ) قال أبو عمر هكذا رواه يحيى وابن القاسم وأبو مصعب ومصعب الزبيري وقال القعنبي ومعن بن عيسى ويحيى بن بكير عن ابن أبي عمرة وكذا قال ابن وهب وعبد الرزاق عن مالك وسمياه فقالا عن عبد الرحمن بن أبي عمرة فرفعا الإشكال وهو الصواب وعبد الرحمن هذا من خيار التابعين اه
وما صوبه رواية الأكثر عن مالك كما في الإصابة وليس اسم أبي عمرة عبد الرحمن كما زعم بعض إنما هو اسم ابنه وأما أبوه فقيل اسمه بشر وقيل بشير وقيل عمرو وقيل ثعلبة صحابي شهد بدرا وغيرها كما بسطه في الإصابة فعلى رواية الأكثر يكون في الإسناد أربعة تابعيون وعلى رواية الأقل فإنما فيه ثلاثة تابعون وصحابي عن صحابي وهما أبو عمرة ( عن زيد بن خالد الجهني ) بضم الجيم وفتح الهاء المدني الصحابي المشهور مات بالكوفة سنة ثمان وستين أو سبعين وله خمس وثمانون سنة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا ) بفتح الهمزة وخفة اللام حرف افتتاح معناه التنبيه فيدل على تحقيق ما بعده وتوكيده قال الطيبي صدر الجملة بالكلمة التي هي من طلائع القسم إيذانا بعظم المحدث به ( أخبركم بخير الشهداء ) جمع شهيد قالوا أخبرنا ( الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ) بالبناء للمجهول
____________________
(3/488)
أو يخبر بشهادته قبل أن يسألها شك الراوي أو ليس بشك وإنما هو تنويع أي يأتي الحاكم بشهادته قبل أن يسألها في محض حق الله المستدام تحريمه كطلاق وعتق ووقف أو يخبر بها رجلا لا يعلمها وهذا يومي إليه كلام الباجي
وقال ابن عبد البر قال ابن وهب قال مالك تفسير هذا الحديث أن الرجل يكون عنده شهادة في الحق لرجل لا يعلمها فيخبره بشهادته ويرفعها إلى السلطان
زاد يحيى بن سعيد إذا علم أنه ينتفع بها الذي له الشهادة وهذا لأن الرجل ربما نسي شاهده فظل مغموما لا يدر من هو فإذا أخبره الشاهد بذلك فرج كربه
وفي الحديث من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ولا يعارض هذا حديث خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها لأن النخعي قال معنى الشهادة هنا اليمين أي يحلف قبل أن يستحلف واليمين قد تسمى شهادة قال تعالى { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } النور 6 اه
وقال النووي في معنى الحديث تأويلان أصحهما حمله على من عنده شهادة لإنسان بحق ولا يعلم ذلك الإنسان أنه شاهد فيأتي إليه فيخبره بأنه شاهد له وجوبا لأنها أمانة عنده
والثاني حمله على شهادة الحسبة في غير حقوق الآدميين المختصة بهم فمن علم شيئا من هذا النوع وجب عليه رفعه إلى القاضي وإعلامه به والشهادة به والشهادة
وحكى ثالث أنه مجاز ومبالغة في أداء الشهادة بعد طلبها لا قبله كما يقال الجواد يعطي قبل السؤال أي يعطي سريعا عقب السؤال بلا توقف
قال العلماء وليس في هذا الحديث مناقضة للحديث الآخر في ذم من يأتي بالشهادة قبل أن يستشهد في قوله صلى الله عليه وسلم يشهدون ولا يستشهدون لحمله على من معه شهادة لآدمي عالم بها فيشهد ولا يستشهد أو على من ينتصب شاهدا وليس من أهل الشهادة أو على من يشهد لقوم بالجنة أو النار من غير توقيف وهذا ضعيف والأصح الأول اه
ووجه ضعفه أن الذم ورد في الشهادة بدون استشهاد والشهادة على المغيب مذمومة هبها باستشهاد أو دونه والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وأبو داود والترمذي والنسائي من طريق مالك به
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ) فروخ المدني منقطع وقد رواه المسعودي عبد الرحمن بن عبد الله وهو ثقة عن القاسم بن عبد الرحمن بن مسعود المسعودي وهو ثقة عابد روى له البخاري والأربعة ( قال قدم على عمر بن الخطاب رجل من أهل العراق ) لم يسم ( فقال لقد جئتك لأمر ماله رأس ولا ذنب ) قال الباجي أي ليس له أول ولا آخر والعرب تقول هذا جيش لا أول له ولا آخر يريدون لكثرته وقد تقول ذلك في الأمر المبهم لا يعرف وجهه ولا يهتدى لإصلاحه
( فقال عمر ابن الخطاب ما هو ) الأمر ( فقال شهادات الزور ظهرت بأرضنا ) العراق
( فقال عمر أوقد كان ذلك ) يدل على أنه لم يتقدم علمه به لأن جميع الصحابة عدول بتعديل الله إياهم بقوله { كنتم خير أمة أخرجت للناس } سورة آل عمران الآية 110 وقوله { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار }
____________________
(3/489)
سورة الفتح الآية 29 الآية
( قال نعم فقال عمر والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول ) أي لا يحبس والأسر الحبس أو لا يملك ملك الأسير لإقامة الحقوق عليه إلا بالصحابة الذين جميعهم عدول وبالعدول من غيرهم فمن لم يكن صحابيا ولم تعرف عدالته لم تقبل شهادته حتى تعرف عدالته من فسقه اه
وقال أبو عمر هذا يدل على أن عمر رجع عما كتب به إلى أبي موسى وغيره من عماله المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا خصما أو ظنينا متهما أخرجه البزار وغيره عن عمر من وجوه كثيرة
( مالك أنه بلغه ) أخرجه البزار وقاسم بن ثابت وغيرهما من طرق كثيرة من رواية الحجازيين والعراقيين والشاميين والمصريين ( أن عمر بن الخطاب ) رضي الله عنه ( قال لا تجوز شهادة خصم ) في أمر جسيم مثله يورث العداوة على خصمه في ذلك الأمر وفي غيره فإن خاصم في يسير كثوب قليل الثمن وما لا يوجب عداوة جازت شهادته عليه في غير ما خاصمه فيه قاله ابن كنانة وقال يحيى بن سعيد وابن وهب الخصم هنا الوكيل على خصومته لا تقبل شهادته فيما يخاصم فيه والوجهان محتملان قاله الباجي ولا ظنين بالظاء المعجمة أي متهم
3 القضاء في شهادة المحدود ( مالك أنه بلغه عن سليمان بن يسار ) المدني الفقيه ( وغيره أنهم سئلوا عن رجل جلد ) ضرب ( الحد أتجوز شهادته فقال نعم إذا ظهرت منه التوبة ) في غير ما حد فيه
( مالك أنه سمع ابن شهاب يسأل عن ذلك فقال مثل ما قال سليمان بن يسار قال مالك وهذا الأمر عندنا ) بالمدينة وعزاه ابن عبد البر لعمر وابن عباس وطاوس وعطاء ويحيى بن سعيد وربيعة وابن قسيط ورواية عن سعيد بن جبير ومجاهد والأئمة الثلاثة وإسحاق وأبي ثور وقال وروي مرفوعا من طريق ليس فيه حجة
( وذلك لقول الله تبارك وتعالى { والذين يرمون المحصنات } بالزنى )
____________________
(3/490)
العفيفات بالزنى ( ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) على زناهن برؤيتهن ( فاجلدوهم ) أي كل واحد منهم ( ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ) في شيء ( أبدا وأولئك هم الفاسقون ) لإتيانهم كبيرة ( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ) عملهم ( فإن الله غفور ) لهم قذفهم ( رحيم ) بهم بإلهامهم التوبة فيها ينتهي فسقهم وتقبل شهادتهم
وقال أبو حنيفة وأكثر أهل العراق والثوري لا تقبل شهادتهم أبدا تاب أو لم يتب والاستثناء راجع إلى قوله { فإن الله غفور رحيم } سورة النور الآية 5 قالوا فتوبته بينه وبين ربه
( قال مالك فالأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن الذي يجلد الحد ثم تاب وأصلح عمله تجوز شهادته ) في غير ما حد فيه ( وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك ) لأنه ظاهر الآية وتخصيص الاستثناء بصلة الأخيرة لا ينهض
4 القضاء باليمين مع الشاهد ( مالك عن جعفر ) الصادق ( ابن محمد عن أبيه ) محمد بن علي بن الحسين ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد ) قال ابن عبد البر مرسل في الموطأ ووصله عن مالك جماعة فقالوا عن جابر منهم عثمان بن خالد العثماني وإسماعيل بن موسى الكوفي وأسنده عن جعفر عن أبيه عن جابر جماعة حفاظ وخرجه مسلم من حديث ابن عباس وله طرق عن أبي هريرة وزيد بن ثابت وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وكلها متواترة وقال به الجمهور والأئمة الثلاثة وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وجماعة لا يقضى باليمين مع الشاهد في شيء من الأشياء حتى قال محمد بن الحسن يفسخ القضاء به لأنه خلاف القرآن وهذا جهل وعناد وكيف يكون خلافه وهو زيادة بيان كنكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قوله تعالى { وأحل لكم ما وراء ذلكم } سورة النساء الآية 24 وكالمسح على الخفين وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع مع قوله { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما } سورة الأنعام الآية 145
____________________
(3/491)
الآية فكذلك ما قضى به صلى الله عليه وسلم من اليمين مع الشاهد وقد أجمعوا على القضاء بإقرار المدعى عليه وقضوا بنكول المدعى عليه عن اليمين وليس ذلك في الآية وبمعاقد القمط ونصب اللبن والجذوع الموضوعة في الحيطان وليس ذلك في شيء من القرآن واليمين مع الشاهد أولى بذلك لأنه بالسنة ومن حجتهم أن اليمين إنما جعلت للنفي لا للإثبات والجواب أن الوجه الذي علمنا منه أنها للنفي هو الذي علمنا منه القضاء باليمين مع الشاهد اه ملخصا
والمراد بالقرآن قوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } سورة البقرة الآية 282 قال الحافظ وإنما تتم الحجة به على أصل مختلف فيه بين الفريقين وهو أن الخبر إذا تضمن زيادة على ما في القرآن هل يكون نسخا والسنة لا تنسخ القرآن عند الكوفيين أو لا يكون نسخا بل زيادة مستقلة بحكم مستقل إذا ثبت سنده وجب القول به وإليه ذهب أهل الحجاز ومع قطع النظر عن ذلك لا تنهض الحجة بالآية لأنها تصير معارضة للنص بالرأي وهو غير معتبر به وأجاب عنه الإسماعيلي بما حاصله أنه لا يلزم من النص على الشيء نفيه عما عداه
وقول بعض الحنفية الزيادة على القرآن نسخ وأخبار الآحاد لا تنسخ المتواتر وإنما تقبل زيادة الآحاد إذا كان الخبر بها مشهورا رد بأن النسخ رفع الحكم ولا رفع هنا وبأن الناسخ والمنسوخ لا بد أن يتواردا على محل واحد وهذا غير محقق في الزيادة على النص غايته أن تسمية الزيادة كالتخصيص نسخا اصطلاح فلا يلزم منه نسخ الكتاب بالسنة لكن تخصيصه بها جائز وكذلك الزيادة كقوله { وأحل لكم ما وراء ذلكم } سورة النساء الآية 24 وأجمعوا على تحريم نكاح العمة مع بنت أخيها وسند الإجماع السنة وكذا قطع رجل السارق في المرة الثانية وأمثلة ذلك كثيرة قد أخذ من رد الحكم بالشاهد واليمين لكونه زيادة على القرآن بأحاديث كثيرة في أحكام كثيرة كلها زيادة عما في القرآن كالوضوء بالنبيذ ومن القهقهة ومن القيء وكذا المضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء واستبراء المسبية وترك قطع سارق ما يسرع إليه الفساد وشهادة المرأة الواحدة في الولادة ولا قود إلا بالسيف ولا جمعة إلا في مصر جامع ولا تقطع الأيدي في الغزو ولا يرث الكافر المسلم ولا يؤكل الطافي من السمك ويحرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير ولا يقتل الوالد بالولد ولا يرث القاتل من القتيل وغير ذلك من الأمثلة التي تتضمن الزيادة على عموم الكتاب
وأجابوا بأنها أحاديث شهيرة فوجب العمل بها لشهرتها فيقال لهم وحديث الشاهد واليمين جاء من طرق كثيرة مشهورة بل ثبت من طرق صحيحة متعددة منها ما أخرجه مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد وقال في التمييز أي قال مسلم في كتابه التمييز حديث صحيح لا يرتاب في صحته
وقال ابن عبد البر لا مطعن لأحد في صحته ولا إسناده
وأما قول الطحاوي إن قيس بن سعد لا تعرف له رواية
____________________
(3/492)
عن عمرو بن دينار فلا يقدح في صحته لأنهما تابعيان ثقتان مكيان وقد سمع قيس من أقدم من عمرو وبمثل هذا لا ترد الأخبار الصحيحة
ومنها حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد أخرجه أصحاب السنن ورجاله مدنيون ثقات
ومنها حديث جابر عند الترمذي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وأبو عوانة مثل حديث أبي هريرة وفي الباب عن نحو عشرين من الصحابة فيها الحسان والضعاف وبدون ذلك تثبت الشهرة ودعوى نسخه مردودة لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال
وقال الشافعي القضاء بشاهد ويمين لا يخالف ظاهر القرآن لأنه لم يمنع أن يجوز أقل مما نص عليه يعني والمخالف لذلك لا يقول بالمفهوم فضلا عن مفهوم العدد اه
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( أن عمر بن عبد العزيز ) الإمام العادل قال مالك في المدونة كان صالحا فلما ولي الخلافة ازداد صلاحا وخيرا ( كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ) العدوي أبي عمر المدني تابعي صغير ثقة مات بحران في زمن هشام ( وهو عامل ) أمير ( على الكوفة ) من جهته ( أن اقض باليمين مع الشاهد ) عملا بالحديث
( مالك أنه بلغه أن أبا سلمة بن عبد الرحمن ) بن عوف الزهري ( وسليمان بن يسار سئلا هل يقضى باليمين مع الشاهد فقالا نعم ) والقصد بهذا وسابقه بعد الحديث المرفوع اتصال العمل به فلا يتطرق إليه دعوى النسخ
( قال مالك مضت السنة في القضاء باليمين مع الشاهد الواحد يحلف صاحب الحق مع شاهده ويستحق حقه فإن نكل وأبى أن يحلف أحلف ) بضم الهمزة وسكون الحاء وكسر اللام ( المطلوب فإن حلف سقط عنه ذلك الحق وإن أبى أن يحلف ثبت عليه الحق لصاحبه ) بمجرد نكوله
( وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة ) بإجماع القائلين باليمين مع الشاهد وجزم به عمرو بن دينار راوي حديث ابن عباس قاله أبو عمر
( ولا يقع ذلك في شيء من الحدود ) فلا تثبت إلا بشاهدين
( ولا في نكاح ) فإنما يثبت بشاهدين ولا يحلف إذا قام عليه شاهد به
( ولا في طلاق ولا في عتاقة ) وإن لزمته اليمين لرد
____________________
(3/493)
شاهديهما
( ولا في سرقة ولا في فرية ) بفتح الفاء وكسر الراء وشد الياء كذا ضبط بالقلم في نسخة صحيحة والذي في اللغة الفرية بالكسر والسكون الكذب
( فإن قال قائل فإن العتاقة من الأموال ) فتثبت بالشاهد واليمين ( فقد أخطأ ) لأنه ( ليس ذلك على ما قال ولو كان ذلك على ما قال لحلف العبد مع شاهده إذا جاء بشاهد أن سيده أعتقه ) مع أنه لا يحلف وإنما يحلف السيد كما يجيء
( وأن العبد إذا جاء بشاهد على مال من الأموال ادعاه حلف مع شاهده واستحق حقه كما يحلف الحر ) لأن الشهادة على المال تخرجه من متمول إلى متمول آخر والرقبة في العتق لا تخرج إلى متمول قاله الباجي
( فالسنة عندنا أن العبد إذا جاء بشاهد على عتاقة استحلف سيده ما أعتقه وبطل ذلك عنه ) بمعنى أنه لا شيء عليه ويستمر مملوكا له
( وكذلك السنة عندنا أيضا في الطلاق إذا جاءت المرأة ) أو غيرها ( بشاهد ) واحد ( أن زوجها طلقها أحلف زوجها ما طلقها فإذا حلف لم يقع عليه الطلاق فسنة الطلاق والعتاق في الشاهد الواحد واحدة إنما يكون اليمين على زوج المرأة وعلى سيد العبد ) فإن نكلا حبسا كما رجع إليه مالك واختاره ابن القاسم والأكثر وكان يقول تطلق الزوجة ويعتق العبد وبه قال أشهب وهو ظاهر قوله هنا إذا حلف لم يقع عليه الطلاق وعلى المذهب فقال مالك يحبس أبدا حتى يحلف واختاره سحنون وقاله ابن القاسم إن طال حبسه خلى عنه والطول سنة
( وإنما العتاقة حد من الحدود ) لأنها يتعلق بها حق الله عز وجل ولو اتفق السيد والعبد على إبطالها لم يكن لهما ذلك وذكر الله الطلاق ثم قال { تلك حدود الله فلا تعتدوها } البقرة 229 فجعله من الحدود
( لا يجوز فيها شهادة النساء لأنه إذا عتق العبد ثبتت حرمته ووقعت له الحدود ووقعت عليه ) الحدود كالحر الأصلي
( وإن زنى وقد أحصن رجم وإن قتل العبد ) الذي تحرر ( قتل به ) قاتله ( وثبت له الميراث بينه وبين من يوارثه ) من عصبته وغيرهم ( فإن احتج محتج فقال لو أن رجلا أعتق عبده وجاء رجل يطلب سيد
____________________
(3/494)
العبد بدين له عليه فشهد له على حقه ذلك رجل وامرأتان فإن بذلك يثبت ) الرجل الطالب ( الحق على سيد العبد حتى ترد عتاقته إذا لم يكن لسيد العبد مال غير العبد يريد ) هذا المحتج ( أن يجبر بذلك ) الاحتجاج ( شهادة النساء في العتاقة فإن ذلك ليس على ما قال ) لأن الشهادة إنما تناولت إثبات الدين فرد العتق لأجله
( وإنما مثل ذلك الرجل يعتق عبده ثم يأتي طالب الحق على سيده بشاهد واحد فيحلف مع شاهده ثم يستحق حقه ويرد بذلك عتاقة العبد ) لثبوت الدين لأنه مال بشاهد ويمين
( أو يأتي الرجل قد كانت بينه وبين سيد العبد مخالطة وملابسة ) في الأموال ( فيزعم أن له على سيد العبد مالا فيقال لسيد العبد احلف ما عليك ما ادعى فإن ) حلف بريء وإن ( نكل وأبى أن يحلف ) تفسير لنكل ( حلف صاحب الحق وثبت حقه على سيد العبد فيكون ذلك يرد عتاقة العبد إذا ثبت المال على سيده ) وليس له غيره قال الباجي مثله في العتبية والمجموعة وفي كتاب ابن مزين عن ابن القاسم لا ترد بذلك عتاقة عبد ولا بإقراره أن عليه دينا
( وكذلك الرجل ينكح الأمة ) أي يتزوجها ( فتكون امرأته فيأتي سيد الأمة إلى الرجل الذي يتزوجها فيقول ابتعت مني جاريتي فلانة أنت وفلان بكذا وكذا دينارا فينكر ذلك زوج الأمة فيأتي سيد الأمة برجل وامرأتين فيشهدون على ما قال فيثبت بيعه ويحق حقه ) ثمنه الذي شهدوا به ( وتحرم الأمة على زوجها ) لملكه نصفها ( ويكون ذلك فراقا بينهما ) لأن الملك يفسخ النكاح ( وشهادة النساء لا تجوز في الطلاق ) وإنما جازت هنا في المال وجر إلى الفراق فوقع تبعا
( ومن ذلك أيضا الرجل يفتري على الرجل الحر فيقع عليه الحد فيأتي رجل وامرأتان فيشهدون أن
____________________
(3/495)
الذي افترى عليه عبد مملوك فيضع ) يسقط ( ذلك الحد على المفتري بعد أن يقع عليه ) أي يثبت لأنه لا يحد قاذف عبد ( وشهادة النساء لا تجوز في الفرية ) وإنما جازت هنا لدفع الحد بالشبهة ( ومما يشبه ذلك أيضا مما يفترق فيه القضاء وما مضى من السنة أن المرأتين تشهدان على استهلال الصبي ) أي خروجه حيا من بطن أمه فيجب بذلك ميراثه ( حتى يرث ويكون ماله لمن يرثه إن مات الصبي وليس مع المرأتين اللتين شهدتا رجل ولا يمين ) وكذا في كل ما لا يظهر للرجال ( وقد يكون ذلك في الأموال العظام ) الكثيرة ( من الذهب والورق والرباع والحوائط ) البساتين ( والرقيق وما سوى ) أي غير ( ذلك من الأموال ولو شهدت امرأتان على درهم واحد أو أقل من ذلك أو أكثر لم تقطع شهادتهما شيئا ) أي لا يعمل بها ( ولم تجز إلا أن يكون معهما شاهد أو يمين ) فيقضى باليمين مع شهادة المرأتين خلافا للشافعي قال لأن شهادة النساء لا تجوز دون الرجال وإنما حلف في اليمين مع الشاهد للحديث
( قال مالك ومن الناس ) كإبراهيم النخعي والحكم وعطاء وابن شبرمة وأبي حنيفة والكوفيين والثوري والأوزاعي والزهري بخلف عنه ( من يقول لا تكون اليمين مع الشاهد الواحد ) أي لا يقضى بها في شيء من الأشياء ( ويحتج بقول الله تبارك وتعالى وقوله الحق ) الصدق الواقع لا محالة ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا ) أي الشاهدان ( رجلين فرجل وامرأتان ) يشهدون ( ممن ترضون من الشهداء ) ) لدينه وعدالته ( يقول ) ذلك المحتج بيانا لوجه احتجاجه من الآية ( فإن لم يأت برجل وامرأتين فلا شيء له ولا يحلف مع شاهده ) لظاهر الآية
وتقدم رده بأنه لم يمنع أقل مما نص عليه والمخالف لا يقول بالمفهوم فضلا عن مفهوم العدد
( قال مالك فمن الحجة على من قال ذلك القول أن يقال له أرأيت ) أخبرني ( لو أن رجلا ادعى
____________________
(3/496)
على رجل مالا أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه فإن حلف بطل ) سقط ( ذلك ) الحق ( عنه ) باتفاق ( وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق أن حقه ) أي ما ادعى به ( الحق ) أي باق لم يقبضه ( وثبت حقه على صاحبه فهذا ما ) أي شيء ( لا اختلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلدان ) قال ابن عبد البر مذهب الكوفيين أن المدعى عليه إذا نكل عن اليمين حكم عليه بالحق دون رد اليمين على المدعي ولا يظن بمالك مع علمه باختلاف من مضى أنه جهل هذا وإنما أتى بما لا يختلف فيه كأنه قال ومن يحكم بالنكول خاصة أحرى أن يحكم بالنكول ويمين الطالب ومالك كالحجازيين وطائفة من العراقيين لا يقضى بالنكول حتى ترد اليمين ويحلف الطالب وإن لم يدع المطلوب إلى يمينه لحديث القسامة أنه صلى الله عليه وسلم رد فيها اليمين على اليهود إذ أبى الأنصار منها اه
وبه سقط قول فتح الباري إن احتجاج مالك هذا متعقب ولا يرد على الحنفية لأنهم لا يقولون برد اليمين
( فبأي شيء أخذ هذا ) قيل أخذه من حديث الأشعث بن قيس كان بيني وبين رجل خصومة في شيء فاختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال شاهداك أو يمينه فقلت إذا يحلف ولا يبالي الحديث في الصحيحين
وروى وائل بن حجر نحو هذه القصة وزاد فيها ليس لك إلا ذلك رواه مسلم وأصحاب السنن ففي الحصر دليل على رد اليمين والشاهد
وأجيب بأن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم شاهداك بينتك سواء كانت رجلين أو رجلا وامرأتين أو رجلا ويمين الطالب وإنما خص الشاهدين بالذكر لأنه الأكثر الأغلب فالمعنى شاهداك أو ما يقوم مقامهما ولو لزم من ذلك رد الشاهدين واليمين لكونه لم يذكر للزم رد الشاهد والمرأتين لأنه لم يذكر فوضح التأويل المذكور وثبت الخبر باعتبار الشاهد واليمين فدل على أن لفظ الشاهدين غير مراد بل المراد هما أو ما يقوم مقامهما
( أو في أي موضع من كتاب الله وجده فإذا أقر ) اعترف ( بهذا ) لأنه لا يستطيع إنكاره ( فليقرر ) بفك الإدغام وفي نسخة فليقر بالإدغام ( باليمين مع الشاهد وإن لم يكن ذلك في كتاب الله ) لأنه لا ينافيه إذ لا يلزم من النص على شيء نفيه عما عداه وغاية ما في ذلك عدم التعرض له لا التعرض لعدمه والحديث قد تضمن زيادة مستقلة على ما في القرآن بحكم مستقل ولم يغير حكم الشاهدين ولا الشاهد والمرأتين بل زاد عليهما حكما آخر ويلزم المخالف أنه لا يثبت حكما بحديث صحيح ولا قياس لأنه كله زيادة على القرآن فإن لم يكن ذلك زيادة لأنه لا ينافيه فكذا الشاهد واليمين
( وإنه ليكفي من ذلك ) في الاحتجاج على المخالف ( ما مضى من السنة ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع
____________________
(3/497)
الشاهد ومعارضته بالرأي والاستنباط لا تعتبر
( ولكن المرء قد يحب أن يعرف وجه الصواب وموقع الحجة ) فلذا ذكرته
( ففي هذا بيان إن شاء الله ) للتبرك وقد تعسفوا الجواب عن الحديث بأن المراد قضى بيمين المنكر مع الشاهد الطالب والمراد أن الشاهد الواحد لا يكفي في ثبوت الحق فتجب اليمين على المدعى عليه بحمله على صورة مخصوصة وهي أن رجلا اشترى من آخر عبدا مثلا فادعى المشتري أن به عيبا وأقام شاهدا واحدا فقال البائع بعته بالبراءة فحلف المشتري أنه ما اشترى بالبراءة وأبطلهما ابن العربي بأنه جهل باللغة لأن المعية تقتضي أن يكون من شيئين في جهة واحدة لا في المتضادين والثاني أيضا بأنها صورة نادرة لا يحمل عليها الخبر قال الحافظ وفي كثير من الأحاديث ما يبطل هذا التأويل اه
وأجابوا أيضا باحتمال أن الشاهد خزيمة بن ثابت لأنه جعل شهادته بشهادتين وأبطله الباجي بأنه لو كان ذلك لم يكن لليمين وجه قال وإنما كان ذلك لخزيمة خصوصا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا ترى أن خزيمة لم يشهد بأمر شاهده وإنما شهد بما سمعه منه لعلمه بصدقه وهذا باتفاق لا يتعدى إلى غيره صلى الله عليه وسلم
5 القضاء فيمن هلك وله دين وعليه دين له فيه شاهد واحد ( مالك في الرجل يهلك وله دين عليه شاهد واحد وعليه دين للناس لهم فيه شاهد واحد فتأبى ) تمتنع ( ورثته أن يحلفوا على حقوقهم ) مع شاهدهم ( قال فإن الغرماء ) أصحاب الديون ( يحلفون ويأخذون حقوقهم فإن فضل فضل ) عن الديون ( لم يكن للورثة منه شيء وذلك أن الأيمان عرضت عليهم قبل فتركوها ) قال ابن زرقون لا أعلم خلافا في المذهب إذا كان في الحق فضل أن تبدأ الورثة باليمين فإن لم يكن فيه فضل فقال مالك تبدأ الورثة وقال محمد وسحنون تبدأ الغرماء ( إلا أن يقولوا لم نعلم لصاحبنا ) أي مورثنا ( فضلا ويعلم أنهم إنما تركوا الأيمان ) أولا ( من أجل ذلك فإني أرى أن يحلفوا ويأخذوا ما بقي بعد دينه ) وروى عنه ابن وهب أن لهم ذلك مطلقا
____________________
(3/498)
6 القضاء في الدعوى ( مالك عن جميل ) بفتح الجيم وكسر الميم ( ابن عبد الرحمن المؤذن ) المدني أمه من ذرية سعد القرظي وكان يؤذن معهم ويقال اسم أبيه عبد الله بن سويد أو سوادة والصواب عبد الرحمن قاله ابن الحذاء
( أنه كان يحضر عمر بن عبد العزيز وهو يقضي بين الناس فإذا جاءه الرجل يدعي على الرجل حقا نظر فإن كانت بينهما مخالطة أو ملابسة أحلف الذي ادعى عليه وإن لم يكن شيء من ذلك لم يحلفه قال مالك وعلى ذلك الأمر عندنا ) وقال به الفقهاء السبعة وغيره ( أنه ) أي الشأن ( من ادعى على رجل بدعوى نظر فإن كانت بينهما مخالطة ) مثل التجار ومن نصب نفسه للشراء والبيع ( أو ملابسة أحلف المدعى عليه فإن حلف بطل ذلك الحق عنه ) أي لم يتوجه عليه
( وإن أبى أن يحلف ورد اليمين على المدعي فحلف طالب الحق أخذ حقه ) وذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم إلى توجه اليمين على المدعى عليه سواء كان بينهما خلطة أم لا لعموم حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه لكن حمله مالك وموافقوه على ما إذا كانت خلطة لئلا يبتذل أهل السفه أهل الفضل بتحليفهم مرارا في اليوم الواحد فاشترطت الخلطة لهذه المفسدة واستدل ابن عبد البر لذلك بقوله تعالى { إن كان قميصه قد من قبل فصدقت } سورة يوسف الآية 26 الآيات
وقال ابن عباس لما أتى يعقوب بقميص يوسف ولم ير فيه خرقا كذبهم وقال لو أكله السبع لخرق قميصه
وقال الشعبي كان في قميص يوسف ثلاث آيات فزاد حين ألقى على وجه أبيه فارتد بصيرا وهذا أصل في ثبوت الخلطة
7 القضاء في شهادة الصبيان ( مالك عن هشام بن عروة أن ) عمه ( عبد الله بن الزبير ) الصحابي أمير المؤمنين ( كان يقضي
____________________
(3/499)
بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح ) قال أبو عمر اختلف عن ابن الزبير في ذلك والأصح أنه كان يجيزها إذا جيء به في حال نزول النازلة وروى مثله عن علي من طرق ضعيفة
( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا ) بالمدينة ( أن شهادة الصبيان تجوز فيما بينهم من الجراح ولا تجوز على غيرهم ) أي الكبار
( وإنما تجوز شهادتهم فيما بينهم من ) أي في ( الجراح وحدها لا تجوز في غير ذلك ) من الأموال وغيرها ( إذا كان ذلك قبل أن يفترقوا أو يخيبوا ) بخاء معجمة فموحدتين يخدعوا من الخب بالكسر الخداع ( أو يعلموا فإن افترقوا فلا شهادة لهم ) أي لا تقبل ( إلا أن يكون قد أشهد العدول على شهادتهم قبل أن يفترقوا ) فتقبل بباقي الشروط المذكورة في الفروع وبإجازتها
قال معاوية وعمر بن عبد العزيز وابن المسيب وعروة وأبو جعفر محمد بن علي والشعبي وابن أبي ليلى وابن شهاب والنخعي بخلف عنه ولم يجزها الجمهور والأئمة الثلاثة وحمل مالك قول ابن عباس بعدم إجازتها على شهادتهم على الكبار
____________________
(3/500)
8 ما جاء في الحنث على منبر النبي صلى الله عليه وسلم ( مالك عن هاشم بن هاشم ) ويقال فيه هشام بن هشام ( عن عتبة ) بضم المهملة وإسكان الفوقية فموحدة ( ابن أبي وقاص ) مالك الزهري المدني ثقة من رجال الجميع وعمر طويلا ومات سنة بضع وأربعين ومائة قال ابن عبد البر وزعم بعضهم أنه مجهول وليس بشيء فقد روى عنه مالك وشجاع بن الوليد وأنس بن عياض ومكي بن إبراهيم وغيرهم ومن روى عنه رجلان ارتفعت عنه الجهالة لمالك عنه مرفوعا هذا الحديث الواحد ( عن عبد الله بن نسطاس ) بكسر النون ومهملة ساكنة المدني مولى كندة وثقه النسائي كذا في التقريب وفي الاستذكار أنه ذهلي تابعي ثقة قال مصعب أبوه نسطاس مولى أبي بن خلف أدرك الجاهلية اه
وعليه فيكون مولى قريش
( عن جابر بن عبد الله الأنصاري ) الخزرجي الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حلف على منبري ) قال مالك يريد عند منبري وهو الآن في موضعه الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في وسط المسجد وهو بعيد من القبلة والمحراب لأنه زيد في المسجد فكانت اليمين عند منبره أولى لأنه موضع مصلاه صلى الله عليه وسلم وأما القبلة والمحراب فشيء بني بعده ( آثما ) بالمد وكسر المثلثة قال ابن عبد البر كذا رواه يحيى ورواه القعنبي وابن القاسم وابن بكير والأكثر عن مالك بسنده بلفظ من حلف على منبري هذا بيمين آثمة والمعنى واحد وفيه اشتراط الإثم فلا يقع الوعيد إلا مع تعمد الإثم في اليمين واقتطاع حق المسلم بها زاد في رواية ابن أبي شيبة من هذا الوجه ولو على سواك أخضر ( تبوأ ) أي اتخذ ( مقعده من النار ) وعيد شديد يفيد أن ذلك من الكبائر العظيمة وفيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه أي كما أنه قصد الإثم في اليمين الكاذبة في ذا المكان العظيم كذلك يقصد في جزائه التبوء قال أبو عمر مذهبنا أي أهل السنة في الوعيد أنه لا يتحتم بل إن شاء الله غفر وإن شاء عذب لقوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } سورة النساء الآية 48 وقال الشاعر وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي فمدح نفسه بإخلاف الوعيد ولو كان كذبا ما مدح به نفسه وقد قال تعالى { وعد غير مكذوب } سورة هود الآية 65 { وقال } إنه كان صادق الوعد سورة مريم الآية
____________________
(4/3)
54 ) فوصف الوعد بالصدق والكذب
وفي الحديث حجة لقول الجمهور ومالك والشافعي بوجوب التغليظ بالمكان ففي المدينة عند المنبر وبمكة بين الركن والمقام وبغيرهما بالمسجد الجامع خلافا للحنفية والحنابلة وجماعة أنه لا يغلظ به
وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق مالك وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم وله شاهد عن أبي أمامة بن ثعلبة مرفوعا من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين أخرجه النسائي برجال ثقات
( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن ) بن يعقوب الجهني أحد الثقات الأثبات تابعي صغير رأى أنسا ومات سنة تسع وثلاثين ومائة ( عن معبد بن كعب السلمي ) بفتحتين نسبة إلى بني سلمة من الأنصار المدني التابعي الثقة قال ابن عبد البر وقول بعض الرواة محمد بن كعب القرظي خطأ إنما هو معبد بن كعب بن مالك الأنصاري ( عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري ) المدني الثقة ويقال له رؤية مات سنة سبع أو ثمان وتسعين وأبوه صحابي شهير أحد الثلاثة الذين خلفوا ( عن أبي أمامة ) ليس هو الباهلي إنما هو الأنصاري أحد بني حارثة قيل اسمه إياس بن ثعلبة وقيل ثعلبة بن سهل قاله أبو عمر وفي الإصابة اسمه عند الأكثر إياس وقيل عبد الله وبه جزم أحمد بن حنبل وقيل ثعلبة وقيل سهل ولا يصح غير إياس وهو ابن أخت أبي بردة بن نيار روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث منها في مسلم والسنن وروى عنه جماعة خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فرده من أجل أمه فوجدها ماتت فصلى عليها أخرجه أبو أحمد الحاكم ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اقتطع ) افتعل من القطع ( حق امرىء مسلم ) جرى على الغالب وكذلك الذمي والمعاهد ( بيمينه ) بحلفه الكاذب ( حرم ) منع ( الله عليه الجنة وأوجب له النار ) إن استحل أو إن لم يعف عنه أو هو وعيد شديد ويجوز تخلفه كما مر ( قالوا وإن كان الحق شيئا يسيرا يا رسول الله قال وإن كان قضيبا ) فعيل بمعنى مفعول أي غصنا مقطوعا ( من أراك ) شجر يستاك بقضبانه الواحدة أراكة ويقال هي شجرة طويلة ناعمة كثيرة الورق والأغصان ولها ثمر في عناقيد يسمى البرير بموحدة وزان أمير يملأ العنقود الكف ( وإن كان قضيبا ) وفي رواية وإن كان سواكا ( من أراك وإن كان قضيبا من أراك قالها ثلاث مرات ) زيادة في التنفير لئلا يتهاون بالشيء اليسير ولا فرق
____________________
(4/4)
بين قليل الحق وكثيره في التحريم أما في الإثم فالظاهر أنه ليس من اقتطع القناطير المقنطرة من الذهب والفضة كمن اقتطع الدرهم والدرهمين وهذا خرج مخرج المبالغة في المنع وتعظيم الأمر وتهويله بدليل تأكيد تحريم الجنة وإيجاب النار وأحدهما يستلزم الآخر والحال يقتضي هذا التأكيد لأن فاعل ذلك أبلغ في الاعتداء الغاية حيث اقتطع حق امرىء لم يكن له فيه سبيل واستخف بحرمة واجبة الرعاية وهي حرمة الإسلام وأقدم على اليمين الفاجرة واختلف هل قوله مسلم قيد فلو اقتطع حق كافر لا يستحق هذا الوعيد أو ليس بقيد بل ورد لبيان أن رعاية حق المسلم أشد لأن حرمة حق المسلم أقوى وقيل إنما ذكره للدلالة على أن حق الكافر أوجب رعاية فإن إرضاء المسلم بإدخاله الجنة يوم القيامة أمر ممكن فيجوز أن يرضي الله خصمه فيعفو عن ظالمه وأما إرضاء الكافر بذلك فغير ممكن فيكون الأمر صعبا فإذا كان حق من يتصور الخلاص من ظلمه واجب الرعاية فحق من لا يتصور أولى
وقال عياض الحديث خرج مخرج الغالب فالمسلم وغيره سواء
وقال النووي هما سواء في حرمة القطع
فأما في العقوبة فينبغي أن حق الكافر أخف قال الأبي واختاره الشيخ يعني ابن عرفة ووجهه بما ثبت من رفع درجة المسلم على الكافر بدليل أنه يقتل به وغير ذلك قال أبو عمر فيه أن اليمين الغموس وهي اليمين الصبر التي يقتطع بها مال مسلم من الكبائر لأن كل ما أوعد الله أو رسوله عليه فهو من الكبائر ولا كفارة في ذلك وعليه أن يؤدي ما اقتطعه من المال ثم يتوب إلى الله ويستغفره عند مالك وأبي حنيفة وجمهور فقهاء الأمصار
وقال الشافعي والأوزاعي ومعمر وطائفة يكفر بعد خروجه مما عليه ويدل للأول ما جاء عن ابن مسعود قال كنا نعد من الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس أن يحلف الرجل على مال أخيه كاذبا اه
وهذا الحديث تابع مالكا عليه إسماعيل بن جعفر عن العلاء عند مسلم ورواه النسائي وابن ماجه من طريق مالك وغيره
9 جامع ما جاء في اليمين على المنبر ( مالك عن داود بن الحصين ) بمهملتين مصغرا ( أنه سمع أبا غطفان ) بمعجمة فمهملة ففاء مفتوحات قيل اسمه سعد ( ابن طريف ) بفتح المهملة وكسر الراء وقيل ابن مالك ( المري ) بضم الميم وتشديد الراء المدني التابعي الثقة ( يقول اختصم زيد بن ثابت الأنصاري ) الصحابي الشهير ( و ) عبد الله ( ابن مطيع ) بن الأسود العدوي المدني له رؤية وكان رأس قريش يوم الحرة وأمره ابن
____________________
(4/5)
الزبير على الكوفة ثم قتل معه سنة ثلاث وسبعين ( في دار كانت بينهما إلى مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة ) من جهة معاوية ( فقضى مروان على زيد بن ثابت باليمين على المنبر ) النبوي أي عنده ( فقال زيد بن ثابت أحلف له مكاني ) أي فيه ( قال ) أبو غطفان ( فقال مروان لا والله ) لا تحلف ( إلا عند مقاطع الحقوق قال فجعل زيد بن ثابت يحلف أن حقه لحق ) أي باق لم يقبضه ( ويأبى أن يحلف على المنبر قال فجعل مروان بن الحكم يعجب من ذلك ) أي من امتناع زيد مع علمه أنها تغلظ بالمكان قال مالك كره زيد صبر اليمين وقال الشافعي بلغني أن عمر حلف على المنبر في خصومة كانت بينه وبين رجل وأن عثمان ردت عليه اليمين على المنبر فافتدى منها وقال أخاف أن توافق قدر بلاء فيقال بيمينه قال الشافعي واليمين على المنبر مما لا خلاف فيه عندنا في قديم ولا حديث فعاب قولنا هذا عائب ترك فيه موضع حجتنا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآثار بعده عن الصحابة وزعم أن زيد بن ثابت لا يرى اليمين على المنبر وأنا روينا عنه ذلك وخالفناه إلى قول مروان فما منع زيد لو لم يعلم أن اليمين على المنبر حق أن يقول مقاطع الحقوق مجلس الحكم وقد قال له أعظم من هذا أتحل الربا يا مروان فقال أعوذ بالله قال فالناس يتبايعون الصكوك قبل أن يقبضوها فبعث مروان الحرس ينزعونها من أيدي الناس
فإذا لم ينكر مروان على زيد هذا فكيف ينكر عليه في نفسه أن يقول لا يلزمني اليمين على المنبر لقد كان زيد من أعظم أهل المدينة عند مروان وأرفعهم منزلة ولكن علم زيد أن ما قضى به مروان حق وكره أن تصبر يمينه على المنبر
قال وقد روى الذين خالفونا حديثا يثبتونه عندهم عن منصور وعاصم الأحول عن الشعبي أن عمر جلب قوما من اليمن فأدخلهم الحجر فأحلفهم
فإذا ثبت هذا عن عمر فكيف أنكروا علينا أن يحلف من بمكة بين الركن والمقام ومن بالمدينة على المنبر ونحن لا نجلب أحدا من بلده ولو لم نحتج عليهم بأكثر من روايتهم وبما احتجوا به علينا من زيد لكانت الحجة بذلك لازمة فكيف والحجة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بعده نقله في التمهيد
وفي فتح الباري وجدت لمروان سلفا فأخرج الكرابيسي بسند قوي عن سعيد بن المسيب قال ادعى مدع على آخر أنه غصب له بعيرا فخاصمه إلى عثمان فأمره أن يحلف عند المنبر فقال أحلف له حيث شاء فأبى عليه عثمان أن يحلف إلا عند المنبر فغرم له بعيرا مثل بعيره ولم يحلف
____________________
(4/6)
( قال مالك لا أرى أن يحلف ) بالتثقيل ( أحد على المنبر على أقل من ربع دينار وذلك ثلاثة دراهم ) وقال الشافعي لا يحلف في أقل من عشرين دينارا فصاعدا والحاصل أن الجمهور اتفقوا على التغليظ بالمكان في الدماء والمال الكثير لا في القليل واختلفوا في حد القليل والكثير
10 ما لا يجوز من غلق الرهن قال الجوهري وغيره غلق الرهن بغين معجمة مفتوحة ولام مكسورة وقاف يغلق بفتح أوله واللام غلقا بفتح الغين واللام أي استحقه المرتهن إذا لم يفتك في الوقت المشروط
( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن سعيد بن المسيب ) بكسر الياء وفتحها قال أبو عمر أرسله رواة الموطأ إلا معن بن عيسى فوصله عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يغلق ) بفتح الياء واللام ( الرهن ) الرواية برفع القاف على الخبر أي ليس يغلق أي لا يذهب ويتلف باطلا وقال النحاة لم يوجد له مخلص وقال زهير وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا وقال قعنب بن حمزة الغطفاني بانت سعاد وأمسى دونها عدن وغلقت عندها من قلبك الرهن قال أبو عبيد لا يجوز لغة غلق الرهن إذا ضاع إنما يقال غلق إذا استحقه المرتهن فذهب به قال وهذا كان من فعل الجاهلية فأبطله صلى الله عليه وسلم بقوله لا يغلق الرهن
( قال مالك وتفسير ذلك فيما نرى ) بضم النون نظن ( والله أعلم ) بمراد نبيه ( أن يرهن الرجل الرهن عند الرجل بالشيء وفي الرهن فضل ) زيادة ( عما رهن به فيقول الراهن للمرتهن إن جئتك بحقك إلى أجل يسميه له ) أخذت رهني ( وإلا فالرهن لك بما رهن فيه قال فهذا لا يصلح ولا يحل وهذا الذي نهي عنه ) بالبناء للمفعول ( وإن جاء صاحبه بالذي رهن به بعد الأجل فهو ) أي الرهن ( له ) أو يباع فيأخذ حقه ويرد ما فضل ( وأرى هذا
____________________
(4/7)
الشرط منفسخا ) لا عبرة به وبنحوه فسره طاوس والنخعي وشريح القاضي وسفيان الثوري والزهري وأبو عبيد هذا ومعن بن عيسى الذي وصله عن مالك ثقة لكن أخشى أن علي بن عبد الحميد راويه عن مجاهد بن موسى عن معن أخطأ في وصله لكن تابعه أبو بكر بن جعفر عن مجاهد والأصح إرساله وإن وصل من جهات كثيرة فكلها معللة وزاد فيه بعض الرواة له غنمه وعليه غرمه واختلف في رفع هذه الزيادة وأنها من كلام ابن المسيب اه كلام ابن عبد البر ملخصا
وذكر صاحب الدر المنضد أن لا نافية أو ناهية فعليه تكسر القاف لالتقاء الساكنين لكنه لم يفصح بأنه روي بالوجهين وقد أفصح أبو عمر بأن الرواية بالرفع خبر وهو أبلغ في النهي من صريح النهي
11 القضاء في رهن الثمر والحيوان ( مالك فيمن رهن حائطا ) بستانا ( له إلى أجل مسمى فيكون ) يوجد ( ثمر ذلك الحائط قبل ذلك الأجل أن الثمر ليس برهن مع الأصل ) سواء حدثت أو كانت موجودة حين الرهن مزهية أو غير مزهية ( إلا أن يكون اشترط ذلك المرتهن في رهنه ) فيكون رهنا ( وإن الرجل إذا ارتهن الجارية وهي حامل أو حملت بعد ارتهانه إياها إن ولدها ) يكون رهنا ( معها
وفرق بين الثمر وبين ولد الجارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من باع نخلا قد أبرت ) بضم الهمزة وكسر الموحدة خفيفة وثقيلة ( فثمرها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ) كما مر مسندا ( والأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن من باع وليدة ) أمة ( أو شيئا من الحيوان وفي بطنها جنين أن ذلك الجنين للمشتري اشترطه المشتري أو لم يشترطه فليست النخل مثل الحيوان ) لافتراق حكميهما ( وليس الثمر مثل الجنين في بطن أمه ) زاد في الموازية ولو شرط أن الأمة رهن دون ما تلده لم يجز ( ومما يبين ذلك أيضا أن من أمر الناس أن يرهن الرجل ثمر النخل ولا
____________________
(4/8)
يرهن النخل وليس يرهن أحد من الناس جنينا في بطن أمه من الرقيق ولا من الدواب ) لقوة الغرر وإن جاز أصله في الرهن
12 القضاء في الرهن من الحيوان ( مالك الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا في الرهن أنه ما كان من أمر يعرف هلاكه من أرض أو دار أو حيوان ) من كل ما لا يغاب عليه ( فهلك في يد المرتهن وعلم هلاكه فهو من الراهن وأن ذلك لا ينقص من حق المرتهن شيئا ) وكذا إذا ادعى إباق العبد وهروب الحيوان فلا ضمان ما لم يتبين كذبه كدعواه ذلك بحضرة عدول فأنكروه
( وما كان من رهن يهلك في يد المرتهن فلا يعلم هلاكه إلا بقوله ) كثياب وعروض وعين وحلي وكل ما يكال أو يوزن مما يغاب عليه ( فهو من المرتهن ) قال عنه ابن القاسم إلا أن تقوم بينة بهلاكه فلا يضمن ( وهو ) حيث لا بينة ( لقيمته ضامن ) فإن اتفقا على وصفه حكم بقيمة تلك الصفة ( ويقال ) إذا اختلفا ( له صفه فإذا وصفه أحلف على صفته ) أنها كما وصف ( و ) على ( تسمية ما ) أي الدين الذي ( له فيه ) أي في الرهن أي في مقابلته قال الباجي يريد إذا اختلفا في قدر الدين ( ثم يقومه أهل البصر ) أي الخبرة ( بذلك ) الوصف الذي حلف عليه ( فإن كان فيه ) أي قيمة الرهن ( فضل ) زيادة ( عما سمى فيه المرتهن أخذه الراهن وإن كان ) قيمة الرهن ( أقل مما سمى ) المرتهن من الدين ( حلف الراهن على ما سمى المرتهن وبطل عنه الفضل ) الزائد ( الذي سمى المرتهن فوق قيمة الرهن وإن أبى الراهن أن يحلف أعطي ) أي لزمه أن يعطي المرتهن ( ما فضل بعد قيمة الرهن فإن قال المرتهن لا علم لي بقيمة الرهن حلف الراهن على صفة الرهن ) لأن المرتهن صار
____________________
(4/9)
مدعيا على الراهن ( وكان ذلك له إذا جاء بالأمر الذي لا يستنكر ) بأن أشبه ما قال فإن لم يشبه فللمرتهن أن يرجع فيقول أنا إنما ادعيت الجهل بتحقق الصفة فأنا أصفه بصفة لا أشك أنها أفضل من صفة الرهن وهي دون صفة الراهن بكثير فيحلف على ذلك ويسقط عن نفسه ما يستنكر قاله الباجي
( وذلك ) كله ( إذا قبض المرتهن الرهن ولم يضعه على يدي غيره ) فإن كان بيدي غيره فلا ضمان على المرتهن وإن لم تقم بينة قال ابن عبد البر إذا اختلف في مبلغ الدين فلا خلاف في مذهب مالك أن القول للمرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن
وقال أبو حنيفة والشافعي القول للراهن مع يمينه ولا ينظر إلى قيمة الرهن لأن المرتهن مدع
قال إسماعيل القاضي والحجة لمالك قوله عز وجل { ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } البقرة 283 فجعل الرهن بدلا من الشهادة لأن المرتهن أخذه وثيقة بحقه فكأنه شاهد له لأنه ينبىء عن مبلغ الدين وما جاوز قيمته فلا وثيقة فيه فكان القول فيه قول الراهن
قال ووافق مالكا على الفرق بين ما يغاب عليه فيضمنه إلا لبينة وبين ما لا يغاب عليه فلا ضمان إلا أن يظهر كذبه الأوزاعي وجماعة وروي عن علي وقال جماعة هو مضمون مطلقا وقال أبو حنيفة وجماعة الرهن مضمون بقيمة الدين وما زاد عليه فهو أمانة وقال الشافعي وأحمد وجمهور المحدثين الرهن كله أمانة لا يضمن إلا بما تضمن به الودائع من التعدي والتضييع سواء كان حليا أو حيوانا مما يغاب عليه أو لا يغاب عليه والدين ثابت على حاله للحديث له غنمه وعليه غرمه قالوا له غنمه أي غلته وخراجه وعليه غرمه أي فكاكه ومنه مصيبته والمرتهن ليس بمتعد في حبسه وإنما يضمن من تعدى
وقال الحنفية غنمه ما فضل من الدين وغرمه ما نقص منه
وقال المالكية غرمه نفقته لا فكاكه ومصيبته وإذا كان له الخراج والغلة وهو غنمه كان الغرم ما قابل ذلك من النفقة
13 القضاء في الرهن يكون بين الرجلين ( مالك في الرجلين يكون لهما رهن بينهما فيقوم أحدهما ببيع رهنه وقد كان الآخر أنظره ) أخره ( يحقه سنة قال إن كان يقدر على أن يقسم الرهن ) بأن لا ينقص قيمته بالقسمة ( ولا ينقص حق الذي
____________________
(4/10)
أنظر بحقه بيع له نصف الرهن الذي كان بينهما فأوفى حقه ) فإن قصر عنه طلبه ببقية حقه ولم يكن له في بقية الرهن شيء
( وإن خيف أن ينقص حقه بيع الرهن كله فأعطى الذي قام ببيع رهنه حقه من ذلك فإن طابت نفس الذي أنظره بحقه أن يدفع نصف الثمن إلى الراهن ) فعل ( وإلا حلف المرتهن أنه ما أنظره إلا ليوقف لي رهني على هيئته ) صفته ( ثم أعطي حقه عاجلا ) لحلفه
( مالك في العبد يرهنه سيده وللعبد مال أن مال العبد ليس يرهن إلا أن يشترطه المرتهن ) اتفاقا وقد اتفقوا على أن مال العبد لا يدخل في بيعه إلا بشرط فالرهن أحرى واختلف فيما يستفيده العبد المرهون فقال ابن القاسم وأشهب لا يكون ما وهب له ولا خراجه رهنا وقال يحيى بن عمر ذلك كله رهن معه والصواب الأول قاله أبو عمر
14 القضاء في جامع الرهون ( مالك فيمن ارتهن متاعا فهلك المتاع عند المرتهن وأقر الذي عليه الحق بتسمية الحق واجتمعا ) توافق الراهن والمرتهن ( على التسمية وتداعيا ) تحالفا ( في الرهن فقال الراهن قيمته عشرون دينارا وقال المرتهن قيمته عشرة دنانير والحق الذي للرجل ) المرتهن ( فيه عشرون دينارا قال مالك يقال للذي بيده الرهن صفه فإذا وصفه أحلف عليه ) لأن الراهن خالفه في الوصف وادعى أفضل منه ( ثم أقام ) قوم ( تلك الصفة أهل المعرفة بها فإن كانت القيمة أكثر مما رهن به قيل للمرتهن اردد إلى الراهن بقية حقه وإن كانت القيمة أقل مما رهن به أخذ المرتهن بقية حقه من الراهن وإن كانت القيمة بقدر حقه فالرهن بما فيه ) لأن الرهن شاهد على نفسه ( والأمر عندنا في الرجلين يختلفان
____________________
(4/11)
في الرهن يرهنه أحدهما صاحبه فيقول الراهن رهنتكه بعشرة دنانير ويقول المرتهن ارتهنته منك بعشرين دينارا والرهن ظاهر بيد المرتهن ) أو بيد أمين لأنه حائز للمرتهن ( قال يحلف المرتهن حتى يحيط بقيمة الرهن فإن كان ذلك لا زيادة فيه ولا نقصان عما حلف أن له فيه أخذه المرتهن بحقه وكان أولى بالتبدية باليمين ) على الراهن ( لقبضه الرهن وحيازته إياه ) ولأنه شاهد له ( إلا أن يشاء رب الرهن أن يعطيه حقه الذي حلف عليه ويأخذ رهنه ) فله ذلك
( وإن كان الرهن أقل من العشرين التي سمى أحلف المرتهن على العشرين التي سمى ثم يقال للراهن إما أن تعطيه الذي حلف عليه وتأخذ رهنك وإما أن تحلف على الذي قلت أنك رهنته به ويبطل عنك ما زاد المرتهن على قيمة الرهن فإذا حلف الراهن بطل ذلك عنه وإن لم يحلف لزمه غرم ) أي دفع ( ما حلف عليه المرتهن فإن هلك الرهن وتناكر الحق فقال الذي له الحق ) أي المرتهن ( كانت لي فيه عشرون دينارا وقال ) الراهن ( الذي عليه الحق لم يكن لك فيه إلا عشرة دنانير وقال الذي له الحق ) أي المرتهن ( قيمة الرهن عشرة دنانير وقال الذي عليه الحق ) أي ( الراهن قيمته عشرون دينارا ) فتناكرا في أصل الحق وفي قيمة الرهن ( قيل للذي له الحق ) وهو المرتهن ( صفه ) لأنه الغارم ( فإذا وصفه أحلف ) أنه ( على صفته ) التي وصفها ( ثم أقام تلك الصفة أهل المعرفة بها فإن كانت قيمة الرهن أكثر مما ادعى فيه المرتهن ) وهو العشرون دينارا ( أحلف على ما ادعى ثم يعطى الراهن ما فضل من قيمة
____________________
(4/12)
الرهن وإن كانت قيمته أقل مما يدعي فيه المرتهن أحلف على الذي زعم أنه له فيه ) وهو العشرون ( ثم قاصه بما بلغ الرهن ) من القيمة ( ثم أحلف الذي عليه الحق على الفضل الذي بقي للمدعى عليه بعد مبلغ ثمن الرهن وذلك ) أي وجه حلف الراهن ( أن الذي بيده الرهن ) وهو المرتهن ( صار مدعيا على الراهن ) بما بقي له والمدعى عليه يحلف ( فإن حلف بطل عنه بقية ما حلف عليه المرتهن مما ادعى فوق قيمة الرهن وإن نكل الراهن لزمه ما بقي من حق المرتهن بعد قيمة الرهن ) قال الباجي ذكر الموطأ يمينين على المرتهن إحداهما على صفة الرهن والثانية على إثبات دينه فيحتمل أنهما يلزمانه منفصلين لأن الأولى تجب قبل وجوب الثانية لأن قيمة الرهن إن كانت أقل مما أقر به الراهن فلا معنى ليمين المرتهن ويحتمل أن يريد ذكر ما تناوله اليمين من المعنيين المذكورين ولا يلزمه أن يفرقهما بل يجمعهما في يمين واحدة وهذا معنى قول مالك وأكثر أصحابه عندي والله أعلم
15 القضاء في كراء الدابة والتعدي بها ( مالك الأمر عندنا في الرجل يستكري الدابة إلى المكان المسمى ثم يتعدى ) يتجاوز ( ذلك المكان أن رب الدابة يخير فإن أحب أن يأخذ كراء دابته إلى المكان الذي تعدى بها إليه أعطي ذلك ) أي كراء المثل فيما تعدى لا على قدر ما تكارى قاله الإمام في المدونة ( ويقبض دابته وله الكراء الأول ) أيضا
( وإن أحب رب الدابة فله قيمة دابته ) يوم التعدي ( من المكان الذي تعدى منه المستكري ) وله الكراء الأول فقط دون ما زاد وهذا التخيير إذا تغيرت بالزائد أو حبسها حتى تغير سوقها أما لو ردها بحالها فإنما لربها كراء ما تعدى فيه مع الكراء الأول ومحل كونه له الكراء الأول بتمامه ( إن كان استكرى الدابة البداءة ) أي الذهاب ( فإن كان استكراها ذاهبا وراجعا ثم تعدى حين
____________________
(4/13)
بلغ البلد الذي استكرى إليه فإنما لرب الدابة نصف الكراء الأول ) ثم يخير بعد ذلك على ما تقدم ( وذلك أن الكراء نصفه في البدأة ونصفه في الرجعة فتعدى المتعدي بالدابة ولم يجب عليه إلا نصف الكراء ) هذا إذا كانت قيمة الذهاب والرجوع سواء فإن اختلفت لرغبة الناس في أحدهما لزم التقويم ( ولو أن الدابة هلكت حين بلغ بها البلد الذي استكرى ) الدابة ( إليه لم يكن على المستكري ضمان ) لأنه فعل ما أكراها عليه ( ولم يكن للمكري إلا نصف الكراء ) إذا اكترى ذهابا وإيابا
( قال وعلى ذلك أمر أهل التعدي والخلاف ) أي المخالفة ( لما أخذوا الدابة عليه ) كأن يحملوها غير ما أكروها عليه أو يزيدوا على قدر ما أكروها مما بين في الفروع وبسطه الباجي
( وكذلك أيضا من أخذ مالا قراضا من صاحبه فقال له رب المال لا تشتر به حيوانا ولا سلعا كذا وكذا لسلع يسميها ينهاه عنها ويكره أن يضع ماله فيها فيشتري الذي أخذ المال ) أي عامل القراض ( الذي نهي عنه يريد بذلك أن يضمن المال ويذهب بربح صاحبه فإذا صنع ذلك فرب المال بالخيار إن أحب أن يدخل معه في السلعة على ما شرطا بينهما من الربح فعل وإن أحب فله رأس ماله ) حال كونه ( ضامنا ) أي مضمونا ( على الذي أخذ المال وتعدى ) فخيره في أمرين وزاد الإمام في الواضحة ثالثا بيع السلعة عليه فإن كان فضل فعلى القراض وإن كان نقص ضمن أي لتعديه قال فإن لم يعلم بذلك حتى باع السلعة ضمن إن بيعت بنقص وبربح فعلى القراض ( وكذلك الرجل يبضع معه الرجل بضاعة فيأمره صاحب المال أن يشتري له سلعة باسمها
____________________
(4/14)
فيخالف فيشتري ببضاعته غير ما أمره به ويتعدى ذلك فإن صاحب البضاعة عليه بالخيار إن أحب أن يأخذ ما اشترى بماله أخذه وإن أحب أن يكون المبضع معه ضامنا لرأس ماله فذلك له ) فإن علم به بعد بيع السلعة فالمشهور عن مالك إن كان فيها ربح فلصاحب البضاعة ونقص فعلى المبضع معه
16 القضاء في المستكرهة من النساء ( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( أن عبد الملك بن مروان ) الأموي ( قضى في امرأة أصيبت ) جومعت ( مستكرهة بصداقها ) متعلق بقضى ( على من فعل ذلك بها ) وبه قال الجمهور
( مالك الأمر عندنا في الرجل يغتصب المرأة بكرا كانت أو ثيبا إنها إن كانت حرة فعليه صداق مثلها وإن كانت أمة فعليه ما نقص من ثمنها والعقوبة في ذلك على المغتصب ) رواه يحيى والقعنبي ولم يروه ابن بكير ولا ابن القاسم ولا مطرف ورووا كلهم
( ولا عقوبة على المغتصبة في ذلك كله ) إلا القعنبي فلم يروه ولا خلاف أنه لا حد عليها ولا عقوبة وإذا صح إكراهها واستغاثتها وإن كانت بكرا فيما يظهر من دمها ونحو ذلك مما يصح به أمرها خرج أبو بكر بن أبي شيبة أن امرأة استكرهت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحد
وعن أبي بكر وعمر والخلفاء وفقهاء الحجاز والعراق مثل ذلك وأجمعوا على أن المغتصب المستكره عليه الحد إن شهدت البينة عليه بما يوجبه أو أقر وإلا فالعقوبة والصداق عند مالك والليث والشافعي والزهري وقتادة
وقال أبو حنيفة والثوري وابن شبرمة والحكم وحماد عليه الحد ولا صداق وهذا على مذهبهم إذا قطع السارق لا غرم عليه والصحيح وجوب الصداق والغرم وحد الله لا يسقط حد الآدمي وهما حقان أوجبهما الله ورسوله قاله أبو عمر
( وإن كان المغتصب عبدا فذلك على سيده ) يعني أنها جناية في رقبته فلسيده أن يفتكه بالجناية ما بلغت ( إلا أن يشاء أن يسلمه ) فلا شيء عليه ويكون مملوكا لمن جنى عليها
قال الباجي هذا إذا ثبت ذلك ببينة
قال مالك في الموازية ما لزمه من صداق الحرة ونقص الأمة ففي رقبته ويقبل إقراره بفور فعله وهي متعلقة به تدمى فأما بعد فلا يقبل قوله فيما يلحق برقبته ووجهه أن كل موضع تستحق فيه الصداق بيمينها فإنها تستحقه في رقبة العبد اه
____________________
(4/15)
وروى ابن أبي شيبة أن عبدا استكره امرأة فوطئها فاختصما إلى الحسن وهو قاض يومئذ فضربه الحد وقضى بالعبد للمرأة قال أبو عمر أسلمه بجنايته
17 القضاء في استهلاك الحيوان والطعام وغيره ( مالك الأمر عندنا فيمن استهلك شيئا من الحيوان بغير إذن صاحبه أن عليه قيمته يوم استهكله ليس عليه أن يوجد بمثله من الحيوان ولا يكون له أن يعطي صاحبه فيما استهلك شيئا من الحيوان ولكن عليه قيمته يوم استهكله القيمة أعدل ذلك فيما بينهما في الحيوان والعروض ) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيمن أعتق شركا له في عبد بقيمة حصة شريكه دون حصة من عبد مثله وقيمة العدل في الحقيقة مثل وهذا هو الصحيح المشهور عن مالك وعنه أيضا كأبي حنيفة والشافعي وداود لا يقضى بالقيمة في شيء إلا عند عدم المثل لظاهر قوله تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } سورة النحل الآية 126 ولحديث عائشة ما رأيت صانعا مثل صفية صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فبعثت به فغرت فكسرت الإناء فقال إناء مثل إناء وطعام مثل طعام وفي رواية فقال غارت أمكم كلوا وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة
وأجاب أبو عمر بأن حديث الشقص أصح من حديث القصعة فهو أولى
والباجي بأن بيوت أمهات المؤمنين وما فيها من إناء وطعام له صلى الله عليه وسلم فيفعل في ذلك ما شاء ويرضى من ذلك بما شاء
( ومن استهلك شيئا من الطعام بغير إذن صاحبه فإنما يرد على صاحبه مثل طعامه بمكيلته من صنفه ) إن علمت مكيلته وإلا فقيمته لأنه لو دفع إليه مثل حرزها لم يأمن من التفاضل من الطعام ( وإنما الطعام بمنزلة الذهب والفضة ) وعليه في ذلك كله مثله اتفاقا
( وليس الحيوان بمنزلة الذهب في ذلك فرق بين ذلك السنة والعمل المعمول به وإذا استودع الرجل مالا فابتاع به لنفسه وربح فيه فإن ذلك الربح له لأنه ضامن للمال حتى يؤديه إلى صاحبه ) هذا قول مالك وجماعة
____________________
(4/16)
وقال أبو حنيفة وآخرون يتصدق بالربح ولا يطيب له
وقال الشافعي إذا اشترى بمال بغير عينه وفقد المغصوب أو الوديعة فالربح له وإن اشتراه بالمال بعينه خير ربه بين أخذ المال والسلعة والربح له وقالت طائفة الربح على كل حال لرب المال
18 القضاء فيمن ارتد عن الإسلام ( مالك عن زيد بن أسلم ) مرسلا عند جميع الرواة وهو موصول في البخاري والسنن الأربع من طريق أيوب عن عكرمة عن ابن عباس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من غير دينه ) أي انتقل من دين الإسلام إلى غيره بقول أو فعل وتمادى على ذلك ( فاضربوا عنقه ) أي بعد الاستتابة وجوبا كما جاء عن الصحابة أو هو على ظاهره لكن في الزنادقة إذا ظهر عليهم كما قال الإمام
( ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما نرى ) بضم النون نظن ( والله أعلم ) بما أراد نبيه ( من غير دينه فاضربوا عنقه أنه من خرج عن الإسلام ) إذ هو الدين المعتبر ( إلى غيره مثل الزنادقة وأشباههم ) من كل من أسر من الكفر دينا غير الإسلام من يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو صابئة أو عبادة شمس أو قمر أو نجم ( فإن أولئك إذا ظهر عليهم قتلوا ولم يستتابوا لأنه لا تعرف توبتهم و ) ذلك ( أنهم كانوا يسرون الكفر ويعلنون ) يظهرون ( الإسلام فلا أرى أن يستتاب هؤلاء ولا يقبل منهم قولهم ) أي تلفظهم بالإسلام إذ كانوا يقولونه قبل الظهور عليهم فلم يخرجوا بعده عما كانوا عليه فيتحتم قتلهم وقال الشافعي تقبل توبتهم ولأبي حنيفة القولان
( وأما من خرج من الإسلام إلى غيره وأظهر ذلك فإنه يستتاب ) ثلاثة أيام بلا جوع ولا عطش ( فإن تاب وإلا قتل ) بضرب عنقه ( وذلك لو أن قوما كانوا على ذلك رأيت أن يدعوا إلى الإسلام ويستتابوا فإن تابوا قبل ) بموحدة ( ذلك منهم وإن لم يتوبوا ) لم يسلموا ( قتلوا ولم يعن ) بضم الياء وفتح النون مبني للمجهول وبفتح الياء وكسر النون للفاعل أي لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم ( والله أعلم من خرج من اليهودية إلى النصرانية ولا من النصرانية إلى اليهودية ولا من يغير دينه من أهل الأديان كلها ) إلى
____________________
(4/17)
غيره ( إلا الإسلام فمن خرج من الإسلام إلى غيره وأظهر ذلك فذلك الذي عنى ) بالبناء للمفعول والفاعل ( به ) أي الحديث المذكور ( والله أعلم ) وروى ابن عبد الحكم أن للإمام قتل الذمي إذا غير دينه على ظاهر الحديث لأن الذمة إنما انعقدت له على أن يبقى على ذلك الدين فلما خرج عنه عاد كالحربي
وروى المزني عن الشافعي أن الإمام يخرجه من بلده لدار الحرب وعلله بما ذكر ويستثنى من عموم الحديث من غير دينه ظاهرا لكن مع الإكراه لقوله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } سورة النحل الآية 106 وشمل عمومه الرجل وهو إجماع والمرأة وعليه الأئمة الثلاثة والجمهور وخصه الحنفية بالذكر للنهي عن قتل النساء فكما لا تقتل في الكفر الأصلي لا تقتل في الكفر الطارىء ولأن من الشرطية لا تعم المؤنث وتعقب بأن ابن عباس روى القصة قال لا تقتل المرتدة
وقتل أبو بكر في خلافته امرأة ارتدت والصحابة متوافرون فلم ينكر عليه أحد
وفي حديث معاذ لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال وأيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها وسنده حسن وهو نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه
وفي حديث قصة روى البخاري وغيره عن عكرمة قال أتى علي بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعذبوا بعذاب الله ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه
زاد أحمد وأبو داود والنسائي فبلغ ذلك عليا فقال ويح أم ابن عباس وهو محتمل أنه لم يرض اعتراضه عليه ورأى أن النهي للتنزيه لأن عليا كان يرى جواز التحريق وكذا خالد بن الوليد وغيرهما تشديدا على الكفار ومبالغة في النكاية والنكال ولا يعارض ذلك ما روي فبلغ ذلك عليا فقال صدق ابن عباس لأن تصديقه من حيث التنزيه لكن قال أبو عمر قد روينا من وجوه أن عليا إنما أحرقهم بعد قتلهم
روى العقيلي عن عثمان الأنصاري قال جاء ناس من الشيعة إلى علي فقالوا يا أمير المؤمنين أنت هو قال من أنا قال أنت هو قال ويلكم من أنا قالوا أنت ربنا قال ويلكم ارجعوا وتوبوا فأبوا فضرب أعناقهم ثم قال يا قنبر ائتني بحزم الحطب فحفر لهم في الأرض أخدودا فأحرقهم بالنار ثم قال لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا ( مالك عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد ) بالتنوين بلا إضافة ( القاري ) بتشديد التحتية نسبة إلى القارة بطن من خزيمة ابن مدركة ( عن أبيه ) محمد المدني الثقة ( أنه قال قدم على
____________________
(4/18)
عمر بن الخطاب رجل من قبل ) بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة ( أبي موسى ) عبد الله بن قيس ( الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال له عمر هل كان فيكم من مغربة ) بضم الميم وفتح المعجمة وكسر الراء وفتحها مثقلة فيهما ثم موحدة فتاء تأنيث مضاف إلى ( خبر ) أي هل من حالة حاملة لخبر من موضع بعيد ( فقال نعم رجل كفر بعد إسلامه قال فما فعلتم به قال قربناه فضربنا عنقه ) بلا استتابة أخذا بظاهر الحديث وبأنه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة أمر بقتل قوم ارتدوا كابن خطل ولم يذكر استتابة
وبما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا موسى على اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل فوجد عنده رجلا مقيدا في الحديد فقال ما هذا قال كان يهوديا فأسلم ثم ارتد فقال معاذ لا أنزل حتى يقتل قضاء الله ورسوله
وبه قال عبد العزيز بن أبي سلمة ولا حجة فيه لأنه روي أن أبا موسى قد استتابه شهرين ولا حجة في حديث الفتح كما لا يخفى والجمهور على الاستتابة على الاختلاف في قدرها ( فقال عمر أفلا حبستموه ثلاثا ) من الأيام كذا قال عثمان وعلي وابن مسعود وقيل يستتاب مرة وقيل شهرا وقيل ثلاثة جمع وقيل غير ذلك قال الباجي يحتمل أنه أخذ الثلاث من قوله تعالى { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام } سورة هود الآية 65 ولأن الثلاث جعلت أصلا في معان كالمصراة واستظهار المستحاضة وعهدة الرقيق وغير ذلك
( وأطعمتموه كل يوم رغيفا ) يريد أن لا يوسع عليه توسعة إحسان قال ابن القاسم في المدونة ليس العمل على قول عمر ولكن يطعم ما يقوته ويكفيه ولا يجوع وإنما يطعم من ماله
قال ابن مزين يعني في غير توسع ولا تفكه قال مالك في الموازنة يقوت من الطعام ما لا يضره وإنما أراد ابن القاسم أن لا يجعل الرغيف حدا وإنما أشار عمر إلى قلة مؤنته ورزيته في ماله إن كان وبيت المال إن لم يكن ولم يرد به الحد ( واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله ) يرجع إلى الإسلام احتج أصحابنا على وجوب الاستتابة بقول عمر هذا وأنه لا مخالف له قال الباجي ولا يصح إلا إن ثبت رجوع أبي موسى ومن وافقه إلى قول عمر ( ثم قال عمر اللهم إني لم أحضر ) قتله بلا استتابة ( ولم آمر به ولم أرض ) به ( إذا بلغني ) فيه تصريح بخطأ فاعله ولا يكون ذلك إلا بنص أو إجماع وقد قال سحنون إن أبا بكر استتاب أهل الردة
وروى عيسى عن ابن القاسم في العتبية أن أبا
____________________
(4/19)
بكر استتاب أم قرفة لما ارتدت فلم تتب فقتلها فلعل عمر علم بانعقاد الإجماع على ذلك زمن أبي بكر فأنكر على أبي موسى تغيير ذلك وإلا فأبو موسى مجتهد فإذا حكم باجتهاده فيما لا نص فيه ولا إجماع لم يبلغ عمر من الإنكار عليه هذا الحد ولو لم يجز لأبي موسى ذلك ما جاز لعمر أن يوليه الحكم حتى يطالعه على قضيته وفي هذا من فساد الأحوال وتوقف الأحكام ما لا يخفى قاله الباجي
19 القضاء فيمن وجد مع امرأته رجلا ( مالك عن سهيل ) بضم السين وفتح الهاء مصغرا ( ابن أبي صالح السمان ) بائع السمن ( عن أبيه ) أبي صالح ذكوان المدني ( عن أبي هريرة ) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر ( أن سعد بن عبادة ) بضم المهملة وفتح الموحدة سيد الخزرج ( قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت ) أي أخبرني ( إن وجدت مع امرأتي رجلا أأمهله ) بفتح الهمزة الأولى وضم الثانية ( حتى آتي بأربعة شهداء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم ) زاد في رواية سليمان بن بلال قال أي سعد كلا والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك قال صلى الله عليه وسلم اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير مني زاد في حديث المغيرة بن شعبة من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا شخص أغير من الله ولا شخص أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين ولا شخص أحب إليه المدحة من الله من أجل ذلك وعد الله الجنة رواه مسلم
وأخرج أحمد عن ابن عباس لما نزلت { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } سورة النور الآية 4 قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار أهكذا نزلت يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم قالوا يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور والله ما تزوج امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته فقال سعد والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق وأنها من الله ولكن تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته الحديث
وفي حديث الباب النهي عن إقامة حد بغير سلطان ولا شهود وقطع الذريعة إلى سفك الدم بمجرد الدعوى
وأخرجه مسلم من طريق إسحاق بن عيسى عن مالك به وتابعه عبد العزيز الدراوردي وسليمان بن بلال كلاهما عن سهيل به بزيادة رواهما مسلم أيضا وبه شنع ابن عبد البر على البزار في
____________________
(4/20)
زعمه تفرد مالك به وأنه لم يروه غيره ولا تابعه أحد عليه قال فهذا يدل على تحامل البزار فيما ليس له به علم وكتابه مملوء من مثل هذا ولو سلم تفرد مالك به كما زعم ما كان في ذلك شيء فأكثر السنن والأحاديث قد انفرد بها الثقات وليس ذلك بضار لشيء منها ومعنى الحديث مجمع عليه ونطق به الكتاب والسنة فأي انفراد في هذا وليت كل ما انفرد به المحدثون كان مثل هذا
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب أن رجلا من أهل الشام يقال له ابن خيبري ) بفتح الخاء المعجمة وإسكان التحتية وفتح الموحدة فراء فتحتية آخره ( وجد مع امرأته رجلا فقتله أو قتلهما معا ) شك الراوي وفي نسخة قتلها بالإفراد ( فأشكل على معاوية بن أبي سفيان ) صخر بن حرب ( القضاء فيه فكتب إلى أبي موسى الأشعري يسأل له علي بن أبي طالب عن ذلك ) ولم يكتب إلى علي لما كان بينهما ولأنه لم يدخل تحت طاعته ( فسأل أبو موسى عن ذلك علي ابن أبي طالب فقال له علي إن هذا لشيء ما هو بأرضي ) أي العراق ( عزمت عليك لتخبرني فقال أبو موسى كتب إلي معاوية بن أبي سفيان أن أسألك عن ذلك فقال علي أنا أبو الحسن ) زاد في رواية القرم ( إن لم يأت بأربعة شهداء ) يشهدون على معاينة الوطء كالمرود في المكحلة ( فليعط ) يسلم إلى أولياء المقتول يقتلونه قصاصا ( برمته ) بضم الراء وتكسر قطعة من حبل لأنهم كانوا يقودون القاتل إلى ولي المقتول بحبل ولذا قيل القود قال ابن عبد البر وعلى هذا جماعة الفقهاء لأن الله حرم دماء المسلمين تحريما مطلقا فمن ثبت عليه قتل مسلم وادعى أنه كان يجب قتله لم يقبل منه حتى يثبت دعواه لأنه يرفع بها عن نفسه القصاص وكذا كل من لزمه حق لآدمي لم يقبل قوله في المخرج منه إلا ببينة تشهد له بذلك
وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله فقال صلى الله عليه وسلم لا إلا بالبينة التي ذكر الله وروى أهل العراق أن عمر أهدر دمه ولا يصح عنه إنما أهدر دم الذي أراد اغتصاب الجارية الهذلية فعصب كبده فمات ذكره معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد عن ابن عمر وتابع مالكا ابن جريج والثوري ومعمر عن يحيى بن سعيد رواه عبد الرزاق
____________________
(4/21)
20 القضاء في المنبوذ ( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن سنين ) بضم السين المهملة وفتح النون وإسكان التحتية ونون ( أبي جميلة ) بفتح الجيم وكسر الميم ( رجل من بني سليم ) بضم السين قيل اسم أبيه فرقد حكاه ابن حبان صحابي صغير له في البخاري حديث واحد من طريق الزهري عن أبي جميلة أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وخرج معه عام الفتح لذا ذكره ابن منده وأبو نعيم وأبو عمر في الصحابة وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين وقال له أحاديث وقال العجلي تابعي ثقة
( أنه وجد منبوذا ) بذال معجمة أي لقيطا قال الحافظ ولم يسم وفي رواية يحيى بن سعيد الأنصاري عن الزهري عن أبي جميلة أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وأنه وجد منبوذا ( في زمان ) خلافة ( عمر بن الخطاب قال فجئت به إلى عمر بن الخطاب فقال ما حملك على أخذ هذه النسمة ) بفتحتين روى أشهب عن مالك أنه اتهمه أن يكون ولده أتى به ليفرض له في بيت المال الباجي ويحتمل أنه خاف التسارع إلى أخذ الأطفال من غير نبذ حرصا على أخذ النفقة لهم وموالاتهم ويحتمل أنه سأله لئلا يلتقطه مدعيا له
أبو عمر إنما أنكر عمر عليه لظنه أنه يريد أن يلي أمره ويأخذ ما يفرض له يصنع به ما شاء اه
وقيل اتهمه بأنه زنى بأمه ثم ادعاه قال الحافظ وهو بعيد وما تقدم أولى ( فقال وجدتها ضائعة وأخذتها ) لوجوب ذلك علي ( فقال له عريفه ) بفتح فكسر جمعه عرفاء أي من يعرف أمور الناس حتى يعرف بها من فوقه عند الحاجة لذلك قال الحافظ واسم عريف عمر سنان فيما ذكره الشيخ أبو حامد الأسفرايني ( يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح ) لا يتهم ( فقال عمر أكذلك ) هو ( قال نعم فقال عمر بن الخطاب اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته ) من بيت المال بدليل رواية البيهقي
ونفقته في بيت المال قال أبو عمر حكمه بأنه حر يقتضي أن لا ولاء عليه لأحد إذ لا ولاء على حر لقوله صلى الله عليه وسلم إنما الولاء لمن أعتق فنفى الولاء عن غير المعتق ولذا ( قال مالك الأمر عندنا في المنبوذ أنه حر وأن ولاءه للمسلمين هم يرثونه ويعقلون عنه ) وقال محمد قال مالك لو علم أن عمر قاله ما خولف
قال
____________________
(4/22)
الباجي الحديث صحيح لا شك فيه ولكن لفظه يحتمل التأويل إذ لعله أراد أن يتولى تربيته والقيام بأمره لأن ملتقطه أحق به من غيره فإن نزعه منه غيره رد إليه إن كان قويا على مؤنته قاله ابن القاسم وإن كانا سواء أو متقاربين فالأول أولى وإن خيف أن يضيع عند الأول فالثاني أولى إلا لطول مكثه عند الأول ولا ضرر فهو أحق قاله أشهب
وخرج قاسم ابن أصبغ والبيهقي حديث سنين بأتم ألفاظا من حديث مالك قال وجدت منبوذا على عهد عمر فذكره عريفي لعمر فأرسل إلي فجئت والعريف عنده فلما رآني مقبلا قال عسى الغوير أبؤسا كأنه اتهمه فقال له عريفه يا أمير المؤمنين إنه غير متهم فقال عمر على ما أخذت هذه النسمة قلت وجدت نفسا بمضيعة فخفت أن يأخذني الله عليها فقال عمر هو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته قال أبو عبيد قوله عسى الغوير أبؤسا مثل للعرب إذا توقعت شرا قال ابن الكلبي الغوير مكان معروف فيه ماء لبني كلب كان فيه ناس يقطعون الطريق وكان من مر يتواصون بالحراسة وأول من تكلم بهذا المثل الزباء بفتح الزاي وشد الموحدة والمد إذ بعثت قصيرا اللخمي بفتح القاف وكسر الصاد المهملة وكان يطلبها بدم جذيمة بن الأبرش فتواطأ هو وعمرو ابن أخت جذيمة على أن يقطع أنف قصير فأظهر أنه هرب منه إلى الزباء فأمنت إليه ثم أرسلته تاجرا فرجع إليها بربح كثير مرارا ثم رجع المرة الأخيرة ومعه الرجال في الأعدال فنظرت إلى الجمال تمشي رويدا لثقل من عليها فقالت عسى الغوير أبؤسا أي لعل الشر يأتيكم من قبل الغوير وكان قصير أعلمها أنه يسلك في هذه المرة طريق الغوير فلما دخلت الأحمال قصرها خرج الرجال من الأعدال فهلكت
وقال الأصمعي الغوير تصغير غار دخله قوم يبيتون فيه فانهار عليهم
وقيل وجدوا فيه عدوا لهم فقتلهم فيه والأبؤس البائس
قال أبو عبيد وقول الكلبي أشبه بالصواب اه
ونصب أبؤسا بتقدير يكون أبؤسا جمع بؤس وهو الشدة وفيه تثبت عمر في الأحكام وأن الحاكم إذا توقف في أمر أحد لم يقدح ذلك فيه ورجوع الحاكم إلى قول أمينه وأن الثناء على الرجل في وجهه عند الحاجة لا يكره وإنما يكره الإطناب والاكتفاء بواحد في التزكية وعليه الأكثر تنزيلا له منزلة الحكم ولا يشترط فيه العدد والمرجح عند المالكية والشافعية وهو قول محمد بن الحسن اشتراط اثنين كالشهادة واختاره الطحاوي إذ ليس في القصة أنه لم يشهد له إلا عريفه وحده
وفي المظالم من البخاري أن عمر لما اتهم أبا جميلة شهد له جماعة بالستر واستثنى كثير منهم بطانة الحاكم لأنه ينزل منزلة الحاكم لأنه نائبه والحاكم لا يشترط تعدده وقيل لا يقبل أقل من ثلاثة لحديث مسلم فيمن تحل له المسألة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا يشهدون له فإذا كان هذا في حق الحاجة فغيرها أولى وتابع مالكا يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن شهاب به عند البيهقي وعلقه البخاري في الشهادات
____________________
(4/23)
21 القضاء بإلحاق الولد بأبيه ( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي أنها قالت كان عتبة ) بضم المهملة وإسكان الفوقية ( ابن أبي وقاص ) مالك الزهري مات على شركه كما جزم به الدمياطي والسفاقسي وغيرهما قال في الإصابة لم أر من ذكره في الصحابة إلا ابن منده واشتد إنكار أبي نعيم عليه في ذلك وقال هو الذي كسر رباعية النبي يوم أحد ما علمت له إسلاما
بل روى عبد الرزاق من مرسل سعيد بن المسيب ومقسم بن عتبة أنه دعا على عتبة يومئذ أن لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار وروى الحاكم بإسناد فيه مجاهيل عن حاطب بن أبي بلتعة أنه لما رأى ما فعل عتبة قال يا رسول الله من فعل بك هذا قال عتبة قلت أين توجه فأشار إلى حيث توجه فمضيت حتى ظفرت به فضربته بالسيف فطرحت رأسه فنزلت فأخذت رأسه وسيفه وجئت إلى رسول الله فنظر إلى ذلك ودعا لي فقال رضي الله عنك مرتين وهذا لا يصح لأنه لو قتل يومئذ كيف كان يوصي أخاه سعدا وقد يقال لعله ذكر ذلك له قبل وقوع الحرب احتياطا وبالجملة فليس في شيء من الآثار ما يدل على إسلامه بل فيها ما يصرح بموته على الكفر فلا معنى لإيراده في الصحابة وقد استدل ابن منده بما لا دلالة فيه على إسلامه وهو قوله كان عتبة بن أبي وقاص ( عهد ) بفتح العين وكسر الهاء أي أوصى ( إلى أخيه سعد بن أبي وقاص ) أحد العشرة وأول من رمى بسهم في سبيل الله وأحد من فداه بأبيه وأمه
روى ابن إسحاق عنه ما حرصت على قتل رجل قط حرصي على قتل أخي عتبة لما صنع برسول الله ولقد كفاني منه قوله اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله
( أن ابن وليدة ) بفتح الواو وكسر اللام أي جارية ( زمعة ) بفتح الزاي وسكون الميم وقد تفتح وصوبه الوقشي وزمعة بن قيس العامري والد سودة أم المؤمنين ولم تسم الوليدة نعم ذكر مصعب الزبيري وابن أخيه الزبير بن بكار في نسب قريش أنها كانت أمه يمانية وأما ابنها فصحابي صغير قال ابن عبد البر لم يختلف النسابون أن اسمه عبد الرحمن قال في الإصابة وخلط ابن منده وتبعه أبو نعيم في نسبه فجعلاه من بني أسد بن عبد العزى وليس كذلك ووهم ابن قانع فجعله المخاصم لسعد بن أبي وقاص وكأنه انقلب عليه فإنه المخاصم فيه لا المخاصم فإنه عبد بغير إضافة بلا نزاع ( مني ) أي ابني ( فاقبضه ) بهمزة وصل وكسر الموحدة ( إليك ) وأصل هذه القصة أنه كانت لهم
____________________
(4/24)
في الجاهلية إماء يزنين وكانت ساداتهن تأتيهن في خلال ذلك فإذا أتت إحداهن بولد فربما يدعيه السيد وربما يدعيه الزاني فإن مات السيد ولم يكن ادعاه ولا أنكره فادعاه ورثته لحق به إلا أنه لا يشارك مستلحقه في ميراثه إلا أن يستلحقه قبل القسمة وإن كان أنكره السيد لم يلحق به وكان لزمعة بن قيس أمة على ما وصف وعليها ضريبة وهو يلم بها فظهر بها حمل كان يظن أنه من عتبة أخي سعد فعهد عتبة إلى أخيه سعد قبل موته أن يستلحق الحمل الذي بأمة زمعة
( قالت ) عائشة ( فلما كان عام الفتح ) لمكة برفع عام اسم كان وفي رواية بنصبه بتقدير في ( أخذه سعد وقال ) هو ( ابن أخي ) عتبة وفي رواية معمر عن الزهري فلما كان يوم الفتح رأى سعد الغلام فعرفه بالشبه فاحتضنه إليه وقال ابن أخي ورب الكعبة ( قد كان عهد ) أوصى ( إلي فيه ) فاحتج باستلحاق عتبة على عادة الجاهلية ( فقام إليه عبد ) بلا إضافة ( ابن زمعة ) بن قيس القرشي العامري أسلم يوم الفتح روى ابن أبي عاصم بسند حسن عن عائشة تزوج سودة بنت زمعة فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحجر فجعل يحثو التراب على رأسه فقال بعد أن أسلم إني لسفيه يوم أحثو التراب على رأسي أن تزوج رسول الله بسودة أختي قال ابن عبد البر كان من سادات الصحابة رضي الله عنهم ( فقال أخي وابن وليدة أبي ) أي جاريته ( ولد على فراشه ) من أمته المذكورة كأنه سمع أن الشرع أثبت حكم الفراش فاحتج به وقد كانت عادة الجاهلية إلحاق النسب بالزنى وكانوا يستأجرون الإماء للزنى فمن اعترفت الأم أنه له لحق ولم يقع إلحاق ابن وليدة زمعة في الجاهلية إما لعدم الدعوى وإما لأن الأمة لم تعترف لعتبة وقيل كانت موالي الولائد يخرجوهن للزنى ويضربون عليهن الضرائب وكانت وليدة زمعة كذلك
قال الحافظ والذي يظهر من سياق القصة أنها كانت أمة مستفرشة لزمعة فزنى بها عتبة وكانت عادة الجاهلية في مثل ذلك أن السيد إذا استلحقه لحقه وإن نفاه انتفى عنه وإن ادعاه غيره رد ذلك إلى السيد أو القافة فظهر بها حمل ظن أنه من عتبة فاختصم فيها ( فتساوقا ) أي تدافعا بعد تخاصمهما وتنازعهما في الولد أي ساق كل منهما صاحبه فيما ادعاه ( إلى رسول الله فقال سعد يا رسول الله ) هذا ( ابن أخي ) عتبة ( قد كان عهد إلي ) بشد الياء ( فيه ) وللقعنبي عهد إلي أنه ابنه زاد في رواية الليث انظر إلى شبهه ( وقال عبد بن زمعة هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ) وللقعنبي فنظر إلى ابن وليدة زمعة فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبي وقاص ( فقال رسول الله هو لك ) زاد القعنبي هو أخوك ( يا عبد بن زمعة ) بضم الدال على الأصل ويروى بفتحها ونصب نون ابن على الوجهين
____________________
(4/25)
وسقط في رواية النسائي أداة النداء فبنى على ذلك بعض الحنفية فقال إنما ملكه إياه لأنه ابن أمة أبيه لا أنه ألحقه به قال عياض وليس كما زعم فالرواية إنما هي بالياء وعلى تسليم إسقاطها فعبد هنا علم والعلم يحذف منه حرف النداء ومنه { يوسف أعرض عن هذا } سورة يوسف الآية 29 اه
ورواية القعنبي صريحة في رد هذا الزعم ولذا قالت طائفة هو لك أي هو أخوك كما ادعيت قضى في ذلك بعلمه لأن زمعة كان صهره ففراشه كان معروفا عنده لا بمجرد دعوى عبد على أبيه بذلك ولم يثبت إقراره به ولا تقبل دعوى أحد على غيره ولا لاستلحاق عبد له لأن الأخ لا يصلح استلحاقه عند الجمهور وفي القضاء بالعلم خلاف قاله ابن عبد البر على أن من خصائصه الحكم بعلمه
وقال الطحاوي معنى هو لك أي بيدك تمنع منه من سواك كما قال في اللقطة هي لك أي بيدك تدفع غيرك عنها حتى يأتي صاحبها لا على أنها ملك ولا يجوز أن ينسب له أن يجعله ابنا لزمعة ثم يأمر أخته أن تحتجب منه ولما كان لعبد شريك فيما ادعاه وهو أخته ولم يعلم منها تصديقه ألزم عبدا ما أقر به على نفسه دون أخته إذ لم تصدقه فلم يجعله أخا لها وأمرها بالاحتجاب منه اه
وفيه نظر لأنه خلاف المتبادر ونص زيادة القعنبي هو أخوك وقياسها على اللقطة فاسد لأنها ملك للغير بخلاف هذا وقوله ولا يجوز الخ ممنوع وسنده أن للزوج منع زوجته من رؤية أخيها وكذا قوله لم يصدقه فإنه أقر قوله أخي وابن وليدة أبي وقال هو لك هو أخوك
وقال ابن جرير أي هو لك عبد ابن أمة أبيك فكل أمة ولدت من غير سيدها فولدها عبد قال أبو عمر يريد لأنه لم ينقل في الحديث اعتراف سيدها بأنه كان يلم بها ولا شهد به عليه والأصول تدفع قول ابنه عليه فلم يبق إلا القضاء بأنه عبد تبعا لأمه لكنه خلاف ظاهر الحديث لأنه لم ينكر قوله أخي وابن وليدة أبي اه
وأيضا فيرده زيادة القعنبي فإنها زيادة ثقة غير منافية فتقبل وقد خرجها البخاري
وقال الباجي لا يصح بعد الإقرار بالأخوة إرادة ما قاله الطبري وقوله هو لك يا عبد ليس فيه أنه ألحقه بزمعة لأنه لم يضفه إليه وإنما أضافه إلى عبد لأنه أقر بحريته وأخوته فقال له أنت أعلم بما تدعيه فيما يخصك وعبد انفرد بميراث زمعة لأنهما كانا كافرين وسودة أخته مسلمة فلا يحل لعبد بيعه ولا يثبت بذلك بنوته لزمعة
وقال المزني يحتمل وهو الأصح عندي أنه أجاب عن المسألة فأعلمهم أن الحكم كذلك إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنى لأنه ما قبل على عتبة قول أخيه سعد ولا على زمعة أنه أولدها هذا الولد لأن كل واحد منهما أخبر عن غيره والإجماع على أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره وقد حكى الله مثل ذلك في قصة داود والملائكة { إذ دخلوا عليه } سورة ص الآية 22 الآية ولم يكونوا خصمين ولا كان لأحدهما تسع وتسعون نعجة ولكنهم كلموه على المسألة ليعرف بها ما أرادوا تعريفه واعترضه ابن عبد البر بأن
____________________
(4/26)
الحكم على المسألة حكم فيما دنا فيه التنازع بين يديه
وابن العربي بأنه كيف يقال لم يحكم بينهم وقد مكن عبدا من إخوة الغلام ( ثم قال رسول الله الولد للفراش ) أل للعهد أي الولد للحالة التي يمكن فيها الافتراش أي تأتي الوطء فالحرة فراش بالعقد عليها مع إمكان الوطء والحمل فلا ينتفي عن زوجها سواء أشبهه أم لا وتجري بينهما الأحكام من إرث وغيره إلا بلعان والأمة إن أقر سيدها بوطئها أو ثبت ببينة عند الحجازيين وقال الكوفيون إن أقر بالولد وقدروا مضافا أي صاحب الفراش وهو الزوج واحتجوا بقول جرير باتت تعانقه وبات فراشها خلق العباءة في الدماء قتيلا أي صاحب فراشها يعني زوجها
قال عياض والفراش وإن صح التعبير به عن الزوج والزوجة فإن المراد هنا الفراش المعهود كما مر وقد قيل أي وجزم به الباجي أن إطلاق الفراش على الزوج لا يعرف في اللغة
المازري والفرق بين الحرة والأمة في ذلك أن الحرة لما كانت لا تراد إلا للوطء جعل العقد عليها بمنزلة الوطء والأمة تشترى لوجوه كثيرة فلا تكون فراشا حتى يثبت الوطء قال وشذ أبو حنيفة في الأمة فقال لا تكون فراشا إلا بولد استلحقه فما تلده بعده فهو له إن لم ينفه واحتج بأن الأمة لو صارت فراشا بالوطء لصارت فراشا بالملك وتعلق بها أحكام الحرة على صاحب الفراش وما قاله لا يصح لأن الحرة لما لم ترد للوطء جعل الشرع العقد فيها بمنزلة الوطء بخلاف الأمة وتنازع الفريقان الحديث فقال المالكية وموافقوهم هو رد على الحنفية فإنه ألحق الولد بزمعة ولم يثبت أنها ولدت منه قبل ذلك وقالت الحنفية هو يرد عليكم لأنه ألحقه بزمعة ولم يذكر أنه اعترف بوطئها
والجواب حمله على أن زمعة عرف وطؤه لها باعترافه عنده أو باستفاضة وهذا التأويل اضطرنا إليه ما ذكرتم من اتفاقنا جميعا على منع إلحاق الولد بأبيه إلا أن يثبت سببه واختلفا في السبب فقلنا ثبوت الوطء وقلتم استلحاق ولد سابق ومعلوم أنه لم يكن ولد سابق وثبوت الوطء لا يعلم عدمه فامتنع تأويلكم وأمكن تأويلنا فوجب حمل الحديث عليه اه
ثم اللفظ عام ورد على سبب خاص والمعتبر عمومه عند الأكثر نظرا لظاهر اللفظ وقيل يقصر على السبب لوروده فيه وهو ساكت عن غيره وصورة السبب التي ورد عليها العام قطعية الدخول فيه عند الأكثر لوروده فيها فلا تخص منه بالاجتهاد
قال التقي السبكي وهذا ينبغي عندي أن يكون إذا دلت قرائن حالية أو مقالية على ذلك أو على أن اللفظ العام يشمله بطريق لا محالة وإلا فقد ينازع الخصم في دخوله وضعا تحت اللفظ العام ويدعي أنه قد يقصد المتكلم بالعام إخراج السبب وبيان أنه ليس داخلا في الحكم فإن الحنفية القائلين أن ولد الأمة المستفرشة لا يلحق سيدها ما لم يقر به نظرا إلى أن الأصل في الإلحاق الإقرار لهم أن يقولوا في قوله الولد للفراش وإن كان واردا في أمة فهو وارد لبيان حكم ذلك الولد وبيان حكمه إما بالثبوت أو بالاتفاق فإذا ثبت أن الفراش هي الزوجة لأنها التي يتخذ لها الفراش غالبا وقال الولد للفراش كان فيه حصر أن الولد للحرة وبمقتضى ذلك لا يكون للأمة فكان فيه بيان
____________________
(4/27)
الحكمين جميعا نفي النسب عن السبب وإثباته لغيره ولا يليق دعوى القطع هنا وذلك من جهة اللفظ وهذا في الحقيقة نزاع في أن اسم الفراش هل هو موضوع للحرة والأمة الموطوءة أو للحرة فقط فالحنفية يدعون الثاني فلا عموم عندهم له في الأمة فتخرج المسألة حينئذ من باب أن العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب نعم تركيب الحديث يقتضي أنه ألحقه به على حكم السبب فيلزم أن يكون مرادا من قوله للفراش فليتنبه لهذا البحث فإنه نفيس جدا
وبالجملة فهذا أصل في إلحاق الولد بصاحب الفراش وإن طرأ عليه وطء محرم اه
( وللعاهر ) الزاني اسم فاعل من عهر الرجل المرأة إذا أتاها للفجور وعهرت هي وتعهرت إذا زنت والعهر الزنى ومنه الحديث اللهم أبدل العهر بالعفة قاله عياض ( الحجر ) أي الخيبة ولا حق له في الولد والعرب تقول في حرمان الشخص له الحجر وبفيه التراب ونحو ذلك ويريدون ليس له إلا الخيبة وقيل هو على ظاهره أي الرجم بالحجارة وضعف بأنه ليس كل زان يرجم بل المحصن وأيضا فلا يلزم من رجمه نفي الولد والحديث إنما هو في نفيه عنه
وقال الباجي يريد الرجم وإن كان لا يرجم زاني المشركين لكن اللفظ خرج على العموم ولما قصد عيب الزنى أخبر بأشد أحكامه
لطيفة كان أبو العينا الشاعر الأعمى كثير الدعابة وشديد الانتزاع من الآيات والأحاديث فولد له ولد فأتى بعض من يريد دعابته فهنأه بالولد ووضع بين يديه حجرا وذهب فلما تحرك أبو العينا وجد الحجر بين رجليه فقال من وضع هذا فقيل فلان فقال عرض بي والله ابن الفاعلة قال الولد للفراش وللعاهر الحجر
وله سبب غير قصة ابن زمعة روى أبو داود وغيره من طريق حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال لما فتحت مكة قام رجل فقال إن فلانا ابني فقال لا دعوة في الإسلام ذهب أمر الجاهلية الولد للفراش وللعاهر الأثلب قيل وما الأثلب قال الحجر وسقط قوله وللعاهر الحجر من رواية ابن عيينة عن الزهري هذا الحديث قال ابن عبد البر والقول قول مالك وقد أتقنه وجوده وهذه اللفظة ثابتة عند ابن عيينة عن ابن شهاب عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة
( ثم قال ) ( لسودة بنت زمعة ) أم المؤمنين ( احتجبي منه ) أي من عبد الرحمن ( لما ) بكسر اللام وخفة الميم أي لأجل ما ( رأى ) وللتنيسي رآه ( من شبهه ) البين ( بعتبة بن أبي وقاص قالت ) عائشة ( فما رآها ) عبد الرحمن ( حتى لقي الله عز وجل ) أي مات
قال عياض وغيره قيل هو على وجه الندب لا سيما في حق أزواجه وتغليظ أمر الحجاب عليهن وزيادتهن فيه على غيرهن
قال القرطبي فهو كقوله لأم سلمة وميمونة وقد دخل عليهما ابن أم مكتوم احتجبا منه فقالتا إنه أعمى فقال أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه وقال لفاطمة بنت قيس انتقلي إلى بيت ابن أم مكتوم تضعين ثيابك عنده فإنه لا يراك فأباح لها ما منعه لأزواجه
وقال المزني لو ثبت أنه أخوها ما أمرها أن تحتجب منه لأنه بعث بصلة الأرحام
وقد قال لعائشة في
____________________
(4/28)
عمها من الرضاعة إنه عمك فليلج عليك ولكنه لم يصح أنه أخوها لعدم البينة وإقرار من يلزمه إقراره وزاده بعدا في القلوب شبهه بعتبة أمرها بالاحتجاب
قال في الاستذكار وجواب المزني هذا أصح في النظر وأجرى على القواعد من قول سائر أصحاب الشافعي أنه أخوها لأنه ألحقه بفراش زمعة وقضى بالولد للفراش وما حكم به فهو الحق لا شك فيه ولكنه بين بأمرها بالاحتجاب حكما آخر أنه يجوز للرجل أن يمنع زوجته من رؤية أخيها
وقال الكوفيون جعل للزنى حكم التحريم فمنعها من رؤية أخيها في الحكم لأنه ليس بأخيها في غير الحكم لأنه من زنى في الباطن وهذا قول فاسد لأنهم نسبوا له أنه جعله أخاها من وجه وغير أخيها من وجه وهذا لا يعقل ولا يجوز إضافته إلى النبي وكيف يحكم بشبه عتبة في الباطن وقد قال في الملاعنة إن جاءت به على شبه الذي رميت به فهو له فجاءت به كذلك فلم يلتفت إليه وأمضى حكم الله فيه
وفي التمهيد وقالت طائفة كان ذلك منه لقطع الذريعة بعد حكمه بالظاهر فكأنه حكم بحكمين حكم ظاهر وهو الولد للفراش وحكم باطن وهو الاحتجاب لأجل الشبه كأنه قال لسودة ليس لك بأخ إلا في حكم الله بأن الولد للفراش فاحتجبي منه لشبهه بعتبة
وقال ذلك بعض أصحاب مالك وضارع فيه قول العراقيين اه
وقال الباجي ليس هذا من معنى الذرائع وإنما هو لو صح ما تأوله من تغليب الحظر على الإباحة وهو وجه قال به كثير من العلماء كالأمة بين شريكين تحرم على كل منهما تغليبا للحظر وقد وقع في مسند أحمد وسنن النسائي أنه قال لسودة ليس لك بأخ
وقال المنذري إنها زيادة لم تثبت وأعلها البيهقي وقال معنى قوله ليس لك بأخ أي شبها فلا يخالف قوله لعبد هو أخوك
قال في الفتح أو معناه بالنسبة للميراث من زمعة لأنه مات كافرا وخلف عبد بن زمعة والولد المذكور وسودة فلا حق لها في إرثه بل حازه عبد قبل الاستلحاق فإذا استلحق الابن المذكور شاركه في الإرث دون سودة فلذا قال لعبد هو أخوك وقال لسودة ليس لك بأخ اه
واحتج الشافعي وموافقوه بالحديث على صحة استلحاق الأخ لأخيه إذا لم يكن وارث غيره لأن زمعة لم يستلحق ولا اعترف بالوطء فليس إلا استلحاق أخيه وأبى ذلك مالك والجمهور لأن فيه إثبات حقوق على الأب بغير إقراره وقد أبى الله ذلك ورسوله قال تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } سورة فاطر الآية 18 وقال لأبي رمثة في ابنه إنك لا تجني عليه ولا يجني عليك قال عياض والجواب أنه بقي وجه ثالث وهو أن يكون ثبت عنده وطء زمعة باستفاضة أو غيرها فلا يحتاج إلى اعتراف وإنما يصعب هذا على الحنفية القائلين لا يثبت الفراش إلا بولد سابق ولا ولد سابق هنا وأيضا فإن هذا القائل يشترط أن لا يكون وارث غيره فإن كان فحتى يوافقه جميع الأولاد وعبد ثم وارث غيره وهي سودة ولم تستلحق معه فسقط تعلقه بالحديث
وأجاب أصحابه بأن زمعة مات كافرا وسودة مسلمة لا ترث منه فصارت كالعدم وعبد كأنه كل الورثة ورده أصحابنا بأنها وإن منعت الميراث فهي ابنته فلا بد من رضاها إذ لا يلحق أخوها عليها من لم ترضه
____________________
(4/29)
قال واحتج به أحمد والثوري والأوزاعي والكوفيون أن الزنى يحرم الحلال وجعلوا الأمر بالاحتجاب واجبا وهو أحد قولي مالك والصحيح من قوله وقول الشافعي أن الزنى لا يحرم حلالا إلا ما جرى من قولهم لا يحل للزاني نكاح من خلقت من مائه الفاسد وأحلها ابن الماجشون طردا للأصل وإبطالا لحكم الحرام اه
قال ابن العربي القائلون بوجوب احتجابها لا يليق بمراتبهم لا سيما المزني في جعله أنه لم يحكم بينهم وقد مكن عبدا من أخوة الغلام وحجب سودة عن الخلطة المختصة بالأخوة ولم يراع شبها ولو راعاه لراعاه في الإلحاق
واحتج به بعض المالكية لقاعدة من قواعدهم أن الفرع إذا أشبه أصلين ودار بينهما يعطى حكما بين حكمين إذ لو أعطى حكم أحدهما لزم إلغاء شبهه بالآخر والفرض أنه أشبهه وبيانه من الحديث أنه أعطى حكم الفراش فألحق النسب ولم يمحضه فأمرها بالاحتجاب للشبه ولم يمحضه فألحق الولد للفراش واعترضه ابن دقيق العيد بأن صورة النزاع في القاعدة إنما هي إذا دار الفرع بين أصلين شرعيين يقتضي الشرع إلحاقه بكل منهما والشبه هنا لا يقتضي الشرع إلحاقه بعتبة فأمرها بالاحتجاب احتياطا وإرشادا إلى مصلحة وجودية لا على الوجوب بالحكم الشرعي اه
ورواه البخاري في البيع عن يحيى بن قزعة وفي الوصايا وفتح مكة عن القعنبي وفي الفرائض عن عبد الله بن يوسف وفي الأحكام عن إسماعيل الأربعة عن مالك به وتابعه الليث في الصحيحين وابن عيينة ومعمر عند مسلم ثلاثتهم عن ابن شهاب قال ابن عبد البر حديث الولد للفراش من أصح ما يروى عن النبي جاء عن بضعة وعشرين نفسا من الصحابة
( مالك عن يزيد ) بتحتية فزاي ( ابن عبد الله بن الهاد ) بلا ياء عند كثيرين وبالياء وصحح ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ) تيم قريش ( عن سليمان بن يسار ) بتحتية مفتوحة ومهملة خفيفة ( عن عبد الله بن أبي أمية ) واسمه حذيفة وقيل سهل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي صحابي صغير آخى أم سلمة أم المؤمنين قال الواقدي مات وله ثمان سنين قال الخطيب في المتفق ذكره غير واحد من أهل العلم وأنه غير عبد الله بن أبي أمية الذي استشهد بالطائف لأن هذا قد روى عنه عروة أنه أخبره قال رأيت النبي يصلي في بيت أم سلمة في ثوب واحد ملتحفا به أخرجه الخطيب وغيره وعروة وكذا سليمان بن يسار ولدا بعده بمدة فلا يصح أن يقول عروة أخبرني يزيد الأكبر ولا أن سليمان يحكي عنه ما وقع في خلافة عمر وإنكار بعضهم أن يكون لأم سلمة أخ غير الذي استشهد بالطائف وترجيح الخطيب له بأن أهل النسب لم يذكروه ليس بشيء فالمثبت مقدم على النافي لو كان وإلا فعدم الذكر لا
____________________
(4/30)
يقتضي النفي ويلزم على الإنكار رد الأسانيد الصحيحة بلا مستند وتجويز بعضهم أنه في الأصل عن ابن عبد الله ممنوع فالأصل خلافه
( أن امرأة هلك ) مات ( عنها زوجها فاعتدت أربعة أشهر وعشرا ثم تزوجت حين حلت ) بحسب الظاهر ( فمكثت عند زوجها أربعة أشهر ونصف شهر ثم ولدت ولدا تاما فجاء زوجها إلى عمر بن الخطاب فذكر ذلك له ) لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر ( فدعا عمر نسوة من نساء الجاهلية قدماء ) بضم ففتح والمد جمع قديمة أي مسنات لهن معرفة ( فسألهن عن ذلك ) ليعلم هل يصح خفاء الحمل على المرأة مع تيقنها انقضاء العدة ( فقالت امرأة منهن أنا أخبرك عن ) حال ( هذه المرأة هلك عنها زوجها حين حملت منه فأهريقت ) صبت بكثرة ( عليه ) أي الحمل ( الدماء ) بالرفع نائب الفاعل ( فحش ) بفتح الفاء وضم الحاء المهملة وفتحها وشين معجمة قال أبو عبيد الهروي أي يبس ( ولدها في بطنها ) فلم يتحرك لضعفه
وقال غيره معناه ضمر ونقص ( فلما أصابها ) وطئها ( زوجها الذي نكحها ) عقد عليها ( وأصاب الولد ) مفعول فاعله ( الماء تحرك الولد ) في بطنها ( وكبر ) بكسر الباء لانتعاشه بالماء ( فصدقها عمر بن الخطاب وفرق بينهما ) لأنه تزوج في العدة ( وقال عمر أما ) بخفة الميم ( إنه لم يبلغني عنكما إلا خير ) للعذر المذكور ( وألحق الولد بالأول ) الميت لأنه ولده إذ الولد للفراش
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سليمان بن يسار ) المدني ( أن عمر بن الخطاب كان يليط ) بضم الياء وكسر اللام يلصق أي يلحق ( أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام ) إذا لم يكن هناك فراش لأن أكثر أهل الجاهلية كانوا كذلك وأما اليوم في الإسلام بعد أن أحكم الله شريعته فلا يلحق ولد الزنى بمدعيه عند أحد من العلماء كان هناك فراش أم لا قاله أبو عمر
( فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة فدعا عمر قائفا ) بقاف ثم فاء ( فنظر إليهما فقال القائف لقد اشتركا فيه فضربه ) أي القائف ( عمر بالدرة ) بكسر المهملة وشد الراء لأنه كان يظن أن ماءين لا
____________________
(4/31)
يجتمعان في ماء واحد استدلالا بقوله تعالى { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } سورة الحجرات الآية 13 ولم يقل من ذكرين لا لأنه لم ير قوله شيئا كما زعمه بعض من لا يرى القافة فإن قضاء عمر بالقافة أشهر من أن يحتاج إلى شاهد ألا ترى أنه حكم بقول القائف فقال وال أيهما شئت قاله الباجي
( ثم دعا المرأة فقال أخبريني خبرك فقالت كان هذا ) تشير ( لأحد الرجلين يأتيني وهي ) التفات والأصل وأنا ( في إبل لأهلها فلا يفارقها حتى يظن ) هو ( وتظن ) هي ( أنه قد استمر ) أي دام وثبت ( بها حبل ) بفتح المهملة والموحدة أي حملت بالولد ( ثم انصرف عنها فأهريقت ) بضم الهمزة هي ( عليه دما ثم خلف عليها هذا تعني الآخر فلا أدري من أيهما هو ) أي الولد ( قال ) سليمان ( فكبر القائف ) سرورا بموافقة قوله ( فقال عمر للغلام وال أيهما ) أي الرجلين ( شئت ) وبه قال ابن القاسم ورواه عن مالك أنه يوالي إذا بلغ من شاء منهما وله موالاتهما جميعا ويكون ابنا لهما عند ابن القاسم
( مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب أو عثمان بن عفان ) شك الراوي ( قضى أحدهما في امرأة غرت رجلا بنفسها وذكرت أنها حرة ) وهي أمة ( فتزوجها فولدت له أولادا فقضى أن يفدي ولده بمثلهم ) قال أبو عمر قد روي ذلك عن عمر وعثمان جميعا وولد المغرور حر عند الجمهور
وقال أبو ثور وداود رقيق ولا قيمة فيهم على أحد قال الطحاوي وهو القياس لكنهم تركوه لاتفاق الصحابة على أنهم أحرار وعلى الأب قيمتهم
أبو عمر لا دخل للقياس فيما يخالف السلف فاتباعهم خير من الابتداع
( قال مالك والقيمة أعدل ) من المثل ( في هذا إن شاء الله ) وعليه اعتمد أهل مذهبه وقال مرة عليه المثل ثم رجع
22 القضاء في ميراث الولد المستلحق ( مالك الأمر عندنا في الرجل يهلك ) بكسر اللام يموت ( وله بنون فيقول أحدهم قد أقر ) اعترف
____________________
(4/32)
( أبي أن فلانا ابنه إن ذلك النسب لا يثبت بشهادة إنسان واحد ) بل بشهادة اثنين فأكثر
( ولا يجوز إقرار الذي أقر إلا على نفسه في حصته من مال أبيه يعطى الذي شهد ) أي أقر له بالأخوة ( قدر ما يصيبه من المال الذي بيده
وتفسير ذلك ) أي بيانه وإيضاحه بالمثال ( أن يهلك الرجل ويترك ابنين له ويترك ستمائة دينار فيأخذ كل واحد منهما ثلثمائة دينار ثم يشهد ) يقر ( أحدهما بأن أباه الهالك أقر أن فلانا ابنه فيكون على الذي شهد ) أي أقر ( للذي استلحق ) بالبناء للفاعل أو للمفعول أي المقر به ( مائة دينار وذلك نصف ميراث المستلحق ) بفتح الحاء ( لو لحق ) وفي إطلاق الاستلحاق عليه تجوز عن المقر به لأن الاستلحاق مخصوص بالأب
( ولو أقر له الآخر أخذ المائة الأخرى فاستكمل حقه وثبت نسبه ) إذا كان الآخران من أهل العدل ووافقه على هذا ابن حنبل وقال ابن كنانة والكوفيون يلزمه أن يعطيه نصف ما بيده لأنه أقر أنه شريكه فلا يستأثر عليه بشيء
وقال الليث والشافعي لا يلزمه شيء لأنه أقر له بما لا يستحقه إلا من جهة النسب وهو لا يثبت بواحد إذا كان ثم من الورثة من يدفعه فإن شاء أن يعطيه أعطاه
( وهو أيضا بمنزلة المرأة تقر بالدين على أبيها أو على زوجها وينكر ذلك الورثة فعليها أن تدفع إلى الذي أقرت له بالدين قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على الورثة كلهم إن كانت ) المقرة ( امرأة ورثت الثمن دفعت إلى الغريم ثمن دينه وإن كانت ابنة ورثت النصف دفعت إلى الغريم نصف دينه على حساب هذا يدفع إليه من أقر من النساء ) وعلى هذا أصحابه بالحجاز ومصر والعراق
وحكى ابن حبيب أن أصحابه كلهم يرونه وهما منه لأنه لا ميراث إلا بعد قضاء الدين قال أبو عمر بل أصحابه كلهم على ما قال وأنكر المتأخرون قول ابن حبيب وبقول مالك قال أحمد ووجهه أن إقرار المقر بمنزلة البينة ولو شهدت البينة بالدين لم يلزم المشهود عليه إلا مقدار حصته من الميراث
____________________
(4/33)
وكذلك في الوصية وأيضا فقد أجمعوا أنه لو شهد رجلان عدلان من الورثة بالدين قبلت شهادتهما وكان على كل وارث قدر إرثه
وقال الكوفيون لو كانا غير عدلين لزمهما الدين كله في حصتهما ولم يلزم سائر الورثة شيء فكيف تقبلون شهادة جر بها إلى نفسه أو دفع عنها ( فإن شهد رجل ) من الورثة وهو عدل ( على مثل ما شهدت به المرأة أن لفلان على أبيه دينا أحلف صاحب الدين مع شهادة شاهده وأعطي الغريم حقه كله وليس هذا بمنزلة المرأة لأن الرجل تجوز شهادته ويكون على صاحب الدين مع شهادة شاهده أن يحلف ويأخذ حقه كله فإن لم يحلف أخذ من ميراث الذي أقر له قدر ما يصيبه من ذلك الدين لأنه أقر بحقه وأنكر ) باقي ( الورثة وجاز عليه إقراره ) لا عليهم وكذا لو كان المقر غير عدل وله أن يحلف من الورثة من يدعى عليه علم ذلك وقال ابن الماجشون وطائفة من الكوفيين وغيرهم يلزم المقر بالدين أداؤه كله من حصته لأنه لا يحل له الإرث وعلى أبيه دين وجعلوا الجاحد كالغاصب لبعض مال الميت وقد أجمعوا على أداء الدين بما بقي بعد الغصب والسرقة
23 القضاء في أمهات الأولاد ( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله ) بن عمر ( عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال ما بال ) أي حال وشأن ( رجال يطؤون ولائدهم ) إماءهم جمع وليدة ( ثم يعزلوهن ) قال الباجي يحتمل أن يريد العزل المعروف أي عزل الماء مع الجماع بصبه خارج الفرج ويحتمل أن يريد اعتزالهن في الوطء وإزالتهن عن حكم التسري انتفاء من الولد ( لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أن قد ألم بها ) أي وطئها ( إلا ألحقت به ولدها ) عملا بحديث الولد للفراش ( فاعزلوا بعد ) بضم الدال ( أو اتركوا ) لا ينفعكم العزل لأن الماء سباق قد ينزل منه ولا يشعر به وبهذا أخذ الأئمة الثلاثة ما لم يدع الاستبراء بعد العزل
وقال بعض أصحاب الشافعي لا
____________________
(4/34)
ينفعه الاستبراء لأن الحامل تحيض
وقال ابن عباس وزيد بن ثابت والكوفيون لا يلحق به إلا أن يدعيه سواء أقر بوطئها أم لا كانت ممن تخرج أم لا
( مالك عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد ) بضم العين الثقفية زوج ابن عمر ( أنها أخبرته ) أي نافعا ( أن عمر بن الخطاب قال ما بال رجال يطؤون ولائدهم ثم يدعونهن ) بفتح الياء والدال يتركونهن ( يخرجن ) أي ثم يتوقفون فيما ولدن ( لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أن قد ألم بها ) جامعها والجملة صفة وليدة ( إلا ألحقت به ولدها ) عملا بقوله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر فإن عمر من جملة من رواه عنه كما أخرجه النسائي ( فأرسلوهن بعد ) أي بعد سماعكم قولي ( أو أمسكوهن ) عن الإرسال فلا ينفعكم ذلك بعد الاعتراف بالوطء
( مالك الأمر عندنا في أم الولد إذا جنت جناية ضمن سيدها مما بينها ) أي الجناية ( وبين قيمتها ) أي أم الولد أي يلزمه فداؤها بالأقل من أرش الجناية أو قيمتها جبرا عليه
( وليس له أن يسلمها في الجناية ) لإجماع الصحابة على منع بيعهن في غير الدين وعليه جماعة الفقهاء من التابعين ومالك وأبو حنيفة والشافعي وليس عليه أن يحمل من جنايتها أكثر من قيمتها لأنه ظلم له
24 القضاء في عمارة الموات قال الجوهري الموات بالضم الموت وبالفتح ما لا روح فيه والأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد والموتان بالتحريك خلاف الحيوان يقال اشتر الموتان ولا تشتر الحيوان أي اشتر الأرضين والدور ولا تشتر الرقيق والدواب
وقال الفراء الموتان من الأرض التي لم تحي بعد
وفي الحديث موتان الأرض لله ورسوله فمن أحيا منها شيئا فهو له
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ) مرسل باتفاق الرواة واختلف فيه على هشام فروته طائفة مرسلا كما رواه مالك وهو أصح وطائفة عنه عن أبيه عن سعيد بن زيد وطائفة عن هشام عن وهب بن كيسان عن جابر وطائفة عنه عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع عن جابر وبعضهم يقول عن هشام عن عبيد الله بن أبي رافع عن جابر واختلف فيه أيضا على عروة فرواه ابنه يحيى عنه عن صحابي لم
____________________
(4/35)
يسمه ورواه جرير عنه فقال وأكثر ظني أنه أبو سعيد الخدري ورواه الزهري عنه عن عائشة فهذا الاختلاف على عروة يدل على أن الأصح الإرسال وهو أيضا صحيح مسند وهو حديث تلقاه بالقبول فقهاء المدينة وغيرهم قاله ابن عبد البر فصححه من الوجهين
وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن غريب والنسائي وصححه الضياء في الأحاديث المختارة من طريق أيوب عن هشام عن أبيه عن سعيد بن زيد ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أحيا أرضا ميتة ) بالتشديد قال الحافظ العراقي ولا يقال بالتخفيف لأنه إذا خفف تحذف منه تاء التأنيث والميتة والموات والموتان بفتح الميم والواو الأرض التي لم تعمر
سميت بذلك تشبيها لها بالميتة التي لا ينتفع بها لعدم الانتفاع بها بزرع أو غرس أو بناء أو نحوها
( فهي له ) بمجرد الإحياء ولا يحتاج لإذن الإمام في البعيدة عن العمارة اتفاقا
قال مالك معنى الحديث في فيافي الأرض وما بعد من العمران فإن قرب فلا يجوز إحياؤه إلا بإذن الإمام
وقال أشهب وكثير من أصحابنا وغيرهم يحييها من شاء بغير إذنه قاله سحنون وهو قول أحمد وداود وإسحاق والشافعي قائلا عطية رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل من أحيا مواتا أثبت من عطية من بعده من سلطان وغيره
واستحب أشهب إذنه لئلا يكون فيه ضرر على أحد
وقال أبو حنيفة لا يحييها إلا بإذن السلطان قربت أو بعدت وصار الخلاف هل الحديث حكم أو فتوى فمن قال بالأول قال لا بد من الإذن ومن قال بالثاني قال لا يحتاج إليه وهذا نظير حديث من قتل قتيلا فله سلبه وروى أبو داود من طريق ابن أبي مليكة عن عروة قال أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الأرض لله والعباد عباد الله ومن أحيا مواتا فهو أحق به جاءنا بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم الذين جاؤوا بالصلاة عنه
وروى ابن عبد البر والبيهقي وابن الجارود من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم العباد عباد الله والبلاد بلاد الله فمن أحيا من موات الأرض شيئا فهو له
( وليس لعرق ) بكسر العين وسكون الراء والتنوين ( ظالم ) صفة للعرق على سبيل الاتساع كأن العرق بغرسه صار ظالما حتى كان الفعل له قال ابن الأثير هو على حذف مضاف فجعل العرق نفسه ظالما والحق لصاحبه أو يكون الظالم من صفة العرق اه أي لذي عرق ظالم
وروي بالإضافة فالظالم صاحب العرق وهو الغارس لأنه تصرف في ملك الغير فليس له ( حق ) في الإبقاء فيها
( قال مالك والعرق الظالم كل ما احتفر ) بضم التاء وكسر الفاء أي حفر ( أو أخذ أو غرس بغير حق ) وظاهر هذا أن الرواية بالتنوين وبه جزم في تهذيب الأسماء واللغات فقال واختار مالك والشافعي تنوين عرق وذكر نصه هذا ونص الشافعي بنحوه وبالتنوين جزم الأزهري وابن فارس وغيرهما وبالغ الخطابي فغلط من رواه بالإضافة وليس كما قال فقد ثبتت ووجهها ظاهر فلا يكون غلطا فالحديث يروى بالوجهين
____________________
(4/36)
وقال القاضي عياض أصل العرق الظالم في الغرس يغرسه في الأرض غير ربها ليستوجبها به وكذلك ما أشبهه من بناء واستنباط ماء أو استخراج معدن سميت عرقا لشبهها في الإحياء بعرق الغرس
وفي المنتقى قال عروة وربيعة العروق أربعة عرقان ظاهران البناء والغرس وعرقان باطنان المياه والمعادن فليس للظالم في ذلك حق في بقاء أو انتفاع فمن فعل ذلك في ملك غيره ظلما فلربه أن يأمره بقلعه أو يخرجه منه ويدفع إليه قيمته مقلوعا وما لا قيمة له بقي لصاحب الأرض على حاله بلا عوض اه
وروى إسحاق بن راهويه وابن عبد البر في التمهيد عن كثير ابن عبد الله عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أحيا مواتا من الأرض في غير حق مسلم فهو له وليس لعرق ظالم حق وكثير ضعيف لكن شاهده حديث الباب
( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن سالم بن عبد الله ) بن عمر ( عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال من أحيا أرضا ميتة فهي له ) والميتة الخراب التي لا عمارة بها وإحياؤها عمارتها شبهت عمارة الأرض بحياة الأبدان وتعطلها وخلوها عن العمارة بفقد الحياة وزوالها عنها
وفائدة ذكر الموقوف عقب المرفوع مع أن الحجة به الإشارة إلى عدم تطرق نسخه ولذا أكده حيث قال ( مالك وعلى ذلك الأمر عندنا ) بالمدينة
25 القضاء في المياه ( مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ) بفتح العين ( ابن حزم ) الأنصاري ( أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) وفي نسخة قضى ( في سيل مهزور ) بفتح الميم وإسكان الهاء وضم الزاي وسكون الواو آخره راء ( ومذينب ) بضم الميم وفتح الذال المعجمة وتحتية ساكنة ونون مكسورة وموحدة واديان يسيلان بالمطر بالمدينة يتنافس أهل المدينة في سيلهما ( يمسك ) سيلهما فهو مبني للمفعول أي يمسكه الأعلى أي الأقرب إلى الماء فيسقي زرعه أو حديقته ( حتى الكعبين ) هكذا ضبط في نسخة صحيحة بالبناء للمجهول فإن كان رواية وإلا فيصح ضبطه للفاعل وهو الأعلى في قوله ( ثم يرسل الأعلى ) الماء ( على الأسفل ) الأبعد منه عن الماء قال ابن عبد البر لا أعلمه يتصل من وجه من الوجوه مع أنه حديث مدني مشهور عند أهل
____________________
(4/37)
المدينة مستعمل عندهم معروف معمول به
وسئل البزار عنه فقال لست أحفظ فيه بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يثبت اه
وهو تقصير شديد من مثلهما فله إسناد موصول عن عائشة عند الدارقطني في الغرائب والحاكم وصححاه وأخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وإسناده حسن وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث ثعلبة بن أبي مالك القرظي وقال البيهقي إنه مرسل ثعلبة من الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة
قال الباجي اختلف أصحابنا في معنى الحديث فروى ابن حبيب عن ابن وهب ومطرف وابن الماجشون يرسل صاحب الحائط الأعلى جميع الماء في حائطه ويسقي حتى إذا بلغ الماء في الحائط إلى كعبي من يقوم فيه أغلق مدخل الماء وروى عيسى في المدنية عن ابن وهب يسقي الأول حتى يروي حائطه ثم يمسك بعد ريه ما كان من الكعبين إلى أسفل ثم يرسل وروى زياد عن مالك يجري الأول من الماء في ساقيته إلى حائطه قدر ما يكون الماء في الساقية حتى يروي حائطه أو يفنى الماء فإذا روى أرسله كله قال ابن مزين هذا أحسن ما سمعت
وقال ابن كنانة بلغنا أنه إذا سقى بالسيل الزرع أمسك حتى يبلغ الماء شراك النعل وإذا سقى النخل والشجر وماله أصل حتى يبلغ الكعبين وأحب إلينا أن يمسك في الزرع وغيره حتى يبلغ الكعبين لأنه أبلغ في الري
( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة ) رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يمنع ) بضم أوله مبنيا للمفعول خبر بمعنى النهي ( فضل الماء ) زاد في رواية أحمد بعد أن يستغنى عنه ( ليمنع ) مبني للمفعول أيضا ( به الكلأ ) بفتح الكاف واللام بعدها همزة مقصورة اسم لجميع النبات ثم الأخضر منه يسمى الرطب بضم الراء وسكون الطاء والكلأ اليابس يسمى حشيشا ومنه يقال للناقة أحشت ولدها إذا ألقته يابسا وحشت يد فلان إذا يبست
ومعنى الحديث أن من سبق الماء بفلاة وكان حول ذلك الماء كلأ لا يوصل إلى رعيه إلا إذا كانت المواشي ترد ذلك الماء فنهى صاحب الماء أن يمنع فضله لأنه إذا منعت منه منعت من رعي ذلك الكلأ والكلأ لا يمنع لما فيه من الإضرار بالناس قاله عياض
قال القرطبي واللام للعاقبة مثلها في قوله تعالى { فالتقطه آل فرعون } سورة القصص الآية 8 الآية والحديث حجة لنا في القول بسد الذرائع لأنه إنما نهى عن منع فضل الماء لما يؤدي إليه من منع الكلأ اه وسبقه إليه الباجي
وقد ورد التصريح في بعض طرق الحديث بالنهي عن منع الكلأ فصحح ابن حبان من رواية أبي سعيد مولى بني غفار عن أبي هريرة مرفوعا لا تمنعوا فضل الماء ولا تمنعوا الكلأ فيهزل المال وتجوع العيال وهو محمول على غير المملوك وهو الكلأ النابت في أرضه المملوكة له بالإحياء ففيه خلاف صحح ابن العربي وغيره الجواز وهو رواية ابن القاسم عن مالك في العتبية
____________________
(4/38)
ومطرف عنه في الواضحة وأنكرها أشهب فلم يجز بيع الكلأ بمال وإن كان في أرضه ومرجه وحماه
قال مالك في المجموعة والواضحة معنى الحديث في آبار الماشية التي في الفلوات
وفي كتاب ابن سحنون عن ابن القاسم وأشهب ذلك في الأرض ينزلها للرعي لا للعمارة فهو والناس في الرعي سواء ولكن يبدون بمالهم
الباجي بئر الماشية ما حفرها الرجل في غير ملكه في البراري والقفار لشرب ماشيته ويبيح فضلها للناس فاتفق مالك وأصحابه أنه لا يمنع فضلها
قال مالك في المدونة لا يباع بئر الماشية ما حفر منها في جاهلية ولا إسلام وإن حفرت في قرب ابن القاسم يريد قرب المنازل إذا حفرها للصدقة فما فضل منها فالناس فيه سواء أما من حفرها لبيع مائها أو سقي ماشيته لا للصدقة فلا بأس ببيعها اه
والنهي للتحريم عند مالك والشافعي والليث والأوزاعي وقال غيرهم هو من باب المعروف والحديث رواه البخاري في الشرب عن عبد الله بن يوسف وفي ترك الحيل عن إسماعيل ومسلم في البيع عن يحيى ثلاثتهم عن مالك به
( مالك عن أبي الرجال ) بالجيم ( محمد بن عبد الرحمن ) بن حارثة الأنصاري ( عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن ) بن سعد بن زرارة الأنصارية ( أنها أخبرته ) مرسلا ووصله أبو قرة موسى بن طارق وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي كلاهما عن مالك عن أبي الرجال عن أمه عن عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يمنع ) بالبناء للمفعول ( نقع بئر ) بفتح النون وإسكان القاف ومهملة زاد بعض الرواة عن مالك يعني فضل مائها
قال الهروي قيل له نقع لأنه ينقع به أي يروى به يقال نقع بالري وشرب حتى نقع
قال الباجي ويروى وهو ماء
قال مالك في المجموعة وغيرها معناه فضل ماء
قال أبو الرجال النقع والرهو هو الماء الواقف الذي لا يسقى عليه أو يسقى وفيه فضل
وقال ابن حبيب عن مطرف عن مالك معناه البئر بين الشريكين يسقي هذا يوما وهذا يوما ويستغني أحدهما يومه أو بعضه عن السقي فيريد صاحبه السقي به فليس له منعه مما لا ينفعه حبسه ولا يضره تركه فإن احتاج من لا شرك له إلى فضل مائها فلا إلا أن تنهار بئره فيدخل في الحديث ويسقي بفضل ماء جاره إن زرع أو غرس على أصل ماء فانهار وخيف على زرعه أو غرسه وشرع في إصلاح ما انهار وفضل عن حاجة صاحب الماء
____________________
(4/39)
26 القضاء في المرفق بفتح الميم وكسر الفاء وبفتحها وكسر الميم ما ارتفق به وبهما قرىء { ويهيئ لكم من أمركم مرفقا } سورة الكهف الآية 16 ومنه مرفق الإنسان
( مالك عن عمرو ) بفتح العين ( ابن يحيى المازني ) بكسر الزاي من بني مازن بن النجار الأنصاري الثقة المتوفى بعد الثلاثين ومائة ( عن أبيه ) يحيى بن عمارة بن أبي حسن واسمه تميم بن عبد عمرو الأنصاري المدني التابعي الثقة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ضرر ) خبر بمعنى النهي أي لا يضر الإنسان أخاه فينقصه شيئا من حقه ( ولا ضرار ) بكسر أوله فعال أي لا يجازي من ضره بإدخال الضرر عليه بل يعفو فالضرر فعل واحد والضرار فعل اثنين فالأول إلحاق مفسدة بالغير مطلقا والثاني إلحاقها به على وجه المقابلة أي كل منهما يقصد ضرر صاحبه بغير جهة الاعتداء بالمثل
قال ابن عبد البر قيل هما بمعنى واحد للتأكيد وقيل هما بمعنى القتل والقتال أي لا يضره ابتداء ولا يضاره إن ضره وليصبر فهي مفاعلة وإن انتصر فلا يعتدي كما قال صلى الله عليه وسلم ولا تخن من خانك يريد بأكثر من انتصافك منه { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } سورة الشورى الآية 43 وقال ابن حبيب الضرر عند أهل العربية الاسم والضرار الفعل أي لا تدخل على أحد ضرارا بحال
وقال الخشني الضرر الذي لك فيه منفعة وعلى جارك فيه مضرة والضرار ما ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه مضرة وهذا وجه حسن في الحديث وهو لفظ عام ينصرف في أكثر الأمور والفقهاء ينزعون به في أشياء مختلفة
وقال الباجي اختار ابن حبيب أنهما لفظان بمعنى واحد للتأكيد ويحتمل أن يريد لا ضرر على أحد أي لا يلزمه الصبر عليه ولا يجوز له إضراره بغيره وليس استيفاء الحقوق في القصاص وغيره من هذا الباب لأن ذلك استيفاء لحق أو ردع عن استدامة ظلم فما أحدثه الرجل بعرصته مما يضر بجيرانه من بناء حمام أو فرن لخبز أو سبك ذهب أو فضة أو عمل حديد أو رحى فلهم منعه قاله مالك في المجموعة اه
وفيه إشارة إلى أن في الحديث حذفا أي لا لحوق أو إلحاق أو لا فعل ضررا وضرارا بأحد أي لا يجوز شرعا إلا لموجب خاص فقيد النفي بالشرعي لأنه بحكم القدر لا ينتفى وخص منه ما ورد لحوقه بأهله كحد وعقوبة جان وذبح مأكول فإنها ضرر ولا حق بأهله وهي مشروعة إجماعا وفيه تحريم جميع أنواع الضرر إلا بدليل لأن النكرة في سياق النفي تعم ثم لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث كما في التمهيد ورواه الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري موصولا بزيادة ومن ضار أضر الله به ومن شاق شاق الله عليه أخرجه الدارقطني والبيهقي وابن عبد البر والحاكم ورواه أحمد برجال ثقات وابن ماجه من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت وأخرجه ابن أبي شيبة وغيره من وجه آخر أقوى منه
وقال النووي حديث حسن وله طرق يقوي بعضها بعضا
وقال
____________________
(4/40)
العلائي له شواهد وطرق يرتقي بمجموعها إلى درجة الصحة
وذكر أبو الفتوح الطائي في الأربعين له أن الفقه يدور على خمسة أحاديث هذا أحدها ومن شواهده حديث ملعون من ضار أخاه المسلم أو ماكره أخرجه ابن عبد البر عن الصديق مرفوعا وضعف إسناده وقال لكنه مما يخاف عقوبة ما جاء فيه
قال وروى عبد الرزاق عن معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا لا ضرر ولا ضرار وللرجل أن يغرز خشبة في جدار أخيه وجابر ضعيف اه
أي فلا يعتبر بزيادته في هذا الحديث وللرجل الخ فالزيادة إنما تقبل من الثقة إن لم يخالف من هو أوثق منه كما تقرر ثم الإنكار إنما هو ورودها في حديث لا ضرر ولا ضرار إذ هو حديث آخر مستقل عن أبي هريرة وهو التالي
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري وقال خالد ابن مخلد عن مالك عن أبي الزناد بدل الزهري ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز وقال بشر بن عمر وهشام بن يوسف عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة بدل الأعرج وكذا قال معمر رواها الدارقطني في الغرائب وقال المحفوظ عن مالك الأول أي ما في الموطأ وبه جزم ابن عبد البر ثم أشار إلى احتمال إنه عند الزهري عن الجميع ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يمنع ) بالرفع خبر بمعنى النهي وفي رواية بالجزم على أن لا ناهية ولأحمد لا يمنعن بزيادة نون التوكيد وهي تؤكد رواية الجزم ( أحدكم جاره ) الملاصق له ( خشبة ) بالتنوين مفرد وفي رواية بالهاء بصيغة الجمع وقال المزني عن الشافعي عن مالك خشبه بلا تنوين وقال عن يونس ابن عبد الأعلى عن ابن وهب عن مالك خشبة بالتنوين قال ابن عبد البر والمعنى واحد لأن المراد بالواحدة الجنس قال الحافظ وهذا الذي يتعين للجمع بين الروايتين وإلا فقد يختلف المعنى لأن أمر الخشبة الواحدة أخف في مسامحة الجار بخلاف الخشب الكثير
وروى الطحاوي عن جماعة من المشايخ أنهم رووه بالإفراد وأنكره عبد الغني بن سعيد فقال كل الناس يقولونه بالجمع إلا الطحاوي فقال خشبة بالتوحيد ويرد عليه اختلاف الرواية المذكورة إلا إن أراد خاصا من الناس كالذين روى عنهم الطحاوي فله اتجاه اه
وفي المفهم إنما اعتنى الأئمة بضبط هذا الحرف لأن الواحدة تخف على الجار أن يسمح بها بخلاف الخشب الكثير لما فيه من ضرره ورجح ابن العربي رواية الإفراد لأن الواحدة مرفق وهي التي يحتاج للسؤال عنها وأما الخشب فكثير يوجب استحقاق الحائط على الجار ويشهد له وضع الخشب يعني فلا يندبه الشرع إلى ذلك وفيه نظر
( يغرزها ) أي الخشبة أو الخشب وللقعنبي أن يغرز خشبة ( في جداره ) أي الأحد المنهي تنزيها فيستحب أن لا يمنع ولا يقضى عليه عند الجمهور ومالك وأبي حنيفة والشافعي في الجديد جمعا بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرىء من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه رواه الحاكم
____________________
(4/41)
بإسناد على شرط الصحيحين
القرطبي وإذا لم يجبر المالك على إخراج ملكه بعوض فأحرى بغير عوض
ابن العربي ويدل على أنه للندب أن مثل هذا التركيب جاء للندب في قوله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها
وقال الشافعي في القديم وأحمد وإسحاق وابن حبيب وأصحاب الحديث يجبر إن امتنع لأن الأصح في الأصول أن صيغة لا تفعل للتحريم فالإذن لازم بشرط احتياج الجار وأن لا يضع عليه ما يتضرر به المالك وأن لا يقدم على حاجة المالك ولا فرق بين أن يحتاج في وضع الجذع إلى ثقب الجدار أو لا لأن رأس الجذع يسد المنفتح ويقوي الجدار واشترط بعضهم تقدم استئذان الجار في ذلك لرواية أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك من سأله جاره وكذا لابن حبان من طريق الليث عن مالك ومثله في رواية ابن عيينة وعقيل عند أبي داود وزياد بن سعد عند أبي عوانة الثلاثة عن الزهري وجزم الترمذي وابن عبد البر عن الشافعي بالقول القديم وهو نصه في البويطي قال البيهقي لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا ينكر أن يخصها وقد حمله الراوي على ظاهره وهو أعلم بالمراد بما حدث به يشير إلى قوله ( ثم يقول أبو هريرة ) بعد روايته لهذا الحديث محافظة على العمل به وحضا عليه لما رآهم توقفوا عنه ففي الترمذي أنه لما حدثهم بذلك لما طاطوا رؤوسهم وفي أبي داود فنكسوا رؤوسهم فقال ( مالي أراكم عنها ) أي عن هذه السنة أو المقالة ( معرضين ) إنكارا لما رأى من إعراضهم واستثقالهم ما سمعوا منه وعدم إقبالهم عليها بل طاطوا رؤوسهم ( والله لأرمين بها ) أي لأصرخن بهذه المقالة ( بين أكتافكم ) رويناه بالفوقية جمع كتف وبالنون جمع كنف بفتحها وهو الجانب وهذا بين في أنه حمله على الوجوب قاله ابن عبد البر أي لأشيعن هذه المقالة فيكم ولأقرعنكم بها كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه فيستيقظ من غفلته أو الضمير للخشبة والمعنى إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلن الخشبة بين رقابكم كارهين وأراد بذلك المبالغة قاله الخطابي وبهذا التأويل جزم إمام الحرمين تبعا لغيره وقال إن ذلك وقع من أبي هريرة حين كان يلي إمرة المدينة لكن عند ابن عبد البر من وجه آخر لأرمين بها بين أعينكم وإن كرهتم
وهذا يرجح التأويل الأول
وقال الطيبي هو كناية عن إلزامهم بالحجة القاطعة على ما ادعاه أي لا أقول الخشبة ترمى على الجدار بل بين أكتافكم لما وصى به صلى الله عليه وسلم من بر الجار والإحسان إليه وحمل أثقاله وهذا من أبي هريرة ظاهر في أنه يرى الوجوب وبه جزم ابن عبد البر وقال القرطبي إنه الظاهر وقول الباجي يحتمل أن مذهبه الندب إذ لو كانت عنده للوجوب لوبخ الحكام على تركه ولحكم بذلك لأنه كان مستخلفا بالمدينة فيه نظر لأنه إنما كان يلي إمرة المدينة نيابة عن مروان في بعض الأحيان فلعله لم يترافع إليه حين توليته ولم يوبخ الحكام لعدم علمه بأنهم لم يحكموا به واستدل المهلب وتبعه عياض بقول أبي هريرة هذا على أن العمل كان في ذلك العصر على خلاف مذهبه لأنه لو كان على الوجوب لما جهل الصحابة تأويله ولا أعرضوا عنه لأنهم لا يعرضون عن
____________________
(4/42)
واجب فدل على أنهم حملوا الأمر على الاستحباب وتعقبه الحافظ فقال ما أدري من أين له أن المعرضين صحابة وأنهم عدد لا يجهل مثلهم الحكم ولم لا يجوز أن الذين خاطبهم أبو هريرة لم يكونوا فقهاء بل هو المتعين إذ لو كانوا صحابة أو فقهاء ما واجههم بذلك اه
والحديث رواه البخاري في المظالم وأبو داود في القضاء عن القعنبي ومسلم في البيوع عن يحيى التميمي كلاهما عن مالك به
( مالك عن عمرو بن يحيى المازني ) الأنصاري ( عن أبيه ) عن يحيى بن عمارة بضم العين وخفة الميم ( أن الضحاك بن خليفة ) بن ثعلبة الأنصاري الأشهلي قال أبو حاتم شهد غزوة بني النضير وله فيها ذكر وليست له رواية وقال ابن شاهين سمعت ابن أبي داود يقول هو الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه يطلع عليكم رجل من أهل الجنة ذو مسحة من جمال زنته يوم القيامة زنة أحد فطلع الضحاك بن خليفة وكان يتهم بالنفاق ثم تاب وأصلح كما في الإصابة
( ساق خليجا له ) قال المجد الخليج النهر وشرم من البحر والجفنة والحبل ( من العريض ) بضم العين المهملة وفتح الراء وإسكان التحتية وضاد معجمة واد بالمدينة به أموال لأهلها ( فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة ) الأنصاري أكبر من اسمه محمد من الصحابة وكان من الفضلاء مات بعد الأربعين ( فأبى ) امتنع ( محمد فقال له الضحاك لم ) لأي شيء ( تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولا وآخرا ولا يضرك ) قال الباجي يحتمل أنه شرط له ذلك وهو على وجه المعارضة لا يجوز لجهل قدر شربه أولا وآخرا ويحتمل أن يريد أن ذلك حكم الماء على ما مر أن الأعلى أولى حتى يروي ( فأبى محمد فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب ) أمير المؤمنين ( فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة فأمره أن يخلي سبيله فقال محمد لا ) أفعل ذلك ( فقال عمر لم تمنع أخاك ) في الإسلام والصحبة ( ما ينفعه وهو لك نافع ) لأنك ( تسقي به أولا وآخرا وهو لا يضرك فقال محمد لا ) أرضى بهذا ( والله ) أكده بالقسم ( فقال عمر والله ليمرن به ولو على بطنك ) الباجي فيه اعتبار المقاصد لا الألفاظ إن كانت يمين عمر على معنى الحكم عليه إذ لا خلاف أن عمر لا يستجيز أن يمر به على بطن محمد ويحتمل أن يريد إن خالفت حكمي عليك وحاربت وأدت المحاربة إلى قتلك وإجرائه على بطنك لفعلت ذلك نصرة للحكم بالحق والأول أظهر
( فأمره عمر أن يمر به ) أي يجريه في أرض محمد ( ففعل الضحاك )
____________________
(4/43)
ذلك أي أجراه قال الباجي يحتمل قول عمر وجهين أحدهما أنه على ظاهره ولمالك فيه ثلاثة أقوال أحدها المخالفة له على الإطلاق وهي رواية ابن القاسم لحديث لا يحلبن أحدكم ماشية أخيه بغير إذنه واللبن متجدد ويخلفه غيره والأرض التي يمر فيها بالساقية لا يعتاض منها
والثاني الأخذ بقوله مطلقا وهي رواية زياد عنه في النوادر
والثالث الموافقة له على وجه ذلك على وجهين أحدهما مخالفة أهل زمن مالك لزمن عمر كما في رواية أشهب عنه كأن يقال تحدث للناس أقضية بقدر ما يحدثون من الفجور وأخذ به من يوثق برأيه فلو كان الشأن معتدلا في زماننا كاعتداله في زمن عمر رأيت أن يقضى له بإجراء مائه في أرضك لأنك تشرب به أولا وآخرا ولا يضرك ولكن فسد الناس واستحقوا التهمة فأخاف أن يطول وينسى ما كان عليه جري هذا الماء وقد يدعي به جارك دعوى في أرضك
والثاني أن محمدا إنما صارت له أرضه بإحيائه لها بعد أن أحيا الضحاك أرضه على ما قال أشهب إن أحييت أرضك بعد إحياء عينه وأرضه قضى عليك بممره في أرضك وإجراء مائه فيها إلى أرضه وإن كانت أرضك قبل عينه وأرضه فليس له ذلك ويحتمل أن عمر لم يقض على محمد بذلك وإنما حلف عليه ليرجع إلى الأفضل ثقة أنه لا يحنثه اه ملخصا
( مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه ) يحيى بن عمارة بن أبي حسن ( أنه ) أي يحيى ( قال كان في حائط جده ) جد يحيى وهو أبو حسن واسمه تميم بن عبد عمرو الأنصاري الصحابي ( ربيع ) بفتح الراء وكسر الموحدة أي جدول وهو النهر الصغير ( لعبد الرحمن بن عوف ) الزهري أحد العشرة ( فأراد عبد الرحمن أن يحوله إلى ناحية ) جهة ( من الحائط هي أقرب إلى أرضه ) أي أرض عبد الرحمن ليكون أسهل في سقيها من البعيد ( فمنعه صاحب الحائط ) أبو الحسن ( فكلم عبد الرحمن بن عوف عمر بن الخطاب فقضى لعبد الرحمن بن عوف بتحويله ) لأنه حمل حديث لا يمنع أحدكم جاره على ظاهره وعداه إلى كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه
روى ابن القاسم عن مالك ليس العمل على حديث عمر هذا ولم يأخذ به وروى زياد عنه إن لم يضر به قضى عليه
وقال الشافعي في كتاب الرد لم يرد مالك عن الصحابة خلاف عمر في ذلك ولم يأخذ به ولا بشيء مما في هذا الباب بل رد ذلك برأيه
قال ابن عبد البر وليس كما زعم لأن محمد بن مسلمة والأنصاري صاحب عبد الرحمن كان رأيهما خلاف رأي عمر وعبد الرحمن وإذا
____________________
(4/44)
اختلف الصحابة رجع إلى النظر وهو يدل على أن دماء المسلمين وأموالهم من بعضهم على بعض حرام إلا بطيب نفس من المال خاصة وحديث أن غلاما استشهد يوم أحد فجعلت أمه تمسح التراب عن وجهه وتقول هنيئا لك الجنة فقال صلى الله عليه وسلم وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره ضعيف ومشهور
ومذهب مالك أن لا يقضى بشيء مما في هذا الباب لحديث لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه وهو قول أبي حنيفة
وروى أصبغ عن ابن القاسم لا يؤخذ بقضاء عمر على محمد في الخليج وأما تحويل الربيع فيؤخذ به لأن مجراه ثابت لابن عوف في الحائط وإنما حوله لناحية أخرى أقرب إليه وأرفق لصاحب الحائط اه
ومر أن هذا قول الشافعي في القديم ومشهور قوله في الجديد أن لا يقضى بشيء من ذلك
27 القضاء في قسم الأموال ( مالك عن ثور ) بمثلثة ( ابن زيد الديلي ) بكسر الدال وإسكان التحتية ( أنه قال بلغني ) قال أبو عمر تفرد بوصله إبراهيم بن طهمان وهو ثقة عن مالك عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما ) أي مبتدأ في معنى الشرط وزيدت ما لتوكيده وزيادة التعميم
( دار أو أرض قسمت في الجاهلية ) هي ما قبل البعثة وقيل ما قبل الفتح لقول ابن عباس سمعت أبي يقول في الجاهلية اسقني كأسا دهاقا
وابن عباس إنما ولد في الشعب ( فهي على قسم الجاهلية ) قال الباجي يحتمل أن يريد تقدم قسمها في الجاهلية وهو الظاهر من تأويل ابن نافع وغيره من أصحابنا ويحتمل أن يريد استحقت سهامها في الجاهلية بأن مات ميت فورثه ورثته قبل أن يسلموا فأراد صلى الله عليه وسلم ترك رد ما سلف من فعلهم وأمضاها على ما وقعت ولذا لا يرد تبرعتهم وأنكحتهم الفاسدة بل يصحح الإسلام الملك الواقع بها قال وقوله ( وأيما دار أو أرض أدركها الإسلام فلم تقسم ) الفاء للحال على ما أفاده بعضهم أن الفاء تجيء له وفي نسخة ولم تقسم ( فهي على قسم الإسلام ) يحتمل التأويلين والأظهر أن ما كان مشتركا فدخل عليه الإسلام قبل القسم فهو على حكم الإسلام مثل أن يرثوا دارا في الجاهلية ثم يسلموا قبل قسمها فيقتسمونها على مواريث الإسلام قال عيسى عن ابن القاسم عن مالك أن هذا في المجوس والفرس والفرازنة وكل من ليس له كتاب وأما اليهود والنصارى فإنما يقسمونها على مقتضى شرعهم يوم ورثوها ودليل ذلك ذكره الجاهلية
وروى مطرف وابن الماجشون وأشهب وابن نافع عن مالك أنه في الكفار كلهم أهل كتاب أم لا وبه قال أبو حنيفة والشافعي قال ابن عبد البر ورواه أصبغ عن ابن القاسم وهو قول الليث والأوزاعي والجمهور وهو أولى
____________________
(4/45)
لاستعمال الحديث على عمومه ولأن الكفر لا تفترق أحكامه فيمن أسلم أنه يقر على نكاحه وفي الحرية عند مالك فلا وجه للفرق بين أحكامهم إلا ما خصته السنة من أكل ذبائح الكتابيين ونكاح نسائهم ومحال أن يقسم المؤمنون ميراثهم على شريعة الكفر
( مالك فيمن هلك ) مات ( وترك أموالا ) أرضين وما فيها من شجر ( بالعالية والسافلة ) جهتان بالمدينة ( أن البعل ) ما يشرب بعروقه من غير سقي ولا سماء قاله الأصمعي وقيل هو ما سقته السماء أي المطر ( لا يقسم مع النضح ) بالضاد المعجمة أي الماء الذي يحمله الناضح وهو البعير لأنهما جنسان لا يجمعان في القسم يريد بالقرعة التي تكون بالجبر ( إلا أن يرضى أهله بذلك ) أي قسمها بينهم بالقرعة أو يقسمها مراضاة دون قرعة ( وأن البعل يقسم مع العين إذا كان يشبهها ) لأنهما يزكيان بالعشر بخلاف النضح الذي يزكى بنصفه وهذا مشهور المذهب
( وأن الأموال إذا كانت بأرض واحدة الذي بينهما متقارب فإنه يقام كل مال منها ثم يقسم ) وفي نسخة يسهم ( بينهم والمساكن والدور بهذه المنزلة ) لأن جمعها للقسم أقل ضررا وإذا قسمت كل دار فسد كثير من منافعها ولذا ثبتت الشفعة في الأملاك
وقال أبو حنيفة والشافعي يقسم لكل إنسان نصيبه من كل دار ومن كل أرض لأن كل بقعة ودار تعتبر بنفسها ولتعلق الشفعة بها دون غيرها
28 القضاء في الضواري والحريسة الضواري بالضاد المعجمة قال الباجي يريد العوادي وهي البهائم التي ضربت أكل زروع الناس قال مالك في المدونة في الإبل والبقر والرمك التي تعدو في زروع الناس قد ضربت ذلك تغرب وتباع في بلد لا زرع فيه
ابن القاسم وكذا الغنم والدواب إلا أن يحبسها أهلها عن الناس قال أبو عمر الحريسة المحروسة في المرعى
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم ( عن حرام ) بفتح المهملتين ( ابن سعد ) بسكون العين ويقال ابن ساعدة ( ابن محيصة ) بضم الميم وفتح المهملة وشد التحتانية وقد تسكن ابن مسعود بن كعب الخزرجي التابعي الثقة جده صحابي معروف وأبوه قيل له صحبة أو رؤية وروايته مرسلة قال ابن عبد البر هكذا رواه مالك وأصحاب ابن شهاب عنه مرسلا ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري
____________________
(4/46)
عن حرام عن أبيه ولم يتابع عبد الرزاق على ذلك وأنكر عليه قوله عن أبيه وقال أبو داود قال محمد ابن يحيى الذهلي لم يتابع معمر على ذلك فجعل الخطأ من معمر والحديث من مراسيل الثقات وتلقاه أهل الحجاز وطائفة من العراق بالقبول وجرى عمل أهل المدينة عليه
( أن ناقة للبراء بن عازب ) بن الحارث بن عدي الأنصاري الأوسي صحابي ابن صحابي نزل الكوفة واستصغر يوم بدر ومات سنة اثنتين وسبعين ( دخلت حائط رجل فأفسدت فيه فقضى ) حكم ( رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط ) البساتين ( حفظها بالنهار ) فلا ضمان على أهلها فيما أفسدت المواشي بالنهار إن سرحت بعد المزارع ولا راعي معها فإن كان معها وهو قادر على دفعها ضمن
( وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن ) قال الباجي أي مضمون ( على أهلها ) زاد الرافعي كقولهم سر كاتم أي مكتوم وعيشة راضية أي مرضية اه
فيضمنون قيمة ما أفسدته ليلا وإن كان أكثر من قيمة الماشية وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا ضمان فيهما لحديث جرح العجماء جبار وقال الليث وعطاء يضمن فيهما قال أبو عمر الحديث موافق لقوله تعالى { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم } سورة الأنبياء الآية 78 وأمر الله نبيه بالاقتداء بهما فيمن أمره بالاقتداء بهم في قوله { فبهداهم اقتده } سورة الأنعام الآية 90 ولا خلاف بين علماء التأويل واللغة أن النفش لا يكون إلا ليلا والهمل بالنهار
وقال معمر وابن جريج بلغنا أن حرثهم كان عنبا قال الباجي وليس هذا ببين لأنه لم يصرح في الآية بالحكم ولو صرح أنه ضمن أهل الماشية التي نفشت لم يكن فيه نفي الحكم عن الراعية نهارا إلا من دليل الخطاب أي المفهوم فكيف والآية لم تتضمن تفسيرا ولا بيانا وإنما ذلك قول المفسرين ولا حجة فيه
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن ابن حاطب ) بن أبي بلتعة المدني التابعي الثقة مات سنة أربع ومائة وأبوه له رؤية وعدوه في كبار ثقات التابعين وجده بدري شهير
( أن رقيقا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة ) بضم الميم وفتح الزاي قبيلة من العرب ينسبون إلى جدتهم العليا مزينة بنت كلب بن وبرة ( فانتحروها ) أي نحروها ( فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب ) زاد في رواية ابن وهب فاعترف العبيد أي بالسرقة ( فأمر عمر كثير ) بفتح الكاف وكسر المثلثة ( ابن الصلت ) بن معديكرب الكندي المدني التابعي الكبير الثقة ووهم من جعله صحابيا ( أن يقطع أيديهم ) زاد ابن وهب في موطئه ثم أرسل وراءه بعد أن ذهب بهم ( ثم قال عمر أراك ) أظنك ( تجيعهم )
____________________
(4/47)
ولابن وهب وقال والله لولا أظن أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو أن أحدهم وجد ما حرم الله عليه فأكله حل له لقطعت أيديهم
( ثم قال عمر ) لحاطب ( والله لأغرمنك غرما يشق عليك ) قال الباجي لعله أداه اجتهاده إليه على وجه الأدب لإجاعته رقيقه وإحواجه لهم إلى السرقة ولعله قد كرر نهيه إياه عن ذلك وحد له في قوتهم حدا لم يمتثله ولعله ثبت ذلك ببينة أو بدعوى المزني معرفة حاطب ذلك وطلب يمينه فنكل وحلف المزني فغرم حاطبا وترك قطع العبيد للجوع وقول أصبغ جمع بين القطع والغرم غلطه الداودي وقال إنما أمر به ثم عذرهم بالجوع وهذا معلوم من عمر أنه لم يقطع سارقا عام الرمادة ( ثم قال ) عمر ( للمزني كم ثمن ناقتك فقال المزني قد كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم فقال عمر ) لحاطب ( أعطه ثمانمائة درهم ) اجتهادا منه خولف فيه ولذا قال ( مالك ليس العمل على هذا في تضعيف القيمة ولكن مضى أمر الناس عندنا على أنه إنما يغرم الرجل قيمة البعير أو الدابة يوم يأخذها ) فلا يعمل بفعل عمر هذا فإنهم لو أجمعوا على ترك العمل بحديث عنه صلى الله عليه وسلم لترك وعلم أنهم لم يتركوه إلا لأمر يجب المصير إليه
قال ابن عبد البر أجمع العلماء أنه لا يغرم من استهلك شيئا إلا مثله أو قيمته وأنه لا يعطى أحد بدعواه لحديث لو أعطي قوم بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن البينة على المدعي وهنا صدق المزني فيما ادعاه من ثمن ناقته وأجمعوا على أن إقرار العبد على سيده في ماله لا يلزمه وهنا أغرمه ما اعترف به عبيده وهو خبر تدفعه الأصول من كل وجه اه
ومر عن الباجي جواب بعض هذا ترجيا
وقال ابن مزين سألت أصبغ عن قول مالك ليس العمل على تضعيف القيمة أكان مالك يرى الغرم على السيد بلا تضعيف فقال لا شيء على السيد في ماله ولا في رقاب العبيد الذين وجب عليهم القطع وإنما غرمها في مال العبيد إن كان لهم مال وإلا فلا شيء وإنما يكون في رقابهم سرقة لا قطع فيها فيخير سيدهم بين إسلامهم وافتكاكهم
29 القضاء فيمن أصاب شيئا من البهائم ( مالك الأمر عندنا فيمن أصاب شيئا من البهائم أن على الذي أصابها قدر ما نقص من ثمنها ) إن
____________________
(4/48)
لم تتلف منفعتها المقصودة منها من عمل أو غيره وإلا فعليه قيمتها وبه قال الليث وقال الشافعي إنما عليه ما نقص منها وقال أبو حنيفة في عين الدابة والبقرة ربع ثمنها وفي شاة القصاب ما نقصها قال الطحاوي وهذا استحسان والقياس إيجاب النقصان لكنهم تركوا القياس لقضاء عمر في عين دابة بربع قيمتها بمحضر من الصحابة من غير خلاف ( مالك في الجمل يصول ) يثب ( على الرجل فيخافه على نفسه فيقتله أو يعقره ) بكسر قوائمه ( فإنه إن كانت له بينة على أنه أراده وصال عليه فلا غرم عليه ) كما لو قصده رجل ليقتله فعجز عن دفعه إلا بضربه فقتله كان هدرا وإذا سقط الأكثر فالأقل أولى
( وإن لم تقم له بينة إلا مقالته ) أي دعواه ( فهو ضامن للجمل ) لأنه لا يؤخذ بدعواه على غيره
30 القضاء فيما يعطى العمال بضم العين جمع عامل أي الصناع وفي نسخة الغسال
( مالك فيمن دفع إلى الغسال ثوبا يصبغه ) مثلث الباء ( فصبغه فقال صاحب الثوب لم آمرك بهذا الصبغ ) الأحمر مثلا بل أسود ( وقال الغسال بل أنت أمرتني بذلك فإن الغسال مصدق في ذلك ) حيث لا بينة لأن ربه مقر بإذنه للصباغ في العمل وادعى أنه لم يعمل ما أمره به ليمضي عمله باطلا
وقال الحنفي والشافعي القول لصاحب الثوب لاعتراف الصباغ بأنه لربه وأنه أحدث فيه حدثا ادعى إذنه وإجازته عليه فإن أقام بينة وإلا حلف صاحبه وضمنه ما أحدث فيه
( والخياط مثل ذلك ) يصدق إذا قطع الثوب قميصا وقال لربه أمرتني به وقال صاحبه أمرتك بقباء مثلا
( والصائغ مثل ذلك ) إذا صاغ الفضة أساور وقال صاحبها بل خلاخل ( ويحلفون على ذلك إلا أن يأتوا بأمر لا يستعملون في مثله فلا يجوز قولهم في ذلك وليحلف صاحب الثوب فإنه ردها ) أي اليمين ( وأبى أن يحلف حلف الصباغ ) وكان القول قوله
____________________
(4/49)
( مالك في الصباغ يدفع إليه الثوب فيخطىء به ) أي يدفعه إلى رجل آخر وهذا ظاهر وهو الذي في النسخ القديمة ولم يفهمه من زاد في المتن فيدفعه إلى رجل آخر لأنه عين قوله فيخطىء به ( حتى يلبسه الذي أعطاه إياه أنه لا غرم على الذي لبسه ) لأن الخطأ ليس منه
( ويغرم الغسال لصاحب الثوب وذلك إذا لبس الثوب الذي دفع إليه على غير معرفة بأنه ليس له ) بل ظن أنه ثوبه ( فإن لبسه وهو يعرف أنه ليس ثوبه فهو ضامن له ) لأنه المباشر
31 القضاء في الحمالة والحول ( مالك الأمر عندنا في الرجل يحيل الرجل على الرجل بدين له عليه أنه إن أفلس الذي أحيل عليه أو مات فلم يدع وفاء فليس للمحتال على الذي أحاله شيء وأنه لا يرجع على صاحبه الأول ) أي المحيل ( وهذا الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا ) بالمدينة وتقدم في جامع الدين والبيوع في رواية يحيى حديث مطل الغني ظلم وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع وهو عند جماعة من رواة الموطأ هنا ومر شرحه هناك قاله أبو عمر
( فأما الرجل يتحمل له الرجل بدين له على رجل آخر ثم يهلك المتحمل أو يفلس فإن الذي تحمل له ) بضم التاء مبني للمفعول ( يرجع على غريمه الأول ) لأنه لم ينتقل حقه عن ذمة المتحمل عنه إلى ذمة المتحمل وإنما هو وثيقة فإن أفلس الحميل أو مات لم يبطل حقه على الغريم قاله الباجي
____________________
(4/50)
32 القضاء فيمن ابتاع ثوبا وبه عيب ( مالك إذا ابتاع الرجل ثوبا وبه عيب من حرق أو غيره ) حال كونه ( قد علمه البائع فشهد عليه بذلك أو أقر به فأحدث فيه الذي ابتاعه حدثا من تقطيع ينقص من ثمن الثوب ثم علم المبتاع بالعيب فهو رد على البائع ) لأنه مدلس إن شاء المبتاع ( وليس على الذي ابتاعه غرم في تقطيعه إياه ) وإن شاء أبقاه ورجع بقيمة العيب وإذا رد رجع بالثمن كله ولا يرد ما نقصه فعله فيه إن كان مما جرت العادة به ويشتري له غالبا وإلا كثوب رفيع قطعه جوارب أو رقاع فات رده على المدلس ورجع بقيمة العيب قاله ابن القاسم في المدونة
( وإن ابتاع رجل ثوبا وبه عيب من حرق بنار أو عوار ) بفتح العين بزنة كلام وفي لغة بضمها العيب من شق وخرق بمعجمة وغير ذلك ( فزعم الذي باعه أنه لم يعلم بذلك و ) الحال أنه ( قد قطع الثوب ) بالنصب فاعله ( الذي ابتاعه أو صبغه فالمبتاع بالخيار إن شاء أن يوضع عنه قدر ما نقص الحرق
أو العوار من ثمن الثوب ويمسك الثوب ) يبقيه عنده ( فعل وإن شاء أن يغرم ) يدفع ما نقص ( التقطيع أو الصبغ من ثمن الثوب ويرده فهو في ذلك بالخيار ) تأكيد لما قبله
( فإن كان المبتاع قد صبغ الثوب صبغا يزيد في ثمنه فالمبتاع بالخيار إن شاء أن يوضع عنه قدر ما نقص العيب من ثمن الثوب ) ويتمسك به لأن الصبغ عين ماله ( وإن شاء أن يكون شريكا للذي باعه الثوب فعل ) بأن يرده عليه ويقومه معيبا غير مصبوغ ثم يقومه مصبوغا فيكون المبتاع شريكا بما زاده الصبغ كما قال
( وينظر كم ثمن الثوب وفيه الخرق أو العوار فإن كان ثمنه عشرة دراهم وثمن ما زاد فيه الصبغ خمسة دراهم كانا
____________________
(4/51)
شريكين في الثوب لكل واحد منهما بقدر حصته ) فيكون لصاحبه ثلثاه وللمبتاع الذي رده ثلثه ( فعلى حساب هذا يكون ما زاد الصبغ في ثمن الثوب ) أي قيمته يوم الحكم
33 ما لا يجوز من النحل بضم النون وإسكان الحاء المهملة مصدر نحلة إذا أعطاه بلا عوض وبكسر النون وفتح الحاء جمع نحلة قال تعالى { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } سورة النساء الآية 4 أي هبة من الله لهن وفريضة عليكم
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن حميد ) بضم الحاء ( ابن عبد الرحمن بن عوف ) القرشي الزهري أحد الثقات الإثبات
( وعن محمد بن النعمان بن بشير ) الأنصاري أبي سعيد التابعي الثقة ( أنهما حدثاه ) أي ابن شهاب ( عن النعمان بن بشير ) الخزرجي سكن الشام ثم ولي أمرة الكوفة ثم قتل بحمص سنة خمس وستين وله أربع وستون سنة صحابي وأبواه صحابيان هكذا رواه أكثر أصحاب الزهري وأخرجه النسائي من طريق الأوزاعي عن ابن شهاب أن محمد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن حدثاه عن بشير بن سعد جعله من مسند بشير فشذ بذلك والمحفوظ أنه عنهما عن النعمان ( أنه قال إن أباه بشير ) بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس بضم الجيم وخفة اللام آخره مهملة الخزرجي البدري وشهد غيرها ومات في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة ويقال إنه أول من بايع أبا بكر من الأنصار وقيل عاش إلى خلافة عمر وقد روى هذا الحديث عن النعمان عدد كثير من التابعين منهم عروة بن الزبير عند مسلم وأبي داود والنسائي وأبو الضحى عند النسائي وابن حبان وأحمد والطحاوي والمفضل بن المهلب عند أحمد وأبي داود والنسائي وعبد الله بن عتبة بن مسعود عند أبي عوانة وعامر الشعبي في الصحيحين وأبي داود وأحمد والنسائي وابن ماجه وغيرهم ( أتى به ) ولمسلم من طريق الشعبي عن النعمان انطلق أبي يحملني ( إلى رسول الله ) ولابن حبان فأخذ بيدي وأنا غلام وجمع بينهما بأنه أخذ بيده فمشى معه بعض الطريق وحمله في بعضها لضعف سنه أو عبر عن استتباعه إياه بالحمل ( فقال إني نحلت ) بفتح النون والمهملة وإسكان اللام أي أعطيت ( ابني هذا ) النعمان ( غلاما ) لم يسم ( كان لي ) وفي الصحيحين عن الشعبي عن النعمان أعطاني أبي عطية فقالت
____________________
(4/52)
عمرة بنت رواحة لا أرضى حتى تشهد رسول الله فأتاه فقال إني أعطيت ابني من عمرة عطية ولمسلم والنسائي سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله فالتوى بها سنة أي مطلها ولابن حبان حولين وجمع بأن المدة أزيد من سنة فجبر الكسرة تارة وألغى أخرى قال بداله فوهبها لي فقالت له لا أرضى حتى تشهد النبي ( فقال رسول الله ) زاد في رواية للشيخين فقال ألك ولد سواه قال نعم قال ( أكل ولدك ) بهمزة الاستفهام الاستخباري والنصب بقوله ( نحلته ) أعطيته ( مثل هذا ) ولمسلم أكلهم وهبت له مثل هذا ( قال لا ) وفي رواية ابن القاسم في الموطأ للدارقطني عن مالك قال لا والله يا رسول الله
وقال مسلم لما رواه من طريق الزهري أما يونس ومعمر فقالا أكل بنيك وأما الليث وابن عيينة فقالا أكل ولدك قال الحافظ ولا منافاة بينهما لأن لفظ ولد يشمل الذكور والإناث
وأما لفظ بنين فإن كانوا ذكورا فظاهر وإن كانوا إناثا وذكورا فعلى سبيل التغليب ولم يذكر ابن سعد لبشير ولدا غير النعمان وذكر له بنتا اسمها أبية بموحدة تصغير أبي ( فقال رسول الله فارتجعه ) بهمزة وصل مجزوم أمرا زاد في رواية للبخاري فرجع فرد عطيته أي الغلام وهو ما في أكثر الروايات عن النعمان ومثله في حديث جابر في السلم وفي رواية لابن حبان والطبراني عن الشعبي أن النعمان خطب بالكوفة فقال إن والدي أتى النبي فقال إن عمرة بنت رواحة نفست بغلام وإني سميته النعمان وإنها أبت أن تربيه حتى جعلت له حديقة من أفضل ما هو لي وأنها قالت أشهد رسول الله وفيه قوله لا أشهد على جور وجمع ابن حبان بالحمل على واقعتين إحداهما عند ولادة النعمان وكانت العطية حديقة والأخرى بعد أن كبر النعمان وكانت عبدا قال الحافظ ولا بأس بجمعه لكن يبعد أن ينسى بشير بن سعد مع جلالته حكم المسألة حتى يعود إلى النبي فيشهده على العطية الثانية بعد قوله في الأولى له لا أشهد على جور وجوز ابن حبان أن بشيرا ظن نسخ الحكم وقال غيره إنه حمل الأمر على كراهة التنزيه أو ظن أنه لا يلزم من الامتناع في الحديقة الامتناع في العبد لأن ثمن الحديقة غالبا أكثر من ثمن العبد قال وظهر لي وجه في الجمع سليم من هذا الخدش ولا يحتاج إلى جوابه وهو أن عمرة لما امتنعت من تربيته إلا أن يهب له شيئا وهبه الحديقة تطييبا لخاطرها ثم بدا له فارتجعها لأنه لم يقبضها منه أحد غيره فعاودته عمرة في ذلك فمطلها سنة أو سنتين ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلاما ورضيت عمرة به لكن خشيت أن يرتجعه أيضا فقالت أشهد على ذلك النبي تريد تثبيت العطية وأمن رجوعه فيها ويكون مجيئه لإشهاده مرة واحدة وهي الأخيرة وغاية ما فيها أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض أو كان النعمان يقص تارة بعض القصة ويقص بعضها أخرى فسمع كل ما رواه فاقتصر عليه
وفي رواية للشيخين قال لا تشهدني على جور وفي أخرى لا أشهد على جور
ولمسلم فقال فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور
وله أيضا أشهد على هذا غيري
وفي حديث جابر فليس يصلح
____________________
(4/53)
هذا وإني لا أشهد إلا على حق
وللنسائي وكره أن يشهد له
ولمسلم اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر
ولأحمد إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم فلا تشهدني على جور أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء قال نعم قال فلا إذا
ولأبي داود إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك
وللنسائي إلا سويت بينهم
وله ولابن حبان سو بينهم
واختلاف الألفاظ في هذه القصة الواحدة يرجع إلى معنى واحد وتمسك به من أوجب التسوية في عطية الأولاد كطاوس وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق والبخاري وبعض المالكية والمشهور عن هؤلاء أنها باطلة وعن أحمد تصح وعنه يجوز التفاضل لسبب كأن يحتاج الولد لزمانته أو دينه أو نحو ذلك دون الباقين
وقال أبو يوسف تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار واحتجوا أيضا بأنها مقدمة لواجب لأن قطع الرحم والعقوق محرمان فالمؤدي إليهما حرام والتفضيل يؤدي إليهما ثم اختلفوا في صفة التسوية فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض المالكية والشافعية العدل أن يعطى الذكر حظين كالميراث لأنه حظ الأنثى لو أبقاه الواهب حتى مات وقال غيرهم لا فرق بين الذكر والأنثى وفارق الإرث بأن الوارث راض بما فرض الله له بخلاف هذا وبأن الذكر والأنثى إنما يختلفان في الميراث بالعصوبة أما بالرحم المحددة فهما فيها سواء كالإخوة والأخوات من الأم والهبة للأولاد أمر بها صلة الرحم وظاهر الأمر بالتسوية يشهد لهذا القول واستأنسوا له بحديث ابن عباس رفعه سووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من طريقه وإسناده حسن
وقال الجمهور التسوية مستحبة فإن فضل بعضا صح وكره وندبت المبادرة إلى التسوية أو الرجوع حملا للأمر على الندب والنهي على التنزيه وأجابوا عن حديث النعمان بأجوبة أحدها أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده ولذا منعه فلا حجة فيه على منع التفضيل حكاه ابن عبد البر عن مالك وتعقبه بأن كثيرا من طرق حديث النعمان صريح بالبعضية
وقال القرطبي ومن أبعد التأويلات أن النهي إنما يتناول من وهب جميع ماله لبعض ولده كما ذهب إليه سحنون وكأنه لم يسمع في نفس هذا الحديث أن الموهوب كان غلاما وأنه وهب له لما سألته أمه الهبة من بعض ماله وهذا يعلم منه بالقطع أنه كان له مال غيره
ثانيها أن العطية المذكورة لم تتنجز وإنما جاء بشير يستشير النبي فأشار عليه بأن لا يفعل فترك حكاه الطحاوي وأكثر طرق الحديث ينابذه
ثالثها أن النعمان كان كبيرا ولم يقبض الموهوب فجاز لأبيه الرجوع ذكره الطحاوي وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث خصوصا قوله ارتجعه فإنه يدل على تقدم وقوع القبض والذي تظافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا وكان أبوه قابضا له لصغره فأمر برد العطية بعدما كانت في حكم المقبوض
____________________
(4/54)
رابعها أن قوله فارتجعه دليل على الصحة إذ لو لم تصح الهبة ما صح الرجوع وإنما أمره به لأن الوالد له أن يرجع فيما وهبه لولده وإن كان الأفضل خلاف ذلك لكن استحباب التسوية رجح على ذلك وفي الاحتجاج بذلك نظر والذي يظهر أن معنى ارتجعه أي لا تمض الهبة ولا يلزم من ذلك تقدم صحتها
خامسها أن قوله أشهد على هذا غيري أذن بالإشهاد عليه وإنما امتنع لأنه الإمام فكأنه قال لا أشهد لأن الإمام ليس من شأنه الشهادة وإنما شأنه الحكم حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار وتعقب بأنه لا يلزم من أن الإمام ليس من شأنه الشهادة أن يمتنع من تحملها ولا من أدائها إذا وجبت عليه وقد صرح المحتج بهذا أن الإمام إذا شهد عند بعض نوابه جاز وأما قوله إن أشهد صيغة إذن فليس كذلك بل هو للتوبيخ كما يدل عليه ألفاظ الحديث وبه صرح الجمهور في هذا الموضع
وقال ابن حبان قوله أشهد صيغة أمر والمراد به نفي الجواز وهو كقوله لعائشة اشترطي لهم الولاء
سادسها دل قوله ألا سويت بينهم على أن الأمر للاستحباب والنهي للتنزيه وهذا جيد لولا ورود تلك الألفاظ الزائدة على هذه اللفظة ولا سيما وتلك الرواية وردت بعينها بصيغة الأمر حيث قال سو بينهم
سابعها في مسلم عن ابن سيرين ما يدل على أن المحفوظ في حديث النعمان قاربوا بين أولادكم لا سووا وتعقب بأن المخالفين لا يوجبون المقاربة كما لا يوجبون التسوية
ثامنها التشبيه الواقع في التسوية بينهم بالتسوية منهم في بر الوالدين قرينة على أن الأمر للندب وتعقب بأن إطلاق الجور على عدم التسوية والمفهوم من قوله لا أشهد إلا على حق يدل للوجوب وقد قال في آخر الرواية التي فيها التشبيه فلا إذا لكن في التمهيد يحتمل أنه أراد بقوله إلا على حق الحق الذي لا تقصير فيه عن أعلى مراتب الحق وإن كان ما دونه حقا
وقال غيره الجور الميل عن الاعتدال فالمكروه أيضا جور اه
تاسعها عمل أبي بكر وعمر بعده على عدم التسوية قرينة ظاهرة في أن الأمر للندب فأبو بكر نحل عائشة دون سائر ولده كما يأتي وعمر نحل ابنه عاصما دون سائر أولاده ذكره الطحاوي وغيره
وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك ويجاب بمثله عن قصة عمر
عاشرها انعقاد الإجماع على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده فمن جاز أن يخرج جميع ولده عن ماله جاز له أن يخرج عن ذلك بعضهم ذكره ابن عبد البر أي عن الشافعي وغيره ولا يخفى ضعفه فإنه قياس مع وجود النص وزعم بعضهم أن معنى لا أشهد على جور أي لا أشهد على ميل الأب لبعض أولاده وفيه نظر ويرده قوله في الرواية لا أشهد إلا على حق وفيه أن للأب الرجوع فيما وهبه لابنه وكذا للأم عند أكثر الفقهاء لكن قال مالك إنما ترجع الأم إذا كان الأب حيا ومحل رجوع الأب ما لم يداين الابن أو ينكح للهبة وقال الشافعي له الرجوع مطلقا وفيه ندب التألف بين الإخوة وترك ما يوقع بينهم الشحناء ويورث العقوق للآباء وأن عطية الأب لابنه الصغير في حجره لا يحتاج
____________________
(4/55)
إلى قبض وأن الإشهاد فيها مغن عن القبض وكراهة تحمل الشهادة فيما ليس بمباح وأن الإشهاد في الهبة مشروع لا واجب وجواز الميل إلى بعض الأولاد والزوجات دون بعض وأن للإمام الأعظم أن يتحمل الشهادة ليحكم بعلمه عند من يجيزه أو يؤديها عند بعض نوابه ومشروعية استفصال الحاكم والمفتي عما يحتمل الاستفصال لقوله ألك ولد غيره قال نعم قال أكل ولدك نحلته قال لا قال لا أشهد ففهم منه أنه لو قال نعم لشهد وأن للإمام التكلم في مصلحة الولد والمبادرة إلى قبول الحق وأمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال
قال ابن المنير وفيه إشارة إلى سوء عاقبة الحرص والتنطع لأن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لما رجع فيه فلما اشتد حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى بطلانه وتعقبه في المصابيح بأن إبطالها ارتفع به جور وقع في القصة فليس من سوء العاقبة في شيء والحديث أخرجه البخاري في الهبة عن عبد الله بن يوسف ومسلم في الوصايا عن يحيى كلاهما عن مالك به وطرقه كثيرة في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن عروة بن الزبير عن ) خالته ( عائشة زوج النبي أنها قالت إن أبا بكر الصديق ) عبد الله بن عثمان ( كان نحلها ) بفتحتين ( جاد ) بفتح الجيم والدال المهملة الثقيلة ( عشرين وسقا ) من نخلة إذا جد أي قطع قاله عيسى فهو صفة للثمرة وقال ثابت يعني إن ذلك يجد منها قال الأصمعي هذه أرض جاد مائة وسق أي يجد ذلك منها فهو صفة للنخل التي وهبها ثمرتها يريد نخلا يجد منها عشرون ( من ماله ) يحتمل أنه تأول حديث النعمان ببعض الوجوه التي تقدمت قاله الباجي ( بالغابة ) بمعجمة وموحدة وصحف من قالها بتحتية موضع على بريد من المدينة في طريق الشام ووهم من قال من عوالي المدينة كان بها أملاك لأهلها استولى عليها الخراب وغلط القائل أنها شجر لا مالك له بل لاحتطاب الناس ومنافعهم
( فلما حضرته الوفاة ) أي أسبابها ( قال والله يا بنية ) بتصغير الحنان والشفقة ( ما من الناس أحب إلي غنى بعدي منك ) بكسر الكاف ( ولا أعز ) أشق وأصعب ( علي فقرا بعدي منك ) وفيه أن الغنى أحب إلى الفضلاء من الفقر ( وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا فلو كنت جددتيه ) بفتح الجيم والدال الأولى وإسكان الثانية قطعتيه ( واحتزتيه ) بإسكان الحاء والزاي بينهما فوقية مفتوحة أي حزتيه ( كان لك ) لأن الحيازة والقبض شرط في تمام الهبة فإن وهب الثمرة على الكيل فلا تكون الحيازة إلا بالكيل بعد الجد ولذا قال جددتيه واحتزتيه قاله الباجي
____________________
(4/56)
وقال أبو عمر اتفق الخلفاء الأربع على أن الهبة لا تصح إلا مقبوضة وبه قال الأئمة الثلاثة
وقال أحمد وأبو ثور تصح الهبة والصدقة بلا قبض وروي ذلك عن علي من وجه لا يصح
( وإنما هو اليوم مال وارث وإنما هما أخواك ) عبد الرحمن ومحمد ( وأختاك ) يريد من يرثه بالبنوة لأنه ورثه معهم زوجتاه أسماء بنت عميس وحبيبة بنت خارجة وأبوه أبو قحافة وإن روي أنه رد سدسه على ولد أبي بكر ( فاقتسموه على كتاب الله قالت عائشة فقلت يا أبت والله لو كان كذا وكذا ) كناية عن شيء كثير أزيد مما وهبه لها ( لتركته ) اتباعا للشرع وطلبا لرضاك ( إنما هي أسماء فمن الأخرى فقال أبو بكر ذو ) أي صاحبة ( بطن ) بمعنى الكائنة في بطن حبيبة ( بنت خارجة ) بن زيد بن أبي زهير بن مالك الأنصاري الخزرجي صحابية بنت صحابي شهد بدرا وآخى النبي بينه وبين أبي بكر ويقال أنه استشهد بأحد ( أراها ) بضم الهمزة أظنها ( جارية ) أنثى فلذا قلت أختاك فكان كما ظن رضي الله عنه سميت أم كلثوم قال ابن مزين قال بعض فقهائنا وذلك لرؤيا رآها أبو بكر
( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد ) بدون إضافة ( القاري ) بشد الياء نسبة إلى القارة بطن من خزيمة ( أن عمر بن الخطاب قال ما بال رجال ينحلون ) بفتح أوله وثالثه يعطون ( أبناءهم نحلا ) بضم فسكون عطية بلا عوض ( ثم يمسكونها فإن مات ابن أحدهم قال مالي بيدي لم أعطه أحدا وإن مات هو ) أي الأب ( قال ) قرب موته ( هو لابني قد كنت أعطيته إياه ) ليحرم باقي ورثته ولا يصح له ذلك لعدم الحوز في حياته ( من نحل نحلة فلم يحزها الذي نحلها حتى تكون ) بالتاء أي النحلة وبالياء الذي نحل ( إن مات لورثته فهو باطل ) لأن الحيازة شرط في صحة الملك للهبة
34 ما لا يجوز من العطية ( مالك الأمر عندنا فيمن أعطى أحدا عطية دلا يريد ثوابها ) ممن أعطاها له بل أراد ثواب الله
____________________
(4/57)
تعالى ( فأشهد عليها فإنها ثابتة للذي أعطيها ) للزومها بالقول لكن إنما تتم بالحيازة كما قال ( إلا أن يموت المعطي ) بكسر الطاء ( قبل أن يقبضها الذي أعطيها ) فتبطل كالهبة ( قال وإن أراد المعطي إمساكها بعد أن أشهد عليها فليس ذلك له إذا قام عليه بها صاحبها أخذها ) جبرا عليه ( ومن أعطى عطية ثم نكل الذي أعطى ) قال الباجي يريد أنكر ذلك ( فجاء الذي أعطيها بشاهد يشهد له أنه أعطاه ذلك عرضا كان ذلك أو ذهبا أو ورقا أو حيوانا أحلف الذي أعطي مع شهادة شاهده فإن أبى الذي أعطي أن يحلف حلف المعطي ) بالكسر وبرىء ( وإن أبى أن يحلف أيضا أدى إلى المعطى ) بفتح الطاء ( ما ادعى عليه ) لأن نكوله بمنزلة شاهد ثان ( إذا كان له شاهد واحد فإن لم يكن له شاهد فلا شيء له ) لأنها مجرد دعوى
( ومن أعطى عطية لا يريد ثوابها ) ممن أعطاها له ( ثم مات المعطى ) بفتح الطاء قبل أن يقبضها ( فورثته بمنزلته ) فلهم طلبها من المعطي لأنه حق ثبت لمورثهم ( وإن مات المعطي ) بالكسر ( قبل أن يعطى المعطى ) بالفتح ( عطية فلا شيء له وذلك أنه أعطي ) بضم الهمزة ( عطاء لم يقبضه ) قبل موت من أعطاه فبطلت لعدم الحوز ( فإن أراد المعطي أن يمسكها و ) الحال أنه ( قد أشهد عليها حين أعطاها فليس ذلك له إذا قام صاحبها أخذها ) جبرا عليه وسماه صاحبها لأنه ملكها ولم يبق إلا الحوز
35 القضاء في الهبة ( مالك عن داود بن الحصين ) بمهملتين مصغر ( عن أبي غطفان ) بفتح المهملة والطاء المهملة والفاء يقال اسمه سعد ( ابن طريف ) بفتح المهملة وكسر الراء ( المرى ) بضم الميم وشد الراء بلا نقط
____________________
(4/58)
( أن عمر بن الخطاب قال من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها ) أي لا يجوز له ذلك ولا يعمل برجوعه ( ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب ) أي الجزاء عليها ممن وهبها له ( فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها ) من الموهوب له ومحل رجوعه ما لم تفت كما قال
( مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أن الهبة إذا تغيرت عند الموهوب له للثواب بزيادة أو نقصان فإن على الموهوب له أن يعطي صاحبها ) أي الواهب ( قيمتها يوم قبضها ) لفواتها
36 الاعتصار في الصدقة ( مالك الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه أن كل من تصدق على ابنه بصدقة قبضها الابن ) الكبير الرشيد ( أو كان في حجر أبيه ) لصغر أو غيره ( فأشهد ) الأب ( له على صدقته فليس له أن يعتصر ) أن يرتجع ( شيئا من ذلك لأنه لا يرجع في شيء من الصدقة ) ولو على ولده لعموم قوله صلى الله عليه وسلم العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه وقوله لا تعد في صدقتك رواهما الإمام في الزكاة
( والأمر عندنا فيمن نحل ولده نحلا ) بضم فسكون ( أو أعطاه عطاء ليس بصدقة أن له أن يعتصر ذلك ) أي يرجع في هبته لحديث ابن عباس رفعه لا يحل لأحد أن يرجع في هبته إلا الوالد ( ما لم يستحدث ) أي يحدث ( الولد دينا يداينه الناس به ويأمنونه عليه من أجل ذلك العطاء الذي أعطاه أبوه وليس لأبيه أن يعتصر من ذلك شيئا بعد أن تكون عليه الديون ) لأنه ورطه بالهبة حتى أدان ( أو يعطي الرجل ابنه ) الذكر ( أو ابنته ) الأنثى ( فتنكح المرأة الرجل وإنما تنكحه لغناه وللمال الذي أعطاه أبوه ) عطف علة على معلول أي
____________________
(4/59)
لغناه ( بالمال فيريد الأب أن يعتصر ذلك أو يتزوج الرجل المرأة قد نحلها أبوها النحل إنما يتزوجها ويرفع ) يزيد ( في صداقها لغناها ومالها وما أعطاها أبوها ثم يقول الأب أنا أعتصر ذلك فليس له أن يعتصر من ابنه ولا من ابنته شيئا من ذلك إذا كان على ما وصفت لك ) من أنه هبة ليس بصدقة فله الاعتصار ما لم يداين أو ينكح لأجلها أما الصدقة فلا رجوع فيها وإن لم يداين ولا نكح لأنها إنما يراد بها وجه الله تعالى
37 القضاء في العمرى بضم المهملة وسكون الميم مع القصر وحكي ضم العين والميم وفتح العين وإسكان الميم يقال أعمرته دارا أو أرضا أو إبلا إذا أعطيته إياها وقلت له هي لك عمرى أو عمرك فإذا مت رجعت إلي قال لبيد وما المال إلا معمرات ودائع ولا بد يوما أن ترد الودائع واصطلاحا قال الباجي هي هبة منافع الملك عمر الموهوب له أو مدة عمره وعمر عقبه لا هبة الرقبة
ابن عبد البر وسواء عند مالك وأصحابه ذكر ذلك بلفظ العمرى أي كقوله أعمرتك داري أو الاعتمار أو السكنى أو الاغتلال أو الإرفاق أو الانحال أو نحو ذلك من ألفاظ العطايا
( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن أبي سلمة ) إسماعيل أو عبد الله أو اسمه كنيته ( ابن عبد الرحمن ) بن عوف الزهري ( عن جابر بن عبد الله ) الأنصاري الصحابي ابن الصحابي ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما ) مركبة من أي اسم ينوب مناب حرف الشرط ومن ما الزائدة للتعميم ( رجل ) بجره بإضافة أي إليه ورفعه بدل من أي وما زائدة وذكره غالبي والمراد إنسان ( أعمر ) بضم أوله مبني للمفعول ( عمرى ) كأعمرتك هذه الدار مثلا ( له ولعقبه ) بكسر القاف ويجوز إسكانها مع فتح العين وكسرها أولاد الإنسان ما تناسلوا ( فإنها للذي يعطاها ) وفي رواية أعطيها ( لا ترجع إلى الذي أعطاها أبدا ) هذا آخر المرفوع وقوله ( لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ) مدرج من قول أبي سلمة بين ذلك ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى فيمن أعمر عمرى له
____________________
(4/60)
ولعقبه فهي له بتلة لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا مثنوية قال أبو سلمة لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث فوقعت المواريث شرطه رواه مسلم قال ابن عبد البر جوده ابن أبي ذئب فبين فيه موضع الرفع وجعل سائره من قول أبي سلمة خلاف قول محمد بن يحيى الذهلي أنه من قول الزهري ورواه الليث عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر مرفوعا من أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها وهي لمن أعمرها ولعقبه أخرجه مسلم فلم يذكر التعليل وله من طريق معمر عنه إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هي لك ولعقبك فأما إذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها قال معمر وكان الزهري يفتي به
ولمسلم أيضا من طريق أبي الزبير عن جابر قال جعل الأنصار يعمرون المهاجرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم امسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا ولعقبه وفيه صحة العمرى وإليه ذهب الجمهور إلا ما حكي عن داود وطائفة لكن ابن حزم قال بصحتها وهو شيخ الظاهرية ثم الجمهور إنها تتوجه إلى الرقبة كسائر الهبات
وقال مالك والشافعي في القديم تتوجه إلى المنفعة دون الرقبة ففي رجوعها إليه معقبة أم لا قول مالك أولا مطلقا
وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد ورجوعها إن لم تعقب لا إن عقبت وهو قول ابن شهاب قيل وهو أسعد بظاهر الحديث وأجاب عنه بعض المالكية بأن المراد منه أنه إذا أعطى المنافع لرجل ولعقبه فلا يبطل حق عقبه بموته بل حتى ينقرض العقب قال ابن عبد البر ومن أحسن ما احتجوا به أن ملك المعطي المعمر ثابت بإجماع قبل أن يحدث العمرى فلما أحدثها اختلف العلماء فقال بعضهم قد زال لفظه ذلك ملكه عن رقبة ما أعمره وقال بعضهم لم يزل ملكه عن رقبة ماله بهذا اللفظ فالواجب بحق النظر أن لا يزول ملكه إلا بيقين وهو الإجماع لأن الاختلاف لا يثبت به يقين وقد ثبت الأعمال بالنيات وهذا الرجل لم ينو بلفظه ذلك إخراج شيئه عن ملكه وقد اشترط فيه شرطا فهو على شرطه لحديث المسلمون على شروطهم اه
وحاصل ما اجتمع من روايات الحديث مسابقة ثلاثة أحوال أحدها أن يقول هي لك ولعقبك فهذا صريح في أنها له ولعقبه لا ترجع إلى المعمر حتى ينقرض العقب عند مالك وعند غيره لا ترجع أبدا
ثانيها أن يقول هي لك ما عشت فإذا مت رجعت إلي فهذه عارية مؤقتة وهي صحيحة فإذا مات رجعت إلى المعطي وقد بينت هذه والتي قبلها رواية الزهري وبه قال أكثر العلماء ورجحه جماعة من الشافعية والأصح عند أكثرهم لا ترجع وقالوا إنه شرط فاسد ملغى والحديث يرد عليهم
ثالثها أن يقول أعمرتكها ويطلق فرواية أبي الزبير أن حكمها كالأولى ثم في رجوعها للمعمر الخلاف فمالك ترجع وغيره لا ترجع
وأما الرقبى فمنعها مالك وأبو حنيفة وجماعة وأجازها الأكثر
وللنسائي من مرسل عطاء نهى صلى الله عليه وسلم عن العمرى والرقبى قلت وما الرقبى قال يقول الرجل للرجل هي لك حياتك فإن فعلتم فهو جائز
____________________
(4/61)
وللنسائي أيضا عن عطاء عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر مرفوعا لا عمرى ولا رقبى ومن أعمر شيئا أو أرقبه فهو له حياته ومماته رجاله ثقات لكن في سماع حبيب له من ابن عمر خلاف فأثبته النسائي في طريق ونفاه في أخرى وجمع بين هذا النفي والإثبات بأن النهي إرشادي لإمساك المال كما في الحديث الآخر السابق فالرقبى بهذا التفسير هي بمعنى العمرى وهذه لم يمنعها مالك بل ترجع إلى صاحبها وإنما منع الرقبى بمعنى أن يكون لشخصين داران لكل دار فيقول كل واحد منهما لصاحبه إن مت قبلي فهما لي وإن مت قبلك فهما لك من المراقبة لأن كلا منهما يرقب موت صاحبه وهذا الحديث أخرجه مسلم في الوصايا تلو الفرائض عن يحيى عن مالك به وتابعه جماعة في مسلم أيضا بنحوه
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن عبد الرحمن بن القاسم ) بن محمد بن الصديق شيخ الإمام روى عنه هنا بواسطة ( أنه سمع مكحولا ) أبا عبد الله الثقة الفقيه المشهور ( الدمشقي ) بكسر الدال وفتح الميم ويقال بكسرهما نسبة إلى دمشق البلد المعروفة بالشام المتوفى سنة بضع عشرة ومائة ( يسأل القاسم بن محمد عن العمرى وما يقول الناس فيها قال القاسم بن محمد ) مجيبا له ( ما أدركت الناس ) والقاسم أدرك جماعة من الصحابة وكبار التابعين قاله أبو عمر ( إلا وهم على شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا ) فإنما يلزمهم ما أرادوه من تمليك المنفعة لا الذات خلافا لمن فهمه من ظاهر قوله لا ترجع إلى الذي أعطاها أبدا فإنه ليس كذلك لاحتمال أن معناه حتى ينقرض العقب
( قال مالك وعلى ذلك الأمر عندنا ) بدار الهجرة مع روايتهم للحديث فهم أدرى بمعناه ولم يأخذوا بالتعليل الظاهر في ملك الذات لأنه مدرج ليس من قوله صلى الله عليه وسلم
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر ورث حفصة بنت عمر ) أم المؤمنين ( دارها ) بالنصب ( قال وكانت حفصة قد أسكنت بنت زيد بن الخطاب ) دارها المذكورة ( ما عاشت فلما توفيت بنت زيد ابن الخطاب قبض عبد الله بن عمر المسكن ورأى أنه له ) لأن الإسكان بمعنى العمرى وهي ترجع لوارث المعمر أو المسكن لكن في التمهيد هذا مع ما رواه معمر عن أيوب عن حبيب بن أبي ثابت قال
____________________
(4/62)
سمعت ابن عمر وسأله أعرابي أعطى ابنه ناقة له حياته فأنتجها فكانت له فقال ابن عمر هي له حياته وموته قال أفرأيت إن كان تصدق عليه قال فذلك أبعد له يدل على أن مذهب ابن عمر أن العمرى خلاف السكنى وعليه الأكثر
38 القضاء في اللقطة اللقطة الشيء الذي يلتقط وهي بضم اللام وفتح القاف على المشهور عند أهل اللغة والمحدثين وقال عياض لا يجوز غيره وقال الزمخشري في الفائق بفتح القاف والعامة تسكنها اه
لكن جزم الخليل بالسكون قال وأما بالفتح فهو اللاقط وقال الأزهري ما قاله هو القياس لكن الذي سمع من العرب وأجمع عليه أهل اللغة والحديث الفتح وفيها لغة ثالثة لقاطة بضم اللام ورابعة لقطة بفتح اللام ووجه بعض المتأخرين فتح القاف في المأخوذ بأنه للمبالغة فيما اختصت به وهو أن كل من يراها يميل لأخذها فسميت باسم الفاعل لذلك
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ) فروخ المعروف بربيعة الرأي بسكون الهمزة ( عن يزيد ) بتحتية فزاي المدني الصدوق ( مولى المنبعث ) بضم الميم وسكون النون وفتح الموحدة وكسر المهملة بعدها مثلثة وهو صحابي نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حصار الطائف وكان يسمى المضطجع فسماه المنبعث وكان من موالي آل عثمان بن عامر بن معتب ذكره ابن إسحاق ( عن زيد بن خالد الجهني ) بضم الجيم وفتح الهاء الصحابي المشهور رضي الله عنه ( أنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال الحافظ زعم ابن بشكوال وعزاه لأبي داود أنه بلال المؤذن ولم أره في شيء من نسخ أبي داود ويبعده رواية الشيخين جاء أعرابي وبلال لا يوصف بذلك وقيل هو الراوي لرواية الطبراني عن زيد أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وفيه بعد لما ذكرنا وقد رواه أحمد عن زيد أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أو أن رجلا سأل على الشك وأيضا ففي رواية لمسلم عن زيد بن خالد أتى رجل وأنا معه فدل أنه غيره ولعله نسب السؤال إلى نفسه لأنه كان مع السائل ثم ظهرت لي تسمية السائل وذلك فيما أخرجه الحميدي والبغوي وابن السكن والباوردي والطبراني كلهم من طريق محمد بن معن الغفاري عن ربيعة عن عقبة بن سويد الجهني عن أبيه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة الحديث وهو أولى ما فسر به هذا المبهم لكونه من رهط زيد ابن خالد وروى أبو بكر بن أبي شيبة والطبراني عن أبي ثعلبة الخشني قال قلت يا رسول الله الورق توجد عند القرية قال عرفها حولا الحديث وفيه سؤاله عن الشاة والبعير وجوابه وهو في أثناء حديث طويل أخرجه النسائي
وروى الإسماعيلي في الصحابة من طريق مالك بن عمير عن أبيه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال
____________________
(4/63)
إن وجدت من يعرفها فادفعها إليه الحديث وإسناده واه جدا
وروى الطبراني عن الجارود العبدي قال قلت يا رسول الله اللقطة نجدها قال أنشدها ولا تكتم ولا تغيب الحديث اه
يعني فيحتمل تفسير المبهم أيضا بأبي ثعلبة أو عمير والجارود لكن يرجح أنه سويد كونه من رهط زيد الراوي كما قال وإن تعقب بأنه لا يلزم من كون سويد من رهط زيد أن يكون حديثهما واحدا بحسب الصورة وإن كانا في المعنى من باب واحد فإن هذا جمود فالحافظ لم يجزم بأنه هو بدليل ذكره الروايات المصرحة بغيره وإنما رجحه بقوله أولى للتعليل المذكور ولا شك أنه من وجوه الترجيحات عندهم ( فسأله عن اللقطة ) هكذا في أكثر الروايات وفي رواية سفيان الثوري عن ربيعة فسأله عما يلتقطه زاد مسلم من طريق يحيى بن سعيد عن يزيد الذهب والفضة وهو كالمثال وإلا فلا فرق بينهما وبين الجوهر واللؤلؤ وغير ذلك مما يستمتع به غير الحيوان في تسميته لقطة وإعطائه حكمها وهو ( فقال أعرف عفاصها ) بكسر العين المهملة ففاء خفيفة فألف فصاد مهملة أي وعاءها الذي يكون فيه النفقة جلدا كان أو غيرها من العفص وهو المثنى أي لأن الوعاء يثنى على ما فيه ( ووكاءها ) بكسر الواو الثانية وبالهمزة ممدود الخيط الذي يشد به الصرة والكيس ونحوهما زاد مسلم من وجه آخر عن زيد وعددها وكذا في حديث أبي بن كعب ليعرف صدق مدعيها عند طلبها وفي وجوب هذه المعرفة وندبها قولان أظهرهما الوجوب لظاهر الأمر وقيل يجب عند الالتقاط ويستحب بعده فعلى الوجوب إذا عرف بعض الصفات دون بعض قال ابن القاسم لا بد من ذكر جميعها وكذا قال أصبغ لكن قال لا يشترط معرفة العدد قيل وقول ابن القاسم أقوى لثبوت ذكر العدد في الرواية الأخرى وزيادة الحافظ حجة
( ثم عرفها ) بكسر الراء الثقيلة أي اذكرها للناس ( سنة ) بمظان طلبها كأبواب المساجد والأسواق ونحوهما يقول من ضاعت له نفقة ونحو ذلك من العبارات ولا يذكر شيئا من الصفات قال العلماء يعرفها في كل يوم مرتين ثم مرة ثم في كل أسبوع ثم في كل شهر ولا يشترط أن يعرفها بنفسه بل يجوز توكيله
قال الحافظ هكذا روى مالك والأكثر عن ربيعة أن التعريف بعد معرفة ما ذكر من العلامات
وفي رواية سفيان عن ربيعة عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها فجعل التعريف يسبق المعرفة ووافقه عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن أبيه عن أبي داود وجمع النووي بأن يكون مأمورا بالمعرفة في حالتين فيعرف العلامات أول ما يلتقط حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها ثم بعد تعريفها سنة إذا أراد أن يتملكها فيعرفها مرة أخرى تعرفا وافيا محققا ليعلم قدرها وصفتها فيردها إلى صاحبها
قلت ويحتمل أن يكون ثم في الروايتين بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيبا ولا تقتضي تخالفا يحتاج إلى الجمع ويقويه أن المخرج واحد والقصة واحدة وإنما يحسن ما تقدم لو اختلف المخرج فيحمل على تعدد القصة وليس الغرض إلا أن يقع التعرف والتعريف مع قطع النظر عن أيهما أسبق ثم أنه لم يختلف في حديث زيد أن التعريف سنة واحدة
وفي حديث أبي بن كعب في الصحيحين وجدت صرة فيها مائة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال عرفها
____________________
(4/64)
حولا فعرفتها حولا ثم أتيته فقال عرفها حولا فعرفتها حولا ثم أتيته فقال عرفها حولا فعرفتها حولا ثم أتيته الرابعة فقال أعرف عددها ووكاءها ووعاءها فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها وجمع بينهما بحمل حديث أبي على مزيد التورع عن التعرف في اللقطة والمبالغة في التعفف عنها وحديث زيد على ما لا بد منه أو لاحتياج الأعرابي واستغناء أبي
وقال ابن الجوزي يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم علم أن تعريفها لم يقع على الوجه الذي ينبغي فأمر ثانيا بإعادة التعريف كما قال للمسيء صلاته ارجع فصل فإنك لم تصل قال الحافظ ولا يخفى بعد هذا على مثل أبي مع أنه من فقهاء الصحابة وفضلائهم
وقد حكى صاحب الهداية من الحنفية رواية عندهم أن التعريف مفوض للملتقط فعليه أن يعرفها حتى يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك
( فإن جاء صاحبها ) فأدها إليه فجواب الشرط محذوف وقد ثبت في البخاري من رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة بلفظ فإن جاء ربها فأدها إليه وله من رواية سفيان عن ربيعة فإن جاء أحد يخبرك بعفاصها ووكائها فبهذا أخذ مالك وأحمد أنها تدفع لمن عرف العفاص والوكاء
وقال أبو حنيفة والشافعي لمن وقع في نفسه صدقه جاز أن تدفع إليه ولا يجبر على ذلك إلا ببينة لأنه قد يصيب الصفة ووجه الأول أن هذا فائدة قوله أعرف عفاصها الخ وقد صحت هذه اللقطة أي الأمر بدفعها لمن عرف العفاص والوكاء في حديث زيد وفي حديث أبي بن كعب أيضا بلفظ فأعطها إياه عند مسلم وأحمد وأبي داود والترمذي والنسائي من طرق فتعين المصير إليها ويخص ذلك من عموم حديث البينة على المدعي وقول أبي داود إنها غير محفوظة وتمسك به من حاول تضعيفها غير صواب بل هي صحيحة وليست بشاذة وما اعتل به بعضهم من أنه وصفها فأصاب فدفعها إليه فجاء آخر فوصفها فأصاب لا يقتضي الطعن في الثاني لأنه يصير الحكم حينئذ كما لو دفعها إليه ببينة فجاء آخر فأقام بينة أخرى أنها له وفي ذلك تفاصيل للمالكية وغيرهم
( وإلا ) يجيء صاحبها ( فشأنك ) بالنصب أي الزم شأنك أي حالك ( بها ) أي تصرف فيها ويجوز الرفع بالابتداء والخبر بها أي شأنك متعلق بها وفي حديث أبي فاستمتع بها ولمسلم من طريق ابن وهب عن سفيان وغيره عن ربيعة فإن لم يأت لها طالب فاستنفقها وفيه أن اللاقط يملكها بعد انقضاء مدة التعريف لأن قوله شأنك بها تفويض إلى اختياره والأمر في قوله فاستنفقها للإباحة وفي اشتراط التلفظ بالتملك وكفاية النية وهو الأرجح دليلا ودخولها في ملكه بمجرد الالتقاط أقوال وقد روى الحديث سعيد بن منصور عن الدراوردي عن ربيعة بلفظ وإلا فتصنع بها ما تصنع بمالك وإذا تصرف فيها بعد تعريفها ثم جاء صاحبها ضمنها له فيردها إن كانت باقية وبدلها إن استهلكت عند الجمهور
ففي مسلم ولتكن وديعة عندك وله أيضا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها فإن جاء صاحبها فأدها إليه فظاهره وجوب ردها بعد أكلها فيحمل على رد البدل أو فيه حذف يدل عليه بقية الروايات والتقدير ثم كلها إن لم يجىء صاحبها فإن جاء الخ
وأصرح منه رواية أبي داود بلفظ فإن جاء صاحبها فأدها إليه وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها فإن جاء باغيها فأدها إليه فأمر بأدائها قبل الإذن في أكلها وبعده
وفي أبي داود من طريق عبد الله بن يزيد عن أبيه عن زيد فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا فعرف وكاءها وعفاصها ثم اقبضها في مالك فإن جاء صاحبها فادفعها إليه
( قال ) السائل ( فضالة الغنم ) أي ما حكمها فحذف ذلك للعلم به
____________________
(4/65)
قال العلماء الضالة لا تقع إلا على الحيوان وما سواه يقال له لقطة ( يا رسول الله قال ) هي ( لك ) إن أخذتها فهو إشارة إلى إباحة أخذها كأنه قيل هي ضعيفة لعدم الاستقلال معرضة للهلاك مترددة بين أن تأخذها أنت فتكون لك ( أو لأخيك ) في الدين إن لم تأخذها والمراد به ما هو أعم من صاحبها أو من ملتقط آخر كذا قيل وعورض بأن البلاغة تقتضي أن لا يقترن صاحبها بالدين العادي فالمراد ملتقط آخر
( أو للذئب ) والمراد به جنس ما يأكل الشاة من السباع وفيه حث على أخذها لأنه إذا علم أنه إذا لم يأخذها تعينت للذئب كان ذلك أدعى إلى أخذها
وفي رواية للبخاري خذها فإنما هي لك الخ
وهو صريح في الأمر بالأخذ فيدل على رد إحدى الروايتين عند أحمد بترك التقاط الشاة وتمسك به مالك على أنه إذا وجدها في فلاة ملكها ولا يلزمه بدلها ولا تعريفها لأن اللام للملك بخلاف قوله في غيرها فاستمتع بها فإن ظاهره أنه ليس على وجه التملك إذ لو كان له لم يقتصر على التمتع ولأنه سوى بين الذئب والملتقط والذئب لا غرامة عليه فكذلك الملتقط وقال الأكثر يجب تعريفها فإذا انقضت مدة التعريف أكلها إن شاء وغرم لصاحبها وقالوا إن اللام ليست للتمليك لأنه قال أو للذئب وهو لا يملك باتفاق وقد أجمعوا على أن مالكها لو جاء قبل أن يأكلها الواجد لأخذها ويرد بأن اللام للملك وأطلقت على الذئب للمشاكلة أو التغليب فلا يمنع كونها للتمليك وأما الإجماع فليس من محل النزاع فلا يرد نقضا فإن التقطها في الفلاة ودخل بها العمران أو التقطها في العمران وجب التعريف وصارت لقطة وعليه يحمل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في ضالة الشاة فاجمعها حتى يأتيها باغيها رواه أبو داود والترمذي والنسائي
وأما قول النووي احتج أصحابنا بقوله في الرواية الأخرى فإن جاء صاحبها فأعطها إياه وأجابوا عن رواية مالك بأنه لم يذكر الغرامة ولا نفاها فثبت حكمها بدليل آخر فتعقبه الحافظ بأنه يوهم أن الرواية الأخرى من روايات مسلم فيها ذكر حكم الشاة إذا أكلها الملتقط ولم أر ذلك في شيء من روايات مسلم ولا في غيره في حديث زيد بن خالد
( قال ) السائل ( فضالة الإبل ) ما حكمها ( قال مالك ولها ) استفهام إنكاري وفي رواية فغضب حتى احمرت وجنتاه أو وجهه وفي أخرى فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم بشد العين المهملة أي تغير من الغضب
وفي أخرى فذرها حتى يلقاها ربها ( معها سقاؤها ) بكسر المهملة والمد جوفها أي حيث وردت الماء شربت ما يكفيها حتى ترد ماء آخر وقيل عنقها فتشرب من غير ساق يسقيها لطوله
( وحذاؤها ) بكسر الحاء المهملة وبالذال المعجمة والمد أخفافها فتقوى بها على السير وقطع البلاد البعيدة
قال ابن دقيق العيد لما كانت مستغنية عن الحافظ والمتعهد وعن النفقة عليها بما ركب في طبعها من الجلد على العطش والجفاء عبر عن ذلك بالسقاء والحذاء مجازا وبالجملة فالمراد النهي عن التعرض لها لأن الأخذ إنما هو للحفظ على صاحبها إما بحفظ العين أو بحفظ القيمة وهي لا تحتاج إلى حفظ لأنها محفوظة بما خلق الله فيها من القوة والمنعة وما يسر لها من الأكل والشرب كما قال
( ترد الماء ) فتشرب منه بلا تعب ( وتأكل من
____________________
(4/66)
الشجر ) بسهولة لطولها وطول عنقها ( حتى يلقاها ربها ) أي مالكها
وفي رواية فذرها حتى يلقاها ربها والجمهور على القول بظاهر الحديث أنها لا تلتقط قال العلماء وحكمته أن بقاءها حيث ضلت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلبه لها في رحال الناس
وقال الحنفية الأولى أن تلتقط وحمل بعضهم النهي على من التقطها للتملك لا ليحفظها فيجوز له وهو قول الشافعية وفيه جواز الالتقاط لاشتماله على مصلحة حفظها وصيانتها عن الخونة وتعريفها لتصل إلى صاحبها ومن ثم كان الأرجح من مذاهب العلماء أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فمتى رجح أخذها وجب أو استحب ومتى رجح تركها حرم أو كره وإلا فهو جائز
وأخرجه البخاري في اللقطة عن عبد الله بن يوسف وفي المساقاة عن إسماعيل ومسلم في القضاء عن يحيى كلهم عن مالك به وتابعه السفيانان وإسماعيل بن جعفر وسليمان بن بلال في الصحيحين وغيرهما وله طرق عندهم
( مالك عن أيوب بن موسى ) بن عمرو بن سعيد بن العاصي المكي الأموي الثقة المتوفى سنة اثنين وثلاثين ومائة ( عن معاوية بن عبد الله بن بدر الجهني ) بضم الجيم وفتح الهاء نسبة إلى جهينة قبيلة من قضاعة ( أن أباه ) الصحابي قال ابن سعد كان اسمه عبد العزى فغيره النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله ومات في خلافة معاوية وقال ابن حبان كان حامل لواء جهينة يوم الفتح وذكر ابن شاهين أنه شهد أحدا وخط له النبي صلى الله عليه وسلم خطا وهو أول من خط مسجدا بالمدينة
( أخبره أنه نزل منزل ) أي موضع نزول ( قوم بطريق الشام ) نزلوا فيه ثم ارتحلوا ( فوجد صرة ) بضم الصاد وشد الراء جمعها صرر ( فيها ثمانون دينارا فذكرها لعمر بن الخطاب ) أمير المؤمنين ( فقال له عمر عرفها على أبواب المساجد ) لأنه مظنة طلبها ( واذكرها لكل من يأتي من الشام ) كأن يقول من ضاع له منكم نفقة ( سنة فإذا أمضت السنة فشأنك بها ) بالنصب والرفع كما مر أي تصرف فيها وفائدة ذكره بعد المرفوع الإشارة إلى استمرار العمل بأن التعريف سنة لا أزيد وإنه على أبواب المسجد
( مالك عن نافع أن رجلا ) لم يسم ( وجد لقطة فجاء إلى عبد الله بن عمر فقال إني وجدت لقطة فماذا ترى فيها فقال عبد الله بن عمر عرفها قال قد فعلت ) أي عرفتها ( قال زد قال قد فعلت فقال له عبد الله بن عمر لا آمرك أن تأكلها ) أي تملكها بلا ضمان ( ولو شئت لم تأخذها ) وكان يرى كراهة الالتقاط مطلقا
____________________
(4/67)
39 القضاء في استهلاك اللقطة ( مالك الأمر عندنا في العبد يجد اللقطة فيستهلكها ) أي يهلكها بالتصرف فيها ( قبل أن يبلغ الأجل الذي أجل في اللقطة وذلك سنة إنها ) جناية ( في رقبته ) فيخير سيده ( إما أن يعطي سيده ثمن ما استهلك غلامه وإما أن يسلم إليهم غلامه وإن أمسكها حتى يأتي الأجل الذي أجل في اللقطة ) في الحديث وهو سنة ثم استهلكها كانت دينا عليه يتبع به إذا عتق ( ولم يكن في رقبته ولم يكن على سيده فيها شيء ) وليس لسيده أن يسقطها عنه لأن صاحبها لم يسلط يده عليها ولولا الشبهة لكانت في رقبته وليس له منعه من التعريف لأنه لا يقطعه عن تصرفه لسيده فيعرفها حين تصرفه له
40 القضاء في الضوال جمع ضالة مثل دابة ودواب والأصل في الضلال الغيبة ومنه قيل للحيوان الضائع ضالة بالهاء للذكر والأنثى والجمع الضوال ويقال لغير الحيوان ضائع ولقطة وضل البعير غاب وخفي عن موضعه وأضللته بالألف فقدته قاله الأزهري
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سليمان بن يسار ) بفتح الياء والسين الخفيفة الفقيه ( أن ثابت بن الضحاك ) ابن خليفة ( الأنصاري ) الأشهلي الصحابي الشهير المتوفى سنة أربع وستين على الصواب ووهم من قال سنة خمس وأربعين ( أخبره أنه وجد بعيرا بالحرة ) بفتح المهملة والراء الثقيلة أرض ذات حجارة سود بظاهر المدينة ( فعقله ) شده بالعقال وهو الحبل ( ثم ذكره لعمر بن الخطاب فأمره عمر بن الخطاب أن يعرفه ثلاث مرات فقال له ثابت إنه قد شغلني ) منعني ( عن ضيعتي ) بفتح الضاد عقاري ( فقال له عمر أرسله حيث وجدته ) أي في المكان الذي وجدته فيه
____________________
(4/68)
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب ) بكسر الياء وفتحها ( أن عمر بن الخطاب قال وهو مسند ظهره إلى الكعبة من أخذ ضالة فهو ضال ) عن طريق الصواب أو آثم أو ضامن إن هلكت عنده عبر به عن الضمان للمشاكلة وذلك أنه إذا التقطها فلم يعرفها فقد أضر بصاحبها وصار سببا في تضليله عنها فكان مخطئا ضالا عن الحق وأصل هذا حديث مرفوع أخرجه أحمد ومسلم والنسائي عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها فقيد الضلال بعدم التعريف فلا حجة لمن كره اللقطة مطلقا في أثر عمر هذا ولا في قوله صلى الله عليه وسلم ضالة المسلم حرق النار أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن الجارود العبدي لأن الجمهور حملوهما على من لم يعرفها جمعا بين الحديثين وحرق بفتح الحاء والراء وقد تسكن أي يؤدي أخذها للتمليك إلى النار فهو تشبيه بليغ بحذف الأداة للمبالغة
( مالك أنه سمع ابن شهاب يقول كانت ضوال الإبل في زمان عمر بن الخطاب إبلا مؤبلة ) كمعظمة هي في الأصل المجعولة للقنية كما قال الجوهري وغيره فهو تشبيه بليغ بحذف الأداة أي كالمؤبلة المقتناة في عدم تعرض أحد إليها واجتزائها بالكلأ كما أوضحه بقوله ( تناتج ) بحذف إحدى التائين أي تتناتج بعضها بعضا كالمقتناة ( لا يمسكها أحد ) للنهي عن التقاطها ( حتى إذا كان زمان عثمان بن عفان أمر بتعريفها ) بعد التقاطها خوفا من الخونة ( ثم تباع فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها ) لأن هذا أضبط له
41 صدقة الحي عن الميت وفي نسخة على بدل عن وكلاهما حسن
( مالك عن سعيد ) بفتح السين وكسر العين بعدهما تحتية قال ابن عبد البر هكذا قال يحيى وابن وهب وابن القاسم وابن بكير والأكثر وقال القعنبي سعد أي بسكون العين بلا ياء قال والصواب الأول ( ابن عمرو ) بفتح العين ( ابن شرحبيل ) بضم الشين المعجمة وفتح الراء وإسكان المهملة وكسر الموحدة وإسكان التحتية ولام ( ابن سعيد ) هكذا رواه ابن وضاح عن يحيى وهو الصواب وصحفه ابنه
____________________
(4/69)
عبد الله فقال عن سعيد ( ابن سعد بن عبادة ) الأنصاري المدني ثقة عدل من شيوخ الإمام له عنه في مرفوع الموطأ هذا الحديث الواحد ( عن أبيه ) عمرو الأنصاري الخزرجي الثقة ( عن جده ) شرحبيل مقبول ثقة أو أراد جده الأعلى سعيد بن سعد بن عبادة أو ضمير جده لعمرو بن شرحبيل فيكون متصلا ولذا قال ابن عبد البر هذا الحديث مسند لأن سعيد بن سعد بن عبادة له صحبة روى عنه أبو أمامة بن سهل بن حنيف وغيره وشرحبيل ابنه غير نكير أن يلقى جده سعد بن عبادة وقد رواه عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي سلمة عن مالك عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل عن أبيه عن جده عن سعد بن عبادة أنه خرج الحديث وهذا يدل على الاتصال وهو الأغلب منه وكذا رواه الدراوردي عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل عن سعيد بن سعد بن عبادة عن أبيه أن أمه توفيت الحديث أخرج الطريقين في التمهيد وإنما يتم له أن ما في الموطأ موصول بجعل ضمير جده عائدا على عمرو بن شرحبيل فيكون جده سعيد بن سعد بن عبادة وهو صحابي ابن صحابي أما إذا عاد الضمير على سعيد بن عمرو شيخ مالك فمرسل لأن جده شرحبيل تابعي إلا أن يريد جده الأعلى فيكون موصولا ولوح لهذا في فتح الباري بقوله الراوي في الموطأ سعيد بن سعد بن عبادة أو ولده شرحبيل مرسلا ( أنه قال خرج سعد بن عبادة ) سيد الخزرج أحد النقباء والأجواد المتوفى سنة خمس عشرة بالشام ( مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه ) هي غزوة دومة الجندل وكانت في ربيع الأول سنة خمس كما في طبقات ابن سعد ( فحضرت أمه ) بالنصب مفعول فاعله ( الوفاة بالمدينة ) وهي عمرة بنت مسعود وقيل بنت سعد بن قيس بن عمرو الخزرجية أسلمت وبايعت ( فقيل لها أوصي ) بشيء ( فقالت فيم ) أي في أي شيء ( أوصي ) ولا مال لي ( إنما المال مال سعد ) ابني ( فتوفيت قبل أن يقدم سعد ) من الغزو ( فلما قدم سعد بن عبادة ذكر ) بضم الذال وكسر الكاف ( ذلك ) الذي قالت أمه ( له ) لسعد ( فقال سعد يا رسول الله هل ينفعها أن أتصدق عنها ) بشيء زاد في رواية إنها كانت تحب الصدقة ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم ) ينفعها ذلك عند الله فضلا منه تعالى على المؤمنين أن يدركهم بعد موتهم عمل البر والخير بغير سبب منهم ولا يلحقهم وزر يعمله غيرهم ولا شر إن لم يكن لهم فيه سبب يسنونه أو يبتدعونه فيعمل به بعدهم وقد قام الإجماع على انتفاع الميت بصدقة الحي عنه وكفى به حجة قاله في التمهيد زاد في فتح الباري لا سيما إذا كان من الولد وهو مخصص لعموم قوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } سورة النجم الآية 39 ويلتحق بالصدقة العتق عنه عند الجمهور خلافا للمشهور عند المالكية واختلف في غير الصدقة من أعمال البر هل يصل إلى الميت كالحج والصوم اه
لكن ما قال إنه المشهور ليس بمعروف فنص المدونة وغيرها أنه يتطوع عنه بالعتق
____________________
(4/70)
( فقال سعد حائط ) أي بستان ( كذا وكذا صدقة عنها ) يشير بكذا وكذا ( لحائط سماه ) وفي البخاري عن عكرمة عن ابن عباس قال سعد فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها وهو بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة آخره فاء اسم للحائط أو وصف له بالثمر سمي بذلك لما يخترف منه أي يجنى من الثمر وفيه المسارعة إلى عمل البر والمبادرة إلى بر الوالدة وأن إظهار الصدقة قد يكون خيرا من إخفائها إذا صدقت النية والجهاد في حياة الأم وهو محمول على أنه استأذنها وفيه ما كانت الصحابة عليه من استشارته صلى الله عليه وسلم من أمور الدين
وأسند ابن عبد البر عن أنس قال قال سعد بن عبادة يا رسول الله إن أم سعد كانت تحب الصدقة أفينفعها أن أتصدق عنها قال نعم وعليك بالماء وأخرج أيضا عن سعيد بن سعد بن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سعدا أن يسقي عنها الماء وفي رواية النسائي أنه قال أينفعها أن أعتق عنها فقال صلى الله عليه وسلم اعتق عن أمك وطريق الجمع أنه تصدق عنها بالحائط من تلقاء نفسه والماء والعتق بأمره صلى الله عليه وسلم له بعد سؤاله عنهما
ففي رواية للنسائي أيضا إن أمي ماتت أفأتصدق عنها قال نعم قلت فأي الصدقة أفضل قال سقي الماء ومر في النذور شيء من هذا
( مالك عن هشام بن عروة ) بن الزبير ( عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا ) هو سعد بن عبادة كما في الحديث قبله وبه جزم غير واحد ( قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمي ) عمرة الصحابية ( افتلتت ) بفاء ساكنة ففوقية مضمومة فلام مكسورة ففوقيتين أولاهما مفتوحة مبني للمفعول أي أخذت فلتة أي بغتة ( نفسها ) بالرفع على المشهور كما قال الحافظ نائب الفاعل وروي بالنصب مفعول ثان أي أفلتها الله نفسها أي روحها قال الحافظ أو على التمييز وذكره ابن قتيبة بالقاف وتقديم المثناة وقال هي كلمة تقال لمن قتله الحب ولمن مات فجأة والمشهور في الرواية بالفاء اه
زاد في رواية محمد ابن بشير وأبي أسامة عن هشام ولم توص ولم يقل ذلك الباقون قاله مسلم أي باقي الرواة عن هشام
( وأراها ) بضم الهمزة أظنها وثبت في رواية محمد بن جعفر بن أبي كثير عن هشام عند البخاري وخمسة رجال عند مسلم عن هشام بلفظ أظنها وهو يشعر كما قال الحافظ بأن رواية ابن القاسم عن مالك عند النسائي بلفظ وأنها لو تكلمت تصحيف ( لو تكلمت تصدقت ) ظاهره أنها لم تتكلم فلم تتصدق
وفي السابق أنها قالت فيما أوصي إنما المال مال سعد فالمراد هنا لم تتكلم بالصدقة ولو تكلمت بها تصدقت أو أن سعدا ما عرف ما وقع منها فإن راوي السابق سعيد بن سعد أو ولده شرحبيل مرسلا فعلى التقديرين لم يتحد راوي الإثبات وراوي النفي فيمكن الجمع بينهما بذلك ولا تنافي بين هذا وبين حديث ابن عباس المتقدم في النذر أن سعدا قال إن أمي ماتت وعليها نذر ولم تقضه فقال صلى الله عليه وسلم اقضه عنها لاحتمال أنه سأل عن النذر وعن الصدقة فقال ( أفأتصدق
____________________
(4/71)
عنها ) وفي رواية محمد بن جعفر فهل لها أجر إن تصدقت عنها وبعضهم أتصدق عليها وأصرفه على مصلحتها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم ) زاد إسماعيل بن أبي أويس تصدق عنها بالجزم على الأمر
وللنسائي عن سعيد بن المسيب عن سعد بن عبادة قلت فأي الصدقة أفضل قال سقي الماء ومر قريبا أنه تصدق عنها بحائط وبالعتق أيضا وفيه العمل بالظن الغالب والسؤال عن المحتمل وفضل الصدقة وأنها تنفع عن الميت وهو إجماع كما مر
قال ابن المنذر فيه جواز ترك الوصية لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذم أم سعد على تركها ورد بأن الإنكار عليها تعذر بموتها وسقط التكليف
وأجيب بأن فائدة إنكاره لو كان منكرا إيقاظ غيرها ممن سمعه فلما قر ذلك دل على الجواز كذا في الفتح وفي أصل الدلالة لذلك نظر لقولها إنما المال مال سعد في الحديث السابق فهي لا مال لها فلا يتأتى ذمها على ترك الوصية ولا عدم الذم
وأخرجه البخاري في الوصايا عن إسماعيل والنسائي من طريق ابن القاسم كلاهما عن مالك به وتابعه محمد بن جعفر عند البخاري في الجنائز ومحمد بن بشير ويحيى بن سعيد وأبو أسامة وعلي بن مسهر وشعيب بن إسحاق كلهم عن هشام عند مسلم في الزكاة
( مالك أنه بلغه ) قال ابن عبد البر روي هذا الحديث من وجوه ( أن رجلا من الأنصار من بني الحارث بن الخزرج ) بخاء وزاي منقوطتين وراء وجيم وهو عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الخزرجي الذي أري الأذان كما في بعض طرق الحديث وهو صحابي وأبواه صحابيان ( تصدق على أبويه بصدقة فهلكا ) ماتا ( فورث ابنهما المال ) الذي تصدق به ( وهو نخل ) بالمعجمة ( فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قد أجرت ) بضم الهمزة وكسر الجيم أي أعطاك الله تعالى الأجر ( في صدقتك وخذها بميراثك ) ففيه جواز تملك الصدقة بالميراث بلا كراهة وأن ذلك لا يمنع ثوابها إذ هو قد وقع من الجواد الكريم
42 الأمر بالوصية ( مالك عن نافع ) الثقة الثبت الفقيه المشهور ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما )
____________________
(4/72)
نافية أي ليس ( حق امرىء مسلم ) كذا في أكثر الروايات وسقط لفظ مسلم من رواية أحمد عن إسحاق بن عيسى عن مالك والوصف به خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له أو ذكر للتهييج لتقع المبادرة لامتثاله لما يشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك فإن الذي يمتثل لأمر ويجتنب النهي إنما هو لمسلم ووصية الكافر جائزة في الجملة إجماعا حكاه ابن المنذر وبحث فيه السبكي بأنها شرعت زيادة في العمل الصالح والكافر لا عمل له بعد الموت وأجاب بأنهم نظروا إلى أن الوصية كالإعتاق وهو يصح من الذمي والحربي ( له شيء ) صفة لامرىء ( يوصى فيه ) صفة لشيء قال ابن عبد البر لم تختلف الرواة عن مالك في هذا اللفظ ورواه أيوب وعبيد الله كلاهما عن نافع عند مسلم بلفظ له شيء يريد أن يوصي فيه ورواه الشافعي عن سفيان عن نافع بلفظ ما حق امرىء يؤمن بالوصية قال أبو عمر فسره ابن عيينة أي يؤمن بأنها حق وأخرجه أبو عوانة من طريق هشام بن الغاز وابن عبد البر عن سليمان بن موسى كلاهما عن نافع بلفظ لا ينبغي لمسلم أن يبيت ليلتين الخ
وأخرجه الطبراني من طريق الحسن عن ابن عمر مثله
وأخرجه الإسماعيلي من طريق روح بن عبادة عن مالك وابن عون جميعا عن نافع بلفظ ما حق امرىء مسلم له مال يريد أن يوصي فيه وأخرجه الطحاوي وابن عبد البر من طرق ابن عون بلفظ لا يحل لامرىء مسلم له مال قال أبو عمر لم يتابع ابن عون على هذه اللفظة قال الحافظ إن عنى عن نافع بلفظهما فمسلم لكن المعنى يمكن أن يتحد كما يأتي وإن عنى عن ابن عمر فمردود فقد رواه الدارقطني من طريق عمرو بن دينار عن ابن عمر مرفوعا لا يحل لمسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده قال ابن عبد البر رواية له مال أولى عندي من رواية له شيء لأن الشيء يطلق على القليل والكثير بخلاف المال كذا قال وهي دعوى لا دليل عليها وعلى تسليمها فرواية شيء أشمل لأنها تعم المتمول وغيره كالمختصات اه
( يبيت ) صفة ثانية لمسلم ومفعوله محذوف تقديره آمنا أو ذاكرا أو موعوكا كما جزم به الطيبي والخبر ما دل عليه الاستثناء ويحتمل أن يبيت خبر المبتدأ بتأويله بالمصدر تقديره ما حقه بيتوتة ليلتين وهو بهذه الصفة فارتفع الفعل بعد حذف أن كقوله تعالى { ومن آياته يريكم البرق } سورة الروم الآية 24 قال في المصابيح والفتح وغيرهما وتعقب بأنه قياس فاسد وفيه تغير المعنى أيضا وإنما قد رأت في الآية لأن قوله ومن آياته في موضع الخبر والفعل لا يقع مبتدأ فيقدران فيه حتى يكون في معنى المصدر فيصح حينئذ وقوعه مبتدأ فمن له ذوق يعلم هذا ويعلم أن ما قاله يغير المعنى ورد بأن في رواية النسائي من طريق فضيل بن عياض عن عبيد الله عن نافع بلفظ أن يبيت فصرح بأن المصدرية ولم يظهر فساد ولا تغير معنى إذ غايته أنه ظرف والآية مبتدأ فاختلاف الإعراب فيهما لا يقتضي فساد القياس إذ التنظير من حيث تقدير أن ولو اختلفا في الإعراب والفعل مرفوع في الآية والحديث ( ليلتين ) كذا لأكثر الرواة
ولأبي عوانة والبيهقي من طريق أيوب ليلة أو ليلتين
ولمسلم والنسائي
____________________
(4/73)
من طريق الزهري عن سالم عن أبيه يبيت ثلاث ليال وكأن ذكر الليلتين والثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها ففسح له هذا القدر ليتذكر ما يحتاج إليه واختلاف الروايات فيه دال على أنه للتقريب لا للتحديد والمعنى لا يمضي عليه زمان ولو قل ( إلا ووصيته ) الواو للحال ( عنده مكتوبة ) بخطه أو بغير خطه وفيه إشارة إلى اغتفار الزمن اليسير وأن الثلاثة غاية للتأخير
قال الطيبي في تخصيص الليلتين والثلاث بالذكر تسامح في إرادة المبالغة أي لا ينبغي أن يبيت زمنا ما وقد سامحناه في الليلتين والثلاث فلا ينبغي له تجاوز ذلك وفيه أن الأشياء ينبغي أن تضبط بالكتابة لأنها أثبت من الضبط بالحفظ لأنه يخون غالبا واستدل به على جواز الاعتماد على الكتابة والخط ولو لم يقترن ذلك بالشهادة
وخص أحمد ومحمد بن نصر ذلك بالوصية لثبوت ذلك فيها دون غيرها من الأحكام وأجاب الجمهور بأن الكتابة ذكرت لما فيها من ضبط المشهود به قالوا ومعنى قوله ووصيته عنده مكتوبة أي بشرطها مشهود عليها وتعقب بأن إضمار الإشهاد فيه بعد وأجيب بأنهم احتجوا له بأمر خارج لقوله تعالى { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية } سورة المائدة الآية 106 فإنه يدل على اعتبار الإشهاد في الوصية
وقال القرطبي ذكر الكتابة مبالغة في زيادة التوثق وإلا فالوصية المشهود بها متفق عليها ولو لم تكن مكتوبة اه
وقد روى ابن القاسم في المجموعة والعتبية إذا وجدت وصية بخط الميت من غير إشهاد وعلم أنها خطه بشهادة عدلين لا يثبت شيء منها لأنه قد يكتب ولا يعزم واحتج بهذا الحديث مع ظاهر الآية على وجوب الوصية وبه قال عطاء والزهري وداود وآخرون واختاره ابن جرير وذهب الجمهور إلى استحبابها حتى نسبه ابن عبد البر إلى الإجماع سوى من شذ وأجابوا عن الآية بأنها منسوخة كما قال ابن عباس عند البخاري وعن الحديث بأن المراد ما حق الجزم والاحتياط لأنه قد يفجأه الموت وهو على غير وصية ولا ينبغي للمؤمن أن يغفل عن ذكر الموت والاستعداد له وبهذا أجاب الشافعي وقال غيره الحق لغة الشيء الثابت ويطلق شرعا على ما ثبت به الحكم والحكم الثابت أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا وقد يطلق على المباح أيضا لكن بقلة قاله القرطبي قال فإن اقترن به على أو نحوها كان ظاهرا في الوجوب وإلا فهو على الاحتمال وعلى هذا التقدير فلا حجة في الحديث للوجوب بل اقترن هذا الحق بما يدل على الندب وهو تفويضه الوصية إلى إرادة الموصي في رواية له شيء يريد أن يوصي فيه فلو كانت واجبة لما علقها بإرادته
وإما رواية لا يحل فيحتمل أن راويها ذكرها بالمعنى وأراد بنفي الحل ثبوت الجواز بالمعنى الأعم الذي يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح وأجاب أبو ثور بأن الوجوب في الآية والحديث يختص بمن كان عليه حق شرعي يخشى ضياعه على صاحبه إن لم يوص به كوديعة ودين لله تعالى أو لآدمي ويدل على ذلك قوله له شيء يريد أن يوصي فيه لأن فيه إشارة إلى قدرته على تنجيزه ولو كان مؤجلا فإذا أراد ذلك ساغ له وإن أراد أن يوصي به ساغ له وحاصله يرجع إلى قول الجمهور أن
____________________
(4/74)
الوصية لا تجب لعينها وإنما تجب لعين الخروج من الحقوق الواجبة للغير بتنجيز أو وصية ومحل وجوبها إذا عجز عن تنجيز ما عليه وكان لم يعلم ذلك غيره ممن يثبت الحق بشهادته فإن قدر أو علم غيره فلا وجوب فعلم أنها قد تجب وقد تستحب لمن رجا منها كثرة الأجر وقد تكره في عكسه وتباح فيما استوى الأمران فيه فتحرم كما إذا كان فيها إضرار لحديث الإضرار في الوصية من الكبائر أخرجه النسائي عن ابن عباس تبعا لغيره رفعه برجال ثقات وسعيد بن منصور عنه موقوفا بإسناد صحيح
واحتج ابن بطال تبعا لغيره بأن ابن عمر لم يوص فلو وجبت لما تركها وهو راوي الحديث وتعقب بأن العبرة بما روى لا بما رأى على أن الثابت عنه في مسلم لم أبت ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا ووصيتي مكتوبة عندي
واحتج من قال إنه لم يوص بما رواه ابن المنذر وغيره بسند صحيح عن أيوب عن نافع قال قيل لابن عمر ألا توصي قال أما مالي فالله يعلم ما كنت أصنع به وأما رباعي فلا أحب أن يشارك ولدي فيها أحد
وجمع الحافظ بينه وبين ما رواه مسلم بالحمل على أنه كان يكتب وصيته ويتعاهدها ثم صار ينجز ما كان يوصي به معلقا وإليه الإشارة بقوله الله يعلم ما كنت أصنع ولعل الحامل له على ذلك حديثه إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح الحديث
وفي قوله له شيء صحة الوصية بالمنافع وهو قول الجمهور ومنعه ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود وأتباعه واختاره ابن عبد البر وفيه الحض على الوصية ومطلقها يتناول الصحيح لكن خصها السلف بالمريض ولم يقيد به في الخبر لاطراد العادة به وفيه الندب إلى التأهب للموت والاحتراز قبل الفوت لأن الإنسان لا يدري متى يفجأه الموت لأنه ما من سن يفرض إلا وقد مات فيه جمع جم فكل واحد بعينه جائز أن يموت في الحال فينبغي أن يكون متأهبا لذلك فيكتب وصيته ويجمع فيه ما يحصل له الأجر ويحط عنه الوزر من حقوق الله وحقوق عباده
وأخرجه البخاري عن عبد االله بن يوسف عن مالك به وتابعه عبيد الله بن عمر وأيوب وأسامة الليثي ويونس وهشام بن سعد كلهم عن نافع عند مسلم وغيره
( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أن الموصي إذا أوصى في صحته أو مرضه بوصية فيها عتاقة ) بفتح العين مصدر كالعتق ( رقيق من رقيقه أو غير ذلك ) كوصية بمال ( فإنه يغير ) يبدل ( من ذلك ما بدا له ) لأن عقدها منحل ( ويصنع من ذلك ما شاء حتى يموت ) فإذا مات ولم يبدل لزمت في ثلثه
( وإن أحب أن يطرح ) يلقي أي يبطل ( تلك الوصية ويبدلها ) بغيرها ( فعل ) بل له الرجوع عنها بلا إبدال ( إلا أن يدبر مملوكا ) له أنثى أو ذكر بنحو أن يقول أنت مدبر ( فإن دبر فلا سبيل إلى تغيير ما دبر ) لأنه صار فيه عقد حرية ( وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما حق امرىء مسلم له شيء يوصي فيه يبيت
____________________
(4/75)
ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة ) قال الطيبي والكرماني ما نافية وله شيء صفة امرىء ويوصى فيه صفة لشيء ويبيت ليلتين صفة ثالثة والمستثنى خبر ومفعول يبيت محذوف تقديره ذاكرا أو آمنا
وقال ابن التين تقديره موعوكا والأول أولى لأن استحباب الوصية لا يختص بالمريض نعم قال العلماء لا يندب أن يكتب جميع الأشياء المحقرة ولا ما جرت العادة بالخروج منه والوفاء له عن قرب
( قال مالك فلو كان الموصي لا يقدر على تغيير وصيته ولا ما ذكر فيها من العتاقة كان كل موص قد حبس ) منع ( ماله الذي أوصى فيه من العتاقة وغيرها ) فدل الحديث على أن عقد الوصية غير لازم ( وقد يوصي الرجل في صحته وعند سفره ) فلو لم يكن له رجوع لزم الحجر ( والأمر الذي لا اختلاف فيه أنه يغير من ذلك ما شاء غير التدبير ) لأنه عقد حرية
43 جواز وصية الصغير والضعيف والمصاب والسفيه ( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) محمد بن عمرو ( بن حزم ) بمهملة وزاي ( عن أبيه ) أبي بكر اسمه وكنيته واحد ( أن عمرو ) بفتح العين ( ابن سليم ) بضم السين ( الزرقي ) بضم الزاي نسبة إلى بني زريق بطن من الأنصار من كبار التابعين ويقال له رؤية وأبوه صحابي ( أخبره أنه قيل لعمر بن الخطاب إن ها هنا ) بالمدينة ( غلاما يفاعا ) بفتح التحتية والفاء بزنة كلام مرتفعا ( لم يحتلم من غسان ) بفتح الغين المعجمة وشد السين المهملة قبيلة من الأزد ( ووارثه بالشام وهو ذو مال وليس له هاهنا إلا ابنة عم له ) فهل يوصي لها ( فقال عمر بن الخطاب فليوص لها قال ) عمرو ( فأوصى لها بمال يقال له بئر جشم ) بضم الجيم وفتح الشين المعجمة ( قال عمرو بن سليم فبيع ذلك المال بثلاثين ألف درهم وابنة عمه ) أي الغلام ( التي أوصى لها هي أم عمرو بن سليم الزرقي ) راوي الخبر المذكور
____________________
(4/76)
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن أبي بكر بن حزم أن غلاما من غسان حضرته الوفاة بالمدينة ووارثه بالشام فذكر ) بضم الذال ( ذلك لعمر بن الخطاب فقيل له إن فلانا يموت أفيوصي قال فليوص قال يحيى بن سعيد قال أبو بكر وكان الغلام ابن عشر سنين أو ثنتي عشرة سنة قال فأوصى ببئر جشم ) لابنة عمه أم عمرو كما في الطريق الأولى ( فباعها أهلها ) أي التي أوصى إليها بها ( بثلاثين ألف درهم ) فضة وذكر الإمام هذه الطريق الثانية لما فيها من بيان سن الغلام ولم يذكر أبو بكر فيها من أخبره بذلك وهو عمرو بن سليم فقد حدث به على الوجهين وفيه صحة وصية الصبي المميز وبه قال مالك وقيده بما إذا عقل ولم يخلط وأحمد وقيده بابن سبع وعنه بعشر والشافعي في قول رجحه جماعة ومال إليه السبكي وأيده بأن الوارث لا حق له في الثلث فلا وجه لمنع وصية الصبي المميز ومنعهما الحنفية والشافعي في الأظهر عنه وذكر البيهقي عنه أنه علق القول به على صحة أثر عمر وهو صحيح فإن رجاله ثقات وله شاهد
( مالك الأمر عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه ) المبذر للمال ( والمصاب ) المجنون ( الذي يفيق أحيانا تجوز وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما ) أي تمييز ( يعرفون ما يوصون به فأما من ليس معه من عقله ما يعرف بذلك ما يوصي به وكان مغلوبا على عقله فلا وصية له ) صحيحة وحاصله أن المدار على التمييز
44 الوصية في الثلث لا يتعدى ( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ) الزهري المدني الثقة المتوفى سنة أربع ومائة ( عن أبيه ) سعد بن مالك أحد العشرة ( أنه قال جاءني رسول الله يعودني ) بدال مهملة يزورني ( عام حجة الوداع ) سنة عشر هكذا اتفق عليه أصحاب
____________________
(4/77)
الزهري إلا ابن عيينة فقال في فتح مكة أخرجه الترمذي وغيره واتفق الحفاظ على أنه وهم منه وقد أخرجه البخاري في الفرائض من طريقه فقال بمكة ولم يذكر الفتح قال الحافظ وقد وجدت لابن عيينة مستندا عند أحمد والبزار والطبراني والبخاري في التاريخ وابن سعد من حديث عمرو بن القاري أن رسول الله قدم مكة فخلف سعدا مريضا حيث خرج إلى حنين فلما قدم من الجعرانة معتمرا دخل عليه وهو مغلوب فقال يا رسول الله إن لي مالا وإني أورث كلالة أفأوصي بمالي الحديث وفيه قلت يا رسول الله أميت أنا بالدار التي خرجت منها مهاجرا قال إني لأرجو أن يرفعك الله حتى ينفع بك أقواما الحديث فلعل ابن عيينة انتقل ذهنه من حديث إلى حديث ويمكن الجمع بين الروايتين بأن ذلك وقع له مرتين مرة عام الفتح ولم يكن له وارث من الأولاد أصلا ومرة عام حجة الوداع وكانت له بنت فقط ( من وجع ) اسم لكل مرض ( اشتد بي ) أي قوي علي وفي رواية أشفيت منه على الموت ( فقلت يا رسول الله قد بلغ من الوجع ما ترى ) أي الغاية ( وأنا ذو مال ) كثير لأن التنوين للكثرة وقد جاء صريحا في بعض طرقه ذو مال كثير ( ولا يرثني إلا ابنة لي ) قال النووي وغيره معناه لا يرثني من الولد أو من خواص الورثة أو من النساء وإلا فقد كان لسعد عصبات لأنه من زهرة وكانوا كثيرا وقيل معناه لا يرثني من أصحاب الفروض أو خصها بذكر على تقدير لا يرثني ممن أخاف عليه الضياع والعجز إلا ابنة أو ظن أنها ترث جميع المال أو استكثر لها التركة قال الحافظ وهذه البنت زعم بعض من أدركناه أن اسمها عائشة فإن كان محفوظا فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث عند البخاري في الوصايا والطب وهي تابعية عمرت حتى أدركها مالك وروى عنها وماتت سنة سبع عشرة ومائة لكن لم يذكر أحد من النسابين لسعد ابنة تسمى عائشة غير هذه وذكروا أن أكبر بناته أم الحكم الكبرى وأمها بنت شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة وذكروا له بنات أخرى أمهاتهن متأخرات الإسلام بعد الوفاة النبوية فالظاهر أن البنت هي أم الحكم المذكورة لتقدم تزويج سعد بأمها ولم أر من جوز ذلك
وقال في مقدمة الفتح وهم من قال عائشة لأنها أصغر أولاده
( فأتصدق بثلثي مالي ) بالتثنية والاستفهام للاستخبار هكذا رواه الزهري ومثله في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الصحيح وفيه من رواية سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن أبيه قلت يا رسول الله أوصي بمالي كله وجمع بينهما بأنه سأل أولا عن الكل ثم عن الثلثين ثم عن النصف ثم عن الثلث وذلك مجموع في رواية جرير ابن يزيد عن أحمد وبكير بن مسمار عن النسائي كلاهما عن عامر بن سعد وكذا لهما من طريق محمد ابن سعد عن أبيه ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه عن سعد والمراد بالتصدق الوصية وإن احتمل التنجيز لأن المخرج متحد فيحمل على التعليق للجمع بين الروايتين
____________________
(4/78)
( قال رسول الله لا قال ) سعد ( فقلت فالشطر ) بالخفض عطفا على ثلثي مالي أي فأتصدق بالنصف وقيده الزمخشري في الفائق بالنصب بفعل مضمر أي أسمي أو أعين الشطر ورجح السهيل في أماليه الجر قال لأن النصف بإضمار أفعل والخفض مردود أي معطوف على قوله ثلثي مالي وروي بالرفع مبتدأ خبره تقديره أتصدق به
( قال لا ) وفي التصحيح من وجه أخر عن عامر عن أبيه قال النصف كثير قلت فالثلث
( ثم قال ) بعد أن سأل عن الثلث ( رسول الله الثلث ) بالنصب على الإغراء أو بفعل مضمر نحو عين الثلث وبالرفع خبر مبتدأ محذوف أي مشروع الثلث أو مبتدأ محذوف الخبر أي الثلث كاف أو فاعل فعل مقدر أي يكفيك الثلث
( والثلث كثير ) بمثلثة أي بالنسبة إلى ما دونه ويحتمل أنه مسوق بالنسبة لبيان الجواز بالثلث وأن الأولى أن ينقص عنه وهو ما يبتدره الفهم ويحتمل أنه لبيان أن التصدق بالثلث هو الأكمل أي كثير أجره وأن معناه كثير غير قليل قال الشافعي وهذا أولى معانيه يعني أن الكثرة أمر نسبي وعلى الأول عول ابن عباس فقال لو غض الناس إلى الربع لأن رسول الله قال الثلث والثلث كثير رواه الشيخان وغيرهما وغض بغين وضاد معجمتين أي نقص وفي رواية ابن أبي عمر في مسنده كان أحب إلي وللإسماعيلي كان أحب إلى رسول الله لأنه قال الثلث والثلث كثير ويؤيده ما في النسائي من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن سعد أوصيت بمالي كله قال فما تركت لولدك أوص بالعشر فما زال يقول وأقول حتى قال أوص بالثلث والثلث كثير أو كبير يعني بالمثلثة أو بالموحدة وكذا وقع في موطأ التنيسي بالشك وكذا في رواية عائشة بنت سعد عن أبيها قال الحافظ والمحفوظ في أكثر الروايات بالمثلثة اه
وبه يعلم تسمح من قال روى بمثلثة وبموحدة وكلاهما صحيح لأنه إنما جاء عند بعض الرواة بالشك قال ابن عبد البر هذا الحديث أصل العلماء في قصر الوصية على الثلث لا أصل لهم غيره
( إنك ) بالكسر على الاستئناف وبالفتح بتقدير حرف الجر أي لأنك ( أن تذر ) بفتح الهمزة والذال المعجمة تترك ( ورثتك ) بنتك المذكورة وأولاد أخيك هاشم ابن عتبة بن أبي وقاص الصحابي وإخوته فعبر بورثة ليدخل البنت وغيرها ممن يرث لو مات إذ ذاك أو بعد ذلك ( أغنياء ) بما تترك لهم ( خير من أن تذرهم عالة ) فقراء جمع عائل وفعله يعيل إذا افتقر ( يتكففون الناس ) أي يسألونهم بأكفهم يقال تكفف الناس واستكف إذا بسط كفه للسؤال أو سأل ما يكف عنه الجوع أو سأل كفافا من طعام أو المعنى يطلبون الصدقة من أكف الناس ولا ينافي هذا أن قوله وأنا ذو مال يؤذن بكثرته فإذا تصدق بثلثيه أو شطره وأبقى ثلثه بين بنته وغيرها لا يصيرون عالة لأن ذلك خرج على التقدير لأن بقاء المال الكثير إنما هو على سبيل التقدير إذ لو تصدق المريض بثلثيه مثلا ثم طالت حياته ونقص وفني المال
____________________
(4/79)
فقد تحجف الوصية بالورثة فرد الشارع الأمر إلى شيء معتدل وهو الثلث وقد روي أن تذر بفتح الهمزة على التعليل وبكسرها على الشرطية قال النووي وهما صحيحان وقال القرطبي لا معنى للشرط هنا لأنه يصير لا جواب له ويبقى خير لا رافع له وقال ابن الجوزي سمعناه من رواة الحديث بالكسر وأنكره شيخنا عبد الله بن أحمد يعني ابن الخشاب وقال لا يجوز الكسر لأنه لا جواب له لخلو لفظة خير من الفاء وغيرها مما اشترط في الجواب وتعقب بأنه لا مانع من تقديره
وقال ابن مالك جزاء الشرط قوله خير وحذف الفاء جائز كقراءة طاوس { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير } سورة البقرة الآية 220 أي فهو خير ومن خص ذلك بالشعر كقوله من يفعل الحسنات الله يشكرها
فقد بعد عن التحقيق وضيق حيث لا ضيق لأنه كثير في الشعر قليل في غيره قال ونظيره قوله في حديث اللقطة أي في بعض رواياته فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها بحذف الفاء وقوله في حديث اللعان البينة وإلا حد في ظهرك ثم عطف على قوله إنك إن تذر ما هو علة للنهي عن الوصية بأكثر من الثلث فقال ( وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها ) تطلب ( وجه الله ) ذاته عز وجل ( إلا أجرت ) بضم الهمزة مبني للمفعول فهو علة للنهي كأنه قيل لا تفعل لأنك إن مت تركت ورثتك أغنياء وإن عشت تصدقت وأنفقت فالأجر حاصل لك في الحالين ونبه بالنفقة على غيرها من وجوه البر والإحسان ( حتى ما تجعل ) أي الذي تجعله ( في في ) أي فم ( امرأتك ) وفي رواية في الصحيح اللقمة ترفعها إلى في امرأتك
وقول ابن بطال تجعل بالرفع وما كافة كفت حتى عملها تعقبه في المصابيح بأنه لا معنى للتركيب حينئذ إن تأملت بل هي اسم موصول وحتى عاطفة أي إلا أجرت بتلك النفقة حتى بالشيء الذي تجعله في امرأتك ولا يرد أن شرط حتى العاطفة على المجرور وإعادة الخافض لأن ابن مالك قيده بأن لا تتعين للعطف نحو عجبت من القوم حتى بنيهم ومذهب الكوفيين جواز العطف على الضمير المخفوض بغير إعادة الخافض واختاره ابن مالك لكثرة شواهده نثرا ونظما على أنه لو جعل العطف على المنصوب المتقدم أي لن تنفق نفقة حتى الشيء الذي تجعله في في امرأتك لاستقام ولم يرد شيئا مما تقدم اه
ووجه تعلق هذا بالوصية أن سؤال سعد يشعر بأنه رغب في كثرة الأجر فلما منعه من الزيادة على الثلث سلاه بأن جميع ما يفعله في ماله من صدقة ناجزة ومن نفقة ولو واجبة يؤجر بها إذا ابتغى بها وجه الله ولعله خص المرأة بالذكر لاستمرار نفقتها دون غيرها
قال ابن أبي جمرة ويستفاد منه أن أجر الواجب يزداد بالنية لأن الإنفاق على الزوجة واجب وفيه الأجر فإذا نوى به ابتغاء وجه الله ازداد أجره
وقال ابن دقيق العيد فيه أن الثواب في الإنفاق مشروط بصحة النية وابتغاء وجه الله تعالى وهذا عسر إذا عارضه مقتضى الشهوة فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب حتى يبتغي به وجه الله
____________________
(4/80)
ويشق تخليص هذا القصد مما يشوبه قال وقد يكون فيه دليل على أن الواجبات إذا أديت على قصد أداء الواجب ابتغاء وجه الله أثيب عليها فإن قوله حتى ما تجعل لا تخصيص له بغير الواجب ولفظة حتى هنا تقتضي المبالغة في تحصيل الأجر بالنسبة إلى المعنى كما يقال جاء الحاج حتى المشاة هذا وقول الزين ابن المنير عبر بورثتك ولم يقل بنيك مع أنه لم يكن له إلا ابنة واحدة لأن الوارث حينئذ لم يتحقق لأن سعدا إنما قال ذلك بناء على موته من المرض وبقائها بعده حتى ترثه ومن الجائز أن تموت قبله فأجابه بكلام كلي مطابق لكل حالة وهو قوله ورثتك ولم يخص بنتا من غيرها تعقبه الحافظ بأن قوله أن تذر بنتك ليس متعينا لأن ميراثه لم يكن منحصرا فيها فقد كان لأخيه عتبة بن أبي وقاص أولاد إذ ذاك منهم هاشم بن عتبة الصحابي قتل بصفين فعبر بورثتك لتدخل البنت وغيرها ممن يرث لو مات إذ ذاك أو بعد ذلك
قال وقول الفاكهاني في شرح العمدة عبر بورثتك لأنه اطلع على أن سعدا يعيش ويأتيه أولاد غير البنت فكان كذلك وولد له بعد ذلك أربعة بنين لا أعرف أسماءهم قصور شديد فإن أسماءهم في رواية هذا الحديث بعينه عند مسلم من طريق عامر ومصعب ومحمد ثلاثتهم عن أبيهم سعد وذكر مسلم عمر بن سعد في موضع آخر ولما ذكرت الثلاثة في هذا الحديث عند مسلم اقتصر القرطبي عليهم فتعقبه بعض شيوخنا بأن له أربعة ذكور غيرهم عمر وإبراهيم ويحيى وإسحاق ذكرهم ابن المديني وغيره وفاته أن ابن سعد ذكر له من الذكور غير السبعة أكثر من عشرة وهم عبد الله وعبد الرحمن وعمرو وعمران وصالح وعثمان وإسحاق الأصغر وعمر الأصغر وعمير مصغر وغيرهم وذكر له ثنتي عشرة بنتا وكأن ابن المديني اقتصر على ذكر من روى الحديث منهم
( قال ) سعد ( فقلت يا رسول الله أأخلف ) بهمزة الاستفهام ثم همزة مضمومة وفتح اللام المشددة مبني للمفعول ( بعد أصحابي ) المنصرفين معك بمكة لأجل مرضي وكانوا يكرهون الإقامة بها لكونهم هاجروا منها وتركوها لله
( فقال رسول الله إنك لن تخلف ) بعد أصحابك ( فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به ) أي بالعمل ( درجة ورفعة ) عند الله ( ولعلك أن تخلف ) بأن يطول عمرك فلا تموت بمكة وفي رواية في الصحيح وعسى الله أن يرفعك أي يطيل عمرك ( حتى ينتفع بك أقوام ) أي المسلمون بالغنائم بما سيفتح الله على يديك من بلاد الكفر
( ويضر بك آخرون ) وهم المشركون الهالكون على يديك وجندك
وزعم ابن التين أن النفع ما وقع على يديه من الفتوح كالقادسية وغيرها وبالضر ما وقع من تأمير ابنه عمر على الجيش الذين قتلوا الحسين ومن معه ورده الحافظ بأنه تكلف بلا ضرورة تحمل على إرادة الضر الحاصل من ولده للمسلمين مع أنه وقع منه هو الضرر للكفار
وأقوى من ذلك ما رواه الطحاوي من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبيه أنه سأل عامر بن سعد عن معنى هذا الحديث فقال لما أمر سعد على العراق أتى بقوم ارتدوا فاستتابهم فتاب بعضهم وامتنع بعضهم فقتلهم فانتفع به من تاب وحصل الضرر للآخرين وهذا من معجزاته وإخباره بالغيب فإنه
____________________
(4/81)
عاش حتى فتح العراق وحصل نفع المسلمين به وضر الكفار ومات سنة خمس وخمسين وقيل سنة ثمان وخمسين من الهجرة وهو المشهور فيكون عاش بعد حجة الوداع خمسا وأربعين سنة
( اللهم امض ) بهمزة قطع من الإمضاء وهو الإنفاذ أي أتمم ( لأصحابي هجرتهم ) التي هاجروها من مكة إلى المدينة ( ولا تردهم على أعقابهم ) بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم قال ابن عبد البر فيه سد الذريعة لأن قوله ذلك لئلا يتذرع بالمرض أحد لأجل حب الوطن
( لكن البائس ) بموحدة وهمزة وسين مهملة الذي عليه أثر البؤس أي شدة الفقر والحاجة ( سعد بن خولة ) بفتح المعجمة وإسكان الواو ولام وتاء تأنيث القرشي العامري وقيل من حلفائهم وقيل من مواليهم وقيل هو فارسي من اليمن حالف بني عامر وشهد بدرا وقال بعضهم في اسمه خولي بكسر اللام وشد التحتية واتفقوا على أنه بسكون الواو وأغرب القابسي فقال بفتحها
وفي رواية الصحيح عن سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد فقال يرحم الله ابن عفراء
ولأحمد والنسائي يرحم الله سعد بن عفراء ثلاث مرات
قال الداودي هذا غير محفوظ
وقال الدمياطي هو وهم والمعروف ابن خولة قال ولعل الوهم من سعد بن إبراهيم فالزهري أحفظ منه اه
وقد وافقه جماعة
وقال التيمي يحتمل أن لأمه اسمين خولة وعفراء قال الحافظ ويحتمل أن أحدهما اسم والآخر لقب أو أحدهما اسم أمه والآخر اسم أبيه أو الآخر اسم جدة له والأقرب أن عفراء اسم أمه والآخر اسم أبيه لاختلافهم في أنه خولة أو خولي ( يرثي ) بفتح التحتية وسكون الراء وكسر المثلثة يتوجع ويتحزن ( له ) لأجله ( رسول الله أن ) بفتح الهمزة ولا يصح كسرها لأنها شرطية لما يستقبل وهو كان قد ( مات بمكة ) في حجة الوداع كما في الصحيحين وبه جزم الليث بن سعد في تاريخه عن يزيد بن أبي حبيب خلافا لمن قال مات في مدة الهدنة مع قريش سنة سبع فتوجع لموته في أرض هاجر منها كما جزم به البخاري وغيره وأنه شهد بدرا خلافا لمن قال لم يهاجر فسبب بؤسه عدم هجرته فإنما بؤسه لأنهم كانوا يكرهون الإقامة في أرض هاجروا منها وتركوها مع حبهم فيها لله تعالى فلذا خشي سعد أن يموت بها وتوجع لابن خولة أن مات بها وروي أنه خلف مع ابن أبي وقاص رجلا وقال إن توفي بمكة فلا تدفنه بها والرثاء يطلق على التوجع والتحزن وهذا هو المباح الذي فعله المصطفى ويطلق على ذكر أوصاف الميت الباعثة على تهييج الحزن واللوعة وهذا لا يجوز لما أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم عن عبد الله بن أبي أوفى قال نهى عن المراثي وهو عند ابن أبي شيبة بلفظ نهانا أن نتراثى
قال ابن عبد البر زعم أهل الحديث أن قوله يرثي الخ من كلام الزهري قال الحافظ وكأنهم استندوا إلى ما رواه الطيالسي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري فإنه فصل ذلك لكن عند البخاري في الدعوات عن موسى بن إسماعيل عن إبراهيم ابن سعد البائس سعد بن خولة قال سعد يرثي له الخ
____________________
(4/82)
فهذا صريح في وصله فلا ينبغي الجزم بإدراجه
وزاد البخاري في الطب عن عائشة بنت سعد عن أبيها ثم وضع يده على جبهتي ثم مسح وجهي وبطني ثم قال اللهم اشف سعدا وأتمم له هجرته قال فما زلت أجد بردها ولمسلم قلت فادع الله لي أن يشفيني قال اللهم اشف سعدا ثلاث مرات وفي الحديث استحباب زيارة المريض للإمام فمن دونه ويتأكد باشتداد المرض ووضع اليد على جبهته ومسح وجهه والعضو الذي يألمه والفسح له بطول العمر وجواز إخبار المريض بشدة مرضه وقوة ألمه إذا لم يقترن بذلك شيء مما يمنع أو يكره من التبرم وعدم الرضا بل لطلب دعاء أو دواء وربما استحب وأن ذلك لا ينافي الاتصاف بالصبر المحمود وإذا جاز ذلك أثناء المرض كان الإخبار به بعد البرء أجوز وأن أعمال البر والطاعة إذا كان منها مالا يمكن استدراكه قام غيره في الثواب والأجر مقامه وربما زاد عليه وذلك أن سعدا خاف أن يموت في الدار التي هاجر منها فيفوت عليه بعض أجر هجرته فأخبره بأنه إن تخلف عن دار هجرته فعمل عملا صالحا من حج أو جهاد أو غير ذلك كان له به أجر يعوض ما فاته من الجهة الأخرى والحث على صلة الرحم والإحسان إلى الأقارب وأن صلتهم أفضل والإنفاق في وجوه الخير لأن المباح إذا قصد به وجه الله صار طاعة وقد نبه على ذلك بأقل الحظوظ الدنيوية العادية وهي وضع اللقمة في الزوجة إذ لا يكون ذلك غالبا إلا عند الملاعبة والممازحة ومع ذلك فيؤجر فاعله إذا قصد به قصدا صحيحا فكيف بما فوق ذلك قيل وجواز الوصية بأكثر من الثلث لمن لا وارث له لأن مفهوم قوله إن تذر ورثتك أغنياء أن من لا وارث له لا يبالي بالوصية بما زاد لأنه لا يترك من يخشى عليه الفقر وتعقب بأنه ليس تعليلا محضا وإنما فيه تنبيه على الأحظ الأنفع ولو كان تعليلا محضا لاقتضى جواز الوصية بأكثر من الثلث لمن ورثته أغنياء ولنفذ ذلك عليهم بغير إجازتهم ولا قائل به وعلى تقدير أنه تعليل محض فهو للنقص عن الثلث لا للزيادة عليه فكأنه لما شرع الإيصاء بالثلث وأنه لا اعتراض فيه على الموصي قال إلا أن الانحطاط عنه أولى ولا سيما لمن ترك ورثته فقراء وفيه الاستفسار عن المجمل إذا احتمل وجوها لأن سعدا لما منع من الوصية بجميع ماله احتمل عنده المنع فيما دونه والجواز فاستفسر عنه والنظر في مصالح الورثة وأن خطاب الشارع الواحد يعم من كان بصفته من المكلفين لإطباق العلماء على الاحتجاج بحديث سعد هذا وإن كان الخطاب إنما وقع له بصيغة الإفراد واحتج به من قال بالرد على ذوي الأرحام للحصر في قوله ولا يرثني إلا ابنة لي وتعقب بأن المراد من ذوي الفروض كما مر ومن قال بالرد لا يقول بظاهره لأنهم يعطونها فرضها ثم يردون عليها الباقي وظاهر الحديث أنها ترث الجميع ابتداء وأخرجه البخاري في الجنائز عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه جماعة وتابع شيخه الزهري جماعة في الصحيحين وغيرهما وطرقه كثيرة
( مالك في الرجل يوصي بثلث ماله لرجل ويقول غلامي يخدم فلانا ما عاش ثم هو حر ) بعد
____________________
(4/83)
موت فلان ( فينظر في ذلك فيؤخذ العبد ثلث مال الميت قال فإن خدمة العبد ) وفي نسخة الغلام ( تقوم ثم يتحاصان يحاص الذي أوصى له بالثلث بثلثه ويحاص الذي أوصى له بخدمة العبد بما قوم له من خدمة العبد فيأخذ كل واحد منهما من خدمة العبد أو من إجارته إن كانت له إجارة بقدر حصته فإذا مات الذي جعلت له خدمة العبد ما عاش عتق العبد ) عملا بالوصية
( مالك في الذي يوصي في ثلثه فيقول لفلان كذا وكذا ولفلان كذا وكذا يسمي مالا من ماله فيقول ورثته قد زاد على ثلثه فإن الورثة يخيرون بين أن يعطوا أهل الوصايا وصاياهم ويأخذوا جميع مال الميت ) الباقي بعد إعطائهم ( وبين أن يقسموا لأهل الوصايا ثلث مال الميت فيسلموا إليهم ثلثه فيكون حقوقهم فيه إن أرادوا بالغا ما بلغ ) لأن الورثة كما لم يمكنوا الميت من بخس حقوقهم فلا يبخسون حقه فإما أجازوا فعله وإلا دفعوا جميع ماله وهو الثلث وتلقب هذه المسألة بخلع الثلث ولها صور في الفروع
45 أمر الحامل والمريض والذي يحضر القتال في أموالهم ( مالك أحسن ما سمعت في وصية الحامل وفي قضاياها في مالها وما يجوز لها أن الحامل كالمريض فإذا كان ) وجد ( المرض الخفيف غير المخوف ) منه الموت ( على صاحبه فإن صاحبه يصنع في ماله ما يشاء ) كالصحيح ( وإذاكان المرض المخوف عليه ) الموت منه ( لم يجز لصاحبه ) شيء ( إلا في ثلثه ) لأن تصرفات المريض إنما هي فيه
____________________
(4/84)
( قال وكذلك الحامل أول حملها بشر ) بكسر فسكون فرح ( وسرور وليس بمرض ولا خوف لأن الله تعالى قال في كتابه فبشرناها ) أي امرأة إبراهيم عليه السلام ( بإسحاق ) تحمل به بعدالكبر وهي ابنة تسع وتسعين سنة ولذا قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز ( ومن وراء ) بعد ( إسحاق يعقوب ) بن إسحاق تعيش إلى أن تراه فجعل أول الحمل بشارة وفرح فليس بمرض
( وقال ) فلما تغشاها ( حملت حملا خفيفا ) هو النطفة ( فمرت به ) ذهبت وجاءت لخفته ( فلما أثقلت ) بكبر الولد في بطنها وإشفاقا أن يكون بهيمة ( دعوا ) أي آدم وحواء ( الله ربهما لئن آتيتنا ) ولدا ( صالحا ) سويا ( لنكونن من الشاكرين ) لك عليه فسمى أول الحمل خفيفا وآخره ثقيلا
( قال والمرأة الحامل إذا أثقلت لم يجز لها قضاء إلا في ثلثها فأول الإتمام ستة أشهر ) وهي مبدأ الثقل الذي يصيرها كالمريض ( قال الله تبارك وتعالى في كتابه والوالدات يرضعن ) أي ليرضعن ( أولادهن حولين ) عامين ( كاملين ) صفة مؤكدة
( وقال وحمله وفصاله ) من الرضاع ( ثلاثون شهرا ) ستة أقل مدة الحمل والباقي أكثر مدة الرضاع
( فإذا مضت للحامل ستة أشهر من يوم حملت لم يجز لها قضاء ) حكم ( في مالها إلا في الثلث ) إلى أن تضع ( والرجل يحضر القتال إذا زحف في الصف للقتال لم يجز له أن يقضي في ماله شيئا إلا في الثلث وإنه بمنزلة الحامل ) لستة أشهر ( والمريض المخوف عليه ) الموت ( ما كان بتلك الحال ) أي مدة كونه بها
46 الوصية للوارث والحيازة ( سمعت مالكا يقول في هذه الآية إنها منسوخة قول ) بالجر بدل والرفع أي وهي قول ( الله تبارك
____________________
(4/85)
وتعالى ) كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ( إن ترك خيرا ) أي مالا ( الوصية ) مرفوع نائب فاعل بكتب ومتعلق إذا إن كانت ظرفية ودالا على جوابها إن كانت شرطية وجواب إن فليوص ( للوالدين والأقربين ) بالمعروف حقا على المتقين ( نسخها ما نزل من قسمة الفرائض ) لأنه يشعر بأنه لا يجمع بين الميراث والوصية ( في كتاب الله عز وجل ) كما قال ابن عباس كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع ورواه البخاري وابن جرير وهو موقوف لفظا لا أنه في تفسير وأخبار كما كان من الحكم قبل نزول القرآن فهو في حكم المرفوع بهذا التقدير وقد قال جمهور العلماء كانت الوصية للوالدين والأقربين على ما يراه الموصي من المساواة والتفضيل ثم نسخ ذلك بآية الفرائض وقيل بحديث لا وصية لوارث وقيل بالإجماع على ذلك وإن لم يتعين دليله وزعم ابن سريج أنهم كانوا مكلفين بالوصية للوالدين والأقربين بقدر الفريضة التي في علم الله قبل أن ينزلها وشدد إمام الحرمين في إنكار ذلك عليه وقال طاوس وغيره ليست منسوخة بل مخصوصة لأن الأقربين أعم من الوارث فكانت الوصية واجبة لجميعهم فخص منها من ليس بوارث لآية الفرائض والحديث وبقي حق من لا يرث من الأقربين على حاله
( مالك السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها أنه لا تجوز وصية لوارث ) لما أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي أمامة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته في حجة الوداع إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وفي إسناده إسماعيل بن عياش وقد قوى حديثه عن الشاميين جماعة منهم أحمد والبخاري وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة وصرح في روايته بالتحديث عند الترمذي والنسائي وجاء من حديث أنس عند ابن ماجه وعلي عند ابن أبي شيبة وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وعن جابر كلاهما عند الدارقطني وقال الصواب إرساله ولا يخلو إسناد منها من مقال لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلا بل جنح الشافعي في الأم إلى أن المتن متواتر فقال وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح لا وصية لوارث ويأثرونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى من نقل واحد ونازعه الفخر الرازي في كون هذا الحديث متواترا وعلى تقدير تسليمه فالمشهور من مذهبه أن القرآن لا ينسخ بالسنة لكن الحجة في هذا إجماع العلماء على مقتضاه كما صرح به الشافعي وغيره وهو قضية نص الموطأ والمراد بعدم صحتها للوارث عدم اللزوم لأن الأكثر على أنها موقوفة على إجازة الوارث كما قال مالك
____________________
(4/86)
( إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت وإنه إن أجاز له بعضهم وأبى بعض جاز له حق من أجاز منهم ومن أبى أخذ حقه ) لأن المنع في الأصل لحق الورثة فإذا أجازوه لم يمتنع وقد روى الدارقطني عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا لا تجوز وصية لوارث إلا أن تشاء الورثة
ورجاله ثقات وإن أعل بأنه قيل إن عطاء هو الخراساني فقد وثقه ابن عبد البر وغيره فهذه الزيادة حجة واضحة على داود والمزني في قولهما إنها باطلة للوارث ولغيره بأزيد من الثلث لو أجازها والورثة
( وسمعت مالكا يقول في المريض الذي يوصي فيستأذن ورثته في وصيته وهو مريض ليس له من ماله إلا ثلثه ) يتصرف فيه فيأذنون له ( أن يوصي لبعض ورثته أو ) لغير وارث ( بأكثر من ثلثه إنه ليس لهم أن يرجعوا في ذلك ) إذا مات من مرضه إلا أن يكون المجيز في عائلته ويخشى من امتناعه قطع معروفه عنه لو عاش فله الرجوع ( ولو جاز لهم ذلك ) أي الرجوع ( صنع كل وارث ذلك فإذا هلك الموصي أخذوا ذلك لأنفسهم ومنعوه الوصية في ثلثه و ) منعوه ( ما أذن ) بالبناء للمجهول ( له به في ماله قال فأما أن يستأذن ورثته في وصية يوصي بها لوارث في صحته فيأذنون له فإن ذلك لا يلزمهم ) لأنهم أسقطوا قبل الوجوب وقبل جريان سببه ( ولورثته أن يردوا ذلك إن شاؤوا وذلك أن الرجل إذا كان صحيحا كان أحق بجميع ماله يصنع فيه ما شاء إن شاء أن يخرج من جميعه خرج ) وبين الخروج بقوله ( يتصدق به أو يعطيه من شاء ) فلما لم يكن محجوبا عنه لم يلزمهم إذنهم إذ لو شاء لملك من أوصى له في الحال بلا استئذان ( وإنما يكون استئذانه ورثته جائزا على الورثة إذا أذنوا له حين يحجب عنه ماله ) بسبب المرض القوي ( ولا يجوز له شيء إلا في ثلثه وحين هم أحق بثلثي ماله منه فذلك حين يجوز عليهم أمرهم وما أذنوا له به ) لكونه بعد جريان السبب فليس من إسقاط الشيء قبل وجوبه بلا سبب
____________________
(4/87)
( فإن سأل ) المريض ( بعض ورثته أن يهب له ميراثه حين تحضره الوفاة ) أي أسبابها ( فيفعل ثم لا يقضي فيه الهالك شيئا فإنه رد ) مردود ( على من وهبه إلا أن يقول له الميت فلان لبعض ورثته ضعيف وقد أحببت أن تهب له ميراثك فأعطاه إياه فإن ذلك جائز إذا سماه الميت له ) لأنها هبة لمعين ( وإن وهب له ميراثه ثم أنفذ الهالك بعضه وبقي بعض فهو ) أي البعض الباقي ( رد على الذي وهب يرجع إليه ما بقي بعد وفاة الذي أعطيه مالك فيمن أوصى بوصية فذكر أنه كان قد أعطى بعض ورثته شيئا لم يقبضه ) المعطى بالفتح ( فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك فإن ذلك يرجع إلى الورثة ميراثا على كتاب الله تعالى لأن الميت لم يرد أن يقع شيء من ذلك في ثلثه و ) لذلك ( لا يحاص أهل الوصايا في ثلثه بشيء من ذلك )
47 ما جاء في المؤنث من الرجال ومن أحق بالولد نبه بالتعبير بالمؤنث على أنه المراد بالمخنث في حديث الباب وهو كما في التمهيد من لا أرب له في النساء ولا يهتدي إلى شيء من أمورهن فيجوز دخوله عليهن فإن فهم معانيهن منع دخوله كما منع المخنث المذكور في الحديث لأنه حيئذ ليس ممن قال الله تعالى فيهم { غير أولي الإربة من الرجال } سورة النور الآية 31 وقد اختلف في معناه اختلافا متقاربا معناه يجمعه أنه من لا فهم له ولا همة يتنبه بها إلى أمر النساء ولا يشتهيهن ولا يستطيع غشيانهن وليس المخنث الذي يعرف فيه الفاحشة خاصة وإنما هو شدة التأنيث في الخلقة حتى يشبه المرأة في اللين والكلام والنظر والنغمة والفعل والعقل سواء كانت فيه عاهة الفاحشة أم لا
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ) هكذا رواه الجمهور مرسلا ورواه سعيد بن أبي مريم عن مالك عن هشام عن أبيه عن أم سلمة أخرجه ابن عبد البر وقال الصواب ما في الموطأ ولم يسمعه عروة
____________________
(4/88)
من أم سلمة وإنما رواه عن بنتها زينب عنها كما رواه ابن عيينة وأبو معاوية عن هشام ثم أخرجه من الطريقين ورواية ابن عيينة عند البخاري في المغازي ورواية أبي معاوية عند مسلم في الاستئذان وله طرق عديدة في الصحيحين وغيرهما كلها عن هشام عن أبيه عن زينب عن أم سلمة ( أن مخنثا ) بضم الميم وفتح الخاء المعجمة والنون على الأشهر وكسرها أفصح آخره مثلثة وهو من فيه انخناث أي تكسر ولين كالنساء وهو المعروف عندنا اليوم بالمؤنث واسمه هيت كما قال ابن جريج عند البخاري وأخرجه ابن حبان عن عائشة بكسر الهاء وسكون التحتية ثم فوقية وقيل بفتح الهاء وضبطه ابن درستويه بكسر الهاء وسكون النون وموحدة وزعم أن ما سواه تصحيف قال والهنب الأحمق وذكر ابن إسحاق أن اسمه ماتع بفوقية وقيل بنون وفي أن ماتع لقب هيت أو عكسه أو هما اثنان خلاف وقيل اسمه أنة بفتح الهمزة وشد النون ورجح في الفتح أن اسمه هيت
( كان عند أم سلمة ) هند بنت أبي أمية المغيرة المخزومي ( زوج النبي صلى الله عليه وسلم ) وأخرج أبو يعلى وغيره عن الزهري عن عروة عن عائشة أن هيتا كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ( فقال لعبد الله بن أبي أمية ) المخزومي أخي أم سلمة لأبيها وأمه عاتكة عمته صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم ذاهب إلى فتح مكة فشهده وشهد حنينا والطائف فاستشهد بها بسهم أصابه وكان هيت مولى فقال له ( ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غدا ) زاد أبو أسامة عن هشام عند البخاري وهو محاصر الطائف يومئذ ( فأنا أدلك على ابنة غيلان ) بفتح الغين المعجمة وسكون التحتية ابن سلمة بن معتب ابن مالك الثقفي أسلم بعد فتح الطائف على عشر نسوة فأمره صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعا واسمها بادية بموحدة فألف فمهملة فتحتية عند الأكثر وقيل بالنون وصوب أبو عمر التحتية أسلمت وسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستحاضة وتزوجها عبد الرحمن ابن عوف فولدت له بريهة في قول ابن الكلبي ( فإنها تقبل في أربع ) من العكن بضم ففتح جمع عكنة وهي ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمنا ( وتدبر بثمان ) منها قال مالك والجمهور معناه أن في بطنها أربع عكن ينعطف بعضها على بعض فإذا أقبلت رؤيت مواضعها بارزة متكسرا بعضها على بعض وإذا أدبرت كأن أطرافها عند منقطع جنبيها ثمانية ولم يقل بثمانية مع أن واحد الأطراف مذكر لأنه لم يقل ثمانية أطراف كما يقال هذا الثوب سبع في ثمان أي سبعة أذرع في ثمانية أشبار فلما لم يذكر الأشبار أنث لتأنيث الأذرع التي قبلها أو لأنه جعل كلا من الأطراف عكنة تسمية للجزء باسم الكل قيل وهذا أحسن
وأما رواية من روى إذا أقبلت قلت تمشي على ستة وإذا أدبرت قلت على أربع فكأنه يعني ثدييها ورجليها وطرفي ذلك منها مقبلة ومدبرة وإنما نقص إذا أدبرت لأن الثديين يحتجبان حينئذ وزاد الكلبي والواقدي بعد قوله بثمان مع ثغر كالأقحوان إن جلست
____________________
(4/89)
تثنت وإن تكلمت تغنت بين رجليها مثل الإناء المكفوء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لقد حلقت النظر فيها يا عدو الله ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى قال ابن عبد البر قالوا قوله تغنت من الغنة لا من الغناء أي تتغنن في كلامها من لينها ورخامة صوتها يقال تغنن وتغنى مثل تظنن وتظنى ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخلن هؤلاء ) المخنثون ( عليكم ) بالميم في جميع النسوة للتعظيم كقوله وإن شئت حرمت النساء سواكمو وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا وقوله وكم ذكرتك لو أجزى بذكركمو يا أشبه الناس كل الناس بالقمر وفي رواية عليكن بالنون
وفي شرح أمالي القالي لأبي عبيد البكري كان بالمدينة ثلاثة من المخنثين يدخلون على النساء فلا يحجبهم هيت وهرم ومانع اه
فكأن الإشارة بهؤلاء إليهم
وذكر عبد الملك بن حبيب عن حبيب كاتب مالك قلت لمالك إن سفيان زاد في حديث ابنة غيلان أن مخنثا يقال له هيت فقال مالك صدق وغربه صلى الله عليه وسلم إلى الحمى وهو موضع من ذي الحليفة ذات الشمال من مسجدها قال حبيب وقلت لمالك وقال سفيان في الحديث إذا قعدت تثنت وإذا تكلمت تغنت فقال صدق كذلك هو في الحديث
قال ابن عبد البر هذا غير معروف عن مالك ولا سفيان ولم يقل في نسق الحديث إن مخنثا يدعى هيتا إنما قاله عن ابن جريج بعد تمام الحديث وأما أذا قعدت الخ فلم يقله أحد في حديث هشام ولا يحفظ إلا من رواية الواقدي وابن الكلبي فعجب من حبيب يحكيه عن سفيان وأن مالكا صدقه فصار رواية عنهما ولم يروه أحد عنهما غير حبيب وهو ضعيف متروك باتفاق لا يكتب حديثه ولا يلتفت إليه
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعد بن أبي وقاص أنه خطب امرأة وهو بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ليت عندي من رآها ومن يخبرني عنها فقال رجل مخنث يدعى هيتا أنا أنعتها لك إذا أقبلت قلت تمشي على ستة وإذا أدبرت قلت تمشي على أربع فقال صلى الله عليه وسلم ما أرى هذا إلا منكرا ما أراه إلا يعرف أمر النساء وكان يدخل على سودة فنهاه أن يدخل عليها فلما قدم المدينة نفاه فكان كذلك حتى أمر عمر فجهد فكان يرخص له يدخل المدينة يوم الجمعة فيتصدق عليه قال ابن وضاح يعني يسأل الناس وهذه المرأة التي خطبها سعد يحتمل أنها ابنة غيلان ولم يتزوجها إنما تزوجها ابن عوف كما مر ويحتمل أنها غيرها وهو ظاهر اختلاف السياق
وأخرج المستغفري عن ابن المنكدر أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى هيتا في كلمتين تكلم بهما قال لعبد الرحمن بن أبي بكر إذا فتحتم الطائف غدا فعليكم بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فبلغ
____________________
(4/90)
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا تدخلوهم بيوتكم وعند ابن إسحاق أنه قال لخالد بن الوليد إن فتحت الطائف فلا تفلتن منك بادية بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال صلى الله عليه وسلم حين سمع هذا منه ألا أرى هذا الخبيث يفطن لما أسمع ثم قال لنسائه لا يدخلن عليكم فحجب عن بيته صلى الله عليه وسلم وطريق الجمع أنه حض كلا من سيده عبد الله ابن أبي أمية وخالد وعبد الرحمن بن الصديق عليها ووصفها لهم بتلك المحاسن فسمعه المصطفى لما أخبر سيده وابن الصديق وبلغه لما أخبر خالد قال ابن الكلبي ولم يزل هيت بالمكان الذي نفي إليه حتى ولي أبو بكر فكلم فيه فأبى رده فلما ولي عمر كلم فيه فأبى ثم كلم فيه بعد وقيل إنه كبر وضعف واحتاج فأذن له يدخل كل جمعة يسأل ويرجع إلى مكانه ونحو هذا مر من حديث سعد
وذكر ابن وهب في جامعه عمن سمع أبا معشر قال أمر به صلى الله عليه وسلم فغرب إلى عير جبل بالمدينة عند ذي الحليفة فشفع له ناس عن الصحابة فقالوا إنه يموت جوعا فأذن له أن يدخل كل جمعة يستطعم ثم يلحق بمكانه فلم يزل هناك حتى مات
ويحتمل الجمع بينهما بأن أصل الإذن في دخوله كل جمعة وقع منه صلى الله عليه وسلم بشفاعة الصحابة ثم لما توفي كلم أبو بكر ثم عمر في رده إلى المدينة رأسا نظرا لمن تكلم إلى أن تعزيره بالنفي قد استوفي بتلك المدة فامتنع العمران من ذلك لأنهما لم يريا نقض فعل المصطفى ولعل عمر زاد في منعه حتى عن يوم الجمعة لقطع طمع من أراد إدخاله رأسا إلى أن وصف له حاله فأذن له في الدخول يومها فنسب إليه لذلك وإن كان أصله منه صلى الله عليه وسلم
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أنه قال سمعت القاسم بن محمد ) بن أبي بكر ( يقول كانت عند عمر بن الخطاب امرأة من الأنصار ) هي جميلة بفتح الجيم وكسر الميم بنت ثابت ابن أبي الأقلح بالقاف واللام والمهملة الأنصارية أخت عاصم كان اسمها عاصية فسماها النبي صلى الله عليه وسلم جميلة تزوجها عمر سنة سبع ( فولدت له عاصم بن عمر بن الخطاب ) ولد في الحياة النبوية ومات صلى الله عليه وسلم وله سنتان قاله كله في الاستيعاب
وقال أبو أحمد العسكري ولد في السادسة فعليه يكون عمر تزوج أمه قبل ذلك
وذكر الزبير ابن بكار أن عمر زوجه وأنفق عليه شهرا ثم قال حسبك وكان من أحسن الناس خلقا
قال ابن سيرين عن رجل حدثه ما رأيت أحدا إلا ولا بد أن يتكلم ببعض ما لا يريد إلا عاصم بن عمر وقال أخوه عبد الله ( أنا وأخي عاصم لا نغتاب الناس وكان طويلا جسيما حتى أن ذراعه يزيد على نحو شبرين وهو جد عمر بن عبد العزيز لأمه ثم إنه فارقها ) فتزوجها يزيد بن جارية بالجيم فولدت له عبد الرحمن ( فجاء عمر قباء ) بضم القاف والمد مذكر ( فوجد ابنه عاصما يلعب بفناء المسجد ) أي مسجد قباء وهو ابن أربع سنين كما عند ابن عبد البر وفي تاريخ البخاري ابن ست سنين ( فأخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة فأدركته جدة الغلام ) لأمه الشموس بفتح الشين المعجمة وضم الميم وسكون الواو وسين مهملة بنت أبي عامر بن صيفي الأنصارية من بني عمرو بن عوف من أول بايع
____________________
(4/91)
النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الأنصار هي وبنتها ( فنازعته إياه ) طلبت أخذه منه فامتنع ( حتى أتيا أبا بكر الصديق ) وهو خليفة ( فقال عمر ابني ) فأنا أحق به ( وقالت المرأة ابني ) فأنا أحق به لأن النساء أعلم بمصالح الصبيان من الرجال
( فقال أبو بكر الصديق خل بينها وبينه فما راجعه عمر الكلام ) وخلى بينهما انقيادا للحق ومات عاصم بالربذة سنة سبعين عند الواقدي ومن تبعه وقبل سنة ثلاث وسبعين
( مالك وهذا الأمر الذي آخذ به في ذلك ) وهو أن الجدة للأم مقدمة في الحضانة على الأب
48 العيب في السلعة وضمانها ( مالك في الرجل يبتاع السلعة من الحيوان أو الثياب أو العروض فيوجد ذلك البيع غير جائز فيرد ويؤمر الذي قبض السلعة أن يرد إلى صاحبه سلعته قال مالك فإن دخلها زيادة أو نقصان ) لتغير سوقها ونحوه ( فليس لصاحب السلعة إلا قيمتها يوم قبضت منه وليس يوم يرد ذلك إليه ) لأنه قد يخالف يوم القبض ( وذلك أنه ضمها من يوم قبضها ) لأن ضمان البيع الفاسد بالقبض ( فما كان فيها من نقصان بعد ذلك كان عليه فبذلك ) أي بسببه ( كان نماؤها وزيادتها ) عطل تفسير ( له وأن الرجل يقبض السلعة في زمان هي فيه نافقة ) بالقاف رابحة ( مرغوب فيها ثم يردها في زمان هي فيه ساقطة ) بائرة كاسدة ( لا يريدها أحد فيقبض الرجل السلعة من الرجل فيبيعها بعشرة دنانير ويمسكها وثمنها ذلك ) أي العشرة ( ثم يردها وإنما ثمنها دينار ) لكسادها ( فليس له أن يذهب من مال الرجل بتسعة دنانير أو يقبضها منه الرجل فيبيعها بدينار أو يمسكها وإنما ثمنها دينار ثم يردها وقيمتها يوم يردها عشرة دنانير
____________________
(4/92)
فليس على الذي قبضها أن يغرم لصاحبها من ماله تسعة دنانير إنما عليه قيمة ما قبض يوم قبضه ) وذلك هو العدل
( ومما يبين ذلك أن السارق إذا سرق السلعة فإنما ينظر إلى ثمنها يوم يسرقها فإن كان يجب فيه القطع ) بأن بلغ النصاب ( كان ذلك عليه وإن استأخر قطعه إما في ) أي بسبب ( سجن يحبس فيه حتى ينظر في شأنه ) أيلزمه القطع أم لا ( وإما أن يهرب ) بضم الراء ( السارق ثم يؤخذ بعد ذلك فليس استئخار ) أي تأخير ( قطعه ) لواحد من الأمرين ( بالذي يضع ) يسقط ( عنه حد قد وجب عليه يوم سرق وإن رخصت تلك السلعة بعد ذلك ) مبالغة ( ولا بالذي يوجب عليه قطعا لم يكن وجب عليه يوم أخذها ) لنقص ثمنها عن النصاب ( إن غلت تلك السلعة بعد ذلك ) فالعبرة بيوم السرقة
49 جامع القضاء وكراهته ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أن أبا الدرداء ) عويمرا بالتصغير وقيل عامر الصحابي الجليل أول مشاهده أحد وهذا منقطع لكن أخرجه الدينوري في المجالسة من وجه آخر عن يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن هبيرة قال ( كتب ) أبو الدرداء ( إلى سلمان الفارسي ) أبي عبد الله الرامهرمزي وقيل الأصبهاني ويقال له سلمان الخير أول مشاهده الخندق ( أن هلم إلى الأرض المقدسة ) زاد الدينوري وأرض الجهاد ( فكتب إليه سلمان إن الأرض لا تقدس أحدا ) لا تطهره من ذنوبه ولا ترفعه إلى أعلى الدرجات ( وإنما يقدس الإنسان عمله ) الصالح في أي مكان ( وقد بلغني أنك جعلت طبيبا ) أي قاضيا وكان أبو
____________________
(4/93)
الدرداء جعل قاضيا بالشام وهو أول من ولي القضاء بها كأنه سمي بذلك لأنه يبرىء من الأمراض المعنوية كما يبرىء المداوي من الحسية وإليه يشير قوله ( تداوي فإن كنت تبرىء فنعما لك ) بكسر النون وفتحها والعين مكسورة وبهما قرىء أي نعم شيئا الإبراء ( وإن كنت متطببا ) بموحدتين متعاطيا لعلم الطب بدون إبراء ( فاحذر أن تقتل إنسانا فتدخل النار ) أي تستحق دخولها إن لم يعف عنك ( فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا ) وليا ( عنه نظر إليهما وقال ارجعا إلي أعيدا علي قصتكما ) لكي أتثبت في الأمر ( متطبب والله ) متعاط للطب بلا إبراء
( مالك من استعان عبدا بغير إذن سيده في شيء له بال ولمثله إجارة فهو ) أي المستعين ( ضامن لما أصاب العبد إن أصيب العبد بشيء وإن سلم العبد فطلب سيده إجارته لما عمل فذلك لسيده وهو الأمر عندنا ) بدار الهجرة
( مالك في العبد يكون بعضه حرا وبعضه مسترقا ) أي رقيقا ( أنه يوقف ماله بيده وليس له أن يحدث فيه شيئا ولكنه يأكل فيه ) ولابن وضاح منه ( ويكتسي بالمعروف ) بلا سرف ( فإذا هلك ) مات ( فماله للذي بقي له فيه الرق ) ولو قل جزء رقه ( والأمر عندنا أن الوالد يحاسب ولده بما أنفق عليه من يوم يكون للولد مال ) إذ لا تجب نفقته على ولده الغني بمال ( ناضا ) أي نقدا ( كان ) المال ( أو عرضا إن أراد الوالد ذلك ) لا إن لم يرده
( مالك عن عمر ) بضم العين ( ابن عبد الرحمن ) بن عطية ( بن دلاف ) بفتح الدال مضبوط في النسخ الصحيحة وضبطه بعضهم بضمها وآخره فاء ( المزني ) نسبة إلى مزينة المدني وقد يسقط عطية من نسبه كما هنا روى عن أبيه وعن أبي أمامة في خروج الدابة
وعنه مالك وعبيد الله العمري وعبد العزيز بن أبي سلمة وقريش بن حيان وغيرهم
وذكره البخاري ولم يذكر فيه جرحا وكفى برواية مالك
____________________
(4/94)
عنه توثيقا ( عن أبيه ) هكذا لبعض الرواة وبعضهم لم يقل عن أبيه والصواب إثباته قاله ابن الحذاء وقد وصله الدارقطني وابن أبي شيبة من طريق عبيد الله بن عمر عن ابن دلاف عن أبيه عن بلال بن الحارث عن عمر ( أن رجلا ) هو الأسيفع ( من جهينة ) بضم الجيم وفتح الهاء قبيلة من قضاعة ( كان يسبق الحاج فيشتري الرواحل ) جمع راحلة الناقة الصالحة للرحل ( يغلي ) بضم التحتية وإسكان المعجمة يزيد ( بها ثم يسرع السير فيسبق الحاج فأفلس ) افتقر وقل ماله ( فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب فقال ) وفي رواية عبد الرزاق فدار عليه دين حتى أفلس فقام عمر على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال لا يغرنكم صيام رجل ولا صلاته ولكن انظروا إلى صدقه إذا حدث وإلى أمانته إذا أؤتمن وإلى ورعه إذا استغنى ثم قال ( أما بعد أيها الناس فإن الأسيفع ) بضم الهمزة وفتح المهملة وبالفاء مصغر الجهني أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره ( أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج ) وذلك ليس بدين ولا أمانة والمعنى بذلك ذمه تحذيرا لغيره وزجرا له
( ألا ) بالفتح والتخفيف ( وإنه قد دان ) اشترى إلى أجل مسمى ( معرضا ) عن قضائه قال الهروي أي اشترى بدين ولم يهتم بقضائه ( فأصبح قد رين به ) بكسر الراء وتحتية ساكنة ونون قال الهروي يعني أحاط بماله الدين ( فمن كان له عليه دين فليأتنا بالغداة نقسم ماله بينهم ) أي بين غرمائه ( وإياكم والدين ) أي احذروه ( فإن أوله هم ) أي حزن ( وآخره حرب ) بفتح الراء وسكونها أخذ مال الإنسان وتركه لا شيء له
فائدة أخرج الخطيب البغدادي في كتابه تالي التلخيص عن ابن عمر قال تخرج الدابة من جبل جياد في أيام التشريق والناس بمنى قال فلذلك جاء سابق الحاج يخبر بسلامة الناس قال السيوطي هذا أصل لقدوم المبشر عن الحاج وفيه بيان سبب ذلك وأنه كان في زمن عمر بن الخطاب إلا أن المبشر الآن يخرج من مكة يوم العيد وحقه أن لا يخرج إلا بعد أيام التشريق لكن خرج ابن مردويه في تفسيره عن حذيفة بن أسيد أراه رفعه قال تخرج الدابة من أعظم المساجد حرمة فبينما هم قعود تربو الأرض فبينما هم كذلك إذ تصدعت قال ابن عيينة تخرج حين يسير الإمام من جمع وإنما جعل سابق الحاج ليخبر الناس أن الدابة لم تخرج فهذا يقتضي أن خروج المبشر يوم العيد واقع موقعه
____________________
(4/95)
ما جاء فيما أفسد العبيد أو جرحوا ( مالك السنة عندنا في جناية العبيد أن كل ما أصاب العبد من جرح ) بالضم مصدر ( جرح ) بالفتح فعل ( به إنسانا أو شيء اختلسه ) أخذه بخفية ( أو حريسة ) فعيلة بمعنى مفعولة أي محروسة ( احترسها ) سرقها وحريسة الجبل الشاة يدركها الليل قبل رجوعها إلى مأواها فتسرق من الجبل فلا قطع فيها لأن الجبل ليس بحرز ( أو ثمر معلق جذه ) قطعه ( أو أفسده ) وأن لم يحده ( أو سرقة سرقها لا قطع عليه فيها ) لفقد شرطه ( إن ذلك في رقبة العبد لا تعد وذلك الرقبة قل ذلك أو كثر ) عن قيمة رقبته
( فإن شاء سيده أن يعطي قيمة ما أخذ غلامه أو أفسد أو عقل ) أي دية ( ما جرح أعطاه وأمسك غلامه وإن شاء أن يسلمه أسلمه وليس عليه شيء غير ذلك فسيده في ذلك بالخيار ) بين فدائه وإسلامه
51 ما يجوز من النحل ( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عثمان بن عفان قال من نحل ) أعطى ( ولدا له صغيرا لم يبلغ أن يحوز نحله ) بكسر النون وضمها ( فأعلن ذلك له ) أظهره ( وأشهد عليها ) أي النحلة ( فهي جائزة وإن وليها أبوه ) له وظاهره ولو نقدا لكن
( قال مالك الأمر عندنا أن من نحل ابنا له صغيرا ذهبا أو ورقا ) فضة ( ثم هلك ) مات الابن ( وهو يليه أنه لا شيء للابن من ذلك إلا أن يكون ) الأب ( عزلها بعينها أو دفعها إلى رجل وضعها لابنه عند ذلك الرجل فإن فعل ذلك فهو جائز للابن ) لتمام ملكه
____________________
(4/96)
5111111 1 1
20 كتاب العتق والولاء العتق بكسر المهملة إزالة الملك يقال عتق يعتق عتقا بكسر أوله وتفتح وعتاقا وعتاقة قال الأزهري مشتق من قولهم عتق الفرس إذا سبق وعتق الفرخ إذا طار لأن الرقيق يتخلص بالعتق ويذهب حيث شاء
1 من أعتق شركا له في مملوك إشارة إلى أن لفظ عبد في حديث الباب المراد به المملوك ذكرا أو أنثى وهو تنبيه لطيف ترجم به لأن في بعض طرق الحديث بلفظ مملوك وقد أسلفت غير مرة أنه تارة يقدم الترجمة بكتاب لأنه يجعلها كالعنوان فيجعل البسملة مبدأ المقصود وتارة يقدم البسملة على كتاب تفننا
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ) رضي الله عنهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أعتق ) يحتمل أن من شرطية أو موصولة وعلى التقديرين فهي من صبغ العموم فتتناول كل من يلزمه عتقه وهو الحر المسلم المكلف لا صبي ومجنون وعبد لم يأذن له سيده فإن أذن أو أمضاه لزمه وقوم عليه ولا كافر لأن العتق قرية وليس من أهلها ولأنه ليس بمخاطب بالفروع على الصحيح كذا قاله الأبي ( شركا ) بكسر المعجمة وسكون الراء وفي رواية أيوب عن نافع شقصا بمعجمة مكسورة وقاف ساكنة ومهملة وفي أخرى عن أيوب أيضا وكلاهما في البخاري عن نافع نصيبا والكل بمعنى والشرك في الأصل مصدر أطلق على متعلقه وهو العبد المشترك ولا بد من إضمار جزءا مشتركا وما أشبهه لأن المشترك هو الجملة ( له في عبد ) قال القرطبي العبد لغة المملوك الذكر ومؤنثه أمة من غير لفظه وسمع عبدة والمراد به هنا الجنس كقوله تعالى { إلا آتي الرحمن عبدا } سورة مريم الآية 93 فإنه يتناول الذكر والأنثى قطعا أو إلحاقا للأنثى به لعدم الفارق
____________________
(4/97)
قال عياض وغلط ابن راهويه فقال لا تقويم في عتق الإناث وقوفا مع لفظ عبد وأنكره عليه حذاق أهل الأصول لأن الأمة في معنى العبد فهو من القياس في معنى الأصل والقياس في معنى الأصل كالمنصوص عليه اه
وقد أخرجه مسدد في مسنده من طريق عبيد الله ومن طريق جويرية بن أسماء كلاهما عن نافع بلفظ من أعتق شركا له في مملوك وهو يشمل الأنثى نصا وأصرح من ذلك ما رواه الدارقطني عن الزهري عن نافع عن ابن عمر من كان له شريك في عبد أو أمة ( فكان له مال ) هو ما يتمول والمراد به هنا ما يسع نصيب الشريك ويباع عليه في ذلك ما يباع على المفلس قاله عياض وفي رواية ما بلا لام أي شيء ( يبلغ ثمن العبد ) أي ثمن بقيته لأنه موسر بحصته والمراد قيمته لأن الثمن ما اشتري به واللازم هنا القيمة لا الثمن وقد بين المراد في رواية النسائي عن عبيد الله وعمر بن نافع ومحمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر بلفظ وله مال يبلغ قيمة أنصباء شركائه فإنه يضمن لشركائه أنصباءهم ويعتق العبد ( قوم ) بضم القاف وكسر الواو ثقيلة ( عليه قيمة العدل ) بأن لا يزاد على قيمته ولا ينقص عنها زاد في رواية لمسلم والنسائي لا وكس ولا شطط بفتح الواو وسكون الكاف ومهملة أي نقص وشطط بمعجمة ثم مهملتين والفتح أي جور
ووقع في رواية الشافعي والحميدي عن سفيان عن عمرو عن سالم عن أبيه فإنه يقوم عليه بأعلى القيمة أو قيمة عدل وهو شك من سفيان وقد رواه أكثر أصحابه عنه بلفظ قوم عليه قيمة عدل وهو الصواب والتقييد بقوله يبلغ يخرج ما إذا كان له مال لا يبلغ قيمة النصب فظاهره أنه في هذه الصورة لا يقوم عليه مطلقا لكن الأصح عند الشافعية وهو مذهب مالك أنه يسري إلى القدر الذي هو موسر به تنفيذا للعتق بحسب الإمكان قاله الحافظ
( فأعطى ) بالبناء للفاعل ( شركاءه ) بالنصب هكذا رواه الأكثر ولبعضهم ببناء أعطى للمجهول ورفع شركاؤه ( حصصهم ) أي قيمة حصصهم فإن كان الشريك واحدا أعطاه جميع الباقي اتفاقا فلو كان مشتركا بين ثلاثة فأعتق أحدهم حصته وهي الثلث والثاني حصته وهي السدس ففي تقويم نصيب صاحب النصف بالسوية لتساويهما في الإتلاف ولأنه لو انفرد لقوم عليه قل نصيبه أو كثر أو يقوم على قدر الحصص قولان الجمهور على الثاني وهو المشهور ومذهب المدونة قال القرطبي وظاهره أنه يقوم كاملا لا عتق فيه وهو معروف المذهب وقيل يقوم على أن بعضه حر والأول أصح لأن سبب التقويم جناية المعتق بتفويته نصيب شريكه فيقوم على ما كان عليه يوم الجناية كالحكم في سائر الجنايات المقومة قال عياض ولأن المعتق كان قادرا على أن يدعو شريكه ليبيع جميعه فيحصل له نصف جميع الثمن فلما منعه هذا ضمنه ما منعه منه ( وعتق ) بفتح العين ( عليه العبد ) بعد إعطاء القيمة على ظاهره فلو أعتق الشريك قبل أخذ القيمة نفذ عتقه على المشهور ( وإلا ) أي وإن لم يكن له مال ( فقد عتق منه ما عتق ) بفتح العين في الأول ويجوز الفتح والضم في الثاني كذا قال الدراوردي وردده ابن التين بأنه لم يقله غيره وإنما يقال
____________________
(4/98)
عتق بالفتح وأعتق بضم الهمزة ولا يعرف عتق بضم أوله لأن الفعل لازم غير متعد اه
ثم هذا من لفظه صلى الله عليه وسلم فإنه لم يختلف عن مالك في وصلها وكذا عن عبيد الله بن عمر وإن اختلف عليه في إثباتها وحذفها وزعم ابن وضاح وجماعة أنه مدرج من قول نافع تعلقا بما في البخاري عن أيوب قال نافع وإلا فقد عتق منه ما عتق
قال أيوب لا أدري أشيء قاله نافع أو شيء في الحديث قال الحافظ هذا شك من أيوب في هذه الزيادة المتعلقة بحكم المعسر هل هي موصولة مرفوعة أو مدرجة مقطوعة وقد رواه عبد الوهاب عن أيوب فقال وربما قال وإن لم يكن له مال فقد عتق منه ما عتق وربما لم يقله وأكثر ظني أنه شيء يقوله نافع من قبله أخرجه النسائي ووافق أيوب على الشك يحيى بن سعيد عن نافع عند مسلم والنسائي ورواها من وجه آخر عن يحيى فجزم أنها عن نافع أدرجها وجزم مسلم بأن أيوب ويحيى شكا والذين أثبتوها حفاظ فلم يختلف عن مالك في وصلها ولا عن عبيد الله بن عمر وإن اختلف عليه في إثباتها وحذفها فأثبتها عنه كثيرون ولم يذكرها آخرون أي والحجة فيمن ذكر لا فيمن ترك وأثبتها أيضا جرير بن حازم عند البخاري وإسماعيل بن أمية عند الدارقطني ورجح الأئمة رواية من أثبتها مرفوعة قال الشافعي لا أحسب عالما بالحديث يشك في أن مالكا أحفظ لحديث نافع من أيوب لأنه كان ألزم له منه حتى لو استويا فشك أحدهما في شيء لم يشك فيه صاحبه كانت الحجة مع من لم يشك ويؤيده قول عثمان الدارمي قلت لابن معين مالك في نافع أحب إليك أو أيوب قال مالك اه
وتضمن الحديث أنه لا بد من نفوذ عتق نصيب للمعتق قال عياض ولا خلاف فيه بين فقهاء الأمصار إلا ما روي عن ربيعة من إبطاله موسرا أو معسرا وهو قول لا أصل له
قال القرطبي وكأنه راعى حق الشريك لما يدخل عليه من الضرر بحرية الشقص وهو قياس فاسد الوضع لأنه في محل النص ثم يلزمه أن يبطل حكم الحديث أصلا لأنه مخالف للقياس لما فيه من إخراج ملك الإنسان جبرا عليه وقال الحافظ كأن ربيعة لم يثبت عنده الحديث قال وفيه حجة على قول ابن سيرين يعتق كله ويكون نصيب من لم يعتق في بيت المال لتصريحه بالتقويم على المعتق وعلى قول أبي حنيفة يخير الشريك بين أن يقوم نصيبه أو يستسعى العبد في نصيب الشريك ويقال إنه لم يسبق إلى ذلك ولم يوافقه أحد حتى ولا صاحباه
قال ابن عبد البر لا خلاف أن التقويم لا يكون إلا على الموسر ثم اختلف في وقت العتق فقال الجمهور والشافعي في الأصح وبعض المالكية يعتق في الحال حتى لو أعتق الشريك نصيبه كان لغوا ويغرم المعتق حصة نصيبه بالتقويم لرواية أيوب عن نافع عند البخاري من أعتق نصيبا وكان له من المال ما يبلغ قيمته فهو عتيق والنسائي وابن حبان وغيرهما من طريق سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر بلفظ من أعتق عبدا وله فيه شركاء وله فيه وفاء فهو حر ويضمن نصيب شركائه بقيمته اه
وتعقب بأنه احتجاج لا يصح لأن روايات الحديث وإن كثرت ألفاظها فالحديث واحد والجمع بينهما برد المطلق إلى المقيد أولى من الترجيح فيقيد قوله فهو عتيق أو فهو حر بما إذا دفع القيمة لشريكه
____________________
(4/99)
لحديث الباب الظاهر في ذلك وهو المشهور عن مالك وأحد قولي الشافعي وإن كانت الواو لا تقتضي ترتيبا لكنها في سياق الأخبار بالأحكام ظاهرة فيه وقد استدل من قال بوجوب الترتيب في الوضوء بالآية مع أنها بالواو ويؤيده هنا رواية في البخاري قوم عليه ثم عتق وإن أجاز المخالف بأنه لا يلزم من ترتيب العتق على التقويم ترتيبه على أداء القيمة لأن التقويم يفيد معرفة القيمة وأما الدفع فقدر زائد على ذلك وهو مردود بأن جعل العتق متراخيا عن التقويم صريح في أنه لا يعتق في الحال كما قالوا فلو بادر الشريك بعتقه قبل أن يعطيه نفذ كما قلنا ويقويه أن الغرض من التكميل وجبر مالك البعض على أخذ القيمة إنما هو تتميم العتق فإذا طلع به نفذ على الأصل من تصرف الشخص في ملكه وفيه رد على من يرى استسعاء العبد وإكمال عتقه بكل حال لأنه إنما أوجب عتق ما عتق ورد ما سواه
وأما خبر الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا من أعتق شقصا له في عبد فخلاصه في ماله إن كان له مال فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه فأجيب عنه بأن قوله فإن لم يكن له الخ مدرج من قول قتادة كما بين ذلك في روايات أخر وبه جزم جمع من الحفاظ بالغ ابن العربي فقال اتفقوا على أن ذكر الاستسعاء ليس من قوله صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول قتادة وأبى ذلك آخرون منهم البخاري ومسلم فصححا كون الجميع مرفوعا وفي ذلك كلام طويل وحديث الباب أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه الليث بن سعد وجرير بن حازم وأيوب وعبيد الله ويحيى بن سعيد وإسماعيل بن أمية وأبو أسامة وابن أبي ذئب كلهم عن مسلم قائلا كل هؤلاء عن نافع عن ابن عمر بمثل حديث مالك انتهى
وبعض هؤلاء عند البخاري أيضا وغيره وطرقه كثيرة وتابع نافعا عليه سالم عن أبيه ابن عمر في الصحيحين وغيرهما
( قال مالك والأمر المجتمع عليه عندنا في العبد يعتق ) بفتح أوله ( سيده منه شقصا ) بكسر المعجمة وإسكان القاف وصاد مهملة ( ثلثه أو ربعه أو نصفه أو سهما من الأسهم ) ولو قلت ( بعد موته أنه لا يعتق منه إلا ما عتق سيده ويسمى من ذلك الشقص ) الذي أوصى بعتقه ( وذلك أن عتاقة ذلك الشقص إنما وجبت ) أي ثبتت ( وكانت ) أي وجدت ( بعد وفاة الميت ) لأنه وصية ( وأن سيده كان مخيرا في ذلك ما عاش ) أي مدة حياته ( فلما وقع العتق للعبد على سيده ) الموصي ( لم يكن للموصي إلا ما أخذ من ماله ولم يعتق ما بقي من العبد لأن ماله قد صار لغيره ) وهو ورثته وصار الميت معسرا
____________________
(4/100)
( فكيف يعتق ما بقي من العبد على قوم آخرين ليس هم ابتدؤوا العتق ولا أثبتوها ) أي العتاقة التي عبر بها أولا فلذا أنث ( ولا لهم الولاء ولا يثبت لهم وإنما صنع ذلك الميت هو الذي أعتق وأثبت ) بالبناء للمفعول ( الولاء له ) بالسنة ( فلا يحمل ذلك في مال غيره ) ووافقه الجمهور وحجتهم مع مفهوم الحديث أن السراية على خلاف القياس فيختص بمورد النص ولأن التقويم سبيله سبيل غرامة المتلفات فيقتضي التخصيص بصدور أمر يجعل إتلافا ( إلا أن يوصي بأن يعتق ما بقي منه في ماله وأن ذلك لازم لشركائه وورثته وليس لشركائه أن يأبوا ذلك عليه وهو في ثلث مال الميت لأنه ليس على ورثته في ذلك ضرر ) لأنه لم ينفذ حقه وهو الثلث وحاصله تخصيص التكميل في الحديث بحياة المعتق للبعض أو إيصائه بذلك بعد موته إما أن أوصى بعتق البعض فلا يكمل للتوجيه الوجيه الذي قاله
( ولو أعتق رجل ثلث عبده وهو مريض فبت عتقه أعتق عليه كله في ثلثه وذلك أنه ليس بمنزلة الرجل يعتق ثلث عبده ) أي يوصي بعتقه ( بعد موته لأن الذي يعتق ثلث عبده بعد موته لو عاش رجع فيه ) لأن له الرجوع في الوصية ( ولم ينفذ عتقه وأن العبد الذي يبت سيده عتق ثلثه في مرضه يعتق عليه كله إن عاش ) أي صح من مرضه دون نظر لثلث
( وإن مات أعتق عليه في ثلثه وذلك أن أمر الميت جائز في ثلثه كما أن أمر الصحيح جائز في ماله كله ) لعدم الحجر عليه
2 الشرط في العتق ( مالك من أعتق عبدا له فبت عتقه ) أي نجزه ( حتى تجوز شهادته وتتم حرمته ويثبت ميراثه فليس لسيده أن يشترط عليه مثل ما يشترط على عبده من مال أو خدمة ولا يحمل عليه شيئا من الرق )
____________________
(4/101)
أي لا يجريه على شيء من أحكامه ( لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أعتق ) ناجزا أو معلقا على شيء وجد عند الجمهور ( شركا ) أي شقصا أي نصيبا له ( في عبد ) أي رقيق ذكر أو أنثى ( قوم ) بالبناء للمفعول ( قيمة العدل ) فلا يزاد على قيمته ولا ينقص ( فأعطى شركاءه حصصهم ) أي قيمتها ( وعتق عليه ) العبد بعد الإعطاء بالحكم على أصح الروايتين عن الإمام كما يدل عليه لفظ قوم وظاهره العموم في كل من أعتق لكنه مخصوص باتفاق فلا يصح من مجنون ولا محجور عليه بسفه وفي المحجور عليه بفلس والعبد والمريض مرض الموت والكافر تفاصيل بحسب ما يظهر لهم من أدلة التخصيص وخرج بقوله أعتق ما إذا أعتق عليه بأن ورث بعض من يعتق عليه بقرابة فلا سراية عند الجمهور وعن أحمد رواية بالسراية
( قال مالك فهو إذا كان له العبد خالصا ) أي لا شريك له فيه ( أحق باستكمال عتاقته ) إذا أعتق بعضه ( ولا يخلطها بشيء من الرق ) لأنه إذا لزمه تكميله بدفع قيمته لشركائه فأولى إذا كان له كله وأعتق بعضه
3 من أعتق رقيقا لا يملك مالا غيرهم ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( وعن غير واحد ) كلهم ( عن الحسن بن أبي الحسن البصري ) واسم أبيه يسار بتحتية ومهملة الأنصاري مولاهم الثقة الفقيه الفاضل المشهور وكان يرسل كثيرا ويدلس قال البزار كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول حدثنا وخطبنا يعني قومه الذين حدثوا أو خطبوا بالبصرة مات سنة عشر ومائة وقد قارب التسعين
( وعن محمد بن سيرين ) الأنصاري أبي بكر ابن أبي عمرة البصري ثقة ثبت عابد كبير القدر كان لا يرى الرواية بالمعنى ومات سنة عشر ومائة عام موت الحسن وهما تابعيان فهو مرسل وصله النسائي من طريق قتادة وحميد الطويل وسماك بن حرب ثلاثتهم عن الحسن عن عمران بن حصين وابن عبد البر من طريق يزيد بن إبراهيم عن الحسن وابن سيرين عن عمران ومسلم من طريق هشام بن حسان وأبو داود من طريق أيوب ويحيى بن عتيق ثلاثتهم عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين ( أن رجلا ) من الأنصار كما في مسلم وأبي داود ( في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق عبيدا له ستة عند
____________________
(4/102)
موته ) زاد في رواية لمسلم وأبي داود ولم يكن له مال غيرهم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قولا شديدا وفسر في رواية أخرى وهي لو علمت ذلك ما صليت عليه فدعاهم ( فأسهم ) أي أقرع ( رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق ثلث تلك العبيد ) ولمسلم فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وبه احتج من أبطل الاستسعاء لأنه لو كان مشروعا لنجز من كل واحد منهم عتق ثلثه وأمره بالاستسعاء في بقية قيمته لورثة الميت وأجاب من أثبته بأنها واقعة عين فيحتمل أنها قبل مشروعية الاستسعاء وباحتمال أنه مشروع إلا في هذه الصورة وهي ما إذا أعتق جميع ما ليس له عتقه
( قال مالك فبلغني أنه لم يكن لذلك الرجل مال غيرهم ) ومعلوم أن بلاغه صحيح وقد رواه مسلم وأبو داود في حديث عمران كما رأيت
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رجلا في إمارة أبان ) بفتح الهمزة والموحدة فألف فنون ( ابن عثمان ) بن عفان على المدينة ( أعتق رقيقا له كلهم ولم يكن له مال غيرهم فأمر أبان بن عثمان بتلك الرقيق فقسمت أثلاثا ثم أسهم ) أي أقرع ( على أيهم يخرج سهم الميت فيعتقون فوقع السهم على أحد الأثلاث فعتق الثلث الذي وقع عليه السهم ) ورق الثلثان عملا بالحديث وفائدة ذكر هذا عقبه مع أن الحجة به بيان اتصال العمل به فلا يتطرق احتمال نسخه
4 مال العبد إذا عتق ( مالك عن ابن شهاب أنه سمعه يقول مضت السنة أن العبد إذا أعتق ) بفتح الهمزة والفوقية وبضم الهمزة وكسر الفوقية لأنه يبنى للمفعول إذا كان فيه همزة التعدية ( تبعه ماله ) إلا أن يستثنيه السيد قبل أن يعتقه قال أبو عمر قالوا لم يكن أحد أعلم بسنة ماضية من الزهري
( قال مالك ومما يبين ذلك ) وأبدل من هذه الإشارة قوله ( أن العبد إذا أعتق تبعه ماله ) كما قال ابن شهاب
( وأن المكاتب إذا كوتب
____________________
(4/103)
تبعه ماله وإن لم يشترطه ) لأنه أحرز نفسه وماله بالكتابة ( وذلك أن عقد الكتابة هو عقد الولاء إذا تم ذلك ) بأداء الكتابة ( وليس مال العبد والمكاتب بمنزلة ما كان لهما من ولد إنما أولادهما بمنزلة رقابهما ) أي ذواتهما ( ليسوا بمنزلة أموالهما لأن السنة التي لا اختلاف فيها أن العبد إذا عتق تبعه ماله ولم يتبعه ولده وأن المكاتب إذا كوتب تبعه ماله ولم يتبعه ولده ) لأن الأولاد ذوات كالآباء فلا يدخلون في الكتابة ولا العتق للآباء ( ومما يبين ذلك أيضا أن العبد والمكاتب إذا أفلسا أخذت أموالهما وأمهات أولادهما ولم تؤخذ أولادهما لأنهم ليسوا بأموال لهما ) بل لسادتهما
( ومما يبين ذلك أيضا أن العبد إذا بيع واشترط الذي ابتاعه ماله لم يدخل ولده في ماله ) بل هو لسيده ( ومما يبين ذلك أيضا أن العبد إذا جرح ) إنسانا ( أخذ هو وماله ) في جنايته ( ولم يؤخذ ولده ) ولو كان كماله لأخذ وأصل الباب ما رواه أصحاب السنن بإسناد صحيح عن ابن عمر مرفوعا من أعتق عبدا فمال العبد له إلا أن يستثنيه سيده وسبق في البيع حديث أن ماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع
وفرق أصحابنا بأن الأصل أن العبد لا يملك ملكا تاما لكن لما كان العتق صورة إحسان إليه ناسب ذلك أن لا ينزع منه ما بيده تكميلا للإحسان ومن ثم شرعت المكاتبة وساغ له أن يكتسب ويؤدي إلى سيده ولولا أن له تسلطا على ما بيده في العتق ما أغنى عنه ذلك شيئا
5 عتق أمهات الأولاد وجامع القضاء في العتاقة ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن ) أباه ( عمر بن الخطاب ) رضي الله عنه ( قال أيما وليدة )
____________________
(4/104)
أي أمة ( ولدت من سيدها فإنه لا يبيعها ولا يهبها ولا يورثها ) أي أنها لا تورث بعد موته ( وهو يستمتع بها ) بالوطء ومقدماته والخدمة القليلة ( فإذا مات فهي حرة ) والحرة من رأس المال وبهذا قال عثمان وأكثر التابعين والأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء لأن عمر لما نهى عنه فانتهوا صار إجماعا فلا عبرة بندور المخالف بعد ذلك ولا يتعين معرفة سند الإجماع وقد تعلق الأئمة بأحاديث أصحها حديث أبي سعيد أنهم قالوا إنا نصيب سبايانا فنحب الأثمان فكيف ترى في العزل هذا لفظ البخاري في البيع قال البيهقي فلولا أن الاستيلاد يمنع من نقل الملك لم يكن لعزلهم لأجل محبة الأثمان فائدة وحديث ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا ولا أمة رواه البخاري عن عمرو بن الحارث وابن حبان عن عائشة وقد عاشت مارية أم ولده إبراهيم بعده فلولا أنها خرجت عن وصف الرق لما صح قوله لم يترك أمة واحتمال أنه نجز عتقها خلاف الأصل ولم ينقل فلا يلتفت إليه
ووردت أحاديث أخر ضعيفة ولا يعارضها حديث جابر كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حي لا نرى بذلك بأسا أخرجه عبد الرزاق
وفي لفظ بعنا أمهات الأولاد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فلما كان عمر نهانا فانتهينا لأنهم لما انتهوا صار إجماعا فلا عبرة بندور المخالف بعده كما مر مع علم سند الإجماع
( مالك أنه بلغه ) مما أسنده عبد الرزاق وغيره من وجوه ( أن عمر بن الخطاب أتته وليدة ) أمة ( قد ضربها سيدها بنار وأصابها ) أي بالنار شك الراوي ولعبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال أقعد سفيان بن الأسود بن عبد الله أمة له على مقلاة له فاحترق عجزها فأتت عمر ( فأعتقها ) أي حكم عمر بعتقها لوقوع الحكم بالعتق بالمثلة منه صلى الله عليه وسلم في قصة سندر مع سيده زنباع بن سلامة الجذامي أخرج أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن زنباع أبا روح وجد غلاما مع جارية له فجدع أنفه وجبه فأتى العبد النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال لزنباع ما حملك على هذا فذكره فقال للعبد انطلق فأنت حر ورواه ابن منده وسمى العبد سندرا وإنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوص بي قال أوصي بك كل مسلم
وروى البغوي عن سند أنه كان عبدا لزنباع بن سلامة الجذامي فذكره
وروى ابن ماجه القصة عن زنباع نفسه بسند ضعيف
( قال مالك الأمر عندنا أنه لا يجوز عتاقة رجل وعليه دين يحيط بماله ) أي يستغرقه ( وإنه لا تجوز عتاقة الغلام ) الصبي ولو راهق ( حتى يحتلم ) أي ينزل في المنام ( أو حتى يبلغ مبلغ المحتلم ) بأن يبلغ يغير الاحتلام كالسن لأن من الرجال من لا يحتلم ( وأنه لا تجوز عتاقة المولى عليه في ماله ) وإن بلغ الحلم ( حتى يلي ماله ) برشده وفك الحجر عنه
____________________
(4/105)
6 ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة ( مالك عن هلال بن أسامة ) نسب إلى جده وهو ابن علي بن أسامة وهو هلال بن أبي ميمونة يعرف أبوه بكنيته وهو بها أشهر العامري مولاهم المدني مات سنة بضع عشرة ومائة لمالك عنه هذا الحديث الواحد ( عن عطاء بن يسار ) بتحتية ومهملة خفيفة ( عن عمر بن الحكم ) قال ابن عبد البر كذا قال مالك وهو وهم عند جميع علماء الحديث وليس في الصحابة عمر بن الحكم وإنما هو معاوية ابن الحكم كما قال كل من روى هذا الحديث عن هلال أو غيره ومعاوية بن الحكم معروف في الصحابة وحديثه هذا معروف وأما عمر بن الحكم فتابعي أنصاري مدني معروف يعني فلا يصح ( أنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن لي جارية ) لم تسم ( كانت ترعى غنما لي ) زاد في رواية في ناحية أحد ( فجئتها وقد فقدت ) فعل ماض تاؤه مضمومة أو ساكنة كما ضبطه في نسخ صحيحة ( شاة من الغنم ) وفي نسخة صحيحة وقد فقدت منها شاة ( فسألتها عنها فقالت أكلها الذئب فأسفت عليها ) أي غضبت ( وكنت من بني آدم ) زاد في رواية آسف كما يأسفون تقديم لعذره في قوله ( فلطمت وجهها ) ضربتها عليه ببياض كفي ( وعلي رقبة أفأعتقها ) بهمزة الاستفهام وفاء فهمزة مضمومة وفي رواية عند أبي عمر من وجه آخر فصككتها صكة ثم انصرفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فعظم علي فقلت هلا أعتقها قال ائتني بها فجئت بها إليه ( فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الله فقالت في السماء ) قال ابن عبد البر هو على حد قوله تعالى { أأمنتم من في السماء } { إليه يصعد الكلم الطيب } سورة فاطر الآية 10 وقال الباجي لعلها تريد وصفه بالعلو وبذلك يوصف من كان شأنه العلو يقال مكان فلان في السماء يعني علو حاله ورفعته وشرفه
( فقال من أنا فقالت أنت رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها ) زاد في رواية إنها مؤمنة
قال ابن عبد البر هذا الحديث مختصر في رواية يحيى عن مالك ورواه قوم منهم عبد الله بن يوسف وابن بكير وقتيبة والشافعي وعبد الله بن الحكم عن مالك بسنده فزادوا قلت يا رسول الله أشياء كنا نصنعها في الجاهلية كنا نأتي الكهان فقال صلى الله عليه وسلم لا تأتوا الكهان قلت وكنا نتطير قال إنما ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم وقد روى مالك بعض هذا الحديث عن ابن شهاب قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن
____________________
(4/106)
معاوية بن الحكم قلت يا رسول الله أمور كنا نصنعها في الجاهلية نأتي الكهان قال فلا تأتوها قلت كنا نتطير قال ذلك شيء يجده أحدكم فلا يصدنكم فقال في روايته عن ابن شهاب معاوية بن الحكم كما قال الناس وإنما سماه عمر في روايته عن هلال فربما كان الوهم من هلال لأن جماعة رووه عنه فقالوا معاوية انتهى ملخصا
ولا يمنع ذلك تجويز أن الوهم منه لما حدث مالكا وتنبه لما حدث غيره ويؤيد ذلك ما مر في الفرائض أن معن بن عيسى قال لمالك الناس يقولون إنك تخطىء أسامي الرجال تقول عمر بن الحكم وإنما هو معاوية فقال مالك هذا حفظنا وهكذا وقع في كتابي أخرجه أبو الفضل السليماني
( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ) بضم العين وإسكان الفوقية ( ابن مسعود ) أحد الفقهاء ( أن رجلا من الأنصار ) ظاهره الإرسال لكنه محمول على الاتصال للقاء عبيد الله جماعة من الصحابة قاله ابن عبد البر وفيه نظر إذ لو كان كذلك ما وجد مرسل قط إذ المرسل ما رفعه التابعي وهو من لقي الصحابي ومثل هذا لا يخفى على ابن عمر فلعله أراد للقاء عبيد الله جماعة من الصحابة الذين رووا هذا الحديث وقد رواه معمر عن ابن شهاب عن عبيد الله عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة له وهذا موصول ورواه الحسين بن الوليد عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد عن أبي هريرة أن رجلا من الأنصار ( جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء فقال يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة ) نذر عتقها أو وجبت عليه بكفارة قتل ونحوه ( فإن كنت تراها مؤمنة أعتقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشهدين أن لا إله إلا الله قالت نعم قال أتشهدين أن محمدا رسول الله قالت نعم ) أي أشهد بذلك ( قال أتوقنين بالبعث بعد الموت قالت نعم ) أوقن به وفيه أنه لا بد مع الشهادتين من الإقرار بالبعث فمن أنكره فليس بمؤمن وعليه الإجماع
( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها ) زاد في رواية فإنها مؤمنة قال ابن عبد البر وقد جود يحيى لفظ هذا الحديث ورواه ابن بكير وابن القاسم فلم يذكرا فإن كنت تراها مؤمنة وقالا يا رسول الله علي رقبة مؤمنة أفأعتق هذه ورواه القعنبي بلفظ أن رجلا من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء فقال يا رسول الله أعتقها فقال لها رسول الله الحديث فحذف منه أن علي رقبة مؤمنة مع أنه فائدة الحديث
ورواه المسعودي عن عون بن عبد الله عن أخيه عبيد الله عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية أعجمية فقال يا رسول الله إن علي
____________________
(4/107)
رقبة مؤمنة أفأعتق هذه فقال لها صلى الله عليه وسلم أين الله فأشارت إلى السماء فقال لها فمن أنا فأشارت إليه وإلى السماء أي أنت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنة أخرجه ابن عبد البر وقال إنه خالف حديث ابن شهاب في لفظه ومعناه وجعله عن أبي هريرة وابن شهاب يقول رجل من الأنصار إنه جاء بأمة له سوداء وهو أحفظ من عون فالقول قوله انتهى
فإن كانت القصة تعددت فلا خلف وإن كانت متحدة فيمكن أن لعبيد الله فيه شيخين رجل من الأنصار رواها له عن نفسه وأبو هريرة رواها عن قصة ذلك الرجل ويؤول قوله قالت نعم على أنها قالت بالإشارة أو أنه وقع منها الأمران فقالت نعم باللفظ حين قوله أتشهدين الخ فأشارت إلى السماء حين قوله أين الله ومن أنا فذكر كل من الزهري وعون ما لم يذكر الآخر والعلم عند الله
( مالك أنه بلغه عن المقبري ) بضم الموحدة وفتحها كيسان أو ابنه سعيد ( أنه قال سئل أبو هريرة عن الرجل يكون عليه رقبة هل يعتق فيها ابن زنى فقال أبو هريرة نعم يجزئه ذلك ) لأن المدار على الإيمان من غير نظر لنسب
( مالك أنه بلغه عن فضالة ) بفتح الفاء والضاد المعجمة ( ابن عبيد ) بضم العين بغير إضافة ( الأنصاري ) الأوسي ( وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأول مشاهده أحد ثم نزل دمشق وولي قضاءها ومات سنة ثمان وخمسين ) وقيل قبلها ( أنه سئل عن الرجل يكون عليه رقبة هل يجوز له أن يعتق ولد زنى فقال نعم ذلك يجزىء عنه ) إن كان مؤمنا في القتل نصا وإجماعا وفي الظهار خلاف
7 ما لا يجوز من العتق في الرقاب الواجبة ( مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر سئل عن الرقبة الواجبة هل تشترى بشرط فقال لا ) تشترى بشرط العتق ( قال وذلك أحسن ما سمعت في الرقاب الواجبة أنه لا يشتريها الذي يعتقها فيما وجب عليه بشرط على أن يعتقها لأنه إذا فعل ذلك فليست برقبة تامة لأنه ) أي بائعها ( يضع ) يسقط ( من ثمنها )
____________________
(4/108)
أي بعضه ( للذي يشترط من عتقها ) تحصيلا لبعض الثواب
( ولا بأس ) أي يجوز ( أن يشتري الرقبة في التطوع ويشترط أن يعتقها ) إذ يجوز أن يتشرك جماعة في شراء رقبة ويعتقوها تطوعا فواحد بشرط العتق أولى
( قال مالك إن أحسن ما سمع في الرقاب الواجبة أنه لا يجوز أن يعتق فيها نصراني ولا يهودي ) ولا غيرهما من الكفار بالأولى
( ولا يعتق فيها مكاتب ولا مدبر ولا أم ولد ولا معتق إلى سنين ) أي بعدها لما فيهم من عقد الحرية فلم تكن محررة لما وجب والله تعالى يقول { فتحرير رقبة } سورة النساء الآية 92 ولا أعمى ولا نحوه من العيوب المقررة في الفروع
( ولا بأس ) أي يجوز ( أن يعتق النصراني واليهودي والمجوسي تطوعا لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه ) { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق } سورة محمد الآية 4 { فإما منا بعد } أي بعد شد الوثاق ( وإما فداء ) بمال أو أسرى مسلمين ( فالمن العتاقة ) أي الإطلاق بلا شيء ( وأما الرقاب الواجبة التي ذكر الله في الكتاب ) في كفارة الأيمان والقتل والظهار ( فإنه لا يعتق فيها إلا رقبة مؤمنة ) لأنه قيد بها في كفارة القتل فحمل المطلق على المقيد
( وكذلك في إطعام المساكين في الكفارات لا ينبغي أن يطعم فيها إلا المسلمون ولا يطعم فيها أحد على غير دين الإسلام ) من أي دين كان
8 عتق الحي عن الميت ( مالك عن عبد الرحمن بن ) عمرو بن ( أبي عمرة ) الأنصاري المدني الثقة فنسبه إلى جده روى عن القاسم وعن عمه عبد الرحمن بن أبي عمرة التابعي الكبير وله رواية عن أبي سعيد وما أظنه سمع منه ولا أدركه وإنما روي عن عمه عنه ويروي عنه مالك هذا الحديث الواحد وعبد الله بن خالد وابن أبي الموالي وغيرهم وجده أبو عمرة صحابي قاله ابن عبد البر
____________________
(4/109)
( أن أمه أرادت أن توصي ثم أخرت ذلك إلى أن تصبح فهلكت ) ماتت ( وقد كانت همت بأن تعتق قال عبد الرحمن ) ابنها ( فقلت للقاسم بن محمد ) ابن الصديق ( أينفعها أن أعتق عنها فقال القاسم ) ينفعها ( إن سعد بن عبادة ) سيد الخزرج ( قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمي ) عمرة بنت مسعود الخزرجية الصحابية ( هلكت ) ماتت وأنا غائب معك في غزوة دومة الجندل سنة خمس ( فهل ينفعها أن أعتق عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم ) زادت طائفة من الرواة أعتق عنها وهذا منقطع لأن القاسم لم يلق سعدا لكن قصة سعد جاءت من وجوه كثيرة متصلة قاله أبو عمر فلعل القاسم رواه عن عمته عائشة فقد رواه عروة عنها كما مر قريبا لكن بلفظ إن تصدق عنها نعم في رواية النسائي من طريق سليمان بن كثير عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أن سعدا قال أفيجزىء عنها أن أعتق عنها قال أعتق عن أمك
فقد وجد العتق عن الميت في قصة سعد من غير طريق مالك أيضا لا كما يوهمه قول أبي عمر لا يكاد يوجد إلا من حديث مالك هذا وأكثر الأحاديث في قصة سعد إنما هي في الصدقة قال وكل منهما جائز عن الميت إجماعا والولاء للمعتق عنه عند مالك وأصحابه ولمن أعتق عند الشافعي وأصحابه وقال الكوفيون إن كان بأمر الميت فالولاء له وإلا فللمعتق قال أعني ابن عبد البر وجدت في أصل سماع أبي بخطه أن محمد بن أحمد بن قاسم حدثهم إلى أن قال عن سعد بن عبادة قلت يا رسول الله والدتي كانت تتصدق من مالي وتعتق من مالي حياتها فقد ماتت أرأيت إن تصدقت عنها أو عتقت عنها أترجو لها شيئا قال نعم قال يا رسول الله دلني على صدقة قال اسق الماء قال فما زالت جرار سعد بالمدينة
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أنه قال توفي عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ) أسلم قبيل فتح مكة وشهد اليمامة والفتوح ومات ( في نوم نامه ) فجأة في طريق مكة سنة ثلاث وخمسين وقيل بعدها ( فأعتقت عنه ) شقيقته ( عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رقابا كثيرة ) لأنها دون قول سعد أفأتصدق عنها فقال صلى الله عليه وسلم نعم مر
والعتق من أفضل أنواع الصدقة ومرت رواية أعتق عن أمك فلعلها سمعت ذلك
( قال مالك وهذا أحب ما سمعت إلي في ذلك ) ومن أحسن ما يروى في العتق عن الميت ما
____________________
(4/110)
أخرجه النسائي عن وائلة بن الأسقع قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقلنا إن صاحبا لنا قد مات فقال صلى الله عليه وسلم أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار ذكره في التمهيد
9 فضل عتق الرقاب وعتق الزانية وابن الزنى ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ) كذا ليحيى وأبي مصعب ومطرف وابن أبي أويس وروح بن عبادة وأرسله الأكثر وكذا حدث به إسماعيل بن إسحاق عن أبي مصعب مرسلا وهو عندنا في موطأ أبي مصعب عن عائشة ورواه أصحاب هشام عنه عن أبيه عن أبي مراوح عن أبي ذر قال ابن الجارود لا أعلم أحدا قال عن عائشة غير مالك وزعن قوم أنه أرسله لما بلغه أن غيره من أصحاب هشام يخالفونه في إسناده قاله ابن عبد البر في الفتح ذكر الإسماعيلي نحو عشرين نفسا رووه عن هشام عن أبيه عن أبي مراوح عن أبي ذر وخالف مالك فأرسله في المشهور عنه ورواه يحيى الليثي وطائفة فقالت عائشة ورواه سعيد بن داود عن مالك عن هشام كرواية الجماعة قال الدارقطني الرواية المرسلة عن مالك أصح والمحفوظ عن هشام كما قال الجماعة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرقاب أيها أفضل ) في العتق والسائل أبو ذر كما في الصحيحين عن هشام عن أبيه عن أبي مراوح عن أبي ذر في حديث فيه قلت فأي الرقاب أفضل ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلاها ثمنا ) بالعين معجمة ومهملة روايتان قال ابن قرقول ومعناهما متقارب ولمسلم نم طريق حماد بن زيد عن هشام أكثرها ثمنا وهو يبين المراد ( وأنفسها ) بفتح الفاء أي أكثرها رغبة ( عند أهلها ) لمحبتهم فيها لأن عتق مثل ذلك لا يقع إلا خالصا وهو كقوله تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } سورة آل عمران الآية 92 قال النووي محله والله أعلم فبمن أراد أن يعتق رقبة واحدة أما لو كان مع الشخص ألف درهم مثلا فأراد أن يشتري بها رقبة فيعتقها فوجد رقبة نفيسة ورقبتين مفضولتين فالرقبتان أفضل قال وهذا بخلاف الضحية فالواحدة السمينة فيها أفضل لأن المطلوب هنا فك الرقبة وهناك طيب اللحم
قال الحافظ والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص فرب شخص واحد إذا عتق انتفع بالعتق وانتفع به أضعاف ما يحصل من النفع بعتق أكثر عددا منه ورب محتاج إلى كثرة اللحم لتفرقته على المحاويج الذي ينتفعون به أكثر مما ينتفع هو بطيب اللحم فالضابط أن مهما كان أكثر نفعا كان أفضل سواء قل أو كثر واحتج به لمالك في أن عتق الرقبة الكافرة إذا كانت أغلى ثمنا فمن المسلمة أفضل وخالفه أصبغ وغيره وقالوا المراد أغلى ثمنا من المسلمين انتهى
وقال عياض لا خلاف في جواز عتق الكافر لكن الفضل التام إنما هو في عتق المؤمن
وعن
____________________
(4/111)
مالك أن عتق الأغلى ثمنا أفضل وإن كان كافرا يعني لظاهر حديثه هذا قال وخالفه غير واحد من أصحابه وغيرهم وهو الأصح قال القرطبي لحرمة المسلم ولما يحصل منه من المنافع الدينية كالشهادة والجهاد وغير ذلك ثم المرجح أن عتق الذكر أفضل كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة
وفي الترمذي وصححه والنسائي مرفوعا أيما امرىء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار عظمين منهما بعظم منه وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار فجعل عتق الذكر كامرأتين
ومن جهة المعنى أن منافع الذكر أفضل كالجهاد والشهادات والحكم ولأن الطاعة منهم أوجه والرق فيهم أكثر حتى أن الجواري من لا يرغب في العتق وتضيع معه واحتج الأخرون بسراية الحرية فيمن تلد الأنثى كان الزوج حرا أو عبدا وأجيب بأنه يقابله ما ذكر أن عتق الأنثى غالبا يستلزم ضياعها وأن في عتق الذكر من المعاني العامة المذكورة ما لا يصلح للأناث
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه أعتق ولد زنى وأمه ) أي والدته التي زنت به
10 مصير الولاء لمن أعتق ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ) عروة بن الزبير بن العوام ( عن خالته عائشة زوج النبي أنها قالت جاءت بريرة ) بفتح الموحدة وراءين بلا نقط بينهما تحتية بوزن فعيلة مشتقة من البرير وهو ثمر الأراك وقيل كأنها فعيلة من البر بمعنى مفعولة كبرورة أو بمعنى فاعلة كرحيمة هكذا وجهه القرطبي قال الحافظ والأول أولى لأن النبي غير اسم جويرية وكان اسمها برة وقال لا تزكوا أنفسكم فلو كانت بريرة من البر لشاركتها في ذلك وكانت بريرة لناس من الأنصار كما عند أبي نعيم وقيل لناس من بني هلال قاله ابن عبد البر ويمكن الجمع وقيل لآل أبي أحمد بن جحش وفيه نظر فإن زوجها مغيث هو الذي كان مولى أبي أحمد وقيل لآل عقبة وفيه نظر أيضا لأن مولى عقبة سأل عائشة عن حكم هذه المسألة فذكرت له قصة بريرة أخرجه ابن سعد وكانت بريرة تخدم عائشة قبل أن تعتق كما في حديث الإفك وعاشت إلى خلافة معاوية وتفرست في عبد الملك بن مروان أنه يلي الخلافة فبشرته بذلك ورواه هو عنها كما قدمته
( فقالت إني كاتبت أهلي ) يعني ساداتها والأهل في الأصل الآل ( على تسع أواق ) بوزن جوار والأصل أواقي بشد الياء فحذفت إحدى الياءين تخفيفا والثانية على طريقة قاض ( في كل عام أوقية ) بضم الهمزة وهي أربعون درهما وهذا هو المشهور في الروايات ومثله في رواية ابن وهب عن يونس
____________________
(4/112)
عن الزهري عن عروة عند مسلم
ووقع في رواية علقها البخاري عن الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها وعليها خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين وجزم الإسماعيلي بأنها غلط ويمكن الجمع بأن التسع أصل والخمس كانت بقيت عليها وبه جزم القرطبي وغيره ويعكر عليه قوله في رواية قتيبة عن الليث في الصحيحين ولم تكن أدت من كتابتها شيئا وأجيب بأنها كانت حصلت الأربع أواق قبل أن تستعين بعائشة ثم جاءتها وقد بقي عليها خمسة وأجاب القرطبي بأن الخمس هي التي كانت استحقت عليها بحلول نجومها من جملة التسع الأواقي ويؤيده قوله في رواية عمرة عن عائشة عند البخاري فقال أهلها إن شئت أعطيت ما تبقى ( فأعينيني ) بصيغة أمر المؤنث من الإعانة ووقع عند بعض رواة البخاري فأعيتني بصيغة الخبر الماضي من الإعياء أي أعجزتني الأواقي عن تحصيلها وهو متجه المعنى وفي رواية حماد بن سلمة عن هشام عند ابن خزيمة وغيره فأعتقيني من العتق بصيغة الأمر لكن الثابت عن مالك وغيره عن هشام الأول
( فقالت عائشة إن أحب أهلك ) بكسر الكاف مواليك ( أن أعدها ) أي التسع أواق ( لهم ) ثمنا ( عنك عددتها ) فيه أن العد في الدراهم المعلومة الوزن يكفي عن الوزن وأن المعاملة حينئذ كانت بالأواقي وزعم بعضهم أن أهل المدينة كانوا يتعاملون بالعد حتى قدم النبي المدينة فأمرهم بالوزن وفيه نظر لأن قصة بريرة بعد الهجرة بنحو ثمان سنين لكن يحتمل أن قول عائشة أن أعدها أي أدفعها لا حقيقة العد ويؤيده قولها في رواية عمرة الآتية أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة ( ويكون ) بالنصب عطفا على أعدها ( ولاؤك لي ) بعد أن أعتقك ( فعلت ) جواب الشرط قال الحافظ وظاهره أن عائشة طلبت أن يكون الولاء لها إذا بذلت جميع مال المكاتبة ولم يقع ذلك إذ لو وقع لكان اللوم على عائشة بطلبها ولاء من أعتقه غيرها وقد رواه أبو أسامة ووهيب كلاهما عن هشام بلفظ يزيل الإشكال فقال بعد قوله أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك ويكون ولاؤك لي فعلت فعرف بذلك أنها أرادت أن تشتريها شراء صحيحا ثم تعتقها إذ العتق فرع ثبوت الملك ويؤيده رواية الزهري عن عروة عنها فقال ابتاعي فأعتقي ( فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم ذلك ) الذي قالته عائشة ( فأبوا عليها ) أي امتنعوا أن يكون الولاء لعائشة ( فجاءت من عند أهلها ) إلى عائشة ( ورسول الله جالس ) عندها ( فقالت لعائشة إني قد عرضت عليهم ذلك ) بكسر الكاف الذي قلتيه ( فأبوا علي إلا أن يكون الولاء لهم ) استثناء مفرغ لأن في أبى معنى النفي قال الزمخشري في سورة التوبة فإن قلت كيف جاز أبى الله إلا كذا ولا يقال كرهت وأبغضت إلا زيدا قلت قد أجرى أبى مجرى لم يرد ألا ترى كيف قوبل يريدون أن يطفئوا نور
____________________
(4/113)
الله بقوله ويأبى الله وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره
( فسمع ذلك رسول الله ) من بريرة على سبيل الإجمال ( فسألها ) أي عائشة وفي رواية للبخاري فقال ما شأن بريرة ( فأخبرته عائشة ) به على سبيل التفصيل
ولمسلم من رواية أبي أسامة ولابن خزيمة واللفظ له من رواية حماد بن سلمة كلاهما عن هشام فجاءتني بريرة والنبي جالس فقالت لي فيما بيني وبينها ما رد أهلها فقلت لاها الله إذا ورفعت صوتي وانتهرتها فسمع ذلك النبي فسألني فأخبرته ( فقال رسول الله خذيها ) أي اشتريها منهم لرواية البخاري عن الزهري عن عروة عن عائشة فقال ابتاعي وأعتقي فهذه مفسرة لقوله خذيها وكذا رواية البخاري من وجه آخر عن عائشة دخلت علي بريرة وهي مكاتبة قالت اشتريني وأعتقيني قلت نعم
وقوله في حديث ابن عمر التالي لهذا أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها ( فاشترطي ) بصيغة أمر المؤنث من الشرط ( لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ) فعبر بإنما التي للحصر وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه ولولا ذلك لما لزم من إثبات الولاء للمعتق نفيه عن غيره ( ففعلت عائشة ) الشراء والعتق قال ابن عبد البر وغيره كذا رواه أصحاب هشام وأصحاب مالك عنه عن هشام واستشكل صدور إذنه في البيع على شرط يفسد البيع وخداع البائعين وشرط ما لا يصح ولا يحصل لهم ولذا أنكر ذلك يحيى بن أكثم وأشار الشافعي في الأم إلى تضعيف رواية هشام المصرحة بالاشتراط لانفراده بها دون أصحاب أبيه وروايات غيره قابلة للتأويل وقال غيره إن هشاما روى بالمعنى ما سمعه من أبيه وليس كما ظن وأثبت الرواية آخرون وقالوا هشام ثقة حافظ والحديث متفق على صحته فلا وجه لرده قال ابن خزيمة وكلام يحيى بن أكثم غلط ثم اختلف في التوجيه فزعم الطحاوي عن المزني عن الشافعي أنه بلفظ وأشرطي بهزة قطع بغير فوقية ومعناه أظهري لهم حكم الولاء والاشتراط الإظهار قال أوس بن حجر يذكر رجلا نزل من رأس جبل إلى نبقة يقطعها ليتخذ منها قوسا فأشرط فيها نفسه وهو معصم وألقى بأسباب له وتوكلا أي أظهر نفسه لما حاول أن يفعل انتهى
فأنكر غيره هذه الرواية بأن الذي في الأم ومختصر المزني وغيرهما عن الشافعي عن مالك كرواية الجمهور واشترطي بالفوقية وقيل إن اللام بمعنى على كقوله { وإن أسأتم فلها } سورة الإسراء الآية 7 قاله الشافعي والمزني والطحاوي وغيرهم وقال ابن خزيمة إنه لا يصح وقال النووي هو ضعيف لأنه عليه الصلاة والسلام أنكر الاشتراط ولو كانت بمعنى على لم ينكره فإن قيل إنما أنكر إرادة الاشتراط في أول الأمر
فالجواب أن سياق الحديث يأبى ذلك
وضعفه أيضا ابن دقيق العيد بأن اللام لا تدل بوضعها على الاختصاص النافع بل على مطلق الاختصاص فلا بد في حملها على ذلك من قرينة
وقال آخرون الأمر في اشترطي للإباحة على جهة التنبيه على أنه لا ينفعهم فوجوده وعدمه سواء كأنه قال اشترطي أو لا تشترطي
ويؤيده قوله في رواية عند البخاري
____________________
(4/114)
اشتريها ودعيهم يشترطون ما شاؤوا
وقيل كان أعلم الناس بأن اشتراط البائع الولاء باطل واشتهر ذلك بحيث لا يخفى على أهل بريرة فلما أرادوا أن يشترطوا ما تقدم لهم علم بطلانه أطلق الأمر مريدا التهديد على مآل الحال كقوله تعالى { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } سورة التوبة الآية 105 وكقول موسى { ألقوا ما أنتم ملقون } سورة يونس الآية 80 فليس بنافعكم فكأنه قيل اشترطي لهم فسيعلمون أنه لا ينفعهم ويؤيده أنه وبخهم في خطبته بأنهم يشترطون ما ليس في كتاب الله مشيرا إلى أنه سبق منه بيان حكم الله بإبطاله إذ لو لم يقدم بيان ذلك لبدأ ببيان الحكم في الخطبة لا بتوبيخ الفاعل لأنه كان باقيا على البراءة الأصلية وقيل الأمر فيه بمعنى الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النهي كقوله { اعملوا ما شئتم } سورة فصلت الآية 40 وقال الشافعي لما كان من اشترط خلاف ما قضى الله ورسوله عاصيا وكان في المعاصي حدود وأدب كان من أدب العاصين أن تعطل عليهم شروطهم ليرتدعوا عن ذلك ويرتدع غيرهم وذلك من أيسر الأدب وقيل معنى اشترطي اتركي مخالفتهم فيما شرطوه ولا تظهري نزاعهم فيما طلبوه مراعاة لتنجيز العتق لتشوف الشرع إليه وقد يعبر عن الترك بالفعل كقوله تعالى { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } سورة البقرة الآية 102 أي بتركهم يفعلون ذلك وليس المراد بالإذن إباحة الإضرار بالسحر قال ابن دقيق العيد وهذا وإن كان محتملا إلا أنه خارج عن الحقيقة من غير دلالة على المجاز من حيث السياق
وقال النووي أقوى الأجوبة أن هذا الحكم خاص بعائشة في هذه القضية وأن سببه المبالغة في الرجوع عن هذا الشرط لمخالفته حكم الشرع وهو كفسخ الحج إلى العمرة كان خاصا بتلك الحجة مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج ويستفاد منه ارتكاب أخف الضررين إذا استلزم إزالة أشدهما وتعقب بأنه استدلال بمختلف فيه وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التخصيص لا يثبت إلا بدليل وبأن الشافعي نص على خلاف هذه المقالة
وقال ابن الجوزي ليس في الحديث أن اشتراط الولاء والعتق كان مقارنا للعقد فيحمل على أنه كان سابقا عليه فالأمر بقوله اشترطي مجرد وعد لا يجب الوفاء به وتعقب باستبعاد أنه يأمر شخصا أن يعد مع علمه بأنه لا يفي بذلك الوعد
وقال ابن حزم كان الحكم ثابتا بجواز اشتراط الولاء لغير المعتق فوقع الأمر باشتراطه في الوقت الذي كان جائزا فيه ثم نسخ بالخطبة
وقوله إنما الولاء لمن أعتق وتعقب بأنه لا يخفى بعده وسياق طرق الحديث تدفع في وجه هذا الجواب
وقال الخطابي وجه الحديث أن الولاء لما كان كلحمة النسب والإنسان إذا ولد له ولد ثبت نسبه ولم ينتقل عنه ولو نسب إلى غيره فكذلك إذا أعتق عبدا ثبت له ولاؤه ولو أراد نقل ولائه عنه أو أذن في نقله عنه لم ينتقل لم يعبأ باشتراطهم الولاء وقيل اشترطي ودعيهم يشترطون ما شاؤوا ونحو ذلك لأنه غير قادح في العقد بل بمنزلة لغو الكلام وأخر إعلامهم ليكون رده وإبطالهم قولا شهيرا يخطب به على المنبر ظاهرا وهو أبلغ في النكير وآكد في
____________________
(4/115)
التغيير انتهى
وهو يؤول إلى أن الأمر بمعنى الإباحة كما تقدم
( ثم قام رسول الله في الناس ) خطيبا ( فحمد الله وأثنى عليه ) بما هو أهله ( ثم قال أما بعد ) أي بعد الحمد والثناء وفيه القيام في الخطبة وابتداؤها بالحمد والثناء وأما بعد ( فما ) بالفاء في جواب أما وفي رواية التنيسي بلا فاء على القليل ( بال ) أي حال ( رجال ) وفيه حسن الأدب والعشرة فلم يواجههم بالخطاب ولم يصرح بأسمائهم ولأنه يؤخذ منه تقرير شرع عام للمذكورين وغيرهم وللصورة المذكورة وغيرها وهذا بخلاف قصة علي في خطبته بنت أبي جهل فكانت خاصة بفاطمة فلذا عينها ( يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ) أي ليست في حكمه وقضائه من كتابه أو سنة رسوله لأن الله لما أمر باتباعه جاز أن يقال لما حكم به حكم الله وقضاؤه وقد أخبر أن الولاء لمن أعتق ولا يعلم ذلك في نص الكتاب ولا دلالته قاله ابن عبد البر زاد ابن بطال أو إجماع الأمة وقال ابن خزيمة أي ليس في حكم الله جوازه أو وجوبه لأن كل شرط لم ينطق به القرآن باطل لأنه قد يشترط الكفيل فلا يبطل الشرط ويشترط في الثمن شرط من أوصافه أو نجومه أو نحو ذلك فلا يبطل
وقال القرطبي أي ليس مشروعا في كتاب الله تأصيلا ولا تفصيلا ومعنى هذا أن من الأحكام ما يوجد تفصيله في كتاب الله كالوضوء ومنها ما يوجد
تأصيله دون تفصيله كالصلاة ومنها ما أصل أصله لدلالة الكتاب على أصلية السنة والإجماع وكذلك القياس الصحيح فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلا فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلا ( ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ) جواب ما الموصولة المقتضية لمعنى الشرط ( وإن كان مائة شرط ) قال القرطبي وغيره خرج مخرج التكثير لأن العموم في قوله ما كان الخ دال على بطلان جميع الشروط ولو زادت على مائة شرط يعني أن الشروط الغير مشروعة باطلة وإن كثرت ويستفاد منه أن الشروط المشروعة صحيحة وقال المازري الشروط ثلاثة شرط يقتضيه العقد كالتسليم والتصرف فلا خلاف في جوازه ولزومه وإن لم يشترط
وشرط لا يقتضيه بل هو مصلح له كرهن وحميل فهو جائز ولا يلزم إلا بشرط
وشرط مناقض للعقد فهذا اضطرب فيه العلماء والمشهور في المذهب بطلان العقد والشرط معا لحديث من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد ولما في العقد من الجهالة لأن الشرط وضع له من الثمن فله حصة من المعاوضة فيجب بطلان ما قابله وهو مجهول وجهالته تؤدي إلى جهالة ما سواه فيجب فسخ الجميع وقيل يبطل الشرط خاصة ( قضاء الله ) أي حكمه ( أحق ) بالاتباع من الشروط المخالفة
( وشرط الله ) أي قوله { فإخوانكم في الدين ومواليكم } سورة الأحزاب الآية 5 وقوله { وما آتاكم الرسول فخذوه } سورة الحشر
____________________
(4/116)
الآية 7 ) لآية قالها الداودي
قال عياض والظاهر عندي أنه قوله إنما الولاء لمن أعتق وقوله مولى القوم منهم وقوله الولاء لحمة كلحمة النسب ( أوثق ) أقوى باتباع حدوده التي حدها وأفعل فيهما ليس على بابه إذ لا مشاركة بين الحق والباطل وقد جاء فعل لغير التفضيل كثيرا ويحتمل أن ذلك ورد على ما اعتقدوه من الجواز
( وإنما الولاء لمن أعتق ) ذكرا كان أو أنثى واحدا أو جمعا لأن من للعموم لا لمن أسلم على يديه ولا يحلف خلافا للحنفية ولا للملتقط خلافا لإسحاق وفيه جواز السجع غير المتكلف وإنما نهى عن سجع الكهان وشبهه لتكلفه واشتماله على مطوي الغيب وجواز كتابة الأمة كالعبد وكتابة المتزوجة وإن لم يأذن الزوج وأنه ليس له منعها منها لو كانت تؤدي إلى فراقها كما أنه ليس للعبد المتزوج منع السيد من عتق أمته التي تحته وإن أدى إلى بطلان نكاحها وجواز سعي المكاتبة وسؤالها واكتسابها وتمكين السيد لها من ذلك ومحله إذا علم حل كسبها والنهي الوارد عن كسب الأمة محمول على من لم يعرف حله أو على غير المكاتبة وأن للمكاتب أن يسأل من حين الكتابة ولا يشترط عجزه خلافا لمن شرطه وجواز السؤال لمن احتاج إليه من دين أو غرم أو نحو ذلك وأنه يجوز تعجيل مال الكتابة والمساومة في البيع وغيره وتشديد صاحب السلعة فيها وتصرف المرأة الرشيدة لنفسها في البيع وغيره ولو متزوجة خلافا لمن أبى ذلك وأن من لا يتصرف بنفسه له أن يقيم غيره مقامه وأن العبد إذا أذن له في التجارة جاز تصرفه وجواز رفع الصوت عند إنكار المنكر وأنه يجوز لمن أراد أن يشتري للعتق إظهار ذلك لأصحاب الرقبة ليساهلوه في الثمن ولا يعد ذلك من الرياء وإنكار القول المخالف للشرع وانتهار الرسول فيه وأن الشيء إذا بيع بالنقد فالرغبة فيه أكثر مما إذا بيع بالنسيئة وأن المكاتب لو عجل بعض كتابته قبل المحل على أن يضع عنه سيده الباقي يجبر وجواز الكتابة على قيمة الرقيق وأقل منها وأكثر لأن من الثمن المنجز والمؤجل فرقا ومع ذلك فقد بذلت عائشة المؤجل ناجزا فدل على أن قيمتها بالتأجيل أكثر مما كوتبت به وكان أهلها باعوها به وأن المراد بالخير في قوله تعالى { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } سورة النور الآية 33 القدرة على الكسب والوفاء بما وقعت الكتابة عليه وليس المراد به المال
وعن ابن عباس أن المراد بالخير المال مع أنه يقول إن العبد لا يملك فنسب إلى التناقض لأن المال الذي في يد المكاتب لسيده فكيف يكاتبه بماله ومن يقول العبد يملك لا يرد هذا عليه قال الحافظ والذي يظهر أنه لا يصح عن ابن عباس أحد الأمرين وفيه جواز كتابة من لا حرفة له وقال به الجمهور واختلف عن مالك وأحمد وذلك أن بريرة استعانت على كتابتها فلو كان لها حرفة أو مال لم تحتج إلى الاستعانة لأن كتابتها لم تكن حالة وعندالطبري من رواية أبي الزبير عن عروة أن عائشة ابتاعت بريرة مكاتبة وهي لم تقبض من كتابتها شيئا وجواز أخذ الكتابة من مسألة الناس والرد على من كره ذلك وزعم أنها أوساخ الناس ومشروعية إعانة المكاتب بالصدقة وجواز التأقيت في الديون في كل شهر كذا من غير بيان أوله أو وسطه ولا يكون ذلك مجهولا لأنه يتبين بانقضاء الشهر
____________________
(4/117)
الحلول قاله ابن عبد البر ونظر فيه باحتمال أن قول بريرة في كل عام أوقية أي في غرته مثلا وعلى تسليمه فيفرق بين الكتابة والديون بأن المكاتب إذا عجز حل لسيده ما أخذه منه بخلاف الأجنبي
وقال ابن بطال لا فرق بين الديون وغيرها وقصة بريرة محمولة على أن الراوي قصر في بيان تعيين الوقت وإلا يصير الأجل مجهولا وقد نهى النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم عن البيع إلا إلى أجل معلوم وفيه غير ذلك
وقد ذكر أبو عمر أن الناس أكثروا في حديث بريرة منا لاستنباط فمنهم من أجاد ومنهم من خلط وأتى بما لا معنى له كقول بعضهم فيه إباحة البكاء في المحبة لبكاء زوج بريرة وذكر في الحديث المتقدم في النكاح أن ابن خزيمة وابن جرير ألف كل منهما كتابا في ذلك قال الحافظ وبلغ بعض المتأخرين فوائده أربعمائة أكثرها مستبعد متكلف كما وقع نظير ذلك للذي صنف في الكلام على حديث المجامع في رمضان فبلغ به ألف فائدة وواحدة وأخرجه البخاري في البيوع عن عبد الله بن يوسف وفي الشروط عن إسماعيل كلاهما عن مالك به وتابعه أبو أسامة وجماعة بكثرة عن هشام في الصحيحين وغيرهما وطرقه كثيرة عندهم
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عائشة أم المؤمنين ) وليحيى النيسابوري عن ابن عمر عن عائشة جعله من مسندها وأشار ابن عبد البر في تفرده عن مالك بذلك ورده الحافظ بأن الشافعي عن مالك رواه كذلك عند أبي عوانة والبيهقي ويمكن أنه لم يرد بعن هنا الرواية عنها نفسها بل في السياق شيء محذوف تقديره عن قصة عائشة في أنها ( أرادت أن تشتري جارية ) هي بريرة ( تعتقها ) بالرفع وفي رواية لتعتقها بلام وفي أخرى فتعتقها بالفاء بدل اللام فهو بالنصب ( فقال أهلها ) مواليها ( نبيعكها ) بكسر الكاف ( على أن ولاءها لنا فذكرت ) عائشة ( ذلك لرسول الله ) بعد ما سألها حين سمع إخبار بريرة لها كما مر ( فقال لا يمنعنك ) بنون التوكيد الثقيلة وليحيى النيسابوري بدونها ( ذلك ) بكسر الكاف وهذا كقوله في رواية الزهري عن عروة ابتاعي فأعتقي وليس فيهما شيء من الإشكال الواقع في رواية هشام السابقة حتى قال الشافعي لعل هشاما أو عروة حين سمع أن النبي قال لا يمنعنك ذلك رأى أنه أمرها أن تشترط لهم الولاء فلم يقف من حفظه على ما وقف عليه ابن عمر ورد بأن هشاما ثقة حافظ حديثه متفق على صحته فلا وجه لرده فوجب تأويله بما مر
( فإنما الولاء لمن أعتق ) بلام الاختصاص أي أن الولاء مختص بمن أعتق قاله الكرماني وجوز غيره أن تكون للاستحقاق كهي في قوله تعالى { ويل للمطففين } سورة المصطفين الآية 83 أو للصيرورة وكل منهما ينافي أن يكون الولاء لغير من أعتق قال المازري فيه حجة لمالك والشافعي وأحمد أنه لا ولاء لملتقط اللقيط خلافا لإسحاق ولا لمن أسلم على يديه خلافا للحنفية والولاء في جميعهم للمسلمين إلا أن يكون لأحدهم وارث
____________________
(4/118)
وقال أبو حنيفة لكل أحد أن يوالي من شاء فيرثه والحديث حجة على الجميع لأن إنما للحصر تثبت الحكم للمذكور وتنفيه عما سواه وعبر عنها بعضهم بتحقيق المتصل وتمحيق المنفصل قال الأبي إنما مركبة من إن التي هي حرف نفي والأصل بقاء الحروف على معانيها عند الضم ولما استحال رد النفي إلى نفس المثبت لما فيه من التناقض وجب حمله على إثباته للمذكور ونفيه عما سواه وبه عرف معنى تحقيق المتصل وتمحيق المنفصل انتهى
والحديث رواه البخاري في العتق والبيع عن عبد الله بن يوسف وفي الفرائض عن قتيبة بن سعيد ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن عمرة بنت عبد الرحمن ) الأنصارية المدنية المكثرة عن عائشة ( أن بريرة جاءت تستعين عائشة أم المؤمنين ) تطلب منها الإعانة على ما كوتبت به قال الحافظ صورة سياقه الإرسال ولم تختلف الرواة عن مالك في ذلك لكن رواه البخاري من طريق ابن عيينة عن يحيى عن عمرة عن عائشة وفي رواية الإسماعيلي عن القطان وعبد الوهاب الثقفي عن يحيى سمعت عمرة تقول سمعت عائشة فظهر أنه موصول وقد وصله ابن خزيمة من طريق مطرف عن مالك فقال عن عائشة أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ( فقالت عائشة إن أحب أهلك ) ساداتك ( أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة ) أي أدفعه عاجلا في مرة تشبيها بصب الماء وهو انسكابه ( وأعتقك ) بضم الهمزة والنصب عطفا على أصب ( فعلت ) ذلك ( فذكرت ) بإسكان التاء ( ذلك بريرة لأهلها ) لمواليها ( فقالوا لا ) نبيعك بشرط العتق ( إلا أن يكون لنا ولاؤك قال مالك قال يحيى بن سعيد ) شيخه ( فزعمت عمرة ) الزعم يستعمل بمعنى القول المحقق أي قالت ( أن عائشة ذكرت ذلك لرسول الله فقال رسول الله اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق ) لا لغيره وظاهره جواز بيع رقبة المكاتب إذا رضي بذلك ولو لم يعجز نفسه وهو قول أحمد وربيعة والأوزاعي والليث وأبي ثور وأحد قولي مالك والشافعي واختاره ابن جرير وابن المنذر والبخاري وغيرهم على تفاصيل لهم في ذلك ومنعه مالك في المشهور وأبو حنيفة والشافعي في أصح قوليه وأجابوا عن قصة بريرة بأنها عجزت نفسها واستدلوا باستعانة بريرة عائشة في ذلك وليس في استعانتها ما يستلزم العجز ولا سيما مع القول بجواز كتابة من لا مال عنده ولا حرفة له قال ابن عبد البر ليس في شيء من طرق حديث بريرة أنها عجزت عن أداء النجم ولا أخبرت بأنه قد حل عليها شيء ولم يرد في شيء من طرقه استفصال النبي لها عن شيء من ذلك لكن قال القرطبي أشبه ما قيل أنها عجزت كما في رواية ابن شهاب عن عروة عن عائشة فإن أحبوا أن أقضي
____________________
(4/119)
عنك كتابتك لأنه لا يقضى من الحقوق إلا ما وجبت المطالبة به ومنهم من أول قولها كاتبت أهلي فقال معناه راوضتهم واتفقت معهم على هذا القدر ولم يقع العقد فبعد رد ذلك بيعت فلا حجة فيه على بيع المكاتب قال القرطبي وهو خلاف ظاهر سياق الحديث وقيل الذي اشترته عائشة كتابة بريرة لا رقبتها وقد أجازه مالك وقال يؤدى إلى المشتري فإن عجز رق له ومنعه الشافعي وأبو حنيفة ورأياه غررا لأنه لا يدري ما يحصل له النجوم أو الرقبة واستبعده القرطبي أيضا وقيل إنهم باعوها بشرط العتق وإذا وقع البيع بشرط العتق صح على أصح القولين عند المالكية والشافعية وقال الحنفية يبطل وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف وأصحاب السنن الثلاثة من طريق ابن القاسم كلاهما عن مالك به وتابعه سفيان بن عيينة عند البخاري ويحيى القطان وعبد الوهاب الثقفي عند الإسماعيلي وجعفر بن عون عند أصحاب السنن أربعتهم عن يحيى بن سعيد بنحوه
( مالك عن عبد الله بن دينار ) العدوي مولاهم المدني ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله نهى عن بيع الولاء ) بفتح الواو ممدود وأصله من الولي وهو القرب وأما من الإمارة فالولاء بكسر الواو وقيل فيهما بالوجهين ويطلق على معان والمراد به هنا ولاء الإنعام بالعتق
( وعن هبته ) أي الولاء وكانوا في الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره فنهي عن ذلك وهذا الحديث من أفراد ابن دينار واحتاج الناس فيه إليه كما قال أبو عمر وغيره حتى قال مسلم الناس كلهم عيال على عبد الله بن دينار في هذا الحديث وأخرجه عنه من طرق سبعة في صحيحه وأورده غيره عن خمسة وثلاثين حدثوا به عنه قال ابن عبد البر ورواه ابن الماجشون عن مالك عن نافع عن ابن عمر وهو خطأ لم يتابع عليه والصواب عبد الله بن دينار ورواه محمد بن سليمان عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر مرفوعا ولم يتابعه أحد وجميع الأئمة لم يذكروا عمر انتهى
وأخرج أبو يعلى وابن حبان عن ابن دينار عن ابن عمر قال قال رسول الله الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب قال الأبي هذا منه تعريف لحقيقة الولاء شرعا ولا تجد تعريفا أتم منه والمعنى أن بين المعتق والعتيق نسبة تشبه نسبة النسب وليست به ووجه الشبه أن العبد لما فيه من الرق كالمعدوم في نفسه والمعتق صيره موجودا كما أن الولد كان معدوما فتسبب الأب في وجوده انتهى
وأصله قول ابن العربي معنى الولاء لحمة كلحمة النسب أن الله أخرجه بالحرية إلى النسب حكما كما أن الأب أخرجه بالنطفة إلى الوجود حسا لأن العبد كان كالمعدوم في حق الأحكام لا يقضي ولا يلي ولا يشهد فأخرجه سيده بالحرية إلى وجود هذه الأحكام من عدمها فلما شابه حكم النسب أنيط بالعتق فلذا جاء إنما الولاء لمن أعتق وألحق برتبة النسب فنهى عن بيعه وعن هبته وأجاز بعض السلف نقله ولعله لم يبلغهم الحديث
____________________
(4/120)
( قال مالك في العبد يبتاع نفسه من سيده على أنه يوالي من شاء إن ذلك لا يجوز ) لا يصح ( وإنما الولاء لمن أعتق ) بنص الحديث وبهذا قال الأكثر وقيل لا ولاء عليه
( ولو أن رجلا أذن لمولاه ) عتيقه ( أن يوالي من شاء ما جاز ذلك لأن رسول الله قال الولاء لمن أعتق ) هكذا ورد أيضا بدون إنما عند أحمد والطبراني والخطيب من حديث ابن عباس
( ونهى رسول الله عن بيع الولاء ) بالفتح والمد حق ميراث المعتق من العتيق ( وعن هبته فإذا جاز لسيده أن يشترط ذلك ) أي الولاء ( له ) أي للعبد ( أو يأذن له أن يوالي من شاء فتلك الهبة ) المنهي عنها فلذا لا يجوز
11 جر العبد الولاء إذا أعتق ( مالك عن ربيعة بن عبد الرحمن ) فروخ المدني ( أن الزبير بن العوام ) الحواري ( اشترى عبدا فأعتقه ولذلك العبد بنون ) جمع ابن ( من امرأة حرة فلما أعتقه الزبير قال هم ) أي بنوه ( موالي ) بياء الإضافة ( وقال موالي أمهم بل هم موالينا ) لأنهم أحرار ( فاختصموا إلى عثمان بن عفان ) أمير المؤمنين ( فقضى عثمان للزبير بولائهم ) دون موالي أمهم
( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب سئل عن عبد له ولد من امرأة حرة لمن ولاؤهم فقال سعيد إن مات أبوهم وهو عبد لم يعتق ) صفة كاشفة لعبد لدفع توهم أن إطلاقه عليه باعتبار ما كان ( فولاؤهم لموالي أمهم ) وإن عتق قبل الموت لم يكن لهم الولاء ( قال مالك ومثل ) بفتحتين ( ذلك ولد الملاعنة من الموالي ) صفة لها ( ينسب إلى موالي أمه فيكونون هم مواليه إن مات ورثوه وإن جر جريرة ) فعيلة
____________________
(4/121)
بمعنى مفعولة ما يفعله الإنسان من ذنب والمعنى وإن جنى جناية ( عقلوا عنه ) لأنهم مواليه ( فإن اعترف به أبوه ألحق به وصار ولاؤه إلى موالي أبيه وكان ميراثه لهم وعقله عليهم ويجلد أبوه الحد ) أي حد القذف
( وكذلك المرأة الملاعنة ) بفتح العين وكسرها ( من العرب ) أي الأحرار إصالة ( إذا اعترف زوجها الذي لاعنها بولدها صار بمثل ) أي صفة ( هذه المنزلة إلا أن بقية ميراثه بعد ميراث أمه وإخوته لأمه لعامة المسلمين ما لم يلحق بأبيه ) فإن استلحقه لحق به ( وإنما ورث ) بشد الراء ( ولد ) فاعل ( الملاعنة الموالاة ) بالجر صفة ( موالي أمه ) مفعول ( قبل أن يعترف به أبوه لأنه لم يكن له نسب ولا عصبة فلما ثبت نسبه ) باعتراف أبيه ( صار إلى عصبته ) أي عاد إليهم ( والأمر المجتمع عليه عندنا في ولد العبد من امرأة حرة وأبو العبد حر أن الجد أبا العبد يجر ولاء ولد ابنه الأحرار من امرأة حرة ترثهم ما دام أبوهم عبدا فإن عتق أبوهم رجع الولاء إلى مواليه وإن مات وهو عبد كان ) أي استمر ( الميراث والولاء للجد وإن ) بكسر الهمزة والنون الخفيفة ( العبد كان له ابنان حران فمات أحدهما وأبوه عبد حر ) سحب ( الجد أبو الأب الولاء والميراث ) عطف تفسير
( قال مالك في الأمة تعتق وهي حامل وزوجها مملوك ثم يعتق زوجها قبل أن تضع حملها أو بعدما تضع إن ولاء ما كان في بطنها للذي أعتق أمه لأن ذلك الولد قد كان أصابه الرق قبل أن تعتق أمه ) فثبت لمعتقها فلا ينتقل عنه ( وليس هو بمنزلة الذي تحمل به أمه بعد العتاقة لأن الذي تحمل به أمه بعد العتاقة إذا أعتق أبوه جر ولاءه ) أي سحبه
( قال مالك في العبد يستأذن سيده أن يعتق عبدا له
____________________
(4/122)
فيأذن له سيده ) في عتقه ( إن ولاء المعتق ) بالفتح ( لسيد العبد ) لأنه المعتق حقيقة ( لا يرجع ولاؤه إلى سيده الذي أعتقه وإن عتق ) لأنه ثبت لسيده وهو لا ينتقل
12 ميراث الولاء ( مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ) بفتح العين ( ابن حزم ) الأنصاري ( عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ) القرشي المخزومي تابعي صغير ( عن أبيه ) أبي بكر أحد الفقهاء ( أن العاصي بن هشام ) أخا الحارث ( هلك ) قتل يوم بدر كافرا ( وترك بنين له ثلاثة إثنان لأم ) أي شقيقان ( ورجل لعلة ) بفتح العين واللام الثقيلة أي امرأة أخرى والجمع علات إذا كان الأب واحدا والأمهات شتى قيل مأخوذ من العلل وهو الشرب بعد الشرب لأن الأب لما تزوج امرأة بعد أخرى صار كأنه شرب مرة بعد أخرى قال الشاعر أفي الولائم أولاد لواحدة وفي العيادة أولاد لعلات ( فهلك أحد اللذين لأم وترك مالا وموالي فورثه أخوه لأبيه وأمه ماله وولاء مواليه ) بالنصب بدل من ضمير ورثه ( ثم هلك الذي ورث المال وولاء الموالي وترك ابنه وأخاه ) لأبيه ( فقال ابنه قد أحرزت ) ضممت وملكت ( ما كان أبي أحرز من المال وولاء الموالي فقال أخوه ) أخو الميت وهو عم المنازع ( ليس كذلك إنما أحرزت المال وأما ولاء الموالي فلا أرأيت ) أي أخبرني ( لو هلك أخي ) الأول الذي ورث أبوك منه المال والولاء ( اليوم بعد موت شقيقه ) الذي هو أبوك ( ألست أرثه أنا ) دونك لأن الأخ وأن الأب مقدم على ابن الأخ الشقيق ( فاختصما إلى عثمان بن عفان فقضى عثمان لأخيه بولاء الموالي ) دون ابنه
____________________
(4/123)
وفي هذه القصة إشكال لأن العاصي قتل يوم بدر كافرا فكيف يموت في زمان عثمان ويتحاكم إليه في إرثه والذي يرفع الإشكال أن يكون التحاكم في الإرث تأخر إلى زمن عثمان لكن من يقتل يوم بدر كافرا لا يتحاكم في إرثه إلى عثمان في خلافته ثم وجدت أن الذي تحاكم إلى عثمان ولد العاصي بن هشام فيحتمل أنه سعيد الذي ذكره ابن أبي حاتم كذا قال الحافظ تعجيل المنفعة وسهوه ظاهر فإنه لم يتخاصم في إرث العاصي وإنما ذكر في صدر الخبر لبيان أنه خلف شقيقين وواحدا لأم أخرى والذي تخاصم إلى عثمان إنما هو ابن العاصي وابن ابنه الذي مات أبوه قبل ذلك وقد كان ورث شقيقه ماله وولاء مواليه لموته بلا ولد فاختصما في ولاء مواليه دون إرثه لا ذكر لميراث العاصي أصلا فلا إشكال
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ) بالحاء المهملة والزاي ( أنه أخبره أبوه أنه كان جالسا عند أبان بن عثمان ) بن عفان ( فاختصم إليه نفر من جهينة ) بضم الجيم وفتح الهاء ( ونفر من بني الحارث بن الخزرج ) بطن من الأنصار ( وكانت امرأة من جهينة عند رجل من بني الحارث بن الخزرج يقال له إبراهيم بن كليب ) بضم الكاف مصغر ( فماتت المرأة وتركت مالا وموالي ) عتقاء لها ( فورثها ابنها ) لم يسم ( وزوجها ) إبراهيم ( ثم مات ابنها فقالت ورثته لنا ولاء الموالي ) لأنه ( قد كان ابنها أحرزه ) ضمه وحازه ( فقال الجهنيون ليس كذلك إنما هم موالي صاحبتنا فإذا مات ولدها فلنا ولاؤهم ونحن نرثهم فقضى أبان بن عثمان للجهنيين بولاء الموالي ) دون ورثة الابن
( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال في رجل هلك وترك بنين له ثلاثة وترك موالي أعتقهم هو عتاقة ) بفتح السين ووهم من كسرها ( ثم أن الرجلين من بنيه هلكا ) ماتا ( وترك أولادا فقال سعيد بن المسيب يرث الموالي ) كذا رواه يحيى وهو خطأ وصوابه الولاء كذا قيل والرواية صواب بتقدير مضاف أي ولاء الموالي وهو بالنصب مفعول والفاعل الابن ( الباقي من ) بنيه ( الثلاثة فإذا
____________________
(4/124)
هلك هو ) أي الثالث ( فولده وولد إخوته في ولاء الموالي شرع ) بفتح المعجمة والراء وتسكن للتخفيف وعين مهملة أي ( سواء ) فهو عطف بيان
13 ميراث السائبة وولاء من أعتق اليهودي والنصراني هي أن يقول لعبده أنت سائبة يريد به العتق ولا خلاف في جوازه ولزومه وإنما كره مالك العتق بلفظ سائبة لاستعمال الجاهلية لها في الأنعام ولقوله إنه أمر تركه الناس وتركوا العمل به
( مالك أنه سأل ابن شهاب عن السائبة فقال يوالي من شاء فإن مات ولم يوال أحدا فميراثه للمسلمين وعقله عليهم ) ووافقه جماعة من السلف
وقال ( مالك إن أحسن ما سمع في السائبة أنه لا يوالي أحدا وإن ميراثه للمسلمين ) وكأنه أعتقه عنهم ( وعقله عليهم ) وإليه ذهب مالك وجماعة من أصحابه وكثير من السلف
وقال ابن الماجشون وابن نافع والشافعي وجماعة ولاؤه لمعتقه وقيل يشتري بتركته رقابا فتعتق
( مالك في اليهودي والنصراني يسلم عبد أحدهما فيعتقه قبل أن يباع عليه ) فيمضي عتقه نظرا لتشوف الشرع للعتق ( أن ولاء العبد المعتق ) بفتح التاء ( للمسلمين وإن أسلم اليهودي أو النصراني بعد ذلك لم يرجع إليه الولاء أبدا ) لأنه ثبت للمسلمين فلا ينتقل عنهم ( ولكن إذا أعتق اليهودي أو النصراني عبدا على دينهما ثم أسلم المعتق ) بالفتح ( قبل أن يسلم اليهودي أو النصراني الذي أعتقه ثم أسلم الذي أعتقه رجع إليه الولاء لأنه قد كان ثبت له الولاء يوم أعتقه ) وهو لا ينتقل وإنما منع منه قبل إسلامه لأنه لا ولاء لكافر على مسلم فلما أسلم رجع له الولاء ( وإن كان لليهودي أو النصراني ولد
____________________
(4/125)
مسلم ورث موالي أبيه اليهودي أو النصراني إذا أسلم المولى المعتق ) بفتح التاء ( قبل أن يسلم الذي أعتقه ) وهما كافران ( وإن كان المعتق ) بالفتح ( حين أعتق ) بضم أوله ( مسلما لم يكن لولد النصراني أو اليهودي المسلمين ) بالتثنية صفة للولدين ( من ولاء العبد المسلم شيء لأنه ليس لليهودي ولا للنصراني ولاء فولاء العبد المسلم لجماعة المسلمين ) لا يختص به المسلم ابن المعتق الكافر
____________________
(4/126)
5121212 1 2
21 كتاب المكاتب بالفتح من تقع عليه الكتابة وبالكسر من تقع منه وكاف الكتابة تفتح وتكسر قال الراغب اشتقاقها من كتب بمعنى أوجب ومنه قوله تعالى { كتب عليكم الصيام } سورة البقرة الآية 183 { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } سورة النساء الآية 103 أو بمعنى جمع وضم ومنه كتب على الخط فعلى الأول تكون مأخوذة من معنى الالتزام وعلى الثاني مأخوذة من الخط لوجوده عند عقدها غالبا
قال ابن التين كانت الكتابة متعارفة قبل الإسلام فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وأول من كوتب في الإسلام أبو المؤمل فقال صلى الله عليه وسلم أعينوا أبا المؤمل فأعين فقضى كتابته وفضلت عنده فضلة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أنفقها في سبيل الله
وقال ابن خزيمة كانوا يتكاتبون في الجاهلية بالمدينة وأول من كوتب في الإسلام من الرجال سلمان ثم بريرة فقول الروياني للكتابة إسلامية ولم تعرف في الجاهلية خلاف الصحيح
1 القضاء في المكاتب ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء ) ولو قل
وقد رواه ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وقد ورد مرفوعا أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم وأخرجه ابن حبان من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو في أثناء حديث
( مالك أنه بلغه أن عروة بن الزبير وسليمان بن يسار كانا يقولان المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء ) وقد روى ابن أبي شيبة وابن سعد عن سليمان بن يسار قال استأذنت على عائشة فعرفت صوتي فقالت سليمان فقلت سليمان فقالت أديت ما بقي عليك من
____________________
(4/127)
كتابتك قلت نعم إلا شيئا يسيرا قالت أدخل فإنك عبد ما بقي عليك شيء وروى الشافعي وسعيد بن منصور عن زيد بن ثابت المكاتب عبد ما بقي عليه درهم
( قال مالك وهو رأيي ) وقاله الجمهور وكان فيه خلاف عن السلف فعن علي إذا أدى الشطر فهو غريم وعنه يعتق منه بقدر ما أدى
وعن ابن مسعود لو كاتبه على مائتين وقيمته مائة فأدى المائة عتق
وعن عطاء إذا أدى المكاتب ثلاثة أرباع كتابته عتق
وروى النسائي عن ابن عباس مرفوعا المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ورجال إسناده ثقات لكن اختلف في إرساله ووصله حجة الجمهور حديث عائشة وهو أقوى ووجه الدلالة منه أن بريرة بيعت بعد أن كوتبت ولولا أن المكاتب يصير بنفس الكتابة حر لمنع بيعها وقد ناظر زيد بن ثابت عليها فقال أترجمه ولو زنى أو تجيز شهادته إن شهد فقال علي لا فقال زيد فهو عبد ما بقي عليه شيء
( قال مالك فإن هلك المكاتب وترك مالا أكثر مما بقي عليه من كتابته وله ولد ولدوا في ) زمن ( كتابته ) أي بعد عقدها ( أو ) كانوا موجودين قبلها و ( كاتب عليهم ورثوا ما بقي من المال بعد قضاء كتابته ) إلى سيده
( مالك عن حميد بن قيس المكي ) الأعرج القاري ( أن مكاتبا ) اسمه عباد ( كان لابن المتوكل هلك بمكة وترك عليه بقية من كتابته وديونا للناس ) عليه ( وترك ابنته فأشكل على عامل ) أي أمير ( مكة ) يومئذ ( القضاء فيه ) لعدم علمه به ( فكتب إلى عبد الملك بن مروان ) الخليفة إذ ذاك ( يسأله عن ذلك ) وأرسله إلى الشام ( فكتب إليه عبد الملك أن ابدأ بديون الناس ) فاقضها لهم ( ثم اقض ما بقي من كتابته ) لسيده ( ثم اقسم ما بقي من ماله بين ابنته ومولاه ) معتقه الذي كاتبه نصفين قال أبو عمر قضى بذلك معاوية قبله ذكر معمر عن قتادة عن معبد الجهني قال سألني عبد الملك عن المكاتب يموت وله ولدا حرا فقلت قضى عمر أن ماله كله لسيده
وقضى معاوية أن سيده يعطي بقية كتابته ثم ما بقي لولده الأحرار
ومالك لا يقول بهذا لأنه جاء من وجوه أن بنته كانت حرة أمها حرة والمكاتب لا يرثه
____________________
(4/128)
وارثه الحر إذا مات قبل العتق وإنما يرثه من معه من ورثته في كتابته وإلا فكله لسيده كما قضى به عمرو قاله زيد بن ثابت انتهى ملخصا
( قال مالك الأمر عندنا أنه ليس ) يجب ( على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك ) وإنما يستحب ( ولم أسمع أن أحدا من الأئمة أكره رجلا على أن يكاتب عبده ) وفي البخاري تعليقا وأخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن وعبد الرزاق وغيرهما أن سيرين والد محمد سأل أنس بن مالك المكاتبة وكان كثير المال فأبى فانطلق إلى عمر فاستعداه عليه فقال عمر لأنس كاتبه فأبى فضربه بالدرة وتلا عمر { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } سورة النور الآية 33 فكاتبه أنس
وروى ابن سعد عن محمد بن سيرين قال كاتب أنس أبي على أربعين ألف درهم
وروى البيهقي عن أنس بن سيرين عن أبيه قال كاتبني أنس على عشرين ألف درهم
قال الحافظ فإن كانا محفوظين جمع بينهما بحمل أحدهما على الوزن والآخر على العدد
ولابن أبي شيبة عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس قال هذه مكاتبة أنس عندنا هذا ما كاتب أنس غلامه سيرين على كذا وكذا ألفا وعلى غلامين يعملان مثل عمله
فظاهر ضرب عمر لأنس حين امتنع أنه كان يرى وجوب الكتابة إذا سألها العبد وليس ذلك بلازم لاحتمال أنه أدبه على ترك المندوب المؤكد
وكذلك ما رواه عبد الرزاق أن عثمان قال لمن سأله الكتابة لولا آية ومن كتاب الله تعالى ما فعلت لا يدل على أنه يرى الوجوب قال ابن القصار إنما علا عمر أنسا بالدرة على وجه النصح لأنس ولو لزمته ما أبى وإنما ندبه عمر إلى الأفضل وكذا قال ابن عبد البر يحتمل أن يكون فعل عمر بأنس على الاختيار والاستحسان لا على الوجوب
( وقد سمعت بعض أهل العلم إذا سئل عن ذلك فقيل له أن الله تبارك وتعالى يقول ) { والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم } سورة النور الآية 33 { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } قيل مالا وقيل صلاحا وقيل هناء وأداء وقيل صدقا ووفاء وقوة
قال أبو عمر دل حديث بريرة أنه الكسب لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسألها أمعك مال أم لا ولم ينهها عن السؤال وقد يكون الكسب بالمسألة وقد قيل المسألة آخر كسب المؤمن وقال بعض أهل النظر لا يحتمل أن الخير في الآية المال لأنه لا يجوز لغة أن يقال في العبد مال أو في الأمة مال لأن المال لا يكون في الإنسان إنما يكون له وعنده وفي يده لا فيه قال وقول من قال يعني دينا وأمانة وصدقا ووفاء أولى فظاهر الأمر الوجوب كما قال به مسروق وعطاء والضحاك وعمرو بن دينار وعكرمة وداود وأتباعه واختاره ابن جرير وأجيب بأن الأمر ليس للوجوب لأن الكتابة إما بيع أو عتق وكلاهما لا يجب والأمر جاء في القرآن لغير الوجوب ولذا كان بعض العلماء
____________________
(4/129)
( يتلو هاتين الآيتين وإذا حللتم فاصطادوا ) والصيد بعد الإحلال لا يجب إجماعا فهو أمر إباحة ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) والانتشار والابتغاء لا يجبان بعد انقضاء الصلاة فهو للإباحة ولذا ( قال مالك وإنما ذلك أمر أذن الله فيه للناس وليس بواجب عليهم ) لأن الكتابة عقد غرر فالأصل أن لا تجوز فلما أذن فيها كان أمرا بعد منع والأمر بعدالمنع للإباحة ولا يرد عليه أنها مستحبة لأن استحبابها ثبت بأدلة أخرى وقال أبو عمر لما لم يجب على السيد بيعه بإجماع وفي الكتابة إخراج ملكه عنه بغير رضى ولا طيب نفس كانت الكتابة أحرى أن لا تجب ودل ذلك على أن الآية على الندب لا على الإيجاب
وقال أبو سعيد الاصطخري القرينة الصارفة له عن الوجوب الشرط في قوله { إن علمتم فيهم خيرا } سورة النور الآية 33 فإنه وكل الاجتهاد في ذلك إلى الموالي ومقتضاه أنه إذا رأى عدمه لم يجبر عليه فدل على أنه غير واجب
وقال القرطبي لما ثبت أن العبد وكسبه ملك للسيد دل على أن الأمر بكتابته غير واجب لأن قوله خذ كسبي واعتقني بمنزلة أعتقني بلا شيء وذلك لا يجب اتفاقا
( قال مالك وسمعت بعض أهل العلم يقول في قول الله تبارك وتعالى { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } سورة النور الآية 33 ) أمر للموالي أن يبذلوا لهم شيئا من أموالهم للوجوب عند الأكثر والندب عند مالك وجماعة لأنه في معنى وصدقه التطوع الإعانة على العتق وكل منهما لا يجب وفي معنى الإيتاء حط جزء من مال الكتابة كما قال ( إن ذاك أن يكتب الرجل غلامه ثم يضع ) يحط ( عنه من آخر كتابته شيئا مسمى ) وهو الجزء الأخير لأن به يخرج حرا فتظهر ثمرته
( قال فهذا الذي سمعت من أهل العلم ) أي بعضهم كما عبر به أولا ( وأدركت عمل الناس على ذلك عندنا وقد بلغني ) لعله من نافع أو ابن دينار ( أن عبد الله بن عمر كاتب غلاما له على خمسة وثلاثين ألف درهم ) فضة ( ثم وضع عنه من آخر كتابته خمسة آلاف درهم ) فخرج حرا ( والأمر عندنا أن المكاتب إذا كاتبه سيده تبعه ماله ) لأنها في معنى العتق وهو يتبعه إذا أعتقه ولم يستثنه ( ولم يتبعه ولده ) لأنهم ذوات أخر ( إلا أن يشترطهم في كتابته ) فيدخلون لأنه بالشرط كأن الكتابة وقعت على الجميع
____________________
(4/130)
( مالك في المكاتب يكاتبه سيده وله جارية بها حبل ) بفتح الحاء والموحدة أي حمل ( منه لم يعلم به هو ولا سيده يوم كتابته فإنه لا يتبعه ذلك الولد لأنه لم يكن دخل في كتابته وهو لسيده فأما الجارية فإنها للمكاتب لأنها من ماله ) وهو يتبعه ماله
( مالك في رجل ورث مكاتبا من امرأته ) متعلق بورث ( هو ) أي الرجل ( وابنها ) أي المرأة ( أن المكاتب إن مات قبل أن يقضي كتابته ) اقتسما ميراثه ( على كتاب الله ) للزوج الربع وللابن الباقي لأنه بموته قبل قضاء الكتابة بان أنه موروث عن المرأة ( وإن أدى كتابته ثم مات فميراثه لابن المرأة ليس للزوج من ميراثه شيء ) لأنه إنما ورث بالولاء وليس للزوج فيه دخل ( والمكاتب ) بفتح التاء ( يكاتب عبده ينظر في ذلك فإن كان إنما أراد المحاباة ) المسامحة مأخوذ من حبوته إذا أعطيته ( لعبده وعرف ذلك منه بالتخفيف عنه ) في قدر الكتابة والباء سببية ( فلا يجوز ذلك وإن كان إنما كاتبه على وجه الرغبة وابتغاء ) طلب ( الفضل ) الزيادة ( والعون على كتابته فذلك جائز له ) لأنه أحرز نفسه وماله بالكتابة فصار كالحر في تصرفه إلا في التبرعات والمحاباة المودية إلى عجزه
( مالك في رجل ) ولغير يحيى قال مالك لا ينبغي أن يطأ الرجل مكاتبته فإن جهل و ( وطىء مكاتبة له أنها إن حملت فهي بالخيار إن شاءت كانت أم ولد ) وإن كان لها مال كثير ظاهر وقوة على السعي للاختلاف فيها فقد قال ابن المسيب إذا حملت بطلت كتابتها وصارت أم ولد ( وإن شاءت قرت على كتابتها ) ونفقتها على السيد مدة حملها كالمبتوتة ( فإن لم تحمل فهي على كتابتها ) باقية ويؤدب السيد في وطء مكاتبته إلا أن يعذر بجهل كما في المدونة
( والأمر المجتمع عليه عندنا في العبد يكون بين الرجلين أن أحدهما لا يكاتب نصيبه ) أي حصته ( منه أذن بذلك صاحبه ) أي شريكه
____________________
(4/131)
( أو لم يأذن إلا أن يكاتبا جميعا ) فيجوز وعلل ما قبل الاستثناء بقوله ( لأن ذلك يعقد له عتقا ويصبر إذا أدى العبد ما كوتب عليه إلى أن يعتق نصفه ولا يكون على الذي كاتب بعضه أن يستتم عتقه ) لأن السراية بالتكميل أو التقويم إنما هي بالعتق الناجز لا بالكتابة ( فذلك خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعتق شركا ) بكسر فسكون نصيبا ( له في عبد قوم عليه قيمة العدل ) أي يلزم لو قيل بالجواز مخالفته الحديث ( فإن جهل ذلك ) أي لم يعلم بكتابة أحد الشريكين نصيبه ( حتى يؤدي المكاتب أو قبل أن يؤدي رد عليه الذي كاتبه ما قبض من المكاتب فاقتسمه هو وشريكه على قدر حصصهما ) لأنه مملوك لهما ( وبطلت كتابته وكان عبدا لهما على حالته الأولى ) التي قبل الكتابة
( قال مالك في مكاتب بين رجلين فأنظره أحدهما بحقه الذي عليه وأبى الآخر أن ينظره ) يؤخره ( فاقتضى الذي أبى أن ينظره بعض حقه ثم مات المكاتب وترك ما ليس فيه وفاء من كتابته قال مالك يتحاصان ) أي يقتسمان ( ما تركه بقدر ما بقي لهما عليه يأخذ كل واحد منهما بقدر حصته ) بيان للتحاصص ( فإن ترك المكاتب فضلا ) زيادة ( عن كتابته أخذ كل واحد منهما ما بقي من الكتابة وكان ما بقي بينهما بالسواء ) أي بقدر حصصهما ( فإن عجز المكاتب وقد اقتضى الذي لم ينظره أكثر مما اقتضى صاحبه كان العبد بينهما نصفين ) إذا كان ملكهما له كذلك ( ولا يرد على صاحبه فضل ما اقتضى لأنه إنما اقتضى الذي له بإذن صاحبه ) فكان تركه له ( وإن وضع عنه أحدهما الذي له ثم اقتضى صاحبه بعض الذي له عليه ثم عجز فهو بينهما ولا يرد الذي اقتضى على صاحبه ) أي له ( شيئا لأنه إنما اقتضى الذي له عليه ) وذلك أسقط ماله ( وذلك بمنزلة الذي يكون للرجلين بكتاب واحد على
____________________
(4/132)
رجل واحد فينظره أحدهما ويشح ) أي يأبى ( الآخر فيقضي بعض حقه ثم يفلس الغريم فليس على الذي اقتضى أن يرد شيئا مما أخذ ) لأنه إنما أخذ ماله
2 الحمالة في الكتابة ( مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أن العبيد إذا كوتبوا جميعا كتابة واحدة فإن بعضهم حملاء ) ضامنون ( عن بعض وإنه لا يوضع عنهم لموت أحدهم شيء وإن قال أحدهم قد عجزت وألقى بيديه ) لم يكن له ذلك ( فإن لأصحابه أن يستعملوه ما يطيق من العمل ) لا ما لا يطيقه ( ويتعاونون بذلك في كتابتهم حتى يعتق بعتقهم إن عتقوا أو يرق برقهم إن رقوا ) وهذا من ثمرة كونهم حملاء
( والأمر المجتمع عليه عندنا أن العبد إذا كاتبه سيده لم ينبغ ) لم يجز ( لسيده أن يتحمل له بكتابة عبده أحد ) فاعل يتحمل ( إن مات العبد أو عجز وليس هذا من سنة المسلمين وذلك أنه إن حمل ) ضمن ( رجل لسيد المكاتب بما عليه من كتابته ثم أتبع ذلك سيد المكاتب قبل ) بكسر ففتح جهة ( الذي تحمل له أخذ ماله باطلا ) بين وجه ذلك البطلان بقوله ( لا هو ) أي المتحمل ( ابتاع ) اشترى ( المكاتب فيكون ما أخذ منه من ثمن شيء هو له ولا لمكاتب عتق فيكون في ثمن حرمة ثبتت له ) وهي حرمة العتق لو كان ( فإن عجز المكاتب رجع إلى سيده وكان عبدا مملوكا له وذلك أن الكتابة ليست بدين ثابت يتحمل ) بضم أوله مبني للمجهول ( لسيد المكاتب بها إنما هي شيء إن أداه المكاتب عتق ) وإلا رق
____________________
(4/133)
والحمالة إنما هي في الديون السابقة
( وإن مات المكاتب وعليه دين لم يحاص ) بالإدغام ( الغرماء ) مفعول فاعله ( سيده بكتابته ) أي بما بقي منها أو بما حل من نجومه لأنها ليست بدين ثابت ( وكان الغرماء أولى بذلك من سيده ) أي أحق أي أنه حقهم دونه ولوكانت دينا ثابتا لحاصصهم ( وإن عجز المكاتب وعليه دين للناس رد عبدا مملوكا لسيده وكانت ديون الناس في ذمة المكاتب ) ويتبعونه إذا عتق ( لا يدخلون مع سيده في شيء من ثمن رقبته ) لأن معاملتهم له إنما هي في ذمته لا في رقبته قال أبو عمر على قول مالك إن الحمالة لا تصح عن المكاتب الجمهور وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وأحسن مالك في احتجاجه لذلك
( وإذا كاتب القوم جميعا كتابة واحدة ولا رحم بينهم يتوارثون بها فإن بعضهم حملاء عن بعض ولا يعتق بعضهم دون بعض حتى يؤدوا الكتابة كلها فإن مات أحد منهم وترك مالا هو أكثر من جميع ما عليهم أدى عنهم جميع ما عليهم وكان فضل المال ) أي ما بقي منه ( لسيده ولم يكن لمن كاتب معه من فضل المال ) أي باقيه ( شيء ويتبعهم السيد بحصصهم التي بقيت عليهم من الكتابة التي قضيت من مال الهالك ) الميت ( لأن الهالك إنما كان يحمل عنهم فعليهم أن يؤدوا ما عتقوا به من ماله ) لأجل الحمالة فإن فضل شيء فلسيده ملكا ( وإن كان للمكاتب ولد حر لم يولد في الكتابة ولم يكاتب عليه لم يرثه لأن المكاتب لم يعتق حتى مات ) وهو عبد فماله لسيده
____________________
(4/134)
3 القطاعة في الكتابة بفتح القاف وكسرها اسم مصدر قاطع والمصدر المقاطعة سميت بذلك لأنه قطع طلب سيده عنه بما أعطاه أو قطع له بتمام حريته بذلك أو قطع بعض ما كان له عنده قاله عياض
( مالك أنه بلغه أن أم سلمة ) هند بنت أبي أمية القرشية المخزومية ( زوج النبي صلى الله عليه وسلم ) ورضي عنها ( كانت تقاطع مكاتبيها ) بكسر الموحدة جمع مكاتب وكاتبت عدة منهم سليمان وعطاء وعبد الله وعبد الملك الأربعة أولاد يسار وكلهم أخذ عنه العلم وعطاء أكثرهم حديثا وسليمان أفقههم والآخران قليلا الحديث وكلهم ثقة رضا كما في التمهيد وكاتبت أيضا نبهان ونفيعا ( بالذهب والورق ) أي تأخذه منهم عاجلا في نظير ما كاتبتهم عليه قال أبو عمر ذكر مالك هذا عن أم سلمة لأن ابن عمر كان ينهى عن القطاعة إلا بالعروض ويراه من باب ضع وتعجل
( قال مالك الأمر عندنا في المكاتب يكون بين الشريكين فإنه لا يجوز لأحدهما أن يقاطعه على حصته إلا بإذن شريكه وذلك أن العبد وماله بينهما ) مناصفة أو غيرها ( فلا يجوز لأحدهما أن يأخذ شيئا من ماله إلا بإذن شريكه ) أي يحرم ( ولو ) وقع ذلك و ( قاطعه أحدهما دون صاحبه ثم حاز ) بمهملة وزاي ( ذلك ثم مات المكاتب وله مال أو عجز لم يكن لمن قاطعه شيء من ماله ) لأنه أسقط حقه من المقاطعة ( ولم يكن له أن يرد ما قاطعه عليه ويرجع حقه في رقبته ) إذ لا حق له حتى يرجع لأنه أسقطه ( ولكن من قاطع مكاتبا بإذن شريكه ثم عجز المكاتب فإن أحب الذي قاطعه أن يرد الذي أخذ منه من القطاعة ويكون على نصيبه من رقبة المكاتب كان له ذلك ) وإن أحب لم يرد ولا شيء له في المكاتب
( وإن مات المكاتب وترك مالا استوفى الذي بقيت له الكتابة حقه الذي بقي له على المكاتب
____________________
(4/135)
من ) رأس ( ماله ثم كان ما بقي من مال المكاتب بين الذي قاطعه وبين شريكه على قدر حصصهما في المكاتب ) نصفا أو ثلثا وغيرهما ( وإن أحدهما قاطعه وتماسك صاحبه بالكتابة ) أي لم يقاطعه ( ثم عجز المكاتب قيل للذي قاطعه إن شئت أن ترد على صاحبك نصف الذي أخذت ويكون العبد بينكما شطرين ) فلك ذلك
( وإن أبيت فجميع العبد للذي تمسك بالرق خالصا ) لا شيء لك فيه
( قال مالك في المكاتب يكون بين الرجلين فيقاطعه أحدهما بإذن صاحبه ثم يقبض الذي تمسك بالرق ) من نجوم الكتابة ( مثل ما قاطع عليه صاحبه أو أكثر من ذلك ثم عجز المكاتب قال مالك فهو بينهما لأنه إنما اقتضى الذي له عليه ) فلا يرجع المقاطع على المتمسك بما زاد
( وإن اقتضى أقل مما أخذ الذي قاطعه ثم عجز المكاتب فأحب الذي قاطعه أن يرد على صاحبه نصف ما تفضله ) أي زاد عليه ( به ويكون العبد بينهما نصفين فذلك له وإن أبى فجميع العبد للذي لم يقاطعه ) لبقاء حقه
( وإن مات المكاتب وترك مالا فأحب الذي قاطعه أن يرد على صاحبه نصف ما تفضله به ويكون الميراث بينهما فذلك له وإن كان الذي تمسك بالكتابة قد أخذ مثل ما قاطع عليه شريكه أو أفضل فالميراث بينهما بقدر ملكهما لأنه إنما أخذ حقه ) فلا كلام عليه لمن قاطع
( وفي المكاتب يكون بين الرجلين فيقاطع أحدهما على نصف حقه بإذن صاحبه ثم يقبض الذي تمسك بالرق ) ولم يقاطع ( أقل مما قاطع عليه صاحبه ثم يعجز المكاتب قال مالك إن أحب الذي قاطع العبد أن يرد على صاحبه نصف ما تفضله
____________________
(4/136)
به كان العبد بينهما شطرين ) نصفين إن كانا ملكاه كذلك ( وإن أبى أن يرد فللذي تمسك بالرق حصة صاحبه الذي كان قاطع عليه المكاتب ) أي أنه يملكها لسقوط حق المقاطع بالمقاطعة وأعاد هذا لقوله
( وتفسير ذلك ) أي بيان وجهه ( أن العبد يكون بينهما شطرين فيكاتبانه جميعا ثم يقاطع أحدهما المكاتب على نصف حقه ) بأن يكون له مائة فيأخذ خمسين ( بإذن صاحبه وذلك الربع من جميع العبد ثم يعجز المكاتب فيقال للذي قاطعه إن شئت فاردد على صاحبك ) شريكك ( نصف ما فضلته به ويكون العبد بينكما شطرين وإن أبى كان للذي تمسك بالكتابة ربع صاحبه الذي قاطع عليه المكاتب خالصا ) لا شرك له فيه ( وكان له نصف العبد ) أصالة ( فذلك ثلاثة أرباع العبد وكان للذي قاطع ربع العبد لأنه أبى أن يرد ثمن ربعه الذي قاطع عليه ) وهذا توجيه وجيه ( وفي المكاتب يقاطعه سيده فيعتق ويكتب عليه ما بقي من قطاعته دينا عليه ثم يموت المكاتب وعليه دين للناس قال مالك فإن سيده لا يحاص غرماءه بالذي له عليه من قطاعته ولغرمائه أن يبدوا عليه ) أي أنه حق لهم ( وليس للمكاتب أن يقاطع سيده إذا كان عليه دين للناس فيعتق ويصير لا شيء له لأن أهل الدين أحق بماله من سيده فليس ذلك بجائز له ) لأنه يقاطع بأموال الناس ( والأمر عندنا في الرجل يكاتب عبده ثم يقاطعه بالذهب فيضع عنه مما عليه من الكتابة على أن يعجل له ما قاطعه عليه أنه ليس بذلك بأس ) أي يجوز ( وإنما كره ذلك من كرهه لأنه أنزله بمنزلة الدين يكون للرجل على
____________________
(4/137)
الرجل إلى أجل فيضع عنه ) بعضه ( وينقده ) الباقي يعجله وهذا ممنوع لضع وتعجل فقال عليه مسألة المكاتب ( وليس هذا مثل الدين إنما كانت قطاعة المكاتب سيده على أنه في أن يتعجل العتق فيجب ) يثبت ( له الميراث والشهادة والحدود وتثبت له حرمة العتاقة ولم يشتر دراهم بدراهم ولا ذهبا بذهب ) حتى يكون فيه وضع وتعجل فلا يتم القياس إذ العتق ليس بمال والكتابة ليست بمال ثابت إنما هي عتق على مال
( وإنما مثل ) أي صفة ( ذلك ) مثل ( رجل قال لغلامه ائتني بكذا وكذا دينارا ) كناية عن عدد سماه ( وأنت حر فوضع ) حط ( عنه من ) أي بعض ( ذلك فقال إن جئتني بأقل من ذلك فأنت حر فليس هذا دينا ثابتا ولو كان دينا ثابتا لحاص به السيد غرماء المكاتب إذا مات أو أفلس فدخل معهم في مال مكاتبته ) مع أنه لا يحاصص ولا يدخل
4 جراح المكاتب ( مالك أحسن ما سمعت في المكاتب يجرح الرجل جرحا يقع فيه العقل عليه ) أي يلزمه عقل ما جرح ( أن المكاتب إن قوي أن يؤدي عقل ذلك الجرح مع كتابته أداه وكان على كتابته ) بقي عليها ( وإن لم يقو على ذلك فقد عجز عن كتابته ) فعاد قنا ( وذلك أنه ينبغي ) يجب ( أن يؤدي عقد ذلك الجرح قبل الكتابة فإن هو عجز عن أداء عقل ذلك الجرح فعل وأمسك غلامه وصار عبدا مملوكا ) لعجزه عن الكتابة ( وإن شاء أن يسلم العبد إلى المجروح أسلمه وليس على السيد أكثر من أن يسلم عبده ) وإن نقصت قيمته عما في الجرح
____________________
(4/138)
( وفي القوم يتكاتبون جميعا فيجرح أحدهم جرحا فيه عقل قال مالك من جرح منهم جرحا فيه عقل قيل له وللذين معه في الكتابة أدوا جميعا عقل ذلك الجرح ) لأنكم حملاء ( فإن أدوا ثبتوا على كتابتهم وإن لم يؤدوه فقد عجزوا ويخير سيدهم فإن شاء أدى عقل ذلك الجرح ورجعوا عبيدا له جميعا وإن شاء أسلم الجارح وحده ) لأنه الجاني ( ورجع الآخرون عبيدا له جميعا بعجزهم ) الباء سببية ( عن أداء عقل ذلك الجرح الذي جرح صاحبهم ) الذي معهم في الكتابة لأنهم حملاء
( مالك الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن المكاتب إذا أصيب بجرح يكون له فيه عقل أو أصيب أحد من ولد المكاتب الذين معه في كتابته فإن عقلهم عقل العبيد في قيمتهم ) لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ( وأن ما أخذ لهم من عقلهم يدفع إلى سيدهم الذي له الكتابة ويحسب ذلك للمكاتب في آخر كتابته فيوضع عنه ما أخذ سيده من دية جرحه ) لإحرازه ماله وهو ماله
( وتفسير ذلك ) أي بيانه وإيضاح علة حكمه ( أنه كان كاتبه على ثلاثة آلاف درهم ) مثلا ( وكان دية جرحه الذي أخذها سيده ألف درهم فإذا أدى المكاتب إلى سيده ألفي درهم فهو حر وإن كان الذي بقي عليه من كتابته ألف درهم وكان الذي أخذ من دية جرحه ألف درهم فقد عتق ) لأنه أدى ما عليه
( وإن كان عقل جرحه أكثر مما بقي على المكاتب أخذ سيد المكاتب ما بقي من كتابته وعتق ) المكاتب ( وكان ما فضل بعد أداء كتابته للمكاتب ولا ينبغي ) لا يجوز ( أن يدفع إلى المكاتب شيء من دية جرحه فيأكله ) بالنصب ( ويستهلكه فإن عجز رجع إلى سيده أعور أو مقطوع اليد أو معضوب )
____________________
(4/139)
بمهملة فمعجمة أي مقطوع ( الجسد ) والمعنى يرجع بما أصابه من الجرح ( وإنما كاتبه سيده على ماله وكسبه ولم يكاتبه على أن يأخذ ثمن ولده ولا ما أصيب من عقل جسده فيأكله ويستهلكه ) فلذا كان للمكاتب عقل جراحه لأنه ليست من كسبه ( ولكن عقل جراحات المكاتب وولده الذين ولدوا في كتابته أو كاتب عليهم يدفع إلى سيده ويحسب ذلك له في آخر كتابته ) ليخرج حرا
5 بيع المكاتب هو من مجاز الحذف أي كتابته المكاتب بدليل المسائل التي ذكرها في الترجمة إذ كلها في كتابته لا رقبته ولأن أشهر قوليه منع بيع رقبته ومر الجواب عما يقتضيه حديث بريرة
( مالك إن أحسن ما سمع ) وفي نسخة سمعت ( في الرجل يشتري مكاتب الرجل ) أي كتابته بدليل قوله ( إذا كان كاتبه بدنانير أو دراهم إلا بعرض من العروض ) لا بنقد لئلا يكون فيه صرف مؤخر ( ويعجله ولا يؤخره ) أتى به لأن التعجيل يصدق بما إذا كان معه تأخير قليل ( لأنه إذا أخره كان دينا ) أي يبيعه ( بدين وقد نهي ) بالبناء للمفعول للعلم بالفاعل صلى الله عليه وسلم ( عن الكالىء بالكالىء ) بالهمزة وهو الدين بالدين
( وإن كاتب المكاتب سيده بعرض من العروض من الإبل أو البقر أو الغنم أو الرقيق فإنه يصلح ) يجوز ( للمشتري أن يشتريه بذهب أو فضة أو عرض مخالف للعروض التي كاتبه سيده عليها يعجل ذلك ولا يؤخره ) لئلا يكون دينا بدين
( مالك أحسن ما سمعت في المكاتب أنه إذا بيع ) أي بيعت كتابته لقوله ( كان أحق باشتراء كتابته ممن اشتراها إذا قوي أن يؤدي إلى سيده الثمن الذي باعه به نقدا وذلك أن اشتراءه نفسه عتاقة ) بفتح
____________________
(4/140)
العين ووهم من كسرها ( والعتاقة تبدى على ما كان معها من الوصايا ) لتشوف الشرع للحرية أقوى من مطلق الوصية
( وإن باع بعض من كاتب المكاتب نصيبه منه فباع نصف المكاتب أو ثلثه أو ربعه أو سهما من أسهم المكاتب فليس للمكاتب فيما بيع منه شفعة و ) وجه ( ذلك أنه يصير بمنزلة القطاعة وليس له أن يقاطع بعض من كاتبه إلا بإذن شركائه وأن ما بيع منه ليست له به حرمة تامة ) لعدم خروجه حرا ( وأن ماله محجور عنه وأن اشتراء بعضه يخاف عليه منه العجز لما يذهب من ماله وليس ذلك بمنزلة اشتراء المكاتب نفسه كاملا ) لأنه يعتق بمجرده
( إلا أن يأذن له من بقي له فيه كتابة ) باشتراء البعض المبيع من كتابته ( وإن أذنوا له كان أحق بما بيع منه ) من غيره
( قال مالك لا يحل بيع نجم من نجوم المكاتب ) وهو القدر المعين الذي يؤديه المكاتب في وقت معين وأصله أن العرب كانوا يبنون أمورهم في المعاملة على طلوع النجم والمنازل لكونهم لا يعرفون الحساب يقولون إذا طلع النجم الفلاني أديت حقك فسميت الأوقات نجوما بذلك ثم سمي المؤدى في الوقت نجما ( وذلك أنه غرر ) لأنه لا يعلم هل يكون له أو لا لأنه ( إن عجز المكاتب بطل ما عليه وإن مات أو أفلس وعليه ديون للناس لم يأخذ الذي اشترى نجمه بحصته مع غرمائه شيئا ) بل يختصون دونه ( وإنما الذي يشتري نجما من نجوم المكاتب بمنزلة سيد المكاتب فسيد المكاتب لا يحاص بكتابة غلامه غرماء المكاتب ) فكذا المشتري منه ( وكذلك الخراج أيضا ) المجعول من السيد على العبد كل يوم مثلا ( يجتمع له على غلامه فلا يحاص بما اجتمع له من الخراج غرماء غلامه ) بل يكون لهم دونه
( ولا بأس بأن يشتري المكاتب كتابته بعين أو عرض مخالف لما كوتب به من العين أو
____________________
(4/141)
العرض أو غير مخالف ) بل موافق كذهب بذهب أو فرس بفرس ( معجل أو مؤخر ) لأن الكتابة ليست كالديون الثابتة ولا كالمعارضة المحضة فيجوز فيها ما منع في ذلك وهو فسخ ما على المكاتب في شيء مؤخر عليه وفسخ ما عليه من ذهب في ورق وعكسه ومثله التعجيل على إسقاط بعض ما عليه وهو ضع وتعجل وسلف يجر منفعة ونحو ذلك وظاهره سواء عجل العتق أم لا وهو قول مالك وابن القاسم ومنعه سحنون إلا بشرط تعجيل العتق
( قال مالك في المكاتب يهلك ) بكسر اللام يموت ( ويترك أم ولد وأولادا له صغارا منها أو من غيرها فلا يقوون ) يقدرون ( على السعي ويخاف عليهم العجز عن كتابتهم قال تباع أم ولد أبيهم إذا كان في ثمنها ما يؤدى به عنهم جميع كتابتهم أمهم كانت أو غير أمهم يؤدى عنهم ) ثمنها للسيد ( ويعتقون لأن أباهم كان لا يمنع بيعها إذا خاف العجز عن كتابته فهؤلاء ) بمنزلته ( إذا خيف عليهم العجز بيعت أم ولد أبيهم فيؤدى عنهم ) ثمنها ( فإن لم يكن في ثمنها ما يؤدى عنهم ولم تقو هي ولا هم على السعي رجعوا جميعا رقيقا لسيدهم ) وبطلت الكتابة
( والأمر عندنا في الذي يبتاع كتابة المكاتب ثم يهلك المكاتب قبل أن يؤدي كتابته أنه يرثه ) أي يأخذ ماله ( الذي اشترى كتابته وإن عجز فله رقبته ) ملكا ( وإن أدى المكاتب كتابته إلى الذي اشتراها وعتق فولاؤه للذي عقد كتابته ) وهو بائعها ( ليس للذي اشترى كتابته من ولائه شيء ) لأنه ثبت للعاقد وهو لا ينتقل
6 سعي المكاتب ( مالك أنه بلغه أن عروة بن الزبير وسليمان بن يسار سئلا عن رجل كاتب على نفسه وعلى بنيه
____________________
(4/142)
ثم مات هل يسعى بنو المكاتب في كتابة أبيهم أم هم عبيد ) فلا يسعوا ( فقالا بل يسعون في كتابة أبيهم ولا يوضع ) يحط ( عنهم لموت أبيهم شيء ) ولو قل هذا إن قدروا على السعي
( قال مالك وإن كانوا صغارا لا يطيقون السعي لم ينتظر بهم أن يكبروا ) بفتح الباء ( وكانوا رقيقا لسيد أبيهم إلا أن يكون ترك المكاتب ما يؤدى به عنهم نجومهم إلى أن يتكلفوا السعي ) أي يقدروا عليه
( فإن كان فيما ترك ما يؤدى عنهم أدي ذلك عنهم وتركوا على حالهم حتى يبلغوا السعي فإن أدوا ) ما بقي ( عتقوا وإن عجزوا رقوا ) للسيد
( قال مالك في المكاتب يموت ويترك مالا ليس فيه وفاء الكتابة ويترك ولدا معه في كتابته وأم ولد فأرادت أم ولده أن تسعى عليهم إنه ) بكسر الهمزة ( يدفع إليها المال ) المتروك عنه ( إذا كانت مأمونة على ذلك ) المال بأن لا تضيعه ( قوية على السعي وإن لم تكن قوية على السعي ولا مأمونة على المال لم تعط شيئا من ذلك ) إذ لا فائدة في الإعطاء حينئذ
( ورجعت هي وولد المكاتب رقيقا لسيد المكاتب ) للعجز
( وإذا كاتب القوم كتابة وواحدة ولا رحم ) أي قرابة ( بينهم فعجز بعضهم وسعى بعضهم حتى عتقوا جميعا فإن الذين سعوا يرجعون على الذين عجزوا بحصة ما أدوا عنهم لأن بعضهم حملاء عن بعض ) أي ضامنون حكما
____________________
(4/143)
7 عتق المكاتب إذا أدى ما عليه قبل محله ( مالك أنه سمع ربيعة بن أبي عبد الرحمن ) المعروف بالرأي ( و ) سمع ( غيره يذكرون أن مكاتبا كان للفرافصة ) بضم الفاء وفتح الراء فألف وكسر الفاء الثانية فصاد مهملة ( ابن عمير ) بضم العين مصغر ( الحنفي ) نسبة إلى بني حنيفة اليمامي بالميم المدني الثقة ( وأنه عرض عليه أن يدفع إليه جميع ما عليه من كتابته فأبى الفرافصة ) امتنع من قبول ذلك ( فأتى المكاتب مروان بن الحكم ) بفتحتين الأموي ( وهو أمير المدينة ) من جهة معاوية ( فذكر ذلك له فدعا مروان الفرافصة فقال له ذلك ) أي تعجل منه ما كاتبته عليه ( فأبى فأمر مروان بذلك المال أن يقبض من المكاتب فيوضع في بيت المال وقال للمكاتب اذهب فقد عتقت فلما رأى ذلك الفرافصة قبض المال ) وقد سبقه إلى الحكم بذلك عمر روى البيهقي في كتاب المعرفة عن أنس بن سيرين عن أبيه قال كاتبني أنس بن مالك على عشرين ألف درهم فأتيته بكتابته فأبى أن يقبلها مني إلا نجوما فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له فقال أراد أنس الميراث وكتب إلى أنس أن يقبلها من الرجل فقبلها وقال الشافعي روي عن عمر أن مكاتبا لأنس جاءه فقال إني أتيت بمكاتبتي إلى أنس فأبى أن يقبلها فقال أنس يريد الميراث ثم أمر أنسا أن يقبلها أحسبه قال فأبى فقال آخذها فأصبها في بيت المال فقبلها أنس
وسبقه أيضا عثمان قال أبو عمر أظن مروان بلغه ذلك فقضى به
روى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال كاتب عبد على أربعة آلاف أو خمسة فجاء بها إلى سيده فأبى سيده أن يأخذها إلا في كل سنة نجما رجاء أن يرثه فأتى عثمان فدعاه فعرض عليه أن يقبلها فأبى فقال للعبد ائتني بما عليك فأتاه فجعله في بيت المال وكتب له عتقا وقال للمولى ائتني كل سنة فخذ نجما فلما رأى ذلك أخذ ماله وكتب له عتقه
( قال مالك فالأمر عندنا أن المكاتب إذا دفع جميع ما عليه من نجومه قبل محلها ) أي حلولها ( جاز ذلك ولم يكن لسيده أن يأبى ذلك عليه و ) وجه ( ذلك أن يضع ) يحط ( عن المكاتب بذلك كل
____________________
(4/144)
شرط أو خدمة أو سفر لأنه لا تتم عتاقة رجل وعليه بقية من رق ولا تتم حرمته ولا تجوز شهادته ولا يجب ميراثه ولا أشباه هذا من أمره ولا ينبغي ) لا يجوز ( لسيده أن يشترط عليه خدمة بعد عتاقته ) بفتح العين ( وفي مكاتب مرض مرضا شديدا ) قويا يخاف منه الموت ( فأراد أن يدفع نجومها كلها إلى سيده لأن يرثه ورثة له أحرار وليس معه في كتابته ولد له قال مالك ذلك جائز له لأنه تتم بذلك حرمته وتجوز شهادته ويجوز اعترافه بما عليه من ديون الناس وليس لسيده أن يأبى ذلك عليه بأن يقول فر مني بماله ) لأن ذلك من ثمرات كتابته له
8 ميراث المكاتب إذا عتق ( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب سئل عن مكاتب كان بين رجلين فأعتق أحدهما نصيبه فمات المكاتب وترك مالا كثيرا فقال يؤدى ) بضم أوله يعطى ( إلى الذي تماسك بكتابته ) فلم يعتق ( الذي بقي له ) نائب فاعل يؤدى ( ثم يقتسمان ما بقي بالسوية ) على قدر حصتهما فيه
( قال مالك إذا كاتب المكاتب فعتق فإنما يرثه أولى الناس ممن كاتبه من الرجال يوم توفي المكاتب من ولد أو عصبة ) بيان لأولى
( قال وهذا أيضا في كل من ) أي رقيق ( أعتق ) بضم أوله ( فإنما ميراثه لأقرب الناس ممن أعتقه من ولد أو من عصبة من الرجال يوم يموت المعتق ) بالفتح ( بعد أن يعتق ويصير ) بالنصب بالعطف على ما قبله ( موروثا بالولاء ) للعتق
( والإخوة في الكتابة بمنزلة الولد
____________________
(4/145)
إذا كوتبوا جميعا كتابة واحدة إذا لم يكن لأحد منهم ولد كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته أو كاتب عليهم ثم هلك أحدهم وترك مالا أدي ) بضم أوله وكسر الدال ( عنهم جميع ما عليهم من كتابتهم وعتقوا ) لأنهم حملاء بجمعهم في عقد واحد ( وكان فضل المال بعد ذلك لولده ) إرثا ( دون إخوته ) لأن الولد يحجب الإخوة
9 الشرط في المكاتب ( قال مالك في رجل كاتب عبده بذهب أو ورق واشترط عليه في كتابته سفرا أو خدمة أو أضحية ) يأتيه بها ( إن كل شيء من ذلك سمي باسمه ثم قوي المكاتب على أداء نجومه كلها قبل محلها ) أي حلولها ( قال إذا أدى نجومه كلها وعليه هذا الشرط عتق فتمت حرمته ) بسبب عتقه ( ونظر إلى ما شرط عليه من خدمة أو سفر أو ما أشبه ذلك مما يعالجه هو بنفسه فذلك موضوع ) محطوط ساقط ( عنه ليس لسيده فيه شيء وما كان من ضحية أو كسوة أو شيء يؤديه فإنما هو بمنزلة الدنانير والدراهم يقوم ذلك عليه فيدفعه مع نجومه ولا يعتق حتى يدفع ذلك مع نجومه ) لأن عقد الكتابة وقع عليه أيضا
( والأمر المجتمع عليه عندنا الذي لا اختلاف فيه ) تأكيد لما قبله حسنه اختلاف اللفظ ( أن المكاتب بمنزلة عبد أعتقه سيده بعد خدمة عشر سنين ) مثلا ( فإذا هلك سيده الذي أعتقه قبل عشر سنين فإن ما بقي عليه من خدمته لورثته ) فيخدمهم إلى تمامها ثم يعتق ( وكان ولاؤه للذي عقد عتقه ولولده من الرجال أو العصبة ) لا الإناث لأنه لا يرثه أنثى
( وفي الرجل يشترط على مكاتبه
____________________
(4/146)
أنك لا تسافر ولا تنكح ولا تخرج من أرضي إلا بإذني فإن فعلت شيئا من ذلك بغير إذني فمحو ) إبطال ( كتابتك بيدي قال مالك ليس محو كتابته بيده إن فعل المكاتب شيئا من ذلك وليرفع ) المكاتب ( سيده ذلك ) الأمر ( إلى السلطان ) فيحكم بعدم بطلان الكتابة
( و ) إن كان ( ليس للمكاتب أن ينكح ولا يسافر ولا يخرج من أرض سيده إلا بإذنه ) سواء ( اشترط ذلك أو لم يشترطه و ) وجه ( ذلك أن الرجل يكاتب عبده بمائة دينار ) مثلا ( وله ) أي العبد ( ألف دينار أو أكثر من ذلك فينطلق فينكح المرأة فيصدقها الصداق الذي يجحف بماله ) أي ينقصه نقصا فاحشا ( ويكون فيه عجزه فيرجع إلى سيده عبدا لا مال له ) وذلك خلاف المقصود من الكتابة ( أو يسافر ) السفر البعيد ( فتحل نجومه وهو غائب فليس ذلك له ) أي العبد ( ولا على ذلك كاتبه ) سيده ( وذلك بيد سيده إن شاء أذن له وإن شاء منعه ) لأن عقد الكتابة لا يتضمن ذلك
10 ولاء المكاتب إذا أعتق ( قال مالك إن المكاتب إذا أعتق عبده إن ذلك غير جائز له ) لأنه من التبرعات وهو ممنوع منها فلسيده رده ( إلا بإذن سيده ) فيجوز ( فإن ) أعتق بلا إذنه و ( أجاز ذلك سيده له ثم عتق المكاتب كان ولاؤه للمكاتب ) لأنه ثبت له في وقت أحرز فيه ماله وتم عتقه بأداء الكتابة
( وإن مات المكاتب قبل أن يعتق كان ولاء المعتق ) بفتح التاء ( لسيد المكاتب ) لموته وهو عبد
( وإن مات المعتق ) بالفتح ( قبل أن يعتق المكاتب ورثه سيد المكاتب ) لا هو لرقه ( وكذلك أيضا لو كاتب المكاتب عبدا فعتق المكاتب الآخر ) بكسر الخاء ( قبل سيده الذي كاتبه فإن ولاءه لسيد المكاتب ) لا له لرقه ( ما ) أي مدة كونه ( لم
____________________
(4/147)
يعتق المكاتب الأول الذي كاتبه رجع إليه ولاء مكاتبه الذي كان عتق قبله ) لأنه الذي عقده وإنما منع منه للرق فلما زال عاد له
( وإن مات المكاتب الأول قبل أن يؤدي أو عجز عن كتابته وله ولد أحرار ) صفة ولد لأنه يكون واحدا وجمعا ( لم يرثوا ولاء مكاتب أبيهم لأنه لم يثبت لأبيهم الولاء ) لرقه ( ولا يكون له الولاء حتى يعتق ) لأنه لا يكون لرقيق
( وفي المكاتب يكون بين الرجلين فيترك أحدهما للمكاتب الذي له عليه ويشح الآخر ) بمعنى يمتنع من الترك لا حقيقة الشح ( ثم يموت المكاتب ويترك مالا قال مالك يقضي الذي لم يترك له شيئا ما بقي له عليه ) من رأس المال ( ثم يقتسمان المال كهيئته ) أي صفته ( لو مات عبدا لأن الذي فعل ) التارك ( ليس بعتاقة وإنما ترك ما كان له عليه ) وذلك لا يستلزم العتق
( ومما يبين ذلك ) يوضحه ( أن الرجل إذا مات وترك مكاتبا وترك بنين رجالا و ) ترك ( نساء ثم أعتق أحد البنين نصيبه من المكاتب إن ذلك لا يثبت له من الولاء شيئا ولو كانت عتاقة لثبت الولاء لمن أعتق منهم من رجالهم ونسائهم ) لأن الولاء لمن أعتق منهم فدل على أنه ترك فقط
( ومما يبين ذلك أيضا أنهم إذا أعتق أحدهم نصيبه ثم عجز المكاتب لم يقوم على الذي أعتق نصيبه ما بقي ) نائب فاعل يقوم ( من المكاتب ) فدل على أنه ترك
( ولو كان عتاقة قوم عليه حتى يعتق في ماله ) إن كان له مال ( كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعتق شركا ) نصيبا ( له في عبد ) أي رقيق ( قوم عليه قيمة العدل ) بلا زيد ولا نقص ( فإن لم يكن له مال عتق منه ما عتق ) وبقي باقيه رقيقا
( ومما يبين ذلك أيضا أن من سنة
____________________
(4/148)
المسلمين ) طريقتهم ( التي لا اختلاف فيها أن من أعتق شركا له في مكاتب لم يعتق عليه في ماله ولو أعتق عليه كان الولاء له دون شركائه ) عملا بالحديث
( ومما يبين ذلك أيضا أن من سنة المسلمين ) طريقتهم ( أن الولاء لمن عقد الكتابة وأنه ليس لمن ورث سيد المكاتب من النساء من ولاء المكاتب وإن أعتقن نصيبهن شيء ) ولو كان عتقا حقيقة لكان لهن ولاء نصيبهن إذا أعتقن لأن الولاء للمعتقة ( إنما ولاؤه لولد سيد المكاتب الذكور ) إن كانوا ( أو عصبته من الرجال ) إن لم يكونوا لأن الولاء لا يرثه أنثى
11 ما لا يجوز من عتق المكاتب ( مالك إذا كان القوم جميعا في كتابة واحدة لم يعتق سيدهم أحدا منهم دون مؤامرة ) أي مشاورة ( أصحابه الذين معه في الكتابة ورضا منهم ) فإن رضوا فعل وإلا فلا
( وإن كانوا صغارا فليس مؤامرتهم ) مشاورتهم ( بشيء ولا يجوز ذلك ) أي رضاهم ( عليهم ) لعدم التكليف
( و ) وجه ( ذلك أن الرجل ) من العبيد ( ربما كان يسعى على جميع القوم ويؤدي عنهم كتابتهم ليتم به عتاقتهم فيعمد ) بكسر الميم يقصد ( السيد إلى الذي يؤدي عنهم وبه نجاتهم من الرق فيعتقه فيكون ذلك عجزا لمن بقي منهم وإنما أراد بذلك الفضل والزيادة ) عطف تفسير ( لنفسه فلا يجوز ذلك على من بقي منهم ) بل يرد
( وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار ) جمعهما تأكيدا أو لكل واحد معنى فهو تأسيس وقد مر شرحه ( وهذا أشد الضرر ) أقواه فلا يمكن منه فإن تحقق نفي الضرر جاز ولذا ( قال مالك في العبيد
____________________
(4/149)
يكاتبون جميعا إن لسيدهم أن يعتق منهم الكبير الفاني والصغير الذي لا يؤدي واحد منهما شيئا وليس عند واحد منهما عون ولا قوة في كتابتهم فذلك جائز له ) بغير رضاهم لانتفاء العلة
12 جامع ما جاء في عتق المكاتب وأم ولده ( مالك في الرجل يكاتب عبده ثم يموت المكاتب ويترك أم ولده وقد بقيت عليه من كتابته بقية ويترك وفاء بما عليه أن أم ولده أمة مملوكة حين لم يعتق المكاتب حتى مات ولم يترك ولدا فيعتقون بأداء ما بقي فتعتق أم ولد أبيهم بعتقهم ) معطوف على المنفي مسبب عليه فالمعنى انتفى عتقها لعدم ولد تعتق تبعا لعتقه
( وفي المكاتب يعتق عبدا له أو يتصدق ببعض ماله ولم يعلم بذلك سيده حتى عتق المكاتب ) بأداء ما عليه ( قال مالك ينفذ ) بذال معجمة يمضي ( ذلك عليه ) أي المكاتب ( وليس للمكاتب أن يرجع فيه فإن علم سيد المكاتب قبل أن يعتق المكاتب فرد ذلك ولم يجزه ) عطف تفسير أو مساو حسنه اختلاف اللفظ ( فإنه إن عتق المكاتب وذلك في يده لم يكن عليه أن يعتق ذلك العبد ولا أن يخرج تلك الصدقة ) لأن رد السيد إبطال لفعله ( إلا أن يفعل ذلك طائعا من عند نفسه ) فيلزمه لأنه ابتداء عتق أو صدقة
13 الوصية في المكاتب ( مالك إن أحسن ما سمع ) وفي نسخت سمعت ( في المكاتب يعتقه سيده عند الموت أن
____________________
(4/150)
المكاتب يقام ) أي يقوم ( على هيئته ) صفته ( تلك التي لو بيع كان ذلك الثمن الذي يبلغ فإن كانت القيمة أقل مما بقي عليه من الكتابة وضع ذلك في ثلث الميت ولم ينظر إلى عدة الدراهم التي بقيت عليه وذلك أنه لو قتل لم يغرم قاتله إلا قيمته يوم قتله ولو جرحه لم يغرم جارحه إلا دية جرحه يوم جرحه ولا ينظر في شيء من ذلك إلى ما كوتب عليه من الدنانير والدراهم لأنه عبد ما بقي عليه من كتابته شيء وإن كان الذي بقي عليه من كتابته أقل من قيمته لم يحسب في ثلث الميت إلا ما بقي عليه من كتابته وذلك أنه إنما ترك الميت له ما بقي عليه من كتابته فصارت وصية ) أي كوصية أوصى بها فهو تشبيه حذفت أداته إذ فرض المسألة أنه لم يوص وإنما نجز عتقه في مرض موته فحكمه كالوصية
( وتفسير ذلك ) إيضاحه بالمثال ( أنه لو كانت قيمة المكاتب ألف درهم ولم يبق من كتابته إلا مائة درهم فأوصى سيده له بالمائة درهم التي بقيت عليه حسبت له في ثلث سيده فصار حرا بها ) ولا يعطاها ويبقى بعضه رقيقا
( قال مالك في رجل كاتب عبده عند موته أنه يقوم عبدا فإن كان في ثلثه سعة لثمن العبد جاز له ذلك ) وعتق ( وتفسير ذلك أن يقول قيمة العبد ألف دينار فيكاتبه سيده على مائتي دينار عند موته فيكون ثلث مال سيده ألف دينار فذلك جائز ) لحمل الثلث له ( وإنما هي وصية أوصى بها في ثلثه ) لا كتابة حقيقة
( فإن كان السيد قد أوصى لقوم بوصايا وليس في الثلث فضل عن قيمة المكاتب بدىء بالمكاتب لأن الكتابة عتاقة والعتاقة تبدى على الوصايا ) لتشوف الشرع للحرية ( ثم تجعل تلك
____________________
(4/151)
الوصايا في كتابة المكاتب يتبعونه بها وتخير ورثة الموصي فإن أحبوا أن يعطوا أهل الوصايا وصاياهم كاملة وتكون كتابة المكاتب لهم ) خاصة ( فذلك ) لهم ( وإن أبوا وأسلموا المكاتب وما عليه إلى أهل الوصايا فذلك لهم ) وإنما خيروا ( لأن الثلث صار في المكاتب ولأن كل وصية أوصى بها أحد فقال الورثة الذي أوصى به صاحبنا ) أي مورثنا ( أكثر من ثلثه وقد أخذ ما ليس له فإن ورثته يخيرون فيقال لهم قد أوصى صاحبكم بما قد علمتم فإن أحببتم أن تنفذوا ) تمضوا ( ذلك لأهله على ما أوصى به الميت وإلا فأسلموا لأهل الوصايا ثلث مال الميت كله ) وتعرف هذه المسألة بمسألة خلع الثلث وتقدمت وأعادها هنا استظهارا
( فإن أسلم الورثة المكاتب إلى أهل الوصايا كان لأهل الوصايا ما عليه من الكتابة فإن أدى ) المكاتب ( ما عليه من الكتابة أخذوا ذلك في وصاياهم على قدر حصصهم وإن عجز المكاتب كان عبدا لأهل الوصايا لا يرجع إلى أهل الميراث لأنهم تركوه حين خيروا ) فصار لا حق لهم فيه ( ولأن أهل الوصايا حين أسلم إليهم ضمنوه فلو مات لم يكون لهم على الورثة شيء ) من التركة
( وإن مات المكاتب قبل أن يؤدي كتابته وترك مالا هو أكثر مما عليه فماله لأهل الوصايا ) لملكهم له ( وإن أدى المكاتب ما عليه عتق ورجع ولاؤه إلى عصبته الذي عقد كتابته ) لأن الولاء لا ينتقل
( قال مالك في المكاتب يكون لسيده عليه عشرة آلاف درهم فيضع ) يحط ( عنه عند موته ألف درهم أنه يقوم المكاتب فينظر كم قيمته فإن كانت قيمته ألف درهم فالذي وضع عنه عشر الكتابة وذلك
____________________
(4/152)
في القيمة مائة درهم وهو عشر القيمة فيوضع عنه عشر الكتابة فيصير ذلك إلى عشر القيمة نقدا ) يحط عنه ( وإنما ذلك كهيئته لو وضع عنه جميع ما عليه ولو فعل ذلك لم يحسب في ثلث مال الميت إلا قيمة المكاتب ألف درهم ) في الفرض المذكور
( وإن كان الذي وضع عنه نصف الكتابة حسب في ثلث مال الميت نصف القيمة وإن كان أقل من ذلك ) كالثلث ( أو أكثر ) كالثلثين ( فهو على هذا الحساب ) الذي قلنا
( وإذا وضع الرجل عن مكاتبه عند الموت ) أي موت السيد ( ألف درهم من عشرة آلاف درهم ) كاتبه عليها ( ولم يسم أنها من أول الكتابة أو من آخرها وضع عنه من كل نجم عشرة ) لأن هذا عدل بينه وبين ورثة سيده
( وإذا وضع الرجل عن مكاتبه ألف درهم من أول كتابته أو من آخرها وكان أصل الكتابة على ثلاثة آلاف درهم قوم المكاتب قيمة النقد ثم قسمت تلك القيمة فجعل لتلك الألف التي من أول الكتابة حصتها من تلك القيمة بقدر قربها من الأجل وفضلها ثم الألف التي تلي الألف الأولى ) أي الثانية تجعل ( بقدر فضلها أيضا ثم الألف التي تليها ) أي الثالثة ( بقدر فضلها أيضا حتى يؤتى على آخرها بفضل كل ألف بقدر موضعها في تعجيل الأجل وتأخيره لأن ما ) أي الذي ( استأخر من ذلك أقل في القيمة ) مما يعجل
( ثم يوضع في ثلث الميت قدر ما أصاب تلك الألف من القيمة على تفاضل ذلك إن قل أو كثر فهو على هذا الحساب ) المذكور
( وفي رجل أوصى لرجل بربع مكاتب له أو أعتق ) وفي نسخ وعتق بالواو ( وربعه فهلك الرجل )
____________________
(4/153)
الموصي ( ثم ) بعده ( هلك المكاتب وترك مالا كثيرا أكثر مما بقي عليه من الكتابة قال مالك يعطى ورثة السيد والذي أوصى له بربع المكاتب ما بقي لهم على المكاتب ) من رأس المال ( ثم يقتسمون ما ) أي المال الذي ( فضل فيكون للموصى له بربع المكاتب ثلث ما فضل بعد أداء الكتابة ولورثة سيده الثلثان ) لأن حصة الحرية الربع لا يؤخذ بها شيء فرجع ذلك إلى النصف والربع فالنصف ثلثان والربع ثلث بما رجع إليه من حصة الحرية
( وذلك أن المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء فإنما يورث بالرق ) أي يؤخذ ما خلفه وتسميته إرثا مجاز
( مالك في مكاتب أعتقه سيده عند الموت ) للسيد ( إن لم يحمله ثلث الميت عتق منه قدر ما حمل الثلث ويوضع عنه من الكتابة قدر ذلك ) مثلا ( إن كان على المكاتب خمسة آلاف درهم وكانت قيمته ألفي درهم نقدا ويكون ثلث الميت ألف درهم عتق نصفه ويوضع عنه شطر الكتابة ) أي نصفها
( وفي رجل قال في وصيته غلامي فلان حر وكاتبوا فلانا ) لعبد آخر ( تبدى العتاقة ) عند ضيق الثلث ( على الكتابة ) لأن العتاقة تحرير ناجز بخلاف الكتابة
____________________
(4/154)
1
22 كتاب المدبر أي الذي علق سيده عتقه على موته سمي به لأن الموت دبر الحياة ودبر كل شيء ما وراءه بسكون الباء وضمها والجارحة بالضم فقط وأنكره بعضهم في غيرها وقيل لأن السيد دبر أمر دنياه باستخدامه واسترقاقه وأمر آخرته بإعتاقه
1 القضاء في ولد المدبرة ( مالك الأمر عندنا فيمن دبر جارية له فولدت أولادا بعد تدبيره إياها ثم ماتت الجارية قبل الذي دبرها ) وخبر الأمر قوله ( إن ولدها بمنزلتها قد ثبت لهم من الشرط مثل الذي ثبت لها ) من التدبير ( ولا يضرهم هلاك أمهم ) موتها قبل سيدها
( فإذا مات الذي كان دبرها فقد عتقوا إن حملهم ) وفي نسخة إن وسعهم ( الثلث ) لأن المدبر في الثلث
( وقال مالك كل ذات رحم فولدها بمنزلتها إن كانت حرة فولدت بعد عتقها فولدها أحرار وإن كانت مدبرة أو مكاتبة أو معتقة إلى سنين ) أي بعد مضيها ( أو مخدمة ) لإنسان ثم تعتق بعده ( أو بعضها حرا ) وبعضها رقيقا ( أو مرهونة أو أم ولد فولد كل واحدة منهن على مثال حال أمه يعتقون بعتقها ) إذا عتقت ( ويرقون برقها ) أي مدة دوامها رقيقة ( وفي مدبرة دبرت وهي حاملة أن ولدها بمنزلتها وإنما
____________________
(4/155)
ذلك بمنزلة رجل أعتق جارية له وهي حامل ولم يعلم بحملها قال مالك فالسنة فيها أن ولدها يتبعها ويعتق بعتقها وكذلك لو أن رجلا ابتاع جارية وهي حامل فالوليدة ) أي الأمة ( وما في بطنها لمن ابتاعها اشترط ذلك المبتاع أو لم يشترطه ) لأن عقد البيع تناول ذلك شرعا ( ولا يحل للبائع أن يستثني ما في بطنها لأن ذلك غرر يضع من ثمنها ولا يدري أيصل ذلك إليه أم لا وإنما ذلك بمنزلة من باع جنينا في بطن أمه وذلك لا يحل لأنه غرر ) وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الغرر وعن بيع الأجنة
( وفي مكاتب أو مدبر ابتاع أحدهما جارية فوطئها فحملت منه وولدت قال مالك ولد كل واحد منهما من جاريته بمنزلته يعتقون بعتقه ويرقون برقه فإذا أعتق هو ) بأداء الكتابة أو موت السيد ( فإنما أم ولده مال من ماله يسلم إليه إذا عتق ) فلا تكون أم ولد بالحمل الواقع زمن الكتابة والتدبير لأنه قبل التحرير
2 جامع ما جاء في التدبير ( مالك في مدبر قال لسيده عجل لي العتق وأعطيك خمسين دينارا منجمة علي فقال سيده نعم أنت حر وعليك خمسون دينارا تؤدي إلي في كل عام عشرة دنانير فرضي بذلك العبد ثم هلك السيد بعد ذلك بيوم أو يومين أو ثلاثة قال مالك يثبت له العتق ) لأنه نجز عتقه ( وصارت الخمسون دينارا دينا عليه ) على تنجيمها ( وجازت شهادته وثبتت حرمته وميراثه وحدوده ) لأنه صار حرا ( ولا يضع ) لا
____________________
(4/156)
يسقط ( عنه موت سيده شيئا من ذلك الدين ) لأن تنجيز العتق عليه وقع فلزمه
( وفي رجل دبر عبدا له فمات السيد وله مال حاضر ومال غائب فلم يكن في ماله الحاضر ما يخرج فيه المدبر ) حرا من ثلثه ( قال مالك يوقف المدبر بماله ويجمع خراجه حتى يتبين من المال الغائب فإن كان فيما ترك سيده مما يحمله الثلث ) من الحاضر والغائب ( عتق بماله وبما جمع من خراجه ) أي يكونان له ( وإن لم يكن فيما ترك سيده ما يحمله عتق منه قدر ) محمل ( الثلث وترك ماله في يديه ) يتصرف فيه
3 الوصية في التدبير ( مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أن كل عتاقة أعتقها رجل في وصية أوصى بها في صحة أو مرض أنه يردها ) أي له ذلك ( متى شاء ويغيرها متى شاء ما لم يكن تدبيرا فإذا دبر فلا سبيل ) له ( إلى رد ما دبر ) لحديث المدبر لا يباع ولا يوهب ( وكل ولد ولدته أمة أوصى بعتقها ولم تدبر فإن ولدها لا يعتقون معها إذ عتقت وذلك أن سيدها يغير وصيته إن شاء ويردها متى شاء ولم يثبت لها عتاقة ) حتى يكون ولدها بمنزلتها ( وإنما هي بمنزلة رجل قال لجاريته إن بقيت عندي فلانة حتى أموت فهي حرة
فإن أدركت ذلك ) أي بقيت عنده حتى مات ( كان لها ذلك ) التحرير ( وإن شاء قبل ذلك باعها وولدها لأنه لم يدخل ولدها في شيء مما جعل لها والوصية في العتاقة ) أي بها ( مخالفة للتدبير فرق بين ذلك
____________________
(4/157)
ما مضى من السنة ) فيتبع ( ولو كانت الوصية بمنزلة التدبير كان كل موص لا يقدر على تغيير وصيته وما ذكر فيها من العتاقة ) وذلك خلاف المعروف من أن له ذلك ( وكان قد حبس ) منع ( عليه من ماله ما لا يستطيع أن ينتفع به ) وذلك حرج شديد
( مالك في رجل دبر رقيقا له جميعا في صحته وليس له مال غيرهم إن كان دبر بعضهم قبل بعض بدىء بالأول ) فالأول التالي له سمي أولا بالنظر لما بعده ( حتى يبلغ الثلث وإن كان دبرهم جميعا في مرضه فقال فلان حر وفلان حر وفلان حر ) لثلاثة أرقاء ( في كلام واحد ) منسوق بلا فاصل ( إن حدث بي في مرضي هذا حدث موت أو دبرهم جميعا في كلمة واحدة تحاصوا في الثلث ولم يبدأ أحد منهم قبل صاحبه وإنما هي وصية وإنما لهم الثلث يقسم بينهم بالحصص ثم يعتق منهم الثلث بالغا ما بلغ ولا يبدأ أحد منهم إذا كان كله في مرضه ) لأن ذلك ترجيح بلا مرجح
( وفي رجل دبر غلاما له فهلك السيد ولا مال له إلا العبد المدبر وللعبد مال قال مالك يعتق ثلث المدبر ويوقف ماله بيديه ) وذلك خير له من نزعه منه وتركه فقيرا
( وفي مدبر كاتبه سيده فمات السيد ولم يترك مالا غيره قال مالك يعتق منه ثلثه ويوضع عنه ثلث كتابته ويكون عليه ثلثاها
وفي رجل أعتق نصف عبد له وهو مريض فبت عتق نصفه أو بت عتقه كله وقد كان دبر عبدا له آخر قبل ذلك ) في صحته ( قال مالك يبدأ بالمدبر ) في صحته ( قبل الذي أعتقه وهو مريض ذلك أنه
____________________
(4/158)
ليس للرجل أن يرد ما دبر ولا أن يتعقبه بأمر يرده به ) وإنما يجوز إخراجه للعتق أو الكتابة
( فإذا عتق المدبر فليكن ما بقي من الثلث في الذي أعتق شطره حتى يستتم عتقه كله ) بالجر تأكيد للضمير ( في ثلث مال الميت فإن لم يبلغ ذلك فضل الثلث عتق منه ما بلغ فضل الثلث ) زيادته ( بعد عتق المدبر الأول )
4 مس الرجل وليدته إذا دبرها ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر دبر جاريتين له فكان يطؤهما وهما مدبرتان )
( مالك عن يحيى بن سعيد أن سعيد بن المسيب كان يقول إذا دبر الرجل جاريته فإن له أن يطأها ) لأنها إن حملت صارت أم ولد تعتق من رأس المال وهو أقوى من عتق المدبرة من الثلث ( وليس له أن يبيعها ولا يهبها ) لأنه انعقد فيها عقد حرية فليس له فسخها ( وولدها بمنزلتها ) للقاعدة
5 بيع المدبر ( مالك الأمر المجتمع عليه عندنا في المدبر أن صاحبه لا يبيعه ولا يحوله عن موضعه الذي وضعه فيه ) بنحو هبة أو صدقة وبهذا قال جمهور العلماء والسلف من الحجازيين والشاميين والكوفيين لحديث ابن عمر رفعه المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من الثلث أخرجه الدارقطني وضعفه هو وابن عبد البر وغيرهما وقالوا الصحيح أنه موقوف على ابن عمر لكنه اعتضد بإجماع أهل المدينة عليه وحديث الصحيحين عن جابر قال أعتق رجل منا عبدا له عن دبر ولم يكن له
____________________
(4/159)
مال غيره فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فباعه فاشتراه نعيم بن النحام بثمانمائة فدفعها إليه أجيب عنه بأنه إنما باعه لأنه كان عليه دين
ففي رواية النسائي للحديث زيادة وهي كان عليه دين وفيه فأعطاها فقال اقض دينك
ولا يعارضه رواية مسلم فقال ابدأ بنفسك فتصدق عليها لأن من جملة صدقته عليها قضاء دينه
وحاصل الجواب أنها واقعة عين لا عموم لها فتحمل على بعض الصور وهو تخصيص الجواز بما إذا كان عليه دين وورد كذلك في بعض طرق الحديث عند النسائي أي فتعين المصير لذلك
( وإنه إن رهق ) بكسر الهاء أي غشى ( سيده دين ) بعد التدبير ( فإن غرماءه لا يقدرون على بيعه ما عاش سيده فإن مات سيده ولا دين عليه فهو في ثلثه لأنه استثنى عليه عمله ما عاش فليس له أن يخدمه حياته ثم يعتقه على ورثته إذا مات من رأس ماله ) لأنه يظلمهم لو كان كذلك
( وإن مات سيد المدبر ولا مال له غيره عتق ثلثه وكان ثلثاه لورثته ) لأن التدبير في الثلث
( فإن مات سيد المدبر وعليه دين يحيط بالمدبر بيع في دينه لأنه إنما يعتق في الثلث ) والمحيط لا ثلث له ( فإن كان الدين لا يحيط إلا بنصف العبد بيع نصفه للدين ثم عتق ثلث ما بقي بعد الدين ) وهو سدسه ويرق الثلث للورثة
( قال مالك لا يجوز ) أي يحرم ( بيع المدبر ) لأن فيه إرقاقه بعد جريان شائبة الحربة فيه والشرع متشوف للحرية
( ولا يجوز لأحد أن يشتريه ) ذكره وإن علم من لفظ بيع لقوله ( إلا أن يشتري المدبر نفسه من سيده فيكون ذلك جائزا له ) لأنه إذا ملك نفسه عتق ناجزا وهو خير من التدبير ( أو يعطي أحد سيد المدبر مالا ويعتقه سيده الذي دبره فذلك يجوز له أيضا ) لتنجيز العتق ( وولاؤه لسيده الذي دبره ) لأنه الذي عقد ذلك لا لمن أعطى المال لأنه ليس ببيع وإنما هو على التنجيز ولذا كان الولاء له
( ولا يجوز بيع خدمة المدبر لأنه غرر إذ لا يدري كم يعيش سيده فذلك غرر لا يصلح ) من الصلاح ضد الفساد فهو باطل لفساده بالغرر ولذا تعقب من أجاب عن حديث بيع النبي صلى الله عليه وسلم المدبر بأنه لم يبع رقبته وإنما باع خدمته لأن المانعين من بيع رقبته لا يجيزون بيع خدمته أيضا وما روي عن أبي جعفر إنما باع صلى الله عليه وسلم خدمة المدبر مرسل ضعيف لا حجة فيه وروي عنه موصولا ولا يصح به
____________________
(4/160)
( مالك في العبد يكون بين الرجلين فيدبر أحدهما حصته أنهما يتقاومانه فإن اشتراه الذي دبره كان مدبرا كله وإن لم يشتره ) بل اشتراه شريكه ( انتقض تدبيره ) مراعاة لحق الشريك وهذا أمر جر إليه حكم التقويم فليس يناقض قوله لا يجوز بيع المدبر كما زعم ( إلا أن يشاء الذي بقي له فيه الرق أن يعطيه شريكه الذي دبره بقيمته فإن أعطاه إياه بقيمته لزمه ذلك وكان مدبرا كله ) فإن مات مدبر نصفه عتق نصفه ولم يقوم النصف لأنه صار للورثة ( وفي رجل نصراني دبر عبدا له نصرانيا فأسلم العبد قال مالك يحال بينه وبين العبد ) لئلا يستخدم الكافر المسلم
( ويخارج على سيده النصراني ) أي يجعل له عليه خراج ( ولا يباع عليه ) لأنه جرى فيه عقد حرية ( حتى يتبين أمره فإن هلك النصراني وعليه دين قضي دينه من ثمن المدبر إلا أن يكون في ماله ما يحمل الدين ) يسعه ( فيعتق المدبر ) من ثلث الباقي
6 جراح المدبر بكسر الجيم جمع جراحة بالكسر ويجمع أيضا على جراحات
( مالك أنه بلغه أن عمر ابن عبد العزيز ) الخليفة العادل ( قضى في المدبر إذا جرح ) إنسانا ( أن لسيده أن يسلم ما يملك منه ) وهو خدمته ( إلى المجروح فيختدمه المجروح ويقاصد بجراحه من دية جرحه فإذا أدى قبل أن يهلك سيده رجع إلى سيده ) مدبرا على حاله ( مالك الأمر عندنا في المدبر إذا جرح ) شخصا ( ثم هلك سيده وليس له مال غيره أنه يعتق ثلثه ثم يقسم عقل الجراح أثلاثا فيكون ثلث العقل الثلث الذي عتق منه ويكون ثلثاه على الثلثين للذين
____________________
(4/161)
بأيدي الورثة إن شاؤوا أسلموا الذي لهم منه ) من العبد وهو الثلثان ( إلى صاحب الجرح وإن شاؤوا أعطوا ثلثي العقل وأمسكوا نصيبهم من العبد وذلك أن عقل ذلك الجرح إنما كانت جنايته من العبد ولم تكن دينا على السيد فلم يكن ذلك الذي أحدث العبد بالذي يبطل ما صنع السيد من عتقه وتدبيره ) عطف تفسير ( فإن كان على سيد العبد دين للناس مع جناية العبد بيع من المدبر بقدر عقل الجرح وقدر الدين ثم يبدأ بالعقل الذي كان في جناية العبد فيقضى من ثمن العبد ثم يقضى دين سيده ثم ينظر إلى ما بقي بعد ذلك من العبد فيعتق ثلثه ويبقى ثلثاه للورثة و ) وجه ( ذلك أن جناية العبد هي أولى من دين سيده ) لتعلقها برقبة العبد ( وذلك ) أي إيضاحه بالمثال ( أن الرجل إذا هلك وترك عبدا مدبرا قيمته خمسون ومائة دينار وكان العبد قد شج رجلا حرا موضحة ) أوضحت العظم ( عقلها خمسون دينارا وكان على سيد العبد من الدين خمسون دينارا فإنه يبدأ الخمسين دينارا التي في عقل الشجة فتقضى من ثمن العبد ثم يقضى دين سيده ثم ينظر إلى ما بقي من العبد فيعتق ثلثه ويبقى ثلثاه للورثة فالعقل أوجب ) أثبت وأحق ( في رقبته من دين سيده ودين سيده أوجب ) أحق ( من التدبير الذي إنما هو وصية في ثلث مال الميت فلا ينبغي ) لا يصح ( أن يجوز شيء من التدبير وعلى سيد المدبر دين لم يقض ) جملة حالية ( وإنما هو وصية ذلك أن الله تبارك وتعالى قال من بعد وصية يوصى بها أو دين )
____________________
(4/162)
والدين مقدم على الوصية إجماعا
( فإن كان في ثلث الميت ما يعتق فيه المدبر كله عتق وكان عقل جنايته دينا عليه يتبع به بعد عتقه وإن كان ذلك العقل الدية كاملة ) مبالغة ( وذلك إذا لم يكن على سيده دين ) وإلا فعلى ما مر
( وقال مالك في المدبر إذا جرح رجلا فأسلمه ) أي أسلم خدمته ( سيده إلى المجرح ثم هلك سيده وعليه دين ولم يترك مالا غيره فقال الورثة نحن نسلمه إلى صاحب الجرح ) بضم الجيم ( وقال صاحب الدين أنا أزيد على ذلك أنه إذا زاد الغريم شيئا فهو أولى ) أحق ( به ) ولا يسلم للمجروح ( ويحط عن الذي عليه الدين قدر ما زاد الغريم على دية الجرح فإن لم يزد شيئا لم يأخذ العبد ) بل يسلم إلى المجروح إن شاء الوارث
( وقال مالك في المدبر إذا جرح ) شخصا ( وله مال فأبى سيده أن يفتديه فإن المجروح يأخذ مال المدبر في دية جرحه فإن كان فيه وفاء استوفى المجروح دية جرحه ورد المدبر إلى سيده وإن لم يكن فيه وفاء اقتضاه ) أخذه ( من دية جرحه واستعمل المدبر بما بقي له من دية جرحه ) حتى يستوفيها
7 جراح أم الولد ( قال مالك في أم الولد تجرح ) شخصا ( إن عقل ذلك الجرح ضامن ) أي مضمون ( على سيدها في ماله ) كقولهم سر كاتم أي مكتوم وعيشة راضية أي مرضية
( إلا أن يكون عقل ذلك الجرح أكثر من
____________________
(4/163)
قيمة أم الولد فليس على سيدها أن يخرج ) أي يعطي من ماله ( أكثر من قيمتها و ) وجه ( ذلك أن رب ) أي سيد ( العبد أو الوليدة إذا أسلم غلامه أو وليدته ) أمته ( بجرح ) أي في جرح ( أصابه واحد منهما فليس عليه أكثر من ذلك وإن كثر ) زاد ( العقل ) على قيمة كل منهما ( فإذا لم يستطع ) لم يقدر ( سيد أم الولد أن يسلمها لما مضى من السنة ) أنه يجب عليه فداؤها ( فإنه إذا أخرج قيمتها فكأنه أسلمها فليس عليه أكثر من ذلك ) لأنه ظلم له إذ هو ليس بجان ( وهذا أحسن ما سمعت وليس عليه أن يحمل من جنايتها أكثر من قيمتها ) بل إنما عليه الأقل من قيمتها أو أرش ما جنت والله تعالى أعلم بالصواب
____________________
(4/164)
5111111 1 1
23 كتاب الحدود جمع حد وهو الحاجز بين الشيئين يمنع اختلاط أحدهما بالآخر سمي بذلك الحدود الشرعية لكونه مانعا لمتعاطيه عن معاودة مثله ولغيره أن يسلك مسلكه
1 ما جاء في الرجم ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال جاءت اليهود ) من خيبر وذكر ابن العربي عن الطبري عن المفسرين منهم كعب بن الأشرف وكعب بن الأسعد وسعيد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وشاس بن قيس ويوسف بن عازوراء ( إلى رسول الله ) في ذي القعدة سنة أربع ( فذكروا له أن رجلا منهم ) لم يعرف الحافظ اسمه وفتحت أن لسدها مسد المفعول ( وامرأة ) اسمها بسرة بضم الموحدة وسكون المهملة كما ذكره ابن العربي في أحكام القرآن ( زنيا ) ومنهم صفة رجلا وصفة امرأة محذوفة أي منهم لدلالة السابق عليه ويجوز أن يتعلق منهم بحال من ضمير من رجل وامرأة في زنيا والتقدير أن رجلا وامرأة زنيا في حالة كونهما من اليهود
وذكر أبو داود سبب مجيئهم من طريق الزهري سمعت رجلا من مزينة ممن يتبع العلم وكان عند سعيد بن المسيب يحدث عن أبي هريرة قال زنى رجل من اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا فتيا نبي من أنبيائك قال فأتوا النبي وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا ( فقال لهم رسول الله ما تجدون في التوراة ) ما مبتدأ من أسماء الاستفهام وتجدون جملة
____________________
(4/165)
في محل الخبر والمبتدأ والخبر معمول للقول والتقدير أي شيء تجدونه في التوراة فيتعلق حرف الجر بمفعول ثان لوجد ( في شأن الرجم ) أي في حكمه وهذا السؤال ليس لتقليدهم ولا معرفة الحكم منهم وإنما هو لإلزامهم بما يعتقدونه في كتابهم الموافق لحكم الإسلام إقامة للحجة عليهم وإظهارا لما كتبوه وبدلوه من حكم التوراة فأرادوا تعطيل نصها ففضحهم الله وذلك إما بوحي من الله تعالى إليه أنه موجود في التوراة لم يغير وإما بإخبار من أسلم منهم كعبد الله بن سلام ( فقالوا نفضحهم ) بفتح النون والضاد المعجمة بينهما فاء ساكنة من الفضيحة أي نكشف مساويهم ونبينها للناس ( ويجلدون ) بضم أوله وفتح ثالثه مبنيا للمفعول أي نجد أن نفضحهم ويجلدون فهو معمول على الحكاية لنجد المقدر أي زعموا أن ذلك في التوراة وفي كاذبون ويحتمل أن يكون ذلك مما فسروا به التوراة يكون مقطوعا عن الجواب أي الحكم عندنا أن نفضحهم ويجلدون فيكون خبر مبتدأ محذوف بتقدير أن وإنما بني أحد الفعلين للفاعل والآخر للمفعول إشارة إلى أن الفضيحة موكولة إليهم وإلى اجتهادهم بكشف مساويهم
وفي رواية أيوب عن نافع عند البخاري فقالوا نسخم وجوههما ونخزيهما
وفي رواية عبيد الله عن نافع قالوا نسود وجوههما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما
( فقال عبد الله بن سلام ) بخفة اللام الإسرائيلي الحبر من ذرية يوسف بن يعقوب حليف الخزرج له أحاديث وفضل وشهد له النبي بالجنة مات سنة ثلاث وأربعين ( كذبتم إن فيها الرجم ) على الزاني المحصن وفي رواية للشيخين فقال عبد الله بن سلام ادعهم يا رسول الله بالتوراة فأتى بها
وفي رواية أيوب قال أي النبي فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ( فأتوا ) بفتح الهمزة والفوقية ( بالتوراة فنشروها ) أي فتحوها وبسطوها زاد في رواية أيوب فقالوا لرجل ممن يرضون يا أعور اقرأ ( فوضع أحدهم ) هو عبد الله بن صورياء اليهودي الأعور ( يده على آية الرجم ثم قرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك ) عنها ( فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ) وفي رواية للشيخين فإذا آية الرجم تحت يده وبينها في حديث أبي هريرة ولفظه المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها رواه أبو داود وعنده من حديث جابر إنا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما
زاد البزار من هذا الوجه فإن وجدوا الرجل مع المرأة في بيت أو في ثوبها أو على بطنها فهي ريبة وفيها عقوبة
( فقالوا صدق يا محمد فيها آية الرجم ) زاد في رواية أيوب ولكننا نكاتمه بيننا
وفي رواية البزار قال قال يعني النبي فما منعكم أن ترجموهما قالوا ذهب سلطاننا فكرهنا القتل
زاد في حديث البراء نجد الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه
____________________
(4/166)
الحد فقلنا تعالوا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم
ولأبي داود عن جابر فدعا رسول الله بالشهود فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل المرود في المكحلة ( فأمر بهما رسول الله فرجما ) زاد في رواية للشيخين عند البلاط وهو مكان بين السوق والمسجد النبوي ( فقال عبد الله بن عمر فرأيت الرجل يحني ) بفتح الياء وإسكان المهملة وكسر النون قال ابن عبد البر كذا رواه أكثر شيوخنا عن يحيى وقال بعضهم عنه بالجيم والصواب فيه عند أهل العلم يجنأ بالجيم والهمزة أي يميل ( على المرأة ) والرؤيا بصرية فيحني في موضع الحال وعلى المرأة متعلق بها ( يقيها الحجارة ) أي حجارة الرمي فأل عهدية والجملة بدل من يحني أو حال أخرى
( مالك معنى يحني يكب ) بضم الياء وكسر الكاف أي يميل ( عليها حتى تقع الحجارة عليه ) دونها من حبه لها
قال ابن الأثير في حرف الجيم يقال أجنى يجني إجناء وجنا على الشيء يجنو إذا أكب أكب عليه وقيل هو مهموز وقيل الأصل فيه الهمزة من جنأ إذا مال عليه وعطف ثم خفف وهو لغية في الجنأ ولو روي بالحاء المهملة بمعنى عليه لكان أشبه وقال في حرف الحاء قال الخطابي الذي جاء في السنن يجني بالجيم والمحفوظ بالحاء أي يكب عليها يقال حنا يحنو حنوا ومر أن أبا عمر صوب رواية الجيم والهمزة وقال ابن دقيق العيد أنه الراجح في الرواية وظاهر الحديث أن الإسلام ليس شرطا في الإحصان وبه قال الشافعي وأحمد وقال المالكية وأكثر الحنفية أنه شرط فلا يرجم كافر وأجابوا عن الحديث بأنه إنما رجمهما بحكم التوراة تنفيذا للحكم عليهم بما في كتابهم وليس هو من حكم الإسلام في شيء وهو فعل وقع في واقعة حال عينية محتملة لا دلالة فيها على العموم في كل كافر وأخرجه البخاري في المحاربين عن إسماعيل وقبله في علامات النبوة عن عبد الله بن يوسف ومسلم في الحدود من طريق ابن وهب كلهم عن مالك به وتابعه أيوب وعبيد الله وغيرهما عن نافع وتابعه عبد الله بن دينار عن ابن عمر بنحوه في الصحيحين وغيرهما وله طرق عندهم
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب ) مرسل باتفاق الرواة عن مالك وتابعه طائفة على إرساله عن يحيى بن سعيد ورواه الزهري فاختلف عليه فيه فرواه يونس عنه عن أبي سلمة عن جابر وشعيب وعقيل عنه عن أبي سلمة وابن المسيب عن أبي هريرة
ورواه مالك عن ابن شهاب مرسلا كما يأتي قريبا قاله ابن عبد البر وهو موصول في الصحيحين وغيرهما من طرق عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة وعن أبي هريرة ( أن رجلا من أسلم ) هو ماعز بن مالك كما صرح به في كثير من طرق الحديث واتفق عليه
____________________
(4/167)
الحفاظ ( جاء إلى أبي بكر الصديق ) عبد الله بن عثمان رضي الله عنه ( فقال أن الأخر زنى ) قال ابن عبد البر الرواية بكسر الخاء وهو الصواب ومعناه الرذل الدني زنى كأنه يدعو على نفسه ويعيبها بما نزل به من مواقعة الزنى قال أبو عبيد ومن هذا قولهم السؤال أخر كسب الرجل أي أرذل كسب الرجل
وقال الأخفش كنى عن نفسه بكسر الخاء وهذا إنما يكون لمن حدث من نفسه بقبيح فكره أن ينسب ذلك إلى نفسه انتهى
وقال النووي الأخر بهمزة مقصورة وخاء مكسورة ومعناه الأرذل والأبعد والأدنى وقيل اللئيم وقيل الشقي وكله متقارب ومراده نفسه فحقرها وعابها بما فعل ( فقال له أبو بكر هل ذكرت هذا لأحد غيري ) وفي رواية لأحد قبلي ( فقال لا فقال له أبو بكر ) لما جبل عليه من الرأفة بالأمة وفي الحديث أرأف أمتي بأمتي أبو بكر ( فتب إلى الله ) بالندم على ما فعلت والعزم على عدم العود والاستغفار ( واستتر بستر الله ) الذي أسبله عليك إذ لو شاء لأظهره للناس وفضحك فلا تظهر أنت ما ستره عليك
( فإن الله يقبل التوبة عن عباده ) أي منهم ( فلم تقرره ) بضم الفوقية وإسكان القاف وكسر الراء الأولى أي لم تمكنه ( نفسه ) من الثبوت على ما قال أبو بكر لما علم من رأفته وشفقته وماعز رضي الله عنه حصل له شدة خوف من ذنبه ( حتى أتى عمر بن الخطاب ) لما علم من صلابته في الدين وفي الحديث وأشدهم في أمر الله عمر ( فقال له مثل ما قال لأبي بكر فقال له عمر مثل ما قال له أبو بكر ) لأنه وإن كان شديدا في أمر الله لكنه عالم بأن الإنسان مطلوب بالستر على نفسه فهو من جملة أمر الله ( فلم تقرره نفسه ) لشدة إشفاقه ( حتى جاء إلى رسول الله ) وهو في المسجد فناداه ( فقال إن الأخر ) بهمزة مقصورة وخاء مكسورة أي الرذل الدني ( زنى قال سعيد ) بن المسيب ( فأعرض عنه رسول الله ثلاث مرات كل ذلك يعرض عنه رسول الله ) وعند البخاري من طريق ابن شهاب عن أبي سلمة وابن المسيب عن أبي هريرة فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه فجاء لشق وجهه الذي أعرض عنه فقال إني زنيت ( حتى إذا أكثر عليه ) بالمرة الرابعة ففي حديث أبي هريرة المذكور فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه فقال أبك جنون قال لا فقال أحصنت قال نعم ولا ينافي سؤاله عن ذلك قوله ( بعث رسول الله إلى أهله فقال أيشتكي ) مرضا أذهب عقله ( أم به جنة ) بكسر الجيم أي جنون لأنه سأله أولا ثم بعث إلى أهله لأنه استنكر ما وقع منه إذ مثل ذلك لا يقع من صحيح عاقل
____________________
(4/168)
( فقالوا يا رسول الله والله إنه لصحيح ) في العقل والبدن
( فقال أبكر ) هو ( أم ثيب ) أي تزوج زوجة ودخل بها وأصابها بعقد صحيح ووطء مباح ( فقالوا بل ثيب يا رسول الله فأمر به رسول الله فرجم ) زاد في الصحيح عن جابر فرجمناه بالمصلى فكنت فيمن رجمه فلما أدلقته الحجارة فر فأدرك فرجم حتى مات
قال في المقدمة والذي أدركه لما هرب فقتله عبد الله بن أنيس
وقال ابن جريج عمر حكاه الحاكم عنه وكان أبو بكر الصديق رأس الذين رجموه ذكره ابن سعد انتهى
فتقرب إلى الله أولا بنصحه بأمره بالتوبة والستر فلما ثبت على الإقرار تقرب ثانيا إلى الله فكان رأس من رجمه
واحتج الحنفية والحنابلة بظاهره في اشتراط الإقرار أربع مرات وإنه لا يكتفى بما دونها قياسا على الشهود وأجاب المالكية والشافعية في عدم اشتراط ذلك بقوله واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فأرجمها ولم يقل أربع مرات
وبحديث الغامدية إذ لم ينقل أنه تكرر إقرارها وإنما كرر على ماعز لأنه شك في عقله ولذا قال أبك جنون وقال لأهله أيشتكي أم به جنة فإن الإنسان غالبا لا يصر على إقرار ما يقتضي هلاكه من غير سؤال مع أنه له طريقا إلى سقوط الإثم بالتوبة ولذا سأل أهله مبالغة في تحقيق حاله وصيانة دم المسلم فيبنى عليه الأمر لا على مجرد إقراره بعدم الجنون فإنه لو كان مجنونا لم يفد قوله أنه ليس به جنون لأن إقرار المجنون غير معتبر
قال ابن عبد البر وفيه أن المجنون المعتوه لا حد عليه وهو إجماع وأن إظهار الإنسان ما يأتيه من الفواحش جنون لا يفعله إلا المجانين وأنه ليس من شأن ذوي العقول كشف ذلك والاعتراف به عند السلطان وغيره وإنما من شأنهم الستر على أنفسهم والتوبة وكما يلزمهم الستر على غيرهم يلزمهم الستر على أنفسهم وإن حد الثيب غير حد البكر ولا خلاف فيه لكن قليل من العلماء رأى على الثيب الجلد والرجم معا روي ذلك عن علي وعبادة وتعلق به داود وأصحابه والجمهور أنه يرجم ولا يجلد
وقال الخوارج والمعتزلة لا رجم مطلقا وإنما الحد الجلد لثيب أو بكر وهو خلاف إجماع أهل الحق والسنة
( مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال بلغني ) لا خلاف في إسناده في الموطأ كما ترى وهو يستند من طرق صحاح قاله ابن عبد البر ثم أخرجه من طريق النسائي عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يحيى بن سعيد عن محمد ابن المنكدر عن ابن هزالا عن أبيه ( أن رسول الله قال لرجل من أسلم ) بفتح فسكون قبيلة قال فيها المصطفى أسلم سالمها الله ( يقال له ) أي اسمه ( هزال ) بفتح الهاء والزاي المنقوطة الشديدة ابن يزيد الصحابي وفي رواية النسائي أن هزالا كانت له جارية وأن
____________________
(4/169)
ماعزا وقع عليها فقال له هزال انطلق فأخبر رسول الله فعسى أن ينزل فيك قرآن فانطلق فأخبره فأمر به فرجم فقال النبي ( يا هزال لو سترته بردائك لكان خيرا لك ) من أمرك له بإخباري لما في الستر على المسلم من الثواب الجزيل المذكور في كثير من الأحاديث
( قال يحيى بن سعيد فحدثت بهذا الحديث في مجلس فيه يزيد ) بياء قبل الزاي ( ابن نعيم ) بضم النون ( ابن هزال الأسلمي ) تابعي صغير ثقة مقبول وروايته عن جده مرسلة وأما أبوه نعيم فصحابي نزل المدينة ما له راو إلا ابنه يزيد
( فقال يزيد هزال جدي وهذا الحديث حق ) أي صدق لا محالة
( مالك عن ابن شهاب أنه أخبره ) مرسلا وقد رواه الشيخان من طريق عقيل وشعيب عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة ومن طريق يونس ومعمر عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر ( أن رجلا ) هو ماعز بن مالك الأسلمي باتفاق وبه صرح في كثير من طرق الحديث ( اعترف على نفسه بالزنى على عهد ) أي زمن ( رسول الله وشهد على نفسه أربع مرات ) فأعرض عنه ثلاثة ثم قال له بعد الرابعة أبك جنون ثم قال لأهله أيشتكي أم به جنة قال القرطبي لما ظهر عليه من الحال الذي يشبه حال المجنون وذلك أنه دخل منتفش الشعر ليس عليه رداء يقول زنيت فطهرني كما في مسلم عن جابر بن سمرة واسم المرأة التي زنى بها فاطمة فتاة هزال وقيل منيرة وفي طبقات ابن سعد اسمها مهيرة وفي مسلم عن بريدة جاء ماعز فقال يا رسول الله طهرني فقال ويحك أرجع فاستغفر الله وتب إليه فرجع غير بعيد ثم جاء فقال يا رسول الله طهرني فقال مثل ذلك حتى إذا كانت الرابعة قال فيم أطهرك قال من الزنى فسأل أبه جنون فأخبر أنه ليس بمجنون فقال أشرب خمرا فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر فقال أزنيت قال نعم ( فأمر به رسول الله فرجم ) زاد في حديث جابر بالمصلى فلما أذلقته الحجارة فر فأدرك فرجم حتى مات فقال له النبي خيرا
وفي مسلم عن بريدة فكان الناس فيه فريقين قائل يقول هلك لقد أحاطت به خطيئته وقائل يقول ما توبة أفضل من توبة ماعز أنه جاء إلى رسول الله فوضع يده في يده ثم قال اقتلني بالحجارة فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة ثم جاء وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال أستغفروا لماعز بن مالك فقالوا غفر الله لماعز بن مالك فقال لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم
وفي النسائي عن أبي هريرة مرفوعا لقد رأيته بين أنهار الجنة ينغمس يعني يتنعم
ولأحمد عن أبي ذر
____________________
(4/170)
رفعه قد غفر الله له وأدخله الجنة وفي هذا منقبة عظيمة لماعز رضي الله عنه كحديث الباب لأنه استمر على طلب إقامة الحد عليه مع توبته ليتم تطهيره ولم يرجع عن إقراره مع أن الطبع البشري يقتضي أنه لا يستمر على الإقرار بما يقتضي موته فجاهد نفسه على ذلك وقوي عليها
وفي الصحيح عن ابن عباس لما أتى ماعز بن مالك النبي قال له لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت قال لا يا رسول الله قال أنكتها لا يكني قال فعند ذلك أمر برجمه ( قال ابن شهاب فمن أجل ذلك يؤخذ الرجل باعترافه على نفسه ) بالزنى أو بغيره حيث كان مكلفا غير محجور عليه
( مالك عن يعقوب بن زيد بن طلحة ) القرشي التيمي أبي يوسف الصدوق المدني قاضيها ( عن أبيه زيد بن طلحة ) التيمي تابعي صغير أرسل هذا الحديث فظنه الحاكم صحابيا وقال إن مالكا هو الحاكم في حديث المدنيين وتعقبه في الإصابة فقال ليس كما ظن فليس لزيد ولا لأبيه ولا لجده صحبة فهو زيد بن طلحة بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة كما نسبه القعنبي وغيره من رواة الموطأ وجده مشهور في التابعين ( عن ) جده ( عبد الله ) بفتح العين ابن عبيد الله بضمها ( ابن أبي مليكة ) بالتصغير ابن عبد الله بن جدعان ويقال اسم أبي مليكة زهير التيمي المدني أدرك ثلاثين من الصحابة ثقة فقيه مات سنة سبع عشرة ومائة
( أنه أخبره ) قال ابن عبد البر هكذا قال يحيى فجعل الحديث لعبد الله بن أبي مليكة مرسلا عنه
وقال القعنبي وابن القاسم وابن بكير مالك عن يعقوب ابن زيد عن أبيه زيد بن طلحة بن عبد الله بن أبي مليكة فجعلوا الحديث لزيد بن طلحة مرسلا وهذا هو الصواب وكذا رواه ابن وهب عن مالك ثم قال وأخبرني ابن لهيعة عن محمد بن عبد الرحمن عن عاصم بن عمر بن قتادة ابن النعمان عن محمود بن لبيد الأنصاري وروي مرسلا من وجوه كثيرة وصح بمعناه عن بريدة وعمران بن حصين ( أن امرأة ) من غامد كما في مسلم من حديث بريدة وله ولأبي داود من حديث عمران من جهينة ولا تنافي فغامد بغين معجمة فألف فميم مكسورة فدال مهملة بطن من جهينة وروى ابن منده بسند ضعيف عن عائشة سمعت سبيعة القرشية قالت يا رسول الله إني زنيت فأقم علي حد الله الحديث بنحو حديث الغامدية المذكور فإن صح فيكون ذلك وقع لهما معا
( جاءت إلى رسول الله فأخبرته أنها زنت ) وفي مسلم عن بريدة فقالت يا رسول الله طهرني فقال ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه فقالت أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك قال وما ذاك قالت أنها حبلى من
____________________
(4/171)
الزنى ( وهي حامل ) من الزنى كما في مسلم عن عمران وبريدة
( فقال لها رسول الله إذهبي حتى تضعي ) حملك لمنع رجم الحبلى لأنه يلزم عليه قتل الولد بلا جناية
وفي مسلم عن بريدة فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت وفيه عن عمران فدعا نبي الله وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها ( فلما وضعت جاءته ) وفي حديث بريدة فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت هذا قد ولدته
( فقال رسول الله إذهبي حتى ترضعيه ) وفي مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت فأتى النبي فقال قد وضعت الغامدية فقال إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه فقام رجل من الأنصار فقال إلي رضاعه يا نبي الله قال فرجمها
وفيه أيضا عن عبد الله ابن بريدة عن أبيه قال اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين
ولا تنافي بين الروايتين لاحتمال أنه لم يرض قول الرجل إلي رضاعه لأن أمه أرفق به في رضاعه فدفعه إليها حتى فطمته ويكون التعقيب في قوله في الأولى فرجمها نحو تزوج زيد فولد له هكذا ظهر لي ثم رأيت النووي قال الروايتان صحيحتان والثانية صريحة لا يمكن تأويلها بخلاف الأولى فيتعين تأويلها على وفق الثانية بأن قول الرجل إلي رضاعه إنما قال بعد الفطام وأراد به كفالته وتربيته وسماه رضاعا مجازا انتهى
ولعل ما قلته أقرب لإبقاء الرضاع على حقيقته ولا ينافيه التعقيب لأنه في كل شيء بحسبه
( فلما أرضعته جاءته فقال اذهبي فاستودعيه ) إجعليه عند من يحفظه ( قال فاستودعته ) لا ينافي رواية مسلم فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين لاحتمال أنها لما استودعته وأخبرته بذلك أحضره بالصبي ودفعه إليه ليكون أشد توثقا في حفظه من مزيد رأفته على خلق الله
( ثم جاءته فأمر بها فرجمت ) وفي مسلم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضخ الدم على وجه خالد فسبها فسمعه فقال مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ثم أمر بها فصلى عليها فدفنت وفي مسلم أيضا عن عمران ثم صلى عليها فقال له عمر تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت قال لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها وهذه الرواية صريحة في أنه صلى عليها
وأما الأولى فقال عياض هي بفتح الصاد واللام عند جماهير رواة مسلم وعند الطبراني بضم الصاد قال وكذا رواه ابن أبي شيبة وأبو داود وفي رواية لأبي داود ثم أمرهم أن يصلوا عليها انتهى
وقد يجمع بأنه أمرهم أولا ثم قبل الصلاة صلى عليها لما علم توبتها
____________________
(4/172)
( مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( ابن عتبة ) بضمها وإسكان الفوقية ابن مسعود ( عن أبي هريرة ) عمرو بن عامر أو عبد الرحمن بن صخر قولان مرجحان من نحو ثلاثين قولا في اسمه واسم أبيه ( وزيد بن خالد الجهني ) بضم الجيم وفتح الهاء ( أنهما أخبراه أن رجلين ) لم يعرف الحافظ اسمهما ( اختصما إلى رسول الله فقال أحدهما يا رسول الله اقض ) أحكم ( بيننا بكتاب الله ) وفي رواية للشيخين فقام رجل من الأعراب فقال أنشدك الله ألا قضيت بيننا بكتاب الله ( وقال الآخر ) بفتح الخاء ( وهو أفقههما ) قال الحافظ زين الدين العراقي يحتمل أن الراوي كان عارفا بهما قبل أن يتحاكما فوصف الثاني بأنه أفقه من الأول مطلقا ويحتمل في هذه القصة الخاصة لحسن أدبه في استئذانه أولا وترك رفع صوته إن كان الأول رفعه ( أجل ) بفتح الهمزة والجيم وخفة اللام أي نعم ( يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله ) إنما سألا ذلك وهما يعلمان أنه لا يحكم إلا بحكم الله ليحكم بينهما بالحكم الصرف لا بالتصالح والترغيب فيما هو الأرفق بهما أو أمرهما بالصلح إذ للحاكم أن يفعل ذلك ( وائذن لي ) في ( أن أتكلم قال تكلم فقال إن ابني ) لم يعرف الحافظ اسمه ( كان عسيفا ) بفتح العين وكسر السين المهملتين وإسكان التحتية وبالفاء أي أجيرا ( على هذا ) أي عنده أو على بمعنى اللام ( فزنى بامرأته ) لم يعرف الحافظ اسمها ( فأخبرني ) بالإفراد قال أبو عمر هكذا رواه يحيى وابن القاسم وهو الصواب وللقعنبي فأخبروني أي بالجمع وفي رواية عمرو بن شعيب فسألت من لا يعلم فأخبرني ( أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ) متعلق بافتديت ومن للبدل نحو أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة أي افتديت بمائة شاة بدل الرجم ( وبجارية لي ) وفي رواية وجارية بلا موحدة ( ثم إني سألت أهل العلم ) قال الحافظ لم أقف على أسمائهم ولا على عددهم ( فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام ) بالإضافة فيهما لأنه بكر ( وأخبروني أنما الرجم على امرأته ) لأنها محصنة ( فقال رسول الله أما ) بالتخفيف ( والذي نفسي بيده ) أقسم تأكيدا ( لأقضين بينكما بكتاب الله ) أي القرآن على ظاهره المنسوخ لفظه الثابت حكمه ويدل له قول عمر
____________________
(4/173)
الآتي الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنا قد قرأناها وقد أجمعوا على أن من القرآن ما نسخ حكمه وثبت خطه وعكسه في القياس مثله أو إشارة إلى قوله تعالى { أو يجعل الله لهن سبيلا } سورة النساء الآية 15 وفسر النبي السبيل برجم المحصن رواه مسلم أو المعنى بحكم الله وقضائه كقوله تعالى { كتاب الله عليكم } سورة النساء الآية 80 أي حكمه فيكم وقضاؤه عليكم وما قضى به صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم هو حكم الله وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى { من يطع الرسول فقد أطاع الله } النساء 80 { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } الحشر 7 فلما أمر باتباعه وطاعته جاز أن يقال لكل حكم حكم به حكم الله وقضاؤه إذ ليس في القرآن أن من زنى وافتدى يرد فداؤه ولا أن عليه نفي سنة مع الجلد ولا أن على الثيب الرجم وقد أقسم أن يقضي بينهما بكتاب الله وهو صادق وقال ( أما غنمك وجاريتك فرد عليك ) أي مردود من إطلاق المصدر على المفعول نحو نسج اليمن أي منسوجه ولذا كان بلفظ واحد للجمع والواحد ( وجلد ابنه مائة ) أي أمر من يجلده فجلده ( وغربه عاما ) عن وطنه وهذا يتضمن أن ابنه كان بكرا وأنه اعترف بالزنى فإن إقرار الأب عليه لا يقبل وقرينه اعترافه حضوره مع أبيه كما في رواية أخرى أن ابني هذا وسكوته على ما نسبه إليه
وفي النسائي عن عمرو بن شعيب عن الزهري كان ابني أجيرا لامرأة هذا وابني لم يحصن فصرح بأنه بكر وفيه تغريب البكر الزاني خلافا لقول أبي حنيفة لا يغرب لأنه زيادة على النص والزيادة عليه بخبر الواحد نسخ فلا يجوز وأجيب بأن الزيادة ليست بنسخ إذ حكم النص باق وهو الجلد والتغريب بالسنة
( وأمر أنيسا ) بضم الهمزة مصغر ( الأسلمي ) حزم ابن حبان وابن عبد البر بأنه أنيس بن الضحاك وفيه نظر والظاهر في نقدي أنه غيره وقال ابن السكن لا أدري من هو ولم أجد له رواية غير ما ذكر في هذا الحديث ويقال هو أنيس بن الضحاك وقال غيره يقال هو أنيس بن أبي مرثد وهو خطأ لأنه غنوي وهذا أسلمي كذا في الإصابة وقال في المقدمة أنيس هو ابن الضحاك نقله ابن الأثير عن الأكثرين ويؤيده قوله في الحديث الأسلمي ووهم ابن التين في قوله أنه أنس بن مالك ولكنه صغر انتهى فإنه خص الأسلمي قصدا إلى أنه لا يؤمر في القبيلة إلا رجل منهم لنفورهم عن حكم غيرهم وكانت المرأة أسلمية
( أن يأتي امرأة الآخر ) ليعلمها أن الرجل قذفها بابنه فلها عليه حد القذف فتطالبه أو تعفو عنه
( فإن اعترفت ) بأنه زنى بها ( رجمها فاعترفت فرجمها ) أنيس لأنه حكمه في ذلك لكن في رواية الليث عن الزهري فاعترفت فأمر بها رسول الله فرجمت وهو ظاهر في أن أنيسا إنما كان رسولا ليسمع إقرارها فقط وأن تنفيذ الحكم إنما كان منه ويشكل كونه اكتفى بشاهد واحد
وأجيب بأن رواية مالك أولى لما تقرر من ضبطه وخصوصا في حديث الزهري فإنه أعرف الناس به
____________________
(4/174)
فالظاهر أن أنيسا كان حاكما ولئن سلم أنه رسول فليس في الحديث نص على انفراده بالشهادة فيحتمل أن غيره شهد عليها وقال القاضي عياض يحتمل أن ذلك ثبت عنده بشهادة هذين الرجلين قال الحافظ والذي تقبل شهادته من الثلاثة والد العسيف فقط وأما العسيف والزوج فلا وغفل بعض من تبع عياضا فقال لا بد من هذا الحمل وإلا لزم الاكتفاء بشاهد واحد في الإقرار بالزنى ولا قائل به ويمكن الانفصال عن هذا بأن أنيسا بعث حاكما فاستوفى شروط الحكم ثم استأذنه في رجمها فأذن له قال المهلب فيه حجة لمالك في جواز إنفاذ الحاكم رجلا واحدا في الإعذار وفي أن يتخذ واحدا يثق به يكشف له عن حال الشهود في السر كما يجوز له قبول الواحد فيما طريقه الخبر لا الشهادة انتهى
وفيه أن الصحابة كانوا يفتون في زمنه وفي بلده
وذكر ابن سعد من حديث سهل بن أبي حثمة إن الذين كانوا يفتون على عهد النبي عمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت
وعن ابن عمر كان أبو بكر وعمر يفتيان في زمنه
وعن حراش الأسلمي كان عبد الرحمن بن عوف ممن يفتي في زمنه وفيه أن الحد لا يقبل الفداء وهو مجمع عليه في الزنى والسرقة والشرب والحرابة واختلف في القذف والصحيح أنه كغيره وإرسال الإمام إلى المرأة ليسألها عما رميت به وقد صحح النووي وجوبه وهو ظاهر مذهبنا واحتج له ببعث أنيس لكن تعقب بأنه فعل في واقعة حال لا دلالة فيه على الوجوب لاحتمال أن سبب البعث ما وقع بين زوجها وبين والد العسيف من الخصام والمصالحة على الحد واشتهار القصة حتى صرح والد العسيف بما صرح به ولم ينكر عليه زوجها فالإرسال إلى هذه يختص بمن كان على مثلها من التهمة القوية بالفجور
( قال مالك والعسيف الأجير ) وزنا ومعنى لأنه يعسف الطرق أي يسلكها مترددا في الاشتغال والجمع عسفاء بزنة أجراء وفيه أن الأولى بالقضاء الخليفة العالم بوجوه القضاء وأن المدعي أولى بالقول والطالب أحق بالتقدم بالكلام وإن بدأ المطلوب برد هذا الباطل وأنه لا يدخل بقضيه في ملكه ولا يصححه له وعليه رده وأنه لا جلد مع الرجم وقاله الجمهور خلافا للظاهرية وبعض السلف لحديث مسلم عن عبادة مرفوعا خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة وأجيب بأنه منسوخ لأنه رجم جماعة ولم يجلدهم ورجم أبو بكر وعمر وعثمان ولم يجلدوا وما روي عن علي في شرافة الهمدانية جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله فمنقطع لا حجة فيه كما قال ابن عبد البر وغيره وأخرجه البخاري عبد الله بن يوسف عن مالك وتابعه الليث وابن أبي ذئب وابن عيينة وصالح بن كيسان وابن جريج ويحيى بن سعيد وغيرهم في الصحيحين وغيرهما كلهم عن ابن شهاب بنحوه
( مالك عن سهيل ) بضم المهملة مصغر ( ابن أبي صالح عن أبيه ) ذكوان السمان ( عن أبي هريرة
____________________
(4/175)
أن سعد بن عبادة ) الأنصاري الجواد المشهور سيد الخزرج ( قال لرسول الله ) لما نزلت { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } سورة النور الآية 4 الآية ( أرأيت لو أني وجدت مع امرأتي رجلا ) وفي رواية لو وجدت لكاعا يعني امرأته قد تفخذها رجل ( أأمهله ) بفتح همزة الاستفهام وضم الثانية ( حتى آتي بأربعة شهداء فقال رسول الله نعم ) زاد في رواية قال كلا والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك قال اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير مني وفيه قطع الذريعة عن سفك الدم بمجرد الدعوى والنهي عن إقامة حد بغير سلطان ولا شهود وهو وجه إدخاله في كتاب الحدود ومر بسنده ومتنه في كتاب القضاء
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم ( عن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( ابن عتبة ) بضمها ( ابن مسعود ) أحد الفقهاء ( عن عبد الله بن عباس أنه قال سمعت عمر بن الخطاب يقول ) على المنبر النبوي ( الرجم في كتاب الله حق ) ثابت الحكم منسوخ اللفظ
وللبخاري من طريق صالح بن كيسان عن الزهري بإسناده المذكور إن الله بعث محمدا وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم ( على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن ) بضم الهمزة أي تزوج ووطىء مباحا وكان بالغا عاقلا ( إذا أقيمت البينة ) بالزنى ( أو كان الحبل ) بفتح الحاء المهملة والموحدة أي وجدت المرأة حبلى ( أو ) كان ( الاعتراف ) الإقرار بالزنى والاستمرار عليه وهذا مختصر من خطبة لعمر طويلة قالها في آخر عمره رضي الله عنه رواها البخاري بتمامها من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب بإسناده المذكور
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سليمان بن يسار ) بتحتية ومهملة خفيفة ( عن أبي واقد ) بالقاف ( الليثي ) الصحابي قيل اسمه الحارث بن مالك وقيل ابن عوف وقيل اسمه عون بن الحارث مات سنة ثمان وستين وهو ابن خمس وثمانين على الصحيح ( أن عمر بن الخطاب أتاه رجل ) لم يسم ( وهو بالشام ) لما قدمها في خلافته ( فذكر له أنه وجد مع امرأته رجلا فبعث عمر بن الخطاب
____________________
(4/176)
أبا واقد الليثي ) الصحابي المذكور ( إلى امرأته يسألها عن ذلك ) أي عن قذف زوجها لها ( فأتاها وعندها نسوة حولها ) جملة حالية ( فذكر لها الذي قال زوجها لعمر بن الخطاب ) من رميها بالزنى ( وأخبرها ) أبو واقد ( أنها لا تؤخذ بقوله ) بل إن كذبته لاعن وإلا حد ( وجعل يلقنها أشباه ذلك لتنزع ) بفوقية فنون ساكنة فزاي منقوطة أي ترجع ( فأبت أن تنزع ) ترجع عن الاعتراف بالزنى ( وتمت ) اشتدت وصلبت وفي نسخة وهي أظهر وثبتت بمثلثة من الثبوت ( على الاعتراف ) بالزنى ( فأمر بها عمر فرجمت ) لثبوتها على الاعتراف وعدم رجوعها عنه
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول لما صدر عمر بن الخطاب رحمه الله ) رواية سعيد عن عمر تجري مجرى المتصل لأنه رآه وقد صحح بعض العلماء سماعه منه قاله أبو عمر ( من منى ) في آخر حجاته سنة ثلاث وعشرين ( أناخ ) راحلته ( بالأبطح ) أي المحصب ( ثم كوم ) بشد الواو أي جمع ( كومة ) بفتح الكاف وضمها أي قطعة ( بطحاء ) أي صغار الحصى أي جمعها وجعل لها رأسا ( ثم طرح ) ألفى ( عليها رداءه واستلقى ) على ظهره ( ثم مد ) رفع ( يديه إلى السماء ) لأنها قبلة الدعاء ( فقال اللهم كبرت ) بكسر الموحدة ( سني ) أي عمري فهي مؤنثة ( وضعفت قوتي ) بسبب كبر سني ( وانتشرت ) كثرت وتفرقت ( رعيتي ) التي أقوم بتدبيرها وسياستها ( فاقبضني ) توفني ( إليك ) حال كوني ( غير مضيع ) لما أمرتني به ( ولا مفرط ) متهاون به
( ثم قدم المدينة فخطب الناس ) وللبخاري عن ابن عباس فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلنا بالرواح إلى أن قال فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي
( فقال أيها الناس قد سنت ) بضم السين وفتح النون الثقيلة وسكون الفوقية ( لكم السنن ) جمع سنة ( وفرضت لكم الفرائض ) بالبناء للمفعول فيهما للعلم بالفاعل ( وتركتم ) بالبناء للمفعول أيضا
____________________
(4/177)
( على ) الطريق ( الواضحة ) الظاهرة التي لا تخفى ( إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا ) عن تلك الطريق الواضحة لهوى أنفسكم ( وضرب بإحدى يديه على الأخرى ) أسفا وتعجبا ممن يقع منه ضلال بعد هذا البيان البالغ ( ثم قال إياكم ) أحذركم ( أن تهلكوا عن آية الرجم ) أن بفتح الهمزة ( يقول قائل لا نجد حدين في كتاب الله ) إنما فيه حد واحد وهو الجلد
وفي حديث ابن عباس عن عمر أن الله بعث محمدا وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها ( فقد رجم رسول الله ) أي أمر برجم من أحصن ماعز والغامدية واليهودي واليهودية ( ورجمنا ) بعده ( والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها ) قال الزركشي في البرهان ظاهره أن كتابتها جائزة وإنما منعه قول الناس والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة لأن هذا شأن المكتوب قال وقد يقال لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر ولم يعرج على مقالة الناس لأنها لا تصلح مانعا وبالجملة فهذه الملازمة مشكلة انتهى
والذي يظهر أنه ليس مراد عمر هذا الظاهر وإنما مراده المبالغة والحث على العمل بالرجم لأن معنى الآية باق وإن نسخ لفظها إذ لا يسع مثل عمر مع مزيد فقهه تجويز كتبها مع نسخ لفظها فلا إشكال وضمير كتبتها الآية الرجم وهي ( الشيخ والشيخة ) إذا زنيا ( فارجموهما البتة ) بهمزة قطع أي جزما ( فإنا قد قرأناها ) ثم نسخ لفظها وبقي حكمهما بدليل أنه رجم ورجمنا بعده فلم ينكر علينا
وفي حديث ابن عباس عن عمر وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله
( قال مالك قال يحيى بن سعيد قال سعيد بن المسيب فما انسلخ ) أي مضى ( ذو الحجة ) الشهر الذي خطب فيه هذه الخطبة ( حتى قتل عمر رحمه الله ) ورضي عنه شهيدا بيد فيروز النصراني عبد المغيرة بن شعبة
( مالك قوله الشيخ والشيخة يعني الثيب والثيبة ) أي المحصن والمحصنة وإن كانا شابين لا حقيقة الشيخ وهو من طعن في السن بدليل قوله ( فارجموهما البتة ) فإن الرجم لا يختص بالشيخ والشيخة وإنما المدار على الإحصان لقوله لماعز أحصنت قال نعم
ولقوله عليه السلام لأهل ماعز أبكر أم ثيب فقالوا بل ثيب كما مر
____________________
(4/178)
( مالك أنه بلغه أن عثمان بن عفان أتي ) بضم أوله ( بامرأة ) تزوجت ( قد ولدت في ستة أشهر ) من زواجها ( فأمر بها أن ترجم ) لأن الغالب الكثير أن الحمل تسعة أشهر ( فقال له علي بن أبي طالب ليس ذلك ) الرجم ( عليها إن الله تعالى يقول في كتابه وحمله وفصاله ) من الرضاع ( ثلاثون شهرا ) ستة أقل مدة الحمل والباقي أكثر مدة الرضاع
( وقال والوالدات يرضعن أولادهن حولين ) عامين ( كاملين ) صفة مؤكدة ذلك ( لمن أراد أن يتم الرضاعة فالحمل يكون ستة أشهر ) كما أفادته الآيتان ( فلا رجم عليها فبعث عثمان في أثرها ) بكسر الهمزة وإسكان المثلثة ( فوجدها قد رجمت ) وروى ابن أبي حاتم عن بعجة بن عبد الله الجهني قال تزوج رجل منا امرأة فولدت له تماما لستة أشهر فانطلق إلى عثمان فأمر برجمها فقال له علي أما سمعت الله يقول { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } سورة الأحقاف الآية 15 وقال { وفصاله في عامين } سورة لقمان الآية 14 فلم نجد بقي إلا ستة أشهر فقال عثمان والله ما قطنت لهذا
وروى عبد الرزاق في المصنف عن أبي الأسود الدؤلي قال رفع إلى عمر امرأة ولدت لستة أشهر فسأل عنها أصحاب النبي فقال علي ألا ترى أنه يقول { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } وقال { وفصاله في عامين } فكان الحمل هاهنا ستة أشهر فتركها عمر فلعل عثمان رضي الله عنه لم يحضر هذه القصة في زمن عمر ولم يبلغه
( مالك أنه سأل ابن شهاب عن الذي يعمل عمل قوم لوط ) أي يأتي الذكر في الدبر ( فقال ابن شهاب عليه الرجم أحصن أو لم يحصن ) ولو كان كافرا
2 ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنى ( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي مولاهم مرسلا لجميع الرواة ورواه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير مرسلا مثله وأخرجه ابن وهب من مرسل كريب نحوه ولا أعلمه يستند بلفظه من وجه قاله ابن عبد البر ( أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى على عهد ) أي زمان ( رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا ) طلب
____________________
(4/179)
( له ) لأجله ( رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط ) ليجلد به لأنه غير محصن ( فأتي بسوط مكسور فقال فوق هذا ) لخفة إيلامه ( فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته ) بفتح المثلثة والميم والراء وفوقية أي طرفه قال الجوهري وثمرة السياط عقد أطرافها وقال أبو عمر أي لم يمتهن ولم يلن والثمرة الطرف ( فقال دون ) أي أقل من ( هذا ) وفوق الأول ( فأتي بسوط قد ركب به ) فذهبت عقدة طرفه ( ولان ) صار لينا مع بقاء صلابته بعدم كسره ( فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد ) مائة جلدة ( ثم قال أيها الناس قد آن ) بالمد أي حان ( لكم أن تنتهوا عن حدود الله ) التي حرمها ( من أصاب من هذه القاذورة ) كل قول أو فعل يستقبح كالزنى والشرب والقذف وجمعها قاذورات سميت قاذورة لأن حقها أن تقذر فوصفت بما يوصف به صاحبها ( شيئا فليستتر بستر الله ) الذي أسبله عليه وليتب إلى الله ولا يظهره لنا ( فإنه من يبدي ) بالياء للإشباع كقراءة من يتقي وفي رواية بحذفها أي يظهر ( لنا ) معاشر الحكام ( صفحته ) هي لغة جانبه ووجهه وناحيته والمراد من يظهر لنا ما ستره أفضل من حد أو تعزيز ( نقم عليه كتاب الله ) أي الحد الذي حده في كتابه والسنة من الكتاب فيجب على الشخص إذا فعل ما يوجب حد الستر على نفسه والتوبة فإن خالف واعترف عند الحاكم أقامه عليه وكما قال ذلك بعد جلد هذا الرجل قاله أيضا بعد رجم ماعز بن مالك الأسلمي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله أخرجه البيهقي والحاكم وقال على شرطهما من حديث ابن عمر وصححه ابن السكن وغيره وقول أبو عمر لا أعلمه موصولا بوجه قال الحافظ مراده من حديث مالك ولما ذكره إمام الحرمين في النهاية قال صحيح متفق على صحته فتعجب منه ابن الصلاح وقال أوقعه فيه عدم إلمامه بصناعة الحديث التي يفتقر إليها كل عالم انتهى
لأن اصطلاحهم أن المتفق عليه ما رواه الشيخان معا
( مالك عن نافع أن صفية بنت أبي عبيد ) بضم العين الثقفية زوج ابن عمر ( أخبرته أن أبا بكر الصديق أتي ) بضم أوله ( برجل ) لم يسم ( قد وقع على جارية بكر فأحبلها ثم اعترف على نفسه بالزنى ولم يكن أحصن ) بفتح فسكون ( فأمر به أبو بكر فجلد الحد ) مائة جلدة ( ثم نفي إلى فدك ) بفتح الفاء
____________________
(4/180)
والمهملة وكاف بلدة بينها وبين المدينة يومان وبينها وبين خيبر دون مرحلة
( قال مالك في الذي يعترف على نفسه بالزنى ثم يرجع عن ذلك ويقول لم أفعل ) أي لم أزن ( وإنما كان ذلك مني على وجه كذا وكذا لشيء يذكره ) يعذر به كقوله إنما أصبت امرأتي أو أمتي وهي حائض فظننت ذلك زنا ( أن ذلك يقبل منه ولا يقام عليه الحد ) وظاهره أن تكذيب نفسه بدون إبداء عذر لا يقبل وهو مروي عن الإمام نصا وأشهب وعبد الملك والمذهب قول ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم بقبول رجوعه مطلقا ( وذلك أن الحد الذي هو لله ) كالزنى والشرب والقطع في السرقة ( لا يؤخذ إلا بأحد وجهين إما ببينة عادلة تثبت على صاحبها ) ما شهدت به ( وإما باعتراف يقيم ) يستمر ( عليه حتى يقام عليه الحد ) فإن رجع قبل ( وإن أقام على اعترافه أقيم عليه الحد ) ولا خلاف عن مالك في قبول عذره إلا ما حكاه الخطابي عنه وهو غريب لا يعرف في مذهبه وكذا يترك حد المعترف إذا هرب وإن في أثناء الحد على أصح قولي مالك وعليه جماعة العلماء لحديث أبي داود وصححه الحاكم والترمذي عن نعيم بن هزال أن ماعزا لما فر وأدركوه ورجموه قال صلى الله عليه وسلم هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه خلافا لمن قال بل يتبع ويرجم لأنه صلى الله عليه وسلم لم يلزمهم ديته مع أنهم قتلوه بعد هروبه
وأجيب بأنه لم يصرح بالرجوع وقد ثبت عليه الحد
وفي أبي داود عن بريدة كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن ماعزا والغامدية لو رجعا لم يطلبهما
( قال مالك الذي أدركت عليه أهل العلم أنه لا نفي على العبيد إذا زنوا ) وإنما النفي على الرجل الحر لأن في نفس العبد عقوبة لمالكه بمنعه منفعته مدة نفيه وتصرف الشرع يقتضي أن لا يعاقب غير الجاني ولأنه يخشى فساد الأنثى وضياعها بالنفي وعممه الشافعي وله قول لا ينفى الرقيق وعن أحمد القولان وقال الكوفيون لا نفي على الزاني مطلقا وزعم الطحاوي أنه منسوخ ويرده ما أخرجه النسائي والترمذي وصححه ابن خزيمة والحاكم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب وإن أبا بكر رضي الله عنه ضرب وغرب وإن عمر ضرب وغرب ثم لم تزل تلك السنة فلو كان منسوخا ما عمل به الخلفاء الراشدون والعمل بالمنسوخ حرام إجماعا
____________________
(4/181)
3 جامع ما جاء في حد الزنى ( مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله ) بضم العين ( ابن عبد الله ) بفتحها ( ابن عتبة ) بضمها وسكون الفوقية ( ابن مسعود ) الهذلي ( عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني ) بضم الجيم وفتح الهاء الصحابي الشهير المدني ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ) بضم أوله ولم يقف الحافظ على اسم السائل ( عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ) بضم أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه بإسناد الإحصان إليها لأنها تحصن نفسها بعفافها وروي ولم تحصن بفتح الصاد بإسناد الإحصان إلى غيرها ويكون بمعنى الفاعل والمفعول وهو أحد الثلاثة التي جاءت نوادر يقال أحصن فهو محصن وأسهب فهو مسهب وألفج فهو ملفج قليل ويروى أيضا ولم تحصن بضم التاء وفتح الحاء وشد الصاد من باب التفعل والجملة في محل الحال من فاعل زنت وصحبت الواو مع لم على المختار عندهم وجاءت بلا واو في قوله تعالى { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء } سورة آل عمران الآية 174 وزعم الطحاوي تفرد مالك بقوله ولم تحصن أنكره عليه ابن عبد البر وغيره من الحفاظ بأنه لم يتفرد بها بل تابعه عليها ابن عيينة ويحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن شهاب فهي صحيحة وليست بقيد إنما هي حكاية حال في السؤال ولذا أجاب صلى الله عليه وسلم ( فقال إن زنت فاجلدوها ) غير مقيد بالإحصان للتنبيه على أن لا أثر له وإن موجبه في الأمة مطلق الزنى أو المراد بالإحصان المنفي الحرية كقوله تعالى { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات } سورة النساء الآية 25 أو التي لم تتزوج أو لم تسلم كقوله تعالى { فإذا أحصن } سورة النساء الآية 25 الآية قيل معناه سلمن وقيل تزوجن فليس المراد أنها ترجم إذا أحصنت بمعنى تزوجت لأنه خلاف الإجماع وصريح قوله { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } سورة النساء الاية 25 فدل الحديث على جلد من لم تحصن والآية على جلد المحصن إذ الرجم لا ينتصف فتجلد ولو متزوجة عملا بالدليلين
( ثم إن زنت ) ثانية ( فاجلدوها ) خطاب لملاكها ففيه أن السيد يقيم على رقيقه الحد وتسمع البينة عليهما وبه قال الأئمة الثلاث والجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم خلافا لأبي حنيفة في آخرين لكن استثنى مالك القطع في السرقة لأن فيه مثلة فلا يؤمن السيد أن يمثل برقيقه فيمنع من مباشرته القطع سدا للذريعة
( ثم إن زنت فاجلدوها ) ووقع في بعض الروايات زيادة الحد لكن قال أبو عمر انفرد بها راويها ولا نعلم أحدا ذكره غيره
( ثم بيعوها ) أتى بثم لأن الترتيب مطلوب لمن أراد التمسك بأمته الزانية أما
____________________
(4/182)
من أراد بيعها من أول مرة فله ذلك ( ولو بضفير ) بضاد معجمة وفاء فعيل بمعنى مفعول عبر به مبالغة في التنفير عنها والحض على مباعدة الزانية لما فيه من الاطلاع على المنكر والمكروه والعون على الخبث قالت أم سلمة يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث
وفسره العلماء بأولاد الزنى قاله ابن عبد البر ولو شرطية بمعنى إن أي وإن كان بضفير فيتعلق بخبر كان المقدرة وحذف كان بعد لو هذه كثير ويجوز أن التقدير ولو تبيعونها بضفير والأمر للاستحباب عند الجمهور خلافا للظاهرية في وجوب بيعها إذا زنت رابعة لأنه عطفه على الحد وهو واجب وتعقب بأن دلالة الاقتران ليست بحجة عند غير المزني وأبي يوسف
( قال ابن شهاب لا أدري أبعد ) بهمزة الاستفهام أي هل أراد أن بيعها يكون بعد الزنية ( الثالثة أو الرابعة ) وجزم أبو سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا بأنه بعد الثالثة ولفظه ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر ( قال مالك والضفير الحبل ) قيل من سعف النخل وقيل من الشعر قاله أبو عمر ويؤيد الثاني الرواية المصرحة به وهذا على جهة التزهيد فيها وليس من إضاعة المال واستشكله ابن المنير بأنه صلى الله عليه وسلم نصح بإبعادها والنصيحة عامة للمسلمين فيدخل فيها المشتري فينصح في أن لا يشتريها فكيف يتصور نصيحة الجانبين وكيف يقع البيع إذا انتصحا معا وأجاب بأن المباعدة إنما توجهت على البائع لأنه الذي لدغ فيها مرة بعد أخرى ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ولا كذلك المشتري فإنه لم يجرب منها سوءا فليست وظيفته في المباعدة كالبائع انتهى
ولعلها أن تستعف عند المشتري بأن يزوجها أو يعفها بنفسه أو يصونها بهيبته أو بالإحسان إليها وفيه جواز بيع الغبن وإن المالك الصحيح الملك يجوز له بيع ماله الكثير بالتافه اليسير ولا خلاف فيه إذ عرف قدره فإن لم يعرف فخلاف وحجة من أطلق قوله صلى الله عليه وسلم دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ولا يبع حاضر لباد وفيه أن الزنى عيب يرد به لرقيق للأمر بالحط من قيمته إذا زنى وتوقف فيه ابن دقيق العيد لجواز أن القصد الأمر بالبيع ولو انحطت القيمة فيكون ذلك متعلقا بأمر وجودي لا إخبارا عن حكم شرعي إذ ليس في الحديث تصريح بالأمر من حط القيمة
وأخرجه البخاري في البيع عن إسماعيل وفي المحاربين عن عبد الله بن يوسف ومسلم في الحدود عن يحيى والقعنبي ومن طريق ابن وهب كلهم عن مالك به وتابعه يونس ويحيى بن سعيد ومعمر وغيرهم في الصحيحين وغيرهما عن ابن شهاب نحوه وله طرق عندهم
( مالك عن نافع أن عبدا كان يقوم على رقيق الخمس ) بضمتين وإسكان الميم لغة ( وإنه
____________________
(4/183)
استكره ) بسين التأكيد أي أكره ( جارية من ذلك الرقيق فوقع بها فجلده عمر بن الخطاب ونفاه ) لم يأخذ به مالك ( ولم يجلد الوليدة ) الأمة ( لأنه استكرهها ) على الزنى وشرطه الطوع
( مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري أن سليمان بن يسار أخبره أن عبد الله بن عياش ) بشد التحتية وشين معجمة ( ابن أبي ربيعة ) واسمه عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ( المخزومي ) القرشي صحابي ابن صحابي ( قال أمرني عمر بن الخطاب في قتيبة ) جمع قلة لفتى أي شباب أحداث ( من قريش فجلدنا ولائد ) إماء ( من ولائد الإمارة خمسين خمسين ) كل واحدة ( في الزنى ) أي بسببه
وكذا رواه ابن جريج وابن عيينة وغيرهما عن يحيى بن سعيد
وروى معمر عن الزهري أن عمر بن الخطاب جلد ولائد من الخمس أبكارا في الزنى قال أبو عمر هذا كله صح وأثبت مما روي عن عمر أنه سئل عن الأمة كم حدها فقال ألقت فروتها وراء الدار وأراد بالفروة القناع أي ليس عليها قناع ولا حجاب لخروجها إلى كل موضع يرسلها أهلها إليه لا تقدر على الامتناع منه فلذا لا تكاد تقدر على الامتناع من الفجور فلا حد عليها إذ لا حجاب لها ولا قناع وإنما عليها الأدب وتجلد دون الحد وهكذا قال طائفة لا حد على الأمة حتى تنكح وعليه تأولوا حديث زيد وأبي هريرة وروي القولان عن أنس وقد قرىء { فإذا أحصن } بفتح أوله أي أسلمن أو عففن عند الأكثر ومعناه عند البعض تزوجن وبضمها أي أحصن بالأزواج أي أنهم أحصنوهن عند من شرطه وعند غيرهم معناه أحصن بالإسلام فكما أن الزوج يحصن الأمة فكذلك الإسلام يحصنها والمعنيان متداخلان في القراءتين انتهى ملخصا
4 ما جاء في المغتصبة ( مالك الأمر عندنا في المرأة توجد حاملا ولا زوج لها فتقول قد استكرهت ) أي أكرهت على الزنى ( أو تقول تزوجت ) ولا يعلم ذلك ( أن ذلك ) المذكور من دعوى الإكراه والتزوج ( لا يقبل منها
____________________
(4/184)
وإنها يقام عليها الحد إلا أن يكون لها على ما ادعت من النكاح بينة أو على أنها استكرهت ) بينة ( أو ) قرينة كما إذا ( جاءت تدمى ) بفتح الميم أي يخرج منها الدم ( إن كانت بكرا أو استغاثت حتى أتيت ) أي أتاها من يغيثها ( وهي على ذلك الحال أو ما أشبه هذا من الأمر الذي تبلغ فيه فضيحة نفسها ) وفي نسخة لا تبلغ وهي صحيحة أيضا بتقدير لا تبلغ ذلك إلا من عظم ما دهاها
( فإن لم تأت بشيء من هذا أقيم عليها الحد ولم يقبل منها ما ادعت من ذلك ) بلا بينة ولا قرينة
( والمغتصبة لا تنكح حتى تستبرىء نفسها بثلاث حيض ) إن كانت حرة لأن استبراءها كعدتها
( فإن ارتابت من حيضتها ) بارتفاعها ( فلا تنكح حتى تستبرىء نفسها من تلك الريبة ) بزوالها
5 الحد في القذف والنفي والتعريض ( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي عبد الله بن ذكوان ( أنه قال جلد عمر بن عبد العزيز عبدا في فرية ) بكسر فسكون أي قذف ( ثمانين ) حملا لظاهر قوله تعالى { فاجلدوهم ثمانين جلدة } سورة النور الآية 4 على عمومه إذ لم يخص حرا من عبد ( قال أبو الزناد فسألت عبد الله بن عامر بن ربيعة ) العدوي مولاهم العنزي ولد في العهد النبوي وأبوه صحابي شهير ( عن ذلك ) الفعل لإشكاله إذ الآية مخصوصة بالحر ( فقال أدركت عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والخلفاء هلم جرا ) أي بعدهما ( فما رأيت أحدا ) منهم ( جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين ) جلدة فدل على أنهم خصصوا الآية بالأحرار لقوله تعالى { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } سورة النساء الآية 25 والعبد في معنى الأمة بجامع الرق
____________________
(4/185)
( مالك عن زريق ) بضم الراء وفتح الزاي وإسكان التحتية وقاف ويقال فيه زريق بتقديم الزاي على الراء ( ابن حكيم ) بضم الحاء مصغر ويقال بفتحها مكبرا ( الأيلي ) بفتح الهمزة وإسكان التحتية ثقة ( أن رجلا يقال له مصباح استعان ابنا له ) في شيء ( فكأنه استبطاه فلما جاءه قال له يا زان فقال زريق فاستعداني ) طلب تقويتي ونصره ( عليه فلما أن أردت أن أجلده ) الحد ( قال ابنه والله لئن جلدته لأبوأن ) لأرجعن بمعنى لأقرن ( على نفسي بالزنى فلما قال ذلك أشكل علي أمره فكتبت فيه إلى عمر بن عبد العزيز وهو الوالي يومئذ ) بالمدينة من جهة ابن عمه سليمان بن عبد الملك ويحتمل أنه أراد بالوالي الخليفة إن كان ذلك وقع في زمن خلافته ( أذكر له ذلك ) الذي قاله مصباح وابنه ( فكتب إلي عمر أن ) بفتح فسكون ( أجز ) بالجيم والزاي أمض ( عفوه ) عن أبيه ( قال زريق وكتب إلي عمر بن عبد العزيز أيضا أرأيت رجلا ) أي أخبرني عن الحكم في رجل ( أفتري ) بضم الألف مبني للمفعول ( عليه أو على أبويه وقد هلكا ) ماتا معا ( أو أحدهما قال فكتب إلي عمر إن عفا فأجز عفوه في ) حق ( نفسه وإن افترى على أبويه أو أحدهما وقد هلكا فحد له ) للهالك المتعدد أو المتحد ( بكتاب الله ) أي قوله { فاجلدوهم ثمانين جلدة } سورة النور الآية 24 إلا أن يريد الابن ( سترا ) بكسر السين وفتحها
( قال مالك وذلك ) أي إرادة الستر ( أن يكون الرجل المفترى عليه يخاف إن كشف ذلك منه أن يقوم عليه بينة ) بما رمي به ( فإذا كان على ما وصفت ) بضم التاء ( فعفا جاز عفوه ) ولو بلغ الحاكم
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال في رجل قذف قوما جماعة ) أي مجتمعين بأن قال
____________________
(4/186)
لهم يا زناة أو أنتم زناة مثلا ( أنه ليس عليه إلا حد واحد ) للجميع قال مالك وإن تفرقوا فليس عليه إلا حد واحد أيضا لأنه قذف واحد
( مالك عن أبي الرجال ) بجيم ( محمد بن عبد الرحمن بن حارثة ) بمهملة ومثلثة ( ابن النعمان الأنصاري من بني النجار ) بفتح النون والجيم الثقيلة بطن من الخزرج قال فيها صلى الله عليه وسلم خير دور الأنصار بنو النجار ( عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن ) بن سعد بن زرارة الأنصارية ( أن رجلين ) لم يسميا ( استبا في زمن ) خلافة ( عمر بن الخطاب فقال أحدهما للآخر والله ما أبي بزان ولا أمي بزانية فاستشار في ذلك عمر بن الخطاب ) العلماء ( فقال قائل مدح أباه وأمه ) فلا شيء عليه
( وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا ) فعدوله إلى هذا في مقام الاستباب دليل على أنه عرض بالقذف المخاطبة فلذا ( نرى أن تجلده الحد فجلده عمر بن الخطاب الحد ثمانين جلدة ) لأنه وافق رأيه اجتهادهم لا تقليدا لهم
( قال مالك لا حد عندنا إلا في نفي ) عن أب لثابت نسبه ( أو قذف ) رمي بالزنى ونحوه صريح ( أو تعريض يرى أن قائله إنما أراد بذلك نفيا أو قذفا فعلى من قال ذلك الحد تاما ) كما فعل عمر بحضرة جمع من الصحابة دون إنكار ( والأمر عندنا أنه إذا نفى ) رجل ( رجلا من أبيه فإن عليه الحد وإن كانت أم الذي نفي مملوكة فإن عليه الحد ) لأن العبرة بالأب وهو ثابت نسبه له وإن أمه أمة
6 ما لا حد فيه ( مالك إن أحسن ما سمع في الأمة يقع بها الرجل ) أي يطؤها ( وله فيها شرك أنه لا يقام عليه الحد ) لما له فيها من الملك
( وأنه يلحق به الولد وتقام ) وفي نسخة وتتقوم ( عليه الجارية حين حملت
____________________
(4/187)
فيعطي شركاءه حصصهم من الثمن وتكون الجارية له ) كلها ( وعلى هذا الأمر عندنا ) بالمدينة
( قال مالك في الرجل يحل ) بضم فكسر ( للرجل جاريته إنه ) بالكسر ( إن أصابها ) جامعها ( الذي أحلت له قومت عليه يوم أصابها حملت أو لم تحمل ) حتى لا يتم ما أراده من التحليل ( ودرىء ) دفع ( عنه الحد بذلك ) للشبهة ( فإن حملت ألحق به الولد ) للقاعدة إن وطء الشبهة يدرأ الحد ويلحق الولد
( قال مالك في الرجل يقع على جارية ابنه أو ابنته أنه يدرأ عنه الحد ) لما له في ماله من الشبهة لخبر أنت ومالك لأبيك
( وتقام ) أي تقوم عليه ( لجارية حملت أو لم تحمل ) ويؤدب
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب قال لرجل خرج بجارية لامرأته معه في سفر فأصابها ) جامعها ( فغارت امرأته فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب فسأله ) أي الرجل ( عمر عن ذلك ) الذي قالته امرأته ( فقال وهبتها لي فقال عمر بن الخطاب لتأتيني بالبينة ) أنها وهبتها لك ( أو لأرمينك بالحجارة ) إذ لا شبهة لك في مال امرأتك
( قال ) ربيعة ( فاعترفت امرأته أنها وهبتها له ) فلم يرجمه
7 ما يجب فيه القطع ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ) رضي الله عنهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع ) يد سارق فحذف المفعول أي أمر بقطعه ( في ) سببية ( مجن ) بكسر الميم وفتح الجيم وشد النون مفعل من الاجتنان وهو الاستتار والاختفاء مما يحاذره المستتر وكسرت ميمه لأنه آلة
قال عمر بن أبي ربيعة
____________________
(4/188)
وكان مجني دون من كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبان ومعصر وحذف الهاء من ثلاثة مع أنه عدد شخوص حملا على المعنى لأنه أراد شخوص المرأة فأنث العدد لذلك يريد أنه استتر بثلاث نسوة عن أعين الرقباء واستظهر في محل التخلص منهم بهن والكاعب التي نهد ثديها والمعصر الداخلة في عصر شبابها ( ثمنه ) مبتدأ خبره ( ثلاثة دراهم ) فضة هكذا رواه الأكثر عن نافع ثمنه ورواه الليث عنه بلفظ قيمته وهو المراد بالثمن هنا وأصل الثمن ما يقابل به الشيء في عقد البيع فأطلق على القيمة ثمنا مجازا أو لتساويهما في ذلك الوقت أو في ظن الراوي أو باعتبار الغلبة قال ابن عبد البر هذا الحديث أصح حديث روي في ذلك وأخرجه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه جويرية بنت أسماء وموسى بن عقبة وعبيد الله ابن عمر عند البخاري ومحمد بن إسحاق عند الإسماعيلي كلهم بلفظ ثمنه والليث بن سعد عند مسلم بلفظ قيمته كلهم عن نافع به
( مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ) بن الحارث بن عامر بن نوفل ( المكي ) النوفلي ثقة عالم بالمناسك من رجال الجميع تابعي صغير قال أبو عمر لم تختلف رواة الموطأ في إرساله ويتصل معناه من حديث عبد الله بن عمرو وغيره ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا قطع في ثمر ) بفتح المثلثة والميم ( معلق ) بالخل والشجر قيل أن يجذ ويحرز
( ولا في حريسة جبل ) قال ابن الأثير أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع لأنه ليس بحرز وحريسة فعيلة بمعنى مفعولة أي أن لها من يحرسها ويحفظها ومنهم من يجعل الحريسة السرقة نفسها أي ليس فيما يسرق من الماشية بالجبل قطع
( فإذا آواه المراح ) بضم الميم وحاء مهملة موضع مبيت الغنم ( أو الجرين ) بفتح الجيم وكسر الراء لموضع يجفف فيه الثمار والجمع جرن كبريد وبرد ففيه لف ونشر غير مرتب
( فالقطع فيما بلغ ثمن المجن ) ثلاثة دراهم بين صلى الله عليه وسلم الحالة التي يجب فيها القطع وهي حالة كون المال في حرزه فلا قطع على من سرق من غير حرز إجماعا إلا ما شذ به الحسن والظاهرية
قال ابن العربي اتفقت الأمة على أن شرط القطع أن يكون المسروق محرزا بحرز مثله ممنوعا من الوصول إليه بمانع خلافا لقول الظاهرية لا قطع في كل فاكهة رطبة ولو بحرزها وقاسوا على ذلك الأطعمة الرطبة التي لا تدخر قال وليس مقصود الحديث ما ذهبوا إليه بدليل قوله فإذا آواه الخ فبين أن العلة كونه في غير حرز له
____________________
(4/189)
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو بن حزم ( عن أبيه ) أبي بكر ولا يعرف له اسم سواه ( عن عمرة بنت عبد الرحمن ) ابن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية ( أن سارقا سرق في زمان ) أي خلافة ( عثمان بن عفان أترنجة ) واحد ترنج في لغة ضعيفة واللغة الصحيحة أترج بضم الهمزة وشد الجيم الواحدة أترجة وهي التي تكلم بها الفصحاء وارتضاه النحويون قاله الأزهري ( فأمر بها عثمان أن تقوم ) لينظر هل تبلغ النصاب ( فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما بدينار فقطع عثمان يده ) أي أمر بقطعها
قال في المدونة وكانت تلك الأترجة تؤكل وروى عنه أشهب ولو كانت من ذهب لما قومها عثمان أي لأن الذهب لا يقوم وإنما يعتبر وزنه لأنه أصل الأثمان وقيم المتلفات
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن عمرة ) بفتح فسكون ( بنت عبد الرحمن ) المدنية الأنصارية ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت ما طال علي ) أي الزمان ( وما ) وفي نسخة ولا ( نسيت ) حكم ما يقطع فيه السارق وهو ( القطع في ربع دينار فصاعدا ) من الذهب وهذا الحديث وإن كان ظاهره الوقف لكنه مشعر بالرفع وقد أخرجه الشيخان من طرق عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم ) بمهملة وزاي نسبه لجده ( عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها قالت خرجت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ) في نسك ( ومعها مولاتان لها ومعها غلام ) لم أقف على اسم أحد من الثلاثة ( لبني عبد الله بن أبي بكر الصديق ) رضي الله عنهما ( فبعثت مع المولاتين ببرد مرجل ) بالجيم والحاء أي عليه تصاوير الرجال أو الرحال كما أفاده أبو عبيد الهروي ومنع تصوير الحيوان إنما هو إذا تم تصويره وكان له ظل دائم وهذا مجرد وشي في البرد لا ظل له وليس بتام ( قد خيط عليه خرقة خضراء قالت فأخذ الغلام البرد ففتق عنه ) نقض
____________________
(4/190)
خياطته ( فاستخرجه وجعل مكانه لبدا ) بكسر فسكون ما يتلبد من شعر أو صوف ( أو فروة ) بالهاء ويقال أيضا بحذفها ما يلبس من جلد الغنم ونحوها شك الراوي ( وخاط عليه فلما قدمتا ) بالألف على لغية ( المولاتان المدينة دفعتا ذلك إلى أهله فلما فتقوا عنه وجدوا فيه اللبد ولم يجدوا البرد فكلموا المرأتين ) أي المولاتين ( فكلمتا عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أو كتبتا إليها ) شك الراوي ( واتهمتا ) أي المرأتان ( العبد فسئل العبد عن ذلك فاعترف ) بأنه سرقه ( فأمرت به عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده وقالت عائشة القطع في ربع دينار فصاعدا ) من الذهب ( قال مالك أحب ما يجب فيه القطع ) للسارق ( إلي ) أي عندي ( ثلاثة دراهم ) من الفضة ( وإن ارتفع ) زاد ( الصرف أو اتضع ) نقص ( وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في ) سرقة ( مجن ) حجفة أن ترس كما في حديث عائشة عند الشيخين ( ثمنه ثلاثة دراهم ) أي قيمته
( وأن عثمان بن عفان قطع في أترجة ) الفاكهة المأكولة ( قومت بثلاثة دراهم ) فضة وكان الأترج في ذلك الزمان غاليا ( وهذا أحب ما سمعت إلي في ذلك ) يقتضي أنه سمع غيره
وقد اختلف في قدر ما يقطع فيه السارق فقيل فيما كثر وقل تافها أو غيره وقيل إلا في التافه وقيل أربعون درهما أو أربعة دنانير وقيل درهمان وقيل ما زاد عليهما ولم يبلغ ثلاثة وقيل ثلاثة دراهم ويقوم ما عداها بها وقيل إن كان المسروق ذهبا فربع دينار وإن كان غيره وبلغت قيمته ثلاثة دراهم قطع وإلا فلا ولو كان نصف دينار وهو قول مالك المعروف عند أصحابه ورواية عن أحمد والمشهور عنه إذا كان المسروق غير الذهب والفضة فالقطع إذا بلغت قيمته أحدهما وقيل ربع دينار أو ما بلغت قيمته من فضة أو عرض وهو مذهب الشافعي وقيل عشرة دراهم أو ما بلغ قيمتها من ذهب أو عرض وهو مذهب الحنفية وقيل غير ذلك
8 ما جاء في قطع الآبق والسارق ( مالك عن نافع أن عبدا ) لم يسم ( لعبد الله بن عمر ) رضي الله عنهما ( سرق وهو آبق فأرسل
____________________
(4/191)
به عبد الله بن عمر إلى سعيد بن العاصي ) بن سعيد بن العاصي بن أمية القرشي الأموي له صحبة وكان سنه يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين وقتل أبوه يوم بدر كافرا وكان سعيد فصيحا مشهورا بالكرم فلما مات في قصره بالعقيق سنة ثلاث وخمسين كان عليه ثمانون ألف دينار فوفاها عنه ولده عمرو الأشدق ( وهو أمير المدينة ) من جهة معاوية وكان عاتبه على تخلفه عنه في حروبه فاعتذر ثم ولاه المدينة فكان يعاقب بينه وبين مروان في ولايتها ( ليقطع يده فأبى سعيد أن يقطع يده وقال لا تقطع يد الآبق إذا سرق فقال له عبد الله بن عمر ) منكرا عليه ( في أي ) آية من ( كتاب الله وجدت هذا ) الذي تقوله ( ثم أمر به عبد الله بن عمر فقطعت يده ) لقوة الدليل على ذلك
( مالك عن زريق ) بالتصغير وتقديم الراء على الزاي وعكسه ( ابن حكيم ) مصغر وقيل مكبر ( أنه أخبره أنه أخذ عبدا آبقا قد سرق قال فأشكل علي أمره قال فكتبت فيه إلى عمر بن عبد العزيز أسأله عن ذلك وهو الوالي يومئذ ) على الناس ( و ) كتبت إليه ( أخبره أني كنت أسمع أن العبد الآبق إذا سرق وهو آبق لم تقطع يده ) وكأن شبهة قائل ذلك أن الآبق يجوع غالبا ولا قطع على سارق زمن المجاعة
( قال فكتب إلي عمر بن عبد العزيز نقيض كتابي ) أي إبطاله يقال تناقض الكلامان تدافعا كان كل واحد نقض الآخر وفي كلامه تناقض إذا كان بعضه يقتضي إبطال بعض ( يقول كتبت إلي أنك كنت تسمع أن العبد الآبق إذا سرق لم تقطع يده ) فكيف تعتمد على سماع مخالف للنص ( وأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه والسارق والسارقة ) ارتفعا بالابتداء والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أو الخبر ( فاقطعوا أيديهما ) أي يديهما
وفي قراءة عبد الله والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما رواه الترمذي
ودخلت الفاء في الخبر لتضمنهما معنى الشرط إذ المعنى والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما والاسم الموصول مضمن معنى الشرط وبدأ بالرجل لأن السرقة من الجراءة وهي في الرجال أكثر وقدمت الزانية على الزاني لأن داعية الزنى في الإناث
____________________
(4/192)
أكثر ولأن الأنثى سبب في وقوع الزنى لأنه لا يتأتى غالبا إلا بطوعها وأتى بصيغة الجمع ثم التثنية إشارة إلى أن المراد جنس السارق فلوحظ فيه المعنى فجمع والتثنية بالنظر إلى الجنسين المتلفظ بهما ( جزاء ) نصب على المصدر ( بما كسبا نكالا ) عقوبة لهما ( من الله والله عزيز ) غالب على أمره ( حكيم ) في خلقه ( فإن بلغت سرقته ) أي الآبق ( ربع دينار فصاعدا ) نصب على الحال المؤكدة ( فاقطع يده ) قال القرطبي المفسر أول من حكم بقطع السارق في الجاهلية الوليد بن المغيرة وأمر الله تعالى بقطعه في الإسلام فكان أول سارق قطعه صلى الله عليه وسلم من الرجال الجبار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ومن النساء فاطمة المخزومية
( مالك أنه بلغه أن القاسم بن محمد ) بن الصديق ( وسالم بن عبد الله ) بن عمر ( وعروة بن الزبير ) والثلاثة من فقهاء المدينة ( كانوا يقولون إذا سرق العبد الآبق ما يجب فيه القطع قطع قال مالك وذلك ) أي قطع الآبق ( الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن العبد الآبق إذا سرق ما يجب فيه القطع ) بسرقة ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو مقوم بها ( قطع )
9 ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان ( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن صفوان بن عبد الله بن صفوان ) بن أمية الأموي التابعي الثقة قال ابن عبد البر رواه جمهور أصحاب مالك مرسلا ورواه أبو عاصم النبيل وحده عن مالك عن الزهري عن صفوان بن عبد الله عن جده فوصله ورواه شبابة بن سوار عن مالك عن الزهري عن عبد الله بن صفوان عن أبيه ( أن صفوان بن أمية ) بن خلف بن وهب بن قدامة بن جمح القرشي المكي صحابي من المؤلفة مات أيام قتل عثمان وقيل سنة إحدى أو اثنتين وأربعين ( قيل له إنه من لم يهاجر هلك ) وكأن قائل ذلك لم يسمع قوله صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح وفي رواية أخرجها أبو
____________________
(4/193)
عمر أنه قيل له إنه لا يدخل الجنة إلا من قد هاجر فقال لا أنزل منزلي حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم ( فقدم صفوان بن أمية المدينة فنام في المسجد ) النبوي ( وتوسد رداءه ) جعله وسادة تحت رأسه ( فجاء سارق فأخذ رداءه فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده فقال صفوان لم أرد هذا يا رسول الله ) وإنما أردت تأديبه أو نحو ذلك ( هو عليه صدقة ) مني كأنه ظن أن القطع موكول إلي إرادته لأن ذلك كان قبل أن يتفقه في الدين ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا ) بشد اللام ( قبل أن تأتيني به ) فإن الحدود إذا انتهت إلي فليس لها مترك كما زاده في بعض طرق حديث المخزومية
وعند الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع سارق رداء صفوان من المفصل أي مفصل الكوع
وعند النسائي من وجه آخر عن صفوان قال كنت نائما في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهما فجاء رجل فاختلسها مني فأخذ الرجل فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه فقلت له أتقطعه من أجل ثلاثين درهما أنا أمتعه ثمنها فقال فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به
( مالك عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن ) فروخ المدني ( أن الزبير بن العوام لقي رجلا قد أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله ) يطلقه ولا يذهب به إلى السلطان ( فقال لا حتى أبلغ به السلطان فقال الزبير إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع ) عنده ( والمشفع ) بكسر الفاء شديدة أي قابل شفاعته وهو السلطان
وقد روى الدارقطني عن الزبير مرفوعا اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي فإذا وصل إلى الوالي فعفا فلا عفا الله عنه قال ابن عبد البر لا أعلم خلافا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة ما لم تبلغ السلطان وأن عليه إذا بلغته إقامتها
10 جامع القطع ( مالك عن عبد الرحمن بن القاسم ) بن محمد بن الصديق ( عن أبيه أن رجلا من أهل اليمن )
____________________
(4/194)
لم يسم ( أقطع اليد ) اليمنى ( والرجل ) اليسرى في السرقة ( قدم ) المدينة ( فنزل على أبي بكر الصديق ) في خلافته ( فشكى إليه أن عامل اليمن قد ظلمه فكان يصلي من الليل ) أي بعضه ( فيقول أبو بكر ) متعجبا ( وأبيك ) قسم على معنى ورب أبيك أو كلمة جرت على لسان العرب ولا يقصدون بها القسم ( ما ليلك بليل سارق ) لأن قيام الليل ينافي السرقة ( ثم أنهم فقدوا ) بفتح الفاء والقاف ( عقدا ) بكسر فسكون قلادة ( لأسماء بنت عميس ) بضم المهملة وآخره سين مهملة مصغر ( امرأة أبي بكر الصديق ) أم ابنه محمد وهي صحابية شهيرة ( فجعل الرجل يطوف ) يدور ( معهم ) أي مع الذين بعثوا للتفتيش على العقد ( ويقول اللهم عليك بمن بيت ) بفتح الباء والتحتية الثقيلة ( أهل هذا البيت الصالح ) أي أغار عليهم ليلا يأخذ العقد ( فوجدوا الحلي ) الذي هو العقد ( عند صائغ زعم أن الأقطع جاءه به فاعترف به الأقطع أو شهد عليه به ) شك الراوي ( فأمر به أبو بكر الصديق فقطعت يده اليسرى وقال أبو بكر والله لدعاؤه على نفسه أشد عندي ) وفي نسخة علي وفي أخرى عليه ( من سرقته ) لأن فيها حظا للنفس في الجملة بخلاف الدعاء عليها ولما في ذلك من عدم المبالاة بالكبائر
( قال مالك الأمر عندنا في الذي يسرق مرارا ثم يستعدي عليه أنه ليس عليه إلا أن تقطع يده لجميع من سرق منه ) لأن حد القطع لله تعالى لا لمن سرق منهم وإلا لجاز عفوهم إذا بلغ الإمام وهذا ( إذا لم يكن أقيم عليه الحد فإن كان قد أقيم عليه الحد قبل ذلك ثم سرق ما يجب فيه القطع قطع أيضا ) من خلاف
( مالك أن أبا الزناد أخبره أن عاملا لعمر بن عبد العزيز أخذ ناسا في حرابة ) بكسر الحاء المهملة أي مقاتلة وبخاء معجمة مكسورة أيضا ضبط بهما بالقلم في نسخة صحيحة ويقال خرب بالمعجمة يخرب من باب قتل خرابة بالكسر إذا سرق لكن يؤيد الإهمال قوله ( ولم يقتلوا ) أحدا ( فأراد
____________________
(4/195)
أن يقطع أيديهم أو يقتل ) إذ التخيير في ذلك وفي الصلب والنفي إنما هو في الحرابة بالإهمال لا في الخرابة بالإعجام بمعنى السرقة إذ لا قتل فيها ولا غيره سوى القطع
( فكتب إلى عمر بن عبد العزيز في ذلك فكتب إليه عمر بن عبد العزيز لو أخذت بأيسر ذلك ) أهونه لكان أحسن فحذف جواب لو أو هي للتمني فلا جواب لها وهذا أيضا يؤيد الإهمال إذ لو كانوا سرقوا لأمر بالقطع جزما
( مالك الأمر عندنا في الذي يسرق أمتعة الناس التي تكون موضوعة بالأسواق محرزة ) في حرز مثلها ( قد أحرزها أهلها ) أصحابها ( في أوعيتهم وضموا بعضها إلى بعض أنه من سرق من ذلك شيئا من حرزه فبلغ قيمته ما يجب فيه القطع ) ثلاثة دراهم ( فإن عليه القطع سواء كان صاحب المتاع عند متاعه أو لم يكن ليلا كان ذلك أو نهارا ) إذ لا فرق في المخرج من الحرز في ذلك
( قال مالك في الذي يسرق ما يجب عليه فيه القطع ثم يوجد معه ما سرق فيرد إلى صاحبه أنه تقطع يده ) لأنه حق لله إذا بلغ الإمام
( فإن قال قائل كيف تقطع يده و ) الحال أنه ( قد أخذ المتاع منه ودفع إلى صاحبه ) فلا يقل ذلك ( فإنما هو ) أي السارق ( بمنزلة الشارب ) للخمر ( يوجد منه ريح الشراب المسكر ) شأنه ( وليس به سكر ) لنحو اعتياد فصار لا يسكره ( فيجلد الحد وإنما يجلد الحد في المسكر إذا شربه ولم يسكره و ) وجه ( ذلك أنه إنما شربه ليسكره فكذلك تقطع يد السارق في السرقة التي أخذت منه ولو لم ينتفع بها ورجعت إلى صاحبها و ) ذلك أنه ( إنما سرقها ليذهب بها ) فحاصل جوابه أنه لا يشترط في قطع السرقة الانتفاع بالفعل بل مجرد القصد والخروج من الحرز كاف كما أنه لا يشترط في حد الشرب السكر بالفعل بل تعاطيه وإن لم يسكر
( قال مالك في القوم يأتون إلى البيت فيسرقون منه جميعا فيخرجون بالعدل ) بكسر فسكون
____________________
(4/196)
الحمل من الأمتعة ونحوها ( يحملونه جميعا أو ) يخرجون ( بالصندوق ) بضم الصاد وقد تفتح والزندوق والصندوق لغات جمعه صناديق كما في القاموس ( أو بالخشبة ) واحدة الخشب ( أو بالمكتل ) بكسر الميم وإسكان الكاف وفتح الفوقية الزنبيل وهو ما يعمل من الخوص يحمل فيه التمر وغيره ( أو ما يشبه ذلك مما يحمله القوم جميعا ) لثقله ( إنهم ) بكسر الهمزة ( إذا أخرجوا ذلك من حرزه وهم يحملونه جميعا فبلغ ثمن ما خرجوا به من ذلك ما يجب فيه القطع وذلك ثلاثة دراهم فصاعدا فعليهم القطع جميعا ) أي يقطع كل واحد منهم إذ لولا اجتماعهم ما قدروا على إخراجه
( وإن خرج كل واحد منهم بمتاع على حدته ) بالكسر ( فمن خرج منهم بما تبلغ قيمته ثلاثة دراهم فصاعدا فعليه القطع ومن لم يخرج منهم بما تبلغ قيمته ثلاثة دراهم فلا قطع عليه ) لنقص شرط القطع وهو النصاب ( والأمر عندنا إذا كانت دار رجل مغلقة ) مقفلة ( عليه ليس معه فيها غيره فإنه لا يجب على من سرق منها شيئا القطع حتى يخرج به من الدار كلها و ) وجه ( ذلك أن الدار كلها هي حرزه فإن كان معه في الدار ساكن غيره وكان كل إنسان منهم يغلق ) بكسر اللام ( عليه بابه وكانت حرزا لهم جميعا فمن سرق من بيوت تلك الدار شيئا فخرج به إلى الدار فقد أخرجه من حرزه إلى غير حرزه ووجب عليه فيه القطع والأمر عندنا في العبد يسرق ) بكسر الراء ( من متاع سيده أنه إن كان ليس من خدمه ولا ممن يأمن على بيته ثم دخل سرا فسرق من متاع سيده ما يجب فيه القطع فلا قطع عليه وكذلك الأمة إذا سرقت من متاع سيدها لا قطع عليها ) وحاصله أن لا قطع على رقيق سرق من مال سيده
____________________
(4/197)
( وقال في العبد لا يكون من خدمه ولا ممن يأمن على بيته فدخل سرا فسرق من متاع امرأة سيده ما يجب فيه القطع أنه تقطع يده وكذلك أمة المرأة إذا كانت ليست بخادم لها ولا لزوجها ولا ممن تأمن على بيتها فدخلت سرا فسرقت من متاع سيدتها ما يجب فيه القطع ) على غيرها ( فلا قطع عليها وكذلك أمة المرأة التي لا تكون من خدمها ولا ممن تأمن على بيتها فدخلت سرا فسرقت من متاع زوج سيدتها ما يجب فيه القطع أنها تقطع يدها ) إذ لا ملك لزوج سيدتها فيها
( وكذلك الرجل يسرق من متاع امرأة أو المرأة تسرق من متاع زوجها ما يجب فيه القطع إن كان الذي سرق كل واحد منهما من متاع صاحبه في بيت سوى البيت الذي يغلقان عليهما وكان في حرز سوى البيت الذي هما فيه فإن من سرق منهما من متاع صاحبه ما يجب فيه القطع فعليه القطع ) كذا إن سرق كل ما حجر عليه الآخر ولو في بيت واحد
( قال مالك في الصبي الصغير والأعجمي الذي لا يفصح ) بضم فسكون فكسر صفة مبينة لأعجميته ( أنهما إذا سرقا ) بضم أوله ( من حرزهما وغلقهما فعلى من سرقهما القطع فإن خرجا من حرزهما وغلقهما فليس على من سرقهما قطع ) لفقد شرطه ( وإنما هما بمنزلة حريسة الجبل ) أي ما يحرس فيه ( الثمر المعلق ) على شجره ( والأمر عندنا في الذي ينبش ) بضم الباء كسرها يكشف ( القبور أنه إذا بلغ ما أخرج من القبر ما يجب فيه القطع فعليه فيه القطع وذلك أن القبر حرز لما فيه
____________________
(4/198)
كما أن لبيوت حرز لما فيها ولا يجب عليه القطع حتى يخرج به من القبر ) فإن لم يخرج فلا قطع
11 ما لا قطع فيه ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن محمد بن يحيى بن حبان ) بفتح المهملة والموحدة الثقيلة ( أن عبدا ) أسود لواسع ابن حبان عم محمد واسم العبد فيل كما في التمهيد وهو بلفظ الحيوان المذكور في القرآن ( سرق وديا ) بفتح الواو وكسر الدال المهملة وشد التحتية أي نخلا صغارا قاله أبو عبيد وغيره وفي بعض طرق الحديث سرق نخلا صغارا ( من حائط رجل ) لم يسم وفي رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى أن غلاما لعمه واسع بن حبان سرق وديا من أرض جار له ( فغرسه في حائط سيده فخرج صاحب الودي يلتمس وديه فوجده ) في حائط جاره ( فاستعدى على العبد مروان بن الحكم ) أمير المدينة حينئذ من جهة معاوية ( فسجن مروان العبد وأراد قطع يده فانطلق سيد العبد ) واسع ابن حبان ( إلى رافع بن خديج ) بفتح الخاء المعجمة وكسر المهملة وسكون التحتية وجيم ابن رافع بن عدي الأنصاري الأوسي الحارثي أول مشاهده أحد ثم الخندق مات سنة ثلاث أو أربع وسبعين وقيل قبل ذلك ( فسأله عن ذلك فأخبره ) رافع ( أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا قطع ) جائز ( في ثمر ) بفتح المثلثة والميم معلق على الشجر قبل أن يجذ ويحرز ( ولو في كثر ) بفتح الكاف والمثلثة ( والكثر الجمار ) بجيم مضمومة وميم ثقيلة أي جمار النخل وهو شحمه الذي يخرج به الكافور وهو وعاء الطلع من جوفه سمي جمارا وكثرا لأنه أصل الكوافير وحيث تجتمع وتكثر كما في الفائق وهذا التفسير مدرج ففي رواية شعبة قلت ليحيى بن سعيد ما الكثر فقال الجمار وبه تعقب تفسير ابن الأثير للكثر بالتمر الرطب ما دام في النخلة فإذا قطع فهو رطب فإذا كثر فهو تمر والكثر الجمار وهو القصد من الودي الذي هو النخل الصغار فلا قطع على سارقه فالدليل طبق المدلول كما هو واضح ( فقال الرجل فإن مروان بن الحكم ) بفتحتين ( أخذ غلاما ) عبدا ( لي وهو يريد قطعه وأنا أحب
____________________
(4/199)
أن تمشي معي إليه فتخبره بالذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى معه رافع إلى مروان بن الحكم فقال أخذت غلاما لهذا ) الرجل ( قال نعم ) أخذته ( قال فما أنت صانع ) فاعل ( به ) وفي هذا من اللطف في الخطاب ما لا يخفى حيث لم يقل له إن هذا قد أخذت له غلاما وأردت قطعه ( قال أردت قطع يده ) لأنه سرق ( فقال له رافع سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا قطع في ثمر ولا كثر ) زاد في رواية للترمذي وغيره إلا ما آواه الجرين
( فأمر مروان بالعبد فأرسل ) أطلق من السجن بعد أن ضربه
ففي رواية شعبة فضربه وحبسه
وفي رواية يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد فأرسله مروان فباعه أو نفاه أي باعه سيده وهذا الحديث أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان من طرق عن مالك وغيره كلها عن يحيى بن سعيد
قال ابن العربي فإن كان فيه كلام فلا يلتفت إليه
وقال الطحاوي وتلقت الأئمة متنه بالقبول
وقال أبو عمر هذا حديث منقطع لأن محمدا لم يسمعه من رافع وتابع مالكا عليه سفيان الثوري والحمادان وأبو عوانة ويزيد بن هارون وغيرهم ورواه ابن عيينة عن يحيى عن محمد عن عمه واسع عن رافع وكذا رواه حماد بن دليل المدائني عن شعبة عن يحيى بن سعيد به فإن صح هذا فهو متصل مسند صحيح لكن قد خولف ابن عيينة في ذلك ولم يتابع عليه إلا ما رواه حماد بن دليل فقيل عن محمد من رجل من قومه وقيل عنه عن عمة له وقيل عنه عن أبي ميمونة عن رافع ولم يتابع عليه وقد خولف عن حماد بن دليل أيضا فإنما رواه غيره عن شعبة عن يحيى عن محمد عن رافع كما رواه مالك وأطال الكلام في ذلك في التمهيد والظاهر أن هذا الاختلاف غير قادح كما قد يشير إليه قول ابن العربي فإن كان فيه كلام لا يلتفت إليه وأما المتن فصحيح كما أشار إليه الطحاوي وأبو عمر في آخر كلامه وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أبي داود ومن حديث أبي هريرة عند ابن ماجه وإسناد كل منهما صحيح
( مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد ) بن سعيد الكندي صحابي صغير له أحاديث قليلة مات سنة إحدى وتسعين وقيل قبلها وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة ( أن عبد الله بن عمرو ) بفتح العين ( ابن الحضرمي ) بفتح المهملة وإسكان المعجمة واسمه عبد الله بن عمار حليف بني أمية وهو ابن أخي العلاء بن الحضرمي قتل أبوه في السنة الأولى من الهجرة النبوية كافرا استدركه ابن مفوز وابن فتحون واستبعد ما نقله ابن عبد البر والواقدي أنه ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال في الإصابة
____________________
(4/200)
ومقتضى موت أبيه أن يكون له عند الوفاة النبوية نحو تسع سنين فهو من أهل هذا القسم أي الأول من الصحابة
( جاء بغلام له إلى عمر بن الخطاب فقال له اقطع يد غلامي هذا فإنه سرق فقال عمر ماذا سرق فقال سرق مرآة ) وزان مفتاح والجمع مراء وزان جوار وغواش آلة النظر ( لامرأتي ثمنها ستون درهما فقال عمر أرسله فليس عليه قطع خادمكم سرق متاعكم ) فلا يجتمع عليكم أمران
( مالك عن ابن شهاب أن مروان بن الحكم أتي ) بضم أوله ( بإنسان قد اختلس ) أي اختطف بسرعة على غفلة ( متاعا فأراد قطع يده فأرسل إلى زيد بن ثابت ) أحد فقهاء الصحابة ( يسأله عن ذلك فقال زيد ليس في الخلسة قطع ) بضم الخاء المعجمة وإسكان اللام أي ما يخلس
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال أخبرني أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم ) الأنصاري قاضي المدينة ( أنه أخذ نبطيا ) بفتح النون والموحدة نسبة إلى النبط قرية من العجم ( قد سرق خواتم من حديد فحبسه ليقطع يده فأرسلت إليه عمرة بنت عبد الرحمن ) الأنصارية ( مولاة لها يقال لها أمية قال أبو بكر فجاءتني ) أمية ( وأنا بين ظهراني ) بفتح النون ولا تكسر أي بين ( الناس ) وزيد ظهراني لإفادة أن إقامته بينهم على سبيل الاستظهار بهم والاستناد إليهم
كأن المعنى أن ظهرا منهم قدامه وظهرا وراءه فكأنه مكتوف من جانبيه هذا أصله ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم وإن كان غير مكتوف بينهم ( فقالت تقول لك خالتك عمرة يابن أختي أخذت نبطيا في شيء يسير ذكر لي فأردت قطع يده
____________________
(4/201)
فقلت نعم قالت فإن عمرة تقول لك لا قطع إلا في ربع دينار ) ذهبا ( فصاعدا ) نصب على الحال المؤكدة وهذا قد روته عمرة عن عائشة مرفوعا في الصحيحين بنحوه كما مر
( قال أبو بكر فأرسلت النبطي ) اطلقته بلا قطع لأن الخواتم لا تساوي ذلك
( قال مالك والأمر المجتمع عليه عندنا في اعتراف العبيد ) بالسرقة ونحوها ( أن من اعترف منهم على نفسه بشيء تقع العقوبة أو الحد فيه على نفسه ) كاعترافه بزنى أو شرب ( فإن اعترافه جائز عليه ) لأنه مكلف ( ولا يتهم أن يوقع على نفسه ) أي جسده ( هذا ) أي الضرب أو القطع في السرقة ونحو ذلك
( وأما من اعترف منهم بأمر يكون غرما ) بضم فسكون ( على سيده فإن اعترافه غير جائز على سيده ) لأن الإنسان لا يؤاخذ بإقرار غيره ( وليس على الأجير ولا على الرجل يكونان مع القوم يخدمانهم ) بضم الدال ( إن سرقاهم ) أي شيئا منهم ( قطع لأن حالهما ليست بحال السارق ) وهو من أخذ من موضع ممنوع من الوصول إليه ( وإنما حالهما حال الخائن ) وهو الذي خان ما جعل أمينا عليه ( وليس على الخائن قطع ) لأن النص إنما جاء في قطع السارق دونه
( قال مالك في الذي يستعير العارية فيجحدها إنه ليس عليه قطع ) إذ ليس بسارق ( إنما مثل ذلك ) أي صفته بمعنى قياسه ( مثل رجل كان له على رجل دين فجحده ذلك فليس عليه فيما جحده قطع ) لأنه لم يسرق ( والأمر عندنا في السارق يوجد في البيت ) حال كونه ( قد جمع المتاع ولم يخرج به أنه ليس عليه قطع ) لأنه لم يخرج من الحرز ( وإنما مثل ذلك كمثل رجل وضع بين يديه خمرا ليشربها فلم يفعل فليس عليه حد ) لعدم
____________________
(4/202)
الشرب ( ومثل ذلك ) أي قياسه ( رجل جلس من امرأة مجلسا وهو يريد أن يصيبها ) يجامعها ( حراما فلم يفعل ولم يبلغ ذلك منها ) أي لم يدخل حشفته فيها ( فليس عليه أيضا في ذلك حد ) لعدم الوطء وإنما عليه الأدب ( والأمر المجتمع عليه عندنا أنه ليس في الخلسة ) أي ما يخلس ويخطف بسرعة على غفلة ( قطع بلغ ثمنها ما يقطع فيه أو لم يبلغ ) لأنها ليست بسرقة
____________________
(4/203)
5111111 1 1
24 كتاب الأشربة جمع شراب كطعام وأطعمة اسم لما يشرب وليس مصدرا لأن المصدر هو الشرب مثلثة الشين
1 الحد في الخمر ( مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد ) من الزيادة الكندي ( أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال إني وجدت من فلان ) هو ابنه عبيد الله كما في البخاري بضم العين ( ريح شراب فزعم أنه شراب الطلاء ) بكسر الطاء المهملة والمد قال في المقدمة هو ما طبخ من العصير حتى يغلظ وشبه بطلاء الإبل وهو القطران الذي تطلى به الجرب ( وأنا سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته ) فسأل عنه فوجده مسكرا ( فجلده عمر بن الخطاب الحد تاما ) ثمانين جلدة
ورواه سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن الزهري عن السائب فسماه عبيد الله وزاد قال ابن عيينة فأخبرني معمر عن الزهري عن السائب قال فرأيت عمر يجلده
( مالك عن ثور ) بمثلثة ( ابن زيد الديلي ) بكسر المهملة وإسكان الياء ( أن عمر بن الخطاب استشار ) الصحابة ( في الخمر يشربها الرجل ) وصف طردي فالمراد المكلف ذكرا أو أنثى وإنما
____________________
(4/204)
استشار لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبينه كما في الصحيحين عن علي أي لم يقدر فيه حدا مضبوطا ( فقال له علي ابن أبي طالب نرى أن تجلده ثمانين ) كحد القذف ( فإنه إذا شرب سكر ) زال عقله ( وإذا سكر هذى ) خلط وتكلم بما لا ينبغي ( وإذا هذى افترى ) كذب وقذف ( أو كما قال ) شك الراوي ( فجلد عمر في الخمر ثمانين ) وفي أبي داود والنسائي عن عبد الرحمن بن أزهر في قصة الشارب الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم بحنين وفيه فلما كان عمر كتب إليه خالد بن الوليد أن الناس قد انهمكوا في الشرب وتحاقروا العقوبة قال وعنده المهاجرون والأنصار فسألهم فاجتمعوا على أن يضربه ثمانين
وفي مسلم عن أنس فلما كان عمر استشار الناس فقال له عبد الرحمن بن عوف أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر قال ابن عبد البر وانعقد عليه إجماع الصحابة ولا مخالف لهم منهم وعليه جماعة التابعين وجمهور فقهاء المسلمين والخلاف في ذلك كالشذوذ المحجوج بقول الجمهور وتعقب بما في الصحيح عن علي أنه جلد الوليد في خلافة عثمان أربعين ثم قال جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي فلو أجمعوا على الثمانين في زمن عمر لما خالفوا في زمن عثمان وجلدوا أربعين إلا أن يكون مراد أبي عمر أنهم أجمعوا على الثمانين بعد عثمان فيصح كلامه
( مالك عن ابن شهاب أنه سئل عن حد العبد ) الرقيق ولو أنثى ( في الخمر فقال بلغني أن عليه نصف حد الحر في الخمر ) وهو أربعون
( و ) بلغني ( أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر جلدوا عبيدا لهم نصف حد الحر في الخمر ) وبهم القدوة لأن حد الرقيق على نصف حد الحر وأصله قوله تعالى { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } سورة النساء الآية 25
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أنه سمع سعيد بن المسيب ) بن حزن يقول ( ما من شيء ) نكرة وقعت في سياق النفي وضم إليها من الاستغراقية لإفادة الشمول ذكره الطيبي أي ليس شيء من الذنوب ( إلا الله يحب أن يعفى عنه ما لم يكن حدا ) فلا يحب العفو عنه إذا بلغ الإمام
وقد
____________________
(4/205)
روى أحمد وأبو داود والنسائي والشافعي وابن حبان عن عائشة مرفوعا أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود قال الشافعي سمعت من أهل العلم من يعرف هذا الحديث يقول يتجافى المرجل ذي الهيئة عن عثرته ما لم تكن حدا قال وهم الذين لا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة
وقال الماوردي في عثراتهم وجهان أحدهما الصغائز والثاني أول معصية زل فيها مطيع ( قال مالك والسنة عندنا أن كل من شرب شرابا مسكرا فسكر أو لم يسكر فقد وجب عليه الحد ) لأن شأنه الإسكار فلا يمنع تخلفه لعارض الحد
2 ما ينهى أن ينبذ فيه ( مالك عن نافع عن عبد الله ابن عمر ) رضي الله عنهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في بعض مغازيه قال عبد الله بن عمر فأقبلت نحوه ) لأسمع ما يقول وكان حريصا على ذلك
( فانصرف صلى الله عليه وسلم ) من الخطبة ( قبل أن أبلغه ) أي أصل إليه ( فسألت ماذا قال فقيل لي ) إبهام لا يضر لأنه صحابي أبهم صحابيا ( نهى أن ينبذ ) بضم أوله وسكون النون وفتح الموحدة وذال معجمة أي يطرح ( في الدباء ) بضم الدال المهملة وشد الموحدة والمد القرع ( والمزفت ) بالزاي والفاء المطلى بالزفت لأنه يسرع إليهما الإسكار فربما شرب منها من لا يشعر بذلك ظانا أنه لم يبلغ الإسكار وقد بلغه والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه الليث وأيوب وعبيد الله ويحيى بن سعيد والضحاك بن عثمان وأسامة كل هؤلاء عن نافع عن ابن عمر بمثل حديث مالك ولم يذكر في بعض مغازيه إلا مالك وأسامة قاله مسلم
( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ) الحرقي بضم المهملة وفتح الراء وقاف المدني الصدوق مات سنة بضع وثلاثين ومائة ( عن أبيه ) عبد الرحمن بن يعقوب الجهني المدني مولى الحرقة بضم المهملة وفتح الراء وقاف التابعي الثقة ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى ) على سبيل الكراهة وقيل التحريم عن ( أن ينبذ في الدباء والمزفت ) من الجرار لإسراع إسكار ما نبذ فيهما
____________________
(4/206)
3 ما يكره أن ينبذ جميعا ( مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ) قال ابن عبد البر مرسلا بلا خلاف أعلمه عن مالك ووصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن زيد عن عطاء عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينبذ البسر ) بضم الموحدة وإسكان المهملة التمر قبل إرطابه واحدته بسرة بالهاء ( والرطب ) بضم الراء وفتح الطاء ما نضج من البسر الواحدة رطبة بالهاء ( جميعا ) في إناء واحد لأن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يشتد فيظن الشارب أنه لم يبلغ حد الإسكار وهو قد بلغه
( والتمر ) بفوقية فميم ( والزبيب جميعا ) لاشتداد أحدهما بالآخر وهذا الحديث في الصحيحين من حديث ابن جريج عن زيد عن عطاء عن جابر
( مالك عن الثقة عنده ) قيل هو مخرمة بن بكير أو ابن لهيعة فقد رواه الوليد بن مسلم عن عبد الله بن لهيعة ( عن بكير ) بضم الموحدة مصغر ( ابن عبد الله بن الأشج ) المخزومي مولاهم المدني نزيل مصر ثقة مات سنة عشرين ومائة وقيل بعدها ( عن عبد الرحمن بن الحباب ) بضم المهملة وموحدتين الأولى خفيفة ( الأنصاري ) السلمي بفتح السين واللام المدني تابعي ثقة ( عن أبي قتادة ) الحارث ويقال عمرو أو النعمان ( الأنصاري ) السلمي بفتحتين مات سنة أربع وخمسين على الأصح الأشهر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب ) بضم أوله مبني للمجهول ( التمر ) بفوقية وميم ساكنة ( والزبيب جميعا ) لأن أحدهما يشتد به الآخر فيسرع الإسكار
( والزهو ) وهو البسر الملون ( والرطب جميعا ) نهي كراهة وقيل تحريم لإسراع الإسكار بخلطهما فقد يظن عدم بلوغه الإسكار ويكون قد بلغه وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم من وجه آخر عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين التمر والزهو والتمر والزبيب ولينبذ كل واحد منهما على حدة وفي مسلم عن أبي سعيد مرفوعا من شرب منكم النبيذ فليشربه زبيبا فردا أو تمرا فردا أو بسرا فردا وجاء أيضا النهي عن ذلك من حديث ابن عباس وجابر وأبي سعيد قال أبو عمر أحاديث الباب صحيحة متواترة تلقاها العلماء بالقبول
____________________
(4/207)
وقد ( قال مالك وهو الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا أنه يكره ذلك لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ) في الأحاديث المذكورة سواء نبذ كل واحد على حدة أو نبذا جميعا وأجازه الحنفي وحمل النهي على أنه للسرف لما كانوا فيه من ضيق العيش
4 تحريم الخمر وهي ما خامر العقل كما خطب بذلك عمر بحضرة الصحابة الأكابر ولم ينكره أحد فشمل كل مسكر سميت بذلك لأنها تخمر العقل أي تغطيه وتستره وكل شيء غطى شيئا فقد خمره كخمار المرأة لأنه يغطي رأسها ويقال للشجر الملتف الخمر لأنه يغطي ما تحته أو لأنها تركت حتى أدركت كما يقال خمر الرأي واختمر أي ترك حتى يتبين فيه الوجه واختمر الخبز إذا بلغ إدراكه أو لأنها اشتقت من المخامرة التي هي المخالطة لأنها تخالط العقل وهذا قريب من الأول والثلاثة موجودة في الخمر لأنها تركت حتى أدركت الغليان وحد الإسكار وهي مخالطة للعقل وربما غلبت عليه وغطته قاله أبو عمر
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن أبي سلمة ) إسماعيل أو عبد الله أو اسمه كنيته ( ابن عبد الرحمن ) بن عوف ( عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع ) بكسر الموحدة وتفتح وسكون الفوقية وقد تفتح وعين مهملة وهو شراب العسل وكان أهل اليمن يشربونه كما زاده في رواية شعيب عن الزهري بسنده عند البخاري قال أبو عمر بلا خلاف عند أهل الفقه واللغة أعلمه في ذلك
قال الحافظ ولم أقف على اسم السائل صريحا لكني أظنه أبا موسى الأشعري كما عند البخاري في المغازي عن أبي موسى أنه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فسأله عن أشربة تصنع بها فقال ما هي قال البتع والمزر
( فقال ) صلى الله عليه وسلم ( كل شراب أسكر فهو حرام ) عمومه شامل لما اتخذ من عصير العنب ومن غيره
قال أبو عمر إذا خرج الخبر بتحريم المسكر على شراب العسل فكل مسكر مثله في الحكم ولذا قال عمر كل مسكر خمر
وقال في الفتح يؤخذ من لفظ السؤال أنه وقع عن حكم جنس البتع لا عن القدر المسكر منه لأن السائل لو أراد ذلك لقال أخبرني عما يحل منه وما يحرم وهذا هو المعهود من لسان العرب إذا سألوا عن الجنس قالوا هل هذا نافع أو ضار مثلا وإذا سألوا عن القدر قالوا كم يؤخذ
____________________
(4/208)
منه وفيه أن المفتي يجيب السائل بزيادة عما سأله عنه إذا كان مما يحتاج إليه السائل وتحريم كل مسكر سواء اتخذ من عصير العنب أو غيره
قال المازري أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال وعلى أنه إذا اشتد وغلى وقذف بالزيد حرم قليله وكثيره ثم إن حصل له تخلل بنفسه حل بالإجماع أيضا فوقع النظر في تبدل هذه الأحكام عند هذه المحددات فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعض ودل على أن علة التحريم الإسكار فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناول قليله وكثيره وهذا الذي استنبطه المازري ثبت عند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام وفي ذلك جواز القياس باطراد العلة فتحرم جميع الأنبذة المسكرة وبذلك قال الأئمة الثلاثة والجمهور
وقال أبو المظفر السمعاني في قياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والإطراب من أجل الأقيسة وأوضحها والمقايسة التي في الخمر توجد في النبيذ
وقال الحنفية نقيع التمر والزبيب وغيرهما من الأنبذة إذا غلى واشتد حرم ولا يحد شاربه حتى يسكر ولا يكفر مستحله وأما الذي في ماء العنب فحرام ويكفر مستحله لثبوت حرمتها بدليل قطعي وقد ورد لفظ هذا الحديث ومعناه من طرق عن أكثر من ثلاثين من الصحابة مضمونها أن المسكر لا يحل تناوله ويكفي ذلك في الرد على المخالف وقد قال جابر حرمت الخمر يوم حرمت وما كان شرب الناس إلا البسر والتمر
وقال مالك نزل تحريم الخمر بالمدينة خمر من عنب
وقال الحكيمي لنا خمر وليست خمر كرم ولكن من نتاج الباسقات كرام في السماء ذهبن طولا وفات ثمارها أيدي الجناة قال ابن عبد البر أجمع أهل المدينة على ذلك قرنا بعد قرن وما أجمعوا عليه فهو الحق
ثم أخرج من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن ثابت قال إذا رأيت أهل المدينة قد أجمعوا على شيء فاعلم أنه سنة
وقال ابن عبد الرحمن هو الحق الذي لا شك فيه ولا حجة للمخالف فيما رواه النسائي برجال ثقات عن ابن عباس مرفوعا حرمت الخمر قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب لأنه اختلف في وصله وانقطاعه وفي رفعه ووقفه
وعلى تقدير صحته فقد رجح أحمد وغيره أن الرواية فيه بلفظ والمسكر بضم الميم وسكون السين لا السكر بضم السين أو بفتحتين وعلى تقدير ثبوتها فهو حديث فرد ولفظه محتمل فكيف يعارض عموم تلك الأحاديث مع كثرتها وصحتها وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به
( مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ) مرسلا قال ابن عبد البر ذكر ابن شعبان أن ابن القاسم أسنده عن مالك فقال عن ابن عباس والذي عندنا في موطأ ابن القاسم مرسلا كالجماعة
____________________
(4/209)
وإنما أسنده ابن وهب وحده عن مالك عن زيد عن عطاء عن ابن عباس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الغبيراء ) بضم الغين المعجمة وفتح الموحدة وسكون التحتية فراء فألف ممدودة نبيذ الذرة وقيل نبيذ الأرز وبه جزم أبو عمر ( فقال لا خير فيها ) لأنها مسكرة ( ونهى عنها ) تحريما
( قال مالك سألت زيد ابن أسلم ما الغبيراء فقال هي الأسكركة ) بضم الهمزة وإسكان المهملة وكافين مفتوحتين بينهما راء ساكنة وآخره هاء وفي نسخة السكركة بفتح السين وسكون الكاف الأولى وفتح الراء والكاف الثانية وبالهاء وفي الحديث إياكم والغبيراء فإنها خمر الأعاجم قال أبو عبيد هي ضرب من الشراب يتخذه الحبش من الذرة يسكر ويقال لها السكركة
وفي الصحيحين أن عمر خطب على المنبر فقال في خطبته أنه قد نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل والخمر ما خامر العقل فخطب بذلك بحضور أكابر الصحابة ولم ينكر عليه أحد فله حكم الرفع لأنه خبر صحابي شهد التنزيل
وقد أخرج أصحاب السنن الأربعة وصححه ابن حبان عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة فهذا صريح في الرفع وعد عمر الخمسة لاشتهار أسمائها في زمنه وجعل ما في معناها مما يتخذ من أرز وغيره خمرا إذ ربما تخامر العقل
( مالك عن نافع عن عبد الله ابن عمر ) رضي الله عنهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها ) أي عن شربها حتى مات وفي لفظ ثم إشعار بأن تراخي التوبة لا يمنع قبولها ما لم يغرغر ( حرمها ) بضم الحاء المهملة وكسر الراء الخفيفة من الحرمان أي منع من شربها ( في الآخرة ) ولمسلم من طريق أيوب عن نافع فمات وهو مدمنها لم يشربها في الآخرة قال ابن العربي ظاهر الحديث أنه لا يشربها في الجنة وذلك لأنه استعجل ما أمر بتأخيره ووعد به فحرمه عند ميقاته كالوارث إذا قتل مورثه فإنه يحرم ميراثه لاستعجاله وبهذا قال نفر من الصحابة ومن العلماء وهو موضع احتمال وتوقف وإشكال والله أعلم كيف يكون الحال
وقال القرطبي نقول بظاهره أنه يحرم ذلك وإن دخل الجنة إذا لم يتب لاستعجال ما أخر الله له في الآخرة وارتكاب ما حرم عليه في الدنيا
____________________
(4/210)
وقد أخرج الطيالسي بسند صحيح وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو قال فهذا نص صريح إن كان كله مرفوعا وإن كانت الجملة الأخيرة مدرجة من كلام الراوي فهو أعرف بالحديث وأعلم بالحال ومثله لا يقال من قبل الرأي وقيل إن الحديث مؤول على حرمانه وقت تعذيبه في النار فإذا خرج منها بالشفاعة أو بالرحمة العامة وأدخل الجنة لم يحرم شيئا منها لا خمرا ولا حريرا ولا غير ذلك لأن حرمان شيء من ذلك لمن هو في الجنة يعد عقوبة ومؤاخذة والجنة ليست بدار عقوبة ولا مؤاخذة فيها بوجه من الوجوه وهذا ضعيف يرده حديث أبي سعيد والجواب عما قالوه أنه لا يشتهي ذلك كما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه ولا يكون ذلك في حقه عقوبة انتهى
وقال ابن المنير معناه لا يدخلها ولا يشرب الخمر فيها إلا إن عفا الله عنه كما في بقية الكبائر وهو في المشيئة فالمعنى جزاؤه في الآخرة أن يحرمها لحرمانه دخول الجنة إلا إن عفا الله عنه قال وجائز أن يدخلها بالعفو ثم لا يشرب فيها خمرا ولا تشتهيها نفسه وإن علم وجوده فيها ويدل له حديث أبي سعيد المذكور قال الحافظ وفصل بعض المتأخرين بين من يشربها مستحلا فهو الذي لا يشربها أصلا لأنه لا يدخل الجنة وبين من يشربها عالما بتحريمها فهو محل الخلاف فقيل إنه الذي يحرم شربها مدة ولو حال تعذيبه إن عذب أو المعنى أن ذلك جزاؤه إن جوزي قال الحافظ وأعدل الأقوال أن الفعل المذكور يقتضي العقوبة المذكورة وقد يتخلف ذلك لمانع كالتوبة والحسنات التي توزن والمصائب التي تكفر وكدعاء الولد بشرائط ذلك وكذا شفاعة من يؤذن له في الشفاعة وأعم من ذلك كله عفو أرحم الراحمين
وفي حديث الباب أن التوبة من الذنب مكفرة له
وبه صرح الكتاب والسنة وهو مقطوع به في الكفر أما غيره فهل هو مقطوع أو مظنون قولان
قال القرطبي والذي أقوله أن من استقرأ الشريعة قرآنا وسنة علم القطع واليقين أن الله يقبل توبة الصادقين
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى النيسابوري والقعنبي كلهم عن مالك به وتابعه عبيد الله وموسى بن عقبة وأيوب وشعبة عن نافع بنحوه عند مسلم
5 جامع تحريم الخمر ( مالك عن زيد بن أسلم ) بفتح فسكون العدوي مولاهم المدني التابعي ( عن ابن وعلة ) بفتح الواو وسكون العين المهملة واسمه عبد الرحمن ( المصري ) التابعي الصدوق
وفي رواية ابن وهب عن
____________________
(4/211)
مالك عن زيد عن عبد الرحمن بن وعلة السبإي من أهل مصر ( أنه سأل عبد الله بن عباس ) رضي الله عنهما ( عما يعصر من العنب فقال ابن عباس أهدى رجل ) هو كيسان الثقفي كما رواه أحمد من حديثه ( لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر ) أي مزادة وأصل الراوية البعير يحمل الماء والهاء فيه للمبالغة ثم أطلقت الراوية على كل دابة يحمل عليها الماء ثم على المزادة ولفظ رواية أحمد عن كيسان أنه كان يتجر في الخمر وأنه أقبل من الشام فقال يا رسول الله إني جئتك بشراب جيد
وعنده أيضا عن ابن عباس كان للنبي صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو دوس فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ) بالفتح وخفة الميم ولابن وهب هل ( علمت أن الله حرمها ) بآية { إنما الخمر والميسر } إلى { فاجتنبوه لعلكم تفلحون } سورة المائدة الآية 9 قال لا أي لم أعلم بذلك ( فساره ) بالتثقيل ( رجل إلى جنبه ) وفي رواية أحمد عن ابن عباس فأقبل الرجل على غلامه فقال بعها
ولابن وهب فسار إنسانا ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بم ساررته ) بأي شيء كلمته سرا أي خفية ( قال أمرته ببيعها ) لينتفع بحقها ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ) الله ( الذي حرم شربها حرم بيعها ) لأنه قال رجس أي نجس وهو لا يصح بيعه ولأنه يؤدي إلى شربها
وفي حديث كيسان قال إنها قد حرمت وحرم ثمنها
( ففتح الرجل المزادتين ) بفتح الميم والزاي تثنية مزادة القربة لأنه يتزود فيها الماء ( حتى ذهب ما فيهما ) من الخمر
ففيه وجوب إراقته لفعله ذلك بحضرته صلى الله عليه وسلم وأقره عليه
وقد اختلف في وقت تحريم الخمر فقيل سنة أربع وقيل سنة ست وقيل سنة ثمان قبل فتح مكة
قال الحافظ وهو الظاهر لرواية أحمد عن ابن عباس أن الرجل المهدي راوية الخمر لقيه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح
وروى أحمد وأبو يعلى عن غيم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية خمر فلما كان عام حرمت جاء براويته فقال أشعرت أنها قد حرمت بعدك قال أفلا أبيعها وأنتفع بحقها فنهاه ففي هذا تأييد الوقت المذكور فإن إسلام تميم كان بعد الفتح
وروى أصحاب السنن عن عمر أنه قال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء فنزلت { قل فيهما إثم كبير } سورة البقرة الآية 219 فقرئت عليه فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء فنزلت { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } سورة النساء الآية 43 فقرئت عليه فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء فنزلت آية المائدة إلى قوله { فهل أنتم منتهون } سورة المائدة الآية 91 قال عمر انتهينا
صححه علي ابن المديني والترمذي انتهى
وبحديث عمر قد يجمع بين الأقوال الثلاثة باحتمال أن كل مرة كانت في سنة منها
وزعم مغلطاي أنها حرمت في شوال سنة ثلاث
والواقدي أنه عقب قول حمزة إنما أنتم عبيد لأبي يعني سنة اثنين
ويدل
____________________
(4/212)
عليه حديث الصحيح عن جابر اصطبح الخمر ناس يوم أحد فقتلوا من يومهم جميعا شهداء
ثم احذر أن يخطر ببالك أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب الخمر قبل تحريمها فلا يلزم من إهداء الراوية إليه كل عام قبل التحريم أن يشرب بل يهديها أو يتصدق بها أو نحو ذلك وقد صانه الله تعالى من قبل النبوة عما يخالف شرعه وهو لم يشرب الخمر المحضر من الجنة ليلة المعراج وهذا الحديث رواه مسلم في البيع من طريق ابن وهب عن مالك به وتابعه حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم وتابعه يحيى بن سعيد عن أبي وعلة في مسلم أيضا
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) الأنصاري المدني ثقة حجة أبي يحيى مات سنة اثنين وثلاثين ومائة وقيل بعدها ( عن أنس بن مالك أنه قال كنت أسقي أبا عبيدة ) عامر ( ابن الجراح ) أحد العشرة ( وأبا طلحة ) زيد بن سهل ( الأنصاري ) زوج أم أنس وجد إسحاق ( وأبي بن كعب ) سيد القراء وكبير الأنصار وعالمهم زاد في رواية لمسلم وأبا دجانة وسهيل بن بيضاء ومعاذ بن جبل وأبا أيوب ( شرابا من فضيخ ) بفتح الفاء وكسر الضاد المعجمة وإسكان التحتية وخاء معجمة شراب يتخذ من البسر المنضوخ وهو المشدوخ
( وتمر ) بفوقية وفي رواية ابن قزعة من فضيخ وهو تمر ولإسماعيل من خمر فضيخ وزهو بفتح الزاي وسكون الهاء فواو أي مشدوخ بسر
ولمسلم من طريق قتادة عن أنس أسقيهم من مزادة فيها خليط بسر وتمر
وللبخاري من طريق بكر بن عبد الله عن أنس أن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر والتمر
ولأحمد عن حميد عن أنس حتى كاد الشراب يأخذ فيهم
ولابن أبي عاصم حتى مالت رؤوسهم
( قال ) أنس ( فجاءهم آت ) قال الحافظ لم أقف على اسمه ( فقال إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة ) لربيبه الساقي ( يا أنس قم إلى هذه الجرار ) بكسر الجيم جمع جرة التي فيها الشراب المذكور ( فاكسرها قال ) أنس ( فقمت إلى مهراس لنا ) بكسر الميم وسكون الهاء فراء فألف فسين مهملة حجر مستطيل ينقر ويدق فيه ويتوضأ وقد استعير للخشبة التي يدق فيها الحب فقيل لها مهراس على التشبيه بالمهراس من الحجر أو الصفر الذي يهرس فيه الحبوب وغيرها
( فضربتها بأسفله حتى تكسرت ) وفي رواية إسماعيل عن مالك فقال أبو طلحة قم يا أنس فأهرقها فأهرقتها
وفي رواية لمسلم فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل
وفيه حجة قوية في قبول خبر الواحد لأنهم أثبتوا به نسخ الشيء الذي كان مباحا حتى قدموا من أجله على تحريمه والعمل بمقتضاه من صب الخمر وكسر أوانيه
وأخرجه البخاري في الأشربة عن إسماعيل وفي خبر الواحد عن يحيى بن قزعة
____________________
(4/213)
ومسلم في الأشربة من طريق ابن وهب كلهم عن مالك به وله طرق عندهما وعند غيرهما قال أبو عمر هذا الحديث وما كان مثله يدخل في المسند عند الجميع
( مالك عن داود بن الحصين ) بمهملتين مصغر الأموي مولاهم المدني ( عن واقد ) بالقاف ( ابن عمر ) بفتح العين ( ابن سعد بن معاذ ) الأنصاري الأشهلي أبي عبد الله المدني الثقة التابعي الصغير مات سنة عشرين ومائة ( أنه أخبره عن محمود بن لبيد ) بفتح اللام ( الأنصاري ) الأوسي الأشهلي صحابي صغير وجل روايته عن الصحابة مات سنة ست وتسعين وقيل سنة سبع وله تسع وتسعون سنة ( أن عمر بن الخطاب حين قدم الشام ) في خلافته ( شكا إليه أهل الشام وباء الأرض ) أي مرض أرضهم العام ( وثقلها ) بكسر المثلثة وفتح القاف ضد الخفة ( وقالوا لا يصلحنا إلا هذا الشراب فقال عمر اشربوا هذا العسل ) النحل فإن فيه شفاء ( فقالوا لا يصلحنا العسل ) لا يوافق أمزجتنا ( فقال رجل من أهل الأرض ) يعني أرض الشام ( هل لك ) رغبة في ( أن نجعل لك من هذا الشراب شيئا لا يسكر قال نعم فطبخوه حتى ذهب منه الثلثان وبقي الثلث فأتوا به عمر ) ليعرضوه عليه ( فأدخل عمر فيه أصبعه ثم رفع يده فتبعها يتمطط ) يتمدد ( فقال هذا الطلاء ) بالمد ما يطبخ من العصير حتى يغلظ ( هذا مثل طلاء الإبل ) أي القطران الذي يطلى به جربها ( فأمرهم عمر أن يشربوه ) لأنه لم يره مسكرا ( فقال له عبادة بن الصامت ) أحد فضلاء الصحابة ( أحللتها والله ) أي الخمر ( فقال عمر كلا ) ردع أي انزجر عن هذا القول ( والله ) لم أحللها لأن اجتهاده حينئذ أداه إلى جواز ما لا يسكر
( اللهم إني لا أحل لهم شيئا حرمته عليهم ولا أحرم عليهم شيئا حللته لهم ) وكأن عمر اجتهد في تلك المرة ثم رجع عنه فحد ابنه في شرب الطلاء كما مر
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ) رضي الله عنهما ( أن رجالا من أهل العراق ) الإقليم المعروف يذكر ويؤنث قيل هو معرب وقيل سمي عراقا لأنه سفل عن نجد ودنا من البحر أخذا من
____________________
(4/214)
عراق القربة والمزادة وغير ذلك هو ماثني ثم خرز مثنيا ( قالوا له يا أبا عبد الرحمن ) كنية ابن عمر ( إنا نبتاع من ثمر النخل والعنب فنعصره خمرا فنبيعها ) فهل ذلك حرام أم لا ولعلهم كانوا حديثي عهد بالإسلام
( فقال عبد الله بن عمر إني أشهد الله عليكم وملائكته ومن سمع من الجن والإنس ) أتى بذلك لزيادة الزجر والتهويل والإشارة إلى أن حرمة ذلك مجمع عليها ( إني لا آمركم أن تبيعوها ولا تبتاعوها ) تشتروها ( ولا تعصروها ولا تشربوها ولا تسقوها ) غيركم ( فإنها رجس ) خبث مستقذر ( من عمل الشيطان ) الذي يوسوس
____________________
(4/215)
5111111 1 1
25 كتاب العقول جمع عقل يقال عقلت القتيل عقلا أديت ديته قال الأصمعي سميت الدية عقلا تسمية بالمصدر لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي القتيل ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية إبلا كانت أو نقدا
1 ذكر العقول أخر البسملة لأنه جعل الترجمة بكتاب كالعنوان فالمقصود بالبداءة به ما بعدها فجعل البسملة أوله وكثيرا ما يقدم البسملة على كتاب نظرا إلى البدء الحقيقي وذلك تفنن لطيف وقدمت ذلك غير مرة
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ) الأنصاري المدني قاضيها ( عن أبيه ) أبي بكر اسمه وكنيته واحد وقيل يكنى أبا محمد قال أبو عمر لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث وروى مسندا من وجه صالح وروي عن معمر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن جده ورواه الزهري عن أبي بكر عن أبيه عن جده ( أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو ابن حزم ) بن لوذان الأنصاري النجاري شهد الخندق وما بعدها وكان عامل النبي صلى الله عليه وسلم على نجران مات بعد الخمسين وغلط من قال في خلافة عمر ( في العقول ) أي الديات وهو كتاب جليل فيه أنواع كثيرة من الفقه في الزكاة والديات والأحكام وذكر الكبائر والطلاق والعتاق وأحكام الصلاة في الثوب الواحد والاحتباء فيه ومس المصحف وغير
____________________
(4/216)
ذلك
وأخرجه النسائي وابن حبان موصولا من طريق الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم فقدم به إلى أهل اليمن وهذه نسخته بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافير وهمدان أما بعد فذكر الحديث بطوله وفيه ( أن في ) قتل ( النفس ) خطأ ( مائة من الإبل ) على أهل الإبل وفي الطريق الموصولة وعلى أهل الذهب ألف دينار قبل قوله ( وفي الأنف إذا أوعي ) بضم الهمز وسكون الواو وكسر المهملة بعدها ياء أي أخذ كله ( جدعا ) بفتح الجيم وإسكان الدال وعين مهملتين أي قطعا ووعى واستوعى لغة الاستيعاب وهو أخذ الشيء كله وروي وفي الأنف إذا أوعيت جدعة ويروى استوعب أي استؤصل بحيث لم يبق منه شيء ( مائة من الإبل ) على أهلها وفي الطريق الموصولة وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية
( وفي المأمومة ثلث الدية ) قيل لها مأمومة لأن فيها معنى المفعولية في الأصل وجمعها على لفظها مأمومات وهي التي تصل إلى أم الدماغ وهي أشد الشجاج قال ابن السكيت وصاحبها يصعق لصوت الرعد ولرغاء الإبل ولا يطيق البروز في الشمس وتسمى أيضا آمة وجمعها أوام مثل دابة ودواب
( وفي الجائفة مثلها ) ثلث الدية اسم فاعل من جافته تجوفه إذا وصلت لجوفه
( وفي العين خمسون ) من الإبل وظاهره ولو لأعور
( وفي اليد خمسون ) من الإبل
( وفي الرجل ) الواحدة ( خمسون ) من الإبل
( وفي كل أصبع مما هنالك ) في يد أو رجل ( عشر من الإبل ) يتعلق به وبالثلاثة قبله على طريق التنازع ففيه حجة لمجيزه
( وفي السن خمس ) من الإبل أضراس أو ثنايا أو رباعيات
( وفي الموضحة ) الشجة التي تكشف العظم ( خمس ) من الإبل
2 العمل في الدية ( مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف
____________________
(4/217)
دينار وعلى أهل الورق ) أي من يغلب كل منهما في قراهم ( اثني عشر ألف درهم ) فضة
( قال مالك فأهل الذهب أهل الشام وأهل مصر ) وأهل المغرب ( وأهل الورق أهل العراق ) ومن والاهم
( مالك أنه سمع أن الدية تقطع ) أي تنجم ( في ثلاث سنين أو أربع سنين ) رفقا بالعاقلة ( قال مالك والثلاث أحب ما سمعت إلي في ذلك ) من الأربع ( والأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا يقبل من أهل القرى في الدية الإبل ) لأنه خلاف الواجب عليهم من ذهب أو فضة
( ولا من أهل العمود الذهب ولا الورق ) لأن المفروض عليهم الإبل
( ولا من أهل الذهب الورق ولا من أهل الورق الذهب ) فإنما يقبل من كل ما وجب عليه
3 دية العمد إذا قبلت وجناية المجنون ( مالك أن ابن شهاب كان يقول في دية ) القتل ( العمد إذا قبلت ) أي رضي بها ولي المقتول بأن عفا عن الدية ( خمس وعشرون بنت مخاض ) بفتح الميم والمعجمة الخفيفة فمعجمة أتى عليها حول ودخلت في الثاني وحملت أمها والمخاض الحامل أي دخل وقت حملها وإن لم تحمل
( وخمس وعشرون بنت لبون ) وهي التي دخلت في الثالثة فصارت أمها لبونا بوضع حملها
( وخمس وعشرون حقة ) بكسر المهملة وشد القاف وهي التي دخلت في الرابعة
( وخمس وعشرون جذعة ) بفتح الجيم والمعجمة وهي التي دخلت في الخامسة سميت بذلك لأنها جذعت أي أسقطت مقدم أسنانها
( مالك عن يحيى بن سعيد أن مروان بن الحكم ) أمير المدينة ( كتب إلى معاوية بن أبي سفيان )
____________________
(4/218)
صخر بن حرب كتابا وأرسله إليه بالشام ( أنه أتي ) بضم أوله ( بمجنون قتل رجلا فكتب إليه معاوية أن اعقله ) بهمزة وصل وسكون العين وكسر القاف احبسه بالعقال القيد ( ولا تقد ) بضم فكسر ( منه ) أي لا تقتص من أقاد الأمير القاتل بالقتيل قتله به ( فإنه ليس على مجنون قود ) بفتحتين أي قصاص لحديث رفع القلم عن ثلاث منها المجنون حتى يبرأ
( قال مالك في الكبير والصغير إذا قتلا رجلا جميعا عمدا أن على الكبير أن يقتل ) قصاصا ( وعلى الصغير نصف الدية ) ولا قصاص عليه لرفع القلم عنه
( وكذلك الحر والعبد يقتلان العبد ) أي الرقيق عمدا ( فيقتل العبد ) لمساواته للمقتول ( ويكون على الحر نصف قيمته ) ولو زادت على الدية ولا يقتل لعدم المساواة
4 دية الخطأ في القتل ( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن عراك ) بكسر المهملة فراء مفتوحة خفيفة فألف وكاف ( ابن مالك ) الغفاري الكندي المدني التابعي الثقة الفاضل مات بعد المائة
( وسليمان بن يسار ) بفتح التحتية والمهملة الخفيفة ( أن رجلا ) لم يسم ( من بني سعد بن ليث ) بن بكر بن عبد مناف بن كنانة والنسبة إليه السعدي ( أجرى ) بفتح الألف وسكون الجيم ( فرسا فوطىء ) مشى ( على أصبع رجل من جهينة ) بضم الجيم وفتح الهاء قبيلة من قضاعة ( فنزي ) بضم النون وكسر الزاي كعنى نزف أي خرج الدم بكثرة منها ( فمات فقال عمر بن الخطاب للذي ادعى عليهم ) أي أولياء الذي أجرى ( أتحلفون بالله خمسين يمينا ما مات منها ) أي من الفعلة المذكورة ( فأبوا ) أن يحلفوا ( وتحرجوا ) بالمهملة والجيم أي فعلوا فعلا جانبوا به الحرج وهو الإثم فهذا مما ورد لفظه مخالفا لمعناه كمتأثم تحنث تحرج
____________________
(4/219)
( فقال للآخرين ) الجهنيين أولياء المقتول ( أتحلفون أنتم ) أنه مات منها ( فأبوا ) امتنعوا من الحلف ( فقضى عمر بشطر ) أي نصف ( الدية على السعديين ) عاقلة الذي أجرى
( قال مالك وليس العمل على هذا ) المذكور من القضاء شطر الدية وتبدية المدعى عليهم بالحلف والمصير إلى الأحاديث الدالة على تبدية المدعين في القسامة أولى في الحجة من قول الصاحب ويعضده إجماع أهل المدينة والحجازيين عليه كما يأتي بسطه
( مالك أن ابن شهاب وسليمان بن يسار وربيعة بن أبي عبد الرحمن كانوا يقولون دية الخطأ ) على أهل البادية مخمسة ( عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون ) وبنت في الموضعين وابن بالنصب على التمييز للعدد ويؤيده قوله ( ذكرا ) بالنصب زيادة بيان وإن كان لفظ ابن لا يكون إلا ذكرا لأن من الحيوان ما يطلق على ذكره وأنثاه لفظ ابن كابن عرس وابن آوى أو مجرد التأكد لاختلاف اللفظ كغرابيب سود أو احتراز عن الخنثى وفيه بعد ( وعشرون حقة وعشرون جذعة ) بخلاف دية العمد فمربعة بحذف ابن لبون كما مر قريبا
( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا قود ) أي قصاص ( بين الصبيان وأن عمدهم خطأ ) أي كالخطأ لرفع القلم عنهم ( ما ) أي مدة كونهم صبيانا ( لم تجب عليهم الحدود و ) لم ( يبلغوا الحلم وأن قتل الصبي لا يكون إلا خطأ ) أي لا يعطى إلا حكمه ( وذلك لو أن صبيا وكبيرا قتلا رجلا حرا خطأ كان على عاقلة كل واحد منهما نصف الدية ) وقدم أن على الصبي في العمد إذا اشترك مع كبير ( ومن قتل خطأ فإنما عقله مال لا قود فيه ) لقوله تعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } سورة النساء الآية 92 فلم يذكر قودا ( وإنما هو ) أي المال المأخوذ في الخطأ ( كغيره من ماله ) أي القتيل ( يقضى به دينه وتجوز فيه وصيته فإن كان له مال تكون الدية قدر ثلثه ثم عفي عن ديته فذلك جائز له وإن لم يكن له مال غير ديته جاز له من ذلك الثلث إذا
____________________
(4/220)
عفي عنه وأوصى به ) والثلثان لورثته
5 عقل الجراح في الخطأ ( جمع جرح وهو هنا ما دون النفس
( مالك أن الأمر المجتمع عليه عندهم في الخطأ أنه لا يعقل ) أي لا يؤخذ عقله أي ديته ( حتى يبرأ المجروح ويصح ) عطف تفسير لئلا يؤدي الجرح إلى الموت
( وأنه إن كسر عظم من الإنسان يد أو رجل أو غير ذلك من الجسد خطأ فبرأ وصح وعاد لهيئته ) لصفته الذي كان عليها قبل ( فليس فيه عقل فإن نقص ) أي برىء على نقص ( أو كان فيه عثل ) بفتح المهملة والمثلثة ولام أي برىء على غير استواء ( ففيه من عقله بحساب ما نقص منه
قال مالك فإن كان ذلك العظم مما جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم عقل مسمى فبحساب ما فرض فيه النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان مما لم يأت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم عقل مسمى ولم تمض فيه سنة ) طريقة للسلف ( ولا عقل مسمى فإنه يجتهد فيه
وليس في الجراح في الجسد إذا كانت خطأ عقل إذا برىء الجرح وعاد لهيئته ) الأولى ( فإن كان في شيء من ذلك عثل ) بفتح العين والمثلثة عدم استواء ( أو شين فإنه يجتهد فيه إلا الجائفة فإن فيها ثلث دية النفس ) لنص الحديث
( وليس في منقلة الجسد ) بكسر القاف الشديدة وفتحها قيل وهو أولى لأنها محل الأجراح وهكذا ضبطه ابن السكيت وهي التي ينقل منها فراش العظام وهي ما رق منها وضبطه الفارابي والجوهري بالكسر على إرادة نفس الضربة لأنها تكسر العظم وتنقله ( عقل وهي مثل موضحة الجسد ) أي لا عقل فيها
( والأمر المجتمع عليه عندنا أن الطبيب إذا ختن فقطع الحشفة أن عليه العقل ) الدية كاملة ( وأن ذلك ) الفعل
____________________
(4/221)
( من الخطأ الذي تحمله العاقلة وأن كل ما أخطأ به الطبيب أو تعدى إذا لم يتعمد ذلك فيه العقل ) فإن تعمد فالقصاص إذا لم يتعمد ذلك
6 عقل المرأة ( مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول تعاقل المرأة الرجل ) أي تساوي ديته ديتها ( إلى ثلث الدية أصبعها كإصبعه ) فيه عشر من الإبل
( وسنها كسنه ) فيها خمس إبل
( وموضحتها كموضحته ) خمس إبل
( ومنقلتها كمنقلته ) التي في الرأس
( مالك عن ابن شهاب ) سماعا ( وبلغه عن عروة بن الزبير أنهما كانا يقولان مثل قول سعيد ابن المسيب في المرأة أنها تعاقل الرجل إلى ثلث دية الرجل فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت ) أي صارت وردت ( إلى النصف من دية الرجل ) ويأتي أن ربيعة استشكله فأجابه بأنه السنة
ابن عبد البر وقال جمهور أهل المدينة والفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز والليث وعطاء وقتادة وزيد بن ثابت وروي عن عمرو بن العاصي مرفوعا عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها وإسناده ضعيف إلا أنه اعتضد بقول ابن المسيب هي السنة
( قال مالك وتفسير ذلك أنها تعاقله في الموضحة والمنقلة وما دون المأمومة والجائفة وأشباههما مما يكون فيه ثلث الدية فصاعدا فإذا بلغت ذلك كان عقلها في ذلك النصف من عقل الرجل ) على الأصل في أنها على النصف منه خرج مساواتها للرجل إلى الثلث بالسنة فبقي ما عداه على الأصل
____________________
(4/222)
( مالك أنه سمع ابن شهاب يقول مضت السنة أن الرجل إذا أصاب امرأته بجرح ) متعلق بأصاب ( أن عليه عقل ذلك ) الجرح ( ولا يقاد منه ) أي يقتص
( قال مالك وإنما ذلك في الخطأ ) مثل ( أن يضرب الرجل امرأته فيصيبها ) بالنصب ( من ضربه ما ) أي شيء ( لم يتعمد كما ) لو كان ( يضربها بسوط ) للتأديب ( فيفقأ عينها ونحو ذلك ) أما إن تعمد فالقود لقوله تعالى { والجروح قصاص } سورة المائدة الآية 45
( قال مالك في المرأة يكون لها زوج وولد من غير عصبتها ولا قومها فليس على زوجها إذا كان من قبيلة أخرى من عقل جنايتها الخطأ شيء ولا على ولدها إذا كانوا من غير قومها ولا على إخوتها من أمها إذا كانوا من غير عصبتها ولا قومها فهؤلاء أحق بميراثها ) بنص القرآن على تفصيله
( والعصبة عليهم العقل ) أي دية جنايتها ( منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وإلى الآن اتباعا له
( وكذلك موالي المرأة ) الذين أعتقتهم ( ميراثهم لولد المرأة وإن كانوا من غير قبيلتها وعقل جناية الموالي ) خطأ ( على قبيلتها ) فلا تلازم بين الإرث والعقل
7 عقل الجنين ( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ) الزهري ( عن أبي هريرة أن امرأتين من هذيل ) بضم الهاء وفتح الذال المعجمة نسبة إلى هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر ولا يخالفه رواية الليث عن ابن شهاب امرأتين من بني لحيان لأنه بطن من هذيل ( رمت إحداهما الأخرى ) بحجر كما في رواية الليث وفي رواية عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب بحجر فأصاب
____________________
(4/223)
بطنها ولبعض الرواة بعمود فسطاط ولبعضهم بمسطح أي خشبة أو عود يرقق به الخبز قال ابن عبد البر ولهذا الاضطراب لم يذكر مالك شيئا من ذلك وإنما قضى المعنى المراد بالحكم لأنه لا فرق عنده بين الحجر وغيره في العمد والرامية أم عفيف والمرمية مليكة انتهى
وكانتا ضرتين كما رواه أحمد وغيره من طريق عمرو بن تميم بن عويمر الهذلي وعويمر براء آخره وبدونها عن أبيه عن جده قال كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال لها أم عفيف بنت مسروح من بني سعد بن هذيل تحت حمل ابن مالك بن النابغة فضربت أم عفيف مليكة
وللبيهقي وأبي نعيم في المعرفة عن ابن عباس تسمية الضاربة أم غطيف وهما واحدة وحمل بفتح الحاء المهملة والميم ( فطرحت جنينها ) ميتا زاد في رواية ابن خالد فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة ) بضم الغين المعجمة وشد الراء منونا بياض في الوجه عبر به عن الجسد كله إطلاقا للجزء على الكل ( عبد أو وليدة ) بجرهما بدل من غرة وأو للتقسيم لا للشك ورواه بعضهم بالإضافة البيانية والأول أقيس وأصوب لأنه حينئذ يكون من إضافة الشيء إلى نفسه ولا يجوز إلا بتأويل كما ورد قليلا والمراد العبد والأمة وإن كانا أسودين وإن كان الأصل في الغرة البياض في الوجه لكن توسعوا في إطلاقها على الجسد كله كما قالوا أعتق رقبة
وقول أبي عمرو بن العلاء المقري المراد الأبيض لا الأسود إذ لولا أنه صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى زائدا على شخص العبد والأمة لما ذكرها تعقبه النووي بأنه خلاف ما اتفق عليه الفقهاء من إجزاء الغرة السوداء قال أهل اللغة الغرة عند العرب أنفس الشيء وأطلقت هنا على الإنسان لأن الله تعالى خلقه في أحسن تقويم فهو أنفس المخلوقات
وزاد الليث عن ابن شهاب بسنده في هذا الحديث ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى صلى الله عليه وسلم أن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها
وقريب منه في رواية يونس عن الزهري وكلاهما في البخاري ومسلم
قال ابن عبد البر ترك ذلك مالك لأن فيه إثبات شبه العمد وهو لا يقول به لأنه وجد الفتوى وعمل المدينة على خلافه فكره أن يذكر ما لا يقول به واقتصر على قصة الجنين لأنه أمر مجمع عليه في الغرة هكذا قال في شرح الحديث الثاني
وقال في شرح هذا الحديث لم يختلف على مالك في إسناده ومتنه ولم يذكر فيه قتل المرأة لما فيه من الاختلاف والاضطراب بين أهل النقل والفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وذكر قصة الجنين التي لم يختلف فيها الإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم
والحديث رواه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل وقبله في الطب عن قتيبة بن سعيد ومسلم عن يحيى والنسائي من طريق ابن وهب الخمسة عن مالك به وتابعه عبد الرحمن بن خالد به بدون تلك الزيادة عند البخاري والليث ويونس في الصحيحين بالزيادة ثلاثتهم عن ابن شهاب وتابعه محمد بن عمرو عن ابن سلمة عن أبي هريرة بمثل رواية مالك فقط كما قال أبو عمر
____________________
(4/224)
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب ) مرسلا عند رواة الموطأ ووصله مطرف وأبو عاصم النبيل كلاهما عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة قال ابن عبد البر والحديث عند ابن شهاب عنهما جميعا عن أبي هريرة فطائفة من أصحابه يحدثون به عنه هكذا وطائفة يحدثون به عنه عن سعيد وحده عن أبي هريرة وطائفة عنه عن أبي سلمة وحده عن أبي هريرة ومالك أرسل عنه حديث سعيد هذا ووصل حديث أبي سلمة واقتصر فيهما على قصة الجنين دون قتل المرأة لما ذكرنا من العلة ولما شاء الله مما هو أعلم به انتهى
ومراده أرسله في رواية الأكثر وإلا فقد رواه النسائي عن الحارث بن مسكين عن ابن القاسم حدثني مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى ) حكم ( في الجنين ) حال كونه ( يقتل في بطن أمه ) ذكر أو أنثى أو خنثى ولو مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه ولد عند مالك ( بغرة ) بالتنوين ( عبد أو وليدة ) تقسيم لا شك يساوي كل واحد منهما عشر دية أمه كما يأتي ( فقال الذي قضي عليه ) بضم القاف وكسر الضاد بالغرة وفي رواية للبخاري فقال ولي المرأة التي غرت بضم المعجمة وفتح الراء الثقيلة أي التي قضي عليها بالغرة ووليها هو ابنها مسروح رواه عبد الغني والأكثر أن القائل زوجها حمل ابن النابغة الهذلي وللطبراني أنه عمران بن عويمر أخو مليكة قال الحافظ فيحتمل تعدد القائلين فإسناد هذه صحيح أيضا انتهى
وفيه دلالة قوية لقول مالك وأصحابه ومن وافقهم أن الغرة على الجاني لا على العاقلة كما يقول أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما لأن المفهوم من اللفظ أن المقضي عليه واحد معين وهو الجاني إذ لو قضي بها على العاقلة لقيل فقال الذين قضي عليهم وفي القياس أن كل جانب جنايته عليه إلا بدليل لا معارض له كالإجماع أو السنة وقد قال تعالى { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } سورة الأنعام الآية 164 { ولا تزر وازرة وزر أخرى } سورة فاطر الآية 18 وقال صلى الله عليه وسلم لأبي رمثة في ابنه إنك لا تجني عليه ولا يجني عليك ولا ينافي ذلك اختلاف الروايات في تعيين القائل والجمع بينهما باحتمال تعدده لأن كلا تكلم عن المرأة الجانية كما في رواية البخاري بلفظ فقال ولي المرأة التي غرمت فصرح بأن المرأة الجانية هي التي غرمت الغرة ولا يخالفه رواية غرت بضم الغين وفتح الراء مشددة وتاء ساكنة بلا ميم لأن معناها التي قضي عليها بغرم الغرة ( كيف أغرم ما لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل ) أي صاح عند الولادة وهو من إقامة الماضي مقام المضارع أي لم يشرب الخ
( ومثل ذلك بطل ) بموحدة وطاء مهملة مفتوحتين ولام خفيفة من البطلان وفي رواية يطل بتحتية مضمومة بدل الموحدة وشد اللام أي يهدر من الأفعال التي لا تستعمل إلا مبنية للمفعول قال المنذري وأكثر الروايات بالموحدة وإن رجح الخطابي التحتية
____________________
(4/225)
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هذا من إخوان الكهان ) لمشابهة كلامه كلامهم زاد مسلم من أجل سجعه الذي سجع فيه فشبه بالإخوان لأن الأخوة تقتضي المشابهة وذمه لأنه أراد بسجعه دفع ما أوجبه صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه لأنه مأمور بالصفح عن الجاهلين وهو كان أعرابيا لا علم له بأحكام الدين فقال له قولا لينا وتلك سيمته أن يعرض عن الجاهلين ولا ينتقم لنفسه فلا دلالة فيه لمن زعم كراهة التسجيع مطلقا نعم ينكر على الإنسان الخطيب أو غيره أن يكون كلامه كله سجعا أما إذا كان أقل كلامه فليس بمعيب بل مستحسن محمود فإنه كلام وكذلك الشعر فحسنهما حسن وقبيحهما قبيح كالكلام المنثور كما دلت على ذلك الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وفيه حجة لقول مالك والشافعي وأصحابهما تورث الغرة عن الجنين على فرائض الله تعالى واحتج الشافعي بقوله كيف أغرم الخ قال فالمضمون الجنين لأن العضو لا يعترض فيه بهذا
وقال أبو حنيفة وأصحابه تختص بها الأم لأنها بمنزلة قطع عضو من أعضائها وليست بدية إذ لم تعتبر فيها هل ذكر أو أنثى كالديات وكذا قال الظاهرية واحتج إمامهم داود بأن الغرة لم يملكها الجنين فتورث عنه ويرد عليه دية المقتول خطأ فإنه لم يملكها وهي تورث عنه قاله أبو عمر ملخصا وهذا الحديث رواه البخاري عن قتيبة عن مالك به مرسلا ففيه أن مراسيل مالك صحيحة عند البخاري
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه كان يقول الغرة تقوم خمسين دينارا أو ستمائة درهم ) يعني أن العبد أو الأمة لا يكفي إلا أن يساوي ذلك
( ودية المرأة الحرة المسلمة خمسمائة دينار ) على أهل الذهب ( أو ستة آلاف درهم ) على أهل الورق لأنها على النصف من الذكر
( قال مالك فدية جنين الحرة ) المسلمة ( عشر ديتها والعشر خمسون دينارا أو ستمائة درهم ) وبهذا قال الزهري وسائر أهل المدينة
وقال أبو حنيفة والكوفيون قيمة الغرة خمسمائة درهم
وقال الشافعي سن الغرة سبع سنين أو ثمان سنين بلا عيب
وقال داود كل ما وقع عليه اسم الغرة ( ولم أسمع أحدا يخالف في أن الجنين لا تكون فيه الغرة حتى يزايل ) يفارق ( بطن أمه ويسقط من بطنها ميتا ) وهي حية ( وسمعت أنه إذا خرج الجنين من بطن أمه حيا ثم مات ) بقرب خروجه وعلم أن موته كان من الضربة وما فعل بأمه وبه في بطنها ( أن فيه الدية كاملة ) ويعتبر فيه الذكر والأنثى وهذا اجتماع
____________________
(4/226)
( قال مالك ولا حياة للجنين إلا بالاستهلال ) أي الصياح عند الولادة
( فإذا خرج من بطن أمه فاستهل ثم مات ففيه الدية كاملة ) وقال الشافعي وباقي الفقهاء إذا علمت حياته بحركة أو بعطاس أو استهلال أو غير ذلك مما يتيقن به حياته ثم مات فالدية كاملة
( ونرى أن في جنين الأمة ) ذكرا كان أو أنثى ( عشر ثمن أمه ) وبه قال أهل المدينة والشافعي وغيرهم
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري كذلك إن كان أنثى لا إن كان ذكرا فنصف عشر قيمة نفسه
وقال داود لا شيء في جنين الأمة مطلقا
( وإذا قتلت المرأة رجلا أو امرأة ) أي ذكرا أو أنثى ( عمدا و ) الحال أن ( التي قتلت ) بفتحات ( حامل لم يقد ) يقتص ( منها حتى تضع حملها ) لئلا يؤخذ نفسان في نفس
( وإن قتلت ) بضم فكسر ( المرأة وهي حامل عمدا أو خطأ فليس على من قتلها في جنينها شيء ) ثم ( إن قتلت عمدا قتل الذي قتلها ) قصاصا ( وليس في جنينها دية وإن قتلت خطأ فعلى عاقلة قاتلها ديتها وليس في جنينها دية ) وعلى هذا الفقهاء كلهم إلا الليث وأهل الظاهر فقالوا إذا ألقت جنينها ميتا فالغرة سواء رمته بعد موتها أو قبله وأبطله الطحاوي بأنهم أجمعوا والليث معهم على أنه لو ضرب بطنها فماتت وهو في بطنها لم يسقط أنه لا شيء فيه كذلك إذا أسقطته بعد موتها قال ولا خلاف أيضا لو ضرب بطن ميتة حامل فألقت جنينا ميتا أنه لا شيء فيه فكذلك إذا كان الضرب في حياتها فماتت ثم ألقته ميتا
( وسئل مالك عن جنين اليهودية والنصرانية يطرح ) بنحو ضرب بطنها ( فقال أرى أن فيه عشر دية أمه ) وهي نصف دية المسلمة
8 ما فيه الدية كاملة ( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول في الشفتين الدية كاملة ) وجاء ذلك مرفوعا عند النسائي وغيره في كتاب عمرو بن حزم من طريق الزهري كما مر
( فإذا قطعت السفلى ففيها
____________________
(4/227)
ثلثا الدية ) لأن النفع بها أقوى لكن لم يأخذ بهذا مالك والشافعي ومن وافقهما فقالوا فيها نصف الدية
( مالك أنه سأل ابن شهاب عن الرجل الأعور يفقأ عين الصحيح فقال ابن شهاب إن أحب الصحيح أن يستقيد ) يقتص ( منه فله القود وإن أحب فله الدية ألف دينار ) إن كان من أهل الذهب ( أو اثنا عشر ألف درهم ) إن كان من أهل الفضة
( مالك أنه بلغه أن في كل زوج من الإنسان ) كاليدين والرجلين والبيضتين والشفتين والعينين ( الدية كاملة وأن في اللسان الدية كاملة ) وذلك في كتاب عمرو بن حزم عند النسائي ( أن في الأذنين إذا ذهب سمعهما الدية كاملة ) سواء ( اصطلمتا ) أي قطعتا من أصلهما ( أو لم تصطلما ) لم يقطعا
( وفي ذكر الرجل الدية كاملة ) لنص حديث عمر ( وفي الانثيين الدية كاملة ) بنصه أيضا
( مالك أنه بلغه أن في ثديي المرأة الدية كاملة ) إذا استأصلهما بالقطع وأما حلمتاهما وهي رأسهما فلا تجب الدية فيهما إلا بشرط إبطال اللبن
( مالك وأخف ذلك عندي الحاجبان وثديا الرجل ) فليس فيهما الدية بل الحكومة
( والأمر عندنا أن الرجل إذا أصيب من أطرافه أكثر من ديته فذلك له إذا أصيبت يداه ورجلاه وعيناه فله ثلاث ديات ) وإن أصيب مع ذلك شفتاه فأربع وهكذا
( قال مالك في عين الأعور الصحيحة إذا فقئت خطأ إن فيها الدية كاملة ) لقول ابن شهاب هي السنة وقضى به عمر وعثمان وعلي وابن عباس وقاله سليمان بن يسار وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير
____________________
(4/228)
9 ما جاء في عقل العين إذا ذهب بصرها ( مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن زيد بن ثابت ) الصحابي الشهير ( كان يقول في العين القائمة إذا أطفئت ) أطمس نورها ( مائة دينار ) ولم يأخذ بهذا مالك بل قال إن أمكن أن يفعل ذلك بالجاني وإلا فالعقل كالخطأ
( وسئل مالك عن شتر العين ) بفتح الشين المعجمة والفوقية أي قطع جفنها الأسفل مصدر شتر من باب تعب ( وحجاج العين ) بكسر الحاء المهملة وفتحها لغة وجيمين بينهما ألف العظم المستدير حولهما وهو مذكر وجمعه حججة
وقال ابن الأنباري الحجاج العظم المشرف على غار العين ( فقال ليس في ذلك إلا الاجتهاد إلا أن ينقص بصر العين فيكون له بقدر ما نقص من بصر العين ) من الدية
( والأمر عندنا في العين القائمة العوراء ) التي لا تبصر ( إذا أطفئت ) أي أزيلت وقلعت ( وفي اليد الشلاء ) التي فسدت وبطل عملها ( إذا قطعت أنه ليس في ذلك إلا الاجتهاد وليس في ذلك عقل مسمى ) لأنه لم يرد فيه شيء
10 ما جاء في عقل الشجاج بكسر المعجمة جمع شجة الجراحة ويجمع أيضا على شجات على لفظها وإنما تسمى بذلك إذا كانت في الوجه أو الرأس
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سليمان بن يسار يذكر أن الموضحة في الوجه مثل الموضحة في الرأس إلا أن تعيب ) بفتح فكسر ( الوجه فيزاد في عقلها ) ديتها ( ما بينها وبين عقل نصف الموضحة في الرأس فيكون فيها خمسة وسبعون دينارا ) على أهل الذهب
____________________
(4/229)
( قال مالك والأمر عندنا أن في المنقلة خمس عشرة فريضة ) من الإبل ( والمنقلة ) هي ( التي يطير فراشها ) بفتح الفاء وكسرها الرقيق ( من العظم ) بيان لفراش عند الدواء ( ولا تخرق ) بفتح التاء وسكون المعجمة تصل ( إلى الدماغ ) المقتل من الرأس ( وهي تكون في الرأس وفي الوجه والأمر المجتمع عليه عندنا أن المأمومة والجائفة ليس فيهما قود ) لأنهما من المتالف
( قال مالك والمأمومة ما خرق العظم إلى الدماغ ولا تكون المأمومة إلا في الرأس وقد قال ابن شهاب ليس في المأمومة قود ) قصاص
( قال مالك وما يصل إلى الدماغ إذا خرق العظم والأمر عندنا أنه ليس فيما دون الموضحة من الشجاج ) الجراح ( عقل ) دية ( حتى تبلغ الموضحة وإنما العقل في الموضحة فما فوقها و ) دليل ( ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى ) أي وصل إلى الموضحة في كتابه لعمرو بن حزم بمهملة وزاي ( فجعل فيها خمسا من الإبل ) ولم يجعل فيما قبلها شيئا مقدرا
( ولم تقض الأئمة ) الخلفاء ( في القديم ولا في الحديث فيما دون الموضحة بعقل ) فلا دية فيها
( مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال كل ) جراحة ( نافذة في عضو من الأعضاء ففيها ثلث عقل ذلك العضو
مالك كان ابن شهاب لا يرى ذلك وأنا لا أرى في نافذة في عضو من الأعضاء في الجسد أمرا مجتمعا عليه ) محددا بحد كما حده ابن المسيب
( ولكني أرى فيه الاجتهاد يجتهد الإمام في ذلك ) فيكون فيها ما اجتهد فيه
( وليس في ذلك أمر مجتمع عليه عندنا ) لا يتعدى
____________________
(4/230)
( والأمر عندنا أن المأمومة والمنقلة والموضحة لا تكون إلا في الوجه والرأس فما كان في الجسد من ذلك فليس فيه إلا الاجتهاد ) من الحاكم وهذا مما يرد قول ابن المسيب بالتعيين
( ولا أرى اللحي ) بفتح اللام وسكون الحاء ( الأسفل ) وهو عظم الحنك الذي عليه الأسنان وهو من الإنسان حيث ينبت الشعر وهو أعلى وأسفل
( والأنف من الرأس في جراحهما لأنهما عظمان منفردان والرأس بعدهما عظم واحد )
( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن عبد الله بن الزبير أقاد من المنقلة ) ولم يوافقه على ذلك مالك فقال لا قصاص في المنقلة
11 عقل الأصابع ( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال سألت سعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة فقال عشر من الإبل فقلت كم في أصبعين ) منها ( قال عشرون من الإبل فقلت كم في ثلاث ) منها ( فقال ثلاثون من الإبل فقلت كم في أربع قال عشرون من الإبل فقلت حين عظم ) كثر ( جرحها ) بضم الجيم ( واشتدت مصيبتها ) بذلك ( نقص عقلها ) ديتها ( فقال سعيد أعراقي أنت ) تأخذ بالقياس المخالف للنص ( فقلت ) لست بعراقي ( بل عالم متثبت أو جاهل متعلم فقال سعيد هي السنة يا ابن أخي ) قاله ملاطفة على عاداتهم وإن كان ليس ابن أخيه فقوله هي السنة يدل على أنه أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ابن عبد البر وقد اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل وذكر بعضهم أنها تتبعت كلها فوجدت مسندة
____________________
(4/231)
( مالك الأمر عندنا في أصابع الكف إذا قطعت فقد تم عقلها و ) وجه ( ذلك أن خمس أصابع إذا قطعت كان عقلها عقل الكف ) أي إذا قطع معها ( خمسين من الإبل في كل أصبع عشرة من الإبل ) فإذا قطعت الكف بعد ذلك فإنما فيها حكومة
( وحساب الأصابع من الذهب ثلاثة وثلاثون دينارا في كل أنملة وهي من الإبل ثلاث فرائض وثلث فريضة ) وعلى ذلك الحساب يقال في الدراهم
12 جامع عقل الأسنان بفتح الهمزة جمع سن مؤنثة وزن حمل وأحمال والعامة تقول أسنان بالكسر وبالضم وهو خطأ
( مالك عن زيد بن أسلم ) بفتح فسكون ( عن مسلم بن جندب ) الهذلي المدني القاضي ثقة فصيح قارىء تابعي مات سنة ست ومائة ( عن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب قضى في الضرس ) مذكر وربما أنثوه على معنى السن وأنكر الأصمعي التأنيث وجمعه أضراس وربما قيل ضروس ( بجمل ) ذكر الإبل
( وفي الترقوة ) بفتح التاء وضم القاف وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين والجمع التراقي قيل ولا يكون لشيء من الحيوان إلا للإنسان خاصة ( بجمل ) بفتح الجيم والميم
( وفي الضلع بجمل ) بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام لغة الحجاز وسكونها لغة تميم وهي مؤنثة
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول قضى عمر بن الخطاب في الأضراس ) جمع ضرس ويجمع أيضا على ضروس مثل حمل وحمول وأحمال ( ببعير بعير ) أي ذكر بدليل الرواية فوقه بجمل
( وقضى معاوية بن أبي سفيان في الأضراس بخمسة أبعرة خمسة أبعرة ) أي
____________________
(4/232)
في كل واحد منها ولذا كرر
( قال سعيد بن المسيب فالدية تنقص في قضاء عمر بن الخطاب وتزيد في قضاء معاوية ) كما هو ظاهر ( فلو كنت أنا لجعلت في الأضراس بعيرين بعيرين ) في كل ضرس ( فتلك الدية سواء وكل مجتهد مأجور ) ولعلهم لم يبلغهم حديث وفي السن خمسولا حديث الثنية والضرس سواء
( مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول إذا أصيبت السن فاسودت ففيها عقلها تاما فإن طرحت بعد أن اسودت ففيها عقلها أيضا تاما ) حيث كانت على قوتها
13 العمل في عقل الأسنان ( مالك عن داود بن الحصين ) بمهملتين مصغر ( عن أبي غطفان ) بفتح المعجمة والطاء المهملة والفاء قيل اسمه سعد ( ابن طريف ) بفتح المهملة وكسر الراء ( المري ) بضم الميم وشد الراء بلا نقطة ( أنه أخبره أن مروان بن الحكم بعثه إلى عبد الله بن عباس يسأله ماذا في الضرس ) الذي يقلع خطأ من الدية ( فقال عبد الله بن عباس فيه خمس من الإبل ) لقوله صلى الله عليه وسلم وفي السن خمس
( قال ) أبو غطفان ( فردني مروان إلى عبد الله بن عباس فقال أتجعل مقدم الفم ) أي أسنانه ( مثل الأضراس ) مع تفاوت المنفعة بهما ( فقال عبد الله بن عباس لو لم تعتبر ذلك ) في القياس ( إلا بالأصابع عقلها سواء ) لكفاك فحذف جواب لو وإنما قال له ذلك مجاراة لما أومى إليه من أن جعل الأسنان مثل الأضراس خلاف
____________________
(4/233)
القياس وإلا فابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الأصابع والأسنان سواء الثنية والضرس سواء أخرجه الإسماعيلي
وفي البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه وهذه سواء يعني الخنصر والإبهام ولأبي داود والترمذي عنه مرفوعا أصابع اليدين والرجلين سواء ولابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده الأصابع سواء كلهن فيه عشر عشر من الإبل
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يسوي بين الأسنان في العقل ولا يفضل بعضها على بعض ) اتباعا للحديث والعمل كما ( قال مالك والأمر عندنا أن مقدم الفم والأضراس والأنياب ) جمع ناب مذكر وهو الذي يلي الرباعيات ( عقلها سواء و ) دليل ( ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في السن خمس من الإبل والضرس سن من الأسنان لا يفضل بعضها على بعض ) وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفتوى
قال الخطابي وهذا أصل في كل جناية لا تضبط كميتها فإذا فات ضبطها من جهة المعنى اعتبرت من حيث الاسم فتساوي ديتها
وإن اختلف كمالها ومنفعتها ومبلغ فعلها فإن للإبهام من القوة ما ليس للخنصر ومع ذلك فديتهما سواء ولو اختلفت المساحة وكذلك الأسنان نفع بعضها أقوى من بعض وديتها سواء نظرا للاسم فقط اه
14 ما جاء في دية جراح العبيد ( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار كان يقولان في موضحة العبد نصف عشر ثمنه ) أي قيمته لأن الحر في موضحته نصف عشر ديته كما في الحديث وفي الموضحة خمس والمعتبر في الرقيق قيمته
( مالك أنه بلغه أن مروان بن الحكم كان يقضي في العبد يصاب بالجراح أن على من جرحه
____________________
(4/234)
قدر ما نقص من ثمن العبد ) أي قيمته ( قال مالك والأمر عندنا أن في موضحة العبد نصف عشر ثمنه وفي منقلته ) بفتح القاف وكسرها ( العشر ونصف العشر من ثمنه ) قيمته ولو زادت
( وفي مأمومته وجائفته في كل واحد منهما ثلث ثمنه وفيما سوى هذه الخصال الأربع مما يصاب به العبد ما نقص من ثمنه ينظر في ذلك بعد ما يصح العبد ويبرأ ) عطف تفسير أو مساو حسنه اختلاف اللفظ ( كم بين قيمة العبد بعد أن أصابه الجرح وقيمته صحيحا قبل أن يصيبه هذا ) الجرح ( ثم يغرم ) يدفع ( الذي أصابه ما بين القيمتين ) قبل الجرح وبعده
( قال مالك في العبد إذا كسرت يده أو رجله ) من شخص فعل به ذلك ( ثم صح كسره ) بلا نقص ( فليس على من أصابه ) كسره ( شيء فإن أصاب كسره ذلك نقص أو عثل ) بفتح المهملة والمثلثة برأ على غير استواء ( كان على من أصابه ) قدر ( ما نقص من ثمن العبد ) قيمته
( والأمر عندنا في القصاص بين المماليك كهيئة ) صفة ( قصاص الأحرار نفس الأمة بنفس العبد وجرحها بجرحه ) لآية { النفس بالنفس } سورة المائدة الآية 45 ثم قال { والجروح قصاص } سورة المائدة الآية 45 فإذا قتل العبد عبدا عمدا خير سيد العبد المقتول بين القتل والعقل ( فإن شاء قتل ) العبد القاتل ولا كلام لسيده ( وإن شاء أخذ العقل فإن أخذ العقل أخذ قيمة عبده ) لأن الرقيق إنما فيه قيمته ولو زادت على دية الحر وحينئذ فيخير سيد العبد القاتل كما قال
( وإن شاء رب العبد القاتل أن يعطي ثمن العبد المقتول ) أي قيمته كما عبر به أولا ( فعل وإن شاء أسلم عبده ) لأن إلزامه القيمة ضررا عليه فتخييره ينفيه ( فإذا أسلمه فليس عليه غير ذلك ) لأنه أسلم الجاني وليس هو الجاني
( وليس لرب العبد المقتول إذا أخذ العبد القاتل ورضي به أن يقتله ) لأن عدوله عن قتله أولا بمنزلة العفو على الدية فلما خير سيده في إسلامه وفدائه وأسلمه لم يكن لذلك قتله بعد العفو ولا يشكل تخيير سيد المقتول بأن المذهب أن الواجب في العمد القتل أو العفو مجانا
____________________
(4/235)
وليس له إلزام القاتل الدية لأنه فرق بأن المطلوب هنا غير القاتل وهو السيد ولا ضرر عليه في واحد مما يختاره ولي الدم بخلاف الحر فله غرض في إغناء ورثته
( وذلك في القصاص كله بين العبيد في قطع اليد والرجل وأشباه ذلك بمنزلته في القتل ) خبر المبتدأ
( قال مالك في العبد المسلم يجرح اليهودي أو النصراني أن سيد العبد إن شاء أن يعقل عنه ما قد أصاب فعل ) بدفع دية ذلك الجرح لليهودي أو النصراني ( أو أسلمه السيد فيباع فيعطي اليهودي أو النصراني من ثمن العبد دية جرحه أو ثمنه كله إن أحاط بثمنه ولا يعطي اليهودي ولا النصراني عبدا مسلما ) لئلا يلزم استيلاء الكافر على المسلم { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } سورة النساء الآية 141
15 ما جاء في دية أهل الذمة ( مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز قضى أن دية اليهودي أو النصراني إذا قتل ) بالبناء للمفعول نائبه ( أحدهما مثل نصف دية الحر المسلم ) لقوله صلى الله عليه وسلم عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين رواه النسائي وهو في الترمذي بلفظ عقل الكافر نصف عقل المسلم
( مالك الأمر عندنا أنه لا يقتل مسلم ) ولو رقيقا ( بكافر ) ولو حرا لقوله صلى الله عليه وسلم لا يقتل مسلم بكافر أخرجه البخاري عن علي وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر وإليه ذهب الجمهور وقال الحنفية يقتل به تمسكا بظاهر آية { النفس بالنفس } سورة المائدة الآية 45 ورد بأنها مخصوصة بالمساوىء عملا بالحديث
وفي سنن البيهقي عن ابن مهدي عن ابن زياد قلت لزفر تقولون تدرأ الحدود بالشبهات وأقدمتم على أعظم الشبهات قال وما هو قلت قتل مسلم بكافر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يقتل مسلم بكافر قال أشهد على رجوعي عنه
( إلا أن يقتله مسلم قتل غيلة ) بكسر المعجمة وسكون التحتية أي خديعة بأن خدعه حتى ذهب به إلى موضع فقتله ( فيقتل به ) لأن القتل فيها لأجل الفساد لا للقصاص فلو عفا ولي الدم عن القاتل لم يعتبر ويقتل
____________________
(4/236)
( مالك عن يحيى بن سعيد أن سليمان بن يسار كان يقول دية المجوسي ثمان مائة درهم ) فهي ثلث خمس دية المسلم
( قال مالك وهو الأمر عندنا ) بالمدينة
( وجراح اليهودي والنصراني والمجوسي في دياتهم على حساب جراح المسلمين في دياتهم الموضحة نصف عشر ديته والمأمومة ثلث ديته والجائفة ثلث ديته فعلى حساب ذلك جراحاتهم كلها ) يعمل
16 ما يوجب العقل على الرجل في خاصة ماله ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول ليس على العاقلة عقل ) دية ( في قتل العمد إنما عليهم عقل قتل الخطأ ) لثبوته بالسنة للمصلحة فلا يقاس عليه العمد إذ الأصل أنه { ولا تزر وازرة وزر أخرى } سورة فاطر الآية 18 خص منه حمل العاقلة الخطأ فبقي العمد على الأصل
( مالك عن ابن شهاب أنه قال مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئا من دية العمد إلا أن يشاؤوا ذلك )
( مالك عن يحيى بن سعيد مثل ذلك ) أي قول ابن شهاب
وجاء عن ابن عباس مرفوعا لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا اعترافا ولا صلحا ولا ما دون الثلث
( مالك أن ابن شهاب قال مضت السنة في قتل العمد حين يعفو أولياء المقتول ) عن القاتل على الدية ( أن الدية تكون على القاتل في ماله خاصة إلا أن تعينه ) تساعده ( العاقلة ) إعانة صادرة ( عن طيب أنفس منها ) بلا جبر وكذا حكم غيرها إذا أعانه فله ذلك
____________________
(4/237)
( مالك والأمر عندنا أن الدية لا تجب على العاقلة حتى تبلغ الثلث ) أي ثلث دية المجنى عليه أو الجاني ( فصاعدا فما بلغ الثلث فهو على العاقلة وما كان دون الثلث فهو في مال الجارح خاصة ) للحديث وبه قال الفقهاء السبعة وقال الشافعي تحمل القليل والكثير
( والأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا فيمن قبلت منه الدية في قتل العمد أو في شيء من الجراح التي فيها القصاص أن عقل ذلك لا يكون على العاقلة إلا أن يشاؤوا وإنما عقل ذلك في مال القاتل أو الجارح خاصة إن وجد له مال فإن لم يوجد له مال كان دينا عليه وليس على العاقلة منه شيء إلا أن يشاؤوا ) استثناء منقطع
( ولا تعقل العاقلة أحدا أصاب نفسه عمدا أو خطأ بشيء وعلى ذلك رأى أهل الفقه عندنا ولم أسمع أن أحدا ضمن العاقلة من دية العمد شيئا ) لأنها إنما ثبتت بالسنة في الخطأ وأجمع عليها العلماء وهو مخالف لظاهر قوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } سورة فاطر الآية 18 لكنه خص من عمومها بالسنة والإجماع ولما فيه من المصلحة لأن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن يأتي على جميع ماله لأن تتابع الخطأ منه لا يؤمن ولو ترك بلا تغريم لأهدر دم المقتول فلا يقاس العمد على ذلك
( ومما يعرف به ذلك أن الله تبارك وتعالى قال في كتابه فمن عفي له ) من القاتلين ( من ) دم ( أخيه ) المقتول ( شيء ) بأن ترك القصاص منه وتنكير شيء يفيد سقوط القصاص العفو عن بعضه ومن بعض الورثة وفي ذكر أخيه تعطيف داع إلى العفو وإيذان بأن القتل لا يقطع إخوة الإيمان ومن مبتدأ شرطية أو موصولة والخير ( فاتباع ) أي فعلى العافي اتباع القاتل ( بالمعروف ) بأن يطالبه بالدية بلا عنف ( و ) على القاتل ( أداء ) الدية ( إليه ) إلى العافي وهو الوارث ( بإحسان ) بلا مطل ولا بخس ( فتفسير ذلك فيما نرى ) بضم النون نظن ( والله أعلم ) بمراده ( أنه من أعطي من أخيه شيئا من العقل ) الدية ( فليتبعه بالمعروف ليؤد إليه القاتل بإحسان ) فدل ذلك على أن دية العمد إنما هي على القاتل لأن الأمر إنما هو باتباعه لا عاقلته وترتيب الاتباع على العفو يفيد أن الواجب أحدهما أي القصاص
____________________
(4/238)
أو العفو وهو المشهور عن مالك ورواية ابن القاسم عنه
وروى أشهب عن مالك الواجب القصاص أو الدية واختاره جماعة من المتأخرين لحديث الصحيحين مرفوعا من قتل له قتيل فهو يخير النظرين إما أن يؤدي وإما أن يقاد ( قال مالك في الصبي الذي لا مال له والمرأة التي لا مال لها إذا جنى أحدهما جناية دون الثلث أنه ضامن ) أي مضمون كمعيشة راضية أي مرضية ( على الصبي أو المرأة في مالهما خاصة إن كان لهما مال أخذ منه وإلا فجناية كل واحد منهما دين عليه ليس على العاقلة منه شيء ولا يؤخذ أبو الصبي بعقل جناية الصبي وليس ذلك عليه ) لحديث أبي رمثة في ابنه ولا تجني عليه لا يجني عليك
وفي النسائي مرقوما لا تجني نفس عن أخرى أي لا يؤخذ أحد بجناية أحد
( والأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه أن العبد إذا قتل ) بالبناء للمفعول ( كانت فيه للقيمة يوم يقتل ) على قاتله
( ولا تحمل عاقلة قاتله من قيمة العبد شيئا قل أو كثر ) لأنها لا تحمل عبدا كما مر في الحديث ( وإنما ذلك على الذي أصابه في ماله خاصة بالغا ما بلغ وإن كانت قيمة العبد الدية ) أي قدرها ( أو أكثر فذلك عليه في ماله وذلك لأن العبد سلعة من السلع ) جمع سلعة كسدرة وسدر أي بضاعة بالكسر قطعة من المال تعد للتجارة
17 ميراث العقل والتغليظ فيه ( مالك عن ابن شهاب ) قال أبو عمر هكذا رواه أصحاب مالك عنه
ورواه أصحاب ابن شهاب سفيان بن عيينة ومعمر وابن جريج وهشيم عنه عن سعيد بن المسيب ( أن عمر بن الخطاب ) ورواية ابن المسيب عن عمر تجري مجرى المتصل لأنه قد رآه وصحح بعض العلماء سماعه منه وولد سعيد لسنتين من خلافته وقال سعيد ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضية ولا أبو بكر ولا عمر إلا وأنا أحفظها
وهذا الحديث صحيح معمول به
وفي طريق هشيم عن الزهري عن سعيد قال جاءت امرأة إلى عمر تسأله أن يورثها من دية زوجها فقال ما أعلم لك شيئا ثم ( نشد ) طلب ( الناس بمنى ) أي طلب
____________________
(4/239)
منهم جواب قوله ( من كان عنده علم من الدية أن يخبرني ) وفي رواية معمر عن الزهري عن ابن المسيب أن عمر قال ما أرى الدية إلا للعصبة لأنهم يعقلون عنه فهل سمع منكم أحد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئا ( فقام الضحاك بن سفيان ) بن عوف بن أبي بكر بن كلاب ( الكلابي ) أبو سعيد صحب النبي صلى الله عليه وسلم وعقد له لواء وكان من الشجعان يعد بمائة فارس وبعثه صلى الله عليه وسلم على سرية وفيه يقول العباس بن مرداس إن الذين وفوا بما عاهدتهم جيش بعثت عليهم الضحاكا طورا يعانق باليمين وتارة يفري الجماجم صارما بتاكا ( فقال ) زاد معمر وكان صلى الله عليه وسلم استعمله على الأعراب وقال ابن سعد كان ينزل نجدا وكان واليا على من أسلم هناك وقال الواقدي كان على صدقات قومه ( كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث ) بضم الهمزة وفتح الواو وكسر الراء الثقيلة ( امرأة أشيم ) بمعجمة وتحتية قال في الإصابة بوزن أحمد ( الضبابي ) بكسر المعجمة فموحدة فألف فموحدة ثانية قتل في العهد النبوي مسلما ( من دية زوجها ) أشيم ( فقال له عمر بن الخطاب ادخل الخباء ) بكسر الخاء المعجمة وموحدة ومد الخيمة ( حتى آتيك فلما نزل عمر بن الخطاب أخبره ) الضحاك بن سفيان بالخبر
وروى ابن شاهين من طريق ابن إسحاق عن الزهري قال حدثت عن المغيرة بن شعبة أنه قال حدثت عمر بن الخطاب بقصة أشيم فقال إيتني على هذا بما أعرف فنشدت الناس في الموسم فأقبل رجل يقال له زرارة بن جري فحدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
وأخرج أبو يعلى والحسن بن سفيان بإسناد حسن عن المغيرة بن شعبة أن زرارة بن جري قال لعمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى الضحاك بن سفيان أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها ( فقضى بذلك عمر بن الخطاب ) بعد رواية الضحاك وزرارة والمغيرة ذلك له عن النبي صلى الله عليه وسلم كما علم لا لأنه لا يقبل خبر الواحد بل لإشاعة الخبر وإشهاره بالموسم ورد ما كان رآه أن الدية إنما هي للعصبة لأنهم يعقلون عنه لأنه لا قياس مع النص قال أبو عمر هكذا في حديث ابن شهاب عند مالك وغيره أن الضحاك أخبر عمر وقول ابن عيينة أن الضحاك كتب إليه وهم إنما الضحاك كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أن العالم الجليل قد يخفى عليه من السنن والعلم ما يكون عند من هو دونه في العلم وأخبار الآحاد علم خاصة لاينكر أن يخفى منه الشيء على العالم وهو عند غيره
( قال ابن شهاب وكان
____________________
(4/240)
قتل أشيم خطأ ) هكذا في الموطأ ورواه أبو يعلى وغيره من طريق ابن المبارك عن مالك عن الزهري عن أنس قال كان قتل أشيم خطأ
قال الدارقطني والمحفوظ ما في الموطأ أنه قول ابن شهاب
وقال ابن عبد البر هو غريب جدا والمعروف أنه من قول ابن شهاب فإنه كان يدخل كلامه في الأحاديث كثيرا
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن عمرو بن شعيب ) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي الصدوق المتوفى سنة ثمان عشرة ومائة ( أن رجلا من بني مدلج ) بضم الميم وإسكان المهملة وكسر اللام بطن من كنانة ( يقال له قتادة ) المدلجي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره ( حذف ) بحاء مهملة أي رمى ( ابنه ) لم يسم قال ابن عبد البر وصحف من رواه بالخاء المنقوطة لأن الخذف بالخاء إنما هو الرمي بالحصى أو النوى وهو قد قال ( بالسيف فأصاب ساقه فنزي ) بضم النون وكسر الزاي كعني في جرحه بضم الجيم ( فمات فقدم سراقة ) بضم المهملة ( ابن جعشم ) بضم الجيم والمعجمة بينهما عين مهملة ساكنة نسب لجده وأبو مالك الكناني ثم المدلجي أبو سفيان صحابي شهير من مسلمة الفتح مات سنة أربع وعشرين وقيل بعدها ( على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فقال عمر اعدد ) بضم الدال الأولى ( على ماء قديد ) بضم القاف ومهملتين مصغر موضع بين مكة والمدينة ( عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك فلما قدم عليه عمر بن الخطاب أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة ) بالكسر ( وثلاثين جذعة ) بفتحتين ( وأربعين خلفة ) بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام وفاء مفتوحة الحوامل من الإبل ( ثم قال أين أخو المقتول قال ها أنا ذا قال خذها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس لقاتل شيء ) من دية ولا إرث
وروى عبد الرزاق هذه القصة من طريق سليمان بن يسار نحوه وقال فورثه أخاه لأبيه وأمه ولم يورث أباه من ديته شيئا
( مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار سئلا أتغلظ الدية ) في المقتول ( في الشهر الحرام ) أي جنسه فشمل الأربعة ( فقال لا ) تغلظ لأنه لم يرد ( ولكن يزاد فيها للحرمة ) أي حرمة
____________________
(4/241)
الأشهر الحرم ( فقيل لسعيد هل يزاد في الجراح كما يزاد في النفس فقال نعم ) أي يزاد ( قال مالك أراهما ) أظن سعيدا وسليمان ( أرادا مثل الذي صنع عمر بن الخطاب في عقل المدلجي حين أصاب ابنه ) من تثليث الدية
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن عروة بن الزبير ) بن العوام ( أن رجلا من الأنصار يقال له أحيحة ) بمهملتين مصغر ( ابن الجلاح ) بضم الجيم وتخفيف اللام وآخره مهملة ( كان له عم صغير هو أصغر من أحيحة وكان عند أخواله فأخذه أحيحة فقتله فقال أخواله كنا أهل ثمه ) بضم المثلثة وكسر الميم الثقيلة وهاء الضمير قال أبو عبيد المحدثون يروونه بالضم والوجه عندي الفتح والثم إصلاح الشيء وإحكامه يقال ثممت أثم ثما وقال أبو عمرو والثم الرم ( ورمه ) بضم الراء وكسر الميم شديدة قال الأزهري هكذا روته الرواة وهو الصحيح وإن أنكره بعضهم
وقال ابن السكيت يقال ماله ثم ولا رم بضمهما فالثم قماش البيت والرم مرمة البيت كأنه أريد كنا القائمين به منذ ولد إلى أن شب وقوي
( حتى إذا استوى على عممه ) بضم العين المهملة وفتحها وميمين أولاهما مفتوحة والثانية مكسورة مخففة أي على طوله واعتدال شبابه ويقال للنبت إذا طال اعتم
ورواه أبو عبيد بالتشديد قاله الهروي أي شد الميم الثانية قال الجوهري قد تشدد للازدواج ( غلبنا حق امرىء في عمه ) فأخذه منا قهرا علينا
( قال عروة فلذلك لا يرث قاتل من قتل ) أي الذي قتله قال في الإصابة بعد ذلك أثر الموطأ هذا لم أقف على نسب أحيحة هذا في أنساب الأنصار وقد ذكره بعض من ألف في الصحابة
وزعم أنه أحيحة بن الجلاح بن حريش ويقال حراس بن حجبا بن كلفة بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس وكانت تحته سلمى بنت عمرو الخزرجية فولدت له عمرو بن أحيحة وتزوج سلمى بعد أحيحة هاشم بن عبد مناف فولدت له عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وزعم أن عمرو بن أحيحة هذا هو الذي روى عن خزيمة بن ثابت في النهي عن إتيان النساء في الدبر
وروى عنه عبد الله بن علي ابن السائب وقضيته أن يكون لأبيه أحيحة صحبة وقد أنكر ابن عبد البر هذا إنكارا شديدا
وقال في الاستيعاب ذكره ابن أبي حاتم فيمن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال وسمع من خزيمة بن ثابت
____________________
(4/242)
قال ابن عبد البر وهذا لا أدري ما هو لأن أحيحة قديم وهو أخو عبد المطلب لأمه فمن المحال أن يروي عن خزيمة من كان بهذا القدم ويروي عنه عبد الله بن علي بن السائب فعسى أن يكون حفيدا لعمرو بن أحيحة يعني تسمى باسم جده قلت لم يتعين ما قال بل لعل أحيحة بن الجلاح والد عمر وآخر غير أحيحة بن الجلاح المشهور وقد ذكر المرزباني عمرو بن أحيحة في معجم الشعراء وقال إنه مخضرم يعني أدرك الجاهلية والإسلام وأنشد له شعرا قال لما خطب الحسن بن علي عند معاوية وأحيحة بن الجلاح المشهور كان شريفا في قومه مات قبل أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم بدهر ومن ولده محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح أحد من سمي محمدا في الجاهلية رجاء أن يكون هو النبي المبعوث ومات محمد ابن عقبة في الجاهلية وأسلم ولده المنذر بن محمد وشهد بدرا وغيرها واستشهد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ببئر معونة وممن له صحبة من ذرية أحيحة عياض بن عمرو بن شهل بن أحيحة شهد أحدا وما بعدها وعمران وبليل ولدا بلال بن أحيحة شهدا أحدا أيضا ولم يذكر أحد أباهم في الصحابة ومن ذرية أحيحة أيضا فضالة بن عبيد بن ناقد بن قيس بن الأصرم بن حجبا أمه بنت محمد بن عقبة المذكور وذاك من الأدلة على وهم من ذكر أحيحة بن الجلاح الأكبر في الصحابة
وقال عياض في المشارق وهم بعضهم ما في الموطأ بأن أحيحة جاهلي لم يدرك الإسلام والأنصار اسم إسلامي للأوس والخزرج فكيف يقال من الأنصار قال عياض وهو يتخرج على أن في اللفظ تساهلا لما كان من قبيل المذكور وصار لهم هذا الاسم كالنسب ذكر في جملتهم لأنه من إخوتهم انتهى
وهذا تسليم منه لأنه مات في الجاهلية
وقد أغرب القاضي أبو عبد الله ابن الحذاء في رجال الموطأ فزعم أن أحيحة بن الجلاح قديم الوفاة وأنه عمر حتى أدرك الإسلام وأنه الذي ذكر عنه مالك ما ذكر وأن عروة لم يدركه وإنما وقع له الذي وقع في الجاهلية فأقرها الإسلام انتهى
فجعله تارة أدرك الإسلام وتارة لم يدركه الحق أنه مات قديما كما قدمته
وأما صاحب القصة فالذي يظهر لي أنه غيره وكأنه والد عمرو بن أحيحة الذي روى عنه خزيمة بن ثابت فيكون أحيحة الصحابي والد عمرو غير أحيحة بن الجلاح جد محمد بن عقبة القديم الجاهلي ويحتمل أن يكون الأصغر حفيد الأكبر وافق اسمه واسم أبيه اسم جده واسم أبيه والله أعلم انتهى كلام الإصابة
( قال مالك الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن قاتل العمد لا يرث من دية من قتل شيئا ولا من ماله ولا يحجب أحدا وقع له ميراث ) لأن كل من لا يرث لا يحجب وارثا
( وأن الذي يقتل خطأ لا يرث من الدية شيئا ) وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما قام يوم فتح مكة قال لا يتوارث أهل ملتين وترث المرأة من دية زوجها وماله وهو يرث من ديتها ما لم يقتل أحدهما صاحبه عمدا فلا يرث من ديته وماله شيئا وإن قتل صاحبه خطأ ورث من ماله ولا يرث من ديته رواه الدارقطني بإسناد ضعيف لكنه اعتضد باتفاق أهل المدينة عليه
____________________
(4/243)
( وقد اختلف في أن يرث من ماله لأنه لا يتهم على أنه قتله ليرثه وليأخذ ماله ) الذي هو علة منع إرثه في قتله عمدا فإذا انتفت العلة بكون القتل خطأ ورث من المال أو لا يرث عملا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم ليس لقاتل شيء ( فأحب ) القولين ( إلي أن يرث من ماله ولا يرث من ديته ) لأن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما
18 جامع العقل ( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم القرشي الزهري ( عن سعيد بن المسيب ) القرشي ( و ) عن ( أبي سلمة بن عبد الرحمن ) بن عوف الزهري كلاهما ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جرح ) بفتح الجيم على المصدر لا غير قاله الأزهري فأما بالضم فالاسم ( العجماء ) بفتح المهملة وسكون الجيم وبالمد تأنيث أعجم وهو البهيمة ويقال أيضا لكل حيوان غير الإنسان ولمن لا يفصح والمراد هنا الأول سميت البهيمة عجماء لأنها لا تتكلم ( جبار ) بضم الجيم وتخفيف الموحدة أي هدر لا شيء فيه قال أبو عمر جرحها جنايتها وأجمع العلماء أن جنايتها نهارا وجرحها بلا سبب فيه لأحد أنه هدر لا دية فيه ولا أرش أي فلا يختص الهدر بالجراح بل كل الإتلافات ملحقة بها قال عياض وإنما عبر بالجرح لأنه الأغلب أو هو مثال نبه به على ما عداه
وفي رواية التنيسي عن مالك العجماء جبار ولا بد لها من تقدير إذ لا معنى لكون العجماء نفسها جبارا ودلت رواية مسلم بلفظ العجماء جرحها جبار على أن ذلك المقدر هو جرحها فوجب المصير إليه وإن كان الحكم لا يختص بالجرح كما علم ولو لم يكن رواية تعين المقدر لم يكن لرواية التنيسي عموم في جميع المقدرات التي يستقيم الكلام بتقدير واحد منها على الصحيح في الأصول أن المتبدأ لا عموم له
( والبئر ) بكسر الموحدة وباء ساكنة مهموزة ويجوز تسهيلها وهي مؤنثة ويجوز تذكيرها على معنى القليب والطوى ( جبار ) هدر لا ضمان على ربها في كل ما سقط فيها بغير صنع أحد إذا حفرها في موضع يجوز حفرها فيه كملكه أو داره أو فنائه أو في صحراء لماشية أو طريق واسع محتمل ونحو ذلك هذا قول مالك والشافعي والليث وداود وأصحابهم قاله في التمهيد وقال أبو عبيد المراد بالبئر
____________________
(4/244)
هنا العادية القديمة التي لا يعلم لها مالك تكون في البادية فيقع فيها إنسان أو دابة فلا شيء في ذلك على أحد انتهى وهذا تضييق
( والمعدن ) بفتح الميم وسكون العين وكسر الدال المهملتين المكان من الأرض يخرج منه شيء من الجواهر والأجساد كذهب وفضة وحديد ونحاس ورصاص وكبريت وغيرها من عدن بالمكان إذا أقام به يعدن بالكسر عدونا سمي به لعدون ما أنبته الله فيه كما قال الأزهري أي إقامته إذا انهار على من حفر فيه فهلك فدمه ( جبار ) لا ضمان فيه كالبئر وليس المعنى أنه لا زكاة فيه وإنما المعنى أن من استأجر رجلا ليعمل في معدن فهلك فهدر لا شيء على من استأجره ولا دية له في بيت المال ولا غيره والأصل في زكاته قبل الإجماع قوله تعالى { أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض } سورة البقرة الآية 267 وصحح الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم أخذ من معادن القبلية الصدقة
( وفي الركاز ) بكسر الراء وخفة الكاف فألف فزاي وهو كما نقله الإمام في الزكاة دفن الجاهلية ( الخمس ) في الحال لا بعد الحول باتفاق سواء كان في دار الإسلام أو الحرب قليلا أو كثيرا نقدا أو غيره كنحاس وجوهر على ظاهر الحديث وإليه ذهب مالك وغيره وفي بعض ذلك خلاف قدمته في الزكاة وإنه إنما كان فيه الخمس لأنه لا يحتاج في استخراجه إلى عمل ومؤنة ومعالجة بخلاف المعدن أو لأنه مال كافر فنزل واجده منزلة الغانم فكان له أربعة أخماسه وتفسيره بدفن الجاهلية هو ما نقله الإمام عن سماعه من العلماء وإجماع أهل المدينة عليه وقال به هو والشافعي وأحمد وهو حجة على قول أبي حنيفة والعراقيين الركاز هو المعدن فهما لفظان مترادفان فيهما الخمس وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم عطف أحدهما على الآخر وذكر لهذا حكما غير حكم الأول والعطف يقتضي التغاير واحتمال أن هذه الأمور ذكرها صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة فجمعها الراوي وساقها مساقا واحدا فلا يكون فيه حجة خلاف الظاهر والأصل فلا يعبأ به وقال الأبهري يطلق على الأمرين قال وقيل الركاز قطع الفضة تخرج من المعدن وقيل من الذهب أيضا
( لطيفة ) مما نعت به المحب أنه كالدابة جرحه جبار حكي أن خطافا راود خطافة في قبة سليمان عليه الصلاة والسلام فسمعه يقول بلغ مني حبك لو قلت لي اهدم القبة على سليمان فعلت فاستدعاه سليمان فقال له لا تعجل إن للمحبة لسانا لا يتكلم به إلا المحبون والعاشقون ما عليهم من سبيل فإنهم يتكلمون بلسان المحبة لا بلسان العلم والعقل فضحك سليمان ولم يعاقبه وقال هذا جرح جبار
وهذا الحديث أخرجه البخاري في الزكاة عن عبد الله بن يوسف ومسلم في الحدود من طريق إسحاق بن عيسى كلاهما عن مالك وتابعه الليث وغيره في الصحيحين والسنن
( قال مالك وتفسير الجبار أنه لا دية فيه ) قال أبو عمر لا أعلم في ذلك خلافا أنه الهدر الذي لا أرش فيه ولا دية كما قال مالك رحمه الله تعالى
( وقال مالك ) مقيدا لإطلاق الحديث المذكور مبينا للمراد به ( القائد ) للدابة ( والسائق ) لها
____________________
(4/245)
( والراكب ) عليها ( كلهم ضامنون لما أصابت الدابة ) لنسبة سيرها إليهم فلم تستقل بالفعل حتى يكون جبارا فلا يدخل في الحديث ( إلا أن ترمح ) بفتح الميم ( الدابة ) أي تضرب برجلها ( من غير أن يفعل بها شيء ) كنخس ترمح له فلا ضمان
( وقد قضى عمر بن الخطاب في الذي أجرى فرسه بالعقل ) أي الدية
( فالقائد والسائق والراكب أحرى ) أولى ( أن يغرم من الذي أجرى فرسه ) لأنه إذا أجراها لا يستطيع غالبا منعها بخلافهم
( والأمر عندنا في الذي يحفر ) بكسر الفاء ( البئر على الطريق أو يربط الدابة أو يصنع أشباه هذا على طريق المسلمين أن ما صنع من ذلك ) يفصل فيه فإن كان ( مما لا يجوز له أن ) يصنعه ( على طريق المسلمين ) كالضيقة التي لا تحتمل ذلك ( فهو ضامن لما أصيب في ذلك من جرح أو غيره فما كان من ذلك عقله دون ثلث الدية فهو في ماله خاصة ) لأن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث
( وما بلغ الثلث فصاعدا فهو على العاقلة و ) إن كان ( ما صنع من ذلك مما يجوز له أن يصنعه على طريق المسلمين ) كالواسعة المحتملة ( فلا ضمان عليه فيه ولا غرم ) بل هو هدر وعليه يحمل الحديث
( ومن ذلك البئر يحفرها الرجل للمطر والدابة ينزل عنها الرجل للحاجة فيقفها على الطريق فليس على أحد في هذا غرم ) لا على الرجل ولا على بيت المال ولا غيرهما
( وقال مالك في الرجل ينزل في البئر فيدركه رجل آخر في أثره ) بفتحتين وبكسر فسكون أي عقبه ( فيجبذ ) بجيم فموحدة مكسورة فذال معجمة وهو لغة صحيحة وليس مقلوب جذب ( الأسفل الأعلى فيخران ) يسقطان ( في البئر فيهلكان جميعا أن على عاقلة الذي جبذه ) وهو الأسفل ( الدية ) لجذبه والأسفل هدر ( والصبي يأمره الرجل ينزل في البئر أو يرقى ) يصعد ( النخلة فيهلك في ذلك أن
____________________
(4/246)
الذي أمره ضامن لما أصابه من هلاك أو غيره ) مثل كسر عضو
( والأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أنه ليس على النساء والصبيان عقل يجب عليهم أن يعقلوه مع العاقلة فيما تعقله العاقلة ) بكسر القاف جمع عاقل ( من الديات وإنما يجب العقل على من بلغ الحلم من الرجال ) العصبة سموا عاقلة لعقلهم الإبل بفناء دار المستحق أو لتحملهم عن الجاني العقل أي الدية أو لمنعهم عنه والعقل المنع ومنه سمي العقل عقلا لمنعه من الفواحش ولا شيء من الثلاثة يناسب النساء والصبيان ( وقال مالك في عقل الموالي يلزمه ) بضم فسكون ففتح ( العاقلة إن شاؤوا وإن أبوا ) وسواء ( كانوا أهل ديوان ) بكسر الدال وتفتح معرب ( أو مقطعين ) بضم الميم وفتح الطاء وكسر العين وفي نسخة منقطعين بنون قبل القاف
( وقد تعاقل الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمان أبي بكر الصديق قبل أن يكون ) يوجد ( ديوان وإنما كان الديوان في زمان عمر بن الخطاب ) فهو أول من دون الدواوين في العرب أي رتب الجوائز للعمال وغيرهم ( فليس لأحد أن يعقل عنه غير قومه ومواليه لأن الولاء لا ينقل ) عن من هوله ( ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال الولاء لمن أعتق
قال مالك والولاء نسب ثابت ) تشبيه بليغ للحديث الآخر لحمة كلحمة النسب
( والأمر عندنا فيما أصيب من البهائم أن على من أصاب منها شيئا قدر ما نقص من ثمنها ) إذا هي من الأموال
( قال مالك في الرجل يكون عليه القتل فيصيب حدا من الحدود أنه لا يؤخذ به وذلك أن القتل يأتي على ذلك كله ) فيندرج الأصغر في الأكبر ( إلا الفرية ) بكسر الفاء القذف ( فإنها تثبت على من قيلت له يقال له مالك ) أي لأي شيء ( لم تجلد من افترى عليك ) فتلحقه المعرة بذلك ( فأرى أن يجلد المقتول الحد من قبل أن يقتل ثم يقتل ولا أرى أن يقاد منه شيء من الجراح إلا القتل لأن القتل يأتي
____________________
(4/247)
على ذلك كله ) بخلاف حد الفرية فلا يأتي عليه القتل
( والأمر عندنا أن القتل إذا وجد بين ظهراني ) بفتح النون وفي نسخة ظهري وكل منهما زائد أي بين ( قوم في قرية أو غيرها ) كحارة وبساتين ( لم يؤخذ أقرب الناس إليه دارا ولا مكانا ) فالبعيد أولى ( وذلك أنه قد يقتل ) بضم أوله ( القتيل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا ) أي يرموا ( به ) يقال لطخه بسوء رماه به ( فليس يؤاخذ أحد بمثل ذلك ) وأيضا فالقاتل لا يبقي القتيل في مكانه غالبا
( قال مالك في جماعة من الناس اقتتلوا فانكشفوا وبينهم قتيل أو جريح لا يدري من فعل ذلك به إن أحسن ما سمع في ذلك أن عليه ) أي فيه ( العقل ) الدية ( أن عقله على القوم الذين نازعوه ) خاصموه حتى اقتتلوا ( وإن كان الجريح أو القتيل من غير الفريقين ) المتنازعين ( فعقله على الفريقين جيعا ) لأن جعله على أحدهما تحكم
19 ما جاء في الغيلة والسحر ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب ) مر أن رواية سعيد عنه متصلة لأنه رآه وصحح بعضهم سماعه منه وقد رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر بلفظ الموطأ سواء أن عمر ( قتل نفرا خمسة أو سبعة ) شك الراوي ( برجل واحد ) غلام اسمه أصيل من أهل صنعاء ( قتلوه ) قتل ( غيلة ) بكسر المعجمة وإسكان الياء أي خديعة أي سرا
( وقال عمر لو تمالأ ) تعاون واجتمع عليه ( أهل صنعاء ) بالمد بلد معروف باليمن ( لقتلهم جميعا ) به
وهذا مختصر من أثر وصله ابن وهب ورواه من طريقه قاسم بن أصبغ والطحاوي والبيهقي
____________________
(4/248)
قال ابن وهب حدثني جرير بن حازم أن المغيرة بن حكيم الصنعاني في حديثه عن أبيه أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها وترك في حجرها ابنا له من غيرها غلاما يقال له أصيل فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلا فقالت له إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبى فامتنعت منه فطاوعها فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها فقتلوه ثم قطعوه أعضاء وجعلوه في عيبة بفتح المهملة وسكون التحتية فموحدة وعاء من أدم فوضعوه في ركية بشد لتحتية بئر لم تطو في ناحية القرية ليس فيها ماء فأخذ خليلها فاعترف ثم اعترف الباقون فكتب يعلى وهو يومئذ أمير بشأنهم إلى عمر فكتب عمر بقتلهم جميعا وقال والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين
( مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ) الأنصاري ونسب أبوه إلى جده واسم أبيه عبد الله بن سعد ومحمد ثقة مات سنة أربع وعشرون ومائة ( أنه بلغه أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها وقد كانت دبرتها ) أي علقت حفصة عتقها على موتها ( فأمرت بها فقتلت ) لا أنها تولته بنفسها
( قال مالك الساحر الذي يعمل السحر ولم يعمل ذلك له غيره هو مثل الذي قال الله تبارك وتعالى في كتابه ولقد ) لام قسم ( علموا ) أي اليهود ( لمن ) لام ابتداء معلقة لما قبلها ومن موصولة ( اشتراه ) اختاره أو استبدله بكتاب الله ( ماله في الآخرة من خلاق ) نصيب في الجنة ( فأرى أن يقتل ذلك إذا عمل ذلك هو نفسه ) لا أن عمله غيره له
20 ما يجب فيه العمد ( مالك عن عمر بن حسين مولى عائشة بنت قدامة ) بن مظعون الصحابية بنت الصحابي بايعت مع أمها ( أن عبد الملك بن مروان أقاد ولي رجل من رجل قتله بعصا فقتله وليه بعصا ) لما دل عليه الكتاب والسنة أنه يقتل بما قتل به
____________________
(4/249)
( قال مالك والأمر المجتمع عليه الذي لا اختلاف فيه عندنا أن الرجل إذا ضرب الرجل بعصا أو رماه بحجر أو ضربه عمدا ) بيده ( فمات من ذلك فإن ذلك هو العمد وفيه القصاص ) وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم دعا اليهودي الذي قتل امرأة بحجر فقتله بين الحجرين ففيه حجة للجمهور أن القاتل يقتل بما قتل به كما قال
( فقتل العمد عندنا أن يعمد ) بكسر الميم يقصد ( الرجل إلى الرجل فيضربه حتى تفيض ) بفتح الفوقية وكسر الفاء وتحتية ساكنة وظاء معجمة أي تخرج نفسه ويصح قراءته بتحتية أوله ونصب نفسه والحجة لذلك أيضا قوله تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } سورة النحل الآية 126 وقوله تعالى { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } سورة البقرة الآية 194 وخالف الكوفيون محتجين بحديث لا قود إلا بالسيف وأجيب بأنه حديث ضعيف أخرجه البزار وذكر الاختلاف فيه مع ضعف إسناده وقال ابن عدي طرقه كلها ضعيفة وعلى تقدير ثبوته فإنه على خلاف قاعدة الكوفيين السنة لا تنسخ الكتابة ولا تخصصه
( ومن العمد أيضا أن يضرب الرجل الرجل في الثائرة ) العداوة والشحناء مشتقة من الثأر ( تكون بينهما ثم ينصرف عنه وهو حي فينزي ) بضم أوله وبالزاي آخره ( في ضربه فيموت فتكون في ذلك القسامة ) خمسون يمينا ( والأمر عندنا أنه يقتل في العمد الرجال الأحرار ) المتعددون ( بالرجل الحر الواحد والنساء ) المتعددات ( بالمرأة كذلك والعبيد ) المتعددون ( بالعبد كذلك أيضا ) فيقتل الجمع بواحد مع المساواة
21 القصاص في القتل ( مالك أنه بلغه أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية بن أبي سفيان يذكر أنه أتي ) بضم أوله ( بسكران ) حال كونه ( قد قتل رجلا فكتب إليه معاوية أن اقتله به ) لأن السكران يؤخذ بجناياته لئلا يتساكر الناس ويقتلون الأنفس والأموال ويدعوا عدم العقل بالسكر والفرق بينه وبين المجنون أنه أدخله على نفسه وأنه يتأتى منه القصد بخلاف المجنون
( قال مالك أحسن ما سمعت في تأويل هذه الآية قول ) بالجر بدل أو بالرفع أي وهي قول ( الله تبارك وتعالى ) { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر } ) يقتل لا بالعبد ( والعبد بالعبد ) فهؤلاء الذكور ( والأنثى بالأنثى ) سورة البقرة الآية 178 أن القصاص يكون
____________________
(4/250)
بين الإناث كما يكون بين الذكور والمرأة الحرة تقتل بالمرأة الحرة ( كما يقتل الحر بالحر ) الذكر ( والأمة تقتل بالأمة كما يقتل العبد بالعبد والقصاص يكون بين النساء كما يكون بين الرجال ) كما دل على هذا كله الآية وبينت السنة كما مر أنه لا بد من المماثلة في الدين فلا يقتل مسلم ولو رقيقا بكافر ولو حرا
( والقصاص أيضا يكون بين الرجال والنساء وذلك أن الله تبارك وتعالى قال في كتابه ( وكتبنا ) فرضنا ( عليهم فيها ) أي التوراة ( أن النفس ) تقتل ( بالنفس ) إذا قتلتها بغير حق ( والعين ) تفقأ ( بالعين والأنف ) يجدع ( بالأنف والأذن ) تقطع ( بالأذن والسن ) تقلع ( بالسن ) وفي قراءة برفع الأربعة ( والجروح ) بالنصب والرفع ( قصاص ) ( سورة المائدة الآية 45 ) ) أي يقتص منها إذا أمكن كيد ورجل وذكر ونحو ذلك وما لا يمكن فيه حكومة كما مر وهذا الحكم وإن كتب عليهم في التوراة فإنه مستمر في شريعة الإسلام لما ذهب إليه كثير من الفقهاء والأصوليين إن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكى متقررا ولم ينسخ وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بهذه الآية كما قال
( فذكر الله تبارك وتعالى النفس بالنفس ) وأطلق فلم يقيد بذكر ( فنفس المرأة الحرة بنفس الرجل الحر وجرحها بجرحه ) لعموم الآية
واحتج أبو حنيفة بعمومها على قتل المسلم بالكافر الذمي وعلى قتل الحر بالعبد وخالفه الجمهور لحديث الصحيحين لا يقتل مسلم بكافر وحكى الإمام الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك قال ابن كثير لكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص للآية انتهى
والدليل هو الحديث المذكور
____________________
(4/251)
( مالك في الرجل يمسك الرجل للرجل فيضربه فيموت مكانه إنه إن أمسكه وهو يرى ) يعتقد ( أنه يريد قتله قتلا جميعا وإن أمسكه وهو يرى أنه إنما يريد الضرب مما يضرب به الناس لا يرى أنه عمد ) بفتحتين قصد ( لقتله فإنه يقتل القاتل ويعاقب الممسك أشد العقوبة ويسجن ) بعدها ( سنة لأنه أمسكه ولا يكون عليه القتل ) لأنه لم يظن القتل
( وفي الرجل يقتل الرجل عمدا أو يفقأ عينه عمدا فيقتل القاتل أو يفقأ عين الفاقىء ) بالهمز ( قبل أن يقتص منه أنه ليس عليه دية ولا قصاص وإنما كان حق الذي قتل أو فقئت ) قلعت ( عينه في الشيء ) أي الدية أو القصاص ( بالذي ) الباء سببية أي بسبب الذي ( ذهب ) من قتل أو فقأ عين القاتل أو الفاقىء ( وإنما ذلك بمنزلة الرجل يقتل الرجل عمدا ثم يموت القاتل فلا يكون لصاحب الدم إذا مات القاتل شيء دية ولا غيرها ) بيان لشيء ( وذلك لقول الله تبارك وتعالى كتب ) فرض ( عليكم القصاص في القتلى ) جمع قتيل والمعنى فرض عليكم المماثلة والمساواة بين القتلى ( الحر بالحر ) مبتدأ وخبر أي مأخوذ أو مقتول بالحر ( والعبد بالعبد ) عطف عليه ( فإنما يكون القصاص على صاحبه الذي قتله وإذا هلك قاتله الذي قتله فليس له قصاص ) لتعذره ( ولا دية ) في ماله ( وليس بين الحر والعبد قود ) قصاص ( في شيء من الجراح ) لعدم المماثلة ( و ) لكن ( العبد يقتل بالحر إذا قتله عمدا ) وتلك قاعدة أنه يقتل الأدنى بالأعلى
( ولا يقتل الحر بالعبد وإن قتله عمدا وهو أحسن ما سمعت ) فعليه قيمته قتله خطأ أو عمدا لأنه مال
____________________
(4/252)
22 العفو في قتل العمد ( مالك أنه أدرك من يرضى ) بفتح أوله وضمه أي من يرضى هو وغيره ( من أهل العلم يقولون ) جمع على معنى من ( في الرجل إذا أوصى أن يعفو عن قاتله إذا قتل عمدا أن ذلك جائز له وأنه أولى ) أحق ( بدمه من غيره من أوليائه من بعده ) وقد جاء في الحديث من عفا عن قاتله دخل الجنة
( مالك في الرجل يعفو عن قتل العمد بعد أن يستحقه ويجب ) يثبت ( له ) بإنفاذ مقتله ( أنه ليس على القاتل عقل ) دية ( يلزمه إلا أن يكون الذي عفا عنه اشترط ذلك عند عفوه عنه ) فيلزمه ( والقاتل عمدا إذا عفي عنه يجلد مائة ويسجن سنة ) كاملة
( وإذا قتل الرجل عمدا أو قامت على ذلك البينة وللمقتول بنون وبنات فعفا البنون وأبى البنات أن يعفون فعفو البنين جائز )
ماض ( على البنات ولا أمر للبنات مع البنين في القيام بالدم والعفو عنه ) إنما الأمر للبنين
23 القصاص في الجراح ( مالك الأمر المجتمع عليه عندنا أنه من كسر يدا أو رجلا عمدا أنه يقاد منه ولا يعقل ) جبرا على الجاني لأن الواجب عليه القود ( ولا يقاد ) يقتص ( من أحد حتى تبرأ جراح صاحبه فيقاد منه فإنه جاء جراح المستقاد منه ) أي الجاني ( مثل جراح الأول حين يصح فهو القود ) الكامل
( وإن زاد جرح المستقاد منه أو مات فليس على المجروح الأول المستقيد شيء ) لا عقل ولا دية ( وإن برأ جرح
____________________
(4/253)
المستقاد منه ) وهو الجاني ( وشل المجروح الأول ) المجني عليه ( أو برأت جراحه ولها عيب أو نقص أو عثل ) بفتح المهملة والمثلثة برء على غير استواء ( فإن المستقاد منه لا يكسر الثانية ) من يد أو رجل ( ولا يقاد بجرحه ولكنه يعقل له بقدر ما نقص من يد الأول أو فسد منها ) بالشلل إذ هو فساد في اليد وبطلان لعملها ( والجراح في الجسد على مثل ذلك ) من تمام وزيادة ونقص ( وإذا عمد ) قصد ( الرجل إلى امرأته ففقأ عينها أو كسر يدها أو قطع أصبعها أو شبه ذلك ) حال كونه ( متعمدا لذلك ) المذكور من الفقء وما بعده ( فإنها تقاد منه وأما الرجل يضرب امرأته بالحبل أو بالسوط فيصيبها من ضربه ما لم يرد ولم يتعمد فإنه يعقل ما أصاب منها على هذا الوجه ولا يقاد منه ) لأنه لم يرد ذلك
( مالك أنه بلغه أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ) قاضي المدينة ( أقاد من كسر الفخذ )
24 ما جاء في دية السائبة وجنايته ( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي مخففا عبد الله بن ذكوان ( عن سليمان بن يسار ) بالتخفيف ( أن سائبة أعتقه بعض الحجاج ) جمع حاج ( فقتل ابن رجل من بني عائذ ) بتحتية وذال معجمة ( فجاء العايذي أبو المقتول إلى عمر بن الخطاب يطلب دية ابنه ) أفاد أنه قتل خطأ ( فقال عمر لا دية له فقال
____________________
(4/254)
العائذي أرأيت ) أي أخبرني ( لو قتله ابني فقال له عمر بن الخطاب إذا تخرجون ديته فقال العائذي هو إذا كالأرقم ) بالقاف الحية التي فيها بياض وسواد أو حمرة وسواد ( إن يترك يلقم ) بفتح أوله وإسكان اللام وفتح القاف وأصله الأكل بسرعة ( وإن يقتل ) بضم أوله وفتح ثالثه ( ينقم ) بكسر القاف من باب ضرب لغة القرآن وفي لغة بفتح القاف من باب تعب وهي أولى هنا بالسجع ومعناه إن تركت قتله قتلك وإن قتلته كان له من ينتقم منك وهو مثل من أمثال العرب مشهور
قال ابن الأثير كانوا في الجاهلية يزعمون أن الجن تطلب ثأر الجان وهي الحية الرقيقة فربما مات قاتلها وربما أصابه خلل وهذا مثل فيمن يجتمع عليه شران لا يدري كيف يصنع بهما
____________________
(4/255)
5111111 1 1
26 كتاب القسامة بفتح القاف مأخوذ من القسم وهو اليمين وقال الأزهري القسامة اسم للأولياء الذين يحلفون على استحقاق دم المقتول وقيل مأخوذة من القسمة لقسمة الأيمان على الورثة واليمين فيها من جانب المدعي لأن الظاهر معه بسبب اللوث المقتضي لظن صدقه وفي غير ذلك الظاهر مع المدعى عليه فلذا خرجت عن الأصل
1 تبدية أهل الدم في القسامة قال أبو عمر كانت في الجاهلية فأقرها صلى الله عليه وسلم على ما كانت عليه في الجاهلية رواه عبد الرزاق وابن وهب انتهى
وأخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسليمان ابن يسار عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنه صلى الله عليه وسلم قر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية ثم رواه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله ثم رواه من طريق صالح عن الزهري أن أبا سلمة وسليمان بن يسار أخبراه عن ناس من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله
( مالك عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل ) الأنصاري المدني ويقال اسمه عبد الله تابعي صغير ثقة ( عن سهل ) بفتح فسكون ( ابن أبي حثمة ) بفتح المهملة وسكون المثلثة ابن ساعدة بن عامر الأنصاري الخزرجي المدني صحابي صغير ولد سنة ثلاث من الهجرة وله أحاديث مات في خلافة معاوية ( أنه أخبره رجال من كبراء ) بضم ففتح أي عظماء ( قومه ) قال في المقدمة هم محيصة وحويصة ابنا مسعود وعبد الله وعبد الرحمن ابنا سهل
( أن عبد الله بن سهل ) بن زيد بن كعب الأنصاري الحارثي ( ومحيصة ) بضم الميم وفتح الحاء
____________________
(4/256)
المهملة وكسر التحتية الثقيلة على الأشهر وفتح الصاد المهملة ابن مسعود بن كعب الحارثي الأوسي أسلم قبل أخيه حويصة ( خرجا إلى خيبر ) بعد فتحها وعند ابن إسحاق فخرج عبد الله بن سهل في أصحاب له يمتارون تمرا ( من جهد ) بفتح الجيم وسكون الهاء أي فقر شديد ( أصابهم ) وفي مسلم خرجوا إلى خيبر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي يومئذ صلح وأهلها يهود
( فأتي ) بضم الهمزة وكسر التاء ( محيصة فأخبر ) بضم الهمزة وكسر الموحدة ( أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح ) بضم أولهما ( في فقير ) بفتح الفاء فقاف مكسورة ( بئر أو عين ) بالشك من الراوي وعند ابن إسحاق وجد في عين قد كسرت عنقه ثم طرح ( فأتى ) محيصة ( يهود فقال ) لهم ( أنتم والله قتلتموه ) حلف لقرائن قامت عنده أو قيل له بخبر يوجب العلم
( فقالوا ) مقابلة لليمين باليمين ( والله ما قتلناه ) زاد في رواية ولا علمنا قاتلا أي له
( فأقبل ) محيصة ( حتى قدم على قومه ) بني حارثة ( فذكر لهم ذلك ثم أقبل هو وأخوه حويصة ) بضم المهملة وفتح الواو وكسر التحتية الثقيلة على الأشهر وتخفف وصاد مهملة ابن مسعود بن كعب الأوسي شهد أحدا والخندق وسائر المشاهد ( وهو أكبر منه ) أي من محيصة وعند ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم قال بعد قتل كعب بن الأشرف من ظفرتم به من اليهود فاقتلوه فوثب محيصة على تاجر يهودي فقتله فجعل حويصة يضربه وكان أسن منه وذلك قبل أن يسلم حويصة
( وعبد الرحمن بن سهل ) بن زيد بن كعب الحارثي أخو المقتول ( فذهب محيصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر ) وفي الرواية اللاحقة فذهب عبد الرحمن ليتكلم لمكانه من أخيه وجمع باحتمال أن كلا منهما أراد الكلام
( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر كبر ) بالتكرير للتأكيد أي قدم الأكبر ( يريد السن ) إرشادا إلى الأدب في تقديم الأسن وفيه أن المشركين في معنى من معاني الدعوى وغيرها أولاهم ببدء الكلام أكبرهم فإذا سمع منه تكلم الأصغر فيسمع منه إن احتيج له فإن كان فيهم من له بيان ولتقديمه وجه فلا بأس بتقديمه وإن أصغر قاله ابن عبد البر وأخرج بسنده أنه قدم وفد من العراق على عمر بن عبد العزيز فنظر عمر إلى شاب منهم يريد الكلام فقال عمر كبروا كبروا فقال الفتى يا أمير المؤمنين إن الأمر ليس بالسن ولو كان كذلك لكان في المسلمين من هو أسن منك قال صدقت تكلم رحمك الله فقال إنا وفد شكر فذكر الخبر انتهى
وحقيقة الدعوى إنما هي لعبد الرحمن أخي القتيل لا حق لابن عمه فيها فإنما أمر صلى الله عليه وسلم أن يتكلم الأكبر لأنه لم يكن المراد حينئذ الدعوى بل سماع صورة القصة وعند الدعوى يدعى المستحق أو المعنى أن الأكبر يكون وكيلا له
____________________
(4/257)
( فتكلم حويصة ) الذي هو أسن ( ثم تكلم محيصة ) أخوه وفي رواية لمسلم فصمت أي عبد الرحمن وتكلم صاحباه ثم تكلم معهما فذكروا مقتل عبد الله بن سهل ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن يدوا صاحبكم ) بفتح التحتية وخفة الدال المهملة أي يعطوا أي اليهود دية صاحبكم ( وإما أن يؤذنوا ) يعلموا ( بحرب ) تهديد وتشديد إذ لا قدرة لهم على حربه صلى الله عليه وسلم مع ما هم فيه من غاية الذلة
( فكتب إليهم ) أي أمر بالكتب إلى اليهود ( في ذلك ) الخبر الذي نقل إليه ( فكتبوا ) اليهود ( إنا والله ما قتلناه ) زاد في رواية ولا علمنا قاتله
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن أتحلفون ) بهمزة الاستفهام ( وتستحقون دم صاحبكم ) أي بدل من دم صاحبكم ففيه حذف مضاف أو معنى صاحبكم غريمكم فلا حاجة إلى تقدير والجملة فيها معنى التعليل لأن المعنى أتحلفون لتستحقوا وقد جاءت الواو بمعنى التعليل في قوله تعالى { أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير } سورة الشورى الآية 34 المعنى ليعفو وفي عرض اليمين على الثلاثة حجة قوية لقول مالك ومن وافقه أنه لا يحلف في العمد أقل من رجلين عصبة وأن لولي الدم وهو هنا الأخ الاستعانة بعاصبه
( قالوا لا ) نحلف
وفي الرواية اللاحقة لم نشهد ولم نحضر
( قال أفتحلف لكم يهود ) خمسين يمينا أنهم ما قتلوه
( قالوا ليسوا بمسلمين ) وفي اللاحقة كيف نقبل أيمان قوم كفار وفي رواية قالوا لا نرضى بأيمان اليهود
وفي أخرى ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون
( فوداه ) بخفة الدال المهملة بلا همز أعطى ديته ( رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده ) وفي رواية للبخاري ومسلم فوداه مائة من إبل الصدقة وجمع باحتمال أنه اشتراها من إبل الصدقة ودفع المال الذي اشتراها به من عنده أو من بيت المال المرصد للمصالح لما في ذلك من مصلحة قطع النزاع وإصلاح ذات اليمين وجبرا لخاطرهم وإلا فاستحقاقهم لم يثبت
وحكى عياض عن بعضهم تجويز صرف الزكاة في المصالح العامة وتأول الحديث عليه وقال في المفهم رواية من عنده أصح من رواية من إبل الصدقة وقد قيل إنها غلط والأولى أن لا يغلط الراوي ما أمكن فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم تسلف ذلك من إبل الصدقة ليدفعه من مال الفيء ( فبعث إليهم بمائة ناقة حتى أدخلت ) النوق ( عليهم الدار قال سهل ) بن أبي حثمة ( لقد ركضتني ) أي رفستني برجلها ( منها ناقة حمراء ) ولابن إسحاق فوالله ما أنسى ناقة بكرة منها حمراء ضربتني وأنا أحوزها
وفي رواية للبخاري فأدركت ناقة من تلك الإبل فدخلت مربدا لهم فركضتني
____________________
(4/258)
برجلها وقال ذلك ليبين ضبطه للحديث ضبطا شافيا بليغا وفيه مشروعية القسامة وبه أخذ كافة الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة كمالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد وعن طائفة التوقف فيها فلم يروا القسامة ولا أثبتوا لها في الشرع حكما وهذا الحديث رواه البخاري في الأحكام عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل ومسلم من طريق بشر بن عمر والنسائي من طريق ابن وهب الأربعة عن مالك به وله طرق في الصحيحين والسنن
( قال مالك الفقير ) بفاء ثم قاف بلفظ الفقير من بني آدم ( هو البئر ) القريبة القعر الواسعة الفم وقيل الحفرة التي تكون حول النخل
( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( عن بشير ) بضم الموحدة وفتح الشين المعجمة ( ابن يسار ) بفتح التحتية والسين المهملة الخفيفة المدني الحارثي مولى الأنصار التابعي ثقة ( أنه أخبره ) قال أبو عمر ألم يختلف على مالك في إرسال هذا الحديث انتهى وهو موصول في الصحيحين وغيرهما من طريق بشر بن المفضل وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وعبد الوهاب الثقفي كلهم عن يحيى بن سعيد عن بشير عن سهل بن أبي حثمة زاد حماد عن يحيى عن بشير ورافع بن خديج وقال الليث عن يحيى حسبت أنه قال مع سهل ورافع بن خديج ( أن عبد الله بن سهل الأنصاري ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر ) في أصحاب لهما يمتارون تمرا زاد في رواية بشر بن المفضل وهي يومئذ صلح والمراد بعد فتحها
( فتفرقا في حوائجهما ) وفي رواية حماد فتفرقا في النخل ( فقتل عبد الله بن سهل ) وفي رواية ابن المفضل فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو ينشط في دمه قتيلا فدفنه ( فقدم محيصة ) المدينة ( فأتى هو وأخوه حويصة ) ابنا مسعود ( وعبد الرحمن بن سهل ) أخو المقتول ( إلى النبي صلى الله عليه وسلم ) ليخبروه بذلك ( فذهب عبد الرحمن ليتكلم لمكانه من أخيه ) وفي رواية حماد فتكلموا في أمر صاحبهم فبدأ عبد الرحمن وكان أصغر القوم ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر كبر ) بالجزم أمر وكرره للمبالغة أي قدم الأسن يتكلم
وفي رواية حماد فقال الكبر الكبر بهمزة وصل وضم الكاف وتسكين الموحدة جمع الأكبر والنصب على الإغراء يعني كما قال يحيى بن سعيد ليلي الكلام الأكبر وزاد ابن المفضل فسكت ( فتكلم حويصة ومحيصة ) بشد الياء فيهما على أشهر اللغتين ( فذكرا شأن عبد الله بن سهل )
____________________
(4/259)
أي أخبراه بقصة قتله
وفي رواية الليث فصمت أي عبد الرحمن وتكلم صاحباه ثم تكلم معهما فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أتحلفون ) بهمز الاستفهام ( خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم أو ) قال دم ( قاتلكم ) أي قاتل قريبكم فشك الراوي قال النووي المعنى يثبت حقكم على من تحلفون عليه وذلك الحق أعم من أن يكون قصاصا أو دية انتهى
وهذا تأويل بعيد متعسف حمله عليه نصرة مشهور مذهبه أنه لا قصاص بالقسامة في عمد ولا خطأ إنما فيها الدية على الجاني في العمد وعاقلته في الخطأ والمتبادر من ذكر الدم القصاص والتبادر آية الحقيقة ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم قتل بالقسامة رجلا من بني نصر بن مالك رواه أبو داود ( قالوا يا رسول الله لم نشهد ) قتله ( ولم نحضر ) هـوفي رواية بن المفضل وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر ووقع في الصحيح من رواية سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار فقال تأتون بالبيتة على من قتله قالوا ما لنا بينة
وفي النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فقال صلى الله عليه وسلم أقم شاهدين على قاتله أدفعه إليك برمته فقال إني لم أصب شاهدين وإنما أصبح قتيلا على أبوابهم قال أبو عمر هذه رواية أهل العراق عن بشير بن يسار ورواية أهل المدينة عنه أثبت وهم به أقعد ونقلهم أصح عند العلماء
وقد حكى الأثرم عن أحمد أنه ضعف رواية سعيد بن عبيد عن بشير وقال الصحيح عنه ما رواه يحيى بن سعيد وإليه أذهب وقال بعضهم ذكر البينة وهم لأنه صلى الله عليه وسلم قد علم أن خيبر حينئذ لم يكن بها أحد من المسلمين وأجيب بأنه وإن سلم أنه لم يسكن مع اليهود فيها من المسلمين أحد لكن في القصة أن جماعة من المسلمين خرجوا يمتارون تمرا فيجوز أن طائفة أخرى خرجت بمثل ذلك
ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم طلب البينة أولا فلم تكن لهم بينة فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم ( فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبرئكم ) بسكون الموحدة أي تبرأ إليكم من دعواكم ( يهود ) بالرفع ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث على إرادة اسم القبيلة والطائفة وضبط أيضا فتبريكم بفتح الموحدة وشد الراء مكسورة أي يخلصونكم من الأيمان ( بخمسين ) يمينا يحلفونها ( فقالوا يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار ) وفي رواية ابن إسحاق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فيسلم إليكم فقالوا يا رسول الله ما كنا لنحلف على ما لا نعلم قال فيحلفون لكم بالله خمسين يمينا ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا ثم يبرون من دمه قالوا ما كنا لنقبل أيمان اليهود ما فيهم من الكفر أعظم من أن يحلفوا على إثم وفي رواية في الصحيحين فكره صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه
____________________
(4/260)
( قال يحيى بن سعيد فزعم ) أي قال من إطلاق الزعم على القول الثابت كخبر زعم جبريل ( بشير بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وداه ) بفتح الواو والدال المهملة الخفيفة أن أعطاهم ديته ( من عنده ) من خالص ماله أو من بيت المال لأنه عاقلة المسلمين وولي أمرهم
وفي رواية حماد قال سهل فأدركت ناقة من تلك الإبل قد دخلت مربدا لهم فركضتني برجلها وفيه أن حكم القسامة مخالف لسائر الدعاوى من جهة أن اليمين على المدعي وأنها خمسون يمينا وهو يخص قوله صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر فكأنه قال بدليل هذا الحديث إلا في القسامة ولا فرق بين أن يجيء ذلك في حديث واحد أو حديثين لأن ذلك كله سنته صلى الله عليه وسلم على أنه جاء البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة وإن كان في إسناده لين فقد عضده الآثار المتواترة في حديث الباب لكن هذا موضع اختلف فيه العلماء كما أشار له الإمام حيث ( قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا والذي سمعت ممن أرضى ) من العلماء ( في القسامة والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث ) وخبر المبتدأ قوله ( أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون ) فإن نكلوا ردت على المدعى عليهم فإن حلفوا برئوا وبطل الدم فإن أبوا فيأتي تفصيله ( وأن القسامة لا تجب ) أي تثبت لولي الدم ( إلا بأحد أمرين إما أن يقول المقتول ) قبل موته ( دمي عند فلان أو يأتي ولاة الدم بلوث ) بفتح اللام آخره مثلثة ( من بينة وإن لم تكن قاطعة على الذي يدعى عليه الدم ) بيان للوث والواو للحال قال الأزهري اللوث البينة الضعيفة غير الكاملة ( فهذا يوجب ) يثبت ( القسامة للمدعين الدم على من ادعوه عليه ولا تجب القسامة عندنا إلا بأحد هذين الوجهين ) أعاده تأكيدا قال أبو عمر إنما جعل مالك قوله دمي عند فلان شبهة ولطخا لأن المعروف من طبع الناس عند حضور الموت الإنابة والتوبة والندم على ما سلف من العمل السيء ألا ترى إلى قوله تعالى { لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين } سورة المنافقون الآية 10 وقوله { حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } سورة النساء الآية 18 فهذا معهودة من طبع الإنسان ولا يعلم من عادته أن يدع قاتله ويعدل إلى غيره وما خرج عن هذا نادر في الناس لا حكم له
( قال مالك وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا الذي لم يزل عليه عمل الناس أن المبديين بالقسامة أهل الدم والذين يدعونه في العمد والخطأ ) عطف تفسير لأهل الدم وأعاد ذلك وإن قدمه قريبا لزيادة قوله في العمد والخطأ وللاحتجاج له بقوله ( وقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارثيين ) نسبة إلى حارثة بمثلثة بطن من الأوس يعني المذكورين في الحديث السابق من طريقيه ( في قتل صاحبهم الذي قتل بخيبر ) وهو عبد الله بن سهل وإلى هذا ذهب الجمهور وأحمد والشافعي في أحد قوليه قال ابن عبد البر ومن حجتهم أيضا قوله تعالى { ولكم في القصاص حياة } سورة البقرة الآية 179 وقوله { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود } سورة المائدة
____________________
(4/261)
الآية 82 ) فللعداوة التي بينهم وبين الأنصار بدأهم بالأيمان وجعل العداوة سببا تقوي بها دعواهم لأنه لطخ يليق بهم غالبا لعداوتهم ومن سنته صلى الله عليه وسلم أن من قوي سببه في دعواه وجبت تبديته باليمين ولهذا جاء اليمين مع الشاهد مع ما في هذا من قطع التطرق إلى سفك الدماء وقبض أيدي الأعداء على إراقة دماء من عادوه على الدنيا
وقال جمهور أهل العراق وأبو حنيفة وأصحابه وجماعة يبدأ المدعى عليهم بالحلف لعموم حديث البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه وعارضوا أحاديث الباب بما رواه أبو داود من طريق الزهري عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم أيحلف منكم خمسون رجلا فأبوا فقال للأنصار أتحلفون فقالوا نحلف على الغيب فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم والجواب أن رواية الجماعة مالك ومن تابعه عن يحيى بن سعيد وغيره أصح وقد روى الزهري نفسه هذه وهذه وقضى بما في حديث سهل فدل على أن ذلك عنده الأثبت والأولى ولا حجة لهم فيما رواه أبو داود أيضا عن عبد الرحمن بن بجيد قال والله ما كان الشأن هكذا ولكن سهلا وهم ما قال صلى الله عليه وسلم احلفوا على ما لا علم لكم به ولكنه كتب إلى يهود حين كلمته الأنصار أنه قد وجد قتيل بين أبياتكم فدوه فكتبوا إليه يحلفون ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا فوداه من عنده لأن قول عبد الرحمن لا يرد قول سهل المخبر عما شاهد حتى ركضته منها ناقة وعبد الرحمن تابعي لم يره صلى الله عليه وسلم ولا شهد القصة وحديثه مرسل ومن أنكر شيئا ليس بحجة على من أثبته انتهى ملخصا
( قال مالك فإن حلف المدعون استحقوا دم صاحبهم وقتلوا من حلفوا عليه ) في العمد ( ولا يقتل في القسامة إلا واحد لا يقتل فيه اثنان ) لرواية أبي داود من طريق حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد بسنده في الحديث السابق فقال صلى الله عليه وسلم يقسم منكم خمسون على رجل فيدفع لكم برمته وكذلك في حديث الزهري عن سهل بن أبي حثمة تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فيسلم إليكم فهذا دليل واضح لقول مالك وأصحابه إنما يقتل بالقسامة واحد لأنه أمرهم بتعيين رجل يقسمون عليه
____________________
(4/262)
فيدفع إليهم برمته ومن جهة النظر أن الواحد أولى من يتيقن أنه قتله فوجب أن يقتصر بالقسامة عليه قاله أبو عمر
( يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا ) كل رجل يمينا ( فإن قتل عددهم ونكل بعضهم ردت الأيمان عليهم ) أي على المدعين الأقل من خمسين أي الذين حلفوا ونكل بعضهم ( إلا أن ينكل أحد من ولاة المقتول ولاة الدم ) بالخفض بدل بعض من كل ( الذين يجوز لهم العفو عنه ) كابن مع أخ ( فإن نكل أحد من أولئك فلا سبيل إلى الدم إذا نكل أحد منهم ) لسقوطه بنكوله كما لو عفا ( وإنما ترد الأيمان على من بقي منهم إذا نكل أحد ممن لا يجوز له عفو ) لوجود من هو أقرب منه فينزل نكوله كالعدم وترد على غيره ممن حلف
( فإن نكل أحد من ولاة الدم الذين يجوز لهم العفو عن الدم وإن كان واحدا فإن الأيمان لا ترد على من بقي من ولاة الدم إذا نكل أحد منهم عن الأيمان ولكن الأيمان إذا كان ) وجد ( ذلك ) أي نكول بعض ولاة الدم ( ترد على المدعى عليهم فيحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا ) كما في بعض طرق الحديث السابق عند البخاري وغيره فتبريكم يهود بأيمان خمسين منهم
( فإن لم يبلغوا خمسين رجلا ردت الأيمان على من حلف منهم ) حتى تكمل الخمسين يمينا ( فإن لم يوجد أحد إلا الذي ادعي عليه ) الدم ( حلف هو خمسين يمينا وبرىء من ذلك
قال مالك وإنما فرق بين القسامة في الدم ) في أن أيمانها خمسون من المدعين ( و ) بين ( الأيمان في الحقوق ) فاكتفى فيها بيمين واحدة من المدعى عليه حيث لا بينة ( أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه ) بالإشهاد عليه والرهن أو الضامن
( وإن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من
____________________
(4/263)
الناس وإنما يلتمس ) يطلب ( الخلوة ) حتى لا يراه أحد يشهد عليه
( فلو لم تكن القسامة إلا فيما تثبت فيه البينة ولو عمل فيها كما يعمل في الحقوق ) المالية من البينة أو يمين المطلوب ( هلكت الدماء ) ضاعت ( واجترأ ) بالهمز أسرع وهجم ( الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدؤون فيها ) بالحلف فإن نكلوا ردت على المدعى عليه ( ليكف الناس عن الدم وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك بقول المقتول ) دمي عند فلان وأقسام أوليائه
( وقال مالك في القوم يكون لهم العدد يتهمون بالدم فترد ولاة المقتول الأيمان عليهم وهم نفر لهم عدد أنه يحلف كل إنسان منهم عن نفسه خمسين يمينا ولا تقطع الأيمان عليهم بقدر عددهم ولا يبرون ) يخلصون ( دون أن يحلف كل إنسان منهم عن نفسه خمسين يمينا وهذا أحسن ما سمعت في ذلك ) يقتضي أنه سمع غيره
( والقسامة تصير إلى عصبة المقتول وهم ولاة الدم الذين يقسمون عليه والذين يقتل بقسامتهم ) قال أبو عمرو من حجة مالك والشافعي في أحد قوليه ومن وافقهما في وجوب القول بالقسامة مع الأحاديث المتقدمة ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل بالقسامة رجلا من بني نصر بن مالك وروي عن عمر ابن عبد العزيز وعبد الله بن الزبير أنهما قضيا بذلك وحسبك بقول مالك أنه الذي لم يزل عليه علماء المدينة قديما وحديثا
2 من تجوز قسامته في العمد من ولاة الدم ( قال مالك الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أنه لا يحلف في القسامة في العمد أحد من النساء وإن لم يكن للمقتول ولاة إلا النساء فليس للنساء في قتل العمد قسامة ولا عفو ) لأن شهادتين لا تجوز
____________________
(4/264)
في قتل العمد
( مالك في الرجل يقتل عمدا أنه إذا قام عصبة المقتول أو مواليه ) الذين أعتقوه ( فقالوا نحن نحلف ونستحق دم صاحبنا فذلك لهم فإن أراد النساء أن يعفون عنه فليس ذلك لهن العصبة والموالي أولى ) أحق ( بذلك منهن ) أي أنه حق لهم دونهن ( لأنهم هم الذين استحقوا الدم وحلفوا عليه ) ولا دخل للنساء في ذلك
( وإن عفت العصبة أو الموالي بعد أن يستحقوا الدم ) بالأيمان ( وأبى النساء وقلن لا ندع ) نترك ( قاتل صاحبنا ) بلا قتل ( فهن أحق وأولى بذلك لأن من أخذ القود ) أي طلبه ( أحق ممن تركه من النساء والعصبة إذا ثبت الدم ووجب القتل ) بالقسامة لا قبل ثبوته كما قدم
( ولا يقسم في قتل العمد من المدعين إلا اثنان فصاعدا ) قال ابن القاسم
كما أنه لا يقتل بأقل من شاهدين ولذا لا تحلف النساء في العمد لأن شهادتهن لا تجوز فيه ويحلفن في الخطأ لأنه مال وشهادتهن جائزة في الأموال ( ترد الإيمان عليهما ) إن كانا اثنين ( حتى يحلفا خمسين يمينا ثم قد استحقا الدم ) لحديث وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم فإن الظاهر من ذكر الدم القود خلافا لأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه إن القسامة توجب الدية دون القود في العمد والخطأ معا إلا أنها في العمد على الجاني وفي الخطأ على العاقلة وقال بكل من القولين جماعة من السلف لكن قوله ( وذلك الأمر عندنا ) بدار الهجرة يؤيد مذهبه ولأنه المتبادر من ذكر الدم في قوله دم صاحبكم وتأويله بأن المراد بالدم الدية لأن من استحق دية صاحبه فقد استحق دمه لأن الدية قد تؤخذ في العمد فيكون استحقاقا للدم بعيد متكلف خلاف الظاهر المتبادر وهو آية الحقيقة وقد تأيد بأنه صلى الله عليه وسلم قتل بالقسامة رجلا من بني نصر رواه أبو داود وفعله الخلفاء
( وإذا ضرب النفر ) الجماعة ( الرجل حتى يموت تحت أيديهم قتلوا به جميعا ) بلا قسامة
( فإن هو مات بعد ضربهم كانت القسامة ) أي لا بد منها في القتل
( وإذا كانت قسامة لم يكن إلا على رجل
____________________
(4/265)
واحد ولم يقتل غيره ولم نعلم قسامة كانت ) أي وجدت فيما مضى ( قط إلا على رجل واحد ) لأن المتيقن أن القاتل واحد فوجب الاقتصار عليه ويضرب الباقون مائة مائة ويسجنون سنة ثم يخلى عنهم
3 القسامة في قتل الخطأ ( قال مالك القسامة في قتل الخطأ ) صفتها أنه ( يقسم الذين يدعون الدم ويستحقون بقسامتهم يحلفون خمسين يمينا تكون على ) قدر ( قسم مواريثهم من الدية ) فإذا كانا اثنين حلف كل خمسا وعشرين
( فإن كان في الأيمان كسور ) كابن وبنت ( إذا قسمت بينهم نظر إلى الذي يكون عليه أكثر تلك الأيمان ) أي أكثر كسورها ( إذا قسمت فتجبر عليه تلك اليمين ) فتحلف البنت سبعة عشر يمينا لأن كسرها أكثر من كسر الابن
( فإن لم يكن للمقتول ورثة إلا النساء فإنهن يحلفن ويأخذن الدية فإن لم يكن له وارث إلا رجل واحد حلف خمسين يمينا وأخذ الدية وإنما يكون ذلك في قتل الخطأ ولا يكون في قتل العمد ) لأنه لا يحلف فيه أقل من رجلين عصبة كما تقدم
4 الميراث في القسامة ( مالك إذا قبل ولاة الدم الدية فهي موروثة على كتاب الله ) أي ما فرضه فيه من الإرث ( يرثها بنات الميت وأخواته ومن يرثه من النساء فإن لم يحرز النساء ميراثه كان ما بقي من ديته لأولى ) أقرب ( الناس بميراثه ) من عصبة ( مع النساء ) كبنتين وأخ وابن عم فلا شيء له والثلث للأخ لأنه
____________________
(4/266)
أولى بميراثه ( وإذا قام بعض ورثة المقتول الذي يقتل خطأ يريد أن يأخذ من الدية بقدر حقه منها وأصحابه غيب ) بفتحتين جمع غائب كخادم وخدم ( لم يأخذ ذلك ولم يستحق من الدية شيئا قل ولا كثر دون أن يستكمل القسامة يحلف خمسين يمينا فإن حلف خمسين يمينا استحق حصته من الدية وذلك أن الدم لا يثبت إلا بخمسين يمينا ولا تثبت الدية حتى يثبت الدم ) ففرض المسألة أن الخطأ لم يثبت إلا بالقسامة أما إن ثبت ببينة أو اعتراف فلا
( فإن جاء بعد ذلك من الورثة أحد حلف من الخمسين يمينا بقدر ميراثه ) فقط ( وأخذ حقه ) وهكذا يفعل ( حتى تستكمل الورثة حقوقهم إن جاء أخ لأم فله السدس ) من الميراث ( وعليه من الخمسين يمينا السدس ) بقدر إرثه ( فمن حلف استحق حقه من الدية ومن نكل بطل حقه وإن كان بعض الورثة غائبا أو صبيا لم يبلغ ) صفة كاشفة ( حلف الذين حضروا خمسين يمينا فإن جاء الغائب بعد ذلك أو بلغ الصبي الحلم حلف كل منهما يحلفون على قدر حقوقهم من الدية و ) هي ( على قدر مواريثهم منها وهذا أحسن ما سمعت ) في ذلك
5 القسامة في العبيد ( مالك الأمر عندنا في العبيد أنه إذا أصيب العبد عمدا أو خطأ ثم جاء سيده بشاهد حلف مع
____________________
(4/267)
شاهده ) حلفا متلبسا ( بيمين واحدة ) لأنه مال أو الباء زائدة في المفعول ( ثم كان قيمة عبده ) وإن زادت على دية الحر
( وليس في العبيد قسامة في عمد ولا خطأ ولم أسمع أحدا من أهل العلم قال ذلك
فإن قتل ) بضم فكسر نائبه ( العبد عمدا أو خطأ لم يكن على سيد العبد المقتول قسامة ولا يمين ) واحدة ( ولا يستحق سيده ذلك ) أي قيمته ( إلا ببينة عادلة ) أي شاهدين عدلين ( أو بشاهد فيحلف مع شاهده
قال يحيى قال مالك وهذا أحسن ما سمعت ) لأنه مال والله أعلم
____________________
(4/268)
27 كتاب الجامع قال ابن العربي في القبس هذا كتاب اخترعه مالك في التصنيف لفائدتين إحداهما أنه خارج عن رسم التكليف المتعلق بالأحكام التي صنفها أبوابا ورتبها أنواعا
الثانية أنه لما لحظ الشريعة وأنواعها ورآها منقسمة إلى أمر ونهي وإلى عبادة ومعاملة وإلى جنايات وعادات نظمها أسلاكا وربط كل نوع بجنسه وشذت عنه من الشريعة معان منفردة لم يتفق نظمها في سلك واحد لأنها متغايرة المعاني ولا أمكن أن يجعل لكل واحد منها بابا لصغرها ولا أراد هو أن يطيل القول فيما يمكن إطالة القول فيها فجعلها أشتاتا وسمى نظامها كتاب الجامع فطرق للمؤلفين ما لم يكونوا قبل به عالمين في هذه الأبواب كلها ثم بدأ في هذا الكتاب بالقول في المدينة لأنها أصل الإيمان ومعدن الدين ومستقر النبوة انتهى
1 الدعاء للمدينة وأهلها المدينة في الأصل المصر الجامع ثم صارت علما بالغلبة على دار هجرته صلى الله عليه وسلم ووزنها فعيلة لأنها من مدن وقيل مفعلة بفتح الميم لأنها من دان والجمع مدن ومدائن بالهمز على القول بأصالة الميم ووزنها فعائل وبغير همز على القول بزيادة الميم ووزنها مفاعل لأن للياء أصلا في الحركة فترد إليه ونظيرها في الاختلاف معايش
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) زيد ( الأنصاري ) المدني الثقة الحجة قيل كان مالك لا يقدم عليه أحدا مات سنة اثنين وثلاثين ومائة وقيل بعدها
( عن أنس بن مالك ) رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم بارك ) أتم وزد ( لهم في مكيالهم ) بكسر الميم آلة الكيل أي فيما يكال
____________________
(4/269)
في مكيالهم
( وبارك لهم في ) ما يكال في ( صاعهم و ) ما يكال في ( مدهم ) فحذف المقدر لفهم السامع وهو من باب ذكر المحل وإرادة الحال قال ابن عبد البر هذا من فصيح كلامه وبلاغته صلى الله عليه وسلم وفيه استعارة لأن الدعاء إنما هو للبركة في الطعام المكيل بالصاع والمد لا في الظروف وقد يحتمل على ظاهر العموم أن تكون فيهما
وقال القاضي عياض البركة هنا بمعنى النمو والزيادة وتكون بمعنى الثبات واللزوم قال وقيل يحتمل أن تكون هذه البركة دينية وهي ما يتعلق بهذه المقادير من حقوق الله تعالى في الزكاة والكفارات فيكون بمعنى الدعاء لها ببقاء الشريعة وثباتها وأن تكون دنيوية من تكثير المال والقدر بها حتى يكفي منها ما لا يكفي من غيره في غير المدينة أو ترجع البركة إلى التصرف بها في التجارة وأرباحها أو إلى كثرة ما يكال بها من غلاتها وأثمارها أو لاتساع عيشهم بعد ضيقه بما فتح الله عليهم ووسع من فضله لهم بتمليك بلاد الخصب والريف بالشام والعراق ومصر وغيرها حتى كثر الحمل إلى المدينة واتسع عيشهم حتى صارت هذه البركة في الكيل نفسه فزاد مدهم وصار هشاميا مثل مد النبي صلى الله عليه وسلم مرتين أو مرة ونصفا
وفي هذا كله ظهور إجابة دعوته صلى الله عليه وسلم انتهى
قال النووي والظاهر من هذا كله أن المراد البركة في نفس الكيل في المدينة بحيث يكفي المد فيها لمن لا يكفيه في غيرها
وقال الطيبي ولعل الظاهر هو قول عياض أو لاتساع عيش أهلها الخ لأنه صلى الله عليه وسلم قال وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة ودعاء إبراهيم هو قوله { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } سورة إبراهيم الآية 37 يعني وارزقهم من الثمرات بأن تجلب إليهم من البلاد لعلهم يشكرون النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات في واد ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء لا جرم أن الله عز وجل أجاب دعوته فجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنه ولعمري أن دعاء حبيب الله صلى الله عليه وسلم استجيب لها وضاعف خيرها على غيرها بأن جلب إليها في زمن الخلفاء الراشدين من مشارق الأرض ومغاربها من كنوز كسرى وقيصر وخافان ما لا يحصى ولا يحصر وفي آخر الأمر يأرز الدين إليها من أقاصي الأرض وشاسع البلاد وينصر هذا التأويل قوله في حديث أبي هريرة أمرت بقرية تأكل القرى ومكة أيضا من مأكولها انتهى
( يعني ) صلى الله عليه وسلم ( أهل المدينة ) بيان من الراوي للضمائر في لهم وما بعده وهل يختص بالمد المخصوص أو يعم كل مد تعارفه أهل المدينة في سائر الأعصار زاد أو نقص وهو الظاهر لأنه صلى الله عليه وسلم أضافه إلى المدينة تارة وإلى أهلها أخرى ولم يضفه إلى نفسه الزكية فدل على عموم الدعوة لا على خصوصه بمده صلى الله عليه وسلم كما أفاده بعض العلماء
وهذا الحديث رواه البخاري في البيع والاعتصام عن القعنبي وفي كفارات الأيمان عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد الثلاثة عن مالك به
( مالك عن سهيل ) بضم السين مصغر ( ابن أبي صالح ) المدني أحد الأئمة المشهورين
____________________
(4/270)
المكثرين وثقه النسائي والدارقطني وغيرهما واحتج به الجماعة وكفى برواية مالك عنه توثيقا ( عن أبيه ) ذكوان السمان الزيات الثقة الثبت ( عن أبي هريرة أنه قال كان الناس إذا رأوا أول الثمر ) بفتح المثلثة والميم ( جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) إما هدية وجلالة ومحبة وتعظيما وإما تبركا بدعائه لهم بالبركة وهو الذي يغلب على ظني وسياق الحديث يدل عليه والمعنيان محتملان قاله ابن عبد البر وقال المازري يفعلون ذلك رغبة في دعائه ورجاء تمام ثمرهم بذلك وإعلاما ببدو صلاحها لما يتعلق بذلك من حقوق الشرع كبعث الخراص والزكاة وغير ذلك
( فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) زاد في بعض طرق الحديث وضعه على وجهه ( قال اللهم بارك لنا في ثمرنا ) أي أنمه وزده ( وبارك لنا في مدينتنا ) طيبة ( وبارك لنا في صاعنا ) وهو مكيال أربعة أمداد زاد الدراوردي بركة في بركة
( وبارك لنا في مدنا ) بضم الميم وشد الدال
( اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ) كما قلت { واتخذ الله إبراهيم خليلا } سورة النساء الآية 125 ونبيك وإني عبدك ونبيك لم يقل وخليلك مع أنه خليل كما صرح به في أحاديث عدة قال الأبي رعاية للأدب في ترك المساواة بينه وبين آبائه وأجداده الكرام
وقال الطيبي عدم التصريح بذلك مع رعاية الأدب أفخم
قال الزمخشري في قوله { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات } سورة البقرة الآية 253 الظاهر أنه أراد محمدا صلى الله عليه وسلم وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله ما لا يخفى
وقد سئل الحطيئة عن أشعر الناس فقال زهير والنابغة ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه ولو صرح به لم يفخم أمره
( وإنه دعاك لمكة ) بقوله { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } سورة إبراهيم الآية 37 وإني أدعوك أطلب منك ( للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه ) في أمر الرزق والدنيا أو في أمر الآخرة وتضعيف الحسنات وغفران السيئات قاله الباجي وقد أجاب الله دعاءه كما مر تقريره
( ثم يدعو أصغر وليد ) أي مولود فعيل بمعنى مفعول ( يراه فيعطيه ذلك الثمر ) وفي رواية الدراوردي ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان
قال الباجي يحتمل أن يريد بذلك عظم الأجر في إدخال المسرة على من لا ذنب له لصغره فإن سروره به أعظم من سرور الكبير
وقال أبو عمر فيه من الآداب وجميل الأخلاق إعطاء الصغير وإتحافه بالطرفة لأنه أولى من الكبير لقلة صبره ولفرحه بذلك وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في كل حال
وقال عياض تخصيصه أصغر وليد حضره
____________________
(4/271)
لأنه ليس فيه ما يقسم على الولدان ومن كبر منهم ملحق بأخلاق الرجال وتلويحا إلى التفاؤل بنماء الثمار وزيادتها بدفعها لمن هو في سن النماء والزيادة كما قيل في قلب الرداء للاستسقاء
قال الأبي ولا يعارض دعاءه لها بالبركة قوله في الحديث الآخر أصابهم بالمدينة جهد وشدة إذ لا منافاة بين ثبوت الشدة وثبوت البركة فيها وتخلفها عن بعض لا يضر بها كذا أجاب شيخنا والأظهر أن البركة في تحصيل القوت وأن المد بها يشبع ثلاثة أمثاله بغيرها فتكون الشدة في تحصيل المد والبركة في تضعيف القوت به انتهى
ولعل الأظهر جواب شيخه وهو ابن عرفة قال ابن عبد البر وظاهر الحديث يدل على أن المدينة أفضل من مكة لدعائه بذلك ومثله معه وهذا بين لموضعه صلى الله عليه وسلم وموضع التضعيف في ذلك وأما دعاء إبراهيم فهو معنى قوله تعالى { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر } سورة البقرة الآية 126 أخرج الفريابي عن ابن عباس قال كأن إبراهيم يحجرها أي الدعوة على المؤمنين دون الناس فقال تعالى ومن كفر أيضا فإني أرزقه كما أرزق المؤمنين
أأخلق خلقا لا أرزقهم أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب أليم
ثم قرأ ابن عباس { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا } سورة الإسراء الآية 20 انتهى
وهذا الحديث رواه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وتابعه الدراوردي عن سهيل نحوه في مسلم أيضا
2 ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها ( مالك عن قطن ) بفتح القاف والطاء المهملة ونون ( ابن وهب بن عمير ) بضم العين مصغر وفي نسخة عويمر بواو بعد العين ( ابن الأجدع ) بجيم ودال مهملة الليثي أو الخزاعي المدني الصدوق يكنى أبا الحسن وفي التمهيد قطن أحد بني سعد بن ليث مدني ثقة روى عنه مالك وغيره لمالك عنه هذا الحديث الواحد ( أن يحنس ) بضم التحتية وفتح الحاء المهملة وتشديد النون مفتوحة ومكسورة كما ضبطه عياض وآخره سين مهملة ابن عبد الله المدني الثقة قال أبو عمر هكذا رواه يحيى وابن بكير وأكثر الرواة ورواه ابن القاسم عن مالك عن قطن بن وهب عن عويمر بن الأجدع أن يحنس والصحيح رواية الجماعة وكذا نسبه ابن البرقي ويشهد لصحته رواية القعنبي عن مالك عن قطن بن وهب أن يحنس ( مولى الزبير بن العوام ) أحد العشرة وفي رواية لمسلم مولى مصعب ابن الزبير قال النووي وهو لأحدهما حقيقة وللآخر مجاز
( أخبره أنه كان جالسا عند عبد الله بن عمر ) بن الخطاب ( في الفتنة ) التي وقعت زمن يزيد بن معاوية ( فأتته مولاة له ) لم تسم ( تسلم عليه فقالت إني أردت الخروج ) من المدينة ( يا أبا عبد
____________________
(4/272)
الرحمن ) لأنه ( اشتد ) قوي وصعب ( علينا الزمان فقال لها عبد الله بن عمر اقعدي لكع ) بضم اللام وفتح الكاف وعين مهملة كذا ليحيى وحده والصواب لكاع كما رواه غيره قال أبو عمر إنما يقال للمرأة لكاع مثل جذام وقطام وقال عياض يطلق لكع بضم اللام وفتح الكاف على اللئيم والعبد والغبي الذي لا يهتدي لنطق ولا غيره وعلى الصغير ومنه قوله يطلب الحسن أثم لكع
وقول الحسن لإنسان يا لكع أي يا صغير العلم
ويقال للمرأة لكاع على وزن فعال والجميع من اللكع وهو اللؤم وقيل من الملاكيع وهو ما يخرج من السلامن البطن
وقال النحاة لكع ولكاع لا يستعملان إلا في النداء خاصة قد استعمل لكاع في الشعر في غير النداء قال الحطيئة أطوف ما أطوف ثم آوي إلى بيت قعيدته لكاع قال ذلك ابن عمر لها إنكارا لما أرادته من الخروج وتثبيطا لها وإدلالا عليها لأنها مولاته وقد يكون معناه يا قليلة العلم وصغيرة الحظ منه لما فاتها من معرفة حق المدينة
( فإني سمعت رسول الله يقول لا يصبر على لأوائها ) بالمد ( وشدتها ) قال أبو عمر يعني المدينة والشدة الجوع واللأواء تعذر الكسب وسوء الحال
وقال المازري اللأواء الجوع وشدة المكسب وضمير شدتها يحتمل أن يعود على اللأواء ويحتمل أن يعود على المدينة قال الأبي الحديث خرج مخرج الحث على سكناها فمن لزم سكناها داخل في ذلك ولو لم تلحقه لأواء لأن التعليل بالغالب والمظنة لا يضر فيه التخلف في بعض الصور كتعليل القصر بمشقة السفر فإن الملك يقصر وإن لم تلحقه مشقة لوجود السفر ( أحد إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة ) قال عياض سئلت قديما عن هذا الحديث ولم خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته وادخاره إياها وأجيب عنه بجواب شاف مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه وأذكر منه هنا لمعا تليق بهذا الموضع قال بعض شيوخنا أو هنا للشك والأظهر عندنا أنها ليست للشك لأن هذا الحديث رواه جابر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وأسماء بنت عميس وصفية بنت أبي عبيد عن النبي بهذا اللفظ ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك ويطابقهم فيه على صيغة واحدة بل الأظهر أنه قاله هكذا فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا وإما أن تكون أو للتقسيم ويكون شهيدا لبعض أهل المدينة وشفيعا لباقيهم إما شفيعا للعاصين وشهيدا للمطيعين وإما شهيدا لمن مات في حياته وشفيعا لمن مات بعده أو غير ذلك وهذه خصوصية رائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعاصين في القيامة وعلى شهادته على جميع الأمة وقد قال في شهداء أحد أنا شهيد على هؤلاء فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية وزيادة منزلة وحظوة قال وقد تكون أو
____________________
(4/273)
بمعنى الواو فيكون لأهل المدينة شفيعا وشهيدا انتهى
وبالواو رواه البزار من حديث ابن عمر قال عياض وإذا جعلنا أو للشك كما قال المشايخ فإن كانت اللفظة الصحيحة شهيدا اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة المجردة لغيرهم وإن كانت شفيعا فاختصاص أهل المدينة بهذا أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي في إخراج أمته من النار ومعافاة بعضهم بشفاعته في القيامة وتكون هذه الشفاعة بزيادة الدرجات أو تخفيف السيئات أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش أو كونهم في روح أو على منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض انتهى
ونقله عنه النووي وغيره وأقروه والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه الضحاك عن قطن عند مسلم
( مالك عن محمد بن المنكدر ) بن عبد الله التميمي المدني ( عن جابر بن عبد الله ) الصحابي ابن الصحابي ( أن أعرابيا ) قال الحافظ لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في ربيع الأبرار أنه قيس بن أبي حازم وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور وصرحوا بأنه هاجر فوجد النبي قد مات فإن كان محفوظا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه
وفي الذيل لأبي موسى المديني في الصحابة قيس بن حازم المنقري فيحتمل أن يكون هو هذا أي زيد في اسم أبيه أداة الكنية سهوا أو غلطا ( بايع رسول الله على الإسلام فأصاب الأعرابي وعك ) بفتح الواو وبسكون العين حمى ( بالمدينة فأتى رسول الله ) وفي رواية سفيان الثوري فجاء الغد محموما ( فقال يا رسول الله أقلني بيعتي ) على الإسلام قاله عياض وقال غيره إنما استقاله من الهجرة ولم يرد الارتداد عن الإسلام قال ابن بطال بدليل أنه لم يرد حل ما عقده إلا بموافقة النبي على ذلك ولو أراد الردة ووقع فيها لقتله إذ ذاك وحمله بعضهم على الإقالة من المقام بالمدينة ( فأبى ) امتنع ( رسول الله ) أن يقيله ( ثم جاءه ) ثانية ( فقال أقلني بيعتي فأبى ) امتنع ( ثم جاءه ) الثالثة ( فقال أقلني بيعتي فأبى ) أن يقيله لأنها إن كانت بعد الفتح فهي على الإسلام فلم يقله لأنه لا يحل الرجوع إلى الكفر وإن كان قبله فهي على الهجرة والمقام معه بالمدينة ولا يحل للمهاجر أن يرجع إلى وطنه كذا قال عياض
ورده الأبي فقال الأظهر أنها على الهجرة لقوله وعك ولو كانت على الإسالام كانت ردة لأن الرضا بالدوام على الكفر كفر انتهى
( فخرج الأعرابي ) من المدينة إلى البدو ( فقال رسول الله إنما المدينة كالكير ) بكسر الكاف المنفخ الذي ينفخ به النار أو الموضع المشتمل عليها ( تنفي ) بفتح الفوقية وسكون النون وبالفاء
____________________
(4/274)
( خبثها ) بفتح المعجمة والموحدة والمثلثة ما تبرزه النار من وسخ وقذر ويروى بضم الخاء وسكون الباء من الشيء الخبيث والأول أشبه لمناسبة الكير
( وينصع ) بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد وعين مهملتين من النصوع وهو الخلوص أي يخلص ( طيبها ) بكسر الطاء وسكون التحتية خفيفة والرفع فاعل ينصع وفي رواية تنصع بالفوقية طيبها بالنصب على المفعولية مخففا أيضا وبه ضبطه القزاز لكنه استشكله بأنه لم ير النصوع في الطيب وإنما الكلام يتضوع بضاد معجمة وزيادة واو لكن قال عياض معنى ينصع يصفو ويخلص يقال طيب ناصع إذا خلصت رائحته وصفت مما ينقصها وفي رواية طيبها بشد التحتية مكسورة والرفع فاعل قال الأبي وهي الرواية الصحيحة وهو أقوم معنى لأنه ذكره في مقابلة الخبيث أي مناسبة بين الكير والطيب شبه النبي المدينة وما يصيب ساكنها من الجهد بالكير وما يدور عليه بمنزلة الخبيث من الطيب فيذهب الخبيث ويبقى الطيب وكذلك المدينة تنفي شرارها بالحمى والجوع وتطهر خيارهم وتزكيهم انتهى
وقال غيره هذا تشبيه حسن لأن الكير بشدة نفخه ينفي عن النار السخام والدخان والرماد حتى لا يبقى إلا خالص الجمر هذا إن أريد بالكير المنفخ الذي ينفخ به النار وإن أريد به الموضع فالمعنى أن ذلك الموضع لشدة حرارته ينزع خبث الحديد والذهب والفضة ويخرج خلاصة ذلك والمدينة كذلك تنفي شرار الناس بالحمى والوصب وشدة العيش وضيق الحال التي تخلص النفس من الاسترسال في الشهوات وتطهر خيارهم وتزكيهم وهذا الحديث أخرجه البخاري في الأحكام عن القعنبي وعبد الله بن يوسف وفي الاعتصام عن إسماعيل ومسلم في الحج عن يحيى الأربعة عن مالك به وتابعه سفيان الثوري عن ابن المنكدر عند البخاري بنحوه
( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( أنه قال سمعت أبا الحباب ) بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة الخفيفة فألف فموحدة ( سعيد ) بكسر العين ( ابن يسار ) بفتح التحتية والمهملة الخفيفة المدني الثقة المتقن مات بالمدينة سنة سبع عشرة ومائة وقيل قبلها بسنة يقال إنه مولى الحسن بن علي ويقال مولى شميسة النصرانية المسلمة بالمدينة على يد الحسن بن علي وقيل مولى شقران مولى النبي ( يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله يقول أمرت بقرية ) بضم الهمزة أي أمرني ربي بالهجرة إلى قرية ( تأكل القرى ) أي تغلبها وتظهر عليها يعني أن أهلها تغلب أهل سائر البلاد فتفتح منها يقال أكلنا بني فلان أي غلبناهم وظهرنا عليهم فإن الغالب المستولي على الشيء كالمفني له إفناء الأكل إياه وفي موطأ ابن وهب قلت لمالك ما تأكل القرى أي ما معناه قال تفتح
____________________
(4/275)
القرى لأن من المدينة افتتحت القرى كلها بالإسلام
وقال السهيلي في التوراة يقول الله يا طابة يا مسكينة إني سأرفع أجاجيرك على أجاجير القرى وهو قريب من تأكل القرى لأنها إذا علت عليها علو الغلبة أكلتها ويكون المراد يأكل فضلها الفضائل أي يغلب فضلها الفضائل حتى إذا قيست بفضلها تلاشت بالنسبة إليها وجاء في مكة أنها أم القرى لكن المذكور للمدينة أبلغ من الأمومة إذ لا يمحى بوجودها وجود ما هي أم له لكن يكون حق الأمومة أظهر ومعنى تأكل القرى من الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى يكون عدما وما تضمحل له الفضائل أفضل وأعظم مما تبقى معه الفضائل اه
وفيه تفضيل المدينة على مكة قال المهلب لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها وأجيب بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة فيهم كثير من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين فلا يلزم من ذلك تفضيل إحدى القريتين قلنا لا نزاع في ثبوت الفضل للفريقين وللقريتين كما أنه لا نزاع في أن مكة من جملة القرى التي أكلتها المدينة فيلزم تفضيلها عليها
( ويقولون ) أي بعض الناس من المنافقين وغيرهم ( يثرب ) بالرفع يسمونها باسم واحد من العمالقة نزلها وقيل باسم يثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح وقيل هو اسم كان لموضع منها سميت به كلها وكرهه لأنه من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة أو من الثرب وهو الفساد وكلاهما قبيح وكان يحب الاسم الحسن ويكره القبيح ولذا قال يقولون يثرب ( وهي المدينة ) أي الكاملة على الإطلاق كالبيت للكعبة فهو اسمها الحقيقي لها لأن التركيب يدل على التفخيم كقوله وهم القوم كل القوم يا أم خالد
أي هي المستحقة لأن تتخذ دار إقامة وأما تسميتها في القرآن يثرب فإنما هي حكاية عن المنافقين
وروى أحمد عن البراء بن عازب رفعه من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله هي طابة هي طابة وروى عمر بن شبة عن أبي أيوب أن النبي نهى أن يقال للمدينة يثرب قال عياض فهم العلماء من هذا منع أن يقال يثرب حتى قال عيسى بن دينار من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة
وقال أبو عمر فيه دليل على كراهة ذلك اه
وأجيب عن حديث الصحيحين فإذا هي يثرب وفي رواية لا أرها إلا يثرب بأنه كان قبل النهي ( تنفي ) بكسر الفاء ( الناس ) أي الخبيث الرديء منهم ( كما ينفي الكير ) بكسر الكاف وإسكان التحتية قال أبو عمر هو موضع نار الحداد والصائغ وليس الجلد الذي تسميه العامة كيرا هكذا قال علماء اللغة ( خبث ) بفتح المعجمة والموحدة ومثلثة والنصب على المفعولية ( الحديد ) أي وسخه الذي تخرجه النار أي لا تترك فيها من في قلبه دغل بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه كما تميز النار رديء الحديد من جيده ونسب التمييز للكير لأنه السبب الأكبر في اشتعال النار التي وقع التمييز بها
____________________
(4/276)
قال أبو عمر هذا إنما كان في الحياة النبوية فحينئذ لم يكن يخرج من المدينة رغبة عن جواره فيها إلا من لا خير فيه وأما بعده فقد خرج منها الخيار الفضلاء الأبرار وتبعه عياض فقال الأظهر أن هذا يختص بزمنه لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه إلا من ثبت إيمانه وأما المنافقون وجهلة الأعراب فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون الأجر في ذلك كما قال الأعرابي الذي أصابه الوعك أقلني بيعتي اه
ورجح النووي عمومه لما ورد أنها في زمن الدجال ترجف ثلاث رجفات يخرج الله منها كل كافر ومنافق قال فيحتمل أنهم اختصوا بزمن الدجال ويحتمل أنه في أزمان متفرقة قال الأبي فإن قيل قد استقر المنافقون فيها أجيب بأنهم انتفوا بالموت وهو أشد النفي فإن قيل قد استقر بها الروافض ونحوها قلت إن كان نفيها الخبث خاصا بزمنه فالجواب واضح وإن كان عاما فيحتمل أن المراد بنفي الخبث إخماد بدعة من يسكنها من المبتدعة وعدم ظهوره بحيث يدعو إلى بدعته وهذا لم يتفق فيها اه
وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به وتابعه سفيان وعبد الوهاب عن يحيى ابن سعيد عند مسلم وقال إنهما قالا كما ينفي الكير الخبث لم يذكر الحديد
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ) قال أبو عمر وصله معن بن عيسى وحده عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة ( أن رسول الله قال لا يخرج أحد من المدينة ) ممن استوطنها ( رغبة عنها ) أي عن ثواب الساكن فيها وقال المازري أي كراهة لها من رغبت عن الشيء إذا كرهته ( إلا أبدلها الله خيرا منه ) بمولود يولد فيها أو قدوم خير منه من غيرها أما من كان وطنه غيرها فقدمها للقربة ورجع إلى وطنه أو كان مستوطنا بها فسافر لحاجة أو لضرورة شدة زمان أو فتنة فليس ممن يخرج رغبة عنها قاله الباجي
قال ابن عبد البر هذا في حياته وذلك مثل الأعرابي القائل أقلني بيعتي ومعلوم أن من رغب عن جواره أبدله الله خيرا منه وأما بعد وفاته فقد خرج منها جماعة من أصحابه ولم تعوض المدينة خيرا منهم انتهى
يعني كأبي موسى وابن مسعود ومعاذ وأبي عبيدة وعلي وطلحة والزبير وعمار وحذيفة وعبادة بن الصامت وبلال وأبي الدرداء وأبي ذر وغيرهم وقطنوا غيرها وماتوا خارجا عنها ولم تعوض المدينة مثلهم فضلا عن خير منهم فدل ذلك على التخصيص بزمنه
قال الأبي الأظهر أن ذلك ليس خاصا بالزمن النبوي ومن خرج من الصحابة لم يخرج رغبة عنها بل إنما خرج لمصلحة دينية من تعليم أو جهاد أو غير ذلك انتهى
لا يقال ليس النزاع في أن خروجهم لما ذكر إنما هو في تعويضها بخير منهم وهذا لم يقع فالأظهر التخصيص لأنا نقول الإبدال مقيد بالخروج رغبة عنها فلا يرد أن الخارج لمصلحة دينية لم تعوض مثلهم
( مالك عن هشام بن عروة ) تابعي صغير لقي بعض الصحابة ( عن أبيه ) أحد الفقهاء ( عن ) أخيه
____________________
(4/277)
( عبد الله بن الزبير ) الصحابي ابن الصحابي ( عن سفيان بن أبي زهير ) بضم الزاي وفتح الهاء مصغر الأزدي من أزد شنوءة بفتح المعجمة وضم النون وبعد الواو همزة صحابي نزل المدينة قال ابن المديني وخليفة اسم أبيه القرد بفتح القاف وكسر الراء فدال مهملة ولذا يقال له ابن القرد وقيل اسم أبيه نمير بن عبد الله بن مالك ويقال فيه النميري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن زهران ( قال سمعت رسول الله يقول تفتح ) بضم الفوقية وسكون الفاء وفتح الفوقية مبني للمفعول ونائبه ( اليمن ) سمي بذلك لأنه عن يمين القبلة أو عن يمين الشمس أو بيمن بن قحطان ( فيأتي قوم ) من أهل المدينة ( يبسون ) بفتح التحتية وكسر الموحدة من الثلاثي رواه يحيى ولا يصح عنه غيره وكذا رواه ابن بكير وقال معناه يسيرون من قوله { وبست الجبال بسا } سورة الواقعة الآية 5 أي سارت
وذكر حبيب هذا التفسير عن مالك وكذا رواه ابن نافع وغيره عنه فإنكار عبد الملك بن حبيب رواية يحيى ليس بشيء لأنه لم ينفرد بها بل تابعه ابن بكير وابن نافع وابن حبيب وغيرهم عن مالك
ورواه ابن القاسم بفتح التحتية وضم الموحدة ثلاثيا أيضا من باب نصر أي يسرعون السير وقيل يزجرون دوابهم وقيل يسألون عن البلدان وأخبارها ليتحملوا إليها وهذا لا يكاد يعرف لغة
ورواه ابن وهب يبسون بضم التحتية وكسر الموحدة وضم المهملة رباعي من أبس وقال معناه يزينون لهم الخروج من المدينة أي ويزينون البلد الذي جاؤوا منه ويحببونه إليهم وصوبه ابن حبيب قاله أبو عمر ملخصا
( فيتحملون ) من المدينة ( بأهليهم ومن أطاعهم ) من الناس ( والمدينة خير لهم ) لأنها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون وقيل لأن الفتن فيها دونها في غيرها وقيل لفضل مسجدها والصلاة فيه ومجاورة القبر الشريف
( لو كانوا يعلمون ) بما فيها من الفضائل كالصلاة في مسجدها وثواب الإقامة فيها وغير ذلك من الفوائد الدينية الأخروية التي تستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه أو قريبه هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وظاهره أن الذين يتحملون غير الذين يبسون فكأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن اليمن ورخاؤه فدعا قريبه إلى المجيء إليه فيحتمل المدعو بأهله وأتباعه لكن صوب النووي أن حديث الباب إخبار عن من خرج من المدينة متحملا بأهله وأتباعه بأسا في سيره إلى الرخاء والأمصار المنفتحة
وفي رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام في هذا الحديث ما يؤيده ولفظه تفتح الشام فيخرج الناس إليها يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ويوضح ذلك حديث جابر عند البزار برجال الصحيح مرفوعا
ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون ثم يتحملون بأهله إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو
____________________
(4/278)
كانوا يعلمون والأرياف جمع ريف بكسر الراء وهو ما قارب المياه في أرض العرب وقيل هو الأرض التي فيها الزرع والخصب وقيل غير ذلك
( وتفتح الشام ) سمي بذلك لأنه عن شمال الكعبة
وفي رواية ابن جريج عن هشام ثم تفتح الشام ( فيأتي قوم يبسون ) بفتح أوله وكسر الموحدة وضمها وبضم أوله وكسر الموحدة أي يزينون ويدعون الناس إلى بلاد الخصب ( فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ) من الناس راحلين إلى الشام ( والمدينة خير لهم ) منها لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات ( لو كانوا يعلمون ) فضلها ما فعلوا ذلك فالجواب محذوف كالسابق واللاحق دل عليه ما قبله وإن كانت لو بمعنى ليت فلا جواب لها وعلى التقديرين ففيه تجهيل لمن فارقها لتفويته على نفسه خيرا عظيما
( وتفتح العراق ) وفي رواية ابن جريج ثم تفتح العراق ( فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ) من الناس راحلين إلى العراق ( والمدينة خير لهم ) منه ( لو كانوا يعلمون ) ذلك والواو في الثلاثة للحال وهذا من إعلام نبوته حيث أخبر بفتح هذه الأقاليم وأن الناس يتحملون بأهليهم ويفارقون المدينة فكان ما قاله على ترتيب ما قال لكن في رواية لمسلم وغيره تفتح الشام ثم اليمن ثم العراق والظاهر أن اليمن قبل الشام للاتفاق على أنه لم يفتح شيء من الشام في الزمن النبوي فرواية تقديم الشام على اليمن معناه أن استيفاء فتح اليمن إنما كان بعد الشام وقول الطهري أخبر في أول الهجرة إلى المدينة بأن اليمن تفتح فيأتي منها قوم حتى يكثر أهل المدينة والمدينة خير لهم من غيرها تعقبه الطيبي بأن تنكير قوم ووصفه بيبسون ثم توكيده بقوله لو كانوا يعلمون لا يساعد ما قاله لأن تنكير قوم لتحقيرهم وتوهين أمرهم ثم وصف يبسون وهو سوق الدواب يشعر بركة عقولهم وأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية وحطام الدنيا الفانية وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول ولذا كرر قوما ووصفه في كل قرينة بيبسون استحضارا لتلك الهيئة القبيحة قال والذي يقتضيه المقام أن ينزل يعلمون منزلة اللازم لينفي عنهم العلم والمعرفة بالكلية ولو ذهب مع ذلك إلى معنى التمني لكان أبلغ لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله أي ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظا وتشديدا انتهى
وفي إسناده تابعيان وصحابيان
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه ابن جريج ووكيع كلاهما عن هشام عند مسلم به غايته أن وكيعا قدم الشام
( مالك عن ابن حماس ) بكسر الحاء المهملة وميم خفيفة فألف فسين مهملة كذا رواه يحيى ولم يسمه وهو يوسف بن يونس بن حماس وقال معن عن مالك عن يونس بن يوسف فقلبه وقال التنيسي وأبو مصعب عن مالك عن يوسف بن سنان أبدلا يونس فسمياه سنانا قال البخاري والأول أصح
وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان من عباد أهل المدينة لمح مرة امرأة فدعا الله فأذهب عينيه ثم دعا الله فردهما عليه
وروى عنه مالك وابن جريج وروى هو عن عطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار ( عن عمه عن أبي هريرة أن رسول الله قال لتتركن ) بفتح أوله وضم الفوقية
____________________
(4/279)
الأولى وإسكان الثانية وفتح الراء والكاف ونون التوكيد الثقيلة ونائب الفاعل ( المدينة على أحسن ما ) أي حال ( كانت ) من العمارة وكثرة الأثمار وحسنها وفي رواية للصحيحين على خير ما كانت
وفي أخبار المدينة لعمر بن شبة أن ابن عمر أنكر على أبي هريرة قوله خير ما كانت وقال إنما قال أعمر ما كانت وأن أبا هريرة صدقه على ذلك ( حتى يدخل الكلب أو الذئب ) للتنويع ويحتمل الشك ( فيغذي ) بضم التحتية وفتح الغين وكسر الذال الثقيلة المعجمتين أي يبول دفعة بعد دفعة ( على بعض سواري ) أعمدة ( المسجد أو المنبر ) تنويع أو شك لعدم سكانه وخلوه من الناس ( فقالوا يا رسول الله فلمن تكون الثمار ذلك الزمان قال للعوافي الطير والسباع ) بالجر بدل أو عطف بيان للعوافي وهي الطالبة لما تأكل مأخوذ من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه
قال النووي الظاهر المختار أن هذا يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة ويوضحه قضية الراعيين من مزينة فإنهما يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة وهما آخر من يحشر كما في البخاري
وقال القاضي عياض هذا مما جرى في العصر الأول وانقضى فإنها صارت بعد وفاته دار الخلافة ومعقل الناس حتى تنافسوا فيها بالغرس والبناء وتوسعوا في ذلك وسكنوا منها ما لم يسكن قبل حتى بلغت المساكن ملء إهاب وجلبت إليها خيرات الأرض كلها فلما انتهت حالها كمالا انتقلت الخلافة عنها إلى الشام والعراق وذلك الوقت أحسن ما كانت للدين والدنيا
أما الدين فلكثرة العلماء بها وكمالهم وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها
قال وذكر الأخباريون في بعض الفتن التي جرت بالمدينة وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس وبقيت ثمارها أو أكثرها للعوافي وخلت مدة ثم تراجع الناس إليها
وحكى كثير من الناس أنهم رأوا في خلائها ذلك ما أنذر به من تغذية الكلاب على سواري المسجد وحالها اليوم قريب من ذلك فقد خربت أطرافها
قال الأبي تأمل الكلام فإنه يعطي أن خلاءها حتى غذت الكلاب على سواري المسجد كان قريبا من زمن تناهي حالها أو انتقال الخلافة عنها وهذا لم يقع ولو وقع لتواتر بل الظاهر أنه لم يقع بعد ودليل المعجزة يوجب القطع بوقوعه في المستقبل لصحة الحديث وأن الظاهر كونه بين يدي نفخة الصعق كما يدل عليه موت الراعيين والمراد بخير ما كانت عليه من المصالح الدينية المتقدمة الذكر وإلى هذا كان يذهب شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة انتهى
وفي نفيه وقوعه نظر مع نقل عياض عن كثير أنهم رأوا ذلك ولا يشترط التواتر في مثل هذا وهذا الحديث في البخاري من طريق شعيب ومسلم من طريق يونس وعقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بنحوه وزيادة
____________________
(4/280)
( مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة ) يريد الشام وكان قد أقام بها مدة أميرا عليها قبل الخلافة ( التفت إليها فبكى ) على فراقها ( ثم قال يا مزاحم ) بن أبي مزاحم المكي مولى عمر بن عبد العزيز ويقال مولى طلحة ثقة روى له مسلم والنسائي وغيرهما ( أتخشى ) تخاف ( أن تكون ) بفوقية ( ممن نفت المدينة ) ويحتمل أن قوله نكون بالنون أي أنا وأنت
3 ما جاء في تحريم المدينة ( مالك عن عمرو ) بفتح العين وسكون الميم ابن أبي عمرو واسمه ميسرة المدني الثقة المتوفى بعد الخمسين ومائة ( مولى المطلب ) بن عبد الله بن حنطب القرشي المخزومي وعمرو قال أحمد لا بأس به روى عنه مالك وضعفه بعضهم قال ابن عبد البر ولم يفرده مالك بحكم له في الموطأ هذا الحديث الواحد انتهى
وفي مقدمة الفتح وثقه أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم والعجلي وضعفه ابن معين والنسائي وعثمان الدارمي لروايته عن عكرمة عن ابن عباس من أتى البهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة وقال أبو داود ليس هو بذاك حدث بحديث البهيمة
وقد روى عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس ليس على من أتى البهيمة حد وقال الساجي صدوق إلا أنه يهم انتهى
وقد علم أن مالكا لم يخرج عنه عن عكرمة شيئا وإنما أخرج له هذا الحديث فقط ( عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع ) بفتح الطاء واللام مخففا ظهر ( له أحد ) حين رجع من خيبر ففي رواية محمد بن جعفر عن عمرو عن أنس قال خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر أخدمه فلما قدم صلى الله عليه وسلم راجعا وبدا له أحد ( فقال هذا ) مشيرا إلى أحد ( جبل ) خبر موطىء لقوله ( يحبنا ) حقيقة كما رجحه جماعة وقد خاطبه صلى الله عليه وسلم مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب أسكن أحد الحديث فوضع الله الحب فيه كما وضع التسبيح في الجبال مع داود والخشية في الحجارة التي قال فيها { وإن منها لما يهبط من خشية الله } سورة البقرة الآية 74 وكما حن الجذع لفراقه حتى سمع الناس حنينه فلا ينكر وصف الجماد بحب الأنبياء وقد سلم عليه الحجر والشجر وسبحت الحصيات في يده وكلمته الذراع وأمنت حوائط البيت وأسكفة الباب على دعائه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى مزيد حب الله إياه حتى أسكن حبه في الجماد وغرس محبته في الحجر مع فضل يبسه وقوة صلابته
( ونحبه ) حقيقة أيضا لأن جزاء من يحب أن يحب ولأنه من جبال الجنة كما روى أحمد عن أبي عبس بن جبر مرفوعا أحد جبل يحبنا ونحبه وهو من جبال الجنة وللبزار والطبراني أحد هذا جبل يحبنا ونحبه على باب من أبواب الجنة أي من داخلها فلا ينافي رواية الطبراني أيضا أحد ركن من أركان الجنة لأنه ركن داخل الباب بدليل رواية ابن سلام في تفسيره أنه ركن باب الجنة وقيل هو على حذف مضاف أي يحبنا أهله وهم الأنصار لأنهم جيرانه وكانوا يحبونه صلى الله عليه وسلم ويحبهم لأنهم آووه ونصروه وأقاموا دينه فهو كقوله { واسأل القرية } سورة يوسف الآية 82 وقال الشاعر
____________________
(4/281)
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا وقيل لأنه كان يبشره بلسان الحال إذا قدم من سفر بقربه من أهله ولقائهم وذلك فعل المحب بمن يحب فكان يفرح إذا طلع له استبشارا بالأوبة من سفره والقرب من أهله وضعف بما في رواية الطبراني عن أنس فإذا جئتموه فكلوا من شجره ولو من عضاهه بكسر المهملة وضاد معجمة كل شجرة عظيمة ذات شوك فحث على عدم إهمال الأكل حتى لو فرض أنه لا يوجد إلا ما يؤكل كالعضاه يمضغ منه تبركا ولو بلا ابتلاع
قال السهيلي ويقوي الأول أي الحقيقة قوله صلى الله عليه وسلم المرء مع من أحب مع أحاديث أنه في الجنة فتناسبت هذه الآثار وشد بعضها بعضا وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن ولا أحسن من اسم مشتق من الأحدية وقد سماه الله بهذا الاسم تقدمة لما أراده من مشاكلة اسمه لمعناه إذ أهله وهم الأنصار نصروا التوحيد والمبعوث بدين التوحيد واستقر عنده حيا وميتا وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يستعمل الوتر ويحبه في شأنه كله استشعارا للأحدية فقد وافق اسمه أغراضه ومقاصده ومع أنه مشتق من الأحدية فحركات حروفه الرفع وذلك يشعر بارتفاع دين الأحدية وعلوه فتعلق الحب به منه صلى الله عليه وسلم اسما ومسمى فخص من بين الجبال بأن يكون معه في الجنة إذا بست الجبال بسا انتهى
وأخذ من هذا أنه أفضل الجبال وقيل عرفة وقيل أبو قبيس وقيل الذي كلم الله عليه موسى وقيل قاف قيل وفيه قبر هارون أخي موسى عليهما الصلاة والسلام ولا يصح
( اللهم إن إبراهيم حرم مكة ) بتحريمك لها على لسانه ( وأنا أحرم ) بتحريمك على لساني ( ما بين لابتيها ) بخفة الموحدة تثنية لابة قال ابن حبيب أرض ذات حجارة سود وجمعها في القلة لابات وفي الكثرة لوب كساحة وسوح يعني الحرتين الشرقية والغربية وهي حرار أربع لكن القبلية والجنوبية متصلتان وقد ردها حسان إلى حرة واحدة في قوله لنا حرة مأطورة بجبالها بنى العز فيها بيته فتأثلا قال ومأطورة يعني معطوفة بجبالها لاستدارة الجبال بها وإنما جبالها تلك الحجارة السود التي تسمى الحرار قال وتحريمه صلى الله عليه وسلم ما بين لابتيها إنما يعني في الصيد فأما الشجر فبريد في بريد في دورها كلها كذلك أخبرني مطرف عن مالك وعمر بن عبد العزيز انتهى
وكذا قاله ابن وهب
زاد في رواية في الصحيحين كما حرم إبراهيم مكة والتشبيه في الحرمة فقط لا الجزاء لأنه كما قال ابن عبد البر عن العلماء لم يكن في شريعة إبراهيم جزاء الصيد وإنما هو شيء ابتلى الله به هذه الأمة كما قال { ليبلونكم الله بشيء من الصيد } سورة المائدة الآية 94 ولم يكن قبل ذلك والصحابة فهموا
____________________
(4/282)
المراد في تحريم صيد المدينة فتلقوه بالوجوب دون جزاء والأصل براءة الذمة ولا يجب فيها شيء إلا بيقين هذا قول أكثر العلماء
وقالت فرقة في صيدها الجزاء لأنه حرم نبي كما مكة حرم نبي انتهى
وزاد في الصحيح من حديث جابر وأبي سعيد لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها ووقع في رواية إسماعيل بن جعفر عن عمرو اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم به إبراهيم مكة فزعم بعض الحنفية أن الحديث مضطرب نصرة لقولهم بجواز صيدها وقطع شجرها وتعقب بأن بمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة فالجمع واضح ولو تعذر فرواية لابتيها أرجح لتوارد الرواة عليها ولا ينافيها رواية جبليها فيكون عند كل لابة جبل أو لابتيها من جهة الجنوب والشمال وجبليها من جهة المشرق والمغرب وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضر والحديث رواه البخاري في أحاديث الأنبياء عن القعنبي وفي المغازي عن عبد الله بن يوسف كلاهما عن مالك به وتابعه محمد بن أبي كثير عند البخاري وإسماعيل ابن جعفر ويعقوب بن عبد الرحمن عند مسلم الثلاثة عن عمرو بنحوه
( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن سعيد بن المسيب ) بكسر الياء وفتحها ( عن أبي هريرة ) رضي الله عنه ( أنه كان يقول لو رأيت الظباء ) بكسر الظاء المعجمة والمد جمع ظبي ( بالمدينة ترتع ) أي ترعى ( ما ذعرتها ) بذال معجمة وعين مهملة أي ما أفزعتها ونفرتها كنى بذلك عن عدم صيدها وفيه أنه لا يجوز ترويع الصيد في الحرم المدني كالمكي واستدل على ذلك بقوله ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتيها حرام ) بتحريم الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتي المدينة على لساني أخرجه البخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فلا يجوز صيدها ولا قطع شجرها الذي لا يستنبته الآدمي والمدينة بين لابتين شرقية وغربية ولها لابتان أيضا قبلية وجنوبية لكنهما يرجعان إلى الأولين لاتصالهما بهما فجميع دورها كلها داخل ذلك
قال النووي واللابتان داخلتان أيضا
قال الأبي ولعله بدليل آخر وإلا فلفظ بين لا يشملهما انتهى
وفي بعض طرقه عند مسلم عن أبي هريرة حرم صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى ولأبي داود عن عدي بن زيد قال حمى صلى الله عليه وسلم كل ناحية من المدينة بريدا في بريد وفي هذا بيان ما أجمل من حد حرم المدينة
وفي هذه الأحاديث كلها حجة على الحنفية في إباحة صيد المدينة وقطع شجرها وزعموا نسخها باحتمال أن المنع من ذلك لما كانت الهجرة واجبة إليها فكان بقاء الصيد والشجر مما يقوي المقام بها وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال واحتجاج الطحاوي للجواز بحديث يا أبا عمير ما فعل النغير حيث لم ينكر صيده ولا إمساكه
____________________
(4/283)
وبحديث عائشة كان له صلى الله عليه وسلم وحشي فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر فإذا أحس به صلى الله عليه وسلم ربض فلم يقم من مكانه تعقبه ابن عبد البر لجواز أن كلا منهما مما صيد في غير حرم المدينة فلا حجة فيه وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عند مسلم
( مالك عن يونس بن يوسف ) بن حماس بكسر المهملة وتخفيف الميم وآخره مهملة ثقة عابد
وقال ابن حبان هو يوسف بن يونس ووهم ما قبله ( عن عطاء بن يسار ) بخفة المهملة ( عن أبي أيوب ) خالد بن زيد ( الأنصاري ) أحد كبار الصحابة وفقهائهم ( أنه وجد غلمانا قد ألجأوا ) بجيم أي اضطروا ( ثعلبا إلى زاوية ) بزاي ناحية من نواحي المدينة يريدون اصطياده ( فطردهم عنه ) لحرمة ذلك
( قال مالك لا أعلم إلا أنه قال أفي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هذا ) إنكار عليهم
( مالك عن رجل ) قال أبو عمر يقال إنه شرحبيل بن سعد اه
وهو في مسند أحمد ومعجم الطبراني عن شرحبيل بن سعد وهو من موالي الأنصار ( قال دخل علي ) بشد ياء المتكلم ( زيد ابن ثابت ) الأنصاري بالرفع فاعل دخل ( وأنا بالأسواف ) بفتح الهمزة وإسكان السين فواو فألف ففاء قال الباجي موضع ببعض أطراف المدينة بين الحرتين ( قد اصطدت نهسا ) بضم النون وفتح الهاء وسين مهملة طائر يشبه الصرد يديم تحريك رأسه وذنبه يصطاد العصافير ويأوي إلى المقابر قاله في النهاية
( فأخذه من يدي فأرسله ) أطلقه فهذا زيد وهو من فقهاء الصحابة كأبي أيوب قد منعا من اصطاد وأطلق زيد الصيد فلو كان منسوخا ما حل ذلك لأنه ضياع مال خصوصا للغير ففي ذلك أقوى دليل على أنهما كأبي هريرة حيث قال ما ذعرتها واستدلوا بالحديث وفهموا بقاء التحريم بعده صلى الله عليه وسلم وعملوا به والعمل بما نسخ حرام وذلك لا يجوز ظنه بهم والله أعلم
4 ما جاء في وباء المدينة ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين ) رضي الله عنها ( أنها قالت لما قدم
____________________
(4/284)
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ) في الهجرة يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول في أحد الأقوال وفي رواية أبي أسامة عن هشام وهي أوبأ أرض الله ونحوه لمحمد بن إسحاق عن هشام وزاد قال هشام وكان وباؤها معروفا في الجاهلية وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يسلم من وبائها قيل انهق فينهق كما ينهق الحمار وفي ذلك يقول الشاعر لعمري لئن غنيت من خيفة الردى نهيق الحمار إنني لمروع قال عياض قدومه صلى الله عليه وسلم على الوباء مع صحة نهيه عنه لأن النهي إنما هو في الموت الذريع والطاعون والذي بالمدينة إنما كان وخما يمرض به كثير من الغرباء أو أن قدومه المدينة كان قبل النهي لأن النهي كان بالمدينة ( وعك ) بضم الواو وكسر العين أي حم ( أبو بكر ) الصديق ( وبلال ) رضي الله عنهما ( قالت ) عائشة ( فدخلت عليهما ) لأعودهما وعند النسائي وابن إسحاق عن هشام عن أبيه عنها لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وهي أوبأ أرض الله أصاب أصحابه منها بلاء وسقم وصرف الله ذلك عن نبيه وأصابت أبا بكر وبلالا وعامر بن فهيرة فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فأذن لي فدخلت عليهم وهم في بيت واحد ( فقلت يا أبت كيف تجدك ) بفتح الفوقية وكسر الجيم أي تجد نفسك أو جسمك ( ويا بلال كيف تجدك ) زاد ابن إسحاق ويا عامر كيف تجدك ( قالت فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول كل امرىء مصبح ) بضم الميم وفتح الصاد المهملة والموحدة الثقيلة أي مصاب بالموت صباحا أو يسقى الصبوح وهو شرب الغداة وقيل المراد يقال له صبحك الله بالخير وهو منعم ( في أهله والموت أدنى ) أقرب إليه ( من شراك ) بكسر المعجمة وخفة الراء سير ( نعله ) الذي على ظهر القدم والمعنى أن الموت أقرب إليه من شراك نعله لرجله زاد ابن إسحاق فقلت إنا لله إن أبي ليهذي وما يدري ما يقول وذكر عمر بن شبة في أخبار المدينة أن هذا الرجز لحنظلة بن سيار قاله يوم ذي قار وتمثل به الصديق
( وكان بلال إذا أقلع ) بفتح الهمزة واللام وفي رواية بضم الهمزة وكسر اللام أي كف وزال ( عنه ) الوعك ( يرفع عقيرته ) بفتح المهملة وكسر القاف وسكون التحتية فعيلة بمعنى مفعولة أي صوته ببكاء أو بغناء قال الأصمعي أصله أن رجلا انعقرت رجله فرفعها على الأخرى وجعل يصيح فصار كل من رفع صوته يقال رفع عقيرته وإن لم يرفع رجله قال ثعلب وهذا من الأسماء التي استعملت على غير أصلها ( فيقول ألا ) بخفة اللام أداة استفتاح ( ليت شعري ) أي مشعوري أي ليتني علمت بجواب ما
____________________
(4/285)
تضمنه قولي ( هل أبيتن ليلة بوادي ) أي واد مكة ( وحولي إذخر ) بكسر الهمزة وسكون الذال وكسر الخاء المعجمتين حشيش مكة ذو الرائحة الطيبة ( وجليل ) بجيم وكسر اللام الأولى نبت ضعيف يحشى به البيوت وغيرها والجملة حالية قال أبو عمر إذخر وجليل نبتان من الكلأ طيب الرائحة يكونان بمكة وأوديتها لا يكاد أن يوجدان في غيرها
( وهل أردن ) بنون التوكيد الخفيفة ( يوما مياه ) بالهاء ( مجنة ) بفتح الميم والجيم والنون المشددة وبكسر الجيم موضع على أميال من مكة كان به سوق في الجاهلية
( وهل يبدون ) بنون تأكيد خفيفة يظهرن ( لي شامة ) بمعجمة وميم مخففا وزعم في القاموس أن الميم تصحيف من المتقدمين والصواب شابة بالباء وبالميم وقع في كتب الحديث جميعها كذا قال وأشار الحافظ لرده فقال زعم بعضهم أن الصواب بالموحدة بدل الميم والمعروف بالميم ( وطفيل ) بفتح الطاء المهملة وكسر الفاء جبلان بقرب مكة على نحو ثلاثين ميلا منها كما قال غير واحد وقيل جبلان مشرفان على مجنة على بريدين من مكة وقال الخطابي كنت أحسبهما جبلين حتى مررت بهما ووقفت عليهما فإذا هما عينان من ماء وقواه السهيلي بقول كثير وما أنس مشيا ولا أنس موقفا لنا ولها بالخب حب طفيل الخب منخفض الأرض انتهى أي بفتح الخاء المعجمة وتكسر بعدها موحدة وجمع باحتمال أن العينين بقرب الجبلين أو فيهما ويبعد الثاني كلام الخطابي قيل البيتان ليسا لبلال بل لبكر بن غالب الجرهمي أنشدهما لما نفتهم خزاعة من مكة فتمثل بهما بلال وزاد في رواية أبي أسامة عن هشام به ثم يقول بلال اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن أبي ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء
( قالت عائشة فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ) بشأنهما وعند ابن إسحاق فذكرت ذلك فقلت يا رسول الله إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى فنظر إلى السماء ( فقال اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ) من حبنا لمكة فاستجاب الله دعاءه فكانت أحب إليه من مكة كما جزم به بعضهم وكان يحرك دابته إذا رأى المدينة من حبها ( وصححها ) من الوباء ( وبارك ) أنم وزد ( لنا في صاعها ) كيل يسع أربعة أمداد ( ومدها ) وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز فاستجاب الله تعالى له فطيب هواءها وترابها ومساكنها والعيش بها
قال ابن بطال وغيره من أقام بها يجد من تربها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها
قال بعضهم وقد تكرر دعاؤه بتحبيبها والبركة في ثمارها والظاهر أن الإجابة حصلت بالأول والتكرير
____________________
(4/286)
لطلب المزيد فيها من الدين والدنيا وقد ظهر ذلك في نفس الكيل بحيث يكفي المد بها ما لا يكفيه بغيرها وهذا أمر محسوس لمن سكنها
( وانقل حماها فاجعلها بالجحفة ) بضم الجيم وسكون المهملة وفتح الفاء قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلا من مكة وكانت تسمى مهيعة وبه عبر في رواية ابن إسحاق بفتح الميم والتحتية بينهما هاء ساكنة فعين مهملة مفتوحة فهاء على المشهور وحكى عياض كسر الهاء وسكون الياء على وزن جميلة وكانت يومئذ مسكن اليهود ولذا توجه دعاؤه عليهم ففيه جواز الدعاء على الكفار بالأمراض والهلاك وللمسلمين بالصحة وإظهار معجمة عجيبة فإنها من يومئذ وبية لا يشرب أحد من مائها إلا حم ولا يمر بها طائر إلا حم وسقط
وروى البخاري والترمذي وابن ماجه كأن ابن عمر رفعه رأيت في المنام كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة فتأولتها أن وباء المدينة نقل إليها ولا مانع من تجسم الأعراض خرقا للعادة ليحصل لهم الطمأنينة بإخراجها
وفي رواية قدم إنسان من طريق مكة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هل لقيت أحدا قال لا إلا امرأة سوداء عريانة فقال صلى الله عليه وسلم تلك الحمى ولن تعود بعد اليوم
قال الشريف السمهوردي والموجود الآن من الحمى بالمدينة ليس حمى الوباء بل رحمة ربنا ودعوة نبينا للتكفير قال وفي الحديث أصح المدينة ما بين حرة بني قريظة والعريض وهو يؤذن ببقاء شيء منها بها وأن الذي نقل عنها أصلا ورأسا سلطانها وشدتها ووباؤها وكثرتها بحيث لا يعد الباقي بالنسبة إليه شيئا قال ويحتمل أنها رفعت بالكلية ثم أعيدت خفيفة لئلا يفوت ثوابها كما أشار إليه الحافظ ابن حجر ويدل له ما رواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان والطبراني عن جابر قال استأذنت الحمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من هذه قالت أم ملدم فأمر بها إلى أهل قباء فبلغوا ما لا يعلمه إلا الله فشكوا ذلك إليه فقال ما شئتم إن شئتم دعوت الله ليكشفها عنكم وإن شئتم تكون لكم طهورا قالوا أو تفعل قال نعم قالوا فدعها انتهى
هذا وقد عارض ابن عبد البر حديث الباب بما رواه من طريق ابن عيينة عن هشام عن أبيه عن عائشة لما دخل صلى الله عليه وسلم المدينة حم أصحابه فدخل يعودهم فقال يا أبا بكر كيف تجدك فذكر الحديث
وكذا رواه ابن إسحاق عن عبد الله بن عروة عن أبيه عن عائشة قال فجعل سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الداخل على أبي بكر وبلال وعامر
ومالك أن عائشة كانت هي الداخلة انتهى
ولا معارضة أصلا لأن دخول أحدهما لا يمنع دخول الآخر فيحتمل أنها لما أخبرته بحالهم جاء لعيادتهم وأجابوا كلا منهما بالأشعار المذكورة
وفي حديث البراء عند البخاري أن عائشة وعكت أيضا وكان أبو بكر يدخل عليها
وأخرج ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال أصابت الحمى الصحابة حتى جهدوا مرضا وصرف الله تعالى ذلك عن نبيه حتى ما كانوا يصلون إلا وهم قعود فخرج صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك فقال اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم فتجشموا القيام أي تكلفوه على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل
____________________
(4/287)
قال السهيلي وفي هذا الخبر وما ذكر من حنينهم إلى مكة ما جبلت عليه النفوس من حب الوطن والحنين إليه وقد جاء في حديث أصيل أي بالتصغير الغفاري ويقال فيه الهذلي أنه قدم من مكة فسألته عائشة كيف تركت مكة يا أصيل قال تركتها حين ابيضت أباطحها وأحجن ثمامها وأغدق إذخرها وابشر سلمها فاغرروقت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال تشوقنا يا أصيل
ويروى أنه قال له دع القلوب تقر وقد قال الأول ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادي الخزامى حيث ربتني أهلي بلاد بها نيطت علي تمائمي وقطعن عني حين أدركني عقلي انتهى
وهذا كان في ابتداء الهجرة ثم حببت المدينة إليهم بدعائه صلى الله عليه وسلم فهو دليل على فضلها ومحبته فيها وفضائلها جمة كثيرة صنفها الناس كما قال أبو عمر
والحديث أخرجه البخاري في الحج عن إسماعيل وفي الهجرة عن عبد الله بن يوسف وفي الطب عن قتيبة الثلاثة عن مالك به وتابعه أبو أسامة بنحوه وزيادة عند البخاري ومسلم وعبدة وابن نمير عند مسلم الثلاثة عن هشام ( مالك عن يحيى ابن سعيد عن عائشة ) فيه انقطاع لأن يحيى لم يدرك عائشة وقد زاد ابن إسحاق في روايته عن هشام وعمر بن عبد الله بن عروة جميعا عن عروة عن عائشة عقب قولها فقلت والله ما يدري أبي ما يقول ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فقلت كيف تجدك يا عامر ( قالت وكان عامر بن فهيرة ) بضم الفاء وفتح الهاء وسكون التحتية التيمي مولى الصديق يقال أصله من الأزد فاسترق ويقال أصله من غيرهم اشتراه أبو بكر فأسلم قديما فعذب لأجل الإسلام ثم رافق أبا بكر في الهجرة وشهد بدرا وأحدا واستشهد ببئر معونة روت عنه عائشة رجزه الذي كان ( يقول قد رأيت الموت ) أي شدة تشابه شدته ( قبل ذوقه ) حلوله ( إن الجبان ) أي ضعيف القلب ( حتفه ) هلاكه ( من فوقه ) لجبنه زاد ابن إسحاق في روايته المذكورة كل امرىء مجاهد بطوقه كالثور يحمي أنفه بروقه والطوق الطاقة والروق القرن يضرب مثلا في الحث على حفظ الحريم قال السهيلي ويذكر أن هذا الشعر لعمرو بن مامة
( مالك عن نعيم ) بضم النون وفتح العين ( ابن عبد الله المجمر ) بضم الميم الأولى وكسر الثانية بينهما جيم ساكنة آخره راء المدني مولى آل عمر ( عن أبي هريرة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على
____________________
(4/288)
أنقاب ) بفتح الهمزة وسكون النون وقاف مفتوحة جمع قلة لنقب بفتح فسكون وجمع الكثرة نقاب بكسر النون ( المدينة ) طيبة قال ابن وهب يعني مداخلها وهي أبوابها وفوهات طرقها التي يدخل إليها منها كما جاء في الحديث الآخر على كل باب منها ملك وقيل طرقها ( ملائكة ) يحرسونها ( لا يدخلها الطاعون ) لأن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخولها ومن اتفق دخوله فيها لا يتمكن من طعن أحد منهم وقد عدوا عدم دخوله المدينة من خصائصها وهو من لوازم دعائه صلى الله عليه وسلم لها بالصحة فهي معجزة له
قال بعضهم لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد من البلاد بل عن قرية من القرى وقد امتنع الطاعون عن المدينة بدعائه وخبره هذه المدد المتطاولة فهو خاص بها وجزم ابن قتيبة في المعارف والنووي في الأذكار بأن الطاعون لم يدخل مكة أيضا معارض بما نقله غير واحد بأنه دخلها في سنة سبع وأربعين وسبعمائة لكن في تاريخ مكة لعمر بن شبة برجال الصحيح عن أبي هريرة مرفوعا المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة على كل نقب منهما ملك فلا يدخلهما الدجال ولا الطاعون وحينئذ فالذي نقل أنه دخل مكة في التاريخ المذكور ليس كما ظن أو يقال إنه لا يدخلهما من الطاعون مثل الذي يقع في غيرهما كالجارف وعمواس
وفي حديث أنس عند البخاري في الفتن فتجد الملائكة يحرسونها يعني المدينة فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى واختلف في هذا الاستثناء فقيل للتبرك فيشملهما وقيل للتعليق وأن مقتضاه جواز دخول الطاعون المدينة
( ولا الدجال ) المسيح الأعور
قال الطيبي جملة لا يدخلها مستأنفة بيان لموجب استقرار الملائكة على أنقابها
وفي الصحيحين عن أنس مرفوعا ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ليس من نقابها نقب إلا عليه ملائكة صافين يحرسونها ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج الله كل كافر ومنافق قال الحافظ وعلى ظاهره وعمومه في كل بلد عند الجمهور وشذ ابن حزم فقال المراد لا يدخله بجنوده وكأنه استبعد إمكان دخول الدجال جميع البلاد لقصر مدته وغفل عما في مسلم أن بعض أيامه يكون قدر السنة
وعند الطبري عن ابن عمرو مرفوعا إلا الكعبة وبين المقدس وزاد الطحاوي ومسجد الطور وفي بعض الروايات فلا يبقى موضع إلا ويأخذه الدجال غير مكة والمدينة وبيت المقدس وجبل الطور فإن الملائكة تطرده عن هذه المواضع اه
والحديث أخرجه البخاري في الحج عن إسماعيل وفي الطب عن عبد الله بن يوسف وفي الفتن عن القعنبي ومسلم عن يحيى الأربعة عن مالك به
____________________
(4/289)
5 ما جاء في إجلاء اليهود بالجيم من المدينة أي إخراجهم من جزيرة العرب ومنها المدينة التي الكلام فيها ( مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم ) القرشي مولاهم المدني ثقة مات سنة ثلاثين ومائة ( أنه سمع عمر بن عبد العزيز ) أمير المؤمنين ( يقول ) مرسل وهو موصول في الصحيحين وغيرهما من طرق عن عائشة وغيرها ( كان من آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال قاتل الله اليهود ) قيل معناه لعنهم لرواية لعن الله اليهود وقيل أي قتلهم لأن فاعل يأتي بمعنى فعل
( والنصارى ) وكأنه قيل ما سبب ذلك فقال لأنهم ( اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) أي اتخذوها جهة قبلتهم مع اعتقادهم الباطل وأن اتخاذها مساجد لازم لاتخاذ المساجد عليها كعكسه وقدم اليهود لابتدائهم بالاتخاذ وتبعهم النصارى فاليهود أظلم فإن قيل النصارى ليس لهم إلا نبي واحد ولا قبر له
أجيب بأن الجمع بإزاء المجموع من اليهود والنصارى فإن اليهود لهم أنبياء أو المراد الأنبياء وكبار أتباعهم كالحواريين فاكتفى بذكر الأنبياء
وفي مسلم ما يؤيد ذلك حيث قال في بعض الحديث كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد أو أنه كان في النصارى أنبياء أيضا لكنهم غير مرسلين كالحواريين ومريم في قول أو الضمير راجع لليهود فقط بدليل رواية إسقاط النصارى أو على الكل ويراد من أمروا بالإيمان بهم وإن كانوا من الأنبياء السابقين كنوح وإبراهيم
قال البيضاوي لما كانت اليهود يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم ويجعلونها قبلة ويتوجهون في الصلاة نحوها فاتخذوها أوثانا لعنهم الله ومنع المسلمين عن مثل ذلك ونهاهم عنه أما من اتخذ مسجدا بجوار صالح أو صلى في مقبرته وقصد به الاستظهار بروحه ووصول أثر من آثار عبادته إليه لا التعظيم له والتوجه فلا حرج عليه ألا ترى أن مدفن إسماعيل في المسجد الحرام عند الحطيم ثم إن ذلك المسجد أفضل مكان يتحرى المصلي بصلاته
والنهي عن الصلاة في المقابر مختص بالمنبوشة لما فيها من النجاسة انتهى
لكن خبر الشيخين كراهة بناء المساجد على القبور مطلقا أي قبور المسلمين خشية أن يعبد المقبور فيها بقرينة خبر اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد فيحمل كلام البيضاوي على ما إذا لم يخف ذلك
( لا يبقين دينان بأرض العرب ) الحجاز كله المعبر عنه في الثاني بجزيرة العرب
( مالك عن ابن شهاب ) مرسل ورواه عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب
____________________
(4/290)
مرسلا أيضا وهو موصول بنحوه من طرق في الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس وعمر وغيرهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يجتمع ) خبر بمعنى النهي للرواية قبله لا يبقين ( دينان في جزيرة العرب ) هي مكة والمدينة واليمامة كما روي عن مالك أي وقراها سميت جزيرة لإحاطة البحر بها
وقال ابن حبيب جزيرة العرب من أقصى عدن وما والاها من أقصى اليمن كلها إلى ريف العراق في الطول وأما في العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام ومصر في المغرب وفي المشرق ما بين المدينة إلى منقطع السمارة
( قال مالك قال ابن شهاب ففحص ) أي استقصى في الكشف ( عن ذلك عمر بن الخطاب ) في خلافته ( حتى أتاه الثلج ) بفتح المثلثة وسكون اللام وجيم اليقين الذي لا شك فيه ( واليقين ) الذي اطمأنت به نفسه والعطف تفسيري ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ) وفي الصحيح عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث قال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة ( فأجلى ) أخرج ( يهود خيبر ) لما اطمأنت نفسه بكثرة من روى له ذلك
( قال مالك وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران ) بفتح النون وإسكان الجيم بلدة من بلاد همدان باليمن قال البكري سميت باسم بانيها نجران بن زيد بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
( وفدك ) بفتح الفاء والدال المهملة بلدة بينها وبين المدينة يومان وبينها وبين خيبر دون مرحلة
( فأما يهود خيبر فخرجوا منها ليس لهم من الثمر ولا من الأرض شيء ) لأنه صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها فسألته أن يقرهم بها على أن يكفوه العمل ولهم نصف الثمرة فقال صلى الله عليه وسلم أقركم ما أقركم الله فإنما ساقاهم الله مدة ولم يجعل لهم فيها شيئا
( وأما يهود فدك فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صالحهم ) لما أوقع بأهل خيبر ( على نصف الثمر ونصف الأرض ) بطلبهم ذلك فأقرهم على ذلك ولم يأتهم قال ابن إسحاق فكانت له خالصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وقيل صالحوه على حقن دمائهم والجلاء ويخلوا بينه وبين الأموال ففعل قال الواقدي والأول أثبت القولين
( فأقام ) أي قوم ( لهم عمر نصف الثمر ونصف الأرض قيمة من ذهب وورق ) فضة ( وإبل وحبال ) جمع حبل ( وأقتاب ) جمع
____________________
(4/291)
قتب ( ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم ) عملا بحديث لا يجتمع دينان في جزيرة العرب
6 جامع ما جاء في أمر المدينة ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ) مرسلا عند جميع رواة الموطأ ومر قريبا أن مالكا رواه عن عمرو مولى المطلب عن أنس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع ) ظهر ( له أحد ) لما رجع من خيبر كما في البخاري ولما رجع من تبوك أيضا كما قيد أيضا من حديث أبي حميد ( فقال هذا ) مشيرا له ( جبل يحبنا ونحبه ) حقيقة كما ذهب إليه جماعة وحملوا عليه كل ما في القرآن والحديث من مثله نحوه { فما بكت عليهم السماء والأرض } سورة الدخان الآية 29 و { قالتا أتينا طائعين } سورة فصلت الآية 11 و { جدارا يريد أن ينقض } سورة الكهف الآية 77 { يا جبال أوبي معه } سورة سبإ الآية 10 أي سبحي
وهو كثير في القرآن وفي الحديث أكثر لا يكاد يحصى
وقيل مجاز أي يحبنا أهله ونحبهم فكنى بالجبل عنهم وأضيف الحب إلى الجبل لمعرفة المراد من ذلك عند المخاطبين كقوله { واسأل القرية } سورة يوسف الآية 82 أي أهلها قاله ابن عبد البر ومرسله مزيد وأن جماعة رجحوا الحقيقة هنا
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن عبد الرحمن بن القاسم ) بن محمد بن الصديق وهذا من رواية الكبير عن الصغير لأن يحيى تابعي سمع من أنس بن مالك أحاديث وعبد الرحمن وإن عاصره لكن لم يلق أحدا من الصحابة وهما جميعا من شيوخ مالك
( أن أسلم مولى عمر ابن الخطاب ) ثقة مخضرم مات سنة ثمانين وقيل بعد سنة ستين وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة ( أخبره أنه زار عبد الله بن عياش ) بتحتية ثقيلة وشين معجمة له صحبة وأبوه صحابي شهير ( المخزومي ) القرشي ( فرأى عنده نبيذا ) بذال معجمة تمرا وزبيبا طرح في ماء ( وهو بطريق مكة فقال له أسلم إن هذا الشراب يحبه عمر بن الخطاب ) لأنه حلو بارد وكان المصطفى يحب الحلو البارد ( فحمل عبد الله بن عياش قدحا عظيما ) كبيرا ( فجاء به إلى عمر بن الخطاب فوضعه في يده ) أي عمر ( فقر به عمر إليه فيه
____________________
(4/292)
ثم رفع رأسه فقال عمر إن هذا ) الذي في القدح ( لشراب طيب فشرب منه ثم ناوله رجلا عن يمينه ) عملا بالسنة ( فلما أدبر ) ولى ( عبد الله ناداه ) دعاه ( عمر بن الخطاب فقال أأنت ) بهمزتين أولاهما للاستفهام ( القائل لمكة ) بلام التأكيد ( خير ) أفضل ( من المدينة فقال عبد الله فقلت هي حرم الله وأمنه وفيها بيته ) الكعبة وما أضيف لله خير مما أضيف إلى رسوله ( فقال عمر لا أقول في بيت الله ولا في حرمه شيئا ) يعني إن هذا ليس من محل الخلاف ولم أسألك عنه إنما سألتك عن البلدين ( ثم قال عمر ) ثانيا لينظر هل تغير اجتهاده إلى موافقة عمر في تفضيل المدينة ( أأنت القائل لمكة خير من المدينة قال ) عبد الله ( فقلت هي حرم الله وأمنه وفيها بيته ) الكعبة ( فقال عمر لا أقول في حرم الله ولا في بيته شيئا ثم انصرف ) عبد الله ولم يتغير اجتهاد واحد منهما لموافقة الآخر وقد اختلف السلف أي البلدين أفضل فذهب الأكثر إلى تفضيل مكة وبه قال الشافعي وابن وهب ومطرف وابن حبيب واختاره ابن عبد البر وابن رشد وابن عرفة وذهب عمر وجماعة وأكثر أهل المدينة ومالك وأصحابه سوى من ذكر إلى تفضيل المدينة واختاره بعض الشافعية والأدلة كثيرة من الجانبين حتى قال الإمام ابن أبي جمرة بتساوي البلدين والسيوطي في الحجج المبينة المختار الوقف عن التفضيل لتعارض الأدلة بل الذي تميل إليه النفس تفضيل المدينة ثم قال وإذا تأمل ذو البصيرة لم يجد فضلا أعطيته مكة إلا وأعطيت المدينة نظيره وأعلى منه وجزم في خصائصه بأن المختار تفضيل المدينة ومحل الخلاف ما عدا البقعة التي ضمت أعضاءه صلى الله عليه وسلم فهي أفضل إجماعا من جميع بقاع الأرض والسموات كما حكاه عياض وغيره ويليها الكعبة فهي أفضل من بقية المدينة اتفاقا كما قال الشريف السمهودي وإليه يومىء كلام عمر بن الخطاب
____________________
(4/293)
7 ما جاء في الطاعون بوزن فاعول من الطعن عدلوا به عن أصله ووضعوه دالا على الموت العام كالوباء قال الطاعون وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة صححه الحاكم وغيره في وقوعه في أعدل الفصول وأصح البلاد هواء وأطيبها ماء دلالة على أنه إنما يكون من طعن الجن لأنه لو كان بسبب فساد الهواء أو انصباب الدم إلى عضو فيحدث ذلك كما زعم الأطباء لدام ذلك لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى والطاعون يذهب أحيانا ويجيء أحيانا على غير قياس ولا تجربة وربما جاء سنة على سنة وربما أبطأ سنين ولو كان من فساد الهواء لعم الناس والحيوان وربما يصيب الكثير من الناس ولا يصيب من هو بجانبهم ممن هو في مثل مزاجهم وربما يصيب بعض أهل بيت واحد ويسلم منه باقيهم وما يذكر من أنه وخز إخوانكم الجن فقال الحافظ لم أجده في شيء من طرق الحديث المسندة ولا في الكتب المشهورة ولا الأجزاء المنثورة بعد التتبع الطويل البالغ وعزاه في أكام المرجان لمسند أحمد والطبراني أو كتاب الطواعين لابن أبي الدنيا ولا وجود له في واحد منها قيل إذا كان الطعن من الجن فكيف يقع في رمضان والشياطين تصفد فيه وتسلسل أجيب باحتمال أنهم يطعنون قبل دخول رمضان ولا يظهر التأثير إلا بعد دخوله وقيل غير ذلك
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم ( عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ) العدوي أبي عمر المدني ثقة فاضل ناسك ولي الكوفة لعمر بن عبد العزيز ومات بحران في خلافة هشام ( عن عبد الله بن عبد الله ) بفتح العين فيهما ( ابن الحارث بن نوفل ) بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي أبي يحيى المكي ثقة مات سنة تسع وتسعين وأبوه له رؤية ولقبه ببة بموحدتين الثانية ثقيلة ( عن عبد الله بن عباس ) رضي الله عنهما ( أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ) سنة ثمان عشرة قاله سيف بن عمر في كتاب الفتوح وقال خلفية بن خياط سنة سبع عشر واستعمل على المدينة زيد بن ثابت واستخلفه مرات في خروجه إلى الحج وما أظنه استخلف غيره قط إلا ما حكي عن أبي المليح أن عمر استخلف مرة على المدينة خالا له يقال له عبد الله وفيه خروج الخليفة إلى أعماله يطالعها وينظر أحوال أهلها قاله ابن عبد البر وقال غيره خرج ليتفقد أحوال الرعية وكان طاعون عمواس بفتح العين المهملة والميم فألف فسين مهملة وسمي به لأنه عم وأساء وقع بها في محرم وصفر ثم ارتفع فكتبوا إلى عمر فخرج حتى إذا كان ( بسرغ ) بفتح السين المهملة وسكون الراء على المشهور وغين معجمة قرية بوادي تبوك يجوز فيها الصرف وعدمه وقيل هي مدينة افتتحها أبو عبيدة وهي واليرموك والجابية متصلات وبينها وبين المدينة
____________________
(4/294)
ثلاثة عشر مرحلة ( لقيه أمراء الأجناد ) بالفتح جمع جند ( أبو عبيدة ) عامر ( ابن الجراح ) أحد العشرة ( وأصحابه ) خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاصي وكان عمر قسم الشام أجناد الأردن جند وحمص جند ودمشق جند وفلسطين جند وقنسرين جند وجعل على كل جند أميرا ثم لم يمت عمر حتى جمع الشام لمعاوية
( فأخبروه أن الوباء ) مهموز وقصره أفصح من مده أي الطاعون ( قد وقع بالشام ) وعند سيف أنه أشد ما كان
( قال ابن عباس فقال عمر بن الخطاب ) لي ( ادع ) لي ( المهاجرين الأولين ) الذين صلوا للقبلتين ( فدعاهم فاستشارهم ) في القدوم أو الرجوع ( وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال بعضهم قد خرجت لأمر ) تفقد حال الرعية ( ولا نرى أن ترجع عنه ) حتى تفعله
( وقال بعضهم معك بقية الناس ) أي الصحابة قالوا ذلك تعظيما لهم ( وأصحاب رسول الله ) عطف تفسير ( ولا نرى ) أن تقدمهم بضم الفوقية وسكون القاف وكسر الدال أي تجعلهم قادمين ( على هذا الوباء ) أي الطاعون
( فقال عمر ارتفعوا عني ) وفي رواية فأمرهم فخرجوا عنه ( ثم قال ) عمر لابن عباس ( ادع لي الأنصار فدعوتهم ) فحضروا عنده ( فاستشارهم ) في ذلك ( فسلكوا سبيل المهاجرين ) فيم قالوا ( واختلفوا كاختلافهم فقال ) لهم ( ارتفعوا عني ثم قال ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش ) بفتح الميم جمع شيخ وهو من طعن في السن ( من مهاجرة الفتح ) بضم الميم وكسر الجيم قيل هم الذين أسلموا قبل الفتح وهاجروا عامه إذ لا هجرة بعده وقيل هم مسلمة الفتح الذين هاجروا بعده قال عياض وهذا أظهر لأنهم الذين يطلق عليهم مشيخة قريش وأطلق على من تحول إلى المدينة بعد الفتح لأنه مهاجر صورة وإن انقطع حكم الهجرة بالفتح احترازا عن غيرهم ممن أقام بمكة ولم يهاجر
( فدعوتهم ) فحضروا عنده ( فلم يختلف عليه منهم اثنان ) وفي رواية رجلان ( فقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء ) الطاعون وفيه مشورة من يوثق بفهمه وعقله عند نزول المعضل وأن مسائل الاجتهاد لا يجوز لأحد القائلين فيها عيب مخالفة ولا الطعن عليه فإنهم اختلفوا
____________________
(4/295)
وهم القدوة فلم يعب أحد منهم على صاحبه اجتهاده ولا وجد عليه في نفسه وأن الإمام إذا نزلت به نازلة ليست في الكتاب ولا السنة عليه جمع الجمع وذوي الرأي ويشاورهم فإن لم يأت واحد منهم بدليل فعليه الميل إلى الأصلح والأخذ بما يراه وأن الاختلاف لا يوجب حكما وإنما يوجب النظر وإن الإجماع يوجب الحكم والعمل قاله أبو عمر ( فنادى عمر بن الخطاب في الناس ) حين ظهر له صواب رأي المشيخة ( إني مصبح ) بضم الميم وسكون الصاد وكسر الموحدة خفيفة وبفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة الثقيلة أي مسافر في الصباح راكبا ( على ظهر ) أي على ظهر الراحلة راجعا إلى المدينة ( فأصبحوا عليه ) قال القرطبي ظاهره أنه رجع إلى رأيهم ولا يبعد لأنه أحوط للمسلمين ولأنه وافقهم عليه كثير من المهاجرين الأولين والأنصار فحصل ترجيح الرأي بالكثرة لا سيما رأى أهل السن والتجربة والعقول الراجحة ومستند الطائفتين في اختلافهم مبني على أصلين من أصول الشريعة الأول التوكل والتسليم لقضاء الله وقدره
والثاني الحذر وترك إلقاء اليد إلى التهلكة
( فقال أبو عبيدة ) لعمر ( أ ) ترجع ( فرارا من قدر الله قال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ) لأدبته لاعتراضه علي في مسألة اجتهادية وافقني عليها أكثر الناس من أهل الحل والعقد أو لكان أولى منك بتلك المقالة أو لم أتعجب منه ولكني أتعجب منك مع علمك وفضلك كيف تقول هذا أو هي للتمني فلا يحتاج لجواب والمعنى أن غيرك ممن لا فهم له إذا قال ذلك يعذر
( نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ) زاد يحيى النيسابوري عن مالك به وكان يكره خلافه أي عمر يكره خلاف أبي عبيدة وأطلق عليه فرارا لشبهه في الصورة وإن كان ليس فرارا شرعيا والمراد أن هجوم المرء على ما يهلكه منهي عنه ولو فعل لكان من قدر الله وتجنبه ما يؤذيه مشروع وقد يقدر الله وقوعه فيما فرضه فلو فعله أو تركه لكان من قدر الله وفيه المناظرة عند الاختلاف ثم قايسه وناظره بما يشبه المسألة فقال ( أرأيت ) أي أخبرني ( لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان ) بضم العين وكسرها ودال مهملتين أي شاطئان وحالتان ( إحداهما مخصبة ) بضم الميم وسكون المعجمة وكسر المهملة وفي رواية خصبة بفتح الخاء وكسر الصاد بلا ميم ( والأخرى جدبة ) بفتح الجيم وإسكان الدال المهملة وبكسرها ( أليس إن رعيت الخصبة ) بفتح المعجمة وكسر المهملة ( رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ) فنقلك إياها من الجدبة ورعيها في الخصبة فرار من قدر الله إلى قدر الله فكذلك رجوعنا
زاد معمر في روايته عن ابن شهاب به وقال له أيضا أرأيت لو أنه رعى الجدبة وترك
____________________
(4/296)
الخصبة أكنت معجزه قال نعم قال فسر إذا
( فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبا في بعض حاجته ) لم يحضر معهم المشاورة المذكورة ( فقال إن عندي من ) وفي رواية في ( هذا ) الذي اختلفتم فيه ( علما سمعت رسول الله يقول إذا سمعتم به ) بالطاعون ( بأرض فلا تقدموا عليه ) ليكون أسكن لأنفسكم وأقطع لوسواس الشيطان
قال في الأحوذي ولأن الله أمر أن لا يتعرض للحتف والبلاء وإن كان لا نجاة من قدر الله إلا أنه من باب الحذر الذي شرعه الله ولئلا يقول القائل لو لم أدخل لم أمرض ولو لم يدخل فلان لم يمت
( وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ) لئلا يكون معارضة للقدر فلو خرج لقصد آخر غير الفرار جاز
قال ابن دقيق العيد الذي يترجح عندي في النهي عن الفرار والنهي عن القدوم أن الإقدام عليه تعرض للبلاء ولعله لا يصبر عليه وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر أو التوكل فمنع ذلك لاغترار النفس ودعواها ما لا تثبت عليه عند التحقيق وأما الفرار فقد يكون داخلا في باب التوغل في الأسباب متصورا بصورة من يحاول النجاة مما قدر عليه فيقع التكلف في القدوم كما يقع التكلف في الفرار فأمر بترك التكلف فيهما
ونظير ذلك قوله لا تتمنوا لقاء العدو وإذ لقيتموهم فاصبروا فأمرهم بترك التمني لما فيه من التعرض للبلاء وخوف الاغترار بالنفس إذ لا يؤمن غدرها عند الوقوع ثم أمر بالصبر عند الوقوع تسليما لأمر الله
( قال ) ابن عباس ( فحمد الله ) تعالى ( عمر ) على موافقة اجتهاده واجتهاد معظم الصحابة للحديث النبوي ( ثم انصرف ) راجعا إلى المدينة اتباعا للنص النبوي القاطع للنزاع وبه أمر الله عباده أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فمن كان عنده علم ذلك وجب الانقياد إليه
وفي أن الحديث يسمى علما لقول عبد الرحمن عندي من هذا علم وما كانوا عليه من الإنصاف للعلم والانقياد إليه كيف لا وهم خير الأمم ودليل قوي على وجوب العمل بخبر الواحد لأنه كان بمحضر جمع عظيم من الصحابة فلم يقولوا لعبد الرحمن أنت واحد وإنما يجب قبول خبر الكافة ما أضل من قال بهذا والله تعالى يقول { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } سورة الحجرات الآية 6 وقرىء / < فتثبتوا > / فلو كان العدل إذا جاء بنبأ تثبت في خبره ولم ينفذ لاستوى مع الفاسق وهذا خلاف القرآن { أم نجعل المتقين كالفجار } سورة ص الآية 28 قاله ابن عبد البر
وأخرجه البخاري في الطب عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه يونس ومعمر عن ابن شهاب عند مسلم قائلا نحو حديث مالك
وزاد معمر قال وقال له أيضا أرأيت لو أنه رعى الجدبة وترك الخصبة أكنت معجزه قال نعم قال فسر إذا فسار حتى أتى المدينة فقال هذا المحل أو هذا المنزل إن شاء الله
____________________
(4/297)
( مالك عن محمد بن المنكدر ) بن عبد الله التيمي ( وعن سالم بن أبي النضر ) بضاد معجمة ( مولى عمر بن عبيد الله ) بضم العينين كلاهما ( عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ) مالك القرشي الزهري المدني مات سنة أربع ومائة ( عن أبيه ) قال ابن عبد البر كذا لأكثر رواة الموطأ والقعنبي عن مالك عن محمد بن المنكدر أن عامر بن سعد أخبره أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله الحديث والمعنى واحد لأن ذكر أبيه في رواية الأكثرين لأنه سمعه يسأل أسامة فمن أسقط عن أبيه لم يضره وذكره صحيح نعم شذ القعنبي في حذف أبي النضر ورواه قوم عن عامر بن سعد عن أبيه عن النبي وهو وهم عندهم إنما الحديث لعامر عن أسامة لا عن أبيه سعد انتهى
أي فلم يرد بقوله عن أبيه الرواية بل أراد عن سؤال أبيه لأسامة كما أفصح عن ذلك بقوله ( أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد ) الحب ابن الحب فكان عامر حاضرا سؤال والده سعد لأسامة بقوله ( ما سمعت من رسول الله في ) شأن ( الطاعون ) ووقع في السيوطي عن أبي عمر لا وجه لذكر عن أبيه إنما الحديث لعامر عن أسامة سمعه منه ولذا لم يقله ابن بكير ومعن وجماعة انتهى ولا يصح
فالذي في التمهيد ما رأيته ( فقال أسامة قال رسول الله الطاعون رجز ) بالزاي على المعروف أي عذاب ووقع لبعض الرواة رجس بالسين المهملة بدل الزاي قال الحافظ والمحفوظ بالزاي والمشهور أن الذي بالسين الخبث أو النجس أو القذر ووجهه عياض بأن الرجس يطلق على العقوبة أيضا وقد قال الفارابي والجوهري الرجس العذاب ومنه قوله تعالى { ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } سورة ص الآية 28 وحكاه الراغب أيضا ( أرسل على طائفة من بني إسرائيل ) لما كثر طغيانهم ( أو على من كان قبلكم ) بالشك من الراوي وفي رواية ابن خزيمة بالجزم بلفظ رجس سلط على طائفة من بني إسرائيل والتنصيص عليهم أخص فإن كان ذلك المراد فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام فأخرج الطبري من طريق سليمان التيمي أحد صغار التابعين عن يسار أن رجلا كان يقال له بلعام كان مجاب الدعوة وأن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام فأتاه قومه فقالوا ادع الله عليهم فقال حتى أؤامر ربي فمنع فأتوه بهدية فقبلها وسألوه ثانيا فقال حتى أؤامر ربي فلم يرجع إليه بشيء فقالوا لو كره لنهاك فدعا عليهم فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل فينقلب على قومه فلاموه على ذلك فقال سأدلكم على ما فيه هلاكهم أرسلوا النساء في عسكرهم ومروهن لا يمتنعن من أحد
____________________
(4/298)
فعسى أن يزنوا فيهلكوا فكان فيمن خرج بنت الملك فأرادها بعض الأسباط وأخبرها بمكانه فمكنته من نفسها فوقع في بني إسرائيل الطاعون فمات منهم سبعون ألفا في يوم وجاء رجل من بني هارون ومعه الرمح فطعنهما وأيده الله فانتظمهما جميعا وهذا مرسل جيد وسيار شامي موثق وذكر الطبري أيضا هذه القصة عن محمد بن إسحاق عن سالم عن أبي النضر بنحوه وسمى المرأة كشتا بفتح الكاف وسكون المعجمة وفوقية والرجل زمري بكسر الزاي وسكون الميم وكسر الراء رأس سبط شمعون والذي طعنهما فنحاص بكسر الفاء وسكون النون ثم مهملة فألف فمهملة ابن هارون وقال في آخره فحسب من هلك من الطاعون سبعون ألفا والمقلل يقول عشرون ألفا وهذه الطريق تعضد الأولى
وذكر ابن إسحاق في المبتدأ أن بني إسرائيل لما كثر عصيانهم أوحى الله إلى داود فخيرهم ما بين ثلاث إما أن أبتليهم بالقحط أو العدو شهرين أو الطاعون ثلاثة أيام فأخبرهم فقالوا اختر لنا فاختار الطاعون فمات منهم إلى أن زالت الشمس سبعون ألفا وقيل مائة ألف فتضرع داود إلى الله تعالى فرفعه
وورد وقوع الطاعون في غير بني إسرائيل فيحتمل أن يكون هو المراد بقوله أو من كان قبلكم
فمن ذلك ما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال أمر موسى بني إسرائيل أن يذبح كل رجل منهم كبشا ثم يخضب كفه في دمه ثم يضرب به على بابه ففعلوا فسألهم القبط عن ذلك فقالوا إن الله يبعث عليكم عذابا وإنا ننجو منه بهذه العلامة فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفا فقال فرعون عند ذلك لموسى { ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز } سورة الأعراف الآية 134 الآية فدعا فكشفه عنهم وهذا مرسل جيد الإسناد
وأخرج عبد الرزاق في تفسيره وابن جرير عن الحسن في قوله تعالى { الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت } سورة البقرة الآية 243 قال فروا من الطاعون { فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } سورة البقرة الآية 243 ليكملوا بقية آجالهم فأقدم من وقفنا عليه في المنقول ممن وقع الطاعون به من بني إسرائيل في قصة بلعام ومن غيرهم في قصة فرعون وتكرر بعد ذلك لغيرهم انتهى
( فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه ) لأنه تهور وإقدام على خطر وليكون ذلك أسكن للنفس وأطيب للعيش قال أبو عمر لئلا يقعوا في اللوم المنهي عنه فنهوا عن ذلك تأديبا لئلا يلوموا أنفسهم فيما لا لوم فيه لأن الباقي والناهض لا يتجاوز أحد منهم أجله
( وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ) لأنه فرار من القدر ولئلا تضيع المرضى بعدم من يتفقدهم والموتى بعدم من يجهزهم فالأول تأديب وتعليم والثاني تفويض وتسليم وقيل هو تعبدي لأن الفرار من المهالك مأمور به وقد نهي عن هذا فهو لسر فيه لا يعلم معناه
( قال مالك ) هذا لفظ رواية محمد بن المنكدر ولا إشكال فيها
( قال أبو النضر ) في روايته ( لا يخرجكم إلا فرار منه ) قال عياض وقع لأكثر رواة الموطأ بالرفع
____________________
(4/299)
وهو بين أي لا يخرجكم الفرار ومجرد قصده لا غير ذلك لأن الخروج في الأسفار والحوائج مباح فهو مطابق لرواية محمد بن المنكدر لا تخرجوا فرارا منه ورواه بعضهم إلا فرارا بالنصب
قال ابن عبد البر جاء بالوجهين ولعل ذلك من مالك وأهل العربية يقولون دخول إلا بعد النفي لا يجاب بعض ما نفي قبل من الخروج فكأنه نهى عن الخروج إلا للفرار خاصة وهو ضد المقصود فالمنهي عنه إنما هو الخروج للفرار خاصة لا لغيره وجوز ذلك بعضهم وجعل قوله إلا حالا من الاستثناء أي لا تخرجوا إذا لم يكن خروجكم إلا فرارا أي للفرار انتهى
ووقع لبعض رواة الموطأ لا يخرجكم إلا فرار بأداة التعريف بعدها إفرار بكسر الهمزة وهو وهم ولحن هذا كلام عياض في شرح مسلم
وقال في المشارق ما حاصله يجوز أن الهمزة للتعدية يقال أفره كذا من كذا ومنه قوله عليه السلام لعدي بن حاتم إن كان لا يفرك من هذا إلا ما ترى فيكون المعنى لا يخرجكم إفراره إياكم
وقال في المفهم هذه الرواية غلط لأنه لا يقال أفر وإنما يقال فر وقال جماعة من العلماء إدخال إلا فيه غلط وقال بعضهم هي زائدة وتجوز زيادتها كما تزاد لا وهو الأقرب
وقال الكرماني الجمع بين قول ابن المنكدر لا تخرجوا فرارا منه وبين قول أبي النضر لا يخرجكم إلا فرار منه مشكل فإن ظاهره التناقض وأجاب بأجوبة أحدها أن غرض الراوي أن أبا النضر فسر لا تخرجوا بأن المراد منه الحصر يعني الخروج المنهي عنه هو الذي يكون لمجرد الفرار لا لغرض آخر فهو تفسير للمعلل المنهي لا للنهي قال الحافظ وهو بعيد لأنه يقتضي أن هذا اللفظ من كلام أبي النضر زاده بعد الخبر وأنه موافق لابن المنكدر على رواية اللفظ الأول والمتبادر خلاف ذلك
والجواب الثاني كالأول والزيادة مرفوعة أيضا فيكون روى اللفظين ويكون التفسير مرفوعا أيضا
الثالث إلا زائدة بشرط أن تثبت زيادتها في كلام العرب انتهى وهذا الحديث رواه البخاري في ذكر بني إسرائيل عن عبد العزيز بن عبد الله ومسلم في الطب عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه جماعة في مسلم وغيره
( مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ) ابن كعب بن مالك بن ربيعة العنزي حليف بني عدي ولد سنة ست وحفظ عن النبي حديثا واحدا وهو قوله دعتني أمي والنبي في بيتنا فقالت تعالى أعطيك فقال ما أردت أن تعطيه قالت تمرا قال لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة مات سنة بضع وثمانين وأبوه صحابي مشهور
( أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ) لينظر في أحوال رعيته بها وأمرائه سنة سبع عشرة بعد فتح بيت المقدس وخرج إليها قبل ذلك لما حاصر أبو عبيدة بيت المقدس وسأله أهله أن يكون صلحهم على يد عمر فقدم فصالحهم ورجع سنة عشر قاله في المفهم
وفي التمهيد خرج عمر إلى
____________________
(4/300)
الشام مرتين في قول بعضهم وقيل لم يخرج لها إلا مرة واحدة هي هذه
( حتى إذا جاء سرغ ) بمهملتين ومعجمة قال عياض رويناه بسكون الراء وفتحها وصوب ابن مكي السكون قال مالك وابن حبيب هي قرية بوادي تبوك وهي آخر عمل الحجاز وقيل مدينة بالشام قال ابن وضاح بينها وبين المدينة ثلاثة عشر مرحلة ( بلغه ) من أمراء الأجناد ( أن الوباء ) بفتح الواو والموحدة والهمزة والمد والقصر وهو المرض العام والمراد هنا الطاعون المعروف بطاعون عمواس
( قد وقع بالشام ) أي بدمشق وهي أم الشام وإليها كان مقصده كذا قال أبو عمر فعزم على الرجوع بعد أن اجتهد ووافقه أكثر الصحابة الذين معه على ذلك
( فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله قال إذا سمعتم به ) أي الطاعون ( بأرض فلا تقدموا ) بفتح أوله وثالثه وروي بضم الأول وكسر الثالث ( عليه ) لأنه أقدم على خطر ( وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ) لأنه فرار من القدر فالأول تأديب وتعليم والثاني تفويض وتسليم
قال ابن عبد البر النهي عن القدوم لدفع ملامة النفس وعن الخروج للإيمان بالقدر انتهى
والأكثر أن النهي عن الفرار منه للتحريم وقيل للتنزيه ويجوزلشغل عرض غير الفرار اتفاقا قاله التاج السبكي
قال الحافظ ولا شك أن الصور ثلاث من خرج لقصد الفرار محضا فهذا يتناوله النهي لا محالة
ومن خرج لحاجة متمحضة لا لقصد الفرار أصلا ويصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد إلى بلد كان بها إقامته مثلا ولم يكن الطاعون وقع فاتفق وقوعه في أثناء تجهيزه فهذا لم يقصد الفرار أصلا فلا يدخل في النهي
الثالث من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها وانضم إلى ذلك أنه قصد الراحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطاعون فهذا محل النزاع كأن تكون الأرض التي وقع بها وخمة والأرض التي يتوجه إليها صحيحة فيتوجه بهذا القصد إليها فمن منع نظرا إلى صورة الفرار في الجملة ومن أجاز نظر إلى أنه لم يتمحض القصد للفرار وإنما هو لقصد التأوي انتهى
قال ابن عبد البر يقال ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت ولم يبلغني عن أحد من حملة العلم أنه فر منه إلا ما ذكر المدايني أن علي بن زيد بن جدعان هرب منه إلى السبالة فكان يجمع كل جمعة ويرجع فإذا رجع صاحوا به فر من الطاعون فطعن فمات بالسبالة انتهى
لكن نقل القاضي عياض وغيره جواز الخروج من الأرض التي وقع بها الطاعون عن جماعة من الصحابة منهم علي
____________________
(4/301)
والمغيرة ابن شعبة ومن التابعين الأسود بن هلال ومسروق وأنهما كانا يفران منه
ونقل ابن جرير أن أبا موسى الأشعري كان يبعث بنيه إلى الأعراب من الطاعون
وعن عمرو بن العاصي أنه قال تفرقوا من هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤوس الجبال حملا للنهي على التنزيه والجمهور أنه للتحريم حتى قال ابن خزيمة أنه من الكبائر التي يعاقب الله عليها إن لم يعف
( فرجع عمر بن الخطاب من سرغ ) بمنع الصرف والصرف وفيه جواز ذلك وليس من الطيرة وإنما هو من منع الإلقاء إلى التهلكة
أو سدا للذريعة لئلا يعتقد من يدخل إليها ظن العدوى المنهي عنها وفيه كما قال أبو عمر أنه قد يذهب على العالم الحبر ما يوجد عند غيره من العلماء ممن ليس مثله وكان عمر من العلم بموضع لا يوازيه أحد
قال ابن مسعود لو وضع علم عمر في كفة وعلم أهل الأرض في كفة رجح علم عمر ودليل ذلك أنه رأى أنه دخل الجنة فسقي بها لبنا فناول فضله عمر فقيل ما أولت ذلك قال العلم وأخرجه البخاري في الطب عن التنيسي وفي ترك الحيل عن القعنبي ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به
( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن ) جده ( عمر بن الخطاب إنما رجع بالناس ) من سرغ ( عن ) وللقعنبي من أي لأجل ( حديث عبد الرحمن بن عوف ) المذكور تقديما لخبر الواحد على القياس لأنهم أجمعوا على الرجوع اعتمادا على خبره وحده بعد أن ركبوا مشقة السفر من المدينة إلى سرغ فرجعوا ولم يدخلوا الشام وقيل رجع قبل إخبار عبد الرحمن لأنه قال أنه مصبح على ظهر قبل أن يخبروه بالحديث فلما أخبروه قوي عزمه على ذلك وتأول من قال بهذا بأن سالما لعله لم يبلغه قول عمر قبل إخبار ابن عوف قال القرطبي ورجح بعضهم الأول بأن ولده أي حفيده ما عرف بحاله من غيره وبأن عمر لم يكن ليرجع إلى رأي دون رأي الغير حجة حتى وجد علما وتأول قوله إني مصبح على ظهر الذي قاله قبل بحديث عبد الرحمن له بالحديث بأن معناه إني على سفر لوجهه الذي كان توجه له لا أنه رجع عن رأيه وهذا بعيد انتهى
ولا حاجة إلى هذا كله لأن عمر رجع عن رأيه إلى رأي من أشار بالرجوع لكثرتهم ثم قوى ذلك له حديث عبد الرحمن فرجع بهم من سرغ وعلى هذا يحمل قول سالم فلا داعية لدعوى أنه لم يبلغه قول عمر قبل إخبار ابن عوف
( مالك أنه قال بلغني أن عمر بن الخطاب قال لبيت بركبة ) بضم الراء وسكون الكاف وفتح الموحدة قال الباجي هي أرض بني عامر وهي بين مكة والعراق وقال ابن عبد البر ركبة واد من أودية الطائف ( أحب إلي من عشرة أبيات بالشام قال مالك يريد ) عمر ( لطول الأعمار والسقاء ) لأهل ركبة
____________________
(4/302)
( ولشدة الوباء ) قوته وكثرته ( بالشام ) وفي التمهيد عن مالك إنما قال ذلك عمر حين وقع الوباء بالشام
وقد روى أحمد برجال ثقات مرفوعا أتاني جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز على الكافرينقال الحافظ هذا يدل على أنه اختارها على الطاعون وأقرها بالمدينة ثم دعا الله فنقلها إلى الجحفة كما مر وبقيت منها بقايا ولا يعارضه الدعاء برفع الوباء عنها لندرة وقوعه فيها بخلاف الطاعون لم ينقل قط أنه وقع بها
8 النهي عن القول بالقدر بفتح القاف والدال المهملة وقد تسكن قال الراغب هو التقدير والقضاء هو التفصيل والقطع فالقضاء أخص من القدر لأنه الفصل بين التقدير فالقدر كالأساس وذكر بعضهم أن القدر بمنزلة المعد للكيل والقضاء بمنزلة الكيل
قال أهل السنة قدر الله الأشياء أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه فلا يحدث في العالم العلوي والسفلي شيء إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه وإن خلقه ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة وإن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله وبقدرته وإلهامه لا إله إلا هو ولا خالق غيره كما نص عليه القرآن والسنة
قال ابن السمعاني سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل فمن عدل عن التوقيف ضل وتاه في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء ولا يطمئن به القلب لأن القدر سر من أسرار الله تعالى اختص به الخبير العليم وضرب دونه الأستار وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب وقيل القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف قبل دخولها
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال تحاج ) بفتح الفوقية والمهملة وشد الجيم أصله تحاجج بجيمين أدغمت أولاهما في الأخرى ( آدم وموسى ) أي ذكر كل منهما حجته قال القابسي وابن عبد البر التقت أرواحهما في السماء أول ما مات موسى فتحاجا
قال عياض ويحتمل أن الله أحياهما فاجتمعا فتحاجا بأشخاصهما كما جاء في الإسراء وقيل كان هذا في حياة موسى وأنه سأل الله أن يريه آدم فأجابه
ذكر ابن جرير في ذلك أثرا أن موسى قال رب أبونا آدم الذي أخرجنا وأخرج نفسه من الجنة أرنيه فأراه إياه ( فحج آدم ) بالرفع فاعل ( موسى ) في محل نصب مفعول أي غلبه بالحجة ( قال له موسى أنت آدم الذي أغويت
____________________
(4/303)
الناس ) قال الباجي أي عرضتهم للإغواء لما كنت سبب خروجهم من الجنة وقال عياض أي أنت السبب في إخراجهم وتعريضهم لإغواء الشيطان ( وأخرجتهم من الجنة ) دار النعيم والخلود إلى دار البؤس والفناء
وفيه أن الجنة التي أهبط منها آدم هي الجنة التي يسكنها المؤمنون في الآخرة فيرد قول المبتدعة أنها غيرها
قال الأبي كأن موسى جوز الولادة في الجنة مع أنها مشقة لأنها إنما هي مشقة في الدنيا وقد قيل في هابيل أنه من حمل الجنة
وذكر الغزالي عن أبي سعيد مرفوعا أن الرجل من أهل الجنة ليولد له الولد كما يشتهي ويكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة وفي الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا احتج آدم وموسى فقال له موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة وفي رواية أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبط الناس بخطيئتك إلى الأرض ( فقال له آدم أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء ) قال عياض عام يراد به الخصوص أي مما علمك ويحتمل مما علمه البشر ( واصطفاه ) اختاره ( على الناس ) أهل زمانه ( برسالته ) بالإفراد وقرئت الآية به وبالجمع
وفي رواية للصحيحين اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده وفي أخرى اصطفاك الله برسالته وكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء ( قال نعم قال أفتلومني على أمر قد قدر ) بشد الدال مبني للمجهول ( علي قبل أن أخلق ) فحجه بذلك بأن ألزمه أن ما صدر منه لم يكن هو مستقلا به متمكنا من تركه بل كان قدرا من الله لا بد من إمضائه أي أن الله أثبته في علمه قبل كوني وحكم بأنه كائن لا محالة فكيف تغفل عن العلم السابق وتذكر الكسب الذي هو السبب وتنسى الأصل الذي هو القدر وأنت من المصطفين الأخيار الذين يشاهدون سر الله من وراء لا ستار وهذه المحاجة لم تكن في عالم الأسباب الذي لا يجوز فيه قطع النظر عن الوسائط والاكتساب وإنما كانت في العالم العلوي على أحد الأقوال عند ملتقى الأرواح واللوم إنما يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف أما بعدها فأمره إلى الله لا سيما وقد وقع ذلك بعد أن تاب الله عليه فلذا عدل إلى الاحتجاج بالقدر السابق فالتائب لا يلام على ما تيب عليه منه لا سيما إذا انتقل عن دار التكليف
وفي رواية للشيخين أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة وفي حديث أبي سعيد عند البزار أتلومني على أمر قد قدره الله علي قبل أن يخلق السموات والأرض وجمع بحمل المقيدة بالأربعين على ما يتعلق بالكتابة والأخرى على ما يتعلق بالعلم
قال المازري الأربعين مثل خلقه تاريخ محدود وقضاء الله الكائنات وإرادته أزلي فيجب حمل الأربعين على أنه أظهر قضاءه بذلك للملائكة أو فعل فعلا ما أضاف إليه هذا التاريخ والأظهر أن المراد بقدر كتبه في التوراة ألا تراه
قال في الطريق الآخر فكم وجدت الله كتبه في التوراة من قبل أن أخلق قال بأربعين
فإن قيل معنى التحاج ذكر كل واحد من المتناظرين حجته ولا بد من بيان ما تقع به المحاجة وهو هنا اللوم فموسى أثبته وآدم نفاه ولا شك أن آدم احتج بشيء سبق به القدر وأما موسى
____________________
(4/304)
فإنما ذكر الدعوى ولم يذكر حجة
أجاب الأبي بأن قوله في تلك الطريق أنت أبونا حجة لأن الأب محل الشفقة وهي تمنع من وقوع ما يضر بالولد
وقال ابن العربي والباجي ليس ما سبق من القضاء والقدر يرفع الملامة عن البشر لكن معناه قدر علي وتبت منه والتائب لا يلام وقيل إنما غلبه لأن آدم أبوه ولم يشرع للابن لوم الأب
قال المازري وهذا بعيد من سياق الحديث وقيل لأن موسى كان قد علم من التوراة أن الله جعل تلك الأكلة سببا لهبوطه إلى الأرض وسكناه بها ونشر ذريته فيها وتكليفهم ليرتب الثواب والعقاب عليهم وإذا علم ذلك فلا بد من الخروج وقد فعل سببه ففيم اللوم وقيل إنما غلبه لأن ترتيب اللوم على الذم ليس أمرا عقليا لا ينفك وإنما هو أمر شرعي يجوز أن يرتفع فإذا تاب الله على آدم وغفر له فقد رفع عنه اللوم فمن لام فيه محجوج مغلوب بالشرع
وقيل لما تاب الله عليه لم يجب لومه على المخالفة
ومباحثها إنما هي على السبب الذي دعاه إلى ذلك ولم يكن عند آدم سبب إلا قضاء الله وقدره ولذا قال المصطفى فحج آدم موسى ولذا قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله وذكر فضائله أي كما قضى تعالى لك بذلك ونفذه فيك كذلك قضى علي فيما فعلت ونفذه في
وهذا الحديث رواه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وله طرق في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن زيد بن أبي أنيسة ) قيل واسمه أيضا زيد الجزري أبي أسامة أصله من الكوفة ثم سكن الرها ثقة متفق على الاحتجاج به وله أفراد مات سنة تسع عشرة ومائة وقيل سنة أربعة وقيل سنة خمس وعشرين ومائة له مرفوعا في الموطأ هذا الحديث الواحد ( عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب ) العدوي المدني ثقة من رجال الجميع ( أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني ) بضم الجيم وفتح الهاء ثقة روى له أصحاب السنن والثلاثة تابعون يروي بعضهم عن بعض ( أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية وإذا ) أي حين ( أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ) بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار ( ذرياتهم ) بأن أخرج بعضهم من صلب بعض من صلب آدم نسلا بعد نسل كنجوما يتوالدون كالذر بنعمان بفتح النون يوم عرفة ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلا ( وأشهدهم على أنفسهم ) قال ( ألست بربكم قالوا بلى ) أنت ربنا ( شهدنا ) بذلك والإشهاد ( أن ) لا ( يقولوا ) بالياء والتاء ( يوم القيامة إنا كنا عن هذا ) الإشهاد ( غافلين سورة الأعراف الآية 172 ) لا نعرفه
____________________
(4/305)
( فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله يسأل عنها ) أي الآية ( فقال رسول الله إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه ) قال الباجي أجمع أهل السنة على أن يده صفة وليست بجارحة كجوارح المخلوقين لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
وقال ابن العربي عبر بالمسح عن تعلق القدرة بظهر آدم وكل معنى يتعلق به قدرة الخالق ويعبر عنه بفعل المخلوق ما لم يكن دناءة
وقال عياض اختلف في اليد وما في معناها من الجوارح التي وردت ويستحيل نسبتها إلى الله تعالى فذهب كثير من السلف إلى أنه يجب صرفها عن ظاهرها المحال ولا تتأول ويصرف علمها إلى الله وهي من المتشابه وتأولها الأشعري وناس من أصحابه على أنها صفات لا نعلمها وتأولها قوم على ما تقتضيه اللغة واليد في اللغة تطلق على القدرة والنعمة فكذلك هنا ( فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة ) وهم السعداء وحرمتها على غيرهم ( وبعمل أهل الجنة ) أي الطاعات ( يعملون ) أي أنه تعالى ييسر لهم أعمال الطاعات ويهونها عليهم ( ثم مسح ظهره فاستخرج ) أي أخرج ( منه ذرية وقال خلقت هؤلاء ) الأشقياء ( للنار وبعمل أهل النار يعملون ) لأنهم ميسرون لذلك وجعل كليهما معا في دار الدنيا فوقع الابتلاء والامتحان بسبب الاختلاط وجعلها دار تكليف فبعث إليهم الرسل لبيان ما كلفهم به من الأقوال والأفعال والأخلاق وأمرهم بجهاد الأشقياء فقامت الحرب على ساق فإذا كان يوم المعاد ميز الله الخبيث من الطيب فجعل الطيب وأهله في دارهم والخبيث وأهله في دارهم فينعم هؤلاء بطيبهم ويعذب هؤلاء بخبثهم لانكشاف الحقائق
( فقال رجل ) يحتمل أنه عمران بن حصين كما في مسند مسدد ابن مسرهد في نحو هذا الحديث وأنه سراقة بن مالك كما في مسلم في نحوه ( يا رسول الله ففيم العمل ) أي إذا سبق العلم بذلك فلا حاجة إلى عمل لأنه سيصير إلى ما قدر له ( فقال رسول الله إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة ) فيهونه عليه ( حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ) عوضا عن عمله الصالح بمحض رحمته
( وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار ) وإنما الأعمال بالخواتيم كما في الحديث الآخر وفيه أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال بل الموجب لهما اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهم وهم
____________________
(4/306)
في أصلاب آبائهم بل وهم آباؤهم وأصول أكوانهم في العدم فعلى العبد أن يدأب في صالح الأعمال فإنها أمارة إلى مآل أمره غالبا
قال الخطابي قول هذا الصحابي مطالبة بأمر يوجب تعطيل العبودية فلم يرخص له لأن إخبار الرسول عن سابق الكتاب إخبار عن غيب علم الله فيهم وهو حجة عليهم فرام أن يتخذه حجة في ترك العمل فأعلمه أن ههنا أمرين محكمين لا يبطل أحدهما بالآخر باطن وهو الحكمة الموجبة في حكم الربوبية وظاهر وهو السمة اللازمة في حق العبودية
وهي أمارة ومخيلة غير مفيدة حقيقة العلم ويشبه أن يكون والله أعلم إنما عوملوا بهذه المعاملة وتعبدوا بها ليتعلق خوفهم ورجاؤهم بالباطن وذلك من صفة الإيمان وبين أن كلا ميسر لما خلق له وأن عمله في العاجل دليل مصيره في الآجل وهذه الأمور في حكم الظاهر ومن وراء ذلك حكم الله وهو الحكيم الخبير لا يسأل عما يفعل واطلب نظيره من الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب ومن الأجل المنصوب مع المعاجلة بالطلب المأذون فيها انتهى
وهذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه من طريق مالك به وصححه الحاكم وهو من التفسير المرفوع وشواهده كثيرة كحديث الصحيحين عن عمران بن حصين قال رجل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قال ففيم يعمل العاملون قال كل ميسر لما خلق له وتناقض ابن عبد البر فقال أولا حديث منقطع لأن مسلم بن يسار لم يلق عمر وبينهما نعيم بن ربيعة ثم أخرجه من طريق النسائي وغيره عن أبي عبد الرحيم عن زيد عن عبد الحميد عن مسلم عن نعيم بن ربيعة قال كنت عند عمر فسأله رجل عن هذه الآية فذكر الحديث ثم قال زيادة من زاد نعيما ليست بحجة لأن الذين لم يذكروه أحفظ وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن انتهى
فحيث لم تقبل فهي من المزيد في متصل الأسانيد فيناقض قوله أولا منقطع بينهما نعيم أما قوله وبالجملة فإسناده ليس بالقائم فمسلم ونعيم غير معروفين بحمل العلم لكن صح معناه من وجوه كثيرة عن عمر وغيره فإن هذا ليس بعلة قادحة
( مالك أنه بلغه ) مر أن بلاغه صحيح كما قال ابن عيينة وقد أخرجه ابن عبد البر من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده ( أن رسول الله قال تركت فيكم بعد وفاتي أمرين ) وفي رواية الحاكم شيئين ( لن تضلوا ما مسكتم ) بفتح الميم والسين أي أخذتم وتعلقتم واعتصمتم ( بهما كتاب الله ) بالنصب بدل من أمرين ( وسنة نبيه ) فإنهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما ولا هدي إلا منهما والعصمة والنجاة لمن مسك بهما واعتصم بحبلهما وهما العرفان الواضح والبرهان
____________________
(4/307)
اللائح بين المحق إذا اقتفاهما والمبطل إذا حلاهما فوجوب الرجوع إليهما معلوم من الدين ضرورة لكن القرآن يحصل العلم القطعي يقينا وفي السنة تفصيل معروف
وهذا الحديث أخرجه الحاكم عن أبي هريرة قال خطب النبي في حجة الوداع فقال تركت فيكم شيئين كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض
( مالك عن زياد بن سعد ) بسكون العين ابن عبد الرحمن الخراساني نشأ بها ثم نزل مكة ثم اليمن ثقة ثبت قال ابن عيينة كان أثبت أصحاب الزهري قال مالك ثقة سكن مكة وقدم علينا المدينة وله هيبة وصلاح وكذا وثقه أحمد وابن معين وغيرهما ( عن عمرو ) بفتح العين ( ابن مسلم ) الجندي بفتح الجيم والنون اليماني صدوق له أوهام ( عن طاوس ) بن كيسان ( اليماني ) الثقة الثبت الفقيه الفاضل يقال اسمه ذكوان وطاوس لقب مات سنة ست ومائة وقيل بعدها ( أنه قال أدركت ناسا من أصحاب رسول الله يقولون كل شيء بقدر ) أي جميع الأمور إنما هي بتقدير الله تعالى في الأزل فما قدر لا بد من وقوعه أو المراد كل المخلوقات بتقدير محكم وهو تعلق الإرادة الأزلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب
( قال طاوس وسمعت عبد الله بن عمر ) بن الخطاب ( يقول قال رسول الله كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ) قال عياض رويناه بالخفض عطفا على شيء والرفع عطفا على كل وقد تكون حتى جارة وهو أحد معانيها والعجز يحتمل أنه على ظاهره وهو عدم القدرة وقيل هو ترك ما يجب فعله والتسويف فيه حتى يخرج وقته ويحتمل أن يريد به عمل الطاعات ويحتمل أمر الدنيا والآخرة والكيس ضد العجز وهو النشاط في تحصيل المطلوب قال وإدخال مالك وغيره هذا الحديث في كتاب القدر يدل على أن المراد به هنا ما قدر الله سبحانه وقضى به وأراده من خلقه انتهى وهو وجيه
لكن تعقب الأبي تفسير العجز بعدم القدرة يصيره عدما وهو عند المتكلمين صفة ثبوتية يمتنع معها وقوع الفعل الممكن
ورجح الطيبي أن حتى حرف جر بمعنى إلى نحو { حتى مطلع الفجر } سورة القدر الآية 5 لأن المعنى يقتضي الغاية إذ المراد أن أفعال العباد واكتسابهم كلها بتقدير خالقهم حتى الكيس الموصل صاحبه إلى البغية والعجز الذي يتأخر به عن دركها
قال القرطبي ومعنى الحديث ما من شيء يقع في الوجود إلا وسبق علمه به وتعلقت به إرادته ولذا أتى بكل التي هي للعموم وعقبها بحتى التي هي للغاية وإنما عبر بالعجز والكيس ليبين أن أفعالنا وإن كانت مرادة لنا فهي لا تقع إلا بإرادة الله كما قال تعالى { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } سورة الإنسان الآية 30
____________________
(4/308)
وقال الطيبي قوبل الكيس بالعجز على المعنى لأن المعنى المقابل الحقيقي للكيس البلادة وللعجز القوة وفائدة هذا الأسلوب تقييد كل من اللفظين بما يضاد الآخر يعني حتى الكيس والقوة والبلادة والعجز عن قدر الله فهو رد على من يثبت القدرة لغيره تعالى مطلقا ويقول أفعال العباد مسندة إلى قدرة العبد واختياره لأن مصدر الفعل الداعية ومنشؤها القلب الموصوف بالكياسة والبلادة ثم القوة والضعف ومكانهما الأعضاء والجوارح فإذا كان بقضاء الله وقدره فأي شيء يخرج عنهما
( أو ) قال ( الكيس ) بفتح الكاف وسكون التحتية ومهملة النشاط والحذق والظرافة أو كمال العقل أو شدة معرفة الأمور أو تمييز ما فيه الضرر من النفع
( والعجز ) التقصير عما يجب فعله أو عن الطاعة أو أعم والمراد أن الراوي شك هل أخر الكيس أو قدمه والمعنى واحد
قال أبو عمر فإن صح أن الشك من ابن عمر أو من دونه ففيه مراعاة الألفاظ على رتبتها وأظنه من ورع ابن عمر والذي عليه العلماء جواز الرواية بالمعنى للعارف بالمعاني وأخرجه مسلم عن عبد الأعلى بن حماد وقتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به
( مالك عن زياد بن سعد ) المذكور آنفا ( عن عمرو ) بفتح العين بن دينار المكي ثقة ثبت مات سنة ست وعشرين ومائة ( أنه قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول في خطبته ) وهو خليفة ( إن الله هو الهادي ) الذي يبين الرشد من الغي وألهم طرق المصالح الدينية كل مكلف والدنيوية كل حي
( والفاتن ) بمعنى المضل الوارد في أسمائه ولكن هذا وارد أيضا عن صحابي فهو توقيف إذ لا يقال بالرأي وفي التنزيل { فإنا قد فتنا قومك } سورة طه الآية 85 { إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء } سورة الأعراف الآية 1 وأخرج أبوعمر عن عطاء بن أبي رباح كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال أرأيت من حرمني الهدى وأورثني الضلالة والردى أتراه أحسن إلي أو ظلمني فقال ابن عباس إذا كان الهدى شيئا كان لك عنده فمنعك فقد ظلمك وإن كان الهدى له يؤتيه من يشاء فما ظلمك شيئا ولا تجالسني بعد
وبهذا أجاب ربيعة غيلان القدري لما سأله وإنما أخذه من قول ابن عباس
( مالك عن عمه أبي سهيل ) بضم السين وفتح الهاء واسمه نافع ( ابن مالك ) ابن أبي عامر الأصبحي ( قال كنت أسير مع عمر بن عبد العزيز ) أمير المؤمنين ( فقال ما رأيك في هؤلاء القدرية فقلت أرى أن تستتيبهم ) تطلب منهم التوبة عن القول بالقدر ( فإن تابوا وإلا عرضتهم على السيف ) أي قتلتهم به ( فقال عمربن عبد العزيز وذلك رأيي ) فيهم
( قال مالك وذلك رأيي ) دفعا
____________________
(4/309)
لفسادهم وقطعا لبدعتهم لا للكفر
9 جامع ما جاء في أهل القدر ( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تسأل المرأة ) وفي رواية أبي سلمة عن أبي هريرة لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها نسبا أو رضاعا أو دينا أو في البشرية ليدخل الكافرة وقيل المراد ضرتها ولفظ لا يحل ظاهر في التحريم لكن حمل على ما إذا لم يكن هناك سبب مجوز كريبة في المرأة لا يسوغ معها الاستمرار في العصمة وقصدت النصيحة المحضة إلى غير ذلك من المقاصد الصحيحة وحمله على الندب مع التصريح بما هو ظاهر في التحريم بعيد
وفي مستخرج أبي نعيم لا يصلح لامرأة أن تشترط طلاق أختها وظاهر هذه الرواية أن المراد الأجنبية فتكون الإخوة في الدين لا في النسب أو الرضاع أو البشرية ليعم الكافرة ويؤيده رواية ابن حبان لا تسأل المرأة ( طلاق أختها ) فإن المسلمة أخت المسلمة ( لتستفرغ صحفتها ) أي تجعلها فارغة لتفوز بحظها من النفقة والمعروف والمعاشرة وهذه استعارة مستملحة تمثيلية وفي رواية البيهقي لتستفرغ إناء أختها
( ولتنكح ) بإسكان اللام والجزم أي ولتتزوج هذه المرأة من خطبها من غير أن تسأله طلاق أختها
وقال الطيبي ولتنكح عطف على لتستفرغ وكلاهما علة للنهي أي ولتنكح زوجها
( فإنما لها ) أي للسائلة ( ما قدر لها ) أي لن يعدو ذلك ما قسم لها ولن تستزيد به شيئا
قال ابن عبد البر هذا الحديث من أحسن أحاديث القدر عند أهل العلم لما دل عليه من أن الزوج لو أجابها وطلق من تظن أنها تزاحمها في رزقها فإنه لا يحصل لها من ذلك إلا ما كتب الله لها سواء أجابها أم لم يجبها
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به
ورواه أيضا من وجه آخر عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ لا يحل لامرأة تسأل والباقي مثله
( مالك عن يزيد بن زياد ) بن أبي زياد وقد ينسب لجده المخزومي مولاهم المدني الثقة ( عن محمد بن كعب القرظي ) المدني الثقة العالم ولد سنة أربعين على الصحيح ووهم من قال في الزمن النبوي فقد قال البخاري كان أبوه ممن لم ينبت من بني قريظة مات محمد سنة عشرين ومائة وقيل قبلها
( قال قال معاوية ) ولبعض الرواة عن مالك بسنده كما أفاده أبو عمر قال سمعت معاوية ( ابن أبي سفيان ) صخر بن حرب ( وهو على المنبر ) النبوي عام حج في خلافته ( أيها الناس إنه لا مانع لما
____________________
(4/310)
أعطى الله ) أي لما أراد إعطاءه وإلا فبعد الإعطاء من كل أحد لا مانع له إذ الواقع لا يرتفع
( ولا معطي لما منع الله ) أي لا يمكن ذلك وما موصولة وجملة أعطى صلة ما والعائد محذوف أي الذي أعطاه ومنعه وقيل لا مانع اسم نكرة مبني مع لا وخبرها الاستقرار المتعلق به المجرور أو الخبر محذوف وجوبا على لغة بني تميم وكثير من الحجازيين فيتعلق حرف الجر بمانع قيل فيجب نصبه وتنوينه لأنه مفعول والرواية على بنائه من غير تنوين ووجهت بأن متعلق خبر لا مانع محذوف أي لا مانع لنا لما أعطى فيتعلق بالكون المقدر لا بمانع كما قيل في { لا غالب لكم اليوم } سورة الأنفال الآية 48 أو يقدر لا مانع يمنع لما أعطى فيتعلق بيمنع ويكون يمنع خبر لا على إحدى اللغتين
( ولا ينفع ذا الجد منه الجد ) بفتح الجيم فيهما على المشهور ومنه يتعلق بينفع أي لا ينفع صاحب الحظ من نزول عذابه حظه إنما ينفعه عمله الصالح
قال ابن عبد البر الرواية بفتح الجيم لا أعلم فيه خلافا عن مالك وهو الحظ مأخوذ من قول العرب لفلان جد في هذا الأمر أي حظ كقول الشاعر أعطاكم الله جدا تنصرون به لا جد إلا صغير بعد محتقر وهو الذي تقول العامة البخت
وقال أبو عبيد معناه لا ينفع ذا الغنى منه غناه إنما تنفعه طاعته واحتج بحديث قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها الفقراء وإذا أصحاب الجد محبوسون أي أصحاب الغنى في الدنيا محبوسون يومئذ
قال فهو كقوله { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } سورة الشعراء الآية 88 وقوله { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا } سورة سبإ الآية 37 وهو حسن أيضا وروي بكسر الجيم أي الاجتهاد والمعنى لا ينفع ذا الاجتهاد في طلب الرزق اجتهاده وإنما يأتيه ما قدر له وليس يرزق الناس على قدر اجتهاده ولكن الله يعطي من يشاء ويمنع وهذا وجه حسن انتهى
وقال الحافظ الجد بفتح الجيم في جميع الروايات ومعناه الغنى كما نقله البخاري عن الحسن أو الحظ
وحكى الراغب أنه أبو الأب أي لا ينفع أحدا نسبه
قال القرطبي وحكي عن أبي عمرو الشيباني أنه رواه بالكسر وقال معناه ذا الاجتهاد اجتهاده وأنكره الطبري
قال القزاز لأن الاجتهاد في العمل نافع لدعاء الله الخلق إليه فكيف لا ينفع عنده قال فيحتمل أن المراد الاجتهاد في طلب الدنيا وتضييع الآخرة
وقال غيره لعل المراد أنه لا ينفع بمجرده حتى يقارنه القبول وذلك إنما هو بفضل الله ورحمته
وقيل المراد على رواية الكسر السعي التام في الحرص أو الإسراع في الهرب
وقال النووي الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه بالفتح وهو الحظ في الدنيا بالمال أو الولد أو العظمة أو السلطان والمعنى لا ينجيه حظه منك وإنما ينجيه فضلك ورحمتك انتهى
( من يرد الله ) بضم التحتية وكسر الراء من الإرادة وهي صفة مخصصة لأحد طرفي الممكن ( به
____________________
(4/311)
خيرا ) أي جميع الخيرات أو خيرا عظيما ( يفقهه ) أي يجعله فقيها ( في الدين ) والفقه لغة الفهم والحمل عليه هنا أولى من الاصطلاحي ليعم فهم كل عام من علوم الدين ومن موصول فيه معنى الشرط لأن الموصول يتضمن معناه ونكر خيرا ليفيد التعميم لأن النكرة في سياق الشرط كهي في سياق النفي أو التنكير للتعظيم لأن المقام يقتضيه ولذا قدر بجميع أو عظيم
( ثم قال معاوية سمعت هؤلاء الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد ) أي أعواد المنبر النبوي ظاهره أنه سمع جميع ما ذكره منه وهذه رواية أهل المدينة وأما أهل العراق فيروون أن معاوية كتب إلى المغيرة أن اكتب إلي ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلوات فكتب إليه سمعته يقول خلف الصلاة لا إله إلا الله وحده لا شريك له اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد كما في الصحيحين
وجمع ابن عبد البر بجواز أن الذي سمعه منه صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين فأشار إليه لأن ذلك ليس في حديث المغيرة فيجتمع بذلك الأحاديث لأنها كلها صحيحة انتهى
ويمكن عود الإشارة لجميع ما ذكره ولا يخالف ذلك كتابته إلى المغيرة لاحتمال أنه سمع ذلك كله منه صلى الله عليه وسلم ثم شك فسأل المغيرة فأجابه فزال بذلك شكه فحدث به عن سماعه منه عليه الصلاة والسلام هكذا ظهر لي ثم رأيت فتح الباري قال زعم بعضهم أن معاوية كان قد سمع الحديث وإنما أراد استثبات المغيرة واحتج بحديث الموطأ هذا انتهى وهو حسن وإن عبر عنه بزعم لأنه من حيث جزمه بذلك
( مالك أنه بلغه أنه كان يقال ) قال الباجي هذا يقتضي أنه من قول أئمة الشرع لأن مالكا أدخله في كتابه المعتقد صحته ( الحمد لله الذي خلق كل شيء ) من شأنه أن يخلق ( كما ينبغي ) أي أحسنه وأتى به على أفضل ما يكون قاله الباجي ( الذي لا يعجل شيء أناه وقدره ) أي لايسبق وقته الذي وقته له ( حسبي الله ) كافي في جميع الأمور ( وكفى ) به كاف ( سمع الله لمن دعا ) أي أجاب دعاءه ( ليس وراء الله مرمى ) أي غاية يرمى إليها أي تقصد بدعاء أو أمل أو رجاء تشبيها بغاية السهام
( مالك أنه بلغه أنه يقال ) ذكر الحسن بن علي الحلواني عن محمد بن عيسى عن حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق قال كان محمد بن سيرين إذا قال كان يقال لم يشك أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عبد البر وكذا كان مالك إن شاء الله قال وهذا الحديث جاء من وجوه حسان عن جابر وأبي حميد الساعدي وابن مسعود وأبي أمامة وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن أحدا لن يموت حتى يستكمل رزقه ) الذي كتب له الملك وهو في بطن أمه فلا وجه للوله
____________________
(4/312)
والكد والتعب والحرص فإنه سبحانه قسم الرزق وقدره لكل أحد بحسب إرادته لا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص بحسب علمه تعالى القديم الأزلي { نحن قسمنا بينهم معيشتهم } سورة الزخرف الآية 32 فلا يعارضه ما ورد الصبحة تمنع الرزق والكذب ينقص الرزق وأن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وغير ذلك مما في معناه أو أن الذي يمنعه وينقصه هو الرزق الحلال أو البركة لا أصل الرزق
وللطبراني وأبي نعيم عن أبي أمامة مرفوعا إن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها ( فأجملوا في الطلب ) بأن تطلبوه بالطرق الجميلة المحللة بلا كد ولا حرص ولا تهافت على الحرام والشبهات أو غير منكبين عليه مشتغلين عن الخالق الرازق به أو بأن لا تعينوا وقتا ولا قدرا لأنه تحكم على الله أو اطلبوا ما فيه رضا الله لا حظوظ الدنيا أو لا تستعجلوا الإجابة
وأخرج ابن ماجه والحاكم وصححه عن جابر رفعه أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم زاد ابن أبي الدنيا من حديث أبي أمامة ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته وللبيهقي والعسكري وغيرهما عن أبي الدرداء مرفوعا إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله وللبيهقي عن جابر رفعه لا تستبطئوا الرزق فإنه لم يكن عبد يموت حتى يبلغه آخر الرزق فأجملوا في الطلب وفيه أن الطلب لا ينافي التوكل وأما حديث ابن ماجه والترمذي والحاكم وصححاه عن عمر رفعه لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا فقال الإمام أحمد فيه ما يدل على الطلب لا القعود أراد لو توكلوا في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم وعلموا أن الخير بيده ومن عنده لم ينصرفوا إلا سالمين غانمين كالطير ولكنهم يعتمدون على قوتهم وكسبهم وهذا خلاف التوكل
وعن أحمد أيضا في القائل أجلس لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي هذا رجل جهل العلم أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي وقوله تغدو خماصا وتروح بطانا وكان الصحابة يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم وبهم القدوة
____________________
(4/313)
10 ما جاء في حسن الخلق بضمتين وتسكن اللام للتخفيف
وفي النهاية الخلق بضم اللام وسكونها الدين والطبع والسجية وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ولها أوصاف حسنة وقبيحة والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة وفي أنه غريزة لقوله إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم الحديث رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وغيرهما أو مكتسب خلاف
وفي حديث الأشج أنه قال إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة قال يا رسول الله قديما كان في أو حديثا قال قديما قال الحمد لله الذي جبلني على خلتين مما يحبهما الله رواه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان فترديد السؤال وتقريره بقوله قديما يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي وما هو مكتسب وهذا هو الحق وهو جمع بين القولين لا ثالث
( مالك أن معاذ بن جبل ) كذا ليحيى وابن القاسم والقعنبي ورواه ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ وهو مع هذا منقطع جدا ولا يوجد مسندا من حديث معاذ ولا غيره بهذا اللفظ لكن ورد معناه قاله ابن عبد البر
( قال آخر ما أوصاني به رسول الله ) لما بعثه إلى اليمن ( حين وضعت رجلي في الغرز ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وزاي منقوطة في موضع الركاب من رجل البعير كالركاب للسرج ( أن قال أحسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل ) فهو منادى بحذف الأداة بأن يظهر منه لمجالسه أو الوراد عليه البشر والحلم والإشفاق والصبر على التعليم والتودد إلى الصغير والكبير والناس وإن كان لفظه عاما لكن أريد به من يستحق تحسين الخلق لهم فأما أهل الكفر والإصرار على الكبائر والتمادي على الظلم فلا يؤمر بتحسين الخلق لهم بل يؤمر بالإغلاظ عليهم قاله الباجي وهذا آخر الأحاديث الأربعة التي قالوا أنها لم توجد موصولة في غير الموطأ وذلك لا يضر مالكا الذي قال فيه سفيان بن عيينة كان مالكا لا يبلغ من الحديث إلا ما كان صحيحا وإذا قال بلغني فهو إسناد صحيح فتصور المتأخرين عن وجود هذه الأربعة موصولة لا يقدح فيها فلعلها وصلت في الكتب التي لم تصل إليهم وقد قال السيوطي في حديث اختلاف أمتي رحمة لعله خرج في بعض الكتب التي لم تصل إلينا لأنه عزاه لجمع من الأجلة ذكروه في كتبهم بلا إسناد ولا نسبة لمخرج كإمام الحرمين ولا ريب أنهم دون مالك بمراحل بعيدة كيف ومن شواهد هذا الحديث ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما بإسناد حسن عن معاذ قال قلت يا رسول الله علمني ما ينفعني قال اتق الله حيث كنت وأتبع
____________________
(4/314)
السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس يخلق حسن وأخرج الترمذي عن أنس قال بعث النبي معاذ بن جبل إلى اليمن فقال يا معاذ اتق الله وخالق الناس بخلق حسن وروى قاسم بن أصبغ عن معاذ أن آخر كلمة فارقت عليها رسول الله قلت يا رسول الله أي العمل أفضل قال لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله فكأنه لما كان آخر ما أوصاه سأله عن هذا فأجابه فكان آخر كلمة فلا خلف
( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن عروة بن الزبير ) ابن العوام ( عن عائشة زوج النبي أنها قالت ما خير ) بضم الخاء المعجمة وكسر التحتية الثقيلة قال الحافظ وأيهم فاعل خير ليكون أعم من قبل الله أو من قبل المخلوقين
وقال الباجي يحتمل أن المخير له هو الله فيما كلف أمته من الأعمال أو الناس فعلى الأول يكون قوله ما لم يكن إنما استثناء منقطعا ولعل مراده الاستثناء اللغوي وهو الإخراج ( في أمرين ) وللتنيسي والقعنبي بين أمرين ( قط ) قال الحافظ أي من أمور الدنيا بدليل قوله ما لم يكن إثما لأن أمور الدين لا إثم فيها ( إلا أخذ أيسرهما ) أي أسهلهما ( ما لم يكن ) الأيسر ( إثما ) أي مفضيا للإثم ( فإن كان ) الأيسر ( إثما كان أبعد الناس منه ) ويختار الأشد حينئذ وللطبراني الأوسط عن أنس إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوقين واضح
وأما من قبل الله ففيه إشكال لأن التخيير إنما يكون بين جائزين لكن إذا حمل على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى من الاشتغال به إلا أن يتفرغ للعبادة مثلا وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفاف فيختار الكفاف وإن كانت السعة أسهل منه والإثم على هذا أمر نسبي لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له انتهى
ومثله غيره بالتخيير بين المجاهدة في العبادة والاقتصاد فيها فإن المجاهدة إن كانت بحيث تجر إلى الهلاك لا تجوز
( وما انتقم رسول الله لنفسه ) أي خاصة فلا يرد أمره بقتل ابن خطل وعقبة بن أبي معيط وغيرهما ممن كان يؤذيه لأنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله وقيل إرادة لا ينتقم لنفسه إذا أوذي في غير السبب الذي يخرج إلى الكفر كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه وعن الآخر الذي جبذ بردائه حق أثر في كتفه وقال محمد أعطني من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء كما في الصحيحين من طريق مالك عن إسحاق بن عبد الله عن أنس
وفي أبي داود ثم دعا رجلا فقال احمل له على بعيريه هذين على بعير تمرا وعلى الآخر شعيرا
( إلا أن تنتهك ) بضم الفوقية وسكون النون وفتح الفوقية والهاء أي لكن إذا انتهكت ( حرمة الله )
____________________
(4/315)
عز وجل ( فينتقم لله ) لا لنفسه ممن ارتكب تلك الحرمة ( بها ) أي بسببها
وللطبراني عن أنس فإذا انتهكت حرمة الله كان أشد الناس غضبا لله
قال الباجي يريد أن يؤذى أذى فيه غضاضة على الدين فإن في ذلك انتهاكا لحرمة الله فينتقم بذلك إعظاما لحق الله
وقال بعض العلماء لا يجوز أن يؤذى النبي بفعل مباح ولا غيره وأما غيره من الناس فيجوز أن يؤذى بمباح وليس له المنع منه ولا يأثم فاعله وإن وصل بذلك إلى أذى غيره ولذا لم يأذن في نكاح ابنة أبي جهل فجعل حكم ابنته فاطمة حكمه في أنه لا يجوز أن تؤذى بمباح واحتج على ذلك بقوله تعالى { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله } إلى أن قال { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } سورة الأحزاب الآية 57 58 فشرط على المؤمنين أن يؤذوا بغير ما اكتسبوا وأطلق الأذى في خاصة النبي من غير شرط انتهى
وحمل الداودي عدم انتقامه لنفسه على ما يختص بالمال
وأما العرض فقد اقتص مما نال منه قال فاقتص ممن لده في مرضه بعد نهيه عن ذلك بأن أمر بلدهم مع أنهم تأولوا نهيه على عادة البشر من كراهة النفس للدواء
قال الحافظ كذا قال
وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن الزهري بإسناد مطولا وأوله ما لعن رسول الله مسلما بذكر اسمه أي بصريحه ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يضرب في سبيل الله ولا سئل عن شيء قط فمنعه إلا أن يسأل مأثما ولا انتقم لنفسه من شيء إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون الله ينتقم الحديث
وهذا السياق سوى صدره عند مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به وفيه الحث على ترك الأخذ بالشيء العسير والاقتناع باليسير وترك الإلحاح فيما لا يضطر إليه ويؤخذ من ذلك ندب الأخذ بالرخص ما لم يظهر الخطأ والحث على العفو إلا في حقوق الله تعالى والندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحله ما لم يفض إلى ما هو أشد منه وفيه ترك الحكم للنفس وإن كان الحاكم متمكنا من ذلك بحيث يؤمن منه الحيف على المحكوم عليه لكن لحسم المادة وفيه ما كان عليه من الصبر والحلم والقيام بالحق وهذا هو الخلق الحسن المحمود لأنه لو ترك القيام لحق الله وحق غيره كان ذلك مهانة ولا انتقم لنفسه لم يكن ثم صبر وكان هذا الخلق بطشا فانتفى عنه الطرفان المذمومان وبقي الوسط وخير الأمور أوسطها
وأخرجه البخاري في الصفة النبوية عن التنيسي وفي الأدب عن القعنبي ومسلم عن يحيى ثلاثتهم عن مالك به وتابعه منصور بن المعتمر ويونس عن ابن شهاب وتابعه هشام عن عروة كل ذلك عند مسلم
( مالك عن ابن شهاب عن علي بن أبي طالب ) مرسلا عند جماعة رواة الموطأ فيما علمت إلا خالد بن عبد الرحمن الخراساني فقال عن مالك عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن أبيه وخالد ضعيف ليس بحجة فيما خولف فيه ولابن شهاب فيه إسنادان أحدهما مرسل كما قال مالك والآخر عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهما من رواية الثقات قاله في التمهيد
وقال السيوطي وصله الدارقطني
____________________
(4/316)
من طريق خالد الخراساني وموسى بن داود الضبي كلاهما عن مالك عن الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه
قال ابن عبد البر وخالد وموسى لا بأس بهما انتهى
ولم أجده في التمهيد إنما فيه ما ذكرته فلعل نسخه اختلفت والحديث حسن بل صحيح أخرجه أحمد وأبو يعلى والترمذي وابن ماجه من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأحمد والطبراني الكبير عن الحسن بن علي والحاكم في الكنى عن أبي ذر العسكري والحاكم في تاريخه عن علي بن أبي طالب والطبراني في الصغير عن زيد بن ثابت وابن عساكر عن الحارث بن هشام
( أن رسول الله قال من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) بفتح أوله من عناه كذا إذا تعلقت عنايته به وكان من قصده يعني ترك الفضول كله على اختلاف أنواعه
قال ابن العربي لأن المرء لا يقدر أن يشتغل باللازم فكيف يتعداه إلى الفاضل انتهى
وفي إفهامه أن من قبح إسلام المرء أخذه ما لا يعنيه لأنه ضياع للوقت النفيس الذي لا يمكن تعويض فائته فيما لم يخلق لأجله فإن الذي يعنيه الإسلام والإيمان والعمل الصالح وما تعلق بضرورة حياته في معاشه من شبع وروي وستر عورة وعفة فرج ونحو ذلك مما يدفع الضرورة دون مزيد النعم وبهذا يسلم من جميع الآفات دنيا وأخرى فمن عبد الله على استحضار قربه من ربه أو قرب ربه منه فقد حسن إسلامه قال الطيبي من تبعيضية ويجوز أنها بيانية وآثر التعبير بالإسلام على الإيمان لأنه الأعمال الظاهرة والفعل والترك إنما يتعاقبان عليها وزاد حسن إيماء إلى أنه لا يتميز بصورة الأعمال فعلا وتركا إلا إن اتصف بالحسن بأن توفرت شروط مكملاتها فضلا عن المصححات وجعل ترك ما لا يعني من الحسن مبالغة قال بعضهم ومما لا يعني تعلم ما لا يهم من العلوم وترك الأهم منه كمن ترك تعلم العلم الذي فيه صلاح نفسه واشتغل بتعلم ما يصلح به غيره كعلم الجدل ويقول في اعتذاره نيتي نفع الناس ولو كان صادقا لبدا باشتغاله بما يصلح به نفسه وقلبه من إخراج الصفات المذمومة من نحو حسد ورياء وكبر وعجب وترؤس على الأقران وتطاول عليهم ونحوها من المهلكات
قال ابن عبد البر هذا الحديث من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة وهو مما لم يقله أحد قبله
لكن روي معناه عن صحف إبراهيم مرفوعا
ثم أخرج بسنده عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم قال كانت أمثالا كلها الحديث وفيه وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وقيل للقمان الحكيم ما الذي بلغ بك ما نرى أي الفضل قال قدر الله وصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني
وروى أبو عبيدة عن الحسن من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه
وقال أبو داود أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث هذا وحديث الأعمال بالنيات والحلال بين وازهد في الدنيا
وقال الباجي قال حمزة الكناني هذا الحديث ثلث الإسلام والثاني الأعمال بالنيات والثالث الحلال بين والحرام بين وقال غيره هو نصف الإسلام وقيل كله
____________________
(4/317)
( مالك أنه بلغه ) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن عروة ( عن عائشة زوج النبي أنها قالت استأذن رجل ) في الدخول ( على النبي ) بينه وهو عيينة بن حصن الفزاري كما جزم به ابن بطال وعياض والقرطبي ونقله الباجي عن ابن حبيب عن مالك ورواه عبد الغني في المبهمات عن مالك بلاغا وابن بشكوال عن يحيى بن أبي كثير أن عيينة استأذن فذكره مرسلا وقيل هو مخرمة بن نوفل أخرجه عبد الغني عن عائشة قال الحافظ فيحمل على التعدد
وقد حكى المنذر القولين فقال هو عيينة وقيل مخرمة وهو الراجح اه
وتعقب بأن حديث تسميته عيينة صحيح وإن كان مرسلا وخير تسميته مخرمة فيه راويان ضعيفان ولذا قال الخطيب وعياض وغيرهما الصحيح أنه عيينة قالوا ويبعد أن يقول في حق مخرمة ما قال لأنه كان من خيار الصحابة
( قالت عائشة وأنا معه في البيت ) قبل نزول الحجاب فقال من هذه قال عائشة قال ألا أنزل لك عن أم البنين فغضبت عائشة وقالت من هذا قال هذا الأحمق المطاع رواه سعيد بن منصور يعني في قومه لأنه كان يتبعه منهم عشرة آلاف قناة لا يسألونه أين يريد
( فقال رسول الله ) له ( بئس ابن العشيرة ) الجماعة أو القبيلة أو الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجده
وفي رواية البخاري بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة ( ثم أذن له رسول الله ) وللبخاري رواية فقال ائذنوا له
( قالت عائشة فلم أنشب ) بمعجمة وموحدة ( أن سمعت ضحك رسول الله معه ) وللبخاري فلما جلس تطلق النبي في وجهه وانبسط إليه وله أيضا فلما دخل ألان له الكلام ( فلما خرج الرجل قلت ) مستفهمة ( يا رسول الله قلت فيه ما قلت ) بفتح التاء فيهما خطابا ( ثم لم تنشب أن ضحكت معه ) فما السر في ذلك وفي رواية ثم ألنت له القول ( فقال رسول الله ) يا عائشة ( إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره ) أي قبيح كلامه
وفي رواية لهما فقال يا عائشة متى عهدتني فحاشا إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره فقال الباجي وصفه بذلك ليعلم حاله فيحذر وليس ذلك من باب الغيبة
وقال القرطبي فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك مع جواز مداراتهم اتقاء لشرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله والفرق بينهما وبين المداراة أنها بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا وهي مباحة وربما استحسنت والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا والنبي
____________________
(4/318)
ص (1) * فإن قوله فيه بئس ابن العشيرة حق وفعله معه حسن عشرة فيزول بهذا التقرير الإشكال اه
أي الذي هو أن النصيحة فرض وطلاقة الوجه وإلانة القول يستلزمان الترك وحاصل جوابه أن الفرض سقط لعارض وقال عياض لم تكن غيبة والله أعلم حين إذ أسلم فلم يكن القول فيه غيبة أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحا فأراد بيان ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه فيكون ما وصفه به من علامات النبوة وأما إلانة القول بعد أن دخل فعلى سبيل الاستئلاف
وقال القرطبي في هذا الحديث إن عيينة ختم له بسوء لأنه ذمه وأخبر بأن من كان كذلك كان شر الناس
ورده الحافظ بأن الحديث ورد بلفظ العموم وشرط من اتصف بالصفة المذكورة أن يموت على ذلك وقد ارتد عيينة في زمن الصديق وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر
وفي الأم للشافعي أن عمر قتل عيينة على الردة قال في الإصابة ولم أر ذلك لغيره فإن كان محفوظا فلا يذكر في الصحابة لكن يحتمل أنه أمر بقتله فبادر إلى الإسلام فعاش إلى خلافة عثمان
وقال أيضا في ترجمة طليحة نقلا عن الأم أن عمر قتل طليحة وعيينة على الردة فراجعت جلال الدين البلقيني فاستغربه وقال لعله قبلهما بموحدة أي قبل منهما الإسلام بعد الارتداد
( مالك عن عمه أبي سهيل ) نافع ( بن مالك عن أبيه ) مالك بن أبي عامر الأصبحي ( عن كعب الأحبار أنه قال ) موقوفا ويحتمل أن يكون من الكتب القديمة لأنه حبرها وقد رواه ابن عساكر بسند ضعيف عن علي عن النبي ( إذا أحببتم ) أي أردتم ( أن تعلموا ما للعبد عند ربه ) مما قدر له من خير أو شر ( فانظروا ) أي تأملوا ( ماذا يتبعه ) أي الذي يجري على ألسنة الناس في حياته أو بعد موته ( من حسن الثناء ) بفتح المثلثة والمد الوصف بمدح أو به وبذم قال الباجي والمراد ما يذكره أهل الدين والخير دون أهل الضلال والفسق لأنه قد يكون للإنسان العدو فيتبعه بالذكر القبيح اه
فإن ذكره الصلحاء بشيء علم أن الله أجرى على ألسنتهم ماله عنده فإنهم ينطقون بإلهامه كما يفيده قوله إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر رواه الحاكم وغيره عن أنس فإن كان خيرا فليحمد الله ولا يعجب بل يكون خائفا من مكره الخفي وإن كان شرا فليبادر بالتوبة ويحذر سطوته وقهره
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال بلغني ) أخرجه ابن عبد البر من طريق زهير عن يحيى ابن سعيد عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي ( إن المرء ) وفي رواية إن الرجل والمراد منهما الإنسان وفي رواية إن المؤمن ( ليدرك بحسن خلقه ) قال ابن العربي الخلق أي بالفتح والخلق أي
____________________
1* إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله
(4/319)
بالضم عبارتان عن جملة الإنسان فالخلق عبارة عن صفته الظاهرة والخلق عبارة عن صفته الباطنة والإشارة بالخلق أي بالضم إلى الإيمان والكفر والعلم والجهل واللين والشدة والمساحة والاستقصاء والسخاء والبخل وما أشبه ذلك ولبابها في المحمود والمذموم يدور على عشرين خصلة
( درجة ) أي مثل درجة أي منزلة ( القائم بالليل ) أي المتهجد ( الظامي بالهواجر ) أي العطشان في شدة الحر بسبب الصوم لأنهما مجاهدان لأنفسهما في مخالفة حفظهما من الطعام والشراب والنكاح والنوم والقيام والصيام يمنعان من ذلك والنفس أمارة بالسوء تدعو إلى ذلك لأن بالطعام تتقوى وبالنوم ينمو ومن حسن خلقه يجاهد نفسه في تحمل أثقال مساوىء أخلاق الناس لأنه يحمل أثقال غيره ولا يحمل غيره أثقاله وهو جهاد كبير فأدرك ما أدركه القائم الصائم فاستويا في الدرجة
قال الباجي المراد أنه يدرك درجة المتنفل بالصلاة والصوم بصبره على الأذى وكفه عن أذى غيره والمقارضة عليه مع سلامة صدره من الغل
قال الغزالي ولا يتم لرجل حسن خلقه حتى يتم عقله فعند ذلك يتم إيمانه ويطيع ربه ويعصي عدوه إبليس وهذا الحديث أخرجه أبو داود من وجه آخر عن عائشة والطبراني في الكبير عن أبي أمامة والحاكم وقال صحيح على شرطهما وأقره الذهبي عن أبي هريرة ثلاثتهم مرفوعا به
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت سعيد بن المسيب يقول ) موقوفا لجميع رواة الموطأ إلا إسحاق بن بشر الكامل وهو ضعيف متروك الحديث فرواه مالك عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي ورواه الدارقطني من طريق حفص بن غياث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال قال رسول الله فذكره مرسلا
ورواه أيضا من طريق ابن عيينة عن يحيى عن سعيد عن أبي الدرداء عن النبي وأخرجه البزار من طريق الأعمش عن عمر ابن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أم الدرداء عن أبي الدرداء وذكر ابن المديني أن يحيى لم يسمعه من سعيد وإنما بينهما إسماعيل بن أبي حكيم كما حدث به عبد الوهاب ويزيد بن هارون وغيرهما عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل عن سعيد ابن المسيب مرفوعا مرسلا قاله كله ابن عبد البر ملخصا
وتعليل ابن المديني ليس بظاهر فإن يحيى ثقة حافظ باتفاق وقد صرح بالسماع في بعض طرقه فلا مانع أنه سمعه من إسماعيل عن سعيد ثم سمعه من سعيد فحدث به على الوجهين كما أن ابن المسيب حدث به مرسلا وموقوفا وموصولا وأيما كان فالحديث صحيح وقد أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء عن النبي قال ( ألا ) حرف تنبيه يذكر لتحقيق ما بعدها مركبة من همزة الاستفهام التي هي بمعنى الإنكار ولا التي للنفي والإنكار إذا دخل عليه النفي أفاد التحقيق ولذا لا يكاد يقع بعدها إلا ما كان مصدرا بنحو ما يتلقى به القسم وشقيقتها أما التي هي
____________________
(4/320)
من طلائع القسم ومقدماته قاله البيضاوي ( أخبركم بخير من كثير من الصلاة والصدقة ) زاد في رواية حفص بن غياث والصيام
وفي رواية أحمد ومن بعده ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ( قالوا بلى ) أخبرنا ( قال صلح ) بضم فسكون وفي رواية الجماعة إصلاح ( ذات البين ) أي صلاح الحال التي بين الناس وإنها خير من نوافل الصلاة وما ذكر معها
وقال غيره أي إصلاح أحوال البين حتى تكون أحوالكم أحوال صحة وألفة أو هو إصلاح الفساد والفتنة التي بين القوم وذلك لما فيه من عموم المنافع الدينية والدنيوية من التعاون والتناصر والألفة والاجتماع على الخير حتى أبيح فيه الكذب ولكثرة ما يندفع من المضرة في الدين والدنيا
وفي رواية أحمد ومن بعده فإن فساد ذات البين هي الحالقة بدل قوله ( وإياكم والبغضة ) بكسر الموحدة وإسكان الغين وفتح الضاد المعجمتين وهاء تأنيث شدة البغض وفي رواية والبغضاء بالفتح والمد وهو أيضا شدته
( فإنها هي الحالقة ) أي الخصلة التي شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر والمراد المزيلة لمن وقع فيها لما يترتب عليه من الفساد والضغائن وقد زاد الدارقطني قال أبو الدرداء أما إني لا أقول حالقة الشعر ولكنها حالقة الدين
قال الباجي أي أنها لا تبقي شيئا من الحسنات حتى تذهب بها كما يذهب الحلق بشعر الرأس ويتركه عاريا
وقال أبو عمر فيه أوضح حجة على تحريم العداوة وفضل المؤاخاة وسلامة الصدور من الغل
( مالك أنه بلغه ) رواه أحمد وقاسم بن أصبغ والحاكم والخرايطي برجال الصحيح عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة ( أن رسول الله قال بعثت ) وفي رواية إنما بعثت ( لأتمم حسن ) بفتحتين وبضم فسكون وفي رواية مكارم وفي رواية صالح ( الأخلاق ) قال الباجي كانت العرب أحسن الناس أخلاقا بما بقي عندهم من شريعة إبراهيم وكانوا ضلوا بالكفر عن كثير منها فبعث ليتمم محاسن الأخلاق ببيان ما ضلوا عنه وبما خص به في شرعه
قال ابن عبد البر ويدخل فيه الصلاح والخير كله والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل فبذلك بعث ليتممه قال وهو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره للطبراني عن جابر مرفوعا إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفع الوعزاه الديلمي لأحمد عن معاذ
قال السخاوي وما رأيته فيه والذي فيه عن أبي هريرة
____________________
(4/321)
11 ما جاء في الحياء بالمد قال الراغب الحياء انقباض النفس عن القبيح وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي فلا يكون كالبهيمة وهو مركب من خير وعفة ولذا لا يكون المستحي هجاعا وقلما يكون الشجاع مستحيا وقد يكون لمطلق الانقباض في بعض الصبيان انتهى ملخصا
وقال غيره هو انقباض النفس خشية ارتكاب ما يكره أعم من أن يكون شرعيا أو عقليا أو عرفيا ومقابل الأول فاسق والثاني مجنون والثالث أبله
وقوله صلى الله عليه وسلم الحياء من الإيمان أي أثر من آثار الإيمان
وقال الحليمي حقيقة الحياء خوف الذم بنسبة الشر إليه قال غيره فإن كان في محرم فهو واجب وفي مكروه فمستحب وفي مباح فهو العرفي المراد بقوله صلى الله عليه وسلم الحياء لا يأتي إلا بخير ويجمع ذلك كله أن المباح إنما هو ما يقع على وفق الشرع إثباتا ونفيا
( مالك عن سلمة بن صفوان بن سلمة الزرقي ) بضم الزاي وفتح الراء وقاف الأنصاري المدني الثقة روى عن أبي سلمة وغيره وعنه مالك وغيره ( عن زيد ) كذا ليحيى
وقال القعنبي وابن القاسم وابن بكير وغيرهم يزيد بياء أوله قال ابن عبد البر وهو الصواب ( ابن طلحة بن ركانة ) بضم الراء ابن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي تابعي معروف ذكره بعضهم في الصحابة غلطا وذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال وروى عن أبيه وأبي هريرة ومحمد بن الحنفية وغيرهم
وعنه سلمة وابن وهب وهو أخو محمد بن طلحة ومات في أول خلافة هشام قال ابن الحذاء وهو من الشيوخ الذين اكتفي في معرفتهم برواية مالك عنهم قال الحافظ وهو كلام فارغ وإنما يقال ذلك في من لم يعرف شخصه ولا نسبه ولا حاله ولا بلده وانفرد عنه واحد وهذا بخلاف ذلك كله
وقال ابن عبد البر رواه جمهور الرواة عن مالك مرسلا
وقال وكيع وحده عن مالك عن سلمة عن يزيد بن طلحة عن أبيه فعلى قوله يكون الحديث مسندا وقد أنكره يحيى بن معين وقال ليس فيه عن أبيه فهو مرسل قال في الإصابة كذا قال ولم يذكر طلحة في الاستيعاب وعليه تعقب آخر فإن الذي أخرجه الدارقطني في غرائب مالك أي وابن عبد البر نفسه في التمهيد من طريق وكيع عن مالك عن سلمة عن يزيد بن ركانة عن أبيه فعلى هذا الصحبة لركانة
قال الدارقطني ورواه علي بن يزيد الصدائي عن مالك كذلك لكن قال يزيد طلحة بن ركانة ( يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل دين خلق ) سجية شرعت فيه وحض أهل ذلك الدين عليها ( وخلق الإسلام الحياء ) أي طبع هذا الدين وسجيته التي بها قوامه ومروءة الإسلام التي
____________________
(4/322)
بها جماله الحياء وأصله من الحياة فإذا حيي القلب بالله ازداد منه حياء ألا ترى أن المستحيي يعرق وقت الحياء فعرقه من حرارة الحياء التي هاجت من الروح فمن هيجانه تفور منه الروح فيعرق منه الجسد ويعرق منه أعلاه لأن سلطان الحياء في الوجه والصدر وذلك من قوة الإسلام لأن الإسلام تسليم النفس والدين خضوعها وانقيادها فلذا صار الحياء خلقا للإسلام فيتواضع ويستحيي ذكره الحكيم محمد بن علي الترمذي وقال غيره يعني الغالب على أهل كل دين سجية سوى الحياء والغالب على أهل الإسلام الحياء لأنه متمم لمكارم الأخلاق التي بعث صلى الله عليه وسلم لإتمامها ولما كان الإسلام أشرف الأديان أعطاه الله أسنى الأخلاق وأشرفها
قال الباجي فيما شرع فيه الحياء بخلاف ما لم يشرع فيه كتعلم العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحكم بالحق والقيام به وأداء الشهادات على وجهها
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن سالم بن عبد الله ) التابعي الجليل أحد الفقهاء بالمدينة ( عن ) أبيه ( عبد الله بن عمر ) بن الخطاب ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل ) زاد التنيسي من الأنصار ولمسلم من طريق معمر مر برجل من الأنصار ومر بمعنى اجتاز يعدى بعلى وبالباء وله من طريق ابن عيينة سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا ولا خلف فلما مر به سمعه ( وهو يعظ أخاه ) نسبا أو دينا قال الحافظ لم أعرف اسم الواعظ ولا أخيه ( في الحياء ) قال الباجي أي يلومه على كثرته وأنه أضر به ومنعه من بلوغ حاجته انتهى
وهذا حسن موافق لما في طريق آخر
قال الحافظ قوله يعظ أي ينصح أو يخوف أو يذكر كذا شرحوه والأولى أن يشرح بما عند البخاري في الأدب المفرد من طريق عبد العزيز عن أبي سلمة عن ابن شهاب ولفظه يعاتب أخاه في الحياء يقول أنك لتستحي حتى كأنه يقول قد أضر بك الحياء
ويحتمل أن يكون ذكر له العتاب والوعظ فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر لكن المخرج متحد فالظاهر أنه من تصرف الرواة بحسب ما اعتقد أن كل لفظ منها يقوم مقام الآخر وفي سببية فكأن الرجل كان كثير الحياء فكان ذلك يمنعه عن استيفاء حقه فعاتبه أخوه على ذلك
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعه ) أي اتركه على هذا الخلق السني ثم زاده ترغيبا في ذلك بقوله ( فإن الحياء من الإيمان ) قال الباجي أي من شرائعه انتهى
ومن للتبعيض لحديث الصحيحين الحياء شعبة من الإيمان
وقال ابن العربي قال علماؤنا إنما صار الحياء من الإيمان المكتسب وهو جبلة لما يفيد من الكف عما لا يحسن فعبر عنه بفائدته على أحد قسمي المجاز
وقال الحافظ وإذا كان الحياء يمنع صاحبه من استيفاء حق نفسه جر له ذلك تحصيل أجر ذلك
____________________
(4/323)
الحق لا سيما إن كان المتروك له مستحقا
وقال ابن عيينة معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان فسمي إيمانا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه وحاصله أن إطلاق كونه من الإيمان مجاز والظاهر أن الناهي ما كان يعرف أن الحياء من مكملات الإيمان فلهذا وقع التأكيد وقد يكون التأكيد من جهة أن القضية نفسها مما يهتم به وإن لم يكن هناك منكر انتهى
قال القرطبي وزجره صلى الله عليه وسلم للواعظ لعلمه أن الرجل لا يضره كثرة الحياء وإلا فقد تكون كثرته مذمومة وعبر بعضهم في تفسير الوعظ بالعتاب واللوم بأنه بعيد من حيث اللغة فإن معنى الوعظ الزجر وبه فسره التيمي هنا ومعنى العتب الوجد يقال عتب عليه إذا وجد على أن الروايتين يدلان على معنيين جليلين ليس في واحد منهما حقا حتى يفسر أحدهما بالآخر غايته أنه وعظ أخاه في استعمال الحياء وعاتبه عليه والراوي حكى في إحدى روايتيه بلفظ الوعظ وفي الآخر بلفظ المعاتبة انتهى
والحافظ أبدى هذا احتمالا ثم استدرك عليه باتحاد المخرج وتفسير أحدهما بالآخر ليس للخفاء إنما هو للاتحاد فالروايات لا سيما المتحدة المخرج يفسر بعضها بعضا وإن سلم بعده لغة فلا معنى لهذا التعقيب سوى تسويد وجه الطرس بالتغبير في وجوه الحسان وفيه الحث على الحياء وأجله الاستحياء من الله قال بعض السلف خف الله على قدر قدرته عليك واستحي منه على قدر قربه منك
وقال بعضهم رأيت المعاصي نذالة فتركتها مروءة فصارت دينا وقد يتولد الحياء من الله تعالى من التقلب في نعمه فيستحيي العاقل أن يستعين بها على معصيته
وأخرجه البخاري في الإيمان عن عبد الله بن يوسف عن مالك به وتابعه عبد العزيز بن أبي سلمة عنده في الأدب من صحيحه وسفيان بن عيينة ومعمر عند مسلم ثلاثتهم عن ابن شهاب نحوه
12 ما جاء في الغضب ( مالك عن ابن شهاب عن حميد ) بضم الحاء ( ابن عبد الرحمن بن عوف ) مرسلا عند الأكثر ووصله مطرف عن مالك عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة وأخرجه البخاري والترمذي عن أبي صالح عن أبي هريرة ( أن رجلا أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) هو جارية بجيم وتحتية ابن قدامة بقاف مضمومة التيمي عم الأحنف بن قيس كما رواه ابن أبي شيبة وأحمد والحاكم من حديثه ووقع مثل سؤاله لأبي الدرداء عند الطبراني وغيره قال قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال لا تغضب ولك الجنة ولسفيان بن عبد الله الثقفي قلت يا نبي الله قل لي قولا أنتفع به وأقلل قال لا تغضب رواه الطبراني ولعبد الله بن عمر عند أحمد وأبي يعلى ولعثمان بن أبي العاصي عند غيرهم فالظاهر كما قال الولي العراقي أن السائل عن ذلك تعدد
____________________
(4/324)
( فقال يا رسول الله علمني كلمات أعيش بهن ) أنتفع بهن في معيشتي ( ولا تكثر علي فأنسى ) وفي رواية قل في الإسلام قولا وأقلل لعلي أعقله ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تغضب ) قال ابن عبد البر أراد والله أعلم علمني ما ينفعني بكلمات قليلة لئلا أنسى إن أكثرت علي ولو أراد علمني كلمات من الذكر ما أجابه بهذا الكلام القليل الألفاظ الجامع للمعاني الكثيرة والفوائد الجليلة ومن كظم غيظه ورد غضبه أخزى شيطانه وسلمت له مروءته ودينه
قال علماؤنا وإنما نهاه عما علم أنه هواه لأن المرء إذا ترك ما يشتهي كان أجدر أن يترك ما لا يشتهي وخصوصا الغضب فإن ملك نفسه عنده كان شديدا
وإذا ملكها عند الغضب كان أحرى أن يملكها عن الكبر والحسد وأخواتهما
وقال الباجي جمع له صلى الله عليه وسلم الخير في لفظ واحد لأن الغضب يفسد كثيرا من الدين والدنيا لما يصدر عنه من قول أو فعل ومعنى لا تغضب لا تمض على ما يحملك غضبك عليه وامتنع وكف عنه
وأما نفس الغضب فلا يملك الإنسان دفعه وإنما يدفع ما يدعوه إليه
وكذا قال ابن حبان أراد لا تعمل بعد الغضب شيئا مما ينشأ عنه لا أنه نهاه عن شيء جبل عليه
وقال الخطابي أي اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه لأن نفس الغضب مطبوع في الإنسان لا يمكن إخراجه من جبلته
قال الباجي وإنما أراد منعه من الغضب في معاني دنياه ومعاملاته وأما فيما يعود إلى القيام بالحق فقد يجب كالقيام على أهل الباطل والإنكار عليهم بما يجوز وقد يندب وهو الغضب على المخطىء كغضبه صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل عن ضالة الإبل ولما شكى إليه معاذ أنه يطول في الصلاة وقال بعضهم وقد اشتملت هذه الكلمة اللطيفة وهي من بدائع جوامع كلمه التي خص بها صلى الله عليه وسلم على ما لا يحصى بالعد من الحكم واستحباب المصالح والنعم ودرء المفاسد والنقم وذلك أن الله خلق الغضب من النار وجعله غريزة في الإنسان مهما قصد أو نوزع في غرض ما اشتعلت نار الغضب وثارت حتى يحمر الوجه والعينان من الدم لأن البشرة تحكي لون ما وراءها وهذا إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه وإن غضب ممن فوقه تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب فيصفر اللون حزنا وإن كان على النظير تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر فيترتب على الغضب تغير اللون والرعدة في الأطراف وخروج الأفعال على غير ترتيب واستحالة الخلقة حتى لو رأى الغضبان نفسه في حال غضبه لكن غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته وتغير الباطن وقبحه أشد لأنه يولد حقد القلب والحسد وإضمار السوء ومزيد الشماتة وهجر المسلم ومصارمته والإعراض عنه والاستهزاء والسخرية ومنع الحقوق بل أول شيء يقبح منه باطنه وتغير ظاهره ثمرة تغير باطنه هذا كله أثره في الجسد
وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش الذي يستحيي منه العاقل ويندم قائله عند سكون غضبه ويظهر أثره أيضا في الفعل بالضرب والقتل فإن فات بهرب المغضوب عليه رجع إلى نفسه فيمزق ثوبه ويلطم خده وربما سقط صريعا وربما أغمي عليه
____________________
(4/325)
وربما كسر الآنية وضرب من لا جريمة له فيه وللغضب دواء مانع وواقع فالمانع ذكر فضل الحلم وما جاء في كظم الغيظ من الفضل وما ورد في عاقبة ثمرة الغضب من الوعيد وخوف الله كما حكي عن بعض الملوك أنه كتب ورقة فيها ارحم من في الأرض يرحمك من السماء
ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء
ويل لحاكم الأرض من حاكم السماء
اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب
ثم دفعها إلى وزيره فقال إذا غضبت فادفعها إلي فجعل الوزير كلما غضب الملك دفعها إليه فينظر فيها فيسكن غضبه والرافع للغضب نحو المذكور عن هذا الملك والاستعاذة من الشيطان ويتوضأ كما جاء في حديث
وإن غضب وهو قائم قعد أو هو قاعد اضطجع كما في حديث
والقصد أن يبعد عن هيئة الوثوب ولا يسرع إلى الانتقام ما أمكن حسبما المادة المبادرة
وأقوى الأشياء في دفعه استحضار التوحيد الحقيقي التام وأنه لا فاعل في الوجود إلا الله وكل فاعل غيره فهو آلة فمن توجه إليه مكروه من جهة غيره فاستحضر أنه تعالى لو شاء لم يمكن ذلك الغير منه اندفع غضبه لأنه لو غضب والحالة هذه كان غضبه إما على الخالق وهو جرأة تنافي العبودية أو على المخلوق وهو إشراك ينافي التوحيد ولذا قال أنس خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله لم لم تفعله ولكن يقول قدر الله وما شاء فعل ولو قدر لكان ما ذاك إلا لكمال معرفته بأنه لا فاعل ولا معطي ولا مانع ولا نافع ولا ضار إلا الله وما سواه آلة للفعل كالسيف للضارب فالفاعل هو الله وحده وله آلات كبرى وصغرى ووسطى فالكبرى من له قصد واختيار كالإنسان الضارب بالعصا والصغرى ما لا قصد له ولا اختيار كالعصا المضروب بها والوسطى ما لا قصد له ولا عقل كالدابة ترفس وبهذا يظهر سر أمر صلى الله عليه وسلم لمن غضب أن يستعيذ من الشيطان لأنه إذا توجه إلى الله في تلك الحالة بالاستعاذة به أمكنه استحضار ما ذكر وإن استمر الشيطان متمكنا من الوسوسة لم يمكنه استحضار شيء من ذلك والله المستعان
( مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس الشديد ) أي القوي ( بالصرعة ) بضم الصاد المهملة وفتح الراء أي الذي يكثر منه صرع الناس قال الباجي ولم يرد نفي الشدة عنه فإنه يعلم بالضرورة شدته وإنما أراد أنه ليس بالنهاية في الشدة منه الذي يملك نفسه عند الغضب أو أراد أنها شدة ليس لها كبير منفعة وإنما الشدة التي ينتفع بها شدة الذي يملك نفسه عند الغضب كقولهم لا كريم إلا يوسف لم يرد به في الكرم عن غيره وإنما أريد إثبات مزية له في الكرم
وكذا لا سيف إلا ذو الفقار ولا شجاع إلا علي انتهى
فالنفي للمبالغة أي ليس القوي الذي يصرع أبطال الرجال ويلقيهم إلى الأرض بقوة ( إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) بأن لا يفعل موجبات الغضب فإنه إذا ملكها كان
____________________
(4/326)
هو الشديد الكامل لأنه قهر أكبر أعدائه إذ من عداها أذاه دونها لأنها موجبة لعقوبة الله وأقلها أشد من عقوبات الدنيا وقهر شر خصومه لخبر أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك وهذا من الألفاظ التي نقلت عن موضوعها اللغوي لضرب من المجاز والتوسع وهو من فصيح الكلام وبليغه لأنه لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ وقد ثارت عليه شدة من الغضب فقهرها بحلمه وصرعها بثباته وعدم عمله بمقتضى الغضب كان كالصرعة الذي يصرع الرجال ولا يصرعونه والهاء للمبالغة في الصفة وكل ما جاء بهذا الوزن بالضم والفتح كهمزة ولمزة وحفظة وضحكة وخدعة والصرعة بسكون الراء بالعكس وهو من يصرعه غيره كثيرا وكل ما جاء بهذا الوزن بالضم والسكون كهمزة وما بعده
قال ابن التين ضبطنا الصرعة بفتح الراء وقرأه بعضهم بسكونها وليس بشيء لأنه عكس المطلوب قال وضبط أيضا في بعض الكتب بفتح الصاد وليس بشيء
وفي مسلم عن ابن مسعود مرفوعا ما تعدون الصرعة فيكم قالوا الذي لا تصرعه الرجال وعند البزار بإسناد حسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يصطرعون فقال ما هذا فقالوا فلان ما يصارع أحدا إلا صرعه قال أفلا أدلكم على ما هو أشد منه رجل كلمه رجل وكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطانه صاحبه وعند ابن حبان مرفوعا ليس الشديد من غلب الناس إنما الشديد من غلب نفسه وحديث الباب أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى وعبد الأعلى بن حماد ثلاثتهم عن مالك به
13 ما جاء في المهاجرة ( مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد ) بتحتيتين بينهما زاي ( الليثي ) المدني نزيل الشام الثقة المتوفى سنة خمس أو سبع ومائة وقد جاز الثمانين
( عن أبي أيوب ) خالد بن زيد بن كليب ( الأنصاري ) البدري من كبار الصحابة مات غازيا بالروم سنة خمسين وقيل بعدها
( أن رسول الله قال لا يحل لمسلم أن يهاجر ) كذا ليحيى ولغيره أن يهجر ( أخاه ) في الإسلام ( فوق ثلاث ليال ) بأيامها وظاهره إباحة ذلك الثلاث لأن البشر لا بد له من غضب وسوء خلق فسومح تلك المدة قاله عياض لأن الغالب أن ما جبل عليه الإنسان من الغضب وسوء الخلق يزول من المؤمن أو يقل بعد الثلاث وقيل يحتمل السكوت عن حكم الثلاث لتطلب واقتصر على ما وراءها وهذا على رأي من لا يقول بالمفهوم وفي قوله أخاه إشعار بالعلية ( يلتقيان فيعرض هذا ) عن أخيه المسلم ( ويعرض هذا ) الآخر كذلك قال المازري أصله أن يولي كل واحد منهما الآخر عرضه أي جانبه
____________________
(4/327)
انتهى
وفي رواية فيصد هذا ويصد هذا وهما بمعنى ويعرض بضم التحتية فيهما والجملة استئنافية بيان لصفة الهجر ويجوز أن يكون حالا من فاعل يهجر ومفعوله معا
( وخيرهما ) أي أفضلهما وأكثرهما ثوابا ( الذي يبدأ ) أخاه ( بالسلام ) لأنه فعل حسنة وتسبب إلى فعل حسنة وهي الجواب مع ما دل عليه ابتداؤه من حسن طويته وترك ما كرهه الشرع من الهجر والجفاء وهذه الجملة عطف على الجملة السابقة من حيث المعنى لما يفهم منها أن ذلك الفعل ليس بخير وعلى أن الأولى حال فهذه الثانية عطف على لا يحل
وزاد الطبراني من وجه آخر عن الزهري بعد قوله بالسلام يسبق إلى الجنة
ولأبي داود بسند صحيح عن أبي هريرة فإن مرت به ثلاث فلقيه فليسلم عليه فإن رد فقد اشتركا في الأجر وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم وخرج المسلم من الهجرة قال ابن عبد البر هذا العموم مخصوص بحديث كعب بن مالك ورفيقه حيث أمر أصحابه بهجرهم قال وأجمع العلماء على أن من خاف من مكالمة أحد وصلته ما يفسد عليه دينه أو يدخل عليه مضرة في دنياه أنه يجوز له مجانبته وبعده ورب هجر جميل خير من مخاطبة مؤذية
وقال النووي وردت الأحاديث بهجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة وأنه يجوز هجرانهم دائما والنهي عن الهجران فوق ثلاث إنما هو لمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائم انتهى
وما زالت الصحابة والتابعون فمن بعدهم يهجرون من خالف السنة أو من دخل عليهم من كلامه مفسدة وأخذ بعضهم منه أن ابتداء السلام أفضل من رده وتعقب بأنه ليس فيه ذلك إنما فيه أن المبتدىء خير من المجيب من حيث أنه ابتدأ بترك ما كرهه الشرع من التقاطع لا من حيث أنه مسلم
قال الباجي وعياض وغيرهما وفيه أن السلام يخرج من الهجران وهو قول مالك والأكثرين
وقال أحمد وابن القاسم لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أولا
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه يونس والزبيدي وسفيان وعبد الرزاق كلهم عن الزهري عند مسلم قائلا بإسناد مالك ومثل حديثه إلا قوله فيعرض هذا ويعرض هذا فإنهم جميعا قالوا فيصد هذا ويصد هذا
( مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك ) رضي الله عنه ( أن رسول الله قال لا تباغضوا ) بحذف إحدى التاءين فيه وفي تالييه أي لا تتعاطوا أسباب التباغض ولا تفعلوا الأهواء المضلة المقتضية للتباغض والتجانب لأن التباغض مفسد للدين
( ولا تحاسدوا ) بأن يتمنى أحدكم زوال النعمة عن أخيه فإن سعى في ذلك كان باغيا وإن لم يسع في ذلك ولا تسبب فيه فإن كان المانع عجزه بحيث لو تمكن فعل فإنه آثم وإن كان المانع التقوى فقد يعذر لأنه لا يملك دفع الخواطر النفسانية فيكفيه في مجاهدة نفسه عدم العمل والعزم عليه
ولعبد الرزاق مرفوعا ثلاث لا يسلم منها أحد الطيرة والظن والحسد قيل فما المخرج منهن يا رسول الله قال فإذا تطيرت فلا ترجع وإذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وروى ابن عبد البر عن الحسن البصري ليس أحد من ولد
____________________
(4/328)
آدم إلا وقد خلق معه الحسد فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء وقد ذم الله قوما على حسدهم آخرين فقال { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } سورة النساء الآية 54 وقال { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } إلى قوله { واسألوا الله من فضله } سورة النساء الآية 32 وجاء مرفوعا إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وروى ابن أبي شيبة عن الزبير مرفوعا دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء حالقتا الدين لا حالقتا الشعر وعنه أيضا عن عمر ابن ميمون لما رفع الله موسى نجيا رأى رجلا متعلقا بالعرش فقال يا رب من هذا قال هذا عبد من عبادي صالح إن شئت أخبرتك بعمله قال يا رب أخبرني قال كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله قال ابن عبد البر وهذا مخصوص بحديث ابن عمر عنه لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار وبحديث الصحيح عن ابن مسعود مرفوعا لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الخير ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها اه على أن هذا إنما هو غبطة وهو أن يتمنى أن يكون له مثله من غير أن يتمنى زواله عنه
( ولا تدابروا ) أي لا يعرض أحدكم بوجهه عن أخيه ويوله دبره استثقالا له بل يقبل عليه ويبسط له وجهه ما استطاع
( وكونوا ) يا ( عباد الله ) فهو منادى بحذف الأداة ( إخوانا ) زاد في رواية قتادة عن أنس كما أمركم الله أي متواخين متوادين باكتساب ما تصيرون به كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والنصيحة
( ولا يحل لمسلم أن يهاجر ) قال أبو عمر كذا ليحيى وحده وسائر رواة الموطأ يقولون يهجر ( أخاه ) في الإسلام ( فوق ثلاث ليال ) بأيامها
قال ابن العربي إنما جوز في الثلاث لأن المرء في ابتداء الغضب مغلوب فرخص له في ذلك حتى يسكن غضبه زاد عياض وقيل يحتمل السكوت عن حكمها ليطلب في الشرع واقتصر على ما وراءها وهذا على رأي من لا يقول بالمفهوم من الأصوليين قال الأبي والمراد بالأخوة إخوة الإسلام فمن لم يكن كذلك جاز هجره فوق الثلاث والمراد بالهجرة فيما يقع بين الناس من عتب أو موجدة أي غضب أو تقصير في حقوق العشرة والصحبة دون ما كان في جانب الدين فإن هجرة أهل البدع دائما ما لم تظهر التوبة ومر له مزيد
( قال مالك أحسب التدابر ) أي معناه في الحديث ( إلا الإعراض عن أخيك المسلم ) وترك الكلام والسلام ونحوهما ( فتدبر عنه بوجهك ) لأن من أبغضته أعرضت عنه ومن أعرضت عنه وليته دبرك وكذلك يصنع هو بك
ومن أحببته أقبلت عليه وواجهته لتسره ويسرك فمعنى تدابروا وتقاطعوا وتباغضوا معنى متداخل متقارب كالمعنى الواحد في الندب إلى التواخي والتحابب فذلك أمر ص (1)
____________________
1-
(4/329)
وأمره للوجوب إلا لدليل يخرجه إلى الندب كذا قال أبو عمر وظاهره التنافي إلا أن يكون مراده بالأمر اه (1)
____________________
1*
أي أنه للتحريم فيجب تركه ثم بعد ذلك يستحب التواخي والتحابب قال وقد زاد سعيد بن أبي مريم عن مالك عقب قوله ولا تدابروا ولا تنافسوا قال حمزة الكناني لا أعلم أحدا قالها غيره عن مالك في هذا الحديث وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه شعيب عند البخاري والزبيدي ويونس وابن عيينة وزاد ولا تقاطعوا ومعمر أربعتهم عند مسلم والخمسة عن ابن شهاب وله طرق في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة ) عبد الرحمن بن صخر ( أن رسول الله قال إياكم ) كلمة تحذير ( والظن ) أي اجتنبوا ظن السوء بالمسلم فلا تتهموا أحدا بالفاحشة ما لم يظهر عليه ما يقتضيها والظن تهمة تقع في القلب بلا دليل قال الغزالي وهو حرام كسوء القول لكن لست أعني به إلا عقد القلب وحكمه على غيره بالسوء أما الخواطر وحديث النفس فعفو بل الشك عفو أيضا فالمنهي عنه الظن وهو عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشفت لك بعيان لا يحتمل التأويل فعند ذلك لا تعتقد إلا ما علمته وشاهدته أو تسمعه ثم يوقع في قلبك فإن الشيطان يلقيه إليك فينبغي لك أن تكذبه فإنه أفسق الفساق اه
وقال العارف زروق إنما ينشأ الظن الخبيث عن القلب الخبيث لا في جانب الحق ولا في جانب الخلق كما قيل إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم وعادى محبيه بقول عدوه وأصبح في ليل من الشك مظلم ( فإن الظن ) أقام المظهر مقام المضمر لزيادة تمكين المسند إليه في ذكر السامع حثا على الاجتناب
( أكذب الحديث ) أي حديث النفس لأنه يكون بإلقاء الشيطان في نفس الإنسان واستشكل تسميته كذبا بأن الكذب من صفات الأقوال
وأجيب بأن المراد عدم مطابقة الواقع سواء كان قولا أم لا ويحتمل أن المراد ما ينشأ عن الظن فوصف الظن به مجازا قال الخطابي وغيره ليس المراد ترك العمل بالظن الذي تناط به الأحكام غالبا بل المراد ترك تحقيق الظن الذي يضر بالمظنون به وكذا ما يقع في القلب بلا دليل وذلك أن أوائل الظنون إنما هي خواطر لا يمكن دفعها وما لا يقدر عليه لا يكلف به ويؤيده حديث تجاوز الله للأمة بما حدثت به أنفسها وقال القرطبي المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم رجلا بالفاحشة من غير أ
(4/330)
يظهر له عليه ما يقتضيها ولذا عطف عليه قوله ولا تجسسوا وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع فينهى عن ذلك وهذا الحديث يوافق قوله تعالى { اجتنبوا كثيرا من الظن } سورة الحجرات الآية 12 الآية فدل سياقها على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن فإن قال الظان أبحث لأتحقق قيل له ولا تجسسوا فإن قال تحققته من غير تجسيس قيل له ولا يغتب بعضكم بعضا
وقال القاضي عياض استدل بالحديث قوم على منع العمل في الأحكام بالاجتهاد والرأي وحمله المحققون على ظن مجرد عن الدليل ليس مبنيا على أصل ولا تحقيق نظر
وقال النووي ليس المراد في الحديث بالظن الاجتهاد المتعلق بالأحكام أصلا بل الاستدلال له بذلك ضعيف أو باطل وتعقب بأن ضعفه ظاهر وأما بطلانه فلا لأن اللفظ صالح لذلك ولا سيما إذا حمل على ما ذكره عياض
وقد قربه في المفهم وقال الظن الشرعي الذي هو تغليب أحد الجانبين أو الذي هو بمعنى اليقين ليس مرادا من الحديث ولا من الآية فلا يلتفت لمن استدل بذلك على إنكار الظن الشرعي
( ولا تحسسوا ) بحاء مهملة
( ولا تجسسوا ) بالجيم وروي بتقديمها على الحاء ابن عبد البر هما لفظتان معناهما واحد وهو البحث والتطلب لمعايب الناس ومساويهم إذا غابت واستترت لم يحل أن يسأل عنها ولا يكشف عن خبرها وأصل هذه اللفظة في اللغة من قولك حس الشيء أي أدركه بحسه وجسه من المحسة والمجسة وكذا قال إبراهيم الحربي هما بمعنى واحد
قال ابن الأنباري ذكر الثاني للتوكيد كقولهم بعدا وسحقا
وقال الخطابي أصل التي بالحاء من الحاسة إحدى الحواس الخمس وبالجيم من الجس بمعنى اختبار الشيء باليد وهي إحدى الحواس فيكون التي بالحاء أعم
وقال غيره بالجيم البحث عن العورات وبالحاء استماع حديث القوم وقيل بالجيم البحث عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر وبالحاء البحث عما يدرك بحاسة العين أو الأذن ورجح هذا القرطبي
وقيل بالحاء تتبع الشخص لنفسه وبالجيم لغيره واختاره ثعلب
وقال ابن العربي التجسس بالجيم تطلب أخبار الناس في الجملة وذلك لا يجوز إلا للإمام الذي رتب لمصالحهم وألقي إليه زمام حفظهم فأما عرض الناس فلا يجوز لهم ذلك إلا لغرض مصاهرة أو جوار أو رفاقة في سفر أو معاملة أو ما أشبه ذلك من أسباب الامتزاج وأما بالحاء فطلب الخبر الغائب للشخص وذلك لا يجوز للإمام ولا لسواه
وفي الأحكام السلطانية للماوردي ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات ولو غلب على الظن استتار أهلها بها إلا إن تعين طريقا إلى إنقاذ نفس من الهلاك مثلا كإخبار ثقة بأن فلانا خلا بشخص ليقتله ظلما أو امرأة ليزني بها فيشرع في هذه الصورة التجسس والبحث عن ذلك حذرا من فوات استدراكه
( ولا تنافسوا ) بحذف إحدى التاءين من المنافسة وهي الرغبة في الشيء قال القرطبي أي لا تتنافسوا حرصا على الدنيا إنما التنافس في الخير قال تعالى { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } سورة المطففين الآية 26
____________________
(4/331)
وكأن المنافسة هي الغبطة وأبعد من فسرها بالحسد لأنه عطفه عليها فقال ( ولا تحاسدوا ) أي لا يتمنى أحدكم زوال النعمة عن غيره
وقال ابن العربي التنافس هو التحاسد في الجملة إلا أنه يتميز عنه بأنه سببه
وقال ابن عبد البر المراد التنافس في الدنيا ومعناه طلب الظهور فيها على الناس والتكبر عليهم ومنافستهم في رياستهم والبغي عليهم وحسدهم على ما آتاهم الله منها وأما التنافس والحسد على الخير وطرق البر
فليس من هذا في شيء
( ولا تباغضوا ) أي لا تتعاطوا أسباب البغض لأن البغض لا يكتسب ابتداء
وقيل المراد النهي عن الأهواء المضلة المقتضية للتباغض
قال الحافظ بل هو أعم من الأهواء لأن تعاطي الأهواء ضرب من ذلك وحقيقة التباغض أن يقع بين اثنين وقد يطلق إذا كان من أحدهما والمذموم منه ما كان في غير الله أما في الله فواجب يثاب فاعله لتعظيم حق الله ولو كانا أو أحدهما من أهل السلامة كمن يؤديه اجتهاده إلى اعتقاد ينافي الآخر فيبغضه على ذلك وهو معذور عند الله
( ولا تدابروا ) قال الخطابي لا تتهاجروا فيهجر أحدكم أخاه مأخوذ من تولية الرجل الآخر دبره إذا أعرض عنه حين يراه قال ابن عبد البر إنما قيل للإعراض مدابرة لأن من أبغض أعرض ومن أعرض ولى دبره والمحب بالعكس وقيل معناه لا يستأثر أحدكم على الآخر وقيل للمستأثر مستدبر لأنه يولي دبره حتى يستأثر بشيء دون الآخر
وقال المازري معنى التدابر المعاداة تقول دابرته أي عاديته وقيل معناه لا تتخاذلوا بل تعاونوا على البر والتقوى
قال القرطبي وغيره هذه أمور غير مكتسبة فلا يصح التكليف بها فيصرف النهي إلى أسبابها أي لا تفعلوا ما يوجب ذلك
( وكونوا عباد الله إخوانا ) قال القرطبي اكتسبوا ما تصيرون به كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة ولعل قوله في رواية مسلم كما أمركم الله هذه الأوامر المتقدم ذكرها فإنها جامعة لمعاني الأخوة ونسبها إلى الله لأن الرسول مبلغ عنه قال الطيبي يجوز أن إخوانا خبر بعد خبر وأنه بدل وأنه الخبر وعباد الله منصوب على الاختصاص وهذا الوجه أوقع يعني أنتم مستوون في كونكم عبيد الله وملتكم واحدة والتباغض وما معه مناف لذلك والواجب أن تكونوا إخوانا متواصلين متآلفين
وقال الزركشي انتصب عباد الله على النداء أو حذف حرفه وإخوانا خبر ويجوز أنهما خبران ويجوز أن الخبر عباد الله وإخوانا حال وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به لا أنه وقع في رواية عبد الله ولا تناجشوا بدل قوله ولا تنافسوا وكذا وقع في بعض طرق الحديث من وجه آخر قال عياض النجش المنهي عنه في البيع أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها وليس المراد هنا وإنما المراد النهي عن ذم بعضهم بعضا وقيل النجش التنفير نجش الصيد نفره والنجش أيضا الإطراء فمعنى لا تناجشوا لا ينافر بعضكم بعضا أي لا يعامله من القول بما ينفره كما ينفر الصيد بل يسكنه ويؤنسه ويرجع إلى معنى لا تقاطعوا ولا تدابروا ولكن في رواية ولا يبع بعضكم على بيع بعض وهذا يوافق معنى المناجشة في البيع ويكون من الزيادة أو من التنفير عن سلعة غيره بإطراء سلعته
وقال
____________________
(4/332)
القرطبي جعله من النجش في البيع بعيد لأن تناجشوا تفاعلوا وأصله أن يكون بين اثنين والنجش في البيع من واحد فافترقا
( مالك عن عطاء ابن أبي مسلم عبد الله ) وقيل ميسرة ( الخراساني ) ابن عثمان صدوق لكنه يهم ويرسل ويدلس مات سنة خمس وثلاثين ومائة روى له مسلم وأصحاب السنن وحسبك برواية مالك عنه ( قال قال رسول الله تصافحوا ) مفاعلة من الصفح والمراد بها هنا الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد قاله الحافظ
وقال الجوهري المصافحة الأخذ باليد وفي المشارق المصافحة بالأيدي عند السلام واللقاء وهي ضرب بعضها ببعض ( بذهب ) بكسر الباء مجزوم في جواب الأمر حرك بالكسر لالتقاء الساكنين وبالرفع أي فبه يذهب ( الغل ) بكسر الغين المعجمة أي الحقد والضغانة قال المنذري رواه مالك هكذا معضلا وقد أسند من طرق فيها مقال يشير إلى ما أخرجه ابن عدي عن ابن عمر أن النبي قال تصافحوا يذهب الغل من قلوبكم وإلى ما أخرجه ابن عساكر عن أبي هريرة مرفوعا تهادوا تحابوا وتصافحوا يذهب الغل عنكم فقول السيوطي في المصافحة أحاديث موصولة بغير هذا اللفظ عجيب مع أنه نفسه ذكره في جامعه
وقال ابن المبارك حديث مالك جيد
وقال ابن عبد البر هذا يتصل من وجوه شتى حسان كلها ثم ذكره بأسانيده جملة منها في المصافحة بغير هذا اللفظ فكأن السيوطي اغتر به وغفل عما في جامعه والكمال لله
قال أبو عمر روى ابن وهب وغيره عن مالك كراهة المصافحة والمعانقة وبه قال سحنون وغيره
وروي عن مالك خلافه وهو الذي يدل عليه معنى ما في الموطأ وعلى جوازه جماعة العلماء سلفا وخلفا وفيه آثار حسان وتهادوا بفتح الدال وإسكان الواو تحابوا قال الحافظ للحاكم إن كان بالتشديد فمن المحبة وإن كان بالتخفيف فمن المحاباة وذلك لأن الهدية خلق من أخلاق الإسلام دلت عليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحث عليه خلفاؤهم الأولياء تؤلف القلوب وتنفي سخائم الصدور وقبول الهدية سنة لكن الأولى ترك ما فيه منة
وأخرج البخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى والنسائي في الكنى وابن عبد البر في التمهيد بإسناد حسن عن أبي هريرة عن النبي تهادوا ( تحابوا وتذهب الشحناء ) بشين معجمة مفتوحة وحاء مهملة ساكنة ونون والمد العداوة لأن الهدية جالبة للرضا والمودة فتذهب العداوة
ولأحمد والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر بواو فمهملة مفتوحتين فراء أي غله وغشه وحقده
وللبيهقي عن أنس وابن عبد البر عن أم سلمة تهادوا فإن الهدية تذهب بالسخيمة قال يونس ابن زيد هي الغل
وعن معاوية بن الحكم سمعت رسول الله يقول تهادوا فإنه يضعف الود ويذهب بغوائل الصدر وأخرجه الدارقطني من طريق محمد بن عبد الرحمن بن بحر عن أبيه عن مالك عن الزهري عن أبي
____________________
(4/333)
سلمة عن معاوية به وقال تفرد به محمد عن أبيه ولم يكن بالرضى ولا يصح عن مالك ولا عن الزهري انتهى
لكن له شواهد عند الطبراني في الكبير عن أم حكيم بنت وداع الخزاعية مرفوعا بلفظ فإن الهدية تضعف الحب والباقي سواء وتضعف بالتثقيل أي تزيده وقد أحسن القائل هدايا الناس بعضهم لبعض تولد في قلوبهم الوصالا وتزرع في الضمير هوى وودا وتكسوهم إذا حضروا جمالا وقال آخر إن الهدايا لها حفظ إذا وردت أحظى من الابن عند الوالد الحدب وأخرج ابن عبد البر من طريق أبي مصعب عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال اجتمع علي وأبو بكر وعمر وأبو عبيدة فتماروا في أشياء فقال علي انطلقوا بنا إلى رسول الله نسأله فلما وقفوا عليه قالوا يا رسول الله جئنا نسألك قال إن شئتم سلوني وإن شئتم أخبرتكم بما جئتم له قالوا أخبرنا قال جئتم تسألوني عن الصنيعة لمن تكون ولا ينبغي أن تكون إلا لذي حسب أو دين وجئتم تسألوني عن الرزق يجلبه الله على العبد فاستنزلوه بالصدقة وجئتم تسألوني عن جهاد الضعيف وجهاد الضعيف الحج والعمرة وجئتم تسألوني عن جهاد المرأة وجهاد المرأة حسن التبعل لزوجها وجئتم تسألوني عن الرزق من أين أتى وكيف يأتي أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب قال أبو عمر حديث حسن لكنه منكر عن مالك عندهم ولا يصح عنه ولا له أصل في حديثه انتهى
ولعل مراده أن متنه حسن وإن كان سنده المذكور لا يصح عن مالك وإلا فالجمع بين حسن وبين منكر لا يصح تناف أو مراده حسن اللفظ وهو بعيد
( مالك عن سهيل ) بضم السين مصغر ( ابن أبي صالح عن أبيه ) ذكوان السمان ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال تفتح أبواب الجنة ) يحتمل حقيقة لأن الجنة مغلوقة وفتح أبوابها ممكن ويكون دليلا على المغفرة ويحتمل أنه كناية عن مغفرة الذنوب العظيمة وكتب الدرجات الرفيعة قاله الباجي
وقال القرطبي الفتح حقيقة ولا ضرورة تدعو إلى التأويل ويكون فتحها تأهبا من الخزنة لمن يموت يومئذ ممن غفر له أو يكون علامة للملائكة على أن الله تعالى يغفر في ذينك اليومين ( يوم الإثنين ويوم الخميس ) فيه فضلهما على غيرهما من الأيام وكان يصومهما ويندب أمته إلى صيامهما وكان يتحراهما بالصيام وأظن هذا الخبر إنما توجه إلى طائفة كانت تصومهما تأكيدا على لزوم ذلك كذا قال أبو عمر
وقد روى أبو داود وغيره عن أسامة قال كان يصوم يوم الإثنين والخميس فسئل عن ذلك فقال إن أعمال العباد تعرض يوم الإثنين ويوم الخميس
____________________
(4/334)
( فيغفر ) فيهما ( لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئا ) ذنوبه الصغائر بغير وسيلة طاعة
قال القرطبي لحديث الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهما ما اجتنبت الكبائر ( إلا رجلا ) بالنصب لأنها استثناء من كلام موجب وهو الرواية الصحيحة وروي بالرفع قاله التوربشتي قال الطيبي وعلى الرفع الكلام محمول على المعنى أي لا يبقى ذنب أحد إلا ذنب رجل وهو وصف طردي والمراد إنسان ( كانت بينه وبين أخيه شحناء ) بفتح المعجمة والمد أي عداوة ( فيقال أنظروا ) بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الظاء المعجمة قال البيضاوي يعني يقول الله للملائكة النازلة بهدايا المغفرة أخروا وأمهلوا ( هذين ) أتى باسم الإشارة بدل الضمير لمزيد التنفير والتعبير يعني لا تعطوا منها أنصباء رجلين بينهما عداوة ( حتى ) ترتفع و ( يصطلحا ) ولو بمراسلة عند البعد
وقال الطيبي لا بد هنا من تقدير من يخاطب بقوله أنظروا كأنه تعالى لما غفر للناس سواهما قيل ( أنظروا هذين حتى يصطلحا ) وكرر للتأكيد
وقال القرطبي المقصود من الحديث التحذير من الإصرار على العداوة وإدامة الهجر قال ابن رسلان ويظهر أنه لو صالح أحدهما الآخر فلم يقبل غفر للمصالح
قال أبو داود إذا كان الهجر لله فليس من هذا فإن النبي هجر بعض نسائه أربعين يوما وابن عمر هجر ابنا له حتى مات
قال ابن عبد البر فيه أن الشحناء من الذنوب العظام وإن لم تذكر في الكبائر ألا ترى أنه استثنى غفرانها وخصها بذلك وأن ذنوب العباد إذا وقع بينهم المغفرة والتجاوز سقطت المطالبة بها من الله لقوله حتى يصطلحا فإذا اصطلحا غفر لهما ذلك وغيره من صغائر ذنوبهما انتهى
وأخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وتابعه عبد العزيز الدراوردي عن سهيل لكن قال إلا المتهاجرين بالتثنية أو الجمع كما في مسلم أيضا
وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من طريق مالك وغيره ولم يخرجه البخاري ووهم من عزاه له
( مالك عن مسلم بن أبي مريم ) واسمه يسار المدني مولى الأنصار تابعي صغير ثقة ( عن أبي صالح ) ذكوان ( السمان ) بائع السمن ( عن أبي هريرة أنه قال ) قال ابن عبد البر كذا وقفه يحيى وجمهور الرواة ومثله لا يقال بالرأي فهو توقيف بلا شك وقد رواه ابن وهب عن مالك وهو أجل أصحابه فصرح برفعه فقال عن رسول الله قال ( تعرض أعمال الناس ) الظاهر أنه أريد المكلفين منهم بقرينة ترتيبه المغفرة على العرض وغير المكلف لا ذنب له يغفر ( كل جمعة مرتين ) قال البيضاوي أراد بالجمعة الأسبوع فعبر عن الشيء بآخره وما يتم به ويوجد عنده والمعروض عليه هو الله تعالى أو ملك
____________________
(4/335)
يوكله الله على جميع صحف الأعمال وضبطها انتهى
وصرح في رواية الطبراني من حديث أسامة بأن العرض على الله وليس المراد بالجمعة يومها لمنافاته لقوله ( يوم الإثنين ويوم الخميس ) وقال النووي هذا العرض قد يكون بنقل الأعمال من صحائف الحفظة إلى محل آخر ولعله اللوح المحفوظ كما قال تعالى { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } سورة الجاثية الآية 29 قال الحسن الخزنة تستنسخ من الحفظة وقد يكون العرض في هذين اليومين ليباهي سبحانه بصالح أعمال بني آدم الملائكة كما يباهيهم بأهل عرفة وقد يكون لتعلم الملائكة المقبول من الأعمال من المردود كما جاء إن الملائكة تصعد بصحائف الأعمال لتعرضها على الله فيقول ضعوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما علمنا إلا خيرا فيقول إنه كان لغيري ولا أقبل من العمل إلا ما ابتغي به وجهي ( فيغفر لكل عبد مؤمن ) ذنوبه المعروضة عليه ( إلا عبدا ) بالنصب لأنه استثناء من كلام موجب وفي رواية عبد بالرفع وتقديره فلا يحرم أحد من الغفران إلا عبد ومنه فشربوا منه إلا قليل بالرفع قاله الطيبي
( كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال اتركوا هذين حتى يفيئا ) بفتح الياء وكسر الفاء أي يرجعا عما هما عليه من التقاطع والتباغض إلى الصلح وأتى باسم الإشارة بدل الضمير لمزيد التعيير والتنفير ( أو ) قال ( أركوا ) بفتح الهمزة وسكون الراء وضم الكاف أي أخروا ( هذين حتى يفيئا ) شك الراوي يقال أركيت الشيء أخرته ولا يعارض هذا الحديث ما صح مرفوعا إن الله تعالى يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل قال الوالي العراقي لاحتمال عرض الأعمال عليه تعالى كل يوم ثم تعرض عليه كل اثنين وخميس ثم تعرض عليه أعمال السنة في شعبان فتعرض عرضا بعد عرض ولكل عرض حكمة يستأثر بها مع أنه لا تخفى عليه من أعمالهم خافية أو يطلع عليها من شاء من خلقه ويحتمل أنها تعرض في اليوم تفصيلا وفي الجمعة إجمالا أو عكسه انتهى
وهذا الحديث رواه مسلم حدثنا أبو الطاهر وعمرو بن سوار قالا أخبرنا ابن وهب قال أنبأنا مالك فذكره مرفوعا به وتابعه سفيان عن مسلم بن أبي مريم مرفوعا نحوه عند مسلم أيضا ولم يخرجه البخاري
14 ما جاء في لبس الثياب للجمال بها ( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي مولاهم المدني ( عن جابر بن عبد الله الأنصاري ) الصحابي ابن الصحابي ( أنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني أنمار ) بفتح الهمزة
____________________
(4/336)
وسكون النون فميم فألف فراء بناحية نجد في سنة ثلاث من الهجرة وهي غزوة غطفان وتعرف بذي أمر بفتح الهمزة والميم وسببها أن جمعا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فلما سمعوا بذلك هربوا في رؤوس الجبال فرقا ممن نصر بالرعب فرجع ولم يلق حربا ( قال جابر فبينا ) بلا ميم ( أنا نازل تحت شجرة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أقبل ( فقلت يا رسول الله هلم ) أي أقبل ( إلى الظل ) وكان من عادة الصحابة إذا رأوا شجرة ظليلة تركوها له صلى الله عليه وسلم ( قال فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ) عن دابته تحت ظل الشجرة ( فقمت إلى غرارة ) بكسر الغين المعجمة شبه العدل وجمعها غرائر ( لنا فالتمست ) طلبت ( فيها شيئا ) يؤكل أقدمه له صلى الله عليه وسلم ( فوجدت فيها جرو ) بكسر الجيم على الأفصح وضمها لغة ( قثاء ) بكسر القاف أكثر من ضمها فمثلثة ثقيلة ومد اسم لما يقول له الناس الخيار والعجور والفقوس وبعضهم يطلقه على نوع يشبه الخيار قال الباجي هي الصحيحة وقيل المستطيلة وقيل الصغيرة وقال أبو عبيد الجرو صغار القثاء والرمان ( فكسرته ثم قربته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من أين لكم هذا فقلت خرجنا به يا رسول الله من المدينة ) قال جابر ( وعندنا صاحب لنا ) لم يسم ( نجهزه يذهب يرعى ظهرنا ) أي دوابنا سميت بذلك لكونها يركب على ظهورها أو لكونها يستظهر بها ويستعان على السفر
( قال ) جابر ( فجهزته ثم أدبر يذهب في الظهر ) يرعاه ( وعليه بردان له ) بضم الموحدة تثنية برد ثوب مخطط أكسية يلتحف بها الواحدة بهاء وجمعه أبراد وأبرد وبرود ( قد خلقا ) بفتح المعجمة واللام أي بليا ( قال فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال أما ) بالفتح وخفة الميم ( له ثوبان غير هذين ) البردين الخلقين ( فقلت بلى يا رسول الله له ثوبان في العيبة ) بفتح العين المهملة وسكون التحتية وموحدة مستودع الثياب ( كسوته إياهما قال فادعه فمره فليلبسهما ) بفتح الموحدة قال فدعوته فلبسهما ( ثم ولى يذهب قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله ) يلبس الخلقين مع تيسر الجديدين ووجودهما عنده ( ضرب الله عنقه أليس هذا خيرا له ) أنكر عليه بذاذته لما يؤدي إلى ذلته وأما قوله صلى الله عليه وسلم البذاذة من الإيمان رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم فمعناه إن قصد بها تواضعا وزهدا وكف نفس عن
____________________
(4/337)
فخر وتكبر لا إظهار فقر وصيانة مال فالمراد به إثبات التواضع للمؤمن كما ورد المؤمن متواضع وليس بذليل ( قال فسمعه الرجل ) يقول ضرب الله عنقه قال الباجي وهي كلمة تقولها العرب عند إنكار أمر ولا تريد بها الدعاء على من يقال له ذلك ولكن لما تيقن الرجل وقوع ما يقوله صلى الله عليه وسلم سأل ( فقال يا رسول الله في سبيل الله ) أي الجهاد ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله قال ) جابر ( فقتل الرجل في سبيل الله ) وهذا من عظيم الآيات
( مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال إني لأحب أن أنظر إلى القارىء ) أي العالم ( أبيض الثياب ) أي أستحب لأهل العلم حسن الزي والتجمل في أعين الناس قاله الباجي
( مالك عن أيوب بن أبي تميمة ) كيسان السختياني البصري ( عن محمد بن سيرين ) الأنصاري مولاهم البصري ( قال قال عمر بن الخطاب إذا وسع الله عليكم ) الرزق ( فأوسعوا على أنفسكم ) لأن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده
وروى أبو نعيم وابن لال وغيرهما عن ابن عمر مرفوعا أن المؤمن أخذ عن الله أدبا حسنا إذا وسع عليه وسع على نفسه ( جمع رجل عليه ثيابه ) خبر أريد به الأمر يعني ليجمع قاله ابن بطال
وقال ابن المنير الصحيح أنه كلام في معنى الشرط كأنه قال إن جمع رجل عليه ثيابه فحسن وهذا قطعة من حديث رواه البخاري من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الثوب الواحد فقال أوكلكم يجد ثوبين ثم سأل رجل عمر فقال إذا وسع الله فأوسعوا جمع رجل عليه ثيابه صلى رجل في إزار ورداء في إزار وقميص في إزار وقباء في سراويل ورداء في تبان وقميص وأحسبه قال في تبان ورداء
وأخرجه ابن حبان من طريق إسماعيل بن علية عن أيوب فأدمج الموقوف في المرفوع ولم يذكر عمر والأول أصح لا سيما وقد وافق حماد بن زيد عليه كذلك حماد بن سلمة فرواه عن أيوب وهشام وحبيب وعاصم كلهم عن ابن سيرين كذلك أخرجه ابن حبان أيضا وقد أخرج مسلم حديث ابن علية فاقتصر على المتفق على رفعه وحذف الباقي وهو من حسن تصرفه
____________________
(4/338)
15 ما جاء في لبس الثياب المصبغة والذهب ( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يلبس ) بفتح الباء ( الثوب المصبوغ بالمشق ) بكسر الميم وفتحها وإسكان الشين المعجمة وقاف أي المغرة ( والمصبوغ بالزعفران ) عملا بما رواه أعني ابن عمر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالورس والزعفران ثيابه حتى عمامته أخرجه أبو داود ورواه أيضا عن أم سلمة ولا يعارضه حديث الصحيحين عن أنس نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل وفي أن النهي للونه أو لرائحته تردد لأنه للكراهة وفعله لبيان الجواز أو النهي محمول على تزعفر الجسد لا الثوب أو على المحرم بحج أو عمرة لأنه من الطيب وقد نهي المحرم عنه
( مالك وأنا أكره ) تنزيها ( أن يلبس الغلمان ) غير البالغين ( شيئا من الذهب لأنه بلغني ) وأخرجه الشيخان عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تختم الذهب ) أي لبس خاتم الذهب للرجال لقوله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير هذان حرامان على رجال أمتي حل لإناثهم ( وأنا أكرهه للرجل الكبير ) البالغ ( منهم ) كراهة تحريم ( والصغير ) تنزيها
( مالك في الملاحف ) جمع ملحفة بكسر الميم الملاءة التي يلتحف بها ( المعصفرة ) المصبوغة بالعصفر ( في البيوت للرجال وفي الأفنية ) أي أفنية الدور ( قال لا أعلم من ذلك شيئا حراما و ) لكن ( غير ذلك من اللباس ) الذي لأعصفر فيه أحب إلي ومقتضاه الإباحة في البيوت والأفنية والكراهة في المحافل والأسواق ونحوها
وروي ذلك عنه نصا وعنه الجواز مطلقا والكراهة مطلقا وهي المشهورة ففي المدونة كره مالك الثوب المعصفر المقدم للرجال في غير الإحرام والمقدم بضم الميم وسكون الفاء وفتح الدال المهملة القوي الصبغ الذي رد في العصفر مرة بعد أخرى
قال في التوضيح وأما المعصفر غير المقدم والمزعفر فيجوز لبسهما في غير الإحرام نص على الأول في المدونة وعلى الثاني غيرها قال مالك لا بأس بالمزعفر لغير الإحرام وكنت ألبسه
____________________
(4/339)
16 ما جاء في لبس الخز بالخاء والزاي المنقوطين اسم دابة ثم أطلق على الثوب المتخذ من وبرها والجمع خزوز بزنة فلوس والمراد ما سداه حرير ولحمته صوف مثلا
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كست ) ابن أختها أسماء ( عبد الله بن الزبير ) الصحابي ابن الصحابي الحواري ( مطرف خز ) بكسر الميم وسكون الطاء المهملة وفتح الراء وفاء ثوب من خز له أعلام ويقال ثوب مربع من خز ( كانت عائشة تلبسه ) فدل ذلك على إباحة لبس الخز للرجال
وروي عن مالك وصححه في القبس وذكر عبد الملك بن حبيب جوازه عن خمسة وعشرين صحابيا وخمسة عشر تابعيا وقيل مكروه
قال ابن رشد وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب وقيل يحرم لبسه
17 ما يكره للنساء لبسه من الثياب ( مالك عن علقمة بن أبي علقمة ) بلال المدني مولى عائشة الثقة العلامة ( عن أمه ) مرجانة مولاة عائشة مقبولة تكنى أم علقمة ( أنها قالت دخلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق على ) عمتها ( عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعلى حفصة المذكورة خمار ) بكسر المعجمة ثوب تغطي به المرأة رأسها ( رقيق فشقته عائشة ) حتى لا تعود حفصة للبسه ( وكستها خمارا كثيفا ) غليظا لأنه أستر
( مالك عن مسلم بن أبي مريم ) يسار المدني ( عن أبي صالح ) ذكوان السمان ( عن أبي هريرة أنه قال ) كذا وقفه يحيى ورواة الموطأ إلا عبد الله بن نافع فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن هذا لا يمكن أنه من رأي أبي هريرة لأنه لا يدرك بالرأي ومحال أن يقول أبو هريرة من رأيه لا يدخلن الجنة قاله ابن عبد البر وقد رواه مسلم من طريق جرير عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( نساء ) مبتدأ سائغ للوصف بقوله ( كاسيات ) قال ابن عبد البر أراد اللواتي يلبسن من الثياب
____________________
(4/340)
الشيء الخفيف الذي يصف ولا يستر فهن ( كاسيات ) بالاسم ( عاريات ) في الحقيقة
وقال المازري فيه ثلاث أوجه كاسيات من نعم الله عاريات من الشكر أو كاسيات لبعض أجسادهن عاريات لبعضه إظهار للجمال أو لابسات ثيابا رقاقا تصف ما تحتها ( مائلات ) عن الحق ( مميلات ) لأزواجهن عنه
وقال المازري مائلات عن طاعة الله وما يلزمهن من حفظ فروجهن مميلات غيرهن إلى مثل فعلهن وقيل مائلات متبخترات في مشيهن مميلات أكتافهن وأعطافهن وقيل مائلات يمشطن المشطة الميلاء وهي مشطة النعايا مميلات غيرهن إلى تلك المشطة قال عياض استشهاد ابن الإنباري على المشطة الميلاء بقول امرىء القيس غدائره متشزرات إلى العلى
يدل على أن المشطة ضفائر الغدائر وشدها فوق الرأس فتأتي كأسنمة البخت وهذا يدل على أن التشبيه بأسنمة البخت إنما هو بارتفاع الغدائر فوق رؤوسهن وجمع العقائص هناك وتكثيرها بما تضفر به حتى تميل إلى ناحية من جانب الرأس كما يميل السنام
قال ابن دريد ناقة ميلاء إذا مال سنامها إلى أحد شقيها وقد يكون معنى مائلات منحطات للرجال مميلات لهم بما يبدين من زينتهن والصواب الموافق للغة ما جاءت به الرواية مائلات خلافا لقول الكناني صوابه ماثلات بمثلثة أي قائمات انتهى ملخصا
( لا يدخلن الجنة ) مع السابقين أو بغير عذاب قال أبو عمر هذا عندي محمول على المشيئة وأن هذا جزاؤهن فإن عفا الله عنهن فهو أهل العفو والمغفرة { لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } سورة النساء الآية 48 وزاد في رواية مسلم رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة
( ولا يجدن ريحها وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة سنة ) وفي مسلم من الطريق المذكورة مسيرة كذا وكذا فتفسر برواية الموطأ هذه وأول الحديث في مسلم صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها ونساء الخ
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري شيخ الإمام روى عنه هنا بواسطة وهو مرسل وصله البخاري من طريق معمر عن الزهري عن هند بنت الحارث عن أم سلمة ومن طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن سعيد عن الزهري عن امرأة عن أم سلمة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ) أي انتبه من نومه ( من الليل ) وفي البخاري استيقظ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ( فنظر في أفق ) بضم الهمزة والفاء أي ناحية ( السماء فقال ) زاد البخاري سبحان الله ( ماذا ) استفهام متضمن
____________________
(4/341)
لمعنى التعجب والتعظيم ويحتمل أن يكون ما نكرة موصوفة ( فتح الليلة من الخزائن ) قال ابن عبد البر يريد من أرزاق العباد مما فتحه الله على هذه الأمة من ديار الكفر والاتساع في المال
وقال الباجي يحتمل أن يريد أنه فتح من خزائنها تلك الليلة ما قدر الله أن لا ينزل إلى الأرض شيئا منها إلا بعد فتح تلك الخزائن ويحتمل أنه فتح خزائن الفتن فوقع بعض ما كان فيها بمعنى أنه قد وجد إلى موضع لم يصل إليه قبل ذلك
( وماذا وقع من الفتن ) يحتمل أنه ما يفتن من زهرة الدنيا ويحتمل الفتن التي حدثت من سفك الدماء وفساد أحوال المسلمين انتهى
وقال الداودي الثاني هو الأول والشيء قد يعطف على نفسه تأكيدا لأن ما يفتح من الخزائن يكون سببا للفتن
قال الحافظ وكأنه فهم أن المراد بالخزائن خزائن فارس والروم وغيرهما مما فتح على الصحابة لكن المغايرة بين الخزائن والفتن واضح لأنهما غير متلازمين فكم من نائل من تلك الخزائن سالم من الفتن
وقال الكرماني عبر عن الرحمة بالخزائن لقوله تعالى { خزائن رحمة ربي } سورة الإسراء الآية 100 وعن العذاب بالفتن لأنها أسبابه انتهى
قال شيخنا علامة الدنيا ما المانع من بقاء الخزائن على ظاهرها حيث أريد بها خزائن فارس والروم وغيرهما والآية لا تنافيه وبتقدير جعل الآية كناية عن الرحمة لخصوصية اقتضت ذلك كما يعلم من التفسير لا تنافيه أيضا وكذا بقاء الفتن على ظاهرها حيث أريد بها ما وقع من الفتن قال اللهم إلا أن يقال لما كان المقام مقام ترغيب في الصبر على قلة المال لفقرائهم حملت الخزائن على الرحمة بمعنى الأرزاق الحاصلة فيها ومقام تخويف حملت الفتن على العذاب وبعده لا يخفى ( كم من ) نفس ( كاسية ) لابسة ( في الدنيا ) أثوابا رقيقة لا تمنع إدراك البشرة أو نفيسه ( عارية ) بخفة الياء والجر والرفع أي وهي عارية ( يوم القيامة ) أي في الحشر إذا كسي أهل الصلاح فلا يرد أن الناس كلهم يحشرون حفاة عراة
قال ابن عبد البر ويحتمل عارية من الحسنات ( أيقظوا ) بفتح الهمزة أي نبهوا ( صواحب الحجر ) بضم الحاء وفتح الجيم جمع حجرة وهي منازل أزواجه وخصهن بالإيقاظ لأنهن الحاضرات حينئذ أو من باب ابدأ بنفسك ثم بمن تعول وأراد أن يوقظهن للصلاة في تلك الليلة رجاء بركتها ولئلا يكن من الغافلين فيها ويعتمدن على كونهن أزواجه صلى الله عليه وسلم وفيه إيقاظ الرجل أهله بالليل للعبادة لا سيما عند أمر يحدث والإسراع إلى الصلاة عند خشية الشر كما قال تعالى { واستعينوا بالصبر والصلاة } سورة البقرة الآية 45 وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وأمر من رأى في منامه ما يكره أن يصلي
____________________
(4/342)
18 ما جاء في إسبال الرجل ثوبه ( مالك عن عبد الله بن دينار ) العدوي مولاهم أبي عبد الرحمن المدني ( عن ) مولاه ( عبد الله بن عمر ) رضي الله عنهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذي يجر ثوبه ) إزارا أو رداءا أو قميصا أو سراويل أو غيرها مما يسمى ثوبا حال كونه جره ( خيلاء ) بضم الخاء المعجمة وفتح التحتية كبرا وعجبا ( لا ينظر الله إليه يوم القيامة ) نظر رحمة أي لا يرحمه لكبره وعجبه قال أبو عمر مفهوم خيلاء أن الجار لغيرها لا يلحقه الوعيد إلا أن جر القميص أو غيره من الثياب مذموم على كل حال
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة ) عبد الرحمن بن صخر أو عمرو بن عامر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ينظر الله ) أي لا يرحم فالنظر نسبته إلى الله مجاز وإلى المخلوق كناية لأن من اعتنى بالشخص التفت إليه ثم كثر حتى صار عبارة عن الإحسان وإن لم يكن هناك نظر فإذا نسب لمن لا يجوز عليه حقيقته وهو تقليب الحدقة والله منزه عن ذلك فهو بمعنى الإحسان مجاز عما وقع في حق غيره كناية قاله في الكواكب تبعا للكشاف
وقال الحافظ الزين العراقي عبر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر لأن من نظر إلى متواضع رحمه ومن نظر إلى متكبر مقته فالرحمة والمقت مسببان عن النظر ( يوم القيامة ) إشارة إلى أنه محل الرحمة الدائمة خلاف رحمة الدنيا فقد تنقطع بما يتجدد من الحوادث ( إلى من يجر إزاره بطرا ) بموحدة ومهملة مفتوحتين قال عياض جاءت الرواية بفتح الطاء على المصدر وبكسرها على الحال من فاعل يجر أي تكبرا وطغيانا وأصل البطر الطغيان عند النعمة واستعمل بمعنى الكبر
وقال الراغب أصل البطر دهش يعتري المرء عند هجوم النعمة عن القيام بحقها قال ابن جرير إنما ورد الحديث بلفظ الإزار لأن أكثر الناس في العهد النبوي كانوا يلبسون الإزار والأردية فلما لبس الناس القمص والدراريع كان حكمهما حكم الإزار في ذلك
وعقبه ابن بطال بأن هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب إنه يشمل جميع ذلك يعني فلا داعية للقياس مع وجود النص وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به
( مالك عن نافع وعبد الله بن دينار ) وكلاهما مولى ابن عمر ( وزيد بن أسلم ) ابن مولى أبيه
____________________
(4/343)
( كلهم يخبره ) أي الثلاثة يخبرون مالكا ( عن عبد الله بن عمر ) رضي الله عنهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ينظر الله ) نظر رحمة ( يوم القيامة إلى من يجر ثوبه خيلاء ) بضم الخاء وقد قيل بكسرها حكاه القرطبي أي عجبا وتكبرا في غير حالة القتال كما في حديث آخر
وفي الصحيح من طريق سالم عن أبيه زيادة فقال أبو بكر يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده فقال إنك لست ممن يفعله خيلاء وكذا إذا كان سببه الإسراع في المشي لا يدخل في الوعيد لما في الصحيح عن أبي بكرة نفيع خسفت الشمس ونحن عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام يجر ثوبه حتى أتى المسجد فصلى بهم ركعتين فجلي عنها ولفظ ثوبه شامل لكل ما يلبس حتى العمامة
وقد روى أبو داود والنسائي وابن ماجه عن سالم عن أبيه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر منها شيئا خيلاء الحديث فبين في هذه الرواية أن الحكم ليس خاصا بالإزار وإن جاء في أكثر طرق الأحاديث بلفظ الإزار فإنما هو لكونه أكثر لباسهم حينئذ كما مر لكن في تصوير جر العمامة نظر إذ لا يتأتى جرها على الأرض كالقميص والإزار إلا أن يكون المراد ما جرت به عادة العرب من إرخاء العذبات لأن جر كل شيء بحسبه فمهما زاد على العادة في ذلك كان من الإسبال وهل يدخل في الزجر عن جر الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه محل نظر قال الحافظ والذي يظهر أن من أطالها حتى خرج عن العادة كما يفعله بعض الحجازيين وقال شيخه الزين العراقي ما مس الأرض منها لا شك في تحريمه بل لو قيل بتحريم ما زاد على المعتاد لم يبعد
وقال ابن القيم هذه الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج وعمائم كالأبراج لم يلبسها صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه وهي مخالفة لسننه وفي جوازها نظر لأنها من جنس الخيلاء
وفي المدخل لا يخفى على ذي بصيرة أن كم بعض من ينسب إلى العلم اليوم فيه إضاعة المال المنهي عنها لأنه قد يفضل عن ذلك الكم ثوب لغيره انتهى وهو حسن
قال في المواهب لكن حدث للناس اصطلاح بتطويلها وصار لكل نوع من الناس شعار يعرفون به ومهما كان من ذلك على سبيل الخيلاء فلا شك في تحريمه وما كان على طريق العادة فلا تحريم فيه ما لم يصل إلى جر الذيل الممنوع منه
ونقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة للناس وعلى المعتاد في اللباس لمثل لابسه في الطول والسعة انتهى
وعموم الحديث يشمل النساء لكنه مخصوص بغيرهن لحديث أم سلمة الآتي
وقد زاده الترمذي وصححه النسائي متصلا بهذا الحديث من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر فقالت أم سلمة فكيف تصنع النساء بذيولهن الحديث
وأخرجه البخاري حديث الباب عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه جماعة في مسلم وغيره
____________________
(4/344)
( مالك عن العلاء بن عبد الرحمن ) الجهني ( عن أبيه ) عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة ( أنه قال سألت أبا سعيد ) سعد بن مالك بن سنان ( الخدري ) الصحابي ابن الصحابي ( عن الإزار قال أنا أخبرك بعلم ) أي نص لا اجتهاد وفي رواية على الخبير سقطت ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إزرة ) بكسر الهمزة الحالة وهيئة الائتزار كما في النهاية يعني الحالة المرضية من ( المؤمن ) الحسنة في نظر الشرع أن يكون إزاره ( إلى أنصاف ساقيه ) فقط وجمع أنصاف كراهة توالي تثنيتين كقوله مثل رؤوس الكبشين وذلك علامة التواضع والاقتداء بالمصطفى
ففي الترمذي عن سلمة كان عثمان يأتزر إلى أنصاف ساقيه وقال كانت إزرة صاحبي يعني النبي صلى الله عليه وسلم وفي النسائي والترمذي عن عبيد المحاربي أنه صلى الله عليه وسلم قال له ارفع إزارك أما لك في أسوة قال فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه ولكن ( لا جناح ) لا حرج ( عليه فيما بينه وبين الكعبين ) فيجوز إسباله إلى الكعبين والأول مستحب فله حالتان ( ما أسفل ) قال الحافظ ما موصول وبعض صلته محذوف وهو كان وأسفل خبره فهو منصوب ويجوز الرفع أي ما هو أسفل أفعل تفضيل ويحتمل أنه فعل ماض ويجوز أن ما نكرة موصوفة بأسفل ( من ذلك ) أي الكعبين زاد في حديث أبي هريرة من الإزار ( ففي النار ) دخلت الفاء في الخبر بتضمين ما معنى الشرط أي ما دون الكعبين من قدم صاحب الإزار المسبل فهو في النار ( ما أسفل من ذلك ففي النار ) أعادها للتأكيد
وفي رواية أنه قالها ثلاث مرات قال الخطابي يريد أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار فكنى بالثوب عن بدن لابسه ومعناه أن الذي دون الكعبين من القدم يعذب في النار عقوبة له وحاصله أنه من تسمية الشيء باسم ما جاوره أو حل فيه وتكون من بيانية ويحتمل أن تكون سببية والمراد الشخص نفسه أو المعنى ما أسفل من الكعبين الذي يسامت الإزار في النار أو التقدير لابس ما أسفل الخ
أو تقدير أن فعل ذلك محسوب في أفعال أهل النار أو فيه تقديم وتأخير أي ما أسفل من الإزار من الكعبين في النار وكل هذا استبعاد ممن قاله لوقوع الإزار حقيقة في النار وأصله ما رواه عبد الرزاق أن نافعا سئل عن ذلك فقال وما ذنب الثياب بل هو من القدمين
لكن في الطبراني عن ابن عمر قال رآني النبي صلى الله عليه وسلم أسبلت إزاري فقال يا ابن عمر كل شيء لمس الأرض من الثياب في النار وعنده أيضا بسند حسن عن ابن مسعود أنه رأى أعرابيا يصلي قد أسبل فقال المسبل في الصلاة ليس من الله من حل ولا حرام ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي فعلى هذا لا مانع من حمل الحديث على ظاهره فيكون من وادي { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } سورة الأنبياء الآية 98 أو يكون من الوعيد لما وقعت به المعصية إشارة إلى أن الذي يتعاطى المعصية أحق بذلك اه
____________________
(4/345)
( لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا ) بفتح الطاء مصدر وكسرها حال من فاعل جر روايتان كما مر وهذا الحديث رواه أصحاب السنن من طريق مالك وغيره به وأخرجوه أيضا بنحوه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر وإسناده صحيح وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار
19 ما جاء في إسبال المرأة ثوبها أشار بهذه الترجمة إلى أن عموم الأحاديث التي ساقها قبل الآن من صيغة عموم فيشمل النساء ولأنهن شقائق الرجال في غالب الأحكام مخصوص بالرجال
( مالك عن أبي بكر بن نافع ) العدوي المدني صدوق يقال اسمه عمر ( عن أبيه نافع مولى ابن عمر ) شيخ الإمام روى عنه هنا بواسطة ( عن صفية بنت أبي عبيد ) بضم العين ابن مسعود الثقفية زوج ابن عمر قيل لها إدراك وأنكره الدارقطني وقال العجلي ثقة فهي تابعية كبيرة ( أنها أخبرته ) أي نافعا ( عن أم سلمة ) هند بنت أبي أمية ( زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت حين ذكر الإزار ) أي التحذير من جره وفي النسائي والترمذي وصححه من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء فقالت أم سلمة ( فالمرأة يا رسول الله ) كيف تصنع وفي رواية أيوب المذكورة فكيف تصنع النساء بذيولهن ( قال ترخيه شبرا ) فعموم الوعيد مخصوص بغير النساء
( قالت أم سلمة إذا ينكشف ) بالرفع لانتفاء شرط النصب وهو قصد الجزاء بما بعد إذا ( عنها ) ولأيوب إذا تنكشف أقدامهن ( قال فذراعا ) ترخيه ( لا تزد عليه ) إذ به يحصل أمن الانكشاف وحاصله أن لها حالة استحباب وهو قدر شبر وحالة جواز بقدر ذراع
قال الحافظ العراقي هل ابتداء الذراع من الحد الممنوع منه الرجال وهو ما أسفل من الكعبين أو من الحد المستحب للرجال وهو أنصاف الساقين أو حده من أول ما يمس الأرض الظاهر أن المراد الثالث بدليل رواية أبي داود وابن ماجه والنسائي واللفظ له عن أم سلمة قالت سئل صلى الله عليه وسلم تجر المرأة من ذيلها قال شبرا قالت إذا ينكشف عنها قال فذراعا لا تزيد عليه فظاهره أن لها أن تجر على الأرض منه ذراعا أي لأن الجر السحب وإنما يكون على الأرض
قال والظاهر أن المراد بالذراع ذراع اليد وهو شبران لما في ابن ماجه عن ابن عمر قال رخص صلى الله عليه وسلم
____________________
(4/346)
لأمهات المؤمنين شبرا ثم استزدنه فزادهن شبرا فدل على أن الذراع المأذون فيه شبران انتهى لأن الروايات تفسر بعضها وإنما جاز لها ذلك لأن المرأة كلها عورة إلا وجهها وكفيها وهذا الحديث رواه أبو داود عن القعنبي عن مالك به وله طرق عند أصحاب السنن
20 ما جاء في الانتعال ( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يمشين ) بنون التأكيد الثقيلة وللقعنبي لا يمشي ( أحدكم في نعل واحدة ) لما في ذلك من المثلة ومفارقة الوقار مشابهة زي الشيطان كالأكل بالشمال قاله الباجي زاد غيره ولمشقة المشي حينئذ وخوف العثار ( لينعلهما ) بفتح أوله وضمه من نعل وأنعل واقتصر النووي على الضم ورده الزين العراقي بأن أهل اللغة قالوا نعل بفتح العين وحكي كسرها وتعقب بأنهم قالوا أيضا نعل رجله ألبسها نعلا ( جميعا أو ليحفهما ) بالحاء المهملة من الإحفاء أي ليجردهما ( جميعا ) قال ابن عبد البر والضميران للقدمين وإن لم يتقدم لهما ذكر ولو أراد النعلين لقال لينتعلهما أو ليحتف منهما انتهى
وقس على ذلك كل لباس شفع كالخفين وإخراج اليد من الكم والتردي على أحد المنكبين ونحو ذلك وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود عن القعنبي ومسلم عن يحيى كلهم عن مالك به
( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا انتعل أحدكم ) أي لبس نعله ( فليبدأ ) استحبابا ( باليمين ) أي بالجانب اليمين وفي رواية باليمنى أي بالنعل اليمنى لأن النعل مؤنثة
( وإذا نزع ) وفي رواية انتزع ( فليبدأ بالشمال ) أي ينزعها لأن اللبس كرامة للبدن إذ هو وقاية من الآفات واليمنى أحق بالإكرام فبدىء بها في اللبس وأخرت في النزع ليكون الإكرام لها أدوم وصيانتها وحفظها أكثر
قال الباجي التيامن مشروع في ابتداء الأعمال والتياسر مشروع في تركها
( ولتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تنزع ) ببنائه كتنعل للمفعول وأولهما وآخرهما نصب خبر تكن أو على الحال والخبر تنعل وتنزع بفوقيتين وتحتانيتين مذكرين باعتبار النعل والخلع وزعم ابن وضاح أن قوله ولتكن الخ مدرج قاله الحافظ أي والأصل أنه مرفوع لأن الإدراج ليس بالتشهي وليس
____________________
(4/347)
هذا تأكيدا للاستغناء عنه بالأول كما زعم بل له فائدة هي أن الأمر بتقديم اليمنى أولا لا يقتضي تأخر نزعها لاحتمال نزعهما معا
قال ابن عبد البر فمن بدأ بالانتعال باليسرى أساء بمخالفة السنة ولكن لا يحرم عليه لبس نعله
وقال غيره ينبغي أن ينزع الفعل من اليسرى ثم يبدأ باليمنى
قال الحافظ ويمكن أن مراد ابن عبد البر ما إذا لبسهما معا فبدأ باليسرى فلا يشرع له نزعهما ثم لبسهما على الترتيب المشروع لفوات محله
قال بعضهم وفيه تأمل لأن من فعل ذلك فعليه نزعهما ويستأنف لبسهما على ما أمر به فكأنه ألغى ما وقع منه أولا
ونقل عياض وغيره الإجماع على أن الأمر فيه للاستحباب وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود والقعنبي عن مالك به
( مالك عن عمه أبي سهيل ) بضم السين واسمه نافع ( ابن مالك عن أبيه ) مالك عن أبي عامر الأصبحي ( عن كعب الأحبار ) أي ملجأ العلماء الحميري ( أن رجلا ) لم يسم ( نزع نعليه فقال ) كعب ( لم خلعت نعليك لعلك تأولت هذه الآية اخلع نعليك إنك بالواد المقدس ) المطهر أو المبارك الذي من الله به عليك فطأه لتصيب قدميك بركته ( طوى ) بدل أو عطف بيان بالتنوين وتركه مصروف باعتبار المكان وغيره مصروف للتأنيث باعتبار البقعة مع العلمية
( ثم قال كعب للرجل أتدري ما كانت نعلا موسى قال مالك لا أدري ما أجابه الرجل فقال كعب كانتا من جلد حمار ميت ) فهذا سبب أمره بخلعهما فأخذ اليهود منه لزوم خلع النعلين في الصلاة ليس بصحيح ثم يحتمل أنها كانت مدبوغة فترك ذكر الدباغ للعلم به ولجري العادة بدباغها قبل لبسها ويحتمل أن شرع موسى استعمالها بلا دباغ وهذا من الإسرائيليات لأن كعبا من أحبارها وقد روي مرفوعا كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار ميت أخرجه الترمذي من طريق حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود رفعه وصححه الحاكم
قال المنذري ظنا منه أن حميدا الأعرج هو ابن قيس المكي وإنما هو ابن علي وقيل ابن عمار أحد المتروكين
وقال الترمذي سألت عنه البخاري فقال حميد هذا منكر الحديث
قال الحاكم هذا أصل كبير في التصوف
قال ابن العربي إنما جعل ثيابه كلها صوفا لأنه كان بمحل لم يتيسر له فيه سواه فعمل باليسر وترك التكلف والعسر وكان من الاتفاق الحسن أن آتاه الله تلك الفضيلة وهو على تلك اللبسة التي لم يتكلفها
وقال الزين العراقي يحتمل كونه مقصودا للتواضع
____________________
(4/348)
وترك التنعم أو لعدم وجود ما هو أرفع ويحتمل أنه اتفاقي لا عن قصد بل كان يلبس كل ما وجد كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يفعل وكمة بضم الكاف وكسرها وشد الميم قلنسوة صغيرة أو مدورة
21 ما جاء في لبس الثياب ( مالك عن أبي الزاد عن الأعرج عن أبي هريرة ) رضي الله عنه وهذا مما قيل أنه أصح الأسانيد ( أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين ) بكسر اللام وسكون الموحدة ( وعن بيعتين ) بفتح الباء ويجوز كسرها على إرادة الهيئة قاله الحافظ وغيره فمقتضاه أن الرواية بالفتح وإن قال بعضهم الكسر أحسن نظرا للهيئة وأبدل من بيعتين قوله ( عن الملامسة ) بأن يلمس الثوب مطويا أو في ظلمة فيلزم بذلك البيع ولا خيار له إذا رآه اكتفاء بلمسه أو يقول إذا لمسته فقد بعتك اكتفاء بلمسه أو على أنه متى لمسه انعقد البيع ولا خيار
( وعن المنابذة ) مفاعلة زاد في حديث أبي سعيد في الصحيح والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك والمنابذة أن ينبذ الرجل ثوبه وينبذ الآخر ثوبه ويكون ذلك بيعهما من غير نظر للثوب ولا تراض وبين اللبستين بقوله ( وعن أن يحتبي ) بفتح أوله وكسر الموحدة ( الرجل ) أي وعن احتباء الرجل بأن يقعد على أليته وينصب ساقيه ملتفا ( في ثوب واحد ليس على فرجه منه ) أي الثوب ( شيء ) زاد في حديث أبي سعيد بينه وبين السماء لما فيه من الإفاضة به إلى السماء ولأنه إذا لم يكن عليه إلا ثوب واحد ربما تحرك فتبدو عورته فإن كان مستور العورة فلا حرمة
( وعن أن يشتمل الرجل بالثوب الواحد على أحد شقيه ) فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب فيحرم إن انكشف بعض عورته وإلا كره وهذه اللبسة هي المعروفة عند الفقهاء بالصماء لأن يده حينئذ تصير داخل ثوبه فإن أصابه شيء يريد الاحتراس منه والاتقاء بيديه تعذر عليه وإن أخرجها من تحت الثوب انكشفت عورته وبها فسر في حديث أبي سعيد ولفظه والصماء أن يجعل الرجل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب وفسرها اللغويون بأن يشتمل بالثوب حتى يخلل به جسده لا يرفع منه جانبا فلا يبقى ما تخرج منه يده قاله الأصمعي قال ابن قتيبة ولذا سميت صماء لسد المنافذ كلها كالصخرة الصماء لا خرق فيها ولا صدع فيكره على هذا لعجزه عن الاستعانة بيده فيما يعرض له في الصلاة كدفع بعض الهوام وهذا الحديث رواه البخاري عن إسماعيل عن مالك به
____________________
(4/349)
( مالك عن نافع عن ابن عمر ) رضي الله عنهما ( أن ) أباه ( عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء ) بكسر السين المهملة وفتح التحتية وبالراء والمد قال مالك أي حرير وقال الأصمعي ثياب فيها خطوط من حرير أو قز وإنما قيل لها سيراء لسير الخطوط فيها وقيل حرير خالص
قال عياض وابن قرقول ضبطناه على المتقنين حلة سيراء بالإضافة كما يقال ثوب خز وعن بعضهم بالتنوين على الصفة أو البدل قيل وعليه أكثر المحدثين
قال الخطابي يقال حلة سيراء كما يقال ناقة عشراء
قال ابن التين يريد أن عشراء مأخوذ من عشرة أي أكملت الناقة عشرة أشهر فسميت عشراء وكذلك الحلة سميت سيراء لأنها مأخوذة من السيور هذا وجه التشبيه
لكن قال سيبويه لم يأت فعلاء وصفا وقال الخليل ليس في الكلام فعلاء بكسر أوله مع المد سوى سيراء وحولاء وهو الماء الذي يخرج على رأس الولد وعنباء لغة في العنب والمعنى رأى حلة حرير ( تباع عند باب المسجد ) النبوي
ولمسلم عن جرير بن حازم عن نافع عن ابن عمر رأى عمر عطارد التيمي يقيم حلة بالسوق وكان رجلا يغشى الملوك ويصيب منهم ( فقال يا رسول الله لو اشتريت هذه الحلة فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذ قدموا عليك ) لكان حسنا ولو للتمني لا للشرط فلا تحتاج للجزاء
وفي رواية البخاري فلبستها للعيد وللوفد وللنسائي وتجملت بها للوفود والعرب إذا أتوك وإذا خطبت الناس يوم عيد وغيره
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يلبس هذه ) وفي رواية جرير إنما يلبس الحرير ( من لا خلاق ) أي من لاحظ ولا نصيب ( له ) من الخير ( في الآخرة ) وهذا خرج عليه على سبيل التغليظ وإلا فالمؤمن العاصي لا بد من دخوله الجنة فله خلاق في الآخرة كما أن عمومه مخصوص بالرجال لقيام الأدلة على إباحة الحرير للنساء
( ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ) أي من جنس الحلة السيراء ( حلل ) فاعل جاء ( فأعطى عمر بن الخطاب منها حلة ) أي بعث بها إليه كما في رواية البخاري ولمسلم من رواية جرير وبعث إلى أسامة بحلة وأعطى علي بن أبي طالب حلة ( فقال عمر يا رسول الله أكسوتنيها ) بهمزة الاستفهام وفي رواية جرير فجاء عمر بحلته فقال بعثت إلي بهذه ( وقد قلت في حلة عطارد ) بضم المهملة وكسر الراء ودال مهملة ابن حاجب ابن زرارة بن عدي بمهملتين التميمي الدارمي وفد في بني تميم وأسلم وحسن إسلامه وله صحبة ( ما قلت ) إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لم
____________________
(4/350)
أكسكها لتلبسها ) بل لتنتفع بها
وفي رواية للبخاري إنما بعثت إليك لتبيعها أو تكسوها غيرك وفيه دليل على أنه يقال كساه إذا أعطاه كسوة لبسها أم لا
ولمسلم أعطيتكها تبيعها وتصيب بها حاجتك ولأحمد فباعها بألفي درهم لكن يعارضه قوله ( فكساها عمر أخا ) كائنا ( له مشركا ) كائنا ( بمكة ) وعند النسائي أخا له من أمه وسماه ابن الحذاء عثمان بن حكيم ونقله ابن بشكوال قال الدمياطي هو السلمي أخو خولة بنت حكيم بن أمية وهو أخو زيد بن الخطاب لأمه فمن أطلق عليه أنه أخو عمر لأمه لم يصب إنما هو أخو أخيه وتعقب باحتمال أن عمر رضع من أم أخيه زيد فيكون عثمان هذا أخا عمر لأمه من الرضاع وهذا الحديث رواه البخاري في الجمعة عن عبد الله بن يوسف وفي الهبة عن القعنبي ومسلم في اللباس عن يحيى كلهم عن مالك به وتابعه جماعة في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) زيد بن خالد الأنصاري ( أنه قال قال أنس ابن مالك ) عم إسحاق أخو أبيه لأمه ( رأيت عمر بن الخطاب وهو يومئذ أمير المؤمنين وقد رقع ) كنفع أي جعل رقعة مكان القطع ( بين كتفيه برقع ) جمع رقعة وفي نسخة برقاع جمع رقعة أيضا بزنة برمة وبرام ( ثلاث لبد ) بشد الباء ألزق ( بعضها فوق بعض ) لأن قصده الستر لا الفخر وليست الدنيا بشيء عنده وليقتدي به في الزهد فيها
22 ما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم ( مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ) فروخ الفقيه المدني المعروف بربيعة الرأي ( عن أنس بن مالك أنه ) أي ربيعة ( سمعه ) أي أنسا ( يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال الحافظ الأحاديث التي فيها صفته صلى الله عليه وسلم داخلة في قسم المرفوع باتفاق مع أنها ليست قولا له ولا فعلا ولا تقريرا انتهى
ولذا قال الكرماني موضوع الحديث ذاته صلى الله عليه وسلم من حيث أنه رسول الله وحده علم يعرف به أقواله وأحواله وغايته الفوز بسعادة الدارين ( ليس بالطويل البائن ) بموحدة اسم فاعل من بان إذا ظهر على غيره أو فارق من سواه أي المفرط في الطول مع اضطراب القامة ( ولا بالقصير ) أي البائن كما صرح به البراء بن عازب عند مسلم فإذا نفيا عنه فمعناه إنه بينهما
____________________
(4/351)
وفي البخاري عن سعيد بن هلال عن ربيعة عن أنس كان ربعة من القوم زاد البيهقي لكنه إلى الطول أقرب وكذا رواه الذهلي بالذال المعجمة بإسناد حسن عن أبي هريرة كان ربعة وهو إلى الطول أقرب وجمع بين النفيين لتوجه الأول إلى الوصف أي ليس طوله مفرطا ففيه إثبات الطول فاحتيج للثاني وذلك صفته الذاتية فلا يرد أنه كان إذا ماشى الطويل زاد عليه لأنه معجزة حتى لا يتطاول عليه أحد صورة كما لا يتطاول عليه معنى
روى ابن أبي خيثمة عن عائشة لم يكن أحد يماشيه من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله صلى الله عليه وسلم وربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما فإذا فارقاه نسبا إلى الطول ونسب صلى الله عليه وسلم إلى الربعة
ولعبد الله بن أحمد عن علي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالذاهب طولا وفوق الربعة فإذا جاء مع القوم غمرهم بفتح المعجمة والميم أي زاد عليهم في الطول وهل بإحداث الله له طولا حقيقة حينئذ ولا مانع منه أو أن ذلك يرى في أعين الناظرين وجسده باق على أصل خلقته على نحو قوله { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم } سورة الأنفال الآية 44 وهذا هو الظاهر فهو مثل تطور الولي
وذكر رزين وغيره كان إذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين ودليله قول علي إذا جاء مع القوم غمرهم إذ هو شامل للمشي والجلوس فقصر من توقف فيه بأنه لم يره إلا لرزين وللناقلين عنه
( وليس بالأبيض الأمهق ) بفتح الهمزة والهاء بينهما ميم ساكنة آخره قاف أي ليس شديد البياض كلون الجص
( ولا بالآدم ) بالمد أي ولا شديد السمرة وإنما يخالط بياضه الحمرة
وفي الصحيحين من وجه آخر عن ربيعة عن أنس أزهر اللون أي أبيض مشرب بحمرة كما في مسلم عن أنس من وجه آخر وللترمذي والحاكم وغيرهما عن علي كان أبيض مشربا بياضه حمرة ورواه ابن أسعد عن علي وجابر والإشراب خلط لون بلون كأن أحد اللونين سقى الآخر يقال بياض مشرب بحمرة بالتخفيف فإذا شدد كان للتكثير والمبالغة وهو أحسن الألوان والعرب قد تطلق على من كان كذلك أسمر ولذا جاء عند أحمد والبزار وابن منده بإسناد صحيح وصححه ابن حبان عن أنس كان أسمر ورد المحب الطبري هذه الرواية بحديث الباب والجمع بينهما ممكن بأن المراد بالسمرة الحمرة التي تخالط البياض وبالبياض المثبت ما تخالطه الحمرة والمنفي ما لا تخالطه وهو الذي تكره العرب لونه وتسميه أمهق وبهذا بان أن رواية أبي زيد المروزي هذا الحديث في البخاري أمهق ليس بأبيض مقلوبة على أنه يمكن توجيهها إن ثبتت رواية بأن المراد بالأمهق الأخضر اللون الذي ليس بياضه في الغاية ولا سمرته ولا حمرته فقد نقل عن رؤبة أن المهق خضرة الماء قاله الحافظ لكن رواية أسمر وإن صح إسنادها فقد أعلها الحافظ الزين العراقي بالشذوذ فقال هذه اللفظة انفرد بها حميد عن أنس ورواه غيره من الرواة عن أنس بلفظ أزهر اللون ثم نظرنا من روى صفة لونه صلى الله عليه وسلم غير أنس فكلهم وصفوه بالبياض وهم خمسة عشر صحابيا انتهى منهم أبو جحيفة في البخاري وأبو الطفيل في مسلم وأبو هريرة قال كان شديد البياض أخرجه يعقوب بن سفيان والبزار بإسناد قوي ومحرش الكعبي نظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة وسراقة جعلت أنظر إلى ساقه كأنها جمارة رواه بن
____________________
(4/352)
إسحاق
وقال البيهقي تبعا لابن أبي خيثمة المشرب بحمرة أو سمرة ما ضحا منه إلى الشمس والريح وأما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر ولونه الذي لا يشك فيه الأبيض الأزهر وتعقب بأن أنسا لا يخفى عليه أمره حتى يصفه بغير صفته اللازمة له لقربه منه ولم يكن صلى الله عليه وسلم ملازما للشمس نعم لو وصفه بذلك بعض القادمين ممن صادفه في وقت غيرته الشمس لأمكن الجمع بذلك فالأولى حمل السمرة في رواية أنس على الحمرة المخالطة للبياض كما مر وهي في جميع بدنه لقول ابن عباس جسمه ولحمه أحمر إلى البياض رواه أحمد بإسناد حسن
( ولا ) أي وليس شعره ( بالجعد ) بفتح الجيم وسكون العين ودال مهملتين أي منقبض الشعر يتجعد ويتكسر كشعر الحبش والزنج ( القطط ) بفتح القاف والطاء المهملة الأولى على الأشهر ويجوز كسرها ولما ورد الجعد بمعنى الجواد والكريم والبخيل واللئيم ومقابل السبط ويوصف في الكل بقطط فهو لا يعين المراد قابله لتعيينه بقوله ولا بالسبط بفتح السين المهملة وكسر الموحدة أي المنبسط المسترسل والمراد أن شعره ليس نهاية في الجعودة وهي تكسره الشديد ولا في السبوطة وهي عدم تكسره وتثنيه بالكلية بل كان وسطا بينهما وخير الأمور أوساطها
وقد زاد في رواية للبخاري عن ربيعة عن أنس رجل الشعر بكسر الجيم وتسكن أي متسرح وهو مرفوع على الاستئناف أي هو رجل
وللترمذي وغيره عن علي ولم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط كان جعدا رجلا
قال الزمخشري الغالب على العرب جعودة الشعر وعلى العجم سبوطته فقد أحسن الله تعالى برسوله الشمائل وجمع فيه ما تفرق في الظرائف من الفضائل اه
( بعثه الله على رأس أربعين سنة ) أي آخرها قال الحافظ هذا إنما يتم على القول بأنه بعث في الشهر الذي ولد فيه والمشهور عند الجمهور أنه ولد في شهر ربيع الأول وأنه بعث في شهر رمضان فعلى هذا يكون له حين بعث أربعون سنة ونصف أو تسع وثلاثون ونصف فمن قال أربعين ألغى الكسر أو جبر لكن قال المسعودي وابن عبد البر إنه بعث في شهر ربيع الأول فعلى هذا يكون له أربعون سنة سواء وقيل بعث وله أربعون سنة وعشرة أيام وقيل وعشرون يوما وقيل ولد في رمضان وهو شاذ فإن كان محفوظا وضم إلى المشهور أن البعث في رمضان صح أنه بعث عند إكمال الأربعين وأبعد من قال بعث في رمضان وهو ابن أربعين وشهرين فإنه يقتضي أنه ولد في رجب وهو قول شاذ في تاريخ أبي عبد الرحمن العتقي عن الحسن بن علي إنه ولد لسبع وعشرين من رجب ومن الشاذ أيضا ما رواه الحاكم عن سعيد بن المسيب قال أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين وهو قول الواقدي وتبعه البلاذري وابن أبي عاصم
وفي تاريخ يعقوب بن سفيان وغيره عن مكحول أنه بعث بعد ثنتين وأربعين
( فأقام بمكة عشر سنين ) أي ينزل عليه الوحي كما في البخاري من وجه آخر عن ربيعة عن أنس
____________________
(4/353)
( وبالمدينة عشر سنين ) باتفاق ( وتوفاه الله على رأس ستين سنة ) أي آخرها قال الطيبي مجازه كمجاز قولهم رأس آية أي آخرها اه
وصريحه أنه عاش ستين فقط
وفي مسلم من وجه آخر عن أنس أنه عاش ثلاثا وستين سنة ومثله في حديث عائشة في الصحيحين وبه قال الجمهور قال الإسماعيلي لا بد أن يكون الصحيح أحدهما وجمع غيره بإلغاء الكسر
وللبخاري عن ابن عباس لبث بمكة ثلاث عشرة وبعث لأربعين ومات وهو ابن ثلاث وستين وجمع السهيلي بأن من قال ثلاث عشرة عد من أول ما جاءه الملك بالنبوة ومن قال عشرا عد ما بعد فترة الوحي ونزول { يا أيها المدثر } سورة المدثر الآية 1 ويؤيده زيادة ينزل عليه الوحي لكن قال الحافظ هو مبني على صحة خبر الشعبي عند أحمد أن مدة الفترة ثلاث سنين لكن عند ابن سعد عن ابن عباس ما يخالفه أي أن مدة الفترة كانت أياما قال والحاصل أن كل من روى عنه من الصحابة ما يخالف المشهور وهو ثلاث وستون جاء عنه المشهور وهم ابن عباس وعائشة وأنس ولم يختلف على معاوية أنه عاش ثلاثا وستين وبه جزم ابن المسيب والشعبي ومجاهد وقال أحمد هو الثبت عندنا وأكثر ما قيل في سنه أنه خمس وستون أخرجه مسلم من طريق عمار عن ابن عباس وجمع بعضهم بين الروايات المشهورة بأن من قال خمس وستون جبر الكسر وفيه نظر لأنه يخرج منه أربع وستون فقط وقل من تنبه لذلك ومن الشاذ ما رواه عمر بن شبة أنه عاش إحدى أو اثنتين لم يبلغ ثلاثا وستين وعند أبي عساكر أنه عاش اثنين وستين ونصف اه
وقال ابن العربي روايات ستين وثلاث وخمس ليست باختلاف إذ لا خلاف أنه أقام أربعين سنة لا يوحى إليه ثم أقام خمسة أعوام ما بين رؤيا وفترة ثم حمي الوحي وتتابع عشرين سنة فمن عدها قال ستين ومن عد الجملة قال خمسا وستين ومن أسقط عامي الفترة قال ثلاثا وستين اه
وفيه نظر لأن الصحيح أنه عاش ثلاثا وستين وجمعه صريح في أنه عاش خمسا فالأولى الحمل على جبر الكسر
( وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء ) أي بل أقل
روى ابن سعد بإسناد صحيح عن ثابت عن أنس ما كان في رأسه صلى الله عليه وسلم ولحيته إلا سبع عشر أو ثماني عشر وفي البخاري عن عبد الله بن بسر كان في عنفقته شعرات بيض
وفي مسلم عن أنس كان في لحيته شعرات بيض فمقتضى هذا أنه لا يزيد على عشرة لإيراده بصيغة جمع القلة وهو شعرات جمع تصحيح لشعر وهو من جموع القلة وهو لا يزيد على عشرة إلا أن ابن بسر خصه بعنفقته فيحمل الزائد على أنه في صدغيه كما جاء في حديث البراء لكن عند ابن سعد بإسناد صحيح عن حميد عن أنس لم يبلغ ما في لحيته من الشيب عشرين شعرة قال حميد وأومأ إلى عنفقته سبع عشرة
ولعبد بن حميد عن ثابت عن أنس ما عددت في رأسه ولحيته إلا أربع عشرة شعرة وجمع بأن أخباره اختلف باختلاف الأزمان
وللطبراني
____________________
(4/354)
عن الهيثم بن وهب أنها ثلاثون عددا وإسناده ضعيف
وروى أبو نعيم عن عائشة كان أكثر شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرأس في فودي رأسه وكان أكثر شيبه في لحيته حول الذقن وكان شيبه كأنه خيوط الفضة يتلألأ بين سواد الشعر فإذا مسه بصفرة وكان كثيرا ما يفعل ذلك صار كأنه خيوط الذهب وفي البخاري عن قتادة سألت أنسا هل خضب صلى الله عليه وسلم قال لا إنما كان شيء في صدغيه ولمسلم إنما كان البياض في عنفقته وفي الصدغين وفي الرأس نبذ بضم النون وفتح الموحدة ومعجمة أي شعرات متفرقة
وعرف من مجموع هذا أن ما شاب من عنفقته أكثر مما شاب من غيرها
قال الحافظ ومراد أنس أنه لم يكن في شعره ما يحتاج إلى الخضاب وبه صرح في مسلم عن محمد بن سيرين سألت أنسا أكان صلى الله عليه وسلم خضب قال لم يبلغ الخضاب ولمسلم عن ثابت عن أنس لو شئت أن أعد شمطات كن في رأسه لفعلت زاد بن سعد والحاكم ما شأنه الله بالشيبأي أن تلك الشعرات البيض لم يتغير بها شيء من حسنه
ومر في الحج حديث ابن عمر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخضب بالصفرة وللحاكم وأصحاب السنن عن أبي رمثة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بردان أخضران وله شعر قد علاه الشيب وشيبه أحمر مخضوب بالحناء
ويجمع بحمل نفي أنس على غلبة الشيب حتى يحتاج إلى خضابه ولم يتفق أنه رآه وهو يخضب
وحديث من أثبت الخضاب على أنه فعله لبيان الجواز وأنكر أحمد نفي أنس أنه خضب وذكر حديث ابن عمر ووافق مالك أنسا في إنكار الخضاب وتأول ما ورد في ذلك اه
ملخصا
وحديث الباب رواه البخاري في الصفة النبوية عن عبد الله بن يوسف وفي اللباس عند إسماعيل ومسلم عن يحيى ثلاثتهم عن مالك به وتابعه سعيد بن أبي هلال عن ربيعة بنحوه عند البخاري وإسماعيل بن جعفر وسليمان بن بلال عن ربيعة عند مسلم قائلا بمثل حديث مالك وزاد في روايتهما كان أزهر انتهى
23 صفة عيسى ابن مريم عليه السلام والدجال ( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ) رضي الله عنهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أراني ) بفتح الهمزة ذكره بلفظ المضارع مبالغة في استحضار صورة الحال أي أرى نفسي ( الليلة عند الكعبة ) في المنام ( فرأيت رجلا آدم ) بالمد اسم ( كأحسن ما أنت راء من أدم الرجال ) بضم الهمزة وسكون الدال وفي الصحيح من حديث أبي هريرة فأما عيسى فأحمر والأحمر عند العرب الشديد البياض مع الحمرة والآدم الأسمر وجمع بين الوصفين بأنه احمر لونه بسبب كالتعب وهو في الأصل أسمر
وقال القرطبي كأن الأدمة تصير سمرة تضرب إلى الحمرة وهو غالب ألوان العرب وبه تجمع الروايتان
____________________
(4/355)
وفي الصحيح عن ابن عمر لا والله ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعيسى أحمر ولكن قال بينما أنا نائم رأيت أني أطوف بالكعبة فإذا رجل آدم الحديث
قال الحافظ أقسم على غلبة ظنه أن الوصف اشتبه على الراوي وأن الموصوف بأنه أحمر إنما هو الدجال لا عيسى وقرب ذلك أن كلا منهما يقال له المسيح صفة مدح لعيسى وذم للدجال وكأن ابن عمر سمع ذلك جزما في وصف عيسى أنه آدم فساغ له الحلف لغلبة ظنه أن من وصفه بأحمر فقد وهم لكن قد وافق ابن عباس أبا هريرة على أن عيسى أحمر فظهر أن ابن عمر أنكر شيئا حفظه غيره وقد أمكن الجمع بينهما
وأما قول الداودي رواية من قال آدم أثبت فلا أدري من أين وقع له ذلك مع اتفاق أبي هريرة وابن عباس على مخالفة ابن عمر
( له لمة ) بكسر اللام وشد الميم شعر جاوز شحمة الأذنين وألم بالمنكبين فإن جاوزهما فجمة بضم الجيم وإن قصر عنها فوفرة ( كأحسن ما أنت راء من اللمم ) جمع لمة وفي رواية موسى بن عقبة عن نافع تضرب لمته بين منكبيه ( قد رجلها ) أي سرحها ( فهي تقطر ماء ) من الماء الذي سرحها به أو هو استعارة كنى بها عن مزيد النظافة والنضارة ويؤيده أن في رواية لأحمد وأبي داود عن أبي هريرة يقطر رأسه ماء وإن لم يصبه بلل وللبخاري عن سالم عن أبيه مرفوعا فإذا رجل آدم سبط الشعر وله ولغيره من حديث ابن عباس وأبي هريرة جعد والجعودة ضد السبوطة فجمع بينهما بأنه سبط الشعر جعد الجسم والمراد به اجتماعه واكتثاره وهذا نظير الخلاف السابق في لونه
( متكئا ) حال ( على رجلين ) قال الحافظ لم أقف على اسمها ( أو ) للشك قال ( على عواتق رجلين ) جمع عاتق وهو ما بين المنكب والعنق وفي رواية موسى ابن عقبة واضع يده على منكبي رجلين ( يطوف بالكعبة ) حال ( فسألت ) الملك ( من هذا ) الطائف ( قيل هذا المسيح عيسى ابن مريم ) بفتح الميم وكسر السين مخففة على المشهور وقد تشدد وحاء مهملة وصحف من أعجمها لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن أو لأن زكريا مسحه أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برىء أو لمسحه الأرض بسياحته أو لأن رجله لا أخمص لها أو للبسه المسوح أقوال
وقيل هو بالعبرانية ماسح فعرب المسيح وقيل معناه الصديق ( ثم إذا برجل جعد ) بفتح الجيم وسكون العين المهملة شعره ( قطط ) بفتح القاف والمهملة الأولى على المشهور وقد تكسر أي شديد جعودة الشعر ( أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية ) بتحتية بعد الفاء أي بارزة من طفىء الشيء يطفو بغير همز إذا علا على غيره شبهها بالعنبة التي تقع في العنقود بارزة عن نظائرها وبالهمز أي ذهب ضوؤها
قال عياض رويناه بغير همز عن أكثر شيوخنا وصححوه وإليه ذهب الأخفش وأنكر بعضهم رواية الهمز ولا وجه لإنكارها ويصححها الرواية الأخرى أنه ممسوح العين وأنها ليست حجراء ولا ناتئة وإنها مطموسة وهذه صفة حبة العنب إذا
____________________
(4/356)
طفيت وزوال ماؤها ويصحح رواية الياء قوله في الرواية الأخرى كأنها كوكب وأنها جاحظة وكأنها نخاعة في حائط مجصص وأنها عوراء ويجمع بين الأحاديث بأن ما صححت به رواية الياء يكون في عين وما صححت به رواية الهمز يكون في الأخرى وبه أيضا يجمع بين ما اختلف فيه الروايات ففي بعضها أنه أعور العين اليمنى وفي بعضها أنه أعور اليسرى لأن العور العيب وكلتا عينيه معيبة أحدهما بالطمس وهي اليمنى والأخرى بالبروز انتهى كلام عياض ملخصا
قال النووي وهو في نهاية من الحسن زاد في رواية موسى بن عقبة عن نافع يطوف بالبيت
( فسألت من هذا قيل هذا المسيح الدجال ) لأنه ممسوح العين أو لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحا لا عين فيه ولا حاجب أو لأنه يمسح الأرض إذا خرج
وقال الجوهري من خففه فلمسحه الأرض ومن شدد فلأنه ممسوح العين
قال الحافظ وفيه دلالة على أن قوله صلى الله عليه وسلم إن الدجال لا يدخل المدينة ولا مكة أي في زمن خروجه ولم يرد بذلك في دخوله في الزمن الماضي
وهذه الرؤيا منام كما صرح به في بعض طرقه المتقدمة
وفي حديث أبي هريرة وابن عباس رأيت موسى وإبراهيم وعيسى وذكر صفتهم
قال عياض رؤيته لهم إن كان مناما فلا إشكال وإن كان يقظة فمشكل ويقويه حديث ابن عباس عند البخاري وأما موسى فرجل جعد على جمل أحمر مخطوم بحبل كأني أنظر إليه إذ انحدر في الوادي وأجيب بأن الأنبياء أفضل من الشهداء والشهداء أحياء عند ربهم فكذلك الأنبياء فلا يبعد أن يصلوا ويحجوا ويتقربوا إلى الله بما استطاعوا ما دامت الدنيا وهي دار التكليف باقية وبأنه صلى الله عليه وسلم أري حالهم التي كانوا عليها في حياتهم فمثلوا له كيف كانوا وكيف كان حجهم وتلبيتهم ولذا قال في رواية لمسلم عن ابن عباس كأني أنظر إلى موسى وبأنه صلى الله عليه وسلم أخبر عما أوحي إليه من أمرهم وما كان منهم فلذا أدخل حرف التثنية في رواية وحيث أطلقها فهي محمولة على ذلك
وجمع البيهقي كتابا لطيفا في حياة الأنبياء وروى فيه بإسناد صحيح عن أنس مرفوعا الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون وأخرج أيضا من رواية محمد بن أبي ليلى عن ثابت عن أنس رفعه إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور ومحمد سيء الحفظ
وذكر الغزالي ثم الرافعي حديثا مرفوعا أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث ولا أصل له إلا إن أخذ من رواية ابن أبي ليلى وليس الأخذ بجيد لأنها قابلة للتأويل قال البيهقي إن صح فالمراد أنهم لا يتركون يصلون إلا هذا القدر ثم يكونون مصلين بين يدي الله فقد ثبتت حياة الأنبياء لكن يشكل عليه حديث أبي هريرة رفعه ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام أخرجه أبو داود ورجاله ثقات ووجه إشكاله ظاهر لأن عود الروح في الجسد يقتضي انفصالها عنه وهو الموت
وأجاب العلماء بأن المراد أن روحه كانت سابقة عقب
____________________
(4/357)
دفنه لأنها تعاد ثم تنزع ثم تعاد سلمنا لكن ليس بنزع موت بل لا مشقة فيه وبأن المراد بالروح الملك الموكل بذلك أو النطق فتجوز فيه من جهة خطابنا بما نفهمه وبأنه يستغرق في أمور الملأ الأعلى فإذا سلم عليه رجع إليه فهمه ليجيب من يسلم عليه وقد أشكل ذلك من جهة أخرى هي استلزام استغراق الزمان كله في ذلك لاتصال الصلاة والسلام عليه في أقطار الأرض ممن لا يحصر كثرة
وأجيب بأن أمور الآخرة لا تدرك بالعقل وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة انتهى ملخصا
وحديث الباب رواه البخاري في اللباس عن عبد الله بن يوسف وفي التعبير عن القعنبي ومسلم في الإيمان عن يحيى الثلاثة عن مالك به وتابعه موسى بن عقبة عن نافع بنحوه في الصحيحين وله طرق
24 ما جاء في السنة في الفطرة بكسر الفاء أي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع فكأنها أمر جبلي فطروا عليه هذا أحسن ما قيل في تفسيرها قاله أبو عمر
( مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه ) كيسان ( عن أبي هريرة قال ) موقوفا لجميع رواة الموطأ قال ابن عبد البر وهو الصحيح عن مالك ورواه بشر بن عمر عن مالك بهذا السند ورفعه أخرجه ابن الجارود وقاسم بن أصبغ وكذا رفعه حميد بن أبي الجهم العدوي عن مالك بإسناده أخرجه ابن عبد البر وهو في الصحيحين من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي قال ( خمس ) صفة موصوف محذوف أي خصال خمس ثم فسرها أو على الإضافة أي خمس خصال أو الجملة خبر مبتدأ محذوف أي الذي شرع لكم خمس ( من الفطرة ) بكسر فسكون ( تقليم الأظفار ) تفعيل من القلم وهو القطع قال الجوهري قلمت ظفري بالتخفيف وقلمت أظفاري بالتشديد للتكثير والمبالغة أي إزالة ما طال منها عن اللحم بمقص أو سكين لا غيرهما من الآلة ويكره بالأسنان والمعنى فيه أن الوسخ يجتمع تحته فيستقذر وقد ينتهي إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة ويستحب كيفما احتاج إليه
قال الحافظ ولم يثبت في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث وكذا لم يثبت في كيفيته شيء ولا في تعيين يوم له عن النبي
وأخرج البيهقي من مرسل أبي جعفر الباقر قال كان رسول الله يستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة وله شاهد موصول عن أبي هريرة لكن سنده ضعيف قال كان يقلم أظفاره ويقص شاربه يوم الجمعة قبل أن يروح إلى الصلاة أخرجه البيهقي
وقال عقبة قال أحمد في هذا الإسناد من يجهل انتهى
وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية حيث يذكرون استحباب تحسين الهيئة يوم الجمعة كقلم ظفر وقص شارب إن احتاج إلى ذلك لهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة فبعضها يقوي بعضا
قال السيوطي وبالجملة فأرجحها دليلا ونقلا
____________________
(4/358)
يوم الجمعة والأخبار الواردة فيه ليست بواهية جدا بل فيها متمسك خصوصا الأول وقد اعتضد بشواهد مع أن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال
وللطبراني عن علي رفعه قص الظفر ونتف الإبط وحلق العانة يوم الخميس والغسل والطيب واللباس يوم الجمعة وللديلمي عن أبي هريرة مرفوعا من أراد أن يأمن الفقر وشكاية العمى والبرص والجنون فليقلم أظفاره يوم الخميس بعد العصر وليبدأ بخنصره اليسرى والخبران واهيان
وفي مسلسلات الحافظ جعفر المستغفري بإسناد مجهول عن علي رأيت النبي يقلم أظفاره يوم الخميس وما يعزى لعلي ابدأ بيمناك وبالخنصر في قص أظفارك واستبصر وثن بالوسطى وثلث كما قد قيل بالإبهام والبنصر واختتم الكف بسبابة في اليد والرجل ولا تمتر وفي اليد اليسرى بإبهامها والأصبع الوسطى وبالخنصر وبعد سبابتها بنصر فإنها خاتمة الأيسر فباطل عنه
وكذا ما يعزى للحافظ ابن حجر قال السخاوي ونصه وحاشاه من ذلك في قص ظفرك يوم السبت آكلة تبدو وفيما يليه تذهب البركه وعالم فاضل يبدو بتلوهما وإن يكن في الثلاثا فاحذر الهلكه ويورث السوء في الأخلاق رابعها وفي الخميس الغنى يأتي لمن سلكه والعمر والرزق زيدا في عروبتها عن النبي روينا فاقتفوا نسكه وقال السيوطي هذا مفترى عليه بل في مسند الفردوس بسند واه عن أبي هريرة مرفوعا من قلم أظفاره يوم السبت خرج منه الداء ودخل فيه الشفاء ويوم الأحد خرج منه الفاقة ودخل فيه الغنى ويوم الإثنين خرج منه الجنون ودخلت فيه الصحة ويوم الثلاثاء خرج منه المرض ودخل فيه الشفاء ويوم الأربعاء خرج منه الوسواس والخوف ودخل فيه الأمن والشفا ويوم الخميس خرج منه الجذام ودخلت فيه العافية ويوم الجمعة دخلت فيه الرحمة وخرجت منه الذنوب قال وآثار البطلان لائحة عليه انتهى
( وقص الشارب ) وهو الشعر النابت على الشفة وهو عند النسائي بلفظ حلق لكن أكثر الأحاديث بلفظ قص الشارب وقد رواه النسائي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ تقصير الشارب
( ونتف الإبط ) بكسر الهمزة وسكون الموحدة يبدأ باليمنى استحبابا ويتأدى أصله بالحلق لا سيما من يؤلمه النتف
قال ابن دقيق العيد من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف ومن نظر إلى المعنى أزاله بكل مزيل
____________________
(4/359)
لكن يتعين أن النتف مقصود من جهة المعنى لأنه محل الرائحة الكريهة الناشئة من الوسخ المجسم بالعرق فيه فيتلبد ويهيج فشرع النتف الذي يضعفه فتخف الرائحة به بخلاف الحلق فإنه يقوي الشعر ويهيجه فتكثر الرائحة بذلك انتهى
وقد جاء عن جماعة من الصحابة بياض إبطيه فقال الطبري من خصائصه أن الإبط من جميع الناس متغير اللون إلا هو عليه الصلاة والسلام
ومثله للقرطبي وزاد وأنه لا شعر عليه
ونازعه الولي العراقي وقال لم يثبت ذلك بوجه والخصائص لا تثبت بالاحتمال ولا يلزم من ذكر أنس وغيره بياض أبطيه أن لا يكون له شعر فإن الشعر إذا نتف بقي المكان أبيض وإن بقي فيه آثار الشعر
وقال عبد الله بن أقرم وقد صلى معه كنت أنظر إلى عفرة إبطيه حسنه الترمذي والعفرة بياض ليس بالناصع كما قاله الهروي وغيره وهذا يدل على أن آثار الشعر هو الذي جعل المكان أعفر وإلا فلو كان خاليا عن نبات الشعر جملة لم يكن أعفر نعم الذي نعتقده أنه لم يكن لإبطيه رائحة كريهة انتهى
وقد تمنع دلالته على ما قال بأن شأن المغابن أنها أقل بياضا من باقي الجسد
قال الحافظ واختلف في المراد ببياض إبطيه فقيل لم يكن تحتهما شعر فكانا كلون جسده ثم قيل لم يكن تحتهما شعر البتة وقيل كأن الدوام تعاهده له لا يبقى فيه شعر
وعند مسلم في حديث حتى رأينا عفرة إبطيه ولا تنافي بينهما لأن الأعفر ما بياضه ليس بالناصع وهذا شأن المغابن تكون لونها في البياض دون لون بقية الجسد
( وحلق العانة ) بالموسى وفي معناه الإزالة بالنتف والنورة لكن بالموسى أولى بالرجل لتقوية المحل بخلاف المرأة فالأولى لها النتف
واستشكله الفاكهاني بأن فيه ضررا على الزوج باسترخاء المحل باتفاق الأطباء انتهى
ويؤيده حديث حتى تستحد المغيبة ولابن العربي تفصيل جيد فقال إن كانت شابة فالنتف أولى في حقها لأنه يربو مكان النتف وإن كانت كهلة الأولى الحلق لأن النتف يرخي المحل ولو قيل في حقها بالتنوير مطلقا لما بعد
وروى أنس أن النبي كان لا يتنور وكان إذا كثر شعره حلقه وإسناده ضعيف
وروى ابن ماجه والبيهقي عن أم سلمة أنه كان إذا طلى بدأ بعانته فطلاها بالنورة وسائر جسده أهله رجاله ثقات لكن أعل بالانقطاع وأنكر أحمد صحته
وروى الخرائطي عن أم سلمة أن النبي كان ينوره الرجل فإذا بلغ مراقه تولى هو ذلك قال ابن القيم ورد في النورة أحاديث هذا أمثلها قال السيوطي هو مثبت وأجود إسنادا من حديث النفي فيقدم عليه واستعمالها مباح لا مكروه
( والاختتان ) وهو قطع القلفة التي تغطي الحشفة من الرجل وقطع بعض الجلدة التي بأعلى الفرج من المرأة كالنواة أو كعرف الديك ويسمى ختان الرجل إعذارا وختان المرأة خفضا بمعجتين هذا وفي مسلم عن عائشة مرفوعا عشر من الفطرة فذكر ما هنا إلا الختان وزاد إعفاء اللحية والسواك والمضمضة والاستنشاق وغسل البراجم والاستنجاء ولأحمد وأبي داود وابن ماجه عن عمار بن ياسر رفعه زيادة الانتضاح ولابن أبي حاتم عن ابن عباس غسل يوم الجمعة ولأبي عوانة
____________________
(4/360)
زيادة الاستنثار ولعبد الرزاق والطبري من طريقه بسند صحيح عن ابن عباس في قوله تعالى { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن } سورة البقرة الآية 124 ذكر مفرق الرأس فالحصر في رواية الفطرة خمس ليس بمراد
( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( عن سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي ) وصله ابن عدي والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي ( أنه قال كان إبراهيم أول الناس ضيف الضيف ) يطلق على الواحد وغيره
( وأول الناس اختتن ) بهمزة وصل روى الشيخان عن أبي هريرة قال قال اختتن إبراهيم النبي وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم بخفة الدال اسم آلة النجار يعني الفأس كما رواه ابن عساكر وروي بشدها وأنكره يعقوب بن شبة وقيل المراد المكان الذي وقع فيه الختان وهو أيضا بالتخفيف والتشديد قرية بالشام والأكثر على أنه بالتخفيف وإرادة الآلة كما قاله يحيى بن سعيد أحد رواته وأنكر النضر بن شميل الموضع ورجحه البيهقي والقرطبي والزركشي والحافظ مستدلا بحديث أبي يعلى أمر إبراهيم بالختان فاختتن بقدوم فاشتد عليه فأوحى الله إليه عجلت قبل أن نأمرك بآلته قال يا رب كرهت أن أؤخر أمرك وجمع بأنه اختتن بالآلة وفي الموضع
وللبخاري في الأدب المفرد وابن حبان عن أبي هريرة مرفوعا وابن السماك وابن حبان أيضا عنه مرفوعا وهو ابن مائة وعشرين وزادوا وعاش بعد ذلك ثمانين سنة وأعل بأن عمره مائة وعشرون ورد بأن مثله عند ابن أبي شيبة وابن سعد والحاكم والبيهقي وصححاه وأبي الشيخ في العقيقة من وجه آخر وزادوا أيضا وعاش بعد ذلك ثمانين فعلى هذا عاش مائتين وجمع بأن الأول حسب من منذ نبوته والثاني حسب من مولده وبأن المراد وهو ابن ثمانين من وقت فراق قومه وهجرته من العراق إلى الشام وقوله وهو ابن مائة وعشرين أي من مولده وبأن بعض الرواة رأى مائة وعشرين فظنها إلا عشرين أو عكسه والأولان أولى لأنه توهيم الرواة بلا داعية وقد أمكن الجمع بدون توهيمهم
وفي التمهيد تواتر عن جمع من العلماء أن إبراهيم ختن إسماعيل الثلاث عشرة سنة وإسحاق لسبعة أيام وكره جمع الختان يوم السابع
قال ابن وهب قلت لمالك أترى أن تختن الصبي يوم السابع فقال لا أرى ذلك إنما ذلك من عمل اليهود ولم يكن من عمل الناس إلا حديثا قلت فما حد ختانه قال إذا أدب على الصلاة قلت عشر سنين أو أدنى من ذلك قال نعم
( وأول الناس قص شاربه وأول الناس رأى الشيب فقال يا رب ما هذا فقال الله تبارك وتعالى ) هذا ( وقار ) حلم ورزانة ( يا إبراهيم فقال رب زدني وقارا ) فالشيب ممدوح
وفي أبي داود عن ابن عمر مرفوعا لا تنتفوا الشيب فإنه نور الإسلام ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورا يوم القيامة وللترمذي والنسائي عن كعب بن عجرة رفعه من شاب شيبة في الإسلام كانت له
____________________
(4/361)
نورا يوم القيامة زاد الحاكم في الكنى ما لم يغيرها وللبيهقي عنه مرفوعا الشيب نور المؤمن لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة ورفع بها درجة وللديلمي عن أنس مرفوعا الشيب نور من خلع الشيب فقد خلع نور الإسلام وللديلمي عنه رفعه أيما رجل نتف شعرة بيضاء متعمدا صارت رمحا يوم القيامة يطعن به وأما حديث مسلم عن أنس أنه سئل عن شيب النبي فقال ما شانه الله ببيضاء فقال الحافظ إنه محمول على تلك الشعرات البيض لم يتغير بها شيء من حسنه اه
وهذا أحسن من تعجب ابن الأثير من جعل أنس الشيب عيبا وتعسفه الجمع بأنه عليه الصلاة والسلام لما رأى أبا قحافة ورأسه كالثغامة أمرهم بتغييره وكرهه فلما علم أنس ذلك من عادته قال ما شانه الله ببيضاء بناء على هذا القول وحملا له على هذا الرأي يعني كراهة الشيب ولم يسمع الحديث الآخر ولعل أحدهما ناسخ للآخر فإن في نفيه نظرا إذ أنس قد روى بعض أحاديث مدحه كما رأيت وكذا في ترجيه لأن النسخ إنما يكون بمعرفة التاريخ
قال السيوطي زاد ابن أبي شيبة عن سعيد وأول من قص أظفاره وأول من استحد
وزاد وكيع عن أبي هريرة وأول من تسرول وأول من فرق وللديلمي عن أنس مرفوعا أنه أول من خضب بالحناء والكتم ولابن أبي شيبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه أنه أول من خطب على المنبر ولابن عساكر عن جابر أنه أول من قاتل في سبيل الله وله عن حسان بن عطية أنه أول من رتب العسكر في الحرب ميمنة وميسرة وقلبا
ولابن أبي الدنيا في كتاب الرمي عن ابن عباس أنه أول من عمل القسي وله في كتاب الإخوان عن تميم الداري مرفوعا أنه أول من عانق ولابن سعد عن الكلبي أنه أول من ثرد الثريد وللديلمي عن نبيط بن شريط مرفوعا أنه أول من اتخذ الخبز المبلقس ولأحمد في الزهد عن مطرف أنه أول من راغم ( مالك يؤخذ من الشارب حتى يبدو ) يظهر ( طرف الشفة ) ظهور بينا ( وهو الإطار ) بزنة كتاب أي اللحم المحيط بالشفة ( ولا يجزه ) بضم الجيم يقطعه ( فيمثل بنفسه ) وقال ابن عبد الحكم عنه يحفي الشوارب ويعفي اللحى وليس إحفاء الشارب حلقه وأرى تأديب من حلق شاربه
وقال عنه أشهب إن حلقه بدعة وأرى أن يوجع ضربا من فعله
وإلى هذا ذهب كثير وذهب آخرون إلى استحباب حلقه كله لظاهر حديث الصحيحين عن ابن عمر رفعه خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب ورد بأن معناه أزيلوا ما طال على الشفتين بحيث لا يؤذي الآكل ولا يجتمع فيه الوسخ كما قال مالك وتفسير حديث النبي في إحفاء الشارب إنما هو الإطار يعني لحديث زيد بن أرقم قال قال النبي من لم يأخذ من شاربه فليس منا رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح فعبر بمن الصريحة في أنه لا يستأصله
قال الطحاوي ولم نجد نصا عن الشافعي
____________________
(4/362)
وأصحابه الذين رأيناهم منهم الربيع والمزني يحفيا شاربهما وما أظنهم أخذوا ذلك إلا عنه
وأبو حنيفة وأصحابه فعندهم الإحفاء في الرأس والشارب أفضل من التقصير
وذكر ابن خويز منداد عن الشافعي كالحنفي سواء وقال الأثرم رأيت أحمد يحفي شاربه شديدا ويقول هو السنة
25 النهي عن الأكل بالشمال ( مالك عن أبي الزبير ) محمد بن مسلم المكي ( عن جابر بن عبد الله السلمي ) بفتحتين الأنصاري الصحابي ابن الصحابي ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى ) تنزيها على الأصح ( عن أن يأكل الرجل ) وصف طردي والمراد الإنسان ذكرا أو أنثى ( بشماله ) إلا لعذر ( أو يمشي في نعل واحدة ) صفة نعل لأنها مؤنثة فيكره ذلك للمثلة ومفارقة الوقار ومشابهة الشيطان ومشقة المشي وخوف العثار
( وأن يشتمل الصماء ) بفتح المهملة والمد فسرت في حديث أبي سعيد بأن يجعل الرجل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب أي لأن يده تصير داخل ثوبه فإذا أصابه شيء يريد الاحتراس منه والاتقاء بيديه تعذر عليه وإن أخرجها من تحت الثوب انكشفت عورته وبهذا فسرها الفقهاء وقالوا تحرم إن انكشفت بعض عورته وإلا كرهت
وفسرها اللغويون بأن يشتمل بالثوب حتى يخلل به جسده لا يرفع منه جانبا ولذا سميت صماء لأنه يسد على يديه ورجليه المنافذ كلها كصخرة صماء لا خرق فيها ولا صدع ومر ذلك قريبا
( وأن يحتبي ) بفتح أوله وكسر الموحدة ( في ثوب واحد كاشفا عن فرجه ) فيحرم فإن كان مستورا فرجه فلا حرمة وهذا الحديث رواه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به
( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن أبي بكر بن عبيد الله ) بضم العين قال أبو عمر على الصواب الذي اتفق عليه أصحاب الزهري ومالك إلا يحيى فقال بفتح العين وهو وهم وخطأ لا شك فيه عند علماء الأثر والنسب
( ابن عبد الله بن عمر ) بن الخطاب تابعي ثقة مات بعد الثلاثين ومائة وأبوه شقيق سالم ( عن ) جده ( عبد الله بن عمر ) قال ابن عبد البر وفي رواية يحيى بن بكير زيادة عن أبيه عن ابن عمر ولم يتابعه أحد من أصحاب مالك ولا ينكر أن أبا بكر يروي عن جده فقد روى عنه من حفدته محمد بن زيد وعبد الله بن واقد ومن دونهم في السن ولا أدفع رواية ابن بكير
____________________
(4/363)
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أكل أحدكم ) أي أراد أن يأكل ( فليأكل بيمينه ) أي بيده اليمنى من اليمن وهو البركة
( وليشرب بيمينه ) وفي رواية وإذا شرب فليشرب بيمينه لأن من حق النعمة القيام بشكرها ومن حق الكرامة أن تتناول باليمين ويميز بها بين ما كان من النعمة وما هو من الأذى وقدم الأكل إجراء لحكم الشرع على وفق الطباع ولأنه سبب للعطش فيكره تنزيها لا تحريما عند الجمهور فعلهما بالشمال إلا لعذر وأرشد لعلة ذلك بقوله ( فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ) حقيقة لأن العقل لا يحيله والشرع لا ينكره وقد ثبت به الخبر فلا يحتاج إلى تأويله بأن معناه إن فعلتم كنتم أولياءه لأنه يحمل أولياءه على ذلك قال ابن عبد البر وهذا ليس بشيء فلا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز إذا أمكنت الحقيقة فيه يوجه ما
وقال ابن العربي من نفى عن الجن الأكل والشرب فقد وقع في حيالة إلحاد وعدم رشاد بل الشيطان وجميع الجان يأكلون ويشربون وينكحون ويولد لهم ويموتون وذلك جائز عقلا وورد به الشرع وتظافرت به الأخبار فلا يخرج عن هذا المضمار إلا حمار ومن زعم أن أكلهم شم فما شم رائحة العلم انتهى
ويقوي ذلك ما في مسلم أن الجن سألوه الزاد فقال صلى الله عليه وسلم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في يد أحدكم أوفر ما كان لحما لأن صيرورته لحما إثما يكون للأكل حقيقة
وروى ابن عبد البر عن وهب بن منبه الجن أصناف فخالصهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون وصف تفعل ذلك ومنهم السعالى والغيلان والقطرب
قال الحافظ وهذا إن ثبت كان جامعا للقولين ويؤيده ما لابن حبان والحاكم عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا الجن على ثلاث أصناف لهم أجنحة يطيرون في الهواء وصنف حيات وعقارب وصنف يحلون ويظعنون ويرحلون ولابن أبي الدنيا مرفوعا نحوه لكن قال في الثالث وصنف عليهم الحساب والعقاب انتهى
قال السهيلي ولعل الصنف الطيار هو الذي لا يأكل ولا يشرب إن صح القول به
وقال صاحب آكام المرجان وبالجملة فالقائلون الجن لا يأكل ولا يشرب إن أرادوا جميعهم فباطل لمصادمة الأحاديث الصحيحة وإن أرادوا صنفا منهم فمحتمل لكن العمومات تقتضي أن الكل يأكلون ويشربون انتهى
وأخذ جماعة من ظاهر الحديث حرمة الأكل بالشمال ووجوبه باليمين ولصحة الوعيد في الأكل بالشمال ففي مسلم عن سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يأكل بشماله فقال كل بيمينك قال لا أستطيع فقال لا استطعت ما منعه إلا الكبر فما رفعها إلى فيه بعد أي فما استطاع رفعها بعد ذلك إلى فمه
وأخرج الطبراني ومحمد بن الربيع الجيزي بسند حسن عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى سبيعة الأسلمية تأكل بشمالها فقال صلى الله عليه وسلم أخذها داء غزة فقيل إن بها قرحة فقال وإن فمرت بغزة فأصابها الطاعون فماتت وأجيب بأن الدعاء ليس لترك المستحب بل لقصد
____________________
(4/364)
المخالفة كبرا بلا عذر فدعا على الرجل فشلت يمينه والمرأة فماتت وبهذا الإيراد أن دعاءه صلى الله عليه وسلم المقصود به الزجر لا الدعاء الحقيقي والحديث رواه مسلم عن قتيبة بن سعيد عن مالك به وتابعه سفيان وعبيد الله في مسلم أيضا
26 ما جاء في المساكين جمع مسكين من السكون وكأنه من قلة المال سكنت حركاته ولذا قال تعالى { أو مسكينا ذا متربة } سورة البلد الآية 16 أي ألصق بالتراب قاله القرطبي
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس المسكين ) بكسر الميم وقد تفتح أي الكامل في المسكنة ( بهذا الطواف الذي يطوف على الناس ) يسألهم الصدقة عليه ( فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ) بفوقية فيهما أي عند طوافه لأنه قادر على تحصيل قوته وربما يقع له زيادة عليه وليس المراد نفي المسكنة عن الطواف بل المراد أن غيره أشد حالا منه والإجماع على أن الطواف المحتاج المسكين فهو كقوله تعالى { ليس البر } سورة البقرة الآية 177 الآية
وقوله صلى الله عليه وسلم أتدرون من المفلس ( قالوا فما ) كذا ليحيى وحده ولغيره فمن كذا قيل وقد رواه قتيبة أيضا عن مالك بلفظ ما وهي رواية مسلم من طريق الحزامي عن أبي الزناد نظرا إلى أنه سؤال عن الصفة وهي المسكنة وما يقع عن صفات العقلاء يقال فيه ما نحو { ما طاب لكم من النساء } سورة النساء الآية 3 فالروايتان صحيحتان ( المسكين ) الكامل في المسكنة ( يا رسول الله قال ) وسقط ذلك في رواية إسماعيل عن مالك وقال عقب اللقمتان ولكن المسكين ( الذي لا يجد غنى ) بكسر المعجمة مقصور أي يسارا ( يغنيه ) صفة زائدة على اليسار المنفي إذ لا يلزم من حصوله للمرء أن يغتني به بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر واللفظ محتمل لأن يكون المراد نفي أصل اليسار ولأن يكون نفي اليسار المقيد بأنه يغنيه مع وجود أصله فلا دلالة فيه على أنه أحسن حالا من الفقير
( ولا يفطن ) بضم الطاء وفتحها أي لا يتنبه ( الناس له فيتصدق عليه ) بالرفع والنصب ( ولا يقوم فيسأل الناس ) وفي بعض طرقه في البخاري ويستحي أن يسأل ولا يسأل الناس إلحافا قال بعض الشراح المضارع الواقع بعد الفاء في الموضعين بالرفع عطفا على المنفي المرفوع فينسحب النفي عليه أي لا يفطن فلا يتصدق ولا يقوم فلا يسأل وبالنصب فيهما بأن مضمرة وجوبا لوقوعه في جواب النفي بعد الفاء انتهى
واقتصر الحافظ على النصب وقد يستدل بقوله ولا يقوم فيسأل على أحد محملي قوله تعالى { لا يسألون الناس إلحافا } سورة البقرة الآية
____________________
(4/365)
273 ) أن معناه نفي السؤال أصلا أو نفي السؤال بالإلحاف خاصة فلا ينفي السؤال بغيره
والثاني أكثر استعمالا
وقد يقال لفظة يقوم تدل على التأكيد في السؤال فليس فيه نفي أصله والتأكيد في السؤال هو الإلحاف وهو الألحاح مشتق من اللحاف لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف في التغطية
وزاد في بعض طرقه في الصحيحين إنما المسكين المتعفف اقرؤوا إن شئتم { لا يسألون الناس إلحافا } وانتصابه على أنه مصدر في موضع الحال أي لا يسألون في حال الإلحاف أو مفعول لأجله أي لا يسألون لأجل الإلحاف
وهذا الحديث أخرجه البخاري في الزكاة عن إسماعيل والنسائي عن قتيبة كليهما عن مالك به وتابعه المغيرة الحزامي عن أبي الزناد عند مسلم وله طرق
( مالك عن زيد بن أسلم عن ابن بجيد ) بموحدة وجيم مصغر ( الأنصاري ثم الحارثي ) بحاء مهملة ومثلثة نسبة إلى بني حارثة بطن من الخزرج قال الحافظ في تعجيل المنفعة اتفق رواة الموطأ على إبهامه إلا يحيى بن بكير فقال عن محمد بن بجيد وبه جزم ابن البرقي فيما حكاه أبو القاسم الجوهري في مسند الموطأ ووقع في أطراف المزي أن النسائي أخرجه من وجهين عن مالك عن زيد عن عبد الرحمن بن بجيد ولم يترجم في التهذيب لمحمد بل جزم في مبهماته بأن اسمه عبد الرحمن وليس ذلك بجيد لأن النسائي إنما رواه غير مسمى كأكثر رواة الموطأ ومستند من سماه عبد الرحمن ما في السنن الثلاثة عن الليث عن سعيد المقبري عن عبد الرحمن بن بجيد عن جده فذكره ولا يلزم من كون شيخ سعيد المقبري عبد الرحمن أن لا يكون شيخ زيد بن أسلم فيه آخر اسمه محمد ( عن جدته ) أم بجيد مشهورة بكنيتها قال أبو عمر يقال اسمها حواء وترجم لها أحمد في المسند حواء جدة عمرو بن معاذ ويأتي في جامع الطعام وبعده في الترغيب في الصدقة حديث عمرو عنها وكانت من المبايعات ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ردوا ) أي أعطوا ( المسكين ) وفي رواية السائل ( ولو بظلف ) بكسر الظاء المعجمة وإسكان اللام وبالفاء وهو للبقر والغنم كالحافر للفرس ولو للتقليل لأن ذلك أقل ما يعطى والمعنى تصدقوا بما تيسر كثر أو قل ولو بلغ في القلة الظلف مثلا فإنه خير من العدم
وقال ( محرق ) لأنه مظنة الانتفاع به بخلاف غيره فقد يلقيه آخذه وقال أبو حبان الواو الداخلة على الشرط للعطف لكنها لعطف حال على حال محذوفة وقد تضمنها السياق تقديره ردوه بشيء من حال ولو بظلف وقيد بالإحراق أي الشيء كما هو عادتهم فيه لأن النيء قد لا يؤخذ وقد يرميه آخذه فلا ينتفع بخلاف المشوي
وقال الطيبي هذا تتميم لإراد المبالغة في ظلف كقولها
____________________
(4/366)
كأنه علم في رأسه نار
يعني لا تردوه رد حرمان بلا شيء ولو أنه ظلف فهو مثل ضرب للمبالغة وللذهاب إلى أن الظلف إذ ذاك كان له قيمة عندهم بعيد عن الاتجاه انتهى
وهذا الحديث رواه أحمد عن روح بن عبادة والنسائي عن قتيبة بن سعيد وعن هارون بن عبد الله عن معن الثلاثة عن مالك به
27 ما جاء في معى الكافر ( مالك عن أبي الزناد ) بكسر الزاي وخفة النون ( عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل المسلم في معى واحد ) بكسر الميم مقصور كما اقتصر عليه شراح الحديث إما لأنه الرواية أو لأنه أشهر وإلا ففيه الفتح والمد وجمع المقصور أمعاء كعنب وأعناب والممدود أمعية كحمار وأحمرة وهي المصارين وعدى بفي على معنى دفع الأكل فيها وجعلها مكانا للمأكول كقوله تعالى { إنما يأكلون في بطونهم نارا } النساء 10 أي ملء بطونهم
( والكافر يأكل في سبعة أمعاء ) هي عدة أمعاء الإنسان ولا ثامن لها كما بين في التشريح
قال ابن عبد البر لا سبيل إلى حمله على ظاهره لأن المشاهدة تدفعه فكم من كافر يكون أقل أكلا وشربا من مسلم وعكسه وكم من كافر أسلم ولم يتغير أكله وشربه انتهى
وجملة ما قيل فيه عشرة أوجه فقيل ليست حقيقة العدد مرادة بل المراد قلة أكل المؤمن وكثرة أكل الكافر ويؤيده قوله تعالى { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام } سورة محمد الآية 12 وتخصيص السبعة للمبالغة في التكثير كقوله تعالى { والبحر يمده من بعده سبعة أبحر } سورة لقمان الآية 27 والمعنى أن شأن المؤمن التقلل في الأكل لاشتغاله بأسباب العبادة وعلمه أن قصد الشرع من الأكل سد الجوع والعون على العبادة ولخشيته من حساب ما زاد على ذلك والكافر بخلاف ذلك
قال القرطبي وهذا أرجح
وقيل المعنى أن الكافر لكونه يأكل بشرهه لا يشبعه إلا ملء أمعائه السبعة والمؤمن يشبعه ملء معى واحد لقلة حرصه وشرهه على الطعام
وأشار النووي إلى اختياره ولا يلزم اطراده في كل مؤمن وكافر فإذا وجد مؤمن أو كافر على خلاف هذا الوصف لا يقدح في الحديث وقيل المراد أن المؤمن يسمي الله عند طعامه وشرابه فلا يشركه الشيطان بخلاف الكافر لا يسمي فيأكل معه الشيطان والثلاثة على أن المراد مطلق مسلم وكافر وقيل المراد بالمسلم الإسلام التام لأنه من حسن إسلامه كمل إيمانه اشتغل فكره بالموت وما بعده فيمنعه شدة الخوف وكثرة الفكرة والخوف على نفسه من استيفاء شهوته ويشير إلى ذلك حديث الصحيح إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع
____________________
(4/367)
فدل على أن المراد من يقتصد في مطعمه
وأما الكافر فشأنه الشره فيأكل كالبهيمة لا بمصلحة قيام البنية
وقد رد هذا الخطابي وقال قد ذكر عن غير واحد من السلف الأكل الكثير فلم يكن ذلك نقصا في إيمانهم
وقيل المراد المسلم يأكل الحلال والكافر الحرام والحلال أقل
وقيل المراد حض المسلم على قلة الأكل إذا علم أن كثرته من صفات الكافر
وقال القرطبي شهوات الطعام سبع الطبع والنفس والعين والفم والأنف والأذن والجوع وهي الضرورية التي يأكل بها المسلم
وأما الكافر فيأكل بالجميع
وقال النووي يحتمل أن يريد بالسبعة في الكافر صفات هي الحرص والشره وطول الأمل والطمع والحسد وحب السمن وسوء الطبع وبالواحد في المسلم سد خلته
وقال ابن العربي السبعة كناية عن الحواس الخمس والشهوة والحاجة
والقول العاشر أن اللام في الكافر عهدية فهو خاص بمعنى كان كافرا فأسلم بدليل الحديث التالي ويأتي تفسير الرجل فيه
وفي البخاري من وجه آخر عن أبي هريرة أن رجلا كان يأكل أكلا كثيرا فأسلم فكان يأكل قليلا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إن المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء وبهذا جزم ابن عبد البر قال لأن المعاينة وهي أصح علوم الحواس تدفع أن يكون ذلك في كل كافر ومؤمن ومعروف من كلام العرب الإتيان بلفظ العموم والمراد به الخصوص كقوله تعالى { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم } سورة آل عمران الآية 173 فالمراد بالناس رجل واحد
أخبر الصحابة أن قريشا جمعت لهم وجاء اللفظ على العموم ومثله كثير لا يجهله إلا من لا عناية له بالعلم وهذا الحديث أخرجه البخاري عن إسماعيل عن مالك ورواه مسلم وغيره وطرقه كثيرة في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن سهيل ) بضم السين مصغر ( ابن أبي صالح عن أبيه ) ذكوان السمان ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف كافر ) هو جهجاه بن سعيد الغفاري رواه ابن أبي شيبة والبزار وغيرهما من حديثه وجزم به ابن عبد البر ونضلة بنت عمر وكما عند أحمد وأبي مسلم الكجي وقاسم ابن ثابت في الدلائل وأبو بصرة الغفاري ذكره أبو عبيد وعبد الغني بن سعيد أو ثمامة بن أثال الحنفي ذكره ابن إسحاق والباجي وابن بطال ( فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أخرى فشربه ) أي حلابها كله ( ثم أخرى فشربه حتى شرب حلاب ) بكسر الحاء ( سبع شياه ) وعند ابن أبي شيبة وغيره عن جهجاه أنه قدم في نفر من قومه يريدون الإسلام فحضروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب قال يأخذ كل رجل منكم بيد جليسه فلم يبق في المسجد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيري وكنت رجلا عظيما طوالا لا يقدم علي أحد فذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
____________________
(4/368)
منزله فحلب لي عنزا فأتيت عليها حتى حلب لي سبعة أعنز فأتيت عليها ثم أتيت بصنيع برمة فأتيت عليها فقالت أم أيمن أجاع الله من أجاع رسول الله هذه الليلة قال مه يا أم أيمن أكل رزقه ورزقنا على الله ( ثم أصبح فأسلم فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت فشرب حلابها ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها ) وفي حديث جهجاه فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله فحلبت لي عنز فترويت وشبعت فقالت أم أيمن يا رسول الله أليس هذا ضيفنا فقال بلى ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن يشرب في معى واحد ) من أمعائه السبعة
( والكافر يشرب في سبعة أمعاء ) التي هي جميع أمعائه
قال عياض عند أهل التشريح إن أمعاء الإنسان سبعة المعدة ثم ثلاثة أمعاء بعدها متصلة بها البواب ثم الصائم ثم الرقيق والثلاثة رقاق ثم الأعور والقولون والمستقيم وطرفه الدبر وكلها غلاظ وقد نظمها الحافظ زين الدين العراقي في قوله سبعة أمعاء لكل آدمي معدة بوابها مع صائم ثم الرقيق أعور قولون مع المستقيم مسلك المطاعم وفي الشرب ما سبق في الأكل من الأقوال العشرة وفيه كسابقه إشارة إلى تقليل الأكل
وقد روى أصحاب السنن الثلاثة وصححه الحاكم مرفوعا ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه فإن غلبت الآدمي نفسه فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس قال القرطبي في شرح الأسماء لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة
وقال الغزالي ذكر هذا الحديث لبعض الفلاسفة فقال ما سمعت كلاما في قلة الأكل أحكم منه
وقال غيره خص الثلاثة لأنها أسباب حياة الحيوان ولأنه لا يدخل في البطن سواها
وهل المراد الثلث المساوي حقيقة والطريق إليه غلبة الظن أو التقسيم إلى ثلاثة أقسام متقاربة وإن لم يغلب ظنه بالثلث الحقيقي محل احتمال قال الحافظ والأول أولى ويحتمل أنه لمح بذكر الثلث إلى قوله في الحديث الآخر والثلث كثير
وقال غيره أرجح الاحتمالين الأول إذ هو المتبادر والثاني يحتاج لدليل
وحديث الباب رواه مسلم من طريق إسحاق بن عيسى والترمذي من طريق معن بن عيسى كلاهما عن مالك به
28 النهي عن الشراب في آنية الفضة والنفخ في الشراب ( مالك عن نافع ) مولى ابن عمر ( عن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ) التابعي الثقة ولد
____________________
(4/369)
في خلافة جده ( عن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق ) الثقة مات بعد السبعين ( عن أم سلمة ) هند بنت أبي أمية ( زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذي يشرب في آنية الفضة ) ولمسلم من طريق عثمان بن مرة عن عبد الله بن عبد الرحمن عن خالته أم سلمة مرفوعا من شرب من إناء ذهب أو فضة وله أيضا من رواية علي بن مسهر عن عبيد الله بن عمر عن نافع أن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة لكن تفرد ابن مسهر بقوله يأكل ( إنما يجرجر في بطنه ) بضم التحتية وفتح الجيم الأولى وكسر الثانية بينهما راء ساكنة وآخره راء أيضا صوت تردد البعير في حنجرته إذا هاج وصب الماء في الحلق أي يجرعه جرعا متداركا قال النووي اتفقوا على كسر الجيم الثانية وتعقب بأن الموفق ابن جمرة حكى فتحها وكذا ابن الفركاح وابن مالك في الشواهد ورد بأنه لا يعرف أن أحدا من الحفاظ رواه مبنيا للمفعول ويبعد اتفاق الحفاظ قديما وحديثا على ترك رواية ثابتة وأيضا فإسناده إلى الفاعل هو الأصل وإلى المفعول فرع فلا يصار إليه بلا فائدة
( نار جهنم ) بالنصب مفعول يجرجر على أن الجرجرة بمعنى الصب أو التجرع فالفاعل ضمير الشارب وسماه مجرجرا للنار تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه وبالرفع على أنه فاعل على أن النار هي التي تصوت في البطن والأول أشهر
وقال الطيبي أما الرفع فمجاز لأن جهنم على الحقيقة لا تجرجر في جوفه والجرجرة صوت البعير عند الحنجرة لكنه جعل صوت تجرع الإنسان للماء في هذه الأواني المخصوصة لوقوع النهي عنه واستحقاق العقاب على استعمالها بجرجرة نار جهنم في بطنه من طريق المجاز وقد يجعل يجرجر بمعنى يصب ويكون نار جهنم منصوبا على أن ما كافة أو مرفوعا على أنه خبر إن واسمها ما الموصولة ولا تجعل حينئذ كافة وفيه حرمة استعمال الذهب والفضة في الأكل والشرب والطهارة والأكل بملعقة من أحدهما والتجمر بجمرة منهما والبول في إناء وحرمة الزينة به واتخاذه لا فرق بين رجل وامرأة في ذلك وإنما فرق بينهما في التحلي لما يقصد في المرأة من الزينة للزوج
وأخرجه البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه الليث وأيوب وعبيد الله وموسى بن عقبة وعبد الرحمن السراج كلهم عن نافع به في مسلم
( مالك عن أيوب بن حبيب ) الزهري المدني ( مولى سعد بن أبي وقاص ) ثقة روى عنه أيضا فليح وعباد بن إسحاق مات سنة إحدى وثلاثين ومائة له مرفوعا في الموطأ هذا الحديث الواحد ( عن أبي المثنى الجهني ) المدني تابعي مقبول قال ابن عبد البر لم أقف على اسمه ( قال كنت
____________________
(4/370)
عند مروان بن الحكم ) الأموي ( فدخل عليه أبو سعيد ) سعد بن مالك بن سنان ( الخدري فقال مروان ) بن الحكم ( أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النفخ في الشراب ) قال الباجي لئلا يقع من ريقه فيه شيء فيقذره وقد بعث صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق
وقال غيره لأنه قد يتغير الماء من النفخ لكونه متغير الفم بمأكول أو كثرة كلام أو بعد عهده بالسواك والمضمضة أو لأنه يصعد ببخار المعدة فتعافه النفوس
( فقال له أبو سعيد نعم ) نهى عن ذلك ففيه أن نعم تقوم مقام الأخبار وزاده في الجواب لأنه من معنى السؤال بقوله ( فقال له رجل يا رسول الله إني لا أروى من نفس ) بفتحتين ( واحد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبن ) أمر من الإبانة أي أبعد ( القدح ) الإناء الذي تشرب منه ( عن فيك ) عند الشرب ندبا ولا تشرب كالبعير فإنه يتنفس عند الشرب فيه
( ثم تنفس ) فإنه أحفظ للحرمة وأنفى للنهمة وأبعد عن تغير الماء وأصون عن سقوط الريق فيه وأبعد عن التشبه بالبهائم في كرعها فالتشبه بها مكروه شرعا وطبعا
بقي هنا شيء ينبغي التفطن له وهو أن الأمر بإبانة القدح إنما يخاطب به من لم يرو من نفس واحد بغير عب وإلا فلا إبانة قاله في المفهم
وفي التمهيد عن مالك فيه إباحة الشرب من نفس واحد لأنه لم ينه الرجل عنه بل قال له ما معناه إن كنت لا تروى من واحد فأبن القدح انتهى
وقيل يكره مطلقا لأنه شرب الشيطان ولأنه من فعل البهائم
وللترمذي عن ابن عباس رفعه لا تشربوا واحدة كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث وسموا إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا أنتم رفعتم قال الترمذي فيه أنه لا بأس بالشرب في نفسين وإن كان الأولى كونه ثلاثا
وفي مسلم عن أبي هريرة كان صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشراب ثلاثا وفي الترمذي عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم إذا شرب تنفس مرتين وإسناده ضعيف لكن له شواهد ففعله في بعض الأحيان لجواز النقص عن ثلاث ويحتمل أنه أراد مرتي التنفس الواقعتين أثناء الشرب وأسقط الثالثة لأنها بعد الشرب فهي من ضرورة الواقع وأما حديث زيد بن أرقم كان شربه صلى الله عليه وسلم بنفس واحد رواه أبو الشيخ وحديث أبي قتادة مرفوعا إذا شرب أحدكم فليشرب بنفس واحد رواه الحاكم وصححه فمحمولان على ترك التنفس في الإناء
( قال ) الرجل ( فإني أرى القذاة ) عود أو شيء يتأذى به الشارب يقع ( فيه ) أي القدح
( قال ) صلى الله عليه وسلم ( فأهرقها ) صبها منه وهذا الحديث رواه الترمذي وقال حسن صحيح من طريق عيسى بن يونس عن مالك به
____________________
(4/371)
29 ما جاء في شرب الرجل وهو قائم ( مالك أنه بلغه ) وبلاغه صحيح كما قال ابن عيينة وسبق مرارا ( أن عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وعثمان بن عفان كانوا يشربون ) حال كونهم ( قياما ) وقال جبير بن مطعم رأيت أبا بكر الصديق يشرب قائما ففيه جواز ذلك بلا كراهة وقد صح عليكم بسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ واقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر
( مالك عن ابن شهاب أن عائشة أم المؤمنين وسعد بن أبي وقاص كانا لا يريان بشرب الإنسان ) الذكر والأنثى ( وهو قائم بأسا ) شدة أي كراهة
( مالك عن أبي جعفر القاري أنه قال رأيت عبد الله بن عمر يشرب قائما ) ولجوازه
( مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه كان يشرب قائما ) وفي الصحيحين عن ابن عباس أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء زمزم فشرب وهو قائم وفي البخاري عن علي أنه شرب وهو قائم ثم قال إن ناسا يكرهون الشرب قائما وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت وفي مسلم عن أنس نهى صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائما
وفيه عن أبي هريرة رفعه لا يشربن أحدكم قائما فمن نسي فليستقىء قال في المفهم لم يذهب أحد إلى أن النهي فيه للتحريم ولا التفات لابن حزم وإنما حمل على الكراهة والجمهور على عدمها فمن السلف الخلفاء الأربعة ثم مالك تمسكا بشربه من زمزم قائما وكأنهم رأوه متأخرا عن النهي فإنه في حجة الوداع فهو ناسخ وحقق ذلك فعل خلفائه بخلاف النهي ويبعد خفاؤه عليهم مع شدة ملازمتهم له وتشديدهم في الدين وهذا وإن لم يصلح دليلا للنسخ يصلح لترجيح أحد الحديثين انتهى
وقال البيهقي في السنن النهي إما تنزيه أو تحريم ثم نسخ بحديث شربه من زمزم وهو قائم وقد أعل عياض وغيره حديث لا يشربن أحدكم قائما بأن في إسناده عمر ابن حمزة العمري وهو ضعيف وإن روى له مسلم وغاية ما أجاب به في الفتح بأنه مختلف في توثيقه ومثله يخرج له مسلم في المتابعات وقد تابعه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن أحمد وابن حبان
____________________
(4/372)
فالحديث بمجموع طرقه صحيح انتهى
لكن يرد عليه أن مسلما أخرج له هنا أصلا لا متابعة
وقال المازري اختلف الناس في هذا فذهب الجمهور إلى الجواز وكرهه قوم فقال بعض شيوخنا لعل النهي ينصرف لمن أتى أصحابه بماء فبادر لشربه قائما قبلهم استبدادا وخروجا عن كون ساقي القوم آخرهم شربا وأيضا فأمر بالاستقاء ولا خلاف بين العلماء أنه ليس على أحد أن يستقيء وقال بعض الشيوخ الأظهر أنه موقوف على أبي هريرة لا مرفوع والأظهر لي أن شربه قائما يدل على الجواز والنهي يحمل على الاستحباب والحث على ما هو أولى وأكمل لأن في الشرب قائما ضررا ما فكره من أجله وفعله صلى الله عليه وسلم لأمنه منه وعلى الثاني يحمل قوله فمن نسي فليستقيء على أنه يحرك خلطا يكون القيء دواءه
ويؤيده قول النخعي إنما ذلك لداء البطن انتهى
وعليه فالنهي طبي إرشادي
وقال ابن العربي للمرء ثمانية أحوال قائم ماش مستند راكع ساجد متكىء قاعد مضطجع كلها يمكن الشرب فيها وأهنؤها وأكثرها استعمالا القعود وأما القيام فنهي عنه لأذيته للبدن
وللحافظ ابن حجر إذا رمت تشرب فاقعد تفز بسنة صفوة أهل الحجاز وقد صححوا شربه قائما ولكنه لبيان الجواز
30 السنة في الشرب ومناولته عن اليمين ( مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك ) رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي ) بضم أوله وهو في دار أنس ( بلبن ) حلب من شاة داجن ( قد شيب ) بكسر المعجمة أي خلط ( بماء من البئر ) التي في دار أنس كما بين هذا كله في رواية شعيب عن الزهري عند البخاري
( وعن يمينه أعرابي ) لم يسم وزعم أنه خالد بن الوليد غلط واضح لأن الأعرابي هنا كان عن يمينه صلى الله عليه وسلم وخالد كان عن يساره في الحديث بعد فاشتبه عليه حديث سهيل في الأشياخ الذين منهم خالد مع الغلام بحديث أنس في أبي بكر والأعرابي وهما قصتان كما بينه ابن عبد البر وأيضا لا يقال لخالد أعرابي إذ هو من أجلة قريش
( وعن يساره أبو بكر ) الصديق رضي الله عنه ( فشرب ) صلى الله عليه وسلم ( ثم أعطى الأعرابي ) وفي رواية شعيب فقال
____________________
(4/373)
عمر وخاف أن يعطيه الأعرابي أعط أبا بكر يا رسول الله عندك فأعطاه الأعرابي عن يمينه ( وقال الأيمن فالأيمن ) ضبط بالنصب على تقدير أعط الأيمن وبالرفع على تقدير الأيمن أحق قاله الكرماني وغيره ورجح الرفع بقوله في بعض طرق الحديث الأيمنون الأيمنون قال أنس فهي سنة أي تقدمة الأيمن وإن كان مفضولا ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم فقال لا يجوز تقدمة غير الأيمن إلا بإذنه
وأما حديث أبي يعلى الموصلي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استقى قال ابدؤوا بالكبراء أو قال بالأكابر فمحمول على ما إذا لم يكن على جهة يمينه أحد بل كانوا كلهم تلقاء وجهه مثلا
وفيه أن خلط اللبن بالماء للشرب جائز بخلاف البيع فغش وأن المجلس عن اليمين واليسار سواء إذ لو كان الفضل لليمين لما آثر عليه الصلاة والسلام الأعرابي على أبي بكر وقيل كان الأعرابي من كبراء قومه فلذا جلس عن يمينه ويحتمل أنه سبق أبا بكر ففيه أن من سبق إلى مكان من مجلس العالم أولى به من غيره كائنا من كان وأنه لا يقام أحد من مجلسه لغيره وإن أفضل منه وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في الأكل والشرب وجميع الأمور لما شرف الله به أهل اليمين وهذا الحديث أخرجه الشيخان في الأشربة البخاري عن إسماعيل ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وله متابعات وطرق
( مالك عن أبي حازم ) بالمهملة والزاي سلمة ( ابن دينار ) الأعرج المدني ( عن سهل بن سعد الأنصاري ) الساعدي ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي ) بضم الهمزة وكسر الفوقية ( بشراب ) أي لبن ففي رواية إسماعيل بن جعفر عن أبي حازم عن سهل أتي بقدح من لبن ( فشرب منه وعن يمينه غلام ) أصغر القوم كما في رواية للبخاري وغيره وهو ابن عباس كما عند ابن أبي شيبة وغيره من حديثه ( وعن يساره الأشياخ ) سمى منهم خالد بن الوليد ( فقال للغلام أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ) الذين عن اليسار وفي حديث ابن عباس فقال يا ابن عباس إن الشربة لك فإن شئت أن تؤثر بها خالدا ( فقال الغلام لا والله لا أوثر بنصيبي منك أحدا ) وفي حديث ابن عباس فقلت ما أنا بمؤثر بسؤرك علي أحدا ( فتله ) بفتح الفوقية واللام المشددة أي وضعه ( رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده ) أي الغلام ففيه تقديم الأيمن في الشرب ونحوه وإن صغيرا أو مفضولا وأما تقديم الأفاضل والكبار فهو عند التساوي في الحقوق في باقي الأوصاف وأن الجلساء شركاء في الهدية على جهة الأدب والفضل لا الوجوب للإجماع على أن المطالبة بذلك لا تجب لأحد
وقد روي مرفوعا جلساؤكم شركاؤكم في الهدية بإسناد فيه لين قاله ابن عبد البر وإنما
____________________
(4/374)
استأذن الغلام هنا ولم يستأذن الأعرابي في الحديث قبله استئلافا لقلب الأعرابي وتطييبا لنفسه وشفقة أن يسبق إلى قلبه شيء يهلك به لقرب عهده بالجاهلية ولم يجعل للغلام ذلك لأنه لقرابته وسنه دون الأشياخ فاستأذنه تأدبا ولئلا يوحشهم بتقديمه عليهم وتعليما بأنه لا يدفع لغير الأيمن إلا بإذنه
ورواه البخاري عن إسماعيل وقتيبة بن سعد ويحيى بن قزعة وعبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة كلهم عن مالك به
31 جامع ما جاء في الطعام والشراب ( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) الأنصاري ( أنه سمع أنس بن مالك يقول قال أبو طلحة ) زيد بن سهل الأنصاري زوج أم سليم والدة أنس ( لأم سليم ) بضم السين بنت ملحان الأنصارية من الصحابيات الفاضلات اسمها سهلة أو رميلة أو رميثة أو مليكة أو أنيفة اشتهرت بكنيتها ماتت في خلافة عثمان قال الحافظ اتفقت الطرق على أن هذا الحديث من مسند أنس ووافقه عليه أخوه لأمه عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه قال دخلت المسجد فعرفت في وجه رسول الله الجوع والمراد بالمسجد الموضع الذي أعده للصلاة فيه حين محاصرة الأحزاب للمدينة في غزوة الخندق ( لقد سمعت صوت رسول الله ضعيفا أعرف فيه الجوع ) وكأنه لم يسمع من صوته حين تكلم الفخامة المألوفة فحمله على الجوع للقرينة التي كانوا فيها وفيه رد على دعوى ابن حبان أنه لم يكن بجوع وأن أحاديث ربط الحجر من الجوع تصحيف محتجا بحديث أبيت يطعمني ربي ويسقيني وتعقب بأن الأحاديث صحيحة فيحمل ذلك على تعدد الحال فكان أحيانا يجوع إذا لم يواصل ليتأسى به أصحابه ولا سيما من لم يجد شيئا
ولمسلم عن يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس جئت رسول الله فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم وقد عصب بطنه بعصابة فسألت بعض أصحابه فقال من الجوع فذهبت إلى أبي طلحة فأخبرته فدخل على أم سليم فقال هل من شيء فكأنه لما أخبره جاء فسمع صوته ورآه
ولأحمد عن أنس أن أبا طلحة رآه طاويا
ولمسلم عن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس قال رأى أبو طلحة رسول الله مضطجعا يتقلب ظهرا لبطن ولأبي نعيم عن أنس جاء أبو طلحة إلى أم سليم فقال أعندك شيء فإني مررت على رسول الله وهو يقرىء أصحاب الصفة سورة النساء وقد ربط على بطنه حجرا من الجوع ( فهل عندك من شيء ) يأكله ( فقالت نعم فأخرجت أقراصا من شعير ) جمع قوص بالضم قطعة عجين مقطوع منه
ولأحمد عمدت أم سليم إلى نصف مد من شعير فطحنته وللبخاري
____________________
(4/375)
عمدت إلى مد من شعير جشته ثم عملته عصيدة وفي لفظ خطيفة بمعجمة ومهملة العصيدة وزنا ومعنى
ولمسلم وأحمد أتى أبو طلحة بمدين من شعير فأمر فصنع طعاما قال الحافظ ولا منافاة لاحتمال تعدد القصة أو أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر ويجمع أيضا بأن الشعير في الأصلي صاع فأفردت نصفه لعيالهم ونصفه للنبي ويدل على التعدد ما بين العصيدة والخبز لمفتوت الملتوت بالسمن من المغايرة
( ثم أخذت خمارا ) بكسر الخاء المعجمة لها ( فلفت الخبز بعضه ) أي الخمار ( ثم دسته ) أي أدخلته بقوة ( تحت يدي ) بكسر الدال أي إبطي ( وردتني ) بشد الدال ( ببعضه ) أي جعلته رداء لي وللتنيسي ولاثتني بعضه بمثلثة ففوقية ساكنة فنون مكسورة أي لفتني ( ثم أرسلتني إلى رسول الله قال ) أنس ( فذهبت به ) بالذي أرسلتني ( فوجدت رسول الله جالسا في المسجد ) الموضع الذي أعده للصلاة عند الخندق ( ومعه ناس فقمت عليهم فقال رسول الله آرسلك ) بهمزة ممدودة للاستفهام ( أبو طلحة قال ) أنس ( فقلت نعم قال للطعام ) أي لأجله ( قال قلت نعم فقال رسول الله قوموا ) ظاهره أنه فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله فلذا قال لمن عنده قوموا
وأول الكلام يقتضي أن أم سليم وأبا طلحة أرسلا الخبز مع أنس فيجمع بأنهما أراد بإرسال الخبز مع أنس أن يأخذه فيأكله فلما وصل أنس ورأى كثرة الناس حوله استحى وأظهره أنه يدعوه ليقوم معه وحده إلى المنزل ليحصل قصده من إطعامه ويحتمل أن يكون ذلك عن رأي من أرسله عهد إليه إذا رأى كثرة الناس أن يستدعي النبي وحده خشية أن لا يكفيهم ذلك الشيء هو ومن معه وقد عرفوا إيثاره وأنه لا يأكل وحده وأكثر الروايات تقتضي أن أبا طلحة استدعاه ففي رواية سعد بن سعيد عن أنس بعثني أبو طلحة إلى النبي أدعوه وقد جعل طعاما وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس أمر أبو طلحة أم سليم أن تصنع للنبي لنفسه خاصة ثم أرسلتني إليه وفي رواية يعقوب عن أنس فدخل أبو طلحة على أمي فقال هل من شيء فقالت نعم عندي كسر من خبز فإن جاءنا رسول الله وحده أشبعناه وإن جاء أحد معه قل عنهم وجميع ذلك في مسلم
وفي رواية مبارك بن فضالة عند أحمد أن أبا طلحة قال اعجنيه واصلحيه عسى أن ندعو رسول الله فيأكل عندنا ففعلت فقالت ادع رسول الله وفي رواية يعقوب بن عبد الله عن أنس عند أبي نعيم وأصله عند مسلم فقال لي أبو طلحة يا أنس اذهب فقم قريبا من رسول الله فإذا قام فدعه حتى يتفرق أصحابه ثم اتبعه حتى إذا قام عند عتبة بابه فقل له إن أبي يدعوك ولأبي يعلى عن عمر ابن عبد الله عن أنس قال لي أبو طلحة اذهب فادع رسول الله وللبخاري عن ابن سيرين
____________________
(4/376)
عن أنس ثم بعثني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وهو في أصحابه فدعوته ولأحمد من رواية النضر بن أنس عن أبيه قالت لي أم سليم اذهب إلى رسول (1)
____________________
1* الله فقل له إن رأيت أن تغدى عندنا فافعل وللبغوي عن يحيى المازني عن أنس فقال أبو طلحة اذهب يا بني إلى النبي صلى فادعه فجئته فقلت أن أبي يدعوك ولأبي نعيم عن محمد بن كعب عن أنس فقال يا بني اذهب إلى رسول الله فادعه ولا تدع معه غيره ولا تفضحني قاله الحافظ ولم يتنزل للجمع بين هذه الروايات العشر وبين مقتضى أول حديث الباب لسهولته وهو أنه أرسله يدعوه وحده وأرسل معه الخبز فإن جاء قدموه له وإن شق عليه المجيء لمحاصرة الأحزاب أعطاه الخبز سرا
وأما اختلاف الروايات في أنه أقراص أو كسر من خبز فيجمع بأنها كانت أقراصا مكسرة
وقوله اعجنيه واصلحيه يحمل على تليينه بنحو ماء أو سمن ليسهل تناوله كأنه كان يابسا كما هو شأن الكسر غالبا
( قال فانطلق ) هو ومن معه ( وانطلقت بين أيديهم ) وفي رواية يعقوب عن أنس فلما قلت له أن أبي يدعوك قال لأصحابه تعالوا ثم أخذ بيدي فشدها ثم أقبل بأصحابه حتى إذا دنوا أرسل يدي فدخلت وأنا حزين لكثرة من جاء معه ( حتى جئت أبا طلحة فأخبرته ) بمجيئهم
وفي رواية النضر بن أنس عن أبيه فدخلت على أم سليم وأنا مندهش وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى أن أبا طلحة قال يا أنس فضحتنا
وللطبراني الأوسط فجعل يرميني بالحجارة
( فقال أبو طلحة يا أم سليم قد جاء رسول الله بالناس وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم ) أي قدر ما يكفيهم ( فقالت الله ورسوله أعلم ) أي أنه لم يأت بهم إلا وسيطعمهم كأنها عرفت أنه فعل ذلك عمدا ليظهر الكرامة في تكثير الطعام ودل ذلك على فضل أم سليم ورجحان عقلها
( قال فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله ) زاد في رواية فقال يا رسول الله ما عندنا إلا قرص عملته أم سليم وفي أخرى إنما أرسلت أنسا يدعوك وحدك ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى فقال ادخل فإن الله سيبارك فيما عندك ( فأقبل رسول الله وأبو طلحة معه حتى دخلا ) وقعد من معه على الباب ( فقال رسول الله هلمي ) بالياء على لغة تميم وفي رواية هلم بلا ياء على لغة الحجاز لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ومنه هلم إلينا والمراد الطلب أي هات يا أم سليم ما عندك وفيه أن الصديق يأمر في دار صديقه بما يحب ويظهر الأمر والنهي
والتحكم لآمره بفت الخبز وقول هلمي ما عندك وهذا خلق كريم رفيع ولقد أحسن العلوي حين افتخر فقا
(4/377)
يستأنس الضيف في أبياتنا أبدا فليس يعرف خلق أينا الضيف ( فأتت بذلك الخبز ) الذي كانت أرسلته مع أنس ويحتمل أنه لما أخبرها أخذته منه وأنه كان باقيا معه وخاطبها لأنها هي المتصرفة ( فأمر به ففت ) بضم الفاء وشد الفوقية أي كسر ( وعصرت عليه أم سليم عكة لها ) بضم المهملة وشد الكاف إناء من جلد مستدير يجعل فيه السمن غالبا والعسل
ولأحمد عن أنس فقال هل من سمن فقال أبو طلحة قد كان في العكة شيء فجاء بها فجعلا يعصرانها حتى خرج فيحتمل أنها عصرتها لما أتت بها ثم أخذها منها وعصراها استفراغا لما بقي فيها أو أنهما ابتدآ عصرها ثم حاولت بعد عصرهما إخراج شيء منها فلا مخالفة بينه وبين قوله وعصرت أم سليم أو ضمير التثنية في عصراها لها ولأبي طلحة واقتصر هنا على أنها التي عصرت لابتدائها بالعصر وساعدها زوجها ( فأدمته ) أي صيرت ما خرج من العكة أدما له ( ثم قال رسول الله ما شاء الله أن يقول ) ولمسلم من رواية سعد بن سعيد عن أنس فمسحها ودعا فيها بالبركة ولأحمد عن النضر بن أنس عن أبيه أحمد فجئت بها أي العكة ففتح رباطها ثم قال بسم الله اللهم أعظم فيها البركة ولأحمد عن بكر بن عبد الله وثابت عن أنس ثم مسح القرص فانتفخ وقال بسم الله فلم يزل يصنع ذلك والقرص ينتفخ حتى رأيت القرص في الجفنة يتسع ولا ينافيه أن الخبز فت وجعل عليه السمن لأنه لما وضع على الفت اجتمع فصار كالقرص الواحد
ومر أن أبا طلحة عبر عنها بقرص قبل فتها لقلتها وهذا غير ذلك ( ثم قال ائذن لعشرة بالدخول ) لأنه أرفق ولضيق البيت أولهما معا ( فأذن لهم ) ظاهره أنه دخل وحده وبه صرح
وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عند أحمد ومسلم عن أنس بلفظ فلما انتهى إلى الباب قال لهم اقعدوا ودخل ( فأكلوا حتى شبعوا ) وفي رواية لأحمد فوضع يده وبسط القرص وقال كلوا باسم الله فأكلوا من حوالي القصعة حتى شبعوا وفي رواية فقال لهم كلوا من بين أصابعي ( ثم خرجوا ) وفي رواية أحمد ثم قال لهم قوموا وليدخل عشرة مكانكم ( ثم قال ائذن لعشرة ) ثانية ( فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال ائذن لعشرة ) ثالثة ( فأذن لهم ) فدخلوا ( فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال ائذن لعشرة ) رابعة فما زال يدخلهم عشرة عشرة ( حتى أكل القوم كلهم وشبعوا ) ولمسلم عن سعد بن سعيد عن أنس حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل فأكل حتى شبع وفي رواية له من هذا
____________________
(4/378)
الوجه ثم أخذ ما بقي فجمعه ثم دعا بالبركة فعاد كما كان ( والقوم سبعون رجلا أو ثمانون رجلا ) بالشك من الراوي
وفي مسلم وأحمد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس حتى فعل ذلك بثمانين رجلا بالجزم وزاد ثم أكل وأهل البيت وتركوا سؤرا أي فضلا وفي رواية لأحمد كانوا نيفا وثمانين قال وأفضل لأهل البيت ما يشبعهم
ولا منافاة لاحتمال أنه ألغى الكسر
ولمسلم عن عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس وأفضلوا ما بلغوا جيرانهم وفي رواية عمرو ابن عبد الله عن أنس في مسلم وفضلت فضلة فأهدينا لجيراننا ولأبي نعيم عن ربيعة عن أنس حتى أهدت أم سليم لجيرانها قال العلماء وإنما أدخلهم عشرة عشرة لأنها كانت قصعة واحدة لا يمكن الجماعة الكثيرة أن يقدروا على التناول منها مع قلة الطعام فجعلوا كذلك لينالوا من الأكل ولا يزدحموا أو لضيق البيت أو لهما
وقال الحافظ سئلت في مجلس الإملاء عن حكمة تبعيضهم فقلت يحتمل أنه عرف قلة الطعام وأنه في صحفة واحدة فلا يتصور أن يتحلقها ذلك العدد الكثير فقيل لم لا أدخل الكل وينظر من لم يسعه التحلق وكان أبلغ في اشتراك الجميع في الاطلاع على المعجزة بخلاف التبعيض بطرقه احتمال تكرر وضع في الطعام لصغر الصحفة فقلت يحتمل أن ذلك لضيق البيت
وفي رواية للبخاري عن ابن سيرين عن أنس أن أمه عمدت إلى مد شعير جشته وجعلت منه خطيفة وعصرت عكة عندها ثم بعثتني إلى النبي فأتيته وهو في أصحابه فدعوته قال ومن معي فجئت فقلت أنه يقول ومن معي فخرج إليه أبو طلحة فقال يا رسول الله إنما هو شيء صنعته أم سليم فدخل وجيء به وقال أدخل علي عشرة حتى عد أربعين ثم أكل ثم قام فجعلت أنظر هل نقص منها شيء ولأحمد حتى أكل منها أربعون رجلا وبقيت كما هي وهذا يدل على تعدد القصة
وفي مسلم عن يعقوب عن أنس أدخل علي ثمانية ثمانية فما زال حتى دخل عليه ثمانون ثم دعاني ودعا أمي وأبا طلحة حتى شبعنا وهذا أيضا يدل على تعدد القصة فإن أكثر الروايات أنه أدخلهم عشرة عشرة سوى هذه
ولأبي يعلى عن محمد بن سيرين عن أنس أن أبا طلحة بلغه أنه ليس عنده طعام فآجر نفسه بصاع غير شعير فعمل بقية يومه ذلك ثم جاء به الحديث وهذا أيضا يدل على التعدد وأن القصة التي رواها ابن سيرين غير القصة التي رواها غيره وكذا ما بين الخبز المفتوت الملتوت بالسمن والعصيدة من المغايرة انتهى ملخصا
وحاصله أنه تعدد مرتين مرة سألها فوجد الخبز ففعل ما ذكر في حديث الباب وكانوا ثمانين وأدخلهم عشرة عشرة ومرة لم يسألها بل آجر نفسه بصاع وأتى به إليها وقال اعجنيه وأصلحيه فجعلته عصيدة ودعاه فجاء ومعه أربعون وأدخلهم ثمانية ثمانية وبهذا تتضح الروايات لكن يعكر عليه أن رواية يعقوب التي قال فيها أدخلهم ثمانية ثمانية ففيها أنهم ثمانون إلا أن تكون شاذة والمحفوظ رواية ابن سيرين أنهم أربعون لكن فيها
____________________
(4/379)
أدخل علي عشرة وفي الحديث معجزة باهرة وأخرجه البخاري في علامات النبوة عن عبد الله بن يوسف وفي الأطعمة عن إسماعيل ومسلم عن يحيى ثلاثتهم عن مالك به وأخرجه الترمذي في المناقب والنسائي في الوليمة
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة أن رسول الله قال طعام الاثنين ) المشبع لهما ( كافي الثلاثة ) لقوتهم ( وطعام الثلاثة ) المشبع لهم ( كافي الأربعة ) قوتا
وفي مسلم عن عائشة مرفوعا طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية وفي ابن ماجه من حديث عمر طعام الواحد يكفي الاثنين وإن طعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة وإن طعام الأربعة يكفي الخمسة والستة وقال المهلب المراد بهذه الأحاديث الحض على المكارمة والتقنع بالكفاية يعني وليس المراد الحصر في مقدار الكفاية وإنما المراد المواساة وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث لطعامهما ورابع أيضا بحسب من يحضر
وعند الطبراني ما يرشد إلى العلة في ذلك وأوله كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن طعام الواحد يكفي الاثنين الحديث فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ عن بركة الاجتماع وأن الجمع كلما كثر زادت البركة
وقيل معناه أن الله يضع من بركته فيه ما وضع لنبيه فيزيد حتى يكفيهم
قال ابن العربي وهذا إذا صحت نيتهم وانطلقت ألسنتهم به فإن قالوا لا يكفينا قيل لهم البلاء موكل بالمنطق
وقال العز بن عبد السلام في الأمالي إن أريد الإخبار عن الواقع فمشكل لأن طعام الاثنين لا يكفي إلا اثنين وإن كان له معنى آخر فما هو والجواب من وجهين أحدهما أنه خبر بمعنى الأمر أي أطعموا طعام الاثنين الثلاث والثاني أنه للتنبيه على أن ذلك يقوت الثلاث وأخبرنا بذلك لئلا نجزع والأول أرجح لأن الثاني معلوم انتهى
وروى العسكري في المواعظ عن عمر مرفوعا كلوا ولا تفرقوا فإن طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن البركة في الجماعة فيؤخذ من هذا أن الشرط الاجتماع على الأكل وأن معنى الحديث طعام الاثنين إذا كانا مفترقين كما في الثلاثة إذا أكلوا مجتمعين
قال ابن المنذر يؤخذ من حديث أبي هريرة استحباب الاجتماع على الطعام وأن لا يأكل المرء وحده انتهى
وفيه أيضا إشارة إلى أن المواساة إذا حصلت حصل معها البركة فتعم الحاضرين وأنه لا ينبغي للمرء أن يستحقر ما عنده فيمتنع من تقديمه فإن القليل قد يحصل به الاكتفاء بمعنى حصول قيام البنية لا حقيقة الشبع ومنه قول عمر عام الرمادة لقد هممت أن أنزل على أهل كل بيت مثل عددهم فإن الرجل لا يهلك على ملء بطنه وأخذ منه أن السلطان في المسغبة يفرق الفقراء على
____________________
(4/380)
أهل السعة بقدر لا يضر بهم
وأخرج الشيخان في الأطعمة البخاري عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به ورواه الترمذي في الأطعمة والنسائي في الوليمة
( مالك عن أبي الزبير ) محمد بن مسلم بن تدرس ( المكي عن جابر بن عبد الله ) رضي الله عنهما ( أن رسول الله قال أغلقوا ) بفتح الهمزة وسكون المعجمة ( الباب ) حراسة للنفس والمال من أهل الفساد ولا سيما الشيطان وفي الصحيح عن عطاء عن جابر أطفئوا المصابيح إذا رقدتم وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله ( وأوكوا ) بفتح الهمزة وسكون الواو وضم الكاف بلا همز شدوا واربطوا ( السقاء ) بكسر السين القربة أي شدوا رأسها بالوكاء وهو الخيط
زاد في رواية عطاء واذكروا اسم الله أي لمنع الشيطان واحترازا من الوباء الذي ينزل في ليلة من السنة كما روي ويقال إنها في كانون الأول
( وأكفئوا الإناء ) قال عياض بقطع الألف وكسر الفاء رباعي وبوصلها وضم الفاء ثلاثي وهما صحيحان أي اقلبوه ولا تتركوه للعق الشيطان ولحس الهوام وذوات الأقذار
( أو خمروا ) بفتح المعجمة وكسر الميم الثقيلة غطوا
( الإناء ) يحتمل أنه شك من الراوي والأظهر أنه لفظ النبي أي اكفوه إن كان فارغا أو خمروه إن كان فيه شيء قاله الباجي
ويؤيده أن في بعض طرقه عند البخاري عن جابر وخمروا الطعام والشراب وفي الصحيح أيضا عن جابر وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليها بعود ( وأطفئوا ) بهمزة قطع وسكون المهملة وكسر الفاء ثم همزة مضمومة ( المصباح ) السراج زاد في رواية عطاء إذا رقدتم ( فإن الشيطان ) وفي رواية من طريق عطاء فإن الجن ولا تضاد بينهما إذ لا محذور في انتشار الصنفين إذ هما حقيقة واحدة يختلفان بالصفات قاله الكرماني ( لا يفتح غلقا ) بفتح الغين واللام إذا ذكروا اسم الله عليه
وفي رواية عطاء فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا ( ولا يحل ) بفتح الياء وضم الحاء ( وكاء ) خيطا ربط به وذكر اسم الله عليه
( ولا يكشف إناء ) غطي أو كفىء وذكر اسم الله عليه
ففي رواية الليث عن أبي الزبير عند مسلم ولا يكشف إناء فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودا ويذكر اسم الله فليفعل وفي أبي داود واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا أي لا يقدر على ذلك لأن اسم الله تعالى هو الغلق الحقيقي
ولأحمد من حديث أبي أمامة فإنهم أي الشياطين لم يؤذن لهم في التسور
ومقتضاه أنه يتمكن من كل ذلك إذا لم يذكر اسم الله
قال الحافظ ويؤيده ما في مسلم والأربعة مرفوعا إذا دخل الرجل بيته فذكر اسم الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم قال ابن دقيق العيد يحتمل أن يوجه قوله فإن الشيطان لا يفتح على عمومه ويحتمل
____________________
(4/381)
أن يخص بما ذكر اسم الله عليه ويحتمل أن المنع لأمر متعلق بجسمه ويحتمل أنه لمانع من الله بأمر خارج عن جسمه قال والحديث يدل على منع دخول الشيطان الخارج فأما الشيطان الذي كان داخلا فلا يدل الخبر على خروجه فيكون ذلك لتخفيف المفسدة لا دفعها ويحتمل أن التسمية عند الإغلاق تقتضي طرد من في البيت من الشياطين وعلى هذا فينبغي أن تكون التسمية من ابتداء الإغلاق إلى تمامه واستنبط منه بعضهم مشروعية غلق الفم عند التثاؤب لدخوله في عموم الأبواب انتهى
( وإن الفويسقة ) بتصغير التحقير ( تضرم ) بضم التاء وسكون المعجمة وكسر الراء أي توقد ( على الناس ) وفي رواية الليث على أهل البيت ( بيتهم ) وفي رواية زهير عن أبي الزبير ثيابهم وفي رواية سفيان والفويسقة تضرم البيت على أهله والضرمة بالتحريك النار والضرام لهب النار
وفي الصحيح عن عطاء عن جابر فإن الفويسقة ربما جرت الفتيلة فأحرقت أهل البيت وفي أبي داود عن ابن عباس جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة فجاءت بها فألقتها بين يديه على الخمرة التي كان قاعدا عليها فاحترق فيها موضع درهم فقال إذا نمتم فأطفئوا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتحرقكم وروى الطحاوي عن يزيد بن أبي نعيم أنه سأل أبا سعيد الخدري لم سميت الفأرة الفويسقة قال استيقظ النبي ذات ليلة وقد أخذت فأرة فتيلة لتحرق عليه البيت فقام إليها وقتلها وأحل قتلها للحلال والمحرم ففي هذا بيان سبب الأمر بالإطفاء والسبب الحامل للفأرة على جر الفتيلة وهو الشيطان فيستعين وهو عدو الإنسان بعدو آخر وهي النار والأوامر المذكورة للإرشاد إلى المصلحة الدنيوية والاستحباب خصوصا من ينوي بفعلها الامتثال
وفي الصحيح مرفوعا لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون قال النووي وهو عام يدخل فيه المصباح وغيره
وأما القناديل المعلقة في المساجد وغيرها فإن خيف حريق بسببها دخلت في الأمر وإن أمن ذلك كما هو الغالب فالظاهر أنه لا بأس بها للعلة التي علل بها وإذا انتفت العلة زال المانع
والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه الليث وزهير وسفيان كلهم عند مسلم عن أبي الزبير بنحوه وهو في البخاري ومسلم من طرق عن عطاء أبي رباح عن جابر بنحوه
( مالك عن سعيد بن أبي سعيد ) كيسان ( المقبري ) بضم الباء وفتحها المدني ( عن أبي شريح ) بضم الشين المعجمة وآخره حاء مهملة الخزاعي ثم ( الكعبي ) نسبة إلى كعب بن عمرو بطن من خزاعة اسمه خويلد بن عمرو على الأشهر وقيل عمرو بن خويلد وقيل هانىء وقيل كعب بن عمرو وقيل عبد الرحمن أسلم قبل الفتح وكان معه لواء خزاعة يوم فتح مكة نزل المدينة وله أحاديث عن النبي وروى أيضا عن ابن مسعود وروى عنه جماعة من التابعين مات بالمدينة سنة ثمان وستين ( أن رسول الله قال ) وفي رواية الليث عن سعيد عن أبي شريح سمعت أذناي وأبصرت
____________________
(4/382)
عيناي حين تكلم النبي فقال ( من كان يؤمن بالله ) الذي خلقه إيمانا كاملا ( واليوم الآخر ) الذي إليه معاده وفيه جزاؤه فهو إشارة إلى المبدأ والمعاد وعبر بالمضارع هنا وفيما بعده قصدا إلى استمرار الإيمان وتجدده بتجدد أمثاله وقتا فوقتا لأنه عرض لا يبقى زمانين وذلك لأن المضارع لكونه فعلا يفيد التجدد والحدوث وهذا من خطاب التهييج من قبيل { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } سورة المائدة الآية 23 أي أن ذلك من صفة المؤمن وأن خلافه لا يليق بمن يؤمن بذلك ولو قيل لا يحل لأحد لم يحصل هذا الغرض
( فليقل خيرا ) يثاب عليه بعد التفكر فيما يريد التكلم به فإذا ظهر له أنه خير لا يترتب عليه مفسدة قاله
( أو ليصمت ) بضم الميم أي يسكت عن الشر فيسلم لقوله في الحديث الآخر من صمت نجا قاله عياض وقد ضبطه غير واحد بضم الميم وكأنه الرواية المشهورة وإلا فقد قال الطوفي سمعناه بكسرها وهو القياس لأن قياس فعل بفتح العين ماضيا يفعل بكسرها مضارعا نحو ضرب يضرب ويفعل بضم العين فيه دخيل كما في الخصائص لابن جني انتهى
أي يسكت عن ما لا خير فيه وفواتهما ينافي حال المؤمنين وشرف الإيمان لأنه من الأمن ولا أمان لمن فاته الغنيمة والسلامة
وفي رواية أو ليسكت ومعناهما واحد لكن الصمت أخص لأنه السكوت مع القدرة وهو المأمور به أما السكوت مع العجز لفساد آلة النطق فهو الخرس أو لتوقفها فهو العي قال القرطبي معناه أن المصدق بالثواب والعقاب المترتبين على الكلام في الدار الآخرة لا يخلو إما أن يتكلم بما يحصل له ثوابا أو خيرا فيغنم أو يسكت عن شيء يجلب له عقابا أو شرا فيسلم فأو للتنويع والتقسيم فيسن له الصمت حتى عن المباح لأدائه إلى محرم أو مكروه وبفرض خلوه عن ذلك فهو ضياع الوقت فيما لا يعني ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه قال وأفاد الحديث أن قول الخير أفضل من الصمت لتقديمه عليه وإنما أمر به عند عدم قول الخير وقد أكثر الناس في تفصيل آفات الكلام وهي أكثر من أن تدخل تحت حصر وحاصله أن آفات اللسان أسرع الآفات للإنسان وأعظمها في الهلاك والخسران فالأصل ملازمة الصمت حتى تتحقق السلامة من الآفات والحصول على الخيرات فحينئذ تخرج تلك الكلمة مخطومة وبأزمة التقوى مزمومة وهذا من جوامع الكلم لأن الكلام كله خير أو شر أو آيل إلى أحدهما فدخل في الخير كل مطلوب من فرض ونفل فأذن فيه على اختلاف أنواعه ودخل فيه ما يؤول إليه وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤول إليه فأمر بالصمت عنه فكل من آمن بالله حق الإيمان خاف وعيده ورجا ثوابه ومن آمن باليوم الآخر استعد واجتهد في فعل ما يدفع به أهواله فيأتمر بالأوامر وينتهي عن النواهي ويتقرب لمولاه بما يقربه إليه ويعلم أن من أهم ما عليه ضبط جوارحه ومن أكثر المعاصي عددا وأيسرها فعلا معاصي اللسان وقد استقرأ المحاسبون لأنفسهم آفات اللسان فزادت على العشرين وأرشد إلى ذلك جملة فقال وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم إلى غير ذلك فمن آمن بذلك حق إيمانه اتقى الله في لسانه
وقد قال ابن مسعود وسلمان ما شيء أحق بطول السجن من اللسان
____________________
(4/383)
( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) أي يوم القيامة وصف به لتأخره عن أيام الدنيا أو لأنه أخر الحساب إليه أو لأنه لا ليل بعده ولا يقال يوم إلا لما بعده ليل أي يصدق بوجوده مع ما اشتمل عليه من الأحوال والأهوال واكتفى بهما عن الإيمان بالرسل والكتب وغيرهما لأن الإيمان به على ما هو عليه يستلزم الإيمان بنبوءته وهو يستلزم الإيمان بجميع ما جاء به
( فليكرم جاره ) بالبشر وطلاقة الوجه وبذل الندى وكف الأذى وتحمل ما فرط منه ونحو ذلك
وفي رواية نافع عن جبير عن أبي شريح عند مسلم فليحسن إلى جاره وفي رواية للشيخين من حديث أبي هريرة فلا يؤذي جاره وقد أوصى الله بالإحسان إليه في القرآن وقال ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه قال القرطبي فمن كان مع هذا التأكيد الشديد مضرا لجاره كاشفا لعوراته حريصا على إنزال البوائق به كان ذلك منه دليلا على فساد اعتقاد ونفاق فيكون كافرا ولا شك أنه لا يدخل الجنة وأما على امتهانه بما عظم الله من حرمة الجار ومن تأكيد عهد الجوار فيكون فاسقا فسقا عظيما ومرتكب كبيرة يخاف عليه من الإصرار عليها أن يختم له بالكفر فإن المعاصي بريد الكفر فيكون من الصنف الأول فإن سلم من ذلك ومات بلا توبة فأمره إلى الله وقد كانوا في الجاهلية يبالغون في رعايته وحفظ حقه
حكى ابن عبد البر عن أبي حازم بن دينار قال كان أهل الجاهلية أبر منكم بالجار هذا قائلهم قال ناري ونار الجار واحدة وإليه قبلي ينزل القدر ما ضر جاري إذ أجاوره أن لا يكون لبابه ستر أغض طرفي إذ ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر وقال آخر أغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها قال الحافظ واسم الجار يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والبلدي والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب دارا والأبعد وله مراتب أعلى من بعض فأعلى من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى فيعطى كل حقه بحسب حاله وقد تتعارض صفتان فترجح أو تساوي وقد حمله ابن عمر على العموم فأمر لما ذبحت له شاة أن يهدى منها لجاره اليهودي كما رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وحسنه ووردت الإشارة إلى ما ذكر في حديث مرفوع أخرجه الطبراني الجيران ثلاثة جار له حق وهو المشرك له حق الجوار وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار وحق الإسلام وجار له ثلاثة حقوق وهو المسلم له رحم حق الإسلام والجوار والرحم والأمر بالإكرام يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فقد يكون فرض عين وقد يكون فرض كفاية وقد يكون مندوبا ويجمع الجميع أنه من مكارم الأخلاق
____________________
(4/384)
وجاء تفسير الإحسان والإكرام للجار في أخبار أخر منها ما رواه الطبراني والخرائطي وأبو الشيخ عن معاوية بن حيدة قلت يا رسول الله ما حق جاري علي قال إن مرض عدته وإن مات شيعته وإن استقرضك أقرضته وإن أعوز سترته وإن أصابه خير هنيته وإن أصابته مصيبة عزيته ولا ترفع بناءك فوق بنائه فتسد عليه الريح ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها وروى الخرائطي والطبراني عن معاذ قالوا يا رسول الله ما حق الجار على جاره قال إن استقرضك أقرضته وإن استعانك أعنته وإن مرض عدته وإن احتاج أعطيته وإن افتقر عدت عليه وإذا أصابه خير هنيته وإن أصابته مصيبة عزيته وإن مات اتبعت جنازته ولا تستطيل عليه البناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها وإن اشتريت فاكهة فأهد له وإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا تخرج بها ولدك ليغبط بها ولده ورواه الخرائطي أيضا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وألفاظهم متقاربة وأسانيدهم واهية لكن تعدد مخارجها يشعر بأن للحديث أصلا
قال ابن أبي جمرة وإكرام الجار من كمال الإيمان والذي يشمل جميع وجوه الإكرام إرادة الخير له وموعظته بالحسنى والدعاء له بالهداية وترك الإضرار على اختلاف أنواعه حسيا كان أو معنويا إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار بالقول أو الفعل والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم وغير الصالح كفه عما يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه وإظهار محاسنه والترغيب فيه برفق والفاسق بما يليق به برفق فإن أفاد وإلا هجره قاصدا تأديبه مع إعلامه بالسبب وهنا تنبيه وهو أنه إذا أمر بإكرام الجار مع الحائل بين الإنسان وبينه فينبغي أن يرعى حق الحافظين اللذين ليس بينه وبينهما جدار ولا حائل فلا يؤذيهما بأنواع المخالفات في مرور الساعات فقد ورد أنهما يسران بالحسنات ويحزنان بالسيئات فينبغي إكرامهما ورعاية جانبهما بالإكثار من عمل الطاعات والمواظبة على تجنب المعاصي فهما أولى بالإكرام من كثير من الجيران اه
وقال ابن العربي حد الجوار في رواية بعضهم مرفوعا إلى أربعين دارا ولم يثبت وعنوا به من كل جهة وهذا دعوى لا برهان عليها والذي يتحصل عند النظر أن الجار له مراتب الأول الملاصقة والثاني المخالطة بأن يجمعهما مسجد أو مجلس أو بيوت ويتأكد الحق مع المسلم ويبقى أصله مع الكافر والمسلم وقد يكون مع العاصي بالتستر عليه اه
وقالت عائشة يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال إلى أقربهما منك بابا قال الزواوي هذا والله أعلم إذا كان المشي قليلا فالأقرب بابا أولى به فأما مع السعة وكثرة ما يهدي فليهد إلى غير واحد الأقرب فالأقرب
( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) إيمانا كاملا ( فليكرم ضيفه ) بطلاقة الوجه والإتحاف والزيادة ( جائزته ) بجيم وزاي منقوطة أي منحته وعطيته وإتحافه بأفضل ما يقدر عليه روي بالرفع مبتدأ خبره ( يوم وليلة ) وبالنصب مفعول ثاني ليكرم لأنه في معنى يعطي أو بنزع الخافض أي بجائزته
____________________
(4/385)
وهي يوم وليلة وبدل اشتمال وفي رواية الليث فليكرم ضيفه جائزته قالوا وما جائزته يا رسول الله قال يوم وليلة ( وضيافته ثلاثة أيام ) باليوم الأول أو ثلاثة بعده والأول أشبه لكن في مسلم من رواية عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن أبي شريح الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة وهذا يدل على المغايرة قال عيسى بن دينار معنى جائزته يوم وليلة أن يتحفه ويكرمه بأفضل ما يستطيعه وضيافته ثلاثة كأنه يريد من غير تكلف كما يتكلف في أول ليلة
قال الباجي ويحتمل أن الضيافة لمن أراد الجواز يوم وليلة ولمن أراد المقام ثلاثة أيام
وقال الخطابي أي يتكلف له يوما وليلة فيتحفه ويزيد في البر على ما يحضره في سائر الأيام وفي اليومين الآخرين يقدم له ما حضر فإذا مضت الثلاث فقد مضى حقه
( فما كان بعد ذلك ) مما يحضره له بعد ذلك ( فهو صدقة ) عليه وفي التعبير بصدقة تنفير عنه لأن كثيرا من الناس لا سيما الأغنياء يأنفون غالبا من أكل الصدقة وكان ابن عمر إذا قدم مكة نزل على أصهاره فيأتيه طعامه من عند دار خالد بن أسيد فيأكل من طعامهم ثلاثة أيام ثم يقول احبسوا عنا صدقتكم ويقول لنافع أنفق من عندك الآن أخرجه أبو عمر في التمهيد
( ولا يحل له ) للضيف ( أن يثوي ) بفتح التحتية وسكون المثلثة وكسر الواو أي يقيم ( عنده ) عند من أضافه ( حتى يحرجه ) بضم التحتية وسكون الحاء المهملة وكسر الراء وجيم من الحرج وهو الضيق قال أبو عمر أي يضيق عليه
وقال الباجي يحتمل أن يريد حتى يؤثمه وهو أن يضر به مقامه فيقول أو يفعل ما يؤثمه انتهى ولمسلم حتى يؤثمه أي يوقعه في الإثم لأنه قد يغتابه لطول إقامته أو يعرض له ما يؤذيه أو يظن به ظنا سيئا ويستفاد منه أنه إذا ارتفع الحرج جازت الإقامة بعد بأن يختار المضيف إقامة الضيف أو يغلب على ظن الضيف أن المضيف لا يكره ذلك ثم الأمر بالإكرام للاستحباب عند الجمهور لأن الضيافة من مكارم الأخلاق ومحاسن الدين وخلق النبيين لا واجبة لقوله جائزة والجائزة تفضل وإحسان لا تجب اتفاقا هكذا استدل به الطحاوي وابن بطال وابن عبد بن البر وقال الليث وأحمد تجب الضيافة ليلة واحدة للحديث المرفوع ليلة الضيف واجبة على كل مسلم وحديث الصحيح مرفوعا إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فأقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم وأجاب الجمهور عن هذين وما أشبههما بأن هذا كان في صدر الإسلام حتى كانت المواساة واجبة أو للمجاهدين في أول الإسلام لقلة الأزواد ثم نسخ وبأنه محمول على المضطرين فإن ضيافتهم واجبة من حيث الاضطرار أو مخصوص بالعمال الذين يبعثهم الإمام لأخذ الزكاة أو الكلام في أهل الذمة المشروط عليهم ضيافة المارة
وعند الشافعي ومحمد بن عبد الحكم أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية
وعند مالك وسحنون إنما هي على أهل البوادي لا على أهل الحضر لوجود الفنادق وغيرها للنزول فيها ووجود الطعام للبيع فيها
قال بعضهم ولا يحصل
____________________
(4/386)
الامتثال إلا بالقيام بكفايته فلو أطعمه بعض كفايته لم يكرمه لانتفاء جزء الإكرام وإذا انتفى جزؤه انتفى كله
وفي كتاب المنتخب من الفردوس عن أبي الدرداء مرفوعا إذا أكل أحدكم مع الضيف فليلقمه بيده فإذا فعل ذلك كتب له به عمل سنة صيام نهارها وقيام ليلها ومن حديث قيس بن سعد من إكرام الضيف أن يضع له ما يغسل به حين يدخل المنزل ومن إكرامه أن يركبه إذا انقلب إلى منزله إن كان بعيدا وأن يجلس تحته
وروى ابن شاهين عن أبي هريرة برفعه من أطعم أخاه لقمة حلوة لم يذق مرارة يوم القيامة هذا ومحل الاستحباب فيمن وجد فاضلا عن من يمونه وإلا فليس له ذلك
وأما حديث الأنصاري التي أثنى الله تعالى عليه وعلى زوجته بإيثارهما الضيف على أنفسهما وصبيانهما حيث نومتهم أمهم حتى أكل الضيف فأجيب عن ظاهره من تقديم الضيف على حاجة الصبيان بأنهم لم تشتد حاجتهم للأكل وإنما خاف أبواهما أن الطعام لو قدم للضيف وهم منتبهون لم يصبروا على الأكل وإن لم يكونوا جياعا
وهذا الحديث من جوامع الكلم لاشتماله على ثلاثة أمور تجمع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية وحاصله أن كامل الإيمان متصف بالشفقة على خلق الله قولا بالخير أو سكوتا عن الشر أو فعلا لما ينفع أو تركا لما يضر فليس المراد ما اقتضاه ظاهره من توقف الإيمان على ما ذكر فيه بل المراد الإيمان الكامل كما علم أو على المبالغة في استجلاب هذه الأفعال كما تقول لولدك إن كنت ابني فأطعمني تحريضا وتهييجا على الطاعة لا أنه بانتفاء الطاعة تنتفي ولديته
وأخرجه البخاري في الأدب عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل كلاهما عن مالك به وتابعه الليث عند البخاري وعبد الحميد ابن جعفر عند مسلم كلاهما عن سعيد نحوه وأخرجه مسلم أيضا من حديث نافع بن جبير عن أبي شريح نحوه
( مالك عن سمي ) بضم السين المهملة وفتح الميم وشد التحتية ( مولى أبي بكر ) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ( عن أبي صالح ) ذكوان ( السمان عن أبي هريرة أن رسول الله قال بينما ) بميم وفي رواية بدونها ( رجل ) قال الحافظ لم يسم ( يمشي بطريق ) وللدارقطني في الموطآت من طريق روح بن عبادة عن مالك يمشي بفلاة وله من طريق ابن وهب عن مالك يمشي بطريق مكة ( إذ اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ) منها ( وخرج ) من البئر وفي رواية ثم خرج ( فإذا كلب ) وفي رواية فإذا هو بكلب ( يلهث ) بفتح الهاء ومثلثة أي يرتفع نفسه بين أضلاعه أو يخرج لسانه من العطش حال كونه ( يأكل الثرى ) بفتح المثلثة والقصر التراب الندي ( من العطش ) ويجوز أن يأكل خبر ثان ( فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب ) بالرفع والنصب ( من العطش ) الشديد الذي أصابه ( مثل الذي بلغ مني ) وفي رواية بي وزاد ابن حبان من وجه آخر عن أبي صالح فرحمه ومثل ضبطه الحافظ وغيره بالنصب نعت لمصدر
____________________
(4/387)
محذوف أي بلغ مبلغا مثل الذي بلغ مني قال في المصابيح ولا يتعين لجواز أن المحذوف مفعول به أي عطشا وضبطه الحافظ الدمياطي وغيره بالرفع على أنه فاعل يبلغ فهما روايتان ( فنزل البئر فملأ خفه ) ماء ( ثم أمسكه بفيه ) ليصعد من البئر لعسر الرقي منها ( حتى رقي ) بفتح الراء وكسر القاف كصعد وزنا ومعنى ومقتضى كلام ابن التين أن الرواية رقى بفتح القاف فإنه قال كذا وقع وصوابه رقى على وزن علم ومعناه صعد قال تعالى { أو ترقى في السماء } سورة الإسراء الآية 93 وأما رقى بفتح القاف فمن الرقية وليس هذا موضعه وخرجه على لغة طي في مثل بقى يبقى ورضى يرضى يأتون بالفتحة مكان الكسرة فتقلب الياء ألفا وهذا دأبهم في كل ما هو من هذا الباب انتهى
قال في المصابيح ولعل المقتضي لإيثار الفتح هنا إن صح قصد المزاوجة بين رقى وسقى وهي من مقاصدهم التي يعتمدون فيها تغيير الكلمة عن وضعها الأصلي
( فسقى الكلب ) زاد عبد الله بن دينار عن أبي صالح حتى أرواه كما في الصحيحين أي جعله ريان ( فشكر الله له ) أثنى عليه أو قبل عمله ذلك أو أظهر ما جازاه به عند ملائكته
( فغفر له ) الفاء للسببية أي بسبب قبوله غفر له وفي رواية ابن دينار بدله فأدخله الجنة ( فقالوا ) أي الصحابة وسمي منهم سراقة بن مالك بن جعشم عند أحمد وابن ماجه وابن حبان ( يا رسول الله ) الأمر كما قلت ( وأن لنا في ) سقي ( البهائم ) أو في الإحسان إليها ( لأجرا ) ثوابا ( فقال ) ( في كل كبد ) بفتح الكاف وكسر الموحدة ويجوز سكونها وكسر الكاف وسكون الموحدة رطبة برطوبة الحياة من جميع الحيوان أو لأن الرطوبة لازمة للحياة فيكون كناية عنها أو هو من باب وصف الشيء باعتبار ما يؤول إليه فيكون معناه في كل كبد حرى لمن سقاها حتى تصير رطبة ( أجر ) بالرفع مبتدأ قدم خبره أي حاصل وكائن في إرواء كل ذي كبد حية ويحتمل أن في سببية كقولك في النفس الدية قال الداودي المعنى في كل كبد حي وهو عام في جميع الحيوان قال الأبي حتى الكافر ويدل عليه قوله تعالى { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } سورة الإنسان الآية 8 لأن الأسير إنما يكون في الأغلب كافر انتهى
وقال أبو عبد الملك هذا الحديث كان في بني إسرائيل وأما الإسلام فقد أمر بقتل الكلاب وقوله في كل كبد مخصوص ببعض البهائم مما لا ضرر فيه لأن المأمور بقتله كالخنزير لا يجوز أن يقوى ليزداد ضرره وكذا قال النووي عمومه مخصوص بالحيوان المحترم وهو مما لم يؤمر بقتله فيحصل الثواب بسقيه ويلتحق به إطعامه وغير ذلك من وجوه الإحسان
وقال ابن التين لا يمنع
____________________
(4/388)
إجراؤه على عمومه يعني فيسقى ثم يقتل لأنا أمرنا بأن نحسن القتلة ونهينا عن المثلة وفيه جواز حفر الآبار في الصحراء لانتفاع عطشان وغيره بها
فإن قيل كيف ساغ مع مظنة الاستضرار بها من ساقط بليل أو وقوع بهيمة ونحوها فيها أجيب بأنه لما كانت المنفعة أكثر ومتحققة والاستضرار نادر أو مظنون غلب الانتفاع وسقط الضمان فكانت جبارا فلو تحققت الضرورة لم يجز وضمن الحافر وفيه الحث على الإحسان وأن سقي الماء من أعظم القربات
وأخرجه البخاري في الشرب عن عبد الله بن يوسف وفي المظالم عن القعنبي وفي الأدب عن إسماعيل ومسلم في الحيوان عن قتيبة بن سعيد وأبو داود في الجهاد عن القعنبي كلهم عن مالك به
( مالك عن وهب بن كيسان ) القرشي مولاهم أبي نعيم المدني المعلم ثقة من رجال الجميع مات سنة سبع وعشرين ومائة ( عن جابر بن عبد الله ) رضي الله عنهما ( أنه قال بعث رسول الله بعثا قبل ) بكسر ففتح جهة ( الساحل ) أي ساحل البحر زاد في رواية عمرو بن دينار عن جابر في الصحيحين يرصد عيرا لقريش ولمسلم عن عبيد الله بن مقسم عن جابر بعثنا إلى أرض جهينة وذكر ابن سعد أن بعثهم إلى حي من جهينة بالقبلية بفتح القاف والموحدة وكسر اللام وشد التحتية مما يلي ساحل البحر بينه وبين المدينة خمس ليال وأنهم انصرفوا ولم يلقوا كيدا أي حربا ولا منافاة لاحتمال أن البعث للمتصدين رصد عير قريش وقصد محاربة حي من جهينة قال ابن سعد وكان ذلك في رجب سنة ثمان قال الحافظ لكن تلقي عير قريش لا يتصور كونه في هذا الوقت لأنهم كانوا حينئذ في الهدنة بل مقتضى ما في الصحيح أن يكون البعث في سنة ست أو قبلها قبل هدنة الحديبية نعم يحتمل أن تلقيهم للعير ليس لحربهم بل لحفظهم من جهينة ولهذا لم يقع في شيء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدا بل فيه أنهم أقاموا نصف شهر وأكثر في مكان واحد انتهى
وقال الولي العراقي قالوا كان ذلك في رجب سنة ثمان بعد نكث قريش العهد وقبل فتح مكة في رمضان من السنة المذكورة انتهى
وقال في الهدى كونه في رجب وهم غير محفوظ إذ لم يحفظ أنه غزا في الشهر الحرام ولا أغار فيه ولا بعث فيه سرية قال الحافظ برهان الدين الحلبي هذا كلام حسن مليح لكنه على مختاره من عدم نسخ القتال في الشهر الحرام كشيخه ابن تيمية تبعا للظاهرية وعطاء وهو خلاف ما عليه المعظم من نسخه
( فأمر ) بشد الميم أي جعل أميرا ( عليهم ) أي على البعث ( أبا عبيدة ) عامر بن عبد الله ( بن الجراح ) القرشي الفهري أحد العشرة البدري من السابقين مات شهيدا بطاعون عمواس سنة ثمان عشرة أميرا على الشام من قبل عمر
وفي رواية حمزة الخولاني عن جابر عند ابن أبي عاصم أمر علينا قيس ابن سعد بن عبادة قال الحافظ والمحفوظ ما اتفقت عليه روايات الصحيحين أنه أبو عبيدة وكأن أحد رواته ظن من صنع قيس من نحر الإبل التي اشتراها أنه أمير السرية وليس كذلك
( وهم ) أي الجيش
____________________
(4/389)
( ثلاثمائة ) على المشهور في الروايات في الكتب الستة وبه جزم أهل السير كابن سعد قائلا من المهاجرين والأنصار وللنسائي أيضا بضع عشرة وثلثمائة فإن صحت فلعله اقتصر في الرواية المشهورة على ثلثمائة استسهالا لأمر الكسر لقلته لكن الأخذ بالزيادة مع صحتها واجب لأنه زيادة ثقة غير منافية
( قال ) جابر ( وأنا فيهم ) زاد في رواية لمسلم فيهم عمر بن الخطاب وزاد البخاري ومسلم عن هشام ابن عروة عن وهب نحمل زادنا على رقابنا ( فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق ) التفات من الغيبة للتكلم ( فني ) بفتح الفاء وكسر النون فرغ ( الزاد ) جوز بعض الشراح أن يكون معنى فني أشرف على الفناء ( فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله فكان مزودي تمر ) بكسر الميم وإسكان الزاي وفتح الواو والدال تثنية مزود بالكسر ما يجعل فيه الزاي
( قال ) جابر ( فكان ) أبو عبيدة ( يقوتناه ) بفتح أوله والتخفيف من الثلاثي وبضمه والتشديد من التفويت ( كل يوم قليلا قليلا ) بالنصب على المفعولية ( حتى فني ) ما في المزودين من التمر ( ولم تصبنا ) مما جمع ثانيا من الأزواد الخاصة ( إلا تمرة تمرة ) كل يوم هكذا قاله بعض الشراح وجوز بعضهم أن يكون معنى فني أشرف على الفناء
وقال الحافظ ظاهر هذا السياق أنهم كان لهم أزواد بطريق العموم وأزواد بطريق الخصوص فلما فني الذي بطريق العموم اقتضى رأي أبي عبيدة أن يجمع الذي بطريق الخصوص لقصد المواساة بينهم ففعل فكان جميعه مزودا واحدا
ولمسلم عن أبي الزبير عن جابر فزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة وظاهره يخالف حديث الباب ويجمع بأن الزاد العام كان قدر جراب فلما نفد وجمع أبو عبيدة الزاد الخاص اتفق أنه قدر جراب ويكون كل من الراويين ذكر ما لم يذكر الآخر وأما تفرقته تمرة تمرة فكان في ثاني الحال انتهى
ولا بأس بما قال إلا قوله مزودا واحدا فإن الحديث هنا وفي البخاري وغيره من طريق مالك روي بالتثنية وقول عياض يحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب المذكور ورده الحافظ بأن حديث وهب صريح في أن الذي اجتمع من أزوادهم مزودا تمر ورواية ابن الزبير صريحة في أنه زودهم جرابا من تمر فصح أن التمر كان معهم من غير الجراب قال وقول غيره يحتمل أن تفرقته عليهم تمرة تمرة قصدا لبركته وكان يفرق عليهم من الأزواد التي جمعت أزيد من ذلك بعيد من السياق بل في رواية هشام بن عروة عند ابن عبد البر فقلت أزوادنا حتى ما كان يصيب الرجل منا إلا تمرة قال وهب بن كيسان ( فقلت ) لجابر ( وما تغني ) عنكم ( تمرة ) وفي رواية هشام عن وهب وأين كانت التمرة تقع من الرجل ( فقال لقد وجدنا فقدها ) مؤثرا ( حيث فنيت ) لأنها خير من لا شيء إذ تحلي الفم وترد بعض ألم الجوع
ولمسلم عن أبي الزبير أنه أيضا سأل عن ذلك فقال لقد وجدنا فقدها فقلت ما كنتم
____________________
(4/390)
تصنعون بها قال نمصها كما يمص الصبي الثدي ثم نشرب عليها من الماء فيكفينا يومنا إلى الليل وزاد عمرو بن دينار عن جابر في الصحيحين وغيرهما
فأقمنا على الساحل حتى فني زادنا فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط بفتح المعجمة والموحدة وطاء مهملة أي ورق السلم بفتحتين شجر عظيم له شوك كالعوسج والطلح قيل وهو الذي أكلوا ورقه
ولمسلم عن أبي الزبير عن جابر وكنا نضرب بعصينا الخبط ونبله بالماء فنأكله وهذا يدل على أنه كان يابسا خلافا لزعم الداودي أنه كان أخضر رطبا ولهذا تعرف بسرية الخبط
( قال ) جابر ( فانتهينا ) وفي رواية ثم انتهينا ( إلى البحر فإذا حوت ) اسم جنس لجميع السمك وقيل مخصوص بما عظم منه ( مثل الظرب ) بفتح الظاء المعجمة المشالة وكسر الراء وموحدة حكى ابن التين أنه بالمعجمة الساقطة والأول أصوب الجبل الصغير وقال القزاز هو بسكون الراء إذا كان منبسطا ليس بالعالي
ولمسلم عن أبي الزبير عن جابر فوقع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر وفي رواية عمرو بن دينار فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر وفي رواية عنه أيضا فألقى لنا البحر حوتا ميتا لم نر مثله يقال له العنبر قال أهل اللغة العنبر دابة بحرية كبيرة يتخذ من جلدها الترسة ويقال أن العنبر المشموم رجيع هذا الدابة وقيل المشموم يخرج من الشجر وإنما يوجد في أجواف السمك الذي تبتلعه
وقال الشافعي سمعت من يقول رأيت العنبر نابتا في البحر ملتويا مثل عنق الشاة وفي البحر دابة تأكله وهو سم لها فيقتلها فيقذفه البحر فيخرج العنبر من بطنها
وقال الأزهري العنبر سمكة تكون بالبحر الأعظم يبلغ طولها خمسين ذراعا يقال لها بالة وليست عربية
( فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة ) وفي رواية عمرو بن دينار فأكلنا منه نصف شهر وفي رواية أبي الزبير فأقمنا عليه شهرا قال الحافظ ويجمع بأن من قال ثماني عشرة ضبط ما لم يضبطه غيره ومن قال نصف شهر ألغى الكسر الزائد وهو ثلاثة أيام ومن قال شهرا جبر الكسر أو ضم بقية المدة التي كانت قبل وجدانهم الحوت إليها ورجح النووي رواية أبي الزبير لما فيها من الزيادة وقال ابن التين إحدى الروايتين وهم ولعل الجمع الذي ذكرته أولى
ووقع في رواية الحاكم اثنى عشر يوما وهي شاذة وأشد منها شذوذا رواية الخولاني فأقمنا عليها ثلاثا زاد في رواية عمرو بن دينار عن جابر وادهنا من ودكه حتى ثابت إلينا أجسامنا بمثلثة وموحدة أي رجعت وفيه إشارة إلى أنهم حصل لهم فزال من الجوع السابق
( ثم أمر أبو عبيدة بضلعين ) بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام ( من أضلاعه فنصبا ) بالتذكير وإن كانت الضلع مؤنثة لأنه غير حقيقي فيجوز تذكيره
( ثم أمر براحلة ) أن ترحل ( فرحلت ) بخفة الحاء وشدها ( ثم مرت تحتهما فلم تصبهما ) الراحلة لعظمهما
وفي رواية للبخاري فعمد إلى أطول رجل معه فمر تحته وعند ابن إسحاق عن عبادة بن الصامت ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه
____________________
(4/391)
أجسم رجل منا فخرج من تحتها وما مسته رأسه وجزم في المقدمة بأن الرجل قيس بن سعد بن عبادة وقال في الفتح لم أقف على اسمه وأظنه قيسا فإنه مشهور بالطول وقصته مع معاوية معروفة لما أرسل إليه ملك الروم أطول رجل منهم ونزع له قيس سراويله فكانت طول قامة الرومي بحيث كان طرفها على أنفه وطرفها على الأرض وعوتب قيس في نزع سراويله فقال أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه سراويل عادي نمته ثمود ولمسلم عن أبي الزبير عن جابر فلقد رأيتنا نغترف من وقب عينيه بالقلال الدهن ونقتطع منه الفدر كالتور فأخذ أبو عبيد ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينيه بفتح الواو وسكون القاف وموحدة النقرة التي فيها الحدقة والفدر بكسر الفاء وفتح الدال جمع فدرة بفتح فسكون القطعة من اللحم وغيره
وفي رواية الخولاني عن جابر وحملنا ما شئنا من قديد وودك في الأسقية والغرائر وفي مسلم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن جابر فأتينا سيف البحر فزخر البحر زخرة فألقى دابة فأوينا على شقها النار فأطبخنا واشتوينا وأكلنا وشبعنا قال جابر فدخلت أنا وفلان وفلان حتى عد خمسة في حجاج عينها ما يرانا أحد حتى خرجنا وأخذنا ضلعا من أضلاعها فقوسناه ودعونا بأعظم رجل في الركب وأعظم جمل في الركب وأعظم كفل في الركب فدخل تحته ما يطأطىء رأسه وكفل بكسر الكاف وسكون الفاء ولام كساء يجعله الراكب على سنامه لئلا يسقط
وفي رواية الخولاني عن جابر وحملنا ما شئنا من قديد وودك وللبخاري عن أبي الزبير عن جابر فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي فقال كلوا رزقا أخرجه الله أطعمونا إن كان معكم فأتاه بعضهم بعضو منه فأكله ولأحمد ومسلم عن أبي الزبير عن جابر فقال النبي هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم شيء من لحمه فتطعمونا فكان معنا منه شيء فأرسلنا إلى رسول الله منه فأكل ولابن أبي عاصم عن الخولاني عن جابر فقال لو نعلم أنا ندركه لم يروح لأحببنا لو كان عندنا منه قال الحافظ وهذا لا يخالف رواية أبي الزبير لأنه يحمل على أنه قال ذلك ازديادا منه بعد أن أحضروا له منه ما ذكر أو قال ذلك قبل أن يحضروا له منه وكان ما أحضروه لم يروح فأكل منه
وفي البخاري ومسلم عن عمرو بن دينار عن جابر وكان رجل من القوم نحر ثلاث جزائر أي عندما جاعوا ثم نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر بالتكرار ثلاث مرات وللحميدي في مسنده وغيره عن عمرو بن دينار عن أبي صالح عن قيس بن سعد قال قلت لأبي وكنت في جيش الخبط أصاب الناس جوع قال انحر قلت نحرت ثم جاعوا قال انحر قلت نحرت ثم جاعوا قال انحر قلت نحرت ثم جاعوا قال انحر قلت قد نهيت وروى الواقدي أنهم أصابهم جوع شديد فقال قيس من يشتري مني تمرا بالمدينة بجزر هنا فقال له رجل من جهينة من أنت فانتسب فقال عرفت نسبك فابتاع منه خمس جزائر بخمسة أوسق وأشهد له نفرا من الصحابة وامتنع عمر لكون قيس لا مال له فقال الأعرابي ما كان سعد ليخنى بابنه في خمسة أوسق
____________________
(4/392)
بفتح التحتية وسكون الخاء المعجمة ونون أي يقصر قال وأرى وجها حسنا وفعلا شريفا فأخذ قيس الجزر فنحر لهم ثلاثة كل يوم جزورا فلما كان اليوم الرابع نهاه أميره فقال عزمت عليك أن لا تنحر تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك قال قيس يا أبا عبيدة أترى أبا ثابت يعني سعدا أباه يقضي ديون الناس ويحمل الكل ويطعم في المجاعة لا يقضي عني تمرا لقوم مجاهدين في سبيل الله فكاد أبو عبيدة يلين وجعل عمر يقول أعزم فعزم عليه فبقيت جزوران فقدم بهما قيس المدينة ظهرا يتعاقبون عليهما وبلغ سعدا مجاعة القوم فقال إن يك قيس كما أعرف فسينحر لهم فلما لقيه قال ما صنعت في مجاعة القوم قال نحرت قال أصبت ثم ماذا قال نحرت قال أصبت ثم ماذا قال نحرت قال أصبت ثم ماذا قال نهيت قال ومن نهاك قال أبو عبيدة أميري قال ولم قال زعم أنه لا مال لي وإنما المال لأبيك فقال لك أربع حوائط أدناها تجد منه خمسين وسقا وقدم البدوي مع قيس فأوفاه أوسقه وحمله وكساه فبلغ النبي فعل قيس فقال إنه في قلب جود
ولابن خزيمة فقال إن الجود من سيمة أهل ذلك البيت ويمكن الجمع بأنه نحر أولا ستا مما معه من الظهر ثم اشترى خمسا نحر منها ثلاثا ثم نهي فاقتصر من قال ثلاثا على ما نحره مما اشتراه ومن قال تسعا ذكر جملة ما نحره فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح والله أعلم ولم يتنزل الحافظ للجمع وقال اختلف في سبب نهي أبي عبيدة قيسا أن يستمر على إطعام الجيش فقيل خيفة أن تفنى حمولتهم وفيه نظر لأن في القصة أنه أشترى من غير العسكر وقيل إنه كان يستدين على ذمته وليس له مال فأريد الرفق به وهذا أظهر اه
ولا نظر لأنه خاف أن يشتري من العسكر بعد نحر ما اشتراه من غيره
وفي الحديث مشروعية المواساة بين الجيش عند المجاعة فإن الاجتماع على الطعام يستدعي البركة فيه
ورواه البخاري في الشركة عن عبد الله بن يوسف وفي المغازي عن إسماعيل ومسلم من طريق ابن مهدي كلهم عن مالك به ورواه الأربعة من طريق مالك وغيره وله طرق عندهم بزيادات قد أتيت على حاصلها والله الموفق المعين
( قال مالك الظرب ) بالظاء المعجمة المشالة وزن كتف ( الجبيل ) بضم الجيم مصغر إشارة إلى صغره وفي رواية ابن بكير الجبل الصغير
( مالك عن زيد بن أسلم ) العدوي ( عن عمرو ) بفتح العين ( ابن سعد بن معاذ ) نسبة إلى جده إذ هو عمرو بن معاذ بن سعد بن معاذ الأشهلي المدني يكنى أبا محمد وقلبه بعضهم فقال معاذ بن عمرو تابعي ثقة
( عن جدته ) قال ابن عبد البر قيل اسمها حواء بنت يزيد بن السكن وقيل إنها جدة ابن نجيد أيضا ( أن رسول الله قال يا نساء المؤمنات ) قال الباجي رويناه بالمشرق بنصب نساء وخفض المؤمنات على الإضافة من إضافة الشيء إلى نفسه كمسجد الجامع أو من إضافة العام
____________________
(4/393)
للخاص كبهيمة الأنعام أو على تأويل نساء بفاضلات أي فاضلات المؤمنات كما يقال رجال القوم أي سادتهم وأفاضلهم ورويناه ببلدنا برفع الكلمتين الأولى على النداء والثانية صفة على اللفظ أي يأيها النساء المؤمنات ويجوز رفع الأولى ونصب الثانية بالكسرة نعت على الموضع كما يقال يا زيد العاقل بنصب العاقل ورفعه وتعقب الأبي قوله من إضافة الشيء إلى نفسه بأنه ممنوع اتفاقا وإنما هو من إضافة الموصوف إلى صفته عند الكوفيين ومنعه البصريون وتأولوا نحو مسجد الجامع على حذف الموصوف أي مسجد المكان الجامع وإنما ذكر النحاة مسجد الجامع مثالا لإضافة الموصوف إلى الصفة لا لإضافة الشيء إلى نفسه انتهى
ومثل هذا ظاهر فإنما سبقه القلم أراد أن يكتب إلى صفته بدليل قوله كمسجد الجامع فطغى عليه القلم وأنكر ابن عبد البر رواية الإضافة ورده ابن السيد بأنها صحت نقلا وساعدتها اللغة فلا معنى للإنكار
( لا تحقرن إحداكن ) أن تهدي ( لجارتها ) شيئا ( ولو ) كان ( كراع شاة ) بضم الكاف ما دون العقب من المواشي والدواب والإنس كما في العين وخص النهي بالنساء لأنهن مواد المودة والبغضاء ولأنهن أسرع انتقالا في كل منهما ( محرقا ) نعت لكراع وهو مؤنث فكان حقه محرقة إلا أن الرواية وردت هكذا في الموطآت وغيرها
وحكى ابن الأعرابي أن بعض العرب يذكره فلعل الرواية على تلك اللغة ثم يحتمل أنه نهي للمهدية وأن يكون للمهدى إليها والأول أظهر قاله الباجي
وقال غيره المراد به المبالغة في إهداء الشيء القليل وقبوله لا إلى حقيقته لأن العادة لم تجر بإهداء الكراع أي لا يمنع جارة من إهدائها لجارتها الموجود عندها استقلاله بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر وإن قل فهو خير من العدم وإذا تواصل القليل صار كثيرا
وروى الطبراني عن عائشة مرفوعا يا نساء المؤمنين تهادوا ولو فرسن شاة فإنه ينبت المودة ويذهب الضغائن والحديث في الصحيحين من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ ولو فرسن شاة بكسر الفاء والسين المهملة بينهما راء ساكنة وهو كالقدم للإنسان وبلفظ المسلمات بدل المؤمنات والمعنى واحد بل في بعض نسخ البخاري يا نساء المؤمنات
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ( أنه قال قال رسول الله ) مرسلا وهو موصول في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة وابن عمر وجابر وأبي داود عن ابن عباس وفي حديث جابر أنه سمع النبي يقول عام الفتح وهو بمكة إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال هو حرام ثم قال عند ذلك
وفي حديث ابن عباس كان قاعدا خلف المقام فرفع رأسه إلى السماء ساعة ثم ضحك ثم قال ( قاتل الله اليهود ) أي لعنهم
____________________
(4/394)
وقال النووي قتلهم والمفاعلة ليست على بابها وقال غيره عاداهم وقال الداودي من صار عدوا لله وجب قتله
وقال البيضاوي قاتل أي عادى أو قتل وأخرج في صورة المغالبة أو عبر عنه بما هو مسبب عنه فإنهم بما اخترعوا من الحيلة انتصبوا لمحاربة الله ومقاتلته ومن حاربه حرب ومن قاتله قتل
( نهوا عن أكل الشحم ) كما قال تعالى { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } سورة الأنعام الآية 146 فباعوه فأكلوا ثمنه وفي رواية الصحيحين جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه بالجيم أي أذابوه قائلين إن الله حرم الشحم وهذا ودك
زاد في رواية لأبي داود وإن الله حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه قال عياض كثر اعتراض ملاعين اليهود والزنادقة على هذا الحديث بأن موطوءة الأب بالملك لولده بيعها دون وطئها وهو ساقط لأن موطوءة الأب لم يحرم على الابن منها إلا وطؤها فجميع منافعها غيره حلال له وشحم الميتة المقصود منه الأكل وهو حرام من كل وجه وحرمته عامة على كل اليهود فافترقا
وقال العز بن عبد السلام في أماليه المتبادر إلى الأفهام من تحريم الشحوم إنما هو تحريم أكلها لأنها من المطعومات فيحرم بيعها مشكل لأنه غير متعلق التحريم
والجواب أنه لما لعن اليهود لكونهم فعلوا غير الأكل دل ذلك على أن المحرم عموم منافعها لا خصوص أكلها
( مالك أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول يا بني إسرائيل ) أولاد يعقوب بن إسحاق ( عليكم بالماء القراح ) أي الخالص الذي لا يمازجه شيء
( والبقل ) كل نبات أخضرت به الأرض ( البري ) نسبة إلى البرية وهي الصحراء
( وخبز الشعير ) بفتح الشين وقد تكسر ( وإياكم وخبز البر ) القمح أي احذروا أكله ( فإنكم لن تقوموا بشكره ) تعليل للتحذير منه
( مالك أنه بلغه ) أخرجه مسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن عمر بن الخطاب وابن حبان عن ابن عباس وابن مردويه عن ابن عمر والطبراني عن ابن مسعود في سياقهم اختلاف بالزيادة والنقص ( أن رسول الله دخل المسجد ) النبوي وفي مسلم عن أبي هريرة قال خرج ذات يوم أو ليلة هكذا بالشك
وفي الترمذي في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد
( فوجد فيه أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب فسألهما ) في مسلم فقال ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة ( فقالا أخرجنا الجوع ) وفي رواية الترمذي فأتاه أبو بكر فقال ما جاء بك يا
____________________
(4/395)
أبا بكر قال خرجت ألقى رسول الله وأنظر في وجهه والتسليم عليه فلم يلبث أن جاء عمر فقال ما جاء بك يا عمر قال الجوع يا رسول الله ( فقال رسول الله ) زاد مسلم والذي نفسي بيده ( وأنا أخرجني الجوع ) قاله تسلية وإيناسا لهما لما علم من شدة جوعهما
وفي رواية الترمذي قال وأنا قد وجدت بعض ذلك والأصح أن هذه القصة كانت بعد فتح الفتوح لأن إسلام أبي هريرة كان بعد فتح خيبر فروايته تدل على أنه بعد فتحها ولا ينافي صنيعهم لأنهم كانوا يبذلون ما يسألون فربما يحتاجون قاله النووي وتعقب بأن أبا هريرة لعله روى الحديث عن غيره لأنه تردد في كونه ذات يوم أو ليلة فلو كانت روايته عن مشاهدة ما تردد
وأجيب بمنع أن الشك منه لجواز أنه من أحد رجال الإسناد
( فذهبوا إلى أبي الهيثم ) بفتح الهاء والمثلثة بينهما تحتية ساكنة ثم ميم مشهور بكنيته واسمه مالك ( ابن التيهان ) بفتح الفوقية وكسر التحتية مشددة يقال أنه لقب واسمه أيضا مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر بن زعورا ( الأنصاري ) الأوسي وزعورا أخو عبد الأشهل شهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها مات سنة عشرين أو إحدى وعشرين أو قتل مع علي بصفين سنة سبع وثلاثين قال الواقدي لم أر من يعرف ذلك ولا يثبته وقيل مات في العهد النبوي قال أبو عمر لم يتابع عليه قائله
وفي رواية الترمذي فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري وكان رجلا كثير النخل والشياه ولم يكن له خدم وكذا عند البزار وأبي يعلى والطبراني عن ابن عباس وللطبراني أيضا وابن عمر أنه أبو الهيثم وللطبراني أيضا وابن حبان عن ابن عباس أنه أبو أيوب والظاهر أن القصة اتفقت مرة مع أبي الهيثم كما صرح به في أكثر الروايات ومرة مع أبي أيوب قاله المنذري ووقع في مسلم بالإبهام قال فأتى بهما رجلا من الأنصار وذهابهم إليه لا ينافي كمال شرفهم فقد استطعم قبلهم موسى والخضر لإرادة الله سبحانه بتسلية الخلق بهم وأن يستن بهم السنن ففعلوا ذلك تشريعا للأمة
وهل خرج قاصدا من أول خروجه إنسانا معينا أو جاء التعيين بالاتفاق احتمالان قال بعضهم الأصح أن أول خاطر حركه للخروج لم يكن إلى جهة معينة لأن الكمل لا يعتمدون إلا على الله زاد في مسلم فإذا هو ليس في بيته فلما رأته المرأة قالت مرحبا وأهلا فقال لها أين فلان وفي الترمذي فقالوا أين صاحبك قالت ذهب يستعذب لنا الماء فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة فوضعها ثم جاء يلتزم النبي ويفديه بأبيه وأمه
وفي مسلم فنظر إلى رسول الله وصاحبيه فقال الحمد لله ما أجد اليوم أكرم أضيافا مني ( فأمر لهم بشعير عنده يعمل ) خبزا ( وقام يذبح لهم شاة ) وفي مسلم وأخذ المدية ( فقال رسول الله نكب ) بفتح النون وكسر الكاف الثقيلة وموحدة أي أعرض ( عن ذات الدر ) أي اللبن
____________________
(4/396)
وفي مسلم فقال له إياك والحلوب نهاه عن ذبحها شفقة على أهله بانتفاعهم بلبنها مع حصول المقصود بغيرها فهو نهي إرشاد لا كراهة في مخالفته لزيادة إكرام الضيف لكنه امتثل الأمر ( فذبح لهم شاة ) عناقا أو جديا كما في الترمذي بالشك والعناق بالفتح أنثى المعز لها أربعة أشهر وقيل ما لم يتم سنة والجدي بفتح الجيم ذكر المعز لم يبلغ سنة
وفي الترمذي انطلق بهم إلى حديقة فبسط لهم بساطا ثم انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فيه بسر وتمر ورطب فوضعه بين أيديهم وقال كلوا فقال أفلا تنقيت لنا من رطبه فقال يا رسول الله إني أردت أن تختاروا
وفي رواية أحببت أن تأكلوا من تمره وبسره ورطبه
قال القرطبي بما فعل ذلك لأنه الذي تيسر فورا بلا كلفة لا سيما مع تحققه حاجتهم ولأن فيه ألوانا ثلاثة ولأن الابتداء بما يتفكه به من الحلاوة أولى لأنه مقو للمعدة لأنه أسرع هضما
( واستعذب لهم ماء ) أي جاء لهم بماء عذب وكان أكثر مياه المدينة مالحة وفيه حل استعذاب الماء وأنه لا ينافي الزهد
( فعلق في نخلة ) ليصيبه برد الهواء فيصير عذبا باردا
( ثم أتوا بذلك الطعام ) خبز الشعير والشاة روي أنه شوى نصفه وطبخ نصفه ثم أتاهم به فلما وضعه بين يديه أخذ من الجدي فوضعه في رغيف وقال للأنصاري أبلغ بهذا فاطمة لم تصب مثله منذ أيام فذهب به إليها ( فأكلوا منه وشربوا من ذلك الماء ) العذب البارد ( فقال رسول الله لتسألن عن نعيم هذا اليوم ) قيل سؤال امتنان لا سؤال حساب
وقيل سؤال حساب دون مناقشة حكاهما الباجي
وقال ابن القيم هذا سؤال تشريف وإنعام وتعديد فضل لا سؤال تقريع وتوبيخ ومحاسبة والمراد أن كل أحد يسأل عن نعيمه الذي كان فيه هل ناله من حله أم لا فإذا خلص من ذلك سئل هل قام بواجب الشكر فاستعان به على الطاعة أم لا فالأول سؤال عن سبب استخراجه والثاني عن محل صرفه
وفي مسلم فلما أن شبعوا ورووا قال لأبي بكر وعمر والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم
وفي الترمذي فقال هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة ظل بارد ورطب طيب وماء بارد
وإنما ذكر هذا في هذا المقام إرشادا للآكلين والشاربين إلى حفظ أنفسهم في الشبع عن الغفلة والاشتغال بالحديقة والتنعم عن الآخرة أو هو تسلية للحاضرين المفتقرين عن فقرهم بأنهم وإن حرموا عن التنزه فقد اتقوا السؤال عنه يوم القيامة
وفي رواية فكبر ذلك على أصحابه فقال إذا أصبتم مثل هذا فصار بأيديكم فقولوا بسم الله فإذا شبعتم فقولوا الحمد لله الذي هو أشبعنا وأنعم علينا وأفضل فإن هذا كفاء هذا فأخذ عمر العذق فضرب بها الأرض حتى تناثر البسر ثم قال يا رسول الله إنا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة قال نعم إلا من ثلاثة كسرة يسد بها الرجل جوعه أو ثوب يستر بها عورته أو حجر يدخل فيه من القر والحر
____________________
(4/397)
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أن عمر بن الخطاب كان يأكل خبزا بسمن فدعا رجلا من أهل البادية ) لم يسم ( فجعل يأكل ويتبع ) بشد الفوقية ( باللقمة وضر ) بفتح الواو والضاد المعجمة وسخ ( الصحفة ) ما يعلق به من أثر السمن ( فقال عمر كأنك مقفر ) بضم الميم وإسكان القاف وكسر الفاء أي لا أدم عندك ( فقال والله ما أكلت سمنا ولا رأيت أكلا به مند كذا وكذا ) مدة عينها ( فقال عمر لا آكل السمن حتى يحيا الناس ) أي يصيبهم الخصب والمطر ( من أول ما يحيون ) حتى لا أمتاز عليهم
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) الأنصاري ( عن ) عمه ( أنس بن مالك قال رأيت عمر بن الخطاب وهو يومئذ أمير المؤمنين يطرح ) يلقى ( له صاع من تمر فيأكله حتى يأكل حشفها ) يابسها الرديء
( مالك عن عبد الله بن دينار عن ) مولاه ( عبد الله بن عمر أنه قال سئل عمر بن الخطاب عن الجراد فقال وددت أن عندنا منه قفعة ) بفتح القاف وإسكان الفاء ثم عين مهملة قال ابن الأثير شيء شبيه بالزنبيل من الخوص ليس له عرى وليس بالكبير وقيل شيء كالقفة تتخذ واسعة الأسفل ضيقة الأعلى ( نأكل منه ) لإذهابه الجوع بدون ترفه
( مالك عن محمد بن عمرو بن حلحلة ) بحاءين مهملتين بينهما لام ساكنة المدني ( عن حميد بن مالك بن خثيم ) بمعجمة ومثلثة مصغر ويقال مالك جده واسم أبيه عبد الله تابعي ثقة ( قال كنت جالسا مع أبي هريرة بأرضه بالعقيق ) محل بقرب المدينة ( فأتاه قوم من أهل المدينة على دواب
____________________
(4/398)
فنزلوا عنده قال حميد فقال أبو هريرة اذهب إلى أمي ) اسمها أميمة بميمين مصغر بنت صبيح أو صفيح بموحدة أو فاء مصغر صحابية
روى مسلم عن أبي هريرة كنت أدعو أمي إلى الإسلام فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله ما أكره فأتيته وأنا أبكي فأخبرته وقلت ادع الله أن يهديها فقال اللهم اهد أم أبي هريرة فخرجت مستبشرا بدعوته فلما جئت إلى الباب فإذا هو مجاف فسمعت أمي حس قدمي فقالت مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء ولبست درعها وأعجلت عن خمارها ففتحت الباب وقالت أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فرجعت إليه فأخبرته فحمد الله وقال خيرا ( فقل إن ابنك يقرئك السلام ويقول لك أطعمينا شيئا ) يعني أي شيء تيسر ( قال فوضعت ثلاثة أقراص ) من خبز ( في صحفة وشيئا من زيت وملح ثم وضعتها على رأسي وحملتها ) حتى جئت بها ( إليهم فلما وضعتها بين أيديهم كبر أبو هريرة ) أي قال الله أكبر ( وقال الحمد الله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودين الماء والتمر ) فيه تغليب لأن الماء لا لون له
( فلم يصب القوم من الطعام شيئا ) لشبع أو غيره ( فلما انصرفوا قال يا ابن أخي ) في الإسلام ( أحسن إلى غنمك وامسح الرعام ) بضم الراء وإهمال العين على الأشهر رواية مخاط رقيق يجري من أنوف الغنم وبفتح الراء وغين معجمة أي امسح التراب عنها قال في النهاية رواه بعضهم بغين معجمة وقال إنه ما يسيل من الأنف والمشهور فيه والمروي بعين مهملة ويجوز أن يكون أراد مسح التراب عنها رعيا لها وإصلاحا لشأنها اه
أي على رواية الأعجام لا ما فسره ذلك البعض فإنما يصح على الإهمال
( وأطب ) نظف ( مراحها ) بضم الميم مكانها الذي تأوي فيه والأمر للإرشاد والإصلاح ( وصل في ناحيتها فإنها من دواب الجنة ) أي نزلت منها أو تدخلها بعد الحشر أو من نوع ما في الجنة بمعنى أن فيها أشباهها وشبه الشيء يكرم لأجله وهذا موقوف صحيح له حكم الرفع فإنه لا يقال إلا بتوقيف
وقد أخرج البزار عن إبي هريرة عن النبي أكرموا المعزى وامسحوا برغامها فإنها من دواب الجنة وإسناده ضعيف لكنه يقويه هذا الموقوف الصحيح
وأخرج ابن عدي والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا صلوا في مراح الغنم وامسحوا برغامها فإنها من دواب الجنة قال البيهقي روي مرفوعا وموقوفا وهو أصح
( والذي نفسي بيده ليوشك أن يأتي على الناس زمان تكون الثلة ) بضم المثلثة وشد اللام الطائفة
____________________
(4/399)
القليلة المائة ونحوها ( من الغنم أحب إلى صاحبها من دار مروان ) بن الحكم أمير المدينة يومئذ وهذا أيضا لا يقال إلا بتوقيف لأنه إخبار عن غيب يأتي
( مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان ) التابعي ( أنه قال ) مرسلا عند الأكثر ورواه خالد ابن مخلد ويحيى بن صالح الوحاظي فقالا عن مالك عن وهب عن عمر بن أبي سلمة موصولا أخرجهما الدارقطني والأول النسائي وكذا رواه محمد بن عمرو بن حلحلة عن وهب عن عمر عند البخاري قال الحافظ والمشهور عن مالك إرساله كعادته
وقد أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف والنسائي عن قتيبة كلاهما عن مالك عن وهب مرسلا كما في الموطأ ومقتضاه أن مالكا لم يصرح بوصله ولعله وصله مرة فحفظ ذلك عنه خالد ويحيى وهما ثقتان وبه يتبين صحة سماع وهب من عمر وقد صرح في رواية الشيخين وغيرهما عن الوليد بن كثير أنه سمع وهب بن كيسان أنه سمع عمر بن أبي سلمة يقول ( أتي ) بضم الهمزة مبني للمفعول ( رسول الله بطعام ومعه ربيبه ) ابن زوجته أم سلمة ( عمر ) بضم العين ( ابن أبي سلمة ) الصحابي ابن الصحابي وفي رواية محمد بن عمرو بن حلحلة أكلت يوما مع رسول الله طعاما فجعلت آكل من نواحي الصحفة وفي رواية الوليد بن كثير كنت غلاما في حجر رسول الله وكانت يدي تطيش في الصحفة ( فقال له رسول الله ) يا غلام ( سم الله ) طردا للشيطان ومنعا له من الأكل فتسن التسمية
قال النووي أقلها بسم الله وأفضله بسم الله الرحمن الرحيم
قال الحافظ لم أر لما ادعاه من الأفضلية دليلا خاصا
وأما قول الغزالي يستحب أن يقول مع اللقمة الأولى بسم الله والثانية بسم الله الرحمن والثالثة البسملة بتمامها فإن سمى مع كل لقمة فهو أحسن حتى لا يشغله الأكل عن ذكر الله ويزيد بعد التسمية اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وأنت خير الرازقين وقنا عذاب النار فقال الحافظ أيضا لم أر لاستحباب ذلك دليلا ولا أصل لذلك كله وقال غيره ظاهر الأحاديث خلافه ومن أصرحها حديث أحمد كان إذا قرب إليه طعام قال بسم الله ( وكل مما يليك ) استحبابا لا وجوبا عند الجمهور فيكره الأكل مما لا يلي لأن الأكل من موضع يد صاحبه سوء عشرة وترك مودة لنفور النفس لا سيما في الأمراق ولما فيه من إظهار الحرص والنهم وسوء الأدب وأشباهها فإن كان غير لون أو تمر جاز فقد روى ابن ماجه وغيره عن عائشة كان إذا أتي بطعام أكل مما يليه وإذا أتي بالتمر جالت يده فيه وروى الترمذي وابن ماجه عن عكراش بن ذؤيب قال أخذ بيدي إلى بيت أم سلمة فقال هل من طعام فأتينا بجفنة كثيرة الثريد والودك فأكلنا منها فخبطت بيدي في نواحيها وأكل من بين يديه فقبض بيده اليسرى على يدي اليمنى ثم
____________________
(4/400)
قال يا عكراش كل من موضع واحد فإنه طعام واحد ثم أتينا بطبق فيه ألوان التمر أو الرطب فجعلت آكل من بين يدي وجالت يده في الطبق فقال يا عكراش كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد وفي إسناده ضعف لكن له شواهد تقويه
زاد في رواية الوليد بن كثير وكل بيمينك فما زالت تلك طعمتي بعد بكسر الطاء أي لزمت ذلك وصار لي عادة قال الكرماني وفي بعض الروايات بالضم يقال طعم إذا أكل والطعمة الأكل والمراد جميع ما مر من الابتداء بالتسمية والأكل باليمين والأكل مما يليه وبعد بالبناء على الضم أي استمر ذلك صنيعي في الأكل
( مالك عن يحيى بن سعد ) الأنصاري ( أنه قال سمعت القاسم بن محمد ) بن الصديق ( يقول جاء رجل إلى عبد الله بن عباس فقال له إن لي يتيما ) أقوم عليه ( وله إبل أفأشرب من لبن إبله فقال ابن عباس إن كنت تبغي ) تطلب ( ضالة إبله ) أي ما ضل منها ( وتهنأ ) بالهمز تطلي ( جرباها بالهناء ) بزنة كتاب القطران ( وتلط ) بفتح الفوقية وضم اللام وشد الطاء المهملة ( حوضها ) أي تمدده وتطينه وتصلحه وأصل اللوط اللصوق قاله الهروي ( وتسقيها يوم وردها ) أي شربها ( فاشرب غير مضر بنسل ) أي بولدها الرضيع ( ولا ناهك ) أي مستأصل ( في الحلب ) اللبن حتى يضر بها قال الباجي الحلب بفتح اللام اللبن وبتسكينها الفعل
وقال الهروي أي ولا مبالغ فيه حتى يضر ذلك بها وقد نهكت الناقة حلبا إذا تقصيتها ولم تبق في ضرعها لبنا
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان لا يؤتى بطعام أو شراب ) ماء أو لبن أو غيرهما ( حتى الدواء فيطعمه أو يشربه ) بنصب الفعلين ( إلا قال الحمد لله ) لأن الحمد على النعم يرتبط به العبيد ويستجلب به المزيد فلحظ وقت حضور الغداء إلى أجل النعم فقال ( الذي هدانا ) إذ الهداية للإيمان أعظم نعم الله تعالى على العبد فشكره عليها مقدم على غيرها فأشار إلى أن الأولى بالحامد أن لا يجرد حمده إلى دقائق النعم بل ينظر إلى جلائلها فيحمد عليها لأنها أحق بذلك ولأن الحمد من نتائج الهداية للإسلام
( وأطعمنا وسقانا ) قدم الطعام لزيادة الاهتمام به حتى كأن السقي من تتمته وتابع له لأن الأكل يستدعي الشرب
( ونعمنا ) بأنواع النعم التي لا تحصى
( الله أكبر ) سرورا بهذه النعم ( اللهم ألفتنا ) وجدتنا ( نعمتك بكل شر ) من التقصير في عبادتك وشكرك ( فأصبحنا منها وأمسينا
____________________
(4/401)
بكل خير ) من فضلك ولم تعاملنا بتقصيرنا
( نسألك تمامها ) لعله استعمله بمعنى إدامتها أي النعم ( وشكرها ) فإنا لا نبلغه إلا بفضلك إذ هو نعمة تستدعي شكرا إلى غير نهاية
( لا خير إلا خيرك ) فإنه بيدك دون غيرك
( ولا إله غيرك ) يرجى لكشف الضر وإجابة الدعاء والإعانة على الشكر
( إله ) بالنصب على النداء يحذف الأداة ( الصالحين ) المسلمين ( ورب العالمين ) أي مالك جميع الخلق من الإنس والملائكة والجن والدواب وغيرهم وكل منها يطلق عليه عالم يقال عالم الإنس وعالم الجن إلى غير ذلك وغلب في جمعه بالياء والنون أولى العلم على غيرهم وهو من العلامة لأنه علامة على موجده
( الحمد لله ) جملة قصد بها الثناء على الله بمضمونها من أنه تعالى مالك لجميع الحمد من الخلق ومستحق لأن يحمد
( ولا إله إلا الله ما شاء الله ولا قوة إلا بالله ) أتى به إشارة إلى استحباب هذا الذكر عند رؤية ما يعجب لقوله تعالى { ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله } سورة الكهف الآية 39 قال ابن العربي واستدل به مالك على استحبابه لكل من دخل منزله انتهى
وأخرج ابن أبي حاتم عن مطرف قال كان مالك إذا دخل بيته قال ما شاء الله قلت له لم تقول هذا قال ألا تسمع الله يقول وتلا الآية وجاء مرفوعا من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره ( اللهم بارك ) أتم وزد ( لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار ) بعدم دخولها ( سئل مالك هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم منها أو مع غلامها فقال ليس بذلك بأس ) أي يجوز ( إذا كان ذلك على وجه ما يعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال ) بأن كان ثم محرم كما ( قال وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله أو مع أخيها على مثل ذلك ويكره ) تحريما ( للمرأة أن تخلو مع الرجل ليس بينه وبينها حرمة ) أي قرابة نسب أو صهر أو رضاع
32 ما جاء في أكل اللحم ( مالك عن يحيى بن سعيد عن عمر بن الخطاب أنه قال إياكم واللحم ) أي اجتنبوا الإكثار من أكله ( فإن له ضراوة ) بفتح الضاد المعجمة والراء مصدر ضرى كعلم ( كضراوة الخمر ) أي عادة يدعو إليها ويشق تركها لمن ألفها فلا يصبر عنه من اعتاده
____________________
(4/402)
( مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب أدرك جابر بن عبد الله ومعه حمال لحم ) بكسر الحاء ما حمله الحامل كذا ضبطه السيوطي وهو في نسخ عتيقة حمال بفتح الحاء والميم ثقيلة أي شخص حمال لحم فمعناه صحيح أيضا
( فقال ما هذا فقال يا أمير المؤمنين قرمنا ) بفتح القاف وكسر الراء فميم أي اشتدت شهوتنا ( إلى اللحم ) وفي الحديث كان يتعوذ من القرم بمعنى شدة الشهوة إلى اللحم حتى لا يصبر عنه يقال قرمت إلى اللحم وعمت إلى اللبن قاله الهروي
( فاشتريت بدرهم لحما فقال عمر أما ) بالفتح وخفة الميم ( يريد أحدكم أن يطوي بطنه عن جاره أو ابن عمه أين تذهب ) تغيب عنكم ( هذه الآية { أذهبتم طيباتكم } ) باشتغالكم بلذاتكم ( { في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } سورة الأحقاف الآية 20 ) أي تمتعتم
33 ما جاء في لبس الخاتم ( مالك عن عبد الله بن دينار ) العدوي مولاهم المدني ( عن ) مولاه ( عبد الله بن عمر ) رضي الله عنهما ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبس خاتما من ذهب ) وللنسائي من وجه آخر عن ابن عمر اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب فلبسه ثلاثة أيام وفي الصحيحين عن ابن شهاب عن أنس أنه رأى في يد النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق يوما واحدا ثم ألقاه فإن كان قوله من ورق وهما من الزهري جرى على لسانه لفظ ورق كما نقله عياض عن جميع أهل الحديث وصوابه من ذهب كما ثبت ذلك من غير وجه عن أنس وابن عمر فيجمع بأن قول أنس يوما واحدا ظرف لرؤيته أنس لا لمدة اللبس وقول ابن عمر ثلاثة أيام ظرف لمدة اللبس وإن قلنا لا وهم جمع بأن مدة لبس الذهب ثلاثة أيام ومدة خاتم الفضة يوم واحد كما قال أنس ولا ينافيه رواية الصحيح سئل أنس هل اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما فقال أخر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل ثم أقبل علينا بوجهه فكأني أنظر إلى وبيض خاتمه لحمله على أنه رآه في تلك الليلة كذلك واستمر في يده بقية يومها ثم طرحه في آخر ذلك اليوم أفاده الحافظ ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فنبذه ) أي طرحه ( وقال لا ألبسه أبدا ) لتحريم لبس الذهب حينئذ على الرجال أو لكراهة مشاركتهم له أو لما
____________________
(4/403)
رأى من زهوهم بلبسه
( قال فنبذ الناس خواتمهم ) تبعا له
وفي الصحيحين عن نافع عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب وجعل فصه مما يلي كفه فاتخذه الناس فرمى به وقال لا ألبسه أبدا ثم اتخذ خاتما من فضة فاتخذ الناس خواتم الفضة قال ابن عمر فلبس الخاتم بعده صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان حتى وقع منه في بئر أريس
وحديث الباب رواه البخاري عن القعنبي عن مالك به وتابعه سفيان الثوري بأتم منه عن ابن دينار
( مالك عن صدقة بن يسار ) الجزري نزيل مكة ثقة مات سنة اثنين وثلاثين ومائة ( أنه قال سألت سعيد بن المسيب عن لبس الخاتم ) أي خاتم الفضة فإن من العلماء من كره لبسه مطلقا ولو لذي سلطان ( فقال البسه وأخبر الناس أني أفتيتك بلبسه ) وأما حديث أبي ريحانة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الخاتم إلا لذي سلطان رواه أبو داود والنسائي فضعفه مالك لما سئل عنه وكذا ضعفه أحمد
34 ما جاء في نزع المعاليق والجرس من العنق الجرس بفتح الجيم والراء ثم مهملة معروف وحكى عياض إسكان الراء والتحقيق أنه بفتحها اسم الآلة وبسكونها اسم الصوت
( مالك عن عبد الله بن أبي بكر ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري التابعي ( عن عباد ابن تميم ) المازني التابعي وقيل له رؤية ( أن أبا بشير ) بفتح الموحدة وكسر المعجمة ( الأنصاري ) زاد عثمان بن عمر عن مالك الساعدي عند الدارقطني فمن قال المازني فيه نظر شهد الخندق
وذكره الحاكم أبو أحمد فيمن لا يعرف اسمه وذكر ابن سعد أن اسمه قيس بن عبد الحرير بمهملات مصغر ابن عمر وعاش إلى بعد الستين وشهد الحرة وجرح بها ومات من ذلك يقال جاز المائة
( أخبره ) أي عباد ( أنه ) أي أبا بشير ( كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ) قال الحافظ لم أقف على تعيينهما ( قال فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا ) في رواية روح بن عبادة عن مالك فأرسل زيدا مولاه قال ابن عبد البر وهو زيد بن حارثة فيما ظهر لي ( قال عبد الله بن أبي بكر ) شيخ الإمام ( حسبت أنه ) أي عباد بن تميم ( قال والناس في مقيلهم ) قال الحافظ كأنه شك في هذه الجملة ولم أرها من طريقه إلا هكذا ( لا تبقين ) بفوقية وقاف
____________________
(4/404)
مفتوحتين بينهما موحدة ساكنة آخره نون توكيد ( في رقبة بعير قلادة من وتر ) بفتح الواو والمثناة الفوقية في جميع الروايات قال ابن الجوزي ربما صحف من لا علم له بالحديث فقال وبر بموحدة يعني كالداودي فإنه جزم بالموحدة وقال هو ما ينزع عن الجمال يشبه الصوف قال ابن التين فصحف ( أو قلادة إلا قطعت ) قال الحافظ أو للشك أو للتنويع
وفي رواية القعنبي عند أبي داود ولا قلادة وهو من عطف العام على الخاص وبهذا جزم المهلب ويؤيد الأول أي الشك ما روي عن مالك أنه سئل عن القلادة فقال ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر ( قال مالك أرى ذلك من العين ) أي أنهم كانوا يقلدون الإبل أوتارا لئلا تصيبها العين بزعمهم فأمروا بقطعها إعلاما بأن الأوتار لا ترد من أمر الله شيئا
ويؤيده حديث عقبة بن عامر رفعه من علق تميمة فلا أتم الله له رواه أبو داود والتميمة ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك
قال ابن عبد البر إذا اعتقد الذي قلدها أنها ترد العين فقد ظن أنها ترد القدر وذلك لا يجوز اعتقاده
وقيل النهي عن ذلك لئلا تختنق الدابة بها عند الركض حكي ذلك عن محمد بن الحسن وكلام أبي عبيد يرجحه فإنه قال نهي عن ذلك لأن الدواب تتأذى به وتضيق عليها نفسها ورعيها وربما تعلقت بشجرة فاختنقت أو تعوقت عن السير
وقيل المراد بالوتر الجرس فإنهم كانوا يعلقون الأجراس فيها حكاه الخطابي ويدل عليه ترجمة الإمام بالجرس وكذا رواية عثمان بن عمر عن مالك الحديث بسنده بلفظ لا تبقين قلادة من وتر ولا جرس في عنق بعير إلا قطع وأخرجه الدارقطني فبان أنه أشار بالترجمة إلى ما في بعض طرق الحديث
وقد روى أبو داود والنسائي عن أم حبيبة والنسائي أيضا عن أم سلمة مرفوعا لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس قال الحافظ ولا فرق بين الإبل وغيرها في ذلك إلا هذا القول الثالث فلم تجر العادة بتعليق الجرس في رقاب الخيل
وقد روى أبو داود والنسائي عن أبي وهب الجيشاني رفعه اركبوا الخيل وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار فدل على أنه لا اختصاص للإبل وحمل النضر بن شميل الأوتار في هذا الحديث على معنى النار كالجاهلية قال القرطبي هو تأويل بعيد وقال النووي ضعيف وإلى قول النضر جنح وكيع فقال المعنى لا تركبوا الخيل في الفتن فإن من ركبها لم يسلم أن يتعلق به وتر يطلب به
قال النووي وغيره الجمهور أن النهي لكراهة التنزيه وقيل للتحريم وقيل يمنع منه بلا حاجة ويجوز لها
وعن مالك تخصيص كراهة القلائد بالوتر ويجوز بغيرها إذا لم يقصد دفع العين هذا كله في تعليق تمائم وغيرها لا قرآن فيها ونحوه
فأما ما فيه ذكر الله فلا ينهى عنه لأنه إنما يجعل للبركة به والتعوذ بأسمائه وذكره انتهى
والحديث رواه البخاري في الجهاد عن عبد الله بن يوسف ومسلم في اللباس عن يحيى وأبو داود عن القعنبي كلهم عن مالك به
____________________
(4/405)
35 الوضوء من العين ( مالك عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ) بضم المهملة مصغر الأنصاري الثقة ( أنه سمع أباه ) أبا أمامة واسمه أسعد سماه النبي صلى الله عليه وسلم باسم جده أبي أمه وكناه بكنيته لما ولد قبل الوفاة النبوية بسنتين ومات سنة مائة ( يقول اغتسل أبي ) سهل بن حنيف البدري وظاهره الإرسال لكنه محمول على أن أبا أمامة سمع ذلك من أبيه ففي بعض طرقه عن أبي أمامة حدثني أبي أنه اغتسل ( بالخرار ) بفتح المعجمة والراء الأولى الشديدة موضع قرب الجحفة قاله ابن الأثير وغيره وقال ابن عبد البر موضع بالمدينة وقيل من أوديتها انتهى
ويؤيد الأول أن في بعض طرق الحديث حتى إذا كان بشعب الخرار من الجحفة ( فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ) بن كعب بن مالك العنزي بسكون النون حليف الخطاب أسلم قديما وهاجر وشهد بدرا مات ليالي قتل عثمان ( ينظر ) إليه ( قال ) أبو أمامة ( وكان سهل رجل أبيض حسن ) مليح ( الجلد قال فقال له عامر بن ربيعة ما رأيت كاليوم عذراء ) أي بكر ( قال فوعك سهل مكانه واشتد ) قوي ( وعكه ) أي ألمه
وفي الطريق الثاني فلبط أي صرع فكأنه صرع من شدة الوعك
( فأتي ) بضم الهمزة ( رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر ) بالبناء للمفعول ( أن سهلا وعك وأنه غير رائح معك يا رسول الله ) لعدم استطاعته بشدة الوعك
( فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر بن ربيعة ) أي نظره إليه وقوله ما ذكر
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وفي رواية فدعا عامرا فتغيظ عليه فقال ( علام ) بمعنى لم وفيه معنى الإنكار ( يقتل أحدكم أخاه ) في الدين زاد في بعض طرقه وهو غني عن قتله
( ألا ) بالفتح والتشديد بمعنى هلا وبها جاء في بعض طرقه ( بركت ) أي قلت بارك الله فيك فإن ذلك يبطل المعنى الذي يخاف من العين ويذهب تأثيره
قال الباجي وقال ابن عبد البر يقول تبارك الله أحسن الخالقين اللهم بارك فيه فيجب على كل من أعجبه شيء أن يبارك فإذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة انتهى
وروى ابن السني عن سعيد بن حكيم قال كان صلى الله عليه وسلم إذا خاف أن يصيب شيئا بعينه قال اللهم بارك فيه ولا تضره وأخرج
____________________
(4/406)
البزار وابن السني عن أنس رفعه من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره ( إن العين حق ) أي الإصابة بها شيء ثابت في الوجود مقضي به في الوضع الإلهي لا شبهة في تأثيره في النفوس والأموال
قال القرطبي هذا قول عامة الأمة ومذهب أهل السنة وأنكره قوم مبتدعة وهم محجوجون بما يشاهد منه في الوجود فكم من رجل أدخلته العين القبر وكم من جمل أدخلته القدر لكن بمشيئة الله سبحانه ولا يلتفت إلى معرض عن الشرع والعقل يتمسك باستبعاد لا أصل له فإنا نشاهد من خواص الأحجار وتأثير السحر ما يقضي منه العجب ويحقق أن ذلك فعل بسبب كل سبب انتهى
( توضأ له ) الوضوء المذكور في الطريق التالية المعبر عنه باغتسل ليس على صفة غسل الأعضاء في الوضوء وغيره كما يأتي بيانه والأمر للوجوب قال المازري والصحيح عندي للوجوب ويبعد الخلاف فيه إذا خشي على المعين الهلاك وكمان وضوء العائن مما جرت العادة بالبرء به أو كان الشرع أخبر به خبرا عاما ولم يكن زوال الهلاك إلا بوضوء العائن فإنه يصير من باب من تعين عليه إحياء نفس مشرفة على الهلاك وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر فهذا أولى وبهذا التقرير يرتفع الخلاف
( فتوضأ له عامر ) على الصفة الآتية في الطريق بعده ثم صب على سهل ( فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس ) أي شدة لزوال وعكه الذي صرعه وفيه إباحة النظر إلى المغتسل ما لم تكن عورة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل لعامر لم نظرت إليه إنما لامه على ترك التبريك
قال ابن عبد البر وقد يستحب العلماء أن لا ينظر الإنسان إلى المغتسل خوف أن يرى عورته وإن من الطبع البشري الإعجاب بالشيء الحسن والحسد عليه وهذا لا يملكه المرء من نفسه فلذا لم يعاتب عامر عليه بل على ترك التبريك الذي في وسعه وأن العين قد تقتل وتوبيخ من كان منه أو بسببه سوء وإن كان الناس كلهم تحت القدر السابق بذلك كالقاتل يقتل وإن كان المقتول يموت بأجله وأن العين إنما تعدو إذا لم يبرك فيجب على كل من أعجبه شيء أن يبارك انتهى ملخصا
وقال القرطبي لو أتلف العائن شيئا ضمنه ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة وهو في ذلك كالساحر القاتل بسحره عند من لا يقتله كفرا وأما عندنا فيقتل قتل بسحره أم لا لأنه كالزنديق وقال النووي لا يقتل العائن ولا دية ولا كفارة لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس وبعض الأحوال مما لا انضباط له كيف ولم يقع منه فعل أصلا وإنما غايته حسد وتمن لزوال النعمة وأيضا فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص ولا يتعين ذلك المكروه في إزالة الحياة فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين قال الحافظ ولا يعكر عليه إلا الحكم بقتل الساحر فإنه في معناه والفرق بينهما عسر
ونقل ابن بطال عن بعض العلماء أنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس ويأمره بلزوم بيته وإن كان فقيرا رزقه ما يكفيه ويكف أذاه عن الناس فإن ضرره أشد من ضرر آكل الثوم والبصل
____________________
(4/407)
الذي منعه النبي صلى الله عليه وسلم دخول المسجد لئلا يؤذي المسلمين ومن ضرر المجذوم الذي منعه عمر والعلماء بعده الاختلاط بالناس ومن ضرر المؤذيات من المواشي الذي يؤمر بإبعادها إلى حيث لا يتأذى بها أحد
قال عياض وهذا الذي قاله هذا القائل صحيح متعين ولا يعرف عن غيره تصريح بخلافه
( مالك عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه قال رأى عامر بن ربيعة سهل ابن حنيف ) ظاهره الإرسال لكنه سمع ذلك من والده ففي رواية ابن أبي شيبة عن شبابة عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبي أمامة عن أبيه أن عامر أمر به وهو ( يغتسل ) ولأحمد والنسائي وصححه ابن حبان من وجه آخر عن الزهري عن أبي أمامة أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحوا ما حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف وكان أبيض حسن الجسم والجلد فنظر إليه عامر بن ربيعة ( فقال ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة ) بضم الميم وخاء معجمة وموحدة والهمز وهي المخدرة المكنونة التي لا تراها العيون ولا تبرز للشمس فتغيرها يعني أن جلد سهل كجلد المخبأة إعجابا بحسنه قال عبد الله بن قيس الرقيات ذكرتني المخبآت لدى الحجر ينازعنني سجوف الحجال
ومر في رواية محمد عن أبيه أبي أمامة ولا جلد عذراء بدل مخبأة فكأنه جمع بين اللفظين فقال عذراء مخبأة فاقتصر كل راء على ما سمعه منه أو إحداهما بالمعنى لكن لا شك أن مخبأة أخص
( فلبط ) بضم اللام وكسر الموحدة وطاء مهملة أي صرع وسقط إلى الأرض ( بسهل ) يقال منه لبط به يلبط لبطا
وقال ابن وهب لبط وعك وكأنه فسره بالرواية السابقة جمعا بينهما لاتحاد القصة ولا يتعين لجواز أن سقوطه من شدة وعكه كما قدمته وهذا أولى إبقاء للفظين على حقيقتهما
زاد ابن أبي ذئب عن الزهري حتى ما يعقل لشدة الوجع ( فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له يا رسول الله هل لك في سهل بن حنيف والله ما يرفع رأسه ) من شدة الوعك والصرع ( فقال هل تتهمون له أحدا ) عانه ( قالوا نتهم عامر ابن ربيعة ) وكأنهم لما قالوا ذلك ذهب صلى الله عليه وسلم إلى سهل لتثبت الخبر منه كما قال في الحديث السابق فأتاه رسول الله فأخبره سهل ولم يذكر في الطريق السابقة أنه قال لهم هل تتهمون الخ ففي كل من الطريقين اختصار
( قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن ربيعة فتغيظ عليه وقال علام ) أي لم ( يقتل أحدكم أخاه ) أي يكون سببا في قتله بالعين ( ألا ) وفي رواية هلا ( بركت ) أي دعوت له بالبركة
وللنسائي وابن ماجه
____________________
(4/408)
من وجه آخر عن أبي أمامة إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة ومثله عند ابن السني عن عامر بن ربيعة ( اغتسل له ) وجوبا لأن الأمر حقيقته الوجوب ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينفعه ولا يضره لا سيما إذا كان بسببه وكان هو الجاني عليه فواجب على العائن الغسل عنه قاله ابن عبد البر
( فغسل عامر وجهه ويديه ) وفي رواية بدل هذا وظاهر كفيه ( ومرفقيه ) زاد في رواية وغسل صدره ( وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره ) هي الحقو تجعل من تحت الإزار في طرفه ثم يشد عليه الإزرة قاله ابن وهب عن مالك ونحوه قول ابن حبيب هي الطرف المتدلي الذي يضعه المؤتزر أولا على حقوه الأيمن
وقال الأخفش هي الجانب الأيسر من الإزار الذي تعطفه إلى يمينك ثم يشد الإزار قاله ابن عبد البر
وقال المازري ظن بعضهم أنه كناية عن الفرج والجمهور أنه الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن
وقال عياض المراد بداخلة الإزار ما يلي الجسد من المئزر وقيل موضعه من الجسد وقيل مذاكيره كما يقال عفيف الإزار أي الفرج وقيل وركه إذ هو معقد الإزار
( قدح ) زاد في رواية قال وحسبته قال وأمر فحسا منه حسوات ( ثم صب عليه فراح سهل مع الناس ليس به بأس ) لزوال علته
قال الزهري هذا من العلم يغتسل العائن في قدح من ماء يدخل يده فيه فيمضمض ويمجه في القدح ويغسل وجهه فيه ثم يصب بيده اليسرى على كفه اليمنى ثم باليمنى على كفه اليسرى ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على مرفق يده اليمنى ثم بيده اليمنى على مرفق يده اليسرى ثم يغسل قدمه اليمنى ثم يدخل اليمنى فيغسل قدمه اليسرى ثم يدخل يده اليمنى فيغسل الركبتين ثم يأخذ داخلة إزاره فيصب على رأسه صبة واحدة ويضع القدح حتى يفرغ هكذا رواه ابن أبي ذئب عن الزهري عند ابن أبي شيبة وهو أحسن ما فسر به لأن الزهري راوي الحديث
وزاد ابن حبيب في قول الزهري هذا يصب من خلفه صبة واحدة يجري على جسده ولا يوضع القدح في الأرض ويغسل أطرافه المذكورة كلها وداخلة الإزار في القدح قاله في التمهيد
زاد في الإكمال أن الزهري أخبر أنه أدرك العلماء يصفونه واستحسنه علماؤنا ومضى به العمل
قال وجاء عن ابن شهاب من رواية عقيل مثله إلا أن فيه الابتداء بغسل الوجه قبل المضمضة وفيه غسل القدمين أنه لا يغسل جميعهما وإنما قال ثم يفعل مثل ذلك في طرف قدمه اليمنى من عند أصول أصابعه واليسرى كذلك اه
وهو أقرب لقول الحديث وأطراف رجليه وهذا الغسل ينفع بعد استحكام النظرة إما عند الإصابة به وقبل الاستحكام فقد أرشد الشارع إلى دفعه بقوله ألا بركت قال المازري وهذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل وليس في قوة العقل الاطلاع على أسرار جميع المعلومات فلا يرد لكونه لا يعقل معناه
وقال ابن العربي إن توقف
____________________
(4/409)
فيه متشرع قلنا الله ورسوله أعلم وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة أو متفلسف فالرد عليه أظهر لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها بمعنى لا يدرك ويسمون ما هذا سبيله الخواص
وقال ابن القيم هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها ولا من سخر منها ولا من شك فيها أو فعلها مجربا غير معتقد وإذا كان في الطبيعة خواص لا تعرف الأطباء عللها بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما تفعل بالخاصية فما الذي ينكره جهلتهم من الخواص الشرعية هذا مع أن المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تلقاها العقول الصحيحة فهذا ترياق سم الحية يؤخذ من لحمها وهذا علاج النفس الغضبية بوضع اليد على بدن الغضبان فيسكن فكان أثر تلك العين كشعلة نار وقعت على جسد ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة المنفوذ فيها ولا شيء أرق من المعاين فكان في غسلها إبطال لعلمها ولا سيما أن للأرواح الشيطانية في تلك المواضع اختصاصا وفيه أيضا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذا فتطفىء تلك النار التي أثارتها العين بهذا الماء اه
وفي الحديث أن العائن إذا عرف يقضى عليه بالاغتسال وأنه من النشرة النافعة وأن العين تكون مع الإعجاب بغير حسد ولو من الرجل المحب ومن الرجل الصالح وأن الذي يعجبه الشي يبادر إلى الدعاء لمن أعجبه بالبركة ويكون ذلك رقية منه وأن الماء المستعمل طاهر وأن الإصابة بالعين قد تقتل وفي القصاص خلاف تقدم بين المالكية والشافعية
36 الرقية من العين ( مالك عن حميد بن قيس المكي ) القارىء الأعرج ( أنه قال ) معضلا
ورواه ابن وهب في جامعه عن مالك عن حميد بن قيس عن عكرمة بن خالد به مرسلا وجاء موصولا من وجوه صحاح عند أحمد والترمذي وابن ماجه عن أسماء بنت عميس ( دخل ) بضم الدال ( على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابني جعفر بن أبي طالب ) الهاشمي الأمير المستشهد بمؤتة أسن من شقيقه علي بعشر سنين ( فقال لحاضنتهما ) يجوز أن تكون أمهما أسماء بنت عميس ويجوز أن تكون غيرها قاله أبو عمر ( مالي أراهما ضارعين ) بضاد معجمة أي نحيلي الجسم ( فقالت حاضنتهما يا رسول الله إنه تسرع إليهما العين ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك ) وروى قاسم بن أصبغ عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال لأسماء بنت عميس ما شأن أجسام بني أخي ضارعة أتصيبهم حاجة قالت لا ولكن تسرع إليهم العين أفنرقيهم قال وبم ذا فعرضت عليه فقال ارقيهم
____________________
(4/410)
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استرقوا ) بسكون الراء وضم القاف من الرقية وهي العوذة بضم العين ما يرقى به من الدعاء لطلب الشفاء أي اطلبوا ( لهما ) من يرقيهما ( فإنه لو سبق شيء القدر ) بفتحتين أي لو فرض أن لشيء قوة بحيث يسبق القدر ( لسبقته العين ) لكنها لا تسبق القدر فكيف غيرها فإنه تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة
قال القرطبي فلو مبالغة في تحقيق إصابة العين جرى مجرى التمثيل إذ لا يرد القدر شيء فإنه عبارة عن سابق علم الله ونفوذ مشيئته ولا راد لأمره ولا معقب لحكمه فهو كقولهم لأطلبنك ولو تحت الثرى ولو صعدت السماء
وقال البيضاوي معناه أن إصابة العين لها تأثير ولو أمكن أن يعاجل القدر شيء فيؤثر في إفناء شيء وزواله قبل أوانه المقدر لسبقته العين انتهى
وقد أخرج البزار بسند حسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالأنفس قال الراوي يعني بالعين
وفيه إثبات القدر وصحة أمر العين وأنها قوية الضرر والأمر بالرقي وأنها نافعة ولا يعارضه النهي عنها في عدة أحاديث كخبر الذين لا يسترقون لأن الرقية المأذون فيها ما كانت باللسان العربي أو بما يفهم معناه ويجوز شرعا مع اعتقاد أنها لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله والمنهي عنها ما فقد فيها شرعا من ذلك
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سليمان بن يسار المدني ) وفيه رواية النظير عن النظير ( أن عروة بن الزبير حدثه ) مرسلا قال أبو عمر عند جميع رواة الموطأ وهو صحيح يستند معناه من طرق ثابتة وقد رواه البزار عن أبي معاوية عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عروة عن أم سلمة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وفي البيت صبي ) لم يسم ( يبكي فذكروا له أن به العين قال عروة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تسترقون له من العين ) وفي الصحيحين من طريق الزهري عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أمها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال استرقوا لها فإن بها لنظرة بفتح السين المهملة وتضم وعين مهملة سواد أو حمرة يعلوها سواد أو صفرة والمراد أن السفعة أدركتها من جهة النظرة وبادىء الرأي أنها قصة غير ما في الموطأ ويحتمل اتحادهما وهو الأصل لاتحاد المخرج والصبي يطلق على الأنثى كالذكر والبكا عن تألمها بالسفعة الناشثة عن العين وكأنهم لما أخبروه بأن به العين قال فإن بها النظرة تصديقا لهم وتعليلا لأمره بالرقية فلا خلف
____________________
(4/411)
37 ما جاء في أجر المريض ( مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ) وصله ابن عبد البر من طريق عباد بن كثير المكي قال وليس بالقوي وثقه بعضهم وضعفه ابن معين وغيره عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا مرض العبد ) المسلم أي عرض لبدنه ما أخرجه عن الاعتدال الخاص به فأوجب الخلل في أفعاله وأقواله ( بعث الله تعالى إليه ملكين فقال انظروا ماذا يقول لعواده ) جمع عائد ( فإن هو إذا جاؤه حمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله رفعا ذلك إلى الله عز وجل وهو أعلم ) بذلك منهما ومن غيرهما فإنما الصد الحث على الحمد والثناء والإخبار بجزاء ذلك كما قال
( فيقول ) الله ( لعبدي علي إن توفيته ) أمته ( أن أدخله الجنة ) بلا عذاب أو مع السابقين ( وإن أنا أشفيته ) عافيته من مرضه ( أن أبدله لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وأن أكفر عنه سيئاته ) الصغائر كلها وما اقتضاه ظاهره من شرط الصبر إنما هو مقيد بهذا الثواب المخصوص فلا ينافي خبر الطبراني وغيره عن أنس رفعه إذا مرض العبد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه المقتضى ترتب تكفير الذنوب على المرض سواء انضم له صبر أم لا
واشتراط القرطبي الصبر منع بأنه لا دليل عليه واحتجاجه بوقوع التقييد بالصبر في أخبار لا تنهض لأن ما صح منها مقيد بثواب مخصوص فاعتبر فيها الصبر لحصوله ولن نجد حديثا صحيحا ترتب فيه مطلق التكفير على مطلق المرض مع اعتبار الصبر وقد اعتبر من الأحاديث في ذلك فتحرر لي ما ذكرته قال الحافظ الزين العراقي ويأتي له مزيد في تاليه
( مالك عن يزيد ) بتحتية فزاي ( ابن خصيفة ) بخاء معجمة فصاد مهملة مصغر نسبة إلى جده وأبوه عبد الله بن خصيفة ابن عبد الله بن يزيد الكندي المدني ثقة من رجال الجميع ( عن عروة بن الزبير أنه قال سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب المؤمن من مصيبة ) أصلها الرمي بالسهم ثم استعملت في كل نازلة
____________________
(4/412)
وقال الراغب أصاب يستعمل في الخير والشر قال تعالى { إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة } سورة التوبة الآية الآية
وقيل الإصابة في الخير مأخوذة من الصوب وهو المطر الذي ينزل بقدر الحاجة من غير ضرر وفي الشر مأخوذة من إصابة السهم
وقال الكرماني المصيبة لغة ما ينزل بالإنسان مطلقا وعرفا ما نزل به من مكروه خاصة وهو المراد هنا
وفي رواية مسلم من طريق مالك ويونس جميعا عن الزهري ما من مصيبة صاب بها المسلم ولأحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ما من وجع أو مرض يصيب المؤمن ( حتى الشوكة ) المرة من مصدر شاكه بدليل جعلها غاية للمعاني وقوله في رواية يشاكها ولو أراد الواحدة من النبات لقال يشاك بها قاله البيضاوي
وقال الحافظ جوزوا فيه الحركات الثلاث فالجر بمعنى الغاية أي ينتهي إلى الشوكة أو عطفا عن لفظ مصيبة والنصب بتقدير عامل أي حتى وجدانه الشوكة والرفع عطفا على الضمير في يصيب
وقال القرطبي قيده المحققون بالرفع والنصب فالرفع على الابتداء ولا يجوز على المحل ( إلا قص ) بالقاف والصاد المهملة أي أخذ ( بها ) وأصل القص الأخذ ومنه القصاص أخذ حق المقتص له وفي رواية نقص وهما متقاربا المعنى قاله عياض
( أو كفر بها من خطاياه لا يدري يزيد ) بن خصيفة ( أيهما ) أي اللفظين قص أو كفر ( قال عروة ) وفي رواية لأحمد إلا كان كفارة لذنبه أي لكون ذلك عقوبة بسبب ما كان صدر منه من المعصية ولكون ذلك سببا لمغفرة ذنبه
وفي رواية لمسلم إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة قال الحافظ وهذا يقتضي حصول الأمرين معا حصول الثواب ورفع العقاب وشاهده ما للطبراني الأوسط من وجه آخر عن عائشة بلفظ ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله عنه به خطيئة وكتب له حسنة ورفع له درجة وسنده جيد
وما في مسلم من طريق عمرة عنها إلا كتب له بها حسنة أو حط عنه بها خطيئة فيحتمل أن يكون أو شكا من الراوي ويحتمل التنويع وهو أوجه ويكون المعنى إلا كتب الله بها حسنة إن لم يكن عليه خطايا أو حط عنه إن كانت له خطايا وعلى هذا فمقتضى الأول أن من ليست عليه خطيئة يزاد في رفع درجته بقدر ذلك والفضل واسع
وفي هذا الحديث تعقب على قول العز بن عبد السلام ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور وهو خطأ صريح فإن الثواب والعقاب إنما هو على الكسب والمصائب ليست منها بل الأجر على الصبر والرضا ووجه التعقب أن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر بمجرد حصول المصيبة وأما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليهما زيادة على ثواب المصيبة
قال الشهاب القرافي المصائب كفارات جزما سواء اقترن بها الرضا أم لا لكن إن اقترن الرضا عظم التكفير وإلا فلا كذا قال
والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها وبالرضا يؤجر على ذلك فإن لم يكن للمصاب ذنب عوض عن ذلك من الثواب بما يوازيه
وزعم القرافي أنه لا يجوز لأحد أن
____________________
(4/413)
يقول للمصاب جعل الله هذه المصيبة كفارة لذنبك لأن الشارع قد جعلها كفارة فسؤال التكفير طلب لحصول الحاصل وهو إساءة أدب على الشارع وتعقب بما ورد من جواز الدعاء بما هو واقع كالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة له
وأجيب عنه بأن الكلام فيما لم يرد فيه شيء وأما ما ورد فهو مشروع ليثاب من امتثل الأمر على ذلك
ولهذا الحديث سبب أخرجه أحمد وصححه أبو عوانة والحاكم من طريق عبد الرحمن بن شيبة العبدري أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وجع فجعل يتقلب على فراشه ويشتكي فقالت له عائشة لو صنع هذا بعضنا لوجدت عليه فقال إن الصالحين يشدد عليهم وأنه لا يصيب المؤمن نكبة شوكة الحديث انتهى ملخصا
وهذا الحديث رواه مسلم في الأدب من طريق ابن وهب والنسائي عن قتيبة كلاهما عن مالك به وله طرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة ) بمهملات المازني المدني مات سنة تسع وثلاثين ومائة ( أنه قال سمعت أبا الحباب ) بضم الحاء المهملة وخفة الموحدة ( سعيد بن يسار ) المدني الثقة المتقن مات سنة سبع عشرة وقيل ست عشرة ومائة ( يقول سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا ) أي جميع الخيرات أو خيرا عظيما ( يصب منه ) بضم التحتية وكسر الصاد عند أكثر المحدثين وهو الأشهر في الرواية والفاعل ضمير الله
وقال ابن الجوزي سمعت ابن الخشاب يقرؤه بفتحها وهو أحسن وأليق
قال الطيبي أليق بالأدب لقوله تعالى { وإذا مرضت فهو يشفين } سورة الشعراء الآية 80 ويشهد للأول ما أخرجه أحمد برواة ثقات عن محمود بن لبيد رفعه لكن اختلف في سماع محمود من المصطفى ولفظه إذا أحب الله قوما ابتلاهم من صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع ومعنى حديث الباب ينل منه بالمصائب ويبتليه بها ليثيبه عليها قاله غير واحد
وقال البيضاوي أي يوصل إليه المصائب ليطهره من الذنوب ويرفع درجته وهي اسم لكل مكروه وذلك لأن الابتلاء بالمصائب طب إلهي يداوى به الإنسان من أمراض الذنوب المهلكة ويصح عود ضمير يصب إلى من وضمير منه إلى الله أو إلى الخير والمعنى أن الخير لا يحصل للإنسان إلا بإرادته تعالى وعليه فلا شاهد فيه للمعتزلة في أن الشر ليس من الله لكونه ذكر الخير دون الشر لأن ترك ذكره لا يدل على أنه ليس منه وإنما تركه لوضوحه لأن الخير الذي هو أمر مراد لمن يحصل له مختار مرضي به إذا كان بإرادة الغير لا من نفسه فلأن يكون ما يحصل بغير إرادة ورضا أولى وفيه بشرى عظيمة لكل مؤمن لأن الآدمي لا ينفك غالبا من ألم بسبب مرض أو هم ونحو ذلك
ورواه البخاري في الطب عن عبد الله بن يوسف عن مالك به
____________________
(4/414)
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( أن رجلا ) لم يسم ( جاءه الموت في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل ) لم يسم ( هنيئا له مات ولم يبتل بمرض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك ) كلمة رحمة لمن وقع في هلكة لا يستحقها كما أن ويل كلمة عذاب لمن يستحقه وهما منصوبان بإضمار فعل ( وما يدريك ) يعلمك ( لو أن الله ابتلاه بمرض يكفر به من سيئاته ) فإن غير المعصوم لا يخلو غالبا من مواقعة السيئات فالمرض مكفر لها أو رافع للدرجات وكاسر لشماخة النفس
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم خطب امرأة فوصفها أبوها بالجمال ثم قال وأزيدك أنها لم تمرض قط فقال صلى الله عليه وسلم ما لهذه عند الله من خير
38 التعوذ والرقية في المرض ( مالك عن يزيد بن ) عبد الله بن ( خصيفة ) بضم المعجمة وفتح المهملة وإسكان التحتية وفتح الفاء ( أن عمرو ) بفتح العين ( ابن عبد الله بن كعب ) بن مالك ( السلمي ) بفتحتين الأنصاري المدني الثقة ( أخبره أن نافع بن جبير ) بن مطعم القرشي النوفلي المدني مات سنة تسع وتسعين ( أخبره عن عثمان ابن أبي العاصي ) الثقفي الطائفي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف ومات في خلافة معاوية بالبصرة
( أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عثمان وبي وجع قد كاد ) قارب ( يهلكني ) ولمسلم وغيره من رواية الزهري عن نافع عن عثمان أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم ( قال ) عثمان ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم امسحه بيمينك سبع مرات ) في رواية مسلم فقال ضع يدك على الذي يألم من جسدك وللطبراني والحاكم ضع يمينك على المكان الذي تشتكي فامسح بها سبع مرات ( وقل ) زاد في رواية مسلم بسم الله ثلاثا قبل قوله ( أعوذ ) أعتصم ( بعزة الله وقدرته من شر ما أجد ) زاد في رواية مسلم وأحاذر وللطبراني والحاكم أنه يقول ذلك في كل مسحة من السبع وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن ماجه من حديث أنس من شر ما أجد وأحاذر من وجعي هذا ( قال ) عثمان ( فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي ) من الوجع ( فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم ) لأنه
____________________
(4/415)
من الأدوية الإلهية والطب النبوي لما فيه من ذكر الله والتفويض إليه والاستعاذة بعزته وقدرته وتكراره يكون أنجع وأبلغ كتكرار الدواء الطبيعي لاستقصاء إخراج المادة
وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها
وقد خص صلى الله عليه وسلم السبع في غير ما موضع بشرط قوة اليقين وصدق النية
قال بعضهم ويظهر أنه إذا كان المريض نحو طفل أن يقول من يعوذه من شر ما يجد ويحاذر
والحديث رواه الترمذي من طريق معن بن عيسى عن مالك به وقال هذا حديث صحيح
( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى ) أي مرض والشكاية المرض ( يقرأ على نفسه بالمعوذات ) بكسر الواو الإخلاص معوذة تغليبا ولما اشتملت عليه من صفة الله تعالى
وفي رواية ابن عبد البر من طريق عيسى بن يونس عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بقل هو الله أحد والمعوذتين وكذا في رواية ابن خزيمة وابن حبان ولذا قال الحافظ المعتمد أنه تغليب لا لأن أقل الجمع اثنان أو باعتبار أن المراد الكلمات التي يتعوذ بها من السورتين
( وينفث ) بكسر الفاء وضمها بعدها مثلثة أي يخرج الريح من فمه في يده مع شيء من ريقه ويمسح جسده
قال بعض الشراح وقال السيوطي هو شبه البزاق بلا ريق أي يجمع يديه ويقرأ فيهما وينفث ثم يمسح بهما على موضع الألم
وقال الحافظ أي يتفل بلا ريق أو مع ريق خفيف أي يقرأ ماسحا لجسده عند قراءتها
قال معمر قلت للزهري كيف ينفث قال ينفث على يده ثم يمسح بها وجهه رواه البخاري قال عياض وفائدة النفث بتلك الرطوبة أو الهواء الذي مسه الذكر كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر وفيه تفاؤل بزوال الألم وانفصاله كانفصال ذلك النفث وخص المعوذات لما فيها من الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا
ففي الإخلاص كمال التوحيد
وفي الاستعاذة من شر ما خلق ما يعم الأشباح والأرواح فابتدأ بالعام في قوله من شر ما خلق ثم ثنى بالعطف في قوله ومن شر غاسق لأن انبثات الشر فيه أكثر والتجوز منه أصعب ووصف المستعاذ به في الثالثة بالرب ثم بالملك ثم بالإله وأضافها إلى الناس وكرره وخص المستعاذ منه بالوسواس المعنى به الموسوس من الجنة والناس فكأنه قيل كما قال الزمخشري أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم وهو إلههم ومعبودهم كما يستغيث بعض الموالي إذا عثر بهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالي أمرهم
( قالت ) عائشة ( فلما اشتد وجعه ) في مرضه الذي توفي فيه ( كنت أنا أقرأ عليه ) المعوذات ( وأمسح عليه ) قال أبو عمر كذا ليحيى وقال غيره وأمسح عنه ( بيمينه ) على جسده ( رجاء بركتها ) ولمسلم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه
____________________
(4/416)
وأمسح بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدي
وللبخاري عن ابن أبي مليكة عن عائشة فذهبت أعوذه فرفع رأسه إلى السماء وقال في الرفيق الأعلى وللطبراني عن أبي موسى فأفاق وهي تمسح صدره وتدعو بالشفاء فقال لا ولكن أسأل الله الرفيق الأعلى هذا وللبخاري عن الفضل بن فضالة عن عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما ثم يقرأ قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات وهذه مغايرة لرواية مالك وإن اتحد إسنادهما فالذي يترجح كما قال الحافظ أنهما حديثان عن ابن شهاب بسند واحد قال أبو عمر فيه إثبات الرقي والرد على منكره من أهل الإسلام والرقي بالقرآن وفي معناه كل ذكر وإباحة النفث فيه والمسح باليد عند الرقية وفي معناه مسحها على كل ما يرجى بركته وشفاؤه وخيره كالمسح على رأس اليتيم والتبرك بآثار الصالحين قياسا على فعل عائشة والتبرك باليمنى دون الشمال وتفضيلها عليها وفي ذلك معنى الفأل انتهى
وأخرجه البخاري في فضائل القرآن عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه معمر عند البخاري في الطب ويونس عنده في الوفاة النبوية وكذا عند مسلم وكذا تابعه زياد في مسلم أيضا قائلا كلهم وعن ابن شهاب بإسناد مالك نحو حديثه وليس في حديث أحد منهم رجاء بركتها إلا في حديث مالك وفي حديث يونس وزيادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده
( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس الأنصاري ( عن عمرة بنت عبد الرحمن ) بن سعد بن زرارة الأنصارية ( أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها فقال أبو بكر ارقيها بكتاب الله ) القرآن إن رجي إسلامها أو التوراة إن كانت معربة بالعربي أو أمن تغييرهم لها فتجوز الرقية به وبأسماء الله وصفاته وباللسان العربي وبما يعرف معناه من غيره بشرط اعتقاد أن الرقية لا تؤثر بنفسها بل بتقدير الله
قال عياض اختلف قول مالك في رقية اليهودي والنصراني المسلم وبالجواز قال الشافعي
قال الربيع سألت الشافعي عن الرقية فقال لا بأس أن ترقي بكتاب الله وبما يعرف من ذكر الله قلت أيرقي أهل الكتاب المسلمين قال نعم إذا رقوا من كتاب الله
وروى ابن وهب عن مالك كراهة الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان وقال لم يكن ذلك من أمر الناس القديم
____________________
(4/417)
39 تعالج المريض ( مالك عن زيد بن أسلم ) مرسل عند جميع الرواة ( أن رجلا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه جرح ) بضم الجيم ( فاحتقن ) أي احتبس الجرح ( الدم ) قال الباجي أي فاض وخيف عليه منه ( وأن الرجل دعا رجلين من بني أنمار ) بفتح الهمزة وإسكان النون وميم بطن من العرب ( فنظرا إليه فزعما ) أي قالا ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما أيكما أطب ) أي أعلم بالطب ( فقالا أو في الطب خير ) مثلث الطاء علاج الجسم والنفس كما في القاموس ( يا رسول الله فزعم ) أي قال ( زيد ) بن أسلم ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنزل الدواء ) ما يتداوى به ( الذي أنزل الأدواء ) جمع داء وهو المرض أي الأمراض وهو الله سبحانه واختلف في معنى الإنزال فقيل إعلامه عباده به ومنع بأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بعموم الإنزال لكل داء ودوائه وأكثر الخلق لا يعلمون ذلك كما صرح به في حديث ابن مسعود عند النسائي بقوله علمه من علمه وجهله من جهله
وقيل إنزالهما إنزال الملائكة الموكلين بمباشرة مخلوقات الأرض فأنزل معهم الداء والدواء فيخبرون بذلك النبي مثلا أو إلهام لغيره وقيل عامة الأدواء والأدوية بواسطة إنزال الغيث الذي تتولد منه الأغذية والأدوية وغيرهما وهذا من تمام لطف الرب بخلقه فكما ابتلاهم بالأدواء أعانهم عليها بالأدوية وكما ابتلاهم بالذنوب أعانهم عليها بالتوبة والحسنات الماحية
وفي الفردوس عن علي مرفوعا لكل داء دواء وداء الذنوب الاستغفار وقال أبو عمر فيه إباحة التداوي وإتيان الطبيب إلى العليل وأن الله هو الممرض والشافي وأنه أنزل الأمرين ولذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يرقي ويقول اشف أنت الشافي يا رب لا شفاء إلا شفاؤك اشف شفاء لا يغادر سقما وهذا يصحح أن المعالجة إنما هي لتطبيب نفس العليل وأنسه للعلاج ورجاء أنه من أسباب الشفاء كالتسبب بطلب الرزق المفروغ منه وفيه أن البرء ليس في وسع مخلوق تعجيله قبل حينه وقد رأينا الأطباء يعالج أحدهم اثنين علتهما واحدة في زمن واحد وسن واحد وبلد واحد وربما كانا توأمين فيعالجهما بعلاج واحد فيصح أحدهما ويموت الآخر أو تطول علته ثم يصح عند الأمد المعدود له انتهى
ثم حديث مالك وإن كان مرسلا لكن شواهده كثيرة صحيحة مسندة كحديث البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء وفي مسلم عن جابر رفعه لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برىء بإذن الله ولأحمد والبخاري في
____________________
(4/418)
الأدب المفرد وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم عن أسامة بن شريك رفعه تداووا يا عباد الله فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحد الهرم وفي لفظ إلا السام بمهملة مخففا أي الموت فبين أنه لا دواء له فيخص به عموم الحديث وزعم أن المراد دواؤه الطاعة ليس شيء لأنها دواء للمرض المعنوي كعجب وكبر لا الموت
وفي قوله بإذن الله إشارة إلى أنه لا يبرأ بالدواء إذا لم يأذن الله بل قد ينقلب داء
( مالك عن يحيى بن سعيد قال بلغني ) ووصله ابن ماجه عن جابر ( أن سعد ) بسكون العين ( ابن زرارة ) بن عدس الأنصاري الخزرجي أخو أسعد بألف أوله ذكره جماعة في الصحابة وذكر الواقدي والعدوي أنه كان ينسب إلى النفاق ولعله تاب ( اكتوى في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذبحة ) بذال معجمة وموحدة قال في القاموس كهمزة وعنبة وكسوة وصبرة وجع في الحلق أو دم يخنق فيقتل
وفي النهاية بفتح الباء وقد تسكن وجع يعرض في الحلق من الدم وقيل قرحة تظهر فيه فينسد معها وينقطع النفس وفي الغريبين الذبحة وجع الحلق
وقال ابن شميل قرحة في حلق الإنسان مثل الزبيبة الذي تأخذ الحمير ( فمات )
( مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر اكتوى من اللقوة ) بلام مفتوحة فقاف ساكنة داء يصيب الوجه كما في القاموس وغيره
( ورقي من العقرب ) لأذن المصطفى ففي مسلم عن جابر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقي فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية يرقى بها من العقرب وأنك نهيت عن الرقي قالوا فعرضوها عليه فقال ما أرى بأسا من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه وفيه أيضا عن جابر لدغت رجلا منا عقرب ونحن جلوس معه صلى الله عليه وسلم فقال رجل يا رسول الله أرقي قال من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل وفي الموطأ ابن وهب أن الرجل عمارة بن حزم من آل عمرو بن حزم
وروى أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا وما أنجحنا وهذا مع فعل ابن عمر يدل على أنه حمل النهي على الكراهة أو خلاف الأولى إذ لو حمله على التحريم ما اكتوى ويدل على أنه لغير التحريم حديث الصحيح عن جابر رفعه إن كان في شيء من أدويتكم شفاء ففي شرطة محجم أو لذعة بنار وما أحب أن أكتوي قال الحافظ لم أر في أثر صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى إلا أن القرطبي نسب إلى كتاب أدب النفوس للطبراني أنه اكتوى
وذكره الحليمي بلفظ روي أنه صلى الله عليه وسلم اكتوى للجرح الذي أصابه بأحد
____________________
(4/419)
والثابت في الصحيح أن فاطمة أحرقت حصيرا فحشت به جرحه وليس هذا الكي المعهود وجزم السفاقسي بأنه اكتوى وابن القيم بأنه لم يكتو
40 الغسل بالماء من الحمى هي حرارة غريبة تشتعل في القلب وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العروق إلى جميع البدن وهي قسمان عرضية وهي الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس أو القبض الشديد ونحوها ومرضية وهي ثلاثة أنواع وتكون عن مادة ثم منها ما يسخن جميع البدن فإن كان مبدأ تعلقها بالروح فهي حمى يوم لأنها تقلع غالبا في يوم ونهايتها إلى ثلاث وإن كان تعلقها بالأعضاء الأصلية فهي حمى دق وهي أخطرها وإن كان تعلقها بالأخلاط سميت عفنية وهي بعدد الأخلاط الأربعة وتحت هذه الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الأفراد والتركيب
( مالك عن هشام بن عروة عن ) زوجته بنت عمه ( فاطمة بنت المنذر ) بن الزبير ( أن ) جدتهما ( أسماء بنت أبي بكر ) الصديق ( كانت إذا أتيت ) بضم الهمزة مبنيا للمفعول ( بالمرأة وقد حمت ) بضم الحاء وفتح الميم مشددة ( تدعو لها أخذت الماء فصبته بينها ) بين المحمومة ( وبين جيبها ) بفتح الجيم وسكون التحتية وكسر الموحدة قال عيسى بن دينار أي بين طوقها وجسدها ( وقالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نبردها ) بفتح النون وسكون الموحدة وضم الراء وفي رواية بضم النون وفتح الموحدة وكسر الراء مشددة ( بالماء ) البارد
وفي فعل أسماء صفة التبريد المطلق في الأحاديث وهو أولى ما تفسر به لأن الصحابي أعلم بالمراد من غيره ولا سيما أسماء بنت أبي بكر التي كانت تلزم بيته صلى الله عليه وسلم فهي أعلم بمراده من غيرها فتشكيك بعض الضالين في الحديث بأن غسل المحموم مهلك وأن بعض من ينسب إلى العلم فعله فهلك أو كاد لجمعه المسام وخنقه البخار وعكسه الحرارة لداخل البدن جهل قبيح نشأ من عدم فهم كلام النبوة
وقد روى أبو نعيم وغيره عن أنس يرفعه إذا حم أحدكم فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر والصحيح أن المراد كل ماء وأن المراد استعماله لا الصدقة به كما ادعى ابن الأنباري وإن وجه بأن الجزاء من جنس العمل فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد أخمد الله عنه لهيب الحمى جزاء وفاقا وهو توجيه حسن
قال الحافظ لكن صريح الأحاديث ترده وقيل المراد ماء زمزم لحديث البخاري عن ابن عباس فأبردوها بالماء أو بماء زمزم بالشك
ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم بماء زمزم بدون شك وجمع بأن الأمر به لأهل مكة لتيسره
____________________
(4/420)
عندهم أما غيرهم فكل ماء
وهذا الحديث رواه البخاري عن القعنبي عن مالك به وتابعه عبدة بن سليمان وعبد الله بن نمير وأبو أسامة عن هشام عند مسلم
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ) مرسلا عند الجميع إلا معن بن عيسى فرواه في الموطأ عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة وليست روايته بشاذة لأنه تابعه ابن وهب وهو معلوم الاتصال عند أصحاب هشام
رواه البخاري من طريق يحيى القطان ومسلم من طريق عبد الله بن نمير وخالد بن الحارث وعبدة بن سليمان الأربعة عن هشام عن أبيه عن عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الحمى من فيح ) بفتح الفاء وسكون التحتية وحاء مهملة
وفي حديث رافع بن خديج في البخاري من فوح بالواو بدل الياء وفي رواية الشيخين عنه من فور بالراء بدل الحاء والثلاثة بمعنى ( جهنم ) أي سطوع حرها وفورانه حقيقة أرسلت إلى الدنيا نذيرا للجاحدين وبشيرا للمقربين لأنها كفارة لذنوبهم فاللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من نار جهنم قدر الله ظهورها بأسباب يقضيها ليعتبر العباد بذلك كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة وقيل هو من باب التشبيه شبه اشتعال حرارة الطبيعة في كونها مذيبة للبدن ومعذبة له بنار جهنم ففيه تنبيه للنفوس على شدة حر النار والأول أولى
قال الطيبي من ليست بيانية حتى تكون تشبيها كقوله { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } سورة البقرة الآية 187 فهي إما ابتدائية أي الحمى نشأت وحصلت من فيح جهنم أو تبعيضية أي بعض منها قال ويدل على هذا التأويل ما في الصحيح اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فكما أن حرارة الصيف أثر من فيحها كذلك الحمى وهي حرارة غريبة تشتعمل في القلب وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العروق إلى جميع البدن
( فأبردوها ) بهمزة وصل وضم الراء على المشهور في الرواية من بردت الحمى أبردها بردا بوزن قتلتها أقتلها قتلا أي أسكنت حرارتها وحكي كسر الراء مع وصل الهمزة وحكى عياض رواية بهمزة قطع مفتوحة وكسر الراء من أبرد الشيء إذا عاجله فصيره باردا وقال الجوهري إنها لغة رديئة وقول أبي البقاء الصواب وصل الهمزة وضم الراء زاد القرطبي وأخطأ من زعم قطعها فيه نظر بعد ثبوتها رواية ( بالماء ) البارد كما في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه شربا وغسل أطراف لأن الماء البارد رطب ينساغ لسهولته فيصل للطافته إلى أماكن العلة من غير حاجة إلى معاونة الطبيعة
قال الخطابي وغيره اعترض بعض سخفاء الأطباء الحديث بأن اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك لأنه يجمع المسام ويحقن البخار المتحلل ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم فيكون سببا للتلف وغلط بعض من ينسب إلى العلم فانغمس بالماء أصابه الحمى فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه فأصابته علة صعبة كادت تهلكه فلما خرج من علته قال قولا سيئا لا يحسن ذكره وأوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث وارتيابه في صدقه فيقال له أولا من أين حملت الأمر
____________________
(4/421)
على الاغتسال وليس في الحديث بيان الكيفية فضلا عن اختصاصها بالغسل وإنما أرشد إلى تبريدها بالماء فإن أظهر الوجود أو اقتضت صناعة الطب أن إغماس كل محموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو المراد وإنما قصد صلى الله عليه وسلم استعماله على وجه ينفع فيبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به وهو كما أمر العائن بالاغتسال وأطلق وقد ظهر من الحديث الآخر أنه أراد الاغتسال على صفة مخصوصة لا مطلق الاغتسال فكذلك هنا يحمل على ما بينته أسماء لأنها من جملة من رواه فهي أعلم بالمراد من غيرها
وقال المازري لا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل حتى أن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة ثم يصير داء له في الساعة التي تليها لعارض يعرض له كغضب يحمي مزاجه مثلا فيتغير علاجه ومثل ذلك كثير فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالة لم يلزم وجود الشفاء به له أو لغيره في سائر الأحوال وأجمع الأطباء على أن الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف وقوة الطباع ثم ذكر نحو ما مر ثم قال وعلى تقدير أن يراد الاغتسال فيحتمل أنه في وقت مخصوص بعدد مخصوص فيكون من الخواص التي اطلع عليها صلى الله عليه وسلم بالوحي ويضمحل عند ذلك كلام الأطباء ويحتمل أن يكون ذاك لبعض الحميات دون بعض وهذا أوجه
وقال عياض لم يبين صلى الله عليه وسلم الصفة والحالة فمن أين أنه أراد الانغماس والأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية يبرد صاحبها بسقي الماء البارد الشديد البرد نعم ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد فلا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم أراد هذا النوع من الحمى والغسل على مثل ما قالوه أو قريب منه وقد تأولت أسماء الحديث على نحو ما قلناه وقد شاهدته صلى الله عليه وسلم وهي في القرب منه على ما علم انتهى
والحاصل أن الحمى أنواع منها ما يصلح له الإبراد بالماء ومنها ما لا يصلح والذي يصلح إبراده بالماء يختلف أيضا فمنه ما يصلح أن يرش بين بدن المحموم وجيبه أو يقطر على صدره من السقاء فلا يجاوز ذلك منه ما يحتاج إلى صب الماء على رأسه وسائر بدنه أو إلى انغماسه في النهر الجاري مرة فأكثر وذلك باختلاف نوع المرض وكما يختلف بذلك يختلف أيضا بحسب اختلاف الفصل والقطر والمزاج فلا يسوى بين الشتاء والصيف ولا بين الشام ومصر ولا بين مصر والحجاز ولا بين من مزاجه بارد رطب وبين من مزاجه حار يابس ولا بين من به نزلات وتحدرات وبين غيره هذا هو المقرر من قواعد الطب
وأخرج الترمذي عن ثوبان مرفوعا إذا أصاب أحدكم الحمى وهي قطعة من النار فليطفئها عنه بالماء يستنقع في نهر جار ويستقبل جريته وليقل بسم الله اللهم اشف عبدك وصدق رسولك بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس ولينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام فإن لم يبرأ فخمس وإلا فسبع وإلا فتسع فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله قال الترمذي غريب وفي سنده سعيد بن زرعة مختلف فيه وهذا ينزل على من ينفعه ذلك ونزل أيضا بأنه خارج عن قواعد الطب دخل في قسم المعجزات ألا ترى أنه قال فيه صدق رسولك وبإذن الله قال الزين العراقي عملت
____________________
(4/422)
بهذا الحديث فانغمست في بحر النيل فبرئت منها قال ولده ولم يحم بعدها ولا في مرض موته
( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحمى من فيح جهنم ) حقيقة أو مجازا ويؤيد الحقيقة حديث أحمد وغيره عن سمرة يرفعه الحمى قطعة من النار ومثله عند الترمذي عن ثوبان ( فاطفئوها ) بقطع الهمزة وكسر الفاء بعدها همزة مضمومة أمرا بإطفاء حرارتها ( بالماء ) البارد شربا وغسل أطراف أو جميع الجسد على ما يليق بالزمان والمزاج والمكان
وفي حديث عائشة فأبردوها فأشار أبو عمر إلى أن إحداهما بالمعنى ولا يتعين لجواز أنه صلى الله عليه وسلم نطق باللفظين لأن المخرج مختلف وهذا الحديث في الموطأ عن ابن وهب وابن القاسم وابن عفير وليس فيه عند أكثر الرواة قاله ابن عبد البر وقد رواه البخاري عن يحيى بن سليمان الجعفي ومسلم من طريق ابن وهب كلاهما عن مالك به وتابعه الضحاك بن عثمان عن نافع به في مسلم وأخرجه ابن عبد البر من طريق ابن وهب عن مالك به وزاد قال ابن وهب وسمعت مالكا يحدث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قال أبو عمر هكذا عطفه ابن وهب على حديث مالك عن نافع عن ابن عمر
41 عيادة المريض والطيرة أصل عيادة عوادة قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها يقال عدت المريض أعوده عيادة إذا زرته وسألته عن حاله والطيرة بكسر الطاء المهملة وفتح التحتية التشاؤم بالشيء وأصله أنهم كانوا في الجاهلية إذا خرج أحدهم لحاجة فإن رأى الطير طار عن يمينه تيمن به واستمر وإن طار عن يساره تشاءم به ورجع وربما هيجوا الطير ليطير فيعتمدون ذلك ويصح معهم في الغالب لتزيين الشيطان لهم ذلك وبقيت بقايا من ذلك في كثير من المسلمين فنهى الشرع عن ذلك
وروى عبد الرزاق عن إسماعيل بن أمية مرفوعا ثلاثة لا يسلم منهن أحد الطيرة والظن والحسد فإذا تطيرت فلا ترجع وإذا حسدت فلا تبغ وإذا ظننت فلا تحقق وهذا مرسل أو معضل لكن له شاهد عن أبي هريرة عند البيهقي ولابن عدي بسند لين عن أبي هريرة مرفوعا إذا تطيرتم فأمضوا وعلى الله فتوكلوا وللبيهقي عن ابن عمرو من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك
( مالك أنه بلغه ) أخرجه قاسم بن أصبغ والإمام أحمد برجال الصحيح ( عن جابر بن عبد الله أن
____________________
(4/423)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا عاد الرجل المريض خاض الرحمة ) شبه الرحمة بالماء إما في الطهارة وإما في الشيوع والشمول ونسب إليها ما هو منسوب إلى المشبه به من الخوض ( حتى إذا قعد عنده قرت ) أي ثبتت ( فيه أو نحو هذا ) شك ولفظ رواية أحمد عن جابر قال صلى الله عليه وسلم من عاد مريضا لم يزل يخوض في الرحمة حتى يجلس فإذا جلس اغتمس فيها وله أيضا من حديث أبي أمامة عائد المريض يخوض الرحمة فإذا جلس عنده غمرته الرحمة ومن تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على وجهه أو على يده فيسأله كيف هو وتمام تحيتكم بينكم المصافحة
( مالك أنه بلغه عن بكير ) بضم الموحدة ( ابن عبد الله بن الأشج ) بالجيم المخزومي مولاهم المدني نزيل مصر من الثقات مات سنة عشرين ومائة وقيل بعدها ( عن ابن عطية ) كذا رواه يحيى وتابعه قوم
وقال القعنبي عن ابن عطية الأشجعي عن أبي هريرة وتابعه جماعة منهم عبد الله بن يوسف وأبو مصعب ويحيى بن بكير إلا أنه قال عن أبي عطية أي بأداة الكنية وابن عطية اسمه عبد الله بن عطية ويكنى أبا عطية قيل هو مجهول لكن الحديث محفوظ من وجوه عن أبي هريرة قاله ابن عبد البر وقد وافق ابن بكير في ذكره بأداة الكنية بشر بن عمر الزهراني عن مالك لكنه خالفه في صحابيه فقال عن أبي برزة أخرجه الدارقطني في اختلاف الموطآت لكنه وهم من أبي هاشم الرفاعي راويه عن أبي بشر وإنما هو عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا عدوى ) أي لا يعدي شيء شيئا أي لا يسري ولا يتجاوز شيء من المرض إلى غير من هو به يقال أعدى فلان فلانا من علة به وذلك على ما يذهب إليه المتطببة في الجذام والبرص والجدري والحصباء والسحر والرمد والأمراض الوبائية والأكثر أن المراد نفي ذلك وإبطاله كما دل عليه ظاهر الحديث
( ولا هام ) وفي لفظ ولا هامة بخفة الميم على الصحيح اسم طائر من طير الليل كانوا يتشاءمون به فيصدهم عن مقاصدهم وقيل هو البومة كانوا يتشاءمون بها فيزعمون أنه إذا وقعت هامة على بيت خرج منه ميت أي لا يتطير به
وقيل المراد نفي زعمهم أنه إذا قتل قتيل خرج من رأسه طائر فلا يزال يقول اسقوني حتى يقتل قاتله فيطير وقيل كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة وقيل إن روحه تنقلب هامة فتطير ويسمونها الصدى قال النووي وهذا تفسير أكثر العلماء وهو المشهور قال ويجوز أن المراد النوعان وأنهما جميعا باطلان
( ولا صفر ) الشهر المعروف فإن العرب كانت تحرمه وتستحل المحرم وهو النسيء فجاء الإسلام برد ذلك وهذا التفسير يروى عن مالك وقيل كانت تزعم أن صفر حية تكون في البطن تهيج عند الجوع للناس والماشية وربما قتلت صاحبها وأنها تعدي أقوى من الجرب فالحديث لنفي ذلك أو لنفي العدوى به
____________________
(4/424)
قولان وأيد هذا التفسير بما في مسلم أن جابر بن عبد الله فسر الصفر فقال كان يقال حيات البطن وقال البيضاوي هو نفي لما يتوهم أن شهر صفر تكثر فيه الدواهي
( ولا يحل ) بفتح الياء وضم الحاء وفي رواية الشيخين عن أبي هريرة لا يورد ( الممرض ) بكسر الراء وفتحها من الإبل ( على المصح ) بكسر الصاد منها فربما يصاب بذلك فيقول الذي أورده لو أني ما أحللته لم يصبه من هذا شيء والواقع أنه لو لم يحله لأصابه لأن الله قدره فنهى عنه لهذه العلة التي لا يؤمن غالبا من وقوعها في طبع الإنسان وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم فر من المجذوم فرارك من الأسد وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي لكنا نجد في أنفسنا نفرة وكراهية لمخالطته
وفي البخاري ومسلم واللفظ له عن أبي هريرة حين قال صلى الله عليه وسلم لا عدوى ولا صفر ولا هامة فقال أعرابي يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل فكأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها قال فمن أعدى الأول ولأحمد من حديث ابن مسعود فما أجرب الأول إن الله خلق كل نفس وكتب حالها ومصابها ورزقها الحديث فأخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك كله بقضاء الله وقدره كما دل عليه قوله تعالى { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم } سورة الحديد الآية 22 الآية
وأما النهي عن إيراد الممرض فمن باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى وجعلها أسبابا للهلاك أو الأذى والعبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان في عافية منها
وفي حديث مرسل عند أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم مر بحائط مائل فقال أخاف موت الفوات وإلى ذلك الإشارة بقوله ( وليحلل المصح حيث شاء ) فله نزول محلة المريض إن صبر على ذلك واحتملته نفسه
( قالوا يا رسول الله وما ذاك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أذى ) أي يتأذى به لا أنه يعدي قال عيسى بن دينار ومعناه النهي أن يأتي الرجل بإبله أو غنمه الجربة فيحل بها على ماشية صحيحة
وقال يحيى بن يحيى سمعت أن تفسيره في رجل يكون به الجذام فلا ينبغي له أن ينزل على الصحيح يؤذيه لأنه وإن كان لا يعدي فالأنفس تكرهه وقد قال صلى الله عليه وسلم إنه أذى يعني لا للعدوى
وأما الصحيح فله أن ينزل محلة المريض إن صبر على ذلك واحتملته نفسه
42 السنة في الشعر ( مالك عن أبي بكر بن نافع ) العدوي مولاهم المدني صدوق يقال اسمه عمر ( عن أبيه نافع ) مولى ابن عمر شيخ الإمام روى عنه هنا بواسطة ( عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ) ندبا وقيل وجوبا ( بإحفاء الشوارب ) أي بإزالة ما طال منها على الشفتين حتى تبين الشفة بيانا ظاهرا كما
____________________
(4/425)
فسره بذلك الإمام فيما مر وإليه ذهب من منع حلق الشارب ومن قال يندب حلقه قال معناه الاستئصال لأنه أوفق للغة لأن الإحفاء أصله الاستقصاء وهذا يرده حديث من لم يأخذ من شاربه فليس منا فدل التعبير بمن التي للتبعيض على أنه لا يستأصله ويؤيده فعل النبي صلى الله عليه وسلم أخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص شاربه وفي أبي داود عن المغيرة ضفت النبي صلى الله عليه وسلم وكان شاربي وفي فقصه على سواك وفي البيهقي عنه فوضع السواك تحت الشارب وقص عليه وفي البزار عن عائشة أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا وشاربه طويل فقال ائتوني بمقص وسواك فجعل السواك على طرفه ثم أخذ ما جاوزه وللطبراني والبيهقي عن شرحبيل بن مسلم الخولاني رأيت خمسة من الصحابة يقصون شواربهم أبو أمامة الباهلي والمقدام بن معدي كرب وعتبة بن هون السلمي والحجاج بن عامر الثمالي وعبد الله بن بسر ولا يؤيد كون المراد حلقه أن ابن عمر كان يحفي شاربه كأخي الحلق رواه ابن سعد وهو أعلم بالمراد لأنه راوي الحديث مع ما ورد أنه كان أشد الناس اتباعا للسنن لأنه معارض بفعله صلى الله عليه وسلم وبقوله فالذي يظهر أنه إنما فعل ذلك أخذا بظاهر المدلول اللغوي ولعله لم يطلع على حديث القص كمن وافقه من الصحابة
أخرج الطبراني والبيهقي عن عبد الله بن أبي رافع رأيت أبا سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وابن عمر ورافع بن خديج وأبا أسيد الأنصاري وسلمة بن الأكوع وأبا رافع ينهكون شواربهم كالحلق ولذا ذهب ابن جرير إلى التخيير فإنه لما حكى قول مالك والكوفيين ونقل عن أهل اللغة أن الإحفاء الاستئصال قال دلت السنة على الأمرين ولا تعارض فالقص يدل على أخذ البعض والإحفاء يدل على أخذ الكل فكلاهما ثابت فيخير فيما شاء
( وإعفاء اللحى ) بكسر اللام وحكي ضمها وبالقصر والمد جمع لحية بالكسر فقط اسم لما ينبت على الخدين والذقن ومعناه توفرها لتكثر قاله أبو عبيدة
وقال الباجي يحتمل عندي أن يريد إعفاؤها من الإحفاء لأن كثرتها أيضا ليس مأمورا بتركه
وقد روي أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يأخذان من اللحية ما فضل عن القبضة
وسئل مالك عن اللحية إذا طالت جدا قال أرى أن يؤخذ منها ويقص انتهى
وروى الترمذي وقال غريب
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها بالسوية أي ليقرب من التدوير من كل جانب لأن الاعتدال محبوب والطول المفرط قد يشوه الخلق ويطلق ألسنة المغتابين ففعل ذلك مندوب ما لم ينته إلى تقصيص اللحية وجعلها طاقات فيكره أو يقصد الزينة والتحسين لنحو النساء فلا منافاة بين فعله وأمره لأنه في الأخذ منها لغير حاجة أو لنحو تزين وفعله فيما احتيج إليه لتشعث أو إفراط طول يتأذى به
وقال الطيبي المنهي عنه قصها كالأعاجم أو وصلها كذنب الحمار
وقال الحافظ المنهي عنه الاستئصال أو ما قاربه بخلاف الأخذ المذكور
والحديث رواه مسلم عن قتيبة ابن سعيد والترمذي من طريق معن بن عيسى كليهما عن مالك به
____________________
(4/426)
( مالك عن ابن شهاب ) الزهري ( عن حميد ) بضم الحاء ( ابن عبد الرحمن بن عوف ) الزهري المدني الثقة الثبت الحجة ( أنه سمع معاوية بن أبي سفيان ) صخر بن حرب الأموي ( عام حج ) سنة سبع وخمسين ففي البخاري عن سعيد بن المسيب قال قدم معاوية المدينة آخر قدمة قدمها فخطبنا ( وهو على المنبر ) النبوي بالمدينة قال ابن جرير أول حجة حجها بعد الخلافة سنة أربع وأربعين وآخر حجة سنة سبع وخمسين ( وتناول ) أخذ معاوية ( قصة ) بضم القاف وشد الصاد المهملة خصلة ( من شعر ) تزيدها المرأة في شعرها لتوهم كثرته ( كانت ) القصة وفي رواية كان أي ذلك الشعر ( في يدي حرسي ) بفتح الحاء والراء وكسر السين المهملات وتحتية من خدمه الذين يحرسونه زاد في رواية الطبراني وجدت هذه عند أهلي وزعموا أن النساء يزدنه في شعورهن
وفي رواية ابن المسيب عنه ما كنت أرى يفعل هذا غير اليهود ( يقول يا أهل المدينة أين علماؤكم ) أي ليساعدوه على إنكار ذلك أو لينكر هو عليهم إهمالهم إنكار ذلك وعدم تغييرهم لذلك المنكر
( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه ) القصة التي تصله المرأة بشعرها ( ويقول ) صلى الله عليه وسلم ( إنما هلكت ) ولمسلم إنما عذب ( بنو إسرائيل حين اتخذ هذه ) أي مثل هذه القصة ووصلها بالشعر ( نساؤهم )
وفي رواية الصحيحين عن ابن المسيب عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الزور يعني الوصلة في الشعر أي لأنه كذب وتغيير لخلق الله والزور الكذب والباطل
وفي مسلم عن قتادة عن ابن المسيب أن معاوية قال إنكم قد أحدثتم زي سوء وإن نبي الله نهى عن الزور
قال وجاء رجل بعصا على رأسها خرقة قال معاوية ألا وهذا الزور
قال قتادة يعني ما يكثر به النساء شعورهن من الخرق
قال أبو عمر فيه الاعتبار والحكم بالقياس لخوفه على هذه الأمة الهلاك كبني إسرائيل فإن من فعل مثله استحقه أو يعفو الله ووجوب اجتناب عمل هلك به قوم قال ويحتمل أن القصة لم تفش فيهم حتى أعلنوا بالكبائر فكأن القصة علامة لا تكاد تظهر إلا في أهل الفسق لا أنها فعلة يستحق فاعلها الهلاك بها دون أن يجامعها غيرها
ويحتمل أن بني إسرائيل نهوا تحريما عن ذلك فاتخذوه استخفافا فهلكوا
والذي منعوا منه جاء عن نبينا مثله كما في الصحيح عن أبي هريرة وغيره مرفوعا لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة انتهى ملخصا
وهذا يحتمل أنه خبر فيكون حكاية عن الله تعالى ويحتمل أنه دعاء منه صلى الله عليه وسلم على فاعل ذلك والحديث رواه البخاري عن إسماعيل وابن مسلمة القعنبي ومسلم عن يحيى الثلاثة عن مالك به وتابعه ابن عيينة ويونس ومعمر كلهم عن الزهري به عند مسلم قائلا غير أن في حديث معمر إنما عذب بنو إسرائيل
____________________
(4/427)
( مالك عن زياد بن سعد ) بن عبد الرحمن الخراساني نزيل مكة ثم اليمن ثقة ثبت قال ابن عيينة ويونس ومعمر كان أثبت أصحاب الزهري ( عن ابن شهاب ) شيخ الإمام روى عنه هنا بواسطة
( أنه سمعه يقول ) قال أبو عمر كذا أرسله رواة مالك إلا حماد بن خالد الخياط فأسنده عن أنس فأخطأ فيه والصواب عن مالك مرسل والصواب من غير رواية مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله عن ابن عباس لا عن أنس قال ( سدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته ) أي أنزل شعرها على جبهته ( ما شاء الله ) موافقة لأهل الكتاب لأنه كان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر فيه بشيء لتمسكهم في زمانه ببقايا شرائع الرسل أو لاستئلافهم كما تآلفهم باستقبال قبلتهم
( ثم فرق ) بفتح الفاء والراء روي مشددا ومخففا أي ألقى شعره إلى جانبي رأسه فلم يترك منه شيئا على جبهته
وفي رواية معمر ثم أمر بالفرق ففرق وكان آخر الأمرين ( بعد ذلك ) حين أسلم غالب الوثنيين وغلبت الشقوة على اليهود ولم ينفع فيهم الاستئلاف فخالفهم وأمر بمخالفتهم في أمور كثيرة كقوله إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم قاله القرطبي قال غيره ولأنه أنظف وأبعد عن السرف في غسله وعن مشابهة النساء
قال العلماء والصحيح جواز الفرق والسدل لكن الفرق أفضل لأنه الذي رجع إليه صلى الله عليه وسلم فكأنه ظهر الشرع به لكن لا وجوبا لأن من الصحب من سدل بعده فلو كان الفرق واجبا ما سدلوا وزعم نسخه يحتاج لبيان ناسخه وتأخره عن المنسوخ على أنه لو نسخ ما فعله كثير من الصحابة ولذا قال القرطبي توهم النسخ لا يلتفت إليه أصلا لإمكان الجمع قال وهذا على تسليم أن حبه موافقتهم ومخالفتهم حكم شرعي فإنه يحتمل كونه مصلحة وحديث هند بن أبي هالة إن انفرقت عقيقته فرقها وإلا تركها يدل على أنه غالب أحواله لأنه ذكر مع أوصافه الدائمة وجبلته التي كان موصوفا بها فالصواب أن الفرق مستحب لا واجب انتهى
وقال الحافظ حديث هند محمول على ما كان أولا لما بينه حديث ابن عباس يعني الذي أخرجه الشيخان وغيرهما من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره وكان المشركون يفرقون رؤوسهم وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ثم فرق صلى الله عليه وسلم رأسه
( قال مالك ليس على الرجل ينظر إلى شعر امرأة ابنه أو شعر أم امرأته بأس ) لجواز ذلك بلا شهوة
____________________
(4/428)
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يكره الإخصاء ) قيل صوابه الخصاء بكسر الخاء والمد مصدر خصي سل الخصية وفيه نظر فقد نطق بذلك سيد الفصحاء
روى ابن عدي عن معاوية يرفعه سيكون قوم ينالهم الإخصاء فاستوصوا بهم خيرا وروى البيهقي وغيره عن ابن عباس في قوله تعالى { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } سورة النساء الآية 119 قال هو الإخصاء
ولابن أبي شيبة وغيره عن أنس مثله
( ويقول فيه ) أي في إبقائه ( تمام الخلق ) بفتح فسكون قال أبو عمر في ترك الخصاء تمام وروي نماء الخلق يعني بالنون من النمو وقد أخرجه الدارقطني من طريق عمر بن أبي إسماعيل عن نافع عن ابن عمر قال قال صلى الله عليه وسلم لا تخصوا ما ينمى خلق الله وقد روى الطبراني وأبي عدي عن ابن مسعود نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصى أحد من بني آدم ولعل وجه ذكر هذا الأثر في ترجمة السنة في الشعر أنه إذا لم يخص نبت الشعر فيؤمر بما يؤمر به فيه من له شعر
( مالك عن صفوان بن سليم ) بضم السين المدني أبي عبد الله الزهري مولاهم ثقة مفتي عابد مات سنة اثنين وثلاثين ومائة وله اثنتان وسبعون سنة ( أنه بلغه ) وصله قاسم بن أصبغ من طريق سفيان ابن عيينة عن صفوان بن سليم عن أنيسة عن أم سعيد بنت مرة البهزي عن أبيها ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنا وكافل اليتيم ) أي للقيم بأمره ومصالحه هبة من مال نفسه أو من مال اليتيم ( له ) بأن يكون جدا أو عما أو أخا ونحو ذلك من الأقارب أو يكون أبو المولود قد مات فقامت أمه مقامه أو ماتت أمه فقام أبوه في التربية مقامها
( أو لغيره ) بأن كان أجنبيا منه
وقد روى البزار عن أبي هريرة رفعه من كفل يتيما ذا قرابة أو لا قرابة له فهذه الرواية تفسر المراد ( في الجنة كهاتين ) إذا اتقى الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه ومن ذلك ما يتعلق باليتيم ( وأشار ) عند قوله كهاتين قال عياض كذا في الموطأ بإبهام المشير ووقع في مسلم وأشار مالك وفي موطأ ابن بكير وأشار النبي صلى الله عليه وسلم ( بأصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ) أي السبابة وفي موطأ يحيى بن بكير بالسبابة والوسطى وفي البخاري وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما أي أن الكافل في الجنة معه صلى الله عليه وسلم إلا أن درجته لا تبلغ درجته بل تقارب قال ابن بطال حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة
____________________
(4/429)
ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك
قال الحافظ ويحتمل أن المراد قرب المنزلة حال دخول الجنة لما رواه أبو يعلى عن أبي هريرة رفعه أنا أول من يفتح باب الجنة فإذا امرأة تبادرني فأقول من أنت فتقول أنا امرأة تأيمت على أيتام لي ورواته لا بأس بهم
ويحتمل أن المراد مجموع الأمرين سرعة الدخول وعلو المنزلة
وقد أخرج أبو داود عن عوف بن مالك رفعه أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة امرأة ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى ماتوا أو بانوا فهذا فيه قيد
وقد أخرج الطبراني في الصغير عن جابر قلت يا رسول الله مم اضرب منه يتيمي قال ما كنت ضاربا منه ولدك غير واق مالك بماله وزاد في رواية مالك حتى يستغني عنه فيستفاد منه أن للكفالة المذكورة أمدا ومناسبة التشبيه كما قال شيخنا يعني العراقي في شرح الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم من شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلا لهم ومرشدا ومعلما وكافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه فيرشده ويعلمه ويحسن أدبه انتهى ملخصا
ولمالك في هذا إسناد آخر أخرجه مسلم في الزهد من صحيحه من طريق إسحاق بن عيسى قال حدثنا مالك عن ثور بن زيد الديلي قال سمعت أبا الغيث يحدث عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة وأشار مالك بالسبابة والوسطى وقد رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن سهل ابن سعد ومسلم من حديث عائشة وابن عمر ثم لعل وجه إيراده في ترجمة السنة في الشعر أن من جملة كفالة اليتيم إصلاح شعره وتسريحه ودهنه
43 إصلاح الشعر ( مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا قتادة ) منقطع وقد أخرجه البزار من طريق عمر بن علي المقدسي عن يحيى بن سعيد عن محمد بن المنكدر عن جابر أن أبا قتادة ( الأنصاري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي جمة ) بضم الجيم وشد الميم شعر الرأس إذا بلغ المنكبين ( أفأرجلها ) بالجيم أسرحها ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم ) رجلها ( وأكرمها ) بصونها من نحو وسخ وقذر وبتعاهدها بالتنظيف والادهان
( فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين ) لتشعثها بعمل أو غبار أو نحو دلك فلا ينافي النهي عن ذلك الأعياء
( لما قال رسول الله ) أي لقوله ( صلى الله عليه وسلم نعم وأكرمهما ) وقد روى أبو داود عن أبي هريرة والبيهقي عن عائشة رفعاه إذا كان لأحدكم شعر فليكرمه
( مالك عن زيد بن أسلم أن عطاء بن يسار أخبره ) قال أبو عمر لا خلاف عن مالك في إرساله
____________________
(4/430)
وجاء موصولا بمعناه عن جابر وغيره ( قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فدخل رجل ثائر الرأس ) بمثلثة أي شعثه ( واللحية ) بترك تعاهدهما بما يصلحهما من ترجيل وغيره
( فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن اخرج ) من المسجد ( كأنه يعني ) بذلك ( إصلاح شعر رأسه ولحيته ففعل الرجل ) أصلحهما ( ثم رجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان ) في قبح المنظر على عرف العرب في تشبيه القبيح بالشيطان وإن كان لا يرى لما أوقع الله في نفوسهم من كراهة طلعته ومنه قوله تعالى { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } سورة الصافات الآية 65
44 ما جاء في صبغ الشعر ( مالك عن يحيى بن سعيد ) بن قيس بن عمرو الأنصاري ( قال أخبرني محمد بن إبراهيم الحارث التيمي ) القرشي ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ) بن عوف الزهري ( أن عبد الرحمن بن الأسود بن بن عبد يغوث ) بن وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهري ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومات أبوه في ذلك الزمان فلذلك عد في الصحابة وقال العجلي من كبار التابعين
( قال وكان جليسا لهم وكان أبيض الرأس واللحية قال فغدا عليهم ذات يوم وقد حمرها ) صبغها بالحمرة ( قال فقال له القوم هذا أحسن ) من البياض ( قال إن أمي عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إلي البارحة جاريتها نخيلة ) بضم النون وفتح الخاء معجمة عند يحيى مهملة عند غيره وإسكان التحتية
( فأقسمت علي لأصبغن ) بضم الباء وكسرها ( وأخبرتني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يصبغ ) بضم الموحدة وحكي كسرها وفتحها
( قال مالك في صبغ الشعر بالسواد لم أسمع في ذلك شيئا معلوما وغير ذلك من الصبغ أحب
____________________
(4/431)
إلي ) كالحمرة والصفرة ( وترك الصبغ كله واسع إن شاء الله ليس على الناس فيه ضيق ) خلافا لمن قال الصبغ بغير السواد سنة
( قال وفي هذا الحديث بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصبغ ولو صبغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأرسلت بذلك عائشة إلى عبد الرحمن بن الأسود ) مع قولها إن أبا بكر كان يصبغ أو بدونه وقد أنكر أنس كونه صلى الله عليه وسلم صبغ
وقال ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة
وقال أبو رمثة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بردان أخضران وله شعر قد علاه الشيب وشيبه أحمر مخضوب بالحناء رواه الحاكم وأصحاب السنن
وسئل أبو هريرة هل خضب صلى الله عليه وسلم قال نعم رواه الترمذي وغيره ووافق مالك أنسا على الإنكار
وتأول حديث ابن عمر بحمله على الثياب لا الشعر لحديث أبي داود عن ابن عمر كان يصبغ بالورس والزعفران حتى عمامته ولا يعارضه حديثه أيضا كان يصفر بهما لحيته لاحتمال أنه كان مما يتطيب به لا أنه كان يصبغ بهما
وحمل أحاديث غيره إن صحت على أن تلونه من الطيب لا من الصبغ لما في البخاري وغيره
قال ربيعة رأيت شعرا من شعره صلى الله عليه وسلم فإذا هو أحمر فسألت فقيل أحمر من الطيب
قال الحافظ لم أعرف اسم المسؤول المجيب بذلك إلا أن الحاكم روى أن عمر بن عبد العزيز قال لأنس هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني رأيت شعرا من شعره قد لون فقال إنما هذا الذي لون من الطيب الذي كان يطيب به شعره فهو الذي غير لونه
فيحتمل أن ربيعة سأل أنسا عن ذلك فأجابه
وفي رجال مالك للدارقطني والغرائب له عن أبي هريرة لما مات صلى الله عليه وسلم خضب من كان عنده شيء من شعره ليكون أبقى لها فإن ثبت هذا استقام إنكار أنس ويقبل ما أثبته سواه التأويل وأول أيضا بأنه صبغ في وقت حقيقة وترك في معظم الأوقات فأخبر كل بما رأى وهو صادق فمن أثبته يحمل على أنه فعله لبيان الجواز ولم يواظب عليه ويحمل نفي أنس على غلبة الشيب حتى يحتاج إلى خضابه ولم ينفق أنه رآه حين خضب وغاية ما يفيده هذا عدم الحرمة لأنه يفعل المكروه في حق غيره لبيان الجواز وزعم بعضهم أن هذا التأويل كالمتعين لحديث ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة ولا يمكن تركه لصحته ولا تأويل له فيه نظر إذ هو في نفسه محتمل للثياب والشعر وجاء ما يعين الأول في سنن أبي داود عن ابن عمر نفسه كان صلى الله عليه وسلم يصبغ بالورس والزعفران حتى عمامته ولذا رجحه عياض
____________________
(4/432)
45 ما يؤمر به من التعوذ ( مالك عن يحيى بن سعيد قال بلغني ) أخرجه ابن عبد البر من طريق ابن عيينة عن أيوب ابن موسى عن محمد بن يحيى بن حبان ( أن خالد بن الوليد ) وهو مرسل وأخرجه أيضا من طريق ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مسندا لكن قال الوليد بن الوليد وهو أخو خالد ( قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أروع ) أي يحصل لي روع أي فزع ( في منامي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قل أعوذ بكلمات الله التامة ) أي الفاضلة التي لا يدخلها نقص ( من غضبه وعقابه وشر عباده ) مخلوقاته إنسا وجنا وغيرهما ( ومن همزات الشياطين ) نزغاتهم بما يوسوسون به أن يصيبني ( وأن يحضرون ) أي أن يصيبوني بسوء ويكونوا معي في مكان لأنهم إنما يحضرون بالسوء
( مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال ) مرسلا ووصله النسائي من طريق محمد بن جعفر عن يحيى بن سعيد عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن ابن عباس السلمي عن ابن مسعود قال حمزة الكناني بالفوقية الحافظ هذا ليس بمحفوظ والصواب مرسل قال السيوطي وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات من طريق داود بن عبد الرحمن العطار عن يحيى بن سعيد قال سمعت رجلا من أهل الشام يحدث عن ابن مسعود قال لما كان ليلة الجن أقبل عفريت في يده شعلة فذكره انتهى
وفيه نظر لأن ليلة الجن هي ليلة استماعهم القرآن وهي غير ليلة الإسراء فهما حديثان وإن اتحد لفظ الاستعاذة فيهما
( أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عفريتا ) هو القوي الشديد ( من الجن يطلبه بشعلة ) بضم الشين المعجمة ( من نار ) وهي شبه الجذوة بتثليث الجيم الجمرة ( كلما التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه ) يطلبه لقصد إيذائه لا لغير ذلك إذ لا سبيل له إليه ( فقال جبريل أفلا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخر ) بالمعجمة وشد الراء سقط ( لفيه ) أي عليه
( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بلى ) علمني ( فقال جبريل فقل أعوذ بوجه الله الكريم ) قال الباجي قال القاضي وأبو بكر هو صفة من صفات الباري أمر صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بها
وقال أبو الحسن المحاربي
____________________
(4/433)
معناه أعوذ بالله ( وبكلمات الله ) صفاته القائمة بذاته وقيل العلم لأنه أعم الصفات وقيل القرآن وقيل جميع ما أنزله على أنبيائه لأن الجمع المضاف إلى المعارف يعم
( التامات ) أي الكاملة فلا يدخلها نقص ولا عيب وقيل النافعة وقيل الشافية ( اللاتي لا يجاوزهن ) لا يتعداهن ( بر ) بفتح الباء تقي ( ولا فاجر ) مائل عن الحق أي لا ينتهي علم أحد إلى ما يزيد عليها ( من شر ما ينزل من السماء ) من العقوبات كالصواعق ( وشر ما يعرج فيها ) مما يوجب العقوبة وهو الأعمال السيئة
( وشر ما ذرأ ) خلق ( في الأرض ) على ظهرها
( وشر ما يخرج منها ) مما خلقه في بطنها ( ومن فتن الليل والنهار ) الواقعة فيهما وهو من الإضافة إلى الظرف
( ومن طوارق الليل ) حوادثه التي تأتي ليلا وإطلاقه على الآتي نهارا على سبيل الاتباع ( إلا طارقا يطرق ) بضم الراء ( بخير يا رحمن ) زاد في رواية النسائي فخر لفيه وطفئت شعلته
( مالك عن سهيل بن أبي صالح ) ذكوان ( عن أبيه عن أبي هريرة أن رجلا من أسلم ) بفتح فسكون قبيلة من خزاعة قال فيها صلى الله عليه وسلم أسلم سالمها الله ( قال ما نمت هذه الليلة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أي شيء ) لم تنم ( فقال لدغتني ) بدال مهملة فغين معجمة ( عقرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ) بالفتح وخفة الميم ( إنك ) بكسر الهمزة إن جعلت إما بمعنى إلا الاستفتاحية وبفتحها إن جعلت بمعنى حقا قاله ابن مالك في شرح الكافية ( لو قلت حين أمسيت ) أي دخلت في المساء ( أعوذ بكلمات الله التامات ) وفي رواية التامة بالإفراد قال الحكيم الترمذي وهما بمعنى فالمراد بالجع الجملة وبالواحدة ما تفرق في الأمور في الأوقات وصفها بالتمام إشارة إلى أنها خالصة من الريب والشبه { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } سورة الأنعام الآية 115 { من شر ما خلق } أي من شر خلقه وهو ما يفعله المكلفون من إثم ومضارة بعض لبعض من نحو ظلم وبغى وقتل وضرب وشتم وغيرهم من نحو لدغ ونهش وعض
( لم يضرك ) بأن يحال بينك وبين كمال تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه لأن الأدوية الإلهية تمنع من الداء بعد حصوله وتمنع من وقوعه وإن وقع لم يضر
قال القرطبي جربت ذلك فوجدته صدقا تركته ليلة فلدغتني عقرب فتفكرت فإذا أنا نسيت هذا التعوذ
قال الترمذي الحكيم وهذا أي التعوذ بكلمات الله التامات مقام من بقي له التفات لغير الله
____________________
(4/434)
أما من توغل في بحر التوحيد بحيث لا يرى في الوجود إلا الله لم يستعذ إلا بالله ولم يلتجىء إلا إليه والنبي صلى الله عليه وسلم لما يرقي من هذا المقام قال أعوذ بك منك والرجل المخاطب لم يبلغ ذلك وهذا الحديث رواه مسلم من وجه آخر عن أبي صالح عن أبي هريرة
( مالك عن سمي ) بضم السين وفتح الميم وشد الياء ( مولى أبي بكر ) بن عبد الرحمن ( عن القعقاع ) بقافين وعينين مهملتين ( ابن حكيم ) بفتح فكسر ( أن كعب الأحبار قال لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود ) بمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل ( حمارا ) من سحرهم ( فقيل له وما هن فقال أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه ) بل تخضع كل العظماء لعظمته
( وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ) أي لا يتعداهن من كان ذا بر وذا فجور من إنس وغيرهم
( وبأسماء الله الحسنى كلها ) مؤنث الأحسن ( ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وبر أو ذرأ ) قيل هما بمعنى خلق قال الله تعالى { خلق لكم ما في الأرض جميعا } سورة البقرة الآية 29 وقال { وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون } سورة المؤمنون الآية 79 وقال { فتوبوا إلى بارئكم } سورة البقرة الآية 54 أي خالقكم فذكرها لإفادة اتحاد معناها وقيل البرء والذرء يكون طبقة بعد طبقة وجيلا بعد جيل والخلق لا يلزم فيه ذلك
46 ما جاء في المتحابين في الله ( مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر ) بن حزم الأنصاري أبي طوالة بضم الطاء المهملة المدني قاضيها لعمر بن عبد العزيز ثقة مات سنة أربع وثلاثين ومائة ويقال بعد ذلك
( عن أبي الحباب ) بضم المهملة وموحدتين ( سعيد بن يسار ) المدني ثقة متقن
( عن أبي هريرة أنه قال قال رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول ) فيه رد على من كره ذلك وقال إنما يقال إن الله قال ويرد عليه هذا الحديث ونحوه وقوله تعالى { والله يقول الحق } سورة الأحزاب الآية 4 يوم القيامة أين المتحابون نداء تنويه وإكرام قاله القرطبي أي استعظام ( لجلالي ) أي لعظمتي أي لأجل تعظيم حقي وطاعتي لا لغرض دنيا فخص الجلال بالذكر لدلالته على الهيبة والسطوة أي المنزهون عن شوائب الهوى
____________________
(4/435)
والنفس والشيطان في المحبة فلا تحابون إلا لأجلي ولوجهي لا لشيء من أمور الدنيا قيل التحاب للجلال أن لا يزيد الحب بالبر ولا ينقص بالجفاء ( اليوم أظلهم في ظلي ) قال عياض هي إضافة خلق وتشريف لأن الظلال كلها خلق الله وجاء مفسرا في ظل عرشي في رواية أخرى وظاهره أنه سبحانه يظلهم حقيقة من حر الشمس ووهج الموقف وأنفاس الخلائق وهو تأويل الأكثر
وقال عيسى ابن دينار كناية عن كنهم من المكاره وجعلهم في كنفه وستره ومنه السلطان ظل الله في الأرض
وقولهم فلان في ظل فلان أي في كنفه وعزته وقد يكون الظل هنا كناية عن الراحة والتنعم من قولهم عيش ظليل ( يوم لا ظل إلا ظلي ) أي ظل عرشي بدل من اليوم المتقدم أي لا يكون من له ظل مجازا كما في الدنيا
قال القرطبي فإن قيل حديث المرء في ظل صدقته حتى يقضي الله بين الخلائق وحديث سبعة يظلهم الله يدل على أن في القيامة ظلالا غير ظل العرش
أجيب بأن فيها ظلالا بحسب الأعمال تقي أصحابها حر الشمس والنار وأنفاس الخلائق ولكن ظل العرش أعظمها وأشرفها يخص الله به من شاء من عباده الصالحين ومن جملتهم المتحابون في الله ويحتمل أنه ليس هناك إلا ظل العرش يستظل به المؤمنون أجمع ولكن لما كانت تلك الظلال لا تنال إلا بالأعمال وكانت الأعمال تختلف حصل لكل عامل ظل يخصه من ظل العرش بحسب عمله وسائر المؤمنين شركاء في ظله وهذا كله على أن الاستظلال حقيقي وتقدم ما لابن دينار وهذا الحديث رواه مسلم في البر عن قتيبة بن سعيد عن مالك به
( مالك عن خبيب ) بخاء معجمة وموحدتين مصغر ( بن عبد الرحمن ) بن حبيب الأنصاري المدني أبي الحارث ثقة مات سنة اثنين وثلاثين ومائة
( عن حفص بن عاصم ) ابن عمر بن الخطاب العمري التابعي الثقة
( عن أبي سعيد الخدري أو عن أبي هريرة ) بالشك لرواة الموطأ إلا مصعبا الزبيري وموسى بن طارق فجعلاه عنهما بواو العطف وشذا في ذلك عن أصحاب مالك قاله الحافظ
وذكر أبو عمر أن أبا معاذ البلخي عن مالك تابعهما في روايته بالواو قال ورواه زكريا بن يحيى الوقاد عن ابن وهب وابن القاسم ويوسف بن عمر بن يزيد كلهم عن مالك عن خبيب عن حفص عن أبي سعيد وحده ورواه عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم عن خاله خبيب عن جده حفص عن أبي هريرة وحده
قال الحافظ في الأمالي المحفوظ عن مالك بالشك ورواية زكريا خطأ والمحفوظ عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة وحده كذلك أخرجه الشيخان والنسائي من طريق عبيد الله وهو أحد الحفاظ الأثبات وخبيب خاله وحفص جده ولم يشك فروايته أولى وتابعه مبارك بن فضالة عن خبيب أخرجه الطيالسي
وقال في الفتح والظاهر أن عبيد الله حفظه لكونه لم يشك فيه ولكونه من رواية خاله وجده
____________________
(4/436)
( أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة ) من الأشخاص مبتدأ خبره ( يظلهم الله في ظله ) إضافة ملك وكل ظل فهو ملكه كذا قال (1)
____________________
1* عياض وحقه أو يقول إضافة تشريف ليحصل امتياز هذا عن غيره كما قيل للكعبة بيت الله مع أن المساجد كلها ملكه
وقيل المراد كرامته ورحمته كما يقال فلان في ظل الملك وهو قول عيسى بن دينار وقواه عياض وقيل المراد ظل عرشه ويدل عليه حديث سلمان عن سعيد بن منصور بإسناد حسن سبعة يظلهم الله في ظل عرشه وإذا كان المراد ذلك استلزم كونهم في كنف الله وكرامته من غير عكس فهو أرجح وبه جزم القرطبي ويؤيده تقييد ذلك بيوم القيامة كما صرح به ابن المبارك في روايته عن عبيد الله بن عمر عند البخاري في الحدود وبه يندفع قول من قال المراد ظل طوبى أو ظل الجنة لأن ظلهما إنما يحصل لهم بعد الاستقرار في الجنة ثم أنه مشترك لجميع من يدخلها والسياق يدل على امتياز أصحاب الخصال المذكورة فترجح أن المراد ظل العرش
وروى الترمذي وحسنه عن أبي سعيد مرفوعا أحب الناس إلى الله يوم القيامة إمام عادل قاله الحافظ
( يوم لا ظل إلا ظله ) أي ظل عرشه كما علم والإضافة للتشريف كناقة الله فإن الله منزه عن الظل إذ هو من خواص الأجسام ( إمام عادل ) اسم فاعل من العدل كما رواه والأكثر قال الشاعر ومن كان في إخوانه غير عادل فما أحد في العدل منه بطامع ورواه سعيد بن أبي مريم عن مالك بلفظ عدل وهو أبلغ لأنه جعل المسمى نفسه عدلا قاله ابن عبد البر وهو الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه بغير إفراط ولا تفريط أو الجامع للكمالات الثلاثة الحكمة والشجاعة والعفة التي هو أوساط القوى الثلاثة العقلية والغضبية والشهوانية والمراد به صاحب الولاية العظمى ويلتحق به كل من ولي شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه ويؤيده ما في مسلم عن عبد الله بن عمر ورفعه أن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ملكت أيمانهم وما ولوا وقدمه في الذكر لأن نفعه أعم
وقال الإمام العادل لا ترد دعوته ( وشاب نشأ ) نبت وابتدأ ( في عبادة الله ) أي لم يكن له صبوة قاله القرطبي
وفي رواية مسلم بعبادة الله بالباء بمعنى في زاد في رواية الجوزقي حتى توفي على ذلك
وفي حديث سلمان أفنى شبابه ونشاطه في عبادة الله وخص الشباب لأنه مظنة غلبة الشهوة لما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى فإن ملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى
( ورجل قلبه متعلق ) بفوقية بعد الميم وكسر اللام من العلاقة وهي شدة الحب ( بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ) زاد في حديث سلمان من حبها وعند ابن عساكر من حديث أبي هريرة معلق بالمساجد من شدة حبه إياها وذلك أنه لما آثر طاعة الله وغلب عليه حبه صار قلبه ملتفتا إلى المسجد لا يحب البراح عنه لوجدانه فيه روح القربة وحلاوة الطاعة
وفي رواية عبيد الله عن حبيب في الصحيحين معلق بدون تا
(4/437)
قال الحافظ ظاهره أنه من التعليق كأنه شبهه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجا عنها ويدل عليه رواية الجوزقي كأنما قلبه معلق في المسجد ويحتمل أن يكون من العلاقة وهي شدة الحب ويدل عليه رواية أحمد معلق بالمساجد وكذا رواية متعلق بزيادة الفوقية زاد سلمان من حبها ( ورجلان تحابا ) بشدة الموحدة وأصله تحاببا أي اشتركا في جنس المحبة وأحب كل منهما الآخر حقيقة لا إظهارا فقط
وفي رواية الجوزقي ورجلان قال كل منهما للآخر إني أحبك في الله فصدر على ذلك ونحوه في حديث سلمان
( في الله ) أي في طلب رضاه أو لأجله لا لغرض دنيوي ( اجتمعا على ذلك ) الحب المذكور ( وتفرقا عليه ) كما زيد في رواية الصحيحين أي استمرا على المحبة الدينية ولم يقطعاها بعارض دنيوي سواء اجتمعا حقيقة أم لا حتى فرق الموت بينهما أو المراد يحفظان الحب فيه في الحضور والغيبة
ووقع في الجمع بين الصحيحين للحميدي اجتمعا على خير قال الحافظ ولم أر ذلك في شيء من نسخ الصحيحين ولا غيرهما من المستخرجات وهي عندي تحريف وعدت هذه الخصلة واحدة مع أن متعاطيها اثنان لأن المحبة لا تتم إلا باثنين ولما كان المتحابان بمعنى واحد أغنى عد أحدهما عن الآخر لأن الغرض عد الخصال لا عد جميع من اتصف بها
( ورجل ذكر الله ) بقلبه من التذكر أو لسانه من الذكر ( خاليا ) من الخلوة لأنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء أو خاليا من الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملإ ويؤيده رواية البيهقي ذكر الله بين يديه ويؤيد الأول رواية للبخاري وغيره ذكر الله في خلاء أي موضع خال وهي أصح
( ففاضت عيناه ) أي فاضت الدموع من عينه وأسند الفيض إلى العين مبالغة كأنها هي التي فاضت قال القرطبي وفيض العين بحسب حالة الذاكر وبحسب ما ينكشف له ففي حال أوصاف الجلال يكون البكى من خشية الله وفي حال أوصاف الجمال يكون من الشوق إليه قال الحافظ قد خص بالأول في رواية الجوزقي والبيهقي ففاضت عيناه من خشية الله
ويشهد له ما رواه الحاكم عن أنس مرفوعا من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذب يوم القيامة
( ورجل دعته ) أي طلبته وبه عبر في الصحيحين ( ذات ) بين الموصوف في رواية للبخاري ومسلم وأحمد فقال امرأة ذات ( حسب ) أي أصل أو مال لأنه يطلق عليهما وفي الصحيحين ذات منصب أي أصل أو شرف ( وجمال ) أي مزيد حسن زاد في رواية للبخاري إلى نفسها
وللبيهقي عن أبي صالح عن أبي هريرة فعرضت نفسها عليه والظاهر أنها دعته إلى الفاحشة وبه جزم القرطبي وقال غيره يحتمل أنها دعته إلى التزويج بها فخاف أن يشتغل عن العبادة بالافتتان بها أو خاف أن لا يقوم بحقها لشغله بالعبادة عن التكسب بما يليق بها والأول أظهر ويؤيده الكناية في قوله إلى نفسها ولو
____________________
(4/438)
أريد التزويج لصرح به
( فقال إني أخاف الله ) زاد في رواية رب العالمين والظاهر أنه يقوله بلسانه إما ليزجرها عن الفاحشة أو ليعتذر إليها ويحتمل أن يقوله بقلبه قاله عياض وإنما يصدر هذا عن شدة خوف من الله ومتين تقوى وحياء كما قال القرطبي لأن الصبر على الموصوفة بأكمل الأوصاف التي جرت العادة بمزيد الرغبة لمن هي فيها وهو الحسب والمنصب المستلزم للجاه والمال مع الجمال وقل من يجتمع ذلك فيها من النساء من أكمل المراتب لكثرة الرغبة في مثلها وعسر تحصيلها لا سيما وقد أغنت من مشاق التوصل إليها بمراودة ونحوها
( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها ) أي كتمها عن الناس ونكرها ليشمل ما تصدق به من قليل وكثير وظاهره يشمل المندوبة والمفروضة لكن نقل النووي عن العلماء إن إظهار المفروضة أولى من إخفائها ( حتى لا تعلم ) بفتح الميم نحو سرت حتى مغيب الشمس وضمها نحو مرض حتى لا يرجونه ( شماله ما تنفق يمينه ) أي لو قدرت شماله رجلا متيقظا لما علم صدقة اليمين ذكر ذلك مبالغة في الإخفاء وضرب المثل بهما لقربهما وملازمتهما فهو من مجاز التشبيه ويؤيده رواية الجوزقي تصدق بصدقة كأنما أخفى يمينه من شماله أو من مجاز الحذف أي ملك شماله أو من على شماله من الناس كأنه قيل مجاور شماله وأبعد من قال المراد بشماله نفسه من تسمية الكل باسم الجزء فإنه ينحل إلى أنه لا يعلم نفسه ما تنفق نفسه
وقيل المراد لا يرائي بصدقته ولا يكتبها كاتب الشمال
وحكى القرطبي عن بعض شيوخه أن معناه أن يتصدق على الضعيف المكتسب في صورة الشراء لترويج سلعته أو رفع قيمتها واستحسنه قال الحافظ وفيه نظر إن أراد أن هذه الصورة مراد الحديث خاصة وإن أراد أنها من صور الصدقة الخفية فمسلم ووقع في مسلم حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله قال عياض كذا في جميع نسخ مسلم التي وصلت إلينا وهو مقلوب والصواب الأول وهو وجه الكلام لأن السنة المعهودة في الصدقة إعطاؤها باليمين وقد ترجم عليه البخاري في الزكاة باب الصدقة باليمين قال ويشبه أن الوهم فيه ممن دون مسلم واستدل لذلك بما نوزع فيه وعارضه الحافظ بأنه ليس ممن دونه ولا منه بل من شيخه زهير بن حرب أو شيخ شيخه يحيى القطان وبه جزم أبو حامد بن السرقي وفي جزمه نظر لأنه في البخاري وأحمد والإسماعيلي عن يحيى على الصواب وأطال في بيان ذلك
وفي مسند أحمد بإسناد حسن عن أنس مرفوعا إن الملائكة قالت رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال قال نعم الحديد قالت فهل أشد من الحديد قال نعم النار قالت فهل أشد من النار قال نعم الماء قالت فهل أشد من الماء قال نعم الريح قالت فهل أشد من الريح قال نعم ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها عن شماله وذكر الرجل وصف طردي فالمرأة والخنثى مثله إلا في الإمامة العظمى ويمكن دخول المرأة في الإمام العادل حيث تكون ربة عيال فتعدل فيهم وإلا في ملازمة
____________________
(4/439)
المسجد لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من المسجد وما عدا ذلك فالمشاركة حاصلة لهن حتى الذي دعته المرأة فإنه يتصور في امرأة دعاها ملك جميل مثلا فامتنعت خوفا من الله مع حاجتها أو شاب جميل دعاه ملك أن يزوجه ابنته مثلا فخشي أن يرتكب منه الفاحشة فامتنع مع حاجته إليه
وظاهر الحديث اختصاص السبعة المذكورين ووجهه الكرماني بما حاصله أن الطاعة إما بين العبد والرب أو بينه وبين الخلق فالأول باللسان وهو الذاكر أو بالقلب وهو المعلق بالمسجد أو بالبدن وهو الناشىء بالعبادة
والثاني عام وهو العادل أو خاص بالقلب وهو التحاب أو بالمال وهو الصدقة أو بالبدن وهو العفة انتهى
لكن دل استقراء الأحاديث على أن هذا العدد لا مفهوم له فإن هذا الحديث رواه مسلم عن يحيى التميمي والترمذي من طريق معن بن عيسى كلاهما عن مالك به وتابعه عبيد بن الله بن عمر في الصحيحين ورواه أبو نعيم وغيره من وجه آخر عن أبي هريرة فقال بدل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل كان في سرية مع قوم فلقوا العدو فانكشفوا فحمى آثارهم وفي لفظ أدبارهم حتى نجوا أو نجا أو استشهد قال الحافظ حسن غريب جدا
ورواه الحاكم والبيهقي من وجه آخر عن أبي هريرة فأبدل الشاب بقوله ورجل تعلم القرآن في صغره فهو يتلوه في كبره
ولعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن سليمان موقوفا وحكمه الرفع إذ لا يقال رأيا فقال بدل الإمام والشاب ورجل يراعي الشمس لمواقيت الصلاة ورجل إن تكلم تكلم بعلم وإن سكت سكت عن حلم
ولابن عدي عن أنس رفعه أربعة في ظل الله فقد عد الشاب والمتصدق والإمام قال ورجل تاجر اشترى وباع فلم يقل إلا حقا وسنده ضعيف لكن له طريق آخر عنه مرفوعا التاجر الصدوق تحت ظل العرش يوم القيامة رواه الديلمي وغيره وهو ضعيف لكن له شواهد عن سليمان وعلي وأبي هريرة
وروى مسلم وغيره عن أبي اليسر مرفوعا من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وفي زوائد المسند عن عثمان رفعه أظل الله عبدا في ظله يوم لا ظل إلا ظله من أنظر معسرا أو ترك لغارم وللطبراني عن شداد رفعه من أنظر معسرا أو تصدق عليه أظله الله في ظله يوم القيامة والصدقة على المعسر أسهل من الوضع عنه فهي غيرها
وللطبراني عن جابر مرفوعا أظل الله في ظله يوم القيامة من أنظر معسرا أو أعان أخرق وفيه ضعف والأخرق من لا صنعة له ولا يقدر أن يتعلم صنعة
ولأحمد والحاكم وغيرهما عن سهل بن حنيف رفعه من أعان مجاهدا في سبيل الله أو غارما في عسرته أو مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل له إلا ظله وإعانة الغارم غير الترك له لأنه أخص من إعانته فهذه عشرون
ولابن عدي وصححه الضياء عن عمر مرفوعا من أظل رأس غاز أظله الله يوم القيامة ولأبي الشيخ وغيره عن جابر رفعه ثلاث من كن فيه أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله الوضوء على المكاره والمشي إلى المساجد في الظلم وإطعام الجائع
____________________
(4/440)
قال الحافظ غريب وفيه ضعف لكن في الترغيب في كل من الثلاثة أحاديث قوية
ورواه الطبراني عن جابر بلفظ من أطعم الجائع حتى يشبع أظله الله تحت ظل عرشه وإشباع الجائع أخص من طلق إطعامه
ولأبي الشيخ عن علي بإسناد ضعيف مرفوعا فمن لزم البيع والشراء فلا يذم إذا اشترى ولا يحمد إذا باع وليصدق الحديث ويؤدي الأمانة ولا يتمنى للمؤمنين الغلاء فإذا كان كذلك كان أحد السبعة الذين في ظل العرش وهذا قدر زائد على الصدق فيمكن أنها خصلة مستقلة وهي السادسة والعشرون
وللطبراني عن أبي هريرة مرفوعا أوحى الله إلى إبراهيم إن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت ظل عرشي وله عن جابر مرفوعا ومن كفل يتيما أو أرملة أظله الله في ظله يوم القيامة ولأحمد عن عائشة أتدرون من السابق إلى ظل الله يوم القيامة قالوا الله ورسوله أعلم قال الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم قال الحافظ غريب وفيه ابن لهيعة
وللحاكم وغيره عن أبي ذر مرفوعا الحزين في ظل الله غريب وفيه ضعف
ولابن شاهين وغيره عن الصديق رفعه الوالي العادل ظل الله ورمحه في الأرض فمن نصحه في نفسه وفي عباد الله أظله الله بظله يوم لا ظل إلا ظله ولأبي الشيخ وغيره عن الصديق مرفوعا من أراد أن يظله الله بظله فلا يكن على المؤمنين غليظا وليكن بالمؤمنين رحيما ولابن السني والديلمي بإسناد واه عن الصديق وعمران بن حصين قالا قال موسى لربه ما جزاء من عزى الثكلى قال أظله في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ولابن أبي الدنيا عن فضيل بن عياض بلغني أن موسى قال أي رب من يظل تحت عرشك يوم لا ظل إلا ظلك قال الذين يعودون المرضى ويشيعون الهلكى ويعزون الثكلى ولأبي سعيد السكري بإسناد واه جدا عن علي رفعه السابقون إلى ظل العرش يوم القيامة طوبى لهم قال من هم قال شيعتك يا علي ومحبوك والبيهقي عن أبي الدرداء قال موسى يا رب من يستظل بظلك يوم لا ظل إلا ظلك قال أولئك الذين لا ينظرون بأعينهم الزنى ولا يبتغون في أموالهم الربا ولا يأخذون على أحكامهم الرشا قال الحافظ غريب ليس في رواته من اتفق على تركه والظاهر أن حكمه الرفع لأن أبا الدرداء لم يأخذ عن أهل الكتاب
والتيمي في ترغيبه عن ابن عمر مرفوعا ثلاثة يتحدثون في ظل العرش آمنين والناس في الحساب رجل لم يأخذه في الله لومة لائم ورجل لم يمد يده إلى ما لا يحل له ورجل لم ينظر إلى ما حرم عليه وروى طلحة بن علي بن الصقر عن ابن عباس قال من قرأ إذا صلى الغداة أول الأنعام إلى ويعلم ما تكسبون نزل إليه أربعون ألف ملك يكتب له مثل أعمالهم الحديث وفيه فإذا كان يوم القيامة قال الله امش في ظلي
وأبو الشيخ والديلمي عن أنس رفعه ثلاثة في ظل العرش يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله واصل الرحم وامرأة مات زوجها وترك أيتاما صغارا فقالت لا أتزوج حتى يموتوا أو يغنيهم الله وعبد صنع طعاما فأطاب صنعه وأحسن نفقته فدعا عليه الفقير والمسكين فأطعمهم لوجه الله والطبراني عن أبي أمامة رفعه ثلاثة في ظل الله يوم القيامة
____________________
(4/441)
رجل حيث توجه علم أن الله معه ورجل دعته امرأة إلى نفسها فتركها من خشية الله ورجل يحب الناس لجلال الله فيه متروك
وروى الخطيب بسند ضعيف جدا عن أبي سعيد مرفوعا إن المؤذنين ممن يظل يوم القيامة وأفرد المؤذن عن مراعي الشمس لأنه قد لا يكون مؤذنا
والديلمي بلا سند عن أنس مرفوعا ثلاث تحت ظل العرش يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله من فرج عن مكروب من أمتي وأحيا سنتي وأكثر الصلاة علي والديلمي عن علي مرفوعا إن حملة القرآن في ظل الله مع أنبيائه وأصفيائه ولا يلزم من حمله كونه تعلمه في صغره فهي غير السابقة
ولأبي يعلى عن أنس رفعه إن المريض في ظل العرش
والديلمي عن أبي هريرة مرفوعا أهل الجوع في الدنيا خوفا من الله يستظلون يوم القيامة والديلمي عن أبي الدرداء رفعه يوضع للصائمين موائد من ذهب تحت العرش وفي أمالي ابن ناصر عن أبي سعيد رفعه من صام من رجب ثلاثة عشر يوما وضع الله له مائدة في ظل العرش وهو شديد الوهى والحارث بن أبي أسامة عن علي مرفوعا من صلى ركعتين بعد ركعتي المغرب قرأ في كل ركعة الفاتحة وقل هو الله أحد خمس عشرة مرة جاء يوم القيامة فلا يحجب حتى ينتهي إلى ظل العرش وهذا منكر
والديلمي عن أنس مرفوعا إن أطفال المؤمنين تحت ظل العرش والطبراني برجال ثقات عن ابن عمر مرفوعا إن إبراهيم ابنه تحت ظل العرش ولأبي نعيم عن وهب قال موسى إلهي من ذكر بلسانه وقلبه قال أظله بظل عرشي ولابن عساكر عن ابن مسعود إن الله قال لموسى الذي لا يحسد الناس ولا يعق والديه ولا يمشي بالنميمة في ظل العرش ولأحمد عن عطاء بن يسار أن موسى سأل الله من تؤويه في ظل عرشك قال هم الطاهرة قلوبهم البرية أبدانهم الذين إذا ذكرت ذكروا بي وإذا ذكروا ذكرت بهم الذين ينيبون إلى ذكري ويغضون لمحارمي ويكلفون بحبي زاد ابن المبارك الذين يعمرون مساجدي ويستغفروني بالأسحار ولأبي نعيم إن الله قال لموسى الذين أذكرهم ويذكروني في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي والديلمي عن أنس مرفوعا يقول الله قربوا أهل لا إله إلا الله من ظل عرشي فإني أحبهم والمراد خيار المؤمنين كما صرح به القرطبي
وفي حديث مرفوع الشهداء في ظل العرش ولأبي داود صحيحا عن ابن عباس مرفوعا أن شهداء أحد أرواحهم في أجواف طير خضر تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش والخطيب وغيره عن ابن عباس مرفوعا اللهم اغفر للمعلمين وأطل أعمارهم وأظلهم تحت ظلك فإنهم يعلمون كتابك قال بعض الحفاظ موضوع
ولأبي الشيخ والديلمي عن عبد الرحمن بن عوف مرفوعا ثلاثة تحت ظل العرش القرآن يحاج العباد والأمانة والرحم ينادي ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله ولأبي نعيم عن كعب الأحبار عن التوراة من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ودعا الناس إلى طاعتي فله صحبتي في الدنيا وفي القبر وفي القيامة ظلي
____________________
(4/442)
وفي أمالي ابن البختري عن جابر مرفوعا أنا في ظل الرحمن يوم القيامة ويروى عن أحمد في مناقب علي رضي الله عنه أنه يسير يوم القيامة بلواء الحمد وهو حامله والحسن عن يمينه والحسين عن يساره حتى يقف بينه وبين إبراهيم في ظل العرش وعن أبي موسى رفعه أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين يوم القيامة في قبة تحت العرش واعلم أن عد نبينا وإبراهيم وعلي وفاطمة والحسين لأنهم أخص من مطلق الأنبياء والأصفياء كما أن عد إبراهيم ابنه لأنه أخص من مطلق أولاد المؤمنين وشهداء أحد لأنهم أخص من مطلق الشهداء هذا خلاصة ما ذكره الحافظ السخاوي في مؤلفه قائلا هذا ما يسر الله لي الوقوف عليه في مدة متطاولة وليس ذلك على وجه الحصر فيه بل باب الفضل مفتوح ووقف بها السيوطي إلى نيف وسبعين ونظمها واعترضه السخاوي بأنه أدرك ما لا تصريح فيه بالمراد منه في أحاديثه وإن أشعرت به كالزهد وقضاء الحوائج وصالح العبيد والإمام المرتضى للمؤمنين ولو أريد استيفاء ما شابه ذلك لزادت كثيرا وأطال في بيان ذلك وقد كنت لخصت تأليف السخاوي في وريقات ونظمت هذه الخصال تذييلا على بيت أبي شامة وأبيات الحافظ فقلت أتى في الموطأ والصحيحين سبعة يظلهم الله الكريم بظله أشار لهم نظما إمام زمانه أبو شامة إذ قال في بيت وصله محب عفيف ناشىء متصدق وباك مصل والإمام بعدله وزاد عليه العسقلاني بعده ثلاثا من السبعات نظما بقوله وزد سبعة إظلال غاز وعونه وإنظار ذي عسر وتخفيف حمله وحامي غزاة حين ولوا وعون ذي غرامة حق مع مكاتب أهله وزد مع ضعف سبعتين إعانة لا خرق مع أخذ الحق وبذله وكره وضوء ثم مشي لمسجد وتحسين خلق ثم مطعم فضله وكافل ذي يتم وأرملة وهت وتاجر صدق في المقال وفعله وحزن وتصبير ونصح ورأفة تربع بها السبعات من فيض فضله وقد زادها ستا بضعف ولم تقع منظمة منه فخذ نظم جمله فحب على ثم ترك الرشوة زنى وربا حكم لغير كمثله ومن أول الأنعام آي ثلاثة عقيب صلاة الصبح غاية نفله وأوصلها الشيخ السخاوي أربعا وتسعين مع ضعف لإسناد جله مراقب شمس للمواقيت ساكت بحلم وعن علم يقول وعقله ومن حفظ القرآن حالة صغره وفي كبر يتلو وحامل كله مريض وتشييع لميت عيادة شهيد ومن في أحد فاز بقتله وعلم بأن الله معه وتاجر أمين بلا مدح وذم لرحله ومن لم يمد اليد نحو محرم عليه ولم ينظر إلى غير حله
____________________
(4/443)
محسن طعم للفقير مصدق على معسر ترك الغريم لعسره وكافلة أيتامها بعد زوجها ومشبع جوع ثم واصل أهله محب الأناسي للجلال مؤذن ومن لم يخف في الله لوما لعدله كذا رحم ثم الأمانة بعدها خيار ذوي التوحيد طيب فعله مفرج كرب ثم محيي لسنة مصل على الهادي كثيرا بأجله قران وأهل الجوع خوفا وصائم ثلاثة عشر من رجب حوله ومن يقرأ الإخلاص من بعد مغرب ثلاثين في ثنتين من بعد نفله وأطفال ذي الإيمان نجل نبينا وغير حسود لا يعق لأصله وطاهر قلب ليس يمشي نميمة بريء ومكلوف بحب لربه منيب ومذكور بذكر إلهه لحرمته غضبان داع لسبله وأمر بمعروف ونهي لمنكر وذكر بقلب مع لسان لنبله ومستغفر الأسحار عمار مسجد كذلك سوام معلم طفله ومن يذكر الرحمن مع ذكرهم له كذا أنبياء الله مع أهل صفوه خليل إله العرش فاطمة كذا علي ونجلاه وخاتم رسله عليه صلاة مع سلام به نرى بحرمته يوم القيام بظله ( مالك عن سهيل ) بضم السين ( ابن أبي صالح ) ذكوان ( عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله قال إذا أحب الله العبد ) أي رضي الله عنه وأراد به خيرا وهداه ووفقه قال عياض المحبة الميل وهو على الله محال فالمعنى إرادة الخير له وإيصاله إليه انتهى
فيرجع الأول إلى صفة معنى هي الإرادة والثاني إلى صفة فعل هي الإيصال
( قال لجبريل قد أحببت فلانا فأحبه ) أنت يا جبريل بهمزة قطع مفتوحة وكسر الحاء وفتح الموحدة ثقيلة بإدغام أحد المثلين والأصل فأحببه
( فيحبه جبريل ثم ينادي ) بأمر الله إذ لا يفعلون إلا ما يؤمرون ( في أهل السماء ) زاد في مسلم فيقول ( إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ) ما قابل الأرض فالمراد السموات السبع
قال المازري هذا إعلام منه سبحانه وأمره الملائكة بذلك تنويه به وتشريف له في ذلك الملأ الكريم وهو نحو قوله تعالى أنا مع عبدي إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم
قال عياض محبة جبريل والملائكة تحتمل الحقيقة من الميل ويجوز أن يراد بها ثناؤهم عليه واستغفارهم له
____________________
(4/444)
( ثم يضع له القبول ) بفتح القاف المحبة والرضى وميل النفس ( في ) أهل ( الأرض ) أي يحدث له في القلوب مودة ويزرع له فيها مهابة فتحبه القلوب وترضى عنه النفوس من غير تودد منه ولا تعرض للأسباب التي يكتسب بها مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف وإنما هو اختراع منه تعالى ابتداء تخصيصا منه لأوليائه بكرامة خاصة كما يقذف في قلوب أعدائه الرعب والهيبة إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم قاله الزمخشري وقال ابن عبد البر فيه إن الله يبتدىء المحبة بين الناس والقرآن يشهد بذلك قال تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا } سورة مريم الآية 96 قال المفسرون يحبهم ويحببهم إلى الناس انتهى
قال بعضهم وفائدة ذلك أن يستغفر له أهل السموات والأرض وينشأ عندهم هيبته وإعزازهم له { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } سورة المنافقون الآية 8 قال الأبي ولا يشكل علي الحديث أن كثيرا ممن يحبه الله لا يعرف فضلا عن وضع القبول له بدليل خبر رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لأن المعنى إذا أحبه قد يضع فالقضية مهملة في قوة الجزئية لأن إذا وإن إهمال في الشرطيات لا كلية على ما تقرر في المنطق
( وإذا أبغض الله العبد ) أي أراد به شرا وأبعده عن الهداية ( قال مالك لا أحسبه ) لا أظن سهيلا ( إلا قال في البغض مثل ذلك ) قال ابن عبد البر لم تختلف رواية مالك فيما علمت في هذا الحديث وقد رواه عن سهيل جماعة لم يشكوا منهم معمر وعبد العزيز ومنهم من لم يذكر البغض انتهى
وأخرجه مسلم من طريق جرير عن سهيل بسنده فقال وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض ثم رواه من طريق يعقوب القاري وعبد العزيز الدراوردي والعلاء بن المسيب وابن وهب عن مالك وقال كلهم عن سهيل بهذا الإسناد غير أن حديث بن المسيب ليس فيه ذكر البغض ثم أخرجه من طريق عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن سهيل قال كنا بعرفة فمر عمر بن عبد العزيز وهو على الموسم فقام الناس ينظرون إليه فقلت لأبي يا أبت إني أرى الله يحب عمر قال وما ذاك قلت لما له في قلوب الناس قال بأبيك أنت سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله ثم ذكر مثل حديث جرير عن سهيل
ورواه البخاري من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن أبي هريرة رفعه بدون ذكر البغض
( مالك عن أبي حازم ) بمهملة وزاي سلمة ( ابن دينار عن أبي إدريس ) اسمه عائذ الله بالتحتية وذال معجمة ابن عبد الله ( الخولاني ) التابعي الجليل ولد عام حنين ( أنه قال دخلت مسجد دمشق )
____________________
(4/445)
بكسر الدال وفتح الميم بالشام ( فإذا فتى شاب براق الثنايا ) أي أبيض الثغر حسنه قاله أبو عمر وقيل معناه كثير التبسم وفي رواية أدعج العينين وفي أخرى وضيء الوجه أكحل العينين وإذا الناس معه من الصحابة وغيرهم وفي رواية معه من الصحابة عشرون وفي أخرى ثلاثون أو نحو ذلك فكأنهم فوق العشرين ودون ثلاثين
( إذا اختلفوا في شيء أسندوا إليه ) أي صعدوا إليه بمعنى أنهم يقفون عند قوله مأخوذ من أسند إلى الجبل إذا صعد فيه وفيه لطف هنا لأنه جبل علم بنص قوله أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل ( وصدروا عن قوله ) ولقاسم بن أصبغ من طريق الوليد بن عبد الرحمن عن أبي إدريس فإذا اختلفوا في شيء فقال قولا انتهوا إلى قوله
( فسألت عنه فقيل هذا معاذ بن جبل فلما كان الغد هجرت فوجدته قد سبقني بالتهجير ) أي التبكير إلى كل صلاة لحديث لو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولم يرد الخروج في الهاجرة قاله الهروي قال وهي لغة حجازية
( ووجدته يصلي قال فانتظرته حتى قضى صلاته ) أي أتمها ( ثم جئته من قبل ) جهة ( وجهه فسلمت عليه ثم قلت والله إني لأحبك لله ) لا لغرض ( فقال آلله ) بمد الهمزة والخفض ( فقلت آلله قال ) أبو إدريس ( فقال معاذ ) ثانيا ( آلله فقلت آلله قال ) أبو إدريس ( فأخذ ) معاذ ( بحبو ردائي ) بضم الحاء وإسكان الباء أي بالمحل الذي يحتبى به من الرداء فالحبوة ضم الساقين إلى البطن بثوب وفي رواية سعيد بن أبي مريم عن مالك فأخذ بحبوتي لم يقل ردائي ( فجبذني ) تقديم الباء لغة صحيحة بمعنى جذبني بتقديم الذال وليست مقلوبة كما زعم وقد أنكره ابن السراج فقال ليس أحدهما مأخوذا من الآخر لأن كل واحد متصرف في نفسه أي جرني وسحبني
( وقال أبشر ) بهمزة قطع مفتوحة أبشر بالجنة ( فإني سمعت رسول الله يقول قال الله تبارك وتعالى وجبت ) وفي رواية ابن أبي شيبة عن عطاء بن مسلم حقت ( محبتي للمتحابين ) بلفظ الجمع هنا وفيما بعده ( في والمتجالسين في ) أي يتجالسون في محبتي بذكري وكان الجنيد مشغولا في خلوته فإذا جاء إخوانه خرج وقعد معهم ويقول لو أعلم شيئا أفضل من مجالستكم ما خرجت إليكم وذلك أن لمجالسة الخواص أثرا في صفاء الحضور ونشر العلوم ما ليس لغيرهم
____________________
(4/446)
( والمتباذلين في ) قال الباجي الذين يبذلون أنفسهم في مرضاته من الإنفاق على جهاد عدوه وغير ذلك مما أمروا به وقال غيره أي يبذل كل واحد منهم لصاحبه نفسه وماله في مهماته في جميع حالاته في الله كما فعل الصديق يبذل نفسه ليلة الغار وبذل ماله
( والمتزاورين في ) لا لغرض دنيوي ولا أخروي
زاد الطبراني في روايته والمتصادقين في وذلك لأن قلوبهم لهت عن كل شيء سواه فتعلقت بتوحيده فألف بينهم بروحه وروح الجلال أعظم شأنا من أن يوصف فإذا وجدت قلوبهم نسيم روح الجلال كادت تطير في أماكنها شوقا إليه فهم محبوسون بهذا الهيكل فصاروا في اللقاء يهش بعضهم لبعض إئتلافا وتلذذا وشوقا لمحبوبهم الأعظم فمن ثم وجب لهم الحب ففازوا بكمال القرب وهذا الحديث صحيح قال الحاكم على شرط الشيخين
وقال ابن عبد البر هذا إسناد صحيح وفيه لقاء أبي إدريس لمعاذ وأنكرته طائفة لقول الزهري عن أبي إدريس أدركت عبادة بن الصامت وفلانا وفلانا وفاتني معاذ بن جبل ولذا قال قوم وهم مالك فأسقط من إسناده أبا مسلم الخراساني وزعموا أن أبا إدريس رواه عن أبي مسلم عن معاذ وقال آخرون غلط أبو حازم في قوله عن أبي إدريس عن معاذ إنما هو عن عبادة بن الصامت وهذا كله تخرص وظن لا يغني من الحق شيئا فقد رواه جماعة عن أبي حازم كرواية مالك سواء منهم ابن أبي حازم وجاء عن أبي إدريس من وجوه شتى غير أبي حازم منهم الوليد بن عبد الرحمن وعطاء الخراساني كلاهما عند قاسم بن أصبغ بإسناد صحيح بنحو حديث الموطأ وشهر بن حوشب حدثني عائذ الله بن عبيد الله أنه سمع معاذ بن جبل يقول إن الذين يتحابون من جلال الله في ظل عرشه فقد ثبت أن أبا إدريس لقي معاذا وسمع منه فلا شيء في هذا على مالك ولا على أبي حازم فيحمل قول ابن شهاب عنه فاتني معاذ على فوات لزوم وطول مجالسته أو فاتني في حديث كذا أو معنى كذا وليس سماعه منه بمنكر فإنه ولد يوم حنين ومات معاذ بالشام سنة ثمان عشرة وهو ابن ثلاث أو أربع وثلاثين سنة ولا يقدح في ذلك رواية من رواه عنه عن عبادة لجواز أن عبادة ومعاذا وغيرهما سمعوا ذلك منه انتهى ملخصا
( مالك أنه بلغه عن عبد الله بن عباس أنه كان يقول ) موقوفا وله حكم الرفع إذ هو لا يقال رأيا
وقد أخرجه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن سرخس عن النبي قال ( القصد ) أي التوسط في الأمور بين طرفي الإفراط والتفريط ( والتؤدة ) بضم الفوقية وفتح الهمزة والدال المهملة أي الرفق والتأني ( وحسن السمت ) الهيئة والمنظر وأصل السمت الطريق ثم استعير للزي الحسن والهيئة المثلى في الملبس وغيره ( جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة ) قال الباجي يريد أن هذه من
____________________
(4/447)
أخلاق الأنبياء وصفاتهم التي طبعوا عليها وأمروا بها وجبلوا على التزامها قال ونعتقد هذه التجزئة ولا ندري وجهها يعني لأن ذلك من علوم النبوة فطريق معرفة ذلك بالرأي والاستنباط مسدود
47 الرؤيا بالقصر مصدر كالبشرى مختصة غالبا بشيء محبوب يرى مناما كذا قاله جمع
وقال آخرون الرؤيا كالرؤية جعلت ألف التأنيث فيها مكان تاء التأنيث للفرق بين ما يراه النائم واليقظان
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) زيد ( الأنصاري عن أنس بن مالك أن رسول الله قال الرؤيا الحسنة ) أي الصادقة أو المبشرة احتمالان للباجي ( من الرجل الصالح ) وكذا المرأة الصالحة اتفاقا حكاه ابن بطال والمراد غالب رؤيا الصالحين وإلا فالصالح قد يرى الأضغاث ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منهم
( جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) مجازا لا حقيقة لأن النبوة انقطعت بموته وجزء النبوة لا يكون نبوة كما أن جزء الصلاة لا يكون صلاة نعم إن وقعت منه فهي جزء من أجزاء النبوة حقيقة وقيل إن وقعت من غيره فهي جزء من علم النبوة لأنها وإن انقطعت فعلمها باق وتعقب بقول مالك كما حكاه ابن عبد البر حين سئل أيعبر الرؤيا كل أحد فقال أبالنبوة يلعب ثم قال الرؤيا جزء من النبوة
وأجيب بأنه لم يرد أنها نبوة باقية وإنما أراد أنها لما أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب لا ينبغي أن يتكلم فيها بلا علم فليس المراد أنها نبوة من جهة الاطلاع لأن المراد تشبيه الرؤيا بالنبوة وجزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه له كمن قال أشهد أن لا إله إلا الله رافعا صوته لا يسمى مؤذنا قال أبو عمر مفهومه أنها من غير الصالح لا يقطع بأنها كذلك ويحتمل أنه خرج على جواب سائل فلا مفهوم له ويؤيده قوله في مرسل عطاء الآتي يراها الرجل الصالح أو ترى له فعم قوله يرى الصالح وغيره ثم يحتمل أن الرؤيا نوع من ستة وأربعين نوعا من نزول الوحي لأنه كان يأتي على ضروب وأن تكون جزءا من النبوة لأن فيها ما يعجز كالطيران وقلب الأعيان وذلك ركن من أركان النبوة أو لما فيها من الاطلاع على الغيب لأن الرائي يخبر بعلم ما غاب والأول أولى وأشبه بالأصول انتهى ملخصا
وقال ابن العربي أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا ملك أو نبي وإنما القدر الذي أراد بيانه أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة في الجملة لأن فيها اطلاعا على الغيب من وجه ما وأما تفصيل النسبة فيختص بمعرفته درجة النبوة
وقال المازري هو مما أطلع الله عليه نبيه ولا يلزم العالم أن يعرف كل شيء جملة وتفصيلا فقد جعل الله للعالم حدا يقف عنده فمنه ما يعلم المراد به جملة وتفصيلا ومنه ما يعلمه جملة لا تفصيلا وهذا من هذا القبيل
ونقل ابن بطال عن أبي سعيد السفاقسي أن بعض العلماء
____________________
(4/448)
ذكر أن الله أوحى إلى نبيه في المنام ستة أشهر ثم أوحى إليه بعد ذلك يقظة بقية حياته ونسبتها إلى الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءا لأنه عاش بعد النبوة ثلاثة وعشرين سنة على الصحيح
قال ابن بطال هذا بعيد من وجهين أحدهما أنه اختلف في قدر المدة التي بعد البعثة والثاني أنه يبقى حديث سبعين جزء لا معنى له
وقال الخطابي هذا وإن كان وجها تحتمله قسمة الحساب والعدد فأول ما يجب على قائله أن يثبت ما ادعاه خبرا ولم نسمع فيه أثرا ولا ذكر مدعيه فيه خبرا فكأنه قاله على سبيل الظن والظن لا يغني من الحق شيئا وليس كل ما خفي علينا علمه يلزمنا حجته كأعداد ركعات وأيام الصيام ورمي الجمار فإنا لا نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت أعدادها ولم يقع ذلك في موجب اعتقادنا للزومها قال ولئن سلمنا أن هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة لكنه يلحق بها سائر الأوقات التي أوحي إليه فيها مناما في طول المدة كرؤيا أحد ودخول مكة فتلفق من ذلك مدة أخرى تزاد في الحساب فتبطل القسمة التي ذكرها
وأجيب عن هذا بأن المراد على تقدير الصحة وحي المنام المتابع فما وقع في غضون وحي اليقظة يسير بالنسبة إلى وحي اليقظة فهو مغمور في جانب وحيها فلم تعتبر به وقد ذكروا مناسبات غير ذلك يطول ذكرها
وفي مسلم من حديث أبي هريرة جزء من خمسة وأربعين وله أيضا عن ابن عمر جزء من سبعين جزءا وللطبراني عنه من ستة وسبعين وسنده ضعيف
وعند ابن عبد البر عن ثابت عن أنس جزء من ستة وعشرين وعند ابن جرير عن ابن عباس جزء من خمسين وللترمذي عن أبي رزين جزء من أربعين ولابن جرير عن عبادة جزء من أربعة وأربعين وابن النجار عن ابن عمر جزء من خمس وعشرين ووقع في شرح مسلم للنووي وفي رواية عبادة من أربع وعشرين فإن لم يكن تصحيفا فالجملة عشر روايات والمشهور ستة وأربعين وهو ما في أكثر الأحاديث
قال الحافظ ويمكن الجواب عن اختلاف الأعداد بأنه بحسب الوقت الذي حدث فيه بذلك كأن يكون لما أكمل ثلاث عشر سنة بعد مجيء الوحي إليه حدث بأن الرؤيا جزء من ستة وعشرين إن ثبت الخبر بذلك وذلك وقت الهجرة ولما أكمل عشرين حدث بأربعين ولما أكمل اثنين وعشرين حدث بأربعة وأربعين ثم بعدها بخمسة وأربعين ثم حدث بستة وأربعين في آخر حياته وما عدا ذلك من الروايات فضعيف
ورواية خمسين يحتمل جبر الكسر والسبعين للمبالغة وعبر بالنبوة دون الرسالة لأنها تزيد بالتبليغ بخلاف النبوة فاطلاع على بعض الغيب وكذلك الرؤيا فإن قيل فإذا كانت جزءا من النبوة فكيف يكون للكافر منها نصيب كرؤيا صاحبي السجن مع يوسف ورؤيا ملكهم وغير ذلك
وقد ذكر أن جالينوس عرض له ورم في المحل الذي يتصل منه بالحجاب فأمره الله في المنام بفصد العرق الضارب من كفه اليسرى فبرأ
أجيب بأن الكافر وإن لم يكن محلا لها فلا يمتنع أن يرى ما يعود عليه بخير دنياه كما أن كل مؤمن ليس محلا لها ثم لا يمتنع رؤيته ما يعود عليه بخير في دنياه كما أن كل مؤمن ليس محلا لها ثم لا يمتنع رؤيته ما يعود عليه بخير دنيوي فإن الناس في الرؤيا ثلاث
____________________
(4/449)
درجات الأنبياء ورؤياهم كلها صدق وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير
والصالحون والغالب على رؤياهم الصدق وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير وما عداهم يقع في رؤياهم الصدق
والأضغاث وهم ثلاثة مستورون فالغالب استواء الحال في حقهم وفسقة والغالب على رؤياهم الأضغاث ويقل فيها الصدق وكفار ويندر فيها الصدق جدا
ويرشد لذلك خبر مسلم مرفوعا وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا وحديث الباب رواه البخاري عن القعنبي عن مالك به
( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة عن رسول الله مثل ذلك ) الذي رواه إسحاق عن أنس والحديث متواتر جاء عن جمع من الصحابة
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) الأنصاري ( عن زفر ) بضم الزاي وفتح الفاء والراء ممنوع الصرف ( ابن صعصعة عن أبيه ) وهما ثقتان مدنيان قال أبو عمر لا أعلم لزفر ولا لأبيه غير هذا الحديث
وفي رواية معن عن زفر عن أبي هريرة بإسقاط عن أبيه والصواب إثباته كما رواه الأكثر وفيه ثلاثة من التابعين
( عن أبي هريرة أن رسول الله كان إذا انصرف من صلاة الغداة ) بالمعجمة أي الصبح ( يقول هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا ) زاد في رواية البخاري عن سمرة بن جندب فنقص عليه ما شاء الله أن يقص
وزاد في رواية أنه أقام يسأل عن ذلك ما شاء الله ثم ترك السؤال فكان يعبر لمن قص متبرعا قيل سبب تركه حديث أبي بكرة أنه قال ذات يوم من رأى منكم رؤيا فقال رجل أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر ووزن عمر وعثمان فرجح عمر ثم رفع الميزان فرأينا الكراهة في وجهه رواه أبو داود والترمذي
قالوا فمن حينئذ لم يسأل أحدا إيثارا لستر العواقب وإخفاء المراتب فلما كانت هذه الرؤيا كاشفة لمنازلهم مبينة لفضل بعضهم على بعض في التعيين خشي أن يتواتر ويتوالى ما هو أبلغ في الكشف من ذلك ولله في ستر خلقه حكمة بالغة ومشيئة نافذة وقيل غير ذلك
( ويقول ) ( ليس يبقى بعدي من النبوة ) أل عهدية أي نبوته ( إلا الرؤيا الصالحة ) أي الحسنة أو الصادقة المنتظمة الواقعة على شروطها الصحيحة وهي ما فيه بشارة أو تنبيه على غفلة
وقال الكرماني الصالحة صفة موضحة للرؤيا لأن غيرها يسمى بالحلم أو مخصصة والصلاح باعتبار صوتها أو تعبيرها وفيه ندب التعبير قبل طلوع الشمس فيرد قول بعض أهل التعبير المستحب أنه من طلوعها
____________________
(4/450)
إلى الرابعة ومن العصر إلى قرب المغرب
ورد على ما لعبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن عن بعض علمائهم قال لا تقصص رؤياك على امرأة ولا تخبر بها حتى تطلع الشمس
قال المهلب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات لحفظ صاحبها لها لقرب عهده بها قبل ما يعرض له نسيانها ولحضور ذهن العابر وقلة شغله بالفكرة فيما يتعلق بمعاشه وليعرف الرائي ما يعرض له بسبب رؤياه فيستبشر بالخير ويحذر من الشر ويتأهب لذلك فربما كان فيها تحذير من معصية فيكف عنها وربما كانت إنذارا لأمر فيكون له مترقبا قال فهذه عدة فوائد لتعبيرها أول النهار اه
( مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ) مرسل وصله البخاري من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ( أن رسول الله قال لن يبقى بعدي من النبوة إلا المبشرات ) بكسر المعجمة المشددة جمع مبشرة اسم فاعل للمؤنث من البشر وهو إدخال السرور والفرح على المبشر بالفتح وليس جمع البشرى لأنها اسم بمعنى البشارة
ووقع في البخاري بلفظ لم التي تقلب المضارع إلى المضي بدل لن لكنه بمعنى الاستقبال عبر عنه بالمضي تحقيقا لوقوعه
قال في المصابيح المقام مقتض للنفي بلن لدلالتها على النفي في المستقبل يعني أن الوحي ينقطع بموته فلا يبقى بعده ما يعلم به أنه يكون غير الرؤيا الصالحة اه
وقيل هو على ظاهره لأنه قال ذلك في زمانه واللام عهدية والمراد نبوته أي لم يبق بعد النبوة المختصة بي إلا المبشرات
ولمسلم عن ابن عباس أنه قال ذلك في مرض موته ولفظه أن النبي كشف الستارة ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه والناس صفوف خلف أبي بكر فقال أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة وللنسائي أنه ليس بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة وهذا يؤيد التأويل الأول
ولأبي يعلى عن أنس مرفوعا أن الرسالة والنبوة قد انقطعت ولا نبي ولا رسول بعدي ولكن بقيت المبشرات ( فقالوا وما المبشرات يا رسول الله قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح ) بنفسه ( أو ترى له ) بضم التاء أي يراها له غيره ( جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) ظاهر هذا مع الاستثناء أن الرؤيا نبوة وليس بمراد لما مر أن المراد تشبيه أمر الرؤيا بالنبوة لأن جزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه كمن قال أشهد أن لا إله إلا الله رافعا صوته لا يسمى مؤذنا ولا يقال إنه أذن وإن كانت جزءا من الأذان وكذا لو قرأ شيئا من القرآن وهو قائم لا يسمى مصليا وإن كانت القراءة جزءا من الصلاة
ويؤيده حديث أم كرز بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي الكعبية قال سمعت النبي يقول ذهبت النبوة وبقيت المبشرات أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان
____________________
(4/451)
قال المهلب ما حاصله التعبير بالمبشرات خرج مخرج الأغلب فإن من الرؤيا ما تكون منذرة وهي صادقة يريها الله تعالى للمؤمن رفقا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه
وقال ابن التين معنى الحديث أن الوحي ينقطع بموته ولا يبقى ما يعلم منه ما سيكون إلا الرؤيا ويرد عليه الإلهام فإن فيه إخبارا بما سيكون وهو للأنبياء بالنسبة للوحي كالرؤيا ويقع لغير الأنبياء كما في مناقب عمر قد كان فيما مضى محدثون وفسر المحدث بفتح الدال بالملهم بفتح الهاء وقد أخبر كثير من الأولياء عن أمور مغيبة فكانت كما أخبروا
والجواب أن الحصر في المنام لكونه يشمل آحاد المؤمنين بخلاف الإلهام فيختص بالبعض ومع اختصاصه فإنه نادر فإنما ذكر المنام لشموله وكثرة وقوعه ويشير إلى ذلك قوله فإن يكن في أمتي أحد فعمر وكأن السر في ندور الإلهام في زمنه وكثرته من بعده غلبة الوحي إليه في اليقظة وإرادة إظهار المعجزات منه وكان المناسب أن لا يقع لغيره في زمانه منه شيء فلما انقطع الوحي بموته وقع الإلهام لمن اختصه الله به للأمن من اللبس في ذلك وفي إنكار ذلك مع كثرته واشتهاره مكابرة ممن أنكره قاله الحافظ
( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ) بن عوف ( أنه قال سمعت أبا قتادة ) الحارث أو النعمان أو عمرو ( بن ربعي ) بكسر الراء وإسكان الموحدة وكسر العين وتحتية الأنصاري ( يقول سمعت رسول الله يقول الرؤيا الصالحة ) المنتظمة الواقعة على شروطها الصحيحة وهي ما فيها بشارة أو تنبيه على غفلة
وقال الكرماني الصالحة صفة موضحة لأن غيرها يسمى بالحلم أو مخصصة والصلاح باعتبار صورتها أو تعبيرها
وقال عياض تبعا للباجي يحتمل أن معنى الصالحة والحسنة حسن ظاهرها ويحتمل أن المراد صحتها ( من الله ) أي بشرى وتحذير وإنذار
( والحلم ) بضم الحاء وسكون اللام أو ضمها كما في النهاية وغيرها الرؤية حسنة أو مكروهة وهي المراد هنا
قال عياض وهي محتملة للوجهين سوء التأويل ( من الشيطان ) أي من إلقائه يخوف ويحزن الإنسان بها قال عياض إضافة أي نسبة الرؤيا إلى الله إضافة تكريم وتشريف لطهارتها من حضور الشيطان وإفساده لها وسلامتها من الأضغاث أي التخليط وجمع الأشياء المتضادة بخلاف المكروهة وإن كانتا جميعا من خلق الله تعالى وبإرادته ولا فعل للشيطان فيها لكنه يحضرها ويرتضيها ويسر بها فلذا نسبت إليه أو لأنها مخلوقة على طبعه من التحذير والكراهة التي خلق عليها أو لأنها توافقه ويستحسنها لما فيها من شغل بال المسلم وتضرره بها
قال بعضهم والتحذير وإن كان غالبا من الشيطان فقد يكون في الصالحة إنذار من الله واعتناء منه بعبده لئلا يفجأه ما قدر عليه فيكون منه على حذر وأهبة كما أن رؤيا الصالحين الغالب عليها الصحة وقد يكون فيها أضغاث نادرة العوارض من وسوسة نفس وحديثها أو غلبة خاطر
____________________
(4/452)
وقال ابن الجوزي الرؤيا والحلم واحد غير أن صاحب الشرع خص الخير باسم الرؤيا والشر باسم الحلم
وقال التوربشتي الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا والتفريق بينهما من الاصطلاحات الشرعية التي لم يعطها بليغ ولم يهتد إليها حكيم بل سنها صاحب الشرع للفصل بين الحق والباطل
كأنه كره أن يسمى ما كان من الله وما كان من الشيطان باسم واحد فجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان لأن الكلمة لم تستعمل إلا فيما يخيل للحالم في نومه من قضاء الشهوة بما لا حقيقة له
( فإذا رأى أحدكم الشيء يكرهه فلينفث ) بضم الفاء وكسرها طردا للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة تحقيرا له واستقذارا ( عن يساره ) لأنها محل الأقذار ونحوها ( ثلاث مرات ) للتأكيد
وفي رواية الشيخين فليبصق عن يساره وفي أخرى فليتفل قال عياض اختلف في التفل والنفث فقيل معناهما واحد ولا يكونان إلا بريق وقيل يشترط في التفل ريق يسير ولا يكون في النفث وقيل عكسه
قال النووي أكثر الروايات فلينفث وهو النفخ اللطيف بلا ريق فيكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا وتعقبه الحافظ بأن المطلوب طرد الشيطان وإظهار احتقاره واستقذاره كما نقله هو عن عياض كما مر فالذي يجمع الثلاثة الحمل على التفل فإنه نفخ معه ريق لطيف فبالنظر إلى النفخ قيل له نفث وبالنظر إلى التفل قيل له بصق ( إذا استيقظ ) من نومه ( وليستعذ بالله من شرها ) زاد في رواية ومن شر الشيطان قال الحافظ ورد في صفة التعوذ من شر الرؤيا أثر صحيح أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة عن إبراهيم النخعي قال إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره فليقل إذا استيقظ أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله من شر رؤياي هذه إن يصيبني فيها ما أكره في ديني ودنياي وقال غيره ورد أنه يقول اللهم إني أعوذ بك من عمل الشيطان وسيئات الأحلام رواه ابن السني زاد في الصحيح من رواية عبد ربه بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي قتادة ولا يحدث بها أحدا وزاد مسلم عن جابر وليتحول عن جنبه الذي كان عليه وزاد الشيخان من حديث أبي هريرة وليقم فليصل ( فإنها لن تضره إن شاء الله ) لأن الله جعل ما ذكر سببا للسلامة من المكروه المترقب من الرؤيا كما جعل الصدقة وقاية للمال وأنها تدفع البلاء إذا فعل ذلك مصدقا متكلا على الله في دفع المكروه
وأما التحول فللتفاؤل بتحول تلك الحال التي كان عليها
قال النووي وينبغي أن يجمع هذه الروايات كلها ويعمل بجميع ما تضمنته فإن اقتصر على بعضها أجزأته في دفع ضررها كما صرحت به الأحاديث وتعقبه الحافظ بأنه لم ير في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحد ثم قال لكن أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية في دفع شرها انتهى
ولا ريب أن الصلاة تجمع ذلك كله كما قاله القرطبي لأنه إذا قام يصلي تحول عن جنبه وبصق ونفث عند المضمضة في الوضوء واستعاذ قبل القراءة ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه فيكفيه الله شرها
وذكر بعضهم قراءة آية الكرسي ولم يذكر لذلك مستندا فإن أخذ من عموم حديث ولا يقربك شيطان فمتجه قال وينبغي أن يقرأها في صلاته المذكورة
وقد زاد في رواية عبد ربه بن سعيد فإذا رأى أحدكم ما
____________________
(4/453)
يحب فلا يحدث به إلا من يحب وفي الترمذي لا يحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا أي لأنه إذا حدث بها من لا يحب قد يفسرها بما لا يحب إما بغضا وإما حسدا فقد يقع على تلك الصفة أو يتعجل لنفسه من ذلك حزنا ونكدا فأمر بترك تحديث من لا يحب لسبب ذلك وقد روي مرفوعا الرؤيا لأول عابر وهو ضعيف لكن له شاهد عند أبي داود والترمذي وابن ماجه بسند حسن وصححه الحاكم عن أبي رزين العقيلي رفعه الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت قال أبو عبيدة وغيره معناه إذا كان العابر الأول عالما فعبر وأصاب وجه التعبير وإلا فهي لمن أصاب بعده إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب في تعبير المنام ليتوصل بذلك إلى مراد الله تعالى فيما ضرب من المثل فإذا أصاب فلا ينبغي أن يسأل غيره وإن لم يصب فليسأل الثاني وعليه أن يخبر بما عنده ويبين ما جهل الأول وفيه بحث يطول ذكره
( قال أبو سلمة ) بن عبد الرحمن ( إن كنت لأرى ) باللام ( الرؤيا هي أثقل علي من الجبل ) بالجيم واحد الجبال ( فلما سمعت هذا الحديث ) من أبي قتادة وجواب لما محذوف أي خف علي ما أراه ( فما كنت أباليها ) أي لا ألتفت إليها ولا ألقي لها بالا
وفي رواية عبد ربه سمعت أبا سلمة يقول لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول وأنا كنت لأرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت النبي يقول فذكره
وتابع مالكا سليمان بن بلال والليث وعبد الوهاب الثقفي وعبد الله بن نمير كلهم عن يحيى بن سعيد به وتابعه أخوه عبد ربه ومحمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة كل ذلك في مسلم وغيره ورواه ابن عيينة ومعمر عن ابن شهاب عن أبي سلمة نحوه في الصحيحين وغيرهما
( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول في هذه الآية { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } ) ( سورة يونس الآية 64 ) بالجنة والثواب ( قال هي ) أي البشرى في الدنيا ( الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له ) وهذا قد جاء مرفوعا عند أحمد عن أبي الدرداء عن النبي في قوله { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } قال الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له وعنده أيضا عن عبادة بن الصامت أنه قال يا رسول أرأيت قوله تعالى { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } فقال لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي أو أحد قبلك تلك الرؤيا الصالحة يراها الصالح أو ترى له وعنده أيضا عن ابن عمر رفعه لهم البشرى في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يسر بها المؤمن وعند ابن جرير عن أبي هريرة رفعه لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال هي في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له وفي الآخرة الجنة
____________________
(4/454)
48 ما جاء في النرد بفتح النون وإسكان الراء معناه بلغة الفرس حلو ويسمى الكعاب والأرق والنردشير قيل إن الأوائل لما نظروا في أمور الدنيا وجدوها على أسلوبين أحدهما ما يجري بحكم الاتفاق فوضعوا له النرد لتشعر النفس به
والثاني ما يجري بحكم السعي والتحيل فوضعوا له الشطرنج لتشعر النفس بذلك وتنهض الخواطر إلى عمل مثله من المطلوبات ويقال إن واضع النرد وضعه على رأي أصحاب الجبر وواضع الشطرنج وضعه على رأي القدرية
( مالك عن موسى بن ميسرة ) الديلي بكسر الدال وسكون التحتية مولاهم أبي عروة المدني ثقة أثنى عليه مالك ووصفه بالفضل مات سنة ثلاث وثلاثين ومائة
( عن سعيد ) بكسر العين ( ابن أبي هند ) الفزاري ثقة مات سنة ست عشرة ومائة وقيل بعدها
( عن أبي موسى ) عبد الله بن قيس ( الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من لعب بالنرد ) بفتح النون وسكون الراء ودال مهملتين قطع ملونة من خشب البقس وعظم الفيل وغير ذلك ( فقد عصى الله ورسوله ) لأنه يوقع العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويشغل القلب فيحرم اللعب به باتفاق السلف بل حكى بعضهم عليه الإجماع ونوزع
وقيل سبب حرمته أن واضعه سابور بن أردشير أول ملوك ساسان شبه رقعته بوجه الأرض والتقسيم الرباعي بالفصول الأربعة والشخوص الثلاثين بثلاثين يوما والسواد والبياض بالليل والنهار والبيوت الاثني عشر بشهور السنة والكعاب الثلاثة بالأقضية السماوية في ما للإنسان وعليه وما ليس له ولا عليه والخصال بالأغراض التي يسعى الإنسان لأجلها واللعب بها بالكسب فصار من يلعب به حقيقا بالوعيد لاجتهاده في إحياء سنة المجوس المستكبرة على الله
وهذا الحديث رواه أبو داود وغيره من طريق
وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي ووهم من عزاه لمسلم
إنما روي حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه قال النووي معناه في حال أكله منه فشبه اللعب في تحريمه بتحريم آكله
وقال غيره هو كناية عن تذكيته وهي حرام فدل على تحريم اللعب به وهو نص حديث مالك فقد عصى الله ورسوله
( مالك عن علقمة بن أبي علقمة ) العلامة الثقة ( عن أمه ) مرجانة مولاة عائشة مقبولة ( عن عائشة زوج
____________________
(4/455)
النبي صلى الله عليه وسلم إنه بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا فيها وعندهم نرد فأرسلت إليهم لئن لم تخرجوها ) أي النرد ( لأخرجنكم من داري وأنكرت ذلك عليهم ) لأنه حرام
( مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا وجد أحدا من أهله يلعب بالنرد ضربه ) تعزيرا على فعله الحرام ( وكسرها ) لئلا يعود إلى اللعب بها هو أو غيره
( قال يحيى سمعت مالكا يقول لا خير في الشطرنج ) بكسر السين وفتحها مع الإعجام والإهمال أربع لغات حكاها ابن مالك فالإعجام من المشاطرة كأن كل لاعب له شطر من القطع والإهمال من تسطير الرقعة بيوتا عند التعبية وتعقب ذلك ابن بري بأن الأسماء الأعجمية لا تشتق من الأسماء العربية وبأنها خماسية واشتقاقها من الشطر يوجب أنها ثلاثية فتكون النون والجيم زائدتين وهذا بين الفساد
( وكرهها ) تحريما وعليه الجمهور ونوزع صاحب البيان في إبقاء الكراهة على التنزيه
( وسمعته يكره اللعب بها وبغيرها من الباطل ويتلو هذه الآية ) استدلالا { فماذا بعد الحق إلا الضلال } سورة يونس الآية 32 استفهام تقرير أي ليس بعده غيره فمن أخطأ الحق وقع في الضلال
وقد ذهب جمهور العلماء إلى تحريم الشطرنج وعليه الأئمة الثلاثة
وحكى البيهقي إجماع الصحابة على ذلك قال بعضهم فمن نقل عن أحد منهم أنه رخص فيه فهو غالط فالبيهقي وغيره من علماء الحديث أعلم بأقوال الصحابة ممن ينقل أقوالا بلا إسناد وإجماعهم كاف في الحجة وقد ورد فيه أحاديث وإن كان في بعضها ضعف وإرسال فذلك لا يمنع من الاستشهاد به والاعتبار لا سيما مع كثرة الطرق واشتهارها فما كان منها صالحا فهو حجة بانفراده وما كان معللا فإنه يقوى بتعدد طرقه وتغاير شيوخ مرسله وبالقياس على النرد بجامع الضد بل هو كما قال ابن عمر ومالك وغيرهما شر منه لأنه أبلغ في إفساد القلوب من النرد لاحتياجه إلى فكر وتقدير وحساب النقلات قبل النقل بخلاف النرد يلعب صاحبه ثم يحسب
وذهب الشافعي إلى كراهته تنزيها على الصحيح المشهور عنه ما لم يواظب عليها وتعتبر بالعرف ولم يلعب مع معتقد تحريمه أو يكن على شكل الحيوان أو يهذي عليها بل حفظ اللسان عن الخنا والفحش والسفه وما لم يقترن به قمار ولم يلعبه على الطريق ولم يؤخر به صلاة وإلا حرم في الجميع زاد بعض الشافعية وما لم يلعبه مع الأراذل ولم يؤثر نحو حقد أو ضغينة أو يؤدي إلى إشارة للفظ لا يرضي
____________________
(4/456)
49 العمل في السلام ( مالك عن زيد بن أسلم ) مرسل باتفاق الرواة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يسلم ) أي ليسلم ( الراكب على الماشي ) أي يبدؤه بالسلام لئلا يتكبر بركوبه فيرجع إلى التواضع قاله ابن بطال
وقال المازري لأن للراكب مزية على الماشي فعوض أن يبدأه الراكب احتفاظا عليه من الزهو
وقال الطيبي لأن وضع السلام إنما هو لحكمة إزالة الخوف من الملتقيين إذا التقيا أو من أحدهما أو لمعنى التواضع المناسب لحال المؤمن أو للتعظيم لأن السلام إنما يقصد به أحد أمرين إما اكتساب ود أو استدفاع مكروه وهذا موصول في الصحيحين من طريق عن أبي هريرة مرفوعا بزيادة والماشي على القاعد والقليل على الكثير والصغير على الكبير
( وإذا سلم من القوم ) الراكبين أو الماشين أو القليلين أو الصغار ( واحد ) منهم ( أجزأ عنهم ) في تحصيل السنة فهو أصل للإجماع على أن الابتداء بالسلام سنة كفاية إذا سلم واحد كفى
قال ابن عبد البر المراد بالسلام هنا الرد لأن الراد مسلم أيضا لأنه إنما يقال أجزأ فيما واجب والابتداء بالسلام سنة والرد واجب اتفاقا فيهما فبطل تأويل الطحاوي الحديث على أن معناه ابتدأ السلام نصرة لمذهبه أن رده فرض عين
وقد روى أبو داود وغيره بإسناد حسن عن علي مرفوعا يجزىء من الجماعة إذا مرت أن يسلم أحدهم ويجزىء عن القعود أن يرد أحدهم فسوى بين الابتداء والرد أنهما على الكفاية وهو نص في موضع النزاع لا معارض له
ومذهب مالك والشافعي وأصحابهما وأهل المدينة أن الرد فرض كفاية وشبهه الشافعي بصلاة الجماعة والنفقة في الدين والجهاد وتجهيز الميت ومعنى إجزائه في الابتداء في تحصيل السنة للإجماع على أن الابتداء به سنة انتهى ملخصا
والمتبادر من حديث زيد بن أسلم ما فهمه الطحاوي لكن يحمل قوله أجزأ أي في السنة كما اعترف به أبو عمر آخرا ولكن لا دليل فيه أن الرد فرض عين
وقد جاء في حديث علي أنه فرض كفاية فوجب المصير إليه والله أعلم
( مالك عن وهب بن كيسان ) القرشي مولاهم المدني ( عن محمد بن عمرو بن عطاء ) القرشي القباري المدني من ثقات التابعين ووهم من قال تكلم فيه القطان ( أنه قال كنت جالسا عند عبد الله بن عباس فدخل عليه رجل من أهل اليمن فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم زاد مع
____________________
(4/457)
ذلك شيئا ) لم يبينه ( قال ابن عباس وهو يومئذ قد ذهب بصره من هذا ) الذي زاد على التحية الشرعية ( قالوا هذا اليماني الذي يغشاك فعرفوه إياه قال ) محمد ( فقال ابن عباس إن السلام انتهى إلى البركة ) أي قوله وبركاته فلا تزد عليه شيئا ابتداعا
( سئل مالك هل يسلم ) بالبناء للمفعول أي الرجل ( على المرأة ) الأجنبية ( فقال أما المتجالة ) بالجيم العجوز التي انقطع أرب الرجال منها ( فلا أكره ذلك وأما الشابة فلا أحب ذلك ) خوف الفتنة بسماع ردها السلام
ما جاء في السلام على اليهودي والنصراني كأنه أشار بذكر النصراني مع أن حديثها اقتصر على اليهود إلى أنه لا فرق بينهما بجامع أن كلا من أهل الكتاب أو إشارة إلى حديث أنس مرفوعا إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم رواه الشيخان
( مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر ) رضي الله عنهما ( أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن اليهود ) جمع يهودي كروم ورومي ( إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول السام عليكم ) أي الموت ومنه الحديث لكل داء دواء إلا السام قيل وما السام يا رسول الله قال الموت ( فقل عليك ) بلا واو ولجميع رواة الموطأ وفي البخاري عن التنيسي بالواو وجاءت الأحاديث في مسلم بحذفها وإثباتها وهو أكثر واختار ابن حبيب الحذف لأن الواو تقتضي إثباتها على نفسه حتى يصح العطف فيدخل معهم فيما دعوا به وقيل هي للاستئناف لا للعطف
قال المازري وكأنه قال وعليك ما تستحقه من الذم
وقال القرطبي كأنه قال والسام عليك وهذا كله بعيد والأولى أنها على بابها للعطف غير أنا نجاب فيهم ولا يجابون فينا كما قال صلى الله عليه وسلم قال ورواية الحذف أحسن معنى والإثبات أصح وأشهر يعني في مسلم
وقال النووي الصواب جواز الحذف والإثبات وهو أجود ولا مفسدة فيه لأن السام الموت وهو علينا وعليهم فلا ضرر فيه
وقال البيضاوي في العطف شيء مقدر أي وأقول عليكم ما تريدون بنا أو
____________________
(4/458)
ما تستحقون وليس عطفا على عليكم في كلامهم وإلا لتضمن ذلك تقدير دعائهم ولذا قال عليك بلا واو وروي بالواو أيضا
قال عياض وقال قتادة مرادهم بالسام السآمة أي تسأمون دينكم مصدر سئمت سآمة وسآما مثل رضاعا وقد جاء هكذا مفسرا من قوله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فرواية حذف الواو أحسن
قال الماوردي واختار بعضهم أن يقول في الرد عليهم السلام بكسر السين أي الحجارة قال عبد الوهاب والأول أولى لأن السنة وردت به لأن الرد إنما يكون من جنس المردود وأجاز بعضهم الرد عليهم بلفظ السلام لقوله تعالى { سلام عليك سأستغفر لك ربي } سورة مريم 47 وقوله تعالى { وقل سلام فسوف يعلمون } سورة الزخرف الآية 89 والجواب أنه لم يقصد بهذا السلام التحية وإنما قصد به المباعدة والمتاركة ولذا قيل أنها منسوخة بآية السيف
وقال عياض أوجب ابن عباس والشعبي وقتادة رد سلامهم لعموم الآية والحديث
وروى أشهب وابن وهب عن مالك لا يرد عليهم والآية والحديث مخصوصان بسلام المسلم وبين هذا الحديث أنه لا يرد عليهم بلفظ السلام المشروع بل نقول عليك وهذا قول الأكثر والحديث رواه البخاري هنا عن عبد الله ابن يوسف
وفي استتابة المرتدين عن يحيى القطان كلاهما عن مالك به وتابعه إسماعيل بن جعفر وسفيان قال وعليك بالواو
( سئل مالك عمن سلم على اليهودي أو النصراني ) سهوا أو عمدا أو جهلا بالنهي ( هل يستقبله ذلك فقال لا ) يستقبله بل يتوب ويستغفر إن كان عمدا
51 جامع السلام ( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ) زيد الأنصاري النجاري ( عن أبي مرة ) بضم الميم وشد الراء اسمه يزيد وقيل عبد الرحمن مشهور بكنيته ( مولى عقيل ) بفتح العين ( ابن أبي طالب ) الهاشمي قيل له ذلك للزومه إياه وإنما هو مولى أخته أم هانىء بنت أبي طالب وفي رواية إسماعيل أن أبا مرة مولى عقيل أخبره ( عن أبي واقد ) بقاف مكسورة ودال مهملة اسمه الحارث بن مالك وقيل ابن عوف وقيل اسمه عوف بن الحارث الليثي بمثلثة البدري في قول بعضهم مات سنة ثمان وستين وهو ابن خمس وثمانين على الصحيح ولم يرو هذا الحديث عنه إلا أبو مرة
وللنسائي من طريق يحيى بن بكير عن إسحاق عن أبي مرة أن أبا واقد حدثه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما ) بزيادة ما ( هو جالس في المسجد ) النبوي ( والناس معه ) جملة حالية ( إذ أقبل نفر ) بفتح النون والفاء ( ثلاثة ) قال الحافظ لم أقف في شيء من طرق الحديث على تسمية واحد منهم والمعنى نفر هم ثلاثة إذ النفر الرجال من ثلاثة إلى عشرة
____________________
(4/459)
( فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد ) هما أقبلا كأنهم أقبلوا أولا من الطريق فدخلوا المسجد مارين كما في حديث أنس عند البزار والحاكم فإذا ثلاثة نفر فلما رأوا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أقبل اثنان منهم واستمر الثالث ذاهبا
( فلما وقفا على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم سلما ) أي على مجلسه أو على بمعنى عند قاله الحافظ وتعقب بأنها لم تجىء بمعناها وجوابه أن حروف الجر تنوب عن الأسماء وتأتي بمعناها وفي القرآن من ذلك كثير كقوله { لتركبن طبقا عن طبق } سورة الانشقاق الآية 19 أي بعد طبق فعن نائب عن الاسم وفيه أن الداخل يبدأ بالسلام وأن القائم يسلم على القاعد ولم يذكر رد السلام عليهما اكتفاء بشهرته وأن المستغرق في العبادة يسقط عنه الرد ولم يذكر أنهما صليا تحية المسجد إما لأن ذلك كان قبل أن تشرع أو كانا على غير وضوء أو كان في غير وقت تنفل قاله عياض بناء على مذهبه أنها لا تصلى في الأوقات المكروهة
( فأما ) بفتح الهمزة وشد الميم ( أحدهما ) مبتدأ خبره ( فرأى ) دخلته الفاء لتضمن أما معنى الشرط ( فرجة ) بضم الفاء وفتحها معا هي الخلل بين الشيئين ( في الحلقة ) بإسكان اللام كل شيء مستدير خالي الوسط وحكي فتحها وهو نادر والجمع حلق بفتحتين
( فجلس فيها ) فيه استحباب التحليق في مجالس الذكر والعلم وأن من سبق إلى موضع كان أحق به
( وأما الآخر ) بفتح الخاء المعجمة أي الثاني ففيه رد على من زعم أنه يختص بالأخير لإطلاقه هنا على الثاني
( فجلس خلفهم ) بالنصب على الظرفية
( وأما الثالث فأدبر ) حال كونه ( ذاهبا ) أي أدبر مستمرا في ذهابه ولم يرجع وإلا فأدبر بمعنى مر ذاهبا
( فلما فرغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ) مما كان مشتغلا به من تعليم العلم أو الذكر أو الخطبة أو نحو ذلك ( قال ألا ) بفتح الهمزة والتخفيف حرف تنبيه لا تركيب فيه عند الأكثرين فمعناها التنبيه والاستفتاح محلها فهي حرف يستفتح به الكلام لتنبيه المخاطب على ذلك لتأكد مضمونه عند التكلم ( أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى ) بالقصر لجأ ( إلى الله ) تعالى ( فآواه ) بالمد ( الله ) إليه قال القرطبي الرواية الصحيحة بقصر الأول ومد الثاني وهو المشهور في اللغة وفي القرآن { إذ أوى الفتية } سورة الكهف الآية 10 بالقصر { وآويناهما إلى ربوة } سورة المؤمنون الآية بالمد وحكي القصر والمد معا فيهما لغة ومعنى أوى إلى الله لجأ أو على الحذف أي إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى آواه جازاه بنظير فعله بأن ضمه إلى رحمته ورضوانه أو يؤويه يوم القيامة إلى ظل عرشه فنسبة الإيواء إلى الله مجاز لاستحالته في حقه لأنه الإنزال معه في مكان حسي فالمراد لازمه وهو إرادة إيصال الخير
____________________
(4/460)
ويسمى هذا المجاز مجاز المشاكلة والمقابلة
وفي التمهيد أوى إلى الله يعني فعل ما يرضي الله فحصل له من الثواب ومثله خبر الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أوى إلى الله يعني ما كان لله ورضيه
( وأما الآخر ) بالفتح أي الثاني ( فاستحيا ) أي ترك المزاحمة كما فعل رفيقه حياء منه صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه قاله عياض
وقال الحافظ أي استحيا من الذهاب عن المجلس كما فعل الثالث فقد بين أنس سبب استحياء هذا الثاني فلفظه عند الحاكم ومضى الثاني قليلا ثم جاء فجلس ( فاستحيا الله منه ) أي رحمه ولم يعاقبه فجازاه بمثل فعله وهذا أيضا مشاكلة لأن الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يذم به وهذا محال على الله فهو مجاز عن ترك العقاب من ذكر الملزوم وإرادة اللازم
( وأما الآخر ) بالفتح أي الثالث ( فأعرض ) عن مجلسه صلى الله عليه وسلم ولم يلتفت إليه بل ولى مدبرا ( فأعرض الله عنه ) أي جازاه بأن سخط عليه وهذا أيضا مشاكلة لأن الإعراض هو الالتفات إلى جهة أخرى وذلك لا يليق بالله تعالى فهو مجاز عن السخط والغضب
قال الحافظ وهو محمول على من أعرض لا لعذر هذا إن كان مسلما ويحتمل أنه منافق وأطلع صلى الله عليه وسلم على أمره كما يحتمل أن قوله فأعرض الله عنه إخبارا ودعاء
وفي حديث أنس فاستغنى فاستغنى الله عنه وهذا يرشح أنه خبر
وقال أبو عمر يحتمل أنه منافق إذ لا يعرض غالبا عن مجلسه صلى الله عليه وسلم إلا منافق بل بان لنا بقوله فأعرض الله عنه أنه منافق لأنه لو أعرض لحاجة ما قال فيه ذلك وفيه جواز الإخبار عن أهل المعاصي وأحوالهم للزجر عنها وأن ذلك لا يعد غيبة ملازمة حلق العلم والذكر وجلوس العالم والذاكر في المسجد والثناء على المستحي والمزاحم في طلب الخير واستحباب الأدب في المجلس وفضل سد الحلقة كما ورد في الترغيب في سد خلل الصفوف في الصلاة وجواز التخطي لسد الخلل ما لم يؤذ فإن خشي استحب الجلوس حيث ينتهي به المجلس كما فعل الثاني وأخرجه البخاري في العلم عن إسماعيل وفي الصلاة عن عبد الله بن يوسف ومسلم في الاستئذان عن قتيبة بن سعيد كلهم عن مالك به
( مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن ) عمه ( أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب وسلم عليه رجل ) جملة حالية ( فرد ) عمر ( عليه السلام ثم سأل عمر الرجل فقال كيف أنت ) أي ما حالك ( فقال أحمد الله إليك فقال عمر ذلك الذي أردت منك ) لأن الحمد على النعم يستدعي زيادتها { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم } سورة إبراهيم الآية 7 وقد اقتدى عمر بالمصطفى
____________________
(4/461)